قَالُوا: وَالنَّقْل يعضده " فقد حمل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُمَامَة فِي الصَّلَاة "، وَكَانَت بِحَيْثُ لَا تحترز عَن نَجَاسَة.
قلت: وَهَذَا لَا يطرد فِي مَذْهَبنَا وَلَا فِي مَذْهَبهم، وَيَأْتِي قبيل التَّقْلِيد هَل يلْزم نافي الحكم الدَّلِيل عَلَيْهِ أم لَا؟
قَوْله: {وَلَيْسَ اسْتِصْحَاب حكم الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف حجَّة عِنْد(8/3762)
الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، وَخَالف ابْن شاقلاء، وَابْن حَامِد، وَجمع} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتِصْحَاب حَال الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف، وَهُوَ أَن يحصل الْإِجْمَاع على حكم فِي حَال، فتتغير تِلْكَ الْحَال، وَيَقَع الْخلاف، فَلَا يستصحب حَال الْإِجْمَاع فِي مَحل الْخلاف، كَقَوْل من يَقُول فِي الْخَارِج من غير السَّبِيلَيْنِ: إِنَّه لَا ينْقض الْإِجْمَاع على أَنه قبله متطهر، وَالْأَصْل الْبَقَاء حَتَّى يثبت تعَارض، وَالْأَصْل عَدمه.
وَالأَصَح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم من الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، وَذكر أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل عَن عَامَّة محققي الْفُقَهَاء والمتكلمين أَنه لَيْسَ بِحجَّة.(8/3763)
وَعند أبي إِسْحَاق بن شاقلاء، وَابْن حَامِد، وَجمع، وأصحابنا، والمزني، وَأبي ثَوْر، والصيرفي، وَابْن سُرَيج، وَابْن خيران، وَدَاوُد، وَأَصْحَابه.(8/3764)
والآمدي، وَابْن الْحَاجِب إِلَى أَنه حجَّة.
" لِأَن بَقَاء الحكم لَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل إِن نزل منزلَة الْجَوْهَر، وَلَا نسلم أَنه كالعرض ثمَّ الِاسْتِصْحَاب دَلِيل، ثمَّ هُوَ دَلِيل الدَّلِيل؛ لِأَن بَقَاء الظَّن لَهُ دَلِيل.
وَذكر أَبُو الْخطاب وَغَيره: أَنه يُؤَدِّي إِلَى التكافيء فِي الْأَدِلَّة، لِأَنَّهُ مَا من أحد يستصحب حَالَة الْإِجْمَاع فِي مَوضِع الْخلاف إِلَّا ولخصمه أَن يستصحب حَالَة الْإِجْمَاع فِي مُقَابِله.
مِثَاله: لَو قَالَ فِي مَسْأَلَة التَّيَمُّم: قيل: أَجمعُوا أَن رُؤْيَة المَاء فِي غير الصَّلَاة تبطل تيَمّمه فَكَذَا فِي الصَّلَاة، قيل: أَجمعُوا على صِحَة تَحْرِيمه، فَمن أبْطلهُ لزمَه الدَّلِيل.
وَجَوَابه: بِمَنْع التكافيء، وَإِن تَعَارضا.(8/3765)
وَاحْتج لَهُ أَيْضا: بِالْقِيَاسِ على قَول الشَّارِع.
وَأجَاب بِمَا مَعْنَاهُ: أَنه لَا يجوز اسْتِصْحَاب حكم الدَّلِيل فِي الْحَالة الثَّانِيَة إِلَّا أَن يَتَنَاوَلهَا الدَّلِيل.
قيل لَهُ: فَيجب قصره على الزَّمن الْوَاحِد فَالْتَزمهُ، إِلَّا أَن يكون دَلِيل الحكم وعلته قد عَم الْأَزْمِنَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَ: سبق خِلَافه فِي شُرُوط الْعلَّة [أَنه] لَا ترجع على الأَصْل بالإبطال.
وَلَكِن جَوَابه أَن قَول الشَّارِع مُطلق فَيعم، وَالْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ فِي صفة خَاصَّة، وَلِهَذَا يجوز تَركه فِي الْحَالة الثَّانِيَة بِدَلِيل غير الْإِجْمَاع، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة.
ذكره عَنْهُم القَاضِي، وَابْن عقيل، وَهُوَ ضَعِيف) ، انْتهى نقل كَلَام ابْن مُفْلِح.(8/3766)
(قَوْله: {فصل} )
{شرع من قبلنَا} .
من الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا مَا ثَبت فِي شرع من مضى من الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم - السَّابِقين على بعثة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل يكون شرعنا لنا حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ فِي أَحْكَام شرعنا، إِذا لم نجد لَهُ دَلِيلا يقرره، وَلَا ورد مَا ينسخه، أَو لَيْسَ بشرع لنا حَتَّى يَأْتِي فِي شرعنا مَا يُقرر ذَلِك الحكم؟ فِيهِ قَولَانِ يأتيان قَرِيبا.
قَوْله: {يجوز تعبد نَبِي بشريعة [نَبِي] قبله عقلا وَمنعه قوم} .
يجوز تعبد نَبِي بشريعة نَبِي قبله عقلا على الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، وَلَا يلْزم مِنْهُ محَال.
وَقدمه ابْن مُفْلِح وَقَالَ: " وَمنعه بَعضهم لعدم الْفَائِدَة ".
رد فَائِدَته: إحياؤها وَلَعَلَّ فِيهِ مصلحَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: ثمَّ قيل: إِنَّه مُمْتَنع عقلا لما فِيهِ من التنفير عَنهُ.(8/3767)
وَقيل: شرعا، وَعَزاهُ القَاضِي عِيَاض لحذاق أهل السّنة، وَيَأْتِي هَذَا قَرِيبا.
قَوْله: {وَكَانَ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الْبعْثَة متعبدا فِي الْفُرُوع بشرع من قبله مُطلقًا عِنْد القَاضِي، والحلواني، وَغَيرهمَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، وَقيل: معِين، فَقيل: أَدَم، أَو نوح، أَو إِبْرَاهِيم، اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَالْمجد، وَالْبَغوِيّ، وَابْن كثير، وَجمع، أَو مُوسَى، أَو عِيسَى، وَمنع الْحَنَفِيَّة، والمالكية، والباقلاني، وَغَيرهم، لاستحالته عقلا عِنْد الْمُعْتَزلَة، وَشرعا عِنْد الباقلاني، والرازي والآمدي، وَلأَحْمَد الْقَوْلَانِ، وَتوقف أَبُو الْخطاب، [وَالْغَزالِيّ] ، والآمدي، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ هُوَ وَجمع: لفظية، وَعَن الْمُعْتَزلَة: تعبد بشريعة الْعقل، وَابْن حمدَان: بِوَضْع شَرِيعَة اخْتَارَهَا، والطوفي: بالإلهام} .
اخْتلف الْعلمَاء - رَحْمَة الله عَلَيْهِم - فِي نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل كَانَ متعبدا - بِكَسْر الْبَاء - قبل الْبعْثَة فِي الْفُرُوع بشرع من قبله أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:(8/3768)
أَحدهمَا: وَهُوَ الصَّحِيح أَنه كَانَ متعبدا بشرع من قبله، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن كل وَاحِد من الْأَنْبِيَاء قبله دَعَا إِلَى شَرعه كل الْمُكَلّفين، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِد مِنْهُم، فيتناوله عُمُوم الدعْوَة.
ثمَّ اخْتلفُوا على هَذَا القَوْل، هَل كَانَ متعبدا بشرع معِين أَو لَا؟ فِيهِ قَولَانِ.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَنَّهُ متعبد بشرع معِين فِي الْمعِين:
فَقيل: آدم - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ -، وَلم يذكرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
وَقيل: نوح.
وَقيل: إِبْرَاهِيم، اخْتَارَهُ جمع كثير مِنْهُم: ابْن عقيل، وَالْمجد، وَالْبَغوِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الشورى، وَابْن كثير فِي " تَارِيخه " - قبل الْبعْثَة - وَغَيرهم، وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن الشَّافِعِيَّة.
وَقيل: مُوسَى.(8/3769)
وَقيل: عِيسَى، صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب: أَنه كَانَ متعبدا بشرع من قبله مُطلقًا، أَي: من غير تعْيين وَاحِد مِنْهُم بِعَيْنِه، وَهَذَا [اخْتَارَهُ] أَبُو يعلى، والحلواني، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَذكره القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة.
وَخَالف الْحَنَفِيَّة.(8/3770)
والمالكية، وَابْن الباقلاني، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْأَكْثَر: أَنه كَانَ غير متعبد بشرع لَا معِين وَلَا غير معِين، وَأَن عَن أَحْمد قَوْلَيْنِ، وَنَقله الباقلاني عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين.
وَتوقف أَبُو هَاشم، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْخطاب، وَالْغَزالِيّ،(8/3771)
وَابْن الْأَنْبَارِي.
وَأَبُو الْمَعَالِي قَالَ هُوَ وَجَمَاعَة: لفظية.
وَعَن الْمُعْتَزلَة: أَنه تعبد بشريعة الْعقل. [قَالَه ابْن مُفْلِح.
وَقَالَ ابْن حمدَان: تعبد بِوَضْع شَرِيعَة اخْتَارَهَا.
وَقَالَ الطوفي: تعبد بالإلهام.
وَإِذا قُلْنَا: إِنَّه غير متعبد بشريعة أصلا.(8/3772)
فَقيل: لامتناعه عقلا، لما فِيهِ من التنفير عَنهُ.
وَقيل: شرعا، وَعَزاهُ القَاضِي عِيَاض لحذاق أهل السّنة، إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لنقل ولتداولته الْأَلْسِنَة، وَاخْتَارَهُ الباقلاني، والرازي، والآمدي، وَغَيرهم.
اسْتدلَّ من قَالَ: إِنَّه كَانَ متعبدا بشريعة من قبله بِمَا فِي مُسلم عَن عَائِشَة " أَنه كَانَ يَتَحَنَّث، وَهُوَ التَّعَبُّد فِي غَار حراء ".
وَفِي البُخَارِيّ أَيْضا: " كَانَ يَتَحَنَّث بِغَار حراء ".
رد: بِأَن مَعْنَاهُ التفكر وَالِاعْتِبَار، وَلم يثبت عَنهُ عبَادَة صَوْم وَنَحْوه.(8/3773)
ثمَّ فعله من قبل نَفسه [تشبها] بالأنبياء.
وَأَيْضًا: الْأَنْبِيَاء قبْلَة لكل مُكَلّف.
رد: بِالْمَنْعِ ثمَّ لم يثبت عِنْده وَلِهَذَا بعث.
وَاعْتمد القَاضِي الباقلاني فِي كَونه غير متعبد بشرع من قبله وامتناعه: على أَنه لَو كَانَ على مِلَّة لاقتضى الْعرف ذكره لَهَا لما بعث، ولتحدثوا بذلك فِي زَمَانه، وَفِيمَا بعده.
وعارض ذَلِك أَبُو الْمَعَالِي: بِأَنَّهُ لَو لم يكن على دين أصلا لنقل، فَإِن ذَلِك أبدع وَأبْعد عَن الْمُعْتَاد مِمَّا ذكره الباقلاني، فتعارض الْأَمْرَانِ.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: " وَفِيه نظر فَلَيْسَ انصراف النُّفُوس عَن نقل كَونه لَيْسَ على دين، كانصرافه عَن نقل دينه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ ".
ثمَّ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: " الْوَجْه أَن يُقَال: انخرقت الْعَادة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أُمُور:
مِنْهَا: انصراف همم النَّاس عَن أَمر دينه والبحث عَنهُ " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَجه الْمَنْع أَنه لَو كَانَ متعبدا بشرع لخالط أَهله عَادَة.
رد: بِاحْتِمَال مَانع.(8/3774)
وَأجِيب - أَيْضا -: يعْمل بِمَا تَوَاتر فَقَط فَلَا يحْتَاج إِلَى مخالط.
وَفِيه نظر.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": فَإِنَّمَا كَانَ متعبدا على وضع شَرِيعَة اخْتَارَهَا لعدم الْوَحْي قبل الْبعْثَة.
وَقيل: يَقْتَضِي الْمُنَاسبَة لعلمه بِفساد مَا عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة.
وَقَالَ: الْأَصَح [أَنه] متعبد - بِكَسْر الْبَاء -.
قَالَ الْقَرَافِيّ: متعبدا بِكَسْر الْبَاء، وَلَا يجوز فتحهَا، وَكَلَام الْآمِدِيّ موهم بِخِلَاف مَا بعد الْبعْثَة، فَإِنَّهُ كَانَ متعبدا بِفَتْح الْبَاء. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " قلت: من الْمُتَّجه أَنه كَانَ متعبدا بالإلهام، أَي: يلهمه الله تَعَالَى عبادات يتعبد بهَا، ويخلق فِيهَا علما ضَرُورِيًّا بمشروعيتها لَهُ، وبمعرفة تفاصيلها، وَهَذَا أحسن مَا يُقَال فِي تعبده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل الْبعْثَة ".
تَنْبِيه: قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": " حِكَايَة الْخلاف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ متعبدا قبل نبوته بشرع من قبله، يجب أَن يكون مَخْصُوصًا بالفروع دون الْأُصُول، فَإِن قَوَاعِد العقائد كَانَ النَّاس مكلفين بهَا إِجْمَاعًا؛ وَلذَلِك كَانَ موتاهم فِي النَّار إِجْمَاعًا، لَوْلَا التَّكْلِيف مَا كَانُوا فِي النَّار، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام متعبد بشرع من قبله، فَالْخِلَاف فِي الْفُرُوع خَاصَّة، فعموم إِطْلَاق الْعلمَاء مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع ".(8/3775)
قَوْله: {وَلم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه عِنْد الْأَئِمَّة، قَالَ أَحْمد: من زَعمه فَقَوْل سوء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام، كَمَا تَوَاتر عَنهُ، قَالَ الإِمَام أَحْمد: من زَعمه فَقَوْل سوء " انْتهى.
وَهَذَا مِمَّا لَا يشك مُسلم بِهِ، وقر الْإِيمَان فِي قلبه، وَتقدم هَل هُوَ مَعْصُوم من الصَّغَائِر والكبائر؟ وَأما أَنه كَانَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ قومه فحاشا وكلا.
قَالَ فِي " نِهَايَة المبتدئين ": وَلم يكن على دين قومه قطّ بل ولد مُسلما مُؤمنا، قَالَه ابْن عقيل.
وَقيل: بل على دين قومه، حَكَاهُ ابْن حَامِد عَن بَعضهم، وَهُوَ غَرِيب بعيد، انْتهى.
قلت: الَّذِي نقطع بِهِ أَن هَذَا القَوْل خطأ.
قَالَ ابْن عقيل: لم يكن قبل الْبعْثَة على دين سوى الْإِسْلَام، وَلَا كَانَ على دين قومه قطّ، بل ولد مُؤمنا نَبيا صَالحا على مَا كتبه الله وَعلمه من حَاله وخاتمته لَا بدايته.(8/3776)
قَوْله: {وَبعدهَا - أَي: بعد الْبعْثَة - تعبد بشرع من قبله عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية، ثمَّ(8/3777)
مِنْهُم من خصّه بشرع كَمَا سبق، وَلم يَخُصُّهُ أَصْحَابنَا والمالكية} .
إِذا قُلْنَا: إِنَّه قبل الْبعْثَة غير متعبد بشرع من قبله فَبعد الْبعْثَة بطرِيق أولى.
وَإِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ متعبدا فَاخْتَلَفُوا هَل كَانَ بعد الْبعْثَة متعبدا؟ فِيهِ خلاف.
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه متعبد بِمَا لم ينْسَخ من شريعتهم.
فعلى هَذَا القَوْل من الْعلمَاء من خصّه بشرع نَبِي من الْأَنْبِيَاء، كَمَا تقدم بَيَانه.
وَلم يَخُصُّهُ أَصْحَابنَا والمالكية، فعلى هَذَا هُوَ شرع لنا مَا لم ينْسَخ، وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَالَ القَاضِي: " من حَيْثُ صَار شرعا لنبينا، لَا من حَيْثُ صَار شرعا لمن قبله ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " على معنى أَنه مُوَافق لَا متابع ".
وَذكر القَاضِي - أَيْضا - كَمَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ - من أَصْحَابنَا -: أَنه شرع لم ينْسَخ فيعمنا لفظا.(8/3778)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فيعمنا عقلا لتساوي الْأَحْكَام، وَهُوَ الِاعْتِبَار الْمَذْكُور فِي قصصهم، فيعمنا حكما.
ثمَّ اعْتبر القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا ثُبُوته قطعا.
قَالَ القَاضِي: وَإِنَّمَا يثبت كَونه شرعا لَهُم مَقْطُوع بِهِ، إِمَّا بِكِتَاب، أَو بِخَبَر الصَّادِق، أَو بِنَقْل متواتر، فَأَما الرُّجُوع إِلَيْهِم، أَو إِلَى كتبهمْ فَلَا.
وَقد أَوْمَأ أَحْمد إِلَى هَذَا.
وَمَعْنَاهُ فِي " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان فَقَالَ: كَانَ هُوَ وَأمته متعبدين بشرع من تقدم بِالْوَحْي إِلَيْهِ، فِي الْكل أَو الْبَعْض، لَا من كتبهمْ المبدلة وَنقل أَرْبَابهَا، مَا لم ينْسَخ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَغَيره: " وَيثبت - أَيْضا - بأخبار الْآحَاد عَن نَبينَا، وَأما بِالرُّجُوعِ إِلَى مساءلة أهل الْكتاب فَفِيهِ الْكَلَام " انْتهى.(8/3779)
وَعَن أَحْمد: لم يتعبد، وَلَيْسَ بشرع لنا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والآمدي، والأشعرية، والمعتزلة.
وَقيل: بِالْوَقْفِ: كَمَا قبل الْبعْثَة.
وَجه القَوْل الأول: قَوْله تَعَالَى: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام: 90] .
رد: أَرَادَ الْهدى الْمُشْتَرك وَهُوَ التَّوْحِيد، لاخْتِلَاف شرائعهم وَالْعقل هاد إِلَيْهِ، ثمَّ أَمر باتباعه بِأَمْر محدد لَا بالاقتداء.
أُجِيب: الشَّرِيعَة من الْهدى، وَقد أَمر بالاقتداء وَإِنَّمَا يعْمل بالناسخ كشريعة وَاحِدَة.
قَالَ مُجَاهِد: لِابْنِ عَبَّاس: " أأسجد فِي ص؟ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة فَقَالَ: نَبِيكُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِمَّن أَمر أَن يقْتَدى بهم " رَوَاهُ البُخَارِيّ.(8/3780)
وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} [النَّحْل: 123] .
رد: أَرَادَ التَّوْحِيد؛ لِأَن الْفُرُوع لَيست مِلَّة، وَلِهَذَا لم يبْحَث عَنْهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} [النَّحْل: 123] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا من سفه نَفسه} ، ثمَّ أمرنَا باتباعها بِمَا أُوحِي إِلَيْهِ. أُجِيب: الْفُرُوع من الْملَّة تبعا كملة نَبينَا؛ لِأَنَّهَا دينه عِنْد عَامَّة الْمُفَسّرين.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ الظَّاهِر.
وَذكره الْبَغَوِيّ عَن الْأُصُولِيِّينَ، وَقد أمرنَا باتباعها مُطلقًا.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة، وَأَيْضًا: ظَاهر قَوْله تَعَالَى عَن التَّوْرَاة: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} [الْمَائِدَة: 44] ، وَالْمرَاد من بعد مُوسَى.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله} .(8/3781)
وَالْقَوْل بتعارض الْآيَات دَعْوَى بِلَا دَلِيل.
وَأَيْضًا فقد ورد فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْقصاصِ فِي السن، وَقَالَ: " كتاب الله الْقصاص "، وَإِنَّمَا هَذَا فِي التَّوْرَاة.
وَسِيَاق قَوْله تَعَالَى: {فاعتدوا عَلَيْهِ} ، فِي غَيره، وَلِهَذَا لم يُفَسر لَهُ.
وللترمذي، وَالنَّسَائِيّ، عَن عمرَان: " أَن رجلا عض يَد رجل فنزعها من فِيهِ، فَوَقَعت ثنيتاه، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا دِيَة لَك، فَأنْزل الله {والجروح قصاص} [الْمَائِدَة: 45] ، وَقُرِئَ فِي السَّبع بِرَفْع الجروح ونصبها.
وَأَيْضًا: فِي " صَحِيح مُسلم " من حَدِيث أنس، وَأبي هُرَيْرَة: " من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وأقم الصَّلَاة لذكري} "(8/3782)
[طه: 14] ، وَهُوَ خطاب لمُوسَى وسياقه وَظَاهره: أَنه احْتج بِهِ؛ لِأَن أمته أمرت كموسى.
وَاسْتدلَّ بتعبده بِهِ قبل بَعثه، وَالْأَصْل بَقَاؤُهَا وبالاتفاق على الِاسْتِدْلَال بقوله: {النَّفس بِالنَّفسِ} [الْمَائِدَة: 45] .
رد: بِالْمَنْعِ.
وَاسْتدلَّ " بِرُجُوعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى التَّوْرَاة فِي الرَّجْم ".(8/3783)
رد: لإِظْهَار كذبهمْ، وَلِهَذَا لم يرجع فِي غَيره.
قَالُوا: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} [الْمَائِدَة: 48] .
رد: اخْتلفت فِي شَيْء [فباعتباره] : هِيَ شرائع مُخْتَلفَة.
قَالُوا: لم يذكر فِي خبر معَاذ السَّابِق فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع.
رد: إِن صَحَّ فلذكره فِي الْقُرْآن، أَو عَمه الْكتاب، أَو لقلته، أَو لعلمه بِعَدَمِ من يَثِق بِهِ.
قَالُوا: أَتَاهُ عمر بِكِتَاب فَغَضب وَقَالَ: " أمتهوكون فِيهَا يَا ابْن الْخطاب، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية " رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي عَاصِم،(8/3784)
وَالْبَزَّار، وَأحمد، وَزَاد: " وَلَو كَانَ مُوسَى حَيا مَا وَسعه إِلَّا اتباعي ".
وَرَوَاهُ - أَيْضا - وَفِيه: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَو أصبح مُوسَى فِيكُم ثمَّ اتبعتموه وتركتموني لَضَلَلْتُمْ ".(8/3785)
رد: فِي الأول مجَالد، وَالثَّانِي: جَابر الْجعْفِيّ، وهما ضعيفان.
ثمَّ لم يَثِق بِهِ.
قَالُوا: لَو كَانَ لوَجَبَ تعلمهَا والبحث عَنْهَا ومراجعتها فِي الوقائع، وَاحْتج بِهِ الصَّحَابَة.
رد: إِن اعْتبر الْمُتَوَاتر فَقَط لم يحْتَج، ثمَّ لعدم الوثوق لتبديلها وتحريفها إِجْمَاعًا وَعدم ضبط وتمييز.
قَالُوا: يلْزم أَن يلْزم شرعنا، أَي: نَبينَا.
رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ شَرعه، أَو نظر إِلَى الْأَكْثَر.
قَالُوا: شَرعه نَاسخ إِجْمَاعًا.
رد: لما خَالفه؛ لِأَن النّسخ عِنْد التَّنَافِي، وَلِهَذَا لم ينْسَخ التَّوْحِيد وَلَا تَحْرِيم الْكفْر.(8/3786)
وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَن فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " أَن كل نَبِي بعث إِلَى قومه "، وَلَيْسَ من قَومهمْ.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ ثَبت بشرعنا.
وَقَالَ الطوفي: " المأخذ الصَّحِيح لهَذِهِ الْمَسْأَلَة التحسين الْعقلِيّ فَإِن الْمُثبت يَقُول: الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حسنها ذاتي لَا تخْتَلف باخْتلَاف شرع فَتَركهَا قَبِيح، والنافي يَقُول: حسنها لَهُ وقبحه لنا ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.(8/3787)
(قَوْله: {فصل} )
{الاستقراء بالجزئي على الْكُلِّي إِن كَانَ ثَابتا، أَي: بِالْكُلِّ إِلَّا صُورَة النزاع فقطعي عَن الْأَكْثَر، وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع} .
الاستقراء نوع من أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ: تتبع أَمر كلي من جزئيات، ليثبت الحكم لذَلِك الْكُلِّي، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: استقراء تَامّ، وَهُوَ: إِثْبَات حكم فِي جزئي لثُبُوته فِي الْكُلِّي، نَحْو: كل جسم متحيز، فَإنَّا استقرأنا جَمِيع جزئيات الْجِسْم فَوَجَدْنَاهَا منحصرة فِي الجماد والنبات وَالْحَيَوَان، وكل من ذَلِك متحيز، فقد أَفَادَ هَذَا الاستقراء الحكم يَقِينا فِي كلي وَهُوَ الْجِسْم، الَّذِي هُوَ مُشْتَرك بَين الجزئيات، فَكل جزئي من ذَلِك كلي يحكم عَلَيْهِ بِمَا يحكم بِهِ على الْكُلِّي إِلَّا صُورَة النزاع، فيستدل بذلك على صُورَة النزاع، وَهُوَ مُفِيد للْقطع بِأَنَّهُ الْقيَاس، فَإِن الْقيَاس المنطقي الْمُفِيد للْقطع عِنْد الْأَكْثَر.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ حجَّة بِلَا خلاف.
وَلذَلِك قُلْنَا فِي الْمَتْن: وَهُوَ حجَّة بِلَا نزاع.(8/3788)
قَوْله: {أَو نَاقِصا أَي: بِأَكْثَرَ الجزئيات [فظني] وَيُسمى إِلْحَاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَهُوَ حجَّة عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: كالوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ وَاجِبا لاستقراء الْوَاجِبَات} .
هَذَا النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الاستقراء النَّاقِص، وَهُوَ الَّذِي تتبع فِيهِ أَكثر الجزئيات لإِثْبَات الحكم الْكُلِّي الْمُشْتَرك بَين جَمِيع الجزئيات، بِشَرْط أَن لَا يتَبَيَّن الْعلَّة المؤثرة فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا عِنْد الْفُقَهَاء بإلحاق الْفَرد بالأعم الْأَغْلَب، وَيخْتَلف فِيهِ الظَّن باخْتلَاف الجزئيات، فَكلما كَانَ الاستقراء فِي أَكثر، كَانَ أقوى ظنا.
وَقد اخْتلف فِي هَذَا النَّوْع.
فَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا، وَصَاحب " الْحَاصِل "، والبيضاوي، والهندي، وَغَيرهم: أَنه حجَّة، لكنه يُفِيد الظَّن لَا الْقطع، لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك الجزئي مُخَالفا لباقي الجزئيات المستقرأة.(8/3789)
وَقَالَ الرَّازِيّ: الْأَظْهر أَنه لَا يُفِيد الظَّن إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل، ثمَّ بِتَقْدِير الْحُصُول يكون حجَّة.
وَبِهَذَا يعلم أَن الْخلاف الْوَاقِع فِي أَنه يُفِيد الظَّن أَو لَا؟ أَن الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ هَل يكون حجَّة.
ورد الْبرمَاوِيّ كَلَام الرَّازِيّ.
وَقد مثله ابْن مُفْلِح، والبيضاوي، وَغَيرهمَا بقولهمَا: الْوتر يصلى على الرَّاحِلَة فَلَا يكون وَاجِبا؛ لأَنا استقرأنا الْوَاجِبَات: الْقَضَاء وَالْأَدَاء من الصَّلَوَات الْخمس، فَلم نر شَيْئا مِنْهَا يُؤدى على الرَّاحِلَة.
وَالدَّلِيل على أَنه يُفِيد الظَّن: أَنا إِذا وجدنَا صورا كَثِيرَة دَاخِلَة تَحت نوع واشتركت فِي حكم، وَلم نر شَيْئا مِمَّا يعلم أَنه مِنْهَا خرج عَن ذَلِك الحكم، أفادتنا تِلْكَ الْكَثْرَة قطعا ظن الحكم بِعَدَمِ الْأَدَاء على الرَّاحِلَة فِي مثالنا هَذَا من صِفَات ذَلِك النَّوْع، وَهُوَ الصَّلَاة الْوَاجِبَة، وَإِذا كَانَ مُفِيدا للظن، كَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا.(8/3790)
وَرُبمَا اسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " نَحن نحكم بِالظَّاهِرِ، وَالله يتَوَلَّى السرائر "، كَمَا اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره.
لكنه حَدِيث لَا يعرف، لَكِن رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أبي الْقَاسِم الجنزوي فِي كِتَابه: " إدارة الْأَحْكَام " فِي(8/3791)
قصَّة الْكِنْدِيّ والحضرمي الَّذين اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصل حَدِيثهمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: قضيت عَليّ وَالْحق لي، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نقضي بِالظَّاهِرِ وَالله يتَوَلَّى السرائر " وَله شَوَاهِد.(8/3792)
مِنْهَا: حَدِيث المتلاعنين: " لَوْلَا مَا فِي كتاب الله لَكَانَ لي وَلها شَأْن ".
وَفِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أم سَلمَة: " إِنَّمَا أَنا بشر، وَإنَّهُ يأتيني الْخصم، فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض فأحسب أَنه صدق، فأقضي لَهُ بذلك، فَمن قضيت لَهُ بِحَق مُسلم فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار فليأخذها أَو ليتركها ".(8/3793)
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِنِّي لم أُؤمر أَن أنقب عَن قُلُوب النَّاس وَلَا أشق بطونهم ".(8/3794)
وَقَول عمر: " إِن الْوَحْي قد انْقَطع، وَإِنَّمَا نأخذكم الْآن بِمَا ظهر لنا "، وَغير ذَلِك وَهُوَ كثير، مِمَّا يدل على أَن الْعَمَل بِالظَّنِّ وَاجِب.
تَنْبِيه: ينشأ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ فِي الاستقراء أَن القياسات المنطقية تَدور على ذَلِك، فَإنَّا إِذا قُلْنَا: الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث، فَيكون الْعَالم متغيرا، إِنَّمَا علم بالاستقراء التَّام، وَلذَلِك أَفَادَ الْقطع وَالْيَقِين.
وَإِذا قُلْنَا: الْوضُوء وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ، وكل مَا هُوَ وَسِيلَة لِلْعِبَادَةِ عبَادَة، إِنَّمَا أثبتنا الْمُقدمَة الثَّانِيَة بالاستقراء، وَهُوَ ظَنِّي؛ لِأَنَّهُ من أَكثر الجزئيات.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَرُبمَا ينْدَرج فِيهِ - أَيْضا - مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَغَيره:(8/3795)
الِاسْتِدْلَال من قِيَاس التلازم، وَهُوَ تلازم بَين ثبوتين إِلَى آخِره، كَمَا تقدم مُسْتَوفى محررا.
فَائِدَة: قَالَ ابْن حمدَان فِي آخر " نِهَايَة المبتدئين ": وأوجز من هَذَا أَن الِاسْتِدْلَال إِمَّا بالجزئي على الْكُلِّي وَهُوَ الاستقراء، أَو بالكلي على الجزئي وَهُوَ الْقيَاس، أَو بالجزئي على الجزئي وَهُوَ التَّمْثِيل، أَو بالكلي على الْكُلِّي وَهُوَ قِيَاس وتمثيل انْتهى.(8/3796)
(قَوْله: {فصل} )
{قَول صَحَابِيّ غير الْخُلَفَاء على صَحَابِيّ غير حجَّة اتِّفَاقًا} .
ذكر الْآمِدِيّ أَن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة على صَحَابِيّ إِجْمَاعًا.
وَكَذَا نقل ابْن عقيل وَزَاد: وَلَو كَانَ أعلم أَو إِمَامًا أَو حَاكما.
وَفِي نقل الْإِجْمَاع فِي ذَلِك نظر، فقد تقدم لنا فِي الْإِجْمَاع: رِوَايَة عَن أَحْمد أَن قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة حجَّة وَإِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا، وَأَبُو خازم من أَعْيَان الْحَنَفِيَّة الْمُتَقَدِّمين.(8/3797)
وَرِوَايَة: أَن قَوْلهم [لَيْسَ بِإِجْمَاع وَلَا] حجَّة.
وَرِوَايَة: أَن قَول الشَّيْخَيْنِ حجَّة.
وَرِوَايَة: أَن قَوْلهمَا إِجْمَاع.
وَرِوَايَة: أَنه يحرم مُخَالفَة أحد الْأَرْبَعَة، اخْتَارَهُ الْبَرْمَكِي من أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
فَكيف نحكي الْإِجْمَاع مَعَ هَذَا الْخلاف؟
وَكَذَلِكَ قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن حِكَايَة ابْن الْحَاجِب الِاتِّفَاق على ذَلِك فَقَالَ: (فِي حكايته الِاتِّفَاق نظر.
فقد قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ - بعد تَقْرِير أَنه إِنَّمَا يكون حجَّة على قَول من يرَاهُ إِذا لم يخْتَلف الصَّحَابَة، وَلَكِن نقل عَن وَاحِد مِنْهُم وَلم يظْهر خِلَافه: أَن الشَّافِعِي قَالَ فِي مَوضِع: إِذا اخْتلف الصَّحَابَة فالتمسك بقول الْخُلَفَاء أولى،(8/3798)
قَالَ: فَهَذَا كالدليل على أَنه لَا يسْقط الِاحْتِجَاج بأقوال الصَّحَابَة من أجل الِاخْتِلَاف انْتهى.
وَفِي " الْمَحْصُول " فِي مَسْأَلَة الْإِجْمَاع السكوتي مَا يشْعر بِالْخِلَافِ فِي كَونه حجَّة على صَحَابِيّ آخر.
وَفِي " اللمع " للشَّيْخ أبي إِسْحَاق أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ يَنْبَنِي على الْقَوْلَيْنِ فِي أَنه حجَّة أم لَا؟ فَإِن قُلْنَا لَيْسَ بِحجَّة لم يكن قَول بَعضهم حجَّة على بعض، وَلم يجز تَقْلِيد وَاحِد مِنْهُمَا، بل يرجع إِلَى الدَّلِيل، وَإِن قُلْنَا إِنَّه حجَّة فهما دليلان تَعَارضا يرجح أَحدهمَا على الآخر بِكَثْرَة الْعدَد من أحد الْجَانِبَيْنِ، أَو يكون فِيهِ إِمَام انْتهى.
قَوْله: {فَإِن انْتَشَر وَلم يُنكر فَسبق} .
فِي الْإِجْمَاع السكوتي محررا.(8/3799)
قَوْله: {وَإِن لم ينتشر فحجة مقدم على الْقيَاس عِنْد الْأَرْبَعَة، وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة غير الْكَرْخِي، وَقَالَهُ [الشَّافِعِي] فِي الْقَدِيم والجديد} .
نَقله ابْن مُفْلِح، وَنَقله - أَيْضا - عَن مَالك، وَإِسْحَاق، فَمن(8/3800)
أَصْحَابنَا أَبُو بكر، [و] ابْن شهَاب، وَالْقَاضِي، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم، وَنَقله أَبُو يُوسُف، وَغَيره عَن أبي حنيفَة.
فعلى هَذَا القَوْل إِن اخْتلف صحابيان فكدليلين تَعَارضا على مَا يَأْتِي.
وَقيل: إِن انْضَمَّ إِلَيْهِ قِيَاس تقريب كَانَ حجَّة مقدما على الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ قولا للشَّافِعِيّ، وَذَلِكَ: كَقَوْل عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فِي البيع بِشَرْط الْبَرَاءَة من كل عيب " أَن البَائِع يبرأ بِهِ مِمَّا لم يعلم فِي الْحَيَوَان دون غَيره ".(8/3801)
قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -: لِأَنَّهُ يغتذي بِالصِّحَّةِ والسقم، أَي: فِي حالتيهما وتحول طبائعه.
وقلما يَخْلُو من عيب ظَاهر أَو خَفِي، بِخِلَاف غَيره، فَيبرأ البَائِع فِيهِ من خَفِي لَا يُعلمهُ بِشَرْط الْبَرَاءَة الْمُحْتَاج هُوَ إِلَيْهِ ليثق [باستقرار] العقد.
فَهَذَا قِيَاس تقريب، قرب قَول عُثْمَان الْمُخَالف لقياس التَّحْقِيق، وَالْمعْنَى من أَنه لَا يبرأ من شَيْء للْجَهْل بالمبرأ مِنْهُ.
وَقيل: حجَّة دون الْقيَاس فَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ إِذا تَعَارضا.
وَقيل: إِجْمَاع.(8/3802)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْإِجْمَاع: " وَإِن لم ينتشر القَوْل فَلَا إِجْمَاع لعدم الدَّلِيل.
وَعند بَعضهم إِجْمَاع؛ لِئَلَّا يَخْلُو الْعَصْر عَن الْحق.
رد: بِجَوَازِهِ لعدم علمهمْ " انْتهى.
وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة كَأبي حنيفَة نَقله عَنهُ ابْن برهَان، وَالشَّافِعِيّ(8/3803)
فِي الْجَدِيد، وَأكْثر أَصْحَابه، والأشعرية، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، وَجمع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَإِلَيْهِ ذهب الأشاعرة والمعتزلة، والكرخي من الْحَنَفِيَّة، والرازي وَأَتْبَاعه، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم ".(8/3804)
فَيقدم الْقيَاس عَلَيْهِ عِنْد التَّعَارُض؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَالْأَصْل عَدمه.
وَسبق فِي دَلِيل الْقيَاس: {فاعتبروا} [الْحَشْر: 2] ، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] .
رد: إِن أمكن رده إِلَى الرَّسُول، ثمَّ قَوْله من الرَّسُول.
وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك أَن قَول الأعلم حجَّة.
رد: لَا يلْزم ذَلِك لمشاهدة التَّنْزِيل وَتَمام الْمعرفَة.
وَاسْتدلَّ: بِأَنَّهُ يلْزم من ذَلِك التَّقْلِيد مَعَ إِمْكَان الِاجْتِهَاد.
رد: لَا تَقْلِيد وَهُوَ حجَّة.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: يلْزم من القَوْل بِأَنَّهُ حجَّة تنَاقض الْحجَج.
رد: بِأَن التَّرْجِيح يدْفع ذَلِك، أَو الْوَقْف، أَو التَّخْيِير كَبَقِيَّة الْأَدِلَّة.
قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} [آل عمرَان: 110] .
رد: للْجَمِيع.
قَالُوا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، رَوَاهُ عُثْمَان الدَّارمِيّ، وَابْن عدي.(8/3805)
رد: لَا يَصح عِنْد عُلَمَاء الحَدِيث، قَالَ أَحْمد: لَا يَصح، وَذكره فِي رِوَايَة حَنْبَل.(8/3806)
قَالَ القَاضِي: فقد احْتج بِهِ فَدلَّ على صِحَّته عِنْده.
رد: سبق كَلَام الإِمَام فِي الْخَبَر الضَّعِيف، ثمَّ الرِّوَايَة الأولى أصح وأصرح.
ثمَّ لَا يدل على عُمُوم الاهتداء فِي كل مَا يقْتَدى بِهِ، فَالْمُرَاد الِاقْتِدَاء فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد، وَفِي روايتهم، أَو هُوَ خطاب الْعَامَّة.(8/3807)
وَبِه يعرف جَوَاب مَا سبق فِي الْإِجْمَاع: أَن الْحجَّة قَول الْخُلَفَاء أَو قَول أبي بكر وَعمر.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": بِأَنَّهَا لَا تفِيد الْعلم، وَأَن أحدا لم يُوجب الِاقْتِدَاء بِأبي بكر وَعمر فَقَط، كَذَا قَالَ.
قَالُوا: فِي البُخَارِيّ " أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف قَالَ لعُثْمَان: أُبَايِعك على سنة الله وَرَسُوله والخليفتين من بعده، فَبَايعهُ عبد الرَّحْمَن وَبَايَعَهُ النَّاس ".(8/3808)
رد: إِنَّمَا ذَلِك فِي السياسية، وَلِهَذَا بَينهم خلاف فِي الْأَحْكَام.
قَالُوا: يقدم مَعَ قِيَاس ضَعِيف على قِيَاس قوي فَقدم مُطلقًا كَقَوْل الشَّارِع.
رد: بِالْمَنْعِ، ذكره فِي " الْوَاضِح "، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد " ثمَّ سلمه.
وَقَالَهُ القَاضِي: لاجتماعهما كشاهدين، وَيَمِين مَعَ شَاهد.
قَالُوا: قَالَ الزُّهْرِيّ لصالح بن كيسَان: " نكتب مَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة فَإِنَّهُ سنة، فَقَالَ: لَيْسَ بِسنة فَلَا تكتبه، قَالَ: فأنجح وضيعت "، رَوَاهُ(8/3809)
[عبد الرَّزَّاق] عَن معمر عَن صَالح.
رد: لَا حجَّة فِيهِ.
قَوْله: {وَقَوله فِيمَا يُخَالف الْقيَاس يحمل على التَّوْقِيف ظَاهرا عِنْد أَحْمد وَأكْثر الصَّحَابَة، وَالشَّافِعِيّ، وَالْحَنَفِيَّة، وَابْن الصّباغ،(8/3810)
والرازي، وَخَالف أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} .
قَالَ السُّبْكِيّ، وَتَبعهُ ابْنه التَّاج، وَالشَّيْخ صَلَاح الدّين العلائي: أَن الشَّافِعِي يَقُول: إِنَّه يحمل على التَّوْقِيف فِي الْجَدِيد.
وَقَالَ السُّبْكِيّ أَيْضا: إِنَّه مَذْكُور فِي الْجَدِيد وَالْقَدِيم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يصير فِي حكم الْمَرْفُوع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَقد سبق أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ مَا لَا يُمكن أَن يَقُوله عَن اجْتِهَاد بل عَن تَوْقِيف: أَنه يكون مَرْفُوعا، صرح بِهِ عُلَمَاء الحَدِيث وَالْأُصُول " انْتهى.(8/3811)
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: هُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي، أَعنِي قَوْله فِيمَا يُخَالف الْقيَاس أَنه يحمل على التَّوْقِيف.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وبنينا عَلَيْهِ مسَائِل: كتغليظ الدِّيَة بالحرمات الثَّلَاث.
قَوْله: {فعلى الأول يكون حجَّة حَتَّى على صَحَابِيّ عندنَا، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " يلْزم على القَوْل بِأَنَّهُ توقيفي أَن يكون حجَّة على صَحَابِيّ.
رد: نقُول بِهِ، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي.
وَأَيْضًا: يُعَارض خَبرا مُتَّصِلا.
رد: نعم، يُعَارضهُ عِنْد أبي الْخطاب، ثمَّ الْمُتَّصِل ثَبت من النَّقْل فَقدم الْمُتَّصِل عَلَيْهِ، وَأَيْضًا: لَا يجوز إِضَافَته إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالظَّنِّ.
رد: يمْنَع ذَلِك كَخَبَر الْوَاحِد.(8/3812)
وَأَيْضًا: لَو كَانَ حَدِيثا لنقله الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِئَلَّا يكون كَاتِما للْعلم.
رد: يحْتَمل أَنه نَقله وَلم يبلغنَا، أَو ظن نقل غَيره لَهُ، فَاكْتفى بذلك الْغَيْر عَن نَقله، أَو كره الرِّوَايَة.
قلت: كل هَذِه الِاحْتِمَالَات بعيدَة، بل يُقَال: لَا يلْزم أَنه إِذا [روى] ذَلِك وَكَانَ توقيفا أَن يُصَرح بِرَفْعِهِ.
قَوْله: {وَمذهب التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَعنهُ: بلَى، فيخص بِهِ الْعُمُوم ويفسر بِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " مَذْهَب التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة عِنْد أَحْمد وَالْعُلَمَاء للتسلسل، وَذكر بعض الْحَنَفِيَّة عَنهُ رِوَايَتَيْنِ.(8/3813)
وَقَالَ ابْن عقيل: لَا يخص بِهِ الْعُمُوم وَلَا يُفَسر بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة.
قَالَ: وَعنهُ جَوَاز ذَلِك، ثمَّ ذكر قَول أَحْمد: لَا يكَاد يَجِيء شَيْء عَن التَّابِعين إِلَّا يُوجد عَن الصَّحَابَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: كَلَام أَحْمد يعم تَفْسِيره وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ على هَذَا رفع التسلسل ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَلَا يلْزم الرُّجُوع إِلَى تَفْسِير التَّابِعِيّ.
قَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره إِلَّا أَن ينْقل ذَلِك عَن الْعَرَب.
وَأطلق القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن وَغَيره رِوَايَتَيْنِ: الرُّجُوع، وَعَدَمه.
نقل أَبُو دَاوُد: إِذا جَاءَ الشَّيْء عَن الرجل من التَّابِعين لَا يُوجد فِيهِ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يلْزم الْأَخْذ بِهِ.
وَنقل الْمَرْوذِيّ: ينظر مَا كَانَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِن لم يكن فَعَن الصَّحَابَة فَإِن لم يكن فَعَن التَّابِعين.(8/3814)
قَالَ القَاضِي: وَيُمكن حمله على إِجْمَاعهم انْتهى.
قَوْله: {وَكَذَا لَو خَالف الْقيَاس، وَذكره ابْن عقيل مَحل وفَاق، يَعْنِي: أَنه لَا يكون حجَّة، وَعند الْمجد: كصحابي} .
يَعْنِي: أَنه إِذا قَالَ قولا يُخَالف الْقيَاس هَل يحمل على التَّوْقِيف أم لَا؟
الْمَذْهَب: لَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَذكره ابْن عقيل مَحل وفَاق.
وَقَالَ الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " " فِي - مَسْأَلَة من قَامَ من نوم اللَّيْل فَغمسَ يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا -[وَزَوَال طهوريته] قَول الْحسن وَهُوَ(8/3815)
مُخَالف للْقِيَاس، والتابعي إِذا قَالَ مثل ذَلِك فَإِنَّهُ حجَّة، لِأَن الظَّاهِر أَنه تَوْقِيف عَن صَحَابِيّ، أَو نَص ثَبت عِنْده ".
وَقَالَهُ - أَيْضا - عَن قَول أَسد بن ودَاعَة التَّخْفِيف بِقِرَاءَة " يس " عِنْد المحتضر.(8/3816)
وَذكر ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " بعد أَن ذكر كَلَام الْمجد وَغَيره: وَيتَوَجَّهُ تَخْرِيج رِوَايَة من جعل تَفْسِيره كتفسير الصَّحَابِيّ.
ثمَّ قَالَ: وَذكر صَاحب " الْمُحَرر " وَغَيره: كصحابي، فَلم ينْفَرد الْمجد بذلك وَالله أعلم.(8/3817)
(قَوْله: {فصل} )
{الِاسْتِحْسَان قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّة، وَأحمد فِي مَوَاضِع، وَكتب أَصْحَاب مَالك مَمْلُوءَة مِنْهُ، وَلم ينص عَلَيْهِ، وَأنْكرهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَرُوِيَ عَن أَحْمد، قَالَ أَبُو الْخطاب: أنكر مَا لَا دَلِيل لَهُ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: أطلق أَحْمد القَوْل بِهِ فِي مَوَاضِع.
قلت: قَالَ فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " اسْتحْسنَ أَنه يتَيَمَّم لكل صَلَاة، وَالْقِيَاس: أَنه بِمَنْزِلَة المَاء حَتَّى يحدث أَو يجد المَاء ".
وَقَالَ فِي رِوَايَة بكر بن مُحَمَّد فِيمَن غصب أَرضًا فزرعها: " الزَّرْع لصَاحب الأَرْض وَعَلِيهِ النَّفَقَة، وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء يُوَافق الْقيَاس، وَلَكِن اسْتحْسنَ أَن يدْفع إِلَيْهِ النَّفَقَة ".(8/3818)
وَقَالَ فِي رِوَايَة صَالح فِي الْمضَارب إِذا خَالف فَاشْترى غير مَا أَمر بِهِ صَاحب المَال: " فَالرِّبْح لصَاحب المَال، وَلِهَذَا أُجْرَة مثله، إِلَّا أَن يكون الرِّبْح يُحِيط بأجره مثله فَيذْهب، وَكنت أذهب إِلَى أَن الرِّبْح لصَاحب المَال ثمَّ استحسنت هَذَا ".
وَيَأْتِي مثله غير ذَلِك قَرِيبا فِي التَّعْرِيف الأول.
وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: لم ينص عَلَيْهِ مَالك، وَكتب أَصْحَابنَا مَمْلُوءَة مِنْهُ، كَابْن قَاسم، وَأَشْهَب، وَغَيرهمَا.(8/3819)
وَقَالَ الشَّافِعِي: " اسْتحْسنَ الْمُتْعَة ثَلَاثِينَ درهما ".
وَثُبُوت الشُّفْعَة إِلَى ثَلَاث، وَترك شَيْء من الْكِتَابَة، وَأَن لَا تقطع يمنى السَّارِق أخرج يَده الْيُسْرَى فَقطعت، والتحليف على الْمُصحف.(8/3820)
وَالْأَشْهر عَنهُ: إِنْكَاره، وَقَالَهُ أَصْحَابه.
وَقَالَ: " من اسْتحْسنَ فقد شرع ".
وَهُوَ بتَشْديد الرَّاء، أَي: نصب شرعا على خلاف مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله، وَأنْكرهُ على الْحَنَفِيَّة.
وَعَن أَحْمد: " الْحَنَفِيَّة تَقول: نستحسن هَذَا وَنَدع الْقيَاس، فتدع مَا نزعمه الْحق بالاستحسان، وَأَنا أذهب إِلَى كل حَدِيث جَاءَ وَلَا أَقيس عَلَيْهِ ".(8/3821)
قَالَ القَاضِي: هَذَا يدل على إِبْطَاله.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِنَّمَا أنكر اسْتِحْسَانًا بِلَا دَلِيل، قَالَ: وَمعنى " أذهب إِلَى مَا جَاءَ وَلَا أَقيس "، أَي: أترك الْقيَاس بالْخبر، وَهُوَ الِاسْتِحْسَان بِالدَّلِيلِ انْتهى.
وأوّل أَصْحَاب الشَّافِعِي كَلَام الشَّافِعِي بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِدَلِيل، لكنه سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا، لَا عده حسنا.
وَلَا يُنكر التَّعْبِير بذلك، وَيُقَال لِلْقَائِلين بِهِ إِن عنيتم مَا يستحسنه الْمُجْتَهد بعقله من غير دَلِيل كَمَا حَكَاهُ الشَّافِعِي عَن أبي حنيفَة.
قَالَ الشِّيرَازِيّ: " هُوَ الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ ".
فَأمر عَظِيم، وَقَول فِي الشَّرِيعَة لمُجَرّد التشهي وتفويض الْأَحْكَام إِلَى عقول ذَوي الآراء، وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} [الشورى: 10] ، وَلَكِن أَصْحَابه يُنكرُونَ هَذَا التَّفْسِير عَنهُ.(8/3822)
وَإِن عنيتم جَوَاز لفظ الِاسْتِحْسَان فَقَط فَلَا إِنْكَار فِي ذَلِك، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} [الزمر: 18] .
وَفِي الحَدِيث: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن "، وَالْكتاب وَالسّنة مشحونان بِنَحْوِ ذَلِك.
لكِنهمْ لَا يقصدون هَذَا الْمَعْنى، فَلَيْسَ لكم أَن تحتجوا بِمثلِهِ على الِاسْتِحْسَان بِالْمَعْنَى الَّذِي تريدونه.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، والدارمي، عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَمن رَفعه فقد أَخطَأ، وَرَفعه من حَدِيث أنس سَاقِط لَا يحْتَج بِهِ، وعَلى تَقْدِير صِحَّته فَالْمُرَاد بِهِ إِجْمَاع الْأمة ورأيهم حسنه بِالدَّلِيلِ الَّذِي قَامَ لَهُم.
قَوْله: {وَهُوَ لُغَة: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا} .
الِاسْتِحْسَان، استفعال من الْحسن: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا [اعْتِقَاد] الشَّيْء حسنا، وَلم نقل الْعلم بِكَوْن الشَّيْء حسنا؛ لِأَن الِاعْتِقَاد لَا يلْزم مِنْهُ الْعلم الْجَازِم المطابق لما فِي نفس الْأَمر، إِذْ قد يكون الِاعْتِقَاد صَحِيحا إِذا طابق الْوَاقِع، وَقد يكون فَاسِدا إِذا لم يُطَابق، وَحِينَئِذٍ قد يستحسن الشَّخْص شَيْئا بِنَاء على اعْتِقَاده وَلَا يكون حسنا فِي نفس الْأَمر، وَقد يُخَالِفهُ غَيره فِي استحسانه، فَلَو قيل: الْعلم بِكَوْن الشَّيْء حسنا يخرج مِنْهُ مَا لَيْسَ حسنه حَقًا فِي نفس الْأَمر، وَإِذا قُلْنَا: اعْتِقَاد الشَّيْء حسنا تنَاول ذَلِك.(8/3823)
قَوْله: {وَعرفا، أَي فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ واصطلاحهم الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن نظائرها لدَلِيل شَرْعِي} .
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَتَبعهُ بعض أَصْحَابه وتابعناهم: وأجود مَا قيل فِيهِ: إِنَّه الْعُدُول بِحكم الْمَسْأَلَة عَن نظائرها لدَلِيل شَرْعِي خَاص بِتِلْكَ الْمَسْأَلَة.
قَالَ الطوفي: " مِثَاله قَول أبي الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْعينَة: وَإِذا اشْترى مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن الأول: لم يجز اسْتِحْسَانًا، وَجَاز قِيَاسا، فَالْحكم فِي نَظَائِر هَذِه الْمَسْأَلَة من الربويات: الْجَوَاز، وَهُوَ الْقيَاس، لَكِن عدل بهَا عَن نظائرها بطرِيق الِاسْتِحْسَان، فمنعت، وَحَاصِل هَذَا يرجع إِلَى تَخْصِيص الدَّلِيل بِدَلِيل أقوى مِنْهُ فِي نظر الْمُجْتَهد.
قَالَ ابْن المعمار الْبَغْدَادِيّ: مِثَال الِاسْتِحْسَان مَا قَالَه أَحْمد رَحمَه الله: إِنَّه يتَيَمَّم لكل صَلَاة، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاس أَنه بِمَنْزِلَة المَاء حَتَّى يحدث.
وَقَالَ: يجوز شِرَاء أَرض السوَاد وَلَا يجوز بيعهَا.
قيل لَهُ: فَكيف يَشْتَرِي مِمَّن لَا يملك البيع؟(8/3824)
فَقَالَ: الْقيَاس هَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَان.
وَكَذَلِكَ يمْنَع من بيع الْمُصحف وَيُؤمر بِشِرَائِهِ استحسانه ".
وَقيل: دَلِيل ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد يعجز عَن التَّعْبِير عَنهُ، وَهُوَ لبَعض الْحَنَفِيَّة.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " مَا لَا يعبر عَنهُ لَا يدرى أوهم أَو تَحْقِيق ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده مَا قَالَ الْآمِدِيّ: يرد إِن شكّ فِيهِ وَلَا عمل بِهِ اتِّفَاقًا.
وَمرَاده النَّاظر لَا المناظر ".
قَالَ الطوفي عَن هَذَا الْحَد: وَهُوَ هوس إِلَى طرف من الْجُنُون، حَيْثُ هُوَ كَلَام لَا فَائِدَة فِيهِ.(8/3825)
ورده ابْن الْحَاجِب: بِأَنَّهُ إِذا لم يتَحَقَّق بِكَوْنِهِ دَلِيلا فمردود اتِّفَاقًا، وَإِن تحقق فمعتبر اتِّفَاقًا.
قيل: وَفِيمَا قَالَه نظر، لِأَنَّهُ قد يُقَال على الشَّك الأول لَا معنى لكَونه لم يتَحَقَّق، لِأَن الْغَرَض أَنه عِنْدهم دَلِيل على الشق الثَّانِي، لَا نسلم أَن مَا لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ من الْأَدِلَّة يعْمل بِهِ.
ورده الْبَيْضَاوِيّ: " بِأَنَّهُ لَا بُد من ظُهُوره ليتميز صَحِيحه من [فاسده] "، فَإِن مَا ينقدح فِي نفس الْمُجْتَهد قد يكون وهما لَا عِبْرَة بِهِ.
قيل: وَفِيه نظر؛ لِأَن هَذَا إِنَّمَا يقْدَح فِيمَا يكون فِي المناظرة، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى عمل الْمُجْتَهد بِهِ فَإِنَّهُ انقدح عِنْده أَنه دَلِيل فَعمل بِهِ وَأفْتى بِهِ، وَإِن لم يقدر على التَّعْبِير عَنهُ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال فِي الرَّد: إِن المنقدح فِي نفس الْمُجْتَهد إِنَّمَا يمتاز عَن غَيره من الْأَدِلَّة لكَونه لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ، وَلَكِن ذَلِك لَا يقْدَح فِي كَونه دَلِيلا، فَيمكن التَّمَسُّك بِهِ وفَاقا فَأَيْنَ الِاسْتِحْسَان الْمُخْتَلف فِيهِ؟
فَقَالَ الْكَرْخِي، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْقَاضِي يَعْقُوب: ترك الحكم لحكم أولى مِنْهُ.(8/3826)
وأبطله أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": بِأَن الْقُوَّة للأدلة لَا للْأَحْكَام.
وَقَالَ القَاضِي - أَيْضا - والحلواني: القَوْل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَن كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي أَنه عدُول عَن مُوجب قِيَاس لقياس أقوى.
وَاخْتَارَهُ فِي " الْوَاضِح ".
وَقيل: الْعُدُول عَن حكم الدَّلِيل إِلَى الْعَادة لمصْلحَة النَّاس: كشرب المَاء من السقاة، وَدخُول الْحمام من غير تَقْدِير المَاء.
ورد ذَلِك: بِأَن الْعَادة إِن ثَبت جريانها بذلك فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ ثَابت بِالسنةِ، أَو فِي زمانهم من غير إِنْكَار فَهُوَ إِجْمَاع، وَإِلَّا فَهُوَ مَرْدُود.(8/3827)
وَقيل: ترك قِيَاس لقياس أقوى مِنْهُ.
وأبطله فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: أَنه لَو تَركه لنَصّ كَانَ اسْتِحْسَانًا.
وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": ترك قِيَاس لما هُوَ أولى مِنْهُ أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد.
وَقد ظهر مِمَّا تقدم أَنه لَا يتَحَقَّق اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ، وَإِن تحقق اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ، فَمن قَالَ بِهِ فقد شرع، كَمَا قَالَ الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَلَا نزاع معنوي فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَعند الْحَنَفِيَّة يثبت بالأثر: كسلم، وَإِجَارَة، وَبَقَاء(8/3828)
صَوْم نَاس، وبالإجماع وبالضرورة: كتطهير الْحِيَاض، وَسموا مَا ضعف أَثَره قِيَاسا وَالْقَوِي اسْتِحْسَانًا} .
أَي: قِيَاسا مستحسنا لقُوَّة أَثَره: كتقديمه فِي طَهَارَة سِبَاع الطير، وَقدمُوا قِيَاسا ظهر فَسَاده واستتر أَثَره على اسْتِحْسَان ظهر أَثَره واستتر فَسَاده: كالركوع بدل سُجُود التِّلَاوَة للخضوع الْحَاصِل بِهِ، لِأَن السُّجُود لم(8/3829)
يُؤمر بِهِ لعَينه فَلم يشرع قربَة مَقْصُودَة.
وَفرقُوا بَين الِاسْتِحْسَان بِالثَّلَاثَةِ الأول، بِالْقِيَاسِ الْخَفي بِصِحَّة التَّعْدِيَة بِهِ دونهَا: كالاختلاف فِي ثمن مَبِيع قبل قَبضه لَا يحلف بَائِع قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ مُدع، وَيحلف اسْتِحْسَانًا لإنكاره تَسْلِيمه بِمَا يَدعِيهِ مُشْتَر فيتعدى إِلَى الْوَارِث وَالْإِجَارَة، وَبعد قَبضه يثبت الْيَمين بالأثر فَلم يَتَعَدَّ إِلَى وَارثه وَإِلَى حَال تلف مَبِيع.
وَكَذَا قَالُوا: وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَمثل هَذَا لم يقل بِهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَالله أعلم، قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَالَ: (وَإِن ثَبت اسْتِحْسَان مُخْتَلف فِيهِ فَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَالْأَصْل عَدمه، وَقَوله تَعَالَى: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} [الزمر: 55] ، لَا نسلم أَن هَذَا مَا أنزلهُ فضلا عَن كَونه أحسن وَلم يفسره بِهِ أحد.
" وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن " سبق فِي الْإِجْمَاع وَهُوَ المُرَاد قطعا.(8/3830)
وَنَازع ابْن عقيل الْحَنَفِيَّة وَقَالَ: الْقيَاس: هُوَ وضع الِاسْتِحْسَان، وَأَنه يتَصَوَّر الْخلاف مَعَهم فِي ترك الْقيَاس للْعُرْف وَالْعَادَة، وَاحْتج بِأَن الْقيَاس حجَّة فَلَا يجوز تَركه لعرف طاريء كَغَيْرِهِ) انْتهى.
قَوْله: {سد أَحْمد وَمَالك الذرائع: وَهُوَ مَا ظَاهره مُبَاح، ويتوصل بِهِ إِلَى محرم، وأباحه أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ} .
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَمن تبعه: بل عَلَيْهِ الْأَصْحَاب " والحيل كلهَا مُحرمَة لَا تجوز فِي شَيْء من الدّين.
وَهُوَ: أَن يظْهر عقدا مُبَاحا يُرِيد بِهِ محرما مخادعة وتوسلا إِلَى فعل مَا حرم الله، واستباحة محظوراته، أَو إِسْقَاط وَاجِب، أَو دفع حق، وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ رَحمَه الله: إِنَّهُم ليخادعون الله كَمَا يخادعون صَبيا، لَو كَانُوا يأْتونَ الْأَمر على وَجهه كَانَ أسهل عَليّ.(8/3831)
فَمن ذَلِك: لَو كَانَ لرجل عشرَة صحاحا وَمَعَ آخر خمس عشرَة مكسرة، فاقترض كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا مَعَ صَاحبه، ثمَّ تباريا توصلا إِلَى بيع الصِّحَاح بالمكسرة مُتَفَاضلا، أَو بَاعه الصِّحَاح بِمِثْلِهَا من المكسرة، ثمَّ وهبه الْخَمْسَة الزَّائِدَة، أَو اشْترى مِنْهُ بهَا أُوقِيَّة صابون، وَنَحْوهَا مِمَّا يَأْخُذهُ بِأَقَلّ من قِيمَته، أَو اشْترى مِنْهُ بِعشْرَة إِلَّا حَبَّة من الصَّحِيح بِمِثْلِهَا من المكسرة، أَو اشْترى مِنْهُ بالحبة الْبَاقِيَة ثوبا قِيمَته خَمْسَة دَنَانِير، وَهَكَذَا لَو أقْرضهُ مِنْهُ شَيْئا، وَبَاعه سلْعَة بِأَكْثَرَ من قيمتهَا، أَو اشْترى مِنْهُ سلْعَة بِأَقَلّ من قيمتهَا توسلا إِلَى أَخذ عوض عَن الْقَرْض.
