(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا نطقا إِلَّا فِي يَمِين خَائِف بنطقه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء إِلَّا نطقا عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لما سبق، يَعْنِي فِي الِاسْتِدْلَال فِي مَسْأَلَة شَرط الِاسْتِثْنَاء الِاتِّصَال، كَمَا تقدم.
ثمَّ قَالَ: إِلَّا فِي يَمِين لخائف من نطقه، وَهَذَا وَاضح للضَّرُورَة.
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَيعْتَبر نطقه إِلَّا من مظلوم خَائِف، نَص على ذَلِك، وَلم يذكر فِي " الْمُسْتَوْعب " (خَائِف) ، وَالْأَصْحَاب على الأول، لَكِن ظَاهر مَا قدمه فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح " أَنه لَا يَصح إِلَّا نطقا، وَقَالا: وَرُوِيَ عَن أَحْمد أَنه إِن كَانَ مَظْلُوما فاستثنى فِي نَفسه: رَجَوْت أَن يجوز إِذا خَافَ على نَفسه.(6/2569)
فَهَذَا فِي حق الْخَائِف على نَفسه؛ لِأَن يَمِينه غير منعقدة، أَو لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة المتأول. انْتهى.
ثمَّ قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة - فِي الْيَمين -: قِيَاس مَذْهَب مَالك صِحَّته بِالنِّيَّةِ} . انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز تَقْدِيمه عِنْد الْكل} .
يَعْنِي يجوز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَالله إِن شَاءَ الله لَا أَحْلف على يَمِين ... " الحَدِيث مُتَّفق عَلَيْهِ، وكقول الْكُمَيْت:
(وَمَا لي إِلَّا آل أَحْمد شيعَة ... وَمَالِي إِلَّا مَذْهَب الْحق مَذْهَب)(6/2570)
قَوْله: {اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل} عِنْد الْعلمَاء، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم إِجْمَاعًا، {وشذ بَعضهم} فِي حِكَايَة خلاف، فَقَالَ ابْن طَلْحَة الْمَالِكِي فِي كتاب " الْمدْخل " لَهُ فِي الْفِقْه: إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا، هَل يَقع الطَّلَاق؟ على قَوْلَيْنِ عَن مَالك.
قَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: وَمُقْتَضى هَذَا النَّقْل جَوَاز اسْتثِْنَاء الْكل من الْكل.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هَذَا على قَول مَالك، وبيض لذَلِك، وَنقل اللَّخْمِيّ عَن بَعضهم فِي قَوْله (أَنْت طَالِق وَاحِدَة(6/2571)
إِلَّا وَاحِدَة) أَن الطَّلَاق لَا يَقع؛ لِأَن النَّدَم مُنْتَفٍ بِإِمْكَان الرّجْعَة بِخِلَاف (ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا) .
وَفِي " الْهِدَايَة " للحنفية: أَن الطَّلَاق الْمُسْتَغْرق إِنَّمَا هُوَ فِي نَحْو: نسَائِي طَوَالِق إِلَّا نسَائِي، أَو أوصيت بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث مَالِي، لَا فِي نَحْو: نسَائِي طَوَالِق إِلَّا هَؤُلَاءِ مُشِيرا إلَيْهِنَّ، أَو ثلث مَالِي إِلَّا ألف دِرْهَم، وَهُوَ ثلثه. انْتهى.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": قلت: وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِنَّه يَقع وَاحِدَة، إِذا قُلْنَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَاثْنَتَانِ على الْمَذْهَب؛ لِأَن اسْتثِْنَاء الْأَقَل عندنَا صَحِيح، وَلنَا فِي الْأَكْثَر وَجه، فالمستثنى للثلاث جَامع بَين مَا يجوز، وَمَا لَا يجوز فَيخرج على قَاعِدَة تَفْرِيق الصَّفْقَة. انْتهى.
وَمحل امْتنَاع اسْتثِْنَاء الْكل فِي غير الصّفة على مَا يَأْتِي قَرِيبا فِي كَلَام أبي الْخطاب وَغَيره، وَكَلَام ابْن مُفْلِح، وَغَيره وَمحل ذَلِك وَهُوَ بطلَان(6/2572)
الْمُسْتَغْرق مَا لم يعقب الْمُسْتَغْرق اسْتثِْنَاء بعضه: كعشرة إِلَّا عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، على مَا يَأْتِي الْخلاف فِيهِ فِي الْمَتْن وَالشَّرْح - إِن شَاءَ الله تَعَالَى -.
قَوْله: {وَكَذَا الْأَكْثَر من عدد مُسَمّى عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأبي يُوسُف، وَابْن الْمَاجشون، وَأكْثر النُّحَاة} ، وَذكر ابْن هُبَيْرَة أَنه قَول أهل اللُّغَة.
وَنَقله أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأَبُو حَيَّان فِي " الارتشاف " عَن نحاة الْبَصْرَة، وَهُوَ أحد قولي القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره عَن الْأَشْعَرِيّ.(6/2573)
{وَعند الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، والخلال} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {يَصح} . قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين يَصح.
وَقيل: اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر مستقبح عِنْد الْعَرَب لَا مُمْتَنع فِي لغتهم.
وَقيل: يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر إِن كَانَ الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ فِي أعداد صَرِيحَة، نَحْو: عشرَة إِلَّا تِسْعَة، فَإِن لم يكن كَذَلِك، نَحْو: خُذ مَا فِي هَذَا الْكيس إِلَّا الزُّيُوف، وَكَانَت الزُّيُوف أَكثر من الْبَاقِي فَهُوَ جَائِز.
وَقيل: يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر جملَة، وَلَا يمْتَنع تَفْصِيلًا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قيل وَهُوَ الْمَوْجُود فِي كتب الْحَنَابِلَة، فَيمْتَنع: جَاءَ إخْوَتك الْعشْرَة إِلَّا تِسْعَة، وَيجوز إِلَّا زيدا، وعمرا، وبكرا، وَهَكَذَا لتَمام التِّسْعَة.(6/2574)
وَقيل: التَّفْصِيل بَين أَن يكون السَّامع عَالما بِأَن الْمخْرج أَكثر فَيمْتَنع أَو لَا فَيجوز.
وَقيل: يجوز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، لَكِن لم ترد بِهِ اللُّغَة، بل ذكر قِيَاسا على التَّخْصِيص.
وَقيل: قَالَ الْبرمَاوِيّ، ويعزى للحنابلة: يجوز فِي الْمُنْقَطع لَا الْمُتَّصِل فَيجوز: لَهُ عِنْدِي ألف دِرْهَم إِلَّا الثَّوْب الْفُلَانِيّ إِذا كَانَ ذَلِك الثَّوْب يُسَاوِي سِتّمائَة.
ذكر هَذِه الْأَقْوَال الْبرمَاوِيّ.
وَجه القَوْل الأول: أَنه لُغَة، فَمن ادَّعَاهُ فَعَلَيهِ الْبَيَان.
ثمَّ نقُول: لَا يعرف لما سبق.
وَأنْكرهُ الزّجاج، وَابْن قُتَيْبَة، وَابْن درسْتوَيْه، وَابْن(6/2575)
جني، فَإِن قيل: جوزه أَكثر الْكُوفِيّين.
قيل: يمْتَنع ثُبُوته عَنْهُم فِي الْأَعْدَاد، ثمَّ عَلَيْهِم الدَّلِيل، والبصريون أثبت مِنْهُم فِي اللُّغَة، كالخليل، وسيبويه، وَقد منعُوهُ، وَأنْكرهُ من تتبعه كَمَا سبق.
وَأَيْضًا وضع للاستدراك والاختصار، فَمن أقرّ بِأَلف إِلَّا تِسْعمائَة [و] تِسْعَة وَتِسْعين فَهُوَ خلاف الْوَضع، وَلِهَذَا يعد قبيحا عرفا، وَالْأَصْل التَّقْرِير.
وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ خلاف الأَصْل؛ لِأَنَّهُ إِنْكَار بعد إِقْرَار فصح فِي الْأَقَل؛ لِأَنَّهُ قد ينساه فينضر فِي الْأَقَل إِن لم يَصح.
رد: بِالْمَنْعِ؛ فَإِنَّهُمَا كجملة، وَهُوَ تكلم بِالْبَاقِي، ثمَّ: بِمَنْع مُخَالفَة الأَصْل فَيصح فِي الْأَكْثَر لِئَلَّا ينضر، وَصدقه مُمكن.
قَالُوا: وَقع فِي قَوْله: {إِلَّا من اتبعك من الغاوين} [الْحجر: 42] ، وَقَوله: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} [الْحجر: 40] ، وَأيهمَا كَانَ أَكثر فقد اسْتَثْنَاهُ، أَو أَن الغاوين أَكثر؛ لقَوْله: {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} [يُوسُف: 103] .(6/2576)
رد ذَلِك: بِأَن مَحل الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِثْنَاء من عدد، وَأما هَذَا فتخصيص بِصفة وَفرق بَينهمَا؛ لِأَنَّهُ - كَمَا يَأْتِي قَرِيبا - يسْتَثْنى بِالصّفةِ مَجْهُول من مَعْلُوم، وَمن مَجْهُول، ويستثني الْجَمِيع أَيْضا، فَلَو قَالَ: اقْتُل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم، أَو إِلَّا الْبيض، فَكَانُوا كلهم بني تَمِيم، أَو بيضًا لم يجز قَتلهمْ بِخِلَاف الْعدَد، ثمَّ الْجِنْس ظَاهر، وَالْعدَد صَرِيح، وَلِهَذَا فرقت اللُّغَة بَينهمَا.
ثمَّ هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، أَي: لَكِن قَوْله: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم} يَعْنِي: ولد آدم، وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى أضَاف الْعباد إِلَيْهِ، وَالْمَلَائِكَة مِنْهُم، فاستثنى الْأَقَل مِنْهُمَا.
وَاعْتمد القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا على الْجَواب الأول، وَبِه يُجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: " كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، وَلم يعرج عَلَيْهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ".(6/2577)
وَبَعض النَّاس ذكر فِيهِ خلافًا، قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَا خلاف فِيهِ لَكِن اتَّفقُوا أَنه لَو أقرّ بِهَذِهِ الدَّار إِلَّا هَذَا الْبَيْت صَحَّ، وَلَو كَانَ أَكثر، بِخِلَاف إِلَّا ثلثيها؛ فَإِنَّهُ على الْخلاف.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ فِي " المسودة ": لَا خلاف فِي جَوَازه إِذا كَانَت الْكَثْرَة من دَلِيل خَارج، لَا من اللَّفْظ.
قَالُوا: كالتخصيص، وكاستثناء الْأَقَل.
وَجَوَابه وَاضح، وَعجب مِمَّن ذكر الْخلاف، ثمَّ يحْتَج بِالْإِجْمَاع أَن من أقرّ بِعشْرَة إِلَّا درهما يلْزمه تِسْعَة {}
تقرر أَن الْمَذْهَب لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر فَكيف صحّح الْأَصْحَاب اسْتثِْنَاء الرّبع من الثَّالِث وَالْخمس من الرّبع وَنَحْو ذَلِك، وَقد تنبه أَبُو الْخطاب لهَذَا الْإِشْكَال فِي " التَّهْذِيب "، وَأجَاب عَنهُ بِأَن هَذَا لَيْسَ من بَاب اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر وَإِنَّمَا كَأَنَّهُ أوصى لَهُ بِشَيْء ثمَّ رَجَعَ عَن بعضه وَترك الْبَعْض.(6/2578)
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَفِي الْجَواب نظر؛ إِذْ هُوَ تَحْويل للفظ الِاسْتِثْنَاء إِلَى غير معنى الرُّجُوع. وَأَيْضًا فَإِن الرُّجُوع لَا يكون [إِلَّا] بعد اسْتِقْرَار الحكم وَالِاسْتِثْنَاء مَانع من اسْتِقْرَار الحكم، وَحَقِيقَته [إِخْرَاج] مَا لولاه لدخل فِي اللَّفْظ، فَهُوَ مَانع من دُخُول مَا يَقْتَضِي اللَّفْظ دُخُوله، لَا أَنه يسْتَقرّ دُخُوله ثمَّ يخرج، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال فِي تحريره إِنَّا إِنَّمَا منعنَا اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إبِْطَال للفظ الأول، لَا تَخْصِيص لَهُ، وَهُوَ لَا يملك إبطالهما بِالرُّجُوعِ فَنزل اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر فِيهَا بِمَنْزِلَة الرُّجُوع. انْتهى.
