الشافعي ناقل هذه عنه وهو إمام الحرمين؛ فإن قلت: ألستم على أن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب؟ فهل أنتم على أن العبرة بمطلق الجواب دون التعميم؟
فلت: أعلم أن تخصيص العام أصعب من تعميم الخاص لأن فيه اقتطاعًا من اللفظ وليتنبه من ذلك إلى أنه لا يلزم من القول بأن الاعتبار بعموم اللفظ القول بأن ترك الاستفصال لا ينزل منزلة العموم؛ فمن هنا أنا أقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وينزل الاستفصال بمنزلة العموم.
فإن قلت: هذا عود بالنقض على قولكم: حق من عمم ترك الاستفصال أن يخصص بالسبب.
قلت: نعم. ولم يكن القصد فيما تقدم إلا أن الناقل عن الشافعي رضي الله عنه أن العبرة بتخصيص السبب هو الناقل عنه أن ترك الاستفصال للعلموم وإن كانا غير متلازمين ولذلك لا يثبت المتأخرون من أصحابنا أن العبرة بخصوص السبب وإن أثبتوا التعميم بترك الاستفصال. [إذا عرفت هذه فليترك الاستفصال] 1 أمثلة:
منها: وإياه ذكر إمام الحرمين: قصة غيلان لما أسلم على عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن" 2. ولم يسأله عن كيفية وقوع العقد عليهن معًا أو مرتبًا؛ فكان إطلاق الجواب دليلًا على أنه لا فرق بين أن تترتب العقود أو تقع معًا.
وقد أشبعنا الكلام على هذا في شرح المختصر والمخالف فيه أبو حنيفة رضي الله عنه.
ومنها: حديث المجامع في رمضان لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم له كان عامدًا أو ناسيًا. قال ابن دقيق العيد: فيدل على العموم في الحالتين. قلت: قوله: هلكت وأهكلت "صريح في أنه كان عامدًا، وفي أنه لم يكن مسافرًا ترخص ومن ثم لا يجب على الناسي كفارة ولا على المسافر الترخص ولكن لم يسأله [النبي] 3 صلى الله عليه وسلم: هل أنزل أو لم ينزل؛ فدل على شمول الحكم للحالتين وهو كذلك.
ومنها: طلاق ابن عمر امرأته في الحيض4.
__________
1 سقط في "ب".
2 الترمذي 3/ 435 في النكاح "1128" وابن ماجه 1/ 628 في النكاح "1953" الشافعي في المسند 2/ 16 والحاكم 2/ 192- 193 والبيهقي 7/ 181.
3 سقط في "ب".
4 البخاري 9/ 367 في الطلاق "5262" ومسلم 2/ 1103 في الطلاق "24/ 1477".(2/139)
ومنها: في حديث فيروز الديلمي في نكاح الأختين "اختر أيهما شئت" 1، ولم يسأل عن كيفية النكاحين، فدل على قطع النظر عن حالة الشرك وجعلهما الآن كأنهما أختان يريد العقد على إحداهما.
وهذا المثال ذكره جماعة من المحققين منهم الوالد رحمه الله، وقد يقال: إنه غير مطابق لأن فيه لفظة أي وهي من ألفاظ العموم الصريحة؛ فلا يحتاج معها إلى تنزيل اللفظ منزلة العموم إلا أن يكون بالنسبة إلى أحوال الناكحين فليتأمل فيه.
ومنها: إطلاقه صلى الله عليه وسلم الإذن لثابت بن قيس بن شماس2 في الخلع من غير استفصال عن [حالة] 3 الزوجة هل هي حائض أو طاهر طهرًا جامعها فيه أو لم يجامعها مع أن الحيض ليس بنادر في النساء ولا في الطهر الذي جامعها فيه.
ومن ثم استدل الأصحاب على جواز خلع الحائض والطاهر طهرًا جامعها فيه وهو الصحيح في المسألتين؛ لهذا الحديث.
ومنها: حديث عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم: إني استحاض فلا أطهر أفادع الصلاة؟ 4.
قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: المستحاضة إما مبتدأة أو معتادة وكل منهما إما مميزة أو غير مميزة والحديث فيه دلالة على أن هذه المرأة كانت معتادة لقوله صلى الله عليه وسلم "دعي الصلاة قدر الأيام التي كانت [تحيضين] 5 فيها" وليس في هذا دليل على أنها مميزة أو غير مميزة فإن ثبتت رواية أخرى تدل على التمييز لا معارض لها؛ وإلا فقد يستدل بهذه الرواية من يرى الرد إلى أيام العادة وإن كانت غير مميزة وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه والتمسك به ينبني على أن ترك الاستفاصل ينزل منزلة العموم،
__________
1 أحمد في المسند 2/ 447، البيهقي في السنن 8/ 3، شكل الآثار ص176- 178.
2 البخاري 9/ 395 في الطلاق/ باب الخلع "5273".
3 في "ب" حال.
4 البخاري 1/ 331 في الوضوء/ باب غسل الدم "228"، و "306" ومسلم 1/ 262 في الحيض باب المستحاضة "12/ 333".
5 سقط في "ب" والحديث أبو داود في السنن 1/ 80 في الطهارة "297" والترمذي 1/ 220 في الطهارة "126" "127" وابن ماجه 1/ 204 في الطهارة "625" والدارمي 1/ 202.(2/140)
وما يقال1 إنه صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون علم الواقعة فيه نظر ظاهر في إنه صلى الله عليه وسلم أول علم حالها بحكمها قبل أن يسأل فإن لها حكمًا خاصًا؛ فلما لم يأمرها قبل سؤالها دل على أن علمه صلى الله عليه وسلم بها إنما كان بعد سؤالها.
قلت: إنما يأمرها بحكمها قبل السؤال عند الحاجة إلى البيان؛ ولعل علمه سابق [قيل] 2 سؤالها بزمن لا امتداد له بحيث لا يحاج إلى البيان فالدليل على عدم العلم بحالها ليس ما ذكر؛ إنها قالت: "إني أستحاض فلا أطهر" أخبرته بشأنها، ولو كان يعلمه لقالت: "إني كما علمت أفأدع الصلاة" وهذا ظاهر وليس بقاطع.
فوائد:
أحدها شكك الإمام رحمه الله في البرهان على تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم [فإنه] 3 لا يمتنع أن يكون صلى الله عليه وسلم علم الواقعة فترك جوابه على ما علم ولأجل كلام الإمام هذا قال بعض المتأخرين: حكم الشارع في واقعة سئل عنها ولم يقع بعد عام في أحوالها ولذلك إن وقعت ولم يعلم كيف وقعت وإن علم فلا عموم. وإن جهلنا نحن هل علمت [بالوقف] 4 والظاهر العموم.
قال ابن دقيق العيد: ولقائل أن يدفع الاعتراض المذكور الموجب للتوقف بأن الأصل عدم العلم بالحالة المخصوصة فيعود إلى الحالة التي لم يعلم كيفية وقوعها إلا أن يكون المراد القطع.
الثانية: إذا كان بعض صور الواقعة نادرًا؛ فهل يجعل ترك الاستفصال عامًا فيه على القول بالعموم؟ وبأن الصورة النادرة [هل] 5 تدخل في العموم؟ أو يقال: تدخل [الصورة] 6 النادرة قطعًا لاحتمال أن تكون هي الواقعة أو لا تدخل قطعًا لأن دخولها أضعف من دخول غيرها وهذا عموم حكمي فلا يقوى على الاستدخال قوة صرائح الألفاظ فيه نظر واحتمال والأرجح الأول وإن كان للرافعي [قول] 7 في اختلاع الحائض لما استدل بقضية امرأة ثابت أن الحيض ليس بأمر نادر ومن أمثلة ذلك ما في الصحيحين عن سبيعة الأسلمية أن زوجها سعد بن خولة توفي عنها وهي حامل فلم تلبث أن وضعت
__________
1 في "ب" وما يقال من أنه.
2 في "ب" علي.
3 في "ب" بأنه.
4 سقط في "ب".
5 سقط في "ب".
6 سقط في "ب".
7 سقط من "أ" والمثبت من "ب".(2/141)
حملها بعد وفاته؛ فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال: ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرًا، قالت سبعة: فلما قال لي ذلك جمعت على ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي1.
قال ابن دقيق العيد: استدل به بعضهم على انقضاء العدة بوضع الحمل على أي وجه كان مضغة أو علقة استبان فيه الخلق أم لا من حيث أنه رتب حل النكاح على وضع الحمل من غير استفصال.
قال: وهذا ضعيف [لأن] 2 الغالب هو الحمل التام المتخلق ووضع المضغة والعلة نادر وحمل الجواب على الغالب ظاهر؛ وإنما يقوي تلك القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض.
قلت: وفيه نظر فإن الظاهر دخول النادرة وقوله: "إنما يقوي تلك القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات" جوابه أنه لا تعارض بين الاحتمالات حتى يطلب [مرجح] 3.
الثالثة: إذا سئل صلى الله عليه وسلم عن واقعة فاستفصل عن حاله كان [عموم] 4 فيما لم يستفصل باقيًا؛ بل هو أبلغ من العموم فيها إذا لم يستفصل مطلقًا لأن استفصاله عن حالة وسكوته أدل على التعميم في السكوت ويدل استفصاله في موضع الاستفصال على أن ما استفصل به قيد في الحكم ومن ثم قال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم للنعمان بن بشير لما طلب منه أن يشهد على هبته لبعض أودلاه أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا فقال: "إني لا أشهد على جور" 5 أنه يشترط في هبة الأولاد المساواة.
مسألة:
من حقها أن تذكر في مسائل المجمل والمبين غير أن شدة ارتباطها بالمسألة قبلها يوجب أن تذكر عقبها.
__________
1 البخاري 9/ 470 في الطلاق "5318".
2 في "ب" لا.
3 في "ب" ترجيح.
4 في "ب" عمومه.
5 أخرجه البخاري 5/ 258 في الهبة/ باب لا يشهد على شهادة جور "2650" ومسلم 3/ 1243 في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد "16/ 1623".(2/142)
وقائع الأعيان إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال فقط بها الاستدلال.
وربما عزبت هذه العبارة إلى الشافعي رضي الله عنه وهي لائقة بفصاحته فما أحسن قوله: كساها ثوب الإجمال؛ إذ الثوب من شأنه أن يغطي ويستر فلا يكشف ما هو ضمنه. وهذا هو شأن الإجمال يستر المراد فلا يهتدي إليه طالبه.
وقد زعم بعضهم أن هذا يعارض قوله: ترك الاستفصال في حكاية الأحوال ينزل منزلة العموم من قبل أنه قضي بالعموم هناك على ذي محتملات والإجمال هنا على ذي محتملات.
والصواب أن الكلامين لم يتواردا على محل واحد؛ فذلك في صغية مطلقة ترد على ذي أحوال فيعلم أنه لولا عمومها لما أطلقها إطلاقًا فإن شأنه أجل من أن يطلق في موضع التقييد.
وهذه في واقعة حكم فيها بحكم ولم نعلم نحن على أي الوجهين وقعت؛ فكيف يقضي بأنها وقعت على كلا الوجهين، والقضاء بذلك خطأ قطعي [لأنها] 1 وإن احتملت الوجهين إلا أنا على قطع بأنها لم تقع إلا على وجه واحد والحكم صادف ذلك الوجه فإذا لم نعلمه نقف ونقضي بالإجمال.
[كما] 2 أن ذلك عموم حكمي غير مكتسب من صيغة [وهذا] 3 إجمال حكمي غير مكتسب من صيغة. فالصيغة لم تقع إلا مبينة؛ لأنها صادفت إحدى الحالتين المعروفة عند ورود الصيغة عليها فلم يقع فيها إشكال إلا في ثاني الحال بالنسبة إليها حيث لم يطلع عليها فصار الإجمال فيها لا في صيغتها.
وسمعت الوالد رحمه الله يذكر في الجمع بين العبارتين بعدما عزاها إلى الشافعي أن القاعدة الأولى [الاستدلال] 4 فيها بقول الشارع وعمومه ومثل لها بقوله صلى الله عليه وسلم لفيروز وقد قال: إني أسلمت وتحتي أختان: اختر أيتهما شئت.
قال: والثانية: سقوط الاستدلال بالواقعة نفسها لا بكلام الشارع والواقعة نفسها
__________
1 في "ب" إليها.
2 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" للاستدلال.(2/143)
ليست بحجة وكلام الشارع حجة وكلام الشارع لا إجمال فيه. والواقعة فيها إجمال عند تطرق الاحتمال؛ انتهى.
وذكره [في] 1 باب ما يحرم من النكاح في شرح المنهاج وهو حق إلا أنه وقف على فهمي منه قوله: إن القاعدة الأولى الاستدلال فيها بعموم لفظ الشارع مع أن شرطها أن لا يكون هناك لفظ عام لكن يؤيده [استدلاله] 2 بحديث فيروز وفيه لفظ أي وكذلك استشهد به غيره ولذلك أمثلة.
منها: أنه صلى الله عليه وسلم صلى [العشاء] 3 بعد غيبوبة الشفق4، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة5 فلا يعم الشفقين ولا الفرض والنقل وهي مسألة أن الفعل لا عموم له خلافًا لقوم.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وبعض أزواجه رضي الله عنهن [في] 6 إناء واحد تختلف أيديهما فيه7؛ فيحتمل حصول رشاش ويكون حينئذ دليلًا على أن مثل هذا لا يضر ولا يقدر مخالفًا للماء ولا يستدل به على الطهارة بفضل المرأة لجواز أنها استعملت بعده.
وقوله: تختلف أيديهما فيه لا عموم له إذ لا يصدق مع تأخره عنه ولهذا جاء في الحديث أنها قالت: أبق لي أبق لي8 ولم يقل هو صلى الله عليه وسلم لها: "أبقي لي".
قال: ابن دقيق العيد: لما احتمل اللفظ اغترافهما معًا واغترافها بعده لم يكن فيه عموم فكفى العمل به من وجه.
__________
1 في "ب" عند.
2 في "ب" استشهاده.
3 سقط في "ب".
4 الشافعي في الأم 1/ 71، وأحمد في المسند 1/ 333، وأبو داود 1/ 107 في الصلاة "393" والترمذي 1/ 278 "149" وابن خزيمة 1/ 168 "325".
البخاري 1/ 578 في الصلاة "505" ومسلم 2/ 966 في الحج/ باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره "388/ 1329".
6 في "ب" من.
7 أخرجه مسلم 1/ 256 في الحيض/ باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة "45/ 321".
8 في رواية مسلم دع لي دع لي "46/ 321".(2/144)
ومنها: ذهبت الحنفية إلى أن القلتين ينجسان بملاقاة النجاسة، لقلتها عندهم إذا الكثير عندهم هو المستبحر، واحتجوا بأن زنجيًا وقع في بئر زمزم فمات فأمر ابن عباس رضي الله عنها بمائها أن ينزح الأثر. قالوا: وزمزم ماؤها أكثر من قلتين ولم ينقل تغييرها؛ فدل على تنجسها بمجرد الملاقاة.
وأجاب الشافعي رضي الله عنه بأجوبة.
منها: أن الدم قد يكون ظهر [فيها] 1 فنزحها ربما كان تنظيفًا لا وجوبًا.
أشار رضي الله عنه بهذا إلى أنها واقعة عين احتمل أن يكون نزحها تنظيفًا، وأن يكون احتياطًا لاحتمال التغيير، وأن يكون [لاحتمال] 2 النجاسة فيما إذا لم تتعين النجاسة.
مسألة خلافية بيننا وبين الحنفية:
ففي المساواة بين الشيئين أو الأشياء يقتضي العموم لكن بالطريقة التي قررناها في الأصول.
وقد مثل له الفريقان بما دعاهم إلى ذكره في مسألة قتل المسلم بالكافر وهو قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} 3؛ فمن حيث تعميمه لكونه نكرة في سياق النفي.
قالت الشافعية: انتفت المساواة بين المسلم والكافر فلا يقتل به. وعندي أن التمسك بهذه الآية غير متوجه؛ فإن فيها إشارة إلى تخصيص المساواة [بالقول] 4 حيث قال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون} أشار إلى أن المعنى نفي المساواة من هذه الحيثية لا مطلقًا فالصواب التمثيل بغير هذه الآية.
ورأيت الماوردي لما نقل عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما منع الوضوء بماء البحر استدل لهما بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} 5.
قال: وهذا يدل على أن البحر المالح لا يجوز الوضوء به؛ إذ لو جاز لا يستويان ولك أن تقول: هذا كالأول وأزيد؛ وإنما قلت إنه كالأول لقوله عقيبه وما يستوي البحران هذا
__________
1 سقط في ب.
2 سقط في ب.
3 الحشر 20.
4 في "ب" القود.
5 فاطر 12.(2/145)
عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج؛ وإنما قلت: إنه أزيد لقوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} الآية؛ فقد سوى بينهما في أكل اللحم واستخراج الحلية بعدما نفي المساواة فدل على أن المراد ليس نفيها مطلقًا بل نفيها خاصًا وهو ما سيقت له من الامتنان بما أنعم الله عليهم من البحرين كما قلنا في الآية قبلها.
إذا عرفت هذا فأقول: أوضح من الآيتين في التمثيل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} 1؛ فإنه تعالى وإن قال عقب ذلك: {أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} الآيتين؛ فليس قوي الدلالة في أنه إنما أراد هذه الحيثية لوقوعه في آيتين، ومن ثم لم أمثل في جمع الجوامع إلا بهذه الآية حيث قلت: وتعميم نحو: {لَا يَسْتَوُونَ} وإن كان فيها هذا الاحتمال إلا أنه ليس بظاهر فيها لأنها في قوة قولك: "لا يستوي المؤمن والكافر ومن ثم للمؤمن كذا وللكافر كذا" فتدل الآية على أن الفاسق لا يلي النكاح.
ولست أدعي الصراحة ولا الظهور الذي تطهر به القلوب؛ بل إنه في الآية أوضح منه في الآيتين السابقتين.
وكذلك في قوله تعالى في غافر2 {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} ؛ ففيه دلالة على أن البصير أولى في إمامة الصلاة من الأعمى وهو رأي الشيخ أبي إسحاق، ورجحه الوالد رحمهما الله.
وكذلك قوله تعالى في سورة النحل3: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وقوله تعالى في سورة الجاثية4: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً} على قراءة النصب وبها قرأ حمزة والكسائي وحفص.
وقوله في سورة آل عمران5: {لَيْسُوا سَوَاء} اي ليس أهل الكتاب مستويين أي سواء أوقفنا على سواء وقلنا: الواو ضمير لأهل الكتاب، و"ليس" اسم خبرها سواء و"من أهل الكتاب" خبر مقدم وأنه رفع بالابتداء، و"قائمة" نعت لها، والجملة مستأنفة
__________
1 السجدة 18.
2 58.
3 76.
4 21.
5 113.(2/146)
لبيان انتفاء التسوية أو قلنا: "أمة" مرتفعة بسواء أي ليس أهل الكتاب مستويان من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر واخمة كافرة وحذفا لعامل لدلالة المذكورعليها كقوله:
دعاني إليها القلب إني لأمرها ... سميع فما أدري أرشد طلابها
أي: "أم غي".
وقوله تعالى في سورة الحديد1: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ...
فرع: دفع المكاتب من الزكاة فهل له صرفه إلى غير النجوم؟ نقل الإمام أن له ذلك، وأن يؤدي النجوم من كسبه، وقطع صاحب الشامل بأنه ليس له ذلك، قال النووي، "وهو أقيس" قال الرافعي: ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب.
قلت: ويمكن رد الخلاف إلى الخلاف فيما لو استغنى المكاتب أو الغارم بما أعطيه ويفي مال الزكاة في يده هل يسترد منه؟ والأصح أنه لا يسترد؛ فإن قلت: قد رجح تعين الصرف في جهة الكتابة والدين مع كون المدفوع واجبًا، وقد قلتم: إن مع الوجوب لا تتعين الجهة المدفوع بسببها. قلت: لا يجب في الزكاة الدفع لهذا الغارم وهذا المكاتب بعينه [وبتقدير تعينه] 2؛ فالفرق أن مال الزكاة موزع بقسمة الله تعالى بين أصناف لا بد من استيعابها لمقصد الشارع.
ومنها: الطعام والكسوة في الكفارات لا خلاف أنه لا يتعين ويجوز صرفه في غير جهة الكسوة والطعام.
الفصل الثاني:
في سرد شيء من فروع حمل المطلق على المقيد.
فمنها: ما لو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق لم تتعين الزوجة على الصحيح؛ بل له أن يقول: إني أردت الأجنبية، ولا يلزمه طلاق.
فلو قال: ما عينت واحدة بقلبي حكم بقووع الطلاق؛ وإنما ينصرف الطلاق عن الزوجة عند إرادة الأجنبية لا عند الإطلاق. ذكره الرافعي قبل الباب السادس من التعليقات.
__________
1 10.
2 سقط في "ب".(2/147)
مسألة:
المقيد بمتنافيين يستغنى عنهما ويرجع إلى أصل الإطلاق، وفيه صور.
فمنها: لو قال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة أو نحوه فيما يجمع فيه بين صفتي المدح والذم والمخاطبة من ذوات الأقراء وقع الطلاق في الحال، كما لو قال للسنة والبدعة وفي توجيهه خلاف الأظهر عند الرافعي أن وجهه أنه وصف الطلاق بمتضادين فيلغوان ويبقى أصل الطلاق.
فإن قلت: لو شهد اثنان أنه زنا بها مكرهة وآخر أنه زنا بها طائعة لم يجب عليها حد الزنا قطعًا، ولا عليه على الصحيح مع أن الطواعية والكراهية متقابلان فهل لا يثبت أصل الزنا.
قلت: لأن تقييده بالكراهية لا يقدح في أصله، وعلى شاهدي الطواعية حد القذف للمرأة فامتنع قبول قولهما لنفسهما.
تنبيه:
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ كلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب" 1 وفي رواية: أولاهن بالتراب2، وفي رواية: "فعفروه الثامنة بالتراب" 3.
فسال سائل: لم لا تتعين الولى حملصا للمطلق في إحداهن على المقيد فيها فأجبت: إن رواية "إحداهن" تعارضها "فعفروه الثامنة".
وضعف هذا الجواب بأنه لا معارضة بينهما ويمكن العمل بهما أوالتخيير بين الأولى والأخيرة، وقيل: إن الشافعي نص على هذا في مختصر البويطي.
كحل ذلك ذكرته في شرحي "المختصر" ... و"المنهاج" والذي أفنده هنا أن سماعي من الوالد رحمه الله في درس الغزالية مرة وخارج الدرس غير مرة أن الشافعي رضي الله عنه روى "أولاهن أو أخراهن" قال الوالد رحمه الله: فإن ثبت هذا في الحديث فهو للتخيير فينبغي أن يجب في إحداهما لا بعينها ولا يجزئ في غيرهما ولا أعرف قائلًا به وإن لم يكن في الحديث بل كان شكًا من الراوي فيحتمل أمرين:
__________
1 الدارقطني في السنن 1/ 65.
2 مسلم 1/ 34 في الطهارة "91/ 279".
3 مسلم في المصدر السابق "93/ 280".(2/148)
أن يكون الحكم كذلك أيضًا؛ لأنه إذا حصل التراب في غيرهما يقطع بعدم حصول المرتين.
وإذا استعمله في إحداهما احتمل حصول المقصود، ويبقى غيرها محتملًا والأصل عدمه، وهذا كما يقول: فيمن شك "هل" الخارج من ذكره مني أو مذي [أنه يتحرى ويحتمل أن يقال: يجيئان جميعًا ولا يجزئ غيرهما "وهذا مأخذه مأخذ القول بوجوب الاحتياط في مسألة إذا شك هل الخارج من ذكره مذي أو مني] 1 ولا أعرف من قال بهذا الوجه.
ويحتمل احتمالًا ثالثًا: وهو أن الشك لما وقع من الراوي لم يثبت واحدًا منهما ولا يجب واحد منهما وهذا يشبه تساقط البيتين؛ بل هو أولى لأن كلا من البيتين جازمة بما قالت، والشاك لم يجزم بشيء؛ فلم تثبت الأولى ولا الأخيرة وعلى هذا لا يثبت من هذه الرواية وجوب التراب أصلًا لكنا نأخذه من الرواية الأخرى وهي مطلقة فنقيها على إطلاقها لعدم ثبوت المقيد أعني بالنسبة إلى هذه الرواية.
نعم وردت رواية أخرى جازمة فيها "أولاهن"؛ فإن يرجح على رواية الشك كان التساقط لأجل شك الراوي حينئذ لا يبقى بها وإن ترجحت يبقى النظر بينهما وبين المطلقة.
فإن كان اختلافًا من الرواة "فينبغي النظر والترجيح فإن ترجحت المطلقة عمل بها وإن ترجحت المقيدة تعين في الأولى.
وإن لم يكن اختلافًا من الرواة؛ بل يكون النبي صلى الله عليه وسلم نطق بهما في مرتين كان من حمل المطلق على المقيد فيتعين في الأولى إلا أن يعارض بقوله: الثامنة بالتراب "إذا لم نجعل الثامنة ثامنة العدد ويحنئذ يكون مقيدًا بقيدين فيبقى على إطلاقه" انتهى كلام الوالد رحمه الله.
وأقول: سلمنا أنه مقيد بقيدين، ولكن لم قلتم: يبقى على إطلاقه ولا تنافي بين القيدين؟
فائدة: أعرب القاضي الماوردي في كتاب "الحاوي" وفي كتاب "أدب القضاء"
__________
1 من قول إنه يتخير إلى أو مني سقط من "أ" والمثبت من "ب".(2/149)
أولى المذاهب عندي في المطلق والمقيد أن يعتبر أغلظهما؛ فإن كان المطلق حمل المقيد عليه وإن كان المقيد حمل المطلق عليه؛ لئلا يؤدي إلى إسقاط ما تيقنًا وجوبه بالاحتمال، وحكاه عنه صاحب البحر ساكتًا عليه. وهو كلام عجيب فإن المقيد أبدًا أغلظ من المطلق لاشتماله عليه، فأي شيء هو غير مذهب الشافعي "رضي الله عنه"، فإن قال في "أعتق رقبة" مثلًا إنه مطلق و"أعتق معينة" أنه مقيد، وإن قال: أجوز غير المعينة حملًا للفظ على إطلاقه؛ فيقال له إن كان ذلك لقياس فإن إجزاء المعينة يقتضي إجزاء غيرها بطريق الأولى. فنحن لا ننكره وليس مما نحن فيه. وإن كان لا قياس فهو إسقاط للفظ الشارع بلا موجب؛ بل متى أمكن تعين المعينة تعينت وكنا قد علمنا بالمطلق والمقيد جميعًا، لأن المطلق لا ينافيها.
مسألة:
"المختار إذا نسخ حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع". ومعنى ذلك أنه إذا ثبت حكم من الأحكام في مسألة مثلًا بنص ثم استنبطنا منه علة، أو كانت منصوصة وألحقنا بالحكم المنصوص ما ليس بمنصوص قياسًا ثم نسخ الأ صل الذي استنبطنا منه القياس تداعي ذلك إلى ارتفاع القياس المستنبط عنه وخالفت الحنفية في ذلك.
وعليه مسائل: منها: قالوا: لا يجوز التوضؤ بالنبيذ المسكر النيء ويجوز بالمطبوخ وقالوا: قد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنيء1 وألحق به المطبوخ قياسًا ثم نسخ الوضوء بالنيء وبقي التوضؤ بالمطبوخ.
ومنها: ادعوا أن صوم يوم عاشورا كان واجبًا ويجوز إيقاع النية فيه نهارًا بالإجماع. قالوا: وألحق به رمضان قياسًا.
قلنا لهم: قد نسخ صوم [يوم] 2 عاشوراء إن اتفق إيجابه، قالوا: قد ينسخ الأصل ويبقى حكم القياس في الفرع.
ومنها: قال علماؤنا: يكره شرب المنصف والخليط وسببه أن الشدة والإسكار
__________
1 روى من حديث ابن مسعود وابن عباس فحديث ابن مسعود رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وحديث ابن عباس رواه ابن ماجه في السنن.
وانظر الكلام على هذين الطريقتين مفصلًا في نصب الراية للزيلعي 137- 148.
2 سقط في "ب".(2/150)
يتسارع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير الطعم فيظن الشارب أنه ليس بمسكر وهو مسكر.
قال الرافعي: وهذا كالنهي عن الظروف التي كانوا ينبذون فيها واعترضه ابن الرفعة بأنه لو صح هذا التشبيه لا نتفت الكراهة لأن النهي عن اتخاذ الظروف نسخ.
قلت: وفيه نظر لأنه -أعني- ابن الرفعة -حاول أن يكون الرافعي قد قاس على أصل منسوخ كما فعلت الحنفية فيما قدمنا وليس كذلك؛ وٍإنما شبه حكمًا بحكم من غير أن يجعل وجه الشبه أصل القياس.
وإنما يرد هذا على الرافعي لو قال: "إنما"1 كرهنا شرب الخليط2 [لأن النهي عن اتخاذ الظروف نسخ] 3 وليس ذلك في كلامه.
مسألة:
إذا تعارض القول والفعل فالقول أقوى على الأقوى. وعندي تنقيح [لهذا] 4 القول الأقوى وهو أن القول إذا دل على الحكم من تحليل وتحريم ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف والفعل أدل على الكيفية ولذلك لما أراد "الصحابي"5 أن يثبت في الأذهان كيفية وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بحضرتهم ليريهم ذلك غير قانع بوصفه باللسان ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، ولولا تصريح كثير بما ظاهره خلاف ما أقول لتركيب [الخلاف] 6 في أن الفعل مقدم أو القول على هذين الحالين وإذا عرفت أن القول مقدم؛ فنحن نذكر أمثلة من تعارض الأقوال والأفعال ثم ما اخترنا فيه قضاء الفعل على القول سببه وما جرينا فيه على الأصل في تقديم القول سكتنا عنه.
فمنها: الساجد. قال الشافعي رضي الله عنه: يضع ركبتيه قبل يديه لما روى أبو داود والترمذي من حديث وائل بن حجر "رأيت رسول الله إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه"7 وهذا صريح وهو على شرط مسلم، وقال الترمذي: إنه حديث حسن.
__________
1 في "ب" إنا.
2 في "ب" بالقياس على الظروف.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" بهذا.
5 في "أ" الفحال.
6 في "ب" الاختلاف.
7 أبو داود 1/ 222 في الصلاة/ باب كيف يضع ركبتيه "838" والترمذي 2/ 56 في أبواب الصلاة "268" والنسائي 2/ 205 في كتاب التطبيق وابن ماجه 1/ 286 في إقامة الصلاة "882" وابن خزيمة 1/ 319 "629" وابن حبان 1/ 291 "1903".(2/151)
ويعارضه حديث رواه أبو داود أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" 1 وإسناده جيد وبه أخذ مالك رحمه الله.
قال الشيخ الإمام الوالد رحمه الله: ويترجح بأنه قول وأمر وهو أقوى من الفعل وكاد يقدم على ترجيح مذهب مالك.
وتوقف النووي في شرح المهذب بين المذهبين [قال] 2 ولم يرجح أحدهما من حيث السنة.
قلت: وفي صحيح ابن خزيمة من حديث سعد بن أبي وقاص: "كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين في اليدين ... " وهذا عمدة في النسخ غير أن الشيخ الإمام توقف فيه ذاكرًا أن في إسناده ضعفًا.
ومنها: سجود السهو. وروي عن الزهري: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام وبعد السلام3، وأخر الأمرين قبل السلام وهذا من تعارض الفعلين "لا القول والفعل"4 وقد بين فيه الأخير من الأمرين فأمره واضح.
ومنها القيام للجنازة. قال علي كرم الله وجهه: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا معه ثم قعد فقعدنا" رواه مسلم5 وهو كالذي قبله.
__________
1 أبو داود 1/ 222 في الصلاة "840" والترمذي 2/ 57 أبواب الصلاة "269" والنسائي 2/ 207، وأحمد في المسند 2/ 381 الدارقطني في السنن 1/ 344 "3"، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 99.
2 سقط في "ب".
3 1/ 319 باب ذكر الدليل على أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود "منسوخ "628".
4 قال الزيلعي: اختلف الناس في هذه المسألة على أربعة أقوال فطائفة رأت السجدة بعد السلام عملًا بحديث ذي اليدين وهو مذهب الحنفية، وقال به من الصحابة علي وسعد وعبد الله بن الزبير ومن التابعين الحسن وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن بن صالح وأهل الكوفة، وذهبت طائفة إلى أن السجود قبل السلام أخذًا بحديث ابن بحينة رواه البخاري وأخذ بحديث الخدري رواه مسلم.
وانظر مزيد تفصيل في نصب الراية 2/ 170.
5 2/ 262 في الجنائز/ باب نسخ القيام للجنازة "84/ 962".(2/152)
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر1 ثم صلاته2 الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر، وهو فعل خاص عارض [قولًا وفعلًا] 3 عامًا.
ومنها: النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة4. ورواه ابن عمر مستدبر الكعبة ومستقبل بيت المقدس بين البيوت5 بالمدينة فخصص الشافعي وجمهور العلماء "رضي الله عنهم" القول بهذا الفعل، وقالوا: النهي عن الصلاة بعد العصر مخصوص بما له سبب كقضاء الفائتة، وعن الاستقبال والاستدبار مخصوص بالبنيان.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: "كل مما يليك" 6 وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يتتبع الدباء من جوانب الصفحة7.
ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب9 قائمًا وثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك10 فحمل النهي على كراهة التنزيع، وشربه صلى الله عليه وسلم على بيان الجواز، وإذا فعل لهذا الغرض لم يكن مكروهًا في حقه وقت فعله إياه.
__________
1 البخاري 2/ 61 في كتاب مواقيت الصلاة "586"، ومسلم 4/ 567 في صلاة المسافرين "288/ 827".
2 انظر البخاري 3/ 105 حديث "1233" ومسلم 1/ 571 "297- 834".
3 سقط في "ب".
4 انظر البخاري 1/ 498 "394" ومسلم 1/ 224 في الطهارة باب الاستطابة "59/ 264".
5 انظر البخاري 1/ 250 "148" ومسلم 1/ 225 "62/ 266".
6 البخاري 9/ 521 في الأطعمة/ باب التسمية على الطعام "5376" ومسلم 3/ 1599 في الأشربة/ باب آداب الطعام "108/ 2022".
7 البخاري 4/ 318 في البيوع: باب الخياط "2092" وفي الأشربة "144/ 2041".
8 مسلم من حديث جابر رضي الله عنه في اللباس/ باب في منع الاستلقاء على الظهر "72/ 2099".
9 انظر صحيح مسلم في الأشربة/ باب كراهية الشرب قائمًا 3/ 1600 في المصدر نفسه حديث "116/ 2026".
10 انظر البخاري 3/ 492 "1637" وحديث "5617" ومسلم 3/ 162 "120/ 2027".(2/153)
ومنها: قال صلى الله عليه وسلم: "توضؤوا مما مست النار" 1، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكل من كتف شاة وصل ولم يتوضأ2 وقال جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ومن ثم ذهب الجمهور إلى أن القول منسوخ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"3. وقال ابن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم4 ... قال الشافعي والجمهور الفعل ناسخ؛ لأن شدادًا قال في حديث: كنت مع رسول الله زمان الفتح لثمان عشرة خلت من رمضان فرأى رجلًا يحتجم فقال: أفطر الحاجم والمحجوم5.
قال الشافعي رضي الله عنه: ولم يصحب ابن عباس النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا قبل حجة الوداع فكان فعله سنة عشر وقوله: عام الفتح سنة ثمان؛ فالفعل ناسخ، وقيل: الفعل من خصائصه وقيل: القول مقدم.
ومنها: [حديث] 6 يعلى بن أمية7 أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة -كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك" وقالت عائشة رضي الله عنها: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أصبح محرمًا يتضمخ طيبًا. وفي رواية عنها: لقد رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله بعد ثلاث وهو محرم7 فرأى الشافعي وأحمد رحمهما الله وطوائف أن هذا الفعل في حجة الوداع كما جاء
__________
1 مسلم 1/ 273 في الحيض: باب الوضوء مما مست النار "90/ 352".
2 البخاري 1/ 310 في الوضوء "207" ومسلم 1/ 273 الحيض "91/ 354".
3 أخرجه أبو داود 2/ 308 في الصوم باب في الصائم يحتجم "2369" وابن ماجه 1/ 537 في الصيام "1681" والشافعي في المسند 1/ 255 "685" وأحمد في المسند 4/ 123 والدارمي في السنن 2/ 14 والبيع في 4/ 265 والحام 1/ 428.
4 البخاري 3/ 50 في جزاء الصيد "1835" ومسلم 2/ 862 في الحج باب جواز الحجامة للمحرم "87/ 1202" وابن ماجه 1/ 537 في الصام/ باب ما جاء في الحجامة للصائم "1682".
5 ابن ماجه المصدر السابق "1681".
6 سقط في "ب".
7 البخاري 4/ 393 في الحج "1536" وفي 9/ 9 في فضائل القرآن "4985" ومسلم 2/ 836 حديث "6/ 1180" "847".(2/154)
مصرحًا في روايات كثيرة؛ فهو ناسخ لحديث الجعرانة، ورأى مالك وأبو حنيفة تخصيص الخطاب بالأمة.
ومنها: قال صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر: "فإن شرب الرابعة فاقتلوه" 1 مع رواية ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسكران في الرابعة فجلده ولم يقتله وكذلك روى ابن المنذر عنه صلى الله عليه وسلم، فاعتضد كل من الإرسالين بالآخر، وحكم بنسخ الأمر بالقتل.
ومنها: حديث بريدة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أوصاه بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال2.
ذهب جمهور العلماء إلى أنه منسوخ بإقدامه صلى الله عليه وسلم على القتال قبل الدعوة غير مرة.
وذكر ابن عون أن نافعًا ذكر أن الدعاء إنما كان في أول الإسلام. وقيل الدعاء قبل القتل ندب.
وقيل: يختص بمن لم تبلغه الدعوة.
ومنها: قطعه صلى الله عليه وسلم أيدي العرنيين وأرجلهم وسمل أعينهم3 ... الحديث، ثم نهى عن المثلة؛ فكان النهي ناسخًا.
وهذه الصور كلها عرف فيها المتقدم. ومنها: حديث $"من أصبح جنبًا فلا صوم له"4.
__________
1 أخرجه الترمذي معلقًا 4/ 49 في الحدود/ باب 15 عقب حديث "1444"؛ فقال روى محمد بن إسحاق، عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله. وعزاه المزي في التحفة للنسائي 2/ 373 "3073" والحاكم في المستدرك 4/ 373 في الحدود باب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدًا.
2 مسلم 3/ 1357 في الجهاد والسير حديث "3/ 1731".
3 انظر البخاري 12/ 109 في الحدود/ باب في المحاربين من أهل الكفر "6803" ومسلم 3/ 1296 في القسامة/ باب حكم المحاربين "9/ 1671".
4 ابن ماجه 1/ 543 في باب ما جاء في الرجل يصبح جنبًا وفي البوصيري في الزوائد إسناده صحيح رواه من هذا الوجه وذكره البخاري تعليقًا في الصحيحين أن أبا هريرة سمعه في الفضل وزاد مسلم ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.(2/155)
مع حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبًا من جماع غير احتلام1.
فالذين ذهبوا إلى العمل بالقول، وقالوا: من أصبح جنبًا فلا صوم له. شذوذ من الناس والجماهير عملوا بالحديث الآخر مفنهم من ادعى النسخ في الأول كالخطابي ولعله قامت عنده الدلالة على تقدم تاريخه، ومنهم من ترجح عنده حديث الفعل لموافقة دلالة الآية وبمرجحات أخرى.
ونحن إذا قلنا بعدم القول فذلك من حيث أنه قول وقد يعضد الفعل أمور تصيره أرجح.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 2؛ قول عارضه أنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا ولم يجلده3، وقد ذهب أحمد رضي الله عنه وإسحاق وداود وابن المنذر إلى العمل بالقول فجمعوا على الثيبت بين الجلد والرجم.
وذهب الجمهور إلى العمل بالفعل وذكروا أن الجمع بينهما منسوخ، ويمكن أن يقال: إن هذا الفعل عضده قول آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" 4.
الحديث ليس فيه ذكر جلد. ولو كان لبينة فيتساقط القولان ولا يخفي أن الفعل إنما يكون مرجوحًا بالنسبة إلى القول إذا لم يعضده قول، أما إذا عضده فالفعل أرجح. وهذا واضح وبه صرح أبو الحسن السهيلي في كتاب أدب الحديث.
تنبيه: التقرير فعل غير أنه مرجوح بالنسبة إلى الفعل المستقبل. فالمراتب ثلاث قول ثم فعل غير تقرير ثم تقرير؛ وإنما لم يذكر الأصوليون التقرير في مسألة تعارض الأقوال والأفعال لدخوله في الفعل وفي باب التراجيح عند التمييز بينهما. قالوا: الفعل أرجح من التقرير ومن أمثلة تعارض التقرير مع القول قوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: "إذا صلى
__________
1 البخاري 4/ 153 في الصوم حديث "1930" ومسلم 2/ 780 في الصيام حديث "76/ 1109".
2 مسلم 3/ 1316 في الحدود "12/ 1690".
3 مسلم 3/ 13231 في الحدود حديث "23/ 1695".
4 انظر البخاري 11/ 523 في الإيمان والنذور "6633"، ومسلم 3/ 13247 في الحدود "25/ 1697- 1698".(2/156)
جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" 1 مع كونه صلى الله عليه وسلم جالسًا في آخر مرض موته والناس خلفه قيام2 وأقرهم على ذلك.
فذهب قوم إلى تقديم القول جريًا على الأصل وزعموا أن فرض القيام قد يسقط بالصلاة خلف الجالس وإن عذره كالعذر لهم وعلى هذا من أصحابنا ابن خزيمة وابن حبان، وقال الجمهور منهم الشافعي رضي الله عنه هذا التقرير آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم وهو ناسخ للقول المتقدم؛ فهذا مثال لتقرير رفع حكمًا سابقًا عليه ثابتًا بالقول، وقد يرفع القول حكمًا ثابتًا بالتقرير، وهذا أولى من القسم فإنه إذا ارتفع القول [بالتقرير] 3 فإن يرتفع التقرير بالقول أولى وأحرى.
ومثاله: ما في صحيح مسلم4 عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتمًا من ذهب فصنع الناس خواتيم الذهب ثم جلس على المنبر فنزعه فرمى به ثم قال: "والله لا ألبسه أبدًا" فنبذ الناس خواتيمهم. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن التختم بالذهب5.
وقضى العلماء بأن هذا التحريم ناسخ للإباحة التي استفيدت من تقريره الناس على متابعته في اتخاذ خواتيم الذهب. وهذا عندي موقوف على أن يكونوا لبسوه، وأن يكون جواز لبسهم كان مأخوذًا من التقرير لا من فعله صلى الله عليه وسلم المجرد؛ وإلا فهو قول نسخ فعلًا غير تقرير لا تقريرًا.
ومن مشكل هذا الباب أمر تحريم الخمر فسماعي من الوالد رحمه الله أنه لم يكن نسخًا لأن شربهم إياها قبل التحريم ما كان بحكم شرعي بل بالبراءة الأصلية.
وقصة حمزة تدل على وجود تقرير، وفي هذا بحث بيني وبين الشيخ الإمام ذكرته في "شرح المختصر" في مسألة التقرير وليس هو قصدي بالإشكال هنا؛ وإنما قصدي حديث رواه مسلم عن أبي سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس إن الله
__________
1 البخاري 2/ 173 في الأذان "389" ومسلم 1/ 308 في الصلاة "77/ 411".
2 البخاري 2/ 172- 173 في الأذان "687" ومسلم 1/ 311- 312 في الصلاة "90/ 418".
3 في "بط بالتقرير بالقول.
4 أخرجه البخاري 10/ 325 في اللباس "5876"، ومسلم 3/ 1655 في اللباس "53/ 2091".
5 انظر صحيح مسلم 3/ 1648 في كتاب اللباس حديث "3366".(2/157)
يعرض بالخمر ولعل الله سينزل فيها أمرًا، فمن كان عنده منها شيء فليبعه أو لينتفع به".
قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى قال: صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبيع" 1.
ظاهره يدل على أنها أبيح بيعها والانتفاع بها قبل التحريم بإذن شرعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يرد على من يدعي أنها لم تحل قط، ثم هذا البيع المأذون فيه لعله من كافر لا ينتهي بالنهي حال نزول التحريم وإلا فالبائع والمشتري واحد وإذا كان من كافر ففيه دليل على أن الكافر يبيع الخمر وهو حرام عليه لا سيما عند من نكلفه بالفروع، [وقد قدمنا في مسألة تكليفه بالفروع] 2 من نص الشافعي رضي الله عنه ما ينازع في ذلك؛ ففي الحديث إشكال لعل الله ييسر حله، فما إشكاله من وجه واحد، بل من وجوه متعددة.
تنبيه ثان:
"الكف فعل على المختار"، وأقول على هذا أنها مرتبة بين التقرير والسكوت، فالمراتب إذًا أربع: قول، ففعل مستقبل، فتقرير، فكف -وإليه الإشارة "بقولي" في كتاب التراجيح من جمع الجوامع والقول، فالفعل غير التقرير، فالتقرير، فالكف، فالسكوت، ولنمثل لتعارض الكف والتقرير بكفه صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الضب وتقريره إياهم على أكله لما أكلوه بين يديه وإن كان صلى الله عليه وسلم نبه على سبب امتناعه وهو العيافة لما لم يكن بأرضه قومه3.
وكذلك ما كان الناس يزيدون في تلبيتهم عام حجة الوداع على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: "لبيك ذا المعارج" ونحوه من الكلام فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقول لهم شيئًا؛ كذا رواه أبو داود4، وروى مسلم5 معناه فقد كف عن قول أقرهم عليه وما ذلك فيما يعتقد إلا بجوازه ومرجوحيته بالنسبة إلى ما كان هو صلى الله عليه وسلم يقول: أو لأن كلًا من الألفاظ شائع، ثم الأفضل لنا التأسي أو لا حجر أصلًا؟ كل ذلك محتمل:
تنبيه ثالث:
"قد علم أن أفعاله عليه الصلاة السلام حجة وأن التقرير فعل وكذلك
__________
1 مسلم 3/ 1205 في المساقاة "67/ 1578".
2 سقط من "ب".
3 البخاري 9/ 662 حديث "5537" ومسلم 3/ 1542 "44/ 1946".
4 2/ 162 في كتاب المناسك/ باب كيفية التلبية "1813".
5 انظر صحيح مسلم 2/ 842- 843.(2/158)
السكوت" وأقول ينبغي أن يكون الفعل مراتب أعلاها ما هو مستقل في نفسه كإقدامه علي1.
"والثانية: ما هو تقرير".
والثالثة: ما هو كف. والكف دون التقرير؛ فإن المفهوم من الكف الإحجام عن الفعل، وفي التقرير زيادة أفهمها على الأحجام2.
والرابعة: مجرد السكوت، وهو فيما أفهم من مدلوله دون الكف؛ فإن الكف منع النفس أن تقدم على قول أو فعل، والسكوت كأنه دون هذا القدر؛ غير أن السكوت قسمان: سكوت معه استبشار بفعل الفاعل، وسكوت لا استبشار معه وكلاهما دليل الجواز؛ فإنه لا يسكت على باطل أبدًا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ثم الاستبشار فوق التبسم فيما يظهر؛ فإني أفهم من الاستبشار محبة ما أبصر من الفعل ولا أفهم من التبسم هذا المبلغ. فإذا المراتب ست:
أولها: الفعل المستقل.
الثانية: التقرير.
الثالثة: الكف.
الرابعة: السكوت مع الاستبشار.
[الخامسة: السكوت مع ما أدعي من الاستبشار] 3 كالتبسم، ولنمثل له بتحريم الغلول وإيجاب [تخميس] 4 مال الكفار مع أن عبد الله بن معقل قال: أصبت جراب شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسمًا رواه مسلم5 وبه احتج أصحابنا على جواز أكل الغانمين قدر الحاجة من الطعام وإن لم يأذن الإمام.
السادسة: السكوت المجرد.
__________
1 بياض في النسختين.
2 في "ب" الأحكام.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" تخليس.
5 متفق عليه 6/ 255 في فرض الخمس "3153" ومسلم 30/ 1393 في الجهاد "72/ 1772" واللفظ له.(2/159)
تنبيه رابع:
"ما ذكرناه من دلالة السكوت [عليه] 1 مخصوص بسكوت يلزم منه مفسدة لو لم يكن [السكوت] 2 عليه مخصوص بسكوت يلزم منه مفسدة لو حلالًا، أو عام في ذلك.
وفي ما لا يلزم من السكوت عليه وقوع مفسدته فيه نظر للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.
ومثاله: طلاق الملاعن زوجته ثلاثًا بعد فراغ اللعان، وسكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهل يكون سكوته دليلًا على جواز إرسال الثلاث حيث يعتبر ذلك في المنكوحة -أولًا دليل فيه هنا لأن المطلق [إرسال] 3 الثلاث ظانًا بقاء النكاح والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنها بانت منه باللعان وأن هذا الكلام لغو.
تنبيه خامس:
"لا فرق بين السكوت على فعل وعلى قول" فإذا قيل بحضرته صلى الله عليه وسلم هذا حلال أو هذا حرام وسكت دل على أنه كذلك.
وليقع النظر هنا في واقعة ابن صياد وأن عمر4 كان يحلف "بحضرة" صلى الله عليه وسلم أنه الدجال5.
وقد روى مسلم في صحيحه أن محمد بن "المنكدر" قال: رأيت جابرًا يحلف أن ابن صياد هو الدجال؛ فقلت: تحلف بالله تعالى فقال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند رسول الله فلم ينكره6.
لكن هذا محمول على أنه لم ينكره إنكار من نفي كونه الدجال؛ بدليل أنه أيضًا لم يسكت على ذلك؛ بل أشار [إليه] 7 أنه متردد؛ ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قلته"؛ فردده في أمره؛ فلما صار ابن عمر يحلف على ذلك صار حالفًا على غلبة ظنه، والبيان قد تقدم من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" المسكوت.
3 في "ب" أرسل.
4 في سنن أبو داود وابن عمر.
5 أبو داود 4/ 506 في الملاحم/ باب في خبر ابن صائد "4330".
6 البخاري 13/ 323 في الاعتصام حديث "7355" ومسلم 4/ 2243 في الفتن "94/ 2929".
7 في "ب" إلى.(2/160)
هذا سكوت عن حلف على أمر غيب لا على حكم شرعي، ولعل مسألة السكوت والتقرير مختصة بالأحكام الشرعية لا الأمور الغيبة التي قد يكون طلب الجهل بها واقعًا؛ فليتأمل ذلك والله أعلم.
تنبيه [سادس] 1:
قدمنا لك ما يعرفك أن قولنا: "القول مقدم على الفعل" معناه عند التعارض في حكم ما دل على حكمه قول وفعل متعارضان مطلقًا. [ولا] 2 ينقض بقوة الفعل على القول في أمور آخر لمأخذ آخر؛ ألا ترى إلى قولنا "نقل الركن الفعلي في الصلاة مبطل، وفي القول خلاف" وما ذاك إلا لأن الفعل أفحش؛ فليس ذلك من قبيل ما نحن فيه بل الفعل هناك أشد؛ فلذلك يجعل أصلًا للقول.
ويقول الأصحاب في نظائره مسألة نقل الركن الفعلي والقولي: "هل يلحق القولي بالفعلي أو لا؟ فيه خلاف يظهر في مسائل. منها مسألة نقل الركن هذه.
ومنها: إذا قال: هذه الدار لزيد بل لعمرو أو غصبتها من زيد بل من عمرو [و] 3 سلمت لزيد، وأظهر القولين أن المقر يغرم قيمتها لعمرو؛ لأنه حال بينه وبين داره بإقراره الأول والحيلولة سبب الضمان كالإتلاف إلحاقًا للحيلولة التقولية بالحيلولة الفعلية.
ويعبر بعضهم عن القولين بأن الحيلولة القولية هي كالحيلولة الفعلية.
ولقائل أن يقول: القول ما حال وإنما كان سببًا للحيولة؛ بل قد يقال: لم يكن شيء في يد عمرو حتى تصدق الحيلولة؛ فإن المقر به في يد المقر ولم يصدر منه غير إقرار ثان لعمرو يقتضي أنه كان يستحق قبض ما أقر به لغيره؛ فينزل اعترافه بهذا الاستحقاق منزلة تسمليه العين له ثم انتزاعه إياها من يده. وقد نبه على نحو هذا الوالد في "شرح المنهاج" في باب الإقرار.
ومنها: الخلاف فيما إذا رفعت صوتها في الصلاة؛ بحيث يسمعها الرجال هل تبطل صلاتها لأن صوتها عورة قولية على رأي؛ ففي إلحاقها بالعورة الفعلية الخلاف.
ومنها: شهود المال إذا رجعوا؛ فالأصح يغرمون، تنزيلًا لحالتهم القولية منزلة الغصب الذي هو حالة فعلية.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" فلا.
3 سقط في "ب".(2/161)
وهذا مثال صحيح فإن شهود المال إنما أحالوا بالقول لا بالفعل بخلاف هذا الدار لزيد بل لعمو، والله تعالى أعلم بالصواب.
فصل:
قدمنا أن القول أدل على الحكم والفعل أدل على الصفة، وبه علمت أنه لا ينبغي إطلاق القول بأن القول أقوى ويوضح لك هذا أيضًا أن تأثير الفعل في مفعوله أقوى من تأثير.
القول في مقبولة بدليل مسائل:
منها: سراية استيلاد أحد الشريكين قيل: [إنه] 1 أولى بأن يتعجل من سراية عتق الشريك. قال الغزالي في الوسيط: لأنه فعل، وهو أقوى من القول".
ومنها: إذا زوج الغاصب المغصوب من المالك فأولد نفذ الاستيلاد قطعًا.
ولو قال للمالك: أعتق فأعتق نفذ على الصحيح، وفي وجه لا ينفذ وإن كان الاستيلاد يثبت لأن الاستيلاد فعل وهو أقوى.
ومنها: إحبال المجنون نافذ دون إعتاقه.
ومنها: كثير الفعل في الصلاة سهوًا مبطل عند الرافعي والنووي كعمده، وفرق بينه وبين الكلام؛ حيث فرقنا في قليله بين العمد والسهو بأن الفعل أقوى من القول.
ورجع المتولي أن الفعل في الصلاة ناسيًا -وإن كان كثيرًا لا يبطل بخلاف الكلام الكثير، وفي هذا تقوية للقول على الفعل. وعليه كلام ذكرته في التوشيخ.
مسألة:
الإخبار عن أمر عام قال أبو عبيد الله المازري: إنه الرواية وأن الإخبار عن أمر خاص هو الشهادة.
قلت: والذي يظهر أن يقال: الخبر إن تضمن إثبات حق على المخبر فهو الإقرار، أو للمخبر على غيره فهو الدعوى، أو لغيره على غيره فهو الشهادة.
[و] 2 هذا كله إذا كان خاصًا؛ فإن اقتضى شرعًا عامًا فإن كان من حكم شرعي؛ فهو الفتيا وإن كان عن3 أمر محسوس، فإن كان مما لا يتخاصم فيه الناس ويترافعون
__________
1 في "ب" بأنه.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" غير.(2/162)
إلى الحكام فهو الرواية، نحو: "الشفعة فيما لم يقسم 1 وركعتان قبل الصبح خير من الدنيا وما فيها" 2؛ فإن الناس لا يترافعون إلى الحكام في أن الشفعة هل هي فيما لم يقسم، ولا في أن ركعتي الصبح سنة بل يستفتون في ذلك وإن كان ترافع فيما هذا شأنه فإنما هو حسبة فيمن تخيلنا كذبه على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فما رواه. وليس الترافع حينئذ في المروي بل في الراوي.
وإن كان مما يرتافع الناس فيه ففيه تردد والأرجح أنه شهادة.
وبهذا يتبين لك أن العام ذا الترافع فيه شائبتان؛ شائبة الشهادة وشائبة الرواية، ويظهر أثره في صور:
منها: هلال رمضان ومن ثم كان شهادة واكتفى فيه بواحد على الصحيح لشائبة الرواية.
ومنها: عيب المبيع، قال صاحب التهذيب: إن قال واحد من أهل العلم: "إنه عيب" ثبت الرد به واعتبر المتولي شهادة اثنين.
ومنها: نجاسة الماء يكفي فيه إخبار مقبول الرواية ولو عبد أو امرأة.
ومنها: المرض المرخص للتيمم يكفي طبيب، وقيل لا بد من اثنين.
ومنها: دخول وقت الصلاة بكفي فيه خبر الثقة عن مشهادة لا عن اجتهاد.
ومنها الخارص يكفي واحد، وثالثها: إن خرص على محجوز فلا بد من اثنين.
منها: كون المرض مخوفًا لا بد من اثنين، وقيل: يكفي واحد.
ومنها: لو أخبر الصائم بغروب الشمس عدل واحد. قال الوالد لم أر من تعرض للمسألة إلا الروياني فقال في "البحر" إنه لا بد في الشهادة على غروب الشمس من اثنين كالشهادة على هلال شوال ثم استشكله الوالد رحمه الله في شرح المنهاج.
ومنها: إذا شهد عدل واحد بطلوع الفجر في رمضان هل يلزم الإمساك أم لا بد من اثنين؟ قال الروياني: يحتمل وجهين.
__________
1 البخاري 4/ 407 في البيوع "2213" و 4/ 408 "2214" و 4/ 436 في الشفعة "2257".
2 مسلم 1/ 5014 في صلاة المسافرين "96/ 725".(2/163)
قلت: ومال الوالد رحمه الله إلى ترجيح قبول الواحد كما في المسألة قبلها وهو الغروب.
مسألة:
خبر الواحد وإن خالف قياس الأصول مقدم على القياس:
وعليه مسائل:
منها: ذكاة الجنين ذكاة أمه: لحديث أبي سعيد الخدري: سألنا رسول الله عن الجنين يكون في بطن الناقة أو البقرة أو الشاة فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة1.
وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" أخرجه ابن حبان.
وروي الدراقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجنين: "ذكاته ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" 2 قال الدارقطني: الصواب أنه من قول ابن عمر رضي الله عنهما.
قلت: وخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن نصر الأنطاكي عن أسامة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، ثم قال: لم يروه مرفوعًا عن عبد الله إلا أبو أسامة تفرد به عبد الله بن نصر الأنطاكي.
وقال أبو حنيفة: لا يذكي الجنين بذكاة أمه.
وأصل المسألة أن الجنين يجري مجرى جزء من أجزاء الأم، ومن ثم يمنعهم كون الخبر مخالفًا لقياس الأصول وعندهم هو شخص مستقل ومن ثم يدعونه مخالفًا لقياس الأصول فلا يقبلونه.
ومنها: إذا أعتق في مرض موته عبيدًا لا مال له سواهم ولم يجز [الورثة] 3.
جميعهم [بالعتق] 4 فالعتق في الثلث بالقرعة.
__________
1 أحمد في المسند 3/ 31 - 53 وأبو داود 3/ 103 في الأضاحي "2827" وابن ماجه 2/ 1067 في الذبائح حديث "3199" ومن حديث جابر عند الدارمي 2/ 84 وأبو داود 3/ 103 في الأضاحي حديث "2826" والحاكم 4/ 114 في الأطعمة وقال صحيح على شرط مسلم وأقره الذهب.
2 4/ 271 "24".
3 سقط في "ب".
4 سقط في "ب".(2/164)
وقال أبو حنيفة: يعتق من كل واحد بالحصة ويستبقي في الباقي.
ومعتمدنا ما في صحيح مسلم1 من حديث عمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكنله مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثًا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولًا سديدًا.
مسألة: خبر الكافر مردود
ويستثنى مسائل:
منها: إذا أم بقوم ثم أعلمهم أنه غير مسلم يجب عليهم الإعادة كما إذا تبين من غير إعلامه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه في باب صلاة الرجل بأقوام لا يعرفونه فقال: وإذا صلوا مع رجل صلاة كثيرة ثم أعلمهم أنه غير مسلم أو علموه من غيره أعادوا كل صلاة صلوها خلفه.
قال الوالد رحمه الله: ولولا هذا النص لكان يظهر أن.
يقال: لا يقبل قوله إلا أن يسلم بعد ذلك ويخبر بإحالة التي تقدمت.
ومنها: لو شهد جماعة ذميون بأن هذا قتل فلانًا فهو لوث على الأصح.
ومنها: قال الماوردي: إذا أخبر كافر الشفيع بالبيع ووقع في قلبه صدقه لم يغدر في تأخير الطلب وكان تأخيره مسقطًا للشفعة.
والأصحاب أطلقوا أنه يعذر إذا أخبره كافر؛ فإما أن يكونوا مخالفين لهذا وإما أن يحمل إطلاقهم على ما إذا لم يقع في نفسه صدقه.
قال الولد وعلى هذا ينبغي أن يكون القول قوله في أنه لم يقع في نفسه صدقه.
ومنها: وجه حكاه الرافعي في باب الوصية عن أبي سلميان الخطابي أنه يجوز العتدول من الوضوء إلى التيمم بقول الطبيب الكافر كما يجوز شرب الدواء من يده ولا يدري أهو دواء أم داء، ولم يستبعد الرافعي طرده فيما أخبر بأن المرض مخوف.
مسألة:
خبر الصبي وإن لم يجرب عليه الكذب مردود في الأصح إلا مع القرينة كالإذن في دخول الدار وحمل الهداية على الأصح.