فَكل مَا كَانَ من هَذَا على وَجه الْحِيلَة هُوَ خَبِيث محرم، وَبِهَذَا قَالَ مَالك.(8/3832)
وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ: هَذَا كُله وأشباهه جَائِز إِذا لم يكن مَشْرُوطًا فِي العقد.
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي: يكره أَن يدخلا عَلَيْهِ.
ثمَّ قَالَ الْمُوفق: وَلنَا أَن الله تَعَالَى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة، وَسَمَّاهُمْ معتدين، وَجعل ذَلِك نكالا وموعظة لِلْمُتقين ليتعظوا بهم، ويمتنعو من مثل أفعالهم " وَأطَال فِي ذَلِك، ذكره فِي الشَّرْح آخر الرِّبَا وَالله أعلم.(8/3833)
(قَوْله: {فصل} )
{الْمصَالح الْمُرْسلَة: سبقت فِي المسلك الرَّابِع، وَذكر أَبُو الْخطاب أَن الاستنباط قِيَاس واستدلال بأمارة، أَو عِلّة بِشَهَادَة الأَصْل، قَالَ الشَّيْخ: هَذَا هُوَ الْمصَالح} .
سبقت الْمصَالح الْمُرْسلَة فِي المسلك الرَّابِع بأقسامها، وتفاريعها، وأحكامها، وَالْخلاف فِيهَا، محررة مستوفاة فليعاود.
وَذَلِكَ إِن شهد الشَّرْع باعتبارها: كاقتباس الحكم من مَعْقُول دَلِيل شَرْعِي فَقِيَاس، أَو ببطلانها: كتعيين الصَّوْم فِي كَفَّارَة وَطْء رَمَضَان على الْمُوسر كالملك وَنَحْوه فلغو.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: " أنكرها متأخرو أَصْحَابنَا من أهل الْأُصُول، والجدل، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين ".
وَقَالَ بهَا مَالك، وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم، وَحكي عَن أبي حنيفَة.(8/3834)
وَقَالَ ابْن برهَان: الْحق مَا قَالَه الشَّافِعِي: إِن لاءمت أصلا كليا أَو جزئيا قُلْنَا بهَا وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ: مَالك لَا يُخَالف هَذَا الْمَذْهَب.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي تَقْسِيم أَدِلَّة الشَّرْع: أَن الاستنباط قِيَاس، واستدلال بأمارة أَو عِلّة، وبشهادة الْأُصُول.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الِاسْتِدْلَال بأمارة أَو عِلّة هُوَ الْمصَالح.
وَأنكر بعض أَصْحَابنَا مذهبا ثَالِثا فِيهَا وَالله أعلم.
قَوْله: {فَائِدَة:}
{من أَدِلَّة الْفِقْه: لَا يرفع يَقِين شكّ، وَالضَّرَر يزَال وَلَا يزَال بِهِ، ويبيح الْمَحْظُور، وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير، وَدفع الْمَفَاسِد أولى من جلب الْمصَالح، وَدفع أَعْلَاهَا بأدناها، وتحكم الْعَادة، وَجعل الْمَعْدُوم كالموجود احْتِيَاطًا} .
هَذِه كالأدلة وَالْقَوَاعِد للفقه ذَكرنَاهَا هُنَا من كتب أَصْحَابنَا وَغَيرهم،(8/3835)
فَإِن هَذَا الْبَاب مَوْضُوع الِاسْتِدْلَال، وَلذَلِك ذكرُوا هُنَا الإلهام هَل هُوَ دَلِيل أم لَا؟ وَكَذَلِكَ أقل مَا قيل: كدية الْكِتَابِيّ.
فَهَذِهِ قَوَاعِد تشبه الْأَدِلَّة وَلَيْسَت بأدلة لَكِن ثَبت مضمونها بِالدَّلِيلِ، وَصَارَت يقْضى بهَا فِي جزئياتها كَأَنَّهَا دَلِيل على ذَلِك الجزئي، فَلَمَّا كَانَت كَذَلِك ناسب أَن نذْكر هُنَا شَيْئا من مهمات مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه الَّتِي صَارَت مَشْهُورَة بَين الْأَصْحَاب، وَهِي فِي الْحَقِيقَة رَاجِعَة إِلَى قَوَاعِد أصُول الْفِقْه، فنذكرها ونشير إِلَى مَا يرجع كل مِنْهَا إِلَيْهِ من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه بِاخْتِصَار.(8/3836)
وَقد ذكر الْعَلامَة ابْن رَجَب قَوَاعِد جليلة عَظِيمَة لَكِنَّهَا فِي الْفِقْه.
وَبعده تِلْمِيذه القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن اللحام البعلي، ذكر قَوَاعِد فِي أصُول الْفِقْه، كل مِنْهُمَا أَتَى بأَشْيَاء كَثِيرَة حَسَنَة جدا نافعة لطَالب الْعلم.
وَكَذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين [ذكر] قَوَاعِد كَثِيرَة فِي الْمَذْهَب، وَكَذَلِكَ ابْن الْقيم وَغَيره.
إِذْ يحب على كل من أَرَادَ إحكام علم أَن يضْبط قَوَاعِده ليرد إِلَيْهَا مَا ينتشر من الْفُرُوع، ثمَّ يُؤَكد ذَلِك بالاستكثار من حفظ الْفُرُوع ليرسخ فِي الذِّهْن؛ فيتميز على نظرائه بِحِفْظ ذَلِك واستحضاره.
وَاعْلَم أَن قَوَاعِد مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه كَثِيرَة جدا لَا تَنْحَصِر، كَمَا تقدم ذكر بَعْضهَا عَن ابْن رَجَب وَغَيره، وَكَذَلِكَ جَمِيع الْمذَاهب الْأَرْبَعَة لكل أَصْحَاب مَذْهَب قَوَاعِد كَثِيرَة جليلة عَظِيمَة.(8/3837)
وَقد رد الْعَلامَة أَبُو الطَّاهِر الدباس الْحَنَفِيّ إِمَام الْحَنَفِيَّة بِمَا وَرَاء النَّهر جَمِيع مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى سبع عشرَة قَاعِدَة، وَكَانَ يضن بتعليمها.
وَلما بلغ ذَلِك الإِمَام الْعَلامَة القَاضِي الْحُسَيْن أحد أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة رد جَمِيع مَذْهَب الشَّافِعِي إِلَى أَربع قَوَاعِد، وَهِي: الْيَقِين لَا يزَال بِالشَّكِّ، وَالضَّرَر يزَال، وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير، وَالْعَادَة محكمَة.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فِي كَون هَذِه الْأَرْبَع دعائم الْفِقْه نظر، فَإِن غالبه لَا يرجع إِلَيْهَا إِلَّا بوسائط وتكلف.
قَالَ الْحَافِظ العلائي: (وَرَأَيْت فِيمَا علقت بِالْقَاهِرَةِ، وَعَن بعض الْفُضَلَاء أَنه ضم إِلَى الْأَرْبَع خَامِسَة وَهِي: الْأُمُور بمقاصدها، لحَدِيث: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَقَالَ: بني الْإِسْلَام على خمس، وَالْفِقْه على خمس، وَهُوَ حسن) .(8/3838)
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: أصُول الْإِسْلَام ثَلَاثَة أَحَادِيث:
" الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، و " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين " و " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُد تلميذ الإِمَام أَحْمد: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث:(8/3839)
" الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين "، و " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، و " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ فَاجْتَنبُوهُ، وَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، و " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، و " الدّين النَّصِيحَة ".
وَقَالَ أَيْضا: كتبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خمس مائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهُ مَا ضمنته كتابي السّنَن، جمعت فِيهِ أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حَدِيث، ذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ ويقاربه، وَيَكْفِي الْمُسلم لدينِهِ من ذَلِك أَرْبَعَة أَحَادِيث:(8/3840)
" الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، و " من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه "، و " لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يرضى لِأَخِيهِ مَا يرضى لنَفسِهِ "، و " الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين ".(8/3841)
وَقَالَ الرّبيع: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: يدْخل حَدِيث عمر، يَعْنِي " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " على سبعين بَابا من الْفِقْه، أَي: أنواعا، أَو مُبَالغَة، اعْتِبَارا أَنه دَاخل فِي أَكثر الْفِقْه.
وَقَالَ أَيْضا: يدْخل فِي هَذَا الحَدِيث ثلث الْعلم.
ورد بعض أهل الْعلم ذَلِك إِلَى أقل من الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة قبل.
ورد ابْن عبد السَّلَام الْفِقْه كُله إِلَى اعْتِبَار الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد.
وَلَو ضايقه مضايق لقَالَ: ورد الْكل إِلَى اعْتِبَار الْمصَالح، فَإِن دَرْء الْمَفَاسِد من جُمْلَتهَا، وكل هَذَا تعسف، وَفِيه إِجْمَال شَدِيد، بل الْقَوَاعِد تزيد على الْمِائَتَيْنِ، كَمَا ذكر بَعْضهَا ابْن اللحام من أَصْحَابنَا وَغَيره.
وَذكر التَّاج السُّبْكِيّ قَوَاعِد كَثِيرَة جدا أَجَاد فِيهَا وَأفَاد.
وَذكرنَا هُنَا بعض قَوَاعِد تشْتَمل على مسَائِل مهمة، وَهِي متسعة جدا، وَلذَلِك ذكر التَّاج السُّبْكِيّ الْأَرْبَعَة الأول.
وَزَاد بَعضهم خَامِسَة، وزدنا عَلَيْهَا شَيْئا يَسِيرا.
فَمن ذَلِك: " لَا يرفع يَقِين بشك ".(8/3842)
وَمعنى ذَلِك: أَن الْإِنْسَان إِذا تحقق شَيْئا ثمَّ شكّ: هَل زَالَ ذَلِك الشَّيْء الْمُحَقق أم لَا؟ الأَصْل بَقَاء المتحقق، فَيبقى الْأَمر على مَا كَانَ متحققا بِحَدِيث عبد الله بن زيد الْمَازِني: شكي إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الرجل يخيل إِلَيْهِ: أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة؟ قَالَ: " لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلمُسلم: " إِذا وجد أحدكُم فِي بَطْنه شَيْئا فأشكل عَلَيْهِ: أخرج مِنْهُ شَيْء فَلَا يخْرجن من الْمَسْجِد حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا ".(8/3843)
فَلَو شكّ فِي امْرَأَة هَل تزَوجهَا أم لَا؟
لم يكن لَهُ وَطْؤُهَا استصحابا لحكم التَّحْرِيم إِلَى أَن يتَحَقَّق تزَوجه بهَا اتِّفَاقًا.
وَكَذَا لَو شكّ: هَل طلق زَوجته أم لَا؟
لم تطلق زَوجته، وَله أَن يطَأ حَتَّى يتَحَقَّق الطَّلَاق استصحابا للنِّكَاح.
وَكَذَا لَو شكّ: هَل طلق وَاحِدَة أم ثَلَاثًا؟
الأَصْل الْحل.
وَكَذَا لَو تحقق الطَّهَارَة ثمَّ شكّ فِي زَوَالهَا، أَو عَكسه، لم يلْتَفت إِلَى الشَّك فيهمَا، وَفعل فيهمَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا.
وَكَذَا لَو شكّ فِي طَهَارَة المَاء أَو نَجَاسَته، وَأَنه متطهر أَو مُحدث، أَو شكّ فِي عدد الرَّكْعَات وَالطّواف؟ وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يحصر.
وَلَا تخْتَص هَذِه الْقَاعِدَة بالفقه، بل الأَصْل فِي كل حَادث عَدمه حَتَّى يتَحَقَّق كَمَا نقُول: الأَصْل انْتِفَاء الْأَحْكَام عَن الْمُكَلّفين، حَتَّى يَأْتِي مَا يدل على خلاف ذَلِك، وَالْأَصْل فِي الْأَلْفَاظ أَنَّهَا للْحَقِيقَة، وَفِي الْأَوَامِر: للْوُجُوب، والنواهي: للتَّحْرِيم، وَالْأَصْل: بَقَاء الْعُمُوم حَتَّى يتَحَقَّق وُرُود الْمُخَصّص، وَبَقَاء حكم النَّص حَتَّى يرد النَّاسِخ، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا حصر لَهُ.
وَقد تقدم فِي الْمَتْن وَشَرحه قبل مبدأ اللُّغَات مَا يتَعَلَّق بذلك.
وَلأَجل هَذِه الْقَاعِدَة: كَانَ الِاسْتِصْحَاب حجَّة، بل يكَاد أَن يَكُونَا متحدين.(8/3844)
وَمِمَّا يَنْبَنِي على الْقَاعِدَة: أَن الْمَانِع لَا يُطَالب بِالدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ مُسْتَند إِلَى الِاسْتِصْحَاب، كَمَا أَن الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يُطَالب بِحجَّة، بل القَوْل فِي الْإِنْكَار قَول بِيَمِينِهِ: كَمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ "، وَفِي رِوَايَة: " على من أنكر ".
قَوْله: {وَالضَّرَر يزَال} .(8/3845)
من أَدِلَّة الْفِقْه " أَن الضَّرَر يزَال "، أَي: تجب إِزَالَته.
ودليلها: قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، وَفِي رِوَايَة: " وَلَا إِضْرَار " بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله وَألف بَين الراءين.
وَقد علل أَصْحَابنَا بذلك فِي مسَائِل كَثِيرَة جدا.
وَقد تقدم قَرِيبا أَن أَبَا دَاوُد قَالَ: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار ".
وَهَذِه الْقَاعِدَة فِيهَا من الْفِقْه مَا لَا حصر لَهُ، ولعلها تَتَضَمَّن نصفه، فَإِن الْأَحْكَام إِمَّا لجلب الْمَنَافِع أَو لدفع المضار، فَيدْخل فِيهَا دفع الضروريات الْخمس الَّتِي هِيَ: حفظ الدّين، وَالنَّفس، وَالنّسب، وَالْمَال، وَالْعرض، كَمَا سبق ذَلِك وَشَرحه، وَغير ذَلِك.
وَهَذِه الْقَاعِدَة ترجع إِلَى تَحْصِيل الْمَقَاصِد، وتقريرها بِدفع الْمَفَاسِد أَو تخفيفها.
تَنْبِيه: مِمَّا يدْخل فِي هَذِه الْقَاعِدَة: قَوْلنَا: وَلَا يزَال بِهِ، أَي: الضَّرَر لَا يزَال بِالضَّرَرِ؛ لِأَن فِيهِ ارْتِكَاب ضَرَر، وَإِن زَالَ ضَرَر آخر، وَفِي هَذِه الْقَاعِدَة(8/3846)
- أَيْضا - أَحْكَام كَثِيرَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ.
وَمِمَّا يدْخل - أَيْضا - فِي هَذِه الْقَاعِدَة: الضرورات تبيح الْمَحْظُورَات، بِشَرْط عدم نقصانها عَنْهَا، وَمن ثمَّ جَازَ بل وَجب أكل الْميتَة عَنهُ المخمصة، وَكَذَلِكَ إساغة اللُّقْمَة بِالْخمرِ، وبالبول، وَقتل الْمحرم الصَّيْد دفعا عَن نَفسه إِذا صال عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يضمن، وَمِنْه الْعَفو عَن أثر الِاسْتِجْمَار، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا حصر لَهُ.
قَوْله: {وَالْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير} .
من الْقَوَاعِد أَن الْمَشَقَّة تجلب التَّيْسِير.
وَدَلِيله: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} [الْحَج: 78] . إِشَارَة إِلَى مَا خفف عَن هَذِه الْأمة من التَّشْدِيد على غَيرهم، من الإصر وَنَحْوه، وَمَا لَهُم من تخفيفات أخر دفعا للْمَشَقَّة: كَمَا قَالَ تَعَالَى:(8/3847)
{الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا} [الْأَنْفَال: 66] ، وَكَذَلِكَ تَخْفيف الْخمسين صَلَاة فِي الْإِسْرَاء إِلَى خمس صلوَات، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر، وَقد قَالَ تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} [الْبَقَرَة: 185] ، {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} [النِّسَاء: 28] ، وَقَالَ فِي صفة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} [الْأَعْرَاف: 157] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي دُعَائِهِمْ: {وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَغير ذَلِك، وَقَالَ: " بعثت بالحنيفية السمحة ".
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أحب الْأَدْيَان إِلَى الله الحنيفية السمحة " فِي أَحَادِيث(8/3848)
وآثار كَثِيرَة.
وَيدخل تَحت هَذِه الْقَاعِدَة: أَنْوَاع من الْفِقْه، مِنْهَا فِي الْعِبَادَات: التَّيَمُّم عِنْد مشقة اسْتِعْمَال المَاء على حسب تفاصيل فِي الْفِقْه، وَالْقعُود فِي الصَّلَاة عِنْد مشقة الْقيام وَفِي النَّافِلَة مُطلقًا، وَقصر الصَّلَاة فِي السّفر، وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَنَحْو ذَلِك.
وَمن ذَلِك: رخص السّفر وَغَيرهَا.
وَمن التخفيفات أَيْضا: أعذار الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة، وتعجيل الزَّكَاة، والتخفيفات فِي الْعِبَادَات لَا تكَاد تَنْحَصِر،(8/3849)
وَهِي فِي الْمُعَامَلَات كَثِيرَة جدا، وَفِي المناكحات، والجنايات، وَفِي كتاب الْقَضَاء.(8/3850)
وَمن التخفيفات الْمُطلقَة: فروض الكفايات وسننها، وَالْعَمَل بالظنون لمَشَقَّة الِاطِّلَاع على الْيَقِين، إِلَى غير ذَلِك.
وَهَاتَانِ القاعدتان تَرْجِعَانِ من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه إِلَى مَا سبق من أَن الْأَحْكَام معللة بِدفع الْمَفَاسِد، والمضار الدِّينِيَّة والدنيوية، وَأَن الْعلَّة فِي ذَلِك إِمَّا أَن تكون دافعة للضَّرَر وَالْمَشَقَّة، أَو رَافِعَة لذَلِك، وَقد تقدم فِي الْقيَاس.
قَوْله: {ودرء الْمَفَاسِد أولى من جلب الْمصَالح، وَدفع أَعْلَاهَا بأدناها} .
من الْقَوَاعِد: إِذا دَار الْأَمر بَين دَرْء مفْسدَة وجلب مصلحَة، كَانَ دَرْء الْمفْسدَة أولى من جلب الْمصلحَة، قَالَه الْعلمَاء، وَإِذا دَار الْأَمر أَيْضا بَين دَرْء إِحْدَى المفسدتين، وَكَانَت إِحْدَاهمَا أَكثر فَسَادًا من الْأُخْرَى، فدرء الْعليا مِنْهُمَا أولى من دَرْء غَيرهَا، وَهَذَا وَاضح يقبله كل عَاقل، وَاتفقَ عَلَيْهِ أولو الْعلم.
قَوْله: {وتحكيم الْعَادة} .
من الْقَوَاعِد: أَن الْعَادة محكمَة، أَي: مَعْمُول بهَا شرعا لحَدِيث: " مَا(8/3851)
رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن "، لَكِن لَا يَصح، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُول عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وللقاعدة أَدِلَّة أُخْرَى غير ذَلِك مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199] ، قَالَ: [ابْن السَّمْعَانِيّ] : المُرَاد مَا يعرفهُ النَّاس ويتعارفونه فِيمَا بَينهم.
قَالَ ابْن عَطِيَّة: " مَعْنَاهُ: كل مَا عَرفته النُّفُوس مِمَّا لَا ترده الشَّرِيعَة ".
قَالَ ابْن ظفر فِي " الينبوع ": " الْعرف مَا عرفه الْعُقَلَاء بِأَنَّهُ حسن وأقرهم الشَّارِع عَلَيْهِ ".(8/3852)
وكل مَا تكَرر من لفظ الْمَعْرُوف فِي الْقُرْآن نَحْو: {وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19] ، فَالْمُرَاد مَا يتعارفه النَّاس من مثل ذَلِك الْأَمر.
وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليستئذنكم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم} الْآيَة [النُّور: 58] ، فَالْأَمْر بالاستئذان فِي الْأَوْقَات الَّتِي جرت الْعَادة فِيهَا بالابتذال وَوضع الثِّيَاب، فابتنى الحكم الشَّرْعِيّ على مَا كَانُوا يعتادونه.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهِنْد: " خذي مَا يَكْفِي وولدك بِالْمَعْرُوفِ ".(8/3853)
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لحمنة بنت جحش: " تحيضي فِي علم الله سِتا أَو سبعا كَمَا تحيض النِّسَاء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم.
وَحَدِيث أم سَلمَة: أَن امْرَأَة كَانَت تهراق الدَّم على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فاستفتت أم سَلمَة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: " لتنظر عدد اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي كَانَت تحيضهن من الشَّهْر قبل أَن يُصِيبهَا ذَلِك فلتترك الصَّلَاة " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان فِي " صَحِيحَيْهِمَا ".(8/3854)
وَمِنْهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد " رَوَاهُ مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ دَلِيل على اعْتِبَار مَا الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ إِمَّا من جِهَة الْأَمر الشَّرْعِيّ، أَو من جِهَة الْعَادة المستقرة، لشمُول قَوْله: لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا ذَلِك.
وَمِنْهَا حَدِيث: " الْمِكْيَال مكيال أهل الْمَدِينَة، وَالْوَزْن وزن أهل مَكَّة "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَسَنَده صَحِيح.
وَذَلِكَ أَن أهل الْمَدِينَة لما كَانُوا أهل نخل وَزرع اعْتبرت عَادَتهم فِي مِقْدَار الْكَيْل، وَأهل مَكَّة أهل تِجَارَة اعْتبرت عَادَتهم فِي الْوَزْن، وَالْمرَاد اعْتِبَار ذَلِك فِيمَا يتَقَدَّر شرعا: كنصب الزكوات، وَمِقْدَار الدِّيات، وَزَكَاة الْفطر، وَالْكَفَّارَات، وَالسّلم، والربا، وَغير ذَلِك.(8/3855)
وَمِنْهَا حَدِيث حرَام بن محيصة الْأنْصَارِيّ عَن الْبَراء بن عَازِب: " أَن نَاقَة الْبَراء دخلت حَائِطا فأفسدت فِيهِ، فَقضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أهل الْحَائِط حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَصَححهُ جمَاعَة.(8/3856)
وَهُوَ أدل شَيْء على اعْتِبَار الْعَادة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِذْ بنى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّضْمِين على مَا جرت بِهِ الْعَادة.
وَقيل: وَيَنْبَنِي على هَذِه الْقَاعِدَة مَا اعْتَمدهُ إمامنا وأصحابنا فِي أقل سنّ الْحيض للْمَرْأَة، وَأَقل الْحيض وَالطُّهْر، وأكثرهما، وَثمن الْمثل، وكفء النِّكَاح، وَأكْثر مُدَّة الْحمل وأقلها، وَسن الْيَأْس، وَمهر الْمثل.
وَضَابِط كل فعل رتب عَلَيْهِ الحكم، وَلَا ضَابِط لَهُ فِي الشَّرْع وَلَا فِي اللُّغَة: كإحياء الْموَات، والحرز فِي السّرقَة، وَالْأكل من بَيت الصّديق، وَمَا يعد قبضا، وإيداعا، وَإِعْطَاء، وهدية، وغصبا، وَالْمَعْرُوف فِي المعاشرة، وانتفاع الْمُسْتَأْجر.
وَمن ذَلِك أَيْضا: الرُّجُوع للْعَادَة فِي تَخْصِيص عين أَو فعل أَو مِقْدَار، يحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ: كالألفاظ فِي الْأَيْمَان، والأوقاف، والوصايا، والأقارير، والتفويضات، وَإِطْلَاق الدِّينَار، وَالدَّرَاهِم، والصاع، وَالْمدّ، والوسق، والقلة، وَالْأُوقِية، وَإِطْلَاق النُّقُود فِي الْحمل على الْغَالِب، وَصِحَّة المعاطاة بِمَا يعده النَّاس بيعا، وَهَذَا كثير لَا ينْحَصر فِي عد.
ومأخذ هَذِه الْقَاعِدَة وموضعها من أصُول الْفِقْه فِي قَوْلهم: الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ قد يكون عرفيا، أَي: من مقتضيات الْعرف، وَفِي بَاب(8/3857)
التَّخْصِيص فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْعَادَةِ، وَتقدم ذَلِك مَبْسُوطا.
قَوْله: {وَجعل الْمَعْدُوم كالموجود احْتِيَاطًا} .
هَذِه من جملَة الْقَوَاعِد الْمُتَقَدّمَة.
وَقد قَالَ الْقَرَافِيّ: إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود، كالمقتول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ، وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته.
وَتقدم ذَلِك بعد عدم التَّأْثِير فِي الْوَصْف فِي الْفَائِدَة.
تَنْبِيه: قيل: تدخل قَاعِدَة: " إدارة الْأُمُور فِي الْأَحْكَام على قَصدهَا ".(8/3858)
فِي قَاعِدَة: أَن الْعَادة محكمَة؛ فَهِيَ مَأْخُوذَة مِنْهَا، وَجعل من قَالَ ذَلِك عذرا للْقَاضِي حُسَيْن فِي عدم ذكرهَا.
قَالُوا: لِأَن الْعَادة [محكمَة] فَإِن غير الْمَنوِي من غسل وَصَلَاة وَكِتَابَة مثلا لَا يُسمى فِي الْعَادة غسلا وَلَا قربَة وَلَا عقدا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من نظر.
وَقيل: مَأْخُوذ من قَاعِدَة: الضَّرَر يزَال؛ لِأَن من توجه عَلَيْهِ شَيْء بِدَلِيل إِذا تَركه أَو فعله لَا يقْصد امْتِثَال الْأَمر، حصل لَهُ الضَّرَر بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الذَّم فيزال بِالنِّيَّةِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الآخر من النّظر، بل لَو أخذت من قَاعِدَة: الْيَقِين لَا يرفع بِالشَّكِّ كَانَ أقرب؛ لِأَن الأَصْل عدم ذَلِك الشَّيْء، فَلَا يُصَار إِلَى جعله مُعْتَبرا إِلَّا بِوَاسِطَة تَرْجِيح المتردد فِيهِ بِقصد أَن يُخَالف الأَصْل ".
وَقيل: هِيَ قَاعِدَة برأسها نقلهَا العلائي عَن بعض الْفُضَلَاء، كَمَا تقدم، ودليلها حَدِيث عمر: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ "، وَرُبمَا أخذت من قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} [الْبَيِّنَة: 5] ، وَمن قَوْله(8/3859)
تَعَالَى: {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} [اللَّيْل: 20] ، وَمن هَذِه الْمَادَّة أَحَادِيث كَثِيرَة ذكر فِيهَا ابْتِغَاء وَجه الله، وَتقدم كَلَام أبي دَاوُد فِي الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَغَيره.
وَحَدِيث " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " أعمها وَأَعْظَمهَا؛ لِأَن أَفعَال الْعُقَلَاء إِذا كَانَت مُعْتَبرَة فَإِنَّمَا تكون عَن قصد.
وَأَيْضًا: فقد ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَن [أول] الْوَاجِبَات على الْمُكَلف الْقَصْد إِلَى النّظر الْموصل إِلَى معرفَة الله تَعَالَى كَمَا تقدم ذَلِك، فالقصد سَابق دَائِما.
وَسَوَاء فِي اعْتِبَار الْقَصْد فِي الْأَفْعَال الْمُسلم وَالْكَافِر، إِلَّا أَن الْمُسلم يخْتَص بِقصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى فَلَا تصح هَذِه النِّيَّة من كَافِر، بِخِلَاف نِيَّة الِاسْتِثْنَاء، وَالنِّيَّة فِي الْكِنَايَات، وَنَحْو ذَلِك.
وَقد تكلم الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن رَجَب وَغَيره على حَدِيث عمر كلَاما شافيا، ونشير إِلَى شَيْء من ذَلِك، فَمِنْهُ: أَنهم اخْتلفُوا فِي تَقْدِير مَعْنَاهُ، فَقيل: من دلَالَة الْمُقْتَضى لَا بُد فِيهِ من تَقْدِير لصِحَّة هَذَا الْكَلَام.
وأرباب هَذَا القَوْل اخْتلفُوا:
فَقَالَ بَعضهم: يقدر صِحَة الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، أَو اعْتِبَارهَا أَو نَحْو ذَلِك.
وَقيل: يقدر كَمَال الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ.(8/3860)
وَقَالَ كثير من الْمُحَقِّقين: لَيْسَ من دلَالَة الْمُقْتَضى، وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير شَيْء أصلا؛ لِأَن الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة تَنْتفِي بِانْتِفَاء ركنها أوشرطها، فَإِذا لم يكن الْعَمَل بنية فَهُوَ صُورَة عمل لَا عمل شَرْعِي فصح النَّفْي، فَلَا حَاجَة لتقدير.
وَبِالْجُمْلَةِ: فمما تدخل فِيهِ النِّيَّة: الْعِبَادَات جَمِيعهَا: الْوضُوء عندنَا، وَالتَّيَمُّم، وَالْغسْل، وَالصَّلَاة: فَرضهَا ونفلها، عينهَا وكفياتها، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام وَالِاعْتِكَاف، وَالْحج، فرض الْكل، ونفله، وَالْأُضْحِيَّة، وَالْهَدْي، وَالنُّذُور، وَالْكَفَّارَات، وَالْجهَاد، وَالْعِتْق، وَالتَّدْبِير، وَالْكِتَابَة، بِمَعْنى أَن حُصُول الثَّوَاب فِي هَذِه الْأَرْبَعَة يتَوَقَّف على قصد التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى.
بل يسري هَذَا إِلَى سَائِر الْمُبَاحَات إِذا قصد بهَا التَّقْوَى على طَاعَة الله، أَو التَّوَصُّل إِلَيْهَا كَالْأَكْلِ، وَالنَّوْم، واكتساب المَال، وَالنِّكَاح، وَالْوَطْء فِيهِ، وَفِي الْأمة إِذا قصد بهَا الإعفاف، أَو تَحْصِيل الْوَلَد الصَّالح وتكثير الْأمة.
وَقد ذكر الْبرمَاوِيّ أَحْكَام النِّيَّة واستقصاها فأجاد وَأفَاد، فَمن أرادها فليعاودها.(8/3861)
فارغة(8/3862)
(بَاب الِاجْتِهَاد)(8/3863)
فارغة(8/3864)
(قَوْله: {بَاب الِاجْتِهَاد} )
{لُغَة: استفراغ الوسع لتَحْصِيل أَمر شاق} .
قد نجز بِحَمْد الله تَعَالَى الْكَلَام على أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَهَذَا حِين الشُّرُوع فِي بَيَان أَحْكَام الْمُسْتَدلّ، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من بَيَان الِاجْتِهَاد، والمجتهد، والتقليد، والمقلد، ومسائل ذَلِك.
فَنَقُول: الِاجْتِهَاد افتعال من الْجهد بِالضَّمِّ وَالْفَتْح وَهُوَ: الطَّاقَة، سمي بذلك لاستفراغ الْقُوَّة والطاقة فِي تَحْصِيل الْمَطْلُوب، فَهُوَ بذل الوسع مِمَّا فِيهِ كلفة، وَلِهَذَا لَا يُقَال اجْتهد فِي حمل خردلة وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الْخَفِيفَة، [وَيُقَال اجْتهد] فِي حمل الرَّحَى وَنَحْوهَا من الْأَشْيَاء الشاق حملهَا.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: استفراغ الْفَقِيه وَسعه لدرك حكم شَرْعِي} .(8/3865)
معنى استفراغ الوسع: بذل الوسع بِحَيْثُ تحس النَّفس بِالْعَجزِ عَن زِيَادَة، وَهُوَ جنس، وَكَون ذَلِك من الْفَقِيه قيد مخرج للمقلد، وَالْمرَاد ذُو الْفِقْه، وَقد سبق أول الْكتاب حَده وَتَفْسِيره.
وَقَوْلنَا: (لدرك حكم شَرْعِي) وَبَعْضهمْ قَالَ: لتَحْصِيل ظن، احْتِرَاز من الْقطع، فَإِنَّهُ لَا اجْتِهَاد فِي القطعيات.
وَقَوْلنَا: (حكم شَرْعِي) قيد مخرج للحسيات، والعقليات، وَنَحْو ذَلِك، لذا قيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره الحكم بالشرعي وَلم يُقَيِّدهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة بذلك، للاستغناء عَنهُ بِذكر الْفَقِيه؛ لِأَنَّهُ لَا يتَكَلَّم إِلَّا فِي الحكم الشَّرْعِيّ.
وَأورد على ذَلِك: " اجْتِهَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لَا يُسمى فِي الْعرف فَقِيها وَلعدم الْإِذْن فِيهِ.
إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْحَدِّ اجْتِهَاد الْفَقِيه لَا مُطلق الِاجْتِهَاد " قَالَه الْبرمَاوِيّ.(8/3866)
قَالَ فِي " الرَّوْضَة "، و " الْمُسْتَصْفى ": بذل المجهود فِي الْعلم بِأَحْكَام الشَّرْع.
وَمَعْنَاهُ للطوفي، فَإِنَّهُ قَالَ: " بذل الْجهد فِي تعرف الحكم الشَّرْعِيّ، ثمَّ قَالَ: والتام مِنْهُ: مَا انْتهى إِلَى حَال الْعَجز عَن مزِيد طلب ".
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي طلب الظَّن بِشَيْء من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ ".
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: " هُوَ: استفراغ الوسع فِي الْمَطْلُوب لُغَة، واستفراغ الوسع فِي النّظر فِيمَا يلْحقهُ فِيهِ لوم شَرْعِي اصْطِلَاحا ".
ومعانيها مُتَقَارِبَة إِن لم تكن مُتَسَاوِيَة.
قَوْله: {وَشرط الْمُجْتَهد وَهُوَ الْفَقِيه، الْعلم بأصول الْفِقْه،(8/3867)
وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها، فَمن الْكتاب وَالسّنة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ بِحَيْثُ يُمكنهُ استحضاره للاحتجاج بِهِ لَا حفظه، وَأوجب فِي " الْوَاضِح " معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام، وَأوجب جمع وَنقل عَن الشَّافِعِي: حفظ جَمِيع الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ، وَمَعْرِفَة صِحَة الحَدِيث وَضَعفه، وَلَو تقليدا: كنقله من كتاب صَحِيح، والناسخ والمنسوخ مِنْهُمَا، وَمن النَّحْو واللغة مَا يَكْفِيهِ فِيمَا يتَعَلَّق بهما من نَص وَظَاهر، ومجمل، ومبين، وَحَقِيقَة، ومجاز، وَأمر، وَنهي، وعام، وخاص، ومستثنى ومستثنى مِنْهُ، وَمُطلق، ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب، وَنَحْوه، وَالْمجْمَع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد "، وَفِي " الْمقنع "، وَغَيره: و " أَسبَاب النُّزُول "، وَفِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " و " الْمقنع "، وَغَيرهَا، وَمَعْرِفَة الله بصفاته الْوَاجِبَة لَهُ، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَيمْتَنع، لَا تفاريع الْفِقْه، وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْمُفْتِي الْعَالم بأصول الْفِقْه وَمَا يستمد مِنْهُ، والأدلة السمعية مفصلة، وَاخْتِلَاف مراتبها - كَمَا سبق - أَي: غَالِبا ذكره جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.(8/3868)
وَفِي " الْوَاضِح ": يجب معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام.
قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم: يجب أَن يحفظ من الْقُرْآن مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ.
وَذكره فِي " الْوَاضِح " عَن الْمُحَقِّقين، وَأَن كثيرا من الْعلمَاء أوجب حفظ جَمِيعه.
قَالَ أَصْحَابنَا: وَيعرف الْمجمع عَلَيْهِ والمختلف فِيهِ، وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: معرفَة أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر: لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته، والمستفتي إِن كَانَ مُجْتَهدا أَو محصلا لعلم مُعْتَبر للِاجْتِهَاد، فقد سبق، أَو عاميا، والمستفتى فِيهِ: الْمسَائِل الاجتهادية) انْتهى.
اشْترط فِي الْفَقِيه الْمُجْتَهد: أَن يكون بَالغا؛ لِأَن الصَّغِير لَيْسَ بكامل آلَة الْعلم حَتَّى يَتَّصِف بِمَعْرِِفَة الْفِقْه على وَجههَا، قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وشراحه، والبرماوي، وَغَيرهم.(8/3869)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": " فصل: قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الصَّبِي يتَصَوَّر مِنْهُ الِاجْتِهَاد وَيصِح، وَعند الْمُعْتَزلَة: يجب عَلَيْهِ إِذا ميز الْإِتْيَان بالمعارف الْعَقْلِيَّة، حَتَّى إِذا مَضَت مُدَّة يُمكن فِيهَا الِاسْتِدْلَال وَلم يَأْتِ بالمعارف مَاتَ كَافِرًا " انْتهى.
وَأَن يكون عَاقِلا؛ لِأَن من لَا عقل لَهُ لَا يدْرك علما، لَا فقها وَلَا غَيره.
وَأَن يكون فَقِيه النَّفس، أَي: لَهُ قدرَة على اسْتِخْرَاج أَحْكَام الْفِقْه من أدلتها كَمَا يعلم ذَلِك من حد الْفِقْه - الْمُتَقَدّم أول الْكتاب -، فتضمن ذَلِك أَن يكون عِنْده سجية وَقُوَّة يقتدر بهَا على التَّصَرُّف بِالْجمعِ، والتفريق، وَالتَّرْتِيب، والتصحيح، والإفساد؛ فَإِن ذَلِك ملاك صناعَة الْفِقْه.
قَالَ الْغَزالِيّ: إِذا لم يتَكَلَّم الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة لم يسْمعهَا ككلامه فِي مَسْأَلَة سَمعهَا فَلَيْسَ بفقيه.
وَأَن يكون عَارِفًا بأصول الْفِقْه وَهِي: الْأَدِلَّة الَّتِي يسْتَخْرج مِنْهَا أَحْكَام الْفِقْه، - وَقد سبق أَن أَدِلَّة الْفِقْه الْكتاب، وَالسّنة، وَمَا تفرع عَنْهُمَا - وَلَيْسَ المُرَاد أَن يعرف سَائِر آيَات الْقُرْآن وَأَحَادِيث السّنة، وَإِنَّمَا المُرَاد معرفَة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ مِنْهُمَا، وَقد ذكر أَن الْآيَات خَمْسمِائَة، وَكَأَنَّهُم أَرَادوا(8/3870)
مَا هُوَ مَقْصُود بِهِ الْأَحْكَام بِدلَالَة الْمُطَابقَة، أما بِدلَالَة الِالْتِزَام: فغالب الْقُرْآن، بل كُله لَا يَخْلُو شَيْء مِنْهُ عَن حكم يستنبط مِنْهُ.
قَالُوا: لَا يشْتَرط حفظهَا، بل يشْتَرط أَن يكون عَارِفًا بمواضعها حَتَّى يطْلب مِنْهَا الْآيَة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا عِنْد حُدُوث الْوَاقِعَة، وَبِذَلِك قَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء.
وَنقل عَن الإِمَام الشَّافِعِي: أَنه يجب حفظ جَمِيع الْقُرْآن، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ الطوفي: " وَالصَّحِيح أَن هَذَا التَّقْدِير غير مُعْتَبر، وَأَن مِقْدَار أَدِلَّة الْأَحْكَام غير منحصرة، فَإِن أَحْكَام الشَّرْع كَمَا تستنبط من الْأَوَامِر والنواهي؛ تستنبط من الْقَصَص والمواعظ وَنَحْوهَا، وَقل أَن يُوجد فِي الْقُرْآن آيَة إِلَّا ويستنبط مِنْهَا شَيْء من الْأَحْكَام، وَكَأن من حصرها فِي خَمْسمِائَة كالغزالي وَغَيره إِنَّمَا نظرُوا إِلَى مَا قصد مِنْهُ بَيَان الْأَحْكَام دون مَا استفيدت مِنْهُ، وَلم يقْصد بِهِ بَيَانهَا " انْتهى.
وَقد قيل: إِن آيَات الْأَحْكَام مائَة آيَة، حَكَاهُ ابْن السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع ".(8/3871)
وَحكى الْبَغَوِيّ عِنْد قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء} [الْبَقَرَة: 269] " عَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ: فِي الْقُرْآن مائَة آيَة وتسع آيَات ناسخة ومنسوخة، وَألف آيَة حَلَال وَحرَام، لَا يسع الْمُؤمنِينَ تركهن حَتَّى يتعلموهن " انْتهى.
وَأوجب ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": معرفَة جَمِيع أصُول الْفِقْه وأدلة الْأَحْكَام.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ: من حصل أصُول الْفِقْه وفروعه فمجتهد، وعَلى الأول لَا بُد أَن يعرف أَحَادِيث الْأَحْكَام، أَي: يعرف موَاضعهَا، وَإِن لم يكن حَافِظًا لمتونها كَمَا قُلْنَا فِي الْقُرْآن.
فَإِذا اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط، اشْترط فِيهِ أَن يعرف مواقع الْإِجْمَاع حَتَّى لَا يُفْتِي بِخِلَافِهِ، فَيكون قد خرق الْإِجْمَاع.
وَلم يذكر ذَلِك أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ".(8/3872)
وَيَنْبَغِي أَيْضا: أَن يعرف كَلَام الصَّحَابَة، وفتاويهم ليعتمد الْأَقْوَى مِنْهَا لَا سِيمَا إِن قُلْنَا: إِن قَوْلهم حجَّة.
وَأَن يعرف النَّاسِخ والمنسوخ فِيمَا يسْتَدلّ بِهِ على تِلْكَ الْوَاقِعَة الَّتِي يُفْتِي بهَا من آيَة أَو حَدِيث حتىلا يسْتَدلّ بِهِ إِن كَانَ مَنْسُوخا، وَلَا يشْتَرط أَن يعرف جَمِيع النَّاسِخ والمنسوخ فِي سَائِر الْمَوَاضِع، كَمَا سبق نَظِيره فِي الْإِجْمَاع.
وَقد صنف فِي نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه: أَبُو جَعْفَر النّحاس، وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ، ومكي صَاحب الْإِعْرَاب، وَمن الْمُتَقَدِّمين: هبة الله [بن سَلامَة] ،(8/3873)
وَمن أَصْحَابنَا: ابْن الزَّاغُونِيّ، وَابْن الْجَوْزِيّ.
وَفِي نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه: الإِمَام الشَّافِعِي، وَابْن قُتَيْبَة، وَابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَغَيرهم.(8/3874)
وَأَن يعرف أَسبَاب النُّزُول، قَالَه ابْن حمدَان، وَغَيره من أَصْحَابنَا.
وَغَيرهم: فِي الْآيَات، وَأَسْبَاب قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَحَادِيث؛ ليعرف المُرَاد من ذَلِك، وَمَا يتَعَلَّق بهما من تَخْصِيص أَو تَعْمِيم.
وَأَن يعرف - أَيْضا - شُرُوط الْمُتَوَاتر والآحاد؛ ليقدم مَا يجب تَقْدِيمه عِنْد التَّعَارُض.
وَأَن يعرف الصَّحِيح من الحَدِيث والضعيف سندا ومتنا؛ لِيطْرَح الضَّعِيف حَيْثُ لَا يكون فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، ويطرح الْمَوْضُوع مُطلقًا.
وَأَن يعرف حَال الروَاة فِي الْقُوَّة والضعف؛ ليعلم مَا ينجبر من الضعْف بطرِيق آخر، وَمَا لَا ينجبر.
لَكِن يَكْفِي التعويل فِي هَذِه الْأُمُور كلهَا فِي هَذِه الْأَزْمِنَة على كَلَام أَئِمَّة الحَدِيث كأحمد، وَالْبُخَارِيّ، وَمُسلم، وَأبي دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَنَحْوهم؛ لأَنهم أهل الْمعرفَة بذلك، فَجَاز الْأَخْذ بقَوْلهمْ، كَمَا نَأْخُذ بقول المقومين فِي الْقيم.
وَيكون عَارِفًا بلغَة الْعَرَب؛ لِأَن الْكتاب وَالسّنة عربيان، وَيعرف الْعَرَبيَّة، وَهِي تَشْمَل: اللُّغَة، والنحو، والتصريف، وَيعرف علم البلاغة، وَهُوَ الْمعَانِي، وَالْبَيَان، والبديع؛ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي علم الْعَرَبيَّة، إِلَّا أَنِّي أردْت التَّصْرِيح بذلك لِئَلَّا يظنّ خُرُوجه عَنْهَا، وَإِنَّمَا اعْتبر ذَلِك لِأَن الْكتاب وَالسّنة فِي الذرْوَة الْعليا من الإعجاز، فَلَا بُد من معرفَة طرق الإعجاز(8/3875)
وأساليبه ومواقعه، ليتَمَكَّن من الاستنباط، فَيَكْفِي معرفَة أوضاع الْعَرَب، بِحَيْثُ يُمَيّز الْعِبَادَة الصَّحِيحَة من الْفَاسِدَة، والراجحة من المرجوحة، فَإِنَّهُ يجب حمل كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَا هُوَ الرَّاجِح، وَإِن جَازَ غَيره فِي كَلَام الْعَرَب.
قَالَ الطوفي: " وَيشْتَرط أَن يعرف من النَّحْو واللغة مَا يَكْفِيهِ فِي معرفَة مَا يتَعَلَّق بِالْكتاب وَالسّنة من نَص، وَظَاهر، ومجمل، وَحَقِيقَة ومجاز، وعام وخاص، وَمُطلق ومقيد، وَدَلِيل الْخطاب، وَنَحْوه: كفحوى الْخطاب، ولحنه، وَمَفْهُومه، لِأَن بعض الْأَحْكَام يتَعَلَّق بذلك ويتوقف عَلَيْهِ توقفا ضَرُورِيًّا: كَقَوْلِه: {والجروح قصاص} [الْمَائِدَة: 45] ، يخْتَلف الحكم بِرَفْع الجروح ونصبها وَنَحْو ذَلِك ".
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع " وَغَيرهم: يشْتَرط فِيهِ معرفَة الله تَعَالَى بصفاته الْوَاجِبَة، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَيمْتَنع.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " وَيشْتَرط فِيهِ أَن يعرف من أَحْوَال الْمُخَاطب، مِمَّا يقف مَعَه إِلَى حُصُول مَدْلُول خطابه: كمعرفته بِأَن الله تَعَالَى حَكِيم، عَالم، غَنِي، قَادر، وَأَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فِيمَا شَرعه، وَأَن إِجْمَاع الْأمة مَعْصُوم.(8/3876)
وَلَا يَصح مَعْرفَته بذلك من حَال الباريء سُبْحَانَهُ إِلَّا بعد مَعْرفَته بِذَاتِهِ وَصِفَاته.
وَلَا يَصح مَعْرفَته بعصمة النَّبِي إِلَّا بعد مَعْرفَته بِكَوْنِهِ نَبيا.
وَلَا يَصح مَعْرفَته بعصمة الْأمة حَتَّى يعلم أَنه يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهم على خطأ) انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " فصل فِي صفة الْمُفْتِي:
وَهُوَ الَّذِي يعرف بالأدلة الْعَقْلِيَّة النظرية حدث الْعَالم، وَأَن لَهُ صانعا، وَأَنه وَاحِد، وَأَنه على صِفَات وَاجِبَة لَهُ، وَأَنه منزه عَن صِفَات الْمُحدثين، وَأَنه يجوز عَلَيْهِ إرْسَال الرُّسُل، وَأَنه قد أرسل رسلًا بِأَحْكَام شرعها، وَأَن صدقهم بِمَا جَاءُوا بِهِ ثَبت بِمَا أظهره على أَيْديهم من المعجزات " انْتهى.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": والمجتهد من عرف الله بصفاته الْوَاجِبَة وَمَا يجوز عَلَيْهِ أَو يمْتَنع، وَصدق رَسُوله فِيمَا جَاءَ بِهِ من الشَّرْع إِجْمَالا. انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَيشْتَرط فِيهِ أَن يكون عَالما بِوُجُود الرب تَعَالَى، وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ من الصِّفَات، مُصدقا بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِمَا جَاءَ بِهِ من الشَّرْع الْمَنْقُول، كل بدليله من جِهَة الْجُمْلَة لَا من جِهَة التَّفْصِيل.(8/3877)
وَقَالَ الْغَزالِيّ: لَيْسَ معرفَة الْكَلَام بالأدلة المحررة فِيهِ، على عَادَة الْمُتَكَلِّمين شرطا فِي الِاجْتِهَاد، بل هُوَ من ضَرُورَة منصب الِاجْتِهَاد، إِذْ لَا يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِي الْعلم، إِلَّا وَقد قرع سَمعه أَدِلَّة الْكَلَام فيعرفها حَتَّى لَو تصور مقلد مَحْض فِي تَقْلِيد الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وأصول الْإِيمَان، لجَاز لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع.
قَالَ: وَالْقدر الْوَاجِب من ذَلِك: اعْتِقَاد جازم إِذْ بِهِ يصير مُسلما، وَالْإِسْلَام شَرط الْمُفْتِي لَا محَالة.
قَالَ الطوفي: " قلت: الْمُشْتَرط فِي الِاجْتِهَاد بِالْجُمْلَةِ معرفَة كل مَا يتَوَقَّف حُصُول ظن الحكم الشَّرْعِيّ عَلَيْهِ، سَوَاء انحصر ذَلِك فِي جَمِيع مَا ذكرُوا، أَو خرج عَنهُ شَيْء لم يذكر فمعرفته مُعْتَبرَة " انْتهى.
قَوْله: {لَا تفاريع الْفِقْه وَعلم الْكَلَام، وَلَا معرفَة أَكثر الْفِقْه فِي الْأَشْهر} .
هَذِه أُمُور أُخْرَى رُبمَا يتَوَهَّم أَنَّهَا شُرُوط فِي الْمُجْتَهد، وَلكنهَا لَيست بِشُرُوط لَهُ.
مِنْهَا: معرفَة تفاريع الْفِقْه لَا يشْتَرط؛ لِأَن الْمُجْتَهد هُوَ الَّذِي يولدها ويتصرف فِيهَا، لَو كَانَ ذَلِك شرطا فِيهَا للَزِمَ الدّور، لِأَنَّهَا نتيجة الِاجْتِهَاد، فَلَا يكون الِاجْتِهَاد نتيجتها.
وَالْخلاف فِي ذَلِك مَنْقُول عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ شَرط فِي الْمُجْتَهد معرفَة الْفِقْه.(8/3878)
قيل: وَلَعَلَّه أَرَادَ ممارسته.
وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ فَقَالَ: " إِنَّمَا يحصل الِاجْتِهَاد فِي زَمَاننَا بممارسة الْفِقْه فَهُوَ طَرِيق تَحْصِيل [الدربة] فِي هَذَا الزَّمَان، وَلم يكن الطَّرِيق فِي زمن الصَّحَابَة ذَلِك " انْتهى.
وَتقدم كَلَام أبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك.
وَمِنْهَا: معرفَة علم الْكَلَام، أَي: علم أصُول الدّين، قَالَه الأصوليون، لَكِن الرَّافِعِيّ قَالَ: إِن الْأَصْحَاب عدوا من شُرُوط الِاجْتِهَاد معرفَة أصُول العقائد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْجمع بَين الْكَلَامَيْنِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْغَزالِيّ حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يَكْفِي اعْتِقَاد جازم، وَلَا يشْتَرط مَعْرفَتهَا على طَرِيق الْمُتَكَلِّمين ومادتهم الَّتِي يجرونها " انْتهى.(8/3879)
وَقد تقدم: كَلَامه.
قَالَ ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم: " وَاعْتبر بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة معرفَة أَكثر الْفِقْه، وَالْأَشْهر: لَا؛ لِأَنَّهُ نتيجته " انْتهى.
وَقدم فِي " آدَاب الْمُفْتِي " من شَرطه أَن يحفظ أَكثر الْفِقْه.
وَمِنْهَا: لَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد أَن يكون ذكرا وَلَا حرا وَلَا عدلا، بل يجوز أَن يكون امْرَأَة، ورقيقا، وفاسقا، لَكِن لَا يستفتى الْفَاسِق وَلَا يعْمل بقوله بِخِلَاف الْمَرْأَة وَالرَّقِيق، فالعدالة شَرط فِي الْمُفْتِي لَا فِي الْمُجْتَهد؛ لِأَن الْمُفْتِي أخص فشروطه أغْلظ، أما مَسْتُور الْعَدَالَة فَتجوز فتواه فِي أحد الْقَوْلَيْنِ.
وَقيل: اشْترط فِي الْمُجْتَهد الْعَدَالَة حَتَّى إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم لَا يَأْخُذ بِهِ من علم صدقه بقرائن، وَيَأْتِي ذَلِك فِي التَّقْلِيد محررا.
قَوْله: {والمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه الْعَارِف بمداركه، الْقَادِر على تَقْرِير قَوَاعِده، وَالْجمع وَالْفرق، وَفِي آدَاب الْمُفْتِي لَهُ أَربع صِفَات} .(8/3880)
أَي: مَا سبق من الشُّرُوط فِي الِاجْتِهَاد إِنَّمَا ذَلِك فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق الَّذِي يُفْتِي فِي جمع أَبْوَاب الشَّرْع.
أما مُجْتَهد الْمَذْهَب، وَهُوَ: من ينتحل مَذْهَب إِمَام من الْأَئِمَّة فَلَا يعْتَبر فِيهِ مَا تقدم بل يعْتَبر فِيهِ بعض ذَلِك.
قَالَ فِي " الْمقنع ": فَأَما الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَامه: فنظره فِي بعض نُصُوص إِمَامه وتقريرها، وَالتَّصَرُّف فِيهَا كاجتهاد إِمَامه فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة.
وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَحْوَال الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَامه أَو غَيره أَرْبَعَة:
الْحَالة الأولى: أَن يكون غير مقلد لإمامه فِي الحكم وَالدَّلِيل، لَكِن سلك طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد وَالْفَتْوَى، ودعا إِلَى [مذْهبه] ، وَقَرَأَ كثيرا مِنْهُ على أَهله، فَوَجَدَهُ صَوَابا، وَأولى من غَيره، وَأَشد مُوَافقَة فِيهِ وَفِي طَرِيقه.
وَقد ادّعى هَذَا منا القَاضِي أَبُو عَليّ ابْن أبي مُوسَى الْهَاشِمِي فِي " شرح الْإِرْشَاد " الَّذِي لَهُ، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَغَيرهمَا.
وَمن الشَّافِعِيَّة خلق كثير.
وَاخْتلف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فِي أبي يُوسُف، والمزني، وَابْن سُرَيج، هَل(8/3881)
كَانُوا مجتهدين مستقلين، أَو فِي مَذْهَب الْإِمَامَيْنِ؟
وفتوى الْمُجْتَهد الْمَذْكُور كفتوى الْمُجْتَهد الْمُطلق فِي الْعَمَل بهَا والاعتداد بهَا فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف.
الْحَالة الثَّانِيَة: أَن يكون مُجْتَهدا فِي مَذْهَب إِمَامه، مُسْتقِلّا فِي تَقْرِيره بِالدَّلِيلِ، لَكِن لَا يتَعَدَّى أُصُوله وقواعده، مَعَ إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسَائِل الْفِقْه، عَارِفًا بِالْقِيَاسِ وَنَحْوه، تَامّ الرياضة، قَادِرًا على التَّخْرِيج والاستنباط وإلحاق الْفُرُوع بالأصول وَالْقَوَاعِد الَّتِي لإمامه.
وَقيل: وَلَيْسَ من شَرطه معرفَة هَذَا علم الحَدِيث، واللغة، والعربية، لكَونه يتَّخذ بنصوص إِمَامه أصولا يستنبط مِنْهَا الْأَحْكَام كنصوص الشَّارِع، وَقد يرى حكما ذكره إِمَامه بِدَلِيل فيكتفي بذلك من غير بحث عَن معَارض أَو غَيره، وَهُوَ بعيد.
وَهَذَا شَأْن أهل الْأَوْجه والطرق فِي الْمذَاهب، وَهُوَ حَال أَكثر عُلَمَاء الطوائف الْآن، فَمن عمل بِفُتْيَا هَذَا فقد قلد إِمَامه دونه؛ لِأَن معوله على صِحَة إِضَافَة مَا يَقُول إِلَى إِمَامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إِلَى الشَّارِع بِلَا وَاسِطَة إِمَامه، وَالظَّاهِر مَعْرفَته بِمَا يتَعَلَّق بذلك من حَدِيث، ولغة، وَنَحْوه.
وَقيل: إِن فرض الْكِفَايَة لَا يتَأَدَّى بِهِ؛ لِأَن تَقْلِيده نقص وخلل فِي الْمَقْصُود.
وَقيل: يتَأَدَّى بِهِ فِي الْفَتْوَى لَا فِي إحْيَاء الْعُلُوم الَّتِي يستمد مِنْهَا الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ قد قَامَ فِي فتواه مقَام إِمَام مُطلق، وَقد يُوجد مِنْهُ اسْتِقْلَال بِالِاجْتِهَادِ،(8/3882)
وَالْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة خَاصَّة، أَو بَاب خَاص، وَأطَال فِي ذَلِك.
الْحَالة الثَّالِثَة: أَن لَا يبلغ بِهِ رُتْبَة أَئِمَّة الْمذَاهب أَصْحَاب الْوُجُوه والطرق، غير أَنه فَقِيه النَّفس، حَافظ لمَذْهَب إِمَامه، عَارِف بأدلته، قَائِم بتقريره، ونصرته، يصور وَيُحَرر، ويمهد ويقرر، ويزيف ويرجح، لكنه قصر عَن دَرَجَة أُولَئِكَ إِمَّا لكَونه لم يبلغ فِي حفظ الْمَذْهَب مبلغهم، وَإِمَّا لكَونه غير متبحر فِي أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، غير أَنه لَا يَخْلُو مثله فِي ضمن مَا يحفظه من الْفِقْه ويعرفه من أدلته عَن أَطْرَاف من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه وَنَحْوه، وَإِمَّا لكَونه مقصرا فِي غير ذَلِك من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ أدوات الِاجْتِهَاد الْحَاصِل لأَصْحَاب الْوُجُوه والطرق.
وَهَذِه صفة كثير من الْمُتَأَخِّرين الَّذين رتبوا الْمذَاهب وحررورها، وصنفوا فِيهَا تصانيف بهَا يشْتَغل النَّاس غَالِبا، وَلم يلْحقُوا من يخرج الْوُجُوه ويمهد الطّرق فِي الْمذَاهب، وَأما فِي فتاويهم فقد كَانُوا يتبسطون فِيهَا كبسط أُولَئِكَ أَو نَحوه، ويقيسون غير الْمَنْقُول والمسطور على الْمَنْقُول والمسطور فِي الْمَذْهَب، غير مقتصرين فِي ذَلِك على الْقيَاس الْجَلِيّ، وَقِيَاس لَا فَارق، نَحْو: قِيَاس الْمَرْأَة على الرجل فِي رُجُوع البَائِع إِلَى عين مَاله عِنْد تعذر الثّمن، وَلَا تبلغ فتاويهم فَتَاوَى أَصْحَاب الْوُجُوه، وَرُبمَا تطرق بَعضهم إِلَى تَخْرِيج قَول، واستنباط وَجه وإجمال، وفتاويهم مَقْبُولَة أَيْضا.
الْحَالة الرَّابِعَة: أَن يقوم بِحِفْظ الْمَذْهَب وَنَقله وفهمه، فَهَذَا يعْتَمد نَقله وفتواه بِهِ فِيمَا يحكيه من مسطورات مذْهبه من منصوصات إِمَامه، أَو تفريعات أَصْحَابه الْمُجْتَهدين فِي مَذْهَبهم وتخريجاتهم.(8/3883)
وَأما مَا يجده مَنْقُولًا فِي مذْهبه فَإِن وجد فِي الْمَنْقُول مَا هَذَا فِي مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يدْرك من غير فضل فكر وَتَأمل أَنه لَا فَارق بَينهمَا، كَمَا فِي الْأمة بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي إِعْتَاق الشَّرِيك، جَازَ لَهُ إِلْحَاقه بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ، وَكَذَا مَا يعلم اندراجه تَحت ضَابِط ومنقول [ممهد] من الْمَذْهَب، وَمن لم يكن كَذَلِك فَعَلَيهِ الْإِمْسَاك عَن الْفتيا بِهِ.
وَمثل هَذَا يَقع نَادرا فِي حق مثل الْفَقِيه الْمَذْكُور، إِذْ يبعد أَن تقع وَاقعَة لم ينص على حكمهَا فِي الْمَذْهَب، وَلَا هِيَ فِي معنى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِيهِ، من غير فرق وَلَا مندرجة تَحت شَيْء من ضوابط الْمَذْهَب المحررة فِيهِ.
ثمَّ إِن هَذَا الْفَقِيه لَا يكون إِلَّا فَقِيه النَّفس؛ لِأَن تصور الْمسَائِل على وَجههَا، وَنقل أَحْكَامهَا بعده لَا يقوم بِهِ إِلَّا فَقِيه النَّفس، وَيَكْفِي استحضار أَكثر الْمَذْهَب مَعَ قدرته على مطالعة بَقِيَّته قَرِيبا. انْتهى كَلَامه فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " هُوَ أَن يعرف قَوَاعِد ذَلِك الْمَذْهَب وأصوله، ونصوص صَاحب الْمَذْهَب، بِحَيْثُ لَا يشذ عَنهُ شَيْء من ذَلِك، فَإِذا سُئِلَ عَن حَادِثَة، فَإِن عرف نصا لصَاحب الْمَذْهَب فِيهَا أجَاب بِهِ، وَإِلَّا اجْتهد فِيهَا على مذْهبه، وخرجها على أُصُوله.
