من الأصل، وغدا في يد (1) الإسلام أمضى من النّصل، سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظلّ الوارف، وكساه رونق نبله، وسقاها ريّق وبله، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدراً في فلكها، وصدراً في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عبّاد، اصطفاء المأمون لابن أبي داود، وولاه الولايات الشريفة، وبوّأه المراتب المنيفة، فلمّا أقفرت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتخلّت، رحل به إلى المشرق، وحلّ فيه محلّ الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وما استفاد من آمال تلك الأطماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيبٌ ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليها وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطّردت له مقايسه، فجدّ في طلبه، واستجد به أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر متفرداً، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكرّ إلى الأندلس فحلّها والنفوس إليه متطلّعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلّدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلّدها، وقد أثبتّ من بديع نظمه ما يهز أعطافاً، وترده الأفهام نطافاً، فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد، ويخاطب فيها أهل الوداد:
أمنك سرى واللّيل يخدع بالفجر ... خيال حبيبٍ قد حوى قصب الفخر
جلا ظلم الظّلماء مشرق نوره ... ولم يخبط الظّلماء بالأنجم الزّهر
__________
(1) يد: سقطت من ق ط ج، ووردت في المطمح.(2/34)
ولم يرض بالأرض البسيطة مسحباً ... فسار على الجوزا إلى فلك يجري
وحثّ مطايا قد مطاها بعزّةٍ ... فأوطأها قسراً على قنّة النّسر
فصارت ثقالاً بالجلالة فوقها ... وسارت عجالاً تتّقي ألم الزجر
وجرت على ذيل الجرة ذيلها ... فمن ثم يبدو ما هناك لمن يسري
ومرّت على الجوزاء توضع فوقها ... فآثر ما مرّت به كلف البدر
وساقت (1) أريج الخلد من جنّة العلا ... فدع عنك رملاً بالأنيعم يستذري
فما حذرت قيساً ولا خيل عامرٍ ... ولا أضمرت خوفاً لقاء بني ضمر
سقى الله مصراً والعراق وأهلها ... وبغداد والشامين منهمل القطر انتهى.
ومن تآليف الحافظ (2) أبي بكر ابن العربي المذكور كتاب " القبس في شرح موطّإ مالك بن أنس " وكتاب " ترتيب المسالك، في شرح موطّإ مالك " وكتاب " أنوار الفجر " وكتاب " أحكام القرآن " وكتاب " عارضة الأحوذيّ في شرح الترمذيّ " - والأحوذي بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال المعجمة وآخره ياء مشدّدة - وكتاب " مراقي الزّلف " وكتاب " الخلافيات " وكتاب " نواهي الدواهي " وكتاب " سراج المريدين " وكتاب " المشكلين: مشكل القرآن والسنّة " وكتاب " الناسخ والمنسوخ في القرآن " وكتاب " قانون التأويل " وكتاب " النيرين في الصحيحين " وكتاب " سراج المهتدين " وكتاب " الأمد الأقصى، بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا " وكتاب " في الكلام على مشكل حديث السّبحات والحجاب "، وكتاب " العقد الأكبر للقلب الأصغر " و " تبيين الصحيح في تعيين الذبيح " و " تفصيل التفضيل بين
__________
(1) لعل الأصوب: وسافت.
(2) عد المقري مؤلفات ابن العربي أيضا في أزهار الرياض 3: 94 - 95 وسقط بعض ما ذكره في النفح.(2/35)
التحميد والتهليل " ورسالة " الكافي في أن لا دليل على النافي " وكتاب " السباعيات " وكتاب " المسلسلات " وكتاب " المتوسط في معرفة صحّة الاعتقاد والرد على من خالف أهل السنّة من ذوي البدع والإلحاد " وكتاب " شرح غريب الرسالة " وكتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف " عشرون مجلداً، وكتاب " حديث الإفك " وكتاب " شرح حديث جابر في الشفاعة " وكتاب " شرح حديث أم زرع " وكتاب " ستر العورة " وكتاب " المحصول في علم الأصول " وكتاب " أعيان الأعيان " وكتاب " ملجاة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين " وكتاب " ترتيب الرحلة " وفيه من الفوائد ما لا يوصف.
ومن فوائد القاضي أبي بكر ابن العربي رحمه الله تعالى قوله (1) : قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلاّ كان على وجهه نضرة، لقول النبي، صلّى الله عليه وسلّم: " نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها - الحديث " قال: وهذا دعاء منه عليه الصلاة والسلام لحملة علمه، ولابدّ بفضل الله تعالى من نيل بركته، انتهى.
وإلى هذه النّضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله:
أهل الحديث عصابة الحقّ ... فازوا بدعوة سيّد الخلق
فوجوههم زهرٌ منضّرةٌ ... لألاؤها كتألّق البرق
يا ليتني معهم فيدركني ... ما أدركوه بها من السّبق انتهى.
ولا بأس أن نذكر هنا بعض فوائد الحافظ أبي بكر ابن العربي، رحمه الله تعالى:
فمنها قوله في تصريف المحصنات: يقال: أحصن الرجل فهو محصن - بفتح العين في اسم الفاعل - وأسهب في الكلام فهو مسهب، إذا أطال
__________
(1) أزهار الرياض: 95.(2/36)
البحث فيه، وألفج فهو ملفج، إذا كان عديماً، لا رابع لها، والله تعالى أعلم، انتهى.
ومنها قوله: سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول: يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا - بفتح الراء - أي لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع، وهذا الذي قاله صحيح مسموع، انتهى.
ومنها قوله: شاهدت المائدة بطورزيتا مراراً، وأكلت عليها ليلاً ونهاراً، وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سرّاً وجهاراً، وكان ارتفاعها أشفّ من القامة بنحو الشبر، وكان لها درجتان قبليّاً وجنوبيّاً، وكانت صخرة صلوداً (1) لا تؤثر فيها المعاول وكان الناس يقولون مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير، والذي عندي أنّها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلاًّ للمائدة النازلة من السماء، وكل ما حولها حجارة مثلها، وكان ما حولها محفوفاً بقصور، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها، مقطوعة فيها، وحناياها في جوانبها، وبيوت خدمتها قد صوّرت من الحجر كما تصوّر من الطين والخشب، فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض، وإذا هبّت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب، وينفرج منفرج الباب، وقد بار بها قومٌ بهذه العلة، وقد كنت أخلو فيها كثيراً للدرس، ولكنّي كنت في كل حين أكنس حول الباب، مخافة ممّا جرى لغيري فيها، وقد شرحت أمرها في كتاب " ترتيب الرحلة " بأكثر من هذا، انتهى.
ومنها قوله، رحمه الله تعالى: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر
__________
(1) ق ط ج: صلدا.(2/37)
الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أيّاماً للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا: بل منهم، فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً (1) ، وهم لا يجدون عليه أعواناً، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمّة أضعاف أجر الصحابة مع أنّهم قد أسّسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهّدوا الملّة، وقد قال، صلّى الله عليه وسلّم، في الصحيح: " لو أنفق أحدكم كلّ يوم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه "، فتراجعنا القول، وتحصّل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد، ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بابٌ عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام، وصعب المرام، لغلبة الكفّار على الحق، وفي آخر الزمان أيضاً يعود كذلك، لوعد الصادق، صلّى الله عليه وسلّم، بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: " لتركبنّ سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ خربٍ لدخلتموه " (2) وقال، صلّى الله عليه وسلّم: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " (3) فلا بد، والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق، أن يرجع الإسلام إلى واحد، كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام من قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف
__________
(1) الحديث في مجمع الزوائد 7: 282.
(2) رواه الحاكم في المستدرك (الراموز: 346) .
(3) انظر مجمع الزوائد 7: 277 - 279.(2/38)
ما كان لمن ان متمكّناً منه معاناً عليه بكثرة الدّعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: " لأنّكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً " حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتّاً لضعف اليقين وقلّة الدين، كما قال، صلّى الله عليه وسلّم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " (1) يروى برفع الهاء ونصبها، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله، عزّ وجلّ، وحينئذ يتمنّى العاقل الموت، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه " (2) انتهى.
وأنشد رحمه الله تعالى لبعض الصوفية:
امتحن الله بذا خلقه ... فالنار والجنّة في قبضته
فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنّته ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنّه قال: كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على ربة بيّنّاها في كتاب الرحلة للترغيب في الملّة فقرأ القارئ " تحيّتهم يوم يلقونه سلام " وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل (3) إمام الحنبلية بمدينة السلام، وكان معتزلي الأصول، فلمّا سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على
__________
(1) مجمع الزوائد 8: 12.
(2) صحيح مسلم 2: 378 ومجمع الزوائد 7: 282.
(3) علي بن عقيل بن أحمد البغدادي الأصولي الواعظ المتكلم (431 - 513) درس على أعلام عصره، وأخذ الكلام على بعض المعتزلة ولذلك نقم عليه الحنابلة وطلبوا أذاه فاختفى والتجأ إلى دار السلطان، وسمع من الغزالي والجوني وغيرهما من الأعلام؛ قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء ابن عقيل، ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه وحسن إيراده وبلاغة كلامه وقوة حجته؛ ولع في الفقه والأصول استباطات جيدة، وخلف عددا كبيرا من المؤلفات (انظر ذيل ابن رجب 1: 142 - 163) .(2/39)
يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة: فإن العرب لا تقول لقيت فلاناً إلاّ إذا رأته، فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعاً إلينا، وقال يتنصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة: فقد قال الله تعالى " فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه " وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة، وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين، وتقدير الآية: فأعقبهم هو نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في أعقبهم المقدر بقولنا هو، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازاً على تقدير الجزاء، انتهى.
ومنها ما نقله عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوماً قيل فيهم " ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم " وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ، أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعاً منه: كنّا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله تعالى، فقال: لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم " ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم " ولكن قولوا: انقلبوا رحمكم الله، فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم " فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء " انتهى.
ومنها، وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف، ما صورته: فإذا قلنا إنّه القميص، فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات، ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد: لم تشقّني قال: سل من يدقّني، ما يتركني ورائي (1) ، هذا الذي ورائي، لكن قوله تعالى بعد ذلك " من أهلها " في
__________
(1) ورائي: بمعنى ورأيي.(2/40)
صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص، وأمّا من قال إنّه ابن عمها أو رجل من أصحاب العزيز فإنّه يحتمل، لكن قوله " من أهلها " يعطي اختصاصها من جهة القرابة؛ انتهى.
ومنها قوله: إنّه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأي إمام، يعرف بابن عطاء، فتكلّم يوماً على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته ممّا ينسب (1) إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ، يا سيدنا، فإذن يوسف همّ وما تمّ، فقال: نعم، لأن العناية من ثمّ، فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله، والعالم في اختصاره واستيفائه، ولذا قال علماؤنا الصوفية: إن فائدة قوله تعالى " ولمّا بلغ أشدّه آتيناه حكماً وعلماً " أن الله تعالى أعطاه العلم والحكمة أيّام غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة؛ انتهى.
ومنها قوله: كنت بمكّة مقيماً في ذي الحجّة سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وكنت أشرب ماء زمزم كثيراً، وكلّما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسّره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله تعالى لي فيهما، ولم يقدّر فكان صغوي (2) للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته.
ومنها قوله: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنّما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحريّة لأنّه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له، ولا مالية فيه، ولا منفعة مبثوثة عليه، وإنّما اكتسب ما اكتسب بها ومنها، فلذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنّها ملك صاحب
__________
(1) ط: نسب.
(2) في ط ق ودوزي: صفوي؛ ج: صغري.(2/41)
الأرض دون الآكل بإجماع من الأمّة، لأنّها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها، وهذه من البدائع، انتهى.
ومنها قوله: ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنّه كان يقول: إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبّابة، وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقرّراً بقولك الله، فكأنّها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطّلع عليك، فاعدل في وزنك، انتهى.
ومنها قوله: كان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى، عليه السلام، فيسمع من الطور، فلا يقدر أحد أن يصنع شيئاً دون قراءته، إلاّ الإصغاء إليه، انتهى.
ومنها قوله في تفسير قوله تعالى " في أيّامٍ نحساتٍ " قيل: إنّها كانت آخر شوال، من الأربعاء إلى الأربعاء، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية، حتى إنّي لقيت يوماً مع خالي الحسن بن أبي حفص رجلاً من الكتّاب، فودعنا بنيّة السفر، فلمّا فارقنا قال لي خالي: إنّك لا تراه أبداً لأنّه سافر في يوم أربعاء لا تكرر وكذلك كان مات في سفره وهذا مالا أراه لأن يوم الأربعاء يوم عجيب، بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب، فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة، ويوم الأحد الجبال، ويوم الاثنين الشجر، ويوم الثلاثاء المكروه، ويوم الأربعاء النور، وروي النون، وفي غريب الحديث أنّه خلق يوم الأربعاء التّقن، وهو كل شيء تتقن به الأشياء، يعني المعادن من الذهب والفضّة والنحاس والحديد والرصاص، فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس، واليوم الذي خلق فيه النور أو التّقن يعافونه، إن هذا لهو الجهل المبين. وفي المغازي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظّهر والعصر، فاستجيب له، وهي ساعة فاضلة، فالآثار الصّحاح تدل على(2/42)
فضل هذا اليوم، فكيف يدّعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها، وقد صوّر قوم أيّاماً من الأشهر الشمسية ادّعوا فيها الكراهية لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بالاً بها والله حسبهم، انتهى.
ومنها: وكان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله، انتهى.
ومن شعر ابن العربي ممّا نسبه له الشيخ أبو حيان قوله (1) :
ليت شعري هل دروا ... أيّ قلبٍ ملكوا
وفؤادي لو درى ... أيّ شعبٍ سلكوا
أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا ومن فوائده: أخبرني المهرة من السحرة بأرض بابل أنّه من كتب آخر آية من كل سورة ويعلّقها لم يبلغ إليه سحرنا، قال: هكذا قالوا، والله تعالى أعلم بما نقلوه.
وقال رحمه الله تعالى: حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثاً لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار، وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية والشعر واللّغة، ثم رحل بي أبي إلى المشرق، ثم ذكر تمام رحلته، رحمه الله تعالى.
9 - ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر ابن حجّاج، الغافقي، الإشبيلي، ومن ونظمه بالمدينة المشرّفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:
__________
(1) في هامش إحدى النسخ: والصواب أن الأبيات للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، رضي الله عنه، وهي في ابتداء ترجمان الأشواق له. قلت: انظر ص: 11 من الديوان المذكور.(2/43)
لم يبق لي سؤلٌ ولا مطلب ... مذ صرت جاراً لحبيب الحبيب
لا أبتغي شيئاً سوى قربه ... وها أنا منه قريبٌ قريب
من غاب عن حضرة محبوبه ... فلست عن طيبة ممن يغيب
لا تسأل المغبوط عن حاله ... جارٌ كريمٌ ومحلٌّ خصيب
العيش والموت هنا طيّبٌ ... بطيبةٍ لي كلّ شيء بطيب وممّن روى عنه هذه الأبيات الأشرف بن الفاضل.
10 - منهم الشيخ الأديب الفاضل البارع جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الخطيب أبي الحسن محمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن علي ابن ذي النون (1) ، الأنصاري، المالقي
من أشياخ أبي حيّان، لقيه ببلبيس من ديار مصر، قال: وأنشدني لشيخه أبي عبد الله (2) الاستجي من قصيدة:
ما للنّسيم سرى (3) الأصيل عليلا ... أتراه يشكو لوعةً وغليلا
جرّ الذّيول على ديار أحبّتي ... فأتى يجرّ من السقام ذيولا وأنشد، رحمه الله تعالى، لرضوان المخزومي:
إن كنت يوسف حسناً ... وكنت عبد العزيز
فإن يوسف من قب ... ل كان عبد العزيز وأخذ ابن ذي النون المذكور عن أبي عبد الله ابن صالح، وقرأ للسبعة على أبي جعفر الفحام (4) وأبي وزيد القمارشي، وعلى أبي جعفر السّهيلي، وولد ابن
__________
(1) في ط: ابن ذنون؛ وحقها أن تكون ابن ذنون (كما في ط) ، وهو الاسم الأصلي الذي يكتب " ذي النون " تعريبا له.
(2) دوزي: عبد الله.
(3) ق: جرى.
(4) دوزي: العجام؛ ج: اللحام.(2/44)
ذي النون سنة 617 بمالقة، ومن تواليفه نفح المسك الأذفر في مدح المنصور ابن المظفّر وأزهار الخميلة في الآثار الجميلة واستطلاع البشير ومحض اليقين وروض المتقين.
11 - ومنهم زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخميّ المعروف بشبطون (1) ، يكنى أبا عبد الله، كان فقيه الأندلس على مذهب مالك، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس، وكانوا قبله يتفقّهون على مذهب الأوزاعي، وأراده الأمير هشام على القضاء بقرطبة وعزم عليه، فهرب، فقال هشام: ليت الناس كلّهم كزياد حتى أكفى أهل الرغبة في الدنيا، وأرسل إلى زياد فأمّنه حتى رجع إلى داره.
ويحكى أنّه لما أراده للقضاء كلمه الوزراء في ذلك عن الأمير، وعرّفوه عزمه عليه، فقال لهم: أما إن أكرهتموني على القضاء فزوجتي فلانة طالق ثلاثاً، لئن أتاني مدّع في شيء ممّا في أيديكم لأخرجنّه عنكم ثم أجعلكم مدّعين فيه؛ فلمّا سمعوا منه ذلك علموا صدقه، فتكلّموا عند الأمير في معافاته.
سمع من مالك الموطّأ، ويعرف سماعه بسماع زياد، وسمع من معاوية ابن صالح، وكانت ابنة معاوية تحته، وروى يحيى بن يحيى الليثي عن زياد هذا الموطّأ قبل أن يرحل إلى مالك، ثم رحل فأدرك مالكاً فرواه عنه إلاّ أبواباً في كتاب الاعتكاف، شك في سماعها من مالك، فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك.
وتوفّي سنة أربع ومائتين، وقيل: سنة 193، وقيل: في التي بعدها، وقيل: سنة 199، والأول أولى بالقبول، والله تعالى أعلم.
ورحل في ذلك العصر جماعة من أنظار شبطون، كفرغوس بن العباس
__________
(1) زياد بن عبد الرحمن اللخمي، سبطون: ترجمته في الخشني: 14 والمرقبة العليا: 12 وابن الفرضي 1: 182 والجذوة: 203 (وبغية الملتمس رقم: 752) .(2/45)
وعيسى بن دينار وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممّن رحل إلى الحج أيّام هشام ابن عبد الرحمن والد الحكم، فلمّا رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس، فانتشر يومئذ رأيه وعلمه بالأندلس، وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون.
وهو أول من أدخل موطّأ مالك إلى الأندلس مكملاً متقناً، فأخذه عنه يحيى بن يحيى كما مر، وهو إذ ذاك صدر في طلاب الفقه، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيّاً، فرحل سريعاً، وأخذ يحيى عن زياد هذا الكتب العشرة المنسوبة إلى يحيى.
ولقي أيضاً عبد الله بن وهب صاحب مالك، وسمع منه الموطّأ (1) ، ولقي أيضاً عبد الله بن نافع المدني صاحب مالك، وسمع منه ومن الليث بن سعد فقيه مصر، ومن سفيان بن عيينة بمكّة، وقدم يحيى الأندلس أيام الحكم، فانتشر به وبزياد وعيسى بن دينار علم مالك بالأندلس، رضي الله تعالى عن الجميع.
وقد قدمنا الحديث الذي رواه زياد بن عبد الرحمن عن مالك، فليراجع في الباب الثالث (2) .
12 - ومنهم سوار بن طارق (3) مولى عبد الرحمن بن معاوية، قرطبي، حج ودخل البصرة، ولقي الأصمعي ونظراءه، وانصرف إلى الأندلس وأدّب الحكم، ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار، حج أيضاً، ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما، وأدخل الأندلس علماً كثيراً، رحم الله
__________
(1) ق: موطأه.
(2) انظر ما تقدم 1: 340 - 341.
(3) سوار بن طارق: ترجمته في طبقات الزبيدي 279؛ وترجمة ابنه عبد الله في طبقات الزبيدي 282 وكذلك حفيده محمد، وترجم ابن الفرضي 2: 26 لحفيده محمد هذا.(2/46)
تعالى الجميع.
13 - ومنهم بقيّ بن مخلد (1) ، الشهير الذكر، صاحب التآليف التي لم يؤلّف مثلها في الإسلام، ولقي مائتين وأربعة وثمانين شيخاً، وكانت له خاصة من الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، وستأتي جملة ممّا يتعلّق ببقيّ بن مخلد في رسالة ابن حزم في الباب السابع؛ وبقيّ على وزن عليّ، رحمه الله تعالى ورضي عنه؛ وقد عرّف ببقيّ بن مخلد غير واحد من العلماء كصاحب " النبراس " (2) وغيره.
14 - ومنهم قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف أبو محمد، البيّاني (3) - وبيّانة من أعمال قرطبة - وأصل سلفه من موالي الوليد بن عبد الملك، وسمع المذكور بقرطبة من بقيّ بن مخلد ومحمد بن وضاح ومطرّف بن قيس وأصبغ ابن خليل وابن مسرة وغير واحد، ورحل إلى المشرق مع محمد بن عبد الملك ابن أيمن ومحمد بن زكريا بن عبد الأعلى (4) سنة أربع وسبعين ومائتين، فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ وعلي بن عبد العزيز، ودخل العراق، فلقي من أهل الكوفة إبراهيم بن أبي العنبس قاضيها وإبراهيم بن عبد الله القصار، وسمع ببغداد من القاضي إسماعيل (5) وأحمد بن زهير بن حرب وغيرهما كعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل والحارث بن أبي أسامة وكتب عن ابن أبي خيثمة
__________
(1) بقي بن مخلد: ترجمته في الجذوة: 167 (وبغية الملتمس: 584) والصلة: 118 وابن الفرضي 1: وتذكرة الحفاظ: 629.
(2) النبراس: من كتب ابن دحية الكلبي، ولا أدري أهو المقصود هنا أو غيره.
(3) قاسم بن أصبغ: ترجمته في الجذوة: 311 (وبغية الملتمس: 1298) وابن الفرضي 1: 406 وتذكرة الحفاظ: 853.
(4) ابن الفرضي: ابن أبي عبد الأعلى.
(5) ابن الفرضي: إسماعيل بن إسحاق قاضي القضاة.(2/47)
تاريخه (1) ، وسمع من ابن قتيبة كثيراً من كتبه، وسمع من المبرّد وثعلب وابن الجهم في آخرين، وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري ومطلب بن شعيب وغيرهما، وسمع بالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير، فمال الناس إليه في تاريخ أحمد ابن زهير وكتب ابن قتيبة، وأخذوا ذلك عنه دون صاحبيه ابن أيمن وابن عبد الأعلى، وكان بصيراً بالحديث والرجال، نبيلاً في النحو والعربية (2) والشعر، وكان يشاور في الأحكام، وصنّف على كتاب السنن لأبي داود كتاباً في الحديث، وسببه أنّه لمّا قدم العراق سنة ست وسبعين ومائتين مع صاحبه محمد ابن أيمن، فوجدا أبا داود قد مات قبل وصولهما بيسير، فلمّا فاتهما عمل كل واحد منهما مصنفاً في السنن على أبواب كتاب أبي داود، وخرّجا الحديث من روايتهما عن شيوخهما وهما مصنفان جليلان، ثم اختصر قاسم بن أصبغ كتابه وسماه المجتنى - بالنون - وابتدأ اختصاره في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وجعله باسم الحكم المستنصر، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثاً في سبعة أجزاء.
ومولده يوم الاثنين عاشر ذي الحجّة سنة سبع وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
وحكى القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى " قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا " أن قاسم ابن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان، فأخذت عن بكر بن حماد حديث مسدد، فقرأت عليه يوماً فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلّم " أنّه قدم عليه قوم من مضر مجتابي النمار " فقال: إنّما هو مجتابي الثمار، فقلت: إنّما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته
__________
(1) هو أحمد بن زهير نفسه، الذي ذكره قبل قليل.
(2) ط: والغريب.(2/48)
على كل من لقيته بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا، ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك [الشيخ] لشيخ كان في المسجد، فإن له بمثل هذا علماً، فقمنا إليه وسألناه عن ذلك، فقال: إنّما هو مجتابي النمار، كما قلت، وهو قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم، والنمار: جمع نمرة، فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، وانصرف، انتهى.
وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين، رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، ونفعنا بهما.
15 - ومنهم قاسم بن ثابت أبو محمد العوفي السّرقسطي (1) ، رحل مع أبيه فسمع بمصر من أحمد بن شعيب النسائي وأحمد بن عمرو البزار، وبمكّة من عبد الله بن علي بن الجارود ومحمد بن علي الجوهري، واعتنى بجمع الحديث واللغة هو وأبوه، فأدخلا إلى الأندلس علماً كثيراً، يقال: إنّهما أوّل من أدخل كتاب العين إلى الأندلس، وألف قاسم في شرح الحديث كتاباً سمّاه الدلائل، بلغ في الغاية في الإتقان، ومات قبل إكماله، فأكمله أبوه ثابت بعده، وقد روي عن أبي علي البغدادي أنّه كان يقول: كتبت كتاب الدلائل، وما أعلم أنّه وضع بالأندلس مثله، وكان قاسم عالماً بالحديث واللغة (2) ، متقدماً في معرفة الحديث والنحو والشعر، وكان مع ذلك ورعاً ناسكاً، وأريد على القضاء بسرقسطة، فأبى ذلك، فأراد أبوه إكراهه عليه، فسأله أن يتركه ينظر في أمره ثلاثاً، ويستخير الله تعالى، فمات في هذه الثلاثة الأيام، فيروون أنّه دعا لنفسه بالموت، وكان مجاب
__________
(1) قاسم بن ثابت، ترجمته في الجذوزة: 312 (وبغية الملتمس: 1300) وابن الفرضي 1: 402 وطبقات الزبيدي: 309؛ ويتابع المقري ما جاء عند ابن الفرضي في هذه الترجمة.
(2) ط: والفقه.(2/49)
الدعوة، توفّي سنة 302 بسرقسطة، رحمه الله تعالى.
16 - ومنهم علم الدين أبو محمد المرسيّ اللّورقي (1) ، وهو قاسم بن أحمد ابن موفق (2) بن جعفر، العلامة المقرئ الأصولي النحوي، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله ابن نوح الغافقي، وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس، بدمشق على التاج زيد الكندي، وسمع ببغداد من أبي محمد ابن الأخضر، وأخذ العربية عن أبي البقاء، ولقي الجزولي بالمغرب، وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته، فأجابه، وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة، وكان يقرئ ذلك ويحققه، وأقرأ بدمشق ودرس، وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد، وشرح الجزولية والشاطبية، وكان مليح الشكل، حسن البزة، موطّأ الأكناف، قرأ عليه جماعة، وتوفّي سابع رجب سنة 661، وكان معمّراً مشتغلاً بأنواع العلوم، وسمّاه بعضهم أبا القاسم، والأوّل أصح.
17 - ومنهم قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار (3) ، أبو محمد، من أهل قرطبة، وجدّه مولى الوليد بن عبد الملك (4) ، رحل فسمع بمصر من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمزني والبرقي والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى وإبراهيم بن المنذر وغيرهم، ولزم ابن عبد الحكم للتفقّه، وتحقق به وبالمزني، وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد، ويميل إلى مذهب
__________
(1) قاسم بن أحمد اللورقي: ترجمته في غاية النهاية 2: 15 وذيل الروضتين: 227.
(2) قال أبو شامة: بن (أبي) السداد، وكان هو لا يكتب ابن أبي السداد ويجعل مكانه الموفق وكان أبو السداد كنية الموفق.
(3) قاسم بن محمد بن قاسم بن سيار: ترجمته في الجذوة: 310 (وبغية الملتمس رقم: 1293) وابن الفرضي 1: 397 والمقري ينقل عن ابن الفرضي بشيء من التصرف يسير.
(4) الجذوة: مولى هشام بن عبد الملك.(2/50)
الشافعي، ولما قال له ابنه محمد بن القاسم: يا أبت أوصني، قال: أوصيك بكتاب الله، فلا تنس حظك منه، واقرأ منه كلّ يوم جزءاً، واجعل ذلك عليك واجباً، وإن أأردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ، يعني الفقه، فعليك برأي الشافعي، فإنّي رأيته أقل خطأ. قال أبو الوليد ابن الفرضي: ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة. وقال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة: ما رأينا أفقه من قاسم بن محمد ممن دخل الأندلس من أهل الرحلة. وقال أسلم بن عبد العزيز: سمعت عن ابن عبد الحكم أنّه قال: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد، ولقد عاتبته في حين انصرافه إلى الأندلس، وقلت له: أقم عندنا فإنّك تقتعد ههنا رياسة ويحتاج الناس إليك، فقال: لا بدّ من الوطن. وقال سعيد بن عثمان (1) : قال لي أحمد ابن صالح الكوفي: قدم علينا من بلادكم رجل يسمى قاسم بن محمد، فرأيت رجلاً فقيهاً.
وألّف رحمه الله تعالى كتاباً نبيلاً في الرد على ابن مزين (2) وعبد الله بن خالد والعتبي يدل على علمه، وله كتاب في خبر الواحد. وكان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه. روى عنه ابن لبابة وابن أيمن والأعناقي وابنه محمد بن قاسم في آخرين (3) . توفّي سنة ست - أو سبع، أو ثمان - وسبعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
18 - ومنهم أبو بكر الغساني، وهو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود (4) ، من أهل المرية، قدم إلى مصر ولقي بها أبا بكر الطرطوشي، ثم عاد إلى بلده،
__________
(1) هو الأعناقي.
(2) يحيى بن إبراهيم بن مزين.
(3) ابن الفرضي: في جماعة سواهم.
(4) محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود: ترجمته في الصلة: 553 ومعجم شيوخ الصدفي: 126.(2/51)
وشوور واستقضي بمرسية مدة طويلة، ثم صرف وسكن مراكش. قال ابن بشكوال: توفّي بمراكش في رجب سنة 636، وقال أبو جعفر ابن الزبير: إن له كتاب تفسير القرآن، وبيته بيت علم ودين.
19 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيّون (1) ، من أهل وادي الحجارة، قال ابن الفرضي: سمع من ابن وضاح والخشني ونظرائهما بالأندلس، ورحل إلى المشرق، فتردد هنالك نحواً من خمس عشرة سنة، وسمع بصنعاء ومكة وبغداد ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل: منهم عبد الله ابن أحمد، وسمع بمصر من الخفاف (2) النيسابوري وإبراهيم بن موسى وغيرهما، وبالمصيصة والقيروان، وكان إماماً في الحديث، عالماً، حافظاً للعلل (3) ، بصيراً بالطرق، ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه، وهو ضابط متقن، حسن التوجيه للحديث، صدوق، ولم يذهب مذهب مالك. وممّن روى عنه ابن أيمن وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وأحمد بن سعيد بن حزم، وقال خالد بن سعيد (4) : لو كان الصدق إنساناً (5) لكان ابن حيّون. وكان يزنّ بالتشييع لشيء كان يظهر منه في حق معاوية، رضي الله تعالى عنه، وكان شاعراً، وتوفّي بقرطبة سنة 305، سامحه الله تعالى.
20 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن غالب، المالقيّ (6) ، قال ابن نقطة: سمع بالإسكندرية من أبي الحسن ابن المقدسي، وكان فاضلاً،
__________
(1) محمد بن إبراهيم بن حيون: ترجمته في ابن الفرضي 2: 28 وجذوة المقتبس: 39 (وبغية الملتمس: 43) وتذكرة الحفاظ: 781.
(2) دوزي وق: الحفاظ.
(3) للعلل: سقطت من ق.
(4) ابن الفرضي: خالد بن سعد.
(5) في ط: لسانا.
(6) محمد بن إبراهيم المالقي: ترجمته في التكملة: 638 والذيل والتكملة 6: 35 (نسخة باريس) .(2/52)
رأيت بخطّه إجازة بمصر لبعض المصريين في رجب سنة 604، وسمع بمصر شيئاً من الخلعيّات، قال ابن فرتون الفاسي في ذيل تاريخ الأندلس: روى بمالقة، ورحل إلى المشرق وحج، ولقي أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي، وأخذ عنه كتاب تحقيق الجواب عمّن أجيز له ما فاته من الكتاب من تآليفه، ورجع إلى الأندلس، ثم نهض إلى مراكش فتوفّي في أقصى بلاد السّوس في حدود سنة 645، رحمه الله تعالى.
21 - ومنهم اليقّوري، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم مصنف كتاب إكمال الإكمال للقاضي عياض على صحيح مسلم، وكتبٍ على كتاب الشهاب القرافي في الأصول، وسمع الحديث، وقدم إلى مصر ومعه مصحف قرآن حمل بغل بعثه ملك المغرب ليوقف بمكة، ثم عاد بعد حجّه، ومات بمراكش سنة 707، وقد زرت قبره بها مراراً، قال الحافظ المقريزي: واليقّوري نسبة إلى يقّورة - بياء آخر الحروف مفتوحة، وقاف مشددة، وراء مهملة - بلد بالأندلس، انتهى.
22 - ومنهم أبو عبد الله الأنصاري، وهو محمد بن إبراهيم بن موسى ابن عبد السلام (1) ، ويعرف بابن شق الليل، من أهل طليطلة، سمع بمصر أبا الفرج الصوفي وأبا القاسم الطحان الحافظ وأبا محمد ابن النحاس وأبا القاسم ابن ميسرة وأبا الحسن ابن بشر وغيرهم، وسمع بطليطلة من جماعة، وحدّث عن جماعة من المحدثين كثيرة.
قال ابن بشكوال: وكان فقيهاًعالماً، وإماماً متكلّماً، حافظاً للفقه، والحديث، قائماً بهما متقناً لهما، إلا أنّ المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر
__________
(1) محمد بن إبراهيم بن عبد السلام الأنصاري: ترجمته في الصلة: 511 وانظر الفصل لابن حزم 4: 180.(2/53)
بمعانيه وعلله كان أغلب عليه، وكان مليح الخط، جيد الضبط، من أهل الرواية والدراية والمشاركة في العلوم، وكان أديباً شاعراً مجيداً لغويّاً ديّناً فاضلاً، كثير التصانيف والكلام على علم الحديث، حلو الكلام في تآليفه، وله عناية بأصول الديانات وإظهار الكرامات، توفّي بطلبيرة يوم الجمعة منتصف شعبان سنة 455، رحمه الله تعالى.
23 - ومنهم الشيخ الإمام الشهير الكبير الولي العارف بالله تعالى سيدي أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي (1) ، شيخ السالكين، وإمام العارفين، وقدوة المحققين، قدم مصر بعدما صحب ببلاد المغرب جماعة من أعلام الزهاد، وكان يقول: صحبت ستمائة شيخ اقتديت منهم بأربعة: الشيخ أبي الربيع، والشيخ أبي الحسن ابن طريف، والشيخ أبي زيد القرطبي، والشيخ أبي العباس الجوزي، وسلك على يده جماعة: منهم أبو العباس القسطلاني، فإنّه أخذ عنه كلامه وجمعه في جزء. وخرج سيدي أبو عبد الله القرشي من مصر إلى بيت المقدس فأقام به إلى حين وفاته عشية الخميس السادس من ذي الحجّة سنة 599 عن خمس وخمسين سنة، ودفن هنالك، وقبره ظاهر يقصد للزيارة زرته أول قدماتي على بيت المقدس سنة 1028، ومن كلامه: من لم يدخل في الأمور بالأدب لم يدرك مطلوبه منها، وقوله: العاقل يأخذ ما صفا ويدع التكلف، فإنّه تعالى يقول: " وإن يردك بخيرٍ فلا رادّ لفضله ". وقال: من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة، وقال سمعت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن طريف يقول: لما حضرت الشيخ أبا الحسن ابن غالب الوفاة قال لأصحابه: اجتمعوا وهللوا سبعين ألف مرّة، واجعلوا ثوابها لي، فإنّه بلغني أنها فداء كلّ مؤمن من النار، قال: فعملناها واجتمعنا عليها وجعلنا ثوابها له.
__________
(1) محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي: ترجمته في ابن خلكان 3: 432 والوافي 2: 78.(2/54)
ثم حكى عن شيخه أبي زيد القرطبي ما حكاه السنوسي عنه في أواخر شرح صغراه، وقد أنكر غير واحد من الحفاظ كابن حجر وغيره كون ما ذكر حديثاً، ولعل هؤلاء أخذوه من جهة الكشف ونحوه، والله تعالى أعلم.
وقال رحمه الله تعالى: دخلت على الشيخ أبي محمد عبد الله المغاور، فقال لي: أعلمك شيئاً تستعين به، إذا احتجت لشيء فقل: يا واحد يا أحد يا واجد يا جوّاد، انفحنا منك بنفحة خير، إنّك على كل شيء قدير، قال: فأنا أنفق منها منذ سمعتها. قال رحمه الله تعالى: ما من حال ذكر في رسالة القشيري إلاّ وقد شاهدته نفسي. وتزوج رحمه الله تعالى بنساء حدثن عنه بكرامات، ومنهنّ أم القطب القسطلاني، وحكت أنها خرجت عنه يوماً لحاجتها، ثم عادت فسمعت عنده في طبقته حسّ رجل، فتوقفت وافتقدت الباب فوجدته مغلقاً، فلمّا انقطع الكلام دخلت إليه، فإذا هو وحده كما تركته، فسألته عن ذلك، فقال: هو الخضر دخل علي وفي يده حية فقال: هذه جئتك بها من أرض نجد، وفيها شفاء مرضك، فقلت: لا أريد، اذهب أنت وحيتك لا حاجة لي بها. ودخل عليه بعض نسائه يوماً، فوجدته بصيراً نقي الجسم من الجذام، فلمّا نظرته قال لها: أتريدين أن أبقى لك هكذا فقال له: يا سيّدي كن كيف شئت، إنّما مقصودي خدمتك وبركتك. وقيل له، وقد تكاثرت منه رؤية الأشياء وإخباره بها، مع كونه ضريراً، عن ذلك، فقال: كلّي عين، بأي عضو أردت أن أنظر به نظرت. وقال: هممت أن أدعو برفع الغلاء، فقيل لي: لا تدع فما نسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام، فلمّا وصلت إلى بلد الخليل، عليه السلام، تلقاني رسول [الله] الخليل حين ورودي عليه، فقلت له: يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك أهل مصر، فدعا لهم ففرّج الله عنهم. ومناقبه رحمه الله تعالى وكراماته لا يفي بها هذا المختصر، وإنّما قصدنا بذكرها البركة وكفّارة ما وقع في هذا الكتاب من الإحماض، والله المرجو في العفو.(2/55)
ومن فوائده ما نقله عن شيخه أبي الربيع المالقي أنّه قال له: ألا أعلمك كنزاً تنفق منه ولا ينفد قلت: بلى، قال قل: يا ألله، يا أحد، يا واحد، يا موجود، يا جواد، يا باسط، يا كريم، يا وهّاب، يا ذا الطّول، يا غني، يا مغني، يا فتّاح، يا رزّاق، يا عليم، يا حيّ، يا قيّوم، يا رحمن، يا رحيم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حنّان، يا منّان، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " " إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً " " نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ " اللهم يا غني يا حميد، يا مبدئ ويا معيد، يا ودود (1) يا ذا العرش المجيد، يا فعّالاً لما يريد، اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، واحفظني بما حفظت به الذكر وانصرني بما نصرت به الرسل، إنّك على كل شيء قدير. فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة خصوصاً صلاة الجمعة حفظه الله تعالى من كل مخوف، ونصره على أعدائه، وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، ويسّر عليه معيشته، وقضى عنه دينه ولو كان عليه أمثال الجبال ديناً، بكرمه وإحسانه، انتهى. نقله عنه العلامة ابن داود البلوي الأندلسي، ومن خطه نقلت، رحم الله تعالى الجميع، ونقله اليافعي كما ذكر رحمه الله تعالى، إلاّ أنّه لم يقل فيه يا ودود، واتفقا فيما عدا ذلك، والله سبحانه أعلم.
وقال ابن خلكان في حقّه: محمد بن أحمد (2) بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الصالح الزاهد من أهل الجزيرة الخضراء، كانت له كرامات ظاهرة، ورأيت أهل مصر يحكون عنه أشياء خارقة، ولقيت جماعة ممّن صحبه، وكل منهم قد نمى عليه (3) من بركته، وذكروا عنه أنّه وعد جماعته الذي صحبوه مواعيد
__________
(1) يا ودود: مكررة في ق ط.
(2) ابن أحمد: سقطت من دوزي، وهي ثابتة في ق وابن خلكان.
(3) ط ج ق: قد يثني عليه، وما أثبتناه في ابن خلكان أيضا.(2/56)
من الولايات والمناصب العلية، وأنها صحت كلّها. وكان من السادات الأكابر والطراز الأول، وهو مغربي صحب بالمغرب أعلام الزهاد وانتفع بهم، فلمّا وصل إلى مصر انتفع به من صحبه أو شاهده، ثم سافر إلى الشام قاصداً زيارة بيت المقدس، فأقام بها إلى أن مات، وصلّي عليه بالمسجد الأقصى، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقبره ظاهر للزيارة والتبرك به (1) .
والجزيرة الخضراء في بلاد الأندلس: مدينة تقابل سبتة من بر العدوة.
ومن جملة وصاياه لأصحابه: سيروا إلى الله تعالى عرجاً ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة، انتهى ببعض اختصار.
24 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين القرطبي (2) ، سمع من قاسم بن أصبغ وغيره، وقدم مصر فسمع بها من ابن الورد وابن أبي الموت والبارودي (3) وابن السكن في آخرين، وسمع بالرملة وبيت المقدس، وكان ضابطاً بصيراً بالنحو واللغة فصيحاً بليغاً طويل اللسان، ولي الشرطة ببلاد المغرب. توفّي سنة 372.
25 - ومنهم أبو بكر محمد بن علي بن خلف، التّجيبي الإشبيلي (4) الحافظ الكاتب، روى عن ابن الجد وغيره، ومر بمصر حاجّاً فلقي بمكة أبا حفص الميانشي وأبا الحسن المكناسي، ولقي بالإسكندرية السّلفي وابن عوف وغيرهما، وكان مدرّساً للفقه، فقيهاً جليلاً، متقدماً فيه عارفاً فاضلاً سنيّاً، توفي بعد امتحان من منصور بني عبد المؤمن سنة 596، وذلك أنّه وشي به للمنصور
__________
(1) به: سقطت من ق ط.
(2) محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين القرطبي: ترجمته في ابن الفرضي 2: 85 وعنه ينقل المقري باختصار.
(3) ط ودوزي: والبارودي.
(4) ترجمته في التكلمة: 557 والذيل والتكملة 6: الورقة 179 (نسخة باريس) وأورد له ترجمة مفصلة.(2/57)
أيّام عزم على ترك التقليد والعمل بالحديث (1) .
26 - ومنهم أبو بكر الأندلسي الجيّاني، محمد بن علي بن عبد الله بن محمد ابن ياسر، الأنصاري، الجيّاني (2) ، سافر من بلده ودخل ديار مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء النهر، ولقي أئمتها، وتفقه ببخارى حتى تمهر في المذهب والخلاف والجدل، ثم اشتغل بالحديث وسمعاه وحفظه وحصّل منه كثيراً، ثم سكن بلخ مدة، وعاد إلى بغداد ودخلها سنة 559، وتوجه إلى مكة فحج ورجع إلى الشام واستوطن حلب، إلى أن توفّي بها، ووقف كتبه، وكان متديّناً صدوقاً حافظاً عالماً بالحديث، وفيه فضل، ولد بجيّان سنة 492، ومات بحلب سنة 563.
27 - ومنهم أبو علد الله محمد بن علي التّجيبي الدهان الغرناطي (3) ، كان حسن السّمت بارع الخط والخلق والخلق، رحل إلى الحج، وجال في البلاد في حدود سنة ست وستمائة فأخذ بمكة والشام ومصر والإسكندرية عن جماعة كثيرة، وكان عدلاً (4) فاضلاً على خير دين، وكان متحرّفاً بالتجارة بغرناطة، ثم خرج منها آخر عمره فمات بقوص بعدما حج سنة 650، وصدر من مكّة سنة 653 فمات قبل منتصف السنة، رحمه الله تعالى.
28 - ومنهم أبو عمر محمد بن علي بن محمد بن أبي الربيع القرشي العثماني
__________
(1) كان المنصور قد حمل الناس على الكتاب والسنة، فعل أهل الظاهر، ورفض الاشتغال بالفروع، فتعرض التجيبي للمحنة بسبب ذلك، وخلص من النكبة فلزم داره، وكانت له غرفة مشرفة على الدرب الذي في داره يكثر الجلوس فيها، فخطر للمنصور أن يستدعيه ويؤنسه، فتوجه إليه الشرطيون، فرآهم من غرفته تلك وظن أنهم جاءوا لشر فاستطير قلبه ذعرا، وأصابه شيء كالفالج أقعده، وظل كذلك حتى أدركته منيته.
(2) محمد بن علي بن ياسر الأنصاري الجياني: ترجمته في التكملة: 500.
(3) محمد بن علي التجيبي الدهان: ترجمته في الذيل والتكملة 6: 198 (نسخة باريس) .
(4) دوزي: عادلا.(2/58)
الأندلسي الإشبيلي النحوي، ولد سنة 617 بإشبيلية، وقدم مصر فسمع الكثير بها، وبدمشق وغيرها، وكان إماماً عالماً نحويّاً فاضلاً، كتب عنه أبو محمد الدمياطي والقطب عبد الكريم، ناهيك بهما.
29 - ومنهم أبو بكر [و] أبو عبد الله بن محمد بن علي بن محمد بن علي ابن هذيل البلنسي (1) ، رحل وسمع من السّلفي، وحج، قال أبو الربيع ابن سالم: هو شيخ صدوق متيقّظ، سمع أباه وأبا الوليد ابن الدباغ وأبا الحسن طارق بن موسى بن يعيش وجماعة، وأخذ بمكّة سنة 539 عن أبي علي الحسن المقرئ، وقفل إلى الأندلس سنة 546، فأخذ عنه بها، وسمع منه جماعة، قال ابن الأبار: كان غاية في الصلاح وأعمال البر والورع، توفّي ببعض قرى بلنسية سنة 583 (2) ، ومولده سنة سبع أو تسع عشرة وخمسمائة، وله حظ من علم التعبير واللغة، رحمه الله تعالى.
30 - ومنهم أبو عبد الله، ويقال: أبو سلمة، محمد بن علي البيّاسي الغرناطي الأنصاري ناصر الدين، روى عن الحافظ أبي جعفر (3) بن الزبير وغيره، وقدم إلى القاهرة واستوطنها بعد الحج، حتى مات بها سنة 703، وكان عارفاً بعلم الحديث وكتب منه كثيراً، ومال إلى مذهب الظاهرية، وانتفع به جماعة من طلبة الحديث، وكان ثقة، رحمه الله تعالى.
31 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي بن الشامي الأندلسي، الغرناطي، قدم مصر حاجّاً، وأقام بمكّة والمدينة، وكان إماماً فاضلاً عالماً متفنّناً (4) في علوم ما بين فقه وأصول ونحو ولغة وقراءات ونظم ونثر، ومع
__________
(1) محمد بن علي بن هذيل: ترجمته في التكملة: 545 والذيل والتكملة 6: 200 (نسخة باريس) .
(2) التكملة: سنة 588، وفي ق ط: 538.
(3) ق ودوزي: أبي حفص.
(4) في نسخة: متقنا.(2/59)
معرفته بمذهب مالك ينقل كثيراً من مذهب الشافعي، وسمع الموطّأ بتونس من أبي محمد ابن هرون القرطبي، ومولده بغرناطة سنة 671، وتوفّي سنة 715.
ومن شعره:
إذا كنت جاراً للنبيّ وصحبه ... ومكّة بيت الله منّي على قرب
فما ضرّني أن فاتني رغد عيشةٍ ... وحسبي الذي أوتيته نعمةً حسبي وقوله:
نزيل الكرام عزيز الجوار ... وإنّي نزيلٌ عليكم وجار
حللت ذراك وأنت الكريم ... ومن حلّ مثوى كريم يجار 32 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمار الكلاعي الميورقي (1) ، قدم مصر، وروى عن ابن الوليد بها، وان عالماً، وله قصيدة طويلة فيها حكم ومواعظ يوصي ابنه بها، منها قوله:
وطاعة من إليه الأمر فالزم وإن جاروا وكانوا مسلمينا
فإن كفروا ككفر بني عبيدٍ فلا تسكن ديار الكافرينا
واسم ابنه حسن، وسمع من المذكور الحافظ القاضي أبو بكر ابن العربي في رحلته سنة 485، ووصفه بالعلم، وعمّار: بالراء.
33 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن الفخّار القرطبي الحافظ (2) ، روى عن [أبي] عيسى (3) الليثي وابن عون الله وأبي جعفر التميمي
__________
(1) محمد بن عمار الكلاعي: ترجمته في التكملة: 403؛ وقد سقط أكثر هذه الترجمة في ق ولم يبق منها إلا ابتداء من قوله " واسم ابنه حسن ... بالراء " ودخلت في الترجمة السابقة.
(2) انظر ترجمة ابن الفخار في الصلة: 483 وعنه ينقل المقري.
(3) في الأصول: عن عيسى.(2/60)
وأبي محمد الباجي، وقدم مصر، وحج، وجاور بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام، وأفتى بها، وافتخر بذلك على أصحابه، وقال: لقد شوورت بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم دار مالك بن أنس ومكان شوراه، ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم، وكان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم، عارفاً بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء، ذاكراً للروايات، يحفظ المدونة والنوادر لابن أبي زيد، ويوردها من صدره دون كتاب.
قال ابن حيّان مؤرخ الأندلس: توفّي الفقيه المشاور الحافظ المتبحّر (1) الرواية الطويل الهجرة في طلب العلم الناسك المتقشف بمدينة بلنسية في ربيع الأول سنة 417 لعشر خلون من الشهر، وكان الحفل في جنازته عظيماً، وعاين الناس فيها آية من ظهور أشباه الخطاطيف بها تجللت الجمع رافّةً فوق النعش لم تفارق نعشه وإلى أن ووري، فتفرقت، ومكث مدة ببلنسية مطاعاً عظيم القدر عند السلطان والعامة.
وذكر جماهر بن عبد الرحمن حديث الطير، وكذا ذكر الحسن بن محمد القيسي خبر الطير. قال: وكانت سنّه نحو الثمانين سنة، وكان مجاب الدعوة، وظهرت في دعوته الإجابة.
وقال أبو عمرو الداني: إن وفاته يوم السبت لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وأربعمائة، ودفن يوم الأحد بمدينة بلنسية، وبلغ نحو ست وسبعين سنة، وهو آخر الفقهاء الحفّاظ الراسخين العالمين بالكتاب والسنّة بالأندلس، رحمه الله تعالى.
34 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمروس القرطبي (2) ، سمع عليّ بن مفرج وغيره من شيوخ قرطبة، وقدم مصر فأخذ بها عن ابن المهندس وغيره،
__________
(1) ط: المستبحر.
(2) ترجمة ابن عمروس في الصلة: 462.(2/61)
وحجّ ودخل العراق، وسمع من أبي بكر الأبهري والدارقطني وجماعة، وعاد إلى الأندلس، وشهر بالعلم والمال، وولي الأحباس بقرطبة، حدّث عنه أبو عمر ابن عبد البر وغيره، ومات في جمادى الآخرة سنة أربعمائة، رحمه الله تعالى.
35 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح (1) ، المعافري، أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح، المعافري، المعروف بالأعشى، القرطبي، رحل سنة 179 فسمع سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب وجماعة، وكان الغالب عليه الحديث ورواية الآثار، وكان صالحاً عاقلاً سريّاً جواداً يذهب إلى مذهب أهل العراق (2) ، وتوفّي سنة 221، ذكره ابن يونس وغيره.
36 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي (3) ، الإلبيري، الزاهد، قال الحميدي في حقّه: هو من أهل الحديث والحفظ والفهم والبحث عن الرجال، وله رحلة سمع فيها من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومن ابن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب وغيرهما، وروى بالأندلس عن جماعة منهم بقيّ ابن مخلد وابن وضاح، وسمع بمكّة وغيرها من مائة شيخ، قال ابن الفرضي: كان شيخاً نبيلاً، ضابطاً لكتبه، ثقة في روايته، صدوقاً في حديثه، وكانت الرحلة إليه بإلبيرة، وبها مات في شوال سنة 319 وهو ابن تسعين سنة، رحمه الله تعالى.
37 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيّار، القرطبي (4) أبو عبد الله من موالي بني أميّة، سمع من أبيه ومن بقيّ بن مخلد وغيره، ورحل سنة 294 فسمع بمصر من النسائي، ومن أحمد بن حماد زغبة، وسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد ودمياط والإسكندرية والقيروان
__________
(1) ترجمة ابن نجيح في الجذوة: 69 (وبغية الملتمس رقم: 212) وابن الفرضي 2: 7.
(2) ابن الفرضي: وكان يذهب في الأشربة مذهب أهل العراق، إذ كان علمه عراقيا.
(3) ترجمته في الجذوة: 78 (وبغية الملتمس رقم: 252) وابن الفرضي 2: 42.
(4) ترجمته في الجذوة: 80 (وبغية الملتمس رقم: 260) وابن الفرضي 2: 48.(2/62)
من مائة وستين رجلاً، قال أبو محمد الباجي: لم أدرك بقرطبة أكثر حديثاً منه، وكان عالماً بالفقه، متقدّماً في علم الوثائق رأساً فيها، وكان مشاوراً، سمع من الناس كثيراً، وكان ثقة صدوقاً، وغزا سنة 327، ومات ثالث ذي الحجّة منها، ومولده سنة 263، وقيل: توفّي سنة 328 (1) ، قاله ابن يونس والحميدي.
38 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم، القرشي الفهري، عرف بابن رمان، الغرناطي، قرأ على أبي جعفر ابن الزبير بها، وقدم إلى القاهرة سنة 722، ومات بالمدينة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام سنة 729.
ومن شعره قوله:
فديتم خبّروني كيف صحّت ... فريضة هالكٍ من غير مين
لزيدٍ زوجةٌ ولها ابن أمٍّ ... فماتت عنهما لا غير ذين
فحاز البعل ما تركته إرثاً ... وولّى غيره صفر اليدين
ولا رقٌّ فديت على أخيها ... وليس بكافرٍ يرمى بشين
وليس معجّلاً إرثاً بقتلٍ ... مخافة أن ينال شقاوتين 39 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن لبّ الشاطبي (2) ، حدث بالقاهرة، وتوفّي قريباً من سنة 640، وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن ابن الصباغ، ومن كلامه: اشتغالك بوقتٍ لم يأت تضييعٌ للوقت الذي أنت فيه، ولعمري لقد صدق.
40 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سراقة الشاطبي بن محمد بن إبراهيم ابن الحسين بن سراقة (3) ، محيي الدين، ويكنى أيضاً أبا القاسم وأبا بكر،
__________
(1) ق: 318.
(2) ترجمة محمد بن لب الشاطبي في التكملة: 652.
(3) انظر ترجمته في الوافي 1: 208 وشذرات الذهب 5: 310 (وفيات: 662) والنجوم الزاهرة 7: 216 وذيل الروضتين: 230 والفوات 2: 306.(2/63)
الأنصاري الشاطبي، المالكي، ولد بشاطبة سنة 592، وسمع من أبي القاسم ابن بقيّ، ورحل في طلب الحديث، فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي وأبي طالب القبّيطي وأبي حفص الدينوري وجماعة، وسمع بحلب من ابن شداد وغيره، وتولى مشيخة دار الحديث البهائية (1) بحلب، ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة ابن سهل اقصري سنة 642، وبقي بها إلى أن توفّي بالقاهرة في شعبان سنة 662، ودفن بسفح المقطم وكان الجمع كبيراً، وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل، وأحد المشايخ الصوفية، له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر، وكان صالح الفكرة في حلّ التراجم، مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق، واطّراح التكلف، ورقّة الطبع، ولين الجانب.
ومن شعره قوله:
نصبت ومثلي للمكارم ينصب ... ورمت شروق الشمس وهي تغرّب
وحاولت إحياء النفوس بأسرها ... وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب
وأتعب إن لم تمنح الخلق راحةً ... وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب
مرادي شيءٌ والمقادير غيره ... ومن عاند الأقدار لا شكّ يغلب وقوله (2) :
إلى كم أمنّي النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأمانيّ لا تقضى
وقد مرّ لي خمسٌ وعشرون حجّة ... ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى
وأعلم أنّي والثّلاثون مدّتي ... حرٍ بمغاني اللهو أوسعها رفضا
__________
(1) في ق ط ج ودوزي: البهادية، والتصويب عن الوافي.
(2) الأبيات ما عدا الأخير منها في الوافي والفوات.(2/64)
فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوبٍ من العشر قد أفضى وقال رحمه الله تعالى (1) :
وصاحبٍ كالزّلال يمحو ... صفاؤه الشّكّ باليقين
لم يحص إلاّ الجميل منّي ... كأنّه كاتب اليمين وهذا عكس قول المنازي:
وصاحبٍ خلته خليلاً ... وما جرى غدره ببالي
لم يحص إلاّ القبيح منّي ... كأنّه كاتب الشمال 41 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الفرّيشي - بكسر الفاء، وتشديد الراء المهملة، بعدها شين معجمة - نسبة إلى فرّيش إحدى مدائن قرطبة (2) . ولد بغرناطة سنة 557، وقرأ بالروايات على أبي القاسم ابن غالب، وسمع عليه وعلى أبي القاسم ابن بشكوال وغيره، وسمع بمكّة، وحدث بمصر، وعاد إلى الأندلس فمات بقرطبة سنة 633، وكان مشهوراً بالصلاح معروفاً بإجابة الدعاء، ورعاً ثقة زاهداً فاضلاً، رحمه الله تعالى.
42 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن خيرون (3) ، وقيل: محمد بن عمر بن خيرون، أندلسي، سكن القيروان، ورحل إلى المشرق، وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطي وغيره كعبيد بن رجاء وأبي الحسن
__________
(1) البيتان وبيتا المنازي في الوافي والشذرات والنجوم الزاهرة.
(2) تقع فريش إلى الشمال من قرطبة، وقال الحميري في تحديدها: بين الجوف والغرب من قرطبة.
(3) ترجمته في ابن الفرضي 2: 112 وجذوة المقتبس: 50 (وبغية الملتمس رقم: 108) وكنيته فيها أبو جعفر؛ وفيغاية النهاية 2: 217 واسمه محمد بن عمر وكنيته أبو عبد الله. ومن مؤلفاته كتاب الابتداء والتمام وكتاب الألفات واللام، وذكر ابن الجزري أن وفاته كانت سنة ست وثلاثمائة، وعند دوزي وق ط ج: 356 ولعله سهو.(2/65)
إسماعيل بن يعقوب الأزرق المدني، ودخل العراق، وسمع به من أصحاب علي ابن المديني ويحيى بن معين، وعاد إلى القيروان، وسمع بها وبقرطبة، وقدم بقراءة نافع على أهل إفريقية، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلاّ الخواص، حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس، ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق، وكان يأخذ أخذاً شديداً على مذهب المشيخة من أصحاب ورش، وتوفّي بشعبان سنة 306، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً كريم الأخلاق إماماً في القراءات، مشهوراً بذلك، ثقة، مأموناً، واحد أهل زمانه وأئمتهم في علم القرآن، رحمه الله تعالى.
43 - ومنهم ضياء الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن صابر بن بندار، القيسي، الأندلسي، المالقي (1) ، ولد بمالقة سنة 625 وسمع الكثير، وقدم القاهرة حاجّاً فسمع بها وبدمشق وكتب بخطّه كثيراً، وكان سريع الكتابة سريع القراءة كثير الفوائد، ديّناً خيّراً فاضلاً، له مشاركة جيّدة في عدة علوم، توفّي شابّاً بالقاهرة سنة 662، رحمه الله تعالى.
44 - ومنهم أبو بكر محمد الزّهري، المعروف بابن محرز، البلنسي (2) ، ولد بها سنة 529، وقدم مصر فسمع ابن الفضل (3) وغيره، وروى عنه جماعة، وكان أحد رجال الكمال علماً وإدراكاً وفصاحة وحفظاً للفقه وتفنّناً في العلوم ومتانة في الأدب، حافظاً للغة والغريب، وله شعر رائق، ودين متين، وأخذ الناس عنه ببلده وبمرسية وإشبيلية ومالقة وغرناطة في اجتيازه عليها، وبغيرها من البلاد، وعلا صيته، وعرف بالدين والعلم والفضل، وكان أبو الخطاب
__________
(1) ترجمته في الوافي 1: 200.
(2) هو محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان أبو بكر الزهري البلنسي: انظر ترجمته في الوافي 1: 198 والتكملة: 664.
(3) ط ج: ابن النفضل.(2/66)
يثني على علمه ودينه، توفّي ببجاية سنة 655عن سن عالية، رحمه الله تعالى.
45 - وممن ارتحل (1) من الأندلس إلى المشرق القاضي أبو الوليد الباجي صاحب التصانيف المشهورة (2) . وقال ابن ماكولا في حقّه: إنّه فقيه متكلّم أديب شاعر، سمع بالعراق، ودرس الكلام وصنف إلى أن مات، وكان جليلاً رفيع القدر والخطر.
وقال غير واحد: إنّه ولد سنة 403، وارتحل سنة 426، وجاور ثلاثة أعوام ملازماً لأبي ذر الحافظ يخدمه، ورحل إلى بغداد ودمشق، ولقي في رحلته غير واحد، وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطّبري وغيره.
وقال أبو علي ابن سكرة: ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي، وما رأيت أحداً على هيئته وسمته وتوقير مجلسه، ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم، فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشاشي، فقلت له: أدام الله تعالى عزك، هذا ابن شيخ الأندلس، فقال: لعلّه ابن الباجي، فقلت: نعم، فأقبل عليه.
قال القاضي عياض: وكثرت القالة في القاضي أبي الوليد لمداخلته الرؤساء، وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره، وكان يبعث إلى تلك النواحي خلفاءه، وربما أتاها المرة ونحوها، وكان في أول أمره مقلاًّ حتى احتاج إلى القصد بشعره، واستأجر نفسه مدّة مقامه ببغداد، فيما سمعته مستفيضاً، لحراسة دربٍ. وقد جمع ابنه شعره.
قال: ولمّا قدم الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة، إلاّ أنّه كان خارجاً عن المذهب، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه، فقصرت ألسنة الفقهاء عن
__________
(1) ق ج: ومن الراحلين، ط: وممن رحل، وأثبتنا ما في دوزي.
(2) انظر ترجمة أبي الوليد سليمان بن خلف في الذخيرة (القسم الثاني: 38) والقلائد: 188 والصلة: 197 وبغية الملتمس رقم: 777 والمغرب 1: 404 ووفيات الأعيان 2: 142 ومعجم الأدباء 11: 246 والديباج المذهب: 120 وتذكرة الحفاظ: 1178 وتهذيب ابن عساكر 6: 248 وشذرات الذهب 3: 334 والمرقبة العليا: 95.(2/67)
مجادلته، وكلامه، واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل، وحل بجزيرة ميورقة، فرأس فيها واتبعه أهلها، فلمّا قدم أبو الوليد كلّموه في ذلك، فدخل إليه، وناظره وشهر باطله، وله معه مجالس كثيرة.
ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر الصائغ وكفره بإجازة الكتب على الرسول الأمي، صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه تكذيب للقرآن، فتكلّم في ذلك من لم يفهم الكلام، حتى أثاروا عليه الفتنة وقبّحوا عليه عند العامة ما أتى به، وتكلّم به خطباؤهم في الجمع، وقال شاعرهم:
برئت ممّن شرى دنياً بآخرةٍ ... وقال: إن رسول الله قد كتبا فصنف أبو الوليد رحمه اله تعالى رسالة بيّن فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة، فرجع بها جماعة؛ إذ ليس من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أمّيّاً لأنّه لا يسمّى كاتباً، وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة وهو أمّيون، والحكم للغالب لا للصورة النادرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام " إنّا أمّة أمّيون " أي: أكثرهم كذلك، لندور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى: " هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولاً منهم " انتهى، وبعضه بالمعنى.
وذكر ابن بسّام أن أبا الوليد الباجي نشأ وهمته في العلم، وأنّه بدأ بالأدب، فبرز في ميادينه، وجعل الشعر بضاعته، فنال به من كل الرغائب، ثم رحل فما حلّ بلداً إلاّ وجده ملآن بذكره، نشوان من قهوتي نظمه ونثره، فمال إلى علم الديانة، فمشى بمقياس، وبنى على أساس، حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه، ويرتاحون للأخذ عنه، ثم كرّ واستقضي في طريقه بحلب، فأقام بها نحواً من عام.
قال: وبلغني عن ابن حزم أنّه كان يقول: لو لم يكن لأصحاب المذهب(2/68)
الملكي بعد عبد الوهاب إلاّ مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم.
وصنف أبو الوليد كتباً كثيرة منها كتاب التسديد إلى معرفة التوحيد وكتاب سنن المنهاج وترتيب الحجاج وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح لمن خرّج عنه البخاري في الصحيح وكتاب شرح الموطأ وهو نسختان: نسخة سمّاها الاستيفاء، ثم انتقى منها فوائد سمّاها المنتقى في سبع مجلدات، وهو أحسن كتاب ألّف في مذهب مالك، لأنّه شرح في أحاديث الموطّأ، وفرّع عليها تفريعاً حسناً، وأفرد منه شيئاً سمّاه الإيماء، وقال بعضهم: إنّه صنف كتاب المعاني في شرح الموطّأ فجاء عشرين مجلداً عديم النظير، وكان أيضاً صنف كتاباً كبيراً جامعاً يلغ فيه الغاية سمّاه الاستيفاء، وله كتابا لإيماء في الفقه، خمس مجلدات، انتهى.
ومن تصانيفه مختصر المختصر في مسائل المدونة، وله كتاب اختلاف الموطأ وكتاب الإشارة في أصول الفقه وكتاب الحدود وكتاب سنن الصالحين وكتاب التفسير لم يتمّه، وكتاب شرح المنهاج وكتاب التبيين لسبيل المهتدين في اختصار فرق الفقهاء، وكتاب السراج في الخلاف، ولم يتم، وغير ذلك.
وحجّ الباجي رحمه اله تعالى أربع حجج جور فيها ثلاثة أعوام ملازماً لأبي ذر عبد بن أحمد الهروي، وكان يسافر معه للسّروات (1) لأن أبا ذر تزوّج من العرب، وسكن بها.
__________
(1) السروات ثلاث: واحدة بين تهامة ونجد وواحدة في بلاد عدوان وثالثة أرض عالية وجبال تشرف على البحر من الغرب وعلى نجد من الشرق.(2/69)
[ترجمة أبي ذر الهروي] (1)
وأبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي، ويعرف بابن السمّاك، سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر، وجاور بمكة، وألّف معجماً لشيوخه، وعمل الصحيح، وصنف التصانيف، قال الخطيب: قدم أبو ذرّ بغداد وأنا غائب، فحدث بها، ثم حجّ وجاور، ثم تزوّج في العرب، وسكن السّروات، وكان يحجّ كل عام ويحدث ويرجع، وكان ثقة ضابطاً ديّناً، وقال الحسن بن بقيّ المالقي: حدّثني شيخي قال: قيل لأبي ذر: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنّك هروي فقال: قدمت بغداد وكنت ماشياً مع الدارقطني، فلقينا أبا بكر ابن الطيب، فالتزمه الدارقطني، وقبّل وجهه وعينيه، فلمّا افترقنا قلت: من هذا قال: هذا إمام المسلمين، والذابّ عن الدين، القاضي أبو بكر ابن الطيب، فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه، انتهى.
قلت: هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي، وهو الذي جزم به غير واحد، ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية، وكذلك شيخ السنّة الإمام أبو الحسن الأشعري مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة، وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان، والله تعالى أعلم.
وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور: كان أبو ذرّ زاهداً، ورعاً، عالماً، سخيّاً لا يدّخر شيئاً، وصار كبير مشيخة الحرم، مشاراً إليه في التصوف، خرّج على الصحيح تخريجاً حسناً، وكان حافظاً، كثير الشيوخ، توفّي سنة 435، وقال أبو علي ابن سكرة: توفّي عقب شوّال سنة 434، وقال الخطيب: في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين، رحمه الله تعالى، وأكثر
__________
(1) ترجمة أبي ذر الهروي في تبيين كذب المفتري: 255 وتذكرة الحفاظ: 1103.(2/70)
نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إمّا من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور، وإمّا من رواية أبي علي الصّدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده.
واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ، وإنّما هي هراة بني شيمانة بالحجاز (1) ، وبها كان سكنى أبي ذر، والله أعلم.
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى
ثم إنّه - أعني الباجي - قدم بغداد، وأقام بها ثلاثة أعوام يدرّس الفقه، ويقرأ الحديث، فلقي بها عدّة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصّيمري وابن عمروس المالكي، وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السّمناني يأخذ عنه علم الكلام؛ فبرع في الحديث وعلله ورجاله، وفي الفقه وغوامضه وخلافه، وفي الكلام ومضايقه، وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر، رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما. ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جمٍّ حصّله مع الفقر والتّعفّف.
وممّا يفتخر به أنّه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر ابن عبد البر والخطيب أبو بكر ابن ثابت البغدادي، وناهيك بهما، وهما أسنّ منه وأكبر، وأبو عبد الله الحميدي، وعلي بن عبد الله الصقلي، وأحمد بن علي بن غزلون، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو علي ابن الحسين السبتي، وأو بحر سفيان بن العاصي،
__________
(1) لم يذكر احد أن في الحجاز موضعا اسمه " هراة " أو قوما اسمهم بنو شيمانة وإنما أورد ياقوت في مادة " شبابة ": سراة بني شبابة من نواحي مكة ينسب إليها أبو جميع عيسى ابن الحافظ أبي ذر عبد الله بن أحمد الهروي الشبابي، حدث بهذا الموضع عن أبيه أبي ذر، روى عنه أبو الفتيان عمر بن أبي الحسن الرؤاسي، وكان يحدث سنة نيف وستين وأربعمائة.(2/71)
وممّن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد. وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه، وتهيأت الدنيا له، وعظم جاهه، وأجزلت له الصّلات، فمات عن مال وافر، وترسل للملوك، وولي القضاء بعدة مواضع، رحمه الله تعالى.
وأمّا ما تقدّم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض، والصواب خلافه، قال القاضي أبو الفضل عياض: حدّثنا محمد بن علي المعروف باب الصيقل الشاطبي من لفظه، قال: حدثني أبو الحسن ابن مفوّز قال: كان أبو محمد ابن أحمد بن الحاج الهوّاري من أهل جزيرة شقر ممّن لازم الباجي وتفقّه عنده، وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي صلى الله عليه وسلّم الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته، ويعجب به، وكنت أنكر ذلك عليه، فمّا كان بعد برهة أتاني زائراً على عادته، وأعلمني أن رجلاً من إخوانه كان يرى في النوم أنّه بالمدينة، وأنّه يدخل المسجد، فيرى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامه، فيجد له قشعريرة وهيبة عظيمة، ثم يراه ينشقّ ويميد ولا يستقر، فيعتريه منه فزع عظيم، وسألني عن عبارة رؤياه، فقلت: أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير صفته، أو ينحله ما ليس له بأصل، أو لعلّه يفتري عليه، فسألني: من أين قلت هذا قلت له: من قول الله تعالى " تكاد السّموات يتفطّرن منه إلى قوله تعالى: ولداً " فقال لي: لله درّك يا سيّدي، وأقبل يقبّل رأسي وبين عينيّ، ويبكي مرّة ويضحك أخرى، ثم قال لي: أنا صاحب الرويا، واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك، قال: إنّه لمّا رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول: والله ما هذا إلاّ أنّني أقول وأعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب، فكنت أبكي وأقول: أنا تائب يا رسول الله، وأكرّر ذلك مراراً، فارى القبر قد عاد إلى هيأته أوّلاً وسكن، فاستيقظت، ثم قال لي: وأنا أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كتب قطّ حرفاً(2/72)
وعليه ألقى الله تعالى، فقلت: الحمد لله الذي أراك البرهان، فاشكر له كثيراً، انتهى.
قال ابن الأبار: حدثني بهذه الحكاية أبو الربيع ابن سالم بقراءتي عليه، عن الكاتب أبي بكر عبد الرحمن بن مغاور قراءةً عليه، عن القاضي أبي حفص (1) أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر عن أبي الحسن طاهر بن مفوّز قال: كان أبو محمد - إلى آخرها، وهي أتم من هذه، انتهى.
رجع إلى الباجي
ذكر أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنّه كان يقول، وقد ذكرت له صحبة السلطان: لولا السلطان لنقلتني الذرّ من الظل إلى الشمس، أو ما هذا معناه، انتهى.
ومن فوائد الباجي أنّه حكى أن الطلبة كانوا ينتابون مجلس أبي علي البغدادي، واتفق أن كان يوماً مطرٌ ووحل، فلم يحضر من الطلبة سوى واحد، فلمّا رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده (2) :
دببت للمجد والسّاعون قد بلغوا ... حدّ النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا المجد حتّى ملّ أكثرهم ... وعانق المجد من وافى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا انتهى.
وروى عن القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى الخطيب البغدادي قوله رحمه الله تعالى (3) :
__________
(1) ط ج: أبي جعفر.
(2) انظر القصة والأبيات في الصلة: 620 - 621؛ والأبيات في أمالي القالي 1: 112.
(3) البيتان وردا في أكثر المصادر التي ترجمت للباجي.(2/73)
إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأنّ جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاحٍ وطاعه وقد ذكرناهما فيما يأتي قريباً من كلام الفتح، لكوننا نقلنا كلامه بلفظه، رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
وقال في القلائد في حق الباجي رحمه الله تعالى، ما صورته: بدر العلوم اللائح، وقطرها الغادي الرائح، وثبيرها الذي لا يزحم، ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم، كان إمام الأندلس الذي تقتبس أنواره، وتنتجع نجوده وأغواره، رحل إلى المشرق فعكف على الطلب ساهراً، وقطف من العلم أزاهراً، وتفنن في اقتنائه، وثنى إليه عنان اعتنائه، حتى غدا مملوء الوطاب، وعاد بلح طلبه إلى الإرطاب، فكرّ إلى الأندلس بحراً لا تخاض لججه، وفجراً لا يطمس منهجه، فتهادته الدول، وتلقته الخيل والخول، وانتقل من محجر إلى ناظر، وتبدل من يانع بناضر، ثم استدعاه المقتدر بالله فصار إليه مرتاحاً، وبدا بأفقه ملتاحاً، وهناك ظهرت تواليفه وأوضاعه، وبد وخده في سبل العلم وإيضاعه، وكان المقتدر يباهي بانحياشه إلى سلطانه، وإيثاره لحضرته باستيطانه، ويحتفل فيما يرتبه له ويجريه، وينزله في مكانه متى كان يوافيه، وكان له نظم يوقفه على ذاته، ولا يصرفه في رفث القول وبذاته (1) .
فمن ذلك قوله في معنى الزهد:
إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاحٍ وطاعه وله يرثي ابنيه وماتا مغتربين، وغربا كوكبين، وكانا ناظري الدهر،
__________
(1) دوزي: وبذاذاته.(2/74)
وساحري النّظم والنثر (1) :
رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السّواد من القلب
لئن غيّبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقرّ بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالتّرب
وأبكي وأبكي ساكنيها لعلّني ... سأنجد من صحبٍ وأسعد من سحب
فما ساعدت ورق الحمام أخا أسىً ... ولا روّحت ريح الصّبا عن أخي كرب
ولا استعذبت عيناي بعدهما كرىً ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطرّ محمولٌ على المركب الصعب وله يرثي ابنه محمداً:
أمحمداً، إن كنت بعدك صابراً ... صبر السليم لما به لا يسلم
رزئت قبلك بالنبيّ محمدٍ ... ولرزؤه أدهى لديّ وأعظم
فلقد علمت بأنّي بك لاحقٌ ... من بعد ظنّي أنّني متقدّم
لله ذكرٌ لا يزال بخاطري ... متصرّفٌ في صبره مستحكم
فإذا نظرت فشخصه متخيّلٌ ... وإذا أصخت فصوته متوهّم
وبكلّ أرضٍ لي من أجلك لوعةٌ ... وبكلّ قبرٍ وقفةٌ وتلوّم
فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه ... ودعاه باسمك معولٌ بك مغرم
حكم الردى ومناهج قد سنّها ... لأولي النّهى والحزن قبل متمّم انتهى.
ولعمري إنّه لم يوف القاضي أبا الوليد الباجي حقه الواجب المفترض، ووددت أنّه مدّ النفس في ترجمته بعبارته التي يعترف ببراعتها من سلّم
__________
(1) انظر أيضا المغرب 1: 404.(2/75)
له ومن اعترض، فإن ترجمة المذكور ممّا سطّره أفسح مجالاً، وأفصح رويّة وارتجالاً، وبالجملة فهو أحد أعلام الأندلس، وهو سليمان بن خلف ابن سعد بن أيوب بن وارث التّجيبي، وذكره ابن بسّام في الذخيرة وابن خلّكان وغير واحد، وأصله من بطليوس، وانتقل جدّه إلى باجة قرب إشبيلية، وليس هو من باجة القيروان، ومولده سنة 403، ورحل سنة 426، فقدم مصر، وسمع بها، وأجّر نفسه ببغداد لحراسة الدروب، وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب، ويعقد الوثائق، إلى أن فشا علمه، وتهيأت له الدنيا، وشهرته تغني عن وصفه.
ومن نظمه قوله:
ما طال عهدي بالديار، وإنّما ... أنسى معاهدها أسىً وتبلّد
لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... رقّ الصّفا بفنائها والجلمد وله في المعتضد بن عباد والد المعتمد:
عبّادٌ استعبد البرايا ... بأنعمٍ تبلغ النعائم
مديحه ضمن كلّ قلبٍ ... حتى تغنّت به الحمائم ومن أشهر نظمه قوله:
إذا كنت أعلم - البيتين، وقد سبقا
وممّن ذكره أيضاً الحجاري في المسهب، وابن بشكوال في الصّلة، وأنّه حج أربع حجج، رحمه الله تعالى، وتوفّي في المرية لإحدى عشرة بقيت من رجب، وقيل: ليلة الخميس تاسع رجب، وقيل (1) : تاسع عشر صفر،
__________
(1) تاسع رجب، وقيل: سقطت من دوزي.(2/76)
سنة أربع وسبعين وأربعمائة.
ومن تواليفه المنتقى في شرح الموطّأ ذهب فيه مذهب الاجتهاد وإيراد الحجج، وهو ممّا يدل على تبحره في الفنون، ولمّا قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاماً وجد ملوك الطوائف أحزاباً متفرقة، فمشى بينهم في الصلح، وهم يجلّونه في الظاهر، ويستثقلونه في الباطن، ويستردون نزعته، ولم يفد شيئاً فالله تعالى يجازيه عن نيته، ولمّا ناظر ابن حزم قال له الباجي: أنا أعظم منك همّة في طلب العلم، لأنّك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق (1) ، فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك، لأنّك إنّما طلبت العلم وأنت في اتلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلاّ علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة؛ فأفحمه.
قال عياض: قال لي أصحابه: كان يخرج إلينا للإقراء، وفي يده أثر المطرقة، إلى أن فشا علمه، ونوهت الدنيا به، وعظم جاهه، وأجزلت صلاته، حتى مات عن مال وافر، وكان يستعمله الأعيان في ترسّلهم، ويقبل جوائزهم، وولي القضاء بمواضع من الأندلس.
[ترجمة ابن حزم] (2)
وابن حزم المذكور هو أبو محمد ابن حزم الظاهري، قال ابن حيّان وغيره: كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل، وله كتب كثيرة في المنطق
__________
(1) يريد أنه يسهر على قنديل الدراب وهو الحارس الليلي وسماه " بائت السوق " لأنه يبيت فيه للحراسة.
(2) ترجمة ابن حزم في الجذوة: 290 (والبغية رقم: 1204) والصلة: 395 وطبقات الأمم: 86 والذخير 1/ 1: 140 والمطمح: 55 والمغرب 1: 354 والمعجب: 30 وتاريخ الحكماء للقفطي: 156 وتذكرة الحفاظ 3: 241 ومسالك الأبصار (الجزء الثامن) وخلط شعره بشعر ابن عمه أبي المغيرة، وفي طوق الحمامة معلومات عنه وكذلك في سائر كتبه ورسائله.(2/77)
والفلسفة لم يخل فيها من غلط، وكان شافعيّ المذهب، يناضل الفقهاء عن مذهبه ثم صار ظاهريّاً، فوضع الكتب في هذا المذهب، وثبت عليه إلى أن مات، وكان له تعلّق بالأدب، وشنّع عليه الفقهاء، وطعنوا فيه، وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه، وتوفّي بالبادية (1) عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة.
وقال صاعد في تاريخه: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسّير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنّه اجتمع عنده بخط أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلد، نقله عن تاريخ صاعد الحافظ الذهبي.
قال الذهبي: وهو العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح، الأموي، مولاهم، الفارسي الأصل، الأندلسي القرطبي الظاهري، صاحب المصنفات، وأول سماعه سنة 399، وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدّة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنّة والمذاهب والملل والنّحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة الحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب.
قال الغزالي رحمه الله تعالى: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لأي محمد ابن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه، انتهى باختصار.
وعلى الجملة فهو نسيج وحده، لولا ما وصف به من سوء الاعتقاد، والوقوع في السلف الذي أثار عليه الانتقاد، سامحه الله تعالى.
وذكر الذهبي أن عمره اثنتان وسبعون سنة، وهو لا ينافي قول غيره " إنّه كان عمره إحدى وسبعين سنة وعشرة أشهر " لأنّه ولد رحمه الله تعالى بقرطبة بالجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام
__________
(1) يعني بقريته التي منها منبته وهب ببادية لبلة، واسمها منت لشم. وفي ق ط ج: من بلده بلد لبلة.(2/78)
الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان، سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، بطالع العقرب، وتوفّي ليومين بقيا من شعبان سنة 456، وكان كثير المواظبة على التأليف، ومن جملة تآليفه كتاب الفصل بين أهل الأهواء والنّحل وكتاب الصادع والرادع على من كفّر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على فرق التقليد وكتاب شرح حديث الموطإ والكلام على مسائله وكتاب الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها وكتاب " التلخيص والتخليص (1) في المسائل النظريّة وفروعها التي لا نصّ عليها في الكتاب والحديث " وكتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف وكتاب الإمامة والخلافة في سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها وكتاب كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس انتهى.
وقال ابن سعيد في حق ابن حزم، ما ملخّصه: الوزير العالم الحافظ أبو محمد علي ابن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي، وشهرته تغني عن وصفه، وتوفّي منفيّاً بقرية من بلد لبلة، ووصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالةٌ فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه الرسالة، وهي: سمعت وأطعت، لقوله تعالى: " وأعرض عن الجاهلين " وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليه الصلاة والسلام: " صل من قطعك، واعف عمّن ظلمك " ورضيت بقول الحكماء: " كفاك انتصاراً ممّن تعرض لأذاك إعراضك عنه "، وأقول:
تتبّع سواي امرأً يبتغي ... سبابك إنّ هواك السّباب
فإنّي أبيت طلاب السفاه ... وصنت محلّي عمّا يعاب
__________
(1) والتخليص: سقطت من ق.(2/79)
وقل ما بدا لك من بعد ذا ... وأكثر فإنّ سكوتي خطاب وأقول:
كفاني بذكر الناس لي ومآثري ... وما لك فيهم يا ابن عمّي ذاكر
عدوّي وأشياعي كثيرٌ كذاك من ... غدا وهو نفّاع المساعي وضائر (1)
وإنّي وإن آذيتني وعققتني ... لمحتملٌ ما جاءني منك صابر فوقّع له أبو المغيرة على ظهر رقعته: قرأت هذه الرقعة العاقّة، فحين استوعبتها أنشدتني:
نحنح زيدٌ وسعل ... لمّا رأى وقع الأسل فأردت قطعها، وترك المراجعة عنها، فقالت لي نفسي: قد عرفت مكانها، بالله لا قطعتها إلاّ يده، فأثبتّ على ظهرها ما يكون سبباً إلى صونها، فقلت:
نعقت ولم تدر كيف الجواب ... وأخطأت حتى أتاك الصواب
وأجريت وحدك في حلبةٍ ... نأت عنك فيها الجياد العراب
وبتّ من الجهل مستنبحاً ... لغير قرىً فأتتك الذئاب
فكيف تبيّنت عقرى الظّلوم ... إذا ما انقضت بالخميس العقاب
لعمرك ما لي طباعٌ تذمّ ... ولا شيمةٌ يوم مجدٍ تعاب
أنيل المنى والظّبا سخّطٌ ... وأعطي الرضى والعوالي غضاب وأقول:
وغاصب حقٍّ أوبقته المقادر ... يذكّرني حاميم والرمح شاجر (2)
غدا يستعير الفخر من خيم خصمه ... ويجهل أنّ الحقّ أبلج ظاهر
__________
(1) هذا البيت متقدم على الذي قبله في ق.
(2) قوله " يذكرني حاميم " مأخوذ من أبيات للأشتر النخعي قالها عندما قتل محمد بن طلحة وفيها:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم(2/80)
ألم تتعلّم يا أخا الظّلم أنّني ... برغمك ناهٍ منذ عشرٍ وآمر
تذلّ لي الأملاك حرّ نفوسها ... وأركب ظهر النسر والنسر طائر
وأبعث في أهل الزمان شوارداً ... تليّنهم وهي الصعاب النوافر
فإن أثو في أرض فإنّي سائرٌ ... وإن أنأ عن قومٍ فإنّي حاضر
وحسبك أن الأرض عندك خاتمٌ ... وأنّك في سطح السلامة عاثر
ولا لوم عندي في استراحتك التي ... تنفست عنها والخطوب فواقر
فإنّي للحلف الذي مرّ حافظٌ ... وللنزعة الأولى بحاميم ذاكر
هنيئاً لكلٍّ ما لديه فإنّنا ... عطيّة من تبلى لديه السرائر ومن شعر أبي محمد ابن حزم يخاطب قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن ابن بشر (1) :
أنا الشمس في جوّ العلوم منيرةً ... ولكنّ عيبي أنّ مطلعي الغرب
ولو أنّني من جانب الشرق طالعٌ ... لجدّ على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو آفاق العراق صبابةٌ ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصبّ
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم قائلٍ أغفلته وهو حاضرٌ ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك يدري أن للعبد قصّةً ... وأن كساد العلم آفته القرب
فيا عجباً من غال عنهم تشوّقوا ... له، ودنوّ المرء من دارهم ذنب
وإنّ مكاناً ضاق عنّي لضيّقٌ ... على أنّه فيحٌ مهامهه سهب
وإنّ رجالاً ضيّعوني لضيّعٌ ... وإنّ زماناً لم أنل خصبه جدب
__________
(1) في الأصول: عبد الرحمن بن بشير والتصويب عن الصلة: 313 والمرقبة العليا: 87 - 89 وهو عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن محمد بن بشر بن غرسية قاضي الجماعة بقرطبة يكنى أبا النطرف ويعرف بابن الحصار، ولاه علي بن حمود القضاء في صدر سنة 407 فظل في منصبه إلى أن عزله المعتد المرواني سنة 419 وتوفي سنة 422.(2/81)
ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه (1) :
ولكنّ لي في يوسفٍ خير أسوةٍ ... وليس على من بالنبيّ ائتسى ذنب
يقول مقال الصّدق والحقّ إنّني ... حفيظٌ عليمٌ، ما على صادقٍ عتب وقوله:
لا يشمتن حاسدي إن نكبةٌ عرضت ... فالدهر ليس على حالٍ بمتّرك
ذو الفضل كالتبر يلقى تحت متربةٍ ... طوراً، وطوراً يرى تاجاً على ملك وقوله لمّا أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية:
دعوني من إحراق رقٍّ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدري
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمّنه القرطاس، بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلّت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري وقوله:
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فقلبي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنىً ... لذا سأل المعاينة الكليم وقوله:
وذي عذلٍ فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أمن أجل وجهٍ لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت عليل
فقلت له أسرفت في اللوم فاتّئد ... فعندي ردٌّ لو أشاء طويل
ألم تر أنّي ظاهريٌّ، وأنّني ... على ما أرى حتى يقوم دليل
__________
(1) في الأصول: ومنها في مدحه لنفسه.(2/82)
وهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن مزيد، القرطبي. قال ابنه أبو رافع الفضل: اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة، انتهى.
أبوه الوزير أبو عمر المذكور كان من وزراء المنصور بن أبي عامر، وتوفّي - كما قال ابن حيان - بذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة، وكان منشؤه ومولده بقرية تعرف بالزاوية.
وحكي أن الحافظ أبا محمد ابن حزم قصد أبا عامر ابن شهيد في يوم غزير المطر والوحل شديد الريح، فلقيه أبو عامر، وأعظم قصده على تلك الحال، وقال له: يا سيّدي، مثلك يقصدني في مثل هذا اليوم! فأنشده أبو محمد ابن حزم بديهاً:
فلو كانت الدنيا دوينك لجّةً ... وفي الجوّ صعقٌ دائمٌ وحريق
لسهّل ودّي فيك نحوك مسلكاً ... ولم يتعذّر لي إليك طريق قال الحافظ ابن حزم (1) : أنشدني الوزير أبي في بعض وصاياه لي:
إذا شئت أن تحيا غنيّاً فلا تكن ... على حالةٍ إلا رضيت بدونها وهذا كافٍ في فضل الفرع والأصل، سامح الله الجميع.
قال ابن حزم في " طوق الحمامة " (2) : إنّه مرّ يوماً هو وأبو عمر ابن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكّة الحطابين من مدينة إشبيلية، فلقيهما شاب حسن الوجه، فقال أبو محمد: هذه صورة حسنة، فقال له أبو عمر: لم نر إلاّ الوجه، فلعلّ ما سترته الثياب ليس كذلك، فقال ابن حزم ارتجالاً:
__________
(1) انظر الجذوة: 118 في ترجمة أحمد بن سعيد والد الفقيه أبي محمد ابن حزم.
(2) لم يرد هذا في طوق الحمامة.(2/83)
وذي عذلٍ فيمن سباني حسنه ... ... الأبيات.
ولابن حزم أيضاً قوله:
لا تلمني لأنّ سبقة لحظٍ ... فات إدراكها ذوي الألباب
يسبق الكلب وثبة الليث في العد ... وويعلو النّخال في اللّباب ولأبي بكر ابن مفوّز جزء يردّ فيه على أبي محمد ابن حزم، وفيه قال معرّضاً:
يا من تعاني أموراً لن تعانيها ... خلّ التعاني وأعط القوس باريها
تروي الأحاديث عن كلٍّ مسامحةً ... وإنّما لمعانيها معانيها وقيل: إنّه خاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم.
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي
ومن نظمه قوله من مرثية:
أحنّ ويثني اليأس نفسي على الأسى ... كما اضطرّ محمولٌ على المركب الصّعب ومن جيد نظمه قوله:
اسرّوا على الليل البهيم سراهم ... فنمّت عليهم في الشمال شمائل
متى نزلوا ثاوين بالخيف من منىً ... بدت للهوى بالمأزمين مخايل
فلله ما ضمّت منىً وشعابها ... وما ضمّنت تلك الرّبى والمنازل
ولمّا التقينا للجمار وأبرزت ... أكفٌّ لتقبيل الحصى وأنامل
أشارت إلينا بالغرام محاجرٌ ... وباحت به منّا جسومٌ نواحل(2/84)
وقال الباجي أبو الوليد رحمه الله تعالى:
مضى زمن المكارم والكرام ... سقاه الله من صوب الغمام
وكان البرّ فعلاً دون قولٍ ... فصار البرّ نطقاً بالكلام وذيّله بعضهم بقوله:
وزال النّطق حتّى لست تلقى ... فتىً يسخو بردٍّ للسّلام
وزاد الأمر حتّى ليس إلاّ ... سخيٌّ بالأذى أو بالملام 46 - ومنهم الفقيه العالم الشهير أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي (1) صاحب سراج الملوك، ويعرف بابن أبي رندقة (2) - بالراء المهملة المفتوحة، وسكون النون - وكفى بسراج الملوك دليلاً على فضله.
ذكره ابن بشكوال في الصلة، وتوفّي بالإسكندرية، في شعبان، وقيل: جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة (3) ، وزرت قبره بالإسكندرية، وممّن أخذ عنه الحافظ القاضي أبو بكر ابن العربي وغيره.
ومن نظم الطرطوشي قوله من رسالة:
أقلّب طرفي في السّماء تردّداً ... لعلّي أرى النّجم الذي أنت تنظر
وأستعرض الرّكبان من كلّ وجهةٍ ... لعلّي بمن قد شمّ عرفك أظفر
__________
(1) ترجمة أبي بكر الطرطوشي في الصلة: 545 ووفيات الأعيان 3: 393 وبغية الملتمس رقم: 295 والمغرب 2: 424 والنجوم الزاهرة 5: 231 وشذرات الذهب 4: 62 والديباج المذهب: 276 وأزهار الرياض 3: 162.
(2) قال ابن خلكان: هي لفظة فرنجية، سألت بعض الفرنج عنها فقال معناها: " رد تعال ".
(3) أثار ابن خلكان شيئا من الإشكال حول تاريخ وفاة الطرطوشي، فقد وجد في مشيخة جمعت لبهاء الدين بن شداد أن الطرطوشي أجازه، وابن شداد ولد سنة 539 فكيف يجيزه إذا كان قد توفي سنة 520 (وفي بعض أصول المقري أن الطرطوشي توفي سنة 540) .(2/85)
وأستقبل الأرواح عند هبوبها ... لعلّ نسيم الريح عنك يخبّر
وأمشي ومالي في الطّريق مآربٌ ... عسى نغمةٌ باسم الحبيب ستذكر
وألمح من ألقاه من غير حاجةٍ ... عسى لمحةٌ من نور وجهك تسفر ومن نظمه أيضاً قوله:
يقولون ثكلى ومن لم يذق ... فراق الأحبّة لم يثكل
لقد جرّعتني ليالي الفراق ... كؤوساً أمرّ من الحنظل وممّا نسب إليه (1) :
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بإنجازها مغرم
فأرسل بأكمه جلاّبة ... به صممٌ أغطشٌ أبكم
ودع عنك كلّ رسولٍ سوى ... رسولٍ يقال له الدرهم وكان كثيراً ما ينشد (2) :
إنّ لله عباداً فطنا ... طلّقوا الدّنيا وخافوا الفتنا
فكّروا فيها فلمّا علموا ... أنّها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجّةً واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا وقال رحمه الله تعالى (3) : كنت ليلة نائماً بالبيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتاً حزيناً ينشد:
أخوفٌ ونومٌ، إنّ ذا لعجيب ... ثكلتك من قلبٍ فأنت كذوب
أما وجلال الله لو كنت صادقاً ... لما كان للإغماض فيك نصيب
__________
(1) انظر تحقيق ذلك في ابن خلكان.
(2) جاءت هذه الأبيات منسوبة لع في الصلة.
(3) النقل عن ابن خلكان.(2/86)
قال: فأيقظ النوّام، وأبكى العيون.
وكان رحمه الله تعالى زاهداً، متورعاً، متقلّلاً من الدنيا، قوّالاً للحق. وكان يقول: إذا عرض لك أمر (1) دنيا وأخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى. وله طريقة في الخلاف.
ودخل مرّة على الأفضل ابن أمير الجيوش فوعظه، وقال له (2) : إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنّما صار إليك بموت من قبلك، وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك، فاتّق الله فيما خوّلك من هذه الأمّة، فإن الله، عزّ وجل، سائلك عن النقير والقطمير والفتيل، واعلم أن الله، عزّ وجلّ، آتى سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخّر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم، وسخّر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ورفع عنه حساب ذلك أجمع، فقال عزّ من قائل: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حسابٍ " فما عدّ ذلك نعمة كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجاً من الله، عزّ وجلّ، فقال: " هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر " فافتح الباب، وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم.
وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده (3) :
يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقّه مفترضٌ واجب
إن الذي شرفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب وأشار إلى النصراني، فأقامه الأفضل من مكانه.
والطّرطوشي - بضم الطاءين - نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس،
__________
(1) دوزي: أمران.
(2) ورد هذا النص في سراج الملوك: 61 مع بعض اختلاف، وأزهار الرياض 3: 164.
(3) النقل عن ابن خلكان.(2/87)
وقد تفتح الطاء الأولى.
وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ.
وكان رحمه الله تعالى صحب القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى بسرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف، وسمع منه وأجازه، وقرأ الفرائض والحساب بوطنه، وقرأ الأدب على أبي محمد ابن حزم بمدينة إشبيلية، ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة، ودخل بغداد والبصرة فتفقّه عند أي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني، وسمع بالبصرة من أبي علي التّستري، وسكن الشام مدّة، ودرس بها، وكان راضياً باليسير.
وقال الصفدي في ترجمة الطرطوشي (1) : إن الأفضل ابن أمير الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد، وكان يكرهه، فلمّا طال مقامه به ضجر، وقال لخادمه: إلى متى نصبر اجمع لي المباح، فجمعه، وأكله ثلاثة أيام، فلمّا كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلمّا كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراماً كثيراً، وله ألّف الشيخ سراج الملوك، انتهى.
ومقامه - أعني الطرطوشي - مشهور، وهذه الحكاية تكفي في ولايته.
ومن تآليفه " مختصر تفسير الثعالبي "، و " الكتاب الكبير في مسائل الخلاف "، وكتاب " في تحريم جبن الروم "، وكتاب " بدع الأمور ومحدثاتها "، وكتاب " شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد ".
وولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريباً، ولمّا توفّي صلى عليه ولده محمد، ودفن رحمه الله تعالى قبل الباب الأخضر بإسكندرية، وزرت قبره مراراً، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ونفعنا به.
وكان القاضي عياض ممن استجازه فأجازه ولم يلقه، وشهرته رضي الله
__________
(1) انظر ابن خلكان 3: 394.(2/88)
تعالى عنه تغني عن الإطناب.
وحكي أنّه كتب على " سراج الملوك " الذي أهداه لولي الأمر بمصر:
الناس يهدون على قدرهم ... لكنّني أهدي على قدري
يهدون ما يفنى وأهدي الذي ... يبقى على الأيّام والدّهر وحكي أنّه سمع رضي الله تعالى عنه منشداً نشد للوأواء:
قمرٌ أتى من غير وعد ... في ليلةٍ طرقت بسعد
بات الصّباح إلى الصبا ... ح معانقي خدّاً بخدّ
يمتاز (1) فيّ وناظري ... ما شئت من خمر وشهد فقال: أو يظن هذا الدمشقي أن أحداً لا يحسن ينظم الكذب غيره لو شئنا لكذبنا مثل هذا؛ ثم أنشد لنفسه يعارضه:
قمر بدا من غير وعد ... حفّت شمائله بسعد
قبّلته ورشفت ما ... في فيه من خمر وشهد
فرشفت مزن السلسبي ... ل بزنجبيلٍ مستعدّ
ولثمت فاه من الغرو ... ب إلى الصّباح المستجدّ
وسكرت من رشفي العقي ... ق على أقاحٍ تحت رند
فنزعت عن فمه فمي ... ووضعت خدّاً فوق خدّ
وشممت عرف نسيمه ال ... جاري على مسكٍ وندّ
وصحوت من ريّا القرن ... فل بين ريحانٍ وورد
وألذّ من وصلي به ... شكواه وجداً مثل وجدي ومن نظم الطرطوشي قوله أيضاً:
__________
(1) كذا في الأصول؛ وفي دوزي " يمتار ".(2/89)
كأنّ لساني والمشكلات ... سنا الصّبح ينحر ليلاً بهيما
وغيري إن رام ما رمته ... خصيٌّ يحاول فرجاً عقيما وقوله أيضاً:
فاعمل لمعادك يا رجل ... فالقوم (1) لدنياهم عملوا
واذخر لمسيرك من زادٍ ... فالقوم بلا زادٍ رحلوا 47 - ومنهم محمد بن عبد الجبار الطرطوشي (2) ، وفد إلى المشرق، وذكره العماد في الخريدة وله في الآمدي العلي (3) بمصر، وكان يخضب بسواد الرّمان (4) ، يخضب بأقبح سواد خضب به (5) :
اخلط العفص فيه يا أحوج النّا ... س إلى العفص حين يعكس عفص 48 - ومنهم القاضي الشهيد أبو علي الصدفي (6) ، وهو حسين بن محمد بن فيرّه بن حيّون، ويعرف بابن سكّرة (7) ، وهو من أهل سرقسطة، سكن مرسية، وروى بسرقسطة عن الباجي وأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل وغيرهما، وسمع ببلنسية من أبي العباس العذري، وسمع بالمريّة من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله ابن المرابط وغيرهما،
__________
(1) ق ط: فالقلب، وهو سهو، وفي بعض النسخ: فالناس.
(2) اسمه في نسخة باريس من الخريدة (حسبما ذكر في هوامش طبعة ليدن) : محمود بن عبد الجبار الطرسوسي.
(3) ق: الامد العجلي.
(4) الخريدة: الرماد، وهو الصواب فيما يبدو.
(5) يخضب ... خضب به: وردت في ط ق وسقطت من ج.
(6) في ط: الصيرفي.
(7) دوزي: شكرة بالشين؛ وانظر ترجمته في الصلة: 143 وتهذيب ابن عساكر 4: 459 وتذكرة الحفاظ: 1253 وشذرات الذهب: 104 وفي أصحابه ألف ابن الأبار " المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي " (ط. مدريد 1885) وقد شهر بابن الدراج.(2/90)
ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وحج من عامه، ولقي بمكّة أبا عبد الله الحسن (1) بن علي الطبري وأبا بكر الطرطوشي وغيرهما، ثم سار إلى البصرة فلقي بها أبا يعلى المالكي وأبا العباس الجرجاني وأبا القاسم ابن شعبة وغيرهم، وخرج إلى بغداد فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره، ودخل بغداد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة، وسمع بها من أبي الفضل ابن خيرون مسند بغداد، ومن أبي الحسين المبارك ابن عبد الجبار الصيرفي، وطراد الزينبي، والحميدي، وغيرهم، وتفقّه عند أبي بكر الشاشي وغيره، ثم رحل منها سنة سبع وثمانين، فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر المقدسي وأبي الفرج (2) الأسفراييني وغيرهما، وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي، وأجاز له الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها، وسمع بالإسكندريّة من أبي القاسم الوراق (3) وشعيب بن سعيد وغيرهما، ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة تسعين (4) وأربعمائة، وقصد مرسية، فاستوطنها، وقعد يحدّث الناس بجامعها، ورحل الناس من البلدان إليه، وكثر سماعهم عليه، وكان عالماً بالحديث وطرقه، عارفاً بعلله، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط جيّد الضبط، وكتب بخطّه علماً كثيراً، وقيّده، وكان حافظاً لمصنّفات الحديث، قائماً عليها، ذاكراً لمتونها وأسانيدها ورواتها، وكتب منها صحيح البخاري في سفر، وصحيح مسلم في سفر، وكان قائماً على الكتابين مع مصنّف أبي عيسى الترمذي، وكان فاضلاً ديّناً متواضعاً حلوماً وقوراً عالماً عاملاً، واستقضي بمرسية، ثم استعفى فأعفي،
__________
(1) الصلة: الحسين.
(2) اسمه: سهل بن بشر.
(3) اسمه: مهدي بن يونس.
(4) ق ط: سبعين، وهو خطأ نسخي.(2/91)
وأقبل على نشر العلم وبثّه (1) .
وقد ذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه لدخوله الشام، قال (2) : وبعد أن استقرت به النوى، واستمرت إفادته بما قيّد وروى، رفعته ملوك أوانه، وشفّعته في مطالب إخوانه، فأوسعته رعياً، وأحسنت فيه رأياً، ومن أبنائهم من جعل يقصده، لسماع يسنده، وعلى وقاره الذي كان به يعرف، ندر له مع بعضهم ما يستطرف، وهو أن فتىً يسمى يوسف لازم مجلسه، معطراً رائحته ومنظفاً ملبسه، ثم غاب لمرض قطعه، أو شغل منعه، ولمّا فرغ أو أبلّ، عاود ذلك النادي المبارك والمحلّ، وقبل إفضائه إليه، دلّ طيبه عليه، فقال الشيخ على سلامته من المجون، وخلاصه من الفتون: " إنّي لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون " وهي من طرف نوادره (3) رحمة الله عليه.
ولمّا قلّد قضاء مرسية وعزم عليه صاحب الأمر فيه فرّ من المرية فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسمائة، وفي سنة ست قبل قضاءها على كره إلى أن استخفى آخر سنة سبع في قصّة يطول إيرادها، وبطول مقامه بالمرية أخذ الناس عنه بها، فلمّا كانت وقعة كتندة (4) كان ممّن حضرها ففقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
وقال القاضي عياض: ولقد حدّثني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر أنّه قال له: خذ الصحيح، واذكر أيّ متن شئت منه أذكر لك سنده، أو أيّ سند شئت أذكر لك متنه، انتهى.
__________
(1) إلى هنا كانت الترجمة نقلا عن الصلة، مع شيء يسير من الإيجاز.
(2) لم يرد شيء من هذا النص في تهذيب ابن عساكر، وظني أنه ليس من تاريخ دمشق، فهو مبني على السجع، إلا أن يكون ابن عساكر ناقلا له من مصدر آخر.
(3) ق: ظرف نوادره؛ ط: وهي من نوادره.
(4) تكتب أيضا " قتندة " وتقع في جزيرة دورقة (Doroca) من عمل سرقسطة.(2/92)
وذكر غير واحد أنّه حدّث ببغداد بحديث واحد، والله أعلم؛ وهو من أبناء الستين (1) .
49 - ومنهم ابن أبي روح الجزيري، ومن شعره لما تغرب بالمشرق قوله:
أحنّ إلى الخضراء في كلّ موطن ... حنين مشوقٍ للعناق وللضّمّ
وما ذاك إلاّ أنّ جسمي رضيعها ... ولا بدّ من شوق الرضيع إلى الأمّ 50 - ومنهم العالم أبو حفصٍ عمر بن حسن الهوزني (2) ، الحسيب العالم المحدّث، ذكره ابن بسام في الذخيرة والحجاري في " المسهب " (3) ، وسبب رحلته للمشرق أنّه لمّا تولى المعتضد بن عبّاد خاف منه، فاستأذنه في الحج سنة 444، ورحل إلى مصر، ثم إلى مكّة، وسمع [في طريقه كتاب] صحيح البخاري، وعنه أخذه أهل الأندلس، ورجع، وسكن إشبيلية وخدم المعتضد، فقتله [ومن خاف (4) من شيء سلط عليه، وكان قتله يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول (5) ] سنة ستين وأربعمائة.
ومن شعره يحرّضه على الجهاد:
أعبّاد جلّ الرّزء والقوم هجّع ... على حالةٍ من مثلها يتوقّع
فلقّ كتابي من فراغك ساعة ... وإن طال فالموصوف للطول موضع
إذا لم أبثّ الداء ربّ شكاية ... أضعت، وأهلٌ للملام المضيّع [ووصله بنثر، وهو] : وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها،
__________
(1) هذه الجملة ثبتت في ق ط، وسقطت من دوزي وج.
(2) ترجمة الهوزني في الذخيرة (القسم الثاني: 33) والصلة: 381 والمغرب 1: 234.
(3) ذكره ... المسهب: سقطت من ق ط ج.
(4) ما بين معقفين زيادة من الذخيرة.
(5) الذخيرة: 34 - 35.(2/93)
ولا أرجأ الدليل من أناط الأمور بأربابها، ولربّ أمل بين أثناء المحاذير مدمج، ومحبوب في طي المكاره مدرج، فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز، وطبّق مفاصلها (1) فقد أمكنك الحزّ، ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب، ويستصحب الحسام في الحرب.
وله (2) :
صرّح الشرّ فلا يستقلّ ... إن نهلتم جاءكم بعد علّ
بدء صعق الأرض رشٌّ وطلّ ... ورياحٌ ثم غيمٌ أبلّ
خفّضوا فالداء رزءٌ أجلّ ... واغمدوا سيفاً عليكم يسلّ وابنه أبو القاسم هو الذي كان سبب فساد دولة المعتمد بن عباد بسبب قتل المعتضد والده كما مرّ (3) ؛ [وبيت بني الهوزني بالأندلس بيت كبير مشهور ومنهم عدّة علماء وكبراء، رحم الله الجميع] (4) .
51 - ومنهم أبو عمرو عثمان بن الحسين (5) ، أخو الحافظ أبي الخطاب ابن دحية الآتي ذكره (6) ، كان أسنّ من أخيه أبي الخطاب، وكان حافظاً للغة العرب، قيّماً بها، وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث الكاملية التي أنشأها بين القصرين ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور، ولم يزل بها إلى أن توفّي
__________
(1) ق ط ج: مضاربها.
(2) الذخيرة: 37.
(3) في دوزي: وبسبب قتل بني عباد لأبي حفص الهوزني المذكور تسبب ابنه أبو القاسم في فساد دولة المعتمد بن عباد، وحرض عليه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب المغرب حتى أزال ملكه ونثر سلكه وسبب هلكه، كما ذكرناه في غير هذا الموضع من هذا الكتاب غير مرة، فليراجعه من أراده في محاله.
(4) زدنا هذه العبارة من دوزي.
(5) ترجمته في شذرات الذهب 5: 168 وذيل الروضتين: 164 ووفيات الأعيان 3: 123.
(6) ذكره: سقطت من ق ط ج، وانظر الترجمة رقم 55 فيما يلي.(2/94)
سنة 634 بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم كأخيه، وكان موت أبي عمرو بعد أبي الخطاب بسنة، رحمهما الله تعالى.
52 - ومنهم الكاتب أبو بكر محمد بن القاسم (1) ، من أهل وادي الحجارة، ويعرف باشكنهادة (2) ، وارتحل إلى المشرق لما نبت به حضرة قرطبة عند تقلب دولها، وتحول ملوكها وخولها، فجال في العراق، وقاسى ألم الفراق، واجتاز بحلب، وأقام بها مقام غريب لم يصف له حلب، وقال (3) :
أين أقصى الغرب من أرض حلب ... أملٌ في الغرب موصول التّعب
حنّ من شوقٍ إلى أوطانه ... من جفاه صبره لمّا اغترب
جال في الأرض لجاجاً حائراً ... بين شوقٍ وعناء ونصب
كلّ من يلقاه لا يعرفه ... مستغيثاً بين عجمٍ وعرب
لهفّ نفسي أين هاتيك العلا ... واضياعاه ويا غبن الحسب
والذي قد كان ذخراً وبه ... أرتجي المال وإدراك الرّتب
صار لي أبخس ما أعددته ... بين قومٍ ما دروا طعم الأدب
يا أحبّاي اسمعوا بعض الذي ... يتلقّاه الطّريد المغترب
وليكن زجراً لكم عن غربةٍ ... يرجع الرأس لديها كالذنب
واحملوا طعناً وضرباً دائماً ... فهو عندي بين قومي كالضّرب
ولئن قاسيت ما قاسيته ... فيما أبصر لحظي من عجب
ولقد أخبركم أن ألتقي ... بكم حتى تقولوا قد كذب
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 31.
(2) في المغرب: اشكهباط؛ وأعتقد أن هذا هو نفسه الذي ورد في الذخيرة 1/ 1: 195 باسم " أبو بكر المعروف باشكمياط " وقد عرضت عليه فصول لأبي عامر ابن شهيد، فقال فيها: فقر حسان إلا أنه عثر عليها، فكتب إليه ابن شهيد رسالة (الذخيرة 1/ 1: 196) .
(3) بعض هذه القصيدة في المغرب.(2/95)
واجتاز بدمشق فقال من أبيات رحمه الله تعالى:
دمشقٌ جنّة الدنيا حقيقاً ... ولكن ليس تصلح للغريب
بها قومٌ لهم عددٌ ومجدٌ ... وصحبتهم تؤول إلى حروب ثم إنّه ودع الشرق بلا سلام، وحلّ بحضرة دانية لدى ملكها مجاهد العامري في بحبوحة عزٍّ لا يخشى فيه الملام، واستقبل الأندلس بخاطر جديد، ونال بها بعد من بلوغ الآمال ما ليس له عليه مزيد، وقال (1) :
وكم قد لقيت الجهد قبل مجاهد ... وكم أبصرت عيني وكم سمعت أذني
ولاقيت من دهري وصرف خطوبه ... كما جرت النكباء في معطف الغصن
فلا تسألوني عن فراق جهنم ... ولكن سلوني عن دخولي إلى عدن وله من كتاب: وحامل كتابي - سلّمه الله تعالى وأعانه - ممّن أخنى عليه الزمان، وأدار عليه وما صحا إلى الآن كؤوس الهوان، وقد قصد على بعدٍ جنابك الرحيب الخصيب، قصد الحسن محلّ الخصيب، ويمم جناب ابن طاهر حبيب، وإنّي لأرجو أن يرجع منك رجوع نصيب عن سليمان (2) ، ويستعين في شكرك بكل لسان، وأنت عليم بأن الثناء هو الخلف، وقد قال الأول:
أرى الناس أحدوثةً ... فكوني حديثاً حسن وأنا القائل:
فلا تزهدن في الخير قد مات حاتمٌ ... وأخباره حتى القيامة تذكر
__________
(1) انظر هذا الشعر في المغرب.
(2) الحسن بن هانئ أبو نؤاس أم جناب الخصيب صاحب الخراج بمصر، وحبيب أبو تمام أم عبد الله ابن طاهر، ونصيب أم سليمان بن عبد الملك.(2/96)
ومع هذا فهو عليه بقدر ما يحتمل من التكليف هذا الأوان، عارف وجوه الأعذار غير ذي عجل في العتب قبل البيان، وعند سيدي من التهدي للإيصاء، ما يحقق فيه جميع الرجاء، ودامت أرجاؤه مؤملة، ولا برحت نعمه سابغة مكملة.
53 - ومنهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي (1) ، وقال بعضهم: إنّه من الجزيرة الخضراء، له رحلة إلى الديار المصريّة، صنع فيها مقامة يقول فيها:
في جنبات الروض نهرٌ ودوحةٌ ... يروقك منها سندسٌ ونضار
تقول وضوء البدر فيه مغرّبٌ (2) ... ذراع فتاةٍ دار فيه سوار ومن شعره:
ما كلّ إنسانٍ أخٌ منصف ... ولا الليالي أبداً تسعف
فلا تضع إن أمكنت فرصةً ... واصحب من الإخوان من ينصف
وانتف من الدهر ولو ريشةً ... فإنّما حظّك ما تنتف وقوله يرثي السيد أبا عمران ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس:
بجيد المعالي أيّ عقدٍ تبدّدا ... وصدر العوالي أيّ رمحٍ تقصّدا
__________
(1) ترجمته في تحفة القادم: 94 والمغرب 1: 427 والمعجب: 375 - 378 والوافي رقم: 203 وكنيته في التحفة " أبو عمرو "، وقال إن أبا بكر ابن صقلاب كناه في بعض ما خاطبه به أبا عبد الله، وكان صديقا لصاحب المعجب وقال: إن له اتساعا في صناعة الشعر إلا أنه نحل كثيرا من شعره السيد الأجل أبا الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن أيام كتابته له؛ وقال ابن سعيد: وله رسالة في صقلية ذكر فيها ما جرى له بمصر وحذر فيها من الأسفار لما قاسى فيها.
(2) في الأصول: مغربا.(2/97)
ولمّا دهت خيل الشقيّ فجاءةً ... وسال العدا بحراً من الموت مزبدا
شهدت بوجهٍ كالغزالة مشرقاً ... وإن كان وجه الشمس بالنّقع مربدا
عزائم صدقٍ ليس تصرف هكذا ... إلى الموت تسعى أو على الموت يعتدى وكان السيد أبو عمران المرثي قتله الميورقي (1) صاحب فتنة إفريقية في الهزيمة المشهورة على تاهرت، وجمع ابن عبد ربّه المذكور شعر السيد أبي الربيع ابن عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، وكان ابن عبد ربه المذكور كاتباً للسيد أبي الربيع سليمان المذكور، ولما أنشد لبعض الشعراء (2) :
حاكت يمين الرّياح محكمةً ... في نهرٍ واضح الأسارير
فكلّما ضعّفت به حلقاً ... قام لها القطر بالمسامير أنشد لنفسه (3) :
بين الرياض وبين الجوّ معتركٌ ... بيضٌ من البرق أو سمرٌ من السّمر
إن أوترت قوسها كفّ السماء رمت ... نبلاً من الماء في زغفٍ من الغدر
لأجل ذاك إذا هبّت طلائعها ... تدرّع النهر واهتزت قنا الشجر واجتمع ابن عبد ربه المذكور في رحلته بالسعيد ابن سناء الملك، وأخذ عنه شيئاً من شعره، ورواه بالمغرب.
__________
(1) هذا الميورقي هو يحيى بن غانية، وكان السيد أبو عمران موسى والياً يومئذ على تلمسان، فاتصل كبراء زناتة فيها بيحيى بن غانية ووصفوا له ما فيه أبو عمران من ضعف وعدم استعداد، ففاجأه ابن غانية وقضى عليه وعلى أكثر من معه واقتحم مدينة تاهرت ونهبها وخربها (سنة 605) انظر ابن خلدون 6: 249، 278.
(2) هذا ما أنشده إياه صديقه عبد الواحد المراكشي، انظر المعجب: 376.
(3) من الغريب أن هذا الشعر ثابت في ديوان أبي ربيع: 140، مما قد يرجح القول بأن المالقي نحل كثيراً من شعره لهذا الأمير.(2/98)
54 - ومنهم الشاعر الأديب أبو محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان المالقيّ (1) ، ومن نظمه في السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من قصيدة رحمه الله تعالى (2) :
وفي صهوات المقربات وفي القنا ... حصون حمىً لا في هضاب المعاقل ومنها:
ولا ملك يأتي كيوسف آخراً ... كما لم يجئ مثلٌ له في الأوائل 55 - ومنهم الحافظ أبو الخطاب ابن دحية (3) ، وهو مجد الدين عمر بن الحسن بن علي بن محمد [بن الجميّل] بن فرح بن خلف، الظاهري المذهب، الأندلسي، كان من كبار المحدثين، ومن الحفاظ الثّقات الأثبات المحصلين، استوطن بجاية في مدة أبي عبد الله ابن يومور، وروى بها، وأسمع، وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة، حتى صار حوشيّ اللغة عنده مستعملاً غالباً، ولا يحفظ الإنسان من اللغة حوشيّها إلاّ وذلك أضعاف أضعاف محفوظه من مستعملها، وكان قصده - والله تعالى أعلم - أن ينفرد بنوع يشتهر به دون غيره، كما فعل كثير من الأدباء حيث تركوا طريق المعرب وانفردوا بالطريق الآخر، ولو سلكوا طريق المعرب لكانوا فيه كآحاد الناس، وكذا الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له رسائل ومخاطبات كلّها مغلقات مقفلات، وكان - رحمه الله تعالى - إذا كتب اسمه فيما يجيزه أو غير ذلك يكتب ابن دحية ودحية معاً التشبّه به جبريل وجبرائيل، ويذكر ما ينيّف على ثلاثة عشرة لغة مذكورة
__________
(1) ترجمته في الفوات 2: 35 وابن أبي أصيبعة 2: 157 وكنيته فيهما أبو الفضل والنسبة إلى جليانة (أو جيان) لا إلى مالقة؛ وكان مقربا عند صلاح الدين، ماهرا في الطب، وله عشرة دواوين عدها صاحب الفوات وابن أبي اصيبعة.
(2) من قصيدة له ورد بعض أبياتها في الفوات 2: 36.
(3) ترجمة أبي الخطاب ابن دحية في وفيات الأعيان 3: 121 والغبريني: 159 وشذرات الذهب 5: 160 ومرآة الزمان 2: 698 وذيل الروضتين: 163 والتكملة رقم: 1832 وصلة الصلة: 73.(2/99)
في جبريل، ويقول عند فاطر السموات والأرض، وهذا فرع انفرد به عمّن عداه من أهل العلم.
قال صاحب عنوان الدراية: رأيت له تصنيفاً في رجال الحديث لا بأس به، وارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب، فرفعوا شأنه، وقربوا له مكانه، وجمعوا له علماء الحديث، وحضروا له مجلساً أقروا له بالتقدم، وعرفوا أنّه من أولي الضبط والإتقان والتفهم، وذكروا أحاديث بأسانيد حوّلوا متونها، فأعاد المتون المحوّلة، وعرّف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية، ومثل هذه الحكاية اتفق لأبي عمر ابن عات في كتاب مسلم بمراكش ببيت الطلبة منها.
ومن شعر أبي الخطاب ما كتب به إلى الكامل بن العادل بن أيوب:
ما لي أسائل برق بارق عنكم ... من بعد ما بعدت دياري منكم
فمحلّكم قلبي وأنتم بالحشا ... لا بالعقيق ولا برامة أنتم
وأنا المقيم على الوفاء بعهدكم ... يا مالكين، وفيتم أو خنتم وهو طويلة، ومنها:
رفعت له الأملاك منه سجيّةً ... ملك السّماك الرمح وهو محرّم ومنها أيضاً:
لذوي النّهى والفهم سرّ حكومة ... قد حار فيها كاهنٌ ومنجّم
فاقصد مرادك حيث سرت مظفّراً ... والله يكلأ والكواكب نوّم
وليهنك الشهر السعيد تصومه ... وتفوز فيه بالثواب وتغنم
فلأنت في الدنيا كليلة قدره ... قدراً، فقدرك في الملوك معظّم فأجابه السلطان مكافأةً بنثر ونظم، فمن النظم:(2/100)
وهيّجن شوقي للأجارع باللّوى ... وأين اللّوى مني وأين الأجارع
مرابع لو أنّ المرابع أنجمٌ ... لكان نجوم الأرض تلك المرابع
رعى الله أياماً لها ولو أنّها ... إليّ وقد ولّى الشباب رواجع
ليالي لا ليلى إذا رمت وصلها ... يلوح لها من صبح شيبي مواقع في جملة أبيات.
ومن النثر: الحمد لله ولي الحمد، وقف ولده على الأبيات التي حسن شعرها، وصفا درّها، وليس من البديع أن يقذف البحر درّاً، أو ينظم الخليل شعراً، وقد أخذت الورقة لأتنزه في معانيها، وأستفيد بما أودعه (1) فيها، فالله تعالى لا يخلينا من فوائد فكرته، وصالح أدعيته، والسلام.
فأجابه الحافظ أبو الخطاب عن الأبيات بقوله من قصيدة:
شجتني شواجٍ في الغصون سواجع ... ففاضت هوامٍ للحفون هوامع وأكثر فيها من التغزل، إلى أن قال:
ولا حاكمٌ أرضاه بيني وبينها ... سوى حاكمٍ دهري له اليوم طائع
يدافع عني الضّيم قائم سيفه ... إذا عزّ من للضّيم عنّي يدافع
هو الكامل الأوصاف والملك الذي ... تشير إليه بالكمال الأصابع
وبيض أياديه الكريمة في الورى ... قلائد في الأعناق وهي الصّنائع
ويوماه يوماه اللّذان هما هما ... إذا جمعت غلب (2) الملوك المجامع ومنها:
فما روضةٌ غنّا بها مرّت الصّبا ... ونشر شذاها الطّيّب النّشر ذائع
__________
(1) ق: أودعته.
(2) ق: جمعت منه.(2/101)
له من شذيّ الزهر بردٌ مفوّفٌ ... أتيح له من أرض صنعاء صانع
فراقك منها أخضر الثوب ناضرٌ ... وشاقك منها أصفر اللون فاقع
وأحمر قانٍ للخدود مورّدٌ ... وأبيض كالثغر المفلّج ناصع
بأحسن من توشيع مدحي الذي له ... بدائع من وشي البديع وشائع
وما ضائعٌ من نشر شكري الذي به ... تأرجت الأرجاء عندك ضائع
ولو لم يقيّدني نداك لكان لي ... مجالٌ فسيح في البسيطة واسع
فأنت الذي لي والأعادي كثيرة ... فويق مكان النجم في الأفق دافع ومنها:
بقيت لعبدٍ جدّه دحية الذي ... يشابه جبريلٌ له ويضارع
وجدّته الزهراء بن محمدٍ ... عليه السلام الدائم المتتابع
ولا عدمت منك الممالك مالكاً ... يقرّب للآمال ما هو شاسع
ومنك عيونٌ للمهمّات يقّظٌ ... وعنك عيون الحادثات هواجع وقال المقريزي في ترجمة الملك الكامل: إنّه كان مشغوفاً بسماع الحديث النبوي، وبقدم عنده أبو الخطاب ابن دحية، وبنى له دار الحديث الكامليّة بين القصرين بالقاهرة، انتهى.
وقال أبو الخطاب ابن دحية: أنشدني أبو القاسم السّهيلي لنفسه (1) ، وذكر أنّه ما سأل الله تعالى بها إلاّ أعطاه:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع
يا من يرجّى للشدائد كلّها ... يا من إليه المشتكى والمفزع
__________
(1) الأبيات في المطمح: 234 وأبو القاسم السهيلي هو عبد الرحمن بن عبد الله (توفي 581) صاحب الروض الأنف، انظر ترجمته في التكملة رقم: 1613 والمطرب: 230 وأدباء مالقة؛ الورقة: 127.(2/102)
يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلةٌ ... فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ ... فلئن رددت فأيّ بابٍ اقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن يقنّط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع ومن نظم السّهيلي رضي الله تعالى عنه (1) :
أسائل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق
وما بي إلى جيرانه من صبابةٍ ... ولكنّ نفسي (2) عن صبوحٍ ترقّق وله (3) :
لمّا أجاب بلا طمعت بوصله ... إذ حرف لا حرفان معتنقان
وكذا نعم بنعيم وصلٍ آذنت ... فنعم ولا في اللفظ (4) متفقان ولد أبو الخطاب ابن دحية في ذي القعدة سنة سبع - أو ثمان - وأربعين وخمسمائة (5) وتوفّي في انفجار الفجر ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم.
وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار، وقدره أجلّ ممّا ذكروه، وقد روى رحمه الله تعالى بالمغرب ومصر والشام والعراق وخراسان وعراق العجم، وكل ذلك في طلب الحديث، وسمع بالأندلس من ابن بشكوال وابن
__________
(1) أدباء مالقة: 129.
(2) أدباء مالقة: قلبي ... يرقق؛ وفيه إشارة إلى المثل " أعن صبوح ترقق ".
(3) أدباء مالقة: 130.
(4) أدباء مالقة: في الحب.
(5) مختلف في عام ولادته، راجع وفيات الأعيان؛ وفيه أنه ولد 544.(2/103)
زرقون في جمع كبير، وببغداد من أبي الفرج ابن الجوزي، وبأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني معجم الطبراني ومن غيره، وبنيسابور من أبي سعيد ابن الصفّار ومنصور بن الفراوي والمؤيد الطوسي، وحصل الكتب والأصول، وحدّث، وأفاد، وكان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء، متقناً لعلم الحديث وما يتعلّق به، عارفاً بالنحو واللّغة وأيّام العرب وأشعارها.
وصنّف كتباً كثيرة مفيدة جدّاً، منها كتاب التنوير في مولد السراج المنير صنفه عند قدومه إلى إربل سنة أربع وستمائة، وهو متوجه إلى خراسان لمّا رأى ملك إربل مظفر الدين كوكبري معتنياً بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول كل عام، مهتمّاً به غاية الاهتمام، وكمله وقرأه عليه بنفسه، وختمه بقصيدة طويلة، فأجازه بألف دينار، وصنف أيضاً العلم المشهور في فضائل الأيّام والشهور، والآيات البيّنات في ذكر ما في أعضاء رسول الله صلّى اله عليه وسلّم من المعجزات وكتاب شرح أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتاب " النبراس في أخبار خلفاء بني العباس وكتاب الإعلام المبين في المفاضلة بين أهل صفّين " (1) .
وولي قضاء بلد أصوله دانية مرتين، ثم صرف عن ذلك لسيرة نعيت عليه، فرحل عنها وحدث بتونس سنة 595، ثم حجّ وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور، وعاد إلى مصر، فاستأدبه العادل لولده الكامل، وأسكنه القاهرة، فنال بذلك دنيا عريضة، ثم زادت حظوته عند الكامل، وأقبل عليه إقبالاً عظيماً وكان يعظمه ويحترمه، ويعتقد في الخير، ويتبرك به، حتى كان يسوي له المداس حين يقوم، وهو بلنسي كما قاله ابن خلّكان وغيره، وبلنسية مشهورة بشرق الأندلس.
__________
(1) لم يذكر كتاب " المطرب " الذي ألفه ليعرف بالأدباء الأندلسيين والأدب الأندلسي.(2/104)
56 - ومنهم خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ، الحافظ، الأندلسي (1) ، رحل إلى المشرق، وكان حافظاً فهماً عارفاً بالرجال، حدث حديث مالك وشعبة وأشياء في الزهد، وسم بمصر أبا الحسن ابن الورد البغدادي ومسلم بن الفضل والحسن بن رشيق وجماعة، وسم بدمشق عليّ بن أبي العقب وأب الميمون ابن راشد وبمكّة من بكير الحداد وأي الحسن الخزاعي والآجري، وبقرطبة من أحمد بن يحيى بن الشاهد ومحمد بن معاوية، وتوفّي سنة 393.
57 - ومنهم خلف بن سعيد بن عبد الله بن زرارة أبو القاسم ابن المرابط (2) ، الكلبي، من ذرية الأبرش الكلبي، ويعرف بالمبرقع (3) ، المحتسب، القرطبي، رحل إلى المشرق مرتين، أولاهما سنة 332 (4) ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وسمع أبا سعيد ابن الأعرابي وابن الورد وأبا بكر الآجري، وروى عنه أبو إسحاق ابن شنظير وأبو جعفر الزهراوي، وقال ابن شنظير: إنّه توفّي في نحو الأربعمائة، رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
58 - ومنهم سابق فضلاء زمانه، أبو الصّلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصّلت الإشبيلي (5) .
يقال: إن عمره ستون سنة، منها عشرون في بلده إشبيلية، وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصّنهاجيين، وعشرون في مصر محبوساً في خزانة الكتب، وكان وجّهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب، فخرج في فنون العلم إماماً، وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين،
__________
(1) ترجمته في الجذوة: 195 (والبغية رقم: 717) وابن الفرضي 1: 163.
(2) ترجمته في الصلة: 159.
(3) الصلة: بابن المبرقع.
(4) كذلك هو في الصلة أيضا، وفي ط: 333.
(5) قد مرت الإشارة إليه وذكر مصادر ترجمته، انظر ما سبق 1: 496 وله ترجمة في الخريدة 4/ 1: 223 - 343 فيها مختارات من أشعاره مرتبة على الحروف.(2/105)
وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته، وكان يكنى بالأديب الحكيم، وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية؛ قال ابن سعيد: وإليه تنسب إلى الآن. وذكره العماد في الخريدة. وله كتاب الحديقة على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي، وتوفّي سنة 520، وقيل: سنة 528، بالمهدية، وقيل: مستهل السنة بعدها، ودفن بها.
وله فيمن اسمه واصل (1) :
يا هاجراً سمّوه عمداً واصلاً ... وبضدّها تتبين الأشياء
ألغيتني حتى كأنّك واصلٌ ... وكأنّني من طول هجري الراء وقوله، وهو من بدائعه (2) :
لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي ... وتدفقت جدواك ملء إنائها
يكسىالقضيب ولم يحن إثماره ... وتطوّق (3) الورقاء قبل غنائها وقال في الأفضل (4) :
تردي بكلّ فتى إذا شهد الوغى ... نثر الرماح على الدروب كعوبا
قد لوّحته يد الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قضافةً وشحوبا
تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كلّ قلبٍ بالطّعان قليبا ومنها (5) :
تعطي الذي أعطتكه سمر القنا ... أبداً فتغدو سالباً مسلوبا
__________
(1) الخريدة: 224.
(2) الخريدة: 226.
(3) ق ط ج ودوزي: وتطقطق.
(4) الخريدة: 228.
(5) هذا البيت والذي يليه في الخريدة: 230.(2/106)
ومنها:
وأنا الغريب مكانه وبيانه ... فاجعل صنيعك في الغريب غريبا وله (1) :
ومهفهفٍ شربت (2) محاسن وجهه ... ما مجّه في الكاس من إبريقه
ففعالها من مقلتيه، ولونها ... من وجنتيه، وطعمها من ريقه أخذه من ابن حيّوس، وقصر عنه، في قوله:
ومهفهفٍ يغنى بلحظ جفونه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن:
أيّها الظالم المسي ... ء مدى دهره بنا
ما لهم أخطأوا الصوا ... ب فسمّوك محسنا وله في لابس قرمزية حمراء (3) :
أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيبٍ ومنظرٍ أنق
أقبل في فرمزيّةٍ عجبٍ ... قد صبغت لون خدّه الشرق
كأنّما جيده وغرّته ... من دونها إذ بدون (4) في نسق
عمود فجرٍ من فوقه (5) قمرٌ ... دارت به قطعةٌ من الشّفق
__________
(1) ابن خلكان 1: 221 وابن أبي أصيبعة 2: 57.
(2) في المصدرين السابقين: شركت.
(3) الخريدة: 302.
(4) الخريدة: برزن.
(5) الخريدة: فويقه.(2/107)
وله في ثقيل (1) :
لي جليسٌ عجبت كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقلّه
أنا أرعاه مكرهاً (2) وبقلبي ... منه ما يقلق الجبال أقلّه
فهو مثل المشيب أكره مرآ ... هـ ولكن أصونه وأجلّه أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج اللورقي (3) ، وهم في عصر واحد:
لي صاحبٌ عميت عليّ شؤونه ... حركاته مجهولةٌ وسكونه
يرتاب بالأمر الجليّ توهّماً ... فإذا تيقّن نازعته ظنونه
إنّي لأهواه على شرقي به ... كالشيب تكرهه وأنت تصونه وأوصى (4) أن يكتب على قبره أبو الصلت المذكور ممّا نظمه قبيل موته (5) :
سكنتك يا دار الفناء مصدّقاً ... بأنّي إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أنّي صائرٌ ... إلى عادلٍ في الحكم ليس يجور
فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليلٌ والذنوب كثير
فإن أك مجزيّاً بذنبي فإنّني ... بشرّ عقاب المذنبين جدير
وإن يك عفوٌ ثمّ عنّي ورحمةٌ ... فثمّ نعيمٌ دائمٌ وسرور وله أيضاً (6) :
__________
(1) الخريدة: 312.
(2) الخريدة: مكرما.
(3) في الأصول ودوزي: الميورقي، وهو خطأ؛ فأهله من بيوتات لورقة (المغرب 2: 277) .
(4) ج: وأمر.
(5) الخريدة: 342 وابن خلكان 1: 222 وابن أبي أصيبعة 2: 54.
(6) الخريدة: 236 وابن خلكان 1: 220 والبيتان ينسبان أيضا لأبي العرب الصقلي.(2/108)
إذا كان أصلي من تراب فكلّها ... بلادي، وكلّ العالمين أقاربي
ولا بدّ لي أن أسال العيس حاجةً ... تشقّ على شمّ الذّرا والغوارب وقال (1) :
دبّ العذار بخدّه ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب
لا غرو أن خشي الرّدى في لثمه ... فالريق سمٌّ قاتلٌ للعقرب وقد ذكروا أن من خواصّ ريق الإنسان أنّه يقتل العقرب، وهو مجرّب.
وقال (2) :
لا تدعني ولتدع من شئته ... إليك من عجمٍ ومن عرب
فنحن أكّالون للسّحت في ... ذراك سمّاعون للكذب وقال (3) :
لا تسألنّي عن صنيع جفونها ... يوم الوداع وسل بذلك من نجا
لو كنت أملك خدّه للثمته ... حتى أعيد به الشقيق بنفسجا
أن كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلّجا
وبثثت في الظّلماء كحل جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائب بالدّجى وقال مهنّئاً بمولود (4) :
يلوح في المهد على وجهه ... تجهّم البأس وبشرى (5) النّدى
__________
(1) الخريدة: 237.
(2) الخريدة: 238.
(3) الخريدة: 247.
(4) الخريدة: 257.
(5) الخريدة: وبشر.(2/109)
الشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلبثا أن يلدا فرقدا
فابق له حتى ترى نجله ... وإن عرا خطبٌ فنحن الفدا قال ابن سعيد: وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه، وتركه أولى.
وقال رحمه الله تعالى في الرصد:
فذا غديرٌ وذا روضٌ وذا جبلٌ ... فالضّبّ والنّون والملاّح والحادي 59 - ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السّرقسطي، ذكره العماد الأصبهاني في " الخريدة " (1) وذكره السمعاني في الذيل، وأنّه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة (2) .
ومن شعره (3) :
أيا شمس إنّي إن أتتك مدائحي ... وهيّ لآلٍ نظّمت وقلائد
فلست بمن يبغي على الشّعر رشوةً ... أبى ذاك لي جدٌّ كريمٌ ووالد
وأني من قوم قديماً ومحدثاً ... تباع عليهم بالألوف القصائد 60 - ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري (4) ، من رجال الذخيرة رحل إلى المشرق، وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه، ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري. وأخبر عن نفسه أنّه كان بين يديه تلميذ له وسيم، فمرّ به أبو جعفر التّجاني
__________
(1) انظر الخريدة 4/ 1: 390 ووصفه بأنه من الفقهاء الفضلاء والشعراء النبلاء، ولما ورد بغداد (حدود: 516) أقام في المدرسة النظامية، ثم خرج إلى خراسان وسكن بمرو الروذ، وفي بعض الخريدة أنه توفي أيضا في حدود: 516.
(2) في إحدى النسخ: 510.
(3) الخريدة: 391.
(4) في ق ودوزي: " المتباري " وفي ط ج: المتياري 172 وفي فهرست الذخيرة " البيماري " وترجمته في القسم الثالث: 172، وما أورده المقري مأخوذ عن الذخيرة.(2/110)
بسحاءة كتب له فيها وخلاّها بين يديه، وهو قد غلب النوم عليه، فقال:
يا نائماً متعمّداً ... إبصار طيف حبيبه
هو جوهرٌ فاثقبه إ ... ن الطيب في مثقوبه
أو أركبنّي ظهره ... إن لم تقل بركوبه فلمّا قرأها علم أنّها للتّجاني (1) ، فكتب تحتها:
يا طالباً أضحى حجا ... بٌ دون ما مطلوبه
لو لم يكن في ذاك إث ... مٌ لم أكن أسخو به
إنّي أغار عليه من ... أثوابه ورقيبه وأنشد يوماً في حلقته لابن الرومي في خبّاز:
إن أنس لا أنس خبّازاً مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفّه كرةً ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلاّ بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر فقال بعض تلامذته: أما إنّه لا يقدر على الزيادة على هذا، فقال:
فكاد يضرط إعجاباً برؤيتها ... ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري فضحك من حضر وقال: البيت لائق بالقطعة، لولا ما فيه من ذكر الرجيع، فقال:
إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم ... فعجّلوا محوه أو فالعقوه طري 61 - ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي (2) ،
__________
(1) في نسخة الذخيرة: الجافي، ولا ريب في أنه مصحف، ولعل الصواب: " البجاني ".
(2) ترجمة أبي الحجاج يوسف بن عتبة في المغرب 1: 258 واختصار القدح: 161.(2/111)
مطبوع في الشعر والتوشيح، قال ابن سعيد (1) : اجتمعت به في القاهرة مراراً بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره، وتوفّي في مارستان القاهرة. ومن شعره:
أمّا الغراب فإنّه سبب النّوى ... لا ريب فيه وللنّوى أسباب
يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه ... جملٌ وتعوي بعد ذاك ذئاب
لا تكذبنّ فهذه أسبابه ... لكنّ منها بدأة وجواب 62 - ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو بكر محمد بن يوسف ابن موسى، الأندلسي، المعروف بابن مسدي (2) ، وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب، قال رحمه الله تعالى: أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي (3) الغرناطي لنفسه سنة 637 في شوّال بداره بغرناطة (4) :
منغص العيش لا يأوي إلى دعةٍ ... من كان ذا بلدٍ أو كان ذا ولد
والسّاكن النفس من لم ترض همّته ... سكنى مكانٍ ولم يسكن إلى أحد 63 - ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتّوح بن عبد الله الأزدي
__________
(1) يقول ابن سعيد في القدح حين يحكي أخبار المترجم به في مصر: وأخبرني صاحبه بمصر أبو الفضل التيفاشي قال: قدم علينا بالقاهرة الطبيب أبو الحجاج ابن عتبة فلم يجد من يقبل عليه إلا كهف المغاربة الرئيس السيد جمال الدين بن يغمور ... إلخ. وقال: وكانت وفاته بالقاهرة سنة 636.
(2) ترجمة ابن مسدي في تذكرة الحفاظ: 1448 وقال إنه قتل غيلة بمكة سنة 663؛ وله معجم في 3 مجلدات، وكان يداخل الزيدية بمكة فولوه خطابة الحرم.
(3) ترجمة سهل بن مالك في برنامج الرعيني: 59 والتكملة رقم: 2007 والذيل والتكملة 4: 101 واختصار القدح: 60 ومسالك الأبصار: 11: 482 وزاد المسافر رقم: 23 والديباج: 125 والمغرب 2: 105 وبغية الوعاة: 264 وسيرد له ذكر في مواضع من النفح.
(4) البيتان في الديباج: 125 والذيل والتكملة: 104.(2/112)
الحميدي (1) ، نسبة لجده حميد الأندلسي، ولد أبوه بقرطبة، وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس، قبل العشرين وأربعمائة، وكان يحمل على الكتف للسماع سنة 425، فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ. قال: وكنت أفصح من يقرأ عليه؛ وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقّه، وروى عنه رسالته ومختصر المدوّنة، ورحل سنة 448، وقدم مصر وسم بها من الضّرّاب والقضاعي وغير واحد، وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنّفاته وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلاّ أنّه لم يكن يتظاهر به، وسمع بدمشق وغيرها، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عن أكثر مصنّفاته، وسمع بمكّة من الزنجاني، وأقام بواسط مدّة بعد خروجه من بغداد، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيراً من الحديث والأدب وسائر الفنون، وصنّف مصنّفات كثيرة، وعلق فوائد، وخرّج تخاريج للخطيب ولغيره، وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا، وكان إماماً من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته، حتى قال بعض الأكابر ممّن لقي الأئمة: لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة نفسه وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم وبثّه في أهله، وكان ورعاً ثقة إماماً في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته، محقّقاً في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحّراً في علم الأدب والعربية، ومن تصانيفه كتاب جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس وكتاب تاريخ الإسلام وكتاب من ادعى الأمان من أهل الإيمان وكتاب الذهب المسبوك في وعظ الملوك وكتاب تسهيل السبيل إلى علم الترسيل وكتاب مخاطبات الأصدقاء في
__________
(1) ترجمة الحميدي في الصلة: 530 وتذكرة الحفاظ: 1318 وشذرات الذهب 3: 392 وبغية الملتمس رقم: 257 ووفيات الأعيان 3: 410 ومواطن من فهرسة ابن خير.(2/113)
المكاتبات واللقاء وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار وكتاب النميمة وكتاب الأماني الصادقة وغير ذلك من المصنفات والأشعار الحسان في المواعظ والأمثال. وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحرّ ويدلس في إجانة ماء يتبرد به، ومن مشهور مصنفاته كتابا لجمع بين الصحيحين.
وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه: إنّه طرق ميورقة بعدما كانت عطلاً (1) من هذا الشأن، وترك لها فخراً تباري به خواص البلدان، وهو من علماء أئمة الحديث، ولازم أبا محمد ابن حزم في الأندلس واستفاد منه، ورحل إلى بغداد، وبها ألف كتاب الجذوة، ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه:
ألفت النّوى حتى أنست بوحشها ... وصرت بها لا في الصّبابة مولعا
فلم أحص كم رافقته من مرافق ... ولم أحص كم خيّمت في الأرض موضعا
ومن بعد جوب الأرض شرقاً ومغرباً ... فلا بدّ لي من أن أوافي مصرعا وقال رحمه الله تعالى (2) :
لقاء النّاس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلاّ ... لأخذ العلم أو إصلاح حال وذكره ابن بشكوال في " الصّلة "، وتوفّي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
قال ابن ماكولا: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، لم أر مثله في عفّته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم، وكان أوصى مظفّراً ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي، فخالف وصيته
__________
(1) في التجارية: أنه أظهر العلم في طرق ميورقة بعد ما كانت عطلاء.
(2) البيتان في وفيات الأعيان.(2/114)
ودفنه في مقبرة باب أبرز (1) ، فلمّا كانت مدّة رآه مظفر في النوم كأنّه يعاتبه على مخالفته، فنقل في صفر سنة 491 إلى مقبرة باب حرب، ودفن عند قبر بشر، وكان كفنه جديداً وبدنه طريّاً تفوح منه رائحة الطيب، ووقف كتبه على أهل العلم، رحمه الله تعالى.
ومن مناقبه أنّه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ: تعديت بعين إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت، انتهى.
ومن شعر الحميدي أيضاً قوله:
طريق الزّهد أفضل ما طريقٍ ... وتقوى الله تالية الحقوق
فثق بالله يكفك، واستعنه ... يعنك، ودع بنيّات الطّريق وقوله:
كلام الله عزّ وجلّ قولي ... وما صحّت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءاً ... وعوداً فهو عن حقّ مبين
فدع ما صدّ عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين 64 - ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي (2) ، وهو أحمد بن عبد المؤمن ين موسى بن عيسى بن عبد المؤمن، القيسي، من أهل شريش. روى عن أبي الحسن ابن لبّال وأبي بكر ابن أزهر وأبي عبد الله ابن زرقون وأبي الحسين ابن جبير وغيرهم، وأقرأ العربية، وله تواليف أفاد بما حشر فيها: منها شرح الإيضاح للفارسي، والجمل للزجّاج، وله في العروض تواليف، وجمع مشاهير قصائد العرب، واختصر نوادر أبي علي القالي.
__________
(1) ق: باب البرر؛ ط: باب البر؛ ج: باب البزر.
(2) ترجمة الشريشي في التكملة: 111 والمنهل الصافي 1: 354 وبغية الوعاة: 143 وبرنامج الرعيني: 90 والوافي بالوفيات 7 الورقة: 77.(2/115)
قال ابن الأبار: لقيته بدار شيخنا أبي الحسن ابن حريق من بلنسية، قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة، وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات، فسمعت عليه بعضه، وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه، وأخذ عنه أصحابنا، ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية، انتهى.
ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام:
يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر
بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذّ للعين لا نومٌ ولا سهر
إذا تذكرت أوقاتاً نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر
كأنّني لم أكن بالنيربين ضحىً ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر
والورق تنشد، والأغصان راقصةٌ ... والدوح يطرب بالتصفيق والنهر
والسفح أين عشيّاتي التي سلفت ... لي منه فهي لعمري عندي العمر
سقاك يا سفح سفح الدّمع منهملاً ... وقلّ ذاك له إن أعوز المطر وله رحمه الله تعالى شروح لمقامات الحريري: كبير، ووسط، وصغير، وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له (1) ، وكان رحمه الله تعالى معجباً بالشام.
وقال ابن الأبار عندما ذكره: إنّه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ: كبراها الأدبية، ووسطاها اللغوية، وصغراها المختصرة، انتهى.
وتوفّي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة، رحمه الله تعالى.
65 - ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد، الأزدي، القرطبي، الملقّب بضياء الدين (2) ، أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك.
__________
(1) الشرح الكبير هو المطبوع من شروح المقامات.
(2) ترجمته في وفيات الأعيان 5: 219 وغاية النهاية 2: 372.(2/116)
قال القاضي الشمس ابن خلّكان: إنّه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسّلفي وغيرهم، ودخل بغداد سنة 517 (1) ، وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقرئ المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط، وسمع عليه كتباً كثيرة منها كتاب سيبويه، وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم ابن الحصين وأبي العز وغيرهم، وكان ديّناً ورعاً عليه وقار وسكينة، وكان ثقة صدوقاً ثبتاً نبيلاً قليل الكلام كثير الخير مفيداً، أقام بدمشق مدّة، واستوطن الموصل، ورحل منها إلى أصبهان، ثم عاد إلى الموصل، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر. وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب الذيل، وقال: إنّه اجتمع به بدمشق، وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي، وانتخب عليه أجزاء، وسأله عن مولده، فقال: ولدت سنة 486 في مدينة قرطبة، ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة 487، والأول أصح، وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن (2) يوسف بن رافع بن تميم المعروف باب شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه، وقال: كنّا نقرأ عليه بالموصل، ونأخذ عنه، وكنّا نرى رجلاً يأتي إليه كل يوم فيسلّم عليه وهو قائم، ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف، فيأخذه الشيخ من يده، ولا نعلم ما هو، ويتركه ذلك الرجل ويذهب، ثم تقفّينا ذلك فعلمنا أنّها دجاجة مسموطة كانت ترسم للشيخ في كل يوم، يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها، وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده.
__________
(1) ابن خلكان: سبع وعشرين وخمسمائة.
(2) أبو المحاسن: لم ترد في ق ط ج.(2/117)
وذكر في كتاب (1) دلائل الأحكام أنّه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة، آخرها سنة 567.
وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير الكاتب الواسطي:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيّان التحرّك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين وتوفّي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة 567، رحمه اله تعالى.
انتهى كلام ابن خلّكان ببعض اختصار.
66 - ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد، ابن الشيخ الأجلّ أبي الحسن ابن عبد ربه (2) ، وهو من حفداء صاحب كتاب العقد المشهور. حدث الشيخ الأجل أبو عبد اله محمد بن علي اليحصبي القرموني رفيقه قال: اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية، فلمّا قربنا منها هاج علينا البحر، وأشفينا على الغرق، فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية، فسررنا برؤيته، وطمعنا في السلامة، فقال لي: لا بد أن أعمل في المنار شيئاً، فقلت له: أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها فقال: نعم، فقلت: فاصنع، فأطرق ثم عمل بديهاً:
لله درّ منار إسكندريّة كم ... يسمو إليه على بعدٍ من الحدق
من شامخ الأنف في عرنينه شممٌ ... كأنّه باهتٌ في دارة الأفق
يكسّر الموج منه جانبي رجلٍ ... مشمّر الذيل لا يخشى من الغرق
لا يبرح الدهر من وردٍ على سفنٍ ... ما بين مصطبحٍ منها ومغتبق
__________
(1) ابن خلكان: في كتابه الذي سماه.
(2) انظر الترجمة رقم: 53 فيما سبق.(2/118)
للمنشآت الجواري عند رؤيته ... كموقع النوم من أجفان ذي أرق وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله ابن عبد ربه، وأظنّه هذا، فليتنبّه له، بل أعتقد أنّه هو لا غيره، والله تعالى أعلم.
67 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار، القرطبي (1) . قال في القدح المعلى: بيتهم (2) مشهور بقرطبة، لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة، ونشأ أبو عبد اله هذا حافظاً للآداب (3) ، إماماً في علم الحساب، مع أنّه كان أعمى مقعداً مشوّه الخلقة، ولكنّه إذا نطق علم كلّ منصف حقّه، ومن عجائبه أنّه سافر على تلك الحالة، حتى غدت بغداد له هالة. اجتمعت به (4) بحضرة تونس فرأيت بحراً زاخراً، وروضاً ناضراً، إلا أنّه حاطب ليلٍ، وساحب ذيل، لا يبالي ما أورده، ولا يلتفت إلى ما أنشده، جامعاً بين السمين والغث، حافظاً للمتين والرث، وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها.
ومن مشهور حكاياته أنّه لمّا قال أبو زيد الفازازي في أبي العلاء المستنصر قصيدته التي مطلعها:
الحزم والعزم منسوبان للعرب ... عارضه بقصيدة (5) ، ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان [رداء السلطان] (6) :
__________
(1) انظر القدح المعلى: 203 والمغرب 1: 117.
(2) القدح: بيته.
(3) القدح: لفنون الآداب.
(4) زاد في القدح: غير ما مرة.
(5) زاد في القدح: ذم فيها أنصاره.
(6) زيادة من القدح.(2/119)
وإن ينازعك في المنصور ذو نسبٍ ... فنجل ونوحٍ ثوى في قمّة (1) العطب
وإن يقل أنا عمٌّ فالجواب له ... عمّ النبيّ بلا شكٍّ أبو لهب وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء، فحرض على قتله، وسلّمه الله تعالى منه، ومات سنة 639.
ومن شعره قوله (2) :
لا تحسب الناس سواءً متى ... تشابهوا فالناس أطوار
وانظر إلى الأحجار، في بعضها ... ماءٌ، وبعضٌ ضمنها نار وقوله:
يا طالعاً في جفوني ... وغائباً في ضلوعي
بالغت في السّخط ظلماً ... وما رحمت خضوعي
إذا نويت انقطاعاً ... فاحسب حساب الرجوع انتهى باختصار يسير.
68 - ومنهم أبو الوليد ابن الجنّان محمد بن المشرف أبي عمرو ابن الكاتب أبي بكر ابن العالم الجليل أبي العلاء ابن الجنّان الكناني الشاطبي (3) . قال ابن سعيد: توارثوا بشاطبة، مراتب تحسدها النجوم الثاقبة، وأبو الوليد أشعرهم، وقد تجدّد به في أقطار المشرق (4) مفخرهم، وهو معروف هناك بفخر الدين، ومتصدر في أئمة النحويين، ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام، ومقطّعاته الغرامية قلائد أهل الغرام، صحبته بمصر ودمشق
__________
(1) في الأصول: قسمة، والتصويب عن المغرب.
(2) هذا الشعر والذي يليه وردا في المغرب والقدح؛ وقد سقطا من نسخة ق.
(3) ترجمته في القدح: 206 والمغرب 2: 383 وبغية الوعاة: 45 والفوات 2: 321.
(4) القدح: شرق الأندلس.(2/120)
وحلب، وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب، وأنشدني بدمشق (1) :
أنا من سكر هواهم ثمل ... لا أبالي هجروا أم وصلوا
فبشعري وحديثي فيهم ... زمزم الحادي وسار المثل
إنّ عشاق الحمى تعرفني ... والحمى يعرفني والطّلل
رحلوا عن ربع عيني فلذا ... أدمعي عن مقلتي ترتحل
ما لها قد فارقت أوطانها ... وهي ليست لحماهم تصل
لا تظنّوا أنّني أسلوا فما ... مذهبي عن حبّكم ينتقل وقوله رحمه الله تعالى (2) :
بالله يا بانة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث الشيح والغار
فعانقيها عن الصّبّ الكئيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار
وعرّفيها بأنّي فيك مكتئب ... فبعض هذا لها بالحبّ إخبار
وأنتم جيرة الجرعاء من إضمٍ ... لي في حماكم أحاديث وأسمار
وأنتم أنتم في كلّ آونةٍ ... وإنّما حبّكم في الكون أطوار
ويا نسيماً سرى تحدو ركائبه ... لي بالغوير لباناتٌ وأوطار وله (3) :
يا رعى الله أنسنا بين روضٍ ... حيث ماء السرور فيه يجول
تحسب الزهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تميل وله (4) :
__________
(1) الأبيات في القدح المعلى.
(2) القدح: 207.
(3) قالهما في بستان على نهر ثورا أحد أنهار دمشق، انظر القدح: 208 والفوات: 324.
(4) القدح: 208.(2/121)
هات المدام فقد ناح الحمام على ... فقد الظلام وجيش الصبح في غلب
وأعين الزهر من طول البكا رمدت ... فكحّلتها يمين الشمس بالذهب
والكأس حلّتها حمراء مذهبةٌ ... لكن أزرّتها من لؤلؤ الحبب
كم قلت للأفق لمّا أن بدا صلفاً ... بشمسه عندما لاحت من الحجب
إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي ... شمسان وجه نديمي وابنة العنب
قم اسقنيها وثغر الصبح مبتسمٌ ... والليل تبكيه عين البدر بالشّهب
والسّحب قد لبست سود الثياب وقد ... قامت لترثيه الأطيار في القضب وله (1) :
عليك من ذاك الحمى يا رسول ... بشرى علامات الرضى والقبول
جئت وفي عطفيك منهم شذاً ... يسكر من خمر هواه العذول ومنها:
أحبابنا ودّعتم ناظري ... وأنتم بين ضلوعي نزول
حللتم قلبي وهو الذي ... يقول في دين الهوى بالحلول
أنا الذي حدّث عني الهوى ... بأنّني عن حبّكم لا أحول
فليزد العاذل في عذله ... وليقل الواشي لكم ما يقول انتهى كلام النور بن سعيد.
وقال غيره: ولد المذكور بشاطبة منتصف وشوال سنة 615، ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون، وكان عالماً فاضلاً، دمث الأخلاق كريم الشمائل، كثير الاحتمال واسع الصدر، صحب الشيخ كمال الدين ين العديم وولده قاضي
__________
(1) القدح: 208 والفوات: 323.(2/122)
القضاة مجد الدين، فاجتذبوه إليهم، وصار حنفيّ المذهب، ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفيّة بدمشق، وله مشاركة في علوم كثيرة، وله يد في النظم، ومنه قوله:
لله قومّ يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل
وبمهجتي قومٌ وإنّي منهم ... جبلوا على حبّ الطراز الأول وله أيضاً:
قم اسقنيها وليل الهمّ منهزمٌ ... والصبح أعلامه محمرّة العذب
والسّحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها ... تضمّه الشمس في ثوبٍ من الذهب وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا (1) .
وله - رحمه الله تعالى - في كاتب:
وبي كاتبٌ أضمرت في القلب حبّه ... مخافة حسّادي عليه وعذّالي
له صنعةٌ في خطّ لام عذاره ... ولكن سها إذ نقّط اللام بالخال 69 - ومنهم أبو محمد القرطبي (2) ، قال ابن سعيد: لقيته بالقاهرة، وكأنّه لا خبر عنده من الآخرة، وقد طال عمره في أكل الأعراض، وفساد الأغراض، وممّا بقي في أذني من شعره قوله:
رحم الله من لقيت قديما ... فلقد كان بي رؤوفاً رحيما
أتمنى لقاء حرٍّ وقد أع ... وز بختي كما عدمت (3) الكريما
__________
(1) انظر البيتين الأخيرين في البائية ص: 122.
(2) ترجمته في القدح: 212 واسمه فيه " أبو المحامد " وقال إنه كان يلقب بأبي بغل ولقب أيضا بجسر بلبيس لأنه أقام فيها زمنا يكري كل من جاء من الشام أو من سافر إليها.
(3) ق ط ج: علمت.(2/123)
وتوفّي بالقاهرة سنة 643، انتهى.
70 - ومنهم علي بن أحمد القادسي، الكناني (1) ، قال ابن سعيد: لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء، وحصّلت منه هذه الأبيات، وندمت بعد ذلك على ما فات، وهي:
ذاك العذار المطلّ ... دمي عليه يطلّ
كأنّما الخدّ ماءٌ ... وقد جرى فيه ظلّ
عقود صبري عليه ... مذ حلّ قلبي تحلّ
جرت دموعي عليه ... فقلت آسٌ وطلّ 71 - ومنهم أبو عبد الله ابن العطار، القرطبي (2) ، قال ابن سعيد: هو حلو المنازع، ظريف المقاطع والمطالع، مطبوع النوادر، موصوف بالأديب الشاعر، مازجته بالإسكندرية، وبهذه الحضرة العلية، وما زال يدين بالانفراد، والتجول في البلاد، حتى قضى مناه، وألقى بهذه المدينة عصاه، لا يخطر الهمّ له ببال، ولا يبيت إلاّ على وعد من وصال، وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة ابن الرّيغي، وقال: ما لي إليه سبيل، حتى يحضر مصري نبيل:
أيا سارقاً ملكاً مصوناً ولم يجب ... على يده قطعٌ وفيه نصاب
ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصواب كتاب فقال:
__________
(1) ترجمته في القدح: 213 وقال ابن سعيد: وكان اجتماعي به سنة ثلاث وأربعين (وستمائة) ولم اسمع له خبرا منذ ذلك الحين.
(2) ترجمته في القدح: 215.(2/124)
أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته ... وفيه نصابٌ ليس يلزمك القطع
على أن فيه القطع والحدّ ثابتٌ ... ولا حدّ فيه، هكذا حكم الشرع انتهى كلام ابن سعيد من كتابه " القدح المعلى " فيما أظن.
[رسالة للسان الدين]
ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله وبهذه الحضرة العلية حضرة تونس المحروسة (1) ، فإنّها كانت محط رحال الأفاضل، من الأواخر والأوائل، حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة، ومنها ارتحل إلى مصر، وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق رحمه الله تعالى، ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب، فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصّه: المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد، ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد، ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاعتداد، ونخطب له من الله بهزّ أعطافه للخير والتوفيق والسداد، والإعانة منه والإمداد، مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه، ووضح سعده متألّقةً براهينه، وحيّاه الصنع الجميل وبيّاه مشرقاً جبينه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله يرعى الذمم، ويسلك من الفضائل المنهج الأمم، ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم، معظم قدره، وملتزم بره، الحريص على توفير أجره وتخليد فخره، فلان. أمّا بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة، المحافظة على السنّة والجماعة،
__________
(1) هذا واضح من أن ابن سعيد ألف القدح ليخدم به أبا زكريا ابن الإمام المستنصر بالله الحفصي صاحب تونس.(2/125)
وحافظها من الإضاعة، إلى قيام الساعة، الذي جعل المودّة فيه أنفع الوسائل النفّاعة، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة، متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة، والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة، وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة تلك الزراعة، والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة، وتأييد لا ترضى في القنا بمقام القناعة، فإنّا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة، في أيدي النواسم الضّوّاعة، من حمراء غرناطة - حرسها الله تعالى - عن خيرٍ هامي السحاب، وبشر مفتّح الأبواب، وعز للإسلام - ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام - مقتبل الشباب، ويمن ضافي الجلباب، والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفّر الأسباب، وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب، ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللّباب، وإلى هذا وصل الله تعالى، سوابغ نعمة وآلائه دائمة الانسكاب، وجعل ما عجل لكم من نعمه كفيلةً بالزلفى وحسن المآب، وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولاً وعملاً فالشكر مستدعي المزيد كما وعد في الكتاب، فإن من المنقول الذي اشتهر، وراق فضله وبهر، قوله " اشفعوا تؤجروا " وما في معناه من المعتبر في الخبر، وتنفيس كربة عن مسلم، وسماع شكوى من متظلّم، ولولا أن مقامكم السني أغنى، لجلبنا الكثير من هذا المعنى، ولم تحقّق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح - قدس الله تربته، وضاعف قربته - من يمن الظفر، وسلوك سبيل الخير وإقامة رسوم الدين، والاهتداء من هديه بالنور المبين، خفّ علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات، ونتّجر لكم مع الله بأنفس البضاعات، فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة، وما تأخّر أوسعناكم فيه عذراً يسد ذريعة، وعلمنا أن الله تعالى لم يأذن في تعجيله(2/126)
وسألناه في تيسيره وتسهيله، سواء لدينا في ذلك ما عاد، بإعانة عامة وإمداد، وساهم في قصد جهاد، وما لم يعد علينا خصوصاً وعلى المسلمين عموماً بإعانة ولا إرفاد، إنّما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم، وندلّ عليه كريم جنابكم، بمقتضى وداد، صبحه باد، وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد، وسلم مجمله ومفصّله من انتقاد، وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد سلالة الصالحين، وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين، ويا لها من مزية دنيا ودين، أبا عبد الله ابن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله، وسنّى من مقامكم السني آماله، جرى عليه من المحن، وتباريح (1) الإحن، ما يعلم كلّ ذي مروءة وعقل، واجتهاد ونقل (2) ، أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب، وإلى معقّاته منسوب، ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا، لاستدعت إلى تعمدها عفواً كبيراً، رعياً لذلك الإمام الصالح الذي كبر خلفه وأحرم، وتشهّد وسلّم، وأمّن عقب دعائه، ونصب كفّه
لمواهب الله تعالى وآلائه، وأنصت لخطبته ووعظه، وأوجب المزيّة لسعة حفظه وعذوبة لفظه، فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة، وعطّل المتاجر الرابحة، وأسف الملك المذكور بدم ولده، وإحراق خزائنه وعدده، وتغيير رسومه وحدوده، وإسخاطه وإسخاط الله معبوده، إلى أن طهّر سيفكم الملك من عاره، وأخذ منه بثاره، وتقرّب إلى الله وغلى السلف الكريم بمحو آثاره، والحمد لله تعلى ما خصّه من إيثاره، وتدارك الإسلام بإقالة عثاره، وإنّه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرّر من حاله ما يفتّ الفؤاد، ويوجب الامتعاض له والاجتهاد، يطلب منّا الإعانة بين يديكم والإنجاد، ويشكو العيلة والأولاد، والغربة التي أحلّته الأقطار النازحة والبلاد، والحوادث التي سلبته الطارف
__________
(1) ق ط ج: ونتائج.
(2) ق ج: وفضل.(2/127)
والتّلاد، وأن نذكركم بوسيلته، وضعف حيلته، فبادرنا لذلك عملاً بالواجب، وسلوكاً من بره ورعي حقّه على السّنن اللاحب، وإن كنّا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيراً، ولا نشكر إلاّ الله وليّاً ونصيراً، فحقّه علينا أوجب، فهو الذي لا يجحد ولا يحجب، ولا يلتبس منه المذهب، وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعاً، وأحلّه محلاًّ منيعاً رفيعاً، إلى وليّه الذي جبر ملكه سريعاً، وصير جنابه بعد المحول مريعاً، وجدّد رسومه تاصيلاً لها وتفريعاً، ومثلكم من اغتنم برّه في نصر مظلوم، وسبر مكلوم، وإعداء كرم على لوم، وهي منّا ذكرى تنفع، وحرص على أجر من يشفع، وإسعاف لمن سأل ما يعلي من قدركم ويرفع، وتأدية لحق سلفكم الذي توفّرت حقوقه، وإبلاغ نصيحة دينيّة إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه، ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير، وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير، ومنهلكم الأروى، وباعكم في الخير أطول ساعدكم أقوى " وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله " " وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التقوى " والله، عزّ وجلّ، يسلك بكم المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم، تعظم عند الله أجركم، فما عند الله خير للأبرار، والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، انتهى.
والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني، وكان ابن مرزوق غالباً على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور، فقتله الوزير عمر بن عبد الله الفودودي، وتغلّب على الملك، ونصب أخاً لأبي سالم معتوهاً، وسجن ابن مرزوق، ورام قتله، فخلّصه الله تعالى منه، ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلّب وقتله، واستقل بالملك، فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر.(2/128)
رجع إلى ما كنّا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى، فنقول:
72 - ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر، الأزدي، القرطبي، المعروف بابن الفرضي، الحافظ المشهور (1) ، كان فقيهاً عالماً (2) عارفاً بعلم الحديث ورجاله، بارعاً في الأدب وغيره، وله من التصانيف تاريخ علماء الأندلس، وقفت عليه بالمغرب، وهو بديع في بابه وهو الذي ذيّل عليه ابن بشكوال بكتاب الصلة، وله كتاب حسن في المؤتلف والمحتلف وفي مشتبه النسبة، وكتاب في أخبار شعراء الأندلس، وغير ذلك، ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة 382، فحجّ وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم، وروى عن شيوخ عدّة من أهل المشرق.
ومن شعره:
أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجلٍ ممّا به أنت عارف
يخاف ذنوباً لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف
ومن ذا الذي يرجى سواك ويتّقى ... وما لك في فصل القضاء مخالف
فيا سيّدي لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصدّ ذوو القربى ويجفو المؤالف
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... ارجّي لإسرافي فإنّي لتالف وكان - رحمه الله تعالى - حسن الشعر والبلاغة. ومن شعره أيضاً،
__________
(1) انظر ترجمة الحافظ ابن الفرضي في الجذوة: 237 (وبغية الملتمس رقم: 888) والصلة: 246 والمطمح: 57 والذخيرة 1/ 2: 130 والمغرب 1: 103 والمطرب: 132 ووفيات الأعيان 2: 290 وتذكرة الحفاظ: 1076 والديباج المذهب: 143 وشذرات الذهب 3: 168.
(2) هذا النص حتى بداية النقل عن " المطمح " متابع لما أورده ابن خلكان مع شيء من التصرف.(2/129)
رحمه الله تعالى:
إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمراً فليس بدونه
ذلّي له في الحبّ من سلطانه ... وسقام جسمي من سقام جفونه وله شعر كثير. ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة 351، وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني، وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة 403، وبقي في داره ثلاثة أيّام، ودفن متغيراً من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، رحمه الله تعالى.
وروي عنه أنّه قال: تعلقت بأستار الكعبة، وسألت الله تعالى الشهادة، ثم انحرفت وفكرت في هول القتل، فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت. وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف: لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلاّ جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك كأنّه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك، قال: ثم قضى على أثر ذلك.
وهذا الحديث أخرج مسلم في صحيحه.