__________
1 3/ 1288 في الإيمان/ باب من أعتق شركًا له "56/ 1668".(2/165)
هذا هو الأصل ويستثنى صور فيقبل فيها خبره وفي غير ما ذكر وهي فيما طريقه المشاهدة كما دل أعمى على القبلة، نقله النووي عن الجمهور في شرح المهذب في باب الأذان عند الكلام على أذن الصبي.
مسألة: خبر الفاسق مردود
وقد يستثنى من هذا من أخرج القذف مخرج الشهادة ولكن لم يتم العدد؛ فإنه فاسق [إن] 1 أوجبنا عليه الحد كما صرح به الماوردي والروياني في باب شهادة القاذف والرافعي في باب حد الزنا.
وصريح كلام الشيخ أبي حامد في التعليقة أنه فاسق مطلقًا أوجبنا عليه الحد أو لم نوجبه مع اتفاقهم على قبول خبره دون شهادته، وفرقهم بغلظ أمر الشهادة.
وهو مشكل كيف يحكمون بفسق من يقبلون روايته وقد صرح بقبول روايته الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والقاضي الحسين والمارودي والروياني.
مسألة:
الصحيح عندي أن تكذيب الشيخ للراوي عنه لا يسقط المروي.
فما ظنك بما إذا لم يكذبه ولكن تردد وشك، وفيه مسائل: منها: حديث لا نكاح إلا بولي. الذي رواه سليمان بن موسى عن الزهري2.
زعم الخصوم أن الزهري ذكر له سليمان بن موسى فقال: لا أعرفه وتسلطوا بهذا على رد الحديث.
__________
1 سقط في "ب".
2 أحمد في المسند 4/ 394، الدارمي في السنن 2/ 137، وأبو داود 2/ في النكاح "2085" والترمذي 3/ 407 "1101"، وابن ماجة 1/ 605 "1881" وابن حبان ذكره الهيثمي ص 304، الحاكم 2/ 169.(2/166)
كتاب الإجماع:
مسألة:
الإجماع السكوتي حجة وليس بإجماع خلافًا للخصوم ولسنا نورث المبتوتة في المرضى على الجديد وإن ورث عثمان تماضر بنت الأصبغ من زوجها عبد الرحمن بن عوف وقد طلقها آخر تطليقاتها الثلاث وتوفي وهي في العدة لأنه لم يحصل إجماع سكوتي بل صرح ابن الزبير وغيره بمخالفته.
ولا يستوفي القصاص الثابت للصغير والكبير حتى يبلغ الصغير وإن قتل ابن ملجم قاتل علي كرم الله وجهه ولم ينتظر بلوغ صغار الورثة ولا أنكر ذلك صحابي لأنا لا نسلم أن ابن ملجم قتل قصاصًا بل كفرًا لاستحلاله قتل علي كرم الله وجهه أو حدًا لكونه قتل الإمام الأعظم، وقد قال بعض أصحابنا: إن القتل حد قاتل الإمام الأعظم.
فإن قلت: إن [استثبت] 1 لكم الجواب عن هاتين المسألتين فلم يثبت عن قول الإمام الشافعي رضي الله عنه [المشهور عنه] 2: لا ينسب لساكت قول فإنه صريح في مخالفتكم في قولكم أن السكوتي ليس بحجة.
قلنا: قد تكلمنا عن هذه العبارة في شرح المختصر بما لا نطيل بإعادته وحظ الفقيه منها أن نقول هنا: في القاعدة مسائل عد كثيرًا منها أبو سعد الهروي في أواخر الأشراف وأنا أذكر ما ذكره مع زيادات.
فمما ذكره: سكوت النبي صلى الله عليه وسلم وسكوت المجتمعين وهذا من مسائل الأصول.
وسكوت البكر مع الأب والجد استثناه من قولنا: السكوت لا يكون رضي.
__________
1 في "ب" اشقيت.
2 سقط في "ب".(2/167)
وهو صحيح لكنه لا يستثنى من قولنا: لا ينسب إلى ساكت قول لأنا لم ننسب إلى البكر بالصمات قولًا وإنما نسب إليها رضي دل عليه الصمات ولا يلزم من عدم نسبه القول عدم نسبة الرضا بل يقول لا ينسب الرضا أيضًا بال الشارع اكتفى بالصمات لدلالته على الرضى؛ حيث قال [في البكر] 1: إذنا صماتها2 كما أكتفي بلفظ البيع لدلالته على الرضا.
وإذا حفظت هذا الجواب اعتبرت به أكثر ما سنعده من مسائل قد يتخيل ورودها نقضًا.
ومنها: سكوت الولي بين يدي الحاكم وقد طلبت منه التزويج فإنه عضل والكلام فيه كالكلام في صمات البكر، ومنها سكوت المضمون له وقد شرطنا رضاه؛ حيث يكتفي به على خلاف فيه.
ومنها: سكوت المجهول الذي قذفه قاذف مدعيًا أنه عبد؛ فإذا سكت بعد القذف ولم يدع الحرية وطالب بالحد لا يجب، ولا يجري فيه القولان فيما إذا قال القاذف: هو عبد، وقال المقذوف: بل أنا حر كما صرح به الماوردي.
ومنها: إذا بلغ اللقيط وسكت ولم يصف الإسلام ولا الكفر ففي وجوب القصاص على قائله خلاف.
ومنها: الخطبة حرام إن صرح بالإجابة دون من إذا سكت على ما قال الرافعي في المحرر ولكن في الشرح خلافه كلاهما في كتاب البيع.
ومنها؛ إذا أراد الأب تزويجها بغير كفء؛ ففي الاكتفاء بالسكوت وجهان.
ومنها: إذا استأذن الولي البكر في تزويجها بغير نقد البلد أو بأقل من مهر المثل ففي آخر النكاح عن القاضي الحسين تنزيل سكوتها منزلة إذنها وفي الفصل الثامن في اجتماع الأولياء عن البغوي فيه طريقان.
ومنها: نص الشافعي "رضي الله عنه" في الإيلاء على أن الرجل إذا. قال: هذه زوجتي فسكتت ومات ورثته، وإن ماتت هي لم يرثها.
ومنها: إذا علم البائع أن المشتري يطأ الجارية مدة الخيار وسكتـ فالأصح لا
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
2 مسلم 2/ 1037 في النكاح "66/ 1421".(2/168)
يكون سكوته إجازة، وكذا لو سكت على وطء أمته لا يثبت المهر أو على إتلاف ماله لا يسقط الضمان.
ومنها: لو حلق الحلال رأس المحرم وهو ساكت فالأصح أنه كما لو حلق بأمره، فلتلزمه الفدية.
ومنها: لو حمل أحد المتعاقدين من مجلس الخيار وأخرج وهوساكت فالأصح لا يبطل خياره.
ومنها: لو طعن الصائم بغير أمره طعنة وصلت إلى جوفه ولم يدفع عن نفسه فأقيس الوجهين عند النووي أنه لا يفطر.
ومنها: إذا سمع رجل يقول عن مراهق أو بالغ: هذا ابني جاز أن يشهد له بالنسب وإن لم يتكرر على الأصح.
ومنها: إذا التقط العبد وسكت عليه السيد فالأظهر أن الضمان برقبته وسائر أموال سيده.
ومنها: لو حلف لا يدخل الدار فأدخل ساكتًا.
قال الرافعي: الظاهر لا يحنث ومنهم من جعل دخوله بمثابة الإذن في الدخول.
ومنها: إذا اشترطنا قبول الوكيل ففي نطقه خلاف.
ومنها: السوم على السوم إذا حصل الرضا حرام وهل السكوت من أدلة الرضا؟ قال الأكثرون: نعم، وقيل: على الخلاف في الخطبة.
ومنها: لا يحرم البيع على البيع إذا أذن البائع أن يباع على بيعه ولو استأذنه البائع الثاني فسكت ففيه نظر.
ومنها: قال أبو سعد الهروي: إذا نقض واحد الهدنة فسكت الباقون انتقض أن عقد السيد الهدنة وسكت الباقون انعقدت.
قال أبو سعد: وكل حق على الفور إذا سكت عنه مع الإمكان بطل كالشفعة ورد المعيب والقبول والاستثناء.
ومنها: رأيت فيما علقه شبيب الرحبي من مسائل ومشكلات سئل عنها أبو نصر بن(2/169)
الصباغ رحمه الله أن أبا نصر سئل عن من رأى رجلًا يكلم امرأة هل له أن ينكر عليه؟ فقال بمجرد الكلام ليس له الإنكار إلا أن تكون مكشوفة الوجه وهي ممن يخاف بها الافتتان ورآه ينظر إليها.
قيل له: فإن أدعي أنها زوجته؟ قال: إن صدقته فلا ينكر، وإن سكتت فلم تصدفه ولم تكذبه- قال ينبغي أن يسقط الإنكار. انتهى.
والذي نقله الرافعي عن المارودي وسكت عليه فيمن رأى رجلًا واقفًا مع امرأة في شارع مطروق أنه لا ينكر عليه وإن كان في طريق خال؛ فهو موضع ريبة فينكر ويقول: هب أنها محرم لك فصنها عن مواقف الريب.
ومنها: حلف لا يدخل الدار فحمل بإذنه فدخل حنث وإن حمل ساكتًا فوجهان أو قهرًا فلا.
ومنها: من قصد قطع يد الغير ظلمًا فسكت المقصود حتى قطع فالأصح عند الرافعي في باب استيفاء القود أن سكوته لا يكون إهدارًا والوجهان مأخوذان من تردد الأصحاب في أن الزانية لا تستحق المهر؛ فقيل: لأن الوطء غير محترم، وقيل: لأن التمكين رضا في العرف وعليه فالتمكين من القطع إباجة.
ومنها: السكوت في جواب الدعوى كالإنكار.
ومنها: باع بالغًا وهو ساكت جاز الإقدام على شرائه لأنه لو كان حر التكلم فسكوته كالتصديق خلافًا للشيخ أبي محمد فيما حكاه الرافعي عنه في أوائل باب الدعوى.
ومنها: الأمان يرتد برد الكافر؛ فلو سكت ففي كونه قبولًا تردد للإمام.
قال: والظاهر أنه لا بد من القبول وهو المذكور في الوجيز واكتفى في التهذيب بالسكوت.
قلت: وهو الأرجح.
ومنها: المودع والمستعير إذا سكتا عن إتلافهما مع القدرة على الدفع ضمنًا.
تنبيه:
إذا تأملت هذه الفروع عرفت أنا لم ننسب إلى ساكت قولًا في شيء منها وإن ألمزمناه غرمًا أو علقنا به ضمانًا أو نسبنا إليه رضنا أو نزلنا سكوته منزلة منكر فكل ذلك(2/170)
غير وارد على عبارة الصاحب المطلي رضي الله عنه ورب سكوت يوقع في الإثم كسكوت القادر على إنكار المنكر؛ حيث يجب الكلام ورب سكوت هو طاعة وهو عما لا خير في النطق به، وينقسم إلى واجب ومندوب.
مسألة:
إذا اختلفت الأمة على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين؛ ففي صيرورة قول الباقين إجماعًا خلاف جزم الإمام فخر الدين بأنه يصير، وعزا ابن الحاجب إلى الأكثر أنه لا يصير، والمختار الأول لكن هو دون الاتفاق المجرد على أحد قولي الأولين.
إذا عرفت هذا فقد ذكر المتولي أن في المسألة قولين وخرج عليهما ما إذا قال أحد الاثنين الحائزين: هذا أخونا وأنكر الآخر فمات المنكر فهل يثبت نسه عند موته؟
وهذه عبارته قال في "التتمة" في باب الإقرار: الثامن لو مات عن ابنين فأقر أحدهما بابن لأبيه وأنكر الآخر ثم مات المنكر ولا وارث له غير الأخ المقر فهل يحكم بثبوت النسب؟ فعلى وجهين.
أحدهما: يحكم لأن الحق صار له على الخصوص.
والثاني: لا يثبت، لأن النسب ما كان ثابتًا في حياته؛ فموته لا يجوز أن يكون سببًا في ثبوت النسب.
وعلى هذا لو مات الابن المنكر عن ابن ثم إن ابن المنكر وافق عمه في الإقرار بالنسب فهل يحكم بثبوته أن لا؟ فعلى هذين الوجهين. وأصل هذه المسألة مسألة في الأصول وهي إذا وقع بين أهل العصر خلف في مسألة وصاروا فرقتين ثم مات فريق منهم فهل تصير المسألة مسألة إجماع، والمسألة مشهورة بالقولين، فإذا قلنا: ينقطع خلافهم بموتهم فهاهنا يسقط حكم الإنكار بالموت وإن قلنا: لا تصير المسألة إجماعًا ويبقى حكم خلافهم بعد موتهم فلا يثبت النسب هاهنا لاعتبار إنكار الميت. انتهى.
والذي صححه المشايخ الرافعي والنووي والوالد أنه يثبت النسب.
مسألة:
كثر من الصحابة رضي الله عنهم نحو قوله: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.
واضطرب أرباب الأصول في أنه هل يعم الفعول إذا كانت صيغته صيغة عموم نظرًا إلى الصيغة أو لا تعم نظرًا إلى أن صيغة فعل تقتضي تقدم معهود خاص فيكون مقدمًا على العموم؟(2/171)
وهذا الثاني هو المختار عندنا في الأصول وعليه من أئمتنا الشيخ أبو حامد وابن السمعاني والغزالي والإمام فخر الدين.
وقد وقعت هذه الصيغة التي نبحث عنها في أحاديث كثيرة.
منها: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر؛ رواه مسلم1.
"ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن". رواه الشيخان2.
"نهى ر سول الله صلى الله عليه وسلم وثمن الدم وكسب الأمة ... " رواه البخاري3 نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة رواه مسلم4.
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق وعن شراء المغانم حتى تقسم وعن شرءا الصدقات حتى تقبض وعن ضربة [الغامض] 1 رواه ابن ماجة5 والدارقطني.
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وعن الثنيا رواه مسلم6.
وروى أيضًا: "نهى عن بيع الثمر بالتمر" 7.
"نهى عن بيع الصبرة من التمر لا يعرف مكيلها بالكيل المسمى من التمر" 8.
"نهى عن بيع حبل الحبلة" 9.
__________
1 3/ 1153 في البيوع باب بطلان بيع الحصاة "4/ 1513".
2 البخاري في البيوع باب ثمن الكلب حديث "2237" "2282" "5346" "5761" ومسلم 3/ 1198 في المساقاة باب تحريم ثمن الكلب رقم 39/ 1567.
3 4/ 497 في البيوع باب ثمن الكلب "2238".
4 تقرر ضمن حديث بيع الغرر.
5 ابن ماجه 2/ 740 "2196" والدارقطني في السنن 3/ 15.
6 3/ 1175 في البيوع "85/ 1536".
7 البخاري 4/ 387 في البيوع "2191" ومسلم 3/ 1170 "67/ 1540".
8 مسلم 3/ 1162 في البيوع حديث "42/ 1530".
9 البخاري 4/ 356 في البيوع "2143" ومسلم 3/ 1153 كتاب البيوع حديث "5/ 1514/ 6/ 1514".(2/172)
"نهى عن بيعتين في بيعة"1.
" نهى عن بيع ضراب "الجمل" وعن بيع الماء والأرض" 2.
وفي البخاري "نهى عن عسب الفحل" 3.
وفيهما "نهى عن الملامسة والمنابذة" 4.
ومن مشهور الأحاديث: "نهى عن بيع العربان5.
"نهى عن بيع المضطر"6.
"نهى عن بيع الثمرة قبل أن تدرك"7.
"نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان -صاع البائع وصاع المشتري"8.
" نهى عن بيع الكالي بالكالي" 9 أي الدين بالدين.
"نهى عن بيع المجر"10 أي بيع الحمل أو جعله ثمنًا.
"نهى عن بيع وشرط"11.
"نهى عن بيع فضل الماء" 12.
__________
1 الترمذي 3/ 533 في البيوع "1231" وقال حسن صحيح والنسائي 7/ 295 في البيوع وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة صفقة واحدة الحاكم 2/ 17 والبيهقي 5/ 343.
2 مسلم 3/ 1197 في المساقاة "35/ 1565".
3 البخاري 4/ 461 حديث "2284".
4 البخاري 10/ 278 في اللباس "5820" ومسلم 3/ 1152 في البيوع "3/ 1512".
5 مالك في الموطأ 2/ 609 "1" وأبو داود 3/ في البيوع حديث 3502 وابن ماجه 2/ 738 "2192" "2193".
6 أبو داود 3/ في البيوع حديث "3382" وأحمد في المسند 1/ 116.
7 أخرجه أحمد في المسند المصدر السابق.
8 الدارقطني في السنن 3/ 8 "24".
9 الدارقطني 3/ 71- 72 في البيوع حديث "269"- 270" والحاكم 2/ 57 وقال صحيح على شرط مسلم والبيهقي 5/ 290.
10 البيهقي عن ابن عمرو الفتح الكبير 3/ 276.
11 أخرجه الطبراني في الأوسط نصب الراية 4/ 17.
12 مسلم 3/ 1197 في المساقاة حديث "34/ 1565".(2/173)
كتاب القياس:
مسألة:
استعمل علماؤنا قياس العكس في مسائل شتى ولنفتتح بما يحضرنا من منصوصاتها:
منها: قال الشيخ الإمام "رحمه الله" في كتاب نور الربيع من كتاب الربيع [وهذا] 1 المصنف الذي وضعه على كتاب الأم قاس الشافعي رضي الله عنه المدبر في جواز بيعه مديونًا كان سيده أو لا على المكاتب والمستولدة في امتناع بيعها مديونًا كان سيدها أولًا.
ومنها: إذا كان في بلد الكفار أو قلعتهم مسلم ففي جواز قصدها بالمنجنيق والنار مع إمكان أنه يصيب ذلك المسلم. قولان. أصحهما الجواز؛ علله الشافعي رضي الله عنه بأن الدار دار إباحة فلا يحرم القتال بكون المسلم فيها كما أ، دارنا لا تحل بكون المشترك فيها.
مسألة:
في إثبات اللغة بالقياس خلاف مشهور. والقول به هو ما عليه كثير من الشافعية أو أكثرهم وكان أبو العباس بن سريج يناظر عليه ويكثر استعماله، وكان إذا سئل عن حد اللوطي يقول: أنا أدل على أنه زان فإذا ثبت لي ذلك ثبت أنه محدود بنص الكتاب. وإذا سئل عن مسألة النبيذ قال: أنا أدل على أنه خمر وإذا ثبت فحذ الخمر منصوص.
وكذلك يقال في النباش فإنه يقطع عندنا بسرقة الكفن من قبر ليس في مفازة فيثبت أنه سارق، ثم يقول: قطع السارق منصوص. وقد كنت لا أرى استعمال هذه
__________
1 وفي "ب" وهو.(2/174)
الطريقة زمنًا وقلت في شرح المختصر: لو كان قطع النباش بالقياس اللغوي وهو تسميته نباشًا لقطع سارق ما عدا الكفن من القبر والأصح خلافه. والآن يرتجح عندي استعمالها.
وأقول في جواب ما ذكرته في الشرح: أن سارق ما عدا الكفن لا يسمى في العرف نباشًا ولا في اللغة؛ فإنهم لم يضعوا اسم النباش إلا لما يتبادر إلى الذهن مما يفعله النباش وهو سرقة الكفن لأنه الغالب وسرقة ما عداه نادر لندرة وضع ما عدا الكفن في القبر، ولأنه ليس حرزًا بالنسبة إلى غير الكفن كما أنه ليس حرزًا لكفن في المفازة، فافهم هذا الجواب فهو حسن.
مسألة:
القياس يجري في الكفارات خلافًا لأبي حنيفة.
وعليه مسائل:
منها: إذا جامع في يومين من رمضان واحد يلزمه كفارتان لتماثل السببين.
وقال أبو حنيفة: كفارة واحدة لتعذر الإلحاق عنده هاهنا.
ومنها: تجب الكفارة على صائم أفسد صومه باللواط أو إتيان البهيمة وإن كان النص إنا ورد في مجامع امرأته كما يجب على الزاني ومن جامع امرأته إن لم يرد النص فيهما، وفي البهيمة والإتيان في الدبر وجه.
ومنها: إذا تعمد الجماع حتى طلع الفجر ولم ينزع فعليه الكفارة قياسًا لدفع الانعقاد على قطع المنعقد، وهو في الحقيقة قياس لدافع على دافع، فهو قياس الأدون، وعند أبي حنيفة لا يجب.
ومنها: قتل العمد يوجب الكفارة قياسًا على الخطأ وهو قياس أولى لأنه إذا وجب في الخطأ فالعمد أولى.
وقال أبو حنيفة: لا يجب إذ لا قياس في الكفارات.
ومنها: اليمين الغموس كذلك.
ومنها: إذا قال لامرأته: أنت علي حرام فأصح القولين وجوب الكفارة إذا لم ينو شيئًا، كما إذا قال ذلك لأمته، إذ فيه الكفارة على الأصح أيضًا.
قال الشافعي رضي الله عنه: لأنه تحريم فرجين حلين بما لم يحرمانه.(2/175)
مسألة:
جهد أصحاب الرأي من حيث لا يشعرون فعمموا القول بأن صور الأسباب الشرعية هي المعتبرة في الأحكام دون معانيها وإن وضحت وضوح الشمس.
وخصص الإمام المطلبي رضي الله عنه ذلك بالصور التي تضطرب معانيها أو تخفي أو تدق عن الأفهام وتوجب مزيد الخبط رفعًا للتشاجر كيلا يتسع الخرق بزوال الضبط، وحملًا للحنفية السمحة فيما هذا شأنه واسنحابًا على المعاني وإظهارًا للحكم فيما يلوح وجهه.
ومن ثم تقول: ترخص المسافر دائر مع السفر وجودًا وعدمًا لا مع المشقة لعدم انضباطها وهذا فيما لا ينضبط أو يتعسر الاطلاع على مضمونه.
وأما المنضبط الذي يمكن ظهور معناه؛ فلا سبيل إلى طرحه بالوراء وربما يعبر عن هذا بأنه يجوز التعليل بالحكمة إذا انضبطت كما يجوز بالمظنة.
وعلى الأصل مسائل:
منها: أن المشرقي إذا تزوج بمغربية ثم أتت بولد لمدة ممكنة وهي ستة أشهر فصاعدًا قال الشافعي "رضي الله عنه"1 لا يلحق به لاطلاعنا على مضمون السبب، إذا من بالمشرق لا يحبل من بالمغرب، فلتلغ صورة السبب ويتعلق بمضمونه.
وهذا بخلاف من يراه يدخل على زوجته ويخرج فإنا نلحق به ولدها حيث يمكن كونه منه وإن لم نعلم أنه وطئها إحالة على صورة الفراش لتعذر الاطلاع على المضمون.
أما المشرقي مع المغربية فقد أمكننا الوقوف على مضمون السبب وعلمنا قطعًا أن الولد ليس منه؛ فلم تعتبر صورة للسبب.
وقال أبو حنيفة "رحمه الله": يلحق لوجود صورة السبب وهو الفراش وجعل الإلحاق أمرًا شرعيًا غير منظور فيه إلى الإمكان العقلي.
وقال بعض المتأخرين: إن مأخذه احتمال قرب المسافة بينهما على وجه الكرامة؛ فإنه لا يمتنع في مقدور الله أن يطوي الأرض لولي من أوليائه فيخطو خطوة تعم ما بين المشرقين.
وهذا زلل وحيد عن صورة المسألة فلسنا نعني بصورة المشرقي مع المغربية إلا(2/176)
صورة نعلم فيها انتفاء الوطء، فلو قدر وجوده "استحالت صورة المسألة".
ونظير المسألة أن يتزوج امرأة حاضرة ثم يطلقها من ساعته في مجلس العقد وقد شاهده الحاضرون غير مختل بها ثم تجيء بولد فإنه لا يثبت نسبه منه خلافًا لهم.
ومنها: لو نكح أمه أو أخته أو محرمًا من محارمه أو المطلقة ثلاثة أو المعتدة أو المجوسية ثم وطأها بمقتضى هذا العقد؛ فإنه يحد ولا مبالاة بصورة العقد الخالية عن مضمونه، ولا يصلح شبهة دارئة للحد.
خلافًا لأبي حنيفة حيث اعتقد أن صورة العقد هي السبب المبيح في موضع الوفاق ثم تطرق بذلك إلى جعله شبهة هنا في ردء الحد وإن لم يبح.
ومنها: إذا استأجر امرأة للزنا فزنا بها حد خلافًا لهم أيضًا والمأخذ ما ذكرناه.
مسألة:
قال علماؤنا: حكم الأصل مضاف إلى العلة وعليه المالكية، وقالت الحنفية: مضاف إلى النص، واتفق الكل على أن حكم الفرع مضاف إلى العلة.
ومن ثم مسائل:
منها: التعليل بالقاصرة جائز عندنا لكونها تعرف الحكم المنصوص، ولغير ذلك.
وقالوا: لا يجوز، لأن المنصوص معروف بالنص، ولا فرع فلا فائدة.
ومنها: من شرط العلة أن لا يكون ثبوتها متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل؛ فإنه لو تأخر كان الحكم في الأصل ثابتًا بلا مثبت لأن مثبته العلة أو يلزم أن يكون تعبدًا ثم انقلب معقول المعنى، وذلك لا يضر كما قررت في شرح المختصر.
والخصوم لا يشترطون ذلك؛ لإضافتهم الحكم إلى النص وهو موجود وإن لم توجد العلة، ومن ثم يلزمهم إيجاب النية في الوضوء بالقياس على التيمم وإن كان بعد الوضوء.
ومنها: يحرم قليل النبيذ وكثيره كالخمر.
وقالوا: لا يحرم بخلاف الخمر فإن حرمة الخمر ثابتة بالنص وهو نص عام فشمل قليله وكثيرة بعلة الإسكار وحرمة النبيذ وهو الفرع ثابتة بعلة الأصل وهو الإسكار(2/177)
فلا بد من وجودها فلا يحرم مه قدر لا يسكر.
وقد ذكر ابن الانباري في أول كتاب القياس من شرح البرهان هذه الفائدة لهذا الخلاف مع أن تلميذه ابن الحاجب ذكر في المختصر أن الخلاف لفظي وتعقبناه في شرح المختصر.
مسألة:
العلة القاصرة صحيحة عند الشافعي ومالك وأحمد باطلة عند أبي حنيفة "رحمه الله".
وقد ذكرنا أنها من فروع أن الحكم في الأصل يضاف إلى العلة أو إلى النص؟ ومن فروعها مسائل:
منها: تعليل الربا في النقدين بجوهريتهما أو بتثمينهما.
ومنها: تعيين الماء لرفع الحدث وإزالة الخبث لاختصاصه بنوع لا يشاكره سائر المائعات.
ومنها: أن الخارج من غير السبيلين لا نيقض الوضوء؛ لأن العلة قاصرة على محل النص وهو الخروج من المسلك المعتاد.
واعتقد أبو حنيفة أن العلة في الأصل خروج النجاسة من بدن الآدمي فقال: ينقض بالقصد والحجامة ونحوهما.
ومنها: لا يوجب فطر في نهار رمضان كفارة إلا الفطر بالجماع الوارد في الحديث والعلة مقصورة على الوقاع.
وأعتقد أبو حنيفة عموم الإفساد فعدى الحكم إلى الإفطار بالأكل والشرب.
ومنها: علة وجوب نفقة الأقارب البعضية.
وقال أبو حنيفة: عموم الرحم.
ومنها: من ملك واحدًا من فروعه أو أصوله عتق عليه، وقال مالك: يعتق الوالدان والمولودون والإخوة والأخوات، وقال أبو حنيفة وأحمد: يعتق كل ذي رحم محرم.
فالعلة عندنا البعضية كما في النفقات، والخصوم يحتجون بحديث: من ملك(2/178)
ذا رحم فهو عتيق وفي لفظ: من ملك ذا رحم فهو حر1 ولوصح الحديث لما كان عنه مخلص، ولوجب الرجوع إليه ولكنه وإن رواه أصحاب السنن الأربعة متكلم في إسناده من قبل أن راويه حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب والكلام في سماع الحسن عن سمرة شهير ومن قبل أن حماد انفرد به وشك فيه عن الحسن عن سمرة فيما يحسب حماد ثم إن غير حماد خالفه فيه وروي موقوفًا بإسناد آخر، وقال البيهقي: الحديث إذا انفرد به حماد ثم شك فيه ثم خالفه من هو أحفظ منه وجب التوقف فيه.
مسألة:
التماثل في العلة قد يمنع تأثيرها في عليتها. وهذا أصل لم أجد للأصوليين فيه كلامًا ولكن تلقفته من كلام الفقهاء.
ويتضح بأمثلة:
منها: يجوز اقتداء الأمي بمثله واللاحن لحنًا يغير المعنى بمثله.
ومنها: لو جلل الكلب والخنزير بجلد كلب أو خنزير جاز في الأصح لاستوائهما في غلظة النجاسة.
ومنها: في العيوب المثبتة للخيار إذا كان بكل واحد من الزوجين مثل ما بصاحبه ثبت لكل منهما الخيار على الأصح.
ومنها: لو تحاكم إليه أبوه وابنه فالأصح لا يحكم بينهما.
ومنها: لا يجوز اقتداء من لم يجد ماء ولا ترابًا بمثله على الأصح.
مسألة:
في القياس على الخارج من القياس لمعنى خلاف ذكرته في شرح المختصر.
والذي أراه الآن جزم القول بالقياس عليه بشرط أن يكون عليه أشبه به من غيره؛ فإنه في الحقيقة فرع اجتذبه أصلان فيلحق بأشبههما. ورأى إمام الحرمين عدم القياس عليه وصمم على ذلك في كتبه الفقهية والأصولية.
ثم قال: وقد حكى الوجهين فيمن تنفئل مضطجعًا مع العجز عن القعود ومن يجوز
__________
1 أخرجه أحمد في المسند 5/ 20 وأبو داود 4/ 26 في العتق "3949" والترمذي 3/ 646 في الأحكام "1365" وابن ماجة 2/ 843 في العتق "2524" والحاكم 2/ 214 وصححه وأقره الذهبي.(2/179)
الاضطجاع يجوز الاقتصار في الأركان الذكرية كالتشهد والتحكبير وغيرهما على ذكر القلب.
قال الإمام: وهذا يضعف الوجه الثاني من أصله وإن ارتكبه من صار إليه كان طاردًا للقياس؛ لكنه يكون خارجًا عن الضبط مقتحمًا.
قلت: ووجه خروجه واقتحامه قياسه على صورة خارجة عن القواعد وهي تجويز صلاة القادر على القعود مضطجعًا لكن ذلك هو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن صل نائمًا فله نصف أجر القاعد" 1.
فإن قلت: فيلزمك ما التزم به الإمام من تجويز ذكر القلب.
قلت: لا يلزمني ذلك لا على رأي ولا على رأيه أما على رأيه فلأنه قياس على صورة مستثناة، وأما على رأيي فلما قاله الرافعي من أنه لا يلزم من جواز الاقتصار على الإيماء في الأفعال جواز الاقتصار على ذكر القلب فإن الأفعال أشق من الأذكار فهي بالمسامحة أولى.
فإن قلت: الإمام قد بين أن العكس أولى فإن ذكر القلب إلى قراءة اللسان أقرب من إجراء إرسال الأفعال في ذكر مجرى صورتها فعلًا لأن من الناس من يقول إن حقيقة الكلام الفكر القائم في النفس.
قلت: كذا اعترض به ابن الرفعة على الرافعي، ولكن عندي [فيه] 2 نظر فإن ذكر اللسان مطلوب في الصلاة كالأفعال، ومن لم يذكر لسانه لم يأت بذلك المطلوب كمن لم يفعل بجوارحه ففواتهما واحد وذكر اللسان أخص فكان الفعل بالتسامح أولى، وإن كان ذكر القلب أقرب إليه.
إذا عرفت هذا فاعلم أن كثيرًا من الحنفية على هذا الرأي وهو عدم القياس على معقول المعنى الخارج عن القياس.
ومنشأ [الخلاف] 3 بيننا وبينهم من أجل ذلك في مسائل:
__________
1 البخاري 2/ 586 في تقصير الصلاة حديث "1116".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" النزاع.(2/180)
منها: تخالف المتبايعين والسعلة هالكة فجوزناه قياسًا على القائمة مع أن فيه حديثًا.
ومنعوه زاعمين أن الحديث إنما ورد في القائمة وأن التخالف من أصله على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص.
ومنها: تتحمل العاقلة ما دون أرش الموضحة؛ لأن المقادير متساوية بالنسبة إلى الجناية والنسبة إلى العاقلة بالتحكم بالتخصيص محال.
وعندهم لا يضرب على العاقلة لأن الضرب على العاقلة خارج عن القياس فلا يقاس عليه.
وقد ذكرنا في شرح المختصر مسألة العرايا فلا نعيدها.
ومن المسائل المختلف فيها بين أصحابنا المبنية على هذا الأصل أن من أفطر لإنقاذ مشرف على الهلاك بالغرق ونحوه ولم يمكنه تخليصه إلا بالفطر فالأصح أنه يلحق بالمرضع؛ لأنه قطر ارتفق به اثنان فكان كالحامل والمرضع.
والثاني: لا، لأن الفدية مع القضاء خلاف القياس فيقتصر على ما ورد.
ومنها: للمالك في الجيران في الزكاة صعود درجتين وأخذ جبرانين ونزول درجتين ودفع جبرانين بشرط تعذر درجة.
وقال ابن المنذر: لا تجوز الزيادة على جبران واحد كما ثبت في الحديث؛ فلا يتعداه فإنه خارج عن القياس.
ورد عليه الأصحاب بأن هذا في معنى الخارج مع اتفاقهم على أنه لا مدخل للجبران في البقر والغنم؛ لأنه إنما ورد في الإبل [وهو] 1 على خلاف القياس.
قالوا: فيقتصر فيه على مورد النص.
ومنها: قطع نبات الحرم إلا الأذخر لا يجوز والعلة في تجويز الأذخر حاجتهم لتسقيف بيوتهم وقبورهم؛ فلو احتيج إلى قطع غير الأذخر للدواء قال الرافعي: فوجهان ورجح الجواز.
__________
1 سقط في "أ" والمثبت من "ب".(2/181)
واعلم أن الرافعي جعل محل الوجهين في جواز القطع وحكاهما عن الشيخ أبي علي في شرح التلخيص.
وقد أتبع في ذلك الإمام الغزالي والذي في شرح التلخيص للشيخ أبي علي الجزم بجواز القطع؛ وإنما حكى الوجهين في وجوب الجزاء.
مسألة: اعتبر الشافعي رضي الله عنه قياس علية الأشباه وهو أن يجتذب الفرع أصلان ويتنازعه مأخذان فينظر إلى أولاهما به وأكثرهما شبهًا فيلحق به وعليه نص في الأم، وقد حكيت نصه في شرح المنهاج وعليه فروع.
منها: لفظ الظهار دار بين أصلين القذف والطلاق فلو قال: عينك طالق طلقت كيدك وجسمك، فلو قال: زنت عينك فالمذهب أنه كناية وقيل صريح.
ولو قال: أنت على كعين أمي ولم يرد الكرامة ولا الظهار بل أطلق فالأصح يحمل على الإكرام تغليبًا.
ومنها: الخلع من جانب الزوج معاوضة فيه شوب التعليق وقد يغلب التعليق. قال القاضي الحسين: وذلك في ثلاث مسائل ومن جانب الزوجة معاوضة فيها شوب الجمعالة.
ومنها: زكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقرابة والكفارة تتردد بين العبادة والعقوبة والحوالة بين الاستيفاء والاعتياض، واللعان بين اليمين والشهادة والجنين بين أعضاء الأم وإنسان منفرد، وقطع الطريق بين حق الله تعالى وحق الآدمي والمسابقة بين الإجارة والجعالة، والإقالة بين الفسخ والبيع و [الرجعية] 1 بين الزوجة والبائن وغير ذلك.
وعليه ينبني مسائل خلافية ومذهبية.
ومن المذهبية غير ما ذكرناه عنفقة الرجل الكثيفة تتردد بين نادر الكثافة كالشارب وغالبه كلحية الرجل، والأصح إلحاقها بالنادر.
ومها: قيام الصابون والأشنان في الغسل من الولوغ مقام التراب متردد بين
__________
1 في "أ" الرجعة والمثبت من "ب".(2/182)
إلحاقه بالتيمم فلايقوم وهو الأظهر أو بالدباغ والاستنجاء فيقوم.
ومنها: الخلاف في استيعاب الجبيرة بالماء ووجوب التيمم وتأقيت مسحها فإن منشأه أن المسح أخذ شبهًا من أصلين.
أحدهما: المسح على الخفين؛ لأن ما تحت الجبيرة صحيح يمكن غسله.
والثاني: الجرح إذا خاف من غسله التلف لوجود الخوف عند نزع الجبيرة فمنهم من غلب شبه المسح على الخفين ومنهم من غلب شبه الجرح.
ومنها: المكاتب من حيث استحقاقه للعتاقة أشبه المستولدة فيمتنع بيعه وهو الجديد ومن حيث توقف عتقه على صفة أقامها السيد المعلق عتقه فيجوز بيعه وهو القديم.
ومنها: لحوم الحيوانات من حيث الاشتراك في الاسم جنس والاختلاف يشبه اختلاف أنواع الرطب والعنب.
ومن جهة أنها فروع أصول مختلفة أجناس كما في الأدقة وهو الأظهر والفروع في هذا الباب كثيرة، ولو قال: إن غالب المسائل المقيسة منه لما كان مبعدًا.
تنبيه:
هذا الذي ذكرناه في فرع تنازعه أصلان هو بأحدهما أشبه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فلا طريق إلا التخيير إذ لا يمكن الجمع بينهما، وليس أحدهما بأولى من صاحبه.
وهذا مثل نذر اللجاج والغصب فإنه أخذ شبهًا من أصلين من نذر المجازاة لأنه التزم طاعة ومن اليمن لكونه منعًا للنفس من فعل أو ترك -فخير بين موجبهما وهو الوفاء بما نذر أو كفارة يمين وهذا هو الأصح.
تنبيه آخر:
هذا الذي ذكرناه في فرع يتجاذبه أصلان يتنازعانه ورب فرع سالب يصنعه أصلان يتعاضدانه، وهذا هو القياس المركب وهو أن تجتمع العلتان المتنازع فيهما في الأصل على فرع فيتفق الخصمان على القول به هذا لعلة وهذا لعلة.
كما يتفق [الإمامان] 1 على أن البكر الصغيرة لا تجبر لكن الشافعي "رضي الله
__________
1 سقط في "ب".(2/183)
عنه"2 يقول: لا تجبر لكونها بكرًا وأبو حنيفة يقول: لكونها صغيرة "وهو من أعقد أبواب القياس وأحسن أقسام الجدل".
تنبيه ثالث:
قدمنا الخلع وهو من جانب الزوجة معاوضة فيها شوب الجعالة بأي صيغة أوردته.
وأما من جانب الزوج إن جعل فسخًا فمعاوضة محضة وإن جعل طلاقًا فقال: خالعتك بألف أو كانت الصيغة "طلقتك بألف" فمعاوضة فيها شائبة التعليق؛ فله الرجوع قبل قبولها، خلافًا لأبي عاصم العبادي، وتقبل باللفظ على الفور بكل العوض.
فهذه أربع مسائل غلب فيها جانب المعاوضة.
قال القاضي الحسين: ولم يغلب جانب المعاوضة إلا فيها.
فلو قبلت به بعض العوض كواحدة من ثلاث فيقع كله به على الأصح، وقيل: لا يقع شيء، وقيل: يقع المقبول بمهر المثل.
وإن كانت متى أو أي وقت أعطيتني ألفًا فأنت طالق، فتعليق فيه شوب العوض فلا رجوع ولا قبول ولا فور.
وهذه هي الثلاث مسائل التي غلب فيها جانب التعليق وإن زاد مثل متى وأي.
غير أن صاحب التتمة قال: تعجل الحرة العوض وكذا الأمة إذا كان التعليق في التعجيل بنحو زق خمر، وأما إذا كان بنحو ألف فالأمة لا تملك فلا تعجيل.
وحكاه الرافعي ساكتًا عليه ونازع فيه ابن الرفعة وصوب الشيخ الإمام كلام صاحب التتمة.
إذا علمت هذا فقد ظهر لك أن للزوج الرجوع؛ حيث كان معاوضة لا حيث يكون تعليقًا وهو واضح.
وقضيته أن للزوجة الرجوع قبل قبول الزوج بكل صيغة يأتي بها لأنه من جهتها معاوضة بكل حال، وبذلك صرح الرافعي تبعًا للغزالي.
قال ابن الرفعة: وقد رأيت في الأم ما ينازع في جواز الرجوع إذ قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا كانت لرجل فقالتا له: طلقنا بألف لك علينا فطلقهما في(2/184)
ذلك المجلس لزمهما الطلاق وهو بائن وساق الكلام إلى أن قال: وإن أرادتا الرجوع فيما جعلتا له في وقت الخيار لم يكن لهما.
وكذلك لو قال لهما: إن أعطيتماني ألفًا فأنتما طالقتان ثم أراد أن يجرع لم يكن له ذلك في وقت الخيار.
قال الشيخ الإمام: وقد رأيت ذلك في الأم والرافعي والغزالي جزمًا بالرجوع، فلينظر ما يقتضيه كلام بقية الأصحاب، ولا أجسر أقول: الفقه ما قالاه.. لعظمة كلام الشافعي رضي الله عنه.
قلت لم يستوف الشيخ الإمام رحمه الله النظر في هذا النص؛ لأنا كنا نستحثه في آخر الوقت على تكملة شرح المنهاج خشية اخترام المنية، وكان يقتصر على ما يراد منه مما لا يوجد إلا عنده من المباحث التي تثيرها فكرته الظاهرة.
وأقول: هذا مكان مبهم ونص مشكل، والذي ذكره الغزالي والرافعي هو الذي ذكره الروياني في البحر والمتولي في التتمة وغيرهما وصرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام في مختصر النهاية وقال: هذا أسوأ. طلقني غدًا بألف، أو إن طلقتني غدًا فلك ألف، ولعله أوضح من أن ينبه عليه.
وهذا النص وإن كان كما نقله ابن الرفعة والوالد فيجب تأويله غير أني لست على ثقة منه؛ فإني وقفت عليه في كتاب المبسوط للبيهقي رحمه الله فوجدته قد حكاه فقال: مسألة في خلع امرأتين: قال الشافعي في كتاب الخلع والنشوز: وإذا كانت لرجل امرأتان إلى أن قال بعد أن ذكر أن له أن يطلق الواحدة في وقت الخيار دون الأخرى، قال: وله أن لا يطلقها في وقت الخيار ولا بعد إن أراد الرجوع فيما جعلنا له وقت الخاير ولم يكن لهما قال البيهقي وفي نسخة أخرى ولم يجعل لهما انتهى.
قلت فاختلاف النسخ مع عدم انتظام الكلام مما يوجب الحيد عن هذا النص ولم أره في عيون المسائل لأبي بكر الفارسي؛ فلعله تركه قصدًا للاضطراب فيه وإلا فهو يستوعب روايات الربيع، وهذا منها لأنه من الأم، وهي رواية الربيع.
ومن العجب أني رأيت المرعشي فيترتيب الأقسام قد أتى بكلام يشابه هذا النص ظاهره أنه ليس لها الرجوع ما هو ظاهر النص.(2/185)
فصل:
مما دار بين أصلين الحمل أشبه بعض الأم وأشبه آدميًا مستقلًا".
ولك أن تقول: أشبه المعدوم وأشبه الموجود ومن ثم اختلف في أنه هل يعلم أولًا؟ ومما قيل: هل له حكم أم لا؟
والعبارة الأولى أكثر تحريرًا؛ فإنه يرث إجماعًا فكيف لا يكون له حكم!
ومن ثم قال أبو علي فيما نقل صاحب العدة فيما إذا أوصى للحمل بشيء هل يقبله الأب "جرت هذه المسألة بيني وبين القفال: فقال: لا يصح ويجب قبوله بعد خروجه من البطن لأنه لا حكم له ما لم يخرج فقبوله في وقت لا ندري أله حكم لا يقع كما لو أوصى لرجل بشيء والموصي له غائب فقبل الوصية ولم يعلم هل مات الموصي لم يصح، وإن كان مات فقبلت فيها قولان، كما لو باع مال أبيه ولم يعلم أنه ميت فكان ميتًا ولو جعلت المسألة على وجهين بناء على أن الحمل هل يعرف [أم لا] 1 لم يبعد.
ولو ثبتت الشفعة في شيء فأخذه الأب ثم خرج حيًا صح الأخذ على أحد الوجهين؛ فإن صحت الشفعة فالوصية أولى.
وحكي عن ابن سريج أنه لا يجوز أخذ الشفعة للحمل حتى يولد.
قلت: إن تم ما قاله أبو علي وكان طريقه قاطعة بأن قبول الأب لا يصح ولا يخرج على العلم لزم أن يقال: قد يعلم ولحكن لا حكم له؛ فتكون مسألة هل له حكم غير مسألة هل يعلم. ومن المباحث في الحمل أيضًا أنه هل يقابله قسط من الثمن إذا باع حاملًا مثلًا.
وفيها خلاف معروف ذكره الرافعي في مسائل بيع وشرط فيما إذا شرط أن تكون حاملًا وخرج على أنه هل يعلم وهل هو عيب ونقص.
وقد قالوا في الزكاة ليس بعييب، وفي الأضحية عيب؛ لأنه يهزل اللحم وقال الرافعي في البيع: إنه عيب يرد به المبيع. وفي هذه المواضع إشكالات في المنقول لسنا لها الآن وهل يتبع أمه فيما يتجدد لها من الأحكام فيتبع قطعًا في البيع والعتق، ثم هو في العتق تابع ولا يعتق بالسراية.
__________
1 سقط في "ب".(2/186)
قال الرافعي: لأن السراية في الأشقاص لا في الأشخاص ولا يتبع قطعًا فيما إذا كان الحمل لواحد والأم لآخر.
ومن ثم مسائل اختلف فيها هل يتبع؟
منها: [لو اشترى] 1 المعيبة ثم اطلع المشتري على عيبها ولم ينقص بالحمل أو كان الحمل في يد البائع فردها المشتري؛ فإن قلنا: الحمل يعرف ويأخذ قسطًا بقي للمشتري فيأخذه إذا انفصل وإلا فهو للبائع ويكون تبعًا للأم عند الفسخ كما يكون عند الرد.
ومنها: لو وقف للحامل مملوك. قال ابن الصباغ إن قلنا: للحمل حكم كان الولد وقفًا؛ وإلا فوجهان.
ومسائل كثيرة: هل النفقة للحمل أو للحامل؟ فيه قولان. وهل يتصور للجنين ملك؟ الظاهر ذلك، ويدل عليه قولهم في باب الغرة أنها لورثة الجنين.
وهل يتصرف الحاكم في مال الأجنة؟ نقل الغزالي عن القفال أنه ليس له ذلك، قال: والصحيح أن له ذلك ذكره في ميراث الحمل.
وجزم ابن الرفعة في كتاب الزكاة بأن القضاة لا ينصبون القوام للتصرف في أموال الأجنة بل هو موقوف، ولا مخالقة بين الكلامين.
وهل على الجنين نفقة أمه؟ قال الرافعي في النفقات في الفروع المبنية على أن النفقة للحمل أو للحامل: قال ابن كج: إذا كان الحمل موسرًا وقلنا: النفقة له فيؤخر إلى أن تضع، فإذا وضعت سلمت من ماله إلى الأم كما ينفق عليه. قال: ويحتمل عندي أنها على الأب، وإن قلنا: يجب التعجيل فلا يؤخذ من مال الحمل المسألة فلينظر.
وكل هذه الأصول راجعة إلى أن الحمل هل يعلم ويعطي حكمًا؟
فصل:
في مسائل من الشبه الصوري والحكمي؛ منها في جزاء العبيد، ومنها في الأطعمة إذا لم يعلم من العرب استطابة شيء ولا استخباثه اعتبر بأقرب الأشياء شبهًا به قال الأصحاب والشبه تارة في الصورة وأخرى في طبع الحيوان وأخرى في طعم اللحم
__________
1 في "ب" إذا حملت.(2/187)
قلت: واعتبار طعم اللحم موقوف على ذوقه الموقوف على حله إلا أن يراد ذوقه وإن عرف لا بطريق حلال ومنها: وجوب رد المثل الصوري في الفرض على وجه صححه ومنها: في باب الربا المماثلة كيلًا ووزنًا فما لم تكن مكيلًا ولا موزونًا يعتبر فيه عادة الحجاز؛ فإن لم يكن فيه عادة ففي وجه يعتبر أشبه الأشياء به في الحجاز ومنها: اعتبار دواب البحر بالبر ففي وجه ما أشبه حرام البركان حرامًا ومنها أعطاء العصير أو الخل عن الخمر في الصداق والخلع ونكاح المشركات ومها على وجه فيمن قتل بخمر أو لواط أنه يسقي ماء ويخسر خشبة رعاية المماثلة ومنها إلحاق الحر بالعبد في الحكومات، ومنها أبعاض العبد التي لا تتقدر أرشها من الحر بما نقص من قيمته كنحول الجسد وكذا في الغصب إن أتلفت فكذا في القديم إلحاقًا له بالبهيمة؛ لأنه يضمن باليد ولا يحمله العاقلة وعلى الجديد يتقدر من الرقيق والقيمة فيه كالدية في الحر من حيث أنه يضمن بالقصاص وتجب فيه الكفارة ويحلف وتقام عليه الحدود وإذا دار فرع بين أصلين أجرى عليه حكم أكثرهما شبهًا به وهو الحر فيما نحن فيه فلم نقدم هنا الشبه الصوري لمجرده بل لاعتضاده بأكثر الأحكام.
قال الشافعي رضي الله عنه: يقول سعيد بن المسيب: جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من دينه.
مسألة:
الصحيح أنه يشترط كون العلة ضابطًا لحكمة وقيل: يجوز كونها نفس الحكمة، وقيل إن انضبطت كانت هي العلة أو علة العلة؛ فهذا القول خارج عن محل النزاع، إذا عرفت هذا فمن محاسن الشرع ضبط الأحكام بالأسباب الظاهرة وإقامتها عللًا يدور الحكم معها وجودًا وعدمًا، والعدول عن الأسباب الخفية وإن كانت هي الحكم ولها مناط الحكم بالأصالة لعسر انضباطها وما تؤدي إليه محاولته إليه من المنازعة.
وقد تكلم الرافعي على هذه القاعدة في أول باب العدد؛ فقال: قال الأئمة لما كانت عدة الطلاق لطلب البراءة لم يجب بالفراق عن مطلق النكاح؛ بل اعتبر جريان سبب شغل الرحم ليحتاج إلى معرفة براءته، ثم لا يعتبر تحقق الشغل ولا توهمه؛ فإن الإنزال خفي يختلف في حق الأشخاص، وفي الشخص الواحد باعتبار ما يعرف له من الأحوال فيعسر تتبعه ويقبح، فأعرض الشرع عنه واكتفى بسبب الشغل وهو الوطء ومن الوطء بتغيب قدر الحشفة وهذا صيغة في تعليق الأسباب بالمعاني الخفية ألا ترى أن(2/188)
الاعتقاد الصحيح الذي هو مطلوب وبه تحصل النجاة لما كان أمرًا خفيًا لكونه في الضمير علقت الأحكام بالكلمة الظاهرة حتى لو توفرت القرائن الدالة على أن الباطن مخالف للظاهر كما إذا أكره على الإسلام بالسيف لا ينال بها وندير الحكم على الكلمة وإن مناط التكليف وهو العقل والتمييز لما كان خفيًا يحصل على التدريج ويختلف باختلاف الأشخاص والأحوال أعرضنا عن تتبعه وعلقنا البلوغ بالسن والاحتلام. انتهى.
ومراده بالذي يصح إسلامه وإن أكره بالسيف الحربي أما الذمي فالصحيح عنده أنه لا يصح إسلامه مكرهًا.
وإذا ظهر لك أن التعليق بالظاهر المنضبط دأب الشرع دون الخفي المضطرب.
ولك أن تقول: التعليق بالظاهر لانضباطه أولى من الخفي لاضطرابه.
ثم يختلف الظهور والخفاء؛ فقد يطلب من الظهور في حق شخصين ما لا يطلب في حق شخص واحد لكونه أخبر بنفسه، وفي حق أشخاص ما لا يطلب في حق شخصين.
ألا ترى إلى منع انعقاد النكاح بالكنايات لجريانه بين موجب وقابل وشاهدين، وثبوت الطلاق والعتاق والإبراء بالكناية لاستقالال المرء بها والتردد في البيع على وجهين لاحتياجه إلى شخصين موجب وقابل.
ومن ثم ظهر لك أن الأب إذا اشترى مال ابنه من نفسه أو بالعكس انعقد بالكناية ولا يطرقه الخلاف فيما يظهر، ولأجله قيل: تكفي فيه النية ولا يحتاج إلى لفظ مطلقًا وهو وجه حكاه الماوردي.
ومن الأمور المتعلقة بالظواهر المنضبطة كلمة الإسلام والبلوغ ومطلق تغيب الحشفة حيث يطلب الوطء كما ذكر الرافعي فكل حكم تعلق بالوطء كفى فيه تغييب الحشفة من الغسل والزنا والتحليل والعنة واستقرار المهر؛ وهكذا إلى نحو من مائة حكم ومنها: البيع مناطه الرضا، ولما كان أمرًا باطنًا لا يطلع عليه نيط بالإيجاب والقبول.
ومن ثم تبين لك ضعف القول بانعقاد البيع بالمعاطاة على أنه بيع، والقائل به يعتذر بتوفر القرائن فيه؛ وإنما بيع، لأني أميل إلى أنه مسامحة.(2/189)
ومنها: رخص السفر حكمتها المشقة وهي مضطربة تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فنيطت بالسفر وضبطت به إما بطويلة وقصيرة على الخلاف فيه، وأمثلته تكثر.
وإذا تقرر هذا الأصل ظهرت قوة الوجه الذي حكاه صاحب التتمة في أن استدخال المرأة ماء من تظنه زوجها لا يوجب العدة إعراضًا عن النظر في العدة1 إلى شغل الرحم وإدارة الحكم على الإيلاج، غير أنا نجيب عنه بأن استدخال الماء ظاهر في شغل الرحم فيحتاط فيه للإبضاع.
فإن قلت: فيلزمكم إقامة الخلوة مقام الدخول في تقرير الصداق كما هو القديم.
قلت: أين الخلوة من استدخال الماء!
فائدة:
ما ذكرناه من التعليق بالمنضبط هو فيما إذا أمكن؛ فإن المصالح والمفاسد التي هي حكم الأحكام -ضربان: محدد منضبط كالقتل والقطع وغير منضبط وفي هذا القسم لا يمكن أن يتعلق بمنضبط.
وذلك كالتعزيرات، والمشاق المبيحة للتيمم والانتقال من قيام الصلاة إلى قعودها إلى الاضطجاع إلى الإيماء والأعذار المبيحة لمحظورات الإحرام.
وقدر الغضب المانع من الإقدام على الأحكام، والمرض المبيح للإفطار في الصيام.
فهذه ومثلها أمور يشرق فيها نور الله على المجتهدين ولا يمكنهن ضبطها وإنما يحاولون قدرًا من التعريف.
وعندها تتبين مقادير الرجال ودرجات المتورعين وأحوال المحتاطين لدينهم.
والظاهرية في هذا الباب يتعلقون بمجرد الاسم ويكتفون بأقل ما ينطبق عليه.
قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام في قواعده الصغرى: خلصت الظاهرية من هذا الإشكال.
__________
1 في هامش "أ" ما لم يطلب في حق شخص واحد لكونه أخبر بنفسه في حق أشخاص ما لم يطلب في حق شخصين.(2/190)
قلت: وفاتهم به من دقائق الفقه4 وفهم مقاصد الشريعة أمر عظيم.
مسألة: إذا قطع بانتفاء الحكمة في صورة من الصور ففي ثبوت الحكم خلاف.
قال الغزالي وتليمذه محمد بن يحيى: يثبت الحكم للمنضبطة فإن الحكم قد صار معلقًا بها ولا نظر بعدها إلى الحكمة.
وقال الجدليون: لا يثبت لانتفاء الحكمة فإنها أصل العلة وعلى هذا مسائل.
منها: قول الرجل لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من أجزاء حيضك فالأصح أنه سني نظرًا إلى الحكمة في تحريم طلاق الحائض وهي تطويل العدة فقد قطعنا بانتفائها في هذه الصورة إذ لا طول.
ومن نظر إلى العلة وهي الحيض جعلها بدعيًا، لوقوعه في الحيض والناظرون إلى أن العلة في هذا المحل ظاهرية أهل القياس.
وقد أشار إلى هذا البناء ظاهرية أهل القياس.
ونظير المسألة: عكسها وهي ما إذا قال: أنت طالق مع آخر طهر لم أطأك فيه.
فإن قلنا: الانتقال من الطهر إلى الحيض قرء؛ فهي سني لمصادقة الطهر والشروع في العدة.
وإن قلنا: ليس قرءًا فعلى الوجهين السابقين من نظر إلى الحكمة وجعله في الصورة السابقة سنيًا جعله هنا بدعيًا لتطويل العدة ومن عكس فهو يعكس هنا.
وحكم ابن سريج بأنه يدعي في الصورتين عملًا بالأغلظ وكأنه يجعل الحكم دائرًا مع أي الأمرين وجد من حكمة ومظنة.
ومنها: طلاق الحامل إذا كانت حائضًا جائز كما لو لم تكن حائضًا لأن تطويل العدة منتف؛ فإن عدتها بالوضع.
قال أبو إسحاق: لو كانت ترى الدم وجعلناه حيضًا فقال لها: أنت طالق للسنة لا يقع عليها طلاق حتى تطهر.
قال الرافعي: وعلى هذا فللحامل حال بدعة كما للحائل.
ومنها: منع الراهن من وطء الجارية المرهونة خشية الحبل وإن كات ممن لا(2/191)
تحبل على الصحيح؛ فلو قطع بعدم الحبل كما لو كان سنها أقل من تسع سنين -قال ابن أبي عصرون تفقهًا: لا يمنع وجوزه الولد.
قلت: وفيه نظر ذكرته في ترشيح التوشيح.
مسألة:
اختلف في تعليل الحكم العديم بالوصف الوجودي. ويعبر عن ذلك بأن العلة لانتفاء الحكم هل يكون وجود مانع أو انتفاء شرط من غير نظر إلى وجود المقتضى.
وهذا هو الراجح عند الإمام الرازي وأبي عمرو بن الحاجب. واختياري في جمع الجوامع أولًا يجوز التعليل بها عند انتفاء المقتضى؛ لأن الإحالة عليه أولى وهذا هو الراجح عند الآمدي واختياري في شرح المختصر والذي أراه الآن جواز التعليل بالمانع لمن لم يدر بانتفاء المقتضى سواء أظن وجوده أو علل بالمانع على تقدير وجود المقتضي.
وعدم جوازه إن علم بانتفاء المقتضى فإن إسناد الحكم إليه أولى فإذا قتل الأب ولده قتلًا شككنا في أنه صدر عن خطأ أو عمد قلنا: لا قصاص عليه لأبوته المانعة من وجوب القصاص؛ سواء أقام المقتضى وهو قتل العمد أو لم يقم.
غير أن المانع عند قيام المقتضى قاطع لعلمه وعند انتفائه لا وقع له لاستبداد المقتضى بإثارة انتفاء الحكم.
ومن ثم نقول: الأب عند القتل العمدآت بما يقتضي قصاصًا؛ غير أن الشارع درأه عنه لحكمة رآها:
وبه يصح قول الغزالي: الأب مكافئ للابن لأنه مكافئ للعم والعم مكافئ للابن، ومكافئ المكافئ مكافئ.
وتردد الأصحاب في الشيخ الهرم هل يتوجه عليه الخطاب بالصوم ثم ينتقل إلى الفدية للعجز أم يخاطب بالفدية ابتداء؟ وبنوا عليه خلافًا في أنه لو نذر في حال العجز صومًا هل ينعقد نذره؟(2/192)
كتاب الاستدلال:
تقدم الكلام في الاستصحاب أول الكتاب
مسألة:
قول الصحابي غير حجة على القول المنصور، وقال أبو حنيفة: حجة وعليه مالك وأحمد على أصح الروايتين.
وفيه مسائل:
منها: مسألة العينة وهي السلف وصورتها: أن يشتري ما باعه بأقل مما باعه قبل نقد الثمن قال الشافعي رضي الله عنه: يصح طردًا للقياس.
وقالوا: لا يصح تمسكًا بإنكار عائشة رضي الله عنها وذلك في قضية زيد بن أرقم وقولها: إنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب رواه أحمد والدارقطني.
واعلم أن القوم لا تنتهض لهم حجة بهذا الحديث، ولم يسلم لهم الاحتجاج بقول الصحابي فإن الشافعي رضي الله عنه ذكر أنه لا يثبت مثله عن عائشة رضي الله عنها.
قلت: وفيه ما ينبه على عدم ثبوته وهو قولها: إنه أبطل جهاده ولم يقل أحد إن من يعمل بالعينة يحبط عمله فلم يقولوا بمقتضى ما رووا.
مسألة: دلالة الاقتران غير حجة خلافًا لأبي يوسف والمزني وفيه فروع
منها: قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} فمن جمع بين إيجاب الكتابة والإيتاء إثباتًا. كما هو قول مجلي عن صاحب التقريب فيما إذا طلب العبد الكتابة ونفيًا كما هو مذهب بعضهم، لم يرد عليه دلالة الاقتران.(2/193)
ومن قال: لا تجب الكتابة ويجب الإيتاء وهو جادة مذهب الشافعي رضي الله عنه لم يبال بدلالة الاقتران وقال: لا حجة فيها.
وقال إمام الحرمين: لم أر على مذهب الشافعي رضي الله عنه مسألة أصعب مسلكًا من مسألة الإيتاء.
ومنها: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير} مشهور المذهب أنه لا يجب الإطعام ولا يجب الأكل.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: [حتيه] 1 ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء.