قَالَ ابْن أبي الدَّم: وَهَذَا - أَيْضا - يَنْقَطِع فِي زَمَاننَا بِهَذِهِ الْمرتبَة دون مرتبَة الِاجْتِهَاد الْمُطلق، ومرتبة ثَالِثَة دون الثَّانِيَة وَهِي مرتبَة مُجْتَهد الْفتيا، أَي:(8/3884)
الَّذِي يسوغ لَهُ الْفتيا على مَذْهَب إِمَامه الَّذِي هُوَ مقلده، فَلَا يشْتَرط فِيهِ مَا يشْتَرط فِي مُجْتَهد الْمَذْهَب، بل يعْتَبر أَن يكون متبحرا فِي الْمَذْهَب مُتَمَكنًا من تَرْجِيح قَول على قَول، وَهَذَا أدنى الْمَرَاتِب، وَلم يبْق بعده إِلَّا الْعَاميّ، وَمن فِي مَعْنَاهُ " انْتهى.(8/3885)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ، وَثَالِثهَا: فِي بَاب لَا مَسْأَلَة، وَرَابِعهَا: فِي الْفَرَائِض} .
هَل يجوز أَن يحصل للْإنْسَان منصب الِاجْتِهَاد فِي بعض الْمسَائِل دون بعض أم لَا؟
الْأَكْثَر مِنْهُم أَصْحَابنَا: على الْجَوَاز، إِذْ لَو لم يتَجَزَّأ لزم أَن يكون عَالما بِجَمِيعِ الجزئيات وَهُوَ محَال، إِذْ جَمِيعهَا لَا يُحِيط بهَا بشر.
وَقد سُئِلَ كل من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم عَن مسَائِل فَأجَاب بِأَنَّهُ لَا يدْرِي،(8/3886)
كَمَا ذكرنَا ذَلِك فِي أول هَذَا الشَّرْح فِي تَعْرِيف الْفِقْه.
وَأجِيب عَن قَول الْأَئِمَّة ذَلِك: بِأَن الْعلم بِجَمِيعِ المآخذ لَا يُوجد الْعلم بِجَمِيعِ الْأَحْكَام، بل قد يجهل الْبَعْض بتعارض الْأَدِلَّة فِيهِ، وبالعجز عَن الْمُبَالغَة فِي الْحَال، إِمَّا لمَانع مَعَ تشويش الْفِكر أَو نَحْو ذَلِك.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي: " جُمْهُور الْعلمَاء الْمُسلمين على أَن الْقُدْرَة على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال، مِمَّا يَنْقَسِم ويتبعض، فقد يكون الرجل قَادِرًا على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال فِي مَسْأَلَة، أَو نوع من الْعلم دون الآخر، وَهَذَا حَال أَكثر عُلَمَاء الْمُسلمين، لَكِن يتفاوتون فِي الْقُوَّة وَالْكَثْرَة، فالأئمة المشهورون أقدر على الِاجْتِهَاد وَالِاسْتِدْلَال فِي أَكثر مسَائِل الشَّرْع من غَيرهم.
وَأما أَن يَدعِي أَن وَاحِدًا مِنْهُم قَادر على أَن يعرف حكم الله فِي كل مَسْأَلَة من الدّين بدليلها، فَمن ادّعى هَذَا فقد ادّعى مَا لَا علم لَهُ بِهِ، بل ادّعى مَا يعرف أَنه بَاطِل " انْتهى.(8/3887)
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يتَجَزَّأ الِاجْتِهَاد، وَقَالَ: كل مَا يفْرض أَن يكون قد جَهله، يجوز تعلقه بِمَا يفْرض أَنه مُجْتَهد فِيهِ.
وَأجِيب: بِأَن الْفَرْض أَن مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة كُله مَوْجُود فِي ظَنّه.
قَالَ الطوفي وَغَيره: وَمنعه قوم لجَوَاز تعلق بعض مداركها بِمَا يجهله.
قَالَ: وَأَصله الْخلاف فِي تجزيء الِاجْتِهَاد.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: يجوز التجزؤ فِي بَاب لَا مَسْأَلَة، فَيجوز أَن يكون للْعَالم منصب الِاجْتِهَاد فِي بَاب دون بَاب، فالناظر فِي مَسْأَلَة المشركة يَكْفِيهِ معرفَة أصُول الْفَرَائِض، وَلَا يضرّهُ أَن لَا يعرف الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي تَحْرِيم الْمُسكر مثلا.
وفيهَا قَول رَابِع: يجوز التجزؤ فِي الْفَرَائِض لَا فِي غَيرهَا.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن كَانَ عَالما بالمواريث وأحكامها دون بَقِيَّة الْفِقْه جَازَ لَهُ أَن يجْتَهد فِيهَا، ويفتي غَيره بهَا دون بَقِيَّة الْأَحْكَام؛ لِأَن الْمَوَارِيث لَا تنبني على غَيرهَا، وَلَا تستنبط من سواهَا إِلَّا فِي النَّادِر، والنادر لَا يقْدَح الْخَطَأ فِيهِ فِي الِاجْتِهَاد " انْتهى، وَاقْتصر عَلَيْهِ.(8/3888)
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " الْمُجْتَهد فِي نوع من الْعلم من عرف الْقيَاس وشروطه، فَلهُ أَن يُفْتِي فِي مسَائِل مِنْهُ قياسية لَا تتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ، وَمن عرف الْفَرَائِض، فَلهُ أَن يُفْتِي فِيهَا وَإِن جهل بِأَحَادِيث النِّكَاح.
وَقيل: يجوز ذَلِك فِي الْفَرَائِض دون غَيرهَا.
وَقيل: بِالْمَنْعِ فيهمَا، وَهُوَ بعيد " انْتهى.
فَذكر قولا مَخْصُوصًا بالفرائض كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامه فِي " التَّمْهِيد " الْمُتَقَدّم.
قَوْله: {يجوز اجْتِهَاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَمر الدُّنْيَا، وَوَقع إِجْمَاعًا قَالَه ابْن مُفْلِح} .
وَذَلِكَ " لقصته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الْأَنْصَار لما رَآهُمْ يُلَقِّحُونَ نَخْلهمْ وَقَوله لَهُم: لَو تَرَكْتُمُوهُ، فَتَرَكُوهُ، فطلع شيصا، فَقَالَ لَهُم عَن ذَلِك، فأخبروه بِمَا قَالَ لَهُم قبل ذَلِك، فَقَالَ: أَنْتُم أعلم بدنياكم مَعَ أَنِّي لم أجد حِكَايَة الْإِجْمَاع إِلَّا لِابْنِ مُفْلِح، وَهُوَ الثِّقَة الْأمين وَلَكِن لَيْسَ بمعصوم.(8/3889)
قَوْله: {وَيجوز فِي أَمر الشَّرْع عقلا عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَيجوز شرعا وَوَقع عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَمنعه أَكثر الأشعرية، وَأَبُو حَفْص، وَابْن حَامِد، وَقَالَ: هُوَ قَول أهل الْحق، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَجوزهُ الشَّافِعِي فِي " رسَالَته " من غير قطع، وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، وَجوزهُ القَاضِي - أَيْضا - للحرب، وَقيل: بِالْوَقْفِ} .
الْكَلَام على ذَلِك فِي أَمريْن:
أَحدهمَا: هَل يجوز ذَلِك أم لَا؟ وَإِذا قُلْنَا بِالْجَوَازِ، فَهَل يجوز شرعا وعقلا أم شرعا فَقَط؟
وَالثَّانِي: هَل وَقع ذَلِك أم لَا؟
أما الأول: وَهُوَ الْجَوَاز وَعَدَمه فَقيل أَقْوَال:
أَصَحهَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: الْجَوَاز، وَعَلِيهِ أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ،(8/3890)
وَأكْثر أصحابهما، وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُف، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه كالبيضاوي.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: " إِنَّه الْمُخْتَار ".
وَعَزاهُ الواحدي إِلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء، قَالَ: وَلَا حجَّة للمانع فِي قَوْله: {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} [الْأَنْعَام: 50] ، فَإِن الْقيَاس على الْمَنْصُوص بِالْوَحْي: اتِّبَاع الْوَحْي.(8/3891)
وَمنعه أَكثر الْمُعْتَزلَة.
[قَالَ] ابْن مُفْلِح، كَأبي عَليّ الجبائي وَابْنه أبي هَاشم، وَأكْثر الأشعرية.
وَاخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو حَفْص العكبري، وَابْن حَامِد، وَقَالَ: هُوَ قَول أهل الْحق.
وَذكر القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] .
وَذكر الشَّافِعِي أول " رسَالَته " فِيهِ خلافًا.(8/3892)
وَجوزهُ فِيهَا القَاضِي أَبُو يعلى أَيْضا: فِي أَمر الْحَرْب فَقَط.
وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " قولا: يجوز فِيمَا يتَعَلَّق بالحروب دون غَيرهَا كالجبائي.
وَتوقف بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.
وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن أَكثر الْمُحَقِّقين انْتهى.
وشذ قوم فَقَالُوا: يمْتَنع عقلا، وَحَكَاهُ الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص " عَنْهُم.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْوُقُوع، وَهُوَ قَوْلنَا فِي الْمَتْن {وَوَقع} .
فِيهِ - أَيْضا - مَذَاهِب:
أَحدهَا: أَنه وَقع، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا ابْن بطة،(8/3893)
وَذكر عَن أَحْمد نَحوه.
وَالْقَاضِي وَقَالَ: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد.
وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه فِي الِاسْتِدْلَال بالوقائع وَغَيرهم،(8/3894)
وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لم يَقع.
وَالْقَوْل الثَّالِث: الْوَقْف، لتعارض الْأَدِلَّة، حَكَاهُ ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره.
اسْتدلَّ للْجُوَاز والوقوع، وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَلأَجل مشاركته لأمته، فَظَاهر قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} [الْحَشْر 2] ، فَيكون مَأْمُورا بِالْقِيَاسِ، وَأَيْضًا: فَالْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ أشق على النَّفس؛ لأجل بذل الوسع فَيكون أَكثر ثَوابًا، فَلَا يكون ذَلِك حَاصِلا لبَعض الْأمة وَلَا يحصل لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَظَاهر قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} [آل عمرَان: 159] ، وَطَرِيق الْمُشَاورَة الِاجْتِهَاد.(8/3895)
وَفِي " صَحِيح مُسلم ": " أَنه اسْتَشَارَ فِي أسرى بدر، فَأَشَارَ أَبُو بكر بِالْفِدَاءِ، فأعجبه، وَعمر بِالْقَتْلِ، فجَاء عمر من الْغَد وهما يَبْكِيَانِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبْكِي للَّذي عرض عَليّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء "، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} [الْأَنْفَال: 67] ، وَأَيْضًا: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} [التَّوْبَة: 43] .
قَالَ فِي " الْفُنُون ": هُوَ من أعظم دَلِيل لرسالته إِذْ لَو كَانَ من عِنْده ستر(8/3896)
على نَفسه أَو صَوبه لمصْلحَة يدعيها، فَصَارَ رُتْبَة لهَذَا الْمَعْنى [كسلبه الْخط] .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لما سقت الْهَدْي "، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِيمَا لم يُوح إِلَيْهِ فِيهِ بِشَيْء.
وَاسْتدلَّ: {بِمَا أَرَاك الله} [النِّسَاء: 105] ، أَي: بِمَا جعل الله لَك رَأيا، لِأَن [الإراءة] لَيست الْإِعْلَام، وَإِلَّا لذكر الْمَفْعُول الثَّالِث لذكر الثَّانِي.
رد: مَا مَصْدَرِيَّة فَلَا ضمير، وَيجوز حذف المفعولين، وَلَو كَانَت مَوْصُولَة حذف الثَّالِث للثَّانِي.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بقول الْعَبَّاس: " إِلَّا الْإِذْخر "، فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر ".(8/3897)
وَلما سَأَلَهُ الْأَقْرَع بن حَابِس عَن الْحَج ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ قَالَ: لِلْأَبَد، وَلَو قلت لِعَامِنَا لَوَجَبَتْ ".(8/3898)
وَلما قتل النَّضر بن الْحَارِث جَاءَت أُخْته وَقَالَت:
(مُحَمَّد ولأنت نجل كَرِيمَة ... من قَومهَا والفحل فَحل معرق)(8/3899)
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق)
" فَقَالَ: لَو سَمِعت شعرهَا قبل قَتله لما قتلته ".
وَلَو قَتله بِالنَّصِّ لما قَالَ ذَلِك.
وَقَالَ لَهُ سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة لما أَرَادَ صلح الْأَحْزَاب على شطر نخل الْمَدِينَة وَقد كتب بعض الْكتاب بذلك: " إِن كَانَ بِوَحْي: فسمعا وَطَاعَة، وَإِن كَانَ بِاجْتِهَاد فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْي ".
وَكَذَلِكَ الْحباب بن الْمُنْذر لما أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ينزل ببدر دون المَاء قَالَ لَهُ: " إِن كَانَ هَذَا بِوَحْي فَنعم، وَإِن كَانَ الرَّأْي والمكيدة فَأنْزل بِالنَّاسِ(8/3900)
على المَاء لتحول بَينه وَبَين الْعَدو، فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ بِوَحْي إِنَّمَا هُوَ رَأْي واجتهاد رَأَيْته "، وَرجع إِلَى قَوْلهم، فَدلَّ على أَنه متعبد بِالِاجْتِهَادِ.
وَاسْتدلَّ: اجْتِهَاده أثوب للْمَشَقَّة.
رد: عَدمه لعلو دَرَجَته.
قَالُوا: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] .
أُجِيب: رد على مُنكر بِالْقُرْآنِ، ثمَّ تعبده بِالِاجْتِهَادِ بِوَحْي، فنطقه عَن وَحي.
قَالُوا: لَو اجْتهد لجَاز مُخَالفَته فِيهِ لجَوَاز مُخَالفَة الْمُجْتَهد، لكنه يكفر إِجْمَاعًا.
رد: كفره لتكذيبه.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح " وَغَيرهمَا: وكالإجماع عَن اجْتِهَاد.(8/3901)
قَالُوا: لَو جَازَ لم يتَأَخَّر فِي جَوَاب، وَلما انْتظر الْوَحْي فِي بعض الوقائع: كقصة بَنَات سعد بن الرّبيع فِي تَرِكَة سعد حَتَّى نزلت: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] .
رد: لجَوَاز مَجِيء وَحي، أَو استفراغ وَسعه فِيهِ، أَو تعذره.
قَالُوا: قَادر على الْعلم بِالْوَحْي فَلم يجز الظَّن.
رد: الْقُدْرَة بعد الْوَحْي كحكمه بِالشَّهَادَةِ.
قَالُوا: فِيهِ تُهْمَة وتنفير فيخل بمقصود الْبعْثَة.
رد: بالنسخ، ثمَّ بنفيه لصدقه بالمعجزة القاطعة.
وَاحْتج أَبُو حَفْص بِمَا رَوَاهُ عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يسألني الله عَن سنة أحدثتها فِيكُم لم يَأْمُرنِي بهَا "، وَاحْتج أَبُو الْقَاسِم بن مندة فِي ذمّ من فعل(8/3902)
عبَادَة بِلَا شرع.
رد: سبق جَوَابه إِن صَحَّ.
وَللشَّافِعِيّ عَن عبيد بن عُمَيْر مُرْسلا: " إِنِّي وَالله لَا يمسك عَليّ النَّاس بِشَيْء، إِلَّا أَنِّي لَا أحل إِلَّا مَا أحل الله فِي كِتَابه، وَلَا أحرم إِلَّا مَا حرم الله فِي كِتَابه ".(8/3903)
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لَا يقر على خطأ إِجْمَاعًا، وَمنع القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَبَعض الشَّافِعِيَّة من الْخَطَأ} .
هَذِه إِشَارَة إِلَى من يَقُول بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجوز أَن يتعبد بِالِاجْتِهَادِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ أَكْثَرهم إِذا اجْتهد يكون دَائِما مصيبا، وَلَيْسَ كَغَيْرِهِ فِي أَنه تَارَة يُصِيب فِي نفس الْأَمر، وَتارَة يخطيء، بل اجْتِهَاده لَا يخطيء أبدا لعصمته، ولمنصب النُّبُوَّة عَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد.
قَالَ القَاضِي فِي " الْعدة ": مَعْصُوم فِي اجْتِهَاده كالأمة فَلَيْسَ طَرِيقه غَالب الظَّن.
وَفِي " التَّمْهِيد ": حكمه مَعْصُوم بعصمته، فَإِن صدر عَن ظن كالإجماع.
وَقَالَ قوم: يجوز أَن يخطيء وَلَكِن لَا يقر عَلَيْهِ.
وَإِلَيْهِ يُشِير ابْن الْحَاجِب: لَا يقر على خطأ انْتهى.
لَكِن الَّذِي قدمْنَاهُ: أَنه يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ وَلَا يقر عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والآمدي، وَنَقله " عَن أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي،(8/3904)
والحنابلة، وَأَصْحَاب الحَدِيث ".
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": " قَالَ أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَأهل الحَدِيث: يجوز ذَلِك لَكِن لَا يقر عَلَيْهِ ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ الْمَنْع من الْخَطَأ، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر - كَمَا تقدم -، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب.
قَوْله: {كَانَ نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتَصَرَّف بالفتيا، والتبليغ، وَالْقَضَاء، وَالْإِقَامَة} .(8/3905)
وَزعم الْقَرَافِيّ أَن مَحل الْخلاف السَّابِق فِي الْفَتَاوَى، وَأَن الْقَضَاء يجوز الِاجْتِهَاد فِيهِ بِلَا نزاع.
مِثَاله فِي الْقَضَاء مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث [أم] سَلمَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ رجلَانِ يختصمان فِي مَوَارِيث وَأَشْيَاء قد درست فَقَالَ: " إِنِّي إِنَّمَا أَقْْضِي بَيْنكُم برأيي فِيمَا لم ينزل عَليّ فِيهِ ".
وَله أَيْضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ منصب النُّبُوَّة الَّذِي أوتيه حَتَّى نزلت {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} [العلق: 1] ، ومنصب الرسَالَة الَّذِي أوتيه بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر (1) قُم فَأَنْذر} [المدثر 1، 2] ، وَمَعَ التَّصَرُّفَات السَّابِقَة منصب الْإِمَامَة الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ الرِّئَاسَة التَّامَّة، وَالرِّعَايَة الْعَامَّة الشاملة الْخَاصَّة والعامة، بتدبير مصَالح الْخَلَائق وضبطها بدرء الْمَفَاسِد وجلب الْمصَالح، إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا أَعم من منصب الْحَاكِم؛ لِأَن الْحَاكِم من حَيْثُ هُوَ حَاكم لَيْسَ لَهُ إِلَّا فصل الْخُصُومَات، وإنشاء الْإِلْزَام بِمَا يحكم بِهِ، وأعم من منصب الْفَتْوَى فَإِنَّهَا مُجَرّد الْإِخْبَار عَن حكم الله تَعَالَى، وَأما الرسَالَة والنبوة من حَيْثُ هما، فَلَا يستلزمان ذَلِك؛ لِأَن النُّبُوَّة وَحي بِخَاصَّة الموحى إِلَيْهِ، والرسالة تَبْلِيغ من الله تَعَالَى، فَهِيَ مناصب جمعهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، آثارها مُخْتَلفَة، فإقامة الْحُدُود، وترتيب الجيوش وَغير ذَلِك، من منصب الإِمَام، وَلَيْسَ لأحد(8/3906)
بعده إِلَّا لمن يكون إِمَامًا، وَالْحكم، والإلزام، وَفسخ الْعُقُود، وَنَحْو ذَلِك من منصب الْقَضَاء، وتبليغه الْأَحْكَام، وَغَيرهَا من منصب الرسَالَة، والإخبار بِأَن ذَلِك حكم الله تَعَالَى من منصب الْفَتْوَى الَّتِي من جملَة الرسَالَة، وَمَا بَينه وَبَين ربه من أَنْوَاع الْعِبَادَات لَا سِيمَا الْخَاصَّة بِهِ من منصب النُّبُوَّة، فَإِذا تصرف وَعلم من أَي المناصب هُوَ فَأمره وَاضح، وَإِن شكّ طلب التَّرْجِيح من دَلِيل خَارج.
وَقد وَقع خلاف بَين الْأمة فِي أُمُور لما ذَكرْنَاهُ من التَّرَدُّد.
مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ ".(8/3907)
فَقَالَ أَبُو حنيفَة: هَذَا تصرف مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ، فَلَا يجوز لأحد أَن يحيى بِدُونِ إِذن الإِمَام.
وَقَالَ أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ: بالفتوى لِأَنَّهُ الْأَغْلَب من تَصَرُّفَاته، فَلَا يتَوَقَّف الْإِحْيَاء على إِذن الإِمَام.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهِنْد بنت عتبَة امْرَأَة أبي سُفْيَان بن حَرْب: " خذي من مَاله مَا يَكْفِيك وَيَكْفِي ولدك بِالْمَعْرُوفِ ".
قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ تصرف بالفتوى، فَمن ظفر بِجِنْس حَقه أَو بِغَيْر جنسه عِنْد التَّعَذُّر جَازَ أَن يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَقه، وَهَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ للموفق فَإِنَّهُ تَارَة قطع بِأَنَّهُ فَتْوَى، وَتارَة قطع بِأَنَّهُ حكم.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ من أَصْحَابنَا: " وَالصَّوَاب أَنه فَتْوَى ".(8/3908)
وَقَالَ مَالك: هُوَ تصرف بِالْقضَاءِ.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هُوَ حكم لَا فَتْوَى، وَقَالَهُ الْمُوفق تَارَة كَمَا تقدم.
وَجعل بَعضهم هَذَا أصلا للْقَضَاء على الْغَائِب.
وَضعف بِأَن أَبَا سُفْيَان كَانَ حَاضرا فِي الْبَلَد غير مُمْتَنع من الْحُضُور.
واستنبط بَعضهم من كَونه قَضَاء: أَنه يجوز أَن يسمع لأحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه ".(8/3909)
قيل: تصرف بِالْإِمَامَةِ فَلَا يخْتَص الْقَاتِل بسلب الْمَقْتُول إِلَّا بِإِذن الإِمَام، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد.
وَقَالَ الشَّافِعِي: تصرف بالفتوى، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب فَلَا يشْتَرط فِي اسْتِحْقَاق السَّلب إِذن الإِمَام.(8/3910)
(قَوْله: {فصل} )
{يجوز الِاجْتِهَاد لمن عاصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عقلا عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف أَبُو الْخطاب وَغَيره، وَيجوز شرعا، وَوَقع، ذكره فِي: " الْعدة "، و " الْوَاضِح "، والطوفي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَمنعه فِي " الْمُجَرّد "، وَأَبُو الْفرج وَقوم: مَعَ الْقُدْرَة، وَقوم: مُطلقًا، وَابْن حَامِد وَجمع: لمن بِحَضْرَتِهِ، وَقيل: أَو قَرِيبا مِنْهُ، وَتوقف عبد الْجَبَّار فِيمَن حضر، وَبَعْضهمْ مُطلقًا، وَجوزهُ فِي " الرَّوْضَة ": للْغَائِب، وللحاضر بِإِذْنِهِ كالحنفية، وَجوزهُ فِي " التَّمْهِيد ": للْغَائِب أَو بِإِذْنِهِ، أَو يسمع حكمه فيقره لحاضر، أَو يُمكنهُ سُؤَاله قبل ضيق وَقت الْحَادِثَة، وَقيل: للولاة} .
هَذَا حكم اجْتِهَاد غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي زَمَنه، فَاخْتَلَفُوا هَل يجوز ذَلِك عقلا أم لَا؟(8/3911)
فالجمهور على الْجَوَاز نَقله الْآمِدِيّ عَنْهُم؛ لِأَن ذَلِك لَيْسَ محالا، وَلَا مستلزما للمحال فَجَاز.
وَخَالف قوم فَقَالُوا: لَا يجوز عقلا، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، قَالَه وَنَقله ابْن مُفْلِح فِي كِتَابه " الْأُصُول ".
لَكِن رَأَيْت أَبَا الْخطاب قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " مَسْأَلَة: وَلَا فرق بَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأمته فِي أَنه كَانَ يجوز لَهُ أَن يجْتَهد وَيحكم بِالْقِيَاسِ من جِهَة الْعقل.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز ذَلِك عقلا.
ثمَّ قَالَ: لنا أَنه إِذا جَازَ أَن يتعبد غَيره بِالنَّصِّ تَارَة، وبالاجتهاد أُخْرَى، جَازَ أَن يتعبد هُوَ بذلك، وَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يحيله فِي حَقه ويصححه فِي حَقنا، وَلِهَذَا أوجب عَلَيْهِ وعلينا الْعَمَل على اجتهادنا فِي مضار الدُّنْيَا ومنافعها "، وَطول على ذَلِك، فَظَاهره أَنه نصر الْجَوَاز عقلا، خلافًا لما نَقله ابْن مُفْلِح فَليعلم.
إِذا علم ذَلِك فَالْكَلَام فِي الْجَوَاز شرعا والوقوع.
وَأما الْجَوَاز فَفِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا: الْجَوَاز مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: القَاضِي فِي " الْعدة "،(8/3912)
وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَغَيرهمَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم.
وَالْمذهب الثَّانِي: الْمَنْع مُطلقًا، وَإِن كَانَ النَّص لَا يضاد الِاجْتِهَاد، إِنَّمَا المضاد لَهُ القَوْل بِخِلَافِهِ من غير أَن يتَأَوَّل بِدَلِيل.
وَالثَّالِث: إِن ورد الْإِذْن بذلك جَازَ وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " يجوز للْغَائِب، وَيجوز للحاضر بِإِذْنِهِ " كالحنفية.(8/3913)
وَالرَّابِع: [وَجوزهُ فِي " التَّمْهِيد " للْغَائِب، وَجوزهُ] إِن ورد إِذن صَرِيح، أَو يسمع حكمه فيقره لحاضر، أَو يُمكنهُ سُؤَاله قبل ضيق وَقت الْحَادِثَة، وَحَكَاهُ عَن الْحَنَفِيَّة.
وَالْخَامِس: يجوز للغائبين، وَتقدم كَلَام " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة " فِيهِ لتعذر سُؤَاله دون الْحَاضِرين لإمكانه فَهُوَ قدرَة على النَّص، وَالْغَائِب لَو أخر الْحَادِثَة إِلَى لِقَائِه لفاتت الْمصلحَة.
وَقد حكى الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: الْإِجْمَاع على الْجَوَاز للْغَائِب.
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": إِنَّه جَائِز بِلَا شكّ.
وَجعله الْبَيْضَاوِيّ مَحل وفَاق، لَكِن الْمَشْهُور إِجْرَاء الْخلاف فِيهِ.(8/3914)
السَّادِس: إِن كَانَ الْغَائِب قَاضِيا: كعلي ومعاذ حِين بعثهما إِلَى الْيمن جَازَ لَهُ بِخِلَاف الْحَاضِر وَالْغَائِب إِذا لم يكن قَاضِيا، حَكَاهُ الْغَزالِيّ والآمدي.
قلت: أما بعث عَليّ وَأبي مُوسَى ومعاذ قُضَاة وحكاما فَالَّذِي نقطع(8/3915)
بِهِ جَوَاز الِاجْتِهَاد، وَقد قَالَ معَاذ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيَأْتِي فِي الدَّلِيل على الْمَسْأَلَة.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْوُقُوع فَفِيهِ - أَيْضا - مَذَاهِب:
أَحدهَا: وَهُوَ الْأَصَح أَنه وَقع، وَسَيَأْتِي الْحَوَادِث بذلك.
وَالثَّانِي: أَنه لم يَقع، إِذْ لَو وَقع لاشتهر.
وَالثَّالِث: أَنه لم يَقع بَين الْحُضُور.
وَالرَّابِع: الْوَقْف، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ وَنسبه للْأَكْثَر.(8/3916)
وَالْخَامِس: الْوَقْف فِي حق الْحَاضِر، وَأما الْغَائِب فَالظَّاهِر وَقع تعبدهم بِهِ وَلَا قطع.
اسْتدلَّ للْجُوَاز والوقوع: " بِأَن أَبَا قَتَادَة قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة حنين إِنَّه قتل قَتِيلا، فَقَالَ رجل: صدق، وسلبه عِنْدِي فأرضه فِي حَقه، فَقَالَ أَبُو بكر: لَا هَا الله إِذا لَا يعمد إِلَى أَسد من أَسد الله يُقَاتل عَن الله وَرَسُوله فيعطيك سلبه، فَقَالَ: صدق " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَالْمَعْرُوف لُغَة: لَا هَا الله ذَا، أَي: يَمِيني، وَقيل: زَائِدَة.
وَأَبُو بكر إِنَّمَا قَالَ ذَلِك اجْتِهَادًا، وَإِلَّا لأسنده إِلَى النَّص، لِأَنَّهُ أدعى إِلَى الانقياد، وَأقرهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ذَلِك، وَإِذا ثَبت هَذَا فِي الْحَاضِر فالغائب أولى.
لَكِن قَالَ بَعضهم: هَذَا خبر آحَاد وَالْمَسْأَلَة علمية.
فَقَالَ الْهِنْدِيّ: " وَإِن كَانَت أَخْبَار آحَاد لَكِن تلقتها الْأمة بِالْقبُولِ، فَجَاز أَن يُقَال: إِنَّهَا تفِيد الْقطع ".
وَنزل بَنو قُرَيْظَة على حكم ابْن معَاذ، فَأرْسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ فجَاء فَقَالَ: " نزل(8/3917)
هَؤُلَاءِ على حكمك، قَالَ: فَإِنِّي أحكم بقتل مقاتلهم وَسبي ذَرَارِيهمْ، فَقَالَ: قضيت بِحكم الله " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وجاءه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجلَانِ فَقَالَ لعَمْرو بن الْعَاصِ: " اقْضِ بَينهمَا، فَقَالَ: وَأَنت هُنَا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: [نعم] ".(8/3918)
(قَوْله: {فصل} )
{ [من جهل وجود الرب، أَو علم وجوده، وَفعل فعلا أَو قَالَ قولا لَا يصدر إِلَّا من كَافِر إِجْمَاعًا فكافر.
وَلَا يكفر مُبْتَدع غَيره فِي رِوَايَة اخْتَارَهَا القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، والأشعري وَأَصْحَابه كمقلد فِي الْأَصَح عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَغَيرهم.
وَلَا يفسق، قَالَه ابْن عقيل وَغَيره.
وَعنهُ: يكفر.
وَالْأَشْهر عَن أَحْمد وَأَصْحَابه يكفر الداعية، وَلَا يكفر من لم يكفر من كفرناه على الْأَصَح.
زَاد الْمجد: وَلَا يفسق] } .
[يكفر بِكُل فعل أجمع الْمُسلمُونَ أَنه لَا يصدر إِلَّا من كَافِر وَإِن كَانَ مُصَرحًا بِالْإِسْلَامِ، مَعَ فعله ذَلِك الْفِعْل] .(8/3919)
فَأَما من جحد الْعلم بهَا فالأشبه لَا يكفر، وَيكفر فِي نَحْو الْإِسْرَاء وَالنُّزُول وَنَحْوه من الصِّفَات.
وَقَالَ فِي إِنْكَار الْمُعْتَزلَة اسْتِخْرَاج قلبه لَيْلَة الْإِسْرَاء وإعادته: فِي كفرهم بِهِ وَجْهَان بِنَاء على أَصله فِي الْقَدَرِيَّة الَّذين يُنكرُونَ علم الله وَأَنه صفة لَهُ، وعَلى من قَالَ: لَا أكفر من لَا يكفر الْجَهْمِية.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي شُرُوط من تقبل شَهَادَته: (وَمن قلد فِي خلق الْقُرْآن، وَنفي الرُّؤْيَة وَنَحْوهمَا: فسق اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، قَالَه فِي " الْوَاضِح ".(8/3920)
وَعنهُ: يكفر كمجتهد.
وَعنهُ: فِيهِ لَا، اخْتَارَهُ الشَّيْخ فِي رسَالَته إِلَى صَاحب " التَّلْخِيص "، كَقَوْل أَحْمد للمعتصم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ.
وَنقل يَعْقُوب الدَّوْرَقِي فِيمَن يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق: كنت لَا أكفره(8/3921)
حَتَّى قَرَأت: {أنزلهُ بِعِلْمِهِ} وَغَيرهَا، فَمن زعم أَنه لَا يدْرِي علم الله مَخْلُوق أَو لَا؟ كفر.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُصُول " فِي - الْكَفَاءَة - فِي جهمية، وواقفيه وحرورية، وقدرية، ورافضة: إِن نَاظر ودعا: كفر وَإِلَّا لم يفسق؛ لِأَن أَحْمد قَالَ: يسمع حَدِيثه، وَيصلى خلقه، قَالَ: وَعِنْدِي أَن عَامَّة المبتدعة فسقة.
قَالَ: وَالصَّحِيح: لَا كفر؛ لِأَن أَحْمد أجَاز الرِّوَايَة عَن الحرورية، والخوارج) .(8/3922)
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَاخْتَارَ شَيخنَا: لَا يفسق أحد.
وَقَالَهُ القَاضِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْمُقَلّد، كالفروع، لِأَن التَّفْرِقَة بَينهمَا لَيست عَن أَئِمَّة الْإِسْلَام وَلَا تصح.
وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": الصَّحِيح أَن كل بِدعَة لَا توجب الْكفْر لَا يفسق الْمُقَلّد فِيهَا لخفتها، مثل من يفضل عليا على سَائِر الصَّحَابَة، وَيقف عَن تَكْفِير من كفرناه من المبتدعة.
ثمَّ ذكر قَول الْمَرْوذِيّ لأبي عبد الله: " إِن قوما يكفرون من لَا يكفر، فَأنكرهُ "، وَقَوله فِي رِوَايَة أبي طَالب: " من يجتريء أَن يَقُول إِنَّه كَافِر؟ يَعْنِي: من لَا يكفر وَهُوَ يَقُول: الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق ".
وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": " وَالصَّحِيح أَن كل بِدعَة كفرنا فِيهَا الداعية، فَإنَّا نفسق الْمُقَلّد فِيهَا كمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن، أَو بِأَن ألفاظنا بِهِ مخلوقة، أَو أَن علم الله مَخْلُوق، أَو أَن أسماءه مخلوقة، أَو أَنه لَا يرى فِي الْآخِرَة، أَو الصَّحَابَة تدينا، أَو أَن الْإِيمَان مُجَرّد الِاعْتِقَاد، وَمَا أشبه ذَلِك، فَمن كَانَ عَالما فِي شَيْء من هَذِه الْبدع يَدْعُو إِلَيْهِ، ويناظر عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْكُوم بِكُفْرِهِ، نَص أَحْمد على ذَلِك صَرِيحًا فِي مَوَاضِع.(8/3923)
قَالَ: وَاخْتلف عَنهُ فِي تَكْفِير الْقَدَرِيَّة بِنَفْي خلق الْمعاصِي على رِوَايَتَيْنِ، وَله فِي [الْخَوَارِج] كَلَام يَقْتَضِي فِي تكفيرهم رِوَايَتَيْنِ) .
قَوْله: {والمصيب فِي العقليات وَاحِد إِجْمَاعًا، ونافي الْإِسْلَام مخطيء آثم كَافِر مُطلقًا عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام، وَحكي أَقْوَال تخَالف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع تنكبنا عَنْهَا} .
اعْلَم أَنه إِذا حصل اخْتِلَاف فَتَارَة يكون فِي العقليات، وَتارَة يكون فِي غَيرهَا.
فَإِن كَانَ فِي العقليات فالمصيب فِيهَا وَاحِد، كَمَا نقل الْآمِدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع عَلَيْهِ.(8/3924)
لَكِن قَالَ الكوراني: الْحق أَن الْأَمر مُخْتَلف فِي العقليات والشرعيات، وَهُوَ من صَادف الْحق فِيهَا لتعينه فِي الْوَاقِع: كحدث الْعَالم، وَثُبُوت الباريء، وَصِفَاته، وَبَعثه الرُّسُل، وَغير ذَلِك، فالأمور الْعَقْلِيَّة الْمُصِيب وَاحِد قطعا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى أَن كلا من نقيضين أَو ضدين حق بل أَحدهمَا فَقَط، وَالْآخر بَاطِل، وَمن لم يُصَادف ذَلِك الْوَاحِد فِي الْوَاقِع فَهُوَ ضال آثم وَإِن بَالغ فِي النّظر.
وَسَوَاء كَانَ مدرك ذَلِك عقلا مَحْضا: كحدث الْعَالم، وَوُجُود الصَّانِع، أَو شَرْعِيًّا مُسْتَندا إِلَى ثُبُوت أَمر عَقْلِي: كعذاب الْقَبْر، والصراط، وَالْمِيزَان.
إِذا علم ذَلِك فالمخطيء لعدم إِصَابَة ذَلِك الْوَاحِد لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون فِي إِنْكَار الْإِسْلَام كاليهود وَالنَّصَارَى إِذا قَالَ: أداني اجتهادي إِلَى إِنْكَاره، فَهَذَا ضال كَافِر عَاص لله وَلِرَسُولِهِ.
وَإِن كَانَ فِي غير ذَلِك من العقائد الدِّينِيَّة الزَّائِدَة على أصل الْإِسْلَام فَهَذَا عَاص.
وَمن هُنَا انفرقت المبتدعة فرقا مُقَابلَة لطريق السّنة، وَفِيهِمْ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تفترق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة، فرقة نَاجِية وَالْبَاقِي فِي النَّار "، وَقد تقدم قَرِيبا الْخلاف بَين الْعلمَاء فِي تَكْفِير المبتدعة، وَقد ذكر هُنَا أَقُول تقشعر مِنْهَا الْجُلُود وتنفر.(8/3925)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " والمصيب وَاحِد.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن مَذَاهِب أَقوام: أَن المخطيء مَعْذُور مثاب فِي الْآخِرَة إِذا لم يعاند، وَفِي الدُّنْيَا كَافِر نقاتله.
قَالَ: وَقد يتمسكون بقوله: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا} الْآيَة.
وَقَالَ الجاحظ، وثمامة: المعارف ضَرُورِيَّة وَمَا أَمر الرب الْخَالِق بمعرفته، وَلَا بِالنّظرِ، مِمَّا حصلت لَهُ الْمعرفَة وفَاقا أَمر بِالطَّاعَةِ، فَإِن أطَاع أثيب وَإِلَّا فَالنَّار، وَأما من مَاتَ جَاهِلا، فَقيل: يصير تُرَابا، وَقيل: إِلَى الْجنَّة.(8/3926)
وَعَن عبيد الله بن الْحسن، الإِمَام الْمَشْهُور، قَالَه بعض أَصْحَابنَا، وَذكر الْآمِدِيّ أَنه معتزلي معتزلي: المجتهدون من أهل الْقبْلَة مصيبون مَعَ اخْتلَافهمْ.(8/3927)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمرَاده وَالله أعلم بِمَا كلفوا فَلَا إِثْم، أَو يثابون لاجتهادهم، وَإِلَّا فَإِن أَرَادَ مُطَابقَة الِاعْتِقَاد للمعتقد فَجمع بَين النقيضين، وَلَا يُريدهُ عَاقل.
ورده بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بمخالفة الْقَاطِع فقصر لتقليد، أَو عصبية، أَو إهمال، فَلم يعْذر كأصل التَّوْحِيد وَلَا فرق.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا، وَلم يُقيد بَعضهم كَلَامه بِأَهْل الْقبْلَة، ففهم عَنهُ مَا لَا يَنْبَغِي.
قلت: - صرح بِهِ الطوفي فِي " مُخْتَصره " عَنْهُمَا، والموفق فِي " الرَّوْضَة " عَن الجاحظ - فتأوله بعض الْمُعْتَزلَة، وَكَلَام الجاحظ على الْمسَائِل الكلامية: كالرؤية، وَالْكَلَام، وأعمال الْعباد، لتعارض الْأَدِلَّة الظنية.
قَالَ الْآمِدِيّ: فَإِن صَحَّ أَنه المُرَاد فَلَا نزاع وَحكى هُوَ وَجَمَاعَة عَن الجاحظ: لَا يَأْثَم من خَالف الْملَّة ".(8/3928)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَنقل عَن الجاحظ والعنبري: أَن المخطيء فِي العقليات لَا يَأْثَم فِي خطئه.
ثمَّ مِنْهُم من أطلق النَّقْل عَنْهُمَا بِمَا يَشْمَل الْكفَّار وَغَيرهم.
وَمِنْهُم من قَالَ: إنَّهُمَا قَالَا ذَلِك بِشَرْط إِسْلَام الْمُجْتَهد، وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بهما.
وَفِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " للباقلاني: أَن ذَلِك أشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن الْعَنْبَري.
وَنقل ابْن قُتَيْبَة عَنهُ أَنه " سُئِلَ عَن أهل الْقدر وَعَن أهل الْجَبْر فَقَالَ: كل مِنْهُمَا مُصِيب، لِأَن هَؤُلَاءِ قوم عظموا الله، وَهَؤُلَاء قوم نزهوا الله ".(8/3929)
وَقَالَ الكيا: إِن الْعَنْبَري كَانَ يذهب إِلَى أَن الْمُصِيب فِي العقليات وَاحِد، وَلَكِن مَا تعلق بِتَصْدِيق الرُّسُل، وَإِثْبَات حدث الْعَالم، وَإِثْبَات الصَّانِع، فالمخطيء فِيهِ غير مَعْذُور، وَأما مَا يتَعَلَّق بِالْقدرِ والجبر، وَإِثْبَات الْجِهَة ونفيها، فالمخطيء فِيهِ مَعْذُور وَإِن كَانَ مُبْطلًا فِي اعْتِقَاده بعد الْمُوَافقَة فِي تَصْدِيق الرُّسُل والتزام الْملَّة ".
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد قَول الجاحظ الْمُتَقَدّم: " وَهَذَا وَقَوله السَّابِق، وَالْقَوْل قبله خلاف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع قبله، وَلَيْسَ تكليفهم نقيض اجتهادهم محَال، بل مُمكن، غَايَته منَاف لما تعوده ".
قَالَ الجاحظ: الْإِثْم بعد الِاجْتِهَاد قَبِيح لَا سِيمَا مَعَ كَثْرَة الآراء، واعتوار الشّبَه، وَعدم القواطع الجوازم.
وَيلْزمهُ: رفع الْإِثْم عَن منكري الصَّانِع، والبعث، والنبوات، وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَعَبدَة الْأَوْثَان، إِذا اجتهادهم أداهم إِلَى ذَلِك، وَله منع أَنهم استفرغوا الوسع فِي طلب الْحق، فإثمهم على ترك الْجد لَا على الْخَطَأ.
وَقَوله على كل حَال مُخَالف الْإِجْمَاع، إِلَّا أَن يمْنَع كَونه حجَّة كالنظام، أَو قَطْعِيَّة فَلَا يلْزمه.
قَالَ الْمُوفق: " وَمَا ذهب إِلَيْهِ الجاحظ بَاطِل يَقِينا، وَكفر بِاللَّه، ورد عَلَيْهِ وعَلى رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإنَّا نعلم قطعا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى(8/3930)
بِالْإِسْلَامِ واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وَيُقَاتل جَمِيعهم، وَيقتل الْبَالِغ مِنْهُم، ونعلم أَن المعاند الْعَارِف مِمَّا يقل " وَأطَال.(8/3931)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَالْأَكْثَر الْمَسْأَلَة الظنية الْحق فِيهَا وَاحِد عِنْد الله تَعَالَى، وَعَلِيهِ دَلِيل، وعَلى الْمُجْتَهد طلبه، فَمن أصَاب فمصيب وَإِلَّا فمخطيء مثاب، زَاد فِي " التَّمْهِيد ": ويطلبه حَتَّى يظنّ أَنه وَصله، وثوابه على قَصده واجتهاده لَا على الْخَطَأ، وَقَالَهُ ابْن عقيل، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعْضهمْ: على قَصده.
وَفِي " الْعدة " وَغَيرهَا: مخطيء عِنْد الله تَعَالَى وَحكما، وَقَالَ أَيْضا: مُصِيب فِي اجْتِهَاده مخطيء فِي تَركه للزِّيَادَة، وَعنهُ مُصِيب حكما كَابْن عقيل، وَقَالَ الشَّيْخ: من لم يحْتَج بِنَصّ فمخطيء عِنْده وَإِلَّا فَلَا، نَص عَلَيْهِ، وَقيل: لَا دَلِيل عَلَيْهِ كدفين يصاب، والأستاذ، وَأَبُو الطّيب، وَجمع، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد: الدَّلِيل قَطْعِيّ ونقطع بخطأ مخالفنا، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، والمزني، وَابْن شُرَيْح، كل مُجْتَهد مُصِيب، وَالْحق وَاحِد عِنْد الله، وَهُوَ الْأَشْبَه الَّذِي لَو نَص على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ، وَعَلِيهِ(8/3932)
دَلِيل، وَلم يُكَلف الْمُجْتَهد إِصَابَته، وَقَالَ بعض أَصْحَابه وَحكى عَن الشَّافِعِي: مُصِيب فِي الطّلب مخطيء فِي الْمَطْلُوب، والمعتزلة: كل مُجْتَهد مُصِيب، فَقيل: كالحنفية، وَقيل: حكم الله تَابع للظن لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَلم يُكَلف غير اجْتِهَاده، وَحكي عَن أبي حنيفَة، والأشعري، والباقلاني، وَنقل التصويب والتخطئة عَن الْأَرْبَعَة والأشعري} .
لخصت ذَلِك من كَلَام ابْن مُفْلِح و " التَّمْهِيد " وَغَيرهمَا، وَكَلَام ابْن مُفْلِح أوسع وَأكْثر نقلا فَإِنَّهُ قَالَ: " الْمَسْأَلَة الظنية: الْحق عِنْد الله وَاحِد، وَعَلِيهِ دَلِيل، وعَلى الْمُجْتَهد طلبه، فَمن أصَاب فمصيب وَإِلَّا فمخطيء مثاب عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، وَقَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ،(8/3933)
وَإِسْحَاق، والمحاسبي وَابْن كلاب، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن مُعظم الْفُقَهَاء، وَذكره ابْن برهَان عَن الْأَشْعَرِيّ.
زَاد فِي " التَّمْهِيد ": يَطْلُبهُ حَتَّى يعلم أَنه وَصله ظَاهرا، وَمرَاده يظنّ كَمَا ذكره هُوَ غَيره.
قَالَ: ثَوَابه على قَصده واجتهاده لَا على الْخَطَأ، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَبَعْضهمْ: على قَصده.
وَفِي " الْعدة " وَغَيرهَا: مخطيء عِنْد الله، وَحكما.(8/3934)
وَفِي " كتاب الرِّوَايَتَيْنِ " للْقَاضِي: مخطيء عِنْد الله.
وَفِي الحكم رِوَايَتَانِ:
إحدهما: مُصِيب.
وَجزم بِهِ ابْن عقيل عَن حنبلي - يَعْنِي نَفسه - وَأَخذهَا القَاضِي من قَول أَحْمد: لَا يَقُول لمُخَالفَة: مخطيء.
وَفِي " التَّمْهِيد " يَعْنِي لَا نقطع بخطئه.
وَبَعض أَصْحَابنَا: من لم يحْتَج بِنَصّ فمخطيء وَإِلَّا فَلَا، قَالَ: وَهُوَ الْمَنْصُوص.(8/3935)
ثمَّ ذكر القَاضِي اخْتِلَاف أَصْحَابنَا: فِي أَصْحَاب الْجمل وصفين: هَل كِلَاهُمَا مُصِيب أم وَاحِد لَا بِعَيْنِه، أم عَليّ؟ على أوجه، وَأَنه يجب الْبناء على هَذَا الأَصْل، وَأَن نَص أَحْمد الْوَقْف.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لم يرد أَحْمد الْوَقْف الْحكمِي، بل الْإِمْسَاك خوف الْفِتْنَة؛ وَلِهَذَا بنى قتال الْبُغَاة على سيرة عَليّ.
وَقَالَ القَاضِي فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة: هُوَ مُصِيب فِيمَا فعله من الِاجْتِهَاد، مخطيء فِي تكره للزِّيَادَة عَلَيْهِ.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَبِه ينْحل الْإِشْكَال، وَعند المريسي، والأصم، وَابْن علية: الدَّلِيل قَطْعِيّ ونقطع بخطأ مخالفنا.(8/3936)
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": حَكَاهُ بَعضهم عَن الشَّافِعِي.
وَاخْتَارَهُ [أَبُو الطّيب] ، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي حَاكم حكم فِي مُفلس أَن صَاحب الْمَتَاع أُسْوَة الْغُرَمَاء " يرد حكمه ".(8/3937)
وَفِي " الْعدة ": لاعْتِقَاده خلاف النَّص، لَا أَنه يقطع بِإِصَابَة وَخطأ.
وَفِي " الْخلاف ": ظَاهره: لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد.
وَقَالَ فِيهَا فِي مَسْأَلَة الظفر: إِن سوغنا الِاجْتِهَاد فِيهِ لم يَأْخُذهُ بِلَا حكم وَإِلَّا أَخذه: كمغصوب، وَذكر - أَيْضا - أَنه لَا ينْقض بالآحاد لعدم الْقطع، وَفِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة ذكر نقضه لمُخَالفَة النَّص.
وجزموا فِي الْفُرُوع بنقضه:
مِنْهُم " الرِّعَايَة " - إِلَّا ظَاهر " الْفُصُول "، واحتمالا فِي " الْكَافِي " فِي - مَسْأَلَة الْمُفلس - بنقضه بِنَصّ آحَاد خلاف الْأَشْهر هُنَا.(8/3938)
وَجزم صَاحب " الرِّعَايَة " - فِي أصُول الْفِقْه -: لَا ينْقض إِلَّا بقاطع مَعَ أَنه ذكر نقضه بتقليد غَيره.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يقطع فِي بعض الْمسَائِل، وعَلى هَذَا يَنْبَنِي نقض الحكم، وَخَالف أَحْمد فِي مسَائِل وَتوقف فِي أُخْرَى.
وَكَذَا قَالَه ابْن حَامِد: " لَا خلاف عَن أبي عبد الله أَن الْأَخْذ بِالرَّأْيِ مَعَ الْخَبَر مَقْطُوع بخطئه وَيرد عَلَيْهِ ".
وَمَا قَالَه صَحِيح قَالَه أَحْمد فِي قتل مُؤمن بِكَافِر.
وَقَالَ: إِنَّمَا لَا يرد حكم الْحَاكِم إِذا اعتدلت الرِّوَايَة وَذكر قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ مَرْدُود "، فَمن عمل خلاف السّنة رد عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو الطّيب: أمْنَعهُ من الحكم بِاجْتِهَادِهِ وَلَا أنقضه.(8/3939)
وَذكر الْآمِدِيّ عَن الإِسْفِرَايِينِيّ وَابْن فورك: أَنه ظَنِّي.
وَقَالَ قوم: لَا دَلِيل عَلَيْهِ كدفين يصاب.
وَعند أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه، والمزني: كل مُجْتَهد مُصِيب، وَالْحق وَاحِد عِنْد الله، وَهُوَ الْأَشْبَه الَّذِي لَو نَص الله على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ وَعَلِيهِ دَلِيل، وَلم يُكَلف الْمُجْتَهد إِصَابَته بل الِاجْتِهَاد.(8/3940)
قَالَ بعض أَصْحَابه: فَهُوَ مُصِيب ابْتِدَاء، أَي: فِي الطّلب، مخطيء انْتِهَاء، أَي: فِي الْمَطْلُوب، وَحَكَاهُ بَعضهم عَن الشَّافِعِي.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: كل مُجْتَهد مُصِيب.
فَقيل: كالحنفية.
وَقيل: حكم تَابع لظن الْمُجْتَهد لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَلم يُكَلف عَن اجْتِهَاده، وَحكي عَن أبي حنيفَة، وَقَالَهُ الباقلاني.(8/3941)
وَحكى عَن الْأَشْعَرِيّ قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: كَقَوْلِه، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن مُعظم الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عقيل عَن أَكثر الأشعرية.
وَبنى ابْن الباقلاني على هَذَا قَوْله: لَيْسَ فِي الأقيسة المظنونة تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير، وَإِنَّمَا المظنون بِحَسب الاتفاقات.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهِي هفوة عَظِيمَة هائلة.
وَعَن الجبائي: لَا يجْتَهد وَيتَخَيَّر من الْأَقْوَال.
واستنبطه ابْن الباقلاني من كَلَام الشَّافِعِي.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع.
وَعَن بَعضهم: لصالح الْأمة الْإِفْتَاء بالتشهي.
وَعَن قوم: إِن أفتى مُجْتَهد أَو غَيره وبذل وَسعه يُرِيد التَّقَرُّب إِلَى الله فمصيب.
قَالَ: وطرده قوم فِي مسالك الْمَعْقُول.(8/3942)
وَحَكَاهُ بَعضهم عَن دَاوُد، والظاهرية.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه نقل التصويب والتخطئة عَن الشَّافِعِي، وَأبي حنيفَة، وَأحمد، والأشعري.
وخرجه ابْن عقيل من دلَالَته على استفتاء غَيره بِلَا حَاجَة، بِخِلَاف حكم أَحْمد بِصِحَّة الصَّلَاة خَلفهم للْحَاجة لصِحَّة صَلَاة عَامي خلف مُجْتَهد فِي الْقبْلَة، وَلَا يجوز أَن يدله إِلَى غَيرهَا.
وَأَخذه بعض أَصْحَابنَا من قَول أَحْمد لمن سمى - كتاب الِاخْتِلَاف - سمه كتاب السعَة، وَهُوَ مَأْخَذ بعيد.
فَهَذَا النَّقْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن الْعلمَاء.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بقوله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] فتخصيصه دَلِيل اتِّحَاد الْحق، وإصابته وَلَا نَص،(8/3943)
وَإِلَّا لما اخْتلفَا، أَو ذكر فَنقل، وَلِأَنَّهُ وريث النُّبُوَّة بعده، وَإِنَّمَا يُوصف بالفهم المشتبه.
وَفِي " صَحِيح الْحَاكِم ": أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " أَسأَلك حكما يُوَافق حكمك "، وَلما عزي إِلَى سُلَيْمَان وَلَا سمي باسم تفيهم.(8/3944)
قَالَ الْحسن: أثني لصوابه، وَعذر بِاجْتِهَادِهِ.
وَلمُسلم عَن بُرَيْدَة: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو سَرِيَّة قَالَ: إِذا حاصرت أهل حصن، وأرادوك أَن تنزلهم على حكم الله فَلَا تنزلهم على حكم الله، وَلَكِن أنزلهم على حكمك، فَإنَّك لَا تَدْرِي تصيب مِنْهُم حكم الله أم لَا؟ ".(8/3945)
وَاحْتج القَاضِي وَغَيره بالْخبر السَّابِق " وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر ".
فَقيل لَهُم آحَاد.
فَقَالُوا: قبلته الْأمة، وأجمعت على صِحَّته فَصَارَ كمتواتر، وَمَعْنَاهُ فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره.
فَدلَّ أَن الْمَسْأَلَة عِنْدهم قَطْعِيَّة، وزعمه بعض المصوبة.
وَقيل - لِابْنِ عقيل - يحمد على جَهله بكذب الشُّهُود، وَنَحْوه كإقرار الْخصم تهزؤا.
فَقَالَ: هَذَا لَا يُضَاف إِلَى الْحَاكِم بِهِ، هَذَا خطأ، وَلِهَذَا من تَوَضَّأ مِمَّا جهل نَجَاسَته، وَأَخْطَأ جِهَة الْقبْلَة، لَا ينقص ثَوَابه وَأجر عمله.
وَلِهَذَا قَالَ عمر: " يَا صَاحب الْمِيزَاب لَا تعلمهمْ ".(8/3946)
أَن اللَّفْظ عَام.
وَأَيْضًا: أطلق الصَّحَابَة كثيرا الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد وشاع وَلم يُنكر.
وَأَيْضًا: لَو كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا لاجتمع النقيضان، للْقطع بالحكم عِنْد ظَنّه، لعلمه [بإصابته] ، ودوام قِطْعَة مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه؛ لِأَنَّهُ لَو تغير ظَنّه لزمَه الرُّجُوع إِلَى الثَّانِي إِجْمَاعًا، فَيلْزم علمه بِشَيْء وظنه لَهُ مَعًا.
لَا يُقَال: يَنْتَفِي الظَّن بِالْعلمِ، لأَنا نقطع بِبَقَائِهِ لدوام الْقطع، وَإِلَّا كَانَ يَسْتَحِيل ظن النقيض مَعَ ذكر الحكم؛ لأجل الْعلم بالحكم وَلَا يَسْتَحِيل إِجْمَاعًا.(8/3947)
فَإِن قيل: اجْتِمَاع النقيضين مُشْتَرك الْإِلْزَام؛ لِأَنَّهُ يجب الْفِعْل أَو يحرم قطعا عِنْد ظَنّه أَحدهمَا لاتباعه ظَنّه.
رد: الظَّن مُتَعَلق بِالْوُجُوب أَو الْحُرْمَة وَالْعلم بِتَحْرِيم مُخَالفَته.
فَإِن قيل: متعلقهما مُتحد لزوَال الْعلم بتحريمها بتبدل الظَّن.
رد: لِأَن الظَّن شَرطه.
فَإِن قيل: لَا يلْزم اجْتِمَاع النقيضين لتَعلق الظَّن بِكَوْن الدَّلِيل وَالْعلم بِثُبُوت مَدْلُوله وَهُوَ الحكم، وَزَوَال الْعلم بتبدل الظَّن لَا يُوجب اتحادهما؛ لِأَن الظَّن شَرطه.(8/3948)
رد: كَونه دَلِيل حكم، فَإِذا ظَنّه علمه، وَإِلَّا جَازَ تعبده بِغَيْرِهِ، فَلَا يكون كل مُجْتَهد مصيبا.
وَأَيْضًا: الأَصْل عدم التصويب وَدَلِيله، وَصوب غير معِين للْإِجْمَاع، وَلم يحْتَج الْآمِدِيّ بِغَيْرِهِ.
وَاسْتدلَّ: إِذا اخْتلف اجتهادهما، فَإِن كَانَ بدليلين تعين أرجحهما وَإِلَّا تساقطا.
رد: الدَّلِيل الظني من الْأُمُور الإضافية، يتَرَجَّح بِالنِّسْبَةِ إِلَى من يرَاهُ.(8/3949)
وَاسْتدلَّ: بشرع المناظرة إِجْمَاعًا، وفائدتها إِصَابَة الْحق.
رد: أَو تبين تَرْجِيح دَلِيل على الآخر، أَو تساويهما، أَو تمرين النَّفس.
وَاسْتدلَّ: الْمُجْتَهد طَالب، ويستحيل طَالب وَلَا مَطْلُوب، فَلَا بُد من ثُبُوت حكم قبل طلبه، فَمن أخطأه فمخطيء.
رد: مَطْلُوب كل مَا يَظُنّهُ، فَلَيْسَ معينا.
وَأَيْضًا: يلْزم الْمحَال لَو قَالَ مُجْتَهد شَافِعِيّ لمجتهدة حنفية: أَنْت بَائِن، ثمَّ قَالَ رَاجَعتك، أَو تزوج امْرَأَة بِغَيْر ولي، ثمَّ تزَوجهَا بعده آخر بولِي.(8/3950)
رد: مُشْتَرك الْإِلْزَام لوُجُوب اتِّبَاع ظَنّه فيرفع إِلَى حَاكم فَيتبع حكمه، ذكره القَاضِي، وَابْن برهَان، والآمدي، وَغَيرهم.
وَفِي انتصار أبي الْخطاب يعْمل بَاطِنا بظنه.
قَالَ الباقلاني: وَمِنْهُم من قَالَ تسلم الْمَرْأَة إِلَى الزَّوْج الأول فَإِنَّهُ نَكَحَهَا نِكَاحا يعْتَقد صِحَّته وَهُوَ السَّابِق، فَلَا يبعد أَن يكون هَذَا هُوَ الحكم.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص ": وَالَّذِي عندنَا أَنه يجْتَهد فيهمَا الْمُجْتَهد وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَهُوَ حكم الله من وقف أَو تَقْدِيم أَو غَيرهمَا.
قَالُوا: {وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} [الْأَنْبِيَاء: 79] ، وَلَو أَخطَأ أَحدهمَا لم يجز.
رد: بِمَا سبق، وَبِأَنَّهُ غير مَانع ويحمله على الْعَمَل.(8/3951)
قَالُوا: " بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، وَلَا هدى مَعَ خطأ.
رد: بِالْمَنْعِ لفعله مَا يلْزمه.
قَالَ ابْن عقيل: أَو يحمل مُرَاده الْأَخْذ بالرواية والإمامة، لصلاحيتهم لَهَا، أَو تَقْلِيد من شَاءَ فِي حكم اتَّفقُوا عَلَيْهِ.
قَالُوا: لَو كَانَ لم يتَّفق الصَّحَابَة على تسويغ الْخلاف، وتولية الْحُكَّام مَعَ مخالفتهم لَهُم.
رد: لاتفاقهم أَن كل مُجْتَهد يتبع ظَنّه، وَلم يتَعَيَّن المخطيء فَلَا إِنْكَار.
قَالُوا: لَو كَانَ لزم النقيضان إِن بَقِي الحكم الْمَطْلُوب على الْمُجْتَهد، وَإِن سقط عَنهُ لزم الْخَطَأ.
رد: يلْزم الْخَطَأ لَا لَو كَانَ فِي الْمَسْأَلَة نَص أَو إِجْمَاع وَبدل، وسعة، فَلم يجد لزم مُخَالفَته فَهُنَا أولى لأَمره بالحكم بظنه فَحكم بِمَا أنزل الله) .
قَوْله: {تَنْبِيه: الْجُزْئِيَّة الَّتِي فِيهَا نَص قَاطع الْمُصِيب فِيهَا وَاحِد وفَاقا، وَقيل: على الْخلاف} .
إِذا كَانَ فِي الْجُزْئِيَّة نَص قَاطع فالمصيب فِيهَا وَاحِد بالِاتِّفَاقِ، وَإِن دق مَسْلَك ذَلِك الْقَاطِع.(8/3952)
وَقيل: على الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا وَهُوَ شَاذ غَرِيب.
قَوْله: {وَلَا يَأْثَم مُجْتَهد فِي حكم شَرْعِي اجتهادي، ويثاب عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَخَالف الظَّاهِرِيَّة وَجمع، وَلَا يفسق عِنْدهم، وَقيل: بلَى، وَلَا يَأْثَم من بذل وَسعه وَلَو خَالف قَاطعا، وَإِلَّا أَثم لتَقْصِيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا إِثْم على مُجْتَهد فِي حكم شَرْعِي اجتهادي، ويثاب عِنْد أهل الْحق مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
[وَيَأْثَم عِنْد المريسي] ، وَابْن علية، والأصم، والظاهرية، وَلَا يفسق عِنْدهم، ذكره الْآمِدِيّ، وَغَيره.(8/3953)
وَذكر ابْن برهَان: يفسق.
وَاسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي كثير من الْمسَائِل، وتكرر وشاع من غير نَكِير وَلَا تأثيم، مَعَ الْقطع بِأَنَّهُ لَو خَالف أحد فِي أحد أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس أَنْكَرُوا: كمانعي الزَّكَاة، والخوارج.