وَاسْتشْكل الْحَارِثِيّ مَسْأَلَة من لَهُ ثَلَاثَة بَنِينَ، وَأوصى بِمثل نصيب أحدهم إِلَّا ربع المَال، فأورد هَاهُنَا أَن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرق؛ لِأَن الْمثل مَعَ الثَّلَاثَة ربع فَكيف يَسْتَثْنِي مِنْهُ الرّبع؟
وَأجَاب عَنهُ بِأَن الِاسْتِثْنَاء يَتَّسِع بِهِ النَّصِيب كَذَا الْوَصِيَّة؛ لِأَن الْحَاصِل للْوَارِث مَعَ [عدم] الِاسْتِثْنَاء ربع فَقَط، وَمَعَ الِاسْتِثْنَاء ربع وَشَيْء فالمثل الْمُوصى بِهِ كَذَلِك، فَإِذا اسْتثْنى مِنْهُ الرّبع لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُسْتَغْرقا.(6/2579)
ثمَّ قَالَ: وَلقَائِل أَن يَقُول: الزِّيَادَة على الرّبع إِنَّمَا تثبت بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْقدر الثَّابِت بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يثبت قبله فَلَا يحصل بذلك تَخْلِيص عَن الْإِيرَاد، وَالله أعلم.
وَأجَاب بعض الْمُتَأَخِّرين عَن الأول بِمَا ذكره الْمُوفق، وَغَيره من أَن اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر إِنَّمَا يمْتَنع من الْعدَد خَاصَّة، أما من الجموع المستغرقة فَلَا يمْتَنع اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَكَذَلِكَ اخْتَار ابْن عُصْفُور، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " الْمسَائِل البغداديات " الِاتِّفَاق على ذَلِك، ذكره فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ".
قَوْله: تَنْبِيهَات:
{قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {لَا خلاف فِي جَوَازه إِذا كَانَت الْكَثْرَة من دَلِيل خَارج، لَا من اللَّفْظ.
وَجوز أَبُو الْخطاب، وَأَبُو يعلى الصَّغِير، وَجمع} من الْعلمَاء {اسْتثِْنَاء الْكل من الجموع غير ذَوَات الْعدَد.(6/2580)
قَالَ ابْن مُفْلِح، وَغَيره: يسْتَثْنى بِالصّفةِ مَجْهُول من مَعْلُوم، وَمن مَجْهُول، والجميع أَيْضا، كأقتل من فِي الدَّار إِلَّا بني تَمِيم، أَو الْبيض، وَيكون الْكل بني تَمِيم، أَو بيضًا} فَإِنَّهُم لَا يقتلُون، وَقد تقدم ذَلِك كُله فِي الْبَحْث الْمُتَقَدّم.
قَوْله: {الثَّانِي: حَيْثُ بَطل الِاسْتِثْنَاء وَاسْتثنى مِنْهُ رَجَعَ إِلَى مَا قبله.
وَقيل: يبطل الْكل.
وَقيل: يعْتَبر مَا تؤول إِلَيْهِ الاستثناءات} .
القَوْل الأول قَالَ فِي " تَصْحِيح الْمُحَرر ": جزم بِهِ فِي " الْمُغنِي ".
وَالْقَوْل الْأَخير قَالَ فِي " تَصْحِيح الْمُحَرر ": اخْتَارَهُ القَاضِي. انْتهى.
فَإِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا ثَلَاثَة.(6/2581)
أَحدهَا: يلْزمه عشرَة، فَإِن الِاسْتِثْنَاء الأول لم يَصح، وَالثَّانِي مُرَتّب عَلَيْهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: يلْزمه ثَلَاثَة، واستثناء الْكل من الْكل إِنَّمَا لَا يَصح إِذا اقْتصر عَلَيْهِ، أما إِذا أعقبه باستثناء صَحِيح فَيصح؛ لِأَن الْكَلَام بِآخِرهِ.
وَهَذَا الْمُرَجح عِنْد الشَّافِعِيَّة.
وَالْوَجْه الثَّالِث: يلْزمه سَبْعَة، وَالِاسْتِثْنَاء الأول لَا يَصح فَيسْقط فَيبقى كَأَنَّهُ اسْتثْنى ثَلَاثَة من عشرَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": اسْتثِْنَاء الْكل بَاطِل إِجْمَاعًا، ثمَّ إِذا اسْتثْنى مِنْهُ فَهَل يبطل الْجَمِيع؛ لِأَن الثَّانِي فرع الأول، أم يرجع إِلَى مَا قبله؛ لِأَن الْبَاطِل كَالْعدمِ، أم يعْتَبر مَا تؤول إِلَيْهِ الاستثناءات فِيهِ أَقْوَال لنا وللعلماء.
قَوْله: {وَيصِح اسْتثِْنَاء النّصْف فِي الْأَصَح عندنَا، وفَاقا للكوفيين وَبَعض الْبَصرِيين} .(6/2582)
وَقَالَ أَكثر الْبَصرِيين، والناظم، والطوفي من أَصْحَابنَا أَيْضا: لَا يَصح. وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب رِوَايَة عَن أَحْمد.
لِأَصْحَابِنَا فِي صِحَة اسْتثِْنَاء النّصْف وَعدمهَا وَجْهَان، وَأطلقهُمَا فِي " الْهِدَايَة "، و " الْمَذْهَب "، و " الْمُسْتَوْعب "، و " الْخُلَاصَة "، و " الْمُغنِي "، و " الْكَافِي "، و " الْهَادِي "، و " الْبلْغَة "، و " الشَّرْح "، و " الْمُحَرر "، و " النّظم "، و " الْفُرُوع "، و " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة "، وَغَيرهم.(6/2583)
أَحدهمَا: يَصح - وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قدمْنَاهُ وصححناه -.
قَالَ ابْن هُبَيْرَة: الصِّحَّة ظَاهر الْمَذْهَب، وَصَححهُ فِي " التَّصْحِيح "، و " تَصْحِيح الْمُحَرر "، و " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي الصَّغِير "، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبدُوس، وَجزم بِهِ فِي " الْإِرْشَاد "، و " الْوَجِيز "، و " الْمنور "، و " منتخب الأدمِيّ ".
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا يَصح، اخْتَارَهُ ابْن عبد الْقوي فِي " منظومته "، والطوفي فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة "، وشارحه الْعَسْقَلَانِي.
وحكاهما أَبُو الْفرج، وَصَاحب " الْخُلَاصَة "، و " رَوْضَة فقهنا " رِوَايَتَيْنِ،(6/2584)
وَاخْتَارَ الصِّحَّة أَيْضا الباقلاني فِي أحد قوليه، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْأَشْعَرِيّ.
قَوْله: {وَقيل: لَا يَصح مُطلقًا من عدد} .
فِي الِاسْتِثْنَاء من الْعدَد مَذَاهِب، الْمَشْهُور الْجَوَاز مُطلقًا كَغَيْرِهِ.
الثَّانِي: الْمَنْع مُطلقًا، وَهُوَ هَذَا القَوْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَاخْتَارَهُ ابْن عُصْفُور، وَأجَاب عَن قَوْله تَعَالَى: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] بِأَن الْألف تسْتَعْمل فِي التكثير، كَقَوْلِه: اقعد ألف سنة، أَي: زَمَانا طَويلا.
{وَقيل} : لَا يَصح مُطلقًا {من عقد كنحو: عشرَة من مائَة} ، وَهُوَ القَوْل الآخر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَلَا يَصح اسْتثِْنَاء عقد صَحِيح، نَحْو قَوْله: مائَة إِلَّا عشرَة، وَيجوز إِلَّا ثَلَاثَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعَن جمَاعَة من أهل اللُّغَة لَا يَصح اسْتثِْنَاء عقد كعشرة من مائَة، بل بعضه كخمسة. انْتهى.(6/2585)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وأصحابهم إِذا تعقب الِاسْتِثْنَاء جملا بواو عطف، وَصلح عوده إِلَى كل وَاحِدَة فللجميع، إِلَّا لمَانع، كبعد مُفْرَدَات، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، والرازي، وَالْمجد، للأخيرة.
وَقيل: مَعْنَاهُ [فِي] الْكِفَايَة إِن تبين إضراب عَن الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللكل، والإضراب أَن يختلفا نوعا أَو اسْما مُطلقًا، أَو حكما اشتركت الجملتان فِي غَرَض أَو لَا، وَالْغَرَض الْحمل.(6/2586)
ووقف جمع، وَقَالَ المرتضي بالاشتراك، والآمدي إِن ظهر أَن الْوَاو للابتداء فللأخيرة أَو عاطفة للْجَمِيع، وَإِن أمكنا فالوقف.
وَقيل: إِن كَانَ بَينهمَا تعلق، وَإِلَّا فللأخيرة} .
اعْلَم أَن الِاسْتِثْنَاء إِذا تعقب جملا مذكورات متعاطفة بِالْوَاو، فَإِن لم يُمكن عوده إِلَى كل مِنْهَا لدَلِيل اقْتضى عوده إِلَى الأولى فَقَط، أَو إِلَى الْأَخِيرَة فَقَط، أَو كَانَ عَائِدًا إِلَى كل مِنْهَا بِالدَّلِيلِ فَلَا خلاف فِي الْعود إِلَى مَا قَامَ لَهُ الدَّلِيل، وَإِن أمكن بِأَن تجرد عَن قرينَة شَيْء من ذَلِك فَهُوَ مَحل الْخلاف الْآتِي بَيَانه.
مِثَال مَا دلّ على عوده إِلَى الأول دَلِيل فَيَعُود إِلَيْهِ قطعا قَوْله تَعَالَى: {إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} [الْبَقَرَة: 249] ، فالاستثناء من اغترف إِنَّمَا يعود إِلَى (مِنْهُ) لَا إِلَى (من لم يطعمهُ) .
وَقَوله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج ... إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} [الْأَحْزَاب: 52] فاستثناء (مَا ملكت يَمِينك) يعود(6/2587)
إِلَى لفظ النِّسَاء لَا إِلَى الْأزْوَاج؛ لِأَن زَوجته لَا تكون ملك يَمِينه.
وَحَدِيث: " لَيْسَ على الْمُسلم فِي عَبده، وَلَا فِي فرسه صَدَقَة إِلَّا زَكَاة الْفطر فِي الرَّقِيق " وَنَحْو ذَلِك مَا قَالَه الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا قَلِيلا} [النِّسَاء: 83] أَنه اسْتثِْنَاء من الْجُمْلَة الأولى.
وَمِثَال الْعَائِد إِلَى الْأَخير جزما للدليل إِلَّا إِلَى غَيره قَوْله تَعَالَى: {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن} الْآيَة [النِّسَاء: 92] فَإِن (إِلَّا أَن يصدقُوا) إِنَّمَا يعود للدية لَا لِلْكَفَّارَةِ.
وَنَحْوه: {إِلَّا عابري سَبِيل} [النِّسَاء: 43] لَا يعود للسكارى؛ لِأَن السَّكْرَان مَمْنُوع من دُخُول الْمَسْجِد؛ إِذْ لَا يُؤمن تلويثه، ... ... ... ...(6/2588)
قَالَه الْعلمَاء.
أَو يعود للأخير جزما وَإِن كَانَ فِي غَيره مُحْتملا، فَيجْرِي فِيهِ الْخلاف كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} الْآيَة [النُّور: 4] ف {إِلَّا الَّذين تَابُوا} [النُّور: 5] عَائِد إِلَى الْإِخْبَار بِأَنَّهُم فَاسِقُونَ قطعا حَتَّى يَزُول عَنْهُم بِالتَّوْبَةِ اسْم الْفسق.