قال الشافعي رضي الله عنه: الماء متعين لإزالة النجاسة ولم يبال باقترانه بما ليس بواجب -وهو الحث والقرص.
مسألة:
الاستحسان قال به أبو حنيفة رضي الله عنه، واشتد النكير عليه سلفًا وخلفًا حتى قال الشافعي [رضي الله عنه] فيما نقل عنه الثقات: من استحسن فقد شرع.
وأنا لم أجد إلى الآن هذا في كلامه نصًا ولكن وجد في الأم في الإقرار والاجتهاد ما يدل على أنه يطلق على القائل به أبلغ من الاستحسان فلقد قال في هذا الباب: إن من قال بالاستحسان فقد قال قولًا عظيمًا ووضع نفسه في رأيه واجتهاده واستحسانه على غير كتاب ولا سنة موضعها في أن يتبع رأيه كما ابتغاه، وفي أن رأيه أصل ثالث أمر الناس باتباعه.
وهذا خلاف كتاب الله عز وجل لأن الله تعالى إنما أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال رضي الله عنه ما حاصله: أن المستحن لا يتمسك بخلاف القايس، وإن القايس كان لا يأمن الخطأ إلا أنه برجوعه إلى أصل من كتاب وسنة مؤد لفرضه بخلاف المستحسن. وأطال في ذلك بحق من القول.
ثم قال: فإن قال قائل: هذا ممن يعقل ما تكلم فتكلم به بعد معرفة هذا، فأرى للإمام أن يمنعه، وإن كان غبيًا علم حتى يرجع. واعلم أن القوم لما اشتد عليهم النكير في الاستحسان أخذوا في تفسيره بأمور لا خلاف فيها، وقد عرفت في كتب الأصول.
__________
1 سقط في "ب".(2/194)
والذي اعتقده في تفسيره أن المعنى به. ما تشتهيه نفس العالم وتميل إليه من غير تعلق بأصل موجود يجده.
وهو قريب من تفسير من فسره بأنه دليل ينقدح في نفسه المجتهد تقصر عنه عبارته.
غير أن صواب العبارة عن هذا أن يقال: مظنون لأنه لا يتحقق كونه دليلًا إلا بعد المعرفة بعينه، فهذا هو الذي اعتقد أن القائل بالاستحسان من القدماء عناه، وإياه أنكر الشافعي رضي الله عنه وألزمه أن يستحسن كل أحد بعقله وأن يستوي العالم والجاهل إلى غير ذلك من إلزامات ذكرها في الأم في مواضع عديدة.
وما تفسيره بخلاف هذا الذي أنكره الشافعي رضي الله عنه فعادتهم التفسير كما قال إمام الحرمين في باب أدب القضاء.
إن التعبير حينئذ عما قامت دلالته بالاستحسان على نهاية السخافة والعباثة؛ فإن قبول الدليل حتم ولا محيد عنه.
قال: والاستحسان يشعر بتردد وميل خفي إلى جانب.
قال: ومعظم قواعد الاستحسان استصلاح جلي أو خفي لا أصل له في الشريعة، ومعنى قول صاحب مقالة "الاستحسان مقدم على القياس" أن القياس الجاري على وفق قواعد الشريعة يؤخر عن استصلاح لا أصل له في الشريعة.
قال: وقد عبر الشافعي عن غور هذا الفصل بكلمات وجيزة إذا قال: من استحسن فئقد شرع. انتهى.(2/195)
كتاب الترجيح:
مسألة: إذا تعادلت الأمارتان فالتخيير والتساقط والوقف أقوال يتخرج مسائل
منها: إذا اتفق فرضان في نصاب كالمائين فيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون اختيار الشافعي أنفعهما للمساكين، وقال ابن سريج تخريجًا: يتخير، لتعادل الإمارتين.
والأولى أصح كما إذا دل دليل على إيجاب شيء، ودليل على إيجاب شيئين أخذ بالزائد، ثم على رأي ابن سريج يستحب للمالك إخراج الأغبط إلا أن يكون ولي يتيم فيراعي حظه وهنا أيضًا، تعادل شيئين لكنه رجح النظر إلى اليتيم لكونه معينًا.
مسألة:
"الخاص" يقضي على العام ويقدم عليه عند التعارض" ومن ثم مسائل فقهية:
منها: إذا لم يجد المحرم إلا صيدًا وميتة يقدم الصيد في الاجتناب [على] 1 الميتة ويأكلها على [الاضطرار] 2 لأن تحريم الصيد [خاص بالمحرم وتحريم الميتة عام في الحاج وغيره فكان] 3 تحريم الصيد [أولى] 4 بالاجتناب لا دلائه بالخصوصية.
ومنها: السفينة إذا وثبت فيها سمكة في حجر إنسان فهي له دون صاحب السفينة، لأن حوزه إياها أخص من حوز صاحب السفينة لأن حوز صاحب السفينة يشمل هذا الرجل وغيره، وحوز هذا الرجل [لا يتعداه] 5؛ فهو أخص بالسمكة من صاحب السفينة.
__________
1 في "ب" عن.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 سقط في "أ" والمثبت من "ب".
5 في "ب" يتعد له.(2/196)
ومنها: إذا لم يجد المصلي إلا ثوبًا نجسًا وثوبًا حريرًا يصلي [في] 1 الحرير على الصحيح فيهما.
مسألة: التخصيص أولى من المجاز
ومن ثم مسائل:
منها: لو وقف في موات وإمامه في مسجد وحال بينهما جدار لا باب فيه أو فيه باب مغلق أو مفتوح ولكن لم يقف قبالته منع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" خرج منه ما عدا هذه الصورة بدليل يبقى فيها على مقتضى الحديث، ويترجح على حمله على نفي الكمال؛ لأن التخصيص أولى من المجاز.
قاعدة: ما ثبت بالنص أولى مما ثبت بالإخبار والثابت بالخبر أرجح من الثابت بالاجتهاد.
وهذه قاعدة تكرر ذكرها في كلام المتقدمين من فقهائنا، وحاصلها أن القطع مقدم على الظن وأن أقوى الظنين مقدم ومسألة الخبر والاجتهاد هي مسألة تعارض القياس وخبر الواحد وفيها الخلاف [الأصولي المشهور] 2.
وفي القاعدة مسائل:
منها: قطع بعضهم فيما إذا أصدقها شقصًا ثم "لقها قبل الدخول وجاء الشفيع يريد أخذه بالشفعة بأن الزوج أولى.
ومنها: قطع بعضهم بأنه لو اشترى شقصًا وأفلس ثم طلقها قبل الدخول وجاء الشفيع يريد أخذه بالشفعة بأن الزوج أولى.
ومنها: قطع بعضهم بأنه لو اشترى شقصًا وأفلس بالثمن فإن البائع أولى من الشفيع.
وسر ذلك على ما ذكر القاضي الحسين أن الحق ثبت للزوج نصًا فهو أقوى من حق البائع؛ إذ لم يثبت إلا بالإخبار، فكان أضعف.
ومنها: أبان أربعًا في مرض موته وتزوج أربعًا وقلنا: ترث المبتوتة.
قيل: ترث الزوجات خاصة؛ إذ هو بالنص والمبتوتة بالاجتهاد وقيل يرثن كلهن، وقيل: يرث المطلقات فقط لسبق حقهن وهو الزوجية. قال الروياني في الفروق: وهو أضعفها.
__________
1 في "ب" على.
2 في "ب" الأصول المشهورة.(2/197)
ومنها: القاذف إذا تاب بالقول فإن كان القذف على صورة الشهادة لم يشترط الاستبراء على المذهب، وإن كان قذف سب وإيذاء اشترط على المذهب.
قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب1 والماوردي والروياني في البحر وفي الفروق: والأول يقبل خبره دون الثاني فإن فسق الأول ثبت بالاستدلال فأثر في شهادته فقط، بخلاف القاذف في حال السب فإن فسقه ثبت بالنص فردت شهادته وخبره.
ومنها: إذا قال الزوج لوكيله: خالع بمائة "فنقص عنها فالنص أنه يلغو".
ولو أطلق التوكيل بالخلع ولم يقدر المال فنقص عن مهر المثل فالنص أنه يقع الطلاق.
فمن الأصحاب من قرر النصين وفرق بأنه في الأول مخالف للنص وفي صورة الإطلاق مخالف للاجتهاد؛ لأن إيجاب مهر المثل بالاجتهاد لا بنص [اللافظ] 2 فلم يستويا.
ومنهم من نقل وخرج وهو الأصح.
ومنها: إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغائب. صحيح الرافعي أنه يأكل الميتة؛ لأن إباحتها للمضطر منصوص وأكل مال الغائب متلقي من الاجتهاد.
ولك أن تقول: لا أسلم وجود النص مع وجود طعام الغائب إنما النص في المضطر، والمعنى به من لا يجد طعامًا ولو لغائب.
ومنها: إذا اضطر المحرم ولم يجد إلا صيدًا أو ميتة. رجع الرافعي أيضًا أنه يأكل الميتة لأنها منصوصة. قال: والصيد مستثني في حال الاضطرار بالاجتهاد.
ومنها: إذا وجد المحرم لحم صيد ذبحه وهو في حالة الإحرام أو ذبحه محرم آخر ولم يجعل ما ذبحه المحرم ميتة -فلحم الصيد أولى منه وقيل الميتة أولى.
قال الرافعي: وقد يوجه بما سبق من أن استثناء الميتة عند الاضطرار منصوص.
فإن قلت: هلا رجحه لكونه رجح في المسألتين السابقتين أكل الميتة؟
__________
1 في "ب" القاضي أبو الطيب والقاضي حسين.
2 في "ب" اللفظ.(2/198)
قلت: لأنه لم يقتصر فيهما على الاحتخجاج بتقديم النص على الاستنباط، بل به [وبلزوم] 1 الضمان.
وفيه مسائل:
الأولى: تترجح [لكثرة] 2 الرواة خلافًا للكرخي ومن ثم قال الشافعي رضي الله عنه: الأخذ بحديث عبادة3 في الربا أولى من حديث أسامة لأن مع عبادة عمر وعثمان وأبو سعيد وأبو هريرة والخمسة أولى من الواحد، وحديث رفع اليدين أرجح من مقابله لكثرة رواته.
الثانية: ترجح بزيادة العلم والثقة، ومن ثم رجح علماؤنا ورواية مالك وسفيان في حديث. زوجتكها بما معك من القرآن4 على رواية عبد العزيز بن أبي حازم وزيادة ملكتكها لأن مالكًا وسفيان أرجح من عبد العزيز وزائدة.
الثالثة: ما عمل به رواية أرجح من مقابله، ومن ثم رجحنا حديث "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" 5 لعمل رواية على حديث غورك السعدي في كل فرس مائة دينار6 لأن أبا يوسف رواه عن غورك وترك العمل به.
الرابعة: رواية من كان له في الواقعة مدخل [من] 7 مباشرة أو نحوها أرجح من الأجنبي عنها، ومن ثم رجحنا رواية أبي رافع نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام لكن أبا رافع كان السفير.
الخامسة: كونه أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم رجحنا رواية ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج على رواية أنس أنه قرن لأن ابن عمر كان يجر خطام ناقته.
__________
1 وفي "ب" لزوم.
2 في "ب" يكثره.
3 وحديث عبادة الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير. إلخ الحديث انظر مسلم 3/ 1211 في المساقاة "81/ 1587".
4 البخاري 9/ 190 في النكاح "5135" ومسلم 2/ 140 في النكاح "76/ 1425".
5 البخاري 3/ 327 "1464" ومسلم 2/ 675 حديث "8/ 982".
6 انظر السنن الكبرى للبيهقي 4/ 119.
7 في "ب" في.(2/199)
السادسة: من يتحمل بالغًا أرجح ممن تحمل في الصبا ومن ثم رجحت رواية ابن عمر المذكورة على رواية أنس.
السابعة: غير المبتدع أولة إلا أن تكون بدعته بذهابه إلى تغليظ معصية الكذب فلي فيه نظر واحتمال.
ومن أمثلته رواية إبراهيم بن أبي يحيى من صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله تعالى "مع رواية غيره" النهي عن صيام الدهر. وكان إبراهيم جهميًا.
الثامنة: الشهرة بالعدالة1 صفة مرجحة.
ومن ثم ترجحت رواية شعبة $"لا وضوء إلا من صوت أو ريح" على رواية محمد الخزاعي في الوضوء من الضحك.
التاسعة: أن يكون ذكرًا فهو أولى من المرأة. قال أبو الحسن علي بن أحمد الإسفراييني السهيلي:
"إلا أن يكون في حكم يختص بالنساء فتكون المرأة أولى، لأن همتها وقصدها إلى حفظه أكثر" ذكره في كتاب أدب الجدل وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا أولوية للرجل في الرواية مطلقًا.
__________
1 في "ب" من العدالة.(2/200)
كتاب الاجتهاد 1:
مسألة:
الصواب عندنا أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يقبل الخطأ بوجه من الوجوه، وأنه عليه أفضل الصلاة والسلام على الصواب في حركاته وسكناته ونومه ويقظته مبرأ عن خطأ الباطل وعمده.
وأعتقد ذلك أمرًا مجمعًا عليه قبل محدثات البدع وتشتت الأهواء والآراء، ووجدته منصوصًا للشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم؛ "فقال في كتاب الإقرار: والاجتهاد في الحكم بالظاهر ولم يؤمر الناس أن يتبعوا إلا كتاب الله تعالى أوسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قد عصمه الله من الخطأ وبرأه منه فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 فأما من إنما رأيه خطأ أو صواب فلم يؤمر أحد بإتباعه".
ثم قال رضي الله عنه بعد ذلك بنحو عشرة أسطر: "ولا يبرأ أحد من الآدميين من الخطأ إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال بين هذين النصين: "فمن أمر باتباع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يمكن منه الخطا إن كان قائل هذا ممن يعقل ما تكلم به فتكلم به بعد معرفة هذا فأرى للإمام أن يمنعه، وإن كان غبيًا علم حتى يرجع".
انتهت هذه النصوص الثلاثة، وهي دالة من هذا الإمام المطلب3 رضي الله عنه- على أن انتفاء الخطأ عن منصب النبوة أمر مفروغ منه وهو الحق والدين والمعتقد.
فصل:
هذا آخر ما ذكرناه من مسائل الأصول ذوات الفروع، وقد تركنا كثيرًا ذكرناه في كتبنا الأصولية، فإن فيها -وراء ما ذكرنا هنا من الفروع المخرجة على الأصول أضعاف ذلك، فليقع الاكتفاء في هذا الكتاب بما سطرناه ونذكر بعده مسائل الخلاف.
__________
1 سقط في "ب".
2 سورة الشورى آية 52.
3 وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه.(2/201)
"كلمات نحوية يترتب عليها مسائل فقهية":
في المفردات من الأسماء والحروف وبعض الأفعال:
أعلم أن الأصوليين ذكروا حروفًا تتداول بين الفقهاء تمس حاجتهم إلى معرفتها -كالواو، والفاء، وفي زدنا عليهم في "جمع الجوامع فذكرنا من الكلمات المفردة من الأسماء والظروف والحروف قدرًا يكثر تداوله في الفقهيات.
ونحن نأتي بنحو من ذلك هنا، ونرتب ما نوده من فن النحو فصولًا فصل في المفردات وهو كلمات نحوية، وآخر في المركبات والتصرفات العربية وثالث في إعراب آيات يترتب على تخريجها أحكام شرعية.
"القول في المفردات من الأسماء والحروف -ونذكر فيه بعض الأفعال".
مسألة:
"إن" المكسورة الخفيفة ترد للشرط فيوقف الحكم على وجوده مثل إن دخلت الدار فأنت طالق؛ غير أن شرط ما يتوقئف الحكم على وجوده أن يكون شرطًا في اللفظ والمعنى.
أما في اللفظ: فأردنا به أن يكون الحكم موقوفًا على لفظ المعلق عليه مثل: إن شئت فأنت طالق، فلا بد من لفظ المشيئة ثم لا يشترط معه مشيئة القلب، فلو قال: "شئت كارهًا" وقع، وقيل: لا يقع باطنًا".
وأما في المعنى: فأردنا به أن يكون المعلق عليه ممكنًا، وإلا فالموجود صورة تعليق لا نفسه، مثل: إن طرت أو صعدت السماء فأنت طالق، وإلا فلا تطلق على المذهب، وفي قول: تطلق في الحال.
ولا قائل بتوقف الطلاق على ما ذكر لاستحالته؛ بل إما أن يلغي ذلك المستحيل ويبقي قوله: "أنت طالق" بمفرده فيعمل عمله، وإما أن يهمل الكلام بالكلية فلا تطلق.
فرع: إذا قال: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق اشترط الإعطاء على الفوز لا لدلالة إن عليه؛ فإنه دلالة لها على الزمان وما هي إلا حرف تربط الشرط بالجزاء فقط ولكن لقرينة العوضية.(2/202)
تنبيه: "لا دلالة لإن على الفور ولا تراخ؛ سواء أدخلت على إثبات أو على نفي".
فإذا قال: "إن دخلت" طلقت أي وقت دخلت، وإن قال "إن لم تدخلي" فالمذهب أنها لا تطلق حتى يقع اليأس من الدخول.
بخلاف التعليق بغيرها من الصيغ -كإذا ومتى، فإن المذهب فيهما اعتبار الفور، وهذه قاعدة عند الأصحاب- متى علق بأن نفي فعل لم يلزم الفوز وإن علق بغيرها لزم على المنصوص فيهما وهو الصحيح.
والفرق أن كلمة "إن" شرط يتعلق بمطلق الفعل لا دلالة على الزمان فيعتبر في طرف النفي انتفاؤه لكونه نكرة في سياقه ولا يمكن معرفة انتفائه إلا بانتفاء جميع الأزمنة، والتوقف على مضي الأزمنة لتحقق انتفائه لا لكونها جزءًا من مدلوله، ومن ثم لو حلف ليكلمنه بر بمرة وإن حلف لا يكلمه لم يبر إلا بترك الكلام إلى اليأس.
وأما إذا وما أشبهها فمعناه أي وقت ففي طرف الإثبات أي وقت فعلت؟ صدقت الصفة، وهنا تساوي إن. وفي النفس معناه أي وقت فعلت فإذا مضى زمن يمكن الفعل فيه فلم تعل صدقت الصفة وهنا تفارق إن.
مسألة: "أن" -بفتح الهمزة- ترد حرفًا مصدريًا ناصبًا للمضارع فتفيد معنى التعليل
ومن ثم قيل: "قد تكون بمعنى لئلا" في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} والصواب أنها مصدرية، والأصل كراهة أن تضلوا.
وفيه معنى التعليل، "وقضية"1 التعليل فيها أنه إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار تطلق في الحال إذا كان يعرف النحو، وهو الصحيح [إلا أن يريد وقتًا معينًا وإن بعد على ما نقله الرافعي عن البوشنجي على توقف فيه. ذكره المصنف في ترشيح التوشيح عن محمد بن يوسف] 2.
وينبغي أن يجري -[على] 3 هذا -الفرق بين عارف النحو وجاهله فيما إذا قال: أنت طالق إن أعطيتني ألفًا غير أن الماوردي أطلق أنها تطلق في الحال. قال: وإن طالبته بالألف عند إنكارها الخلع لزمه ردها وسنحكي عنه في إذ مثل ذلك.
__________
1 في "ب" أو قضية.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".(2/203)
مسألة: "إلى" حرف جر لانتهاء الغاية ولمعان آخر
ومن مباحث الغاية أنها إن كانت من الجنس دخل، ومعنى هذا أنها إذا كانت جزءًا من المغيا تدخل.
وقد يعبر عن هذا بأنها إذا كانت بيانًا لما قبلها دخل طرفاها كما تقول: قرأت القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ومن ثم يفرق بين بعتك من هذه النخلة إلى هذه فندخلها في البيع، ومن درهم إلى عشرة ففيه الخلاف الآتي.
وإذا لم يكن قرينة تدل على دخول ما بعدها ولا على خروجه فقيل تدخل مطلقًا، وقيل: لا مطلقًا، وقيل: إن اقترنت بمن لم تدخل؛ وإلا فيحتمل.
وفيها مسائل: منها. لو قال: ضمنت مالك على فلان من درهم إلى عشرة فالصحيح عند الشيخ الإمام الوالد أنه ضامن للعشرة، ورجحه الرافعي في المحرر وعند النووي [لتسعة] 1، وفي وجه ثالث لثمانية، وإليه ميل الرافعي في الشرح.
ومنها إذا قال أبرأتك من درهم إلى ألف فوجهان المنصوص في البويطي الصحة وصححه الشيخ الإمام في باب الضمان من شرح المنهاج، وحكى من نصه في البويطي أيضًا ما يقتضي البراءة من الألف بتمامها، إذا حكى في نصه في البويطي.
ولو أن رجلًا حلل رجلًا من كل شيء [وجب عليه] 2 فإن لم يعرف قدره حلله من كذا إلى كذا.
وحكي عن النص في البويطي أيضًا فيمن قال الرجل ما عاملت غلامي من دينار إلى مائة فهو جائز أنه إن زاد على ذلك لم يجز وقضية هذا صحة ما لم يزد.
ومنها لو قال أنت طالق إلى شهر. قال في التنبيه لم تطلق إلابعد شهر وهو منقول الرافعي من التتمة وغيرها، وعزي إلى النص في البويطي، وروي عن ابن عباس قيل ولا مخالف له في الصحابة ووجه بأن اللفظة كما تحتمل تأجيل الواقع تحتمل تأجيل الإيقاع، ألا ترى أن القائل إني مسافر إلى شهر يريد، بعد شهر وإذا ثبت الاحتمالان وجب الأخذ باليقين.
قلت وفي هذا التوجيه نظر، وليس من معاني إلى أن تكون بمعنى بعد، وما
__________
1 في "ب" تسعة.
2 سقط في "أ" والمثبت من "ب".(2/204)
استشهد به في المسافر غير مسلم له لغة ولا عرفًا لا جرم نقل الرافعي عن البوشنجي أنه ذكر وجهًا آخر احتمالًا أنه يقع في الحال.
قلت: ولم أجد للأول مخرجًا إلا أن يحمل [على] 1 معنى عند كما قيل به في قول الشاعر:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أحلى إلي من الرحيق السلسل2
لكن أين الدليل على هذا النادر في قولك أنت طالق [إلى] 3 شهر، وقد يقال لما أقت، بالشهر كان قضيته أنها طالق في هذا الشهر غير طالق بعده، وهذا لا يضر؛ لأنها إذا طلقت في هذا الشهر طلقت دائمًا، فاحتمل أن يحذف هذا الجار والمجرور جملة ويعمل قوله أنت طالق عمله وهو وجه البوشنجي.
واحتمل أن لا يقع، ويقال لما تعذر طلاق الآن دون غد لم يتعذر عكسه فحملناه عليه ولعل هذا مراد من قاله إنه تأجيل الإيقاع إلا أن القول على العكس يحتاج إلى دليل.
ويشهد لوجه البوشنجي قول الأصحاب في الخلع لو قالت طلقني بألف طلاقًا يمتد تحريمه إلى شهر ثم أكون في نكاحك حلالًا لك فطلقها لذلك، أنه يقع الطلاق في الحال مؤبدًا، والصحيح وجوب مهر المثل.
فإن صح ما نقل عن ابن عباس وأنه لا مخالف فهو إجماع سكوتي، فالأولى الاقصتار في الاحتجاج عليه، وإلا فللنزاع في المسألة مجال.
ومنها حلف أنه بعث فلانًا إلى بيت فلان وعلم أن المبعوث لم يمض إليه لم يقع؛ لأن المحلوف عليه البعث لا الامتثال وقد وجد وقيل يقع، لأنه يقتضي حصوله هناك.
__________
1 في "ب" إلى.
2 والبيت من الكامل وهو لامرئ القيس انظر ديوانه 309 شرح المفصل 3/ 25 خزانة الأدب 2/ 236، همع الهوامع 2/ 51، الدر اللوامع 2/ 64، شرح الأشموني 2/ 272، مغني اللبيب 1/ 57.
والشاهد فيه قوله: أحلى إلي؛ حيث جاءت إلى بمعنى عند.
3 سقط في "ب".(2/205)
والمسألة في آخر تعليق [الطلاق] 1 من الرافعي عن الروياني أبي العباس.
ومنها حلف لا تخرج امرأته إلى العرس فخرجت من أجله ولم تصل فلا [حنث] 2 لأن الغاية لم توجد، وكذا لو انعكس الحال فخرجت لغير العرس ثم دخلت إليه بخلاف ما إذا أتى باللام؛ فقال للعرس فإنه لا يشترط وصولها متى خرجت له إما وحده وإما مع غيره طلقت؛ لأن حرف الغاية وهوإلى لم يوجد، قال القاضي أبو الطيب في كتاب الإيمان من تعليقته في فرعين متصلين.
ووجه التفرقة أن أصل إلى الغاية، وأصل اللام للملك؛ فإن تعذر حمل ما يقتضيه السياق من التعليق والانتهاء.
مسألة:
"أو" موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء هذا موضوعها وتأتي للشك والإبهام والتخيير والإباحة والتقسيم ومطلق الجمع وغيرها وهذه المعاني ليست في الحقيقة معانيها؛ وإنما هي معاني الكلام. وفيها فروع.
منها لو قال بع هذا أو هذا لم يصح عزاه في الروضة إلى أصحابنا.
قال الشيخ الإمام وهو ظاهر إن حمل على التردد في التوكيل كأنه قال وكلتك إما في هذا وإما هذا إذا أراد بع أحدهما فينبغي أن يصح على الأصح، كبع من شئت منهما.
قلت وهذا حق، والحمل على الترديد فيه بعد، فإن الشك والترديد إنما يظهر في شيء وقع.
تنبيه:
نقل الرافعي في آخر الإيمان عن كتب الحنفية أن دخول أو بين يقينين يقتضي انتفاءهما كما في قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} ، وبين إثباتين فيقتضي ثبوت أحدهما فإذا قال لا أدخل هذا الدار أو لا أدخل هذه فأيتهما دخل بها حنث.
ولو قال لأدخلن هذا الدار أو هذه الدار الأخرى يبر بدخول واحدة.
ثم قال الرافعي ويشبه أن يقال إذا دخلت بين نفيين كفى للبر أن لا يدخل واحدة ولا يضر دخول الأخرى كما تكفي الواحدة في طرف الإثبات.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" يحنث.(2/206)
قلت: وإلى مقالة الحنفية أشار المازري في شرح البرهان في مسألة تحريم واحد لا بعينه [قيل] 1 إنه قيل إنه لم ترد به اللغة وقد حكيناه في جمع الجوامع، وإليه الإشارة بقول شيخنا أبي حيان في الارتشاف وإذا نهيت عن المباح استوعب ما كان مباحًا باتفاق من النحاة، ومنه {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 2 وإذا نهيت عن المخير فيه فذهب السرافي3 إلى أنه يستوعب الجميع كالنهي، وذهب ابن كيسان4 إلى جواز أن يكون النهي عن واحد وعن الجميع.
تنبيه:
مثال الشك قام زيد أو عمرو، والإبهام قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 5 والتخيير خذ من مالي دينارًا أو درهمًا، والإباحة جالس الحسن أو ابن سيرين.
والفرق بين الشك والإبهام أن الشك يكون المتكلم به مترددًا في الذي أخبر به ومن ثم يمتنع ورودها للشك في كلام الله تعالى إلا أن يصرف إلى تردد المخاطب كما قيل في {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} 6 أنه باعتبار المخاطب.
وأما الإبهام فإن المخبر يكون عالمًا بما أخبر به قاصدًا الإبهام على السامع.
__________
1 سقط في "ب".
2 سورة الإنسان آية "24".
3 هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان القاضي أبو سعيد السيرافي النحوي كان يدرس ببغداد علوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض قرأ القرآن على أبي بكر بن مجاهد واللغة على ابن دريد وقرآ هما عليه النحو.
قال أبو حيان التوحيدي: أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة وله تصانيف منها شرح كتاب سيبويه شرح الدريدية الإقناع في النحو لم يتم فأتمه ولده يوسف وغير ذلك.
بغية الوعاة 1/ 507، البداية والنهاية 11/ 294.
4 محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان أبو الحسن النحوي قال الخطيب: يحفظ المذهب البصري والكوفي في النحو لأنه أخذ عن المبرد وثعلب وكان أبو بكر عن مجاهد يقول: إنه أنحى منهما، من تصانيفه المهذب في النحو، البرهان، غريب الحديث، معاني القرآن وغير ذلك، مات لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومائتين بغية الوعاة 1/ 18- 19.
5 سورة سبأ آية: "24".
6 سورة الصافات آية: "147".(2/207)
والفرق بين التخيير والإباحة أن التخيير لا يكون إلا بين ممنوعين في الأصل كالدينار والدرهم في المثال وقيل فيه تخيير؛ لأن المخير لا يأخذ غالبًا إلا خيرهما ومن ثم لا يجوز الجمع بين الشيئين المخير بينهما.
والتي للإباحة لا تكون إلا بين مباحين في الأصل، ومن ثم يجوز الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة: قدمنا أن موضوع "أو" أحد الشيئين أو الأشياء، وأن المعاني المذكورة مستفادة من مورد الكلام لا من موضع أو فلا يزيد [مدلولها] 1 على ما ذكرناه؛ فعلى هذا إنما جاز قولك جالس الحسن أو ابن سيرين وأنت تريد جالسهما باعتبار الوقت الذي يجالس فيه أحدهما غير الآخر وتقع الواو مكانها باعتبار أنك أمرته بمجالستهما، أو أنهما جميعًا أهل للمجالسة، فإن أردت هذا وجالس أحدهما لم يكن عاصيًا.
وعلى هذا المعنى الأخير أخذ مالك رضي الله عنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 2 وأخذها الشافعي على معنى التشريك وهو الأصح أو الصواب، وتقول اشتر هذا بعشرة أو تسعة باعتبار أن الواقع الشراء بأحدهما، ويجوز وضع الواو مكانها باعتبارها أنك جعلتهما معًا ثمنًا، وكذا تقول خذه بما عز أو بما هان أو بما عز وهان بالاعتبارين، وإيقاع "أو" إنما يكون حيث يمكن فيه تلك الملاحظة كما ذكرنا فلا يجوز استعمالها في نحو جلست بين يدي زيد وعمرو، ولا في اختصم زيد وعمرو واشترك زيد وعمرو؛ لأن هذا كله لا يمكن فيه تلك الملاحظة.
قال شيخنا أبو حيان فيما إذا لم تأت "بأو" في نحو جالس الحسن أو ابن سيرين؛ بل أثبت بالواو المعاقبة لها قال أصحابنا إنه بالواو لا يجوز له مجالسة أحدهما دون الآخر وبأو يجوز.
قلت: وعليه إذا قال: مع هذا.
مسألة:
"إذا" ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه؛ فإذا قال: إذا أعطيتني ألفًا فأنت طالق بإعطائها لكن يشترط الإعطاء على الفور كما قلنا في إن لقرينة العوضية [ولا دلالة له] 3 على مطلق الزمان، فالفور في إذا أوضح منه في إن
__________
1 في "ب" مدلولنا.
2 سورة التوبة "60".
3 في "ب" ولا ذا دلالة.(2/208)
قال الشيخ الإمام رحمه الله وقد يخطر للفطن أن إذا مضافة لما بعدها؛ فقوله إذا أعطيتني في قوة قوله: "وقت إعطائك إياي" ولو صرح بذلك لاقتضى العموم؛ لأنه مضاف إلى معرفة فكذلك صفة إذا.
قال: وهذا يلتفت لي خط من النحو وهو أن العامل في إذا جوابها أو فعل الشرط وعلى كل من التقديرين لنا أن نمنع تقدير الإضافة فيها ونقدره وقتًا منونًا منكرًا في قوله وقتًا تعطيني فيه فلا يلزم العموم، وعلى تقدير الإضافة فتعميم الإضافة مختلف فيه وبتقدير ثبوته فليس في مرتبة العموم الصريح الذي هو موضوع متى.
قلت الحق هو الجواب الأول؛ فإذا دلت على مطلق الزمان كان أخص الأزمنة بها الفور لقرينة العوضية، على أن أصحابنا حملوها على الفور وإذا لم يكن قرينة عوض بدليل أن الصحيح فيمن قال إذا لم أطلقك فأنت طالق أنه إذا مضى زمان يمكنه أن يطلقها فيه فلم يطلقها مع عدم العوض، وكان يمكن أن يقال إذا لم يكن قرينة عوض فلا يتعين الفور، كما لو قال إن لم أطلقك واقتضى كلام الغزالي في الوسيط في هذه المسألة أن إذا مثل أي إذا قال ... 1.
فرع: إذا الشرطية لا تدل على التكرار خلافًا لابن عصفور؛ فإذا قال: "إذا قمت فأنت طالق" طلقت بالقيام الأول، ثم لا تطلق بالثاني كما جزم به الرافعي في أوائل تعليق الطلاق.
ولا تدل على العموم أيضًا خلافًا لبعضهم كما حكاه شيخنا في باب الجوازم في الارتشاف؛ فإذا قال إذا طلقت امرأة فعبد من عبيدي حر فطلق أكثر من واحدة لم يعتق إلا واحد وينحل اليمين؛ قاله الرافعي في الكلام على التعليق بالتطليق.
فرع: ولا يلزم اتفاق شرطها وجزائها في الزمان.
قال أبو حيان بخلاف متى فإن ذلك شرط فيها؛ تقول إذا زرتني اليوم زرتك غدًا، ولا يصح ذلك في متى.
وما قاله ظاهر، وبه صرح الأصحاب في إذا جاء اليوم فأنت طالق غدًا أو عكسه ولم يذكروا متى.
__________
1 بياض في "ب".(2/209)
مسألة:
"إذا" أغلب معانيها أن تكون ظرفًا للزمن الماضي نحو: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1. واختلف هل يكون اسمًا للمستقبل فتقع موقع إذا؟ فمن قائل به استشهد بقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 2 {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} 3 وفي حديث ورقة "ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك"4.
ومن منكر، وهم الجمهور، وجعلوا ما ذكر من باب ما نزل فيه المستقبل منزلة الحاضر إذ كان واقعًا لا محالة، ومن ثم إذا قال لها: أنت طالق إن أعطتني ألفًا تطلق في الحال طلاقًا بائنًا، لاعترافه بصدور خلع مقبوض فيه العوض، ولها مطالبته بالألف إذا أنكرت ذلك صرح بالمسألة الماوردي.
ولك أن تقول إن استفاد الماضي من إذ فينبغي أن تجريه فيما إذا كانت الصيغة [وقت إعطائك] 4 لي ألف فإن التزمه فقد وفي بمقتضى الصيغة وإلا فما الماضي مستفاد إلا من فعل الماضي، وهو [قول] 5 أعطيت. واعلم أن إذ ترد حرف تعليل على ما قال ابن مالك ونسبه بعضهم لسيبويه وجعل منه قوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} فلو حمل هنا على ذلك أو ادعى إرادته لم يقع الطلاق فيما يظهر إلا جرعيًا، والمعنى أنت طالق لكونك أعطيتني ألفًا، وليس بلازم أن يكون هذا في مقابلة الطلاق حى يكون بائنًا، وقد حملها الأصحاب على التعليل في نحو أنت طالق إذ قام زيد أو إذا فعلت كذا فقالوا يقع لأجل القيام والفعل.
قال الرافعي ويمكن أن يكون الحكم فيه على التفصيل بين أن المفتوحة بين العارف بالنحو وغيره.
ونقل ابن الرفعة عن صاحب الذخائر أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال بهذا الذي حاوله الرافعي.
فائدة: "أول" الصحيح أن وزنه [أو أل] 6 على وزن أفعل فقلبت الهمزة الثانية واوًا ثم أدغمت، ومن ثم يقال هذا أولى منك وتجمع على أوائل وأوالي، وقال قوم: أصله وول فقلبت الواو الأولى همزة ووزنه فوعل وله استعمالان.
__________
1 سورة التوبة آية: "40".
2 سورة الزلزلة آية: "4".
3 سورة المائدة آية: "116".
4 في "ب" البيت عطاؤك.
5 في "ب" قوله.
6 في "ب" أو أن.(2/210)
أحدهما: أن يكون اسمًا فينصرف، ومنه قولهم: "ماله أول ولا آخر" قال شيخنا أبو حيان: وفي محفوظي أن هذا يؤنث بالتاء ويصرف؛ فتقول أوله وآخره بالتنوين.
والثاني: أن يكون صفة أي أفعل تفضيل بمعنى الأسبق، فيعطى حكم غيره من صيغ أفعل التفضيل من دخول من عليه ومنع الصرف وعدم تأنيثه بالتاء فتقول هذا أول من هذين، وما رأيته منذ أول من أمس.
وقالوا ابدأ بهذا أول -مبنيًا [على] 1 الضم اتفاقًا.
وهذا حظ النحاة، وفيه كلامان هل من شرط الأول أن يكون فردًا؟
والثاني هل من شرطه أن يكون له ثان؟
فيه وجهان أرجحهما عند الوالد رحمه الله وبه قال: نعم، وأرجحهما عند الرافعي والنووي لا.
فإذا قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرًا فأنت طالق فإن ولدت ذكرًا ولم تلد غيره لم تطلق على الأول، وطلقت على الثاني.
تنبيه: ليس من شرط "الأول" الفردية، وحكى الوالد رحمه الله في تفسيره في سورة الحشر فيه خلافًا؛ فإن كان نقل ذلك عن تحرير فسمعًا له وطاعة ومن ثقة ثبت، وإلا فلعله أخذه من قول المزني في أول من حج عني فله مائة فحج اثنان، ثم ثالث إنه لا يستحق واحد منهم قال العبادي لأن الأول اسم لمفرد،
والثاني ليس بأول أو من قول الأصحاب في باب العتق إذا قال أول من دخل من عبيدي دخل أولًا فهو حر فدخل اثنان معًا ثم ثالث لم يعتق واحد أو من قول الرافعي في كتاب الطلاق قبيل التعليق بالحيض لو أخرج درهمًا للمتسابقين وقال: من جاء منكما أولًا فله كذا فجاءا معًا، لم يستحقا شيئًا وليسلهم معصم في شيء من هذا.
أما مسألة المزني فلعله إنما قال لا يستحق الأولان، لامتناع حج اثنين عن واحد في عام واحد وهو وجه حكاه الماوردي في باب جزاء الصيد، أو لأن لفظ من منفرد
__________
1 في "ب" علم.(2/211)
فروعي، ومن ثم يتطرق إلى منازعة العبادي في فهمه عن المزني أن ذلك [لأجل] 1 اشتراط الفردية.
وأما العتق فلما ذكرناه.
وأما مسألة المسابقة فلأنه ليس أحدهما بالنسبة إلى الآخر [أول] 2.
ثم يستدل على عدم اشتراط الفردية بقوله تعالى: {والسابقون الأولون} 3 ولو كان الأول الفرد لم يكن أولون، وقال صلى الله عليه وسلم "أول شيء خلق الله القلم" 4 مع قوله عليه السلام "أول ما خلق الله العقل" 5، وقال صلى الله عليه وسلم: "أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة" 6.
وفي مسند أحمد "أول ما يرفع من هذه الأمة الأمانة والخشوع".
مسألة:
"إلا" ترد للاستثناء، وبمعنى غير فيوصف بها ويناد بها جمع منكر أو شبهه وعاطفة، وزائدة.
أما التي للاستثناء [فقد يستثني ما هو من الجنس نحو جاء القوم إلا زيدًا، فهو الاستثناء] 7 المتصل، وهو حقيقة.
وفيه مسائل:
منها:8 ...
فصل:
وقد يستثنى بإلا ما ليس من الجنس وهو الاستثناء المنقطع والصحيح أنه مجاز،
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" بأول.
3 سورة التوبة آية: "100".
4 أخرجه البيهقي 9/ 3 كتاب السير/ باب مبتدأ الخلق.
5 قال العراقي في تخريجه للإحياء أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي أمامة وأبو نعيم من حديث عائشة بإسناد من ضعيفين. وانظر إتحاف السادة 1/ 479.
6 عزاه السيوطي للقضاعي في مسند الشهاب، قال المناوي: وفيه كما قال الهيثمي أشعث بن نزار وهو متروك فقول العامزي حسن غير حسن، فيض القدير 3/ 89- 90.
7 سقط في "ب".
8 بياض.(2/212)
ومذهبنا أنه صحيح، ومنعه أحمد مطلقًا، وأبو حنيفة في غير المكيل والموزون.
وفيه مسائل:
منها قد كثر وروده في الكتاب والسنة نحو: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس} 1 {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} 2.
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 3.
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} 4.
{لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} 5.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} 6.
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 7.
{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} 8.
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 9.
{إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} 10.
{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} 11.
{مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} 12.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} 13.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 14.
وآيات كثيرة على خلاف في كثير مما أوردناه ومما لم نورده هل هو فيه متصل أو منقطع أو عاطف أو زائد وكذلك في السنة، ومنها إذا قال له علي ألف درهم إلا ثوبًا صح الاستثناء؛ فإن بين بما يستغرق قيمة الألف لغًا البيان، والصحيح بطلان والاستثناء حينئذ فيلزمه الألف، وقيل يطالب بيان صحيح.
__________
1 سورة البقرة آية 34.
2 سورة البقرة آية 150.
3 سورة النساء آية: 22.
4 سورة الدخان آية: 56.
5 سورة النساء آية: 29.
6 سورة النساء آية: 92.
7 سورة النساء آية: 157.
8 سورة الأنعام آية: 80.
9 سورة الشعراء آية: 89.
10 سورة النمل آية: 10.
11 سورة النمل آية: 65.
12 سورة يوسف آية: 68.
13 سورة الواقعة آية: 25/ 26.
14 سورة الليل آية: 19/ 20.(2/213)
فائدة: ذكرها ابن سراقة
وهي: أنه قد يكون عليه ألف درهم لمن له عنده عبد أو ثوب مثلًا ويخاف أن أقر له بالألف جحده المقر له الثوب أو العبد فطريقه أن يستثنى العبد أو الثوب من الألف، وإن الغاصب استهلك العبد1 فللمقر أن يسقط قيمته من الألف ويقر بما بقي ويحلف صادقًا.
والاستثناء من غير الجنس في الإقرار، قال الماوردي: لا يختلف أصحابنا في حصته.
قال واختلفوا في غير الإقرار على وجهين.
فائدة: قد يجيء لفظ يدل على معنى الاستثناء وليس هو إياه، ففي جعله مساويًا له نظر في مسائل.
منها لو قال هذه الدار لزيد وهذا البيت منها لي قيل.
قال الرافعي لأنه إخراج بعض ما تناوله اللفظ فكان كالاستثناء.
قلت قد يخرج فيه وجه من الوجهين في المسألة بعده، وقد ألحق الرافعي بهذه الصورة ما إذا قال: الخاتم له وفصه لي. وفيه نظر. فقد يقال ليس الفص داخلًا في مسمى الخاتم وإن دخل معه حالة الإطلاق بخلاف بيت من دار.
ومنها لو قال: له علي ألف أحط منها مائة أو استثنى مائة، ففيه وجهان حكاهما الماوردي.
مسألة:
الباء ترد لمعان أعمها الإلصاق فقد قي إنه معنى لا يفارقها أبدًا، ومن ثم اقتصر عليه سيبويه.
وتأتي للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف، وأحسن مثال له قوله صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان"؛ غير أن الفقهاء لم يجعوا ما دخلت عليه الباء ثمنًا إلا إذا كان العوضان نقدين أو دخلت على النقد، فإن دخلت على غير النقد، ومقابلة نقد قالثمن النقد، هذا ما صححه الرافعي والنووي والوالد رحمهم الله وقيل الثمن مدخول، الباء مطلقًا وقيل النقد مطلقًا.
__________
1 في "ب" زيادة أو الثوب من الألف.(2/214)
واختلف في مجيئها للتبعيض، فأثبته ابن مالك، ونفاه غيره. وعلى الإثبات يتوجه قول من أخذ الاجتزاء بأقل ما ينطق عليه الاسم من مسح الرأس من قوله تعالى: {برؤوسكم} 1 ومن ثم قيل إنه قول الشافعي رضي الله عنه، والصواب أن الشافعي لم يأخذ من حرف الباء ولكن من غيره كما قرر في مكانه.
وترد الباء للسببية ومنه {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} 2 ومثل به ابن مالك لباء التعليل، وجعل باء العلة غير باء السببية. وقدمنا الكلام عليه في مباحث العلل من أصول الديانات ولا يخفي أنه أنه إذا اختلفت محاملها حملت عند القرينة على ما دلت عليه القرينة، فإن لم تدل على شيء فليس إلا الإلصاق؛ فإنه القدر المشترك ومن ثم يضرب النظر إذا تعاوضت القرائن؛ وذلك فيما إذا قال طلقتك بدينار على أن لي عليك الرجعة، فقوله بدينار قرينة أنه خلع، وأن الباء [للعوضية] 3 لكن يدرأ هذه القرينة اشتراطه الرجعة ولا رجعة في البينونة؛ فاحتمل أن يجعل آخر الكلام دافعًا لأوله ويتساقطان، ويبقى قوله طلقتك فيقع الطلاق وتثبت الرجعة لا لكونه اشترطها؛ بل لأن الواقع طلاق غير بائن، وهو الصحيح في المسألة ومنقول المزني والربيع عن النص. أعني وقوعه رجعيًا ولا مال، ويمكن أن يقال حذف قوله بدينار عن درجة الاعتبار، أو حذفت الباء عن معنى العوضية وحملت على السببية.
واعلم أن معنى السببية أعم من معنى العوضية، فبعتك بدرهم معناه بسبب درهم أخذته مقابله، ومن ثم قال بعض النحويين باء العوض هي باء السبب وهو الصحيح؛ فإذا انتفى خصوص العوض لم يبعد بقاء عموم السبب فيحمل على عموم السببقية أو غيرها. والحاصل انتفاء باء العوض هنا لما دلت القرينة اللفظية عليه وهي اشتراط الرجعة واحتمل أن لا تحذف الباء عن درجة الاعتبار، ولا اشتراط الرجعة، ولا يخفي أن المصير إلى هذا لو تم أوجه؛ لأن الأعمال خير من الإهمال. وكيف السبيل إلى ذلك.
ويحتمل أن يقال دلت الباء على أن الطلاق ليس مجانًا، ولكنه بعوض.
غير أن خصوص الدينار منفي، لكونه أوقفه على شرط لا يحصل معه، ودل الشرط على أنه لايكون إلا عند حصول الدينار فإذا انتفى الدينار ولم يكن شرطًا، وبقي أصل العوض، فيرجع إلى مهر المثل ويقع بيانه، وكان هذا خلع بشرط فاسد، فألغي
__________
1 سورة المائدة آية: 6.
2 سورة البقرة آية: 54.
3 في "ب" للعوض.(2/215)
الشرط، كما إذا خالعها بشرط أن لا عدة عليها وألغي تعيين العوض إذا لم يسلم له الشرط وحصلت البينونة بالعوض الشرعي وهنا دقيقة وهي أن ما ثبت بالشرع أولى مما يثبت بالشرط ومهر المثل ثبت في الخلع بالشرع فهو أولى من العوض الذي يعينه المختلع، وكذلك الرجعة تثبت في الطلاق الرجعي بالشرع؛ فهي أولى من إثباتها بالشرط.
فمن ثم قال بعض الأصحاب الاحتمال الأول يثبت في الرجعة لا بقوله، بل بالشرع، ويسقط العوض مطلقًا وقال الأصحاب هذا الاحتمال يثبت مطلق لعوض لا بقوله بل الشرع الذي أثبت في كل خلع عوضًا ويسقط شرط الرجعة، وهذا هو اختيار المزني وطائفة من الأصحاب منهم الإمام والغزالي.
ويحتمل أن يصح الخلع ويثبت المسمى وتثبت الرجعة، ويكون المال عوضًا عما نقص من عدد الطلاق، وهذا مروي عن مالك رحمه الله، ولا يمكن القول به عندنا.
ويحتمل أن يسقط شرطه للرجعة ويثبت المال المعين، وهو منقول عن أبي حنيفة رحمه الله وأحمد رضي الله عنه ورواية عن مالك رضي الله عنه؛ فانظر تصرف الأئمة رحمهم الله في مدلولات الألفاظ وحرصهم على أعمال الكلام ما وجدوا إليه سبيلًا.
فرع: إذا قال أنت طالق برضا فلان أو بقدومه فهو تعليق؛ كقوله إذا رضي أو قدم. قاله صاحب التهذيب وحكاه عند الرافعي في فصل التعليق والسنة والبدعة.
ورأيت أنا في التهذيب مع جزمه مع أكثر الأصحاب بأنه لو كان موضع الباء اللام كان للتعليل، واقتضى الوقوع وإن لم يكن فلان راضيًا، وليس لنا باء للتعليق.
ولعل مراده بالعوض ونفي عنها السبب كما قدمناه.
مسألة:
بعد ظرف [زمان] 1 دل على تأخر سابقه عن لاحقه عكس قبل؛ فإذا قال وقفت على أولادي وأولاد أولادي بطنًا بعد بطن ترتب، وهو الصحيح، وفاقًا للشيخ الإمام، وخلافًا للرافعي والنووي.
مسألة:
بل حرف إضراب يتلوه جملة ومفرد؛ فإن تلاه جملة كان الإضراب بمعنى الانتقال من غرض إلى آخر وإما بمعنى الإبطال ومن ثم لم يسمع قوله هذا الدار لزيد بل لعمرو في إبطال إقراره لزيد؛ إذ ليس له أن يبطل ما أقر به فليسلم لزيد ويلزمه غرم قيمتها لعمرو على الصحيح وإن تلاها مفرد فهي عاطفة، ثم إن تقدمها إثبات نحو
__________
1 في "ب" الزمان.(2/216)
أضرب زيدًا بل عمرًا، وقام زيد بل عمرو فقال النحاة هي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه فلا يحكم عليه بشيء ويثبت ما بعدها.
وأقول هذا في الخبر واضح، أما في الأمر نحو اضرب زيدًا بل عمرًا لو فرض وروده في كلام الشارع فالظاهر أنه نسخ قبل الفعل.
وإن تقدمها نفي ولو نهيًا فهي لتقدير ما قبلها على حاله وجعل ضده لما بعدها، نحو ما قام زيد بل عمرو، ووافق المبرد على ما ذكرناه، غير أنه أجاز مع ذلك أن تكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها.
ويتخرج على الخلاف ما الذي لك عندي دينارًا بل درهمًا، [أو] 1 بل درهم ويختلف المعنى فإن نصبت الدراهم اتجه أن لا يجب شيء، وجاز النصيب بعد بل لأن المعطوف على خير ما ليس موجبًا فلم يتعين رفعه بل وجب النصب؛ لأن التقدير: "بل ما الذي لك عندي درهمًا" وحينئذ لا يجب الدرهم لكونه نفاه ولم يتقدم منه إثباته ولا الدينار لنفيه إياه أولًا.
فإن قلت: لكن مفهوم "بل" إثباته.
قلت: إن سلم أن مفهوم فالأقارير لا تثبت بالمفاهيم.
وإن رفعت الدرهم كنت مقرًا به؛ إذ التقرير "بل الذي عندي درهم".
مسألة: بلى: حرف جواب مختص بالنفي مفيد لإبطاله سواء كان جوابًا لاسفتهام أو لخبر منفي
فالأول: مثل أليس لي عليك ألف؟ فيقول: بلى.
والثاني: مثل أليس لي عليك ألف؟ فيقول: بلى؛ غير أنه في هذه الثانية يكون مقرًا لمنكر؛ وإنما كانت2 كذلك لكونها ردًا للنفي الذي في كلام المستفهم أو المخبر ونفي النفي إثبات، وعلى ذلك ورد في الاستفهام التقريري قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 3 معناه أنت ربنا ولذلك قال ابن عباس لو قالوا نعم لكفروا ووجه ذلك بأن نعم تصديق لما وقع الإخبار عنه بنفي أو إثبات هذا مقتضى اللغة ولذلك يلزم من قال "بلى" في جواب من قال: أليس لي عليك كذا.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" زيادة بلى.
3 سورة الأعراف آية: 172.(2/217)
فإن قلت: وهو الصحيح فيما لو قال: "نعم" مع أن "نعم" تقرير للمسؤول عنه فإن كان نفيًا فمقتضاها النفي، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما لو قالوا نعم لكفروا.
وحينئذ فيكون الجواب بنعم معناه نفي أن له عنده فكيف حكمتم بأنه إقرار.
قلت: إنما حكمنا بذلك للعرف. وإلا فموضوعه اللغوي ما ذكرت.
فإن قلت: ما تقولون فيما إذا أجاب في الإثبات ببلى فإنه على خلاف وضع اللغة إذا وضعها تحقيق ما سأل عن نفيه لا ما سأل عن ثبوته.
قلت: قال أصحابنا إنه إقرار لما اشتهر في العرف من استعمالها في تحقيق الجواب وإن كان إثباتًا، وهو نظير ما قلناه في "نعم" وخالفهم الشيخ الإمام وقال: لا يكون إقرارًا ومنع اطراد العرف، وبتقديره قال: ينبغي أن يطرقه الخلاف فيما تقدم.
مسألة:
تاء التأنيث: تدخل على اسم العدد من ثلاثة إلى عشرة إذا كان المعدود مذكرًا وتخرج إذا كان مؤنثًا؛ فعلى هذا إذا قال عشرة من الإبل كان للذكور وإن قال عشرًا كان للإناث.
وهو الصحيح عند الوالد رحمه الله في باب الوصية إلا أن يكون القائل جاهلًا، ورجح الرافعي والنووي أنه لا فرق.
[قلت] 1 تجيء التاء المذكورة للمبالغة كراوية لكثير الرواية، [ولتأكد] 2 المبالغة كعلامة، فإنا استفدنا المبالغة من صيغة فعال المشدد العين.
ووقع كلام الإمام في النهاية في باب القذف في المسألة التي سنذكرها عن بعضهم أن علامة ونسابة كراوية، وليس كذلك إذا علمت هذا فإذا قال الرجل: يا زانية فمذهبنا أنه قاذف خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله؛ غير أن مأخذ مذهبنا في ذلك قيل فيه إن اللحن فيما نحن فيه لا يمنع وهذا هو الذي ارتضاه الإمام وغيره وقيل لأن التاء للمبالغة؛ فقد قذف وزاد.
وقال الرافعي: ولم يرتض الإمام وآخرون هذا النبأ، وقالوا: ليس هذا مما يجري فيه القياس، ولا يصح أن يقال لمن يكثر القتل قاتلة وقتالة، كذا قال الإمام في النهاية وعبارته
__________
1 في "ب" مسألة.
2 في "ب" لتأكيد.(2/218)
أن هذا باطل قال: "لأنه لم يتمهد قياسًا مطردًا، فلا يقال لمن كثر منه القتل "فلان قاتله".
ولسان العرب ينقسم إلى ما لا قياس فيه أصلًا؛ وإنما المتبع فيه السماع المحض وإلى ما يطرد فيه القياس، وإلى ما يجري فيه قياس مقرون بالسماع، ولا حاجة إلى [التعليل1 بمثل هذه انتهى.
قلت: الحاصل أنه موقوف على السماع، ويؤيد هذا أن شيخنا أبا حيان جزم في باب الحال في كلامه على صيغة "كأنه" أن -رواية شاذ وأن مثل هذا موقوف على السماع لكن في كلام أبي علي الفارسي ما نصه. [وإلحاق هذه التاء بعد ما تزيد فيه المبالغة جائز] 2.
مسألة: "ثم" حرف عطف للتشريك والترتيب والمهلة
خالف قوم في اقتضائها الترتيب، وآخرون في اقتضائها المهلة وذهب إليه من الفقهاء القاضي أبو عاصم؛ فقال: إذا قال وقفت على أولادي ثم أولاد أولادي لا يقتضي الترتيب مع قوله إن الواو للترتيب.
ولعل الجمع بين هاتين المقالتين خرق للإجماع، ولكن مأخذ أبي عاصم أن الوقف إنشاء فلا يعقل فيه ترتيب، وليس ذلك من ثم؛ كذا نبه عليه الوالد رحمه الله تعالى في كتاب الطوالع المشرقة.
ونظيره ما قاله الرافعي في آخر باب القسم والنشوز لو قال: طلقها ثم خذ مالي منها جاز تقديم أخذ المال على الطلاق فإنه زيادة خبر انتهى.
فذلك لأنه زيادة خبر كما تقدم، لا لعدم اقتضاء ثم الترتيب ولأنه أيضًا ترتيب في الإنشاء، لأن خذ إنشاء فاجتمع في هذه الصورة شيئان الإنشاء وزيادة الخبر وكان الترتيب منهما لا من ثم.
مسألة:
"حتى" البحث فيها كما في إلى، وقد تقدم3
__________
1 في "ب" التعلق.
2 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
3 في "ب" زيادة دون، زها، سلخ، سنة، شطر.(2/219)
مسألة:
"على" ذكرا لنحاة مجيئها حرفًا بمعنى الاستعلاء والمصاحبة والمجاوزة والتعليل والظرفية والاستدراك وموافقة من والباء وقد كثر استعمال الفقهاء لها في التعليل وشاهده في التنزيل {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم} 1 وقوله: {اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} 2.
وفي الاستدراك والإضراب: كقولهم فلان لا يدخل الجنة على أنه لا ييأس من روح الله، ومنه:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد3
وكثر استعمالهم لها أيضًا عوضًا، مثل أنت طالق على ألف، ونحو بعتك على أن تعطيني عشرة جزم الرافعي في الصداق بأنه يصح، وحكاه الشيخ الإمام عنه في أوائل كتاب البيع وسكت عليه فليحمل على معنى الباء التي بمعنى العوض لا الباء من حيث هي ولم أجد له شاهدًا.
[وكثر استعمالهم لها أيضًا شرطًا] 4، ولم أجد من ذكره من النحاة في معانيها، وأذكر أن الوالد رحمه الله بحث عن ذلك وأطال كلامه "فيه معنا لما"5 انتهى في شرح المنهاج إلى نكاح الشغار، ولا أعرف ما الذي تحصل عليه من ذلك.
وقد قال الغزالي صورة الشغار [أن يقول] 5 زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك على أن يضع كل واحد منهما صداق الأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي انعقد نكاح ابنتك.
وقال القفال: إنه يبطل للتعليق.
فانظر كيف فهم التعليق من على؟
__________
1 سورة الحج آية: 37.
2 سورة الحج آية: 28.
3 البيت من الطويل لابن الدمينة انظر ديوانه 82، مغني اللبيب 1/ 145، شرح الأشموني 2/ 223،
والشاهد في البيت استعمال
.................... ... على أن قرب الدار خير من البعد
فأبطل بعلى عموم قوله "لم يشف ما بنا".
4 في "أ" وكثر استعماله أيضًا شرط والمثبت من "ب".
5 سقط في "ب".(2/220)
وقال بعض الأصحاب أظنه القاضي الحسين إنما يبطل إذا قصد توقيف الانعقاد فليبحث عن ذلك.
ويشهد لمجيئها شرطًا قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَج} 1 وقول بعض الصحابة لعثمان أبايعك على كتاب الله، وقد استعملها الفقهاء شرطًا في نكاح الشغار كما [عرفت] 2 وفي الخلع، وفي خالعتك على هذا الثوب على أنه هروي، وفيما لو نكحها على أن لا يطأها [إلا مرة، أو أن لا يطأها] 3 إلا نهارًا، وفي باب الصداق فيما لو نكحها على أن لأبيها ألفًا.
تنبيه: تستعمل "على" بمعنى الوجوب وهو راجع إلى الاستعلاء نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس على كل ... " ونحو قول الشافعي رضي الله عنه على الآباء [والأولاد] 4 أن يؤدبوا أولادهم ويعلموهم الطهارة والصلاة وبمعنى الاستحباب.
فائدة: صح قوله صلى الله عليه وسلم لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه5 الحديث، وليس فيه من الإثم.
وفي المسألة وجهان رجح القاضي والإمام والغزالي أن كراهة المرور كراهة تنزيه، والصحيح أنه للتحريم، وعلى كافية في الدلالة عليه وإن لم يصرح بلفظ الإثم ووقع في الرافعي التصريح بلفظ الإثم، ولكن ليس هو في لفظ الحديث ولا يحتاج إليه أيضًا بلب التحريم يحصل بلفظ على.
مسألة:
"عند" اسم للحضور.
"غير" أصل وضعه الصفة، والاستثناء به عارض، عكس إلا.
وشرط غير أن يكون ما قبلها [يصدق] 6 على ما بعدها نقول مررت برجل غير
__________
1 سورة القصص آية: 27.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" الأبناء.
5 أخرجه البخاري 1/ 584 كتاب الصلاة حديث "510" ومسلم 1/ 363- 364 كتاب الصلاة حديث "261- 507".
6 في "ب" يكون.(2/221)
فقيه ولا يجوز غير امرأة، بخلاف لا النافية؛ فإنها بالعكس وهذا في غير العلمين، أما العلمان فيجوز العطف بـ "لا" وبـ "غير" وفي غير مسائل.
منها كل امرأة لي غيرك طالق، ولا امرأة [له] 1 سواها، قال القفال والقاضي الحسين: إن قصد الاستثناء وقع لكونه مستغرقًا وقال الشيخ الإمام لا يقع مطلقًا، وهو قضية كلام الخوارزمي في الكافي إذ قاله في سوى، ولا فرق بينها وبين غير هنا، وقد ذكرت المسألة فيترشيح التوشيح في باب العجائب والغرائب.
فرع: قال الرافعي: لو قال له عليّ درهم غير دانق فقضية النحو وبه قال بعض الأصحاب أنه إن نصب غير؛ فعليه خمسة دوانق لأنه استثناء وإلا فعليه درهم تام؛ إذ المعنى فعلي درهم لا دانق.