وقد ساق في المطمح حكايته فال: كان حافظاً عالماً كلفاً بالرواية، رحل في طلبها، وتبحر في المعارف بسببها، مع حظ من الأدب كثير، واختصاص بنظيم منه ونثير، حجّ وبرع، في الزهادة والورع، فتعلّق بأستار الكعبة يسأل الله الشهادة ثم فكّر في القتل ومرارته، والسيف وحرارته، فأراد أن يرجع ويستقيل الله تعالى فاستحيا، وآثر نعيم الآخرة على شقاء الدنيا، فأصيب في تلك الفتن مكلوماً، وقتل مظلوماً، ثم ذكر مثل ما مرّ.
وممّا قال في طريقه، يتشوق إلى فريقه (1) :
__________
(1) الشعر في المطمح والجذوة والمغرب.(2/130)
مضت لي شهورٌ منذ غبتم ثلاثةٌ ... وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا
وما لي حياةٌ بعدكم أستلذّها ... ولو كان هذا لم أكن في الهوى حرّا
ولم يسلني طول التنائي عليكم ... بلى زادني وجداً وجدّد لي ذكرى
يمثّلكم لي طول شوقي إليكم ... ويدنيكم حتى أناجيكم سرّا
سأستعتب الدهر المفرّق بيننا ... وهل نافعي أن صرت أستعتب الدهرا
أعلّل نفسي بالمنى في لقائكم ... واستسهل البرّ الذي جبت والبحرا
ويؤنسني طيّ المراحل عنكم ... أروح على أرضٍ وأغدو على أخرى
وتالله ما فارقتكم عن قلىً لكم ... ولكنها الأقدار تجري كما تجرى
رعتكم من الرحمن عينٌ بصيرةٌ ... ولا كشفت أيدي النّوى عنكم سترا وقد عرّف به ابن حيان في المقتبس، وذكر قصّة شهادته، رحمه الله تعالى.
73 - ومنهم الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، البكري، الشريشي، المالكي (1)
ولد بشريش سنة 601، ورحل إلى العراق، فسمع به المشايخ كالقطيعيّ وابن روزبة (2) وابن الكثير وغيرهم، واشتغل وساد أهل زمانه، واشتهر بين أقرانه، ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية، ثم انتقل إلى القدس الشريف، فأقام به شيخ الحرم، ثم جاء إلى دمشق المحروسة بالله، وتولى مشيخة الحديث بتربة أم صالح ومشيخة الرباط الناصري ومشيخة المالكية، وعرض عليه القضاء فلم يقبل، وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب، بالرباط الناصري، ودفن بسفح قاسيون، رحمه الله تعالى، وذلك سنة خمس وثمانين وستمائة.
وليس هو بشارح المقامات (3) ، بل هو غيره، وقد اشتركا في البلد، فبسبب
__________
(1) ترجمة الشريشي في شذرات الذهب 5: 392.
(2) ق ط ج: وابن زوربة.
(3) قد نسب إليه في الشذرات أنه شرح المقامات، وهو وهم كالذي نبه عليه المقري.(2/131)
ذلك ربّما يقع في الأذهان الوهم في أمرهما، وشارح المقامات أحمد وهذا محمد، وقد ترجمنا صاحب شرح المقامات فيما تقدم من هذا الباب (1) ، فليراجع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
74 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن الغلّس، القيسي، الأندلسي، البلنسي (2) : كان من أهل العلم باللغة والعربية، مشاراً إليه فيهما، رحل من الأندلس، وسكن بمصر واستوطنها، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي صاحب كتاب " الفصوص "، وعلى أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرّزاذ بن النّجيرمي (3) . ودخل بغداد، واستفاد وأفاد، وله شعر حسن، فمن ذلك قوله:
مريض الجفون بلا علّةٍ ... ولكنّ قلبي به ممرض
أعان السّهاد على مقلتي ... بفيض الدموع فما تغمض
وما زار شوقاً ولكن أتى ... يعرّض لي أنّه معرض وله أشعار كثيرة. وتوفّي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة 427، وقيل: سنة 429، بمصر، وكان استوطنها، وصلّى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصّدفي، ودفن عند أبي إسحاق، رحمه الله تعالى.
ومغلّس: بضم الميم، وفتح الغين، وتشديد اللام المكسورة، وبعدها سين مهملة. وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف (4) صاحب كتاب
__________
(1) انظر الترجمة رقم: 64 فيما سبق.
(2) ترجمة ابن المغلس في وفيات الأعيان 2: 360 وعنه ينقل المقري أكثر الترجمة. والجذوة: 269 (وبغية الملتمس رقم: 1088) والصلة: 351.
(3) ق ط ج: يوسف بن خرقان، والتصويب عن ابن خلكان.
(4) هو إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران المالكي المقرئ الأندلسي، أبو طاهر، استوطن مصر وحدث بها (الصلة: 105 - 106) .(2/132)
" العنوان " معارضات في قصائد. ومن شعر ابن المغلّس أيضاً قوله في حمّام:
ومنزل أقوامٍ إذا ما اغتدوا به ... تشابه فيه وغده ورئيسه
يخالط فيه المرء غير خليطه ... ويضحي عدوّ المرء هو جليسه (1)
يفرّج كربي إن تزايد كربه ... يؤنس قلبي أن يعدّ أنيسه
إذا ما أعرت الحوض ماءً (2) تكاثرت ... على مائه أقماره وشموسه 75 - ومنهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الحكيم الأديب المعروف بالمغربي (3) ، وهو من أهل المرية، وانتقل إلى المشرق، وكان كامل الفضيلة، وجمع بين الأدب والحكمة، وله ديوان شعر جيّد، والخلاعة والمجون غالبة عليه، وذكر العماد في الخريدة أنّه كان طبيب المارستان الستصحب في معسكر السلطان السلجوقي حيث خيّم، وكان السديد يحيى ابن سعيد المعروف بابن المرخّم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفي فاصداً وطبيباً في هذا المارستان. وأثنى العماد على أبي الحكم المذكور، وذكر فضله وما كان عليه، وأن له كتاباً سمّاه نهج الوضاعة، لأولي الخلاعة، ثم إن أبا الحكم انتقل إلى الشام، وسكن دمشق، وله فيها أخبار ومجاريات (4) ظريفة تدل على خفّة روحه.
قال ابن خلّكان: رأيت في ديوانه أنّ أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر، وكانوا مقبلين عليه، وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش (5) ، وكانت فيه دعابة، وبينه وبين أبي الحكم المذكور
__________
(1) ق: وهو فيه جليسه.
(2) ق ط ج: أعرت الجو طرفا.
(3) ترجمة أبي الحكم المغربي في وفيات 2: 307 (وعنه ينقل المقري) وابن أبي أصيبعة 2: 144 - 155.
(4) اقرأ أيضا: وماجريات.
(5) هو سبع بن خلف الفقعسي وكانوا يصغرون كنيته فيقولون " وحيش " وقد مرت الإشارة إليه وإلى مصادر ترجمته، انظر 1: 61.(2/133)
مداعبات، فسأل منه كتاباً إلى ابن منير بالوصية عليه، فكتب أبو الحكم:
أبا الحسين استمع مقال فتىً ... عوجل فيما يقول فارتجلا
هذا أبو الوحش جاء ممتدحاً ... للقوم فاهنأ به إذا وصلا
واتل عليهم بحسن شرحك ما ... أنقله من حديثه جملا
وخبّر القوم أنّه رجلٌ ... ما أبصر الناس مثله رجلا
تنوب عن وصفه شمائله ... لا يبتغي عاقلٌ به بدلا ومنها:
وهو على خفّةٍ به أبداً ... معترفٌ أنّه من الثّقلا
يمتّ بالثلب والرقاعة وال ... سّخف، وأمّا بغير ذاك فلا
إن أنت فاتحته لتخبر ما ... يصدر عنه فتحت منه خلا
فنبه عن حلّ خطة الخسف وال ... هون ورحّب به إذا رحلا
وأسقه السمّ إن ظفرت به ... وامزج له من لسانك العسلا وله أشياء مستملحة، منها مقصورة هزلية، ضاهى بها مقصورة ابن دريد، من جملتها:
وكلّ ملمومٍ فلا بدّ له ... من فرقةٍ لو ألزقوه بالغرا وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابكي، شاب فيها الجدّ بالهزل، والغالب على شعره الانطباع. وتوفّي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة 549، وقيل: في السنة التي قبلها، بدمشق، رحمه الله تعالى.
والقاضي ابن المرخّم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله ابن الفضل الشاعر المعروف بابن القطان (1) :
__________
(1) ابن القطان من شعراء الخريدة، كان شاعرا رقيقا مجودا غلب عليه الهجاء (توفي 558) انظر ابن خلكان 5: 104.(2/134)
يا ابن المرخّم صرت فينا قاضياً ... خرف الزمان تراه أم جنّ الفلك
إن كنت تحكم بالنّجوم فربّما ... أمّا بشرع محمّدٍ من أين لك وكان أبو الحكم المذكور فاضلاً في العلوم الحكمية، متقناً للصناعة الطبيّة، حسن النادرة، كثير المداعبة، محبّاً للهو والخلاعة والشراب، وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود، ويجلس في دكان بجيرون للطب، وسكناه باللبادين، وأتى في ديوانه نهج الوضاعة بكل غريب، يدل على أنّه أريب، سامحه الله تعالى وغفر له.
76 - ومنهم من الراحلين من الأندلس إلى المشرق، من هو الأحق بالتقديم والسبق، الشهير عند أهل الغرب والشرق، الحافظ المقرئ الإمام الرباني، أبو عمرو الدّاني، عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر، الأموي (1) ، مولاهم، القرطبي، صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير، وعرف بالدّاني لسكناه دانية، وولد سنة 371، وابتدأ بطلب العلم سنة 387 ورحل إلى المشرق سنة 397، فمكث بالقيروان أربعة أشهر، ودخل مصر في شوّالها، فمكث بها سنة، وحج، ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة 399، وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة، وعلى أبي الحسن ابن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد، وسمع من أبي مسلم الكاتب، وهو أكبر شيخ له، ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري، حاتم بن عبد الله البزار (2) ، وغير واحد من أهل مصر وسواها، وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي، وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس، وتلا عليه خلقٌ منهم مفرج الأقفالي وأبو داود ابن نجاح (3) صاحب
__________
(1) ترجمة أبي عمرو الداني في الصلة: 385 وغاية النهاية 1: 503 والديباج المذهب: 188 ومعجم الأدباء 12: 125 والجذوة: 286 وبغية الملتمس رقم: 1185.
(2) ط: البزاز.
(3) ق: حجاج.(2/135)
التنزيل في الرسم، وهو من أشهر تلامذته، وحدّث عنه خلقٌ كثير، منهم خلف بن إبراهيم الطّليطلي.
قال أبو محمد عبيد الله الحجري: ذكر بعض الشيوخ أنّه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الدّاني ولا بعد عصره أحد يضاهيه في حفظه وتحقيقه. وكان يقول: ما رأيت شيئاً قط إلاّ كتبته، ولا كتبته إلاّ حفظته، ولا حفظته فنسيته.
قال ابن بشكوال: كان أبو عمرو أحد الأئمّة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك كلّه تواليف حساناً، وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه (1) وأسماء رجاله، وكان حسن الخط والضبط، من أهل الحفظ والذكاء واليقين، وكان ديّناً فاضلاً ورعاً سنّياً.
وقال بعضهم، وأظنّه المغامي (2) : كان أبو عمرو مجاب الدعوة، مالكي المذهب.
وقال بعض أهل مكة: إن أبا عمرو الدّاني مقرئ متقدّم، وإليه المنتهى في علم القراءات وإتقان القرآن، والقراء خاضعون لتصانيفه، واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك، وله مائة وعشرون مصنّفاً، وروى عنه بالإجازة رجلان: أحمد بن محمد بن عبد الله الحولاني، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة، وكانت وفاته رحمه الله تعالى بدانية في نصف شوّال سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
77 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب، الأندلسي (3) ، من بيت علم ووزارة، صرف عمره في طلب العلم،
__________
(1) وإعرابه: سقطت من ج ط ق.
(2) انظر غاية النهاية 1: 504، والمغامي هو محمد بن عتيق بن فرج المقرئ الطليطلي لقي أبا عمرو الداني وعليه اعتمد.
(3) ترجمة ابن حبيب في التكملة: 834 وهو شلبي الأصل؛ وقد ذكر أنه توفي في جمادى الآخرة سنة 551؛ وراجع أخبار وتراجم أندلسية: 57 - 58 حيث عرف به السلفي.(2/136)
وكان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب وولي القضاء بالأندلس مدّة (1) ، ثم دخل الإسكندريّة ومصر، وجاور بمكّة المشرّفة (2) ، ثم قدم العراق وأقام ببغداد مدّة، ثم وافى خراسان فأقام بنيسابور وبلخ، وكانت ولادته ببلاد الأندلس، وتوفّي بهراة في شعبان سنة 548، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
78 - ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر الأندلسي المقرئ (3) ، رحل وأخذ القراءات عن أبي الفضل جعفر الهمداني، وسمع من أبي القاسم ابن عيسى، وسكن الفيوم، واختصر التيسير وصنّف شرحاً للشاطبية، وتوفّي سنة 640 (4) ، رحمه الله تعالى.
79 - ومنهم العلاّمة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني، اللورقي، المقرئ، النحوي (5) ، ولد سنة 575 (6) ، وقرأ القراءات وأحكم العربية وبرع فيها، واجتمع بالجزولي، وسأله عن مسألة في مقدمته، وقرأ علم الكلام والأصولين (7) والفلسفة، وكان خبيراً بهذه العلوم، مقصوداً بإقرائها، وولي مشيخة قراءة العادلية، ودرس بالعزيزيّة نيابة، وصنّف شرحاً للشاطبيّة، وشرحاً للمفصّل في عدّة مجلدات، وشرح الجزوليّة، وغير ذلك، وكان مليح الشكل، حسن البزّة، وتوفّي سنة 661، رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
80 - ومنهم أبو عبد الله ابن أبي الربيع القيسي، الأندلسي، الغرناطي،
__________
(1) تولى القضاء تسعة أعوام ثم امتحن بالأمراء لإقامته الحق وإظهاره العدل.
(2) كان ذهابه إلى مكة عام 527.
(3) ترجمته في غاية النهاية 1: 87.
(4) غاية النهاية: في حدود الأربعين وستمائة.
(5) هذه الترجمة مكررة، راجع في ما تقدم الترجمة رقم: 16.
(6) في إحدى النسخ: 585.
(7) ق ودوزي: والأصوليين؛ ج: والأصول.(2/137)
قدم مصر سنة 515 أو بعدها، فسمع على السّلفي، وبقراءته على جماعة من شيوخ مصر، وكان لديه فقهٌ وأدب، ثم سافر إلى باب الأبواب، وكان حيّاً سنة 556.
ومن نظمه يمدح كتاب " الشهاب ":
إن الشهاب له فضلٌ على الكتب ... بما حوى من كلام المصطفى العربي
كم ضمّ من حكمةٍ غرّا وموعظةٍ ... ومن وعيدٍ ومن وعدٍ ومن أدب
أمّا القضاعيّ فالرحمن يرحمه ... كما حباه من التأليف بالعجب 81 - ومنهم الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجى، القرشي، العبدري (1) ، من أهل ميورقة من بلاد الأندلس، سكن بغداد، وسمع بها من أبي الفضل ابن خيرون وطرّاد الزينبي وأبي عبد الله الحميدي وجماعة، ولم يزل يسمع إلى حين وفاته، وكتب بخطّه كثيراً من الكتب والأجزاء، وجم وخرّج، وكان صحيح العقل، معتمد الضبط، مرجوعاً إليه في الإتقان، وكفاه فخراً وشرفاً أن روى عنه الحافظان أبو طاهر السّلفي وأبو الفضل محمد ابن ناصر، وكان فهّامة علاّمة ذا معرفة بالحديث، متعفّفاً مع فقره، وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع.
وقال السلفي فيه: إنّه من أعيان علماء الإسلام بمدينة السلام، متصرف في فنون من العلم أدباً ونحواً ومعرفة بأنساب العرب والمحدثين، وكان داودي المذهب، قرشي النسب، وقد كتب عني وكتبت عنه وسمعنا معاً كثيراً على شيوخ بغداد، ومولده بقرطبة من مدن الأندلس. وقبل اجتماعي به كنت أسمع إسماعيل ابن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يثني عليه، فلمّا اجتمعنا وجدته فوق ما وصفه، انتهى.
__________
(1) ترجمة ابن سعدون في معجم البلدان: " ميورقة " نقلا عن ابن عساكر. وفي الصلة: 534.(2/138)
وقال ابن عساكر: كان أحفظ شيخ لقيته؛ وربّما حكى عنه بعضهم كابن عساكر أموراً منكرة، فالله أعلم. وتوفّي في ربيع الآخر سنة 524 ببغداد، رحمه الله تعالى.
82 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعدون، الباجي (1) ، سمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وابن رشيق، وبمكّة من الآجرّي، وكان صالحاً فاضلاً زاهداً ورعاً، حدّث، ومات ببطليوس وفجأة سنة 392، ومولده سنة 322.
83 - ومنهم أبو بكر محمد بن سعدون، التميمي الجزيري، المتعبد، كانت آدابه كثيرة، وحجّ غير مرّة، ورابط ببلاد المغرب، وكان حسن الصوت بالقرآن، سمع بمصر من جماعة وبمكّة، وصحب الفقراء وطاف بالشام، وغزا غزوات وتعرّض للجهاد وحرّض عليه، وساح بجبل المقطم، وذكر أنّه صلّى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة، ثم نام فرأى النبي صلّى الله تعليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إن مالكاً والليث اختلفا في الضحى، فمالكٌ يقول: اثنتا عشرة ركعة، والليث يقول: ثمانٍ، فضرب عليه الصلاة والسلام بين وركي ابن سعدون وقال: راي مالك هو الصواب، ثلاث مرّات، قال: وكان في وركي وجع، فمن تلك الليلة زال عنّي. وكان له براهين من نور يضيء عليه إذا صلّى نحوه، وأنشد:
سجن اللسان هو السلامة للفتى ... من كلّ نازلةٍ لها استئصال
إنّ اللسان إذا حللت عقاله ... ألقاك في شنعاء ليس تقال توفّي سنة 344.
__________
(1) كان يسكن حصن مورة من عمل باجة، ويعرف بابن الزنوني، وكان رجلا صالحا زاهدا ورعا ضعيف الكتاب غير ضابط (ابن الفرضي 2: 107) .(2/139)
84 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعد الأعرج، الطّليطلي الخطيب (1) ، وقال فيه ابن سعيد: سمع بمصر ابن الورد وابن السكن، وحدّث، مولده سنة 309، وتوفّي في ربيع الآخر سنة 384.
85 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف، الأموي، القرطبي (2) ، وأصله من لبلة، ولكن سكن قرطبة، وقدم مصر، وحجّ، وسمع في طريقه من الشيخ أبي محمد ابن أبي زيد صاحب الرسالة، وأخذ عن القابسي وعن جماعة من علماء مصر والحجاز، ومولده سنة 352، ورحلته سنة 418.
86 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حسان بن الحكم بن هشام، القرطبي (3) ، سمع من أبيه ويحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب، ورحل، فسمع من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن نافع وعبد الله بن عبد الحكم، وعاد إلى الأندلس وبها توفّي سنة 260، رحمه الله تعالى.
87 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري، الشاطبي (4) ، نزيل الإسكندريّة ويعرف بابن أبي الربيع، أحد أولياء الله تعالى، شيخ الصالحين صاحب الكرامات المشهورة، جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلّي عن الناس والتمسّك بطريقة السّلف، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره، وقرأ بدمشق على الواسطي، وسمع عليه الحديث، ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب
__________
(1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 100.
(2) ترجمته في الصلة: 486.
(3) ترجمته في ابن الفرضي 2: 9 والجذوة: 55 (وبغية الملتمس رقم: 130) .
(4) ترجمته في الذيل والتكملة 6: الورقة 81 (نسخة باريس) ؛ وهو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن عبد الملك العافري الحميري الملقب بعلم الدين.(2/140)
خادم أضياف رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بين قبره ومنبره سنة 617، وسمع بدمشق على أبي القاسم ابن صصرى (1) وأبي المعالي ابن خضر وأبي الوفاء ابن عبد الحق وغيرهم، وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي (2) ، وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي، وصنّف كتباً حسنة: منها كتاب المسلك القريب في ترتيب الغريب وكتاب اللمعة الجامعة في العلوم النافعة في تفسير القرآن العزيز، وكتاب شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل وكتاب المباحث السنية في شرح الحصريّة وكتاب الحرقة في لباس الخرقة وكتاب المنهج المفيد فيما يلزم الشيخ والمريد وكتاب النبذة الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية وكتاب زهر العريش في تحريم الحشيش وكتاب الزهر المضي في مناقب الشاطبي وكتاب الأربعين المضية في الأحاديث النبوية. ومولده بشاطبة سنة 585، ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672، ودفن بتربة شيخه (3) المجاورة لزاويته، رحمهما الله تعالى، ونفع بهما.
88 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن شريح الرّعيني الإشبيلي (4) ، قدم مصر وسمع بها من ابن نفيس وأبي علي الحسن البغدادي وأبي جعفر النحوي وأبي القاسم ابن الطيب البغدادي الكاتب، وبمكّة من أبي ذرالهروي.
قال ابن بشكوال: كان من جملة المقرئين وخيارهم، ثقة في روايته، وكانت رحلته إلى المشرق سنة 433، وولد سنة 392، وتوفّي سنة 476، وعمره أربع وثمانون سنة إلاّ خمسة وخمسين يوماً، وروى بإشبيلية عن جماعة،
__________
(1) ق ج: مصري؛ ط: مضري.
(2) ق ج: الراس.
(3) يعني أبا العباس أحمد بن محمد اللخمي المعروف بالراسي.
(4) انظر الصلة: 523 وغاية النهاية 2: 153.(2/141)
رحمه الله تعالى.
89 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح الأنصاري، المالقي. قال السلفي: هو شاب من أهل الأدب له خاطر سمح كان يحضر عندي بالإسكندرية، كثير السماع للحديث، وذكر أنّه قرأ الأدب على أبي الحسين ابن الطّراوة النحوي (1) بالأندلس، وعلى نظرائه، وأنشدني لنفسه:
كم ذا تقلقلين النوى وتسوقني ... وإلى متى أشجى بها وأسام
ألفت ركائبي الفلا فكأنّما ... للبين عهدٌ بيننا وذمام
يا ويح قلبي من فراق أحبّةٍ ... أبداً بصدّعه به الأيّام 90 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني، المعافري الأندلسي المالكي (2) رحل إلى المشرق فسمع بالشام خيثمة بن سليمان، وبمكّة أبا سعيد ابن الأعرابي، وببغداد إسماعيل بن محمد الصفّار، وسمع بالمغرب بكر ابن حماد التّاهرتي ومحمد بن وضاح وقاسم بن أصبغ، وبمصر جماعة من أصحاب يونس والمزني. روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال: اجتمعنا به بهمذان، مات ببخارى سنة 383، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وسبعين. وقال فيه أبو سعيد الإدريسي: إنّه كان من أفاضل الناس، ومن ثقاتهم. وقال غنجار: إنّه كان فقيهاً حافظاً، جمع تاريخاً لأهل الأندلس. وقال السمعاني فيه: كان فقيهاً حافظاً، رحل في طلب العلم إلى المشرق والمغرب، رحمه الله تعالى.
91 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الخزرجي
__________
(1) هو سليمان بن محمد بن الطراوة المالقي النحوي (ترجمته في تحفة القادم: 11 والمغرب 2: 208 وبغية الوعاة: 262 وبغية الملتمس: 290) .
(2) ترجمة محمد بن صالح المعافري في ابن الفرضي 2: 91 والتكملة: 372.(2/142)
الدّاني النحوي (1) ، أخو أبي العابس ابن عيسى، سمع بدانية من أبي داود المقرئ وغيره، وقدم دمشق سنة 554 حين خرج حاجّاً، واقرأ بدمشق النحو مدّة، ثم خرج إلى بغداد، وأقام بها إلى أن مات سنة 619، وولد سنة 512، وقدم مصر سنة 572، وله من المصنّفات كتاب تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب ومن كلامه: ليست هيبة الشيخ لشيبه ولا لسنّه ولا لشخصه، ولكن لكمال عقله، والعقل هو المهاب، ولو رأيت شخصاً جمع جميع الخصال وعدم العقل لما هبته، وقال: من جهل شيئاً عابه، ومن قصّر عن شيء هابه.
92 - ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير، وهو محمد بن سعيد بن بشير ابن شراحيل، المعافري (2) ، وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي، ولمّا أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطّة القضاء بقرطبة وجّه إليه بباجة، فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه، ونزل على صديق له من العبّاد (3) ، فتحدث في شأن استدعائه، وقدّم أنّه يصرّف في الكتابة، فقال له العابد (4) : ما أراه بعث فيك إلاّ للقضاء، فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاضٍ، فقال ابن بشير: فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع، فقال: أسألك عن أشياء ثلاثة، وأعزم عليك أن تصدقني فيها، ثم أشير بعد ذلك عليك، فقال: ما هي فقال: كيف حبّك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره فقال: والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به
__________
(1) ترجمته في بغية الوعاة: 49 نقلا عن ابن عساكر وابن النجار؛ وفي الوافي 3: 168.
(2) ترجمته في قضاة قرطبة للخشني: 47 والمرقبة العليا: 47 - 53 والذيل والتكملة 6: الورقة 77 (مخطوطة باريس) وفيه تفصيل للخلاف في اسمه ونسبه. والتكملة: 355 وأغفله ابن الفرضي فلم يترجم له.
(3) الخشني: فلما صار بسهلة المدور مال إلى صديق له كان بها من العباد فنزل عليه.
(4) سقط من ق ما بين لفظتي " العباد " و " العابد " سهوا.(2/143)
رحلي، فقال: هذه واحدة، فكيف حبّك للتمتّع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات فقال: هذه حال والله ما استشرفت قط إليها، ولا خطرت ببالي، ولا اكترثت لفقدها، فقال: وهذه ثانية، فكيف حبّك لمدح الناس لك وثنائهم عليك وكيف حبّك للولاية وكراهيتك للعزل فقال: والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمّني، وما أسرّ للولاية ولا أستوحش للعزل، فقال: وهذه الثالثة، اقبل الولاية فلا بأس عليك، فقدم قرطبة، فولاّه الأمير الحكم القضاء والصلاة.
قال ابن وضاح (1) : أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلاً على باب المسجد الجامع يوم الجمعة، وعليه رداء معصفر، وفي رجله نعل صرّارة، وله جمّة مفرقة، ثم يقوم فيخطب ويصلّي وهو في هذا الزي، وبه كان يجلس للقضاء بين الناس، فإن رام أحدمن دينه شيئاً وجده أبعد من الثريا.
وأتاه رجل لا يعرفه، فلمّا رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه، توقّف وقال: دلوني على القاضي، فقيل له: ها هو، وأشير إليه، فقال: إنّي رجل غريب، وأراكم تستهزئون بي، أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامرٍ، فصحّحوا له أنّه القاضي، فتقدم إليه واعتذر، فأدناه وتحدث معه، فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنّه، فكان يحدث بقصّته معه.
وعوتب في إرسال لمّته ولبسه الخز والمعصفر، فقال: حدّثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر - وكان سيّد القرّاء - كانت له لمّةٌ، وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد - يعني المدينة - كان يلبس المعصفر، وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخزّ.
__________
(1) الخشني: 52.(2/144)
ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال: هي لباس الناس في المشرق، وعليه كان أمرهم في القديم، فقيل له: لو لبستها لاتّبعك الناس في لباسها، فقال: قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه، وكان ابن بشير أهلاً أن يقتدى به، فلعلّي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير.
وكان أول (1) ما نظر فيه محمد بن بشير - حين ولي القضاء - التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدّعي، وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع، فسجّل فيها، وأشهد على نفسه، فما مضت مديدة حتى ابتاعها الحكم ابتياعاً صحيحاً، فسرّ بذلك، وقال: رحم الله محمد بن بشير، فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منّا، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا، وصار حلالاً طيب الملك (2) في أعقابنا، وحكم على ابن فطيس الوزير، ولم يعرّفه بالشهود، فرفع الوزير ذلك إلى الحكم، وتظلم من ابن بشير، فأومأ الحكم إليه أن الوزير ذكر حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرّفه بهم، ولا أعذرت إليه فيهم، وإن أهل العلم يقولون: إن ذلك له، فكتب إليه ابن بشير: ليس ابن فطيس ممّن يعرّف بمن شهد عليه، لأنّه إن لم يجد سبيلاً إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم، فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم، وتضيع أموال الناس.
وأكثر موسى بن سماعة أحد خواصّ الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية، وأنّه يجور عليه، فقال له الحكم: أنا أمتحن قولك الساعة، فاخرج إليه فوراً، واستأذن عليه، فإن أذن لك عزلته، وصدّقت قولك فيه، وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه، فليس هو عندي بجائر (3) على حال، وإنّما
__________
(1) الخشني: 49.
(2) في ق ودوزي: المسلك، وفي الخشني: " وطاب لنا ملكه ".
(3) ق ودوزي: بجائز.(2/145)
مقصده الحق في كل ما يتصرّف فيه، فخرج يؤم دار ابن بشير، وقد أمر الحكم من يثق به من الفتيان الصّقالبة أن يقفوا أثره ويعلموا ما يكون منه، فلم يكن إلاّ ريثما بلغ، ثمّ انصرف فحكى للحكم أنّه لمّا خرج الآذن إلى موسى وعلم القاضي بمكانه عاد إليه فقال له: إن كانت لك حاجة فاقصد فيها إذا جلس القاضي مجلس القضاء، فتبسّم الحكم، وقال: قد أعلمته أن ابن بشير صاحب حقّ لا هوادة فيه عنده لأحد.
وولي القضاء مرتين، فلمّا عزل المرّة الأولى انصرف إلى بلده، وكان بعض إخوانه يعاتبه في صلابته، ويقول له: أخشى عليك العزل، فيقول له: ليته قدّر، إن الشقراء - يعني بغلته - تقطع الطريق بي حاثة نحو باجة. فما مضى إلا يسير حتى عتب عليه الأمير في قصّة اشتدّ فيها على بعض خاصّته، فكانت سبباً لعزله، وانصرف كما تمنى، فلم يمكث إلى يسيراً حتى أتى فيه رقّاص من قبل الأمير الحكم، - والرّقاص عند المغاربة: هو الساعي عند المشارقة - فعاد إلى قرطبة، وجبره على القعود للقضاء الأمير الحكم، فلاذ منه باليمين بطلاق زوجته وبصدقة ما يملك في سبيل الله تعالى، إن حكم بين اثنين، فلم يعذره، وأخرجه من ماله، وعوّضه من طيب ما عنده، وهب له جارية من جواريه، فعاد إلى القضاء ثانية.
وممّا يحكى عنه في العدل أن سعيد الخير ابن السلطان عبد الرحمن الداخل وكّل عند ابن بشير وكيلاً يخاصم عنه لشيء اضطر إليه، وكانت بيده فيه وثيقة فيها شهادات شهود قد ماتوا، ولم يكن فيها من الأحياء إلاّ الأمير الحكم وشاهد آخر مبرز، فشهد لسعيد الخير ذلك الشاهد، وضربت على وكيله الآجال في شاهد ثانٍ، وجدّ به الخصام، فدخل سعيد الخير بالكتاب إلى الحكم وأراه (1) . شهادته في الوثيقة، وقد كان كتبها قبل الخلافة في حياة أبيه، وعرّفه مكان
__________
(1) ق ط ج ودوزي: وأراد.(2/146)
حاجته إلى أدائها عند قاضيه خوفاً من بطلان حقّه، وكان الحكم يعظم سعيد الخير عمّه، ويلتزم مبرته، فقال له: يا عمّ، إنّا لسنا من أهل الشهادات، وقد التبسنا من هذه الدنيا بما لا تجهله، ونخشى أن توقفنا مع القاضي موقف مخزاة كنّا نفديه بملكنا، فصر في خصامك حيث صيرك الحق إليه، وعلينا خلف ما انتقصك، فأبى عليه، وقال: سبحان الله، وما عسى أني قول قاضيك في شهادتك وأنت ولّيته، وهو حسنة من حسناتك، وقد لزمتك في الديانة أن تشهد لي بما علمته، ولا تكتمني ما أخذ الله عليك؛ فقال: بلى، إن ذلك لمن حقّك كما تقول، ولكنّك تدخل علينا به داخلة، فإن أعفيتنا منه فهو أحبّ إلينا، وإن اضطررتنا لم يمكنّا عقوقك، فعزم عليه عزم من لم يشكّ أن قد ظفر بحاجته، وضايقته الآجال، فألح عليه، فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه، وخط شهادته بيده في قرطاس، وختم بخاتمه (1) ، ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما: هذه شهادتي بخطّي تحت ختمي، فأدّياها إلى القاضي، فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسّماع من الشهود، فادّياها إليه، فقال لهما: قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى، وجاء وكيل سعيد الخير، وتقدّم إليه مدلاًّ واثقاً، وقال له: أيّها القاضي، قد شهد عندك الأمير أصلحه الله تعالى فماذا تقول فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه، ثم قال للوكيل: هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل، فدهش الوكيل ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه، فركب من فوره إلى الحكم، وقال: ذهب سلطاننا، وأزيل بهاؤنا، يجترئ هذا القاضي على ردّ شهادتك، والله سبحانه قد استخلفك على عباده، وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم وإليك هذا ما لا يجب أن تحمل عليه، وجعل يغريه بالقاضي ويحرّضه على الإيقاع به، فقال له الحكم: وهو شككت أنا في هذا يا عمّ القاضي رجلٌ صالح والله،
__________
(1) إلى فقيهين ... بخاتمه: سقط هذا من ق.(2/147)
لا تأخذه في الله لومة لائم، فعل ما يجب عليه ويلزمه، وسدّ دونه باباً كان يصعب عليه الدخول منه، فأحسن الله تعالى جزاءه؛ فغضب سعيد الخير، وقال: هذا حسبي منك، فقال له: نعم، قد قضيت الذي كان لك علي، ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه، ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله.
ولمّا عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه: يا عاجز، أما تعلم أنّه لا بد من الإعذار في الشهادات، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقّه.
وتوفّي القاضي محمد بن بشير سنة 198 قبل الشافعيّ بست سنين كما يأتي قريباً، ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة، وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك، فليراجعها من أرادها، فإن عهدي بها في المغرب (1) .
وقال بعض من عرف به، ما نصّه (2) : القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري، أصله من جند باجة من عرب مصر، ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب بقضاء الجماعة، بقرطبة، بعد المصعب بن عمران، ثم صرفه وولى مكانه الفرج بن كنانة. وعن ابن حارث، قال أحمد ابن خالد: طلب محمد بن بشير العلم بقرطبة عند شيوخ أهلها حتى أخذ منه بحظ وافر، ثم كتب لأحد أولاد عبد الملك بن عمر المرواني (3) لمظلمة نالته على وجه الاعتصام به وتصرف معه تصرفاً لطيفاً، ثم انقبض عنه، وخرج حاجّاً، قال ابن الحارث: وكتب محمد بن بشير في حداثته للقاضي مصعب بن عمران، ثم انصرف حاجّاً فلقي مالك بن أنس وجالسه وسمع منه، وطلب العلم أيضاً بمصر، ثم انصرف فلزم ضيعته في باجة.
__________
(1) دوزي: فإن عهدي بها لمغرب، واستدركها فليشر في تصويباته؛ وفي ج ط ق: فإن عهدي بها المغرب.
(2) راجع التكملة: 355.
(3) في ق ط ج: عبد الملك بن مروان المرواني، والتصويب عن الخشبي.(2/148)
وقال ابن حيّان: إنّه استقدم من باجة للقضاء برأي العباس بن عبد الملك.
وقال ابن شعبان في الرواة (1) عن مالك من أهل الأندلس: محمد بن بشير بن سرافيل، ويقال شراحيل، ولي القضاء، وكان رجلاً صالحاً، وبعدله تضرب الأمثال، واستوطن قرطبة، وتوفّي بها سنة ثمان وتسعين ومائة، انتهى، وبعضه عن غيره.
ومن شعره قوله:
إنّما أزرى بقدري أنّني ... لست من بابة (2) أهل البلد
ليس منهم غير ذي مقليةٍ ... لذوي الألباب أو ذي حسد
يتحامون لقائي مثلما ... يتحامون لقاء الأسد
مطلعي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد
لو رأوني وسط بحرٍ لم يكن ... أحدٌ يأخذ منهم بيدي 93 - ومنهم محمد بن عيسى بن دينار الغافقي (3) ، من أهل قرطبة، كان فقيهاً زاهداً، وحج وحضر افتتاح إقريطش، واستوطنها، قاله الرازي.
94 - ومنهم محمد بن يحيى بن يحيى الليثي (4) ، خرج حاجّاً، ولقي سحنون بن سعيد بإفريقية، ولقي بمصر رجالاً من أصحاب مالك فسمع منهم، وعرف بالفقه والزهد، وجاور بمكّة، وتوفي هنالك.
95 - ومنهم محمد بن مروان بن خطاب، المعروف بابن أبي جمرة (5) ،
__________
(1) ق دوزي: في الرواية.
(2) دوزي: لست من باجة، وصوبه فليشر.
(3) ترجمته في التكملة: 356.
(4) ترجمته في التكملة: 356.
(5) ترجمته في التكملة: 356 وانظر ترجمة " عمير بن عبد الرحمن بن مروان " في ابن الفرضي 1: 371.(2/149)
رحل حاجّا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدوّنة بالقيروان، وأدركوا أصبغ بن الفرج، وأخذوا عنه.
96 - ومنهم محمد بن أبي علاقة البواب (1) ، من أهل قرطبة، كانت له رحلة إلى المشرق، ولقي فيها جماعة من أهل العلم، وأخذ عن أبي إسحاق الأخفش، وأبي عبد الله نفطويه، وغيرهم، وسمع من الأخفش الكامل للمبرّد، وقال الحكم المستنصر: لم يصح كتاب " الكامل " عندنا من رواية إلاّ من قبل ابن [أبي] علاقة، وكان ابن جابر الإشبيلي قد رواه قبل بمصر بمدة، وما علمت أحداً رواه غيرهما، وكان ابن الأحمر القرشي (2) يذكر أنّه رواه، وكان صدوقاً، ولكن كتابه ضاع، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين.
97 - ومنهم محمد بن حزم بن بكر التّنوخي (3) ، من أهل طليطلة، وسكن قرطبة، يعرف بابن الديني، سمع من أحمد بن خالد وغيره (4) ، وصحب محمد بن مسرة الجبلي قديماً، واختص بمرافقته في طريق الحج، ولازمه بعد انصرافه، وكان من أهل الورع والانقباض، وحكى عن ابن مسرّة أنّه كان في سكناه المدينة يتتبع آثار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: ودلّه بعض أهل المدينة على دار ماريّة أم إبراهيم سرّيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقصد إليها فإذا دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد قد شق في وسطها بحائط، وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقىإلى ذلك الفرش
__________
(1) ترجمته في التكملة: 362.
(2) كذا في الأصول، ولعلها: الفريشي.
(3) ترجمته في التكملة: 365.
(4) بن بكر.... وغيره: سقط من ق.(2/150)
على خارج لطيف، وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصيف، قال: فرأيت أبا عبد الله بعدما صلّى في البيتين والسقيفة وفي كل ناحية من نواحي تلك الدار ضرب أحد البيتين بشبره، فكشفته بعد انصرافي وهو ساكن في الجبل عن ذلك، فقال: هذا البيت الذي تراني فيه بنيته على تلك (1) الحالة في العرض والطول بلا زيادة ولا نقصان، انتهى.
98 - ومنهم محمد بن يحيى بن مالك بن يحيى ين عائذ (2) ، ولد أبي زكريا الراوية، من أهل طرطوشة، يكنى أبا بكر، تأدّب بقرطبة، وسمع بها من قاسم بن أصبغ ومحمد بن معاوية القرشي وأحمد بن سعيد ومنذر بن سعيد وأبي علي القالي وغيرهم، وكان حافظاً للنحو واللّغة والشعر، يفوت من جاراه على حداثة سنّه، شاعراً مجيداً مرسلاً بليغاً، ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فسمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وحمزة الكناني هنالك، وجمع كتباً عظيمة، وأقام بها إلى أن توفّي بأصبهان معتبطاً مع الستين وثلاثمائة، ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ذكره ابن حيّان، رحمه الله تعالى.
99 - ومنهم محمد بن عبدون الجبلي العددي (3) من أهل قرطبة، أدّب بالحساب والهندسة، ورحل في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فدخل مصر والبصرة، وعني بعلم الطب فمهر فيه، ودبّر في مارستان الفسطاط، ثم رجع
__________
(1) ق ج ط: الحكاية.
(2) ترجمته في التكملة: 367؛ وفي ق ط ودوزي: " عاين " بدل " عائذ ".
(3) انظر ترجمة محمد بن عبدون الجبلي في التكملة: 367 وطبقات ابن جلجل: 115 والذيل والتكملة 6: 172 (نسخة باريس) . وابن أبي أصيبعة 2: 46 وطبقات صاعد: 81 والوافي 3: 207.(2/151)
إلى الأندلس في سنة ستين وثلاثمائة، فاتصل بالمستنصر بالله وابنه المؤيد بالله، وله في التكسير تأليف حسن، رحمه الله تعالى.
100 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأزدي، الفراء القرطبي (1) ، صحب أبا بكر ابن يحيى بن مجاهد، واختص به، ولطف محلّه منه، وقرأ عليه القرآن، ورحل صحبته لأداء فريضة الحجّ، وكان رجلاً صالحاً كثير التلاوة للقرآن والخشوع، إذا قرأ بكى ورتّل وبيّن في مهل، ويقول: أبو بكر علّمني هذه القراءة، وحكي أنّه سرد الصوم اثنتي عشرة سنة قبل موت ابن مجاهد مفطراً كلّ ليلة وقت الإفطار، ثم تمادى على ذلك بعد موته مفطراً عقب العشاء الآخرة لالتزامه الصلاة من المغرب إليها، تزيّداً من الخير، واجتهاداً في العمل.
101 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح المعافري، الأندلسي (2) ، رحل إلى المشرق فسمع خيثمة بن سليمان وأبا سعيد ابن الأعرابي وإسماعيل ابن محمد الصفار وبكر بن حمّاد التاهرتي وغيرهم، روى عنهم أبو عبد الله الحكم وقال: اجتمعنا بهمذان سنة إحدى وأربعين، يعني وثلاثمائة، فتوجّه منها إلى أصبهان، وكان قد سمع في بلاده وبمصر من أصحاب يونس، وبالحجاز وبالشام وبالجزيرة من أصحاب علي بن حرب، وببغداد، وورد نيسابور في ذي الحجّة سنة إحدى وأربعين فسمع الكثير، ثم خرج إلى مرو ومنها إلى بخارى فتوفّي بها في رجب من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وروى عنه أيضاً أبو القاسم ابن حبيبي النيسابوري وغيرهما، ذكره ابن عساكر، وأسند إليه قوله:
ودّعت قلبي ساعة التوديع ... وأطعت قلبي وهو غير مطيعي
إن لم أشيّعهم فقد شيّعتهم ... بمشيّعين تنفّسي ودموعي
__________
(1) ترجمته في التكملة: 369 والذيل والتكملة 6: 147 (نسخة باريس) .
(2) هذه الترجمة مكررة. أنظر الترجمة رقم: 90 في ما تقدم.(2/152)
وذكره ابن الفرضي وقال: إنّه استوطن بخارى، وجعل وفاته بها سنة ثمان وسبعين، والأول قول الحاكم، وهو أصح.
102 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، السّرقسطي (1) ، روى عن الباجي وابن عبد البر، ورحل حاجّاً فقدم دمشق وحدّث بها عن شيوخه الأندلسيين، وعن أبي حفص عمر بن أبي القاسم ابن أبي زيد القفصيّ، وذكره ابن عساكر، وقال: سمع عنه أبو محمد الأكفاني، وحكى عنه تدليساً ضعّفه به، وتوفّي سنة 477.
103 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء، الأنصاري (2) ، من بلاد الثغر الشرقي (3) ، أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح، ورحل حاجّاً، فقدم دمشق، وأقرأ بها القرآن بالسبع، وأخذ عنه جماعة من أهلها، وكان شيخاً فاضلاً حافظاً للحكايات، قليل التكلّف في اللباس، ذكره ابن عساكر وقال: رأيته وسمعته ينشد قصيدة يوم خرج الناس للمصلّى للاستسقاء على المنبر، وأولها:
أستغفر الله من ذنبي وإن كبرا ... واستقلّ له شكري وإن كثرا ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وتوفّي يوم الأربعاء عند صلاة العصر، ودفن يوم الخميس لصلاة الظهر الثاني من ذي الحجّة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، ودفن في مقابر الصحابة بالقرب من قبر أبي الدّرداء، رضي الله تعالى عنه، قال: وشهدت أنا غسله والصلاة عليه
__________
(1) ترجمته في التكملة: 397 والذيل والتكملة 6: 19 (نسخة باريس) .
(2) ترجمته في التكملة: 413.
(3) من أهل بلغي في الثغر الشرقي.(2/153)
ودفنه؛ وذكره السلفي.
104 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى، الأنصاري، الخزرجي (1) ، من أهل دانية، سمع كتاب " التقصي " لابن عبد البر، ولقي أبا الحسن الحصري ثم خرج حاجّاً فقدم دمشق سنة أربع وخمسمائة، وأقام بها مدة يقرئ العربية، وكان شديد الوسوسة من الوضوء.
ذكره ابن عساكر وقال: أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال: أنشدنا ابن طاهر الأندلسي بدمشق قال: أنشدني الحصري لنفسه:
يموت من في الأنام طرّاً ... من طيّبٍ كان أو خبيث
فمستريحٌ ومستراحٌ ... منه، كما جاء في الحديث قال: وأنشدني الحصري لنفسه:
لو كان تحت الأرض أو فوق الذرى ... حرٌّ أتيح له (2) العدوّ ليوذى
فاحذر عدوّك وهو أهون هيّنٍ ... إنّ البعوضة أردت النمروذا 105 - ومنهم محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله، البزاز (3) ، من أهل سرقسطة، لقي بدانية الحصري، وسمع منه بعض منظومه، ورحل حاجّاً فأدّى الفريضة، ودخل العراق فسمع من جماعة وأجازوا له: منهم ابن خيرون، والحميدي، وأبو زكريا التبريزي، والمبارك بن عبد الجبار، وثابت بن بندار، وهبة الله بن الأكفاني، وغيرهم، ونزل الإسكندريّة، وحدّث بها وأخذ الناس عنه، وتوفّي هنالك، وأنشد للحصري:
__________
(1) ترجمته في التكملة: 419 والذيل والتكملة 6: 87 - 88 (نسخة باريس) .
(2) ق: لو كنت ... حراً أتيح له..؛ وهو مضطرب.
(3) ترجمته في التكملة: 433؛ وفي ق ودوزي: " البزار ".(2/154)
الناس كالأرض، ومنهم هم ... من خشن اللّمس ومن ليّن
صلدٌ تشكّى الرّجل منه الوجى ... وإثمدٌ يجعل في الأعين روى عنه ابن الحضرمي وابن جارة، وغيرهما.
106 - ومنهم أبو بكر محمد بن الحسين، الشهير بالميورقي (1) لأن أصله منها، وسكن غرناطة، وروى عن أبي علي الصّدفي، ورحل حاجّاً فسمع بمكّة من أبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي، وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم النهاوندي، في شوّال وذي القعدة من سنة 517، وبالإسكندريّة من أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن ابن مشرّف وأبي بكر الطّرطوشي وغرهم، وعاد إلى الأندلس بعد مدّى طويلة فحدّث في غير ما بلد لتجوّله، وكان فقيهاً ظاهريّاً، عارفاً بالحديث وأسماء الرجال، متقناً لما رواه، يغلب عليه الزهد والصلاح، روى عنه أبو عبد الله النميري الحافظ ويقول فيه: الأزدي تدليساً، لأن الأنصار من الأزد، وأبو بكر ابن رزق وأبو عبد الله ابن عبد الرحيم وابنه عبد المنعم وسواهم، وصار أخيراً إلى بجاية هارباً من صاحب المغرب (2) حينئذ بعد أن حمل إليه هو وأبو العباس ابن العريف وأبو الحكم ابن برّجان، وحدّث هنالك، وسمع منه في سنة 537، رحمه الله تعالى.
107 - ومنهم أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطّفيل العبدي الإشبيلي (3) ويعرف بابن عظيمة، أخذ القراءات عن أبي عبد الله السّرقسطي
__________
(1) ترجمته في التكملة: 440 والذيل والتكملة 6: 63 (نسخة باريس) وهو محمد بن الحسين بن أحمد بن يحيى بن بشر الأنصاري الخزرجي، وأسقط ابن الزبير " الحسين " من نسبه وقال في بشر " بشير " وكلاهما غلط، هذا ما حققه ابن عبد الملك وهو ينقل من خطه.
(2) يعني علي بن يوسف بن تاشفين؛ وقال ابن عبد الملك: إن علياً ضربه بالسوط وسجنه وقتاً ثم سرحه إلى الأندلس.
(3) ترجمته في التكملة؛ 445 والذيل والتكملة 6: 143 (نسخة باريس) .(2/155)
وروى عن أبي عبد الله الخولاني وأبي عبد الله ابن فرج وأبي علي الغساني وأبي داود المقرئ وأبي جعفر ابن عبد الحق وأبي الوليد ابن طريف، ورحل حاجّاً فروى بمكّة عن رزين بن معاوية، ثم بالإسكندريّة عن ابن الحضرمي أبي عبد الله محمد بن منصور وأبي الحسن ابن مشرّف الأنماطي، وبالمهدية عن المازريّ، وكانت رحلته مع أبي علي منصور بن الخير الأحدب للقاء أبي معشر الطبري، فبلغهما نعيه بمصر، فلمّا قفلا من حجّهما قعد منصور يقول: قرأت على أبي معشر، واقتصر أبو الحسن في تصدره للإقراء على التحديث عمّن لقي، فعرف مكانه من الصدق والعدالة، وولي الصلاة ببلده، وتقدّم في صناعته، واشتهر بها، وتلاه أهل بيته فيها، فأخذ عنهم الناس، وله أرجوزة في القراءات السبع، وأخرى في مخارج الحروف، وشرح قصيدة الشقراطسي، وله أيضاً كتاب " الفريدة الحمصية (1) في شرح القصيدة الحصريّة "، وإليه وإلى بنيه بعده كانت الرياسة في هذا الشأن، ومن جلّة الرواة عنه أبو بكر ابن خير، قرأ عليه " الشهاب " للقضاعي (2) ، وأجاز له جميع رواياته وتواليفه في رجب سنة 536، وتوفّي في حدود الأربعين وخمسمائة، وروى عنه أبو الضحاك الفزاري.
108 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن هشام بن جراح الخزرجي (3) ، من أهل جيّان، ويعرف بالبغدادي لطول سكناه إيّاها، روى عن أبي علي الغسّاني، وأبي محمد ابن عتاب، ورحل حاجّاً فلقي أبا الحسن الطبري المعروف بالكيّا، وأبا طالب الزينبي، وأبا بكر الشاشي،
__________
(1) سماها ابن خير " منح الفريدة الحمصية " - (الفهرسة: 74) .
(2) انظر فهرست ابن خير: 182.
(3) ترجمته في التكملة: 474 والذيل والتكملة 5: 582 صنف في مسائل الخلاف تعليقه المشهور في سبعة أسفار، ومن مصنفاته " أسرار الإيمان " في سفر؛ دروس الفقه بفاس ثم تحول إلى جيان فجلس فيها للوعظ والقصص وخرج من بلده في الفتنة وعاد إلى فاس فنزلها 544 وبقي يدرس فيها الفقه ومسائل الخلاف إلى أن توفي.(2/156)
وغيرهم. وكان فقيهاً مشاوراً، حدث عنه أبو عبد الله النميري، وأبو محمد ابن عبيد الله، وأبو عبد الله ابن حميد، وأبو القاسم عبد الرحيم بن الملجوم، وغير واحد، وتوفّي بفاس سنة 546.
109 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر، الأنصاري الجيّاني (1) ، ونزل حلب، يكنى أبا بكر، رحل إلى المشرق، وأدّى الفريضة وقدم دمشق قبل العشرين وخمسمائة، وسكن قنطرة سنان (2) منها، وكان يعلّم القرآن، ويتردّد إلى أبي عبد الله (3) نصر الله بن محمد يسمع الحديث منه، ثم رحل صحبة أبي القاسم ابن عساكر صاحب تاريخ الشام إلى بغداد سنة عشرين، وكان زميله، فسمع بها معه من هبة الله بن الحصين وغيره، ثم خرج إلى خراسان فسمع بها من حمزة الحسيني وأبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم الشّحّامي وغيرهم، وسمع ببلخ جماعة منهم أبو محمد الحسن بن علي الحسيني (4) وأبو النجم مصباح ابن محمد المسكي وغيرهما، وبلغ الموصل فأقام بهامدة يسمع منه ويؤخذ عنه، ثم انتهى إلى حلب فاستوطنها، وسلّمت إليه خزانة الكتب النورية، وأجريت عليه جراية، وكان فيه عسر في الرواية والإعارة معاً، ووقف كتبه على أصحاب الحديث، وله عوالٍ مخرّجة من حديثه ساوى [بها] بعض شيوخه البخاريّ ومسلماً وأبا داود والترمذي والنسائي، روى عنه أبو حفص الميانشي وأبو المنصور مظفر بن سوار اللخمي وأبو محمد عبد الله بن علي بن سويدة وابن أبي السنان وغيرهم.
ذكره ابن عساكر في تاريخه وقال: سمعت منه، ومات [بحلب] في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة على ما بلغني.
__________
(1) ترجمته في التكملة: 500.
(2) هكذا في ق ط ج، وجعل في دوزي " سنتين "؛ وصوبه فليشر.
(3) التكملة: أبي الفتح.
(4) التكملة: الحسني.(2/157)
وقال ابن نقطة: حدّث عن جماعة منهم أبو القاسم سهل بن إبراهيم النيسابوري وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الهمداني، حدّثنا عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي وأخوه أبو العباس أحمد، وحكي عن الحسن بن هبة الله بن صصرى أنّه توفّي بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة كما تقدم، وقد بلغ السبعين، قاله ابن الأبار.
110 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة (1) ، مرسيّ سكن شاطبة، ودار سلفه بلنسية، سمع أبا علي الصّدفي واختص به، وأكثر عنه، وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمّهات كتبه الصحاح، لصهر كان بينهما، وسمع أيضاً أبا محمد ابن أبي جعفر، ولازم حضور مجلسه للتفقّه به، وحمل ما كان يرويه، ورحل إلى غرب الأندلس فسمع أبا محمد ابن عتاب وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد ابن رشد، وأبا عبد الله الخولاني، وأبا عبد الله ابن الحاج، وأبا بكر العربي وغيرهم، وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني وأبو الوليد ابن طريف وأبو الحسن ابن عفيف وأبو القاسم وابن صواب وأبو محمد ابن السيّد وغيرهم، ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة، فلقي بالإسكندريّة أبا الحجّاج ابن نادر الميورقي، وصحبه وسمع منه، وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام، وأدّى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين، ولقي بمكّة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري إمام المالكيّة بها، وأبا محمد ابن صدقة المعروف بابن غزال من أصحاب كريمة المروزيّة فسمع منهم وأخذ عنهما، وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن أبي حامد الغزالي من تصانيفه، ثم انصرف إلى ديار مصر فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندريّة، ولقي أبا طاهر ابن عوف وأبا عبد الله ابن مسلم القرشي وأبا طاهر السّلفي وأبا
__________
(1) ترجمة ابن سعادة في التكملة: 505.(2/158)
زكريا الزناتي وغيرهم، فأخذ عنهم، وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطّرطوشي وأبو الحسن ابن مشرّف الأنماطي، ولقي في صدره بالمهديّة أبا عبد الله المازري فسمع منه بعض كتاب المعلم، وأجاز له باقيه، وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين.
وقد حصّل في رحلته علوماً جمة ورواية فسيحة، وكان عارفاً بالسنن والآثار، مشاركاً في علم القرآن وتفسيره، حافظاً للفروع، بصيراً باللّغة والغريب، ذا حظ من علم الكلام، مائلاً إلى التصوّف، مؤثراً له، أديباً بليغاً خطيباً فصيحاً، ينشئ الخطب مع الهدي والسّمت والوقار والحلم، جميل الشارة، محافظاً على التلاوة، [بادي] الخشوع (1) ، راتباً على الصوم، وولي خطّة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها، وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه، ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمين، ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطناً، وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية، ويقيم الخطب أيّام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقباً عليها، وقد حدّث بالمريّة وهناك أبو الحسن ابن موهب وأبو محمد الرّشاطي وغيرهما، وسمع منه أبو الحسن ابن هذيل جامع الترمذي، وألّف كتابه شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم ولم يسبق إلى مثله، وليس له غيره، وجمع فهرسة حافلة.
ووصفه غير واحد بالتّفنّن في العلوم والمعارف، والرسوخ في الفقه وأصوله، والمشاركة في علم الحديث والأدب.
وقال ابن عياد في حقّه: إنّه كان صليباً في الأحكام، مقتفياً للعدل، حسن الخلق والخلق، جميل المعاملة، لين الجانب، فكه المجالسة، ثبتاً، حسن الخط، من أهل الإتقان والضبط. وحكي أنّه كانت عنده أصول حسان
__________
(1) ق ط ج ودوزي: على التلاوة بالخشوع.(2/159)
بخطّ عمّه، مع الصحيحين بخطّ الصّدفي في سفرين، قال: ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه.
وذكره أبو سفيان أيضاً وأبو عمر ابن عاتٍ، ورفعوا جميعاً بذكره.
وتوفّي بشاطبة مصروفاً عن قضائها آخر ذي الحجّة سنة خمس وستين وخمسمائة (1) ودفن أول يوم من سنة ست وستين وخمسمائة، بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر ابن عبد البر، ومولده في رمضان سنة 496.
111 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن وضاح، اللخمي (2) ، من أهل غرناطة، ونزل جزيرة شقر، يكنى أبا القاسم، وأخذ القراءة عن أبي الحسن ابن هذيل وسمع منه كثيراً ورحل حاجّاً فأدّى الفريضة، وأخذ القراءات بمكّة عن أبي علي ابن العرجاء في سنة ست وأربعين وخمسمائة وسنة سبع بعدها، وحجّ ثلاث حجّات، ودخل بغداد، وأقام في رحلته نحواً من تسعة أعوام، وقفل إلى الأندلس، فنزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية، وأقرأ بها القرآن نحواً من أربعين سنة لم يأخذ من أحد أجراً، ولا قبل هديّة، وولي الصلاة والخطبة بجامعها، وكان رجلاً صالحاً، زاهداً يشار إليه بإجابة الدعوة، معروفاً بالورع والانقباض، وتوفّي في صفر سنة 587.
112 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن، التّجيبي، نزيل تلمسان (3) ، من أهل لقنت عمل مرسية، وسكن أبوه أريولة، رحل إلى
__________
(1) هكذا هو تاريخ وفاته في التكملة وط ج؛ وعند ق ودوزي أنه توفي 555 ودفن أول يوم من سنة 556.
(2) ترجمة في التكملة: 544 والذيل والتكملة 6: 39 (نسخة باريس) .
(3) ترجمته في التكملة: 588 والذيل والتكملة 6: 139 (نسخة باريس) وقد أطنب ابن عبد الملك في ذكره شيوخه والآخذين عنه.(2/160)
المشرق فأدّى الفريضة، وأطال الإقامة هنالك، واستوسع في الرواية، وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين، من أعيانهم المشرقيين أبو طاهر السّلفي، صحبه واختص به وأكثر عنه، وحكى أنّه لمّا ودّعه في قفوله إلى المغرب سأله عمّا كتب عنه، فأخبره أنّه كتب كثيراً من الأسفار ومئين من الأجزاء، فسرّ بذلك، وقال له: تكون محدّث المغرب إن شاء الله تعالى، قد حصّلت خيراً كثيراً، قال: ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه، وقد جمع في أسماء شيوخه على حروف المعجم تأليفاً مفيداً أكثر فيه من الآثار والحكايات والأخبار، وقفل من رحلته، وله أربعون حديثاً من المواعظ، وأخرى في الفقر وفضله، وثالثة في الحب في الله تعالى، رابعة في فضل الصلاة على النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، ومسلسلاته في جزء، وكتاب فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان وكتاب فضل عشر ذي الحجّة وكتاب مناقب السبطين وكتاب الفوائد الكبرى مجلد، والفوائد الصغرى جزء، وكتاب الترغيب في الجهاد خمسون باباً في مجلّد، وكتاب المواعظ والرقائق أربعون مجلساً، سفران، وكتاب مشيخة السّلفي وغير ذلك.
ومولده بلقنت (1) الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة، وتوفّي سنة عشر وستمائة، رحمه الله تعالى.
113 - ومنهم الشيخ الأكبر، ذو المحاسن التي تبهر، سيّدي محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، الحاتمي (2) ، من ولد
__________
(1) ق ط: بالقنت.
(2) ترجمة ابن عربي الصوفي في التكملة: 652 والذيل والتكملة 6: 202 (نسخة باريس) وعنوان الدراية: 97 والوافي 4: 173 - 178 والفوات 2: 478 وشذرات الذهب 5: 190 - 202 والنجوم الزاهرة 6: 339 ومرآة الزمان: 736. وراجع طبقات المناوي ولسان الميزان، وفي كتبه معلومات كثيرة عنه، وقد كتب الأستاذ آسين بلأثيوس دراسة لحياته مؤلفاً بين الأخبار التي وردت فيها (ترجم الدكتور عبد الرحمن بدوي هذا الكتاب، القاهرة 1965) وللأستاذ أبو العلا عفيفي دراسات عنه. (وراجع بروكلمان 1: 571) .(2/161)
عبد الله بن حاتم أخي عديّ بن حاتم، الصوفي الفقيه المشهور الظاهري، ولد بمرسية يوم الاثنين سابع عشر رمضان سنة 560، قرأ القرآن على أبي بكر ابن خلف بإشبيلية بالسبع وبكتاب الكافي، وحدّثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرّعيني عن أبيه، وقرأ أيضاً السبع بالكتاب المذكور على أبي القاسم الشّرّاط القرطبي، وحدّثه به عن ابن المؤلف، وسمع على أبي بكر محمد بن أبي جمرة كتاب التيسير للدّاني عن أبيه عن المؤلف، وسمع على ابن زرقون وأبي محمد عبد الحق الإشبيلي الأزدي وغير واحد من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم.
وكان انتقاله من مرسية لإشبيلية سنة 568، فأقام بها إلى سنة 598، ثم ارتحل إلى المشرق، وأجازه جماعة منهم الحافظ السّلفي وابن عساكر وأبو الفرج ابن الجوزي، ودخل مصر، وأقام بالحجاز مدّة، ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم، ومات بدمشق سنة 638 (1) ، ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر، ودفن بسفح قاسيون، وأنشدني لنفسه مؤرخاً وفاته الشيخ محمد ابن سعد الكلشني سنة 1037 (2) ، حفظه الله تعالى:
إنّما الحاتميّ في الكون فردٌ ... وهو غوثٌ وسيّدٌ وإمام
كم علومٍ أتى بها من غيوبٍ ... من بحار التوحيد يا مستهام
إن سألتم متى توفّي حميداً ... قلت أرخت: مات قطبٌ همام وقال ابن الأبار: هو من أهر المريّة، وقال ابن النجار: أقام بإشبيلية
__________
(1) في ق: 637، وكذلك قال ابن عبد الملك في الذيل والتكملة.
(2) في نسخة: 1038.(2/162)
إلى سنة 598، ثم دخل بلاد المشرق، وقال ابن الأبار: إنّه أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة، ثم رحل إلى المشرق حاجّاً، ولم يعد بعدها إلى الأندلس. وقال المنذري: ذكر أنّه سمع بقرطبة من أبي القاسم ابن بشكوال وجماعة سواه، وطاف البلاد، وسكن بلاد الروم مدّة، وجمع مجاميع في الطريقة، وقال ابن الأبار: إنّه لقيه جماعة من العلماء والمتعبدين، وأخذوا عنه، وقال غيره: إنّه قدم بغداد سنة 608، وكان يومأ إليه بالفضل والمعرفة، والغالب عليه طرق أهل الحقيقة، وله قدم في الرياضة والمجاهدة وكلام على لسان أهل التصوّف، ووصفه غير واحد بالتقدّم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز، وله أصحاب وأتباع.
ومن تآليفه مجموع ضمّنه منامات رأى فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما سمع منه ومنامات قد حدّث بها عمّن رآه صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن النجار: وكان قد صحب الصوفية، وأرباب القلوب، وسلك طريق الفقر، وحجّ وجاور، وكتب في علم القوم، وفي أخبار مشايخ المغرب وزهّادها، وله أشعار حسنة وكلام مليح؛ اجتمعت به (1) في دمشق في رحلتي سنة 601، فأقام بها اثني عشر يوماً، ثم دخلها ثانياً حاجّاً مع الركب سنة 608، وأنشدني لنفسه:
أيا حائراً (2) ما بين علم وشهوة ... ليتّصلا، ما بين ضدّين من وصل
ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن ... يرى الفضل للمسك الفتيق على الزّبل وسألته عن مولده فقال: ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 بمرسية من بلاد الأندلس، انتهى.
__________
(1) انظر هذا النص في الوافي 4: 178 نقلاً عن ابن النجار.
(2) الوافي: أنا حائر.(2/163)
وقال ابن مسدي: إنّه كان جميل الجملة والتفصيل، محصّلاً لفنون العلم أخصّ تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق، والتقدم الذي لا يسبق، سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ ابن الجد وأبي الوليد الحضرمي وبسبتة من أبي محمد ابن عبد الله، وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه، وأبو جعفر ابن مصلّي، وذكر أنّه لقي عبد الحق الإشبيلي، وفي ذلك عندي نظر، انتهى.
قلت: لا نظر في ذلك، فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب ما معناه أو نصّه: ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي، رحمه الله تعالى؛ حدّثني بجميع مصنّفاته في الحديث، وعين لي من أسمائها تلقين المهتدي، والأحكام الكبرى، والوسطى، والصغرى، وكتاب التهجد، وكتاب العاقبة، ونظمه ونثره، وحدّثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه، انتهى.
وقال: إن الحافظ السّلفي أجاز له، انتهى. قال بعض الحفّاظ: وأحسبها الإجازة العامة.
وكان ظاهريّ المذهب في العبادات، باطنيّ النظر في الاعتقادات، وكان دفنه يوم الجمعة بجبل قاسيون، واتفق أنّه لمّا أقام ببلاد الروم زكاه ذاتيوم الملك فقال: هذا تذلّ له الأسود (1) ، أو كلاماً هذا معناه، فسئل عن ذلك، فقال: خدمت بمكّة بعض الصلحاء، فقال لي يوماً: الله يذلّ لك أعزّ خلقه، وأمر له ملك الروم مرّة بدارٍ تساوي مائة ألف درهم، فلمّا نزلها وأقام بها مرّ به في بعض الأيّام سائل، فقال له: شيء لله، فقال: ما لي غير هذه الدار، خذها لك، فتسلّمها السائل وصارت له.
__________
(1) الوافي: هذا بدعوة الأسود؛ الفوات: تذعر له الأسود.(2/164)
وقال المذهبي في حقّه: إن له توسّعاً في الكلام، وذكاء، وقوّة خاطر، وحافظة، وتدقيقاً في التصوّف، وتواليف جمّة في العرفان، لولا شطحه في كلامه وشعره، ولعلّ ذلك وقع منه حال سكره وغيبته، فيرجى له الخير، انتهى.
وقال القطب اليونيني في ذيل مرآة الزمان: عن سيدي الشيخ محيي الدين - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - أنّه كان يقول: إنّي أعرف اسم الله الأعظم، وأعرف الكيمياء، انتهى.
وقال ابن شودكين عنه: إنّه كان يقول: ينبغي للعبد أن يستعمل همّته في الحضور في مناماته، بحيث يكون حاكماً على خياله يصرفه بعقله نوماً، كما كان يحكم عليه يقظة؛ فإذا حصل للعبد هذا الحضور وصار خلقاً له وجد ثمرة ذلك في البرزخ وانتفع به جدّاً، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر، فإنّه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى.
وقال: إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك.
وقال: ينبغي للسالك أنّه متى حضر له أنّه يعقد على أمرٍ ويعاهد الله تعالى عليه، أن يترك ذلك الأمر يجيء وقته، فإن يسّر الله تعالى فعله فعله، وإن لم ييسّر الله فعله، يكون مخلصاً من نكث العهد، ولا يكون متصفاً بنقض الميثاق.
ومن نظم الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى قوله:
بين التّذلّل والتّدلّل نقطةٌ ... فيها يتيه العالم النّحرير
هي نقطة الأكوان إن جاوزتها ... كنت الحكيم وعلمك الإكسير وقوله أيضاً رحمه الله:
يا درّة بيضاء لاهوتيّةً ... قد ركّبت صدفاً من الناسوت(2/165)
جهل البسيطة (1) قدره لشقائهم ... وتنافسوا في الدّرّ والياقوت وحكى العماد بن النحاس الأطروش (2) أنّه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف، وعنده الشيخ محيي الدين، والغيث والسحاب عليهم، ودمشق ليس عليها شيء، قال: فقالت للشيخ: أما ترى هذه الحال فقال: كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر، يعني أبا الحسن علي بن محمد القرطبي القبذاقي (3) ، وقد اتفق الحال مثل هذه، فقلت له مثل هذه المقالة، فأنشدني:
يطوف السحاب بمرّاكشٍ ... طواف الحجيج ببيت الحرم
يروم نزولاً فلا يستطيع ... لسفك الدماء وهتك الحرم وحكى المفريزي في ترجمة سيدي عمر بن الفارض - أفاض الله علينا من أنواره - أن الشيخ محيي الدين بن العربي تعث إلى سيدي عمر يستأذنه في شرح التائية، فقال: كتابك المسمّى بالفتوحات المكيّة شرحٌ لها، انتهى.
وقال بعض من عرّف به: إنّه لمّا صنّف الفتوحات المكيّة كان يكتب كلّ يوم ثلاث كراريس حيث كان، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة، فما ادّخر منها شيئاً، وقيل: إن صاحب حمص رتّب له كلّ يوم مائة درهم، وابن الزكي كلّ يوم ثلاثين درهماً، فكان يتصدّق بالجميع، واشتغل الناس بمصنّفاته، ولها ببلاد اليمن والروم صيت عظيم، وهو من عجائب الزمان، وكان يقول: أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب.
ومن نظمه:
__________
(1) دوزي: جهل البرية.
(2) ط: الأطرش.
(3) ق ط ج: القيداقي.(2/166)
حقيقتي همت بها ... وما رآها بصري
ولو رآها لغدا ... قتيل ذاك الحور
فعندما أبصرتها ... صرت بحكم النّظر
فبتّ مسحوراً بها ... أهيم حتى السحر
يا حذري من حذري ... لو كان يغني حذري
والله ما هيّمني ... جمال ذاك الخفر
في حسنها من ظبيةٍ ... ترعى بذات الخمر
إذا رنت أو عطفت ... تسبي عقول البشر
كأنّما أنفاسها ... أعراف مسكٍ عطر
كأنها شمس الضحى ... في النور أو كالقمر
إن أسفرت أبرزها ... نور صباحٍ مسفر
أو سدلت غيّبها ... سواد ذاك الشّعر
يا قمراً تحت دجىً ... خذي فؤادي وذري
عيني لكي أبصركم ... إذ كان حظّي نظري وقال الخويّي: قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه: رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة، فسألني: كيف حالك مع أهلك فقلت (1) :
إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئاً ... تبسمت ودنت مني تمازحني
وإن رأته خليّاً من دراهمه ... تجهّمت وانثنت عنّي تقابحني فقال لي: صدقت، كلّنا ذلك الرجل.
وذكر الإمام العالم بالله تعالى لسان الحقيقة، وشيخ الطريقة، صفي الدين
__________
(1) ديوان ابن عربي.(2/167)
حسين ابن الإمام العلامة جمال الدين أبي الحسن علي، ابن الإمام مفتي الأنام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه، في رسالته الفريدة المحتوية على من رأى من سادات مشايخ عصره، بعد كلام، ما صورته: ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية، وما وفّر (1) له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علماً وخلقاً وحالاً، لا يكترث بالوجود، مقبلاً كان أو معرضاً، وله علماء أتباع أرباب مواجيد، وتصانيف، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرّار إخاء ورفقة في السياحات، رضي الله تعالى عنهما، في الآصال والبكرات، ومن نظم سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله:
يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني قال رحمه الله تعالى: قال لي بعض إخواني لمّا سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك فقلت له مرتجلاً:
يا من يراني مجرماً ... ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعماً ... ولا يراني لائذا قلت: من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى مؤوّل، وأنّه لا يقصد ظاهره، وإنّما له محامل تليق به، وكفاك شاهداً هذه الجزئية الواحدة، فأحسن الظنّ به ولا تنتقد، بل اعتقد، وللنّاس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أسلم، والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم.
ومن النظم المنسوب لمحاسن الشيخ سيدي محيي الدين رضي الله تعالى عنه في ضابط ليلة القدر:
__________
(1) ق ط ج: وقر.(2/168)
وإنّا جميعاً إن نصم يوم جمعةٍ ... ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر
وإن كان يوم السبت أوّل صومنا ... فحادي وعشرين اعتمده بلا عسر
وإن كان صوم الشّهر في أحدٍ فخذ ... ففي سابع العشرين ما شئت فاستقري
ويوم الثلاثا إن بدا الشهر فاعتمد ... على خامس العشرين فاعمل بها تدري
وفي الأربعا إن هلّ يا من يرومها ... فدونك نيل الوجد في تاسع العشر
ويوم خميس إن بدا الشّعر فاجتهد ... ففي ثالث العشرين تظفر بالنّصر
وضابطها بالقول ليلة جمعةٍ ... توافيك بعد النّصف في ليلة الوتر قلت: لست على يقين من نسبة هذا النظم إلى الشيخ رحمه الله تعالى، فإن نفسه أعلى من هذه النظم، ولكنّي ذكرته لما فيه من الفائدة، ولأن بعض الناس نسبه إليه، فالله تعالى غير واحد قوله:
قلبي قطبي، وقالبي أجفاني ... سرّي خضري، وعينه عرفاني
روحي هرون وكليمي موسى ... نفسي فرعون والهوى هاماني وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما، فإنّه يبرأ بإذن الله تعالى، قال وهو من المجرّبات.
وقد تأول بعض العلماء قول الشيخ رحمه الله تعالى بإيمان فرعون أن مراده بفرعون النفس بدليل ما سبق، وحكى في ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممّن كان ينتصر للشيخ، رحمه الله تعالى.(2/169)
[سعد الدين ابن الشيخ محيي الدين]
ولد للشيخ محيي الدين - رحمه الله تعالى - ابنه محمدٌ المدعوّ سعد الدين (1) بملطية في رمضان سنة 618، ودرس، وقال الشعر الجيّد، وله ديوان شعر مشهور، وتوفّي بدمشق سنة 656 سنة دخل هولاكو بغداد وقتل الخليفة الستعصم، ودفن المذكور عند والده بسفح قاسيون، وكان قدم القاهرة، وسكن حلبا، ومن شعره (2) :
لمّا تبدّى عارضاه في نمط ... قيل ظلامٌ بضياء اختلط
وقيل سطر الحسن في خدّيه خطّ ... وقيل نملٌ فوق عاجٍ انبسط (3)
وقيل مسكٌ فوق وردٍ قد نقط ... وقال قوم: إنّها اللام فقط [حكاية عن ابن جزي]
قلت: تذكرت بهذا ما قاله الكاتب أبو عبد الله ابن جزيٍّ الأندلسي (4) كاتب سلطان المغرب أبي عنان حين تنازع الكتّاب أرباب الأقلام والرؤساء أصحاب السيوف في تشبيه العذار، وقالت كل فرقة: لا نشبهه إلاّ بما هو مناسب لصنعتنا، فلمّا فرغوا قال ابن جزي:
أتى أولو الكتب والسيف الأولى عزموا ... من بعد سلمي على حربي وإسلامي
__________
(1) انظر ترجمة سعد الدين بن عربي في فوات الوفيات 2: 325 والوافي 1: 186 وشذرات 5: 283.
(2) انظر الفوات: 326 والوافي: 188.
(3) الفوات والوافي: قد سقط.
(4) هو محمد بن أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي (721 - 757) غرناطي الأصل، كتب عن السلطان أبي الحجاج يوسف ثم ارتحل ولحق بجناب السلطان أبي عنان، وهو الذي كتب رحلة ابن بطوطة ورتبها (انظر ترجمته في الإحاطة 2: 186 والكتيبة الكامنة: 223 وأزهار الرياض 3: 189 ونثير فرائد الجمان، الورقة: 4 ونثير الجمان الورقة: 78) .(2/170)
بكلّ معنىً بديعٍ في العذار على ... ما تقتضي منهم أفكار أحلامي
فقال ذو الكتب: لا أرضى المحارب في ... تشبيهه لا وأنقاسي وأقلامي
وقال ذو الحرب: لا أرضى الكتائب في ... تشبيهه ومظلاّتي وأعلامي
فقلت: أجمع بين المذهبين معاً ... باللاّم، فاستحسنوا التّشبيه باللام وهذه الغاية التي لا تدرك مع البديهة ولزوم ما لا يلزم.
رجع - ومن نظم سعد الدين قوله (1) :
سهري من المحبوب أصبح مرسلاً ... وأراه متّصلاً بفيض مدامع
قال الحبيب: بأنّ ريقي نافعٌ ... فاسمع رواية مالكٍ عن نافع ومن نظمه أيضاً قوله:
وقالوا: قصيرٌ شعر من قد هويته ... فقلت: دعوني لا أرى منه مخلصا
محيّاه شمسٌ قد علت غصن قدّه ... فلا عجبٌ للظلّ أن يتقلّصا وقوله (2) :
وربّ قاضٍ لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ
إذا رمانا بسهم لحظٍ ... قلنا له دائم النّفوذ وقوله (3) :
لك والله منظرٌ ... قلّ فيه المشارك
إنّ يوماً تكون في ... هـ ليومٌ مبارك
__________
(1) انظر البيتين في الوافي: 188.
(2) البيتان في الفوات والوافي.
(3) هما في الفوات من مقطوعة في تسعة أبيات.(2/171)
ومن نظمه أيضاً ما كتب به إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي أفاض الله تعالى علينا من فتوحاته، قوله:
ما للنّوى رقّةٌ ترثي لمكتئب ... حرّان في قلبه والدمع في حلب
قد أصبحت حلبٌ ذات العماد بكم ... وجلّق إرمٌ هذا من العجب وتوفّي الشيخ عماد الدين بالصالحيّة سنة 667، ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكيّ، رحم الله تعالى الجميع.
وابن الزكيّ أيضاً محيي الدين.
ومن نظم سعد الدين المذكور في وسيم رآه بالزيادة في دمشق (1) :
يا خليليّ في الزيادة ظبيٌ ... سلبت مقلتاه جفني رقاده
كيف أرجو السّلوّ عنه وطرفي ... ناظرٌ حسن وجهه في الزياده وله:
علقت صوفيّاً كبدر الدّجى ... لكنّه في وصلي الزاهد
يشهد وجدي بغرامي له ... فديت صوفيّاً له شاهد وله أيضاً:
صبوت إلى حريريٍّ مليح ... تكرّر نحو منزله مسيري
أقول له: ألا ترثي لصبٍّ ... عديم للمساعد والنصير
أقام ببابكم خمسين شهراً ... فقال: كذا مقامات الحريري وله:
وغزال من اليهود أتاني ... زائراً من كنيسه أو كناسه
__________
(1) انظر الفوات والوافي.(2/172)
بتّ أجني الشقيق من وجنتيه ... وأشمّ العبير من أنفاسه
واعتنقنا إذ لم نخف من رقيب ... وأمنّا الوشاة من حرّاسه
من رآني يظنّني لنحولي ... واصفراري علامة فوق راسه وله:
لي حبيبٌ بالنّحو أصبح مغرى ... فهو منّي بما أعانيه أدرى
قلت: ماذا تقول حين تنادي ... يا حبيبي المضاف نحوك جهرا
قال لي: يا غلام، أو يا غلامي ... قلت: لبّيك ثم لبّيك عشرا وله أيضاً:
ساءلتني عن لفظةٍ لغويّةٍ ... فأجبت مبتدئاً بغير تفكّر
خاطبتني متبسّماً فرأيتها ... من نظم ثغرك في صحاح الجوهري وله:
وعلمت أنّ من الحديد فؤاده ... لمّا انتضى من مقلتيه مهنّدا
آنست من وجدي بجانب خدّه ... ناراً ولكن ما وجدت بها هدى [رجع إلى الشيخ محيي الدين]
وقال الشيخ محيي الدين - أفاض الله تعالى علينا من أنواره، وكسانا بعض حلل وأسراره - إنّه بلغني في مكّة عن امرأة من أهل بغداد أنّها تكلمت فيّ بأمور عظيمة، فقلت: هذه قد جعلها الله تعالى سبباً لخير وصل إليّ فلأكافئنّها، وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما اعتمرت في رجب لها، ففعلت ذلك، فلمّا كان الموسم استدل علي رجل غريب، فسأله الجماعة عن قصده، فقال: رأيت بالينبع في الليلة التي بتّ فيها كأن آلافاً من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر(2/173)
فعجبت من كثرته، ثم سألت: لمن هو فقيل: هو لمحمد بن عربي يهديه إلى فلانة؛ وسمى تلك المرأة ثم قال: وهذا بعض ما تستحق، قال سيدي ابن عربي: فلمّا سمعت الرؤيا واسم المرأة، ولم يكن أحد من خلق الله تعالى علم منّي ذلك، علمت أنّه تعريف من حانب الحق، وفهمت من قوله إن هذا بعض ما تستحق أنّها مكذوب عليها، فقصدت المرأة وقلت: اصدقيني، وذكرت لها ما كان من ذلك، فقالت: كنت قاعدة قبالة البيت، وأنت تطوف، فشكرك الجماعة الذين كنت فيهم، فقلت في نفسي: اللهم إنّي أشهدك أنّي قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس، وكنت أصومهما وأتصدّق فيهما، قال: فعلمت أن الذي وصل منّي إليها بعض ما تستحق فإنّها سبقت بالجميل، والفضل للمتقدّم.
ومن نظم الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى:
يا غاية السؤل والمأمول يا سندي ... شوقي إليك شديدٌ لا إلى أحد
ذبت اشتياقاً ووجداً في محبّتكم ... فآه من طول شوقي آه من كمدي
يدي وضعت على قلبي مخافة أن ... ينشقّ صدري لمّا خانني جلدي
ما زال يرفعها طوراً ويخفضها ... حتى وضعت يدي الأخرى تشدّ يدي وحكى سبط ابن الجوزي عن الشيخ محيي الدين أنّه كان يقول: إنّه يحفظ الاسم الأعظم، ويقول: إنّه يعرف السيميا بطريق التنزل، لا بطريق التكسب، انتهى والله تعالى أعلم، والتسليم أسلم.
ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله:
ما فاز بالتّوبة إلاّ الذي ... قد تاب قدماً والورى نوّم
فمن يتب أدرك مطلوبه ... من توبة الناس ولا يعلم وله، رحمه الله تعالى، من المحاسن ما لا يستوفى.(2/174)
وأنشدني لنفسه بدمشق صاحبنا الصوفي الشيخ محمد بن سعد الكلشني - حفظه الله تعالى - قوله شيخنا: الحاتمي ... (الأبيات) (1) ؛ وأنشدني لنفسه:
أمولاي محيي الدين أنت الذي بدت ... علومك في الآفاق كالغيث مذ همى
كشفت معاني كلّ علمٍ مكتّمٍ ... وأوضحت بالتحقيق ما كان مبهما وبالجملة فهو حجّة الله الظاهرة، وآيته الباهرة، ولا يلتفت إلى كلام من تكلّم فيه، ولله درّ السيوطي الحافظ فإنّه ألّف تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي ومقام هذا الشيخ معلوم، والتعريف به يستدعي طولاً، وهو أظهر من نار (2) على علم.
وكان بالمغرب يعرف باب العربي بالألف واللام، واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام، فرقاً بينه وبين القاضي أبي بكر ابن العربي.
وقال ابن خاتمة في كتابه مزية المريّة ما نصّه: محمد بن علي محمد الطائي الصوفي، من أهل إشبيلية، وأصله من مرسية، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن العربي وبالحاتمي أيضاً، أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة بالأندلس، ثم رحل إلى المشرق حاجّاً فأدّى الفريضة، ولم يعد بعدها إلى الأندلس، وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني ومن غيره، وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن ابن أبي نصر في شوّال سنة 606، وكان يحدّث بالإجازة العامّة عن أبي طاهر السّلفي، ويقول بها، وبرع في علم التصوّف، وله في ذلك تواليف كثيرة: منها " الجمع والتفصيل في حقائق التنزيل " و " الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة " وكتاب " كشف المعنى في تفسير الأسماء الحسنى " وكتاب المعارف الإلهيّة وكتاب " الإسرا
__________
(1) أثبت في الأصول الأبيات التي مرت ص: 162.
(2) ق ط ج ق: من نور، وصوبت في هامش ج.(2/175)
إلى المقام الأسرى " وكتاب " مواقع النجوم ومطالع أهلّة أسرار العلوم " وكتاب " عنقاء مغرب في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب " وكتاب " في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي "، والرسالة الملقّبة ب " مشاهد الأسرار القدسيّة ومطالع الأنوار الإلهيّة " في كتب أخر عديدة، وقدم على المريّة من مرسية مستهلّ شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وبها ألّف كتابه الموسوم ب " مواقع النجوم "، انتهى.
وفي الكتاب المسمى ب " الاغتباط بمعالجة ابن الخيّاط " تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزابادي الصديقي صاحب القاموس، قدّس الله تعالى روحه، الذي ألّفه بسبب سؤالٍ سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدّس الله تعالى سرّه العزيز في كتبه المنسوبة إليه، ما صورته:
ما تقول السادة العلماء شدّ الله تعالى بهم أزر الدين، ولمّبهم شعث المسلمين، في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص، هل تحلّ قراءتها وإقراؤها ومطالعتها وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا أفتونا مأجورين جواباً شافياً لتحوزوا جميل الثواب، من الله الكريم الوهّاب، والحمد لله وحده.
فأجابه بما صورته: الحمد لله، اللهم أنطقنا بما فيه رضاك، الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به، أنّه كان شيخ الطريقة حالاً وعلماً، وإمام الحقيقة حقيقة ورسماً، ومحيي رسوم المعارف فعلاً واسماً:
إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من بحره غرقت فيه خواطره وهو عباب لا تكدره الدّلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، وكانت(2/176)
دعواته تخترق السبع الطّباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق، وإنّي أصفه وهو يقيناً فوق ما وصفته، وناطق بما كتبته، وغالب ظني أنّي ما أنصفته:
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظنّ العدل عدوانا
والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجّةً للدين برهانا
بأنّ ما قلت بعضٌ من مناقبه ... ما زدت إلاّ لعلّي زدت نقصانا وأما كتبه ومصنّفاته فالبحار الزواخر، التي لجواهرها وكثرتها لا يعرف لها أل ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها، وإنّما خصّ الله سبحانه بمعرة قدره أهلها، ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها، وتأمّل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلات، وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصّه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية، ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها: وأجزته أيضاً أن يروي عني مصنّفاتي، ومن جملتها كذا وكذا، حتى عد نيّفاً وأربعمائة مصنف، منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى " وعلّمناه من لدنّا علماً " وتوفّي ولم يكمل، وهذا التفسير كتاب عظيم، كل سفر بحر لا ساحل له، ولا غرو فإنّه صاحب الولاية العظمة، والصديقية الكبرى، فيما نعتقد وندين الله تعالى به. وثم طائفة، في الغي حائفة، يعظمون عليه النكير، وربّما بلغ بهم الجهل إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها:
عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر هذا الذي نعلم ونعتقد، وندين الله تعالى به في حقه، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصورة استشهاده: كتبه محمد الصديقي الملتجئ إلى حرم الله تعالى(2/177)
عفا الله عنه.
وأما احتجاجه بقول شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام شيخ مشايخ الشافعية فغير صحيح، بل كذب وزور، فقد روينا عن شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي عن جماعة من المشايخ كلّهم عن خادم الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام أنّه قال: كنّا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، فجاء في باب الردة ذكر لفظة الزنديق، فقال بعضهم: هل هي عربية أو عجميّة فقال بعض الفضلاء: إنّما هي فارسيّة معرّبة، أصلها زن دين، أي على دين المرأة، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان، فقال بعضهم: مثل من فقال آخر إلى جانب الشيخ: مثل ابن عربي بدمشق، فلم ينطق الشيخ ولم يردّ عله، قال الخادم: وكنت صائماً ذلك اليوم، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه، فحضرت ووجدت منه إقبالاً ولطفاً، فقلت له: يا سيّدي، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا فقال: ما لك ولهذا كل، فعرفت أنّه يعرفه، فتركت الأكل وقلت له: لوجه الله تعالى عرّفني به، من هو فتبسّم، رحمه الله تعالى، وقال لي: الشيخ محيي الدين بن عربي، فأطرقت ساكتاً متحيراً، فقال: ما لك فقلت: يا سيّدي، قد حرت، قال: لم قلت: أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت فقال: آسكت، ذلك مجلس الفقهاء؛ هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام.
وأمّا قول غيره من أضراب الشيخ عز الدين فكثير، كان الشيخ كمال الدين الزملكاني من أجلّ مشايخ الشام أيضاً يقول: ما أجهل هؤلاء! ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها، فليأتوني لأحلّ لهم مشكله، وأبين لهم مقاصده، بحيث يظهر لهم الحق، ويزول عنهم الوهم.
وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لمّا(2/178)
رجع من الشام إلى بلاده: كيف وجدت ابن عربي فقال: وجدته بحراً زخّاراً لا ساحل له.
وهذا الشيخ صلاح الدين الصّفدين له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في مجلدات كثيرة، وهي موجودة في خزانة السلطان، تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية والمواهب الربانية.
وقوله في شيء من الكتب المصنّفة كالفصوص وغيره: إنّه صنّفه بأمر من الحضرة الشريفة النبويّة، وأمره بإخراجه إلى الناس، قال الشيخ محيي الدين (1) الذهبي حافظ الشام: ما أظن المحيي يتعمّد الكذب أصلاً؛ وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية.
ثمّ إن الشيخ محيي الدين، رحمه الله تعالى، كان مسكنه ومظهره بدمشق، وأخرج هذه العلوم إليهم، ولم ينكر عليه أحد شيئاً من ذلك، وكان قاضي القضاة الشافعيّة في عصره شمس الدين أحمد الخويّي يخدمه خدمة العبيد، وقاضي القضاة المالكيّة زوّجه بابنته، وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ.
وأمّا كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلّدات، وقول المنكرين في حقّ مثله غثاء وهباء لا يعبأ به، والحمد لله تعالى، انتهى ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني، رضي الله تعالى عنه.
وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه، عن نفسه في كتبه ما يبهر الألباب، وكفى بذلك دليلاً على ما منحه الله، الذي يفتح لمن شاء الباب، وقد اعتنى بتربته بصالحيّة دمشق سلاطين بني عثمان، نصرهم الله تعالى، على توالي الأزمان، وبنى عليه السلطان المرحوم سليم خان المدرسة العظيمة، ورتب له الأوقاف، وقد زرت قبره وتبركت به مراراً، ورأيت لوائح الأنوار عليه
__________
(1) الصواب: شمس الدين، فهذا هو لقب الذهبي.(2/179)
ظاهرة، ولا يجد منصف محيداً إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة، وكانت زيارتي له بشعبان ورمضان وأول شوال سنة 1037.
وقال في عنوان الدراية: إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة، وهو فصيح اللسان، بارع فهم الجنان، قوي على الإيراد، كلّما طلب الزيادة يزاد، رحل إلى العدوة، ودخل بجاية في رمضان سنة 597، وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعةً من الأفاضل، ولمّا دخل بجاية في التاريخ المذكور قال: رأيت ليلة أنّي نكحت نجوم السماء كلّها، فما بقي منها نجم إلاّ نكحته بلذّة عظيمة روحانيةّ، ثمّ لمّا كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكّحتها، ثمّ عرضت رؤياي هذه على من قصّها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها، وقلت للّذي عرضتها عليه: لا تذكرني، فلمّا ذكر الرؤيا استعظمها وقال: هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره، صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من العلوم العلويّة وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه، ثم سكت ساعة، وقال: إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها.
ثم قال صاحب العنوان ما ملخّصه: إن الشيخ محيي الدين رحل إلى المشرق، واستقرت به الدار، وألّف تواليفه، وفيها ما فيها، إن قيّض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام، وإن كان ممّن ينظر بالطاهر فالأمر صعب، وقد نقد عليه أهل الديار المصريّة وسعوا في إراقة دمه، فخلّصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي، فإنّه سعى في خلاصه وتأوّل كلامه، ولمّا وصل إليه بعد خلاصه قال له الشيخ، رحمه الله تعالى: كيف يحبس من حل منه اللاّهوت في الناسوت فقال له: يا سيّدي، تلك شطحت في محل سكر ولا عتب على سكران.
وتوفّي الشيخ محيي الدين في نحو الأربعين وستمائة، وكان يحدّث بالإجازة العامة عن السّلفي، رحمه الله تعالى، انتهى.(2/180)
ومن موشّحات الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله (1) :
سرائر الأعيان ... لاحت على الأكوان للناظرين
والعاشق الغيران ... من ذاك في بحران (2) يبدي الأنين
يقول والوجد ... أضناه والبعد (3) قد حيّره
لمّا دنا البعد ... لم أدر من بعد من غيّره
وهيّم العبد ... والواحد الفرد قد خيّره
في البوح والكتمان ... والسرّ والإعلان في العالمين
أنا هو الديّان ... يا عابد الأوثان أنت الضّنين
كلّ الهوى صعب ... على الذي يشكو ذلّ الحجاب
يا من له قلب ... لو أنّه يذكو عند الشباب
قرّبه الرّبّ ... لكنّه إفك فانو المتاب
وناد يا رحمن ... يا برّ يا منّان إنّي حزين
أضناني الهجران ... ولا حبيب دان ولا معين
فنيت بالله ... عمّا تراه العين من كونه
في موقف الجاه ... وصحت أين الأين في بينه
فقال: يا ساهي ... عاينت قط عين بعينه
أما ترى غيلان ... وقيس أو من كان في الغابرين
قالوا الهوى سلطان ... إن حلّ بالإنسان أفناه دين
__________
(1) انظر ديوان ابن عربي: 85.
(2) في ق ط: في حران، والتصحيح عن الديوان؛ ج: في ضجران.
(3) الديوان: والسهد.(2/181)
كم مرّةٍ قالا ... أنا الذي أهوى من هو أنا
فلا أرى حالا ... ولا أرى شكوى إلاّ الفنا
لست كمن مالا ... عن الّذي يهوى بعد الجنى
ودان بالسّلوان ... هذا هو البهتان للعارفين
سلوهم ما كان ... عن حضرة الرحمن والآفكين
دخلت في بستان ... الأنس والقرب كمكنسه
فقام لي الرّيحان ... يختال بالعجب في سندسه
أنا هو يا إنسان ... مطيّب الصّبّ في مجلسه
جنّان يا جنّان ... اجن من البستان الياسمين
وحلّل الرّيحان ... بحرمة الرحمن للعاشقين وقال الإمام الصفي ابن ظافر الأزدي في رسالته (1) : رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وفّر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علماً وخلقاً وحالاً، لا يكترث بالوجود مقبلاً كان أو معرضاً، وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف، وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرار إخاء ورفقة في السياحات، رضي الله تعالى عنهما، انتهى.
وذكر الإمام سيّدي عبد الله بن سعد اليافعي اليمني في الإرشاد أنّه اجتمع مع الشهاب السّهروردي، فأطرق كل واحد منهما ساعة، ثم افترقا من غير كلام، فقيل للشيخ ابن عربي: ما تقول في السّهروردي فقال: مملوء سنّةً من قرنه إلى قدمه، وقيل للسّهروردي: ما تقول في الشيخ محيي
__________
(1) قد تقدم هذا ص: 168.(2/182)
الدين فقال: بحر الحقائق.
ثم قال اليافعين ما ملخّصه: إن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ويشرحه، فلمّا حضرته الوفاة نهى عن مطالعته، وقال: إنّكم لا تفهمون معاني كلامه، ثم قال اليافعي: وسمعت أن العز بن عبد السلام كان يطعن عليه ويقول: هو زنديق، فقال له بعض أصحابه: أريد أن تريني القطب، أو قال وليّاً، فأشار إلى ابن عربي، فقال له: فأنت تطعن فيه، فقال: أصون ظاهر الشرع، أو كما قال.
وأخبرني بهذه الحكاية غير واحد من ثقات مصر والشام، ثم قال: وقد مدحه وعظمه طائفة كالنجم الأصبهاني والتاج بن عطاء الله وغيرهما، وتوقّف فيه طائفة، وطعن فيه آخرون، وليس الطاعن فيه بأعلم من الخضر عليه السلام، إذ هو أحد شيوخه، له معه اجتماع كثير.
ثم قال: وما ينسب إلى المشايخ له محامل: الأول أنّه لم تصح نسبته إليهم، الثاني بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق، فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر فله تأويل في الباطن لم نعلمه، وإنّما يعلمه العارفون، الثالث: أن يكون ذلك صدر منهم في حال السكر والغيبة، والسكران سكراً مباحاً غير مؤاخذ ولا مكلّف، انتهى ملخّصاً.
وممّن ذكر الشيخ محيي الدين الإمام شمس الدين محمد بن مسدي في معجمه البديع المحتوي على ثلاث مجلدات، وترجمه ترجمة عظيمة مطولة أذكر منها أنّه قال: إنّه كان ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، خاض بحر تلك العبارات، وتحقق بمحيّا تلك الإشارات، وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدّم والإقدام، ومواقف النهايات في مزالق الأقدام، ولهذا ما ارتبت في أمره، والله تعالى أعلم بسرّه، انتهى.
ونقلت من خط ابن علوان التونسي، رحمه الله تعالى: وقال الشيخ محيي الدين:(2/183)
بالمال ينقاد كلّ صعبٍ ... من عالم الأرض والسماء
يحسبه عالمٌ حجاباً ... لم يعرفوا لذّة العطاء
لولا الذي في النفوس منه ... لم يجب الله في الدعاء
لا تحسب المال ما تراه ... من عسجد مشرق لراء
بل هو ما كنت يا بني ... به غنيّاً عن السّواء
فكن بربّ العلا غنيّاً ... وعامل الخلق بالوفاء وقال:
نبّه على السّرّ ولا تفشه ... فالبوح بالسّرّ له مقت
على الذي يبديه فاصبر له ... واكتمه حتى يصل الوقت وقال:
قد ثاب غلماننا علينا ... فما لنا في الوجود قدر
أذنابنا صيّرت رؤوساً ... ما لي على ما أراه صبر
هذا هو الدّهر يا خليلي ... فمن يقاسيه فهو قهر ونظم الشيخ محيي الدين هو البحر الذي لا ساحل له.
ولنختم ما أوردنا منه بقوله:
يا حبّذا المسجد من مسجد ... وحبّذا الروضة من مشهد
وحبّذا طيبة من بلدةٍ ... فيها ضريح المصطفى أحمد
صلّى عليه الله من سيّدٍ ... لولاه لم نفلح ولم نهتد
قد قرن الله به ذكره ... في كلّ يوم فاعتبر ترشد
عشرٌ خفيّاتٌ وعشرٌ إذا ... أعلنّ بالتأذين في المسجد
فهذه عشرون مقرونة ... بأفضل الذكر إلى الموعد(2/184)
114 - ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن علي الشّشتري، وهو علي ابن عبد الله النميري (1) ، عروس الفقهاء، وأمير المتجردين، وبركة لابسي الخرقة، وهو من قرية ششتر من عمل وادي آش، وزقاق الشّشتري معلوم بها، وكان مجوّداً للقرآن، قائماً عليه، عارفاً بمعانيه، من أهل العلم والعمل، جال الآفاق، ولقي المشايخ، وحجّ حجّات، وآثر التجرّد والعبادات.
وذكره القاضي أبو العباس الغبريني في عنوان الدراية فقال: الفقيه الصوفي، ومن الطلبة المحصّلين، والفقراء المنقطعين، له علم بالحكمة ومعرفة بطريق الصوفية، وتقدّم في النظم والنثر على طريقة التحقيق، وأشعاره وموشحاته وأزجاله الغاية في الانطباع.
أخذ عن القاضي محيي الدين محمد بن إبراهيم بن الحسن بن سراقة الأنصاري الشاطبي وغيره من أصحاب السّهروردي صاحب عوارف المعارف واجتمع بالنجم بن إسرائيل الدمشقي سنة 650، وخدم أبا محمد ابن سبعين، وتلمذ له، وكان ابن سبعين دونه في السن، لكن اشتهر باتباعه، وعول على ما لديه، حتى صار يعبّر عن نفسه في منظوماته وغيرها بعبد ابن سبعين، وقال له لما لقيه - يريد المشايخ -: إن كنت تريد الجنّة فسر إلى أبي مدين، وإن كنت تريد ربّ الجنّة فهلم إليّ، ولمّا مات أبو محمد انفرد بعده بالرئاسة والإمامة على الفقراء المتجرّدين، فكان يتبعه في أسفاره ما ينيّف على أربعمائة فقير فيتقسّمهم الترتيب في وظائف خدمته.
صنف كتباً: منها كتاب العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته وله كتاب المقاليد الوجوديّة في أسرار الصوفي والرسالة القدسيّة في توحيد العامّة والخاصّة والمراتب
__________
(1) ترجمة أبي الحسن الششتري في عنوان الدراية: 140؛ وانظر مقدمة ديوانه بتحقيق الدكتور علي سامي النشار (ط. الإسكندري 1960) .(2/185)
الإيمانيّة والإسلاميّة والإحسانيّة والرسالة العلميّة وغير ذلك.
وله ديوان شعر مشهور، ومن نظمه قوله، رحمه الله تعالى (1) :
لقد تهت عجباً بالتجرد والفقر ... فلم أندرج تحت الزمان ولا الدهر
وجاءت لقلبي نفحةٌ قدسيةٌ ... فغبت به عن عالم الخلق والأمر
طويت بساط الكون والطيّ نشره ... وما القصد إلا الترك للطيّ والنشر
وغمّضت عين القلب غير مطلّق ... فألفيتني ذاك الملقّب بالغير
وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة ... ونزّهت من أعني عن الوصل والهجر
وما الوصف إلاّ دونه غير أنّني ... أريد به التشبيب عن بعض ما أدري
وذلك مثل الصوت أيقظ نائماً ... فأبصر أمراً جلّ عن ضابط الحصر
فقلت له الأسماء تبغي بيانه ... فكانت له الألفاظ ستراً على ستر وقال (2) :
من لامني لو أنّه قد أبصرا ... ما ذقته أضحى به متحيّرا
وغدا يقول لصحبه إن أنتم ... أنكرتم ما بي أتيتم منكرا
شذّت أمور القوم عن عاداتهم ... فلأجل ذاك يقال سحرٌ مفترى وقال، وهي من أشهر ما قال (3) :
أرى طالباً منّا الزّيادة لا الحسنى ... بفكرٍ رمى سهماً فعدّى به عدنا
وطالبنا مطلوبنا من وجودنا ... نغيب به عنّا لدى الصّعق إن عنّا وهي طويلة مشهورة بالشرق والغرب، وقد شرحها شيخ شيوخ شيوخنا
__________
(1) ديوان الششتري: 51.
(2) ديوانه: 41.
(3) ديوانه: 72.(2/186)
العارف بالله تعالى، سيّدي أحمد زرّوق، نفعنا الله تعالى ببركاته. وأشار ابن الخطيب في الإحاطة إلى أنّها لا تخلو عن شذوذ من جهة اللسان، وضعف في العربية، قال: ومع ذلك فهي غريبة المنزع، أشار فيه إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة، وكأنّها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقائه حسبما قدّمناه، إذ الحسنى: الجنّة، والزيادة: مقام النظر، وقوله فيها:
وأظهر منها الغافقيّ لنا جنىً ... وكشّف عن أطواره الغيم والدّجنا هو شيخه أبو محمد ابن سبعين لأنّه مرسيّ الأصل غافقيّه.
ولما وصل الشّشتري من الشام إلى ساحل دمياط وهو مريض مرض موته نزل قرية بساحل البحر الرومي فقال: ما اسم هذه القرية فقيل: الطينة، فقال: حنّت الطينة إلى الطينة، وأوصى أن يدفن بمقبرة دمياط، إذ الطينة بمفازة، وأقرب المدن إليها دمياط، فحمله الفقراء على أعناقهم إلى دمياط.
وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة 668، فدفن بدمياط، رحمه الله تعالى، ورضي عنه.
115 - ومنهم سيدي أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي الأندلسي (1) - وحرالة: قرية من أعمال مرسية - غير أنّه ولد بمراكش، وأخذ بالأندلس عن أبي الحسن ابن خروف وغير واحد، ورحل إلى المشرق فأخذ عن أبي عبد الله القرطبي إمام الحرم وغيره، ولقي جلّةً من المشايخ شرقاً وغرباً.
وهو إمام ورع صالح زاهد، كان بقية السلف، وقدوة الخلف، وقد زهد في الدّنيا وتخلّى عنها، وأقام في تفسير الفاتحة نحواً من ستّة أشهر يلقي في التعليل قوانين تتنزّل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام، حتى منّ الله تعالى ببركات ومواهب لا تحصى، وعلى أحكام تلك القوانين
__________
(1) ترجمة أبي الحسن الحرالي في عنوان الدراية: 85 وشذرات الذهب 5: 189.(2/187)
وضع كتابه مفتاح اللّبّ المقفل على فهم القرآن المنزل وهو ممّن جمع العلم والعمل، وصنّف في كثير من الفنون كالأصلين والمنطق والطبيعيّات والإلهيّات، وكان يقرئ النجاة لابن سينا فينقضه عروة عروة، وكان من أعلم الناس بمذهب مالك، ولمّا ظنّ فقهاء عصره أنّه لا يحسن المذهب لاشتغاله بالمعقولات أقرأ التهذيب وأبدى فيه الغرائب، وبيّن مخالفته للمدوّنة في بعض المواضع، ووقع بينه وبين الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام شيء، وطلب عزّ الدين أن يقف على تفسيره، فلمّا وقف عليه قال: أين قول مجاهد أين قول فلان وفلان وكثر القول في هذا المعنى، ثم قال: يخرج من بلادنا إلى وطنه - يعني الشام - فلمّا بلغ كلامه الشيخ قال: هو يخرج وأقيم أنا، فكان كذلك. وله عدّة مؤلّفات في الفنون؛ وقال، رحمه الله تعالى: أقمت ملازماً لمجاهدة النفس سبعة أعوام، حتى استوى عندي من يعطيني دينارً ومن يزدريني. وأصبح - رحمه الله تعالى - ذات يوم ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم، وكانت أم ولده جارية تسمّى كريمة، وكانت سيّئة الخلق، فاشتدّت عليه في الطلب، وقالت له: إن الأصاغر لا شيء لهم، فقال: الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوّت به، فبينما هم كذلك وإذا بالحمّال يضرب الباب ومعه قمح، فقال لها: يا كريمة، ما أعجلك، هذا الوكيل بعث بالقمح، فقالت: ومن يصنعه فأمر فتصدّق به، ثم قال لها: يأتيك ما هو أحسن منه، فانتظرت يسيراً، وبدا لها فتكلّمت بما لا يليق، فبينما هم كذلك، وإذا بحمّال سميذ، فقال لها: هذا السميذ أيسر وأسهل من القمح، فلم يقنعها ذلك، فأمر أيضاً بصدقته، فلمّا تصدّق به زادت في المقال، وإذا برجل على رأسه طعام، فقال لها: يا كريمة، قد كفيت المؤونة، هذا الوكيل قد علم بحالك.
ومن كراماته أن بعض طلبته اجتمعوا في نزهة، وأخذوا حلياً من زينة النساء، فزيّنوا به بعض أصحابهم، فلمّا انقضى ذلك واجتمعوا بمجلس الشيخ صار الذي كان في يده الحلي يتحدّث ويشير بيده، فقال الشيخ: يد يجعل(2/188)
فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد.
ومنها أنّه أصاب الناس جدبٌ ببجاية، فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء، فامتنعت كريمة، ونهرت رسله، فسمع كلامها، فقال للرسول: قل لها يا كريمة، والله لأشربنّ من ماء المطر الساعة، فرمق السماء بطرفه، ودعا الله سبحانه وتعالى، ورفع يده به، وشرع المؤذن في الأذان، ولم يختم المؤذن أذانه حتى كان المطر كأفواه القرب.
وتوفّي، رحمه الله تعالى، بحماة من بلاد الشام سنة سبع وثلاثين وستمائة؛ انتهى ملخّصاً من عنوان الدراية للغبريني.
ووقع للذهبي في حقّه كلام على عادته في الحطّ على هذه الطائفة، ثم قال: ورأيت شيخنا المجد التونسي يتغالى في تفسيره، رأيت غير واحد معظماً له وقوماً تكلّموا في عقيدته، وكان نازلاً عند قاضي حماة البارزي؛ وقال لها شرف الدين البارزي: تزوّج بحماة، وكانت زوجته تشتمه وتؤذيه وهو يتبسّم، وإن رجلاً راهن جماعةً على أن يحرجه، فقالوا: لا تقدر، فأتى وهو يعظ وصاح، وقال له: أنت أبوك كان يهوديّاً وأسلم، فنزل من الكرسي، فاعتقد الرجل أنّه غضب وأنّه تمّ له ما رامه حتى وصل إليه فخلع مرطيه (1) عليه، وأعطاه إيّاهما، وقال له: بشّرك الله بالخير، لأنّك شهدت لأبي أنّه كان مسلماً، انتهى.
وظاهر كلام الغبريني أن تفسير الشيخ الحرالي كامل، وقال بعض: إنّه لم يكمل، وهو تفسير حسن، وعليه نسج البقاعيّ مناسباته، وذكر أن الذي وقف عليه منه من أوّل القرآن إلى قوله في سورة آل عمران " كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ".
__________
(1) ق ط ج ودوزي: قرطيه.(2/189)
وكلام الذهبي في الشيخ يرده كلام الغبريني، إذ هو أعرف به، والله تعالى أعلم.
وحكى الغبريني أنّه أنشد بين يديه الزجل المشهور (1) :
جنّان يا جنّان ... اجن من البستان الياسمين
واترك الرّيحان ... بحرمة الرحمن للعاشقين فسأل بعض عن معناه، فقال بعض الحاضرين: أراد به العذار، وقال آخر: إنّما أشار إلى دوام العهد، لأن الأزهار كلّها ينقضي زمانها إلاّ الرّيحان فإنّه دائم، فاستحسن الشيخ هذا أو وافق عليه.
116 - ومنهم ولي الله العارف به الشيخ الشهير الكرامات، الكبير [المقامات] (2) سيدي أبو العباس المرسي، نفعنا الله تعالى به (3) . وهو من أكابر الأولياء، صحب سيدي الشيخ الفرد القطب الغوث الجامع سيدي أبا الحسن الشاذلي، أعاد الله تعالى علينا من بركاته، وخلفه بعده، وكان قدم من الأندلس من مرسية، وقبره بالإسكندرية مشهور بإجابة الدعوات، وقد زرته مراراً كثيرة، ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله.
وقد عرّف به الشيخ العارف بالله ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن في مناقب الشيخ سيدي أبي العابس وشيخه سيدي أبي الحسن، رضي الله تعالى عنهما.
وقال الصفدي في الوافي: أحمد بن عمر بن محمد الشيخ الزاهد الكبير العارف أبو العباس، الأنصاري المرسي، وارث شيخه الشاذلي تصوّفاً، الأشعري معتقداً،
__________
(1) انظر ما تقدم ص: 182.
(2) المقامات: زيادة من ج ليست في ق ط.
(3) ترجمة أبي العباس المرسي في طبقات الشعراني ولطائف المنن لابن عطاء الله ونيل الابتهاج: 64 (على هامش الديباج) والوافي للصفدي ج 7 الورقة: 128.(2/190)
توفّي بالإسكندريّة سنة 686، ولأهل مصر ولأهل الثغر فيه عقيدة كبيرة، وقد زرته لما كنت بالإسكندرية سنة 738، قال ابن عرّام سبط الشاذلي: ولولا قوّة اشتهاره وكراماته لذكرت له ترجمة طويلة، كان من الشهود بالثغر، انتهى.
وكان سيّدي أبو العباس يكرّم الناس على نحو رتبهم عند الله تعالى، حتى إنّه ربّما دخل عليه مطيع في يحتفل به، ربّما دخل عليه عاصٍ فأكرمه، لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثّر لعمله (1) ناظر لفعله، وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذلة مخالفته، وكان شديد الكراهة للوسواس في الصلاة والطهرة، ويثقل عليه شهود من كان على صفته، وذكر عنده يوماً شخصٌ بأنّه صاحب علم وصلاح، إلاّ أنّه كثير الوسوسة، فقال: وأين العلم العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود.
وله كلام بديع في تفسير القرآن العزيز: فمن ذلك أنّه قال: قال الله سبحانه وتعالى " الحمد لله ربّ العالمين " علم الله عجز خلقه عن حمده، فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلمّا خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده، فقال " الحمد لله ربّ العالمين " أي: الحمد الذي حمد به نفسه بنفسه هو له، لا ينبغي أن يكون لغيره، فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد. وقال في قوله تعالى " إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ": إيّاك نعبد شريعة، عبادة، وإيّاك نستعين عبوديّة، إيّاك نعبد فرق، وإيّاك نستعين جمع. وله في هذا المعنى وغيره كلام نفيس يدلّ على عظيم ما منحه الله سبحانه من العلوم اللدنية. وقال، رضي الله تعالى عنه، في قوله تعالى " اهدنا الصّراط المستقيم ": بالتثبيت (2) فيما هو حاصل، والإرشاد لما ليس بحاصل؛ وهذا
__________
(1) في نسخة: متكبر بعمله؛ وفي ق: متكثر بعمله.
(2) في نسخة: بالتثبيت.(2/191)
الجواب ذكره ابن عطيّة في تفسيره، وبسطه الشيخ، رضي الله تعالى عنه، فقال: عموم المؤمنين يقولون " اهدنا الصّراط المستقيم " معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل، فإنّهم حصل لهم التوحيد، وفاتهم درجات الصالحين، والصالحون يقولون " اهدنا الصّراط المستقيم " معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل، لأنّهم حصل لهم الصلاح، وفاتهم درجات الشهداء، والشهيد يقول " اهدنا الصّراط المستقيم " درجة الشهادة، وفاته درجة الصديقية، والصديق كذلك يقول " اهدنا الصّراط المستقيم " إذ حصلت له درجة الصديقية، وفاتته درجة القطب، والقطب كذلك يقول " اهدنا الصّراط المستقيم " فإنّه حصلت له رتبة القطبانية، وفاته علم إذا شاء الله تعالى أن يطلعه عليه أطلعه. وقال، رضي الله تعالى عنه: الفتوّة الإيمان، قال الله سبحانه وتعالى " إنّهم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هدى " وقال، رضي الله تعالى عنه، في قوله سبحانه وتعالى حاكياً عن الشيطان " ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم ... الأية " ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم لأن فوقهم التوحيد وتحتهم الإسلام. وقال، رضي الله تعالى عنه: التقوى في كتاب الله، عزّ وجلّ، على أقسام: تقوى النّار، قال الله سبحانه وتعالى " واتّقوا النّار " وتقوى اليوم، قال الله تعالى " واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وتقوى الربوبية، قال الله تعالى " يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم " وتقوى الألوهية " واتّقوا الله " وتقوى الإنّية " واتّقوى يا أولي الألباب " وقال، رضي الله تعالى عنه، في قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، " أنا سيّد ولد آدم ولا فخر " أي: لا أفتخر بالسّيادة، وإنّما الفخر لي بالعبودية لله، وكان كثيراً ما ينشد:(2/192)
يا عمرو ناد عبد زهراء ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلاّ بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي وقال رضي الله تعالى عنه، في قول سمنون المحب:
وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئت فاختبرني الأولى أن يقول: فكيفما شئت فاعف عني إذ طلب العفو أولى من طلب (1) الاختبار. وقال رضي الله تعالى عنه: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا. وقال رضي الله تعالى عنه: العارف لا دنيا له، لن دنياه لآخرته، وآخرته لربّه. وقال: الزاهد غريب في الدّنيا، لأن الآخرة وطنه، والعارف غريب في الآخرة.
قال بعض العارفين: معنى الغربة في كلام الشيخ، رضي الله تعالى عنه أن الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشّش روحه، فيكون غريباً في الدّنيا، إذ ليست وطناً لقلبه، عاين الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها، وفيما شهد من عقوبتها ونكالها، فتغرّب في هذه الدار. وأمّا العارف فإنّه غريب في الآخرة إذ كشف له عن صفات معروفة فأخذ قلبه فيما هناك، فصار غريباً في الآخرة، لأن سرّه مع الله تعالى، بلا أين، فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشّش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق، أو أرض الخصوص، فبالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فلم ينزلوا إلى الخصوص لشهوة، ولم يصعدوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة، بل كانوا في ذلك كلّه بآداب الله تعالى وآداب رسله وأنبيائه متأدبين، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين، رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم آمين.
__________
(1) في بعض النسخ: لأن طلب.(2/193)
وكلام سيّدي الشيخ أبي العباس، رضي الله تعالى عنه، بحر لا ساحل له، وكراماته كذلك، ليراجع كتاب تلميذه ابن عطاء الله، فإن فيه من ذلك ما يشفي ويكفي، وما بقي أكثر.
ومن كراماته، رضي الله تعالى عنه، أنّه عزم عليه إنسان وقدّم إليه طعاماً يختبره به، فأعرض عنه ولم يأكله، ثم التفت إلى صاحب الطعام وقال له: إن الحارث المحاسبي، رضي الله تعالى عنه، كان في إصبعه عرق إذا مدّ يده إلى طعام فيه شبهة تحرك عليه، وأنا في يدي سبعون عرقاً تتحرّك عليّ إذا كان مثل ذلك، فاستغفر صاحب الطعام، واعتذر إلى الشيخ، رضي الله تعالى عنه، ونفعنا به.
117 - ومنهم أبو إسحاق الساحلي، المعروف بالطّويجن (1) - بضم الطاء المهملة، وفتح الواو، وسكون الياء التحتيّة، وكسر الجيم، وقيل بفتحها - العالم المشهور، والصالح المشكور، والشاعر المذكور، من أهل غرناطة من بيت صلاح وثروة وأمانة، وكان أبوه أمين العطّارين بغرناطة، وكان مع أمانته من أهل العلم فقيهاً متفنّناً، وله الباع المديد في الفرائض.
وأبو إسحاق هذا كان في صغره موثّقاً بسماط شهود غرناطة، وارتحل عن الأندلس إلى المشرق، فحجّ، ثم سار إلى بلاد السودان فاستوطنها، ونال جاهاً مكيناً من سلطانها، وبها توفّي، رحمه الله تعالى، انتهى ملخّصاً من كلام الأمير ابن الأحمر في كتابه نثير الجمان، فيمن نظمني وإيّاه الزمان.
وقال أبو المكارم منديل بن آخرّوم: حدّثني من يوثق بقوله أن أبا إسحاق الطّويجن كانت وفاته يوم الاثنين 27 جمادى الأخيرة سنة 747 (2) بتنبكتو
__________
(1) ترجمة الطويجن في الإحاطة 1: 337 ومسالك الأبصار 11: 516 والكتيبة الكامنة: 235 ونثير فرائد الجمان: الورقة 53 ونثير الجمان: الورقة 58 والاستقصاء 3: 52.
(2) في نسخة: 767.(2/194)
موضع بالصحراء من عمالة مالي، رحمه الله تعالى، ثمّ ضبط الطويجن بكسر الجيم، قال: وبذلك ضبطه بخطّ يده، رحمه الله تعالى، قال: ومن نسبه للساحلي فإنّه نسبه لجدّه للأم، انتهى.
118 - ومنهم الشيخ الأديب الفاضل المعمّر ضياء الدين أبو الحسن علي ابن محمد بن يوسف بن عفيف، الخزرجي، الساعدي (1) ، من أهل غرناطة، ويشهر بالخزرجي، ومولده ببيغة، رحل عن الأندلس قديماً واستقرّ أخيراً بالإسكندريّة، وبها لقيه الحافظ ابن رشيد غير مرّة، وقد أطال في رحلته في ترجمته، إلى أن قال: وذكره صاحبنا أبو حيان، وهو أحد من أخذ عنه ولقيه، فقال: تلا القرآن بالأندلس على أبي الوليد هشام بن واقف المقرئ، وسمع بها من أبي زيد الفازازي العشرينيّات، وسمع بمكّة من شهاب الدين السّهروردي صاحب " عوارف المعارف " وتلا بالإسكندريّة على أبي القاسم ابن عيسى، ولا يعرف له نظم في أحد من العالم إلاّ في مدح رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم.
ومن شعره يعارض الحريري:
أهن لأهل (2) البدع ... والهجر والتّصنّع ودن بترك الطمع ولذ بأهل الورع ...
وعدّ عن كلّ بذي ... لم يكترث بالنّبذ والهج ببر جهبذ وعالمٍ متّضع ...
واندب زماناً قد سلف ... ولم تجد منه خلف وابعث بأنواع الأسف رسائل التّضرّع ...
__________
(1) راجع ترجمة ابن عفيف الخزرجي في رحلة ابن رشيد (القسم الثالث من مخطوطة الاسكوريال، الورقة 8) .
(2) ابن رشيد: هون بأهل.(2/195)
وهي طويلة (1) ؛ فلتراجع ترجمته في ملء الغيبة لابن رشيد، رحمه الله تعالى.
119 - ومنهم الفقيه الجليل، العارف النبيل، الحاذق الفصيح البارع أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر، الشهير بابن سبعين، العكي، المرسي، الأندلسي، ويلقّب من الألقاب المشرقيّة بقطب الدين (2) . قال الشيخ المؤرخ ابن عبد الملك: درس العربية والآداب بالأندلس، ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوّف، وعكف برهة على مطالعة كتبه، والتكلّم على معانيها، فمالت إليه العامة، ثم رحل إلى المشرق، وحج حججاً، وشاع ذكره، وعظم صيته، وكثر أشياعه، وصنف أوضاعاً كثيرة تلقوها منه، ونقلوها عنه، ويرمى بأمورٍ، الله تعالى أعلم بها وبحقيقتها وكان حسن الأخلاق، صبوراً على الأذى، آية في الإيثار، انتهى.
وقال غير واحد: إن أغراض الناس فيه متباينة، بعيدة عن الاعتدال، فمنهم المرهق المكفر، ومنهم المقلّد المعظم الموقّر، وحصل بهذين الطرفين من الشهرة والاعتقاد، والنفرة والانتقاد، ما لم يقع لغيره، والله تعالى أعلم بحقيقة أمره. ولما ذكر الشريف الغرناطي عنه أنّه كان يكتب عن نفسه ابن هـ يعني الدارة التي هي كالصفر، وهي في بعض طرق المغاربة في حسابهم سبعون، وشهر لذلك بابن دارة - ضمن فيه البيت المشهور:
محا السّيف ما قال ابن دارة أجمعا ...
__________
(1) قال ابن رشيد: عددها أحد وأربعون بيتا.
(2) ترجمة ابن سبعين في عنوان الدراية: 139 والإحاطة: 317 (النسخة الخطية) وفيها نقل عن ابن عبد الملك؛ والفوات 1: 516 والبداية والنهاية 13: 261 وشذرات الذهب 5: 329 والنجوم الزاهرة 7: 232 وله ترجمة في المنهل الصافي والوافي (راجع مقدمة رسائله) وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي مجموعة من رسائله في سلسلة تراثنا - الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة (تاريخ المقدمة: 1956) .(2/196)
حسبما ذكره الشريف في شرح مقصورة حازم، وقد طال عهدي به، فليراجعه من ظفر به (1) .
وقال صاحب درة الأسلاك في سنة 669، ما صورته (2) : وفيها توفّي الشيخ قطب الدين أبو محمد عبد الحقّ بن سبعين المرسي، صوفي متفلسف، متزهّد متقشّف، يتكلّم على طريق أصحابه، ويدخل البيت ولكن من غير أبوابه، شاع أمره، واشتهر ذكره، وله تصانيف وأتباع، وأقوال يميل إليها بعض القلوب وتملّها بعض الأسماع، وكانت وفاته بمكّة المشرّفة عن نحو خمسين سنة، تغمّده الله تعالى برحمته، انتهى.
وقال بعض الأعلام في حقّ (3) ابن سبعين: إنّه كان، رحمه الله تعالى، عزيز النفس، قليل التصنّع، يتولى خدمة الكثير من الفقراء والسّفارة أصحاب العباءات والدفافيس بنفسه، ويحفون به في السكك، ولمّا توفّرت دواعي النّقد عليه من الفقهاء كثر عليه التأويل، ووجّهت لألفاظه المعاريض، وفليت موضوعاته، وتعاورته الوحشة، وجرت بينه وبين الكثير من أعلام المشرق والمغرب خطوب يطول ذكرها.
ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور، وأظن اسمه يحيى
__________
(1) كتب الفقيه أبو البركات ابن الحاج علي جزء فيه كلام ابن سبعين:
ألا فدعوا ما قال عنكم فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا وشرح ما أراد أن أصحاب ابن سبعين يعبرون عنه بابن دارة، لأن شكل سبعين في رسوم الحساب الرومية دارة هكذا 5 ... إلخ؛ (انظر شرح المقصورة 1: 99) .
(2) اسمه " درة الأسلاك في دولة الأتراك " لمحمد بن حبيب الحلبي (- 779) ابتدأ فيه في سنة 648 وانتهى إلى آخر سنة 778 والتزم رعاية السجع في كلامه (كشف الظنون 1: 737) .
(3) في الأصول: العبادات، ثم تصحفت الكلمة التالية على صور أخرى مثل " الدنافيس " و " الدقاقيس " وقد وردت بصورة المفرد في الطالع السعيد: 44 حيث جاء: " إني كنت في طريق عيذاب ومعنا شخص من المغاربة فمات فغسلته فوجدت معه في دفاسه ذهبا ... إلخ " فاللفظة تشير إلى نوع من الثياب، ولذا صححت كلمة " العبادات " وجعلتها " العباءات " لكي تتناسب اللفظتان.(2/197)
ابن أحمد بن سليمان، سمّاها بالوراثة المحمديّة والفصول الذاتية ما صورته: فإن قيل: ما الدليل على أن هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه قلنا: عدم النظير، واحتياج الوقت إليه، وظهرو الكلمة المشار إليها عليه، ونصيحته لأهل الملّة، ورحمته المطلقة للعالم المطلق، ومحبّته لأعدائه، وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه، وعفوه عنهم مع قدرته عليهم، وجذبهم إلى الخير مع كونهم يطلبون هلاكه، وهذه كلّها من علامات الوراثة والتبعية المحضة التي لا يمكن أحداً أن يتصف بها إلاّ بمجد أزلي وتخصيص إلهي، وها أنا أصف لك بعض ما خصّه الله سبحانه وتعالى به من الأمور التي هي خارقة للعادة، ونلغي عن الأمور الخفيّة التي لا نعلمها، ونقصد الأمور الظاهرة التي نعلمها، والتي لا يمكن أحداً أن يستريب فيها إلاّ من أصمّه الله تعالى وأعماه، ولا يجحدها إلا حسود قد أتعب الله تعالى قلبه وأنساه رشده، ونعوذ بالله ممّن عاند من الله تعالى مساعده ومؤيده، وهو معه بنصره وعونه، فما أتعب معانده، وما أسعد موادده، وما أكبت مرادده، فنبدأ بذكر ما وعدنا، فنقول:
أول ما ذكر في شرفه واستحقاقه لما ذكرنا، كونه خلقه الله تعالى من أشرف البيبوت التي في بلاد المغرب، وهم بنو سبعين، قرشيّاً هاشميّاً علويّاً، وأبواه وجدوده يشار إليهم، ويعوّل في الرئاسة والحسب والتّعين عليهم.
والثاني: كونه من بلاد المغرب، والنبي عليه السلام قال: " لا يزال أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة " وما ظهر من بلاد المغرب رجل أظهر منه، فهو المشار إليه بالحديث، ثمّ نقول: أهل المغرب أهل الحق، وأحق الناس بالحق وأحق المغرب بالحق علماؤه لكونهم القائمين بالقسط، وأحق علمائه بالحق محقّقهم وقطبهم الذي يدور الكل عليه ويعول في مسائلهم ونوازلهم السهلة والعويصة عليه، فهو حق المغرب، والمغرب حقّ الله تعالى، والملّة حقّ العالم، فهو المشار إليه بالوراثة، ثم نقول: أهل المغرب ظاهرون على الحق(2/198)
أي على الدين، والحق سر الدين، والمحقّق سرّ الحق، فالمحقّق سرّ الدين، فهو المشار إليه بالوراثة. ثمّ نقول: أهل الله خير العالم، وأهل الحق هم خير أهل الله، والمحقّق خير أهل الحق، فالمحقّق خير العالم، فهو المشار إليه. ثمّ نقول: انظر في بدايته وحفظ القديم له في صغره، وضبطه له من اللهو واللّعب، وإخراجه من اللّذة الطبيعية التي هي في جبلّة البشرية، وتركه للرئاسة العرضيّة المعول عليها عند العالم، مع كونه وجدها في آبائه، وهي الآن في إخوته، وخروجه عن الأهل والوطن الذي قرنه الحق مع قتل الإنسان نفسه، وانقطاعه إلى الحق انقطاعاً صحيحاً تعلم تخصيصه وخرقه للعادة، ثم انظر في تأيّده وفتحه من الصغر، وتأليف كتاب بدء العارف وهو ابن خمس عشرة سنة، وفي جلالة هذا الكتاب وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعمليّة، وجميع الأمور السّنيّة والسّنيّة، تجده خارقاً للعادة، وفي نشأته في بلاد الأندلس ولم يعلم له كثرة نظر وظهوره فيها بالعلوم التي لم تسمع قط تعلم أنّه خارق للعادة، وفي تواليفه واشتمالها على العلوم كلّها، ثمّ انفرادها وغرابتها وخصوصيتها بالتحقيق الشاذ عن أفهام الخلق تعلم بأنّه مؤيّد بروح القدس، وفي شجاعته وقوّة توكّله في عزمه ونصره لصنائعه وظهور حجّته على خصمائه وإقامة حقّه وبرهانه وفصاحة كلامه وبيان سلطانه تعلم أن ذلك بقوّة إلهيّة وعناية ربانيّة، وفي امتحان أهل المغرب له، واجتماعهم عليه في كل بلد معتبر للمناظرة، يظهر الله تعالى حجّته، ويقمع خصمه، ويكبت عدوّه، وعجز معارضه، ويفحم معترضه، وفي غيرة الحق عليه، وهلاك من تعرض بالأذى إليه - يعلم العاقل المخصوص، أنّه عند الله مخصوص، وفي خلقه وقهره لقواه النزعوية والغضبية وإسلام قرينه وجلالة قوّته الحافظة التي لا تنسى شيئاً والمفكّرة التي تتصوّر الذوات المجرّدة والمعلومة أسر عين الطيف (1) ،
__________
(1) ق: أسرعين؛ وسقطت لفظة " الطيف "؛ وفي دوزي: أسرعين الطبق، وأشار إلى قراءة أخرى وإلى أن العبارة سقطت من بعض النسخ.(2/199)
وكذلك الذاكرة، وسرعة ظهوره وانتشار رايته واستجلاب ثنائه في الجهات كلّها، وبالجملة جميع ما ذكرت هو فيه خارق للعادة البشريّة، ومعجز لمعارضه من كل الجهات، ولولا خوف التطويل لكنت أفصّل كل صفة ذكرت في بالكلام الصناعي، ونقيم الأدلة القطعيّة على تعجيزها، ولكن أعطيت الأنموذج، وعرفت أن النبيه يمعن فكره، ويجد ذلك كما قلته. وبالجملة جميع جزئيّاته إذا تؤملت توجد خارقة للعادة، وتشهد لها ماهيّة الوجود بالتخصيص، فصحّ أنّه هو المشار إليه، والمعول في جملة الأمور عليه، وإنّما أعطيت الأمر المشهور، وتركت ما يعلم منه من خرق العوائد في ظهور الطعام والشراب والسمن والتمر وأخذ الدراهم من الكون، وإخباره عن وقائع قبل وقوعها بسنين كثيرة وظهرت كما أخبر، فصحّ أنّه هو المذكور؛ انتهى ما تعلّق به الغرض ممّا في الرسالة في شأن الشيخ ابن سبعين.
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين - ومنهم لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة كما سيأتي قريباً - أن ابن سبعين عاقه الخوف من أمير المدينة عن القدوم إليها، فعظم عليه بذلك الحمل، وقبحت الأحدوثة عنه، انتهى. لكمن قال شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني الأديب الشهير، وهو صاحب كتاب السكردان وديوان الصبابة ومنطق الطير والاعتراض على العارف بالله تعالى ابن الفارض، ما معناه: أخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن ابن برغوش التلمساني شيخ المجاورين بمكّة وكانت له معرفة تامّة بهذا الرجل، انّه صدّه عن زيارة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه كان منه دم كدم الحيض، والله تعالى أعلم بحقيقة أمره، انتهى. وقال غيره: نعم زار النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مستخفياً على طريق المشاة، حدّث بذلك أصهاره بمكّة، انتهى.(2/200)
وقال لسان الدين (1) : أما شهرته ومحلّه من الإدراك والآراء والأوضاع والأسماء والوقوف على الأقوال والتعمق في الفلسفة والقيام على مذاهب المتكلّمين فما يقضى منه العجب.
وقال الشيخ أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، رحمه الله تعالى (2) : حدّثني بعض أشياخنا من أهل المشرق أن الأمير أبا عبد الله ابن هودٍ سالم طاغية النصارى، فنكث به (3) ، ولم يف بشرطه، فاضطره ذلك إلى مخاطبة القس (4) الأعظم برومية، فوكّل أبا طالب ابن سبعين أخا أبي محمد عبد الحق بن سبعين في التكلّم عنه، والاستظهار بين يديه، قال: فلمّا بلغ ذلك الشخص رومية (5) ، وهو بلد لا يصل إليه المسلمون، ونظر إلى ما بيده، وسئل عن نفسه، فأخبر بما ينبغي، كلّم ذلك القس من دنا منه بكلام معجم ترجم لأبي طالب بما معناه: اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه، انتهى.
وقال غير واحد: إنّه اشتهرت عنه أشياء كثيرة، الله تعالى أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه منها: فمنها قوله - فيما زعموا - وقد جرى ذكر الشيخ وليّ الله، سيّدي أبي مدين نفعنا الله تعالى ببركاته: شعيبٌ عبد عملٍ، ونحن عبيد حضرة وممّن حكى هذا لسان الدين في الإحاطة (6) .
وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه الكبير (7) في ترجمة السلطان المستنصر بالله تعالى أبي عبد الله محمد ابن السلطان زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك إفريقية وما إليها: أن أهل مكة بايعوه، وخطبوا له بعرفة، وأرسلوا له بيعتهم،
__________
(1) انظر الإحاطة: 319 (المخطوطة) .
(2) المصدر نفسه.
(3) الإحاطة: فنكث عهده.
(4) الإحاطة: القومس.
(5) الإحاطة: فلما بلغ باب ذلك الشخص المذكور برومة.
(6) انظر الإحاطة: 319.
(7) الحديث عن خلافة المستنصر الحفصي ورد في ابن خلدون 6: 280 وما بعدها، ولكن ليس فيه ذكر لبيعة أهل مكة أو سرد لرسالة ابن سبعين.(2/201)
وهي من إنشاء ابن سبعين، وسردها ابن خلدون بجملتها، وهي طويلة، وفيها من البلاغة والتلاعب بأطراف الكلام ما لا مطمح وراءه، غير أن يشير فيها إلى أن المستنصر هو المهدي المبشّر به في الأحاديث الذي يحثو المال ولا يعدّه، وحمل حديث مسلم وغيره عليه، وذلك ما لا يخفى ما فيه، فليراجع كلام ابن خلدون في محله.
ولابن سبعين من رسالة: سلام عليك ورحمة الله، سلام عليك ثم سلام مناجاتك، سلام الله ورحمة الله الممتدة على عوالمك كلها، السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك، وكصلاة أعز ملائكتك من حيث حقيقتك، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا قياس الكمال، ومقدمة العلم، ونتيجة الحمد، وبرهان المحمود، ومن إذا نظر الذهن إليه قرأ " نعم العبد " السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء، وأسرار مشروطات الأذكياء الأتقياء، السلام عليك يا من جاوز في السموات مقام الرسل والأنبياء، وزادك رفعة واستعلاء على ذوات الملإ الأعلى، وذكر قوله تعالى " سبّح اسم ربّك الأعلى ".
وقال بعضه عند إيراده جملة من رسائله التي منها هذه: إنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع، انتهى.
وقال بعض العلماء الأكابر، عند تعرضه لترجمة الشيخ ابن سبعين المترجم به، ما نصه ببعض اختصار: هو أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم، وتعدد المعارف، وكثرة التصانيف، ولد سنة 614، ودرس العربية والأدب في طريقه، وجال في البلاد، وقدم القاهرة، ثم حج واستوطن مكة، وطار صيته، وعظم أمره، وكثر أتباعه، حتى إنه تلمذ له أمير مكة، فبلغ من التعظيم الغاية، وله كتاب الدرج وكتاب السفر وكتاب الأبوبة اليمنية وكتاب الكد(2/202)
وكتاب " الإحاطة (1) " ورسائل كثيرة في الأذكار وترتيب السلوك والوصايا والمواعظ والغنائم.
ومن شعره (2) :
كم ذا تموّه بالشعبين والعلم ... والأمر أوضح من نارٍ على علم
وكم تعبّر عن سلعٍ وكاظمةٍ ... وعن زرودٍ وجيرانٍ بذي سلم
ظللت تسأل عن نجدٍ وأنت بها ... وعن تهامة، هذا فعل متهم
في الحيّ حيٌّ سوى ليلى فتسأله ... عنها سؤالك وهمٌ جرّ للعدم ونشأ، رحمه الله تعالى، ترفاً مبجّلاً في ظل جاه ونعمة، لم تفارق معها نفسه البأو، وكان وسيماً، جميلاً، ملوكي البزة، عزيز النفس، قليل التصنع، وكان آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده، رحمه الله تعالى.
وقال في الإحاطة: للناس في أمره اختلاف بين الولاية وضدها (3) ، ولما وجه إلى كلامه سهام الناقدين (4) قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك، والخوض في تلك البحار والاطلاع (5) ، وساءت منهم في الممازجة له السيرة (6) ، فانصرفوا عنه مكلومين (7) ، يبذرون عنه في الآفاق من سوء القالة ما لا شيء فوقه، وجرت بينه وبين أعلام المشرق خطوب، ثم نزل مكة (8) ، وعاقه الخوف من أمير المدينة
__________
(1) ورد هذا الكتاب في " رسائل ابن سبعين ": 130 - 150.
(2) انظر الأبيات في الإحاطة: 321.
(3) نص ما ورد في الإحاطة: وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة بعيدة عن الاعتدال.
(4) الإحاطة: ولما توفرت دواعي النقد عليه؛ هذا ما ثبت في حواشي دوزي، أما في النسخة التي اعتمدتها من الإحاطة فقد اضطربت هذه الجملة؛ والمقري ينقل حاذفا عبارات كثيرة.
(5) الإحاطة: قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاطلاع والخوض في تلك الأغراض.
(6) الإحاطة: وساءت منه لهم [في] الملاطفة السيرة.
(7) الإحاطة: مكظ مين.
(8) زيادة من الإحاطة.(2/203)
[المعظمة] (1) عن الدخول إليها إلى أن توفي فعظم بذلك الحمل عليه (2) ، وقبحت الأحدوثة عنه، ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية - وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتاً للمسلمين - انتدب للجواب المقنع عنها، على فتاء من سنه، وبديهة من فكرته، رحمه الله تعالى، انتهى.
وقال بعض من عرف به: إنّه من أهل مرسية، وله علم وحكمة ومعرفة ونباهة وبراعة وفصاحة وبلاغة.
وقال في " عنوان الدراية " (3) : رحل إلى العدوة، وسكن ببجاية مدة، ولقي من أصحابنا ناساً (4) ، وأخذوا عنه، وانتفعوا به في فنون خاصة، له مشاركة في معقول العلوم ومنقولها، وله فصاحة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان، وهو أحد الفضلاء، وله أتباع كثيرة من الفقراء ومن عامة الناس، وله موضوعات كثيرة هي موجودة بأيدي أصحابه، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد، وله تسميات مخصوصة في كتبه من نوع الرموز، وله تسميات ظاهرة هي كالأسامي المعهودة، وله شعر في التحقيق، وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريق الأدباء، وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجّه مع الحجاج في كل عام، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام، ولقد مشى به للمغاربة في الحرم الشريف حظ لم يكن لهم في غير مدته، وكان أهل مكة يعتمدون على أقواله، ويهتدون بأفعاله.
توفي، رحمه الله تعالى، يوم الخميس تاسع شوّال 669، انتهى ببعض اختصار (5) .
__________
(1) زيادة من الإحاطة؛ وفي دوزي: النبوية.
(2) الإحاطة: فعظم عليه الحمل لأجل ذلك.
(3) عنوان الدراية: 139 - 140 وهو أيضا في الإحاطة: 318.
(4) عنوان الدراية: ولقيه من أصحابنا أناس.
(5) كذا قال، ولم يختصر من النص الذي نقله شيئا.(2/204)
وذكر (1) ، رحمه الله تعالى، في ترجمة تلميذه الشيخ أبي الحسن الشّشتري السابق الذكر أن أكثر الطلبة يرجّحونه على شيخه أبي محمد ابن سبعين، وإذا ذكر له هذا يقول: إنما ذلك لعدم إطلاعهم على حال الشيخ وقصور طباعهم.
ومن تآليف ابن سبعين الفتح المشترك.
[رجع إلى الششتري]
وممّا حكاه صاحب " عنوان الدراية " (2) في ترجمة الششتري - ممّا لم نذكره في ترجمته الماضية، ورأينا ذكره هنا تبركاً - أن الششتري كان في بعض أسفاره في البرية، وكان رجل من أصحابه قد أسر فسمعه الفقراء يقول: إلينا يا أحمد، فقيل له: من أحمد الذي ناديته يا سيدي في هذه البرية فقال لهم: من تسرّون به غداً إن شاء الله تعالى. فلما كان من الغد ورد الشيخ وأصحابه بلدة قابس، فعند دخولهم إذا بالرجل المأسور، فقال الشيخ للفقراء: هيئاً لنا باقتحام العقبة، صافحوا أخاكم، المنادى به.
ومن مناقبه - نفع الله تعالى به - أنه لما نزل ببلدة قابس برباط البحر المعروف [بمسجد] الصهريج جاءه الشيخ الصالح أبو إسحاق الزرنانيّ (3) نفع الله تعالى به بجميع أصحابه برسم الزيارة، فوافق وصوله وصول الشيخ الصالح الفاضل الولي أبي عبد الله الصّنهاجي - نفع الله تعالى به - مع جملة أصحابه للزيارة، فوجدوا الشيخ أبا الحسن قد خرج إلى موضع بخارج المدينة برسم الخلوة، فجلسوا لانتظاره، فلم يكن إلا قليل إذ أقبل الشيخ على هيئة معتبر متفكر، فلما دخل الرباط سلّم على الواصلين برسم الزيارة، وحيّا المسجد، وأقبل على الفقراء، وأثر العبرة على وجنته، فقال: ائتوني بمداد،
__________
(1) عنوان الدراية: 141.
(2) انظر المصدر المذكور: 141 وما بعدها.
(3) في عنوان الدراية: الورقاني؛ وفي نسخة: الزناني.(2/205)
فلما أحضر بين يديه تأوّه تأوّهاً شديداً كاد أن يحرق بنفسه جليسه، وجعل يكتب في اللوح هذه الأبيات (1) :
لا تلتفت بالله يا ناظري ... لأهيفٍ كالغصن الناضر
يا قلب واصرف عنك وهم البقا ... وخلّ عن سرب حمى حاجر
ما السّرب والبان وما لعلعٌ ... ما الخيف ما ظبي بني عامر
جمال من سمّيته داثرٌ ... ما حاجة العاقل بالداثر
وإنما مطلبه في الذي ... هام الورى في حسنه الباهر
أفاد للشمس سناً كالذي ... أعاره للقمر الزاهر
أصبحت فيه مغرماً حائراً ... لله درّ المغرم الحائر وكانوا يوماً ببلد مالقة، وكثيراً ما يجوّد عليه القرآن العزيز، فقرأ طالب قوله تعالى " إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني " فقال معجلاً رضي الله تعالى عنه، وفهم من الآية ما لم يفهم، وعلم منها ما لم يعلم (2) :
انظر للفظ أنا يا مغرماً فيه ... من حيث نظرتنا لعلّ تدريه
خلّ ادّخارك لا تفخر بعاريةٍ ... لا يستعير فقيرّ من مواليه
جسوم أحرفه للسرّ حاملة ... إن شئت تعرفه جرّب معانيه ودخل عليه شخص ببجاية من أهلها يعرف بأبي الحسن ابن علال، من أهل الأمانة والديانة، فوجده يذاكر بعض أهل العلم، فاستحسن منه إيراده للعلم، واستعماله لمحاضرة الفهم، فاعتقد شياخته وتقديمه، ثم نوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين ديناراً شكراً لله تعالى، ويأتيهم بمأكول، فلما يسر جميع ما اهتم به أراد أن يقسمه فيعطيه شطره ويدع الشطر الثاني إلى حين انصراف الشيخ،
__________
(1) ديوانه: 48.
(2) ديوانه: 80.(2/206)
ليكون للفقراء زاداً، فلما كان في الليل رأى في منامه النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ومعه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما، قال الرجل: فنهضت إليه بسرور رؤية النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقلت: يا رسول الله ادع الله تعالى لي، فالتفت لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وقال: يا أبا بكر، أعطه، فإذا به، رضي الله عنه، قسم رغيفاً كان بيده وأعطاني نصفه، ثم أفاق الرجل من منامه، وأخذه وجدٌ من هذه الرؤيا المباركة، فأيقظ أهله، واستعمل نفسه في العبادة، فلما كان من الغد سار وأتى الشيخ ببعض الطعام ونصف الدراهم المحتسب بها، فلما دفعها للشيخ قال له الشيخ: يا علي، اقرب، فلما قرب قال له: يا علي، لو أتيت بالكل لأخذت منه الرغيف بكامله، انتهى.
120 - أبو عبد الله محمد بن إبراهيم، الشهير بابن غصن الإشبيلي (1) ، من ولد شداد بن أوس الأنصاري، الجزيري، نسبته إلى الجزيرة الخضراء، الإمام، المقرئ، الزاهد، عرض على الأستاذ ابن أبي الربيع الموطّأ من حفظه، وأخذ عنه النحو، وكان من أولياء الله تعالى الصالحين، وعباده الناصحين، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، قوّالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، عارفاً بمتون الحديث وأحكامه، فقيهاً متقناً لمذاهب الأئمة الأربعة والصحابة والتابعين، لا يقبل من أحد شيئاً، مخلصاً لله تعالى، يتكلم على المنبر على عادة أهلا لعلم من تعليم المسائل الدينية، وأقرأ القرآن بمكة مدّة بالقراءات وبالمدينة وبيت المقدس، وممّن قرأ عليه خليل إمام المالكية بالحرم، والشهاب الطبري إمام الحنفية بالحرم، وله مصنفات في القراءات: منها " مختصر الكافي " وكتاب " في معجزات النبي " صلّى الله عليه وسلّم، ومولده سنة 631 تخميناً (2) ،
__________
(1) انظر ترجمة ابن غصن في غاية النهاية 2: 47 ولم ينسبه إشبيليا أو جزيريا وإنما قال فيه: القصري السبتي.
(2) في غاية النهاية: سنة ثلاث وخمسين وستمائة.(2/207)
وتوفي ببيت المقدس آخر سنة 723 (1) ، رحمه الله تعالى.
121 - ومنهم الشيخ الفقيه، الأستاذ النحوي التاريخي اللغوي أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهري اللّبلي (2) يكنى أبا العباس وأبا جعفر، قرأ بالأندلس على مشايخ من أفضلهم الأستاذ أبو علي عمر الشّلوبين، ثم ارتحل إلى العدوة وسكن بجاية، وأقرأ بها مدّة، وارتحل إلى المشرق فحج، ثم رجع إلى حضرة تونس واتخذها وطناً، واشتغل بها بالإقراء إلى أن مات. كان يتبسط لإقراء سائر كتب العربية، وله علم جليل باللغة، وله تواليف كثيرة: منها (3) على الجمل وشرح الفصيح لثعلب، ولم يشذ فيه شيء من فصيح كلام العرب.
قال الغبريني، رحمه الله تعالى: ورأيت له تأليفاً في الأذكار، وله عقيدة في علم الكلام، ورأيت له مجموعاً سمّاه الإعلام بحدود قواعد الكلام تكلم فيه على الكلم الثلاث، الاسم والفعل والحرف، وله تواليف أخر، وكان من أساتيذ إفريقية في وقته، وممّن أخذ عنه، واستفيد منه، انتهى.
وذكر الشيخ أبو الطيب ابن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفاً سمّاه التجنيس، وله شرح أبيات الجمل، سمّاه وشي الحلل رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس، فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم، وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده، فحكى أبو عبد الله القطان المسفّر - وكان يخدم حازماً - قال: كنت يوماً بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب، فسمعت نقر الباب، فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر، فرجعت وأخبرت أبا الحسن، فقال مبادراً حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه، فرأى الكتاب بين يده، فقال له: يا أبا الحسن، قال الشاعر:
__________
(1) هكذا هو في غاية النهاية أيضاً؛ وفي إحدى نسخ النفح: 722.
(2) ترجمته في عنوان الدراية: 211 وبغية الوعاة: 176.
(3) بعد لفظة " منها " بياض في ج بقدر كلمة.(2/208)
شطروعين الرضى عن كلّ عيب كليلة ... فقال له: يا فقيه أبا جعفر، أنت سيدي وأخي، ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق، والعلم لا يحتمل المداهنة، فقال له: فأخبرني بما عثرت عليه، قال له: نعم، فأظهر له المواضع، فسلّمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه.
وأصل هذا اللّبلي من لبلة بالأندلس (1) ، اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد، وكان نحويّاً، فلما دخل عليه اللّبلي قال له القاضي: خير مقدمٍ، ثم سأله بعد حين: بم انتصبت خير مقدم فقال له اللبلي: على المصدر وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها، وقد ذكره سيبويه إلى آخره، فإنه كان يحفظ أكثره، فأكرمه القاضي وعظمه.
ثم قال ابن علوان: وذكر والدي أيضاً، رحمه الله تعالى، ومن خطه المبارك نقلت، أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور، رحمه الله تعالى، قرئ عليه يوماً قول امرئ القيس (2) :
حيّ الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي فقال لطلبته: ما العامل في هذا الظرف يعني إذ فتنازعوا القول، فقال: حسبكم، قرئ هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشّلوبين، فسألنا هذا السؤال، وكان أبو الحسن ابن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس، وكان الشلوبين يغض منه، فقال لنا: إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل، يعني ابن عصفور، فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا، ودخلنا المسجد، فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة، وهو يتكلم بغرائب النحو، فلم نجسر على سؤاله لهبيته،
__________
(1) دوزي: قرية بالأندلس، وسقطت " قرية " من ق ط ج.
(2) ديوان امرئ القيس: 236.(2/209)
وانصرفنا، ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي، فنسي حتى قرئ عليه قول النابغة:
فعد عمّا ترى إذ لا ارتجاع له (1) ... فتذكر، وقال: ما فعلتم في سؤال ابن عصفور فصدقنا له الحديث، فأقسم ألاّ يخبرنا ما العامل فيه، ثم قال اللّبلي لطلبته: وأنا أقول لكم مثل ذلك، فانظروا لأنفسكم، قالوا: فنظرنا فإذا المسألة مسألة فحص ونظر، كلما حكمنا بحكم صدتنا عنه قوانين نحوية، حتى مضت مدة طويلة، فوفد علينا بتونس المحروسة أحد طلبة ابن أبي الربيع، وكان ابن أبي الربيع هذا ساكناً بسبتة، وهو أحد طلبة الشلوبين أيضاً، ومن كبار هذه الطبقة التي نشأت بعده، قالوا: فتذاكرنا مع هذا الطالب في مسائل نحوية، فمرت هذه المسألة في قوله تعالى " إذ نسويكم برب العالمين " فقال هذا الطالب إن هذا الظرف وقع موقع لام العلة، فعلمنا أن هذا هو الذي أراد الأستاذ أبو علي، ثم ناقشنا الطالب وقلنا له: إذا جعلته ظرفاً فلا بد من العامل، وإذا جعلته واقعاً موقع الحرف كان هذا على شذوذ قول الكوفيين، والذي يجوز عكسه على مذهب الجميع، وإنما الأولى أن يقال: إذ حرفٌ معناه التعليل تشترك فيه الأسماء والحروف كما اشتركت في عن، والله أعلم بغيبه، انتهى.
122 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر ابن فرح القرطبي (2) ، قال الحافظ المقريزي: وفرح بسكون الراء، وقال الحافظ عبد الكريم فيحقه: إنه كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزاهدين في الدنيا المشتغلين بما يعنيهم من أمور الآخرة، فيما بين توجه وعبادة وتصنيف، جمع في تفسير القرآن كتاباً خمسة عشر مجلداً، وشرح أسماء الله الحسنى في
__________
(1) عجز البيت: " وانم القتود على عيرانة أجد ".
(2) ابن فرح هو صاحب التفسير المشهور بتفسير القرطبي واسمه " جامع أحكام القرآن "؛ انظر ترجمته في الوافي 2: 122 وطبقات المفسرين: 28 (وبروكلمان: التكملة 1: 737) .(2/210)
مجلدين، وله كتاب التذكرة في أمور الآخرة في مجلدين (1) ، وشرح التقصي، وله تآليف غير ذلك مفيدة، وكان مطّرح التكلف، يمشي بثوب واحد، وعلى رأسه طاقية، سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم بعض هذا الشرح، وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي، وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري وغيرهما، وتوفي بمنية ابن خصيب ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة 671، ودفن بها، رحمه الله تعالى.
وفي تاريخ الكتبي في حقه ما نصه: كان شيخاً فاضلاً، وله تصاينف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور علمه، منها تفسير القرآن مليح إلى الغاية اثنا عشر مجلداً، انتهى.
وكتب بعض تلامذته على الهامش ما صورته: قد أجحف المصنف في ترجمته جدّاً، وكان متفنناً متبحراً في العلم، انتهى. وكتب بعض بإثر هذا الكلام ما نصه: قال الذهبي: رحل وكتب وسمع، وكان يقظاً فهماً حسن الحفظ مليح النظم حسن المذاكرة ثقة حافظاً، انتهى. وكتب آخر إثر ذلك الكلام ما صورته: مشاحة شيخنا للمصنف في هذه العبارة ما لها فائدة، فإن الذهبي قال في تاريخ الإسلام: العلاّمة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أب بكر ابن فرح الإمام القرطبي إما متفنن، متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله، ثم ذكر موته، وقال بعده: وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان، وله الأسنى في شرح الأسماء الحسنى والتذكرة وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه، انتهى. وكتب آخر بإثر هذا الكلام ما نصه: غفر الله لك، إذا كان الذهبي ترجمه بما ذكرت، وهو والله فوق ذلك، فكيف تقول: إن مشاحة شيخك لا فائدة فيها، وتسيء الأدب معه
__________
(1) هو المعروف " التذكرة القرطبية " وله مختصر صنعه الشعراني وطبع ببولاق سنة 1300.(2/211)
وتقول إن لامه لا فائدة فيه فالله يستر عليك، انتهى.
123 - ومنهم أبو القاسم ابن حاضر، الجزيري، الخزرجي، محمد بن أحمد، من جزيرة شقر، قدم مصر، وسكن قوص بعدما كان من عدول بلنسية، وكان فصيحاً، عالماً بصناعة التوريق، وله نظم لم يحضرني الآن شيء منه، ومات بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وستمائة، رحمه الله تعالى.
124 - ومنهم أبو القاسم التّجيبي، محمد بن أحمد التّجيبي (1) ، من أهل بلّش، قرأ على ابن مفرّج وابن أبي الأحوص، ورحل فاستوطن القاهرة وكان شيخاً فاضلاً خيّراً، له أدب وشعر، منه قوله من أبيات (2) :
أحوى الجفون له رقيبٌ أحول ... الشيء في إدراكه شيئان
يا ليته ترك الذي أنا مبصرٌ ... وهو المخيّر في الغزال الثاني ولد ببلّش سنة 623، وتوفي بالحسينية خارج القاهرة سلخ المحرم سنة 695 (3) وممّن روى عنه نحويّ الزمان أثير الدين أبو حيّان وغيره، رحم الله تعالى الجميع.
125 - ومنهم أبو بكر الخزرجي، محمد بن أحمد بن حسن، وقيل: محمد بن عيسى المالقي المالكي (4) ، قال الشريف أبو القاسم: إنه كان أحد الزهاد الورعين، وعباد الله المتقين، مشتغلاً بنفسه، متخلياً (5) عمّا في أيدي الناس، يأكل من كسب يده، ولا يقبل لأحد شيئاً، مع وجد وعمل وفضل وأدب،
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن حسن بن عامر بن أحمد بن محمد بن حسن التجيبي. انظر ترجمته في الوافي 2: 140.
(2) البيتان في الوافي.
(3) في ق: 699 وفي دوزي: 694.
(4) ترجم له السيوطي في بغية الوعاة: 88 باسم محمد بن عيسى، وهو ينقل عن البدر السافر.
(5) ق ط ج: مستخلياً.(2/212)
ولم يكن في زمانه من اجتمع فيه ما اجتمع له.
وقال الحافظ عبد الكريم: إنه دخل إشبيلية، واشتغل بالعربية على الشّلوبين وقرأ القراءات السبع، ثم قدم مصر واشتغل بمذهب مالك، وكان والده نجاراً وكان لا يأكل إلاّ من كسب يده، يخيط الثياب، فازدحم الناس عليه تبركاً به، فترك ذلك وصار يدق القصدير ويأكل منه وتصدق بما فضل عنه، وكان شديد الزهد، كثير العبادة، لا يسلم يده إلى أحد ليقبّلها، وجاءه شخص قد زيد عليه في أجرة مسكنه ليشفع إلى صاحب الدار أن لا يقبل الزائد، فمضى إلى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر، فعلم بذلك الساكن بعد مدة، فقال له: يا سيدي ما سألت إلاّ شفاعة، وأنت تزن عني (1) ، فقال له: رجل له دار يأخذ أجرتها يجيء إليه الخزرجي يقطع عليه حقه والله ما يدفع هذا إلاّ أنا، فلم يزل يدفع الزائد إلى أن انتقل الساكن إلى غيره، ومات ليلة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 651، عن خمس وأربعين سنة، ودفن بالقرافة، رحمه الله تعالى، ونفعنا به.
126 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن خليل بن فرج الهاشمي (2) ، مولاهم، لأن ولاءه لبني العباس من أهل قرطبة، ولد في شهر رمضان سنة 322 بقرطبة، وسمع بها من وهب بن مسرة، وخالد بن سعيد (3) وغيره، ورحل فحج وأدرك بمصر ابن الورد وابن رشيق وأبا علي ابن السكن نظراءهم في سنة 349، وعاد إلى بلده، وبها مات في شهر رمضان سنة ست وأربعمائة.
قال ابن بشكوال (4) : كان رجلاً صالحاً فاضلاً، من أهل الاجتهاد في العبادة مائلاً إلى التقشف والزهادة، قديم الطلب حسن المذهب متبعاً للسنن.
__________
(1) دوزي: وأنت تنقد.
(2) ترجمته في الصلة: 470.
(3) الصلة: خالد بن سعد.
(4) لم يرد هذا في الطبعة المصرية من كتاب الصلة.(2/213)
127 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان (1) بن أحمد بن إبراهيم الزهري الأندلسي الإشبيلي (2) ، ولد بمالقة، وطاف الأندلس، وطلب العلم، وحصّل طرفاً صالحاً من علم الأدب، ودخل مصر قبل التسعين وخمسمائة فسمع الحديث بها، ودخل الشام وبلاد الجزيرة، وقدم بغداد سنة 590، وعمره ثلاثون سنة، وأقام بها مدة، وسمع من شيوخها كأبي الفرج ابن كليب ونحوه، وقرأ ونسخ بخطه، وسافر إلى أصبهان وبلاد الجبل، وكان فاضلاً حسن المعرفة بالأدب، يقول الشعر، وينشئ المقامات، وصنف كتاب البيان والتبيين في أنساب المحدثين ستة أجزاء، وكتاب البيان فيما أبهم من الأسماء في القرآن مجلد، وكتاب " أقسام البلاغة وأحكام الصناعة " (3) في مجلدين، وكتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في خمسة عشر مجلداً، وكتاب شرح المقامات مجلد، وكتاب " شرح اليميني " (4) في مجلد، قال المنذري: توفي شهيداً قتله التتار في رجب؛ وقال ابن النجار: في سابع عشر رجب سنة 617، رحمه الله تعالى.
128 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى بن القاسم، القرطبي، المقرئ المعروف بالورشي، نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها، وهو أحد القراء المعروفين. قال الحاكم: هو من الصالحين المذكورين بالتقدم في علم القرآن، سمع بمصر والشام والحجاز والعراقين والجبل وأصبهان، وورد نيسابور، ودخل خراسان فسمع علي بن المرزبان بأصبهان، وبالأهواز عبد الواحد ابن خلف الجنديسابوري، وبفارس أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي،
__________
(1) دوزي: سلمان.
(2) ترجمته في بغية الوعاة: 11 والوافي 2: 104 والنقل عن ابن النجار.
(3) كذلك هو في البغية، أما في الوافي: وأحكام الفصاحة.
(4) كتاب في التاريخ للعتبي.(2/214)
وقال ابن النجار: قدم بغداد، وحدّث بها، توفي بسجستان في ربيع الأول سنة 393.
129 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الباجي، اللخمي (1) ، قال ابن بشكوال: مولده في صفر سنة 356، وسمع عن جده، ورحل إلى المشرق.
وقال ابن غلبون في مشيخته: إنه كان من أهل العلم والحديث والرواية والحفظ للمسائل، قائماً بها، واقفاً عليها، قاعداً للشروط، محسناً لها، عارفاً، وبيتهم بيت علم، ونشأ فيهم هو وأبوه وجده، وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجاتهم في السن، وعلى منازلهم في السبق، وكانت رحلته مع أبيه وروايتهما واحدة، وشاركه في السماع والرواية عن جده، وسمع بمصر على أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن حميد بن رزيق المخزومي.
وقال ابن بشكوال: كان من أجلّ الفقهاء عندنا دراية ورواية، بصيراً بالعقود، ومتقدماً على أهل الوثائق (2) ، عارفاً بعللها، وألّف فيها كتاباً حسناً، وكتاباً في السجلات إلى ما جمع فيه من أقوال الشيوخ والمتأخرين، مع ما كان عليه من الطريقة المثلى، وتوفية العلم حقه من الوفاء والتصون، توفي في المحرم سنة 433 لعشرين بقين منه.
130 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز، العتبي، الأندلسي، القرطبي، الفقيه المالكي المشهور، صاحب العتبيّة (3) ، سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد ين حسان وغيرهما، ورحل إلى المشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج وغيرهما، وكان حافظاً للمسائل، جامعاً لها، عالماً بالنوازل، وهو الذي جمع المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالباً من مالك
__________
(1) ترجمته في الصلة: 495.
(2) الصلة: متقدماً في علم الوثائق.
(3) ترجمته في جذوة المقتبس: 36 (وبغية الملتمس رقم: 9) وابن الفرضي 2: 8 والوافي 2: 30.(2/215)
ابن أنس، وتعرف بالعتبية، وأكثر فيها من الروايات المطوحة والمسائل الغريبة الشاذة، وكان يؤتى بالمسألة الغريبة الشاذة فإذا سمعها قال: أدخلوها في المستخرجة، ولذا روي عن ابن وضاح أنه كان يقول: المستخرجة فيها خطأ كثير، كذا قال، ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من أعلام الملكية كابن رشد وغيره.
قال ابن يونس: توفي بالأندلس سنة 255.
والعتبي: نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان ابن حرب، وقيل: إلى جد للمذكور يسمى عتبة، وقيل: إلى ولاء عتبة بن أبي يعيش.
131 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن زكريا المعافري، المقرئ، الفرضي، الأديب، ولد بالأندلس سنة 591، ونشأ ببلنسية، وأقام بالإسكندرية، وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل، ونظم قصيدة في القراءات على وزن الشاطبية، لكن أكثر أبياتاً، وصرح فيها بأسماء القراء، ولم يرمز كما فعل الشاطبي، وكانت له يد في الفرائض والعروض، مع معرفة القراءات والأدب.
ومن شعره:
إذا ما اشترت بنتٌ أباها فعتقها ... بنفس الشرا شرعاً عليها تأصّلا
وميراثه إن مات من غير عاصب ... ومن غير ذي فرضٍ لها قد تأثلا
لها النصف بالميراث والنصف بالولا ... فإن وهب ابناً أو شرّاه تفضلا
فأعتق شرعاً ذلك الابن ما لها ... سوى الثلث، والثلثان للأخ أصلا
وميراثها فيه إذا مات قبلها ... كميراثها في الأب من قبل يجتلى
ومولى أبيها ما لها الدهر فيه من ... ولاء ولا إرث مع الأب فاعتلى وهذه المسألة ذكر الغزالي في الوسيط أنه قضى فيها أربعمائة قاضٍ وغلطوا وصورتها ابنة اشترت أباها فعتق عليها، ثم اشترى الأب ابناً فعتق عليه، ثم(2/216)
اشترى الأب عبداً فأعتقه، ثم مات الأب، فورثه الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم مات العبد المعتق، فلمن يكون ولاؤه وفرضها المالكية على غير هذا الوجه وهي مشهورة.
132 - ومنهم محمد بن أحمد بن محمد بن سهل، أبو عبد الله الأموي، الأندلسي، الطّليطلي، المعروف بالنقاش، نزل مصر، وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص، وأخذ عنه جماعة، وتوفي بمصر سنة 529.
133 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي، القبري القرطبي، المؤدب (1) ، رحل من الأندلس سنة 342، فسمع بمصر من أبي محمد ابن الورد وأبي قتيبة مسلم بن الفضل البغدادي وغيره، وكان صالحاً خيّراً مؤدباً، سمع الناس منه كثيراً (2) ، وتوفي سنة 362.
والقبري - بفتح القاف، وسكون الباء الموحدة، ثم راء مهملة - نسبة إلى قبرة بلدٍ بالأندلس بقرب قرطبة بنحو ثلاثين ميلاً.
134 - ومنهم جمال الدين أبو بكر الوائلي، محمد بن أحمد بن محمد ابن عبد الله بن سجمان (3) ، الشريشي، المالكي (4) ، ولد بشريش سنة 601، ورحل فسمع بالإسكندرية من ابن عماد (5) الحراني، وبدمشق من مكرم بن أبي الصقر، وبحلب من أبي البقاء يعيش بن علي النحوي، وسمع بإربل وبغداد، وأقام بالمدرسة الفاضلية من القاهرة مدة يفيد الناس فتخرّج به جماعة، وولي مشيخة المدرسة بالقدس، ومشيخة الرباط الناصري بالجبل، وأقام بدمشق يفتي
__________
(1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 74.
(2) في ط ق ج: سمع من الناس، والتصويب عن ابن الفرضي.
(3) ضبطه السيوطي: بضم السين المهملة وسكون الحاء أي " سحمان ".
(4) انظر ترجمته في بغية الوعاة: 18.
(5) في الأصول: ابن عمار.(2/217)
ويدرّس، وكان من العلماء الزهاد كثير العبادة والورع والزهد، أحد الأئمة المبرزين المتبحرين في العربية والفقه على مذهب الإمام مالك، والتفسير، والأصول، وصنّف كتاباً في الاشتقاق، وشرح ألفية ابن معطي، وأخذ عنه الناس، وطلب للقضاء بدمشق فامتنع منه زهاداً وورعاً، وبقي المنصب لأجله شاغراً إلى أن مات برجب سنة 685، ودفن بقاسيون.
وسجمان: بسين مهملة مضمومة، ثم جيم ساكنة، بعدها ميم مفتوحة، ونون.