بل قَالَ بعض الْعلمَاء: وَيلْزم مِنْهُ لَازم الْفسق، وَهُوَ عدم قبُول الشَّهَادَة، خلافًا لأبي حنيفَة إِنَّه يَزُول اسْم الْفسق، وَلَا تقبل شَهَادَته عملا بِمَا سَيَأْتِي من قَاعِدَته وَهُوَ الْعود إِلَى الْأَخير، لَا إِلَى غَيره.
وَلَا يعود فِي هَذِه الْآيَة للجلد الْمَأْمُور بِهِ قطعا؛ لِأَن حد الْقَذْف حق لآدَمِيّ فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ، وَهل يعود إِلَى قبُول الشَّهَادَة فَيقبل إِذا تَابَ أَو لَا فَلَا يقبل؟ فِيهِ الْخلاف الْآتِي.
وَمِثَال الْعَائِد إِلَى الْكل قطعا بِالدَّلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة [الْمَائِدَة: 33] ف {إِلَّا الَّذين تَابُوا} عَائِد إِلَى الْجَمِيع بِالْإِجْمَاع، كَمَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ.(6/2589)
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} الْآيَة ف {إِلَّا مَا ذكيتم} [الْمَائِدَة: 3] عَائِد إِلَى الْكل، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} [الْفرْقَان: 68] ف {إِلَّا من تَابَ} عَائِد إِلَى الْجَمِيع، قَالَ السُّهيْلي: بِلَا خلاف.
أما مَا تجرد عَن الْقَرَائِن، وَأمكن عوده إِلَى الْأَخير، وَلغيره فَفِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا: الْعود إِلَى الْجَمِيع، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد وأصحابهم، وَغَيرهم. نَقله الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي " سنَنه " عَن الشَّافِعِي، وَنَقله ابْن الْقصار عَن مَالك، وَقَالَ: إِنَّه الظَّاهِر من مَذَاهِب أَصْحَابه، وَهُوَ الرَّاجِح من مَذْهَبنَا.(6/2590)
وَنَقله الْأَصْحَاب عَن نَص أَحْمد حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيث: " لَا يُؤمن الرجل فِي سُلْطَانه وَلَا يجلس على تكرمته إِلَّا بِإِذْنِهِ ": أَرْجُو أَن يكون الِاسْتِثْنَاء على كُله.
وَقَالَ القَاضِي: نَص عَلَيْهِ فِي كتاب طَاعَة الرَّسُول.
قَوْلنَا: {كبعد مُفْرَدَات} ، قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": والوارد بعد مُفْرَدَات أولى بِالْكُلِّ. انْتهى.
قَالَ الْمحلي: الْوَارِد بعد مُفْرَدَات، نَحْو: تصدق على الْفُقَرَاء، وَالْمَسَاكِين، وَأَبْنَاء السَّبِيل، إِلَّا الفسقة مِنْهُم، أولى بِالْكُلِّ أَي: بعوده للْكُلّ من الْوَارِد بعد جمل لعدم اسْتِقْلَال الْمُفْردَات. انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لفظ الْجمل يُرَاد بِهِ مَا فِيهِ شُمُول لَا الْجمل النحوية، لَكِن القَاضِي أَبُو يعلى، - وَغَيره - ذكر الْأَعْدَاد من صورها وَسوى بَين قَوْله رجل، وَرجل وَبَين قَوْله رجلَيْنِ.(6/2591)
وَذكر أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار والعطف إِذا تعقب جملتين هَل يعود إِلَيْهِمَا، أَو إِلَى الثَّانِيَة؟ على وَجْهَيْن كَمَا لَو عطف على مُسْتَثْنى فَهَل يصير الْمَعْطُوف، والمعطوف عَلَيْهِ كجملة، أَو كجملتين؟ على وَجْهَيْن.
وَقَالَ أَيْضا: وَكثير من النَّاس يدْخل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء المتعقب اسْما فيريدون بقَوْلهمْ جملَة الْجُمْلَة الَّتِي تقبل الِاسْتِثْنَاء، لَا يُرِيدُونَ الْجُمْلَة من الْكَلَام، وَلَا بُد من الْفرق فَإِنَّهُ فرق بَين أَن يُقَال: أكْرم هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاء إِلَّا الْفُسَّاق، أَو يُقَال: أكْرم هَؤُلَاءِ، وَأكْرم هَؤُلَاءِ إِلَّا الْفُسَّاق، ذكره فِي " المسودة "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل عَنهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمَشْهُور أَن الْجُمْلَة هِيَ الاسمية من مُبْتَدأ وَخبر، والفعلية من فعل، وفاعل، وَقَالَ ابْن تَيْمِية - إِلَى آخِره - ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِله يرجع إِلَى أَن من عبر بِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَعَمّ بالتقرير الَّذِي ذكره - ابْن تَيْمِية - وَهُوَ حسن. انْتهى.
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه يعود للأخيرة فَقَط، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم "، وَالْمجد ابْن تَيْمِية فِي(6/2592)
" المسودة "، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " الْقَوَاعِد ": إِنَّه الْأَشْبَه.
وَنَقله صَاحب " الْمُعْتَمد " عَن الظَّاهِرِيَّة، ويحكى عَن أبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعَن الْكَرْخِي، وَإِلَيْهِ ذهب الْفَارِسِي، والمهاباذي فِي " شرح اللمع ".
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَهَادَة الْقَاذِف مَرْدُودَة، وَلَو تَابَ.
الْمَذْهَب الثَّالِث: قَول جمَاعَة من الْمُعْتَزلَة، مِنْهُم: عبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن، وَمَعْنَاهُ للْقَاضِي أبي يعلى فِي " الْكِفَايَة ": إِن تبين(6/2593)
إضراب عَن الأولى فللأخيرة وَإِلَّا فللكل ... إِلَى آخِره.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: إِن تبين الإضراب عَن الْجُمْلَة الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللجميع، والإضراب إِنَّمَا يتَحَقَّق باخْتلَاف الجملتين بالنوع بِأَن تكون إِحْدَاهمَا طلبا، وَالْأُخْرَى خَبرا، مثل أَن يُقَال: جَاءَ الْقَوْم وَأكْرم بني تَمِيم إِلَّا الطوَال، أَو باختلافهما اسْما، وَلَا يكون الِاسْم فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة ضميرا للاسم فِي الْجُمْلَة الأولى، مثل: أكْرم بني تَمِيم ... ، وأهن بني خَالِد إِلَّا الطوَال.
وَمِثَال مَا يكون الِاسْم فِي الثَّانِي ضميرا للْأولِ، مثل: أكْرم بني تَمِيم واستأجرهم إِلَّا الصغار.
قلت: هَذَا معنى قَوْلنَا: أَو اسْما مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ الضَّمِير فِي الثَّانِيَة ضميرا للأولى، أَو لَا. انْتهى.
أَو باختلافهما حكما وَلَا تكون الجملتان مشتركتين فِي غَرَض، مثل: أكْرم بني تَمِيم، واستأجر بني تَمِيم إِلَّا الضُّعَفَاء.(6/2594)
وَمِثَال مَا تكون الجملتان مشتركتين فِي غَرَض، مثل: أكْرم الضَّعِيف وَتصدق على الْفَقِير فَإِنَّهُمَا مُشْتَركا فِي غَرَض، وَهَذَا الْحمل. انْتهى.
فاعتمد على هَذَا فَإِنَّهُ مُحَرر.
وَفِي كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَفِي " قَوَاعِد الْأُصُول " نوع خلل فِيمَا يظْهر، وَالله أعلم.
الْمَذْهَب الرَّابِع: الْوَقْف؛ حَتَّى تقوم قرينَة تصرفه للْكُلّ، أَو للأخيرة، أَو للأولى، أَو للوسطى، كَمَا فِي الْأَمْثِلَة السَّابِقَة.
قَالَ سليم: وَهُوَ مَذْهَب الأشعرية.
وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الباقلاني، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، والرازي فِي " الْمُنْتَخب "، وَفِي الْكَلَام على التَّخْصِيص من " الْمَحْصُول " التَّصْرِيح بِهِ.
وَحَكَاهُ ألكيا عَن اخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ.(6/2595)
الْمَذْهَب الْخَامِس: قَول المرتضى، وَهُوَ الِاشْتِرَاك بَين عوده الْكل وللأخيرة، وَهَذَا القَوْل مُخَالف لتوقف الباقلاني وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لعدم الْعلم بمدلوله لُغَة، وَقد غاير فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره بَين الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف، ووافقناهم على ذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّوَاب أَنه قَول وَاحِد، وَإِن اخْتلف مدرك الْوَقْف.
الْمَذْهَب السَّادِس: اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن ظهر أَن الْوَاو للابتداء كالقسم الأول فللأخيرة، أَو عاطفة فللجميع، وَإِن أمكنا فالوقف.
الْمَذْهَب السَّابِع: إِن كَانَ بَينهمَا تعلق، كأكرم الْعلمَاء، والزهاد، وَأنْفق عَلَيْهِم، إِلَّا المبتدع، فللجميع، وَإِلَّا فللأخيرة.
وَفِي الْمَسْأَلَة مَذَاهِب أخر يطول الْكَلَام بذكرها فليقتصر على هَذَا الْقدر، فَفِيهِ كِفَايَة.
وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: أَن الْعَطف يَجْعَل الْجَمِيع كواحد.
رد: إِنَّمَا هَذَا فِي الْمُفْردَات، وَأما فِي الْجمل فَمحل النزاع.
قَالُوا: كالشرط فَإِنَّهُ للْجَمِيع، كَذَلِك هُنَا.(6/2596)
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ قِيَاس فِي اللُّغَة، ثمَّ الْفرق أَن الشَّرْط رتبته التَّقْدِيم لُغَة بِلَا شكّ فالجمل هِيَ الشَّرْط وَالْجَزَاء لَهَا.
قَالُوا: لَو كرر الِاسْتِثْنَاء كَانَ مستهجنا قبيحا لُغَة، ذكره الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " باتفاقهم.
رد: بِالْمَنْعِ لُغَة، قَالَه الْآمِدِيّ، وَلِهَذَا روى سعيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " لَا يؤم الرجلُ الرجل فِي سُلْطَانه إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يقْعد على تكرمته فِي بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ "، ثمَّ عِنْد قرينَة اتِّصَال الْجمل، ثمَّ الاستهجان لترك الِاخْتِصَار؛ لِأَنَّهُ يُمكن بعد الْجمل، إِلَّا كَذَا فِي الْجَمِيع.
قَالُوا: صَالح للْجَمِيع فَكَانَ لَهُ كالعام فبعضه تحكم.
رد: لَا ظُهُور بِخِلَاف الْعَام، وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة أولى لقربها.
قَالُوا: خَمْسَة، وَخَمْسَة إِلَّا سِتَّة للْجَمِيع إِجْمَاعًا، ذكره فِي " التَّمْهِيد "، فَدلَّ على أَن المُرَاد بالجمل مَا يقبل الِاسْتِثْنَاء، لَا الْجمل النحوية.(6/2597)
وَلِهَذَا ذكر القَاضِي، وَغَيره الْأَعْدَاد من صورتهَا، وَسوى بَين قَوْله: رجل وَرجل، وَقَوله: رجلَيْنِ.
ورد: مُفْرَدَات، وَالْخلاف فِي الْجمل، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَقَالَ: فرق بَين: أكْرم هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء إِلَّا الْفُسَّاق، وَبَين: أكْرم هَؤُلَاءِ وَأكْرم هَؤُلَاءِ إِلَّا الْفُسَّاق، وَإِن سلم؛ فلتعذره ليَصِح الْكَلَام.
وَاقْتصر الْآمِدِيّ على منع صِحَة الِاسْتِثْنَاء.
وَاحْتج الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَقَالَ: من تَأمل غَالب الاستثناءات فِي الْكتاب وَالسّنة، واللغة وجدهَا للْجَمِيع، وَالْأَصْل إِلْحَاق الْمُفْرد بالغالب، فَإِذا جعلت حَقِيقَته فِي الْغَالِب مجَازًا فِيمَا قل، عمل بِالْأَصْلِ النَّافِي للاشتراك وَالْأَصْل النَّافِي للمجاز، وَهُوَ أولى من تَركه مُطلقًا.