وقال الأكثرون السابق إلى فهم أهل العرف منه الاستثناء فيحمل عليه وإن أخطأ في الإعراب انتهى وأقره الوالد.
فأما قوله قضية النحو في النصب خمسة دوانق فليس على إطلاقه. بل لهم حال النصب إعرابان.
قال أبو علي الفارسي هو منصوب على الحال واختاره ابن مالك، وعزي إلى ظاهر كلام سيبويه؛ فعلى هذا يلزم درهم تام، وقال آخرون وهو المشهور أنه نصب على الاستثناء وعلى هذا يخرج كلام الرافعي.
وأما قوله: "وإلا فعليه درهم" يعني إذا رفع غيرًا، وهو واضح؛ فإنها حينئذ صفة، والمعنى "درهم موصوف بأنه غير دانق"؛ ولكن يبقى ما إذا جر "غيرًا" ولا يخفى أنه لحن؛ غير أنه هل هو عدول عن النصب فيعطى حكمه أو عن الرفع؟ فيه نظر واحتمال.
مسألة: "الفاء" للتعقيب في كل بحسبه
[ومن ثم إذا مت فشئت فأنت حر اشترط لحصول العتق إيصال المشيئة بالموت، وهو الصحيح.
مسألة: إذا دخلت الفاء على الخبر نحو الذي يأتيني فله درهم أو كل رجل يأتيني
__________
1 سقط في "ب".(2/222)
أو من يأتيني سواء كانت من شرطية أو موصولة كان الدرهم في مقابلة الإتيان، وإن كان لم تدخل فالكلام إخبار محض، والقضية لا معارضة فيها، ومن ثم كل من عبارة الأصحاب في الجعالة] 1.
مسألة: "في" للظرفية الزمانية والمكانية
فلو قال أنت طالق في مكة يوقف طلاقها على الحلول بمكة كذا نقله العبادي عن البويطي، ونقل الرافعي عنه أنها تطلق في الحال؛ لأن المطلقة في بلد مطلقة في باقي البلاد ولك أن تقول حتى يصدق قبل الحلول بمكة أنها مطلقة في بلد.
مسألة:
قد [حرف تحقيق تدخل على الماضي المنصرف لتقريب زمانه في الحال، وعلى المضارع ولا يفيد تعليلًا فيه؛ بل التوقع فإذا قال لعبد غيره قد اعتقتك] 2.
مسألة:
قبل [الذي هو ضد بعد مدلوله التقديم ولا يستدعي وجود مسبوقيه المقطوع بأن سيوجد.
وفي المحتمل تردد ألا ترى قول إسماعيل البوشنجي فيمن قال أنت طالق قبل أن تدخلي الدار أنه يحتمل وجهين أحدهما كقوله قبل موتي وأصحهما لا يقع حتى يوجد؛ فحينئذ يقع مستندًا إلى ذلك الشيء؛ لأنه الصفة تقتضي وجوده ذكره الرافعي في تعليق الطلاق] 3.
مسألة:
كاد من أفعال المقاربة، وأمرها في الإثبات واضح، وأما إذا نفيت فذهب الزجاجي4 أنها نفت المقاربة، قالوا ويلزم منها نفي الفعل، ومن ثم جعلوا مذهبه أنها تبقي إذا بقيت كغيرها من الأفعال، وقالوا في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 5 معناه: لم
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 هو الحسن بن محمد بن العباس القاضي أبو علي الطبري الزجاجي أخذ عن ابن القاص.
له كتاب زيادات المفتاح وله كتاب في الدور.
طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 139- 140، معجم المؤلفين 3/ 284.
5 سورة النور آية: 40.(2/223)
يرها ولا قارب رؤيتها، وفي قوله: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} 1 [أنه لا يسيغه] ولا يقارب إساغته وهذا رأي شيخنا أبي حيان.
ومذهب أبي الفتح أن نفيها يدل على وقوع الفعل بعد بطء بدليل {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 3 ومن ثم قيل إذا دخل عليها نفي أثبتت، وأنشد عليه.
أنجوي هذا العصر ما هي لفظة ... جرت بلساني جرهم وثمود4
وجرى على هذا الشيخ الفراء فقال في فتاويه: إذا قال لامرأته: ما كدت أطلقك يكون هذا إقرارًا بالطلاق فيحكم عليه بالوقوع. وهذا فيه نظر؛ إذ لم يصدر لعارف مدلول هذه اللفظة معتقد فيها هذا الاعتقاد.
وجمع ابن مالك بين المذهبين فقال في التسهيل وتبقى كاد إعلامًا بوقوع الفعل غدًا ولعدمه وعدم مقارنته ولقد أجاد؛ فإن لهما هذين الاستعمالين.
أما إعلامها بوقوع الفعل غدًا. وهو مذهب أبي الفتح فبدليل الآية ولإمكان ذلك رجع ذو الرمة في قوله:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح5
أما إعلامها بعدم الفعل وعدم مقارنته وهو الاستعمال الثاني؛ فهو مذهب الزجاجي، وقد ذكرنا من شواهده وإذا ثبتت الاستعمالان في لغة العرب تعين مذهب ابن مالك؛ غير أن الأول منهما فيما [أحسب] 6 أكثر.
والحاصل أن كاد معناها قارب؛ فإذا قلت ما كاد فقد نفيت المقاربة ولا يلزم من نفيها نفي الفعل؛ فإنك تقول خلص فلان وما كاد يخلص وتقول نجا وما قارب النجاة
__________
1 سورة إبراهيم آية: 17.
2 سقط في "ب".
3 سورة البقرة آية: 71.
4 البيت من الطويل لأبي العلاء المعري انظر جمع الهوامع 1/ 132، الأشموني 1/ 132، الأشموني 1/ 268، والشاهد كما ذكر المصنف رحمه الله.
5 والبيت من الطويل لذو الرمة والبيت في شرح المفصل 7/ 124.
إذا غير الهجر المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
6 في "ب" يحسب.(2/224)
كما تقول: ما نجا ولا قارب النجاة فنفيها نفي أخص، فتحته ضربان.
هذا الذي أفهمه منها، وبه يظهر سداد مذاهب ابن مالك، وحمله اختلاف الزجاجي وأبي الفتح على أن لها استعمالين، ولا أرى لخلاف ذلك وجهًا، وقولهم يلزم من نفي المقاربة نفي الفعل فيه نظر؛ فقد تبقى مقاربته مع وقوعهن لكن ذلك قليل، ولا يقال كل من فعل قد سبق فعله مقاربته للفعل؛ لأنه قد يفعل ولا يكون عند فعله بحيث يفعل، بل يهجم هجمًا فيقال فعل، وما كان يفعل.
مسألة:
"كم" خبرية بمعنى كثير، واستفهامية بمعنى أي عدد.
وليست الاستفهامية أصلًا لها؛ خلافًا للزمخشري حيث ادعى ذلك من سورة يس عند الكلام على {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} 1 وهو مقتضى كلام ابن مالك في التسهيل.
وهما مشتركان في الافتقار إلى التمييز؛ إلا أن تمييز الخبرية واجب الخفض وتمييز الاستفهامية منصوب، وفي جره مذاهب؛ ثالثها الصواب جوازه بشرط أن تجر كم بحرف جر وحينئذ فالجر أقل من النصب.
وفيه مسائل: منها إذا قال بع بكم شئت قال الأصحاب له البيع بالغبن الفاحش، ولا يجوز بالنسيئة ولا بغير نقد البلد، ولك أن تقول إن كان هذا العرف فيه هذا اللفظ فجيد؛ غير أنا لا نجد فيه عرفًا؛ وإلا فهذا اللفظ أولًا غير عربي، لأن كم لها الصدر فلا يتقدم عليها قوله "بعه".
ومن ثم غلط شيخنا أبو حيان بن عطية2؛ إذ قال في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} 3 أبدلت "أن" وصلتها من "أل".
وقال عامل البدل هو عامل المبدل منه يروا فكم لها الصدر؛ فلا يعمل فيها ما قبلها، وإن قدره أهلكنا فلا تسلط له في المعنى على البدل.
__________
1 سورة يس آية: 31.
2 عبد الحق بن غالب بن تمام بن عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن عطية الغرناطي، قال ابن الزبير: كان فقيهًا جليلًا عارفًا بالأحكام والحديث والتفسير نحويًا لغويًا أدبيًا بارعًا شاعرًا توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بغية الوعاة "2/ 73".
3 سورة يس آية: 31.(2/225)
وثانيًا: كم فيه لا يصلح أن تكون خبرية؛ لأن هذا الكلام لإنشاء التوكيل بالبيع بما يراه، ولو جعلت خبرية أمكن أن يتحمل لها أن لا تكون للصدر على لغة حكاها الأخفش1 وذكر أنهم يقولون ملكت كم غلام أي ملكت كثيرًا ولكن لا يمكن؛ إذ لا تصح الخبرية هنا ولا الاستفهامية، إذ المتكلم لم يقصد الاستفهام، بل عقد التوكيل على هذه الصورة.
وبلغني أن أبا علي ذكر أن كم قد تشرب معنى أي. فإن أراد معنى أي مطلقًا فيتجه أن يقال هنا معنى قوله بكم شئت بأي شيء شئت.
وإن أراد معنى أي في العموم مع بقاء الاستفهام كما ذلك في أي الاستفهامية فلا يتخرج هنا؛ إذ لا استفهام في التوكيل وما يتنبه له أن مدلول كم تقتضي أن لا يبيع إلا بعدد أي عدد شاء فلو باع بواحد فلا يصح؛ إذ الواحد ليس بعدد كما هو الحق الصواب.
هذا موضوع كم وإطلاق الأصحاب يأباه، ونظير المسألة إذا قال الولي للوكيل زوجها بكم شئت فله تزويجها بأقل من مهر المثل برضاها ذكر الرافعي في الصداق.
مسألة:
"كيف" اسم يستعمل على وجهين للشرطية، وكيف استفهامًا وخبرًا للحال.
فإذا قال أنت طالق كيف شئت قال أبو زيد والقفال تطلق شاءت أو لم تشأ، وقال الشيخ أبو علي يتوقف طلاقها على صدر مشيئة منها في المجلس إما مشيئة أن تطلق أو مشيئة أن لا تطلق.
مسألة:
كان فعل يدل على إتصاف اسمه بخبره في الماضي.
واختلف الأصوليون في دلالتها على التكرار، وهي مسألة لم يذكرها النحاة، والنحاة قالوا في دلالتها على الانقطاع، وهي مسألة لم يذكرها الأصوليون.
قال بعض النحاة لا تدل على الانقطاع؛ بل هي ساكنة عنه.
وقال أكثرهم كما ذكر شيخنا أبو حيان تدل عليه ويتجه على هذا عدم قبول شهادة
__________
1 سعيد بن مسعدة أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط قرأ النحو على سيبويه وكان معتزليًا دخل بغداد وأقام بها مدة درس وصنف فيها من تصانيفه معاني القرآن، المقياس في النحو، إنباه الرواة 2/ 36، شذرات الذهب 2/ 36.(2/226)
[شاهد] 1 بأن هذه العين كانت ملك زيد، وهو الأصح.
وأما قول المدعي عليه "كان ملكك أمس"؛ فإنه وإن كان إقرارًا يؤاخذ به على الأصح فلأن الإقرار لا يكون؛ إلا عن تحقيق حتى لو استندت الشهادة إلى اليقين قبلت؛ وذلك بأن يقول "هو ملكه اشتراه"؛ كذا قال الرافعي.
ولك أن تفرق بين الشهادة والإقرار بأوضح من هذا فتقول: الإقرار لو قال كان له على الف فإقرار عند الشيخ الإمام، خلافًا للنووي.
مسألة:
كذا ترد على أنها كلمتان باقيتان على أصلهما كاف التشبيه، وذا اسم الإشارة ولا كلام فيهما، وعلى أنها أخرج جزءاها عن أصلهما واستعملا كناية.
بوهي ضربان: أحدهما أن تكون كناية] 2 من غير عدد، ومنه ما في الحديث عن يوم الحساب "أتذكر يوم كذا فعلت فيه كذا وكذا" ولاك كلام في هذه أيضًا.
والثاني وهو المراد، وهو غالب مواردها أن يكنى بها عن عدد مجهول الجنس والمقدار.
واختلف في كذا في هذين الضربين فقيل هي حرف التشبيه ركب مع اسم الإشارة، وأزال التركيب معنى المفردين، وأحدث للمجموع معنى لم يكن.
وقيل: لا تركيب، وهي كلمتان على أصلهما، والكاف للتشبيه ومعناه باق وهذا يعزي إلى سيبويه والخليل3
وقيل: الكاف اسم بمنزلة مثل.
وقيل: اسم ولا تشبيه فيه.
ثم قال النحاة في كيفية اللفظ بها ويميزها المكني بها عن غير عدد لفظها الإفراد والعطف؛ نحو مررت بمكان كذا، وبمكان كذا وكذا.
__________
1 سقط من "ب" والمثبت من "أ".
2 سقط في "ب".
3 الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي البصري أبو عبد الرحمن صاحب العربية والعروض، أستاد سيبويه.
توفي سنة خمس وسبعين ومائة.
بغية الوعاة 1/ 560.(2/227)
وأما في المكنى بها عن عدد؛ فليس إلا العطف ونصيب التمييز أبدًا؛ هذا قول سيبويه، وشذ سواه، ثم قال سيبويه هي للعدد مطلقًا قليلًا كان أو كثيرًا، وقال ابن مالك للتكثير مثل كم الخبرية.
ولا أدي هل يقول لا يكنى بها عما نقص عن أحد عشر لأنه عدد قليل أو لا يلزم ذلك.
إذا عرفت هذا؛ فلو قال له علي كذا وكذا درهمًا بالنصب وجب درهمان على المذاهب، وهو جار على مذهب سيبويه، وقال المزني1 والوالد رحمهما الله تعالى يلزمه درهم واحد.
مسألة:
اللام ترد لمعان كثيرة من أشهرها الملك والاختصاص والتعليل ويكثر في كلام الفقهاء ورودها للتوقيت؛ حتى قالوا في كتاب الطلاق اللام فيما ينتظر للتوقيت فإذا قال لها أنت طالق للسنة إذا لم يكن الحال حال سنة أو للبدعة إذا لم يكن الحال حال بدعة، يحمل على التأقيت؛ لأنهما حالتان منتظرتان يتعاقبان على المرأة تعاقب الأيام والليالي، ويتكرران تكرار الأسابيع والشهور، فأشبه ما إذا قال لرمضان معناه إذا جاء رمضان.
قالوا واللام فيما لا ينتظر مجيئه وذهابه للتعليل؛ وذلك مثل أن يقول أنت طالق لفلان أو لرضا فلان فيقع فيا حلال رضي أو سخط والمعنى أفعل هذا ليرضى.
فعن ابن خيران أنه إنما يقع في الحال إذا نوع التعليل، أما إذا أطلق فإنما يقع إذا رضى كقوله أنت طالق للسنة والمشهور المنصوص الأول؛ حتى لو قال أردت التعليق والتأقيت لم يقبل على الأصح؛ ولكن يدين هذا كلام الأصحاب، وفرقوا بين أن يأتي بالام كما ذكرنا، أو بالباء فيقول برضاء فلان كما قدمنا في حرف الباء عن صاحب التهذيب.
وأقول لم يتضح لي هذا كل الوضوح، وما قاله ابن خيران عندي قوي بل أقول ولو
__________
1 إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق أبو إبراهيم المزني المصري الفقيه ومن تصانيفه الجامع الكبير والمختصر.
- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 58، وفيات الأعيان 1/ 196.(2/228)
نووا التعليل؛ فكيف يقع في الحال إذا لم يكن قصده ليرضى، وما معنى التعليل إلا لوقوع رضاه، وليس معناه ليقع رضاه، وكأنهم أهملوا جانب الرضا واستعملوا أنت طالق معرضين عن سبب الطلاق، وهذا [مكان] 1 مشكل.
مسألة:
لو قال في التهذيب ما نصه ولو قال لولا لطلقتك لا يقع الطلاق؛ لأنه لم يرد الإيقاع بل أخبر أنه لولا حرمة الأب لطلقها، كما لو قال لولا أبوك لطلقتك انتهى ذكره في باب طلاق المريض.
[مسألة:
لعل أشهر معانيها التوقع، ومن ثم2] لو قال لي عليك ألف فقال لعل لم يكن إقرارًا.
مسألة:
ن لابتداء الغاية غالبًا، ولبيان الجنس وللتبعيض، وللتعليل، والبدل وغيرها.
وفيها فروع:
منها: لو قال: بع ما شئت من [مالي] 3 أو ما تراه من عبيدي أو طلق من نسائي من شئت؛ ففيها أربعة أوجه جمعها الوالد رحمه الله في "شرح المنهاج".
أحدها: بطلان الوكالة.
والثاني: الصحة في العبيد والنساء دون الأموال؛ لكونها أعم وأقرب إلى الجهالة.
والثالث: الصحة في الكل ولكن لا يستوعب بل يبقى بعضًا.
والرابع: الصحة، وله استيعاب الكل، وهو الأقرب عند الشيخ الإمام الوالد رحمه الله. قال: ولم أجد من صرح به إلا القاضي الحسين فإنه حكاه وجهًا في صورة الطلاق.
والنووي قال: في صورة بع ما شئت من [مالي] 4:
"الصحيح المعروف أنه يجوز وهو ما ذكره صاحب المهذب والتهذيب".
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" مال.
4 في "ب" مال.(2/229)
فاحتمل أن يريد جواز الوكالة في الجملة -فلا يكون هو ما رجحه الوالد وأن يريد الجواز مع استيعاب الكل، فكون هو إياه.
ومأخذ من أوجب إبقاء بعض أن من للتبعيض -كذا ذكره الإمام والروياني وغيرهما وفيه نظر؛ فإنه لا يصح أن يحل مكانها -هنا- بعض والذي يظهر أنها لبيان الجنس، وفيه يظهر أن له استيعاب الكل كما رجحه الوالد [ولو] 1 كانت للتبعيض للزم بطلان الوكالة كما ذكروه في "بع طائفة من مالي"؛ إذ لا فارق إلا التفويض إلى المشيئة، ولا يظهر له أثر ظاهر.
__________
1 في "ب" ولمن.(2/230)
الكلام في المركبات وما ينبني على العربية من الفروع الفقهية:
ونحن نوردها على أبواب النحو نختصر جدًا
باب [شرح] 1 الكلمة والكلام وما يتعلق به:
الكلام في اللغة: يطلق على الكلمة الواحدة -مستعملة أو مهملة- وأقل ما تكون الكلمة على حرفين.
وأما عند النحاة: فالكلام ما تضمن من الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاته. جعلوا الكلم أعم من الكلام، وخصصوا الكلام بالمستعمل، واحترزوا بالإسناد عن النسبة التقييدية، كنسبة الإضافة نحو: غلام زيد، ونسبة النعت نحو: جاء الرجل الفقيه، واحترزوا بالمقصود لذاته عن الجمل التي تقع صلة، نحو: جاء الذي خرج أبوه، وعرف من هذا أن الجملة قد لا تكون مفيدة، بخلاف الكلام.
إذا عرفت هذا فالمراد بالكلام -في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين" 2 -هو ما يعنيه اللغوي لا النحوي؛ فإن المصلي لو نطق بحروف مهملة بطلت صلاته.
وعلم من اختلاف الطريقتين أن حديث الساهي والنائم كلام عند اللغوي لا النحوي؛ فلو حلف لا يكلم زيدًا -قال الرافعي في آخر تعليق الطلاق ...
مسألة 3:
المضارع "حقيقة" في الحال مجاز في الاستقبال أن علته أو مشترك أقوال.
__________
1 سقط في "ب".
2 أخرجه مسلم بلفز "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... " الحديث 1/ 381 - 382 كتاب المساجد حديث "33- 537".
3 سقط في "ب".(2/231)
ومن فروعه: لو قالت: "أطلق" عقيب قوله: "طلقي نفسك" وأرادت الإنشاء -وقع فيا لحال وإن لم ترد شيئصا لم يقع شيء لأن مطلقه للاستقبال. نقله الرافعي عن البوشنجي.
ولو قال: أقسم بالله لأفعلن فالأصح أنه يمين.
ولو أوصى بما تحمله هذه الشجرة أعطي الحمل الحادث دون الموجود -قاله في الجعالة نقلًا عن الماوردي.
مسألة:
يطلق الكلام على الكتابة والإشارة وما يفهم من حال الشيء وهو إطلاق مجازي.
باب النكرة والمعرفة:
قدم ابن مالك في التسهيل تعريف المعرفة على النكرة ثم عرف النكرة بما سوى المعرفة وعكس في الألفية فقدم تعريف النكرة وعرفها بقابل "أل" المؤثرة كرجل أو الواقع موقع قابلها1 نحو: ذي، ومن، وما في قولك: مررت برجل ذي مال، وبمن معجب لك وبما معجب لك؛ فإنها واقعة موقع صاحب وإنسان وشيء.
ووجه المتكلمون عليه تقديمه النكرة على المعرفة بأنها الأصل. والتحقيق عندي أن النكرة إن عرفت بدال على الوحدة فهي قسيمة المعرفة وينبغي تقديم المعرفة حينئذ؛ إذ ليست النكرة أصلًا، وإن عرفت بالمطلق -أعني الدال على الماهية من حيث هي- فهي الأصل وتقديمها متعين.
ثم الصواب عندنا أنها الدال على الوحدة فإذا صنيع التسهيل أحسن.
وقد فرق الفقهاء بين النكرة والمطلق بدليل.
فرع: قال علي ألف في هذا الكيس فلم يكن فيه شيء لزمه الألف لأنه أقر بالألف ثم وصفها بصفة مستحيلة فيلغو المستحيل ولا يجري فيه خلاف بعقيب الإقرار برافع لأن ذلك عند انتظام الكلام وإن كان فيه أقل فالصحيح لزوم الإتمام.
__________
1 قال ابن مالك:
ونكرة قابل أل مؤثرًا ... أو واقع موقع ما قد ذكرا(2/232)
ولو قال على [الألف] 1 التي في هذا الكيس فلم يكن فيه شيء لم يلزمه [الإتمام] 2 على الأصح عند النووي والوالد وإن كان فيه دون الألف لم يلزمه الإتمام على الصحيح والفرق بين التنكير والتعريف أن الإخبار عن المنكر الموصوف في قوة خبرين فأمكن قبول أحدهما وإلغاء الآخر [والإخبار] 3 عن المعرفة الموصوفة تعتمد الصفة؛ فإذا كانت مستحيلة بطل الخبر كله.
تحقيق: اشتهر بين الناس أن الاسم إذا كرر ذكرًا فإن كانا معرفتين؛ فالثاني هو الأول4 كما [قلنا] 5 في القسم الأول، وإن كان الأول معرفة والثاني نكرة فخلاف فالأول والثاني كالعسر واليسر في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} واستدل على ذلك بما روي مرفوعًا عن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم "لن يغلب عسر يسرين". وخرج الحاكم هذا اللفظ في مستدركه في تفسير سورة آل عمران6.
وأما الثالث: فكقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} 7 وحاصل هذا جعل اللام للعهد.
والرابع: كقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 8. فقرآنًا نكرة بعد القرآن المعرف وهو هو، وقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا} 9 فالثاني غير الأول. هذا حاصل كلامهم في هذه القاعدة، ولم يتحرر لي فيها قول [بت] 10 فإن قولهم في المعرفتين: أن
__________
1 في "ب" ألف.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" زيادة: وإن كانا نكرتين فالثاني غيره وإن كان الأول نكرة والثاني معرفة فالثاني هو الأول.
5 في "ب" قلناه.
6 2/ 132 كتاب التفسير.
7 سورة المزمل آية: 15- 16.
8 سورة الزمر آية: "27- 28".
9 سورة النساء آية: 153.
10 سقط في "ب".(2/233)
الثاني هو الأول يرد عليه قوله تعالى في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 1 وكذلك في سورة العنكبوت: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} الآية2 ولا يخفي أن الكتاب في الآيتين ثانيًا غيره أولًا -وهما معرفتان- وقولهم في النكرتين: أنهما غيران قد يورد عليه نحو: قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} 3 ولا يخفى أن الضعف ثانيًا هو الأول -وهما نكرتان.
وكذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 4، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 5. فإن قلت: قد عرف الاتحاد فيما يكون من خارج.
قلت: فقيد إطلاقك أن النكرتين غيران بما يندفع عنه مثل هذا، ولا يتبين لي الآن تحريرًا لتقييده.
ومما يرد أيضًا قول أصحابنا قاطبة -في أنت طالق نصف طلقة وربع سدس طلقة- إن الواقع واحدة بخلاف ما إذا عطف بالواو فقال: نصف طلقة وربع طلقة وسدس طلقة وكان قضية القاعدة أن يكون ثلاث طلقات في الصورتين، ولا أثر للعاطف.
وقالوا -في عبتك نصف وثلث وسدي دينار: إنه له دفع شق من دينار، ولا يجب دفع دينار صحيح.
وفيه للوالد رحمه الله منازعة لسنا لها الآن، وقد حاول الأخ سيدنا وشيخنا وبركتنا شيخ الإسلام ومحقق العلماء وبركتهم أبو حامد أحمد -أحمد الله عواقبه- في كتاب شرح التلخيص تحرير القاعدة فقال ما ملخصه: التحقيق أن يقال: إن كان الاسم عامًا في الموضعين فالثاني هو الأول؛ لأن ذلك من ضوررة العموم، وسواء كانا معرفتين [عامتين] 6 أو نكرتين حصل لهما العموم بالموقع في سياق النفي.
أما إذا كانا عامين -وهما معرفة ونكرة- فسنذكره.
__________
1 المائدة آية: 48.
2 العنكبوت آية: 47.
3 سورة الروم آية: 54.
4 سورة البقرة آية 217.
5 سورة الزخرف آية: 84.
6 في "ب" عامين.(2/234)
وإن كان الثاني عامًا فقط فالأول داخل فيه؛ لأنه بعض أفراده -سواء المعرف والمنكر- ويلتحق بهذا القسم في دخول الأول في الثاني إن كانا عامين والأول نكرة كقوله تعالى:
{لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ، [أي لا يملكون شيئًا من الرزق فابتغوا عند الله كل رزق] 1، أو جنس الرزق.
وإن كانا خاصين -بأن يكونا معرفتين بأداة عهدية- فكذلك بحسب القرينة الصارفة إلى المعهود.
باب المضمر:
مسألة:
من المضمرات أنت -بفتح التاء للمذكر، وكسرها للمؤنث، وقد تعكس -بتقدير الذات أو نحوها- ويحتاج إلى ذلك عند الصلاة على ميت مجهول أذكر هو أم أنثى بقوله: اللهم اغفر له وارحمه؛ ينبغي عود الضمير على شخص الميت- رجلًا كان أو امرأة.
ولو قال لرجل: زنيت -بكسر التاء- أو للمرأة بفتحها كان قذفًا -على ما قاله الرافعي- أو اللعان قال: وكذا زان للمرأة، وزانية للرجل وفيه قول قديم.
مسألة:
الضمير المسمى عند البصريين فصلًا وعند الكوفيين عمادًا صيغة ضمير مرفوع منفصل يتوسط بين المبتدأ والخبر نحو: هو من قولك: زيد هو القائم أو ما أصله المبتدأ أو الخبر نحو: كان زيد هو القائم وإن زيدًا هو القائم.
مسألة:
إذا سبق الضمير مضاف ومضاف إليه، وتعذر عوده إلا إلى واحد منهما تعين عوده إلى المضاف لأنه المتحدث عنه، دون المضاف إليه، لأنه جاء استطرادًا بطريق [التبع]-
وهو تعريف المضاف أو تخصيصه، وكذا قاله شيخنا أبو حيان وجماعات، وهو معتمد أئمتنا في ردهم على الظاهرية حيث زعموا -في قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 2 إن الضمير للخنزير لا للحمه محتجين بأنه أقرب مذكور، وجوابهم أن
__________
1 سقط في "ب".
2 سورة الأنعام آية: 140.(2/235)
الأقربية شرطها أن يكون متحدثًا عنه، وقد استدل بالآية -على نحو استدلالهم- ومن أصحابنا المارودي في تفسيره.
فائدة: ذهب ابن حزم إلى أن من نسي صلاة وجب عليه - إذا تذكرها- قضاؤها في مكان غير الذي غفل فيه عنها- وهي مسألة التحول.
قالت الظاهرية: "يجب التحول عن مكان الغفلة" ووافق على أن لا يتعين قضاؤها في وقتها، وعلى أنه لا يتعين أن يقضي معها مثلها، ثم ذكر حديث النسائي: "من أدرك منكم صلاة الغداة فليقض معها مثلها "1، وقال: "إنه مشكل".
ثم أجاب عنه بأن الضمير في "معها" للغداة لا للصلاة -أي فليقض مع الغداة مثل الصلاة- على حد صنعهم في "فإنه رجس". قاله فرارًا من أن يوجب ثنتين، ولكن يلزمه أن يتعين القضاء في وقت الغداة وهو لا يقول به.
مسألة: إذا اشتكرت الجملتان -المعطوفة إحداهما على الأخرى- في اسم جاز أن يؤتي به في الثانية ظاهرًا، فيجوز أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، كما يجوز وأن محمدًا رسوله نحو: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه} 2؛ بل الإتيان به ظاهرًا في صيغة الشهادة خير؛ ألا ترى إلى اختلاف الأصحاب في أجزاء قول القائل في التشهد في الصلاة "وأن محمدًا رسوله" هل يقوم قمام "رسول الله" لكن المأخذ الفقهي في ذلك التعبد بالاسم المعظم لا ما يتعلق بصناعة اللسان.
باب الموصول:
مسألة:
"من": للعقل، وقد يقع على غيره -قيل: مطلقًا- والصحيح إذا اختلط بالعاقل.
"وخما" لغير العاقل، وقد يطلق على العاقل قيل: مطلقًا، وقيل: إذا اختلط ويطلق أيضًا على العاقل إذا جهل أذكر هو أم أنثى.
وقد يصنع هذا في "من" ألا ترى إلى "مسألة" في حجر وقع من سطح؛ فقال الزوج: إن لم تخبريني من رماه فأنت طالق المسألة المنقولة عن القاضي الحسين وقد
__________
1 أخرجه أبو داود 1/ 120 كتاب الصلاة حديث "838".
2 الأحزاب "71".(2/236)
تكلمنا عليها في ترشيح التوشيح؛ فالظاهر أنه إنما أتى "بمن" للجهل بالرامي [] 1 ومراده إن لم تخبرني براميه.
مسألة:
الموصول الحرفي: ما أول ما يليه بمصدر ولم يحتج إلى عائد، واحترزنا بقولنا: مع ما يليه عن اسم الفعل، نحو صه؛ فإنه يؤول بمصدر إن لم ينونن وينكره إن نون، والفعل المضاف إليه اسم زمان نحو: قمت حين قاموا، والضمير العائد على المصدر المفهوم من فعل قبله نحو: اعدلوا هو أقرب فإن هذه كلها مؤولة بمصادر لكن لامع ما يليها، بخلاف الموصول الحرفي، فإن تأويله بمصدر يكون مع ما يليه.
ويقيد عدم احتياجه إلى عائد، الذي إذا وصف به مصدر ثم حذف المصدر وأقيم هو مقامه؛ فإنه إذا ذاك يؤول مع ما يليه بمصدر إير أنه يحتاج إلى عائد؛ فليس بموصول حرفي، ومثاله:
قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} 2 أي كالخوض الذي خاضوا. إذا عرف هذا فاعلم أن النحاة لم يزيدوا على أن الموصول الحرفي مؤول بمصدر، فيقدرون أن والفعل في نحو: يعجبني أن تقوم بالقيامٍ، أما أن دلالتهما على القيام يكون سواء فلم يتعرضوا لذلك، وللشيخ الإمام رحمه الله كلام نفيس [فيه تقدم] 3.
"باب المبتدأ":
مسألة:
لا بد أن يطابق الخبر المبتدأ فيتحد به معنى وإن غايره لفظًا. ومن هنا نتطرق إلى جواب عن إشكال أذكره قائلًا: اختلف أصحابنا فيما إذا قال: هذه الدار بعضها لزيد وبعضها لعمرو هل تجعل بينهما نصفين أو يكون مجملًا.
يرجع فيه إلى إقراره ويقبل تفسيره بأن لزيد منها أكثر مما لعمرو-؟ على وجهين، نظيرهما إذا قال: أنت طالق ثلاثًا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة.
وفي مسألة الطلاق هذه ثلاثة أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يقع طلقتان في الحال الأول، وطلقة في الحال الثانية، لأن اللفظ محمول على [التشطير] 4 فتكون
__________
1 في "أ"، "ب" أو إلى من غيرها من خلل في العبارة والصواب حذفها ليستقيم الكلام.
2 سورة التوبة آية "69".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" الشطر.(2/237)
[حصة] 1 الحال طلقة ونصف طلقة، وبعض الطلاق يكمل فيقع طلقتان وتتأخر الثالثة إلى الحالة الأخرى.
قال الرافعي: ووجه بأن الشيء إذا أضيف إلى حهتين بلفظ البعض لزمت التسوية؛ ألا ترى أنه لو قال: هذه الدار بعضها لزيد وبعضها لعمرو يحمل على التشطير. والثاني: وعليه المزني يقع [واحدة] 2 في الحال وتتأخر اثنتان إلى الاستقبال، لأن لفظ البعض يقع على القليل والكثير، والمتيقن واحدة.
قال الرافعي: ومن صار إليه لا يكاد يسلم مسألة الإقرار ويقول: بأنه محل يرجع إليه فيه. والثالث: أنه يقع الثلاث في الحال حملًا على إيقاع بعض من كل طلقة.
قلت: وقد عرفت أن في مسألة الإقرار أو وجهين، والرافعي حكاهما في موضعهما. وإذا عرفت هذا فقد رأيت في تكلمة شرح المنهاج -لأخي شيخ الإسلام بهاء الدين أبي حامد أحمد أطال الله بقاءه وجمع شملي به في خير وعافية وصلى الله عليه سيدنا محمد- أن كون بعضها لزيد وبعضها لعمرو لا ينافي أن يكون بعضها لثالث؛ إذ ليس فيه ما يدل على الإخبار عن جملة الداعر، بخلاف هذا الدار لزيد وعمرو، فإن ضرورة مطابقة الخبر للمبتدأ تفضي بالحكم على جميعها، وبتقدير الحكم على الجميع فمن أين المساواة؟. هذا كلامه في كتاب الطلاق.
وأقول: هذا السؤال يجيء في "أنت طالق ثلاثًا بعضهن للسنة وبضعن للبدعة".
فيقال: لم لا يقبل قوله: أردت واحدة للسنة وواحدة للبدعة وواحدة تتأخر إلى أن تصير هذه المرأة لا سنة لها ولا بدعة ولا يجيء في هذه الدار بعضها لزيد وبعضها لعمرو؛ لأن مطابقة الخبر للمبتدأ يجب أن يكون زيد وعمرو مشركين في جملة الدار وهذا لأبي أعرب "هذه الدار" مبتدأ و "بعضها" بدلًا، وقوله "لزيد" ظرف في موضع الخبر، والخبر مفرد.
وإذا كان كذلك تعين أن يكون البعضان مستوعبين لجملة الدار، وإلا لزم عدم المطابقة وحمل العام على الخاص.
__________
1 في "ب" رخصته.
2 سقط في "ب".(2/238)
مسألة:
"لا يخبر عن المعنى بالحياة ولا بالعكس إلا على تأويل". "فإذا قال: "حياتك طالق" لم تطلق، لأن الحياة عرض، وهو الصحيح.
وإذا قال: "أنت الطالق" لم تطلق وبه جزم في "البحر" ولنا فيه بحث نحوي ذكرناه في كتاب "منع الموانع".
"باب المفعول المطلق والمفعول له وفيه":
المصدر: مدلوله الحدث، واسم المصدر مدلوله لفظ دال على الحدث كذا فرق بينهما ابن يعيش، والفرق آت في الفعل "كاسكت" مع اسم الفعل "كصه". وشذ من ذهب إلى أن اسم الفع واسم المصدر كالفعل والمصدر في الدلالة.
المصدر المنسبك: نحو: يعجبني صنعك إن كان المعنى الماضي أو الحال أنحل إلى ما والفعل نحو ما صنعت أو ما تصنع وإن كان بمعنى الاستقبال انحل إلى أن والفعل.
غير أن هنا وقفة محتومة على طالب الغايات وهي أن المنحل هل هو في منزلة ما ينحل إليه أو أرفع منزلة فيكون. "يعجبني صنعك" -يريد الاستقبال- أبلغ من "يعجبني أن تصنع". كان الشيخ الإمام يقطع بذلك، ويخرج عليه إذا قال: "وكلتك أن تبيع" ليس له أن يوكل في بيعه بل يباشر [المبيع] 1 بنفسه، أما إذا قال: "وكلتك في بيعه" قال: فله التوكيل".
قلت: ونظيره "أوصيت بأن تسكن هذه الدار" تكون إباحة لا تمليكًا؛ بخلاف "أوصيت بسكانها - نقله الرافعي في الباب الثاني من الوصية- عن القفال ساكتًا عليه وكذا لو باع بشرط العتق وبشرط أن تعتق ينظر الفرق بينهما.
باب الاستثناء:
لا يجوز وضع المستثنى أول الكلام؛ لأن أداة الاستثناء بمثابة العطف "بلا" النافية وتقديم المعطوف ممتنع، وعقد بعضهم الإجماع على ذلك.
قال شيخنا أبو العباس الأندرشي2 -وقد وهم عفا الله عنا وعنه: فإن
__________
1 في "البيع".
2 أحمد بن سعد بن محمد أبو العباس العسكري الأندرشي الصوفي من تصانيفه شرح واختصر تهذيب الكمال، توفي في ذي القعدة سنة خمسين وسبعمائة، شذرات الذهب 6/ 116.(2/239)
الكسائي1 والزجاج2 يجيزان ذلك وعليه جاء قول الشاعر:
خلا الله لا أرجو سواك وإنما ... أعد عيالي شعبة من عيالك
وإليه أشار ابن مالك بالشذوذ؛ حيث قال: لا يقدم دون شذوذ المستثنى على المستثنى منه والمنسوب إليه مقابل على أحدهما.
وأشار بقوله: "بل على أحدهما" إلى جواز قام إلا زيدًا القوم والقوم إلا زيدًا ذاهبون وفيه مسائل:
منها: إذا قال: له علي إلا عشرة مائة فوجهان في أوائل كتاب الإيمان من الرافعي.
أحدهما: الصحة فاللازم تسعون.
والثاني: البطلان فيلزم المائة.
باب الحال: الحال وصف من جهة المعنى
وفيه مسائل:
منها: إذا قال: أنت طالق مرضية -بالنصب- لا يقع الطلاق إلا إذا مرضت؛ قاله الرافعي في فروع الطلاق.
قال لأن الحال كالظرف للفعل ولو رفع مريضة:
قال الرافعي فقد قيل: يقع الطلاق في الحال، وقوله: "مريضة" وصف لها واختيار ابن الصباغ الحمل على الحال -أيضًا- إلا أنه لحن في الإعراب. انتهى.
__________
1 علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان إمام الكوفيين في النحو وأحد القراء السبعة اختار لنفسه قراءة ومن تصانفه معاني القرآن والنوادر وغير ذلك. بغية الوعاة 2/ 164.
2 إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج لزم المبرد ومن تصانيفه معاني القرآن والاشتقاق وغير ذلك. بغية الوعاة 1/ 441.(2/240)
وقوله: في مذهبه إشارة إلى أن البندنيجي قاله رأيًا له- لا أنه جادة المذهب- فانعكس على الرافعي وتوهم أن المراد بمذهبه مذهب الشافعي فجعله المذهب، وجعل ما هو المذهب اختيار لابن الصباغ.
وقد رد ابن الصباغ على البندنيجي فإن "مريضة" نكرة، فلا تكون صفة للمعرفة -وهي أنت- قلت: والأمر كما قال، "ومريضة" إنما هو خبر ثان لأنت.
ومنها: إذا قال: "أنت طالق طالقًا" قال الرافعي قبل فصل التعليق بالحمل والولادة -عن الشيخ أبي عاصم: "أنه لا يقع في الحال شيء لكن إذا طلقها يقع طلقتان؛ فيصير التقدير إذا صرت مطلقة فأنت طالق، وليكن هذا في المدخول بها انتهى.
قلت: أما الفرع فحكى صاحب التتمة فيه عن القاضي وجهين آخرين.
أحدهما: لا يقع الطلاق أصلًا لأن "طالقًا" نصب على الحال؛ فالتقدير حالة تكونين طالقًا والمرأة لا تكون طالقًا إنما تكون مطلقة، والرجل هو الطالق، والصفة لم توجد فلا يقع.
قلت: هذا ضعيف بمرة، ولو تم لما وقع الطلاق بقوله أنت طالق.
والثاني: يقع طلقة، وهو ما حكاه الإمام في "النهاية" قال: ويسأل عن قوله: طالقًا ونقله مجلي عن النص في "الأم"، وأما تقييد الرافعي المسألة بالمدخول بها ففيه نظر.
ثم قال الرافعي: ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقًا؛ فإن طلقها قبل الدخول فدخلت طالقًا وقعت الطلقة المعلقة إذا لم تحصل البينونة بذلك الطلاق، وإن دخلت غير طالق تقع تلك الطلقة.
قلت: وفيه بحث سبق في مسائل أصول الفقه قال الرافعي: ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقًا واقتصر عليه قال في التهذيب: أن قال: نصبت على الحال ولم أتم الكلام قبل ولم يقع شيء، وإن أراد ما يراد عند الرفع ولحن، وقع الطلاق إذا دخلت الدار.
قلت بقي ما إذا أطلق ولم يرد شيئًا، والظاهر أن لا يقع شيء، لأن الكلام غير منتظم.(2/241)
مسألة:
الأصل كون الحال للأقرب فإذا قلت: ضربت زيدًا راكبًا، فراكبًا حال من المضروب لا من الضارب. وراعى الأصحاب في ذلك -القرينة فقالوا- واللفظ للبغوي في التهذيب: لو قال: إن قذفت فلانًا في المسجد فأنت طالق، يشترط أن يكون القاذف في المسجد. ولو قال: إن قتلت فسلانًا في المسجد يشترط أن يكون المقتول في المسجد؛ لأن مقصوده الامتناع عن هتك حرمة المسجد من القتل يكون المقتول فيه وبالقذف يكون القاذف فيه وجرى عليه الرافعي.
فرع: قال شيخنا أبو حيان: "فإن تعدد ذو الحال وتفرق الحالان فيجوز أن يلي كل حال صاحبه نحو لقيت مصعدًا زيدًا منحدرًا ويجوز أن يتأخر عن صاحبهما.
نحو: لقيت زيدًا مصعدًا منحدرًا، وحينئذ فالصحيح كون الأول للثاني والثاني للأول وقال ابن السراج عكسه.
مسألة:
يقع الحال جملة خبرية بغير واو -نحو: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو} - أو بواو نحو: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين" وقد يتغير المعنى عند وضع الجملة موضع الحال؛ ألا ترى أن من نذر أن يعتكف يومًا صائمًا لزمه الجمع بين الصوم والاعتكاف المنذورين على الصحيح ولا يغنيه الاعتكاف في نهار رمضان بخلاف ما لو قال: وأنا صائم لأنه لم يلتزم الصوم وإنما نذر الاعتكاف صفة، فإذا وجدت صح إيقاع المنذور -وهو الاعتكاف فيها.
باب العدد:
إذا ميزت العدد المركب بمختلط -نحو: ستة عشرة دينارًا ودرهمًا، فالمجموع ستة عشر من كل صنف فإن لم يقتض العدد التمييز- كخمسة عشر كان تمييزه مجملًا نص على المسألة شيخنا في كتاب الارتشاف ويتخرج عليها- مسألة صاحب التتمة- إذا قال: علي اثنى عشر درهمًا ودانقًا، وسنذكرها في باب الألغاز في آخر الكتاب.
باب حروف الجر: [باب الإضافة] 1:
__________
1 سقط في "ب".(2/242)
باب التوابع:
الأشياء التي تتبع ما قبلها في الإعراب خمسة -النعت والتوكيد وعطف البيان والنسق والبدل. وفي الباب مسائل.
مسألة:
النعت: هو التابع الذي يكمل متبوعه بدلالته على معنى فيه أو فيما يتعلق به.
وخرج بقيد "التكميل" "النسق والبدل" وبالقيد الثاني البيان والتوكيد والتكميل هو الإيضاح أو التخصيص أو مجرد المدح أو الذم أو الترحم أو التوكيد والأكثر مجيء النعت للأولين ويكثر مجيئه للتوضيح في المعرفة وللتخصيص في النكرة.
مسألة:
عطف البيان: تابع يشبه الصفه في توضيح متبوعه إن كان معرفة وتخصيصه إن كان نكرة.
والثاني أثبته الكوفيون وجماعة، نحو: {مِنْ مَاءٍ صَدِيد} والباقون يوجبون فيه البدلية.
فرع: إذا قال من لا بنت له إلا واحدة: زوجتك بنتي فلانة وسماها بغير اسمها فالأصح الصحة. وعن شرح الهادي للريحاني أنه إن أراد عطف البيان صح لوقوع الغلط فيما ليس بمعتمد الكلام أو البدل فلا للغلط في العمدة، ولا بد في هذا من صلاحيته للإرادة بأن يكون عارفًا بالعربية.
باب النداء والترخيم:
يجوز ترخيم المنادي -أي حذف آخره تخفيفًا- بشرط كونه معرفة غير مستغاث ولا مندوب ولا ذي إضافة ولا ذي إسناد، ثم إن كان مختومًا بتاء التأنيث جاز ترخيمه مطلقًا وإلا فيشترط كونه علمًا زائدًا على ثلاثة، ولا يجوز ترخيم غير المنادي إلا في الضرورة بشرط صلاحية الاسم للنداء؛ فلا يجوز في نحو الغلام، ويشترط كونه إما زائدًا على الثلاثة أو بتاء التأنيث؛ فمن ثم ينبغي أنه إذا رخم طالقًا ولم ينادِ بل قال: أنت طالق لم تطلق إذ لا ترخيم في غير النداء ولا لغير الأعلام وبه صرح البوشنجي لكن قال الرافعي والنووي خلافه فإن أريد جعل ذلك كناية فغير بعيد، وإلا فالوجه ما ذكره(2/243)
البوشنجي؛ فإن قال: "يا طال" فقد توافق البوشنجي والرافعي والنووي، على الوقوع، لوقوع ذلك في النداء.
وأقول: ينبغي أن لا يقع أيضًا، لكونه غير علم.
مسألة:
يجب بناء العلم المفرد على ما رفع به لو كان معربًا؛ فلو كانت زوجته تسمى طالقًا فقال: يا طالق "قال الأصحاب" إن قصد النداء لا تطلق وكذا إن أطلق -في الأصح- وضبط النووي في المنهاج بخطه "طالق" بسكون القاف.
قال الأخ شيخنا شيخ الإسلام أبو حامد -أطال الله بقاءه: وكأنه يشير إلى أنه إن قال: يا طالق -بالضمة- فلا يقع شيء جزمًا، وإن أطلق؛ لأن بناءه على الضم يرشد إلى إرادة العلمية وإن قال: يا طالقًا -بالنصب- تعين صرفه إلى التطليق.
قال: وينبغي في الحالتين أن لا ترجع إلى خلاف ذلك.
قلت: وإن لم يكن اسمها طالقًا طلقت -كذا أطلقوه ولم يقيدوه بما إذا سكن- وينبغي أن لا يتقيد؛ بل سواء أسكن أم ضم لأنه وإن ضم فغايته أن يكون لاحنًا ولا قرينة تشهد بصرف الطلاق عن معناه، لأن العلمية منتفية.
مسألة: مع: أصله "معي" حذفوا ياءه للتخفيف، وهو اسم لمكان الاصطحاب أو وقته على حسب ما يليق بالاسم المضاف إليه.
فإذا قال: طلقة معها طلقة أو مع طلقة كانا معًا بتمام الكلام وهو الصحيح، وقيل: يتعاقبان، فلا تقع الثانيةعلى غير المدخول بها.
تنبيه:
حركة "مع" حركة إعراب ويجوز بناؤه على السكون على لغة لم يحفظها سيبويه وجعل ذلك من ضرورات الشعر قال: وقد جعلها الشاعر "كهل" حين اضطر فقال:
منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
فرع: فانقطعت عن الإضافة نونت، نحو: قام زيد وعمرو معًا وقام الرجال معًا للجماعة كما تقع للاثنين، وغلط من خصها بالاثنين وكأنه توهم أن "ألفها" للاثنين -وذلك وهم.(2/244)
قال طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار نبتن معًا ... منهن مر وبعض المر مأكول
وإذا نونت فالأكثر -حينئذ أن تكون حالًا وجاءت خبرًا في قول الشاعر:
أفيقوا بني حرب وأهوانًا معًا ... .......................
وقال بعضهم في "أهوانا معًا": إنه حال والخبر محذوف تقديره "كائنة معًا" ورد عليه هذا القول. ثم قال ابن مالك في باب المفعول فيه: "إن معًا تساوي جميعًا في المعنى".
قال شيخنا أبو حيان: "يعني أنها لا تدل على اتحاد الوقت". ورد عليه شيخنا بقول ثعلب: "إذا قلت قام زيد وعمرو جميعًا احتمل أن يكون القيام في وقتين. وأن يكون في وقت، وإذا قلت "معًا" فلا يكون إلا في وقت واحد وقد تضمن كلام شيخنا أمرين:
أحدهما الحكم على ابن مالك بأنه أراد بقوله: "تساوي جميعًا في المعنى" عدم الاتحاد في الوقت؛ وإنما يتم هذا لو سلم ابن مالك أن "جميعًا" لا تدل على اتحاد الوقت، ومن أين لنا ذلك؟ فإن أخذ أبو حيان هذا من وقوع هذه المادة في التوكيد -كقولهم- جاء القوم أجمعون- فالصحيح كما ذكره هناك أنها لا تقتضيه، وإن لم يكن له مستند- فيأخذه إلا كلام فقد يرد ابن مالك؛ فإن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} أي مجتمعين أو متفرقين وبالجملة ليس في كلام ابن مالك ما يدل على أن "جميعًا" للمعية فلا يلزم أن تكون "معًا" ليس للمعية حتى يوجد في كلامه ذلك "في جميعًا".
نعم قد يستدل على المعية في "معًا" بقول امرئ القيس في وصف الفرس.
مكر مفرمقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
فإنه لم يرد إلا اتحاد الوقت لكن مبالغة
وإلى ذلك أشار ابن خالويه بقوله في "شرح الدريدية": إن هذا الوصف بالمعية من الوصف بالمستحيل. ومثه قول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكًا:
فلما تفرقنا كأني ومالكًا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معًا(2/245)
باب أبنية الفعل ومعانيها:
منها لماضيها المجرد من الزيادة ثلاثيًا مبنيًا للفاعل ثلاثة أبينة أحدها ["فعل" بفتح أوله وضم ثانيه نحو رف وشرف وثانيها "فعل" بفتح أوله وكسر ثانيه نحو علم وسلم وثالثها] 1 "فعل" بفتح أوله وثانيه نحو ضرب وذهب وإن كان رباعيًا فله بناء واحد -وهو فعلل- بفتح أوله وثالثه نحو: دحرج.
فصل:
عرفت أن الفعل المجرد من الزيادة ثلاثي ورباعي، وكل منهما قد يستعمل مزيدًا.
فمن المزيد: "أفعل"، ويستعمل لمعان.
الأول: "التعدية" نحو أدنيت زيدًا.
والثاني: "الكثرة" نحو أظبي المكان: كثر ظباؤه.
والثالث: "الصيرورة" أغدي البعير -صار له غدة.
والرابع: "الإغانة" أحلبت فلانًا - أعنته على الحلب.
والخامس: "التعريض" أقتلت فلانًا -أي عرضته للقتل.
والسادس: "السلب" أشكيت فلانًا -أي أزلت شكايته.
السابع: "إلفاء الشيء -بمعنى ما صنع- منه: أحمدت فلانًا بمعنى ألفيته منصفًا بما يوجب حمده.
الثامن: "لجعله صاحبه بوجه ما" نحو أقبرت الرجل: أي جعلت له قبرًا.
التاسع: "ذكره ابن عصفور كجعل الشيء افاعلًا نحو أخرجته وأدخلته -أي جعلته خارجًا وداخلًا.
العاشر: لجعل الشيء على صفة نحو: أطردته -أي جعلته طريدًا.
الحادي عشر: "بلوغ عدد" نحو: أعشرت الدراهم إذا بلغت عشرين.
الثاني عشر: "بلوغ زمان" أصبحنا -بلغنا الصباح.
الثالث عشر: "بلوغ مكان" أشام القوم: بلغوا الشام.
__________
1 سقط في "ب".(2/246)
"ومنها: فعل يفعل".
ومنها: "فاعل" لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظًا، والاشتراك فيهما معنى ولموافقة أفعل المجرد، وللإغناء عنهما.
ومنها: تفاعل.
ومنها: افتعل.
ومنها: انفعل.
ومنها: استفعل "لاثنى عشر معنى".
للطلب، نحو استغفر.
وللتحويل: نحو استحجر الطين أي صار حجرًا.
وللاتخاذ: نحو استعبد أي اتخذ عبدًا.
ولإلغاء الشيء: بمعنى ما صنع منه، نحو استعظمت الشيء أي وجدته عظيمًا وعبر أو الحسن عن هذه بالإصابة.
ولعده كذلك: نحو استعظمته أيضًا -أي عددته مع العظماء.
ولموافقة نحو: أكانه فاستاكن.
ولموافقة نحو: أبل من المرض واستبل.
ولموافقة يفعل نحو استكبر وتكبر.
ولموافقة يفعل نحو استكبر وتكبر.
ولموافقة افتعل نحو: استعظم واعتصم.
والمجرد: نحو: استغنى وغنى والإغناء عنه نحو: استحيا وللإغناء عن فعل نحو: استرجع.
فرع: استوفي المال أي توفاه وأخذه كاملًا.
قال في الصحاح استوفيت وتوفيت بمعنى ...
قلت: ومنه قوله تعالى: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} ومن ثم قال الأصحاب: لو قال الدائن للمدين: استوفيت منك كان إقرارًا بالوفاء نقله الرافعي -عن صاحب التهذيب ساكتًا عليه- في الباب الثاني من الكتابة، وهو واضح ولا يقال: لم لا يحمل "استوفيت" على طلب الوفاء؛ لأن لهذه اللفظة بمعنى الأخذ -اشتهار صيرها حقيقة عرفية، ثم هو موضوع اللغة فيها بدليل الاستعمال وما ذكرناه من قوله تعالى {يَسْتَوْفُون} ونظيرها: استولدت هذه الجارية أو هي1 مستولدتي.
__________
1 في "ب" وهي.(2/247)
فإنه صريح في أنها أم ولد، لا أنه طلب منها الولد، وبه صرح الرافعي أيضًا.
فرع: أما الاستخدام: فمعناه طلب الخدمة، ومن ثم إذا حلف لا يستخدم فلانًا فخدمه والحالف غير مطالب بالخدمة. لم يحنث قاله الأصحاب وهو ظاهر.
باب أفعل التفضيل:
لا يكون أفعل التفضيل -إذا قيدت إضافته بتضمين معنى من إلا بعض ما يضاف إليه.
ومن ثم مسائل:
منها: إذا قال: أعطوه أكثر [مالي] 1 "زيد على النصف شيئًا"؛ صرح به الأصحاب في باب الوصية.
فإن قلت: قد صرحوا في الطلاق بأنه إذا قال: أنت طالق أكثر الطلاق "تطلق ثلاثًا" هذا مع قولهم فيما إذا أوصى بعامة ماله أنه بالأكثر مع أن العامة للجميع والأكثر للبعض فقد خالفوا مدلول اللفظ في الموضعين.
قلت وجدوا أن الطلاق لسبب2.
باب إعمال المصدر واسمه 3:
باب إعمال اسم الفاعل والصفة المشبهة
إذا أريد باسم الفاعل الحال والاستقبال عمل النصب، وإن أريد المضي تعينت إضافته إلا أن يكون معه "أل" فيجوز النصب.
وقال الكسائي: يجوز أن ينصب مطلقًا؛ وحيث يجوز النصب يجوز الجر أيضًا ثم هما سواء عند سيبويه.
وقال هشام: النصب أولى.
وقال شيخنا أبو حيان؛ الجر أولى.
ومن فروع المسألة: "أنا قاتل زيدًا" فإن نون لفظ قاتل ونصب زيدًا لم يكن
__________
1 في "ب" مال.
2 بياض في الأصل.
3 هكذا بالأصل.(2/248)
[ويحنث] 1 لعدم اقتضاء اللفظ للوقوع، وإن جر فهو موضع النظر، والمنقول عن محمد بن الحسن أنه قرار، وفيه نظر، "لجواز" أن يكون المضاف بمعنى الحال أو الاستقبال.
باب عوامل الجزم:
مسألة:
لأداة الشرط صدر الكلام، فإن تقدم عليها شبه بالجواب معنى فهو دليل عليه وليس إياه خلافًا للكوفيين والمبرد وأبي زيد.
وفصل المازني -فمنع إن كان الجزاء ماضيًا فلا يجوز "قمت إن قام زيد أو إن لم يقم" وجوز إن كان مضارعًا فيجوز أقوم إن قام زيد وإن لم يقم" وحمل على هذا الشيخ تاج الدين أبا اليمن -زيد بن الحسن الكندي النحوي- على أن قال بعد أن ذكر أن قول المازني هو قول كل من يوثق بعمله في قول الرجل لامرأته طلقتك إن دخلت الدار بوقوع المازني هو قول كل من يوثق بعمله في قول الرجل لامرأته طلقتك إن دخلت الدار بوقوع الطلاق في الحال في الأولى، قال: لأن الفعل الماضي إذا وقع قبل حرف الشرط كان ثابتًا وما ثبت لا يجوز أن يوقع في جواب الشرط يعني فلا يكون للشرط جواب ولا دليل جواب فيطرح ويعمل الفعل الماضي عمله.
وأطال في منع هذا التركيب في كلام له على هذه المسألة وعلى عكسها وهو قول القائل: إن دخلت الدار طلقتك؛ فإنه قال فيها إن الطلاق تعليق بدخول الدار. قرأته بجملته على ولادي الشيخ الإمام في ليلة الثلاثاء ثالث عشرين جمادي الآخرة سنة أربع وأربعين وسبعمائة [عندما] 2 أملي علي في تلك الليلة كلامًا على قوله تعالى:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} . وكانت قراءتي لكلام الكندي تكررت على الشيخ الإمام والدي رحمه الله في الشهر المذكور من ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادي الآخرة إلى ليلة الثلاثاء ثالث عشرة منه، وهو يكرر البحث فيها نهارًا، وإذا جاء الليل طلبني قرأت عليه كلام الكندي وأنا ألخص ما سمعته من والدي شفاهًا، وما كتبته عنه وما كتبه هو أيضًا بخطه على كلام الكندي. قال رحمه الله -ومن لفظه سمعت "لم يصب الكندي في شيء من المسألتين والحق خلاف ما قاله فيهما، وأن الطلاق في الأول يقع عند دخول الدار لا قبله، وفي الثانية لا يقع أصلًا إلا أن ينوي
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" على ما.(2/249)
بقوله: طلقتك معنى قوله: فأنت طالق فحينئذ يقع عند وجود الشرط.
قال: "ولا يساعد الكندي نحو ولا فقه، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب1 وقومه:
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} .
وقال تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وبئيس فعل ماض، وقال تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قراءة من كسر الضاد، وقال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} والظاهر أن الشرط مرتبط في المعنى بما قبله، وقال صلى الله عليه وسلم: "خبت وخسرت إن لم أعدل".
وقال حسان بن ثابت:
عدمت بنتي إن لم يزورها ... ... [بني] 2 البقع [موعدها غدًا] 3
وقال الملاعن: كذبت عليها إن أمسكتها.
قلت أنا: وقالت أم الفضل في ولدها عبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
ثكلت نفسي وثكلت بكري ... إن لم يسد قهرًا وغير قهر
[بالحسب] 4 الجم وبذل الوفر ... حتى يوارى في ضريح القبر
وقال الأشتر5 النخعي:
لعنت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم يحل يومًا من يهاب نفوس
خيلًا كأمثال السعالي سريًا ... تعد وتبيض في الكريهة سوس
حمي الحديد عليهم [كأنهم] 6 ... لمعان برق أو شعاع شموس
__________
1 في "ب" زيادة عليه السلام.
2 في "ب" بنيتي.
3 تكرير "موعدها" ويدل كلمة "غدًا" "كذا" "في ب".
4 في "ب" الحسب.
5 في "ب" الأشير.
6 في "ب" كأنه.(2/250)
وقال الحماسي:
شربت وما إن لم أرعك بدرة ... بغندة يهوى القرط طيبة النشر
"انتهى"
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه: وقال الفقهاء في بعتك إن شئت إن قبل المشتري؛ ففي انعقاد البيع خلاف، وإن لم يقبل لم ينعقد بلا خلاف ولم يجعلوه إقرارًا، ومقتضى كلام الكندي أن يكون إقرارًا. ثم قال الشيخ الإمام: وهذه الشواهد كلها وكلام الكندي والنظر أيضًا يرده لأن كل ما أمكن تعليقه لا فرق من [بين] 1 أن يعبر عنه بالماضي أو بالمضارع؛ فإذا أريد بالماضي ذلك صح تعليقه، وكيف يحكم الكندي بمؤاخذته بطلقتك وإن أراد أنه إقرارؤ فليفرض في رجل لم يتقدم منه طلاق، فإنه لا يمكن حمله على الإقرار، وإن أراد إنشاء ولكن لم يصححه من جهة النحو -أعني تعليقه فيبقى إنشاء- بلى تعليق فيه الآن.