وَلَا يَأْثَم من بذل وَسعه وَلَو خَالف قَاطعا وَلَا إِثْم لتَقْصِيره.
أما عدم إثمه إِذا بذل وَسعه؛ فَلِأَنَّهُ مَعْذُور، وَلَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا، وَقد أَتَى بِمَا يقدر عَلَيْهِ.
وَأما إِذا لم يبْذل وَسعه فَإِنَّهُ يَأْثَم لكَونه قصر فِي بذل الوسع.(8/3954)
(قَوْله: {فصل} )
{لَيْسَ لمجتهد أَن يَقُول فِي مَسْأَلَة فِي وَقت وَاحِد قَوْلَيْنِ متضادين عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَن اعتقادهما محَال، وَفعله الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - فِي سبع عشرَة مَسْأَلَة، فَقيل: للْعُلَمَاء، وَقيل: مَعْنَاهُمَا التَّخْيِير أَو الشَّك، وردا، وَقيل: على سَبِيل التجويز وَالِاحْتِمَال، قَالَ أَبُو حَامِد: فعله دَلِيل علو شَأْنه ودينا، وَلَا قَول لَهُ فيهمَا فِي الْأَصَح، وَفَائِدَته: حصر الْحق فيهمَا} .
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الْمَعْمُول عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا فاسدين، وَعلم ذَلِك، فَالْقَوْل بهما حرَام، فَلَا قَول أصلا، أَو يكون أَحدهمَا فَاسِدا فَكَذَلِك فَلَا وجود للقولين، أَو يَكُونَا صَحِيحَيْنِ، فَإِذا القَوْل بهما محَال لاستلزامهما التضاد الْكُلِّي أَو الجزئي، وَإِن لم يعلم الْفَاسِد مِنْهُمَا:(8/3955)
فَلَيْسَ عَالما بِحكم الْمَسْأَلَة فَلَا قَول لَهُ فيهمَا، فَيلْزمهُ التَّوَقُّف والتخيير على مَا يَأْتِي، وَهُوَ قَول وَاحِد لَا قَولَانِ.
قَالَ الطوفي: " فَأحْسن مَا يعْتَذر بِهِ عَن الشَّافِعِي: أَنه تعَارض عِنْده الدليلان فَقَالَ بمقتضاهما على شريطة التَّرْجِيح " انْتهى.
وَاعْلَم أَن الشَّافِعِي إِذا نَص على قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ فِي كَلَامه مَا يشْعر بترجيح أحد الْحكمَيْنِ، ثمَّ قَوْله: فيهمَا قَولَانِ، أَو أَقْوَال، يحْتَمل أَن يُرِيد على سَبِيل التجويز وَالِاحْتِمَال، وَيحْتَمل أَن يُرِيد فِيهَا مذهبان لمجتهدين أَو أَكثر، وعَلى كل حَال لَا ينْسب إِلَيْهِ شَيْء من الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال، قَالَه الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يجب اعْتِقَاد نِسْبَة أَحدهمَا إِلَيْهِ، وَإِن كُنَّا لَا نعلمهُ وَلَا ننسب إِلَيْهِ شَيْئا مِنْهَا لذَلِك.
وَفِي رَأْي ثَالِث نَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الباقلاني أَنا نتخير فِي الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا.(8/3956)
قَالَ: وَهَذَا بناه القَاضِي على اعْتِقَاده أَن مَذْهَب الشَّافِعِي تصويب الْمُجْتَهدين، لَكِن الصَّحِيح من مذْهبه أَن الْمُصِيب وَاحِد، فَلَا يُمكن فِيهِ القَوْل بالتخيير، وَأَيْضًا فقد يكون الْقَوْلَانِ بِتَحْرِيم وَإِبَاحَة، ويستحيل التَّخْيِير بَينهمَا.
وَاعْلَم أَن ذكر الشَّافِعِي قَوْلَيْنِ فِي مَوضِع وَاحِد من غير تَنْبِيه على مَا يشْعر بقوله بِأَحَدِهِمَا قَلِيل جدا.
قَالَ أَبُو حَامِد: لَيْسَ للشَّافِعِيّ مثل ذَلِك إِلَّا فِي بضعَة عشر موضعا:(8/3957)
سِتَّة عشرَة أَو سَبْعَة عشر، وَهُوَ دَلِيل على علو شَأْنه.
وَفَائِدَة ذكر الْقَوْلَيْنِ من غير تَرْجِيح: التَّنْبِيه على أَن مَا سواهُمَا لَا يُؤْخَذ بِهِ، وَأَن الْجَواب منحصر فِيمَا ذكر فيطلب التَّرْجِيح فِيهِ، وَقد وَقع مثل ذَلِك لعمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - فِي الشورى حَيْثُ حصر [الْخلَافَة] فِي سِتَّة، أَي: فَلَا يكون اسْتِحْقَاقهَا لغَيرهم.
قَوْله: {فَإِن قَالَه فِي وَقْتَيْنِ وَجَهل أسبقهما فمذهبه أقربهما من الْأَدِلَّة، أَو قَوَاعِده، وَعند الْأَصْحَاب، وَفِي " الرَّوْضَة " - أَيْضا - كخبرين تَعَارضا، وَمنع الْآمِدِيّ من الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا، وَإِن علم فَالثَّانِي مذْهبه، وَهُوَ نَاسخ عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ ابْن حَامِد: وَالْأول، وَقيل: وَلَو رَجَعَ، قَالَ الْمجد: هُوَ مُقْتَضى كَلَامهم} .(8/3958)
نقُول: إِذا نقل عَن الإِمَام أَحْمد فِي مَسْأَلَة قَولَانِ أَو قَول فَنَنْظُر فَإِن أمكن الْجمع وَلَو بِحمْل عَام على خَاص أَو مُطلق على مُقَيّد على الْأَصَح، فالقولان مذْهبه، وَيحمل كل مِنْهُمَا على ذَلِك الْمحمل، وَإِن تعذر الْحمل فَتَارَة يعلم تَارِيخ الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال، وَتارَة يجهل، فَإِن جهل أسبقهما فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن مذْهبه من الْقَوْلَيْنِ أَو الْأَقْوَال أقربهما من الْأَدِلَّة، أَو قَوَاعِد مذْهبه، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " وَغَيره.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: " نجتهد فِي الْأَشْبَه بأصوله الْأَقْوَى فِي الْحجَّة فنجعله مذْهبه ونشك فِي الآخر "، وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".
وَقيل: يَجْعَل الحكم فيهمَا مُخْتَلفا؛ لِأَنَّهُ لَا أولية بِالسَّبقِ، ذكره القَاضِي.(8/3959)
قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: ويحكى الْقَوْلَيْنِ عَنهُ، وَأَن أَقْوَال الشَّافِعِي كَذَلِك.
وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَأَنه إِجْمَاع كنقل أَقْوَال السّلف.
وَقَالَ الْمُوفق - أَيْضا - فِي " الرَّوْضَة ": " إنَّهُمَا كخبرين عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَعَارضا ".
وَكَذَا جزم الْآمِدِيّ: يمْتَنع الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا لاحْتِمَال [رُجُوعه] كنصين.
وَإِن علم أسبقهما فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الثَّانِي مذْهبه وَهُوَ نَاسخ للْأولِ، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر مِنْهُم: أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَالْقَاضِي فِي " الْعدة "، وَذكر كَلَام الْخلال وَصَاحبه لقَوْله:(8/3960)
" هَذَا قَول قديم رَجَعَ عَنهُ "، وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَنَصره وَهُوَ وَصَاحب " الْحَاوِي الْكَبِير "، وَغَيرهم، وَلِأَنَّهُ الظَّاهِر.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: " إِذا رَأَيْت مَا هُوَ أقوى أخذت بِهِ وَتركت القَوْل الآخر ".
وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره.(8/3961)
وَالْقَوْل الثَّانِي: يكون الأول مذْهبه - أَيْضا - كالثاني، كَمَا لَو جهل رُجُوعه عَنهُ، اخْتَارَهُ ابْن حَامِد، وَغَيره: كمن صلى صَلَاتَيْنِ باجتهادين إِلَى جِهَتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلم يتَبَيَّن أَنه أَخطَأ، وَلِأَن الِاجْتِهَاد لَا ينْقض بِالِاجْتِهَادِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفِيه نظر، وَيلْزمهُ لَو صرح بِالرُّجُوعِ، وَبَعض أَصْحَابنَا خَالف وَقَالَ: وَلَو صرح بِالرُّجُوعِ ".
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": " قلت: وَقد تدبرت كَلَامهم فرأيته يَقْتَضِي أَن يُقَال بكونهما مذهبا لَهُ وَإِن صرح بِالرُّجُوعِ " انْتهى.(8/3962)
(قَوْله: {فصل} )
{مَذْهَب أَحْمد وَنَحْوه مَا قَالَه أَو جرى مجْرَاه من تَنْبِيه وَغَيره} .
اعْلَم أَن الإِمَام أَحْمد - رَحمَه الله تَعَالَى - لم يؤلف كتابا مُسْتقِلّا فِي الْفِقْه كَمَا فعله غَيره من الْأَئِمَّة، وَإِنَّمَا أَخذ ذَلِك أَصْحَابه من فَتَاوِيهِ، وأجوبته، وأقواله، وأفعاله، وَبَعض تآليفه، فَإِن أَلْفَاظه إِمَّا صَرِيحَة فِي الحكم بِمَا لَا يحْتَمل، أَو ظَاهِرَة فِيهِ مَعَ احْتِمَال غَيره، أَو مُحْتَملَة لشيئين فَأكْثر على السوَاء، أَو تَنْبِيه كَقَوْلِهِم: أَوْمَأ إِلَيْهِ، أَو أَشَارَ إِلَيْهِ، وَدلّ كَلَامه عَلَيْهِ، أَو توقف عَلَيْهِ، وَنَحْو ذَلِك.
إِذا علمت ذَلِك: فمذهب الإِمَام أَحْمد وَنَحْوه من الْمُجْتَهدين على الْإِطْلَاق كالأئمة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: مَا قَالَه بِدَلِيل وَمَات قَائِلا بِهِ، قَالَه فِي " الرِّعَايَة ".
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " مَذْهَب الْإِنْسَان مَا قَالَه أَو جرى مجْرَاه من تَنْبِيه أَو غَيره ".
وَقد قسم أَصْحَابه دلَالَة أَلْفَاظه إِلَى أَنْوَاع كَثِيرَة، وَكَذَا فعله.
فَلهَذَا قُلْنَا: {وَكَذَا فعله وَمَفْهُوم كَلَامه} .(8/3963)
يَعْنِي أَنه إِذا فعل فعلا قُلْنَا مذْهبه جَوَاز فعل ذَلِك الْمَفْعُول، وَإِلَّا لما كَانَ فعله، وَكَذَا لَو كَانَ لكَلَامه مَفْهُوم فَإنَّا نحكم على ذَلِك الْمَفْهُوم بِمَا يُخَالف الْمَنْطُوق، إِن كَانَ مَفْهُوم مُخَالفَة، أَو بِمَا يُوَافقهُ إِن كَانَ مَفْهُوم مُوَافقَة.
ولأصحابنا فِي فعله وَمَفْهُوم كَلَامه وَجْهَان فِي كَونه مذهبا، وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " أصُول ابْن مُفْلِح ":
أَحدهَا: يكون مذهبا لَهُ وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
قَالَ ابْن حَامِد فِي " تَهْذِيب الْأَجْوِبَة ": عَامَّة أَصْحَابنَا يَقُولُونَ: إِن فعله مَذْهَب لَهُ وَقدمه ورد غَيره.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": اخْتَار الْخرقِيّ، وَابْن حَامِد، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: أَن مَفْهُوم كَلَامه مذْهبه.
وَاخْتَارَ أَبُو بكر: أَنه لَا يكون مذهبا لَهُ.(8/3964)
فَإِن جعلنَا الْمَفْهُوم مذهبا لَهُ فنص فِي مَسْأَلَة على خلاف الْمَفْهُوم [بَطل] .
وَقيل: لَا يبطل.
فَتَصِير الْمَسْأَلَة على رِوَايَتَيْنِ إِن جعلنَا أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ.
قَوْله: {فَإِن علله بعلة فَقَوله مَا وجدت فِيهِ، وَلَو قُلْنَا بتخصيص الْعلَّة فِي الْأَصَح} .
الصَّحِيح: أَن مذْهبه فِي كل مَسْأَلَة تُوجد فِيهَا تِلْكَ الْعلَّة الَّتِي علل بهَا تِلْكَ الْمَسْأَلَة الَّتِي نَص عَلَيْهَا، وَذكر علتها قدمه فِي " الْفُرُوع " و " الرِّعَايَة ".
وَقَالَ: سَوَاء قُلْنَا بتخصيص الْعلَّة أَو لَا؟
وَقيل: لَا يكون ذَلِك مذْهبه، وَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَة بعْدهَا مَا يدل على ذَلِك.
وَقطع بِالْأولِ فِي " الرَّوْضَة "، و " مُخْتَصر الطوفي "، وَغَيرهمَا إِذْ الحكم يتبع الْعلَّة.(8/3965)
قَوْله: {وَكَذَا الْمَقِيس على كَلَامه فِي الْأَصَح} .
اخْتلف الْأَصْحَاب فِي الْمَقِيس على كَلَامه هَل هُوَ مَذْهَب لَهُ أم لَا؟ وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب: أَنه مَذْهَب لَهُ.
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": مذْهبه فِي الْأَشْهر.
وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي "، وَغَيرهم.
وَهُوَ مَذْهَب الْأَثْرَم، والخرقي، وَغَيرهمَا، قَالَه ابْن حَامِد فِي " تَهْذِيب الْأَجْوِبَة ".
وَقيل: لَا يكون مذْهبه.
قَالَ ابْن حَامِد: " قَالَ عَامَّة مَشَايِخنَا مثل الْخلال، وَأبي بكر عبد الْعَزِيز، وَأبي عَليّ، وَإِبْرَاهِيم، وَسَائِر من شاهدنا: أَنه لَا يجوز نسبته إِلَيْهِ، وأنكروا على الْخرقِيّ مَا رسمه فِي كِتَابه من حَيْثُ إِنَّه قَاس على قَوْله " انْتهى.
وَنَصره الْحلْوانِي، ذكره فِي " المسودة "، وَأطلقهُمَا فِي " المسودة " وَابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".(8/3966)
قَالَ ابْن حَامِد: " والأجود أَن يفصل، فَمَا كَانَ من جَوَاب لَهُ فِي أصل يحتوي مسَائِل خرج جَوَابه على بَعْضهَا، فَإِنَّهُ جَائِز أَن ينْسب إِلَيْهِ بَقِيَّة مسَائِل ذَلِك الأَصْل من حَيْثُ الْقيَاس ".
وَقيل: إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة فَهُوَ مذْهبه وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " آدَاب الْمُفْتِي ": " وَقلت: إِن نَص الإِمَام على علته، أَو أَوْمَأ إِلَيْهِ كَانَ مذهبا وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَن تشهد أَقْوَاله وأفعاله أَو أَحْوَاله لِلْعِلَّةِ المستنبطة بِالصِّحَّةِ وَالتَّعْيِين " انْتهى.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها "، وَغَيرهمَا: " إِن بَين الْعلَّة فمذهبه فِي كل مَسْأَلَة وجدت فِيهَا تِلْكَ الْعلَّة كمذهبه فِيمَا نَص عَلَيْهِ، وَإِن لم يبين الْعلَّة فَلَا، وَإِن أشبهتها إِذْ هُوَ إِثْبَات مَذْهَب بِالْقِيَاسِ، ولجواز ظُهُور الْفرق لَهُ لَو عرضت عَلَيْهِ " انْتهى.
قَوْله: {فَلَو أفتى فِي مَسْأَلَتَيْنِ متشابهتين بحكمين مُخْتَلفين فِي وَقْتَيْنِ: لم يجز نَقله فِي كل مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى على الْأَصَح} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي: أَنه لَا يجوز النَّقْل والتخريج من كل وَاحِدَة إِلَى الْأُخْرَى كَقَوْل الشَّارِع.(8/3967)
ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره، وَاقْتصر عَلَيْهِ الْمجد، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَصَاحب " الْحَاوِي الْكَبِير " وَغَيرهم، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره، كَمَا لَو فرق بَينهمَا، أَو منع النَّقْل والتخريج.
قَالَ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وآداب الْمُفْتِي ": أَو قرب الزَّمن بِحَيْثُ يظنّ أَنه ذَاكر حكم الأولى حِين أفتى بِالثَّانِيَةِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: جَوَاز نقل الحكم وتخريجه من كل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، نَقله ابْن حَامِد عَن بعض الْأَصْحَاب، وَجزم بِهِ فِي " المطلع "، وَقدمه فِي " الرِّعَايَتَيْنِ ".(8/3968)
وَاخْتَارَهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " فِي الْأُصُول، و " شَرحه "، وَقَالَ: " إِذا كَانَ بعد الْجد والبحث، أَو خَفَاء الْفرق مَعَ ذَلِك، مُمْتَنع عَادَة "، لَكِن من شُرُوط جَوَاز التَّخْرِيج أَن لَا يُفْضِي إِلَى خرق الْإِجْمَاع.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": أَو رفع مَا اتّفق عَلَيْهِ الجم الْغَفِير من الْعلمَاء، أَو عَارضه نَص كتاب أَو سنة.
فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - يكون الْوَجْه الْمخْرج وَجها لمن خرجه، وعَلى القَوْل الثَّانِي يكون رِوَايَة مخرجة، ذكره ابْن حمدَان وَغَيره.
وَقَالَ ابْن حمدَان أَيْضا: " قلت: إِن علم التَّارِيخ، وَلم يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ جَازَ نقل حكم الثَّانِيَة إِلَى الأولى فِي الأقيس وَلَا عكس، إِلَّا أَن يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا لَهُ مَعَ معرفَة التَّارِيخ، وَإِن جهل التَّارِيخ جَازَ نقل حكم أقربهما من كتاب، أَو سنة، أَو إِجْمَاع، أَو أثر، وقواعد الإِمَام، وَنَحْوه إِلَى الْأُخْرَى فِي الأقيس وَلَا عكس، إِلَّا أَن يَجْعَل أول قوليه فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مذهبا مَعَ معرفَة التَّارِيخ، وَأولى لجَوَاز كَونهَا الْأَخِيرَة دون الراجحة " انْتهى.
قَوْله: {وَلَو نَص على حكم مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ: لَو قَالَ قَائِل بِكَذَا، أَو ذهب ذَاهِب إِلَيْهِ، لم يكن مذهبا لَهُ فِي الْأَصَح} .
إِذا نَص على حكم مَسْأَلَة ثمَّ قَالَ: وَلَو قَالَ قَائِل، أَو ذهب ذَاهِب إِلَى(8/3969)
كَذَا يُرِيد حكما يُخَالف مَا نَص عَلَيْهِ، كَانَ مذهبا: لم يكن ذَلِك مذهبا للْإِمَام أَيْضا، كَمَا لَو قَالَ: وَقد ذهب قوم إِلَى كَذَا، قَالَه أَبُو الْخطاب وَمن بعده وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، و " الرِّعَايَة "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم.
وَيحْتَمل أَن يكون مذهبا لَهُ ذكره فِي " الرِّعَايَة " من عِنْده.
قلت: وَهُوَ مُتَوَجّه كَقَوْلِه: يحْتَمل وَجْهَيْن.
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَقد أجَاب الإِمَام أَحْمد فِيمَا إِذا سَافر بعد دُخُول الْوَقْت هَل يقصر، وَفِي غير مَوضِع بِمثل هَذَا، وَأثبت القَاضِي وَغَيره رِوَايَتَيْنِ انْتهى.(8/3970)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: لَا ينْقض حكم فِي مسالة اجتهادية، إِلَّا مَا سبق فِي أَن الْمُصِيب وَاحِد} .
وَذَلِكَ للتساوي فِي الحكم بِالظَّنِّ، وَإِلَّا نقض بمخالفة قَاطع فِي مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، إِلَّا مَا سبق فِي مَسْأَلَة أَن الْمُصِيب وَاحِد، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ عمل الصَّحَابَة، وللتسلسل فتفوت مصلحَة نصب الْحَاكِم.
وَلنَا: خلاف فِيمَن حبس فِي ثمن كلب، أَو خمر ذمِّي أراقه، هَل يُطلقهُ حَاكم بعده أم لَا؟ أم يتَوَقَّف ويجتهد فِي الصُّلْح، وَللشَّافِعِيّ كالآخرين.
وَلنَا: خلاف فِي نِكَاح بِلَا ولي، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا نَقله ابْن مُفْلِح، وَحَاصِله: أَنه يمْتَنع نقض حكم الِاجْتِهَاد بِغَيْرِهِ، بِاجْتِهَاد آخر، سَوَاء كَانَ من الْمُجْتَهد الأول أَو من غَيره، لما يلْزم على نقضه من التسلسل؛ إِذْ لَو جَازَ النَّقْض لجَاز نقض النَّقْض، وَهَكَذَا، فَيفوت مصلحَة حكم الْحَاكِم وَهُوَ قطع الْمُنَازعَة لعدم الوثوق حِينَئِذٍ بالحكم.(8/3971)
وَهُوَ معنى قَول الْفُقَهَاء فِي الْفُرُوع: لَا ينْقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَن الصَّحَابَة أَجمعُوا على ذَلِك.
فَإِن أَبَا بكر حكم فِي مسَائِل بِاجْتِهَادِهِ، وَخَالفهُ عمر فَلم ينْقض أَحْكَامه، وَعلي خَالف عمر فِي اجْتِهَاده فَلم ينْقض أَحْكَامه، وَخَالَفَهُمَا عَليّ فَلم ينْقض أحكامهما، فَإِن أَبَا بكر سوى بَين النَّاس فِي الْعَطاء، فَأعْطى العبيد، وَخَالفهُ عمر ففاضل بَين النَّاس، وَخَالَفَهُمَا عَليّ فسوى بَين النَّاس، وَحرم العبيد، وَلم ينْقض أحد مِنْهُم مَا فعله من قبله.
قَوْله: {وينقض بمخالفة نَص كتاب أَو سنة، وَلَو آحَاد، خلافًا لقَوْل القَاضِي، أَو إِجْمَاع قَطْعِيّ لَا ظَنِّي فِي الْأَصَح، وَلَا قِيَاس وَلَو جليا خلافًا(8/3972)
لمَالِك، وَالشَّافِعِيّ، وَابْن حمدَان فِيهِ، زَاد مَالك: وَالْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، وينقض مُطلقًا وَقطع فِي " الْمُجَرّد "، و " الْمُغنِي " بِطَلَب ربه، وَعَن دَاوُد وَأبي ثَوْر: ينْقض مَا بَان خطأ، وَجَوَاز ابْن الْقَاسِم: نقض مَا بَان غَيره أصوب} .
لَا شكّ أَن الحكم ينْتَقض بمخالفة الْإِجْمَاع الْقطعِي، وَكَذَلِكَ بمخالفة النَّص من كتاب أَو سنة؛ لِأَنَّهُ قَضَاء لم يُصَادف شَرطه، فَوَجَبَ نقضه.
وَبَيَان مُخَالفَته للشّرط: أَن شَرط الحكم بِالِاجْتِهَادِ عدم النَّص بِدَلِيل خبر معَاذ؛ وَلِأَنَّهُ إِذا ترك الْكتاب وَالسّنة فقد فرط، فَوَجَبَ نقض حكمه.
إِذا علم ذَلِك فَإِنَّهُ ينْقض بمخالفة نَص كتاب الله أَو سنة وَلَو آحادا، كَقَتل مُسلم بالكافر، فَيلْزمهُ نقضه، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد.
وَقيل: لَا ينْقض حكمه إِذا خَالف غير سنة متواترة، وَهُوَ أحد قولي القَاضِي أبي يعلى.
وَالْإِجْمَاع إجماعان.
إِجْمَاع قَطْعِيّ فينقض بمخالفته قطعا.(8/3973)
وَإِجْمَاع لَا ينْقض بمخالفته على الصَّحِيح، قدمه فِي " الْفُرُوع "، و " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَغَيرهمَا.
وَقيل: ينْقض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام كثير من الْأَصْحَاب.
وَلَا ينْقض إِذا خَالف قِيَاسا وَلَو جليا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر وَقَطعُوا بِهِ.
وَقيل: ينْقض إِذا خَالف قِيَاسا نصا جليا وفَاقا لمَالِك، وَالشَّافِعِيّ، وَابْن حمدَان فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، زَاد مَالك: ينْقض بمخالفة الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة.
وَعَن دَاوُد وَأبي ثَوْر: ينْقض جَمِيع مَا بَان لَهُ خَطؤُهُ؛ " لِأَن عمر رَضِي(8/3974)
الله عَنهُ كتب إِلَى أبي مُوسَى لَا يمنعك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس، ثمَّ راجعت نَفسك فِيهِ الْيَوْم، فهديت لمرشد، أَن تراجع فِيهِ الْحق، فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل.
وَلِأَنَّهُ خطأ فَوَجَبَ الرُّجُوع عَنهُ.
وَجوز ابْن الْقَاسِم بعض مَا بَان غَيره أصوب، وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " إِذا بَان أَن الحكم خَالف ذَلِك ارْتَفع حكم الِاجْتِهَاد.
وَبَعْضهمْ يعبر عَن ذَلِك: بنقضه؛ وَهُوَ مجَاز؛ لِأَنَّهُ قد تبين أَن لَا حكم، بل وَلَا ارْتِفَاع؛ لِأَنَّهُ فرع الثُّبُوت إِلَّا أَن يُرَاد ارْتِفَاع ظن الحكم ".
تَنْبِيه: حَيْثُ قُلْنَا: ينْقض، فَإِن كَانَ فِي حق الله تَعَالَى: كَالطَّلَاقِ، وَالْعتاق، وَنَحْوهمَا نقضه؛ لِأَن لَهُ النّظر فِي حُقُوق الله، وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بِحَق آدَمِيّ فَالصَّحِيح أَنه - أَيْضا - ينْقضه، وَلَا يحْتَاج فِي نقضه إِلَى صَاحبه وَطَلَبه.(8/3975)
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْمُجَرّد "، والموفق فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّارِح "، وَابْن رزين: لم ينْقضه إِلَّا بمطالبة صَاحبه؛ لِأَن الْحَاكِم لَا يَسْتَوْفِي حَقًا لمن لَا ولَايَة عَلَيْهِ بِغَيْر مُطَالبَته، فَإِن طلب صَاحبه ذَلِك نقضه.
قَوْله: {وَحكمه بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو قلد غَيره عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَفِي " الْإِرْشَاد ": لَا، وَيَأْثَم، وَيَنْبَغِي هَذَا فِيمَن قضى بِخِلَاف رَأْيه نَاسِيا وَلَا إِثْم، وَينفذ كَأبي حنيفَة، وَعند أبي يُوسُف: يرجع عَنهُ وينقضه كالمالكية، وَالشَّافِعِيَّة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَحكمه بِخِلَاف اجْتِهَاده بَاطِل وَلَو قلد غَيره، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا.
وَفِي " إرشاد ابْن أبي مُوسَى ": لَا، للْخلاف فِي الْمَدْلُول وَيَأْثَم.
وَيَنْبَغِي هَذَا فِيمَن قضى بِخِلَاف رَأْيه نَاسِيا لَهُ لَا إِثْم وَينفذ كَقَوْل أبي حنيفَة.(8/3976)
وَعند أبي يُوسُف: يرجع عَنهُ وينقضه، كَقَوْل الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة.
وبناه فِي " شرح الْخصاف " على جَوَاز تَقْلِيد غَيره.
نقل أَبُو طَالب إِذا أَخطَأ بِلَا تَأْوِيل فليرده وَيطْلب صَاحبه فَيَقْضِي بِحَق ".(8/3977)
قَوْله: {وَإِن حكم مقلد بِخِلَاف إِمَامه فَإِن صَحَّ حكم الْمُقَلّد انبنى نقضه على منع تَقْلِيد غَيره، قَالَه الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، وَقَالَ ابْن حمدَان أَيْضا: مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص الشَّارِع، وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: عمله بقول الْأَكْثَر أولى} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَإِن حكم مقلد بِخِلَاف إِمَامه، فَإِن صَحَّ حكم الْمُقَلّد انبنى نقضه على منع تَقْلِيد غَيره، ذكره الْآمِدِيّ وَهُوَ وَاضح، وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا ".
وَمرَاده ابْن حمدَان، وَذكر كَلَام ابْن هُبَيْرَة.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ للمقلد أَن يحكم بِخِلَاف مَذْهَب إِمَامه، كَمَا أَن الْمُجْتَهد لَيْسَ لَهُ أَن يحكم بِغَيْر اجْتِهَاده سَوَاء، فَإِن حكم الْمُقَلّد بِخِلَاف قَول إِمَامه، انبنى على أَنه هَل يجوز لَهُ تَقْلِيد غَيره أم لَا؟
فَإِن منعنَا نقض، وَإِن جَوَّزنَا فَلَا، قَالَه الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح كَمَا تقدم.
لَكِن قَالَ الْغَزالِيّ: إِنَّا إِذا منعنَا من قلد إِمَامًا أَن يُقَلّد غَيره، وَفعل وَحكم بقوله فَيَنْبَغِي أَن لَا ينفذ قَضَاؤُهُ؛ وَلِأَنَّهُ فِي ظَنّه أَن إِمَامه أرجح. انْتهى.(8/3978)
وَهَذَا مُوَافق لظَاهِر مَا قَالَه ابْن حمدَان: أَن مُخَالفَة الْمُفْتِي نَص إِمَامه كمخالفة نَص الشَّارِع.
مَعَ أَن ظَاهره أَنه غير الْمُقَلّد بل هُوَ مفت؛ فَيكون الْمُقَلّد بطرِيق الأولى.
قَوْله: {وَلَو اجْتهد فَتزَوج بِلَا ولي ثمَّ تغير اجْتِهَاده حرمت فِي الْأَصَح، وَقَالَهُ القَاضِي، والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي: إِن لم يكن حكم بِهِ، وَلَا يحرم على مقلد بِتَغَيُّر اجْتِهَاد إِمَامه، قَالَه أَبُو الْخطاب، والموفق والطوفي، كَحكم، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان: يحرم، وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة} .
إِذا قُلْنَا بِنَقْض الِاجْتِهَاد فالنظر فِيهِ حِينَئِذٍ فِي أَمريْن:
أَحدهمَا: فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ.
وَالثَّانِي: فِيمَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ.
أما الأول: فَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ، فَإِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم فِي حق نَفسه، ثمَّ تغير اجْتِهَاده، كَمَا إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى صِحَة النِّكَاح بِلَا ولي، ثمَّ تغير اجْتِهَاده، فَرَأى أَنه بَاطِل فَالْأَصَحّ التَّحْرِيم مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن الْغَزالِيّ، وَلم ينْقل غَيره.(8/3979)
وَقيل: لَا تحرم مُطلقًا، حَكَاهُ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن حكم بِهِ لم تحرم وَإِلَّا حرمت وَهُوَ الَّذِي قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، والموفق ابْن قدامَة، وَابْن حمدَان، والطوفي، والآمدي، وَجزم بِهِ الْبَيْضَاوِيّ والهندي؛ لِئَلَّا يلْزم نقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ، وَأَيْضًا: اسْتِدَامَة حلهَا بِخِلَاف معتقده خلاف الْإِجْمَاع.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ، فَإِذا أفتى مُجْتَهد عاميا بِاجْتِهَاد، ثمَّ تغير اجْتِهَاده لم تحرم عَلَيْهِ على الْأَصَح، وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَالشَّيْخ موفق الدّين، والطوفي، وَظَاهر كَلَام ابْن مُفْلِح؛ لِأَن عمله بفتواه كَالْحكمِ، وَمَعْنَاهُ أَنه إِذا اجْتهد وَحكم فِي وَاقعَة، ثمَّ تغير اجْتِهَاده بعد ذَلِك: فَالْحكم بِالْأولِ بَاقٍ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَا إِذا أفتاه أَو قَلّدهُ.(8/3980)
وَعند الشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان: تحرم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهُوَ مُتَّجه كالتقليد فِي الْقبْلَة ".
وَفِي " الرِّعَايَة ": احْتِمَال وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره عَن هَذِه: " فَكَمَا سبق فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ.
وَقَالَ الْهِنْدِيّ: إِن اتَّصل حكم قبل بِغَيْر اجْتِهَاده، فَكَمَا سبق فِي الْمُجْتَهد فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ.
وَإِن لم يتَّصل بِهِ فَاخْتَلَفُوا، وَالْأولَى القَوْل بِالتَّحْرِيمِ، وَمِنْهُم من لم يُوجِبهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نقض الِاجْتِهَاد بِالِاجْتِهَادِ ".
قَوْله: {وَإِن لم يعْمل بفتواه لزم الْمُفْتِي إِعْلَامه، فَلَو مَاتَ قبله اسْتمرّ فِي الْأَصَح} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " أما إِن لم يعْمل بفتواه لزم الْمُفْتِي تَعْرِيفه.
فَإِن لم يعْمل وَمَات الْمُفْتِي فاحتمالان.(8/3981)
فِي " التَّمْهِيد ": الْمَنْع لتردد بَقَائِهِ عَلَيْهَا لَو كَانَ حَيا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فعلى هَذَا لَو كَانَ حَيا لم يجز، وَهُوَ بعيد.
وَالْجَوَاز: للظَّاهِر) .
وَقَالَ فِي " فروعه ": اسْتمرّ فِي الْأَصَح، وَهُوَ الْمُعْتَمد.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة ": يُعلمهُ سَوَاء كَانَ قبل الْعَمَل أَو بعده حَيْثُ يجب النَّقْض.
وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: إِن كَانَ عمل بِهِ لم يلْزمه إِعْلَامه، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَن يعرفهُ إِن تمكن مِنْهُ، لِأَن الْعَاميّ إِنَّمَا يعْمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَول الْمُفْتِي، وَمَعْلُوم أَنه فِي تِلْكَ الْحَالة لَيْسَ ذَلِك قَوْله.(8/3982)
قَوْله: {وَله تَقْلِيد ميت: كحاكم، وَشَاهد، وَقيل: إِن فقد الْحَيّ، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: لَا مُطلقًا، وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد ": فِي بَحثه} .
يجوز تَقْلِيد الْمَيِّت كتقليد الْحَيّ؛ لِأَن قَوْله بَاقٍ فِي الْإِجْمَاع، وَهَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
وَفِيه يَقُول الإِمَام الشَّافِعِي: " الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَرْبَابهَا " انْتهى.
وكالحاكم وَالشَّاهِد لَا يبطل حكمه بِمَوْتِهِ، وَلَا شَهَادَته بِمَوْتِهِ.
وَقيل: لَيْسَ لَهُ تَقْلِيده مُطلقًا وَهُوَ وَجه لنا وللشافعية، وَذكره ابْن عقيل عَن قوم من الْفُقَهَاء الْأُصُولِيِّينَ.
وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد " فِي أَن عُثْمَان لم يشرط عَلَيْهِ تَقْلِيد أبي بكر وَعمر، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ".(8/3983)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (بل من [تَأمل] كَلَام " الْمَحْصُول " يخرج لَهُ مِنْهُ أَن يمْنَع التَّقْلِيد مُطلقًا.
فعلى الأول: وَهُوَ جَوَاز التَّقْلِيد لَو كَانَ الْمُجْتَهد الْحَيّ دون الْمَيِّت، احْتمل أَن يُقَلّد الْمَيِّت لأرجحيته، وَاحْتمل أَن يُقَلّد الْحَيّ بحياته، وَاحْتمل التَّسَاوِي.
وَحكى الْهِنْدِيّ قولا رَابِعا فِي الْمَسْأَلَة، وَهُوَ التَّفْصِيل بَين أَن يكون الحاكي عَن الْمَيِّت أَهلا للمناظرة، وَهُوَ مُجْتَهد فِي مَذْهَب الْمَيِّت فَيجوز، وَإِلَّا فَلَا) .
قَوْله: {وَإِن عمل بفتياه فِي إِتْلَاف فَبَان خَطؤُهُ قطعا ضمنه، وَكَذَا إِن لم يكن أَهلا، خلافًا للأستاذ وَجمع} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": " وَإِن بَان خَطؤُهُ فِي إِتْلَاف بمخالفة قَاطع ضمن لَا مستفتيه، وَفِي تضمين [مفت] لَيْسَ أَهلا وَجْهَان ".
وَقَالَ فِي " أُصُوله ": " وَإِن عمل بفتياه فِي إِتْلَاف فَبَان خَطؤُهُ قطعا ضمنه لَا مستفتيه، وَإِن لم يكن أَهلا للفتيا وَجْهَان.(8/3984)
وَعند الإِسْفِرَايِينِيّ وَغَيره: يضمن الْأَهْل فَقَط.
وَيتَوَجَّهُ فِيهِ: كمنتهب مَعَ غَاصِب " انْتهى.
الصَّحِيح أَنه يضمن، إِذا لم يكن أَهلا بل أولى بِالضَّمَانِ مِمَّن لَهُ أَهْلِيَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَا يضمن، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَهُوَ بعيد جدا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين " عَن هَذَا القَوْل: " لم أعرف هَذَا القَوْل لأحد قبل ابْن حمدَان " انْتهى.
قلت: الَّذِي يَنْبَغِي أَن ينظر إِن كَانَ المستفتي يعلم أَنه لَيْسَ أَهلا للفتيا واستفتاه لم يضمن؛ لِأَنَّهُ الْجَانِي على نَفسه، وَإِن لم يُعلمهُ ضمن الْمُفْتِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " لَو عمل بفتواه فِي إِتْلَاف، ثمَّ بَان أَنه أَخطَأ، فَإِن لم يُخَالف الْقَاطِع لم يضمن؛ لِأَنَّهُ مَعْذُور، وَإِن خَالف الْقَاطِع ضمن.
وَأما مَا نَقله النَّوَوِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق: أَنه إِن كَانَ أَهلا للْفَتْوَى ضمن وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَن المستفتي حِينَئِذٍ مقصر، وَلَكِن لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الْقَيْد هُنَا؛ لِأَن الْكَلَام فِي الْمُجْتَهد.(8/3985)
ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ: يَنْبَغِي أَن يتَخَرَّج على قَول الضَّمَان بالغرور، أَو يقطع بِعَدَمِ الضَّمَان مُطلقًا، إِذا لم يُوجد مِنْهُ إِتْلَاف وَلَا ألجيء إِلَيْهِ بإلزام " انْتهى.(8/3986)
(قَوْله: {فصل} )
{لَو أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى حكم حرم التَّقْلِيد إِجْمَاعًا، وَإِن لم يجْتَهد فَأَحْمَد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر كَذَلِك، وَقيل: فِيمَا لَا يَخُصُّهُ، وَأَبُو الْفرج، وَحكي عَن أَحْمد، وَالثَّوْري، وَإِسْحَاق: يجوز مُطلقًا} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي فِي الْجُزْء الثَّانِي: " وَمَا حُكيَ عَن أَحْمد تَقْلِيد الْعَالم الْعَالم غلط عَلَيْهِ ".
قَالَ أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ: مَذْهَبنَا جَوَاز تَقْلِيد الْعَالم للْعَالم.
قَالَ أَبُو الْخطاب: وَهَذَا لَا يعرف عَن أَصْحَابنَا، نَقله فِي " الْحَاوِي الْكَبِير " فِي الْخطْبَة.(8/3987)
قَوْله: {وَقيل: لحَاكم، وَابْن حمدَان وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لعذر، وَابْن سُرَيج: لضيق الْوَقْت، وَمُحَمّد: لأعْلم مِنْهُ، وقديم الشَّافِعِي وَابْن الْبَنَّا وَابْن حمدَان - أَيْضا - وَجمع: لصحابي أرجح، وَلَا إِنْكَار مِنْهُم، فَإِن اسْتَووا تخير، وَقَالَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين قبل الْفرْقَة، وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار انتشاره، وَقيل: وتابعي.
وَعنهُ لصحابي وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط.
وَله أَن يجْتَهد ويدع غَيره إِجْمَاعًا، وَلَو توقف فِي مَسْأَلَة نحوية، أَو فِي حَدِيث على أَهله فعامي فِيهِ، عِنْد أبي الْخطاب، والموفق، والآمدي، وَغَيرهم} .
الْمُجْتَهد إِذا اجْتهد فأداه اجْتِهَاده إِلَى حكم فَهُوَ مَمْنُوع من تَقْلِيد لمجتهد آخر اتِّفَاقًا، وَأما قبل أَن يجْتَهد فَهَل هُوَ مَمْنُوع أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع أَيْضا وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَهُ الْأَمَام أَحْمد وَأكْثر(8/3988)
أَصْحَابه، وجديد قولي الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء.
وَقيل: مَمْنُوع فِيمَا لَا يَخُصُّهُ من الحكم، بل يُفْتِي بِهِ، غير مَمْنُوع فِيمَا يَخُصُّهُ.
وَجوزهُ بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لعذر.
وَلأبي حنيفَة رِوَايَتَانِ، وللشافعية، وَجْهَان.
الْمَنْع: قَالَه أَبُو يُوسُف.
وَالْجَوَاز: حُكيَ عَن أَحْمد، وَالثَّوْري، وَإِسْحَاق، وَذكره بعض أَصْحَابنَا قولا لنا.(8/3989)
وَمُحَمّد: لأعْلم مِنْهُ.
وَعَن ابْن سُرَيج مثله.
وَمثل ضيق الْوَقْت.
وَقيل: للْقَاضِي دون غَيره.
وَجوز الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، والجبائي وَابْنه، والسرخسي وَبَعض شُيُوخه: لغير صَحَابِيّ تَقْلِيد صَحَابِيّ أرجح وَلَا إِنْكَار مِنْهُم، فَإِن اسْتَووا تخير، وَقَالَهُ بعض الْمُتَكَلِّمين: قبل الْفرْقَة.(8/3990)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَحكى ابْن الْحَاجِب قولا سابعا وَعَزاهُ إِلَى الشَّافِعِي: أَنه لَا يُقَلّد إِلَّا صحابيا يكون أرجح من غَيره من بَقِيَّة الصَّحَابَة، فَإِن اسْتَووا تخير، ويعزى للقديم.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَقَضيته: أَنه لَا يجوز للصحابة تَقْلِيد بَعضهم بَعْضًا ".
وَاخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي اعْتِبَار انتشاره، وَقيل تَابِعِيّ.
وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن أَحْمد: يُقَلّد صحابيا وَيتَخَيَّر فيهم، وَمن التَّابِعين عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَط.
وَلَكِن قَالَ ابْن رَجَب فِي " مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ": وَأما مَا نَقله طَائِفَة عَن أَحْمد أَنه جعل قَول عمر بن عبد الْعَزِيز وَحده حجَّة بَين التَّابِعين، فَلَا أعلم ثُبُوته عَنهُ، وَلَا رَأَيْته بِإِسْنَاد إِلَيْهِ، وَلَكِن قد يخرج على مذْهبه من أصلين:
أَحدهمَا: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد.
وَالثَّانِي: أَن قَول الْوَاحِد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين حجَّة يقدم على قَول غَيره.(8/3991)
وَفِي هَذَا رِوَايَتَانِ عَنهُ، لَكِن وَقع فِي بعض نصوصه تَقْيِيده بالخلفاء الْأَرْبَعَة انْتهى.
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن إِثْبَات التَّقْلِيد يعْتَبر دَلِيله، وَالْأَصْل عَدمه، ونفيه لانْتِفَاء دَلِيله، وَأَيْضًا: اجْتِهَاده أصل مُتَمَكن مِنْهُ فَلم يجز بدله كَغَيْرِهِ.
فَإِن قيل: لَو توقف فِي مَسْأَلَة نحوية على سُؤَاله النُّحَاة، أَو فِي حَدِيث على أَهله مَا حكمه؟
قيل: قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": هُوَ عَامي فِيهِ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي: هُوَ الْأَشْبَه.
وَأَيْضًا مِمَّا يدل على التَّقْلِيد: قَوْله تَعَالَى: {فاعتبروا} ، {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] .
وَأَيْضًا: كبعد اجْتِهَاده.
رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْمُجْتَهد حصل لَهُ ظن أقوى.(8/3992)
وَاسْتدلَّ أَيْضا: كالعقليات.
رد: الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم وَلَا يحصل بتقليد.
قَالُوا: {فسئلوا أهل الذّكر} [النَّحْل: 43] .
رد: المُرَاد: ليسأل من لَيْسَ أَهلا، أهل الذّكر وَكلهمْ أهل فَلم يدخلُوا، وَقَوله أَيْضا: {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، وَأمره هُنَا للْوُجُوب، ولتخصيصه بِمَا بعد الِاجْتِهَاد، وَسبق: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ "، وكتعارض دَلِيلين، وَلم يسوغوا الْأَخْذ بِكُل من قَوْلهمَا بل بالراجح.
قَالُوا: الظَّن كَاف.
رد: ظَنّه مُتَعَيّن بِعِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ كعلم على ظن؛ وَلِأَنَّهُ مبدل لتعينه بعد اجْتِهَاده.
قَالُوا: عَاجز مَعَ الْعذر، كعامي.
رد: اجْتِهَاده شَرط يُمكنهُ كَسَائِر الشُّرُوط فيؤخر الْعِبَادَة.
وَفِي " التَّمْهِيد ": مثل الصَّلَاة يَفْعَله بِحَسبِهِ، ثمَّ يُعِيد كعادم مَاء وتراب، ومحبوس بِموضع نجس.(8/3993)
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُعِيد كظاهر مَذْهَبنَا فِي الأَصْل.
وكالعقليات لَا يُقَلّد فِيهَا من خشِي الْمَوْت.
قَالَه فِي " التَّمْهِيد "، وَكَذَا فِي " الْوَاضِح " مَعَ ضيق الْوَقْت.
وَقَالَ فِي " الْفُصُول ": لَا يُقَلّد إِلَّا فِي التَّوْحِيد، مَعَ ضيقه، والعامي يلْزمه التَّقْلِيد مُطلقًا.(8/3994)
(قَوْله: {فصل} )
{يجوز أَن يُقَال لنَبِيّ ومجتهد: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب، وَيكون مدْركا شَرْعِيًّا، وَيُسمى التَّفْوِيض عِنْد الْأَكْثَر، وَتردد الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْجَوَاز وَالْأَكْثَر فِي الْوُقُوع، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ، وَابْن حمدَان: للنَّبِي فَقَط، وَمنعه فيهمَا السَّرخسِيّ، وَأَبُو الْخطاب، وَهَذَا أشبه بِالْمذهبِ، فعلى الأول لم يَقع فِي الْأَصَح} .
اعْلَم أَن طَرِيق معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِمَّا التَّبْلِيغ عَن الله تَعَالَى بِإِخْبَار رسله عَنهُ بهَا، وَهُوَ مَا سبق من كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا تفرع عَن ذَلِك من إِجْمَاع أَو قِيَاس وَغَيرهمَا من الاستدلالات، وطرقها بِالِاجْتِهَادِ وَلَو من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا سبق آنِفا.
وَإِمَّا أَن يكون طَرِيق معرفَة الحكم التَّفْوِيض إِلَى رَأْي نَبِي أَو عَالم فَيجوز أَن يُقَال لنَبِيّ، أَو لمجتهد غير نَبِي: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب عِنْد(8/3995)
بَعضهم، وَيُؤْخَذ من كَلَام القَاضِي، وَابْن عقيل، وصرحا بِجَوَازِهِ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَهُ الشَّافِعِي، وَأكْثر أَصْحَابه، وَجُمْهُور أهل الحَدِيث، فَيكون حكمه من جملَة المدارك الشَّرْعِيَّة، فَإِذا قَالَ: هَذَا حَلَال، عرفنَا أَن الله تَعَالَى فِي الْأَزَل حكم بحله، أَو هَذَا حرَام، أَو نَحْو ذَلِك، لَا أَنه ينشيء الحكم؛ لِأَن ذَلِك من خَصَائِص الربوبية.
قَالَ ابْن الْحَاجِب وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح: وَتردد الشَّافِعِي، أَي: فِي جَوَازه، كَمَا قَالَه إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: الْجُمْهُور فِي وُقُوعه،(8/3996)
وَلكنه قَاطع بِجَوَازِهِ.
وَالْمَنْع إِنَّمَا هُوَ مَنْقُول عَن جُمْهُور الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمِنْه السَّرخسِيّ وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء، وَأَنه أشبه بمذهبنا: الْحق عَلَيْهِ أَمارَة فَكيف تحكم بِغَيْر طلبَهَا.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: أَن ذَلِك يجوز فِي النَّبِي دون الْعَالم، وَاخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ.
قَالَ: وَذكر الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة " مَا يدل عَلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلف فِي وُقُوعه:
فَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الْمُخْتَار أَنه لم يَقع، وتبعناه فِي ذَلِك.(8/3997)
الْقَائِل بِالْأولِ اسْتدلَّ: بِأَن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ فَجَاز كالوحي وَلَا مَانع، الأَصْل عَدمه.
وَاسْتدلَّ بتخييره فِي الْكَفَّارَة، والعامي فِي الْمُجْتَهدين.
رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصّ هُنَا بمجتهد الْقَائِل بِأَنَّهُ وَقع.
احْتج القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: بقوله تَعَالَى: {إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} [آل عمرَان: 93] ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يحرم على نَفسه إِلَّا بتفويض الله تَعَالَى لأمر إِلَيْهِ، لَا أَنه بإبلاغه ذَلِك الحكم؛ لِأَن الْمحرم يكون هُوَ الله تَعَالَى.
رد: مُحْتَمل وللمفسرين قَولَانِ، هَل بِاجْتِهَاد، أَو بِإِذن الله تَعَالَى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: وعَلى كل حَال فالمحرم هُوَ الله تَعَالَى، فالاحتمال قَائِم وَلَا دَلِيل فِيهِ لذَلِك " انْتهى.
وَأَيْضًا: فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن بلد مَكَّة:: " لَا يخْتَلى خلاه، فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله إِلَّا الْإِذْخر فَإِنَّهُ لغنمهم وَبُيُوتهمْ، فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخر ".
رد: لَيْسَ الْإِذْخر من الْخَلَاء فإباحته بالاستصحاب واستثناؤه تَأْكِيد(8/3998)
وَهُوَ من الْخَلَاء واستثناؤه لفهم ذَلِك، أَو أَرَادَهُ وَنسخ بِوَحْي سَرِيعا، أَو أَرَادَ استثناءه فسبقه السَّائِل.
وَأَيْضًا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة ".
وَفِي مُسلم: " فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا، فَقَالَ رجل: أكل عَام، فَقَالَ: لَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلما اسْتَطَعْتُم ".
رد: يجوز أَن الله خَيره فِي ذَلِك بِعَيْنِه، وَيجوز أَن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِوَحْي.
الْقَائِل بِالْمَنْعِ: وضعت الشَّرِيعَة لمصْلحَة العَبْد وَهُوَ يجهلها، وَقد يخْتَار الْمضرَّة، ثمَّ: يمْتَنع دوَام اخْتِيَاره الصّلاح كأفعال كَثِيرَة محكمَة بِلَا علم.
ثمَّ يلْزم الْعَاميّ.
رد: الأول مَبْنِيّ على رِعَايَة الْمصلحَة ثمَّ أمنا الْمفْسدَة.
وَالثَّانِي مَمْنُوع، ثمَّ لَا مَانع فِي أَفعَال قَليلَة.(8/3999)
قَوْله: {وَيجوز لعامي عقلا، وَفِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: لَا إِجْمَاعًا، القَاضِي: لَا يمْتَنع فِي مُجْتَهد بِلَا اجْتِهَاد، وَفِي " التَّمْهِيد " يمْتَنع إِجْمَاعًا، وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: لَا يمْتَنع قَوْله: أخبر فَإنَّك لَا تخبر إِلَّا بصواب، وَمنعه أَبُو الْخطاب} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيجوز للعامي عقلا، أَي: يجوز أَن يَقُول لَهُ: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، قَالَه الْآمِدِيّ.
وَفِيه، وَفِي " التَّمْهِيد ": بِأَن مَنعه فِيهِ إِجْمَاع.
فَقيل: لفضل الْمُجْتَهد وإكرامه.
رد: اسْتَويَا هُنَا فِي الصَّوَاب.
وَقَالَ القَاضِي: لَا يمْتَنع فِي مُجْتَهد بِلَا اجْتِهَاد، أَي: أَن يُقَال لَهُ: احكم بِمَا شِئْت فَهُوَ صَوَاب، من غير أَن يجْتَهد لتخيير عَامي فِي تَقْلِيد من شَاءَ، والتخيير فِي الْكَفَّارَة وَغَيرهَا.
وَفِي " التَّمْهِيد ": مَنعه بِلَا اجْتِهَاد إِجْمَاع.
وَأَيْضًا: كَمَا لَا يجوز أخبر فَإنَّك لَا تخبر إِلَّا بصواب.(8/4000)
رد: لَا يمْتَنع، قَالَه القَاضِي، وَابْن عقيل.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": لَو جَازَ خرج كَون الْإِخْبَار عَن الغيوب دَالَّة على ثُبُوت الْأَنْبِيَاء، وكلف تَصْدِيق النَّبِي وَغَيره من غير علم بذلك.
كَذَا قَالَ، وَالْفرق بالمعجزة.
قَالُوا: كجعل وضع الشَّرِيعَة إِلَى النَّبِي.
رد: لَا يمْتَنع، قَالَه ابْن عقيل، وَغَيره.
قَالَ القَاضِي: إِن أمكنه بفكر وَرَأى أَن علمه الله مصلحَة كحله لَهُ الْحل مَا شَاءَ أَن علمه لَا يخْتَار حَرَامًا) .(8/4001)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: نافي الحكم عَلَيْهِ الدَّلِيل كمثبته، وَقيل: لَا كضرورين، وَقَالَ قوم: عَلَيْهِ فِي حكم عَقْلِي لَا شَرْعِي، وَعَكسه عَنْهُم فِي " الرَّوْضَة "} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الثَّانِي للْحكم عَلَيْهِ دَلِيل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره فِي " التَّمْهِيد "، عَن عَامَّة الْعلمَاء، وَابْن عقيل عَن محققي الْفُقَهَاء، والأصوليين.
وَمنعه قوم مِنْهُم.
وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة: لَا.(8/4002)
وَعند قوم [مِنْهُم] عَلَيْهِ فِي حكم شَرْعِي، وَعَكسه عَنْهُم فِي " الرَّوْضَة ") .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلَا يُطَالب النَّافِي لشَيْء بِدَلِيل إِذا دلّ عَلَيْهِ ذَلِك النَّفْي أَمر ضَرُورِيّ.
أما إِذا لم يكن ضَرُورِيًّا فالأكثر على أَنه يُطَالب بِدَلِيل مُطلقًا.
وَقيل: لَا مُطلقًا، ويعزى للظاهرية. لَكِن فِي " إحكام ابْن حزم " أَنه يجب عَلَيْهِ الدَّلِيل لقَوْله تَعَالَى: {قل هاتوا برهانكم} [الْبَقَرَة: 111] ، {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الْأَعْرَاف: 33] .
وَثَالِثهَا: يجب فِي العقليات دون الشرعيات.
وَاسْتشْكل الْهِنْدِيّ جَرَيَان الْأَقْوَال على الْإِطْلَاق " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (لنا أَنه أثبت يَقِينا أَو ظنا بنفيه فَلَزِمَهُ كمثبت؛ وَلِئَلَّا يعبر كل أحد عَن مَقْصُوده بِنَفْي فَيَقُول: بدل: مُحدث: لَيْسَ بقديم.(8/4003)
يَعْنِي: أَنه لَو أَتَى بِقِيَاس منطقي فَقَالَ: الْعَالم متغير، وكل متغير مُحدث، فالعالم مُحدث، فَلَو أبدل مُحدث فَقَالَ: الْعَالم متغير، وكل متغير لَيْسَ بقديم، فالعالم لَيْسَ بقديم، وَلِأَنَّهُ كاتم للْعلم.
وَاحْتج فِي " التَّمْهِيد ": بِأَنَّهُ يلْزم من نفي قدم الْأَجْسَام بِلَا خلاف، فَكَذَا غَيره.
وَاحْتج الْآمِدِيّ: بِأَنَّهُ يلْزم مدعي الوحدانية والقدم إِجْمَاعًا، وحاصلها: نفي شريك وحدوث.
قَالُوا: لَو لزمَه لزم مُنكر مدعي النُّبُوَّة، وَصَلَاة سادسة، ومنكر الدَّعْوَى، وَلَا يلْزمه إِجْمَاعًا.
رد: الدَّلِيل الِاسْتِصْحَاب مَعَ عدم رافعه.
قَالَ الْآمِدِيّ: قد يكْتَفى بِظُهُور دَلِيل عَن ذكره.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": دَلِيله قَوْله: لَو كنت نَبيا لأيدك الله بالمعجزة فَلَا فرق.
وَذكر فِي الْأَخِيرَتَيْنِ الِاسْتِصْحَاب.
وَفِي " الْوَاضِح "، و " الرَّوْضَة ": الْيَمين دَلِيل.
وَأجَاب بَعضهم: بِأَنَّهُ مَانع يدْفع الدَّعْوَى لَا مُدع.(8/4004)
ويستدل بِانْتِفَاء لَازم على انْتِفَاء ملزوم، وبقياس شَرْعِي على نفي يَجْعَل جَامع وجود مَانع أَو انْتِفَاء شَرط إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة) .
قَوْله: {إِذا حدثت مَسْأَلَة لَا قَول فِيهَا، سَاغَ الِاجْتِهَاد فِيهَا، وَهُوَ أفضل، وَقيل التَّوَقُّف، وَقيل: فِي الْأُصُول، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَالشَّيْخ، وَصَاحب " الْحَاوِي "، وَقَالَ ابْن الْقيم قد يسن، أَو يجب عِنْد الْحَاجة، وَحكي ابْن حمدَان وَغَيره: الْخلاف فِي الْجَوَاز وَعَدَمه، وَأَوْمَأَ أَحْمد إِلَى الْمَنْع، وَفِي " الْإِرْشَاد " وَغَيره: لَا بُد من جَوَاب} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (إِذا حدثت مَسْأَلَة لَا قَول فِيهَا فللمجتهد الِاجْتِهَاد فِيهَا وَالْفَتْوَى وَالْحكم) .
وَهل هَذَا أفضل أم التَّوَقُّف؟ أم توقفه فِي الْأُصُول؟
فِيهِ أوجه لنا ذكرهَا ابْن حَامِد على مَا ذكره بَعضهم.
وَذكرهَا بَعضهم فِي الْجَوَاز وَمَعْنَاهُ كَلَام القَاضِي أبي الْحُسَيْن فِي تَرْجَمَة ابْن حَامِد، وَذكر قَول أَحْمد: من قَالَ: الْإِيمَان غير مَخْلُوق: ابتدع ويهجر.(8/4005)
وَذكرهَا صَاحب " الرِّعَايَة ": وَأَن أَحْمد أَوْمَأ إِلَى الْمَنْع لقَوْله للميموني: إياك أَن تَتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة لَيْسَ لَك فِيهَا إِمَام.
وَفِي خطْبَة " الْإِرْشَاد " لِابْنِ أبي مُوسَى وَغَيره: لَا بُد من الْجَواب) انْتهى.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": لَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي فِي شَيْء من مسَائِل الْكَلَام مفصلا، بل يمْنَع السَّائِل وَسَائِر الْعَامَّة من الْخَوْض فِي ذَلِك أصلا.
وَقدمه فِي " مقنعه "، وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَة ".
وَقدم ابْن مُفْلِح أَن مَحل الْخلاف فِي الْأَفْضَلِيَّة لَا فِي الْجَوَاز وَعَدَمه.(8/4006)
وَقَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين " بعد أَن حكى الْأَقْوَال: " وَالْحق التَّفْصِيل، وَأَن ذَلِك يجوز بل يسْتَحبّ، وَيجب عِنْد الْحَاجة، وأهلية الْمُفْتِي وَالْحَاكِم، فَإِن عدم الْأَمْرَانِ لم يجز، وَإِن وجد أَحدهمَا احْتمل الْجَوَاز وَالْمَنْع، وَالْجَوَاز عِنْد الْحَاجة دون عدمهَا " انْتهى.(8/4007)
فارغة(8/4008)
(بَاب التَّقْلِيد)(8/4009)
فارغة(8/4010)
(قَوْله: {بَاب التَّقْلِيد} )
{لُغَة: وضع الشَّيْء فِي الْعُنُق محيطا بِهِ، وَعرفا: أَخذ مَذْهَب الْغَيْر بِلَا معرفَة دَلِيله، وَقيل: بِلَا حجَّة ملزمة} .
لما فَرغْنَا من الِاجْتِهَاد ومباحثه شرعنا فِي مُقَابِله، وَهُوَ التَّقْلِيد وَأَحْكَامه.
التَّقْلِيد فِي اللُّغَة: جعل الشَّيْء فِي الْعُنُق من دَابَّة وَغَيرهَا محيطا بِهِ، وَهَذَا احْتِرَاز مِمَّا لم يكن محيطا بالعنق، فَلَا يُسمى قلادة فِي عرف اللُّغَة وَلَا غَيرهَا، وَالشَّيْء الْمُحِيط بِشَيْء يُسمى قلادة وَجَمعهَا قلائد، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد} [الْمَائِدَة: 2] ، يَعْنِي: مَا يقلده الْهَدْي فِي عُنُقه من النِّعَال وآذان الْقرب.
وَمَعْنَاهُ فِي الْعرف أَي: فِي عرف الْأُصُولِيِّينَ: أَخذ مَذْهَب الْغَيْر بِلَا معرفَة دَلِيله.(8/4011)
أَي: المستوجب لَهُ، أَي: الَّذِي اقْتَضَاهُ وَأوجب القَوْل بِهِ.
ف (أَخذ) جنس وَالْمرَاد بِهِ اعْتِقَاد ذَلِك، وَلَو لم يعْمل بِهِ لفسق أَو لغيره.
وَقَوْلنَا: (مَذْهَب) يَشْمَل مَا كَانَ قولا لَهُ أَو فعلا، فَهُوَ أحسن من التَّعْبِير بِأخذ القَوْل لقصوره عَن الْفِعْل، إِلَّا أَن يُرَاد بالْقَوْل الرَّأْي فَيكون شَامِلًا.
وَنسبَة الْمَذْهَب إِلَى الْغَيْر: يخرج بِهِ مَا كَانَ مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يخْتَص بِهِ ذَلِك الْمُجْتَهد إِذا كَانَ من أَقْوَاله وأفعاله الَّتِي لَيْسَ لَهُ فِيهَا اجْتِهَاد، فَإِنَّهَا لَا تسمى مذْهبه.