الْقَائِل يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة لم يرجع فِي آيَة الْقَذْف إِلَى الْجلد، فَكَذَا غَيرهَا دفعا للاشتراك، وَالْمجَاز.(6/2598)
رد: بِالْمَنْعِ فِي رِوَايَة عَن أَحْمد، ثمَّ لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ؛ وَلِهَذَا عَاد إِلَى غَيره.
قَالُوا: {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} [النِّسَاء: 23] شَرط فِي الربائب دون أُمَّهَات النِّسَاء.
رد: لَيْسَ باستثناء، ثمَّ لِأَنَّهُ من تَتِمَّة نعت الربائب، وَلِأَن {نِسَائِكُم} الأولى مجرورة بِالْإِضَافَة، وَالثَّانيَِة بِمن فتمتنع الصّفة لاخْتِلَاف الْجَرّ، كاختلاف الْعَمَل، ثمَّ للنَّص.
قَالُوا: (عَليّ عشرَة إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا اثْنَيْنِ) للأخير.
رد: لَا عطف، ومفردات، ثمَّ لتعذره؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي، وَمن النَّفْي إِثْبَات، وَلَو تعذر الْأَخير فَالْأول، كعشرة إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا اثْنَيْنِ.
قَالُوا: الْجُمْلَة الثَّانِيَة فاصلة كالسكوت.(6/2599)
رد: الْجمل كجملة، ثمَّ يجب أَن لَا يعود إِلَى الْجَمِيع فِي مَوضِع.
قَالُوا: ثَبت حكم الأولى، وَعوده إِلَيْهَا مَشْكُوك فِيهِ.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ إِنَّمَا ثَبت بِالسُّكُوتِ من غير اسْتثِْنَاء، ذكره فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة "، وَغَيرهَا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هَذَا جيد فَإِنَّهُ مَانع، لَا رَافع.
وَمنع ابْن عقيل كَالْأولِ، ثمَّ عَارض بتخصيص قَاطع بِظَاهِر.
ثمَّ يبطل بِالشّرطِ.
قَالُوا: عوده لعدم استقلاله فتندفع الضَّرُورَة بِالْأَقَلِّ، وَمَا يَلِيهِ مُتَيَقن.
رد: بِالْمَنْعِ، بل لصلاحيته، وظهوره فالجمل كجملة، ثمَّ يبطل بِالشّرطِ.
الْقَائِل بالاشتراك: حسن الِاسْتِفْهَام عَن عوده لعدم الْعلم، أَو لرفع الِاحْتِمَال.
قَالُوا: أطلق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
رد: سبق تعَارض الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز.(6/2600)
قَوْله: {تَنْبِيهَانِ:
الأول: ألحق جمع وَالشَّيْخ - وَقَالَ: هُوَ مُوجب قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم -، مَا فِي معنى الْوَاو بهَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَقَوْلنَا فِي فرض الْمَسْأَلَة: الْوَاو العاطفة. كَذَا فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، وَغَيرهمَا فِي بحث الْمَسْأَلَة، أَن وَاو الْعَطف تجْعَل الْجمل كجملة، وَكَذَا بحثوا أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق لَا تَرْتِيب فِيهَا.
وَأَنه هُوَ الْمَعْنى الْمُوجب جعل كجملة وبنوا على ذَلِك: أَنْت طَالِق، وَطَالِق، وَطَالِق إِلَّا وَاحِدَة، هَل يَصح الِاسْتِثْنَاء؟
وَأَنه لَو أَتَى بِالْفَاءِ، أَو ثمَّ لم يَصح؛ لِأَن التَّرْتِيب أفرد الْأَخِيرَة عَمَّا قبلهَا فاختص بهَا الِاسْتِثْنَاء فَلم يَصح.
وَكَذَا لم أجد إِلَّا من خص الْوَاو بذلك، إِلَّا مَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -.(6/2601)
إِن أَصْحَابنَا وَغَيرهم أطْلقُوا، فموجب مَا ذَكرُوهُ لَا فرق، وَأَنه يلْزم من التَّفْرِقَة أَن لَا تشترك (الْفَاء) و (ثمَّ) حَيْثُ تشترك الْوَاو، وَهُوَ خلاف للغة، وَأَن من فرق - وَهُوَ أَبُو الْمَعَالِي - قَوْله بعيد جدا، وَأَنه اعْترف بِأَن الْأَئِمَّة أطْلقُوا، كَذَا قَالَ. انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
قلت: صرح القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " بِأَن غير الْوَاو الَّتِي مَعْنَاهَا كالواو، فَقَالَ: إِذا عطفت بِأَيّ حرف كَانَ من فَاء، وَاو، وَغَيرهمَا. أَي: مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا.
وَكَذَا أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، فَقَالَ: إِن الظَّاهِر أَن ثمَّ، وَحَتَّى، وَالْفَاء، مثل الْوَاو فِي ذَلِك. لَكِن نقل الرَّافِعِيّ عَنهُ أَنه قَيده بِالْوَاو.
وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول ": إِنَّه لم ير التَّقْيِيد لأحد بِالْوَاو، قبل الْآمِدِيّ. انْتهى.(6/2602)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّوَاب أَن مَا كَانَ مثل الْوَاو فِي اقْتِضَاء الْمُشَاركَة كالواو.
وَعبارَة ابْن الْقشيرِي: أما إِذا اشْتَمَل الْكَلَام على جمل مُنْقَطِعَة تنبئ كل وَاحِد عَمَّا لَا تنبئ عَنهُ أخواتها، لَكِنَّهَا جمعت بِحرف من حُرُوف الْعَطف جَامع فِي مُقْتَضى الْوَضع، ثمَّ تعقب باستثناء فَهَذَا مَحل الْخلاف.
وَنَحْوه عبارَة الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ.
{وَقيل: يخْتَص بِالْوَاو} ، وَهَذَا قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب، كَمَا نَقله ابْن مُفْلِح كَمَا تقدم، وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي، نَقله عَنهُ الرَّافِعِيّ، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن الساعاتي، وَغَيرهم.
قَوْله: {الثَّانِي: مثل (بني تَمِيم وَرَبِيعَة أكْرمهم إِلَّا الطوَال) للْكُلّ.(6/2603)
قَالَ الشَّيْخ: لَو قَالَ: أَدخل بني هَاشم، ثمَّ بني الْمطلب، ثمَّ سَائِر قُرَيْش وَأكْرمهمْ، فَالضَّمِير للْكُلّ} ، ذكر ذَلِك ابْن مُفْلِح.
وَقَالَ عَن الصُّورَة الأولى: جعلهَا فِي " التَّمْهِيد " أصلا للمسألة الَّتِي قبلهَا، كَذَا قَالَ، كَأَنَّهُ يَقُول: إِن الْخلاف لَيْسَ بجار فِيهَا، وعَلى قَوْله فِي " التَّمْهِيد " الْخلاف جَار فِيهَا.
وَقَالَ عَن الصُّورَة الثَّانِيَة عَن قَوْله: الضَّمِير (للْجَمِيع) ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لما تقدم، وَلَيْسَ من الْمَسْأَلَة قبلهَا. انْتهى.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَالَهَا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، رَأَيْتهَا لَهُ فِي مَسْأَلَة استفتى عَلَيْهَا فِيمَن وقف على أَوْلَاده، ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاده، ثمَّ على أَوْلَاد أَوْلَاد أَوْلَاده على أَنه من مَاتَ مِنْهُم من غير ولد، فَنصِيبه لمن فِي دَرَجَته، كتب عَلَيْهَا قريب خمس كراريس، فَقَالَ: لَو قَالَ: أَدخل بني هَاشم، ثمَّ بني الْمطلب، ثمَّ سَائِر قُرَيْش فأكرمهم، كَانَ الضَّمِير عَائِدًا إِلَى مَا تقدم ذكره،(6/2604)
وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء المتعقب جملا، هَل يعود إِلَى الْأَخِيرَة، أَو إِلَى الْكل؟ لِأَن الْخلاف هُنَاكَ إِنَّمَا نَشأ؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يرفع بعض مَا دخل فِي اللَّفْظ، وَهَذَا الْمَعْنى غير مَوْجُود فِي الضَّمِير؛ فَإِن الضَّمِير اسْم مَوْضُوع لما تقدم ذكره، وَهُوَ صَالح للْعُمُوم على سَبِيل الْجمع فَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب حمله على الْعُمُوم إِذا لم يقم مُخَصص، وعَلى هَذَا فَحمل الضَّمِير على الْعُمُوم حَقِيقَة، وَحمله على الْخُصُوص مثل تَخْصِيص اللَّفْظ الْعَام. انْتهى.(6/2605)
(قَوْله: {فصل} )
أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ خلافًا للحنفية} - أَي: لمعظمهم -، {ولبعضهم} - أَي بعض الْحَنَفِيَّة - {فيهمَا} - أَي: أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي لَيْسَ بِإِثْبَات، وَلَا عَكسه -.
فعلى الأول إِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، كَانَ إِقْرَارا بِتِسْعَة، وَإِذا قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا درهما، كَانَ مقرا بدرهم.
وعَلى قَول الْحَنَفِيَّة فِي: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، تِسْعَة من حَيْثُ أَن الدِّرْهَم الْمخْرج منفي بِالْأَصَالَةِ، لَا من حَيْثُ إِن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي.(6/2606)
وَلَا يوجبون فِي: لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِلَّا درهما شَيْئا؛ إِذْ المُرَاد (إِلَّا درهما) فَإِنِّي لَا أحكم عَلَيْهِ بِشَيْء، وَلَا إِقْرَار إِلَّا مَعَ حكم ثَابت.
إِذا علم ذَلِك فقد حكى الرَّازِيّ، وَطَائِفَة: الْخلاف عَن الْحَنَفِيَّة فِي أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، أَو لَا، وَأَن الِاتِّفَاق على أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي، وَحكى الْخلاف فِي الْأَمريْنِ مَعًا الْقَرَافِيّ فَقَالَ: الْخلاف مَوْجُود عِنْدهم فيهمَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا تعَارض بَين النقلين، فَإِن من حكى تَعْمِيم الْخلاف أَرَادَ مَا قَرَّرْنَاهُ من ثُبُوت الْوَاسِطَة بَين الْحكمَيْنِ، وَهُوَ عدم الْحكمَيْنِ بِنَاء على أَن تقَابل حكم الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ يُقَابل نقيضين عِنْدهم، حكم وَعدم حكم، وتقابل شدين عِنْد الْجُمْهُور، وَمن حكى الِاتِّفَاق فِي صُورَة الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات على أَنه أَرَادَ الِاتِّفَاق على أصل النَّفْي فِيهِ، لَا على أَن النَّفْي مُسْتَند للاستثناء كَمَا قرر، فَلَا يظْهر حِينَئِذٍ للْخلاف مَعَهم فِي الْإِثْبَات فَائِدَة. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الِاتِّفَاق على إِثْبَات نقيض مَا قبل الِاسْتِثْنَاء بعده فالجماهير يثبتون نقيض الْمَحْكُوم بِهِ، وَالْحَنَفِيَّة يثبتون نقيض الحكم فَيكون مَا بعد الِاسْتِثْنَاء غير مَحْكُوم عَلَيْهِ.
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ خلافًا لأبي حنيفَة.(6/2607)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي، هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور، وَخَالف أَبُو حنيفَة فيهمَا كَمَا حَكَاهُ الْهِنْدِيّ، وَتَبعهُ المُصَنّف، لَكِن الرَّازِيّ فِي " المعالم " جعل الْخلاف فِي الأولى فَقَط، وَحكى الِاتِّفَاق على أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي.
اسْتدلَّ لقَوْل الْجُمْهُور، فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لنا اللُّغَة، وَأَن قَول الْقَائِل: لَا إِلَه إِلَّا الله، تَوْحِيد، وتبادر فهم كل من سمع لَا عَالم إِلَّا زيد، وَلَيْسَ لَك على شَيْء إِلَّا دِرْهَم، إِلَى علمه، وَإِقْرَاره.