والظاهر أن هذا مراده، فلا يصح تعليله بما قاله من أنه ماض وجب وثبت فإن هذا التعليل يرجع إلى المعنى الأول لا إلى الصناعة وكيف يوقع الطلاق على شخص لم يقصده. ولا دل عليه لفظه، لكونه أخطأ2 من جهة النحو على زعمه. وهو [قوله] 3: لو قال: إن دخلت الدار أنت4 طالق [فكان] 5 خطأ من جهة صناعة النحو ولا ينجر عليه الطلاق الآن؛ بل إذا دخلت: اعتبارًا بقصده لما بيناه من أنه ليس خطأ من جهة العربية، بل هو صواب.
ثم ذكر الشيخ الإمام [ما] 6 حاصله: أنه إذا وقع الالتباس على الكندي من جهة أن الفعل الماضي تارة لا يصح [أن] 7 يراد به الإنشاء بوجه بل يكون خبرًا لا محالة؛ فهذا لا شك أنه لايعلق نحو: قمت أن قمت إن قصد [بالأولى] 8 الإخبار عن القيام، وتارة يصح أن يراد به الإنشاء "كطلقتك" فإنه وإن كان موضوعه الخبر فقد يراد به الإنشاء بل ذكره الفقهاء في صرائح الطلاق كقوله: "أنت طالق".
ومقتضى ذلك إطلاق صريح في الإنشاء ويكون قد نقل من الخبر إلى الإنشاء فإذا
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" خطأ.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" فأنت.
5 في "ب" بغير ما كان.
6 في "ب" لما حاصله.
7 في "ب" لن.
8 في "ب" الأول.(2/251)
كان كذلك فلا مانع من تعليقه وكذلك "قمت" إذا قصد بها الدعاء ونحوه ثم قال: الفعل الماضي ثلاثة أقسام: قسم يراد به الخير الماضي المحقق فلا تعليق أصلًا، ولا يقال: "لا يصح تعليق" لأن ما وقع لا يعلق. وقسم يظهر فيه الإنشاء "كطلقتك" فهذا [الأظهر] 1 فيه قبول التعليق حتى يصرفه صارف.
وقسم بعكسه: كما في قوله تعالى:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} .
قال: "وقول من منع قمت أن قمت" محمول على القسم الأول، أو على هذا القسم إذا أريد أصل وضعه -وهو الحال الغالبة عليه. قلت: ويدل لهذا أن النحاة نقلوا أن المازني وجه تفرقته بأن تقديم الجزاء ماضيًا كره مخالفة الأصل فيخرج الماضي عن ظاهره إلى الاستقبال. ويخرج الجزاء عن أصله بالتقديم؛ فدل أن مراده بما منعه "قمت" غير المقصود بها حينئذ الماضي. ثم قال فتسوية الكندي بينه وبين القسم الثاني -الذي يظهر فيه الإنشاء- غير متجه، ثم إنه يلزم ذلك في اسم الفاعل إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار لأن أنت طالق جملة اسمية تدل على الثبوت في الحال وما كان ثابتًا لا يعلق. كما لا يصح "أنا قائم في الحال إن قمت" إلا أن يقول: إن اسم الفاعل صالح للاستقبال فبالتعليق يحمل عليه؛ فنقول: وقوله "طلقتك" كذلك لأن الماضي قد يراد به المستقبل.
ذكر الشيخ الإمام تحقيقًا تكرر منه ذكره وتقريره فقال رضي الله عنه: على أنا لا نقول: إن هذا الماضي أريد به المستقبل بل أريد به الإنشاء الناجز الواقع فيا حلال والمعق هو أثره - وهو وقوع الطلاق المنشأ بحسب ما أنشأه [وهو الواقع في الحال والمعلق هو أثره -وهو وقوع الطلاق المنشأ بحسب ما أنشأه] 2 وهو حكم شرعي يقع عند دخول الدار -فالماضي هو التطبيق والإيقاع والمعلق هو الطلاق، والوقوع [لا شك] 3 أن في "طلقتك" أمرين أحدهما التصرف الناجز من الزوج -وهو تطليق وإيقاع لا يمكن تأخره- والثاني: أثره -وهو طلاق ووقوع- وهذا يؤخر ويعلق قال: وهذا مثل قولك: "أضرب زيدًا يوم الجمعة"؛ ففي "أضرب" شيئان -أحدهما إنشاء لأنه فعل أمر، ومن ثم لا يعلق ولا يتأخر. وليس يوم الجمعة طرفًا له، إذ لو كان طرفًا له لزم تأخره.
__________
1 في "ب" إلا يظهر.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" ولا شك.(2/252)
والثاني: المصدر الذي يضمنه -وهو المأمور به- وهذا هو المعلق المظروف في يوم الجمعة. قال: وقول النحاة- إن يوم الجمعمة معمول لا ضرب فيه تسمح، ومرادهم ما ذكرناه وإن لم تفصح عبارتهم به.
مسألة:
اعتراض الشرط على الشرط سائغ في كلامهم ولا احتفال [بمن] 1 منعه من النحاة لأن القرآن العزيز ناطق به في آيات. قال الشيخ الإمام رحمه الله: أوضحها {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} .
وغلط من تعقب كلام الوالد من أهل هذا العصر في قوله: إن هذه الآية ليست من اعتراض الشرط على الشرط زاعمًا أن الفاء يجب تقديرها في لفظ الشرط الثاني وهو "أن"، وأنها -حينئذ تكون للشرط الثاني، وجوابه كلاهما جواب عن الشرط الأول.
ووجه غلطه أنه لما اعتقد تحتم تقدير الفاء زعم أن الشرط وجوابه جواب الشرط الأول ودخول الفاء غير مسلم له إلا أن يكون الشرط الثاني مع جوابه جوابًا؛ وذلك هو محل النزاع بل الصواب أن الجواب جواب عن الأول وقد استشهد سيبويه رحمه الله على الاعتراض بهذه الآية نفسها، أفتراه خفي عليه هذا؟
وللوالد رحمه الله مصنف في اعتراض الشرط -حافل يترفع عن همم الزمان سماه بيان حكم الربط [واعتراض الشرط على الشرط] 2.
وحظنا منه هنا: إذا اعترض شرط على آخر- نحو: إن أكلت إن شربت فأنت طالق -فالجواب المذكور للسابق منهما وجواب الثاني محذوف- هذا مذهب سيبويه وعليه [مذهب] 3 شيخنا أبي حيان والشيخ الإمام الوالد رحمه الله.
وكلام ابن مالك يقتضي أنه مستغ عنه وأنه لا يقدر جواب أصلًا. ومذهب الأخفش أن الجواب هما "ثم سيبويه -على ما فهمه الوالد عنه واختاره- يجعل الشرط كالظرف".
وعلى مذهب سيبويه هل يقدر مثل جواب السابق فقط أو مضمون الجملة التي توسط الشرط بين جزأيها؟ فيه احتمالان [للوالد ذكر] 4 أن الأول منهما قضية كلام من نقل
__________
1 في "ب" لمن.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" "للوالد رحمه الله وذكر".(2/253)
عن سيوبيه، والثاني قول أبي حيان. إذا عرفت هذا؛ فمن ثم كان الصحيح -في المثال المذكور- أنها لا تطلق حتى يقدم المؤخر ويؤخر المقدم1، ووجه هذا أن الشرط الثاني قيد في الأول -كما نقلناه عن سيبويه فلا بد من تقدمه عليه؛ إذ لو تأخر لم يشبه الظرف.
فائدة حسنة:
قال القاضي أبو الطيب -بعد ذكر مسألة اعتراض الشرط على الشرط [وتقدم] 2 المؤخر. "قال أصحابنا: هذا في حق العالم العارف؛ فإن كان عاميًا فعل ما جرت به عادتهم" هذا كلام القاضي -وهو الصحيح- ولم أجده في كلام غيره، لكن قواعدهم تقتضيه. [والله الموفق] 3.
__________
1 في "ب" زيادة والمقارنة كالتقدم.
2 في "ب" وتقديم.
3 سقط من "ب".(2/254)
المآخذ المختلف فيها بين الأئمة التي يبني عليها فروع فقهية
مدخل
...
المآخذ المختلف فيها بين الأئمة التي يبني عليها فروع [فقهية] 1:
وهذا في الحقيقة -كتاب في الخلافيات على نمط غريب وأسلوب عجيب، وقسم أخذ من جملة التحقيق بأوفر نصيب، ما هو إلا تحصين المآخذ وتحسين القواعد التي يعض عليها بالنواجذ، وعائد بالنفع على من هو بالله من الضر عائذ.
وقد رأينا أن نقدم -قبل افتتاح مسائله- مقدمة نافعة يعم نفعها على ما تقدم وما تأخر، وتشمل فائدتها من تبصر وتذكر وتعود عائدتها على من تأمل وتفكر، فنقول:
القول في سبب اختلاف العلماء:
الخلاف إما في مسائل مستقلة، أو في فروع مبنية على أصول، والأول ينشأ من أحد أمور. الأول: كون اللفظ مشتركًا وذلك في مسائل:
منها القرء عند الشافعي رضي الله عنه أنه الطهر على "حد" قول الشاعر:
أفي كل عام أنت حاسر عروة ... تشد لأقصاها عريم عرابكا
مورثة لما لا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكًا
__________
1 في "ب" خلافية.(2/254)
وعند أبي حنيفة [رضي الله عنه] 1 أنه الحيض لقول الشاعر:
يا رب ذي طعن على قارض ... له قرء كقرء الحائض
وهي مسألة واسعة النظر.
ومنها [أول] في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} .
قال مالك رضي الله عنه: "أو للتخيير فيفعل السلطان بقاطع الطريق- ما يراه من هذه الأمور وقال الشافعي وأبو حنيفة [رضي الله عنهما] 2: للتفصيل والتقسيم؛ فمن حارب وقتل وأخذ المال صلب وقتل ومن قتل ولم يأخذ قتل ومن أخذ ولم يقتل، قطع.
ومنها: الخلاف في عود الضمير نحو: الخلاف في قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُن} هل يقدر "عن" أو "في"، نحو الخلاف في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} . وفي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [أَوْ فِسْقًا] } 3؛ فإن داود أعاد الضمير -في فتاويه- على الخنزير لا على لحمه المتحدث عنه، وخالف الجماعير والحق عود الضمير إلى المضاف إليه لكونه أقرب. وترك المتحدث عنه سبيلًا سلكها أصحابه في مواضع شتى فقال ابن حزم في "المحلي" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك منكم صلاة الغداة فليقض معها مثلها" إن الضمير في "معها"راجع إلى الغداة- أي فليقض مع الغداة مثل هذه الصلاة التي تصلي بلا زيادة وأطال في ذلك ذكره في المسألة التي انفرد بها؛ حيث يوجبون التحول من المكان الذي نسيت فيه الصلاة إلى مكان آخر.
ومن الخلاف في عود الضمير الخلاف في قوله صلى الله عليه وسلم " لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره".
الثاني: الحقيقة كحديث: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل".
قال علماؤنا: لا صيام صحيح الصيام المفترض تنتفي بانتفاء نية الليل.
__________
1 سقط من "ب".
2 سقط من "ب".
3 سقط من "ب".(2/255)
وقالت الحنفية: "لا صيام كامل فعدلوا إلى المجاز".
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي".
وأمثله كثرة:
الثالث: "الخلاف الناشئ عن دعوى ارتباط إحدى الآيتين بالأخرى لا الحديثين بالآخر. نحو: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} مع قوله صلى الله عليه وسلم: "قد جعل لهن سبيلًا -البكر بالبكر- جلد مائة وتغريب عام ... " الحديث.
وذلك نحو: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مع قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} .
ونظيرهما: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} ظاهرها أن مريد حرث الآخرة يؤتي منها؛ وإنما يؤتي منها من يشاء الله أتاه لا كل من أرادها، لقوله في الآية الأخرى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} .
الرابع: وقد يدعي دخوله في الثالث ... "الغفلة عن أحد الدليلين المتقابلين -ولو بالعموم والخصوص -فينسحب على العموم من لم يبلغه دليل الخصوص".
ويمثل لهذا القسم بما روى عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فلقيت أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعًا وشرط شرطًا فقال: البيع باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي ليلى فقال:
البيع جائز والشرط باطل، فأتيت ابن شبرمة فقال:
جائزان، فقلت سبحان الله؟ فقهاء القرآن لا يتفقهون على مسألة واحدة.
فعدت إلى أبي حنيفة [رضي الله عنه] 1 فأخبرته بقولهما فقال: ما أدري ما قالا حدثني عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
__________
1 سقط من "ب".(2/256)
فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: ما أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها" البيع جائز والشرط باطل.
فعدت [إلى ابن أبي] 1 شبرمة فأخبرته فقال: حدثني معد بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم جملًا وشرطت حملاته إلى المدينة. البيع جائز والشرط جائز.
ولهذا يترجح المتقدم على المتأخر ويكون أولى بالإتباع، لاجتماع المتقابلات عنده وهو أحد أسباب تقدم الشافعي على [السابقين] 2، لأنه تأخر عنهم وحصل على ما حصلوا - واجتمع عنده ما تفرق بينهم فتصرف فيه، فكان مذهبه أقرب إلى الصواب.
الخامس: الناشئ عن دعوى العموم والخصوص وهو قريب من الرابع.
نحو: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قيل عامة وقيل مخصوصة فقيل لحديث: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل".
وقالت عائشة رضي الله عنها: "بل الكافر يؤاخذ بإسراره وإعلانه".
وقد يطرأ الخلاف من منكره ولكن ينكره في ذلك المقام لتخصيص الكتاب السنة عند من ينكره إما مطلقًا أو إذا كانت آحادًا، أو لا ينكر جوازه ولكنه يدعي أنه ارتفع فيه، وهذا المسلك يسلك بعينه في النسخ.
السادس: الناشئ من جهة الراوي ضعفًا، أو إرسالًا ونحوه، أو نقله بما يظنه المعنى، أو جهله بالإعراب، أو بسبب الحديث، أو تصحيفه أو إسقاطه شيئًا به تمام المعنى -إما لعدم سماعه القدر الزائد، أو لظنه عدم ارتباطه بما اقتصر عليه، أو لنقله من الصحف.
وقد كثرت أمثلة هذه الأقسام، وربما أدى الحال فيها إلى إخلال عظيم، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب لعلي عمامة تسمى السحاب، فاجتاز علي متعممًا بها، فقال النبي
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" التابعين.(2/257)
صلى الله عليه وسلم لمن معه: "أما رأيتم عليًا في السحاب" أو نحو هذا اللفظ؛ فبلغ ذلك بعض المتشيعين فاعتقدوا أنه يريد سحاب السماء، وفيه يقول القائل:
برأت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم والرباب
ومن قوم إذا ذكروا عليًا ... يردون السلام على السحاب
والغزال -بالغين المعجمة- واصل بن عطاء كان يتصدق بالغزل على النساء، والرباب هو عمرو بن عبد والرباب بباءين موحدتين.
ومن ذلك حديث "إن الله خلق آدم على صورته " ورد في رجل لطم رجلًا فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال ذلك، فالضمير في صورته عائد على الملطوم لا على الله عز وجل تعالى عن قول المشبهة.
السابع: الناشئ من قبل الاجتهاد وذلك يختلف باختلاف الفرائح والأذهان وما لها من استعداد، وفيه يتنافس المتنافسون ويتبين مقدار الأفهام في الفهم عن الله.
وهو باب القياس، وهو مديان الفحول وميزان الأصول ومناط الآراء ورياضة العلماء؛ وإنما يفزع إليه عند فقدان النصوص كما قيل:
إذا أعيى الفقيه وجود نص ... تعلق لا محالة بالقياس
وقد ينشأ الخلاف من اشتباه العلة بالمحل. ونحن نتحفك بضابط في ذلك نأمن معه الخطأ إن شاء الله تعالى. فنقول: المحل ما تعين لعمل العلة ولم يؤثر في الحكم شيئًا، والعلة وصف يحسن أن ينسب الحكم إليه ويترتب عليه.
وإن شئت فقل ما أثر في الحكم ونعني بالتأثير ما يعنيه الفقيه لا أنه موجب فقد عرف من أصلنا اندفاع ذلك، والشرط ما لا يفهم منه تأثير ولكن وضع لينتفي الحكم عند انتفائه من غير معنى فيه.
مثاله:
علة ربوية الأشياء الأربعة المنصوصة عندنا الطعم وحده، والجنسية محل التحريم، وعدم التساوي في معيار الشرع شرط والمعلول فساد العقد قال القاضي الحسين: "فكأن الشارع يقول: الطعم في الجنس الواحد مع انعدام التساوي -يوجب فساد العقد وزعم الأودني أن الجنس هو العلة والطعم شرط.
هذا تحرير النقل عنه -صريح بها لقاضي الحسين وغيره- وكان الأودني جليل(2/258)
القدر فعجيب منه جعل المحل علة والشرط محلًا ولا يتبين في الجنسية أثر بخلاف الطعم؛ فكيف يعلل بغير الوصف المؤثر ويعرض عن التعليل به؟ ومن ثم رد عليه القاضي الحسين بأن الله1 لم يخلق هذه الأشياء للجنسية وإنما [خلقها] 2 للطعم وأخذه صاحب التمة فبسطه وأوضحه كما قررناه؛ فقال: "فإن قال قائل: لماذا جعل الطعم علة؟ وهلا قلت: الجنسية علة والطعم شرط. قلنا: الفرق بين العلة والشرط يظهر بأن يكون أحدهما صالحًا -بأن يجعل أمارة دالة على الحكم- والثاني- غير صالح كما وقع في الزنا مع الإحصان؛ فإن الزنا جناية ومعصية، والإحصان صفة كما تجتمع في الشخص، والجناية تصلح أن تكون سببًا للعقوبة، وأما وجود صفة الكمال فلا تصلح، فجعل الإحصان علة والزنا شرطًا هنا وكذلك الأموال ما خلقت للتجانس؛ وإنما خلق كل جنس ليكون منفعة "انتهى".
وهو صحيح فإن الإحصان خصال محمودة، ومعظمها لا يحصل باختيار المحصن كالبلوغ والحرية والعقل والكمال لا يناسب العقوبة ولا يشعر، ولذلك قال علماؤنا تعليق العتق عليه ووجود صفة محل لنفوذه فإذا قال السيد لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر فدخلها عتق، [وعلة] 3 العتق التعليق ومحل نفوذه الصفة.
ومن ثم الأصح عندنا -وبه قال أبو حنيفة- أنه إذا شهد بالزنا قوم وبالإحصان آخرون أو بالتعليق قوم وبالصفة آخرون وحكم بمقتضى شهادتهم ثم رجع [بالشهود] 4 كان الغرم على شهود الزنا والتعليق، دون شهود الإحصان والصفة.
وزعم بعض أصحابنا أن الجنسية شرط، واختاره الشريف المراغي والقطب النيسابوري زعيرهما من النظار المتأخرين من أصحابنا.
وأعرب صاحب التتمة فقال: "الجنسية شرط ومحل" وزعم الرافعي في باب الزنا أنه ليس تحت5 الخلاف أمر طائل وسبقه صاحب التتمة [فقال] 6 في باب الغسل عند ذلك الخلاف في موجب الطهارة ما هو ليس يظهر لهذا الخلاف تأثير في الأحكام.
وأقول: ليس الأمر كذلك، وقد بنى الخلافيون من الفريقين على قولنا: "الطعم
__________
1 في "ب" زيادة تعالى.
2 في "ب" أحدثها.
3 في "ب" وعليه.
4 في "ب" والشهود.
5 في "ب" زيادة هذا.
6 سقط في "ب".(2/259)
علة والجنس محل"، وقول أبي حنيفة جزء من العلة، والكيل جزؤها الآخر.
مسألة:
وهي أن الجنس بانفراده لا يحرم النساء عند الشافعي؛ حيث يجوز إسلام الثوب في جنسه من حيث إنه لا يحرم إلا العلة ولا علة للأحكام الثلاثة إلا الطعم نعم كانت الجنسية معتبرة محلًا للعلة في ربا الفضل، والمحل بانفراده لا يؤثر.
وقال أبو حنيفة: "الجنسية تحرم ربا النساء؛ لأنها إحدى وصفي العلة كما أن الكيل أحدهما" ثم الكيل يقتضي عنده تحريم النساء؛ فكذلك الجنسية. ونحن وإن ضايقناه في هذا المقام وقلنا: كيف يعمل الجزء بمفرده والتأثير إنما هو للمجموع -فلسنا ننكر تفريع الرجل على أصله.
مثال آخر:
الإحصان شرط للرجم، والزنا علة، والمحصن محل كما عرفت.
مثال ثالث:
ذكره الإمام في باب صلاة العيدين -في التكبير المقتضي له الوقت، ولذلك إذا فاتت فريضة فقضاها في غير أيام التشريق لا يكبر جزمًا، ومحل العلة هو الصلاة واختلفوا فيها -فقيل: مطلق الصلاة، وقيل: بل الراتبة، وقيل: بل الفريضة.
مثال رابع:
خروج الحدث هو الموجب للطهارة بشرط القيام للصلاة؛ فليس القيام علة [ولا جزء علة] 1. وفي المسألة خلاف شهير.
قال بعضهم: الموجب دخول الوقت، وصحح الوالد في تفسيره في صورة المجادلة في آية النجوى وذكر أن الشيخ أبا حامد قال: إنه ظاهر المذهب.
وقال آخرون: الموجب أحد الأمرين من الحدث ودخول الوقت.
قال صاحب التتمة: ليس يظهر لهذا الاختلاف تأثير في الأحكام؛ ولكن المقصود نفس علة الحكم "انتهى".
وفيه نظر: بل للخلاف فوائد؛ منها إذا نوى بدخوله قبل دخول الوقت فريضة الوقت فالأصح الصحة. وبناء الخلاف على هذا الأصل متجه، إن قلنا. وجب بالحدث. صح بنية الفريضة، وإن قلنا: بالوقت فلا.
ومنها: إذا مات بعد وجوب الصلاة وقبل فعلها في الوقت وقلنا: "إنه يعصي" فهل يحكم بعصيانه- لأجل ترك الوضوء من حين الحدث أو من أول الوقت؟
__________
1 سقط من "ب".(2/260)
[وهاتان الفائدتان] 1 نبه عليهما بعض الشارحين - كما ذكره ابن الرفعة.
ومنها: ما نبه عليه ابن الرفعة- إذا قلنا يجب بدخول الوقت "يصح وصفه بالأداء والقضاء كالصلاة فيقع عبد خروج الوقت قضاء.
ومنها: الخلاف في ثمن ماء الاغتسال من الجنابة هل يجب على الزوج؟ يمكن أن يقال: إن أوجبنا الطهارة بالحديث وجبت عليه، لكونه سببه، أو بدخول الوقت فلا.
ومنها: إذا صب الماء بعد دخول الوقت وصلى بالتيمم فهل يجب عليه القضاء؟
إن قلنا: يجب بدخول الوقت وجب أو بالقيام إلى الصلاة فلا؛ وإنما ذكرت هاتين الصورتين لمساواتهما لما قبلهما.
وفي بناء كل من الصور نظر، إذا من أوجبه بالحدث جعل دخول الوقت شرطًا وكذا من أوجبه بالقيام جعل الحدث شرطًا وغذا اشترط أحدهما في الآخر لم يتجه البناء.
ويوضح هذا أنه في الصورة الخامسة لو صح البناء لاقتضى أنه إذا صبه قبل دخول الوقت -وقلنا: يجب بالحدث يجب القضاء ولا قائل به فيما أحسب.
وهذا الخلاف في الطهارة يجب بما إذا جاز في غسل الحائض؟ أيجب بخروج الدم؟ وعليه العراقيون من أصحابنا، أم بإنقطاعه؟ وعليه الخرسانيون، أم بالخروج عند الانقطاع فيكون الانقطاع شرطًا؟ وهو التحقيق.
وفي الثاني الذي قال به الخراسانيون نظر؛ فإن الانقطاع لا يناسب وجوب الغسل، فلعل شرط العلة اشتبه بها.
قال الوالد رحمه الله في كتاب الجنائز: لهذا الخلاف فائدة حسنة، هي إذا استشهدت الحائض في قتال الكفار فإن قلنا بالانقطاع لم تغسل، أو بالخروج ففيه الوجهان فيغسل الجنب الشهيد.
وذكر صاحب العدة فائدة أخرى: إذا أجنبت الحائض وقلنا بالقول الضعيف: إن الحائض تقرأ القرآن. فلها أن تغتسل من الجنابة لاستباحة قراءة القرآن وإن قلنا بالخروج فلا يمكن ارتفاع الجنابة وبقاء الحيض، كمن أحدث بنوم ثم شرع في البول وتوضأ في حال بوله عند النوم لا يصح.
__________
1 في "ب" وهذان الفائدان.(2/261)
الخلاف في فروع بعد الاتفاق على أصولها ذلك أما بعد تعيين العلة أو قبلها:
الأول: مثاله في الأصول
رفع حكم المجمع عليه باطل، ومن يجوز إحداث ثالث يدعي أنه غير رافع، ومن يمنعه يدعي أنه رافع.
فلو اتفقوا على أنه رافع لاتفقوا على بطلانه أو على أنه غير رافع لاتفقوا على جوازه.
وفي الفقه: الغرر مجتنب في البيع، لحديث "نهي عن بيع الغرر" والإجماع والخلاف في بيع الغائب ناشئ عن أنه غرر أو لايعود ذلك إلى الخلاف في معنى الغرر.
وقد قال صاحب الحاوي: إنه ما [تردد] 1 بين جائزين "متضادين الأغلب منهما أخوفهما" وقال صاحب البحر: الغرر ما [تردد] 2 بين جائزين "لا يرجح أحدهما صاحبه، أما إذا رجحت السلامة لم يكن غررًا".
ومن الغريب وجه حكاه الفوراني في "الإبانة" أن المبيع [إن] 3 كان [منضبط] 4 الأوصاف -بخبر [التواتر] 5 -فهو كالمرئي، ولا يخرج على قول [الغائب] 6.
وفي [البحر] 7 أنه لا يخبر بصري أن يرفع اسم "إن" بعد العاطف قبل مجيء ذا
__________
1 في "ب" يردد.
2 في "ب" يردد.
3 في "ب" "لو".
4 في "ب" مضبوط.
5 سقط في "ب".
6 في "ب" للغائب.
7 في "ب" النحو.(2/262)
الخبر نحو: أن زيدًا وعمرًا قائمان لئلا يتوارد عاملان -وهما "أن" و"الابتداء" على معمول واحد، وهو الخبر.
ولا يمنعه كوفي؛ لأنهم يرون الخبر مرفوعًا، بما كان مرفوعًا به قبل دخول "إن" وأخواتها، ولم تعمل فيه "إن" شيئًا.
فلو اتفقوا على أنه مرفوع بأن لاتفقوا على منع المسألة، أو على أنه غير مرفوع بها لا تفقوا على تجويزها. وما من علم من العلوم إلا وفيه [نظائر] 1 هذه [الأمثلة] 2 ما لا ينحصر لكثرته.
الثاني: أن يكون قبل الاتفاق على عين العلة وهو ضربان.
أحدهما: أن يحصل التردد قبل البحث عن العلة رأسًا، ويكون منشأ التردد في قرب الفرع من الأصل [أما] 3 في أمر كلي أو شبه معنوي أو صوري كنظرنا في أن الخنزير هل يلتحق سؤره بالكلب قبل البحث عن العلة؟
وهذا الضرب صنفان.
أحدهما: ما يكون [جلبًا] 4 فيندره [الذهن] 5 ويتسارع إليه الفهم من غير تأمل كإلحاق الأمة بالعبد في السراية.
وثانيهما: أن يكون خفيًا. وهنا يضيق مجال النظر، وربما قامت في بعض الصور إشارات لا تنهض بها العبارات.
[الضرب الثاني] 6:
أن يثور الخلاف [بين] 7 تعيين العلة وضبط الوصف، كالنظر في الماء المستعمل في الحدث هل يمنع التوضؤ به؛ لأنه أديت به عبادة فيحلق به المستعمل في تجديد الوضوء، أو لأنه أدي به فرض، أو انتقل المنع إليه فلا يلتحق به المستعمل في التجديد.
وقس على هذا؛ فإنه كثير "تقدم"8 منه الكثير، وسنذكر عقيبه من مسائل الخلاف ونظيره.
__________
1 في "ب" من نظائر.
2 سقط من "ب".
3 في "ب" إلا.
4 في "ب" كليًا.
5 سقط من "ب".
6 سقط من "ب".
7 في "ب" من.
8 يعدم في "ب".(2/263)
مأخذ:
قال علماؤنا: لا رابطة بين الإمام والمأموم، وكل منهما يصلي لنفسه؛ فلا يلزم من فساد صلاته فساد صلاة صاحبه، ولا من صحة صحتها وإنما صحة كل منهما وفساده بفعله لا بفعل غيره1.
واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم $"يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم" أخرجه البخاري وفي ابن ماجه والبيهقي: "من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم من [انتقض] 2 من ذلك شيئًا فعليه ولا عليهم.
وقال أبو3 حنيفة: "بينهما رابطة؛ فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري غلى صلاة المأموم لأنه فرع عليه.
[واحتج] 4 بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن"، ولا حجة لهم فيه إذا لا يلزم من كونه ضامنًا أن تفسد صلاة المأموم بفساد [صلاته] 5، لا سيما وقد فسر الضامن بخلاف هذا؛ فإن في ابن ماجه "الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم وإن أساء يعني فعليه ولا عليهم"6 وقال [مالك] 7 وأحمد: يسري النقص إلي المأموم عند عدم العذر لا مع العذر [فإذا] 8 اعتقد الإمتام طهارته كان [الإمام] 9 معذورًا في الاقتداء وزعمًا أن هذا توسط بين المذهبين.
لا بد من تحرير المذهب؛ فإنه غير منصوص ولا [نعني] 10 بانتفاء الرابطة انتفاء العلاقة رأسًا؛ فإن بينهما علاقة بلا شك وإنخما نعني بالرابطة أنه لا يلزم من فساد واحدة أو كونها مؤداة فساد الأخرى ولا كونها مؤداة؛ بل قد تكون صحيحة أو مقضية، وسر الجماعة [عندنا ليس] 11 تعليق المأموم صلاة بصلاة الإمام وربطها به بل إبعاد الصلاة عن [السهر] 12، بالإجماع وشيوع أمر الدين، وبعث الهمم على إقامة هذا الفرض، فإن الهمم تنبعث بالمشاركة وتحصيل أجر الجماعة، [وما] 13 يدعو إليه الإجماع من
__________
1 في "ب" ولا من.
2 في "ب" نقص.
3 في "ب" زيادة أبو.
4 في "ب" واحتج.
5 في "ب" صلاة.
6 في "ب" زيادة ولا عليهم.
7 في "ب" ملك.
8 في "ب" فإذا.
9 في "ب" الإمام.
10 في "ب" يعني.
11 في "ب" عندنا ليس.
12 في "ب" الرتق.
13 سقط في "ب".(2/264)
حضور القلب، لارتباط فعل المأموم بفعل الإمام.
خلافًا لأبي حنيفة فإنه قال:
مأخذ صلاة المأموم تابعة لصلاة الإمام. صحة وفسادًا لا [أداء] 1 وعملًا، وهي كالمندرجة في ضمن صلاة الإمام.
وقد أنشأ اختلافًا في هذا المأخذ "الخلاف" في مسائل:
ومنها: أن القدوة لا تسقط قراءة الفاتحة عن المأموم.
ومنها: أن اختلاف نية الإمام والمأموم لا تمنع القدورة مع التساوي في الأفعال حتى يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، والقاضي بالمؤدي والمتم بالقاصر، [وبالعكس] 2.
ومنها: وقوف المرأة بجنب الإمام لا يفسد صلاتها، وعند أبي حنيفة تنعقد ثم تفسد صلاة الإمام ثم تفسد صلاتها وصلاة المقتدين.
ومنها: إذا أرتج على الإمام في القراءة ورد عليه المأموم قاصدًا الرد فقط بطلت صلاة المأموم دون الإمام: وقال أبو حنيفة "تبطل صلاتهما جميعًا" وقال أحمد "لا تبطل صلاة واحد منهما".
ومنها: إذا اقتدى قارئ بأمي بطلت صلاة القارئس وحده، وقال أبو حنيفة: "تبطل صلاتهما جميعًا" لأنه ألزمه تحمل القراءة وليس أهلًا فكأنه ترك ركنًا، وبالغ بعضهم فقال لو وجد الأمي قارئًا يقتدي به لم تجز صلاته منفردًا؛ لأنه وجد من يتحمل عنه.
ومنها: إذا بان بعد فراغ الصلاة كون الإمام جنبًا أو ذا نجاسة خفية لم تجب الإعادة. والحنفية أوجبوها بناء على قاعدة الاندراج وتنزيل حدث الإمام تنزيل حدث المأموم، ثم ادعوا أنا نقضنا قاعدتنا؛ حيث قلنا: إذا بان كونه كافرًا أو امرأة وجبت الإعادة.
فقالوا: إن دعواكم إن كل مصلى يصلي لنفسه ولا ارتباط بين الإمام3 وبينهم في غير.
__________
1 في "ب" الأداء.
2 في "ب" وبالعارس.
3 في "ب" زيادة والمأموم.(2/265)
الجمعة وأجاب علماؤنا: بأن الكفر والأنوثة كالنجاسة الظاهرة -لا يخفى حالها- فإنما بطلت صلاة القوم لتقصيرهم وتفريطهم، إذا الغالب1 يكون للكافر والمرأة علامة يتميزان بها؛ فإن فرض انتفاء العلامة فهو نادر لا حكم له؛ [فكان] 2 من حق المأموم [أن] 3 يعرف حال إمامه مما يغلب ظهوره؛ فإذا لم يتعرف وصلى كان التفريط من قبله؛ فكان كمن اقتدى بمن يعمله محدثًا أو امرأة.
وهذا جواب من [يلتزم] 4 أن يتبين حال الكفر إذا كان الكافر معلنًا فإن كان مستترًا لم تبطل، إذا لا تفريط -وهو ما صححه الرافعي.
وصحح النووي والوالد رحمهما الله أن مخفي الكفر كمعلنه ويجب الإعادة فيهما وهو المعزو إلى النص.
وعلى هذا فالجواب: أن الكافر ليس من أهل الصلاة بخلاف المؤمن المحدث فإنه من أهلها على الجملة.
وقال المزني: لا تجب الإعادة وإن بان معلنًا بكفره، وهذا فيه وفاء بالقاعدة فلا سؤال عليه.
واعترض الخصوم أيضًا بما إذا علم حدث الإمام قبل الاقتداء به وهذا [تناقض] 5 فبطلان الصلاة -هنا إنما هو لبطلان النية؛ فإنه علم أن الإمام لاعب وإتباع اللاعب لعب حقيقة، فبطلت نية الصلاة.
بخلاف ما إذا ظنه يصلي حقيقة. فإن نيته لا تبطل، وهو مصل لنفسه كما بيناه.
ولا ننكر أن بينه وبين الإمام علاقة لكنها لا تنتهي إلى الحد الذي قالوه ومن ثم لا يلحق المأموم سهو الإمام إذا كان محدثًا ويلحقه إذا كان غير محدث. أما ثانيًا فللعلاقة، وأما أولًا فلعدم6 الرابطة.
ومنها: لو ظن المسافر إمامه مسافرًا فبان مقيمًا عد ما لزمه الإتمام مطلقًا -على ما
__________
1 في "ب" زيادة أن.
2 في "ب" زيادة من حق.
3 سقط من "ب".
4 في "ب" يلزم.
5 في "ب" ساقط.
6 في "ب" فانعدم.(2/266)
رجحه [الإمام] 1 الوالد [رحمه الله] 2 -لكونه صلى خلف مقيم ولا مبالاة بكونه- في نفس الأمر محدثًا وبناء على أصلنا في صحة القدوة [بمحدث] 3 لا نعلم حدثه.
ورجح النووي أنه4 لم يسبق تبين الإقامة؛ بل سبق تبين الحدث أو بانا معًا لم يلزمه الإتمام، لأنه في الظاهر مسافر وفي الباطن غير إمام، لعدم صحة القدوة [لحدثه] 5.
كذا علل به ولا يخفي منعه؛ لأن المحدث الذي ليس بإمام هو المعروف حدثه فمن ثم جنح الوالد إلى مخالفة النووي في هذا الترجيح.
مسألة:
"المغلب عند الشافعي رضي الله عنه -في الزكاة معنى المواساة ومعنى العبادة تبع له".
ومعنى هذا أنها مؤنة مالية وجبت للفقراء على الأغنياء فجانب الفقراء وهم المعطون هم المقصود بالذات سدًا لخلتهم، وجانب الأغنياء مغلوب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: المغلب فيها معنى العبادة والمواساة تبع، وجانب الأغنياء غالب، وهو المقصود بالذات رياضة للنفس، لئلا تطغى بالمال وتجرها كثرته إلى ما لا ينبغي.
فإن قلت: قضية أصل الشافعي [رضي الله عنه] 6 إجزاء القيمة في الزكاة؛ لأنه إذا غلب جانب الفقير فسد خلته واقع بالقيمة.
قلت: لا يلزم من تغليب جانب الفقير إهمال جانب المالك، بل هو منظور إليه أيضًا لتطهير ماله؛ وذلك إنما يكون بإخراج العين.
واعلم أن ما ذكرناه من خلاف بين الإمامين -في هذا الأصل تبعنا فيه الخلافين.
وقد حكى الوالد رحمه الله: في المسألة أوجهًا وقال: إنها تخرج من كلام أصحابنا في أن الزكاة عبادة محضة أو مواساة أو فيها شائبة من هذا وشائبة من هذا تركبت منهما.
__________
1 في "ب" زيادة الإمام.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" محدث.
4 في "ب" زيادة أن.
5 في "ب" لحدثه.
6 سقط من "ب".(2/267)
قال: والمشهور عن مذهبنا أنها إما مواساة وإما مركبة وعن الحنفية أنها عبادة محضة، وبنوا عليه الزكاة في مال الصبي.
ثم نص الوالد -رحمه الله [على] 1 كونها عبادة وأطنب في ذلك مع تضعيفه قول من نفي زكاة الصبي وقطعه بأن الحق وجوب الزكاة. ونحن نجري مع الخلافيين على ما قرروه، ثم [نلخص] 2 كلام الوالد.
[فنقول] 3 وهذا أصل بين الإمامين يتخرج عليه مسائل.
منها: يجب عندنا الزكاة في مال الصبي والمجنون كنفقة القريب وسائر المؤن.
وعندهم: لا يجب لأنه ليس من أهل إيجاب العبادة ولا يخشى وقوعه في محذور لعدم التكليف.
ونحن ننازعه في مقامات ثلاثة:
تفلا نسلم "له" أنها عبادة ولأن الصبي ليس أهلًا لها؛ بل هو أهل وينبغي أن يمرن عليها، لئلا يدمن على خلافها فيجره -عند التكليف إلى ما لا ينبغي ومن ثم أمرناه بالصلاة والصوم.
ثم بتقدير تسليم المقامين لا نقول: وجبت عليه بل إنما تجب في ماله -والمسألة تحرر في الخلافيات.
ومنها: لا تجب الزكاة في الحلي المباح في أصح القولين -لأنه متعلق حاجة المالك، ولا مواساة مع الحاجة.
وعندهم تجب؛ لأن حاجة التحلي لا تمنع من الوقوع في الطغيان والقول الموافق له ليس مأخذه ومأخذهم بل مأخذه أن الحاجة إلى التحلي لا ينظر إلى مثلها الشارع.
ومنها: تجب الزكاة في المال المغصوب والضال والدين على مماطل على أصح القولين بعد عود المال.
وقالوا: لا تجب لأن هذا المال لا يصلح سببًا للطغيان؛ لأنه ليس في يده.
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" يلخص.
3 في "ب" يقول.(2/268)
ومنها: تجب الزكاة على المديون على الأصح، لاستغنائه بما في يده وتعلق الدين بذمته.
وقالوا: لا تجب؛ لكونه مقهورًا بالدين ممتنعًا عن الطغيان.
ومنها: لا تسقط الزكاة بالموت؛ بل تخرج من التركة.
وقالوا: لا تؤخذ، لامتناع حصول الابتلاء في حقه بوقوع العقاب.
ومنها: أن الخلطة مؤثرة في الزكاة فتجعل [المسالكين كمالك واحد والمالين كمال واحد] 1 حتى لو [خلط] 2 عشرين من الغنم بعشرين وجبت عليهما شاة، لأن هذا نصاب، والنظر إلى المال دون المالك.
وعندهم: لا تجب لأنها عبادة والركن فيها الشخص المتعبؤد فلا بد أن يكون غنيًا بنصاب تام.
ومنها: أكثر مسائل الخلاف في باب الزكاة.
تنبيه: قدمنا أ، الوالد رحمه الله نازع في كون الزكاة غير عبادة وقد أطنب في ذلك، وأبى أن يسلم للخلافيين ما نقلوه عن الشافعية وقال: لقد ألجأتهم المبالغة في البحث في زكاة الصبي إلى أن أخرجوا الزكاة عن العبادة وفسروا العبادة بما يتعبد الله به [عادة] 3 من حيث كونهم عبيدًا مملوكين له وهورب لهم، لا لأمر آخر، ولا [بسبب] 4 منهم خرج من ذلك سائر الواجبات التي بالتزامهم فكالثمن والأجرة والمهر وغير ذلك، والتي بسبب منهم كالحدود والتعاذير وغير ذلك والتي لوصله بينهم وبين العباد كنفقة الأقارب، وجعلوا الزكاة من هذا القبيل لأنها وجبت للفقراء على الأغنياء لأخوة الدين، وهي قرابة عامة، كما وجبت نفقة الوالدين الفقيرين العاجزين على الولد الغني بالإجماع، للقرابة الخاصة. وإن افترقت القرابتان في أن الأول لا يثبت محرمية ولا عتقًا وأن الثانية لا توجب استقرار النفقة في الذمة، لتجدها بحسب الحاجة يومًا بيوم ولا تتقرر بنصاب ولا حول بخلاف [الأولى] 5؛ لأنها لغير معين أو على غير معين، فدعت الحاجة إلى استقرارها وتقديرها.
__________
1 في "ب" المالكين كمال واحد والمالكين كمال واحد.
2 في "ب" خلطا.
3 في "ب" عبادة.
4 في "ب" سبب.
5 في "ب" الأول.(2/269)
قال الوالد رحمه الله: وهذا كله صحيح لكنه لا يخرج الزكاة عن حيز العبادات والله تعالى يتعبد عباده بما يشاء -في قلوبهم وأبدانهم وأموالهم- كما [تعبدهم] 1 في قلوبهم بالإيمان، وفي أبدانهم بالأقوال والأعمال كذلك تعبدهم في أموالهم بالزكاة -وأطال في ذلك.
وتقرير حديث: "بني الإسلام على خمس" وغيره مما يدل على أنها عبادة، وأنها -مع ذلك حق المال وأن معناها القدر المفروض في المال لا إخراج ذلك القدر، وأن حقيقة الأمر الإيجابي موجود في حق الصبي وأن تخلفه حقيقة الوجوب لعدم قبول المحل وأن الصبي مساوٍ للبالغ في المقصود "في"2 إيجاب الزكاة.
وتوصل بذلك كله إلى تقرير الوجوب في مال الصبي وعقد بابًا كبيرًا جمع فيه الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والقياس وأطاب ذكره في كتاب "النظر الجلي في زكاة الصبي" وهو تصنيفه الكبير في زكاة أموال الصبي.
مأخذ:
علة ربوية الأشياء الأربعة المنصوصة عندنا الطعم وحده، والجنسية محل لتحريم الربا، وعدم التساوي في معيار الشرع شرط، والمعمول فساد العقد.
قال القاضي الحسين: وكان الشارع يقول: "الطعم في الجنس الواحد -مع انعدام التساوي- بوجوب فساد العقد".
وزعم الأودني -من أصحابنا: أن الجنس هو العلة والطعم شرط.
هذا تحرير النقل عنه -صرح به القاضي الحسين وغيره فأحفظه.
مأخذ:
الأصل عندنا أن كلا من الثمن والمثمن مقصود بنفسه ومتعلق قصد البائع بالثمن كمتعلق قصد المشتري بالثمن، وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه وعلى المأخذ تتخرج مسألة النقود.
فعندنا أنها تتعين بالتعيين.
وقالوا: "لا تتعين".
[ووافقوا] 3 على التعيين في الوديعة والغصب والوصية والإرث والصداق والوكاة وأن النقد إذا كان حليًا تعين.
__________
1 في "ب" ينعقد.
2 في "ب" من.
3 في "ب" وزعم.(2/270)
وفائدة التعيين: أنه ليس له1 أن يعطي غير ما عين في العقد، ومتى تلف قبل القبض انفسخ العقد، وإذا خرج مستحقًا بأن بطلان العقد.
وحيث استحق الرجوع بمقابلة أو رد بعيب وغيرهما يجب رد تلك العين إن كانت قائمة، ولم يكن له أن يرد بدلها؛ سواء كان العيب بكل المبيع أو بعضه وسواء كان قبل التفرق أو بعده. صرح به الشيخ أبو حامد وغيره.
وفيه وجه عن صاحب التقريب وأنه يجوز قبل التفرق أخذ البدل، ويرجع في عينه عند الفلس [ويعمل] 2 به النصاب من حين ملكه، ويترتب عليها أحكام الملك.
وإذا كانت الدراهم المبذولة للحيلولة في الغضب باقية بعد وجود المغصوب تردد الشيخ أبو محمد في أنه هل يجوز للمالك إمساكها وغرامة مثلها؟ قال النووي وتبعه الوالد: والأقوى أن لا يجوز.
قلت: ولا وجه للجواز إلا أن النقود لا تتعين وليس هو مذهبنا.
وإذا كاتب عبده على نقد للغير فسدت الكتابة، كما إذا كاتبه على مال الغير غير نقد.
وفرق أبو حنيفة بناء على أصله في أن النقد لا يتعين بالتعيين -ذكره عنه الرافعي في باب الكتابة.
مأخذ: هو أم باب الربا
الأصل في بيع الربوبات -بجنسها أو بما يشاركها في علة الربا- "التحريم".
وحيث ثبت جوازه: فمستثنى من قاعدة التحريم مقتطع من أصله مقيد بشرط المساواة والحلول والتقابض عند [اتحاد الجنس وبشرط الحلول والتقابض] 3 عند اختلافها.
"فكل ربويين على التحريم إلا ما قام الدليل على إباحته" وهذا الأصل مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب" الحديث إلى قوله: "إلا وزنًا بوزن مثلًا بمثل سواء بسواء" هذا حديث أبي سعيد عند مسلم رحمه الله، وفي حديث عبادة سمعت رسول الله
__________
1 زيادة له في "ب".
2 في "ب" يتكمل.
3 سقط من "ب".(2/271)
صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب الحديث إلى قوله: "إلا سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد فقد أربى" لفظ مسلم أيضًا.
ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم صدر بالنهي فانسحب على جميع [المبايعات] 1 ثم استثنى بالنهي، نعم ما لا يتحقق خروجه بالمستثنى2 فتمسك بالمستثنى منه أبدًا.
في كل مشكوك في خروجه.
وقال أبو حنيفة الأصل الحل لاندراجه في جملة البيع وزعم أن المقصود من الحديث آخره وإن صدر أوله بالنهي.
فهو يتمسك بالحل -أخذ بأصل البياعات وبآخر الكلام- ما لم يتحقق التحريم، عكس ما نعمله نحن.
ولا يخفي أنا تمسكنا بالأصل القريب -وهو تحريم الربا- وهو الأصل البعيد- وهو تحليل البيع.
وفائدة الخلاف تظهر في مسائل القول الجامع فيها ما عرفناك في أنا نحكم في مظان الاشتباه ويعارض المأخذ بالتحريم وهو يحكم بالحل؛ منها مسألة: هي قاعدة من قواعد الربا أن نقول الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة فلا يجوز بيع حفنة بحفنتين ولا جوزة "بجوزتين ولا بطيخة ببطيختين"3 ونحو ذلك.
ومنها: أنا نشترط التقايض في بيع الطعام بالطعام وسواء اتخذ الجنس أو اختلف؛ لأن الجواز إنما يثبت بشروط.
منها: التقابض المدلول عليه بقوله صلى الله عليه وسلم يدًا بيد وهو صريح فيه، والعرف يقضي بأن ذلك إنما يكون في المجلس وحمل أبو حنيفة "رحمه الله" يدًا بيد على الحلول المنافي للتساوي.
وقوله عينًا بعين على التأكيد والتكرير زاعمًا أن القياس الجلي يؤيده وهو أن أصل البيع الجواز.
__________
1 في "ب" البياعات.
2 في "ب" زيادة فتمسك بالمستثنى.
3 في "ب" سقط.(2/272)
ومنها: بيع الرطب بالتمر باطل لأن التحريم الثابت بالحديث لا يرتفع إلا عند تحقق شرط الإباحة؛ فمتى لم نعلم وجود الشرط حكمنا بالبطلان وهو غير متحقق الوجود هنا، وقال أبو حنيفة: تصح المساواة في الكيل وهو باطل بيع الحنطة بالدقيق والسويق وبيع الحنطة المقلية بالنية أو المقلية.
ومنها: إذا باع مد عجوة ودرهم بمدي عجوة ونظائرها لا تصح خلافًا لهم.
ومنها: بيع اللحم بالحيوان باطل للجهالة بالمماثلة وهي كبيع السمسم بالدهن وقالوا صحيح.
مأخذ:
لا معنى لانعقاد العقود إلا بثبوت أحكامها التي وضعت لها؛ فإذا انعقد البيع بالإيجاب والقبول لم يكن معناه إلا حصول الملك لأنه سبب منصوب للملك ولا سبيل إلى قطع المسبب عن السبب ما أمكن ولا ضرورة إليه، وذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن الإيجاب والقبول له حكمان:
أحدهما: الانعقاد، وهو مقترن بهما ومعناه لارتباط الحاصل بين الخطاب والجواب.
والثاني: زوال الملك وهو حكم منفصل عن الانعقاد محتجًا بأن الانعقاد في نفسه معقول على تجرده كالهبة قبل القبض فإنها منعقدة ولم يتأثر المحل بها ولا معنى لانعقادها إلا تعلق الإيجاب بالقبول على نهج الخطاب والجواب وانتهاض ذلك سببًا للملك إذا وجد شرطه، قال: وإذا ثبت أنهما حكمان منفصلان فلا يعتبر في الانعقاد إلا أهلية الخطاب والجواب؛ فمتى صدر الإيجاب والقبول من أصلهما وصادفًا محلًا قابلًا لحكمهما ثبت الانعقاد، وأما زوال الملك فينبغي على الولاية على المحل، والضابط عندهم أن كل عقد له مجيز حالة وقوعه ينعقد موقوفًا على إجازته ويخرج على هذا إذا طلق الولي امرأة الصبي موقوفًا على إجارته بعد بلوغه أو طلق الصبي موقوفًا على إجارته بعد البلوغ؛ فإنه لا ينعقد لعدم المجبر حالة العقد؛ إذا عرفت هذا يتبين لك أن البيع سبب إفادة الملك بالإجماع، أما عندنا فواضح وأما عندهم فلأنهم لا ينكرون سببيته بل يقولون هو سبب لملك متراخ لا لملك ناجز والناجز الانعقاد فقط ومن ثم قال الغزالي في الوسيط أجمعت الأمة على كونه يعني البيع لإفادة الملك وهو من عقد الوسيط التي ذهل عنها كثيرون وقالوا كيف قال سببًا لإفادة الملك ولم يقل مفيدًا للملك ثم أجاب منهم مجيبون بأنه احترز عن البيع في مدة الخيار؛ فإن الملك لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار(2/273)
على قول فلم يكن البيع مفيدًا لملك بل سببًا للإفادة وهذا ما جرى عليه ابن الرفعة وجهان على وجه آخر فقال قوله أجمعت الأمة على كونه سببًا لإفادة الملك لا يرد عليه أحد قولي الشافعي رضي الله عنه أن الملك لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار لأنا على هذا القول نقول الانتقال سببان البيع وانقضاء الخيار، وعلى خلافه نقول ليس إلا على سبب واحد وهو البيع، انتهى.
وأقول إنما ادعى الغزالي إجماع الأمة ولم يدع وفاق المذهب حتى يحاول رد هذا القول إليه وإنما قال أجمعوا على كونه سببًا ولم يقل مفيدًا ليخرج من خلاف أبي حنيفة رضي الله عنه الذي حكاه هو وغيره في الخلافيات من أن البيع في مدة الخيار لا ينقل الملك وإن كان البيع سببًا فأراد أن ينبه على أن شبيه البيع مجمع عليها كما عرفناك ثم عندنا المسبب متصل بالسبب وعندهم لا يلزم كونه متصلًا وهو قول لنا في البيع في مدة الخيار؛ لكن ليس على منهج أصلهم بل على منهج آخر وإذا تبين لك هذا الأصل المنازع فيه بين الإمامين، فعليه مسائل:
منها: تصرفات الصبي باطلة عندنا وعندهم تصح، ويتوقف نفوذها على إجازة الولي.
ومنها: بيع الفضولي فإنه باطل على الجديد وعندهم أنه منعقد موقوفًا على إجارة المالك وهو قول قديم عندنا.
ومنها: البيع في مدة الخيار صحيح ناقل للملك على القول المنصوص في الخلاف وهو الصحيح إذا انفرد المشتري بالخيار وعندهم منعقد غير ناقل للملك كما عرفت؛ فإن قلت نزل لي مراتب هذا في الخلاف على جادة مذهبك فإنك قطعت القول ببطلان تصرفات الصبي إلا في بيع الاختيار على وجه ساقط وحكيت قولًا مرجوحًا قديمًا في بيع الفضولي.
وأما القول بأن الملك لا ينتقل في زمن الخيار فقوي وهو الصحيح إذا انفرد البائع بالخيار، قلت أما القطع ببطلان تصرف الصبي فلأنا ننازع الحنفية فيه في مقامين فلا يسلم لهم أن أهلية الخطاب معه، والجواب موجودة لا بالجملة ولا بالتفضيل ولا أن الانعقاد معنى غير حصول الملك، وأما الفضولي فإنا نسلم أن أهلية الخطاب موجودة ولكن على الجملة ولكن دون هذا المحل المنع إذ لا ولاية له عليه، وأما البيع المقيد.(2/274)
بالخيار فالأهلية موجودة جملة وتفصيلًا فلا نزاع لنا معهم إلا في أنه هل الانعقاد معنى غير حصول الملك فإذا المنفرد بالترتيب والتفريع على هذا الأصل إنما هو هذه المسألة وحدها.
أما المسألتان الأولتان فلهما أصل آخر وعند هذا أقول إن هذا الأصل عندي في موضع النظر لانتفاضه بالهبة وبالقرض فإن المفترض لا يملك المال من القرض بعقد القرض بل إما بالقبض وهو الأصح أو بالتصرف والمتهب لا يملك بعقد الهبة بل بالقبض وهذا هو الأصح، وفي قول بالقعد وهو جار على وفق هذا الأصل.
مأخذ:
الأصل عندنا أن الفعل إذا طابق بظاهره الشرع حكم بصحته ولا ينظر إلى التهمة في الأحكام لعدم انضباطها والأحكام ببيع الأسباب الجلية ولا يوكل إلى المعاني الخفية فالأصل إذًا الصحة حتى يثبت مقابلها، وقال أبو حنيفة كل فعل تطرقت التهمة إليه حكم بفساده لتعارض دليل الصحة والفساد؛ فإذا الأصل الفساد حتى يثبت مقابله، وعلى هذا الأصل مسائل:
منها: إذا أقر مدين في حال الصحة وبآخر في حال المرض تساوي الغريمان وتخاصما في التركة لأن الإقرار مشروع في الحالتين، وأبطل أبو حنيفة رحمه الله تارة إقرار المريض محتجبًا بتعلق غرماء الصحة بعين المال وقدم تارة غرماء الصحة محتجًا بأنه أقوى من حيث إنه صادق حال الإطلاق.
والثاني: صادق حال الحجر فيكون فيه متهمًا من حيث أن الشرع سلبه قدرة التبرع فلا يؤمن عدوله عن التبرع إلى الإقرار.
ومنها: إقرار المريض لوارثه صحيح عندنا على الصحيح خلافًا لهم.
ومنها: إقرار المريض لوارثه صحيح عندنا على الصحيح خلافًا لهم.
ومنها: أمان العبد المحجور عليه صحيح في دار الحرب فيؤثرهم على المسلمين فإن نقض بما إذا أعتق ثم أسلم، قالوا لما زالت يد المولى عنه بالعتق واختار المقام في دار الإسلام مع قدرته على العود إلى دار الحرب زالت التهمة فيه؛ فإن نقض عليهم ما إذا أذن له مولاه في الأماه قالوا لم يأذن له مولاه إلا بعد أن يتبين منه أن العبد لا يؤثر الكفار على المسلمين.
ومنها: لو ادعت البكارة أو الثيوبة، قطع الصميري والماوردي بأن القول قولها ولا يكشف حالها لأنها أعلم ولا مبالاة بتهمة إظهار شرف البكارة في الأول ولا بتهمة دفع(2/275)
الإجبار، وفي الثاني قال الماوردي ولا يسأل عن الوطء، ولا يشرط أن يكون لها زوج، وقال الشاشي في هذا انظر لأن بكارتها ربما ذهبت بأصبعها فله إن يسألها وإن اتهمها حلفها.
ومنها: وهو ما يغلب في بادئ الرأي على أصلنا عن الشافعي رضي الله عنه أن من ادعت غيبة وليها لا يزوجها السلطان حتى يشهد شاهدان أنه ليس لها ولي حاضر وأنها خالية عن الموانع ولم لا يصح أن هذا على سبيل الاستحباب لا الوجوب.
مأخذ:
حكم الرهن تعلق الدين بالعين بمعنى ضرورة المرتهن أحق بيعها واستيفاء دينه منها لابمعنى انحصار حقوقها ويعبر عن هذا بأن لحقه تعلقًا بالعين.
وقالت الحنفية حكمه إثبات يد المرتهن فتبقى العين مملوكة للراهن عينًا وللمرتهن يدًا ثم هي من حيث عينها خالصة للراهن غير مثبوتة بحق الغير ويعبرون عن هذا بأن موجبه ملك السيد على سبيل الدوام حسًا؛ لأن الرهن الحبس فهم يحملونه على الحبس الحسي وهو دوام اليد ونحن نحمله على الحبس الشرعي وهو منع المالك من التصرف وذهب مالك رحمه الله إلى مذهب أنا أراه وأناظر عليه ذلك عندهم، كالهالك حتى يتمكن الغاصب أن يعطيه قدر حقه من غير [المخلوط] 1 لا جرم قال الوالد رحه الله: القول بالهلاك باطل بعيد من الشريعة وقواعد الشافعي [رضي الله عنه] 2.
قلت: ونظيره جعل جارية الابن إذا أحبلها الأب أم ولد له ولكن ذلك لقوة الإيلاد وشبهة الإعفاف والله تعالى أعلم.
مسألة:
قال علماؤنا: الغصب إثبات اليد على حق الغير عدوانًا.
وقال الحنفية: تفويت اليد المستحقة بإثبات يده عليه بعدوان أو تفويت مال الغير بتحصيله لنفسه.
وأعلم أن [لا مشاقة] 3 في التسمية غير أنا نقول لهم شرطتم في كون الغاصب غاصبًا بتفويت يد [المالك] 4.
__________
1 في "ب" المحفوظ.
2 ساقط من "ب".
3 في "ب" الأمشاقة.
4 في "ب" المالك.(2/276)
فإن قالوا: لأن الضمان ضمان جبر لما فات فلا بد من التفويق "قلنا" يلزمكم [أن] 1 يكون الغاصب غاصبًا، لأنه لم يفوت يد المالك وغن أثبت يده على [مالك] 2 ولا قائل به ويلزمكم أن من سلب المالك قلنسوته واحتوت يده عليها لا يضمنها لعدم استيلائه ويلزمكم أن المودع إذا جحد الوديعة لا يضمنها؛ لأنه لم يفوت يد المالك ولم يقولوا به.
إذا عرفت هذا فمنهم من يعبر عن هذا الأصل بأن اليد الناقلة غير معتبرة في وجوب الضمان العدواني عندنا، بل يكفي إثبات اليد بصفة التعدي خلافًا لهم فإنهم قالوا: "الزائد من النقل لتحقق صورة التعدي".
وعلى الأصل مسائل:
منها: [زوائد] 3 المغصوب مضمونة لوجود حقيقة الغصب وهو إثبات اليد فإن الولد كان بصدد أن يحدث في [يد] 4 المالك فحدث في يد الغاصب بسبب غصبه السابق، فكان منع الحصول في يده كالقطع ولذلك وجب الضمان على المغرور بزوجته إذا امتنع حصول الرق في الولد كما إذا قطعه ومن ثم ضمن الولد.
قال علماؤنا: وما كان ذلك إلا لأنه تسبب إلى حصول الولد في يده حيث أثبت يده على الأم.
وقال أبو حنيفة: لا يضمن الزيادة إلا عند منع الملك منها، وهو [عند] 5 ذلك أمانة، وينقض عليه بولد صيد الحرم.
ومنها: [أن] 6 غصب العقار مقصور فإن قصر يد المالك عنه مع إثبات اليد عليه عدوانًا يوجد فيه فيوجب الضمان ومن رشيق عبارات الغزالي: المغصوب مضمون، والعقار مغصوب فكان مضمونًا.
وقال أبو حنيفة: لا يتصور لأنه لا نتقل عن مكان ولا يتحول ولا بد من النقل لتمام الغصب "واحتج بأن من جلس على [بساط7 غيره بغير إذنه لا يعد غاصبًا مع كونه مستوليًا.
__________
1 في "ب" إلا.
2 في "ب" مال.
3 سقط من "ب".
4 سقط من "ب".