وَقَوْلنَا: (بِلَا معرفَة دَلِيله) يَشْمَل الْمُجْتَهد إِذا لم يجْتَهد، وَلَا عرف الدَّلِيل، وجوزنا لَهُ التَّقْلِيد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كالعامي فِي أَخذه بقول الْغَيْر من غير معرفَة دَلِيله.
فَيخرج [عَنهُ] الْمُجْتَهد إِذا عرف الدَّلِيل وَوَافَقَ اجْتِهَاده اجْتِهَاد آخر، فَلَا يُسمى تقليدا، كَمَا يُقَال: أَخذ الشَّافِعِي بِمذهب مَالك فِي كَذَا، وَأخذ أَحْمد بِمذهب الشَّافِعِي فِي كَذَا.
وَإِنَّمَا خرج ذَلِك؛ لِأَنَّهُ - وَإِن صدق عَلَيْهِ أَنه أَخذ بقول الْغَيْر - لكنه مَعَ معرفَة دَلِيله حق الْمعرفَة، فَمَا أَخذ حَقِيقَة إِلَّا من الدَّلِيل لَا من الْمُجْتَهد، فَيكون إِطْلَاق الْأَخْذ بمذهبه فِيهِ تجوز.
وَعبر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بقولهمَا: (لغير حجَّة) ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَن(8/4012)
أَخذ القَوْل مِمَّن قَوْله حجَّة لَا يُسمى تقليدا، ومثلوا ذَلِك على هَذَا القَوْل: بِأخذ الْعَاميّ بقول مثله، وَأخذ الْمُجْتَهد بقول مثله فِي حكم شَرْعِي، قَالَه الْآمِدِيّ، وَغَيره، فالرجوع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى الْمُفْتِي وَإِلَى الْإِجْمَاع، وَالْقَاضِي إِلَى الْعُدُول لَيْسَ بتقليد، وَلَو سمي تقليدا سَاغَ.
وَفِي " الْمقنع ": الْمَشْهُور أَن أَخذه بقول الْمُفْتِي تَقْلِيد، وَهُوَ أظهر، وَقدمه فِي " آدَاب الْمُفْتِي " فِي الْإِجْمَاع أَيْضا، وَقيل: وَالْقَاضِي.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": (التَّقْلِيد قبُول القَوْل بِغَيْر دَلِيل، فَلَيْسَ الْمصير إِلَى الْإِجْمَاع تقليدا؛ لِأَن الْإِجْمَاع دَلِيل، وَكَذَلِكَ يقبل قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يُقَال: تقليدا بِخِلَاف فتيا الْفَقِيه.
وَذكر فِي ضمن مَسْأَلَة التَّقْلِيد: أَن الرُّجُوع إِلَى قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بتقليد؛ لِأَنَّهُ حجَّة، وَقَالَ فِيهَا: لما جَازَ تَقْلِيد الصَّحَابَة لزمَه ذَلِك، وَلم يجز مُخَالفَته بِخِلَاف الأعلم، وَقد قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث: " من قلد الْخَبَر رَجَوْت أَن يسلم إِن شَاءَ الله تَعَالَى "، فقد أطلق اسْم التَّقْلِيد على من صَار إِلَى الْخَبَر، وَإِن كَانَ حجَّة فِي نَفسه) انْتهى.(8/4013)
وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: رُجُوع القَاضِي إِلَى قَول الْبَيِّنَة لَا يُسمى تقليدا فِي أظهر الِاحْتِمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حجَّة شَرْعِيَّة وَجب فِي الْعَمَل بهَا.
وَخَالف فِي ذَلِك [ابْن] الْقَاص، وشراحه كالقفال [فجعلوه] من التَّقْلِيد، وَذكر الرُّجُوع إِلَى خبر الْوَاحِد فِي حِكَايَة حَدِيث أَو إِجْمَاع، أَو فِي إِخْبَار عَن نَجَاسَة إِنَاء، أَو دُخُول فِي وَقت، أَو عين الْقبْلَة، لَا يُسمى تقليدا، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ، وَصرح ابْن الْقَاص فِي " التَّلْخِيص " بِأَنَّهُ يُسمى تقليدا، وَتَبعهُ شراحه على ذَلِك، كالقفال وَغَيره.(8/4014)
وحكاهما ابْن السَّمْعَانِيّ وَجْهَيْن.
وَلِهَذَا قَالَ ابْن الصّلاح: إِن التَّقْلِيد [قبُول] قَول من يجوز عَلَيْهِ الِاحْتِرَاز من الْخَطَأ بِغَيْر الْحجَّة، على غير مَا قبل قَوْله فِيهِ.
ليخرج: أَقْوَال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْإِجْمَاع.
وَاحْترز بالنافي: عَن قبُول القَاضِي الْبَيِّنَة وَنَحْو ذَلِك.
وَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ أرجح.
ومثلوا على قَول الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب ذَلِك: بِأخذ الْعَاميّ والمجتهد بقول مثله كَمَا تقدم.
قَالَ الْعَضُد: " فَلَا يكون الرُّجُوع إِلَى الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقليدا، وَكَذَا إِلَى الْإِجْمَاع، وَكَذَا رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي، وَكَذَا رُجُوع القَاضِي إِلَى الْعُدُول فِي شَهَادَتهم؛ وَذَلِكَ لقِيَام الْحجَّة فِيهَا.
فَقَوْل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمعجز، وَالْإِجْمَاع بِمَا تقدم فِي حجيته، وَقَول الشَّاهِد والمفتي بِالْإِجْمَاع.(8/4015)
وَلَو سمي ذَلِك أَو بعض ذَلِك تقليدا - كَمَا يُسمى فِي الْعرف - أَخذ الْمُقَلّد الْعَاميّ قَول الْمُفْتِي تقليدا، فَلَا مشاحة فِي التَّسْمِيَة فِي الِاصْطِلَاح " انْتهى.
وَلَو أفتى الْمُفْتِي الْعَاميّ بحادثة بِحكم.
فَذهب مُعظم الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه مقلد لانطباق تَعْرِيف التَّقْلِيد عَلَيْهِ.
وَذهب الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ": " إِلَى أَن الْمُخْتَار أَنه لَيْسَ بتقليد أصلا، فَإِن قَول الْعَالم حجَّة فِي حق المستفتي، نَصبه الله تَعَالَى علما فِي حق الْعَاميّ، وَأوجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ كَمَا أوجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِاجْتِهَادِهِ، وَخرج من هَذَا أَنه لَا يتَصَوَّر تقليدا مُبَاحا لَا فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع.
ثمَّ قَالَ الباقلاني: إِنَّه لَو جَازَ تَسْمِيَة هَذَا تقليدا لجَاز أَن يُسمى التَّمَسُّك بالنصوص وَغَيرهَا من الدَّلَائِل تقليدا " انْتهى.(8/4016)
(قَوْله: {فصل} )
{يحرم التَّقْلِيد فِي معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد والرسالة عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر، وَأَجَازَهُ: جمع، قَالَ بَعضهم: وَلَو بطرِيق فَاسد، وَقيل: يجب التَّقْلِيد فِيمَا لم يعلم بالحس، وَحكي عَن أَحْمد وَبَعض أَصْحَابه، وَظَاهر خطْبَة الْإِرْشَاد: جَوَازه، وَفِي " شرح الْمِنْهَاج " لمؤلفه عَن الْفُقَهَاء: يجوز مُطلقًا، وَأطلق الْحلْوانِي وَغَيره منع التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، وَقَالَهُ الْبَصْرِيّ والقرافي فِي أصُول الْفِقْه أَيْضا} .
لَا يجوز التَّقْلِيد فِي معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد والرسالة، ذكره القَاضِي وَابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَذكره عَن عَامَّة الْعلمَاء، وَذكر(8/4017)
غَيره أَنه قَول جُمْهُور الْعلمَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز، وَبِه قَالَ ابْن عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري وَغَيرهمَا، ويعزى للحشوية.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَأَجَازَهُ بعض الشَّافِعِيَّة لإِجْمَاع السّلف على قبُول الشَّهَادَتَيْنِ من غير أَن يُقَال لقائلهما: هَل نظرت؟ وسَمعه ابْن عقيل من أبي الْقَاسِم بن التبَّان المعتزلي، وَأَنه يَكْفِي بطرِيق فَاسد.
قَالَ هَذَا المعتزلي: إِذا عرف الله وَصدق رسله، وَسكن قلبه إِلَى ذَلِك،(8/4018)
وَاطْمَأَنَّ بِهِ: فَلَا علينا من الطَّرِيق: تقليدا كَانَ، أَو نظرا، أَو اسْتِدْلَالا، حَتَّى إِن الطَّرِيق الْفَاسِد إِذا أَدَّاهُ إِلَى معرفَة الله تَعَالَى كفى، فَلَو قَالَ: أَنا أعرف الله تَعَالَى من طَرِيق أَنِّي دَعَوْت يَوْمًا فِي غَرَض لي فَكَانَ ذَلِك الْغَرَض، وَمَا دَعَوْت سواهُ فدلني على إثْبَاته.
قَالَ ابْن عقيل: أوجب قوم من أهل الحَدِيث والظاهرية التَّقْلِيد فِيمَا لم يعلم بالحس، وأبطلوا حجج الْعُقُول.
قَالَ الْغَزالِيّ فِي " المنخول ": (أثبت أَحْمد قِيَاس الشَّرْع دون قِيَاس الْعقل، وَعكس دَاوُد.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": قيل يحرم الْقيَاس النظري وَيجب الْقيَاس، قَالَه أَحْمد بن حَنْبَل والمقتصدون من أَتْبَاعه، وَلَا يُنكرُونَ إفضاء النّظر إِلَى الْعلم، بل ينهون عَن ملابسته.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": قَالَ ابْن عقيل: الْقيَاس [الْعقلِيّ] حجَّة يجب الْعَمَل بِهِ، وَيجب النّظر وَالِاسْتِدْلَال بِهِ بعد وُرُود الشَّرْع، وَلَا يجوز التَّقْلِيد، وَقد نقل عَن أَحْمد الِاحْتِجَاج بدلائل الْعُقُول، وَبِهَذَا قَالَ جمَاعَة الْفُقَهَاء والمتكلمين من أهل الْإِثْبَات.(8/4019)
وَذهب الْمُعْتَزلَة إِلَى وجوب النّظر وَالِاسْتِدْلَال قبل الشَّرْع، وَلما ورد(8/4020)
بِهِ كَانَ تَأْكِيدًا.
وَذهب قوم من أهل الحَدِيث، وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن حجج الْعُقُول بَاطِلَة، وَالنَّظَر حرَام، والتقليد وَاجِب انْتهى.(8/4021)
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: " الْقيَاس الْعقلِيّ وَالِاسْتِدْلَال طَرِيق لإِثْبَات الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَبِه قَالَ عَامَّة الْعلمَاء ".
قلت: كَلَام أَحْمد فِي الِاحْتِجَاج بأدلة عقلية كثير، وَقد ذكر كثيرا مِنْهَا فِي كِتَابه " الرَّد على الزَّنَادِقَة والجهمية "، فمذهب أَحْمد: القَوْل بِالْقِيَاسِ الْعقلِيّ والشرعي. انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاحْتج أَحْمد بحجج الْعُقُول وَعَامة الْفُقَهَاء والأصوليين.
وَالْمَقْصُود أَن الْمَعْمُول بِهِ عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه اسْتِعْمَال الْقيَاس الْعقلِيّ فِي الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة كالقياس الشَّرْعِيّ، وَمَا نقل عَنهُ من إِنْكَاره فَهُوَ: مَا قَالَه وَرجع عَنهُ، أَو لم يَصح عَنهُ وَالله أعلم.(8/4022)
وَظَاهر خطْبَة إرشاد ابْن أبي مُوسَى: جَوَازه.
وَفِي " شرح الْمِنْهَاج " لمؤلفه عَن الْفُقَهَاء: يجوز مُطلقًا؛ " لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يسْأَل أحدا أسلم ".
نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح.
وَأطلق الْحلْوانِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم: منع التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، يَعْنِي فِي جَمِيع مَا يتَعَلَّق بأصول الدّين.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي أَوَائِل كِتَابه: قَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " شرح الْعمد ": لَا يجوز التَّقْلِيد فِي أصُول الْفِقْه، وَلَا يكون مُجْتَهد فِيهَا(8/4023)
مصيبا والمخطيء فِيهَا [ملوم] كأصول الدّين انْتهى.
وَقَالَهُ الْقَرَافِيّ.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بأَمْره تَعَالَى بالتدبر والتفكر وَالنَّظَر، وَفِي " صَحِيح ابْن حبَان ": " لما نزل فِي آل عمرَان:: {إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم} الْآيَات [آل عمرَان: 190 - 195] قَالَ: ويل لمن قرأهن وَلم يتدبرهن ويل لَهُ ويل لَهُ ".(8/4024)
وَالْإِجْمَاع على وجوب معرفَة الله تَعَالَى وَلَا تحصل بتقليد، لجَوَاز كذب الْمخبر واستحالة حُصُوله كمن قلد فِي حدث الْعَالم، وَكَمن قلد فِي قدمه.
وَلِأَن التَّقْلِيد لَو أَفَادَ علما إِمَّا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ بَاطِل، وَإِمَّا بِالنّظرِ فيستلزم الدَّلِيل وَالْأَصْل عَدمه، وَالْعلم يحصل بِالنّظرِ وَاحْتِمَال الْخَطَأ لعدم تَمام مُرَاعَاة القانون الصَّحِيح.
وَلِأَنَّهُ ذمّ التَّقْلِيد بقوله: {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} [الزخرف: 22] ، وَهِي فِيمَا يطْلب الْعلم، فَلَا يلْزم الْفُرُوع.(8/4025)
وَلِأَنَّهُ يلْزم الشَّارِع لقَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} [مُحَمَّد: 19] ، فيلزمنا بقوله [فَاتَّبعُوهُ] .
قَالُوا: لَو وَجب لما " نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْكَلَام فِي الْقدر " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة صَالح المري وَهُوَ ضَعِيف، وَرَوَاهُ أَحْمد(8/4026)
وَابْن ماجة من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، وَفِيه: " مَا لكم تضربون كتاب الله بعضه بِبَعْض، بِهَذَا هلك من كَانَ قبلكُمْ ".(8/4027)
فَإِن صَحَّ نهى عَن جِدَال بباطل لقَوْله تَعَالَى: {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} [النَّحْل: 125] .
أَو فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا فِي " صَحِيح مُسلم " " أَنه سمع أصوات رجلَيْنِ اخْتلفَا فِي آيَة، فَغَضب فَقَالَ: إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ باختلافهم فِي الْكتاب ".
وَلِهَذَا روى ابْن ماجة وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ عَن أبي هُرَيْرَة: " أَن مُشْركي قُرَيْش أَتَوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخاصمونه فِي الْقدر ".
قَالُوا: لَو كَانَ، فعله الصَّحَابَة وَنقل كالفروع.
رد: هُوَ كَذَلِك؛ لِئَلَّا يلْزم نسبتهم إِلَى الْجَهْل وَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير ضَرُورِيّ، وَلم ينْقل لعدم الْحَاجة. قَالُوا: لَو كَانَ أنْكرت على الْعَامَّة تَركه.(8/4028)
رد: المُرَاد دَلِيل جملي، وَيحصل بأيسر نظر لَا تَحْرِير دَلِيل وَلَا جَوَاب عَن شُبْهَة.
قَالُوا: النّظر مَظَنَّة وُقُوع فِي شُبْهَة وضلالة فَيحرم.
أُجِيب: يجوز أَن يسْتَند إِلَى كشف ومشاهدة.
رد: نمنعه طَرِيقا شَرْعِيًّا قبل الشَّرْع، وَسبق فِي مَسْأَلَة التحسين: أَن النّظر لَا يتَوَقَّف على وُجُوبه فَلَا دور.
قَوْله: {وَيحرم التَّقْلِيد أَيْضا فِي أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس وَنَحْوهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر، وَحكي إِجْمَاعًا، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره: يلْزمه وَيلْزم غير مُجْتَهد التَّقْلِيد فِي غَيره عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر، وَمنعه قوم مَا لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة اجْتِهَاده بدليله، وَقوم: فِيمَا يسوغ فِيهِ اجْتِهَاد، وَقوم: فِي الْمسَائِل الظَّاهِرَة} .
تقدم فِي الاحترازات فِي حد التَّقْلِيد: أَن مَا يعلم من الدّين بِالضَّرُورَةِ لَا يجوز التَّقْلِيد فِيهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَا يجوز للعامي التَّقْلِيد فِي أَرْكَان الْإِسْلَام الْخمس،(8/4029)
وَنَحْوهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر، ذكره القَاضِي، وَذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل إِجْمَاعًا لتساوي النَّاس فِي طريقها، وَإِلَّا لزمَه سَاغَ فِيهِ اجْتِهَاد أَولا، عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر.
وَمنعه قوم من الْمُعْتَزلَة البغداديين مَا لم يتَبَيَّن لَهُ صِحَة اجْتِهَاده بدليله.(8/4030)
وَذكره ابْن برهَان عَن الجبائي، وَعنهُ كَقَوْلِنَا.
وَمنعه أَبُو عَليّ الشَّافِعِي فِيمَا لَا يسوغ فِيهِ اجْتِهَاد.
وَبَعْضهمْ فِي الْمسَائِل الظَّاهِرَة.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ لُزُومه فِي الْجَمِيع وَذكره عَن محققي الْأُصُول " انْتهى.(8/4031)
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة ": وَأما التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع فَهُوَ جَائِز إِجْمَاعًا.
وَذهب بعض الْقَدَرِيَّة: إِلَى أَن الْعَامَّة يلْزمهُم النّظر فِي الدَّلِيل فِي الْفُرُوع.
وَقَالَ الطوفي فِي مختصرها وَغَيره: " وَيجوز التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع إِجْمَاعًا خلافًا لبَعض الْقَدَرِيَّة ".
اسْتدلَّ لجَوَاز التَّقْلِيد فِي غير معرفَة الله تَعَالَى والتوحيد، والرسالة، وأركان الْإِسْلَام الْخمس وَغَيرهَا مِمَّا تَوَاتر واشتهر بقوله تَعَالَى: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] وَهُوَ عَام لتكرره بِتَكَرُّر الشَّرْط، وَعلة الْأَمر بالسؤال الْجَهْل.
وَأَيْضًا: الْإِجْمَاع بِأَن الْعَوام يقلدون الْعلمَاء من غير إبداء مُسْتَند من غير نَكِير.
وَأَيْضًا: يُؤَدِّي إِلَى خراب الدُّنْيَا بترك المعائش والصنائع، وَلَا يلْزم التَّوْحِيد والرسالة ليسره وقلته، وَدَلِيله الْعقل.
قَالُوا: ورد عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم ".(8/4032)
فارغة(8/4033)
رد: لم يَصح، ثمَّ طلبه الشَّرْعِيّ، فتقليد الْمُفْتِي مِنْهُ، فَإِن الْعلم لَا يجب عِنْد أحد بل النّظر.(8/4034)
(قَوْله: {فصل} )
{لَهُ استفتاء من عرفه عَالما عدلا، وَلَو عبدا وَأُنْثَى وأخرس بِإِشَارَة مفهومة وَكِتَابَة، أَو رَآهُ منتصبا مُعظما، وَقَالَ ابْن عقيل والموفق وَجمع: يَكْفِيهِ قَول عدل خَبِير، والباقلاني: عَدْلَيْنِ، وَقيل: يعْتَمد على قَوْله: أَنا أهل لَهُ، وَاعْتبر الشَّيْخ وَابْن الصّلاح الاستفاضة، لَا مُجَرّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره، والطوفي يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا اتِّفَاقًا} .
يجوز للعامي استفتاء من عرفه عَالما عدلا، أَو رَآهُ منتصبا مُعظما؛ لِأَنَّهُ إِذا عرف أَنه عَالم عدل كفى فِي جَوَاز استفتائه؛ لِأَن الْمَقْصُود من(8/4035)
الاستفتاء سَوَاء الْعَالم الْعدْل، وَهَذَا كَذَلِك، وَيَأْتِي حكم المستور وَالْفَاسِق فِي فتياهما.
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ منتصبا للفتيا والتدريس مُعظما، فَإِن كَونه كَذَلِك يدل على علمه وَأَنه أهل للاستفتاء، وَلَا يجوز الاستفتاء فِي هَذِه عِنْد الْعلمَاء، وَذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفسه.
وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِخْبَار فَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره: يَكْفِيهِ قَول عدل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمرَاده خَبِير "، وَهُوَ كَذَلِك وَإِلَّا لم يحصل الْمَقْصُود.
وَكَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: يقبل فِي معرفَة أَهْلِيَّته عدل وَاحِد.
قَالَ النَّوَوِيّ: " وَهُوَ مَحْمُول على من عِنْده معرفَة يتَمَيَّز بهَا التلبيس من غَيره، وَلَا يقبل فِي ذَلِك خبر آحَاد الْعَامَّة لِكَثْرَة مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ من التلبيس فِي ذَلِك ".
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: لَا بُد من ثقتين.(8/4036)
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: يعْتَمد على قَوْله أَنا أهل للْفَتْوَى لإِفَادَة التَّوَاتُر فِي المحسوس، واشتهار مَا لَا أصل لَهُ.
وَاعْتبر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن الصّلاح: الاستفاضة بِأَنَّهُ أهل للفتيا، وَهُوَ الرَّاجِح فِي " رَوْضَة النَّوَوِيّ "، وَنَقله عَن أَصْحَابهم.
فَلَا يَكْتَفِي بِوَاحِد وَلَا بِاثْنَيْنِ وَلَا مُجَرّد اعتزائه إِلَى الْعلم، وَلَو بِمنْصب تدريس أَو غَيره.(8/4037)
وَمرَاده فِي زَمَانه، بل هُوَ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة أولى؛ لِأَن الدخيل قد دخل على الْفَقِيه والمدرسين.
قَالَ ابْن عقيل: يجب سُؤال أهل الثِّقَة والخبرة عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع إِلَى غَيره إِلَّا بعد علمه بِأَنَّهُ أهل بِدَلِيل النَّبِي وَالْحَاكِم والمقوم والمخبر بِعَيْب.
ثمَّ قَالَ: يَكْفِي خبر وَاحِد كَحكم شَرْعِي.
وَقَالَ الطوفي: " يُقَلّد من علمه أَو ظَنّه أَهلا بطرِيق مَا اتِّفَاقًا "، وَهُوَ معنى القَوْل الأول فِي الْمَسْأَلَة.
وَذكر ابْن عقيل عَن قَول: لَا يلْزمه فَيسْأَل من شَاءَ.
وَهَذَا خطأ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] .
وروى عَن الشِّيعَة: منع تَقْلِيد غير الْمَعْصُوم، وَهُوَ مُقَابل لما قبله.(8/4038)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وهما باطلان، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالْقبُولِ فَإِنَّهُ يقبل من العَبْد وَالْأُنْثَى والأخرس، إِمَّا بِإِشَارَة مفهومة أَو كِتَابَة؛ لأَنهم كغيرهم فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَيمْنَع عندنَا وَعند الْأَكْثَرين من لم يعرف بِعلم، أَو جهل حَاله، وَيلْزم ولي الْأَمر مَنعه، قَالَ ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق} .
يمْنَع عندنَا وَعند أَكثر الْعلمَاء من الْفَتْوَى من لم يعرف [بِأَنَّهُ] عَالم أَو جهل حَاله؛ لِأَن الأَصْل وَالظَّاهِر الْجَهْل، فَالظَّاهِر أَنه مِنْهُ، وَلَا يلْزم الْجَهْل بِالْعَدَالَةِ لأَنا نمنعه. ونقول: لَا يقبل من جهلت عَدَالَته.
ثمَّ سلمه فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا؛ لِأَن الْغَالِب عَدَالَة الْعلمَاء.(8/4039)
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: من عرف علم الِاجْتِهَاد، وَكَانَ عدلا لزمَه الِاجْتِهَاد، وَجَاز لَهُ أَن يُفْتِي.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": صفة من يسوغ فتواه: الْعَدَالَة.
وَكَذَا أطلق بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يلْزم ولي الْأَمر منع من لَيْسَ أَهلا، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي، وَغَيره: لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا من كَانَ كَذَلِك.
وَقَالَ ربيعَة: بعض من يُفْتِي أَحَق بالسجن من السراق.(8/4040)
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " الْعَدَالَة شَرط لجَوَاز اعْتِمَاد قَوْله ".
وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي فِي " الْعدة ".
فَقَالَ: فِي " الْمُغنِي ": إِن من شهد مَعَ ظُهُور فسقه لم يُعَزّر؛ لِأَنَّهُ لَا يمْنَع صدقه.
وَكَلَامه هُوَ وَغَيره يدل على أَنه لَا يحرم أَدَاء فَاسق مُطلقًا.
قَوْله: {ويفتي فَاسق نَفسه عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَاخْتَارَ ابْن الْقيم وَغَيره: وَلغيره مَا لم يكن مُعْلنا أَو دَاعِيَة} .
الصَّحِيح أَن الْفَاسِق لَا تتعدى فتياه إِلَى غَيره، بل يُفْتِي نَفسه فَقَط، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمذهب الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بأمين على مَا يَقُول.(8/4041)
وَقَالَ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ": " قلت: الصَّوَاب جَوَاز استفتاء الْفَاسِق، إِلَّا أَن يكون مُعْلنا بِفِسْقِهِ دَاعيا إِلَى مذْهبه، فَحكم استفتائه حكم إِمَامَته وشهادته " انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَغَيره: وَلَا تشْتَرط عَدَالَته فِي اجْتِهَاده، بل فِي قبُول فتياه وَخَبره، وَهَذَا مُوَافق لقَوْل الْأَصْحَاب.
قَوْله: {وَلَا تصح من مَسْتُور الْحَال عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقيل: بلَى، وَهُوَ أظهر، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا يُفْتِي على عدوه كَالْحكمِ عَلَيْهِ} .
لَا تصح الْفَتْوَى وَلَا تقبل من مَسْتُور الْحَال، بل لَا بُد أَن يكون عدلا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب، وَقدمه فِي " الْفُرُوع "، وَغَيره، كَمَا لَا تقبل رِوَايَته.(8/4042)
وَقيل: تصح، وَهَذَا أظهر، وَعمل النَّاس عَلَيْهِ لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقدمه فِي " آدَاب الْمُفْتِي "، وَصَححهُ فِي " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، وَاخْتَارَهُ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ".
وَقيل: تصح إِن اكتفينا بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَة، وَإِلَّا فَلَا.
وَالصَّحِيح أَن الْفتيا تصح من الْعَدو قدمه فِي " الْفُرُوع " فِي بَاب أدب القَاضِي، و " الرِّعَايَة الْكُبْرَى "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، وَغَيرهم.
وَقيل: لَا يُفْتِي عَلَيْهِ، اخْتَارَهُ الْمَاوَرْدِيّ كَالْحكمِ وَالشَّهَادَة عَلَيْهِ.
قَوْله: {ويفتي حَاكم} .(8/4043)
هَذَا الصَّحِيح وَأَنه كَغَيْرِهِ فِيهَا.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا قولا: لَا يُفْتِي الْحَاكِم.
وَقد قَالَ القَاضِي شُرَيْح: " أَنا أَقْْضِي وَلَا أُفْتِي ".
وَقيل: يُفْتِي فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ: كالطهارة، وَالصَّلَاة، وَنَحْوهمَا، وَلَا يُفْتِي فِيمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْحكمِ مِنْهُ على الْخصم، فَلَا يُمكن نقضه وَقت المحاكمة إِذا ترجح عِنْده ضِدّه بقول خَصمه أَو حجَّته أَو قَرَائِن حَالهمَا.
وَكَرِهَهُ ابْن الْمُنْذر فِيمَا يتَعَلَّق بالحكم.(8/4044)
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَن فتيا الْحَاكِم لَيست بِحكم.
قَالَ فِي " أَعْلَام الموقعين ": " فتيا الْحَاكِم لَيست حكما مِنْهُ، فَلَو حكم غَيره بِغَيْر مَا أفتى لم يكن نقضا لحكمه، وَلَا هِيَ كَالْحكمِ، وَلِهَذَا يجوز أَن يُفْتِي الْحَاضِر وَالْغَائِب وَمن يجوز حكمه لَهُ وَمن لَا يجوز " انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي فِي " التَّعْلِيق "، وَالْمجد فِي " محرره "، وَمن تَبِعَهُمْ: فعل الْحَاكِم حكم إِن حكم بِهِ أَو غَيره وفَاقا كفتياه.
فَجعلَا الْفتيا حكما إِن حكم بِهِ هُوَ أَو غَيره.
قَوْله: {وَلَا يُفْتِي فِي حَال لَا يحكم فِيهَا كغضب وَنَحْوه، وَظَاهره يحرم كَالْحكمِ، وَفِي " الرِّعَايَة ": إِن أصَاب صَحَّ وَكره، وَقيل لَا يَصح} .
الَّذِي يظْهر أَن حكم الْمُفْتِي حكم القَاضِي فِي ذَلِك، وَالصَّحِيح التَّحْرِيم فِي القَاضِي وَكَذَا فِي الْمُفْتِي، وَالصَّحِيح أَن حكم الْحَاكِم الْمُوَافق للحق ينفذ وَيصِح، فَكَذَلِك فِي الْفتيا.(8/4045)
وَمثل الْغَضَب: إِذا كَانَ حاقنا، أَو حاقبا، أَو بِهِ ريح محتشية، أَو فِي شدَّة مرض، أَو خوف، أَو فَرح غَالب، أَو ملل، أَو كسل، وَشدَّة جوع وعطش، وهم، ووجع، ونعاس، وَبرد مؤلم، وحر مزعج، ومرادهم بِالْغَضَبِ: الْغَضَب الْكثير وَكَذَا غَيره.
قَوْله: {وَله أَخذ رزق من بَيت المَال، وَإِن تعين أَن يُفْتِي وَله كِفَايَة لم يَأْخُذهُ، وَقيل: بلَى كعادمها فِي الْأَصَح، وَمن أَخذ مِنْهُ لم يَأْخُذ وَإِلَّا أَخذ أُجْرَة خطه، وَقيل: بلَى، وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم جَازَ فِي الْأَصَح} .
للمفتي أَخذ الرزق من بَيت المَال؛ لِأَن لَهُ فِيهِ حَقًا على الْفتيا، فَجَاز لَهُ أَخذ حَقه.
وَإِن تعين أَن يُفْتِي لعدم غَيره فَلهُ حالتان:(8/4046)
إِحْدَاهمَا: أَن يكون لَهُ كِفَايَة، فَهَل لَهُ أَن يَأْخُذ إِذا لم يكن لَهُ شَيْء من بَيت المَال أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِك، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ فِي " أَعْلَام الموقعين "، وَهُوَ الْمُخْتَار.
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَهُ الْأَخْذ.
وَأطلقهُمَا فِي " الرِّعَايَة "، و " آدَاب الْمُفْتِي "، و " أصُول ابْن مُفْلِح " و " فروعه ".
وَالْحَالة الثَّانِيَة: أَن لَا يكون لَهُ كِفَايَة لَا من مَاله وَلَا من بَيت المَال، فَهَذَا إِذا قَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا إِلَّا بِجعْل جَازَ لَهُ الْأَخْذ على الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ إِن لم يَأْخُذ أفْضى إِلَى ضَرَر يلْحقهُ فِي عائلته - إِن كَانُوا - وحرج، وَهُوَ منفي شرعا، وَإِن لم يفت حصل أَيْضا للمستفتى ضَرَر، فَتعين الْجَوَاز، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ".
قَالَ فِي " الْكَافِي ": " وَإِذا قُلْنَا بِجَوَاز أَخذ الرزق فَلم يحصل لَهُ شَيْء فَقَالَ: لَا أَقْْضِي بَيْنكُم إِلَّا بِجعْل: جَازَ ".
وَقَالَ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح ": " فَإِن لم يكن للْقَاضِي رزق فَقَالَ:(8/4047)
لَا أَقْْضِي بَيْنكُمَا حَتَّى تجعلا لي جعلا: جَازَ، وَيحْتَمل أَن لَا يجوز " انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ.
قلت: وَهُوَ ضَعِيف، وَهُوَ احْتِمَال فِي " الْمُغنِي "، وَاخْتَارَهُ فِي " الرِّعَايَتَيْنِ "، وَالنّظم.
وَمن أَخذ من بَيت المَال لم يَأْخُذ فِي الْحَالَتَيْنِ، لَكِن هَل لَهُ أَخذ أُجْرَة خطه أم لَا؟ فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: يجوز، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ، وَاخْتَارَهُ فِي " أَعْلَام الموقعين ".
وَإِن جعل لَهُ أهل بلد رزقا ليتفرغ لَهُم جَازَ على الصَّحِيح، كالمسألة الَّتِي قبلهَا.(8/4048)
لَكِن ظَاهر هَذَا: وَلَو كَانَ لَهُ كِفَايَة وَمَا يقوم بِهِ، فيشكل، أَو يُقَال: يفهم من قَوْله: ليتفرغ لَهُم، أَنه كَانَ مَشْغُولًا بِمَا يقوم بالعيال، وَهُوَ الظَّاهِر.
وَقيل: لَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَمَال إِلَيْهِ فِي " الرِّعَايَة "، وَاخْتَارَهُ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
قَوْله: {وَله قبُول الْهَدِيَّة، وَعنهُ: لَا، إِلَّا أَن يكافيء، قَالَ أَحْمد: لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي حَتَّى تكون لَهُ نِيَّة ووقار وسكينة، قَوِيا على مَا هُوَ فِيهِ ومعرفته، والكفاية، وَإِلَّا مضغه النَّاس، وَمَعْرِفَة النَّاس، قَالَ ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": " وَله قبُول هَدِيَّة، وَالْمرَاد لَا يفتيه بِمَا يُريدهُ وَإِلَّا حرمت، زَاد بَعضهم: أَو لينفعه بجاهه أَو مَاله، وَفِيه نظر " انْتهى.
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " وَله قبُول الْهَدِيَّة، وَقيل: يحرم إِذا كَانَ رشوة على أَن يفتيه بِمَا يُرِيد.
قلت: أَو يكون لَهُ فِيهِ نفع من جاه أَو مَال فيفتيه لذَلِك بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ(8/4049)
غَيره مِمَّا لَا ينْتَفع بِهِ كنفع الأول " انْتهى.
وَهُوَ مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: وَفِيه نظر.
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر من الْأَصْحَاب: جَوَاز قبُول الْهَدِيَّة للمفتي.
وَنقل الْمَرْوذِيّ: " لَا يقبل الْهَدِيَّة إِلَّا أَن يكافيء ".
قَالَ أَحْمد: " الدُّنْيَا دَاء وَالسُّلْطَان [دَاء] ، والعالم طبيبه، فَإِذا رَأَيْت الطَّبِيب يجر الدَّاء إِلَى نَفسه فاحذره ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فِيهِ التحذير من استفتاء من يرغب فِي مَال وَشرف بِلَا حَاجَة.
قَالَ أَحْمد: " لَا يَنْبَغِي أَن يُفْتِي إِلَّا أَن يكون لَهُ نِيَّة، فَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة لم يكن عَلَيْهِ نور وَلَا على كَلَامه نور، وحلم، ووقار، وسكينة، قَوِيا على مَا هُوَ فِيهِ وعَلى مَعْرفَته، والكفاية وَإِلَّا مضغه النَّاس،(8/4050)
وَمَعْرِفَة النَّاس ".
قَالَ ابْن عقيل: هَذِه الْخِصَال مُسْتَحبَّة، فيقصد الْإِرْشَاد وَإِظْهَار أَحْكَام الله لَا رِيَاء وَلَا سمعة، والتنويه باسمه.
والسكينة وَالْوَقار: ترغب المستفتي، وهم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء فَيجب أَن يتخلقوا بأخلاقهم.
والكفاية: لِئَلَّا ينْسبهُ النَّاس إِلَى التكسب بِالْعلمِ وَأخذ الْعِوَض عَلَيْهِ، فَيسْقط قَوْله.
وَمَعْرِفَة النَّاس: تحْتَمل حَال الرِّوَايَة وتحتمل حَال المستفتين، فالفاجر لَا يسْتَحق الرُّخص، فَلَا يفتيه بالخلوة بالمحارم مَعَ علمه بِأَنَّهُ يسكر،(8/4051)
وَلَا يرخص لجند وقتنا لمعرفتنا لسفرهم، والتسهيل على معتدات على صِفَات وقتنا؛ لِئَلَّا يضع الْفَتْوَى فِي غير محلهَا.
وَكَذَا قَالَ والخصلة الأولى وَاجِبَة.
وَعَن عمرَان مَرْفُوعا: " وَإِن أخوف مَا أَخَاف على أمتِي: كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، حَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ:(8/4052)
مَوْقُوفا أشبه.
وَعَن عمر قَالَ: " كُنَّا نتحدث إِنَّمَا يهْلك هَذِه الْأمة كل مُنَافِق عليم اللِّسَان "، رَوَاهُ أَبُو يعلى، وَفِيه مُؤَمل بن إِسْمَاعِيل، وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ.(8/4053)
وَقَالَ معَاذ: " احذر زلَّة الْعَالم وجدال الْمُنَافِق ".(8/4054)
قَوْله: {وَمن عدم مفتيا فَلهُ حكم مَا قبل الشَّرْع من إِبَاحَة، أَو حظر، أَو وقف} .
قَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَإِن لم يجد الْعَاميّ من يسْأَله عَنْهَا فِي بَلَده وَلَا غَيره، فَقيل: لَهُ حكم مَا قبل الشَّرْع، على الْخلاف فِي الْحَظْر، وَالْإِبَاحَة، وَالْوَقْف، وَهُوَ أَقيس " انْتهى.
وَقطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَوْله: {وَيلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد تكْرَار الْوَاقِعَة فِي الْأَصَح، وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا على الْخلاف، وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ظن طَرِيق الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه} .(8/4055)
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب: يلْزم الْمُفْتِي تَكْرِير النّظر عِنْد تكْرَار الْوَاقِعَة.
قَالَ ابْن عقيل: وَإِن لم يُكَرر النّظر كَانَ مُقَلدًا لنَفسِهِ لاحْتِمَال تغير اجْتِهَاده إِذا كرر، قَالَ: وكالقبلة يجْتَهد لَهَا ثَانِيًا.
وَاعْترض: فَيجب تكريره أبدا.
رد: نعم، وَغلط بَعضهم فِيهِ.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا: لَا يلْزم؛ لِأَن الأَصْل بَقَاء مَا اطلع عَلَيْهِ وَعدم غَيره.
وَلُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا فِيهِ الْخلاف، فَلَا يَكْتَفِي السَّائِل بِالْجَوَابِ الأول على الصَّحِيح كَمَا قُلْنَا فِي تكَرر النّظر.(8/4056)
وَعند أبي الْخطاب والآمدي: إِن ذكر الْمُفْتِي طَرِيق الِاجْتِهَاد لم يلْزمه، وَإِلَّا لزمَه.
وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: للمسألة أَحْوَال: لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه عَمَّا ظهر لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الأول أَو لَا، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ كَونه ذَاكِرًا لدَلِيل ذَلِك الْمَاضِي أَو لَا.
الأول من الْأَرْبَعَة: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع، وَلكنه ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَإِن كَانَ راجحا على مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع عمل بِالْأولِ، وَلَا يُعِيد الِاجْتِهَاد.
الثَّانِي: أَن لَا يكون ذَاكِرًا للدليل الأول فَيجب أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا، قَالَه الشَّافِعِيَّة، لِأَنَّهُ لَا ثِقَة بِبَقَاء الظَّن، وَإِن كَانَ الأصوليون حكوا فِيهِ قولا بِالْمَنْعِ، بِنَاء على أَن الظَّن السَّابِق قوي فَيعْمل بِهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم رُجْحَان غَيره عَلَيْهِ.(8/4057)
الثَّالِث: أَن لَا يَتَجَدَّد لَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعه، وَهُوَ ذَاكر الدَّلِيل الأول، فَلَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد قطعا.
الرَّابِع: أَن يَتَجَدَّد مَا يَقْتَضِي الرُّجُوع وَلَا هُوَ ذَاكر للدليل الأول، فَهَذَا يلْزمه أَن يُعِيد الِاجْتِهَاد ثَانِيًا، فَإِن وَافق مُقْتَضَاهُ الأول فَظَاهر، وَإِن خَالفه عمل بِالثَّانِي.
وَأما المستفتي إِذا أفتاه الْمُفْتِي بِحكم ثمَّ تَجَدَّدَتْ الْوَاقِعَة، وَقُلْنَا إِن الْمُجْتَهد يُعِيد اجْتِهَاده، يجب على السَّائِل أَن يُعِيد السُّؤَال؛ لِأَنَّهُ قد يتَغَيَّر نظر الْمُفْتِي وَهَذَا الصَّحِيح، لَكِن مَحل الْخلاف إِذا عرف المستفتي أَن جَوَاب الْمُفْتِي مُسْتَند إِلَى الرَّأْي كالقياس أَو شكّ فِي ذَلِك، وَالْغَرَض أَن الْمُقَلّد حَيّ، فَإِن عرف استناد الْجَواب إِلَى نَص أَو إِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَة السُّؤَال ثَانِيًا قطعا، وَكَذَا لَو كَانَ الْمُقَلّد مَيتا.(8/4058)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَعبد الْوَهَّاب وَجمع، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن برهَان: لَا يجوز خلو عصر عَن مُجْتَهد، وَاخْتَارَهُ ابْن دَقِيق الْعِيد مَا لم يتداع الزَّمَان بِنَقْض الْقَوَاعِد، وَقَالَ الْأَكْثَر: يجوز، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن قَول أَصْحَابنَا: مَعَ بَقَاء الْعلمَاء فَلَا اخْتِلَاف إِذا، وَاخْتَارَ التَّاج السُّبْكِيّ: أَنه لم يَقع} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد عِنْد أَصْحَابنَا وَطَوَائِف.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: ذكره أَكثر من تكلم فِي الْأُصُول فِي مسَائِل الْإِجْمَاع،(8/4059)
وَلم يذكر ابْن عقيل خِلَافه إِلَّا عَن بعض الْمُحدثين.
وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَجمع مِنْهُم، وَمن غَيرهم.(8/4060)
قَالَ الْكرْمَانِي فِي " شرح البُخَارِيّ " فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين " إِلَى آخِره.
(قَالَ ابْن بطال: لِأَن أمته آخر الْأُمَم وَعَلَيْهَا تقوم السَّاعَة، وَإِن ظَهرت أشراطها وَضعف الدّين فَلَا بُد أَن يبْقى من أمته من يقوم بِهِ.
قَالَ: فَإِن قيل: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يَقُول أحد: الله الله "، وَقَالَ - أَيْضا -: " لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس ".(8/4061)
قُلْنَا: هَذِه الْأَحَادِيث لَفظهَا على الْعُمُوم، وَالْمرَاد مِنْهَا الْخُصُوص، فَمَعْنَاه: لَا تقوم على أحد يوحد الله إِلَّا بِموضع كَذَا؛ إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ الَّتِي توَحد الله إِلَّا بِموضع كَذَا، فَإِن بِهِ طَائِفَة قَائِمَة على الْحق، وَلَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس بِموضع كَذَا.
إِذْ لَا يجوز أَن تكون الطَّائِفَة الْقَائِمَة بِالْحَقِّ الَّتِي توَحد الله هِيَ شرار الْخلق.
وَقد جَاءَ ذَلِك مُبينًا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ، أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق، لَا يضرهم من خالفهم "، قيل: وَأَيْنَ هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " بِبَيْت الْمُقَدّس، أَو أكناف بَيت الْمُقَدّس ") . انْتهى.(8/4062)
فَاخْتَارَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَاخْتَارَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان " مَذْهَب الْحَنَابِلَة، وَكَذَا فِي أول " شرح الْإِلْمَام "، بل أَشَارَ إِلَى ذَلِك إِمَام(8/4063)
الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان "، وَكَذَا ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط "، لَكِن كَلَامهم مُحْتَمل الْحمل على عمَارَة الْوُجُود بالعلماء لَا على خُصُوص الْمُجْتَهدين) انْتهى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (قَالَ فِي " شرح العنوان ": الْمُخْتَار عدم خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد، لَكِن إِلَى الْحَد الَّذِي تنْتَقض بِهِ الْقَوَاعِد بِسَبَب زَوَال الدُّنْيَا فِي آخر الزَّمَان.
وَيُوَافِقهُ قَوْله فِي " شرح خطْبَة الْإِلْمَام ": وَالْأَرْض لَا تَخْلُو من قَائِم لله بِالْحجَّةِ وَالْأمة الشَّرِيفَة لَا بُد لَهَا من سالك [إِلَى الْحق] إِلَى أَن يَأْتِي أَمر الله فِي أَشْرَاط السَّاعَة الْكُبْرَى وتتابع بعده مَا لَا يبْقى مَعَه إِلَّا قدوم الْأُخْرَى) انْتهى.(8/4064)
وَاخْتَارَ صَاحب " جمع الْجَوَامِع ": جَوَاز ذَلِك إِلَّا أَنه لم يَقع.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد عِنْد جمَاعَة، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَار؛ لِأَنَّهُ لَو امْتنع لَكَانَ بِغَيْرِهِ، وَالْأَصْل عَدمه.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " إِن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه، وَلَكِن يقبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا، فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم، فضلوا وأضلوا ".(8/4065)
اسْتدلَّ للْأولِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق ".
رد: الْخَبَر الأول أدل على الْمَقْصُود، وَلَو تَعَارضا سلم الأول.
وَأَيْضًا: التفقه فرض كِفَايَة، فَفِي تَركه اتِّفَاق الْأَمر على بَاطِل.
رد: مَنعه الْآمِدِيّ إِن أمكن تَقْلِيد الْعَصْر السَّابِق، ثمَّ فرض عِنْد إِمْكَانه، فَإِذا مَاتَ الْعلمَاء لم يُمكن.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا مُرَاد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، فَلَا اخْتِلَاف لقَوْله: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يبْقى فِي الأَرْض من يَقُول: الله الله "، وَقَوله: " إِن الله يبْعَث ريحًا، فَلَا تدع أحدا فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان إِلَّا قَبضته " رَوَاهُمَا مُسلم.
وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد عَن عمرَان مَرْفُوعا: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي يُقَاتلُون(8/4066)
على الْحق، ظَاهِرين على من ناوأهم، حَتَّى يُقَاتل آخِرهم الدَّجَّال ".
وَأما قَوْله فِي " التَّمْهِيد ": قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَخْلُو عصر من حجَّة لله "، وَذكره القَاضِي أَيْضا.
وَقَوله: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يردوا عَليّ " فَلَا يَصح.(8/4067)
قَوْله: {قَالَ ابْن حمدَان وَالنَّوَوِيّ: عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق من زمن طَوِيل} .
قَالَ ابْن حمدَان: " وَمن زمن طَوِيل عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق، مَعَ أَنه الْآن أيسر مِنْهُ فِي الزَّمن الأول؛ لِأَن الحَدِيث وَالْفِقْه قد دونا، وَكَذَا مَا يتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ من الْآيَات، والْآثَار، وأصول الْفِقْه، والعربية وَغير ذَلِك، لَكِن الهمم قَاصِرَة، والرغبات فاترة، ونار الْجد والحذر خامدة، وَعين الخشية وَالْخَوْف جامدة، اكْتِفَاء بالتقليد واستغناء من التَّعَب الوكيد، وهربا من الأثقال وأربا، فِي تمشية الْحَال، وبلوغ الآمال وَلَو بِأَقَلّ الْأَعْمَال ".
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب ": فقد الْآن الْمُجْتَهد الْمُطلق وَمن دهر طَوِيل، نَقله عَنهُ ابْن السُّيُوطِيّ فِي " شرح منظومته جمع الْجَوَامِع ".(8/4068)
وَقَالَ الرَّافِعِيّ: (لِأَن النَّاس الْيَوْم كالمجمعين أَن لَا مُجْتَهد الْيَوْم، نَقله الأردبيلي فِي " الْأَنْوَار " فِي بَاب أدب الْقَضَاء) .
قَالَ ابْن مُفْلِح لما نقل كَلَامهمَا: وَفِيه نظر.
وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ وجد من الْمُجْتَهدين بعد ذَلِك جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية، وَنَحْوه، وَمِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين(8/4069)
السُّبْكِيّ، والبلقيني، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
قَوْله: {أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم لَا يُفْتِي إِلَّا مُجْتَهد، وَمَعْنَاهُ عَن أَحْمد، وَجوزهُ فِي " التَّرْغِيب وَالتَّلْخِيص " لمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه ضَرُورَة، وَالْأَكْثَر: بلَى إِن كَانَ مطلعا على المأخذ أَهلا للنَّظَر، والقفال: من حفظ مَذْهَب إِمَام أفتى، والجويني يُفْتِي المتبحر فِيهِ، وَابْن حمدَان عِنْد عدم مُجْتَهد، وَظَاهر كَلَام أَحْمد جَوَاز تَقْلِيد أهل الحَدِيث وَلَعَلَّه للْحَاجة، وَظَاهر كَلَام ابْن شاقلا الْجَوَاز، وَقَالَهُ ابْن بشار، وَاخْتَارَهُ فِي " الْإِيضَاح "، و " الرِّعَايَة "، و " الْحَاوِي " كالحنفية، وَرجح فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، فَيكون مخبرا لَا مفتيا، ذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل والموفق وَغَيرهم، فيخبر عَن معِين وَيعْمل بِخَبَرِهِ لَا بفتياه، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَو عرف حكم حَادِثَة بدليلها لم يفت فِي الْأَصَح، وَقيل: بلَى إِن كَانَ من كتاب أَو سنة} .(8/4070)
ذكر القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيرهم، بل جَمَاهِير الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن، وَجَمَاعَة: لَا يجوز أَن يُفْتِي إِلَّا مُجْتَهد.
قَالَ الْحَلِيمِيّ وَالرُّويَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: لَا يُفْتِي مقلد.
قَالَ القَاضِي: وَمَعْنَاهُ عَن أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ: " يَنْبَغِي للمفتي أَن يكون عَالما بِوُجُوه الْقُرْآن والأسانيد الصَّحِيحَة وَالسّنَن "، وَقَالَ: " يَنْبَغِي أَن يكون عَالما بقول من تقدم ".(8/4071)
وَقَالَ أَيْضا: " لَا يجوز الِاخْتِيَار إِلَّا لعام بِكِتَاب وَسنة ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الِاخْتِيَار تَرْجِيح قَول، وَقد يُفْتِي بالتقليد. انْتهى.
وَقَالَ صَاحب " التَّلْخِيص وَالتَّرْغِيب ": يجوز للمجتهد فِي مَذْهَب إِمَامه لأجل الضَّرُورَة.
قَالَ فِي " التَّلْخِيص ": [عز] الْمُجْتَهد، والمقلد لَا يَصح قَضَاؤُهُ، فَيبقى الْمُجْتَهد فِي مَذْهَب إِمَام ألجأت الضَّرُورَة إِلَى الِاكْتِفَاء بِهِ وَقد عز.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ للْإِجْمَاع على قبُوله، فَيدل أَنه لَيْسَ كعامي، ولبعده عَن الْخَطَأ.
وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: يجوز لغير الْمُجْتَهد أَن يُفْتِي إِن كَانَ مطلعا على المأخذ أَهلا للنَّظَر.(8/4072)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " يجوز أَن يُفْتِي بِمذهب الْمُجْتَهد من عرف مذْهبه، وَقَامَ بتفريع الْفِقْه على أُصُوله، وَقدر على التَّرْجِيح فِي مَذْهَب ذَلِك الْمُجْتَهد، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يصير كإفتاء الْمُجْتَهد بِنَفسِهِ، فالمجتهد الْمُقدم فِي مَذْهَب إِمَامه وَهُوَ: من يسْتَقلّ بتقرير مذْهبه، وَيعرف مآخذه من أدلته التفصيلية، بِحَيْثُ لَو انْفَرد لقرره كَذَلِك، فَهَذَا يُفْتِي بذلك لعلمه بالمأخذ، وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الْوُجُوه.
ودونهم فِي الرُّتْبَة: أَن يكون فَقِيه النَّفس حَافِظًا للْمَذْهَب قَادِرًا على التَّفْرِيع وَالتَّرْجِيح، فَهَل لَهُ الْإِفْتَاء؟ بذلك أَقْوَال:
أَصَحهَا: يجوز.
وَالثَّانِي: الْمَنْع.
[وَالثَّالِث] : عِنْد عدم الْمُجْتَهد.(8/4073)
ودونهم من يحفظ وَلَيْسَ قَادِرًا على التَّفْرِيع وَالتَّرْجِيح، فَقيل: يجوز لَهُ الْإِفْتَاء؛ لِأَنَّهُ ناقل، [وَيَنْبَغِي] أَن يكون هَذَا [رَاجعا] لمحل الضَّرُورَة، لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَزْمَان " انْتهى.
قَالَ الْقفال الْمروزِي من الشَّافِعِيَّة: من حفظ مَذْهَب إِمَام أفتى بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ: يُفْتِي المتبحر فِيهِ.
وَذكر الْمَاوَرْدِيّ مِنْهُم فِي عَامي عرف حكم حَادِثَة بدليلها يُفْتِي، أَو إِن كَانَ من كتاب أَو سنة، أَو الْمَنْع مُطلقًا وَهُوَ أصح، فِيهِ أوجه. انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": " فَمن أفتى وَلَيْسَ على صفة من(8/4074)
الصِّفَات الْمَذْكُورَة من غير ضَرُورَة: فَهُوَ عَاص آثم ".
وَظَاهر كَلَام أَحْمد تَقْلِيد أهل الحَدِيث.
قَالَ القَاضِي: سَأَلَ عبد الله الإِمَام أَحْمد فِيمَن [فِي] مصره أَصْحَاب رَأْي وَأَصْحَاب حَدِيث لَا يعْرفُونَ الصَّحِيح، لمن يسْأَل؟ قَالَ: أَصْحَاب الحَدِيث.
قَالَ القَاضِي: فَظَاهره تقليدهم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَلم يتأوله، وَظَاهره أَنه جعلهَا على رِوَايَتَيْنِ، قَالَ: وَقد يُقَال للْحَاجة.
قلت: وَهَذَا أولى.(8/4075)
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": ظَاهر رِوَايَة عبد الله أَن صَاحب الحَدِيث أَحَق بالفتيا، وَحملهَا على أَنهم فُقَهَاء، أَو أَن السُّؤَال يرجع إِلَى الرِّوَايَة.
ثمَّ ذكر القَاضِي قَول أَحْمد: " لَا يكون فَقِيها حَتَّى يحفظ أَرْبَعمِائَة ألف حَدِيث ".
وَحمله هُوَ وَغَيره على الْمُبَالغَة وَالِاحْتِيَاط.(8/4076)
وَلِهَذَا قَالَ أَحْمد: " الْأُصُول الَّتِي يَدُور عَلَيْهَا الْعلم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْبَغِي أَن تكون ألفا أَو ألفا وَمِائَتَيْنِ ".
وَذكر القَاضِي أَن ابْن شاقلا اعْترض عَلَيْهِ بِهِ، فَقَالَ: " إِن كنت لَا أحفظ، فَإِنِّي أُفْتِي بقول من يحفظ أَكثر مِنْهُ ".
قَالَ القَاضِي: لَا يَقْتَضِي هَذَا أَنه كَانَ يُقَلّد أَحْمد لمَنعه الْفتيا بِلَا علم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: ظَاهره تَقْلِيده، إِلَّا أَن يحمل على أَخذه طرق الْعلم مِنْهُ.
ثمَّ ذكر عَن ابْن بطة: " لَا يجوز أَن يُفْتِي بِمَا يسمع من مفتي ".(8/4077)
وروى عَن ابْن بشار: " مَا أعيب على رجل حفظ لِأَحْمَد خمس مسَائِل، اسْتندَ إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد يُفْتِي بهَا ".
قَالَ القَاضِي: هَذَا مِنْهُ مُبَالغَة فِي فَضله.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ صَرِيح بالإفتاء بتقليد أَحْمد، قَالَ: فَصَارَ لِأَصْحَابِنَا فِيهَا قَولَانِ، قَالَ: فَإِن لم يجز لحَاجَة مُطلقًا، وَإِلَّا فالأقوال ثَلَاثَة.
وَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: من لم يجوز إِلَّا تَوْلِيَة قَاض مُجْتَهد، إِنَّمَا عَنى قبل اسْتِقْرَار هَذِه الْمذَاهب وانحصار الْحق فيهم.(8/4078)
وَقَالَ: الْمُجْتَهد الْيَوْم لَا يتَصَوَّر اجْتِهَاده فِي هَذِه الْمسَائِل الَّتِي حررت فِي الْمذَاهب؛ لِأَن الْمُتَقَدِّمين فرغوا مِنْهَا، فَلَا يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَّا إِلَى أحدهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: جوز بعض الْعلمَاء الْإِفْتَاء بالتقليد.
وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن بشار كَمَا تقدم، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفرج فِي " الْإِيضَاح "، وَصَاحب " الرِّعَايَة " و " الْحَاوِي " من أَصْحَابنَا، كالحنفية؛ لِأَنَّهُ ناقل كالراوي.(8/4079)
رد: لَيْسَ إِذا مفتيا بل مخبر، ذكره جمَاعَة مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والموفق، وَزَاد - وَمَعْنَاهُ لغيره - فَيحْتَاج بِخَبَر عَن معِين مُجْتَهد، فَيعْمل بِخَبَرِهِ لَا بفتياه.
وَتقدم كَلَام الْمَاوَرْدِيّ، والقفال، وَرجح قَول الْحَنَفِيَّة وَمن تَابعهمْ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، بل عمل النَّاس الْمُفْتِينَ عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَله تَقْلِيد مفضول عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر، وَقيل: إِن اعتقده فَاضلا أَو مُسَاوِيا، وَعند ابْن عقيل، وَابْن سُرَيج، والقفال، والسمعاني: يلْزمه الِاجْتِهَاد فَيقدم الْأَرْجَح، وَمَعْنَاهُ للخرقي وَغَيره، وَلأَحْمَد: رِوَايَتَانِ} .(8/4080)
الأول: قَول أَكثر أَصْحَابنَا مِنْهُم القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَصَاحب " الرَّوْضَة "، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَهُ تَقْلِيده إِن اعتقده فَاضلا أَو مُسَاوِيا، وَاخْتَارَهُ التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَجمع.(8/4081)
وَوَجهه: أَنه إِذا اعتقده مفضولا فَقَوله عِنْده مَرْجُوح، وَلَيْسَ من الْقَوَاعِد أَن يعدل عَن الرَّاجِح إِلَى الْمَرْجُوح.
وَقَالَ ابْن عقيل: يلْزمه الِاجْتِهَاد، فَيقدم الْأَرْجَح.
وَمَعْنَاهُ: قَول الْخرقِيّ، والموفق فِي " الْمقنع "، وَغَيرهمَا، فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة.
وَقَالَهُ ابْن سُرَيج، والقفال، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَابْن السَّمْعَانِيّ،(8/4082)
والباقلاني، وَلأَحْمَد رِوَايَتَانِ، كَالْأولِ، وَهَذَا.
اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَن الْمَفْضُول من الصَّحَابَة وَالسَّلَف كَانَ يُفْتِي مَعَ وجود الْفَاضِل مَعَ الاشتهار والتكرار، وَلم يُنكر ذَلِك أحد، فَكَانَ إِجْمَاعًا على جَوَاز(8/4083)
استفتائه مَعَ الْقُدْرَة على استفتاء الْفَاضِل، وَقَالَ تَعَالَى: {فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، وَفِيهِمْ الْأَفْضَل من غَيره.
وَأَيْضًا: الْعَاميّ لَا يُمكنهُ التَّرْجِيح لقصوره، وَلَو كلف بذلك لَكَانَ تكليفا بِضَرْب من الِاجْتِهَاد.
لَكِن زيف ابْن الْحَاجِب بِأَن ذَلِك يظْهر بِالتَّسَامُعِ وَرُجُوع الْعلمَاء إِلَيْهِ وَغَيره، لِكَثْرَة المستفتين وَتَقْدِيم الْعلمَاء لَهُ.
قَوْله: {أما لَو بَان لَهُ الْأَرْجَح لزمَه تَقْلِيده، وَتَقْدِيم أعلم على أورع فِي الْأَصَح فيهمَا، وَفِي " الرِّعَايَة " لَا يَكْفِيهِ من لَا تسكن نَفسه إِلَيْهِ} .
إِذا بَان لَهُ الْأَرْجَح مِنْهُمَا فَالْأَصَحّ أَنه يلْزمه تَقْلِيده، زَاد بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الشَّافِعِيَّة: فِي الْأَظْهر.
قَالَ الْغَزالِيّ: لَا يجوز تَقْلِيده غَيره.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا وَإِن كَانَ ظَاهرا فَفِيهِ نظر، لما ذكرنَا من سُؤال آحَاد الصَّحَابَة وَوُجُود أفاضلهم.(8/4084)
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد: إِن رجح دين وَاحِد قدمه فِي أحد الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الآخر: لَا؛ لِأَن الْعلمَاء لَا تنكر على الْعَاميّ تَركه.
وَذكر - أَيْضا - فِي " التَّمْهِيد " فِي تَقْدِيم الأدين على الأعلم، وَعَكسه مذهبين.
وَلنَا وَجْهَان، قيل لِأَحْمَد: من نسْأَل بعْدك؟ قَالَ: " عبد الْوَهَّاب الْوراق، فَإِنَّهُ صَالح، مثله موفق للحق ".
قَالَ فِي " الرِّعَايَة ": وَلَا يَكْفِيهِ من لم تسكن نَفسه إِلَيْهِ، فَلَا بُد من سُكُون النَّفس والطمأنينة بِهِ، وَقَالَ: يقدم الْعَالم على الْوَرع الأدين؛ لِأَنَّهُ(8/4085)
لَا تعلق بمسائل الِاجْتِهَاد بالورع وَالدّين، وَلِهَذَا يقدم فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة؛ وَلِأَن الظَّن الْحَاصِل بقوله أَكثر، وَقيل بالتساوي.
قَوْله: {قَوْله: فَإِن اسْتَووا تخير عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَلَا يلْزم التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه، والامتناع من الِانْتِقَال عِنْد الْأَكْثَر، فَيتَخَيَّر، وَقيل: بلَى، وَفِي " الرِّعَايَة " هُوَ الْأَشْهر فَلَا يُقَلّد غير أَهله، وَقَالَ الْقَدُورِيّ: إِذا ظَنّه أقوى، وَفِي " آدَاب الْمُفْتِي " يجْتَهد فِي أصح الْمذَاهب فيتبعه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِذا اسْتَووا تخير ذكره أَبُو الْخطاب، وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة: هَل يلْزم(8/4086)
التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه؟ على وَجْهَيْن:
أشهرهما: لَا، كجمهور الْعلمَاء فَيتَخَيَّر.