فَإِن قيل: فَلَو قَالَ: لَيْسَ لَهُ عَليّ، أَو عِنْدِي عشرَة إِلَّا خَمْسَة، قيل: لنا وللشافعية خلاف.
وَقيل: لَا يلْزمه شَيْء؛ لِأَن قَصده نفي الْخَمْسَة، وَإِلَّا لأتى بِكَلَام الْعَرَب لَيْسَ لَهُ عَليّ إِلَّا خَمْسَة.
وَقيل: يلْزمه خَمْسَة؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات من نفي؛ لِأَن التَّقْدِير: لَيْسَ لَهُ عَليّ عشرَة، لَكِن خَمْسَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا يلْزمه شَيْء عِنْد الْأَكْثَر. انْتهى.
قَالُوا: لَو كَانَ لزم من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " ثُبُوتهَا بِالطَّهَارَةِ، وَمثله: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ".(6/2608)
رد: لَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس، وَإِنَّمَا سبق لبَيَان اشْتِرَاط الطّهُور للصَّلَاة، وَلَا يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هَذِه صِيغَة الشَّرْط ومقتضاها نَفيهَا عِنْد نَفيهَا، ووجودها عِنْد وجودهَا لَيْسَ منطوقا، بل من الْمَفْهُوم، فنفي شَيْء لانْتِفَاء شَيْء لَا يدل على إثْبَاته عِنْد وجوده، بل يبْقى كَمَا قبل النُّطْق بِخِلَاف لَا عَالم إِلَّا زيد.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: جعله الْمُثبت من قَاعِدَة الْمَفْهُوم لَيْسَ بجيد، وَكَذَا جعله ابْن عقيل فِي " الْفُصُول " فِي قَول أَحْمد: كل شَيْء يُبَاع قبل قَبضه إِلَّا مَا كَانَ مَأْكُولا.
وَقد احْتج القَاضِي على أَن النِّكَاح لَا يفْسد بِفساد الْمهْر بقوله: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وشاهدي عدل "، قَالَ: فَاقْتضى الظَّاهِر صِحَّته، وَلم يفرق.
قَالَ أَصْحَابنَا: هَذِه دلَالَة ضَعِيفَة.
فَإِن قيل: فِيهِ إِشْكَال سوى ذَلِك، وَهُوَ أَن المُرَاد النَّفْي الْأَعَمّ، أَي: لَا صفة للصَّلَاة مُعْتَبرَة إِلَّا صفة الطَّهَارَة، فنفي الصِّفَات الْمُعْتَبرَة وَأثبت الطَّهَارَة.(6/2609)
وَقيل: المُرَاد من نَفيهَا الْمُبَالغَة فِي إِثْبَات تِلْكَ الصّفة، وَأَيْضًا آكدها، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع فَلَا إِشْكَال، بعيد؛ لِأَنَّهُ مفرغ فَهُوَ من تَمام الْكَلَام، وَمثله: مَا زيد إِلَّا قَائِم وَنَحْوه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: من أَدِلَّة الْجُمْهُور أَن (لَا إِلَه إِلَّا الله) لَو لم يكن الْمُسْتَثْنى فِيهِ مثبتا لم يكن كَافِيا فِي الدُّخُول فِي الْإِيمَان، وَلكنه كَاف، أَي: بِاتِّفَاق، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " فَجعل ذَلِك غَايَة الْمُقَاتلَة.
وَقد أجابوا بِأَن الْإِثْبَات مَعْلُوم، وَإِنَّمَا الْكفَّار يَزْعمُونَ شركه فنفيت الشّركَة بذلك، أَو أَنه وَإِن كَانَ لَا يُفِيد الْإِثْبَات بِالْوَضْعِ اللّغَوِيّ لَكِن يفِيدهُ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيّ، فَإِن الْمَقْصُود نفي الشَّرِيك وَهُوَ مُسْتَلْزم للثبوت، فَإِذا قلت: لَا شريك لفُلَان فِي كرمه، اقْتضى أَن يكون كَرِيمًا.
وَأَيْضًا فالقرائن تَقْتَضِي الْإِثْبَات؛ لِأَن كل متلفظ بهَا ظَاهر قَصده إثْبَاته وَاحِدًا لَا للتعطيل.
رد ذَلِك: بِأَن الحكم قد علق بهَا بمجردها فَاقْتضى ذَلِك أَنَّهَا تدل بلفظها دون شَيْء زَائِد فِي الأَصْل عَدمه.
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام ": كل هَذَا عِنْدِي تشغيب(6/2610)
ومراوغات جدلية، وَالشَّرْع خَاطب النَّاس بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَأمرهمْ [بهَا] لإِثْبَات مَقْصُود التَّوْحِيد، وَحصل الْفَهم لذَلِك مِنْهُم من غير احْتِيَاج لأمر زَائِد، وَلَو كَانَ وضع اللَّفْظ لَا يَقْتَضِي ذَلِك لَكَانَ أهم الْمُهِمَّات أَن يعلمنَا الشَّارِع مَا يَقْتَضِيهِ بِالْوَضْعِ من غير احْتِيَاج لأمر آخر فَإِن ذَلِك الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الْإِسْلَام. انْتهى.
وَمن أَدِلَّة الْجُمْهُور أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} [النبأ: 30] ، وَهُوَ ظَاهر.
وَأما أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة، فَمن أعظمها أَنه لَو كَانَ كَذَلِك للَزِمَ فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " أَن من تطهر يكون مُصَليا، أَو تصح صلَاته، وَإِن فقد بَقِيَّة الشُّرُوط.
وَجَوَابه: أَن الْمُسْتَثْنى مُطلق يصدق بِصُورَة مَا لَو تَوَضَّأ، وَصلى فَيحصل الْإِثْبَات، لَا أَنه عَام حَتَّى يكون كل متطهر مُصَليا.
وَأَيْضًا فَهُوَ اسْتثِْنَاء شَرط، أَي: لَا صَلَاة إِلَّا بِشَرْط الطَّهَارَة، وَمَعْلُوم أَن وجود الشَّرْط [لَا يلْزم مِنْهُ وجود الْمَشْرُوط، وَأَيْضًا فالمقصود الْمُبَالغَة فِي(6/2611)
هَذَا الشَّرْط] دون سَائِر الشُّرُوط؛ لِأَنَّهُ آكِد فَكَأَنَّهُ لَا شَرط غَيره لَا أَن الْمَقْصُود نفي جَمِيع الصِّفَات.
وَأَيْضًا فقد قيل: الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ، وَضَعفه ابْن الْحَاجِب على أَن هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لَا يعرف، إِنَّمَا الْمَعْرُوف: " لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور " أخرجه مُسلم، لَكِن فِي ابْن ماجة: " لَا تقبل صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، وَلَو مثلُوا بِحَدِيث: " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب " الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لَكَانَ أَجود، وَالله أعلم.
فَائِدَة: مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة مُوَافق لقَوْل نحاة الْكُوفَة، وَمَا قَالَه الْجُمْهُور مُوَافق لقَوْل سِيبَوَيْهٍ والبصريين، وَمحل الْخلاف فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ فِيهِ إِخْرَاج، أما الْمُنْقَطع فَالظَّاهِر أَن مَا بعد (إِلَّا) فِيهِ مَحْكُوم(6/2612)
عَلَيْهِ بضد الحكم السَّابِق فَإِن مساقه هُوَ الحكم بذلك فنحو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] المُرَاد أَن لَهُم بِهِ اتِّبَاع الظَّن لَا الْعلم، وَإِن لم يكن الظَّن دَاخِلا فِي الْعلم، وَقس عَلَيْهِ.
لَكِن هَل يجْرِي الْخلاف فِي المفرغ؟
قيل: الظَّاهِر، لَا، وَأَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ إِثْبَات قطعا؛ لِأَن قَوْلك: مَا قَامَ إِلَّا زيد، لَيْسَ مَعَك شَيْء يثبت لَهُ الْقيام فَيكون فَاعِلا إِلَّا زيد فَيكون مُتَعَيّنا للإثبات بِالضَّرُورَةِ بِخِلَاف قَوْلك: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد.
وَحكى الْقَرَافِيّ فِي " العقد المنظوم " عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم أجروا الْخلاف فِي المفرغ أَيْضا، قَالَ: ويلزمهم أَن يعربوا زيدا فِيمَا قَامَ إِلَّا زيد بَدَلا، لَا فَاعِلا وَيكون الْفَاعِل مضمرا، أَي: مَا قَامَ أحد إِلَّا زيد، لَكِن حذف الْفَاعِل مُمْتَنع عِنْد النُّحَاة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن قلت: لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ من معنى مَحْذُوف يسْتَثْنى مِنْهُ وَإِن لم يقدر لَفظه على الْمُرَجح، فَالْقَوْل بجريان الْخلاف فِيهِ غير بعيد. انْتهى.(6/2613)
تَنْبِيه: إِذا علم الْأَمْرَانِ: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي ترَتّب عَلَيْهَا تعدد الِاسْتِثْنَاء، نَحْو: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا تِسْعَة، إِلَّا ثَمَانِيَة إِلَّا سَبْعَة، إِلَّا سِتَّة، إِلَّا خَمْسَة، إِلَّا أَرْبَعَة، إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا اثْنَيْنِ، إِلَّا وَاحِدًا، وَقد بَينا كَيْفيَّة الْعَمَل فِي ذَلِك فِي " الْإِنْصَاف " فِي الْإِقْرَار.
وَاعْلَم أَن للمسألة أحوالا:
الأولى: مَا ذكرنَا من الْمِثَال، ولاستخراج الحكم من ذَلِك طرق للنحاة وَغَيرهم:
إِحْدَاهَا: طَريقَة الْإِخْرَاج وجبر الْبَاقِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، وَهَكَذَا إِلَى آخِره، فَإِذا قَالَ: لَهُ عشرَة إِلَّا تِسْعَة ... إِلَى آخِره، فَنَقُول: أخرج تِسْعَة بِالِاسْتِثْنَاءِ الأول، جبر مَا بَقِي - وَهُوَ وَاحِد - بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي وَهُوَ ثَمَانِيَة - فَصَارَ تِسْعَة، ثمَّ خرج بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّالِث سَبْعَة، بَقِي اثْنَان فجبره بالرابع - وَهُوَ سِتَّة - فَصَارَ ثَمَانِيَة، ثمَّ خرج بالخامس خَمْسَة فَبَقيَ ثَلَاثَة، فجبر بالسادس - وَهُوَ أَرْبَعَة - فَصَارَ سَبْعَة، ثمَّ خرج بالسابع ثَلَاثَة فَبَقيَ أَرْبَعَة فجبر بالثامن - وَهُوَ اثْنَان - فَصَارَ الْبَاقِي سِتَّة، وَأخرج مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ التَّاسِع وَاحِد فَصَارَ الْمقر بِهِ خَمْسَة.(6/2614)
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: أَن يحط الآخر مِمَّا يَلِيهِ، وَهَكَذَا إِلَى الأول فتحط وَاحِدًا من اثْنَيْنِ يبْقى وَاحِد، تحطه من ثَلَاثَة يبْقى اثْنَان تحطهما من أَرْبَعَة يبْقى اثْنَان تحطهما من خَمْسَة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سِتَّة يبْقى ثَلَاثَة تحطها من سَبْعَة يبْقى أَرْبَعَة، تحطها من ثَمَانِيَة يبْقى أَرْبَعَة تحطها من تِسْعَة، يبْقى خَمْسَة، تحطها من عشرَة يبْقى الْمقر بِهِ خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الثَّالِثَة: أَن تجْعَل كل وتر من الِاسْتِثْنَاء خَارِجا، وكل شفع مَعَ الأَصْل دَاخِلا فِي الحكم فَمَا اجْتمع فَهُوَ الْحَاصِل فَيسْقط مَا اجْتمع من الْخَارِج مِمَّا اجْتمع من الدَّاخِل فَهُوَ الْجَواب فالعشرة وَالثَّمَانِيَة والستة وَالْأَرْبَعَة، والاثنان ثَلَاثُونَ هُوَ الْمخْرج مِنْهَا، والتسعة، والسبعة، والخمسة، وَالثَّلَاثَة، وَالْوَاحد خَمْسَة، وَعِشْرُونَ هِيَ المخرجة يبْقى خَمْسَة.