135 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرّج القرطبي، المعروف والده بالقنتوري (1) ، وكان جد أبيه مفرج صاحب الركاب للحكم بن عبد الرحمن الداخل، وكان أبوه أحمد بن يحيى رجلاً صالحاً، وولد هو سنة 315 (2) ، وكان سكناه بقرطبة بقرب عين قنت أورية، وسمع بقرطبة من قاسم ابن أصبغ كثيراً، ومن ابن أبي دليم والخشني، ورحل سنة 337 فسمع بمكة من ابن الأعرابي، ولزمه حتى مات، وسمع بها من جماعة غيره، وسمع بجدة، وبالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام، ودخل صنعاء وزبيد وعدن سمع بها من جماعة، وسمع بمصر من البرقي صاحب أحمد البزار، وسمع من السيرافي وجماعة كثيرة، وسمع بغزّة وعسقلان وطبرية ودمشق وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وصور وقيسارية والقلزم والفرما والإسكندرية، فبلغت عدة شيوخه إلى مائتين وثلاثين شيخاً، وروى عنه أبو عمر الطلمنكي وجماعة، وكتب تاريخ مصر عن مؤلفه أبي سعيد ابن يونس، وروى عنه ابن يونس وهو من أقرانه، وعاد إلى الأندلس من رحلته سنة 345، واتصل بالحكم المستنصر، وصارت له عنده مكانة، وألّف له عدة كتب، واستقضاه على
__________
(1) انظر ترجمته في جذوة المقتبس: 38 (وبغية الملتمس رقم: 14) وابن الفرضي 2: 93.
(2) في أصول النفح: 325؛ والتصويب عن ابن الفرضي؛ وقد اتفقت المصادر على أن رحلته سنة 337، وهذا يعني أنه رحل وهو ابن اثنتي سنة إذا قلنا إنه ولد سنة 325 وهو أمر متسبعد.(2/218)
إستجة ثم على المريّة، ومات برجب سنة 348 (1) .
قال الحميدي: هو محدّث، حافظ جليل، صنف كتباً في فقه الحديث، وفي فقه التابعين: فمنها فقه الحسن البصري في سبع مجلدات، وفقه الزهري في أجزاء كثيرة، وسمع مسند ابن افرضي وحديث قاسم بن أصبغ.
قال ابن الفرضي: وكان عالماً بالحدث، بصيراً برجاله، صحيح النقل حافظاً، جيد الكتابة على كثرة ما جمع.
وقال ابن عفيف في حقه: إنه كان من أعنى الناس بالعلم، وأحفظهم للحديث وأبصرهم بالرجال، ما رأيت مثله في هذا الفن، من أوثق المحدثين بالأندلس، وأصحهم كتباً، وأشدهم تعباً لروايته، وأجودهم ضبطاً لكتبه، وأكثرهم تصحيحاً لها، لا يدع فيها شبهة، رحمه الله تعالى.
136 - ومنهم أبو عبد الله القيسي الوضاحي، محمد بن أحمد بن موسى (2) ، رحل من المغرب، وسمع من السّلفي وغيره جملة صالحة، ثم عاد إلى الأندلس بعد الحج، وسكن المرية مدة وبها مات سنة 539، وقيل: في التي بعدها، وكان من أظرف الناس، وأحسنهم أدباً، فقيهاً، فاضلاً، ثقة، ذا فرائد جمة، عفيفاً، معتنياً بالعلم.
137 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل، العبدري، البلنسي (3) ، ولد سنة 519، وسمع من أبيه وجماعة، ورحل حاجّاً فسمع من السّلفي وابن عوف (4) والحضرمي والتنوخي والعثماني وغيرهم،
__________
(1) ذكر ابن الفرضي أنه توفي سنة ثمانين وثلاثمائة وهذا هو المعقول إذ أن المستنصر لا يستقضيه قبل سنة 350 وهي السنة التي تولى فيها الحكم.
(2) ترجمة الوضاحي في أخبار وتراجم أندلسية: 115 - 116.
(3) رجمة ابن هذيل في الذيل والتكملة: 24 (نسخة باريس) وقال فيه مرباطري، وذكر أنه توفي بمربيطر سنة 593 وانظر كذلك التكملة: 552 وإنما نسب إلى بلنسية لأنه من أبيشة وهي من ثغور بلنسية.
(4) ق: وابن عون؛ وهو خطأ.(2/219)
ورجع بعد الحج إلى الأندلس فحدّث، وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر، وله حظ من علم العبارة، ومشاركة في اللغة، وكتب بخطه على ضعفه كثيراً، رحمه الله تعالى.
138 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نوح الإشبيلي، ومولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة بإشبيلية، وجال في بلاد المغرب والمشرق، وقرأ على الشيوخ الفضلاء، وحصّل كثيراً في علم القرآن والأدب، وله نظم ونثر، وكان كثير التلاوة للقرآن، جيد الأداء له، وأقام بدمشق حتى مات بها سنة 699، رحمه الله تعالى.
139 - ومنهم محمد بن أسباط، المخزومي القرطبي (1) ، روى عن يحيى ابن يحيى، وقدم مصر فسمع من الحارث بن مسكين، وكان حافظاً للفقه، عالماً، توفي سنة 279.
140 - ومنهم أبو بكر محمد بن إسحاق، الشهير بابن السليم (2) ، قاضي الجماعة بقرطبة مولده سنة 306، روى عن قاسم بن أصبغ وطبقته، ورحل سنة 332، فسمع بمكة من ابن الأعرابي، وبمصر من الزبيريّ وابن النحاس وغيرهما، وعاد إلى الأندلس فأقبل على الزهد ودراسة العلم، وحدث، فسمع منه الناس، وكان حافظاً للفقه، بصيراً بالاختلاف، حسن الخط والبلاغة متواضعاً، وتوفي بجمادى الأولى سنة 367.
وسليم بفتح السين مكبراً.
141 - ومنهم موسى بن بهيج المغربي الأندلسي الواعظ الفقيه العالم،
__________
(1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 13.
(2) ترجمة القاضي ابن السليم في جذوة المقتبس: 40 (وبغية الملتمس رقم: 75) وابن الفرضي 2: 79 والمرقبة العليا: 75.(2/220)
من أهل المرية، نزل مصر، يكنى أبا عمران، كان من أهل العلم والأدب، وله في الزهد وغيره أشعار حملت عنه، وحدث المرشاني عنه بمخمّسة في الحج وأعماله كلها، ولقيه بمصر وقرأها عليه.
ولابن بهيج هذا قوله:
إنّما دنياك ساعه ... فاجعل الساعة طاعه
واحذر التقصير فيها ... واجتهد، ما قدره ساعه
وإذا أحببت عزّاً ... فالتمس عزّ القناعه 142 - ومنهم أبو عمران موسى بن سعادة (1) ، مولى سعيد بن نصر (2) ، من أهل مرسية (3) ، سمع صهره أبا علي ابن سكرة الصّدفي، وكانت بنته عند أبي علي، ولازمه وأكثر عنه، وروى عن أبي محمد ابن مفوّز الشاطبي وأبي الحسن ابن شفيع، قرأ عليهما الموطأ، ورحل، وحج، وسمع السنن من الطرطوشي، وعني بالرواية، وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه، وسمعهما على صهره أبي علي، وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما، حكى الفقيه أبو محمد عاشر بن محمد أنهما سمعا على أبي علي نحو ستين مرة، وكتب أيضاً الغريبين للهروي، وغير ذلك، وكان أحد الأفاضل الصّلحاء، والأجواد السّمحاء، يؤم الناس في صلاة الفريضة، وتولى القيام بمؤن صهره أبي علي وبما يحتاج إليه من دقيق الأشياء وجليلها، وإليه أوصى عند توجّهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة، وكانت له مشاركة في علم اللغة والأدب، وقد حدث عنه ابن أخيه القاضي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب أدب الكتّاب لابن قتيبة، وبالفصيح لثعلب.
__________
(1) ترجمة موسى بن سعادة في معجم شيوخ الصدفي: 188.
(2) كان سعيد بن نصر مولى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر.
(3) أصله من بلنسية ولكنه خرج منها عندما استولى عليها الروم سنة 486 فانتقل إلى دانية ثم إلى مرسية.(2/221)
143 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن طاهر، الأزدي (1) ، من أهل وادي آش، له رحلة إلى المشرق أدى فيها الفريضة، وسمع بدمشق من أي طاهر الخشوعي مقامات الحريري وابن عساكر وغيرهما، ثم قفل إلى بلده، انتهى ملخصاً من ابن الأبار.
وحكى الصفدي (2) أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي بمصر، وروى عنه شيئاً من شعره، وممّا روى عنه أنه قال: أنشدني المتنبي لنفسه:
لاعبت بالخاتم إنسانةً ... كمثل بدر في الدّجى الفاحم
وكلّما حاولت أخذي له ... من البنان المترف الناعم
ألقته في فيها فقلت: انظروا ... يقد خبّت الخاتم في الخاتم (3) 144 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله ابن مالك (4) ، صاحب التسهيل والألفية، وهو: جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله ابن مالك الإمام العلامة الأوحد الطائي الجياني المالكي حين كان بالمغرب، الشافعي حين انتقل إلى المشرق، النحوي، نزيل دمشق.
ولد سنة ستمائة أبو في التي بعدها، وسمع بدمشق من مكرم وأبي صادق الحسن بن صبّاح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم، وأخذ العربية عن غير واحد، فممن أخذ عنه بجيّان أبو المظفر، وقيل: أبو الحسن، ثابت بن خيار، عرف بابن الطيلسان، وأبي رزين ابن ثابت بن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعي
__________
(1) هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، انظر التكملة: 875 وقال ابن الأبار إنه وقف على خطه بالسماع منه والإجازة في ذي القعدة سنة 599.
(2) لا أدري علاقة هذا النص بما قبله. ولعله: وحكى [عنه] الصفدي ...
(3) عند هذا الحد تنتهي نسخة ط وقد جاء في آخرها: " انتهى الجزء الأول من كتاب نفح الطيب ... الخ، يتلوه إن شاء الله في أول الثاني: ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله ابن مالك ".
(4) ترجمة ابن مالك في الوافي 3: 359 والفوات 2: 452 وغاية النهاية 2: 180 وبغية الوعاة: 53.(2/222)
من أهل لبلة، وأخذ القراءات عن أبي العباس أحمد بن نوّار، وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله ابن مالك المرشاني، وجالس يعيش وتلميذه ابن عمرون وغيره بحلب، وتصدّر بها لإقراء العربية، وصرف همته إلى إتقان لسان العرب، حتى بلغ فيه الغاية، وأربى على المتقدمين، وكان إماماً في القراءات، وعالماً بها، وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية، وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها.
قال الصفدي: أخبرني أبو الثناء محمود قال: ذكر ابن مالك يوماً ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة، قال الصفدي: وهذا أمر معجز، لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين (1) ، وأخبرني عنه أنه كان إذا صلّى في العادلية - لأنه كان إمام المدرسة - يشيعه قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان إلى بيته تعظيماً له.
وقد روى عنه الألفية شهاب الدين محمود المذكور، ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة، ورواها إجازةً عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه.
وأما النحو والتصريف (2) فكان فيهما ابن مالك بحراً لا يشق لجّه، وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمراً عجيباً، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره، وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه آية، لأنه أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث، وإن لم يكن فيه شيء (3) عدل إلى أشعار العرب، هذا مع ما هو عليه من الدين والعبادة وصدق اللهجة، وكثرة النوافل، وحسن السّمت، وكمال العقل،
__________
(1) الوافي: لأنه يريد ينقل الكتابين.
(2) النقل عن الصفدي أيضاً.
(3) دوزي: شاهد.(2/223)
وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل بالجامع وبالتربة العادلية، وتخرج به جماعة، وكان نظم الشعر عليه سهلاً رجزه وطويله وبسيطه، وصنف كتاب تسهيل الفوائد، قال الصفدي (1) : ومدحه سعد الدين محمد بن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية، وهي:
إن الإمام جمال الدين جمّله ... ربّ العلا ولنشر العلم أهّله
أملى كتاباً له يسمى " الفوائد " لم ... يزل مفيداً لذي لبٍّ تأمله
وكلّ مسألة في النحو يجمعها ... إن الفوائد جمع لا نظير له قال: وفي هذه الأبيات مع حسن التورية فيها ما لا يخلو من إيراد ذكرته في كتابي " فض الختام (2) "، انتهى.
قلت: أجاب العجيسي عن ذلك بأن الأبيات ليست في التسهيل، وإنما هي في كتاب له يسمى " الفوائد " وهو الذي لخصه في " التسهيل "، فقوله في اسم التسهيل تسهيل الفوائد معناه تسهيل هذا الكتاب، وذكر أيضاً أنه مثل التسهيل في القدر على ما ذكره من وقف عليه، وقال: وإليه يشير سعد الدين محمد بن عربي بقوله إن الإمام - إلى آخره وسعد الدين ابن الشيخ محيي الدين صاحب الفصوص وغيرها.
ثم قال العجيسي: وذكر غير واحد من أصحابنا أن له كتاباً آخر سمّاه بالمقاصد، وضمّنها تسهيله، فسماه لذلك تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فعلى هذا لا يصح قول الصفدي: إن المدح المذكور في التسهيل، إلاّ بارتكاب ضرب من التأويل، انتهى كلام العجيسي.
قلت: وذكر غيره أن قوله في الألفية " مقاصد النحو بها محوية " إشارة لكتاب المقاصد، وتعقب بقوله محوية فإنه لو كان كما ذكر لقال محويّ،
__________
(1) الوافي: 360.
(2) في الأصول ودوزي: فص الخاتم؛ والمراد كتابه " فض الختام عن التورية والاستخدام ".(2/224)
وأجاب بعضهم بأنه من باب الاستخدام، وفيه تعسف.
رجع - من تصانيف ابن مالك " الموصل في نظم المفصل " وقد حل هذا النظم فسماه " سبك المنظوم وفك المختوم " ومن قال " إن اسمه فك المنظوم وسبك المختوم " فقد خالف النقل والعقل، ومن كتب ابن مالك كتاب " الكافية الشافية " ثلاثة آلاف بيت، وشرحها، و " الخلاصة " وهي مختصر الشافية، و " إكمال الإعلام بمثلث الكلام " وهو مجلد كبير كثير الفوائد يدل على اطلاع عظيم، و " لامية الأفعال " وشرحها، و " فعل وأفعل "، و " المقدمة الأسدية " وضعها باسم ولده الأسد، و " عدّة اللافظ وعمدة الحافظ "، و " النظم الأوجز فيما يهمز "، و " الاعتضاد في الظاء والضاد " مجلد، وإعراب مشكل البخاري، و " تحفة المودود في المقصور والممدود " وغير ذلك كشرح التسهيل، وروى عنه ولده بدر الدين محمد، وشمس الدين بن جعوان، وشمس الدين بن أبي الفتح، وابن العطار، وزين الدين أبو بكر المزّي، والشيخ أبو الحسين اليونيني، وأبو عبد الله الصيرفي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، وشهاب الدين محمود، وشهاب الدين بن غانم، وناصر الدين بن شافع، وخلق كثير سواهم.
ومن نظمه في الحلبة:
خيل السباق المجلّي يقتفيه مص ... لٍّ والمسلّي وتعالٍ قبل مرتاح
وعاطفٌ وحظيٌّ والمؤمّل وال ... لطيم والفسكل السّكيت يا صاح وله من هذه الضوابط شيء كثير.
وكان يقول عن الشيخ ابن الحاجب: إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل، وصاحب المفصل نحوه صغيرات، وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري.
وكان الشيخ ركن الدين بن القوبع يقول: إن ابن مالك ما خلّى للنحو حرمة.
وحكي عنه أنه كان يوماً في الحمّام وقد اعتزل في مكان يستعمل فيه الموسى، فهجم عليه فتى فقال: ما تصنع فقال: أكنس لك الموضع للقعود، قال(2/225)
بعضهم: وهذا ممّا يستبعد على دين ابن مالك، والعهدة على ناقله، قال الصفدي: ولا يستبعد ذلك من لطف النحاة وطباع أهل الأندلس.
وتوفي ابن مالك بدمشق سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
وقال بعضهم: من أحسن شعر ابن مالك قوله:
إذا رمدت عيني تداويت منكم ... بنظرة حسن أو بسمع كلام
فإن لم أجد ماء تيممت باسمكم ... وصليت فرضي والديار أمامي
وأخلصت تكبيري عن الغير معرضا ... وقابلت أعلام السوى بسلام
ولم أر إلا نور ذاتك لائحا ... فهل تدع الشمس امتداد ظلام وقدم - رحمه الله تعالى - القاهرة، ثم رحل إلى دمشق، وبها مات كما علم.
وقال الشرف الحصيني يرثيه (1) :
يا شتات الأسماء والأفعال ... بعد موت ابن مالك المفضال
وانحراف الحروف من بعد ضبط ... منه في الانفصال والاتصال
مصدرا كان للعلوم بإذن ال ... له من غير شبهة ومحال
عدم النعت (2) والتعطف والتو ... كيد مستبدلا من الأبدال
ألم إعتراه أسكن منه ... حركات كانت بغير اعتلال
يا لها سكتة لهمز قضاء ... أورثت طول مدة الانفصال
رفعوه في نعشه فانتصبا ... نصب تمييز، كيف سير الجبال
فخموه عند الصلاة بدل ... فأمليت أسراره للدلال
صرفوه يا عظم ما فعلوه ... وهو عدل معرف بالجمال
أدغموه في الترب من غير مثل ... سالما من تغير الإنتقال
__________
(1) وردت في الفوات والوافي وبغية الوعاة.
(2) في ق ج ودوزي: النحو.(2/226)
وقفوا عند قبره ساعة الدف ... ن وقوفا ضرورة الإمتثال
ومددنا الأكف نطلب قصرا ... مسكنا للنزيل من ذي الجلال
آخر الآي من سبا الحظ منه (1) ... حظه جاء أول الأنفال
يا بيان الإعراب (2) يا جامع الإغ ... راب يا مفهما لكل مقال
يا فريد الزمان في النظم والنث ... ر وفي نقل مسندات العوالي
كم علوم بثثتها في أناس ... علموا ما بثثت (3) عند الزوال انتهت ملخصة.
قال الصفدي: وما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها، انتهى.
ودفن ابن مالك بسفح قاسيون، بتربة القاضي عز الدين ابن الصائغ، وقال العجيسي: بتربة ابن جعوان. ورثاه الشيخ بهاء الدين ابن النحاس بقوله (4) :
قل لابن مالك أن جرت بك أدمعي ... حمراً يحاكيها النّجيع القاني
فلقد جرحت القلب حين نعيت لي ... وتدفقت بدمائه أجفاني
لكن يهوّن ما أجنّ من الأسى ... علمي بنقلته إلى رضوان
فسقى ضريحاً ضمّه صوب الحيا ... يهمي به بالرّوح والرّيحان وابن النحاس المذكور أحد تلامذة ابن مالك، وهو القائل يخاطب رضي الدين الشاطبي الأندلسي، وقد كلفه أن يشتري له قطراً:
أيها الأوحد الرضيّ الذي طا ... ل علاءً وطاب في الناس نشرا
أنت بحرٌ لا غرو إن نحن وافي ... ناك راجين من نداك القطرا
__________
(1) الوافي: حظنا منه.
(2) ج ودوزي: يا لسان الأعراب.
(3) ق ودوزي: ما ثنيت.
(4) انظر البغية: 57.(2/227)
وابن النحاس المذكور له نظم كثير مشهور بين الناس، وهو: بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر، الحلبي الأصل، المعروف بابن النحاس، وهو شيخ أبي حيّان، ولم يأخذ أبو حيّان عن ابن مالك وإن عاصره بنحو ثلاثين سنة.
وقال بعض من عرّف بابن مالك: إنه تصدر بحلب مدة، وأمّ بالسلطانية، ثم تحول إلى دمشق، وتكاثر عليه الطلبة، وحاز قصب السبق، وصار يضرب به المثل في دقائق النحو، وغوامض الصرف، وغريب اللغات، وأشعار العرب، مع الحفظ والذكاء والورع والديانة وحسن السّمت والصيانة والتحري لما ينقله والتحرير فيه، وكان ذا عقل راجح، حسن الأخلاق مهذباً، ذا رزانة وحياء ووقار، وانتصاب للإفادة، وصبر على المطالعة الكثيرة، تخرج به أئمة ذلك الزمان كابن المنجي وغيره، وسارت بتصانيفه الرّكبان، وخضع لها العلماء الأعيان، وكان حريصاً على العلم، حتى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد.
وقال بعض الحفاظ حين عرّف بابن مالك: يقال إن عبد الله في نسبه مذكور مرتين متواليتين، وبعض يقول: مرة واحدة، وهو الموجود بخطه أول شرحه لعمدته، وهو الذي اعتمده الصفدي وابن خطيب داريّا محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري، وعلى كل حال فهو مشهور بجدّه في المشرق والمغرب.
وحكى بعضهم أن ولادته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وعليه عوّل شيخ شيوخ شيوخنا ابن غازي في قوله:
قد خبع ابن مالك في خبعا ... وهو ابن عه وكذا وعى من قد وعى (1) وقيل، كما تقدم: إن مولده سنة ستمائة أو بعدها بجيّان الحرير مدينة من مدن الأندلس جبر الله كسرها - وهي مفتوحة الجيم وياؤها مشددة تحتانية - وتصدّر ابن مالك بحماة مدة، وانتقد بعضهم على ابن خلكان إسقاطه من تاريخه،
__________
(1) يريد أن مقدار حروف " خبع " في حساب الجمل يساوي 673 وهي سنة وفاته، وعه 75.(2/228)
مع كونه كان يعظمه إلى الغاية، وقدّم، رحمه الله تعالى، لصاحب دمشق قصة يقول فيها عن نفسه: إنه أعلم الناس بالعربية والحديث، ويكفيه شرفاً أن من تلامذته الشيخ النووي (1) ، والعلم الفارقي، والشمس البعلي، والزين المزّي، وغيرهم ممن لا يحصى.
وكان، رحمه اله تعالى، كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئاً من محفوظه حتى يراجعه في محله، وهذه حالة المشايخ الثقات، والعلماء الأثبات، ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ، وكذا كان الشيخ أبو حيّان، ولكن كان جدّه في التصنيف والإقراء.
وحكي أنه توجه يوماً مع أصحابه للفرجة بدمشق، فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه بسويعة، فطلبوه فلم يجدوه، ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبّاً على أوراق.
وأغرب من هذا في اعتنائه بالعلم ما مر أنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدّها بعضهم بثمانية، وفي عبارة بعض أو نحوها لقنه ابنه إياها، وهذا ممّا يصدق ما قيل: بقدر ما تتعنى، تنال ما تتمنى، فجزاه الله خيراً عن هذه الهمة العلية.
وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله، أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان، ولذا تضعف استنباطاته وتعقّباته على أهل هذا الشان، وينفر من المنازعة، والمباحثة والمراجعة، قال: وهذا شأن من يقرأ بنفسه، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه، ولقد طال فحصي وتنقيري عمّن قرأ عليه، واستند في العلم إليه، فلم أجد من يذكر لي شيئاً من ذلك، ولقد جرى يوماً مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال: ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده، جيّان، وأنه جلس في حلقة
__________
(1) ق ج ودوزي: النوري.(2/229)
الأستاذ أبي علي الشلوبين نحواً من ثلاثة عشر يوماً، وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن، وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن، هذا حاصل ما ذكره أبو حيّان.
قال بعض المحققين، وهو العلامة يحيى العجيسي: وليس ذلك منه بإنصاف ولا يحمل على مثله إلاّ هوى النفس وسرعة الانحراف، فنفيه المسند عنه والمتبع، شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع، ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه: نظم في هذا العلم كثيراً ونثر، وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب، وإن منها كثيراً استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة إذ هي مرتبة الأكابر النقاد، وأرباب النظر والاجتهاد، وقوله في موضع آخر من تذييله لا يكون تحت السماء أنحى ممّن عرف ما في تسهيله وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه، ولا أن يحط عليه، ولا أن يقع فيما وقع فيه، فإنه ممّا يجرّئ على أمثاله الغبي والنبيه، والحليم والسفيه، وما هذا جزاء السلف من الخلف، والدّرر من الصدف، والجيد من الحشف، أوما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله ابن النحاس، فإنه لا يذكره إلاّ بأحسن ذكر كما هو أدب خيار الناس، ومن كلامه في نقله عنه: وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول، وإلى تلميذه أبي البقاء المصري حيث يقول فيه، أعني في أبي حيّان:
هو الأوحد الفرد الذي تمّ علمه ... وسار مسير الشمس في الشرق والغرب
ومن غاية الإحسان مبدأ فضله ... فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب ومن غاية الإحسان، في هذا الشان، التصانيف التي سارت بها الرّكبان، في جميع الأوطان، واعترف بحسنها الحاضر والبادي، والداني والقاصي، والصديق والعدو، فتلقّاها بالقبول والإذعان فسامح الله تعالى أبا حيّان، فإن(2/230)
كلامه يحقق قول القائل: كما تدين تدان، ورحم الله تعالى ابن مالك، فلقد أحيا من العلم رسوماً دارسة، وبيّن معالم طامسة، وجمع من ذلك ما تفرق، وحقق ما لم يكن تبين منه ولا تحقق، ورحم شيخه ثابت بن الخيار، فإنه كان من الثقات الأخيار، وهو أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن الخيار الكلاعي - بضم الكاف على ما كان يضبط بيده فيما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة - وأصله من لبلة، وبعد في أهل جيّان، وتوفّي بغرناطة سنة 628.
وكان أبو حيّان يغض من هذا الكتاب ويقول: ما فيه من الضوابط والقواعد حائد عن مهيع الصواب والسداد، وكثيراً ما يشير إلى ذلك في شرحه المسمى منهج السالك ومن غضّه منه بالنظم في ملإ من الناس من جملتهم شيخه بهاء الدين ابن النحاس والأقسراني يجاريه مقتفياً له ومتأسياً في تسويد القرطاس:
ألفية ابن مالك ... مطموسة المسالك
وكم بها مشتغل ... أوقع في المهالك ولا تغتر أنت بهذا الغرر، فإنه ما كل سحاب أبرق مطر، ولا كل عود أورق ثمر، وقيل معارضة للقوم، وتنبيهاً لهم ممّا هم فيه من النوم:
ألفية ابن مالك ... مشرقة المسالك
وكم بها من مشغلٍ ... علا على الأرائك وما أحسن قول ابن الوردي في هذا المعنى:
يا عائباً ألفيّة ابن مالك ... وغائباً عن حفظها وفهمها
أما تراها قد حوت فضائلاً ... كثيرة فلا تجر في ظلمها
وازجر لمن جادل من يحفظها ... برابع وخامس من اسمها يعني " صه " فإنه عند الاستقلال بمعنى اسكت، انتهى ملخصاً.(2/231)
قال أيضاً عند ذكره مصنفات ابن مالك: وهي كما قيل غزيرة المسائل، ولكنها على الناظر بعيدة الوسائل، وهي مع ذلك كثيرة الإفادة، موسومة بالإجادة، وليست لمن هو في هذا الفن في درجة ابتدائه، بل للمتوسط يترقى بها درجة انتهائه، انتهى.
واعلم أن الألفية مختصرة الكافية كما تقدم، وكثير من أبياتها فيها بلفظها، ومتبوعه فيها ابن معطي، ونظمه أجمع وأوعب، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب، وذكر الصفدي عن الذهبي أن ابن مالك صنف الألفية لولده تقي الدين محمد المدعو بالأسد، واعترضه العلامة العجيسي بأن الذي صنفه له عن تحقيق المقدمة الأسدية قال: وأما هذه - يعني الألفية - فذكر لي من أثق بقوله أنه صنفها برسم القاضي شرف الدين هبة الله بن نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين بن إبراهيم بن عفيف الدين بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله بن حسان الجهني الحموي الشافعي الشهير بابن البارزي، ويقال: إن هذه النسبة إلى باب أبرز أحد أبواب بغداد، ولكن خفف لكثرة دوره على الألسنة، انتهى مختصراً.
وقال بعض من عرّف بابن مالك: هو مقيم أود، وقاطع لدد، ومزين سماء موّهت الأصائل ديباجتها، وشعشعت البكر زجاجتها، وجاءت أيامه صافية من الكدر، ولياليه وما بها شائبة من الكبر، وقد خلّفها العشي بردعه، وخلفها الصباح بربعه، فكان كل متعين حول مسجده، وكل عين فاخرة بعسجده، هذا وزمر الطلاب، وطلبة الأجلاب، لا تزال تزجي إليه القلاص، وتكثر من سربه الاقتناص، كان أوحد وقته في علم النحو واللغة مع ثرة الديانة والصلاح، انتهى.
وقال بعض المغاربة:
لقد مزّقت قلبي سهام جفونها ... كما مزّق اللخميّ مذهب مالك
وصال على الأوصال بالقدّ قدّها ... فأضحت كأبيات بتقطيع مالك(2/232)
وقلدت إذ ذاك الهوى لمرادها ... كتقليد أعلام النحاة ابن مالك
وملّكتها رقيّ لرقة لفظها ... وإن كنت لا أرضاه ملكاً لمالك
وناديتها يا منيتي بذل مهجتي ... ومالي قليلٌ في بديع جمالك ويعني بقوله بتقطيع مالك مالك بن المرحّل السّبتي، رحمه الله تعالى.
ولما سئل ابن مالك عن قول النبي، صلّى الله عليه وسلّم: نعوذ بالله من الحور بعد الكور هل هو بالراء أو بالنون أنكر النون، فقيل له: إن في الغريبين للهروي رواية بالنون، فرجع عن قوله الأول، وقال: إنما هو بالنون، انتهى.
وقد ذكر في المشارق النون والراء، فقال: الحور بعد الكور بالراء رواه العذري وابن الحذاّء، وللباقين بالنون، معناه النقصان بعد الزيادة، وقيل: من الشذوذ بعد الجماعة، وقيل: من الفساد بعد الصلاح، وقيل: من القلة بعد الكثرة، كار عمامته إذا لفها على رأسه واجتمعت، وحارها إذا نقضها فافترقت، ويقال: حار إذا رجع عن أمر كان عليه، ووهم بعضهم رواية النون، وقيل: معناها رجع إلى الفساد بعد أن كان على خير ممّا رجع إليه، وقال عياض في موضع آخر بعد: الحور بعد الكور، كذا للعذري، والكون للفارسي والسجزي وابن ماهان، وقول عاصم في تفسيره حار بعدما كار وهي روايته، ويقال: إن عاصماً وهم فيه، انتهى.
والسائل لابن مالك عن اللفظة هو ابن خلّكان، لأن ابن الأثيرسأل ابن خلكان عنها، فسأل هو ابن مالك، رحم الله تعالى الجميع.
[تعريف بابنه بدر الدين]
وقد عرّف الحافظ الذهبي بابن مالك في تاريخ الإسلام، وذكر فيه ترجمة لولده بدر الدين محمد، وأنه كان حاد الذهن، ذكيّاً، إماماً في النحو وعلم(2/233)
المعاني والمنطق، جيد المشاركة في الفقه والتدريس، وأنه تصدّر بعد والده للتدريس، ومات شابّاً قبل الكهولة سنة 686، ومن أجلّ تصانيفه شرحه على ألفية والده، وهو كتاب في غاية الإغلاق، ويقال: إنه نظير الرضي في شرح الكافية، وللناس عليه حواشٍ كثيرة، رحمهم الله تعالى أجمعين.
145 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر القيسي، التّدميري (1) ويعرف بالشهيد كان عظيم القدر جدّاً بالأندلس، بعيد الأثر في الخير الاصلاح والعلم والنسك والانقطاع إلى الله تعالى، وكان من وجوه أهل كورة تدمير ذوي البيوت الرفيعة، وبرع بخصاله المحمودة، فكان في نفسه فقيهاً، عالماً، زاهداً، خيّراً، ناسكاً، متبتلاً، نشأ على الاستقامة والصلاح والاهتداء والدّعة، طلب العلم في حدثان سنّه، ورحل إلى قرطبة فروى الحديث وتفقّه وناظر، وأخذ بحظٍّ وافر من علم المسألة والجواب، وكان أكثر علمه وعمله الورع، والتشدد فيه، والتحفظ بدينه ومكسبه، ورسخ في علم السنّة، ثم ارتحل إلى المشرق، فمر بمصر حاجّاً، فأقام بالحرمين ثماينة أعوام يتعيش فيها من عمل يده بالنسخ، ثم سار إلى العراق، فلقي أبا بكر الأبهري وأخذ عنه، وأكثر من لقاء الصالحين وأهل العلم، ولبس الصوف، وقنع، وتورع جدّاً، وأعرض عن الشهوات، وكان إذا سئم من النسخ الذي جعل قوته منه آجر نفسه في الخدمة رياضةً لها، فأصبح عابداً متقشفاً منيباً مخبتاً عالماً عاملاً منقطع القرين، قد جرت منه دعوات مجابة، وحفظت له كرامات ظاهرة، ثم عاد إلى بلده تدمير سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة، وبها أبوه أبو الحسام طاهر حيّاً، فنزل خارج مدينة مرسية تورّعاً عن سكناها وعن الصلاة في جامعها، فاتخذ له بيتاً سقفه من حطب السّدر يأوي إليه، واعتمر جنينة بيده يقتات منها، وصار يغزو مع المنصور محمد بن أبي عامر، ثم تحول من قريته بعد عامين إلى الثغر، وواصل
__________
(1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 90.(2/234)
الرّباط، ونزل مدينة طلبيرة، وكان يدخل منها في السرايا في بلد العدو فيغزو ويتقوت من سهمانه، ويعوّ ل على فرس له ارتبطه لذلك، وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة، يحدّث عنه فيها بحكايات عجيبة، إلى أن استشهد مقبلاً غير مدبر، سنة 379، أو في التي قبلها، عن اثنتين وأربعين سنة، وأبوه حي، رحم الله تعالى الجميع.
146 - ومنهم أبو عبد الله القيجاطي محمد بن عبد الجليل بن عبد الله بن جهور، مولده سنة 590 بقيجاطة، وكتب عنه الحافظ المنذري، ومن شعره قوله:
إذا كنت تهوى من نأت عنك داره ... فحسبك ما تلقى من الشّوق والبعد
فيا ويح صبٍّ قد تضرّم ناره ... وواحرّ قلبٍ ذاب من شدّة الوجد 147 - ومنهم أبو عبد الله - ويقال: أبو حامد - محمد بن عبد الرحيم، المازنيّ، القيسي، الغرناطي (1) ، ولد سنة 473، ودخل الإسكندرية سنة 508، وسمع بها من أبي عبد الله الرازي، وبمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وأبي الحسن الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي وغيرهم، وحدث بدمشق، وسمع أيضاً بها وببغداد، وقدمها سنة 556، ودخل خراسان، وأقام بها مدة، ثم رجع إلى الشام، وأقام بحلب سنين، وسكن دمشق، وكان يذكر أنه رأى عجائب في بلاد شتى، ونسبه بعض الناس بسبب ذلك إلى ما لا يليق، وصنّف في ذلك كتاباً سماه تحفة الألباب وكان حافظاً عالماً أديباً، وتكلم فيه الحافظ ابن عساكر، وزنّه بالكذب، وقال ابن النجار: ما علمته إلاً أميناً.
__________
(1) ترجمة أبي حامد الغرناطي في الوافي 3: 245 نقلاً عن ابن النجار، وفي الترجمة المقطوعتان اللتان أوردها المقري؛ وكتابه " تحفة الألباب " في العجائب نشره جبرائيل فراند في المجلة الآسيوية سنة 1925.(2/235)
ومن شعره قوله:
تكتب العلم وتلقي في سفط ... ثم لا تحفظ لا تفلح قطّ
إنّما يفلح من يحفظه ... بعد فهمٍ وتوقٍّ من غلط وقوله:
العلم في القلب ليس العلم في الكتب ... فلا تكن مغرماً باللهو واللعب
فاحفظه وافهمه واعمل كي تفوز به ... فالعلم لا يجتنى إلاّ مع التّعب توفي بدمشق في صفر سنة 565.
148 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد السلام، القرطبي (1) ، من ذرية أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، رحل قبل الأربعين ومائتين، فحج، وسمع بالبصرة من محمد بن بشار وأبي موسى الزّمن ونصر ابن علي الجهضمي، ولقي أبا حاتم السجستاني والعباس بن العرج الرياشي، وسمع ببغداد من أبي عبيد القاسم بن سلام (2) ، وبمكة من محمد بن يحيى العدني، وبمصر من سلمة بن شبيب صاحب عبد الرزّاق والبرقي وغيرهما، وأدخل الأندلس علماً كثيراً من الحديث واللغة والشعر، وكان فصيحاً جزل المنطق، صارماً، أنوفاً، منقبضاً عن السلطان، أراده على القضاء فأبى، وقال: إباية إشفاق لا إباية عصيان (3) ، فأعفاه، وكان ثقة مأموناً، وتوفي في رمضان سنة 286 عن ثمان وستين سنة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ترجمة الخشني في ابن الفرضي 2: 16 والجذوة: 63 (وبغية الملتمس رقم: 202) وتذكرة الحفاظ: 649.
(2) يبدو أن هذا وهم من المقري، فقد ذكر ابن الفرضي أن محمد بن عبد السلام دخل بغداد وكتب بها كتب أبي عبيد القاسم بن سلام عن محمد بن وهب المسعري تلميذ أبي عبيد، وهذا ما ذكره الحميدي وزاد على ذلك أن من شيوخه محمد بن امغيرة وهو تلميذ آخر لأبي عبيد.
(3) انظر خبر إبائه القضاء في " المرقبة العليا ": 13.(2/236)
149 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج، القرطبي (1) ، سمع من محمد بن وضاح وأكثر عنه، وأخذ عن محمد الخشني وقاسم بن أصبغ وإبراهيم بن قاسم بن هلال (2) ، ورحل سنة 274، فسمع بمصر من المطلب بن شعيب والمقدام (3) بن داود الرّعيني، وأدرك بالعراق إسماعيل القاضي وعبد الله ابن أحمد بن حنبل.
قال الحميدي: حدث بالمغرب وبالمشرق، وصنّف السنن، وممّن روى عنه خالد بن سعيد، وقال لنا أبو محمد ابن حزم: مصنّف ابن أيمن مصنف رفيع احتوى من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات، وتوفي في ذي القعدة سنة 330، بقرطبة، رحمه الله تعالى.
150 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون اللخمي (4) ، الرصافي، القرطبي، الحداد، سمع بقرطبة من عبد الله بن يونس وقاسم بن أصبغ، وحج سنة 339 سنة ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه، وسمع بمكة من ابن الأعرابي، وبمصر من ابن الورد (5) وأبي علي ابن السكن وعبد الكريم النسائي وغيرهم وسمع بأطرابلس والقيروان من جماعة، وكان رجلاً صالحاً (6) ، عدلاً، حدث وكتب عنه الناس، وعلت سنه، وتوفي بشوال سنة 394، وولد فيما أظن سنة 302، وكانت وفاته بقرطبة، وقد اضطرب في أشياء قرئت عليه، وممّن أخذ عنه الحافظ أبو عمران ابن عبد البر، رحم الله تعالى الجميع.
__________
(1) ترجمة ابن أيمن في ابن الفرضي 2: 52 والجذوة: 63 (وبغية الملتمس رقم: 197) وتذكرة الحفاظ: 836.
(2) ابن الفرضي: ويحيى بن قاسم ن هلال.
(3) ج: والمقداد.
(4) ترجمته في ان الفرضي 2: 110 والجذوة: 63 (وبغية الملتمس رقم: 199) وزاد في ك: ابن مروان بعد لفظة " ضيفون " في نسبه.
(5) ق: من أبي الورد.
(6) صالحاً: سقطت من ج.(2/237)
151 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك، الخزرجي، السعدي، القرطبي أبو عبد الله
روى عن أبي الحسن علي بن هشام، وروى عنه أبو القاسم ابن بشكوال، وقدم مصر وحدث بها، وممّن سمع منه بها ابن وردان وأبو الرضى القيسراني في آخرين، واستوطن مصر، وتوفي سنة 588.
152 - ومنهم أبو بكر ابن السرّاج، النحوي (1) - بتشديد الراء - وهو محمد بن عبد الملك بن محمد ين السّرّاج الشّنتمري، أحد أئمة العربية المبرزين فيها، ويكفيه فخراً أنه أستاذ أبي محمد عبد الله بن بري المصري اللغوي النحوي، وحدث عن أبي القاسم عبد الرحمن (2) بن محمد النفطي (3) ، وقرأ العربية بالأندلس على ابن أبي العافية وابن الأخضر، وقدم مصر سنة 515، وأقام بها وأقرأ الناس العربية، ثم انتقل إلى اليمن، وروى عنه أبو حفص عمر بن إسماعيل وأبو الحسن علي والد الرشيد العطار، وله تواليف منها تنبيه الألباب في فضل الإعراب " (4) وكتاب في العروض، وكتاب مختصر العمدة لابن رشيق وتنبيه أغلاطه. قال السلفي: كان من أهل الفضل الوافر، والصلاح الظاهر، وكانت له حلقة في جامع مصر لإقراء النحو، وكثيراً ما كان يحضر عندي - رحمه الله تعالى - مدة مقامي بالفسطاط، توفي بمصر سنة 549، وقيل: سنة خمس وأربعين، وقيل: خمسين وخمسمائة، برمضان، والأول أثبت.
153 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن سعيد [العنسي] ، ويكنى أيضاً أبا القاسم، الغرناطي، سمع من الجلّة بمصر والإسكندرية ودمشق وبغداد: منهم الحراني أبو عبد الله وأبو محمد عبد الصمد
__________
(1) ترجمة السراج في بغية الوعاة: 68 والوافي 4: 46 (وبروكلما 1: 377) .
(2) البغية: عبد الرحيم.
(3) ج: السقطي.
(4) الوافي: تلقيح الألباب في عوامل الإعراب.(2/238)
ابن داود بدمشق، وكتب الحديث [وعني] بالرواية أتم عناية، وفقد بأصبهان حين استولى عليها التتار قبل الثلاثين وستمائة.
154 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الدفاع (1) ، بالدال المهملة، وقيل: بالراء، قرطبي سمع عبد الملك بن حبيب، ورحل فسمع بمصر من الحارث بن مسكين وغيره، وكان زاهداً فاضلاً، وتوفي سنة 281، رحمه الله تعالى.
155 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد، المعافري القرطبي (2) ، ولد بقرطبة سنة 358، ودخل مصر فسمع من أبي بكر ابن المهندس وأبي بكر البصري، وروى عن أبي عبد الله ابن مفرج وأبي محمد الأصيلي وجماعة، ولقي الشيخ أبا محمد ابن أبي زيد في رحلته سنة 381 فسمع منه رسالته في الفقه وغيرها، وحج من عامه، ثم عاد من مصر إلى المغرب سنة 382، وكان معتنياً بالأخبار والآثار، ثقة فيما رواه، وعني به، خيّراً، فاضلاً، ديّناً، متواضعاً، متصاوناً، مقبلاً على ما يعنيه، صاحب حظ من الفقه، وبصر بالمسائل، ودعي إلى الشورى بقرطبة فأبى، ومات سنة 439. وعابد جده بالباء الوحدة، رحم الله تعالى الجميع.
156 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سليمان بن عثمان بن هاجد (3) الأنصاري البلنسي، أخذ القراءات (4) عن جماعة من أهل بلده، وخرج حاجّاً سنة 571، فجاور بمكة، وسمع بها وبالإسكندرية من السّلفي، وعاد إلى بلده
__________
(1) ترجمة ابن الدفاع في ابن الفرضي 2: 14 والجذوة: 58 (وبغية الملتمس رقم: 158) .
(2) ترجمة ابن عابد في الصلة: 501 وبغية الملتمس رقم: 177.
(3) ترجمته في التكملة: 559 وفيه " ابن ماجد " وغاية النهاية 2: 179 وفيه وفي دوزي: ابن هاجر.
(4) ج: القراءة.(2/239)
سنة 596 (1) ، وحدث وكان من أهل الصلاح والفضل والورع، كثير البر، ومفاداة الأسرى، ويحترف بالتجارة، ومولده بعد سنة 530 (2) ، ومات سنة 598 بمرسية، رحمه الله تعالى.
157 - ومنهم أبو الوليد محمد بن عبد الله ابن محمد بن خيرة القرطبي، المالكي (3) ، الحافظ، ولد سنة 479 (4) ، وأخذ الفقه عن القاضي أبي الوليد ابن رشد، والحديث عن ابن عتاب، وروى الموطأ عن أبي بحر سفيان بن العاص بن سفيان (5) ، وأخذ الأدب عن أبي الحسين (6) سراج بن عبد الملك بن سراج الأموي، وعن مالك بن عبد الله العتبي، وخرج من قرطبة في الفتنة بعدا درّس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله، وأقام بالإسكندرية خوفاً من بني عبد المؤمن بن علي، ثم قال: كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية، ثم سافر إلى المصر بعدما روى عنه السّلفي، وأقام بها مدة، ثم قال: والله ما مصر والإسكندرية بمتباعدتين، ثم سافر إلى الصعيد، وحدث في قوص بالموطأ، ثم قال: والله يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد، فمضى إلى مكة، وأقام بها، ثم قال: وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج ما أنا إلاّ هربت منه إليه ثم دخل اليمن، فلما رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن، فتوجه إلى الهند، فأدركته وفاه بها سنة 551، وقيل: بل مات بزبيد من مدن اليمن، وكان من جلّة العلماء متقناً متفنناً في المعارف كلها جامعاً لها، كثير الرواية، واسع المعرفة، حافل الأدب، من كبار فقهاء المالكية
__________
(1) في التكملة: سنة 576.
(2) دوزي: بعد سنة 520، والتصويب عن التكملة ونسخة من أصول النفح.
(3) ترجمة ابن خيرة في الصلة: 560 وبغية الملتمس رقم: 178.
(4) في نسختين: 489 وفي دوزي: 429.
(5) ج: صفوان ... صفوان.
(6) ك: عن مولانا أبي الحسين.(2/240)
يتصرف في علوم شتى حافظاً للآداب، عارفاً بشعراء الأندلس، وكان علمه أوفر من منطقه، ولم يرزق فصاحة ولا حسن إيراد [والله أعلم] (1) .
قال قال ابن نقطة: خيرة بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها باثنتين.
158 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل، السلمي، المرسي (2) ، قال ابن النجار: ولد بمرسية سنة 570، وقال غيره: في التي قبلها، وخرج من بلاد المغرب سنة 607، ودخل مصر، وسار إلى الحجاز، ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد، وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنّظامية، ثم سافر إلى خراسان، وسمع بنيسابور وهراة ومرو، وعاد إلى بلاد بغداد، وحدث بكتاب السنن الكبير (3) للبيهقي عن منصور ابن عبد المنعم الفراوي، وبكتاب غريب الحديث للخطابي، وقدم إلى مصر فحدث بالكثير عن جماعة منهم أم المؤيد زينب وأبو الحسن المؤيد الطوسي، وخرج من مصر يريد الشام فمات بين الزّعقة والعريش من منازل الرمل في ربيع الأول سنة 655، ودفن بتل الزعقة، وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلم من علوم القرآن والحديث والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة، وله فهم ثاقب، وتدقيق في المعاني، مع النظم والنثر المليح، وكان زاهداً، متورعاً، حسن الطريقة، متديّناً، كثير العبادة، فقيهاً، مجرداً (4) ، متعففاً، نزه النفس، قليل المخالطة (5) لأوقاته، طيب الأخلاق، متودداً، كريم النفس،
__________
(1) ما بين معقفين زيادة من ج.
(2) ترجمة ابن أبي الفضل المرسي في الوافي 3: 354 وبغية الوعاة: 60 ومعجم الأدباء 18: 209 ويلقب بشرف الدين، وله استدراكات على المفصل للزمخشري في سبعين موضعاً، وله كلام على شعر بي الطيب، وقد عد ياقوت له مؤلفات أخرى.
(3) ج: السنن الكبرى.
(4) ج: متجرداً.
(5) ج: قليل المحافظة.(2/241)
قال ابن النجار: ما رأيت في فنه مثله، وكان شافعي المذهب، وله كتاب تفسير القرآن سماه ري الظمآن كبير جدّاً، وكتاب " الضوابط الكلية " في النحو، وتعليق على الموطأ، وكان مكثراً شيوخاً وسماعاً، وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز، وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث إنه لا يستصحب كتباً في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه (1) ، وكان كريماً، قال أبو حيان: أخبرني الشرف الجزائري بتونس أنه كان على رحلة، وكان ضعيفاً، فقال له: خذ ما تحت هذه السجادة أو البساط، فرفعت ذلك، فوجدت تحته نحواً من أربعين ديناراً ذهباً، فأخذتها. وقال الجمال اليغموري: أنشدني لنفسه بالقاهرة (2) :
قالوا فلان قد أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام
فأجبتهم بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي
استقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدّها بسهام ومن شعره قوله (3) :
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتّباع المصطفى فيما أتى
ذاك السّبيل المستقيم، وغيره ... سبل الغواية والضلالة والرّدى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت، فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بكم وكيف فإنه ... بابٌ يجر ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال النبي وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا
__________
(1) ذكر الصفدي أنه خلف كتباً عظيمة كانت مودعة بدمشق فرسم السلطان ببيعها فكانوا يحملون منها كل يوم ثلثاً (لعله: ثلاثاء) إلى دار السعادة لأجل الباذرائي فاشترى منها جملة كثيرة وبيعت في سنة؛ وفي ج ق: في البلاد التي ينتقل إليها.
(2) انظر معجم الأدباء: 212.
(3) معجم الأدباء: 212.(2/242)
159 - ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الله البنتي، الأندلسي، الأنصاري، قدم مصر، وأقام بالقرافة مدة، وكان شيخاً صالحاً زاهداً فاضلاً، وتوجه إلى الشام فهلك، قال الرشيد العطار: كان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم، ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة، وكان يتكلم بألسنة شتى.
ومن شعره قوله:
إذا قلّ منك السّعي فالعزم ناشد ... وكلّ مكانٍ في مرائك واحد
توجّه بصدقٍ واتّق المين واقتصد ... تجئك رهينات النجاح المقاصد والبنتي - بضم الباء، وسكون النون - نسبة إلى بنت حصن بالأندلس، ويقال بونت بزيادة واو.
160 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله، الخولاني، الباجي، ثم الإشبيلي، المعروف بابن القوق (1) سمع بقرطبة من جماعة، ورحل إلى المشرق سنة 266، فسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وغيره، وبمصر من محمد بن عبد الحكم ومن أخيه سعد، وكان فقيهاً في الرأي، حافظاً له، عاقداً للشروط، قال ابن الفرضي: كان رجلاً صالحاً ورعاً ثقة، وكان خالد بن سعيد قد رحل إليه وسمع منه، وكان يقول إذا حدّث عنه: كان من معادن الصدق، توفي سنة 308.
161 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللوشي، الطبيب، اشتغل بالطب، وبرع فيه، وأقام بمصر مدّة، وبها مات في عشر الستين وستمائة.
__________
(1) ترجمة ابن القوق في ابن الفرضي 2: 32 (وفيه: ابن القون وفي بعض الأصول كتب: القوف أو الفوق وفي ج: الغرق) .(2/243)
162 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبدون، العذري، القرطبي (1) ، رحل سنة 337، فدخل مصر والبصرة، وعني بعلم الطب، ودبر مارستان مصر، ثم رجع إلى الأندلس سنة 360، واتصل بالحكم المستنصر وابنه المؤيد، وله في التكسير كتاب حسن.
قال صاعد: تمهر في الطب، ونبل فيه، وأحكم كثيراً من أصوله، وعانى صنعة المنطق معاناة صحيحة، وكان شيخه فيه أبو سليمان محمد بن محمد ابن طاهر بن بهرام السجستاني البغدادي، وكان قبل أن يتطبب مؤدباً للحساب والهندسة، وأخبرني أبو عثمان سعيد الطليطلي، أنّه لم يلق (2) في قرطبة من يلحق محمد بن عبدون في صناعة الطب، ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها، رحمه الله تعالى.
163 - ومن الراحلين إلى المشرق من أهل الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر (3) ، الإيادي، الأندلسي، صاحب البيت الشهير بالأندلس، رحل المذكور إلى المشرق، وتطبب به زماناً، وتولى رئاسة الطب ببغداد، ثم بمصر، ثم القيروان، ثمّ استوطن مدينة دانية، وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب، واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى بزّ أهل زمانه، ومات في مدينة دانية، رحمه الله تعالى.
ووالده محمد بن مروان (4) كان عالماً بالرأي، حافظاً للأدب، فقيهاً حاذقاً بالفتوى متقدّماً فيها، متقناً للعلوم، فاضلاً، جامعاً للدراية والرواية، وتوفّي بطلبيرة سنة 422، وهو ابن ست وثمانين سنة، حدث عنه جماعة من علماء
__________
(1) ترجمة ابن عبون هذه مكررة، انظر رقم: 98 ومصادر التخريج في الحاشية.
(2) ج: لم يبق.
(3) ترجمة عبد الملك بن زهر في المغرب 2: 265 وابن أبي أصيبعة 2: 66 والتكملة رقم: 1717 والذيل والتكملة 5: 18 والمطرب: 203.
(4) انظر ترجمة محمد بن موان بن زهر في الصلة: 487.(2/244)
الأندلس، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل، رحمه الله تعالى.
وأمّ أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور فقال ابن دحية فيه (1) : إنّه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه، وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه، وتوفّي ممتحناً من نغلة بين كتفيه سنة 525 بمدينة قرطبة، انتهى.
وكانت بينه وبين الفتح صاحب القلائد عداوة، ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته: أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجلّ سامعاً للنّداء، دافعاً للتطاول والاعتداء، لم ينظم الله تعالى بلبّتك الملك عقداً، وجعل لك حلاًّ للأمور وعقداً، وأوطأ لك عقباً، وأصار من الناس لعونك منتظراً ومرتقباً، إلا أن تكون للبرية حائطاً، وللعدل فيهم باسطاً، حتى لا يكون فيهم من يضام، ولا ينال أحدهم اهتضام، ولتقصر يد كل معتدٍ في الظلام، وهذا ابن زهر الذي أجررته رسنا، وأوضحت له إلى الاستطالة سننا، لم يتعد من الإضرار إلا حيث انتهيته، ولا تمادى على غيّه إلاّ حين لم تنهه أو نهيته، ولمّا علم أنّك لا تنكر عليه نكراً، ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكراً، جرى في ميدان الأذيّة ملء عنانه، وسرى إلى ما شاء بعدوانه، ولم يراقب الذي خلقه، وأمدّ في الحظوة عندك طلقه، وأنت بذلك مرتهن عند الله تعالى، لأنّه مكّنك لئلاّ يتمكّن الجور، ولتسكن بك الفلاة والغور، فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق، وأخفق به كلّ فريق، وقد علمت أن خالقك الباطش الغيور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما تخفى عليه نجواك، ولا يستتر عنه تقلّبك ومثواك، وستقف بين يدي عدل حاكم، يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم، قد علم كل قضيّة قضاها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، فبم تحتجّ معي لديه، إذا وقفت أنا وأنت بين يديه أترى ابن زهر ينجيك في ذلك
__________
(1) المطرب: 203 وانظر التكملة: 334 وابن أبي أصيبعة 2: 64.(2/245)
المقام، أوي حميك من الانتقام وقد أوضحت لك المحجّة، لتقوم عليك الحجّة، والله سبحانه النصير، وهو بكل خلق بصير لا ربّ غيره، والسلام، انتهى.
[رسالة للفتح في غريق]
وقد تذكرت هنا بذكر الفتح ما كتبه وقد مات بعض إخوانه غريقاً:
أتاني ورحلي بالعراق عشيّةً ... ورحل المطايا قد قطعن بنا نجدا
نعيٌّ أطار القلب عن مستقرّه ... وكنت على قصدٍ فأغلطني القصدا نعوا والله باسق الأخلاق لا يخلف، ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه فما أخلف، لقد سام الردى منه حسناً وجمالاً ووسامة، وطوى بطيّه نجده وتهامه، فعطل منه النّديّ والنّدى، وأثكل فيه الهديّ والهدى، كم فلّ السيوف طول قراعه، ودل عليه الضيوف موقد ناره بيفاعه، وكم تشوّف إليه السرير والمنبر، وتصرّف فيه الثناء المحبّر، وكم راع البدر ليلة إبداره، وروّع العدوّ في عقر داره، وأي فتى غدا له البحر ضريحاً، وأعدى عليه الحين ماء وريحاً، فبدل من ظلل علىً ومفاخر، بقعر بحر طامي اللّجج زاخر، وبدل من صهوات الخيل، بلهوات اللّجج والسّيل، غريق حكى مقلتي في دمعها، وأصاب نفسي في سمعها، ومن حزنٍ لا أستسقي له الغمام فما له قبر تجوده، ولا ثرى تروى به تهائمه ونجوده، وقد آليت الموج حنقاً، ومشت عليه خبباً وعنقاً، حتى أعادته كالكثبان، وأودعته قضيب بان، فيا أسفا لزلال غاض في أجاج، ولسلسال فاض عليه بحر عجّاج، وما كان إلاّ جوهراً ذهب إلى عنصره، وصدفاً بان عن عين مبصره، لقد آن للحسام أن يغمد فلا يشام، وللحمام أن تبكيه بكل أراكة وبشام، وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام، ينحن فتى ما ذرّت الشمس(2/246)
إلاّ ضرّ أو نفع، ويبكين من لم يدع فقده في العيش من منتفع، فكم نعمنا بدنوّه، ونسمنا نسيم الأنس في رواحه وغدوّه، وأقمنا بوضة موشية، ووقفنا بالمسرات عشيّة، وأدرناها ذهباً سائلة، ونظرناها وهي شائلة، لم نرم السهر، ولم نشم برقاً إلاّ الكأس والزهر، ولو غير الحمام زحف إليه جيشه، أو غير البحر رجف به ارتجاجه وطيشه، لفداه من أسرته كلّ أروع إن عاجله المكروه تثبّطه، أو جاءه الشرّ تأبّطه، ولكنها المنايا لا تردّها الصّوارم والأسل، ولا تفوتها ذئاب الغضا والعسّل، قد عرفت بين مالك وعقيل، وأشرقت بعدهما جذيمة بالحسام الصّقيل، انتهى.
وقد عرّفنا بالفتح في غير هذا الموضع فليراجع.
رجع إلى بيت بني زهرٍ (1) ، رحمهم الله تعالى - وأمّا أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المذكور، فهو عين ذلك البيت، وإن كانوا كلّهم أعياناً علماء رؤساء حكماء وزراء، وقد نالوا المراتب العليّة، وتقدّموا عند الملوك، ونفذت أوامرهم، قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في المطرب من أشعار أهل المغرب: كان شيخنا الوزير أبو بكر ابن زهر بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطّلب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرّمّة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب، والمنزلة العلياء عند أصحاب المغرب، مع سموّ النسب، وكثرة الأموال والنّشب، صحبته زماناً طويلاً، واستفدت منه أدباً جليلاً، وأنشد من شعره المشهور قوله (2) :
وموسّدين على الأكفّ خدودهم ... قد غالهم نوم الصّباح وغالني
__________
(1) انظر ترجمة ابن زهر الحفيد في ابن أبي أصيبعة 2: 67 ومعجم الأدباء 18: 216 والمطرب: 204 والتكملة: 555 والذيل والتكملة 6: 160 (نسخة باريس) وله موشحات في دار الطراز والمغرب 1: 266 وابن خلكان 4: 61.
(2) الشعر في المطرب وابن خلكان.(2/247)
ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعلم كيف تأخذ ثارها ... إنّي أملت إناءها فأمالني ثم قال ابن دحية: وسألته عن مولده، فقال: ولدت سنة سبع وخمسمائة، قال: وبلغتني وفاته آخر سنة 595، رحمه الله تعالى، انتهى.
وزعم ابن خلّكان أن ابن زهر ألمّ في الأبيات المذكورة بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله (1) :
عاقرتهم (2) مشمولةً لو سالمت ... شرّابها ما سمّيت بعقار
ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصّار
لانت لهم حتى انتشوا وتمكّنت ... منهم وصاحت فيهم بالثار ومن المنسوب إلى أبي بكر ابن زهر قوله في كتاب جالينوس المسمى بحيلة البرء، وهو من أجلّ كتبهم وأكبرها (3) :
حيلة البرء صنعةٌ لعليل ... يترجّى الحياة أو لعليله
فإذا جاءت المنيّة قالت: ... حيلة البرء ليس في البرء حيله ومن شعره، رحمه الله تعالى، يتشوّق ولداً له صغيراً بإشبيلية وهو بمراكش (4) :
ولي واحدٌ مثل فرخ القطاة ... صغير تخلّفت قلبي لديه
وأفردت عنه فيا وحشتا ... لذاك الشّخيص وذاك الوجيه (5)
__________
(1) ابن خلكان: عبيد الله بن هبة الله بن صاعد؛ وفي بعض النسخ: الأصباعي.
(2) ابن خلكان: عقرتهم.
(3) ابن خلكان: 62.
(4) الشعر في ابن خلكان والمطرب والذيل وابن أبي أصيبعة.
(5) ابن خلكان: نأت عنه داري فيا وحشتا.(2/248)
تشوّقني وتشوّقته ... فيبكي عليّ وأبكي عليه (1)
وقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إليّ ومنّي إليه وأخبرني الطبيب الماهر الثقة الصالح العلاّمة سيدي أبو القاسم ابن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد والنشأة حكيم حضرة السلطان المنصور بالله الحسني صاحب المغرب رضي الله تعالى عنه أن ابن زهر لمّا قال هذه الأبيات وسمعها أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس أواخر المائة السادسة أرسل المهندسين إلى إشبيلية، وأمرهم أن يحتاطوا علماً ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش، ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدة، وفرشها بمثل فرشه، وجعل فيها مثل آلاته، ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار، ثم احتال عليه حتى جاء [إلى] ذلك الموضع، فرآه أشبه شيء ببيته وحارته، فاحتار لذلك، وظنّ أنه نائم، وأن ذلك أحلام، فقيل له: ادخل البيت الذي يشبه بيتك، فدخله، فإذا ولده الذي تشوّق إليه يلعب في البيت، فحصل له السرور ما لا [مزيد عليه، ولا] يعبر عنه: هكذا هكذا وإلاّ فلا لا (2) .
ومن نظم ابن زهر المذكور حيث شاخ وغلب عليه الشيب (3) :
إني نظرت إلى المرآه قد جليت ... فأنكرت مقلتاي كلّ ما رأتا
رأيت فيه شويخاً (4) لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحّل عن هذا المكان متى
__________
(1) سقط هذا البيت من ج.
(2) صدر بيت، وعجزه: طرق الجد غير طرق المزاح.
(3) الأبيات في ابن خلكان وابن أبي أصيبعة.
(4) في رواية: شييخاً.(2/249)
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة: ... إنّ الذي أنكرته مقلتاك أتى (1)
كانت سليمى تنادي يا أخيّ وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا (2) والبيت الأخير ينظر إلى قول الأخطل (3) :
وإذا دعونك عمّهنّ فإنّه ... نسبٌ يزيدك عندهنّ خبالا
وإذا دعونك يا أخيّ فإنّه ... أدنى وأقرب خلّةً ووصالا وقال ابن دحية في حقه أيضاً (4) : والذي انفرد به شيخنا وانقادت لتحليته طباعه، وصارت النبهاء فيه من خوله وأتباعه، الموشحات، وهي زبدة الشعر ونخبته، وخلاصة جوهره وصفوته (5) ، وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق، وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق، انتهى.
ومن مشهور موشحات ابن زهر قوله (6) :
ما للموله ... من سكره لا يفيق وهذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن، ويرون أنه من أحسن الموشحات.
__________
(1) هذه رواية ابن خلكان، وأما ابن أبي أصيبعة ففيه:
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى
هون عليك فهذا لا بقاء له ... أما ترى العشب يفنى بعد ما نبتا (2) ابن أبي أصيبعة:
كان الغوافي يقلن يا أخي فقد ... صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا (3) ديوان الأخطل: 43.
(4) المطرب: 204.
(5) ج: وخلاصته وصفوته.
(6) أورد ابن سعيد هذه الموشحة عندما تحدث عن متنزهات إشبيلية، وهي في جملة ما سقط من المغرب.(2/250)
ومن موشحاته قوله:
سلّم الأمر للقضا ... فهو للنّفس أنفع واغتنم حين أقبلا ... وجه بدرٍ تهلّلا ... لا تقل بالهموم لا ...
كل ما فات وانقضى ... ليس بالحزن يرجع واصطبح بابنة الكروم ... من يدي شادن رخيم ... حين يفترّ عن نظيم ...
فيه برقٌ قد أومضا ... ورحيقٌ مشعشع أنا أفديه من رشا ... أهيف القدّ والحشا ... سفي الحسن فانتشى ...
مذ تولّى وأعرضا ... ففؤادي يقطّع من لصبٍّ غدا مشوق ... ظلّ في دمعه غريق ... حين أمّوا حمى العقيق ...
واستقلّوا بذي الغضا ... أسفي يوم ودّعوا ما ترى حين أظعنا ... وسرى الركب موهنا ... واكتسى اللّيل بالسّنا ...(2/251)
نورهم ذا الذي أضا ... أم مع الركب يوشع ورأيت من هذا موشحاً آخر لا أدري هل هو لابن زهر أم لا، وهو هذا:
فتق المسك بكافور الصّباح ... ووشت بالرّوض أعراف الرياح فاسقنيها قبل نور الفلق ... وغناء الورق بين الورق ... كاحمرار الشمس عند الشّفق ...
نسج المزج عليها حين لاح ... فلك اللهو وشمس الاصطباح وغزال سامني بالملق ... وبرى جسمي وأذكى حرقي ... أهيف مذ سلّ سيف الحدق ...
قصرت عنه أنابيب الرماح ... وثنى الذعر مشاهير الصفاح صار بالدّلّ فؤادي كلفا ... وجفون ساحرات وطفا ... كلما قلت جوى الحب انطفا ...
أمرض القلب بأجفانٍ صحاح ... وسبى العقل بجدٍّ ومزاح يوسفيّ الحسن عذب المبتسم ... قمريّ الوجه ليليّ اللمم ... عنتريّ البأس علويّ الهمم ...(2/252)
غصنيّ القدّ مهضوم الوشاح ... مادريّ الوصل طائيّ السماح قدّ بالقدّ فؤادي هيفا ... وسبى عقلي لمّا انعطفا ... ليته بالوصل أحيا دنفا ...
مستطار العقل مقصوص الجناح ... ما عليه في هواه من جناح يا علي أنت نور المقل ... جد بوصل منك لي يا أملي ... كم أغنّيك إذا ما لحت لي ...
طرقت واللّيل ممدود الجناح ... مرحباً بالشمس من غير صباح 164 - ومنهم أبو الحجاج الساحلي، يوسف بن إبراهيم بن محمد بن قاسم بن علي، الفهري، الغرناطي، قال في الإحاطة: صدر من صدور حملة القرآن على وتيرة الفضلاء و [سنن] الصالحين، حج ولقي الأشياخ بعد أن قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وطبقته، ومن نظمه يخاطب الوزير ابن الحكيم (1) وقد أصابته حمى تركت على شفته بثوراً:
حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموماً ضعيف القوى ... فإنّني أحسد حمّاكا
ما رضيت حمّاك إذ باشرت ... جسمك حتى قبّلت فاكا قال أبو الحجاج، رحمه الله تعالى: وكتب إليّ شيخنا محمد بن عتيق
__________
(1) المعني هنا هو أبو عبد الله ابن الحكيم ذو الوزارتين، وسيترجم له المقري كما سيترجم لابنه الوزير القائد الكاتب أبي بكر (توفي سنة 750) وانظر الكتيبة الكامنة: 195.(2/253)
ابن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني فيه ولمن ذكر معي:
أجزت لهم أبقاهم الله كلّ ما ... رويت عن الأشياخ في سالف الدهر
وما سمعت أذناني من كلّ عالم ... وما جاد من نظمي وما راق من نثري
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء عن التصحيف عارٍ عن النّكر
كتبت لهم خطّي وإسمي محمّد ... أبو القاسم المكنيّ ما فيه من نكر
وجدّي رشيقٌ شاع في الغرب ذكره ... وفي الشرق أيضاً فادر إن كنت لا تدري
ولي مولدٌ من بعد عشرين حجّة ... ثمانٍ على الست المئين ابتدا عمري
وبالله توفيقي عليه توكّلي ... له الحمد في الحالين في العسر واليسر ومولد أبي الحجاج المذكور سنة 662 (1) ، وتوفّي سنة 702 (2) ، رحمه الله تعالى، انتهى باختصار.
165 - وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق يحيى بن الحكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله (3) ، وهو في المائة الثالثة، من بني بكر بن وائل.
قال ابن حيان في " المقتبس ": كان الغزال حكيم الأندلس، وشاعرها، وعرّافها، عمّر أربعاً وتسعين سنة، ولحق أعصار خمسة من الخلفاء المروانية بالأندلس: أولهم عبد الرحمن بن معاوية، وآخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن ابن الحكم.
__________
(1) في نسخة: سنة 667.
(2) في نسخة: سنة 752.
(3) انظر ترجمة الغزال في المطرب: 133 والجذوة: 351 (وبغية الملتمس رقم: 1467) والمغرب 2: 57 وأورد ابن دحية خبر رحلة له إلى بلاد المجوس، وقد شك فيها بروفنسال وذهب إلى أنها كانت إلى القسطنطينية، راجع تاريخ الأدب الأندلسي، عصر سيادة قرطبة ص: 111 - 127 وانظر The Poet and the Spae - Wife by W. Allen) London، 1960 (.(2/254)
ومن شعره:
أدركت بالمصر ملوكاّ أربعه ... وخامساً هذا الذي نحن معه وله على أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب (1) :
خرجت إليك وثوبها مقلوب ... ولقلبها طرباً إليك وجيب
وكأنّها في الدّار حين تعرّضت ... ظبيٌ تعلّل بالفلا مرعوب
وتبسّمت فأتتك حين تبسّمت ... بجمان درّ لم يشنه ثقوب
ودعتك داعية الصّبا فتطرّبت ... نفسٌ إلى داعي الضلال طروب
حسبتك في حال الغرام كعهدها ... في الدار إذ غصن الشباب رطيب
وعرفت ما في نفسها فضممتها ... فتساقطت بهنانةٌ عبوب
وقبضت ذاك الشيء قبضة شاهن ... فنزا إليّ عضنّكٌ حلبوب
بيدي الشّمال وللشّمال لطافة ... ليست لأخرى والأديب أريب
فأصاب كفّي منه حين لمسته ... بللٌ كماء الورد حين يسيب
وتحلّلت نفسي للذّة رشحه ... حتى خشيت على الفؤاد يذوب
فتقاعس الملعون عنه وربّما ... ناديته خيراً فليس يجيب
وأبى فحقّق في الإباء كأنّه ... جانٍ يقاد إلى الرّدى مكروب
وتغضّنت جنباته فكأنّه ... كيرٌ تقادم عهده مثقوب
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... قبساً وحان من الظلام ذهوب
ساءلتها خجلاً: أما لك حاجة ... عندي فقالت: ساخر وحروب
قالت حر أمّك إذا أردت وداعها ... قرنٌ وفيه عوارضٌ وشعوب
__________
(1) ابن أبي حكيمة أحد الشعراء المحدثين، أسرف في وصف عنته ورثاء متاعه، وكان صديقاً لابن الزيات. راجع تجمته في طبقات ابن المعتز: 389 وتخريج ترجماته ص: 523، وانظر أبيات الغزال هذه في المطرب: 149 برواية مختلفة.(2/255)
وذكره ابن دحية بمخالفة لما سردناه.
قال عتبة التاجر، وجّهني الأمير الحكم وابنه عبد الرحمن إلى المشرق وعبد الله بن طاهر أمير مصر من قبل المأمون، فلقيته بالعراق، فسألني عن هذه القصيدة هل أحفظها للغزال قلت: نعم فاستنشدنيها، فأنشدته إياها، فسر بها وكتبها، وقال عتبة: ونلت بها حظّاً عنده.
والبهنانة: المرأة الطيبة النفس والأرج، كما في الصّحاح، وقيل: اللينة في منطقها وعملها، وقيل: الضحّاكة المتهللة، والرعبوب: السبطة البيضاء، والسبطة: الطويلة.
وقال سامحه الله تعالى:
سألت في النّوم أبي آدماً ... فقلت والقلب به وامق
إبنك بالله أبو حازم ... صلّى عليك المالك الخالق
فقال لي: إن كان مني ومن ... نسلي فحوّا أمّكم طالق وقال رضي الله تعالى عنه:
أرى أهل اليسار إذا توفّوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور
أبو إلا مباهاة وفخراً ... على الفقراء حتى في القبور
فإن يكن التفاضل في ذراها ... فإن العدل فيها في القعور
رضيت بمن تأنّق في بناء ... فبالغ في تصريف الدهور (1)
ألمّا يبصروا ما خربته الد ... هور من المدائن والقصور
لعمر أبيهم لو أبصروهم ... لما عرف الغنيّ من الفقير
ولا عرفوا العبيد من الموالي ... ولا عرفوا الإناث من الذكور
ولا من كان يلبس ثوب صوفٍ ... من البدن المباشر للحرير
__________
(1) ج: تصريف الأمور.(2/256)
إذا أكل الثّرى هذا وهذا ... فما فضل الكبير على الحقير وقال رضي الله تعالى عنه:
لا، ومن أعمل المطايا (1) إليه ... كلّ من يرتجي إليه نصيبا
ما أرى ههنا من النّاس إلاّ ... ثعلباً يطلب الدّجاج وذيبا
أو شبيهاً بالقطّ ألقى (2) بعيني ... هـ إلى فارةٍ يريد الوثوبا وقال رضي الله تعالى عنه:
قالت أحبّك قلت كاذبة ... غريّ بذا من ليس ينتقد
هذا كلامٌ لست أقبله ... الشيخ ليس يحبّه أحد
سيّان قولك ذا وقولك إن ... الريح نعقدها فتنعقد
أو أن تقولي النار باردة ... أو أن تقولي الماء يتقد وحكى أو الخطاب ابن دحية في كتاب " المطرب " (3) أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس وقد قارب الخمسين، وقد وخطه الشيب، ولكنّه كان مجتمع الأشد، فسألته زوجة الملك يوماً عن سنّه، فقال مداعباً لها: عشرون سنة، فقلت: وما هذا الشيب فقال: وما تنكرين من هذا ألم تري قطّ مهراً ينتج وهو أشهب فأعجبت بقوله، فقال في ذلك، واسم الملكة تود (4) :
كلّفت يا قلبي هوىً متعبا ... غالبت منه الضّيغم الأغلبا
إنّي تعلّقت مجوسيّةً ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفي إليه ذاهبٌ مذهبا
__________
(1) ج: المطي.
(2) ج: أومى.
(3) انظر المطرب: 144.
(4) ج والمطرب: نود؛ ويرى بروفنسال أن تود هو اختصار تيودورا Theodora.(2/257)
يا تود يا رود الشّباب التي ... تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي (1) الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي، ولا أعذبا
إن قلت يوماً إنّ عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا
قالت: أرى فدويه قد نوّرا ... دعابة توجب أن أدعبا
قلت لها: ما باله إنّه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجباً بقولي لها ... وإنّما قلت لكي تعجبا قال: ولمّا فهّمها الترجمان شعر الغزال ضحكت، وأمرته بالخضاب، فغدا عليها وقد اختضب وقال (2) :
بكرت تحسّن لي سواد خضابي ... فكأنّ ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصفٍ ... إلاّ كشمسٍ جلّلت بضباب
تخفى قليلاً ثمّ يقشعها الصّبا ... فيصير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنّما ... هو زهرة الأفهام والألباب
فلديّ ما تهوين من شأن الصّبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب وحكى ابن حيان في " المقتبس " أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجّه شاعره الغزال إلى ملك الروم، فأعجبه حديثه، وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه، فامتنع من ذلك، واعتذر بتحريم الخمر، وكان يوماً جالساً عنده، وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها، وهي كالشمس الطالعة حسناً، فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها، وجعل الملك يحدثه وهو لاهٍ عن حديثه، فأنكر ذلك عليه، وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرّفه أنّي قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه، فإنّي لم أر قطّ
__________
(1) ج: يا حبذا.
(2) المطرب: 146.(2/258)
مثلها، وأخذ في وصفها والتعجّب من جمالها، وأنّها شوقته إلى الحور العين، فلمّا ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده، وسرّتت الملكة بقوله، وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان، وتجشّم المكروه فيه وتغيير خلق الله، مع خلوّه من الفائدة، فقال للترجمان: عرّفها أن فيه أبر فائدة، وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ، وما دام لا يفعل به ذلك لا يزال رقيقاً ضعيفاً، فضحكت وفطنت لتعريضه، انتهى.
ومن شعر الغزال قوله (1) :
يا راجياً ودّ الغواني ضلّةً ... وفؤاده كلفٌ بهنّ موكّل
إن النساء لكالسّروج حقيقةً ... فالسّرج سرجك ريثما لا تنزل
فإذا نزلت فإنّ غيرك نازلٌ ... ذاك المكان وفاعلٌ ما تفعل
أو منزل المجتاز أصبح غادياً ... عنه وينزل بعده من ينزل
أو كالثمار مباحة أغصانها ... ندنو لأول من يمر فيأكل
أعط الشبيبة لا أبا لك حقّها ... منها، فإنّ نعيمها متحوّل
وإذا سلبت ثيابها لم تنتفع ... عند النّساء بكل ما تستبدل وقال (2) :
قال لي يحيى وصرنا ... بين موجٍ كالجبال
وتولّتنا رياحٌ ... من دبور وشمال
شقّت القلعين وانب ... تّت عرى تلك الحبال
وتمطّى ملك المو ... ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأي ال ... عين حالاً بعد حال
__________
(1) المطرب: 146.
(2) المطرب: 139 - 140 والجذوة: 352.(2/259)
لم يكن للقوم فينا ... يا رفيقي رأس مال ومنها:
وسليمى ذات زهدٍ ... في زهيدٍ في وصال
كلّما قلت صليني ... حاسبتني بالخيال
والكرى قد منعته ... مقلتي أخرى الليالي
وهي أدرى فلماذا ... دافعتني بمحال
أترى أنّا اقتضينا ... بعد شيئاً من نوال وله:
من ظنّ أن الدهر ليس يصيبه ... بالحادثات (1) فإنّه مغرور
فالق الزّمان مهوّناً لخطوبه ... وانجرّ حيث يجرّك المقدور
وإذا تقلّبت الأمور ولم تدم ... فسواءٌ المحزون والمسرور وعاش الغزال أرباعاً وتسعين سنة، وتوفي في حدود الخمسين والمائتين، سامحه الله تعالى.
وكان الغزال أقذع في هجاء علي بن نافع المعروف بزرياب، فذكر ذلك لعبد الرحمن، فأمر بنفيه، فدخل العراق، وذلك بعد موت أبي نواس بمدة يسيرة، فوجدهم يلهجون بذكره، ولا يساوون شعر أحد بشعره، فجلس يوماً مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس، واستهجنوا أشعارهم، فتركهم حتى وقعوا في ذكر أبي نواس، فقال لهم: من يحفظ منكم قوله (2) :
__________
(1) ج: بالنائبات.
(2) انظر بعض هذه ابيات في الجذوة: 212، وهي جميعاً في المطرب: 148.(2/260)
ولمّا رأيت الشّرب (1) أكدت سماؤهم ... تأبّطت زقّي واحتبست (2) عنائي
فلمّا أتيت الحان ناديت ربّه (3) ... فثاب خفيف الروح نحو ندائي
قليل هجوع العين إلا تعلّةً ... على وجلٍ منّي ومن نظرائي
فقلت أذقنيها فلمّا أذاقها ... طرحت عليه ربطتي وردائي
وقلت أعرني بذلةً أستتر بها ... بذلت له فيها طلاق نسائي
فوالله ما برّت يميني ولا وفت ... له غير أنّي ضامنٌ بوفائي
فأبت إلى صحبي ولم أك آئباً ... فكلّ يفدّيني وحقّ فدائي فأعجبوا بالشعر، وذهبوا في مدحهم له، فلمّا أفرطوا قال لهم: خفضوا عليكم، فإنّه لي، فأنكروا ذلك، فأنشدهم قصيدته التي أولها:
تداركت في شرب النّبيذ خطائي ... وفارقت فيه شيمتي وحيائي فلمّا أتم القصيدة بالإنشاد خجلوا، وافترقوا عنه.
وحكي أن يحيى الغزال أراد أن يعارض سورة " قل هو الله أحدٌ " فلمّا رام ذلك أخذته هيبة وحالة لم يعرفها، فأناب إلى الله، فعاد إلى حاله.
وحكي أن عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء كان يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها، ومرت عليهم قصيدته التي أولها:
لعمرك ما البلوى بعارٍ ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم حتى انتهى القارئ إلى قوله:
تجاف عن الدنيا فما لمعجّزٍ ... ولا عاجز إلا الذي خطّ بالقلم
__________
(1) الجذوة: وكنت إذا ما الشرب.
(2) الجذوة: واحتضنت؛ المطرب: واحتسبت.
(3) الجذوة: نبهت أهله.(2/261)
فقال له الغزال، وكان في الحلقة، وهو إذ ذاك حدثٌ نظّامٌ متأدب ذكي القريحة: أيها الشيخ، وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال له: كيف تقول فقال: كنت أقول: فليس لعاجز ولا حازم، فقال له عباس: والله يا بني لقد طلبها عمّك فما وجدها.
وأنشد يوماً قوله من قصيدة:
بقرت بطون الشعر فاستفرغ الحشا ... بكفّي حتى آب خاويه من بقري فقال له بكر بن عيسى الشاعر: أما والله يا أبا العلاء، لئن كنت بقرت الحشا لقد وسخت يديك بفرثه، وملأتهما بدمه، وخبّثت نفسك بنتنه، وخمشت أنفك بعرفه، فاستحيا عباس وأفحم عن جوابه.
166 - ومنهم الشهير بالمغارب والمشارق، المحلّي بجواهره صدور المهارق، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي (1) ، متمم كتاب المغرب في أخبار المغرب قال فيه: وأنا أعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما اعتذر به ابن الإمام في كتاب سمط الجمان وبما اعتذر به الحجاري في كتاب المسهب وابن القطّاع في الدرة الخطيرة وغيرهم من العلماء.
فمن نظمه عندما ورد الديار المصرية:
أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى ... ما بينها وجهاً لمن أدريه
عودي على بدئي ضلالاً بينهم ... حتّى كأنّي من بقايا التّيه
ويح الغريب توحّشت ألحاظه ... في عالم ليسوا له بشبيه
إن عاد لي وطني اعترفت بحقّه ... إن التغرّب ضاع عمري فيه
__________
(1) ابن عسيد المغربي: ترجمته في المغرب 2: 178 واختصار القدح ص: 1 والفوات 2: 178 والديباج المذهب: 208 وتاريخ السلامي: 145 وبغية الوعاة: 357 ومسالك الأبصار 8: 382 وله ترجمة مبتوةر في الذيل والتكملة 5: 411 - 412.(2/262)
وله من قصيدة يمدح ملك إفريقية أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفصٍ:
الأفق طلقّ والنّسيم رخاء ... والروض وشّت رده الأنداء
والنهر قد مالت عليه غصونه ... فكأنّما هو مقلةٌ وطفاء
وبدا نثار الجلّنار بصفحه ... فكأنّما هو حيّةٌ رقطاء
والشّمس قد رقمت طرازاً فوقه ... فكأنّما هي حلّةٌ زرقاء
فأدر كؤوسك كي يتم لك المنى ... واسمع إلى ما قالت الورقاء
تدعوك حيّ على الصّبوح فلا تنم ... فعلى المنام لدى الصّباح عفىء وله أيضاً:
كم جفاني ورمت أدعو عليه ... فتوقّفت ثمّ ناديت قائل
لا شفى الله لحظه من سقام ... وأراني عذاره وهو سائل وله من قصيدة كتب بها إلى مالك سبتة الموفق أبي العباس أحمد بن أبي الفضل السّبتي شافعاً لشخص رغب في خدمته:
بالعدل قمت وبالسماح فدن وجد ... لا فارقتك كفاية وعطاء
ما كلّ من طلب السعادة (1) نالها ... وطلاب ما يأبى القضاء شقاء ومنها:
وقد استطار بأسطري نحو الندى ... من أنهضته لنحوك العلياء
طلب التباهة في ذراك فما له ... إلاّ لديك تأمّلٌ ورجاء
وهو الذي بعد التجارب أحمدت ... أحواله وجرى عليه ثناء
__________
(1) ج: الشفاعة.(2/263)
لا يقرب الدنس المريب كواصل ... هجرته خوفاً أن يشان الراء
[قد مارس الحرب الزبون زمانه ... وجرت عليه شدة ورخاء] (1)
وعلاك تقضي أن يسود بأفقها ... لا غرو أن يعلي الشهاب بهاء وقوله في قصيدة:
ألف التغرّب والتوحّش مثل ما ... ألف التوحّش والنفور ظباء
حجّابه ألفوا التجهّم والجفا ... فهم لكلّ أخي هدىً أعداء
مهما يرم طلبٌ إليه تقرّباً ... بعدت بذاك البدر عنه سماء
لكنّني ما زلت أخدع حاجباً ... ومراقباً حتى ألان حباء
والأرض لم تظهر محجّب نبتها ... حتى حبتها الديمة الوطفاء (2) قيل: وهذا معنى لم يسمع من غيره، وقوله في خسوف البدر:
شان الخسوف البدر بعد جماله ... فكأنّه ماء عليه غثاء
أو مثل مرآة لخودٍ قد قضت ... نظراً بها فعلا الجلاء غشاء وله من قصيدة عتاب يقول فيها:
ولقد كسبت بكم علاً لكنها ... صارت بأقوال الوشاة هباء
فغدوت ما بين الصحابة أجرباً ... كلٌّ يحاذر منّي الإعداء
ولقد أرى أن النجوم تقلّ لي ... حجباً وأصغر أن أحلّ سماء
فليهجروا هجر الفطيم لدرّه ... ويساعدو الزمنالخئون جفاء
فلقد شكوت لهم إحالة ودّهم ... إذ لم أكن أرضى بهم خدماء
__________
(1) البيت زيادة من إحدى النسخ.
(2) ورد وحده في المقتطفات (الورقة: 9) وقدم له بقوله: وله من قصيدة وهو معنى بديع، ومن الغريب أن البيت وما بعده لاحق بأخبار الغزال.(2/264)
إيهٍ فذكرهم أقلّ، وإنّما ... أومي إليك فتفهم الإيماء (1)
لو لم يكن قينٌ لما فتكت ظباً ... أنت الذي صيرتهم أعداء
ولو أنني أرجو ارتجاعك لم أطل ... شكوى ولم أستبعد الإغضاء
لكن رأيتك لا تميل سجيّةً ... نحوي ولا تتكلّف الإصغاء
إن لم يكن عطفٌ منّوا بالنّوى ... إنّ الكريم إذا أهين تناءى وقوله:
ولكم سرينا في متون ضوامر ... تثني أعنتها من الخيلاء
من أدهم كالليل حجّل بالضحى ... فتشقّ غرته عن ابن ذكاء
أو أشهب يحكي غدائر أشيبٍ ... خلعت عليه الشّهب فضل رداء
أو أشقر قد نمّقته بشعلة ... كالمزج ثار بصفحة الصّهباء
أو أصفر قد زيّنته غرّة ... حتى بدا كالشمعة الصفراء
طارت، ولكن لا يهاض جناحها ... هبّت، ولكن لم تكن رخاء وقوله من أبيات في افتضاض بكر:
وخريدةً ما إن رأيت مثالها ... حيّت من الألحاظ بالإيماء
فسألتها سمع الشكاة فأفهمت ... أنّ الرقيب جهينة الأنباء
وتبعتها وسألت منها قبلةً ... في خلوة من أعين الرقباء
فثنت عليّ قوامها بتعانقٍ ... أحيا فؤاداً مات بالبرحاء
ووجدتها لمّا ملكت عنانها ... عذراء مثل الدّرّة العذراء
جاءت إليّ كوردةٍ حمراء (2) ... فتركتها كعرارة صفراء
وسلبتها ما احمرّ منها صفوه ... فجرى مذاباً منجحاً لرجائي
__________
(1) ورد هذا البيت أيضاً وحده في المقتطفات (الورقة: 9) .
(2) ج: محمرة.(2/265)
وقوله من أبيات:
أحبابنا عودوا علينا عودةً ... ما منكم بعد التفرّق مرغب
كم ذا أداريكم بنفس جاهداً ... وكأنّما أرضيكم كي تغضبوا
وأزيد بعداً ما اقتربت إليكم ... كالسّهم أبعد ما يرى إذ يقرب
وأجوب نحوكم المنازل جاهداً ... ومع اجتهادي فاتني ما أطلب
كالبدر أقطع منزلاً في منزل ... فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب وقوله من أبيات:
سألتك يا من يستلان فيصعب ... ومن يترضّى بالحياة فيغضب
أما خدّك البدر المنير فلم غدت ... تحلّ به ضدّ القضيّة عقرب وقوله، وقد داعبه أحد الفقهاء وسرق سكينه من حرز:
أيا سارقاً ملكاً مصوناً ولم يجب ... على يده قطعٌ وفيه نصاب
ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصّواب كتاب وقوله في تفاحة عنبر أهديت للملك الصالح نجم الدين أيوب:
أنا لون الشباب والخال أهدي ... ت لمن قد كسا الزمان شبابا
ملك العالمين نجم بني أيّ ... وب ولا زال في المعالي شهابا
جئت ملأى من الثّناء عليه ... من شكورٍ إحسانه والثوابا
لست ممّن له خطابٌ ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا وقوله من قصيدة:
فالحمد لله على ساعة ... قد قرّبتني من علا الصاحب
وليعذر المولى على أنّني ... قد كنت من علياه في جانب(2/266)
كمن أتى نافلةً أوّلاً ... ثمّ أتى من بعد بالواجب وقوله من أبيات (1) :
فإن كنت في أرض التغرّب غارباً ... فسوف تراني طالعاً فوق غارب
فصمصام عمروٍ حين فارق كفّه ... رموه ولا ذنبٌ لعجز المضارب
وما عزّة الضّرغام إلاّ عرينه ... ومن مكّةٍ سادت لؤيّ بن غالب وقوله في فرس أصفر أغر أكحل الحلية (2) :
وأجرد تبريٍّ أثرت به الثرى ... وللفجر في خصر الظلام وشاح
له لون ذي عشقٍ وحسن معشّقٍ ... لذلك في دلّة (3) ومراح
عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلامٌ وبين الناظرين صباح
يقيّد طير اللحظ والوحش عندما ... يطير به نحو النجاح جناح وقوله من أبيات:
إذا ما غراب البين صاح فقل له ... ترفّق رماك الله يا طير بالبعد
لأنت على العشّاق أقبح منظراً ... وأكره في الأبصار من ظلمة اللحد
تصيح بنوحً ثم تعثر ماشياً ... وتبرز في ثوبٍ من الحزن مسودّ
متى لحت صحّ البين وانقطع الرجا ... كأنك من وشك الفراق على وعد وقوله في غلام جميل الصورة أهدى تفاحة:
ناب ما أهديت عن عر ... فٍ وعن ريقٍ وخدّ
__________
(1) المقتطفات (الورقة: 9) .
(2) المغرب 2: 173 والمقتطفات (الورقة: 9) .
(3) دوزي: لذة، وفي ج ق والمقتطفات: ذلة، والتصويب عن المغرب.(2/267)
حبّذا تفاحةٌ قد ... أشبهت أوصاف مهدي
بتّ منها في سرورٍ ... فكأنّما قد بتّ عندي وقوله من قصيدة:
هذا الذي هب الدّنيا بأجمعها ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر
إن هزّة المدح فالأموال في بددٍ ... والغصن ما هزّ إلا بدّد الثمر
[فقلت لمّا بدا لي حسن منظره ... لكنه زاد إشراقاً: هو القمر] (1)
متّع لحاظك في وجهٍ بلا ضرر ... إن كان شمساً يداه تحتها مطر وقوله من أبيات:
لي جيرة ضنّوا عليّ وجاروا ... فنبت بي الأوطان والأوطار
ومن العجائب أنني مع جورهم ... ما قرّ لي بعد الفراق قرار وقوله:
أنا شاعر أهوى التخلّي دون ما ... زوج لكيما تخلص الأفكار
لو كنت ذا زوج لكنت منغّصاً ... في كلّ حينٍ رزقها أمتار
دعني أرح طول التغرب خاطري ... حتى أعود ويستقرّ قرار
كم قائلٍ لي ضاع شرخ شبابه ... ما ضيّعته بطالةٌ وعقار
إذ لم أزل في العلم أجهد دائماً ... حتّى تأتّت هذه الأبكار
مهما أرم من دون زوج لم أكن ... كلاًّ ورزقي دائماً مدرار
وإذا خرجت لفرجةٍ هنّيتها ... لا صنعةٌ ضاعت ولا تذكار وقوله من قصيدة:
__________
(1) زيادة لم ترد في ج ق ودوزي.(2/268)
ما كنت أحسب أن أضيع وأنت في ال ... دّنيا وأن أمسي غريباً معسرا
أنا مثل سهمٍ سوف يرجع بعدما ... أقصاه راميه المجيد ليخبرا وقوله سامحه الله تعالى:
وافى عليٌّ لنا بسيفٍ ... والبين قد حان والوداع
فقال شبّه فقلت شمس ... قد مدّ من نورها شعاع وقوله من قصيدة في ملك إشبيلية الباجي، وقد هزم ابن هود (1) :
لله فرسان غدت راياتهم ... مثل الطيور على عداك تحلّق
السّمر تنقط ما تسطّر بيضهم ... والنقع يترب والدماء تخلّق وقال ارتجالاً بمحضر زكي الدين بن أبي الإصبع وجمال الدين أبي الحسين الجزار المصري الشاعر ونجم الدين بن إسرائيل الدمشقي بظاهر القاهرة، وقد مشى أحدهم على بسيط نرجس:
يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل فتهافتوا بهذا البيت، وراموا إجازته، فقال ابن أبي الإصبع مجيزاً:
فقلت دعني لم أزل محرجاً ... على لحاظ الرشإ الأكحل وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال:
قابل جفوناً بجفونٍ ولا ... تتبذل الأرفع بالأسفل وقوله في الجزيرة الصالحية بمصر، وهي الشهيرة الآن بالروضة:
تأمّل لحسن الصالحيّة إذ بدت ... مناظرها مثل النّجوم تلالا
__________
(1) المغرب 2: 177.(2/269)
وللقلعة الغرّاء كالبدر طالعاً ... تفجّر صدر الماء عنه هلالا
ووافى إليها النّيل من بعد غاية ... كما زار مشغوفٌ يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق بحسنها ... فمدّ يميناً نحوها وشمالا
جرى قادماً بالسعد فاختطّ حولها ... من السعد إعلاماً بذلك دالا وقوله من أبيات في ملك إفريقية وقد جهز ولده الأمير أبا يحيى بعسكر:
وقد أرسلته نحو الأعادي ... كما جرّدت من غمدٍ حساما وقوله في قوس:
أنا مثل الهلال في ظلم النّق ... ع سهامي تنقضّ مثل النجوم
تقصر القضب والقنا عن مجالي ... عند رجمي بها لكلّ رجيم
قد كستها الطيور لمّا رأتها ... كافلاتٍ لها برزقٍ عميم وقوله من أبيات (1) :
وأشقر مثل البرق لوناً وسرعةً ... قصدت عليه عارض الجود فانهمى ولنذكر ترجمته من الإحاطة ملخصة، فنقول:
قال لسان الدين (2) : علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين العنسي، المدلجي، من أهل قلعة يحصب، غرناطي، قلعي، سكن تونس، أبو الحسن ابن سعيد، وهذا الجل وسطى عقد بيته، وعلم أهله، ودرة قومه، المصنف، الأديب، الرحالة، الطرفة،
__________
(1) المغرب: 179.
(2) الإحاطة، الورقة: 333.(2/270)
الأخباري، العجيب الشأن في التجوّل في الأقطار، ومداخلة الأعيان والتمتّع بالخزائن العلمية، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية، أخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشّلوبين، وأبي الحسن الدباج، وابن عصفور وغيرهم، وتواليفه كثيرة: منها " المرقصات والمطربات " و " المقتطف من أزاهر الطرف " و " الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد " تاريخ بلده وبيته، والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار، وهما " المغرب في حلى المغرب " و " المشرق في حلى المشرق " وغير ذلك ممّا لم يتصل إلينا، فلقد حدّثني الوزير أبو بكر ابن الحكيم أنه تخلف كتاباً يسمى " المرزمة " (1) يشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والأخبارية إلاّ الله تعالى، وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من مثله، فيذكر أنه خرج مع أبيه إلى إشبيلية وفي صحبته سهل ابن مالك، فجعل سهل بن مالك يباحثه عن نظمه إلى أن أنشده في صفة نهر والنسيم يردده والغصون تميل عليه:
كأنّما النّهر صفحةٌ كتبت ... أسطرها، والنّسيم ينشئها
لمّا أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها فطرب وأثنى عليه.
ثم ناب عن أبيه في أعمال الجزيرة، ومازج الأدباء، ودوّن كثيراً من نظمه، ودخل القاهرة، فصنع له أدباؤها صنيعاً في ظاهرها، وانتهت بهم الفرجة إلى روض (2) نرجس، وكان فيهم أبو الحسين الجزار فجعل يدوس النرجس برجله، فقال أبو الحسن:
يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل
__________
(1) الإحاطة: المزيد له.
(2) ق: أنوار، ج: صنف.(2/271)
فتهافتوا بهذا البيت، وراموا إجازته، فقال ابن أبي الإصبع:
فقال دعني لم أزل محنقاً ... على لحاظ الرشإ الأكحل وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال:
قابل جفوناً بجفونٍ، ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل ثم استدعاه (1) سيف الدين ابن سابق إلى مجلس بضفّة النيل مبسوط بالورد، وقد قامت حوله شمامات نرجس، فقال في ذلك:
من فضّل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يأس
أما ترى الورد غدا قاعداً ... وقام في خدمه النرجس ووافق ذلك مماليك الترك وقوفاً في الخدمة، على عادة المشارقة، فطرب الحاضرون.
ولقي بمصر أيدمر التركي والبهاء زهيراً وجمال الدين بن مطروح وابن يغمور وغيرهم، ورحل صحبة كمال الدين بن العديم إلى حلب، فدخل على الناصر صاحب حلب، فأنشده قصيدة أولها:
جد لي بما ألقى الخيال من الكرى ... لا بدّ للضيف الملمّ من القرى فقال كمال الدين: هذا رجل عارف، ورّى بمقصودة من أول كلمة، وهي قصيدة طويلة، فاستجلسه السلطان، وسأله عن بلاده ومقصوده برحلته، وأخبره أنّه جمع كتاباً في الحلى البلادية والعلى العبادية المختصة بالمشرق، وأخبره أنّه سمّاه " المشرق في حلى المشرق " وجمع مثله فسمّاه " المغرب في حلى المغرب " فقال: نعينك بما عندنا من الخزائن، ونوصلك إلى ما ليس
__________
(1) انظر هذا الخبر في المقتطفات (الورقة: 9) .(2/272)
عندنا كخزائن الموصل وبغداد، وتصنف لنا، فخدم على عادتهم، وقال: أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس، ثم قال له السلطان مداعباً: إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور، وقد اخترت لك لقباً يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر، فإن كنت ترضى به، وإلا لم نعلم به أحداً غيرنا، وهو البلبل، فقال: قد رضي المملوك يا خوند. فتبسّم السلطان، وقال له أيضاً يداعبه: اختر واحدةً من ثلاث: إمّا الضيافة التي ذكرتها أوّل شعرك، وإمّا جائزة القصيدة، وإمّا حق الاسم، فقال: يا خوند المملوك ممّا لا يختنق بعشر لقمٍ لأنّه مغربي أكول فكيف بثلاث فطرب السلطان وقال: هذا مغربي ظريف، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف. ولقي بحضرته عون الدين العجمي، وهو بحر لا تنزفه الدلاء، والشهاب التّلّعفري، والتاج ابن شقير، وابن نجيم الموصلي، والشرف بن سليمان الإربلي، وطائفة من بني الصاحب. ثم تحول إلى دمشق، ودخل الموصل وبغداد، ودخل مجلس السلطان المعظم [ابن الملك الصالح] (1) بدمشق، وحضر مجلس خلوته، وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها، ثم رحل إلى البصرة ودخل أرّجان، وحج، ثم عاد إلى المغرب، وقد صنّف في رحلته مجموعاً سمّاه ب " النفحة المسكية في الرحلة المكية " وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية (2) من إفريقية في إحدى جمادى سنة اثنتين وخمسين وستمائة، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر، فنال الدرجة الرفيعة من حظوته.
حدثني شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم أن المستنصر جفاه في آخر عمره وقد أسنّ لجرّاء خدمة مالية أسندها إليه، وقد كان بلا منه قبل جفوةً أعقبها انتشال وعناية، فكتب إليه بنظم من جملته:
__________
(1) ما بين معقفين سقط من ق ج وزاده دوزي من نسخة الإحاطة.
(2) إقليبية: حصن قريب من قرطاجة، وفي ج: إقليبية.(2/273)
لا ترعني بالجفا ثانيةً ... فرقّ له، وعاد إلى حسن النظر إليه، إلى أن توفّي تحت بر وعناية (1) .
مولده بغرناطة ليلة الفطر سنة عشر وستمائة (2) ، ووفاته بتونس في حدود خمس وثمانين وستمائة، انتهى باختصار.
وذكرت حكاية إجازة بيته في النرجس وإن تقدمت لاتصال الكلام.
قلت: قد كنت وقفت على بعض ديوان شعره التعدد الأسفار، ونقلت منه قوله من قصيدة يهنئ ابن عمّه الرئيس أبا عبد الله ابن الحسين (3) بقدومه من حركة هوّارة:
أما واجبٌ أن لا يحول وجيب ... وقد بعدت دارٌ وخان حبيب
وليس أليفٌ غير ذكرٍ وحسرةٍ ... ودمعٌ على من لا يرقّ صبيب
وخفق فؤادٍ إن هفا الرق خافقاً ... وشوقٌ كما شاء الهوى ونحيب
ويعذلني من ليس يعرف ما الهوى ... وعذل مشوقٍ في البكاء عجيب (4)
ألا تعس اللّوام في الحبّ قد عموا ... وصمّوا ودائي ليس منه طبيب
يرومون أن يثني الملام (5) صبابتي ... وليس إلى داعي الملام أجيب
وفائي إذا ما غبت عنكم مجدّدٌ ... وغيري ذو غدرٍ أوان يغيب
ولو لم يكن مني الوفاء سجيّةً ... لكنت لغير ابن الحسين أنيب
سموأل هذا العصر حاتم جوده ... مهلّبه إن مارسته (6) حروب
__________
(1) في الإحاطة حسب مقارنة دوزي: ورعاية؛ ويبدو أن نسخة الإحاطة التي اعتمدتها قد أخلت بجوانب كثيرة من أخبار ابن سعيد؛ أما النسخة التي اعتمدها دوزي فهي أوفى.
(2) كذا في ج، وأثبت دوزي: سنة 615 اعتماداً على الإحاطة.
(3) ستأتي ترجمته.
(4) في نسخة: غريب.
(5) ق: يشفي الغرام؛ ج: يثني الغمام.
(6) دوزي: ما مارسته.(2/274)
فتىً سيّر (1) الأمداح شرقاً ومغرباً ... أبو دلفٍ من دونه وخصيب
إذا رقم القرطاس قلت ابن مقلة ... وإن نظم الأشعار قلت حبيب
وإن نثر الأسجاع قلت سميّه ... وإن سرد التاريخ قلت عريب
وما أحرز الصّوليّ آدابه التي ... إذا ما تلاها لم يجبه أديب ومنها:
وأمّا إذا ما الحرب أخمد (2) نارها ... ففيه تلظّى (3) مارجٌ ولهيب
فكم قارع الأبطال في كلّ وجهةٍ ... نحاها وكم لفّت عليه حروب
وكائن له بالغرب (4) من موقفٍ له ... حديثٌ إذا يتلى تطير قلوب
بمرّاكشٍ سل عنه تعلم غناءه ... وقد ساءهم (5) يومٌ هناك عصيب
إذا ما ثنى الرمح الطويل كأنّه ... مديرٌ لغصن الخيزران لعوب
وإن جرّه أبصرت نجماً مجرّراً ... ذؤابته، منه الكماة تذوب
يهيم به ما إن يزال معانقاً ... له راكعاتٍ ما تحوز كعوب
محمد، لا تبد الذي أنت قادرٌ ... عليه، وخف عيناً علاك تصيب
نفوذ سهام العين أودى بمصعبٍ ... وطاح به بعد الشّبوب شبيب
ألا فهنيئاً أن رجعت لتونس ... فأطلعت شمساً والسّفار (6) غروب
كواكبها تبدو إذا ما تركتها ... وقد جعلت مهما حضرت تغيب
إذا سدت في أرضٍ فغيرك تابعٌ ... علاك، ومهما ساد فهو مريب
__________
(1) ج: سرد.
(2) ج: أظهر.
(3) دوزي: تلظ.
(4) ج: في الغرب.
(5) دوزي: ساءه.
(6) ق ج: والشفار.(2/275)
ومنها:
كفاني أنّي أستظلّ بظلّكم ... ومن هاب ذاك المجد فهو مهيب
فأصلك أصلي والفروع تباينت ... بعيدٌ على من رامه وقريب
وحسبي فخراً أن أقول محمدٌ ... نسيب عليٍّ جلّ منه نصيب
تركت جميع الأقربين لقصده ... على حين حانت فتنةٌ وخطوب
رأيت به جنّات عدنٍ فلم أبل ... إذا وصلتنا للخلود شعوب
فقبّلت كفّاً لا أعاب بلثمها ... وأيدي الأيادي لثمهنّ وجوب
وكيف وليس الرأس كلرّجل، فرّقت ... شياتٌ لعمري بيننا وضروب
ولو كان قدري مثل قدرك في العلا ... لحقّ بأن يعلو الشباب مشيب
ولولا الذي أسمعت من مكر حاسدٍ ... أتاك بقولٍ وهو فيه كذوب
لما كنت محتاجاً لقولي آنفاً ... تخلّيت من ذنبٍ وجئت أتوب
إذا كنت ذا طوعٍ وشكرٍ وغبطةٍ ... فمن أين لي يا ابن الكرام ذنوب
لقد كنت معتاداً ببشرٍ فما الذي ... تقلّدته حتى يزال قطوب
أإن رفع السلطان سعيي بقدركم (1) ... أحّلأ عن وردٍ لكم وأخيب
فأحسب ذنبي ذنب صحرٍ (2) ، بدارها ... إلى البرّ عند الخابرين معيب
وحاشاك من جورٍ عليّ، وإنّما ... أخاطب من أصفي (3) له فيشوب
صحابٌ هم الداء الدفين فليتني ... ولم أدن منهم، للذئاب صحوب
كلامهم شهدٌ ولكنّ فعلهم ... كسمّ له بين الضلوع دبيب
سأرحل عنهم والتجارب لم تدع ... بقلبي لهم شيئاً عليه أثيب
__________
(1) في نسخة: بقربكم.
(2) ذنب صحر: مثل، وذلك أن لقمان بعد أن قتل زوجته لقيته ابنته صحر فقتلها أيضاً قائلاً " وهل أنت إلا امرأة " دون ذنب جنته، فضرب بذلك المثل. وفي ج ق ودوزي: صخر - بالمعجمة -.
(3) في نسخة: أصفو.(2/276)
إذا اغترب الإنسان عمّن يسوءه ... فما هو في الإبعاد عنه غريب
فدارك برأبٍ (1) منك ما قد خرقته ... ليحسن منّي مشهدٌ ومغيب
ولا تستمع قول الوشاة فإنّما ... عدوّهم بين الأنام نجيب
فيا ليت أنّي لم أكن متأدّباً ... ولم يك لي أصلٌ هناك رسوب
وكنت كبعض الجاهلين محبباً ... فما أنا للهمّ الملمّ حبيب
وما إن ضربت الدهر زيداً بعمره ... ولم يك لي بين الكرام ضريب
أأشكوك أم أشكو إليك فما عدت ... عداتي حتّى حان منك وثوب
سأشكر ما أولى وأصبر للذي ... توالى، على أنّ العزاء سليب
فدم في سرورٍ ما بقيت فإنّني ... وحقّك مذ دبّ الوشاة كئيب قال: وكان سبب التغير بيني وبين ابن عمي الرئيس المذكور أن ملك إفريقية استوزر لأشغال الموحدين أبا العلاء (2) إدريس بن علي بن أبي العلاء ابن جامع، فاشتمل عليّ، وأولاني من البرّ ما قيّدني وأمال قلبي إليه، مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة، فلم يزل ينهض بي، ويرفع أمداحي للملك، ويوصّل إليه رسائلي، منبّهاً على ذلك مرشحاً، إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره، وكان يقرأ بين يده كتب المظالم، فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك، فنبه الوزير عليّ، وارتهن فيّ، مع أنّي كنت من كتّاب الملك، فقلدني قراءة المظالم المذكورة، وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخّر، فأنعم بها، فوجد الوشاة مكاناً متسعاً للقول، فقالوا وزوّروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا، وظهر منه مخايل التغيير، فجعلت أداريه وأستعطفه، فلم ينفع فيه قليل ولا كثير، إلى أن سعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية، ثم سعى في تأخيري، فأخّرت عن الكتابة وعن
__________
(1) ق ج: برأي.
(2) ج ق ودوزي: أبا العلى.(2/277)
قراءة (1) المظالم، فانفردت بالكتابة للوزير المذكور، وفوض إليّ جميع أموره، وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة، ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة:
فردّ عليّ العيش بعد ذهابه ... وآنسني بعد انفرادي من الأهل
وقال إذا ما الوبل فاتك فاقتنع ... بما قد تسنّى عندك الآن من طلّ
ووالله ما نعماه طلٌّ وإنّما ... تأدّبه غيثٌ يجود على الكلّ
رآني أظما في الهجيرة ضاحياً ... فرقّ وآواني إلى الماء والظلّ ولم أزل عنده في أسر حال ما لها تكدير إلاّ ما يبلغني من أن ابن عمّي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبّته، وخفت أن يطول ذلك، فيسمع منه، ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني، فرغبت له في أن يرفع للملك أنّي راغبٌ في السّراح إلى المشرق برسم الحج:
ومن بلّه الغيث في بطن وادٍ ... وبات فلا يأمننّ السّيولا فلم يسعفني في ذلك، ولامني على تخوّفي، وقلة ثقتي بحمايته، فرفعت له هذه القصيدة:
هل الهجر إلا أن يطول التجنّب ... ويبعد من قد كان منه التقرّب
وتقطع رسلٌ بيننا ورسائلٌ ... ويمنع لقيانا نوىً وتحجّب
ولو أنّني أدري لنفسي زلّةً ... جعلت لكم عذراً ولم أك أعتب
ولكنّكم لمّا مللتم (2) هجرتم ... وذنّبتم في الحبّ من ليس يذنب
إلى الله أشكو غدركم وملالكم ... وقلباً له ذاك التعذب يعذب
فلو أنّه يجزيكم بفعالكم ... لكان له عنكم مرادٌ ومذهب (3)
__________
(1) دوزي: وعن كتابة.
(2) كذا في ق وج؛ وفي نسخة: ملكتم.
(3) دوزي: ومطلب.(2/278)
ولكن أبى أن لا يحنّ لغيركم ... وأن لا يرى عنكم مدى الدهر مذهب
فهلاّ رعيتم أنّه في ذراكم ... غريبٌ، وليس الموت إلاّ التغرب
لزمتك لمّا أن رأيتك كاملاً ... جمالاً وإجمالاً وذاك يحبّب
وإنّي لأخشى أن يطول اشتكاؤه ... لمن إن أتى مكراً فليس يثرّب
فلم أسع إلا لارتياحٍ وراحةٍ ... وغيري وقد آواه غيرك يتعب
فأنت الذي آويتني ورحمتني ... وذو الرحم الدنيا لناري يحطب
فما مرّ يومٌ لا يدير مصيبةً ... عليك، وبالتدبير منك يخيّب
وهبه ثبوتاً لا يحيل أما ترى ... مجرّ حبالٍ في الحجارة يرسب
وهبه له سدّاً فكم أنت حاضرٌ ... أحاذر خرقاً منه أن يتسبّبوا
وما إن أرى إلا الفرار مخلّصاً ... وما راغبٌ في الضيم من عنه يرغب
فأنه إلى الأمر العليّ شكيتي ... وأنّ خطوب الدهر نحوي تخطب
ولا تطمعوني في الذي لست نائلاً ... فلا أنا عرقوبٌ ولا أنا أشعب
ألا فلتمنّوا بالسّراح فإنّه ... لراحة من يشقى لديكم وينصب
سلوا الكأس عني إذ تدار فإنّني ... لأتركها همّاً ودمعي أشرب
ولا أسمع الألحان حين تهزني ... ولو كان نوحاً كنت أصغي وأطرب
فديتكم كم ذا أهون بأرضكم ... أهذا جزاءٌ للذي يتغرّب
أبخلٌ عليّ ما سواك يصيخ لي ... فهل لي ممّا كدّر العيش مهرب
تقلّص عنّي كلّ ظلٍّ ولم أجد ... كما كنت ألفي (1) من أودّ وأصحب
أذو طمعٍ في العيش يبقى وحوله ... مدى الدهر أفعى لا تزال (2) وعقرب
أجزني أنجو (3) بالفرار فإنّه ... وحقّك من نعماك عندي يحسب
__________
(1) ج ودوزي: أكفي.
(2) ج: لا تزول.
(3) ج ق: أجرني؛ ق: أنجز.(2/279)
فلا زلت يا خير الكرام مهنّأ ... فعيشي منه الموت أشهى وأطيب
وصانك من قد صنت في حقه دمي ... وغيرك ن ثوب المروءة يسلب ولم يزل الوزير - لا أزال الله عنه رضاه - يحمي جانبي، إلى أن أصابتني فيه العين، فأصابه الحين، فقلت في ذلك:
وطيب نفسي أنّه مات عندما ... تناهى ولم يشمت به كلّ حاسد
ويحكم فيه كلّ من كان حاكماً ... عليه ويعطي الثأر كلّ معاند وقلت أرثيه:
بكت لك حتى الهاطلات السواكب ... وشقّت جيوباً فيك حتّى السحائب
فكيف بمن دافعت عنه ومن به ... أحاطت وقد بوعدت عنه المصائب
ألا فانظروا دمعي فأكثره دمٌ ... ولا تذهبوا عني فإنّي ذاهب
وقولوا لمن قد ظلّ يندب بعده ... وفاؤك لو قامت عليك النوادب (1)
لعمرك ما في الأرض وافٍ بذمّةٍ ... أيصمت إدريس ومثلي يخاطب
دعوتك يا من لا أقوم بشكره ... فهل أنت لي بعد الدعاء مجاوب
أيا سيّداً قد حال بيني وبينه ... ترابٌ حوت ذكراك منه الترائب
لمن أشتكي إن جار بعدك ظالمّ ... عليّ وإن نابت جنابي النّوائب
لمن أرتجي (2) عند الأمير بمنطقٍ ... تحفّ به حولي المنى والمواهب وهي طويلة، ومنها قبيل الختم:
وقد كنت أختار الترحّل قبل أن ... يصيبك سهمٌ للمنيّة صائب
ولكن قضاء الله من ذا يردّه ... فصبراً فقد يرضى الزمان المغاضب
__________
(1) دوزي: النوائب.
(2) دوزي: أشتكي.(2/280)
ومنها، وهو آخرها:
وإنّي لأدري أنّ في الصبر راحةً ... إذا لم تكن فيه عليّ مثالب
وإن لم يؤب من كنت أرجو انتصاره ... عليك فلطف الله نحوي آيب قال رحمه الله تعالى: ولما قدمت مصر والقاهرة أدركتني (1) فيهما وحشة، وأثار لي تذكّر ما كنت أعهد بجزيرة الأندلس من المواضع المبهجة التي قطعت بها العيش غضّاً خصيباً، وصحبت بها الزمان ولبست الشباب قشيباً، فقلت:
هذه مصر فأين المغرب ... مذ نأى عني دموعي تسكب
فارقته النّفس جهلاً إنّما ... يعرف الشيء إذا ما يذهب (2)
أين حمصٌ أين أيامي بها ... بعدها لم ألق شيئاً يعجب
كم تقضّى لي بها (3) من لذةٍ ... حيث للنهر خريرٌ مطرب
وحمام الأيك تشدو حولنا ... والمثاني في ذراها تصخب
أيّ عيشٍ قد قطعناه بها ... ذكره من كلّ نعمى أطيب
ولكم بالمرج لي من لذةٍ ... بعدها ما العيش عندي يعذب
والنواعير التي تذكارها ... بالنّوى عن مهجتي لا تسلب
ولكم في شنتبوسٍ من منىً ... قد قضيناه ولا من يعتب
[حيث هاتيك الشراجيب التي ... كم بها من حسن بدر معصب] (4)
وغناءٌ كلّ ذي فقرٍ له ... سامعٌ غصباً ولا من يغصب
بلدةٌ طابت وربٌّ غافرٌ ... ليتني ما زلت فيها أذنب
__________
(1) ج: أذكرتني.
(2) سقط هذا البيت من ج.
(3) ق: كم بعيش نالنا، واضطربت في ج.
(4) البيت زيادة من إحدى النسخ، ولم يرد في ق ج.(2/281)
أين حسن النيل من نهرٍ بها ... كلّ نغماتٍ لديه تطرب
كم به من زورقٍ قد حلّه ... قمرٌ ساقٍ وعودٌ يضرب
لذة النّاظر والسمع على ... شمّ زهرٍ وكؤوسٍ تشرب
كم ركبناها فلم تجمح بنا ... ولكم من جامحٍ إذ يركب
طوعنا حيث اتجهنا لم نجد ... تعباً منها إذا ما نتعب
قد أثارت عثيراً يشبهه ... نثر سلكٍ فوق بسطٍ ينهب
كلّما رشنا لها أجنحةً ... من قلاعٍ ظلت منها تعجب
كطيورٍ لم تجد ريّاً لها ... فبدا للعين منها مشرب
بل على الخضراء (1) لا أنفكّ من ... زفرةٍ في كلّ حين تلهب
حيث للبحر زئيرٌ حولها ... تبصر الأغصان منه ترهب
كم قطعنا الليل فيها مشرقاً ... بحبيبٍ ومدامٍ يسكب
وكأنّ البحر ثوبٌ أزرقٌ ... فيه للبدر طرازٌ مذهب
وإلى الحور حنيني دائماً ... وعلى شنّيل دمعي صيّب (2)
حيث سلّ النهر عضباً وانثنت ... فوقه القضب وغنّى الربرب
وتشفّت أعين العشّاق من ... حور عينٍ بالمواضي تحجب
ملعبٌ للهو مذ فارقته ... ما ثناني نحو لهوٍ ملعب
وإلى مالقةٍ يهفو هوىً ... قلب صبٍّ بالنوى لا يقلب
أين أبراجٌ بها قد طالما ... حثّ كأسي في ذراها كوكب
حفّت الأشجار عشقاً حولنا ... تارةً تنأى وطوراً تقرب
جاءت الريح بها ثم انثنت ... أتراها حذرت من ترقب
__________
(1) يعني الجزيرة الخضراء، وقد قضى ابن سعيد فيها جانباً من حياته إذ كان والده والياً عليها، وكان هو ينوب عنه أحياناً.
(2) الحور: حور مؤمل وهو من متنزهات غرناطة (المغرب 2: 103) وشنيل هو نهرها، وقد مر التعريف به في هذا الكتاب.(2/282)
وعلى مرسيةٍ أبكي دماً ... منزلٌ فيه نعيمٌ معشب
مع شمسٍ طلعت في ناظري ... ثم صارت في فؤادي تغرب
هذه حالي، وأمّا حالتي ... في ذرا مصر ففكر متعب
سمعت أذني محالاً، ليتها ... لم تصدّق ويحها من يكذب
وكذا الشيء إذا غاب انتهوا ... فيها وصفاً كي يميل الغيّب
ها أنا فيها فريدٌ مهملٌ ... وكلامي ولساني معرب
وأرى الألحاظ تنبو عندما ... أكتب الطرس أفيه عقرب
وإذا أحسب في الديوان لم ... يدر كتّابهم ما أحسب
وأنادى مغربيّاً، ليتني ... لم أكن للغرب يوماً أنسب
نسبٌ يشرك فيه خاملٌ ... ونبيهٌ، أين منه المهرب
أتراني ليس لي جدٌّ له ... شهرةٌ أو ليس يدرى لي أب
سوف أثني راجعاً لا غرّني ... بعد ما جرّبت برقٌ خلّب وقال بقرمونة متشوقاً إلى غرناطة (1) :
أغثني إذا غنّى الحمام المطرّب ... بكأسٍ بها وسواس فكري ينهب
ومل ميلةً حتى أعانق أيكةً ... وألثم ثغراً فيه للصّبّ مشرب
ولم أر مرجاناً ودرّاً خلافه ... يطيف به وردٌ من الشهد أعذب
فديتك من غصنٍ تحمّله نقاً ... تطلّع أعلاه صباحٌ وغيهب
وجنّته جنّات عدنٍ وفي لظىً ... فؤادي وما لي من ذنوبٍ تعذب
ويعذلني العذّال فيه وإنّني ... لأعصي عليه من يلوم ويعتب
لقد جهلوا، هل عين حياتي أنثني ... إذا نمّقوا أقوالهم وتألّبوا
يقولون لي قد صار ذكرك مخلقاً ... وأصبح كلٌّ في هواه يؤنّب
__________
(1) سقط هذا السطر من ج.(2/283)
وعرضك مبذولٌ، وعقلك تالفٌ ... وجسمك مسلوبٌ، ومالك ينهب
فقلت لهم عرضي وعقلي والعلا ... وفخري لا أرضى بها حين يغضب
جنونٌ أبى أن لا يلين لعازمٍ ... بسحرٍ بآيات الرّقى ليس يذهب
فقالوا ألا قد خان عهدك قلت لم ... يخن من إذا قرّبته يتقرّب
وكم دونه من صارم ومثقّفٍ ... فيا من رأى بدراً بهذين يحجب
على أنّه يستسهل الصعب عندما ... يزور فلا يجدي حمىً وترقّب
وكم حيلةٍ تترى على إثر حالةٍ ... وذو الودّ من يحتال أو يتسبب
على أنّه لو خان عهدي لم أزل ... له راعياً، والرعي للصبّ أوجب
فأين زمانٌ (1) لم يخنّي ساعةً ... به وهو منّي في التنعّم أرغب
ولا فيه من بخلٍ ولا بي قناعةٌ ... كلانا بلذّات التواصل معجب
ويا ربّ يومٍ لا أقوم بشكره ... على أنّني ما زلت أثني وأطنب
على نهر شنّيلٍ وللقضب حولنا ... منابر ما زالت بها الطّير تخطب
وقد قرعت منه سبائك (2) فضّة ... خلال رياضٍ بالأصيل تذهّب
شربنا عليها قهوةً ذهبيّةً ... غدت تشرب الألباب أيّان تشرب
كأن ياسميناً وسط وردٍ تفتّحت ... أزاهره أيّان في الكأس تسكب
إذا ما شربناها لنيل مسرّةٍ ... تبسّم عن درٍّ لها فتقطّب
أتت دونها الأحقاب حتى تخالها ... سراباً بآفاق الزّجاجة يلعب
نعمنا بها واليوم قد رقّ برده ... إلى أن رأينا الشمس عنّا تغرّب
فقالوا ألا هاتوا السراج فكلّ من ... درى قدر ما في الكأس أقبل يعجب
وقال ألا تدرون ما في كؤوسكم ... فلا كأس إلا وهو في الليل كوكب
كواكب أمست بين شرب ولم نخل ... بأنّ النجوم الزّهر تدنو وتغرب
__________
(1) ج: زماناً.
(2) ق: وقد قرعت منه سنابك.(2/284)
ظللنا عليها عاكفين وليلنا ... نهارٌ إلى أن صاح بالأيك مطرب
فلم نثن عن دين الصّبوح عناننا ... إلى أن غدا من ليس يعرف يندب
صرعنا فأمسى يحسب السكر قد قضى ... علينا، وذاك السكر أشهى وأعجب
وكم ليلةٍ في إثر يومٍ وعذّلي ... وعذّل من يصغي لقولي خيّب
فيا ليت ما ولّى معادٌ نعيمه ... وأيّ نعيمٍ عند من يتغرّب قال: وقلت بإشبيلية ذاكراً لوادي الطّلح، وهو بشرق إشبيلية ملتف الأشجار، كثير مترنم الأطيار، وكان المعتمد بن عباد كثيراً ما ينتابه مع رميكيّته، وأولي أنسه ومسرته (1) :
سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا ... هل سخّرت لي في زمان الصّبا
كانت رسولاً فيه ما بيننا ... لن نأمن الرّسل ولن نكتبا
يا قاتل الله أناساً إذا ... استؤمنوا خانوا، فما أعجبا
هلاّ رعوا أنّا وثقنا بهم ... وما اتخذنا عنهم مذهبا
يا قاتل الله الذي لم يتب ... من غدرهم من بعد ما جرّبا
واليمّ لا يعرف ما طعمه ... إلاّ الذي وافى لأن يشربا
دعني من ذكر الوشاة الألى ... لمّا يزل فكري بهم ملهبا
واذكر بوادي الطّلح عهداً لنا ... لله ما أحلى وما أطيبا
بجانب العطف وقد مالت الأغ ... صان والزهر يبثّ الصّبا
والطير مازت بين ألحانها ... وليس إلاّ معجباً مطربا
وخانني من لا أسمّيه من ... شحٍّ أخاف الدهر أن يسلبا
قد أترع الكأس وحيّا بها ... وقلت أهلاً بالمنى مرحبا
أهلاً وسهلاً بالذي شئته ... يا بدر تمٍّ مهدياً كوكبا
__________
(1) انظر هذه القصيدة فيما تقدم ج 1 ص 691 وفي روايتها بعض اختلاف، ليس من الضروري إثباته.(2/285)
لكنني آليت أسقى بها ... أو تودعنها ثغرك الأشنبا
فمجّ لي في الكأس من ثغره ... ما حبّب الشرب وما طيّبا
فقال: ها لثمي نقلاً ولا ... تشمّ إلاّ عرفي الأطيبا
فاقطف بخدي الورد والآس وال ... نسرين لا تحفل بزهر الرّبى
أسعفته غصناً غدا مثمراً ... ومن جناه ميسه قرّبا
قد كنت ذا نهيٍ وذا إمرةٍ ... حتّى تبدّى فحللت الحبا
ولم أصن عرضي في حبّه ... ولم أطع فيه الذي أنّبا
حتى إذا ما قال لي حاسدي ... ترجوه والكوكب أن يغربا
أرسلت من شعري سحراً له ... ييسّر المرغب والمطلبا
وقال عرّفه بأنّي سأح ... تال فما أجتنب المكتبا
فزاد في شوقي له وعده ... ولم أزل مقتعداً مرقبا
أمدّ طرفي ثم أثنيه من ... خوف أخي التنغيص أن يرقبا
أصدّق الوعد وطوراً أرى ... تكذيبه والحرّ لن يكذبا
أتى ومن سخّره بعدما ... أيأس بطئاً كاد أن يغضبا
قبّلت في الترب ولم أستطع ... من حصر اللّقيا سوى مرحبا
هنّأت ربعي إذ غدا هالةً ... وقلت: يا من لم يضع أشعبا
بالله مل معتنقاً لاثماً ... فمال كالغصن ثنته الصّبا
وقال ما ترغب قلت: اتئد ... أدركت إذ كلّمتني المأربا
فقال: لا مرغب عن ذكر ما ... ترغبه، قلت: إذاً مركبا
فكان ما كان، فوالله ما ... ذكرته دهري أو أغلبا قال: وقلت باقتراح الملك الصالح نور الدين صاحب حمص أن أكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية (1) :
__________
(1) انظر ما سبق ص: 266.(2/286)
أنا لون الشباب والخال أهدي ... ت لمن قد كسا الزمان شبابا
ملك العالمين نجم بين أي ... وب، لا زال في المعالي مهابا
جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكور إحسانه والثوابا
لست ممّن له خطابٌ ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا قال: ولما أنشد أبو عبد الله ابن الأبّار كاتب ملك إفريقية لنفسه:
لله دولابٌ يدور كأنّه ... فلكٌ ولكن ما ارتقاه كوكب
هامت به الأحداق لمّا نادمت ... منه الحديقة ساقياً لا يشرب
نصبته فوق النهر أيدٍ قدّرت ... ترويحه الأرواح ساعة ينصب
فكأنّه وهو الطليق مقيّدٌ ... وكأنّه وهو الحبيس مسيّب
للماء فيه تصعّدٌ وتحدّرٌ ... كالمزن يستسقي البحار ويسكب حلف أبو عبد الله ابن أبي الحسين ابن عمي أن يصنع في ذلك شيئاً، فقال (1) :
ومحنيّة الأضلاع (2) تحنو على الثرى ... وتسقي نبات الترب درّ (3) الترائب
تعدّ (4) من الأفلاك أنّ مياهها ... نجومٌ لرجم المحل ذات ذوائب
وأعجبها (5) رقص الغصون ذوابلاً ... فدارت بأمثال السيوف القواضب
وتحسبها والروض: ساقٍ وقينة ... فما برحا ما بين شادٍ وشارب
وما خلتها تشكو بتحنانها الصدى ... ومن فوق (6) متنيها اطّراد المذانب
__________
(1) انظر هذه الأبيات في المغرب 2: 169.
(2) المغرب: الأصلاب.
(3) المغرب: دمع.
(4) المغرب: تظن.
(5) المغرب: وأطربها.
(6) المغرب: وما بين.(2/287)
فخذ من مجاريها ودهمة لونا ... بياض العطايا في سواد المطالب (1) " ثم كلفت في أن أقول في ذلك، وأنا أعتذر بأن هذين لم يتركا لي ما أقول:
وذات حنينٍ لا تزال مطيفةً ... تئنّ وتبكي بالدموع السواكب
كأنّ أليفاً بان عنها فأصبحت ... بمربعه كالصّبّ بعد الحبائب
إذا ابتسمت فيها الرياض شماتةً ... ترعها بأمثال السيوف القواضب
فكم رقصت أغصانها فرمت لها ... نثاراً كما بدّدت حلي الكواعب
لقد سخطت منها الثغور وأرضت ال ... قدود ولم تحفل بتثريب عائب
شربت على تحنانها ذهبيّةً ... ذخيرة كسرى في العصور الذواهب
فهاجت لي الكأس ادّكار مغاضبٍ ... فحاكيتها وجداً بذاك المغاضب
فلا تدع التبريز في كثرة الهوى ... فلولاي كانت في إحدى العجائب قال: وقلت بغرناطة:
باكر اللهو ومن شاء عتب ... لا يلذّ العيش إلاّ بالطّرب
ما توانى من رأى الزهر زها ... والصّبا تمرح في الرّوض خبب
وشذاه صانه حتّى اغتدى ... بين أيدي الريح غصباً ينتهب
يا نسيماً عطّر الأرجاء، هل ... بعثوا ضمنك ما يشفي الكرب
هم أعلّوه وهم يشفونه ... لا شفاه الله من ذاك الوصب!
خلع الروض عليه زهره ... حين وافى من ذراكم فعل صبّ
فأبى إلا شذاه (2) فانثنى ... حاملاً من عرفه ما قد غصب
لست ذا نكرٍ لأن يشبهكم ... من بعثتم، غير ذا منه العجب
__________
(1) من قول أبي تمام:
وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب (2) ج: ثناه.(2/288)
غالب الأغصان في بدأته ... ثمّ لمّا زاد أعطته الغلب
فبكى الطّلّ عليها رحمةً ... أو بكى من وعظ طيرٍ قد خطب
كلّ هذا قد دعاني للّتي ... ملكت رقّي على مرّ الحقب
قهوةٌ أبسم من عجب لها ... عندما تسم عجباً عن حبب
حاكت الخمر فلما شعشعت ... قلت ما للخمر بالماء التهب
وبدت من كأسها لي فضّةٌ ... ملئت إذ جمدت ذوب الذهب
سقّينها من يدي مشبهها ... بالذي يحويه طرفٌ وشنب
لا جعلت الدهر نقلي غير ما ... لذّ لي من ريق ثغرٍ كالضّرب
لا جعلت الدهر ريحاني سوى ... ما بخدّيه من الورد انتخب
لم أزل أقطع دهري هكذا ... وكذا أقطع منه المرتقب
حبّذا عيشٌ قطعناه لدى ... معطف الخابور ما فيه نصب
مع من لم يدر يوماً ما الجفا ... من أراح الصبّ فيه من تعب
كلّ ما يصدر منه حسنٌ ... لم يذقني في الهوى مرّ الغضب
أيّ عيشٍ سمح الدهر به ... كلّ نعمى ذهبت لمّا ذهب قال: ودخلت بتونس مع أبي العباس الغسّاني (1) حمّاماً، فنظرنا إلى غلمان في نهاية الحسن ونعومة الأبدان، فقلت مخاطباً له:
دخلت حمّاماً وقصدي به ... تنعيم جسمٍ فغدا لي عذاب
وقلت لظىً فاعترضت حوره ... وقلت عدنٌ فنهاني التهاب
وأنت في الفضل إمامٌ فكن ... في الحكم ممن حاز فصل الخطاب فقال:
لا تأمن الحمّام في فعله ... فليس ما يأتيه عندي صواب
__________
(1) ترجم له ابن سعيد في القدح: 12، وكان كاتب العلامة عند المستنصر الحفصي وبينه وبين ابن سعيد شيء كثير من المطارحات والترسلات نظماً ونثراً.(2/289)
فما أرى أخدع منه ولا ... أكذب إلاّ أن يكون السّراب
يبدي لك الغيد كحور الدّمى ... ويلبس الشيخ برود الشّباب
ظنّ به النّار فلا جنّةٌ ... للحسن إلاّ ما حوته الثياب [نقول عن ابن سعيد]
[1 - بناء الهودج بروضة مصر]
ومن فوائده (1) ، أعني ابن سعيد رحمه الله تعالى - في كتابه المحلى بالأشعار " (2) نقلاً عن القرطي (3) - قضية بناء الهودج بروضة مصر، وهو من منتزهات الخلفاء الفاطميين العظيمة العجيبة البناء البديعة، وذلك أنه يقال: إن الباني له الخليفة الآمر بأحكام الله (4) ، للبدوية التي غلب عليه حبها، بجوار البستان المختار، وكان يتردد إليه كثيراً وقتل وهو متوجه إليه، وما زال منتزهاً للخلفاء من بعده.
وقد أكثر الناس في حديث البدوية وابن ميّاح من بني عمها، وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر، حتى صارت رواياتهم ي هذا الشأن كحديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك، والاختصار منه أن يقال: إن الآمر قد كان بلي بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون في البوادي، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرفهم، شاعرة جميلة، فيقال: إنه تزيا بزي بداة
__________
(1) ورد هذا الخبر في المقتطفات، الورقة: 9، والخطط 2: 376.
(2) ذكره أيضاً المقريزي في الخطط 2: 376 ولعله يعني كتابه " القدح المعلى في التاريخ المحلي "، وهو يضم - فيما يبدو - أخباراً تاريخية أخرى عدا التراجم التي وردت في القسم الباقي منه المسمى " اختصار القدح ".
(3) في ق ج ودوزي والمقتطفات: " القرطبي " والصواب ما أثبته، وهو محمد بن سعد أبو بكر القرطي؛ صنف كتاباً في تاريخ مصر في أيام العاضد وعنه ينقل ابن سعيد في القسم المصري من المغرب (انظر ترجمته في المغرب 1: 267) .
(4) من متأخري الخلفاء الفاطميين (495 - 524) قام بأمره أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه ابن بدر الجمالي.(2/290)
الأعراب، وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها، وبات هنالك، وتحيل حتى عاينها هناك، فما ملك صبره، ورجع إلى مقر ملكه، وأرسل إلى أهلها يخطبها، وتزوجها، فلما وصلت إليه صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبت أن تسرّح طرفها في الفضاء، ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور، في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان غريب الشكل على شط النيل، وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربّيت معه، يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه من قصر الآمر:
يا ابن ميّاحٍ إليك المشتكى ... مالكٌ من بعدكم قد ملكا
كنت في حيي طليقاً آمراً ... نائلاً ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصرٍ موصدٍ ... لا أرى إلاّ حبيساً (1) ممسكا
كم تثنينا كأغصان اللوى ... حيث لا نخشى علينا دركا (2) فأجابها بقوله:
بنت عمّي والتي غذّيتها ... بالهوى حتى علا واحتنكا (3)
بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منّا المشتكى
مالك (4) الأمر إليه يشتكى ... هالكٌ، وهو الذي قد أهلكا قال: وللناس في طلب ابن ميّاح واختفائه أخبار تطول.
وكان من عرب طيء في عصر الآمر طراد بن مهلهل، فقال وقد بلغته هذه الأبيات:
__________
(1) ج ودوزي: خبيثاً.
(2) سقط من ج.
(3) ق ودوزي: واحتبكا.
(4) ج: ملك.(2/291)
ألا بلّغوا الآمر المصطفى ... مقال طرادٍ ونعم المقال
قطعت الأليفين عن ألفةٍ ... بها سمر الحيّ حول الرحال
كذا كان آباؤك الأكرمون ... سألت فقل لي جواب السؤال فقال الخليفة الآمر لما بلغته الأبيات: جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله، فطلب في أحياء العرب فلم يوجد، فقيل: ما أخسر صفقة طراد، باع عدة أبيات بثلاثة أبيات.
[2 - مكين الدولة ابن حديد]
وكان بالإسكندرية (1) مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد ابن الحسن بن حديد، له مروءة عظيمة، ويحتذي أفعال البرامكة، وللشعراء فيه أمداح كثيرة، ومدحه ظافر الحداد وأمية أبو الصّلت وغيرهما، وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام، وهو قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره، وكان يجد في نفسه برؤيته (2) زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره، فوشي به للبدوية محبوبة الآمر، فسألت الآمر في حمل الجرن إليها، فأرسل إلى ابن حديد في إحضار الجرن، فلم يجد بدّاً من حمله من البستان، فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج [وتركيبه هنالك] (3) ، فقلق ابن حديد، وصارت في قلبه حزازة (4) من أخذ الجرن، فأخذ يخدم البدوية وجميع من يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة، حتى قالت البدوية: هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه، ولم يكلفنا قط أمراً نقدر عليه عند
__________
(1) هذا الخبر في المقتطفات (الورقة: 10) والمقريزي 2: 377.
(2) المقتطفات: وكان كسن يجد في نفسه برؤيته له.
(3) زيادة من المقتطفات.
(4) ق: حرارة.(2/292)
الخليفة مولانا، فلمّا قيل له عنها هذا القول قال: ما لي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عزّ غير ردّ السّقيّة التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمتهم (1) تردّ إلى مكانها، فتعجبت من ذلك، وردتها عليه، فقيل له: قد حصلت في حد أن خيّرتك البدوية في جميع المطالب (2) ، فنزلت همتك إلى قطعة حجر، فقال: أنا أعرف بنفسي، ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه، وقد بلغها الله تعالى أملها.
وكان هذا المكين متولي قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر، وبلغ من علو همته وعظيم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون ابن البطائحي لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية سنة سبع عشرة وخمسمائة، وأضاف إليها الأعمال البحرية، ووصل إلى الثغر - وصف له الطبيب دهن الشمع بحضرة القاضي المذكور، فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضيّ إلى داره لإحضار دهن الشمع، فما كان أكثر من مسافة الطريق إلاّ وقد أحضر حقّاً مختوماً، فكّ عنه فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مراق (3) بلور فيه ثلاثة بيت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر: بيت دهن ممسك، وبيت دهن بكافور، وبيت دهن بعنبر طيب، ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته، فعندما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته، فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه، وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه، وكان جواب المؤتمن: وقد قبلته منك لا لحاجة إليه، ولا نظر في قيمته، بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها، وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه خمسمائة دينار.
فانظر، رحمك الله تعالى، إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته خمسمائة دينار، ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه، فماذا تكون ثيابه
__________
(1) المقتطفات: من بستاني الذي أنشأته من نعمتهم.
(2) المقتطفات: في ما تطلب.
(3) ق: مداق.(2/293)
وحلى نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة! وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبّهتها إلا يسير حقير.
وما زال الخليفة الآمر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة 524 يريد الهودج، وقد كمن له عدة من النزارية (1) على رأس الجسر من ناحية الروضة، فوثبوا عليه وأثخنوه بالجراحة، وحمل في العشاري (2) إلى اللؤلؤة (3) ، فمات بها، وقيل: قبل أن يصل إليه، وقد خرب هذا الهودج، وجهل مكانه من الروضة، ولله عاقبة الأمور، نقل ذلك كلّه الحافظ المقريزي (4) ، رحمه الله تعالى.
[3 - الشهاب التلعفري]
قال النور ابن سعيد، ومن خطه نقلت: لما نزلنا بتلّعفر حين خرجنا من سنجار إلى الموصل سألت أحد شيوخنا عن والد شهاب الدين التّلّعفري، فقال: أنا أدركته، وكان كثير التجول، وأنشدني لنفسه في عيد أدركه في غير بلده:
يبتهج الناس إذا عيّدوا ... وعند سرّائهم أكمد
لأنّني أبصر أحبابهم ... ومقلتي محبوبها تفقد
__________
(1) النزارية: هم الذي يرون تسلسل الإمامة في خلفاء الفاطميين حتى نزار بن المستنصر ولا يرون إمامة من بعده، والنزارية تطعن في إمامة المستعلي، وتضادها الفرقة المستعلية وهي ترى صحة خلافة المستعلي والآمر والحافظ ... إلخ.
(2) العشاري: نوع من السفن.
(3) اللؤلؤة: موضع نزاهة الخلفاء الفاطميين وقصورهم، بناها الخليفة العزيز.
(4) انظر الخطط المقريزية 2: 348 - 351.(2/294)
قال: وخرج ابنه الشهاب أجول منه شخصاً وشعراً، وصدق فيما قاله، وأنشد ابن سعيد للشهاب التلعفري (1) :
لك ثغرٌ كلؤلؤٍ في عقيقٍ ... ورضابٌ كالشّهد أو كالرّحيق
وجفونٌ لم يمتشق سيفها إ ... لاّ لمغرّى بقدّك الممشوق
تهت عجباً بكلّ فنّ من الحس ... ن جليلٍ وكلّ معنى دقيق
وتفردت بالجمال الذي خ ... لاّك مستوحشاً بغير رفيق
باللحاظ التي بها لم تزل تر ... شق قلبي وبالفوام الرّشيق
لا تغر بالغوير إذ تتثنّى ... فيه أعطاف كلّ غصن وريق
واثن محمرّ ورد خدّيك واستر ... هـ وإلاّ ينشقّ قلب الشقيق قال ابن سعيد: وحظي الشهاب التلعفري بمنادمة الملوك، وكونهم يقدمونه، ويقبلون على شعره، وعهدي به لا ينشد أحدٌ قبله في مجلس الملك الناصر، على كثرة الشعراء، وكثرة من يعتني بهم، ولما جمعت للملك الناصر كتاب ملوك الشعر جعلت ملك شعر الشهاب البيت الرابع من المقطوعة المتقدمة، فإنّه كان كثيراً ما ينشده وينوه به. والتشفي من ذكر الشهاب ومحاسن شعره له مكان بكتاب الغرة الطالعة في فضلاء المائة السابعة وهو الآن عند الملك المنصور صاحب حماة قد علت سنّه، وما فارقه غرامه ودنّه، انتهى.
__________
(1) هو محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة منسوب إلى تل أعفر أو تل يعفر (ثم تدغم الكلمتان) ولد بالموصل سنة 593 وكان خليعاً ممتحناً بالقمار أهلك فيه كل ما ناله من عطاء وكسب، توفي سنة 675 وديوانه مطبوع. (انظر ترجمته في الفوات 2: 546 والنجوم الزاهرة 7: 255 وشذرات الذهب 5: 349 وتاريخ ابن الفرات 7: 76 ومادة " تل أعفر " بمعجم البلدان) .(2/295)
[4 - العادل بن أيوب]
ولما أجرى ابن سعيد في بعض مصنفاته ذكر الملك العادل بن أيوب (1) قال ما نصّه: وكان من أعظم السلاطين دهاء وحزماً، وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له، ويحكى أنه بشّره شخص بأن أميراً من أمراء الأفضل ابن صلاح الدين فسد عليه، فأعطاه مالاً جزيلاً، وأرسل مستخفياً إلى المذكور يزيده بصيرة في الانحراف عن الأفضل، ويعده بما يفسد الصالح فكيف الفاسد، قال: وكان يمنع حتى يوصف بالبخل، ويجود في مواضع الجود حتى يوصف بالسّماح، وكان صلاح الدين - وهو السلطان - يأخذ برأيه، وقدّم له أحد المصنفين كتاباً مصوراً في مكايد الحروب ومنازلة المدن، وهو حينئذ على عكّا محاصراً للفرنج، فقال له: ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر، وكان كثير المداراة والحزم، ومن حكاياته في ذلك أن أحد الأشياخ من خواصّه قال له يوماً، وهو على سماطه يأكل: يا خوند، ما وفيت معي ولا رعيت سابق خدمتي، وكلمه بدالّة السن وقدم الصحبة قبل الملك، فقال لمماليكه، انظروا سوطه، فجسّوا الكمران؛ وقال: خذوا الصرة التي فيه، فوجدوا صرّة، فقال: افتحوها، ففتحوها فإذا فيها ذرور، فقال العادل: كل من هذا الذرور، فتوقف، وعلم أنه مطّلع على أنه سم، فقال: كيف نسبتني إلى قلة الوفاء، وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم، وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار، فلا أنا أمكنتك من نفسي، ولا أشعرتك، لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به، وتركتك على
__________
(1) هو الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب بن شاذي، ولد سنة 539 واشترك في معظم الأعمال الحربية التي قام بها أخوه صلاح الدين، فأعطاه مصر ثم حلب ثم الشرق والكرك والشوبك، ثم جرت بينه وبين أولاد أخيه خطوب، فملك دمشق سنة 592، وملك مصر سنة 596 وامتد ملكه على مناطق واسعة وتوفي سنة 615؛ وأخباره مشروحة في تاريخ ابن الأثير ومفرج الكروب ومرآة الزمان وغيرها.(2/296)
حالك، وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة، ثم قال: ردوا سمه إلى كمرانه، لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي، فجعل يقبّل الأرض ويقول: هكذا والله كان، وأنا تائب لله تعالى، ثم إن الشيخ جدّد توبة، واستأنف أدباً آخر وخدمة أخرى، وكانت هذه الفعلة إحدى عجائب العادل.
قال: وكان كثير المصانعات حتى إنّه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجّه في الخفية إليهنّ، حتى يمسك أزواجهنّ عن الحركة، وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره.
ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين (1) باليمن، وخطب لنفسه بالخلافة، وكتب له أن يبايعه وخطب له في بلاده، كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توديه عسكر له في البر والبحر، وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره، فضحك وقال: من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤونة، أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده، فضلاً عن أن يتطرق (2) فساده لبلادي، ثم إنه وجّه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم: أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي، فكيف يسوغ له وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه، فاحذروا أن تهلكوا معه، واتعظوا بالآية " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار " وما لهذا عقل يدبر به نفسه، فكيف عن تدبير خاصته إليكم " ولتعلمنّ نبأه بعد حينٍ " فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه، وعادت البلاد للعادل، وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر: قد كفينا المؤونة بأيسر شيء من المال، ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته.
__________
(1) ق: طغركين؛ ج: طغرلكين.
(2) ج: يطرق.(2/297)
وكان - على ما بلغه من عظمة السلطان، واتساع الممالك - يحكي ما جرى له في زمان خلوّه من ذلك، ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم، واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق، ومن نوادره الحارّة معه أنه سمعه يوماً وهو يقول في وضوئه: اللهم حاسبني حساباً يسيراً، ولا تحاسبني حساباً عسيراً، فقال له: يا خوند على أي شيء يحاسبك حساباً عسيراً إذا قال لك: أين أموال الخلق التي أخذتها فقل له: تراها بأمانتها في الكرك، وكان قد صنع بهذا المعقل الحسرات، سميت بذلك لأن من رآها، يتحسر إذا نظرها، ولا يستطيع على شيء منها بحيلة، وهي خوابٍ مفروغةٍ من ذهب وفضة تركت بمرأى من الناظري ليشتهر ذلك في الآفاق.
وقال العادل مرة، وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم ممّن ذكر في كتاب المستجاد في حكايات الأجواد: إنما هذا كذب مختلق من الورّاقين ومن المؤرخين، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال، فقال خضير: يا خوند، ولأي شيء لا يكذبون عليك
قال ابن سعيد: من وقف على حكايات أبي العيناء مع عبيد الله بن سليمان يجد مثل هذه الحكاية.
قال ابن سعيد: ووجدت الشهاب القوصي قد ذكر السلطان العادل في كتاب " [تاج] المعاجم " (1) وابتدأ الكتاب المذكور بمحاسنه والثناء عليه وخرّج عنه الحديث النبوي عن الحافظ السّلفي، وتمثّل فيه عند وفاته (2) :
__________
(1) في ق ج ودوزي: المعاجم، واسم الكتاب " تاج المعاجم " كما سيرد بعد قليل؛ ومؤلفه هو إسماعيل بن حامد بن عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي القوصي الملقب بشهاب الدين، وكنيته أبو الطاهر وأبو العرب وأبو حامد وأبو الفداء، نزل دمشق وجمع لنفسه معجماً في أربع مجلدات وسماه " تابع المعاجم " وذكر فيه من لقيه من المحدثين، وتوفي بدمشق 653 (الطالع السعيد 81 - 82) .
(2) مر البيتان والثالث في مقدمة النفح ج 1: 14.(2/298)
ألام على بكائي خير ملكٍ ... قلّ له بكائي بالنّجيع
به كان الشباب جميع عمري ... ودهري كله زمن الربيع
ففرّق بيننا زمنٌ خؤون ... له شغف بتفريق الجميع قال ابن سعيد: ودفن العادل بالمدرسة العادلية بدمشق، وكان أنشأها للشافعية، وهي في نهاية الحسن، وبها خزانة كتب، فيها تاريخ ابن عساكر، وذيّل هذا التاريخ واختصره أبو شامة، سمعت عليه منه هنالك ما تيسر أيام إقامتي بدمشق.
وأولاد العادل ملوك البلاد في صدر هذه المائة السابعة، منهم الكامل والمعظم والأشرف، وهؤلاء الثلاثة شهروا بالفضل وحب الفضلاء وقول الشعراء، انتهى.
[5 - المرذغاني]
وقال ابن سعيد، في ترجمة الرئيس صفي الدين أحمد بن سعد المرذغاني (1) ، وهو من بيت وزارة ورئاسة بدمشق: إن من شعره قوله:
كيف طابت نفوسكم بفراقي ... وفراق الأحباب ومرّ المذاق
لو علمتم بلوعتي وصبابا ... تي ووجدي وزفرتي واحتراقي
لرثيتم للمستهام المعنّى ... ووفيتم بالعهد والميثاق قال ابن سعيد: وقفت على ذكر هذا الرئيس في كتاب تاج المعاجم ووجدت صاحبه الشهاب القوصي قد قال: أخبرني بدمشق أنه قد كان عزم على السفر منها إلى مصر، لأمر ضاق به صدره، فهتف به هاتف في النوم، وأنشده:
__________
(1) لم استطع التثبت من ضبط هذه النسبة، وفي بعض الأصول: المزدغاني، والبردغاني.(2/299)
يا أحمد اقنع بالذي أعطيته ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلّها
ودع التكاثر في الغنى لمعاشر ... أضحوا على جمع الدراهم ولّها
واعلم بأنّ الله جلّ جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلّها فانثنى عزمه عن الحركة، ثم بلغ ما أمّله دون سفر.
[6 - دفتر خوان الدمشقي]
وقال ابن سعيد، في ترجمة المنتجب أحمد بن عبد الكريم الدمشق المعروف بدفتر خوان (1) ، وهو الذي يقرأ الدفاتر بين أيدي الملوك والأكابر (2) : إنّه كان يقرأ الدفاتر بين يدي العادل بن أيوب، وكان يكتب له بالأشعار في المواسم والفصول، فينال من خيره، وكتب له مرّة وقد أظل الشتاء في دمشق فقال:
مولاي جاء الشتاء ... والكيس منها خلاء
لا زال يجري بما تر ... تضي علاك القضاء
وكلّ كافٍ إليه ... يحتاج فيه التواء (3) فقال له العادل: هذا الضمير الذي في البيت الأول على ماذا يعود قال: بحسب مكارم السلطان، إن شئت على الدراهم، وإن شئت على الدنانير! فضحك وقال: هت كيسك، فأخرج له كيساً يسع قدر مائة دينار، فملأه
__________
(1) ترجمته في الوافي: 7 الورقة: 37 ولقبه منتخب الدين؛ وبعد خدمته للعادل وشيء به الحساد لديه فحرمه وهجره، وتوفي دفتر خوان سنة 615 بعد وفاة العادل، وكان العادل قد رضي عنه قبل وفاته؛ وقد نقل الصفدي ترجمته عن معجم الشهاب القوصي.
(2) قال الصفدي في تعريف دفتر خوان: " وهو الذي يتحدث في أمر الكتب المجلدات ويكون أمرها راجعاً إليه، وهو الذي يقرأ على السلطان فيها، إما ليلاً وإما نهاراً، ينادمه بذلك ".
(3) يشير إلى كافات الشتاء: كالكن والكيس والكانون ... إلخ وقد جمعها ابن سكرة في بيت واحد.(2/300)
له، وقال: أظنّه كان معدّاً عندك، فقال: مثل السلطان من يكون جوده مظنوناً.
وكتب إليه مرّة وقد أملق (1) :
انظر إليّ بعين جودك مرّةً ... فلعلّ محروم المطالب يرزق
طير الرجاء على علاك (2) محلق ... وأظنّه سيعود وهو مخلق فأعطاه جملة دنانير، وقال له: اشتر بهذه ما تخلّق به طير رجائك، انتهى.
[7 - الزناطي وابن الربيب]
وأنشد ابن سعيد رحمه الله تعالى لبعض المغربة، وهو أبو الحسن علي بن مروان الزناطي (3) الكاتب:
أنس أخي الفضل كتابٌ أنيق ... أو صاحبٌ يعنى بودٍّ وثيق
فإن تعره دون رهن به ... تخسره أو تخسر وداد الصديق
وربّما تخسر هذا وذا ... فاسمع رعاك الله نصح الشفيق قال: وأجابه المخاطب بهذه الأبيات، وهو ابن الرّبيب (4) ، بنثر نصّه:
__________
(1) البيتان في الوافي للصفدي.
(2) الوافي: إلى علاك.
(3) كذا في ق ج ودوزي؛ وفي نسخة: الرباطي.
(4) ابن الربيب: ينصرف هذا الاسم إلى الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب القيرواني صاحب الرسالة التي وجهها لأبي المغيرة ابن حزم يذكر له إهمال أهل الأندلس في تقييد أخبارهم ومآثرهم (وستأتي في الباب السادس) ؛ وقد ترجم العمري لابن الربيب وسماه الحسين بن محمد (المسالك 11: 319) وقال فيه: " ولو قرن به البلاذري لعصفت به ريحه النكباء فذري " فدل على أنه مؤرخ؛ ويؤكد هذا ما نقله عن أنموذج ابن رشيق من أن ابن الربيب " بلغ نهاية من الأدب وعلم النسب "، ولكني لست أقطع يقيناً بأنه المعني في هذا المقام لأني لم استطع تحديد الزمن الذي عاش فيه معاصره علي بن مروان.(2/301)
مثلك يفيد تجربة قد نفق عليها عمر، وضل عن فوائدها غرّ غمر، وقد أنفذت رهناً لا يسمح بإخراجه من اليد إلا ليدك، فتفضل بتوجيه الجزء الأول، فأنا أعلم أنّه عندك مثل ولدك، قل: فوجهه ومعه بطاقة صغيرة فيها: يا أخي، إن عرّضت بولدي فكذلك كن مع والدي وقد توارثنا العقوق كابراً عن كابر، فكن شاكراً فإنّي صابر.
ثم قال ابن سعيد: وتفاقم أمر ولده فقيّده بقيد حديد وقال فيه:
لي ولدٌ يا ليته ... لم يك عندي يخلق
يجهد في كل الذي ... يرغم وهو يعشق
وإن أكن قيّدته ... دمعي عليه مطلق وذكر ابن سعيد أن الكاتب أبا الحسن المذكور كان كثيراً ما يستعير الكتب، فإذا طلبت منه فكأنّها ما كانت، فذكر لبعض أصحابه - وهو ابن الربيب المؤرخ - أن عنده نسخة جليلة من تاريخ عريب (1) الذي لخص فيه تاريخ الطبري واستدرك عليه ما هو من شرطه وذيل ما حدث بعده، فأرسل إليه في استعارتها، فكتب إليه: يا أخي، سدّد الله آراءك، وجعل عقلك أمامك لا وراءك، ما يلزمني من كونك مضيّعاً أن أكون كذلك، والنسخة التي رمت إعارتها هي مؤنسي إذا أوحشني الناس، وكاتم سرّي إذا خانوني، فما أعيرها إلا بشيء أعلم أنك تتأذّى بفقده إذا فقد جزء من النسخة، وأنا الذي أقول:
__________
(1) هو عريب بن سعد القرطبي من بيت من الموالي يعرفون ببني التركي، كان أديباً شاعراً تاريخياً، أضاف إلى تاريخ الطبري بعد أن اختصره " أخبار إفريقية والأندلس " وقد نشر له ملحق بتاريخ الطبري عرف باسم " صلة عريب " ولكنه لا يمثل الإضافة التي قام بضمها إلى تاريخ أبي جعفر، وله من الكتب كتاب الأنواء، نثره دوزي باسم " التقويم القرطبي " وأورد له الثعالبي شعراً في اليتيمة 2: 52 وهو أحد الذين ذكرهم ابن فرج في كتاب الحدائق (انظر الذيل والتكملة 5: 141 - 143) .(2/302)
أنس أخي الفضل كتاب أنيق ... إلى آخره.
وأنشد للكاتب أبي الحسن المذكور:
إنّ ذاك العذار قام بعذري ... وفشا فيه للعواذل سرّي
ما رأينا من قبل ذلك مسكاً ... صاغ منه الإله هالة بدر
أيّ آسٍ من حول جنّة وردٍ ... ليس منه آسٍ مدى الدهر يبري ولما اشتد مرضه بين تلمسان وفاس قال هذه الأبيات، وأوصى أن تكتب على قبره:
ألا رحم الله حيّاً دعا ... لميتٍ قضى بالفلا نحبه
تمرّ السّوافي على قبره ... فتهدي لأحبابه تربه
وليس له عملٌ يرتجى ... ولكنّه يرتجي ربّه رجع إلى نظم ابن سعيد المترجم به، فنقول:
وقال لما سار المعظم من حصن كيفا، وآل أمره إلى الملك، ثم القتل والهلك (1) :
ليت المعظم لم يسر من حصنه ... يوماً ولا وافى إلى أملاكه
إن العناصر (2) إذ رأته مكمّلاً ... حسدته فاجتمعت على إهلاكه ومما نقلته من ديوانه الذي رتبه على حروف المعجم قوله، رحمه الله تعالى - وقلت بالقاهرة على لسان من كلّفني ذلك:
شرف الدين أبن لي ما السبب ... في انقلاب الدهر لي عند الغضب
__________
(1) انظر اختصار القدح: 8.
(2) القدح: الطبائع.(2/303)
فلتدم غضبان أظفر بالمنى ... ليس لي في غير هذا من أرب
إنّما ظهرك عندي قبلةٌ ... ووضوئي الدهر من ذاك الشّنب وأستغفر الله من قول الكذب، قال: وقلت بإشبيلية:
قد جاء نصر الله والفتح ... والصبح لمّا رضيت صبح
فهنّئوني بارتجاع المنى ... لولا الرّضى ما برح البرح
يا أورقاً يا غصناً يا نقاً ... يا ظبيةً بالليل يا صبح
يصحو جميع الناس من سكرهم ... ولست من سكركم أصحو
بلغت فيه غايةً لم يبن ... غايتها التفسير والشرح
ونصح العذّال، من لي بأن ... يعذلني عن غيّك النصح وقلت بإشبيلية:
وضح الصبح فأين القدح ... يعرف اللذات من يصطبح
ما ترى الليل كطرفٍ أدهمٍ ... وضياء الفجر فيه وضح
والثرى دبّجه درّ النّدى ... وعلى الأغصان منه وشح
ومدير الراح لم يعد المنى ... كلّ ما يأتي به مقترح
في بطاح المرج قد نادمني ... رشأٌ من سكره ينبطح
جعل المسواك ستراً للمنى ... فكأن قبّل فاه قزح
كلّما شئت الذي قد شاءه ... فحنى لي كاسه أفتتح
ما أبالي أن رآني كاشحٌ ... أم رآني من لديه نصح
هكذا العيش ودع عيش الذي ... خاف من نقدٍ إذا يفتضح وقلت بشريش:
طاب الشّراب لمعشرٍ ... سلبوا المروءة فاستراحوا(2/304)
لا يعرفون تستّراً ... السكر عندهم مباح
متهتكون لدى المنى ... وفسادهم فيها صلاح
ساقيهم متبذّلٌ ... هل يمنع الماء القراح
غصنٌ يميل به الصّبا ... ردّته طوع الراح راح
طوع الأماني، كلّ ما ... يأتي به فهو اقتراح
ما إن نبالي إن بدا ... أن لا يلوح لنا الصباح
ما زلت أرشف ثغره ... وعليه من عضدي وشاح
والقلب يهفو طائراً (1) ... ولعاً ولا يخشى افتضاح
ولو أنّنا نخشاه كا ... ن لنا من الظّلما جناح
لكنّنا في عصبةٍ ... ما في تهتّكهم جناح
لا ينكرون سوى ثقي ... لٍ لا يميل به مزاح
أفنى الذي قد جمّعو ... هـ الكأس والحدق الملاح وقلت بأركش:
قم هاتها لاح الصباح ... ما العيش إلا الإصطباح
مع فتيةٍ ما دأبهم ... إلاّ المروءة والسّماح
جرّبتهم فوجدتهم ... ما للمنى عنهم براح
يثنيهم نحو الصّبا ... نقر المثاني والمراح
ما نادموا شخصاً فكا ... ن لهم بخدمته استراح
بل يعرفون مكانه ... فله إذا شاء اقتراح
هم يتعبون وضيفهم ... ما دام عندهم يراح
ما إن يملّون النزي ... ل وبالرضى منه السراح
__________
(1) ج: طائعاً.(2/305)
يدعونه بأجلّ ما ... يدعى به الحرّ الصّراح
حتى إذا ما بان كدّ ... ر عيشهم منه انتزاح
فعلى مثالهم يبا ... ح لي المدامع والنواح
كرهاً فقدتهم فما ... لي بعد بعدهم ارتياح
لله شوقي إن هفت ... من نحو أرضهم الرياح
فهناك قلبي طائرٌ ... لهم ومن شوقي جناح قال: وقلت بمدينة ابن السليم (1) في وصف كلب صيد أسود في عنقه بياض:
وأدهم دون حليٍ ظلّ حالي ... كأن ليلاً يقلّده صباح
يطير وما له ريش ولكن ... متى يهفو فأربعه جناح
تكلّ الطير مهما نازعته ... وتحسده إذا مرق الرياح
له الألحاظ مهما جاء سلكٌ ... ومهما سار فهي له وشاح قال: وقلت بنيل مصر:
يا نيل مصرٍ أين حمص ونهرها ... حيث المناظر أنجمٌ تلتاح
في كلّ شطٍّ للنّواظر مسرحٌ ... تدعو إليه منازحٌ وبطاح
وإذا سبحت فلست أسبح خائفاً ... ما فيه تيّارٌ ولا تمساح قال: وقلت وقد حضرت مع إخوان لي بموضعٍ يعرف بالسلطانية على نهر إشبيلية وقد مالت الشمس للغروب:
رقّ الأصيل فواصل الأقداحا ... واشرب إلى وقت الصباح صباحا
__________
(1) مدينة ابن السليم: اسم لمدينة شذونة، وكان بنو السليم قد استوطنوها بعد خراب قلشانة فسميت باسمهم (الروض المعطار: 162) .(2/306)
وانظر لشمس الأفق طائرةً وقد ... ألقت على صفح الخليج جناحا
فاظفر بصفو الأفق قبل غروبها ... واستنطق وحثّ الراحا
متع جفونك في الحديقة قبل أن ... يكسو الظلام جمالها أمساحا وقلت بمرسيّة:
أقلقه وجده فباحا ... وزاد تبريحه فناحا
ورام يثني الدموع لمّا ... جرت فزادت له جماحا
يا من جفا فارفقن عليه ... مستعبداً لا يرى السراحا
يكابد الموت كلّ حينٍ ... لو أنّه مات لاستراحا
ينزو إذا ما لرياح هبّت ... كأنّه يعشق الرياحا
يسألها عن ربوع حمصٍ ... لمّا نما عرفها وفاحا
كم قد بكى للحمام كيما ... يعيره نحوها جناحا قال: وخرجت مرّة مع أبي إسحاق إبراهيم بن سهر الإسرائيلي (1) إلى مرج الفضة بنهر إشبيلية فتشاركنا في هذا الشعر (2) :
غيري يميل إلى كلام اللاحي ... ويمدّ راحته لغير الراح
لا سيما والغصن يزهو زهره ... ويميل عطف الشارب المرتاح
وقد استطار القلب ساجع أيكةٍ ... من كلّ ما أشكوه ليس بصاح
__________
(1) إبراهيم بن سهل من أشهر شعراء الأندلس في عصر وهو صديق ابن سعيد وزميله أيام الدراسة، وسيرد جانب من أخباره في مواطن من نفح الطيب. (انظر ترجمته في المغرب 1: 264 واختصار القدح: 140 - 141 والمسالك 11: 473 وشذرات الذهب 5: 244، 296 والفوات 1: 41 وهو ينقل عن تحفة القادم لابن الأبار) . وقد نشر ديوانه (دار صادر: 1967) عن نسخة خطية فيها كثير من شعره الذي لم ينشر من قبل، وكتبنا دراسة في حياته وشعره جعلناها مقدمة للديوان.
(2) انظر الأبيات في اختصار القدح: 79 وديوان ابن سعل: 92 والمسلك السهل: 250.(2/307)
قد بان عنه جناحه عجباً له ... من جانحٍ للعجز حلف جناح
بين الرياض وقد غدا في مأتمٍ ... وتخاله قد ظلّ في أفراح
الغصن يمرح تحته والنهر في ... قصفٍ تزجّيه يد الأرواح
وكأنّما الأنشام فوق جنانه ... أعلام خزٍّ فوق سمر رماح
لا غرو أن قامت عليه أسطرٌ ... لمّا رأته مدرّعاً لكفاح
فإذا تتابع موجه لدفاعه ... مالت عليه فظلّ حلف صياح قال: وقلت بمالقة متشوّقاً إلى الجزيرة الخضراء:
يا نسيماً من نحو تلك النواحي ... كيف بالله نور تلك البطاح
أسقتها الغمام ريّاً فلاحت ... في رداءٍ ومئزرٍ ووشاح
أم جفته فصيّرته هشيماً ... تركته تذروه هوج الرياح
يا زماني بالحاجبيّة إنّي ... لست من سكر ما سقيت بصاحي
آه ممّا لقيت بعدك من هـ ... مّ وشوقٍ وغربةٍ وانتزاح
أين قومٌ ألفتهم فيك لمّا ... قرّب الدهر آذنوا بالرّواح
تركوني أسير وجدٍ وشوقٍ ... ما لقلبي من الجوى من سراح
أسلموني للويل حتى تولوا ... وأصاخوا ظلماً لقول اللّواحي
أعرضوا ثمّ عرّضوني لشوقٍ ... ترك القلب مثخناً بجراح
أسهر الليل لست أغفي لصبحٍ ... أترى النوم ذاهباً بالصباح
قد بدا يظهر النّجوم حليّاً ... وهو من لبسة الصبا في براح
مسبلاً ستره منعّم بالٍ ... وجفوني من سهده في كفاح
أيها الليل لا تؤمّل خلوداً ... عن قريبٍ يمحو ظلامك ماح
ويلوح الصباح مشرق نورٍ ... فيه للمستهام بدء نجاح
إنّ يوم الفراق بدّد شملي ... طائراً ليته بغير جناح
حالك اللّون شبه لونك فاعزب ... عن عياني يا شبه طير انتزاح(2/308)
وإذا ما بدا الصباح فما يش ... به إلاّ لون الخدود الملاح وقلت بالجزيرة الخضراء:
قد رفعت راية الصّباح ... تدعو النّدامى للاصطباح
فبادروا للصّبوح إنّي ... قد بعت في غيّه صلاحي
ولا تميلوا عن رشف ثغرٍ ... وسمع شدوٍ وشرب راح
وأنت يا من يروم نصحي ... قد يئس القوم من فلاحي
فلست أصغي إلى نصيحٍ ... ما نهضت بالكؤوس راحي قال: وقلت أمدح ملك إفريقية وأهنئه بقتل ثائر من زناتة يدّعي أنه من نسل يعقوب المنصور:
برّح بي من ليس عنه براح ... ومن رأى قتلي حلالاً مباح
من صرّح الدمع (1) بحبّي له ... وما لقلبي عن هواه سراح
ظبيٌ عدمت الصبح مذ صدّني ... وكيف لا يعدم وهو الصباح
مورّد الخدّ سهيّ اللّمى ... منعّم الرّدف جديب الوشاح
تظنه من قلبه جلمداً ... ومنه للماء يجفني انسياح
لردفه أضعف من صبّه ... ولم أزل من لحظه في كفاح
نشوان من ريقته عربدت ... أجفانه بالمرهفات الصّفاح
فها أنيني خافتٌ مثل ما ... أنا أسيرٌ مثخنٌ بالجراح
يا قاتلي صدّاً أما تستحي ... أن تلزم البخل بأرض السّماح (2)
من ذا الذي يبخل في تونسٍ ... والملح فيها صار عذباً قراح
وأصبحت أرجاءها جنّةً ... مبيضّة الأبراج خضر البطاح
__________
(1) ق: ضرج الدمع؛ وفي نسخة: صرح القلب.