وَالثَّانِي: يلْزمه.
وَاخْتِيَار الْآمِدِيّ منع الِانْتِقَال فِيمَا عمل بِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه: طَاعَة غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كل أمره وَنَهْيه وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع، وَتوقف أَيْضا فِي جَوَازه.
وَقَالَ أَيْضا: إِن خَالفه لقُوَّة الدَّلِيل، أَو زِيَادَة علم، أَو تقوى، فقد(8/4087)
أحسن، وَلم يقْدَح فِي عَدَالَته بِلَا نزاع، وَقَالَ أَيْضا: بل يجب فِي هَذِه الْحَال، وَأَنه نَص أَحْمد.
وَكَذَا قَالَ الْقَدُورِيّ الْحَنَفِيّ: مَا ظَنّه أقوى، عَلَيْهِ تَقْلِيده فِيهِ، وَله الْإِفْتَاء بِهِ حاكيا مَذْهَب من قَلّدهُ.
وَذكر ابْن هُبَيْرَة من مَكَائِد الشَّيْطَان: أَن يُقيم أوثانا فِي الْمَعْنى تعبد من دون الله، مثل: أَن يتَبَيَّن الْحق، فَيَقُول: لَيْسَ هَذَا مَذْهَبنَا، تقليدا لمعظم عِنْده قد قدمه على الْحق.
وَقَالَ ابْن حزم: أَجمعُوا أَنه لَا يحل لحَاكم وَلَا لمفت تَقْلِيد رجل، فَلَا يحكم وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقوله ".
وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ أَنه لَا يلْزمه، على مَا يَأْتِي.(8/4088)
وَقيل: يلْزمه التمذهب بِمذهب.
قَالَ فِي " الرِّعَايَة ": هَذَا الْأَشْهر فَلَا يُقَلّد غير أَهله.
وَقَالَ فِي " آدَاب الْمُفْتِي ": يجْتَهد فِي أصح الْمذَاهب فيتبعه. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة - وَهُوَ الكيا - فَإِنَّهُ قطع بِأَنَّهُ يلْزمه التمذهب.
فعلى هَذَا يلْزمه أَن يخْتَار مذهبا يقلده فِي كل شَيْء، وَلَيْسَ لَهُ التمذهب لمُجَرّد التشهي.
قَالَ النَّوَوِيّ: " هَذَا كَلَام الْأَصْحَاب وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ أَنه لَا يلْزمه التمذهب بِمذهب، بل يستفتي من شَاءَ، لَكِن [من] غير تلقط للرخص، وَلَعَلَّ من مَنعه لم يَثِق بِعَدَمِ تلقطه " انْتهى.(8/4089)
قَوْله: {وَلَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص، وَحكي إِجْمَاعًا، وَخَالف ابْن هُبَيْرَة، ويفسق عِنْد أَحْمد وَغَيره، وَحكي عَنهُ: لَا، وَحمل القَاضِي الأول على غير متأول أَو مقلد، وَالْحَنَفِيَّة كَالْقَاضِي: لَهُ أَن يتمذهب بِمذهب فَيَأْخُذ بِهِ فِي الْأَصَح} .
يحرم على الْعَاميّ تتبع الرُّخص، وَهُوَ: أَنه كلما وجد رخصَة فِي مَذْهَب عمل بهَا وَلَا يعْمل [بغَيْرهَا فِي ذَلِك الْمَذْهَب] ، بل هَذِه الفعلة زندقة من فاعلها، كَأَن الْقَائِل بِهَذِهِ الرُّخْصَة فِي هَذَا الْمَذْهَب لَا يَقُول بِالرُّخْصَةِ بِتِلْكَ الرُّخْصَة الْأُخْرَى.
وَمِمَّا يحْكى أَن بعض النَّاس تتبع رخص الْمذَاهب وأقوال الْعلمَاء وَجَمعهَا فِي كتاب، وَذهب بهَا إِلَى بعض الْخُلَفَاء، فعرضها على بعض الْعلمَاء الْأَعْيَان، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: " يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذِه زندقة فِي الدّين، وَلَا يَقُول بِمَجْمُوع ذَلِك أحد من الْمُسلمين ".(8/4090)
قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص إِجْمَاعًا.
وَنقل عَن إِسْحَاق الْمروزِي جَوَازه، لَكِن الَّذِي فِي " فَتَاوَى الحناطي " عَنهُ أَنه قَالَ: من تتبع الرُّخص فسق، وَأَن [ابْن أبي هُرَيْرَة] قَالَ: لَا يفسق.(8/4091)
وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَنهُ فِي كتاب " الْقَضَاء ".
وَحكى الْجَوَاز عَن الْمروزِي فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره.
وَقَالَ الْمحلي فِي " شَرحه ": (وَالظَّاهِر أَن هَذَا النَّقْل عَنهُ سَهْو، لما فِي " الرَّوْضَة "، وَأَصلهَا عَن الحناطي وَغَيره عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي: أَنه يفسق بذلك، وَعَن ابْن أبي هُرَيْرَة: أَنه لَا يفسق) .
وَلذَلِك قطع بِهِ السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع ".(8/4092)
وَكنت قد نقلت ذَلِك عَن الْمروزِي فأصلحته، وذكرته عَن ابْن أبي هُرَيْرَة لذَلِك، وَيحمل أَن يكون للمروزي قَولَانِ.
فعلى الأول يفسق عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَيحيى الْقطَّان، وَغَيرهمَا من الْعلمَاء، وَلَكِن حمله القَاضِي على غير متأول أَو مقلد.(8/4093)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفِيه نظر، وَذكر بعض أَصْحَابنَا فِي فسق من أَخذ بالرخص رِوَايَتَيْنِ، وَإِن قوي دَلِيل، أَو كَانَ عاميا فَلَا، كَذَا قَالَ، وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: كَالْقَاضِي أبي يعلى: إِلَّا أَن يتمذهب بِمذهب فَيَأْخُذ بِهِ فِي الصَّحِيح ".(8/4094)
(قَوْله: {فصل} )
{يجب أَن يعْمل الْمُفْتِي بِمُوجب اعْتِقَاده فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ إِجْمَاعًا، حَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا، وَهُوَ وَاضح، وَلَو أفتاه وَاحِد وَعمل بِهِ لزمَه قطعا، وَإِن لم يعْمل لزمَه بالتزامه، وَفِي " الرِّعَايَة ": مَعَ ظَنّه أَنه حق، [وَقيل: بِالظَّنِّ] وَحده كالسمعاني، وَابْن حمدَان أَيْضا، وَقيل: بِالشُّرُوعِ، وَابْن الْبَنَّا: بالإفتاء كَمَا لَو لم يجد غَيره، أَو حكم عَلَيْهِ بِهِ} .
لَو أفتى الْمُقَلّد مفت وَاحِد وَعمل بِهِ الْمُقَلّد لزمَه قطعا، وَلَيْسَ لَهُ(8/4095)
الرُّجُوع عَنهُ إِلَى فَتْوَى غَيره فِي تِلْكَ الْحَادِثَة بِعَينهَا إِجْمَاعًا، نَقله ابْن الْحَاجِب، والهندي، وَغَيرهمَا.
وَإِن لم يعْمل بِهِ فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يلْزمه بالتزامه.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": هَذَا الْأَشْهر.
وَقيل: يلْزمه بالتزامه إِذا ظَنّه أَنه حق، فعلى هَذَا لَا بُد من شَيْئَيْنِ: الْتِزَامه، وظنه أَنه حق، اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي ".
وَقيل: يلْزمه إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَأَنه حق، وَهَذَا أولى الْأَوْجه. انْتهى.(8/4096)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: " وَيلْزمهُ إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَحَقِيقَته وَهَذَا أولى الْأَوْجه ".
قَالَ ابْن الصّلاح: " وَلم أجد هَذَا لغيره ".
وَقيل: يلْزمه بِالشُّرُوعِ، فَإِن شرع لزمَه، وَإِن لم يشرع شاع سُؤال غَيره.
وَقَالَ ابْن الْبَنَّا بالإفتاء لمُجَرّد مَا أفتاه لزمَه الْعَمَل بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقه كالدليل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد.
قَوْله: {كَمَا لَو لم يجد غَيره، أَو حكم عَلَيْهِ بِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِن لم يجد مفتيا آخر لزمَه، كَمَا [لَو] حكم عَلَيْهِ بِهِ حَاكم ".
وَقطع بِهِ وَلم يحك فِيهِ خلافًا.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَالَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد أَنه إِن لم يجد سواهُ تعين عَلَيْهِ الْأَخْذ بفتياه، وَلَا يتَوَقَّف ذَلِك على الْتِزَامه، وَلَا سُكُون نَفسه إِلَى صِحَّته،(8/4097)
وَإِن وجد غَيره، فَإِن استبان أَن الَّذِي أفتاه هُوَ الأعلم والأوثق لزمَه، بِنَاء على تَقْلِيد الْأَفْضَل، وَإِن لم يستبن لم يلْزمه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة ": " الْمُخْتَار مَا نَقله الْخَطِيب وَغَيره إِن لم يكن هُنَاكَ مفت آخر لزمَه بِمُجَرَّد فتياه.
وَإِن لم تسكن نَفسه، فَإِن كَانَ هُنَاكَ آخر لم يلْزمه بِمُجَرَّد فتياه، إِذْ لَهُ أَن يسْأَل غَيره، وَحِينَئِذٍ فقد يُخَالِفهُ، فَيَجِيء فِيهِ الْخلاف فِي اخْتِلَاف الْمُفْتِينَ " الْآتِيَة بعد هَذِه.
قَوْله: {وَإِن اخْتلف عَلَيْهِ فتيا اثْنَيْنِ تخير عِنْد القَاضِي وَالْمجد وَأبي الْخطاب، وَذكره ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَقيل: يَأْخُذ بالأفضل علما ودينا - فَإِن اسْتَويَا تخير، اخْتَارَهُ الْمُوفق وَغَيره، وَقيل: بالأغلظ، وَقيل: بالأخف، وَقيل: بأرجحهما دَلِيلا، وَقيل: يسْأَل آخر} .
إِذا اخْتلف عَلَيْهِ فتيا مفتيين: تخير فِي الْأَخْذ، على الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي وَالْمجد وَأَبُو الْخطاب، وَذكره ظَاهر كَلَام أَحْمد فَإِنَّهُ سُئِلَ(8/4098)
عَن مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق؟
فَقَالَ: " إِن فعل حنث، فَقَالَ السَّائِل: إِن أفتاني إِنْسَان لَا أحنث؟ قَالَ: تعرف حَلقَة الْمَدَنِيين؟ قلت: فَإِن أفتوني حل؟ قَالَ: نعم ".
وَقيل: يَأْخُذ بقول الْأَفْضَل علما ودينا، فَإِن اسْتَويَا تخير، هَذَا اخْتِيَار الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، لَا التَّخْيِير كَمَا ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، لكنه علل التَّخْيِير، وَظَاهره أَنه مَال إِلَيْهِ.
وَقيل: يَأْخُذ بقول الأغلظ والأثقل، ذكره ابْن الْبَنَّا.
وَقيل: يَأْخُذ بالأخف، اخْتَارَهُ عبد الْجَبَّار.
وَقيل: يَأْخُذ بأرجحهما دَلِيلا، ذكره ابْن الْبَنَّا أَيْضا. وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا هُوَ الصَّحِيح.
[قَالَ] فِي " أَعْلَام الموقعين ": " يجب عَلَيْهِ أَن يتحَرَّى ويبحث عَن الرَّاجِح بِحَسبِهِ، وَهُوَ أرجح الْمذَاهب السَّبْعَة " انْتهى.
وَقيل: يسْأَل مفتيا آخر.(8/4099)
قَالَ الطوفي وَغَيره: " وَيحْتَمل أَن يسقطا وَيرجع إِلَى غَيرهمَا إِن وجد، وَإِلَّا فَإلَى مَا قبل السّمع " انْتهى.
قَوْله: {لَهُ رد الْفتيا وَفِي الْبَلَد غَيره أهل لَهَا شرعا، خلافًا للحليمي، وَإِلَّا لزمَه، وَلَا يلْزم جَوَاب مَا لم يَقع، وَمَا لم يحْتَمل السَّائِل، وَمَا لَا يَنْفَعهُ، وَقَالَ ابْن عقيل: يحرم إِلْقَاء علم لَا يحْتَملهُ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَا يَنْبَغِي} .
لَهُ رد الْفتيا إِذا كَانَ فِي بَلَده غَيره من الْمُفْتِينَ وَهُوَ أهل للفتيا شرعا، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب، لِأَنَّهُ فِي حَقه سنة.
وَقَالَ الْحَلِيمِيّ الشَّافِعِي: لَيْسَ لَهُ رده وَلَو كَانَ فِي الْبَلَد غَيره؛ لِأَنَّهُ تعين عَلَيْهِ بذلك.
وَإِن لم يكن فِي الْبَلَد لزمَه الْفتيا قطعا؛ لِأَنَّهُ فرض كِفَايَة فِي حَقه ذكره أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَغَيرهمَا.(8/4100)
وَلَا يلْزمه مَا لم يَقع وَمَا لم يحْتَملهُ السَّائِل وَلَا يَنْفَعهُ.
وَقد سُئِلَ الإِمَام أَحْمد عَن يَأْجُوج وَمَأْجُوج: أمسلمون هم؟ فَقَالَ للسَّائِل: " أحكمت الْعلم حَتَّى تسْأَل عَن ذَا! ".
وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة اللّعان، فَقَالَ: " سل - رَحِمك الله - عَمَّا ابْتليت بِهِ ".
وَسَأَلَهُ مهنا عَن مَسْأَلَة فَغَضب، وَقَالَ: " خُذ وَيحك فِيمَا ينْتَفع بِهِ، وَإِيَّاك وَهَذِه الْمسَائِل المحدثة، وَخذ فِيمَا فِيهِ حَدِيث ".
وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة، فَقَالَ: " لَيْت أَنا نحسن مَا جَاءَ بِهِ فِيهِ الْأَثر ".
وَلأَحْمَد عَن ابْن عمر: " لَا تسألوا عَمَّا لم يكن، فَإِن عمر نهى [عَنهُ] ".(8/4101)
وَله أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ - عَن الصَّحَابَة -: " مَا كَانُوا يسْأَلُون إِلَّا عَمَّا يَنْفَعهُمْ ".
وَاحْتج الشَّافِعِي على كَرَاهَة السُّؤَال عَن الشَّيْء قبل وُقُوعه بقوله تَعَالَى: {لَا تسئلوا عَن أَشْيَاء} الْآيَة [الْمَائِدَة: 101] .
وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ينْهَى عَن قيل وَقَالَ، وإضاعة المَال، وَكَثْرَة السُّؤَال ".
وَفِي لفظ: " إِن الله كره لكم ذَلِك "، مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
وَفِي حَدِيث اللّعان: " وَكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمسَائِل وعابها ".(8/4102)
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: كره السُّؤَال عَن الْمَسْأَلَة قبل كَونهَا إِذا لم يكن فِيهَا كتاب أَو سنة، لِأَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يُبَاح ضَرُورَة.
ثمَّ روى عَن معَاذ: " أَيهَا النَّاس لَا تعجلوا بالبلاء قبل نُزُوله ".(8/4103)
وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن - مُرْسلا - مَعْنَاهُ.(8/4104)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس لعكرمة: من سَأَلَك عَمَّا لَا يعنيه فَلَا تفته.
وَسَأَلَ الْمَرْوذِيّ أَحْمد عَن شَيْء من أَمر الْعدْل، فَقَالَ: " لَا تسْأَل عَن هَذَا فَإنَّك لَا تُدْرِكهُ ".
وَذكر ابْن عقيل: أَنه يحرم إِلْقَاء علم لَا يحْتَملهُ السَّامع.
قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَليّ: " حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ، أتريدون أَن يكذب الله وَرَسُوله ".
وَفِي مُقَدّمَة مُسلم عَن ابْن مَسْعُود: " مَا أَنْت بمحدث قوما حَدِيثا لَا تبلغه عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ فتْنَة لبَعْضهِم ".(8/4105)
وَعَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: " نهى عَن الغلوطات "، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد.
وَقيل: بِفَتْح الْغَيْن، وَاحِدهَا: غلوطة، وَهِي الْمسَائِل الَّتِي يغالط بهَا.
وَقيل: بضَمهَا، وَأَصلهَا: الأغلوطات، وَنهى عَنْهَا السّلف.
قَوْله: {تَنْبِيه: يَنْبَغِي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي، إِلَى آخِره} .
هَذِه مسَائِل تتَعَلَّق بأدب المستفتي والمفتي.(8/4106)
وَقد ذكر ذَلِك ابْن حمدَان فِي كِتَابه " آدَاب الْمُفْتِي "، وَأطَال وأجاد.
فَيَنْبَغِي للمستفتي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي، ويجله ويعظمه، فَلَا يَقُول لَهُ وَلَا يفعل مَا جرت عَادَة الْعَوام بِهِ، كإيماء بِيَدِهِ فِي وَجهه، وَمَا مَذْهَب إمامك فِي كَذَا؟ وَمَا تحفظ فِي كَذَا؟ أَو أفتاني غَيْرك أَو فلَان بِكَذَا أَو كَذَا، أَو كَذَا قلت أَنا، أَو وَقع لي، أَو إِن كَانَ جوابك مُوَافقا فَاكْتُبْ، وَإِلَّا فَلَا.
لَكِن إِن علم غَرَض السَّائِل فِي شَيْء لم يجز أَن يكْتب بِغَيْرِهِ، وَلَا يسْأَله فِي ضجر، أَو هم، أَو قيام وَنَحْوه، وَلَا يُطَالِبهُ بِالْحجَّةِ، هَذَا الصَّحِيح.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لَا يمْنَع مِنْهُ، وَيلْزمهُ ذكر دَلِيل قَطْعِيّ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " للعامي سُؤال الْمُفْتِي عَن مأخذه استرشادا، وَيلْزم الْعَام حِينَئِذٍ أَن يذكر لَهُ الدَّلِيل إِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، لَا الظني لافتقاره إِلَى مَا يقصر فهم الْعَاميّ عَنهُ " انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " المنثور ": من أَرَادَ كِتَابَة من فتيا أَو شَهَادَة لم يجز أَن يكبر خطه لتصرفه فِي ملك غَيره بِلَا إِذْنه وَلَا حَاجَة، كَمَا لَو أَبَاحَهُ قَمِيصه فَاسْتَعْملهُ فِيمَا يخرج عَن الْعَادة بِلَا حَاجَة.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " عُيُون الْمسَائِل " فِي الْفتيا وَالشَّهَادَة، وَلَا يجوز أَن(8/4107)
يُوسع الأسطر، وَلَا يكثر إِن أمكنه الِاخْتِصَار.
قلت: وَفِيه نظر لَا سِيمَا فِي الْفَتَاوَى، فَإِن الْعلمَاء لم يزَالُوا إِذا كتبُوا عَلَيْهَا أطنبوا وَزَادُوا على المُرَاد، بل كَانَ بَعضهم يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فيجيب فِيهَا بمجلد أَو أَكثر، وَقد وَقع هَذَا كثيرا للشَّيْخ تَقِيّ الدّين - رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ -.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ مَعَ قرينَة خلاف لنا.
يَعْنِي على جَوَاز ذَلِك -.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " فنونه ": لَا يجوز إِطْلَاق الْفتيا فِي اسْم مُشْتَرك إِجْمَاعًا، فَلَو سُئِلَ: أَيجوزُ الْأكل بعد طُلُوع الْفجْر؟ فَلَا بُد أَن يَقُول: يجوز بعد الْفجْر الأول لَا الثَّانِي.
قَالَ: وَمن هُنَا إرْسَال أبي حنفية من سَأَلَ أَبَا يُوسُف عَمَّن دفع ثوبا إِلَى قصار، فَقَصره وجحده: هَل لَهُ أُجْرَة إِن عَاد سلمه لرَبه؟ وَقَالَ: إِن قَالَ: نعم، أَو لَا، فقد أَخطَأ، فجَاء إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِن كَانَ قصره قبل جحوده: فَلهُ الْأُجْرَة، وَإِن كَانَ بعد جحوده: فَلَا أُجْرَة لَهُ؛ لِأَنَّهُ قصره لنَفسِهِ.(8/4108)
واختبر أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ أصحابا لَهُ فِي بيع رَطْل تمر برطل تمر، فأجازوا فخطأهم، فمنعوا فخطأهم، فخجلوا فَقَالَ: إِن تَسَاويا مَكِيلًا يجوز، فَهَذَا يُوضح خطأ الْمُطلق فِي كل مَا احْتمل التَّفْصِيل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَيتَوَجَّهُ عمل بعض أَصْحَابنَا بِظَاهِر) .
قَوْله: {فَائِدَة: قيل للْإِمَام أَحْمد: الرجل يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فأدله على إِنْسَان، هَل عَليّ شَيْء؟ قَالَ: إِن كُنَّا مُتبعا فَلَا بَأْس، وَلَا يُعجبنِي رَأْي أحد.
وَفِي " الْوَاضِح ": يسن إِعْلَامه إِن كَانَ أَهلا للرخصة كالتخلص من الرِّبَا وَالْخلْع [بعد] الْوُقُوع، وَذكره غَيره: يحرم الْخلْع حِيلَة} .(8/4109)
هَذِه الْمسَائِل مُتَعَلقَة بالتخلص مِمَّا يَقع فِيهِ الْإِنْسَان كالعامي، فَإِن فِي ذَلِك رَاحَة وخلاصا مِمَّا هُوَ أعظم مِمَّا وَقع فِيهِ.
وروى عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَات: فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن الرجل يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة فأدله على إِنْسَان، هَل عَليّ شَيْء؟ قَالَ: إِن كَانَ مُتبعا أَو معينا فَلَا بَأْس، وَلَا يُعجبنِي رَأْي أحد.
وَذكر ابْن عقيل فِي " واضحه ": أَنه يستجب إِعْلَام المستفتي بِمذهب غَيره، إِن كَانَ أَهلا للرخصة كطالب التَّخَلُّص من الرِّبَا، فيدله على من يرى التحيل للخلاص مِنْهُ، وَالْخلْع بعد وُقُوع الطَّلَاق. انْتهى.
وَلَا يسع النَّاس فِي هَذِه الْأَزْمِنَة غير هَذَا.
وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي " فروعه " فِي كتاب الطَّهَارَة عَن أَحْمد أَنهم جاؤوه بفتوى فَلم تكن على مذْهبه، فَقَالَ: عَلَيْكُم بِحَلقَة الْمَدَنِيين.
- وَتقدم قريب من ذَلِك - فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْمُفْتِي إِذا جَاءَهُ المستفتي، وَلم يكن عِنْده رخصَة، أَن يدله على مَذْهَب من لَهُ فِيهِ رخصَة انْتهى.(8/4110)
وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب.
وَنقل الْأَثْرَم عَنهُ: " قوم يفتون هَكَذَا يتقلدون قَول الرجل وَلَا يبالون بِالْحَدِيثِ ".
وَنقل أَبُو طَالب: عجبا لقوم عرفُوا الْإِسْنَاد وَصِحَّته يَدعُونَهُ ويذهبون إِلَى رَأْي سُفْيَان وَغَيره، قَالَ الله تَعَالَى: {فليحذر الَّذِي يخالفون عَن أمره} الْآيَة [النُّور: 63] الْفِتْنَة: الْكفْر.
وَقَالَ أَحْمد بن الْحسن: أَلا يعجب يُقَال للرجل: قَالَ رَسُول الله فَلَا يقنع، وَقَالَ عَن فلَان فيقنع.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ عَن أصُول ظَاهِرَة الْبُرْهَان: لَا يهولنك مخالفتها لقَوْل مُعظم فِي النَّفس ولطغام.(8/4111)
قَالَ رجل لعَلي: أتظن أَنا نظن أَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر على الْخَطَأ، وَأَنت على الصَّوَاب؟ فَقَالَ: إِنَّه ملبوس عَلَيْك، اعرف الْحق تعرف أَهله.
وَقَالَ رجل لِأَحْمَد: إِن ابْن الْمُبَارك قَالَ كَذَا، قَالَ: " ابْن الْمُبَارك لم ينزل من السَّمَاء ".
وَقَالَ أَحْمد: من ضيق علم الرجل أَن يُقَلّد.
وَذكر لِأَحْمَد كَلِمَات عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم، فَقَالَ: وقعنا فِي بنيات الطَّرِيق، عَلَيْك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابه.(8/4112)
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: التَّقْلِيد للأكابر أفسد العقائد وَلَا يَنْبَغِي أَن يناظر بأسماء الرِّجَال إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يتبع الدَّلِيل، فَإِن أَحْمد أَخذ فِي الْجد بقول زيد وَخَالف الصّديق.(8/4113)
وَفِي " وَاضح ابْن عقيل ": من أكبر الْآفَات الإلف لمقالة من سلف، أَو السّكُون إِلَى قَول مُعظم فِي النَّفس لَا بِدَلِيل، فَهُوَ أعظم حَائِل عَن الْحق وبلوى يجب معالجتها.
وَقَالَ فِي " الْفُنُون ": من قَالَ فِي مُفْرَدَات أَحْمد الِانْفِرَاد لَيْسَ بمحمود، وَقَالَ: الرجل مِمَّن يُؤثر الْوحدَة، ثمَّ ذكر قَول عَليّ السَّابِق، وانفراد الشَّافِعِي، وصواب عمر فِي أُسَارَى بدر، فَمن يعير بعد هَذَا بالوحدة. انْتهى.
قَوْله: {تذنيب} .
مَأْخُوذ من مَادَّة: ذَنْب الدَّابَّة على التَّأَخُّر والتعقب، وَمِنْه ذَنْب الدَّابَّة، فَهُوَ إِشَارَة مِنْهُ.(8/4114)
قَوْله: {كَانَ السّلف يهابون الْفتيا ويشددون فِيهَا، ويتدافعونها. وَأنكر أَحْمد وَغَيره على من يهجم فِي الْجَواب، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي أَن يُجيب فِي كل مَا يستفتى فِيهِ. وَقَالَ أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يحرم تساهل مفت وتقليد مَعْرُوف فِيهِ. قَالَ الْبَاجِيّ، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: من اكْتفى بفتياه بقول أَو وَجه الْمَسْأَلَة من غير نظر فِي تَرْجِيح وَلَا تقيد بِهِ، فقد خرق الْإِجْمَاع} .
لَا شكّ أَن أَمر الْفتيا خطر، فَيَنْبَغِي أَن يتبع السّلف فِي ذَلِك، فقد كَانُوا يهابون الْفتيا كثيرا ويشددون فِيهَا ويتدافعونها حَتَّى ترجع إِلَى الأول لما فِيهَا من المخاطرة.
وَقد أنكر الإِمَام أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء الْأَعْيَان على من تهجم فِي الْجَواب، وَقَالَ: " لَا يَنْبَغِي أَن يُجيب فِي كل مَا يستفتى فِيهِ "، وَقَالَ: " إِذا هاب الرجل شَيْئا لَا يَنْبَغِي أَن يحمل على أَن يَقُول ".
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: من اكْتفى فِي فتياه بقول أَو وَجه فِي الْمَسْأَلَة من غير نظر فِي تَرْجِيح وَلَا تقيد بِهِ، فقد جهل وخرق الْإِجْمَاع.(8/4115)
وَذكر عَن أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ [أَنه] ذكر عَن بعض أَصْحَابهم أَنه كَانَ يَقُول: الَّذِي لصديقي عَليّ أَن أفتيه بالرواية الَّتِي توافقه، قَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَهَذَا لَا يجوز عِنْد أحد يعْتد بِهِ فِي الْإِجْمَاع.(8/4116)
(بَاب تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل والتعارض وَالتَّرْجِيح)(8/4117)
فارغة(8/4118)
(قَوْله: {بَاب} {تَرْتِيب الْأَدِلَّة والتعادل والتعارض وَالتَّرْجِيح} ) .
اعْلَم أَن هَذَا الْبَاب من مَوْضُوع النّظر للمجتهد وضروراته؛ لِأَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة مُتَفَاوِتَة فِي مَرَاتِب الْقُوَّة، فَيحْتَاج الْمُجْتَهد إِلَى معرفَة مَا يقدم مِنْهَا وَمَا يُؤَخر؛ لِئَلَّا يَأْخُذ بالأضعف مِنْهَا مَعَ وجود الْأَقْوَى.
اعْلَم أَنه لَهُ مَا انْتهى الْكَلَام فِي مبَاحث أَدِلَّة الْفِقْه الْمُتَّفق عَلَيْهَا والمختلف فِيهَا رُبمَا تعَارض مِنْهَا دليلان باقتضاء حكمين متضادين، فاحتيج إِلَى معرفَة التَّرْتِيب، والتعادل، والتعارض، وَالتَّرْجِيح، وَحكم كل مِنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يقوم بِهِ من هُوَ أهل لذَلِك وَهُوَ الْمُجْتَهد، فَلذَلِك قدم الْمُوفق، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم بَاب الِاجْتِهَاد(8/4119)
على هَذَا الْبَاب، لَكِن الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَأَتْبَاعه قدمُوا التَّعَارُض والتراجيح على الِاجْتِهَاد؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُود، وَذَلِكَ مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْمَقْصُود.
وَإِنَّمَا جَازَ دُخُول التَّعَارُض فِي أَدِلَّة الْفِقْه لكَونهَا ظنية على مَا يَأْتِي قَرِيبا تَفْصِيل ذَلِك وتحريره.
قَوْله: {التَّرْتِيب جعل كل وَاحِد من شَيْئَيْنِ فَأكْثر فِي رتبته الَّتِي يَسْتَحِقهَا} .
اعْلَم أَنه لما كَانَ الْبَاب مَقْصُودا لترتيب الْأَدِلَّة وتعادلها وتعارضها وترجيحها، وَجب الْكَشْف عَن حَقِيقَة التَّرْتِيب وَغَيره؛ لِأَنَّهَا شُرُوط فِي الِاجْتِهَاد، وَالْحكم عَلَيْهَا بالشرطية يَسْتَدْعِي سبق تصور ماهيتها؛ إِذْ التَّصْدِيق أبدا مَسْبُوق بالتصور، وَلما كَانَ التَّرْتِيب مصدر رتب يرتب ترتيبا عَرفْنَاهُ بمصدر مثله وَهُوَ الْجعل، وَقَوله: (كل وَاحِد من شَيْئَيْنِ فَأكْثر "؛ لِأَن التَّرْتِيب قد يكون فِي شَيْئَيْنِ فَقَط وَقد يكون فِي أَكثر، وَقَوله:(8/4120)
(فِي أَكثر) وَقَوله (فِي رتبته) ، أَي: فِي مَوْضِعه أَو مَنْزِلَته، الَّتِي يَسْتَحِقهَا، أَي: يسْتَحق جعلهَا فِيهَا بِوَجْه من الْوُجُوه.
وَقد ذكر الْفُقَهَاء: تَرْتِيب الْأَقَارِب فِي نفقاتهم، وفطرهم، وولايتهم فِي النِّكَاح، وإرثهم وَغَيرهَا بِاعْتِبَار الْقرب.
قَوْله: {فَيقدم إِجْمَاع ثمَّ سَابق ومتفق عَلَيْهِ أَو أقوى، وَأَعلاهُ متواتر نطقي، فآحاد، فسكوتي، كَذَلِك فالكتاب، ومتواتر سنة، فآحاد على مراتبها، فَقَوْل صَحَابِيّ، فَقِيَاس، وَالتَّصَرُّف فِي الْأَدِلَّة سبق} .
قد تقدم أَن أَدِلَّة الشَّرْع: الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، وَغَيره من الْأُصُول الْمُخْتَلف فِيهَا، وَالْإِجْمَاع مقدم عَلَيْهَا جَمِيعهَا لوَجْهَيْنِ.(8/4121)
أَحدهمَا: كَونه قَاطعا مَعْصُوما من الْخَطَأ كَمَا سبق.
وَالثَّانِي: كَونه آمنا من النّسخ والتأويل، بِخِلَاف بَاقِي الْأَدِلَّة فَإِن النّسخ يلْحقهَا والتأويل يتَّجه عَلَيْهَا.
وَهُوَ أَنْوَاع: أَحدهَا: الْإِجْمَاع النطقي الْمُتَوَاتر فَهُوَ مقدم على غَيره.
ثمَّ يَلِيهِ الْإِجْمَاع النطقي الثَّابِت بالآحاد.
ثمَّ الْإِجْمَاع السكوتي الْمُتَوَاتر.
ثمَّ الْآحَاد كَذَلِك.(8/4122)
فَهَذِهِ الْأَنْوَاع كلهَا مُقَدّمَة على الْكتاب، وعَلى جَمِيع أَنْوَاع السّنة من متواترة وَغَيرهَا.
وَلَو نقل إجماعان فالمعمول بِهِ مِنْهُمَا هُوَ السَّابِق، فَيقدم إِجْمَاع الصَّحَابَة على إِجْمَاع التَّابِعين، وَإِجْمَاع التَّابِعين على من بعدهمْ، وهلم جرا؛ لِأَن السَّابِق دَائِما أقرب إِلَى زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَشْهُود لَهُم بالخيرية فِي قَوْله: " خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ".
فَإِن فرض فِي عصر وَاحِد إجماعان، فَالثَّانِي بَاطِل؛ لِأَن كل من اجْتهد من الْمُتَأَخر فَقَوله بَاطِل لمُخَالفَته الْإِجْمَاع السَّابِق.
فَإِن كَانَ أحد الإجماعين مُخْتَلفا فِيهِ وَالْآخر مُتَّفق عَلَيْهِ، فالمتفق عَلَيْهِ(8/4123)
مقدم، وَذَلِكَ فِي صور تَقْدِيم بَيَانهَا فِي الْإِجْمَاع، فَليُرَاجع.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ الْخلاف فِيهِ أَضْعَف يقدم على الْخلاف فِي كَونه إِجْمَاعًا أقوى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَمَا اتّفق عَلَيْهِ أَو ضعف الْخلاف فِيهِ أولى " انْتهى.
وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع الَّذِي لم يسْبقهُ اخْتِلَاف مقدم على إِجْمَاع سبق فِيهِ اخْتِلَاف، ثمَّ وَقع الْإِجْمَاع.
وَفِي قَول آخر: إِن الْمَسْبُوق بِخِلَاف أرجح لأَنهم اطلعوا على المأخذ، واختاروا مَأْخَذ مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ فَكَانَ أقوى.
وَقيل هما سَوَاء؛ لِأَن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا مرجحا.
لَكِن قَالَ ابْن الْحَاجِب والهندي لَا يتَصَوَّر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الإجماعين القاطعين؛ وَلِأَنَّهُ: لَا يرجح بَين القاطعين وَلَا يتَصَوَّر التَّعَارُض بَينهمَا، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر فِي الظنين.(8/4124)
وَضعف قَوْلهمَا: بِأَنَّهُمَا إِن أَرَادَا تعَارض الإجماعين فِي نفس الْأَمر فمستحيل، سَوَاء كَانَا ظنيين أَو قطعيين، وَإِن أَرَادَا فِيمَا يغلب على الظَّن فَظن تعَارض الإجماعين مُمكن سَوَاء كَانَا قطعيين أَو ظنيين، وَالله أعلم.
ثمَّ يَلِيهِ، أَي: الْإِجْمَاع: الْكتاب، وَمثله متواتر السّنة لقطعيتهما فيقدمان على سَائِر الْأَدِلَّة؛ لِأَنَّهُمَا قاطعان من جِهَة الْمَتْن، وَلِهَذَا جَازَ نسخ كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ على مَا سبق، هَذَا هُوَ الْأَصَح؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا وَحي من الله تَعَالَى، وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ إِن الْقُرْآن نزل للإعجاز، فَفِي الْحَقِيقَة هما سَوَاء.
وَقيل: يقدم الْكتاب عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أشرف مِنْهَا.
قيل: تقدم السّنة لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] .
أما المتواتران من السّنة فمتساويان قطعا.
ثمَّ بعد ذَلِك أَخْبَار الْآحَاد فَتقدم على غَيرهَا، غير مَا تقدم، وَلها مَرَاتِب: صَحِيح فَيقدم على غَيره، ثمَّ حسن فَيقدم على غَيره، ثمَّ ضَعِيف وَهُوَ أَصْنَاف كَثِيرَة، وَيقدم على غَيره ويتفاوت فِي الصِّحَّة وَالْحسن والضعف، فَيقدم مَا كَانَ أقوى، ثمَّ قَول الصَّحَابِيّ بعد ذَلِك، ثمَّ الْقيَاس، بعد ذَلِك كُله، وَقد تقدم تفاصيل ذَلِك كُله وَمَا فِيهِ من الْخلاف فِي أبوابه وفصوله.
وَقَوْلنَا: {وَالتَّصَرُّف فِي الْأَدِلَّة سبق} .(8/4125)
معنى ذَلِك: أَنه إِذا وَقع فِي الْأَدِلَّة الظنية مَا ظَاهره التَّعَارُض فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يُمكن الْجمع وَلَو بِوَجْه مَا، وَإِمَّا أَن لَا يُمكن الْجمع أصلا، فَمَا أمكن الْجمع فِيهِ يجمع وَيعْمل بالدليلين، وَذَلِكَ فِي صور:
مِنْهَا: تَخْصِيص الْعَام بالخاص على تفاصيله السَّابِقَة.
وَمِنْهَا: تَقْيِيد الْمُطلق بالمقيد.
وَمِنْهَا: حمل الظَّاهِر الْمُحْتَمل لِمَعْنى مَرْجُوح على الْمَرْجُوح، حَيْثُ دلّ دَلِيل على منع الْعَمَل بِهِ وَهُوَ التَّأْوِيل.
وَمِنْهَا: حمل الْمُجْمل على الْمُبين.
وَكَذَا إِذا تَأَخّر الْمعَارض بِأَن يكون نَاسِخا فقد عمل بالدليلين كل مِنْهُمَا فِي وَقت بالمنسوخ أَولا ثمَّ بالناسخ بعد ذَلِك، وَالْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ لَا ينْحَصر فِي ذَلِك، بل قد يَقع فِي غَيره، وَقد سبق بَيَان ذَلِك فِي أبوابه.
قَوْله: {التَّعَارُض: تقَابل الدَّلِيلَيْنِ على سَبِيل الممانعة وَلَو بَين عَاميْنِ فِي الْأَصَح} .
وَذَلِكَ إِذا كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ يدل على الْجَوَاز وَالدَّلِيل الآخر يدل على الْمَنْع، فدليل الْجَوَاز يمْنَع التَّحْرِيم، وَدَلِيل التَّحْرِيم يمْنَع الْجَوَاز، فَكل مِنْهُمَا مُقَابل الآخر ومعارض لَهُ ومانع لَهُ.(8/4126)
قَوْله: {وَلَو بَين عَاميْنِ فِي الْأَصَح} .
يَعْنِي أَنه يجوز تعَارض عَاميْنِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، بل غالبهم أطلق الْعبارَة فِي التَّعَارُض، فَشَمَلَ العامين وَغَيرهمَا مِمَّا يُمكن التَّعَارُض فِيهِ.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا عَن قوم منع تعَارض عمومين بِلَا مُرَجّح.
وَقد خص الإِمَام أَحْمد " نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح وَالْعصر " بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا ".
وَذكر القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق، وَالشَّافِعِيَّة، تعارضهما؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا عَام من وَجه وخاص من وَجه.(8/4127)
وَقدم الْحَنَفِيَّة النَّهْي لذكر الْوَقْت فِيهِ، وَتقدم ذَلِك فِي أَوَاخِر التَّخْصِيص.
قَوْله: {والتعادل: التَّسَاوِي، لَكِن تعادل قطعيين محَال اتِّفَاقًا فَلَا تَرْجِيح، والمتأخر نَاسخ وَلَو آحادا فِي الْأَصَح، وَمثله قَطْعِيّ وظني، وَيعْمل بالقطعي} .
إِذا لم [يُمكن] الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين، فَذَلِك مَحل التعادل والتراجيح.
فالتعادل: عبارَة عَن تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين بِحَيْثُ لَا يكون فِي أَحدهمَا مَا يرجحه على الآخر، وَيَأْتِي التَّرْجِيح وتعريفه وَأَحْكَامه قَرِيبا.(8/4128)
إِذا علم ذَلِك فالتعادل بَين قطعيين مُمْتَنع قطعا سَوَاء كَانَا عقليين أَو نقليين، أَو أَحدهمَا عقليا وَالْآخر نقليا؛ إِذْ لَو فرض ذَلِك لزم اجْتِمَاع النقيضين، أَو ارتفاعهما، وترجيح أَحدهمَا على الآخر محَال فَلَا مدْخل للترجيح فِي الْأَدِلَّة القطعية؛ لِأَن التَّرْجِيح فرع التَّعَارُض وَلَا تعَارض فِيهَا فَلَا تَرْجِيح.
لَكِن إِن علم التَّارِيخ وَكَانَ الْمَدْلُول قَابلا للنسخ، فالمتأخر نَاسخ للمتقدم إِذا علم تَأَخره بِالْقطعِ، فَإِن كَانَ مَنْقُولًا بالآحاد عمل بِهِ أَيْضا على الْأَصَح؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى ذَلِك أَن الأَصْل فِيهِ الدَّوَام والاستمرار.
وَقَالَ الْأَنْبَارِي فِي " شرح الْبُرْهَان ": هَذَا الْأَظْهر، وَذكر احْتِمَالا بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاط الْمُتَوَاتر بالآحاد.(8/4129)
وَمثل ذَلِك الْقطعِي والظني، أَعنِي أَنه لَا تعادل بَينهمَا وَلَا تعَارض لانْتِفَاء الظَّن، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل وجود ظن فِي مُقَابلَة يَقِين خِلَافه، فالقاطع هُوَ الْمَعْمُول بِهِ وَالظَّن لَغْو، وَكَذَلِكَ لَا يتعارض حكم مجمع عَلَيْهِ مَعَ حكم آخر لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَكَذَا ظنيان عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والكرخي، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، فَيجمع بَينهمَا، وَلَو بَين كتاب وَسنة، فِي أصَحهمَا، فَإِن تعذر وَعلم التَّارِيخ، فَالثَّانِي نَاسخ إِن كَانَ قبله، وَإِن اقترنا خير، وَإِن جهل وَقبل النّسخ رَجَعَ إِلَى غَيرهمَا، وَإِلَّا اجْتهد فِي التَّرْجِيح، وَيقف إِلَى أَن يُعلمهُ، وَقَالَ الشَّيْخ: يُقَلّد عَالما، وَقَالَ القَاضِي وَابْن عقيل وَالْأَكْثَر: يجوز تعادلهما كَمَا فِي نظر الْمُجْتَهد اتِّفَاقًا وَحكي عَن أَحْمد، فَعَلَيهِ يتَخَيَّر، وَقيل: فِي وَاجِب وَيسْقط غَيره، لَكِن لَا يعْمل وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقول وَاحِد فِي الْأَصَح، وَفِي " الْخلاف " و " الرَّوْضَة ": يسقطان، وَقيل: بِالْوَقْفِ، وللقاضي أَيْضا يُقَلّد غَيره} .(8/4130)
اخْتلف الْعلمَاء فِي تعادل دَلِيلين ظنيين على أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه محَال، وَهَذَا الصَّحِيح عندنَا، وَعَلِيهِ الإِمَام أَحْمد، وَالْأَصْحَاب، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والكرخي، والسرخسي، وَحَكَاهُ الإِسْفِرَايِينِيّ عَن أَصْحَابه، وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن الْفُقَهَاء، وَيَأْتِي كَلَام الْخلال، وَابْن خُزَيْمَة.(8/4131)
فعلى هَذَا إِن أمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن علم التَّارِيخ وَكَانَ أَحدهمَا عَاما وَالْآخر خَاصّا أَو مُطلقًا ومقيدا وَنَحْو ذَلِك، عمل بِهِ كَمَا تقدم.
لَكِن إِن كَانَ أحد المتعارضين سنة قابلها كتاب، فَالصَّحِيح كَذَلِك، أَعنِي إِن أمكن الْعَمَل بهما من وَجه كَانَ أولى، وَلَا يقدم أَحدهمَا على الآخر.
وَقيل: يقدم الْكتاب على السّنة، لحَدِيث معَاذ: " الْمُشْتَمل على أَنه يقْضِي بِكِتَاب الله فَإِن لم يجد فبسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَضي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأقرهُ على ذَلِك " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره.
وَقيل: تقدم السّنة على الْكتاب، لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] .
وَأما قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْر: " هَذَا الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} إِلَى قَوْله: {أَو لحم خِنْزِير} [الْأَنْعَام: 145] ، فَكل من الْآيَة والْحَدِيث يتَنَاوَل خِنْزِير(8/4132)
الْبَحْر، فيتعارض عُمُوم الْكتاب وَالسّنة فِي خِنْزِير الْبَحْر.
فَقدم بَعضهم الْكتاب فحرمه، وَقَالَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو عَليّ النجاد.
وَبَعْضهمْ قدم السّنة فأحله، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَصْحَابه، وَيَأْتِي هَذَا أَيْضا عِنْد قَوْله: " فِي الْأَمر الْخَارِج فِيمَا إِذا تعَارض قُرْآن وَسنة ".
وَإِن لم يُمكن الْجمع والتاريخ مَعْلُوم فَالثَّانِي نَاسخ، فَإِن جهل التَّارِيخ اجْتهد فِي الْجمع إِن أمكن، ثمَّ فِي التَّارِيخ، فَإِن تعذر وقف الْأَمر إِلَى أَن نتبينه، فَيعْمل بِمَا يتَبَيَّن.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن عجز عَن التَّرْجِيح أَو تعذر قلد عَالما.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة: يجوز تعادلهما، وَبِه قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي(8/4133)
" مُخْتَصره "، وَابْن عقيل فِي ضمن مَسْأَلَة الْقيَاس، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والجرجاني، والجبائي وَابْنه، وَابْن الباقلاني، وَقَالَ: قَالَه الْأَشْعَرِيّ،(8/4134)
وكل من صوب كل مُجْتَهد، وَأَنه حُكيَ عَن الْحسن الْعَنْبَري، وَقَالَهُ أَكثر الْعلمَاء، وَذكره بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء، كَمَا فِي نظر الْمُجْتَهد اتِّفَاقًا.
فعلى هَذَا القَوْل يتخيره كالكفارة وَغَيرهَا، لَكِن فرق الْقَائِل بِالْأولِ بِأَنَّهُ لَا تعَارض فِي الْكَفَّارَة، وَلِهَذَا يجوز وُرُود الشَّرْع بِإِيجَاب الْكل، وَلَا يجوز فِي مَسْأَلَتنَا وَيكون عَلامَة التَّخْيِير.
وَالْقَوْل بالتخيير هُنَا اخْتَارَهُ أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو عَليّ الجبائي،(8/4135)
وَابْنه أَبُو هَاشم، وَغَيرهم، وَمن هُنَا جَازَ للعامي أَن يستفتي من شَاءَ من الْمُفْتِينَ وَيعْمل بقوله كَمَا تقدم.
وَقيل: إِن وَقع التعادل فِي الْوَاجِبَات تخير؛ إِذْ لَا يمْتَنع التَّخْيِير فِيهَا فِي الشَّرْع، كمن ملك مِائَتَيْنِ من الْإِبِل مُخَيّر بَين إِخْرَاج أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون، وَإِن وَقع بَين حكمين متناقضين كإباحة وَتَحْرِيم، فَحكمه التساقط وَالرُّجُوع إِلَى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة.
وَحَيْثُ قُلْنَا بالتعادل أَو التَّخْيِير فَلَا يعْمل وَلَا يُفْتى إِلَّا بِوَاحِد فِي الْأَصَح.
قَالَ الباقلاني: وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِير المستفتي والخصوم وَلَا الحكم فِي وَقت بِحكم، وَفِي وَقت بِحكم آخر، بل يلْزم أحد الْقَوْلَيْنِ، وَذكر أَن هَذَا قَول من حَكَاهُ عَنهُ، قَالَ: وَهل يتَعَيَّن أحد الْأَقْوَال بِالشُّرُوعِ فِيهِ كالكفارة أم بالتزامه كالنذر؟ لَهُم فِيهِ قَولَانِ. انْتهى.(8/4136)
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: نَظِير هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: الْقَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا فِي جَوَاز انْتِقَال الْإِنْسَان عَنهُ.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه لَا يمْتَنع ذَلِك كَمَا لَو تغير اجْتِهَاده، إِلَّا أَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَاحِدًا لتضرره بالحكم لَهُ، كحل النِّكَاح فِي وَقت وتحريمه فِي آخر.
ورد: هَذَا القَوْل الْمُقَابل للأصح.
وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْمَسْأَلَة قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى فِي تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ، وَالشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهمَا يتعارضان ويسقطان، فَيجب الرُّجُوع إِلَى غَيرهمَا وَهُوَ الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " ذهب إِلَى هَذَا كثير من الْفُقَهَاء، قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ مَا رَجحه أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ، لَكِن لَا يلْزم مِنْهُ(8/4137)
مَحْظُور، وَهَذَا يلْزم مِنْهُ تَعْطِيل الْأَحْكَام ".
وَالْقَوْل الرَّابِع: الْوَقْف كتعارض الْبَيِّنَتَيْنِ على قَول.
وفيهَا قَول خَامِس قَالَه القَاضِي أَيْضا: يكون كعامي يجب تَقْلِيد غَيره.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن كلا من المصوبة والمخطئة قَالَ: هَل يُقَلّد عَالما كعامي أَو يقف أَو يتَخَيَّر؟ فِيهِ أَقْوَال. انْتهى.
احْتج من منع التعادل فِي الأمارتين فِي نفس الْأَمر مُطلقًا بِأَنَّهُ لَو وَقع، فإمَّا أَن يعْمل بهما وَهُوَ جمع بَين المتنافيين، أَو لَا يعْمل بِوَاحِد مِنْهُمَا فَيكون وضعهما عَبَثا، وَهُوَ محَال على الله تَعَالَى، أَو يعْمل بِأَحَدِهِمَا على التَّعْيِين،(8/4138)
وَهُوَ تَرْجِيح من غير مُرَجّح، أَو لَا على التَّعْيِين بل على التَّخْيِير، والتخيير بَين الْمُبَاح وَغَيره يَقْتَضِي تَرْجِيح أَمارَة الإباجة بِعَينهَا، لِأَنَّهُ لما جَازَ لَهُ الْفِعْل وَالتّرْك كَانَ هَذَا معنى الْإِبَاحَة فَيكون تَرْجِيحا؛ لإحدى الأمارتين بِعَينهَا.
وَأجِيب: بِأَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَة، بل تَخْيِير للْعَمَل بِإِحْدَى الأمارتين شَاءَ، لَا عمل بِأَيّ الْفِعْلَيْنِ شَاءَ، بِدَلِيل أَنه لَو كَانَت إِحْدَاهمَا تَقْتَضِي تَحْرِيمه لَا يُقَال: هُوَ مُخَيّر بَين فعله مَعَ كَونه حَرَامًا وَبَين غَيره، فَإِذا عمل بِأَحَدِهِمَا وَجب أَن يعْتَقد بطلَان الآخر، بِخِلَاف الْإِبَاحَة فَإِنَّهُ لَا يعْتَقد فِيهَا فَسَاد مَا لم يفعل، وَنَظِيره فِي الشَّرْع التَّخْيِير بَين أَن يُصَلِّي الْمُسَافِر قصرا أَو إتماما، فَإِنَّهُ إِذا جَازَ لَهُ ترك الرَّكْعَتَيْنِ عِنْد اخْتِيَار الْقصر، لَا يُقَال: إِن فعل الرَّكْعَتَيْنِ مُبَاح.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، وَاحْتج من جوز تعادل الأمارتين فِي نفس الْأَمر بِالْقِيَاسِ على جَوَاز تعادلهما فِي الذِّهْن، وَبِأَنَّهُ لَا يلْزم من فَرْضه محَال، وَقد أُجِيب عَن ذَلِك.
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام فِي " قَوَاعِده ": لَا يتَصَوَّر فِي الظنون تعَارض كَمَا لَا يتَصَوَّر فِي الْعُلُوم، إِنَّمَا يَقع التَّعَارُض بَين أَسبَاب الظنون، فَإِذا تَعَارَضَت: فَإِن حصل الشَّك لم يحكم بِشَيْء، وَإِن وجد ظن فِي أحد الطَّرفَيْنِ(8/4139)
حكمنَا بِهِ؛ لِأَن ذهَاب مُقَابِله يدل على ضعفه وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا مُكَذبا للْآخر تساقطا، وَإِن لم يكذب كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه عمل بِهِ حسب الْإِمْكَان كدابة عَلَيْهَا راكبان يحكم لَهما بهَا؛ لِأَن كلا من الْيَدَيْنِ لَا تكذب الْأُخْرَى. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهُوَ نَفِيس؛ لِأَن الظَّن هُوَ الطّرف الرَّاجِح، وَلَو عورض بِطرف آخر رَاجِح، لزم أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا راجحا مرجوحا، وَهُوَ محَال " انْتهى.
قَوْله: {وَالتَّرْجِيح تَقْوِيَة أحد أمارتين على أُخْرَى لدَلِيل، وَمنعه الباقلاني وَجمع كَالشَّهَادَةِ، قَالَ الطوفي: الْتِزَامه فِيهَا مُتَّجه ثمَّ هِيَ آكِد} .
لَا يَقع التَّرْجِيح إِلَّا مَعَ وجود التَّعَارُض، فَحَيْثُ انْتَفَى التَّعَارُض انْتَفَى التَّرْجِيح، فالترجيح فرع التَّعَارُض مُرَتّب على وجوده.
وَاعْلَم أَنه لَا تعَارض بِالْحَقِيقَةِ فِي حجج الشَّرْع؛ وَلِهَذَا أخر مَا أمكن.(8/4140)
قَالَ أَبُو بكر الْخلال من أَئِمَّة أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين: لَا يجوز أَن يُوجد فِي الشَّرْع خبران متعارضان لَيْسَ مَعَ أَحدهمَا تَرْجِيح يقدم، فأحد المتعارضين بَاطِل إِمَّا لكذب النَّاقِل، أَو خطأ بِوَجْه مَا من النقليات، أَو خطأ النَّاظر فِي النظريات، أَو لبُطْلَان حكمه بالنسخ. انْتهى.
وَقَالَ إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر ابْن خُزَيْمَة: لَا أعرف حديثين صَحِيحَيْنِ متضادين، فَمن كَانَ عِنْده شَيْء مِنْهُ فَليَأْتِنِي بِهِ لأؤلف بَينهمَا، وَكَانَ من أحسن النَّاس كلَاما فِي ذَلِك، نَقله الْعِرَاقِيّ فِي " شرح ألفيته فِي الحَدِيث ".
وحد التَّرْجِيح: تَقْوِيَة إِحْدَى الأمارتين على الْأُخْرَى بِدَلِيل فَيعلم الْأَقْوَى فَيعْمل بِهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " هُوَ اقتران الأمارة بِمَا تقوى بِهِ على معارضها ".
وَقَالَ بَعضهم: " المُرَاد بِوَصْف فَلَا يرجح نَص وَلَا قِيَاس بِمثلِهِ " انْتهى.(8/4141)
فالترجيح فعل الْمُرَجح النَّاظر فِي الدَّلِيل، وَهُوَ تقدم إِحْدَى الأمارتين الصالحتين للإفضاء إِلَى معرفَة الحكم لاخْتِصَاص تِلْكَ الأمارة بِقُوَّة فِي الدّلَالَة، كَمَا لَو تعَارض الْكتاب وَالْإِجْمَاع فِي حكم، فَكل مِنْهُمَا طَرِيق يصلح لِأَن يعرف بِهِ الحكم، لَكِن الْإِجْمَاع اخْتصَّ بِقُوَّة على الْكتاب من حَيْثُ الدّلَالَة، وَيَأْتِي حد الرجحان وَالْفرق بَينهمَا قَرِيبا.
وَمنع الباقلاني وَجمع كَالشَّهَادَةِ.
وَذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ عَن قوم منع التَّرْجِيح مُطلقًا.
قَالَ الطوفي: الْتِزَامه فِي الشَّهَادَة مُتَّجه ثمَّ هِيَ آكِد
اعْلَم أَن الْعَمَل بالراجح فِيمَا لَهُ مُرَجّح هُوَ قَول جَمَاهِير الْعلمَاء سَوَاء(8/4142)
كَانَ الْمُرَجح مَعْلُوما أَو مظنونا، حَتَّى إِن المنكرين للْقِيَاس عمِلُوا بالترجيح فِي ظواهر الْأَخْبَار.
وَخَالف القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني فِي جَوَاز الْعَمَل بالمرجح بالمظنون وَقَالَ: إِنَّمَا أقبل التَّرْجِيح بالمقطوع بِهِ كتقديم النَّص على الْقيَاس لَا بالأوصاف، وَلَا الْأَحْوَال، وَلَا كَثْرَة الْأَدِلَّة وَنَحْوهَا، فَلَا يجب الْعَمَل بِهِ فَإِن الأَصْل امْتنَاع الْعَمَل بِالظَّنِّ.
خالفناه فِي الظنون المستقلة بأنفسها لإِجْمَاع الصَّحَابَة، فَيبقى التَّرْجِيح على أصُول الِامْتِنَاع؛ لِأَنَّهُ عمل بِظَنّ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ.
ورد قَوْله: بِالْإِجْمَاع على عدم الْفرق بَين المستقل وَغَيره.(8/4143)
وَقد رجحت الصَّحَابَة قَول عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي التقاء الختانين " فعلته أَنا وَرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، على مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا المَاء من المَاء " لكَونهَا أعرف بذلك مِنْهُم.(8/4144)
قَالَ الطوفي: وَلَيْسَ قَوْله بِشَيْء؛ لِأَن الْعَمَل بالأرجح مُتَعَيّن عقلا وَشرعا، وَقد عملت الصَّحَابَة بالترجيح مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ، وَالتَّرْجِيح دأب الْعقل وَالشَّرْع حَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الطوفي أَيْضا: لما قَاس الباقلاني الْمَنْع فِي التَّرْجِيح على الْبَينَات الْتِزَام التَّرْجِيح أَيْضا فِي الْبَينَات مُتَّجه، لِأَن إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ إِذا اخْتصّت بِمَا يُفِيد زِيَادَة ظن صَارَت الْأُخْرَى كالمعدومة، وَلَو سلم فِي الْبَيِّنَة فَالْفرق بَينهمَا: أَن بَاب الشَّهَادَة مشوب بالتعبد بِدَلِيل أَن الشَّاهِد لَو أبدل لفظ الشَّهَادَة بِلَفْظ الْإِخْبَار أَو الْعلم، فَقَالَ: أخبر أَو أعلم مَكَان " أشهد "، لم(8/4145)
يقبل، وَلَا تقبل شَهَادَة جمع من النِّسَاء وَإِن كثرت على يسير من المَال، حَتَّى يكون مَعَهُنَّ رجل، مَعَ أَن شَهَادَة الْجمع الْكثير من النِّسَاء يجوز أَن يحصل بِهِ الْعلم التواتري، وَمَا ذَاك إِلَّا لثُبُوت التَّعَبُّد فَجَاز أَن يكون عدم التَّرْجِيح فِيهَا من ذَلِك بِخِلَاف الْأَدِلَّة؛ إِذْ لَا تعبد فِيهَا.
فَهَذَا جَوَاب عَمَّا قَالَه الباقلاني من وَجْهَيْن: الْتِزَام الحكم بالترجيح فِي الْبَينَات وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْأَدِلَّة على تَقْدِير التَّسْلِيم.
وَلم يذكر مَا قَالَه أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: أَنه لَا يعْمل بِأَصْل التَّرْجِيح، بل عِنْد التَّعَارُض يلْزم التَّخْيِير أَو الْوَقْف؛ لِأَن أَبَا الْمَعَالِي أنكر وجوده وَلم يره، وَقَالَ غَيره: إِن صَحَّ عَنهُ فَهُوَ مَسْبُوق بِإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالْأمة من بعدهمْ فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
قَوْله: {وَلَا تَرْجِيح فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل، وَقيل: بلَى، وَفِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: وَلَا بَين علتين إِلَّا أَن تكون كل مِنْهَا طَرِيقا للْحكم(8/4146)
مُنْفَرِدَة، قَالَ الشَّيْخ: يَقع إِن أمكن كَونه طَرِيقا قبل ثُبُوته} .
لَا تَرْجِيح فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل، إِنَّمَا التَّرْجِيح فِي الْأَلْفَاظ المسموعة والمعاني المعقولة، على مَا يَأْتِي قَرِيبا تَفْصِيل ذَلِك، لَا فِي الْمذَاهب الخالية عَن دَلِيل.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة نقلتها من " مُخْتَصر الطوفي ".
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": إِنَّه نقلهَا من جدل ابْن الْمَنِيّ، قَالَ: " وأصل الْمَسْأَلَة أَن القَاضِي عبد الْجَبَّار قَالَ: إِن التَّرْجِيح لَهُ مدْخل فِي الْمذَاهب، بِحَيْثُ يُقَال: مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أرجح من مَذْهَب أبي حنيفَة أَو غَيره أَو بِالْعَكْسِ، وَخَالفهُ غَيره.
حجَّة عبد الْجَبَّار: أَن الْمذَاهب آراء واعتقادات مُسندَة إِلَى الْأَدِلَّة، وَهِي تَتَفَاوَت فِي الْقُوَّة والضعف، فَجَاز دُخُول التَّرْجِيح فِيهَا كالأدلة.
حجَّة المانعين من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الْمذَاهب لتوافر انهراع النَّاس وتعويلهم عَلَيْهَا صَارَت كالشرائع والملل الْمُخْتَلفَة، وَلَا تَرْجِيح فِي الشَّرَائِع.(8/4147)
وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَن انهراع النَّاس إِلَيْهَا لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا ظنية تقبل التَّرْجِيح، وَلَا نسلم أَنَّهَا تشبه الشَّرَائِع، وَإِن سلمنَا ذَلِك لَكِن لَا نسلم أَن الشَّرَائِع لَا تقبل التَّرْجِيح، بِاعْتِبَار مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْمصَالح والمحاسن، وَإِن كَانَ طَرِيق جَمِيعهَا قَاطعا.