الطَّرِيقَة الرَّابِعَة: إِن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا إِن كَانَ شفعا كالعشرة فِي مثالنا، فَخذ لكل اسْتثِْنَاء من الأوتار وَاحِدًا، واجمعه، وأسقطه مِنْهُ فالباقي الْجَواب، فعدد الاستثناءات الأوتار خَمْسَة تسقطها من الْعشْرَة يبْقى خَمْسَة، وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ أَولا وترا كَقَوْلِه: لَهُ عَليّ أحد عشرَة إِلَّا عشرَة، إِلَّا(6/2615)
تِسْعَة ... إِلَى آخِره، فَخذ عدد الاستثناءات الأشفاع وَهُوَ خَمْسَة، وأسقطها من الْأَحَد عشرَة، وَالْبَاقِي سِتَّة وَهُوَ الْجَواب، لَكِن هَذِه الطَّرِيقَة لَا تتأتى إِلَّا فِي استثناءات مُتَوَالِيَة بِحَيْثُ لَا يكون بَين كل وَاحِد من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ والمستثنى شَيْء، كَمَا فِي مثالنا فَتَأَمّله، وَلَهُم طرق غير ذَلِك يطول الْكتاب بذكرها.
قَوْله: {وَاسْتثنى الْقَرَافِيّ الشَّرْط} ، فَقَالَ فِي " شرح التَّنْقِيح ": قَول الْعلمَاء الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات لَيْسَ على إِطْلَاقه؛ لِأَن الِاسْتِثْنَاء يَقع فِي الْأَحْكَام نَحْو: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمن الْمَوَانِع نَحْو: لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ، وَمن الشُّرُوط وَنَحْو: {لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور} .
فالاستثناء من الشُّرُوط مُسْتَثْنى من كَلَام الْعلمَاء فَإِنَّهُ لَا يلْزم من الْقَضَاء بِالنَّفْيِ لأجل عدم الشَّرْط أَن يقْضِي بالوجود لأجل وجود الشَّرْط لما علم من أَن الشَّرْط لَا يلْزم من وجوده الْوُجُود وَلَا الْعَدَم، فَقَوْلهم: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات يخْتَص بِمَا عدا الشَّرْط؛ لِأَنَّهُ {لم يقل أحد} من الْعلمَاء {إِنَّه يلْزم من وجود الشَّرْط وجود الْمَشْرُوط} .
وبهذه الْقَاعِدَة يحصل الْجَواب عَن شُبْهَة الْحَنَفِيَّة فَإِن النُّصُوص الَّتِي ألزمونا بهَا كلهَا من بَاب الشُّرُوط، وَهِي لَيست من صور النزاع، فَلَا تلزمنا. انْتهى.
وَقد تقدم من بحث الْمَسْأَلَة الْجَواب على ذَلِك بِمَا فِيهِ كِفَايَة.(6/2616)
(قَوْله: {فصل} )
{إِذا عطف اسْتثِْنَاء على اسْتثِْنَاء أضيف إِلَى الأول} .
فعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَإِلَّا اثْنَيْنِ، كعشرة إِلَّا خَمْسَة، وَأَنت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة، وَإِلَّا وَاحِدَة يَلْغُو الثَّانِي إِن بَطل اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، وَإِلَّا وَقع وَاحِدَة فَيرجع الْكل المتعاطف إِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حملا للْكَلَام على الصِّحَّة مَا أمكن فَإِن عود كل لما يَلِيهِ قد تعذر بانفصاله بأداة الْعَطف، هَذَا إِذا لم يلْزم من عود الْكل الِاسْتِغْرَاق أَو الْأَكْثَر على الصَّحِيح كَمَا مثلنَا فِي الطَّلَاق.
قَوْله: {وَإِلَّا اسْتثِْنَاء من اسْتثِْنَاء} ، يَعْنِي: وَإِن لم تكن متعاطفة فَيكون اسْتثِْنَاء من اسْتثِْنَاء، {يَصح إِجْمَاعًا} ، قَالَه فِي " أُصُوله ".
وَحكى ابْن الْعِرَاقِيّ عَن بَعضهم مَنعه، وَحكى الْمحلي فِي " الذَّخَائِر " أَن بعض الْفُقَهَاء، حكى الْمَنْع عَن بعض أهل الْعَرَبيَّة، وَحَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن بعض أهل اللُّغَة، وَعلل ذَلِك الْبرمَاوِيّ.(6/2617)
فعلى الأول لَو قَالَ: عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، إِلَّا درهما يلْزمه ثَمَانِيَة؛ لِأَنَّهُ من الْإِثْبَات نفي وَمن نفي إِثْبَات.
وَأَنت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة، إِلَّا وَاحِدَة، فَقيل: يَلْغُو الثَّانِيَة فَيَقَع اثْنَتَانِ، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَقيل: لَا، فَيَقَع ثَلَاث؛ لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء أَكثر؛ لِأَنَّهُ نفي من إِثْبَات، وَاسْتدلَّ لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء بقوله تَعَالَى: {إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا} الْآيَة [الْحجر: 59، 60] .
وعللوا الْوَجْه الضَّعِيف الَّذِي يَقُول صَاحبه بِالْمَنْعِ بِأَن الْعَامِل فِي الِاسْتِثْنَاء الْفِعْل الأول بتقوية حرف الِاسْتِثْنَاء، وَالْعَامِل لَا يعْمل فِي معمولين.
وَأَجَابُوا عَم اسْتدلَّ بِهِ الْجُمْهُور من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين (58) إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا} بِأَن الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي وَهُوَ {إِلَّا امْرَأَته} إِنَّمَا هُوَ من قَوْله: {أَجْمَعِينَ} .
قَوْله: {تَنْبِيه: تقدم الشَّرْط} ، أَي تقدم الشَّرْط، وَأَحْكَامه وَحده، وأقسامه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فِي خطاب الْوَضع.(6/2618)
قَوْله: {وَيخْتَص اللّغَوِيّ مِنْهُ عرفا بِكَوْنِهِ مُخَصّصا} .
ذكر الأصوليون الشَّرْط من المخصصات كَمَا تقدم فِي تعدادها، وَالْمرَاد بِالشّرطِ الْمُخَصّص هُنَا هُوَ الشَّرْط اللّغَوِيّ لَا غير، وَإِن كَانَ قد أطلق الأصوليون الشَّرْط هُنَا، وَبَعْضهمْ قَيده.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": الشَّرْط ثَلَاثَة أَقسَام، ثمَّ قَالَ: الثَّانِي اللّغَوِيّ، وَالْمرَاد بِهِ صِيغ التَّعْلِيق ب (إِن) وَنَحْوهَا، وَهُوَ مَا يذكر فِي أصُول الْفِقْه فِي المخصصات للْعُمُوم، نَحْو: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاق: 6] ، وَمِنْه قَوْلهم فِي الْفِقْه: الْعتْق الْمُعَلق على شَرط، وَالطَّلَاق الْمُعَلق على شَرط.
وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَرَافِيّ وَغَيره يرجع إِلَى كَونه سَببا حَتَّى يلْزم من وجود الْوُجُود، وَمن عَدمه الْعَدَم لذاته، وَوهم من فسره هُنَاكَ بتفسير الشَّرْط الْمُقَابل للسبب وَالْمَانِع، كَمَا وَقع لكثير من الْأُصُولِيِّينَ، فَجعل الْمُخَصّص(6/2619)
هُنَا من الشَّرْط اللّغَوِيّ، وَوهم من قَالَ غَيره.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الثَّانِي من المخصصات الشَّرْط عقليا كالحياة للْعلم، أَو شَرْعِيًّا كالإحصان مَعَ الرَّجْم، وعاديا كالسلم مَعَ الصعُود.
فَجعل الْمُخَصّص الشَّرْط بأقسامه، لَكِن لم يَجْعَل من أقسامه اللّغَوِيّ بل لم يذكرهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا أَن تكون النُّسْخَة مغلوطة، فَإِن لم تكن مغلوطة فَفِي كَلَامه نظر من وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ " فِي المخصصات: وَاعْلَم أَن الشَّرْط قد يكون شَرْعِيًّا، وَقد يكون عقليا، وَقد يكون لغويا، وَكَلَام الإِمَام يَقْتَضِي أَن الْمَحْدُود هُوَ الشَّرْط الشَّرْعِيّ. انْتهى.
وَظَاهر كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن مُفْلِح أَن الْمَحْدُود فِي المخصصات يَشْمَل الشُّرُوط الثَّلَاثَة، فَإِن ابْن قَاضِي الْجَبَل قَالَ لما ذكر حد الْمُوفق، وَالْغَزالِيّ: وَلَا يمْنَع لُزُوم الدّور بِحمْل الشَّرْط على اللّغَوِيّ؛ إِذْ الْمَحْدُود(6/2620)
هُوَ الشَّرْط الَّذِي هُوَ أَعم من الْعقلِيّ، والشرعي، واللغوي. انْتهى.
قلت: وَمِمَّا يدل على أَن المُرَاد الشَّرْط اللّغَوِيّ تمثيلهم بذلك.
قَوْله: {وَهُوَ مخرج مَا لولاه لدخل} ، كَقَوْلِك: (أكْرم بني تَمِيم إِن دخلُوا) فيقصره الشَّرْط على من دخل، وَأكْرمهمْ أبدا إِن قدرت، وَإِن خرج عدم الْقُدْرَة بِالْعقلِ لَا يُنَافِي الدُّخُول لُغَة.
قَوْله: {ويتحد، ويتعدد، على الْجمع، وَالْبدل} ، ثَلَاثَة أَقسَام كل مِنْهَا مَعَ {الْجَزَاء كَذَلِك تكمل تِسْعَة} .
الشَّرْط قد يتحد، مثل: إِن دخل زيد الدَّار، وَقد يَتَعَدَّد إِمَّا على سَبِيل الْجمع، مثل: إِن دخل زيد الدَّار، والسوق، وَإِمَّا على سَبِيل [الْبَدَل] مثل: إِن دخل الدَّار، أَو السُّوق، فَيكون ثَلَاثَة أَقسَام.
وكل من هَذِه الثَّلَاثَة إِمَّا أَن يكون جَزَاؤُهُ متحدا، مثل: أكْرمه، أَو مُتَعَددًا، إِمَّا على سَبِيل الْجمع مثل: أكْرمه وأعطه، أَو على سَبِيل الْبَدَل مثل: أكْرمه، أَو أعْطه، فَتكون الْأَقْسَام تِسْعَة.
قَوْله: {وَله صدر الْكَلَام يتَقَدَّم على الْجَزَاء لفظا؛ لتقدمه عَلَيْهِ فِي الْوُجُود طبعا، فَإِن أخر لفظا فَأكْثر النُّحَاة أَن مَا تقدم لَيْسَ بجزاء بل قَامَ(6/2621)
مقَامه، وَدلّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَحْذُوف} .
اعْلَم أَن قَول النُّحَاة: أكرمتك إِن دخلت الدَّار، خبر، وَالْجَزَاء مَحْذُوف مُرَاعَاة لتقدم الشَّرْط، كتقدم الِاسْتِفْهَام، وَالْقسم.
قَالَ ابْن مَالك فِي " التسهيل ": لأداة الشَّرْط صدر الْكَلَام فَإِن تقدم عَلَيْهَا شَبيه بِالْجَوَابِ معنى فَهُوَ دَلِيل الْجَواب، وَلَيْسَ إِيَّاه خلافًا للكوفيين، والمبرد، وَأبي زيد. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": إِن عنوا أَن الْمُقدم لَيْسَ بجزاء للشّرط فِي اللَّفْظ فَمُسلم، وَإِن عنوان أَنه لَيْسَ بجزاء للشّرط لَا لفظا، وَلَا معنى، فَهُوَ عناد؛ لِأَن الْإِكْرَام يتَوَقَّف على الدُّخُول فَيتَأَخَّر عَنهُ من حَيْثُ الْمَعْنى فَيكون جَزَاء لَهُ معنى.