(2) سقط من ق، وأثبته دوزي في الحاشية.(2/309)
لولا ندى يحيى وتدبيره ... ما برحت تغبرّ منها النّواح
لكن يداه سحبٌ كلّما ... حلّت بأرضٍ حلّ فيها النجاح
هذا وقد آمن من حلّها ... وحفّها، من غربة وانتزاح
كم شتّتوا من قبل تأميره ... وحكّمت فيهم عوالي الرماح
يا سائراً يرجو بلوغ المنى ... باكرا ذرا يحيى وقل لا رواح
وحيّه بالمدح فهو الذي ... يهتزّ كالهنديّ حين امتداح
بالشرق والغرب غدا ذكره ... يحثّ من حمدٍ وشكرٍ جناح
ساعده السعد وأضحت له ال ... آمال لا تجري بغير اقتراح
ويسّر الله له ملكه ... من غير أن يشهر فيه السلاح
وكلّ من كان على غيره ... ذا منعةٍ أمسى به مستباح
وكم جموحٍ عندما قام بالأم ... ر رأى القهر فخلّى الجماح
كفٌّ بكفٍّ للنّدى والردى ... بها معانٌ وهي خرسٌ فصاح
حتى لقد أحسب من سعده ... تجري على ما ترتضيه الرياح
قولوا ليعقوب فماذا جنى ... وابن أبي حمزة ماذا استباح
قد أصبحا من فوق جذعين لا ... يؤنسهم غير هبوب الرياح
واسأل عن الداعي والدعيّ الذي ... حاول أمراً كان عنه انضراح
أكان من صيّره والداً ... بزعمه أمّل فيه فلاح
شكراً لسعدٍ لم يدع فرقةً ... قد صيّر الملك كضرب القداح
راموا بلا جاهٍ ولا محتدٍ ... ما حزت بالحقّ فكان افتضاح
زناتةٌ يهنيكم فعلكم ... عاجلكم ثائركم باجتياح
كفّر ما قدّمتم آخرٌ (1) ... والخير لن يبرح للشرّ ماح
عهدي به في موكب الملك ما ... بينكم نشوان من غير راح
__________
(1) ق: آخراً.(2/310)
يحسب أنّ الأرض ملكٌ له ... وروحه ملكٌ لسمر الرماح
غدا بعزّ الملك لكنّه ... أهون مملوكٍ على الأرض راح
جاءوا به يمرح في عزّه ... وهم أزالوا عنه ذاك المراح
توقّعوا في القرب منه الردى: ... من صحبة الأجرب يخشى الصّحاح
فأسرعوا نحوك يبغون ما ... عوّدتهم من عطفةٍ والتماح
فغادروه جانياً غدره ... لطائر البين عليه نياح
فالحمد لله على كلّ ما ... سنّى لك السعد برغم اللّواح
مثلك لا ينفد ما شاده (1) ... فلست تأتي الدهر إلاّ صلاح
لا زلت في عزٍّ وفي مكنةٍ ... وفي سرورٍ دائمٍ وانفساح قال: وقلت ببنيونش موضع الفرجة بسبتة:
اشرب على بنيونشٍ ... بين السواني والبطاح
مع فتيةٍ مثل النجو ... م لهم إذا مرّوا جماح
ساقيهم متبذّلٌ ... لا يمنع الماء القراح
كلٌّ يمدّ يمينه ... ما في الذي يأتي جناح
هبّوا عليه كلّما ... هبّت على الروض الرياح
طوع الأماني كلّ ما ... يأتي به فهو اقتراح
عانقته حتّى ترك ... ت بخصره أثر الوشاح وقلت بإشبيلية:
أوجه صبحٍ أم الصّباح ... ولحظها أن ظبى الصّفاح
وثغرها أم نظيم درٍّ ... وريقها أم سلاف راح
وقدّها أم قوام غصنٍ ... وعرفها أم شذا البطاح
__________
(1) ق: لا ينقد ما شاءه.(2/311)
يا حبّذا زورةٌ تأتّت ... منها علىغفلة اللّواح
فلم أصدّق بها سروراً ... وظلت نشوان دون راح
أما منعت السلام دهراً ... ولا رسولٌ سوى الرياح
قالت: ألا فانس ما تقضّى ... فمن يدّع ما مضى استراح
يا حبّذاها وقد تأتّت ... من دون وعدٍ ولا اقتراح
زارت ومن نورها دليلٌ ... والليل قد أسبل الجناح
أخفت سراها فباح نشرٌ ... لها بعرفٍ فشا وفاح
وافت فأمسى فمي مداماً ... وساعداي لها وشاح
كأنّما بتّ بين روضٍ ... والغصن والورد والأقاح
فبينما الشمل في انتظامٍ ... إذ سمعت داعي الفلاح
فغادرتني، فقلت: غدراً ... قالت: أما تحذر افتضاح
ولّت وما خلت من صباحٍ ... يبدو على إثره صباح قال: وقلت بتونس:
لا مرحباً بالتين لمّا بدا ... يسحب من ليلٍ عليه الوشاح
ممزّق الجلباب يحكي ضحىً ... هامة زنجيٍّ عليها جراح
وإن تصحّفه فلا حبّذا ... ما قد أتى تصحيفه بانتزاح (1) وقلت بالجزيرة الخضراء، وقد كلّفت ذلك:
غرامي بأقوال العدا كيف ينسخ ... وعهدي وقد أحكمته كيف يفسخ
كلامكم لا يدخل السمع نصحه ... ولكن إذا حرضتم فهو يرسخ
وبي بدر تمٍّ قد ذللت لحسنه ... فمن ذا الذي فيما أتيت يوبّخ
إذا خاصموني في هواه خصمتهم ... ويبغون تنقيصي بذاك فأشمخ
__________
(1) تصحيف " نين "، " بين " أي فراق وانتزاح.(2/312)
أرى أنّ لي فضلاً على كلّ عاشقٍ ... فقصّتنا في الدّهر ممّا يؤرّخ
فما بشرٌ مثلٌ له في جماله ... ووجدي به في العشق ليس له أخ وقلت بالإسكندرية، وقد تعذّر عليّ الحجّ عند وصولي إليها سنة تسع وثلاثين وستمائة:
قرب المزار ولا زمانٌ يسعد ... كم ذا أقرّب ما أراه يبعد
وارحمةً لمتيّمٍ ذي غربةٍ ... ومع التغرّب فاته ما يقصد
قد سار من أقصى المغارب قاصداً ... من لذّ فيه مسيره إذ يجهد
فلكم بحارٍ مع قفار جبتها ... تلقى بها الصمصام ذعراً يرعد
كابدتها عرباً وروماً، ليتني ... إذ جزت صعب صراطها لا أطرد
يا سائرين ليثربٍ بلّغتم ... قد عاقني عنها الزمان الأنكد
أعلمتم أن طرت دون محلّها ... سبقاً وها أنا إذ تدانى مقعد
يا عاذلي فيما أكابد قلّ في ... ما أبتغيه صبابةٌ وتسهّد
لم تلق ما لقيته فعذلتني ... لا يعذر المشتاق إلاّ مكمد
لو كنت تعلم ما أروم دنوّه ... ما كنت في هذا الغرام تفنّد
لا طاب عيشي أو أحلّ بطيبةٍ ... أفقٌ به خير الأنام محمّد
صلّى عليه من براه خيرةً ... من خلقه فهو الجميع المفرد
يا ليتني بلّغت لثم ترابه ... فيزاد سعداً من بنعمى يسعد
فهناك لو أعطى مناي محلّةً ... من دونها حلّ السّها والفرقد
عيني شكت رمداً وأنت شفاؤها ... من دائها ذاك الثرى لا الإثمد
يا خير خلق الله مهما غبت عن ... عليا مشاهدها فقلبي يشهد
ما باختيار القلب يترك جسمه ... غير الزمان له بذلك تشهد
يا جنّة الخلد التي قد جئتها ... من دون بابك للجحيم توقّد
صرم التواصل ذبّلٌ وصوارمٌ ... ما للجليد على تقحّمها يد(2/313)
فلئن حرمت بلوغ ما أمّلته ... فلديّ ذكرى لا تزال تردّد
فلتنعشوا مني الذّماء بذكره ... ما دمت عن تلك المعالم أبعد
لولاه ما بقيت حياتي ساعةً ... هو لي إذا متّ اشتياقاً مولد
ذكرٌ يليه من الثناء سحائبٌ ... أبداً على مرّ الزمان يجدّد
من ذا الذي نرجوه لليوم الذي ... يقصى الظّماء به ويحمى المورد
يا لهف من وافى هناك وما له ... من حبّه ذخرٌ به يتزود
ما أرتجي عملاً ولكن أرتجي ... ثقتي به ولحسب من يتزود
ما صحّ إيمانٌ خلا من حبّه ... أبلا رياشٍ يستعدّ مهنّد
عن ذكره لا حلت عنه لحظةً ... ومديحه في كلّ حفلٍ أسرد
يا مادحي يبغى ثواباً زائلاً ... فثواب مدحي في الجنان أخلد
لولا رسول الله لم ندر الهدى ... وبه غداً نرجو النّجاة ونسعد
يا رحمةً للعالمين بعثت والدّن ... يا بجنح الكفر ليلٌ أربد
أطلعت صبحاً ساطعاً فهديت لل ... إيمان إلاّ من يحيد ويجحد
لم تخش في مولاك لومة لائمٍ ... حتى أقرّ به الكفور الملحد
ونصرت دين الله غير محاذرٍ ... ودعوت في الأخرى الألى قد أصعدوا
ولقيت من حرب الأعادي شدّةً ... لو كابدوها ساعةً لتبدّدوا
أيّان لا أحدٌ عليهم عاضدٌ ... إلا الإله ولم يخن من يعضد
فحماك بالغار الذي هو من أد ... لّ المعجزات وخاب من يترصّد
ووقاك من سمّ الذراع بلطفه ... كيما يغاظ بك العدى والحسّد
والجذع حنّ إليك والماء انهمى ... ما بين خمسك والصحابة شهّد
والذئب أنطق للذي أضحى به ... يهدى إلى سبل النّجاح ويرشد
وبليلة الإسرا حباك وسمّي ال ... صّديق من أضح لقولك يسعد
وحباك بالخلق العظيم ومعجز ال ... كلم الذي يهدى به إذ يورد
وبعثت بالقرآن غير معارضٍ ... فيه وأمسى من نحاه يعرّد(2/314)
فتوالت الأحقاب وهو مبرّأ ... من أن يكون له مثالٌ يوجد
ولكم بليغٍ جال فصل خطابه ... والسّرج في ضوء الغزالة تهمد
زويت لك الأرض التي لا زال ح ... تى الحشر ربّك في ذراها يعبد
ونصرت بالرعب الذي لمّا يزل ... يترى كأن ما عين سخصك تفقد
فمتى تعرّض طاعنٌ أو حاد عن ... حرم الهداية فالحسام مجرّد
يا من تخيّر من ذؤابة هاشمٍ ... نعم الفخار لها ونعم المحتد
لسناك حين بدا بآدم أقبلت ... رعياً لأخراه الملائك تسجد
لم أستطع حصراً لما أعطيته ... فذكرت بعضاً واعتذاري منشد
ماذا أقول إذا وصفت محمّداً ... نفد الكلام ووصفه لا ينفد
فعليك يا خير الخلائق كلّها ... مني التحيّة والسلام السرمد قال: وقلت بإشبيلية:
هل تمنع النّهود ... ما أبدت الخدود
نعم وكم طعينٍ ... بطعنها شهيد
يا ربّة المحيّا ... حفّت به السعود
لم تسكر الحميّا ... بل ريقك البرود
لله يا عذولي ... ما تكتم البرود
ما زلت فيه أفنى ... والوجد مستزيد
يا هل ترى زماناً ... مضى لنا يعود
لدى العروس سقّت ... جنابها العهود (1)
حيث الغصون مالت ... كأنّها قدود
وزهرها نظيمٌ ... كأنّه عقود
__________
(1) العروس: من متنزهات إشبيلية.(2/315)
حمامها تغنّي ... أعطافها تميد
وبالنّسيم شقّت ... لنهرها برود
فروعه سيوفٌ ... وسوره بنود
هناك كم دعتني ... إلى الورود رود
فنلت كلّ سؤلٍ ... يفنى به الحسود
قضيت فيه عيشاً ... ما بعده مزيد
أضحي به وأمسي ... مرنّحاً أميد
كأنّني يزيد ... كأنّني الوليد
يجري الزمان طوعي ... بكلّ ما أريد
الخمر ملّكتني ... فالخلق لي عبيد
يحقّ لي إذا ما ... أبصرتها تجود
فها أنا إذا ما ... فقدتها فقيد
يا من يلوم بغياً ... العذل لا يفيد
إذا عدمت كأسي ... فليس لي وجود وقال: وقلت بإشبيلية:
أوما نظرت إلى الحمامة تنشد ... والغصن من طربٍ بها يتأوّد
ونثاره ألقاه جائزة (1) لها ... لمّا يزل بيد النسيم يبدّد
ألقى عليها الطلّ برداً سابغاً ... فثناؤه طول الزمان يردّد
أترى الحمامة من محبٍّ ملخصٍ ... أولى بشكرٍ حين تغمره يد
فلأثنينّ عليك ما أثنى بأع ... لى الغصن حنّان الهديل مغرّد
كم نعمةٍ لي في جنابك كم أكا ... بد جهدها أيّان برّك يجهد
__________
(1) ق ج: ألقى جمائره.(2/316)
وقال:
أرى العين منّي تحسد الأذن كلّما ... جرت مدحةٌ للعلم والفضل والمجد
أحقّق أنباءً ولم أر صورةً ... كتحقيقي الأخبار عن جنّة الخلد
فمنّ على عيني بلقياك إنّني ... أخذت لها أمناً بذاك من السّهد قال: وقلت أمدح ابن عمي وأشكره (1) ، على ما أذكره:
آه ممّا تكنّ فيك الجوانح ... ودموعي على نواك سوافح
واشتفاءٌ من العدوّ ببينٍ ... كدّر العيش، أي عيشٍ لنازح
يا أتمّ الأنام حسناً أما تح ... سن حتى يتمّ إطراء مادح
يا زمان الوصال عوداً فإنّي ... طوّحت بي لمّا غدرت الطوائح
أين عيش العروس إذ يبطح السك ... ر حبيبي ما بين تلك الأباطح
والأماني تترى ولا أحدٌ ين ... صح إذ لا يصغى إلى قول ناصح
وزمان السرور سمحٌ مطيعٌ ... ورسول الحبيب غادٍ ورائح
ولكم ليلةٍ أتاني بلا طي ... بٍ ولكن يزري بأذكى الروائح
هو ظبيّ فليس يحتاج طيباً ... قد كفاه عرفٌ من المسك فائح
مثل عليا محمدٍ لم تكن كس ... باً وما لا يكون في الطبع فاضح
يا كريماً أتى من الجود ما لا ... كان يدرى فأوجدته المدائح
وعلا كلّ ذي علاءٍ وأضحى ... نحو ما لا يرومه الناس طامح
قد أتاني إحسانك الغمر في إث ... ر سواه فكنت أكمل مادح
فاض بحر النوال منك ولا سا ... حل يبدو ولم أزل فيه سابح
حللٌ مثل ما كسوتك في المد ... ح تميت العدا ومالٌ سابح (2)
__________
(1) دوزي: وأشكوه.
(2) ق ج ودوزي: وسائح؛ والسابح فرس أهداه إليه.(2/317)
أورد الورد (1) منطقي كلّ شكرٍ ... حين أضحى طوع البنان مسامح
لون خدّ الحبيب حين كسوه ... حلّة الحسن بالعيون اللّوامح
شفقٌ سال بين عينيه صبحٌ ... حسنه قيّد اللحاظ السوارح
لم أجد فيه من جماحٍ ولك ... نّ ثنائي عليك ما زال جامح
لك يا ابن الحسين ذكرٌ جميلٌ ... صيّر الكلّ نحو بابك جانح
قد هدى نحوك الثناء كما يه ... دي إلى الروض باسمات النوافح
فاعذر الناس إن أتوا لك أفوا ... جاً فكلٌّ بقصد فضلك رابح
ما هدتهم إليك إلاّ الأماني ... لم تحلهم إلا عليك القرائح
قل لذي المفخر الحديث تأخّر ... ليس مهرٌ في شأوه مثل قارح
أيّ أصلٍ وأيّ فرعٍ أقاما ... شرفاً ظلّ للنّجوم يناطح
قد حوت مذحجٌ من الفخر لمّا ... كنت منها ما ليس يحويه شارح
أفق مجدٍ قد زانه منك بدرٌ ... في ظلام الخطوب ما زال لائح
بدر تمٍّ حفّت به هالةٌ ... من بيت مجدٍ علاؤها الدهر واضح
يا سماكاً بمسكه القلم الأع ... لى بدا بين أنجم الملك رامح
رفع الله للكتابة قدراً ... بعدما كابدت توالي الفضائح
يا أعزّ الأنام نفساً وأعلا ... هم محلاًّ لا زال أمرك راجح
أين أعداؤك الذين رعى سي ... فك فيهم فأشبهوا قوم صالح
أفسد الدهر حالهم ليرى حا ... لك رغماً بمن يناويك صالح
دمت في عزّةٍ وسعدٍ مدى الده ... ر ولا زال طائرٌ منك سانح [أبو عبد الله ابن سعيد]
وابن عمه المذكور قال في حقه في المغرب ما ملخّصه (2) :
__________
(1) الورد: الفرس الوردي اللون.
(2) انظر المغرب 2: 168 ونص المقري مختلف كثيراً عما هو في المغرب، وفي هذا تأكيد لاختلاف نسخ الكتاب؛ وانظر ترجمة أبي عبد الله ابن سعيد أيضاً في تاريخ ابن خلدون 6: 294.(2/318)
إنّه الرئيس الأعلى، ذو الفضائل الجمة، أبو عبد الله محمد بن الحسين بنأبي الحسين سعيد بن الحسين بن سعيد بن خلف بن سعيد، قال: واجتماع نسبنا مع هذا الرئيس في سعيد بن خلف، وهو الآن قد اشتمل عليه ملك إفريقية اشتمال المقلة على إنسانها، وقدمه في مهماته تقديم الصّعدة لسنانها، وأقام لنفسه مدينة حذاء حضرة تونس، واعتزل فيها بعسكر الأندلس الذي صيّرهم الملك المنصور إلى نظره، وهو كما قال الفتح صاحب القلائد فقد جاء آخرهم، فجدد مفاخرهم، ومن نظمه وقد نزل على من قدم له مشروباً أسود اللون غليظاً وخروباً وزبيباً أسود وزبيباً كثير الغضون جاءت به عجوز في طبق، فقال:
ويوم نزلنا بعبد العزيز ... فلا قدّس الله عبد العزيز
سقانا شراباً كلون الهناء ... ونقّلنا بقرون العنوز
وجاءت عجوزٌ فأهدت لنا ... زبيباً كخيلان خدّ العجوز ونزل السلطان أبو يحيى في بعض حركاته لموضع فيه نهر، وعلى شطّه نورٌ، فقال الرئيس أبو عبد الله ابن الحسين يصفه أو أمر بذلك:
ونهر يرفّ الزهر (1) في جنباته ... ويثني النّسيم قضبه فتأطّر
يسيل كما عنّ الصباح بأفقه ... وإلا كما شيم الحسام المجوهر
عليه ليحيى قبّةٌ، هل سمعتم ... بقرصة شمسٍ حلّ فيها غضنفر
فإن قلت هذي قبّةٌ لعفاتها ... فقل ذلك الوادي الذي سال كوثر وقال أبو عمرو أحمد بن مالك بن سيد أمير اللخمي الشابي في ذلك:
وأرضٍ من الحصباء بيضاء قد جرت ... جداول ماءٍ فوقها تتفجّر
__________
(1) ق ودوزي: النور.(2/319)
كما سبحت تبغي الحياة أراقمٌ ... على روضةٍ فيها الأقاح المنوّر
وإلا كما شقّت سبائك فضّةٍ ... بساطاً على حافاته الدّرّ ينثر وقال أبو علي يونس:
انظر إلى منظرٍ يسبيك منظره ... ويزدهيك بإذن الله مخبره
ومعجبٍ معجبٍ لا شيء يشبهه ... خرير ماءٍ نميرٍ ثمّ منهره
كأنّما فرشت بالدّرّ صفحته ... فالماء ينظمه طوراً وينثره
كأنّ خلجانه قدّت على قدرٍ ... بمائها قسمٌ يجري مفجّره
أحلّ سيدنا الميمون قبّته ... بحوزه فغدا يزدان جعفره رجع إلى ما كنا فيه من أخبار الرئيس ابن الحسين، فنقول: رأيت بالمغرب آخر كتاب " روح السحر " من نسخة ملوكية كتبت له أبياتاً علق بحفظي منها الآن ما نصه:
تمّ روح السحر نسخاً فأتى ... مصحباً باليمن والفخر البعيد
لأبي عبد الإله المرتقي ... في ذرا المجد الرئيس ابن سعيد ولم أحفظ تمام الأبيات.
وقال أبو الحسن علي بن سعيد: كتبت إليه من أبيات بحضرة تونس وقد نقل إليه تعض الحساد ما أوجب تغيّره:
ومن بعد هذا قد أتيت بزلّةٍ ... أما حسنٌ أن لا تضيق بها صدرا
وعلمك حسبي بالأمور فإنّني ... عهدتك تدري سرّ أمري والجهرا
وقد أصلح الله الأمور بسعيكم ... ونيتكم صلحاً على البشر والبشرى
ولم يبق لي إلاّ رضاك فإن به ... كتبت ولو حرفاً أطبت لي العمرا
فبقّيت كهفاً للجميع وموئلاً ... ولا زلت ما دام الزمان لنا سترا(2/320)
فكتب إلي هذه الأبيات، وكان متمرضاً، وبعث إلي بما يذكر:
أكفّ الصّبا حفّت جنى زهر الربى ... سؤالك عن نضوٍ يسامي بك الزّهرا
بعثت بمثل الزهر في مثل صفحةٍ ... لذلك ما قلّدتها الشّذر والدّرّا
معانٍ لها أعنو وأعنى بها فكم ... وقفت عليها العين والسمع والفكرا
فلو عرضت للبحر لن يلفظ الدّرّا ... ولو عارضت هاروت لم ينفث السحرا
أب حسن هنئت ما قد منحته ... ضروباً من الآداب تحلي بها الدهرا
ودونك بحراً من ودادي تلاطمت ... به زاخرات المدّ لا يعرف الجزرا
فإن خطرت في جانبٍ منك هفوةٌ ... فلا تحسبن أنّي أضيق بها صدرا
يزلّ الجواد عندما يبلغ المدى ... ويعثر بالرّمث النسيم إذا أسرى
فدع ذا وخذها شائباتٍ قرونها ... عروباً لعوباً جائزاً حكمها بكرا
ولو غادرت أوصافها متردّماً ... لشنّفت من أشعرها أذن الشّعرى
ألا فاحجبنها عن صديقٍ معمّمٍ ... فإنّ قصارى الغمر أن يبكي العمرا
ومن كان ذا حجرٍ ونبلٍ ورقّةٍ ... فلا يخلون إلاّ على الخمرة الحمرا
قرنت بها صفراء لم تعرف الهوى ... ولا ألفت وصلاً ولا عرفت هجرا
ولا ضمّخت تضخ العبير وإن غدت ... تؤخّره لوناً وتفضحه نشرا
فإن خلتها بنت الظليم أظلّها ... فقد فرش الإذخرّ من تحتها تبرا
لها نسبٌ بين الثريّا أو الثرى ... وسل برباها المزن والغصن النضرا
فشرباً دهاقاً وانتشاقاً ولا ترم ... عن البيت فتراً أو تقيم به شهرا وله في الخشكلان (1) :
هو الأهلّة لكن ... تدعونه خشكلانا
فإن تفاءلت صحّف ... تجد: حبيبك لانا انتهى باختصار.
__________
(1) الخشكلان (بالفارسية: خشك نان) نوع من الخبز أو البقسمط في شكل هلالي.(2/321)
وحظي المذكور جدّاً عند السلطان ملك إفريقية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، ولما مات السلطان المذكور، وحدثت فتنة بموته واختلاف، ثم استقرت الدولة لابنه الشهير الكبير القدر أبي عبد الله المستنصر ممدوح حازم بالمقصورة، وقاتل ابن الأبار القضاعي (1) - سخط على الرئيس ابن الحسين المذكور، وقبض على دياره وأمواله، وصيره كالمحبوس، فكتب إليه رقعة يطلب الاجتماع به في مصلحة للدولة، فأحضره، وسأله فأخبره بأن أباه صنع داراً عظيمة تحت الأرض، وأودع فيها من أنواع المال والسلاح ما جعله عدّة وذخيرة لسلطانه، ولم يترك على وجه الأرض من له علم بهذا الموضع الذي أودعه نفائس أمواله غيري، وأوصاني أنّه إذا انتقل إلى جوار ربه، إذ توقع أن تقع فتنة بين أقاربه، أنّه إذا انقضت سنة واستقر الأمر لأحد من ولدي أو من يتيقن أنّه يصلح لأمور المسلمين، فأطلعه على هذه الذخائر، فربما فنيت الأموال بالفتنة، فلا يجد القائم بالأمر ما يصلح به الدولة إذا تفرغ للتدبير والسياسة، ففرح السلطان، وبادر إلى تلك الدار، فرأى ما ملأ عينه، وسرّ قبله، وخرج الرئيس ابن الحسين والخيل تجنب أمامه، وبدر الأموال بين يديه، وأعاده إلى أحسن أحواله، وجعله وزيراً لديه، كما كان أبوه مفوضاً أموره إليه، وقال السلطان: إن من أوجب شكر الله عليّ أن أفتتح المال بأن أؤدي منه للرعيّة الذين نهبت دورهم واحترقت في الفتنة التي كانت بيني وبين أقاربي ما خسروه، وأمر بالنداء فيهم، وأحضرهم وكلّ من حلف على شيء قبضه وانصرف.
[ذكر المستنصر الحفصي]
وكان السلطان المستنصر المذكور في بعض متصيداته، فكتب لأبي عبد الله
__________
(1) ستأتي ترجمة حازم وابن الأبار والتعريف بهما؛ أما مقصورة حازم فمطلعها:
لله ما قد هجت يا يوم النوى ... على فؤادي من تباريح الجوى وهي التي شرحها الشريف الغرناطي في ما سماه " رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة ".(2/322)
الرئيس المذكور يأمره بإحضار الأجناد لأخذ أرزاقهم بقوله:
ليحضر كلّ ليثٍ ذي منال ... زكا فرعاً لإسداء النّوال
غداً يوم الخميس فما شغلنا ... بأسد الوحش عن أسد الرجال وحكي أن السلطان المذكور عرض مرة أجناده، وقيل: بل سلّم عليه الموحدون يوم عيد بتونس، وفيهم شاب مليح وسيم اسم جده النعمان، فسأله السلطان عن اسمه، وأعجبه حسنه، فخجل واحمر وجهه، وازداد حسناً، فقال السلطان هذا المصراع:
كلّمته فكلمت صفحة خدّه ... وسأل من الحاضرين الإجازة، فلم يأتوا بشيء، فقال السلطان مجيزاً شطره:
فتفتّحت فيها شقائق جدّه ... وهذا من البدائع مع ما فيه من التورية والتجنيس.
وممّا نسبه له أبو حيان بسنده إليه:
ما لي عليك سوى الدّموع معين ... إن كنت تغدر في الهوى وتخون
من منجدي غير الدموع وإنّها ... لمغثيةٌ مهما استغاث حزين
الله يعلم أن ما حمّلتني ... صعبٌ ولكن في رضاك يهون وكان للسلطان المذكور سعد يضرب به المثل، حتى إنّه كتب له صاحب مكّة البيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف، كما ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه الكبير، وسرد نصّها، وهي من الغرائب.
ومن سعده أن الفرنسيس الذي كان أسر بمصر وجعل في دار ابن لقمان والطواشي صبيح يحرسه لما سرّح جاء من أمم النصرانية لبلاد المسلمين بما لم يجتمع قط مثله، حتى قيل: إنّهم كانوا ألف ألف، فكتب إليه أهل مصر من(2/323)
نظم ابن مطروح القصيدة المشهورة التي منها:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقالةً من ذي لسانٍ فصيح إلى أن قال:
دار ابن لقمان على حالها ... ومصر مصرٌ والطواشي صبيح والقصيدة مشهورة فلذلك لم أسردها، فصرف الفرنسيس جيوشه إلى تونس، فكتب إليه بعض أدباء دولة المستنصر:
أفرنسيس، تونسٌ أخت مصرٍ ... فتأهب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبرٌ ... وطواشيك منكرٌ ونكير فقضى الله سبحانه وتعالى أنّه مات في حركته لتونس، وغنم المستنصر غنيمة ما سمع بمثلها قط، ويقال: إنّه دس إليه سيفاً مسموماً من سلّه أثر فيه سمّه، وقلده رسولاً إليه بعد أن جعل عليه من الجواهر النفيسة ما لم ير مثله عند غيره، وقال للرسول: إن الفرنسيس رجل كثير الطمع، ولولا ذلك ما عاود بلاد المسلمين بعد أسره، وإنّه سيرى السيف، ويكثر النظر إليه، فإذا رأيته فعل ذلك فانزعه من عنقك وقبّله، وقل له: هذا هدية مني إليك، لأن من آدابنا مع ملوكنا أن كل ما وقع نظر الملك عليه وعاود النظر إليه بالقصد فلا بد أن يكون له، ويحرم علينا أن نمسكه، لأن ما أحبه المولى على العبيد حرام، وتكراره النظر إليه دليل على حبّه له، ففرح النصراني بذلك، وأسرع الرسول العود إلى سلطانه، فسلّ النصرانيّ السيف، فتمكّن فيه السم بالنظر، فمات في الحين، وفرّج الله تعالى عن المسلمين.
رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد:
قال ابن العديم في تاريخ حلب: أنشدني شرف الدين أبو العباس أحمد بن(2/324)
يوسف التيفاشي (1) بالقاهرة في أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي يشير إلى كتاب أبي الحسن الذي جمعه من محاسن المغرب وسمّاه " المغرب ":
سعد الغرب وازدهى الشرق عجباً ... وابتهاجاً بمغرب ابن سعيد
طلعت شمسه من الغرب تجلى ... فأقامت قيامة التّقييد
لم يدع للمؤرخين مقالاً ... لا ولا للرّواة بيت نشيد
إن تلاه على الحمام تغنّت ... ما على ذا في حسنه من مزيد وأنشدني أبو العباس التيفاشي لنفسه فيه:
يا طيّب الأصل والفرع الزكيّ كما ... يبدو جنى ثمرٍ من أطيب الشّجر
ومن خلائقه مثل النّسيم إذا ... يهفو على الزّهر حول النهر في السّحر
ومن محيّاه والله الشّهيد إذا ... يبدو إلى بصري أبهى من القمر
أثقلت ظهري ببرٍّ لا أقوم به ... لو كنت أتلوه قرآناً مع السّور
أهديت لي الغرب مجموعاً بعالمه ... في قاب قوسين بين السمع والبصر
كأنني الآن قد شاهدت أجمعه ... بكلّ من فيه من بدوٍ ومن حضر
نعم ولاقيت أهل الفضل كلّهم ... في مدّتي هذه والأعصر الأخر
إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري ... فقد رددت عليّ الصدر من عمري
وكنت لي واحداً فيهم جميعهم ... ما يعجز الله جمع الخلق في بشر
جزيت أفضل ما يجزى به بشرٌ ... مفيد عمرٍ جديد الفضل مبتكر
__________
(1) التيفاشي (- 651) منسوب إلى تيفاش من قرى قفصة بأفريقية هاجر من بلده إلى القاهرة وتعلم فيها ثم عاد إلى بلده وتولى القضاء فيه، ورجع إلى المشرق فسلب ماله وكتبه في البحر، فلجأ إلى الصاحب محمد بن محمد بن سعيد بن ندى الجزري الذي عاش ابن سعيد مدة في كنفه وألف مستعيناً بمكتبة ابن ندى كتابه الكبير " فصل الخطاب في مدارك الحواس الخمس لأولي الألباب " في 24 مجلدة، وقد اختصر ابن منظور وسماه " سرور النفس بمدارك الحواس الخمس " ويمثل " نثار الأزهار " قطعة منه، وألف أيضاً كتابين في الجواهر (الوافي 8 الورقة: 133) .(2/325)
ومن نظم أبي الحسن ابن سعيد قوله:
وعشيّةٍ بلغت بنا أيدي النّوى ... منها محاسن جامعاتٍ للنّخب
فحدائقٌ ما بينهنّ جداولٌ ... وبلابلٌ فوق الغصون لها طرب
والنّخل أمثال العرائس لبسها ... خزٌّ وحليتها قلائد من ذهب ومن نظمه رحمه الله تعالى في حلب قوله:
حادي العيس كم تنيخ المطايا ... سق فروحي من بعدهم في سياق
حلبٌ إنها مقرّ غرامي ... ومرامي وقبلة الأشواق
لا خلا جوسقٌ وبطياس والسع ... داء من كلّ وابلٍ غيداق
كم بها مرتعٌ لطرفٍ وقلبٍ ... فيه يسقى المنى بكأسٍ دهاق
وتغنّي طيوره لارتياحٍ ... وتثنّى غصونه للعناق
وعلّو الشهباء حيث استدارت ... أنجم الأفق حولها كالنطاق وقوله أيضاً في حماة:
حمى الله من شطّي حماة مناظراً ... وقفت عليها السمع والفكر والطّرفا
تغنّي حمامٌ أو تميل خمائلٌ ... وتزهى مبانٍ تمنح الواصف الوصفا
يلومون أن أعصي التّصوّن والنّهى ... بها وأطيع الكأس واللهو والقصفا
إذا كان فيها النهر عاصٍ فكيف لا ... أحاكيه عصياناً وأشربها صرفا
وأشدو لدى تلك النواعير شدوها ... وأغلبها رقصاً وأشبهها غرفا
تئنّ وتذري دمعها فكأنّها ... تهيم بمرآها وتسألها العطفا وقوله في وداع ابن عمه وكتب بهما إليه:
وداعٌ كما ودّعت فصل ربيع ... يفضّ ضلوعي أو يفيض دموعي
لئن قيل في بعضٍ يفارق بعضه ... فإنّي قد فارقت منك جميعي(2/326)
قال: فأرسل إليّ إحساناً، واعتذر ولسان الحال ينشد عنه:
أحبّك في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبّك من بعيد وقوله، وقد أفلت المركب الذي كان فيه من العدو:
أنظر إلى مركبنا منقذاً ... من العدا من بعد إحراز
أفلت منهم فغدا طائراً ... كطائرٍ أفلت من بازي وقال رحمه الله تعالى لما خرج من حدود إفريقية:
رفيقي جاوزنا مواطنٍ ... صحبنا بها الأيّام طلقاً محيّاها
وما إن تركناها لجهلٍ بقدرها ... ولكن ثنت عنّا أعنّة سقياها
فسرنا نحثّ السّير عنها لغيرها ... إلى أن يمنّ الله يوماً بلقياها وكان وصوله بالإسكندرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة.
وقال رحمه الله تعالى: أخذت مع والدي يوماً في اختلاف (1) مذاهب الناس، وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره، فقال: متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف - أعني المغرب - ولا تعترض أتبعت (2) نفسك باطلاً، وطلبت غاية لا تدرك، وأنا أضرب لك مثلاً: يحكى أن رجلاً من عقلاء الناس كان له ولد، فقال له يوماً: يا أبي، ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم، فقال: يا بني، إنّك غرٌّ لم تجرّب الأمور، وإن رضى الناس غايةٌ لا تدرك، وأنا أوقفك على حقيقة ذلك، وكان عنده حمار، فقال له: اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشياً، فبينما هما كذلك إذ قال رجل:
__________
(1) مذاهب: سقطت من دوزي.
(2) ق ج: أتعبت.(2/327)
أنظر، ما أقلّ هذا الغلام بأدب، يركب ويمشي أبوه، وانظر ما أشد تخلّف والده لكونه يتركه لهذا، فقال له: انزل أركب أنا وامش أنت خلفي، فقال شخص آخر: انظر هذا الشخص، ما أقلّه بشفقة، ركب وترك ابنه يمشي، فقال له: اركب معي، فقال شخص: أشقاهما الله تعالى، انظر كيف ركبا على الحمار، وكان في واحد منهما كفاية، فقال له: انزل بنا، وقدّماه وليس عليه راكب، فقال شخص: لا خفّف الله تعالى عنهما، انظر كيف تركا الحمار فارغاً وجعلا يمشيان خلفه، فقال: يا بني، سمعت كلامهم، وعلمت أن أحداً لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان، انتهى.
[مقتبسات من خطبة المغرب]
وقال في أثناء خطبة المغرب ما نصه: والحمد لله الذي جعل الأدب أفضل ما اكتسب، وأفضل ما انتخب، إذ هو ذخر لا يخاف كساده، وكنز لا يخشى انتقاصه وإن كثر مرتاده، ولله درّ القائل:
رأيت جميع الكسب يفقده الفتى ... وتبقى له أخلاقه والتّأدّب
إذا حلّ في أرضٍ أقام لنفسه ... بآدابه قدراً به يتكسّب
وأومأ كلٌّ نحوه، ولعلّه ... إلى غير أهلٍ للنباهة ينسب وقال في أثناء الكلام لبعض المغاربة:
فأثبتّ في كلّ المواطن همّةً ... إلى طلب العلم الذي كان مطّرح
وصيّرت من قد كان بالنّظم جاهلاً ... يحاوله كيما تجود لك المدح وقال أيضاً في الخطبة: وبعد، فهذا كتاب راحةٍ قد تعبت في جمعه الأسماع والأبصار والأفكار، وكل عناء سهل إذا أنجح القصد، وقد بدأ فيه من سنة ثلاثين وخمسمائة، ومنتهاه إلى غرة سنة إحدى وأربعين وستمائة، وقال: وأول(2/328)
من كان السبب في ابتداء هذا الكتاب جدّ والدي عبد الملك بن سعيد، وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة علي بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين ملك البربر، إلى أن استبدّ بها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وقصده في سنة ثلاثين وخمسمائة حافظ الأندلس أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن الحجاري وصنف له كاب المسهب في غرائب المغرب في نحو ستة أسفار، وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى التاريخ الذي ابتدأه فيه، وهو سنة ثلاثين وخمسمائة، ثمّ ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري، وتولع بمطالعته ابناه أبو جعفر ومحمد، وأضافا له ما استفاداه، ولم يزل يزيد إلى أن استبدّ به محمد، فاعتنى به أشد اعتناء، ثم استبدّ به والدي - وكان أعلمهم بهذا الشأن، وبلغ من اجتهاده في هذا الكتاب أنني أذكره يوماً وقد نوّه به ابن هودٍ وهو ملك الأندلس وولاّه الجزيرة الخضراء، فأعلمه شخص أن عند أحد المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس من شعر شعرائها، وأخبار رؤسائها، الذين تحتوي عليهم دولة بني عبد المؤمن، فأرسل إليه راغباً في استعارتها، فأبى، وقال: عليّ يمين أن لا تخرج عن منزلي، وقال: إن كانت له حاجة يأتي على رأسه، وكان جاهلاً، فلما سمع والدي ضحك وقال: سر معي إليه، فقلت له: ومن يكون هذا حتى نمشي له على هذه الصورة فقال: إني لا أمشي له، ولكن أمشي للفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم، أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم قلت: لا، قال: فإن الأثر ينوب عن العين، فمشينا إلى منزل الرجل، فوالله ما أنصفنا في اللقاء؛ فلما قضينا منها الغرض صرفها إليه والدي وشكره، وقال: هذه فائدة لم أجدها عند غيرك، فجزاك الله تعالى خيراً، ثم انفصل وقال: ألم تعلم يا بني أنني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية، وإن هذا والله أوّل السعادة، وعنوان نجاحها.(2/329)
[قلعة بني سعيد]
والقلعة التي كان بها بنو سعيد تعرف بهم فيقال لها: قلعة بني سعيد، وكانت تعرف قبل بقلعة أسطلير، وهو عين لها، وقال الملاّحي في تاريخه: إنّها تعرف بقلعة يحصب، قبيلٍ من اليمن نزل بها عند فتح الأندلس، وبها كما مرّ صنّف الحجاري كتاب " المسهب " لصاحبها عبد الملك بن سعيد.
وفي بني سعيد يقول الحجازي:
قومٌ لهم في فخرهم ... شرف الحديث مع القديم
ورثوا الندى والبأس وال ... عليا كريماً عن كريم
من كلّ وضّاحٍ به ... يجلى دجى الّليل البهيم [أولية بني سعيد]
وكان أوّل من دخل الأندلس (1) من ولد عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن سعد بن عمار، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري صاحب الأندلس آخر دولة بني أمية بالمشرق كتب إليه أن يدافع عبد الرحمن بن معاوية المرواني الداخل للأندلس، وكان إذ ذاك أميراً على اليمانية من جند دمشق، وإنّما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمّار بصفّين على يد عسكر معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان عمار من شيعة علي رضي الله تعالى عنهما.
__________
(1) قارن بما ورد في المغرب 2: 161.(2/330)
[شعر لأبي بكر بن سعيد]
وقال الحجاري: أنشدني أبو بكر محمد بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثّمين لنفسه، فيما يليق بجنسه:
إن لم أكن للعلاء أهلاً ... بما تراه فمن يكون
وكلّ ما أبتغيه دوني ... ولي على همّتي ديون
ومن يرم ما يقلّ عنه ... فذاك من فعله جنون
فرعٌ بأفق السماء سامٍ ... وأصله راسخٌ مكين ومن نظمه قوله أيضاً:
الله يعلم أنّي ... أحبّ كسب المعالي
وإنّما أتوانى ... عنها لسوء المآل
تحتاج للكدّ والبذ ... ل واصطناع الرجال
دع كلّ من شاء يسمو ... لها بكلّ احتيال
فحالهم بانعكاس ... فيها وحالي حالي [ترجمة الغساني من المغرب]
ولما ذكر ابن سعيد في " المغرب " (1) ترجمة الكاتب الرئيس المجيد أبي العباس أحمد الغساني كاتب ملك إفريقية قال: بماذا أصفه ولو أن النجوم تصير لي نثراً لما كنت أنصفه، وكفاك أنّي اختبرت الفضلاء من البحر المحيط إلى حضرة القاهرة، فما رأيت أحسن ولا أفضل عشرة منه، ولما فارقته لم
__________
(1) ليس له ترجمة في المغرب المطبوع، وقد أشرت من قبل إلى ترجمته في اختصار القدح: 12.(2/331)
أشعر إلاّ برسالته قد وافتني بالإسكندرية من تونس، وفيها قصيدة فريدة منها (1) :
إيهٍ أبا الحسن استمع شدوي فقد ... يصغي الحمام إذا الحمام ترنّما ثمّ سرد بعضاً من القصيدة، وستأتي قريباً إن شاء الله تعالى، بزيادة على ما ذكر منها في المغرب.
[إجازته للتيفاشي رواية المغرب]
رجع - وجد بخطّه رحمه الله تعالى آخر الجزء من كتاب المغرب ما نصّه: أجزت الشيخ القاضي الأجلّ أبا الفضل أحمد ابن الشيخ القاضي أبي يعقوب التّيفاشي، أن يروي عني مصنّفي هذا، وهو المغرب في محاسن المغرب ويرويه من شاء ثقة بفهمه، واستنامة إلى علمه، وكذلك أجزت لفتاه النبيه جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن خطلخ الفارسي الأرموي أن يرويه عني، ويرويه من شاء، وكتبه مصنفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد في تاريخ الفراغ من نسخ هذا السّفر، انتهى.
[شعر لابن سعيد]
وقال في وسيم من أبناء العجم صحبه في الطريق من حلب إلى بغداد فمات، وكان ظريفاً أديباً (2) :
لهفي على غصنٍ ذوى ... أفقدته لمّا استوى
ريّان من ماء الصّبا ... ومن المدامع ما ارتوى
__________
(1) انظر هذه القصيدة في اختصار القدح: 19 وجواب ابن سعيد عليها ص: 5.
(2) الأبيات في اختصار القدح: 8.(2/332)
لا تعذلوني إن نطق ... ت الدهر فيه عن الهوى
كم ضلّ صاحبه بسح ... ر اللحظ منه وكم غوى
أنا لا أفيق الدهر في ... هـ من الصبابة والجوى
إنّ الهوى حيّاً ومي ... تاً لا يزال له سوا
كم قد نويت به النّعي ... م فقدّر الله النوى
دار السلام حويت من ... كلّ المحاسن قد حوى
مجموع حسنٍ قد ثوى ... في جنّةٍ وبها ثوى وولد أبو الحسن علي بن موسى يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان عام عشرة وستمائة، وهو علي بن وموسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف ابن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، رضي الله تعالى عنه.
[ترجمة والد ابن سعيد من المغرب]
وقال في المغرب لما عرف بوالده الكاتب الشهير أبي عمران موسى ابن محمد بن عبد الملك بن سعيد، ما محصّله (1) : لولا أنّه والدي لأطنبت في ذكره، ووفيته من الوصف حق قدره، لكن كفاه وصفاً ما أثبتّه له في هذه الترجمة، وما مر له ويمر في أثناء هذا الكتاب، وكون كلّ من اشتغل بهذا التأليف نهراً وهو بحر، واشتهاره في حفظه التاريخ والاعتناء بالآداب في بلاده، بحيث لا يحتاج إلى تنبيه ولا إطناب، وله من النظم والنثر ما تضج الأقلام من كثرته، ويستمد القطر من درّته، وممّا شاهدت من عجائبه أنّه عاش سبعاً
__________
(1) المغرب 2: 99 ويشبه أن يكون نص المغرب المطبوع تلخيصاً لهذه الترجمة التي أوردها المقري.(2/333)
وستين سنة ولم أره يوماً يخلي مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده، حتى إن أّيام الأعياد لا يخليها من ذلك، ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب، فقلت له: يا سيدي، أفي هذا اليوم لا تستريح فنظر إلي كالمغضب وقال: أظنك لا تفلح أبداً، أترى الراحة في غير هذا والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب المغرب على غرضي؛ قال: فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذّ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن، ولولا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه. وكان أولع الناس بالتجول في البلدان، ومشاهدة الفضلاء، واستفادة ما يرى وما يسمع، وفي تولّعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول:
يا مفنياً عمره في الكأس والوتر ... وراعياً في الدّجى للأنجم الزّهر
يبكي حبيباً جفاه أو ينادم من ... يهفو لديه كغصنٍ باسم الزّهر
منعّماً بين لذّات بمحّقها ... ولا يخلد من فخرٍ ولا سير
وعاذلاً لي فيما ظلت أكتبه ... يبدي التعجب من صبري ومن فكري
يقول ما لك قد أفنيت عمرك في ... حبرٍ وطرسٍ عن الأغصان والحبر
وظلت تسهر طول الليل في تعبٍ ... ولا تني أمد الأيّام (1) في ضجر
أقصر فإنّي أدرى بالذي طمحت ... لأفقه همّتي واسأل عن الأثر (2)
واسمع لقول الذي تتلى محاسنه ... من بعد ما صار مثل الترب كالسور
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير انتهى.
وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين
__________
(1) المغرب: ولا ترى أبد الأيام.
(2) ق: الخبر.(2/334)
وخمسمائة، وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوّال عام أربعين وستمائة.
[محمد بن عبد الملك بن سعيد]
وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة، وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة (1) .
وكان محمد بن عبد الملك وزيراً جليلاً، بعيد الصيت، عالي الذكر، رفيع الهمّة، كثير الأموال، وذكره ابن صاحب الصلاة في كتابه " تاريخ الموحّدين " (2) ونبه على مكانته منهم في الحظوة والأخذ في أمور الناس، وأثنى عليه، وذكره السهيلي في " شرح السيرة الشريفة " (3) حيث ذكر الكتاب الموجّه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى هرقل وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أذفونش مكرماً مفتخراً به، والقصة مشهورة؛ ومدحه الرصافي بقصيدة أوّلها (4) :
ذهناً يفيض وخاطراً موقداً ... ماذا عسى يثنى على علم الندى (5) ولما أنشده قصيدته فيه التي أولها (6) :
لمحلّك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم حلف لا يسمعها، وقال: عليّ إجازتك، ولكن طباعي لا تحمل مثل
__________
(1) انظر المغرب 2: 162.
(2) يعني كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين "، انظر ص: 251.
(3) هو كتاب " الروض الأنف ".
(4) ديوانه: 62.
(5) الديوان: أبداً تفيض ... دعها تبت قبساً على علم الندى.
(6) الديوان: 131 وفيه أنها في مدح أبي جعفر الوقشي وزير ابن همشك.(2/335)
هذا، فقال له الرصافي: ومن مثلك يستحق هذا في الوقت غيرك فقال له: دعني من خداعك، أنا وما أعلمه من قلبي.
وأنشد له في " الطالع السعيد " (1) :
فلا تظهرن ما كان في الصّدر كامناً ... ولا تركبن بالغيظ في مركبٍ وعر
ولا تبحثن فيعذر من جاء تائباً ... فليس كريماً من يباحث في العذر وولي للموحدين أعمالاً كثيرة بمراكش وسلا وإشبيلية وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها، وكتب عليه عقد أن في داره من الحلى وأصنافه ما لا يمكن إلاّ في دار الملك، وأنّه إذا ركب في صلاة الصبح شوش ... (2) ونباح الكلاب. فأمر المنصور بالقبض عليه وعلى ابن عمّه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسين سنة 593، ثم رضي عنهما، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطّه كل ما أخذ له، فصرفه عليه، ولم ينقص منه شيئاً، وغرم له ما فات منه، وهذا ممّا يدل على قوة سعد محمد ابن عبد الملك المذكور ونباهة قدره، وحسبه من الفخر مدح أديب الأندلس وشاعرها أبي عبد الله الرصافي (3) له، وهو ممّن يمدح الخلفاء في ذلك العصر، رحمه الله تعالى.
[عبد الملك بن سعيد]
وولد أبوه عبد الملك بن سعيد عام ستة وتسعين وأربعمائة، وتوفّي بحضرة
__________
(1) البيتان في المغرب 2: 162.
(2) بياض بقدر سطر في ج ق وجاء في هامش إحدى النسخ: " هذا سطر بخط المؤلف رحمه الله ما قدرنا على استخراجه جبره الله تعالى ".
(3) أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي (- 572) قد جمعنا شعره وقدمنا له بدراسة عن الشاعر، وانظر في ترجمته المغرب 2: 297 والتكملة: 520 والمعجب: 137 وتحفة القادم: 183 وأدباء مالقة، الورقة: 18.(2/336)
مراكش عام اثنين وستين وخمسمائة. قال الحجاري: لما مات يحيى بن غانية الملثّم ملك الأندلس بحضرة غرناطة، وكان وزيره ومدبر دولته عبد الملك بن سعيد، بادر الفرار لغرناطة عندما سمع بموته إلى قلعته، وثار بها، وطلبه خليفة يحيى بن غانية طلحة (1) بن العنبر، فوجده قد فاته.
وقد قدمنا أن عبد الملك هذا هو السبب في تأليف كتاب المغرب في أخبار المغرب ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك، ثمّ تمّم ما بقي منه ابنه موسى ابن محمد، ثمّ أربى على الكل في إتمامه أبو الحسن علي بن موسى الذي قصدناه بالترجمة في هذا الكتاب، وقد ذكرنا من أحواله جملة كافية.
[وصف ابن سعيد للفسطاط]
ومن فوائد ابن سعيد أبي الحسن ما حكاه عن صاحب كتاب الكمائم وهو (2) : فأمّا فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس، وجاء الإسلام وبها بناء (3) يعرف بالقصر حوله مساكن، وهو الذي عليه نزل عمرو بن العاص، وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه، ثم لمّا فتحها قسم المنازل على القبائل، ونسب المدينة إليه، فقيل: فسطاط عمرو، وتداولت عليها بعد ذلك (4) ولاة مصر، فاتخذوها سرير السلطنة، وتضاعفت عمارتها، فأقبل الناس من كل جانب إليها، وقصروا أمانيهم عليها، إلى أن رسخت بها دولة بني طولون، فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع، وبها كان مسجد بان طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة، وهي مدينة
__________
(1) طلحة: ثبتت في ج وسقطت من ق.
(2) قارن هذا النص بما ورد في المغرب 1: 1 والخطط المقريزية 2: 146، وأما كتاب الكمائم المذكور فإنه للبيهقي.
(3) المغرب: مبنى.
(4) بعد ذلك: سقطت من دوزي.(2/337)
مستطيلة يمر النيل مع طولها، وتحطّ في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد، وبها منتزهات، وهي في الإقليم الثالث، ولا ينزل فيها مطر إلا في النادر، وترابها ينتن (1) الأرجل، وهو قبيح اللون، تستكدر (2) منه أرجاؤها، ويسوء بسببه هواؤها، ولها أسواق ضخمة إلاّ أنّه ضيّقة، ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة. ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط، وفرّط في الاعتناء بها بعد الإفراط، وبينهما نحو ميلين، وأنشدت فيها للشريف العقيلي (3) :
أحنّ إلى الفسطاط شوقاً وإنّني ... لأدعو لها أن لا يحلّ بها القطر
وهل في الحيا من حاجةٍ لجنابها ... وفي كل قطرٍ من جوانبها نهر
تبدّت عروساً والمقطّم تاجها ... ومن نيلها عقدٌ كما انتظم الدّرّ وقال عن كتاب اجار (4) : والفسطاط هو قصبة مصر، والجبل المقطّم شرقيها، وهو متصل بجبل الزمرد، وقال عن كتاب ابن حوقل (5) : الفسطاط مدينة حسنة، ينقسم النيل لديها، وهي كبيرة، ومقدارها نحو فرسخ، على غاية العمارة والطيب واللذّة ذات رحاب في محالّها، وأسواق (6) عظام فيها ضيق
__________
(1) المغرب: تثيره.
(2) المغرب: تتكدر.
(3) هو أبو الحسن علي بن الحسين بن حيدرة من شعراء المائة الرابعة، أكثر شعره في الوصف ولم يكن يمدح (انظر المغرب 1: 205 قسم مصر والخريدة 2: 62 والمسالك 11: 195) والأبيات ليست في ديوانه المطبوع.
(4) يعني كتاب " نزهة المشتاق " للإدريسي الذي أنفه لملك رجار (ويقال فيه أجار) : Roger وانظر المغرب 1: 2.
(5) انظر كتاب صورة الأرض: 137 والنقل عنه باختصار، ولذا لم نثبت فروق القراءة؛ والمغرب 1: 2.
(6) ج: وأسواقها.(2/338)
ومتاجر فخام (1) ، ولها ظاهر أنيق، وبساتين نضرة، ومنتزهات على ممر الأيام خضرة، وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالكوفة والبصرة، إلاّ أنّها أقلّ من ذلك، وهي سبخة الأرض، غير نقية التربة، وتكون الدار بها سبع طبقات وخمساً وستّاً، وربما يسكن في الدار المائتان من الناس، ومعظم بنيانهم بالطوب، وأسفل دورهم غير مسكون، وبها مسجدان للجمعة، بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط، والآخر على الموقف (2) بناه ابن طولون، وكان خارج الفسطاط أبينة بناها أحمد بن طولون ميلاً في ميل يسكنها جنده، وتعرف بالقطائع، كما بنى الأغلب خارج القيروان رقّادة، وقد خربتا في وقتنا هذا، وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة.
قال ابن سعيد (3) : لما استقررت بالقاهرة تشوّفت (4) إلى معاينة الفسطاط، فسار معي إليها أحد أصحاب القرية (5) ، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدّة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة، لا عهد لي بمثلها في بلد، فركب منها حماراً، وأشار إليّ أن أركب حماراً آخر، فأنفت من ذلك جرياً على عادة ما خلفته من بلاد المغرب، فأخبرني (6) أنّه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة يركبونها، فركبت، وعندما استويت راكباً أشار المكاري إلى الحمار، فطار بي، وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عينيّ، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهته، ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج، فقلت:
__________
(1) كذا في ج؛ وفي ق: ضخام.
(2) الموقف: بقعة شمال الفسطاط (الانتصار لابن دقماق 4: 10) ؛ وفي ج: والآخر على الآخر.
(3) المغرب 1: 5 (قسم مصر) .
(4) كذا في ج والمغرب؛ وفي ق ودوزي: تشوقت.
(5) المغرب: العزمة.
(6) المغرب: فأعلمني.(2/339)
لقيت بمصر أشدّ البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار
وخلفي مكارٍ يفوق الرياح ... لا يعرف الرفق مهما استطار
أناديه مهلاً فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار
وقد مدّ فوقي رواق الثرى ... وألحد فيه ضياء النّهار فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك أن تتركني أمشي على رجليّ، ومشيت إلى أن بلغتها؛ وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين، ولمّا أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة، وتأمّلت أسواراً مثلّمة سوداء وآفاقاً مغبرة، ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان متشتتة الوضع، غير مستقيمة الشوارع، قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والرّوايا التي على الجمال ما لا تفي به إلاّ مشاهدته ومقاساته، إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مرّاكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعاً كبيراً قديم البناء، غير مزخرف، ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه، وتنبسط فيه، وأبصرت العامة رجالاً ونساء قد جعلوه معبراً بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق، والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك (1) ، والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير محتشمين لجري العادة عندهم بذلك، وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل، قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقاً، وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه العنكبوت قد عظم
__________
(1) المغرب: وما جرى مجرى ذلك.(2/340)
نسجه في السقف والأركان والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامّة (1) ، إلاّ أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذيفي صحنه، ولقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس (2) دون منظر يوجب ذلك، فعلمت ان ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالىعنهم في ساحته عند بنائه، واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن، وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك، ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب. ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل، فرأيت ساحلاً كدير التربة، غير نظيف ولا متسع الساحة، ولا مستقيم الاستطالة، ولا عليه سور أبيض، إلا أنّه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل، ولئن قلت إنّي لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإنّي أقول حقّاًن والنيل هنالك ضيق، لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط، وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة في ذلك الساحل. وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدّاً من الفسطاط إلى الجزيرة، وهو غير طويل، ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة (3) جسر آخر من الجزيرة إليه، وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب، لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان، ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكباً احتراماً
__________
(1) المغرب: العوام.
(2) ج ق: والحسن.
(3) في ج: ببر الجزيرة.(2/341)
لموضع السلطان، وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل، فقلت (1) :
نزلنا من الفسطاط أحسن منزلٍ ... بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد
وقد جمعت فيه المراكب سحرةً ... كسرب قطاً أضحى يرفّ على ورد
وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي ... ويطرب أحياناً يلعب بالنرد
حلا ماؤه كالرّيق ممّن أحبّه ... فمدّت عليه حلّةٌ من حلى الخدّ
وقد كان مثل النّهر من قبل مدّه ... فأصبح لمّا زاده المدّ كالورد وقلت هذا لأنّي لم أذق في المياه أحلى من مائه، وإنّه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض، فإذا كان عباب النيل صار أحمر، وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر (2) عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط (3) :
حبّذا الفسطاط من والدة ... جنّبت أولادها دار الجفا
يرد النيل إليها كدراً ... فإذا مازج أهليها صفا
لطفوا فالمزن لا تألفهم ... خجلاً لمّا رأتهم ألطفا ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط، حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة، وبينهما نحو ميلين، والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام، وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة برعاية قدر الصحبة وكثرة الممازجة والألفة ما يطول ذكره.
وأمّا ما يرد (4) على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي
__________
(1) الأبيات في المقتطفات (الورقة: 28) ، والخطط 2: 148.
(2) هو علم الدين أيدمر المحيوي التركي، راجع ترجمته في فوات الوفيات (1: 140) وهو ينقل عن المشرق في حلى المشرق لابن سعيد، وله ديوان شعر يمثل قسماً من شعره (دار الكتب: 1931) .
(3) وردت هذه الأبيات في كتاب الانتصار 4: 109، وانظر مقدمة ديوانه، والمغرب (قسم مصر 1: 9) ، والخطط 2: 148.
(4) المغرب (قسم مصر) : 11.(2/342)
فإنّه فوق ما يوصف، وبها مجمع ذلك، لا بالقاهرة، ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد.
وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى، لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند، كما أن جميع زيّ الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط، وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطاينة، والخراب في الفسطاط كثير، والقاهرة أجدّ وأعمر وأكثر زحمة، باعتبار انتقال (1) السلطان إليها، لمجاورتها للجزيرة الصالحية، وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة، وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر، انتهى.
قال المقريزي (2) : يعين ابن سعيد ما بني على شفة مصر من جهة النيل، انتهى.
وقال ابن سعيد المذكور في المغرب من حلى المغرب ما ملخّصه: الروضة أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة، وبها مقياس النيل، وكانت متنزهاً لأهل مصر، فاختارها الملك الصالح ابن الملك الكامل سريراً لسلطنته، وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السّمك لم تر عيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختاربستان الإخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره، ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار، منها قول أبي الفتح ابن قادوس الدمياطي:
أرى سرج الجزيرة من بعيدٍ ... كأحداق تغازل في المغازل
كأنّ مجرّة الجوزاء خطّت ... وأثبتت المنازل في المنازل
__________
(1) المغرب: بسبب انتقال.
(2) الخطط 2: 149.(2/343)
قال: وكنت أبيت بعض الليالي بالفسطاط، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل مع سور هذه الجزيرة الدريّ اللون، ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همّة بانيها، وهو من أعظم السلاطين في البناء، وأبصرت بهذه الجزيرة إيواناً لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدّر ما أنفق عليه، وفيه من صحائف الذهب والرخام الآبنوسي والكافوريّ والمجزّع ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاضر (1) حصر فيه أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان، وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فتنظر فيها أحسن منظر، قال: وقد تفرجت كثيراً في طرف (2) هذه الجزيرة ممّا يلي أثر الفسطاط فقطعت به عشيات مذهبات، لم تزل لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل برها عن بر الفسطاط من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر تكون فيه المراكب، انتهى.
وأورد الصفدي في تذكرته لابن سعيد المذكور في هذه الجزيرة:
انظر إلى سور الجزيرة في الدّجى ... والبدر يلثم منه ثغراً أشنبا
تتضاحك الأنوار في جنباته ... فتريك فوق النيل أمراً معجبا
بينا تراه مفضّضاً في جانبٍ ... أبصرت منه في سواه مذهبا
لله مرأى ما رآه ناظري ... إلاّ خلعت له المقام تطربا [وصف القاهرة]
وقال في " المغرب " نقلاً عن بعضهم ما صورته (3) : وأما مدينة القاهرة، فهي الحالية الباهرة، التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها، واتخذوها
__________
(1) ق: حاظر.
(2) ق: طرق.
(3) الخطط 2: 186 - 190 والنقل عن البيهقي.(2/344)
قطباً لخلافتهم ومركزاً لأرجائها، فنسي الفسطاط، وزهد فيه بعد الاغتباط، وسميت القاهرة لأنها تقهر من شذ عنها ورام مخالفة أميرها، انتهى. قال ابن سعيد: هذه المدينة اسمه أعظم منها، وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته، لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين، وكان سلطانه قد عم جميع طول المغرب من أوّل الديار المصرية إلى البحر المحيط.
سارت مسير الشمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّت هبوب الريح في البرّ والبحر ولا سيّما قد عاين مباني أبيه المنصور في المدينة المنصورية إلى جانب القيروان وعاين المهدية مدينة جدّة عبيد الله المهدي، لكن الهمّة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة، وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار، ولله در القائل:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدها فبألسن البنيان
إنّ البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدلّ على عظيم الشان وتهمم من بعده الخلفاء المصريون في الزيادة في تلك القصور، وقد عاينت فيها إيواناً يقولون إنّه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن، وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبانٍ عظيمة جليلة الآثار، وأبصرت في قصورهم حيطاناً عليها طاقات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة، والمكان المعروف بالقاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطاني، لأن هناك ساحة متّسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين، ولو كانت القاهرة كلّها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمّة السلطانية، ولكن ذلك أمد قليل، ثم تسير منه إلى أمد ضيق، وتمرّ في ممر كدر حرج بين الدكاكين، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان ممّا تضيق به الصدور، وتسخن منه العيون، ولقد عاينت يوماً وزير الدولة وبين يديه الأمراء، وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل(2/345)
حجارة، وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين، ووقف الوزير وعظم الازدحام وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير، وعلى ثيابه، وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم. وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيّقت مسلك الهواء والضوء بينها، ولم أر في جيمع بلاد المغرب أسوأ منها حالاً في ذلك، ولقد كن إذا مشيت فيها يضيق صدري، وتدركني وحشة عظيمة، حتى أخرج إلى بين القصرين.
ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشاً لبعدها عن مجرى النيل، لئلا يصادرها ويأكل ديارها، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس، وجوّها لا يبرح كدراً بما تنثره الأرض من التراب الأسود، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها:
يقولون سافة إلى القاهرة ... وما لي بها راحةٌ ظاهره
زحامٌ وضيقٌ وكربٌ وما ... تثير بها أرجلٌ سائره وعندما يقبل المسافر عليها يرى سوراً أسود كدراً، وجوّاً مغبرّاً، فتنقبض نفسه، ويفرّ أنسه، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة، ولا سيّما ارض القرط والكتان، وقلت:
سقى الله أرضاً كلما زرت روضها ... كساها وحلاّها بزينته القرط
تجلّت عروساً والمياه عقودها ... وفي كل قطر من جوانبها قرط وفيها خليج لا يزال يضعف بين حضرتها حتى يصير كما قال الرصافي:
ما زالت الأمحال تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النّجم(2/346)
وقلت في نور الكتان على جانبي الخليج:
انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفانٍ لها حدق
رأته سيفاً عليه للصّبا شطبٌ ... فقابلته بأحداقٍ بها أرق
وأصبحت في يد الأرواح تنسجها ... حتى غدت حلقاً من فوقها حلق
فقم فزرها ووجه الأرض مصطبحٌ ... أو عند صفرته إن كنت تغتبق وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل، لأنّها دائرة كالبدر، والمناظر فوقها كالنّجوم، وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل، وتسرج أصحابٌ المناظر على قدر همتهم وقدرتهم، فيكون لها بذلك منظر عجيب، وفي ذلك قيل (1) :
انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالآهداب للبصر
كأنّما هي والأبصار ترمقها ... كواكبٌ قد أداروها على القمر ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت:
انظر إلى بركة الفيل التي فجرت ... لها الغزالة فجراً من مطالعها
وخلّ طرفك مجنوناً ببهجتها ... يهيم وجداً وحبّاً في بدائعها والفسطاط أكثر أرزاقاً، وأرخص أسعاراً من القاهرة، لقرب النيل من الفسطاط، والمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك، ويباع ما يصل فيه بالقرب منها، وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة، لأنّه يبعد عن المدينة، والقاهرة هي أكثر عمارة واحتراماً وحشمة من الفسطاط، لأنّه أجلّ مدارس وأضخم خاناتٍ، وأعظم دياراً لسكنى الأمراء فيها، لأنّها المخصوصة بالسلطنة، لقرب قلعة الجبل منها، فأمور السلطنة كلّها فيها أيسر، وأكثر، وبها الطراز وسائر الأشياء التي يتزين بها الرجال والسناء، إلاّ أن في هذا الوقت لما اعتنى
__________
(1) سقط البيتان من ج.(2/347)
السلطان ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط، وانتقل إليها كثير من الأمراء، وضخمت أسواقها، وبنى فيها السلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة، فنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ وما أشبه ذلك.
إلى أن قال: وهي الآن عظيمة آهلة، يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ما لا يحيط بجملته وتفسيره إلاّ خالق الكل جلّ وعلا، وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف طلب زكاة ولا ترسيماً ولا عذاباً، ولا يطالب برفيق له إذا مات، فيقال له: ترك عندك مالاً، فربما سجن في شأنه أو ضرب أو عصر، والفقير المجرد فيها يستريح بجهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماع والفرج في ظواهرها ودواخلها، وقلّة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه، يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة مردان وما أشبه ذلك، بخلاف غيرها من بلاد المغرب، وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول إلاّ المغاربة، فذلك وقفٌ عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، وقد عمّ ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف، وهم في القدوم عليها بين حالين: إن كان المغربي غنيّاً طولب بالزكاة وضيقت عليه السعاة، وإن كان مجرداً فقيراً حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول.
وفي القاهرة أزاهر كثيرة غير منقطعة الاتصال، وهذا الشأن في الديار المصرية يفضل كثيراً من البلاد، وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول:
من فضّل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غدا قاعداً ... وقام في خدمته النرجس وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه الرمان والموز، أمّا التفاح والإجاص فقليل غال، وكذلك الخوخ، وفيها الورد والنرجس والنسرين والنيلوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر، وأمّا العنب والتين فقليل غال، ولكثرة(2/348)
ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل، ومع هذا فشرابه عندهم في غاية الغلاء، وعامتها يشربون المزر الأبيض المتّخذ من الحنطة، حتى إن الحنطة يطلع سعرها بسببه، فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه وكسر أوانيه، ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار، ولا تبرّج النساء العواهر، ولا غير ذلك ممّا ينكر في غيرها من بلاد المغرب، وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر وتعظم عمارته فيما يلي القاهرة، فرأيت فيه من ذلك العجائب، وربما وقع فيه قتل بسبب السكر فيمنع فيه الشرب، وذلك في بعض الأحيان، وهو ضيق، عليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بعالم التهكم والطرب والمخالفة، حتى إن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب، وللسّرج في جانبيه بالليل منظر، وكثيراً ما يتفرج فيه أهل الستر في الليل، وفي ذلك أقول:
لا تركبن في خليج مصرٍ ... إلا إذا أسدل الظّلام
فقد علمت الذي عليه ... من عالمٍ كلّهم طغام
صفّان للحرب قد أطلاّ ... سلاح ما بينهم كلام
يا سيّدي لا تسر إليه ... إلا إذا هوّم النيام
والليل سترٌ على التصابي ... عليه من فضله لثام
والسّرج قد مدّدت عليه ... منها دنانير لا ترام
وهو قد امتدّ والمباني ... عليه في خدمةٍ قيام
لله كم دوحةٍ جنينا ... هناك أثمارها الأثام قال المقريزي: وفيه تحامل كثير، انتهى.
ومن نظر بعين الإنصاف علم أن التحامل في نسبة التحامل إليه، والله تعالى الموفّق.
قال ابن سعيد: ومعاملة الفسطاط والقاهرة بالدراهم المعروفة بالسوداء(2/349)
كل درهم منها ثلاثة من الدرهم الناصري، وفي المعاملة بها شدة وخسارة في البيع والشراء، ومخاصمة بين الفريقين، وكان بها قديماً الفلوس، فقطعها الملك الكامل، فبقيت الآن مقطوعة منها.
وهي في الإقليم الثالث، وهواؤها رديء، لا سيّما إذا هبّ المريسي من جهة القبلة، وأيضاً فرمد العين فيها كثير، والمعايش فيها متعذرة نزرة، لا سيّما أصناف الفضلاء، وجوامك المدارس قليلة كدرة، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الطب والخراج، والنصارى بها يمتازون بالزنّار في أوساطهم، واليهود بعمائم صفر، ويركبون البغال، ويلبسون الملابس الجلية، ويأكل أهل القاهرة البطارخ، ولا تصنع حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية، وفيها جوارٍ طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين، ولهن في الطبخ صنائع عجيبة، ورياسة متقدمة، ومطابخ السكر والمواضع التي يصنع بها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة. انتهى المقصود من هذا الموضع من كلام أي الحسن النور بن سعيد رحمه الله تعالى.
وقال رحمه الله:
كم ذا تقيم بمصر ... معذّباً بذويها
وكيف ترجو نداهم ... والسّحب تبخل فيها وقال رحمه الله تعالى:
لابن الزبير مكارم أضحت بها ... طير المدائح في البلاد تغرّد
إن قيّدوه وبالغوا فيعصره ... فالكرم يعصر والجواد يقيّد (1) 166 - ولنذكر بعض أخبار والده، فإنّه ممّن رحل إلى المشرق وتوفّي بالإسكندرية، وقد ذكر ابنه أبو الحسن في المغرب وغيره من أخباره
__________
(1) ق: يعقد.(2/350)
العجائب، ولا بأس بأن نلم بشيء من ذلك، سوى ما تقدّم، فنقول:
من أخباره أنّه لمّا اجتاز بمالقة ومشرفها إذ ذاك أبو علي ابن مبقّى وجه إليه من نقل أسبابه إلى داره وأقبل عليه منشداً:
أكذا يجوز القطر لا يثني على ... أرضٍ توالى جدبها من بعده
الله يعلم أنّها ما أنبتت ... زهراً ولا ثمراً بمدة فقده
عرج عليها ساعةً يا من له ... حسبٌ يفوق العالمين بمجده
وانثر عليها من أزاهرك التي ... تشفي المتيّم من لواعج وجده
والله ما ذاكرت فكرك ساعةً ... إلاّ وأقبس خاطري من زنده قال موسى: فارتجلت للحين:
أنت الذي تعرف كيف العلا ... وتبتدي في سبل المجد
بدأت بالفضل المنير الذي ... أكمل بدر الشكر والحمد
والله ما أبصرتكم ساعةً ... إلاّ بدا لي طالع السّعد وانصرفت معه إلى منزله:
فلم أزل في كرامه ... ليست كظلّ غمامه ولما كان أبو عمران موسى بن سعيد بالجزيرة الخضراء مقدّماً على أعمالها من قبل ابن هود وصله كتاب من الفقيه القاضي أبي عبد الله محمد بن عسكر قاضي مالقة من أحد الأدباء، منه:
أفاتح من قلبي بعلياه واثقٌ ... وإن كانت الأبصار لم تنسخ الودّا
وثقت بما لي من ذمام تشيّعي ... بآل سعيدٍ فابتغيت به السّعدا
وبالحبّ يدنو كلّمن أقصت النوى ... برغم حجابٍ للنوى بيننا مدّا يا سيدي الذي حملني ما أمال أسماعي من الثناء عليه، أن اهجم على مفاتحته(2/351)
شافعاً في موصّلها إليه، واثقاً بالفرع لعلم الأصل، مؤمّلاً للإفضال بتحقّق الفضل، إن لم تقض باجتماع بيننا الأيّام، فلا تجزئ من المشافهة بيننا ألسن الأقلام، ويوحي بعضنا إلى بعض يسور الوداد، والحمد لله الذي أطلعك في ذلك الأفق بدراً، وأدناك من هذه الدار فصرنا لقرب من يرد عنك لا نعدم لك ذكراً، فكلّ يثني بالذي علمت سعد، ويصف من خلالك ما يقضي ذلك المجد، ولما كان إحسانك يبشر به الصادر والوارد، ويحرض عليه الغائب والشاهد، مدّ أمله نحوك موصل هذه المفاتحة، وليس له وسيلة ولا بضاعة إلاّ الأدب وهي عند بيتك الكريم رابحة، وهو من شتّتت خطوب هذا الزمان شمله، وأبانت نوائبه صبره وفضله، وما طمح ببصره إلا إلى أفقك، ولا وجّه رجاءه إلاّ نحو طرقك، والرجاء من فضلك أن يعود وقد أثنت حقائبه، وأعنقت من الحمد ركائبه، دمت غرة في الزمن البهيم، مخصوصاً بأفضل التحيّة والتسليم، انتهى.
وابن عسكر المذكور عالم بالتاريخ متبحر في العلوم، وله كتاب في أنساب بني سعيد أصحاب هذه الترجمة، ومن شعره:
أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب
والجار والدار ومن حلّها ... وكلّ من مرّ بها من قريب
وكلّ مبدٍ شبهاً منكم ... وكلّ من يلفظ باسم الحبيب [وصية ابن سعيد الأب لابنه علي]
رجع:
قال ابنه علي: لمّا أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة أول وصولي إلى الإسكندرية، رأى أن يكتب لي وصية أجعلها إماماً في الغربة(2/352)
فبقي فيها أيّاماً إلى أن كتبتها عنه، وهي هذه، وكفى بها دليلاً على ما اختبر وعلم:
أودعك الرحمن في غربتك ... مرتقباً رحماه في أوبتك
وما اختياري كان طوع النوى ... لكنّني أجري على بغيتك
فلا تطل حبل النوى إنّني ... والله أشتاق إلى طلعتك
من كان مفتوناً بأبنائه ... فإنّني أمعنت في خبرتك
فاختصر التوديع أخذاً، فما ... لي ناظرٌ يقوى على فرقتك
واجعل وصاتي نصب عينٍ ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك
خلاصة العمر التي حنّكت ... في ساعة زفّت إلى فطنتك
فللتّجاريب أمورٌ إذا ... طالعتها تشحذ من غفلتك
فلا تنم عن وعيها ساعةً ... فإنّها عونّ إلى يقظتك
وكلّ ما كابدته في النّوى ... إيّاك أن يكسر من همّتك
فليس يدرى أصل ذي غربةٍ ... وإنّما تعرف من شيمتك
وكلّ ما يفضي لعذرٍ فلا ... تجعله في الغربة من إربتك
ولا تجالس من فشا جهله ... واقصد لمن يرغب في صنعتك
ولا تجادل أبداً حاسداً ... فإنّه أدعى إلى هيبتك
وامش الهوينا مظهراً عفّةً ... وابغ رضى الأعين عن هيئتك
أفش التحيّات إلى أهلها ... ونبّه الناس على رتبتك
وانطق بحيث العيّ مستقبحٌ ... واصمت بحيث الخير في سكتتك
ولا تزل مجتمعاً طالباً ... من دهرك الفرصة في وثبتك
وكلّما أبصرتها أمكنت ... ثب واثقاً بالله في مكنتك
ولج على رزقك من بابه ... واقصد له ما عشت في بكرتك(2/353)
وايأس منالودّ لدى حاسدٍ ... ضدٍّ ونافسه على خطّتك
ووفّر الجهد فمن قصده ... قصدك لا تعتبه في بغضتك
ووفّ كلاًّ حقّه ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدّتك
ولا تكن تحقر ذا رتبةٍ ... فإنّه أنفع في غربتك
وحيثما خيّمت فاقصد إلى ... صحبة من ترجوه في نصرتك
وللرّزايا وثبةٌ ما لها ... إلاّ الذي تذخر من عدّتك
ولا تقل أسلم لي وحدتي ... فقد تقاسي الذلّ في وحدتك
ولتزن الأحوال وزناً ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك
ولتجعل العقل محكّاً وخذ ... كلاًّ بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخاً يرغبفي صحبتك
بعد اختبارٍ منك يقضي بما ... يحسن في الأخدان من خلطتك
كم من صديقٍ مظهرٍ نصحه ... وفكره وقفٌ على عشرتك
إيّاك أن تقربه، إنّه ... عونٌ مع الدّهر على كربتك
واقنع إذا ما لم تجد مطمعاً ... واطمع إذا نفّست من عسرتك
وانم نموّ النّبت قد زاره ... غبّ الندى واسم إلى قدرتك
وإن نبا دهرٌ فوطّن له ... جأشك وانظره إلى مدّتك
فكلّ ذي أمرٍ له دولةٌ ... فوفّ ما وافاك في دولتك
ولا تضيّع زمناً ممكناً ... تذكاره يذكي لظى حسرتك
والشّرّ مهما اسطعت لا تأته ... فإنّه حوبٌ على مهجتك يا بنيّ الذي لا ناصح له مثلي، ولا منصوح لي مثله: قدمت (1) لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة، إن شاء الله تعالى، وإنّ أخفّ منه للحفظ وأعلق بالفرك وأحق بالتقدم
__________
(1) ج: قد قدمت.(2/354)
قول الأول:
يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاثٌ فمنهنّ حسن الأدب
وثانيةٌ حسن أخلاقه ... وثالثةٌ إجتناب الرّيب وإذا اعتبرت هذه الثلاثة ولزمتها في الغربة رأيتها جامعة نافعة، لا يلحقك إن شاء الله تعالى مع استعمالها ندم، ولا يفارقك بر ولا كرم، ولله درّ القائل:
يعدّ رفيع القوم من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في قومه بحسيب
إذا حلّ أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقلٌ في بلدةٍ بغريب وما قصّر القائل حيث قال:
واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللبيب من دارى
واتخذ الناس كلّهم سكناً ... ومثّل الأرض كلّها دارا وأصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر، وسلّم الكرم والصبر:
ولو أنّ أوطان الديار نبت بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا إذ حسن الخلق أكرم نزيل، والأدب أرحب منزل، ولتكن كما قال أحدهم في أديب متغرّب: وكان كلّما طرأ على ملك فكأنّه معه ولد، وإليه قصد، غير مستريب بدهره، ولا منكر شيئاً من أمره، وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلّماً، وهبّ في روض أخلاقه هبوب النسيم، وحلّ بطرفه محلّ الوسن (1) ، وانزل بقلبه نزول المسرة، حتى يتمكن لك وداده، ويخلص فيك اعتقاه، وطهر من الوقوع فيه لسانك، وأغلق سمعك، ولا ترخّص في جانبه لحسود لك منه، يريد إبعادك عنه، لمنفعته،
__________
(1) ج: على الوسن.(2/355)
أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك، ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته، ولا تتمهد بدوام رقدته، فقد ينبهه الزمان، ويغير منه القلب واللسان، ولذا قيل: إذا أحببت فأحبب هوناً مّا، ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوّاً والعدوّ صديقاً، وإنّما العاقل من جعل عقله معياراً، وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله، وجعل نصب ناظره قول أبي الطّيب:
ولمّا صار ودّ النّاس خبّاً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسام وفي أمثال العامة: من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل، فاحتذى مثله (1) من جرّب، واستمع إلى ما خلّد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال، فإنّها خلاصة عمرهم، وزبدة تجاربهم (2) ، ولا تتكل على عقلك، فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غالياً بتجاربهم يربحك، ويقع عليك رخيصاً، وإن رأيت من له مروءةٌ وعقل وتجربة فاستفد منه، ولا تضيّع فعله ولا قوله، فإن فيما تلقاه تلقيحاً لعقلك، وحثّاً لك واهتداء، وإيّاك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع:
فالحرّ يخدع بالكلام الطّيّب ... فقد قال أحدهم: ما قيل أضرّ من هذا البيت على أهل التجمّل، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه، حتى تتدبره، فإن كان موافقاً لعقلك مصلحاً لحالك قوّاه ذلك عندك، وإلاّ فانبذه نبذ النواة، فليس لكل أحد يتبسّم ولا كل شخص يكلّم، ولا الجود ممّا يعم به، ولا حسن الظنّ وطيب النفس ممّا يعامل به كل أحد، ولله در القائل:
وما لي لا أوفي البريّة قسطها ... على قدر ما يعطى وعقلي ميزان
__________
(1) كذا في ج ق، وقد يقرأ معطوفاً على " وجعل " ولعل الصواب " فاحتذ أمثلة ".
(2) ق: نخائبهم؛ ج: تحابيهم؛ دوزي: حياتهم.(2/356)
وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء، ولا الكفء بمعاملة الأعلى، ولا تضيع عمرك فيمن يملكك (1) بالمطامع، ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة، واسمع قول الأول:
وبعْ آجلاً منك بالعاجل ... وأقلل من زيارة الناس ما استطعت، ولا تجفهم بالجملة، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر وجفاء، ولا تقل أيضاً أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحداً، وأستريح من الناس، فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة، وإذا علم عدوّ لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه، فازدراك الصديق وجسر عليك العدوّ، وإياك أن يغرّك صاحبٌ واحد عن أن تذخر غيره للزمان، وتطيعه في عداوة سواه، ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها، وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعك عن غيره، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدّة لكان ذلك أولى وأصوب، وسلني فإنّي خبير، طال والله ما صبحت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه، ولا أعتدّ إلاّ إيّاه، منخدعاً بسرابه، موثوقاً في حبائل خطابه، إلى أن لا يحصل لي منه غير العضّ على البنان، وقول: لو كان ولو كان، ولا يحملنك أيضاً هذا القول أن تظنّه في كل أحد، وتعجل بالمكافأة، وليكن حسن الظن بمقدار مّا، واصبر بقدرٍ مّا، والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال، وفي الوجوه دلالات وعلامات، وأصغ إلى القائل:
ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ري ولا يدفع الأذى عن حريم فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فولّ وجهك عنه قبلة ترضاها، ولتحرص
__________
(1) ج: يملك.(2/357)
جهدك على أن تصحب أو تخدم إلاّ ربّ حشمة ونعمة، ومن نشأ في رفاهية ومروءة، فإنّك تنام معه في مهاد العافية، وإن الجياد على أعراقها تجري، وأهل الأحساب والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وصمة، وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مروان: أشرب مصعب الخمر فقال عبد الملك - وهو عدوّ محارب له على الملك -: لو علم مصعب ا، الماء يفسد مروءته ما شربه.
والفضل ما شهدت به الأعداء ... يا بني، وقد علمت أن الدنيا دار مفارقةٍ وتغير، وقد قيل: اصحب من شئت فإنّك مفارقه، فمتى فارقت أحداً فعلى حسنى في القول والفعل، فإنّك لا تدري هل أنت راجع إليه، فلذلك قال الأول:
ولمّا مضى سلمٌ بكيت على سلم ... وإياك والبيت السائر (1) :
وكنت إذا حللت بدار قومٍ ... رحلت بخزيةٍ وتركت عارا واحرص على ما جمع قول القائل (2) : ثلاثة تبقي لك الودّ في صدر أخيك، أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه؛ واحذر كل ما بيّنه لك القائل: كلّ ما تغرسه تجنيه إلاّ ابن آدم فإنّك إذا غرسته يقلعك، وقول الآخر: ابن آدم يتمسكن حتى يتمكن، وقول الآخر: ابن آدم ذئب مع الضعف، أسد مع القوّة. وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره، فيحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صحبته، فجاوبه:
__________
(1) البيت لجرير (ديوانه: 216) .
(2) ورد في عيون الأخبار 3: 9 مروياً عن مجاهد.(2/358)
إن الصحبة رقٌّ، ولا أضع رقي في يدك حتى أعرف كيف ملكتك. واستمل من عين من تعاشره، وتفقّد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه، ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن تبينه، فإن الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح، واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك، وآكد ما أوصيك به أن تطرح الأفكار، وتسلّم للأقدار:
واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عيناً بعيشه نفعه إذ الأفكار تجلب الهموم، وتضاعف الغموم، وملازمة القطوب، عنوان المصائب والخطوب، ويستريب به الصاحب، ويشمت العدوّ المجنب، ولا تضرّ بالوساوس إلا نفسك، لأنّك تنصر بها الدهر عليك، ولله درّ القائل:
إذا ما كنت للأحزان عوناً ... عليك مع الزّمان فمن تلوم مع أنّه لا يدّ عليك الفائت الحزن (1) ، ولا يرعوي بطول عتبك الزمن. ولقد شاهدت بغرناطة شخصاً قد ألفته الهموم، وعشقته الغموم، ومن أعجب ما رأيته منه أنّه يتنكد في الشدة، ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج، ويتنكد في الرخاء خوفاً من أن لا يدوم، وينشد:
توقّع زوالاً إذا قيل تمّ (2) ... وينشد (3) :
وعند التّناهي يقصر المتطاول ...
__________
(1) من قول المتنبي:
فما يديم سرور ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن (2) صدر البيت: إذا تم شيء بدا نقصه.
(3) للمعري، وصدره: فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً.(2/359)
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب، مثل هذا عمره مخسور يمر ضياعاً. ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسداً لك، وقصداً لصغير قدرك عندك، وتزهيداً لك فيه، فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك، وتركن إلى العلم الذي مدحوه، فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلّمه فصعب عليه، ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه، فبقي مخبل المشي (2) . ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزّمان وأهله، ويقول: ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يستراح فيه، فإن الذي تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممّن صحبه الحرمان، واستحقّت طلعته للهوان، وأبرموا على الناس بالسؤال، فمقتوهم، وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس، وإقامة العذار لأنفسهم بقطع أسبابهم، وتعذير أمورهم. ولا تزل هذين البيتين من فكرك:
لن إذا ما نلت عزّاً ... فأخو العزّ يلين
فإذا نابك دهرٌ ... فكما كنت تكون ولا قول الآخر:
ته وارتفع إن قيل أق ... تر وانخفض إن قيل أثرى
كالغصن يسفل ما اكتسى ... ثمراً ويعلوا ما تعرّى ولا قول الآخر (2) :
__________
(2) البيت لعبيد بن الأبرص، ديوانه: 49 ونسب لطرفة في ديوانه: 45.
(2) البيت لعبيد بن الأبرص، ديوانه: 49 ونسب لطرفة في ديوانه: 45.(2/360)
الخير يبقى وإن طال الزّمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد واعتقد في الناس ما قاله القائل (1) :
ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (2) وتحفّظ بما تضمّنه قول الآخر (3) :
ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحق وبالباطل ولله درّ القائل (4) :
ما كلّ ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا اقتنعت فكلّ شيء كافي والأمثال يضربها لذي اللّبّ الحكيم (5) ، وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم، والفطن يقنع بالقليل، ويستدل باليسير، والله سبحانه خليفتي عليك، لا ربّ سواه.
نجزت الوصية وتكفيك عنواناً على طبقته في النثر.
__________
(1) البيت للمرقش الأصغر من مفضلية له (ص: 503) .
(2) زاد بعده في مطبوعة التجارية: وقريب منه قول القائل:
بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العاليه
وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم ورجلاك في عافيه وقد سقط هذا من ج ق ودوزي؛ كما أنه غير قريب مما قبله، ولعله من زيادة بعض المعلقين.
(3) البيت مما ينسب لكعب بن زهير؛ وانظر نهاية الأرب 3: 68 والتمثيل والمحاضرة: 62.
(4) البيت لأبي فراس الحمداني، ديوانه 2: 256 (تحقيق الدكتور سامي الدهان) .
(5) من قول يزيد بن الحكم بن أبي العاص يعظ ابنه بدراً (حماسة المرزوقي: 1190) :
يا بدر والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم ...(2/361)
[رسالة ابن سعيد الأب لعبد الواحد الموحدي]
وله رسالة (1) كتب بها إلى ملك المغرب أبي محمد عبد الواحد بن أبي يعقوب ابن عبد المؤمن مهنئاً له بالخلافة حين بويع بها بمراكش، وكان إذ ذاك بإشبيلية، وكان قبل ذلك كاتباً له مختصّاً به:
الحضرة العلية، السامية السنية، الطاهرة القدسية، حضرة الإمامة، وجنّة دار الإقامة، مدّ الله على الإسلام ظلالها، وأنمى في سماء السعادة تمامها وكمالها، وهنّأ المؤمنين باستقبال إمارتها، وأدام لهم بركة خلافتها، عبد أياديها، وخديم ناديها، المتوسّل بقديم الخدمة، والمتوصّل بعميم النعمة وكريم الحرمة، المنشد بلسان المسرّة، حين أطلع الزمان هذه الغرّة (2) :
أتته الخلافة منقادةً ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلاّ له ... ولمي ك يصلح إلاّ لها موسى بن محمد بن سعيد لا زال هذا الأمر العلي محموداً سعيداً، ولا برح يستزيد ترقياً وصعوداً:
يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد سلام الله الكريم، يخص حضرة الإجلال والتعظيم، والتقديس والتفخيم، ورحمته وبركاته، وبعد حمد الله الذي بلغ الإسلام بهذه الخلافة آماله، وحلّى بهذه الولاية السعيدة أحواله، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد نبيه الكريم، الذي دحض الله تعالى بنبوّته الكفر وضلاله، وعلى آله وصحبه الطاهرين الذي سمعوا أقواله، وامتثلوا أفعاله، والرضى عن الإمام المهدي المعلوم الذي أفاء الله
__________
(1) وردت هذه الرسالة في المقتطفات (الورقة: 17) .
(2) البيتان لأبي العتاهية، انظر ديوانه: 612 (تحقيق الدكتور شكري فيصل) .(2/362)
به على الدين الحنيفي ظلاله، وأذهب عنه طواغيته وضلاله، والدعاء للمقام العالي الكريم، بالسعد المتوالي والنصر الجسيم، وكتب العبد وقد ملأت هذه البشرى المسرة أفقه، ووسعت عليه هذه المرتبة العلية طرقه:
فهذه رتبةٌ ما زلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم ولا أقنع مني إن اقتصرت على السماء داراً، والهلال للبشير سواراً، والنجوم (1) عقداً، والصباح بنداً، حتى أسرّ كل أحد بشكله، وأقابل كل شخص بمثله:
ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم ... فإنّي لم أخدمك إلا لأخدما وما بعد الخلافة رتبة، ودون ثبير تنحطّ كلّ هضبة، فالحمد لله ربّ العالمين، وهنيئاً لعباده المؤمنين، حيث نظر لهم نظر رحمة، فأسبل عليهم ستر هذه النعمة:
ولقد علمت بأنّ ذلك معصمٌ ... ما كان يتركه بغير سوار (2) والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وإلى من يشير بآياته، فلله صباح ذلك اليوم السعيد وليلته، لقد سفر عن وجه من البشرى أضاءت الآفاق شرقاً وغرباً غرّته، ولقد اجتمعت آراء السداد، حتى أتت الإسلام بالمراد، فأخذ القوس باريها، وحل بالدار بانيها، هنيئاً زادك الرحمن (3) خيراً، ولا برحت المسرات تسير إليك سيراً، وهل يصلح النور إلا للمقل، وهل يليق بالحسن إلا الحلل، فالآن مهّد الله البرين، وأفاض العدل على العدوتين، وقدّم
__________
(1) ق: والنجم.
(2) البيت لأبي تمام من قصيدته في الشمانة بمصرع الأفشين، ديوانه 2: 209.
(3) ج: الإسلام.(2/363)
للنظر من لا يعزب عن حفظه مكان، ولا يختصّ بحفظه إنسان دون إنسان، خلفة له النفس العمرية، والآراء العمرية، والفراسة الإياسية، ولا ينبئك مثل خبير، فلقد شاهد العبد ما لا يحصره تفسير، ولعمري لقد عاد الصباح في إشراق النهار، ولم يخف عنا ما زاد الدنيا من البهجة (1) والمسار، وشملت الناس هذه البشائر، وعمّت كل باد وحاضر، وأصاخوا لتاليها إصاخة المجد بين لمرتادهم، وأهطعوا لها مهللين ومكبرين إهطاع الناس لأعيادهم، وأما العبد فقد أخذ بحظه، حتى خاف أن يغلب السرور على قلبه ولحظه:
ومن فرح النفس ما يقتل (2) ... وهذه نعمة يقصر عنها النثر والنظم، ويحسد عليها الهلال والنجم، بل يسلمان لما استحقته من المراتب، ويخضعان إليها خضوع المفترض الواجب، أقرّ الله بها عيون المسلمين، وأفاض سحبها على الناس أجمعين، وحفظها بعينه التي لا تنام، ووقف على خدمتها الليالي والأيام.
[من شعر أبي عمران ابن سعيد]
ولما قدم من الأندلس على تونس مدح سلطانها أبا زكريا بقوله:
بشرى ويسرى قد أنار المظلم ... نجماً وقد وضح الصباح المعلم
ورنت عيون الأمن وهي قريرةٌ ... وبدت ثغور السّعد وهي تبسّم
فارحل لتونس واعتقد أعلام من ... قوي الضعيف به وأثرى المعدم
حيث المعالي والمعاني والنّدى ... والفضل والقوم الذي هم هم
أجروا إلى الغايات ملء عنانهم ... سبقاً وبذّهم الجواد المنعم
__________
(1) ق: البهجات.
(2) عجز بيت للمتنبي، وصدره: فلا تنكرن لها صرعة.(2/364)
ساد الإمام الملك يحيى سادةً ... أعطى الورى لهم القياد وسلّموا
إنّ الإمارة مذ غدا يقتادها ... يقظى وأجفان الحوادث نوّم
لله منك مباركٌ ذو فطنةٍ ... بزغت فأحجم عندها من يقدم
يقظان لا وانٍ ولا متقاعسٌ ... كالدهر يبني ما يشاء ويهدم
إن صال فالليث الهصور المقدم ... أن سال فالغيث المغيث المثجم
أعلى منار الحقّ حين أماله ... قومٌ تبرأت المنابر منهم
أعلى الإله مكانه وزمانه ... والنصر يقدم والسعادة تخدم وقال يخاطب ملك المغرب مأمون بني عبد المؤمن، حين أخذ البيعة لنفسه بإشبيلية، وكان المذكور بمراكش ولبني سعيد بهذا الملك اختصاص قديم:
الحزم والعزم موجودان والنّظر ... واليمن والسعد مضمونان والظّفر
والنور فاض على أرجاء أندلسٍ ... والزّور ليس له عينٌ ولا أثر
حثّ الركاب إلى هذا الجناب فقد ... ضلّوا فما تنفع الآيات والنّذر
واعزم كما عزم المأمون إذ نشزت ... أرض العراق فزال البؤس والضرر ولما قدم العادل القائم بمرسية المتولي على مملكة البرّين إلى إشبيلية كان في جملة من خرج للقائه، ورفع له قصيدة منها:
لقاء به للبرّ والشكر مجمع ... إلى يومه كنّا نخبّ ونوضع
لقد يسّر الرحمن صعب مرامه ... فأبصرت أضعاف الذي كنت أسمع وله أيضاً:
يا منعماً قد جاءني برّه ... من غير أن أجري له ذكرا
إنّ أحبّ الخير ما جاءني ... عفواً، ولم أغمر به فكرا وله في غلام واعظ، وهو من حسناته:(2/365)
وشادنٍ ظلّ للوع ... ظ تالياً بين جمع
متّعت طرفي بمرآ ... هـ في خفارة سمعي وله من أبيات:
ومن عجبٍ أنّ الليالي تغيّرت ... ولكنّها ما غيّرت منّي العهدا ومن الفضلاء الذين أدركهم وأخذ عنهم الحافظ أبو بكر ابن الجد، وأبو بكر ابن زهر، وغيرهما، وحضر حصار طليطلة مع منصور بني عبد المؤمن، وكتب لملك البرين أبي محمد بعد الواحد، وكتب أيضاً عن مأمون بني عبد المؤمن، وكتب أخيراً عن ملك بجاية والغرب الأوسط الأمير أبي يحيى ابن ملك إفريقية، رحم الله تعالى الجميع.
رجع إلى أبي الحسن ابن سعيد:
قال رحمه الله تعالى: حضرت ليلة أنسٍ مع كاتب ملك إفريقية أبي العباس أحمد الغسّاني، فاحتاجت الشمعة أن تقطّ، فتناول قطّها غلامٌ ببنانه، فقلت:
ورخص البنان تصدّى لأن ... يقطّ السراج بمثل العنم فقال:
ولم يهب النار في لمسه ... ولا احتاج في قطّه للجلم فقلت:
وما ذاك إلاّ لسكناه في ... فؤادي على ما حوى من ضرم فقال:(2/366)
تعوّد حرّ لهيبٍ به ... فليس به من أوارٍ ألم وأنشد في المغرب للغساني المذكور في خسوف القمر ممّا قاله ارتجالاً:
كأنّ البدر لمّا أن علاه ... خسوفٌ لم يكن يعتاد غيره
سجنجل غادةٍ قلبته لمّا ... أراها شبهها حسداً وغيره وخاطبه المذكور برسالة يقول في آخرها: وعند حامل هذه الأحرف - سلّمه الله تعالى - كنه خبري، واستيعاب ما قصر عنه قلمي فضاقت بحمله أسطري، لتعلم ما أجده وأفقده من تشوقي وتصبري، وأنّي لا أزال أنشد حيث تذكّري وتفكّري:
يا نائياً قد نأى عنّي بمصطبري ... وثاوياً في سواد القلب والبصر
إذا تناسيت عهداً من أخي ثقةٍ ... فاذكر عهودي فما أخليك من فكري
واردد عليّ تحيّاتي بأحسنها ... تردد عليّ حياتي آخر العمر ولنمسك العنان عن الجري في ميدان أخبار ابن سعيد، فإنّها لا يشق غبارها، ومنها قوله رحمه الله تعالى: سمعت كثيراً من السماع المشرقي، فلم يهزني مثل قول الشريف الشمسي المكي (1) :
مقلٌ بالدمع غرقى ... وفؤادٌ طار خفقا
وتجنّ وتثنٍّ ... شقّ جيب الصبر شقّا
يا ثقاتي خبروني ... عن حديث اليوم حقّا
أكذا كلّ محبّ ... فارق الأحباب يشقى
لا وعيشٍ قد تقضّى ... وغرامٍ قد تبقّى
ونعيمٍ في ذراكم ... قد صفا دهراً ورقّا
__________
(1) وردت الأبيات في المقتطفات (الورقة: 28) .(2/367)
ونسيمٍ من حماكم ... حمل الوجد فرقّا
برسالات صبابا ... تٍ على المشتاق تلقى
وغصونٍ ناعماتٍ ... بمياه الدنّ تسقى
ووجوهٍ فضن حسناً ... فملأن الأرض عشقا
لو رضيتم بي عبداً ... ما رضيت الدهر عتقا وقال: ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار، وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدّر له الاجتماع به:
أسأل الله أن يديم لك الع ... زّ ما أردت البقاء
كلّ يومّ أرجو النعيم بلقيا ... ك فألقى بالبعد عنك شقاء
علم الدهر أنّني أشتكيه ... لك إذ نلتقي فعاق اللّقاء فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان، وكتب في حقّه إلى ولاة الصعيد كتباً أغنته مدّة عن شكوى الزمان، انتهى.
وقال أيضاً: ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي:
وأصبح شعري متهماً في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج:
مرّ مدحي ضائعاً في لؤمه ... كضياع السيف في كفّ الجبان ومن تأليف النور بن سعيد كتاب " عدة المستنجز وعقلة (1) المستوفز " وذكر فهي أنّه ارتحل من تونس إلى المشرق رحلته الثانية سنة 666، وأورد في هذا الكتاب غرائب وبدائع، وذكر فيه أنّه لمّا دخل الإسكندرية لم يكن عنده
__________
(1) ق ج: وغفلة.(2/368)
آكد من السؤال عن الملك الناصر، فأخبر بحاله، وما جرى له مع التتر (1) حتى قتلوه بعد الأمان، ثم ساق فيه دخول هولاكو حلب فقال بعد كلام كثير: وارتكب في أهل حلب التتر والمرتدون ونصارى الأرمن ما تصمّ عن الأسماع، وكان فيمن قتل بتلك الكائنة البدر بن العديم الذي صدر عنه من الطبقة العالية في الشعر مثل قوله (2) :
واهاً لعقرب صدغه ... لو لم تكن للماه تحمي
ولغفل خطّ عذاره ... لو بتّ أعجمه بلثمي وابن عمّه الافتخار بن العديم الذي وقع له مثل قوله:
والغصن فيه الماء مطّردٌ ... والماء فيه الغصن منعكس ثم قال، لما ذكر أحوال الناصر بعد استيلاء التتر على بلاد حلب والشام وما يليهما، ما نصّه: قال من دخل على الملك الناصر وقد نزل بميدان دمشق: قبّلت يده، وجعلت أدعو له، وأظهر تعزيته على ما جرى من تلك المصائب العظيمة، فأضرب عن ذلك، وقال لي: فيم تتغزل اليوم ثمّ أنشدني قوله في مملوك فقده في هذه الكائنة:
والله ما أبكي لملكٍ مضى ... ولا لحالٍ ظاعنٍ أو مقيم
وإنّما أبكي وقد حقّ لي ... لفقد من كنت به في نعيم
يطلع بدراً ينثني بانةّ ... يمرّ فيما رمته كالنّسيم
في خاطري أبصره خاطراً ... فألتوي مثل التواء السقيم
يا عاذلي دعني وما حلّ بي ... فما سوى الله بحالي عليم
إن متّ من حزنٍ له أسترح ... وإن أعش عشت بهمّ عظيم
__________
(1) ق: الططر.
(2) سقط البيتان من ج.(2/369)
قال: ثم إنّه سار نحو هولاكو، فلمّا مرّ بحلب ونظر إلى معاهده على غير ما يعهد قال:
مررت بجرعاء الحمى فتلفتت ... لحاظي إلى الدّار التي رحلوا عنها
ولو كان عندي ألف عينٍ وقمت في ... معالمها عمري لما شبعت منها وصنع في نعيها أشعاراً يغنّي بها المسمّعون، ثم رحل إلى صحراء يوش في جهة طريق أرمينية، فوجد هولاكو هنالك في تلك المروج المشهورة بالخصب، فأنزله، وأقام يشرب معه إلى أن وصل الخبر بوقعة عين جالوت على التتر للملك المظّفر قطز صاحب مصر سنة 658 (1) ، فقتلوه وخلعوا عظم كتفه، وجعلوه في أحد الأعلام على عادته في أكتاف الملوك، انتهى باختصار.
167 - ومن الوافدين من الأندلس إلى المشرق الأديب الحسيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد (2) ، وكان صعب الخلق، شديد الأنفة، جرى بينه وبين أقاربه ما أوجب خروجه إلى أقصى المشرق، وفي ذلك يقول، وكتب به إليهم:
من لصبّ يرعى النجوم صبابه ... ضيّع السير في الهموم شبابه
زدت بعداً فزدت فيه اقتراباً ... بودادي كذاك حكم القرابه
منزلي الآن سمرقند وبالقل ... عة ربعٌ وطئت طفلاً ترابه
شدّ ما أبعد الفراق انتزاحي ... هكذا الليث ليس يدري اغترابه
لا ولا أرتجي الإياب لأمرٍ ... إن يكن يرتجي غريبٌ إيابه
__________
(1) في ق: سنة خمسمائة وثمانين، وسقط التاريخ من ج.
(2) له ترجمة في المغرب 2: 172.(2/370)
وكتب لهم من بخارى:
إذا هبّت رياح الغرب طارت ... إليها مهجتي نحو التّلاقي
وأحسب من تركت به يلاقي ... إذا هبّت صباها ما ألاقي
فيا ليت التفرق كان عدلاً ... فحمّل ما يطيق من اشتياقي
وليت العمر لم يبرح وصالاً ... ولم يختم (1) علينا بالفراق إذا كان الشوق فوق كل صفة، فكيف تعبّر عن الشفة، لكن العنوان دلالة على بعض ما في الصحيفة، والحاجب قد ينوب في بعض الأمور مناب الخليفة، وما ظنكم بمشوق طريح، في يد الأشواق طليح، يقطع مسافات الآفاق يتقلّب تقلّب الأفياء، ويتلّون الحرباء، حتى كأنّه يخبّر مساحات الأرض، ذات الطول والعرض، ويجوب أهوية الأقاليم السبع، خارجاً بما أدخله فيه اللّجاج عن الشرع، فكان خليفة الإسكندر، لكن ما يجيش من هموم الغربة بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر؛ جزت إلى برّ العدوة من الغرب الأقصى، فطمحت نفسي إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من المشاق ما لا يحصر (2) ، ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق، فاستشعرت من هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق، واختطفت من عيني تلك الطلاوة، وانتزعت من قلبي تلك الحلاوة:
فلله عينٌ لم تر العين مثلها ... ولا تلتقي إلاّ بجنّات رضوان ثم نازعتني النفس التواقة إلى الديار المصرية، فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا المشافهة إلى أن أبصرت منار الإسكندرية، فيا لك من استئناف عمر جديد، بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد، ثمّ صعدت إلى القاهرة
__________
(1) المغرب: يحكم.
(2) ج: يحصى.(2/371)
قاعدة الديار المصرية، لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية، وعاينت القاهرة المعزّية، وما فيها من الهمم الملوكية، غير أنّي أنكرت مبانيها الواهية، على ما حوت من أولي الهمم العالية، وكونها حاضرة العسكر الجرّار، وكرسيّ الملك العظيم المقدار، وقلت: أصداف فيها جواهر، وشوك محدق بأزاهر، ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه، وجزت بحر جدة وذقت تباريحه، وقضيت الحج والزيارة، وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس بالسوء أمّارة، فهنالك بعت الزيارة بالأوزار، وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار، إذ هي كما قال أحد من عاينها (1) :
أمّا دمشق فجنّات معجّلة ... للطالبين بها الولدان والحور فلله ما تضمن داخلها من الحور والولدان، وما زيّن به خارجها من الأنهار والجنان، وبالجملة فإنّها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة، وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف كل راحة، ولم أزل أسمع عن حلب، أنّها دار الكرم والأدب، فأدرت أن يحظى بصري بما حظي به سمعي، ورحلت إليها وأقمت جابراً بالمذاكرة والمطايبة صدعي، ثم رحلت إلى الموصل فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس، وفيها لطافة وفي مباينها طلاوة ترتاح لها الأنفس، ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد، فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به الكتب ولو ان البحر مداد، ثم تغلغلت في بلاد العجم بلداً بلداً، غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمداً، إلى أن حللت ببخارى قبة الإسلام، ومجمع الأنام، فألقيت بها عصا التسيار، وعكفت على طلب العلم واصلاً في اجتهاده سواد الليل وبياض النّهار، انتهى.
وكتب إليهم أيضاً من هذه الرسالة: كتبت وقد حصلتني السعادة، وحظ
__________
(1) الشعر للعرقلة الدمشقي، أبي الندى حسان بن نمير أحد شعراء الخريدة (قسم الشام 1: 178 وفي الحاشية ثبت بتخريج ترجمته) والبيت في الخريدة: 204 ورحلة ابن بطوطة: 85.(2/372)
الأمل والإرادة، بحضرة بخارى قبة الإسلام.
وأجابه أهله من الغرب بكلام من جمله: وإن كنت قد تحصنت (1) بقبة الإسلام، فقد تعجلت لنا ولك الفقد قبل وقت الحمام. وأتبعوا ذلك بما دعاه لأن خاطبهم بشعر منه:
عتبتم على حثّي المطيّ وقلتم ... تعجّلت فقداً قبل وقت حمام
إذا لم يكن حالي مهمّاً لديكم ... سواء عليكم رحلتي ومقامي وقتل المذكور ببخارى، حين دخلها التتر، وهو عمّ علي بن سعيد الشهير.
وكان لعبد الرحمن المذكور أخٌ يسمى يحيى قد عنى الجنديّة، فلمّا بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل ببخارى قال: لا إله إلاّ الله، كان أبداً يسفّه رأيي في الجنديّة، ويقول: لو اتبعت طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيراً لك، فها هو ربّ قلمٍ قد قتل شرّ قتلة بحيث لا ينتصر وسلب سلاحه، وأنا ما زلت أغازي في عبّاد الصليب وأخلص، فما يقدر أحد يحسن لنفسه عاقبة، انتهى.
قال أبو الحسن علي بن سعيد: ثمّ إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه، فذبحه على نزرٍ من المال، أفلت به، فانظر إلى تقلّب الأحوال كيف يجري في أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط، انتهى.
ومن شعر أبي القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى، وقد أهدى إليه فاختاً مع زوجه:
أيا سيّد الأشراف لا زلت عالياً ... معاليك تنبو الدهر عن كلّ ناعت
من الفضل إقبالٌ على ما تعثته ... لمغناك من شادٍ دعوه بفاخت
ألا حبّذا من فاخت ساد جنسه ... وأصبح مقروناً بستّ الفواخت
__________
(1) ج ق: تحصلت.(2/373)
لئن فاتني منه الأنيس فكل ما ... يحلّ إلى علياك ليس بفائت 168 - منهم الشيخ الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن عبد الله بن يوسف ابن حمزة، القرطبي، الأنصاري، المعروف بابن العابد، نزيل رباط الصاحب الصفي بن شكر (1) ، قال بعض المشارقة عنه: إنّما سميت الخمر بالعجوز لأنّها بنت ثمانين، يعين عدد حدّها، وأنشد له:
عذلنا فلاناً على فعله ... ولمناه في شربه للعجوز
فقال: دعوني من أجلها ... أنال أنا وأخي والعجوز 169 - ومنهم الشيخ الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف ابن محمد بن يوسف الأنصاري، الشاطبي الأصل، البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة إحدى وستمائة، ولقّبه المشارقة برضي الدين (2) . وتوفّي بالقاهرة في جمادة الأولى سنة 684، رحمه الله تعالى.
ومن نظمه لما حضر أجله، وقد مر خادمه أن ينظف له بيته، وأن يغلق عليه الباب ويفتقده بعد زمان، ففعل ذلك، فلمّا دخل عليه وجده ميتاً، وقد كتب في رقعة:
حان الرحيل فودّع الدار التي ... ما كان ساكنها بها بمخلّد
واضرع إلى الملك الجواد وقل له ... عبدٌ بباب الجود أصبح يجتدي
لن يرض غير الله معبوداً ولا ... ديناً سوى دين النبيّ محمّد ومن نظمه أيضاً رحمه الله تعالى:
__________
(1) يريد وزير الملك العادل بمصر وهو صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر.
(2) ترجمة رضي الدين الشاطبي في الوافي 4: 190 وغاية النهاية 2: 213 وبغية الوعاة: 83 وشذرات الذهب 5: 389.(2/374)
أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فرامت فراراً منه يسرى إلى يمنى
قري تحملي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنى أنشده تلميذه أبو حيّان إمام عصره في اللّغة.
حدث عن ابن المنير وغيره، واشتغل الناس عليه بالقاهرة، وله تصاينف مفيدة، وسمع من الحافظ أبي الربيع ابن سالم، وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات، وأثنى عليه تلميذه أبو حيان، رحم الله تعالى الجميع.
ومن فوائده قوله: نقلت من خط أبي الوليد ابن خيرة الحافظ القرطبي في فهرست أبي بكر ابن مفوّز: قد أدركته بسنّي ولم آخذ عنه واجتمعت به، أنشدني له أبو القاسم ابن الأبرش يخاطب بعض أكابر أصحاب أبي محمد ابن حزم، والإشارة لابن حزم الظاهري:
يا من تعاني أموراً لن تعانيها ... خلّ التعاني وأعط القوس باريها
تروي الأحاديث عن كلٍّ مسامحةً ... وإنّما لمعانيها معانيها وقد سبق في ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي ذكر هذين البيتين عندما أجرينا ذكر ابن حزم (1) ، قال: وإنّما قال هذا الشعر في كذر رواية ادّعيت على قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم " إن خالداً قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " وصحح رواية من روى " أعبده " جمع عبد، وعلّل رواية من روى أعتده بالتاء مثنّاة باثنتين من فوق جمع عتدٍ، وهو الفرس؛ قال ابن خيرة: الإحاطة ممتنعة، وهذه الرواية قد رواها جماعة من الأثبات والعلماء المحدّثين، فهو إنكار غير معروف، والله تعالى أعلم.
ومن فوائده ما نقله تلميذه أبو حيّان النحوي عنه، قال: أنشدنا للمقري ونقلته من خطّه:
__________
(1) انظر ما تقدم 2: 84.(2/375)
إذا ما شئت معرفةً ... بما حار الورى فيه
فخذ خمساً لأربعةٍ ... ودع للثوب رافيه وهو لغز في ورد.
وقال: وأنشدنا لبعضهم:
لا رعى الله عزمةً ضمنت لي ... سلوة الصبر والتصبر عنه
ما وفت غير ساعةٍ ثمّ عادت ... مثل قلبي تقول: لا بدّ منه قال: وأنشدنا لغيره:
وكان غريب الحسن قبل التحائه ... فلمّا التحى صار الغريب المصنّفا " (1) وأنشدنا لغيره:
طب على الوحدة نفسا ... وارض بالوحشة أنسا
ما عليها من يساوي ... حين يستخبر فلسا وقرأ الرضيّ ببلده على ابن صاحب الصّلاة (2) آخر أصحاب ابن هذيل، وسمع منه كتاب التلخيص للواني (3) ، وسمع بمصر من ابن المقيّر وجماعة، وروى عنه الحافظ المزي واليونيني والظاهري وآخرون، وانتهت إليه معرفة اللغة وغريبها، وكان يقول: أعرف اللغة على قسمين: قسم أعرف معناه وشواهده، وقسم أعرف كيف أنطق به فقط، رحمه الله تعالى.
__________
(1) فيه تورية، يشير إلى كتاب الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام.
(2) اسمه محمد بن أحمد بن صاحب الصلاة.
(3) كذا في ج ق ودوزي؛ وفي غاية النهاية " للداني " بالدال المهملة، ولم يرد كتاب " التلخيص " بين كتب أبي عمرو الداني شيخ القراء الأندلسيين في مقدمة المحكم (تحقيق الدكتور عزة حسن، دمشق: 1960) .(2/376)
ومن فوائد الرضيّ الشاطبيّ المذكور ما ذكره أبو حيّان في البحر قال: وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمّد بن علي ابن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني الرّسعني:
عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء، ولكنّي محبٌّ لهاشم
وما يعتريني في عليّ ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم
يقولون: ما بال النصارى تحبّهم ... وأهل النّهى من أعربٍ وأعاجم
فقلت لهم: إنّي لأحسب حبّهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم ومن نظم الرضي المذكور:
منغّص العيش لا يأوي إلى دعةٍ ... من كان ذا بلدٍ أو كان ذا ولد
والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى بلادٍ ولم يسكن إلى أحد وله:
لولا بناتي وسيّئاتي ... لطرت شوقاً إلى الممات
لأنني في جوار قومٍ ... بغّضني قربهم حياتي وقرأ عليه أبو حيان كتاب التيسير وأثنى عليه، ولمّا توفّي أنشد ارتجالاً:
نعوا لي الرضيّ فقلت لقد ... نعي لي شيخ العلا والأدب
فمن للّغات للثّقات ... ومن للنحاة ومن للنسب
لقد كان للعلم بحراً فغار ... وإنّ غؤور البحار العجب
فقدّس من عالمٍ عاملٍ ... أثار لشجوي لمّا ذهب وتحاكم إلى رضي الدين المذكور الجزّار والسّراج والورّاق أيّهما أشعر، وأرسل إليه الجزار شيئاً، فقال: هذا شعر جزلٌ، من نمط شعر العرب، فبلغ ذلك الورّاق، فأرسل إليه شيئاً فقال: هذا شعر سلس، وآخر الأمر قال:(2/377)
ما أحكم بينكما، رحمه الله تعالى.
قلت: رأيت بخطّه كتباً كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللّغة وعلى دواوين العرب، رحمه الله تعالى.
170 - ومنهم حميد الزاهد، وهو الأديب الفاضل الزاهد أبو بكر حميد ابن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله، الأنصاري، القرطبي، نزيل مالقة (1) . قال الرضي الشاطبي المذكور قريباً: أنشدني حميدٌ بالقاهرة لأبيه أبي محمد وقد تأخّر شبيه مع علوّ سنّه (2) :
وهل نافعي أن أخطأ الشّيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي
إذا كان خطّ الشيب يوجد عينه ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي واللّدات: من ولد معه في زمان واحد، انتهى.
وفي ذكري أنّه قال هذين البيتين لما قال له القاضي عياض: شبنا ولم تشب.
وقال الرضيّ أيضاً: أنشدني حميدٌ لأبيه فيمن يكتب في الورق بالمقص، وهو غريب:
وكاتبٍ وشي طرسه حبرٌ ... لم يشها حبره ولا قلمه
لكن بمقراضه ينمنمها ... نمنمة الروض جاده رهمه
يوجد بالقطع أحرفاً عدمت ... فاعجب لشيء وجوده عدمه والرهم: المطر.
__________
(1) حميد هذا هو أحمد - وشهر باسم حميد -؛ وأبوه عبد الله بن الحسن هو أبو محمد القرطبي أحد العلماء الحفاظ، ترجم له ابن عبد الملك ترجمة ضافية في الذيل والتكملة 4: 191 (وانظر التكملة: 879 وتذكرة الحفاظ: 1396) .
(2) انظر البيتين والقصة بين أبي محمد القرطبي والقاضي عياض في برنامج الرعيني: 88 والذيل والتكملة 4: 209 - 210.(2/378)
قال: وتوفّي حميد الزاهد هذا بمصر، قبيل الظهر من يوم الثلاثاء، وصلّي عليه خارج مصر بجامع راشدة بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء المذكور، ودفن بسفح المقطّم بتربة الشيخ الفاضل الزاهد أبي بكر محمد الخزرجي الذي يدق الرصاص، حذاء رجليه، في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ومولده سنة ست وستمائة، انتهى.
171 - ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي (1) من أهل بلنسية وأصله من جيّان، وسكن المريّة ثم مالقة، يكنى أبا يحيى، كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس (2) ، وله تأليف سمّاه المعرب في أخبار محاسن أهل المغرب، جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة، وبها توفّي يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
172 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد التجيبي، يكنى أبا عبد الله، من أهل إشبيلية (3) ، تجول في بلاد الأندلس طالباً للعلم، ثمّ حج، ولقي الحافظ السّلفي وغيره، واستوطن تلمسان، وبها توفّي في جمادى الأولى سنة عشر وستمائة، وله تواليف كثيرة.
173 - ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك، اللّخمي، الباجي (4) ،
__________
(1) ترجمته في المغرب 2: 88 والتكملة رقم: 2112 وشذرات الذهب 4: 250.
(2) في المغرب: وكان بالأندلس يكتب عن المستنصر بن هود.
(3) ترجم له في التكملة: 588، وقال إنه من أهل لقنت عمل مرسية، ولم ينسبه إلى إشبيلية، وذكر عددا كبيرا من مؤلفاته.
(4) ترجمته في التكملة: 637؛ خرج من وطنه عند مقتل ابن أخيه أبي مروان الباجي على يد ابن الأحمر، ونزل في مرسى عكا ومنها إلى دمشق وحج وزار ثم عاد إلى مصر عن طريق عيذاب مارا بقنا وقوص؛ وقد أطنب ابن عبد الملك في خبر رحلته وتنقلاته ووفاته (الذيل والتكملة 5: 687) .(2/379)
من أهل إشبيلية، ولي القضاء بها وأصله من باجة إفريقية، دخل المشرق لأداء الفريضة فحج، وتوفّي بمصر بعدما دخل الشام، في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وستمائة، ومولده عام أربعة وستين وخمسمائة، وكانت رحلته من المغرب أول يوم من المحرم عام أربعة وثلاثين وستمائة.
174 - ومنهم وليد بن بكر بن مخلد بن زياد العمري من أهل سرقسطة، يكنى أبا العباس، له كتاب سمّاه " الوجازة في صحة القول بالإجازة " وله رحلة لقي فيها ألف شيخ ومحدث وفقيه، توفّي بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، يروي عنه أبو ذر الهروي وعبد الغني الحافظ، وكفاه فخراً بهذين الإمامين العظيمين، رحم الله تعالى الجميع.
175 - ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد الرّعيني الرّندي، يكنى أبا محمد، استوطن مالقة، ورحل إلى المشرق، وحج، ولقي جماعة من العلماء، وقفل إلى المغرب أواخر عام واحد وثلاثين وستمائة، وولي الإمامة بالمسجد الجامع بمالقة، وبها توفّي في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ولقب في المشرق برشيد الدين، وولد في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقرية من قرى الأندلس يقال لها يلمالتين كورة(2/380)
بشتغير، ذكر ذلك ابن المستوفي في تاريخ إربل.
176 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن أحمد، الينيني (1) ، من أهل الأندلس، استوطن المشرق ومدح الملك الكامل، ومن شعره رحمه الله تعالى قوله:
لولا تحدّيه بآية سحره ... ما كنت ممتثلاً شريعة أمره
رشأ أصدّقه وكاذب وعده ... يبدي لعاشقه أدلّة عذره
ظهرت نبوّة حسنه في فترةٍ ... من جفنه وضلالةٍ من شعره 177 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي (2) ، رحل حاجّاً فلقي ببجاية عبد الحق الإشبيلي، وبالإسكندرية أبا الطاهر ابن عوف، ولقي غير واحد في رحلته كالفرنوي (3) وان بري (4) وأبي الثناء الحراني وأبي الحسين الحديثي (5) - وللحديثي أحاديث ساوى بها البخاري ومسلماً - ولقي جماعة ممّن شارك السّلفي في شيوخه.
178 - ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير، الكناني صاحب الرحلة (6) ، وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أندلسي،
__________
(1) ق ودوزي: الينيبي؛ وهي غير واضحة الإعجام في ج.
(2) ترجمة الضبي في التكملة: 93، وله كنية ثانية هي أبو العباس، وقد توفي في مرسية عام 599 سقط عليه هدم.
(3) في دوزي: كالعروبي، وفي نسخة: كالغذتوري، وأثبت ما في التكملة.
(4) ج ق ودوزي: وابن بر.
(5) ق ج ودوزي: الحريثي.
(6) انظر ترجمة ابن جبير في التكملة: 598، والذيل والتكملة: 595 وإرشاد الأريب 2: 106 ومسالك الأبصار 8: 311 والمطرب 1: 86 والإحاطة 2: 168 والمغرب 2: 384، وغاية النهاية 2: 60 والنجوم الزاهرة 6: 221 وشذرات الذهب 5: 60؛ وانظر مقدمة الرحلة ففيها نقول عن المقفى ورحلة العبدري وبدائع البدائه؛ وأورد له ابن عبد الملك أشعارا يهاجم فيها الفلسفة في ترجمة أبي الوليد ابن رشد في الجزء السادس.(2/381)
شاطبي، بلنسي، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية، وقيل في مولده غير ذلك، وسمع من أبيه بشاطبة ومن أبي عبد الله الأصيلي وأبي الحسن ابن أبي العيشي، وأخذ عنه القراءات، وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريض والكتابة.
ومن شعره قوله، وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصناً نضيراً من أحد بساتينها فذوى في يده:
لا تغترب عن وطنٍ ... واذكر تصاريف النّوى
أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى وقال رحمه الله تعالى يخاطب الصدر الخجندي (1) :
يا من حواه الدين في عصره ... صدراً يحلّ العلم منه فؤاد
ماذا يرى سيّدنا المرتضى ... في زائرٍ يخطب منه الوداد
لا يبتغي منه سوى أحرفٍ ... يعتدّها أشرف ذخر يفاد
ترسمها أنمله مثل ما ... نمّق زهر الروض كفّ العهاد
في رقعةٍ كالصبح أهدى لها ... يد المعالي مسك ليل المداد
إجازةً يورثنيها العلا ... جائزةً تبقى وتفنى البلاد
يستصحب الشكر خديماً لها ... والشكر للأمجاد أسنى عتاد فأجابه الصدر الخجندي:
لك الله من خاطبٍ خلّتي ... ومن قابسٍ يجتدي سقط زندي
أجزت له ما أجازوه لي ... وما حدّثوه وما صحّ عندي
وكاتب هذي السّطور الّتي ... تراهنّ عبد اللطيف الخجندي
__________
(1) هو عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي أبو القاسم صدر الدين من أهل أصبهان، كان فقيها أديبا واعظا توفي سنة 580 (انظر طبقات السبكي 4: 261) .(2/382)
179 - ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي، وأصله من أندة من بلنسية (1) ، رحل معه فأدّيا الفريضة، وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي، وأجاز لهما أبو محمد ابن أبي عصرون وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما، ودخلا بغداد وتجولا مدّة، ثمّ قفلا جميعاً إلى المغرب، فسمع منهما به بعض ما كان عندهما.
وكان أبو جعفر هذا متحقّقاً بعلم الطب، وله فيه تقييد مفيد، مع المشاركة الكاملة في فنون العلم. وكتب عن السيد أبي سعيد ابن عبد المؤمن، وجدّه لأمّه القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية. وتوفّي أبو جعفر هذا بمرّاكش سنة ثمان، أو تسع وتسعين وخمسمائة، ولم يبلغ الخمسين في سنه، رحمه الله تعالى.
رجع إلى ابن جبير
قال لسان الدين في حقّه: إنّه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب، وله الرحلة المشهورة، واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين ابن أيوب له قصيدتان: إحداهما أولها (2) :
أطلّت على أفقك الزّاهر ... سعودٌ من الفلك الدائر ومنها:
رفعت مغارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشامل الغامر
وأمّنت أكناف تلك البلاد ... فهان السبيل على العابر
وسحب أياديك فيّاضةٌ ... على واردٍ وعلى صادر
فكم لك بالشرق من حامدٍ ... وكم لك بالغرب من شاكر
__________
(1) ترجمته في التكملة: 93 وعنها ينقل المقري إلا خبر الكتابة عن السيد أبي سعيد، وفي الإحاطة والذيل " أبي جعفر ابن حسان ".
(2) انظر القصيدة في الذيل والتكملة: 598 ومقدمة الرحلة: 28.(2/383)
والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز (1) :
وما نال الحجاز بكم صلاحاً ... وقد نالته مصرٌ والشآم ومن شعره:
أخلاّء هذا الزّمان الخؤون ... توالت عليهم حروف العلل
قضيت التعجّب من بابهم ... فصرت أطالع باب البدل وقوله (2) :
غريبٌ تذكّر أوطانه ... فهيّج بالذكر أشجانه
يحلّ عرى صبره بالأسى (3) ... ويعقد بالنجم أجفانه وقال رحمه الله تعالى، لمّا رأى البيت الحرام زاده الله شرفاً:
بدت لي أعلام بيت الهدى ... بمكّة والنور بادٍ عليه
فأحرمت شوقاً له بالهوى ... وأهديت قلبي هديّاً إليه وقوله يخاطب من أهدى إليه موزاً (4) :
يا مهدي الموز تبقى ... وميمه لك فاء
وزايه عن قريب ... لمن يعاديك تاء
__________
(1) الذيل والتكملة: 617 ومطلعها:
صلاح الدين أنت له نظام ... فما يخشى لعروته انفطام والقصيدة تحريض لصلاح الدين كي يزيل التشيع من المدينة. (2) المغرب: 385.
(3) المغرب: يحل جواه عقود العزاء.
(4) الذيل والتكملة: 620.(2/384)
وقال رحمه الله تعالى:
قد ظهرت في عصرنا فرقةٌ ... ظهورها شؤمٌ على العصر
لا تقتدي في الدين إلا بما ... سنّ ابن سينا وأبو نصر وقال:
يا وحشة الإسلام من فرقةٍ ... شاغلةٍ أنفسها بالسّفه
قد نبذت دين الهدى خلفها ... وادّعت الحكمة والفلسفه وقال:
ضلّت بأفعالها الشنيعه ... طائفةٌ عن هدى الشّريعه
ليست ترى فاعلاً حكيماً ... يفعل شيئاً سوى الطبيعه كان انفصاله، رحمه الله تعالى، من غرناطة بقصد الرحلة المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة 578، ووصل الإسكندريّة يوم السبت التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام من السنة، فكانت إقامته على متن البحر من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوماً، ونزل البر الإسكندراني في الحادي والثلاثين، وحجّ، رحمه الله تعالى، وتجوّل في البلاد ودخلا لشام والعراق والجزيرة وغيرها، وكان، رحمه الله تعالى، كما قال ابن الرقيق: من أعلام العلاء العارفين بالله، كتب في أول أمره عن السيد أبي سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة، فاستدعاه لأن يكتب عنه كتاباً وهو على شرابه، فمدّ يده إليه بكأس، فأظهر الانقباض، وقال: يا سيدي ما شربها قط، فقال: والله لتشربنّ منها سبعاً، فلمّا رأى العزيمة شرب سبع أكؤس، فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصبّ ذلك في حجره، فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفرة شربه الحج بتلك الدنانير، ثم رغب إلى السيد، وأعلمه أنّه حلف(2/385)
بأيمان لا خروج له عنها أنّه يحج في تلك السنة، فأسعفه، وباع ملكاً له تزود به، وأنفق تلك الدنانيرفي سبيل البر.
ومن شعره في جارية تركها بغرناطة (1) :
طول اغترابٍ وبرح شوقٍ ... لا صبر والله لي عليه
إليك أشكو الذي ألاقي ... يا خير من يشتكى إليه
ولي بغرناطةٍ حبيبٌ ... قد غلق الرهن في يديه
ودّعته وهو في دلالٍ (2) ... يظهر لي بعض ما لديه
فلو ترى طلّ نرجسيه ... ينهلّ في ورد وجنتيه (3)
أبصرت درّاً على عقيقٍ ... من دمعه فوق صفحتيه (4) وله رحلة مشهورة بأيدي الناس.
ولمّا وصل بغداد تذكر بلده، فقال:
سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... وردّ إلى الأوطان كلّ غريب وقال في رحلته في حق دمشق (5) : جنّة المشرق، ومطلع حسنه المونق المشرق، هي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلّت بأزاهير الرياحين، وتجلّت في حلل سندسيّة من البساتين، وحلّت من موضع (6) الحسن بمكان مكين، وتزينت في منصّتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمّه منها إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين، ظلّ ظليل، وماء
__________
(1) المغرب: 384.
(2) المغرب: بارتماض.
(3) المغرب: صفحتيه.
(4) المغرب: وجنتيه.
(5) الرحلة: 260.
(6) الرحلة: موضوع.(2/386)
سلسبيل، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بنجتلى صقيل، وتناديهم هلمّوا إلى معرّس للحسن ومقيل، قد سئمت أرضها كثرة الما، حتى اشتاقت إلى الظّما، فتكاد تناديك بها الصّمّ الصلاب، " اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب " قد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدّت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكلّ موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين فيها: إن كانت الجنّة في الأرض فدمشق لا شكّ فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها.
قال العلامة ابن جابر الوادي آشي، بعد ذكره وصف ابن جبير لدمشق، ما نصّه: ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد وتوّق الأنفس للتطلّع على صورتها بما أفاد، هذا ولم تكن له بها إقامة، فيعرب عنها بحقيقة علامة، وما وصف ذهبيّات أصيلها وقد حان من الشمس غروب، ولا أزمان فصولها المتنوعات، ولا أوقات سرورها المهنئات، ولقد أنصف من قال: ألفيتها كما تصف الألسن، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، انتهى.
رجع إلى كلام ابن جبير فنقول:
ثمّ ذكر في وصف الجامع (1) أنّه من أشهر جوامع الإسلام حسناً، وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب شأنه أنّه لا تنسج به العنكبوت، ولا تدخله، ولا تلمّ به الطير المعروفة بالخطاف. ثمّ مدّ النّفس في وصفه الجامع وما به من العجائب، ثمّ قال بعد عدة أوراق ما نصه (2) : وعن يمين الخارج من باب
__________
(1) الرحلة: 261.
(2) الرحلة: 270.(2/387)
جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفرٍ، وفتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار، دبرت تدبيراً هندسيّاً، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازيين يمدّان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعةٍ بتدبير عجيب تتخيّله الأوهام سحراً، وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصّفر، لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلّها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبر ذلك كلّه منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمّ الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرّة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتمحرّ الدوائر كلّها، وقد وكّل بها في الغرفة متفقّد لحالها، دربٌ بشأنها وانتقالها، يعيد فتح الأبواب وصرف السنج إلى موضعها، وهي التي تسميها الناس المنجانة، انتهى المقصود منه.
قلت: كل ما ذكر رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير، ومن ذا يروم عدّ محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير، وقد أطنب الناس فيها، وما بقي أكثر ممّا ذكروه، وقد دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة، وأقمت بها إلى أوائل شوّال من السنة، وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهناً، وملك هواها(2/388)
مني فكراً وذهناً، فكأنّها بلدي التي بها ربيت، وقراري الذي لي به أهل وبيت، لأن أهلها عاملوني بما ليس [لي] بشكره يدان، وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من البلدان، ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان، فالله سبحانه وتعالى يعطّر منها بالعافية الأردان.
[أشعار في وصف دمشق]
وقد عنّ لي أن أذكر جملة ممّا قيل فيها من الأمداح الرائقة، وأسرد ما خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة، فأقول:
قال البدر بن حبيب (1) :
يمّم دمشق ومل إلى غربيّها ... والمح محاسن حسن جامع يلبغا
من قال من حسدٍ رأيت نظيره ... بين الجوامع في البلاد فقد لغا وقال رحمه الله:
لله ما أحلى محاسن جلّقٍ ... وجهاتها اللآتي تروق وتعذب
بيزيد ربوتها الفرات وجنكها ... يا صاح كم كنّا نخوض ونلعب وقال في كتاب شنف السامع بوصف الجامع " (2) :
لله ما أجمل وصف جلّقٍ ... وما حوى جامعها المنفرد
__________
(1) من التعريف بالبدر بن حبيب، انظر 1: 68؛ وهو الحسن بن عمر بدر الدين الحلبي المتوفي سنة 779؛ وهذا هو ابنه طاهر بن الحسن بن عمر يعرف أيضا بابن حبيب (توفي سنة 808) وقد ذيل على تاريخ أبيه المسمى " درة الأسلاك "، وهو صاحب كتاب شنف السامع؛ وربما كان الأصوب أن يقال فيه " ابن البدر ".
(2) ينقل عنه البدري صاحب نزهة الأنام في محاسن الشام ويسميه " تشنيف المسامع " (انظر ص: 44) ، واسمه في كشف الظنون كما أورده المقري.(2/389)
قد أطرب الناس بصوت صيته ... وكيف لا يطرب وهو معبد وقال في ذكر باب الجامع المعروف بالزيادة (1) :
يا راغباً في غير جامع جلّقٍ ... هل يستوي الممنوع والممنوح
أقصر عناك وفي غلّوك لا تزد ... إنّ الزيادة بابها مفتوح وقال في منارته المعروفة بالعروس (2) :
معبد الشام يجمع الناس طرّاً ... وإليه شوقاً تميل النفوس
كيف لا يجمع الورى وهو بيتٌ ... فيه تجلى على الدوام العروس ومنه في ذكر بانيه الوليد:
تالله ما كان الوليد عابثاً ... في صرفه المال وبذل جهده
لكنّه أحرز ملك معبدٍ ... لا ينبغي لأحدٍ من بعده ومن أبيات في آخره:
بجامع جلّقٍ ربّ الزعامه ... أقم تلق العناية والكرامه
ويمم نحوه في كلّ وقتٍ ... وصلّ به تصل دار الإقامه
مصلّى فيه للرحمن سرُّ ... ومثوىً للقبول به علامه
محلٌّ كمّل الباري حلاه ... وبيتٌ أبدع الباني نظامه
دمشقٌ لم تزل للشام وجهاً ... ومسجدها لوجه الشام شامه
وبين معابد الآفاق طرّاً ... له أمر الإمارة والإمامه
أدام الله بهجته وأبقى ... محاسنه إلى يوم القيامه
__________
(1) البيتان في نزهة الأنام: 45.
(2) هما في نزهة الأنام: 45.(2/390)
ولم أقف على كل هذا الكتاب المذكور، بل على بعضه فقط.
ومن قصيدة القاضي المهذّب بن الزبير (1) :
بالله يا ريح الشّما ... ل إذا اشتملت الرّند (2) بردا
وحملت من عرف (3) الخزا ... مى ما اغتدى للنّد ندّا
ونسجت ما بين الغصو ... ن إذا عتنقن (4) هوىً وودّا
وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدّاً فقدّا
ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا
فملأت صفحة وجهه ... حتّى اكتسى آساً ووردا
وكأنّما ألقيت في ... هـ منهما صدغاً وخدّا
مرّي على بردى عسا ... هـ يزيد في مسراك بردا
نهرٌ كنصل السيف تك ... سر متنه الأزهار عمدا
صقلته أنفاس النّسي ... م بمرهنّ فليس يصدا ومنها:
أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى
وحياة حبّكم وحر ... مة وصلكم ما خنت عهدا
__________
(1) هو الحسن علي بن إبراهيم بن الزبير، أبو محمد القاضي المهذب (- 561) أحد شعراء الخريدة (وانظر معجم الأدباء 9: 47) ، وبعض أبياته هذه في الخريدة 1: 214 (قسم مصر) . وهي المقتطفات (الورقة: 25) .
(2) الخريدة: الليل؛ ق ودوزي: الروح، وفي الحاشية نقلا عن هامش إحدى النسخ: لعله " الرند "؛ ج: الريح.
(3) الخريدة: نشر.
(4) الخريدة: ونسجت في الأشجار بين غصونهن.(2/391)
وقال الكمال الشّريشي (1) :
يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر
بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذّ للعين لا نومٌ ولا سهر
إذا تذكرت أوقاتاً نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر
كأنّني لم أكن بالنيربين (2) ضحى ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر (3)
والورق تنشد والأغصان راقصةٌ ... والدّوح يطرب بالتصفيق والنهر
والسفح أين عشيّاتي التي ذهبت (4) ... لي فيه فهي لعمري عندي العمر
سقاك بالسفح (5) سفح الدمع منهمراً (6) ... وقلّ ذاك له إن أعوز المطر وحكى ابن سعيد وغيره أن غرناطة تسمى دمشق الأندلس لسكنى أهل دمشق الشام بها عند دخولهم الأندلس، وقد شبهوها بها لمّا رأوها كثيرة المياه والأشجار، وقد أطلّ عليها جبل الثلج، وفي ذلك يقول ابن جبير صاحب الرحلة:
يا دمشق الغرب هاتي ... ك لقد زدت عليها
تحتك الأنهار تجري ... وهي تنصبّ إليها قال ابن سعيد: أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكانٍ مشرف وغوطتها
__________
(1) في هامش طبعة ليدن أن هذه الأبيات في " درة الأسلاك " لابن حبيب مخطوطة ليدن رقم 425 ص: 260، ولم أطلع عليها وإنما أثبت الفروق التي وردت في حاشية الطبعة المذكورة، وهي كذلك في المقتطفات الورقة: 26 ولكمال الدين الشريشي ترجمة موجزة في الفوات 1: 109 والشذرات 6: 47.
(2) في المقتطفات: بالنيرين.
(3) درة الأسلاك: والزهر.
(4) درة السلاك: سلفت.
(5) درة الأسلاك: يا سفح.
(6) دوزي: منهملا.(2/392)
تحتها تجري فيها الأنهار، ودمشق في وهدة تنصبّ إليها الأنهار، وقد قال الله تعالى في وصف الجنّة " تجري من تحتها الأنهار " انتهى.
وقال الشيخ الصفدي في تذكرته: أنشدني المولى الفاضل البارع شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط بقلعة الجبل من الديار المصرية حرسها الله تعالى لنفسه في شعبان المكرم سنة 732 (1) :
قصدت مصراً من ربى جلّقٍ ... بهمّةٍ تجري بتجريبي
فلم أر الطّرّة حتى جرت ... دموع عيني بالمزيريب (2) وأنشدني لنفسه أيضاً:
خلّفت بالشام حبيبي وقد ... يمّمت مصراً لعناً طارق
والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصر على العاشق (3) وأنشدني لنفسه أيضاً:
يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل
لو لم تكونوا لي سعوداً لما ... وافيتكم أضرب في الرمل وذكرته برمّته لحسن مغزاه.
وقال الشيخ مجد الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الظّهير الحنفي الإربلي (4) :
__________
(1) قد مر البيتان وكذلك التعريف بابن الخياط (راجع النفح 1: 96) .
(2) في الأصول: بالمزيريبي، وقد غيرت في طبعة ليدن فجعلت " بالمرازيبي " خلافا لما أثبت به من قبل ج 1 ص: 64 من الطبعة المذكورة، وصححها المعلق في المستدركات إلى " المريزيب " وهو الصواب.
(3) في أمثالنا العامية بفلسطين: " مصر على المشتاق ما هي بعيدة "، وفي البيت تلميح إلى هذا المثل.
(4) محمد بن أحمد بن عمر ابن الظهير الإربلي (677) شاعر من فقهاء الحنفية ولد بإربل وتنقل في البلاد وكانت وفاته بدمشق، وهو صاحب مختصر أمثال الشريف الرضي (انظر الفوات 2: 356 وذكر أن ديوان شعره في مجلدين وأخطأه في سنة وفاته إذ جعلها 697؛ والوافي 2: 123) وقصيدته هذه في الفوات وهي طويلة كثيرا؛ والأبيات الواردة هنا موجودة في المقتطفات الورقة: 26.(2/393)
لعلّ سنا برق الحمى يتألّق ... على النأي أو طيفاً لأسماء يطرق
فلا نارها تبدو لمرتقبٍ ولا ... عود الأمانيّ الكواذب تصدق
لعلّ الرياح تدني لنازحٍ ... من الشام عرفاً كاللطيمة يعبق
ديارٌ قضينا العيش فيها منعّماً ... وأيامنا تحنو علينا وتشفق
سحبنا بها برد الشباب وشربنا ... لدينا كما شئنا لذيذٌ مروّق (1)
مواطن منها السهم سهمي وظلّه ... تخبّ مطايا اللهو فيه وتعنق (2)
كلا (3) جانبيه معلمٌ متجعدٌ ... من الماء في أطلاله يتدفّق
إذا الشمس حلّت متنه فهو مذهبٌ ... وإن حجبتها دوحه فهو أزرق
وإن فرج الأوراق جادت بنورها ... فرقمٌ أجادته الأكفّ منمّق
يطلّ عليه قاسيون كأنّه ... غمامٌ معلّى أن نعامٌ معلّق
تسافر عنه الشمس قبل غروبها ... وترجف إجلالاً له حين تشرق
وتصفرّ من قبل الأصيل كأنّها ... محبٌّ من البين المشتّت مشفق
وفي النّيرب الميمون (4) للّبّ سالبٌ ... من المنظر الزاهي وللطرف مومق (5)
بدائع من صنع القديم ومحدثٌ ... تأنّق فيها المحدث المتأنّق
رياض كموشيّ البرود يشقّها (6) ... جداوله، فالنّور بالماء يشرق
فمن نرجسٍ يخشى فراق فريقه ... ترى الدمع في أجفانه يترقرق
__________
(1) الفوات: مصفى مصفق.
(2) الفوات: فكلنا نخب ... ونعنق.
(3) في ج ق ودوزي: جلا، والتصويب عن الفوات.
(4) الفوات: المرموق.
(5) الفوات: مونق.
(6) في المطبوع: كوشي للبرود؛ وفي الفوات: رياض كوشي البرد تزهو بحسنها.(2/394)
ومن كلّ ريحانٍ مقيمٍ وزائرٍ ... يصافح ريّاه الرياض (1) فتعبق
كأن قدود السّرو فيه موائساً ... قدود عذارى ميلها مترفق
إذا ما تدلّت للشّقائق صدّها ... عيونٌ من النّور المفتّح ترمق
وقصرٌ يكلّ الطرف عنه كأنّه ... إلى النّسر نسرٌ في السّماء معلّق
وكم جدولٍ جارٍ يطارد جدولاً ... وكم جوسقٍ عالٍ يوازيه جوسق
وكم بركةٍ فيها تضاحك بركةً ... وكم قسطلٍ للماء فيه تدفّق (2)
وكم منزلٍ يعشي العيون كأنّما ... تألّق فيها بارقٌ يتألّق
وفي الربوة الفيحاء (3) للقلب جاذبٌ ... وللهمّ مسلاةٌ وللعين مرمق
عروسٌ جلاها الدهر فوق منصّةٍ ... من الدهر والأبصار ترمي وترمق
فهام بها الوادي ففاضت عيونه ... فكلّ قرارٍ منه بالدمع يشرق
تكفّل من دون الجداول شربها ... يزيد يصفّيه لها ويروّق وقال أبو تمام في دمشق (4) :
لولا حدائقها وأنّي لا أرى ... عرشاً هناك ظننتها بلقيسا
وأرى الزّمان غدا عليك بوجهه ... جذلان بسّاماً وكان عبوسا
قد بوركت تلك البطون وقد سمت ... تلك الظهور وقدّست تقديسا وقال البحتري (5) :
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا
__________
(1) الفوات: تضاعف رياه الرياح.
(2) الفوات: للماء في الماء يدفق.
(3) الفوات: الشماء.
(4) ديوان أبي تمام 2: 264.
(5) ديوان البحتري 2: 710 والأبيات أيضا في تاريخ ددمشق 2: 171 ومعجم البلدان مادة " دمشق " والأعلاق الخطيرة (دمشق: 235) .(2/395)
إذا أردت ملأت العين من بلدٍ ... مستحسنٍ وزمانٍ يشبه البلدا
تمشي السّحاب على أجبالها فرقاً ... ويصبح النّور في صحرائها بددا
فلست تبصر إلاّ واكفاً خضلاً ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا
كأنّما القيظ ولّى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا وفي دمشق يقول بعضهم:
برزت دمشق لزائري أوطانها ... من كلّ ناحيةٍ بوجهٍ أزهر
لو أن إنساناً تعمّد أن يرى ... مغنىً خلا من نزهةٍ لم يقدر وقال القيراطي في قصيدته التي أولها (1) :
للصّبّ بعدك حالة لا تعجب ...
لله ليلٌ كالنّهار قطعته ... بالوصل لا أخشى به ما يرهب
وركبت منه إلى التصابي أدهماً ... من قبل أن يبدو لصبح أشهب
أيام لا ماء الخدود يشوبه ... كدر العذار ولا عذاري أشيب
كم في مجال اللهو لي من جولةٍ ... أضحت ترقّص بالسماع وتطرب
وأقمت للندماء سوق خلاعةٍ ... تجبى المجون إليّ فيه وتجلب
وذكرت في مغنى دمشقٍ معشراً ... أمّ الزمان بمثلهم لا تنجب
لا يسأل القصّاد عن ناديهم ... لكن يدلّهم الثناء الطّيب
قومٌ بحسن صفاتهم وفعالهم ... قد جاء يعتذر الزمان المذنب
__________
(1) هو إبراهيم بن عبد الله الطائي برهان الدين القيراطي (781) ، شاعر قاهري جمع بين الفقه والأدب وتوفي بمكة، وله ديوان مطبوع سماه " مطلع النيرين " وأبياته في المقتطفات (الورقة: 27) وبعض أبياته في نزهة الأنام: 50 وحلبة الكميت: 277 (وترجمته في الدرر الكامنة 1: 31 وشذرات الذهب 6: 296) .(2/396)
يا من لحرّان الفؤاد وطرفه ... بدمشق أدمعه غدت تتحلب
أشتاق في وادي دمشق معهداً ... كلّ الجمال إلى حماه ينسب
ما فيه إلا روضةٌ أو جوسقٌ ... أو جدولٌ أو بلبلٌ أو ربرب
وكأنّ ذاك النهر فيه معصمٌ ... بيد النسيم منقّشٌ ومكتّب
وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضه يتشعّب
وشدت على العيدان ورقٌ أطربت ... بغنائها من غاب عنه المطرب
فالورق تنشد والنسيم مشبّبٌ ... والنهر يسقي والحدائق تشرب
وضياعها ضاع النسيم بها فكم ... أضحى له من بين روضٍ مطلب
وحلت بقلبي من عساكر جنّةٍ ... فيها لأرباب الخلاعة ملعب
ولكم رقصت على السماع بجنكها ... وغدا بربوتها اللسان يشبّب
فمتى أزور معالماً أبوابها ... بسماحها كتب السّماح تبوّب وقال الصّفي الحلّي عند نزوله بدمشق مسمطاً لقصيدة السموأل بالحماسة (1) :
قبيحٌ بمن ضاقت عن الرّزق أرضه ... وطول الفلا رحبٌ لديه وعرضه ... ولم يبل سربال الدجى فيه ركضه ...
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكلّ رداء يرتديه جميل إذا المرء لم يحجب عن العين نومها ... ويغل من النفس النفيسة سومها ... أضيع ولم تأمن معاليه لمها ...
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثّناء سبيل
__________
(1) ديوان الصفي: 36، والمخمسة أيضاً في المقتطفات (الورقة: 24) .(2/397)
رفعنا على هام السّماك محلّنا ... فلا ملكٌ إلاّ تغشّاه ظلّنا ... لقد هاب جيش الأكثرين أقلّنا ...
ولا قلّ من كانت بقاياه مثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهولُ يوازي الجبال الراسيات وقارنا ... وتبنى على هام المجرّة دارنا ... ويأمن من صرف الزّمان جوارنا ...
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل ولمّا حللنا الشام تمّت أموره ... لنا وحبانا ملكه ووزيره ... وبالنّيرب الأعلى الذي عزّ طوره ...
لنا جبلٌ يحتل من نجيره ... منيعٌ يردّ الطرف وهو كليل يريك الثريا من خلال شعابه ... وتحدق شهب الأفق حول هضابه ... ويقصر خطو السّحب دون ارتكابه ...
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا ينال طويل وقصرٍ على الشقراء قد فاض نهره ... وفاق على فخر الكواكب فخره ... وقد شاع ما بين البريّة شكره ...
هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعزّ على من رامه ويطول(2/398)
إذا ما غضبنا في رضا المجد غضبةً ... لندرك ثأراً أو لنبلغ رتبةً ... نزيد غدة الكرّ في الموت رغبةً ...
وإنا لقومٌ لا نرى الموت سبّةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول وكتب الشيخ محب الدين الحموي في ترجمة الشيخ (1) إسماعيل النابلسي شيخ الإسلام من مصر (2) :
لواء التّهاني بالمسرّة يخفق ... وشمس المعالي في سما الفضل تشرق
وسعدٌ وإقبالٌ ومجدٌ مخيّمٌ ... وأيّام عزّ بالوفا تتخلّق
فيا أيّها المولى الذي جلّ قدره ... ويا أيّها الحبر اللبيب المدقّق
أرى الشام مذ فارقتها زال نورها ... وثوب بهاها والنّضارة يخلق
إذا غاب عنها غب عنها جمالها ... ونفسٌ بدون الروح لا تتحقّق
وإن عدت فيها عاد كمالها ... وصار عليها من بهائك رونق
فيا ساكني وادي دمشق مزاركم ... بعيدٌ وباب الوصل دوني مغلّق
وليس على هذا النوى لي طاقةٌ ... فهل من قيود البين والبعد أطلق
وإني إلى أخباركم متشوّفٌ ... وإني إلى لقياكم متشوّق
أودّ إذا هبّ النسيم لنحوكم ... بأنّي في أذياله أتعلّق
وأصبو لذكراكم إذا هبّت الصّبا ... لعلّي من أخباركم أتنشق
__________
(1) ق: ترجمة للشيخ، وسقطت " في " من ق ج.
(2) هو إسماعيل بن أحمد ابن الحاج إبراهيم النابلسي (937 - 993) شيخ الإسلام، وصاحب الفتاوي وصدر دمشق في عصره (انظر ترجمته في الكواكب السائرة 3: 130) . وأما محب الدين الحموي فهو محمد بن تقي الدين أبي بكر ابن داود بن عبد الرحمن بن عبد الخالق المحبي (951 - 1061) ، وهو صاحب تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات المعروف بشواهد الكشاف وغيره من المؤلفات (خلاصة الأثر 3: 322) .(2/399)
ولي أنّةٌ أودت بجسمي ولوعةٌ ... ونار جوىً من حرّها أتفلّق
فحنّوا على المضنى الذي ثوب صبره ... إذا مسّه ذيل الهوى يتمزّق
غريبٌ بأقصى مصر أضحت دياره ... ولكنّ قلبي بالشآم معلّق
وقد نسخ التبريح جسمي فهل إلى ... غبار ثرى أعتاب وصلٍ يحقّق
فيا ليت شعري هل أفوز بروضةٍ ... وفيها عيون النرجس الغضّ تحدّق
وأنظر واديها وآوي لربوةٍ ... وماءٍ معينٍ حولها يتدفّق
ويحلو لي العيش الذي مرّ صفوه ... وهل عائدٌ ذاك النعيم المروّق
وأنظر ذاك الجامع الفرد مرّةً ... وفي صحنه تلك الحلاوة تشرق
وأصحابنا فيه نجومٌ زواهرٌ ... ونور محيّا وجههم يتألّق
فلا برحوا في نعمةٍ وسعادةٍ ... وعزّ ومجدٍ شأوه ليس يلحق وقال ابن عنين (1) :
ماذا على طيف الأحبّة لو سرى ... وعليهم لو ساعدوني (2) بالكرى
جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أنّ ذلك مفترى
يا معرضاً عنّي بغير جنايةٍ ... إلا لما نقل العذول (3) وزوّرا
هبني أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبّيك شيئاً منكرا
ما بعد بعدك والصدود عقوبةٌ ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا
لا تجمعنّ عليّ عتبك والنّوى ... حسب المحبّ عقوبةً أن يهجرا
عبء الصدود أخفّ من عبء النّوى ... لو كان لي في الحبّ أن أتخيّرا
فسقى دمشق ووادييها والحمى ... متواصل الأرهام (4) منفصم العرى
__________
(1) ديوان ابن عنين: 3 وهي في مدح الملك العادل بن أيوب.
(2) الديوان: سامحوني.
(3) الديوان: رقش الحسود.
(4) الديوان: الأرعاد.(2/400)
حتى ترى وجه الرياض بعارضٍ ... أحوى وفود الدّوح أزهر نيّرا
تلك المنازل لا ملاعب عالجٍ ... ورمال كاظمةٍ ولا وادي القرى
أرضٌ إذا مرّت بها ريح الصّبا ... حملت على الأغصان مسكاً أذفرا
فارقتها لا عن رضاً وهجرتها ... لا عن قلىً ورحلت لا متخيّرا
أسعى لرزقٍ في البلاد مشتّتٍ ... ومن العجائب (1) أن يكون مقتّرا [تعريف بابن عنين]
وابن عنين المذكور كان هجّاء، وهو صاحب مقراض الأعراض تجاوز الله تعالى عنه، فمن ذلك قوله (2) :
أرح من نزح ماء البئر يوماً ... فقد أفضى إلى تعبٍ وعيّ
مر القاضي بوضع يديه فيه ... وقد أضحى كرأس الدّولعيّ يعني أقرع؛ وسبب قوله البيتين أن المعظّم أمر بنزح ماء بقلعة دمشق، فأعياهم ذلك.
ومن هجوه قوله (3) :
شكا شعري إليّ وقال تهجو ... بمثلي عرض ذا الكلب اللئيم
فقلت له تسلّ فربّ نجمٍ ... هوى في إثر شيطانٍ رجيم وقال فيمن خرج حاجّاً فسقط عن الهجين فتخلف:
إذا ما ذمّ فعل النّوق يوماً ... فإنّي شاكرٌ فعل النياق
__________
(1) الديوان: مفرق، ومن البلية.
(2) ديوانه: 235.
(3) وردت هذه المقطعات في ديوانه: 188، 227، 215، 235، 179، 69.(2/401)
أراد الله بالحجّاج خيراً ... فثبّط عنهم أهل النفاق وقال:
وراحلٍ سرت في ركبٍ أودعه ... تبارك الله ما أحلى تلاجينا (1)
جئنا إلى بابه لاجين نسأله ... فليتنا عاقنا موتٌ ولا جينا
راجين نسأل ميتاً لا حراك به ... مثل النصارى إلى الأصنام لاجينا وقال:
وصلت منك رقعةٌ أسأمتني ... صيّرت صبري الجميل قليلا
كنهار المصيف حرّاً وكرباً ... وكليل الشتاء برداً وطولا وأول " مقراض الأعراض " قوله:
أضالعٌ تنطوي على كرب ... ومقلةٌ مستهلّة الغرب
شوقاً إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السّحب
مواطنٌ ما دعا توطّنها ... إلا ولبّى نداءها لبّي ثمّ ذكر من الهجو ما تصمّ عنه الآذان.
وهو القائل في دمشق:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... وظلّك يا مقرى عليّ ظليل
وهل أرينّي بعدما شطّت النوى ... ولي في ذرا روضٍ هناك مقيل ومنها:
دمشق بنا شوقٌ إليك مبرّحٌ ... وإن لجّ واشٍ أو ألحّ عذول
__________
(1) الديوان: ما أشقى المساكينا.(2/402)
بلادٌ بها الحصباء درٌّ، وتربها ... عبيرٌ، وأنفاس الشّمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلقٌ ... وصحّ نسيم الروض وهو عليل وقد تقدم التمثيل بهذه الأبيات الثلاثة في خطبة هذا الكتاب.
ومن هذه القصيدة:
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأيّ ظهير الدين فيّ جميل
من القوم أمّا أحنفٌ فمسفّهٌ ... لديهم، وأمّا حاتمٌ فبخيل
فتى المجد أما جاره فممنّعٌ ... عزيزٌ، وأمّا ضدّه فذليل
وأمّا عطايا كفّه فمباحةٌ ... حلالٌ (1) ، وأمّا ظلّه فظليل وظهير الدين الممدوح هو طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين، وكان ملك اليمن، وأحسن إلى ابن عنين إحساناً كثيراً وافراً، وخرج ابن عنين من اليمن بمال جم، وطغتكين: بضم الطاء المهملة، وبعدها غين معجمة، ثم تاء مثناة من فوقها مكسورة، ثم كاف مكسورة أيضاً، ثم ياء تحتية، ثم نون، وكان يلقب بالملك العزيز، ولذلك قال ابن عنين لما رجع من عنده إلى مصر أيام العزيز عثمان بن صلاح الدين فألزم أرباب الديوان ابن عنين بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته (2) :
ما كلّ من يتسمّى بالعزيز له ... أهلٌ وما كلّ برقٍ سحبه غدقه
بين العزيزين بونٌ في فعالهما ... هذاك يعطي وهذا يأخذ الصّدقه ومن هجو ابن عنين قوله في فقيهين يلقّب أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس (3) :
__________
(1) الديوان: فسوابع عذاب.
(2) ديوانه: 223.
(3) ديوانه: 205.(2/403)
البغل والجاموس في حاليهما ... قد أصبحا مثلاً لكلّ مناظر
قعدا (1) عشيّة يومنا فتناظرا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر
ما أحكما غير الصياح كأنّما ... لقنا جدال المرتضى بن عساكر
جلفان ما لهما شبيهٌ ثالثٌ ... إلا رقاعة مذلويه الشاعر
لفظٌ طويلٌ تحت معنىً قاصرٍ ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر رجع إلى دمشق:
وقال العز الموصلي:
إليك حياض حمّامات مصرٍ ... ولا تتكثّري عندي بمين
حياض الشام أحلى منك ماء ... وأطهر وهي دون القلّتين وهذان البيتان جوابٌ منه عن قول ابن نباتة (2) :
أحواض (3) حمّام الشآ ... م ألا اسمعي لي كلمتين
لا تذكري أحواض مص ... ر فأنت دون القلّتين وأمّا قول النّواجي سامحه الله تعالى:
مصر قالت: يا دمشق لا ... تفتخر قطّ باسمها
لو رأت قوس روضتي ... منه راحت بسهمها فهو من باب تفضيل الوطن من حبه، ومنه قول الوداعي:
روّ بمصرٍ وبسكّانها ... شوقي وجدّد عهدي الخالي
__________
(1) الديوان: برزا.
(2) ديوان ابن نباتة: 537، ومطالع البدور 2: 12.
(3) الديوان: أجران.(2/404)
وازور لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسّال
فهو مرادي لا " يزيدٌ " ولا ... ثور وإن رقّا ورقّا لي ومن ذلك النمط قول الشهاب الحجازي:
قالوا دمشقٌ قد زهت لزهرها ... فامض وشاهد جوزها لوزها
فقلت لا أبدل بلدتي بها ... ولست أرضى زهرها ولو زها (1) وقول الآخر:
قد قال وادي جلّقٍ للنيل إذ ... كسروه أعين جبهتي لك ترفع
فأجاب بحر النيل لمّا أن طغى ... عندي مقابل كلّ عينٍ إصبع وقد تذكرت هنا قول بعضهم:
ماذا يفيد المعنّى ... من الأذى المتتابع
بمصر ذات الأيادي ... ونيلها ذي الأصابع وقد شاع الخلاف قديماً وحديثاً في المفاضلة بين مصر والشام، وقد قال بعضهم:
في حلبٍ وشامنا ... ومصر طال اللّغط
فقلت قول منصفٍ ... خر الأمور الوسط
__________
(1) زاد في التجارية بعد هذا البيت: وقول الخفاجي قاضي مصر، وإن لم يكن في دمشق لكن في السياق في النظم:
قد فتن العاشقين حين بدا ... بطلعة كالهلال أبرزها
طر له شارب على شفة ... كالورد في الآس حين طرزها وهذا ساقط من ق ج ودوزي.(2/405)
[شعر في ذم دمشق]
وأمّا قول بعضهم:
تجنّب دمشق ولا تأتها ... وإن راقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها قائمٌ ... وفجر الفجور بها طالع فلا يلتفت إليه، ولا يعوّل عليه، إذ هو مجرّد دعوى خالية عن الدليل، وهي من نزعات بعض الهجائين الذين يعمدون إلى تقبيح الحسن الجميل [الجليل] :
وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ... ولا يقابل ألف مثنٍ عدل بفاسق يقدح:
وفي تعبٍ من يحسد الشمس نورها ... ويأمل أن يأتي لها بضريب وأخفّ من هذا قول بعض الأندلسيين، وهو الكاتب أبو بكر محمد بن قاسم:
دمشقٌ جنّة الدّنيا حقيقاً ... ولكن ليس تصلح للغريب
بها قومٌ لهم عددٌ ومجدٌ ... وصحبتهم تؤول إلى الحروب
ترى أنهارهم ذات ابتسامٍ ... وأوجههم تولّع بالقطوب
أقمت بدارهم ستّين يوماً ... فلم أظفر بها بفتىً أديب والجواب واحد، ولا يضر الحقّ الثابت إنكار الجاحد، وأخفّ من الجميع قول العارف بالله تعالى سيّدي عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه:
جلّقٌ جنّة من تاه وباهى ... ورباها أربي لولا وباها
قال غالٍ: بردى كوثرها ... قلت: غالٍ برداها برداها(2/406)
وطني مصر وفيها وطري ... ولنفسي مشتهاها مشتهاها
ولعيني غيرها إن سكنت ... يا خليليّ سلاها ما سلاها وأخفّ منه قول ابن عبد الظاهر:
لا تلوموا دمشق إن جئتموها ... فهي قد أوضحت لكم ما لديها
إنّها في الوجوه تضحك بالزّه ... ر لمن جاء في الربيع إليها
وتراها بالثلج تبصق في لح ... ية من مرّ في الشتاء عليها وقول ابن نباتة وهو بالشام يتشوّق إلى المقياس والنيل (1) :
أرقٌ له بالشام نيل مدامعٍ ... يجريه ذكر منازل المقياس
سقياً لمصر منازلاً معمورةً ... بنجوم أفقٍ أو ظباء كناس
وطني سهرت له وشابت لمّتي ... ونعم على عيني هواه وراسي
من لي به والحال ليس بآيسٍ ... كدرس وعطف الدهر ليس بقاسي
والطرف يستجلي غزالاً آنساً ... بالنيل لم يعتد على باناس رجع إلى مدح دمشق:
وقال الناصر داود بن المعظم عيسى (2) :
إذا عاينت عيناي أعلام جلّقٍ ... وبان من القصر المشيد قبابه
تيقّنت أنّ البين قد بان والنوى ... نأى شخصه والعيش عاد شبابه
__________
(1) ديوان ابن نباتة: 264 - 265.
(2) هو صاحب الكرك (603 - 656) ، تغلب على الشام بعد موت عمه الكامل محمد، ووقعت له أحداث كثيرة منثورة في كتب التاريخ كالنجوم الزاهرة ومرآة الزمان وغيرهما؛ (انظر ترجمته في الفوات 1: 382 والنجوم 7: 61 والشذرات 5: 275) وله قطعة صالحة من شعر ونثر في المقتطفات (الورقة: 62 وما بعدها) ؛ وهذان البيتان في النجوم والفوات والمقتطفات.(2/407)
وقوله أيضاً رحمه الله تعالى:
يا راكباً من أعالي الشّام يجذبه ... إلى العراقين إدلاجٌ وإسحار
حدّثتني عن ربوعٍ طالما قضيت ... للنفس فيها لباناتٌ وأوطار
لدى رياضٍ سقاها المزن ديمته ... وزانها زهرٌ غضٌّ ونوّار
شحّ الندى أن يسقّيها مجاجته ... فجادها مفعم الشؤبوب مدرار
بكت عليها الغوادي وهي ضاحكةٌ ... وراحت الريح فيها وهي معطار
يا حسنها حين زانتها جواسقها ... وأينعت في أعالي الدوح أثمار
فهي السماء اخضراراً في جوانبها ... كواكبٌ زهرٌ تبدو وأقمار
حدّثتني وأنا الظامي إلى نبإٍ ... لا فضّ فوك فمنّي الريّ تمتار
فهو الزلال الذي طابت مشاربه ... وفارقته عثاءاتٌ وأكدار
كرّر على نازحٍ شطّ المزار به ... حديثك العذب لا شطّت بك الدار
وعلّل النفس عنهم بالحديث بهم ... إنّ الحديث عن الأحباب أسمار وهذا الملك الناصر له ترجمة كبيرة، وهو ممّن أدركته الحرفة الأدبية، ومنع حقّه بالحمية والعصبية، وأنكرت حقوقه، وأظهر عقوقه، حتى قضى نحبه، ولقي ربّه.