الْوَجْه الثَّانِي: لَو كَانَ للترجيح مدْخل فِي الْمذَاهب لاضطرب النَّاس، وَلم يسْتَقرّ أحد على مَذْهَب، فَلذَلِك لم يكن للترجيح فِيهِ مدْخل كالبينات.
وَهُوَ ضَعِيف - أَيْضا - وَاللَّازِم مِنْهُ مُلْتَزم، وكل من ظهر لَهُ رُجْحَان مَذْهَب، وَجب عَلَيْهِ الدُّخُول فِيهِ، كَمَا يجب على الْمُجْتَهد الْأَخْذ بأرجح الدَّلِيلَيْنِ.
الْوَجْه الثَّالِث: أَن كل وَاحِد من الْمذَاهب لَيْسَ متمحضا فِي الْخَطَأ وَلَا فِي الصَّوَاب، بل هُوَ مُصِيب فِي بعض الْمسَائِل، مخطيء فِي بَعْضهَا، وعَلى هَذَا فالمذهبان لَا يقبلان التَّرْجِيح، لإفضاء ذَلِك إِلَى التَّرْجِيح بَين الْخَطَأ وَالصَّوَاب فِي بعض الصُّور أَو بَين خطأين وصوابين، وَالْخَطَأ لَا مدْخل للترجيح فِيهِ اتِّفَاقًا.
وَهَذَا الْوَجْه يُشِير فيهإلى أَن النزاع لَفْظِي، وَهُوَ أَن من نفى التَّرْجِيح فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصح تَرْجِيح مَجْمُوع مَذْهَب على مَجْمُوع مَذْهَب آخر لما ذكر، وَمن أثبت التَّرْجِيح بَينهمَا أثْبته بِاعْتِبَار مسائلها الْجُزْئِيَّة وَهُوَ صَحِيح، إِذْ يَصح أَن يُقَال: مَذْهَب مَالك فِي أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي رفع الْحَدث طهُور،(8/4148)
أرجح من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد فِي أَنه غير طهُور، وَكَذَا فِي غَيرهَا من الْمسَائِل.
فَحِينَئِذٍ يكون النزاع لفظيا؛ إِذْ لَا تنَافِي بَين قَوْلنَا: يجوز التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب وَلَا يجوز لاخْتِلَاف مَوْضُوع الحكم بِالْكُلِّ والجزء ".
قَالَ الطوفي: وَيحْتَمل أَن يكون مأخذه النزاع فِي التصويب، من زعم أَن كل مُجْتَهد مُصِيب امْتنع التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب عِنْده، وَمن زعم أَن لَيْسَ كل مُجْتَهد بمصيب اتجه التَّرْجِيح عِنْده.
قَالَ: وَيحْتَمل أَن النزاع مَبْنِيّ على تعادل الأمارات، فَمن يمنعهُ يمْنَع التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب، وَمن يُجِيزهُ يُجِيز التَّرْجِيح وَالتَّفْصِيل.
ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح الْمُخْتَار: أَن للترجيح مدخلًا فِي كل الْمذَاهب من حَيْثُ الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل إِذا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل.
قَالَ: ثمَّ إِن التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب وَاقع بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ دَلِيل الْجَوَاز قطعا، وَذَلِكَ أَن الْمُسلمين اقتسموا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا، كمذهب(8/4149)
سُفْيَان وَدَاوُد وَغَيرهمَا، وكل من حسن ظَنّه بِمذهب تعبد بِهِ واتخذه دينا، حَتَّى غلب على مَذْهَب مَالك الْمغرب، وَمذهب أبي حنيفَة الْمشرق، وَالشَّافِعِيّ غَالب الْبِلَاد بَينهمَا، وَأحمد على أهل جيلان وَبَعض الْعرَاق، وكل من الْتزم مذهبا فَإِنَّمَا هُوَ لرجحانه عِنْده بترجيحه بِاجْتِهَادِهِ أَو تَقْلِيد، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على عدم الْإِنْكَار على من الْتزم أَي مَذْهَب شَاءَ بذلك التَّرْجِيح، فَكَانَ التَّرْجِيح فِي الْمذَاهب ثَابتا بِالْإِجْمَاع، وَأطَال فِي ذَلِك.
قلت: وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حمدَان فِي " آدَاب الْمُفْتِي " وَغَيره، وَكَذَلِكَ يُصَرح الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره بذلك فِي كثير من الْمسَائِل.(8/4150)
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: " لَا يَصح التَّرْجِيح بَين علتين إِلَّا أَن تكون كل مِنْهُمَا طَرِيقا للْحكم مُنْفَرِدَة؛ لِأَنَّهُ لَا يَصح تَرْجِيح طَرِيق على مَا لَيْسَ بطرِيق ".
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " يَقع إِن أمكن كَونه طَرِيقا قبل ثُبُوته ".
قَوْله: {ورجحان الدَّلِيل كَون الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ أقوى} .
تقدم تَعْرِيف التَّرْجِيح.
[والرجحان: صفة قَائِمَة بِالدَّلِيلِ أَو مُضَافَة إِلَيْهِ وَهِي: كَون الظَّن الْمُسْتَفَاد مِنْهُ أقوى من غَيره، كالمستفاد من قِيَاس الْعلَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاس الشّبَه، وَمن الْخَاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَام، فالترجيح فعل الْمُرَجح، والرجحان صفة الدَّلِيل.
وَيظْهر لَك الْفرق بَينهمَا أَيْضا من جِهَة التصريف اللَّفْظِيّ فَإنَّك تَقول: رجحت الدَّلِيل تَرْجِيحا فَأَنا مرجِّح، وَالدَّلِيل مرجَّح - بِفَتْح الْجِيم - وَتقول: رجح الدَّلِيل رجحانا فَهُوَ رَاجِح، إِلَّا أَنَّك أسندت التَّرْجِيح إِلَى نَفسك إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل، وأسندت الرجحان إِلَى الدَّلِيل، كَذَلِك كَانَ التَّرْجِيح وصف الْمُسْتَدلّ والرجحان وصف الدَّلِيل] .(8/4151)
[وَيجب تَقْدِيم الرَّاجِح إِجْمَاعًا، وَيكون بَين منقولين ومعقولين، ومنقول ومعقول:
الأول: فِي السَّنَد، والمتن، ومدلول اللَّفْظ، وَأمر خَارج.
السَّنَد: الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر: يرجح بِالْأَكْثَرِ رُوَاة كالأكثر أَدِلَّة فِي الْأَصَح.
وَابْن برهَان، وَالْمجد: بالأوثق.(8/4152)
وَخَالف الْكَرْخِي.
وَغَيره كَالشَّهَادَةِ والفتيا.
وَعند مَالك، وَقَول لنا: الشَّهَادَة، كالرواية.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: لَو رجح بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ لجَاز.
وَبِزِيَادَة ثِقَة، وفطنة، وورع، وَعلم، وَضبط، ولغة، وَنَحْو.(8/4153)
وباشتهاره بأحدها.
أَو أحسن سياقا.
وباعتماده على حفظه أَو ذكره.
وبعمله بروايته.
أَولا يُرْسل إِلَّا عَن عدل.(8/4154)
أَو مباشرا.
أَو صَاحب الْقِصَّة، خلافًا للجرجاني.(8/4155)
أَو مشافها، أَو أقرب عِنْد سَمَاعه.
أَو من أكَابِر الصَّحَابَة على الْأَصَح.(8/4156)
فَيقدم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وأحدهم، وذكرهما الْفَخر، والطوفي فيهم.
زَاد الطوفي: فَإِن رجحت رجحت رِوَايَة الأكابر، أَو مُتَقَدم الْإِسْلَام.(8/4157)
وَقَالَ القَاضِي، وَالْمجد، والطوفي: سَوَاء.
وَابْن عقيل وَالْأَكْثَر: الْمُتَأَخر، وبالأكثر صُحْبَة.
زَاد أَبُو الْخطاب: أَو قدمت هجرته.(8/4158)
قَالَ الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان وَجمع: أَو مَشْهُور النّسَب.
زَاد الْآمِدِيّ وَمن تبعه: أَو غير ملتبس بضعيف.
وردا.
أَو سمع بَالغا.
قَالَ ابْن عقيل: وَأهل الْحَرَمَيْنِ.
وَقيل: وبالحرية والذكورية.
وَالأَصَح: سَوَاء.(8/4159)
وَقيل: هِيَ فِي أَحْكَام النِّسَاء.
وبكثرة مزكين، وأعدليتهم وأوثقيتهم.
وَسبق تعديله بقول وَحكم وَعمل.
ومسند على مُرْسل عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر.
زَاد ابْن حمدَان والطوفي: إِلَّا مُرْسل صَحَابِيّ.
وَعند الْجِرْجَانِيّ وَأبي الْخطاب: الْمُرْسل.(8/4160)
ومرسل تَابِعِيّ على غَيره.
وبالأعلى إِسْنَادًا.
وَقَالَ القَاضِي: سَوَاء.
ومعنعن على إِسْنَاده إِلَى كتاب مُحدث، وعَلى مَشْهُور بِلَا نَكِير.
وَالْكتاب على الْمَشْهُور.(8/4161)
والشيخان على غَيرهمَا. وَقيل: السِّتَّة، فَالْبُخَارِي، فَمُسلم، فشرطهما، فَشرط البُخَارِيّ، فَمُسلم، فَمَا صحّح، ومرفوع، ومتصل على مَوْقُوف، ومنقطع، ومتفق على رَفعه أَو وَصله على مُخْتَلف فِيهِ.(8/4162)
وَسبق قِرَاءَة الشَّيْخ وَغَيرهَا.
وَرِوَايَة متفقة على مُخْتَلفَة مضطربة.
وَقيل: سَوَاء.
وَقيل: فِيمَا اتفقَا، وَيسْقط غَيره.
وَقيل: يسقطان وَيعْمل بِمَا لم يخْتَلف.(8/4163)
وَقدم الْفَخر، والطوفي: مَا ورد بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة متفقة الْمَعْنى.
وَمَا سمع مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على كِتَابَة، قَالَه الْجِرْجَانِيّ، وَابْن عقيل، وَالْمجد، والآمدي.
وَقَالَ أَحْمد: سَوَاء.
فَيحْتَمل فِي الْحجَّة، وَيحْتَمل لَا تَرْجِيح كَالْقَاضِي، وَابْن الْبَنَّا.
وَمَا سمع مِنْهُ على مَا سكت عَنهُ مَعَ حُضُوره.(8/4164)
وَهُوَ على غيبته، إِلَّا مَا خطر السُّكُوت عَنهُ أعظم.
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعله.
وثالثتها سَوَاء.
وَمَا لَا تعم بِهِ الْبلوى فِي الْآحَاد.
وَمَا لم يُنكره الْمَرْوِيّ عَنهُ.(8/4165)
وَمَا أنكرهُ نِسْيَانا على غَيره فِيهِنَّ.
الْمَتْن: يرجح نهي على أَمر.
وَأمر على مُبِيح.
وَعكس الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والهندي.(8/4166)
فعلى الأول يرجح نهي عَلَيْهِ، وعَلى الثَّانِي: عَكسه.
وَالْخَبَر على الثَّلَاثَة.
ومتواط على مُشْتَرك.
ومشترك قل مَدْلُوله على مَا كثر.
قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا: وبظهور أحد الْمَعْنيين اسْتِعْمَالا.(8/4167)
وَابْن حمدَان: ومشترك بَين علمين، أَو علم، وَمعنى على مَعْنيين.
والبيضاوي: وعلمين على علم وَمعنى.
ومجاز، على مجَاز: بشهرة علاقته، وبقوتها، وبقرب جِهَته، وبرجحان دَلِيله، وبشهرة اسْتِعْمَاله.(8/4168)
ومجاز على مُشْتَرك فِي الْأَصَح.
وَتَخْصِيص على مجَاز.
وهما على إِضْمَار.
وَفِي " الْمقنع ": هُوَ.
وَقيل: هُوَ ومجاز: سَوَاء، جزم بِهِ بعض أَصْحَابنَا.
وَالثَّلَاثَة على نقل.
وَهُوَ على مُشْتَرك قطع بِهِ فِي " الْمقنع " وَغَيره] .(8/4169)
[قَوْله] { [وَحَقِيقَة مُتَّفق عَلَيْهَا، وَالْأَشْهر مِنْهَا وَمن مجَاز على عَكسه] } .
[يَعْنِي أَن الْحَقِيقَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا تقدم على عكسها، وَهِي الْحَقِيقَة الْمُخْتَلف فِيهَا] .
[وَالتَّرْجِيح] فِيهَا وَاضح، وَكَذَا تَرْجِيح الْأَشْهر من الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على عَكسه، سَوَاء كَانَت الشُّهْرَة فِي اللُّغَة أَو الشَّرْع أَو الْعرف.
قَوْله: {وَسبق مجَاز رَاجِح وَحَقِيقَة مرجوحة} .
فِي أَحْكَام الْمجَاز أَو الْكتاب، فَليُرَاجع.
قَوْله: {ولغوي مُسْتَعْمل شرعا فِي لغَوِيّ على مَنْقُول شَرْعِي} .
يرجح اللَّفْظ اللّغَوِيّ الْمُسْتَعْمل شرعا فِي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ على الْمَنْقُول الشَّرْعِيّ؛ لِأَن الأَصْل مُوَافقَة الشَّرْع لَا اللُّغَة.(8/4170)
قَوْله: {ويرجح مُنْفَرد، وَمَا قل مجازه، أَو تعدّدت جِهَة دلَالَته، أَو تأكدت، أَو كَانَت جِهَة مطابقته} .
مَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لَو اسْتعْمل الشَّارِع لفظا لغويا فِي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَيقدم على الْمَنْقُول الشَّرْعِيّ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة إِذا اسْتعْمل الشَّارِع لفظا لغويا فِي معنى شَرْعِي فَإِنَّهُ يقدم على اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي اللُّغَة لِمَعْنى، وَهَذَا معنى قَوْلنَا: (ويرجح مُنْفَرد) فَإِن الْمَعْهُود من الشَّارِع إِطْلَاق اللَّفْظ فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ؛ وَلذَلِك قدم.
ويرجح أَيْضا مَا قل مجازه على مَا كثر مجازه؛ لِأَن بِكَثْرَة الْمجَاز يضعف، فَلذَلِك قدم مَا قل مجازه، وَهَذِه الصُّورَة ذكرهَا ابْن مُفْلِح.
ويرجح مَا أكد دلَالَته، بِأَن تَتَعَدَّد جِهَات دلَالَته وَيكون أقوى، وَالْآخر تتحد جِهَة دلَالَته، أَو يكون أَضْعَف نَحْو: " نِكَاحهَا بَاطِل بَاطِل ".(8/4171)
وكما تقدم دلَالَة الْمُطَابقَة على دلَالَة الِالْتِزَام، قَالَه الْعَضُد.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": " ويرجح أحد المتعارضين بتأكيد الدّلَالَة، مثل أَن يكون أحد المتعارضين خَاصّا عطف على عَام تنَاوله، والمعارض الآخر خَاص لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْمَعْطُوف على الْعَام أكد دلَالَته بِدلَالَة الْعَام عَلَيْهِ، مثل قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238] " انْتهى.
قَوْله: {وَفِي اقْتِضَاء ضَرُورَة صدق الْمُتَكَلّم على ضَرُورَة وُقُوعه شرعا أَو عقلا، وعقلا على شرعا، وَفِي إِيمَاء: بِمَا لولاه لَكَانَ فِي الْكَلَام عَبث أَو حَشْو على غَيره} .
يرجح فِي الِاقْتِضَاء مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ غير ضَرُورَة الصدْق مثل: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ " على مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ ضَرُورَة وُقُوعه شرعا أَو عقلا، مثل:(8/4172)
أعتق عَبدك عني، أَو صعدت السَّطْح؛ لِأَن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صدق الْمُتَكَلّم أولى مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ وُقُوعه الشَّرْعِيّ والعقلي؛ نظرا إِلَى بعد الْكَذِب فِي كَلَام الشَّرْع.
قَوْله: {وعقلا على شرعا} .
أَي: على وُقُوعه، قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره.
ويرجح فِي الْإِيمَاء مَا لولاه لَكَانَ فِي الْكَلَام عَبث وحشو على غَيره من أَقسَام الْإِيمَاء، مثل أَن يذكر الشَّارِع مَعَ الحكم وَصفا لَو لم يُعلل الحكم بِهِ لَكَانَ ذكره عَبَثا أَو حَشْوًا، فَإِنَّهُ يقدم على الْإِيمَاء بِمَا رتب فِيهِ الحكم بفاء التعقيب؛ لِأَن نفي الْعَبَث والحشو فِي كَلَام الشَّارِع أولى.
قَوْله: {وَمَفْهُوم مُوَافقَة على مُخَالفَة وَعكس الْهِنْدِيّ} .
مَا دلّ بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة مقدم على مَا كَانَ مَفْهُوم الْمُخَالفَة، لِأَن الْمُوَافقَة بِاتِّفَاق فِي دلالتها على الْمَسْكُوت، وَإِن اخْتلف فِي جِهَته هَل هُوَ بِالْمَفْهُومِ أَو بِالْقِيَاسِ، أَو مجَاز بِالْقَرِينَةِ، أَو مَنْقُول عرفي، كَمَا سبق مبرهن عَلَيْهِ.(8/4173)
قَالَ الْآمِدِيّ: وَقد يُمكن تَرْجِيح الْمُخَالفَة لفائدة التأسيس.
وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ.
قَوْله: {واقتضاء على إِشَارَة وإيماء وَمَفْهُوم، قَالَ الْآمِدِيّ: وإيماء على مَفْهُوم، وَقَالَ الشَّيْخ: التَّنْبِيه كنص أَو أقوى} .
يقدم الِاقْتِضَاء على الْإِشَارَة، وعَلى الْإِيمَاء، وعَلى الْمَفْهُوم؛ لِأَنَّهُ مَقْصُود بإيراد اللَّفْظ صدقا أَو حصولا، ويتوقف الأَصْل عَلَيْهِ، ومقطوع بِثُبُوتِهِ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: " أما تَرْجِيحه على الْإِشَارَة فَلِأَن الِاقْتِضَاء مَقْصُود بإيراد اللَّفْظ صدقا أَو حصولا ويتوقف الأَصْل عَلَيْهِ، بِخِلَاف الْإِشَارَة فَإِنَّهَا لم تقصد بإيراد اللَّفْظ وَإِن توقف الأَصْل عَلَيْهَا، وَأما تَرْجِيحه على الْإِيمَاء فَلِأَن الْإِيمَاء - وَإِن كَانَ مَقْصُودا بأفراد اللَّفْظ - لكنه لم يتَوَقَّف الأَصْل عَلَيْهِ، وَأما تَرْجِيحه على الْمَفْهُوم؛ فَلِأَن الِاقْتِضَاء مَقْطُوع بِثُبُوتِهِ، وَالْمَفْهُوم مظنون ثُبُوته، وَلذَلِك لم يقل بِالْمَفْهُومِ بعض من قَالَ بالاقتضاء " انْتهى.(8/4174)
قَالَ الْآمِدِيّ: وَيقدم الْإِيمَاء على الْمَفْهُوم لقلَّة مبطلاته.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن تَقْدِيم أبي الْخطاب النَّص على التَّنْبِيه:
" لَيْسَ بجيد، لِأَنَّهَا مثله أَو أقوى ".
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا فِي مَسْأَلَة الْوَقْف - كتب عَلَيْهَا خمس كراريس فِي أَثْنَائِهَا -: " فَإِن نقل نصيب الْمَيِّت إِلَى ذَوي طبقته إِذا لم يكن لَهُ ولد دون سَائِر أهل الْوَقْف، تَنْبِيه على أَنه يَنْقُلهُ إِلَى وَلَده إِن كَانَ لَهُ ولد، والتنبيه دَلِيل أقوى من النَّص حَتَّى فِي شُرُوط الواقفين ".
قَوْله: {وَتَخْصِيص عَام على تَأْوِيل خَاص، وخاص وَلَو من وَجه، فَكَذَا مَا قرب مِنْهُ، وعام لم يخصص، أَو قل تَخْصِيصه على عَكسه} .(8/4175)
يرجح تَخْصِيص الْعَام على تَأْوِيل الْخَاص؛ لِأَن تَخْصِيص الْعَام كثير وَتَأْويل الْخَاص لَيْسَ بِكَثِير؛ وَلِأَن الدَّلِيل لما دلّ على عدم إِرَادَة الْبَعْض تعين كَون الْبَاقِي مرَادا، وَإِذا دلّ على أَن الظَّاهِر الْخَاص أقوى غير مُرَاد لم يتَعَيَّن هَذَا التَّأْوِيل.
ويرجح الْخَاص على الْعَام.
وَيرجع الْخَاص من وَجه على الْعَام مُطلقًا؛ لِأَن الْخَاص أقوى دلَالَة من الْعَام، فَكَذَا كل مَا هُوَ أقرب.
ويرجح الْعَام الَّذِي لم يخصص على الْعَام الَّذِي خصص؛ لِأَن الْعَام(8/4176)
بعد التَّخْصِيص اخْتلف فِي كَونه حجَّة بِخِلَاف الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه
قَوْله: {ومقيد وَمُطلق كعام وخاص} .
حكم الْمُقَيد وَالْمُطلق حكم الْخَاص وَالْعَام، فَيقدم الْمُقَيد وَلَو من وَجه على الْمُطلق، وَالْمُطلق لم يخرج مِنْهُ مُقَيّد على مَا أخرج مِنْهُ، قَالَه الْعَضُد.
قَوْله: {وعام شرطي ك " من " و " مَا " على غَيره، وَرجح الْهِنْدِيّ: النكرَة المنفية، فَظَاهر كَلَام أبي الْمَعَالِي: سَوَاء، ويرجح جمع واسْمه معرفان ب " اللَّام "، و " من " و " مَا " على الْجِنْس بِاللَّامِ، وَقيل يرجح مُنكر على معرف، قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وفصيح لَا أفْصح، وَلم يذكرهُ الْأَكْثَر} .
إِذا تَعَارَضَت صِيغ الْعُمُوم فصيغة الشَّرْط بِصَرِيح ك " من " و " مَا " و " أَي " تقدم على صِيغَة النكرَة الْوَاقِعَة فِي صِيغَة النَّفْي وَغَيرهَا، كالجمع الْمحلى.(8/4177)
والمضاف وَنَحْوهمَا، لدلَالَة الأول على كَون ذَلِك عِلّة للْحكم، وَهُوَ أدل على الْمَقْصُود مِمَّا لَا عِلّة فِيهِ، إِذْ لَو ألغينا الْعَام الشرطي كَانَ إِلْغَاء لِلْعِلَّةِ، بِخِلَاف الْعَام غير الشرطي لَا يلْزم بِهِ إِلْغَاء الْعلَّة، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي " الْمَحْصُول " من أَن عُمُوم الأول بِالْوَضْعِ وَالثَّانِي بِالْقَرِينَةِ.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يُمكن هَذَا، وَيُمكن تَرْجِيح النكرَة المنفية؛ لِأَنَّهُ بعد خُرُوج وَاحِد مِنْهُ خلفا.
وَهَذَا اخْتَارَهُ الصفي الْهِنْدِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَكَانَ وَجهه أَن طروق التَّخْصِيص إِلَيْهِ بعيد، لبعد أَن يُقَال فِي " لَا رجل فِي الدَّار ": إِن فِيهَا فلَانا.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": لَا فرق بَين الْعُمُوم الشرطي والنكرة المنفية فِي معنى الْعُمُوم، وَأَنه يقطع بِأَن الْعَرَب وضعتهما كَذَلِك)(8/4178)
انْتهى.
ويرجح الْجمع، وَاسم الْجمع، الْمُعَرّف بِاللَّامِ، و " من " و " مَا " على اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف بِاللَّامِ، لِأَن الْجِنْس الْمحلى بِاللَّامِ اخْتلف الْمُحَقِّقُونَ فِي عُمُومه بِخِلَاف الْجمع واسْمه الْمُعَرّف بِاللَّامِ، و " من " و " مَا "؛ لِأَن الْجمع واسْمه لَا يحْتَمل الْعَهْد، أَو يحْتَملهُ على بعد، بِخِلَاف اسْم الْجِنْس الْمحلى بِاللَّامِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمل للْعهد احْتِمَالا قَرِيبا.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَرُبمَا رجح جمع مُنكر على معرف لقُرْبه من الْخُصُوص. انْتهى.
قَوْله: {قَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره وفصيح لَا أفْصح} .
مَا كَانَ فصيحا مقدم على مَا لم يستكمل شُرُوط الفصاحة.(8/4179)
وَهِي كَمَا ذكر البيانيون: سَلامَة الْمُفْرد من تنافر الْحُرُوف، والغرابة، وَمُخَالفَة الْقيَاس، وَفِي الْمركب سَلَامَته من ضعف التَّأْلِيف وتنافر الْكَلِمَات والتعقيد مَعَ فصاحتها، وَمحله علم الْبَيَان.
وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ فِي اللَّفْظ الْمَرْوِيّ ركاكة لَا يقبل.
وَالْحق أَنه يقبل إِذا صَحَّ السَّنَد، وَيحمل على أَن الرَّاوِي رَوَاهُ بِلَفْظ نَفسه.
وَأما مَا كَانَ زَائِد الفصاحة فَلَا يرجح على غَيره، فَإِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْطق بالفصيح وبالأفصح، فَلَا فرق بَين ثبوتهما عَنهُ، وَالْكَلَام فِي سوى ذَلِك(8/4180)
لَا سِيمَا إِذا خَاطب من لَا يعرف تِلْكَ اللُّغَة الَّتِي لَيست بأفصح لقصد إفهامهم.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: فيرجح الفصيح لَا الْأَفْصَح.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وزائد الفصاحة، قَالَ فِي " شَرحه ": وَلم أقل أفْصح كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن الْأَفْصَح يكون فِي كلمة وَاحِدَة لُغَتَانِ أَحدهمَا أفْصح، بِخِلَاف زَائِد الفصاحة فَإِنَّهُ يكون فِي كَلِمَات مِنْهَا الفصيح، والأفصح فِيهَا أَكثر، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَن يجْرِي ذَلِك فِي البليغ فَلَا يرجح على الفصيح.
والبلاغة كَمَا قَالَ البيانيون: مُطَابقَة الْكَلَام لمقْتَضى الْحَال) .
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد كَلَام الْبَيْضَاوِيّ: " [مَعْنَاهُ] لبَعض أَصْحَابنَا وَلم يذكرهُ أَكْثَرهم ".
وَتقدم حكم الْإِجْمَاع وتقديمه فِي أول تَرْتِيب الْأَدِلَّة فليعاود.
قَوْله: {الْمَدْلُول} .(8/4181)
معنى مَدْلُول اللَّفْظ، أَي: معنى اللَّفْظ، وَكَذَلِكَ مَفْهُوم اللَّفْظ، أَي: مَعْنَاهُ، لَا الْمَفْهُوم الْمُقَابل للمنطوق، فَاعْلَم ذَلِك وَهُوَ وَاضح، فَالْأول كَقَوْلِهِم: إِذا اتَّحد اللَّفْظ ومدلوله - كَمَا تقدم أول الْكتاب - أَي: مَعْنَاهُ.
وَإِذا علم ذَلِك {فَقَالَ أَحْمد، وَأَصْحَابه، والكرخي، والرازي، وَغَيرهم: يرجح حظر على إِبَاحَة، وَابْن حمدَان عكس، وَالْغَزالِيّ وَغَيره: سَوَاء وعَلى كَرَاهَة وَندب، وَوُجُوب وَندب على إِبَاحَة، وَوُجُوب وَكَرَاهَة على ندب} .
لما فَرغْنَا من التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَتْن شرعنا فِي التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَدْلُول، فيرجح مَا مَدْلُوله الْحَظْر على مَا مَدْلُوله الْإِبَاحَة؛ لِأَن فعل الْحَظْر يسْتَلْزم مفْسدَة بِخِلَاف الْإِبَاحَة، لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِفِعْلِهَا وَلَا تَركهَا مصلحَة وَلَا مفْسدَة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلِيهِ أَحْمد، وَأَصْحَابه، والكرخي،(8/4182)
والرازي، وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر، وأصحابهم، لِأَنَّهُ أحوط.
وَاسْتدلَّ: بِتَحْرِيم متولد بَين مَأْكُول وَغَيره، وَجَارِيَة مُشْتَركَة.
رد: لم تحصل جِهَة إِبَاحَة الْمُبِيح، لِأَن الْمُبِيح ملك جَمِيعهَا، وانفراد الْمُبَاح بالمتولد مِنْهُ.
وَعكس ابْن حمدَان، وَغَيره، فَقَالَ: ترجح الْإِبَاحَة على الْحَظْر؛(8/4183)
لِأَن الْإِبَاحَة تَسْتَلْزِم نفي الْحَرج الَّذِي هُوَ الأَصْل.
وَقيل: يستويان، ويسقطان، حَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن أبي هَاشم وَابْن أبان، وَرجحه الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ".
ويرجح الْحَظْر أَيْضا على الْكَرَاهَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا اجْتمع الْحَلَال وَالْحرَام إِلَّا غلب الْحَرَام " لِأَنَّهُ أحوط.(8/4184)
ويرجح أَيْضا الْحَظْر على النّدب؛ لِأَن النّدب لتَحْصِيل الْمصلحَة، والحظر لدفع الْمفْسدَة، وَدفع الْمفْسدَة أهم من تَحْصِيل الْمصلحَة فِي نظر الْعُقَلَاء.
ويرجح - أَيْضا - على الْوُجُوب، لِأَن دفع الْمفْسدَة أهم، كَمَا تقدم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " يقدم على ندب وَوُجُوب؛ لِأَن دفع الْمفْسدَة [أهم] بِدَلِيل ترك مصلحَة لمفسدة مُسَاوِيَة، وَشرع عُقُوبَته أَكثر كرجم زَان مُحصن؛ وَلِأَن إفضاء الْحُرْمَة إِلَى مقصودها أتم لحصوله بِالتّرْكِ قَصده أَولا بِخِلَاف الْوَاجِب ".
ويرجح أَيْضا ندب على إِبَاحَة هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.(8/4185)
لَكِن الْهِنْدِيّ نَازع فِي ذَلِك، فَقَالَ: " يُمكن أَن يرجح الْإِبَاحَة بِكَوْنِهِ متأيدا بِالْأَصْلِ فِي جَانب الْفِعْل وَالتّرْك، وبكونه أَعم، وأسهل من حَيْثُ كَونه مفوضا إِلَى خيرة الْمُكَلف، وَمن حَيْثُ لَا إِجْمَال فِي الصِّيغَة الدَّالَّة عَلَيْهِ بِخِلَاف النّدب، فَإِنَّهُ يثبت بِصِيغَة الْأَمر، وفيهَا الْإِجْمَال " انْتهى.
ويرجح - أَيْضا -: وجوب على ندب للِاحْتِيَاط فِي الْعَمَل بِهِ.
ويرجح - أَيْضا -: كَرَاهَة على ندب كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: {ومثبت على ناف عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، وَغَيرهم، وَفِي " الْكِفَايَة " وَأَبُو الْحُسَيْن: سَوَاء، وَالْمرَاد مَا قَالَه الْفَخر، والطوفي: إِن أسْند النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ، وَفِي الْخلاف والانتصار والآمدي: النَّفْي، وَقيل: إِن وَافق نفيا أَصْلِيًّا وَكَذَا العلتان} .
يرجح الْمُثبت على النَّافِي عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ،(8/4186)
وأصحابهما، وَغَيرهم، وَجزم بِهِ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيرهم من الْأَصْحَاب، وَغَيرهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: يرجح عِنْد الْفُقَهَاء، كدخوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْت، قَالَ بِلَال:(8/4187)
" صلى فِيهِ "، وَقَالَ أُسَامَة: " لم يصل "، وَكَذَا ابْن عَبَّاس،(8/4188)
فَأخذ بقول بِلَال وَسن الصَّلَاة فِي الْبَيْت المشرف.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْكِفَايَة "، وَأَبُو الْحُسَيْن: هما سَوَاء، فَلَا يرجح أَحدهمَا على الآخر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَالْمرَاد مَا قَالَه الْفَخر إِسْمَاعِيل - وَتَبعهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " إِن اسْتندَ النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ لعلمه بجهات إثْبَاته فَسَوَاء ".
قلت: وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا وَالَّذِي قبله سَوَاء، أَعنِي بِلَا خلاف.
وَمعنى استناد النَّفْي إِلَى علم بِالْعدمِ: أَن يَقُول الرَّاوِي: أعلم أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل فِي الْبَيْت؛ لِأَنِّي كنت مَعَه فِيهِ، وَلم يغب على نَظَرِي طرفَة عين فِيهِ، وَلم أره صلى فِيهِ، أَو قَالَ: أَخْبرنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه لم يصل فِيهِ، أَو قَالَ: أعلم أَن فلَانا لم يقتل زيدا؛ لِأَنِّي رَأَيْت زيدا حَيا بعد موت فلَان، أَو(8/4189)
بعد الزَّمن الَّذِي أخبر الْجَانِي أَنه قَتله فِيهِ، فَهَذَا يقبل لاستناده إِلَى مدرك علمي، وَيَسْتَوِي هُوَ وَإِثْبَات الْمُثبت فيتعارضان، وَيطْلب الْمُرَجح من خَارج.
وَكَذَا حكم كل شَهَادَة نَافِيَة استندت إِلَى علم بِالنَّفْيِ لَا إِلَى [نفي] الْعلم فَإِنَّهَا تعَارض المثبتة، لِأَنَّهَا تساويها، أَو هما فِي الْحَقِيقَة مثبتان؛ لِأَن أَحدهمَا تثبت الْمَشْهُود بِهِ، وَالْأُخْرَى تثبت الْعلم بِعَدَمِهِ.
وَكَذَا حكم الشَّهَادَة من غير معَارض تقبل فِي النَّفْي إِذا كَانَ النَّفْي محصورا.
فَقَوْلهم: لَا تقبل الشَّهَادَة بِالنَّفْيِ مُرَادهم إِذا لم تكن محصورة، فَإِن كَانَت محصورة قبلت قَالَه الْأَصْحَاب، وَقد ذكر ذَلِك الْأَصْحَاب فِي الشَّهَادَة فِي الْإِعْسَار وَفِي حصر الْإِرْث فِي فلَان.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْخلاف "، وَأَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار "، فِي(8/4190)
حَدِيث ابْن مَسْعُود لَيْلَة الْجِنّ:(8/4191)
النَّفْي أولى.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ.(8/4192)
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ صَاحب " الْإِيضَاح " فِي تَرْجِيح مَا وَافق نفيا أَصْلِيًّا: وَجْهَان، وَكَذَا العلتان.
وَقَالَ القَاضِي - أَيْضا - فِي " الْخلاف " عَن نفي صلَاته على شُهَدَاء أحد: الزِّيَادَة مَعَه هُنَا؛ لِأَن الأَصْل غسل الْمَيِّت وَالصَّلَاة عَلَيْهِ، ثمَّ سَوَاء.
وَقَالَ عبد الْجَبَّار: يتساويان لتقابل المرجحين.
وَقيل: إِن كَانَ فِي طَلَاق وعتاق، قدم النَّافِي وَإِلَّا الْمُثبت.(8/4193)
وَقيل: بِالْعَكْسِ.
وَقيل: لَا يتعارضان لِامْتِنَاع التَّعَارُض بَين الْفِعْلَيْنِ، لاحْتِمَال وقوعهما فِي حَالين.
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن مَعَ الْمُثبت زِيَادَة علم.
قَالُوا: يُؤَخر النَّفْي ليَكُون فَائِدَته التأسيس.
رد: فِيهِ رفع حكم الْمُثبت.
فَإِن عورض بِمثلِهِ.
رد: إِن صَحَّ فَرفع مَا فَائِدَته التَّأْكِيد بِخِلَاف الْعَكْس.
فَإِن قيل: بل رفع حكما تأسيسيا وَهُوَ الْبَاقِي على الْحَال الْأَصْلِيّ، وَزِيَادَة تَأْكِيد النَّافِي بِخِلَاف الْعَكْس.
رد بِالْمَنْعِ.
قَوْله: {وناقل عَن الأَصْل، وَعند الرَّازِيّ والبيضاوي والطوفي الْمُقَرّر} .(8/4194)
إِذا تعَارض حكمان أَحدهمَا مُقَرر للْحكم الْأَصْلِيّ، وَالْآخر ناقل عَن حكم الأَصْل.
فالناقل مقدم عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ يُفِيد حكما شَرْعِيًّا لَيْسَ مَوْجُودا فِي الآخر، كَحَدِيث: " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ "، مَعَ حَدِيث: " هَل هُوَ إِلَّا بضعَة مِنْك؟ ".(8/4195)
والمخالف فِي ذَلِك الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه: كالبيضاوي، وَغَيره.
فَقَالُوا: يتَرَجَّح الْمُقَرّر؛ لِأَن الْحمل على مَا لَا يُسْتَفَاد إِلَّا من الشَّرْع أولى مِمَّا يُسْتَفَاد من الْعقل.(8/4196)
وَاخْتَارَهُ الطوفي فِي " شَرحه " فَقَالَ: وَالْأَشْبَه تَقْدِيم الْمُقَرّر لاعتضاده بِدَلِيل الأَصْل، قَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَه بقواعده، وقواعد غَيره فِي اعْتِبَار التَّرْجِيح مِمَّا يصلح لَهُ، وَالْيَد صَالِحَة للترجيح انْتهى.
قيل: وَالتَّحْقِيق فِي الْمَسْأَلَة تَفْصِيل، وَهُوَ أَنه يرجح الْمُقَرّر فِيمَا إِذا تقرر حكم النَّاقِل مُدَّة فِي الشَّرْع عِنْد الْمُجْتَهد، وَعمل بِمُوجبِه، ثمَّ نقل لَهُ الْمُقَرّر وَجَهل التَّارِيخ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عمل بالخبرين النَّاقِل فِي زمَان والمقرر بعد ذَلِك، فَأَما إِن كَانَ الثَّابِت بِمُقْتَضى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَنقل الخبران، فَإِنَّهُمَا يتعارضان هُنَا، وَيرجع إِلَى الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة.
بل عبد الْجَبَّار يَقُول: إِن تَقْدِيم النَّاقِل أَو الْمُقَرّر على الِاخْتِلَاف لَيْسَ من بَاب التَّرْجِيح بل من بَاب النّسخ.
وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف رَفعه على مَا يرفع بِهِ الحكم(8/4197)
الشَّرْعِيّ.
قَوْله: {وداريء حد، وَفِي " الْكِفَايَة " و " الْوَاضِح "، وَابْن الْبناء وَقَالَ: هُوَ الْمَذْهَب: الْمُثبت، وَفِي " الْعدة ": سَوَاء كالغزالي، والموفق} .
الصَّحِيح أَن داريء الْحَد مقدم على مثبته.
قَالَ الشريف أَبُو جَعْفَر، والحلواني من أَصْحَابنَا يقدم نافي الْحَد على مثبته، وَرجحه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.(8/4198)
لِأَن الْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ، رُوِيَ عَن الصَّحَابَة، وَفِيه أَخْبَار ضَعِيفَة، ولقلة مبطلات نَفْيه، وكتعارض بينتين، وَلِأَن إثْبَاته خلاف دَلِيل نَفْيه.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَلِأَن الْخَطَأ فِي نفي الْعقُوبَة أولى من الْخَطَأ فِي تحقيقها، على مَا قَالَه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لِأَن تخطيء فِي الْعَفو خير من أَن تخطيء فِي الْعقُوبَة ".
وَاخْتَارَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْعدة "، وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار، والموفق، وَالْغَزالِيّ: أَنَّهُمَا سَوَاء.
لِأَن الشُّبْهَة لَا تُؤثر فِي ثُبُوت مشروعيته بِدَلِيل أَنه يثبت بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس مَعَ قيام الِاحْتِمَال، فالحد إِنَّمَا يُؤثر فِي إِسْقَاطه لشبهته، وَإِذا كَانَت فِي نفس الْفِعْل أَو بالاختلاف فِي حكمه، كَأَن يبيحه قوم ويحرمه آخَرُونَ كَالْوَطْءِ فِي نِكَاح بِلَا ولي أَو بِلَا شُهُود.(8/4199)
وَلَيْسَ الْخلاف لفظيا كَمَا قد يتَوَهَّم من أَن قَول التَّسَاوِي يؤول إِلَى تَقْدِيم النَّافِي، فَإِنَّهُمَا يتعارضان فيتساقطان، وَيرجع إِلَى غَيرهمَا، فَإِن كَانَ هُنَاكَ دَلِيل شَرْعِي حكم بِهِ، وَإِلَّا نفي الآخر على الأَصْل، فَيلْزم نفي الْحَد، بل الْخلاف معنوي على الصَّوَاب، فَإِن الأول يَنْفِي الْحَد بالحكم الشَّرْعِيّ، وَالْآخر يَقُول بِالنَّفْيِ استصحابا للْأَصْل.
وَقدم القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " الْمُثبت، وَقَالَهُ: ابْن الْبَنَّا، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، لتقديم أَحْمد خبر عبَادَة فِي " الْجلد وَالرَّجم " لإثباته بِخَبَر(8/4200)
وَاحِد وَقِيَاس، لِأَن الْمُوجب للحد يُوَافق التأسيس، وموافقة التأسيس أولى من مُوَافقَة النَّفْي الْأَصْلِيّ، لِأَن التأسيس يُفِيد فَائِدَة زَائِدَة.
رد: لَا شُبْهَة فيهمَا.
قَالَ الطوفي: قلت: " فَهُوَ من بَاب تعَارض النَّاقِل والمقرر ".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " مَوْضُوع هَذِه الْمَسْأَلَة أَن يكون الْإِثْبَات وَالنَّفْي شرعيين، فَأَما إِن كَانَ النَّفْي بِاعْتِبَار الأَصْل فَهُوَ مَسْأَلَة النَّاقِل والمقرر السَّابِقَة ". انْتهى.
قَوْله: {وَمُوجب عتق وَطَلَاق، وَقيل نافيهما، وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء كَعبد الْجَبَّار} .
أَدخل جمَاعَة هَذِه الصُّورَة فِي جملَة صور الْمُقَرّر والناقل، وَحكي الْخلاف فِي الْجَمِيع، وحكوا قولا بِالْفرقِ بَين الْعتْق وَالطَّلَاق وَغَيرهمَا، وأفردهما جمَاعَة، وَلَا شكّ أَنَّهُمَا من جمل النَّفْي وَالْإِثْبَات.
إِذا علم ذَلِك فرجح أَبُو الْخطاب تَقْدِيم مُوجب الْعتْق، وَذكره قَول غير عبد الْجَبَّار.(8/4201)
وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة أَو الْكَرْخِي مِنْهُم، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن الْحَاجِب لقلَّة سَبَب مُبْطل الْحُرِّيَّة وَلَا تبطل بعد ثُبُوتهَا، ولموافقة النَّفْي الْأَصْلِيّ رفع العقد.
وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء، كَعبد الْجَبَّار، لِأَنَّهُمَا حكمان.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال تقدم النَّفْي - كَقَوْل بَعضهم -(8/4202)
لموافقة دَلِيل بَقَاء الصِّحَّة، وَمثله الطَّلَاق " انْتهى.
ويحتمله كَلَام الطوفي فِي " مُخْتَصره ".
قَوْله: {وَفِي تكليفي على وضعي، ثالثهما سَوَاء فِي ظَاهر كَلَامهم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يذكر أَصْحَابنَا تَرْجِيح حكم تكليفي على وضعي، فَظَاهره: سَوَاء " انْتهى.
لِأَنَّهُ مَقْصُود بِالذَّاتِ، وَأكْثر فِي الْأَحْكَام، فَكَانَ أولى، وَهُوَ الَّذِي قدمه ابْن الْحَاجِب.
وَقد ذكر الْمَسْأَلَة غير الْأَصْحَاب وَذكروا فِيهَا خلافًا، وَالصَّحِيح عِنْدهم تَقْدِيم الحكم التكليفي كالاقتضاء وَنَحْوه على الوضعي، كالصحة وَنَحْوهَا، لِأَنَّهُ مُحَصل للثَّواب.
وَقيل: بل يقدم الوضعي؛ لِأَنَّهُ لَا يتَوَقَّف على فهم الْمُكَلف للخطاب(8/4203)
وَلَا يُمكنهُ من الْفِعْل، بِخِلَاف التكليفي فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على ذَلِك، وَهَذَا الَّذِي قدمه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وأخف على أثقل، وَعكس القَاضِي، وَظَاهر " الرَّوْضَة ": سَوَاء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَيتَوَجَّهُ فِي تَقْدِيم الأخف وَعَكسه احْتِمَالَانِ، وَذكر الْآمِدِيّ قَوْلَيْنِ؛ لِأَن الشَّرِيعَة سَمْحَة، وَثقله لتأكيد الْمَقْصُود مِنْهُ.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَرجح قوم الْعلَّة لخفة حكمهَا.
وَعكس آخَرُونَ وَهِي ترجيحات ضَعِيفَة، فَظَاهره التَّسْوِيَة) .
وَالصَّحِيح أَن التكليفي الأخف يرجح على الأثقل، لقَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} [الْبَقَرَة: 185] ، وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار فِي الْإِسْلَام ".(8/4204)
وَقيل: يقدم الأثقل، لِأَنَّهُ أَكثر ثَوابًا، وَهُوَ الَّذِي نقلته عَن القَاضِي، وَلم أعلم الْآن من أَيْن نقلته، ثمَّ رَأَيْتنِي فِي " المسودة " الَّذِي يظْهر لي أَنِّي أخذت اخْتِيَار القَاضِي من كَلَام الطوفي فِي " مُخْتَصره " من قَوْله: " وَمَا اشْتَمَل على وَعِيد على غَيره احْتِيَاطًا عِنْد القَاضِي ".
فَإِنَّهُ ذكر فِي " الشَّرْح ": " إِذا تعَارض الحاظر والمبيح أَو مَا تضمن وعيدا أَو غَيره احْتمل الْخلاف، قَالَ: وَهُوَ شَبيه أَيْضا بِمَا سبق فِيمَا إِذا تَعَارَضَت فتيا مجتهدين عِنْد الْمُقَلّد هَل يَأْخُذ بالأخف أَو الأثقل؟ نظر إِلَى الدَّلِيل المتعارض هُنَاكَ، وَإِلَى الِاحْتِيَاط تَارَة، وَإِلَى عُمُوم التَّخْفِيف فِي الشَّرِيعَة أُخْرَى " انْتهى.
وَتقدم مَرَاتِب المفاهيم والمقدم مِنْهَا فِي آخر فَصله.
قَوْله: {الْخَارِج يرجح مَا وَافق دَلِيلا آخر، فَيقدم الْخَبَر على الأقيسة، وَقيل: لَا، إِن تعدد أَصْلهَا وَإِلَّا فمتحدة، فَإِن تعَارض قُرْآن وَسنة وَأمكن بِنَاء كل مِنْهُمَا على الآخر كخنزير المَاء، قدم ظَاهر سنة فِي ظَاهر كَلَامه، وَيحْتَمل عَكسه، وَبنى القَاضِي عَلَيْهَا خبرين مَعَ أَحدهمَا ظَاهر قُرْآن وَالْآخر ظَاهر سنة، وَذكر الْفَخر فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَا ابْن عقيل وَبنى الأولى عَلَيْهَا} .(8/4205)
لما فَرغْنَا من التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْمَدْلُول، شرعنا فِي التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى أَمر خَارج، وَهُوَ تَرْجِيح بِأُمُور لَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا الدَّلِيل لَا فِي وجوده وَلَا فِي صِحَّته ودلالته، لَكِن يتَرَجَّح الدَّلِيل الْمُوَافق لدَلِيل آخر على الدَّلِيل الَّذِي لَا يُوَافقهُ دَلِيل آخر؛ لِأَن الظَّن الْحَاصِل من الدَّلِيلَيْنِ أقوى من الظَّن الْحَاصِل من دَلِيل وَاحِد، وَسَوَاء كَانَ مُوَافق لدَلِيل آخر من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس؛ لِأَن تَقْدِيم مَا لم يُوَافق ترك لشيئين الدَّلِيل وَمَا عضده، وَتَقْدِيم الْمُوَافق ترك لدَلِيل وَاحِد، وَلِهَذَا قدمنَا حَدِيث عَائِشَة: " فِي صَلَاة الْفجْر بِغَلَس " على حَدِيث [رَافع] " فِي الْإِسْفَار " لموافقته قَوْله: (حَافظُوا على(8/4206)
5 - الصَّلَوَات} [الْبَقَرَة: 238] لِأَن من الْمُحَافظَة الْإِتْيَان بالمحافظة عَلَيْهِ الْمُؤَقت أول وقته.
إِذا علم ذَلِك فَقَالَ ابْن مُفْلِح بعد ذَلِك: (ثمَّ قيل: يقدم الْخَبَر على الأقيسة، وَقيل: بِالْمَنْعِ إِن تعدد أَصْلهَا وَإِلَّا فمتحدة.
قَالَ: وتعارض قُرْآن وَسنة وَأمكن بِنَاء كل مِنْهُمَا على الآخر - كخنزير المَاء - فَقَالَ القَاضِي: ظَاهر كَلَام أَحْمد يقدم ظَاهر السّنة لقَوْله: " السّنة تفسر الْقُرْآن وتبينه "، قَالَ: وَيحْتَمل عَكسه للْقطع بِهِ.
وَذكر أَبُو الطّيب للشَّافِعِيَّة وَجْهَيْن.(8/4207)
وَبنى القَاضِي عَلَيْهَا خبرين مَعَ أَحدهمَا ظَاهر قُرْآن وَالْآخر ظَاهر سنة، ثمَّ ذكر نَص أَحْمد تَقْدِيم الْخَبَرَيْنِ.
وَذكر الْفَخر إِسْمَاعِيل أَيهمَا يقدم، على رِوَايَتَيْنِ، وَكَذَا ابْن عقيل، وَبنى الأولى عَلَيْهَا) .
وتحرير ذَلِك إِذا كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ سنة وَالْآخر كتابا، فَإِن أمكن الْعَمَل بهما عمل، وَإِلَّا قيل: يقدم الْكتاب فَإِنَّهُ أرجح، وَقيل: تقدم السّنة لِأَنَّهَا بَيَان لَهُ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد كَمَا تقدم.
مِثَاله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْر: " الْحل ميتَته "، فَإِنَّهُ عَام فِي ميتَة الْبَحْر حَتَّى خنزيره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} [الْأَنْعَام: 145] ، يتَنَاوَل خِنْزِير الْبَحْر، فتعارض عُمُوم الْكتاب وَالسّنة فِي خِنْزِير الْبَحْر، فَقدم بَعضهم الْكتاب فحرمه، وَقَالَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو عَليّ النجاد.
وَبَعْضهمْ السّنة فأحله، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد وَعَلِيهِ جَمَاهِير أَصْحَابه فِي حلّه.(8/4208)
قَوْله: {وبعمل أهل الْمَدِينَة عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيَّة، وَأبي الْخطاب، وَخَالف القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر، وَالْمجد، والطوفي، وَرجح الْحَنَفِيَّة بِعَمَل أهل الْكُوفَة إِلَى زمن أبي حنيفَة قبل ظُهُور الْبدع، والجرجاني، وَأَبُو الْخطاب بِمَا أَقَامَ بِهِ الصَّحَابَة إِلَى ظُهُور الْبدع} .
يرجح بِمَا وَافق عمل أهل الْمَدِينَة وَإِن لم يكن حجَّة، لكنه يقوى بِهِ.
وَقد رجح أَحْمد " نِكَاح الْمحرم بعملهم "، وَقَوله: " مَا رَوَوْهُ ثمَّ عمِلُوا بِهِ أصح مَا يكون ".(8/4209)
وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد "، كالشافعية لأَنهم أعرف، وَالظَّاهِر بقاؤهم على مَا أَسْلمُوا عَلَيْهِ وَأَنه نَاسخ لمَوْته بَينهم.
وَذكر القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، والطوفي: لَا يرجح بذلك كَغَيْرِهِ.
رد: بِالْفرقِ.
وَرجح الْحَنَفِيَّة بِعَمَل الْكُوفَة إِلَى زمن أبي حنيفَة قبل ظُهُور الْبدع.
وَفِي " التَّمْهِيد ": مَا أَقَامَ بِهِ الصَّحَابَة أَخذ بِهِ إِلَى أَن ظَهرت الْبدع،(8/4210)
وَهُوَ مَا كَانَ [زمن] الْخُلَفَاء نَحْو الْبَصْرَة والكوفة، قَالَ: وَقَالَهُ الْجِرْجَانِيّ.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " إِذا تعَارض نصان وَقد قَالَ أهل الْمَدِينَة بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يكون ذَلِك تَرْجِيحا لَهُ، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة فِي قَوْلهم: يرجح بِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يرجح بقول أهل الْكُوفَة خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة.
حجَّة الأول: أَن الْأَمَاكِن لَا تَأْثِير لَهَا فِي زِيَادَة الظنون، فَلَا فرق بَين قَول أهل الْمَدِينَة والكوفة وَغَيرهَا فِي عدم التَّرْجِيح بِهِ.
حجَّة الثَّانِي: أَن إطباق الجم الْغَفِير على الْعَمَل على وفْق أحد الْخَبَرَيْنِ يفِيدهُ تَقْوِيَة وَزِيَادَة ظن فيرجح بِهِ، كموافقة خبر آخر، وَلِأَن اتِّفَاق أهل البلدين الْمَذْكُورين قد اخْتلف فِي كَونه إِجْمَاعًا، فَإِن كَانَ فَهُوَ مُرَجّح لَا محَالة، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا فأدنى أَحْوَاله أَن يكون مرجحا، كَالظَّاهِرِ، وَالْقِيَاس، وَخبر الْوَاحِد.
قلت: هَذَا هُوَ الظَّاهِر.
وَقَوْلهمْ: لَا تَأْثِير للأماكن فِي زِيَادَة الظنون.
قُلْنَا: نَحن لَا نرجح بالأماكن، بل بأقوال الجم الْغَفِير من عُلَمَاء أَهلهَا، وَهُوَ مُفِيد لزِيَادَة الظَّن بِلَا شكّ " انْتهى.
قَوْله: {وبعمل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَقيل: بِأبي بكر(8/4211)
وَعمر، وَقيل: وبأحدهما، وَعنهُ: وَالصَّحَابَة، وَقيل: إِن ميزه النَّص، وَعنهُ: لَا مُطلقًا، وَقَالَ الْآمِدِيّ وَابْن حمدَان: أَو بعض [الْأمة] ، أَو أعلم، أَو أَكثر، فِي الْأَصَح} .
إِذا تعَارض نصان وَعمل بِأَحَدِهِمَا الْخُلَفَاء الراشدون، فَهَل يكون عَمَلهم بِهِ مرجحا لَهُ على النَّص الآخر؟ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن عَمَلهم بِهِ مُرَجّح لَهُ على الآخر، وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَحْمد وَأَصْحَابه، [وَغَيرهم] .
لوُرُود النَّص باتبَاعهمْ، حَيْثُ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي، عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ".
وَلِأَن الظَّاهِر أَنهم لم يتْركُوا النَّص الآخر إِلَّا لحجة عِنْدهم، فَلذَلِك قدم.(8/4212)
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: نَص عَلَيْهِ أَحْمد فِي مَوَاضِع.
وَقيل: يرجح أَيْضا بقول أبي بكر وَعمر لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر ".
قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: إِذا بلغك اخْتِلَاف عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوجدت فِي ذَلِك أَبَا بكر وَعمر، فَشد يدك فَإِنَّهُ الْحق وَهُوَ السّنة. انْتهى.
وَقيل: وبأحدهما.
قلت: وَهُوَ قوي.
زَاد جمع إِلَّا أَن يُعَارضهُ قَول زيد فِي الْفَرَائِض، أَو معَاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام.
قلت: أَو عَليّ فِي الْقَضَاء.(8/4213)
وَنقل الْمَرْوذِيّ أَو الصَّحَابَة.
وَالْمرَاد وَالله أعلم: أَو أحد من الصَّحَابَة وَهُوَ الظَّاهِر.
وَقدمه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، فيرجح مَا وَافق قَول الصَّحَابِيّ بِقُوَّة الظَّن فِي الْمُوَافق.
وَيَأْتِي هَذَا بعد الْمَدْلُول وَأمر خَارج، وَالأَصَح لَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة.
وَقيل: يرجح بقول الصَّحَابِيّ إِن كَانَ حَيْثُ ميزه النَّص، أَي: فِيمَا ميزه فِيهِ من أَبْوَاب الْفِقْه كزيد فِي الْفَرَائِض ميز فِيهَا بِحَدِيث: " أفرضكم زيد "، ومعاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام، وَعلي فِي الْقَضَاء.
فَإِذا وجد نصان أَحدهمَا أَعم أَخذ بالأخص، وَالنَّص على أَن زيدا أفرض أخص من النَّص على أَن معَاذًا أعلم بالحلال وَالْحرَام، فيرجح قَول زيد فِي الْفَرَائِض على قَول معَاذ، وَقَول معَاذ فِي الْحَرَام والحلال على قَول عَليّ، ويرجح قَول عَليّ فِي الْقَضَاء على قَول غَيره.
لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الحَدِيث: " أفرضكم زيد، وَأعْلمكُمْ بالحلال وَالْحرَام معَاذ، وأقضاكم عَليّ ".(8/4214)
فالقضاء أَعم من الْكل، لِأَنَّهُ يعم الْفَرَائِض والحلال وَالْحرَام وَغَيرهمَا، فالشهادة لزيد أخص من الْجَمِيع، وَبعده معَاذ، وبعدهما عَليّ، فَهِيَ ثَلَاث مَرَاتِب فَيقدم زيد فِي الْفَرَائِض، ومعاذ فِي الْحَلَال وَالْحرَام، وَعلي فِي غَيرهمَا، عملا بالأخص فالأخص.
وَذكر الْفَخر إِسْمَاعِيل رِوَايَة عَن أَحْمد: أَنه لَا يرجح.(8/4215)
وَقَالَ الْآمِدِيّ: وَتَبعهُ ابْن حمدَان: أَو بعض الْأمة.
يَعْنِي: إِذا عمل بعض الْأمة على وفْق أحد النصين يرجح بذلك.
ويرجح بِعَمَل الأعلم قطع بِهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن لَهُ مزية لكَونه أحفظ لمواقع الْخلَل وَأعرف بدقائق الْأَدِلَّة.
ويرجح - أَيْضا -: بِمَا وَافق عمل الْأَكْثَر؛ لَكِن بِشَرْط أَن لَا يكون الْمعَارض لَهُ يخفى مثله عَلَيْهِم.
وَإِنَّمَا قدم الْمُوَافق للْأَكْثَر، لِأَن الْأَكْثَر موفق للصَّوَاب مَا لَا يوفق لَهُ الْأَقَل، هَذَا قَول الْأَكْثَرين.
وَمنع جمع كالغزالي التَّرْجِيح بذلك.
قَالَ: لعدم الحجية فِي قَول الْأَكْثَر.(8/4216)
وَلَو سَاغَ التَّرْجِيح بقول بعض الْمُجْتَهدين لانسد بَاب الِاجْتِهَاد على الْبَعْض الآخر.
قيل: وَالتَّحْقِيق أَن مُقَابل قَول الْأَكْثَر إِن كَانَ قَول شذوذ فيرجح بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا إِجْمَاع على رَأْي، وَإِمَّا حجَّة على رَأْي آخر، وَإِمَّا مقو وعاضد، على رَأْي من قَالَ لَيْسَ بِحجَّة، وَإِن لم يكن مقابلهم شذوذ فَلَا تَرْجِيح بِهِ، لاحْتِمَال أَن الصَّوَاب مَعَ [الْأَقَل] .
قَوْله: {وَإِن كَانَا مؤولين وَدَلِيل أَحدهمَا أرجح: قدم} .
يرجح أحد التَّأْويلَيْنِ على الآخر برجحان دَلِيله على دَلِيل التَّأْوِيل الآخر؛ لِأَن لَهُ مزية بذلك.
قَوْله: {وَيقدم مَا علل، أَو رجحت علته، وعام ورد على سَبَب خَاص فِي السَّبَب، وَالْعَام عَلَيْهِ فِي غَيره، وَمثله الْخطاب شفاها مَعَ الْعَام، وَمَا لم يقبل نسخا أَو أقرب إِلَى الِاحْتِيَاط، وَلَا يسْتَلْزم نقض صَحَابِيّ خبر كقهقهة فِي صَلَاة، قَالَ ابْن عقيل وَابْن الْبَنَّا: أَو إِصَابَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَاهرا وَبَاطنا، كامتناعه من الصَّلَاة، حَتَّى قَالَ عَليّ: " هما عليّ "، وَأَنه ابْتِدَاء ضَمَان،(8/4217)
وَقَالَ القَاضِي وَابْن عقيل وَجمع: وعام عمل بِهِ، وَعكس الْآمِدِيّ، وَالْعَام بِأَنَّهُ أمس بِالْمَقْصُودِ، وَمَا فسره راو بِفِعْلِهِ أَو قَوْله وَذكر سَببه، أَو أحسن سياقا، وبقرائن تَأَخره كتأخير إِسْلَام أَو تَارِيخ مضيق، أَو تشديده} .
يرجح أحد الْحكمَيْنِ بالتعرض لعلته على الحكم الَّذِي لم يتَعَرَّض لعلته؛ لِأَن الحكم الَّذِي تعرض لعلته أفْضى إِلَى تَحْصِيل مَقْصُود الشَّارِع، لِأَن النَّفس لَهُ أقبل بِسَبَب تعقل الْمَعْنى.
وَكَذَا إِذا علل الْحكمَيْنِ لَكِن عِلّة أَحدهمَا أرجح فيرجح بذلك.
ويرجح الْعَام الْوَارِد على سَبَب خَاص على الْعَام الْمُطلق فِي حكم ذَلِك السَّبَب؛ لِأَن الْعَام الْوَارِد على السَّبَب الْخَاص كالخاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك السَّبَب، وَالْخَاص يقدم على الْعَام لقُوَّة دلَالَته.(8/4218)
ويرجح الْعَام الْمُطلق على الْعَام الْوَارِد على سَبَب خَاص فِي حكم غير السَّبَب؛ لِأَنَّهُ اخْتلف فِي عُمُوم الْعَام الْوَارِد على السَّبَب، وَلم يخْتَلف فِي عُمُوم الْعَام الْمُطلق.
وَمثله الْخطاب شفاها إِذا عَارض عَاما لم يكن بطرِيق المشافهة، رجح الْخطاب بالمشافهة فِيمَن خُوطِبَ شفاها.