قَالَ: وَالْحق أَنه لما كَانَ الْمُتَقَدّم أَي (أكرمتك) جملَة مُسْتَقلَّة من حَيْثُ اللَّفْظ دون الْمَعْنى، روعيت الشائبتان فِيهِ، أَي: شَائِبَة الِاسْتِقْلَال من حَيْثُ(6/2622)
اللَّفْظ فَحكم بِكَوْنِهِ جَزَاء، وشائبة عدم الِاسْتِقْلَال من حَيْثُ الْمَعْنى فَحكم بِأَن الْجَزَاء مَحْذُوف لكَونه مَذْكُورا من حَيْثُ الْمَعْنى. انْتهى.
قَوْله: {وَهُوَ كاستثناء فِي اتِّصَاله بالمشروط} بِلَا خلاف، وَلَكِن قَوْله إِن شَاءَ الله يُسمى اسْتثِْنَاء، وَأَنه كالاستثناء فِي الِاتِّصَال، وَأَنه عِنْد بَعضهم أَنه مَحل الْخلاف، {وَإِن تعقب جملا متعاطفة فللكل عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": سلمه الْأَكْثَر.
{وَقيل: يخْتَص بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تليه} حَتَّى إِن كَانَ مُتَأَخِّرًا اخْتصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة أَو مُتَقَدما اخْتصَّ بِالْأولَى، اخْتَارَهُ بعض الأدباء، وَقد حَكَاهُ الصَّيْرَفِي قبل قَوْله هَذَا.(6/2623)
وَحكى الْغَزالِيّ عدم عوده للْجَمِيع عَن الأشعرية.
وَحكى الْمَاوَرْدِيّ، وَابْن كج عَن أبي حنيفَة أَنه كالاستثناء فِي اخْتِصَاصه بالأخيرة.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَهُوَ كالاستثناء فِي الِاتِّصَال وَفِي تعقبه الْجمل، وَعَن أبي حنيفَة للْجَمِيع فَفرق. انْتهى.
وَاخْتَارَ الْفَخر الرَّازِيّ التَّوَقُّف كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء، وعَلى كل حَال هُوَ أولى بِالْعودِ إِلَى الْكل من الِاسْتِثْنَاء بِدَلِيل مُوَافقَة أبي حنيفَة عَلَيْهِ.
مِثَاله: أكْرم تميما، وَأعْطِ مضرا إِن نزلُوا بِكَذَا.
قَوْله: {وَيجوز إِخْرَاج الْأَكْثَر بِهِ} . قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": اتَّفقُوا على أَنه يحسن التَّقْيِيد بِشَرْط أَن يكون الْخَارِج مِنْهُ أَكثر من الْبَاقِي، وَإِن اخْتلفُوا فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاء. انْتهى.(6/2624)
فَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم إِن كَانُوا عُلَمَاء، وَكَانَ الْجُهَّال أَكثر جَازَ، بل وَلَو كَانَ الْكل جُهَّالًا، يخرج الْكل بِالشّرطِ.
قَوْله: {فَائِدَة: يحصل الْمُعَلق على الشَّرْط وَالْعقد} ، أَي: وَيحصل العقد بعد وجود الشَّرْط، وَالْقَبُول فِي العقد.
{وَقَالَ أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَابْن عبد السَّلَام: مَعَه} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَل يحصل الشَّرْط مَعَ الْمَشْرُوط، أَو بعده؟ وَكَذَلِكَ قَوْلك: بِعْتُك، أَو وَهبتك، هَل يحصل مَعَ الْكَاف، أَو بعْدهَا؟ على قَوْلَيْنِ، الْأَكْثَرُونَ من الْمُتَكَلِّمين على أَنَّهَا مَعهَا، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن عبد السَّلَام، وَالثَّانِي: بعده، وَهُوَ الصَّحِيح، قَاس الْأَولونَ الشَّرْط على الْعلَّة الْعَقْلِيَّة، وَالتَّحْقِيق الْمَنْع فيهمَا؛ وَلِهَذَا يدْخل فِي كَسرته فانكسر إِلَى غير ذَلِك. انْتهى.
قلت: وَمَا صَححهُ هُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب فِي تَعْلِيق الطَّلَاق بِالشُّرُوطِ.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": يُوجد الْمُسَبّب مَعَ السَّبَب على الْمُرَجح كوجود الْعتْق وَالطَّلَاق الْمُعَلق على شَرط، على الْأَصَح فِي الْمَذْهَب، كَمَا(6/2625)
قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره، وَهُوَ اخْتِيَار الْأَشْعَرِيّ، والمحققين كَالْإِمَامِ وَالْغَزالِيّ وَابْن عبد السَّلَام وَغَيرهم.
وَاخْتَارَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَأَتْبَاعه الْوُقُوع عقبه من غير تخَلّل زمَان. انْتهى.
قَوْله: {والتخصيص بِالصّفةِ كالاستثناء فِي الْعود وَلَو تقدّمت} . من جملَة المخصصات الْمُتَّصِلَة الْوَصْف.
وَالْمرَاد بِهِ: مَا أشعر بِمَعْنى ينعَت بِهِ أَفْرَاد الْعَام سَوَاء كَانَ نعتا، أَو عطف بَيَان، أَو حَالا، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك مُفردا، أَو جملَة، أَو شبهها، وَهُوَ الظروف، وَالْجَار، وَالْمَجْرُور، وَلَو كَانَ جَامِدا مؤولا بمشتق.(6/2626)
لَكِن يخرج من ذَلِك أَن يكون الْوَصْف خرج مخرج الْغَالِب فيطرح مَفْهُومه كَمَا يَأْتِي فِي المفاهيم، أَو يساق الْوَصْف لمدح أَو ذمّ، أَو ترحم، أَو توكيد، أَو تَفْصِيل فَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مُخَصّصا للْعُمُوم.
مِثَال التَّخْصِيص بِالصّفةِ: أكْرم بني تَمِيم الداخلين، فيقصر الْإِكْرَام عَلَيْهِم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا، والآمدي، وَجمع: هِيَ كالاستثناء فِي الْعود كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَو تقدّمت} ، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مثل قَوْله: وقفت على محتاجي أَوْلَادِي، وَأَوْلَادهمْ، فتشترط الْحَاجة فِي أَوْلَاد الْأَوْلَاد.
{وَقيل: يخْتَص بِمَا وليته إِن توسطت} .
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": أما المتوسطة فالمختار اختصاصها بِمَا وليته.(6/2627)
مثل ذَلِك: على أَوْلَادِي المحتاجين وَأَوْلَادهمْ.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: لَا نعلم فِيهَا نقلا، وَيظْهر اختصاصها بِمَا وليته.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَيدل على اختصاصها بِمَا وليته مَا نَقله الرَّافِعِيّ فِي الْأَيْمَان عَن ابْن كج أَنه لَو قَالَ: عَبدِي حر - إِن شَاءَ الله -، وامرأتي طَالِق، وَنوى صرف الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا، إِلَى آخِره فَإِن مَفْهُومه أَنه لَو لم ينْو لما عَاد إِلَى مَا بعده، وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشَّرْط الَّذِي لَهُ صدر الْكَلَام، وَقد قَالَ بعوده للْجَمِيع بعض من لَا يَقُول بِعُود الِاسْتِثْنَاء وَالصّفة للْجَمِيع فَلِأَن يجْرِي مثل ذَلِك فِي الصّفة من بَاب أولى.
قَوْله: {وبغاية} . من المخصصات الْغَايَة، وَالْمرَاد بهَا أَن يَأْتِي بعد الْعَام حرف من أحرف الْغَايَة ك (إِلَى، وَحَتَّى، وَاللَّام) مِثَال اللَّام قَوْله تَعَالَى: {سقناه لبلد ميت} [الْأَعْرَاف: 57] أَي إِلَى، وَمثله {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أَي أوحى إِلَيْهَا، وكأو أَيْضا فِي قَوْله:
(لأستسهلن الصعب أَو أدْرك المنى ... )(6/2628)
أَي: إِلَى، وَرُبمَا كَانَت (إِلَى) بِمَعْنى (مَعَ) كَمَا تقدم.
وَحَتَّى للابتداء، نَحْو:
(حَتَّى مَاء دجلة أشكل ... )
وَمِثَال حَتَّى، وَإِلَى: أكْرم بني تَمِيم أَو حَتَّى أَو إِلَى أَن يدخلُوا، فيقصر على غَيرهم كالاستثناء بعد الْجُمْلَة يشْتَرط فِيهَا الِاتِّصَال، وَكَذَا إِذا وليت مُتَعَددًا يعود إِلَى الْكل، نَحْو: وقفت على أَوْلَادِي وَأَوْلَاد أَوْلَادِي إِلَى أَن يستغنوا.
وَكَذَا فِي إِخْرَاج الْأَكْثَر، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَقَالَ: وَقَول ابْن الْحَاجِب، و " جمع الْجَوَامِع " إِنَّهَا كالاستثناء فِي الْعود، لَيْسَ الْمَقْصُود الْقصر على الْعود، بل تعرضا لَهُ لكَونه أهم.
قَوْله: {وَمَا بعْدهَا مُخَالف عِنْد الْأَكْثَر} ، أَي: مُخَالف لما قبلهَا، أَي: مَحْكُوم عَلَيْهِ بنقيض حكمه؛ لِأَن مَا بعْدهَا لَو لم يكن مُخَالفا لما قبلهَا لم تكن غَايَة، بل وسطا بِلَا فَائِدَة، قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] فَلَيْسَ شَيْء من اللَّيْل دَاخِلا قطعا.(6/2629)
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، وَالْجُمْهُور، كَمَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي.
{وَقَالَ} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني} : مُخَالف لما بعْدهَا {نطقا} .
وَيَأْتِي فِي مَفْهُوم الْغَايَة لَفظه وتحريره.
وَقيل: مَا بعْدهَا لَيْسَ مُخَالفا لما قبلهَا، بل هُوَ دَاخل مُطلقًا.
وَقيل: مُخَالفا بِمَا بعْدهَا إِن كَانَ مَعهَا (من) نَحْو: بِعْتُك من هَذَا إِلَى هَذَا.
{وَقَالَ الرَّازِيّ: إِن تميز عَمَّا قبله بالحس لم يدْخل، وَإِلَّا دخل} .
والتمييز نَحْو: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فَإِن لم يتَمَيَّز حسا اسْتمرّ ذَلِك الحكم على مَا بعْدهَا، {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] فَإِن الْمرْفق غير مُنْفَصِل عَن الْيَد بفصل محسوس.
{وَقيل: إِن كَانَ المغيا عينا، أَو وقتا لم يدْخل، وَإِلَّا دخل} . قَالَه بعض الْحَنَفِيَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ؛ لِأَن(6/2630)
الْغَايَة هُنَا فعل وَالْفِعْل لَا يدْخل بِنَفسِهِ مَا لم يفعل، وَمَا لم تُوجد الْغَايَة لَا يَنْتَهِي المغيا فَلَا بُد من وجود الْفِعْل الَّذِي هُوَ غَايَة النَّهْي؛ لانْتِهَاء النَّهْي فَيبقى الْفِعْل دَاخِلا فِي النَّهْي.
وَقيل: دَاخل إِن كَانَ من الْجِنْس، نَحْو: (بِعْتُك الرُّمَّان إِلَى هَذِه الشَّجَرَة وَالْوَاقِع أَنَّهَا رمانة) ، وَإِلَّا فَلَا.
{قَالَ الْآمِدِيّ: لَا تدل} الْغَايَة {على شَيْء} ، يَعْنِي: لَا تدل على أَن مَا بعْدهَا مُخَالف وَلَا مُوَافق.
وَتقدم عِنْد الْكَلَام على (إِلَى) فِي الْحُرُوف مَا يتَعَلَّق بِهَذَا، وَذكرنَا هُنَاكَ أقوالا لم نذكرها هَاهُنَا.