وقال سيف الدين المشد رحمه الله تعالى (1) :
بشرى لأهل الهوى عاشوا به سعدا ... وإن يموتوا فهم من جملة الشهدا
__________
(1) هو علي بن عمر بن قزل بن جلدك التركماني (602 - 656) وهو نسيب جمال الدين بن يغمور الذي اتصل به ابن سعيد؛ وكان يتولى شد الدواوين (أي كان رفيقاً للوزير متحدثاً في استخلاص الأموال وما في معنى ذلك) وكان ظريفاً طيب العشرة (انظر ترجمته في الفوات 2: 182 والنجوم الزاهرة 7: 64) .(2/408)
شعارهم رقّة الشكوى ومذهبهم ... أنّ الضلالة فيهم في الغرام هدى
عيونهم في ظلام الليل ساهرةٌ ... عبرى وأنفاسهم تحت الدّجى صعدا
تجرّعوا كأس خمر الحبّ مترعةً ... ظلّوا سكارى وظنّوا غيّهم رشدا
وعاسل القدّ معسولٍ مقبّله ... كالغصن لما انثنى والبدر حين بدا
رقيم عارضه كهفٌ لعاشقه ... يأوي إليه فكم في حبّه شهدا
نادمته وثغور البرق باسمةٌ ... والغيث ينزل منحلاًّ ومنعقدا
كأنّ جلّق حيّا الله ساكنها ... أهدت إلى الغور من أزهارها مددا
فاسترسل الجود منهلاًّ " يزيد " على ... ثورا ويعقد محلول الندى بردا وقال أيضاً:
فؤادي إلى بانات جلّق مائل ... ودمعي على أنهارها يتحدّر
يرنّحني لوز ابن كلاّب مزهراً ... وتهتزّني أغصانه وهو مثمر
وإنّي إلى زهر السفرجل شيّقٌ ... إذا ما بدا مثل الدراهم ينثر
غياضٌ يفيض الماء في عرصاتها ... فتزهو جمالاً عند ذاك وتزهر
ترى بردى فيها يجول كأنّه ... وحصباءه سيفٌ صقيلٌ مجوهر
وبي أحورٌ لاح العذار بخدّه ... يسامح قلبي في هواه ويعذر
يحاورني فيه على الصبر صاحبي ... وكيف أطيق الصبر والطرف أحور
إذا اشتقت وادي النيربين لمحته ... فانظر معناه به وهو أنضر
حوى الشرف الأعلى من الحسن خدّه ... على أنّ ميدان العوارض أخضر وما أحسن قوله رحمه الله تعالى:
وادٍ به أهل الحبيب نزول ... حيّا معاهده الحيا والنّيل
وادٍ يفوح المسك من جنباته ... ويصحّ فيه للنسيم عليل
يشتاقه ويودٌ لثم ترابه ... شوقاً ولكن ما إليه سبيل(2/409)
متقلقل الأحشاء ملوب الكرى ... طلق الدموع فؤاده متبول
يصبوا إلى الأثلات من وادي الغضى ... وحينّ إن خطرت هناك شمول
قالوا تبدّل، قلت يا أهل الهوى ... والنّاس فيهم عاذرٌ وجهول
هل بعد قطع الأربعين مسافةٌ ... للعمر فيها يحسن التبديل
ولقد هفا بي في دمشق مهفهفٌ ... يسبي العقول رضابه المعسول
يهتزّ إن مرّ النّسيم بقدّه ... ويميل بي نحو الصّبا فأميل
أبدى لنا برداً تبسّم ثغره ... وإذا انثنى فقوامه المجدول
لزم التسلسل مدمعي وعذاره ... فانظر إلى المهجات كيف تسيل
وسقمت من سقم الجفون لأنّها ... هي علّةٌ وفؤادي المعلول
لا تعجبوا إن راعني بذوائبٍ ... فالليل هولٌ والمحبّ ذليل
ما صحّ لي أنّ الذؤابة حيّةٌ ... حتى سعت في الأرض وهي تجول وقال ناظر الجيش عون الدين بن العجمي (1) :
يا سائقاً يقطع البيداء معتسفاً ... بضامرٍ لم يكن في سيره واني
إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن ديرمرّان
واقصد أعالي قلاليه فإنّ بها ... ما تشتهي النفس من حورٍ وولدان
من كلّ بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فواخجل (2) المرّان والبان
وكلّ أسمر قد دان الجمال له ... وكمّل الحسن في فرط إحسان
ورب صدغٍ بدا في خدّ مرسله ... في فترةٍ فتنت من سحر أجفان
__________
(1) هو سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن عون الدين بن العجمي الكاتب (606 - 656) . خدم الملك الناصر داود، وكان كامل الرئاسة لطيف الشمائل (انظر ترجمته في الفوات 1: 358 ومعجم الألقاب 2/4: 977 وله ترجمة في الوافي والمنهل الصافي) .
(2) الفوات: فيما خجلة.(2/410)
فليت ريقته وردي ووجنته ... وردي ومن صدغه آسي وريحاني
وعج على دير متّى ثمّ حيّ به ال ... ربّان بطرس فالربّان ربّاني
فهمت منه إشاراتٍ فهمت بها ... وصنت منشورها في طيّ كتمان
واعبر بدير حنينا وانتهز فرص ال ... لذّات ما بين قسيسٍ ومطران
واستجل راحاً بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميسٍ ورهبان
حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كلّ شيطان
كم رحت في الليل أسقيها وأشربها ... حتى انقضت ونديمي غير ندمان
سألت توماس عمّن كان عاصرها ... أجاب رمزاً ولم يسمح بتبيان
وقال: أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران
بأنّها سفرت بالطّور مشرقةً ... أنوارها فكنوا عنها بنيران
وهي المدام التي كان معتّقةً ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان
وهي التي عبدتها فارسٌ فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني
سكرت منها فلا صحوٌ وجدت بها ... على الندامى وليس الشحّ من شاني
وسوف أمنحها أهلاً وأنشده ... ما قيل فيها بترجيعٍ وألحان
حتى تميل لها أعطافه طرباً ... وينثني الكون من أوصاف نشوان وهذه وإن لم تكن في دمشق على الخصوص فلا تخرج عمّا نحن بصدده، والأعمال بالنيات، وديباجة هذه القصيدة على نسج طائفة من الصوفية، وممن حاك هذه البرود الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى، قيل: إنّه الشيخ شعبان النحوي.
وقال بعضهم:
شوقي يزيد وقلب الصّب ما بردا ... وبان يأسي من المعشوق حين غدا(2/411)
ومدمعي قنواتٌ، والعذول حكى ... ثورا، يلوم الفتى في عشقه حسدا
على مغنّية بالجنك جاوبها ... شبّابةٌ كم بها من عاشقٍ سهدا
فالبدر جبهتها، والردف ربوتها، ... وخلّها مات في خلخالها كمدا ولنذكر نبذة مما خوطبت به من علماء الشام وأدبائه حفظ الله تعالى كمالهم، وبلغ آمالهم.
فمن ذلك قول شيخ الإسلام، مفتي الإنام، سيدي الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي (1) حفظه الله تعالى، وكتبه لي بخطّه:
شمس الهدى (2) أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب
فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب (3)
أعني الإمام العالم المقّري ... أحمد يكتب أن يخطب
شهاب علمٍ وثاقبٌ فضله ... ينظم عقداً وهو لا يثقب
فرع علومٍ بالهدى مثمرٌ ... وروض فضلٍ بالندى معشب
قد ارتدى ثوب علا وامتطى ... غارب مجدٍ فزها المركب
درسٌ غريبٌ كلّ يومٍ له ... يملى ولكن حفظه أغرب
محاضراتٌ مسكرٌ لفظها (4) ... بكأس سمعٍ راحها تشرب
رياض آدابٍ سقاها الحيا ... ففاح مسكاً نشرها الأطيب
فضائلٌ عمّت وطمّت فقد ... قصّر فيها كلّ من يطنب
قلوبنا قد جذبت نحوه ... والحبّ من عادته يجذب
إن بعدت عن غربه شرقنا ... فالفضل فينا نسبٌ أقرب
__________
(1) قد مر التعريف بعبد الرحمن العمادي، انظر 1: 62.
(2) ج: شمس هدى.
(3) سقط البيت من ج.
(4) ج: نطقها.(2/412)
كم طلبت تشريفه (1) شامنا ... بشرى لها فليهنها المطلب
قد سبقت لي معه صحبةٌ ... في حرمٍ يؤمن من يرهب
أخوّةٌ في الله من زمزمٍ ... رضاعها طاب لها المشرب
أنهلني ثمّ وداداً فلي ... بالشام منه عللٌ أعذب
أهديت ذا النظم امتثالاً له ... وقد هجرت الشعر مذ أحقب
نشّط قلبي لطفه فانثنى ... والقلب في أهل الهوى قلّب
ضاء دجى العلم به للورى ... ما نار في جنح الدجى كوكب تحيّة الفقير الداعي، عبد الرحمن العمادي، انتهى.
فأجبته بما نصّه:
ما تبر راحً كأسها مذهب ... ما للنّهى عن حسنها مذهب
تستدفع الأكدار من صفوها ... وتنهل الأفراح أو تنهب
تسعى بها هيفاء من ثغرها ... أو شعرها النّور أو الغيهب
فتّانة الأعطاف نفّاثةٌ ... سحراً بألباب الورى يلعب
في روضةٍ قد كلّلت بالنّدى ... والزهر رأس الغصن إذ يعصب
برودها بالنّور قد نمنمت ... كالوشي من صنعاء بل أعجب
والماء يجري تحت جنّانها ... والنّار من نارنجها تلهب
والظّلّ ضافٍ والنّسيم انبرى ... والجوّ ذاكي العرف مستعذب
والطير للعشّاق بالعود قد ... غنّت فهاجت شوق من يطرب
أبهى ولا أبهج في منظرٍ ... من نظم من تقديمه الأصوب
مفتي دمشق الشام صدر الورى ... من في العلا تمّ به المطلب
علاّمة الدهر ولا مريةٌ ... ملجأ الفضل ولا مهرب
__________
(1) ج: تشريقه.(2/413)
لله ما امتاز به من حلىً ... بغير منّ الله لا تكسب
أبدى بها الرحمن في عبده ... مظاهر المنح التي تحسب
جودٌ بلا منٍّ وعلمٌ بلا ... دعوى به التحقيق يستجلب
وبيت مجدٍ مسندٌ ركنه ... إلى عمادٍ الدين إذ ينسب
فبرقه الشاميّ من شامه ... نال مراماً والسّوى خلّب
وما عسى أبديه في مدحه ... أو وصف أبناء له أنجبوا
تسابقوا للمجد حتى حووا ... سبقاً لما في مثله يرغب
أعيذهم بالله من شرّ ما ... يخشى من الأغيار أو يرهب
وأسأل الله لهم عزّةً ... بادية الأضواء لا تحجب ولمّا حللت دمشق المحروسة، وطلبت موضعاً للسكنى يكون قريباً من الجامع الأموي الذي يعجز البليغ وصفه وإن ملأ طروسه، أرسل إلي أديب الشام فرد الموالي المدرسين ساحب أذيال الفخار (1) المولى أحمد الشاهيني (2) حفظه الله تعالى بمفتاح المدرسة الجقمقية، وكتب لي معه ما نصّه (3) :
كنف المقّريّ شيخي (4) مقرّي ... وإليه من الزمان مفرّي
كنفٌ مثل صدره في اتّساعٍ ... وعلومٍ كالدّرّ (5) في ضمن بحر
أيّ بدرٍ قد أطلع الغرب منه ... ملأ الشرق نوره أيّ بدر
أحمدٌ سيدي وشيخي وذخري ... وسميّي وفوق ذاك وفخري (6)
__________
(1) ج: الفخر.
(2) قد مر التعريف بأحمد الشاهيني، انظر 1: 64.
(3) الأبيات في خلاصة الأثر 1: 304.
(4) ج ق: شيخ مقري.
(5) خلاصة الأثر: كالبحر.
(6) خلاصة الأثر: وسميي وذاك أشرف فخري.(2/414)
لو بغير الأقدام يسعى مشوقٌ ... جئته زائراً على وجه شكري العبد الحقير السمتعين، المخلص أحمد بن شاهين، انتهى.
فأجبته بقولي (1) :
أيّ نظمٍ في حسنه حار فكري ... وتحلّى بدرّه صدر ذكري
طائر الصّيت لابن شاهين ينمى ... من بروض الندى له خير وكر
أحمد الممتطين ذروة مجدٍ ... لعوانٍ من المعالي وبكر
حلّ مفتاح فضله باب وصلٍ ... من معان تعريفه دون نكر
يا بديع الزمان دم في ازديانٍ ... بالعلا وازدياد تجنيس شكر وكتب إليّ لما وقف علىكتابي فتح المتعال في مدح النعال بما نصّه: لكاتبه الحقير أحمد بن شاهين الشامي في تقريظ تأليف سيّدي ومولاي وقبلتي ومعتقدي شيخ الدّنيا والدين، وبركة الإسلام والمسلمين، حفظ الله تعالى وجوده آمين:
أأحمد، فخراً يا ابن شاهين سامياً ... بأحمد ذاك المقّري المسدّد
بمن راح خدّاماً لنعل محمدٍ ... وناهيك في العليا بأرفع سؤدد
فإن أنا أخدم نعله فلطالما ... غدا خادماً نعل النبيّ الممجّد
بتأليفه في وصف نعلٍ تكرّمت ... كتاباً حوى إجلال كلّ موحّد
ويكفيك فخراً يا ابن شاهين أن ترى ... خدوماً لخدّامٍ لنعل محمّد
فقلت له طوبى بخدمة أحمدٍ ... فقال كذا طوبى بخدمة أحمد
فلا زال يرقى للمعالي مكرّماً ... وينتعل العيّوق في رغم فرقد فأجبته بقولي:
__________
(1) انظر الأبيات في خلاصة الأثر 1: 305.(2/415)
أأحمد وصفٍ بالعوارف يرتدي ... وأشرف مولى للمعارف يهتدي
نجومك إذ أنت الخليل توقّدت ... فأنّى أجاريها بنحو المبرّد
أتاني نظامٌ منك حيّر فكرتي ... على أنّه أعلى مرامي ومقصدي
فأنت ابن شاهين الذي طار صيته ... بجوّ (1) العلا والضدّ ضلّ بفرقد
فبرّك موصولٌ وشانيك منكرٌ ... وقدرك مرفوعٌ على رغم حسّد
وعند حديث الفضل أسند عالياً ... بشامٍ فهم يروون مسند أحمد
فوجهك عن بشرٍ ويمناك عن عطاً ... وفكرك يروي في الهدى عن مسدّد
فلا زلت ترقى أوج سعدٍ ورفعةٍ ... ودمت بتوفيقٍ وعزٍّ مخلّد ولما خاطبته بقولي:
يصيد ابن شاهينٍ بجوّ بلاغةٍ ... سوانح في وكر البدائع تفرخ
وما كان ديك الجنّ مدرك نيلها ... إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ
ولو جاد فكر البحتري بمثلها ... لكان على الطّائي بالأنف يشمخ
ولو أنّ نظم ابن الحسين أتيحها ... لفاز بسبقٍ حكمه ليس ينسخ
فلا زال ملحوظاً بعين عنايةٍ ... وكتب التّهاني عن علاه تؤرخ أجابني بما نصّه:
أأنفاس عيسى ما بروعي ينفخ ... أم الطرس أضحى بالعبير يضمّخ
وهذي قوافٍ أم هي الشمس إنّني ... أراها على الجوزاء بالأنف تشمخ
بلى هي نصٌّ من ودادك محكمٌ ... تزول الرواسي وهي لم تك تنسخ
أتتني بمدحٍ مخجلٍ فكأنّها ... لفرط حيائي قد أتتني توبّخ
وهل أنا إلاّ خادمٌ نعل سيّدي ... وبيني وبين المدح في الحقّ برزخ
__________
(1) ق: بحق.(2/416)
وما هي إلا غرّةٌ حزت فخرها ... وإنّي بها بادي المحاسن أشدخ (1)
فلا درّ درّي وانحرفت عن العلا ... إذا كان ودّي عن معاليك يفسخ
وحبّك مهما طال شرقاً ومغرباً ... بوكر ابن شاهين الوفيّ يفرّخ
وإنّي وإن أرّخت مجداً لماجدٍ ... فإنّي باسم المقّريّ أؤرّخ
سميّي ومولاي الذي راح مدحه ... لرأس الأعادي بالمعاريض يرضخ
ودم يا نظير البدر ترقى بأوجه ... ولا زلت في طرفي وقلبي ترسخ وكنت يوماً أروم الصعود لموضعٍ عالٍ فوقعت، وانفكّت رجلي، وألمت، فكتب إلي:
لا ألمت رجلك يا سيّدي ... وصانها الله من الشّين
ما هي إلا قدمٌ للعلا ... لا احتاج ذاك النّصل للقين
زانت دمشق الشام في حلّها ... فلا رأت فيها سوى الزّين
بانت عن الأهل لتشريفنا ... لا جمعت أيناً إلى بين
عجبت من راسخةٍ في العلا ... والعلم إذ زاغت من العين
إنّي أعاف المين بين الورى ... ولست والله أخا مين
للمقّريّ المجتبى أحمدٍ ... دين الهوى والمدح كالدّين
وأحمد الله على أنّني ... رأيته حاز الفريقين
فلا أراه الله في عمره ... بيناً يؤدّيه إلى أين تعويداّ لمحب العبد الحقير الداعي أحمد بن شاهين، انتهى.
وأهديت إليه حفظه الله تعالى سبحة وخاتماً، وكتبت إليه (2) :
يا نجل شاهين الذي ... أحيا المعالي والمعالم
__________
(1) ج: أشرخ؛ ق: أسرخ؛ والأشدخ: السائل الغرة.
(2) انظر خلاصة الأثر 1: 306.(2/417)
يا من به ريشت من ال ... مجد الخوافي والقوادم
يا من دمشق بطيب ما ... يبديه عاطرة النّواسم
فالنهر منها ذو صفاً ... والزهر مفترّ المباسم (1)
والغصن يثني عطفه ... طرباً لتغريد الحمائم
يا أحمد الأوصاف يا ... من حاز أنواع المكارم
أنت الذي طوّقتني ... منناً لها تعنو الأعاظم
فمتى أؤدي شكرها ... والعجز لي وصفٌ ملازم
والعذر بادٍ إن بعث ... ت إليك من جنس الرتائم
بنتيجة (2) الذكر التي ... جاءت بتصحيفٍ ملائم
وبحائمٍ صادٍ (3) إلى ... فيض النّدى من كفّ حاتم
فامدد على جهد المق ... ل رواق صفحٍ ذا دعائم
واقبل عقيلة فكر من ... هو في بحار العيّ عائم
لا زلت سابق غايةٍ ... بين الأعارب والأعاجم فأجابني بما صورته (4) :
يا سيّداً شعري له ... ما إن يقاوي أو يقاوم
كلاً، ولا قدري له ... يوماً يساوي أو يساوم
يا من رأيت عطارداً ... منه بدا في شخص عالم
يا من بنفحة خلقه ... وبنظمه السامي الملائم
أضحى يريني معجزي ... ن من النواسم والمباسم
__________
(1) ج: البواسم؛ ق: المناسم.
(2) خلاصة الأثر: تسبيحة.
(3) خلاصة الأثر: وبخاتم داع.
(4) انظر خلاصة الأثر 1: 307.(2/418)
ما زلت أبصر منهما ... حسن النّعامى والنّعائم
بهما زماني حاسداً ... أضحى وبالتنغيص حاسم
قلمي وقلبي بين ها ... مٍ في الثّناء له وهائم
حبّي لأحمد سيّدي ... شيخ الورى فرضٌ ملازم
المقّريّ المعتلي ... شرف المعالي والمعالم
ما لي إليه وسيلةٌ ... إلاّ هوىً في القلب دائم
قد جاء ما شرّفتني ... بخصوصه دون الأعاظم
من خاتمٍ كفّي به ... ورثت سليمان العزائم
وجعلتني لا أحسب ال ... عيّوق لي في فصّ خاتم
وبسبحةٍ شبّهتها ... بالشّهب في أسلاك ناظم
فتحسد الجوزاء ما ... أحرزت من تلك المكارم
هي آلةٌ للذكّر ل ... كن ليس ذكراً في الحيازم
فهواك في قلبي وما ... في القلب جلّ عن الرّتائم
ما ذي رتائم سيّدي ... بل إنّها عندي تمائم
لو أنّها من جنس ما ... يطوى غدت فوق العمائم
لكنّها قد زيّنت ... كفّي وأزرت بالخواتم
يا من يريش إذا رمى ... نسر السماء بلحظ حازم
إنّ ابن شاهينٍ حوى ... منك الخوافي والقوادم
هذي نوافل يا إما ... م الدهر ليست باللّوازم
العذر عنها مخجلٌ ... عبداً لنعلك جدّ خادم
بل أنت فوق العذر قد ... أصبحت للشّعرى تنادم
لا زال دهرك سيّدي ... يلقاك منه ثغر باسم
يهدي إليك من المرا ... حم والمكارم والغنائم
ما لا يساوم مثله ... ذو الحظّ في أسنى المواسم(2/419)
العبد الحقير الداعي لأستاذه مولاي الأجلّ بالتمكين، أحمد بن شاهين، حامداً مصلياً مسلماً، اتنهى.
وقال مستجيزاً:
الشيخ يشرب ماءً ... ونحن نشرب قهوه فقلت:
لأنّه ذو قصورٍ ... فغطّ بالعذر سهوه ولما أزمعت على العود إلى مصر أوائل شهر (1) شوّال سنة 1037 خاطبني بقوله - حفظه الله -:
أبداً إليك تشوّقي وحنيني ... وإلى جنابك، ما علمت، سكوني
ولديك قلبي لا يزال رهينةً ... غلقت وتعلم ذمّة المرهون
وعليك قد حبست شوارد مدحتي ... لمّا رأيتك فوق كلّ قرين
قلبي كقلبك في المحبّة والهوى ... إذ كان في الأشواق دينك ديني
ولّيته بهواك أرفع رتبةٍ ... وغدوت تعزل عنه كلّ خدين
وأطاع أمرك في الوداد فلو أشا ... منه وحاشا سلوةً يعصيني
ما كنت أحسب قبل طبعك أن أرى ... يوماً عطارد ناطقاً بفنون
حتى رأيتك فاستبنت بأنه ... يروي أحاديث العلا بشجون
ويفيد سمعي معجزاً بهر النّهى ... ويري عيوني آية التكوين
يا من غدا يحي القلوب بلفظه ... ويردّد الأنفاس عن جبرين
أحييت بالوحي المبين قلوبنا ... وحيّ (2) ، لعمر الله، جدّ أمين
__________
(1) شهر: سقطت من ج.
(2) ج: وحلى؛ ق: وجلى.(2/420)
هذي دمشق، لعمر خلقك، روضةٌ ... قد جاد طبعك دوحها بمعين
قد زارها غيث النّدى فبهارها ... أضحى يلوح بحلّة النّسرين
لو لم تكن بدراً لما أحرزت ما ... قد خصّ في الأنوار بالتلوين
حقّقت ما قد قيل حين حللتها ... إنّ المكان مشرّفٌ بمكين
هي غادةٌ حيّيتها فتزيّنت ... ما كان أحوجها إلى التزيين
مولاي أحمد يا سليل بني العلا ... يا فوق مدحي فيك أو تحسيني
أغنى وجودك وهو عين الدّين عن ... علاّمة الدّنيا لسان الدين
انظره تستغني به عن غيره ... وإلى العيان ارغب عن المظنون
تلقى علوم النّاس في أوراقهم ... وعلومه في صدره المشحون
فبعلمه اعبر كلّ بحرٍ زاخرٍ ... وبفهمه اسبر غامض المخزون
وبحلمه ارغب عن تحلّم أحنفٍ ... وبعزمه اصحب بأس ليث عرين
لمّا رأيتك فاستقمت لقبلتي ... أدعو وأشكر واردات شؤوني
ألفيت قطرك يمنتي فأفادني ... فضل اليمين على اليسار يقيني
فسقى الحيا للمقّريّ أخي العلا ... بلداً بأقصى الغرب جدّ هتون
بلداً تبيّنت الهلال بأفقه ... ورأيت منه قرّةً لعيوني
لولا هلال الغرب نوّر شرقنا ... بتنا بليل الحدس والتخمين
يا راحلاً رحل الفؤاد بعزمه ... رفقاً بقلبٍ للوفاء ضمين
أستودع الله العظيم، وإنّني ... مستودعٌ منه أجلّ أمين
إنّي أودّع يوم بينك مهجتي ... وشبيبتي وتصبري وسكوني
وأعود من توديع وجهك عودةً ... خلطت يقيني في الهوى بظنون
حتى كأنّي قد فقدت تمائماً ... تقضي عليّ بحالة المجنون
وتودّ نفسي أنّها لو حرّمت ... أبداً سكوني للهوى وركوني
أوشكت أقتل بين معترك الهوى ... نفسي ومعترك الهوى بيميني
ولقد وددت بأنّني متحمّلٌ ... تلك الخطا بمحاجري وجفوني(2/421)
كيف السبيل إلى الحياة ومهجتي ... في قبضة الأشواق كالمسجون
ما أنت إلا البدر لاح بأفقنا ... شهراً وكان ضياؤه يهديني
وإليكها يا شيخ دهري غادةً ... غنيت عن التحسين والتزيين
جاءتك تعرض في الوداد كمالها ... وإذا لحظت جمالها يكفيني
هي بنت لحظتك التي تؤوي النّهى ... لا بنت ليلتي التي تؤويني
ما الفخر في دعوى البديهة عندها ... الفخر قولك إنّها ترضيني
حسبي أبا العباس منك إصاخةٌ ... تقضي بموت عداي أو تحييني
يا لهف نفسي كيف أبلغ مدحةً ... أضمرتها في سريّ المكنون
فلسان حبّي بالغٌ أقصى المدى ... ولسان مدحي في القصور يليني
ما الشعر يستوفي حقوقك لي ولو ... أهديت في نظمي عقود سنيني
حلّقت أصطاد النجوم، وإنّها ... تزهى بعقدٍ في علاك ثمين
فرأيت في العيّوق طبعك سيدي ... نسراً أسفّ لعجزه شاهيني
قد خفّ شعري من قصور طبيعتي ... ولربّما قد كان جدّ ركين
وإذا عجزت عن الفرائض جاهداً ... فادأب عساك تفوز بالمسنون
هو قبلتي فلأغتدي متمسكاً ... منه بحبلٍ في النجاة متين
واسلم فديتك زائراً ومشرّفاً ... أفدي مواطئ نعله بجبيني
وكذاك عمري في هواك مقسّمٌ ... بين الدعاء الجدّ والتأمين وقال حفظه الله تعالى في ذلك:
حنانيك إنّ الدمع بالودّ معرب ... وإنّي في شرقٍ وأنت مغرّب
ورحماك بي إنّي قتيل صبابةٍ ... بمن هو أوفى في الفؤاد وأنجب
ووعدك لي بالعود إنّي معلّلٌ ... به مهجةً قد أوشكت تتصوّب(2/422)
وهبتك قلبي ما حييت ولم أقل ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب " (1)
فلو كنت شيخاً واحداً هدّ صدّه ... فكيف بشيخٍ لم يكن مثله أب
وإنّا بحمد الله لما خصصتنا ... بزورة ذي ودّ دعاه التحبّب
فرشنا له منّا الخدود مواطئاً ... وعدنا به شوقاً نجيء ونذهب
وقلنا دمشقٌ أنت فها محكّمٌ ... وأشرافها ودّوا وجدّوا ورحّبوا
وأنت لها روحٌ ومولى ومفخرٌ ... وقد زنت شرقاً مثل ما ازدان مغرب
وفخراً عظيماً يا ابن شاهين إنّه ... غدا وكرنا نسر السما فيه يرغب
فنحن، ونحن الناس، خدّام نعله ... فلا غرو أن يقلي الغضنفر أكلب
وما نقموا منه سوى أنّه امرؤ ... ليأكل فيما قدّروه ويشرب
هو الشيخ شيخ الدهر أحمد من غدت ... دمشق ومن فيها بعلياه تخطب
هو المقّريّ العالم العلم الذي ... إليه تناهى الفضل والمجد ينسب
وما هو إلا الشمس أزمع رحلةً ... وإنّا لفي ليلٍ إذا هي تغرب
أو الغيث قد وافى فأمرعت النّهى ... به وانثنى والصدر بالودّ معشب
أو الطائر العنقاء جاء مشرّقاً ... فأغرب والعنقاء في الطير مغرب
وإنّك للخلّ الوفيّ وإنّه ... هو الواحد المطلوب إن عزّ مطلب (2)
وإنّك بالتحقيق في كلّ حالةٍ ... لأسنى وأندى ثمّ أوفى وأغرب
رعى الله وجهاً رحت ترغب نحوه ... وأيّ أخي جدّ له أنت ترغب
وحيّا الحيا أرضاً وطئت ترابها ... فأصبح مسكاً وهي بالمجد تخصب
ولا فارقت يوماً علاك كلاءةٌ ... من الله أنّى كنت والله أغلب
مدى الدهر ما حنّت جوانح والهٍ ... مشوقٍ فأمسى للحقيقة يطرب ولمّا قرأ عليّ - أدام الله تعالى عزته، وحرس حوزته - عقيدتي المسماة
__________
(1) للمتنبي، وصدره: " ولو جاز أن يحروا علاك وهبتها ".
(2) سقط البيت من ق.(2/423)
ب " إضاءة الدجنّة " في عقائد أهل السنّة سألني أن أجيزه فيها وفي غيرها، فكتبت له بما نصّه:
أحمد من أطار في جوّ العلا ... صيت ابن شاهين الذي زان الحلى
وراش منه للمعالي أجنحه ... نال بها فضلاً غدا مستمنحه
وأسكن البيان من أوكار ... أفهامه بقنّة الأفكار
فاصطاد كلّ شاردٍ بمخلب ... أبحاثه ومن يعارض يغلب
والصقر لا يقاس بالبغاث ... والحقّ ممتازٌ عن الأضغاث
نشكر من بلّغه مناه ... على نواله الذي سنّاه
وننتحي نهج صلاةٍ باديا ... لخير من جاء الأنام هاديا
مبيّناً دلائل التوحيد ... وموضحاً طرائق التسديد
محمدٍ خير البرايا المنتقى ... أجلّ من خاف الإله واتّقى
صلّى عليه الله مع أصحابه ... وآله الراوين عن سحابه
ما اعترف العبد الفقير ذو العدم ... للربّ باستغنائه وبالقدم
وبعد، فالعلوم والعوارف ... من أمّها يأوي لظلّ وارف
وروضةٍ أزهارها تضوّعت ... لأنّها أفنانها تنوّعت
وليس يحتاط بها نبيل ... إذ ذاك أمرٌ ما له سبيل
فليصرف القول إلى ما ينفعه ... دنياً وفي أوج الأجور يرفعه
وإنّ في علم أصول الدين ... هدىً وخيراً جلّ عن تبيين
لأنّه أصلٌ يعمّ النفع ... به وكلّ ما سواه فرع
وكيف يعبد الإله من لا ... يعرفه وعن رشادٍ ضلاً
فهو الذي لا تقبل الأعمال ... إلاّ به وتنجح الآمال
وإنّني كنت نظمت فيه ... لطالبٍ عقيدةً تكفيه
سمّيتها " إضاءة الدّجنّه " ... وقد رجوت أن تكون جنّه(2/424)
وبعد أن أقرأتها بمصر ... ومكّة بعضاً من أهل العصر
درّستها لمّا دخلت الشاما ... بجامعٍ في الحسن لا يسامى
وكان في المجلس جمعٌ وافر ... من جلّةٍ بدورهم سوافر
منهم فريد الدهر ذو المعالي ... فخر دمشق الطيّب الفعال
أحمد من راح لعلمٍ واغتدى ... وشام أنواراً لفهمٍ فاهتدى
العالم الصدر الأجلّ المولى ... من وصفه الممدوح يعيي القولا
وهو ابن شاهين وما أدراكا ... من بذّ جنس العرب والأتراكا
ورام من مثلي بحسن الظنّ ... إجازةً فيما رواه عنّي
فحرت في أمرين قد تناقضا ... بالنفي والإثبات إذ تعارضا
ترك الإجابة لوصفي بالخطل ... والخطا، والجيد مني ذو (1) عطل
وكم فرائضٍ بعجزٍ تسقط ... فكيف غيرها وهذا أحوط
أو فعلها بحسب الإمكان ... رعياً لودٍّ محكم الأركان
منه وما له من الحقوق ... ولا يجازي البرّ بالعقوق
وبعد ما مرّ من الترداد ... أسعفته بمقتضى الوداد
وسرت في طرقٍ من التساهل ... معترفاً بالجهل لا التجاهل
مع أنّه أهلٌ لأن يجيزا ... لا أن يجاز إذ حوى التبريزا
ومن رأى عيبي بعينٍ للرّضا ... لم يقف نهج من غدا معترضا
فليرو عنّي كلّ ما أسمعته ... إياه بالشرط وما جمعته
مع القصور راجياً للأجر ... من الفنون نظمها والنثر
كهذه القصيدة السّديده ... والنعل ذات المدح العديده
كذاك ما ألفت في عمامه ... من خصّ بالإسراء والإمامه
والفقه والحديث والنحو وفي ... أسرار وفقٍ وهو بالقصد وفي
__________
(1) ق: والجيد من در.(2/425)
وغيرها ممّا به الوهّاب منّ ... على فقيرٍ عاجزٍ في غير فنّ
وما أخذت في بلاد المغرب ... عن كلّ فذّ في العلوم مغرب
ولي أسانيدٌ إذا سردتها ... طالت وفي كتبي قد أوردتها
وقد أخذت الجامع الصحيحا ... وغيره عمّن حوى الترجيحا
عمّي سعيدٌ عن سفين وهو عن ... القلقشندي عن الواعي السنن
العسقلاني الشهاب ابن حجر ... بما له من الروايات اشتهر
وقد أجزته بكلّ مالي ... يصحّ من ذاك بلا احتمال
على شروطٍ قرّروها كافيه ... ليست على أفكاره بخافيه
وقال هذا المقّريّ الخطّا ... والعيّ عمّ لفظه والخطّا
عام ثلاثين وألفٍ بعدها ... سبعٌ أتمّت في السنين عدّها
وكان ذا في رمضان السامي ... بحضرة السّعد دمشق الشّام
والله نرجو أن يتيح الختما ... بالخير كي نعطى القبول حتما
بجاه خير العالمين أحمدا ... صلّى عليه الله ما طال المدى
وآله وصحبه ومن زكا ... فنال من حسن الختام مدركا وتذكرت بهذه الإجازة نظيرتها التي سألني فيها مولانا عين الأعيان، مفتي الأنام في مذهب النعمان، مولانا الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام - حفظه الله تعالى - لأولاده الثلاثة، وكتب لي أصغرهم سنّاً استدعاء لذلك:
أحمد من شيّد بالإسناد ... بيت العلوم السامي العماد
وعمّ من خصّص بالروايه ... بنورها النافي دجى الغوايه
وزان صدر النّبها كلّ زمن ... بجوهر الإجازة الغالي الثّمن
نحمده سبحانه أن عرّفا ... من الحديث ما به قد شرّفا
ونسأل المزيد من صلاته ... لمن أتيح القصد من صلاته
ملجؤنا المعصوم أعلى سند ... لنا برغم جاحدٍ مفنّد(2/426)
كهف الضعيف والقويّ المرتجى ... باب الهدايات وليس مرتجا
من جاءنا بالجامع الصحيح من ... كلامه الهادي إلى نهجٍ أمن
من فضله ما شكّ فيه مسلم ... من حبّه بكلّ خيرٍ معلم
نبيّنا المرسل ذو الخلق الحسن ... والمعجز المفحم أرباب اللّسن
محمد المرفوع قدره على ... سائر خلق الله جلّ وعلا
صلّى عليه ربّنا وسلّما ... أزكى صلاةٍ ننتحيها معلما
مع آله وصحبه ومن روى ... آثاره عن صحّةٍ وما غوى
وبعد فالعلم عظيم القدر ... وليس من يدري كمن لا يدري
ولم تزل همّة أهل المجد ... منوطةً بنيل علمٍ مجدي
ومنه علم السّنّة الشريفه ... لأنّه ظلاله وريفه
فمن درى الأخبار والشّمائل ... لم يك عن صوب الهدى بمائل
وكم سميدعٍ لأجله رفض ... أوطانه وثوب ترحال نفض
وكيف لا وهو أجلّ ما طلب ... موفّقٌ يروم حسن المنقلب
لأنّه وسيلة السّعاده ... والعزّ في الإبداء والإعاده
وإنّني لمّا انتحيت المشرقا ... ميمّماً بدر اهتداءٍ مشرقا
ألقيت في مصر عصا التسيار ... بعد بلوغي أشرف الدّيار
وبعد ذا جئت دمشق الشام ... مسكن من يزدان باحتشام
فشاهدت عيناي فيها ما ملا ... قلبي سروراً إذ بلغت المأملا
مدينةٌ فيّاضة الأنهار ... فضفاضة الأثواب بالأزهار
أرجاؤها زاكية العبير ... ومدحها يجلّ عن تعبير
وجلّ أهليها بحبي دانوا ... مع أن مثلي منهم يزدان
فلاحظوا بالأعين الكليله ... عبداً غدا تقصيره دليله
وقابلوا المولى الكبير المعتبر ... قرّة عين من رآه واختبر
خصوصاً المولى الكبير المعتبر ... قرة عين من رآه واختبر(2/427)
مفتي الورى في مذهب النعمان ... بها الوجيه عابد الرحمن
ابن عماد الدين من تعيي القلم ... أوصافه اللاتي كنورٍ في علم
حاوي طراف المجد والتّلاد ... نال المنى في النفس والأولاد
وكنت في مكّة قد أبصرت ... منه علاً عن مدحه قصرت
جلالةً ومحتداً وعلماً ... ورفعةً وسؤدداً وحلما
مع التواضع الذي قد زانه ... حسن اعتقادٍ مثقلٍ ميزانه
فحثّ من في الشام من أخيار ... لم يسلكوا مناهج الأغيار
أن يأخذوا بعض الفنون عني ... بما اقتضاه منه حسن الظنّ
مع أنّني والله لست أهلا ... لذاك، والتصدير ليس سهلا
وكان من جملتهم أبناؤه ... عماد دينٍ قد علا بناؤه
وصنوه الشهاب من توقّدا ... فهماً وإبراهيم سبّاق المدى
وهو الذي قد ابتغى الإجازه ... لهم بوعدٍ طالباً إنجازه
وكتب القصيدة الطنّانه ... في ذاك لي مهتصراً أفنانه
وإنّهم كحلقةٍ قد أفرغت ... دامت لهم آلاء فيضٍ سوّغت
فلم أجد بدّاً من الإجابه ... مع كون جهلي سادلاً حجابه
فقد أجزتهم بما رويته ... طرّاً، وما ارتجلت أو روّيته
وكلّ ما صنفت في الفنون ... مؤمّل التحقيق للظنون
وما أخذت عن شيوخ المغرب ... وغيرهم من كلّ حبرٍ مغرب
ولي أسانيد يطول شرحها ... شيد على تقوى الإله صرحها
ولو سردت كلّ مروياتي ... هنا لطال القول في الأبيات
وكلّ طولٍ غالباً مملول ... وحدّ من يعنى به مقلول
فلنقتصر إذن على القليل ... تبركاً بالمطلب الجليل
وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمّي الحائز للفخار
المقّري سعيد الإمام عن ... محمد يدعى خروفاً حين عنّ(2/428)
التونسيّ الطيّب الأنفاس ... نزيل حضرة الملوك فاس
عن الكمال القادريّ المرتضى ... عن الحجازيّ عن الحبر الرضى
نجل أبي المجد عن الحجاري ... عن الزبيديّ بنقلٍ جاري
عن مسند الإسلام عبد الأوّل ... عن الشهير الداوديّ المعتلي
عن السّرخسيّ عن الفربري ... عن البخاريّ الإمام الحبر
وفضله أظهر من أن يذكر ... وعلمه المعروف غير المنكر
ومسلمٍ به إلى الكمال ... عن علم الدين أخي الجلال
منسوب بلقين عن التّنوخي ... عن ابن حمزةٍ عن الشيوخ
كابن المقير عن ابن ناصر ... عن ابن مندة وهو (1) القاصر
عن جوزقيٍّ قد روى عن مكّي ... عن مسلم نافي دياجي الشكّ
فليخبروا عنّي بذا والباقي ... من ستّةٍ حائزة السباق
كذا موطّأ الإمام مالك ... إمامنا منير كلّ حالك
ومسند الفذّ الرضى ابن حنبل ... والدارميّ ذي الثناء الأجمل
والطبرانيّ وما أرويه ... من المعاجيم (2) بما تحويه
وكلّها تشمله الإجازه ... بشرطها عند الذي أجاده
فلتقبلوه فهي من جهد المقلّ ... إذ لست بالمطلوب مني أستقلّ
ومن أسانيدي عن القصّار ... مفتي الأنام بهجة الأعصار
عن شيخه خروفٍ الراقي الدرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج
قال: سمعت المصطفى في النوم ... صلّى عليه الله كلّ يوم
يقول: من أصبح، يعني آمنا ... في سربه، الحديث فاعرف كامنا
ولنمسك العنان في هذا الأرب ... مصلياّ على الذي زان العرب
__________
(1) بياض في ج ودوزي.
(2) ج ق: المعاجم.(2/429)
وآله وصحبه الأعلام ... ومن تلا من أنجم الإسلام
وخطّ هذا المقّريّ العاصي ... أجير يوم الأخذ بالنواصي
سنة سبعٍ وثلاثين تلت ... ألفاً لهجرة بياسين علت
عليه أزكى صلوات تستتمّ ... نرجو بها الزّلفى وحسن المختتم ونصّ الاستدعاء المشار إليه هو:
فازت دمشق الشام بالمقّري ... الألمعيّ اللوذعيّ العبقري
علاّمة العصر بلا مفترىً ... وواحد الدهر بلا ممتري
كم سمعت أخبار أوصافه ... فقصّر المخبر عن منظر
جامع علمّ بثّ إملاءه ... بالشام ملء الجامع الأكبر
يقري فتقري السمع أنفاسه ... أنفس ما يقري وما قد قري
مولاي يا من درّ ألفاظه ... صحاحها تزري على الجوهري
إجازة نرفل من فضلها ... في ثوب عزٍّ وردا مفخر
مسبلة الذيل على أكبر ... وأوسط الإخوة والأصغر
أطلّ لنا إنشاءها بل أطب ... وانظم لنا من درّها وانثر
لا زلت في نفع الورى دائباً ... تجود جود العارض الممطر العبد الداعي إبراهيم العمادي، انتهى.
ومن الإجازات التي قلتها بدمشق الشام ما كتبته للأديب الحسيب سيدي يحيى المحاسني (1) حفظه الله تعالى:
أحمد من زيّن بالمحاسن ... دمشق ذات الماء غير الآسن
__________
(1) هو يحيى بن أبي الصفا ابن أحمد المعروف بابن محاسن الدمشقي الحنفي، درس على العمادي وغيره من شيوخ دمشق، ولما وردها المقري لزمه لزوم الظل للشبح وجمع من أماليه مجموعاً ودرس العلم في الغزالية وتوفي سنة 1053 (خلاصة الأثر 4: 463) .(2/430)
وأطلع النّجوم من أعيان ... بأفقها السامي مدى الأحيان
فكلّ أيّامهم مواسم ... من الصّفا ثغورها بواسم
وذكرهم قد شاع بين الأحيا ... إذ قطرهم به الكما يحيا
وبشرهم حديثه لا ينكر ... ومسند الجامع عنهم يذكر
وقد حكت جوارح الذي ارتحل ... إليهم صحيح ما له انتحل
فسمعه عن جابرٍ، والعين عن ... قرّة تروى، واللسان عن حسن
فحلّ من أتاحهم آلاءه ... حتّى أبان نورهم لألاءه
نحمده سبحانه أن أسدى ... من الأمان ما أنال القصدا
وننتحي صوب صلاةٍ باهره ... إلى الرّسول ذي السّجايا الطاهره
أجلّ من خاف الإله واتّقى ... محمد الهادي الرّسول والمقتدي
وبعد، فالعلم أساس الخير ... وكيف لا وهو مزيح الضير
وهو موصّلٌ إلى منهاج ... هدىً ورشدٍ ما له منهاجي
وما بغير العلم يبدو العلم ... وليس من يدري كمن لا يعلم
خصوصاً الحديث عن خير البشر ... فإنّ فضله على الكلّ انتشر
ولم يزل يعنى به كلّ زمن ... من الرواة كلّ صدرٍ مؤتمن
وإنّني عند دخول الشام ... لقيت من بها من الأعلام
وشاهدت عيناي من إنصافهم ... ما حقّق المحكيّ عن أوصافهم
وإنّ من جملتهم أوج الذكا ... والنيّر الزري سناه بذكا
ابن المحاسن الذي قد طابقا ... منه مسمّى الإسم إذ تسابقا
اللّوذعيّ الألمعيّ يحيى ... لا زال رسم المجد منه يحيا
وهو الذي أغراه حسن الظنّ ... على انتمائه لأخذٍ عني
وكان قارئ الحديث النّبوي ... لديّ في الجامع، أعني الأموي
بمحضر الجمع الغزير الوافر ... ممّن وجوه فضلهم سوافر(2/431)
وبعد ذاك استمطر الإجازه ... من نوء وعدي واقتضى انتجازه
فلم أجد بدّاً من الإجابه ... مع أنّني لست بذي النجابه
وإن أكن أجبت أمراً يمتثل ... منه ففي ذلكتصديق المثل
فيمن درى شيئاً وغابت أشيا ... عنه ومن أهدى بصنعا وشيا
فليرو عنّي كلّ ما يصحّ لي ... بشرطه الذي يزين كالحلي
وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمّي الإمام ذي الفخار
سعيد الذي نأى عن دنس ... عن شيخه الحبر الشهير التّنسي
أعني أبا عبد الإله وهو عن ... والده محمّدٍ راوي السّنن
عن ابن مرزوقٍ محمّد الرضا ... عن جدّه الخطيب عن بدرٍ أضا
الفارقيّ عن إمامٍ يدعى ... بابن عساكر الجميل المسعى
بما له من الروايات التي ... على علوّ قدره قد دلّت
وليرو عنّي ما انتمى للنّووي ... بذا إلى السابق ذي النّهج السوي
أعني ابن مرزوق الخطيب الراوي ... عن شيخه يحيى الرضى المغراوي
وهو روى عن صاحب التمكين ... ألنوويّ الشيخ محيي الدين
وخطّ هذا أحمد البادي الوجل ... المقّريّ المالكين الذي ارتجل (1)
في عام ألفٍ وثلاثين خلت ... من هجرة الهادي وسبعةٍ تلت
ألبسه الله البرود الصافيه ... من منّه وعفوه والعافيه
بجاه سيّد البرايا طرّا ... ملجإ من إلى الكروب اضطرّا
عليه أسنى صلواتٍ تسدي ... حسن الختام ببلوغ القصد وسأل مني بعض ساكني دمشق (2) المحروسة أن أقرّظ له على شرحه
__________
(1) الذي ارتجل: سقطت من ج.
(2) هو محمد بن سعد الكشني كما سيصرح المقري بذلك في أرجوزته، وكان من أدباء الصوفية، وكان فضلاء دمشق يعاشرون منه رجلاً سهلاً خلوقاً متودداً صاحب نوادر وآداب؛ توفي سنة 1037 (خلاصة الأثر 3: 468) .(2/432)
لرسالة العارف بالله تعالى سيدي الشيخ أرسلان، فكتبت ما صورته:
أحمد من خصّص بالأسرار ... قدماً من الصوفيّة الأبرار
أتاحهم عوارف المعارف ... والحكم السابغة المطارف
فهم بهم تستمطر الأنواء ... وتظهر الأنوار والأضواء
ومن أجلّهم سناءً وسنى ... من ذاد عن عين المعالي الوسنا
شيخ الشيوخ العارف الكبير ... الشيخ أرسلانٌ الشهير
فكم إشاراتٍ له أبانا ... بها علوماً من حلاها ازدانا
وكم عباراتٍ تلا آياتها ... تعيا الفحول عن مدى غاياتها
ومن رأى رسالة التوحيد ... له انتحى مناهج التسديد
فهي تنادي من أبى أن يسلكا ... يا معرضاً شركٌ خفيٌّ كلّكا
ومن أضلّ القصد في مهامه ... هدته للخروج عن أوهامه
وكم بها من باب معنىً مغلق ... عمّن يقيّد الوجود المطلق
فما بغير الفتح يدرى الباطن ... ووارد الفيض له مواطن
وقد رأيت في دمشق الشّام ... شرحاً لها أنبأ عن إلهام
للكلشنيّ ذي الوفا بالوعد ... شمس العلا محمد بن سعد
لا زال في أوج التجليّ صاعدا ... وعون ربّنا له مساعدا
ومذ أجلت ناظري في حسنه ... ألفيته مستبدعاً في فنّه
ودلّ ما أبداه من معاني ... على شهودٍ بالهدى معاني
لأنّه أجاد في تقرير ... ما اعتاص بالإتقان والتحرير
وأبرز الأبكار من خدور ... أفكاره حالية الصدور
فالله يجزيه الجزاء الأوفى ... في يوم تبدي الأنبياء الخوفا
وخطّ هذا المقّريّ من وجل ... مرتجياً من ربّه عزّ وجلّ
كشف كروبٍ عقد صبرٍ حلّت ... منه وغفران ذنوبٍ جلّت(2/433)
بجاه طه الهاشميّ أحمدا ... عليه أزكى صلواتٍ سرمدا
عاطرة النشر بلا اكتتام ... تأرّجت بالمسك في الختام وخاطبني السريّ الحسيب الماجد فخر المدرسين الأعيان مولانا الشمس محمد بن الكبير الشهير مولانا يوسف بن كريم الدين الدمشقي (1) حفظه الله تعالى بقوله:
شمس المحاسن شرّقي أو غرّبي ... سعدت منازلنا بشمس المغرب
شمسٌ لنا منها شموس فضائلٍ ... وسنا هدىً قد راح غير محجّب
المقّريّ العالم النّدب الذي ... لسوى اسمه درج الحجى لم يكتب
بدرٌ ولم تبد البدور بمشرقٍ ... إلا بدت من قبل ذاك بمغرب
لسوى اكتساب سناه لم تغرب ذكا ... فلو أنها شعرت به لم تغرب
علاّمةٌ ملأ البلاد بفضله ... وأفاده لمشرّقٍ ومغرّب
عمري هو البحر المحيط فضائلاً ... إن قيس بالعذب الذي لم يعذب
مولىً له سندٌ قويٌّ في العلا ... فعن الجدود روى العلا وعن الأب
نسبٌ له المجد المؤثّل في الورى ... والمجد لم يكسب إذا لم يوهب
هو في جبين الفضل أضحى غرةً ... يجلى بها للجهل ظلمة غيهب
آمالنا قطعت ببشر جبينه ... أن لا ترى للدهر وجه مقطّب
بدرٌ به زهيت دمشق وأهلها ... أحبب ببدرٍ حيث حلّ محبّب
طود الفضائل باكرت أرجاءه ... ديم الحجى فغدا كروضٍ مخصب
بحر الهدى والعلم إلاّ أنّه ... صفوٌ من الأكدار عذب المشرب
هو قطب دائرة الفضائل في الورى ... فيكاد يخبرنا بكلّ مغيّب
__________
(1) ترجمته في خلاصة الأثر (4: 273) تتلمذ للمقري والعمادي وغيرهما وكان متقناً للفارسية والتركية والموسيقى ملحناً، تردد إلى الروم ودرس بالمدرس العزية وله ديوان شعر؛ توفي سنة 1068.(2/434)
في الفضل ما جاولت يوماً مثله ... كلاّ، ولا قست البدور بكوكب
أنّى يجارى في الفضائل من له ان ... قاد الزّمان بأدهمٍ وبأشهب
سننٌ لمدح الغير تسقط عندنا ... فله العلا تقضي بفرضٍ أوجب
ما روضةٌ حلّى أزاهرها الحيا ... فافترّ فيها كلّ ثغرٍ أشنب
ومشت بها خود الصّبا فتعطّرت ... أذيالها من كلّ عرفٍ طيّب
للنّور فيها جدولٌ أخذت به ... شهب المجرّة حيرة المتعجّب
باتت تناشدني بها ذكر الهوى ... ورق الأراك بكلّ صوتٍ مطرب
تشكو إليّ بمثل ما أشكو لها ... شكوى المعذّب في الهوى لمعذّب
فعلمت ما قد حلّ من وجدٍ بها ... وجهلن، وهو الفرق، ما قد حلّ بي
لم تلق فيها من عليل يشتكي ... إلاّ النّسيم وذا الهوى إن تطلب
بأغضّ حسناً من ربى آداب من ... حيّا رياض حجاه ألطف صيّب
طبعٌ أرقّ من النسيم ومنطقٌ ... مستعذبٌ، وكذاك كلّ مهذّب
لو جاد صوب حجاه قفراً مجدباً ... لنعمت منه بكلّ روضٍ معشب
مولاي عذراً فالزمان يعوقني ... عن مطلبي والآن مدحك مطلبي
وكذاك يفعل بالأديب زمانه ... فلذا يطول على الزمان تعتّبي
لم ألق يوماً من يديه مهرباً ... إلاّ ثناك، وحبّذا من مهرب
لولاك لم ينهض جواد قريحتي ... من كلّ وادٍ للضّلالة متعب
فاسمع، ولست بآمرٍ، نظماً غدا ... في عقد مدحك لؤلؤاً لم يثقب
كالراح يلعب بالعقول للطفه ... لكن بغير مسامعٍ لم يشرب
من كلّ قافيةٍ غدت من حسنها ... مثلاً لغيرك في العلا لم يضرب
خودٌ تقلّد من ثناك قلائداً ... بكرٌ لغيرك في الورى لم تخطب
غنيت بمدحك زينةً ولربما ... يغني الجمال عن الوشاح المذهب(2/435)
هي بعض أوصافٍ لذاتك قد غدت ... كالبحر عذباً ماؤه لم ينضب
جاءتك تسألك القبول وحسبها ... فخراً قبولك وهو جلّ المطلب
وتروم منك إجازةً فاقت بما ... ترويه بالسّند القويّ عن النبي
حسبي الإجازة منك جائزةً ولم ... أك قبل غير الفضل بالمتطلّب
لا بدع والإطناب إيجازاً غدا ... في مدحه إن لم أطل أو أسهب
هيهات لا تحصى مآثر فضله ... بالمدح إن أطنب وإن لم أطنب خدمة الداعي محمد بن يوسف الكريمي، انتهى.
فأجزته بما نصّه:
أحمد من أطلع شمس الدين ... في أفق الرواية المبين
وخصّ فضلاً منه بالإسناد ... أمّة طه مذهب العناد
فلم يكن عصرٌ من الأعصار ... إلاّ وفيه أهل الاسبتصار
ينفون عن حوزة دين الله ما ... يروم من عليه رشدٌ أبهما
وأنتحي سبل صلاةٍ كامله ... على الذي له العطايا الشامله
محمدٍ المرسل بالشرع الحسن ... ذي المعجز المفحم أرباب اللّسن
مع حزبه من صحبه وعترته ... ومن تلا مؤمّلاً لأثرته
وبعد فالعلم أجلّ ما اعتمد ... موفّقٌ من فيض مولاه استمد
خصوصاً الحديث عن خير الورى ... صلّى عليه الله ما زندٌ ورى
ولم يزل ذوو النهى يسعون في ... تحصيله إذ فضله غير خفي
وإنّ مولانا الشهير السامي ... الماجد المولى نبيه الشام
سالك نهج السّنّة القويم ... محمد بن يوسف الكريمي
لا زال في عزٍّ وفي أمان ... مبلّغاً من قصده الأماني
وجّه لي لمّا حللت الشاما ... وبرق حسن الظنّ مني شاما
قصيدةً بليغةً مستعذبه ... غريبةً في فنّها مهذّبه(2/436)
يسأل من مثلي بها الإجازه ... بشرطها عند الذي أجازه
مستمسكاً بعروة الصّواب ... ولم أجد بدّاً من الجواب
فليرو عنّي ما سمعت كلّه ... وما جمعت في الفنون جمله
على شروطٍ قرّرت في الفنّ ... مرتجياً حصول كلّ منّ
وصنوه الأكمل قد أبحته ... ذاك على الوجه الذي شرحته
وإن أكن فيما ابتغى مقصّرا ... فذو الرضى ليس لعيبٍ مبصرا
ولي أسانيد أبى وقتي عن تفصيلها ... لمّا من الرحلة عن
والعذر بادٍ والكريم يقبل ... والصفح نهجٌ يقتفيه الأنبل
وخطّ هذا المقّريّ الجاني ... أمّنه الله من الأشجان
في عام ألفٍ وثلاثين قفا ... سبعاً لهجرة النبي المصطفى
عليه أزكى صلواتٍ تغتنم ... يزكو بها متبدأٌ ومختتم وكتب إلي الفاضل الخطيب، الفهامة الأديب، وارث الفضل عن الأعلام ذوي اللّسن، سيدي الشمس محمد المحاسني (1) سبط شيخ الإسلام مولانا البوريني حسن، حفظه الله تعالى، بقوله:
يا سيّدي وملاذي ... وعالم الثّقلين
ومن غدا بمكانٍ ... علا على النّيّرين
أجزت بالدرس قوماً ... فاقوا به الفرقدين
فزيّن العبد أيضاً ... من مثل ذاك بزين
إن لم يكن (2) في ختامٍ ... فذاك قرّة عيني
__________
(1) هو محمد بن تاج الدين بن أحمد المحاسني الدمشقي الحنفي، درس على علماء دمشق، ومنهم العمادي والمقري وسافر إلى الروم صحبة والده وأخذ من علمائها ثم تولى الخطابة بجامع السلطان سليم بصالحية دمشق ثم الإمامة بجامع بني أمية، وتولى مناصب أخرى بين إمامة وخطابة وتدريس، وتوفي سنة 1027 (خلاصة الأثر 3: 408) .
(2) ق: وإن يكن.(2/437)
فأجزته بما نصّه:
أحمد من أطلع من محاسن ... دمشق ما أربى على المحاسن
وزانها بالجلّة الأعيان ... الرافلين في حلى التبيان
الراغبين في الحديث النبوي ... السالكين في الهدى النهج السوي
وبعد فالعلم أجلّ زينه ... وسبله في الرشد مستبينه
وإنّ علم السنّة الشريفه ... ظلاله ضافيةٌ وريفه
لذاك كان باعتناءٍ أجدرا ... من كلّ ما يمليه من تصدّرا
وإنّ ذا الفضل الأديب البارع ... سابق ميدان الذكا المسارع
الماجد المسدّد السامي الحسب ... محمد من للمحاسن انتسب
ابن الشهير الصدر تاج الدين ... لا زال في عزٍّ وفي تمكين
وجدّه لأمّه الشيخ الحسن ... وذاك بورينيهم معطى اللّسن
يسألني إجازةً بكلّ ما ... أرويه عنواناً بحالي معلما
وها أنا أجبته غير بطل ... مستغفراً من خطإ ومن خطل
فليرو عني كلّ ما يصحّ ... على شروط غيثها يسحّ
وهي عن الشروط لن تريما ... وليس يخفي علمه الكريما
وكلّ ما ألّفت أو جمعت ... نظماً ونثراً مثل ما أسمعت
ولي أسانيد يضيق الوقت ... عن سردها وبعضها قد سقت
في غير هذا فليحقّق ذلك ... مقتفياً لأوضح المسالك
وقد أخذت جامع البخاري ... ومسلمٍ عن جائز الفخار
عمّي سعيدٍ وهو عمّن يدعى ... بالتّنسيّ قد أفاد الجمعا
عن حافظ الغرب الرّضى أبيه ... عن ابن مرزوقٍ عن النبيه
وما له من الروايات علم ... من كتبه التي حوت خير الكلم(2/438)
وخطّ هذا المقّريّ عن عجل ... مؤمّلاً من ربه عزّ وجلّ
غفران ما جنى من الذنوب ... والصفح عن معرّة العيوب
بجاه خير العالمين أحمدا ... صلّى عليه الله دأباً سرمدا
وآله وصحبه الأخيار ... ومن تلا لآخر الأعصار (1) ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب سيدي محمد بن علي ابن مولانا عالم الشام الشهير الذكر شيخ الإسلام سيدي ومولاي الشيخ عمر القاري (2) - حفظه الله تعالى - وأنا مستوفز للسفر، كتبت له عن عجل ما صورته:
أحمد من زيّن بالآثار ... جيداً من الراوي النبيه القاري
وشاد للعلياء في أوج السّند ... منازلاً لم يبلها طول الأمد
وميّز الواعين للحديث ... بالفضل في القديم والحديث
وزان منهم سماء الدين ... فأشرقت بالحفظ والتبيين
فهم (3) بها للمهتدي نجوم ... وإنّها للمعتدي رجوم
فكم أزاحوا عن حديث المجتبى ... صلّى عليه الله ما هبّت صبا
تحريف ذي غلٍّ مصلٍّ غالي ... شانٍ لمنهاج الرشاد قالي
وبعد فالإسناد للروايه ... وسيلةٌ تزحزح الغوايه
والله قد خصّص هذي الأمّه ... به امتناناً وأزاح الغمّه
هذا ولولا ذاك قال من شا ... ما شاءه فهو بحقٍّ منشا
فلم يزل أهل النّهى كلّ زمن ... يسعون في تحصيله عن مؤتمن
__________
(1) إلى هنا تنتهي نسخة ج من النفح وكتب في آخرها: " انتهى ما وجد في الجء الأول من نفح الطيب ويتلوه في الجزءالثاني: ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب الشيخ محمد بن علي ... إلخ ".
(2) ترجمة محمد بن علي بن عمر المشهور بابن القاري في خلاصة الأثر (4: 54) درس الحديث على المقري مدرساً بالمدرسة الشامية الجوانية، وسافر إلى الروم ونال جاهاً، وكان بينه وبين أحمد الشاهيني مودة أكيدة ومراسلات.
(3) ق: منهم.(2/439)
وإنّ من جملة من تحرّى ... ومن بسبقٍ للعلوم غرّا (1)
الفاضل المسدّد النّجيب ... الواصل الممجّد الأريب
محمدٌ سليل ذي المجد علي ... ابن الإمام العالم الحبر الولي
عمر الشيخ الشهير القاري ... طود السكون هضبة الوقار
شيخ الشيوخ في دمشق الشام ... لا زال محفوفاً بعزٍّ سامي
فكان من جملة من عنّي روى ... بعض الصحيح ظافراً بما نوى
وبعد ذاك اقترح الإجازه ... مني ووعدها اقتضى إنجازه
فانعجمت نفسي عن الإجابه ... إذ لست في ذا الأمر ذا نجابه
مع أنّني مقصّرٌ ذو عيّ ... في مثل هذا المطلب المرعيّ
وخفت أن آتيها شنعاء ... بحملي الوشي إلى صنعاء
وبعد ذا أجزت قصد الأجر ... مرتجياً بذاك ربح التّجر
وقد أجبته وإنّي أعلم ... أنّي من خوف الخطا لا أسلم
فليروها ببالغ التمنّي ... جميع ما يصحّ لي وعني
من ذلك الجامع للبخاري ... عن عمّي الشهير ذي الفخار
سعيدٍ الآخذ عن سفين ... عن قلقشنديٍّ مزيح المين
عن حافظ الإسلام أعني ابن حجر ... بما له من الرّوايات اشتهر
وبعضها في صدر فتح الباري ... مبيّنٌ لطالب الأخبار
ولي أسانيد يطول شرحها ... والروضة الغنّاء يكفي نفحها
ومن رواياتي عن القصّار ... مفتي البرايا بهجة الأعصار
حدثنا خروفٌ الذاكي الأرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج
سمعت في المنام طه يملي ... حديث من أصبح وفق النقل
أي آمناً في سربه معافى ... في جسمه مع قوت يومٍ وافى
__________
(1) ق: تحدى ... عدا.(2/440)
وكلّ ما ألّفت في الفنون ... أرجو به التحقيق للظّنون
فليروه عنّي بشرطٍ معتبر ... وربّما يصدّق الخبر الخبر
ولي تآليف على العشرينا ... زادت ثمانياً حوت تعنينا (1)
فليروها إن شاء بلا استثناء ... والله أرجو نيل قصدٍ نائي
بجاه من شرّف بالإدناء ... صلّى عليه الله في الآناء
أحمد خير المرسلين الهادي ... غوث البرايا ملجإ الأشهاد
عليه أسنى صلواتٍ زاكيه ... مع صحبه ذوي المزايا الزاكيه
ومن تلا ممّن أطاب عمله ... فنال من رجاءه ما أمّله
وشمّ من عرف قبولٍ أرجا ... فنال من حسن الختام ما رجا وخاطبني من أهلها أيضاً خادم الشيخ الأكبر ابن عربي محيي الدين، وهو الشيخ الأكرمي سيدي إبراهيم (2) ، سلك الله بي وبه سبل المهتدين، بقوله:
فكرت في فضل الإما ... م المقّريّ الحبر حينا
فوجدته بكر الزما ... ن وواحد الدنيا يقينا
ما إن رأيت ولا سمع ... ت بمثله في العالمينا
وافى دمشقاً زائراً ... لو أنّه أضحى قطينا
وأتى عجيب الاتفا ... ق بفطر شهر الصائمينا
فكأنّه غرّته الهلا ... ل ونحن كنا ناذرينا
والعلم قال مؤرخاً ... أدّى بها فضلاً مبينا وخاطبني أيضاً منهم الفقيه النبيه سيدي مصطفى بن محب الدين (3) حفظه الله
__________
(1) ق ودوزي: تعيينا.
(2) هو إبراهيم بن محمد الدمشقي الصالحي بالأكرمي، كان شاعراً مشهوراً في عصره بخمرياته وغزلياته، وهو وآباؤه خدام باب الشيخ ابن العربي، توفي سنة 1047 ودفن بسفح قاسيون (خلاصة الأثر 1: 39) .
(3) هو مصطفى بن أحمد بن منصور بن إبراهيم بن محمد سلامة أبو الجود ابن محب الدين الدمشقي الأديب، سافر مرتين إلى مصر ودرس في الجامع الأزهر ثم تولى التدريس بجامع بني أمية بدمشق، توفي سنة 1061 (خلاصة الأثر 4: 365) .(2/441)
تعالى بقوله:
فضائل قطب الغرب في العلم والفضل ... هو المقّريّ الأصل حائزة الخصل
حوى كلّ علمٍ كلّ عن بعضه السّوى ... فلا غرو أن أضحى فريداً بلا مثل
وحاز فنوناً من ضروب معارفٍ ... ومن فضل تحقيقٍ ومن منطقٍ فصل
توخّى دمشق الشام فافترّ ثغرها ... سروراً به وازّيّنت من حلى الفضل
وشرّف مصراً قبلها فاكتست به ... ملابس فخرٍ زانها كرم الأصل
لقد أشرقت من أفق غربٍ شموسه ... وناهيك أفقاً نوره قدره معلي
نافسته فيها تنافست الورى ... بما قد غدا من درّ ألفاظه يملي
مليٌّ من التحقيق إن عنّ مشكلٌ ... تكفّل بالتبيان والشرح والحلّ
إذا ما أدار الدرّ من كأس لفظه ... سقانا عقار الفضل علاًّ على نهل
نظامٌ له يحكي قلائد عسجدٍ ... وثغرٌ مليحٌ فائق الحسن والدلّ حكت حبراً حيكت نمارق من غزل
له القلم الأعلى بشرقٍ ومغربٍ ... له الموضع الأسمى على الكلّ في الكلّ
فيا سيّداً حاز المفاخر والعلا ... وفاقت حلى الآداب منه على الحليّ
إليك من العبد الحقير تحيّةً ... لقد نشات عن خالص الودّ من خل
موالٍ يوالي الحبّ والقرب منكم ... بظاهر غيبٍ لا يحيد عن الوصل
فلا زلت محبوّاً بسابغ نعمةٍ ... وفضل نعيمٍ وافرٍ وارف الظلّ
ودمت لدى الأسفار في نجح أوبةٍ ... وجمعٍ لشملٍ بالمواطن والأهل وخاطبني أيضاً الشيخ سيدي محمد بن سعد الكلشني بقوله:
شهر شعبان جاءنا ليهنّا ... بقدوم الأستاذ كنز الفضائل(2/442)
بهجة الكون روض علمٍ وحلمٍ ... وهو مغني اللبيب إن جاء سائل
بمصابيح فضله قد أضاءت ... ساحة الجامع الكبير لآمل
وبمختار لفظه صار يحوي ... لحديثٍ مسلسلٍ عن أفاضل
ومن الغرب حين وافى لشرقٍ ... فاق بدر التّمام وسط المنازل
حلّ مني في القلب لمّا ... لاح سعد السعود لي غير آفل
وغدا بالأمان والسّعد أرّخ ... أحمد المقّريّ بالشام قائل وقال أيضاً شكراً لله تعالى نيته، وبلغه أمنيته:
أتاك دمشق الشام أكرم وارد ... فقريّ به عيناً وللحسن شاهدي
وهزّي دلالاً في أزاهر روضه ... معاطف لينٍ كالغصون الأمالد
لك البشر يا عيني ظفرت بأمجدٍ ... رفيع الذرى من فوق فرق الفراقد
لقد شاع بين الناس واسع فضله ... فكم قاصدٍ يسعى لنيل الفوائد
من العالم الفرد المفيد الذي له ... أيادٍ سمت بالجود تولى لقاصد
وذاك أبو العبّاس أحمد من صفت ... مناهله دوماً إلى كلّ وارد
تراه إذا وافيته متهلّلاً ... ويبسم حبّاً في وجوه الأماجد
إمامٌ سما قدراً على النجم رفعةً ... أرى وصفه في بيت نظم مشاهد
لديه ارتفاع المشتري وسعوده ... وسطوة بهرامٍ وظرف عطارد
شهدت بأن الله أولاه منحةً ... بنقل حديثٍ في جميع المساجد
ومذ حلّ في وادي دمشق ركابه ... وسؤدده وافى بأعدل شاهد
حوى كلّ إفضالٍ وكلّ فضيلةٍ ... بها يهتدى حقّاً لنيل المقاصد
وماذا عسى في مدحه أنا قائلٌ ... ولو جئت فيه مطنباً بالقصائد
إذا رمت أن تلقى نظيراً لمثله ... وفكرته قد قيّدت للشوارد
ومنطقه حاوي الشّفا بجواهر ... صحاحٍ بها يزدان عقد القلائد(2/443)
من الغرب وافى نحو شرقٍ فأشرقت ... شموس علومٍ أسفرت عن محامد
فناديته يا سيّدي من بفضله ... تواترت الأخبار عن غي واحد
عسى عطفةٌ منكم عليّ بنظرةٍ ... فأنت لموصول الجدا خير عائد
وأنت على ريب الزمان مساعدي ... وأن يميني للحسود وساعدي
فلا زلت تولي كلّ من هو آملٌ ... لبغيته من صادرٍ ثمّ وارد
وتبقى مدى الأيام في المجد رافلاً ... بثوب الهنا تكفى شرور الحواسد
وهاك عروساً تجتلي في حليّها ... إليك أتت في زيّ عذراء ناهد
تهنّي بعيد الفطر من بعد صومكم ... بخيرٍ جزيلٍ من لذيذ الموائد
وترجو جميل الستر إن هي مثّلت ... بحضرتك العلياء يا خير ماجد
وعش في أمان الله بالعزّ دائماً ... مدى الدهر ما سحّ الحيا في الفدافد
وما دارت الأفلاك من نحو قطبها ... وما بزغت شمس الضحى للمشاهد وقال أيضاً زاده الله تعالى من فضله:
ظبيٌ بوسط الفؤاد قائل ... أعجز بالوصف كلّ قائل
ظبيٌ بأجفانه سباني ... وسحرها ينتمي لبابل
يرمي بسهم اللحاظ لمّا ... يرنو فيصمي الفؤاد عاجل
قد فتن العقل مذ تجنّى ... عليّ حتى غدوت ذاهل
له قوامٌ كخوط بانٍ ... أو كالقنا السّمهريّ عادل
بدرٌ بدا كامل المعاني ... في القلب والطف عاد نازل
قد أسر القلب في هواه ... بقيد حسنٍ وفرع سابل
وما بقي منه لي خلاصٌ ... سوى مديحي رضى الأفاضل
أعني به المقّريّ من قد ... سما على البدر في المنازل
أحمد مولى له أيادٍ ... كالغيث يغني لكلّ سائل
علاّمةٌ حاز كلّ فضلٍ ... سبقاً ومن بالعلوم عامل(2/444)
من قد نشا في العلوم طرّاً ... وحاز علم البيان كامل
طويل باعٍ بسيط فضلٍ ... مديد جودٍ لكلّ آمل
ووافر العقل راح يهدي ... سريع فضلٍ لكلّ فاضل
وجامع العلم في ابتهاجٍ ... بمنطقٍ في الأصول حافل
وهكذا في الكلام مهما ... أفاده في الدروس شامل
يروي صحيح الحديث دأباً ... بالسّند الواصل الدلائل
وكم علومٍ أفاد من قد ... أتاه في مشكل المسائل
وحلّ إبهام كلّ شكلٍ ... من فنّ وفقٍ إلى الوسائل (1)
وغاص في لجّة المعاني ... واستخرج الدّرّ في المحافل
وفي فنون البديع أضحى ... جناسه قد حوى رسائل
وكم دليلٍ أقام لمّا ... برهانه أبهت المعازل
إن كان وافى لنا أخيراً ... فهو الذي فاخر الأوائل
بحرٌ محيطٌ يفيض منه ... على رياضٍ بكلّ ساحل
وافى من الغرب نحو شرقٍ ... يجوب من فوق متن بازل
في مهمهٍ صحصحٍ مهولٍ ... وحزنه كم به غوائل
وحثّ فيه المسير حتى ... خلّفه من وراء كاهل
وجاء باليمن في أمانٍ ... وصحّة الجسم والشمائل
وحلّ فيا لشام عند قومٍ ... من أكرم الناس في القبائل
ذاك ابن شاهين ذو المعالي ... ربّ الندى للألوف باذل
كأنّه الشمس جاء يهدي ... للبدر ونوراً وليس آفل
بل كان غيثاً لهم وكانوا ... روضاً أريضاً لشكر وابل
فبجّلوه وعظّموه ... وادخروا عاجلاً لآجل
__________
(1) يشير إلى عنوان مؤلف للمقري وهو: في الوفق المخمس الخالي الوسط.(2/445)
جزاهم الله كلّ خيرٍ ... وصانهم من جدال جاهل
وأحمدٌ دام في أمانٍ ... المقّريّ الرضى المعامل
لربّه في دجى اللّيالي ... ويرشد الناس في الأصائل
لا زال في نعمةٍ وخيرٍ ... وفي أمانٍ يعود عاجل وخاطبني الأديب الفاضل، الشيخ أبو بكر العمري (1) شيخ الأدباء بدمشق، حفظه الله تعالى، بقوله:
تاهت تلمسان على مدن الدنى ... بعالمٍ في العالمين يحمد
المقّريّ أحمدٌ ربّ الحجى ... الكامل البحر الخضمّ المزبد
مالك هذا العصر شافعيّه ... أحمده نعمانه المسدّد
مذ حلّ مصر أذعنت أعلامها ... لفضله وبجّلوا ومجّدوا
وفي دمشق الشام دام سعدها ... كان له بها المقام الأسعد
العلماء أجمعوا جميعهم ... على معاليه التي لا تجحد
أقام شهراً أو يزيد وانثنى ... وفي الحشا منه المقيم المقعد
سالت على فراقه دموعنا ... وفي القلوب زفرةٌ لا تخمد
لو قيل من يحمد في تاريخه ... ما قلت إلا المقّريّ أحمد
لا برحت أوقته مفيدةً ... ما صاح فوق عوده مغرّد قلت: وذكري لكلام أعيان دمشق - حفظهم الله تعالى - ومديحهم لي، ليس - علم الله - لاعتقادي في نفسي فضلاً، بل أتيت به دلالة فضلهم الباهر، حيث عاملوا مثلي من القاصرين بهذه المعاملة، وكسوه حلل تلك المجاملة،
__________
(1) هو الأديب أبو بكر ابن منصور بن بركات بن حسن بن علي العمري الدمشقي، كان ينظم الموشح والدوبيت وأنواع الزجل وهو سابق في كل فن منها، وقد كان كثير الرحلة والتنقل، توفي آخر جمادى الآخرة سنة 1048 (خلاصة الأثر 1: 99) .(2/446)
مع كوني لست في الحقيقة له بأهل، لما أنا عله من الخطإ والخطل والجهل.
ولقد خاطبت من مصر مفتي الشام صدر الأكابر، وارث المجد كابراً عن كابر، ساحب أذيال الكمال، صاحب الخلال المبلغة الآمال، مولانا شيخ الإسلام الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي، بكتاب لم يحضرني منه الآن غير بيتين في أوله، وهما:
يا حادي الأظعان نحو الشّام ... بلّغ تحياتي لتلك الخيام (1)
وابدأ بمفتيها العماديّ الرضى ... دام به شمل الهنا (2) في التئام فأجابني بما نصّه:
إلى أهالي مصر أهدي السّلام ... مبتدئاً بالمقّريّ الهمام
من ضاع نشر العلم من عرفه ... ولم يضع منه الوفا للذّمام أهدي تحف التحية، إلى حضرته العلية، وذاته ذات الفضائل السنية الأحمدية، التي من صحبها لم يزل موصولاً بطرائف الصّلات والعوائد، الأوحديّة الجامعة التي لها منها عليها شواهد (3) :
وليس لله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد فيا من جذب قلوب أهل عصره إلى مصره (4) ، وأعجز عن وصف فضله كلّ بليغ ولو وصل إلى النثرة (5) بنثره، أو إلى الشّعرى بشعره، ومن زرع حبّ حبّه في القلوب فاستوى على سوقه، وكاد كل قلب يذوب بعد بعده من
__________
(1) ق: التهام.
(2) دوزي: الهوى.
(3) البيت لأبي نواس.
(4) في نسخة: لمصره.
(5) النثرة: اسم لكوكبين.(2/447)
حر شوقه، وظهرت شمس فضله منالجانب الغربي فبهرت بالشروق، وأصبح كل صب وهو إلى بهجتها مشوق، زار الشام ثم ما سلّم حتى ودّع، بعد أن فرع بروضها أفنان الفنون فأبدع، وأسهم لكلٍّ من أهلها نصيباً من وداده، فكان أوفرهم سهماً هذا المحب الذي رفع بصحبته سمك عماده، وعلق بمحبته شغاف فؤاده، فإنّه دنا من قلبه فتدلّى، وفاز من حبّه بالسهم المعلّى، أدام الله تعالى لك البقا، وأحسن لنا بك الملتقى، ومنّ علينا منك بنعمة قرب اللقا، آمين بمنّه ويمنه، هذا، وقد وصل من ذلك الخلّ الوفيّ، كتابٌ كريم هو اللطف الخفيّ، بل هو من عزيز مصر القميص اليوسفي، جاء به البشير ذو الفضل السني، الخل العز الأجل التاج المحاسني، مشتملاً على عقود الجواهر، بل النجوم الزواهر، بل الآيات البواهر، تكاد تقطر البلاغة من حواشيه (1) ، ويشهد بالوصول إلى طرفها الأعلى لموشّيه، فليت شعري بأي لسان، أثني على فصوله الحسان، العالية الشان، الغالية الأثمان، التي هي أنفس من قلائد العقيان، وأبدع من مقامات بديع الزمان، فطفقت أرتع من معانيها وفي أمتع رياض، وأقطع بأنّ في منشئها اعتياضاً لهذا العصر عن عياض (2) :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدحٍ فلا أرضى لها كلمي ولا سيما فصل التعزية والتسلية، المشتمل على عقد التخلية بل عقود التحلية، لتلميذكم الولد إبراهيم، فإنّه له كرقية السليم، بعد أن كاد يهيم، فجاء ولله درّه في أحسن المحالّ، ووقع الموقع حتى كأن الولد نشط ببركه من عقال:
وإذا الشيء أتى في وقته ... زاد في العين جمالاً لجمال
__________
(1) تكاد ... حواشيه: سقطت من ق.
(2) البيت لعمارة اليمني (النكت العصرية: 33) من قصيدة يمدح فيها الفائز الفاطمي ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك ومطلعها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أولت من النعم(2/448)
فجزاكم الله تعالى عنّا أحسن الجزاء، ثمّ أحسن لكم جميل العزاء، فيمن ذكرتم من كريمتي الأصل والفرع، وأبقى منكم ماكثاً في الأرض من به للناس أعمّ النفع. وأمّا من كان وليي وسميي ومنجدي، الشهيد السعيد المرحوم الشيخ عبد الرحمن المرشدي، فإنّها أصابت منّا منكم والأخوين، فقد عمّت الحرمين، بل طمت الثّقلين، ولقد عدّ مصابه في الإسلام ثلمة، وفقد به في حرم الله تعالى من كان يدعى للملمّة، ولم يبق بعده إلاّ من يدعى إذا يحاس الحيس (1) ، واستحق أن ينشد في حقّه وإن لم يقس به قيس (2) :
وما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّما فالله تعالى يرفع درجاته في علّيّين، ويبقى وجودكم للإسلام والسلمين، وتلامذتكم الأولاد، يرجون من بركات أدعيتكم أعظم الأمداد، ويهدون أكمل التحيّة، إلى حضرتكم العليّة، ونبلغكم دعاء صاحب السعادة، أدام الله تعالى إسعادكم وإسعاده، ونحن من صحبته الشهية، في رياض فنون أدبية، أبهاها لمعات محاضرة في ذكر شمائلكم الجميلة، تنور المجالس، وأشهاها نسمات محاورة بنشر فضائلكم الجليلة، تعطر المجالس، وسلام جملة الأصحاب من أهل الشام، وعامة الخواص والعام، والدعاء على الدوام - المخلص الداعي عبد الرحمن العمادي، مفتي الحنفية، بدمشق المحمية.
ووردت عليّ مع المكتوب مكاتبات لجماعة من أعيان الشام حفظهم الله تعالى؛ فمنها من الصديق الحميم، الرافل في حلل المجد الصميم، الخطيب، الأديب، سيدي الشيخ المحاسني يحيى، أسمى الله تعالى قدره في الدين والدنيا، كتابان نصّ أولهما: باسمه سبحانه:
__________
(1) إشارة إلى قول الشاعر (السمط: 288 وذيله: 86، 84) :
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب (2) البيت من قصيدة لعبدة بن الطبيب يرثي فيها قيس بن عاصم (حماسة المرزوقي: 790) .(2/449)
لئن حكّمت أيدي النّوى وتعرّضت ... عوارض بينٍ بيننا وتفرّق
فطرفي إلى رؤياكم متشوّف ... وقلبي إلى لقياكم متشوّق يقبل الأرض الشريفة لا زالت مركزاً لدائرة التهاني، وقطباً لفلك تجري المجرّة في حجرته على الدقائق والثواني، ولا برحت ألسن البلاغة عن تمييز براعة يراعة حامي حماها معربة، وبلابل الآداب على الأغصان في رياض فضله بمثاني الثناء صادحة، وبألحان سجعها مطربة:
أرضٌ بها فلك المعالي دائرٌ ... والشمس تشرق والبدور تحوم
ولها من الزهر المنضّد أنجمٌ ... ولها على أفق السماء نجوم عمّر الله تعالى بالمسرّات محلّها، وعمّ بالخيرات من حلّها، ويبتدئ بسلام يخبر عن صحيح ودّه السالم، ومزيد غرام يؤكد حبّه الذي هو للولاء حازم، وينعت شوقاً يحرك ما سكن صميم الضمير، من صدق حبّ سلم جمعه من التكسير، ويؤكد السلام بتوابع المدح والثناء، ويعرب عن محبة مشيدة البناء، وينهي أن السبب في تسطيرها، والباعث على تحريرها، أشواق أضرم نارها في الفؤاد، ومحبّة لو تجسّمت لملأت البلاد، وأقول:
شوقي لذاتك شوقٌ لا أزال أرى ... أجدّه يا إمام العصر أقدمه
ولي فزٌ كاد ذكر الشوق يحرقه ... لو كان من قال: نارٌ، أحرقت فمه هذا وإن تفضّل المولى بالسؤال عن حال هذا العبد فهو باقٍ على ما تشهد الذات العلية، من صدق المحبّة ورقّ العبودية، ولم يزل يزين أفق المجالس بذكركم، ولا يقتطف عند المحاضرة إلاّ من زهركم، ولم ينس حلاوة العيش في تلك الأوقات التي مضت في خدمتكم المحروسة بعناية الملك المتعال، وليالي الأنس التي قيل فيها، " وكانت بالعراق لنا ليال ":(2/450)
واهاً لها من ليالٍ هل تعود كما ... كانت، وأيّ ليالٍ عاد ماضيها
لم أنسها مذ نأت عنّي ببهجتها ... وأيّ أنسٍ من الأيام ينسيها فنسأل الله تعالى أن يمن بالتلاق، ويفصل مانعة الجمع بطيّ شقة الفراق، إن ذلك على الله يسير، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
وبعد، فالمعروض على مسامع سيدي الكريمة، لا زالت من كل سوء سليمة، أنّه وصلنا مكتوبكم الكريم، صحبة العم المحب القديم، فحصل لهذا العبد به جبر عظيم، وأنس جسيم، كما شهد بذلك السميع العليم، فعزمت على ترك الإجابة، لعدم الإجادة، ومتى تبلغ الألفاظ المذمومة ما بلغته الألفاظ المقّريّة وأين يصل صاحب الزّمر كما قيل إلى الدقات الخليلية ولكنّني خشيت من ترك الإجابة توهّم نقض ما أبنيه من رق العبوديّة وصحة الوداد، ومن انقطاع برق شيخي الذي هو لبيت شرفي العمدة والعماد، فلزم من ذلك أن كتبت لجنابه الشريف الجواب، وإن كان خطؤه أكثر من الصواب، وأرسلته قبل ذل بعشرة أيام، ومكتوب هذا العبد صحبته مكتوبان: أحدهما من محبكم شيخ الإسلام المفتي العمادي، والآخر من محبكم أحمد أفندي الشاهيني، وهما وبقية أكابر البلدة وأعيانها يبلغونكم السلام التام، ولا تؤاخذونا في هذا المكتوب فإنّي كتبته عجلاً، ومن جنابكم خجلاً، دام خيركم على الدوام، إلى قيام الساعة وساعة القيام، وحرره يوم الاثنين 11 من جمادى الثانية سنة 1038، الفقير الداعي يحيى المحاسني، انتهى.
ونصّ الكتاب الثاني من المذكور أسماه الله باسمه سبحانه: مخلصك الذي محض لك وداده، ومحبك الذي أسلم لمحبتك قياده، بل عبد كالذي لا يروم الخروج عن رقّك، وتلميذك الذي لم يزل مغترفاً من فيض علومك، معترفاً بحقّك، من أسكنك لبّه، وأخلص لك بحبّه، واتخذك من بين الأنام ذخراً نافعاً، وكهفاً مانعاً، ومولى رفيعاً، وشهاباً ساطعاً، وتشبّث بأسباب علومك(2/451)
وتمسّك، يهدي إليك سلاماً كأنّما تعطّر مسك ثنائك وتمسّك، واكتسب من لطف طبعك الرقة، واستعار من سنا وجهك حلّة مستحقّة، وتحية لم يكن مناه إلا أن تكون بالمواجهة، والمحاضرة والمشافهة، على أن فؤاده لم يبرح لك سكناً، وأحشاءه لك موطناً، ويبدي دعواتٍ يحقّق الفضل أنّها من القضايا المنتجة، وأن أبواب القبول لها غير مرتجة، مقبّلاً أياديك التي وكفت بوابل جودها، فهذا يرفل في حللها، وهذا يتحلّى بعقودها:
فهي التي تعنو الرّياض لرقمها ... ويغار منها الدّرّ في تنضيدها
ويحار أرباب البيان لنظمها ... فهم بحضرتها كبعض عبيدها متمسكاً من ولائك بوثيق العرى، متمسكاً من ثنائك الذي لا يزال الكون منه معنبرا، متشوقاً للقائك الذي بالمهج يستام وبالنفوس يشترى، متشوفاً إلى ما يرد من أنبائك التي تسرّ خبرا، وتحمد أثرا، أعني بذلك المولى الذي أقام بفناء الفسطاط مخيماً، وانتجع حماه رائد الفضل ميمماً، وشدّت لفضائله الرّحال، ووقفت عندها بل دونها فحول الرجال، وطلعت شموس علومه في سماء القاهرة، فاختفت نجوم فضلائها والأشعة باهرة:
هو الشّمس علماً والجميع كواكبٌ ... إذا ظهرت لم يبد منهم كوكب فهو العالم الذي سرى ذكره في الآفاق، مسير الصّبا جاذب ذيلها النسيم الخفّاق، الذي أطلع شمس التحقيق من أفق بيانه، وأظهر بدر التدقيق من تبيانه، فلهذا عقدت عليه الخناصر بين علماء عصره، وانعطفت إليه الأواصر من فضلاء مصره، فلا يضاهيه في ذلك أحد في زمانه، وينسق ما نسقه من درّه ومرجانه، فهو المعوّل عليه في مشكلات العلوم، معقولها ومنقولها والمنطوق والمفهوم، الذي لم تسمح بمثله الأزمان والعصور، ولم يأت بنظيره تتابع الأعصار(2/452)
والدهور، من عجز لسان القلم، عن التصريح باسمه الشريف في هذا الرقم، لا زالت المدارس مشرقة بإلقائه فيها الدروس، ولا برحت البقع عامرة بوجوده بعد الدّروس، ما سطّرت آيات الأشواق في الصحائف والطروس، وأرسلت من تلميذ إلى أستاذ بسبب نسبته إليه فحصل على المطلوب من شرف النفوس، هذا، والذي يبدي لحضرتكم، وينهي لطلعتكم، أن الراقم لهذه الصحيفة، المشرّفة ببعض أوصافكم اللّطيفة، المرسلة لساحة فضائلكم المنيفة، هو تلميذكم من تشرف بدرسكم، وافتخر بإجازتكم، يبدي لكم تلهّفه لنيران أشواقه التي التهبت، وتأسفه على الأيّام السالفة مذهبة في خدمتكم (1) لا ذهبت، وتوجّعه لهذه الأزمان التي استرجعت بالبعد عنه من ذمّته ما وهبت، وتطلعه إلى ما يشنّف به الأسماع من فضائله التي سلبت (2) العقول وانتهبت، فلم يزل يسأل الرواة عنها، ليلتقط منها، وقد تحقّق أن فرائدها لا يلفي لها نظيراً ولا يدرك لها كنها (3) ، وكيف لا ومنها يتعلّم الفاضل اللبيب، وإليها يفتقر السعيد ويتودّد حبيب، وعليها يعتمد ابن العميد، ولم تنفكّ راقيةً في درج المزيد، وعبد الحميد عبد الحميد، وعلم شيخي محيط بصدق محبتي وإخلاصها، وشدّة حرصي على تحصيل فوائد مولانا واقتناصها، وأنّني لا أزال ذاكراً لمحاسنه التي ليست في غيره مجموعة، ومتطفّلاً على ثمار أفكاره التي هي لا مقطوعة ولا ممنوعة، وخاطره الشريف على الحقيقة يشهد بذلك، فلا يحتاج هذا العبد إلى بيّنة لدى مولانا الأستاذ المالك، وحقيق على من فارق تلك الأخلاق الغرّ، والشمائل الزّهر، والعشرة المعشوقة، والسجايا الموموقة، والفضائل الموفورة، والمآثر المشهورة، أن يشق جيب الصبر، ويجعل النار حشو الصدر:
__________
(1) أشواقه.... خدمتكم: سقطت من ق.
(2) ق: سلبتها.
(3) ق ودوزي: ولا يدرك كنهها.(2/453)
وإنّي لتعروني لذكراك هزّةٌ ... كما انتفض العصفور بلّله القطر (1) ولو ملكت مرادي، لما اخضرّ إلاّ في ذراه مرادي، بل لو دار الفلك على اختياري، لما نضوت إلا عنده ليلي ونهاري:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان
وتحت ضلوعي لوعة لو كتمتها ... لخفت على الأحشاء أن تتضرّما
ولو بحت في كتبي بما في جوانحي ... لأنطقتها ناراً وأبكيتها دما وأنا لا أقترح على الدهر إلاّ لقياه، ولا أقطع حاضر الوقت إلا بذكراه، وما أعد أيامي التي سعدت فيها بلقائه إلا مفتاح السرور، ومطالع السعود والحبور، ولست أعيبها إلا بقلة البقاء، وسرعة الانقضاء، وكذلك عمر السرور قصير، والدهر بتفريق الأحبّة بصير، وربما اهتزّ العود بعد الذبول، وطلع النجم بعد الأفول، وأديل الوصال من الفراق، وعاد العيش المرّ حلو المذاق:
وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... كأحسن ما كنّا عليه بآيس فأمّا الآن فلا أزجي الوقت إلا بقلب شديد الاضطراب، وجوانح لا تفيق من التوقد والالتهاب، وكيف لا وحالي حال من ودّع صفو الحية يوم وداعه، وانقطع عنه الأنس ساعة انقطاعه، وطوى الشوق جوانحه على غليل، وحلّ أضلاعه على كمد دخيل، وأغرى بي فلزمني ولزمته، وألف بيني وبين الوجد فألفني وألفته، فلا أسلك للعزاء طريقاً إلاّ وجدته مسدوداً، ولا أقصد للصبر باباً إلا ألفيته مردوداً، ولا أعدّ اليوم بعد فراق سيّدي إلا شهراً، والشهر دون لقائه إلاّ دهراً، ولست بناسٍ أيامنا التي هي تاريخ زماني، وعنوان الأماني، إذ ماء الاجتماع عذب، وغصن الازديار (2) رطب، وأعين الحواسد راقدة،
__________
(1) البيت لأبي صخر الهذلي (ديوان الهذليين: 930) وينسب أحياناً لغيره.
(2) ق: الأزدياد.(2/454)
وأسواق صروف الدهر كاسدة، وفما كانت إلاّ لمحة الطرف، ووثبة الطّرف، ولمعة البرق الخاطف، وزورة الخيال الطائف، وما تذكر تلك الأيّام في أكناف فضائله ونضرتها، ورياض علومه في ظلّه وخضرتها، إلاّ أوجب على عينه أن تدمع، وانثنى على كبده خشية أن تصدّع (1) ، ثم لمّا ورد على عبدكم مكتوبكم الكريم، صحبة حضرة العم المحبّ القديم، فكان كالعافية للصبّ السقيم، كما يشهد بذلك السميع العليم، فوقف له منتصبا، وخفّف عنه برؤيته وصبا، وذكر أيام الجمع فهام وجداً وبها صبا، فاستخفّه الإعجاب طربا، وشاهد صدوره فقال: هكذا تكون الرياض، وعاين لطفه فقال: هكذا تكون الصّبا، وقبّل كل حرف منه ووضعه على الراس، وحصل له بعد ترقّبه غاية المجاورة (2) والاستئناس، فعند ذلك أنشد قول بعض الناس:
ورد الكتاب فكان عند وروده ... عيداً، ولكن هيّج الأشواقا
ألفاته قد عانقت صاداته ... كعناق مشتاق يخاف فراقا
فكأنّما النّونات فيه أهلّة ... وكأنّما صاداته أحداقا
فعسى الإله كما قضى بفراقنا ... يقضي لنا يوماً بأن نتلاقى فجعلته نصب عيني أتسلى به عند استيلاء الشوق على قلبي، وأطفئ بتأمّله نيران وجدي إذا التهبت في صدري، وسررت به سرور من وجد ضالة عمره، وأدرك جميع أمانيه من دهره، وأنست بتصفّحه أنس الرياض بانهلال القطر، والساري بطلوع البدر، والمسافر بتعريس (3) الفجر، وكيف لا وقد أصبح في وجه الأماني خدّا، بل في خدّها وردا، وصار حسنة من حسنات دهري،
__________
(1) إشارة إلى قول الصمة القشيري:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا (2) ق: المجابرة.
(3) ق: بتعريسة.(2/455)
لا يمحو مرور الأيام موضعها من صدري، وطلعت طوالع السرور وكانت آفلة، واهتزت غصون الفرح وكانت ذابلة، ولا سيّما لما تضمّن من البشارة السّارة بصحّة المولى وسلامته، وحلوله في منازل عزّه وكرامته، وموعده الكريم بعوده إلى دمشق الشام، سقاها صوب الغمام (1) ، مرّة ثانية، ويتم افتخارها على غيرها فلا تزال مفاخرة مباهية، نسأل الله تعالى أن يحقّق ذلك، وأن يسلك بسيدي أحسن المسالك، إنّه سبحانه وتعالى سامع الأصوات، ومجيب الدعوات، فإن عودكم يا سيّدي والله مرّة أخرى هو الحياة الشهية، والأمنية التي ترتجي النفس بلوغها قبل المنيّة، وما أنا من الله بآيس من أن يتيح سببا، يعيد المزار مقتربا، والشمل مجتمعا، وحبل البين منقطعا.
ثم ليعرض على مسامع سيدي الكريمة، لا زالت من كل سوء سليمة، أنّا أوصلنا مكاتيبكم كما أمرتم لأربابها، لا سيّما مكتوب شيخ الإسلام سيدي عبد الرحمن أفندي المفتي بالشام، ومكتوب المولى الأعظم، والهمام الأفخم، أحمد أفندي الشاهيني، أعزّه الله تعالى فإنّه وقع عنده الموقع العظيم، وحصل له به السرور المقيم، كما يدل على ذلك جوابه الكريم، المحفوف بالتعظيم والتكريم، غير أنّه قد ساءنا ما اتصل بمولانا من نفوذ قضاء الله تعالى الذي يعم، في البنت والأم، فجعل الله تعالى في عمر سيدي البركة، وكان له في السكون والحركة، وماذا عسى أن يذكر لجنابكم في أمر التعزية ويقرّر، ومنكم يستفاد مثله وعنكم (2) يحرّر، والأستاذ أدرى بصروف الدهر وتفنّنها، وأحوال الزمان وتلوّنها، وأعرف بأنالدنيا دار لها بسكانها مدار، وأن الحياة ثوب مستعار، ونعيم الدنيا وبؤسها ما لواحد منهما فيها قرار، وأن لكل طالع أفولاً، ولكل ناضر ذبولاً، ووراء كل ضياء ظلاماً، ولكل عروة من عرى الدنيا انفصاماً، فهو
__________
(1) ق: صوب الفحام.
(2) عنكم: سقطت من ق.(2/456)
محلّ لأني يقوى في العزاء عزائمه، ويصغر في عينه نوائب الدهر وعظائمه، ويغنيه عن عظة تجد له مقالاً، وتحلّ عن عقله عقالاً، وهو يتلقّى المصائب، بفكر ثاقب، وفهم صائب، وصبر يقصر عنه الطّود الأشم، وعزم ينفلق دونه الصخر الأصم، وحلم يرجح إذا طاشت الأحلام، وقدمٍ تثبت إذا زلّت الأقدام، ومدّ المقال في ضرب الأمثال، إلى جنابكم الشريف نوعٌ من تجاوز حدّ الإجلال، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذه المصيبة خاتمة، ولا يريه بعدها إلاّ دولة قائمة ونعمة دائمة، وأن يحرسه من غير الليل والنّهار، ويجعله وارث الأعمار بجاه نبينا محمد المختار، صلى الله عليه وسلّم وعلى آله وصحبه الأطهار، بمنّه وكرمه.
ثمّ أبلغ سيدي - أطال الله عمره، وشرح صدره، ونشر بالخير ذكره - السلام التام، المقرون بألف تحيّة وإكرام، من أهل البلدة جميعاً، لا سيّما من مفتيها العمادي، حرس الله ذاته التي هي منهل للصادي والغادي، وأولاده الكرام، المستحقين للإعزاز والإكرام، ومن كبيرها، ومدبّرها ومشيرها، أحمد أفندي الشاهيني، أعزّه الله تعالى بعزّه، وجعله تحت كنفه وحرزه، ومن خطيبها مولانا الشيخ أحمد البهنسي، ونقيب أشرافها مولانا السيد كما الدين، وجميع المحبّين الداعين لذلكم الجناب، والمتمسّكين بتراب تلكم الأعتاب، ومن والوالد والعم، والله يا سيّدي إنّه ناشرٌ لواء الثّناء والمحامد، وداعٍ لذلك الجناب الكاسب للمفاخر والمحامد، وحضرة شيخنا شيخ الإسلام وبركة الشام، مولانا وسيّدنا الشيخ عمر القاري، أبقى الله تعالى وجوده، وضاعف علينا إحسانه وجوده، وأولاده يسلّمون عليكم السلام الوافر، وينهون لكم الشوق المتكاثر، وحرّر في 2 جمادى الثانية سنة 1038، المحبّ الداعي يحيى المحاسني، انتهى.
وكتب إليّ عمّه الفاضل الأسمى ما صورته: باسمه سبحانه وتعالى:(2/457)
وإنّي لمشتاقٌ إلى وجهك الذي ... تهلّله أهدى السناء إلى البدر
وأخلاقك الغر اللواتي كأنّها ... تساقط أنداء الغمام على الزّهر سيدي الذي عبوديتي إليه مصروفة، ودواعي محبّتي لديه موفورة وعليه موقوفة، علم الله سبحانه أنّني لا أزجيّي أوقاتي إلا بذكراه، ولا أرجّي اليمن من ساعاتي إلا باستنشاق نسيم ريّاه، وأنّني إلى طلعته أشوق من الصادي إلى ماء صدّاء (1) ، ومن كثير عزّة إلى نوء تيماء:
يرنّحني إليك الشوق حتّى ... أميل من اليمين إلى الشّمال
ويأخذني لذكراك اهتزازٌ ... كما نشط الأسير من العقال ولي على صدق هذه الدعوى من نباهة لبّه شاهد معدّل، ومن نزاهة قلبه مزكٍّ غير ملوم ولا معذّل، كيف لا ومطالع البيان مشرقها من أفلاك فهومه، وجواهر التبيان مقذفها من بحار علومه، وهو بحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار، وجبل الحلم الذي رسخ بالهيبة والوقار:
لو اقتسمت أخلاقه الغر لم تجد ... معيباً ولا خلقاً من الناس عائبا وماذا عسى أصف به مولانا وقد عجز عن وصفه لسان كلّ واصف، وحر في بث فضائله أرباب المعارف والعوارف:
فلو نظمت الثّريّا ... والشّعريين قريضا
وكاهل الأرض ضرباً ... وشعب رضوى عروضا
وصفت للدّرّ ضدّاً ... وللهواء نقيضا ولكنّني أقول: الثناء منجح أنّى سلك، والسخيّ جوده بما ملك، وإن لم يكن خمر فخلّ، وإن لم يصبها وابل فطلّ. هذا، وقد أوصلنا مكاتيبكم
__________
(1) صداء: اسم ماء جرى فيه المثل: " ماء ولا كصداء ".(2/458)
الشريفة لأربابها، فكانت لديهم أكرم قادم، وأشرف منادم، وقد تداولها الأفاضل وشهدوا أنّها من بنات الأفكار، التي لم يكشف عنها لغير سيدي حجب الاستتار، وقد وجدنا كلاًّ منهم ملتهباً بجمرات الشوق، متجاوزاً حدّ الصبابة والتّوق ليس لهم شغل إلاّ ذكر أوصافكم الحميدة، وبثّ ما أبديتموه بدروسكم المفيدة، وما منهم إلا ويرجو بلّ الصدى ونقع الظما برؤية ذلك المحيّا، والتملّي بتلك الطلعة العليا. وإن سأل سيدي عن أخبار دمشق المحروسة، دامت ربوعها المأنوسة، فهي ولله الحمد منتظمة الأحوال، أمنها الله من الشرور والأهوال، ولم يتجدد من الأخبار ما نعلم به ذلكم الجناب، لا زال ملحوظاً بعين عناية ربّ الأرباب، وأنا أسأل الله تعالى أن يصون جوهر تلك الذات من عوارض الحدثان، وأن يحمي تلك الحضرة العلية من طوارق حكم الدوران:
آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ ... حتى أضيف إليها ألف آمينا وهذا دعاء للبرية شامل - العبد الداعي، بجميع البواعث والدواعي، تاج الدين المحاسني، عفا الله تعالى عنه، انتهى.
وبالهامش ما صورته: وكاتب الأحرف العبد الداعي محمد المحاسني يقبّل يدكم الشريفة، ويخصكم بالسلام الوافر، ويبثّ لديكم الشوق المتكاثر، غير أنّه قد نازعته نفسه في ترك المعاتبة، لسيده الذي لم يسعد عبد منه بالكتابة، على أنها مكاتبة تحكم عقد العبوديّة، ولا تخرج رقبته من طوق الرّقّيّة، والمطلوب أن يخصّه سيده وشيخه بدعواته المستطابة، التي لا شكّ أنّها مستجابة، كما هو في سائر أوقاته، وحسبان ساعاته، ودمتم، وحرر في رابع جمادى الثانية سنة 1038، انتهى.
وكتب سيدي التاج المذكور لي ضمن رسالة من بعض الأصحاب ما وصورته:
يا فاضل العصر يا من ... للشّرق والغرب شرّف(2/459)
يا أحمد الناس طرّاً ... في كلّ ما يتصرّف
يهدي إليك محبٌّ ... دموعه تتذرّف
شوقاً وودّاً قديماً ... منكّراً يتعرّف ولنختم مخاطبات أهل دمشق لي بما كتبه لي أوحد الموالي الكبراء، السري، عين الأعيان، صدر أرباب البلاغة والبيان، مولانا أحمد الشاهيني السابق الذكر في هذا التأليف مرات، ضاعف الله تعالى لديه أنواع المبرات والمسرات، آمين، ليكون مسكاً للختام، إذ محاسنه ليس بها خفاء ولا لها انكتام، ونصّ محل الحاجة منه هو الفياض:
" يا سيداً أحرز خصل العلا ... بالبأس والرأي السّديد الشّديد
ومن على أهل النّهى قد علا ... بطبعه السامي المجيد المجيد
ومن يزين الدهر منه حلى ... قولٍ نظيمٍ كالفريد النّضيد
ومن صدا فكري منه جلا ... نظمٌ له القلب عميد حميد
ومن له من يوم قالوا " بلى " (1) ... في مهجتي حبٌّ جديدٌ مزيد
ومن غدا بين جميع الملا ... بالعلم والحلم الوحيد الفريد
أفديك بالنفس مع الأهل لا ... بالمال، والمال عتيدٌ عديد أقسم بالله الذي علت كلمته، وعمّت رحمته، وسحرت القلوب والعقول رأفته ومحبته، وجعل الأرواح جنوداً مجنّدة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، أنّني أشوق إلى تقبيل أقدام شيخي من الظمآن للماء، ومن الساري لطلعة ذكاء، وليس تقبيل الأقدام، ممّا يدفع عن المشوق الأوام، وقد كانت الحال هذه وليس بيني وبينه حاجز إلا الجدار، إذ كان حفظه الله تعالى جار الدار، فكيف الآن بالغرام وهو حفظه الله تعالى بمصر وأنا بالشام،
__________
(1) قالوا: بلى، أي عندما سأل الله الخلق " ألست بربكم ".(2/460)
وليس غيبة مولانا الأستاذ عنّا، إلا غيبة العافية عن الجسم المضنى، بل غيبة الروح، عن الجسد البالي المطروح، ولا العيشة بعد فراقه، وهجر أحبابه ورفاقه، إلاّ - كما قال بديع الزمان - عيشة الحوت في البر، والثلج في الحر، وليس الشوق إليه بشوق، وإنّما هو العظم الكسير، والنزع العسير، والسم يسري ويسير، وليس الصبر عنه بصبر، وإنّما هو الصاب والمصاب، والكبد في يد القصاب، والنفس رهينة الأوصاب، والحين الحائن وأين يصاب، ولا أعرف كيف أصف شرف الوقت الذي ورد فيه كتاب شيخي بخطّه، مزيناً بضبطه، بلى، قد كان شرف عطارد، حتى اجتمع من أنواع البلاغة عندي كل شارد، وأمّا خطه فكما قال الصاحب بن عبّاد: أهذا خط قابوس، أم جناح الطاووس أو كما قال أبو الطّيب:
من خطّه في كل قلبٍ شهوةٌ ... حتى كأنّ مداده الأهواء وأنا أقول ما هو أبدع وأبرع، وفي هذا الباب أنفع وأجمع: بل هو خط الأمان من الزمان، والبراءة من طوارق الحدثان، والحرز الحريز، والكلام الحر الإبريز، والجوهر النفيس العزيز، وأما الكتاب نفسه فقد حسدني عليه إخواني، واستبشر به أهلي وخلاّني، وكان تقبيلي لأماليه، أكثر من نظري فيه، شوقاً إلى تقبيل يد وشّته وحشّته، واعتياداً للثم أنامل جسّته ومسّته، وأمّا اليراعة، فلا شكّ أنها ينبوع البراعة، حتى جرى من سحر البلاغة منها ما جرى:
فجاء الكتاب كسحر العيون ... بما راح يسبي عقول الورى وينادي بإحراز خصل سحر البيان من الثريا إلى الثرى، ولم أر كتاباً قبل تكون محاسنه متداخلة مترادفة، ولطائفه وبدائعه متضاعفة متراصفة وذلك لأنّه سرد من غرر درره الأحاسن، وورد على يد رأس أحبابنا تاج بني محاسن:
أولئك قومٌ أحرزوا الحسن كلّه ... فما منهم إلاّ فتى فاق في الحسن(2/461)
وكما قلت فيهم أيضاً:
فبنو المحاسن بيننا ... كبني المنجّم في النجابه
فهم القرابة إن عدم ... ت من الأنام هوى القرابه
فيهم محاسن جمّةٌ ... منها الخطابة والكتابه ثمّ لم يكتف سيدي وشيخي بما أنعم به، وأحسن بكتبه، من كتابه المزين بخطه، المبين بضبطه، المسمى بين أهل الوفاء، بكتاب الأصفياء، حتى أضاف إليه كتاب الشفاء، في بديع الاكتفاء، كأنّه لم يرض طبعه الشريف المفرد المستثنى، إلا أن تكون حسناته لدى أحبابه مثنى مثنى، حتى كأن مراده بتضيف هذا الإكرام والإحسان، تعجيز العبد عن أداء خدمة الحمد بحصر البيان وعقد اللسان، إذ لست ذا لسانين، حتى أؤدّي شكر إحسانين، وغاية البليغ في هذا المضمار الخطير، أن يعترف بالقصور ويلتزم بالتقصير.
ومن فصول هذا الكتاب ما نصّه: ومن باب إدخال السرور على سيدي وشيخي وبركتي خبر المدرسة الداخلية التي تصدى لها ذلك المولى العظيم، والسيد الحكيم، وصدر الموالي، ورونق الأيام والليالي، سيدي وسندي، وعمادي ومعتمدي، الفهامة شيخي أفندي، المعروف بالعلامة، حفظه الله، ووقاه، وأبقاه، الذي صدق عليه وعليّ قول الأول:
ولي صديقٌ ما مسّني عدمٌ ... مذ وقعت عينه على عدمي
أغنى وأقنى فما يكلّفني ... تقبيل كفٍّ له ولا قدم
قام بأمري لمّا قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم وقول الثاني:
صديقٌ لي له أدب ... صداقة مثله نسب
رعى لي فوق ما يرعى ... وأوجب فوق ما يجب(2/462)
فلو نقدت خلائقه ... لبهرج عنده الذهب ولعمري إنّه كذلك قد تصدّى لحاجتي فقضاها، ولحجّتي فأمضاها، ولم يكن لي في الروم سواه وسواها، وما أصنع بالروم، إذا تخلف عني ما أروم، أبى الله إلاّ أن ينفعني ذلك الحرّ الكريمبنهيه وأمره، وأن يكون بياني وبناني مرتبطين بحمده وشكره، وهذه حاجة في نفسي قضيتها، وأمنية رضيت بها وأرضيتها، ولله الحمد.
ولست أحصي، ولا أستقصي، يا سيدي ومولاي، شوق أخيكم سيدي ومولاي المفتي العمادي، حفظه الله تعالى وإياكم، وقد بلغ به شوقه وغرامه، وتعطّشه وأوامه، أن أفرد لجانب مولانا كتاباً، يستجلب مفخراً وجواباً، إذ الشام كما رأيتم عبارة عن وجوده الشريف والسلام، وكذلك أولاده الكرام، تلامذتكم يقبّلون الأقدام. وأما محبكم وصديقكم الشيخ البركة شيخ الإسلام مولانا عمر القاري فقد بلغته سلام سيدي، فكان جوابه الدعاء والثناء، مع العزيمة عليّ بأن أبالغ لجانبكم الكريم في تأدية سلامه، وتبليغ ما يتضمنه من المحبّة الخالصة فصيح كلامه. وأما الكريميّان ولدكم محمد أفندي وأخوه سيدي أكمل الدين، فهما لتقبيل أقدامكم من المستعدين. وكذلك لا أحصي ما هما عليه من الدعاء والثناء لجنابكم الكريم العالي، تلميذاكم بل عبداكم ولدنا الشيخ يحيى ابن سيدي أبي الصفاء، وولدنا الشيخ محمد ابن سيدي تاج الدين المحاسنيان. وأما عبداكم وتلميذاكم ولداي الشيخان الداعيان الأخوان الشيخ عبد السلام والقاضي نعمان، فليس لهما وظيفة إلا الدعاء والثناء، في كل صبح ومساء، لأن كلاًّ منهما خليفتي، والاشتغال بالدعاء لسيدي وظيفتي، ولا يقنعان بتقبيل اليدين الكريمتين، ولا بد من تقبيل القدمين المباركتين. وبعد، فلا ينقضي عجبي من بلاغة كتابكم الشريف الوارد لجناب أخيكم المفتي العمادي حفظكم الله تعالى وإيّاه، ولا كان من يشناك ويشناه، وعجبه به أعظم وأكبر(2/463)
إذ هو - حفظه الله تعالى - بفهم كلام سيدي أحقّ وأجدر، فلا عدمنا تلك الأنفاس الملكية والفلكية، من كل منكما إذ هي والله البغية والأمنية، كما قلت:
ليس فخري ولا اعتدادي بدهرٍ ... غير دهر أراكما من بنيه اللهم أختم هذا الكلام، للقبول التام، بالصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ومن فصول هذا الكتاب ما صورته: أطال الله يا سيدي بقاءك، ولا كان من يكره لقاءك، ورعاك بعين عنايته ووقاك، وأدامك وأبقاك، وضمن لك جزاء الصبر، وعوّضك عن مصابك الخير والأجر، ولقد كنت عزمت على أن أجعل في مصاب سيدي بأمّه، متّعه الله بعمره وعلمه، ودفع عنه سورة همّه وغمّه، قصيدة تكون مرثية، تتضمن تعزية وتسلية، فنظرت في مرثية أبي الطيب المتنبي لأمه، واكتفيت بنظمها ونثرها، وعقدها وحلها، وانتخبت قوله منها:
لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوقٍ غير مكسبها وصما ومنها:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أمّا
لئن لذّ يوم الشامتين بيومها ... لقد ولدت مني لآنفهم رغما فقلت: هذه حال مولانا الراغم لأنوف الأعدا، المجدّد لأسلافه حمداً ومجدا، القاتل بشوقه لا خطأ ولا عمدا، ثم إنّي لما رأيت قوله في مرثية أخت سيف الدولة:
إن يكن صبر ذي الرزيّة فضلا ... تكن الأفضل الأعزّ الأجلاّ
أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الذي عزّيك عقلا
وبألفاظك اهتدى فإذا عزّا ... ك قال الذي له قلت قبلا(2/464)
قد بلوت الخطوب حلواً ومرّاً ... وسلكت الأيام حزناً وسهلا
وقتلت الزّمان علماً فما يغ ... رب قولاً وما يجدّد فعلا قلت: هذه والله حلى مولانا الأستاذ الذي عرف للزمان فعله، وفهم قوله، قد استعارها أبو الطّيب وحلّى بها مخدومه سيف الدولة، وكيف أستطيع إرشاد شيخي لطريق الصبر، وأذكّره بالثواب والأجر، وكيف وأنا الذي استقيت من ديمه، واهتديت إلى سبيل المعروف بشيمه، وسلكت جادة البراعة بهداية ألفاظه، وارتقيت إلى سماء البلاغة برعاية ألحاظه، وهل يكون التلميذ معلماً، وهل يرشد الفرخ قشعماً، وكيف يعضد الشبل الأسد، وهو ضعيف المنّة والمدد، ومن يعلّم الثغر الابتسام، والصدر الالتزام، ويختبر الحسام، وهو مجرب صمصام، وهل تفتقر الشمس في الهداية إلى مصباح وهل يحتاج البدر في سراه إلى دلالة الصباح ذلك مثل شيخي ومثل من يرشده إلى فلاح أو نجاح، وإنّما نأخذ عنه ما ورد في ذلك من الكتاب والسنّة، ونحذو حذوه في الطريق الموصّلة إلى الجنة، ثم لما وصلت في هذه القصيدة إلى قول أبي الطّيّب:
إنّ خير الدموع عيناً لدمعٌ ... بعثته رعايةٌ فاستهلاّ رأيته قد أبدع فيه كل الإبداع، ونظم ما يكاد يجري الدمع من طريق السماع، فقلت: إنّا لله، وأكثرت الاسترجاع، وقلت في نفسي: إن ذلك الدمع الذي بعثته رعاية الحقوق، هو دمع شيخي الذي حمى الله قلبه الشفوق من العقوق، للمصيبة في الأم، التي حزنها يغم، ومصابها يعم، وكيف لا يعمنا مصابها، وقد كمل للمصيبة كفاها الله بموتها نصابها، هذا مع الفقد السليلة الجليلة، والكريمة الخليلة، وأي دمع لم تبعثه تلك الرعاية وأي نفس لا تتمنى أن تكون لسيدنا من كل ما يكره وقاية وأي كبد قاسية، لم تكن لأحبابها مواسية وأنّى يتسنّى، للعبد المعنّى، تسلية شيخه وهو الصبور الشكور، العارف بالأمور، العالم بتصاريف الدهور وما ظننت أن بناني، يساعدني على تحرير(2/465)
بياني، لتعزية شيخي، حفظه الله تعالى في أصله وفرعه، وضرعه وزرعه، وفرعه ونبته، وأمه وبنته، أما الوالدة الماجدة فإنّي إن أمسكت عن بيان كرم أصلها، يسمو بها كرم فرعها ونسلها، فرحم الله تعالى سلفها، وأبقى خلفها، ولا حرم سيدي ثمرة رضاها، ورضي عنها وأرضاها؛ وأمّا المخدّرة الصغيرة، فالمصيبة فيها كبيرة، إذ العمومة مقّرية، والخؤولة وفائية، فهي ذات النّجارين، وحائزة الفخارين، كأنّ سيدي - أعزّه الله تعالى - لم يرض لها كفواً ومهراً، فاختار القبر أن يكون له صهراً، وخطبة الحمام لا يمكن ردها، وسطوة الأيام لا يستطاع صدها، كما قال أبو الطّيب المتنبي أيضاً:
خطبةٌ للحمام ليس لها ر ... دّ وإن كانت المسمّاة ثكلا
وإذا لم تجد من النّاي كفؤاً ... ذات خدرٍ أرادت الموت بعلا أسأل الله تعالى أن تكون هذه الخطبة قافية الخطوب، وهذا النّدب المبرّح آخر الندوب، وأن يعوض سيدي عن حبيبه المبرقع المقنّع، حبيباً معمّماً تتحرى النجابة منه المصنع، وأن يبدله عن ذات الخمار والخضاب، بمن يصول بالحراب، ويسطو باليراع ويشتغل بالكتاب:
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التّذكير فخرٌ للهلال اللهم يا أرحم الراحمين، إنّي أتوسّل إليك بنبيّك محمّد صلى الله عليه وسلّم وآله الطيّبين الطاهرين، أن تأخذ بيد عبدك شيخي المقّريّ في كل وقت وحين، آمين.
ومن فصول هذا الكتاب ما صورته: ولما وصلني سيدي بهديته التي أحسن بها من كتاب الاكتفاء، داخل طبعي الصفاء، ونشطت إلى نظم بيتين فيهما التزام عجيب لم أر مثله، وهو أن يكون اللّفظ المكتفى به معنى اللّفظ المكتفى منه، فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء، كما أفاده شيخي، فيكون على(2/466)
هذا الاكتفاء وعدمه على حدّ سواء، إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء، مع تسمية النوع فيهما، وهما:
إنّ احتفال المرء لا ... أحبّه إلا مع الاكتفا
مبالغات الناس مذمومةٌ ... فاسلك سبيل القصد في الاحتفا ولقد انقطع الثلج أيام الخريف، وكانت الحاجة إليه شديدة بعد غيبة سيدي حفظه الله تعالى عن دمشق، فتذكرت شغف شيخي به، فزاد على فقده غرامي، وفاض عليه تعطّشي وأوامي، فجعلت في ذلك عدّة مقاطيع، وأحببت عرضها على سيدي: أولها:
ثلج يا ثلج يا عظيم الصفات ... أنت عندي من أعظم الحسنات
ما بياضٌ بدا بوجهك إلاّ ... كبياضٍ بدا بوجه الحياة ثانيها:
قد قلت لمّا ضلّ عنّي رشدي ... وما رأيت الثّلج يوماً عندي
لا تقطع اللهمّ عن ذا العبد ... أعظم أسباب الثّنا والحمد ثالثها:
ثلج يا ثلج أنت ماء الحياة ... ضلّ من قال ضرّ ذاك لهاتي
ما بياضٌ بدا بوجهك إلاّ ... كبياضٍ قد لاح في المرآة
قد رأى الناس وجههم في المرايا ... وأنا فيك شمت وجه حياتي وما عللت سيدي هذا التعليل، إلاّ لأشوقه إلى نسيم دمشق الذي خلّفه سيدي حفظه الله عليلاً وهو على الصحة غير عليل، ولم يشف أعزّه الله تعالى منه الغليل، ولسيدي الدعاء بطول البقاء والارتقاء، وهذه أبيات أحدثها العبد في وصف القهوة، طالباً من سيّده أن يغفر خطأه فيها وسهوه:(2/467)
قهوةٍ كالعنبر السّحيق ... سوداء مثل مقلة المعشوق
أتت كمسكٍ فائحٍ فتيق ... شبّهتها في الطعم بالرّحيق
تدني الصديق من هوى الصديق ... وتربط الودّ مع الرفيق فلا عدمت مزجها بريقي ... وما زلت ألهج بما أفادنيه شيخي من أماليه، وأتصفح الدهر الذي جمعته عنه من أسافله إلى أعاليه، وأستشكل على الأحباب والأصحاب في أثناء المسامرة، ما أفادنيه سيدي من تسمية المرحوم القاضي التنوخي كتابه نشوار المحاضرة حتى ظفرت بأصلها في القاموس في مادة نشر، فإذا هي عربية محضة، فإنّه قال: ونشورت الدابة نشواراً: أبقت من علفها، ولقد تعجبت من بلاغة هذه التسمية وعذوبتها، وحسن المجاز فيها مع سلاستها وسهولتها، وأحببت عرضها على شيخي حفظه الله تعالى ليفرح لي بين تلامذته كما فرح طبعي به حفظه الله تعالى بين أساتذته، وليعلم أنّي لم أنس ما أفادنيه في خلال المحاورة، أيام المؤانسة والمجاورة، فوالله إنّه سميري، في ضميري، وكليمي، مابين عظمي وأديمي:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
الطرس طما وما مضت قصتنا ... لا ذنب لنا حديثنا لذّ فطال وحرر يوم السبت المبارك غرّة جمادى الآخرة من شهور سنة ثمان وثلاثين بعد الألف، أحسن الله ختامها بحرمة محمد وآله الطيّبين الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى والنصير، والحمد لله وحده، عبده الفقير الحقيرالمشتاق، المذنب المقصر لسيده عن اللحاق، الذي لم يبرح عن العهد المتين، أحمد الشامي بن شاهين، انتهى.
ولو تتبعت ما له حفظه الله تعالى من النظم والنثر، اللذين غلب فيهما بلغاء(2/468)
أهل العصر، بالشام ومصر، وغيرهما من الأقطار، لا زال مقامه مقضيّ الأوطار، لاستوعبت الأسفار، وفي الإشارات ما يغني عن الكلم، وقد تقدم في خطبة هذا التصنيف، ذكر شيء من نظمه ونثره وأنّه هو السبب الداعي إلى جمع هذا التأليف، والله سبحانه يديم جنابه السريّ الشريف، ويبوّئه من العزّ الظلّ الوريف، فلقد أولى من الحقوق ما لا نؤدّي بعضه فضلاً عن كلّه، وناهيك بما جلبناه من كلامه دليلاً على شرفه وفضله.
ورسالته هذه إلي كانت جواباً عن مكتوب كتبته إليه من جملته:
يا من له طائر صيتٍ علا ... في الجوّ فاصطاد الشريد الشديد
يا نجل شاهين البديع الحلى ... تملّ بالعزّ الطويل المديد
وفز بخصل السّبق بين الملا ... وسر بنهجٍ للمعالي سديد
ورد مع الأحباب عذباً حلا ... منتظماً من الأماني البديد
وارفل على طول المدى في ملا ... مسرّةٍ راقت وعزٍّ جديد
والوالد المحروس بالله، لا ... بعدّة الخلق ولا العديد ومن نثرها: " سيدي الذي في الأجياد من عوارفه أطواق، وفي البلاد من معارفه ما تشهد به الفطرة السليمة والأذواق، وتشتدّ إلى مجده المطنب الذي لا يحطّ له رواقٌ الأشواق، وتعمر بفائده وفرائده من الآداب الأسواق، وتنقطع دون نداه السحب السواكب، وتقصر عن مداه في السّمو الكواكب، والله سبحانه له واق، المولى الذي ألقت إليه البلاغة أفلاذها، واتخذت البراعة طاعته عصمتها وملاذها، إذ بذّ أفرادها وأفذاذها، وأمطرت سماء أفكاره، على كل محبّ أو كاره، طائر في جو أو مستقر في أوكاره، صيّبها ورذاذها، وفاخرت دمشق بعلاه وحلاه أقطار البسيطة وبغذاذها ".
ومنها: " أبقاه الله تعالى وحقيقة وعوده ينمقها النجاز، وحقيقة سعوده لا يطرقها المجاز ".(2/469)
ومنها: فأنت الذي نفّست عني مخنّقا، وأصفيت مشربي وكان مرنّقا، وكاثرت بما به آثرت، وما استأثرت - رمل النقا، فلو رآك المأمون ابن الرشيد، لعلم أنّك المتمنّى ببيتي الغناء الذي غني به والنشيد:
وإنّي لمشتاق إلى قرب صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت لديه
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي، ولا إن كنت طوع يديه ولم يقل: أعطني هذا الصديق وخذ مني الخلافة، وأنا أقول: قد ظفرنا به بحمد الله ولم أجد أحداً في دهره وافق الغرض فلم نر خلافه.
ومنها: فهذه يا ابن شاهين أياديك البيض، تفرخ لك الشكر وتبيض، فلا دليل على ولائي، كإملائي، ولا شاهد لما في أحنائي، كثنائي، ولا حجّة على ودادي، كتكراري ذكرك وتردادي.
وهي طويلة، لا يحضرني الآن منها سوى ما ذكرته.
ولنقتصر من مكاتبات أعيان العصر من أهل دمشق المحروسة على هذا النحو المقدار، ونسأل الله تعالى أن يحفظهم جميعاً في الإيراد والإصدار.
[رسائل من المغرب ترد للمؤلف]
وفي تاريخ ورود هذه المكاتيب الشامية السابقة عليّ، اتفق ورود كتب من المغرب، وجّهها جماعة من أعيانه إليّ.
فمن ذلك كتاب كتبه لي الأستاذ المجوّد الأديب الفهامة معلم الملوك سيدي الشيخ محمد بن يوسف المراكشي التامليّ (1) نصّه: " الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد تتوالى، من المحب المخلص المشتاق، إلى السيد الذي
__________
(1) ترجمته في خلاصة الأثر 4: 271 (وفيه التاولي) وقال إنه لم يقف على تاريخ وفاته؛ وانظر روضة الآس: 25.(2/470)
وقع على محبته الاتفاق، وطلعت شموس معارفه في غاية الإشراق، وصار له في ميدان الكمال حسن الاستباق، الصدر الكامل، والعالم العامل، الفقيه الذي تهتدي الفقهاء بعلمه وعمله، البليغ الذي تقتدي البلغاء ببراعة قلمه، ناشر ألوية المعارف، ومسدي أنواع العوارف، العلامة إمام العصر، بجميع أدوات الحصر، سيدي أحمد بن محمد المقّري قدّس الله السلف، كما بارك في الخلف، سلامٌ من النسيم أرقّ، وألطف من الزهر إذا عبق.
وبعد، فإن أخباركم دائماً ترد علينا، وتصل إلينا، بما يسر الخاطر، ويقرّ الناظر، مع كل وارد وصادر، والعبد يحمد الله تعالى على ذلك، ويدعو الله بالاجتماع معكم هنالك:
ويرحم الله عبدا قال آمينا ... كتبته إليكم أيّها السيد من الحضرة المراكشية مع كثرة أشواق، لا تسعها أوراق، كتبكم الله سبحانه فيمن عنده، كما جعلكم ممّن أخلص في موالاة الحق قصده، وودّي إليكم غضّ الحدائق، مستجلٍ في مطلع الوفاء بمنظر رائق، لا يحيله عن مركز الثبوت عائق، وحقيق بمودة ارتبطت في الحق وللحق معاهدها (1) ، وأسست على المحبة في الله قواعدها، أن يزيد عقدها على مر الأيام شدة، وعهدها وإن شط المزار جدّه، وأن تدّر للأخرى عدّة، وإنّي ويعلم الله تعالى لممّن يعتقد بمحبتكم وموالاتكم عملاً صالحاً يقرب من الله تعالى ويزلف إليه، ويعتمدهما (2) وزراً يعوّل في الآخرة يوم لا ظل إلاّ ظلّه عليه، فإنّكم واليتم فأخلصتم في الولا، وعرفتم الله تعالى فقمتم بحقوق الصحبة على الولا، معرضين في تلكم الأخوّة عن غرض الدنيا وعرضها، موفين
__________
(1) كذا في ق ودوزي، وقد تقرأ: " معاقدها ".
(2) هذه رواية إحدى النسخ؛ وفي ق ودوزي: ويعلم.(2/471)
بشروط (1) نقلها ومفترضها، إلى أن قضى الله تعالى بافتراقنا، وحقوقكم المتأكدة دين علينا، والأيام تمطل بقضائها عنا، وتوجّه الملام إلينا، فآونةً أقف فأقرع السنّ على التقصير ندماً، وآونة أستنيم إلى فضلكم فأتقدم قدماً، وفي أثناء هذا لا يخطر بالبال حق لكم سابق، إلا وقد كر عليه منكم آخر له لاحق، حتى وقفت موقف العجز، وضاقت عليّ العبارة عن حقيقة مقامكم في النفس فكدت لا أتكلم إلا بالرمز، إجلالاً لحقكم الرفيع، وإشفاقاً من التقصير المضيع، وقد كنت كتبت - أعزّكم الله تعالى - إليكم قبل هذا بكتب أربعة أو خمسة فيها عجالة قصائد كالعصائد، كالثريد من الكلام ككلامكم (2) السلس الكثير الفوائد، فعذراً ممّن كان أخرس من سمكة، وأشد تخبّطاً من طائر في شبكة، فما عرفت أوصل شيء من ذلك، أن حصل في أيدي المعاطب والمهالك وما رأيت غير رجل من صعاليك الحجاج التقيت به يوماً بالحضرة المراكشية، فقال لي: الشيخ الإمام المقّريّ يسأل عنك، وقد أرسل معي كتاباً إليك، فوقع في البحر مع جملة ما وقع، فقلت له: لا غرابة في ذلك فقد رجع إلى أصله، ومن ظلمة البحار تستخرج الدرر، وقد جاءني كتاب من بعض الأخلاء الصديقين وهو الحاج الصالح السيد أبو بكر من مكة المكرمة شرّفها الله تعالى، وذكر لي فيه أنّه متعه الله تعالى بلقائكم، وأخبرني بسؤالكم عني كثيراً، وإلى الآن يا نعم السيد إنما عرّفته بما كتبته لسيادتكم تعريف تذكّر لا تعريف منّة، فأنصفونا في الحكم عليكم في عدم الجواب بما ألفته الأدباء شريعة وسنّة، وبالجملة ففؤادي لمجدكم صحيح لا سقيم، واعتدادي بودكم منتج غير عقيم، والله تعالى يجعل الحب في ذاته الكريمة، ويقضي عن الأحبّة دين المحبّة فيوفي كل غريم غريمه، ويصلكم إن شاء الله تعالى هذا المرقوم،
__________
(1) ق: بشروطها.
(2) كذا في ق، والأصح هنا حذف كاف التشبيه.(2/472)
وبه سؤال منظوم، لتتفضلوا بالجواب عنه بعد حمد الله، والصلاة والسّلام على مولانا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم:
إلى المقّريّ الحبر صدر الأئمة ... من المخلص الوداد أزكى تحيّة
فذلك يا صدر الصّدور عجالة ... لسمح بالجواب عمّا أكنّت
فتى قد رأى عند العذارى فتية ... محرّمة عند الزوال فحلّت
وعادت حراماً عند عصرٍ فعندما ... عشاءٌ أتى عادت حلالاً تجلّت
وفي صبح ثاني اليوم عادت محرّماً ... وزالت زوالاً منه في غير مرية
وفي ظهره حلّت فطابت قريرةً ... وفي عصره محرّماً قد تبدّت
وعند العشاء بالضّرورة حلّلت ... وذلك بعد غرم مالٍ كفدية
وفي صبحه عادت حراماً ترى به ... بروق سيوفٍ لامعاتٍ بسنّة
وكان يضيق حسرةً تأسّفاً ... وحلّت له وقت العشاء وتمّت
وعن أمةٍ أيضاً يموت سريّها ... قد أولدها في ملكه بعد وطأة
وعادت لمملوك السريّ حليلةً ... بعقد نكاحٍ بعد من غير شبهة
فجاءت ببنت، هل لها من تزوّج ... بنجل السريّ بيّنوا لي قصتي
فإن السيوري مانعٌ من تزوّج ... له بابنةٍ منها بتلك القضيّة
وما الفرق بينها وبين التي أتى ... بها ابن أبي زيد بأوضح حجّة
وعن مشترٍ مملوكةً غير محرمٍ ... ومسلمة شراً صحيحاً بشرعة
وليس بملكه له وطؤها يرى ... جوازاً على التأبيد تأخير جلّة (1)
وما طالقٌ من عدّةٍ خرجت ولا ... يجوز على التأبيد في خير ملّة
نكاحٌ لها من واحدٍ ومطلّق ... لها غير معصوم ترى ي الشّريعة
وتمّت بحمد الله مبديةً لكم ... سلاماً كما أبدته في صدر طلعة
__________
(1) كذا في ق؛ وجاء في دوزي: يا خير، وفي التجارية: من حين حلت.(2/473)
وتقرير السؤال الثاني: أمة أولدها سيّدها فصارت حرّة، فمات عنها السيد، ثمّ تزوّجها عبد سيدها، فأتت ببنت، أما لولد سيدها أن يتزوّج هذه البنت فإن الرجل له أن يتزوّج بنت زوجة أبيه من رجل غيره، وهذه سريّة أبيه، فإن الإمام السيوري يمنع هذه المسألة، وما الفرق بينهما وتصلكم أيضاً إن شاء الله تعالى عجالة رجزية، في مآثركم السنية، ضمنتها أشطاراً من الألفية، فتفضّلوا بالإغضاء، وحسن الدعاء، أن يجمع الله شملنا بكم في تلك الأماكن المشرّفة، ثم المأمول من سيّدنا ومولانا أن يتفضّل علينا بكتاب طبقات القراء للإمام الحافظ الداني، إذ ليس عندنا منه نسخة، وأما تأليفكم الكثير الفوائد المسمّى بأزهار الرياض في أخبار عياض، وما يناسبها ممّا يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض، فقد انتشر بهذه الأقطار المرّاكشية، وانتسخت منه نسخ عديدة من نسخة المرحوم سيدي أحمد بن عبد العزيز بن الولي سيدي أبي عمر، وكسا الله سبحانه تأليفكم المذكور جلباب القبول، فما رآه أحد إلاّ نسخه، وعندي النسخة التي كتبها بخطّه السيد أحمد المذكور بخط حسن، وعلى هامشها في بعض الأماكن خطكم الرائق، وبعض التنبيهات من كلامكم الفائق، وأعلمونا بتأليفكم الذي سميتموه قطف المهتصر من أفنان المختصر (1) " هل خرج من المبيضة أم لا ووددنا لو اتصلنا منه بنسخة، وقد اشتاق فقهاء هذا الإقليم إليه غاية كالفقيه قاضي القضاة محبكم سيدي عيسى وغيره من أخلاء خليل، في كل محفل جليل، إلى أن قال: وأنا أتمثّل بكلام مولانا عليٍّ كرّم الله وجهه حيث يقول، تبرّكاً به:
رضيت بما قسم الله لي ... وفوّضت أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي
__________
(1) ذكره المحبي في خلاصة الأثر باسم " قطف المهتصر في شرح المختصر " وهو حاشية على مختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي.(2/474)
ولي حفظكم الله تعالى تخميس على البيتين، وذلك أنّه نزلت بي شدة لا يمكن الخلاص منها عادة، فما فرغت من تخميسهما إلا وجاء الفرج في الحين، ونصّه:
إذا أزمة نزلت قبلي ... وضقت وضاقت بها حيلي ... تذكرت بيت الإمام علي ...
رضيت بما قسم الله لي ... وفوّضت أمري إلى خالقي لأنّ الإله اللطيف قضى ... على خلقه حكمه المرتضى ... فسلّم وقل قول من فوّضا ...
" كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي " فعذراً - أعزّكم الله سبحانه ونفع إخائكم - عن إغباب المراسلة بالمكاتبة عذراً، وصبراً على بعد اللّقاء صبراً، فإن يقدر في هذه الدار نلنا فيها ما نتمنى، وإلاّ فلن نعدم بفضل الله جزاء الحسنى، ولقاء لا يبيد ولا يفنى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، إيقاناً بالوعد وتحقيقاً، فمن أوجب له محبته، أدخله جنّته، وأحضره مأدبته، وكمّل له أمنيته، جعلنا الله من المتحابين في جلاله، بكرمه وإفضاله، وكتبه محبكم ومعظمكم، الواصل حبل ودّه بودكم، والمشرّف لعهدكم، المنوّه بفخركم ومجدكم، العبد الفقير الحقير، المشفق على نفسه من التقصير والذنب الكبير، محمد بن يوسف التاملي، غفر الله ذنبه، وستر عيبه، وجبر قلبه، وجمعه بمن أحبّه، بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، في عاشوراء المحرم فاتح سنة ثمانٍ وثلاثين وألف، انتهى.
وصحبة هذا المكتوب ورقة نصّها: بسم الله الرّحمن الرحيم، وصلّى الله(2/475)
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم (1) .
لله درّ العالم الجيّاني ... كأنّما ينظر بالعيان
للمقّريّ العالم المفضال ... منظّراً بأحسن المثال
وعالمٌ بأنّني من بعده ... أشير في نظامنا لقصده
وها أنا بالله أستعين ... مضمّناً وربّنا المعين
بالشطر من ألفية ابن مالك ... أيّدنا الله لنسج ذلك
قال محمّد عبيد المالك ... وسالك الأحسن من مسالك
نشير بالتّضمين للنحرير ... المقّريّ الفاضل الشّهير
ذاك الإمام ذو العلاء والهمم ... " كعلم الأشخاص لفظاً وهو عم "
فلن ترى في علمه مثيلا ... " مستوجباً ثنائي الجميلا "
ومدحه عندي لازمٌ أتى ... " في النظم والنثر الصّحيح مثبتا "
أوصاف سيدي بهذا الرجز ... " تقرّب الأقصى بلفظٍ موجز "
فهو الذي له المعاني تعتزي ... " وتبسط البذل بوعد منجز "
رتبته فوق العلا يا من فهم ... " كلامنا لقظٌ مفيد كاستقم "
وكم أفاد دهره من تحف ... " مبدي تأوّلٍ بلا تكلّف "
لقد رقى على المقام الطاهر (2) ... " كطاهر القلب جميل الظاهر "
وفضله للطّالبين وجدا ... " على الذي في رفعه قد عهدا "
قد حصّل العلم وحرّر السير ... " وما بإلاّ أو بإنّما انحصر "
في كلّ فنّ ماهرٍ صفه ولا ... " يكون إلاّ غاية الذي تلا "
سيرته جرت (3) على نهج الهدى ... " ولا يلي اختياراً أبدا "
__________
(1) ورد بعض هذه الأرجوزة في خلاصة الأثر 4: 271.
(2) خلاصة الأثر: إلى المقام الباهر.
(3) خلاصة الأثر: سارت.(2/476)
وعلمه وفضله لا ينكر ... " ممّا به عنه مبيناً يخبر "
يقول دائماً بصدر انشرح ... اعرف بنا فإنّنا نلنا المنح
يقول مرحباً لقاصديه من (1) ... " يصل إلينا يستعن بنا يعن "
صدّق مقالتي وكن متّبعا ... " ولم يكن تصريفه ممتنعا "
وانهض إليه فهو بالمشاهده ... " الخبر الجزء المتمّ الفائده "
والزم جنابه وإيّاك الملل ... " إن يستطل وصل وإن لم يستطل "
واقصد جنابه ترى مآثره ... " والله يقضي بهباتٍ وافره "
وانسب له فإنّه ابن معطي ... " ويقتضي رضىً بغير سخط "
واجعله نصب العين والقلب ولا ... " تعدل به فهو يضاهي المثلا "
قد طالما أقاد علم مالك ... " أحمد ربي الله خير مالك "
وحاسد له ومبغضٌ زمن ... " وهالك وميّت به قمن "
وليس يشفى مبغضٌ له أعلّ ... " عيناً وفي مثل هراوة جعل "
يقول عبد ربّه محمّد ... " في نحو خير القول إنّي أحمد "
وهو بدهره عظيم الأمل ... " مروّع القلب قليل الحيل "
فادع له وسادة قد حضروا ... " وافعل أوافق نغتبط إذ تشكر "
واجبره بالدّعا عساه يغتنم ... " فجره وفتح عينه التزم "
أنشدت فيكم ذا وقال قائل ... " في نحو نعم ما يقول الفاضل "
أدعو لكم بالستر في كل زمن ... " لكونه بمضمر الرفع اقترن "
مآثر لكم كثيرة سوى ... " ما مرّ فاقبل منه ما عدلٌ روى "
قد انتهى تعريف ذا المعرّف ... " وذو تمام ما برفعٍ يكتفي "
لأنتم تاج الأئمة الأول ... " وما بجمعه عنيت قد كمل "
فالله يبقيكم لدينا وكفى ... " مصليّاً على الرسول المصطفى "
__________
(1) خلاصة الأثر: القاصد من.(2/477)
تترى عليه دائماً منعطفا ... وآله المستكملين الشّرفا ومن ذلك ما كتبه لي بعض الأصحاب ممّن كان يقرأ علي بالمغرب (1) ، وصورته: سيدنا وسيد أهل الإسلام، حامل راية علوم الأمّة الأحمدية، على صاحبها الصلاة والسلام، آية الله في المعاني والمعالي، وحسنة الأيام والليالي، وواسطة عقود الجوهر واللآلي، إمام مذهب مالك والأشعري والبخاري، والواقدي والخليل، العلاّمة القدوة السيد الكبير الشهير الجليل، ذو الأخلاق العذبة المذاق، والشمائل المفصحة عن طيب الأصول والأعراق، كبير زمانه دون منازع، وعالم أوانه من غير منكر ولا مدافع، شيخا ومعلمنا ومفيدنا وحبيب قلوبنا مولانا شيخ الشيوخ أبو العباس أحمد بن محمد المقّريّ المغربي التلمساني نزيل فاس ثم الديار المصرية، حفظه الله تعالى في مواطن استقراره، ورفع درجته بإشادة فخاره على مناره، عن شوق يودّ له الكاتب أن لو كان في طي كتابه، وتوقٍ إلى مشاهدتكم هو الغية في بابه، بعد إهداء السلام المحفوف بأنواع التحيّات والكرامات والبركات، الدائم ما دامت في الوجود السكنات والحركات، لمقامكم الأكبر، ومحفلكم الأشهر، ومن تعلّق بأذيالكم أو كان مستمطراً لنوالكم، أو صبّت عليه شآبيب أفضالكم، من أهل ومحب وصاحب وخديم، هذا وإنّه ينهي إلى الوداد القديم، وأن أهل المغرب الأدنى والأقصى حاضرة وبادية، كلّهم يتفكّهون بل يتقوتون بذكركم، ويشتاقون لرؤية وجهكم، ويتلذذون بطيب أخباركم، وإن كان المغرب الآن في تفاقم أحوال، وتراكم أهوال، في الغاية مدائن وبوادي، لا سيما مدينة فاس فإنّها في شر عظيم، وأميره مولاي عبد الملك مات في السنة السابعة والثلاثين بل في ذي الحجّة
__________
(1) اسم هذا الكاتب كما يتبين من خاتمة الرسالة " علي بن عبد الواحد الأنصاري " (ت: 1054هـ) وكان فقيهاً محدثاً وله مؤلفات كثيرة، استوطن الجزائر آخر عمره وفيها توفي (انظر ترجمته في صفوة من انتشر للأفراني ص: 135 ط. فاس وكتاب الزاوية الدلائية: 126) .(2/478)
قبلها؛ وفي المحرم من سنة سبع وثلاثين، توفّي ملك المغرب السلطان أبو المعالي زيدان (1) وبويع من بعده ابنه مولاي عبد الملك، وتقاتل مع أخويه الأميرين الوليد وأحمد وهزمهما، وإلى الله عاقبة الأمور، وأهل داركم بفاس بخير وعافية، ونعم ضافية، سوى ما أدركهم من طول الغيبة، نسأل الله تعالى أن يملأ بقدومكم العيبة، ومحبكم الأكبر، ووليكم الأصغر، سيد أهل المغرب اليوم وشيخ الطريقة، والكرامات سيدي محمد بن أبي بكرالدلائي (2) ، ويحييكم (3) ويعظم قدركم، ولسان لكم ذاكر ناشر شاكر، وهو على خير، وقد اجتمعت عليّ من بركتكم في مدينة سلا جماعة من طلاب العلم وفتح الله تعالى علي بتآليف عديدة منها كفاية الطالب النبيل في حل ألفاظ مختصر خليل ومنها شرحٌ على المنهج المنتخب للزّقاق في قواعد مالك، ومنظومة في أكثر من ألف بيت في السّير والشمائل، ومنها في رجال البخاري ولا كنسخ (4) الكلاباذي، ومنها خطب، وغير ذلك، والكل من بركتكم، ونسبته إليكم في صحيفتكم،
__________
(1) بويع أبو المعالي زيدان بن أحمد المنصور بعد وفاة والده سنة 1012، وفي عهده جلا بقية من كان من العرب بالأندلس (سنة 1016) ؛ وقد خاض أبو المعالي حروباً كثيرة ضد الطامعين المحليين في كل من مراكش وفاس وضد الإسبان (راجع الاستقصا 6: 3 - 72) ؛ وقد بويع ابنه عبد الملك بعد وفاته سنة 1037 في شهر المحرم، فثار عليه أخواه الوليد وأحمد فوقعت بينه وبينهما معارك وحروب إلى أن هزمهما واستولى على ما كان بيدهما من العدة والذخيرة، وقد كان عبد الملك فاسد السيرة، قتله العلوج بمراكش سنة 1040 (المصدر نفسه 72 - 78) .
(2) نسبة إلى زاوية الدلاء، وهي زاوية أسسها أبو بكر ابن محمد المجاطي، وكان لها دور كبير في تاريخه المغرب سياسياً ودينياً وعلمياً، وقد وضح هذا الدور الأستاذ محمد حجي في كتابه: " الزاوية الدلائية " - الرباط: 1964؛ ومحمد بن أبي بكر المذكور هنا هو من أعظم شيوخها، وكان عالماً في التفسير والحديث والكلام (انظر الاستقصا 6: 96 والزاوية الدلائية: 76) وقد كان للمقري علاقة وثيقة بالزاوية الدلائية إذ أنه أقام مدة ودرس الحديث على محمد بن أبي بكر.
(3) ق: يحبكم.
(4) كذا في ق؛ وفي نسخ أخرى " كنسج ".(2/479)
والسلام من ولدكم المقر بفضلكم تراب نعالكم على بن عبد الواحد الأنصاري، لطف الله تعالى به، وحامله كبير كبراء قومه ممّن يحبكم ويعرفكم، وما تفعلوا معه من خير فلن تكفروه، والسلام، انتهى.
ومنها كتاب افاني من علم قسمطينة وصالحها وكبيرها ومفتيها سلالة العلماء الأكابر، ووارث المجد كابراً عن كابر، المؤلف العلاّمة سيدي الشيخ عبد الكريم الفكون (1) حفظه الله، نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على من أنزل عليه في القرآن " وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ " وآله وصحبه وسلّم أفضل التسليم، من مدنّس الإزار، المتسربل بسرابيل الخطايا والأوزار، الراجي للتنصّل منه رحمة العزيز الغفّار، عبد الله - سبحانه -، عبد الكريم محمد الفكون، أصلح الله بالتقوى حله، وبلّغه من متابعة السنّة النبوية (2) آماله، إلى الشيخ الشهير، الصدر النحرير، ذي الفهم الثاقب والحفظ الغزير، الأحبّ في الله المؤاخي من أجله سيدي أبي العباس أحمد المقّريّ، أحمد الله عاقبتي وعاقبته، وأسبل على الجميع عافيته، أمّا بعد فإنّي أحمد الله إليك، وأصلّي على نبيه سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلّم، ولا أريد إلا صالح الدعاء وطلبه منكم، فإنّي أحوج الناس إليه، وأشدهم في ظنّي إلحاحاً عليه، لما تحققت من أحوال نفسي الأمّارة، واستبطنت من دخيلائها المثابرة على حبّ الدنيا الغرّارة، كأنّها عميت عن الأهوال، التي أشابت رؤوس الأطفال، وقطعت أعناق كمّل الرجال، فتراها في لجج هواها خائضة، وفي ميدان شهواتها راكضة، طغت في غيها وما لانت، وجمحت فما انقادت ولا استقامت، فويلي ثمّ ويلي من يومٍ تبرز فيه
__________
(1) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القسمطيني (- 1073) له مؤلفات كثيرة منها " محدد السنان في نحور إخوان الدخان " (راجع ترجمته في صفوة من انتشر ورحلة العياشي، واليواقيت الثمينة 1: 232) .
(2) ق: المصطفية.(2/480)
القبائح، وتنشر الفضائح، ومنادي العدل قائم بين العالمين " وإن مثقال حبّةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين " (الأنبياء: 47) فالله أسأل حسن الإلطاف، والستر عمّا ارتكبناه من التعدّ والإسراف، وأن يجعلنا من أهل الحمى العظيم وممّن يحشر تحت لواء خلاصته الكريم، سيدنا ومولانا وشفيعنا النبيّ الرؤوف الرحيم، ولنكفّ من القلم عنانه، لما أرجو من أجله ثواب الله سبحانه، وقد اتصل بيدي جوابكم، أطال الله في العلم (1) بقاءكم، فرأيت من عذوبة ألفاظكم، وبلاغة خطابكم، ما يذهل من العلماء فحولها، وينيلها لدى الجثوّ لسماعه سؤلها ومأمولها، بيد ما فيه من أوصاف من أمره قاصر، وعن الطاعة والاجتهاد فاتر، وأصدق قول فيه عند مخبره ومرآه " أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " (2) لكن يجازيكم المولى بحسن النيّة، البلوغ في بحبوحة الجنان غاية الأمنية، وقد ذيلتم ذلك بأبيات أنا أقلّ من أن أوصف بمثلها، على أنّي غير قائم بفرضها ونفلها، فالله تعالى يمدّكم بمعونته، ويجعلكم من أهل مناجاته في حضرته، ويسقينا من كاسات القرب ما نتمتّع منه بلذيذ منادمته، وقد ساعد البنان الجنان، في إجابتكم بوزنها وقافيتها، والعذر لي أنّني لست من أهل هذا الشان، والاعتراف بأنّني جبان وأيّ جبان، والكمال لكم في الرضى والقبول، والكريم يغضي عن عورات الأحمق الجهول، وظنّنا حققه الله تعالى أن نجعل على منظومتكم الكلاميّة يعني " إضاءة الدجنّة " (3) تقييداً، أرجو من الله توفيقاً وتسديداً، بحسب قدري لا على قدركم، وعلى مثل فكري القاصر لا على عظيم فكركم، وإن ساعد الأوان، وقضى بتيسيره ربّ الزمان، فآتي به إن شاء
__________
(1) ق: في التعلم.
(2) من الأمثال؛ وكان الكسائي يدخل فيه " أن " والعامة لا تذكرها فيه، وقال البكر حذف " أن " من المثل أشهر عند العلماء؛ يضرب في الرجل تكون له نباهة ولا منظر عنده (فصل المقال: 121 وأمثال الضبي 8 - 9 والميداني 1: 86 والعسكري 1: 186 والفاخر: 53) .
(3) هي " إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة " وهي منظومة للمقري ألفها ودرسها في الحجاز والشام وانتسخت منها في حياته كثيرة؛ طبعت بمصر سنة 1304 بهامش شرح عليش على العقيدة السنية.(2/481)
الله، الآجل (1) معي، لأنّني بالأشواق، إلى حضرة راكب البراق، ومخترق السبع الطباق، وكنت عازماً على أن أبعث لكم من الأبيات أكثر من الواقع، إلاّ أن الرفقة أعجلت، وصادفتني أيام موت قعيدة البيت، فلم يتيسر عاجلاً إلا ما ذكر وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل:
يا نخبة الدهر في الدرايه ... علماً تعاضده الروايه (2)
لا زلت بحراً بكلّ فنٍّ ... يروي به الطالبون غايه
لقد تصدّرت في المعالي ... كما تعاليت في العنايه
من فيك تستنظم المعاني ... بلّغت في حسنها النهايه
رقّاك مولاك كلّ مرقىً ... تحوي به القرب والولايه
أعجوبة ما لها نظيرٌ ... في الحفظ والفهم والهدايه
يا أحمد المقّريّ دامت ... بشراك تصحبها الرعايه (3)
بجاه خير العباد طرّاً ... والآل والصحب والنّقايه
صلّى عليه الإله تترى ... نكفى بها الشّرّ والغوايه وأختم كتابي بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، وكتب بغاية عجلة، يوم السبت سابع أو ثامن رجب، من عام ثمانية وثلاثين وألف للهجرة على صاحبها الصلاة والسلام؛ انتهى.
والمذكور عالم المغرب الأوسط غير مدافع، وله سلف علماء ذوو شعرة، ولهم في الأدب الباع المديد، غير أن المذكور مائل إلى التصوّف، ونعم ما فعل، تقبّل الله تعالى عملي وعمله، وبلّغ كلاًّ منا أمله؛ ولأشهر أسلافه العلاّمة الشيخ
__________
(1) يريد: العام الآجل.
(2) لا يتفق الشطران في الوزن.
(3) خرج في الشطر الثاني عن وزن سائر الأبيات.(2/482)
حسن بن علي بن عمر الفكون القسمطيني أحد أشياخ العبدري (1) صاحب الرحلة قصيدة مشهورة عند العلماء بالمغرب، وهي من درّ النظام، وحرّ الكلام، وقد ضمّنها ذكر البلاد التي رآها في ارتحاله من قسمطينة إلى مراكش، وأوّلها:
ألا قل للسّريّ ابن السّري ... أبي البدر الجواد الأريحيّ (2) ومنها:
وكنت أظنّ أنّ الناس طرّاً ... سوى زيدٍ وعمروٍ غير شيّ
فلمّا جئت ميلة (3) خير دار ... أمالتني بكلّ رشا أبيّ
وكم أورت ظباء بني ورارٍ ... أوار الشّوق بالريق الشّهيّ
وجئت بجايةً فجلت بدوراً ... يضيق بوصفها حرف الرويّ
وفي أرض الجزائر هام قلبي ... بمعسول المراشف كوثريّ
وفي مليانةٍ قد ذبت شوقاً ... بلين العطف والقلب القسيّ
وفي تنسٍ نسيت جميل صبري ... وهمت بكلّ ذي وجه وضيّ
وفي مازونةٍ ما زلت صبّاً ... بوسنان المحاجر لوذعيّ
وفي وهران قد أمسيت رهناً ... بظامي الخصر ذي ردفٍ رويّ
وأبدت لي تلمسانٌ بدوراً ... جلبن الشّوق للقلب الخليّ
__________
(1) وهم المقري هنا إذ أن العبدري لما حل بمدينة قسنطينة سأل من لقيه (وهو الحسن بن بلقاسم ابن باديس) عن الأديب أبي علي حسن بن علي بن عمر القسنطيني المعروف بابن الفكون فذكر ابن بلقاسم أنه أدرك الفكون وهو طفل صغير ولكنه لا يحفظ عام ولادته أو وفاته. قال العبدري: ورمت أن أجد من يروي عنه قصيدته المشهورة في رحلته من قسنطينة إلى مراكش فلم أجده، فقيدتها هنالك غير مروية وكان القسنطيني كتب بها إلى أبي البدر ابن مردنيش (رحلة العبدري: 30 وأثبت القصيدة هنالك ص 30 - 31) وقد عارض العبدري هذه القصيدة بقصيدة أثبتها في آخر رحلته.
(2) هو أبو البدر ابن مردنيش، كما في التعليق السابق.
(3) في ق ودوزي: ببلة، والتصويب عن الرحلة.(2/483)
ولمّا جئت وجدة همت وجداً ... بمنخنث المعاطف معنويّ (1)
وحلّ رشا الرباط رشا رباطي ... وتيّمني بطرفٍ بابليّ
وأطلع قطر فاسٍ لي شموساً ... مغاربهنّ في قلب الشّجيّ
وما مكناسة إلاّ كناسٌ ... لأحوى الطرف ذي حسنٍ سنيّ
وإن تسأل عن أرض سلا ففيها ... ظباءٌ كاسراتٌ للكميّ
وفي مراكشٍ يا ويح قلبي ... أتى الوادي فطمّ على القريّ
بدورٌ بل شموسٌ بل صباحٌ ... بهيٌّ في بهيٍّ في بهيٍّ
أبحن مصارع العشّاق لمّا ... سعين به فكم ميتٍ وحيّ
بقامة كلّ أسمر سمهريٍّ ... ومقلة كلّ أبيض مشرفيّ
إذا أنسيتني حسناً فإنّي ... أنسّيهم هوى غيلان ميّ
فها أنا قد تخذت الغرب داراً ... وأدعى اليوم بالمرّاكشيّ
على أنّ اشتياقي نحو زيدٍ ... كشوقك نحو عمروٍ بالسّويّ
تقسّمني الهوى شرقاً وغرباً ... فيا للمشرقيّ المغربيّ
فلي قلبٌ بأرض الشرق عانٍ ... وجسمٌ حلّ بالغرب القصيّ
فهذا بالغدوّ يهيم غرباً ... وذاك يهيم شرقاً بالعشيّ
فلولا الله متّ هوىً وشوقاً ... وكم لله من لطفٍ خفيّ وقد خرجنا بالاستطراد إلى الطول، وذلك منّا استرسال مع جاذب الأدب، فلنمسك العنان، والله المستعان.
وما عددناه من القصائد والمقطوعات في مدح دمشق الشام فهو غيض من فيض، وفي نيتي أن أجمع في ذلك كتاباً حافلاً أسميه " نشق عرف دمشق "
__________
(1) قال العبدري في تعليقه على هذا البيت: " قوله معنوي بعد منخنث المعاطف ... لقد استربت به حتى ظننت أنه مصحف، ولا أتبرأ فيه من تصحيف ".(2/484)
أو " مشق قلم المدح لدمشق " (1) ولسان حالي الآن ينشد قول بعض الأكابر:
نحن في مصر رهن شوقٍ إليكم ... هل لديكم بالشام شوقٌ إلينا
فعجزنا عن أن ترونا لديكم ... وأبيتم عن أن نراكم لدينا
حفظ الله عهد من حفظ العه ... د ووفّى به كما قد وفينا وقول ابن الصائغ:
وددت لو أنّ عيني ... مكان كتبي إليكم
حتى أراكم وأملي ... أخبار شوقي عليكم رجع إلى ابن جبير رحمه الله تعالى:
ومن شعره قوله:
إيّاك والشّهرة في ملبس ... والبس من الأثواب أسمالها
تواضع الإنسان في نفسه ... أشرف للنّفس وأسمى لها وقال:
تنزّه عن العوراء مهما سمعتها ... صيانة نفسٍ فهو بالحرّ أشبه
إذا أنت جاوبت السّفيه مشاتماً ... فمن يتلقّى الشتم بالشتم أسفه وقال:
أقول وقد حن الوداع وأسلمت ... قلوبٌ إلى حكم الأسى ومدمع:
أيا ربّ أهلي في يديك وديعة ... وما عدمت صوناً لديك الودائع
__________
(1) ذكره المحبي بين مؤلفاته وسماه " عرف النشق في أخبار دمشق " مما قد يدل على أنه حقق نيته وقم بتأليفه.(2/485)
وقال أبو عبد الله ابن الحاج المعروف بمدغلّيس (1) صاحب الموشّحات يمدح ابن جبير المذكور:
لأبي الحسين مكارمٌ لو أنّها ... عدّت لما فرغت ليوم المحشر
وله عليّ فضائلٌ قد قصّرت ... عن بعض نعماها عظام الأبحر وقال ابن جبير من قصيدة مطلعها (2) :
يا وفود الله فزتم بالمنى ... فهنيئاً لكم أهل منى
قد عرفنا عرفاتٍ بعدكم (3) ... فلهذا برّح الشّوق بنا
نحن في الغرب ويجري ذكركم ... بغروب الدمع يجري هتنا (4) ومنها:
فيناديه على شحط النّوى ... من لنا يوماً بقلبٍ (5) ملّنا
سر بنا يا حاديّ الركب (6) عسى ... أن نلاقي يوم جمعٍ سربنا
ما دعا (7) داعي النّوى لمّا دعا ... غير صبٍّ شفّه برح العنا
شم لنا البرق إذا لاح (8) وقل ... جمع الله بجمعٍ شملنا
__________
(1) هو أبو عبد الله بن الحاج الزجال عاش في دولة الموحدين ويعد خليفة ابن قزمان في الزجل (انظر المغرب 2: 214، 220 والعاطل الحالي: 18 - 26 وسيأتي ذكره في النفح) .
(2) انظر هذه القصيدة في الذيل والتكملة 5: 614 وبعضها في المغرب 2: 385، ومقدمة الرحلة: 18.
(3) الذيل: معكم.
(4) الذيل:
نحن بالمغرب نجري ذكركم ... فغروب الدمع يجري هتنا (5) في النفح المطبوع: فقلت، والتصويب عن الذيل والتكملة.
(6) الذيل: حادي العيس.
(7) الذيل: ما عنى.
(8) الذيل: إذا هب.(2/486)
علّنا نلقى خيالاً منكم ... بلذيذ الذكر وهناً علّنا (1)
لو حنا الدّهر علينا لقضى ... باجتماعٍ بكم بالمنحنى
لاح برقٌ موهناً من نحوكم ... فلعمري ما هنا العيش هنا
أنتم الأحباب نشكو بعدكم ... هل شكوتم بعدنا من بعدنا وله رحمه الله تعالى من قصيدة مطوّلة أوّلها (2) :
لعلّ بشير الرّضى والقبول ... يعلّل بالوصل قلب الخليل وله أخرى أنشدها عند استقباله المدينة المشرفة، على صاحبها الصلاة وأتم السلام، وهي ثلاثة وثلاثون بيتاً من الغر، أوّلها:
أقول وآنست باللّيل نارا ... لعلّ سراج الهدى قد أنارا
وإلاّ فما بال أفق الدّجى ... كأنّ سنا البرق فيه استطارا
ونحن من الليل في حندسٍ ... فما باله قد تجلّى نهارا وكان أبو الحسين ابن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها.
وقال صاحب الملتمس في حقّه: الفقيه الكاب أبو الحسين ابن جبير، ممّن لقيته وجالسته كثراً ورويت عنه، وأصله من شاطبة، وكان أبوه أبو جعفر من كتّابها ورؤسائها، ذكره ابن اليسع في تاريخه، ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه، وتولّع بغرناطة، فسكن بها، قال: وممّا أنشدنيه لنفسه قوله:
أبا عمران قد خلّفت قلبي ... لديك وأنت أهلٌ للوديعه
__________
(1) هذا البيت وما يليه من أبيات لم ترد في الذيل والتكملة.
(2) وردت هذه القصيدة في الذيل والتكملة 5: 602 والإحاطة 2: 171.(2/487)
صحبت بك الزمان أخا وفاءٍ ... فها هو قد تنمّر للقطيعه قال: وكان من أهل المروءات، عاشقاً في قضاء الحوائج، والسعي في حقوق الإخوان، والمبادرة لإيناس الغرباء، وفي ذلك يقول:
يحسب الناس بأنّي متعبٌ ... في الشّفاعات وتكليف الورى
والذي يتعبهم من ذاك لي ... راحةٌ في غيرها لن أفكرا
وبودّي لو أقضّي العمر في ... خدمة الطلاّب حتى في الكرى قال: ومن أبدع ما أنشده رحمه الله تعالى أول رحلته:
طال شوقي إلى بقاعٍ ثلاثٍ ... لا تشدّ الرّحال إلاّ إليها
إن للنّفس في سماء الأماني ... طائراً لا يحوم إلاّ عليها
قصّ منه الجناح فهو مهيضٌ ... كلّ يومٍ يرجو الوقوع لديها وقال (1) :
إذا بلغ العبد أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمّ له
فإن زار قبر نبيّ الهدى ... فقد أكمل الله ما أمّله وعاد رحمه الله تعالى إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حلّ فيها دمشق والموصل وبغداد، وركب إلى المغرب من عكا مع الإفرنج، فعطب في خليج صقلّية الضيق، وقاسى شدائد إلى أن وصل الأندلس سنة 581، ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما تقدم.
ومن شعره أيضاً:
لي صديقٌ خسرت فيه ودادي ... حين صارت سلامتي منه ربحا
__________
(1) البيتان في الإحاطة 2: 172 والذيل والتكملة 5: 604.(2/488)
حسن القول سيّء الفعل كالج ... زّار سمّى وأتبع القول ذبحا وحدّث رحمه الله تعالى بكتاب الشفاء عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض، ولما قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي.
وتوفّي ابن جبير بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة 614، والدعاء عند قبره مستجاب، قاله ابن الرقيق رحمه الله تعالى وقال ابن الرقيق: في السنة بعدها.
وقال أبو الربيع ابن سالم: أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي، ويعرف بابن الخطيب، لأبي الحسين ابن جبير، وقال: وهو ممّا كتب به إليّ من الديار المصرية في رحلته الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة، وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك، وتوفّيت هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقّشي (1) فدفنها بها:
بسبتة لي سكنٌ في الثّرى ... وخلٌّ كريمٌ إليها أتى
فلو أستطيع ركبت الهوا ... فزرت بها الحيّ والميّتا وأنشد ابن جبير رحمه الله تعالى لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة، أو في طريقها، قوله (2) :
لي نحو أرض المنى من شرق أندلس ... شوقٌ يؤلّف بين الماء والقبس إلى آخرها.
__________
(1) هي عاتكة المدعوة بأم المجد ووالدها هو الوزير الحيب أحمد بن عبد الرحمن الوقشي، وكانت وفاتها يوم السبت لعشر خلون من شعبان سنة 601 بعد زمانة طاولتها مدة؛ وقد قام ابن جبير برحلته الثالثة بعد وفاتها، فوصل مكة سنة 602 وجاور هنالك طويلاً.
(2) قال هذه القصيدة لما قفل من رحلته الأولى ولاحت له وهو على ظهر البحر جبال دانية، انظر الذيل والتكملة: 604.(2/489)
ومن شعره قوله:
يا خير مولى دعاه عبدٌ ... أعمل في الباطل اجتهاده
هب لي ما قد علمت منّي ... يا عالم الغيب والشهاده وقال رحمه الله تعالى:
وإنّي لأوثر من أصطفي ... وأغضي على زلة العاثر
وأهوى الزيارة ممّن أحبّ ... لأعتقد الفضل للزائر وقال رحمه الله تعالى:
عجبت للمرء في دنياه تطمعه ... في العيش والأجل المحتوم يقطعه
يمسي ويصبح في عشواء يخبطها ... أعمى البصيرة والآمال تخدعه
يغترّ بالدهر مسروراً بصحبته ... وقد تيقّن أنّ الدهر يصرعه
ويجمع المال حرصاً لا يفارقه ... وقد درى أنه للغير يجمعه
تراه يشفق من تضييع درهمه ... وليس يشفق من دينٍ يضيّعه
وأسوأ الناس تدبيراً لعاقبةٍ ... من أنفق العمر فيما ليس ينفعه وقال:
صبرت على غدر الزّمان وحقده ... وشاب لي السمّ الزّعاف بشهده
وجرّبت إخوان الزمان فلم أجد ... صديقاً جميل الغيب في حال بعده
وكم صاحبٍ عاشرته وألفته ... فما دام لي يوماً على حسن عهده
وكم غرّني تحسين ظنّي به فلم ... يضئ لي على طول اقتداحي لزنده
وأغرب من عنقاء في الدهر مغربٍ ... أخو ثقةٍ يسقيك صافي ودّه
بنفسك صادم كلّ أمرٍ تريده ... فليس مضاء السيف إلا بحدّه
وعزمك جرّد عند كلّ مهمةٍ ... عما نافعٌ مكث الحسام بغمده(2/490)
وشاهدت في الأسفار كلّ عجيبةٍ ... فلم أر من قد نال جدّاً بجدّه
فكن ذا اقتصادٍ في أمورك كلّها ... فأحسن أحوال الفتى حسن قصده
وما يحرم الإنسان رزقاً لعجزه ... كما لا ينال الرزق يوماً بكدّه
حظوظ الفتى من شقوةٍ وسعادةٍ ... جرت بقضاءٍ لا سبيل لردّه وقال:
الناس مثل ظروفٍ حشوها صبرٌ ... وفوق أفواها شيءٌ من العسل
تغرّ ذائقها حتى إذا كشفت ... له تبيّن ما تحويه من دخل وقال:
تغيّر إخوان هذا الزمان ... وكلّ صديقٍ عراه الخلل
وكانوا قديماً على صحّةٍ ... فقد داخلتهم حروف العلل
قضيت التعجب من أمرهم ... فصرت أطالع باب البدل وقد تقدم بيتان من هذه الثلاثة على وجهٍ آخر أوّل ترجمة المذكور (1) ، ورأيت بخط ابن سعيد البيتين على وجه آخر، وهو قوله:
ثكلت أخلاّء هذا الزّمان ... فعندي ممّا جنوه خلل
قضيت التعجّب من شأنهم ... فصرت أطالع باب البدل ولابن جبير رحمه الله تعالى (2) :
من الله فسأل كلّ أمر تريده ... فما يملك الإنسان نفعاً ولا ضرّا
ولا تتواضع للولاة فإنّهم ... من الكبر في حالٍ تموج بهم سكر
__________
(1) انظر ص: 384 من هذا الجزء.