5 في "ب" قبل.
6 في "ب" إذا.
7 في "ب" فراش.(2/277)
قال: وإنما ذلك لأنه لم ينتقل ولم يحول.
قال: وكذلك الداخل إلى دار غيره لينظر هل تصلح لسكناه.
قال أسعد المهيني: ومن أصحابنا من وافقهم على أن غصب العقار لا يتصور، وقال: يجب الضمان بطريق آخر قلت: وهذا ضعيف ومصادم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين" متفق على صحته والأصح عندنا أن الجالس على [بساط] 1 غيره ضامن.
وعلى الوجه الآخر فالجواب أن المنقول بنقله بخلاف ما ليس بمنقول؛ فإن غصب مثله [فإنما] 2 هو بقصد "الاستيلاء"3 وبهذا خرج [الداخل] 4 إلى دار لينظر هل تصلح له فإنه لا يكون غاصبًا لكن لو انهدمت في تلك الحال ففي الضمان وجهان -حكاهما الرافعي عن "صاحب التتمة" أصحهما: لا.
مسألة:
قال علماؤنا: المالية قائمة بمنافع الأعيان كقيامها بالأعيان وليس من قيام العرض بالعرض في شيء يعني بهذا أن منافع الأعيان أموال كالأعيان.
قالوا: بل المنافع أحق باسم الأموال من الأعيان، إذ الأعيان لا تسمى أموالًا إلا لاشتمالها على المنافع، ألا ترى أنها لا يصح بيعها بدونها.
وربما قال علماؤنا: المنافع منزلة منزلة الأعيان واستدلوا بقول الشافعي رضي الله عنه "الإجارة صنف من البيع" فأشار إلى إعطائها حكم الأعيان [بكونها] 5 تباع، وإلى أنها بمنزلة العين وليست عينًا بنفسها بقوله: "صنف من البيع" ولم يقل أنها نفس البيع.
وقالت الحنفية: لا مالية للمنافع.
وعلى الأصل مسائل:
منها: منافع المغصوب تضمن بالفوات تحت اليد العادية خلافًا لهم.
ومنها: يجوز أن تكون منفعة الحر أو الدار صداقًا، وقالوا لا يجوز محتجين بقوله
__________
1 في "ب" فراش.
2 في "بط" إنما.
3 في "ب" الاستيلاء.
4 في "ب" بالداخل.
5 في "ب" كونها.(2/278)
تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} 1 قالوا: شرط في الإباحة الانتفاع بالأموال، والمنافع غير المال.
ومنها: يؤخذ الشقص الشقص بالشفعة بقيمة البضع، [وكذلك] 2 إذا جعل بدل الخلع خلافًا لهم، قالوا: لأن منافع العضو ليست بمال.
ومنها: أن المعقود عليه في الإجارة المنفعة دون العين ثم المنافع المعقود عليها تملك مقترنة بالعقد وإن ترتب شيئًا فشيئًا [هذا هو الصحيح] 4.
وقالت الحنفية والشيخ أبو حامد منا -تملك شيئًا فشيئًا.
وقالا أبو إسحاق المعقود عليه العين نفسها.
ومنها: أن الأجرة تملك بنفس العقد في الأجرة المطلقة كالثمن في بيع الأعيان وعندهم تملك ساعة فساعة بحسب وجود المنافع.
ومنها: أن إجارة المبتاع جائزة تنزيلًا لبيع المنافع منزلة بيع الأعيان.
وعندهم: لا يجوز قالوا: لأن قبض المنافع إنما تملك بالفعل وهو استيفاؤها -قالوا واستيفاء منفعة سابقة ممتنع؛ فإن السكنى فعل لا يتبعض وكذلك اللبس بخلاف بيع المنافع.
ومنها: أن الإجارة لا تنفسخ بموت المستأجر لأنه ملك المنافع بالعقد دفعة فتورث عنه.
وعندهم تنفسخ لأن ملك المنافع مرتب على الوجود وقد فات قبل الملك.
ونقض عليهم علماؤنا بمن نصب شبكة فوقع فيها صيد بعد موته فإن وارثه يملك بالوراثة بجريان السبب من حال الحياة والسبب هنا هو العقد وقد جرى في الحياة وموت المؤجر كموت المستأجر.
__________
1 سورة النساء "24".
2 في "ب" كذا.
3 سقط من "ب".
4 سقط من "ب".(2/279)
ومنها: إيجار1 المدة المستقبلة باطل عندنا من غير المستأجر للمدة الحاضرة المتصلة بها.
وعندهم [صحيحة] 2 لأنهم لما قدروا عقودًا متجددة بحسب تجدد المنافع.
قالوا: فإيجار المدة المستقبلة لا تضر، لأنه مقتضى الإجارة.
ومنها: أن [الموصى له] 3 بالسكنى إذا مات ورث عنه -خلافًا لهم بناء على الأصل المذكور والله أعلم.
فائدة نختم بها مسائل الغصب:
"إذا تعذر مثلا ملغصوب المثلي وجبت القيمة".
وهي عند صاحب التنبيه والوالد، وعليها حمل كلام النووي: قيمة المثل لا قيمة المغصوب لأنه الواجب عند التلف وفي وجه قيمة المغصوب لأنه الذي تلف على المالك وأجدني أميل إليه وهو الذي رجحه ابن الرفعة.
أصل: وهو أن المغصوب إذا كان مثليًا ففيه ثلاثة أشياء
أحدها: شخصه والوجوب متعلق به ما دام باقيًا، ولا يضر اختلاف القيم بالنسبة إليه [كمن] 4 غصب صاعًا من البر وقيمته درهمان يوم الغصب لا تلزم [زيادة] 5 معه إذا رده بعينه وقيمته درهم؛ لأن اختلاف السعر ليس إليه.
والثاني: نوعه وهو أهم من الشخص، والوجوب يتعلق به عند التلف لأنه بعض الواجب فلذلك وجب المثل عند إمكانه.
والثالث: جنسه وهو "أعم من المالية" وهو "أعم" من النوع، ولذلك وجبت القيمة عند أعواز المثل وهي عبارة عن المالية المحفوظة في العين -أو في مثل العين- ذكره الوالد رحمه الله وقال: من ها هنا تنبيه لأن الصحيح قيمة المثل، ولأن الصحيح اعتبار أقصى القيم من الغصب إلى الإعواز والتأدية، ولوجوب قيمة الحيلولة عند بقاء
__________
1 في "ب" زيادة أن.
2 سقط من "ب".
3 سقط من "ب".
4 في "ب" فمن.
5 في "ب" بزيادة.(2/280)
المغصوب وتعذره إلى غير ذلك من المسائل المتفرعة عن هذا الأصل.
فإن قلت: قيمة المغصوب هي قيمة مثله؛ ألا ترانا نقول: "قيمة المثل" ونعني بها قيمة الشيء.
قلت: لا وصواب العبارة إذا قومنا شيئًا أن نقول "قيمته لا قيمة مثله"؛ وإنما اختلفنا ها هنا في الغصب وفائدة تظهر فيما بعد "هذا كلام الوالد رحمه الله" ثم ذكر بعد ذلك بأوراق فيما إذا فقد المثل وظفر بالغاصب في غير بلد التلف فيأخذ القيمة، أما لأن المثلى لتلفه مؤنة على ما صححه الرافعي والنووي أو لأن قيمة تلك البلد تزيد على قيمة بلد التلف على ما ذهب إليه ابن الصباغ والوالد رحمهما الله -أنهما إذا اجتمعا في بلد التلف ففي ردها وساتردادها الوجهان فيما لو غرم القيمة لإعواز المثل.
وجزم الغزالي: في الوجيز -بأن عليه المثل وأخذ القيمة مع أنه جعل الأظهر في مسألة الإعواز والمنع وأن الرافعي رحمه الله قال: هذا لا وجه له" بل الخلاف في المسألتين واحد باتفاق الناقلين فإما أن تختار فيهما النفي أو الإثبات وأن ابن الرفعة وافقه نقلًا وخالفه فيها فقال: لعل الغزالي لاحظ في إثبات الخلاف -في حال تعذر المثل بناؤه على الواجب قيمة المغصوب أو قيمة المثل، ورجع أن الواجب قيمة المغصوب فلا يكون لوجود المثل -بعد أخذها- معنى وما نحن فيه القيمة مأخوذة بدلًا عن المثل اتفاقًا فلذلك قال: إن له استرجاعها وبذل المثل.
قال ابن الرفعة: "وهذا بحث دقيق فليتأمل، فإن به يندفع اعتراضي عنه".
قال الوالد: وما يتبين لك ذلك أن الغزالي في "الوسيط" هنا قال: إن القيمة في الحيلولة، وفي الأعوازلم يذكر أنها للحيلولة.
قال: [وهي] 1 إشارة إلى ما قاله ابن الرفعة.
قلت: قوله للوجوب متعلق عند التلف بالمثل، لأن في ضمنه النوع الذي هو بعض الواجب.
مسألة:
قوله: فيلزم عند تعذره أن يكون الواجب قيمته لا قيمة المغصوب "هذا لم يظهر لي ويمكن أن يقال الواجب حينئذ قيمة المغصوب لأن الغرض الأصلي كان متعلقًا
__________
1 في "ب" وهو.(2/281)
به؛ فلما أدت الضرورة بتعذره -إلى مثله وقفنا عنده فلما تعذر المثل ينبغي أن يعود إلى [عوض] 1 ما وردت الجنابة عليه لا لى عوض مثله من هذا الأصل الذي أصله هذا الفرع الذي [فرعه] 2 واستدل ابن الرفعة -لأن الوجوب قيمة المغضوب لا قيمة مثله- يقول الجمهور فيما إذا جامع في الحج: إنه يجب عليه بدنة فإن لم يجد فبقرة- فإن لم يجد فسبعة من الغنم فإن لم يجد قوم البدنة دون ما عداها".
وما ذلك إلا لأنها الواجب المتأصل.
وكانت أولى بالاعتبار دون ما عداها؛ فكذا نقول هنا: الواجب المتأصل رد العين المغصوبة فاتفاق فإذا تعذر وجب الرجوع إلى قيمة الأصل دون المجعول بدلًا عنها.
وابن سريج يقول: تقوم البقرة لأن الحال استقر على إيجابها، وهذا نظير من اعتبر قيمة المثل فيما نحن فيه وهذا استدلال جيد إلا أن الولد رحمه الله يدعي أن المثل حينئذ نفس الواجب لاشتماله عليه -وهو تعسف وقد يقال: لو نظر ابن سريج إلى ما استقر الحال عليه لقوم السبعة من الغنم لا البقرة على أني لم أجد ما ذكره عن ابن سريج إنما طريقه المذكورة في كتاب الحج التخيير بين البدنة والبقرة والشاة والطعام والصيام.
فإن قلت: هل يناظر هذا في الأضحية - إذا عين عن الضالة واحدة ثم وجدها قبل ذبح البدل فأربعة أوجه.
أحدها: يلزم ذبحهما معًا.
والثاني: ذبح البدل فقط.
والثالث: ذبح الأول.
والرابع: يتخير.
وصحح النووي الثالث وهو يشهد لما قلته من قيمة الم غصوب لا قيمة مثله.
قلت: لا فإن للوالد رحمه الله أن يفرق [بأن الموجود هنا بعد الضلال نفس العين، فنظيره وجود نفس المغصوب لا مثله. لكنا] 3 عند هذا نقول: إذا كنا نرجع إلى نفس المغصوب فليكن عند مثله -إلى قيمته- لكونه أقرب إليه ومن فوائد الخلاف في أن الواجب قيمة المثل أو قيمة المغصوب "أنه عند تعذر المثل إن قلنا "قيمة
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" فرفعه.
3 سقط من "ب".(2/282)
المثل" [اعتبرنا] 1 أقصى القيم من وقت تلف المغصوب".
وإن قلنا: "قيمة المغصوب" فمن وقت الغصب إلى وقت التلف وتصحيح الرافعي والنووي أن المعتبر الأقصى من الغصب إلى تعذر المثل -معتلين بأن وجود المثل كبقاء عين المغصوب؛ لأنه واجب وجوب العين، فإذا لم يفعل غرم أقصى قيمة [المدتين] 2 يعرفك أن الصحيح عندهما قيمة المثل.
مسألة:
الصحيح أن علة ثبوت الشفعة دفع الضرر الذي ينشأ من القسمة من بدل مؤنتها والحاجة إلى أفراد الحصة الصائرة له بالمرافق الواقعة في حصة صاحبه [كالمصعد] 3 والبالوعة ونحوها.
وقال [أبو حنيفة] 4 رحمه الله: "بل دفع ضرر الشركة فيما يدوم من تضييق المداخل والتأذي [بحريم] 5 الشركة أو [خلاؤه] 6 أو كثرة الداخلين عليه وما أشبه ذلك.
وبه قال: من أصحابنا ابن سريج [وجماعة] 7- فتعلقوا بالمعنى الأعم وتعلقنا بالمعنى الأخص فنحن على ثقة من ثبوت الشفعة فيما يصير إليه [لوقوع] 8 الاتفاق عليه وليسوا [كذلك] 9 فيما ينفردون فيه، وهذا شأن كل علتين إحداهما أعم من الأخرى أبدًا المتمسك بالأخص أجدر بالسلامة.
وعلى العلتين مسائل:
منها: لا شفعة للجار عندنا؛ لإمكان دفع الضرر بالسلطان، وخالف أبو حنيفة رحمه الله10 فقال: "تثبت الشفعة للشريك والجار الملاصق دون المقابل".
ومنها: الشفعة تثبت بين الشفعاء على قدر الأنصباء على أصح القولين -لأن مناط الاستحقاق الملك المتصل بجميع الأجزاء فاتصال كل جزء من أجزاء ملكه سبب لأخذ ما يتصل به؛ فمن ازدادت أجزاء ملكه اداد ما يتصل به من الشقص. والحاصل: أن
__________
1 في "ب" أقضي.
2 في "ب" المبتدين.
3 في "ب" كالمصفر.
4 سقط في "ب".
5 في "ب" بحركة.
6 في "ب" إخلافه.
7 سقط في "ب".
8 زويادة في "ب" من.
9 في "ب" ذلك.
10 سقط من "ب".(2/283)
الاستحقاق بقدر الملك فيختلف باختلافه قلة وكثرة والقول الآخر التوزيع على عدد الرؤوس بالتسوية. وبه قال أبو حنيفة [رضي الله عنه] 1؛ لأن مناط الاستحقاق عموم الملك لا خصوصه، فليس للقدر قلة ولا كثرة فيه مدخل وهكذا القولان في أجر القسام.
مسألة:
"العبد محجور عليه بحق السيد لا لنقص في ذاته"؛ فإذا أذن له تصرف بحكم الإذن نيابة عن مولاه مقيدًا تصرفه بما أذن له فيه، والتصرف لمولاه للا له كالوكيل فإن أذن له في نوع من التجارة لم يستفد غيره.
وقال أبو حنيفة [رضي الله عنه] 2: "الإذن له في نوع يستلزم فك الحجر عنه كالمكاتب، ويكون تصرفه لنفسه بمقضتى إنسانيته ثم ينتقل إلى السيد فلا يتقيد بالمأذون فيه". وحرف المسألة: أن العبد يتصرف لغيره، فالتصرف مقيد بما أذن فيه غيره وعندهم بتصرف لنفسه بأهليته؛ وإنما احتيج إلى إذن السيد ليعرف رضاه.
وعلى هذا الأصل مسائل:
منها: المأذون له في التجارة لا يصير مأذونًا له فيما عداه خلافًا له.
ومنها: إذا استغرقت ديون التجارة أكسابه لم يتعلق بقيتها برقبته -ولا يباع- بل بذمته يتبع به إذا عتق؛ لأن تصرفه نيابة عن سيده فيتقيد بمحل إذن وهو الاكتساب دون الرقبة.
وقال أبو حنيفة [رضي الله عنه] 3 تباع رقبته فيه لأن التصرف حق العبد والإذن يقتضي تعلق الديون بحقه، والرقبة حقه فيتعلق بها.
ومنها: إذا رأى السيد يبيع ويشتري فسكت لم يكن سكوته إذنًا له في التجارة خلافًا لأبي حنيفة.
وحرف المسألة أن السكوت عندهم دليل على الرضا، بنوع يرفع الحجر بجملته.
ومنها: المأذون في التجارة له لا يؤجر نفسه خلافًا لهم، وربما عبروا عن هذا الأصل بأن الإذن ولاية والولاية لا تتجزأ وما لا يتجزأ فإثبات بعضه إثبات لكله.
__________
1 سقط من "ب".
2 سقط من "ب".
3 سقط من "ب".(2/284)
وتطرقوا بهذا إلى قولهم: إن الموصى إليه بنوع من التصرف لا يصير وصيًا مطلقًا.
ونحن لا نسلم هذا وننازعهم في المقدمات الثلاث، فما الإذن ولاية، ولا الولاية يمتنع عليها التجزؤ، ولا إثبات بعض ما يتجزأ إثبات كله؛ بل قد يكون باطلًا.
ومنها: لا يعامل المأذون سيده ولا يبيع منه ولا يشتري لأن تصرفه لسيده بخلاف المكاتب.
وقال أبو حنيفة [رحمه الله] 1 له أن يعامله، لأن تصرفه لنفسه، وأغرب أبو حامد فحكى فيما إذا كان عليه دين يستغرق ذمته وجهًا أن له أن يشتري منه؛ لأن ما في يده حق الغرماء.
قال الوالد رحمه الله: ويحتمل أن يريد هذا القائل أن السيد يأخذه بقيمته كما يدفع قيمة العبد الجاني ولا يكون تبعًا قال: ويجب تأويله على هذا فلا يكون غلطًا.
تنبيه: لما أثبت الحنفية للمأذون استقلًا كالمكاتب [وبني] 2 عليه ما ذكر من مسائل ألزموا أصحابنا أن سيده لا يطالب بثمن ما اشتراه بخلاف الوكيل، وأن العبد إذا باع سلعة خرجت مستحقة وتلف الثمن في يده رجع عليه.
قال الإمام: وأعتقد ذلك مسلمًا لهم ثم أخذ يمانعهم وفي المسألة كلام طويل ووقع فيها للرافعي بسبب جمعه من كلام الإمام والأصحاب ما فيه مناقشة وقد بين الشيخ الإمام ذلك في شرح المنهاج فلا أطيل به.
وحاصله: أن الأرجح أن السيد لا يطالب بثمن ما اشتراه العبد ولا بالبدل إذا خرج المبيع مستحقًا، وأن الديون لا تلزم السيد.
وعلى هذا يجيء سؤال الحنفية فيقولون: إذا كان لا استقلال له وما هو إلا واسطة والتصرف في الحقيقة من السيد -فهلا طولب؟ والجواب أنه لما أذن له صار العبد هو المقصود بالمعاملة -فعلى من يعامله أن يحتاط لنفسه ويقصر الأمر عليه من غير نظر إلى سيده والله أعلم.
مسألة:
النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف بالفتيا والسلطنة، وكل من الأمرين ناشئ عن الله تعالى، فإنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" وبنوا.(2/285)
ويظهر أثر الفرق في التصرفين من العموم والخصوص فالتصرفات بالفتيا شرع عام أبد الآبدين ودهر الداهرين، وبالسلطنة قد يختص في كل زمان بحسب المصالح1؛ فإذا قال صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعل فعلًا ظهر من أي التصرفين هو فلا إشكال وإن لم يظهر فالأغلب عند علمائنا لا يحمل على التصرف بالفتيا، وعند الحنفية بالعكس.
وفيه مسائل: منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتًا فهي له" قال الشافعي رضي الله عنه "هذا تصرف بالفتيا فلا يتوقف الإحياء على إذن الإمام.
وقال أبو حنيفة: "بالسلطنة فلا يحيى أحد بدون إذن إمام الوقت" فنحن نجري الموات مجرى سائر المباحات بإذن إمام الأئمة عليه أفضل الصلاة والسلام، وهم يجرونها مجرى مال بيت المال والغنيمة والفيء؛ ففي كل زمان يجتهد إمام الوقت فيما يراه أصلح ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت أبي عتبة: خذي لك ولودك ما يكفيك بالمعروف.
قال الشافعي [رضي الله عنه] 2 هذا تصرف بالفتيا فمن تعذر عليه أخذ حقه من غريمه فظفر بجنس حقه أو بغير جنسه إذا لم يظفر بالجنس، وقيل مطلقًا جاز له استيفاء حقه منه.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه".
قال الشافعي رضي الله عنه: "السلب للقاتل مطلقًا" وقال أبو حنيفة [رضي الله عنه] 3: لا يكون له حتى يشترط له بأن يقول الإمام في الغزاة: من قتل قتيلًا فله سلبه.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم" يحتمل قوله: "هي لكم" أن يكون ذلك تصرفًا منه صلى الله عليه وسلم بالملك، فملك الموات بمشارق الأرض ومغاربها ثم ملكها لأمته هذا ما أشار إليه الجوري من أصحابنا.
ويحتمل أن يكون تصرفًا منه صلى الله عليه وسلم [بالفتيا] 4 فشرع لنا الموات ويكون مالك الموات ملكه ملكًا ابتداء، وبدل لذلك قول من قال من أصحابنا: إن الموات ما لم يجر عليه ملك:
__________
1 في "ب" [آخر زيادة] .
2 سقط من "ب".
3 سقط من "ب".
4 ساقط من "أ".(2/286)
مسألة:
النكاح يتناول كل واحد من الزوجين تناولًا واحدًا ونسبته إليهما واحدة والحل الثابت من الجهتين بالسوية.
ولا يلزم من اختلافهما في الأحكام اختلافهما في مؤترية الأحكام؛ فقد يكون المؤثر في الشيئين واحدًا ويختلف تأثيره بحسب محاله ويعبر علماؤنا من هذا بأن الرجل محل النكاح كالمرأة مستدلين على ذلك بأن الله أضاف النكاح إلى كل من الزوجين إضافة الفعل إلى الفاعل بدليل قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 1 وقوله [تعالى] 2 {يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُن} 3، وقال تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِن} 4 وقال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ؛ وبهذا سميا متناكحين. ووجهه أن النكاح عقد ازدواج وانضمام فإن التزويج من الازدواج، والنكاح من الانضمام، وحظ كل واحد من الزوجين مما يقع به الازدواج كحظ الآخر، وكذلك في الانضمام، وهما كمصراعي باب وزوجي خف، ولهذا المعنى تساويًا في الحل؛ فكان الحل في جانبها كالحل في جانبه وإذا تبين أنهما منزلان من العقد منزلة واحدة صار كل منهما محلًا للنكاح ثم اختلف علماؤنا على وجهين حكاهما الرافعي قبيل كتاب الصداق عن صاحب التتمة.
أحدهما: أنه معقود عليه في حقها كما أنها معقود عليها في حقه وعلى هذا أكثر الخلافين، ووجهه أن بقاء كل منهما شرط لبقاء العقد فينزلان منزلة العوضين [في البيع] 5 وفي هذا الوجه وفاء عظيم بكون الزوج محلًا للنكاح.
والثاني: أنه ليس معقودًا عليها في حقه وعلى هذا أكثر الخلافيين ووجه أن بقاء كل منهما شرط لبقاء العقد فينزلان منزلة العوضين [في البيع] 5 وفي هذا الوجه وفاء عظيم بكون الزوج محلًا للنكاح.
والثاني: أنه ليس معقودًا عليه لأن العوض المهر لا نفسه، ولهذا لو كان تحته ثلاث نسوة جاز له نكاح رابعة ولو كان منكوحًا لما جاز كما ان المنكوحة لا تنكح زوجًا آخر قلت: وهذا توجيه ضعيف؛ فليس معنى كونه معقودًا عليه بهذا الاعتبار ولو كان كذلك لكان الرد "نكاح ثانية أولى من الرد" بأن له نكاح رابعة غير أن هذا ليس المعنى المقصود بكونه معقودًا عليه إذا لا ريب في أن لكل من الزوجين أحكامًا تخصه وقد قدمنا أنها يلزم من الاشتراك في العلة الاشتراك في الحكم.
واقتصر الرافعي على عزو هذين الوجهين إلى نقل المتولي وهما مشهوران ولم يبين الأرجح منهما في هذا الموضع، ولكنه في كتاب الطلاق في مسألة "أنا منك
__________
1 سورة البقرة "230".
2 سقط من "ب".
3 سورة البقرة "232".
4 سورة النساء "25".
5 سقط من "أ".(2/287)
طالق" أن القول بأن معقود عليه غير مرض عند الأكثرين؛ لأنه لو كان كذلك لما احتاج إلى إضافة الطلاق إليه ولأنها لا تستحق من بدن زوجها ومنافعه شيئًا "انتهى".
ولا أدري من أين له أن الأكثرين لم يرتضوا كونه معقودًا عليه، والذي لم يرتض ذلك فيما علمت إمام الحرمين ومن تبعه.
ووجه الإمام في "الأساليب" و"النهاية" كونه غير معقود عليه لعدم استحقاقها لمنافعه، ولم يذكر سؤالًا البتة، وهو سؤال قوي1 للخصوم سنذكره ونذكر وجه الانفصال عنه في التفريع فنقول: إذا عرف من أصلنا أن الزوج محل النكاح؛ فقد خالفنا أبو حنيفة رحمه الله وأثر هذا الخلاف في التنازع في مسائل.
منها: "إذا قال أنا منك طالق" ونوى به طلاقها وقع لأنه أضاف الطلاق إلى محله "وهو الزوج- فإنه محل الطلاق، وبدليل أنه محل للنكاح ومتى أضيف إلى محله وقع" وقالت الحنفية: لا يقع لأن الزوج غير محله وساعدونا على ما إذا قال لها أنا منك بائن فقالوا: إذا نوى به الطلاق صح ووقع.
وهذا إلزام عظيم يلزمهم؛ فمتى كان الرجل محل إضافة الكنابة إليه كان محل إضافة الصريح.
ولهم علينا سؤال تلقوه من تفاريعنا حيث قلنا لا بد من النية في أنا منك طالق. ثم اختلفنا- هل تكفي نية أصل الطلاق أو يشترط مع ذلك إيقاعه عليها؟ وإضافته إليها على وجهين.
أحدهما: وهو رأي أبي إسحاق والقاضي الحسين لا يشترك مع نية أصل الطلاق نية أخرى.
وأظهرها: عند الرافعي والنووي أنه لا بد من إضافته إليها وعزاه الرافعي تبعًا للإمام -إلى الجمهور- ووجهه بأن محل الطلاق المرأة دون الرجل- فلا بد من نية صادقة تجعل الإضافة إليه إضافة إليها.
وهذا مأخوذ من كلام الغزالي تبعًا لإمامه، فإن الإمام كاد يصرح بأن الرجل ليس
__________
1 في "ب" زيادة شذ.(2/288)
محلًا للطلاق، وتبعه الغزالي ولكنهما مع ذلك لم يصرحا به، وكلامهما في الخلافيات وغيرها من كتبهما صريح في أنهما لا يحتجان إلى مسألة "أنا منك طالق" إلى تقرير كون الزوج معقودًا عليه؛ بل يصلح الغرض بدون ذلك بأسلوبين قررهما الإمام وأسلوب ثالث اقتصر عليه الغزالي في التحصين.
وأنا أقول: لا يخفي أن من يجعل الزوج معقودًا عليه ينكر كونه محلًا للطلاق وأما من لا يجعله ففيه نظر احتمال إذ لا يلزم من كونه غير معقود عليه أن لا يكون محلًا للطلاق فمن أين يصح للرافعي إنكار كون الزوج محلًا للنكاح وهي مسألة شهيرة معروفة بالخلاف بيننا وبين الحنفية إذا عرفت ذلك فتقرير سؤالهم أنكم اشترطتم النية على الأصح بنيتين -نية أصل الطلاق ونية وقوع الطلاق عليها- ولو كان الرجل محلًا للطلاق لوقوع الاستغناء عن النيتين.
ويزيد من يحيط بفروع المذهب على هذا أن يقول: بل كان ينبغي أن يقع الطلاق وإن جرد القصد إلى تطليق نفسه ولم يقتصر على أصل الطلاق، وقد قال الإمام: "الوجه عندي أنه لا يقع".
وهذا السؤال أخذه الرافعي ورضيه ورد به على من يجعل الزوج معقودًا عليه كما رأيت -وقد أجابهم الإمام أبو المظفر السمعاني في "الاصطلام"؛ فقال: "إنما احتيج إلى أصل النية لأن لفظ الطلاق محتمل أن يراد به الطلاق عن نكاح أو وثاق، بخلاف أنت طالق فإن هذا الاحتمال وإن تطرق إليه إلا أن العرف يدرؤه ويعين احتمال الفراق عن النكاح ولا اعرف فيه "أنا منك طالق" فرجعنا إلى أصل حقيقة المعنى فوجدناه محتملًا، فاعتبرنا فيه النية كما اعتبروها في "أنا منك بائن".
وهذا جواب صحيح، وفي كلام الإمام إشارة إليه فإنه قال في النهاية: شبه مشبهون هذا بما إذا قال لأمراته أنا منك طالق من حيث أن اللفظ جرى على صيغة مستبشعة حائدة عن جهة العرف في الاستعمال "انتهى".
وأنا أزيد هذا الجواب إيضاحًا: فأقول: لفظ طالق وإن كان صريحًا إلا أن الصريح إذا انضم إلى ما يخرجه عن صراحته بطل حكمه ألا ترى أنه لو ضم إلى قوله "أنت طالق طلاقًا من وثاق" لم يكن صريحًا وقوله: أنا منك طالق لفظ ضم إليه ما يستشنع فأخرجه عن الصراحة، فإن الرجل لا يخرج عن المرأة إلا على تأويل؛ وإنما(2/289)
المرأة تطلق منه فالطلاق يقع منه عليها وهذا معنى كونه محلًا للطلاق وعليها منه، وهذا معنى كونها محلًا للنكاح؛ فلما خرج عن الصراحة لهذه الضميمة افتقر إلى نية.
وهذا الجواب بهذا الإيضاح الذي أوضحته يحق له أن يقال عنده: ما قاله ابن السمعاني ما ذهب إليه أبو إسحاق والقاضي الحسين من عدم اشتراطها عليه يدل نص الشافعي رضي الله عنه بل أقول: لو جرد القصد إلى تطليق نفسه فالأوجه خلاف ما قاله الإمام، وأنه يقع إذا نوى الطلاق عن نكاحها وبه صرح القاضي الحسين، وفي النص رمز إليه.
بل نقل الإمام في النهاية عن بعض الخلافيين -أن اللفظ صريح وإن قصد تطليق نفسه.
وهذا عندي قوي وإن كان الإمام لا احتفال له به وأقول: إنه ظاهر كل الظهور عند من يجعل الزوج معقودًا عليه، وقد وضح بما قررته اندفاع ما اعترض به الرافعي من النية.
وأما قوله: ولأنها لا تستحق من بدن الزوج شيئًا فقد يرد عليه الوجه المقابل بأنها تستحق عليه وطأة واحدة؛ سواء علل بتقرير طلب المهر أم بطلب التحقيق.
وأما من لا يقول بهذا الوجه أن يقول: نحن لا نعني بكون الزوج معقودًا عليه أو محلًا للنكاح أنها لا تستحق شيئًا من بدنه ولا من منافعه بل نعني أمرًا وراء ذلك.
وعجيب ذكر البدن هنا والمرأة معقود عليها قطعًا، ومن ذلك لا يقول أحد: إن الزوج لا يستحق شيئًا من بدنها؛ سواء قلنا: المعقود عليه في النكاح المنفعة وهو المقصود في الخلاف أو حل لازم، أو عين المرأة بوصف الحل، وهي وجوه حكاها ابن السمعاني.
ومنها: لو قال لها" "طلقي نفسك" فقالت: طلقت قاصدة تطليق نفسها فإنه يقع، وكذا لو قصدت أصل الطلاق خلافًا لأبي عبيد بن حربويه وبمسألة أبي عبيد صرح الرافعي.
أما إذا قصدت تطليق نفسها فمصرح بها في النهاية.
ومنها: بني المتولي كما نقله عنه الرافعي في كتاب الطلاق وابن الرفعة في مسألة(2/290)
أنا منك طالق على الخلاف في كون الزوج معقودًا عليه ما لو قال الرجل لولي المرأة: "زوجت نفسي من ابنتك" فقال الولي: قبلت النكاح هل ينعقد وفيه وجهان.
ومنها: لا ينعقد النكاح إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح، وقالت الحنفية: ينعقد بلفظ الهبة والبيع والتمليك لأنهم لما جعلوا "الحل" فقط والرجل كمشتر تملك البيع جوزوه بهذه الألفاظ الناقلة للأملاك.
ومنها: الزوج يغسل زوجته إذا ماتت كما يجوز لها غسله إذا مات وكما اشتركا في حل اللمس والنظر، وقال الحنفية: لا يجوز لها غسله ويجوز له تغسيلها لانقطاع المالكية بفوات مالك المحل.
ومنها: اسم الزنا حقيقة في الزاني والزانية، ونسبته إليهما واحدة خلافًا لهم وستأتي المسألة في مسائل الزنا إن شاء الله تعالى.
خاتمة:
إذا تأملت هذه الفروع ورأيت اختلاف الأصحاب فيمن بناها على أن الزوج معقود عليه أو لا واتفاقهم على ما لم يبن على ذلك بل على أنه محل النكاح؛ بحيث لا يخالفهم حينئذ إلا الحنفية عرفت ما قدمناه لك من أنه يلزم من كونه غير معقود عليه -وهو ما ارتضاه الإمام الغزالي لا يكون محلًا للنكاح.
وحاصل كلام الإمام الغزوالي أنه لا يحتاج في إيقاع الطلاق في قوله: أنا منك طالق إلا أن يكون معقودًا عليه بل ولا أن يكون محلًا للنكاح بل الطلاق واقع بهذه اللفظة إذا نوى -وإن لم يكن معقودًا عليه ولا محلًا للنكاح.
وهذا صحيح نوافقهما عليه فإن في مسألة "أنا منك طالق" غنية عن هذا الأصل، وإنما ذكرها الخلافيون لأنه يلزم من إثبات هذا الأصل تصحيح المسألة وإن لم يلزم من إبتطاله إبطالها -فقرروا صحته ليثبت مرادهم فيها.
وقرر الإمام والغزالي صحتها غير متعلقين بالأصل إما لضعفه عندهما أو لأن التشكيك عليه أظهر منه -على الأسلوب الذي ذكرناه، ولا شك في ذلك.
مسألة: معتقد الشافعي رضي الله عنه أن أثر الشيء لا يتنزل منزلته في وجوده وعدمه وأن من فعل ذلك فقد قلب الحقائق وجعل التابع متبوعًا والمتبوع تابعًا وخالف الحس فإن الأحكام والآثار تبع الحقائق حسًا وحقيقة وخالف في ذلك الحنفية فذهبوا(2/291)
إلى أن حكم الشيء يدور مع أثره وجودًا وعدمًا فينزل وجود أثر الشيء منزلة وجوده وعدمه منزلة عدمه كما يستدل بوجود الأثر على وجود المؤثر وبانتفائه على انتفائه.
وعلى هذا الأصل مسائل:
المصابة بالفجور والمعنى بها من زالت بكارتها بالزنا تستنطق على القول الجديد عندنا لوجود الثيوبة ويكتفي عندهم بسكوتها -قالوا: لأنه وطء لم يتعلق به حكم من أحكام الملك ولا خاصة من خواصه فأشبه من زالت بكارتها بسقطة أو أصبع أو حدة الطمث أو طول التعنيس أو بالوطء في الدير؛ فإنها بكر -قلنا لأصحابنا وجه أن التي زالت بكارتها بالسقطة ونحوها أو من وطئت في دبرها تكون ثيبًا وعلى هذا يسقط السؤال وعلى الصحيح وهو بقاء حكم البكارة في هذه الصور فالجواب أن المناط بالوطء يترتب عليه التقرير وليس ذلك فيما ذكرتم وسره أن الشارع علق الاستيدان بالثيوية والمتبادر إلى الذهن عند إطلاق الثيوبة -ثيوبة حاصلة بوطء لا يصور نادرة من ثم قال الصيمري: "لو خلقت بلا بكارة فهي بكر".
فليفهم الفاهم ذلك؛ فإنا لم نر من الخلافيين من رمز إليه، ومنه سقط أسئلة للخصوم كثيرة.
ومنها: لو وطئت مكرهة أو نائمة أو مجنونة فهي ثيب على الصحيح عندنا، وسره ما أبديناه من حصول الثيوبة من وطء.
فإن قلت: بين لي أوجه الفقه في اشتراط ثيوبة عن وطء؛ فإنك لم تتعلق بمطلق الثيوبة، بدليل الثيب عن وثبة ونحوها، ولا بخصوص الثيوبة عن وطء حلال.
قلت: وجه اشتراط زوال المجامعة بخلاف الوثبة ونحوها ووجه تعميم الحلال والحرام، أن زواله مع الحرام أبين وأوضح من زواله في الحلال ولا حقًا بذلك.
ومنها: يجوز لمن طلق الأربع أن ينكح في عدتهن خلافًا لهم.
ومنها: يجوز نكاح أخت المطلقة طلاقًا بائنًا لمن طلقها لأن المحرم هو الجمع في السبب المتعين في الوطء وقد انعدم ذلك حقيقة، فلا مبالاة ببقاء أثره وهو العدة خلافًا لهم حيث قالوا: بقاء لا عدة بمنزلة بقاء أصلها.(2/292)
ومنها: المختلعة لا يلحقها صريح الطلاق لزوال حقيقة النكاح وقالوا يلحقها ما دامت العدة لبقاء الأثر.
ومنها: المبتوتة في مرض الموت لا ترث، وقالوا: إنها ترث ما دامت العدة باقية كل هذا يفعلونه تنزيلًا للأثر منزلة المؤثر واستدلالًا به عليه.
مسألة:
قال علماؤنا: الصداق محض حق المرأة ثبوتًا واستيفاء تستقل بإسقاطه وتعود فوائده إليها.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: الصداق حق الله ابتداء، وربما قال: الوجوب لله والواجب لها محتجًا بأن اتفاق الزوجين على استقاطه لا يوجب سقوطه؛ بل يجب بالعقد عند أبي حنيفة وبالدخول عند الشافعي رضي الله عنهما.
وعلى الأصل مسائل:
منها: لا يتقدر الصداق عندنا بل ما جاز أن يكون ثمنًا جائز أن يكون صداقًا قل أم كثير.
وقدره أبو حنيفة بعشرة دراهم فلا ينقص عنها حتى لو ذكر أقل منها وجبت هي محتجًا بأنه حق الله فلا يؤدي إلا بمال مقدر، ثم إنه ورد على البضع وهو محل محرتم ذو خطر وشرف شرع المال فيه إظهارًا لخطره وشرفه لأنه لو توصيل إليه بغير شيء لهان عند الناس وما لا يتوصل إليه إلا بالمال يعز عند النفوس وإذا كان المال مشروعًا لهذا المعنى فلايظهر المحل إلا بمال له خطر وشرف وأقله عشرة دراهم؛ لأنه الذي تقطع به يد السارق.
والجواب أن هذه المقدمات كلها عندنا ممنوعة فلا نسلم أنه حق الله تعالى ومستند المنع أنه لو كان لكان يصرف في مصارف حقوق الله تعالى.
وما يذكرون في الفرق بين الوجوب والواجب لا طائل فيه؛ فإن الوجوب نسبة بين المنتسبين.
وإن سلمنا أنه حق الله تعالى فلم قلتم أنه لا يؤدي إلا بمال، ولم قلتم: إنه لايكون إلا بمال له خطر، ولم قلتم: إن الناقص عن العشرة ليس كذلك، ولم قلتم: إن يد السارق لا تقطع في أقل منها.(2/293)
ومنها: المفوضة لا تستحق المهر بنفس العقد بل بالوطء أو الموت على الجديد الصحيح، وعندهم تستحق.
ومنها: إذا خطبها كفء بدون مهر المثل ورضيت به وجل على الولي تزويجها.
وقالوا: لا يجب كما لو دعت إلى غير كفء.
وهذه من مسائل الخلاف المشهورة وليست في الرافعي ولكن في زيادة الروضة لو زوجها بعض الأولياء بكفء بدون مهر المثل برضاها دون رضاء بقية الأولياء قطعًا؛ إذ لا حق لهم في المهر ولا عار انتهى -وظاهر وجوب الإجابة على الولي إذ لا حق ولا عار والله أعلم.
مسألة:
قال علماؤنا: اختلاف الدارين -دار الإسلام ودار الحرب لا يقتضي اختلاف سائر الأحكام، ودعوة الحق على الكفار سواء كانوا في أملاكهم أو في غيرها.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: اختلاف الدارين يوجب تباين الأحكام وينزل منزلة الموت القاطع للأملاك لأنه لا استيلاء للمالك -وهو في دار الحرب على المملوك وهو في دار الإسلام وبالعكس.
وعلى الأصل مسائل:
منها: لا ينقطع النكاح بهجرة أحد الزوجين إلينا مسلمًا أو ذميًا خلافًا لهم.
ومنها: إذا أسلم الحربي وجاءنا وترك ماله في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على دارهم لم يملك ماله بل هو له، وقالوا: يملك ويكون من جملة الغنائم.
ومنها: من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر معصوم الدم والمال على قاتله القصاص وعلى متلف ماله الضمان كما في دار الإسلام.
وقال أبو حنيفة: "يحرم قتله وأخذ ماله ولكن لا يجب الضمان" وزعم أن العصمة المقومة تثبت بالدار والمؤتمنة تثبت بالإسلام.
مسألة:
معتقد الشافعي رضي الله عنه أن الحل الثاتب بالنكاح في حق الأمة كالحل الثابت في حق الحرة والحقوق واحدة غير أن حق الزوج للأمة مزاحم لحق(2/294)
السيد، وإذا ترك السيد حقه من الخدمة تسلط الزوج بحكم النكاح على زوجته الأمة تسلطه على زوجته الحرة؛ فهي بمثابة الحرة المحبوسة في حق إذا كانت تحت زوج ومعتقد أبي حنيفة أن حل الأمة دون حل الحرة. واختلاف الإمامين في هذا الأصل منشأ للخلاف في مسائل.
منها: قال علماؤنا: طلاق الأمة كطلاق الحرة إذا كان الزوج حرًا من حيث أن النكاح اقتضى لزوج الأمة ما اقتضاه لزوج الحرة.
وقالت الحنفية: تطليق الأمة طلقتين سواء كان الزوج حرًا أو عبدًا، لنقصان حق الزوج منها.
مسألة:
قال أبو حنيفة رحمه الله: الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح بوجه والرجعة باقية على الزوجة لم يؤثر طلاقها إلا في نقص العدد وتحريم الخلوة والمسافر.
قال الشافعي: يزيله من وجه دون وجه، وإن شئت قلت: يضعفه ويزلزله. ومن رشيق العبارات يقول: يزلزله ولا يزيله ويحله ولا يحيله.
وعلى الأصل مسائل:
منها: يحرم وطء الرجعية عندا لزوال الملك -ولو من وجه أو يزلزله، والوطء يحتاط له فلا يكون في ملك مزلزل.
وقال الحنفية: "لا يحرم لبقاء الملك عندهم".
ومنها: لا تحصل الرجعة إلا بالقول خلافًا لهم حيث قالوا تحصل بالوطء، ولو نزول المرأة على ذكر الزوج بل وكل فعل يوجب حرمة المصاهرة كاللمس.
ومنها: وطء الرجعية يوجب المهر خلافًا لهم. مسألة: قال علماؤنا: سبيل نفقات الزوجات سبيل معاوضات، وقالت الحنفية: سبيل الصلات كنفقة [القريب] 1.
وعلى الأصلين مسائل:
منها: أنها معلومة وأن الإعسار بها يثبت حق الفسخ وأنها مقدرة، ولا تسقط بمضي الزمان خلافًا للحنفية في الكل.
__________
1 في "ب" القرب.(2/295)
وقد وافق الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أبا حنيفة على أنها كنفقة القريب، وخالفه في أن الإعسار لا يثبت الفسخ محتجًا بحديث أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل ما يجد ما ينفق على زوجته قال: "يفرق بينهما" وهو حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة ولم يثبت إلا أن سعيد بن المسيب قاله وقيل له: سنة؟ قال: سنة.
فإن قلت: ما دليلك على الفسخ بالإعسار؟
قلت: ما مهدناه من الأصل، وهو أن سبيلها سبيل المعاوضات التي تقتضي تراد العوضين.
ثم للشافعي رضي الله عنه -على الخصوم إلزام عظيم، قال رضي الله عنه: توافقنا على أن لها طلب الخلاص بعنة الزوج إذا انقضى أجله، ولا نص فيه؛ وإنما الوارد فيه قضاء عمر رضي الله عنه ثم إنكم زعمتم أن عليًا كرم الله وجه خالفهم فإن كان قول عمر حجة فالرواية عنه في النفقة أثبت، ثم روى الشافعي رضي الله عنه الفسخ بالإعسار عن عمر رضي الله عنه من طرق.
مسألة:
قال علماؤنا: معنى القصاص مقابلة محل الجنابة بالمحل الفائت جبرًا لما فات ودفعًا للآفات.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 1 الآية دلت على أن النفس تقابل النفس ولذلك يسلم إلى ولي الدم وما ذاك إلا لمعنى استحقاقه.
وقالت الحنفية: "معنى القصاص مقابلة الفعل بالفعل جزاء [وزاجرًا] 2.
واحتجوا بقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} 3 قالوا: أشار به إلى أن الزجر يحصل به.
وعلى الأصل مسائل:
منها: إذا قتل الواحد جماعة قتل بواحد وللباقين الدية حتى لا تضيع حقوقهم فإن الاتسحقاق تعدد بتعدد المحال.
وقالت الحنفية: يقتل بهم اكتفاء بمقابلة الفعل "بالفعل".
__________
1 سورة المائدة "45".
2 في "ب" زجرًا.
3 سورة البقرة "179".(2/296)
ومنها: إذا قطع رجلي رجلين قطع بالأول وللآخر الدية بدلًا من المحل الفائت، وعندهم يقطع بهما اكتفاء.
ومنها: شريك الأب يلزمه القصاص تحقيقًا لمقابلة المحل بالمحل كشريك الأجنبي، وقالوا لا قصاص عليه لأن القصاص مقابلة الفعل بالفعل، وفعل شريك الأب قاصر من حيث أنه شارك من لا قود عليه فصار كشريك الخاطئ.
ومها: إذا مات من وجب عليه القصاص أخذت الدية من تركته بدلًا عن المحل وعندهم لا تؤخذ؛ لأن المستحق له فعل القتل وقد فات.
ومنها: إذا كان في الورثة صغير ينتظر بلوغه ليقتص من الجاني لأن الورثة يستحقون المحل والصبي لا ينال هذا الاستحقاق بدليل ما لو كان الصبي هو الوارث وحده.
وعند أبي حنفية رضي الله عنه يستبد الكبير باستيفائه في المحل لأن القصاص استحقاق فعل القتل جزاء والصغير ليس أهلًا لاستحقاقه؛ فلا ينتظر.
مأخذ:
قال علماؤنا: المأذون في فعله من قبل الله فيما تمحض حقًا لله كالمأذون في فعله من قبل العبد فيما هو من حقوق العباد.
وقالت الحنفية: المفعول بإذن الشرع إما واجب الفعل أو مخبر فيه بين الفعل والترك.
فالأول: ينزل منزلة المستوفي بإذن المستحق حتى لا يشترط فيه سلامة العاقبة كالإمام إذا قطع يد السارق فسرت إلى نفسه.
والثاني: وهو ما خير المستوفي له بين فعله وتركه لا ينزل منزلة المأذون، من جهة المستحق.
قالوا: والفرق أن التكليف بالشيء ينفي اشتراط السلامة فيما يتولد منه لأن الاحتراز عنه غير ممكن، أما التخيير بين فعله وتركه فلا ينفي اشتراط السلامة لإمكان الاحتراز عنه.
وهذا الأصل خرج عليه مسألة سراية القصاص، وصورتها أنه يجب القصاص على رجل في عضو من أعضائه فيقطع قصاصًا فيموت المقتص منه بالسراية.(2/297)
قال الشافعي رضي الله عنه: لا يضمن لأن الشرع أذن له في القطع فصار كأن الجاني أذن له بنفسه ولو أذن له بنفسه في القطع ثم سرى إلى النفس لم تضمن وفاقًا.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: تضمن لأن الشرع أذن له بشرط سلامة العاقبة وهو مخير فيه بخلاف الإمام إذا قطع يد السارق فسرت إلى نفسه؛ فإنه لا يضمن لكونه مكلفًا بفعله.
واعلم أن هذا الأصل الذي بنيت هذه المسألة عليه مخصص بالعقوبات المقدرة ليخرج التعزير؛ فإنه مشروط بسلامة العاقبة.
وينبغي أن يقال: المأذون شرعًا من العقوبات إما واجب الفعل أو جائره والأول إما لحق الآدمي أو لمحض حق الله تعالى والأول، إما لمصلحة المعاقب بكسر القاف أو المعاقب بفتحها أو لأعم من ذلك وهو ما كان للمصالح العامة.
مأخذ:
اسم الزنا حقيقة في الزاني والزانية، ويسمى اللفظ متحدًا والتعدد إنما هو في محاله، وتناول الزنا لكل واحد منهما على حد سواء بدليل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} 1 ولذلك استويا في العقوبة؛ بل نسبة الوطء إلى النساء أنسب من نسبته إلى الرجال فلقد عهدنا من فصاحة العرب العرباء إضافته إلى النساء -لأنه أبلغ المعاني المقصودة منهن- أكثر من إضافته إلى الرجال ومن ثم قدم الله لفظة الزانية على الزاني.
وكان تعبير الغزالي وغيره من أصحابنا -باب نكاح المشركات أحسن من أن يعبر بنكاح المشركين على خلاف ما قال الرافعي حيث زعم أن أحد اللفظين ليس أولى من الآخر.
ونظير المسألة ما قدمناه من تناول النكاح لكل من الرجل والمرأة تناولًا واحدًا.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: "الاسم يطلق على الرجل حقيقة وعلى المرأة مجازًا؛ لأن الزنا عبارة عن الفعل ولا فعل لها، بل هي محل الفعل وممكنة فيه".
ومن ثم اختلف الإمامان في البالغة العاقلة تمكن صبيًا أن ينزل على رجل مكره مضبوط فيستدخل ذكره فقال الشافعي رحمه الله: "يلزمها الحد لأنها زانية".
__________
1 سورة النور "2".(2/298)
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يلزمها؛ لأنها لا فعل لها وربما قال بعض مشايخهم: المرأة تابعة للرجل في فعل الزنا فإذا لم يكن فعل الرجل زنا لم يكن للتبعية فيه حكم.
والأولى: وهي نفي الفعل عنها طريقة أبي زيد، والثانية عندي أقوى منها فإن نفي الفعل عنها وقد فعلت مكابرة، والله تعالى أعلم.
مأخذ:
قال علماؤنا: "الغنائم تملك بمجرد الإصابة والاستيلاء".
وقالت الحنفية: لا تملك بمجرد ذلك، بل لا بد معه من الإحراز في دار الإسلام.
وذلك من آثار جعلهم اختلاف الدارين يوجب اختلاف الأحكام. فجعلوا الإحراز في دار الإسلام شرط العلة أو أحد وصفيها.
وعلى الأصل مسائل:
منها: أن المرتد إذا لحق بالغزاة بعدما استولى المسلمون على الأموال لا يشاركهم عندنا خلافًا لهم.
ومنها: إذا مات أحد الغانمين بعد الاستيلاء وقبل الإحراز في دار الإسلام انتقل حقه إلى وارثه خلافًا لهم.
ومنها: أن الغنائم تقسم عندنا في دار الحرب وهل تحب القسمة أو تستحب أو تجوز فقط؟ وكيف الحال؟
اقتصر الرافعي على أنها تجوز من غير كراهة، وقال النووي: الصواب أنها تستحب، وقال صاحب المهذب: يكره تأخيرها إلى بلاد الإسلام [من] 1 غير عذر، وقال الوالد رحمه الله: المستحب التعجيل بقدر الإمكان ويؤخر عند العذر -قال- وعليه نص الشافعي رضي الله عنه وقال الماوردي والبغوي "تجب القسمة عند الإمكان".
وأقول: أنه لا يظهر لاسيما على القول بأن الدين الحال يجب وفاؤه على الفور وإن لم يطلب صاحبه.
وقال أبو حنيفة: يجوز ما لم تحرزو بدارنا.
ومنها: أن الإمام إذا فتح مدينة لم يجز له أن يمن علهيم لأن الغانمين ملكوا بنفس الأخذ فكيف يبطل [عليهم] 1 ملكهم.
__________
1 سقط في "ب".(2/299)
وقال أبو حنيفة: له ذلك؛ إذ لم يملكوا بعد.
مسألة:
قال علماؤنا: حقيقة القضاء إظهار لحكم الله [وإخبار] 1 لإثبات حق على سبيل الابتداء.
وربما عبروا عن هذا بأن قضاء القاضي لا يغير الأحكام الشرعية عن حقائقها الموضوعة عند الله، وبأن القضاء يتبنى على الحجة؛ فإن كانت حجة حقيقة ظاهرًا وباطنًا، نفذ ظاهرًا وباطنًا، وإن كانت حجة في الظاهر فقط لم ينفذ إلا في الظاهر فقط.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن حكم القضاء إثبات الحكم المدعي وإنشاء له.
وربما عبروا عن هذا بأن قضاء القاضي يغير الحكم عند الله وقصروا ذلك على الأحكام التي للقاضي فيها مدخل كالمعقود والفسوخ والنكاح والطلاق.
وعلى الأصل مسائل:
منها: إذا ادعى زوجية امرأة، وليست في نفس الأمر زوجته وأقام شاهدي زور فحكم له الحاكم بالزوجية لم تحل له في الباطن عندنا، ويحرم عليها تمكينه من نفسها.
وقال الحنفية: قضاء القاضي بشهادة الزور تبيح المحذور، وتحلل هذه المرأة.
ومنها: إذا رد الحاكم شهادة المنفرد برؤية هلال رمضان؛ إما لكونه لا يرى قبول الواحد أو لغير ذلك فجامع في ذلك النهار لزمته الكفارة كما إذا قيل شهادته وقال أبو حنيفة: لا يلزمه.
مسألة:
[قال علماؤنا] 2 المعقود عليه في عقد الكتابة رقبة المكاتب وقالت الحنفية: بل اكتساب العبد، وفك الحجر عنه.
وعلى الأصل مسائل:
منها: إذا مات المكاتب عن وفاء انفسخت الكتابة عند الشافعي رضي الله عنه: ومات رقيقًا لأن المعقود عليه الرقبة وقد فاتت بالموت فينزل منزلة فوات المبيع قبل القبض وقال أبو حنيفة: يموت حرًا في آخر جزء من حياته.
ومنها: الكتابة الحالة الباطلة؛ لأن المعقود عليه الرقبة وعتقها غير مستحق في
__________
1 في "ب" واختيار.
2 سقط في "ب".(2/300)
الحال، بل عند أداء النجوم، وعندهم يصح؛ لأن العوض مقابله فك الحجر والقدرة على الاكتساب وقد تحقق في الحال.
ومنها: إذا زوج ابنته من مكاتب ثم مات انفسخ النكاح لانتقال الملك في الرقبة إليها، وعندهم لا ينفسخ بل يؤدي نجومه فيعتق والله أعلم.
وهذه الطريقة لم يذكرها الرافعي في فصل اختلاف الجاني ومستحق الدم، بل قبل كتاب البغاة.
ونقل النووي: في زيادة الروضة عن البغوي تعريفًا على تصديق الولي -أن الواجب الدية دون القصاص وأن المتولي قال: هو على الخلاف في استحقاق الوقد بالقسامة.
قلت: وقد حكى الرافعي في القصاص وجهين ذكرهما قبيل كتاب الإمامة.
وإذا [اطلعنا] 1 على كافر في دارنا فقال: دخلت بأمان مسلم؛ ففي مطالبته بالبينة وجهان لأن الأصل عدم الأمان، ويعضده أن الغالب على من يستأمن أن [يستوثق] 2 بإشهاد والأصل حقن الدماء، ويعضده أن الظاهر أن الحربي لا يقدم على هذا إلا بأمان.
ومنها: مما لم أجده مسطورًا -إذا ضربها الزوج وادعى نشوزها وادعت هي أن الضرب ظلم.
قال ابن الرفعة: لم أر فيها نقلًا؛ قال: والذي يقوي في ظني أن القول قوله لأن الشارع تجعله وليًا في ذلك.
قلت: قد يعارض في المسألة أصلان -عدم ظلمة وعدن نشوزها.
الحادية والعشرون بعد المائة من قواعد الربا:
أن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة.
أخرى: قال الغزالي: في الوسيط في كتاب الصداق في الباب الثاني في أحكام الصداق الفاسد: قاعدة الباب أن النكاح لا يفسد بفساد الصداق.
__________
1 في "ب" أطلقنا.
2 في "أ" يسترق.(2/301)
أخرى: الأصل في الربويات عندنا التحريم خلافًا لأبي حنيفة.
الثانية والعشرون بعد المائة:
"أصح القولين أن حجر المفلس حجر مرض لا سفه ولا رهن".
ولا نعني بقولنا: "إنه حجر مرض" أنه يثبت للأحكام حجر المرض كلها كذلك إذا غلبنا أحد الجانبين على الآخر في مثل الظهار [طلاق] 1 أو يمين.
يوضح هذا بأن المريض يسوغ له الأقدام على التصرف ويحكم بصحتها ظاهرًا ولا خلاف أن المفلس ممنوع من التصرف وإن قبل بتنفيذه فيما بعد.
فإن قلت: فإذا كان كذلك فلا فائدة في هذه القاعدة وأمثالها، إذ لا فائدة غير إجراء الأحكام على قضية قاعدتها.
قلت: قال الوالد رحمه الله في "شرح المهذب": بل فائدة معرفة حقيقة ذلك الشيء وسره المقصود به قال: والفقيه يعلم أن الشيئين المتساويين في الحقيقة وأصل المعنى قد يعرف لكل منهما عوارض تفارقه عن صاحبه وإن لم تغير حقيقته الأصلية فالفقيه الحاذق يحتاج إلى تيقن القاعدة الكلية في كل باب ثم ينظر خاصًا في كل مسألة، ولا يقطع شوقه عن تلك القاعدة حتى يعلم هل تلك المسألة يجب سحب القاعدة عليها أو تمتاز بما ثبت له تخصيص حكم من زيادة أو نقص؟
ومن هذا يتفاوت رتب الفقهاء فكم من واحد متمسك بالقواعد قليل الممارسة للفروع ومأخذها يزل في أدنى المسائل وكم من آخر مستكثر من الفروع ومداركها قد أفرغ صمام ذهنه فيها غفل عن قاعدة كلية فتخبطت عليه تلك المدارك صار حيران، ومن وفقه الله لمزيد العناية جمع بين الأمرين فيرى الأمر رأي عين انتهى كلامه في باب التفليس من تكملة شرح المهذب.
فهذه القواعد التي سردناها هي التي تكثر فروعها وتتشعب مواقع الأنظار إذا كان إليها نزوعها، ومن حققها صار بعلوم الشريعة حقيقًا، وبالفتيا في مصاردها ومواردها خليقًا.
__________
1 سقط في "ب".(2/302)
والمستثني منها:
إما بعيد فلا يقاس عليه، وهو خارج عن المنهاج يجري مجرى الشذوذ، والخطب فيه يسير وهو كوجوب الثمن في المصراة المستثني من قولنا "المثلى مضمون بمثله".
وإما معقول المعنى فلا بد من لحاقه بأصل آخر ويكون قد اجتذبه في الحقيقة أصلان تعلق بأقربهما شبهًا واستمسك بأقواهما وأوفقهما بالنسبة إليه؛ [لكن] 1 عزوه وفهم هذا من كل فرع [مبتدر] 2 [والتكيف به] 3 في كل ورد وصدر يدفع عن همم من ركن إلى الهوينا واجب الدعوة ولا يحيط به إلا من حوم على مخيم الاجتهاد بدأب دائم في العلم وخطى متسعة؛ فإن ترد الفروع إلى أصولها وعرضها على معانيها [وأجلاسها] 4 على منصة الجلاء للاعتبار إنما ينهض به أهل البصائر الشافية، وهو لعمري والله خلاصة لااجتهاد، وثمرة الأكباد.
والكافل به وحصر المستثنيات وعدها كتابنا الكبير في الأشباه والنظائر.
والقول الجملي [عندنا] 5 أن الضابط إما أن يطرد وينعكس وذلك الغاية وإما أن يخرج عنه صورًا طردًا وعكسًا والخارج إما معقول المعنى وإما تعبد.
وقد تجمع شيئان:
أحدهما: لمعنى.
والثاني: تعبد.
ونحن نضرب لذلك مثالًا: وهو العاقلة عند من يرى تحملها للدية تعبدًا، وتضمن الولي جزاء صيد أتلفه الصبي فإنه لمعنى وهما خارجان عن قاعدة من لم يجن لا يطالب بجناية من جنى.
ثم الخارج تعبدًا يهون الأمر فيه، وأما الخارج لمعنى فذاك المعنى هو أصله الآخر الذي اجتذبه.
فلاح بهذا أنه لا يخرج لمعنى إلا وقد حق بأصل آخر خرج من هذا فدخل في هذا ولم يكن ضائعًا
__________
1 سقط في "أ".
2 سقط في "أ".
3 سقط في "أ" والتكليف به.
4 في "ب" وأجلائها.
5 سقط في "ب".(2/303)
فالفقيه من يرده إلى أصله ويعيده إلى وكره لا من يحفظه حفظ ضائع لا يدري مالكه، ومجهول لا يعرف صاحبه.
ثم قد يتقاوم الأصلان؛ فيتجاذب الفحلان، ويتناجز الخصمان، ويقع التردد ويقف الأمر في الإلحاق.