قَالَ الْعَضُد: " إِذا ورد عَام هُوَ خطاب شفَاه لبَعض من تنَاوله، وعام آخر لَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ كالعامين ورد أَحدهمَا على سَبَب دون الآخر، فَيقدم عَام المشافهة فِيمَن شوفهوا بِهِ، وَفِي غَيرهم الآخر، وَوَجهه ظَاهر " انْتهى.
ويرجح مَا لم يقبل نسخا على مَا يقبله، لِأَنَّهُ أقوى.
ويرجح - أَيْضا - مَا كَانَ أقرب إِلَى الِاحْتِيَاط على غَيره.
ذكرهمَا ابْن مُفْلِح.(8/4219)
ويرجح - أَيْضا - مَا لَا يسْتَلْزم نقض صَحَابِيّ خَبرا: كقهقهة فِي صَلَاة.(8/4220)
قَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَغَيرهمَا: (يقدم مَا لَا يُوجب تخطئه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن على مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن، على مَا يتَضَمَّن إِصَابَته فِي الظَّاهِر فَقَط.
فَالْأول مقدم ومرجح، لِأَنَّهُ بعيد عَن الْخَطَأ وَهُوَ اللَّائِق بِهِ وبحاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَمَا ورد فِي ضَمَان عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - دين الْمَيِّت، وَقَول عَليّ: " هما عَليّ "، وَأَنه ابْتِدَاء ضَمَان، وَأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " امْتنع من الصَّلَاة "، وَكَانَ وَقت(8/4221)
الِامْتِنَاع مصيبا فِي امْتِنَاعه، وَكَانَ مقدما على حمله على الْإِخْبَار عَن ضَمَان سَابق يكْشف عَن أَنه كَانَ امْتنع من الصَّلَاة فِي غير مَوْضِعه بَاطِنا) هَذَا لفظ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ".
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: وعام عمل بِهِ.
وَعكس الْآمِدِيّ.
وَمَعْنَاهُ: إِذا تعَارض عَام لم يعْمل بِهِ فِي صُورَة من الصُّور، وعام عمل بِهِ وَلَو فِي صُورَة، فَقَالَ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا: قدم مَا لم يعْمل بِهِ ليعْمَل بِهِ فَيكون قد عمل بهما، وَلَو اعْتبر مَا عمل بِهِ لزم إِلْغَاء الْآخِرَة بالمرة، وَالْجمع وَلَو بِوَجْه أولى.(8/4222)
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَجمع: يرجح الْعَام الَّذِي عمل بِهِ؛ لِأَنَّهُ شَاهد لَهُ بِالِاعْتِبَارِ لقُوته بِالْعَمَلِ.
وَإِذا تعَارض عامان أَحدهمَا أمس بِالْمَقْصُودِ وَأقرب إِلَيْهِ قدم على الآخر، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، يقدم فِي مَسْأَلَة الْجمع بَينهمَا فِي وَطْء النِّكَاح على قَوْله تَعَالَى: {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 3] ، فَإِنَّهُ أمس بِمَسْأَلَة الْجمع؛ لِأَن الْمَسْأَلَة الأولى قصد بهَا بَيَان تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْء بِنِكَاح وَملك يَمِين، وَالثَّانيَِة لم يقْصد بهَا بَيَان حُرْمَة الْجمع.
وَإِذا تعَارض خبران، وَفسّر رَاوِي أَحدهمَا مَا قد رَوَاهُ بقول أَو فعل دون رَاوِي الآخر، قدم الأول؛ لِأَنَّهُ أعرف بِمَا رَوَاهُ فَيكون ظن الحكم بِهِ أوثق، كَحَدِيث عبد الله بن عمر فِي خِيَار الْمجْلس، وَأَن المُرَاد بالتفرق تفرق الْأَبدَان؛ لِأَنَّهُ فسره بذلك، لِأَنَّهُ اشْتَمَل على فَائِدَة زَائِدَة.(8/4223)
ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر بِذكر السَّبَب، فَإِن الحَدِيث الَّذِي ذكر الرَّاوِي السَّبَب مَعَه رَاجِح أحد الْخَبَرَيْنِ على مَا لم يذكر السَّبَب مَعَه؛ لِأَن ذكر السَّبَب يدل على زِيَادَة اهتمام الرَّاوِي بالرواية.
ويرجح أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر إِذا كَانَ سِيَاقه أحسن؛ لِأَنَّهُ يدل على أَنه أولى من غَيره.
ويرجح - أَيْضا -: باقتران قرينَة تدل على تَأَخره على الآخر، وَذَلِكَ مثل تَأَخّر إِسْلَام رَاوِيه؛ إِذْ الآخر يجوز أَن يكون قد سَمعه قبل إِسْلَامه، لَا سِيمَا إِن علم موت الآخر قبل إِسْلَامه.
وَمثل كَونه مؤرخا بتاريخ مضيق وَالْآخر بتاريخ موسع، نَحْو: ذِي الْقعدَة من سنة كَذَا، وَسنة كَذَا لاحْتِمَال كَون الآخر قبل ذِي الْقعدَة.(8/4224)
وَمثل أَن يكون فِيهِ تَشْدِيد؛ لِأَن التشديدات مُتَأَخِّرَة، لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت حِين ظُهُور الْإِسْلَام وكثرته وعلت شوكته، وَالتَّخْفِيف كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، وَحَدِيث عَائِشَة يدل على ذَلِك.(8/4225)
وَكَذَا [كل] مَا يشْعر بشوكة الْإِسْلَام، قَالَه الْعَضُد وَغَيره.
قَوْله: {المعقولان قياسان أَو استدلالان، فَالْأول يعود إِلَى: أَصله، وفرعه، ومدلوله، وَأمر خَارج} .
لما فَرغْنَا من مرجحات المنقولين بأنواعه شرعنا فِي تَرْجِيح المعقولين بأنواعه، وَهُوَ الْغَرَض الْأَعْظَم من بَاب التراجيح وَفِيه اتساع مجَال الِاجْتِهَاد.
قَوْله: {الأَصْل بِقطع حكمه وبقوة دَلِيله، وَبِأَنَّهُ لم ينْسَخ، وعَلى سنَن الْقيَاس، وبدليل خَاص بتعليله، وَقدم الأرموي والبيضاوي بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع} .
تَرْجِيح الْقيَاس بِحَسب أَصله من وُجُوه:
بِأَن يكون دَلِيل أَصله أقوى، وَتَحْته صور:(8/4226)
أَحدهَا: أَن يكون قَطْعِيا فَيقدم على مَا دَلِيل أَصله ظَنِّي، كَقَوْلِنَا فِي لعان الْأَخْرَس: إِن مَا صَحَّ من النَّاطِق صَحَّ من الْأَخْرَس كاليمين، فَإِنَّهُ أرجح من قياسهم على شَهَادَته تعليلا بِأَنَّهُ يفْتَقر إِلَى لفظ الشَّهَادَة؛ لِأَن الْيَمين تصح من الْأَخْرَس بِالْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع قَطْعِيّ، وَأما جَوَاز شَهَادَته فَفِيهِ خلاف بَين الْفُقَهَاء.
الصُّورَة الثَّانِيَة: بِقُوَّة دَلِيله، لِأَنَّهُ أغلب على الظَّن.(8/4227)
الصُّورَة الثَّالِثَة: بِكَوْنِهِ لم ينْسَخ بِاتِّفَاق، فَإِن مَا قيل بِأَنَّهُ مَنْسُوخ، وَإِن كَانَ القَوْل بِهِ ضَعِيفا، لَيْسَ كالمتفق عَلَيْهِ أَنه لم ينْسَخ.
الصُّورَة الرَّابِعَة: بِكَوْن حكم الأَصْل على سنَن الْقيَاس، وَالْقِيَاس الَّذِي يكون حكم أَصله جَارِيا على سنَن الْقيَاس رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك لبعده عَن الْخلَل.
وَفَسرهُ الْعَضُد " بِأَن يكون على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق وَالْآخر مُخْتَلف فِيهِ؛ إِذْ لَو جرى على ظَاهره فمقابله على غير سنَن الْقيَاس، فَلَا يَصح فَلَا تعَارض فَلَا تَرْجِيح " انْتهى.
وَهُوَ كَمَا قَالَ
قَالَ الْبرمَاوِيّ ": " وَالْمرَاد بذلك هُنَا أَن يكون فَرعه من جنس أَصله كَمَا صرح بِهِ أَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم.
وَذَلِكَ كقياس مَا دون أرش الْمُوَضّحَة فِي تحمل الْعَاقِلَة إِيَّاه، فَهُوَ أولى من قياسهم ذَلِك على غرامات الْأَمْوَال فِي إِسْقَاط التَّحَمُّل، لِأَن الْمُوَضّحَة من(8/4228)
جنس مَا اخْتلف فِيهِ فَكَانَ على سنَنه؛ إِذا لجنس أشبه، كَمَا يُقَال: قِيَاس الطَّهَارَة على الطَّهَارَة، أولى من قياسها على ستر الْعَوْرَة.
قَالَ: وَإِنَّمَا تعرضت لشرح ذَلِك لما سبق أَن من شَرط حكم الأَصْل فِي الْقيَاس أَن لَا يكون معدولا بِهِ عَن سنَن الْقيَاس، فَإِذا لم يَصح الْقيَاس كَيفَ يَقع التَّعَارُض، فبيت أَن ذَلِك الْمَشْرُوط هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ المُرَاد هُنَا.
قَالَ: وَقد يُرَاد هُنَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس بِاتِّفَاق وَالْآخر على رَأْي، فيرجح الَّذِي بِاتِّفَاق - كَمَا قَالَ الْعَضُد -.
قَالَ: وَكَذَا أَن يكون أَحدهمَا على سنَن الْقيَاس قَطْعِيا وَالْآخر ظنيا، فيرجح مَا كَانَ قَطْعِيا " انْتهى.
الصُّورَة الْخَامِسَة: يرجع لقِيَام دَلِيل خَاص على تَعْلِيله وَجَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أبعد من التَّعَبُّد والقصور وَالْخلاف.
ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بِالْإِجْمَاع على مَا ثبتَتْ عليته بِالنَّصِّ، لقبُول النَّص للتأويل بِخِلَاف الْإِجْمَاع، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ".(8/4229)
ثمَّ قَالَ: وَيُمكن تَقْدِيم النَّص؛ لِأَن الْإِجْمَاع فَرعه.
وَجزم بِهَذَا الْبَحْث الأرموي فِي " الْحَاصِل "، والبيضاوي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم إِذا اسْتَوَى النَّص وَالْإِجْمَاع فِي الْقطع متْنا وَدلَالَة: كَانَ مَا دَلِيله الْإِجْمَاع راجحا، ودونهما إِذا كَانَا ظنيين.
فَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا وَالْآخر إِجْمَاعًا ظنيا: رجح أَيْضا مَا كَانَ دَلِيله الْإِجْمَاع، لما سبق من قبُول النَّص النّسخ والتخصيص.
قَالَ الْهِنْدِيّ: هَذَا صَحِيح بِشَرْط التَّسَاوِي فِي الدّلَالَة، فَإِن اخْتلفَا فَالْحق أَنه يتبع فِيهِ الِاجْتِهَاد، فَمَا يكون إفادته للظن أَكثر فَهُوَ أولى، فَإِن الْإِجْمَاع وَإِن لم يقبل النّسخ والتخصيص، لَكِن قد تضعف دلَالَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى(8/4230)
الدّلَالَة القطعية، فقد ينجبر النَّقْص بِالزِّيَادَةِ وَقد لَا ينجبر، فَيَقَع فِيهِ الِاجْتِهَاد " انْتهى.
قَوْله: {وبالقطع بِالْعِلَّةِ، أَو دليلها، أَو بِظَنّ غَالب فيهمَا، وسبر، فمناسبة، فَشبه، ودوران، وَقدم الْبَيْضَاوِيّ: الْمُنَاسبَة، فالدوران، فالسبر، وَقيل: الدوران فالمناسبة} .
هَذَا التَّرْجِيح يعود إِلَى عِلّة الأَصْل، فيرجح أحد القياسين على الآخر بِالْقطعِ بِالْعِلَّةِ، لِأَنَّهُ رَاجِح على مَا هُوَ مظنون، وَكَذَا لَو كَانَ دليلهما مَقْطُوعًا بِهِ، وَكَذَا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب فيهمَا؛ فَشَمَلَ هَذَا الْكَلَام أَربع صور:
أَحدهَا: الْقطع بِالْعِلَّةِ يرجح على الظَّن بهَا.
الثَّانِيَة: الظَّن الْغَالِب فِي الْعلَّة يرجح على الظَّن غير الْغَالِب.
الثَّالِثَة: الْقطع بِدَلِيل الْعلَّة.
الرَّابِعَة: الظَّن الْغَالِب فِي دَلِيل الْعلَّة.
فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مَسْلَك علته قَطْعِيا على الْقيَاس الَّذِي لَا يكون كَذَلِك.(8/4231)
ويرجح الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالسبر على الْقيَاس الَّذِي استنبط عِلّة وَصفه بالمناسبة، لتضمن السبر انْتِفَاء الْمعَارض فِي الأَصْل بِخِلَاف الْمُنَاسبَة.
ويرجح مَا ثبتَتْ عليته بالمناسبة على الثَّابِتَة بالشبه، لزِيَادَة غَلَبَة الظَّن بِغَلَبَة الْوَصْف الْمُنَاسب.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَأدنى الْمعَانِي فِي 5 الْمُنَاسبَة يرجح على أَعلَى الْأَشْبَاه.
ويرجح [مَا ثبتَتْ] علته بالشبه على الثَّابِتَة بالدوران، قطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا ثَبت بالطرد وَالْعَكْس يقدم على غَيره من الْأَشْبَاه، لجريانه مجْرى الْأَلْفَاظ انْتهى.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " منهاجه ": " يرجع بالمناسبة الضرورية الدِّينِيَّة، ثمَّ الدُّنْيَوِيَّة، ثمَّ الَّتِي فِي حيّز الْحَاجة الْأَقْرَب اعْتِبَارا فَالْأَقْرَب، ثمَّ الدوران فِي مَحل، ثمَّ فِي محلين، ثمَّ السبر، ثمَّ الشّبَه، ثمَّ الْإِيمَاء، ثمَّ الطَّرْد " انْتهى.(8/4232)
فَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " يرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالمناسبة على الدوران وَغَيره مِمَّا بَقِي؛ لِأَن الْمُنَاسبَة لَا تنفك عَن الْعلية، وَأما الدوران فقد لَا يدل كالمتضايفين وَنَحْوه مِمَّا تقدم.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالدوران على الَّذِي ثبتَتْ عليته بالسبر وَغَيره من الطّرق الْبَاقِيَة، لِأَن الْغَلَبَة المستفادة من الدوران مطردَة منعكسة بِخِلَاف غَيره من الطّرق.
وَمِنْهُم من قدمه على الْمُنَاسبَة كَمَا قَالَه الرَّازِيّ لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا.
- وَهَذَا القَوْل هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن بقولنَا: وَقيل: الدوران فَالْمُنَاسِب -.
والدوران قد يكون فِي مَحل وَاحِد، وَهُوَ: أَن يحدث حكم فِي مَحل لحدوث صفة فِيهِ، وينعدم ذَلِك الحكم عَن ذَلِك الْمحل بِزَوَال ذَلِك الْوَصْف عَنهُ كدوران الْحُرْمَة مَعَ الْإِسْكَار فِي مَاء الْعِنَب وجودا وعدما.(8/4233)
وَقد يكون فِي محلين كاستدلال الْحَنَفِيّ على وجوب الزَّكَاة فِي الْحلِيّ: بدوران وجوب الزَّكَاة مَعَ الذَّهَب وجودا فِي الْمَضْرُوب وعدما فِي الثِّيَاب، [فالدوران] فِي مَحل أرجح فِي الْعلية من الدوران فِي محلين؛ لِأَن احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أقل، أَلا ترى أَن يقطع فِي مثالنا بِأَن مَا عدى السكر من الصِّفَات لَيْسَ بعلة، وَإِلَّا لزم تخلف الْمَعْلُول على علته، بِخِلَاف مَا ثَبت فِي محلين، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد الْقطع بِأَن غير الذَّهَب لَيْسَ عِلّة للْوُجُوب، لاحْتِمَال أَن تكون الْعلَّة فِيهِ هُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من كَونه ذَهَبا، وَكَونه غير معد للاستعمال.
قَالَ: ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالسبر على الَّذِي ثبتَتْ علية وَصفه بالشبه وَغَيره مِمَّا بَقِي كالإيماء والطرد؛ لِأَن مُسَمَّاهُ عِلّة اتِّفَاقًا فِي العقليات والشرعيات، وَهُوَ السبر الْخَاص، بِخِلَاف الْبَوَاقِي فَإِن فِيهَا خلافًا مَشْهُورا، وَمِنْهُم من رَجحه على الْمُنَاسبَة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب - وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ - لِأَنَّهُ يُفِيد علية الْوَصْف، وَنفي الْمعَارض لَهُ بِخِلَاف الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهُ لَا دلَالَة لَهَا على نفي الْمعَارض " انْتهى.(8/4234)
قَوْله: {وبالقطع بِنَفْي الْفَارِق، أَو ظن غَالب، وَوصف حَقِيقِيّ وثبوتي، وباعث، على غَيرهَا} .
يرجح أحد القياسين على الآخر بطرِيق نفي الْفَارِق بَين الأَصْل وَالْفرع، فَالْقِيَاس الْمَقْطُوع بِنَفْي الْفَارِق فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع رَاجِح على الْقيَاس الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا، وَكَذَا الْقيَاس الَّذِي يكون نفي الْفَارِق مظنونا بِالظَّنِّ الْأَغْلَب رَاجِح على الَّذِي يكون نفي الْفَارِق فِيهِ مظنونا بِالظَّنِّ غير الْأَغْلَب.
ويرجح الْوَصْف الْحَقِيقِيّ على الْوَصْف الَّذِي هُوَ غير حَقِيقِيّ.
قَالَ الْعَضُد: " يقدم مَا الْعلَّة فِيهِ وصف حَقِيقِيّ على غَيره مِمَّا الْعلَّة فِيهِ وصف اعتباري أَو حِكْمَة مُجَرّدَة " انْتهى.
وَقَالَ غَيره: " يرجح التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ المظنة كالسفر، على(8/4235)
التَّعْلِيل بالحكمة كالمشقة، وعَلى الْوَصْف الاعتباري أَو الْحكمِي، كَقَوْلِنَا فِي الْمَنِيّ: مبدأ خلق الْبشر فَأشبه الطين، مَعَ قَوْلهم: مَائِع يُوجب الْغسْل فَأشبه الْحيض " انْتهى.
ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف ثبوتي على مَا الْعلَّة فِيهِ عدمي.
ويرجح مَا الْعلَّة فِيهِ وصف باعث على مَا هِيَ مُجَرّد أَمارَة لظُهُور مُنَاسبَة الباعثة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " ويرجح بِالْقطعِ بِنَفْي الْفَارِق أَو ظن غَالب، وَالْوَصْف الْحَقِيقِيّ، أَو الثبوتي، أَو الْبَاعِث، على غَيرهَا للاتفاق عَلَيْهَا، وَلِأَن الحسية كالعقلية وَهِي مُوجبَة، وَلَا تفْتَقر فِي ثُبُوتهَا إِلَى غَيرهَا " انْتهى.
وَرجح أَبُو الْخطاب، والسمعاني، والشيرازي: الْحكمِيَّة،(8/4236)
وَذكره أَبُو الْخطاب عَن آخَرين، وللشافعية: وَجْهَان، لِأَنَّهَا أَشد مُطَابقَة للْحكم وبلازمه فَهِيَ أخص بِهِ.
وَسوى الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بَين حسية وحكمية وثبوتية وعكسها، فَقَالَ فِي " المسودة ": إِذا كَانَت إِحْدَاهمَا حسية وَالْأُخْرَى حكمِيَّة، أَو إِحْدَاهمَا إِثْبَاتًا وَالْأُخْرَى نفيا، فَلَا تَرْجِيح بذلك.
وَقَالَ بعض الجدليين: " ترجح المنفية على الحسية، وَقَالَ أَبُو الْخطاب: المنفية أولى وَلم يذكر فِيهِ خلافًا " انْتهى.(8/4237)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلم يرجح بعض أَصْحَابنَا الثبوتي، وَكَونه نفس الْعلَّة على ملازمها ذكره الْآمِدِيّ " انْتهى.
قَالَ الطوفي: " إِذا تعَارض قياسان وَالْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم شَرْعِي، وَفِي الآخر وصف حسي، الْجَامِع فِي أَحدهمَا حكم سَلبِي، وَفِي الآخر حكم إثباتي، فَالْحكم الشَّرْعِيّ مقدم على الْوَصْف الْحسي، لِأَن الْقيَاس طَرِيق شَرْعِي لَا حسي، فَكَانَ الِاعْتِمَاد فِيهِ على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أولى مِنْهُ فِي الِاعْتِمَاد على الْأَوْصَاف الحسية، وَكَذَلِكَ الحكم السلبي مقدم على الثبوتي، لِأَنَّهُ أوفق للْأَصْل؛ إِذْ الأَصْل عدم الْأَشْيَاء كلهَا، قَالَه بعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ الْآخرُونَ: الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ الْوَصْف الْحسي، وَالْحكم السلبي مَعَ الإثباتي سَوَاء؛ لِأَن الدَّلِيل لما قَامَ على علية كل وَاحِد من الْأَمريْنِ ثبتَتْ عليته، وَالظَّن لَا يتَفَاوَت بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا، فاستويا لعدم مَا يصلح تَرْجِيحا ".
قَوْله: {وظاهرة، ومنضبطة، مطردَة، ومنعكسة، ومتعدية، وَأكْثر تَعديَة، على غَيرهَا} .(8/4238)
تقدم الْعلَّة الظَّاهِرَة على الْعلَّة الْخفية.
وَالْعلَّة المنضبطة على الْعلَّة المضطربة لأجل الْخلاف فِي مقابلتهما.
وَتقدم الْعلَّة المطردة على الْعلَّة المنقوضة؛ لِأَن شَرط الْعلَّة اطرادها، وَلِأَن المطردة أغلب على الظَّن، وأضعف المنقوضة بِالْخِلَافِ فِيهَا.
وَتقدم الْعلَّة المنعكسة على غير المنعكسة لِأَنَّهَا أكمل، لِأَن الانعكاس وَإِن لم يفد الْعلية لكنه يقويها.
وَتَأْتِي المطردة فَقَط، والمنعكسة فَقَط وَكَلَام الطوفي هُنَاكَ قَرِيبا.
وَتقدم المتعدية على القاصرة على الْأَصَح، لِكَثْرَة فوائدها، كالتعليل(8/4239)
فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْوَزْنِ، فيتعدى الحكم إِلَى كل مَوْزُون: كالحديد، والنحاس، والصفر، وَنَحْوهَا، بِخِلَاف التَّعْلِيل بالثمنية والنقدية، فَلَا يتعداهما، فَكَانَ التَّعْلِيل بِالْوَزْنِ الَّذِي هُوَ وصف مُتَعَدٍّ لمحل النَّقْدَيْنِ إِلَى غَيرهمَا أَكثر فَائِدَة من الثمنية القاصرة عَلَيْهِمَا.
فعلى هَذَا القَوْل ترجح الْعلَّة الَّتِي هِيَ أَكثر فروعا على [الَّتِي] هِيَ أقل.
مِثَاله: لَو قَدرنَا أَن أَكثر عللنا فِي الرِّبَا الْكَيْل؛ لِأَن عِلّة الْكَيْل حِينَئِذٍ تكون أَكثر فروعا، وَلَو قَدرنَا أَن المطعومات أَكثر عللنا فِيهِ بالطعم؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ أَكثر فروعا، وَحِينَئِذٍ يصير الْأَقَل فروعا بِالْإِضَافَة إِلَى الْأَكْثَر فروعا، كالقاصرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المتعدية، وَيخرج فيهمَا الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي المتعدية والقاصرة.
وَقدم الْأُسْتَاذ الْعلَّة القاصرة على الْعلَّة المتعدية، إِن قيل بِصِحَّتِهَا لوَجْهَيْنِ:(8/4240)
أَحدهمَا: أَنَّهَا مُطَابقَة للنَّص فِي موردها [أَي] لم يتَجَاوَز تأثيرها مَوضِع النَّص، بِخِلَاف المتعدية فَإِنَّهَا لم تطابق النَّص بل زَادَت عَلَيْهِ، وَمَا طابق النَّص كَانَ أولى.
الثَّانِي: أَمن صَاحبهَا الْمُعَلل بهَا من الْخَطَأ، لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى التَّعْلِيل بهَا فِي غير مَحل النَّص كالمتعدية، فَرُبمَا أَخطَأ بالوقوع فِي بعض مثارات الْغَلَط فِي الْقيَاس، وَمَا أَمن فِيهِ من الْخَطَأ أولى مِمَّا كَانَ عرضة لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، والطوفي: هما سَوَاء لَا رُجْحَان لأَحَدهمَا [على] الآخر، لقِيَام الدَّلِيل على صحتهما، وَلِأَن الْفُرُوع لَا تبنى على قُوَّة ذَاتهَا.
فَإِن قيل: الْعلَّة القاصرة لَا يُمكن الْقيَاس عَلَيْهَا، فَالْكَلَام فِي التَّرْجِيح(8/4241)
بَينهَا وَبَين الْعلَّة المتعدية لَا يتَعَلَّق بترجيح الأقيسة؛ إِذْ التَّرْجِيح إِنَّمَا يكون من وجودين، وَالْقِيَاس على القاصرة غير مَوْجُود وَلَا يُمكن، فَكيف يَصح التَّرْجِيح بَينه وَبَين الْقيَاس على الْعلَّة المتعدية؟
وَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ فَائِدَة ذَلِك تَرْجِيح أحد القياسين على الآخر كَمَا ذكرْتُمْ، بل فَائِدَته أَنى إِن رجحنا المتعدية أمكن الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا، كالوزن فِي النَّقْدَيْنِ وَعَدَمه بِتَقْدِير تَقْدِيم القاصرة كالثمنية؛ إِذْ القاصرة لَا يتَعَدَّى مَحَله ليقاس عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَإِن تقابلت عِلَّتَانِ فِي أصل: فَمَا قل أوصافها أولى} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقدمه الْمجد فِي " المسودة "، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، وَذَلِكَ للشبه بِالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّة، وَلِأَنَّهَا أجْرى على الْأُصُول، وأسهل على الْمُجْتَهد، وَأكْثر فَائِدَة وفروعا، كَشَهَادَة الْأُصُول.(8/4242)
وَقَالَ الْفَخر: هما سَوَاء.
قَوْله: {وَإِن كَانَا من أصلين، فَمَا كثر أوصافها أولى، إِذا كَانَت أَوْصَاف كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مَوْجُودَة فِي الْفَرْع} .
وَهَذَا الصَّحِيح لقُوَّة شبهه بِالْأَكْثَرِ وَقدمه ابْن مُفْلِح، وَالْمجد فِي " المسودة "، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة: القليلة الْأَوْصَاف أولى.(8/4243)
وَهُوَ احْتِمَال فِي " التَّمْهِيد "، لِأَنَّهَا أسلم من الْفساد.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة أَنَّهُمَا سَوَاء، لتساويهما فِي إِفَادَة الحكم، والسلامة من الْفساد، وهما من جنس، فَلَا يلْزم تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس؛ لِأَن دلالتهما نطق، وَالْقِيَاس معنى.
وَبنى الطوفي الْمَسْأَلَة على الْعلَّة المتعدية والقاصرة، كَمَا تقدم لَفظه فِي المتعدية والقاصرة.
وَقدم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وشراح مُخْتَصره، وَغَيرهم: المتحدة على المتعددة للضبط، والبعد من الْخلاف.(8/4244)
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": المتحدة وقليلة الْأَوْصَاف أولى.
وَفِيه أَيْضا: إِذا صحتا فَمَا كثر فروعها أَو اسْتَويَا سَوَاء، وَاعْتبر قوم جدليون لصحتها تَسَاوِي الْفَرْع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا يَصح.
والبيضاوي: العدمي للعدمي فَقَالَ: فِي " منهاجه ": " يرجح [الوجودي] للوجودي، ثمَّ العدمي للعدمي " انْتهى.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": " الْوَصْف وَالْحكم قد يكونَانِ وجوديين، وَقد يكونَانِ عدميين، وَقد يكون الحكم وجوديا، وَالْوَصْف عدميا، وَقد يكون بِالْعَكْسِ، فتعليل الحكم الوجودي بِالْوَصْفِ الوجودي أرجح من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، لِأَن الْعلية، والمعلولية وصفان ثبوتيان فحملهما على الْمَعْدُوم لَا يُمكن إِلَّا إِذا قدر الْمَعْدُوم مَوْجُودا، ثمَّ يَلِي هَذَا الْقسم فِي الْأَوْلَوِيَّة تَعْلِيل العدمي بالعدمي، وَحِينَئِذٍ فَيكون أرجح من تَعْلِيل الحكم الوجودي بِالْعِلَّةِ العدمية وَمن الْعَكْس للمشابهة " انْتهى.(8/4245)
قَوْله: {وأعمها قَالَه فِي: " الْكِفَايَة "، و " التَّمْهِيد "، وَجمع، وَخَالف فِي " الْعدة "، وَالْحَنَفِيَّة: كعمومين} .
لم يرجح القَاضِي فِي " الْعدة "، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، بِكَوْن أَحدهمَا أَعم كالطعم أَعم من الْكَيْل كالعمومين.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يُمكن بِنَاء أَحدهمَا على الآخر بِخِلَاف هَذَا.
ورجحها القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " كَمَا سبق.
وَاخْتلف اخْتِيَار أبي الْخطاب وَذكر على الأول وَجْهَيْن: هَل ترجح المتعدية أَو سَوَاء؟(8/4246)
قَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة: يقدم التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ البسيطة كتعليل الرِّبَا بالطعم على التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ المركبة، كالطعم مَعَ التَّقْدِير بكيل أَو وزن لِكَثْرَة فروع البسيطة وفوائدها، ولقلة الِاجْتِهَاد فِيهِ.
وَقيل: ترجح المركبة.
وَقيل: هما سَوَاء.
وَفِي " التَّلْخِيص " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ القَاضِي: وَلَعَلَّه الصَّحِيح. انْتهى.(8/4247)
قَوْله: {ومطردة فَقَط على منعكسة فَقَط، وَقَالَ الطوفي: تقدم المطردة إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة إِن اشْترط الْعَكْس} .
تقدم الْعلَّة المطردة فَقَط على المنعكسة فَقَط؛ لِأَن اعْتِبَار الاطراد مُتَّفق عَلَيْهِ، وَضعف الثَّانِيَة بِعَدَمِ الاطراد أَشد من ضعف الأولى بعد الانعكاس.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": " تقدم المطردة على غَيرهَا إِن قيل بِصِحَّتِهَا، والمنعكسة على غَيرهَا إِن اشْترط الْعَكْس؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَيصير كالحد مَعَ الْمَحْدُود، وَالْعلَّة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول ".
قَالَ فِي " شَرحه ": " وَتَحْقِيق هَذَا أَن غير المطردة وَهِي المنتقضة بِصُورَة فَأكْثر إِن لم نقل بِصِحَّتِهَا لم تعَارض المطردة حَتَّى تحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح، فَإِن قُلْنَا بِصِحَّتِهَا فاجتمعت هِيَ والمطردة: فالمطردة راجحة، لِأَن ظن الْعلية فِيهَا أغلب، وَلِأَنَّهَا مُتَّفق عَلَيْهَا والمنتقضة مُخْتَلف فِيهَا، فهما كالعامين إِذا خص أَحدهمَا دون الآخر كَانَ الْبَاقِي على عُمُومه راجحا.
ثمَّ قَالَ: والمنعكسة راجحة على غير المنعكسة إِن اشْترط الْعَكْس يَعْنِي فِي الْعِلَل، وَسبق أَن انعكاس الْعلَّة هَل هُوَ شَرط فِي صِحَّتهَا أم لَا؟ فَإِن لم يشْتَرط الْعَكْس لم ترجح المنعكسة على غير المنعكسة؛ لِأَن الْمُشْتَرك بَينهمَا فِي شَرط الصِّحَّة هُوَ الاطراد وَهُوَ مَوْجُود، والانعكاس غير مشترط فوجوده(8/4248)
كَالْعدمِ، وَإِن اشترطنا انعكاس الْعلَّة رجحت المنعكسة على غَيرهَا؛ لِأَن انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائها يدل على زِيَادَة اختصاصها بالتأثير، فَتَصِير كالحد مَعَ الْمَحْدُود، وَيقدم المنعكس على غَيره، وكالعلة الْعَقْلِيَّة مَعَ الْمَعْلُول كالتسويد مَعَ الاسوداد، فَكَانَت الشبيهة لَهَا من الْعِلَل الشَّرْعِيَّة أولى " انْتهى.
قَوْله: {والمقاصد الضرورية الْخَمْسَة على غَيرهَا، ومكملها على الحاجية، وَهِي على التحسينية، وَحفظ الدّين على الْأَرْبَعَة، وَقيل: الْأَرْبَعَة، ثمَّ مصلحَة النَّفس، فالنسب، فالعقل، فَالْمَال} .
إِذا تَعَارَضَت أَقسَام من الْمُنَاسبَة قدم بِحَسب قُوَّة الْمصلحَة، فَتقدم الْأُمُور الْخَمْسَة الضرورية على غَيرهَا من حاجي أَو تحسيني.
وَتقدم الْمصلحَة الحاجية على التحسينية.
وَتقدم التكميلية من الْخَمْسَة الضرورية على أصل الحاجية.
وَإِذا تَعَارَضَت بعض الْخمس الضرورية قدمت الدِّينِيَّة على الْأَرْبَع الْأُخَر، لِأَنَّهَا الْمَقْصُود الْأَعْظَم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} [الذاريات: 56] ، [وَلِأَن] ثَمَرَته نيل السَّعَادَة الأخروية، لِأَنَّهَا أكمل الثمرات.(8/4249)
وَقيل: تقدم الْأَرْبَعَة الْأُخَر على الدِّينِيَّة، لِأَنَّهَا حق آدَمِيّ وَهُوَ يتَضَرَّر بِهِ، والدينية حق الله تَعَالَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يتَضَرَّر بِهِ، وَلذَلِك قدم قتل الْقصاص على قتل الرِّدَّة عِنْد الِاجْتِمَاع، ومصلحة النَّفس فِي تَخْفيف الصَّلَاة عَن مَرِيض ومسافر، وَأَدَاء صَوْم، وإنجاء غريق، وَحفظ المَال، بترك جُمُعَة وَجَمَاعَة، وَبَقَاء الذِّمِّيّ مَعَ كفره.
ورد ذَلِك: بِأَن الْقَتْل إِنَّمَا قدم لِأَن فِيهِ حقين، وَلَا يفوت حق الله بالعقوبة الْبَدَنِيَّة فِي الْآخِرَة، وَفِي التَّخْفِيف عَنْهُمَا تَقْدِيم على فروع الدّين لَا أُصُوله، ثمَّ هُوَ قَائِم مقَامه، فَلم يخْتَلف الْمَقْصُود وَكَذَا غَيرهمَا، وَبَقَاء الذِّمِّيّ من مصلحَة الدّين لاطلاعه على محَاسِن الشَّرِيعَة، فيسهل انقياده كَمَا فِي صلح الْحُدَيْبِيَة، وتسميته فتحا مُبينًا.(8/4250)
قلت: وَنَظِير الْقَتْل بالقود وَالرِّدَّة إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ زَكَاة وَدين لآدَمِيّ، فَقيل: تقدم الزَّكَاة لِأَنَّهُ حق الله، اخْتَارَهُ القَاضِي فِي " الْمُجَرّد "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب ".
وَعنهُ: يقدم دين الْآدَمِيّ.
وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب أَنهم يقتسمون بِالْحِصَصِ، وَنَصّ عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه.
وَكَذَا لَو مَاتَ وَعَلِيهِ حج وَدين وضاق مَاله عَنْهُمَا أَخذ لِلْحَجِّ بِحِصَّتِهِ وَحج من حَيْثُ يبلغ، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَعَلِيهِ الْأَصْحَاب.
وَعنهُ: يقدم الدّين لتأكده.
وَلم يحكوا هُنَا فِي الأَصْل القَوْل بالتساوي، ولعلهم حكوه وَلم نره.(8/4251)
ثمَّ مصلحَة النَّفس؛ لِأَن الْبَقِيَّة لأَجلهَا وَبهَا تحصل الْعِبَادَات.
ثمَّ النّسَب بعْدهَا؛ لشدَّة تعلقه ببقائها فبقاء الْوَلَد لَا مربي لَهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه.
ثمَّ الْعقل بعده لفَوَات النَّفس بفواته، وَلِأَن بِهِ التَّكْلِيف، ثمَّ المَال
قَوْله: {وَمَا مُوجب نقض علته مَانع أَو فَوَات شَرط على مَا مُوجبه ضَعِيف، لِأَن قوته دَلِيل قوتها} .
أَي لِأَن قُوَّة مُوجب النَّقْض دَلِيل على قُوَّة الْعلَّة المنقوضة.
قَالَ الْعَضُد: " إِذا انْتقض العلتان، وَكَانَ مُوجب التَّخَلُّف فِي أَحدهمَا فِي صُورَة النَّقْض قَوِيا، وَفِي الآخر ضَعِيفا، قدم الأول ".
قَوْله: {وَمَا مُوجب نقضهَا محققا على مُحْتَمل، وبانتفاء مزاحمها فِي أَصْلهَا، وبرجحانها عَلَيْهِ} .
يرجح الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته محققا على الْقيَاس الَّذِي يكون مُوجب نقض علته مُحْتملا.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي قد انْتَفَى مُزَاحم علته فِي الأَصْل على مَا لم ينتف(8/4252)
مُزَاحم علته فِيهِ، لِأَن انْتِفَاء مُزَاحم الْعلَّة يُفِيد غَلَبَة الظَّن بِالْعِلَّةِ.
قَالَ الْعَضُد: ترجح الْعلَّة بِانْتِفَاء الْعلَّة المزاحم لَهَا فِي الأَصْل، بِأَن لَا تكون مُعَارضَة وَالْأُخْرَى مُعَارضَة، ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته راجحة على مزاحمها فِي الأَصْل على مَا لَا تكون علته راجحة على مزاحمها.
قَوْله: {والمقتضية للثبوت عِنْد القَاضِي، وَأَصْحَابه، والموفق، وَغَيرهم} .
لِأَن الْمُقْتَضِيَة للثبوت تفِيد حكما شَرْعِيًّا لم يعلم بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة بِخِلَاف الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي، فَإِنَّهَا تفِيد مَا علم بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة، وَمَا فَائِدَته شَرْعِيَّة رَاجِح على غَيره.
وقاسه أَبُو الْخطاب على الْخَبَرَيْنِ.(8/4253)
وَعند الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا.
ترجح النافية؛ لِأَن الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي متأيدة بِالنَّفْيِ.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ النافية لتتمة مقتضاها بِتَقْدِير رُجْحَانهَا، وَبِتَقْدِير مساواتها ولتأييدها بِالْأَصْلِ، وَالْحكم إِنَّمَا يطْلب للحكمة، والشارع يحصلها بالحكم وبنفيه.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي الْمُقْتَضِيَة للنَّفْي احتمالات.
أَحدهَا: سَوَاء، وَهَذَا اخْتِيَار الْحلْوانِي، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر اخْتِيَار " الرَّوْضَة ".
وَالثَّانِي: النافية، وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَالثَّالِث: المثبتة، وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي عبد الْجَبَّار.(8/4254)
قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": هَذَا أشبه بأصلنا وَتعلق بِكَلَام الإِمَام أَحْمد.
قَوْله: {وبقوة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى إِلَى مقصودها أَو لَا تناسب نقيضه، والعامة للمكلفين على الْخَاصَّة، وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال بِكُل من علتين مستقلتين، وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر الشَّافِعِيَّة: الْخَاصَّة} .
يرجح أحد القياسين على الآخر بِقُوَّة الْمُنَاسبَة؛ لِأَن قُوَّة الْمُنَاسبَة تفِيد قُوَّة ظن الْعلية.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وبقة الْمُنَاسبَة بِأَن يكون أفْضى إِلَى مقصودها أَو لَا تناسب نقيضه ".
ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون علته عَامَّة فِي الْمُكَلّفين، أَي: متضمنة لمصْلحَة عُمُوم الْمُكَلّفين على الْقيَاس الَّذِي تكون علته جَامِعَة لبَعض الْمُكَلّفين، لِأَن مَا تكون فَائِدَته أَكثر أولى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَهُ الِاسْتِدْلَال بِكُل من علتين مستقلتين.(8/4255)
وَقدم الْكَرْخِي وَأكْثر الشَّافِعِيَّة الْخَاصَّة لتصريحها بالحكم.
وَكَذَا مَا أَصْلهَا من جنس فرعها كإلحاق بيع الْغَائِب بالسلم بِلَا صفة، وَبِقَوْلِهِ: بِعْتُك عبدا، وَاخْتَارَ ذَلِك الْكَرْخِي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، كالعلة الْخَاصَّة.
قَوْله: {والموجب للحرية عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقيل: عَكسه، وَأَبُو الْخطاب: سَوَاء} .
تقدم الْمُقْتَضِيَة للحرية، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَقَالَ: (قَالَه القَاضِي، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين) .
وَقيل: عَكسه، أَي: تقدم الْعلَّة الْمُقْتَضِيَة للرق.(8/4256)
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب: أَنَّهُمَا سَوَاء وَذكره عَن الشَّافِعِيَّة.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " ترجح مسقطة الْحَد على موجبته، وموجبة الْعتْق على نافيته، وَالَّتِي هِيَ أحف حكما على الَّتِي أثقل حكما، على خلاف [فِي] ذَلِك كُله، كَمَا سبق فِي نَظِيره من الْأَخْبَار؛ لِأَن الْعِلَل مستفادة من النُّصُوص فتتبعها فِي الْخلاف والوفاق فِي ذَلِك وَنَحْوه، وَهَذَا كُله فِي المنصوصتين والمستنبطتين، أما فِي المنصوصة والمستنبطة، فالمنصوصة وَاجِبَة التَّقْدِيم بِكُل حَال، كَمَا سبق فِي الْمُنَاسبَة مَعَ غَيرهَا " انْتهى.
قَوْله: {والحاظرة أولى عِنْد القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والكرخي، لِأَنَّهَا أولى وأحوط} .
أَي: الَّتِي توجب الْحَظْر مُقَدّمَة على الَّتِي توجب الْإِبَاحَة، وَقطع بِهِ(8/4257)
الطوفي فِي مَتنه وَشَرحه.
وَذكر أَبُو الْخطاب احْتِمَالا بِأَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ ظَاهر اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".
وللشافعية وَجْهَان، كهذين.
قَوْله: {وَمَا لم يخص أَصْلهَا، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، كالطعم على الْكَيْل عِنْد من يُجِيز التَّفَاضُل فِي الْقَلِيل} .
تقدم عَامَّة الأَصْل بِأَن تُوجد فِي جَمِيع جزئياته؛ لِأَنَّهَا أَكثر فَائِدَة مِمَّا لم تعم، كالطعم فِيمَن يُعلل بِهِ فِي بَاب الرِّبَا، فَإِنَّهُ مَوْجُود فِي الْبر مثلا قَلِيله وَكَثِيره، بِخِلَاف " الْقُوت " الْعلَّة عِنْد الْحَنَفِيَّة فَلَا يُوجد فِي قَلِيله، فجوزوا بيع الحفنة مِنْهُ بالحفنتين.
قَوْله: {وَمَا وجد حكمهَا مَعهَا على مَا قبلهَا، وَمَا وصف بموجود(8/4258)
فِي الْحَال على مَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي، وَمَا عَمت معلولها على مَا خصته، ومفسرة على مجملة عِنْد أَصْحَابنَا فِيهِنَّ} .
هَذِه الصُّور ذكرهَا أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " مِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا مَعهَا وَحكم الْأُخْرَى مَوْجُودا قبلهَا فَالْأولى أولى، لِأَنَّهُ يدل على تأثيرها فِي الحكم، كتعليل أَصْحَابنَا فِي الْبَائِن: أَنَّهَا لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة مِنْهُ فَأشبه المنقضية الْعدة.
- قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر -.
ويعلل الْخصم: بِأَنَّهَا مُعْتَدَّة من طَلَاق أشبه الرَّجْعِيَّة، فعلتنا أولى؛ لِأَن الحكم وَهُوَ سُقُوط النَّفَقَة وجد بوجودها، وَقبل أَن تصير أَجْنَبِيَّة كَانَت النَّفَقَة وَاجِبَة، وعلتهم غير مُؤثرَة؛ لِأَن وجوب النَّفَقَة وَالسُّكْنَى تجب للزَّوْجَة قبل أَن تصير مُعْتَدَّة فَوَجَبَ لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى ".(8/4259)
وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن [تكون إِحْدَاهمَا] مَوْصُوفَة بِمَا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال، وَالْأُخْرَى مَوْصُوفَة بِمَا يجوز وجوده فِي الثَّانِي كتعليل أَصْحَابنَا فِي رهن الْمشَاع، أَنه عين يَصح بيعهَا فصح رَهنهَا كالمفرد.
وتعليل الْخصم، بِأَنَّهُ قَارن العقد معنى يُوجب اسْتِحْقَاق رفع يَده فِي الثَّانِي، فعلتنا مُحَققَة الْوُجُود، وَمَا ذَكرُوهُ يجوز أَن يُوجد، وَيجوز أَن لَا يُوجد، فَكَانَت علتنا أولى ".
وَقَالَ أَيْضا: " وَمِنْهَا أَن تكون إِحْدَاهمَا تستوعب معلولها، كقياسنا فِي جَرَيَان [الْقصاص] بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْأَطْرَاف: بِأَن من جرى [الْقصاص] بَينهمَا فِي النَّفس جرى بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف كالحرين.
أولى من قياسهم بِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي بدل النَّفس فَلَا يجْرِي [الْقصاص](8/4260)
بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف، كَالْمُسلمِ مَعَ الْمُسْتَأْمن، لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لقَولهم، فَإِن الْعَبْدَيْنِ وَلَو تَسَاويا فِي الْقيمَة، لَا يجْرِي [الْقصاص] بَينهمَا فِي الْأَطْرَاف عِنْده ".
وَقَالَ أَيْضا: وَمِنْهَا: " أَن تكون إِحْدَاهمَا مفسرة وَالْأُخْرَى مجملة كقياسنا فِي الْأكل فِي رَمَضَان، أَنه لَا كَفَّارَة فِيهِ، لِأَنَّهُ إفطار بِغَيْر مُبَاشرَة فَأشبه لَو ابتلع حَصَاة، أولى من قياسهم: أفطر بمسوغ جنسه؛ لِأَن الْمُفَسّر فِي(8/4261)
الْكتاب وَالسّنة مقدم على الْمُجْمل، وَكَذَا فِي المستنبطة ".
انْتهى كَلَامه فِي " التَّمْهِيد ".
قَوْله: {وَالْفرع يُقَوي الظَّن بالمشاركة وَفِي الْأَخَص والبعد عَن الْخلاف فَيقدم عين الحكم، وَعين الْعلَّة، وَعين أَحدهمَا على الجنسين، وَعين الْعلَّة على عين الحكم، وبالقطع بهَا فِيهِ، وبتأخير الْفَرْع وثبوته بِنَصّ جملَة} .
هَذَا التَّرْجِيح الْعَائِد إِلَى الْفَرْع وَيحصل بترجيح الْقيَاس بِحَسبِهِ من وُجُوه، فيرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم وَعين الْعلَّة، على الثَّلَاثَة، أَي: على مَا يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي جنس الحكم وجنس الْعلَّة، وَفِي جنس الحكم وَعين الْعلَّة، وَفِي عين الحكم وجنس الْعلَّة، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقولنَا: على الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ لِأَن التَّعْدِيَة(8/4262)
بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى الْأَخَص يكون أغلب على الظَّن من الِاشْتِرَاك فِي الْمَعْنى الْأَعَمّ.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين أَحدهمَا، أَي: عين الْعلَّة أَو الحكم على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي الجنسين، أَي: جنس الْعلَّة وجنس الحكم لما مر.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الْعلَّة على عَكسه، أَي: على الْقيَاس الَّذِي يكون فَرعه مشاركا لأصله فِي عين الحكم؛ لِأَن الْعلَّة أصل الحكم الْمُتَعَدِّي، فاعتبار مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الْعلَّة أولى من اعْتِبَارهَا مَا هُوَ مُعْتَبر فِي خُصُوص الحكم.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي تكون الْعلَّة فِي فَرعه مَقْطُوعًا على الْقيَاس الَّذِي تكون علته فِي الْفَرْع مظنونة.
ويرجح الْقيَاس الَّذِي ثَبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ جملَة لَا تَفْصِيلًا، على الْقيَاس الَّذِي لم يثبت حكم الْفَرْع فِيهِ بِالنَّصِّ.
وَقَوْلنَا: جملَة؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت حكم الْفَرْع بِالنَّصِّ على سَبِيل التَّفْصِيل لم يكن ثَابتا بِالْقِيَاسِ، كَمَا مر فِي شَرط حكم الْفَرْع.(8/4263)
قَوْله: {الْمَدْلُول وَأمر خَارج نَظِير مَا سبق من المنقولين} .
أما الترجيحات العائدة إِلَى الْمَدْلُول وَهُوَ حكم الْفَرْع فعلى مَا تقدم، وَكَذَا الترجيحات العائدة من خَارج فعلى قِيَاس مَا سلف.
قَوْله: {وترجح عِلّة وافقها قَول صَحَابِيّ، ذكره ابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَقَالَ: من لم يَجعله حجَّة يرجح بِهِ، قَالَ أَبُو الطّيب: أَو مُرْسل، وَفِي " الْعدة " لَا يرجح بِمَا لَا يثبت بِهِ حكم، وَالْقَوْلَان لِابْنِ عقيل} .
الصَّحِيح أَن الْعلَّة ترجح إِذا وافقها قَول الصَّحَابِيّ وَإِن لم نجعله حجَّة، وَقد تقدم نَظِير ذَلِك فِي الدَّلِيلَيْنِ وَأَن الصَّحِيح أَنه يرجح هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا.(8/4264)
وَالصَّحِيح - أَيْضا -: أَن الْمُرْسل يرجح بِهِ أحد الدَّلِيلَيْنِ فَكَذَلِك فِي الْعلَّة.
وَعند القَاضِي فِي " الْعدة ": لَا يرجح بِمَا لَا يثبت بِهِ حكم، فَلَا يرجح بمرسل وَلَا بقول صَحَابِيّ، إِذا لم يثبت بذلك حكم على القَوْل بِهِ.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَهُوَ مُحْتَمل، وَقَالَ أَيْضا: وَأطلق ابْن عقيل وَغَيره التَّرْجِيح بِهِ.
وَقيل لَهُ أَيْضا فِي تصويب كل مُجْتَهد: لَا خلاف فِي التَّرْجِيح بِمَا لَا يجوز ثُبُوت الحكم بِهِ.(8/4265)
فَقَالَ: لَا نسلم.
وَقد نقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث الرجل الضَّعِيف كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَأبي بكر بن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ؟ فَيَقُول: أعرفهُ أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره.
وَيَقُول: " يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَول أَحْمد: أستدل بِهِ مَعَ غَيره، يَعْنِي يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا.
وَكَذَا حكم الْمُرْسل، وَقَول الصَّحَابِيّ كالخبر الضَّعِيف يقوى بِهِ، ويرجح بِهِ، وَهُوَ الصَّوَاب.(8/4266)
قَوْله: {الْمَنْقُول وَالْقِيَاس يرجح خَاص دلّ بنطقه، وَإِلَّا فَمِنْهُ ضَعِيف وَقَوي ومتوسط، فالترجيح فِيهِ بِحَسب مَا يَقع للنَّاظِر} .
لما فَرغْنَا من تَرْجِيح المعقولين شرعنا فِي تَرْجِيح الْمَنْقُول والمعقول.
فَإِذا وَقع التَّعَارُض بَين الْقيَاس وَالْمَنْقُول الَّذِي هُوَ الْكتاب وَالسّنة، فَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا أَو دلّ على الْمَطْلُوب بمنطوقه يرجح على الْقيَاس، لكَون الْمَنْقُول أصلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيَاس، وَلِأَن الْمَنْقُول مقدماته أقل فَيكون أقل خللا.
وَإِن كَانَ الْمَنْقُول خَاصّا وَدلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه فَهُوَ يَقع على دَرَجَات، لِأَن الظَّن الْحَاصِل من الْمَنْقُول الَّذِي دلّ على الْمَطْلُوب لَا بمنطوقه، قد يكون أقوى من الظَّن الْحَاصِل من الْقيَاس، وَقد يكون مُسَاوِيا لَهُ، وَقد يكون أَضْعَف، فالترجيح فِيهِ حسب مَا يَقع للنَّاظِر، فَلهُ أَن يعْتَبر الظَّن فِيهِ وَمن الْقيَاس، وَيَأْخُذ بأقوى الظنيين.
وَإِن كَانَ الْمَنْقُول عَاما فَحكمه مَعَ الْقيَاس قد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي بَاب الْخَبَر، فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَته.(8/4267)
(قَوْله: {خَاتِمَة} )
{يَقع التَّرْجِيح بَين حُدُود سمعية ظنية مفيدة لمعان مُفْردَة تصورية} .
وَقد ذكر كثير من الْعلمَاء التراجيح فِي الْحُدُود، وَهِي قِسْمَانِ: عقلية، وسمعية، أَي: شَرْعِيَّة.
فالعقلية هِيَ: تَعْرِيف الماهيات، وَلَيْسَت مَقْصُودَة هُنَا.
إِنَّمَا الْمَقْصُود هُنَا الْحُدُود الشَّرْعِيَّة وَهِي: حُدُود الْأَحْكَام الظنية المفيدة لمعان مُفْردَة تصورية؛ وَذَلِكَ لِأَن الأمارات المفضية إِلَى التصديقات كَمَا يَقع التَّعَارُض فِيهَا ويرجح بَعْضهَا على بعض، كَذَلِك الْحُدُود السمعية يَقع التَّعَارُض فِيهَا ويرجح بَعْضهَا على بعض.
قَوْله: {فيرجح بِكَوْنِهِ صَرِيحًا وَأعرف وذاتيا، فحقيقي تَامّ، فناقص، فرسمي كَذَلِك، فلفظي وبأعم، وَقيل: عَكسه، وبموافقته نقل سَمْعِي أَو(8/4268)
لغَوِيّ أَو قربه مِنْهُمَا، أَو عمل الْمَدِينَة، أَو الْخُلَفَاء، أَو عَالم، وَيكون طَرِيق تَحْصِيله أسهل أَو أظهر، وبتقرير حكم حظر أَو نفي، أَو دَرْء حد، أَو ثُبُوت عتق، أَو طَلَاق وَنَحْوه} .
التَّرْجِيح فِي الْحُدُود السمعية تَارَة يكون بِاعْتِبَار اللَّفْظ، وَتارَة يكون بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وَتارَة يكون أَمر خَارج.
فالترجيح بِاعْتِبَار اللَّفْظ كالترجيح بِأَلْفَاظ صَرِيحَة، فيرجح الْحَد الَّذِي بِلَفْظ صَرِيح على مَا فِيهِ تجوز، أَو اسْتِعَارَة، أَو اشْتِرَاك، أَو غرابة، أَو اضْطِرَاب.
هَذَا إِن قُلْنَا: التَّجَوُّز، والاستعارة، والاشتراك، تدخل فِي الْحُدُود، وَقد تقدم منع ذَلِك على الصَّحِيح فِي أول الْكتاب متْنا، وشرحا.
قَالَ الكوراني: إِلَّا إِذا اشْتهر الْمجَاز بِحَيْثُ لَا يتَبَادَر غَيره.(8/4269)
وَالتَّرْجِيح بِاعْتِبَار الْمَعْنى فيرجح بِكَوْن الْمُعَرّف من أَحدهمَا أعرف فِي الآخر.
ويرجح بِكَوْنِهِ ذاتيا على كَونه عرضيا، لِأَن التَّعْرِيف بِالْأولِ يُفِيد كنه الْحَقِيقَة بِخِلَاف الثَّانِي.
فَيقدم الْحَقِيقِيّ التَّام، فالحقيقي النَّاقِص، فالرسمي التَّام، فالرسمي النَّاقِص، فاللفظي، على مَا تقدم بَيَان ذَلِك فِي الْمُقدمَة فِي أَحْكَام الْحُدُود.
ويرجح بِكَوْن مَدْلُول أَحدهمَا أَعم من مَدْلُول الآخر، فيرجح الْأَعَمّ ليتناول الْأَخَص وَغَيره فتكثر الْفَائِدَة.
وَقيل يقدم الْأَخَص وَهُوَ للآمدي، للاتفاق على مَا يتَنَاوَلهُ الْأَخَص لتناول الحَدِيث لَهُ، وَالِاخْتِلَاف فِيمَا زَاد على مَدْلُول الْأَخَص، والمتفق عَلَيْهِ أولى.
وَالتَّرْجِيح بِاعْتِبَار أَمر خَارج، فيرجح مَا كَانَ على وفْق النَّقْل الشَّرْعِيّ أَو اللّغَوِيّ، وتقريرا لوضعهما وَالْآخر يُخَالف نقلهما، فَإِن الأَصْل عدم النَّقْل أَو قَرِيبا من النَّقْل الشَّرْعِيّ أَو اللّغَوِيّ على مَا لَا يكون كَذَلِك، لِأَن النَّقْل لَو كَانَ لمناسبة فَالْأَقْرَب أولى.
ويرجح أحد التعريفين على الآخر برجحان طَرِيق اكتسابه بِأَن طَرِيق اكتسابه قَطْعِيا وَطَرِيق اكْتِسَاب [الآخر] ظنيا، أَو اكْتِسَاب أَحدهمَا أرجح من طَرِيق اكْتِسَاب الآخر بِكَوْن طَرِيقه أسهل، أَو أظهر فَيقدم، والأسهل وَالْأَظْهَر على غَيره؛ لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى مَقْصُود التَّعْرِيف وأغلب على الظَّن.(8/4270)
ويرجح أحد التعريفين على الآخر بِكَوْنِهِ مُوَافقا لعمل أهل الْمَدِينَة، أَو عمل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، أَو الْعلمَاء، أَو عَالم وَاحِد، لحُصُول الْقُوَّة بذلك فَيحصل التَّرْجِيح.
ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لحكم الْحَظْر إِذا كَانَ الآخر مقررا لحكم الْإِبَاحَة.
ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لحكم النَّفْي على الْمُقَرّر للإثبات.
ويرجح بِكَوْنِهِ مقررا لدرء الْحَد بِأَن يلْزم من الْعَمَل بِهِ دَرْء الْحَد دون الآخر.
ويرجح بِكَوْنِهِ يلْزم من الْعَمَل بِهِ ثُبُوت عتق أَو طَلَاق وَنَحْوهمَا على مَا لَا يلْزم من الْعَمَل بِهِ ذَلِك، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَغَيره.
ثمَّ قَالَ: " فالترجيح بِهِ على مَا سبق فِي الْحجَج ".
وَقد تركنَا تَوْجِيه بعض مسَائِل اختصارا لظهورها.
قَوْله: {والمرجحات لَا تَنْحَصِر، فَمَتَى اقْترن بِأحد الطرفيبن أَمر نقلي أَو اصطلاحي عَام، أَو خَاص، أَو قرينَة عقلية، أَو لفظية، أَو حَالية، أَو أَفَادَ زِيَادَة ظن، رجح بِهِ، وَالله أعلم} .
اعْلَم أَن الترجيحات الَّتِي ذكرتها فِي هَذَا الْمُخْتَصر وَشَرحه، نقلتها من " مُخْتَصر ابْن مُفْلِح "، وَمن " الْمقنع " لِابْنِ حمدَان، وَمن " الرَّوْضَة " للموفق،(8/4271)
و " مُخْتَصر الطوفي "، و " شَرحه "، و " جمع الْجَوَامِع "، و " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " والبيضاوي، وَغَيرهَا وَمَعَ ذَلِك ثمَّ تراجيح كَثِيرَة لم نذكرها، ذكرهَا الأصوليون، وَذَلِكَ لِأَن مثارات الظنون الَّتِي بهَا الرجحان، والتراجيح كَثِيرَة جدا فحصرها بعيد؛ لِأَنَّك إِذا اعْتبرت الترجيحات فِي الدَّلَائِل من جِهَة مَا يَقع فِي المركبات من نفس الدَّلَائِل ومقدماتها، وَفِي الْحُدُود من جِهَة مَا يَقع فِي نفس الْحُدُود وَفِي مفرداتها، ثمَّ ركبت بَعْضهَا مَعَ بعض، حصلت أُمُور لَا تكَاد تَنْحَصِر.
وَحَيْثُ كَانَ الْأَمر كَذَلِك فالضابط وَالْقَاعِدَة الْكُلية فِي التَّرْجِيح: أَنه مَتى اقْترن بِأحد الطَّرفَيْنِ أَعنِي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين أَمر نقلي كآية أَو خبر، أَو اصطلاحي كعرف أَو عَادَة عَاما كَانَ ذَلِك الْأَمر أَو خَاصّا، أَو قرينَة عقلية، أَو لفظية، أَو حَالية، وَأفَاد ذَلِك زِيَادَة الظَّن: رجح بِهِ، لما ذكرنَا من [أَن] رُجْحَان الدَّلِيل هُوَ الزِّيَادَة فِي قوته وَظن إفادته الْمَدْلُول، وَذَلِكَ أَمر حَقِيقِيّ لَا يخْتَلف فِي نَفسه وَإِن اخْتلف مداركه، وَالله أعلم.
وَهَذَا آخر مَا قصدنا من هَذَا الشَّرْح، وَالله أسَال أَن يَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، وَأَن يدخلنا بِهِ جنَّات النَّعيم، وَأَن ينفع بِهِ كَاتبه وقارئه والمطالع فِيهِ، وَمن دَعَا لمؤلفه بالمغفرة، وَالرَّحْمَة، والرضوان، إِنَّه سميع(8/4272)
قريب، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم.
وَوَافَقَ الْفَرَاغ من تَعْلِيقه فِي الْيَوْم الْمُبَارك حادي عشر من رَمَضَان الْمُعظم قدره شهور سنة أَربع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة، على يَد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى مُحَمَّد بن عَليّ البستي الطرابلسي الْحَنْبَلِيّ، لطف الله تَعَالَى بِهِ وَالْمُسْلِمين آمين، وَالْحَمْد لله وَحده، وَصلى الله على مُحَمَّد وَصَحبه وَسلم.(8/4273)