(2) الأبيات في الذيل والتكملة 5: 613.(2/491)
وإياك أن ترضى بتقبيل راحةٍ ... فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى وهو نحو قول القائل (1) :
أيّها المستطيل بالبغي أقصر ... ربّما طأطأ الزّمان الرّؤسا
وتذكّر قول الإله تعالى ... " إنّ قارون كان من قوم موسى " وقال، وقد شهد العيد بطندتة من قرى مصر:
شهدنا صلاة العيد في أرض غربةٍ ... بأحواز مصرٍ والأحبّة قد بانوا
فقلت لخلّي في النّوى جد بمدمعٍ ... فليس لنا إلاّ المدامع قربان وقال:
قد أحدث الناس أموراً فلا ... تعمل بها إنّي امرؤ ناصح
فما جماع الخير إلاّ الذي ... كان عليه السّلف الصالح وقال:
ربّ إن لم تؤتني سعةً ... فاطو عنّي فضلة العمر
لا أحبّ اللبث في زمنٍ ... حاجتي فيه إلى البشر
فهم كسرٌ لمنجبرٍ ... ما هم جبرٌ لمنكسر ولمّا وصل ابن جبير، رحمه الله تعالى، إلى مكة في 12 ربيع الآخر سنة 579 أنشد قصيدته التي أوّلها:
بلغت المنى وحللت الحرم ... فعاد شبابك بعد الهرم
__________
(1) انفردت إحدى النسخ بإيراد ما يلي بعد كلمة (القائل ":
قل لنصر والمرء في دولة ال ... سلطان أعمى ما دام يدعى أميراً
فإذا زالت الولاية عنه ... واستوى بالرجل عاد بصيراً وقال ابن جبير رحمه الله تعالى: أيها المستطيل ... إلخ البيتين.(2/492)
فأهلاً بمكّة أهلاً بها ... وشكراً لمن شكره يلتزم وهي طويلة، وسيأتي بعضها.
وقال رحمه الله تعالى عند تحرّكه للرحلة الحجازية:
أقول وقد دعا للخير داعٍ ... حننت له حنين المستهام
حرامٌ أن يلذّ لي اغتماضٌ ... ولم أرحل إلى البيت الحرام
ولا طافت بي الآمال إن لم ... أطف ما بين زمزم والمقام
ولا طابت حياةٌ لي إذا لم ... أزر في طيبةٍ خير الأنام
وأهديه السلام وأقتضيه ... رضىً يدني إلى دار السلام وقال:
هنيئاَ لمن حجّ بيت الهدى ... وحطّ عن النفس أوزارها
وإنّ السعادة مضمونةٌ ... لمن حجّ طيبة أو زارها (1) ولنختم ترجمته بقوله:
أحبّ النبيّ المصطفى وابن عمّه ... عليّاً وسبطيه وفاطمة الزّهرا
هم أهل بيتٍ أذهب الرجس عنهم ... وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا
موالاتهم فرضٌ على كلّ مسلمٍ ... وحبّهم أسنى الذخائر للأخرى
وما أنا للصّحب الكرام بمبغضٍ ... فإنّي أرى البغضاء في حقّهم كفرا
هم جاهدوا في الله حقّ جهاده ... وهم نصروا دين الهدى بالظّبى نصرا
عليهم سلام الله ما دام ذكرهم ... لدى الملإ الأعلى وأكرم به ذكرا وقوله في آخر الميمية:
نبيٌّ شفاعته عصمةٌ ... فيوم التنادي به يعتصم
__________
(1) البيتان في الذيل والتكملة 5: 604 والإحاطة 2: 172.(2/493)
عسى أن تجاب لنا دعوةٌ ... لديه فنكفى بها ما أهم
ويرعى لزواره في غدٍ ... ذماماً فما زال يرعى الذّمم
عليه السلام، وطوبى لمن ... ألمّ بتربته فاستلم
أخي كم نتابع أهواءنا ... ونخبط عشواءها في الظّلم
رويدك جرت فعج واقتصد ... أمامك نهج الطريق الأعم
وتب قبل عضّ بنان الأسى ... ومن قبل قرعك سنّ الندم ومنها:
وقل ربّ هب رحمةً في غدٍ ... لعبدٍ بسيما العصاة اتّسم
جرى في ميادين عصيانه ... مسيئاً ودان بكفر النّعم
فيا ربّ صفحك عمّا جنى ... ويا ربّ عفوك عمّا اجترم 180 - ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الأديب أبو عامر ابن عيشون. قال الفتح (1) : رجل حلّ المشيّدات والبلاقع، وحكى النسرين الطائر والواقع، واستدرّ خلفي البؤس والنعيم، وقعد مقعد البائس والزعيم، فآونة في سماط، وأخرى بين ردانك وأنماط، ويوماً في ناووس (2) ، وأخرى في مجلس مأنوس، رحل إلى المشرق فلم يحمد رحلته، ولم يعلق بأمل نحلته، فارتد على عقبه، وردّ من حبالة الفوت إلى منتظره ومرتقبه، ومع هذا فله تحقّق بالأدب، وتدفّق طبع إذا مدح أو نسب، وقد أثبتّ له ما تعلم حقيقة نفاذه، وترى سرعة وخده في طريق الإحسان وإغذاذه.
ثم قال: وأخبرني أنّه دخل مصر وهو سارٍ في ظلم البوس، عارٍ من كل لبوس، قد خلا من النقد كيسه، وتخلى عنه إلا تعذيره (3) وتنكيسه، فنزل بأحد
__________
(1) انظر قلائد العقيان: 288.
(2) القلائد: الناموس.
(3) القلائد: تغديره.(2/494)
شوارعها لا يفترش إلاّ نكده، ولا يتوسّد إلا عضده، وبات بليلة ابن عبدل (1) ، تهب عليه صرصر لا ينفح منها عنبر ولا مندل، فلمّا كان من السحر دخل عليه ابن طوفان فأشفق لحاله، وفرط إمحاله، وأعلمه أن الأفضل ابن أمير الجيوش استدعاه، ولو ارتاد جوده بقطعة يغنيها له لأخصب مرعاه، فصنع له في حينه:
قل للملوك وإن كانت لهم هممٌ تأوي إليها الأماني غير متّئد
إذا وصلت بشاهنشاه لي سبباً فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي
من واجه الشمس لم يعدل بها قمراً يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد
فلمّا كان من الغد وافاه فدفع إليه خمسين مثقالاً مصرية وكسوة وأعلمه أنّه غنّاه، وجوّد الإظهار للفظه، ومعناه، وكرره، حتى أثبته في سمعه وقرره، فسأله عن قائله فأعلمه بقلته، وكلّمه في رفع خلّته، فأمر له بذلك.
وله أيضاً رحمه الله تعالى:
قصدت على أنّ الزيارة سنّةٌ يؤكّدها فرضٌ من الودّ واجب
فألفيت باباً سهّل الله إذنه (2) ... ولكن عليه من عبوسك حاجب مرضت ومرّضت الكلام تثاقلاً إليّ إلى أن خلت أنّك عاتب
فلا تتكلّف للعبوس مشقّةً سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب
فلا الأرض تدميرٌ ولا أنت أهلها ولا الرزق إن أعرضت عنّي جانب
وله يستعتبني (3) :
كتبت ولو وفّيت برّك حقّه لما اقتصرت كفّي على رقم قرطاس
ونابت عن الخطّ الخطا وتبادرت فطوراً على عيني وطوراً على راسي
__________
(1) إشارة إلى الحكم بن عبدل أحد شعراء العصر الأموي وأوصافه لما يقاسيه من هموم بالليل.
(2) القلائد: فتحه.
(3) الضمير عائد إلى الفتح بن خاقان صاحب القلائد.(2/495)
سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ مديحك ألحاناً يسوغ بها كاسي
وهل نافح الآس النّدامى فلم أذع ... ثنائي (1) أذكى من منافحة الآس 181 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو مروان الطّبني، وهو عبد الملك بن زيادة الله (2) . قال في الذخيرة: كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر، أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتشار (3) شمل الطاعة، وأناخوا في ظلّها، ولحقوا بسروات أهلها، وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطّبني هو أوّل من بنى بيت شرفهم، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم.
قال ابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثاً ومشاهدةً، وأنصعهم (4) ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلّة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، انتهى المقصود منه.
ثمّ قال في الذخيرة: فأمّا ابنه أبو مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية، ورحل إلى المشرق، وسمع من جماعة من المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، انتهى.
وقد ذكر قصّة قتله المستبشعة واتهم باغتياله ابنه.
ومن نظم أبي مروان الطّبني المذكور ما وجده صاحب الذخيرة في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة، قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي
__________
(1) القلائد: ثناءك.
(2) ترجمة عبد الملك بن زيادة الله ابن الطيني في الذخيرة 2/1: 52 - 57 والمغرب 1: 92 والصلة: 343.
(3) في بعض نسخ الذخيرة والتجارية: وانتشار.
(4) في ق: وأنصفهم، والتصويب عن الذخيرة.(2/496)
عامر على الحذلمي (1) في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً، وأقرّ بذلك أعين مطالبيه، قال أبو مروان الطّبني فيه:
شكرت للعامريّ ما صنعا ولم أقل للحذيلميّ لعا
ليث عرين عدا بعزّته مفترساً في وجاره ضبعا
لا برحت كفّه ممكّنةً من الأماني فنعم ما صنعا
إن طال منه سجوده فلقد طال لغير السجود ما ركعا
موقف ابن بسام في الذخيرة من الهجاء
قال ابن بسام (2) : وابن رشيق القائل قبله:
كم ركعة ركع الصّفعان تحت يدي ولم يقل سمع الله لمن حمده
ثمّ قال ابن بسام في الذخيرة ما نصّه: والعرب تقول " فلان يركع لغير صلاة (3) " إذا كنوا عن عهر الخلوة، ومن مليح الكناية لبعض المتقدّمين يخاطب امرأته:
قلت: التشيّع حبّ أصلع هاشم فترفّضي إن شئت أو فتشيّعي
قالت: أصيلع هاشم، وتنفّست بأبي وأمي كل شيءٍ أصلع
ولما صنت كتابي (4) هذا من شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء،
__________
(1) الذخيرة: الخديلمي.
(2) الذخيرة 2/1: 61.
(3) الذخيرة: فلان يخبأ العصا وفلان يركع ... الخ.
(4) هذا من قول ان بسام أيضاً إلى آخر القول في أقسام الهجاء.(2/497)
أجريت ههنا طلقاً (1) من مليح التعريض، في إيجاز القريض، ممّا لا أدب على قائليه، ولا وصمة عظمى (2) على من قيل فيه، والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجواً (3) مستبشعاً، وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثلّ عرش القبائل، إنّما هو توبيخ وتعبير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتي عن ذكره، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وأنشدوه قول النجاشي فيهم، فدرأ الحد بالشبهات، وفعل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة، وسأله أن ينشد ما قاله فيه، فأنشده قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فسأل عن ذلك كعب بن زهير، فقال: والله ما أودّ بما قال له حمر النعم، وقال حسان: لم يهجه، ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشّبرم، فهمّ عمر، ورضي الله تعالى عنه، بعقابه، ثم استعطفه بشعره المشهور.
وقال عبد الملك بن مروان يوماً: أحاسبكم (4) يا بني أميّة، فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيّ:
تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
ولمّا سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى، وقال: أنحن نفعل هذا بجاراتنا! ودعا عليه، فما ظنك بشيء يبكي علاثة، وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حس.
__________
(1) الذخيرة: طرفاً.
(2) الذخيرة: أعظم.
(3) الذخيرة: هجراً.
(4) الذخيرة: احفظوا أحسابكم.(2/498)
وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء، وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها.
ولمّا قال جرير:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
أطفأ مصباحه ونام، وقد كان بات ليلته يتململ، لأنّه رأى أنّه قد بلغ حاجته وشفى غيظه.
قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه، حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون: قبّحكم الله وقبّح ما جئتمونا به.
والقسم الثاني: هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول: إذا هجوتم فأضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً، ولا عيرت به قبيلة، وهو الذي صنّا هذا المجموع عنه، وأعفيناه أن يكون فيه شيء منه، فإن أبا منصور الثّعالبي كتب منه في يتيمته ما شانه اسمه، وبقي عليه إثمه.
ومن مليح التعريض لأهل أفقنا قول بعضهم في غلام كان يصحب رجلاً يسمّى بالبعوضة:
أقول لشادنكم قولةً ولكنّها رمزةٌ غامضه
لزوم البعوض له دائماً يدلّ على أنّها حامضه
وأنشدت في مثله قول بعض أهل الوقت:
بيني وبينك سرٌّ لا أبوح به الكلّ يعلمه والله غافره
وحكى أبو عامر ابن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الإخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت:(2/499)
وإنّي على ما هاج صدري وغاظني ليأمنني من كان عندي له سرّ
فكان هذا البيت أشد عليه من عض الحديد، ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي من بالدموع، وهذا الباب ممتدّ الأطناب، ويكفي ما مر ويمرّ منه في أضعاف هذا الكتاب، انتهى كلام ابن بسام في الذخيرة بلفظه.
[من خطبة الذخيرة]
ولا خفاء أنّه عارض بالذخيرة يتيمة الثعالبيّ، ولذا قال في خطبة الذخيرة (1) : أمّا بعد حمد الله وليّ الحمد وأهله، والصلاة على سيّدنا محمد خاتم رسله، فإن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل، تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد، ومازال في أفقنا هذا الأندلسي القصيّ إلى وقتنا هذا من فرسان الفنّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدّجى بجفون المؤرقّ، وحدوا بفنون السحر المنمّق، حداء الأعشى ببنات المحلّق، فصبّوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاّه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعادة (2) ، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا
__________
(1) انظر مقدمة الذخيرة ج 1/ ص 1.
(2) الذخيرة: المعتادة.(2/500)
على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيّة، ومناخ الرّذيّة، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت ممّا هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبّع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحوره ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيّعوا العلم وأهله، وربّ (1) محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان، وقد كتبت لأرباب هذا الشان، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتّاب، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية، ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجيّاني قد رأى رأيي في النّصفة، وذهب مذهبي من الأنفة، فأملى في محاسن أهل زمانه كتاب الحدائق معارضاً لكتاب الزهرة للأصبهاني، فأضربت أنا عمّا ألف، ولم أعرض لشيء ممّا صنّف، ولا تعدّيت أهل عصري، ممّا شاهدته بعمري أو لحقه أهل دهري، إذ كلّ مردّدٍ ثقيل، وكل متكرّر مملول، وقد مجّت الأسماع:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند
إلى أن قال بعد ذكره أنّه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف المرتضى والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي وغيرهم ممّن يطول، ما صورته: وإنّما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. انتهى المقصود منه.
__________
(1) الذخيرة: ويا رب.(2/501)
الجراوي يهجو قومه
قلت: وتذكرت بما أنشده في الهجاء قول الباقعة الشاعر المشهور أبي العباس أحمد الغفجومي (1) الشهير بالجواري، وعامة الغرب يقولون الجراوي، يهجو قومه بني غفجوم وهم بربر بتادلا، متواصلاً بذلك إلى هجو أصلاء فاس بني الملجوم، ومستطرداً في ذلك ما هو في اطراده كالماء السجوم، وهو قوله:
يا ابن السبيل إذا مررت بتادلا لا تنزلنّ على بني غفجوم
أرضٌ أغار بها العدوّ فلن ترى إلاّ مجاوبة الصدى للبوم
قومٌ طووا ذكر السماحة بينهم لكنّهم نشروا لواء اللّوم
لا حظّ في أموالهم ونوالهم للسائل العافي ولا المحروم
لا يملكون إذا استبيح حريمهم إلا الصّراخ بدعوة المظلوم
يا ليتني من غيرهم ولو أنّني من أرض فاسٍ من بني الملجوم
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن أحد بني الملجوم قضاة فاس وأصلائها بيعت أوراق كتبه التي هي غير مجلّدة بل متفرّقة بستة آلاف دينار، ويكفيك ذلك في معرفة قدر القوم، ومع ذلك هجاهم بهذا، والله سبحانه يغفر الزلات.
رجع إلى ما كنا فيه من ذكر من ارتجل من علماء الأندلس إلى البلاد المشرقية المحروسة، فنقول:
182 - ومنهم حبيب بن الوليد بن حبيب الداخل إلى الأندلس ابن عبد
__________
(1) هو أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي (- 609) دخل الأندلس متردداً عليها وكان علاماً بالآداب، وقف ابن الأبار على ديوان شعره وألف كتاباً سماه " صفوة الأدب ونخبة كلام العرب "، وكانت وفاته بإشبيلية. ولم أجد أحداً بغيره " الجراوي " ولعله أن يكتب " الكواري " أو " القواري "، لأنه بجيم مصرية. انظر التكملة: 128 وصفحات مختلفة من البيان المغرب (طبع تطوان 1960) . ويجب التمييز بينه وبين أبي العباس الجراوي المسمى أحمد بن حسن بن سيد فهذا الثاني مالقي أصيل (انظر تحفة القادم: 44 ومخطوطة الوافي 8: 64 من مسودة المؤلف) وقد خلط بينهما عبد القادر محداد في حواشيه على زاد المسافر لصفوان ص: 7.(2/502)
الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان (1) ، من أهل قربة، ويعرف بدحّون، رحل إلى المشرق أيام عبد الرحمن بن الحكم، وحج، ولقي أهل الحديث فكتب عنهم، وقفل بعلم كثير، وكانت له حلقة بجامع قرطبة يسمع الناس فيها، وهو يلبس الوشي الشامي، إلى أن أوصى غليه الأمير عبد الرحمن بترك ذلك، فتركه، وتوفّي بعد المائتين.
ومن شعره قوله:
قال العذول: وأين قلبك كلّما رمت اهتداءك لم يزل متحيرا
قلت: اتّئد فالقلب أوّل خائن لمّا تغيّر من هويت تغيّرا
ونأى فبان الصّبر عنّي جملة وبقيت مسلوب العزاء كما ترى
ومن ولده سعيد بن هشام، وكان أديباً عالماً فقيهاً، رحم الله تعالى الجميع.
ودخل دمشق وطنهم الأقدم وعاملها يومئذ للمعتصم بن الرشيد عمر بن فرج الرّخّجي، فوافق دخوله إيّاها غلاء شديداً ومجاعة أشكت أهلها، فضجوا إلى الرّخّجي أن يخرج عنهم من الغرباء القادمين عليهم من البلاد، فأمر بالنداء في المدينة على كل من بها من طارئ وابن سبيل ليخرجوا عنها، وضرب لهم أجلاً ثلاثة أيام أوعد من تخلّف منهم بعدها بالعقاب، فابتدر الغرباء الخروج عنها، وأقام دحّون لم يتحرك، فجيء به إلى الرّخّجي بعد الأجل، فقال له: ما بالك عصيت أمري أوما سمعت ندائي فقال له دحّون: ذلك النداء الذي وقفني، فقال له: وكيف فانتمى له، فقال
__________
(1) ترجمة دحون في التكملة: 277 والمقتبس: 94 (تحقيق الدكتور محمود مكي) وانظر نسب الحبيبيين في جمهرة ابن حزم: 89 - 90.(2/503)
له الرّخّجي: صدقت والله إنك لأحقّ بالإقامة فيها منّا، فأقم ما أحببت، وانصرف إذا شئت.
وكان لدحّون هذا ابن يقال له بشر بن حبيب، ويعرف بالحبيبي، وهو من المشهورين بقرطبة، وأمّه المدنية الراوية عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، وبنته عبدة بنت بشر مشهورة، ولها رواية عنه، رحم الله تعالى الجميع.
183 - ومنهم بهلول بن فتح من أهل أقليش (1) ، له رحلة حجّ فيها، وكان رجلاً صالحاً خيّراً، حكى عن نفسه أنّه رأى في منامه بعد قدومه من الحج كأنّه بمكّة وقائل يقول: انطلق بنا نصلّ مع النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، قال: فكنت أقول لرجل من جيراني بأقليش: يا فلان انطلق بنا نصلّ مع النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، فيقول لي: لست أجد إلى ذلك سبيلاً، فكنت أتوجّه وأصلي مع الناس والنبيّ، صلى الله عليه وسلّم، إمامنا، فلمّا سلّم من الصلاة رجع إليّ وقال لي: من أني أنت قلت له: من الأندلس، فكان يقول من أي موضع فكنت أقول: من مدينة أقليش، فيقول لي: أتعرف أبا إسحاق البوّاني فكنت أقول: هو جاري، وكيف لا أعرفه فيقول لي: أقرئه منّي السلام.
184 - ومنهم أبو الحسن ثابت بن أحمد بن عبد الولي، الشاطبي (2) . روى عن أبي زيد عبد الرحمن بن يعيش المهري (3) ، ورحل حاجّاً، فسمع منه بالإسكندريّة أبو الحسن ابن المفضل المقدسي، وحدث عنه بالحديث المسلسل في الأخذ باليد عن ابن يعيش المذكور عن أبي محمد عبد العزيز بن عبد الله بن سعيد ابن خلف الأنصاري عن أبي الحسن طاهر بن مفوّز، وعليه مداره بالأندلس،
__________
(1) ترجمة بهلول الأقليشي في التكملة: 227.
(2) انظر ترجمته في التكملة: 236.
(3) التكملة: الهروي.(2/504)
عن نصر السمرقندي بإسناده، وفيه بعد، قال الحافظ ابن الأبّار: وقد رويته مسلسلاً من طرق بعضها عن ابن المفضل، وأنبأني به ابن أبي جمرة عن أبي بحر الأسدي، عن نصر السمرقندي، فصار ابن المفضل بمنزلة من سمعه ممّن سمعه مني، والحمد لله تعالى، انتهى.
185 - ومنهم أبو أحمد جعفر بن لبّ بن محمد بن عبد الرحمن بن يونس ابن ميمون، اليحصبي (1) ، سكن شاطبة، وأصله من أنشيان عملها، يكنى أبا الفضل أيضاً، حج وسمع أبا طاهر ابن عوف والحافظ السّلفي وأبا عبد الله ابن الحضرمي وأبا الثناء الحراني وبدر بن عبد الله الحبشي وأبا الحسن ابن المفضل وغيرهم، وكان من أهل العناية بالرواية مع الصلاح والعدالة، حسن الخط جيد الضبط سماه التّجيبي في معجم مشيخته وهو في عداد أصحابه لاشتراكهما في السماع بإسكندرية وتركه هنالك، ثم قدم عليه تلمسان من شاطبة في أضحى سنة ست وثمانين وخمسمائة، وحكى ممّا أفاده عن ابن المفضل أن أبا عبد الله الكيزاني (2) - وكان شاعراً مجيداً - أتته امرأة مات ولدها، فسألته أن يرثيه، فقال:
تبكي عليه بشجوٍ فقلت لا تندبيه
هذا زمانٌ عجيبٌ قد عاش من مات فيه
وأخذ عنه الحافظ أبو الربيع ابن سالم وقال: إنّه توفّي بعد التسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ترجمة ابن لب الشاطبي في التكملة: 242.
(2) هو الفقيه الواعظ المصري أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن ثابت الأنصاري المعروف بابن الكيزاني (- 560) تنتمي إليه الطائفة الكيزانية وله شعر رقيق يذهب فيه مذهب المتصوفة (انظر الخريدة 2: 18 قسم مصر ووفيات الأعيان رقم: 650 والوافي 2: 347 والمغرب (قسم مصر) 1: 261 والنجوم الزاهرة 5: 368.(2/505)
186 - ومنهم أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونه، الخزاعي، العابد (1) ، من أهل قسطنطانية عمل دانية، أخذ القراءات عن ابن هذيل، وسمع منه ومن ابن النعمة ببلنسية، رحل حاجّاً فأدى الفريضة، ودخل الإسكندرية مرافقاً لمن سمع من السّلفي، ولم يسمع منه شيئاً، قال ابن الأبار: فيما علمت وقفل إلى بلده مائلاً إلى الزهد والإعراض عن الدنيا، وكان شيخ المتصوفة في وقته، وعلا ذكره، وبعد صيته في العبادة، إلاّ أنّه كانت فيه غفلة، قال ابن الأبار: ورأيته إذ قدم بلنسية لإحياء ليلة النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة، وتوفّي عن سن عالية تقارب المائة، منتصف ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة، وشهد جنازته تشر كثير من جهات شتى، وانتاب الناس قبره دهراً طويلاً يتبرّكون بزيارته إلى حين إجلاء الروم من كان يشاركهم من المسلمين ببلاد شرق الأندلس التي تغلّبوا عليها، وذلك في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
187 - ومنهم أبو جعفر النحوي (2) ، أندلسي نزل مصر، وكان من رؤساء أهل العلم بالنحو، وممّن له حال جليلة، ذكره الطّبني فيما حكاه ابن الأبار.
188 - ومنهم أبو الحسن جابر بن أحمد بن عبد الله، الخزرجي القرطبي، وكناه بعضهم أبا الفضل (3) ، سمع ببلده من أبي محمد ابن عتاب وغيره، ورحل حاجّاً فأدى الفريضة، وكان أديباً ناظماً، كتب عنه أبو محمد العثماني بالإسكندرية بعض شعره.
189 - ومنهم أبو الحسن جهور بن خلف بن أبي عمر ابن قاسم بن ثابت
__________
(1) ترجمته في التكملة: 244.
(2) ترجمته في التكملة: 244.
(3) ترجمته في التكملة: 246.(2/506)
المعافري (1) . رحل حاجّاً إلى المشرق فأدى الفريضة، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السّلفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وسمع أيضاً من غيره، وطال مكثه هنالك، وهو - فيما رجحه بعضهم (2) - من أهل غرب الأندلس.
190 - ومنهم أبو علي الحسن بن حفص بن الحسن، البهراني الأندلسي (3) ، رحل وتجوّل ببلاد المشرق، فسمع أبا محمد عبد الله بن حمّويه وأبا حامد أحمد ابن محمد بن رجاء بسرخس، وأبا محمد ابن أبي شريح بهراة، وأبا عبد الله الحسين بن عبد الله المفلحي بالأهواز، وأبا بكر أحمد بن جعفر البغدادي وأبا حامد أحمد بن الخليل وأبا حاتم حامد بن العباس وأبا محمد الحسن بن رشيق بمصر، وقدم دمشق فروى عنه من أهلها تمام بن محمد، وبنيسابور أحمد بن منصور بن خلف المغربي وغيره.
ذكره ابن عساكر وقال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أ؛ مد بن علي بن فطيمة وأبو القاسم زاهر بن طاهر قالا: أنا أبو بكر أحمد بن منصور، أنا أبو علي الحسن بن جعفر القضاعي، وأنا الحسن بن رشيق بمصر، أنا المفضل بن محمد الجندي، أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لا يحمل العلم عن أهل البدع كلهم، ولا يحمل العلم عمّن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم، ولا يحمل عمّن يكذب في حديث الناس، وإن كان في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صادقاً؛ لأن الحديث والعلم إذا سمع من العالم فقد جعل حجّة بين الذي سمعه وبين الله تبارك وتعالى، وإنّما قال فيه القضاعي لأن بهراء من قضاعة.
191 - ومنهم أبو علي الحسن بن خلف بن يحيى بن إبراهيم بن محمد،
__________
(1) ترجمته في التكملة: 254.
(2) قال ابن الأبار: أحسبه من أهل غرب الأندلس.
(3) ترجمته في التكملة: 255 وتهذيب ابن عساكر 4: 172.(2/507)
الأموي (1) . من أهل دانية، ويعرف بابن برنجال، سمع من أبي بكر ابن صاحب الأحباس وأبي عثمان طاهر بن هشام وغيرهما، وله رحلة حج فيها وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي، وببيت المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة خمس وستين وأربعمائة، وبعسقلان من أبي عبد الله محمد ابن الحسن بن سعيد التّجيبي، وأخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه، وكان فقيهاً على مذهب مالك، وولي الأحكام ببلده، وحدّث، وأخذ عنه، وسمع الناس منه بالإسكندريّة سنة تسع وستين، هم بدانية سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وتوفّي في نحو الخمسمائة، رحمه الله تعالى.
192 - ومنهم أبو علي الحسن بن إبراهيم بن محمد بن تقي، الجذامي، المالقي (2) ، روى بقرطبة عن أبي محمد ابن عتّاب، وعن أبي سكّرة الصّدفي بمرسية سنة ثمان وخمسمائة، وصحب أبا مروان ابن مسرّة، وكان من أهل الرواية والتقييد، وكانت له رحلة سمع فيها من أبي طاهر السّلفي مجالسه التي أملاها بسلماس برجب سنة خمس عشرة وخمسمائة حسبما ألفي بخط السلفي، وفي رحلته لقيه أبو علي الحسن بن علي البطليوسي نزيل مكّة، وحدّث عنه أبو طالب أحمد بن مسلم المعروف بالتّنوخي من أهل الإسكندرية بكتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وأجاز له إجازة عامّة في السنة السابقة، وقال ابن عساكر في تاريخه، وذكر أبا ذر الهروي: سمعت أبا الحسن علي بن سليمان المرادي الحافظ الأندلسي بنيسابور يقول: سمعت أبا علي الحسن بن علي الأنصاري البطليوسي، قال ابن عساكر: وقد لقيته، ولم أسمعها منه، قال: سمعت أبا علي الحسن بن إبراهيم بن تقي الجذامي المالقي يقول: سمعت بعض
__________
(1) ترجمته في التكملة: 257.
(2) ترجمته في التكملة: 258 ومعجم أصحاب الصدفي: 72.(2/508)
الشيوخ يقول: قيل لأبي ذر الهروي: أنت من هراة، فمن أين تمذهبت لمالك والأشعري فقال: إنّي قدمت بغداد أطلب الحديث، فلزمت الدارقطني، فلمّا كان في تعض الأيام كنت معه، فاجتاز به القاضي أبو بكر ابن الطيب، فأظهر الدارقطني من إكرامه ما تعجبت منه، فلمّا فارقه قلت: أيّها الشيخ الإمام من هذا الذي أظهرت من إكرامه ما رأيت فقال: أوما تعرفه قلت: لا، فقال: هذا سيف السنّة أبو بكر الأشعري، فلزمت القاضي منذ ذلك، واقتديت به في مذهبه، انتهى.
193 - ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن الحسن بن عمر، الأنصاري، البطليوسي (1) ، رحل إلى المشرق، فأدى الفريضة، وتجوّل هناك، ولقي أبا الحسن ابن المفرّج الصقلي وأبا عبد الله الفراوي، فسمع منهما الصحيحين بعلوّ، وسمع من أبا الفتح ناصر بن أبي علي الطوسي سنن أبي داود، وحدّث بالموطإ عن أبي بكر الطّرطوشي، وله أيضاً رواية عن زاهر بن طاهر الشّحامي وعبد المنعم بن عبد الكريم القشيري وأبي محمد الحريري سمع منه مقامات الخمسين ببستانه من بغداد، ونزل بمكّة، وجاور بها، وحدّث فيها وفي غيرها، وأسنّ، وكان ثقة مسنداً يروي عنه أبو عبد الله ابن أبي الصيف اليمني وأبو جعفر ابن شراحيل الأندلسي وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإربلي، وسمع منه في صفر سنة ست وستين وخمسمائة، وقد لقيه أبو القاسم ابن عساكر الحافظ وروى عنه.
194 - ومنهم أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الأنصاري (2) : من أهل لرية عمل بلنسية، ويغرف بابن الرّهبيل (3) ، سمع من أبي الحسنابن النعمة
__________
(1) ترجمته في التكملة: 260.
(2) ترجمته في التكملة: 261.
(3) التكملة وإحدى النسخ: الرهبيل.(2/509)
كثيراً، واختص به، وعنه أخذ القراءات، وسمع من ابن هذيل أيضاً، ثم رحل حاجّاً، فلقي بالإسكندرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أبا طاهر السّلفي وأبا عبد الله ابن الحضرمي، وسمع منهما، وجاور بمكّة، وأخذ بها عن أبي الحسن علي بن حميد الطرابلسي صحيح البخاري، وكان يرويه عن أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي عن أبيه، وسمع أيضاً من أبي محمد المبارك بن الطباخ البغدادي، وأجاز له أبو المفاخر سعيد بن الحسين الهاشمي وأبو محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن الإشبيلي ببجاية عند صدوره في ربيع الأول سنة سبع وسبعين، وقفل إلى بلده فلزم الانقطاع ولانقباض عن الناس والإقبال على ما يعنيه، وكان قد خطب به قبل رحلته، وحكى التّجيبي أن طلبة الإسكندرية تزاحموا عليه لسماع التيسير لأبي عمرو المقرئ منه بروايته عن ابن هذيل سماعاً في سنة ثلاث وخمسين، وصارت له بذلك عندهم وجاهة، وبعد قفوله أصابه خدر منعه من التصرف، وكان الصلاح غالباً عليه، وتوفّي غدوة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وكانت جنازته مشهودة، رحمه الله تعالى.
195 - ومنهم الحسين بن أحمد بن الحسين بن حي، التّجيبي، القرطبي (1) ، أخذ علم العدد والهندسة عن أبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بابن برغوث (2) ، وكان كلفاً بصناعة التعديل، وله زيج مختصر ذكره القاضي صاعد ونسبه، وحكى أنّه خرج من الأندلس في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة بعد أن نالته بها وبالبحر محنٌ شداد، ولحق بمصر، ثم رحل عنها إلى اليمن، واتصل بأميرها، فحظي عنده، وبعثه رسولاً إلى القائم بأمر الله الخليفة ببغداد، ونال هناك دنيا عريضة،
__________
(1) ترجمته في طبقات صاعد: 73 والتكملة: 273.
(2) انظر ترجمة ابن برغوث في طبقات صاعد: 71 وكان هذا متحقاقاً بالعلوم الرياضية وخاصة الفلك (توفي سنة 440) .(2/510)
وتوفّي باليمن بعد انصرافه من بغداد سنة ست وخمسين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
196 - ومنهم أبو يوسف حماد بن الوليد، الكلاعي (1) ، أخذ بقرطبة عن أبي المطرف القنازعي وغيره، ورحل إلى المشرق، وحدث بالإسكندريّة فسمع منه بها يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن شبل شرح الاعتقاد من تأليفه، ورسالة قمع الحرص وقصر الأمل والحث على العمل، وذلك في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، ولقيه هنالك أبو مروان الطّبني، فسمع منه بعض فوائده.
197 - ومنهم أبو القاسم خلف بن فتح بن عبد الله بن جبير (2) ، من أهل طرطوشة، يعرف بالجبيري، وهو والد أبي عبيد الله القاسم بن خلف الجبيري الفقيه، وكانت له رحلة إلى المشرق، ومعه رحل ابنه وهو صغير، وكان من أهل العلم والنزاهة، وعليه نزل القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية، قال أبو عبيد: نزل القاضي منذر بن سعيد على أبي، فمر على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربّه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم، ولم يذكر عليّاً فيهم، ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد، فلمّا رأى ذلك منذر غضب وسبّ ابن عبد ربّه، وكتب في حاشية الكتاب:
أوما عليٌّ لا برحت ملعّناًيا ابن الخبيثة عندكم بإمام
__________
(1) ترجمة في التكملة: 285.
(2) ترجمة في التكملة: 292.(2/511)
ربّ الكساء وخير آل محمدٍ داني الولاء مقدّم الإسلام
قال أبو عبيد: والأبيات بخطّه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة، وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف على العمال بها والنظر في الختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة ثلاثين وثلاثمائة.
198 - ومنهم أبو القاسم خلف بن محمد بن خلف، الغرناطي (1) ، له رحلة روى فيها بالإسكندرية عن مهدي بن يوسف الوراق، وحدث عنه أبو العباس ابن عيسى الداني بالتلقين للقاضي عبد الوهاب.
199 - ومنهم أبو القاسم خلف بن فرج بن خلف بن عامر بن فحلون، القنطري (2) ، من قنطرة السيف، وسكن بطليوس ويعرف بابن الروية، رحل حاجّاً فأدى الفريضة، ولقي بمكّة رزين بن معاوية الأندلسي فحمل عنه كتابه في تجريد الصحاح سنة خمس وخمسمائة، وفيها حج وقفل إلى بلده بعد ذلك؛ وكان فقيهاً مشاوراً، حدّث عنه ابن خير في كتابه إليه من بطليوس في نحو الثلاثين وخمسمائة.
200 - ومنهم زرارة بن محمد بن زرارة الأندلسي (3) ، رحل حاجّاً إلى المشرق، وسمع بمصر أبا محمد الحسن بن رشيق سنة سبع وستين وثلاثمائة وأبا بكر مسرّة بن مسلم الصدفي، حدث، وأخذ عنه.
201 - ومنهم طاهر الأندلسي، من أهل مالقة، يكنى أبا الحسين (4) ، رحل إلى قرطبة، وخرج منها لما دخلها البرابر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة،
__________
(1) ترجمة في التكملة: 299.
(2) ترجمة في التكملة: 302.
(3) ترجمة في التكملة: 334.
(4) ترجمة في التكملة: 340.(2/512)
فلم يزل بمكّة إلى حدود الخمسين وأربعمائة، وكان من أصحاب أبي عمر الطّلمنكي وملازميه لقراءة القرآن، وطلب العلم مع أبي محمد الشّنتجالي وأبي أيوب الزاهد إمام مسجد الكوّابين بقرطبة، وجاور بمكّة طويلاً، وأقرأ على مقربة من باب الصفا، وكان الشيبيون يكرمونه وفرجون له لضعفه عند دخوله البيت الحرام، ذكره الطّبني، قال ابن الأبار: وأحسبه المذكور في برنامج الخولاني، والذي قرأ لهم أكثر المدونة على أبي عمر أحمد ابن محمد الزيات، انتهى.
202 - ومنهم أبو الطاهر الأندلسي، من أهل لبلة (1) ، نزل مصر، وكانت له حلقة بجامع عمرو بن العاص، وكان - رحمه الله تعالى - نحويا، له شعر وترسيل وتعلق بالملوك للتأديب بالنحو، ثم ترك ذلك.
203 - أبو محمد طارق بن موسى بن يعيش، المنصفي، المخزومي (2) ، والمنصفي نسبة إلى قرية بغربي بلنسية، ويكنى أيضاً أبا الحسن، رحل قبل العشرين وخمسمائة، فأدى الفريضة، وجاور بمكّة، وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري، ومن الشريف أبي محمّد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران أخذ عنه كتاب الإحياء للغزالي عن مؤلفه، وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي وأبي الحسن ابن مشرف وأبي عبد الله الرازي وأبي طاهر السّلفي وغيرهم ثم قفل إلى بلده فحدث، وأخذ الناس عنه، وسمعوا منه، وكان شيخاً صالحاً عالي الرواية ثقة، قال ابن عياد: لم ألق أفضل منه، وكان مجاب الدعوة، وحدث عنه بالسماع والإجازة جلّةٌ منهم أبو الحسن ابن هذيل وأبي محمد القلني وأبو مروان ابن الصّيقل وأبو العباس الإقلبشي
__________
(1) ترجمة في التكملة: 342.
(2) ترجمة في التكملة: 343.(2/513)
وأبو بكر ابن خير وابن سعد الخير وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي وأبو بكر ابن جزيّ وغيرهم، ثم رحل ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الإقلبشي وأبي الوليد ابن خيرة الحافظ سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وقد نيّف على السبعين، فأقام بمكّة مجاوراً إلى أن توفي بها عن سن عالية - رحمه الله تعالى - سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
204 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن مزينٍ الأودي (1) من أهل أكشولبة غربي الأندلس، يكنى أبا مضر، ولاه عبد الرحمن بن معاوية قضاء الجماعة بقرطبة، وذلك في المحرّم سنة سبعين ومائة، وأقام شهراً، ثم استعفى فأعفاه، ورحل حاجّاً فأدى الفريضة، وسمع في رحلته إمامنا مالك بن أنس وانصرف ومات عن سن عالية سنة ثلاث وثمانين ومائة، وذكره ابن شعبان في الرواة عن مالك وحكى أنّه روى عنه: من قطع لسانه استؤني به عاماً، وأن مالكاً قال له: قد بلغني أن بالأندلس من نبت لسانه فإن لم ينبت أقيد، انتهى.
205 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد حيّاز، الشاطبي، الأوسي، قدم مصر، وكان قد أخذ عن ابن برطله وابن البراء وغيرهما، وعمل فهرست شيوخه على حروف المعجم، وحج وعاد إلى بلده، ومات يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبعمائة، رحمه الله تعالى وغفر له.
206 - ومنهم القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة ابن صخر بن سماعة اللّخمي الأندلسي الإشبيلي (2) . قال أبو شامة (3) : هو من
__________
(1) ترجمته في التكلمة: 355 والذيل والتكملة 6 الورقة: 39 (نسخة باريس) .
(2) ترجمة ابن مروان الباجي هذه مكررة، انظر رقم: 173.
(3) انظر ذيل الروضتين: 164.(2/514)
بيت كبير بالأندلس يعرف ببني الباجي مشهور كثير العلماء والفضلاء، وأصلهم من باجة القيروان، وليس منهم القاضي أبو الوليد الباجي الفقيه، فإنّه من بيت آخر من باجة الأندلس، وقدم أبو مروان حاجّاً من بلاده في البحر إلى عكّا من ساحل دمشق، ثم دخل دمشق سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة، ونزل عندنا بالمدرسة العادليّة، وجدّه الأعلى أحمد ابن عبد الله بن محمد بن علي قدم إلى الديار المصرية وحجّ منها ومعه ولده محمد أخو عبد الملك ويعرف بصاحب الوثائق، وسمعا بها من جماعة من العلماء، وذكر أبو عبد الله الحميدي أحمد بن عبد الله هذا في " جذوة المقتبس " (1) ، وكنّاه أبا عمر، وذكر أنّه سكن إشبيلية وأثنى عليه كثيراً، وقال: مات في حدود الأربعمائة، وروى عنه ابن عبد البر وغيره.
وأبوه عبد الله بن محمد بن علي يعرف بالرواية، ذكره الحميدي (2) أيضاً.
وذكر ابن بشكوال في " الصلة " (3) عبد الملك بن عبد العزيز جد هذا الشيخ القادم وأثنى عليه، وقال: توفي سنة اثنتين وثلاثين، وخمسمائة.
وكان هذا الشيخ أبو مروان حسن الأخلاق فاضلاً متواضعاً محسناً، وسمعته يقول، وقد سئل إعارة شيء، فبادر إليه، ثم قال: عند في قوله تعالى " ويمنعون الماعون " هو كل شيء.
واستفدنا من هذا الشيخ فائدة جليلة، وهي معاينة قدر مدّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم متوارثٌ، وقد أخبر عن ذلك أبو محمد ابن حزم في كتابه المحلى وعايرت بذلك المدّ المدّ الذي لنا بدمشق حينئذ، وهو الكيل الكبير، فوجدت مدّنا يسع صاعين إلا يسيراً، ووجده ممسوحاً يسع صاعاً ونصفاً وشيئاً فيكون مدان ممسوحان ثلاثة آصعٍ زائدة، وقرأت في كتاب
__________
(1) الجذوة: 120.
(2) الجذوة: 233.
(3) الصلة: 347.(2/515)
المحلى لابن حزم، قال أبو محمد (1) : وخرط لي مدٌّ على تحقيقالمد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي، وهو عند أكثرهم (2) لا يفارق داره، أخرجه إليّ ثقتي الذي كفته ذلك علي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي المذكور، وذكر أنّه مدّ أبيه، وأن جده أخذه وخرطه (3) على مد أحمد بن خالد، وأخبره أحمد بن خالد أنّه خرطه على مد يحيى بن يحيى، على مد مالك، قال أبو محمد: ثم كلته بالقمح الطيب، ثم وزنته فوجدته رطلاً ونصف رطلٍ بالفلفلي لا يزيد حبّة، وكلته بالشعير إلا أنّه لم يكن بالطيب فوجدته رطلاً واحداً ونصف أوقية، وسألت عن الرطل الفلفلي، فقيل لي: هو ست عشرة أوقية كل أوقية عشرة دراهم، وفي تقدير ابن حزم نظر.
وتوفّي هذا الشيخ بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وستمائة بعد رجوعه من الحج، رحمه الله تعالى. انتهى كلام أبي شامة، وبعضه بالمعنى.
207 - ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد، الواعظ، الإشبيلي، ثم المصري (4) ، فاضل شرح الصدور بلفظه، ومتكلّم أحيا القلوب بوعظه، أحواله مشهورة، ومجالسه بالذكر معمورة، وله معرفة بالأدب، وخبرة بالشعر والخطب، وكلام وجهه حسن، ونظم يمتاز به على كثير من أرباب
__________
(1) انظر المحلى 5: 245 - 246.
(2) المحلى وأبو شامة: أكبرهم.
(3) المحلى: وذكر أنه مد أبيه وجده وأبي جده خرطه ... إلخ. وما في النفح موافق لما في ذيل الروضتين.
(4) هذا هو الشاعر المشهور باسم " الزين كتاكت " المصري (زين الدين كتاكت) أصل أهله من إشبيلية، أما هو فقد ولد بتنيس عام 605 وعلى ذلك فلا يصح أن يدرج في سياق الراحلين من الأندلس (انظر ترجمته في الوافي 7 الورقة: 160، والفوات 1: 108، والنجوم الزاهرة 7: 364) .(2/516)
اللّسن، قاله ابن حبيب الحلبي، قال: وهو القائل (1) :
من أنت محبوبه من ذا يعيّره ومن صفوت له من ذا يكّدره
هيهات عنك ملاح الكون تشغلني والكلّ أعراض حسن أنت جوهره
وقال (2) :
اكشف البرقع عن بكر العقار واخل في ليلك مع شمس النهار
وانهب العيش ودعه غلطاً ينقضي ما بين هتكٍ واستتار
إن تكن شيخ خلاعات الصّبا فالبس الصبوة في خلع العذار
وارض بالعار وقل: قد آن لي في هوىخمّار كاسي لبس عاري
وقال:
حثّوا إلى نجدٍ نياق الهوى فثمّ وادٍ جوّه معشب
وانتظروا حتى يلوح الحمى فالعيش فيه طيّبٌ طيّب
وتوفّي سنة أربع وثمانين وستمائة، هكذا ذكر ترجمته ابن حبيب، ثم بعد كتبها حصل لي شك: هو هو ممّن ارتحل بنفسه من الأندلس أو ولد بمصر وإنّما ارتحل إليها بعض سلفه والله تعالى أعلم.
208 - وكذا ذكر آخر بقوله في سنة سبع وثمانين وستمائة: وفيها توفّي الإمام زكي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز بن يحيى بن علي الإشبيلي المالكي (3) ، محدث، عالم، زاهد فيما ليس بدائم، كثير الخير،
__________
(1) البيتان في النجوم الزاهرة 7: 365.
(2) الأبيات في الوافي: 160.
(3) نسبته في المصادر " اللوزي " وقيل أن لورة قلعة من أعمال إشبيلية، ولد سنة 614 وحج - ومعنى هذا القول أنه هاجر من الأندلس وأقام في المشرق، وتوفي بالينبع (انظر شذرات الذهب 5: 400 والنجوم الزاهرة 7: 378؛ وهذه الترجمة منقولة أيضاً عن درة الأسلاك حسب ما ورد في حاشية طبعة ليدن) .(2/517)
جزيل المير، كان حسن المناهج، قاضياً للحوائج، محسناً إلى الصامت والمعرب، مقصداً لمن يرد من الحجاز والمغرب، سمع بمصر ودمشق وحلب، وأفتى ودرّس، مفيداً لذوي الطلب، ولم يبرح يعين بأياديه ويغيث، وهو أول من باشر بظاهرية دمشق مشيخى الحديث، وكانت وفاته بدمشق عن نيّف وسبعين سنة، انتهى.
209 - ومنهم الأحق بالسبق والتقدم، بقيّ بن مخلد بن يزيد، أبو عبد الرحمن، القرطبي، الأندلسي، الحافظ، أحد الأعلام، وصاحب التفسير والمسند (1) . أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ومحمد بن عيسى الأعشى، وارتحل إلى المشرق، ولقي الكبار، وسمع بالحجاز مصعباً (2) الزهري وإبراهيم ابن المنذر وطبقتهما، وبمصر يحيى بن بكير وزهير بن عبّاد وطائفة، وبدمشق إبراهيم الغساني (3) وصفوان بن صالح وهشام بن عمار وجماعة، وببغداد أحمد بن حنبل وطبقته، بالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحماني ومحمد ابن عبد الله بن نمير وأبا بكر ابن أبي شيبة وطائفة، وبالبصرة أصحاب حماد بن زيد، وعني بالأثر عناية عظيمة لا مزيد عليها، وعدد شيوخه مائتان وأربعة وثلاثون رجلاً، وكان إماماً، زاهداً، صوّاماً، صادقاً، كثير التهجد، مجاب الدعوة، قليل المثل، مجتهداً، لا يقلد، بل يفتي بالأثر.
ولد في رمضان سنة إحدى ومائتين، وتوفّي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين.
__________
(1) ترجمة بقي بن مخلد في الجذوة: 167 (وبغية الملتمس رقم: 584) وابن الفرضي 1: 107، والمرقبة العليا: 18، وتذكرة الحفاظ: 629، وطبقات المفسرين: 9.
(2) ابن الفرضي: أبا المصعب.
(3) دوزي: إبراهيم بن إبراهيم الغساني؛ وما هنا يوافق إحدى النسخ.(2/518)
قال ابن حزم: أقطع أنّه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسيره، لا تفسير محمد ابن جرير ولا غيره، وكان محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبّاً للعلوم عارفاً بها. فلمّا دخل بقيّ بن مخلد الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرئ عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستبشعوه، وقام جماعة من العامة عليه، ومنعوه من قراءته، فاستحضره الأمير محمد وإياهم، وتصفح الكتاب جزءاً جزءاً حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن كتبه: هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، وقال لبقيّ: انشر علمك، وارو ما عندك، نهاهم أن يتعرضوا له.
قال ابن حزم: مسند بقيّ روى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيّف، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه فهو مسند ومصنّف (1) ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبته وإتقانه واحتفاله في الحديث، وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين ممّن ذكرهم أربى فيه على مصنّف أبي بكر ابن أبي شيبة وعلى مصنّف عبد الرزّاق وعلى مصنف سعيد بن منصور.
ثم ذكر تفسيره فقال: فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام، لا نظير لها، وكان متخيراً لا يقلّد أحداً، وكان جارياً في مضمار البخاري ومسلم والنسائي.
وذكر القشيري (2) أن امرأة جاءته فقالت له: إن ابني قد أسرته الفرنج، وإنّي لا أنام الليل من شوقي إليه، ولي دويرة أريد أن أبيعها لأفتكّه بها، فإن رأيت أن تشير إلى من يأخذها ويسعى في فكاكه، فليس لي ليل ولا نهار، ولا صبر ولا قرار، فقال: نعم، انصرفي حتى ننظر في ذلك إن شاء الله تعالى،
__________
(1) الفرق بين المسند والمصنف أن الأول فيه الحديث بحسب رواته من الصحابة والثاني رتب فيه الحديث بحسب أبواب الفقه.
(2) وردت القصة في الجذوة: 168 مسندة إلى أبي القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري، إجازة عنه؛ وفي النص اختلاف عما أورده المقري.(2/519)
وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله، عزّ وجلّ، لولدها بالخلاص، فذهبت، فما كان غير قليل حتى جاءت وابنها معها فقالت: اسمع خبره يرحمك الله تعالى فقال: كيف كان أمرك فقال: إنّي كنت فيمن يخدم الملك، ونحن في القيود، فبينا أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي، فأقبل عليّ الموكل بي فشتمني، وقال: فككت القيد من رجليك، فقلت: لا والله ولكن سقط ولم أشعر، فجاءوا بالحدّاد فأعاده، وسمّر مسماره وأيّده، ثم قمت، فسقط أيضاً، فسألوا رهبانهم، فقالوا: ألك والدة فقلت: نعم، فقالوا: إنّه قد استجيب دعاؤها له، فأطلقوه، فأطلقوني، وخفروني إلى أن وصلت إلى بلاد الإسلام، فسأله بقيٌّ عن الساعة التي سقط القيد من رجليه فيها، فإذا هي الساعة التي دعا له فيها، رحمه الله تعالى.
210 - من الراحلين من الأندلس إلى المشرق يوسف بن يحيى بن يوسف الأزدي، المعروف بالمغامي (1) . من أهل قرطبة، وأصله من طليطلة، وهو من ذرية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
سمع من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، وروى عن عبد الملك بن حبيب مصنفاته، وارتحل إلى مصر، وسمع من يوسف بن يزيد القراطيسي، وعاد إلى الأندلس، وكان فقيهاً، نبيلاً، فصيحاً [بصيراً] (2) بالعربية، ثم بعد عوده من مصر أقام بقرطبة أعواماً، ثم عاد إلى مصر، وأقام بها، وسمع الناس منه، وعظم أمره بالبلاد الشرقية، ثم إنّه عاد إلى الغرب فتوفّي بالقيروان سنة ثمان وثمانين ومائتين، وبين بمصر الواضحة لابن حبيب، وصنف شيئاً في الرد على الشافعية في عشرة أجزاء، وألف كتاب فضائل مالك رضي الله تعالى عنه.
والذي يرتضى أن من قلد إماماً من المجتهدين لا ينبغي له أن يغضّ من
__________
(1) ترجمته في جذوة المقتبس: 350 (وبغية الملتمس رقم: 1452) وابن الفرضي 2: 200.
(2) زيادة من ابن الفرضي وإحدى النسخ.(2/520)
قد رغيره، وإن كان ولا بد من الانتصار مذهبه وتقوية حجّته فليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة، رضي الله تعالى عنهم، فإنّهم على هدى من ربهم، وقد ضلّ بعض الناس فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد حكى أبو عبد الله الوادي آشي - حسبما رأيته بخطه - أن القاضي عبد الوهاب ابن نصر البغدادي المالكي ألّف كتاباً لنصرة مذهب مالك على غيره من المذاهب في مائة جزء، وسمّاه النصرة لمذهب إمام دار الهجرة، فوقع الكتاب بخطّه بيد بعض قضاة الشافعية بمصر، فغرّقه في النيل، فقضى الله تعالى أن السلطان فرج بن برقوق سافر إلى الشام ومعه القضاة الأربعة وغيرهم من الأعيان لدفع تيمورلنك عن البلاد، فلم يستطع شيئاً، وهزم إلى مصر، وتفرّقت العساكر، وأخذ القضاة والعلماء أسارى ومن جملتهم ذلك القاضي، فبقي في أسرتيمورلنك إلى أن ارتحل عن الشام، فأخذه معه أسيراً إلى أن وصل إلى الفرات، فغرق فيه، أعني القاضي، فرأى بعض الناس أن ذلك بسبب تغريقه الكتاب المذكور، والجزاء من جنس العمل، والله تعالى أعلم.
بين أبن خلدون وتيمورلنك
وقد نجّى الله تعالى من هذه الورطة قاضي القضاة أبا زيد عبد الرحمن ين خلدون الحضرمي المالكي صاحب كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فإنّه كان من جملة القضاة الحاضرين في الهزيمة، فلمّا أدخلوا على تيمورلنك قال لهم ابن خلدون (1) : قدّموني للكلام تنجوا إن شاء الله تعالى، وإلا فأنتم في أخبر،
__________
(1) أخبار ابن خلدون مع تيمورلنك وردت في التعريف: 366 وما بعدها وعجائب المقدور والسلوك للمقريزي وتاريخ ابن قاضي شهبة وقد قام ولتر فشل بدراستها في كتابه " ابن خلدون وتيمورلنك: 1952 ".(2/521)
فقدّموه وعليه زي المغاربة، فلمّا رآه تيمورلنك قال: ما أنت من هذه البلاد وتكلّم معه فخلبه ابن خلدون بلسانه، وكان آية الله الباهرة، ثم قال لتيمورلنك: إنّي ألّفت كتاباً في تاريخ العالم، أو كما قال، ويقال: إن تيمورلنك هو الذي قال له: بلغني أنّك ألفت كتاباً في تاريخ العالم، ثم قال له تيمورلنك: كيف ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنصر مع أنّنا خربنا العالم فقال له ابن خلدون: أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة، أو نحو هذا من العبارات، فأعجبه ذلك، وقيل: إنّه لما أنس بابن خلدون قال له: يا خوند، ما أسفي إلا على كتاب ألفته في التاريخ، وأنفقت فيه أيام عمري، وقد تركته بمصر، وإن عمري الماضي ذهب ضياعاً حيث لم يكن في خدمتك وتحت ظل دولتك، والآن أذهب فآتي بهذا الكتاب وأرجع سريعاً حتى أموت في خدمتك، ونحو هذا من الكلام، فأذن له، فذهب ولم يعد إليه، وقال بعض العلماء: إنّه لم ينج من يد ذلك الجبار أحد من العلماء غير ابن خلدون ورجل آخل، وقد ذكر ذلك ابن عرب شاه في عجائب المقدور وقد طال عهدي به فليراجع، وحكى غير واحد أن تيمورلنك لما أخذ حلب على الوجه المشهور في كتب التاريخ جمع العلماء فقال لهم على عادته في التعنت: قبل منّا ومنكم جماعة، فمن الذي في الجنّة قتلانا أو قتلاكم وكان مراده إبراز سبب لقتلهم، لأنّهم إن قالوا أحد الأمرين هلكوا، فقال بعض العلماء، وأظنّه ابن الشّحنة: دعوني أجبه وإلا هلكتم، فتركوه، فقال له: يا خوند، هذا السؤال أجاب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه، فغضب تيمورلنك وقال: كيف يمكن أن يجيب عن هذا السؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن لم نكن في زمانه أو كلاماً هذا معناه(2/522)
فقال العالم المذكور: روينا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة ويقاتل ليذكر ويرى مكانه، فمن الذي في الجنّة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الذي في الجنّة " أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، فتعجّب تيمورلنك من هذا الجواب المفحم المسكت، وحقّ له أن يتعجّب منه، فإن هذا من الأجوبة التي يقل نظيرها، وفيها المخلص على كل حال بالإنصاف، وقد وفّق الله تعالى هذا العالم لهذا الجواب حتى يتخلّص على يده أولئك الأقوام من الطاغية الجبار العنيد الذي جعل تعالى فتنته في الإسلام وفتنة جنكزخان وأولاده من أعظم الفتن التي وهى بها المسلمون.
وذكر بعض العلماء أن ابن خلدون لما أقبل على تيمولنك قال له: دعني أقبّل يدك، فقال: ولم فقال له: لأنّها مفتاح الأقاليم، يشير إلى أنّه فتح خمسة أقاليم، وأصابع يده خمس: فلكل إصبع إقليم، وهذا أيضاً من دهاء ابن خلدون.
وقد كدنا نخرج عن المقصود في هذه الترجمة فلنصرف العنان، والله سبحانه المستعان.
211 - ومن الراحلين من الأندلس الإمام الحافظ أبو بكر ابن عطية، رحمه الله تعالى (1) ، قال الفتح: شيخ العلم، وحامل لوائه، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلّم وكوكب سمائه، شرح الله تعالى لحفظه (2) صدره، وطاول به عمره، مع كونه في كل علم وافر النصيب، مياسراً بالمعلّى والرقيب، رحل إلى المشرق لأداء الفرض، لابس بردٍ من العمر الغض، فروى وقيّد،
__________
(1) ترجمة أبي بكر ابن عطية في قلائد العقيان: 207، وأزهار الرياض 3: 99، وتذكرة الحفاظ: 1369، والصلة: 432، واسمه غالب بن عبد الرحمن بن عطية.
(2) القلائد: لتحفظه.(2/523)
ولقي العلماء وأسند، وأبقى تلك المآثر وخلّد، نشأ في بيئةٍ (1) كريمة، وأرومة من الشف غير مرومة، لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم، وأرباب مجد ضخم، قد قيدت مآثرهم الكتب، وأطلعتهم التواريخ كالشّهب، وما برح الفقيه أبو بكر يتسنم كواهل المعارف وغواربها، ويقيد شوارد المعاني وغرائبها، لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصوله وفروعه، وعمر برهةً من شبيبته ربوعه، وبرز فيه تبريز لجواد المستولي على الأمد، وجلّى عن نفسه به كما جلّى الصقال عن النصل الفرد، وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلاً، ويقوم على قوّة العارضة دليلاً، فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزّمان، وينبه على التحفظ من الإنسان:
كن بذئبٍ صائدٍ مستأنساً وإذا أبصرت إنساناً ففرّ
إنّما الإنسان بحرٌ ما له ساحلّ فاحذره إياك الغرر
واجعل الناس كشخصٍ واحدٍ ثم كن من ذلك الشخص حذر
وله في الزهد:
أيّها المطرود من باب الرضى كم يراك الله تلهو معرضا
كم إلى كم أنت في جهل الصّبا قد مضى عمر الصّبا وانقرضا
قم إذا الليل دجت ظلمته واستلذّ الجفن أن يغتمضا
فضع الخدّ على الأرض ونح واقرع السّنّ على ما قد مضى
وله في هذا المعنى:
قلبي يا قلبي المعنّى كم أنا أدعى فلا أجيب
كم أتمادى على ضلالٍ لا أرعوي لا ولا أنيب
__________
(1) دوزي: بيتتة، القلائد: بينة.(2/524)
ويلاه من سوء ما دهاني ينوب غيري ولا أتوب
وا أسفي كيف برء دائي دائي كما شاءه الطّبيب
لو كنت أدنو لكنت أشكو ما أنا من بابه قريب
أبعدني منه سوء فعلي وهكذا يبعد المريب
ما لي قدرٌ وأيّ قدرٍ لمن أخلّت به الذنوب
وله في هذا المعنى أيضاً:
لا تجعلن رمضان شهر فكاهةٍ تلهيك فيه من القبيح فنونه
واعلم بأنّك لا تنال قبوله حتى تكون تصومه وتصونه
وله في مثل ذلك (1) :
إذا لم يكن في السمع منّي تصاونٌ وفي بصري غضٌّ وفي مقولي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظّما وإن قلت إنّي صمت يوماً فما صمت
وله في المعنى الأول:
جفوت أناساً كنت آلف وصلهم وما في الجفا عند الضرورة من باس
بلوت فلم أحمد، وأصبحت آيساً ولا شيء أشفى للنفوس من الياس
فلا تعذلوني في انقباضي فإنّني رأيت جميع الشّرّ في خلطة الناس
وله يعاتب بعض إخوانه:
وكنت أظنّ أنّ جبال رضوى تزول وأنّ ودّك لا يزول
ولكنّ الأمور لها اضطرابٌ وأحوال ابن آدم تستحيل
فإن يك بيننا وصل جميلٌ وإلاّ فليكن هجرٌ طويل
__________
(1) ورد هذان البيتان أيضا في أخبار وتراجم أندلسية ص: 310.(2/525)
وأمّا شعره الذي اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره، وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره، فإنّه نسي إلى ما تناساه، وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه، فممّا وقع من ذلك قوله:
كيف السّلوّ ولي حبيبٌ هاجرٌ قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا
لمّا درى أنّ الخيال مواصلي جعل السّهاد على الجفون رقيباً
وله أيضاً:
يا من عهودي لديك ترعى أنا على عهدك الوثيق
إن شئت أن تسمعي غرامي من مخبرٍ عالمٍ صدوق
فاستخبري قلبك المعنّى يخبرك عن قلبي المشوق
انتهى كلام الفتح.
وأبو بكر ابن عطية المذكور هو والد الحافظ القاضي أبي محمد عبد الحق ابن عطية صاحب التفسير الشهير، رحم الله تعالى الجميع.
ترجمة عبد الحق بن عطية
قال في الإحاطة في حقّه ما ملخّصه (1) : [هو] الشيخ الإمام المفسر عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي، فقيه عالم بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب، حسن التقييد، له نظم ونثر ولي قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة في المحرم، وكان غاية في الذكاء والدهاء والتهمّم بالعلم، سريّ الهمّة في اقتناء الكتب، توخّى الحق، وعدل في الحكم، وأعز الخطّة، روى عن أبيه وأبوي علي الغساني والصدفي وطبقتهما، وألف كتابه
__________
(1) انظر الإحاطة: 308 (نسخة الكتاني) .(2/526)
الوجيز في التفسير فأحسن فيه وأبدع، وطار بحسن نيّته كلّ مطار، وبرنامجاً ضمّنه مروياته وأسماء شيوخه فحرّر وأجاد.
ومن نظمه يندب عهد شبابه (1) :
سقياً لعهد شبابٍ ظلت أمرح في ريعانه ولياي العيش أسحار
أيام روض الصّبا لم تذو أغصنه ورونق العمر غضٌّ والهوى جار
والنفس تركض في تضمير شرّتها طرفاً له في زمان اللهو إحضار
عهداً كريماً لبسنا فيه أرديةً كانت عياناً ومحّت فهي آثار
مضى وأبقى بقلبي منه نار أسىً كوني سلاماً وبرداً فيه يا نار
أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في ليل الشباب لصبح الشّيب إسفار
وقارعتني اللّيالي فانثنت كسراً عن ضيغمٍ ما له نابٌ وأظفار
إلا سلاح خلالٍ أخلصت فلها وفي منهل المجد إيرادٌ وإصدار
أصبو إلى روض عيشٍ ورضه خضلٌ أو ينثني بي عن العلياء إقصار
إذاً فعطّلت كفّي من شبا قلم آثاره في رياض العلم أزهار
مولده سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وتوفّي في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة بلورقة، قصد ميورقة (2) يتولى قضاءها فصدّ عن دخولها وصرف منها إلى لورقة اعتداء عليه، رحمه الله تعالى، انتهى.
وقال الفتح في حقّه ما نصّه (3) : فتى العمر كهل العلاء، حديث السن قديم السناء، لبس الجلالة برداً ضافياً، وورد ماء الأصالة صافياً، وأوضح للفضل رسماً عافياً، وثنى من ذهنه للأعراض فنناً قصدا، وجعل فهمه شهاباً
__________
(1) لم ترد القصيدة في نسخة الإحاطة، والمقري يشعر أنه ما يزال ينقل عنها.
(2) الإحاطة: قصد مرسية.
(3) لم يرد هذا النص في القلائد والمطمح المطبوعين.(2/527)
رصدا، سما إلى رتب الكهول صغيراً، وشنّ كتيبة ذهنه على العلوم مغيراً، فسباها عنى وفصلاً، وحواها فرعاً وأصلاً، وله أدبٌ يسيل رضراضاً، ويستحيل ألفاظاً مبتدعة وأغراضاً.
وقال أيضاً فيه (1) : نبعة دوح العلاء، ومحرز ملابس الثناء، فذّ الجلالة، وواحد العصر والأصالة، وقار كما رسا الهضب، وأدب كما اطّرد السّلسل العذب، وشيم تتضاءل لها قطع الرياض، وتبادر الظن به (2) إلى شريف الأغراض، سابق الأمجاد فاستولى على الأمد بعبابه (3) ، ولم ينض ثوب شبابه، أدمن التعب في السؤدد جاهداً، فتى تناول الكواكب قاعداً، وما اتكل على أوائله، ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله، أثره في كل معرفةٍ علمٌ في رأسه نار، وطوالعه في آفاقها صبح أو منار (4) ، وقد أثبتّ من نظمه المستبدع ما ينفح عبيراً، ويتضح منيراً، فمن ذلك قوله من قصيدة:
وليلةٍ جبت فيها الجزع مرتدياً بالسيف أسحب أذيالاً من الظّلم
والنجم حيران في بحر الدجى غرقٌ والبرق في طيلسان الليل كالعلم
كأنّما اللّيل زنجيٌّ بكاهله جرحٌ فيثعب أحياناً له بدم
انتهى المقصود منه.
وهو - أعني أبا بكر - أحد مشايخ عياض، حسبما ألمعت به في أزهار الرياض.
212 - ومنهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرح - بالحاء المهملة -
__________
(1) انظر القلائد: 208.
(2) القلائد: ويبادر به الظن.
(3) القلائد: بغلابه.
(4) القلائد: نهار.(2/528)
ابن أحمد بن محمد، الإمام، الحافظ، الزاهد، بقية السلف، اللّخمي، الإشبيليّ، الشافعي (1) ، أسره الإفرنج سنة ست وأربعين وستمائة، وخلص، وقدم مصر سنة بضع وخمسين، وقيل: إنّه تمذهب للشافعي، وتفقّه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام قليلاً، وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي، والمعين أحمد بن زين الدين وإسماعيل بن عزوز والنجيب بن الصيقل وابن علاّق، وبدمشق من ابن عبد الدائم وخلق، وعني بالحديث، وأتقن ألفاظه، وعرف رواته وحفّاظه، وفهم معانيه، وانتقى لبابه ومبانيه.
قال الصفدي (2) : وكان من كبار أئمّة هذا الشان، وممّن يجري فيه وهو طلق اللسان (3) ، هذا إلى ما فيه من ديانة، وورع وصيانة، وكانت له حلقة اشتغال بكرة بالجامع الأموي يلازمها، ويحوم عليه من الطلب حوائمها، سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي، واستفاد منه، روى في تصانيفه عنه، وعرضت عليه مشيخة دارالحديث النورية فأباها، ولم يقبل حباها، وكان بزيّ الصوفية، ومعه فقاهة بالشافعية (4) ، ولم يزل على حاله حتى أحزن الناس ابن فرح، وتقدّم إلى الله وسرح، وشيع الخلق جنازته، وتولّوا وضعه في القبر وحيازته، وتوفّي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وستمائة، ومولده سنة خمس وعشرين وستمائة.
وله قصيدة غزلية في ألقاب الحديث سمعها منه الدّمياطي واليونيني، وسمع منه البرزالي والمقاتلي والنابلسي وأبو محمد ابن الوليد، ومات بتربة أم
__________
(1) ترجمته في أعيان العصر (الورقة 105 أمن المخطوطة رقم 2962 آياصوفيا) والوافي 7: الورقة 138 وتذكرة الحفاظ: 1486 وطبقات السبكي 5: 12 وشذرات الذهب 5: 443.
(2) النقل عن أعيان العصر.
(3) أعيان العصر: العنان.
(4) أعيان العصر: بالشامية.(2/529)
الصالح بالإسهال.
والقصيدة المذكورة هي هذه:
غرامي صحيح والرّجا فيك معضل وحزني ودمعي مطلقٌ ومسلسل
وصبري عنكم يشهد العقل أنّه ضعيفٌ ومتروك، وذلّي أجمل
ولا حسنٌ إلا سماع حديثكم مشافهة يملى عليّ فأنقل
وأمري موقوفٌ عليك، وليس لي على أحدٍ إلاّ عليك المعوّل
ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي على رغم عذّالي ترقّ وتعدل
وعذل عذولي منكرٌ لا أسيغه وزورٌ وتدليسٌ يردّ ويهمل
أقضّي زماني فيك متصل الأسى ومنقطعاً عمّا به أتوصّل
وها أنا في أكفان هجرك مدرج تكلّفني ما لا أطيق فأحمل
وأجريت دمعي بالدماء مدبّجاً وما هو إلا مهجتي تتحلّل
فمتّفقٌ سهدي وجفني (1) وعبرتي ... ومفترقٌ صبري وقلبي المبلبل
ومؤتلف شجوي ووجدي (2) ولوعتي ... ومختلف حظّي وما منك آمل خذ الوجد عني مسنداً ومعنعناً فغيري موضوع الهوى يتحيّل
وذي نبذٌ من بمبهم الحب فاعتبر وغامضه إن رمت شرحاً أحوّل
عزيزٌ بكم ضبٌّ ذليل لغيركم ومشهور أوصاف المحبّ التذلل
غريبٌ يقاسي البعد عنك، وما له وحقّ الهوى عن داره متحوّل
فرفقاً بمقطوع الوسائل، ما له إليك سبيلٌ لا ولا عنك معدل
فلا زلت في عزٍّ منيعٍ ورفعة وما زلت تعلو بالتجنّي فأنزل
أورّي بسعدى والرّباب وزينب وأنت الذي تعنى وأنت المؤمّل
فخذ أولاً من آخر ثم أولاً من النصف منه فهو فيه مكمّل
__________
(1) أعيان العصر: جفني وسهدي.
(2) أعيان العصر: وجدي وشجوي.(2/530)
أبرّ إذا أقسمت أنّي بحبّه أهيم وقلبي بالصبابة يشعل
وقد ذكرت شرحها في الجزء الثلاثين من تذكرتي، انتهى كلام الصفدي.
وظاهر كلامه أنّه ابن فرح - بفتح الراء - والذي تلقيناه عن شيوخنا أنّه بسكون الراء، وقد شرح هذه القصيدة جماعة من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم، وهي وحدها دالّة على تمكن الرجل، رحمه الله تعالى.
213 - ومنهم عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر، أبو الأصبغ، الأموي، الأندلسي (1) ، سمع بمكّة وبدمشق ومصر وغيرها، وحدّث عن سليمان بن أحمد بن يحيى بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " إن لكل بني أب عصبةً ينتمون إليها، إلا ولد فاطمة فأنا وليّهما وأنا عصبتهم، وهم عترتي، خلقوا من طينتي، ول للمكذّبين بفضلهم، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله ". وحدث عن أبي العباس أحمد بن محمد البرذعي بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال: كنت عند مالك بن أنس وهو يحدثنا، فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرّة، ومالك يتغير لونه ونتصبر، ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلمّا فرغ من المجلس وتفرّق الناس عنه قلت له: يا أبا عبد الله، قد رأيت منك عجباً، قال: نعم، أنا صبرت إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ولد أبو الأصبغ المذكور بقرطبة وتوفّي ببخارى سنة 365.
قال الحاكم أبو عبد الله: رأيت أبا الأصبغ في المنام في بستان فيه خضرة ومياه جارية وفرش كثيرة، وكأنّي أقول: إنّها له، فقلت: يا أبا الأصبغ، بماذا وصلت إليه أبالحديث فقال: أي والله، وهو نجوت إلاّ بالحديث قال: ورأيته أيضاً وهو يمشي بزي أحسن ما يكون، فقلت: أنت أبو الأصبغ فقال:
__________
(1) ترجمته في ابن الفرضي 1: 321.(2/531)
نعم، قلت: ادع الله تعالى أن يجمعني وإيّاك في الجنّة، فقل: إن أمام الجنّة أهوالاً، ثم رفع يديه وقال: اللهم اجعله معي في الجنّة بعد عمر طويل، انتهى.
214 - ومنهم القاضي أبو البقاء خالد، البلوي، الأندلسي، رحمه الله تعالى (1) ، وهو خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، البلوي، ووصفه الشاطبي بأنّه الشيخ الفقيه القاضي الأعدل، انتهى.
وهو صاحب الرحلة المسماة: " تاج المفرق في تحلية أهل المشرق " (2) ، وممّا أنشده رحمه الله تعالى فيها لنفسه:
ولقد جرى يوم النّوى دمعي دماً حتى أشاع النّاس أنّك فاني
والله إن عاد الزّمان بقربنا لكففت عن ذكر النّوى وكفاني
وهذه الرحلة المسماة بتاج المفرق مشحونة بالفوائد والفرائد، وفيه من العلوم والآداب ما لا يتجاوزه الرائد، وقد قال رحمه الله تعالى فيها في ترجمة الولي نجم الدين الحجازي، رضي الله تعالى عنه، ما نصّه (3) : وذكر لي رضي الله تعالى عنه قال: ممّا وصّى به الجد الأكبر أبو الحجاج يوسف المذكور - يعني سيدي أبا الحجّاج يوسف بن عبد الرحيم الأقصري القطب الغوث رضي الله تعالى عنه، وأعاد علينا من بركاته - خواصّه وأصدقاءه، قال: إذا أدركتكم الضرورة والفاقة فقولوا: حسبي الله، ربي الله يعلم أنّني في ضيق، قال: وذكر لي أيضاً رضي الله تعالى عنه قال: رأى هذا الجد يوسف المذكور النبيّ صلى الله
__________
(1) ترجمة خالد البلوي في الإحاطة 1: 423 والكتيبة الكامنة: 134 ونيل الابتهاج: 99 نقلا عن فهرسة الحضرمي.
(2) من هذه الرحلة نسخ كثيرة خطية، وسنعتمد منها النسخة رقم 1053 جغرافيا بدار الكتب المصرية، وإن لم تكن من خير النسخ.
(3) تاج المفرق، الورقة: 140.(2/532)
عليه وسلّم في النوم، بعد أن سأل الله تعالى ذلك، وقد كان أصابته فاقة، فشكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " قل يا برّ (1) يا رحيم، يا برّ يا رحيم، الطف بي في قضائك، ولا تولّ أمري أحداً سواك، حتى ألقاك "، فلمّا قالها أذهب الله تعالى عنه فاقته. قال: وكان رحمه الله تعالى يوصي بها أصحابه وأحبابه، انتهى.
ونسب بعضهم القاضي خالداً المذكور إلى انتحال كمال العماد في البرق الشامي، لأن خالداً أكثر في رحلته من الأسجاع التي للعماد، فلذا قال لسان الدين ابن الخطيب فيه:
خليليّ إن يقض اجتماعٌ بخالد قولا له قولاً ولن تعدوا الحقّا
سرقت العماد الأصبهانيّ برقه وكيف ترى في شاعر سرق الرقا
وأظن أن لسان الدين كان منحرفاً عنه، ولذلك قال في كتابه " خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف " (2) عندما جرى ذكر قنتورية (3) وقاضيها خالد المذكور ما صورته: لم يتخلف ولد عن والد، وركب قاضيها ابن أبي خالد، وقد شهرته النزعة الحجازية، ولبس من خشن الحجا زيّه، وأرخى من البياض طيلساناً، وتشبّه بالمشارقة شكلاً ولساناً، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم، انتهى.
ومن نظم أبي البقاء خالد البلوي المذكور قوله:
أتى العيد واعتاد الأحبّة بعضهم ببعض وأحباب المتيّم قد بانوا
__________
(1) تاج المفرق: يا رب.
(2) نشرها الدكتور أحمد العبادي في كتابه " مشاهدات لسان الدين ابن الخطيب " ص 25 - 53، وانظر النص ص: 36 - 37.
(3) قنتورية: (Cantoria) تقع إلى جنوب برشانة (Purchena) ، في ولاية المرية، وتكتب أيضا " قنتورية ".(2/533)
وأضحى وقد ضحّوا بقربانهم وما لديه سوى حمر المدامع قربان
وقال في رحلته: إنّه قال هذين البيتين بديهةً بمصلّى تونس في عيد النحر من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
ومن نظمه أيضاً قوله رحمه الله تعالى:
ومستنكر شيبي وما ذهب الصّبا ولا جفّ إيناع الشّبيبة من غصني
فقلت فراقي للأحبّة مؤذن بشيبي وإن كنت ابن عشرين من سني
ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة، وفي الرحلة منها جملة.
215 - ومنهم برهان الدين أبو إسحاق ابن الحاج إبراهيم، النميري، الغرناطي (1) ، وهو أيضاً مذكور في ترجمة ابن الخطيب بما يغني عن تكرير ذكره هنا، وقال رحمه الله تعالى في رحلته: أخبرني شيخنا - يعني الشيخ الإمام الصالح أبا عبد الله محمد المعروف بخليل التوزري إمام المالكية بالحرم الشريف رضيا له تعالى عنه - قال: اعتكفت بجامع عمرو بن العاص كفّاً لشرّتي عن الناس، خصوصاً أذى الغيبة، نحو خمسين ليلة، أردت أن أدعو لطائفة من أصحابي بمطالب مختلفة، كلٌّ بحسب ظنّي فيه يومئذ، فأدركتني حيرة في التمييز والتخصيص، فألهمت أن قلت بديهة:
شهدنا بتقصير ألبابنا فحسن اختيارك أولى بنا
وأنت البصير بأعدائنا وأنت البصير بأحبابنا
قال: ثم أردفتها بدعاء، وهو: اللهم يا من لا يعلم خيره إلاّ هو، أنت أعلم بأعدائنا وأودّائنا، فافعل بكل منهم ما يناسب حسن اختيارك لنا، حسبما علمته منّا، وكفى بك قديراً، وكفى بك بصيراً،
__________
(1) ستأتي له ترجمة ضافية في النفح، حيث نذكر أهم المصادر التي أوردت ترجمته.(2/534)
وكفى بك لطيفاً، وكفى بك خبيراً، وكفى بك نصيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً كثيراً.
وقال ابن الحاج المذكور في الرحلة المذكورة: إذا التقى الرجل بعدوّه وهو على خوف منه فليقرأ هذه الحروف كهيعص، حمعسق وليعقد بكل حرف منها إصبعاً، يبدأ بإبهام يده اليمنى ويختم بإبهام يده اليسرى، فإذا قرب من عدوّه فليقرأ في نفسه سورة الفيل، فإذا وصل إلى قوله ترميهم فليكررها، وكلّما كررها فتح إصبعاً من أصابعه المعقودة تجاه العوّ، فيكررها عشر مرّات، ويفتح جميع أصابعه، فإذا فعل ذلك أمن من شرّه إن شاء الله تعالى، وهو مجرب، انتهى.
ومن بديع نظم أبي إسحاق ابن الحاج النميري المذكور قوله:
يا ربّ كاس لم يشجّ شمولها فاعجب لها جسماً بغير مزاج
لمّا رأينا السحر من أشكالها جملاً نسبناه إلى الزجاج
وله فيما أظنّ:
له شفة أضاعوا النّشر فيها بلثم حين سدّت ثغر بدر
فما أشهى لقلبي ما أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وهو تضمين حسن.
216 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق إمام النحاة أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، النّفزي، الأثري، الغرناطي (1) . قال ابن مرزوق الخطيب في حقّه: هو شيخ النحاة بالديار
__________
(1) ترجم له الصفدي في الوافي وأعيان العصر ونكت الهميان: 280 وانظر أيضا الكتيبة الكامنة: 81 والدرر 4: 302 وبغية الوعاة: 121 وطبقات الشافعية 6: 31 وغاية النهاية 2: 285.(2/535)
المصرية، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، انتهت إليه رئاسه التبريز في علم العربية واللّغة والحديث، سمعت عليه وقرأت، وأنشدني الكثير، وإذا أنشدني شيئاً ولم أقيّده استعاده منّي فلم أحفظه، فأنشدني وكنت أظنّه لنفسه ارتجالاً إلى أنأخبرني أحد أصحابنا عنه أنّه أخبره أنهما لأبي الحسن التّجاني أنشدهما له ببيته بالمدرسة الصالحيّة رحمه الله تعالى:
إنّ الذي يروي ولكنّه يحفظ ما يروي ولا يكتب
كصخرةٍ تنبع أمواجها تسقي الأراضي وهي لا تشرب
قال: ورويت عنه تواليف ابن أبي الأحوص: منها التبيان في أحكام القرآن والمعرب المفهم في شرح مسلم ولم أقف عليه، والوسامة في أحكام القسّامة، والمشرع السلسل في الحديث المسلسل وغير ذلك. وحدثني بسنن أبي داود عن ابن خطيب المزّة عن أبي حفص ابن طبرزدٍ عن أبي البدر الكروخي ومفلح الرومي عن أبي بكر ابن ثابت الخطيب عن أبي عمر الهاشمي عن اللؤلؤي عن أبي داود، وبسنن النسائي عن جماعة عن ابن باقا عن أبي زرعة عن ابن حميد الدّوسي عن أبي نصر الكسار عن ابن السني عن النسائي، وبالموطإ عن أبي جعفر ابن الطباع بسنده.
وشكوت إليه يوماً ما يلقاه الغريب من أذاة العداة، فأنشدني لنفسه:
عداتي لهم فضلٌ عليّ ومنّةٌ فلا أذهب الرحمن عن الأعاديا
هم بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها وهو نافسوني فاكتسبت المعاليا
وأنشدني أيضاً من مداعباته، وله في ذلك النظم الكثير مع طهارته وفضله:
علّقته سبجيّ اللّون قادحه ما ابيضّ منه سوى ثغرٍ حكى الدّررا
قد صاغه من سواد العين خالقه فكلّ عينٍ إليه تدمن النّظرا(2/536)
وأنشدني في جاهل لبس صوفاً وزها فيه:
أيا كاسياً من جيّد الصوف نفسه ويا عارياً من كل فضل ومن كيس
أتزهى بصوفٍ وهو بالأمس مصبحٌ على نعجةٍ واليوم أمسى على تيس
انتهى ما اختصرته من كلام الخطيب ابن مرزوق.
وأنشد الرحالة ابن جابر الوادي آشي لأبي حيّان قوله:
وقصّر آمالي مآلي إلى الردى وأنّي وإن طال المدى سوف أهلك
فصنت بماء الوجه نفساً أليّةً وجادت يميني بالذي كنت أملك
ووقفت على أعيان العصر وأعوان النصر للصفدي، فوجدت فيه ترجمة أبي حيان واسعة فرأيت أن أذكرها بطولها لما فيها من الفوائد، وهي:
الشيخ، الإمام، العالم، العلامة، الفريد، الكامل، حجّة العرب، مالك أزمّة الأدب، أثير الدين، أبو حيّان الأندلسي الجيّاني - بالجيم، والياء آخر الحروف مشدّدة، وبعد الألف نون - وكان أمير المؤمنين في النحو، والشمس السافرة شتاء في يوم الصّحو، والمتصرف في هذا العلم فإليه الإثبات والمحو، لو عاصر أئمة البصرة لبصّرهم، أو أهل الكوفة لكف عنهم اتباعهم السواد وحذرهم، نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريداً، وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيداً، وجعل سرحة شرحه وجنةً راقت النواظر توريداً، ملأ الزمان تصانيف، وأمال عنق الأيّام بالتواليف، تخرّج به أئمّة في هذا الفنّ، وروّق لهم في عصره منه سلافة الدّن، فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضاً غير مجيب، أو عيسى بن عمر لأصبح من تقصيره وهو محذّر، أو الخليل لكان بعينه قذاه، أو سيبويه لما تردى من مسألته الزنبورية برداه، أو الكسائي لأعراه حلّة جاهه عند الرشيد وأناسه، أو الفرّاء لفرّ منه ولم يقتسم ولدا المأمون تقديم مداسه، أو اليزيدي لما ظهر نقصه من مكامنه، أو الأخفش(2/537)
لأخفى جملةً من محاسنه، أو أبو عبيدة لما تركه ينصب لشعب الشعوبية، أو أبو عمروٍ لشغله بتحقق اسمه دون التعلّق بعربية، أو السكّري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا، أو المازني لما زانه قوله إنّ مصابكم رجلا، او قطرب لما دبّ في العربية ولا درج، أو ثعلب لاستكن بمكره في وكره ولما خرج، أو المبرّد لأصبحت قواه مقترة، أو الزجّاج لأمست قواريره مكسرة، أو ابن الوزان لعدم نقده، أو الثمانيني لما تجاوز حدّه، أو ابن باب العلم أن قياسه ما اطّرد، أو ابن دريدلما بلع ريقه ولا ازدرد، أو ابن قتيبة لأضاع رحله، أو ابن السراج لمشاه إذا رأى وحله، أو ابن الخشاب لأضرم فيه ناراً، ولم يجد معه نوراً، أو ابن الخباز لما سجر له تنوراً، أو ابن القوّاس لما غرق في نزعه، أو ابن يعيش لأوقعه في نزعه، أو ابن خروف لما وجد له مرعىً، أو ابن إياز لما وجد لأوزاره وقعاً، أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريّاً، أو ابن الدباج لكان من حلّته الرائقة عريّاً، وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقاً وغرباً، وفريد هذا الفن الفذ بعداً وقرباً، وفيه قلت:
سلطان علم النحو أستاذنا ال شيخ أثير الدين حبر الأنام
فلا تقل زيدٌ وعمروٌ، فما في النحو معه لسواه كلام
خدم هذا العلم مدّة تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقاً متشعّبة الأفانين، ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدّلت حركاته بالإسكان، وتوفّي رحمه الله تعالى بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر، وصلّي عليه في الجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر، ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة.
وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى:(2/538)
مات أثير الدين شيخ الورى فاستعر البارق واستعبرا
ورقّ من جزنٍ نسيم الصّبا واعتلّ في الأسحار لمّا سرى
وصادحات الأيك في نوحها رئته في السجع على حرف را
يا عين جودي بالدّموع التي يروى بها ما ضمّه من ثرى
واجري دماً فالخطب في شأنه قد اقتضى أكثر ممّا جرى
مات إمامٌ كان في فنّه يرى إماماً والورى من ورا
أمسى منادىً للبلى مفرداً فضمّه القبر على ما ترى
يا أسفا كان هدىً ظاهراً فعاد في تربته مضمرا
وكان جمع الفضل به برهةً صحّ فمّا أن قضى كسّرا
وعرّف الفضل به برهةً والآن لمّا أن مضى نكّرا
وكان ممنوعاً من الصرف لا يطرق من وافه خطبٌ عرا
لا أفعل التفضيل ما بينه وبين من أعرفه في الورى
لا بدلٌ عن نعته بالتّقى ففعله كان له مصدرا
لم يدّغم في اللّحد إلا وقدفكّ من الصبر وثيق العرى
بكى له زيدٌ وعمروٌ فمن أمثلة النحو وممّن قرا
ما أعقد التسهيل من بعده فكم له من عسرةٍ يسّرا
وجسّر الناس على خوضه إذ كان في النحو قد استبحرا
من بعده قد حال تمييزه وحظّه قد رجع القهقرى
شارك من قد ساد في فنّه وكم له فنٌّ به استأثرا
دأب بني الآداب أن يغسلوا بدمعهم فيه بقايا الكرى
والنحو قد سار الردى نحوه والصرف للتصريف قد غيّرا
واللّغة الفصحى غدت بعده يلغى الذي في ضبطها قررا
تفسيره البحر المحيط الذي يهدي إلى ورّاده الجوهرا
فوائدٌ من فضله جمّةٌ عليه فيها نعقد الخنصرا(2/539)
وكان ثبتاً نقله حجّةً مثل ضياء الصبح إن أسفرا
ورحله في سنّة المصطفى أصدق من يسمع إن أخبرا
له الأسانيد التي قد علت فاستفلت عنها سومي الذّرى
ساوى بها الأحفاد أجدادهم فاعجب لماضٍ فاته من طرا
وشاعراً في نظمه مفلقاً كم حرّر اللفظ وكم حبّرا
لها معانٍ كلّما خطّها تستر ما يرقم في تسترا
أفديه من ماضٍ لأمر الردى مستقبلاً من ربّه بالقرى
ما بات في أبيض أكفانه إلاّ وأضحى سندساً أخضرا
تصافح الحور له راحةً كم تعبت في كلّ ما سطّرا
إن مات فالذكر له خالدٌ يحيا به من قبل أن ينشرا
جاد ثرىً وافاه غيثٌ إذا مسّاه بالسّقي له بكرا
وخصّه من ربّه رحمةٌ تورده في حشره الكوثرا
وكان قد قرأ القراءات على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحواً من عشرين ختمة إفراداً وجمعاً، ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطباع بغرناطة، ثم قرأ السبعة إلى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العيز بن محمد أبي الأحوص بمالقة، ثم إنّه قدم الإسكندريّة، وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي، ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليحي، وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصّل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد فيطلب التحصيل والتقييد والكتابة، ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالاً منه، لأنّي لم أره قط إلاّ يسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك، وله إقبال على الطلبة الأذكياء، وعنده تعظيم لهم، ونظم ونثر، وله الموشحات(2/540)
البديعة، وهو ثبت فيما ينقله، محرّر لما يقوله، عارف باللّغة، ضابط لألفاظها، وأما النحو والتصريف فهو إمام الناس كلّهم فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته، وله اليد الطّولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم، خصوصاً المغاربة، وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم، لأنّهم يجاورون بلاد الإفرنج وأسماؤهم قريبة من لغاتهم، وألقابهم كذلك، وقيّده وحرّره، وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلّق بذلك، وأجابه عنها.
له التصانيف التي سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت ونسخت وما فسخت، وأخملت كتب الأقدمين، وألهت المقيمين بمصر والقادمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخاً في حياته، وهو الذي جسّر الناس على مصنّفات ابن مالك رحمه الله تعالى، ورغّبهم فيها وفي قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججها، وفتح لهم مقفلها، وكان يقول عن مقدمة ابن الحاجب: هذه نحو الفقهاء، وكان التزم ان لا يقرئ أحداً إلاّ إن كان في كتاب سيبويه أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه، ولمّا قدم من بلاده لازم الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى كثيراًن وأخذ عنه كتب الأدب. وكان شيخاً حسن العمة، مليح الوجه، ظاهر اللون، مشرباً حمرة، منور الشيبة، كبير اللّحية، مسترسل الشعر فيها لم تكن كثة، عبارته فصيحة بلغة الأندلس يعقد حرف القاف قريباً من الكاف، على أنّه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة، وسمعته يقول: ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف.
وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك، ينبسط معه، ويبيت عنده في قلعة الجبل، ولما توفيت ابنته نضار طلع إلى السلطان الملك الناصر محمد، وسأل منه ا، يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية، فأذن له في ذلك، وكان أولاً يرى رأي الظاهرية، ثمّ إنّه تمذهب للشافعي رضي الله تعالى عنه؛ بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرّر للرافعي، ومختصر المنهاج(2/541)
للنووي، وحفظ المنهاج إلاّ يسيراً، وقرأأصول الفقه على أستاذه أبي جعفر ابن الزبير، بحث عليه من الإشارة للباجي، ومن المستصفى للغزالي، وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فضيلة، وعلى الشيخ علم الدين العراقي، وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وعلى الشيخ علاء الدين الباجي، وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير، وقرأ عليه شيئاً من المنطق، وقرأ أشياء من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي، وقرأ عليه شيئاً من الإرشاد للعميدي في الخلاف، ولكنّه برع في النحو، وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه، وكان خالياً من الفلسفة والاعتزال والتّجسيم، وكان أولاً يعتقد في الشيخ تقي الدين ابن تيمية وامتدحه بقصيدة، ثم إنّه انحرف عنه لما وقف على كتاب العرش له، قال الفاضل كما الدين الأدفوي: وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصبه للإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه التعصب المتين، قال: حكي لي أنّه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة: إن عليّاً رضي الله تعالى عنه عهد إليه النبيّ صلى الله عليه وسلّم أن لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، أتراه ما صدق في هذا فقال: صدق، قال فقلت له: فالذين سلّوا السيوف في وجهه يبغضوه أو يحبّونه أو غير ذلك قال: وكان سيّء الظن بالناس كافة، فإذا نقل له عن أحد خبر لا يتكيف به وينثني عنه حتى عمّن هو عنده مجروح، فيقع في ذم من هو بألسنة العالم ممدوح، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كبير منه ألم كثير؛ انتهى.
قلت: انا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيراً، وما كنت أنقم عليه شيئاً إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، على أنّني أنا ما سمعت في حقه شيئاً، نعم كان لا يثق بهؤلاء الذي يدّعون الصلاح حتى قلت له يوماً: يا سيدي، فكيف تعمل في الشيخ أبي مدين فقال: هو رجل مسلم ديّن، وإلاّ ما كان يطير في الهواء، ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه هؤلاء الأغماء.(2/542)
وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية، وقال كمال الدين المذكور: قال لي: إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني، وغيرهما، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ، انتهى.
قلت: كان يفتخر بالبخل، كما يفتخر غيره بالكرم، وكان يقول لي: أوصيك احفظ دارهمك ويقال عنك بخيل، ولا تحتج إلى السفل.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
رجاؤك فلساً قد غدا في حبائلي قنيصاً رجاءٌ للمّتاج من العقم
أأتعب في تحصيله وأضيعه إذن كنت معتاضاً من البرء بالسّقم
قلت: والذي أراه فيه أنّه طال عمره، وتغرّب، وورد البلاد ولا شيء معه، وتعب حتى حصّل المناصب تعباً كثيراً، وكان قد جرب الناس، وحلب أشطر الدهر ومرت به حوادث، فاستعمل الحزم، وسمعته غير مرّة يقول: يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس: يشتري له بائنة بفلسين، وبفلس زبيباً، وبفلس كوز ماء، ويشتري ثاني يوم ليموناً بفلس يأكل به الخبز، وكان يعيب على مشتري الكتب ويقول: الله يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أيّ كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني رداهم ما أجد ذلك، وأنشدني له إجازة:
إنّ الدراهم والنّساء كلاهما لا تأمننّ عليها إنسانا
ينزعن ذا اللبّ المتين عن التّقى فترى إساءة فعله إحسانا
وأنشدني له من أبيات:
أتى بشفيع ليس يمكن ردّه دراهم بيضٌ للجروح مراهم
تصيّر صعب الأمر أهون ما يرى وتقضي لبانات الفتى وهو نائم(2/543)
ومن حزمه قوله:
عداتي لهم فضل البيتين
وقد مدحه كثير من الشعراء، والكبار الفضلاء، فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بقوله:
قد قلت لمّا أن سمعت مباحثاً في الذات قرّرها أجلّ مفيد
هذا أبو حيّان قلت صدقتم وبررتم هذا هو التوحيدي
وكان قد جاء يوماً إل بيت الشيخ صدر الدين ابن الوكيل فلم يجده، فكتب بالجص على مصراع الباب، فلمّا رأى ابن الوكيل ذلك قال:
قالوا أبو حيّان غير مدافعٍ ملك النحاة فقلت بالإجماع
اسم الملوك على النقود وإنّني شاهدت كنيته على المصراع
ومدحه شرف الدين ابن الوحيد بقصيدة مطولة أولها:
إليك أبا حيّان أعملت أينقي وملت إلى حيث الركائب تلتقي
دعاني إليك الفضل فانقدت طائعاً ولبّيت أحدوها بلفظي المصدق
ومدحه نجم الدين إسحق بن ألمي التركي، وسأله تكملة شرح التسهيل بقصيدة، وأرسلها إليه من دمشق، وأولها:
تبدّى فقلنا وجهه فلق الصّبح وكمّله باليمن فيه وبالنّجح
وسهّلت تسهي الفوائد محسناً فكن شارحاً صدري بتكملة الشرح
ومدحه مجير الدين عمر بن الملطي بقصيدة أولها:
يا شيخ أهل الأدب الباهر من ناظمٍ يلفى ومن ناثر(2/544)
ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيدة أولها:
ضيفٌ ألمّ بنا من أبرع النّاس لا ناقضٌ عهد أيّامي ولا ناسي
عارٍ من الكبر والأدناس ذو شرفٍ لكنّه من سرابيل العلا كاسي
ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين أول الأولى:
أتراه بعد هجرانٍ يصل ويرى في ثوب وصلٍ مبتذل
قمرٌ جار على أحلامنا إذ تولاّها بقدٍّ معتدل
وأول الثانية:
اعذروه فكريمٌ من عذر قمرته ذات وجهٍ كالقمر
ومدحه بهاء الدين محمد بن شهار الدين الخيمي بقصيدة أولها (1) :
فضضت عن العذب النّمير ختامها وفتّحت عن زهر الرياض كمامها
ومدحه جماعة آخرون يطول ذكرهم، وكتبت أنا إليه من الرحبة سنة 729:
لو كنت أملك من دهري جناحين لطرت لكنّه فيكم جنى حيني
وإن سادةً نلت في مصرٍ بهم شرفاً أرقى به شرفاً ينأى عن العين
وإن جرى لسما كيوان ذر علاً أحلّني فضلهم فوق السّماكين
وليس غير أثير الدين أثّله فشاد ما شاد لي حقّاً بلا مين
حبرٌ ولو قلت إنّ الباء رتبتها من قبل صدّقك الأقوام في ذين
__________
(1) وقع هذا بعد قوله في المطبوعة التجارية:
إنه الأثير أبا حيان أحيانا ... بنشره طي علم مات أحيانا ومدحه القاضي ناصر الدين شافع بقصيدة أولها
فضضت عن العذب ... .......... (البيت)(2/545)
أحيا علوماً أمات الدّهر أكثرها مذ جلّدت خلّدت ما بين دفّين
يا واحد العصر ما قولي متّهمٍ ولا أحاشي امرءاً بين الفريقين
هذي العلوم بدت من سيبويه كما قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين
فدم لها وبودّي لو أكون فدىً لما ينالك في الأيّام من شين
يا سيبويه الورى في الدهر لا عجبٌ إذا الخليل غدا يفديك بالعين
يقبّل الأرض وينهي ما هو عليه من الأشواق التي برّحت بألمها، وأجرت الدموع دماً، وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها، وأربت بسحّها على السحائب وأين دوام هذه من ديمها، وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها:
فيا شوق ما أبقى، ويا لي من النوى ويا دمع ماأجرى، ويا قلب ما أصبى
وذكر ولاءه الذي تسجع به في الأرض الحمائم، ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم، وثناءه الذي يتضوع كالزهر بي الكمائم، ويتنسّم تنسّم هامات الرّبى إذا لبست من الربيع ملوّنات العمائم، ويشهد الله على ما قد قلته والله سبحانه نعم الشهيد.
فكتب هو الجواب عن ذلك ولكنه عدم مني.
وأنشدته يوماً لنفسي:
قلت للكاتب الذي ما أراه قطّ إلاّ ونقّط الدمع شكله
إن تخطّ الدموع في الخدّ شيئاً ما يسمى فقال خطّ ابن مقله
وأنشدني هو من لفظه لنفسه:
سبق الدّمع بالمسير المطايا إذ نوى من أحبّ عني نقله
وأجاد الخطوط في صفحة الخ د ولم لا يجيد وهو ابن مقله
وأنشدني في مليح نوتي:
كلفت بنوتيٍّ كأنّ قوامه إذا يثني خوطٌ من البان ناعم(2/546)
مجاذفه في كلّ قلبٍ مجاذبٌ وهزّاته للعاشقين هزائم
وأنشدته أنا لنفسي:
إنّ نوتيّ مركبٍ نحن فيه هام فيه صبّ الفؤاد جريحه
أقلع القلب عن سلّوي لمّا أن بدا ثغره وقد طاب ريحه
وأنشدته لنفسي أيضاً:
نوتيّنا حسنه بديع وفيه بدر السّماء مغرى
ما حكّ برّاً إلاّ وقلنا يا ليت أنّا نحكّ برّا
فأعجباه رحمه الله تعالى، وزهزه لهما.
وأنشدني هو لنفسه مليح أحدب:
تعشّقته أحدباً كيّساً يحاكي نحيباً حنين النّعام
إذا كدت أسقط من فوقه تعلّقت من ظهره بالسّنام
فأنشدته لنفسي:
وأحدبٍ رحت به مغرماً إذ لم تشاهد مثله عيني
لا غرو أن هام فؤادي به وخصره ما بين دفّين
وأنشدني من لفظه لنفسه في أعمى:
ما ضرّ حسن الذي أهواه أنّ سنا كريمتيه بلا شينٍ قد احتجبا
قد كانتا زهرتي روضٍ وقد ذوتا لكنّ حسنهما الفتّان ما ذهبا
كالسيف قد زال عنه صقله فغدا أنكى وآلم في قلب الذي ضربا
وأنشدته لنفسي في ذلك:(2/547)
وربٌّ أعمى وجهه روضةٌ تنزّهي فيها كثير الديون
وخدّه وردٌ غنينا به عن نرجسٍ ما فتحته العيون
وأنشدته أيضاً لنفسي في ذلك:
فيا حسن أعمى لم يخف حدّ طرفه محبٌّ غدا سكران فيه وما صحا
إذا صاد خلٌّ بات يرعى حدوده غدا آمناً من مقلتيه الجوارحا
وكتبت إليه استدعاءً، وهو: المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العالم العلاّمة، لسان العرب، ترجمان الأدب، جامع الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجّة المقلّدين، زين المقلّدين، قطب المؤملين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق، والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب فكل ذي لبٍّ إليها شيّق، والمباحث التي أثارت الأدلة الراحجة من مكامن أماكنها، وقنصت أوابده الجامحة من مواطئ مواطنها، كشّاف معضلات الأوائل، سبّاق غايات قصّر عن شأوها سبحان وائل، فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقدها، سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فوق فرقدها، حتى أبرز كلامه جنانٌ فكلّ جنّانٍ من بعده عن الدخول إليها جبان، وأتى ببراهين وجوه حورها لم يطمثهن إنس قبله ولا جان، وأبدع خمائل نظم ونثر لا تصل إلى أفنان فنونها يد جانٍ، أثير الدين أبي حيان، لا زال ميت العلم يحييه، وهل عجيب ذلك من أبي حيان:
حتى ينال بنو العلوم مرامهم ويحلّهم دار المنى بأمان
إجازة كاتب هذه الأحرف ما رواه - فسح الله تعالى في مدته - من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية، والتصانيف الأدبية، نظماً ونثراً، إلى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها، وتباين أجناسها وأنواعها، ممّا تلقاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية(2/548)
وغيرها من البلدان، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة، كيفما تأدى ذلك إليه، وإجازة ما له - أدام الله إفادته - من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها، وما له من نظم ونثرإجازة خاصة، وأن يثبت بخطه تصانيفه إلى حني هذا التاريخ، وأن يجيزه إجازة عامة لما يتجدّد له من بعد ذلك على رأي من يراه ويجوزه، منعماً متفضلاً إن شاء الله تعالى.
فكتب الجواب رحمه الله تعالى: أعزك الله، ظننت بإنسان جميلاً فغاليت، وأبديت من الإحسان جزيلاً وما باليت، وصفت منهو القتام يظنه الناس سماء، والسراب يحسبه الظمآن ماء، يا ابن الكرام وأنت أبصر من يشيم، أمع الروض النضير يرعى الهشيم، أما أغنتك فضائلك، وفواضلك، ومعارفك، وعوارفك، عن نغبة من دأماء، وتربة من يهماء، لقد تبلجت المهارق من نور صفحاتك، وتأرجت الأكوان من أريج نفحاتك، ولأنت أعرف من يقصد للدراية، وأنقد من يعتمد عليه في الرواية، لكنك أردت أن تكسو من مطارفك، وتتفضل من تالدك وطارفك، وتجلو الخامل في منصة النباهة، وتنقده من لكن الفهاهة، فتشيد له ذكراً، وتعلي له قدراً، ولم يمكنه إلاّ إسعافك فيما طلبت، وإجابتك إلى ما إليه ندبت، فإن المالك لا يعصى، والمتفضل المحسن لا يقصى، وقد أجزت لك - أيدك الله تعالى - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك، بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة بمشافهة وكتابة ووجازة، وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك، وجميع ما صنفته واختصرته وجمعته وأنشأته نظماً ونثراً، وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء: فمن مروياتي الكتاب العزيز قرأته بقراءة السبعة على جماعة من أعلاهم الشيخ المسند المعمّر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليحي، آخر من روى القرآن بالتلاوة على أبي الجود، والكتب الستة والموطأ ومسند عبد بن حميد ومسند الدراميّ ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطّبراني والمعجم الصغير(2/549)
له وسنن الدارقطني وغير ذلك.
وأما الأجزاء فكثيرة جدّاً، ومن كتب النحو والآداب فأروي بالقراءة كتاب سيبويه، والإيضاح، والتكملة، والمفصل، وجمل الزجاجي، وغير ذلك، والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب والمتنبي والمعري، وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو بالقراءة فهم كثير، وأذكر الآن منهم جماعة: فمنهم القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي، والمقرئ أبو جعفر أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشير الأنصاري، وإسحاق بن عبد الرحيم ابن محمد بن عبد الملك بن درباس، وأبو بكر ابن عباس بن يحيى بن غريب القوّاس البغدادي، وصفي الدين الحسين بن أبي منصور بن ظافر الخزرجي، وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري، ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدّهّان، وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني، ورضي الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي، ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني، ومكي بن محمد بن أبي القاسم ابن حامد الأصبهاني الصفّار، ومحمد ابن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير ابن الفارض، وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي، ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني، ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداريّ ابن الخليلي، ومحمد ابن محمد بن عمر العنسي عرف بابن النّنّ، وعبد الله بن محمد بن هارون بن عبد العزيز الطائي القرطبي، وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان ابن كامل الخزمي، وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي، وعبد الرحمن بن يوسف بن يحيى بن يوسف ابن خطيب المزة، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري، وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي ابن نصر بن الصيقل الحراني، وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي(2/550)
الصالحي الكتاني، وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم ابن منجى الخزرجي، وعلي بن صالح بن أبي علي ابن يحيى بن إسماعيل الحسني البهنسي المجاور، وغازي بن أبي الفضل ابن عبد الوهاب الحلاوي، والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي، ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي، واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر ابن أيوب بن شادي، وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية، وزينب عبد اللطيف بن يوسف ابن محمد بن علي البغدادي.
وممّن كتبت عنه من مشاهير الأدباء أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الفرج المالقي ابن المرحل، وأبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن ذنّون المالقي، وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكي المالقي، وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار، وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي، وأبو حفص بن عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق، وأبو الربيع سليمان ابن علي بن عبد الله بن ياسين الكومي التلمساني، وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري، وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حمّاد بن محسن الصنهاجي البوصيري، وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي.
وممّن أخذت عنه من النحاة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخشني الأبّدي، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي ابن الضائع، وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللّبلي، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي ابن النحاس.
وممّن لقيته من الظاهرية أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري(2/551)
الإشبيلي الزاهد، وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشّنتمري.
وجملة الذي سمعت منهم نحو من أربعمائة شخص وخمسين. وأما الذين أجازوني فعالم كثير جداً من أهل غرناطة ومالقة وسبتة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام، وأما ما صنفته فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم. إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب. كتاب الأسفار المخلص من كتاب الصّفّار شرحاً لكتاب سيبويه. كتاب التجريد لأحكام سيبويه. كتاب التذييل والكميل في شرح التسهيل. كتاب التنخيل المخلص من شرح التسهيل. كتاب التذكرة. كتاب المبدع في التصريف. كتاب الموفور. كتاب التقريب. كتاب التدريب. كتاب غاية الإحسان. كتاب النكت الحسان. كتاب الشذا في مسألة كذا. كتاب الفضل في أحكام الفصل. كتاب اللمحة. كتاب الشذرة. كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء. كتاب عقد اللآلي. كتاب نكت الأمالي. كتاب النافع في قراءة نافع. الأثير في قراءة ابن كثير. المورد الغمر في قراءة أبي عمرو. الروض الباسم في قراءة عاصم. المزن الهامر في قراءة ابن عامر. الرمزة في قراءة حمزة. تقريب النائي في قراءة الكسائي. غاية المطلوب في قراءة يعقوب. قصيدة النير الجلي في قراءة زيد بن علي. الوهاج في اختصار المنهاج. الأنوار الأجلى في اختصار المحلى. الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية. كتاب الإعلام بأركان الإسلام. نثر الزهر ونظم الزهر. قطر الحبيّ في جواب أسئلة الذهبي. فهرست مسموعاتي. نوافث السحر في دمائث الشعر. تحفة النّدس في نحاة الأندلس. الأبيات الوافية في علم القافية. جزء في الحديث. مشيخة ابن أبي المنصور. كتاب الإدراك للسان الأتراك. زهو الملك في نحو الترك. نفحة المسك في سيرة الترك. كتاب الأفعال في لسان الترك. منطق الخرس في(2/552)
لسان الفرس. وممّا لم يكمل تصنفه: كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد. كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك. نهاية الإغراب في علمي التصريف والإعراب. رجز مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر. خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان. وجز نور الغبش في لسان الحبش. المخبور في لسان اليخمور قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان.
وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف:
أنا هاوٍ لمستطيلٍ أعنٍّ كلّما اشتد صارت النفس رخوه
أهمس القول وهو يجهر سبّي وإذا ما انخفضت أظهر علوه
فتح الوصل ثمّ أطبق هجراً بصفيرٍ والقلب قلقل شجوه
لان دهراً ثمّ اغتدى ذا انحرافٍ وفشا السرّ مذ تكررت نحوه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقول لي العذول ولم أطعه تسلّ فقد بدا للحبّ لحيه
تخيّل أنها شانت حبيبي وعندي أنها زينٌ وحليه
وأنشدني لنفسه أيضاً:
شوقي لذاك المحيّا الزاهر الزاهي شوقٌ شديدٌ وجسمي الواهن الواهي
أسهرت طرفي وولّهت الفؤاد هوىً فالطرف والقلب مني الساهر الساهي
نبهت قلبي وتنهى أن أبوح بما يلقاه واشوقه للناهب الناهي
بهرت كلّ مليحٍ بالبهاء فما في النّيّرين شبيه الباهرالباهي
لهجت بالحبّ لمّا أن لهوت به عن كلّ شيءٍ فويح اللاّهج اللاّهي
وأنشدني من لفظه لنفسه:(2/553)
راض حبيبي عارضٌ قد بدا يا حسنه من عارضٍ رائض
وظنّ قومٌ أنّ قلبي سلا والأصل لا يعتدّ بالعارض
وأنشدني من لفظه لنفسه:
تعشّقته شيخاً كأنّ مشيبه على وجنتيه ياسمينٌ على ورد
أخا العقل يدري ما يراد من الهوى أمنت عليه من رقيبٍ ومن صدّ
وقالوا الورى قسمان في شرعة الهوى لسود اللحى ناسٌ وناسٌ إلى المرد
ألا إنني لو كنت أصبو لأمردٍ صبوت إلى هيفاء مائسة القدّ
وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
ألا إنّ ألحاظاً بقلبي عوابثاً أظنّ بها هاروت أصبح نافثا
إذا رام ذو وجدٍ سلوّاً منعنه وكنّ على دين التصابي بواعثا
وقيدن من أضحى عن الحبّ مطلقاً وأسرعن للبلوى بمن كان رائثا
بروحي رشاً من آل خاقان راحلٌ وإن كان ما بين الجوانح لابثا
غدا واحداً في الحسن للفضل ثانياً وللبدر والشمس المنيرة ثالثا
وأنشدني لنفسه، ومن خطه نقلت:
أسحرٌ لتلك العين في القلب أم وخز ولينٌ لذاك الجسم في اللمس أم خزّ
وأملود ذاك القدّ أم أسمرٌ غدا له أبداً في قلب عاشقه هزّ
فتاةٌ كساها الحسن أفخر حلّةٍ فصار عليها من محاسنها طرز
وأهدى إليها الغصن لين قوامه فماس كأنّ الغصن خامره العزّ
يضوع أديم الأرض من نشر طيبها ويخضرّ من آثار تربتها الجرز
وتختال في برد الشباب إذا مضت فينهضها قدٌّ ويقعدها عجز
أصابت فؤاد الصبّ منها بنظرةٍ فلا رقيةٌ تجدي المصاب ولا حرز(2/554)
وأنشدني إجازةً في مليح أبرص، ومن خطه نقلت:
وقالوا الذي قد صرت طوع جماله ونفسك لاقت في هواه نزاعها
به وضحٌ تأباه نفس أولي النّهى وأفظع داءٍ ما ينافي طباعها
فقلت له لا عيب فيه يشينه ولا علّةٌ فيه يروم دفاعها
ولكنّها شمس الضحى حين قابلت محاسنه ألقت عليه شعاعها
وأنشدني من لفظه لنفسه في فحّام:
وعلّقته مسود عينٍ ووفرةٍ وثوبٍ يعاني صنعة الفحم عن قصد
كأنّ خطوط الفحم في وجناته لطاخة مسكٍ في جنيٍّ من الورد
وأنشدني إجازة، ومن خطه نقلت:
سأل البدر هل تبدّى أخوه قلت يا بدر لن تطيق طلوعا
كيف يبدو وأنت يا بدر بادٍ أوبدران يطلعان جميعا
وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني:
عاذلي في الأهيف الأنس لو رآه الآن قد عذرا
قمرٌ من سحبه الشّعر ثغرٌ في فيه أم درر
حال بين الدرّ واللّعس خمرةٌ من ذاقها سكرا
رجّةٌ بالردف أم كسل ريقةٌ بالثغر أم عسل
وردةٌ بالخدّ أم خجل كحلٌ بالعين أم كحل
يا لها من أعينٍ نعس جلبت للنّاظر السّهرا(2/555)
مذ نأى عن مقلتيّ سني ما أذيقا لذّة الوسن
طال ما ألقاه من شجن عجباً ضدّان في بدن
بفؤادي جذوة القبس وبعيني الماء منفجرا
قد أتاني الله بالفرج إذ دنا مني أبو الفرج
قمرٌ قد حلّ في المهج كيف لا يخشى من الوهج
غيره لو صابه نفسي ظنّه من حرّه شررا
نسب العينين لي شركا فانثنى والقلب قد ملكا
قمرٌ أضحى له فلكا قال لي يوماً وقد ضحكا
أتجي من أرض أندلس نحو مصر تعشق القمرا
وأما موشحة ابن التلمساني فهي:
قمرٌ يجلو دجى الغلس بهر الأبصار مذ ظهرا
آمنٌ من شبهة الكلف ذبت من عينيه بالكلف
لم يزل يسعى إلى تكلفي بركاب الدّلّ والصّلف
آه لولا أعين الحرس نلت منه الوصل مقتدرا
يا أميراً جار مذ وليا كيف لا ترثي لمن بليا
فبثغرٍ منك قد جليا قد حلا طعماً وقد حليا
وبما أوتيت من كيس جد فما أبقيت مصطبرا(2/556)
بد تمٍّ في الجمال سني ولهذا لقّبوه سني
قد سباني لذّة الوسن بمحيّاً باهرٍ حسن
هو خشفي وهو مفترسي فارو عن أعجوتبي خبرا
لك خدٌّ يا أبا لافرج زين بالتّوريد والضّرج
وحديثٌ عاطر الأرج كم سبى قلباً بلا حرج
لو رآك الغصن لم يمس أو رآك البدر لاستترا
يا مذيباً مهجتي كمدا فقت في الحسن البدور مدى
يا كحيلاً كحله اعتمدا عجباً أن تبرئ الرمدا
وبسقم الناظرين كسي جفنك السحّار وانكسرا
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضاً:
إن كان ليلٌ داجوخاننا الإصباحفنورها الوهّاجيغني عن المصباح
سلافةٌ تبدو كالكوكب الأزهر
مزاجها شهد وعرفها عنبر
وحبّذا الورد منها وإن أسكر
قلبي بها قد هاجفما تراني صاحعن ذلك المنهاجوعن هوىً يا صاح
وبي رشاً أهيف قد لجّ في بعدي
بدر فلا يخسف منه سنا الخدّ
بلحظه المرهف يسطو على الأسد
كسطوة الحجّاجفي النّاس والسفّاحفما ترى من ناجمن لحظه السفّاح(2/557)
علل بالمسك قلب رشاً أحور
منعّم المسك ذي مبسمٍ أعطر
ريّاه كالمسك وريقه كوثر
غصنٌ على رجراجطاعت له الأرواحفحبذا الآراجإن هبّت الأرواح
مهلاً أبا القاسم على أبي حيّان
ما إن له عاصم من لحظك الفتّان
وهجرك الدائم قد طال بالهيمان
فدمعه أمواجوسرّه قد باحلكنّه ما عاجولا أطاع اللاح
يا ربّ ذي بهتان يعذل في الراح
وفي هوى غزلان دافعت بالراح
وقلت لا سلوان عن ذاك يا لاح
سبع الوجوه والتاجهي منية الأفراحفاختر لي يا زجّاجقمصال وزوج أقداح
وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية التي نظمها في مدح النحو والخليل وسيبويه، ثم خرج منها إلى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه، وأولها:
هو العلم لا كالعلم شيء تراوده لقد فاز باغيه وأنجح قاصده
وهي قصيدة جيدة تزيد على مائة بيت.
وحكي لي أن الشيخ أثير الدين رحمه الله تعالى ضعف فتوجه إليه جماعة يعودونه، وفيهم شمس الدين ابن دانيال، فأنشدهم الشيخ رحمه الله تعالى القصيدة المذكورة، فلما فرغت قال ابن دانيال: يا جماعة أخبركم أن الشيخ قد عوفي، وما بقي عليه بأس، لأنه لم يبق عنده فضلة، قوموا باسم الله.(2/558)
وأنشدني من لفظه لنفسه رحمه الله تعالى قصيدته السينية التي أولها:
أهاجك ربعٌ حائل الرسم دارسه كوحي كتابٍ أضعف الخطّ دارسه
انتهى نص الصفدي. وما ذكره رحمه الله تعالى في موضع ولادة أبي حيان غير مخالف لما ذكره في الوافي أنه ولد بغرناطة، إلاّ أن قوله بمدينة مطخشارش فيه نظر، لأنه يقتضي أنها مدينة، وليس كذلك، وإنما هي موضع بغرناطة، ولذا قال الرعيني: إن مولد أبي حيان بمطخشارش من غرناطة، ونحوه لابن جماعة، انتهى، وهو صريح في المراد، وصاحب البيت أدرى على أنه يمكن أن يرد كلام الصفدي لذاك، والله تعالى أعلم.
وذكر في الوافي أنه تولى تدريس التفسير بالقبة المنصورية، والإقراء بالجامع الأقمر، قال الصفدي: وقال لي: لم أر بعد ابن دقيق العيد أفصح من قراءتك، وكان ذلك حين قرأت عليه المقامات الحريرية بمصر جماعة، انتهى.
وما وقع في كلام كثير من أهل المغرب أن أبا حيان توفي سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة غير ظاهر، لأن أهل المشرق أعرف بذلك، إذ توفي عندهم، وقد تقدم أنه توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة، فعلى كلام أهل المشرق في هذا المعوّل، والله أعلم.
وكانت نضار بنت أبي حيان حجت، وسمعت بقراءة العلم البرزالي على بعض الشيوخ، وحدثت بشء من مروياتها، وحضرت على الدمياطي، وسمعت على جماعة، وهي بضم النون وتخفيف الضاد، وأجازها من المغرب أبو جعفر ابن الزبير، وحفظت مقدمة في النحو، ولمّا توفيت عمل والدها فيها كتاباً سمّاه النّضار في المسلاة عن نضار، وكان والدها يثني عليها كثيراً، وكانت تكتب وتقرأ، قال الصفدي: قال لي والدها: إنها خرّجت جزءاً لنفسها وإنها تعرب جيداً، وأظنه قال لي: إنها تنظم الشعر، وكان يقول دائماً: ليت أخاها حيان كان مثلها، وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادى الآخرة سنة 730(2/559)
في حياة والدها، فوجد عليها وجداً عظيماً ولم يثبت وانقطع عند قبرها بالبرقية، ولازمه سنة، ومولدها في جمادى الآخرة سنة702، قال الصفدي: وكنت بالرحبة لما توفيت، فكتبت لوالدها بقصيدة أولها:
بكينا باللّجين على نضار فسيل الدمع في الخدين جاري
فيا لله جاريةٌ تولّت فنبكيها بأدمعنا الجواري
وقال الفقيه المحدث أبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني الأندلسي في برنامجه، عند ذكره شيخه أبا حيان زيادةً على ما قدمناه، ما ملخصه: إن أبا حيان قال: سمعت بغرناطة ومالقة وبلش والمرية وبجاية وتونس والإسكندرية ومصر والقاهرة ودمياط والمحلة وطهرمس والجيزة ومنية بني خصيب ودشنا وقنا وقوص وبلبيس وبعيذاب من بلاد السودان وبينبع ومكة شرّفها الله تعالى وجدة وأيلة، ثمّ فصّل من لقيه في كل بلد إلى أن قال: وبمكة أبا اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن عبد الله بن عساكر، إلى أن قال: فهذه نبذة من شيوخي، وجملة من سمعت منه خمسمائة، والمجيزون أكثر من ألف، وعدّ من كتب القراءات التي أخذ تسعة عشر كتاباً، وقال في حق ابن المليحي: إنه أعلى شيوخي في القراءات وإن آخر من روى عنه السبع أبو الجود غياث بن فارس المنذري اللّخمي وإجازته منه سنة 604، قال: وقرأت البخاري على جماعة أقدمهم إسناداً فيه أبو العز الحراني قرأته عليه بلفظي إلا بعض كتاب التفسير من قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض " إلى قول سبحانه " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " في سورة النور، فسمعته بقراءة غيري، قال: أنبأنا به أبو المعالي أحمد بن يحيى ابن عبيد الله الخازن البيع سماعاً عليه سنة ستمائة ببغداد، أنبأنا أبو الوقت بسنده، وكمل له رحمه الله تعالى جامع الترمذي بين قراءة وسماع على ابن الزبير بغرناطة، وسمعه على محمد بن ترجم، أنبأنا ابن البناء أنبأنا الكروخي بسنده، وقرأ السنن لأبي داود بغرناطة على أبي زيد عبد الرحمن الربعي، عرف بالتونسي، أنبأنا(2/560)
به سهل بن مالك، وقرأه بالقاهرة على أبي الفضل عبد الرحيم ابن خطيب المزة عن أبي حفص ابن طبرزد عن أبي بدر الكروخي ومفلح الرومي عن أي بكر ابن ثابت الخطيب أنبأنا أبو عمر الهاشمي أنبأنا اللؤلؤي أنبأنا أبو داود، وقرأ الموطأ على أبي حفص ابن الطباع عن أبي القاسم ابن بقي ابن عبد الحق عن ابن الطلاع بسنده، وهذا أعلى سند يوجد عن يونس بن مغيث في عصره. وسمع أبو حيان الأجزاء الخلعيات والغيلانيات والقطيعيات والنهرانيات والمحامليات والثقفيات وسداسيات الرازي بعلو، قرأها على صفي الدين عبد الوهاب بن الفرات عن أبي الطاهر إسماعيل بن ياسين الجيلي، وهو آخر من حدث عنه، عن أبي عبد الله الرازي سماعاً، وقرأ جزء الأنصاري على أبي بكر ابن الأنماطي بسماعه حضوراً في الرابعة على أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار سنة 532، أنبأنا إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي قراءة عليه في رجب سنة 445، أنبأنا عبد الله بن إبراهيم بن ماس، أنبأنا أبو مسلم الكشي البصري، أنبأنا محمد بن عبد الله الأنصاري؛ وقرأ جميع كتاب سيبويه على البهاء ابن النحاس المشهور بالنحو في مصر والشام، بقراءته على علم الدين أبي محمد القاسم بن أحمد ابن الموفق، بقراءته على التاج أبي اليمن الكندي، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن علي ابن أحمد البغدادي مؤلف كتاب المبهج، أنبأنا أبو الكرم المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب عرف بابن الدّباس، أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن عمر بن برهان الأسدي، أنبأنا أبو القاسم علي بن عبيد الله الرقيقي، أنبأنا علي بن عيسى بن عبد الله الرماني، أنبأنا أبو بكر ابن السراج، أنبأنا أبو العباس المبرد، أنبأنا أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني، قالا: أنبأنا أبو الحسن الأخفش، أنبأنا سيبويه، قال الشيخ أبو حيان: ولا أعلم راوياً له بمصر والشام والعراق واليمن والمشرق غيري، ورويته عن الأساتيذ أبوي علي ابن الضائع وابن أبي الأحوص وأبي جعفر اللّبلي عن أبي علي الشلوبين، وسنده مشهور بالمغرب. ووقع لأبي حيان تساعيات كثيرة، وأغرب ما وقع له ثلاثة أحاديث بينه وبين(2/561)
رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فيها ثمانية، أخبره المحدث نجيب محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بقراءته عليه والجليلة السلطانية مؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر ابن أيوب بن شادي قراءةً عليها وهو يسمع، قالا: أنبأنا أبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح في كتابه، أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الجوزدانية، أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي الأصبهاني، أنبأنا الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطر اللخمي الطبراني، أنبأنا عبيد الله بن
رماحس القيسي برمادة الرملة سنة 274، أنبأنا أبو عمر زياد بن طارق وقد أتت عليه عشرون ومائة سنة، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يوم هوازن أتيته فقلت: حس القيسي برمادة الرملة سنة 274، أنبأنا أبو عمر زياد بن طارق وقد أتت عليه عشرون ومائة سنة، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يوم هوازن أتيته فقلت:
امنن علينا رسول الله في كرمٍ فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضةٍ قد عاقها قدرٌ مشتّت شملها في دهرها غير
أبقت لنا الدهر هتّاناً على حزنٍ علا قلوبهم الغمّاء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوةٍ قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفلٌ صغير كنت ترضعها وإذ يريبك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنّا كمن شالت نعامته واستبق منّا فإنّا معشرٌ زهر
إنّا نشكر للنعماء إذ كفرت وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه من أمّهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحت كنت الجياد به عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنّا نؤمّل عفواً منك تلبسه هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعف عفا الله عما أنت راهبه يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
فلما سمع، صلى الله عليه وسلّم، هذا الشعر قال: " ما كان لي ولبني(2/562)
عبد المطلب فهو لكم "، فقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، قال أبو القاسم الطبراني: لا يروى عن زهير إلاّ بهذا الإسناد، وتفرد به عبيد الله بن رماحس، وبالإسناد إلى الطبراني: أنبأنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فروخ بن ديزج بن بلال بن سعد بن بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي، قال: حدثني جدي لأمي عمر بن أبان بن مفضل بن أبان المدني، قال: أراني أنس بن مالك الوضوء: أخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصبّ على يده اليمنى فغسلها ثلاثاً، ثمّ أدار الركوة عن يده اليمنى وصبّ على يساره فغسلها ثلاثاً وثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً وأخذ ماء جديداً لصماخيه فمسح صماخيه، فقلت له: قد مسحت أذنيك، فقال: يا غلام، هل رأيت وفهمت أو أعيد عليك فقلت: قد كفاني، وقد فهمت، قال: فكذا رأيت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يتوضأ، قال الطبراني: ولم يرو عمر بن أبان عن أنس حديثاً غير هذا، وبالإسناد إلى الطبراني: حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد القصاص البصري، أنبأنا بن عبد الله مولى أنس بن مالك، حدثني أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، " طوبى لمن رآني وآمن بي، ومن رأى من رآني وآمن بي، ومن رأى من رأى من رآني ".
ثمّ قال الرعيني: وتصانيف أبي حيان تزيد على خمسين ما بين طويل وقصير، ثم قال الرعيني: وخرج أبو حيان من الأندلس مفتتح سنة 679، واستوطن القاهرة بعد حجه، وأنشد لشيخه أبي الحسن الزّجّاج (1) :
رضيت كفافي رتبةً ومعيشةً فلست أسامي موسراً ووجيها
ومن جرّ أثوابالزمان طويلةً فلا بدّ يوماً أن سيعثر فيها
__________
(1) ق: الدجاج، وفي نسخة من أصول دوزي: الدباج.(2/563)
وأنشد بإسناده لموسى بن أبي تليد:
حالي مع الدهر في تقلّبه كطائرٍ ضمّ رجله شرك
فهمّه في خلاص مهجته ويروم تخليصها فتشتبك
ثم أورد الرعيني جملة من نظم الإمام أبي حيان، منها قوله:
أريد من الدّنيا ثلاثاً وإنها لغاية مطلوبٍ لمن هو طالب
تلاوة قرآنٍ، ونفسٌ عفيفةٌ، وإكثار أعمالٍ عليها أواظب
وقوله:
أرحت روحي من الإيناس بالنّاس لمّا غنيت عن الأكياس بالياس
وصرت في البيت وحدي لا أرى أحداً بنات فكري وكتبي هنّ جلاّسي
وقوله:
وزهدّدني في جمعي المال أنّه إذا ما انتهى عند الفتى فارق العمرا
فلا روحه يوماً أراح من العنا ولم يكتسب حمداً ولم يدّخر أجرا
وقوله:
يظنّ الغمر أنّ الكتب تجدي أخا ذهنٍ لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأنّ فيها غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخٍ ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتّى تصير أضلّ من توما الحكيم
وله لغز في قيراط زاعماً أنه لا يفك:
وما اسمٌ خماسيٌّ إذا ما فككته يصير لنا فعلين أمراً وماضيا(2/564)
بعكسٍ وهو كلٌّ وجزءٌ وجمعه بإبدال عينٍ حار فيه التناهيا
ومع كونه فرداً وجمعاً فأولٌ وآخره أضحى لشخصٍ معاديا
وفي عكسه صوتٌ فتبنيه صيغةً وتبني بمعناه وما أنت بانيا
فكم فيه من معنىً خفيٍّ وإنّما عنيت بذكري للذي ليس خافيا
ثمّ قال الرعيني: وهو شيخ فاضل، ما رأيت مثله، كثير الضحك والانبساط، بعيد عن الانقباض، جيد الكلام، حسن اللقاء، جميل المؤانسة، فصيح الكلام، طلق اللسان، ذو لمة وافرة، وهمّة فاخرة، له وجه مستدير، وقامته معتدلة التقدير، ليس الطويل ولا بالقصير، انتهى ما لخصته من كلام الرعيني.
ولما قدم الأستاذ أبو حيان إلى مصر أوصى أهله بقوله: ينبغي للعاقل أن يعامل كل أحد في الظاهر معاملة الصديق، وفي الباطن معاملة العدو في التحفظ منه والتحرز، وليكن في التحرز من صديقه أشد من التحرز من عدوه، وأن يعتقد أن إحسان شخص إلى آخر وتودده إنما هو لغرض قام له فيه يتعلّق به يبعثه على ذلك لا لذات الشخص، وينبغي أن يترك الإنسان الكلام في ستة أشياء: في ذات الله تعالى، وما يتعلق بصفاته، وما يتعلق بأحوال أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وفي التعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وفي التعرّض لما جرى بين الصحابة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وفي التعرّض لأئمة المذاهب، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، وفي الطعن على صالحي الأمة نفع الله بهم وعلى أرباب المناصب والرتب من أهل زمانه، وأن لا يقصد أذى أحد من خلق الله سبحانه وتعالى إلاّ على حسب الدفع عن نفسه، وأن يعذر الناس في مباحثهم وإدراكاتهم، فإن ذلك على حسب عقولهم، وأن يضبط نفسه عن المراء والاستزراء والاستخفاف بأبناء زمانه، وأن لا يبحث إلا مع من اجتمعت فيه شرائط الديانة والفهم والمزاولة لما يبحث، وأن لا يغضب على من لا يفهم مراده ومن لم يدرك ما يدركه، وأن يلتمس مخرجاً لمن ظاهر(2/565)
كلامه الفساد، وأن لا يقدم (1) على تخطئة أحد ببادي الرأي، وأن يترك الخوض في علوم الأوائل، وأن يجعل اشتغاله بعلوم الشريعة، وأن لا ينكر على الفقراء، وليسلم لهم أحوالهم، وينبغي للعاقل أن يلزم نفسه التواضع لعبيد الله سبحانه وتعالى، وأني جعل نصب عينيه أنه عاجز مفتقر، وأن لا يتكبر على أحد، وأن يقلّ من الضحك والمزاح والخوض فيما لا يعنيه، وأن يتظاهر لكلٍّ بما يوافقه فيما لا معصية لله تعالى فيه ولا خرم مروءة، وأن يأخذ نفسه باجتناب ما هو قبيح عند الجمهور، وأن لا يظهر الشكوى لأحد من خلق الله تعالى، وأن لا يعرض بذكر أهله، ولا يجري ذكر حرمه بحضرة جليسه، وأن لا يطلع أحداً على عمل خير يعمله لوجه الله تعالى، وأن يأخذ نفسه بحسن المعاملة من حسن اللفظ وجميل التقاضي، وأن لا يركن إلى أحد إلاّ إلى الله تعالى، وأن يكثر من مطالعة التواريخ فإنها تلقح عقلاً جديداً، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهت وصية أبي حيان الجامعة النافعة، وقد نقلتها من خط الشيخ العلامة أبي الطيب ابن علوان التونسي المالكي الشهير بالمصري، وهو ممّن أخذ عن تلامذة الشيخ أبي حيان، رحمه الله تعالى.
قلت: وبما في هذه الوصية من نهيه عن الطعن في صالحي الأمة نفع الله تعالى بهم وأمره التسليم لأحوالهم وعدم الإنكار عليهم؛ تعلم أن ما نقله الصفدين عنه فيما تقدم من قوله إن الشيخ أبا مدين إلى آخره كلام فيه نظر، لأن أبا حيان رضي الله تعالى عنه لا ينكر كرامات الأولياء، كيف وقد ذكر رحمه الله تعالى منها كثيراً، فمن ذلك ما حكى عنه تلميذه الرعيني بسنده إلى الفقيه المقرئ الصالح أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن سيد بونه الخزاعي، حدث أنه زار قبر أبي الحسن ابن جالوت، ولم يكن زاره قبل، فاشتبه عليه فتركه، فسمع النداء من قبر معين: يا غالب أتمشي وما زرتني فزار ذلك القبر، وقعد عنده، ثمّ جاء
__________
(1) ق: لا يقدر.(2/566)
ابن أبي الحسن المذكور، فسأله عن القبر، فقال: هو الذي قعدت عنده، وغالب هذا وابن جالوت هما من أصحاب الشيخ أبي جعفر بن سيد بونه الخزاعي، وهو من أصحاب الشيخ أبي مدين، انتهى. فكيف ينكر أبو حيان كرامات الصالحين وهو يوصي على من ينهى عن الطعن فيهم، ويحكي كراماتهم، نعم قول الصفدي قبل ذلك الكلام إنه كان ينكر على فقراء الوقت كلامٌ صحيح في الجملة، لكثرة الدعاوى الباطلة ممّن ليس من أهل الصلاح، وأما إنكار الكرامات مطلقاً فمقام أبي حيان يجل عن إنكارها، والله تعالى أعلم.
وقد أورد ابن جماعة له من قطعة قوله في أهل عصره:
ومن يك يدّعي منهم صلاحاً فزنديقٌ تغلغل في الضلال
وأول هذه القطعة:
حلبت الدهر أشطره زماناً وأغناني العيان عن السؤال
فما أبصرت من خلٍّ وفيٍّ ولا ألفيت مشكور الخلال
ذئابٌ في ثيابٍ قد تبدّت لرائيها بأشكال الرجال
ومن يك يدّعي منهم صلاحاً فزنديقٌ تغلغل في الضلال
ترى الجهّال تتبعه وترضى مشاركةً بأهلٍ أو بمال
فينهب مالهم ويصيب منهم نساءهم بمقبوح الفعال
وتأخذ حاله زوراً فيرمي عمامته ويهرب في الرمال
ويجرون التيوس وراء رجسٍ تقرمط في العقيدة والمقال
أي اعتقدوا رأي القرامطة، ومذهبهم مشهور، فلا نطيل به، فظهر بما ذكر أن أبا حيان إنما أنكر على أهل الدعاوى، لا على غيرهم، والله تعالى أعلم.
وقد أورد قاضي القضاة ابن جماعة للشيخ أبي حيان من النظيم غير ما قدمنا ذكره قوله:(2/567)
أما إنه لولا ثلاثٌ أحبّها تمنّيت أني لا أعدّ من الأحيا
فمنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ تكفّر لي ذنباً وتنجح لي سعيا
ومنهنّ صوني النفس عن كل جاهلٍ لئيمٍ فلا أمشي إلى بابه مشيا
ومنهنّ أخذي بالحديث إذا الورى نسوا سنّة المختار واتّبعوا الرأيا
أتترك نصّاً للرسول وتقتدي بشخصٍ لقد بدّلت بالرّشد الغيّا
وقوله:
سال في الخدّ للحبيب عذارٌ وهو لا شكّ سائلٌ مرحوم
وسألت التثامه فتجنّى فأنا اليوم سائلٌ محروم
وقوله:
أمدّعياً علماً ولست بقارئٍ كتاباً على شيخٍ به يسهل الحزن
أتزعم أن الذهن يوضح مشكلاً بلا موضح كلا لقد كذب الذهن
وإن الذي تبغيه دون معلّمٍ كموقد مصباحٍ وليس له دهن
وقوله عداتي - البيتين قال: وأخذ هذا المعنى من قول الطغرائي:
من خصّ بالودّ الصّحاب فإنني أحبو بخالص ودّي الأعداء
جعلوا التنافس في المعالي ديدني حتى وطئت بأخمصي الجوزاء
ونعوا إليّ مثالبي فحذرتها ونفيت عن أخلاقي الأقذاء
ولربما انتفع الفتى بعدوّه كالسّمّ أحياناً يكون دواء
ومن نظم أبي حيان:
يا منضي الطّرف في ميدان لذته وناضي الطّرف بين الراح والرود(2/568)
ستشرب الروح راح الوقت كارهةً ويذهب الجسم بين الترب في الدود
وله رحمه الله تعالى قصيدة سمّاها بالمورد العذب في معرضة قصيدة كعب وقصيدة في مدح الإمام الشافعي مطلعها:
غذيت بعلم النحو إذ درّ لي ثديا
وله رحمه الله تعالى من قصيدة في مدح أم ولده حيّان:
جننت بها سوداء لونٍ وناظرٍ ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن يكن فؤادي منها في جحيمٍ ولأواء
وشاهدت معنى الحسن فيها مجسّداً فأعجب لمعنىً صار جوهر أشياء
أطاعنةً من قدّه بمثقفٍ أصبت وما أغنى الفتى لبس حصداء
لقد طعنت والقلب ساهٍ فمادرى أبالقد منها أم بصعدة سمراء
ثمّ غير البيت الأول، وأنشد:
جننت بها سوداء شعرٍ وناظرٍ وسمراء لونٍ تزدري كلّ بيضاء
وقال يهنئ، قال ابن جماعة: خاطبني به ارتجالاً عند ولادة ابني عمر بعد بنتين:
حبيت بريحانتي روضة وبعدهما جاء نجلٌ أغرّ
وسمّيته اسم إمامٍ إذا رآه أبو مرّةٍ منه فرّ
ولا عجبٌ منك عبد العزيز إذا كان نجلك يسمى عمر
تفرّعتما من إمام الهدى وبدر الدجى ورئيس البشر
فلا زال يوضح سبل الهدى ولا زلتما تقفوان الأثر(2/569)
وقال:
لقد زادني بالناس علماً تجاربي ومن جرّب الأيّام مثلي تعلّما
وإنّي وتطلابي من الناس راحةً ... لكالمبتغي (1) وسط الجحيم تنعّما سأزهد حتى لا أرى لي صاحباً وأنجد حتى لا ألاقي متهما
قال ابن جماعة: وقال في إملاك علي ابن قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وكان جميل الصورة، على أختي شقيقتي فاطمة:
هنيئاً بتأليفٍ غريبٍ نظامه لقد حار في أوصافه نظم عارف
غدت شمس حسن بنت بدرٍ سيادةً تزفّ لبدرٍ نجل شمس معارف
سميّان للزهرا البتول وللرضا عليٍّ ونجلا الأكرمين الغطارف
فدام عليٌّ عالي الجدّ سيّداً ولا زال في ظلٍّ من العيش وارف
وقال يخاطب شيخه ابن النحاس وقد أغب زيارته:
أعين حياتي والذي ببقائه بقائي لقد أصبحت نحوك شيّقا
أقمت بقلبي غير أنّ لمقلتي برؤيتك الحظّ الذي يذهب الشقا
وما كان ظني انك الدهر تاركي ولو أنني أصبحت بين الورى لقا
لطائف معنىً في العيان ولم تكن لتدرك إلاّ بالتزاور واللّقا
وقال يخاطب قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وقد أعيد إلى منصب القضاء، وكان يتطلّع إليه رجل يدعى نجم الدين:
ذوو العلم في الدنيا نجومٌ زواهرٌ وإنك فيها الشمس حقّاً بلا لبس
إذ لحت أخفى نوركم كلّ نيرٍ ألم تر أن النجم يخفى مع الشمس
__________
(1) ق: الكالمبتني.(2/570)
وقال:
لم أؤخّر عمّن أحبّ كتابي لقلىً فيه أو لترك هواه
غير أني إذا كتبت كتاباً غلب الدّمع مقلتي فمحاه
وقال:
تذكّري للبلى في قعر مظلمةٍ أصارني زاهداً في المال والرّتب
أنّى أسرّ بحالٍ سوف أسلبها عمّا قريبٍ وأبقى رمّى الترب
وقال:
أتيت وما أدعى وأقبلت سامعاً فوائد مولى سيدٍ مساجدٍ ندب
وأحضر جمعاً أنت فيه جماله أشنّف سمعي منك باللؤلؤ الرّطب
وقال:
لنا غرامٌ شديدٌ في هوى السّود نختارهنّ على بيض الطّلى الغيد
لونٌ به أشرقت أبصارنا وحكى في اللون والعرف نفح المسك والعود
لا شيء أحسن من آسٍ تركّبه في آبنوسٍ ولا أشفى لمبرود
لا تهو بيضاء لون الجصّ واسم إلى سوداء حسناء لون الأعين السود
في جيدها غيدٌ، في قدّها ميدٌ في خدّها صيدٌ، من سادةٍ صيد
من آل حامٍ حمت قلبي بنار جوىٍ من هجرها وابتلت عين بتسهيد
وقال في عكسه:
إذا مال الفتى للسّود يوماً فلا رأيٌ لديه ولا رشاد
أتهوى خنفساء كأنّ زفتاً كسا جلداً لها وهو السّواد
وما السّوداء إلاّ قدر فرنٍ وكانونٍ وفحمٌ أو مداد(2/571)
وما البيضاء إلاّ الشمس لاحت تنير العين منها والفؤاد
سبيكة فضةٍ حشيت بوردٍ يلذّ السّهد معها والرقاد
وبين البيض والسودان فرقٌ لدى عقلٍ به اتضح المراد
وجوه المؤمنين بها ابيضاضٌ ووجه الكافرين به اسوداد
وقال رحمه الله تعالى:
أعاذل ذرني وانفرادي عن الورى فلست أرى فيهم صديقاً مصافيا
نداماي كتبٌ أستفيد علومها أحبّاي تغني عن لقائي الأعاديا
وآنسها القرآن فهو الذي به نجاتي إذا فكرت أو كنت تاليا
لقد جلت في غرب البلاد وشرقها أنقّب عمّن كان لله داعيا
فلم أر إلاّ طالباً لرياسةٍ وجمّاع أموالٍ وشيخاً مرئيا
قبضت يدي عنهم وآثرت عزلةً عن الناس واستغنيت بالله كافيا
قال العز ابن جماعة: وخاطب والدي وقد أبلّ من ضعف أشيع فيه موته مهنئاً:
أدام الإله لك العافيه وصيّر دور العدا عافيه
إذا لاح من بدركم نوره فكلّ النجوم به خافيه
تخذت كلام الإله الدوا فآياته كانت الشافيه
تشوّف ناسٌ لمنصبكم ورتبتهم للعلا نافيه
فأين العلوم وأين الحلوم وخلقٌ موارده صافيه
هم عصبةٌ لا تنال العلا ولو أنها قد سعت حافيه
إذا كان خرقٌ تداركته وليست لما مزّقت رافيه
فإن عنّ خطبٌ ثبتّ له وآراؤهم عنده هافيه
سجاياك لينٌ ورفقٌ بنا وأخلاقهم كلّها جافيه(2/572)
تصلي على سبعةٍ منهم وثامنهم نفسه طافيه
يقيمون في تربهم همّداً وتسفي على قبرهم سافيه
فلا زلت في صحّةٍ دائماً تجرّ ذيول السنى ضافيه
ويوردك الله عين الحياة فتحيا بها مائةً وافيه
فإن زاد عشراً فذاك المنى وعشرون أيضاً هي الكافيه
وهذه القوافي أتت كمّلاً فلم تبق لي بعدها قافيه
وقال رحمه الله تعالى أيضاً:
خلق الإنسان فيكبد بوجود الأهل والولد
كلّ عضوٍ فيه نافعه غير عضوٍ ضرّ للأبد
منتجٌ ذلاًّ وفقد غنىً وفراخاً جمّة العدد
من يمت منهم يذقه أسىً أو يعش ألقاه في نكد
عاش في أمنٍ فتىً عزبٌ مستريح الفكر والجسد
وقال رحمه الله تعالى أيضاً:
جنّ غيري بعارضٍ فترجّى أهله أن يفيق عمّا قريب
وفؤادي بعارضين مصابٌ فهو داءٌ أعيا دواء الطبيب
وقال:
سعت حيّةٌ من شعره نحو صدغه وما انفصلت من خدّه، إنّ ذا عجب
وأعجب من ذا أنّ سلسال ريقه برودٌ ولكن شبّ في قلبي اللهب
وقال:
طالع تواريخ من في الدهر قد وجدوا تجد خطوباً تسلّي عنك ما تجد
تجد أكابرهم قد جرّعوا غصصاً من الرزايا بها كم فتّتت كبد(2/573)
عزلٌ ونهبٌ وضربٌ بالسياط وحب سٌ ثمّ قتلٌ وتشريدٌ لمن ولدوا
وغن وقيت بحمد الله شرّتهم فتحمد الله فالعقبى لمن حمدوا
وقال رحمه الله تعالى يمدح البخاري وكتابه الصحيح:
أسامع أخبار الرسول لك البشرى لقد سدت في الدنيا وقد فزت في الأخرى
تشنّف آذاناً بعقد جواهرٍ تودّ الغواني لو تقلّده النحرا
جواهر كم حلّت نفوساً نفيسةً فحلّت بها صدراً وحلّت بها قدرا
هل الدين إلاّ ما روته أكابرٌ لنا نقلوا الأخبار عن طيبٍ خبرا
وأدّوا أحاديث الرسول مصونةً عن الزّيف والتصحيف فاستوجبوا الشكرا
وإنّ البخاريّ الإمام لجامعٌ بجامعه منها اليواقيت والدرّا
على مفرق الإسلام تاجٌ مرصعٌ أضاء به شمساً ونار به بدرا
وبحر علومٍ يلفظ الدرّ لا الحصا فأنفس بها درّاً وأعظم به بحرا
تصاينفه نورٌ ونورٌ لناظر فقد أشرقت زهراً وقد أينعت زهرا
نحا سنّة المختار ينظم شتّها يلخّصها جمعاً ويخلصها تبرا
وكم بذل النفس المصونة جاهداً فجاز لها بحراً وجاب لها برّا
فطوراً عراقياً وطوراً يمانياً وطوراً حجازياً وطوراً أتى مصرا
إلى أن حوى منها الصحيح صحيفةً فوافى كتاباً قد غدا الآية الكبرى
كتابٌ له من شرع أحمد شرعةٌ مطهّرةٌ تعلو السماكين والنسرا
قلت: وتتصل روايتي عن الإمام أبي حيّان من طرق عديدة: منها عن عمي وليّ الله العارف به شيخ الإسلام مفتي الأنام الخطيب الإمام ملحق الأحفاد بالأجداد سيدي سعيد بن أحمد المقّري التّلمساني، عن شيخه العالم أي عبد الله التّنسي، عن والده حافظ عصره سيدي محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التّنسي ثمّ التّلمساني الأموي، عن عالم الدنيا أبي عبد الله ان مرزوق، عن جده الرئيس الخطيب سيدي أبي عبد الله محمد بن مرزوق، عن الأثير أبي حيان بكل مروياته:(2/574)
فمنها أن أبا حيان قال: حدثنا ابن أبي الأحوص عن قاضي الجماعة أبي القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مخلد بن عبد الرحمن ابن أحمد بن بقّي بن مخلد بن يزيد القرطبي عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه الإمام بقّي بن مخلد عن ابي بكر المقدمي عن عمر بن علي وعبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مر بمجلسين أحدهما يدعون الله ويدعون إليه، والآخر يتعلمون العلم ويعلمونه، فقال: " كل المجلسين خير، وأحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل فهم أفضل، وأما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأنا بعثت معلماً "، ثم جلس معهم.
قال أبو حيان: قلت: لا أعرف حديثاً اجتمعت فيه رواية الأبناء عن الآباء بعدد ما اجتمع في هذا إلاّ ما أخبرنابه أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن بن مامة بقراءتي عليه، أنبأنا أبو المعالي الأبرموي أنبأنا أبو بكر ابن عبد محمد بن سابور القلانسي، أنبأنا أبو المبارك عبد العزيز بن محمد بن مصور الشيرازي، أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، قال: سمعت أبي أبا الفرج عبد الوهاب يقول: سمعت أبي أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعت أبي أبا بكر الحارث يقول: سمعت أبي أسداً يقول: سمعت أبي الليث يقول: سمعت أبي سليمان يقول: سمعت أبي الأسود يقول: سمعت أبي سفيان يقول: سمعت أي يزيد يقول: سمعت أبي أكيمة يقول: سمعت أبي الهشيم يقول: سمعت أبي عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يقول: " ما اجتمع قوم على ذكر إلاّ حفّتهم الملائكة وعمتهم الرحمة "، انتهى.
قلت: قال الحافظ ابن حجر في فوائده: ما اجتمع حديث فيه من عدد الآباء أكثر من هذا، انتهى.
ورأيت بخط بعض الحفاظ على قول أبي أكيمة ما صورته: صوابه أكينة(2/575)
انتهى، فليحرر.
ومنها أنّ أبا حيان قال: أنبأنا الأستاذ أبو جعفر الزبير صاحب الصلة، أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي، أنبأنا عبد الله محمد ابن حسن بن عطية، ح قال أبو حيان: وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر ابن ربيع الأشعري، عن أبي الحسن الغافقي، قال: أنبأنا عياض، ح وكتب لنا الخطيب أبو الحجاج يوسف بن أبي ركانة، عن القاضي أبي القاسم أحمد بن عبد الودود بن سمحون عن عبد الله بن عطية قال هو وعياض: أنبأنا القاضي أبو بكر ابن العربي، أنبأنا أبو محمد هبة الله الأكفاني، أنبأنا الحافظ عبد العزيز الكناني الدمشقي، أنبأنا أبو عصمت نوح ابن الفرغاني، قال: سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن قتٍّ الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري قالا: سمعنا أبا ذر عمّار بن محمد بن مخلد التميمي يقول: سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري يقول: لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن يزيد الهمداني عن قضاء الري ورد بخارى سنة 318 لجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي، فنزل في جزارنا، فحملني معلمي أبو إسحاق بن إبراهيم الختلي إليه فقال له: أسألك أن تحدث هذا الصبي ما سمعته من مشايخك فقال: ما لي سماع، فقال: وكيف وأنت فقيه فما هذا قال: لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى طلب الحديث ورواية الأخبار وسماعها، فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في علم الحديث، وأعلمته مرادي، وسألته الإقبال على ذلك، فقال لي: يا بني، لا تدخل في أمر إلاّ بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره، فقلت: عرّفني - رحمك الله تعالى - حدود ما قصدتك له، ومقادير ما سألتك عنه، فقال لي: اعلم أن الرجال لا يصير محدّثاً كاملاً في حديثه إلاّ بعد أن يكتب أربعاً في أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلاّ بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها(2/576)
هان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع وأثابه في الآخرة بأربع، قلت له: فسّر - رحمك الله تعالى - ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صافٍ بشرحٍ كافٍ وبيان شاف طلباً للأجر الواف، فقال: نعم، أما الأربع التي تحتاج إلى كتبها فهي أخبار الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، وشرائعه، والصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ومقاديرهم، والتابعين وأحوالهم، وسائر العلماء وتواريخهم، مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمانهم، كالتحميد مع الخطب، والدعاء مع التوسّل، والبسملة مع السورة، والتكبير مع الصلوات، مثل المسندات والمرسلات، والموقوفات والمقطوعات، وفي صغره وفي إدراكه، وفي شبابه وفي كهولته، عند فراغه وعند شغله، وعند فقره وعند غناه، بالجبال والبحار، والبلدان والبراري، على الأحجار والأخزاف، والجلود والأكتاف، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق، عمّن هو فوقه وعمّن هو مثله وعمّن هو دونه، وعن كتاب أبيه يتيقّن أنه بخط أبيه دون غيره، لوجه الله تعالى طلباً لمرضاته، والعمل بما وافق كتاب الله، عز وجل، منها، ونشرها بين طالبيها ومحبيها، والتأليف في إحياء ذكره بعده، ثمّ لا تتم له هذه الأشياء إلاّ بأربع، هي من كسب العبد، أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو، مع أربع هي من إعطاء الله تعالى، أعني القدرة والصحة والحرص والحفظ، فإذا صحت له هذه الأشياء كلّها هان عليه أربع: الأهل، والولد، والمال، والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء، فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله جل وعلا في الدنيا بأربع: بعز القناعة، وبهيبة النفس، وبلذّة العلم، وبحياة الأبد، وأثابه في الآخرة بأربع: الشفاعة لمن أراد من إخوانه، وبظل العرش حيث لا ظل إلاّ ظله، وبسقي من أراد من حوض نبيه، صلّى الله عليه وسلّم، بجوار النبيين في أعلى علّيين في الجنة، فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما سمعت من مشايخي متفرقاً في هذا الباب، فأقبل الآن إلى ما قصدتني له أو دع، فهالني(2/577)
قوله، فسكتّ متفكراً، وأطرقت متأدباً، فلما رأى ذلك مني قال: وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه، يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارٌّ ساكنٌ لا تحتاج إلى بعد الأسفار، ووطء الديار، وركوب البحار، وهو ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقه دون ثواب المحدّث في الآخرة، ولا عزّه بأقلّ من عز المحدث، فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدماً، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لذا الصبي يا أبا إبراهيم، فقال له أبو إبراهيم: إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خيرٌ للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك، انتهى. وركوب البحار، وهو ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقه دون ثواب المحدّث في الآخرة، ولا عزّه بأقلّ من عز المحدث، فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدماً، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لذا الصبي يا أبا إبراهيم، فقال له أبو إبراهيم: إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خيرٌ للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك، انتهى.
وجاء أبو حيان إلى ابن تيميّة والمجلس غاصٌّ فقال يمدحه ارتجالاً:
لمّا أتينا تقيّ الدين لاح لنا داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر
على محيّاه من سيما الألى صحبوا خير البريّة نورٌ دونه القمر
حبرٌ تسربل منه دهره حبراً بحرٌ تقاذف من أمواجه الدّرر
قام ابن تيميّةٍ في نصر شرعتنا مقام سيد تيمٍ إذ عصت مضر
فأظهر الحقّ إذ آثاره درست وأخمد الشرّ إّ طارت له الشرر
كنا نحدّث عن حبرٍ يجيء فها أنت الإمام الذي قد كان ينتظر
ثمّ انحرف أبو حيان فيما بعد عن ابن تيمية، ومات وهو على انحرافه، ولذلك أسباب: منها أنه قال له يوماً: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه، رحم الله تعالى الجميع.
وحضرا لشيخ أبو حيان مع ابن بنت الأعز في الروضة فكتب إلى أبي حيان ووجّهه مع بعض غلمانه:
حيّيت أثير الدين شيخ الأدبا أقضي له حقّاً كما قد وجبا
حييت فتىً يطاق آسٍ نضرٍ كالقدّ بدا ملئت منه طربا(2/578)
قال: فأنشدته:
أهدى لنا غصناً من ناضر الآس أقضى القضاة حليف الجود والباس
لمّا رأى سقمي أهداه مع رشإ حلو التثني فكان الشافي الآسي
ولما أنشد الشيخ أبو حيان قول نور الدين القصري في روضة مصر:
ذات وجهين فيهما قسم الحس ن فأضحت بها القلوب تهيم
ذا يلي مصر فهو مصرٌ وهذا يتولّى وسيم فهو وسيم
قد أعادت التصابي صباها وأبادت فيها الغموم الغيوم
زاد فيها بيتاً، وهو:
فبلجّ البحار يسبح نونٌ وبفجّ القفار يسفح ريم
قال أبو حيان: وكنت ماشياً بين القصرين مع ابن النحاس، فعبر علينا صبي يدعى بجمال، وكان مصارعاً، فقال البهاء: لينظم كل منا فيه، ثمّ قال:
مصارعٌ تصرع الآساد شمرته تيهاً فكلّ مليحٍ دونه سمج
لما غدا راجحاً في الحسن قلت لهم عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج
فنظمت أنا:
سباني جمالٌ من مليحٍ مصارعٍ عليه دليلٌ للملاحة واضح
لئن عزّ منه المثل فالكلّ دونه وإن خفّ منه الخصر فالرّدف راجح
وسمع العزازي نظمنا فقال، وأنشدنيه:
هل حكمٌ ينصفني في هوى مصارعٍ يصرع أسد الشرى
مذ فرّ عنّي الصبر فيحبّه حكى عليه مدمعي ما جرى(2/579)
أباح قتلي في الهوى عامداً وقال كم لي عاشق في الورى
رميته في أسر حبّي ومن أجفان عينيه أخذت الكرى
وقال لسان الدين في الإحاطة: كان أثير الدين أبو حيان نسيج وحده في ثقوب الذهن، وصحة الإدراك، والاضطلاع بعلم العربية والتفسير وطريق الرواية، إمام النحاة في زمانه غير مدافع، نشأ في بلده غرناطة مشاراً إليه في التبريز بميدان الإدراك، وتغبير السوابق في مضمار التحصيل، ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق، واستقر بمصر، فنال بها ما شاء من عز وشهرة وتأثلٍ وافر وحظوة، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة ملجأ وعدّة، وكان شديد البسط مهيباً جهوريّاً، مع الدّعابة والغزل وطرح اتّسمّت، شاعراً، مكثراً، مليح الحديث، لا يمل وإن أطال، وأسنّ جدّاً فانتفع به، قال لي بعض أصحابنا: دخلت عليه وهو يتوضأ، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى كما تفعل البرك والإوز، فقال لي: لو كنت اليوم جار شلّير ما تركني لهذا العمل في هذا السن، ثمّ قال لي بعد كلام حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى والمقري الخطيب أبي جعفر الشّقوري والشريف أبي عبد الله ابن راجح وشيخنا الخطيب أبي عبد الله ابن مرزوق قال: حدّثنا شيخنا أبو حيان في الجملة سنة 735 بالمدرسة الصالحية بين القصرين بمنزله، حدّثنا الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير سماعاً من لفظه وكتبه من خطه بغرناطة، عن الكاتب أبي إسحاق ابن عامر الهمداني الطّوسي - بفتح الطاء - حدّثنا أبو عبد الله ابن محمد العنسي القرطبي، وهو آخر من حدّث عنه، أنبأنا عبد الله محمد الحافظ الجيّاني، أنبأنا حكم بن محمد، أنبأنا أبو بكر ابن المهندس، أنبأنا عبد الله بن محمد، أنبأنا طالوت بن عباد بن نصال بن جعفر، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول " اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة، إذا حدّث أحدكم فر يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف(2/580)
غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم ".
ثمّ قال ابن الخطيب: إن أبا حيان حملته حدّة الشبيبة على التعرض للأستاذ أبي جعفر الطباع، وقد وقعت بينه وبين أستاذه ابن الزبير الوحشة، فنال منه، وتصدّى للتأليف في الرد عليه وتكذيب روايته، فرفع أمره للسلطان، فامتعض له، ونفذ الأمر بتنكيله، فاختفى، ثمّ أجاز البحر مختفياً، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه.
ثمّ قال: وشعره كثير يتصف بالإجادة وضدها، فمن مطوّلاته قوله:
تعذلاه فما ذو الحبّ معذول العقل مختبلٌ والقلب متبول
هزّت له أسمراً من خوط قامتها فما انثنى الصبّ إلا وهو مقتول
جملة فصّل الحسن البديع لها فكم لها جملٌ منه تفصيل
فالنحر مرمرةٌ، والنشر عنبرةٌ، والثغر جوهرةٌ، والريق معسول
والطرف ذو غنج، والعرف ذو أرجِ، والخصر مختطفٌ، والمتن مجدول
هيفاء ينطق في الخصر الوشاح لها درماء تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غذاهنّ النعيم فما يشقين، آباؤها الصّيد البهاليل
إلى أن قال: وقوله:
نورٌ بخدّك أم توقّج نار وضنىً بجفنك أم فتور عقار
وشذاً بريقك أن تأرّج مسكةٍ وسناً بثغرك أم شعاع دراري
جمعت معاني الحسن فيك فقد غدت قيد القلوب وفتنة الأبصار
متصاونٌ خفراً إذا ناطقته أغضى حياءً في سكون وقار
فيوجهه زهرات روضٍ تجتلى من نرجسٍ مع وردةٍ وبهار
خاف اقتطاف الورد من وجناتها فأدار من آسٍ سياج عذار
وتسلّلت نمل العذار بخدّه ليردن شهدة ريقه المعطار
وبخدّه نارٌ حمته وردها فوقفن بين الورد والإصدار(2/581)
كم ذا أداري فيهواه محبّتي ولقد وشى بي فيه فرط أواري
وقال ابن رشيد: حدثنا أبو حيان قال: حدثنا التاجر أبو عبد الله التبرجوني بمدينة عيذاب من بلاد السودان، وبرجونة قرية من قرى دار السلام، قال: كنت بجامع لولم من بلاد الهند ومعنا رجل مغربي اسمه يونس، فقال لي: اذكر لنا شيئاً، فقلت له: قال علي، رضي الله تعالى عنه: إذا وضع الإحسان في الكريم أثمر خيراً، وإذا وضع في اللئيم أثمر شرّاً، كالغيث يقع في الأصداف فيثمر الدر، ويقع في فيم الأفاعي فيثمر السم، فما راعنا إلاّ يونس المغربي قد أنشد لنفسه:
صنائع المعروف إن أودعت عند كريمٍ زكّت النّعما
وإن تكن عند لئيمٍ غدت مكفورةً موجبةً إثما
كالغيث في الأصداف درٌّ، وفي فم الأفاعي يثمر السّمّا
قال أبو حيان: فلما سمعت هذه الأبيات نظمت معناها في بيتين، وهما:
إذا وضع الإحسان في الخبّ لم يفد سوى كفره، والحرّ يجزي به شكرا
كغيثٍ سقى أفعى فجاءت بسمّها وصاحب أصدافاً فأثمرت الدّرّا
قال أبو حيان: وأنشدنا الأمير بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي ابن رمّاح الهمداني لنفسه بالقاهرة:
فلا تعجب لحسن المدح منّي صفتك أظهرت حكم البوادي
وقد تبدي لك المرآة شخصاً ويسمعك الصدى ما قد تنادي
وبعد كتبي ما نقله ابن رشيد عن أبي حيان رأيت لبعضهم أن أبا حيان هذا الذي ذكره ابن رشيد ليس هو أبا حيان النحوي الأندلسي، وإنما هو شخص(2/582)
آخر، وفيه عندي نظر لا يخفى، والذي أعتقده ولا أرتاب فيه أنه أبو حيان النحوي.
وقال ابن رشيد: وأنشدني أبو حيان لنفسه:
إذا غاب عن عيني أقول سلوته وإن لاح حال اللون فاضطرب القلب
يهيّجني عيناه والمبسم الذي به المسك منظومٌ به اللؤلؤ الرطب
وقال الشريف ابن راجح: رايت أن ما وضعه الشيخ أبو حيان في تقدّم لسان الأتراك تضييع لعمره، وقلت:
نفائس الأعمار أنفقتها أنا وأمثالي على غير شي
شيوخ سوءٍ ليس يرضى بما ترضى به من المخازي صبي
ومن نظم أبي حيان قوله:
إنّ علماً تعبت فيه زماني باذلاً فيه طارفي وتلادي
لجديرٌ بأن يكون عزيزاً ومصوناً إلاّ على الأجواد
وقوله:
وما لك والإتعاب نفساً شريفةً وتكليفها في الدهر ما ليس يعذب
أرحها فعن قربٍ تلاقي حمامها فتنعم في دار البقا أو تعذّب
واستشكل هذان البيتان بأن ظاهرهما خلاف الشرع، وأجيب بأن مراده أمر الرزق، لا أمر التكليف.
وأفاد غير واحد أن سبب رحلة الشيخ أبي حيان عن الأندلس أنه نشأ شر بينه وبين شيخه أحمد بن علي بن الطباع فألف أبو حيان كتاباً سمّاه الإلماع في إفساد إجازة ابن الطباع فرفع ابن الطباع أمره للأمير محمد بن نصر المدعو بالفقيه، وكان أبو حيان كثير الاعتراض عليه أيام قراءته عليه، فنشأ شر عن(2/583)
ذلك، وذكر أبو حيان أنه لم يقم بفاس إلاّ ثلاثة أيام، وأدرك فيها أبا القاسم الزياتي، وخرج أبو حيان من الأندلس سنة تسع وسبعين وستمائة.