وقد يرى أحد المجتهدين أصلًا راجحًا ويراه الآخر مرجوحًا أو مساويًا، وفي مثل هذه المداخل نزل الأقدام وتتبين فرسان الكلام، ويتنافس المتنافسون ويتراد المخلصون ثم وراء ذلك بحر عميق، ومنظر دقيق وهو أن الخارج لمعنى هل يقاس عليه وقد بينا ذلك.
فصل:
وراء هذه القواعد ضوابط يذكرها الفقهاء.
منها: المطرد والمنعكس وغيره أحاط بها تلخيص ابن القاص، و"خصال" أبي بكر الخفاف و"أعداد" أبي الحسن بن سراقة1 و"رونق" الشيخ أبي حامد و"لباب" المحاملي و"مناقضات" أبي الحسن العناني الداركي و"حيل" أبي حاتم القزويني و"مطارحات" ابن القطان وليست عندنا من القواعد الكلية بل من الضوابط الجزئية الموضوعة لتدريب المتبدئين لا لخوض المنتهين، ولتمرين الطالبين لا لتحقيق الراسخين.
والذي يكثر من التشاجر فيه ويعظم الخطب ما أوردناه وأما هذه الضوابط فالخطب فيها يسير.
وهي مثل قولنا:
العصبة: كل ذكر ليس بينه وين الميت أنثى. الولد يتبع أباه في النسب وأمه في
__________
1 محمد بن يحيى بن سراقة بضم السين المهملة وتخفيف الراء أبو الحسن العامري البصري الفقيه الفرضي المحدث صاحب التصانيف في الفقه والفرائض وأسماء الضعفاء والمتروكين رحل في الحديث وأقام بآمد مدة وله مصنف حسن في الشهادات وأخذ الضعفاء عن أبي الفتح الأزدي ثم نقحه وراجع فيه الدارقطني ذكره ابن الصلاح، وذكر أنه كانت له رحلة في الحديث وعنايةبه ومعرفة بعلم الفرائض والضعفاء من الرجال، وقال: كان حيًا سنة أربعمائة وذكره الذهبي في المتوفين في حدود سنة عشر وأربعمائة. انظر ترجمته في الأعلام 8/ 5، وطبقات الشافعية لابن هداية ص 43- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 196.(2/304)
الرق والحرية وأشرفهما في الدين وأحسبهما في الريح والنكاح وأشرفهما في الحرية.
الحجر على الصبي لنقصه وعلى العبد لحق سيده وعلى السفيه يتردد.
ومن ثم يصح نكاح العبد بالإذن بخلاف الصبي وفي السفيه تردد.
وتفاريع القولين في الجمعة أظهرهما مقصورة أم صلاة على حيالها والوضوء أواجبه الترتيب أو عدم [التنكيس] 1، والمغلب في قتل قاطع الطريق حق الله أو حق الآدمي وإذا باع مال أبيه على ظن أنه حي؛ فإذا هو ميت وسبيل الاستعارة للرهن سبيل العارية أو الضمان، والخلاف في حقيقة الثمن ما هو؟ وحجر الفلس هل هو حجر مرض أو رهن أو سفه إجازة الورثة تنفيذًًا أو ابتداء عطية، تزويج السيد أمته بالملك أو بالولاية، الوديعة عقد أو إذن، المغلب في المسابقة شائبة الإجازة أو الجعالة، حرمة استعمال آنية الذهب والفضة لعينهما أو لمعنى فيهما، فطرة من يؤدي فطرة غيره ثم تجب عليه ثم يتحملها أو تجب على المؤدي ابتداء؛ القسمة بيع أو إفراز، الإقالة بيع أو فسخ، الحوالة استيفاء أو اعتياض، النذر محمول على واجب الشرع أو جائزه، موجب القتل العمد القصاص أو أحد الأمرين منه، ومن الدية الصداق مضمون ضمان عقد أو يد، الظهار طلاق أو يمين، الإبراء إسقاط أو تمليك، عمد المميز عمد أو خطأ، اليمين المردودة كالإقرار أو كالبينة، ارتفاع العقد من أصله أو من حينه، النفقة للحمل أو للحامل، مجلس العقد لهل له حكم ابتداء العقد؟ تعارض حق الخالق والمخلوق، ومسائل الإشارة والعبارة باللفظ أو بالمعنى ومسائل المسكن والخادم -هل يباعان في الفلس والكفارة والفطرة والحج ونظائرها؟ وفي كم تعطي الرجعية حكم الزوجية، ومفارقة الأب للجد في الأحكام وما يتعدى حكمه إلى الولد الحادث، وتعليق الإنسان فعل نفسه على فعل غيره -مثل بعت بما باع به فلان فرسه، وزوجت بما زوج به، وطلقت كما طلق، وقارضتك ولك مثل ما شترطه فلان لفلان، وأحرمت بما أحرم به فلان -ما فضل لبيت المال هل هو على سبيل الإرث أو المصلحة وفيه خلاف يظهر أثره في مسائل منها: قاتل أبيه إذا لم يخلف الأب سواه فما له لبيت المال ثم إن قلنا ميراثًا لم يدفع للقاتل منها: قاتل أبيه إذا لم يخلف الأب سواه فما له البيت المال، ثم إن قلنا ميراثًا لم يدفع للقاتل منه شيء أو مصلحة جاز الدفع ومنها: المكاتب إذا مات أبوه لم يرثه وماله لبيت المال؛ فإذا أدى النجوم وعتق فإن قلنا: ميراثًا لم يأخذ شيئًا، وإن قلنا: مصلحة أخذ.
__________
1 سقط في "ب".(2/305)
ومنها: إذا مات مسلم وخلف قريبًا له كافرًا فأسلم انبنى على الخلاف.
[وأنحاء] 1 ذلك.
وعندي أن إدخالها في القواعد خروج عن التحقيق، ولو فتح الكاتب بابها لاستوعب الفقه وكرره وردده وجاء به على غير الغالب المعهود والترتيب المقصود فحير الأذهان، وخبط الأفكار، وإذا استحسن ضم الشيء إلى نظيره فبعض مسائل الباب أشبه ببعضها من غير ذلك، والترتيب على الأبواب هو الصواب.
فصل:
ومن الناس من يدخل في القواعد تقاسيم تقع في الفروع يذكرها أصحابنا؛ حيث يتردد الذهن فهي ذات أقسام كثيرة ولا تعلق لهذ بالقواعد رأسًا فقد أكثر منه الشيخ أبو حامد في الرونق ومتابعوهن ولكن أولئك لم يكن قصدهم ذكر القواعد؛ بل هذا النوع بخصوصه، فلا لوم عليهم وإنما اللوم على من يدخل ذلك في القواعد.
وأنا أذكر لك يسيرًا من ذلك لتعرف ما أشير إليه.
فأقول: تقسيم آخر.
قال الإمام في كتاب الصلح: العقود بالنسبة إلى قبول التأييد أو التوقيت مراتب.
أحدها: البيع والتأبيد فيه غير مستحق، فإنه يتضمن التمليك واستئصال حق المتقدم بالكلية؛ فلا يعود إلا بإعادة طريق آخر.
الثاني: الإجارة: وضعها على بقاء الملك للمكري والأصل أن يضبط بالنهاية إذ لا حاجة إلى إثباتها دون الضبط.
ويظهر في هذا [القسم] 2 ما يظهر فيه قصد التأبيد كبيع حق البناء والممر وسبيل الماء -ولا يمتنع تأقيته أيضًا.
الثالث: ما يقصد منه المنفعة ولكن لا ينتظم إثباته على نعت التأقيت؛ فإن الغرض منه التواصل، والتوصل إلى النسك وهو النكاح وكان يؤقت في ابتداء الإسلام إشارة إلى اكتفاء بعض الناس بقضاء الأوطار، ثم استقر الشرع على استحقاق التأييد
__________
1 في "أ" وإنما.
2 في "ب" التقسيم.(2/306)
ليقع النكاح على وضعه، وقدره الزوج على الطلاق يفيده، التمكن من الخلاص.
تقسيم آخر:
إذا وقع في الماء شيء طاهر فإن لم يكن [مغيرًا] 1 فلا أثر له وإن كان، فإن كان التغيير لقلته فكذلك وإن كان لموافقته في صفاته فوجهان، وإن لم يفت بل غير فإن قل التغيير؛ حيث لم يزل اسم الماء المطلق ففيه خلاف، وإن فحش فإن لم يمكن الصون عنه لم يسلب، وإن أمكن؛ فإن كان ترابًا لم يؤثر على الأصح وإن كان غيره فإن كان مخالطًا لجميعه سلب أو لبعضه فوجهان وإن كان مجاورًا متصلًا به فقولان، أو غير متصل لم يؤثر.
تقسيم آخر:
قال القاضي أبو الطيب الطبري: ومن تعليقه نقلت: الطلاق واجب ومحرم ومكروه ومستحب.
فالواجب: طلاق المولي إذا انقضت المدة وطولب بالفيئة أو الطلاق وطلق فإنه يكون قد فعل واجبًا كما في خصال الكفارة أنها فعل وقع واجبًا، وإيقاع طلاق الحكمين في الشقاق واجب إذا قلنا: هما حكمان ورأيي الطلاق.
والمحرم: طلاق الحائض والموطوءة في طهرها.
والمكروه: طلاق زوجة حسنة الخلق والخلق يأمنها فيغيبته ويسر بها في حضوره.
والمستحب: طلاق زوجه قبيحة الخلق سيئة الخلق لا يأمنها غائبًا ولا تسره حاضرًا أو لا يقوم واحدًا منهما بحق صاحبه انتهى مختصر.
تقسيم آخر:
المقدرات الشرعية إما تحديد قطعًا: كطهارة الأعضاء ومسح المقيم والمسافر، وغسل ولوغ الكلب سبعًا، واشتراط أربعين لانعقاد الجمعة وتكبيرات العيدين، ونصب الزكوات وهو كثير جدًا.
وإما تقريب قطعًا: كسن الرقيق المسلم فيه والموكل في شرائه.
__________
1 في "ب" متغيرًا.(2/307)
وإما مختلف فيه: كالقلتين وسن الحيض والمسافة بين الصفين بثلاثمائة ذراع ومسافة القصر بثمانية وأربعين ميلًا وهو كثير.
فهذه أمثلة التقاسيم كل مثال منها لنوع ولا مدخل لها من القواعد ويقرب منها تعديد فرق النكاح وأقسام البياعات.
فصل:
ومنهم من يدخل المآخذ والعلل التي يشترك فيها أحكام طلبًا لجمع المشتركات في قدر مشترك وليس ذلك أيضًا من القواعد في شيء.
وقد رأيت للشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب "التنبيه" مصنفًا في ذلك مختصرًا سماه "مسائل الارتباط".
وهذا النوع كثير الفائدة للخلافيين الناظرين في المسائل التي اختلف فيها الإمامان -الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى.
وأنا أذكر مسألة لتعرف ماذا أعني بكلامي [والله تعالى أعلم] 1.
علة يتعلق بها إحدى وعشرون حكمًا.
مسألة:
يجب القطع بسرقة الثمار الرطبة والطعام الرطب وسائر ما يتمول وإن كان أصله على الإباحة وكذا إذا اشتركا في النقب فدخل أحدهما [فأخذ] 2 وناول الآخر فالقطع على الداخل.
إذا سرق ما [فيه] 3 نصاب ثم نقصت قيمته قبل القطع لم يسقط القطع.
إذا رمي المسروق إلى خارج فالقطع على الرامي.
إذا ترك المتاع بقرب النقب وأدخل الآخر يده فالقطع على الثاني، والضمان عليهما في المسائل الثلاث.
إذا سرق نصابًا ثم ملكه بحكم الإرث أو الهبة لم يسقط القطع.
إذا سرق مصحفًا يساوي نصابًا قطع.
__________
1 سقط في "ب".
2 في "ب" فأخذ إحداهما.
3 في "ب" قيمته.(2/308)
إذا سرق الآبق قطع، وكذا الضيف والنباش وسارق ثياب الكعبة.
إذا سرق العين مرة بعد مرة قطع ثانيًا فتقطع يمناه وإذا سرق ثانيًا قطعت يسراه.
إذا سرق ناقص اليمين أو مفقودها قطعت يسراه.
إذا تلف في يده المسروق فعليه الغرم والقطع.
يقطع أحد الزوجين بسرقة مال صاحبه.
يقطع المعير والمكري إذا سرق من المستعير والمكتري.
يقطع سارق العبد الصغير وكذا إذا سرق المستأمن في أحد القولين.
والعلة فيها كلها أنه أخرج نصابًا كاملًا من حرز مثله لا شبهة له فيه وهو من أهل القطع - أصل موضع الوفاق.
علة يتعلق "بها سبع مسائل".
في عبد التجارة الزكاة والفطرة.
وعلى الجد عن ولد ولده الصغير المعسر الفطرة.
وعلى الولد فطرة الأب والجد والزوج وعبد الشريكين عليهما فطرته.
والسيد عليه فطرة عبده، خلافًا "لداود بن علي"1 والعلة في الجميع شخص من أهل الطهرة يلزمه فطرته مع القدرة أصل موضع الوفاق.
فصل:
ومنهم: من يعقد فصلًا لأحكام الأعمى، وآخر لأحكام الأخرس، وآخر لأحكام المبعض، وهكذا وفصلًا للأحكام التي اختص بها حرم مكة شرفها الله تعالى، وهذا أيضًا ليس من القواعد في شيء.
فصل:
ومنهم من ذكر الفقه المختص ببعض الناس أو بعض الأماكن وسبيله سبيل من
__________
1 داود بن علي بن خلف أبو سليمان البغدادي الأصبهاني إمام أهل الظاهر، هو أول من نفى القياس في الأحكام الشرعية وتمسك وبظواهر النصوص، وكان زاهدًا ورعًا. أخذ العلم عن إسحاق بن راهية وأبي ثور وغيرهما، وكان صاحب مذهب مستقل وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية. نشأ بأصبهان ثم رحل إلى بغداد فأقام بها وتوفي سنة سبعين ومائتين.
انظر طبقات الشافعية الكبرى 2/ 284، شذرات الذهب 2/ 258.(2/309)
يفرد بابًا من أبواب الفقه بالتصنيف فلا فرق بين إفراد باب وإفراد مكلف من المكلفين.
وذكر الإمام في آخر "النهاية" أنه عزم على جمع أحكام المبعض ثم اجتزأ بسبقها في الأبواب.
فصل:
ومنهم من يشتغل بتقرير كونه مذهب الصحابي والاستحسان مثلًا غير حجة وهذا رجل عمد إلى باب من أبواب أصول الفقه فأحب النظر فيه.
فصل:
ومنهم من يعقد فصلًا للمسائل التي يفتي فيها على التقديم وهذا أيضًا رجل أحب أن يجمع مسائل لا ارتباط لها في أنفسها.
وأغراض الناس تختلف ولكل مقصد، ولسنا ننكر على أحد مقصده؛ وإنما ننكر إدخال شيء في شيء لا يليق به [ويكبر] 1 حجم الكتب بما لا حاجة إليه.
فصل:
ومنهم من يدخل مسائل الأحاجي والألغاز، وهذا باب مليح أفرده بعضهم بالتصنيف.
كالجرجاني صاحب المعاياة وأبي حاتم القزويني قبله وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين.
"وللقاضي تقي الدين ابن رزين2 فيه مصنف حسن رأيت بعضهم ينسبه لابن الرفعة وهو خطأ وابن الرفعة أعلى مقامًا وأرسخ قدمًا من أن يشتغل بهذا النوع، ولكل فن رجال وإذا اشتغل الناس في الفقه عشواء سار ابن الرفعة في بياض المحجة وإذا مشى الناس في رقراق علم كان هو خائض اللجة وإذا قنع الناس بالصدف لم يرض هو إلا بنفيس الجواهر وإذا وقفوا عند غاية لم يتطلب هو غاية يحاط لها بأول ولا آخر.
هذا وقد عرفناك أن فن الألغاز -في نفسه حسن؛ إلا أنه لا مدخل له في القواعد وقد كنت وضعت فيه مجموعًا ها أنا أتحفك منه بباب مفيد فأقول.
__________
1 في "ب" ويكثر.
2 هو شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بن رزين بن موسى العامري الحموي الشافعي، ولد سنة ثلاث وستمائة في شعبان بحماة وبرع في الفقه والأصول وشارك في المنطق والكلام والحديث وأفتى وله ثمان عشرة سنة. توفي في ثالث من رجب سنة ثمانين وستمائة.
الطبقات الكبرى 8/ 46، الشذرات 5/ 368، النجوم الزاهرة 7/ 123.(2/310)
باب في الألغاز:
والأصل في هذا الباب حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم حدثوني ما هي؟ ".
قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت.
ثم قالوا: حدثنا يا رسول الله ما هي؟ قال: هي النخلة قال عبد الله فحدثت أبي بما وقع، قال لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا.
وقد خرجه البخاري في موضعين -بوب على أحدهما باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم وبوب على الآخر "الحياء في العلم".
وأقول: ومن ثم والله أعلم بحث العلماء في هذا الباب، ومن أقدم ما سمعت فيه ما رواه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رضي الله عنه في التاريخ الشامي إلى حماد بن حميد قال: "كتب رجل من أهل العلم إلى ابن عباس يسأله عن هذه المسائل -أخبرني عن رجل دخل الجنة ونهى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يعمل بعمله، وعن شيء تكلم ليس له لحم ولا دم، وعن شيء له لحم ولم تلده أنثى ولا ذكر ولا من الملائكة، وعن نفس أوحى الله إليها ليست من الأنبياء، وعن منذر ليس من الجن ولا من الإنس، وعن شيء حرم بعضه وحل بعضه، وعن شيء تنفس ليس له لحم ولا دم، وعن نفس ماتت وأحييت بنفس غيرها، وعن نفس خرجت من جوف ليس بينهما نسب ولا رحم، وعن اثنين تكلما ليس لهما لحم ولا دم، وعن الرجل الذي [مر] 1 في قرية وهي خاوية على عروشها، وعن شيء إن فعلته كان حرامًا وإن تركته كان حرامًا وعن موسى عليه السلام كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في البحر وفي أي بحر قذفته، وعن الاثنين اللذين كانا في بيت فرعون
__________
1 سقط في "ب".(2/311)
حين لطم موسى فرعون، وعن موسى حين كلمه الله من حمل التوراة إليه، وكم كانت الملائكة الذين حملوا التوراة إلى موسى، وأخبرني عن آدم كم كان طوله وكم عاش ومن كان وصيه، وأخبرني من كان بعد آدم من الرسل، ومن كان بعد نوح، ومن كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وعن الأنبياء عليهم السلام كم كانوا، وكم كان فيهم من الرسل، وكم في القرآن منهم، وعن رجل ولد من غير ذكر ولا أنثى ولم يمت، وعن أرض لم تصبها الشمس إلا يومًا واحدًا، وعن الطير الذي لا يبيض ولا يحضن عليه طير.
فلما قدمت هذه المسائل إلى ابن عباس رضي الله عنهما كتب.
أما الرجل الذي دخل الجنة ونهى محمد صلى الله عليه وسلم أن يعمل بعمله فهو يونس النبي عليه السلام الذي يقول الله فيه: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 1.
وأما الشيء الذي تكلم ليس له لحم ولا دم فهي النار إذا تقول {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} .
وأما الرسول الذي بعثه الله ليس من الجنة ولا من الإنس ولا من الملائكة فهو الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم ليريه كيف يواري سوأة أخيه.
وأما الشيء الذي له لحم ودم ولم تلده أنثى فهو كبش إبراهيم الذي فدى به ولده.
وأما الشيء الذي تنفس ليس له لحم ودم فهو الصبح؛ إذ يقول عز وجل: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2.
وأما النفس التي ماتت وأحييت بنفس غيرها فهي البقرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} 3.
وأما الطير لم يبض ولم يحضن عليه فهو الطير الذي نفخ فيه عيسى ابن مريم عليه السلام فكان طائرًا بإذن الله.
وأما الشيء الذي قليله حلال وكثيره حرام فنهر طالوت الذي ابتلاهم الله به.
وأما النفس التي أوحى الله إليها ليست من الأنبياء فأم موسى.
وأما النفس التي خرجت من جوف نفس ليس بينهما نسب ولا رحم فهو يونس النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بطن الحوت.
__________
1 سورة ق 30.
2 سورة التكوير 18.
3 سورة البقرة 73(2/312)
وأما الاثنان اللذان تكلمتا ليس لهما لحم ولا دم فهما السماء والأرض قال تعالى: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1.
وأما الشيء الذي مشى ليس له لحم ولا دم فعصا موسى التي تلقف ما يأكفون. [وأما الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فهو أرميا] 2.
وأما الشيء الذي إن فعلته كان حرامًا وإن تركته كان حرامًا فهي صلاة السكران، إن صليت وأنت سكران فحرام وإن تركت فحرام.
وأما أم موسى فأرضعته ثلاثة أشهر3 قبل أن تقذفه في البحر ثم ألقته في بحر القلزم.
وأما الاثنان اللذان كانا [في بيت] 4 فرعون فالرجل الذي كانت يكتم إيمانه.
وسألت عن موسى يوم كلمه الله وحملت التوراة إليه فإن الله كلمه يوم الجمعة وأعطي التوراة ونزلت بها الملائكة إلى موسى يوم الجمعة وأمر الله بكل حرف5 فحمله ملك من السماء لا6 يعلم عدد ذلك إلا الله.
وأما الأرض التي لم تنظر إليها الشمس إلا يومًا فهي أرض البحر الذي فلقه الله لموسى.
وأما المنذر الذي ليس [من الإنس7 ولا من الجن] فالنملة القائلة {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} .
وسألت عن آدم فهو أول الأنبياء خلقه الله من طين وسواه ونفخ فيه من روحه، وكان طوله -فيما بلغنا والله أعلم- ستين ذراعًا، وكان نبيًا وخليفة وعاش ألف سنة إلا خمسين عامًا، وكان وصيه شيث وإن بعد شيث من الأنبياء إدريس وهو أول الرسل
__________
1 سورة فصلت "11".
2 سقط من "أ" والمثبت من "ب".
3 في "ب" زيادة ونصف.
4 في "ب" زيادة حين لطمه موسى فهي آسيا امرأة فرعون.
5 في "ب" زيادة من التوراة.
6 في "ب" فلا.
7 في "ب" من الجن أولًا.(2/313)
وبعد إدريس نوح وبعد نوح هود ثم صالح ثم إبراهيم ثم لوط -ابن أخي إبراهيم - ثم إسماعيل ثم إسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم موسى ثم عيسى فأنزل الله الإنجيل ثم كان بعده نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
وكان عدد الأنبياء -فيما بلغنا- ألف نبي ومائتي نبي وخمسة وسبعين نبيًا، وكان منهم ثلاثة وخمسة عشر رسولًا نجد في القرآن منهم ثلاثة وثلاثين نبيًا يقول الله عز وجل: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1 انتهى مختصرًا.
قلت وأنا أستفتح السؤال الأول من مسائله فإن إطلاق القول بأن نبينا صلى الله عليه وسلم نهى بأن يعمل بعمل يونس لا ينبغي لما فيه من الإساءة على يونس.
وكذا2 [أقول] 3 في الرسول ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة -[روى] 4 الحافظ أبو القاسم أيضًا بسنده إلى ابن أبي مليكة قال: كتب ابن هرقل إلى معاوية يسأله عن ثلاث خلال ما مكان إذا كنت [فيه] 5 لم تدر أين قبلتك؟ وما مكان طلعت فيه الشمس ولم [تطلع] 6 فيه قبل ولا بعد؟ وعن المحو الذي في القمر؟ -فقال معاوية من لهذه؟ 7 فقيل ابن عباس، فكتب إليه.
فأجاب ابن عباس [رضي الله عنهما] 8.
أما المكان الذي إذا كنت فيه لم تدر أين قبلتك فإذا كنت على ظهر الكعبة
وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس ولم تطلع [فيه] 9 قبل ولا بعد فالبحر الذي انفلق لموسى.
وأما محو القمر فهو آية الليل قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ} 10.
فكتب معاوية إلى ابن هرقل، فكتب إليه ما هذا من كنزك ولا كنز أبيك، [وما] 11.
خرج هذا إلا من [أهل] 12 بيت نبوة.
__________
1 سورة النساء "164".
2 في "ب" كذلك.
3 سقط في "ب".
4 في "ب" وروى.
5 سقط من "ب".
6 في "ب" تظله.
7 في "ب" زيادة المسائل.
8 سقط في "ب".
9 سقط من "ب".
10 الإسراء "12".
11 في "ب" ولا.
12 سقط من "ب".(2/314)
وروى الحافظ أيضًا بأسانيد مختلفة هذا الأثر بزيادات أخر اجتمعت على بعضها واختلفت [في] 1 بعضها وأنا ألحق تلك الطرق وأجمع ما اجتمعت وما افترقت فيه؛ فكان مذكورًا في بعضها دون بعض فأقول:
روي أن قيصر ملك الروم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان: أما بعد فأي كلمة أحب إلى الله؟ وما الثانية والثالثة والرابعة والخامسة؟ ومن أكرم عباد الله وإمائه عليه؟ وما خمسة فيها الروح لم تركض في رحم؟ وقبر سار بصاحبه؟ ومكان لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة لم تطلع فيه قبل ذلك ولا تطلع بعده؟ ومجرة السماء ما هي؟ وقوس قزح وما بدأ مرة؟ وقبله من لا قبلة له، ومن لا أب له، ومن لا عشيرة له؟ وعن شيء نصف شيء ولا شيء؟ وابعث إلي في هذه القارورة2.
فلما قرأ معاوية كتابه قال: ما له أخزاه الله؟! وما علمي بها ها هنا؟ فقيل له: اكتب إلى ابن عباس، فكتب يسأله عن ذلك.
فكتب إليه ابن عباس: "إن أفضل الكلام لا إله إلا الله -كلمة الإخلاص، وما يقبل عمل إلا بها، والتي تليها سبحان الله وبحمده والثالثة كلمة الشكر الله أكبر وفاتحة الكتاب والركوع والسجود، والخامسة لا حول ولا قوة إلا بالله، وأكرم الخلق آدم، وأكرم الإماء مريم، والخمسة الذين لم يركضوا في رحم: آدم وحواء الكبش الذي فدي به إسماعيل وعصا موسى حين ألقاها فصارت ثعبانًا وناقة صالح، والقبر الذي سار بصاحبه [فالحوت] 3 الذي التقم يونس، والمكان الذي انفرج لموسى من البحر لما ضربه بعصاه فانفلق والمجرة باب السماء، وقوس قزح أمان لأهل الأرض من الغرض بعد قوم نوح، ومن لا قبله له الكعبة، ومن لا أب له عيسى، ومن لا عشيرة له آدم، وأما شيء فالرجل له عقل يعمل بعقله، وأما نصف شيء فالرجل لا عقل له يعمل بعقل ذوي العقل، وأما لا شيء فالذي ليس له عقل يعمل برأي نفسه.
ثم ملأ القارورة ماء وقال: هذا أبرز كل شيء: قال [الله] 4: تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 5.
فلما وصل الكتاب إلى ملك الروم قال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما خرج هذا إلا من أهل بيت نبوة.
__________
1سقط من "ب".
2 في "ب" زيادة ببدر كل شيء.
3 في "ب" الحوت.
4 سقط من "ب".
5 سورة الأنبياء "30".(2/315)
قلت: في الأثر مواضع لا بأس بالتنبيه عليها.
قوله: "أكرم الخلق آدم" ليس على ظاهره، وإن1 أكرم الخلق عند أهل الحق سيدنا2 محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد خطر [لي] 3 فيما وقع في هذا الأثر أحد أمرين: إما أن يكون زيادة [لم] 4 يثبت عن ابن عباس وهو الأقرب، وإما أن يكون عني بأكرمية الخلق أصل الخلقة والأرومة5 والطينة التي آدم وذريته فيها سواء، والمراد أن خلق البشرية أفضل من بقية الخلائق ويؤخذ منها أن البشر أفصل من الملك -وهو مذهب أهل السنة.
ولا يقال: [إن] 6 ابن عباس ذكر ذلك على معتقد المكتوب إليه لأنا -أولًا- لا نعرف ما يعتقدون في ذلك، وثانيًا لا نعتقد أن ابن عباس يجيب إلا بما هو الحق -في نفس الأمر ولذلك قال: "أفضل الكلام لا إله إلا الله" وهم يعتقدون التثليث.
وقوله: "من لا قبلة له الكعبة" لعله يعني به منصلى على ظهرها -كما أشير إليه في الأثر قبله - إلا أنه لو استقبل سترة متصلة جاز فلم تخرج عن كونها قبلة.
وقوله: "من لا أب له عيسى" يعني من لا أب له ممن يركض في رحم؛ وإلا فكذلك آدم عليه السلام.
وقوله: "من لا عشيرة له آدم" لعله قبل أن يولد له ويكون في ذلك من ابن عباس دلالة على ما قال المتولي صاحب "التتمة": "إنه إذا وقف على عشيرة لم يدخل فيه إلا قرابة الأب". ووجه الاستنباط أن آدم لم يكن له أب فلم يكن له قرابة أب؛ فمن ثم لم يجعل ابن عباس له عشيرة فدل أن من لا أب له لا عشيرة له، ودل أن العشيرة من قبل الأب. وهذا قول المتولي رحمه الله.
ومما يلتحق بهذه المسائل مسائل [دارت] 7 بين الشافعي رضي الله عنه ومحمد ابن الحسن رحمه الله نقلها النقلة لمحنة الشافعي [رحمه الله] 8، وكثير من الناس يذكر
__________
1 في "ب" فإن.
2 في "ب" زيادة المصطفى.
3 سقط من "ب".
4 في "ب" لا.
5 سقط من "ب".
6 سقط من "ب".
7 في "ب" وارت.
8 سقط من "ب".(2/316)
أن أبا يوسف القاضي كان مع محمد، ولكن لم يثبت عندنا ذلك، والصحيح أن محنة الشافعي [رحمه الله] 1 ودخوله بسببها بغداد إنما كان بعد وفاة أبي يوسف، ولم تكن هذه المسائل إلا بينه وبين محمد بن الحسن، غير أن نوردها كما أوردها الناقلون لها إذا كان القصد معانيها لا عزوها إلى قائلها.
فنقول: ذكر الإمام إسماعيل البوشنجي أحد الجلة من علمائنا وغيره: أن الشافعي [رحمه الله] 2 دخل بعض الأيام على هارون الرشثيد فامتحنه أبو يوسف ومحمد بمسائل أثبتناها في درج ودفعًا الدرج إليه في ذلك المجلس، فأجاب عنها بأسرها في الحال، وسألهما عن مسألتين فعجزا عن الجواب، وها هي:
سألاه عن رجل ذبح شاة ثم خرج [لحاجته] 3 وعاد، فقال لأهله كلوها فقد حرمت علي، فقال له أهله: [ونحن] 4 قد حرمت علينا.
فأجاب أنه مشرك ذبح الشاة على اسم الأنصاب، ثم أسلم بعد خروجه، وعاد فقال لهم هذه المقالة، فأسلموا فحرمت عليهم الذبيحة.
وسألاه عن رجل أبق له غلام فقال: هو حر إن طعمت طعامًا حتى آخذه، كيف المخرج؟
فأجاب -يهب الغلام لبعض أولاده- ويأكل ثم يرجع وسألاه عن امرأتين لقيا غلامين فقلنا: مرحبًا بابنينا وابني زوجينا وهما زوجانا.
فأجاب: بأن الرجلين كانا ابني [المرأتين] 5، فتزوجت كل واحدة منهما بابن صاحبتها، وكان الغلامان ابنيهما وابني زوجيهما وهما زوجان لهما6.
__________
1 سقط من "ب".
2 سقط من "ب".
3 في "ب" لحاجة.
4 سقط من "ب".
5 في المرأتين.
6 في "ب" زيادة ومسألاه عن مخلوقين سجدوا لغير الله عز وجل وهما غير عاصين بذلك فأجاب الملائكة سجدوا لآدم عليه السلام.(2/317)
وسألاه عن رجل قال لولد: إن ست فلك ألف درهم ولو كنت ابن ابني كان لك عشرة آلاف درهم1.
فأجاب: كان الرجل يملك ثلاثين ألف درهم، وكان له ثمانية وعشرون بنتًا فخص كل بنت ألف درهم وخص الابن ألفين لو كان له ابن ابن كان للبنات [الثلثين] 2 والباقي له -وهو عشرة آلاف درهم.
وسألاه عن رجل أخذ قدح ماء [يشربه] 3 فشرب بعضه حلالًا وصار باقي ماء القدح محرمًا عليه.
فأجاب: بأنه شرب نصفه ورعف في بقيته فحرم الماء لامتزاجه بالدم.
وسألاه عن امراة ادعت أن زوجها ما قاربها منذ تزويجها وأنها بكر كما خلقت.
فأجاب: يدعي بقابلة وتؤمر أن تحمل بيضة فإن غابت فقد كذبت؛ وإلا فقد صدقت.
وسألاه عن خمسة زنوا بامرأة وجب على أحدهم القتل والثاني الرجم والثالث الحد، والرابع نصف الحد، والخامس لا شيء.
فأجاب: الأول استحل الزنا فكفر، والثاني زان محصن والثالث غير محصن وهو حر، والرابع عبد، والخامس مجنون لا شيء عليه.
قلت: أو واطى بشبهة وتسمية وطء الشبهة زنا أقرب من تسمية وطء المجنون.
وسألاه عن امرأة قهرت مملوكها على وطئها.
فأجاب: إن خاف على نفسه القتل أو الضرب الوجيع إن لم يفعل فلا شيء عليه، وإلا نصف الحد، وعلى [المرأة] 4 -إن كانت محصنة- الرجم، وإلا فالحد.
قلت: فالمكره لا شيء عليه يعني لا حد عليه؛ وإلا قال فالإثم عليه بالإجماع.
وسألاه عن رجل صلى بقوم فسلم عن يمينه فطلقت امرأته، وعن يساره فبطلت
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" الثلثان.
3 في "ب" ليشربه.
4 في "ب" الامرأة.(2/318)
صلاته ونظر إلى السماء فوجب عليه ألفًا درهم [يزنها] 1 في الغد.
أجابٍ: إنه لما سلم نظر إلى رجل قد تزوج بامرأته عند غيبته فلما حضر طلقت، ولما سلم ثانيًا رأى عليه دمًا فوجبت الإعادة، "ولما أبصر السماء" أبصر الهلال فكان عليه دين فوجب عليه أداؤه.
فإن قيل: النكاح في غيبة الزوج لا يكون نكاحًا حتى يقال: وقع الطلاق برؤية الزوج، وكذلك الصلاة مع النجاسة لا تكون صلاة حتى يقال بطلت.
قلنا: هذا الجواب محمول على الظاهر، فإن تلك المرأة كانت محللة له في الظاهر فلما رأى الزوج حيًا زال ذلك الظن وتبعه زوال الحل.
وسألاه عن إمام كان يصلي بأربعة نفر فدخل المسجد رجل آخر فصلى معهم عن يمين الإمام وأبصره وجب على الإمام القتل ووجب تسليم امرأته إلى ذلك الرجل ووجب على الأربعة الجلد، ووجب هدم المسجد بالكلية إلى أساسه.
فأجاب: أن الرجل [الداخل كان سافر] 2، وخلف امرأته عند أخ له واتفق أن الإمام قتله وأخذ امرأة أخيه وادعى أنها كانت امرأة له وشهد له الأربعة الذين صلوا معه وأخذ دار ذلك المقتول وجعلها مسجدًا؛ فوجب القتل عليه قصاصًا، ووجب أن ترد [المرأة] 3 إلى زوجها، ووجب جلد الأربعة بشهادة الزور، ووجب تخريب المسجد وإعادته دارًا.
وسألاته عن رجل دفع إلى امرأته كيسًا ممتلئًا مربوطًا وقال أنت طالق إن فتحتيه أو فتقتيه أو كسرت ختمي أو [أحرقتيه] 4 أو لم5 تفرغيه وتعطيني الكيس.
فقال: إن كان ما فيه ما يذوب كالسكر تضعه في الماء حتى يذوب.
وسألاه: عن رجل وامرأة لقيا غلامين فقال الرجل: أنا ابن جدهما وأخي عمهما وقالت المرأة: أنا بنت جدتهما وأختي خالتهما وخالة أبيهما.
فقال: الرجل أبوهما [والمرأة] 6 جدتهما.
__________
1 في "ب" مكررة.
2 في "ب" قد سافر.
3 في "ب" الامرأة.
4 في "ب" حرقيته.
5 في "ب" ولم.
6 في "ب" الامرأة.(2/319)
وسألاه: عن امرأة ولدت ثلاثة أولاد -الأول مملوك والثاني ولد زنا، والثالث خليفة يدعي له على المنابر، والأب والأم واحد.
فقال: هذه المرأة كانت مملوكة لقوم فوطئها رجل هاشمي بنكاح فخرج ولده مملوكًا لقوم ثم إنه طلقها وزنا بها بعد الطلاق فكان ولد الزنا، ثم إنه اشتراها، فجاء له منها ولد فصار خليفة يدعي له على المنابر.
فسألاه عن رجل ضرب رأس رجل بعصا؛ فادعى المضروب أن ضاربه قد أذهب بضربته إحدى عينيه وأذهب بضربته خيشومه وأخرس لسانه.
فقال: يقام هذا الرجل في الشمس فإن فتح عينيه التي تقابل1 عين الشمس ولم تطرف فهو صادق، ويشم رائحة دخال الحريق فإن لم ينزل من أنفه شيء من الرطوبات فهو صادق ويغرز في لسانه بإبرة فإن خرج منها دم أسود فهو صادق.
وسألاه عن رجلين فوق سطح سقط أحدهما فمات فحرمت على الآخر امرأته.
فقال: هو رجل زوج ابنته من غلامه فمات فورثته فملكته فحرمت عليه لملكها إياه.
قال الراوي: فعجب الرشيد من علم الشافعي وقال: لله در بني عبد مناف.
فقال: [الشافعي رضي الله عنه] 2 إني سائلهما مسألتين موجزتين.
ما تقول يا أبا يوسف في رجل مات وخلف ستمائة درهم وفي الورثة أخت لم يصبها إلا درهم، وما تقول يا أبا محمد في رجل تزوج بامرأة وتزوج ابنه بأمها فجاءت كل واحدة بابن ما يكون هذا من ذلك؛ وذلك من هذا فاطرقا وطال فكرهما ولم يجيبا بشيء.
فقال الرشيد: أجب أنت يا شافعي فقال الشافعي رحمه الله:
أما المسألة الأولى فقد بلغني أن امرأة جاءت إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فسألته عن ذلك فقال رضي الله عنه: مات أخوك وخلف بنتين فلهما الثلثان -أربعمائة، وخلف أما فلها السدس مائة- وزوجة فلها الثمن -خمسة وسبعون- بقي
__________
1 في "ب" زيادة بها.
2 في "ب" قال الإمام الشافعي.(2/320)
خمسة وعشرون وخلف من الإخوة اثني عشر واحدًا درهمين درهمين ولم يبق من الستمائة غير درهم فهو لك.
وأما الثانية:
فإن ابن الأم خال ابن البنت، وابن البنت عم ابن الأم.
فتبسم هارون الرشيد وأعظم قدره رضي الله عنه وحيث نجزت هذه المسائل فلنورد من المجموع الذي أشرنا إليه ما بقي اختيارنا -ها هنا عليه وهو مجموع أودعته من هذا النوع عددًا [وهبته] 1 جانبًا من الفقه ولا أقول: أعرته، ووضعت فيه نحو مائة من مطارحات المسائل ومستطرفاتها منها ما نقلته ومنها ما ولدته، ولقد جاوزت في مولداتي حد الأربعين وأخرجتها ولا أثر بعد عين، ولا ظن بعد اليقين، وعرضتها وهي أمانة لا يشفق الإنسان [منها] 2، وليس لمن خان الأمانة دين.
وما ولدته ما شرحته فتبلج وجه صبحه، ومنها ما تركته ليستعمل الفطن ذهنه في شرحه ويفرد له النظر وينشد.
فالقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحه
وإن هو لم يحتط لقفله غاية الاحتياط ولم يفرد له قلبًا حاضرًا غلط [غلطة] 3 لا كالأغلاط ولم يفتح مغلقه حتى يلج الجمل في سم الخياط، وحتى يؤوب4 الفارطان كلاهما وينشر في الموتى كليب وائل فلعسرها فني الكهول بلسان سؤول وقلب [عقول] 5.
مسألة:
رجل قال لامرأته: إن كان ما في كمي دراهم أكثر من ثلاثة فأنت طالق فكان في كمه أربعة.
الجواب: هذه المسألة سئل عنها الشافعي رضي الله عنه -فيما نقله أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي عن الربيع بن سليمان- فقال: لا يقع عليه طلاق لأنه ليس في كمه دراهم هو أكثر من ثلاثة؛ إذ ليس في كمه زائد على الثلاثة إلا درهم واحد والمعلق عليه دراهم موصوفة بأنها أكثر من ثلاثة ولم يوجد.
__________
1 في "ب" وفيه.
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".
4 في "ب" ثوب.
5 في "ب" عقول.(2/321)
قال البوشنجي: قال الربيع: فقال السائل: آمنت بمن فوهك هذا العلم؛ فأنشأ الشافعي1:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
وإن ترقت في محل السحاب ... عميا لا تحتلها الفكر
مقنعة [بغيوب] 2 الغيوم ... وضعت عليها جسام البصر
لساني كشقشقة الأرحبي ... أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بإمعة في الرجال ... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني بذي الأصغرين ... أقيس بما قد مضى ما عبر
وسباق قومي إلى المكرمات ... وجلاب خير ودفاع شر
قلت: وصورة المسألة كما ترى -فيمن قال إن كان في كمي دراهم أكثر من ثلاثة.
أما لو لم يقل: دراهم بل اقتصر على قوله إن كان في كمي أكثر من ثلاثة المسألة التي أشار إليها الأصحاب بقولهم فيمن قالت له زوجته: إنه يملك أكثر من مائة.
فقال: إن كنت أملك أكثر من مائة فأنت طالق؛ فكان يملك خمسين أنه إن كان مراده لا يملك زيادة عن المائة لا تطلق وإن إراد أنه يملك مائة بلا زيادة طلقت، وإن أطلق فالأصح لا تطلق.
وقالوا في باب الإقرار: لو قال لزيد علي أكثر من مال فلان يقبل تفسيره بأقل متمول وإن كثر مال فلان؛ لأنه يحتمل أنه أكثر لكونه حلال وهذا حرام أو نحوه، وسواء علم مال فلان أو لم يعلم.
وهذا المأخذ الذي انتزعه الشافعي رضي الله عنه أخذه ابن سريج وغلط محمد ابن الحسن في قوله فيمن أوصى بمثل نصيب أحد ابنية الحائزين إلا ثلث جميع المال: أن الوصية باطلة لأنها الخارج علن الثلث.
__________
1 في "ب" رضي الله عنه يقول.
2 في "ب" بعيون.(2/322)
وقال أبو العباس: بل هي صحيحة، وهي بالقدر الزائد من نصيب أحدهما عن ثلث الأصل".
وهذا يشبه مأخذ الشافعي رضي الله عنه لأنه جعل قوله: - إلا ثلث جميع المال قيدًا في مثل النصيب يعني مثل النصيب خارجًا [منه] 1 مثل ثلث الأصل كما جعل الشافعي رضي الله عنه دراهم قيدًا في الزائد عن ثلاثة.
قال ابن سريج: والمسألة تصح من تسعة -لكل ابن أربعة وللموصي له سهم واحد.
قلت: ويمكن أن يقال: هو استثناء مستغرق وكأنه استثنى ثلثًا من ثلث فيصبح من ثلاثة لكل واحد سهم [والله سبحانه] 2 وتعالى أعلم.
مسألة:
روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه سئل عن امرأة في فمها لقمة قال زوجها: إن بلعتها فأنت طالق وإن أخرجتها فأنت طالق ما حيلته.
فقال: تبلغ نصفها وتخرج نصفها.
ذكره الرافعي في "الشرح" وهو منصوص نقله الحاكم نصًا عن أبي الوليد النيسابوري عن الحسن بن سفيان عن حرملة عن الشافعي رضي الله عنه.
مسألة:
رجل قال لصاحبه: إن بدأتك [بالكلام] 3 فامرأتي طالق، فقال له صاحبه وإن بدأتك بالكلام فأمرأتي طالق كيف يصنع؟
الجواب: قيل إن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن ذلك فقال: اذهبا فعاشرًا زوجتيكما ولا حنث عليكما -أنه لما قال لك "إن بدأتك بالكلام"4 فامرأتي طالق، شافهك بالكلام وانحلت اليمين.
قلت: وهذا ذكره أصحابنا أيضًا وزادوا -فيما نقله الرافعي عن الإمام أنه لو قال: إن بدأتك بالسلام فعبدي حر وقال الآخر نظريه وسلم كل واحد منهما على الآخر دفعة لم يعتق عبد واحد منهما وتنحل اليمين، فإذا سلم أحدهما على الآخر بعد ذلك لم يعتق واحد من عبديهما.
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 في "ب" السلام.
4 في "ب" بالسلام.(2/323)
مسألة:
عن أبي يوسف القاضي قال: طلبني هارون الرشيد ليلًا فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جفر فقال: إن عند عيسى جارية وسألته أن يهبها لي فامتنع وسألته أن يبيعها فامتنع محتجًا بيمين حلفها -أن لا يبيعها ولا يهبها [ويتعذر] 1 عليه الحنث فيها فهل في ذلك من مخرج؟
فقلت نعم: يهب [لك] 2 نصفها و [يبيعك] 3 نصفها ففعل، فقال الرشيد أيها القاضي: بقيت واحدة إنها أمة ولا بد من استبرائها ولا بد لي أن أطأها في هذه الليلة فقلت له: اعتقها وتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ ففعل ذلك.
مسألة: حكى أبو عبد اللهالبوشنجي عن ابن جابر قال: "رأيت في دمشق صنمًا من نحاس إذا عطش نزل فشرب".
وقد ذكرنا ذلك في كتابنا "طبقات الفقهاء" وقلنا أن البوشنجي كان يستمحن الطلبة ثم يحله لهم بأن الصنم لا يعطش ولو عطش لنزل فشرب.
قلت: لكن لفظ "إذا" ينازع في هذا، لأنه لا يدخل إلا على المحقق، ولعل العبارة "إن".
والحاصل: أن الممتنع إذا فرض جائزًا ترتب عليه جواز ممتنع آخر لأن ذلك قد يرى وقد ظرف القائل.
ولو أن ما بي من ضنا وصبابة ... على جمل لم يدخل النار كافر
ولو أن ما بي من صبابة بالجمل لضعف ورق بحيث صار يلج في سم الخياط ولو ولج في سم الخياط لدخل الكافر الجنة -على ما قال تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} 4، ولو دخل الجنة لم يدخل النار فظهر أن ما بي من الحب لو كان بالجمل لم يدخل النار كافر.
مسألة:
رجل قال: أنا لا أرجو الجنة، ولا أخاف من النار وآكل الميتة والدم، وأصدق اليهود والنصارى، وأبغض الحق وأهرب من رحمة الله، وأشرب الخمر، وأشهد
__________
1 في "ب" ينعقد.
2 سقط من "ب".
3 في "ب" ويبيع.
4 سورة الأعراف "40".(2/324)
بما لم أر وأحب الفتنة وأصلي بغير وضوء ولا تيمم، وأترك الغسل من الجنابة، وأقتل الناس، هل يكفر؟
الجواب: قيل أن أبا حنيفة سئل عن هذا فقال: لا يكفر.
أما قوله: "لا أرجو الجنة ولا أخاف النار" فيعني إنما أرجو وأخاف خالقهما.
وأراد "بالميتة والدم" الكبد والطحال والسمك والجراد.
وبقوله: أصدق اليهود والنصارى في قول كل منهم: إن أصحابه ليسوا على شيء كما قال تعالى حكاية عنهم:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} 1.
والهروب من رحمة الله فرار من المطر، والحق الذي يبغضه الموت لأنه حق ولكنا يكره الموت، ويشرب الخمر شربها في حال الاضطرار كما إذا غص بلقمة ولم يجد إلا الخمر.
ويحب الفتنة الأموال والأولاد على ما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} 2.
وبالشهادة بما لم ير الشهادة بالله وملائكته وأنبيائه ورسله وهو الإيمان بالغيب وبالصلاة بغير وضوء ولا يتمم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالناس الذين يقتلهم الكفار.
انتهى.
قلت: وكان في السؤال والجواب ما ينبغي تركه وتركته. وأقول: في إطلاق هذا القائل وجمعه بين هذه الأقوال المهمة ما ينبغي أن يعزر عليه ولا شك في تحريم إطلاق مثل هذا الكلام لاسيما بحضرة من لا يفهم هذه الدقائق.
[و] 3 قد أفتى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام بأنه لا يجوز إيراد الإشكالات القوية بحضرة العوام، لأنه سبب إلى إضلالهم وتشكيكهم.
__________
1 سورة البقرة "113".
2 سورة الأنفال "28".
3 سقط من "ب".(2/325)
قال: وكذلك لا يتفوه بهذه العلوم الدقيقية عند من يقصر فهمه عنها فيؤدي ذلك إلى [ضلالته] 1.
مسألة:
رجل قال لامرأته: حالفًا بالطلاق: كل ما تقولين لي في هذا المجلس أقول لك فيه مثله فقالت له أنت طالق فما حيلته؟
الجواب: هذه المسألة اتفقت في زمان الإمام الكبير محمد بن جرير الطبري في حدود الثلاثمائة فأفتى بأنه يقول لها: أنت طالق ثلاثًا إن طلقتك، أي يعلق طلاقها إيتاء بمثل صيغتها على شرط -والمسألة تدور في الوجود نيف وأربعمائة سنة.
وذكر أبو حاتم القزويني في كتاب "الحيل" أنه يقول لها: أنت تقولين لي أنت طالق وتبعه الرافعي في "الشرح " وذكر الجرجاني في "المعاياة" أنه يقول لها: أنت طالق إن شاء الله.
وكل واحد من هذه الطرق سائغ، وقد رأيت في بعض المجاميع أن المسألة اتفقت بمصر في زمان القاضي شرف الدين بن عين الدولة فقال للزوج: خذ بعقيصتها وقل لها: أنت طالق إن وكلتك إلى نيتك وقد خلصت من ذلك.
فإن قلت لم لا يقول لها أنت طالق: بفتح التاء كما قالت له ثم لا يقع طلاق لأنه خاطب المؤنث بخطاب المذكر.
قلت كذا قال ابن عقيل [من] 2 الحنابلة وقد يقال: إن أصول أصحابنا تأباه، لأنهم ذكروا في العتق والقذف أن العدول عن التأنيث إلى التذكير لا يمنع الوقوع.
وصرح الغزالي في "الفتاوي" بنظيره في النكاح لكني أقول: لعل هذا فيما [إذا أطلق اللفظ] 3 إطلاقًا، أما إذا ذكر في موضع التأنيث أو عكس قاصدًا حكاية قول غيره فهو قصد مخرج للفظ عن صراحته معتضد بالقرينة السابقة القاضية بأن مراده حاية القول فقط وكان هذا لم يقصد لفظ الطلاق بل قصده لمعنى حكاية قول غيره.
__________
1 في "ب" ضلالة.
2 في "ب" في.
3 من أول "إذا أطلق اللفظ إطلاقًا.... إلى إذا قال لزوجته التي خرجت" سقط من "ب".(2/326)
مسألة:
سئل القفال عن بالغ عاقل مسلم هتك حرزًا وسرق منه نصابًا لا شبهة له فيه ولا قطع عليه.
فأجاب أنه دخل فلم يجد في الدار شيئًا؛ فقعد في دن فجاء صاحب الدار بمال ووضعه، فخرج السارق وأخذ وخرج؛ فلا قطع، لأن المال حصل بعد هتك الحرز.
مسألة:
سئل القاضي أبو الطيب رحمه الله وروي عنه.
أني عجبت لامرأة ما طلقت ... في طول ما عاشت من الأعوام
إلا طلاقًا بائنًا من واحد ... وحوت من الصدقات والأقسام
مهرا ونصفًا ثم مهرًا كل ذا ... حازته في يوم من الأيام
من غير أن تعتد يومًا عدة ... فأعجب لهذا الحكم في الأحكام
فأجاب:
لا تعجبوا منه فإن بيانه ... سهل على الفقهاء بالأحكام
رجل تزوج ثم طلق بعده ... قبل الدخول بما صدر حسام
وأصابها من بعد ذاك بشبهة ... دخلت عليه وظن غير حرام
فأعاد خطبتها وطيب نفسها ... فاستأنفا عقدًا على الإتمام
وجبت عليه عدة فأزالها ... عقد يصح له بغير أثام
في بعض يوم كان هذا كله ... والمال أقبضها بغير خصام
نصفًا ومهرًا ثم مهرًا كلهاد ... سلمت لها عفوًا بلا إبرام
فازت كما قال الفقيه بسعده ... في يومها لشريعة الإسلام
وبه أقول واستحق ثوابه ... أجرين منصوصين للحكام
مسألة: رجل قال لامرأته إن لم يكن الشافعي أفضل من أبي حنيفة فأنت طالق.
فقال آخر: إن لم يكن أبو حنيفة أفضل فامرأتي طالق فمن الذي تطلق امرأته.
الجواب: قيل: لا تطلق امرأة واحد منهما، لأن الأمر في ذلك ظني والأصل بقاء النكاح.
وقال القفال: لا نجيب في هذه المسألة -كذا نقله الرافعي ونجيب بالنون والجيم.(2/327)
وهذا من محاسن القفال؛ فإن الدخول بين أئمة الدين والتفضيل بينهم لمن لم يبلغ رتبتهم لا يحسن، ويخشى من غائلته في الدنيا والآخرة، وقل استعمله فأفلح.
ولا يخفى أن القفال يعتقد رجحان الشافعي؛ ولكنه ليس أمرًا ينبغي له ذكره وإشاعته، وأنه آيل إلى التعصب المذموم، وربما كان سببًا إلى الوقيعة في العلماء الموجبة لخراب الديار.
وربما عارض حنفي شافعيًا بمثل مقالته فانتهى إلى الوقيعة في الشافعي وأهل مذهبه، وكان ذلك سبب هلاكه؛ فإن أهل العلم بالتجارب ذكروا أن من خواص الشافعي رحمه الله من بين الأئمة أن من تعرض إليه أو إلى أهل مذهبه بسوء أو تنقيص هلك قريبًا، وأخذوا ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أهان قريشًا أهانه الله" قالوا: وليس في الأئمة المتبوعين في الفروع قرشي غيره.
وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه".
وغير ذلك من الأحاديث وغيرها.
فلعل القفال رحمه الله أراد بهذا الباب خشية الوقوع في المحذور؛ وإلا فقد ذكر البغوي في الفتاوي التي جمعها عن شيخه القاضي الحسين: سئل عن شافعي حلف بالطلاق أن من صلى ولم يقرأ الفاتحة لم يسقط فرض الصلاة عنه، وحنفيًا حلف أنه يسقط.
فأجاب: نقول في هذه المسألة ما يقولون في شافعي اقتصد ولم يتوضأ وصلى ثم حلف بطلاق زوجته أن الفرض سقط عنه -كل ما يقولون هناك فنحن به هنا قائلون- وإلا فالاعتقاد أن يحكم بوقوع الطلاق على زوجة الحنفي "انتهى".
وقوله: يقولون في هذه المسألة ما يقولون في كذا "هو نظير قول القفال ثم أفصح آخر بالمعتقد".
مسألة:
مسلم قال: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق.
الجواب: وقعت هذه لهارون الرشيد.
فاحتجبت عنه زوجته فاستفتت علماء عصره؛ فقالوا: لا يقع الطلاق عليك فأبت(2/328)
زوجته أن تسمع إلا فتيا الليث بن سعد؛ فاستحضره من مصر إلى العراق، فقال: يا أمير المؤمنين: هل هممت بمعصة فذكرت الله وختفه وتركتها؟ قال: نعم فقال يا أمير المؤمنين: ليس لك جنة واحدة؛ بل جنتان قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 1.
والمسألة مشار إليها في شرح الرافعي؛ إذ في فروع الطلاق أنها لو قالت لزوجها أنت من أهل النار فقال: إن كنت من أهل النار فأنت طالق لم يحكم بوقوع الطلاق إن كان الزوج مسلمًا؛ لأنه من أهل الجنة ظاهرًا.
مسألة:
وقع حجر من سطح فقال الزوج: إن لم تخبريني الساعة من رماه فأنت طالق وهي لا تدري من رماه، كيف الخلاص؟
الجواب: قال القاضي الحسين: تقول: رماه مخلوق ولا تطلق قال: فإن قالت: رماه آدمي طلقت لجواز أن يكون رماه كلب أو ريح كذا نقله في الرافعي.
قلت: وقد لا يكون رماه مخلوق بل وقع بنفسه. بإرادة الله تعالى: فينبغي أن يقال: لا يتخلص إلا إذا قالت رماه الله، ولا يمنتنع إطلاق هذا اللفظ قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ولعل وقوعه بمجرد الإرادة القديمة بإذنه؛ فلم تحمل عليه الأحكام.
ثم أقول: ينبغي أن لا يخلص بكل تقدير إلا إذا لم يقصد التعيين والتعريف؛ فقد قال الأصحاب فيما إذا قال: إن لم تخبريني بعدد حبات هذه الرمانة فأنت طالق: أنها تتخلص بأن تبتدئ من عدد مستيقن أن الحبات لا تنقص عنه، وتذكر الأعداد بعدة متوالية بأن تقول: وواحدة هكذا إلى أن تنتهي إلى عدد تستيقن أن الحال لا يزيد عليه -فتكون مخبرة عن ذلك العدد.
ثم قالوا: وهذا إذا لم يقصد التعيين والتعريف؛ وإلا فلا يحصل.
ثم أقول: كل هذا بناء على الخبر شرطه الصدق، وليس كذلك فالخبر ينقسم إلى صدق وكذب؛ فلم لا يكتفي بقولها: رماه فلان -وإن كانت كاذبة كما قال الأصحاب في "من أخبرني بقدوم فلان فهي طالق وأخبرته وهي كاذبة تطلق" ذكره في التنبيه وغيره.
فإن قيل: المقصود التعيين والتعريف ومع الكذب لا يتأتى.
__________
1 سورة الأنفال "18".(2/329)
قلنا: ينبغي أن لا يلتقي بمثل: "رماه مخولق" كما ذكرناه.
إيفاء جميع ما ذكرنا "يجري فيما إذا قال إن لم تخبريني هل سرقت؟ فأنت طالق.
فإن أصحابنا قالوا: نقول سرقت ما سرقت، وهذا إذا لم يقصد التعيين والتعريف.
وحكى الصيمري في كتاب "أدب الفتيا" أن المنصور حلف على خادمه ليصدقنه عن حال جوهرة فقدها وإلا ضرب عنقه فاستفتى أبا حنيفة، فقال يخبره الخادم بأنه أخذها وبأنه ما أخذها فيكون قد صدق لا محالة.
قلت: قد يقال في هذا أنه صدق ولا يقال: أخبره ثم يستشكل ويقال الصدق أخص من الخبر فكيف يثبت الأخص ولا يثبت الأعم.
وحكى الصيمري أيضًا ان امرأة بدوية لقيها بعض فقهاء الشافعية فقالت: إن زوجي أسر إلى رجل من أهل الحي سرًا فأبداه إلي فأخبرته، فحلف أن أخبره بالذي أخبرني، فعلمت أني إن أخبرته بذلك قلته، فجمعت أهل الحي عن آخرهم - والذي أخبرني في جملتهم- فقلت: أخبرني هذا أخبرني هذا حتى أتين على جميعهم، أيخرج من يمينه؟ فقال: لها نعم.
ومثله حكي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل وزوجته أكلا رطبًا وألقيا النوى في طست بحضرتهما، ثم حلف بالطلاق لتخبرنه بعدد ما أكل من الرطب، قال: فالمخرج من ذلك أن تقول: أكلت رطبة، أكلت رطبتين، وهكذا إلى أن تنتهي إلى القطع بالعدد المأكول.
قلت: وكل هذا ذكره أصحابنا، والأمر فيه على ما وصفت، وبه يتضح تقييد كلام الجدليين؛ حيث قالوا -ومنهم الرقاني في تهذيب اسم الجدل في باب المغالطات:
"إن الرجل إذا قال لزوجته التي خرجت] لغرض فاسد:
إن لم تصدقيني في الخبر عما خرجت إليه فأنت طالق، فتقول الزوجة: ما هذا التشديد وسوء الظن! ومن أين لك التحكم علي مع تقصيرك في حقي! خرجت للزنا وزيارة الشباب ومعاشرة المفسدين سآمة1 منك وفرارًا عنك؟! ما هذه التهمة وعلى ماذا خرجت! إن خرجت إلا لزيارة أخت لي.
__________
1 في "ب" متضايقة.(2/330)
قالوا: فلا يقع طلاق، لأنها أخبرته بما خرجت إليه من الزنا، وصدقته وإن أوهمته بدلالة اللسان وكثرة التشعيث أنها إنما خرجت لزيارة أخت لها؛ فهذه من حيل النساء.
لكن إذا كان القصد التعيين والتعريف فأقول: لا ينجيها هذا. والله أعلم.
مسألة:
إذا قال: له علي اثنا عشر درهمًا ودانقًا -بالنصب في دانق- ما يلزمه؟ وما الذي يلزمه عند الرفع والخفض؟
الجواب: "قال صاحب التتتمة: يلزمه بالرفع والخفض اثنا عشر درهمًا وزيادة دانق واحد، ويكون الدانق معروفًا على الاثني عشر".
قلت: والعطف في الخفض غير متضح إلا أنه يغتفر اللحن.
قال: "وفي النصب إذا فسر كلامه بثمانية إلا دانقًا يقبل تفسيره ولا يلزمه الزيادة.