وكان جماعة من أعلام الأندلس رحلوا منها، فلما وصلوا إلى العدوة أقاموا بها، ولم يذهبوا إلى البلاد الشرقية:
217 - منهم الشيخ النحوي الناظم الناثر أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني (1) ، وهو القائل يمدح أمير المؤمنين المستنصر بالله صاحب تونس (2) :
أمن بارقٍ أورى بجنح الدّجى سقطا تذكرت منحلّ الأجارع فالسّقطا
وبان ولكن لم يبن عنك ذكره وشطّ ولكن طيفه عنك ما شطّا
حبيب لو أن البدر جاراه في مدىً من الحسن لاستدنى مدى البدر واستبطا
إذا انتجعت مرعاً خصيباً ركابه غدا لحظ عيني يشتكي الجدب والقحطا
لقد أسرعت عني المطيّ بشادنٍ تسرّع في قتل النفوس وما أبطا
ظننت الفلا دار ابن ذي يزنٍ بها وخلت المحاريب الهوادج والغبطا
فكم دميةٍ للحسن فيها وصورةٍ تروق وتمثالٍ من الحسن قد خطا
حمائل لاحت كالخمائل بهجةً سقيط الحيا فيهنّ لا يسأم السقطا
توسّد غزلان الأوانس والمها به لوشي والديباج لا السّدر والأرطى
ولم يسب قلبي غير أبهرها سناً وأطولها جيداً وأخفقها قرطا
أيا أربّة الأحداج سيري فتعلمي ... وما بك جهلٌ، أنّ سهمك ما أخطا
__________
(1) ترجمة حازم القرطاجني في اختصار القدح: 20 وبغية الوعاة: 214 وأزهار الرياض 3: 172 وشذرات الذهب 5: 387 (انظر بروكلمان 1: 317 وتكملته 1: 474) ، وجميع ديوانه الأستاذ عثمان الكعاك (ط. دار الثقافة بيروت 1964) .
(2) ديوانه: 68 وبعض أبياتها في أزهار الرياض.(2/584)
قفي تستبيني ما بعينيك من ضنىً كجسمي وعنوان الهوى فيه مختطّا
فلم أر أعدى منك لحظاً وناظراً لقلبي ولا أعدى عليه ولا أسطى
سقى الله عيشاً قد سقانا من الهوى كؤوساً بمعسول اللّمى خلطت خلطا
وكم جنّةٍ قد ردت في ظلّ كافرٍ فلم أجز ما أولاه كفراً ولا غمطا
وكم ليلةٍ قاسيتها نابغيةٍّ إلى أن بدت شيباً ذوائبها شمطا
وبتّ أظنّ الشّهب مثلي لها هوىً وأغبطها في طول ألفتها غبطا
على أنها مثلي عزيزة مطلبٍ ومن ذا الذي ما شاء من دهره يعطى
كأنّ الثريّا كاعبٌ أزمعت نوىً وأمّت بأقصى الغرب منزلةً شحطا
كأنّ نجوم الهقعة الزّهر هودجٌ لها عن ذرا الحرف المناخة قد حطّا
كأنّ رشاء الدلو رشوة خاطبٍ لها جعل الأشراط في مهرها شرطا
كأنّ السّها قد دقّ من فرط شوقه إليها كما قد دقّق الكاتب النّقطا
كأنّ سهيلاً إذ تناءت وأنجدت غدا يائساً منها فأتهم وانحطّا
كأنذ خفوق القلب قلب متيّمٍ تعدّى عليه الدّهر في البين واشتطّا
كأنّ كلا النسرين قد ريع إذ رأى هلال الدّجى يهوي له مخلباً سلطا
كأنّ الذي ضمّ القوادم منهما هوى واقعاً للأرض أو قص أو قطّا
كأنّ أخاه رام فوتاً أمامه فلم يعج أن مدّ الجناح وأن مطّا
كأنّ بياض الصبح معصم غادةٍ جنت يدها أزهار زهر الدجى لقطا
كأنّ ضياء الشمس وجه إمامنا إذا ازداد بشراً في الوغى وإذا أعطى
محمدٌ الهادي الي أنطق الورى ثناءً بما أسدى إليهم وما أنطى
إمامٌ غدا شمس المعالي وبدرها وقد أصبحت زهر النجوم له رهطا
جميل المحيّا مجملٌ طيب ذكره يعاطى سروراً كالحميّا ويستعطى
إذا ما الزمان الجعد أبدى تجهّماً (1) ... أرانا الحياء الطّلق والخلق السّبطا
__________
(1) الديوان: أبدى عبوسه.(2/585)
كلا أبوي حفصٍ نماه إلى العلا فأصبح عن مرقاته النجم منحطّا
بسيماه تدري أنّ كعباً جدوده وإن هو لم يذكر رزاحاً ولا قرطا
إذا قبض الروع الوجوه فوجهه يزيد، لكون النصر نصلاً، له بسطا
به تترك الأبطال صرعى لدى الوغى كأن قد سقوا من خمر بابل إسفنطا
تراه إذا يعطي الرغائب باسماً له جذلٌ يربي على جذل المعطى
وكم عنقٍ قد قلّدت بنواله ... فريداً وقد كانت قلادتها لطّا (1)
متى ما تقس جود الكرام بجوده ... فبالبحر قايست الوقيعة والوقطا (2)
يشفّ له عن كلّ غيبٍ حجابه ... فتحسبه دون المحجّب ما لطّا (3)
تطيع الليالي أمره في عصاته ... وتردي أعاديه أساودها نشطا (4) وتمضي عليهم سيفه وسنانه فتبري الكلاى طعناً وتفري الطّلى قطّا
فكيف ترجّت غرةً منه فرقةٌ غدا عزّها ذلاًّ ورفعتها هبطا
وكم بالنّهى والحلم غطّى عليهم إلى أن جنوا ذنباً على العلم قد غطّى
فأمطاهم دهم الحديد وطالما أنالهم دهم الجياد وما أمطى
ورم لهم هدياً ولكنهم أبوا بغيّهم إلاّ الضلالة والخبطا
وكان لهم يبغي المثوبة والرضى ولكن أبوا إلاّ العقوبة والسّخطا
ولو قوبلت بالشكر منه مآربٌ ... لما اعتاض منها أهلها (5) الأثل والخمطا هو الناصر المنصور والملك الذي أعاد شباب الدهر من بعد ما اشمطّا
أصاخت له الأيّام سمعاً وطاعةً وأحكمت الدنيا له عهدها ربطا
فلا بدّ من أن يملك الأرض كلّها وأن تملأ الدّنيا إيالته قسطا
__________
(1) اللط: القلادة من حب الحنظل.
(2) الوقيعة: نقرة يستقر الماء فيها؛ الوقط: حوض يستنقع فيه الماء.
(3) لط: أسدل وستر.
(4) النشط: اللدغ.
(5) ق ودوزي: أهيل.(2/586)
ويغزو في آفاق أندلس العدا بجيش تخطّ الأرض ذبّله خطّا
وكلّ جوادٍ خفّ سنبكه فما ... يمسّ الثرى إلاّ مخالسةً فرطا (1) يؤمّ بها الأعداء ملكٌ أمامه من الرّعب جيشٌ يسع السير إن أبطا
ويرمي جبال الفتح من شطّ سبتةٍ بها فتوافي سبّقاً ذلك الشطّا
بحيث التقى بالخضر موسى، وطارقٌ وموسى به رحلاً لغزو العدا حطّا
وسعيك ينسي ذكر سعيهما به ويوسع سعي المشركين به حبطا
ويوقع في الأعداء أعظم وقعةٍ بها تملأ الأسماع طير الملا لغطا
تجاوب سحم الطير فيه وشهبها كما راطن الزنج النبيط أو القبطا
وتنكر فيها الجوّ والأرض أعينٌ ترى الجوّ ناراً والصعيد دماً عبطا
فتخضب منهم من أشابت بخوفها نصولٌ ترى منها بفود الدّجى وخطا
ويحسم أدواء العدا كلّ صارمٍ (2) ... حسامٍ إذا لاقى الطّلى حدّه قطّا وكلّ كميٍّ كلما خطّ صفحةً بسيفٍ غدا بالرمح ينقط ما خطّا
شجاع إذا التفّ الرماحان مثل ما ... تقلقل (3) في أسنان مشطٍ يدٌ مشطا إذا ما رجت منه أعاديه غرّةً رأت دون ما ترجو القتادة والخرطا
فيجدع آناف العداة بسيفه ... وينشقها بالرمح ريح الردى سعطا (4) يبيد الأعادي سطوةً ومكيدةً فيحكي الأسود الغلب والأذؤب المعطا
سرى في طلاب المعلوات فلم يزل يمدّ يداً مبسوطةً وندى بسطا
ولو نازعت يمناه جذباً شماله لبوساً من الماذيّ لانعقّ وانعطّا
يصول بخطّيٍّ لكلّ مرشّةٍ به أثرٌ يعزوه للحية الرّقطا
قناً (5) تبصر الآكام فرعاً كواسياً ... بهنّ وقد أبصرن عاريةً مرطا
__________
(1) فرطا: سبقا وإسراعا.
(2) الديوان: كل ضارب.
(3) الديوان: تغلغل.
(4) في الأصل: قسطا، بسطا، والتصويب عن الديوان.
(5) في الأصول: فتى، والتصويب عن الديوان.(2/587)
إذا نسبت للخطّ أو لردينةٍ نسبن إلى العلينا ردينة والخطّا
كماةٌ حماةٌ ما يزال إلى الوغى حنينٌ لهم ما حنّ نضوٌ وما أطّا
عليهم نسيح السابغات كأنها جلودٌ عن الحيّات قد كشطت كشطا
إذا لمعٌ للشمس لاحت عليهم رأيت صلالاً ألبست حللاً رقطا
ترجرج كالزاروق (1) ليناً ومثله ... ترى نقطةً من بعد ما طرحت خطّا جيوش إذا غطى البلاد عبابها وأمواجها غطّت نفوس العدا غطّا
فكم قد حكت في حصر حصن ومعقلّ ... وشاحاً على خصرٍ فآسفنه (2) ضغطا وخيل كأمثال النّعام تخالها لإفراط لوك اللّجم تبغي لها سرطا
تخيّلها فتخاً إذا ارتفعت وإن سبحن بماء خلتها خفّةً بطّا
فينعقّ منها مرط كلّ عجاجةٍ موازع لا يسأمن مرّاً ولا مرطا
وكم خالطت سمر الرماح وأوردت مياهاً غدت حمر الدماء لها خلطا
يجمّونها ليل السّرى فإذا دعوا نزال امتطوا منهنّ أشرف ما يمطى
فكم جنبوها خلف معتادة السّرى عوارف لم تسمع لها أذنٌ نحطا
وقد وسمت أعناقهن أزمّةٌ ... بطول السّرى حتى تظن لها علطا (3) إذا أوقدت ناراً بقذف الحصا حكت وبحر الدجى طامٍ سفيناً رمت نفطا
وألقحتهم (4) عقم المنى عن حيالها ... فما ولدت عقماً ولا نتجت سقطا
وصيرهم (5) في عقلةٍ سارح العدا ... وسرحتم الآمال من عقلها نشطا ومن كان يشكو سطوة الدهر قد غدا بعدلك لا يعدى عليه ولا يسطى
__________
(1) الديوان: تدحرج كالزاووق.
(2) الديوان: فأوسعنه.
(3) ق ودوزي: حتى تظن بها غلطا.
(4) في الأصول: وألحفتهم.
(5) ق: وصيرتهم.(2/588)
ففي كلّ حالٍ تؤثر القسط جارياً على السنن التّقوى وتجتنب القسطا
فبوركت سبطاً جدّه عمر الرضى وبورك من جدٍّ غدوت له سبطا
تلوت الإمام العدل (1) يحيى فلم تزل ... تزيد أمور الخلق من بعده ضبطا فزتم وضوحاً بعده واستقامةً وتوطئةً نهج السبيل الذي وطّا
وما كان أبقى غايةً غير أنه حبيت بما لم يحب خلقٌ ولم يعطا
إذا درر الأملاك (2) في الفخر نظّمت ... على نسقٍ عقداً فدولتك الوسطى وله أيضاً (3) فيه:
في كلّ أفقٍ من كل صباح دجاكم نورٌ جلا خيط الظلام بخيطه
راقت محاسن مجدكم فبهرن ما كسيته من حبر المديح وريطه
وله - رحمه الله تعالى - عدة تآليف، وولد سنة 608، وتوفي ليلة السبت 24 رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة بتونس، وممّن أخذ عنه الحافظ ابن رشيد الفهري، وذكره في رحلته وأثنى عليه، كما أثنى عليه العبدري في رحلته، فقال: حازم، وما أدراك ما حازم، وقد عرّفت به في أزهار الرياض ممّا يغني عن الإعادة، وكان هو والحافظ أبو عبد الله ابن الأبار فرسي رهان، غير أن ابن الأبار كان أكثر منه رواية.
218 - وهو الإمام الحافظ الكاتب الناظم الناثر المؤلف الراوية أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر ابن عبد الله بن أبي بكر، القضاعي، الأندلسي، البلنسي (4) ، كتب ببلنسية عن السيد أبي عبد الله ابن السيد أبي حفص ابن أمير
__________
(1) العدل: سقطت من ق.
(2) الديوان: دول الأملاك.
(3) أيضا: سقطت من ق؛ والبيتان في الديوان: 73.
(4) ترجمة ابن الأبار في اختصار القدح: 191 وأزهار الرياض 3: 204 وعنوان الدراية: 187 والفوات 2: 450 وشذرات الذهب 5: 275 والمغرب 2: 309 وقد كتب عنه الدكتور عبد العزيز عبد المجيد دراسة في كتاب (طبع بمعهد مولاي الحسن: 1951) .(2/589)
المؤمنين عبد المؤمن بن علي، ثم عن ابنه السيد أبي زيد، ثم كتب عن الأمير ابن مردنيش، ولما نازل الطاغية بلنسية بعثه الأمير زيان بن مردنيش مع وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص وفي ضمن ذلك استصرخه لدفع عادية العدو، فأنشد السلطان قصيدته السينية التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إنّ السبيل إلى منجاتها درسا
وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، ثم لما كان من أمر بلنسية ما كان رجع بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشّحه لكتب علامته في صدور مكاتباته، فكتبها مدة، ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها، فكتبها مدة بالخط المشرقي، وكان آثر عند السلطان من المغربي، فسخط ابن الأبار أنفةً من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه، لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى موضع العلامة منه لكاتبها، فجاهر بالرد، ووضعا استبداداً وأنفة، وعوتب على ذلك، فاستشاط غضباً، ورمى بالقلم، وأنشد متمثلاً:
اطلب العزّ في لظىً وذر الذ لّ ولو كان في جنان الخلود
فنمي ذلك إلى السلطان، فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليفٍ رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتّاب، وأعتبه، وسماه إعتاب الكتّاب، واستشفع فيه بابنه المستنصر، فغفر السلطان له، وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة، ولما توفي السلطان رفعه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضور مجلسه، ثم حصلت له أمور معه كان آخرها أنه تقبض عليه، وبعث إلى داره، فرفعت إليه كتبه أجمع، وألفى أثناءها، فيما زعموا، رقعةً بأبيات أولها:(2/590)
طغى بتونس خلفٌ سمّوه ظلماً خليفه
فاستشاط السلطان لها، وأمر بامتحانه، ثمّ بقتله، فقتل قعصاً بالرماح وسط محرّم سنة 658، ثمّ أحرق شلوه، سيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه، وكان مولده ببلنسية سنة 595.
وقال في حقه ابن سعيد في " المغرب " ما ملخصه (1) : حامل راية الإحسان، المشار إليه في هذا الأوان، ومن شعره قوله يصف الياسمين (2) :
حديقة ياسمينٍ لا تهيم بغيرها الحدق
إذا جفن الغمام بكى تبسّم ثغرها اليقق
فأطراف الأهلّة سا ل في أثنائها الشّفق
وكتب إلى الوزير أبي عبد الله ابن أبي الحسين ابن سعيد يستدعي منه منثوراً (3) :
لك الخير أتحفني بخيريّ روضةٍ لأنفاسه عند الهجوم هبوب
أليس أديب الروض يجعل ليله نهاراً فيذكو تحته ويطيب
ويطوى مع الإصباح منشور نشره كما بان عن ربع المحبّ حبيب
أهيم به عن نسبةٍ أدبيّةٍ ولا غرو أن يهوى الأديب أديب
وقوله في الخسوف (4) :
نظرت إلى البدر عند الخسوف وقد شين منظره الأزين
كما سفرت صفحةٌ للحبي ب يحجبها برقعٌ أدكن
__________
(1) هذا النقل غير موجود في المغرب المطبوع، فإما أن المقري ينقل عن نسخة أخرى وإما أنه ينقل عن القدح المعلى.
(2) المغرب2: 310، واختصار القدح: 191.
(3) المغرب: 310، واختصار القدح: 192.
(4) المغرب: 310.(2/591)
وقوله في المعنى (1) :
ألم تر للخسوف وكيف أبدى ببدر التمّ لمّاع الضياء
كمرآةٍ جلاها القين حتى أنارت ثمّ ردّت في غشاء
وقوله:
والثريّا بجانب البدر تحكي راحةً أومأت لتلطم خدّا
وقوله (2) :
من عاذري من بابليٍّ طرفه ولعمره ما حلّ يوماً بابلا
أعتدّه خوطاً لعيشي ناعماً فيعود خطّيّاً لقتلي ذابلا
وهو حافظ متقن، له في الحديث والأدب تصانيف، وله كتاب في متخير الأشعار سماه قطع الرياض وتكملة الصلة لابن بشكوال، وهداية المعترف في المؤتلف والمختلف، وكتاب التاريخ، وبسببه قتله صاحب إفريقية، وأحرقت كتبه على ما بلغنا، رحمه الله تعالى، وله تحفة القادم في شعراء الأندلس، و " الحلة السيراء في أشعار الأمراء " (3) .
ومن شعره قوله:
أمري عجيبٌ في الأمور بين التواري والظهور
مستعملٌ عند المغي ب ومهملٌ عند الحضور
وسبب هذا أن ملك تونس كان إذا أشكل عليه شيء أو ورد عليه لغز أو
__________
(1) اختصار القدح: 348.
(2) اختصار القدح: 193، والمغرب 2: 312.
(3) طبع من كتبه الحلة السيراء وتكملة الصلة والمقتضب من تحفة القادم وإعتاب الكتاب ومعجم أصحاب الصدفي.(2/592)
معمّىً أو مترجم بعث به إليه، فيحله، وإذا حضر عنده لا يكلّمه ولا يلتفت إليه، ووجد في تعاليقه ما يشين دولة صاحب تونس فأمر بضربه، فضرب حتى مات، أحرقت كتبه، رحمه الله تعالى، وكان أعداؤه يلقبونه بالفار، وحصلت بينه وبين أبي الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي مهاجاةٌ، فقال فيه (1) :
لا تعجبوا لمضرّةٍ نالت جمي ع الناس صادرة عن الأبار
أوليس فاراً خلقةً وخليقةً والفار مجبولٌ على الإضرار
فأجابه ابن الأبار:
قل لابن شلبونٍ مقال تنزّهٍ غيري يجاريك الهجاء فجار
إنّا اقتسمنا خطّتينا بيننا فحملت برّة واحتملت فجار
وهذا مضمّن من شعر النابغة الذبياني، انتهى ما لخصناه من كلام ابن سعيد في حقه.
ومن شعر ابن الأبار أيضاً:
لو عنّ لي عونٌ من المقدار لهجرت للدار الكريمة داري
وحللت أطيب طيبة من طيبةٍ جاراً لمن أوصى بحفظ الجار
حيث استبان الحقّ للأبصار لمّا ستثار حفائظ الأنصار
يا زائرين القبر قبر محمّدٍ بشرى لكم بالسّبق في الزوّار
أوضعتم لنجاتكم فوضعتم ما آدكم من فادح الأوزار
فوزوا بسبقكم وفوها بالذي حمّلتم شوقاً إلى المختار
__________
(1) هو علي بن لب بن شلبون البلنسي أبو الحسن وترجمته والأبيات في الذيل والتكملة 5: 274، وله ترجمة في تحفة القادم: 151.(2/593)
أدّو السّلام سلمتم وبردّه أرجو الإجازة من ورود النار
اللهم أجرنا منها يا رحيم يا رحمن يا كريم.
ولنختم ترجمته بقوله:
رجوت الله في اللأواء لمّا بلوت الناس من ساهٍ ولاهي
فمن يك سائلاً عن فإني غنيت بالافتقار إلى إلهي
وقد جوّدت ترجمته في أزهار الرياض في أخبار عياض فليراجع ذلك فيه من شاء.
رجع إلى ما كنّا فيه من ذكر المرتحلين من الأندلس إلى المشرق:
219 - ومنهم الحافظ أبو المكارم جمال الدين بن مسدّي، وهو أبو بكر محمد، ويقال: أبو المكارم، ابن أبي أحمد يوسف بن موسى بن يوسف بن موسى ابن مسدّي (1) ، المهلبي، الأزدي، الأندلسي.
شيخ السنّة، وحامل راياتها، وفريد الفنون، ومحكم آياتها، عرف الأحاديث وميز بين شهرتها وغرابتها، وكان المتلقي لراية السنّة بيمين عرابتها، طلع بمغربه شمساً قبل بزوغه بأفق المشرق، وملأ جزيرته الخضراء من بحر علومه المتدفق، وأفعمها بنوره المشرق، وطاف البلاد الإسلامية الغربية والمشرقية، فعقدت على كماله الخناصر، وجعله أرباب الدراية لمقلة الدين الباصر، ولقي أعيان الشيوخ في القطرين، وأخذ عنهم ما تقرّ به العين، ويدفع به عن القلب الرّين، مع فصاحة لسان، وطلاقة بيان وبنان، وخلال حسان، وبلاغة سحبته على سحبان، وظهر أزهار بان، وفوّضت إليه خطابة الحرم الشريف بمكة فكان كما يقال:
هذا السّوار لمثل هذا المعصم
__________
(1) ترجمة ابن مسدي في تذكرة الحفاظ: 1448، وشذرات الذهب 5: 313.(2/594)
فكم وشى بها من مطارف للبلاغة وكم عنّم، حتى يظن الرائي عود منبره من وعظه مائساً، ولئن مال من سجع الحمام رطباً فقد مال من سجع هذا الإمام يابساً، وترجم على من لقي من الأعيان بسحر البيان، وفصّل أحوالهم بأحسن تبيان، وعدّتهم أربعة آلاف شيخ وناهيك بهذه مزية تقاد لها الفضائل في أرسان، وأرى تحقيق قول القائل: جمع الله تعالى العالم في إنسان، وله موضوعات مفيدة من حديث وفقه ونظم ونثر، وله مسند غريب جمع فيه مذاهب العلماء المتقدمين والمتأخرين (1) ، وهو أشهر من نار على علم، وكان يكتب بالقلمين المغربي والمشرقي، وكلاهما في غاية الجودة، ومثل هذا يعدّ نادراً، توفي شهيداً مطعوماً من أناس كانوا يحسدونه، فختم الله تعالى له بالشهادة، وبوّئ بها دار السعادة، وتوفي سنة 663 بمكة، ومولده سنة 598، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بأمثاله.
220 - ومنهم الكاتب أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد بن خلف الغافقي القبتوري (2) - بفتح القاف، وسكون الباء الوحدة، وفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الواو، وبعدها راء - الإشبيلي المولد والمنشأ، ولد في شوال سنة 615، وقرأ على الأستاذ الدباج كتاب سيبويه والسبع، وله باع مديد في الترسّل مع التقوى والخير، وله إجازة من الرضي بن برهان والنجيب بن الصيقل، وكتب لأمير سبتة، وحدث بتونس عن الغرافي، وجاور زماناً، وتوفي بالمدينة سنة 704 (3) ، وحج مرتين.
قال أبو حيان: قدم القاهرة مرتين، وحج في الأولى، وأنشدني من لفظه لنفسه:
أسيلي الدمع يا عيني ولكن دماً، ويقلّ ذلك لي، أسيلي
__________
(1) ق ودوزي: المتقدمين والمتقدمين.
(2) ترجمة خلف بن عبد العزيز القبتوري في بغية الوعاة: 242 نقلا عن الصفدي والدرر الكامنة.
(3) ق: 740 وهو مخالف لما في المصادر.(2/595)
فكم في التّرب من طرف كحيل لتربٍ لي ومن خدٍّ أسيل
وقال:
ماذا جنيت على نفسي بما كتبت كفّي، فيا ويح نفسي من أذى كفّي
ولو يشاء الذي أجرى عليّ بذا قضاءه الكفّ عنه كنت ذا كفّ
وقال:
واحسرتا لأمورٍ ليس يبلغها مالي وهنّ منى نفسي وآمالي
أصبحت كالآل لا جدوى لديّ وما ألوت جهداً ولكن جد ّي الآلي
وقال العلاّمة فتح الدين ابن سيد الناس إنه أنشده لنفسه بالحرم الشريف النبوي سنة ثلاث وسبعمائة (1) :
رجوتك يا رحمن إنك خير من رجاه لغفران الجرائم مرتجي
فرحمتك العظمة التي ليس بابها وحاشاك في وجه المسيء بمرتجي
وقد أنشد له أبو حيان كثيراً من نظمه، رحمه الله تعالى.
221 - ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج بن أبي الخليل، الأموي الإشبيلي، النباتي، المعروف بابن الرومية (2) ، كان عارفاً بالعشب والنبات، صنف كتاباً حسناً كثير الفائدة في الحشائش، ورتب فيه أسماءها على حروف المعجم، ورحل إلى البلاد، ودخل حلب، وسمع الحديث بالأندلس وغيرها.
وقال البرزالي في حقّه: إنه كان يعرف الحشائش معرفة جيدة، وسمع
__________
(1) البيتان في البغية والدرر الكامنة.
(2) ترجمة ابن الرومية في اختصار القدح: 181 والإحاطة 1: 220 وتذكرة الحفاظ: 1425 والتكملة: 121 وبرنامج الرعيني: 142 والديباج: 42.(2/596)
الحديث بدمشق من ابن الحرستاني، وابن ملاعب، وابن العطار، وغيرهم، وقال بعضهم: اجتمعت به، وتفاوضت معه في ذكر الحشائش، فقلت له: قصب الذريرة قد ذكر في كتب الطب، وذكروا أنه يستعمل منه شيء كثير، وهذا يدل على أنه كان موجوداً كثيراً، وأما الآن فلا يوجد، ولا يخبر عنه مخبر، فقال: هو موجود، وإنما لا يعلمون أين يطلبونه، فقلت له: وأين هو فقال: بالأهواز منه شيء كثير، انتهى (1) .
وأجاز البحر بعد سنة 580 للقاء ابن عبيد الله بسبتة فلم يتهيأ له ذلك، وحج - رحمه الله تعالى - في رحلته الأولى، ولقي كثيراً، وروى عن عدد من رجال ونساء ضمنهم التذكرة له، وله مختصر كتاب الكامل لأحمد لن عدي في رجال الحديث، وله كتاب المعلم بما زاده البخاري على كتاب مسلم، ويعرف بالنباتي لمعرفته بالنبات، ومولده في نحو سنة 561، وتوفي رحمه الله تعالى بإشبيلية منسلخ ربيع النبوي سنة 637، وقد رثاه أناس من تلامذته، وألف بعضهم في التعريف به، سمع من ابن زرقون وابن الجد وابن عفير وغير واحد كأبي ذر الحبشي، وسمع ببغداد من جماعة، وحدث بمصر الأحاديث من حفظه، ويقال له الحزمي - بفتح الحاء - نسبة إلى مذهب ابن حزم لأنه كان ظاهري المذهب، وكان زاهداً صالحاً، وحكى بعضهم عنه أنه كان جالساً في دكانه بإشبيلية يبيع الحشائش وينسخ، فاجتاز به الأمير أبو عبد الله ابن هودٍ سلطان الأندلس، فسلم عليه، فرد عليه السلام، واشتغل بنسخه، ولم يرفع إليه رأسه، فبقي واقفاً منتظراً أني رفع إليه رأسه، ساعة طويلة، فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى، وله كتابان حسنان في علم الحديث: أحدهما يقال له الحافل في تكملة الكامل لابن عدي، وهو كتاب كبير؛ قال ابن الأبار: سمعت شيخنا أبا الخطاب ابن واجب يثني عليه ويستحسنه؛ والثاني اختصر فيه
__________
(1) انتهى: سقطت من ق.(2/597)
الكامل لأي أحمد ابن عدي كما سبق في مجلدين، وسمع بدمشق والموصل وغيرهما جماعة من أصحاب الحافظ أبي الوقت السجزي وأبي الفتح ابن البطي وأبي عبد الله الغراوي وغيرهم من الأئمة، وله فهرسة حافلة أفرد فيها روايته بالأندلس من روايته بالمشرق، وكان متعصباً لابن حزم بعد أن تفقه في المذهب المالكي على ابن زرقون أبي الحسين، وطالت صحبته له، وكان بصيراً بالحديث ورجاله، كثير العناية به، واختصر كتاب الدارقطني في غريب حديث مالك، وغيره أضبط منه، وفاق أهل زمانه في معرفة النبات، وقعد في دكان ليبيعه، قال ابن الأبار: وهنالك رأيته ولقيته غير مرة، ولم آخذ عنه، ولم أستجزه، وسمع منه جلّ أصحابنا، ومولده في شهر المحرم سنة 567 (1) ، وتوفي بإشبيلية ليلة الاثنين مستهلّ ربيع الآخر سنة 637 (2) ، وقال ابن زرقون: منسلخ شهر ربيع الأول، وحكى ذلك عن ولده أبي النور محمد بن أحمد، انتهى.
222 - ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد السلام، الغافقي، الإشبيلي، الشهير المسيلي (3) ، رحل حاجّاً، وقفل إلى بلده، وحدث عنه أبو بكر ابن خير بوفاة القاضي ابن أبي حبيب، وروى عن أبي محمد ابن أبي السعادات المروروذي الخراساني، وأنه أنشده بثغر الإسكندرية عند وداعه إياه، قال: أنشدني أبو تراب جندل (4) عند الوداع لبعضهم:
السمّ من ألسن الأفاعي أعذب من قبلة الوداع
ودّعتهم والدموع تجري لمّا دعا للوداع داعي
223 - ومنهم العباس - ويقال: أبو جعفر - أحمد بن معدّ بن عيسى
__________
(1) التكملة: سنة إحدى وستين وخمسمائة.
(2) ق: 638، وهو مخالف لما في التكملة.
(3) ترجمة المسيلي في التكملة: 60.
(4) التكملة: ابن جندل.(2/598)
ابن وكيل، التّجيبي، الزاهد ويعرف بابن الإقليشي (1) ، صاحب كتاب النجم من كلام سيد العرب والعجم، صلّى الله عليه وسلّم، عارض به شهاب القضاعي، وأصل أبيه من اقليش، وضبطها بعضهم بضم الهمزة، وسكن دانية وبها ولد ونشأ، سمع أباه أبا بكر وأبا العباس ابن عيسى، وتلمذ له، ورحل إلى بلنسية فأخذ العربية والآداب، عن أبي محمد البطليوسي، وسمع الحديث من صهره أبي الحسن طارق بن يعيش والحافظ أبي بكر ابن العربي وأبوي الوليد: ابن خيرة وابن الدباغ، ولقي بالمريّة أبا القاسم ابن ورد وأبا محمد عبد الحق بن عطية ووليّ الله سيدي أبا العباس ابن العريف، ورحل إلى المشرق سنة اثنتين وأربعين خمسمائة، وجاور بمكة سنين، وسمع بها من أبي الفتح الكروخي جامع الترمذي برباط أم خليفة العباسي سنة سبع وأربعين وخمسمائة، ثم كر راجعاً إلى المغرب فقبض في طريقه، وحدّث بالأندلس والمشرق، وكان عالماً، عاملاً، متصوفاً، شاعراً مجوّداً، مع التقدم في الصلاح والزهد والعزوف عن الدنيا وأهلها، والإقبال على العلم والعبادة، وله تصانيف: منها كتاب الغرر من كلام سيد البشر وكتاب ضياء الأولياء وهو أسفار عدة، وحمل الناس عنه معشّراته في الزهد، وكتبها الناس، وكان يضع يده على وجهه إذا قرأ القارئ فيبكي حتى يعجب الناس من بكائه، وكان الناس يدخلون عليه بيته والكتب عن يمينه وشماله، وقد وصف غير واحد إمامته وعلمه وورعه وزهده، وروى عنه أبو الحسين ابن كوثر وابن بيبش وغيرهما.
ومن شعره قوله (2) :
أسير الخطايا عند بابك واقف له عن طريق الحقّ قلب مخالف
__________
(1) ترجمة ابن معد الإقشيلي في التكملة: 60، وإنباه الرواة 1: 176، وأخبار وتراجم أندلسية: 24 وياقوت " اقليش ".
(2) الشعر في التكملة: 61.(2/599)
قديماً عصى عمداً وجهلاً غرّةً ولم ينهه قلبٌ من الله خائف
تزيد سنوه وهو يزداد ضلّةً فها هو في ليل الضّلالة عاكف
تطلّع صبح الشّيب والقلب مظلم فما طاف منه من سنى الحق طائف
ثلاثون عاماً قد تولّت كأنها حلومٌ تقضّت أو بروق خواطف
وجاء المشيب المنذر المرء أنه إذا رحلت عنه الشبيبة تالف
فيا أحمد الخوّان قد أدبر الصّبا وناداك من سن الكهولة هاتف
فهل أرّق الطرف الزمان الذي مضى وأبكاه ذنبٌ قد تقدّم سالف
فجد بالدموع الحمر حزناً وحسرةً فدمعك ينبي أنّ قلبك آسف
وقد وافق في أول هذه القطعة قول أبي الوليد ابن الفرضي، أو أخذه منه نقلاً، وتوفي في صدره عن المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في عشر الخمسين وخمسمائة، ودفن عند الجميزة التي في المقبرة التالية لسوق العرب، وقال ابن عياد: إنه توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين بعدها - رحمه الله تعالى - وقد نيّف على الستين.
224 - ومنهم أبو العباس أحمد بن عمر، المعافري، المرسي (1) ، وأصله من طلبيرة، ويعرف بابن إفرند (2) ، روى عن أبي الحسين الصفدي (3) وغيره كالقاضي الحافظ أبي بكر ابن العربي وأبي محمد الرشاطي وأي إسحاق ابن حبيش وغيرهم، وله رحلة حج فيها، ولقي أبا الفتح ابن الرندانقاني - بلدٍ بين سرخس ومرو - من أصحاب أبي حامد الغزالي، وأنشد عنه ممّا قاله في وداع إخوانه بالبيت المقدس:
لئن كان لي من بعد عودٌ إليكم قضيت لبانات الفؤاد لديكم
__________
(1) ترجمة أحمد بن عمر المعافري في التكملة: 72.
(2) التكملة: بابن افرندو.
(3) أكبر الظن أن هذا خطأ، ففي التكملة روى عن أبي علي ابن سكرة وهذا هو الصدفي.(2/600)
وإن تكن الأخرى ولم تك أوبةٌ وحان حمامي فالسلام عليكم
وقد روى هذين البيتين أبو عمر ابن عياد وابنه محمد عن ابن إفرند هذا، وكان صالحاً زاهداً متصوفاً، رحمه الله تعالى.
225 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن عميرة بن يحيى، الضبي (1) ، من أهل لورقة، رحل حاجّاً، وكان منقبضاً زاهداً صواماً قواماً، وأقرأ القرآن، وسمع الحديث، وممّن حدث عنه الحافظان أبو سليمان وأبو محمد ابن حوط الله، ولقيه أبو سليمان (2) بلورقة سنة 575، وتوفي رحمه الله تعالى سنة 577، وقد قارب المائة.
226 - ومنهم أبو عمر ابن عات، وهو أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي (3) ، من أهل شاطبة، سمع أباه وأبا الحسن ابن هذيل وأبا عبد الله ابن سعادة وابن حبيش وغير واحد وطائفة كثيرة، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة، وسمع أبا الطاهر السّلفي وأبا الطاهر ابن عوف وغيرهما ممّن يطول ذكره، وأجاز له أبو الفرج ابن الجوزي وغيره ممّن أخذ عنه وسمع منه، وقد ضمن ذكر أشياخه وجملة صالحة من مروياته عنهم برنامجيه اللذين سمى أحدهما بالنزهة في التعريف بشيوخ الوجهة وهو كتاب حافل جامع، والآخر بريحانة التنفس وراحة الأنفس في ذكر شيوخ الأندلس. قال ابن عبد الملك المراكشي في الصلة (4) : حدثنا عنه شيخنا أبو محمد بن علي بن
__________
(1) ترجمة أبي جعفر الضبي في التكملة: 79، والمقري ينقل عنها بإيجاز.
(2) يعني ابن حوط الله.
(3) ترجمة أبي عمر ابن عات في التكملة: 101 والنقل عنها باختصار وعن غيرها وخاصة الذيل والتكملة؛ وانظر الديباج: 59.
(4) الصواب: في الذيل والتكملة.(2/601)
القطان، وكان من أكابر المحدثين، وجلة الحفاظ (1) المسندين للحديث والآداب بلا مدافعة، يسرد الأسانيد والمتون ظاهراً فلا يخل بحفظ شيء منها، متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه ومعرفة المسائل، إذ لم يعن بذلك عنايته بغيره، فكان أهل شاطبة يفاخرون بأبوي عمر ابن عبد البر وابن عات، وكان على سنن السلف الصالح في الانقباض، ونزارة الكلام، ومتانة الدين، وأكل الحشف، ولزوم التقشف، والتقلل من الدنيا، والزهد فيها، والمثابرة على كثير من أفعال البر كالأذان والإمامة وبذل المعروف والتوسع بالصدقات على الضعفاء والمساكين.
وحكي أنه حضر في جماعة من طلبة العلم لسماع السّير على بعض شيوخهم، فغاب الكتاب أو القارئ بكتابه، فقال أبو عمر: أنا أقرأ لكم، فقرأ لهم من حفظه، وقال أبو عمر عامر بن نذير: لازمته مدة ستة أشهر، فلم أر أحفظ منه، وحضرت إسماع الموطإ وصحيح البخاري منه، فكان يقرأ من كل واحد من الكتابين نحو عشر أوراق عرضاً بلفظه كل يوم عقب صلاة الصبح، لا يتوقف في شيء من ذلك، انتهى.
وقال بعض المؤرخين (2) : إنه كان آخر (3) الحفاظ للحديث، يسرد المتون والأسانيد ظاهراً لا يخل بحفظ شيء منها، موصوفاً بالدراية والرواية، غالباً عليه الورع والزهد، على منهاج السلف، يلبس الخشن، ويأكل الحشف (4) ، وربما أذن في المساجد، وله تآليف دالة على سعة حفظه، مع حظ من النظم والنثر، وشهد وقيعة العقاب التي أفضت إلى خراب الأندلس بالدائرة على المسلمين فيها، وكانت السبب الأقوى في تحيّف الروم بلادها حتى استولت عليها، ففقد حينئذٍ ولم يوجد حيّاً ولا ميتاً، وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة تسع وستمائة،
__________
(1) دوزي: وجملة الحفاظ.
(2) هو ابن الأبار في التكملة.
(3) التكملة: أحد.
(4) التكملة: الجشب.(2/602)
ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، قاله ابن الأبار، وهو ممّن أجاز له المذكور فيما رواه أو ألفه، رحمه الله تعالى.
227 - ومنهم أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن أحمد بن حنون، البهراني (1) ، من ساكني إشبيلية، وأصله من لبلة، روى عن أبيه وابن الجد وابن زرقون وابن جهور وغيرهم من أعلام الأندلس، ثمّ رحل إلى المشرق، فسمع ببغداد من أبي حفص عمر بن طبرزد، ويخراسان من المؤيد الطوسي، وبهراة من أبي روح عبد المعز، وبمرو من عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني، ومن جماعة غير هؤلاء، وسمع أيضاً بدمشق من أبي الفضل الحرستاني وسواه، وبها توفي قبل العشرين وستمائة، فيما نقل ابن الأبار عن ابن نقطة، وقال غيره: إنه مات سنة خمس وعشرين وستمائة.
228 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد، المخزومي (2) ، من أهل قرطبة، ويعرف أبوه بكوزان (3) ، روى عن أبيه وغيره من مشيخة بلده، ورحل حاجّاً فلقي بالإسكندرية أبا الحسن ابن المقدسي وسمع منه، وأنشد نم لفظه بعض أصحاب ابن الأبار، قال: أنشدني شرف الدين أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي، قال: أنشدتني تقية (4) بنت غيث بن علي الأرمنازي لنفسها (5) :
لا خير في الخمر، على أنها مذكورة في صفة الجنّه
لأنها إن خامرت عاقلاً خامره في عقله جنّه
يخاف أن تقذفه من علٍ ... فلا تقي مهجته جنّه (6)
__________
(1) ترجمة أحمد بن تميم البهراني في التكملة: 112.
(2) ترجمة أحمد بن إبراهيم المخزومي في التكملة: 112.
(3) التكملة: بكوزاز.
(4) ق: بقية وكذلك في دوزي.
(5) زاد في ق: رحمها الله تعالى.
(6) ق: الجنة.(2/603)
229 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن عياش، الكناني، المرسي (1) ، سمع من ابن بشوال موطأ مالك رواية يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير بقراءة أبي محمد ابن حوط الله، ورحل إلى المشرق سنة تسع وسبعين وخمسمائة، فحج سنة ثمانين وبعدها، وأقام بالحجاز والشام مدة، ولقي أبا الطاهر الخشوعي بدمشق فسمع منه مقامات الحريري وأخذها الناس عنه، وممّا أفاد وزاد في قول الحريري:
إذا ما حويت جنى نخلة
الأبيات - قوله:
ولا تأسفنّ على خارج إذا ما لمحت سنا الداخل
ولا تكثر الصمت في معشر وإن زدت عيّاً على باقل
وسمع من أبي القاسم ابن عساكر السنن للبيهقي، ومن أبي حفص الميانشي جامع الترمذي، وقفل إلى الأندلس في سنة سبع وتسعين، وحدث بيسير، وكان يحسن عبارة الرؤيا، وكفّ بصره سنة ثمان وعشرين وستمائة أو نحوها، وتوفي على إثر ذلك، ومولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
230 - ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حصن بن أحمد بن حزم الغافقي (2) ، ويقال فيه: إبراهيم بن حصن بن عبد الله بن حصن، أندلسي، سكن دمشق، وولي الحسبة بها ويكنى أبا إسحاق، سمع ببغداد من أبي بكر ابن مالك القطيعي وطبقته، وبدمشق من عبد الوهاب الكلابي ويوسف بن القاسم الميانجي، وبمصر من أبي طاهر الذّهلي (3) وأبي أحمد الغطريفي، وله أيضاً سماع
__________
(1) ترجمة ابن عياش الكناني في التكملة: 118.
(2) ترجمة إبراهيم بن حصن في التكملة: 133 وتهذيب ابن عساكر 2: 222.
(3) التكملة: الذهبي.(2/604)
بالرملة وأطرابلس والدينور وغيرها من البلدان، وحدث بيسير؛ روى عنه أبو نصر عبد الوهاب بن عبد الله الجبّان من شيوخ عبد العزيز بن أحمد الكناني، وكان مالكياً، وقيل: إنه يذهب إلى الاعتزال، وكان صارماً في الحسبة، ووليها سنة خمس وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم العبيدي، وتوفي بدمشق في ذي الحجة سنة أربع وأربعمائة، قيل: ثاني عيد الأضحى، وقيل غير ذلك، ذكره ابن عساكر، رحمه الله تعالى.
قلت: ما سمعت بمالكي معتزلي غير هذا، ولعله كان مالكيّاً بالمغرب، فلمّا دخل في خدمة الشيعة حصل منه ما حصل من نسبته لمذهب الاعتزال، فالله تعالى أعلم.
231 - ومنهم أبو أمية إبراهيم بن منبه بن عمر بن أحمد، الغافقي (1) ، من أهل المرية، ونزل مرسية، سمع ببلده من ابن (2) شفيع، وأخذ عنه القراءات، ومن الحافظ ابن سكرة وابن زغيبة (3) وعبد القادر بن الحناط، وبقرطبة من ابن عتاب وابن طريف وأبي بحر الأسدي وابن مغيث وغيرهم، ورحل حاجّاً، فسمع بمكة من أبي عليّ ابن العرجاء أحاديث جعفر بن نسطور وغيرها في شعبان سنة ست وعشرين، وسمع أيضاً من أبي الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسي، وقفل إلى بلده، وانتقل بعد الحادثة عليه إلى مرسية، وولي القضاء والخطبة هنالك، وحدّث، وأخذ عنه، وكان فقيهاً مشاوراً، وقيل: إن ابن حبيش سمع منه الأحاديث النسطورية، وأسمع صحيح البخاري آخر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وكان يحدّث به عن سلطان بن إبراهيم عن كريمة المروزية، وحكى رحمه الله تعالى عن أبي ذرٍّ الهروي أنه قال عند موته: عليكم بكريمة فإنها تحمل
__________
(1) ترجمة إبراهيم بن منبه في التكملة: 149.
(2) ابن: سقطت من ق.
(3) كذا في التكملة؛ ق: ابن زغبية.(2/605)
كتاب البخاري من طريق أبي الهيثم، رحم الله تعالى الجميع.
232 - 233 - ومنهم أبو القاسم ابن فورتش، وهو إسماعيل بن يحيى ابن عبد الرحمن، السّرقسطي (1) ، وأخوه القاضي محمد بن يحيى، وكانا جميعاً زاهدين، لهما رحلة سمعا فيها من أبي ذر الهروي بمكة، وعادا إلى بلدهما، وولي محمد منهما القضاء، وقد لقيهما القاضي الحافظ أبو علي ابن سكرة ولم يسمع منهما، ويرويان عن أبي عمر الطلمنكي وأبي الحزم ابن أبي درهم، وتوفي أبو القاسم في نحو الخمسمائة.
234 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد بن عمر، القرشي، العلوي، الإشبيلي (2) ، رحل حاجّاً، ودخل العراق والموصل، وقيد الكثير ورواه، وسمع من أي حفص اليانشي بمكة سنة 570، وحدث بالموطإ عن أبي الحسن علي بن هابيل الأنصاري عن أبي الوليد الباجي، وحدث أيضاً عن غيره بما دل على أنه كان يخلط ولا يضبط، وكذلك قال أبو الصبر: كان له في الموطإ إسناد عالٍ جدّاً فتصفحته فوجدته ينقص منه رجل واحد (3) ، فاستربت في الرواية عنه بعد تحسين الظن به، ولم يتنبه أبو الصبر لأن ابن هابيل وغيره من شيوخه مجهولون، وأبو الصبر ممّن روى عن المذكور، وهو أبو الصبر السبتي، والله تعالى أعلم بحقيقة حال الرجل.
235 - ومنهم أبو الروح عيسى بن عبد الله بن محمد بن موسى بن محمد ابن عبد الله بن إبراهيم بن خليل، النفزي، الحميري، التاكرنّيّ.
قال في تاريخ إربل: كان شابّاً متأدباً فاضلاً، قدم مصر، وله شعر حسن، وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: أنشدنا المذكور لنفسه:
__________
(1) ترجمة ابن فورتش وأخيه محمد بن يحيى في التكملة: 182.
(2) ترجمة أبي الطاهر العلوي في التكملة: 185 وفيها: إسماعيل بن عمر بن أحمد.
(3) التكملة: رجلاً واحد.(2/606)
يا قلب ما لك لا تفيق من الهوى أوما يقرّ بك الزمان قرار
ألكلّ ذي وجه جميل حنّة ولكلّ عهد سالف تذكار
وله:
يا رب أضحية وسوداء حالكة لم ترع في البيد إلاّ الشمس والقمرا
تخال باطنها في اللون ظاهرها فهي الغداة كزنجيٍّ إذا كفرا
ولد سنة 590 بتاكرنّا من بلاد الأندلس، وهي من نظر قرطبة، وتوفي بأرزن من ديار بكر سنة 629، عائداً من آمد، رحمه الله تعالى.
ومن بديع شعره:
إن أودع الطرس ما وشّاه خاطره أبدى لعينيك أزهاراً وأشجارا
وإن تهدّد فيه أو يعد كرماً بثّ البريّة آجالاً وأعمارا
وتاكرنا - بضم الكاف والراء وتخفيفها، وشد النون - وورد المذكور إربل سنة سبع وعشرين وستمائة، وله أبيات أجاز فيها قول شرف الدين عمر بن الفارض في غلام اسمه بركات، قال الأسدي الدمشقي، ومن خطه نقلت: كنت حاضر هذه الوقعة بالقاهرة بالجامع الأزهر، إذ قال ابن الفارض:
بركات يحي البدر عند تمامه حاشاه بل شمس الضحى تحكيه
فقال أبو الروح، وأنشدني ذلك:
هذا الكمال فقل لمن قد عابه حسداً وآية كل شيء فيه
لم تذو إحدى زهرتيه، وإنما كملت بذاك ملاحة التشبيه
وكأنّه قد رام يغلق جفنه ليصيب بالسهم الذي يرميه
وقال ابن المستوفي في تاريخ إربل: أنشدني أبو الروح لنفسه:(2/607)
أوصيت قلبي أن يفرّ عن الصّبا ظنّاً بأني قد دعوت سميعا
فأجابني لا تخش مني بعدها أفلتّ من شرك الغرام وقوعا
حتى إذا نادى الحبيب رأيته آوى إليه ملبياً ومطيعا
كذبالةٍ أخمدتها فإذا دنا منها الضرام تعلّقته سريعا
قال: وأنشدني:
وزائرٍ زارني والليل معتكرٌ والطّيب يفضحه والحي يشهره
أمسكت قلبي عنه وهو مضطربٌ والشوق يبعثه والصّون يزجره
فبتّ أصدى إلى من لا يحّلئني والورد صافٍ ولا شيء يكدره
تراه عيني وكفّي لا تلامسه حتى كأنّي في المرآة أنظره
قال: وأنشدني الإمام أبو عمرو ابن غياث الشريشي لنفسه رحمه الله تعالى:
صبوت وهل عارٌ على الحرّ إن صبا وقيد ثغر الأربعين إلى الصّبا
وقالوا مشيبٌ قلت واعجبا لكم أينكر صبحٌ قد تخلل غيهبا
وليس مشيباً ما ترون، وإنما كميت الصّبا لمّا جرى عاد أشهبا
وتوفي أبو عمرو (1) سنة 620، عن تسعين سنة.
قال ابن المستوفي: وأنشدني المذكور قال: أنشدني أبو عمرو أيضاً لنفسه:
أودع فؤادي حسرة (2) أو دع ... نفسك تؤذى أنت في أضلعي أمسك سهام اللحظ أو فارمها أنت بما ترمي تصابٌ معي
موقعها القلب وأنت الذي مسكنه في ذلك الموضع
قال: وأنشدني قال: أنشدني مطرف الغرناطي:
__________
(1) ق: عمران.
(2) دوزي: حرقاً.(2/608)
أنا صبٌّ كما تشاء وتهوى شاعر ماجد كريم جواد
سنّة سنّها قديماً جميل وأتى المحدثون مثلي فزادوا
قال: وأنشدني أيضاً المطرف:
وفي فروع الأيك ورقٌ إذا بلّ الندى أعطافها تسجع
أو هزّها نفح نسيم الصّبا شاقك منها غرّدٌ شرّع
كأنما ريطتها منيرٌ وهي خطيبٌ فوقه مصقع
إن شبّها في طرفٍ لوعة جرى لها في طرفٍ مدمع
أخذه من قول عبد الوهاب بن علي المالقي الخطيب:
كأن فؤادي وطرفي معاً هما طرفا غصنٍ أخضر
إذا اشتعل النار في جانبٍ جرى الماء في الجانب الآخر
علي بن أحمد الحميري
من المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الإمام النحوي اللغوي نور الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن حمدون، الحميري، الأندلسي، المالقي.
قال شرف الدين الصابوني: أنشدنا المذكور لنفسه سنة 667:
فؤادلإ بأيدي النائبات مصاب وجفن لفيض الدمع فيه مصاب
تناءت ديارٌ قد ألفت وجيرةٌ فهل لي عهد الوصال إياب
وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى ودون مرادي أبحرٌ وهضاب
مضى زمني والشيب حلّ بمفرقي وأبعد شيء أن يردّ شباب
إذا مرّ عمر المرء ليس براجع وإن حلّ شيبٌ لم يفده خضاب
فحلّ حمام الشيب في فرق لمتي وقد طار عنها للشباب غراب
وكم عظةٍ لي في الزمان وأهله وبين فؤادي والقبول حجاب(2/609)
فدع شهوات النفس عنك بمعزل فعذب الليالي مقتضاه عذاب
وسلّ فؤاداً عن ربابٍ وزينبٍ فما القصد منها زينبٌ ورباب
وأنوي متاباً ثمّ أنقض نيّتي فربع صلاحي الفساد خراب
أقر بتقصيري وأطمع في الرضى وما القصد إلاّ مرجعٌ ومتاب
ويعتبني في العجر خلٌّ وصاحبٌ وهل نافعٌ في الجامدات عتاب
أطهّر أثوابي وقلبي مدنّسٌ وأزعم صدقاً والمقال كذاب
وفارقت من غرب البلاد مواطناً فسقى ربى غرب البلاد سحاب
فبالقلب من نار التشوق حرقةٌ وبالعين من فيض الدموع عباب
وما بلغ المملوك قصداً ولا منىً ولا حطً عن وجه المراد نقاب
وأخشى سهام الموت تفجأ غفلةً وما سار بي نحو الرسول ركاب
وقلبي معمورٌ بحبّ محمّدٍ فما لي في غير الحجاز طلاب
يحنّ إلى أوطانه كلّ مسلمٍ فقدّس منها منزلٌ وجناب
فأسعد أيامي إذا قبل هذه منازل من وادي الحمى وقباب
فجسمي في مصر وروحي بطيبةٍ فللروح عن جسمي هناك مناب
على مثل هذا العجز والعمر منقضٍ تشقّ قلوبٌ لا تشقّ ثياب
وأرجو ثواباً بامتداحي محمّداً وما كلّ مثنٍ في الزمان يثاب
به أخمدت من قبل نيران فارسٍ وحقق من ظبي الفلاة خطاب
وكم قد سقى من كفّه الجيش فارتووا وكم قد شفى منه العيون رضاب
أجيب لما يختار في حضرة العلا وما كلّ خلقٍ حيث قال يجاب
فلم تلهه دنياه عن خوف ربه ولا شغلته عن رضاه كعاب
محمدٌ المختار أعلى الورى ندىً وأكرم مبعوثٍ أتاه كتاب
أتحسب أن تحصى بعدٍّ صفاته وهيهات ما يحصي علاه حساب
ثناء رسول الله خير ذخيرة وقد ذلّ جبّارٌ وخيف عقاب
وقد نصب الميزان والله حاكمٌ وذلّت لأحكام الإله رقاب(2/610)
فكلّ ثناءٍ واجبٌ لصفاته فما مدح مخلوقٍ سواه صواب
إليك رسول الله أنهي مدائحي وإنّ رجائي راحةٌ وثواب
إذا قيل من تعني بمدحك كلّه فأنت إذا خبرت عنه جواب
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضاب
فأنت أجلّ العالمين مكانةً وأكرم مدفونٍ حواه تراب
وله يرثي العز بن عبد السلام:
أمد الحياة كما علمت قصير وعليك نقّادٌ بها وبصير
عجباً لمغترٍّ بدار فنائه وله إلى دار البقاء مصير
فسليمها للنائبات معرّضٌ وعزيزها بيد الردى مقهور
أيظنّ أن العمر ممدودٌ له والعمر فيه على الردى مقصور
وهي طويلة، ولم يحضرني سوى ما ذكرته.
عبد البر بن فرسان الغسّاني
عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الرحمن، الغسّاني، الوادي آشي، أبو محمد (1)
وله أخبار كثيرة في الحماسة وعلوّ الهمة. ومن نظمه لما تعمم مخدومه ابن غانية (2) بعمامة بيضاء ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء:
فديتك بالنّفس التي قد ملكتها بما أنت موليها من الكرم الغضّ
تردّيت للحسن الحقيقي بهجةً فصار لها الكليّ في ذاك كالبعض
ولمّا تلالا نور غرّتك التي تقسّم في طول البلاد وفي عرض
__________
(1) ترجمة ابن فرسان الوادي آشي في المغرب 2: 142، والمقتضب من تحفة القادم: 115، وكانت وفاة ابن فرسان سنة 611.
(2) هو أبو زكريا بن إسحاق بن غانية أحد الثائرين على الموحدين أيام منصور بني عبد المؤمن، وفي المغرب: أبو الحسن ابن غانية وهو أخو يحيى.(2/611)
تلفّعتها (1) خضراء أحسن ناظرٍ ... نبت عنك إجلالاً وذاك من الفرض وأسدلت حمراء الملابس فوقها بمفرق تاج المجد والشرف المحض
فأصبحت بدراً طالعاً في غمامةٍ على شفقٍ دانٍ إلى خضرة الأرض
وقال رحمه الله تعالى:
أجبناً ورمحي ناصري وحسامي وعجزاً وعزمي قائدي وإمامي
ولي منك بطّاش اليدين غضنفرٌ يحارب عن أشباله ويحامي
وقال رحمه الله تعالى لما أسنّ يستأذن مخدومه في الحج والزيارة (2) :
امنن بتسريحٍ عليّ فعلّه سبب الزيارة للحطيم ويثرب
ولئن تقوّل كاشحٌ أنّ الهوى درست معالمه وأنكر مذهبي
فمقالتي ما إن مللت وإنما ... عمري أبى حمل النّجاد ومنكبي (3) وعجزت عن أن أستثير كمينها وأشقّ بالصمصام صدر الموكب
وقال رحمه الله تعالى، ولا خفاء ببراعته (4) :
ندىً مخضلاً ذاك الجناح المنمنما وسقياً وإن لم تشك يا ساجعاً ظما
أعدهنّ ألحاناً على سمع معربٍ يطارح مرتاحاً على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفّهاً مسوّغ أشتات الحبوب منعّما
مخلّىً وأفراخاً بوكرك نوّماً ألا ليت أفراخي معي كنّ نوّما
وقال رحمه الله تعالى (5) :
__________
(1) دوزي: تلفقتها.
(2) الأبيات في المغرب.
(3) المغرب: بمنكبي.
(4) الأبيات في التحفة.
(5) الأبيات في التحفة.(2/612)
كفى حزناً أنّ الرماح (1) صقيلةٌ ... وأنّ الشّبا رهن الصدى بدمائه أنّ بياذيق الجوانب فرزنت ولم يعد رخّ الدّست بيت بنائه
وكان - رحمه الله تعالى - من جلّة الأدباء، وفحول الشعراء، وبرعة الكتّاب، كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق (2) بن محمد بن علي السوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم، وكان منقطعاً إليه، وممّن صحبه في حركاته، وكان آيةً في بعد الهمة، والذهاب بنفسه، والغناء في مواقف الحرب، والجنسية علة الضم، إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضاً، ووجّه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق، وقد طال العراك، وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [إلى أن يباكروها من الغد، فلمّا بلغ الصدر اشتدّ على الناس] (3) وذمر أرباب الحفيظة، وأنهى إليهم العزم من أميره في الحملة، فانهزم عدوّهم شرّ هزيمة، ولم يعد أبو محمد إلاّ في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة، فقال له الأمير: وما حملك على ما صنعت فقال: الذي عملت هو شأني، وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحه فانظر غيري.
وتشاجر له ولد صغير مع تربٍ له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير، وقال: وما قدر أبيك فلمّا بلغ ذلك أباه خرج مغضباً لحينه، ولقي ولد الأمير الخاطب لولده فقال: حفظك الله تعالى، لست أشكّ في أني خديم أبيك، ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك، اعلم أن أباك وجّهني رسولاً إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه، فلمّا بلغت بغداد أنزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر، وأجري عليّ سبعة دراهم في
__________
(1) التحفة: الزجاج.
(2) إسحاق: سقطت من ق.
(3) ما بين قوسين ساقط من ق ودوزي.(2/613)
اليوم، وطولع بكتابي، وقيل: من الميرقي الذي وجّهه فقال بعض الحاضرين: هو رضا مغربي ثائر على أستاذه، فأقمت شهراً، ثم استدعيت، فلمّا دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي، وقالوا للخليفة: هذا رجل جهل مقداره، فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهماً، وأجري عليّ مثلها في اليوم، ثم استدعيت فودعت الخليفة، واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته، وانصرفت إلى أبيك، فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار، والثانية كانت على قدري؛ وترجمته رحمه الله متسعة.
238 - ومنهم عبد المنعم بن عمر الغساني، الوادي آشي (1) ، المؤلف، الرحالة، المتجول ببلاد المشرق سائحاً، صاحب المؤلفات الكثيرة التي منها جامع أنماط السائل في العروض (2) والخطب والرسائل.
ومن نظمه قوله رحمه الله:
ألا إنما الدنيا بحارٌ تلاطمت فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من لاقيت يغرق إلفه وقلّ فتىً ينجي من الغمرات
توفي سنة 603، رحمه الله تعالى.
239 - ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن محمد، القرطبي، الخزرجي، كان إماماً في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب، وله تآليف حسان، وشعر رائق، فمنه قوله رحمه الله تعالى:
__________
(1) ترجمة عبد المنعم بن عمر الغساني في الذيل والتكملة 5: 57 والتكملة رقم: 1815، وصلة الصلة: 15، وتحفة القادم: 90، وفوات الوفيات رقم 263، وابن أبي أصيبعة 2: 157 وهو الجلياني لأن جليانة من عمل وادي آش.
(2) الذيل والتكملة: في القريض.(2/614)
وفي الوجنات ما في الروض لكن لرونق زهرها معنىً عجيب
وأعجب ما التّعجّب عنه أني أرى البستان يحمله قضيب
وتوفي رحمه الله تعالى سنة 601.
240 - ومنهم أبو العباس القرطبي (1) ، صاحب المفهم في شرح مسلم، وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري، المالكي، الفقيه، المحدث، المدرس، الشاهد بالإسكندرية.
ولد بقرطبة سنة 578، وسمع الكثير هنالك، ثمّ انتقل إلى المشرق، واشتهر وطار صيته، وأخذ الناس عنه، وانتفعوا بكتبه، وقدم مصر، وحدث بها، واختصر الصحيحين، وكان بارعاً في الفقه والعربية، وعارفاً بالحديث، وممّن أخذ عنه القرطبي صاحب التذكرة، ومن تصانيفه رحمه الله تعالى المفهم في شرح مسلم وهو من أجلّ الكتب، ويكفيه شرفاً اعتماد الإمام النووي، رحمه الله تعالى، عليه في كثير من المواضع، وفيه أشياء حسنة مفيدة، ومنها اختصاره للصحيحين كما مر، وله غير ذلك وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية رابع ذي القعدة سنة 656 (2) ، وكان يعرف في بلاده باب المزين، وله كتاب كشف القناع عن الوجد والسماع أجاد فيه وأحسن، وكان يشتغل أولاً بالمعقول، وله اقتدار على توجيه المعاني بالاحتمال.
قال الشيخ شرف الدين الدمياطي: أخذت عنه، وأجاز لي مصنفاته، رحمه الله تعالى، وحدث بالإسكندرية وغيرها، وصنف غير ما ذكرناه، وكان إماماً عالماً جامعاً لمعرفة الحديث والفقه والعربية وغيرها.
__________
(1) ترجمة أبي العباس القرطبي في الديباج: 68، قال: وتوفي بالإسكندرية في ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة، وفي كتاب الذيل والتكملة لقاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد الملك المراكشي أنه توفي سنة ست وخمسين فانظره.
(2) ق: 650.(2/615)
241 - ومنهم العارف الكبير، الولي الصالح الشهير، أبو أحمد جعفر ابن عبد الله بن محمد بن سيد بونه، الخزاعي، الأندلسي (1) ، أحد الأعلام المنقطعين القربين أولي الهداية، كان - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - كثير الأتباع، بعيد الصيت، فذّاً شهيراً.
قال الحافظ ابن الزبير: هو أحد الأعلام المشاهير فضلاً وصلاحاً، قرأ ببلنسية وتفقه، وحفظ نصف المدوّنة، وأقرأها، وكان يؤثر التفسير والحديث في رحلته من الأندلس جلّةً أكبرهم الولي الكبير سيدي أبو مدين شعيب، أفاض الله تعالى علينا من أنواره، وانتفع به، ورجع عنه بعجائب، فشهر بالعبادة، وتبرك الناس به، فظهرت عليه بركته، توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة 624، وعاش نيّفاً وثمانين سنة.
وله ترجمة في الإحاطة ملخصها ما ذكرناه.
242 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب، الخزرجي، الأنصاري، الشاطبي (2) ، الفقيه، القاضي، الصّدر، التفنن، المحصل، المجيد، له علم محكم، وعقد صحيح مبرم، رحل إلى المشرق وحج، وكانت رحلته بعد تحصيله فزاد فضلاً إلى فضل، ونبلاً إلى نبل، وكان متثباً في فقهه، لا يستحضر من النقل الكثير، ولكنه يستحضر ما يحتاج إليه، وكان له علم بالعربية وأصول الفقه، ومشاركة في أصول الدين، له شرح على الجزولية، وكان أبوه قاضياً، وبيتهم بيت قضاء وعلم وسؤدد متوارث ومجد مكسوب ومنسوب؛ ثم ولي قضاء بجاية، فكان في قضائه على سنن الفضلاء وطريق الأولياء العقلاء بالحق مع
__________
(1) ترجمة ابن سيد يونه في الإحاطة 1: 291 (ط. السلفية)
(2) ترجمة محمد بن عبد الرحمن الخزرجي الشاطبي في عنوان الدراية: 67، وقد كانت وفاته عام 691.(2/616)
الصدق، معارضاً للولاة، وكان يرى أن لا يقدم الشهود إلاّ عند الحاجة، وأما إن حصل من تحصل به الكفاية فلا يقدم غيره، ويرى أن الكثرة مفسدة، وقد طلب منه الملك أن يقدم رجلاً من أهل بجاية، فقال له مشافهة: إن شئتم قدمتموه وأخرتموني؛ وكان إذا جرى الأمر في مجرى الشهادة وما قاله القاضي ابن العربي أبو بكر وغيره من أنها قبول قول الغير على الغير بغير دليل يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلاّ الآحاد الذين تبين فضلهم في الوجود؛ وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي صحيفة من يقدمه من باب قوله عليه الصلاة والسلام " من سن سنة حسنة، ومن سن سنة سيئة " وقد سئل (1) : من أولياء الله فقال: " شهود القاضي، لأنهم لا يأتون كبيرة، ولا يواظبون على صغيرة "، وإن كانت الشهادة على هذه الصفة فلا شيء أجلّ منها، وإن كانت خطة لا صفة فلا شيء أخس منها، ولما كانت واقعة بني مرين (2) بطنجة عرض عليه أهلها أن يتقدم وأن يبايعوه، فقال: والله لا أفسد ديني. ولما توفي عجز القاضي الذي تولى بعده عن سلوك منحاه، واقتفاء سننه الذي اقتفاه، قال هذا كله بمعناه وبعضه بحروفه الغبرينيّ في عنوان الدراية في علماء بجاية.
243 - ومنهم محمد بن يحيى الأندلسي، اللّبسي - بلام فموحدة فسين - قاضي القضاة (3) ، أخذ عن الحافظ ابن حجر، ونوّه به عند الأشرف، حتى ولاه قضاء المالكية بحماة، وسار سيرة السلف الصالح، ثم حنق على نائبها في بعض الأمور، وسافر إلى حلب مظهراً إرادة السماع على حافظها البرهان.
ووصفه ابن حجر في بعض مجاميعه بقوله: الشيخ الإمام العالم العلاّمة في الفنون، قاضي الجماعة. وقال إنه إنسان حسن إمام في علوم منها الفقه
__________
(1) عنوان الدراية: وقد سئل الجنيد.
(2) كذا هو في ق وعنوان الدراية؛ وفي دوزي: مزين.
(3) ترجمة محمد بن يحيى اللبسي في الضوء اللامع.(2/617)
والنحو وأصول الدين، يستحضر علوماً كأنها بين عينيه، ووصفه أيضاً بعلامة دهره، وخلاصة عصره، وعين زمانه، وإنسان أوانه، جامع العلوم، وفريد كل منثور ومنظوم، قاضي القضاة، لا زالت رايات الإسلام به منصورة، وأعلام الإيمان به منشورة، ووجوه الحكام الشرعية بحسن نظره محبورة، ولد سنة 806، وتوفي ببرسّا من بلاد الروم أواخر شعبان سنة 884 (1) ، قاله السخاوي في الضوء اللامع.
244 - ومنهم الوزير الشهير أبو عبد الله ابن الحكيم، الرندي، ذو الوزارتين (2) ، رحل إلى مصر والحجاز والشام، وأخذ الحديث عن جماعة، وقد ترجمناه في باب مشيخة لسان الدين عند تعرضنا لذكر ابنه الشيخ أبي بكر ابن الحكيم، ولا بأس أن نزيد هنا ما ليس هنالك، فنقول (3) : إن من مشايخه برندة الشيخ الأستاذ النحوي أبا الحسن علي بن يوسف العبدري السفاح، أخذ عنه العربية، وقرأ عليه القرآن بالروايات السبع، وأخذ عن الخطيب بها أبي القاسم ابن الأيسر، وأخذ - رحمه الله تعالى - عن جملة من أعلام الأندلس، وأخذ في رحلته عن الجلّ الذين يضيق عن أمثالهم الحصر، فمن شيوخه الحافظ أبو اليمن ابن عساكر، لقيه بالحرم الشريف، وانتفع به، وأكثر من الرواية عنه، والشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني المعروف بابن هبة الله، والشيخ الشرف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري - جزائر المغرب نزيل بغداد والشيخ الصفاء خليل بن أبي بكر الحنبلي، لقيه بالقاهرة، والشيخ رضي الدين أبو بكر القسمطيني، والشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث وحافظها ومؤرخها،
__________
(1) ق: 840.
(2) ستجيء له ترجمة أخرى في النفح نشير فيها إلى مصادر ترجمته.
(3) انظر الإحاطة 2: 280، فالمقري يلخص ترجمة ابن الحكيم عنها.(2/618)
والشهاب ابن الخيمي، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها:
يا مطلباً ليس لي في غيره أرب إليك آل التقصّي وانتهى الطلب
وفيها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه:
يا بارقاً بأعالي الرّقمتين بدا لقد حكيت ولكن فتك الشّنب
والشيخ جمال الدين أبو صادق محمد بن يحيى القرشي، ومن تخريجه الأربعون المروية بالأسانيد المصرية وسمع الحلبيات من ابن العماد الحراني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة (1) ، ومولده سنة 598، وزينب بنت الإمام أبي محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، وتكنى أم الفضل، وسمعت من أبيها. ومن أشياخ ذي الوزارتين بن الحكيم المذكور الملك الأوحد يعقوب ابن الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، والشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن طرخان وأخوه محمد بن سليمان، في طائفة كبيرة من مشايخ مصر والشام والعراق وغيرها من البلاد يطول تعدادهم، وأخذ ببجاية عن خطيبها أبي عبد الله ابن رحيمة الكناني، وبتونس عن قاضيها أبي العباس ابن الغماز البلنسي وأخذ العربية عن قدوة النحاة أبي الحسين عبد الله (2) بن أحمد ابن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي.
ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور قوله (3) :
هل إلى ردّ عشيّات الوصال سببٌ أم ذلك من ضرب المحال
حالة يسري بها الوهم إلى أنها تثبت برءاً باعتلال
وليالٍ ما تبقّى بعدها غير أشواقي إلى تلك الليالي
__________
(1) دوزي: الجيزة.
(2) هكذا في ق ودوزي: الإحاطة: عبيد الله.
(3) الشعر في الإحاطة 2: 289، وهي قصيدة رفعها إلى السلطان ببلدة رندة وهو إذ ذاك فتى.(2/619)
إذ مجال الوصل (1) فيها مسرحي ... ونعيمي آمرٌ فيها ووال ولحالات التراضي جولةٌ مرحت بين قبولٍ واقتبال
فبوادي الخيف خزفي مسعدٌ وبأكناف منىً أسنى موال
ولست أنسى الأنس فيها أبداً لا ولا بالعذل في ذاك أبالي
وغزالٍ قد بدا لي وجهه فرأيت البدر في حال الكمال
ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلاّ على خصل (2) اعتدال خصّ بالحسن فما أنتترى بعده للناس حظّاً في الجمال
من تسلّى عن هواه فأنا بسواه عن هواه غير سال
فلئن أتعبني حبّي له فلكم نلت به أنعم حال
إذ لآلي جيده من قبلي ووشاحاه يميني وشمالي
خلّف النوم لي السّهد به وترامى الشخص لا طيف الخيال
فتداوى بلمساه ظمإي مزجك الصهباء بالماء الزلال
أو إرشادات بناء الملك الأو حد الأسمى الهمام المتعالي
ملكٌ إن قلت فيه ملكاً لم تكن إلاّ محقاً في المقال
أيّد الإسلام بالعدل فما إن ترى رسماً لأصحاب الضلال
ذو أيادٍ شملت كلّ الورى ومعالٍ يا لها خير معال
همّةٌ هامت بأحوال التّقى وصفاتٌ بالجلالات حوال
وقف النّفس على إجهادها بين صومٍ وصلاةٍ ونوال
وهي طويلة ومنها:
أيها المولى الذي نعماؤه (3) ... أعجزت عن شكرها كنه المقال
__________
(1) الإحاطة: الليل.
(2) الإحاطة: فضل.
(3) ق ودوزي: نعماكم؛ وفي الإحاطة: نعماؤه.(2/620)
ها أنا أنشدكم مهنئاً من بديع النظم بالسحر الحلال
فأنا العبد الذي حبّكم لم يزل والله في قلبي وبالي
أورقت روضة آمالي بكم ... مذ تولاّها الرّباب المتوالي (1)
[واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهي ما أذخره من كنز مال] (2) ومنها:
يا أمير المسلمين هذه خدمتي تنبئ عن صادق حال
هي بنت ساعةٍ أو ليلةٍ سهلّت بالحبّ في ذاك الجلال
ما عليها إذ أجادت مدحها من بعيد الفهم يلغيها وقال
فهي في تأدية الشكر لكم أبداً بين احتفاء واحتفال
وكتب رحمه الله تعالى يخاطب أهله من مدينة تونس (3) :
حيّ حيّي بالله يا ريح نجد وتحمّل عظيم شوقي ووجدي
وإذا ما بثثت حالي فبلّغ من سلامي لم على قدر ودّي
ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... قد (4) نسوني على تطاول بعدي بي شوقٌ إليهم ليس يغزى لجميلٍ ولا لسكان نجد
يا نسيم الصّبا إذا جئت قوماً ملئت أرضهم بشيحٍ ورند
فتلطّف عند المرور عليهم وحقوقاً لهم عليّ فأدّ
قل لهم قد غدوت من وجدهم في حال شوقٍ لكلّ رندٍ وزند
وإن استفسروا حديثي فإنّي باعتناء الإله بلّغت قصدي
__________
(1) الإحاطة: الكبير المتعالي.
(2) سقط البيت من ق ودوزي ولم يرد في الإحاطة.
(3) الأبيات في الإحاطة 2: 291.
(4) كذا في ق ودوزي؛ الإحاطة: هم.(2/621)
فلله الحمد إذ حباني بلطفٍ عنده قلّ كلّ شكرٍ وحمد
وافتتح مخاطبته لأخيه الأكبر أي إسحاق إبراهيم بقصيدة أولها (1) :
ذكر اللّوى شوقاً إلى أقماره فقضى أسىً أو كاد من تذكاره
وعلا زفير حريق نار ضلوعه فرمى على وجناته بشراره
يا عاذليه أقصروا فلشدّما (2) ... أفضى عتابكم إلى إضراره إن لم تعينوه على برجائه لا تنكروا بالله خلع عذاره
ما كان أكتمه لأسرار الهوى لو أنّ جند الصّبر من أنصاره
ما ذنبه والبين قطّع قلبه أسفاً وأذكى النار في أعشاره
بخل اللّوى بالساكنيه وطيفهم وحديثه ونسيمه ومزاره
يا برق خذ دمعي وعرّج باللوى فاسفحه في باناته وعراره
وإذا لقيت بها الذي بإخائه ألقى خطوب الدهر أو بجواره
فاقر السلام عليه قدر محبتي فيه وترفيعي إلى مقداره
والمم بسائر إخوتي وقرابتي من لم أكن لجوارهم بالكاره
ما منهم إلاّ أخٌ أو سيدٌ أبداً أرى دأبي على إكباره
فابثث لذاك الحيّ أنّ أخاهم في حفظ عهدهم على استبصاره
وقال رحمه الله تعالى في غرض كلفه سلطانه القول فيه (3) :
ألا واصل مواصلة العقار ودع عنك التخلّق بالوقار
__________
(1) الإحاطة: 292.
(2) الإحاطة: فلربما.
(3) الأبيات في الإحاطة 292 - 293.(2/622)
وقم واخلع عذارك في غزالٍ يحقّ لمثله خلع العذار
قضيبٌ مائسٌ من فوق دعصٍ تعمّم بالدجى فوق النّهار
ولاح بخدّه ألفٌ ولامٌ فصار معرّفاً بين الدراري
رماني قاسمٌ والسين صادٌ بأشفارٍ تنوب عن الشّفار
وقد قسمت محاسن وجنتيه على ضدين من ماء ونار
فذاك الماء من دمعي عليه وتلك النار من فرط استعاري
عجبت له أقام بربع قلبي على ما شبّ فيه من الأوار
ألفت الحبّ حتى صار طبعاً فما أحتاج فيه إلى ادّكار
فما لي عن مذاهبه ذهابٌ وهذا فيه أشعاري شعاري
وقال العلامة ابن رشيد في " ملء العيبة " (1) : لما قدمنا المدينة سنة 684 كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله ابن أبي القاسم ابن الحكيم، وكان أرمد، فلمّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتساباً لتلك الآثار، وإعظاماً لمن حل تلك الديار، فأحسّ بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله:
ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا بيثرب أعلاماً أثرن لنا الحبّا
وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا شفينا فلا بأساً تخاف ولا كربا
وحين تبدّى للعيون جمالها ومن بعدها عنّا أديلت لنا قربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً لمن حلّ فيها أن نلمّ به ركبا
نسحّ سجال الدمع في عرصاتها ونلثم من حبٍّ لواطئه التربا
وإنّ بقائي دونه لخسارةٌ ولو أن كفّي تملأ الشرق والغربا
فيا عجبا ممّن يحبّ بزعمه يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا
__________
(1) لا يزال النقل مستمراً عن الإحاطة: 293.(2/623)
وزلاّت مثلي لا تعدّد كثرةً وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
انتهى.
وخط الوزير ابن الحكيم في غاية الحسن، وقد رأيته مراراً، وملكت بعض كتبه، ونثره - رحمه الله تعالى - أعلى من شعره كما نبّه عليه لسان الدين في الإحاطة.
ومن نثره في رسالة طويلة كتبها عن سلطانه، ما صورته (1) : وقد تقرر عند الخاص والعام، من أهل الإسلام، واشتهر في آفاق الأقطار، اشتهار الصباح في سواد الظلام، أنّا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا، ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لعرض الدنيا، وأنّا ما قصرنا في الاستنفار والاستنصار (2) ، ولا أقصرنا عن الاعتضاد بكل من أملنا معاملته والاستظهار (3) ، ولا اكتفينا بمطوّلات الرسائل وبنات الأفكار، حتى اقتحمنا بنفسنا لجج البحار، فسمحنا بالطارف من أموالنا والتّلاد، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد، واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد، فلم يكن بين تلبية المدعوّ وزهده، ولا بين قبوله وردّه إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد، ويأبى الله أن يكل نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه، ولا يجعل فيها شيئاً (4) إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه، ولمّا أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مناويه، وبقي المسلمون يتوقّعون حادثاً ساءت ظنونهم لمباديه (5) ، ألقينا
__________
(1) انظر هذه الرسالة في الإحاطة: 297، وما بعدها.
(2) الإحاطة: في الاستنصار والاستنفار.
(3) ق: من الاستظهار.
(4) الإحاطة: وأن يجعل فيها شيئاً؛ ق ودوزي: ولا يجعل فيها سبباً.
(5) وبقي ... لمباديه: سقط من ق.(2/624)
إلى الثقة بالله تعالى يد الاستسلام، وشمّرنا عن ساعد الجدّ (1) في جهاد عبدة الأصنام، وأخذنا بمقتضى قوله تعالى: " وأنفقوا في سبيل الله " أخذ الاعتزام، فأمدّنا الله تعالى في ذلك بتوالي البشائر، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قود العساكر، ونفلنا على أيدي قوّادنا ورجالنا من السّبايا والغنائم ما غدا ذكره في الآفاق كالمثل السائر " وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها " وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر، وحين أبدت لنا العناية الربانية وجوه الفتح سافرة المحيا، وانتشقنا نسائم النصر (2) الممنوح عبقة الرّيّا، استخرنا الله تعالى في الغزو بنفسنا (3) ونعم المستخار، وكتبنا بما قد علمتم (4) إلى ما قرب من أعمالنا بالحضّ على الجهاد والاستنفار، وحين وافى من خفّ للجهاد من الأجناد والمطّوعين، وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين، خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل، وعناية الله تعالى بهذه الفئة المفردة من المسلمين تقضي بتقريب البعيد من آمالنا وتكثير القليل، ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادّة الرضى والقبول، وأن يرشدنا إلى طريق تفضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول.
وهذه رسالة طويلة سقنا بعضها كالعنوان لسائرها.
ونال ابن الحكيم - رحمه الله تعالى - من الرياسة والتحكّم في الدولة ما صار كالمثل السائر، وخدمته العلماء الأكابر (5) ، كابن خميس وغيره، وأفاض عليهم سجال خيره، ثم ردت الأيام منه ما وهبت، وانقضت أيامه كأن لم تكن وذهبت، وقتل يوم خلع سلطانه، ومثّل به سنة 708، رحمه الله تعالى،
__________
(1) الإحاطة: الجد والاجتهاد.
(2) الإحاطة: من النصر ... عبق.
(3) الإحاطة: بأنفسنا.
(4) بما قد علمتم: سقطت من الإحاطة.
(5) زاد في ق: الأخاير.(2/625)
وانتهب من أمواله وكتبه وتحفه ما لا يعلم قدره إلاّ الله تعالى، أثابه الله تعالى بهذه الشهادة بجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وشرف وكرم ومجد وعظم.
245 - ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ نجيب الدين أبو محمد عبد العزيز ابن الأمير القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز بن هلال، اللخمي، الأندلسي، ولد سنة 577 تقريباً، ورحل فسمع بمكّة من زاهر بن رستم، ببغداد من أبي بكر أحمد بن سكينة وابن طبرزد وطائفة، وبواسط من أبي الفتح ابن المنداني، وبأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة، وبخراسان من المؤيّد الطوسي وأبي روح وأصحاب الفراوي وهذه الطبقة، وخطّه مليح مغربي في غاية الدقة. وكان كثير الأسفار، ديّناً متصوفاً كبير القدر، قال الضياء في حقّه: رفيقنا وصديقنا، توفي بالبصرة عاشر رمضان سنة 617، ودفن إلى جانب قبر سهل التّستري رضي الله تعالى عنه، وما رأينا من أهل المغرب مثله، قال ابن نقطة: كان ثقة فاضلاً، صاحب حديث وسنّة كريم الأخلاق، وقال مفضل القرشي: كان كثير المروءة غزير الإنسانية، وقال ابن الحاجب: كان كيّس الأخلاق، محبوب الصورة، لين الكلام، كريم النفس، حلو الشمائل، محسناً إلى أهل العلم بماله وجاهه، وقيل: إنّه أوصى بكتبه للشرف المرسي، رحمه الله تعالى.
246 - ومنهم محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد، أبو بكر ابن العربي الإشبيلي (1) ، حفيد القاضي الحافظ الكبير أبي بكر ابن العربي، قرأ لنافع على قاسم ابن محمد الزقاق صاحب شريح، وحج فسمع من السّلفي وغيره، ثم رحل بعد نيّف وعشرين سنة إلى الشام والعراق، وأخذ عن عبد الوهاب بن سكينة وطبقته، ورجع فأخذوا عنه بقرطبة وإشبيلية، ثم سافر سنة 612، وتصوّف
__________
(1) ترجمة ابن العربي الحفيد في التكملة: 603.(2/626)
وتعبّد، وتوفّي بالإسكندرية سنة 617، قاله الذهبي في تاريخه الكبير.
247 - ومن المرتحلين من الأندلس يحيى بن عبد العزيز، المعروف بابن الخرّاز، أبو زكريا، القرطبي (1) ، سمع من العتبي وعبد الله بن خالد ونظرائهما من رجال الأندلس، ورحل فسمع بمصر من المزني والربيع بن سليمان المؤذن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى محمد بن عبد الله ابن ميمون وعبد الغني بن أبي عقيل وغيرهم، وسمع بمكّة من علي بن عبد العزيز، وكانت رحلته ورحلة سعيد بن عثمان الأعناقي وسعيد بن حميد وابن أبي تمام واحدة، وسمع الناس من يحيى المذكور مختصر المزني ورسالة الشافعي وغير ذلك من علم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وكان يميل في فقهه إلى مذهب الشافعي، وكان مشاوراً مع عبيد الله بن يحيى وأضرابه، وحدث عنه من أهل الأندلس محمد بن قاسم وابن بشر (2) وابن عبادة وغير واحد، ولم يسمع منه ابنه محمد لصغره، وتوفّي سنة 295، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
248 - ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الكامل الزاهد الورع، العلامة جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، البكري، الشريشي المالكي، كان من أكابر الصالحين والمتورعين، ومولده سنة 601 بشريش، وتوفّي برباط الملك الناصر بسفح قاسيون سنة 685 في 24 رجب، ودفن قبالة الرباط. وله المصنفات المفيدة، تولّى مشيخة الصخرة بحرم القدس الشريف، وقدم دمشق، وتولى مشيخة الرباط الناصري، فلمّا توفّي قاضي القضاة جمال الدين المالكي ولوه مشيخة المالكية بدمشق، وعرضوا عليه القضاء فلم يقبل، وبقي في المشيخة إلى أن توفّي، رحمه الله تعالى ونفعنا به وبأمثاله، آمين.
__________
(1) ترجمة ابن الخراز في ابن الفرضي 2: 182؛ وفي دوزي: الجزار.
(2) يعني أحمد بن بشر الأغبس.(2/627)
249 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه الصالح أبو بكر ابن محمد بن علي بن ياسر، الجيّاني، المحدث الشهير.
ذكره ابن السمعاني وغيره، سافر الكثير، وورد العراق، وطاف في بلاد خراسان، وسكن بلخ، وأكثر من الحديث، وحصّل الأصول، ونسخ بخطّه ما لا يدخل تحت حصر، قال ابن السمعاني: وله أنس ومعرفة بالحديث، لقيته بسمرقند، وكان قد قدمها سنة 549 مع جماعة من أهل الحجاز لدين له عليهم، وسمعت منه جزءاً خرّجه من حديث يزيد بن هرون ممّا وقع له عالياً، وجزءاً صغيراً من حديث أبي بكر ابن أبي الدنيا، وأحاديث أبي بكر الشافعي في أحد عشر جزءاً المعروف بالغيلانيات بروايته عن ابن الحصين عن ابن غيلان، وكان مولده بجيّان سنة 493 [أو في التي بعدها، الشك منه، ثم لقيته بنسف في أواخر سنة خمسين] (1) ولم أسمع منه شيئاً، ثم قدم علينا في (2) بخارى في أوائل سنة إحدى وخمسين وسمعت من لفظه جميع كتاب الزهد لهنّاد بن السّري الكوفي بروايته عن أبي القاسم سهل بن إبراهيم المسجدي عن الحاكم أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد الشاذياخي عن الحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين الحدّادي عن حماد بن أحمد السلمي عن مصنّفه، وأخبرنا الجيّاني بسمرقند، أبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين الكاتب ببغداد، أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار، أخبرنا (3) أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي، أخبرنا (4) محمد بن مسلمة، أنبأنا يزيد بن هرون أنبأنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " إذا دخل أهل الجنّة الجنة وأهل النار النار ناداهم منادٍ: يا أهل الجنّة، إن
__________
(1) ما بين معقفين ساقط من ق ودوزي، ومثبت في التجارية.
(2) في: سقطت من ق.
(3) ق: أنبأنا.
(4) ق: حدثنا.(2/628)
لكم عند الله موعداً لم تروه، قالوا: وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنّة وينجينا من النار قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب من النظر إليه " ثم تلا هذه الآية " للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة ".
وقال ابن السمعاني أيضاً: وأخبرنا الجيّاني المذكور بسمرقند، أنبأنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ببغداد، أنبأنا أبو طالب ابن غيلان، أنبأنا أبو بكر الشافعي، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي، أنبأنا محمد بن حسان، أنبأنا مبارك بن سعيد، قال: أردت سفراً، فقال لي الأعمش: سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين، فإن مجاهداً حدّثني قال: خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابة، ولم أشترط في دعائي، فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير.
وقال ابن السمعاني أيضاً: أخبرنا أبو بكر الجياني المغربي بسمرقند، سمعت الإمام أبا طالب إبراهيم بن هبة الله ببلخ يقول: قرأت على أبي يعلى محمد بن أحمد العبدي بالبصرة قال: قرأت على شيخنا أبي الحسين ابن يحيى في كتاب العين بإسناده إلى الخليل بن أحمد أنّه أنشد قول الشاعر:
إنّ في بيتنا ثلاث حبالى فوددنا أن قد وضعن جميعا
زوجتي ثمّ هرتي ثمّ شاتي فإذا ما وضعن كنّ ربيعا
زوجتي للخبيص، والهر للفا ر، وشاتي إذا اشتهينا مجيعا
قال أبو يعلى: قال شيخنا بن يحيى: وذكر عن الخليل بن أحمد في العين أن المجيع أكل التمر باللبن، انتهى.
250 - ومنهم أبو الخطاب العلاء بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن حزم، الأندلسي، المري، ذكره الحميدي في تاريخه وأثنى(2/629)
عليه، وقال (1) : كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمّة العالية [في طلب العلم] (2) ، وكتب بالأندلس فأكثر، ورحل إلى المشرق فاحتفل في العلم والرواية والجمع.
وذكره الحافظ الخطيب أبو بكر [أحمد بن علي] (3) بن ثابت البغدادي، وقال: هو من بيت جلالة وعم ورياسة، وأخرج عنه في غير موضع من مصنّفاته، وقدم بغداد ودمشق وحدّث فيهما، ثم عاد إلى المغرب فتوفّي ببلده المريّة 454، وحدّث عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري، ويعرف بابن الإفليلي، الأندلسي النحوي وغيره، وكان صدوقاً ثقة، رحمه الله تعالى (4) .
251 - ومنهم أبو زكريا يحيى بن قاسم القرطبي (5) ، الفقيه المالكي أحد الأئمة الزهاد، كان يصوم حتى يخضرّ، توفّي سنة 272، وقيل: سنة 278، ورحل إلى المشرق، وسمع من عبد الله بن نافع صاحب مالك بن أنس، ومن سحنون بن سعيد، وغيرهما، وكان يفضّله ويصفه بالفضل والعلم، وهو صاحب الشجرة، قال عباس بن أصبغ: كانت في داره شجرة تسجد لسجوده إذا سجد، قاله ابن الفرضي، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ونفعنا به.
252 - ومنهم أبو بكر يحيى بن مجاهد بن عوانة، الفزاري، الإلبيري،
__________
(1) ترجمة العلاء بن عبد الوهاب في جذوة المقتبس: 298 (وبغية الملتمس رقم: 1241) وتاريخ بغداد، والصلة: 421.
(2) ما بين معقفين ساقط من ق.
(3) ما بين معقفين ساقط من ق.
(4) بعد هذه الترجمة وردت في ق ترجمة لأبي حفص عمر بن الحسن الهوزني وهي ترجمة مكررة نصاً وقد وردت رقم: 50، ولذلك لم نجد ضرورة لإثباتها، وكذلك سقطت عند دوزي.
(5) ترجمة يحيى بن قاسم بن هلال في جذوة المقتبس: 355 (وبغية الملتمس رقم: 1487) وابن الفرضي 2: 180.(2/630)
الزاهد (1) ، سكن قرطبة، قال ابن الفرضي: كان منقطع القرين في العبادة، بعيد الاسم في الزهد، حجّ، وعني بعلم القرآن والقراءات والتفسير، وسمع بمصر من الأسيوطي وابن الورد وابن شعبان وغيرهم، وكان له حظ من الفقه والرواية إلا أن العبادة غلبت عليه، وكان العمل أملك به، ولا أعلمه حدّث، توفّي رحمه الله تعالى سنة ست وستين وثلاثمائة، ودفن في مقبرة الرّبض، وصلى عليه القاضي محمد بن إسحاق بن السليم، ثم صلى عليه حيّان مرّة ثانية، رحمه الله تعالى وأفاض علينا من أنوار عنايته آمين.
253 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم، الصدفي، الإشبيلي (2) ، الأديب البارع، له نظم حسن، وموشّحات رائقة، قرأ على الأستاذ الشلوبين وغيره، ومدح الملوك، ورحل من الأندلس فقدم ديار مصر، ومدح بها بعض من كان يوصف بالكرم، فوصله بنزر يسير، فكرّ راجعاً إلى المغرب، فتوفّي ببرقة، رحمه الله تعالى، وكان من النجباء في النحو وغيره.
ومن نظمه من قصيدة:
ما بي موارد أمسٍ (3) بل مصادره ... اللّحظ أوّله واللّحد آخره أرسلت طرفي مرتاداً فطلّ دمي روضٌ من الحسن مطلولٌ أزاهره
رعيت في خصبه لحظي فأعقبني جدباً بجسمي ما يرويه هامره
وبي وإن لم أكن بالذكر أشهره فالوصف فيه لفقد المثل شاهره
وهي طويلة، وأثنى عليه أثير الدين أبو حيّان، وأورد جملة من محاسن كلامه وبدائع نظامه، رحم الله تعالى الجميع.
__________
(1) ترجمة يحيى بن مجاهد في ابن الفرضي 2: 188 وجذوة المقتبس: 356 (وبغية الملتمس رقم: 1490) .
(2) ترجمة أبي بكر الصدفي في الوافي 2: 135.
(3) الوافي: حبي، التجارية: أمر.(2/631)
254 - ومنهم أبو يحيى زكريا بن خطاب، الكلبي، التّطيلي (1) ، رحل سنة 293، فسمع بمكّة كتاب النسب للزبير بن بكار من الجرجاني الذي حدث له عن علي بن عبد العزيز بن الجمحي عن الزبير، وروى موطأ مالك ابن أنس رواية أبي مصعب أحمد بن عبد الملك الزهر ي عن إبراهيم بن سعيد الحذّاء، وسمع بها من إبراهيم بن عيسى الشيباني والقزاز في آخرين، وقدم الأندلس فكان الناس يرحلون إليه إلى تطيلة للسماع منه، واستقدمه المستنصر الحكم وهو وليّ عهد فسمع منه أكثر مروياته، وسمع منه جماعة من أهل قرطبة، وكان ثقة مأموناً، ولي قضاء بلده تطيلة إحدى مدائن الأندلس بعد عمر بن يوسف ابن الإمام.
255 - ومنهم سعد الخير بن محمد بن سعد، أبو الحسن، الأنصاري، البلنسي، المحدّث (2) ، رحل إلى أن دخل الصين، ولذا كان يكتب البلنسي الصيني، وركب البحار، وقاسى المشاق، وتفقه ببغداد على أبي حامد الغزالي، وسمع بها أبا عبد الله النّعّال وطراداً وغيرهما، وبأصبهان أبا سعد المطرز، وسكنها وتزوّج بها وولدت له فاطمة بها، ثم سكن بغداد، وروى عنه ابن عساكر وابن السمعاني وأبو موسى المديني وأبو اليمن الكندي وأبو الفرج ابن الجوزي وابنته فاطمة بنت سعد الخير في آخرين، وتأدب على أبي زكريا التبريزي، وتوفّي في المحرم سنة 541، رحمه الله تعالى، ببغداد، وصلى عليه الغزنوي، والشيخ الواعظ بجامع القصر، وكان وصيّه، وحضر جنازته قاضي القضاة الزينبي والأعيان، ودفن إلى جانب عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين بوصية منه.
__________
(1) ترجمة زكريا بن خطاب في جذوة المقتبس: 202 (وبغية الملتمس رقم: 473) وابن الفرضي 1: 176) .
(2) ترجمة سعد الخير البلنسي في الذيل والتكملة 4: 16، والتكملة رقم: 2011.(2/632)
256 - ومنهم أبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلفون، الإستجي (1) ، سمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ وابن أبي دليم وغيرهما، ورحل فسمع بمكّة من ابن الأعرابي، وببغداد من أبي علي الصفار وجماعة، وبها مات.
257 - ومنهم أبو عثمان سعيد الأعناقي، ويقال: العناقي، القرطبي (2) ، كان ورعاً زاهداً عالماً بالحديث بصيراً بعلله، سمع من محمد بن وضاح وصحبه ومن يحيى بن إبراهيم بن مزين ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهم، ورحل فلقي جماعة من أصحاب الحديث منهم نصر بن مرزوق كتب عنه مسند أسد بن موسى وغير ذلك من كتبه، ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والحارث بن مسكين في آخرين، وحدث عنه أحمد بن خالد وابن أيمن ومحمد ابن قاسم وابن أبي زيد في عدد كثير، ومولده سنة 233، وتوفّي سنة 305 بصفر.
والأعناقي: نسبة إلى موضع يقال له أعناق وعناق.
258 - ومنهم أبو المطرف عبد الرحمن بن خلف، التجييبي، الإقليشي (3) ، روى عن أبي عثمان سعيد بن سالم المجريطي وأبي ميمونة دراس بن إسماعيل فقيه فاس، ورحل حاجّاً سنة 349، فسمع بمكّة من أبي بكر الآجري وأبي حفص الجمحي، وبمصر من أبي إسحاق ابن شعبان، وروى عنه كتاب الزاهي جميعه وقد قرئ عليه جميعه، وحمل عنه، ومولده سنة 303 (4) ، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ترجمة سعيد بن نصر الإستجي في الصلة: 203 وجذوة المقتبس: 217 (رقم: 484 وبغية الملتمس رقم: 822) وقال ابن بشكوال والحميدي: توفي ببخاري سنة 350.
(2) ترجمة سعيد الأعناقي في جذوة المقتبس: 214 (وبغية الملتمس رقم: 803) وابن الفرضي 1: 195، وهو سعيد بن عثمان بن سعيد بن سليمان التجيبي الأعناقي.
(3) ترجمة عبد الرحمن الإقليشي في ابن الفرضي (1: 210)
(4) كذا في ق ودوزي؛ وفي ابن الفرضي ثلاثمائة؛ وفي التجارية: 313.(2/633)
259 - ومنهم أبو الأصبع عبد العزيز بن علي، المعروف بابن الطحان، الإشبيلي المقرئ (1) ، ولد بإشبيلية سنة 498، ورحل فدخل مصر والشام وحلبا، توفّي بحلب بعد سنة 559، وله كتاب نظام الأداء في الوقف والابتداء، ومقدمة في مخارج الحروف، ومقدمة في أصول القراءات، وكتاب الدعاء، وكان من القراء المجوّدين الموصوفين بالإتقان ومعرفة وجوه القراءات، وسمع الحديث على شريح بن محمد بن أحمد بن شريح الرعيني خطيب إشبيلية وأبي بكر يحيى بن سعادة القرطبي.
وله شعر حسن منه قوله:
دع الدّنيا لعاشقها سيصبح من رشائقها
وعاد النفس مصطبراً ونكّب عن خلائقها
هلاك المرء أن يضحي مجدّاً في علائقها
وذو التقوى يذلّلها فيسلم من بوائقها
وأخذ القراءات ببلده عن أبي العباس ابن عيشون وشريح بن محمد، وروى عنهما وعن أبي عبد الله ابن عبد الرزّاق الكلبي، وروى مصنّف النسائي عن أبي مروان ابن مسرّة، وتصدّى للإقراء، ثم انتقل إلى فاس، وحج ودخل العراق، وقرأ بواسط القراءات وأقرأها أيضاً، ودخل الشام واشتهر ذكره، وجلّ قدره، وروى عنه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الحافظ، وعلي بن يونس، قال بعضهم: سمعت غير واحد يقول: ليس بالغرب أعلم بالقراءات من ابن الطحان، قرأ عليه الأثير أبو الحسن محمد بن أبي العلاء وأبو طالب ابن عبد السميع وغيرهما، رحم الله تعالى الجميع.
__________
(1) ترجمة ابن الطحان في التكملة رقم: 1759 (ص: 628) قال: ويعرف بالطحان وبابن الحاج ويكنى أبا محمد وأبا الاصبغ، رحل إشبيلية بعد سنة 554 وله من المؤلفات: " شعار الأخيار الأبرار في التسبيح والاستغفار ". وانظر غاية النهاية 1: 395.(2/634)
260 - ومنهم أبو الأصبغ عبد العزيز بن خلف، المعافري (1) ، قدم مصر سنة 502، وولد سنة 448، وحدث بالموطإ عن سليمان بن أبي القاسم، أنبأنا أبو عمر ابن عبد البر، أنبأنا سعيد بن نصر، عن قاسم بن أصبغ عن محمد ابن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة، رضي الله تعالى عنه.
261 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة، السعدي، الشاطبي (2) ، قدم مصر ودمشق طالب علم، وسمع أبا الحسن ابن أبي الحديد وأبا منصور العكبري وغيرهما، وصنف (3) غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلاّم على حروف المعجم، وسمعه عليه أبو محمد الأكفاني، وتوفّي بأرض حوران من أعمال دمشق في رمضان سنة 465، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
262 - ومنهم الحكيم الطبيب أبو الفضل محمد عبد المنعم، الغساني، الجلياني (4) ، وهو عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن أحمد بن خضر بن مالك بن حسان، ولد بقرية جليانة من أعمال غرناطة سابع المحرم سنة 531، وقدم إلى القاهرة، وسار إلى دمشق فسكنها مدّة، ثم سافر إلى بغداد فدخلها سنة 601، ونزل بالمدرسة النظامية، وكتب الناس عنه كثيراً من نظمه، وكان أديباً فاضلاً، له شعر مليح المعاني أكثره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات، وكان طبيباً حاذقاً، وله رياضات ومعرفة بعلم الباطن، وله كلام مليح على طريق القوم، وكان مليح السّمت، حسن الأخلاق، لطيفاً، حاضر الجواب،
__________
(1) ترجمة عبد العزيز بن خلف في التكملة رقم: 1742 (ص: 624) .
(2) ترجمة عبد العزيز السعدي في التكملة رقم: 1739 (ص: 623) وذكره ابن عساكر.
(3) الصواب: ورتب، كما في التكملة.
(4) هذا هو حكيم الزمان عبد المنعم الجلياني الذي مرت ترجمته رقم: 238 ولكن هذه الترجمة هنا أكثر إسهاباً، وقد ذكرنا في الحاشية هنالك مصادر ترجمته ولا أدري كيف وقع في اسمه " محمد " ولعله محمد [أو] عبد المنعم، لقول المقري من بعد: " وسماه بعضهم عبد المنعم ".(2/635)
ومات بدمشق سنة 602، وكان يقال له: حكيم الزمان، وأراد القاضي الفاضل أن يغضّ منه فقال له بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب: كم بين جليانة وغرناطة فقال: مثل ما بين بيسان وبيت المقدس.
ومن شعره قوله:
خبرت بني عصري على البسط والقبض وكاشفتهم كشف الطبائع بالنبض
فأنتج لي فيهم قياسي تخلّياً عن الكلّ إذ هم آفة الوقت والعرض
ألازم كسر البيت خلواً، وإن يكن خروجٌ ففرداً ملصق الطّرف بالأرض
أرى الشخص من بعدٍ فأغضي تغافلاً كمشدوه بالٍ في مهمته يمضي
ويحسبني في غفلةٍ وفراستي على الفور من لمحي بما قد نوى تقضي
أجانبهم سلماً ليسلم جانبي وليس لحقدٍ في النفوس ولا بغض
تخلّيت عن قومي ولو كان ممكني تخلّيت عن بعضي ليسلم لي بعضي
وقال:
قالوا نراك عن الأكابر تعرض وسواك زوّارٌ لهم متعرّض
قلت الزيارة للزمان إضاعةٌ وإذا مضى زمنٌ فما يتعوّض
إن كان لي يوماً إليهم حاجةٌ فبقدر ما ضمن القضاء تقيّض
وقال:
حاول مفازك قبل أن يتحوّلا فالحال آخرها كحالك أولا
إنّ المنيّ من المنيّة لفظه لتدلّ في أصل البناء على البلى
وسماه بعضهم عبد المنعم، وذكره العماد في الخريدة وقال: هو صاحب البديع البعيد، والتوشيح والترشيح، والترصيع والتصريع، والتجنيس والتطبيق، والتوفيق والتلفيق، والتقريب والتقرير، والتعريف والتعريب، وهو مقيم(2/636)
بدمشق، وقد أتى العسكر المنصور الناصري سنة 586 بظاهر ثغر عكا، وكتب إلى السلطان صلاح الدين وقد جرح فرسه:
أيا ملكاً أفنى العداة حسامه ومنتجعاً أقنى العفاة ابتسامه
لقاؤك يوماً في الزمان سعادةٌ فكيف بثاوٍ في حماك حمامه
وعبدك شاكٍ دينه وهو شاكرٌ نداك الذي يغني الغمام غمامه
ولي فرسٌ أصماه سهمٌ فردّه أثافيّ ربعٍ بالثلاث قيامه
تعمر فيه بالجراحة ساحة وعطّل منه سرجه ولجامه
أتينا لما عوّدتنا من مكارمٍ يلوذ بها الراجي فيشفى غرامه
فرحماك غوثٌ لا يغيب نصيره ونعماك غيثٌ لا يغبّ انسجامه
وله رحمه الله تعالى غير هذا، وترجمته واسعة.
263 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد القدوس القرطبي، مؤلف المفتاح في القراءات، ومقرئ أهل قرطبة (1) ، رحل وقرأ القراءات على أبي علي الأهوازي، وبحرّان على أبي القاسم الرّيدي، وبمصر على أبي العباس ابن نفيس، وبمكّة على أبي العباس الكازريني، وسمع بدمشق من أبي الحسن ابن السمسار، وكان عجباً في تحرير القراءات ومعرفة فنونها، وكانت الرحلة إليه في وقته، ولد سنة 403، ومات في ذي القعدة سنة 461 (2) ، قرأ عليه أبو القاسم خلف ابن النحاس وجماعة، رحمه الله تعالى.
264 - ومنهم عبيد الله، وقيل عبد الله، بغير تصغير، ابن المظفر بن عبد الله بن محمد، أبو الحكم، الباهلي، الأندلسي (3) ، ولد بالمرية سنة 486،
__________
(1) ترجمة عبد الوهاب بن محمد القرطبي في الصلة: 362 وغاية النهاية 1: 482.
(2) الصلة: 462.
(3) ترجمة الحكيم المغربي في وفيات الأعيان 2: 307 والخريدة (القسم الرابع 1: 369) وابن أبي أصيبعة 2: 240.(2/637)
وحج سنة 516 وحج أيضاً سنة 518، ودخل دمشق وقرأ بصعيد مصر وبالإسكندرية، ثم مضى إلى العراق، وأقام ببغداد يعلم الصبيان وخدم السلطان محمود بن ملك شاه سنة 521، وأنشأ له معسكره مارستاناً ينقل على أربعين جملاً، فكان طبيبه، ثم عاد إلى دمشق ومات بها سنة 549، ودفن بباب الفراديس، وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة، وله ديوان شعر سمّاه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري ونصر الهيتي وغيرهما كعرقلة، وفيه نزهات أدبية، ومفاكهات غريبة، ممزوج جدّها بسخفها، وهزلها بظرفها، ورثى فيه أنواعاً من الدواب وأنواعاً من الأثاث وخلقاً من المغنين والأطراف، وشرح هذه الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة، وكان كثير الهزل والمداعبة، دائم اللهو والمطايبة، وكان إذا أتاه الغلام وما به شيء فيحس نبضه ثم يقول له: تصلح لك الهريسة، وكان أعور فقال فيه عرقلة:
لنا طبيبٌ شاعرٌ أعورٌ أراحنا من طبّه الله
ما عاد في صبحة يومٍ فتىً إلا وفي باقيه رثّاه
وله أيضاً يرثيه:
يا عين سحيّ بدمعٍ ساكبٍ ودم ... على الحكيم الذي يكنى (1) أبا الحكم قد كان لا رحم الرحمن شيبته ولا سقى قبره من صيّب الدّيم
شيخاً يرى الصلوات الخمس نافلةً ويستحلّ دم الحجاج في الحرم
ومن كنايات أبي الحكم المستحسنة قوله:
ألم ترني أكابد فيك وجدي وأحمل منك ما لا يستطاع
__________
(1) ق: يسمى.(2/638)
إذا ما أنجم الجوّ استقلّت ومال الدلو وارتفع الذراع
ومن شعره قوله:
محاسن العالم قد جمّعت في حسنه المستكمل البارع
وليس لله بسمتنكرٍ أن يجمع العالم في الجامع
265 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن صافي، الغرناطي، القيساني، وقيسانة من عمل غرناطة، الفقيه المالكي، ولد سنة 564، وقدم القاهرة وناب في الحسبة، وله شعر حسن، توفي بالقاهرة سنة 634، رحمه الله تعالى.
266 - ومنهم طالوت بن عبد الجبار، المعافري، الأندلسي (1) ، دخل مصر، وحج ولقي إمامنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، وعاد إلى قرطبة، وكان ممّن خرج على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن من أهل ربض شقندة يريد خلعه وإقامة أخيه المنذر، وزحفوا إلى قصره بقرطبة، فحاربهم، وقتلهم، وفرّ من بقي منهم، فاستتر الفقيه طالوت عاماً عند يهودي، ثم ترامى على صديقه أبي البسّام الكاتب ليأخذ له أماناً من الحكم، فوشى به إلى الحكم، وأحضره إليه فعنفه ووبّخه، فقال له: كيف يحل لي أن أخرج إليك وقد سمعت مالك بن أنس يقول: سلطان جائرٌ مدةً خير من فتنة ساعة فقال: ألله تعالى لقد سمعت هذا من مالك فقال طالوت، اللهم إنّي قد سمعته، فقال: انصرف إلى منزلك وأنت آمن، ثم سأله: أين استتر فقال: عند يهودي مدة عام، ثم إنّي قصدت هذا الوزير فغدر بي، وغضب الحكم على أبي البسّام وعزله عن وزارته، وكتب عهداً أن لا يخدمه أبداً، فرؤي أبو البسّام بعد ذلك في فاقة وذل، فقيل: استجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت، رحمه
__________
(1) ترجمة طالوت في الذيل والتكملة 4: 150 والتكملة: 345 وابن القوطية: 75.(2/639)
الله تعالى.
267 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد، ضياء الدين ونظامه، ابن خروف الأديب، القيسي، القرطبي، والقيذافي، الشاعر (1) ، قدم إلى مصر، ثم سار إلى حلب ومات بها متردياً في جب حنطة سنة 602، وقيل: في التي بعدها، وقيل: سنة خمس وستمائة، وله شرح كتاب سيبويه، وحمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار (2) ، وله شرح جمل الزجاجي، وكتبٌ في الفرائض وردٌّ على أبي زيد السهيلي، وغير ذلك (3) ، ومدح الأفضل ابن السلطان صلاح الدين ومدح الظاهر ابن الناصر أيضاً.
وشعره جيد، فمنه قوله في كأس (4) :
أنا جسمٌ للحميّا والحميّا لي روح
بين أهل الظرف أغدو كلّ يومٍ وأروح
__________
(1) المسمى علي بن محمد بن علي بن محمد المشهور بابن خروف وبالدريدنة، له ترجمة في الذيل والتكملة 5: 319 وصلة الصلة: 122 والتكملة رقم: 1884 ووفيات الأعيان 3: 22 وبرنامج الرعيني: 81 وجذوة الاقتباس: 307 ومعجم الأدباء 15: 75 وهذا هو ابن خروف النحوي الحضرمي الإشبيلي توفي بإشبيلية سنة 609 أما الشاعر فإنه اسمه علي بن محمد بن يوسف بن خروف القرطبي وله ترجمة في صلة الصلة: 114، والتكملة رقم: 1894 والذيل والتكملة 5: 396 ومسالك الأبصار 11: 480 وهذا هو المقري يخلط بين الاسمين فيترجم للشاعر تحت اسم النحوي وقد وقع في هذا الخلط ابن شاكر في الفوات 2: 160 والسيوطي في بغية الوعاة 354 وابن الساعي في الجامع المختصر: 306.
(2) وله ... دينار سقط من ق.
(3) قلت: صاحب هذه الشروح هو ابن خروف النحوي لا الشاعر، وشرحه على سيبويه يسمى " تنقيح الألباب في شرح غوامض الكتاب "؛ قال ابن عبد الملك: وكان كثير العناية بالرد على الناس فرد على إمام الحرمين ... وأبي القاسم السهيلي.
(4) الفوات: 160.(2/640)
وقال (1) في صبي حبس:
أقاضي المسلمين حكمت حكماً غدا وجه الزّمان به عبوسا
حبست على الدراهم ذا جمالٍ ولم تسجنه إذ سلب النّفوسا
وقال:
ما أعجب النيل ما أحلى شمائله في ضفّتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فيّاضٌ على ترعٍ تهبّ فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماءّ كما زعموا وإنّما هي أرزاقٌ وأرباح
والقيذافي: بقاف، ثم ياء آخر الحروف، بعدها ذال معجمة، ثم ألف وفاء. وله رسالة كتب بها إلى بهاء الدين بن شداد بحلب يطلب منه فروة، وهي:
بهاء الدين والدّنيا ونور المجد والحسب
طلبت مخافة الأنوا ... ء من جدواك (2) جلد أبي وفضلك عالم أني خروف بارع الأدب
حلبت الدهر أشطره وفي حلبٍ صفا حلبي
ذو الحسب الباهر، والنسب الزاهر، يسحب ذيول سير السيراء، ويحبّ النحاة من أجل الفرّاء (3) ، ويمن على الخروف النبيه، بجلد أبيه، قاني الصباغ، قريب عهد (4) بالدباغ، ما ضلّ طالب قرظه ولا ضاع، بل ذاع ثناء صانعه وضاع، إذا طهر إهابه، يخافه البرد ويهابه، أثيث خمائل الصوف، يهزأ
__________
(1) ق: وله؛ والبيتان في الفوات أيضاً وكذلك سائر ما أورد له المقري من شعر ولم يورد في الفوات رسالته.
(2) ق ودوزي: من حسناك.
(3) ق ودوزي: ويحب النجاة من أهل (أجل) القراء، وهو مصحف.
(4) ق: العهد.(2/641)
بكل هوجاء عصوف، ما في اللباس له ضريب، إذا نزل الجليد والضريب، ولا في الثياب له نظير إذا عري من ورقه الغصن النّضير، والمولى يبعثه فرجيّ النوع، أرجيّ الضوع، يكون تارة لحافاً وتارة برداً، وهو في الحالين يحيي حرّاً ويميت برداً، لا كطيلسان ابن حرب، ولا كجلد عمرو الممزق بالضرب، إن عزاه السواد إلى حام فحام، أو نماه البياض إلى سام فسام، كأنّه من جلد جمل الحرباء، الذي يرعى القمر والنجم، لا من جلد السّخلة الجرباء، التي ترعى الشجر والنجم، لا زال مهديه سعيداً، ينجز للأخيار وعداً وللأشرار وعيداً، بالمنّة والطّول، والقوّة والحول.
268 - ومنهم مالك بن مالك، من أهل جيان، رحل حاجّاً فأدى الفريضة، وسكن حلب، ولقي عبد الكريم بن عمران، وأنشد له قوله:
يا ربّ خذ بيدي مما دفعت له فلست منه على وردٍ ولا صدر
الأمر ما أنت رائيه وعالمه وقد عتبت ولا عتبٌ على القدر
من يكشف السوء إلاّ أنت بارئنا ومن يزيل بصفوٍ حالة الكدر
269 - ومنهم أبو علي ابن خميس، وهو منصور بن خميس بن محمد بن إبراهيم اللخمي من أهل المرية (1) . سمع من أبي عبد الله البوني (2) وابن صالح، وأخذ عنهما القراءات، وروى أيضاً عن الحافظ القاضي أبي بكر ابن العربي، وأبوي القاسم ابن رضا (3) وابن ورد وأبي محمد الرشاطي وأبي الحجّاج القضاعي وأبي محمد عبد الحق ابن عطية وأبي عمرو الخضر بن عبد الرحمن وأبي القاسم عبد الرحمن (4) بن محمد الخزرجي وغيرهم، ورحل حاجّاً فنزل الإسكندرية،
__________
(1) ترجمة منصور بن خميس في التكملة: 711.
(2) التكملة: الونتي.
(3) ق: وأبوي القاضي ابن رضي ... الخ وهو خطأ.
(4) كذا في ق ودوزي؛ وفي التكملة: وأبي القاسم عبد الرحيم؛ التجارية: عبد الحق.(2/642)
وسمع منه أبو عبد الله بن عطية الداني سنة 596، وحدث عنه بالإجازة أبو العباس العزفي وغيره.
270 - ومنهم منصور بن لبّ بن عيسى، الأنصاري (1) ، من أهل المريّة، يكنى أبا علي، أخذ القراءات ببلده عن ابن خميس المذكور قبله، ورحل بعده، فنزل الإسكندريّة، وأجازه أبو الطاهر السّلفي في صغره (2) ، وقد أخذ عنه فيما ذكر بعضهم، ومولده سنة 571، رحمه الله تعالى.
271 - ومنهم مفرج بن حماد بن الحسين بن مفرج، المعافري (3) ، من أهل قرطبة، وهو جد ابن مفرج صاحب كتاب الاحتفال بعلم الرجال، صحب المذكور محمد بن وضاح في رحلته الثانية، وشاركه في كثير من رجاله، وصدر عن المشرق معه، فاجتهد في العبادة، وانتبذ عن الناس، ثم كرّ راجعاً إلى مكّة عند موت ابن وضاح، فنزلها واستوطنها إلى أن مات (4) ، فقبره هنالك.
وقال في حقّه أبو عمر عفيف: إنّه كان من الصالحين، رحل فحجّ وجاور بمكّة نحو عشرين سنة إلى أن مات بها، رحمه الله تعالى.
272 - ومنهم محب بن الحسين (5) ، من أهل الثغر الشرقي، كانت له رحلة حج فيها، وسمع بالقيروان من أبي عبد الله ابن سفيان الكتاب الهادي في القراءات من تأليفه، وكان رجلاً صالحاً، حدث عنه أبو عبد الله محمد بن عبد
__________
(1) ترجمة منصور بن لب في التكملة: 712.
(2) كذا في التكملة؛ ق: في سفره.
(3) ترجمة مفرج بن حماد المعافري في التكملة: 720، قال: يعرف بالقبشي، وحفيده هو الحسن ابن محمد بن مفرج ابو بكر.
(4) زاد في ق: بها.
(5) ترجمة محب بن الحسين في التكملة: 734.(2/643)
الملك التجيبي من شيوخ أبي مروان ابن الصيقل.
273 - ومنهم مساعد بن أحمد بن مساعد، الأصبحي (1) ، من أهل أوريولة، يكنى أبا عبد الرحمن، ويعرف بابن زعوقة، روى عن ابن أبي تليد وابن جحدر، والحافظين أبي علي الصدفي وأبي بكر ابن العربي، وكتب إليه أبو بكر ابن غالب بن عطية، ورحل حاجّاً في سنة أربع وتسعين وأربعمائة، فأدى الفريضة سنة خمس بعدها، ولقي بمكّة أبا عبد الله الطبري، فسمع منه صحيح مسلم، مشتركاً في السماع مع أبي محمد ابن أبي جعفر الفقيه، ولقي أبا محمد ابن العرجاء وأبي بكر ابن الوليد الطرطوشي وأصحاب الإمام أبي حامد الغزالي وأبا عبد الله المازري وجماعة سواهم ساوى بلقائهم مشيخته، وانصرف إلى بلده فسمع منه الناس، وأخذوا عنه لعلو روايته، وكان من أهل المعرفة والصلاح والورع، وممن حدث عنه من الجلّة أبو القاسم ابن بشكوال، وأبو الحجاج الثغري الغرناطي، وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس وغيرهم، وأغفله ابن بشكوال فلم يذكره في الصلة مع كونه روى عنه، وقال تلميذه أبو الحجاج الثغري الغرناطي: أخبرني أبو سليمان ابن حوط الله وغيره عنه، قال: أخبرني الحاج أبو عبد الرحمن ابن مساعد رضي الله تعالى عنه: أنّه لقي بالمشرق امرأة تعرف بصباح عند باب الصفا، وكان يقرأ عليها بعض التفاسير، فجاء بيت شعر شاهد، فسألت: هل له صاحب فسألوا الشيخ أبا محمد ابن العرجاء، فقال الشيخ: لا أذكر له صاحباً، فأنشدت:
طلعت شمس من أحبّك ليلاً واستضاءت فما لها من مغيب
إنّ شمس النّهار تغرب باللي ل وشمس القلوب دون غروب
ولد في صفر سنة 468، وتوفّي بأوريولة سنة 545، قاله ابن سفيان.
__________
(1) ترجمة مساعد بن أحمد الأصبحي في التكملة: 736.(2/644)
274 - ومنهم أبو حبيب نصر بن القاسم (1) . قال ابن الأبار: أظنّه من أهل غرناطة، وله رحلة حج فيها، وسمع من أبي الطاهر السّلفي، وحدث عنه عن ابن فتح بمسند الجوهري، انتهى.
275 - ومنهم النعمان بن النعمان، المعافري (2) ، من أهل ميورقة منسوب إلى جده، رحل حاجّاً فأدى الفريضة وجاور بمكّة ثم قفل إلى بلده، واعتزل الناس، وكان يشار إليه بإجابة الدعوة، وتوفّي سنة 616رحمه الله تعالى ونفعنا به.
276 - ومنهم نعم الخلف بن عبد الله بن أبي ثور، الحضرمي (3) ، من أهل طرطوشة أو ناحيتها، رحل إلى المشرق، وأدى الفريضة، ولقي بمكة أبا عبد الله الأصبهاني، فسمع منه سنة 422، حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير.
277 - ومنهم نابت بن المفرج بن يوسف، الخثعمي (4) ، أصله من بلنسية، وسكن مصر يكنى أبا الزهر، قال السّلفي: قدم مصر بعد خروجي منها، وتفقّه على مذهب الشافعي، وتأدب، وقال الشعر الفائق، وكتب إليّ بشيء من شعره، ومات في رجب سنة 545بمصر.
278 - ومنهم ضمام بن عبد الله الأندلسي (5) ، رحل إلى المشرق،
__________
(1) ترجمة نصر بن القاسم في التكملة: 748؛ وفي ق: صخر بن القاسم وهو مخالف لما في التكملة.
(2) ترجمة النعمان بن النعمان المعافري في التكملة: 753.
(3) ترجمة نعم الخلف بن ابي ثور في التكملة: 757.
(4) ترجمة نابت بن المفرج في التكملة: 758.
(5) ترجمة ضمام بن عبد الله في اتكملة: 770 والذيل والتكملة 4: 145 وجذوة المقتبس: 229 (وبغية الملتمس رقم: 858) .(2/645)
ودخل بغداد، وهو ممّن يروي عن عبد السلام بن مسلمة (1) الأندلسي. وممّن روى عن ضمام أبو الفرج أحمد بن القاسم الخشاب البغدادي من شيوخ الدارقطني، قال ابن الأبار: هكذا وقع في نسخة عتيقة من تأليف الدارقطني في الرواة عن مالك في باب مسلمة منه ضمام - بالضاد المعجمة - وهكذا ثبت في رواية أبي زكريا ابن مالك بن عائذ عن الدارقطني، وقال فيه غيره: همّام بن عبد الله - بالهاء وتشديد الميم - وفي حرف الهاء أثبته أبو الوليد ابن الفرضي من تاريخه (2) ، والأول عندي أصح، والله تعالى أعلم، انتهى.
279 - ومنهم ضرغام بن عروة بن حجاج، بن أبي فريعة (3) ، واسمه زيد، مولى عبد الرحمن بن معاوية والداخل معه إلى الأندلس، من أهل لبلة، له رحلة إلى المشرق، وكان فقيهاً، ذكره الرازي.
280 - ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر، المعافري (4) ، من أهل قرطبة، وأصله من الجزيرة الخضراء، وهو والد المنصور ابن أبي عامر ويكنى أبا حفص، سمع الحديث، وكتبه عن محمد بن عمر ابن لبابة وأحمد بن خالد ومحمد بن فطيس وغيرهم، ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة، وكان من أهل الخير والدين والصلاح والزهد والقعود عن السلطان، وأثنى عليه الراوية أبو محمد الباجي وقال: كان لي خير صديق أنتفع به وينتفع بي، وأقابل معه كتبه وكتبي، ومات منصرفه ومن حجّه، ودفن بمدينة طرابلس المغرب، وقيل: بموضع يقال له رقّادة، وكان رجلاً عالماً صالحاً، وقال بعضهم: إنّه توفي في آخر خلافة عبد الرحمن الناصر.
__________
(1) في الأصول: مسلم، والتصويب عن المصادر.
(2) انظر تاريخ ابن الفرضي 2: 173.
(3) ترجمة ضرغام بن عروة في التكملة: 770 والذيل والتكملة 4: 145.
(4) ترجمة عبد الله بن أبي عامر المعافري في التكملة: 781.(2/646)
281 - ومنهم أبو محمد بن عبد الله بن حمود، الزبيدي، الإشبيلي، ابن عم أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي اللغوي (1) ، كان من مشاهير أصحاب أبي علي البغدادي، ورحل إلى المشرق فلم يعد إلى الأندلس، ولازم السيرافي في بغداد إلى أن توفّي، فلازمه بعده صاحبه أبا علي الفارسي ببغداد والعراق، وحيثما جال، واتبعه إلى فارس، وحكى أبو الفتوح الجرجاني (2) أن أبا علي البغدادي غلّس لصلاة الصبح في المسجد، فقام إليه أبو محمد الزبيدي من مذود كان لدابته خارج الدار قد بات فيه أو أدلج (3) إليه ليكون أول وارد عليه، فارتاع منه، وقال: ويحك من تكون قال: أنا عبد الله الأندلسي، فقال له: إلى كم تتبعني والله إن على وجه الأرض أنحى منك. وكان من كبار النحاة وأهل المعرفة التامة والشعر، وجمع شرحاً لكتاب سيبويه، ويقال: إنّه توفّى ببغداد سنة 372.
282 - ومنهم عبد الله بن رشيق، القرطبي (4) ، رحل من الأندلس، فأوطن القيروان، واختص بأبي عمران الفاسي، وتفقّه به، وكان أديباً شاعراً عفيفاً خيّراً، وفي شيخه أبي عمران أكثر شعره، ورحل حاجّاً فأدى الفريضة، وتوفّي في انصرافه بمصر سنة 419، وأنشد له ابن رشيق في الأنموذج قوله رحمه الله تعالى:
خير أعمالك الرضى بالمقادير والقضا
__________
(1) ترجمة عبد الله بن حمود الزبيدي في التكملة: 783 والذيل والتكملة 4: 220 وطبقات الزبيدي 399 وبغية الوعاة: 282 وإنباه الرواة 2: 118 والمقري ينقل عن التكملة.
(2) انظر هذه الحكاية في إنباه الرواة 2: 119 ومعجم الأدباء 14: 81.
(3) ق ودوزي: أو دلج.
(4) ترجمة عبد الله بن رشيق في التكملة: 793 والذيل والتكملة 4: 225 ومسالك الأبصار 11: 359.(2/647)
بينما المرء ناضرٌ قيل: قد مات وانقضى
وقوله:
سأقطع حبلي من حبالك جاهداً وأهجر هجراً لا يجرّ لنا عرضا
وقد يعرض الإنسان عمن يودّه ويلقى ببشرٍ من يسرّ له البغضا
قال في الأنموذج: وأراد الحج فناله وجع فمات بمصر بعد اشتهاره فيها بالعلم والجلالة، وقد بلغ عمره نحو الأربعين سنة، رحمه الله تعالى، وهو مخالف لما قدمناه من أنّه أدى الفريضة، وقد ذكر ابن الأبار العبارتين، والله تعالى أعلم.
283 - ومنهم أبو بكر اليابري، ويكنى أيضاً أبا محمد، وهو عبد الله ابن طلحة بن محمد بن عبد الله (1) ، أصله من يابرة، ونزل هو إشبيلية، وروى عن أبي الوليد الباجي وعن جماعة بغرب الأندلس منهم أبو بكر ابن أيوب وأبو الحزم ابن عليم وأبو عبد الله ابن مزاحم البطليوسيّون وغيرهم، وكان ذا معرفة بالنحو والأصول والفقه وحفظ التفسير والقيام عليه، وحلّق به مدّة بإشبيلية وغيرها، وهو كان الغالب عليه مع القصص فيسرد منه جملاً على العامة، وكان متكلماً، وله ردّ على أبي محمد ابن حزم، وكان أحد الأئمّة بجامع العدبّس، ورحل إلى المشرق، فروى عن أبي بكر محمد بن زيدون بن علي كتابه المؤلف في الحديث المعروف بالزيدوني، وألف كتاباً في شرح صدر رسالة ابن أبي زيد، وبيّن ما فيها من العقائد، وله مجموعة في الأصول والفقه منها كتاب سمّاه المدخل إلى كتاب آخر سمّاه سيف الإسلام على مذهب مالك الإمام ألّفه للأمير علي بن تميم بن المعز الصنهاجي صاحب المهدية، وذكر
__________
(1) ترجمة أبي بكر اليابري في التكملة: 815.(2/648)
في فصل الحج منه أنّه رحل إلى المهدية سنة 514، واستوطن مصر مدة، ثم رحل إلى مكّة، وبها توفّي رحمه الله تعالى؛ وروى عنه أبو المظفر الشيباني وأبو محمد العثماني وأبو الحجاج يوسف بن محمد القيرواني وأبو عمرو عثمان ابن فرج العبدري وأبو محمد ابن صدقة المنكبي وأبو عبد الله ابن يعيش البلنسي وغيرهم، وكان سماع أبي الحجّاج منه موطأ مالك سنة 516، رحم الله تعالى الجميع.
284 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن مرزوق، اليحصبي، الأندلسي (1) ، رحل حاجّاً فسمع منه بالإسكندرية أبو الطاهر السّلفي كتاب طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي، وحدّث به عنه عن ابن برّال عن صاعد.
285 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد، الصريحي، المرسي، ويعرف بابن مطحنة (2) ، روى عن أبي بكر ابن الفرضي النحوي، وتأدب به، ورحل إلى المشرق، ولقي أبا محمد العثماني وغيره، وحج، وقعد لتعليم الاداب، وممن أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد السلام وأبو عبد الله المكناسي وغيرهما، وأنشد رحمه الله تعالى قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن البيّاسي (3) بالإسكندريّة لنفسه:
يمدّ الدهر من أجلي وعمري كما أنّي أمدّ من المداد
لنا خطّان مختلفان جدّاً كما اختلف الموالي والمعادي
فأكتب بالسواد على بياضٍ ويكتب بالبياض على السواد
__________
(1) ترجمة ابن مرزوق اليصحبي في التكملة: 818.
(2) ترجمة ابن مطحنة في التكملة: 830.
(3) التكملة: ابن أبي اليابس.(2/649)
وهذا نظير قول الآخر:
ولي خطٌّ وللأيام خطٌّ وبينهما مخالفة المداد
فأكتبه سواداً في بياضٍ وتكتبه بياضاً في سواد
وبعضهم ينسب الأبيات الثلاثة السابقة للسّلفي الحافظ، فالله تعالى أعلم.
286 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى، الشّلبي (1) ، سمع من الصدفي وغيره، وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف وعلم العربيّة والهيئة مع الخير والدين والزهد، وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر إشبيلية، ثم سرّح فرحل حاجّاً إلى المشرق، ودخل المهدية فلقي بها المازري، وأقام في صحبته نحو ثلاث سنين، ثم انتقل إلى مصر، وحج سنة 527، وأقام بمكّة مجاوراً، وحج ثانية سنة 528، ولقي بمكّة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة، فحمل عنه، ودخل العراق وخراسان، وأقام بها أعواماً، وطار ذكره في هذه البلاد، وعظم شأنه في العلم والدين، وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال والمال، وتوفّي بهراة سنة 551، وقيل: إن وفاته سنة 548، وذكره العماد في الخريدة والسمعاني في الذيل، وأنشد له:
تلوّنت الأيّام لي بصروفها فكنت على لونٍ من الصبر واحد
فإن أقبلت أدبرت عنها وإن نأت فأهون بمفقودٍ لأكرم فاقد
وولد سنة 484 بشلب، رحمه الله تعالى.
287 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى، الأزدي، المرسي، ويعرف
__________
(1) ترجمة عبد الله بن عيسى الشلبي في التكملة: 834 وسرد ابن الأبار نسبه أطول مما هنا.(2/650)
بابن برطله (1) ، سمع من صهره القاضي الشهيد أبي علي الصدفي، ورحل حاجّاً سنة 510، فأدى الفريضة، وسمع من الطرطوشي والأنماطي والسّلفي وغيرهم، وانصرف إلى مرسية بلده، وكان حسن السّمت خاشعاً مخبتاً خيّراً متواضعاً نبيهاً نزهاً سالم الباطن، وحكى عن شيخه أبي عبد الله الرازي عن أبيه أنّه أخبره أن قاضي البرلس، وكان رجلاً صالحاً، خرج ذات ليلة إلى النّيل فتوضأ وأسبغ وضوءه، ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فسمع قائلاً يقول:
لولا أناسٌ لهم سردٌ يصومونا وآخرون لهم وردٌ يقومونا
لزلزلت أرضكم من تحتكم سحراً لأنّكم قوم سوء لا تبالونا
قال: فتجوّزت في صلاتي، وأدرت طرفي فما رأيت شخصاً ولا سمعت حسّاً، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى.
وقال ابن برطله رحمه الله تعالى: أنشدني أبو عامر قال: دخلت بعض مراسي الثغر، فوجدت في حجر منقوش هذه الأبيات:
نزلت ولي أملٌ عودةٌ ولكنّني لست أدري متى
ودافعني قدرٌ لم أطق دفاعاً لمكروهه إذ أتى
ومن أمره في يدي غيره سيغلب إن لان وإن عتا
فيا نازلاً بعدنا ههنا نحيّيك إن كنت نعم الفتى
فسألت عن منشدها، فقيل لي: هو أبو بكر ابن أبي درهم الوشقي، وكان قد حج وأراد العودة، فقال هذه الأبيات، ورواها بعضهم رحلت مكان نزلت، وهو أصوب، وأبدل قوله يا نازلاً بيا ساكناً، والخطب سهل
__________
(1) ترجمة عبد الله بن موسى بن برطله في التكملة: 841 ومعجم أصحاب الصدفي: 226.(2/651)
فيه، وبعض يقول: إن الأبيات وجدت بجامع مصر، والله تعالى أعلم.
288 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة، الداني، الأصبحي (1) ، لازم ابن سعد الخير، واحتذى أول أمره مثال خطّه فقاربه، وسمع منه، ثم رحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر ابن عوف والسّلفي وغير واحد، قال التجيبي: كان معنا بالإسكندرية بالعادلية منها، وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة 573، قال: وأنشدني لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي ابن إبراهيم بن سعد الخير البلنسي:
يا لاحظاً تمثال نعل نبيه قبّل مثال النعل لا متكبرا
والثم له (2) فلطالما عكفت به ... قدم النبي مروّحاً ومبكرا أولا ترى أن المحبّ مقبّلٌ طللاً وإن لم يلف فيه مخبرا
وقد سبق ابن سعادة أبو عبد الله وهو غير هذا، والله تعالى أعلم.
289 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف، القضاعي، المري (3) ، سمع من أبي جعفر ابن غزلون صاحب الباجي وغير واحد، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السّلفي والرازي، وتجول هنالك، وأخذ عنه أبو الحسن ابن المفضل المقدسي وغير واحد، وقال ابن المفضل: أنشدني المذكور، قال: أنشدني أبو محمد بن صارة:
وكوكبٍ أبصر العفريت مسترقاً للسمع فانقضّ يدني خلفه لهبه
__________
(1) ترجمة ابن سعادة الأصبحي في التكملة: 850 والذيل والتكملة: 227.
(2) ق: به، وكذلك في التكملة.
(3) ترجمة عبد الله بن يوسف القضاعي في التكملة: 856 وقال إن أصله من أندة.(2/652)
كفارسٍ حلّ إعصارٌ (1) عمامته ... فجرّها كلّها من خلفه عذبه 290 - ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر، الوادي آشي، الحنفي (2) ، سكن طرابلس الشام، ثم انتقل إلى حلب، وأقام بها، وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب، ويعرف النحو والعروض، ويشتغل فيهما، وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر ابن العديم، قال الصفدي: رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة 723 فرأيته حسن التودّد، وأنشدني لنفسه من لفظه:
ما لاح في درعٍ يصول بسيفه والوجه منه يضيء تحت المغفر
إلا حسبت البحر مدّ بجدول والشمس تحت سحائبٍ من عنبر
قال الصفدي: جمع هذا المقطوع بين قول ابن عباد (3) :
ولمّا اقتحمت الوغى دارعاً وقنّعت وجهك بالمغفر
حسبنا محيّاك شمس الضحى عليها سحابٌ من العنبر
وبين قول أبي بكر الرصافي (4) :
لو كنت شاهده وقد غشي الوغى يختال في درع الحديد المسبل
لرأيت منه والقضيب بكفّه بحراً يريق دم الكماة بجدول
وقال يمدح الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجّه إلى حلب قاضي القضاة:
__________
(1) التكملة: إحضار.
(2) ترجمته في الوافي 7 الورقة: 66 وأعيان العصر (نسخة آياصوفيا رقم: 2962) : 73أوالدرر الكامنة 1: 182 والمقري ينقل عن الوافي.
(3) ديوان المعتمد: 17 والقلائد: 8.
(4) ديوان الرصافي البلنسي: 125 ولعلهما لغيره إذ كنية الرصافي البلنسي أبو عبد الله، وهذا يكنى أبا بكر.(2/653)
يمنٌ ترنّم فوق الأيك طائره وطائرٌ عمّت الدنيا بشائره
وسؤددٌ أصبح الإقبال ممتثلاُ في أمره ما أخوه العزّ آمره
ومنها (1) :
من مخبرٌ عني الشهباء أنّ كما ل الدين قد شيّدت فيه مقاصره
وأنّ تقليده الزاهي وخلعته ال تي تطرّز عطفيها مآثره
بالنفس أفديك من تقليد مجتهدٍ سواه يوجد في الدّنيا مناظره
أنشدت حين أدار البشر كأس طلىً حكت أوائله صفواً أواخره
وقد بدت في بياض الطّرس أسطره سوداً لتبدي ما أهدت محابره
ساقٍ تكوّن من صبحٍ ومن غسقٍ فابيضّ خدّاه واسودّت غدائره
وخلعة قلت إذ لاحت لتزرينا بالروض تطفو على نهر أزاهره
وقد رآها عدوٌّ كان يضمر لي من قبل سوءاً فخانته ضمائره
ورام صبراً فأعيته مطالبه وغيّض الدمع فانهلّت بوادره
بعودة الدولة الغرّاء ثالثةً أمنت منك ونام الليل ساهره
وقال أيضاً:
تسعّر في الوغى نيران حربٍ بأيديهم مهنّدة ذكور
ومن عجبٍ لظى قد سعّرتها جداول قد أقلّتها بدور
وقال ملغزاً في قالب لبن:
ما آكلٌ في فمين يغوط من مخرجين
مغرىً بقبضٍ وبسطٍ وما له من يدين
ويقطع الأرض سعياً من غير ما قدمين
__________
(1) ومنها: سقطت من ق، وهي ثابتة في الوافي.(2/654)
وخمّس لامية العجم مدحاً في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الصفدي: ولمّا كنت في حلب كتب إليّ أبياتاً، انتهى.
291 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر، القيسي (1) ، قال أبو حيان: كان المذكور رفيقاً للأستاذ أبي جعفر ابن الزبير شيخنا، وكان كاتباً مترسلاً شاعراً، حسن الخط، على مذهب أهل الظاهر، وكان كاتب أبي سعيد فرج ابن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك الأندلس، وسبب خروجه من الأندلس أنّه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث، فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله، فتوعده بقطع يديه، فضج من ذلك وقال: إن إقليماً تمات فيه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى يتوعّد بقطع اليد من يقيمها لجدير أن يرحل منه، فخرج وقدم ديار مصر، وسمع بها الحديث، وكان فاضلاً نبيلاً، ومن شعره:
أتنكر أن يبيضّ رأسي لحادثٍ من الدهر لا يقوى له الجبل الراسي
وكان شعاراً في الهوى قد لبسته فرأسي أمّيٌّ وقلبي عباسي
قلت: لو قال شيبي لكان الغاية.
وأنشد له بعضهم:
فلا تعجبا ممّن عوى خلف ذي علاً لكلّ عليٍّ في الأنام معاويه
قلت: لا يخفى ما فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (2) ، ويرحم الله بعض الأندلسيين حيث قال في رجز كبير:
ومن يكن يقدح في معاويه فذاك كلبٌ من كلابٍ عاوية
__________
(1) ترجمة أحمد بن صابر القيسي في المنهل الصافي 1: 299.
(2) أجمعين: سقطت من ق.(2/655)
وأنشد أبو حيان للمذكور:
أرى الدهر ساد به الأرذلو ن كالسّيل يطفو عليه الغثا
ومات الكرام وفات المديح فلم يبق للقول إلا الرثا
وأنشد له أيضاً:
لولا ثلاثٌ هنّ والله من أكبر آمالي في الدنيا
حجٌّ لبيت الله أرجو به أن يقبل النيّة والسعيا
والعلم تحصيلاً ونشراً إذا رويت أوسعت الورى ريّا
وأهل ودٍّ أسأل الله أن يمتع بالبقيا إلى اللقيا
ما كنت أخشى الموت أنّى أتى بل لم أكن ألتذّ بالمحيا
وقال أبو حيان في هذه المادة:
أما إنّه لولا ثلاثٌ أحبّها تمنيت أنّي لا أعدّ من الأحيا
فمنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ تكفّر لي ذنباً وتنجح لي سعيا
ومنهم صوني النفس عن كلّ جاهل لئيمٍ فلا أمشي إلى بابه مشيا
ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى نسوا سنّة المختار واتبعوا الرأيا
أتترك نصّاً للرسول وتقتدي ... بشخص لقد بدّلت بالرشد الغيّا (1) 292 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي، سكن سرقسطة وغيرها، وروى عن أبيه معظم علمه، وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر، وله تآليف تدل على حذقه: منها العقيدة في المذاهب السديدة ورسالة الاستعداد للخلاص من المعاد،
__________
(1) زاد في ق ق بعد هذا لفظة " انتهى ".(2/656)
وكان غاية في الورع، توفّي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة 493، رحمه الله تعالى.
293 - ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي الغرناطي (1) . قال العز بن جماعة: قدم علينا من المغرب سنة 724، ثمّ رجع إلى المغرب في هذه السنة، وبلغنا أنّه توفّي بمراكش سنة نيّف وأربعين وسبعمائة (2) ، وأنشد والدي قصيدةً من نظمه امتدحه بها، وأنا أسمع، ومن خطه نقلت، وهي:
قفا مورداً عيناً جرت بعدكم دما أناضي أسفارٍ طوين على ظما
غدون أهلاّتٍ تناقل أنجماً ورحن حنيّات تفوّق أسهما
يجشّمها الحادي الأمرّين حسّراً ويوطئها الحادي الأحرّين هيّما
على منسميها للشقائق منبتٌ وفي فمويها للشقاشق مرتمى
إلى أن قال:
وتعساً لآمالٍ جهامٍ سحابها تزجّى ركاماً ما استهلّ ولا همى
تجاذبها نفسٌ تجيش نفيسةً ومن لم يجد إلا صعيداً تيمّما
فهل ذممٌ يرعاه ليلٌ طويته طواني سرّاً بين جنبيه منهما
أقبّل منه للبروق مباسما وأرشف من بهماء ظلمائه لمى
إلى أن تجلّى من كنانة بدرها فعرّس ركبي في حماه وخيّما
__________
(1) ترجمة إبراهيم بن محمد الساحلي في الإحاطة 2: 337 والكتيبة الكامنة: 235 ومسالك الأبصار 11: 516 وقد ترجم له ابن الخطيب أيضاً في التاج وعائد الصلة وابن الأحمر في نثير الجمان وفي فرائد نثير الجمان الورقة: 52 وما بعدها. وهذا هو الطويجن وترجمته هنا مكررة وقد وردت في النفح برقم: 116.
(2) قلت: قد مر من قبل أنه توفي بتنبكتو سنة 744.(2/657)
ثمال اليتامى حيث ليس مظللٌ وكهف الأيامى أيّما عزٌّ مرتمى
ومنها:
فيا كفّه هل أنت أم غيث ديمةٍ أسالت عباباً في ثرى الجود عيلما
ويا سعيه يهنيك أجرٌ ثنى به على معطفي علياه برداً مسهّما
قضى بمنىً أوطار نفسٍ كريمةٍ وروّى صداها حين حلّ بزمزما
وناداه داعي الحق حيّ على الهدى فأسرج طوعاً في رضاه وألجما
فلله ما أهدى وأرشد واهتدى ولله ما أعطى وأوفى وأنعما
ومنها:
أمتّ بآدابٍ وعلمٍ كليهما أقاما لديك الدّعي فرضاً وألزما
وهي طويلة.
294 - ومن الراحلين من الأندلس الوليد بن هشام، من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين (1) ، خرج من الأندلس على طريقة الفقر والتجرّد، ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة، وأظهر الزهد والعبادة، واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن، وتغيير المنكر، حتى خدع البربر بقوله وفعله، وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشّر بخلافته بما كان عنده من علم الحدثان، وكان يقال عن مسلمة: إنّه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية، وأخرج لهم أرجوزة أسنده إلى مسلمة، ومنها في وصفه:
وابن هشامٍ قائمٌ في برقه به ينال عبد شمسٍ حقّه
__________
(1) انظر أخبار أبي ركوة في الدرة المضية 6: 275 واتعاظ الحنفا: 304 وتاريخ ابن خلدون 4: 58 وابن الأثير 9: 197 - 203.(2/658)
يكون في بربرها قيامه وقرّة العرب لها إكرامه
واتفق أن قرة انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه، وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها، وخطبوا له فيها بالخلافة، وكان قيامه في رجب سنة 397، فهزم عسكر باديس الصّنهاجي صاحب إفريقية وعسكر الحاكم بمصر، وأحيا أمره، وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من سفك الحاكم الدماء، ورغبوه في الوصول إلى أوسيم، وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة، فلمّا وصل إليها قام بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة، ثم جاء به إلى القاهرة، فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل، ثم قتل صبراً في 13 رجب سنة 399، ولما حصل في يد الحاكم كتب إليه:
فررت ولم يغن الفرار، ومن يكن مع الله لم يعجزه في الأرض هارب
ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ سوى فزعي الموت الذي أنا شارب
وقد قادني جرمي إليك برمّتي كما اجترّ ميتاً في رحى الحرب سالب
وأجمع كلّ الناس أنّك قاتلي فيا ربّ ظنٍّ ربّه فيه كاذب
وما هو إلاّ الانتقام وينتهي وأخذك منه واجباً وهو واجب
ولأبي ركوة المذكور أشعار كثيرة، منها قوله:
بالسّيف يقرب كلّ أمرٍ ينزح فاطلب به إن كنت ممّن يفلح
وله:
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه وليس عليه أن يساعده الدهر
وقوله:
إن لم أجلها في ديا ر العدا تملأ وعر الأرض والسّهلا
فلا سمعت الحمد من قاصدٍ يوماً ولا قلت له أهلا(2/659)
وله غير ذلك ممّا يطول، وخبره مشهور.
295 - ومنهم أبو زكريا الطليطلي، يحيى بن سليمان (1) ، قدم إلى الإسكندرية، ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب، وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء، قال بعض من طالعه: ما رأيته مدح أحداً إلا وهجاه، وله مصنفات في الأدب، ومن نظمه قوله:
أرضٌ سقت غيطانها أعطانها وزهت على كثبانها قضبانها
ومنها:
فتكت بألباب الكماة فسيفها من طرفها وسنانها وسنانها
لم يبق شخصٌ بالبسيطة سالماً إلاّ سبى إنسانه إنسانها
ومنها:
وتصاحبت وتجاوبت أطيارها وتداولت وتناولت ألحانها
وتنسّمت وتبسّمت أيامها وتهلّلت وتكلّلت أزمانها
بمديرها ومنيرها ونميرها ومعيرها حسناً جلاه عيانها
296 - ومنهم أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد، القرطبي، المعروف بالمغيلي (2) ، سمع من محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما، ورحل فسمع من أبي سعيد ابن الأعرابي، وكان بصيراً بالعربية والشعر، ومؤلفاً جيد النظر حسن الاستنباط، حدّث، وتوفّي فجأة في شهر ربيع الأول سنة 362، قاله ابن الفرضي.
__________
(1) ق: سلمان.
(2) ترجمة يحيى بن عبد الله المغيلي في ابن الفرضي 2: 188.(2/660)
297 - ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى ابن سلمة، الأنصاري، الغرناطي، قدم المشرق وتوفّي بمصر سنة 703 عن نحو خمسين سنة، بالبيمارستان المنصوري، قال قاضي القضاة عبد العزيز ابن جماعة الكناني في كتابه نزهة الألباب (1) ": أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة، بعد قدومه من مكّة والمدينة، وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسّر له:
لئن بعدت عنّي ديار الذي أهوى فقلبي على طول التباعد لا يقوى
فحدّث رعاك الله عن عرب رامةٍ فإنّي لهم عبدٌ على السرّ والنجوى
فإن متّ شوقاً في الهوى وصبابةً فيا شرفي إن متّ في حبّ من أهوى
فيا أيّها العذّال كفّوا ملامكم فما عندكم بعض الذي بي من الشكوى
ويا جيرة الحيّ الذي ولهي بهم أما ترحموا صبّاً يحنّ إلى حزوى
ويا أهل ذيّاك الحمى وحياتكم يمين وفيّ صادق القول والدّعوى
ملكتم قيادي فارحموا وترفّقوا فأنتم مرادي لا سعاد ولا علوى
فمالي سواكم سادتي لاعدمتكم فجودوا بوصلٍ أنتم الغاية القصوى
انتهى.
298 - ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي (2) ، الغرناطي، قال ابن جماعة في الكتاب المسمى قريباً أنشدني المذكور لنفسه، على قبر سيّدنا حمزة رضي الله تعالى عنه:
يا سيّد الشّهداء بعد محمدٍ ورضيع ذي المجد المرفّع أحمد
يا ابن الأعزّة من خلاصة هاشمٍ سرج المعالي والكرام المجدّ
يا أيّها البطل الشّجاع المحتمي دين الإله ببأسه المستأسد
يا نبعة الشرف الأصيل المعتلي يا ذروة الحسب الأثيل الأتلد
__________
(1) ق: الأولياء؛ وفي كشف الظموم: نزهة الألباب؛ ودوزي: الألباء.
(2) ترجمته في الدرر الكامنة 4: 96.(2/661)
يا نجدة الملهوف في قحم الوغى عند التهاب جحيمها المتوقّد
يا غيث ذي الأمل البعيد مرامه يا غوث موتور الزمان الأنكد
يا من لعظم مصابه خصّ الأسى قلب الرسول وعمّ كلّ موحد
يا حمزة الخير المؤمّل نفعه يوم الهياج وعند فقد المنجد
وافاك يا أسد الإله وسيفه وفدٌ ألمّوا من حماك بمعهد
جئناك يا عمّ الرّسول وصنوه قصد الزيارة فاحتفل بالقصّد
واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا شيم المزور قيامه بالعوّد
لذنا بجانبك الكريم توسّلاً وكذا العبيد ملاذهم بالسّيّد
فاشفع لضيفك فالكريم مشفّعٌ عند الكريم ومن يشفّع يقصد
يا ابن الكرام المكرمين نزيلهم أهل المكارم والعلا والسؤدد
نزل الضيوف جناب ساحتك التي منها يؤمّل كلّ عطفٍ مسعد
فاجعل أبا يعلى قرانا عطفةٌ وارغب لربّك في هدانا واقصد
فعسى يمنّ على الجميع بتوبةٍ يهدى بها نهج الطريق الأرشد
فقد اعتمدنا منك خير وسيلةٍ نرجو بها حسن التجاوز في غد
لم لا تؤمّ وأنت عمّ محمدٍ ولدينه قد صلت صولة أيّد
وصحبته ونصرته وعضدته وذببت عنه باللسان وباليد
وبذلت نفسك في رضاه بجنّة فقبلت في ذات الإله الأوحد
فجزاك عنّا الله خير جزائه وسقى ثراك حيا الغمام المرعد
وعلى رسول الله منه سلامه وعليك متّصل الرضى المتجدّد
ولد ببعض أعمال غرناطة قبل التسعين وستمائة، وتوفّي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة 715، ودفن بالبقيع، رحمه الله تعالى، انتهى.
299 - ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن المايرقي، من أقارب بعض(2/662)
ملوك المغرب، وكان من الفضلاء العلماء الأدباء، وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن، ومنه قوله:
القضب راقصةٌ، والطير صادحةٌ والنشر مرتفعٌ، والماء منحدر
وقد تجلّت من اللذات أوجهها لكنّها بظلال الدوح تستتر
فكلّ وادٍ به موسى يفجّره وكلّ روضٍ على حافاته الخضر
وقوله:
وذي هيفٍ راق العيون انثناؤه بقدٍّ كريّانٍ من البان مورق
كتبت إليه: هل تجود بزورةٍ فوقّع لا خوف الرقيب المصدق
فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلاً كما اعتنقت لا ثم لم تتفرق
وهذا أحسن من قول ذي القرنين ابن حمدان (1) :
إنّي لأحسد لا في أحرف المصحف إذا رأيت اعتناق اللام وللألف
وما أظنّهما طالاجتماعهما إلاّ لما لقيا من لوعة الأسف
وأحسن من هذا قول القيسراني:
أستشعر اليأس في لا ثم تطعمني إشارة في اعتناق اللام للألف
وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ربيع الأول سنة 655، ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى، والأبيات التي أولها القضب راقصة ... الخ نسبها له اليونيني وغير واحد، والصواب أنها ليست له، وإنّما هي لنور الدين ابن سعيد صاحب المغرب، وقد تقدم ذكره، ولعل السهو سرى من تشارك الاسم واللقب والقطر، ومثل هذا كثيراً ما يقع، والله تعالى أعلم.
300 - ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى المشرق ابن عتبة الإشبيلي،
__________
(1) انظر اليتيمة 1: 106.(2/663)
وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود، واضطرمت بفتنته الأندلس ناراً، ولما قدم مصر هارباً من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد، وتعدّلت به الأحوال، فلمّا سئل عن حاله، بعد بعده عن أرضه وترحاله، بادر وأنشد (1) :
أصبحت في مصر مستضاماً أرقص في دولة القرود
واضيعة العمر في أخيرٍ مع النصارى أو اليهود
بالجدّ رزق الأنام فيهم لا بذواتٍ ولا جدود
لا تبصر الدهر من يراعي معنى قصيدٍ ولا قصود
أودّ من لؤمهم رجوعاً للغرب في دولة ابن هود
وتذكرت بقوله أرقص في دولة القرود ما وقع لأبي القاسم ابن القطان، وهو ممّا يستطرف ويستظرف، وذلك انّه لما ولي الوزارة الزينبيّ دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء والأعيان، فوقف بين يديه ودعا له، وأظهر الفرح والسرور، ورقص، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنّه يشير برقصه إلى قول الشاعر:
وأرقص للقرد في دولته
301 - ومن المرتحلين أبو عبد الله ابن جابر محمد بن جابر الضرير (2) ، من أهل المرية، ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير، وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها عند تعرضنا لأولاد لسان الدين ابن الخطيب، رحمه الله تعالى، ورحل إلى المشرق ودخل مصر والشام واستوطن حلب، وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان، وله أمداح نبوية كثيرة وتواليف: منها شرح ألفية ابن مالك وغير ذلك، وله ديوان شعر وأمداح نبوية في غاية الإجادة، ومن نظمه رحمه الله تعالى مورّياً بأسماء الكتب:
__________
(1) الأبيات في اختصار القدح: 164 ومعها ترجمته وانظر المغرب 1: 258.
(2) قد مرت الإشارة إلى ابن جابر الهواري الضرير وترجمته، ج 1: 38.(2/664)
عرائس مدحي كم أتين لغيره فلمّا رأته قلن هذا من الأكفا
نوادر آدابي ذخيرة ماجدٍ شمائل كم فيهن من نكت تلفى
مطالعها هنّ المشارق للعلا قلائد قد راقت جواهرها رصفا
رسالة مدحي فيك واضحةٌ، ولي مسالك تهذيبٍ لتنبيه من أغفى
فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي لأنت امرؤٌ من حاصل المجد مستصفى
وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتاباً، وهي: العرائس للثعالبي، والنوادر للقالي وغيره والمطالع لابن قرقول وغيره والمشارق للقاضي عياض وغيره، والذخيرة لابن بسام وغيره، والشمائل للترمذي، والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره، والقلائد لابن خاقان وغيره، ورصف المباني في حروف المعاني للأستاذ ابن عبد النور، وهو كتاب لم يصنف في فنّه مثله، والرسالة لابن أبي زيد وغيره، والواضحة لابن حبيب، والمسالك للبكري وغيره، والجواهر لابن شاس وغيره، والتهذيب في اختصار المدونة وغيره، والتنبيه لأبي إسحاق وغيره، ومنتهى السؤل لابن الحاجب، والمحصول للإمام الرازي، والغاية للنووي (1) وغيره، والحاصل مختصر المحصول، والمستصفى للغزالي، وما أحسن قول الحكيم موفّق الدين:
لله أيامنا والشّمل منتظمٌ نظماً به خاطر التفريق ما شعرا
والهف نفسي على عيشٍ ظفرت به قطعت مجموعه المختار مختصرا
وهذه ثلاثة كتب مشهورة: المختارو المجموع والمختصر وأحسن منه قول الآخر:
عن حالتي يا نور عين لا تسل ترك الجواب جواب تلك المسأله
__________
(1) وغيره: سقطت من ق.(2/665)
حالي إذا حدّثت لا لمعاً ولا جملاً لإيضاحي بها من تكمله
عندي جوىً يذر الفصيح مبلداً فاترك مفصّله ودونك مجمله
القلب ليس من الصحاح فيرتجى إصلاحه، والعين سحبٌ مثقله
وقد أوردنا في ترجمة أبي عبد الله ابن جزي الكاتب (1) الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب فلتراجع ثمة.
رجع إلى الشمس بن جابر
فنقول: ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة:
لم يبق فيّ اصطبار
مذ خلّفوني وساروا
وللحبيب أشاروا
جار الكرام فجاروا
لله ذاك الأوار
بانوا فما الدار دار
يا بدر أهلك جاروا وعلّموك التّجرّي
كانوا من الودّ أهلي
ما عاملوني بعدل
أصموا فؤادي بنبل
يا بين بيّنت ثكلي
يا روح قلبي قل لي
أهم دعوك لقتلي
وحرّموا لك وصلبي وحلّلوا لك هجري
__________
(1) الكاتب: سقطت من ق.(2/666)
حسبي وماذا عناد
هم المنى والمراد
وإن عن الحقّ حادوا
أو جاملوني وجادوا
يا من به الكلّ سادوا
والكلّ عندي سداد
فليفعلوا ما أرادوا فإنّهم أهل بدر
وتذكرت بهذا قول أبي البركات أيمن (1) بن محمد السعدي رحمه الله تعالى:
للعاشقين انكسار وذلّةٌ وافتقار
وللملاح افتخار وعزّةٌ واقتدار
وأهل بدري أشاروا وودعوني وساروا
يا بدر إلخ.
كتبت والوصل يملي جدّ الهوى بعد هزل
وحار ذهني وعقلي ما بين بدري وأهلي
يا بدر فاحكم بعد إذا أتوك بعذل
وحرّموا إلخ.
لولا هواك المراد ما كنت ممن يصاد
ولا شجاني البعاد يا بدر أهلك جادوا
غلطت جاروا وزادوا لكنّهم بك سادوا
فليفعلوا إلخ.
__________
(1) أيمن: سقطت من ق.(2/667)
رجع إلى ابن جابر، فنقول:
توفّي رحمه الله تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة 780، ومن نظمه قوله:
يا أهل طيبة في مغناكم قمر يهدي إلى كل محمود من الطّرق
كالغيث في كرم، والليث في حرم والبدر في أفق، والزهر في خلق
وله:
ولمّا وقفنا كي نودّع من نأى ولم يبق إلا أن تحثّ الركائب
بكينا وحقٌّ للمحبّ إذا بكى عشيّة سارت عن حماه الحبائب
وقال:
أمّا معاني المعاني فهي قد جمعت في ذاته فبدت ناراً على علم
كالبدر في شيمٍ، والبحر في ديمٍ والزهر في نعمٍ، والدهر في نقم
وقال:
ضحكت فقلت كأنّ جيدك قد غدا يهدي لثغرك من جواهر عقده
وكأنّ ورد الخدّ منك بمائه قد شاب عذب لماك حالة ورده
وقال (1) :
منعتنا قرى الجمال وقالت: ليس في غر زادنا من مجال
فأقمنا على الرحال وقلنا ما لنا حاجةٌ بحطّ الرّحال
__________
(1) ق: وقوله.(2/668)
وقال:
عذّب قلبي رشأٌ ناعمٌ أسهر جفني طرفه الناعس
يحرس باللحظ جنى خدّه يا ليته لو غفل الحارس
وله:
وافيت ربعهم وقد بعد المدى ونأى الفريق من الديار وسارا
ما كدت أعرف بعد طول تأمّلٍ داراً بها طاف السرور ودارا
وله:
ولست أرى الرجال سوى أناسٍ همومهم موافاة الرجال
أطالوا في النّدى إهلاك مال فعاشوا في الأنام ذوي كمال
وقال:
أيّها المتهمون نفسي فداكم أنجدوني على الوصول لنجد
وقفوا بي على منازل ليلى فوجودي هناك يذهب وجدي
وما كتبه على كتاب نسيم الصّبا لابن حبيب، وصورته: لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصّبا، المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا، انتعش بها الخاطر انتعاش النبت بالغمام، وهمت سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام، وأخرجت أرض القرائح ما فيها من النبات، وسمعت الآذان صخبة الأذهان بهذه الأبيات:
هذي فصول الربيع في الزمن كم حسنٍ أسندت إلى حسن(2/669)
رقّت وراقت فمن شمائلها بمثل صرف الشّمول تتحفني
كم ملحٍ قد حوت وكم لمحٍ يعجبني لفظها ويعجزني
كم فيه من نفثٍ ومن نكتٍ أشهدني حسنها فأدهشني
جمعٌ عدمنا له النظير فلا يصرف عن خاطرٍ ولا أذن
يا خير أهل العلا وبحرهم أيّ بديع الكلام لم ترني
بدرك في مطلع الفضائل لا يكون مثلٌ له ولم يكن
هذي الفصول التي أتيت بها قد أفحمت كلّ ناطقٍ لسن
كم فنّ معنىً بها يذكّرني شجوي لشدو الحمام في فنن
فمن نسيبٍ مع النسيم جرى لطفاً فأزرى بالجوهر الثمن
وحسن سجعٍ كالزّهر في أفقٍ والزّهر في ناعمٍ من الغصن
له معانٍ أعيت مداركها كلّ معانٍ بنيلهن عني
لا زال راقٍ للمجد راقمها ذا سننٍ حاز أحسن السنن
فصول، هي للحسن أصول، وشمول، لها على كل القلوب شمول، ليس لقدامة على التقدم إليها حصول، ولا لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول، ولا انتهى قسّ الإياديّ لهذه الأيادي، ولا ظفر بديع الزمان بهذه البدائع الحسان، لقد قصّر فيها حبيب عن ابنه، وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه، نزهت في طرف خمائلها، ونبهت بلطف شمائلها، تالله إنّها لسحر حلال، وخلال ما مثلها خلال، كلام كلّه كمال، ومجال لا يرى فيه إلا جمال، راقم بردها، وناظم عقدها، في كل فصل، جاء بكمال فضل، وفي كل معنى، عمر بالبراعة مغنى، أعرب فأغرب، وأوجز فأعجز، وأطل فأطاب، وأجاد حين أجاب، فما أنفس فرائده، وأنفع فوائده، وأفصح مقاله، وأفسح مجاله، وأطوع للنظم طباعه، وأطول في النثر باعه، وأزاهر نبتت في كتاب، وجواهر تكوّنت من ألفاظ عذاب، ومواهب لا تدرك(2/670)
بيد اكتساب، فسبحان من يرزق منيشاء بغير حساب، فصول أحلى في الأفواه من الشّهد، وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السّهد، سكب أدبها في قالب النكت الحسان، وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن حسّان، فما أحقّها أن تسمى فصول الربيع، وأصول البديع، لا زال حسنها يملأ الأوراق بما راق، ويزين الآفاق بما فاق، ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق، وحقائق بلاغته في جيد الإجازة بمنزلة الأطواق، بمنّ الله تعالى وكرمه، انتهى.
وحيث جرى ذكر كتاب نسيم الصّبا فلا بأس بأن نذكر تقاريظ العلماء له، فمن ذلك قول القاضي شرف الدين بن ريان: وقفت على هذا الكتاب الذي أبد ع فيه مؤلفه، ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه، وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه، وعرفت مقدار ما فيه من الإنشاء وأين من يعرفه، فوجدته ألطف من اسمه، وأحسن من الدرر في نظمه، وأطيب من الورد عند شمّه، هبّت على رياض فصوله نسيم صباها، ففاقت الأزهار في رباها، وتشوقت قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب ريّاها، وفاضت عليه أنوار البدر فأغنى سناها، عن الشمس وضحاها، وتحلّت نحور البلغاء من كلامه بالدر اليتيم، ومن معانيه بالعقد النظيم، وترنّحت أفنان فنون الفصاحة لما هبّ عليها ذلك النسيم، كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه، وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد إلاّ في كتابه، صدر هذا الكتاب عن علم سابق وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق، وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق، وقريحة إذا ذقت جناها، وشمت سناها، تذكرت ما بين العذيب وبارق، فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه، ويبلغه من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه، بمنّه وكرمه، انتهى.
وقرظ عليه بعضهم بقوله: وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم من هذه الفصول، ووجد من نسيم الصّبا أمارات القبول، ونزّه طرفه في رياض هذا الكتاب، وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن(2/671)
رد الجواب:
ماذا أقول وكلّ وصفٍ دونه أين الحضيض من السّماك الأعزل
يا لها كلمات نقصت قدر الأفاضل، وفضحت فصحاء الأوائل، وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل، وزادت في البلاغة على فريد، وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد (1) ، وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعاً، وملكت زمام البيان فما تركت للبديع منه نوعاً:
قطف الرجال القول حين نباته وقطفت أنت القول لما نوّرا
وخطاب أعجز الخطباء وصفه، وجواب ألغى البلغاء رصفه، وغرائب تعرّفت بمبديها، وشوارد تألفت بمهديها، وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنسّ قبلك ولا جانٌ، ولم يقطف أزهارها عين ناظر ولا يد جانٍ، معانٍ تطرب السمع لها حكم وأحكام، وألفاظ هي الأرواح للأرواح أجسام، فلمّا ألقى فهمه عروة المتماسك، وضاقت عليه في وصفه المسالك، وعجز عن وصف بلوغ بلاغته عطف على حسن كتابته فرأى قطاً يسبي الطرف ويستغرق الظرف، نسج (2) قلمه الكريم من وشي البلاغة ديباجاً، واتخذ من محاسن الحسان طريقاً ومنهاجاً، فألفى ألفاتٍ كاعتدال القدود، ونوناتٍ كأهلّة السعود، وسينات كالطرر، ونقطاً كالدرر، جعل للأقلام حجّة قاطعة على السيوف، وحلّى الأسماع بحلية زائدة على الشنوف، فعطف ساعة يطنب (3) في دعائه وشكره، وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره، فلله درّ ألفاظك ودرر فضلك، وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلّك:
__________
(1) ق ودوزي: ولا عبد الحميد.
(2) ق ودوزي: نسخ.
(3) ق ودوزي: يطيب.(2/672)
لسانك غوّاصٌ، ولفظك جوهرٌ وصدرك بحرٌ بالفضائل زاخر
والله المسؤول أن يرفع قدر مقالك ومقام قدرك، ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنّه وكرمه، إنّه على كل شيء قدير.
وكتب قاضي القضاة تاج الدين السبكي، رحمه الله تعالى، في تقريظ الكتاب المذكور ما نصّه: الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحدّقت نحو الحدائق، وفوّقت سهمي تلقاء الغرض الشائق، وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق، فما علّل صداي كنسيم الصّبا، ولا كمثله سهماً صائباً صابه من لا صبا، ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهباً:
وتجيء من ملح الكلا م بطارفٍ أو تالده
كلمٌ نوابغ نحو آفاق المطالع صاعده
لو رامها قسٌّ لما ألفى أباه ساعده
أبدى نتائج عيّه في ذي المعاني الشارده
فعين الله تعالى عليها كلمات عليها منه رقيب، ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب، وفوائد حسان يذكرنا بها حسان البعيد حسن القريب (1) ، كتبه عبد الوهاب السبكي، انتهى.
وكتب ناصر الدين صاحب دواوين الإنشاء ما صورته: وقفت على هذا الكتاب الذي أشبه الدرّ في انتظامه، والثغر في ابتسامه، وقطر الندى في انسجامه، وزهر الروض في البكر إذا غنّت على غصونه مطربات حمامه، فوجدت بين اسمه ومسماه مناسبة اقتضاها طبع مؤلفه السليم، واتصالاً قريباً كاتصال الصديق الحميم، فتحققت أن مؤلفه - أبقاه الله تعالى وحرسه - أبدع في
__________
(1) وفوائد ... القريب: سقط من ق.(2/673)
تأليفه، وأصاب في تمييزه بهذا الاسم وتعريفه، فهو في اللطافة كالماء في إروائه، وكالهواء المعتدل في ملاءمة الأرواح بجوهر صفائه، وكالسلك إذا انتقي جوهره وأجيد في انتقائه، قد أينعت ثمرات فضائله فأصبحت دانية القطوف، وتجلت عرائس بلاغته فظهر بدرها بلا كسوف وانجابت ظلمات الهموم بسماع موصول مقاطعه التي هي في الحقيقة لأذن الجوزاء شنوف، فأكرم به من كتاب ما الروض بأبهى من وسيمه، ولا الرّيحان بأعطر من شميمه، ولا المدامة بأرق من هبوب نسيمه، ولا الدرّ بأسنى زهراً بل زهواً من رسومه، إذا تدبره الأديب أغنته تلك الأفانين، عن نغمات القوانين، وإذا تأمّله الأريب نزه طرفه في رياض البساتين، قد سوّر على كل نوع من البديع باب، لا يدخله إلا من خص من البلاغة باللّباب، والله تعالى يؤتيه الحكمة وفصل الخطاب، ويمتع بفضائله التي شهدها أهل العلم وذوو الألباب، بمنّه وكرمه، وكتبه محمد بان يعقوب الشافعي.
وكتب الصفدي شارح لامية العجم بما نصّه: وقفت على هذا المصنّف الموسوم بنسيم الصّبا، والتأليف الذي لو مرّ بالمجنون لم ألف ليلاه ولا مال إليها ولا صبا، والإنشاء الذي إن شاء قائله جعل الكلام غيره في هبّات الهواء هبا، والنثر الذي أغار قائله على سبائك الذهب الإبريز وسبى، والكلام الذي نبا عنه الجاحظ جاحداً وما له ذكر ولا نبا، فسبّحت جواهره حروفه لمن أوجده في هذا العصر، وعلمت أن ألفاظه ترمي قلوب حساده بشررٍ كالقصر، وتحققت أن قعقعة طروسه أصوات أعلامه التي تخفق له بالنصر، وتيقنت أن سطوره غصون لا تصل إليها كف جناية بجنىً ولا هصر:
وقلت لأهل النظم والنثر قابلوا ترائبها مصقولة كالسجنجل
وميلوا بأعطاف التعجب إنّها نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل
ولما ملت بعدما ثملت، وغزلت بعدما هزلت، جردت من نفسي شخصاً(2/674)
أخاطبه وأجاريه، في أوصاف محاسنها التي أناهبه منها وأناهيه، فقال لي: هذا الفن الفذ، والنثر الذي قهر أقران هذه الصناعة وبذ، والأدب الذي سد الطرق على أوابده فما فته شيء ولا شذ، هذا الإنشاء الذي ما له عديل في هذا العديد ولا ضريب، وهذا الكلام الذي فاق في الآفاق فما لحبيب بن أوس حسن حسن بن حبيب، فعين الله تعالى على هذه الكلم الساحرة، والفوائد التي أيقظت جفن الأدب بعدما كان بالساهرة، ومتع الله تعالى الزمان وأهله بهذا النوع الغض، والنقد النض، والبز البض، والبديع الذي رمّ ما تشعّث من ربع هذا الفن ورضّ، واقتضّ المعاني أبكاره وأفتضّ، وأرسل جارح بلاغته على الجوارح فصادها وانقص وانقض، وأنبط ماء الفصاحة لما تحدر وارفضّ، واستمال القلب الفظ لما فك ختم ذهوله وفض، وإنّه على كل شيء قدير، بالإجابة جدير، بمنّه وكرمه، وكتبه خليل الصفدي، انتهى.
302 - ومنهم الأديب أبو جعفرالألبيري (1) ، رفيق ابن جابر السابق الذكر، وهو البصير وابن جابر الأعمى، وله نظم بديع منه قوله:
أبدت لي الصّدغ على خدّها فأطلع الليل لنا صبحه
فخدّها مع قدّها قائلٌ هذا شقيقٌ عارضٌ رمحه
وقوله وقد دخل حمص:
حمصٌ لمن أضحى بها جنّةٌ يدنو لديها الأمل القاصي
حلّ بها العاصي ألا فاعجبوا من جنّةٍ حلّ بها العاصي
وقوله:
إنّ بين الحبيب عندي موتٌ وبه قد حييت منذ زمان
__________
(1) وردت في الإشارة إلى ابي جعفر الإلبيري الرعيني ومصادر ترجمته في النفح ج 1: ص 44.(2/675)
ليت شعري متى تشاهده العي ن وتقضي من اللقاء الأماني
قال: وفيه استخدام، لأن البين يطلق على البعد والقرب، انتهى.
ومن نظمه أيضاً رحمه الله تعالى:
ومورّد الوجنات دبّ عذاره فكأنّه خطٌّ على قرطاس
لمّا رأيت عذراه مستعجلاً قد رام يخفي الورد منه بآس
ناديته قف كي أودّع ورده ما في وقوفك ساعةً من باس
وهذا المعنى قد تبارى فيه الشعراء وتسابقوا في مضماره، فمنهم من جلّى وبرز، وحز خصل السبق وأحرز، ومنهم من كان مصلّياً، ومنهم من غدا لجيد الإحسان محلّياً، ومنهم من عاد قبل الغاية مولّياً.
رجع - ومن تأليفه رحمه الله تعالى شرحه لبديعية رفيقه ابن جابر المذكور.
وقال في خطبته: ولما كانت القصيدة المنظومة في علم البديع المسمّاة بالحلة السيرا في مدح خير الورى التي أنشأها صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله ابن جابر الأندلسي، نادرةً في فنها، فريدة في حسنها، ويجنى ثمر البلاغة من غصنها، وتنهل سواكب الإجادة من مزنها، لم ينسج على منوالها، ولا سمحت قريحة بمثالها، رأيت أن أضع لها شرحاً يجلو عرائس معانيها لمعانيها، ويبدي غرائب ما فيها لموافيها، لا أملّ الناظر فيه بالتطويل، ولا أعوقه بكثرة الاختصار عن مدارك التحصيل، فخير الأمور أوسطها، والغرض ما يقرّب المقاصد ويضبطها، فأعرب من ألفاظها كل خفي، وأسكت من لغاتها عن كل جلي، والله أسأل أن يبلغنا ما قصدناه، ويوردنا أحسن الموارد فيما أردناه، انتهى. وسمى الشرح الذكور طراز الحلة وشفاء الغلة، وممّا أورده رحمه الله تعالى في ذلك الشرح من نظم نفسه قوله:(2/676)
طيبة ما أطيبها منزلاً سقى ثراها المطر الصيّب
طابت بمن حلّ بأرجائها فالتربمنها عنبرٌ طيّب
يا طيب عيشي عند ذكري لها والعيش في ذاك الحمى أطيب
وقال رحمه الله تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصّه: وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي كيف جاء إلى قصر مشيد، ومحلّ سرور جديد، فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية، والمنازل الدارسة الخالية، فقال:
يا دار غيّرك البلى ومحاك
فأحزن في موضع السرور، وأجرى كلامه على عكس الأمور، وانظر إلى قول القطامي:
إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطلل وإن بليت وإن طالت بك الطّيل
فانظر كيف جاء إلى طلل بالٍ، ورسم خالٍ، فأحسن حين حيّاه، ودعا له بالسلامة كالمبتهج برؤية محيّاه، فلم يذكر دروس الطلل وبلاه، حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة، والذي فتح هذا الباب، وأطنب فيه غاية الإطناب، صاحب اللواء، ومقدم الشعراء، حيث قال:
ألا عم صباحاً أيّها الطّلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيدٌ مخلّدٌ قليل الهموم ما يبيت بأوجال
قيل وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لاتوجد إلا في الجنة وقال رحمه الله تعالى عند رحيله من غرناطة وأعلام نجد تلوح، وحمائمه تشدو على الأيك وتنوح:(2/677)
ولمّا وقفنا للوداع وقد بدت قبابٌ بنجدٍ قد علت ذلك الوادي
نظرت فألفيت السبيكة فضةً لحسن بياض الزهر في ذلك النادي
فلمّا كستها الشمس عاد لجينها لها ذهباً فاعجب لإكسيرها البادي
والسبيكة: موضع خارج غرناطة.
وقال رحمه الله تعالى:
هذه عشرةٌ تقضّت وعندي من أليم البعاد شوقٌ شديد
وإذا ما رأيت إطفاء شوقي بالتلاقي فذاك رأيٌ سديد
وقال رحمه الله تعالى وقد أهدى طاقية:
خذها إليك هديةً ممّن يعزّك على أناسك
اخترتها لك عندما أضحت هدية كلّ ناسك
أرسلتها طاقيّةً لتنوب عن تقبيل راسك
وله من رسالة: وافى كتابك فوجدناه أزهى من الأزهار، وأبهى من حسن الحباب على الأنهار، يشرق إشراق نجوم السماء، ويسمو إلى الأسماع سموّ حباب الماء.
وقال رحمه الله تعالى في العروض على مذهب الخليل:
خلّ الأنام ولا تخالط منهم أحداً ولو أصفى إليك ضمائره
إنّ الموفّق من يكون كأنّه متقاربٌ فهو الوحيد بدائره
وقال على مذهب الأخفش:
إنّ الخلاص من الأنام لراحةٌ لكنّه ما نال ذلك سالك
أضحى بدائرةٍ له متقارب يرجو الخلاص فعاقه متدارك(2/678)
وله:
دائرة الحبّ قد تناهت فما لها في الهوى مزيد
فبحر شوقي بها طويلٌ وبحر دمعي بها مديد
وإنّ وجدي بها بسيطٌ فليفعل الحسن ما يريد
وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيراً، ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي. قال أبو جعفر المترجم به: أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة:
وبي عروضيٌّ سريع الجفا يغار غصن البان من عطفه
الورد من وجنته وافرٌ لكنّه يمنع من قطفه
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
وبي عروضيٌّ سريع الجفا وجدي به مثل جفاه طويل
قلت له قطّعت قلبي أسىً فقال لي التقطيع دأب الخليل
انتهى.
وأنشد رحمه الله تعالى لرفيقه ابن جابر الضرير السابق الترجمة في ذلك:
عالمٌ بالعروض يخبن قلبي في مديد الهوى بلحظٍ سريع
عنده وافرٌ من الرّدف يبدو وخفيفٌ من خصره المقطوع(2/679)
وله:
صدوده لي مديدٌ وأمر حبّي طويل
وفيه أسباب حسنٍ وتلك عندي الأصول
فخصره لي خفيفٌ وردفه لي ثقيل
وله:
سببٌ خفيفٌ خصرها، ووراءه من ردفها سببٌ ثقيلٌ ظاهر
لم يجمع النوعان في تركيبها إلاّ لأن الحسن فيها وافر
وقد ذكر أبو جعفر - رحمه الله تعالى - لرفيقه ابن جابر السابق الذكر مقطوعات كثيرة، منها قوله:
يا أيها الحادي اسقني كأس السّرى نحو الحبيب ومهجتي للساقي
حيّ العراق على النوى واحمل إلى أهل الحجاز رسائل العشّاق
يا حسن ألحان الحداة إذا جرت نغماتها بمسامع المشتاق
وأورد له أيضا (1) ً:
يا حسن ليلتنا الي قد زارني فيها فأنجز ما مضى من وعده
قوّمت شمسجماله فوجدتها في عقرب الصّدع الذي في خدّه
رجع إلى أبي جعفر - رحمه الله تعالى - ومن فوائده أنّه لمّا ذكر فذلكة الحساب قال: هي التي يصنعها أهل الحساب آخر جملتهم المتقدمة فيقولون: فذلك وكذا وكذا، انتهى.
__________
(1) أيضاً: سقطت من ق.(2/680)
ولما أنشد رحمه الله تعالى قول بعضهم:
غزالٌ قد غزا قلبي بألحاظٍ وأحداق
له الثلثان من قلبي وثلثا ثلثه الباقي
وثلثا ثلث ما يبقى وباقي الثلث للساقي
وتبقى أسهمٌ ستٌّ تقسّم بين عشاق
قال ما نصّه: هذا الشاعر قسم قلبه إلى 81 سهماً، فجعل لمحبوبه منها الثلثين 54، وبقي الثلث 27، فزاده ثلثيه 18، فصار له 72، يبقى ثلث الثلث وهو 9، زاده منها ثلثي الثلث، وهو اثنان، وبقي من الثلث واحد أعطاه للساقي، فبقي من التسعة ستة، قسمها بين العشاق، فاجتمع لمحبوبه 74، وللساقي سهم واحد، وللعشاق ستة، والجملة 81، انتهى.
وأنشد رحمه الله تعالى في علم الحساب لرفيقه ابن جابر السابق الذكر:
قسم القلب في الغرام بلحظٍ يضرب القلب حين يرسل سهمه
هذه في هواه يا قوم حالي ضاع قلبي ما بين ضربٍ وقسمه
وأنشد له في الهندسة:
محيطٌ بأشكال الملاحة وجهه كأنّ به إقليدساً يتحدّث
فاعرضه خطّ استواء، وخاله به نقطةٌ، والشكل شكل مثلّث
وأنشد له في خط الرمل:
فوق خدّيه للعذار طريقٌ قد بدا تحته بياضٌ وحمره
قيل ماذا فقلت أشكال حسنٍ تقتضي أن أبيع قلبي بنظره
وأنشد له في علم الخط:
قد حقّق الحسن نون حاجبه وخطّ في الصّدغ واو ريحان(2/681)
ومدّ من حسن قدّه ألفاً أوقف عيني وقوف حيران
وأنشد له أيضاً:
ألف ابن مقلة في الكتاب كقدّه والنون مثل الصّدغ في التحسين
والعين مثل العين لكن هذه شكلت بحسنٍ وقاحةٍ ومجون
وعلى الجبين لشعره سينٌ بدت حار ابن مقلة عند تلك السين
قل للذي قد خطّ تحت الصّدغ من خيلانه نقطاً لجلب فنون
يا للرجال ويا لها فتنةٍ في وضع ذاك النّقط تحت النون
وأورد له في ذكر الأقلام السبعة وغيرها:
تعليق ردفك بالخصر الخفيف له ثلثالجمال وقد وفّته أجفان
خدٌّ عليه رقاع الروض قد جعلت وفي حواشيه للصدعين ريحان
خطّ الشباب بطومار العذار به سطراً ففضاحه للناس فتّان
محقق نسخصبري عن هواه ومن توقيع مدمعي المنثور برهان
يا حسن ما قلم الأشعار خطّ على ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان
أقسمت بالمصحف الشامي وأحرفه ما مرّ بالبال يوماً عنك سلوان
ولا غبار على حبي فعندك لي حساب شوق له في القلب ديوان
وأنشد له:
يا صاحب المال ألو تستمع لقوله " ما عندكم ينفد "
فاعمل به خيراً فوالله ما يبقى ولا أنت يه مخلد(2/682)
وله:
إن شئت أن تجد العدوّ وقد غدا لك صاحباً يولي الجميل ويحسن
فاعمل كما قال الخبير بخلقه في قوله " ادفع بالتي هي أحسن "
وله:
إذا شئت رزقاً بلا حسبةٍ فلذ بالتقى واتّبع سبله
وتصديق ذل في قوله " ومن يتّق الله يجعل له "
وأورد له أيضاً (1) :
عملٌ إن لم يوافق نيّةً فهو غرسٌ لا يرى منه ثمر
" إنّما الأعمال بالنّيات " قد نصّه عن سيد الخلق عمر
وقوله:
حياء المرء يزجره فيخشى فخف من لا يكون له حياء
فقد قال الرسول بأنّ ممّا به نطق الكرام الأنبياء
" إذا ما أنت لم تستحي فاصنع كما تختار وافعل ما تشاء "
وقوله:
قال الرسول " الحياء خير " فاصحب من الناس ذا حياء
وعن قليل الحياء فابعد فخيره ليس ذا رجاء
وقوله:
" من سلم المسلمون كلهم وآمنوا من لسانه ويده
__________
(1) ق: قوله.(2/683)
فذلك المسلم الحقيق " بذا جاء حديثٌ لا شك في سنده
ولابن جابر ممّا كتب به إلى الصلاح الصّفدي (1) :
إن البراعة لفظ أنت معناه وكلّ شيء بديع أنت مغناه
إنشاد نظمك أشهى عند سامعه من نظم غيرك لو إسحاق غنّاه
وهي طويلة، فأجابه الصفدي بقوله:
يا فاضلاً كرمت فينا سجاياه وخصّنا باللآلي في هداياه
خصصتني بقريض شفّ جوهره لمّا تألّق منه نور معناه
من كل بيتٍ مبانيه مشيدة كم من خبايا معانٍ في زواياه
وهي طويلة.
رجع إلى نظم أبي جعفر
فمن ذلك قوله:
تريك قدّاً على ردفٍ تجاذبه كخوطةٍ في كثيب الرمل قد نبتت
ريّا القرنفل في ريح (2) الصّبا سحراً ... يضوع منها إذا نحوي قد التفتت عقد بهما ألفاظ قول امرئ القيس:
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل
وأورد له قوله:
ولولا نجاء العيس حول ديارها غداة منىً لم يبق في الركب محرم
ففوق ذرا المتنين بردٌ مهلل وتحت رداء الخز وجهٌ معلّم
__________
(1) انظر القصيدة وجواب الصفدي عليها في الوافي ونكت الهميان.
(2) ق: ريا.(2/684)
عقد في الأول قول قيس بن الخطيم (1) :
ديار التي كنّا ونحن على منىً تحوط بنا لولا نجاء الركائب
وعقد في الثاني قول ابن أخي ربيعة:
أماطت رداء الخزّ عن حرّ وجهها وأرخت على المتنين برداً مهلّلاً
وأورد له قوله:
إن ادّعى لك مروان الجلال فقل لا يجهل المرء بين الناس رتبته
إن الجلالة حقّاً للمقول له " هذا الذي تعرف البطحاء وطأته "
وقوله:
من منصفي يا قوم من ظبيةٍ تسرف في هجري وتأبى الوصال
وكلّما أسأل عن عذرها تقول لي: ما كلّ عذر يقال
وقوله:
هم حسدوا الرسول فلم يجيبوا وكم حسدوا فصار لهم فرار
وهاجر عندما هجروا فأضحى لخيمة أمّ معبدٍ الفخار
وقوله:
بحسبك أن تبيت على رجاء ولو حطّتك لليأس الخطوب
ومهما أكربتك صروف دهرٍ فقل ما قاله الرجل الأريب:
" عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرجٌ قريب "
__________
(1) ديوان قيس بن الخطيم: 34 وفيه: تحل بنا.(2/685)
وقوله:
خليليّ هذا قبر أشرف مرسل " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل "
رويدكما نبكي الذنوب التي خلت بسقط اللوى بين الدخول فحومل
منازل كانت للتصابي فأقفرت " لما نسجتها من جنوب وشمأل "
قال: ثم جرى على هذا النمط، واستخرج الدرر النفيسة من ذلك السّفط، وقال قبله: إنّه أخذ أعجاز هذه القصيدة من أولها إلى آخرها على التوالي، وصنع لها صدوراً، وصرفها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلّم، فجاء في ذلك بما لم يسبق إليه، ولم يقف أحد في تلك المعاني على ما وقف عليه، انتهى.
وقوله:
كم ليالٍ خلت بكم كاللآلي نظمتها لنا يد الزمان
أيّها النازحون عن رأي عيني وهم في جوانحي وجناني
ما ألذّ الوصال بعد التنائي وأمرّ الفراق بعد التداني
قد وكلناكم لربٍّ كريمٍ غير وانٍ عند عبده في أوان
ما رحلنا عن اختيارٍ ولكن رحّلتنا تلوّنات الزمان
وقوله:
تشتكي الصّفر من يديه وترضى ال سمر عن راحتيه عند الحروب
أحمر السيف أخضر السيب حيث أرض غبراء من سواد الخطوب
وقوله ممّا التزم في أوله الدال:
دفاعٌ لمكروهٍ، أمانٌ لخائفٍ سحابٌ لمستجدٍ، هلاكٌ لمستعدي
دروبٌ على الحسنى، عفوٌّ لمن جنى مثيبٌ لمن أثنى، مجيبٌ لذي قصد(2/686)
دع الغيث إن أعطى، دع الليث إن سطا دع الروض إذ يهدي، دع البدر إذ يهدي
وقوله:
غزالٌ ما توسّد ظلّ بانٍ بهاجرةٍ ولا عرف الظلالا
تبسّم لؤلؤاً، واهتز غصناً وأعرض شادناً، وبدا هلالا
وقوله:
رفع الخصر فوق منصور ردفٍ ولجزم القلوب فرعيه جرّا
مال غصناً، رنا رشاً، فاح مسكاً تاه درّاً، أرخى دجىً، لاح بدرا
وقوله حين زار قبر قسّ بن ساعدة بجبل سمعان:
هذي منازل ذي العلا قسّ بن ساعدة الإيادي
كم عاش في الدّنيا وكم أسدى إلينا من أيادي
قد زانها بحلى البلا غة مفصحاً في كل نادي
قد قرّ في بطن الثرى متفرّداً بين العباد
قال أبو جعفر: زرنا قبره فرأينا موضعاً ترتاح إليه النفس، ويلوح عليه الأنس، وعند قبره عين ماء يقال: إنّه ليس بجبل سمعان عين تجري غيرها هنالك، وأورد قوله:
كرامٌ فخامٌ من ذؤابة هاشمٍ يقولون للأضياف أهلاً ومرحبا
فيفع في فقر المقلّين جودهم كفعل عليٍّ يوم حارب مرحبا
رجع إلى أبي جعفر، رحمه الله تعالى
فنقول: إنّه كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 755، ولما ذكر الروضى قال: قيل: ولا تكون الروضة إلاّ بماء يسقيها أو إلى جنبها، ولا يقال في موضع الشجر روضة، انتهى، وقال:(2/687)
لقوامه الألف التي جاءت بحسنٍ ما ألف
عانقته فكأنّني لامٌ معانقة الألف
وقال رحمه الله تعالى معتذراً عمّن لم يسلّم:
لا تعتبنّ على ترك السلام فقد جاءتك أحرفه كتباً بلا قلم
قالسين من طرّتي واللام من ألفٍ من عارضيّ وهذا الميم ميم فمي
وقال رحمه الله تعالى:
لا يقنطنّك ذنبٌ قد كان منك، عظيم
فالله قد قال قولاً وهو الجواد الكريم
" نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم "
وقال:
إذا ظلم المرء فاصبر له فبالقرب يقطع منه الوتين
فقد قال ربّك وهو القويّ " وأملي لهم إنّ كيدي متين "
ومن نثره لما ذكر قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه ما نصّه: وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ، والحكم الذي لم يوجد له ناسخ، أنشدها كعبٌ (1) في مسجد المصطفى بحضرته وحضرة أصحابه، وتوسّل بها فوصل إلى العفو عن عقابه، فسدّ صلى الله عليه وسلم خلّته، وخلع عليه حلّته، وكفّ عنه كفّ من أراده، وأبلغه في نفسه وأهله مراده، وذلك بعد إهدار دمه، وما سبق من هذر كلمه، فمحت حسناتها تلك الذنوب، وسترت محاسنها وجه تلك العيوب، ولولاها لمنع المدح والغزل، وقطع من أخذ الجوائز على الشعر
__________
(1) كعب: سقطت من ق.(2/688)
الأمل، فهي حجّة الشعراء فيما سلكوه، وملاك أمرهم فيما ملكوه، حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية بإسناديه أبن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قصيدة كعب أنشدها بين يديك فقال: " نعم، وأنا أحبها وأحب من يحبها "، قال: فعاهدت الله أنّي لا أخلو من قراءتها كل يوم.
قلت: ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها، ويقتدون بأقوالها، تبرّكاً بمن أنشدت بين يديه، ونسب مدحها إليه، ولمّا صنع القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلّم على وزن بانت سعاد قال:
لقد قال كعبٌ في النبيّ قصيدةً وقلنا عسى في مدحه نتشارك
فإن شملتنا بالجوائز رحمةٌ كرحمة كعبٍ فهو كعبٌ مبارك
انتهى.
وقال رحمه الله تعالى:
لقد كرّ العذار بوجنتيه كما كرّ الظلام على النهار
فغابت شمس وجنته وجاءت على مهلٍ عشيّات العذار
فقلت لناظري لمّا رآها وقد خلط السواد بالاحمرار
تمتّع من شميم عرار نجد فما بعد العشيّة من عرار
وقال:
قالوا عشقت وقد أضرّ بك الهوى فأجبتهم يا ليتني لم أعشق
قالوا سبقت إلى محبة حسنه فأجبتهم ما فاز من لم يسبق
ولما أنشد رحمه الله تعالى قول ابن الخشاب في المستضيء بالله:(2/689)
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ووقفت دون الورد وقفة حائم
ظمآن أطلب خفّةً من زحمةٍ والورد لا يزداد غير تزاحم
قال ما نصّه: فانظر حسن هذين البيتين كيف جريا كالماء في سلاسته، ووقعا من القلوب كالشهد في حلاوته، مع أن ناظمهما ما خرج عن وصف الماء كلامه، ولا تعدى ذلك المعنى نظامه، حتى قيل: إن فيهما عشرة مواضع من مراعاة النظير، فهما في الحسن ما لهما من نظير، لكنّه ما سلم مليحٌ من عيب، ولا خلا من وقوع ريب، فمع هذه المحاسن الوافية، ما سلما من عيب القافية، انتهى.
ولنختم ترجمته بقوله عند شرح بيت رفيقه:
خير الليالي ليالي الخير في إضمٍ والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم
ما نصّه: يقول: إن خير الليالي التي تنشرح لها الصدور، ويحمد فيها الورود والصدور، ليالي الخير في إضم، حيث النزيل لم يضم، والقوم قد وردوا موارد الكرم، وبلغوا أقصى مرادهم في ذلك الحرم.
303 - ومن الراحلين الوليّ الصالح أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم ابن بشر، القيسي. وهو ابن أخت ابن صاحب الصلاة البجانسي، نسبة إلى بجانس قرية من قرى وادي آش، وكان - رحمه الله تعالى - في أواسط المائة السابعة، وقد ذكره الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن يحيى الأزد يالفشتالي في تأليفه الذي سمّاه تحفة المغرب ببلاد المغرب، وقال فيه: رضوا نفوسهم لتنقاد للمولى سرّاً وعلناً، وزهدوا في الدنيا فلم يقولوا معنا ولا لنا، وانتدبوا لقول الله تعالى: " والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ".
وقال صاحب التأليف المذكور: سألت الشيخ أبا مروان يوماً في مسيري معه من وادي آش إلى بلده بجانس سنة تسع وأربعين وستمائة، فقلت له: أنت(2/690)
يا سيدي لم تكن قرأت ولا لازمت المشايخ قبل سفرك للمشرق، ولا سافرت مع عالم تقتدي ببركته في هذا الطريق، فقال لي: أقام الله تعالى لي من باطني شيخاً، قلت له: كيف قال: كنت إذا عرض لي أمر نظرت في خاطري فيخطر لي خاطران في ذلك، أحدهما محمود والآخر مذموم، فكنت أجتنب المذموم وأرتكب المحمود، فإذا وصلت إلى أقرب بلد سألت عمّن فيه من المشايخ والعلماء، فأسأله عن ذلك، فكان يذكر لي المحمود محموداً والمذموم مذموماً، فأحمد الله تعالى أن وقفني، ومع تتابع ذلك واتصاله دون مخالفة لم أعتمد على ما يقع بخاطري من الأمور الشرعية إلى الآن حتى أسأل عنه من حضر من العلماء، انتهى.
ومن كلام صاحب التأليف المذكور قوله في حق الصوفية، نفعنا الله تعالى بهم: حموا طريق الحق فحاماهم، ونوّر بصائرهم فأصمهم عن الباطل وأعماهم، وأهانوا في رضاه نفوسهم، ورفضوا نعماهم، فأعلى قدرهم عنده وعند الناس وأسماهم، انتهى.
وما أحسن قوله في التأليف المذكور: يا هذا، من حافظ حوفظ عليه، ومن طلب الخير بصدق وصل إليه، ومن أخلص العبودية لربه قام الأحرار خدمة بين يديه، انتهى.
304 - ومنهم الطبيب الماهر الشهير ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد ابن البيطار (1) ، المالقي، نزيل القاهرة، وهو الذي عناه ابن سعيد في كتابه المغرب بقوله: وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتاباً في هذا الشأن حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها، وضبطه على جروف المعجم، وهو النهاية في مقصده.
__________
(1) ترجمة ابن البيطار في ابن أبي أصيبعة 2: 133 والفوات 1: 434.(2/691)
وقد ذكرت كلام ابن سعيد هذا بجملته في غير هذا الموضع، فليراجع.
وكان ابن البيطار أوحد زمانه في معرفة النبات، سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم والمغرب، واجتمع بجماعة كثيرة من الذي يعانون هذا الفن، وعاين منابته وتحققها، وعاد بعد أسفاره، وخدم الكامل بن العادل، وكان يعتمد عليه في الأدوية والحشائش، وجعله في الديار المصرية رئيساً على سائر العشّابي وأصحاب البسطات، ومن بعده خدم ولده الصالح، وكان حظيّاً عنده، إلى أن توفي بشعبان سنة 646 التي توفّي بها ابن الحاجب، وله من المصنفات كتاب الجامع في الأدوية المفردة وكتاب المغني أيضاً في الأدوية، وكتاب الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخل والأوهام، وكتاب الأفعال العجيبة والخواص الغريبة، وشرح كتاب ديسقوريدوس، قال الذهبي: انتهت إليه معرفة تحقيق النبات وصفاته، وأماكنه ومنافعه، وتوفّي بدمشق، انتهى.
305 - ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن علي، القرشي، البسطي، الشهير بالقلصادي - بفتحات - كما قال السخاوي (1) ، الصالح الرحلة، المؤلف، المفرضي، آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس، وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض، كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي، وكفاه فخراً أن الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب، وأجازه جميع مروياته، وأصله من بسطة، ثم انتقل إلى غرناطة، لاستوطنها، وأخذ بها عن جماعة كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما، ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس ابن زاغ وغيرهم،
__________
(1) ترجمة القلصادي في الضوء اللامع 5: 14 ونيل الابتهاج: 209 (هامش الديباج) وانظر فيه أعلام الزركلي للاطلاع على مصادر أخرى (5: 163) .(2/692)
ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلولو وغيرهم، ثم حج ولقي أعلاماً، وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل، فتحيل في خلاصه من الشرك وارتحل، ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه، ثم وجدت به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجّة سنة 891 (1) ، وكان كثير المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف، ومن تآليفه أشرف المسالك إلى مذهب مالك وشرح مختصر خليل، وشرح الرسالة، وشرح التلقين، وهداية الأنام في شرح مختصر قواعد الإسلام وهو شرح مفيد، وشرح رجز القرطبي، وتنبيه الإنسان إلى علم الميزان، والمدخل الضروري، وشرح إيساغوجي في المنطق، وله شرح الأنوار السنية لابن جزي، وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله:
بحمد خير الوارثين أبتدي وبالسّراج النبويّ أهتدي
وشرح حكم ابن عطاء الله، ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وشرح البردة، ورجز ابن بري، ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله:
سبحان رافع السماء سقفا ناصبها دلالةً لا تخفى
وشرح رجز أبي مقرعة، وله النصيحة في السياسة العامة والخاصة، وهداية النظّار في تحفة الأحكام والأسرار، وكشف الجلباب عن علم الحساب، وكشف الأسرار عن علم الغبار، والتبصرة، وقانون الحساب في قدر التلخيص، وشرحه، وشرحان على التلخيص كبير وصغير، وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة، ومختصره، وكليات الفرائض، وشرحها،
__________
(1) ق: 871 وهو مخالف لما في المصادر.(2/693)
وشرحان للتلمسانية كبير وصغير، وشرح فرائض صالح بن شريف وابن الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب، وله كتاب الغنية في الفرائض، وغنية النحاة وشرحاها الكبير والصغير، وتقريب المواريث، ومنتهى العقول البواحث، وشرح مختصر العقباني، ولم يتم، ومدح اللطالبين، ومختصر مفيد في النحو، وشرح رجز ابن مالك، والجرومية، وجمل الزجاجي، وملحة الحريري، والخزرجية، ومختصر في العروض، وغير ذلك وأخذ عن الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلّي والتقي الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم، وحسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة، وهي حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم، رحم الله تعالى الجميع.
306 - ومنهم أبو عبد الله الراعي، وهو شمس الدين محمد بن إسماعيل الأندلسي الغرناطي (1) ، ولد بها سنة 782 تقريباً، ونشأ بها، وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة، منهم أبو جعفر أحمد بن إدريس بن سعيد الأندلسي، وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري ابن الدب، ويعرف بابن أبي عامر، والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار، ومحمد بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة، وممّا أخذ عنه الجرومية بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عرف بابن آجروم، وجميع خلاصة الباحثين في حصر حال الوارثين للقاضي أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها، وأجاز له أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي، والقاضي
__________
(1) ترجمة الراعي في الضوء اللامع 9: 203 وشذرات الذهب 7: 278 وبغية الوعاة: 100 واسمه كاملاً محمد بن محمد بن إسماعيل.(2/694)
أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني، والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الإمام، وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني، وغيرهم من المغاربة، ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال لن خير السكندري، والزين أبو بكر المراغي، والزين محمد الطبري، وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي، في آخرين، ودخل القاهرة سنة 825 فحج واسوطنها، وسمع بها من الشهاب المتبولي وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة، وأمّ بالمؤيدية وقتاً، وتصدى للاشتغال، فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى، لا سيّما في العربية، بل هي كانت فنه الذي اشتهر به وبجودة الإرشاد لها، وشرح كلاًّ من الجروميّة والألفيّة والقواعد وغيرها ممّا حمله عنه الفضلاء، وله نظم وسط، قال السخاوي: كتبت عنه منه الكثير، وممّا لم أسمعه منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعاً لشيء نسب إليه، فقال:
عليك بتقوى الله ما شئت واتّبع ... أئمّة دين الحقّ تهد وتسعد
فمالكهم والشافعيّ وأحمد ... ونعمانهم كلٌّ إلى الخير يرشد
فتابع لمن أحببت منهم ولا تمل ... لذي الجهل والتعصيب إن شئت تحمد
فكلٌّ سواءٌ في وجيبة الاقتدا ... متابعهم جنّات عدن يخلد
وحبّهم دينٌ يزين وبغضهم ... خروجٌ عن الإسلام والحقّ يبعد
فلعنة ربّ العرش والخلق كلهم ... على من قلاهم والتعصب يقصد وكان حاد اللسان والخلق، شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي، أضر بآخرة، ومات بسكنه بالصالحيّة يوم الثلاثاء 27 ذي الحجّة سنة 853، بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ جمال الدين ابن الأمانة من نظمه قوله:
أفكّر في موتي وبعد فضيحتي ... فيحزن قلبي من عظيم خطيئتي
وتبكي دماً عيني وحقّ لها البكا ... على سوء أفعالي وقلة حيلتي(2/695)
وقد ذابت أكبادي عناءً وحسرةً ... على بعد أوطاني وفقد أحبتي
فما لي إلاّ الله أرجوه دائماً ... ولا سيما عند اقتراب منيّتي
فنسأل ربي في وفاتي مؤمناً ... بجاه رسول الله خير البريّة قال السخاوي: وممّا كتبته عنه:
ألفيته حول المعلّم باكياً ... ودموعه قد صاغها من كوثر
نثر الدموع على الخدود فخلتها ... درّاً تناثر في عقيق أحمر وقوله:
عليك بنعم ربّ العلا ... وراع الملوك لرعي الذّمم
وذو العلم فارع له حقّه ... وإلاّ تفارق وتلق الندم
فهذا مقالي فلتسمعوا ... نصيحة حبرٍ من أهل الحكم
إذا كنت في نعمةٍ فارعها ... فإنّ المعاصي تزيل النعم وقال (1) :
للغرب فضلٌ شائعٌ لا يجهل ... ولأهله شرفٌ ودينٌ يكمل
ظهرت به أعلام حقّ حقّقت ... ما قاله خير الأنام المرسل
من أنهم حتى القيامة لن يزا ... لوا ظاهرين على الهدى لن يخذلوا وممّن حدث عن الراعي الحافظ ابن فهد والرهان البقاعي، ومن تأليفه شرح القواعد وكتاب انتصار الفقير السالك لمذهب الإمام الكبير مالك في كراريس أربعة حسن في موضوعه، وله النوازل النحوية في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة، تكلم معه في بعضها أبو
__________
(1) ق: وقوله.(2/696)
عبد الله ابن العباس التلمساني.
وذكر بعضهم أنّه اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب، انتهى.
وجرت له في صغره حكاية دلت على نبله، وهي أنّه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة، فسألهم عمّن كان رواء إمام، فحدث فلإمام عذر ذهب لأجله، مثل الرعاف مثلاً، فصلوا بعض الصلاة لأنفسهم، ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي، فهل تصح صلاتهم أم لا فلم يكن عند أحد من الحاضرين فيها علم، فقال هو: إن الصلاة باطلة، لأن النحاة يقولون: الإتباع بعد القطع لا يجوز.
وقد حكى ذلك في شرحه للجروميّة الذي سمّاه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصّه: كنت جالساً بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى مع جماعة من كبار طلبته، وكنت إذ ذاك أصغرهم سنّاً وأقلهم علماً، فدخل سائل سأل عن مسألة فقهية نصها: إن إماماً صلى بجماعة جزءاً من صلاة، ثم غلب عليه الحدث، فخرج ولم يستخلف عليهم، فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءاً من الصلاة، ثم بعد ذلك استخلفوا من أتمّ بهم الصلاة، فهل تصحّ تلك الصلاة أم لا فلم يكن فيها عند الحاضرين جواب، فقلت: هذا إتباع بعد القطع، وهو ممتنع عند النحويين، فصلاة هؤلاء باطلة، فاستظرفها مني من حضر لصغر سني، ثم طلبنا النصّ فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ، ولو لقيناه لكان الجواب حسناً، انتهى.
ومن ألغازه قوله:
حاجيتكم نحاتنا المصريّه ... أولي الذكا والعلم والطعميه
ما كلماتٌ أربعٌ نحويّه ... جمعن في حرفين للأحجيه(2/697)
يعني فعل الأمر للواحد من وأى يئي إذا أضمر، فإنّك تقول فيه: إ يا زيد على حرف واحد، وهو الهمزة المقطوعة، فإذا قلت قل إ ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا قل فذهب فعل الأمر وفاعله، فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين القاف واللام، فافهم، وأحسن من هذا قوله ملغزاً في ذلك أيضاً:
في أيّ لفظٍ يا نحاة الملّه ... حركةٌ قامت مقام الجمله وبالجملة فمحاسنه كثيرة، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ومن فوائده قوله: حكى لي بعض علماء المالكية قال: كنّا نقرأ المدوّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي، فقال الشيخ في مسألة مذهبنا كذا في مسألة لم يقل الشافعي بما قال، وإنّما نسبها البلقيني لنفسه، ثم فطن وخاف أن ينتقد عليه المالكية ويقولوا له: أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي، فقال: فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية، وإنّما أنتم شافعية، قلنا: كذلك أنت قاسمية، وقد اجتمعنا الكل في مالك، قال: وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ.
قال: ولما قرئ عليه كتاب الشفاء مدحه وأثنى عليه إلى الغاية، وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي جمال الدين ابنه: ما لكم يا مالكيّة لا تكونون مثل القاضي عياض فقال له أبوه الشيخ سراج الدين المذكور: وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض
ومن فوائد الراعي في باب العلم من شرحه على الألفية: في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل فقير، لا يزال جائعاً، وهو من دأب الصالحين، ولا يكون له موضع يعرف به، وذلك من علامة المتوكلين، ولا ينام من الليل إلا القليل، وذلك من صفات المحبين، وإذا مات لا يكون له ميراث، وذلك من أخلاق الزاهدين، ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده(2/698)
وذلك من شيم المريدين، ويرضى من الدنيا بأدنى يسير، وذلك من إشارة القانعين، وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره، وذلك من علامة المتواضعين، وإذا ضرب وطرد ثم دعي أجاب، وذلك من أخلاق الخاشعين، وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من بعيد، وذلك من أخلاق المساكين، وإذا رحل لا يرحل معه بشيء، وذلك من علامة المتجردين، انتهى بمعناه.
وقد نسبه للحسن البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنّه.
ومن تصانيفه رحمه الله تعالى كتاب الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير في غاية الإفادة، ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية، وحفظت منه فوائد ممتعة.
307 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس - أعادها الله تعالى - قاضي الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد بن علي ابن محمد بن الأزرق (1) ، قال السخاوي: إنّه لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد ابن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق، بحيث كان جلّ انتفاعه به، وحضر مجالس أبي عبد الله محمد السّرقسطي العالم الزاهد مفتيها أيضاً في الفقه، ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني، والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف التلمساني، انتهى.
وله رحمه الله تعالى تآليف: منها " بدائع السلك في طبائع الملك " (2) كتاب حسن مفيد في موضوعه، لخص في كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة، ومنها روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام
__________
(1) ترجمة ابن الأزرق في أزهار الرياض 3: 317 والأنس الجليل 2: 591، وكانت وفاته في ذي الحجة من سنة 896.
(2) منه نسختان بخزانة الرباط رقم: D1340، D 582.(2/699)
مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنّه مثله، وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره ممّا يكتب في سيف:
إن عمّت الأفق من نقع الوغى سحبٌ ... فشم بها بارقاً من لمع إيماضي
وإن نوّت حركات النصر أرض عدىً ... فليس للفتح إلا فعلي الماضي ومن إنشائه في التأليف المذكور ما صورته: قلت: ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدّي الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالاً رحباً، ويوسع المراجع له قبولاً ورحباً، بل يطالب بذلك ويقتضيه، ويختار طريق لتعليم به ويرتضيه، توفيقاً على ما خلص له تحقيقه، ووضح له معيار الاختيار تدقيقه، وإلاً فقد كان ما يلقيه غاية ما يتحصل، ويتهمد به مختار ما يحفظ ويتأصّل، انتهى.
وهو يدل على ملكته في الإنشاء، ويحقّق ما يحصله، إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد فينبغي الإمساك عن البحث، لئلاّ يفضي الحال إلى ما ينهى عنه.
قال: ومخالفة التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ، ولكن مع ملازمة التوقير الدائم، والإجلال الملائم، فقد خالف ابن عباس عمر وعليّاً وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، وكان قد أخذ عنهم، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة، وإنّما أخذوا العلم عنهم، وخالف مالك كثيراً من أشياخه، وخالف الشافعي وأشهب مالكاُ في كثير من المسائل، كل من أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل، ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع الأساتيذ إلى زماننا هذا، وقال: وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله تعالى، قال: ولا ينبغي للشيخ أن يتبرّم من هذه المخالفة(2/700)
إذا كانت على الوجه الذي وصفناه، والله تعالى أعلم، انتهى.
ولمّا أنشد ابن الأزرق المذكور في كتابه روضة الأعلام قول القائل في مدح ابن عصفور:
نقل النحو إلينا الدّؤلي ... عن أمير المؤمنين البطل
بدأ النحو عليٌّ وكذا ... ختم النحو ابن عفصورٍ علي قال بعده ما نصّه: على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد ابن الأزرق الوادي آشي رحمه الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عمّا اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقّق أبي الحسن بن الضائع عليه، ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمه من التورية:
بضائعك ابن الضائع النّدب قد أتت ... بخظٍّ من التحقيق والعلم موفور
فطرت عقاباً كاسراً أوما ترى ... مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور انتهى.
وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في جامعه، وأثنى عليه غير واحد ومن أعظم تآليفه شرحه الحافل على مختصر خليل المسمى بشفاء الغليل في شرح مختصر خليل وقد توارد معه الشيخ ابن غازي على هذه التسمية، وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقّري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد: لعل تسمية ابن الأزرق شفاء العليل بالعين، قلت: يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة، فبان أنّه من توارد الخواطر، وأن كلاًّ منهما لم يقف على تسمية الآخر، والله تعالى أعلم، وقد رأيت جملة من هذا الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاثة مجلدات، ولا أدري هل أكمله أم لا، لأن تقديره بحسب ما رأيت يكون عشرين مجلداً، إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة(2/701)
ورأيت الخطبة وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم، ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله، ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس، ثم ارتحل إلى المشرق، فدخل مصر، واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس، فكان كمن يطلب بيض الأنواق، أو الأبيض العقوق. ثم حج ورجع إلى مصر فجدّد الكلام في غرضه، فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس، فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة، ولم تطل مدته هنالك حتى توفّي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة، حسبما ذكره صاحب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل فليراجع فإنّه طال عهدي به.
ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله في المجبّنات:
وربّ محبوبةٍ تبدّت ... كأنّها الشمس في حلاها
فاعجب لحال الأنام من قد ... أحبّها منهم قلاها ومنه قوله رحمه الله تعالى:
عذري في هذا الدخان الذي ... جاور داري واضحٌ في البيان
قد قلتم إنّ بها زخرفاً ... ولا يلي الزخرف إلا الدخان وقوله:
تأمّلت من حسن الربيع نضارةً ... وقد غرّدت فوق الغصون البلابل
حكت في غصون الدّوح قسّاً فصاحة ... لتعلم أن النبت في الروض باقل وقوله:
وقائلةٍ صف الربيع محاسناً ... فقلت وعندي للكلام بدار
همى ببطاح الأرض صوبٌ من الحيا ... فللنّبت في وجه الزمان عذار(2/702)
وقوله:
تعجّبت من يانع الورد في ... سنا وجنةٍ نبتها بارض
ولم لا يرى وردها يانعاً ... وقد سال من فوقها العارض وقوله رحمه الله تعالى عند وفاة والدته:
تقول لي ودموع العين واكفةٌ ... ما أفظع البين والتّرحال يا ولدي
فقلت أين السّرى قالت لرحمة من ... قد عزّ الملك لم يولد ولم يلد قال تلميذه الحافظ ابن داود: ممّا ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن الأزرق عن علي رضي الله تعالى عنه: من أراد أن يطّول الله عمره، ويظفر بعدوّه، ويصان من فتن الدنيا، ويوسّع عليه باب رزقه، فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثاً، وإذا أمسى ثلاثاً: سبحان الله ملء رزقه، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، والحمد لله ملء الميزان، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، ولا إله إلاّ الله ملء الميزان، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، والله أكبر ملء الميزان، ومنتهى العلم، ومبلغ الرضى، وعدد النعم، وزنة العرش، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم مثل ذلك، وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل ذلك.
قال: وبخطّه أيضاً لنيل الرزق وما يراد: يا باسط، يا جواد، يا علي في عرشك، بحق حقّك على جميع خلقك، ابسط [لي] رزقك، وسخر لي خلقك.
وبخطّه أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر الولي الناصر الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
وبخطّه أيضاً: يا فتّاح، يا عليم، يا نور، يا هادي، يا حق، يا مبين(2/703)
افتح لي فتحاً تنوّر به قلبي، وتشرح به صدري، واهدني إلى طريق ترضاه، وبيّن لي أمري، وصلى الله على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً. انتهى.
وقال رحمه الله تعالى مورّياً:
من تكن صنعته الإنشاء لا ... ينكر الرزق لأقصى العمر
ولو استعلى على السبع الدرا ... ريّ بما في فمه من درر
فأنا الكاتب لكن لو يبا ... ع لي العتق لكنت المشتري هكذا رأيت نسبتها إليه.
ولنختم ترجمته، بل والباب جميعاً، بقوله، رحمه الله تعالى، عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام:
مشوقٌ بخيمات الأحبّة مولع ... تذكّره نجدٌ وتغريه لعلع
مواضعكم يل لائمين على الهوى ... فلم يبق للسّلوان في القلب موضع
ومن لي بقلبٍ تلتظي فيه زفرة ... ومن لي بجفنٍ تنهمي منه أدمع
رويدك فارقب للّطائف موضعاً ... وخلّ الذي من شرّه يتوقّع
وصبراً فإنّ الصبر خير غنيمةٍ ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجع
وبت واثقاً باللطف من خير راحمٍ ... فألطافه من لمحة العين أسرع
وإن جاء خطبٌ فانتظر فرجاً له ... فسوف تراه في غدٍ عنك يرفع
وكن راجعاً لله في كلّ حالة ... فليس لنا، إلا إلى الله، مرجع(2/704)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب السادس
في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، المهتدين في قصدهم
إليها بنور الهداية المضيء المشرق، والأكابر الذين حلوا بحلولهم فيها الجيد
منها والمفرق، والمفتخرين برؤية قطرها المونق، على المشئم والمعرق
اعلم أن الداخلين للأندلس من المشرق قوم كثيرون لا تحصر الأعيان منهم، فضلاً عن غيرهم، ومنهم من اتخذها وطناً، وصيرها سكناً، إلى أن وافته منيته ومنهم من عاد إلى المشرق بعد أن قضيت بالأندلس أمنيته.
1 - فمن الداخلين إلى الأندلس المنيذر الذي يقال إنه صحابي رأى رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الأبار في التكملة (2) : المنيذر الإفريقي، له صحبة، وسكن (3) إفريقية، ودخل الأندلس فيما ذكره عبد الملك بن حبيب، قاله أبو محمد الرشاطي، ولم يذكره أحد غيره، روى عنه أبو عبد الرحمن الحبلي (4) ، انتهى.
__________
(1) ق: رأى النبي.
(2) التكملة: 731؛ وانظر أيضا الإصابة 6: 144.
(3) التكملة: وكان يسكن.
(4) اسمه عبد الله بن يزيد المعافري وكان رجلا صالحا فاضلا بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أهل إفريقية ليفقههم، وتوفي بالقيروان سنة 100هـ (رياض النفوس 1: 64 - 66) وستجيء ترجمته في النفح (رقم: 5) .(3/5)
وأنكر غير واحد دخول أحد من الصحابة الأندلس.
وذكر بعض الحفاظ المنيذر المذكور، وقال: إنه المنيذر اليماني، وذكر الحجاري أنه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازياً، وقال ابن بشكوال: يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد حكى ذلك الرازي، وذكره ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب في الصحابة " (1) وسماه بالمنيذر الإفريقي، وقال ابن بشكوال: إن ابن عبد البر روى عنه حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره أبو علي ابن السكن في كتاب الصحابة وقال: روي عنه حديث واحد، وأرجو أن يكون صحيحاً، وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له.
وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال: أبو المنيذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حدث بإفريقية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " من قال رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فأنا الزعيم لآخذن بيده فأدخله الجنة " كذا ذكره البخاري بالكنية، وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره، وذكره أبو جعفر أحمد ابن رشدين في كتاب " مسند الصحابة " له، فقال، المنيذر اليماني إما من مذحج أو غيرها، وذكر الحديث سواء، وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا (2) .
2 - ومن التابعين الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير، وقد سبق من الكلام عليه مافيه كفاية (3) .
__________
(1) انظر الاستيعاب: 1485، والحديث الذي رواه ابن عبد البر هو الحديث الذي سيورده المؤلف نقلا عن البخاري؛ وقد أورده أيضا فيما سبق ج: 1، ص: 179.
(2) انظر ص: 279 من المجلد الأول.
(3) راجع ما سبق ج 1: 269 - 287.(3/6)
3 - ومن التابعين الداخلين الأندلس حنش الصنعاني (1) . وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح: حنش لقب له، واسمه حسين بن عبد الله، وكنيته أبو علي، ويقال: أبو رشدين، قال ابن بشكوال: وهو من صنعاء الشام.
وذكره أبو سعيد ابن يونس في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس، فقال: إنه كان مع علي
بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت، وغزا الأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان، فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، وكان أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام، وتوفي بإفريقية سنة مائة.
وذكر ابن يونس عن حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح، وقرب المصحف وإناء فيه ماء فإذا وجد النعاس استنشق الماء، وإذا تعايا في آية نظر في المصحف، وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله: أطعموا السائل، حتى يطعم.
قال ابن حبيب: دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني، وهو الذي أشرف على قرطبة من الفج المسمى بفج المائدة، وأذن، وذلك في غير وقت الأذان، فقال له أحد أصحابه في ذلك، فقال إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلى أن تقوم الساعة، هكذا ذكره غير واحد، وقد كشف الغيب خلاف ذلك، فلعل الرواية موضوعة أو مؤولة، والله تعالى أعلم.
وذكره ابن عساكر في تاريخه، وطول ترجمته، وقال: إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام، وليست صنعاء اليمن، وقد قيل: إنه لم يرو عن حنش الشاميون، وإنما روى عنه المصريون، وحدث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له: إن استطعت أن تلقى الله تعالى وسيفك حليته حديد فافعل.
__________
(1) انظر ترجمته في رياض النفوس 1: 78 ومعالم الإيمان 1: 144 وتهذيب ابن عساكر 5: 7 وابن الفرضي 1: 148 والجذوة: 189.(3/7)
وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية بن حديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين، فحفظ له ذلك، فعفا عنه حين أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبير. وسئل أبو زرعة عن حنش فقال: ثقة ولم يذكر ابن عساكر أن حنشاً لقب له، وأن اسمه حسين، بل اقتصر على اسمه حنش، ولعله الصواب، لاما قاله ابن وضاح، والله تعالى أعلم (1) .
وفي تاريخ ابن الفرضي أبي الوليد أن حنشاً كان بسرقسطة، وأنه الذي أسس جامعها، وبها مات، وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة، وفي تاريخ ابن بشكوال أنه أخذ أيضاً قبلة جامع إلبيرة، وعدل وزن قبلة قرطبة الذي هو فخر الأندلس.
4 - ومن الداخلين من التابعين للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي (2) . ذكر ابن يونس في تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك، وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات السواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين، وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة، وهو الذي زفّ أم البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك، ثم عنت عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية، فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها، ويقال: كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة. قال ابن بشكوال: أهل مصر يقولون: علي بن رباح، بفتح العين، وأما أهل العراق فعلي، بضم العين، وقد سبق هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني. وقال: وقال ابنه موسى بن علي: من قال لي موسى بن علي بالتصغير لم أجعله في حل.
__________
(1) ميز ابن عساكر بين اثنين لقب كل منهما حنش؛ والثاني منهما اسمه حسين وهو رحبي صنعاني همداني - من صنعاء الشام أيضا، ولكنه سكن واسطا (5: 9) .
(2) ترجمة علي بن رباح في ابن الفرضي 1: 354 ورياض النفوس 1: 77.(3/8)
5 - ومن التابعين الداخلين أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي (1) . قال ابن بشكوال: إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، وروى عنه جماعة. وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعد في المصريين، وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً، رحمه الله تعالى، ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة، وأنه دفن بقبليها، وقبره مشهور يتبرك به، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
6 - ومن الداخلين من التابعين حبان بن أبي جبلة (2) . ذكر ابن بشكوال أنه مولى قريش، ويكنى أبا النضر، وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية، وقال: حدثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل إفريقية منهم حبان بن أبي جبلة، روى عن عمرو ابن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم. ويقال: توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة، وقيل: سنة خمس وعشرين ومائة، وذكر ابن الفرضي أنه غزى مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به. قال (3) : وقال لنا أبو محمد الثغري: بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمسة وعشرين ميلاً، وفيها الكنيسة المعظمة عندهم المسماة شنت مرية، ذكر أن فيها سبع سوار من فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط، هكذا نقله ابن سعيد عمن ذكر، والله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر ترجمة أبي عبد الرحمن الحبلي في ابن الفرضي 1: 250، وابن سعد 7: 511.
(2) ترجمة حبان في ابن الفرضي 1: 146 ورياض النفوس 1: 73 ومعالم الإيمان 1: 158 وتهذيب التهذيب 1: 162.
(3) لم يرد هذا النص في كتاب ابن الفرضي.(3/9)
7 - ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر: المغيرة ابن أبي بردة نشيط ابن كنانة العذري (1) . روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ويروي عنه مالك في موطئه، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى بن نصير يخرجه على العساكر.
8 - ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي (2) ، ذكر ابن حبيب أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه، وأنه من جملة التابعين، رضي الله تعالى عنهم، قاله ابن بشكوال في مجموعة المترجم ب " التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين ". قال ابن الأبار: وقد سمعته (3) من أبي الخطاب ابن واجب، وسمعه هو منه، انتهى.
وقال ابن الأبار في موضع آخر ما صورته: رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين، وفي ذلك عندي نظر، وما أراه يصح، والله تعالى أعلم، انتهى.
فانظر هذا فانه سماه رجاء بن حيوة، وذلك السابق حيوة بن رجاء، فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
9 - ومنهم عياض بن عقبة الفهري، من خيار التابعين، ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس، ولم يغلوا.
10 - ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري، ذكر ابن بشكوال أنه مصري، وأن البخاري ذكره في تاريخه.
__________
(1) ترجمة المغيرة في رياض النفوس 1: 80.
(2) حيوة بن رجاء في التكملة: 282 ورجاء بن حيوة في التكملة: 322.
(3) يعني كتاب ابن بشكوال المذكور.(3/10)
11 - ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، جده عبد الرحمن أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم، وهو ممن ذكره ابن بشكوال في الأربعة من التابعين الذين لم يغلوا.
12 - ومنهم منصور بن حزامة، فيما يذكر، قال ابن بشكوال: قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله ابن عابد الراوية رحمه الله تعالى قال: وممن دخل الأندلس من المعمرين ما وجدت بخط المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال: طرأ علينا رجل أسود من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فذكر أنه منصور بن حزامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وأنه كان مراهقاً، وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل، وأنه شهد صفين، وأن حزامة أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عن الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب، انتهى.
قلت: هذا كله لا أصل له، ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر حيث كتب على هذا الكلام ما صورته: هذا هذيان لا أصل له، ولا يغتر به، وكذلك ترجمة أشج الغرب اتفق الحفاظ على كذبه، انتهى.
قلت: وما هو إلا من نمط عكراش، والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنه. ومن هذه الأكاذيب ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب، وأنه يعرف بأبي الدنيا، وأنه كان معمراً مشهوراً بصحبة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وأنه رأى جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ووصفهم بصفاتهم، وأنه رأى عائشة رضي الله عنها فيما زعم، وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد، وسأله أبو بكر بن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه، وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في كتبهم وتواريخهم، فقد ذكر الثقات العارفون بالفن أنه كذاب دجال مائن(3/11)
جاهل، فإياك والاغترار بمثل ذلك مما يوجد في كتب كثير من المؤرخين بالمشرق والأندلس، ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي: إنه كان إذا لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين، قال تميم واتصلت بنا وفاته ببلده في نحو سنة عشرين وثلاثمائة، وبالجملة فلا أصل له، وإنما ذكرناه للتنبيه عليه.
وقد عرفت بما ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس، على أن التحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد، وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع (1) ، والله تعالى أعلم.
13 - ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث فاتح قرطبة، وقد تقدم بعض الكلام عليه، وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي، زاد الحجاري: وليس برومي على الحقيقة، وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث ابن جبلة بن الأيهم الغساني، سبي من الروم بالمشرق وهو صغير، فأدبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد، وأنجب في الولادة، وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة، وسادوا وعظم بيتهم، وتفرعت دوحتهم، وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس وغيره.
ونشأ مغيث بدمشق، ودخل الأندلس مع طارق فاتحها، وجاز على ما في طريقها من البلاد إلى الشام، وقدمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيد طارق، فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد إلى ظافراً عليهما الأندلس، وأنسل بقرطبة البيت المذكور، وفي " المسهب " أنه فتح قرطبة في شوال سنة اثنين وتسعين، ثم فتح الكنيسة التي تحصن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم سنة ثلاث وتسعين، ولم يذكر له مولداً ولا وفاة.
وذكر الحجاري أنه تأدب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية، وصار يقول من الشعر والنثر مايجوز كتبه، وتدرب على الركوب، وأخذ نفسه بالإقدام
__________
(1) انظر ما تقدم ج: 1، ص: 287.(3/12)
في مضايق الحروب، حتى تخرج في ذلك تخرجاً أهله في التقدم على الجيش الذي فتح قرطبة، وكان مشهوراً بحسن الرأي والكيد، وقد قدمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس غيره، لأن منهم من عقد على نفسه أماناً، ومنهم من فر إلى جليقية.
وذكر الحجاري أنه لما حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهن جارية كأنها بينهن بدر بين نجوم، وهي تكثر التعرض له بجمالها، فوكل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقر بما عزمت عليه في شأن مغيث، وأنه قد فطن من كثرة تعرضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في شأنه، فأقرت أنها أكثرت التعرض لتقع بقلبه، إذ حسنها فتان، وقد أعدت له خرقةً مسمومةً لتمسح بها ذكره عند وقاعها، فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها، وقال: لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة.
وذكر أن سليمان بن عبد الملك لما أصغى إلى طارق في شأن سيده موسى بن نصير فعذبه واستصفى أمواله أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق، وكان مغيث قد تغير عليه، فاستشار سليمان مغيثاً في تولية طارق، وقال له: كيف أمره بالأندلس فقال: لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا، فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان، وبدا له في ولايته، فلقيه بعد ذلك طارق، فقال له: ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني، ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت، فقال مغيث: ليتك تركت لي العلج فتركت لك الأندلس، وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك قرطبة الذي حصل في يده، فلم يمكنه منه، فأغرى به سيده موسى بن نصير، وقال له: يرجع إلى دمشق وفي يده عظيم من عظماء الأندلس، وليس في أيدينا مثله، فأي فضل يكون لنا عليه فطلبه منه، فامتنع من تسليمه، قال ابن حيان: فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث، فقيل له: إن سرت به معك حياً ادعاه مغيث والعلج لا ينكر، ولكن اضرب عنقه، ففعل، فاضطغنها عليه مغيث، وبالغ(3/13)
في أذيته عند سليمان.
وذكر الحجاري في " المسهب " أن لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه، فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقاً ويكفي منه هنا قوله:
أعنتكم ولكن ما وفيتم فسوف أعيث في غربٍ وشرق
وعنوان طبقته في النثر أن موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس: كفّ لسانك، فقال: لساني كالمفصل، ما أكفه إلا حيث يقتل (1) . وأضافه ابن حيان والحجاري إلى ولاء الوليد بن عبد الملك، وهو الذي وجهه إلى الأندلس غازياً ففتح قرطبة، ثم عاد إلى المشرق، فأعاده الوليد رسولاً عنه إلى موسى بن نصير يستحثه على القدوم عليه، فوفد معه، فوجدوا الوليد قد مات، فخدم بعده سليمان بن عبد الملك.
14 - 15 - ومن الداخلين أيوب (2) بن حبيب اللخمي. وذكر ابن حيان أنه ابن أخت موسى بن نصير، وأن أهل إشبيلية قدموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد العزيز بن موسى، واتفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة، فدخل إليها بهم، وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر، وقيل: إن الذي نقل السلطنة من إشبيلية إلى قرطبة الحر بن عبد الرحمن الثقفي.
قال الرازي: قدم الحر والياً على الأندلس في ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية، فمنهم أول طوالع الأندلس المعدودين، وقال ابن بشكوال: كانت مدة الحر سنتين وثمانية أشهر، وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي.
16 - 26 - ومن الداخلين السمح بن مالك الخولاني، ولي الأندلس
__________
(1) ق ودوزي: سأكفه إلا حيث يقبل.
(2) ق: أبو أيوب؛ وانظر أخبار مجموعة: 21.(3/14)
بعد الحر بن عبد الرحمن السابق، قال ابن حيان: ولاه عمر بن عبد العزيز، وأوصاه أن يخمس من أرض الأندلس ما كان عنوة، ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها، قال: وكان من رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم، قال: وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلى أن يستنقذهم الله تعالى برحمته (1) .
وذكر ابن حيان أن قدوم السمح كان في رمضان سنة مائة، وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعدما استأذن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى، وكانت دار سلطانه قرطبة.
قال ابن بشكوال: استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة.
قال ابن حيان: كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، وذكر أن قتل في الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط (2) ، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين، فلم ينج من المسلمين أحد، قال ابن حيان: فيقال: إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن.
وقدم أهل الأندلس على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس، وأنه يروي عن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية، واستشهد في قتال العدو بالأندلس سنة خمس عشرة، انتهى.
وفيه مخالفة لما سبق أنه ولي بعد السمح، وأن السمح قتل سنة102، وهذا يقول تولى سنة 110، فأين ذا من ذاك والله تعالى أعلم.
__________
(1) أورد هذا صاحب أخبار مجموعة: 23 وابن القوطية: 39 وابن عذاري 2: 26.
(2) المرجح أن السمح بن مالك واصل تقدمه وراء جبال البرتات حتى شارف طولوشة (Tolosa) وهناك دارت معركة بينه وبين دوقها أسفرت عن مقتله؛ وهذا يتعارض مع قول صاحب أخبار مجموعة " فعزل بشر السمح بن مالك وولي عنبسة بن سحيم ... " (ص 24) .(3/15)
ووصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم (1) ، وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين، وربما يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدمناه قريباً (2) ، ويضعفه أن ابن حيان قال: دخل الأندلس حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة، وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد، وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114، في موضع يعرف ببلاط الشهداء.
قال ابن بشكوال: وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط، وقد تقدم مثل هذا في غزوة السمح، فكانت ولايته سنة وثمانية أشهر، وفي رواية سنتين وثمانية أشهر، وقيل غير ذلك، وكان سرير سلطانه حضرة قرطبة.
وولي الأندلس بعده عنبسة بن سحيم الكلبي (3) ، وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس والياًمن قبل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج حين كان صاحب إفريقية، وكان قدومه الأندلس في صفر سنة103، فتأخر بقدومه عبد الرحمن المتقدم الذكر، قال ابن بشكوال: فاستقامت به الأندلس، وضبط أمرها، وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة 107 (4) ، فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر.
__________
(1) انظر الجذوة: 255 - 256.
(2) هذا حقا يزيل الإشكال الذي أشار إليه؛ ذلك أن عبد الرحمن الغافقي أنقذ بقية الجند بعد مقتل السمح فولاه الجند أمر الأندلس سنة 102 حتى يقدم وال جديد، فلما وصل عتبة بن سحيم الكلبي أخذ الولاية من يده، ثم عاد عبد الرحمن إلى ولاية الأندلس في حدود 112هـ. وهذا لا يتعارض مع قول ابن حيان وإنما يتعارض مع قول ابن بشكوال إنه تولى في حدود سنة 110هـ. وقد سها ابن بشكوال عن أن بين عنبسة وعبد الرحمن واليا هو عذرة بن عبد الله الفهري.
(3) يريد بعد ولاية عبد الرحمن الأولى.
(4) انظر فجر الأندلس حيث وصف المؤلف استمرار عنبسة في الغزو حتى سنة 112 (ص 247) ثم ذكر (ص 254) أن عنبسة أصيب بجراح بالغة توفي على أثرها سنة 107هـ؛ ولعل هذا بسبب اضطراب المصادر القديمة نفسها في ترتيب ولاة الأندلس.(3/16)
وذكر ابن حيان أنه في أيامه قام بجليقية علجٌ خبيثٌ يدعى بلاي (1) ، فعاب على العلوج طول الفرار، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثار، ودافع عن أرضه، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن حريمهم، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك، وقيل: إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما فوقها لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعاً إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلاً ونحو عشر نسوة، وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح (2) معهم في خروق الصخرة، وما زالوا
ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروهم، وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به.
وملك بعده أذفونش جد عظماء الملوك المشهورين بهذه السمة.
قال ابن سعيد: فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة، حتى إن حضرة قرطبة في يدهم الآن، جبرها الله تعالى، وهي كانت سرير السلطنة لعنبسة.
قال ابن حيان والحجاري: إنه لما استشهد عنبسة قدم أهل الأندلس عليهم عذرة (3) بن عبد الله الفهري، ولم يعده ابن بشكوال في سلاطين الأندلس، بل قال: ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية: أولهم يحيى بن سلمة، وذكر الحجاري أن عذرة كان من صلحائهم وفرسانهم، وصار لعقبه نباهة،
__________
(1) سيعود المقري إلى ذكر " بلاي " في أول الباب الثامن من القسم الأول؛ وانظر كذلك أخبار مجموعة: 61 وابن عذاري 2: 29؛ وقد أسهب الدكتور مؤنس (فجر الأندلس 313 - 343) في توضيح أمر بلاي هذا (Pelayo وباللاتينية: Pelagius) بدراسة الروايات العربية والإسبانية.
(2) كذلك وردت هذه اللفظة في أخبار مجموعة: 28 والمقصود بها " الخلايا "؛ انظر ملحق المعاجم لدوزي: " جبح ".
(3) ق ودوزي: عزرة.(3/17)
وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة الأندلس، وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب، قال ابن سعيد: وهم إلى الآن ذوو بيت مؤصل، ومجد مؤثل، وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة.
وولي بعده يحيى بن سلمة الكلبي، قال ابن بشكوال: أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية إذ استدعى منه أهلها والياً بعد مقتل أميرهم عنبسة، فقدمها في شوال سنة سبع ومائة، وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوةً - ونحوه لابن حيان - وكان سريره قرطبة.
وتولى بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، وذكر ابن بشكوال: أنه قدم عليها والياً من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية في شعبان سنة عشر ومائة، ثم عزل سريعاً بعد خمسة أشهر، وكان سرير سلطانه بقرطبة.
وولي بعده حذيفة بن الأحوص القيسي، قال ابن بشكوال: وأتى إليها والياً من قبل عبيدة المذكور، على اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولى قبل صاحبه، وكان قدوم حذيفة في ربيع الأول سنة عشر ومائة، وعزل عنها سريعاً أيضاً، وقيل: إن ولايته استتمت سنة، وكان بقرطبة.
وولي بعده الأندلس الهيثم بن عدي الكلابي، قال ابن بشكوال: ولاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة، وقيل: إنه ولي سنتين وأياماً، وقد قيل: أربعة أشهر، وكان بقرطبة.
وولي بعده محمد بن عبد الله الأشجعي، قال ابن بشكوال: قدمه الناس عليهم، وكان فاضلاً فصلى بهم شهرين. قال: ثم قدم عليهم والياً عبد الرحمن ابن عبد الله الغافقي الذي تقدمت ترجمته، وذكرت ولايته الأولى للأندلس، وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية إلى أن استشهد كما تقدم.
وولي الأندلس بعده عبد الملك بن قطن الفهري، وذكر الحجاري أن من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني الجد أعيان إشبيلية، قال ابن بشكوال: قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربعة عشرة ومائة فكانت مدة ولايته عامين(3/18)
وقيل أربع سنين، ثم عزل عنها ذميماً في شهر رمضان سنة ست عشرة ومائة، قال: وكان ظلوماً في سيرته، جائراً في حكومته، وغزا أرض البشكنس فأوقع بهم. وذكر ابن بشكوال أنه لما عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه فخلعه، لا أدري أقتله أم أخرجه، وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس، فغلبه عليها، وقتل عبد الملك بن قطن، وصلب في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر، وصلب بصحراء ربض قرطبة بعدوة النهر حيال رأس القنطرة، وصلبوا عن يمينه خنزيراً وعن يساره كلباً، وأقام شلوه على جذعه إلى أن سرقه مواليه في الليل وغيبوه، فكان المكان بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن. فلما ولي ابن عمه يوسف بن عبد الرحمن الفهري استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك، وبنى فيه مسجداً نسب إليه، فقيل: مسجد أمية، وانقطع عنه اسم المصلب، وكان سن عبد الملك عند مقتله نحو التسعين. وذكر ابن بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية الأندلس ودخلها سنة سبع وعشرة ومائة، وقيل: في السنة التي قبلها، فأقام بها سنين محمود السيرة، مثابراً على الجهاد، مفتتحاً البلاد، حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودنة (1) ، فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة، وكان قد اتخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد، وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبين له عيوب دينه، فأسلم على يده ألفا رجل، وكانت ولايته خمس سنين وشهرين، قال الرازي: فثار أهل الأندلس بعقبة، فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام ابن عبد الملك، وولوا على أنفسهم عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية،
__________
(1) ق: رودنة - حيثما وقع - وقد صوبناه فيما سبق؛ والإدريسي رودنو (يعني نهر الرون) ؛ وفي بعض المصادر " رادنه ".(3/19)
فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة أعوام وأربعة أشهر، وتوفي في صفر سنة 123، وسريره قرطبة.
27 - 31 - ومن الداخلين إلى الأندلس بلج بن بشر بن عياض القشيري. قال ابن حيان: لما انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ماكان من أمر خوارج البربر بالمغرب الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض شق عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية، وولى عليها كلثوم ابن عياض القشيري، ووجه معه جيشاً كثيفاً لقتالهم، كان فيه مع ما انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفاً ومع ذلك فإنه لما تلاقى مع ميسرة البربري المدعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة، وكان بلج ابن أخيه معه، فقامت قيامه هشام لما سمع بما جرى عليه، فوجه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر ففتح الله تعالى على يديه. ولما اشتد حصار بلج وعمه كلثوم ومن معهما من فلّ أهل الشام بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس، فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم، فلما شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم، فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرةً أمسكا من أرماقهم، فلما بلغ ذلك عبد الملك ابن قطن ضربه سبعمائة سوط، ثم اتهمه بعد ذلك بتضريب الجند عليه، فسمل عينيه، ثم ضرب عنقه، وصلبه وصلب عن يساره كلباً، واتفق في هذا الوقت أن برابر الأندلس لما بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتفضوا على عرب الأندلس، واقتدوا بما فعله إخوانهم، ونصبوا عليهم إماماً، فكثر إيقاعهم بجيوش ابن قطن، واستفحل أمرهم، فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببر العدوة من إخوانهم، وبلغه أنهم قد عزموا على قصده، فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين، فكتب(3/20)
لبلج وقد مات عمه كلثوم في ذلك الوقت، فأسرعوا إلى إجابته، وكانت أمنيتهم، فأحسن إليهم، وأسبغ النعم عليهم، وشرط عليهم أن يأخذ منهم رهائن، فإذا فرغوا له من البربر جهزهم (1) إلى إفريقية، وخرجوا له عن أندلسه، فرضوا بذلك، وعاهدوه عليه، فقدم عليهم وعلى جنده ابنيه قطناً وامية، والبربر في جموع لايحصيها غير رازقها، فاقتتلوا قتالاً صعب فيه المقام، إلى أن كانت الدائرة على البربر، فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلهم بالثغور، وخفوا عن العيون، فكر الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، فاشتدت شوكتهم، وثابت همتهم، وبطروا، ونسوا العهود، وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى الأندلس إلى إفريقية، فتعالوا عليه، وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة، وقتله الرجل الذي أغاثهم بالميرة، فخلعوه، وقدموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر، وتبعه جند ابن قطن، وحملوا عليه في قتل ابن قطن، فأبى فثارت اليمانية وقالوا: قد حميت لمضرك، والله لا نطيعك، فلما خاف تفرق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامةٍ قد حضر وقعة الحرّة مع أهل اليمامة، فجعلوا يسبونه، ويقولون له: أفلتّ من سيوفنا يوم الحرّة، ثم طالبتنا بتلك الترة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حتى أمتّنا جوعاً، فقتلوه وصلبوه كما تقدم، وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا، وحشدا لطلب الثأر، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر، وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند، وكان في أصحاب بلج، فلما صنع بابن عمه عبد الملك ماصنع فارقه، فانحاز فيمن يطلب ثأره، وانضم إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة، وكان فارس الأندلس في وقته، فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون، وبلج قد استعد
__________
(1) ق: همزمهم؛ وانظر أخبار مجموعة: 39.(3/21)
لهم في مقدار اثني عشر ألفاً سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين، فاقتتلوا، وصبر أهل الشام صبراً لم يصبر مثله أحدٌ قط، وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي: أروني بلجاً، فو الله لأقتلنه أو لأموتنّ دونه، فأشاروا إليه نحوه، فحمل بأهل الثغر حملةً انفرج لها الشاميون، والراية في يده، فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك في أيامٍ قلائل، ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمةً قبيحة، واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون، فكان عسكراً منصوراً مقتولاً أميره، وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة، وكانت مدته أحد عشر شهراً، وسريره قرطبة، والعرب الشاميون الداخلون معه إلى الأندلس يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين، والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين.
ولما هلك بلج قدم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي، وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك، فسار فيهم بأحسن سيرة، ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر سموا بعد الوقعة لطلب الثأر، فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة، وهم لا يشكّون في الظفر، إلى أن حضر عيدٌ تشاغلوا به، فأبصر ثعلبة منهم غرةً وانتشاراً وأشراً بكثرة العدد والاستيلاء، فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون، فهزمهم هزيمة قبيحة، وأفشى فيهم القتل، وأسر منهم ألف رجل، وسبى ذريتهم وعيالهم، وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون، حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة. وأصبح الناس منتظرين لقتل الأسارى، فإذا بهم قد طلع عليهم لواءٌ فيه موكب، فنظروا فإذا أبو الخطار قد أقبل والياً على الأندلس، وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي. وذكر ابن حيان أنه قدم والياً من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية، والخليفة حينئذٍ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة، بعد عشرة أشهر وليها ثعلبة بن سلامة، قال: وكان(3/22)
مع فروسيته شاعراً محسناً، وكان في أول ولايته قد أظهر العدل فدانت له الأندلس، إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية، فهاج الفتنة العمياء، وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطار قد بلغ به التعصب لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج حجةً من ابن عم أبي الخطار، فمال أبو الخطار مع ابن عمه، فأقبل الكناني إلى الصميل ابن حاتم الكلابي أحد سادات مضر، فشكا له حيف أبي الخطار، وكان أبياً للضيم حامياً للعشيرة، فدخل على أبي الخطار وأمض عتابه، فنجهه أبو الخطار وأغلظ له، فرد الصميل عليه، فأمر به أبو الخطار، فأقيم ودعّ قفاه حتى مالت عمامته، فلما خرج قال له بعض من على الباب: أبا جوشن، ما بال عمامتك مائلة فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها. وأقبل إلى داره، فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين، فباتوا عنده، فلما أظلم الليل قال: ما رأيكم فيما حدث علي فإنه منوط بكم فقالوا: أخبرنا بما تريد، فإن رأينا تبع رأيك، فقال: والله أريد إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ماخيلت، وأنا خارج لذلك عن قرطبة، فإنه ما يمكنني ما أريد إلا بالخروج، فإلى أين ترون أقصد فقالوا: اذهب حيث شئت، ولاتأت أبا عطاء القيسي، فإنه لا يواليك على أمر ينفعك، وكان أبو عطاء هذا سيداً مطاعاً يسكن بإستجة، وكان مشاحناً للصميل مسامياً له في القدر، فسكت عند ذكره أبو بكر ابن الطفيل العبدي، وكان من أشرافهم، إلا أنه كان حديث السن، فقال له الصميل: ألا تتكلم فقال: أتكلم بواحدة ماعندي غيرها، قال: وما هي قال: إن عدوت إتيان أبي عطاء وشتت أمرك به لم يتم أمرنا وهلكنا، وإن أنت قصدته لم ينظر في شيء مما سلف بينكما، وحركته الحمية لك، فأجابك إلى ما تريد، فقال له الصميل: اصبت الرأي، وخرج من ليلته، وقام أبو عطاء في نصرته على ما قدره العبدي، وعمد إلى ثوابة ابن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم، وكان ساكناً بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار، فأجابهما في(3/23)
القيام والتقدم على المضرية، فاجتمعوا في شذونة، وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكة، وحصل أسيراً في أيديهم، فأرادوا قتله، ثم أرجأوه، وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة، وذلك في رجب سنة 127 بعد ولاية أبي الخطار بسنتين.
ولما سجن أبو الخطار في قرطبة امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي، فأقبل إلى قرطبة ليلاً في ثلاثين فارساً مهعم طائفة من الرجالة، فهجموا على الحبس وأخرجوه منه، ومضوا به إلى غرب الأندلس، فعاد في طلب سلطانه، ودبَّ في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة، فخرج إليه ثوابة ومعه الصميل، فقام رجل من المضرية ليلاً فصاح بأعلى صوته: يا معشر اليمن، مالكم تتعرضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار أليس قد قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا، لكننا مننا وعفونا وجعلنا الأمير منكم، أفلا تفكرون في أمركم، فلو ان الأمير من غيركم عذرتم، ولا والله لا نقول هذا رهبةً منكم ولا خوفاً لحربكم، ولكن تحرجاً من الدماء ورغبةً في عافية العامة، فتسامع الناس به، وقالوا: صدق، فتداعوا للرحيل ليلاً، فما أصبحوا إلا على أميال.
قال الرازي: ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم سنة 125، وفي كتاب أبي الوليد ابن الفرضي: كان أبو الخطار أعرابياً عصبياً، أفرط في التعصب لليمانيين، وتحامل على مضر، واسخط قيساً، فثار به زعيمهم الصميل، فخلعه، ونصب مكانه ثوابة، وهاج بين الفريقين الحروب المشهورة، وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر، وذلك سنة 128، وآل أمره إلى أن قتله الصميل.
وولي الأندلس ثوابة بن سلامة الجذامي، قال ابن بشكوال: لما اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، فكتب إليه بعهد الأندلس، وذلك سلخ رجب سنة 127، فضبط البلد، وقام بأمره كله(3/24)
الصميل واجتمع عليه أهل الأندلس، واقام والياً سنةً أو نحوها، ثم هلك، وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين.
ثم ولي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن نافع الفهري، وجده عقبة بن نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة، ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة. وذكر الرازي أن مولده بالقيروان، ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم، ثم عاد إلى إفريقية، وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضباً له، فهوي الأندلس، واستوطنها فساد بها، قال الرازي: كان يوسف يوم ولي الأندلس ابن سبع وخمسين سنة، وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة، وقد مكثوا بغير والٍ أربعة أشهر، فاجتمعوا عليه بإشارة الصميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان، فرفعوا الحرب، ومالوا إلى الطاعة، فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر، وقال ابن حيان: قدمه أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة 129، واستبد بالأندلس دون ولاية أحد له غير من بالأندلس، وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصَّف قال ابن حيان: لما سمع أبو الخطار بتقديمه حرك يمانيته، فأجابوا دعوته، فأدى ذلك إلى وقعة شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال: إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حربٌ أصدق منها جلاداً ولا أصبر رجالاً، طال صبر بعضهم على بعض، إلى أن فني السلاح، وتجاذبوا بالشعور، وتلاطموا بالأيدي وكل بعضهم عن بعض، وثابت للصميل غرة في اليمانية في بعض الأيام، فأمر بتحريك أهل الصناعات بأسواق قرطبة، فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من(3/25)
أنجادهم بما حضرهم من السكاكين والعصي ليس فيهم حامل رمح ولا سيف إلا قليلاً، فرماهم على اليمانية وهم على غفلة، وما فيهم من يبسط يداً لقتال، ولا ينهض لدفاع، فانهزمت اليمانية ووضعت المضرية السيف فيهم، فأبادوا منهم خلقاً، واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى، فقبض عليه وجيء به إلى الصميل، فضرب عنقه، وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد الرحمن الداخل، وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة، حتى جاءت الدولة المروانية.
وذكر ابن حيان أن القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصميل ابن حاتم ابن شمر ابن ذي الجوشن الكلابي، وجده شمر هو قاتل الحسين، رضي الله تعالى عنه، وكان شمر قد فر من المختار بولده من الكوفة إلى الشام، فلما خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصميل فيمن خرج معه، ودخل الأندلس في طالعة بلج، وكان شجاعاً جواداً جسوراً على قلب الدول، فبلغ مابلغ، وآل أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقاً.
وذكر ابن حيان أنه كان ممن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس، ووالي ثغر أربونة، وكان ذا بأسٍ شديدٍ ووجاهةٍ عظيمة، فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ اغتاله أصحابه واقبلوا برأسه إليه.
ثم ثار عليه بعد ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمة وغيرهم، فملك إشبيلية، وكثر جمعه إلى أن خرج له يوسف فقتله، وثار علية بالجزيرة الخضراء عامر العبدري، فخرج له، وأنزله على أمان في سكنى قرطبة، ثم ضرب عنقه بعد ذلك.
وقيل: إن أول من خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله، وثار عليه في كورة سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله، ثم جاءته الداهية العظمى بدخول عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه، فتم له ماأراده، والله تعالى أعلم.(3/26)
32 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان، المعروف بالداخل (1) . وذلك أنه لما أصاب دولتهم ماأصاب، واستولى بنو العباس على ماكان بأيديهم، واستقر قدمهم في الخلافة، فرّ عبد الرحمن إلى الأندلس فنال بها ملكاً أورثه عقبه حقبةً من الدهر.
قال ابن حيان في " المقتبس ": إنه لما وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم، فرّ عبد الرحمن، رلم يزل في فراره منتقلاً بأهله وولده إلى أن حلّ بقرية على الفرات ذات شجرٍ وغياضٍ، يريد المغرب، لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة (2) ، فمما حكي عنه أنه قال: إني لجالس يوماً في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمدٍ كان بي، وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدّامي، وهو يومئذٍ ابن أربع سنينٍ أو نحوها، إذ دخل الصبي من باب البيت فازعاً باكياً فأهوى إلى حجري، فجعلت أدفعه إلى ما كان بي ويأبى إلا التعلق، وهو دهشٌ يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع، فخرجت لأنظر، فإذا بالروع قد نزل بالقرية، ونظرت فإذا بالرايات السود عليها منحطة، وأخٍ لي حديث السن كان معي يشتد هارباً ويقول لي: النجاء يا أخي، فهذه رايات المسودة (3) ، فضربت بيدي على دنانير تناولتها، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي، وأعلمت أخواتي بمتوجهي ومكان مقصدي، وأمرتهن أن يلحقنني ومولاي بدر معهن، وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية، فما كان إلا ساعةً حتى أقبلت
__________
(1) انظر اخبار عبد الرحمن الداخل في ابن القوطية: 45 وأخبار مجموعة: 50 وابن عذاري 2: 40 والنويري 22: 1 (الباب الخامس) وذكر بلاد الأندلس، الورقة: 89 والمقتطفات، الورقة: 109 ونص هذا الأخير مطابق لنص النفح.
(2) نسب إلى مسلمة بن عبد الملك أنه كان يخبر بأمور من الحدثان والملاحم، وكان يرى أن نهاية بني أمية في المشرق قد اقتربت ويتنبأ بظهور عبد الرحمن (راجع أخبار مجموعة: 51 - 52) وسيأتي شيء من ذلك في هذا الكتاب.
(3) المقتطفات: فهذه الرايات السود.(3/27)
الخيل فأحاطت بالدار، فلم تجد أثراً ومضيت ولحقني بدر، فأتيت رجلاً من معارفي بشط الفرات، فأمرته أن يبتاع لي دواب وما يصلح لسفري، فدلّ علي عبد سوء له العامل، فما راعنا إلا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا (1) في الهرب، فسبقناها إلى الفرات (2) ، فرمينا فيه بأنفسنا، والخيل تنادينا من الشط: ارجعا لا بأس عليكما، فسبحت حاثاً لنفسي وكنت أحسن السبح، وسبح الغلام أخي، فلما قطعنا نصف الفرات قصر أخي ودهش، فالتفت إليه لأقوي من قلبه، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه، فناديته: تقتل ياأخي، إلي إلي، فلم يسمعني، وإذا هو قد اغتر بأمانهم، وخشي الغرق، فاستعجل الإنقلاب نحوهم، وقطعت أنا الفرات، وبعضهم قد هم بالتجرد للسباحة في أثري، فاستكفه أصحابه عن ذلك، فتركوني، ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً ملأني مخافةً، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساعٍ على قدمي، فلجأت إلى غيضةٍ أشبة، فتورايت فيها حتى انقطع الطلب، ثم خرجت (3) أؤم المغرب حتى وصلت إلى إفريقية.
قال ابن حيان: وسار حتى أتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أم الأصبغ مولاه بدراً، ومولاه سالماً، ومعهما دنانير للنفقة، وقطعة من جوهر، فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فل بني أمية، وكان عند واليها عبد الرحمن ابن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة ابن عبد الملك، وكان يتكهن له ويخبره بتغلب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم، واسمه عبد
__________
(1) المقتطفات: فخرجنا واشتددنا.
(2) المقتطفات: وسبقنا الخيل إلى أن وصلنا الفرات.
(3) المقتطفات ودوزي: ثم خرجت هاربا.(3/28)
الرحمن، وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه، فاتخذ الفهري عند ذلك ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية، فلما جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه قال لليهودي: ويحك، هذا هو، وأنا قاتله، فقال له اليهودي: إنك إن قتلته فما هو به، وإن غلبت عن تركه إنه لهو. وثقل فل بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية، فطرد كثيراً منهم مخافةً، وتجنى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به فقتلهما، وأخذ مالاً كان مع اسماعيل ابن أبان بن عبد العزيز ابن مروان، وغلبه على أخته فتزوجها بكرهه، وطلب عبد الرحمن فاستخفى، انتهى.
وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفياً خمس سنين، وآل أمره في سفره إلى أن استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط، وتقلب في قبائل البربر إلى أن استقر على البحر عند قومٍ من زنانة، وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس لموالي بني أمية وشيعتهم بها، وكانت الموالي المروانية المدونة بالأندلس في ذلك الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة، ولهم جمرة، وكانت رياستهم إلى شخصين: أبي عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد، وهما من موالي عثمان، رضي الله تعالى عنه، وكانا يتوليان لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة، فعبر بدر مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكره فيه أيادي سلفه من بني أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله، إذ كان الأمر لجده هشام فهو حقيقٌ بوارثته، ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية وغيرهم، ويتلطف في إدخاله إلى الأندلس ليبليي عذراً في الظهور عليها، ويعده بإعلاء الدرجة، ولطف المنزلة، ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه، ويرجو قيامه معه، ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق على المضرية لما بين الحيين من التراث، فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه، وبانت له فيه طماعية، وكان عند ورود بدر قد تجهزإلى ثغر سرقسطة لنصرة(3/29)
صاحبها الصميل بن حاتم وجه دولة يوسف بن عبد الرحمن صاحب الأندلس، فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور: لو كنا ذاكرنا الصميل خبر بدرٍ وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا، وكانا على ثقةٍ في أنه لايظهر على سرهما أحداً لمروءته وأنفته، فقال له: إن نحن فعلنا لم نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة فيتوقع سقوط رياسته فلا يساعدنا، قال أبو عثمان: فنمسح (1) إذاً على أمره، ونذكر له أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جده هشام لدينا ليتعيش بها، لا يريد غير ذلك، فاتفقا على هذا. فلما ودعا الصميل خلوا به في ذلك، وقد ظهر لهما منه حقدٌ على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه الحباب الزهري بكورة سرقسطة، فقال لهما: أنا معكما فيما تحبان، فاكتبا إليه أن يعبر، فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له، ويزوجه بابنته، فإن فعل وإلا ضربنا صلعته بأسيفنا، وصرفنا الأمر عنه إليه، فشكراه وقبلا يده ثم ودعاه، وأقام بطليطلة وقد ولاه يوسف عليها وعزله عن الثغر، وانصرفا إلى وطنهما بإلبيرة، وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم، فطارحاهم أمر ابن معاوية، ثم دسّا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك، فدب أمره فيهم دبيب النار في الجمر، وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت بالناس.
وفي رواية أن الصميل لان لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبر ذلك لما انصرفا، فتراجع فيه، فردهما، وقال: إني روّيت في الأمر الذي أدرته معكما فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قومٍ لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجلٌ نتحكم عليه، ونميل على جوانبه، ولا يسعنا بدل منه، ووالله لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما
__________
(1) في المقتطفات: ننسخ؛ وفي ق: فتمسح.(3/30)
فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصر حتى ألقاكما لئلاّ أغركما من نفسي، فإني أعلمكما أن أول سيف يسلّ عليه سيفي، فبارك الله لكما في رأيكما، فقالا له: ما لنا رأي إلا رأيك، ولا مذهب لنا عنك. ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير السلطان، وانصرفا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره، ويئسا من مضر وربيعة، ورجعا إلى اليمانية، وأخذا في تهييج أحقاد أهل اليمن على مضر، فوجداهم قوماً قد وغرت صدورهم عليهم، يتمنون شيئاً يجدون به السبيل إلى إدراك ثأرهم، واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر، وغيبة الصميل، فابتاعا مركباً ووجها فيه أحد عشر رجلاً منهم مع بدر الرسول، وفيهم تمام بن علقمة وغيره، وكان عبد الرحمن قد وجه خاتمه إلى مواليه، فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب الأمر، فبثوا من ذلك في الجهات مادبّ به أمرهم، ولما وجه أبو عثمان المركب المذكور مع شيعته ألفوه بشطّ مغيلة من بلاد البربر، وهو يصلي، وكان قد اشتد قلقه وانتظاره لبدر رسوله، فبشره بدر بتمكن الأمر، وخرج إليه تمام مكثراً لتبشيره، فقال له عبد الرحمن: ما اسمك قال: تمام، قال: وما كنيتك قال: أبو غالب، فقال: الله أكبر! الآن تمّ أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته، وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك، ولم يزل حاجبه حتى مات عبد الرحمن. وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب، فلما هم بذلك أقبل البربر فتعرضوا دونه، ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صِلاتٌ على أقدارهم، حتى لم يبق أحد حتى أرضاه، فلما صار عبد الرحمن بداخل المركب أقبل عاتٍ منهم لم يكن أخذ شيئاً فتعلق بحبل الهودج يعقل المركب، فحول رجل اسمه شاكر يده بالسيف، فقطع يد البربري، وأعانتهم الريح على التوجه بمركبهم، حتى حلوا بساحل إلبيرة في جهة المنكب، وذلك في ربيع الآخر سنة 138، فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد، فنقلاه إلى(3/31)
قرية طرش (1) منزل أبي عثمان، فجاءه يوسف بن بخت، وانثالت عليه الأموية، وجاءه جدار (2) بن عمرو المذحجي من أهل مالقة، فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر، وجاءه أبو عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره، وانثال عليه الناس انثيالاً، فقوي أمره مع الساعات فضلاً عن الأيام، وأمده الله تعالى بقوة عالية، فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة أشهر.
وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر، وقد قبض على الحباب الزهري الثائر بسرقسطة، وعلى عامر العبدري الثائر معه، فبينما هو بوادي الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصميل إذ جاءه قبل أن يدخل رواقة رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق، واجتماع الموالي المروانية إليه، وتشوف الناس لأمره، فانتشر الخبر في العسكر لوقته، وشمت الناس بيوسف لقتله القرشين عامراً وابنه، وختره بعدهما، فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل، وتنادوا بشعارهم، وقوضوا عن عسكره، واتفق أن جادت السماء بوابلٍ لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف، فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصته وقوم الصميل قيس وأتباعه، فأقبل إلى طليطلة وقال للصميل: ما الرأي فقال: بادره الساعة قبل أن يغلظ في أمره، فإني لست آمن عليك هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا، فقال له يوسف: أتقول ذلك ومع من نسير إليه وأنت ترى الناس قد ذهبوا عنا وقد أنفضنا من المال، وأنضينا الظهر، ونهكتنا المجاعة في سفرتنا هذه، ولكن نسير إلى قرطبة، فنستأنف الاستعداد له، بعد أن ننظر في أمره ويتبين لنا خبره، فلعله دون ما كتب
__________
(1) طرش (Torrox) على الساحل الشرقي، وهي تعد اليوم في مديرية مالقة.
(2) ق: حدران؛ المقتطفات: جديران؛ ابن عذاري: جدار؛ أخبار مجموعة (76) : جداد.(3/32)
إلينا. فقال الصميل: الرأي ما أشرت به عليك، وليس غيره، وسوف تتبين غلطك فيما تنكبه، ومضوا إلى قرطبة.
وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية، وتلقاه رئيس عربها أبو الصباح ابن يحيى اليحصبي، واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة، فلما نزلوا بطشانة (1) قالوا: كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه فجاؤوا بقناة وعمامة ليعقدوها عليه، فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيراً فأقاموها بين زيتونتين متجاورتين، فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة، كما سيأتي، وحكي أن فرقداً العالم صاحب الحدثان مر بذلك الموضع، فنظر إلى الزيتونتين، فقال: سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلا كسره، فكان ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده، ولما أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف، وكانت المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفاً، ولم يكن عيش عامة الناس بالعسكر ماعدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلا الفول الأخضر الذي يجدونه في طريقهم، وكان الزمان زمان ربيع، فسمي ذلك العام عام الخلف، وكان نهر قرطبة حائلاً، فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على بئر إشبيلية والنهر بينهما، فلما رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذياً له، فتسايرا والنهر حاجز بينهما، إلى أن حل يوسف بصحراء المصارة غربي قرطبة، وعبد الرحمن في مقابلته، وتراسلا في الصلح، وقد أمر يوسف بذبح الجزر، وتقدم بعمل الأطعمة، وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد أعد للحرب عدتها، واستكمل أهبتها، وسهر الليل كله على نظام أمره، كما سنذكره، ثم انهزم أهل قرطبة، وظفر عبد الرحمن الداخل، ونصر نصراً لا كفاء له، وانهزم
__________
(1) المقتطفات: بشطانة؛ وهذا خطأ؛ وطشانة (Tocina) قد عدها العذري (109) من أقاليم إشبيلية.(3/33)
الصميل، وفر إلى شوذر من كورة جيان، وفر يوسف إلى جهة ماردة.
وذكر أن أبا الصباح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف: يامعشر يمن، هل لكم إلى فتحين في يوم قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية فيصير الأمر لنا، نقدم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية، فلم يجبه أحد لذلك، وبلغ الخبر عبد الرحمن فأسرها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام، فقتله.
ولما انقضت الهزيمة أقام ابن معاوية بقرطبة ثلاثة أيام، حتى أخرج عيال يوسف من القصر،
وعف وأحسن السيرة، ولما حصل دار الإمارة، وحل محل يوسف، لم يستقر به قرار من إفلات يوسف والصميل، فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره أبا عثمان، واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد، واستنام إليه إذ كان من موالي بني أمية، ونهض في طلب يوسف فوقع يوسف على خبره فخالفه إلى قرطبة ودخل القصر، وتحصن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان، ولم يزل عنده إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية، وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره الصميل في صفر سنة 139، وشارطه على أن يخلي بينه وبين أمواله حيثما كانت، وأن يسكن بلاط الحر - منزلة بشرقي قرطبة - على أن يختلف كل يوم إلى ابن معاوية ويريه وجهه، وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف، زيادةً على ابنه عبد الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة، ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة.
وذكر ابن حيان أن يوسف بن عبد الرحمن نكث سنة 141، فهرب من قرطبة، وسعى بالفساد في الأرض، وقد كانت الحال اضطربت به في قرطبة ودس له قوم قاموا عليه في أملاكه، زعموا أنه غصبهم إياها، فدفع معهم إلى الحكام (1)
__________
(1) المقتطفات: إلى أحكام الحكام.(3/34)
فأعنتوه. وحمل عنه في التألم بذلك كلامٌ رفع إلى ابن معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه، فاشتد توحشه، فخرج إلى جهة ماردة، واجتمع إليه عشرون ألفاً من أهل الشتات، فغلظ أمره، وحدثته نفسه بلقاء ابن معاوية، فخرج نحوه من ماردة، وخرج ابن معاوية من قرطبة، فبينما ابن معاوية في حصن المدوّر مستعد (1) ، إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر مروان صاحب إشبيلية، فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنهايوسف بعد بلاء عظيم منهزماً، واستحر القتل في أصحابه فهلك منهم خلق كثير، وسار يوسف لناحية طليطلة، فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري، فلما عرفه قال لمن معه: هذا الفهري يفر، قد ضاقت عليه الأرض، وقتله الراحة له، والراحة (2) منه، فقتله واحتز رأسه وقدم به إلى عبد الرحمن، فلما قرب وأوذن عبد الرحمن به أمره أن يتوقف به دون جسر قرطبة، وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده، وضم إلى رأسه، رأسه، ووضعنا على قناتين مشهرين إلى باب القصر.
وكان عبد الرحمن لما فر يوسف قد سجن وزيره الصميل لأنه قال له: أين توجه فقال: لا أعلم فقال: ماكان ليخرج حتى يعلمك، ومع ذلك فإن ولدك معه، وأكد عليه في أن يحضره، فقال: لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه، فاصنع ما شئت، فحينئذٍ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمداً المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن، فتهيأ لهما الهرب من نقب، فأما أبو الأسود فنجا سالماً، واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه، وأما عبد الرحمن فأثقله اللحم فانبهر، فرد إلى الحبس، حتى قتل كما تقدم، وأنف الصميل من الهرب فأقام بمكانه، فلما
__________
(1) المقتطفات: مشتغل.
(2) المقتطفات: راحة له وراحة ...(3/35)
قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصميل من خنقه، فأصبح ميتاً، فدخل على مشيخة المضرية في السجن، فوجدوه ميتاً وبين يديه كأسٌ ونقل، كأنه بغت على شرابه، فقالوا: والله إنا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها.
ومما ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بإحدى دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح يحيى (1) ، وكان قد ولاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به. ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي إذ ثار بباجة، وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس، فدخل في ناس قليلين، فأرسى بناحية باجة، ودعا أهلها ومن حولهم فاستجاب له خلق كثير، إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه، وجيء به وبأعلام أصحابه، فقطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه وأعناقهم، وأمر فقرطت الصكاك في آذانهم بأسمائهم، وأودعت جوالقاً محصناً، ومعها اللواء الأسود، وأنفذ بالجوالق تاجراً من ثقاته، وأمره أن يضعه بمكة أيام الموسم، ففعل، ووافق أبا جعفر المنصور قد حج، فوضعه على باب سرادقه، فلما كشفه ونظر إليه سقط في يده، واستدعى عبد الرحمن وقال: عرضنا هذا البائس - يعني العلاء - للحتف، ما في هذا الشيطان مطمع، فالحمد لله الذي صير هذا البحر بيننا وبينه.
ولما أوقع عبد الرحمن باليمانة الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم، استوحش من العرب قاطبة، وعلم أنهم علي دغل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك، فوضع يده في الابتياع، فابتاع موالي الناس بكل ناحية، واعتضد أيضاً بالبرابر، ووجه عنهم إلى بر العدوة فاْحسن لمن وفد عليه إحساناً رغب من خلفه في المتابعة، قال ابن
__________
(1) ق والمقتطفات: ابن يحيى.(3/36)
حيان: واستكثر منهم ومن العبيد، فاتخذ أربعين ألف رجل، صار بهم غالباً على أهل الأندلس من العرب، فاستقامت مملكته وتوطدت.
وقال ابن حيان (1) : كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم (2) ، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة متصل الحركة، لايخلد إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولايكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيهن شجاعاً مقداماً، بعيد الغور شديد الحدة قليل الطمأنينة بليغاً مفهوماً شاعراً محسناً سمحاً سخياً طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، وكان قد أعطي هيبة (3) من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرفه عنها رجل متظلم عامي وقاح ذو عارضة فقال له: أصلح الله الأمير، إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم، فقال له: تنصف إن صدقت، فمد الرجل يده إلى عنانه وقال: أيها الأمير أسالك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك، فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه، فرآهم قليلاً، ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه، فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى، فقال له: إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير - لا يجمل بالسلطان العزيز، وإن عيون العامة تخلق تجلته، ولا تؤمن بوادرهم عليه، فليس الناس كما عهدوا، فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل، ووكل بذلك ولده هشاماً.
__________
(1) انظر هذا النص في " ذكر بلاد الأندلس ": 91.
(2) المصدر السابق: راجح العقل راسخ العلم واسع الحلم.
(3) المقتطفات: وكان مهابا جدا.(3/37)
ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام (1) :
أيّها الراكب الميمم أرضي ... اقر منّي بعض السلام لبعضي
إنّ جسمي كما تراه بأرضٍ ... وفؤادي ومالكيه بأرض
قدّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الدهر بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي وكتب إلى بعض من وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه، واستقل ما قابله به وذكره بحقه بهذه الأبيات (2) :
شتّان من قام ذا امتعاضٍ ... منتضي الشّفرتين نصلا (3)
فجاب قفراً وشقّ بحرا ... مسامياً لجّةً ومحلا
دبّر ملكاً وشاد عزّا (4) ... ومنبراً للخطاب فصلا
وجنّد الجند حين أودى ... ومصّر المصر حين أجلى
ثمّ دعا أهله إليه (5) ... حيث انتأوا أن هلمّ أهلا
فجاء هذا طريد جوعٍ ... شديد روعٍ يخاف قتلا (6)
فنال أمناً ونال شبعاً ... ونال مالاً ونال أهلا (7)
ألم يكن حقّ ذا على ذا ... أعظم من منعمٍ ومولى وحكى ابن حيان أن عبد الرحمن لما أذعن له يوسف صاحب الأندلس
__________
(1) وردت هذه الأبيات في أكثر المصادر التي ترجمت للأمير عبد الرحمن؛ انظر ذكر بلاد الأندلس: 91 والحلة السيراء 1: 36 وجذوة المقتبس: 10.
(2) انظر الحلة السيراء 1: 39 وذكر بلاد الأندلس: 97 وابن عذاري 2: 59.
(3) في رواية ابن حيان: فشال ما قل واضمحلا، وستأتي هذه الرواية فيما يلي ص: 43.
(4) الحلة: فشاد مجدا وبز ملكا.
(5) الحلة: جميعا.
(6) الحلة: شريد سيف أباد قتلا.
(7) الحلة: وحاز ... وضم.(3/38)
واستقر ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة، فانثالوا عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلامٍ سرّهم وطيّب نفوسهم، مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم، فانصرفوا عنه محبورين مغتبطين، يتدارسون كلامه، ويتهافتون بشكره، ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه. وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجلٌ من جند قنسرين يستجديه فقال له: يا ابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، إليك فررت وبك عذت من زمنٍ ظلومٍ ودهرٍ غشومٍ، قلّل المال وكثر العيال وشعث الحال فصير إلى نداك المآل، وأنت ولي الحمد والمجد والمرجو للرفد، فقال له عبد الرحمن مسرعاً: قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كرهنا لسوء مقامك، فلا تعودن ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة، وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك، كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية، وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه، وكف فيما بعد ذوو الحاجات عن مقابلته بها شفاهاً في مجلسه.
قال ابن حيان: ووقع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع: أما بعد فدعني من معاريض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لأزوين بنانها عن رصف المعصية، نكالاً بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.
وفي " المسهب " أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي، الذي يرتد عنه أكثر بني مروان حسيراً. وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يحب إهماله (1) ،
__________
(1) زاد في المقتطفات: أو تعتبر بلاغته.(3/39)
وذلك أنه لما سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنية، فأول ما بدأ به أن قال: بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لما بلغ أقصى أمله. وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة: إنما تعبنا أولاً لنستريح آخراً، وما أرانا إلا في أشدّ مما كنا، وأطال أمثال هذه الأقوال، وأكثر الإستراحة في جانبه، فهجره وأعرض عنه، فزاد كلامه، وكتب له رقعة منها: أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر، الذي أهانني في عيون أكفائي وأشمت بي أعدائي، وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فلما وقف عبد الرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه، فوقّع عليها: " وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك وسوء خطابك ودناءة أدبك ولئيم معتقدك، والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتاً أتيت بما يهدم كل متات مشيد مما تمن به، مما قد أضجر الأسماع تكراره، وقدحت في النفوس إعادته، مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك، وزدنا في هجرك وإبعادك، وهضنا جناح إدلالك، فلعل ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى؛ فنحن أولى بتأديبك من كل أحد، إذ شرّك مكتوب في مثالبنا، وخيرك معدود في مناقبنا ". فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء، وعلم أنه لا ينفع فيه قول، ووجه عبد الرحمن من استأصل ماله وألزمه داره، وهتك حرمته وقص جناح جاهه، وصيره أهون من قعيس على عمته، ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه، تارة يستلينه وتارة يذكره، وتارة ينفث مصدوراً بخط قلمه ما يلقيه عليه بلسانه، غير مفكر فيما يؤول إليه، إلى أن كتب له: قد طال هجري، وتضاعف همي وفكري، وأشد ما عليّ كوني سليباً من مالي، فعسى أن تأمر(3/40)
لي بإطلاق مالي وأتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت، فوقّع له: إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته، ولا سبيل إلى ردّ مالك، فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة، فايأس من ذلك فإن اليأس مريح. فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس، فكتب إليه في ذلك رقعةً منها: " وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك، ممن عفوت عنه، فتبنك النعمة في ذراك، واقتعد ذروة العز، وأنا على ضدٍّ من هذا سليباً من النعمة، مطرحاً في حضيض الهوان، أيأس مما يكون، وأقرع السن على ما كان ". فلما وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر، وكتب له على ظهر رقعته: " لتعلم أنك لم تزل بمقتك، حتى ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلا ما أقصرت، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق بك معي الدنيا، ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان، وما تقوّلوه عليك، وما لك عدو أكبر من لسانك، فما طاح بك غيره، فاقطعه قبل أن يقطعك ".
ولما فتح الداخل سرقسطة، وحصل في يده ثائرها (1) الحسين الأنصاري، وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، أقبل خواصه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند، فهنأه بصوت عال، فقال: والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ علي فيه النعمة من هو فوقي فأوجب علي ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من
__________
(1) المقتطفات: الثائر بها.(3/41)
سوء النكال، من تكون حتى تقبل مهنئاً رافعاً صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة، فقال: ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة، لا أعدمنيه الله تعالى، فتهلل وجه الأمير، وقال: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها، ورفع مرتبته، وزاد في عطائه.
ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال: لا تستأصلوا شأفة أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوةً منهم، يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.
ولما اشتد الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري، ورأى شدة مقاساة أصحابه، قال: هذا اليوم هو أُس ما يبنى عليه، إما ذل الدهر وإما عز الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون.
ولما خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر، فقال: إني محتاج لما يزيد في عقلي، لا لما ينقصه، فعرفوا بذلك قدره؛ ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها.
ولما استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال: لولا أنا ما توصل لهذا الملك، ولكان منه أبعد من العيوق، وأن آخر قال: سعده أعانه، لا عقله وتدبيره، فحركه ذلك إلى أن قال:
لا يلف ممتنٌّ علينا قائلٌ ... لولاي ما ملك الأنام الداخل
سعدي وحزمي والمهنّد والقنا ... ومقادرٌ بلغت وحالٌ حائل(3/42)
إنّ الملوك مع الزمان كواكبٌ ... نجمٌ يطالعنا ونجمٌ آفل
والحزم كلّ الحزم أن لا يغفلوا ... أيروم تدبير البريِّة غافل
ويقول قومٌ سعده لا عقله ... خير السعادة ما حماها العاقل
أبني أميّة قد جبرنا صدعكم ... بالغرب رغماً والسعود قبائل
ما دام من نسلي إمامٌ قائمٌ ... فالملك فيكم ثابتٌ متواصل وحكى ابن حيان أن جماعةً من القادمين عليه من قبل الشام حدثوه يوماً في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم، وكلامه لعبد الله بن علي بن عباس الساطي بهم، وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسودة من دعاة القوم وشيعتهم راداً على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية، وثلبهم والبراءة منهم، فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والرد عليه بتفضيله لأهل بيته والذبّ عنهم، وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصه بريقه، وعاجل الغمر بالحتف، فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام، وكثر القوم في تعظيم ذلك، فكأن الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوهم، والأنف من طاعتهم، والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه، وقام عن مجلسه، فصاغ هذه الأبيات بديهةً:
شتّان من قام ذا امتعاض ... فشال ما قلّ (1) واضمحلاّ
ومن غدا مصلتاً لعزمٍ ... مجرِّداً للعداة نصلا
فجاب قفراً وشقّ بحراً ... ولم يكن في الأنام كلاّ
فشاد ملكاً وشاد عزّاً ... ومنبراً للخطاب فصلا
__________
(1) ق: فمر ما قال؛ وآثرنا رواية الحلة السيراء.(3/43)
وجنّد الجند حين أودى ... ومصّر المصر حين أجلى
ثمّ دعا أهله جميعاً ... حيث انتأوا أن هلمّ أهلا وله غير ذلك من الشعر، وسيأتي بعضه مما يقارب هذه الطبقة.
وأول ناصر لعبد الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدم الذكر، سعى في سلطانه شرقاً وغرباً وبراً وبحراً، فلما كمل له الأمر سلبه من كل نعمة، وسجنه ثم أقصاه إلى أقصى الثغر، حتى مات وحاله أسوأ حال، والله تعالى أعلم بالسرائر، فلعل له عذراً ويلومه من يسمع مبداه ومآله.
ورأس الجماعة الذين توجه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان، ولما توطدت دولة الداخل استغنى عنه وعن أمثاله، فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره وينظر في شيءٍ يحتاج به إليه، فجعل ابن أخته يثور عليه في حصنٍ من حصون إلبيرة، فوجه عبد الرحمن من قبض عليه وضرب عنقه، ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل، وزين له القيام عليه، فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتم أمره، فضرب عنقه وأعناق الذين دبروا معه، وقيل له: إن أبا عثمان كان معه، وهو الذي ضمن له تمام الأمر، فقال: هو أبو سلمة هذه الدولة (1) ، فلا يتحدث الناس عنه بما تحدثوا عن بني العباس في شأن أبي سلمة، لكن سأعتبه عتباً أشد من القتل، وجعل يوعده، ثم رجع له إلى ما كان عليه في الظاهر.
وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد، وكان قد ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل، وقتل أبا الصباح، فانعزل عبد الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته، فمات منفرداً عن السلطان.
__________
(1) يشير إلى أبي سلمة الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقد تخلص منه العباسيون حين تمهدت الدولة.(3/44)
وكان ثالثهما في النصرة والاختصاص تمام بن علقمة، وهو الذي عبر البحر إليه وبشره باستحكام أمره، فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور، وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدم الذكر، قال ابن حيان: فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعزّ الناس عليهما ما أراهما أن أحداً لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته.
وإذا تتبع الأمر في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب.
وذكر أن أول حجّاب الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل، ثم يوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك بن مروان، وله بقرطبة عقبٌ نابه، ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني، وأبوه مغيث فاتح قرطبة الذي تقدمت ترجمته، ثم منصور الخصي، وكان أول خصيٍّ استحجبه بنو مروان بالأندلس، ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل.
ولم يكن للداخل من ينطلق عليه سمة (1) وزير، لكنه عين أشياخاً للمشاورة والمؤازرة (2) ، أولهم أبو عثمان المتقدم الذكر، وعبد الله بن خالد السابق الذكر، وأبو عبدة صاحب إشبيلية، وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان ابن الحكم، وكان من سبي البرابر، وقيل: إنه رومي، وبنو شهيد الفضلاء من نسله، وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى عبد الله بن معاوية، ولولده نباهةٌ عظيمة في الوزارة وغيرها، وثعلبة بن عبيد بن النظام الجذامي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن، وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة، ولعقبه في الدولة نباهة.
__________
(1) المقتطفات: تسمية.
(2) المقتطفات: والمزاورة.(3/45)
وأول من كتب له عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد المتقدما الذكر، ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان، وكان في عديد من يشاوره أيضاً ويفضل أمره وآراءه، وكان يكتب قبله ليوسف الفهري، وقيل: إنه ممن اتهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن، فاتقف أن مات قبل قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر.
وذكر ابن زيدون أن الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى بن يزيد اليحصبي، فأقره حيناً، ثم ولى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي، ثم عمر ابن شراحيل، ثم عبد الرحمن بن طريف، وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر.
وكان الداخل يرتاح، لما استقر سلطانه بالأندلس، إلى أن يفد عليه فل بيته بني مروان، حتى يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه، وتظهر يده عليهم، فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد ابن معاوية وابن عمه عبد السلام ابن يزيد ابن هشام، قال ابن حيان: وفي سنة 163 قتل الداخل عبد السلام ابن يزيد ابن هشام المعروف باليزيدي، وقتل معه من الوافدين عليه عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام، وهو ابن أخي الداخل، وكانا تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر، فوشى بينهما مولى لعبيد الله بن أبان، وكان قد ساعدهما على ما هما به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة، فلم ينله ما نالهما.
وذكر الحجاري أن الداخل كان يقول: أعظم ما أنعم الله تعالى به علي بعد تمكني من هذا الأمر القدرة على إيواء من يصل إلي من أقاربي، والتوسع في الإحسان إليهم، وكبري في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منة لأحد علي فيه لأحدٍ غيره.
وذكر ابن حزم أنه كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية، فسعى في طلب الأمر لنفسه، فقتله سنة 167، وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصميل بن حاتم، ونفى أخاه الوليد بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة(3/46)
بماله وولده وأهله.
وفي " المسهب " حدث بعض موالي عبد الرحمن الخاصين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة المذكور، وهو مطرق شديد الغم، فرفع رأسه إليّ وقال: ما عجبي إلا من هؤلاء القوم، سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة، وخاطرنا فيه بحياتنا، حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا، ويسّر الله تعالى أسبابه، أقبلوا علينا بالسيوف، ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرت عليهم أخلاف النعم هزوا أعطافهم، وشمخوا بآنافهم، وسموا إلى العظمى، فنازعونا فيما منحنا الله تعالى، فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم، وساء أيضاً ظنه فينا، وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه، وإن أشد ما علي في ذلك أخي والد هذا المخذول، كيف تطيب لي نفسٌ بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه أم كيف يجتمع بصري مع بصره اخرج له الساعة فاعتذر إليه، وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه، واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من بر العدوة. قال: فلما وصلت إلى أخيه وجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء، فآنسته وعرفته، ودفعت له المال، وأبلغته الكلام، فتأوه وقال: إن المشئوم لا يكون بليغاً في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه، وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية، وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرة الزمان وكله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا مرد لما حكم به وقضاه (1) ، ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى بر العدوة. قال: ورجعت إلى الأمير فأعلمته يقوله، فقال: إنه نطق بالحق، ولكن لا يخدعني بهذا القول عما في نفسه، والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عف عنه لحظة، فالحمد لله الذي أظهرنا
__________
(1) المقتطفات: لا مرد لحكم به قضى.(3/47)
عليهم بما نويناه فيهم، وأذلهم فيما نووه فينا.
واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين، وذكر أعقابهم بالأندلس، ومنهم جزيّ بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز، وسيأتي قريباً.
وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفّره الله تعالى بهم، وقد سبق ذكر بعضهم، ومنهم الدعي (1) الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره، وطال شره سنين متوالية، إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله.
ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية، وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة، وعمرو بن طالوت رئيس باجة، اجتمعوا وتوجهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح، فقتلوا في هزيمة عظيمة، وقيل: نجوا بالفرار، فأمنهم الداخل.
وفي سنة 157 ثار بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي، وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي رأس الفتن، وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان، وقتل الداخل الحسين كما مرّ.
وفي سنة 163 ثار الرماحس بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء، فتوجه له عبد الرحمن الداخل، ففرّ في البحر إلى المشرق.
قال ابن حيان: كان مولد عبد الرحمن الداخل سنة 113، وقيل: في التي قبلها، بالعلياء من تدمر، وقيل: دير حنّا من دمشق، وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك، وكان قد رشحه للخلافة - وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر حين أهدر هشام دمه -. وتوفي الداخل لستٍ بقين من ربيع الآخر سنة 171، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة
__________
(1) دوزي: الداعي.(3/48)
أشهر، وقيل: اثنتان وستون سنة ودفن بالقصر من قرطبة، وصلى عليه ابنه عبد الله.
وكان منصوراً مؤيداً مظفراً على أعدائه، وقد سردنا من ذلك جملة، حتى قال بعضهم: إن الراية التي عقدت له بالأندلس (1) حين دخلها لم تهزم قط، وإن الوهن ما ظهر في ملك بني أمية إلا بعد ذهاب تلك الراية، قال أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثبت الثقة أبو مروان ابن حيان، رحمه الله تعالى.
ولا بأس أن نورد زيادة على ما سلف وإن تكرر بعض ذلك، فنقول: قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد كلام ابن حيان الذي قدمنا ذكره، ما نصه (2) : كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، كثير الحزم، نافذ العزم، لم ترفع له قط راية على عدو إلا هزمه، ولا بلد إلا فتحه، شجاعاً، مقداماً، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمر إلى غيره، كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به، ويعود المرضى ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمع والأعياد، ويخطب بنفسه، جند الأجناد وعقد الرايات واتخذ الحجاب والكتاب، وبلغت جنوده مائة ألف فارس.
وملخص دخوله الأندلس أنه لما اشتد الطلب على فل بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس خرج مستتراً إلى مصر، فاشتد الطلب على مثله، فاحتال حتى وصل برقة، ثم لم يزل متوغلاً في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى، ونزل بنفزة، وهم أخواله، فأقام عندهم أياماً ثم ارتحل إلى مغيلة بالساحل، فأرسل مولاه بدراً بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم، فأجابوه واشتروا مركباً وجهزوه بما يحتاج
__________
(1) المقتطفات: في الأندلس بين الزيتونتين.
(2) قد تقدم أن هذا النص لابن حيان. (انظر ص 2: 37) .(3/49)
إليه، وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان، وأركب فيه بدراً، وأعطاه خمسمائة دينار برسم النفقة، وركب معه تمام بن علقمة، وبينما هو يتوضأ لصلاة المغرب على الساحل إذ نظر إلى المركب في لجة البحر مقبلاً حتى أرسى أمامه، فخرج إليه بدر سابحاً، فبشره بما تم له بالأندلس، وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي، ثم خرج إليه تمام ومن معه في المركب فقال له: ما اسمك وما كنيتك فقال: اسمي تمام، وكنيتي أبو غالب، فقال: ثم أمرنا وغلبنا غدوّنا إن شاء الله، ثم ركبوا المركب معه فنزل بالمنكب، وذلك غرّة ربيع الأول سنة 138.
فلما اتصل خبر جوازه بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقوه بالإعظام والإكرام، وكان وقت العصر، فصلى بهم العصر، وركبوا معه إلى قرية طرّش من كور إلبيرة فنزل بها، وأتاه بها جماعة من وجوه الموالي وبعض العرب، فبايعوه وكان من أمره ما يذكر، وقيل: إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه العرب، فخرج من إلبيرة إلى كورة رية فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها، ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مورور، ثم سار إلى إشبيلية.
وقال بعضهم: لما أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشانة، فأشاروا عليه أن يعقد له لواء، فجاءوا بعمامة وقناة، فكرهوا أن يميلوا القناة تطيراً، فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين، وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة، وتبرك هو وولده بهذا اللواء، فكان بعد أن بلي لا تحل منه العقدة التي عقدت أولاً، بل تعقد فوقها الألوية الجدد، وهي مستكنة تحتها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، وقيل: إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، فاجتمع الوزراء على تجديد اللواء، فلما رأوا تحت اللواء أسمالاً خلقة ملفوفة(3/50)
معقدة جهلوها فاسترذلوها، وأمروا بحلها ونبذها، وجددوا غيرها، وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائباً، فحضر في اليوم الثاني وطولع بالقصة، فأنكرها أشد إنكار وساءه ما فعلوه، وقال: إن جهلتم شأن تلك الأخلاق فكان ينبغي أن تتوقفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ وتتفكروا في أمرها، وخبرهم خبرها، فتطلبوا تلك الأخلاق فلم توجد، ويقال كما قال ابن حيان: إنه لم يزل يعرف الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم، وقد كان الذي عقده أولاً عبد الله بن خالد من موالي بني أمية، وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جد عبد الرحمن الأعلى لما اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهطٍ، فانتصر على الضحاك وقتله، ولما عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشد حزن، وانفتقت عليه إثر ذلك الفتوق العظام، وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قط جيش كان تحته، على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصل إليها الأفكار، وتولى حمل هذا اللواء لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري، ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى أيام محمد بن عبد الرحمن.
ولما تلاقى عبد الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا، فخادعه يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة، أظهر عبد الرحمن قبول الصلح، فبات الناس على ذلك ليلة العيد، وكان قد أسر خلاف ما أظهر، واستعد للحرب، ولما أصبح يوم الأضحى لم ينشب أن غشيت الخيل، ووكل عبد الرحمن بخالد بن زيد الكاتب رسول يوسف جماعة، وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه، وإلا فلا، فكان خالد يقول: ما كان شيء في ذلك الوقت أحب إلي من غلبة عبد الرحمن الداخل عدو صاحبي، وركب عبد الرحمن جواداً، فقالت اليمانية الذين أعانوه: هذا فتىً حديث السن تحته جواد وما نأمن أول ردعةٍ يردعها أن يطير منهزماً(3/51)
على جواده ويدعنا، فأتى عبد الرحمن أحد مواليه فأخبره بمقالتهم، فدعا أبا الصباح، وكان له بغل أشهب يسميه الكوكب، فقال له: إن فرسي هذا قلق تحتي، لا يمكنني من الرمي، فقدم إلي بغلك المحمود أركبه، فقدمه، فلما ركب اطمأن أصحابه، وقال عبد الرحمن لأصحابه: أي يوم هذا قالوا: الخميس يوم عرفة، فقال: فالأضحى غداً يوم الجمعة، والمتزاحفان أموي وفهري، والجندان قيس ويمن، قد تقابل الأشكال جداً، وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط، فأبشروا وجدوا، فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جده مروان بن الحكم وبين الضحاك بن قيس الفهري، وكانت يوم جمعة ويوم أضحى، فدارت الدائرة لمروان على الضحاك، فقتل الضحاك، وقتل معه سبعون ألفاً من قبائل قيس وأحلافهم، وقيل: إنه لم يحضر مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر: عبد الرحمن (1) بن مسعدة الفزاري، وابن هبيرة المحاربي، وصالح الغنوي، وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم المصارة غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة: جابر بن العلاء بن شهاب، والحصين بن الدجن، العقيليان، وهلال بن الطفيل العبدي، وكان الظفر لعبد الرحمن، وانهزم يوسف، وصبر الصميل بن حاتم بعده معذراً وعشيرته يحفونه، فلما خاف انهزامهم عنه تحول على بغله الأشهب معارضةً لعبد الرحمن الداخل، فمر به أبو عطاء فقال له: يا أبو جوشن، احتسب نفسك، فإن للأشباه أشباهاً: أموي بأموي، وفهري بفهري، وكلبي بكلبي، ويوم أضحى بيوم أضحى، ويمني بقيسي، والله إني لأحسب هذا اليوم بمثل مرج رهط سواء، فقال له الصميل: كبرت وكبر علمك، الآن تنجلي الغماء، وسحرك (2) منتفخ، فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلباً، وانهزم الصميل، وملك عبد الرحمن قرطبة.
__________
(1) دوزي: عبد الله.
(2) السحر: الرئة.(3/52)
ويوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة بن نافع الفهري، باني القيروان، وأمير معاوية على إفريقية والمغرب، وهو مشهور.
وأما الصميل فهو ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، وقيل: الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن ذي الجوشن، كان جده شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين، رضي الله تعالى عنه، ودخل الصميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازياً، وساد بها، وكان شاعراً كثير السكر أمياً لا يكتب، ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب بالأندلس، وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه، وكانت ولاية الفهري الأندلس سنة تسع وعشرين ومائة، فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر، وعنه كما مرّ انتقل سلطانها إلى بني أمية، واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة، ثم انتثر سلكهم، وباد ملكهم، كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة، سنة الله التي قد خلت في عباده.
وكانت مدة الأمراء قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستاً وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام، لأن الفتح كان حسبما تقدم لخمسٍ خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين، وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشرٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمانٍ وثلاثين ومائة، والله غالب على أمره.
وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية دخل يوماً على جده هشام، وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك، وكان عبد الرحمن إذ ذاك صبياً، فأمر هشام أن ينحّى عنه، فقال له مسلمة: دعه يا أمير المؤمنين، وضمه إليه ثم قال: يا أمير المؤمنين هذا صاحب بني أمية، ووزرهم عند زوال ملكهم، فاستوص به خيراً، قال: فلم أزل أعرف مزيةً من جدي من ذلك الوقت.
وكان الداخل يقاس بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدته وضبط المملكة، ووافقه في أن أم كل منهما بربرية، وأن كلاً منهما قتل ابن أخيه، إذ قتل(3/53)
المنصور ابن السفاح، وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية.
ومن شعر عبد الرحمن وقد رأى نخلة برصافته (1) :
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلةٌ ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرّب والنّوى ... وطول اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبةٌ ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي ... يسحُّ ويستمري السماكين (2) بالوبل وكان نقش خاتمه " بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم ".
وأشاع سنة 163 الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس، وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته، وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس في طائفة، ويذهب بعامة من أطاعه، ثم أعرض عن ذلك بسبب أمر الحسين (3) الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة، فبطل ذلك العزم.
ومن شعر عبد الرحمن أيضاً قوله يتشوّق إلى معاهد الشام (4) :
أيّها الراكب الميمّم أرضي ... اقر منّي بعض السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ ... وفؤادي ومالكيه بأرض
قدّر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي وترجمة الداخل طويلة، وقد ذكر منها ما فيه مقنع، انتهى؛ والله تعالى الموفق للصواب.
__________
(1) انظر ابن عذاري 2: 62 والحلة السيراء: 27.
(2) المقتطفات وق: يصح ويستمري المساكين.
(3) المقتطفات وق: الحسن؛ وقد تقدم ذكره باسم " الحسين ".
(4) تقدمت هذه الأبيات ص: 38.(3/54)
وفي بنائه جامع قرطبة يقول بعضهم:
وأبرز في ذات الإله ووجهه ... ثمانين ألفاً من لجينٍ وعسجد
وأنفقها في مسجدٍ زانه التّقى ... وقرّ به دين النبي محمّد
ترى الذهب الوهّاج بين سموكه ... يلوح كلمح البارق المتوقّد 33 - ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي (1) ، دخل الأندلس، وكان شيخاً مسناً يروي عن أمه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، إلا أنه كان مندراً صاحب دعابة، وكان مختصاً بعبد الرحمن بن معاوية، وله منه مكانةٌ لطيفةٌ يدل بها عليه، ولما توفي حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد ابن عبد الملك بن مروان، وكانت له من عبد الرحمن خاصةٌ لم تكن لأحد من أهل بيته، جعل عبد الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب، وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا قائماً، وكانت له دالة عليه ودعابة يحتملها منه، فأقبل عند استعباره كالمخاطب للمتوفى علانيةً يقول: يا أبا سليمان، لقد نزلت بحفرة قلما يغني عنك فيها بكاء الخليفة عبد الرحمن بعرةً، فأعرض عنه عبد الرحمن، وقد كاد التبسم يغلبه؛ هكذا ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى في " المقتبس "، ونقله عن الحافظ ابن الأبار.
34 - ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن عبد العزيز (2) ، أخو عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه؛ دخل الأندلس، ومات في مدة الداخل، وكان من أولياء الله تعالى مقتفياً سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز، رحمهما الله تعالى.
__________
(1) انظر التكملة: 312 والنقل عنه حرفي دون إخلال أو إيجاز. والترجمة في " المقتطفات ": 123، وفي ق: أبو الأشعب الكلبي.
(2) الجمهرة: 105 وقال ابن حزم: ولجزي عقب بقرطبة؛ وترجمته في الجذوة: 178 (وبغية الملتمس رقم: 627) .(3/55)
35 - ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة، الجذامي (1) ويكنى أبا ثمامة، وجده صحابي، وكان بكر هذا فقيهاً كبيراً من التابعين، روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي، - وقيد اسمه الدار القطني رحمه الله تعالى حبان، بكسر الحاء المهملة، وبباء معجمة بواحدة، ونقله الأمير كذلك، وهو ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد فتح مصر، قال ابن يونس: ويقال فيه حبان بالكسر، وحبان بالفتح أصح، انتهى، وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت -.
رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبة ثور الفهمي، وأبو عميرة المزني، وروى عن جماعة من التابعين أيضاً كسعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم، منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتابي وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي (2) وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس.
وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة ابن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم.
قال ابن يونس: توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك، وقيل: بل
__________
(1) انظر ترجمته في الجذوة: 169 (وبغية الملتمس رقم: 586) ورياض النفوس 1: 74 ومعالم الإيمان 1: 160.
(2) ق: المربخي؛ ولم ينسبه الذهبي في ميزان الاعتدال (1: 107) وقال: تفرد بحديث الفراسي في ماء البحر؛ ما حدث عنه غير بكر بن سوادة.(3/56)
غرق في مجاز الأندلس، سنة ثمان وعشرين ومائة، قال: وجده ثمامة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث.
وقال أبو بكر عبد الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمى ب " رياض النفوس " وقد ذكر بكراً هذا: إنه كان أحد العشرة التابعين، يعني الموجهين إلى إفريقية من قبل عمر بن عبد العزيز في خلافته ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم، قال: وأغرب بحديث عن عقبة بن عامر، لم يروه غيره فيما علمت، حدث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف، ولا تنه عن منكر، وعليك بخاصة نفسك "، وحكى المالكي أيضاً عن أبي سعيد بن يونس قال: كان فقيهاً مفتياً، سكن القيروان، وكانت وفاته كما تقدم، وذكره الحميدي في الداخلين إلى الأندلس، ولم يذكره ابن الفرضي.
36 - ومنهم رزيق بن حكيم (1) ، أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس، ذكره أبو الحسن ابن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن يوسف الرفاء القرطبي، وحكى أنه كتب ذلك من خطه، وسماه مع جماعة منهم حبان بن أبي جبلة وعلي ين أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني ومعاوية ابن صالح وزيد ابن الحباب العكلي، وانتهى عددهم برزيق هذا سبعة، ولم يذكره ابن الفرضي ولا غيره، قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي.
37 - ومنهم زيد بن قاصد السكسكي (2) . قال ابن الأبار: وهو تابعي، دخل الأندلس وحضر فتحها، وأصله من مصر، يروي عن عبد الله بن عمرو
__________
(1) ق: زريق؛ وأثبته ابن الأبار في حرف الراء " رزيق " (التكملة: 324) وكذلك سماه الذهبي في المشتبه: 312 واسم والده مصغر أيضا؛ وما أورده المقري في ترجمته منقول عن ابن الأبار.
(2) التكلمة: 330 والجذوة: 204 (وبغية الملتمس رقم: 757) .(3/57)
ابن العاص رضي الله تعالى عنه، وروى عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، ذكره يعقوب بن سفيان، وأورد له حديثاً؛ من كتاب الحميدي (1) ، انتهى.
38 - ومنهم زرعة بن روح الشامي (2) ؛ دخل الأندلس، وحدث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل.
39 - ومنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري (3) ، قال ابن الأبار: تابعي، دخل الأندلس، يروي عن أبي هريرة، قرأته بخط ابن حبيش، وقال أبو سعيد ابن يونس مؤرخ مصر: إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير، ويروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الحميدي: إنه كان من أهل الدين والفضل معروفاً بالفقه، ولي بحر إفريقية سنة ثلاث وتسعين، وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير، فيما حكاه ابن يونس صاحب تاريخ مصر، وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. ولما قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه، فولوه أمرهم، وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان، إلى أن ولي بشر بن صفوان الكلبي إفريقية، وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظلة، انتهى.
40 - ومنهم عبد الملك بن عمرو بن مروان بن الحكم، الأموي (4) ، فر من الشام خوفاً من المسودة، فمر بمصر ومضى إلى الأندلس، وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل، فأكرمه ونوه به، وولاه إشبيلية لأنه
__________
(1) يريد ابن الأبار أنه نقل هذه الترجمة من كتاب الحميدي (جذوة المقتبس) .
(2) انظر التكملة: 326.
(3) ترجمته في التكملة: 354 وجذوة المقتبس: 42 (وبغية الملتمس رقم: 67) .
(4) ترجمته في الحلة السيراء 1: 56 والمقتطفات: 123.(3/58)
كان قعدد بني أمية، ثم إنه لما وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة، وذكره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية، فتوقف عبد الرحمن في ذلك، فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له، وذلك أنه قال له حين امتنع من ذلك: إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي، فقطع حينئذ عبد الرحمن الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر، ولما زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا، فنهض في معظم الجيش، وقدم ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر، فخالطهم أمية، فوجد فيهم قوة، فخاف الفضيحة معهم، فانحاز منهزماً إلى أبيه، فلما جاءه سقط في يده، وقال له: ما حملك على أن استخففت بي وجرأت الناس علي والعدو إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه، فأمر بضرب عنقه، وجمع أهل بيته وخاصته وقال لهم: طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع، ونحسد على لقمة تبقي الرمق، اكسروا جفون السيوف، فالموت أولى أو الظفر، ففعلوا وحملوا، وتقدمهم، فهزم اليمانية وأهل اشبيلية، ولم تقم بعدها لليمانية قائمة، وقتل بين الفريقين ثلاثون ألفاً، وجرح عبد الملك، فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دماً وسيفه يقطر دماً، وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبل بين عينيه، وجزاه خيراً، وقال له: يا ابن عمّ، قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاماً ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا ولأولادك كذا، وأقطعتك وإياهم كذا، ووليتكم الوزارة.
ومن شعره لما نظر نخلة منفردة بإشبيلية فتذكر وطنه بالشام، وقال (1) :
__________
(1) نسب ابن الأبار هذه الأبيات لعبد الرحمن الداخل (الحلة: 37) ثم قال: وقد قيل إن الأبيات الأربعة الأول (تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... ) لعبد الملك بن بشر بن عبد الملك، وقيل في الأبيات الأخيرة (يا نخل أنت غريبة ... ) إنها لعبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم؛ ثم عاد فذكر أن هناك ما يقوي نسبتها إلى عبد الرحمن.(3/59)
يا نخل أنت فريدةٌ مثلي ... في الأرض نائيةٌ عن الأهل
تبكي وهل تبكي مكممةٌ ... عجماء لم تجبل على جبلي
ولو أنها عقلت إذا لبكت ... ماء الفرات ومنبت النخل
لكنّها حرمت وأخرجني ... بغضي بني العباس عن أهلي 41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ونزل حين دخوله بلبلة، وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي، وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه " أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب ".
42 - ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة، الكناني (1) ، حليف بني عبد الدار، سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين، حكى ذلك عنه أبو القاسم ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب " التنبيه والتعيين "، قال ابن الأبار: وما أراه يتابع عليه؛ وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية، انتهى، وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني.
43 - ومنهم عبد الله المعمر (2) الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان، وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين. قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني، ذكر ذلك القبشي، وفيه عندي نظر، انتهى.
44 - ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب، المهري (3) ، روى عن أبي ذر، وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر، وعائشة وعمرو بن العاص
__________
(1) ترجمته في التكملة: 772.
(2) التكملة: 912.
(3) ترجمته في التكملة رقم: 1525، وفيه " ابن ذؤيب ".(3/60)
وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وأبي نضرة الغفاري (1) وعقبة بن عامر الجهني وعوف ابن مالك الأشجعي، ومعاوية ابن حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم، ذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وسماه ابن بشكوال في الداخلين الأندلس من التابعين، وروى ذلك عن الحميدي، قاله ابن الأبار؛ وقال ابن يونس: وآخر من حدث عنه بمصر حرملة بن عمران.
45 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق عبد الله بن سعد ابن عمار ابن ياسر (2) ، رضي الله تعالى عنه، وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه، وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن المرواني الداخل للأندلس، وكان المذكور إذ ذاك أميراً على اليمانية من جند دمشق، وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين، وكان عمار رضي الله تعالى عنه من شيعة علي، كرم الله وجهه.
وهذا عبد الله بن سعد هو جد بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدة رؤساء وأمراء وكتاب وشعراء، ومنهم صاحب " المغرب " وغير واحد ممن عرفنا به في هذا الكتاب، ومن مشاهيرهم أبو بكر محمد بن سعيد ابن خلف ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين، قال: وهو القائل يفتخر (3) :
إن لم أكن للعلاء أهلاً ... بما تراه فمن يكون
فكلُّ ما أبتغيه دوني ... ولي على همّتي ديون
ومن يرم ما يقلّ عنه ... فذاك من فعله جنون
__________
(1) التكملة: أبي بصرة؛ وذكر صاحب الأغاني أن أبا بصرة الغفاري المحدث هو والد عزة صاحبة كثير؛ قال: واسمه صميل بن وقاص (9: 24) .
(2) انظر ما تقدم: ج 2: 330.
(3) مرت هذه الأبيات والتي تليها؛ ج 2: ص 331 من هذا الكتاب.(3/61)
فرعٌ بأفق السماء سامٍ ... وأصله راسخٌ مكين وقوله:
الله يعلم أنّي ... أحبّ كسب المعالي
وإنّما أتوانى ... عنها لسوء المآل
تحتاج للكدّ والبذ ... ل واصطناع الرجال
دع كل من شاء يسمو ... لها بكلّ احتيال
فحالهم في انعكاسٍ ... بها وحالي حالي وتراجمهم واسعة، وقد بسطت في " المسهب " و " المغرب " وغيرهما، وقد قدمنا في الباب قبل هذا من أخبار بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصدر فليراجع.
46 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث، التميمي، البخاري (1) ، الحافظ، نزيل مصر.
سمع ببخارى بلده من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد، وكانا يرويان معاً عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند، وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار، وأبي يعلي حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن، وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق، وابن أبي كامل بأطرابلس الشام، وأبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ بمصر، وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر بن فورك المتكلم وأبي العباس ابن الحاج الإشبيلي وأبي القاسم علي بن أحمد الخزاعي صاحب الهيثم ابن كليب وأبي الفضل العباس بن محمد الحداد التنيسي وأبي الفتح محمد بن إبراهيم الجحدري وأبي بكر محمد بن داود العسقلاني وهلال الحفار وصدقة بن محمد
__________
(1) ترجمته في التكملة رقم: 1671.(3/62)
ابن مروان الدمشقي، ولقي بإفريقية العابد ولي الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه، وقال: لقد هبته يوم لقيته هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس، ودخل الأندلس وبلاد المغرب، وكتب بها عن شيوخها، ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمن دونه، وله " رسالة الرحلة (1) وأسبابها وقول لا إله إلا الله وثوابها "، فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته، قال الحافظ ابن الأبار: ومنها نقلت اسمه وتعرفت دخوله الأندلس، وحدث عنه هو وجماعة منهم أبو مروان الطبني - وقال: هو من الرحالين في الآفاق، أخبرني أنه يحدث عن مئين من أهل الحديث - وأبو عبد الله الحميدي وأبو بكر [جماهر بن عبد الرحمن] (2) الطليطلي وأبو عبد الله ابن منصور الحضرمي وأبو سعيد الرهاوي وأبو محمد جعفر بن محمد السراج وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي وأبو الحسن ابن مشرف الأنماطي وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وأبو محمد شعيب بن سبعون الطرطوشي وأبو بكر ابن نعمة العابد (3) وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الغراف (4) وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي، وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي، وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي، وأبو محمد ابن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه ولم يعرف ذلك في حياته. وسماه أبو الوليد ابن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمة المحدثين من تأليفه، مع أبي عمر ابن عبد البر وأبي محمد ابن حزم وأبي بكر ابن ثابت الخطيب، وذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه، وقال: سمع بما وراء النهر والعراق ومصر واليمن والقيروان، ثم سكن مصر وقدم دمشق قديماً وحدث بها، وسمى جماعة كثيرة من الرواة عنه، وحكى أنه قال: لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث أريد أن أمضي وأجيء بها،
__________
(1) التكملة: رسالة الرحمة.
(2) زيادة من التكملة.
(3) دوزي: العابر.
(4) التكملة: الفراء.(3/63)
قال: وسئل عن مولده، فقال: في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، قال: وتوفي بالحوراء سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى ورضي عنه، انتهى.
قلت: والذي أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث، وهو ثقة عدل ليس له مجازفة، والحق أبلج.
47 - وممن دخل الأندلس من المشرق عبد الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، القرشي، الزهري (1) ، دخل الأندلس مع موسى بن نصير، وكان على ميسرة معسكره، ونزل باجة ثم بطليوس، ومن نسله الزهريون الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديماً، هكذا في خبر القاضي أبي الحسين الزهري منهم عن أبي بكر ابن خير وغيره، قال ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب " التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين ": عبد الجبار بن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف من التابعين، وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن ابن مغيث، انتهى. قال ابن الأبار: ولم يزد على هذا، انتهى
48 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب (2) ، من أهل مصر، وسكن بغداد، ويعرف بالطندتائي، قرية بمصر نسب إليها، روى عن أبي محمد الشارمساحي، وتفقه به، وقدم الأندلس رسولاً بزعمه من عند الخليفة العباسي، فسكن مرسية ودرس بها، وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملكها النصارى صلحاً، وأسر بناحية صقلية، قال ابن الأبار: ثم بلغني أنه تخلص ولحق ببلده، رحمه الله تعالى.
49 - ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب، يكنى أبا القاسم. قال
__________
(1) ترجمته في التكملة رقم: 1772.
(2) ترجمته في التكملة رقم: 1796.(3/64)
ابن الأبار (1) : لا أعرف موضعه من بلاد المشرق، وكان أديباً قوي العارضة، مطبوع الشعر، مديد النفس. ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله:
على الذلّ أو فاحلل عقال الركائب ... وللضيم أو فاحلل صدور الكتائب
فإمّا حياةٌ بعد إدراك منيةٍ ... وإمّا مماتٌ تحت عزّ القواضب
فما العيش في ظل الهوان بطيّبٍ ... وما الموت في سبل العلاء بعائب 50 - ومنهم عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة الله، أبو محمد الهاشمي، الصدفي، من أهل بغداد، يعرف بالنرسي، دخل الأندلس، وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السجزي وأبي الفرج الجوزي وغيرهما، وله تأليف سماه " الدليل في الطريق من أقاويل أهل التحقيق " ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعفه بعدما سمع منه، أخذ عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما، وقال: ورد علينا غرناطة قريباً من سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتوفي، عفا الله تعالى عنه، بإشبيلية قريباً من هذا التاريخ، وقال فيه أبو القاسم ابن فرقد: عبد اللطيف بن عبد الله الهاشمي البغدادي النرسي، منسوب إلى قرية من قرى بغداد، سمع صحيح البخاري من أبي الوقت السجري، وروى عن غيره، وله تآليف، قال ابن الأبار (2) : في التصوف، منها تأليف في إباحة السماع، قرأت عليه أكثره، وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة.
51 - ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن محمد بن أحمد، الخراساني،
__________
(1) لم ترد ترجمته في كتاب التكملة المطبوع.
(2) لم يرد أيضا في كتاب التكملة المطبوع.(3/65)
الباخرزي، الماليني، يكنى أبا بكر (1) ، سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن أحمد الخالدي الزنجاني، وقدم الأندلس، وحدث بصحيفتي الأشج وجعفر بن نسطور الرومي، وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس، وحدث عنه أبو القاسم الملاحي، وسمع منه بمالقة أبو جعفر بن عبد الجبار وأبو علي بن هاشم في صفرسنة 600، ومولده في ربيع الأول سنة 560، انتهى من تكملة ابن الأبار (2) .
قلت: ولا يخفى على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما، ويرحم الله تعالى السلفي الحافظ إذ قال:
حديث ابن نسطورٍ وقيسٍ ويعنمٍ ... وبعد أشجّ الغرب ثم خراش
ونسخة دينارٍ ونسخة تربه ... أبي هدبة القيسيّ شبه فراش قال ابن عات: كان الحافظ السلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارةً إلى أن هذه الأشياء كالريح، انتهى.
52 - ومن الوافدين على الأندلس من أهل المشرق علي بن بندار بن اسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، البرمكي، من أهل بغداد، قدم الأندلس تاجراً سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه الداودي، وتلمذ له، وسمع منه " الموضح " و " المنجح " من تآليفه في الفقه، وما تم له من أحكام القرآن، هكذا نقله الحافظ بن حزم عن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن، رحمه الله تعالى.
53 - ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد، أبو العلاء، النيسابوري.
__________
(1) انظر التكملة رقم: 1830.
(2) جاءت ترجمته في التكملة المطبوع ناقصة كثيرا عما أثبته المقري.(3/66)
لقيه الحافظ أبو علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجاً، وهو يحدث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد البصروي، قال أبو علي: وأراه دخل الأندلس، ويغلب على ظني أني لقيته بسرقسطة، ذكر ذلك القاضي عياض في " المعجم " من تأليفه، والله تعالى أعلم.
54 - ومنهم سهل بن علي بن عثمان، التاجر، النيسابوري، يكنى أبا نصر (1) ، سمع جماعة من الخراسانيين وغيرهم؛ منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي، وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني، وحضر مجلسه ودرسه، ولقيه بعده أصحابه القشيري والطوسي وغيرهما، وكان شافعي المذهب، ذكره عياض وقال: حدثني بحكايات وفوائد، وأنشدني لأبي طاهر السلفي، وأجازني جميع رواياته وحدثني أن وفاة أبي المعالي كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة، وقال أبو محمد العثماني: أنشدني أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال: أنشدنا أبو الفتح نصر بن الحسن، أنشدنا أبو العباس العذري، قال: أنشدنا أبو محمد ابن حزم الحافظ لنفسه:
ولمّا رأيت الشّيب حلّ مفارقي ... نذيراً بترحال الشباب المفارق
رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أتى، هذا ابتداء الحقائق
دعي دعوات اللهو قد فات وقتها ... كما قد أفات الليل نور المشارق
دعي منزل اللّذّات ينزل أهله ... وجدّي لما ندعى إليه وسابقي قال عياض: توفي سهل هذا غريقاً في البحر منصرفاً إلى بلده من المرية، رحمه الله تعالى (2) .
__________
(1) ترجمة أبي نصر النيسابوري في التكملة رقم: 2008.
(2) زاد في التكملة: سنة 531.(3/67)
55 - ومنهم أبو المكارم هبة الله بن الحسين، المصري (1) ، كان من أهل العلم، عارفاً بالأصول، حافظاً للحديث، متيقظاً، حسن الصورة والشارة، دخل الأندلس، وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة. قال ابن الأبار: وبه صرف أبو القاسم الخولاني، وأقام بها سنة، وحضر غزوة شنترين، وكان قدوم أبي المكارم هذا الأندلس خوفاً من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك مصر، ووفد أيضاً معه أبو الوفاء المصري، ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور معه في غزوة قفصة الثانية، وولاه حينئذ قضاء تونس، وكان قد ولي قضاء فاس، وولي أيضاً أبو الوفاء صاحبه القضاء، وتوفي وهو يتولى قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
56 - ومنهم يحيى بن عبد الرحمن ابن عبد المنعم بن عبد الله، القيسي، الدمشقي (2) ، أصله من دمشق، وبها ولد، ويعرف بالأصبهاني قي مجلس أبي طاهر السلفي لدخوله إياها وإقامته بها أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات، ويكنى أبا زكريا، وسمع بالمشرق أبا بكر ابن ماشاذه السكري وأبا الرشيد ابن خالد البيع وأبا الطاهر السلفي وغيرهم، وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي، وأجازه وحضه على الوعظ والتذكير، فامتثل ذلك، ودخل الأندلس، وتجول ببلادها، واستوطن غرناطة منها، وكان فقيهاً على مذهب الشافعي، عارفاً بالأصول والتصوف، زاهداً، ورعاً، كثير المعروف والصدقة، يعظ الناس، ويسمع الحديث، ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار، قال: وله كتاب " الروضة الأنيقة " من تأليفه، حدث عنه جماعة من الجلة، منهم أبو جعفر ابن عميرة الضبي (3) ، وابنا حوط الله أبو محمد وأبو
__________
(1) ترجمته في التكملة رقم: 2024.
(2) التكملة رقم: 2071.
(3) ق: حميرة.(3/68)
سليمان، وأبو القاسم الملاحي، وأبو العباس ابن الجيار، وأبو الربيع ابن سالم، وقال: أنشدني عند توديعي إياه بغرناطة قال: سمعت بعض المذكورين ينشد:
يازائراً زار وما زار ... كأنّه مقتبسٌ نارا
مرّ بباب الدار مستعجلاً ... ما ضرّه لو دخل الدارا
نفسي فداء لك من زائرٍ ... مازار حتى قيل قد سار وسمع منه أبو جعفر ابن الدلال كتاب " المعالم " للخطابي في شرح " سنن أبي داود " بقراءة جمعيه عليه.
ومولده في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوال سنة ثمان وستمائة، قال ابن الأبار: وفي هذا اليوم بعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد الله ابن نوح ببلنسية، رحمهما الله تعالى.
57 - ومن الوافدين من المشرق إلى الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي، القرشي (1) ، من ذرية عبد بن زمعة أخي سودة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها، رحل من مصر إلى الأندلس في زمن السلطان الحاكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث، فحل يومئذ من الحكم المستنصر محل الرحب والسعة، ولما ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية، وأوطنها داراً، واتخذها قراراً، وبها لقيه أبو عمر ابن عبد البر علامة الأندلس فدرس عليه، واقتبس مما لديه، وقد ذكره في تاريخ شيوخه، ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم منهم أبو الحسين سالم ابن محمد بن سالم، وهو من رجال " الذخيرة " (2) وله نثر، كما تفتح الزهر، وتدفق البحر، ونظم كما اتسق الدر، وسفرت عن محاسنها الأوجه الغر،
__________
(1) ترجمته في جذوة المقتبس: 153 (وبغية الملتمس رقم: 545) .
(2) لم يرد اسمه في فهرست الذخيرة 1 / 1: 11 - 20.(3/69)
فمن نظمه قوله:
خليليّ، هل ليلى ونجدٌ كعهدنا ... فيا حبّذا ليلى ويا حبّذا نجد
عسى الدّهر أن يقضي لنا بالتفاتةٍ ... فيا ربّ قربٍ قد يجدّده بعد وله أثناء رسالة:
قوس العلا وضعت في كف باريها ... وأسهم الخطب عادت نحو راميها ومنها:
وإنّما الشمس لاحت في مطالعها ... بلى وأجرى جياد الخيل مجريها ونشأ هذا النجم الثاقب، والصيب الساكب، وقد أخذ من العلوم في غبر ما فن، وحقق فيه كل ما ظن، وذكره في " المسهب " و " سمط الجمان " وفضله شهير، رحمه الله تعالى.
58 - ومنهم أبو علي القالي، صاحب الأمالي والنوادر (1) ، وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمر ابنه الحكم - وكان يتصرف عن أمر أبيه كالوزير - عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقاه قي وفد من وجوه رعيته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمةً لأبي علي، ففعل، وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل، فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، ويتناشدون الأشعار، إلى أن تحاوروا يوماً وهم سائرون أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة ابن الطبيب (2) :
__________
(1) انظر ترجمة القالي في طبقات الزبيدي: 202 وابن الفرضي 1: 83 والجذوة: 154 (وبغية الملتمس رقم: 547) وفهرسة ابن خير 395 وابن خلكان 1: 204 وإنباه الرواة 1: 204 ومعجم الأدباء 7: 25 والشذرات 3: 18 ومعجم البلدان: (قاليقلا) وبروكلمان 2: 277 (الترجمة العربية) .
(2) البيت: 51 من المفضلية رقم: 26.(3/70)
ثمّت قمنا إلى جردٍ مسوّمة ... أعرافهن لأيدينا مناديل وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبا علي، فأنشد الكلمة في البيت " أعرافها لأيدينا مناديل " فأنكرها ابن رفاعة الإلبيري، وكان من أهل الأدب والمعرفة، وفي خلقه حرج وزعارة، فاستعاد أبا علي البيت متثبتاً مرتين، في كلتيهما أنشده " أعرافها "، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفاً وقال: مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه والله لا تبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، وكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه، فأجابه على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطىء وافد أهل العراق إلينا، وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط، فدعه لشأنه، واقدم بالرجل غير منتقص من تكرمته، فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطه.
وبعض المؤرخين يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس، لا في خلافة أبيه الناصر، والصواب أن وفادته في أيام الناصر، لما ذكره غير واحد من حصره وعيه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا الموضع (1) .
وفي القالي يقول شاعر الأندلس الرمادي (2) :
من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي
في أي جارحة أصون معذّبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل
__________
(1) انظر خبر الخطبة يوم وفادة رسل الفرنجة ج 1 ص: 368 من هذا الكتاب؛ وقد كان وصول ءأبي علي إلى الأندلس عام 330 فلا خلاف بعد ذلك في أنه وصل أيام الناصر، وسيذكرنا ذلك صاحب النفح.
(2) وردت أبيات الرمادي في اليتيمة 2: 100 والمطمح: 70 ومطلعها في الجذوة: 347.(3/71)
إن قلت في بصري فثمّ مدامعي ... أو قلت في قلبي فثمّ غليلي
لكن جعلت له المسامع موضعاً ... وحجبتها عن عذل كلّ عذول ولما سمع المتنبي البيت الثاني قال: يصونه في استه.
وكان الرمادي لما سمع قول المتنبي:
كفى بجسمي نحولاً أنّني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني قال: أظنه ضرطة، والجزاء من جنس العمل.
وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرز الشيخ أبو علي القالي كتاب " الأمالي ".
وكان الحكم كريماً، معنياً بالعلم، وهو الذي وجه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني، وألف أبو محمد الفهري كتاباً في نسب أبي علي البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس. وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين البيتين في لوح رخام كان سقط من القبة المبنية على قبر أبي علي البغدادي عند تهدمها، وهما:
صلوا لحد قبري بالطريق وودّعوا ... فليس لمن وارى التراب حبيب
ولا تدفنوني بالعراء فربّما ... بكى أن رأى قبر الغريب غريب واسم أبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد ابن سليمان، وجده سليمان مولى عبد الملك بن مروان، وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو البصريين، وأخذ الأدب عن أبي بكر ابن دريد الأزدي وأبي بكر ابن الأنباري وابن درستويه وغيرهم، وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب " مختصر العين "، ولأبي علي التصانيف الحسان ك " الأمالي " و " البارع "، وطاف البلاد، وسافر إلى بغداد سنة 303، وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي، ودخل بغداد سنة 303، وأقام بها إلى سنة 328، وكتب بها الحديث، ثم خرج من بغداد قاصداً الأندلس، وسمع(3/72)
من البغوي وغيره.
قال ابن خلكان: ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة، انتهى.
وهو مما يعين أنه قدم في زمن الناصر، لا في زمن ابنه الحكم كما تقدم، وقد صرح بذلك الصفدي في الوافي فقال: ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن، فأكرمه، وصنف له ولولده الحكم تصانيف وبث علومه هناك، انتهى.
وقال ابن خلكان إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر، وقيل: جمادى الأولى سنة 356، ليلة السبت لست خلون من الشهر المذكور، ودفن ظاهر قرطبة، ومولده بمنازجرد من ديار بكرسنة 288، وقيل: سنة 280، وإنما قيل له " القالي " لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا، وهي من أعمال ديار بكر. وهو من محاسن الدنيا، رحمه الله تعالى.
وعيذون: بفتح العين، وسكون الياء المثناة التحتية، وضم الذال المعجمة.
وقال ابن خلكان في ترجمة ابن القوطية (1) : إن أبا علي القالي لما دخل الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تعظيمه، قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر: من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة فقال: محمد بن القوطية، وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العباد النساك، وكان جيد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلا أنه تركه ورفضه، وقال الأديب أبو بكر ابن هذيل (2) : إنه توجه يوماً إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة
__________
(1) ابن خلكان 4: 4 - 6 وهناك ترجمات أخرى لابن القوطية في ابن الفرضي 2: 78 والجذوة: 71 والديباج 262 وإنباه الرواة 3: 178 وبغية الوعاة: 84 ومعجم الأدباء 18: 272.
(2) هو يحيى بن هذيل التميمي الشاعر الكفيف أستاذ الرمادي (انظر الجذوة: 358 وبغية الملتمس رقم: 1495) وله عدد صالح من الأشعار في كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتاني.(3/73)
المونقة، فصادف أبا بكر ابن القوطية المذكور صادراً عنها، وكانت له أيضاً هناك ضيعة، قال: فلما رآني عرج علي، واستبشر بلقائي، فقلت مداعباً له:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك قال: فتبسم وأجاب بسرعة:
من منزل تعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا فما تمالكت أن قبّلت يده، إذ كان شيخي ودعوت له، انتهى.
وهو صاحب كتاب " الأفعال " الذي فتح به هذا الباب، فتلاه ابن القطاع، وله كتاب " المقصور والممدود " جمع فيه مالا يحد ولا يعد، وأعجز من بعده به، وفاق من تقدمه، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وممن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب " مختصر العين " وغيره، وكان الزبيدي كثيراً ما ينشد:
الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان
والأرض شيء كلّها واحدٌ ... والناس إخوانٌ وجيران وترجمه الزبيدي واسعة (1) ، وكان مؤدب المؤيد هشام، ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء، رحمه الله تعالى.
وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه، ودقق النظر، وانتصر للبصرين، وأملى شيئاً من حفظه ككتاب " النوادر والأمالي "، و " المقصور والممدود "، و " الإبل والخيل "، و " البارع في اللغة " نحو خمسة آلاف
__________
(1) انظر ترجمة الزبيدي في الجذوة: 43 وابن الفرضي 2: 92 والمغرب 1: 250 واليتيمة 2: 71 وابن خلكان 4: 7 وإنباه الرواة 3: 109 ومعجم الأدباء 18: 180 والوافي 2: 251 وبغية الوعاة: 34 وانظر كتاب الحركة اللغوية في الأندلس ففيه دراسة لأهم مؤلفاته.(3/74)
ورقة، لم يصنف مثله في الإحاطة والجمع، ولم يتم، ورتب كتاب " المقصور والممدود " على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في بابه لا يشذ منه شيء، وكتاب " فعلت وأفعلت " وكتاب " مقاتل الفرسان " و " تفسير السبع الطوال ".
وكان الزبيدي إماماً في الأدب، ولكنه عرف فضل القالي، فمال إليه، واختص به، واستفاد منه، وأقر له.
وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي، ويعينه على التأليف بواسع العطاء، ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وكانوا يسمونه " البغدادي " لوصوله إليها من بغداد، ويقال: إن الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم، وفيه يقول الرمادي متخلصاً في لاميته السابق بعضها:
روضٌ تعاهده السحاب كأنّه ... متعاهدٌ من عهد إسماعيل
قسه إلى الأعراب تعلم أنّه ... أولى من الأعراب بالتفضيل
حازت قبائلهم لغاتٍ فرّقت ... فيهم وحاز لغات كلّ قبيل
فالشرق خالٍ بعده وكأنّما ... نزل الخراب بربعه المأهول
فكأنّه شمسٌ بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم بأفول
يا سيدي هذا ثنائي لم أقل ... زورا ًولا عرّضت بالتنويل
من كان يأمل نائلاً فأنا امرؤٌ ... لم أرج غير القرب في تأميلي وقد تقدمت أبيات القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا، فلتراجع ثمة، والله تعالى أعلم.
59 - ومن الوافدين إلى الأندلس من المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسين ابن عيسى البغدادي، اللغوي (1) .
__________
(1) ترجمة صاعد في الذخيرة 4 / 1: 2 - 39 وابن خلكان 2: 181 وإنباه الرواة 2: 85 وبغية الوعاة: 267 والجذوة: 223.(3/75)
وأصله من الموصل، قال ابن بسام (1) : ولما دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن يعفي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية، فما وجد عنده ما يرتضيه، وأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في علمه وعقله ودينه، ولم يأخذوا عنه شيئاً لقلة الثقة به، وكان ألف كتاباً سماه كتاب " الفصوص " فدحضوه ورفضوه ونبذوه في النهر، ومن شعره قوله:
ومهفهفٍ أبهى من القمر ... قهر الفؤاد بفاتن النّظر
خالسته تفّاح وجنته ... فأخذتها منه على غرر
فأخافني قومٌ فقلت لهم: ... لا قطع في ثمرٍ ولا كثر والكثر: الجمّار، وهذا اقتباس من الحديث.
وقال الحميدي (2) : سمعت أبا محمد ابن حزم الحافظ يقول: سمعت أبا العلاء صاعداً ينشد بين يدي المظفر عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة 396:
حسبت المنعمين على البرايا ... فألفيت اسمه صدر الحساب
وما قدّمته إلاّ كأنّي ... أقدّم تالياً أمّ الكتاب وذكر الحميدي أن عبد الله بن ما كان (3) الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر ابن شهيد: صفاها، فأفحما، ولم يتجه لهما القول، فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري (4) صاحب أبي العلاء وتلميذه، وكان شاعراً
__________
(1) نقل النص عن الذخيرة بتصرف.
(2) الجذوة: 224.
(3) ذكر الحميدي (الجذوة: 373) من اسمه أبو عبد الله ابن فاكان وقال فيه: أديب شاعر يتكلم على معاني الآداب ومحاسن الأشعار، ذكره أبو عامر ابن شهيد وذكر له مع صاعد بن الحسن منازعات في ذلك. ثم عاد فذكره بهذا الاسم (ص: 384) .
(4) القصة في الجذوة 384 - 385، ولكن الشاعر مذكور هنالك باسم الزبيري، ووردت أيضا في البدائع والبدائه 2: 109 وفيه " الزهري ".(3/76)
أديباً أمياً لا يقرأ، فلما استقر به المجلس أخبر بما هم فيه، فجعل يضحك ويقول:
ما للأديبين قد أعيتهما ... مليحةٌ من ملح الجنّه
نرجسةٌ في وردةٍ ركّبت ... كمقلةٍ تطرف في وجنه انتهى.
ومن غريب ما جرى (1) لصاعد أن المنصور جلس يوما ًوعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم، فقال لهم المنصور: هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم، وأحب أن يمتحن، فوجه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محله وأقبل عليه، وسأله عن أبي سعيد السيرافي، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصي بالسؤال عن مسألة من الكتاب، فلم يحضره جوابها، واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ فقال: حفظ الغريب، قال: فما وزن أولق، فضحك صاعد، وقال: أمثلي يسأل عن هذا إنما يسأل عنه صبيان المكتب، قال الزبيدي (2) : قد سألناك، ولا نشك أنك تجهله، فتغير لونه، وقال: أفعل وزنه، فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق، فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار، ورواية الأخبار، وفك المعمّى، وعلم الموسيقى، فقال: فناظره ابن العريف، فظهر عليه صاعد، وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعراً شاهداً، وأتى بحكاية يجانسها، فأعجب المنصور، ثم أراه كتاب " النوادر " لأبي علي القالي، فقال:
__________
(1) القصة في الذخيرة 4 / 1: 6 - 8.
(2) ق ودوزي: الزهري؛ وفي الذخيرة ما أثبتناه.(3/77)
إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته (1) كتاباً أرفع منه وأجل لا أورد فيه خبراً مما أورده أبو علي، فأذن له المنصور في ذلك، وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي كتابه المترجم ب " الفصوص "، فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت، فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم، ولا خبر ثبت لديهم، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها، حتى توهم القدم، وترجم عليه كتاب " النكت " تأليف أبي الغوث الصنعاني، فترامى إليه صاعد حين رآه، وجعل يقلبه، وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان، فأخذه المنصور من يده خوفاً أن يفتحه، وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم، فعلام يحتوي فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به، ولا أحفظ الآن منه شيئاً، ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر، فقال المنصور: أبعد الله مثلك! فما رأيت أكذب منك، وأمر بإخراجه، وأن يقذف كتاب " الفصوص " في النهر، فقال فيه بعض الشعراء:
قد غاص في النهر كتاب الفصوص ... وهكذا كلّ ثقيلٍ يغوص فأجابه صاعد:
عاد إلى معدنه، إنّما ... توجد في قعر البحار الفصوص قال ابن بسام (2) : وما أظن أحداً يجترىء على مثل هذا، وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي إلا بالغريب غير المشهور، وأعانهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكذب.
وحكى ابن خلكان (3) أن المنصور أثابه على كتاب " الفصوص " بخمسة
__________
(1) الذخيرة: أمليت على مقيدي خدمته وكتاب دولته.
(2) النقل عن الذخيرة 4 / 1: بإيجاز شديد.
(3) وفيات الأعيان 2: 181.(3/78)
آلاف دينار (1) .
ومن أعجب (2) ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً:
أتتك أبا عامر وردةٌ ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً، فحسده، وجرى إلى مناقضته، وقال لابن أبي عامر: هذان البيتان لغيره، وقد أنشد فيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف، وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر (3) ، وكان أحسن أهل زمانه بديهة، فوصف له ما جرى، فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد:
عشوت إلى قصر عبّاسة ... وقد جدّل النوم حراسها
فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرع السكر أنّاسها
فقالت: أسارٍ على هجعة ... فقلت: بلى، فرمت كاسها
ومدّت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصرٌ ... فغطت بأكمامها راسها
وقالت: خف الله لا تفضح ... نّ في ابنة عمّك عبّاسها
فوليت عنها على غفلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها فطار ابن العريف بها، وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري ومداد أشقر،
__________
(1) زاد في ق: دراهم.
(2) عاد إلى النقل عن الذخيرة.
(3) جعلها دوزي " ابن برد " ونقل المقدمة صاحب بدائع البدائه 2: 28.(3/79)