قال: وإنما قلنا ذلك؛ لأن قوله: ودانقًا يجوز أن يكون عطفًا وأن يكون تفسيرًا؛ فإذا كان عطفًا اقتضى وجوب زيادة على الانثي عشر من الدراهم والدوانيق، وغاية ما ينطلق عليه اسم الدوانيق خمسة؛ لأن ما زاد عليه يسمى درهمًان فيجعل خمسة من العدد دوانيق ويبقى سبعة دراهم، فيكون المبلغ ثمانية إلا دانقًا، فهذا التقرير يقين، وما زاد مشكوك فلا يلزمه بالشك شيء" انتهى.
وقوله: "إن ما زاد على خمسة دوانيق يسمى درهمًا" يعني في العرف ستة دوانيق بكل درهم هذا شأن لغة العرب لأن درهمًا أخصر من قولك: ستة دوانيق، والاختصار مع البيان شأن العرب.
قلت: ويؤيد هذا قول أصحابنا: لو باع بنصف وثلث وسدس دينار لم يلزمه دينار صحيح، بل له دفع شق من كل وزن؛ فهذا ما وجدته -من كلام الأصحاب- مؤيدًا لصاحب التتمة وإن كان الوالد رحمه الله ذكر في "شرح المنهاج" في مسألة البيع: إن هذا إذا صرح بالدينار المضاف في الجميع أما إذا حذفه كما في الصورة المذكورة فيلزمه دينار.
قلت: وهذا وإن خالف إطلاق الأصحاب يشهد له نظيره من الطلاق إذا قال: أنت طالق نصف وثلث طلقة لا يقع إلا طلقة واحدة، ولو كرر لفظ طلقة تكرر لفظ الطلاق على الأصح.(2/331)
مسألة:
إذا قال: قارضتك على أن لك سدس تسع عشر الريح هل يصح؟
الجواب: إن كان حيسويًا يفهم معناه في الحال [صح] 1.
وكذا إن لم يكن في الأصح؛ لأنه معلوم من الصيغة يسهل الاطلاع عليه وهو جزء من خمسمائة وأربعين جزوءًا قال الماوردي في "الحاوي": "غير أنا نستحب لهما أن لا يعدلا عن هذه العبارة الغامضة إلى ما يعرف عن البديهة من أول وهلة، لأن هذه العبارة قد توضع2 للإخفاء والإغماض.
قال الشاعر:
لك الثلثان من قلبي ... وثلثا ثلثه الباقي
وثلثا ثلث ما يبقى ... وثلث الثلث للساقي
ويبقى أسهم ستة ... فتقسم بين عشاقي
فانظر إلى هذا الشاعر وبلاغته وتحسين عبارته، كيف أغمض كلامه، وقسم قلبه، وجعله مجزأ على أحد وثمانين جزءًا -هي مضروب ثلاثة في ثلاثة ليصح منها مخرج ثلث الثلث، فجعل لمن خاطبه أربعة وسبعين جزءًا من قلبه، وجعل للساقي جزءًا، وبقي ستة أجزاء ففرقها فيمن يجب.
وليس للإغماض فيعقود المعاوضات [وجه] 3 يرضي ولا حال يستحب؛ غير أن العقد لا يخرج عنه به عن حكم الصحة إلى الفساد، ولا عن حال الجواز إلى المنع، لأنه قد يؤول منهما إلى العلم، ولا يجهل عند الحكم".
انتهى كلام الماوردي وقوله: "جزأ قلبه على أحد وثمانين جزءًا" وجهه ظاهر، وقد أعطاه في الأول ستة وخمسين -وهي ثلثا القدر المذكور ثم ثلثي الثلث الثالث الباقي للساقي، وستة مقسومة.
وقوله: ليس [في الأغماض] 4 في المعاوضات حال يرضي -فممنوع؛ فقد يقصد المتعاقدان إخفاء ما يتعاقدان عليه عن سامعه لغرض ما. ونظير هذه الأبيات ما كان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ينشده فيقول:
أنت خلاف بخلاف الذي ... فيه خلاف بخلاف الجميل
__________
1 في "ب" يصح.
2 في "ب" توضح.
3 سقط من "ب".
4 في "ب" للإغماض.(2/332)
وغير ما أنت سوى غيره غيـ ... ـر سوى غيرك غير البخيل
مسألة:
رجل فاتته صلاة يومين وليلتين فصلى عشر صلوات -واحدة بعد أخرى- على ترتيب الخمس؛ فلما فرغ من جميعها قال: أعلم أني تركت سجدة من إحدى هذه الصلوات، [فلا] 2 أدري من أبيها، وقد وقع بين كلا صلاتين [منهما] 3 فصل طويل؟
الجواب: قيل يلزمه إعادة يوم وليلة.
قال أبو عبد الله القطان في "المطارحات": "والصحيح أنه يلزمه إعادة صلاة واحدة من هذه العشر -أيها شاء- فإذا أعادها سقطت البواقي، وهذا؛ لأن الصحيح أن من شك -بعد الفراغ من الصلاة- في ترك شيء منها لا يلزمه إعادته ما لم يتيقن وجوب الإعادة؛ فإذا أعاد صلاة واحدة صار شاكًا في وجوب إعادة البواقي إذا السجدة المتروكة [سجدة] 4 واحدة ويستحيل أن يكون تركها من صلاتين أو ثلاث صلوات فوجب إعادة واحدة بيقين فإذا أعادها دخل الشك في وجوب البواقي فلم يجب ويفارق هذا تارك واحدة من الخمس، فلا يكفي الاقتصار على واحدة، بل يلزمه الخمس؛ لأنه إذا صلى واحدة احتمل أن يكون المتروك غيرها؛ فلا بد له من الخمس صلوات حتى يستيقن استدراك المتروكة منها؛ لأنه يشك في الفعل، والأصل أنه لم يفعل، فعليه فعلها، وهذا الشك واقع في كل صلاة فاحتاج إلى إزالة الشك باليقين، وذلك لا يكون إلا بفعلها، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الشك في وجوب إعادة ما قد فعل لا في ابتداء الفعل.
وقد فرق5 الشافعي رضي الله عنه بين الشك في الفعل والشك بعده، فلم يوجب إعادة المفعول بعد الشك.
ووجه الفرق أن أحدهما يؤدي إلى المشقة -وهو الشك بعد الفعل- فإن المصلي لو كلف أن يكون ذاكرًا لما صلى تعذر ذلك عليه ولم يطقه أحد من الناس، وإن لم يقع بين الصلوات إلا فعل يسير، فعلى الوجه الأول يلزمه إعادة صلوات يوم وليلة، وعلى الثاني يلزمه إعادة صلاتين متواليتين -فإما أن يعيد الفجر والظهر أو الظهر والعصر أو العصر والمغرب أو المغرب والعشاء -
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" ولا.
3 في "ب" منها.
4 زيادة في "ب".
5 زيادة في "ب" الإمام.(2/333)
لأنه إذا لم يفصل بين الصلاتين المتواليتين فصلًا طويلًا فإحرامه [بالثانية] 1 لا يصح صرفه إلى الأولى؛ لأنه قد غير النية إلى صلاة أخرى، وما يفعله بنية الظهر لا ينوب عن الفجر؛ فلهذا أوجبنا عليه إعادة صلاتين متواليتين، ثم لا [نوجب] 2 عليه إعادة البواقي من هذه الصلوات؛ لأنه على غير يقين من وجوب الإعادة.
قلت: وهذا الذي ذكره ابن القطان حسن، وحاصله: الفرق بين الشك بعد الفعل والشك فيالفعل.
مسألة:
سئل بعض المتقدمين بهذين البيتين:
أتعرف من قد باع في مهر أمه ... أباه فوفاها بحق صداقها
وكانت قديمًا أشهدت كل من رأت ... بأن أباها قد أبت طلاقها
فأجاب:
إذا أنت عقدت المسائل ملغزًا ... أتتك جوابات [تحل] 3 وثاقها
تزوج عبد حرة أنجبت هل ... فتى وأبوه قد أبان فراقها
فأنكحها مولاه من بعد رغبة ... لما قد رأى فيها وأساء صداقها
فوكلت ابن العبد في قبض مهرها ... وفلس مولاه وأبدى اعتياقها
فباع الغلام العبد بالحكم إذا رأى ... هوى أمه فيبيعه واعتياقها
وشرحه:
أن امرأة "حرة" تزوجت عبدًا أولدها ابنًا ثم طلقها، فنكحها مولاه بصداق مسمى؛ فوكلت ابنها من العبد في قبض مهرها من المولى، وفلس المولى، وبيع العبد في الواجب لها من مهر المثل، فوكلت ابنها في بيعه لاستيفاء صداقها. كذا صور هذا الناظم، ولا يحتاج إلى توسط الفلس؛ بل لو عوض الزوج الزوجة العبد الذي كان زوجًا لها -جاز؛ ثم إن لها أن توكل ابنه هو ابنها منه ببيعه.
مسألة:
رجل مات عن زوجة فلم ترثه بغير مانع من الموانع المذكورة في الإرث.
الجواب: صور بعض المتقدمين هذا فيمن أعتق أمته في مرض موته ثم تزوجها
__________
1 في "ب" بالثالثة.
2 في "ب" يجب.
3 في "ب" على.(2/334)
وكانت ثلث ماله عند موته؛ فليس لها طلب المهر؛ لأنه يوجب رد عتقها، فإن عتقها وصية لها، فلا ميراث لها ولا صداق، فطلب المهر يؤدي إلى إبطال المهر.
قلت: ولا يحتاج إلى التقييد بكونها ثلث ماله، فإنها لا ترث وإن خرجت من الثلث -كما صرح به الأصحاب في كتاب النكاح في مسائل الدور- وقالوا: لأن عتقها وصية، والوصية والإرث لا يجتمعان، وإنما نحتاج إلى التقييد بالثلث بالنسبة إلى نفوذ العتق وثبوت المهر.
مسألة:
روى الخطيب في ترجمة الكسائي من تاريخ بغداد أنه كتب إلى محمد بن الحسن.
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تحرقي يا هند فالحرق أشأم
وأنت طلاق والطلاق عزيمة ... ثلاث ومن يحرق أحق وأظلم
وبعض الناس يحكي أن هارون [الرشيد] 1 كتب إلى القاضي أبي يوسف بهذين البيتين وسأله -ماذا يلزمه إذا رفع ثلاثًا، وما يلزمه إذا نصب- وأن أبا يوسف سأل الكسائي فقال: يلزمه بالرفع واحدة، لأنه قال: أنت طالق، ثم أخبر أن الطلاق التام [ثلاث] 2، وبالنصب ثلاث؛ لأن معناه: أنت طالق ثلاثًا. وما بينهما جملة معترضة" وقد اعترض على الكسائي بأنه لا يتعين على النصب وقوع الثلاث؛ لجواز أن يكون "ثلاثًا" حالًا من الضمير المستتر في عزيمة إذا كان ثلاثًا.
ولا على الرفع الاقتصار على واحدة؛ بل يحتمل وقوع الثلاث وجعل "ألـ" في قوله: "والطلاق للعهد" -أي وهذا الطلاق المذكور عزيمة.
قلت: قال شيخنا أخي الإمام شيخ الإسلام الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد السبكي أطال الله عمره في شرحه لعى التلخيص: "بل هذا هو الظاهر؛ لكون النكرة أعيدت معرفة فتكون هي الأولى كما قرره علماء البيان، ويؤيده أن الشاعر إنما أراد الثلاث؛ لقوله -بعد.
فبيني بها إن كنت غير رقيقة ... وما لام بعد الثلاث مقدم
__________
1 سقط من "ب".
2 في "ب" ثلث.(2/335)
قلت: الصحيح أن قوله: "أنت طالق" كناية؛ فلا يقع واحدة ولا أكثر -سواء رفع ثلاثًا أم نصب- إلا بالنية، ومع النية لا يحتاج البحث عن النصب والرفع.
مسألة:
رجل خرج إلى السوق وترك امرأته في البيت ثم رجع فوجد عندها رجلًا فقال: من هذا؟
قالت: هذا زوجي، وأنت عبدي، وقد بعتك له.
الجواب: هذا عبد زوجه سيده بابنته ودخل العبد بها ثم مات السيد ووقعت الفرقة لأنها ملكت زوجها بالإرث، وإذا ملكت المرأة زوجها انفسخ النكاح، ثم أنها كانت حاملًا فولدت فانقضت العدة، فتزوجت وباعت ذلك الزوج؛ لأنه صار عبدها.
مسألة:
ثلاثة تداعوا وتساووا في الحجة، فقبلت حجة أحدهم وأسقطت الحجتان، وحصل لأحد اللذين سقطت حجتهما مقصوده الذي كان يدعي به، ولما حصل من قبلت حجته على مقصوده بل على ضده.
الجواب: هؤلاء رجلان وامرأة ادعى أحد الرجلين أن المرأة مملوكته، وادعى الآخر أنها زوجته، وادعت هي أنهما عبداها، وأقام كل ببينته.
[فمدعي] 1 الزوجية يكون مملوكًا لها وتسقط البينتان؛ لأن بينة المرأة مع بينة مدعي الملك. متنافيان فسقطا. والذي ادعى التزويج بينته لا تنافي بينة المرأة إلا أن النكاح يبطل؛ لأن الملك يبطل التزويج إذا تقدمه التزويج وبعد الملك لا يصح التزويج.
فإن قلت: كيف صورة المسألة؟
قلت: صورتها أن حرًا تزوج بأمة فيولدها بنتًا تكون مملوكة لمالك أمها، ثم يشتري الرجل عبدين ويأذن لهما في التجارة والتزوج، ويقول من يشتري منكما ابنتي فهو [حر] 2 فجاء أحد العبدين ببنت مولاه ولم يعلم أنها ابنته، وجاء الآخر فاشتراها ولم يعلم أنها ابنته، ومات أبوها وعلمت بموته، وبأن زوجها وسيدها [عبدان لأبيها] 3 وقد ورثتهما، ولم يعلم العبدان بذلك، فقد عتقت البنت بنفس الشراء، وعتق مشتريها أيضًا
__________
1 في "ب" لمدعي.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" لأبيها عبدان.(2/336)
وبقي زوجها مملوكًا لها، فادعت المرأة ملكها وشهد لها بذلك شاهدان وأتى أحد العبدين بشاهدين أن اشتراها، والعبد الآخر بشاهدين أنه تزوجها، فالشهود كلهم صادقون في شهادتهم وتلخيص ما ذكرناه....................1
مسألة:
امرأة لها زوجان ويجوز أن تتزوج بثالث؟
الجواب: هذه امرأة لها عبد وجارية زوجت أحدهما بالآخر، ويجوز أن تتزوج هي ويكون زواجها ثالثًا.
وقريب من هذه المسألة: أخوان لأب وأم حران مسلمان ورث أحدهما مال المتوفي [من] 2 دون الآخر.
الجواب: هذا رجل مات عن أب وعم، فالمال للأب ولا شيء للعم والأب والعم أخوان.
مسألة:
رجل مات بالمغرب فوجب على آخر بالمشرق صلاة غير سنين.
الجواب: هذه أم ولد كانت تصلي مكشوفة الرأس فتوفي مستولدها ولم تعلم بموته عشر حجج، وكذا لو كانت أمة وعلق عتقها ولم يبلغها إلا بعد صلوات كثيرة صلتها وهي مكشوفة الرأس.
مسألة:
رجل جرح جرحًا واحدًا فضمنه، فجرح ثانيًا فضمنه، فجرح ثالثًا فسقط أحد الضمانين ولم يجب في الثلاثة إلا ضمان واحد.
الجواب: هذا رجل أوضح رأس رجل فوجب عليه خمس من الإبل وأوضحه ثانيًا فصار الواجب عشرة ثم رفع الحاجز بينهما قبل الاندمال [فيعود الوجوب] 3 إلى خمسة ولا يجب أكثر منها.
مسألة:
رجل نظر إلى امرأة أول النهار حرمت عليه ثم حلت له ضحوة، وحرمت الظهر، وحلت العصر، وحرمت المغرب، وحلت العشاء، وحرمت الفجر وحلت ضحوة، وحرمت الظهر ثم حلت العصر، ثم حرمت المغرب ثم حرمت مؤبدة.
الجواب: هذا رجل نظر إلى أمة غيره وقلنا بتحريم النظر، واشتراها ضحوة
__________
1 بياض.
2 سقط من "ب".
3 في "ب" يعود الوجد.(2/337)
فأسقط الاستبراء لحيلة حلت له، وأعتقها الظهر، وتزوجها العصر وظاهر منها المغرب، وكفر العشاء، وطلقها عند الفجر، وراجعها ضحوة وارتدت الظهر، وأسلمت العصر، ولاعنها المغرب.
مسألة:
رجل يجوز أي يصلي إمامًا ومنفردًا لا مأمومًا.
الجواب: هذا رجل أعمى أصم لا يدرك انتقالات الإمام.
مسألة:
في أي صورة يضمن الشيء بالمثل والقيمة معًا.
الجواب: هذا في الصيد إذا اشتراه المحرم فهلك في يده؛ فإنه يلزمه الجزاء [لله] 1، والقيمة للبائع، لكن المعنى بالمثل الصوري لا مقابل القيمة فلمنازع أن يشاحح فيه. وقد يضمن الشيء بقيمته ونصف قيمته في مسألة جناية العبد المغصوب والجناية عليه في فرع ابن الحداد المشهور.
مسألة:
امرأة طلقها زوجها فوجبت عليها أربع عدد.
الجواب: هذه أمة صغيرة تحت حر طلقها فعليها الاعتداد بشهر ونصف؛ فلما دنت مدة انقضاء العدة بلغت بالحيض فانتقلت [في] 2 الحيض، فلما قرب فراغها مات عنها فانتقلت إلى عدة الوفاة.
مسألة:
رجل إذا احتوى على المسروق لم يقطع وإن لم يحتو عليه قطع.
الجواب: هذا سارق دخل دارًا محرزة فابتلع جوهرة أو دينارًا وخرج، فالأصح أنها إن خرجت منه بعد ذلك قطع وإلا فلا.
مسألة:
خمسة عشر ذكورًا ورثوا مال ميت بالنسب [خمسة منهم ورثوا نصفه، وخمسة ورثوا ثلثه وخمسة سدسه] 3.
الجواب: هذه المسألة سئل عنها الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقال: "هؤلاء خمسة منهم أولاد عم الميت ليسوا بإخوة لأم، وخمسة إخوة لأم ليسوا أولاد عم
__________
1 سقط لفظ الجلالة. من "ب".
2 في "ب" إلى.
3 في "ب" "خمسة منهم ورثوا ثلثه وخمسة ورثوا سدسه".(2/338)
وخمسة أولاد عم وإخوة لأم هم أولاد عم فعشرة من الجملة إخوة لأم لهم الثلث -لكل خمسة سدس -فهو للخمسة الإخوة الذين ليسوا بأولاد عم ليس لهم غيره، [وبقي] 1 سدس لاخوة الأم الذين هم أولاد عم، والثلثان لأولاد العم وهم عشرة لكل خمسة ثلث، فلإخوة الأم الذين هم أولاد عم ثلث، ولهم سدس بكونهم إخوة لأم صار المجموع نصفًا"، ولأولاد العم الخلص الثلث.
مسألة:
أي نجس يتنجس؟
الجواب: إذا وقعت في الخمر نجاسة -عظم ميتة ونحوها؛ فإنها تنجسه ويظهر أثره ذلك فيما إذا خرجت منها ثم انقلبت خلًا، فلا تطهر بانقلابها -ذكره صاحب التتمة في باب الاستطابة- ونقل عنه النووي موافقًا له في رؤوس المسائل.
ونظيره إذا ولغ الكلب في إناء متنجس بالبول فلا يطهر -وإن زالت نجاسة البول حتى [يعفر] 2 لأجل الولوغ، وكذلك إذا استنجى بروث فيتعين استعمال الماء.
ولك بعد اللغز أن تقول: أي طاهر [يتطهر] 3 وذلك في المستعمل إذا ضم إلى مثله فبلغ قلتين فإنه يعود طهورًا في الأصح، وإن كوثر بالطهور صار طهورًا قطعًا؛ فقد يقال هذا طاهر يطهر بهذا المعنى.
مسألة:
شيئان في الصلاة أحدهما يشترط ستره من أعلى لا من أسفل والثاني يشترط استره من أسفل لا من [أعلى] 4.
الجواب: قال أصحابنا يشترط في ستر العورة في الصلاة الستر من [أعلى] 5. ومن الجوانب ولا يشترط الستر من أسفل، فتصبح صلاة من لا سراويل عليه وثوبه قصير".
وقالوا في الخف "يشترط ستر أسفل القدم وجوانبه ولا يشترط من أعلى حتى إذا ستر كل الفرض وكان يرى ظهر القدم من أعلى الخف فيصح المسح عليه خلافًا لنصر المقدسي حيث شرط في تهذيبه ستره من [أعلى] 6 أيضًا.
__________
1 في "ب" بقي.
2 في "ب" بغيره.
3 في "ب" يطهر.
4 في "ب" الأعلى.
5 في "ب" أعلاه.
6 في "ب" أعلاه.(2/339)
مسألة:
ما هو ألف قلة وهو نجس من غير أن يتغير بنجاسة.
الجواب: صور الرافعي هذا في ماء الأنهار المعتدلة إذا بلغ قلتين في الطول ووقعت فيه نجاسة فالأصح -وبه قال ابن سريج- أنه نجس وإن امتدت الجداول فراسخ، لأن أجزاء الماء الجاري متفاضلة، فكل جرية هاربة عما قبلها طالبة [لما بعدها] 1، فلا يتقوى البعض منها بالبعض، وهذا هو القول الجديد.
ولو كان جري الماء أقوى من جري النجاسة فهو كالنجاسة الواقعة أيضًا قاله الغزالي في كتاب عقود المختصر.
مسألة:
شيء إن وقع كله على شخص ضمن بعضه، وإن وقع بعضه ضمن كله.
الجواب: هذا في الميزاب فإن الخارج منه إذا وقع على شخص فقتله وجبت الدية بتمامها وإن وقع الجميع لم يجب إلا النصف على الصحيح.
مسألة:
في أي موضع [يزيد] 2 البعض عن الكل؟
الجواب: قال الشيخ صدر الدين بن [المرحل] 3: "لا يكون ذلك إلا في مسألة واحدة، وهي إذا قال: أنت علي كظهر أمي كان صريحًا ولم يدين، ولو قال: كأمي لم يكن صريحًا ويدين.
قلت: بل يكون في مسائل آخر كثيرة.
منها مسألة الميزاب -هذه التي قدماها.
ومنها: من له جدار في درب غير نافذ -له رفعه بالكلية وليس له فتح باب فيه.
ومنها: على القديم -المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديته ثم إن زادت صارت على النصف؛ ففي أصبعين عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة عشرون.
وقد يقال في هذا وفي مسألة الظهار أنهما ليستا من باب زيادة البعض على الكل بل من باب زيادة القليل على الكثير، وهو أيضًا [لغز] 4، ونظير قول القديم في العقل
__________
1 في "ب" إلى بعد.
2 في "ب" يرد.
3 في "ب" الرحال.
4 في "ب" لغو.(2/340)
قول البغوي من أصحابنا: أنه لا يجزئ تبيعان في الزكاة عن أربعين مع أنهما يحزئان عن ستين وخالفه الأصحاب.
مسألة:
رجل ترك صلاة واحدة من الخمس ونسي عينها فأعاد الخمس ثم قال: أني أتيقن أني تركت سجدة واحدة من هذه الخمس ولا أدري من أيها الجواب: لا شيء عليه لأن الواجب عليه بالأصالة صلاة واحدة غير أنه لم يصل إليها إلا بالخمس فألزم بها؛ فإذا صلاها واحتمل أن تكون السجدة المتروكة من إحدى الصلوات التي لم تكن واجبة عليه في الأصل فقد دخل الشك في وجوب إعادة ما قد فعله مرة؛ فلا [تلزمه] 1 الإعادة بالشك.
مسألة:
رجلان ثبتت عدالتهما ثم شهدا لأجنبي بدين من غير أن يجرأ لأنفسهما نفعًا أو يدفعا ضررًا، وردت شهادتهما، كيف يتصور ذلك؟.
الجواب: هذان عبدان أعتقهما سيدهما في مرض موته فأخرجها من الثلث، ثم ادعى رجل على الميت دينًا يستغرق جميع التركة، فشهدا له فلا تقبل [شهادتهما] 2 للدور، فإذًا لو قبلناها ثبت الدين، ولو ثبت لم يثبت عتقهما، ولو لم يثبت لم تصح شهادتهما.
مسألة:
رجل قتل آخر [ظملًا] 3، ولم يجب عليه قصاص ولا دية، بل يستحق جميع ما في يد المقتول.
الجواب: هذا سيد قتل مكاتبه فبطلت الكتابة، ويستحق جميع ما في يده ملكًا لا إرثًا، ولا يقاد به، ولا دية عليه.
مسألة:
عبد تزوج أمة غيره بإذن سيدها نكاحًا صحيحًا -مع علمه بأنها أمة- فولدت أولدًا أحرارًا.
الجواب: هذا رجل ابنه مملوك لآخر، فزوج أمته لأبنه بإذن سيده؛ فإذا ولدت كان ولدها حرًا، لأنه [يعتق] 4 على جده بالملك وإن شئت ألغزتها على آخر فتقول: عبد تزوج أمه غيره ولا تلد ولدًا منه في حياة سيدها إلا وهو حر، ولا تلد ولدًا تحبل به بعد موت سيدها إلا وهو عبد.
__________
1 في "ب" يلزم.
2 في "ب: شهادتها.
3 سقط من "ب".
4 غير واضحة في "ب".(2/341)
ونجيب: بأنه رجل زوج أمته بابنه وهو عبد لغيره؛ فإذا مات السيد يرث ابن عمه ففي حياته يعتق ولدها، لأنه ولد ابنه، وبعد موته يصير ملكًا لابن عمه فلا يعتق عليه ولدها.
مسألة:
ماء إن يصح الوضوء بكل منهما منفردًا، ولا يصح بهما مختلطين.
الجواب: هذا يتصور في المتغير المخالط الذي لا يستغني الماء عنه -كالطحلب المتفتت والنورة وغيرهما مما في مقر الماء و [ممره] 1 -فإنه يجوز استعماله لعدم إمكان الاحتراز منه فإذا صب على ما لا تغير فيه بالكلية فتغير فيعترض لأنه تغير بما يمكن الاحتراز منه [وهو] 2 الخليط ذكره ابن أبي الصيف اليمني من أصحابنا وهو واضح.
مسألة:
جماد يملك ما هو؟ وهذا سؤال كان الشيخ زين الدين بن الكناني يمتحن [الطلبة] 3.
الجواب: هو النطفة؛ ألا ترى أن الكافر إذا مات عن زوجة حامل ووقفنا الميراث للحمل فأسلمت ثم ولدت يرث الولد وإن كان محكومًا بإسلامه لأنه كان محكومًا بكفره يوم الموت وملك إذا ذاك، ولولا ذلك لما ورث، إذا كان يلزم أن يرث مسلم من كافر، ولا يرث مسلم كافرًا، كما لا يرث كافر مسلمًا.
مسألة:
صلاة [مفروضة] 4 وقعت في السفر بالتيمم لغلبة عدم الماء ثم تجب إعادتها عند القدرة.
الجواب: هذا يتصور في سفر الميت، إذا يمم وصلي عليه ثم وجد الماء؛ فقد قال البغوي في الفتاوي: "أنه يجب غسله والصلاة عليه".
قال: "ويحتمل أن لا يجب".
قلت: وبهذا الاحتمال جزم ابن سراقة في [التلقين] 5.
قلت: محل الجواب عند القول به ما قبل إدراج الميت إذ لا يتجه بعده ولعل هذا موضع قول من أوجب ومحل من لم يوجب ما بعد الإدراج.
مسألة:
امرأة لها ولد من ماء زوجها، وهي فراشه [ثم] 6 لا يثبت نسبه.
__________
1 في "ب" ممرها.
2 في "ب" فهو.
3 في "ب" الطلبة به.
4 في "ب" المفروضة.
5 في "ب" القلتين.
6 سقط من "ب".(2/)
خاتمة:
تشتمل على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
في رجل قال لامرأته: إن لم يكن ما في هذا الدرس متضمنًا حقًا فأنت طالق، فقالت: إن كان ما هو متضمنًا حقًا فعبدي حر فهل تطلق امرأته أو يعتق عبدها؟
الجواب: لا تطلق امرأته. ولا يعتق عبدها، وكان -في لفظهما للأمر والشأن، "وما" نافية حجازية نصب "متضمنًا"، "فمتضمنًا" منصوب بما لا بأنه خبر كان، والجملة في موضع نصب على أنها خبر كان، و"حقًا معمول "متضمنًا".
وتقدير كلام الزوج: إن لم يكن الأمر والشأن ليس متضمنًا حقًا هذا المجموع فالمعنى: إن لم يكن فيه حق فأنت طالق، ولا شك أن فيه حقًا فلا تطلق لأن طلاقها معلق على أنه لا يكون فيه حق لأن حرف السلب وهو لم إذا سلط على سلب وهو لا فيه حق كأنه للإثبات؛ لأن نفي النفي إثبات؛ فكأنه قال: إن انتفى عنه الحق فأنت طالق، والحق [لم] 1 ينتف عنه فلا تطلق، وهي قالت: إن كان [الشأن] 2 ليس فيه حق فعبدي حر، وهو لم يكن كذلك لاشتماله على حق فلا يعتق لأن المعلق عليه -وهو أن [موجد] 3 هذا المجموع لا حق فيه غير موجود.
المسألة الثانية:
فلو قال: إن لم يكن ما هو مضمون هذا الدرس الحق فأنت طالق؛ فقالت: إن كان ما هو مضمون هذا الدرس الحق فعبدي حر كيف الحال؟
__________
1 في "ب" أمر.
2 في "ب": الثاني.
3 في "ب" هو حق.(2/383)
الجواب: تطلق امرأته ولا يعتق عبدها، وهذا لأن "كان" ناقصة، و"ما" موصولة، و"الحق" معرف بالألف والسلام المقتضية للاستغراق منصوب على أنه خبر كان، والمعنى: إن لم يكن الذي في هذا المجموع هو الحق بل بعض الحق وبعض الشيء غيره؛ فتطلق لوجود الصفة، وهي أنه ليس كل الحق -فهو كما قال الشافعي رضي الله عنه في رجل قال لزوجته- وفي فمها لقمة إن بلعتيها فأنت طالق وإن أخرجتيها فأنت طالق، قال: تبلغ بعضها ولا [تكون] 1 بلعتها.
وأما عبدها فلا يعتق؛ لأن الذي في الدرس ليس الحق بتمامه بل بعضه؛ إذ من الحق كثير ليس فيه فلم توجد الصفة فلا يعتق.
وهذا في القسمين إن جعلنا الألف واللام في "الحق" للاستغراق ولاحظنا قاعدة حصر المبتدأ في الخبر؛ فإن جعلناها جنسية أو أراد الزوجان الجنس انعكس الحال -فيعتق عبدها ولا تطلق امرأته.
المسألة الثالثة:
جميع ما قلته في هذا الدرس صواب، ولا أقول جميع الصواب فيما قلته، وإنما قلنا: جميع [ما قلناه] 2 في هذا الدرس صواب؛ لأنه [إن] 3 لم يكن صوابًا [فإما] 4 أن يكون كله خطأ أو بعضه خطأ [أو بعضه] 5 صواب.
فالبعض الذي هو خطأ إما أن يتميز عن البعض الذي هو صواب أو لا يتميز، والمتميز إما أن يكون متميزًا في نفسه غير منظور فيه إلى الغير، وإما أن يكون متميزًا في نفسه منبه فيه على أن غيره على الضد منه.
فهذه أقسام سبعة6 أن يكون كله صوابًا، كله خطأ بعض منه يتميز عن البعض الآخر، صواب [منبه فيه على أن البعض الآخر خطأ بعض منه متميز عن البعض الآخر] 7، صواب مسكوت فيه عن البعض الآخر، بعض منه مجهول صواب والآخر خطأ، بعض منه مجهول صواب والآخر مسكوت، بعض مجهول خطأ والآخر مسكوت لكن إثبات الخطأ في كله خطأ للقطع باستعمال بعضه على الحق وإثبات الخطأ في
__________
1 في "ب" يكون.
2 في "ب": ما قلنا.
3 سقط في "ب".
4 في "ب": أما.
5 في "ب" وبعضه.
6 في "ب" زيادة: إما.
7 سقط في "ب".(2/384)
بعض مجهول خطأ؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره والمجهول غير متصور وإثبات الخطأ في بعض معين يستدعي معرفته، ولا بد من ذكره ليبحث عنه، "فما"1 لم يذكر لا يثبت ولا يسمع فلم [يبق] 2 إلا إثبات الصواب إما لكله أو لبعضه مع السكوت عن الآخر؛ فإن كان الأول حصل المدعي، وإن كان الثاني فنقول ذلك البعض المسكوت عن الحكم بكونه صوابًا أو خطأ؛ إما أن يكون [أقل] 3 من البعض المحكوم بكونه صوابًا أو مساويًا له أو أكثر، فإن كان أقل فإلحاق القليل بالكثير والفرد النادر بالأعم الأغلب طريق من طرق الصواب، فليحكم على الكل بأنه صواب إلحاقًا للمفرد النادر بالأعم الغالب، وإن كان مساويًا أو أكثر فنقول: لما احتمل هذا الخطأ والصواب مع ثبوت الصواب لما وراه فالحكم بأنه صواب أرجح من الحكم بأنه خطأ بوجوه [ثلاثة] 4.
أحدها: أن الحكم بأنه خطأ [لا مستند] 5 له ظاهر [والحكم بأنه صواب مستنده ظاهر وهو اشتراك الأبعاض فيما لكل منهما -والحكم الذي له مستند أقرب إلى الصواب من الحكم الذي] 6 لا مستند له يظهر.
والثاني: إن عدم ظهور الخطأ يوجب عدم الحكم به وعدم ظهور الصواب لا يوجب عدم الحكم بالصواب لأن الحكم به [يستند] 7 إلى أصل البراءة ولو ثبت الخطأ لكانه فتحًا لباب الملام، لكن استصحاب البراءة الأصلية يسد باب الملام ما لم يثبت بوجه شرعي فكان الحكم بالخطأ مرتفعًا.
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ" فإن المراد إما نفسه أو إثمه أو حكمه، لكن حكمه وإثمه ينتفيان في [موضع] 8 لا يمكن أن يحمل عليه نفسه أما موضع يمكن حمله فيه على ظاهر فلا ينتفيان، بل يتعين إبقاؤه على ظاهره إذ لا صارف له وهنا لم يتعين الخطأ، والأصل عدمه، فيثبت الصواب لثبوت ارتفاعه.
فتأمل هذه النكتة البديعة، وما قبلها من المسألتين ونكتة الآية وخرج بعد ذلك عليه ما تشاء؛ فقد فتح الباب ورفع الحجاب وإلى الله المرجع والمآب، وصلى الله على محمد وآله والأصحاب.
__________
1 في "ب" ما.
2 سقط في "ب".
3 في "ب" فأقل.
4 في "ب" ثلاث.
5 في "ب" المستند.
6 سقط في "ب".
7 في "ب" يستدل.
8 في "ب" مواضع.(2/385)
ولنختم هذا الكتاب بأدعية مأثورة وأذكار من السنة الشريفة مجموعة أنا جمعت كلًا من الأدعية والآثار وجهدت في استخراجها من كتب الأخبار حتى جمعت متفرقاتها على هذا الوجه الذي أبديه [فينبغي] 1 المحافظة عليه لمن خلا له وقت واجتمع عليه قلب وصفًا له سر.
فأقول: الحمد لله رب العالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحان ربي الأعلى الوهاب، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله، وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، الله الله ربي لا أشرك به شيئًا، الله الله ربي لا أشرك به شيئًا، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن ولي من الذل، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، مما أخاف وأحذر، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، سبحان الله العظيم وبحمده سبحان الله العظيم.
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم.
بسم الله الذي لا إليه إلا هو الحي الحليم، سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين، اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، في قبضتك، ناصيتي بيدك -ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم عظيم هو لك، أسألك بكل اسم عظيم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، اللهم إني أسألت بأني أشهد أنك الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحدً، اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت أحدًا صمدًا لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحد. اللهم إن أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم وباسمك العظيم الأعظم، وباسمك الكبير الأكبر، وباسمك الأعلى الأعز الأجل الأكرم، يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث يا حي يا قيوم.
__________
1 سقط في "ب".(2/386)
يا حي يا قيوم يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
يا محمد أتوجه بك إلى ربي في حاجتي، اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي تضمنته هاتان الآيتان {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} {الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ياذا الجلال والإكرام ياذا الجلال والإكرام ياذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين رب المستضعفين يا غياث المستغيثين يا إليه العالمين يا نور السماوات والأرض وياذا الجلال والإكرام، يا غوث المستغيثين ومنتهى رغبة الراغبين ومتنفس المكروبين ومفرح المغمومين وصريخ المستصرخين ومجيب دعوة المضطرين كاشف كل سوء، ياذا المعروف الذي لا ينقطع أبدًا ولا يحصيه غيرك يا شاهدًا غير غائب، ويا قريبًا غير بعيد ويا غالبًا غير مغلوب يا من لا يعلم كيف هو إلا هو ويا من لا يبلغ كنه قدرته غيره، يا كثير الخير، يا دائم المعروف، يا من أظهر الجميل وستر القبيح يا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر يا عظيم العفو يا حسن التجاوز يا واسع المغفرة يا باسط اليدين بالرحمة ويا صاحب كل نجوى ومنتهى كل شكوى يا كريم الصفح، يا عظيم المن يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها يا ربنا ويا سيدنا ويا مولانا ويا غاية رغبتتنا، أسألك يا الله اللهم رب جبريل ورب ميكائيل ورب إسرافيل اللهم رب السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه اللهم رب كل شيء وخالق كل شيء ناصية كل شيء بيدك، أسألك بجميع محامدك على جميع نعمك، أسألك يا الله القريب الرقيب الحافظ الرؤوف الرحيم يا الله الحي القيوم القائم على كل نفس بما كسبت أن تصلي على نبيك وحبيبك وصفيك ورسولك خاتم أنبيائك ومقدم أصفيائك وأشرف خلقك سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه وسائر الأنبياء والمرسلين والملائكة أجمعين وأهل طاعتك المقربين من سائر المخلوقين وأسألك الرضى بالقدر وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقًا إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلاة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار.(2/387)
اللهم إني أسألك رضاك والجنة وما قرب إليهما، وأعوذ بك من سخطك والنار وما قرب إليهما.
اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
اللهم إني أسألك نفسًا مطمئنًا وقلبًا راضيًا وصدرًا منشرحًا.
اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعل ذلك الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل اللهم مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا يا ارحم الراحمين.
اللهم إني أسألك الخير كله عاجله وآجله، ما علمت به وما لم أعلم1 اللهم اكفنا شر خلقك بما شئت.
الله اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وأرزقني.
اللهم اغفر لي خطئي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني.
اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي.
اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم إني أعوذ بك من صاحب يرديني.
اللهم إني أعوذ بك من أمل يلهيني.
اللهم إني أعوذ بك من فقر ينسيني اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والذل والصغائر والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.
__________
1 في "ب" زيادة: أعوذ بك من الشرك عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم.(2/388)
الله أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي ديناي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة لي زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
اللهم إني أسألك من كل خير سالكه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي.
رب اجعلني لك ذاكرًا، لك شاكرًا، لك خائفًا، لك مطاوعًا، إليك [مخبتًا ومنيبًا] 1.
رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي.
اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي اللهم إني أسالك الهدى والتقى، والعفاف والغنى.
اللهم أسألك أن تستجيب دعوتي، وأن تغفر زلتي، وأن تمحو خطيئتي، وأن تستر عورتي، وأن تؤمن روعتي، وأن تسكن لوعتي، وأن تبرد حرقتي، وأن تكثر بكائي على زلتي، وأن تقلل اقترافي لمعصيتي، وأن تصلي على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون صلاة تصل مني إليك وتفد مني عليك يسر بها قلبه الطاهر المسرور وينشرح لها صدره الذي صدر الصدور وتكون من أسباب محبته في.
اللهم صلى على سيدنا محمد و [على] 2 آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد [وعلى آل محمد] 3،كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم صل عليه عودًا على بدء، وارض عن أصحابه أجمعين واخصص اللهم
__________
1 سقط في "ب".
2 سقط في "ب".
3 سقط في "ب".(2/389)
الصديق والفارق وذا النورين والمرتضى برضاء تام لا يختلف عن بقية الصحابة مع تخصيصه، ولا يتوقف في إطلاق مع تقييده وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
قال مؤلفه رحمه الله: نجز الفراغ من هذا الكتاب -نفع الله به في السابع من شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وسبعمائة على يد مؤلفه عبد الوهاب بن السبكي غفر الله له وكان نجازه بدار الخطابة بالجامع الأموي1 بدمشق [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا] 2.
[انتهى]
__________
1 في "ب" زيادة: الكبير.
2 زيادة في "ب": "والله الموفق في الصواب وله المرجع والمآب والحمد لله على كل حال".(2/390)
فهرس الموضوعات الجزء الثاني
...
فهرس موضوعات الجزء الثاني:
3 أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية
3 أصول: السعادة والشقاوة لا يتبدلان، أصل: العلم الاعتقاد الجازم المطابق.
4 الموجب
5 أصل: في الفرق بين الاسم والمسمى
6 اصل: في حقيقة الكلام
7 مسألة: في الفرق بين الملجأ والمضطر وما يتعلق بهما
12 تنبيهات: تتعلق بشروط تحقق الإكراه
16 أصل: اتفق أئمتنا على اجتماع مقودورين خالفين أو مكتسبين
18 مسألة: في حقيقة العقل، مسألة: الحل والحرية والطهارة والنجاسة وسائر المعاني الشرعية ليست من صفات الأعيان
20 مسألة: الحسن والقبح شرعي لا عقلي خلافًا للمعتزلة
20 أصل: في حقيقة الحياة
21 أصل: الصحيح احتياج الممكن في حال بقائه إلى المؤثر، مسائلة اختلاف الصفة هل هو كالاختلاف العين؟
22 أصل: في دلالة الأفعال المحكمة على علم فاعلها بها، أصل: يبحث فيه عن معنى السبب والصلة والفرق بينهما
27 تنبيه: في الفرق بين السبب والشرط
27 مسألة: في حكم الشرط إذا دخل على السبب، فرع: الشروط المعلق عليها ضد الإطلاق
36 تحمل على حياة الشخص المعلق، أصل قاطع: لا يجوز عقد اجتماع
37 علتين على معلول واحد
39 فصل: فيما ازدحم عليه علتان فكان ازدحامهما سهبب دمارهما وإهمالهما
القول فيما ازدحمت عليه علتان إحداهما
40 أنسب وأخيل فأعملتاها
43 فصل: مسائل فيما سبق
أفصل: مسائل فيما سبق، تنبيه: فيما يظن فيه ازدحام علتين
47 اعمل أضعفهما(2/391)
50 فصل: فيما ازدحم عليه علتان لا يترجح إحداهما على الأخرى وظهر الحكم بعدهما
51 فصل: فيما ازدحم عليه علتان عامة وخاصة
52 فصل: فيما ازدحم عليه علتان بينهما عموم وخصوص من وجه.
53 فصل: قد يتعب المحل علتان مقتضى كل منهما مقتضى أختها مع كونها غير مجتمعين
55 تنبيه: فيما لو تعاقب على المحل وصفان لا يعرف زوال واحد منهما
57 أصل: الصلة تسبق المعلول زمانًا عند أقوام من الفقهاء
58 القول في أحكام تقارن في الزمان لسببها
59 القول في أحكام يضطر الفقيه إلى الحكم بتقدمها على أسبابها
64 تنبيه: في منع تقدم المشروط على الشرط
64 أصول خمسة: الدور والجمع بين النقيضين وتحصيل الحاصل محال ونفي النفي لإثبات ولازم النقيضين واقع
64 أصل: في بيان حقيقة الإنسان
68 أصل: لازم النقيضين واقع لا محالة
71 فرع: في المسألة السريحة وطريقة حلها
77 مسائل أصولية يتخرج عليها فروع فقهية
77 أصل: التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة
78 فائدة: في أنواع الأحكام
79 مسألة: المعنى بصحة العقود ترتب أحكامها عليها
81 مسألة: السم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وسائر الأسماء المشتقة
84 مسألة: لا يشتق اسم الفاعل من شيء والفعل قائم بغيره
84 تنبيه: في بيان متى يحمل اسم الفاعل على الماضي
85 مسألة: الغرض والواجب مترادفان
87 تنبيه: فرض العين لا يؤخذ عليه أجرة
88 قاعدة: ما لا يتم الوجب إلا به فهو واجب
89 مسألة: فرض الكفاية مهم من مهمات الوجود
92 مسألة: السنة والنافلة والتطوع والمستحب والمندوب والمرغب فيه والمرشد إليه والحسن والأدب ألفاظ مترادفة عند فقهائنا
93 مسألة: في الأمر بواحد من أمور معينة
94 مسألة: يجوز أن يحرم شيء واحد مبهم من أشياء معينة خلافًا للمعتزلة
96 فروع يتعلق التحريم فيها بمبهم
97 مسألة: في حقيقة الرخصة
98 مسالة: يصح التكليف مع علم الأمر والمأمور انتفاء شرط وقوعه عند وقته
98 مسألة: التبادل والفاسد مترادفان
100 مسألة: في حكم وجوب القضاء
101 مسألة: الكافر مكلف بالفروع
103 مسألة: في اسم الجنس وعلم الجنس
110 كتاب الكتاب(2/392)
110 مسألة: في اللغات
114 مسألة: النيابة تدخل المأمور إلا لمانع
115 مسألة: الأمر لا يقضتي الفور
115 مسألة: في الأمر بعد الحظر
115 مسألة: الأمر لا يقتضي التكرار
115 مسألة: الأمر بالشيء نهي عن ضده
115 مسألة: النهي إذا رجع إلى لازم اقتضى الفساد
117 كتاب العموم والخصوص
117 مسألة: في معاني الألف واللام
119 مسألة: "كل" للعموم
120 مسألة: "متى" للعموم في الأوقات
120 مسألة: أي تكون شرطًا أو استفهامًا وموصولًا
122 مسألة: أقل الجمع ثلاثة وقيل: اثنان
123 مسألة: في دخول المخاطب تحت عموم خطابه
124 مسألة: خطاب الشارع -بالمسلمين والمؤمنين- بتناول الصيد
134 مساعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 134
تنبيه: الخالة بمنزلة الأم 134
137 مسألة: اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه أن ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
141 فوائد: في ترك الاستفصال
142 مسألة: وقائع الأعيان إذا تطوى إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال فسقط بها الاستدلال
145 مسألة خلافية: في المساواة بين الشيئين والأشياء يقتضي العموم
148 مسألة: المقيد بمتنافين يستغني عنهما ويرجع إلى أصل الإطلاق
148 تنبيه: إذا ولغ كلب في إناء أحدكم
150 مسألة: المختار إذا نسي حكم الأصل لا يبقى معه حكم الفرع
151 فالقول أقوى
156 تنبيه: التقرير فعل غير أنه مرجوح بالنسبة إلى الفعل في المستقبل
158 تنبيه ثان: الكف فعل على المختار
158 تنبيه ثالث: في مراتب الفعل
160 تنبيه رابع: في بيان المراد من السكوت
160 فعل وعلى قول
161 تنبيه سادس: في حكم إلحاق القولي بالفعلي
162 فصل: في الفرق بين تأثير كل من القول والفعل في مفعوله
162 مسألة: لفي الفرق بين الرواية والشهادة
164 مسألة: خبر الواحد وإن خالف قياس الأصول مقدم على القياس 164
165 مسألة: خير الكافر مردود
165 مسألة: في خبر الصبي(2/393)
166 مسألة: في خبر الفاسق
166 مسألة: في حكم تكذيب الشيخ للراوي عنه
167 كتاب الإجماع
167 مسألة: في الإجماع السكوتي
171 مسألة: إذا اختلفت الأمة على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين ففي صيرورة قول الباقين إجماعًا خلاف
174 كتاب القياس
174 مسألة: في اشتعمال قياس العكس
174 مسألة: في إثبات اللغة بالقياس خلاف مشهور
175 مسألة: القياس يجري في الكفارات خلافًا لأبي حنيفة
176 مسألة: في صلة الأسباب الشرعية بالأحكام
177 وحكم الأصل
178 مسألة: في حكم العلة القاصرة
179 مسألة: التماثل في العلة قد يمنع تأثيرها في علتيها
179 مسألة: في القياس الخارج عن القياس
182 مسألة: في قياس علية الأشياء
183 تنبيه: فيما إذا تنازع الفرع أصلان ولم يترجح أحدهما على الآخر
183 تنبيه آخر: في حكم القياس المركب
184 تنبيه ثالث: في أحكام تتعلق بالخلع
186 فصل: ما دار بين أصلين أكمل
187 فصل: في مسألة من الشبه الصوري
188 مسألة: في ضبط الأحكام بالأسباب الظاهرة
190 فائدة: في تعلق الأحكام بغير المنضبط
192 مسألة: اختلف في تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي
193 كتاب الاستدلال
193 مسألة: في حجية قول الصحابي وعدم حجيته
193 مسألة: في دلالة الاقتران
194 مسألة: في الاستحسان
196 كتاب الترجيح
196 مسألة: فيما إذا تعادلت الأمارتان
196 مسألة: في تقدم الخاص على العام عند التعارض
197 مسألة: في كون التخصيص أولى من المجاز
197 قاعدة: ما ثبت بالنص أولى بما ثبت بالأخبار
201 كتاب الاجتهاد
201 مسألة: في كون اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم غير قابل للخطأ
202 كلمات نحوية يترتب عليها مسائل فقهية
202 مسألة: "إن" الخفيفة المكسورة ترد للشرط
203 مسألة: "إن" -بفتح الهمزة- ترد حرفًا مصدريًا ناصبًا للمضارع
204 مسألة: "إلى" حرف جر لانتهاء الغاية
206 مسألة: "أو" موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء(2/394)
206 تنبيه: في حكم ما إذا دخلت "أو" بين يقينين أو بين إثباتين
207 تنبيه: في الفرق بين الشك والإبهام، وبين التخيير والإباحة
208 مسألة: في معنى "إذا" وما يترتب عليه
210 مسألة: "إذا" أغلب معانيها أن تكون ظرفًا للزمان الماضي
210 فائدة: "أول" أصلها واستعمالاتها
212 مسألة: "إلا" ترد للاستثناء وبمعنى غير
212 فصل: قد يستثنى بالإ ما ليس من الجنس
214 مسألة: في معاني "الباء"
216 مسألة: بعد ظرف زمان دال على تقدم سابقه على لاحقه
216 مسألة: "بل" حرف إضراب يتلوه جملة ومفرد
217 مسألة: "بلى" حرف جواب مختص بالنفي
218 مسألة: في معاني تاء التأنيث
219 مسألة: "ثم" حرف عطف للتشريك والترتيب والمهلة
219 مسألة "حتى"
221 مسألة: "غير" أصل وضعه الصفة
222 مسألة: "الفاء" للتعقيب في كل شيء بحسبه
223 مسألة: "في" للظرفية الزمانية والمكانية
223 مسألة: في مدلول "قبل"
223 مسألة: في مدلول "كاد"
225 مسألة: في "مدلول "كم"
226 مسألة: في مدلول "كيف"
226 مسألة: في مدلول "كان"
227 مسألة: في مدلول "كذا"
228 مسألة: "اللام" ترد لمعان كثيرة
229 مسألة: في مدلول "لولا"
229 مسألة: في مدلول "لعل"
229 مسألة: في معاني "من"
231 مسألة: في إطلاق الكلام على الكناية والإشارة
232 باب النكرة والمعرفة
235 باب المضمر
235 مسألة: من المضمرات "أنت"
235 مسألة: في ضمير الفصل
236 مسألة: فيما إذا اشتركت الجملتان المعطوفة إحداهما على الأخرى في اسم
236 باب الموصول
236 مسألة: في مدلول "من"
237 مسألة: في الموصول الحرفي
237 باب المبتدأ
237 مسألة: في مطابقة الخبر للمبتدأ
239 مسألة: في حكم الإخبار بالحياة
239 باب المفعول المطلق
239 ما يدل عليه المصدر
239 باب الاستثناء
239 مسألة: في حكم وضع المستثنى أول الكلام
240 باب الحال
240 الحال وصف من جهة المعنى، بيان ما يترتب على ذلك من أحكام(2/395)
242 مسألة: الأصل كون الحال للأقرب
242 مسألة: في مجيء الحال جملة
242 باب العدد
243 باب التوابع
243 مسألة: في معنى النعت
243 مسألة: في عطف البيان
243 باب النداء والترخيم
243 مسألة: في المنادي المفرد
244 مسألة: "مع" أصله معي، حذفت ياؤه للتخفيف
244 تنبيه: حركة مع حركة إعراب
244 فرع: في حكم "مع" إذا قطعت عن الإضافة
246 باب أبنية الفعل ومعانيها
246 فعل: في المجرد والمزيد من الأفعال
248 باب أفعل التفضيل
248 باب إعمال اسم الفاعل والصفة المشبهة
249 باب عوامل الجزم
249 مسألة: لأداة الشرط صدر الكلام
253 مسألة: في حكم اعتراض الشرط على الشرط
254 المآخذ المختلف فيها بين الأئمة التي ينبني عليها فروع فقهية
254 القول في "سبب الختلاف الفقهاء"
262 القسم الثاني: الخلاف في فروع بعد الاتفاق على أصولها
264 مأخذ: في العلاقة بين الإمام والمأموم
267 مسألة: في بيان المغلب في الزكاة من كونه العبادة أو المواساة
270 مأخذ: في علة ربوية الأشياء المنصوصة
270 مأخذ: الأصل عندنا أن كلًا من الثمن والمثمن مقصود بنفسه
271 مأخذ: الأصل في بيع الربويات التحريم
273 مأخذ: لا معنى لانعقاد العقود إلا ثبوت أحكامها
276 مأخذ: في حكم الفعل إذا طابق بظاهره الشرع
276 مأخذ: في حكم الرهن
276 مسألة: في ضمان العين المغصوبة
277 مسألة: في معنى الغصب
278 مسألة: في بيان ما إذا كانت المالية قائمة بالأعيان أو بالمنافع
280 أصل: فيما إذا كان المغصوب مثليًا
281 مسألة: في حكم ما إذا تعذر المثل
283 مسألة: في علة ثبوت الشفعة
284 مسألة: العبد محجور عليه بحق سيده
285 مسألة: في بيان ماذا كان تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالفتيا أو السلطنة وبيان ما يترتب عليه الخلافات في ذلك
287 مسألة: فيما إذا كان النكاح يتناول كل واحد من الزوجين تناولًا واحدًا أم لا، وبيان ما يترتب على الخلاف في ذلك
291 مسألة: يفيما إذا كان أثر الشيء يتنزل منزلته أم لا وبيان ما يترتب على كلا الحالين(2/396)
293 مسألة: في كون الصداق حق المرأة أو حق الله
294 مسألة: اختلاف الدارين هل يؤثر في اختلاف الأحكام أم لا؟
295 مسألة: في بيان الخلاف في كون حل الأمة بالنكاح كحل الحرة أو دونه؟
295 مسألة: في بيان ما إذا كانت نفقات الزوجات على سبيل المعاوضات أو على سبيل الصلات
296 مسألة: في بيان الخلاف في معنى القصاص
297 مأخذ: في بيان الخلاف في المأذون في فعله من قبل الله
298 مأخذ: في بيان الخلاف في كون اسم الزنا يطلق على الرجل والمرأة حقيقة أو هو حقيقة في الرجل مجاز في المرأة
299 مأخذ: في بيان متى تملك الغنائم والخلاف في ذلك وبيان ما يترتب على ذاك الخلاف
300 مسألة: في بيان ما إذا كان القضاء إظهار لحكم الله أو هو إثبات لحكم المدعي به وإنشاء له؟
300 مسألة: في بيان ما إذا كان المعقود عليه في الكتابة رقبة المكاتب أو اكتساب العبد
304 يذكرها الفقهاء
306 فصل: في تقاسيم أدرجها بعض الفقهاء في القواعد خطأ وليست من القواعد في شيء
308 فصل: في عدم اعتبار المأخذ والعلل التي يشترك فيها من القواعد
309 فصل: ومنهم من يعقد فضلًا لأحكام الأعمى
309 فصل: ومنهم من يذكر الفقه المختص ببعض الأماكن أو بعض الناس
310 فصل: ومنهم من يشتغل بتقرير كون مذهب الصحابي غير حجة
310 فصل: ومنهم من يعقد فصلًا للمسائل التي يفتي فيها على القديم
310 فصل: ومنهم من يدخل مسائل الأحاجي والألغاز
311 باب في الألغاز:
321 مسألة: رجل قال لامرأته: إن كان ما في كمي من دراهم
323 مسألة: امرأة في فمها لقمة
323 مسألة: رجل قال لصاحبه: إن بدأتك في الكلام فامرأتك طالق
324 مسألة: رجل قال: أنا لأرجو الجنة
326 مسألة رجل قال لامرأته -حالفًا بالطلاق: كلما تقولين في هذا المجلس أقول لك فيه مثله، فقالت له: أنت طالق
337 مسألة: سئل القفال عن بالغ عاقل مسلم هتك حرزًا وسرق نصابًا لا شبهة له فيه ولا قطع عليه
327 مسألة: الألغاز التي وجهت إلى القاضي أبي الطيب، وإجابته عنها(2/397)
327 مسألة: رجل قال لامرأته: إن لم يكن الشافعي أفضل من أبي حنيفة فأنت طالق، فقال آخر: إن لم يكن أبو حنيفة أفضل فامراتي طالق، فمن الذي تطلق امرأته؟
328 مسألة: مسلم قال: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق
329 مسألة: وقع حجر من سطح فقال الزوج: إن لم تخبريني الساعة من رماه فأنت طالق، وهي لا تدري من رماه
331 مسألة: إذا قال له: علي اثنا عشر درهمًا ودانقًا -بالنصب في دانق- ما يلزمه، وما الذي يلزمه عند الرفع والخفض
332 مسألة: إذا قال: قارضتك على أن لك سدس تسع عشر الربع، هل يصح؟
333 مسألة: رجل فاتته صلاة يومين وليلتين فصلى عشر صلوات واحدة بعد أخرى على ترتيب الخمس، فلما فرغ من جميعها قال
334 مسألة: سئل بعض المتقدمين بهذين البيتين
334 أتعرف من قد باع في مهر أمه
أباه فوفاها بحق صداقها وكانت قديمًا أشهدت كل من رأت بأن أباها قد أبت طلاقها
334 مسألة: رجل مات عن زوجة، فلم ترثه بغير مانع من الموانع المذكورة في الإرث
335 مسألة: تتعلق بما رواه الخطيب
336 مسألة: رجل خرج إلى السوق وترك امرأته في البيت، ثم رجع فوجد عندها رجلًا، فقال من هذا؟ قالت: هذا زوجي، وأنت عبدي، وقد بعتك له
336 مسألة: ثلاثة تداعوا وتساووا في الحجة فغلبت حجة أحدهم وأسقطت الحجتان، وحصل لأحد الذين سقطت حجتهما مقصوده الذي كان يدعي به، ولم يحصل من قبلت
336 حجته على مقصوده بل على ضده
337 مسألة: امرأة لها زوجان ويجوز أن تتزوج بثالث؟
337 مسألة: شخص مات بالمغرب فوجب على آخر بالمشرق صلاة عشرين سنة
337 مسألة: رجل جرح جرحًا واحدًا فضمنه، فجرح ثانيًا فضمنه فجرح ثالثًا فسقط أحد الضمانين، ولم يجب في الثلاثة إلا ضمان واحد
337 مسألة: رجل نظر إلى امرأة أول النهار حرمت عليه، ثم حلت له ضحوة وحرمت الظهر، وحلت العصر، وحرمت المغرب، وحلت العشاء، وحرمت الفجر، وحلت ضحوة، وحرمت الظهر ثم حلت العصر، ثم حرمت المغرب ثم حرمت مؤبدة؟(2/398)
338 مسألة: رجل يجوز أن يصلي إماما ومنفردًا، لا مأمومًا
338 مسألة: امرأة طلقها زوجها فوجبت عليها أربع عدد
338 مسألة: رجل إذا احتوى على المسروق لم يقطع، وإن لم يحتو عليه قطع
338 مسألة: خمسة عشر ذكورًا ورثوا مال ميت بالنسب، خمسة منهم ورثوا نصف وخمسة ثلثه، وخمسة سدسه
339 مسألة: أي نجس يتنجس مسألة: شيئان من في الصلاة أحدهما يشترك ستره من أعلى لا من أسفل والثاني ستره من أسفل لا من أعلى
340 مسألة: ما هو ألف قلة وهو نجس من غير أن يتغير بنجاسة
340 مسألة: شيء إن وقع كله كان على شخص ضمن بعضه، وإن وقع بعضه ضمن كله
340 مسألة: في أي موضع يزيد البعض عن الكل
341 مسألة: رجل ترك صلاة واحدة من الخمس
341 مسألة: رجلان ثبتت عدالتهما
341 مسألة: رجل قتل آخر ظلمًا
341 مسألة: عبد تزوج أمة غيره بإذن سيدها
342 مسألة: ماءان يصح الوضوء بكل منهما منفردًا
342 مسألة: جماد يملك ما هو مسألة: امرأة لا مانع فيها من حضانة ولدها
243 مسألة: رجلان أديا ما أمرا به
383 خاتمة
383 المسألة الأولى
383 المسألة الثانية
384 المسألة الثالثة(2/399)