فَائِدَة غَايَة الشَّيْء طرفه ومنتهاه، ثمَّ تطلق تَارَة على الْحَرْف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى مطلع الْفجْر} [الْقدر: 5] ، {حَتَّى يطهرن} ، {إِلَى الْمرَافِق} {إِلَى اللَّيْل} .
فَإِذا قيل: الْغَايَة هَل تدخل فِي المغيا، أَو لَا تدخل؟(6/2631)
فَيُقَال: إِن أُرِيد بِالْمَعْنَى الأول - وَهُوَ طرف الشَّيْء ومنتهاه - فداخلة قطعا وَإِن أُرِيد مَا بعد الَّذِي دخل عَلَيْهِ الْحَرْف فَلَا خلاف فِي عدم دُخُوله، وَإِن أُرِيد نفس مَا دخل عَلَيْهِ حرف الْغَايَة فَهُوَ مَحل الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل، الْمعبر عَنهُ بِمَا بعد الْغَايَة هَل يدْخل فِيمَا قبلهَا؟ فَإِن الْغَايَة هُنَا نفس الْحَرْف، وَمَا دخل عَلَيْهِ هُوَ مَا بعد الْغَايَة فَليعلم ذَلِك.
قَوْله: {وَمحله فِي غَايَة تقدمها عُمُوم يشملها لَو لم تأت، بِخِلَاف {حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقطعت أَصَابِعه كلهَا من الْخِنْصر إِلَى الْإِبْهَام، فالغاية فِي الأولى خَارِجَة قطعا، وَفِي الثَّانِيَة دَاخِلَة قطعا} .
قَالَ السُّبْكِيّ الْكَبِير: قَول الْأُصُولِيِّينَ إِن الْغَايَة من المخصصات إِنَّمَا هُوَ إِذا تقدمها عُمُوم يشملها لَو لم يُؤْت بهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} [التَّوْبَة: 29] فلولا الْغَايَة لقاتلنا الْكفَّار أعْطوا أَو لم يُعْطوا، أما نَحْو: " رفع الْقَلَم عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن النَّائِم عَن يَسْتَيْقِظ، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق "، وَلَو سكت عَن الْغَايَة لم يكن الصَّبِي شَامِلًا للبالغ، وَلَا النَّائِم(6/2632)
للمستيقظ وَلَا الْمَجْنُون للمفيق، فَذكر الْغَايَة فِي ذَلِك إِمَّا تَأْكِيد لتقرير أَن أزمنة الصَّبِي وأزمنة الْجُنُون وأزمنة النّوم لَا يسْتَثْنى مِنْهَا شَيْء، وَنَحْوه: {حَتَّى مطلع الْفجْر} طلوعه، أَو زمن طلوعه لَيْسَ من اللَّيْل حَتَّى يَشْمَلهُ {سَلام هِيَ} بل حقق بِهِ ذَلِك، وَإِمَّا للإشعار بِأَن مَا بعد الْغَايَة حكمه مُخَالف لما قبله، وَلَوْلَا الْغَايَة لَكَانَ مسكوتا عَن ذكر الحكم مُحْتملا، وَهَذَا على رَأْي من يَقُول بِالْمَفْهُومِ.
قَالَ الشَّيْخ: وَهَذَا وَإِن قيل بِهِ فِي نَحْو {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} فَهُوَ أقوى من القَوْل بِهِ هُنَا؛ لِأَن هُنَاكَ لَو لم يقل بِهِ لم يكن للغاية فَائِدَة، وَهنا فائدتها الْمَذْكُورَة أَولا فِيمَا سبق تعم قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} يحْتَمل أَنه مثل {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} نظرا إِلَى أَن الصَّوْم اللّغَوِيّ شَامِل اللَّيْل وَالنَّهَار، وَلِهَذَا مثل الْبَيْضَاوِيّ بِهِ.
وَيحْتَمل أَنه مثل {حَتَّى مطلع الْفجْر} نظرا إِلَى أَن الصَّوْم الشَّرْعِيّ مُخْتَصّ بِالنَّهَارِ.
وَأَيْضًا فالعموم فِي الصّيام إِنَّمَا هُوَ فِي أَفْرَاد الصَّوْم لَا لأوقاته.
وَأَيْضًا إِطْلَاق كَون الْغَايَة من المخصصات لَا بُد فِيهِ من إِخْرَاج مَا سبق فِي حَدِيث: " رفع الْقَلَم " و {حَتَّى مطلع الْفجْر} ، و {حَتَّى يطهرن} ،(6/2633)
وَنَحْوه مِمَّا لَا يكون شَامِلًا لما بعد الْغَايَة وَإِخْرَاج نَحْو قطعت أَصَابِعه من الْخِنْصر إِلَى الْإِبْهَام وَأَن الْغَايَة دَاخِلَة فِيهِ قطعا فَهُوَ تَأْكِيد وَتَحْقِيق للْعُمُوم كَمَا سبق.
وَلَو كَانَ اللَّفْظ غير صَرِيح، نَحْو: (ضربت الْقَوْم حَتَّى زيدا) كَانَ تَأْكِيدًا بالظهور، لَا بِالْقطعِ؛ لاحْتِمَال أَنه أَرَادَ أَن الضَّرْب انْتهى إِلَيْهِ وَلم يَشْمَلهُ. انْتهى.
قَوْله: {والغاية والمغيّا أَي: الْمُقَيد بهَا يتحدان ويتعددان تِسْعَة أَقسَام} ، قد تكون الْغَايَة والمغيا أَي: الْمُقَيد بهَا متحدين، كأكرم بني تَمِيم إِلَى أَن يدخلُوا، وَقد يكونَانِ متعددين إِمَّا على سَبِيل الْجمع كأكرم بني تَمِيم وأعطهم ألى أَن يدخلُوا ويقوموا، أَو على سَبِيل الْبَدَل، كأكرم بني تَمِيم أَو أعطهم إِلَى أَن يدخلُوا، أَو يقومُوا.
وَقد يكون أَحدهمَا متحدا، وَالْآخر مُتَعَددًا فَتكون الْأَقْسَام تِسْعَة كالشرط وتعرف أمثله بَاقِي الْأَقْسَام مِمَّا قد مر، وَتقدم الْكَلَام على التَّخْصِيص بِبَدَل الْبَعْض.
قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ الشَّيْخ: التوابع المخصصة كبدل، وَعطف بَيَان، وتوكيد وَنَحْوه كاستثناء، والشروط المعنوية بِحرف الْجَزَاء، وبحرف(6/2634)
الْعَطف كالشرط وتتعلق حُرُوف الْجَرّ الْمُتَأَخِّرَة بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدّم} انْتهى.
أخذت ذَلِك من نقل ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: والتوابع المخصصة للأسماء الْمُتَقَدّمَة كالبدل، وَعطف الْبَيَان كالاستثناء.
والشروط المعنونة بحروف الْجَرّ كَقَوْلِه: على أَنه، أَو بِشَرْط أَنه، أَو بحروف الْعَطف كَقَوْلِه: وَمن شَرطه كَذَا، فَهَذَا كالشرط، فَأكْرم بني تَمِيم، وَبني أَسد، وَبني بكر الْمُؤمنِينَ، أمكن كَونه تَمامًا لبكر فَقَط، وبشرط كَونهم مُؤمنين، أَو على أَنه مُتَعَلق بالإكرام وَهُوَ للْجَمِيع مَعًا، كَقَوْلِه: إِن كَانُوا مُؤمنين، وَلذَا تتَعَلَّق حُرُوف الْجَرّ الْمُتَأَخِّرَة بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدّم، وَهُوَ قَوْله: وقفت، وَهُوَ الْكَلَام وَالْجُمْلَة، فَيجب الْفرق بَين مَا تعلق بِالِاسْمِ، وَمَا تعلق بالْكلَام.(6/2635)
قَالَ: وَالْوَقْف على جمل أجنبيات كالوقف على أَوْلَاده، ثمَّ أَوْلَاد فلَان ثمَّ الْمَسَاكِين على أَنه لَا يعْطى مِنْهُم إِلَّا صَاحب عِيَال، يقوى اخْتِصَاص الشَّرْط بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة من الأولى. انْتهى.
قَوْله: {وَالْإِشَارَة بِلَفْظ ذَلِك بعد الْجمل يعود إِلَى الْكل. ذكره القَاضِي وحفيده، وَابْن عقيل، وَأَبُو الْبَقَاء} .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْإِرْشَاد " فِي الْوَعيد: والوعيد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} [الْفرْقَان: 68] يجب عوده إِلَى جَمِيع مَا تقدم، وَعوده إِلَى بعضه لَيْسَ بلغَة الْعَرَب، وَلِهَذَا لَو قَالَ: من دخل، وخدمني، وأكرمني، فَلهُ دِرْهَم لم يعد إِلَى الدُّخُول فَقَط. وَذكره أَيْضا فِي " الْوَاضِح " فِي مُخَاطبَة الْكفَّار، وَقَالَ: إِذا عَاد للْجَمِيع فالمؤاخذة بِكُل من الْجمل فالخلود للكفر، والمضاعفة فِي قدر الْعَذَاب لما ذكره من الذُّنُوب.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك} [الْبَقَرَة: 233] .
قيل: الْإِشَارَة إِلَى أُجْرَة الرَّضَاع وَالنَّفقَة.
وَقيل: إِلَى النَّهْي عَن الضرار.(6/2636)
وَقيل: إِلَى الْجَمِيع، اخْتَارَهُ القَاضِي؛ لِأَنَّهُ على الْمَوْلُود لَهُ، وَهَذَا مَعْطُوف عَلَيْهِ فَيجب للْجَمِيع.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ذالكم فسق} [الْمَائِدَة: 3] : إِشَارَة إِلَى الْجَمِيع وَيجوز أَن يرجع إِلَى الاستقسام.
وَقَالَ أَبُو يعلى الصَّغِير من أَصْحَابنَا فِي قتل مَانع الزَّكَاة فِي آيَة الْفرْقَان الْمَذْكُورَة: ظَاهر اللَّفْظ يَقْتَضِي عود الْعَذَاب وَالتَّخْلِيد إِلَى الْجَمِيع، وكل وَاحِد مِنْهُ لَكِن قَامَ دَلِيل على أَن التخليد لَا يكون إِلَّا بالْكفْر فخصت بِهِ الْآيَة.
قَوْله: {والتمييز بعد جمل، مُقْتَضى كَلَام النُّحَاة وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ عوده إِلَى الْجَمِيع، وَلنَا خلاف فِي الْفُرُوع} . قَالَه البعلي فِي " أُصُوله ".
وَقَالَ فِي " قَوَاعِده الْأُصُولِيَّة ": وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي " الْفُرُوع " على وَجْهَيْن، أصَحهمَا أَن الْأَمر كَذَلِك، فَإِن قَالَ: لَهُ عَليّ - مثلا - ألف وَخَمْسُونَ درهما فالجميع دَرَاهِم على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَقَالَ أَبُو الْحسن التَّمِيمِي: يرجع فِي تَفْسِير الْألف إِلَيْهِ.(6/2637)
(قَوْله: {فصل} {التَّخْصِيص الْمُنْفَصِل} )
مَا تقدم من الْكَلَام هُوَ فِي التَّخْصِيص بالمتصل، وَالْكَلَام الْآن فِي التَّخْصِيص بالمنفصل.
وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمُتَّصِل لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، بل يكون مُتَعَلقا بِاللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ الْعَام، والمنفصل عَكسه.
قَوْله: {مِنْهُ الْحس} .
يجوز التَّخْصِيص بالحس، أَي: الْمُشَاهدَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {تدمر كل شَيْء} [الْأَحْقَاف: 25] فَنحْن نشاهد أَشْيَاء كَثِيرَة لم تؤتها بلقيس كملك سُلَيْمَان، وَنحن نشاهد أَشْيَاء كَثِيرَة لم تدمرها الرّيح كالسموات، وَالْجِبَال، وَغَيرهَا.
وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {مَا تذر من شَيْء أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم}(6/2638)
[الذاريات: 42] ، {يَجِيء إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] فَإنَّا نشاهد أَشْيَاء لم تجعلها كالرميم، وَأَن مَا فِي أقْصَى الْمغرب والمشرق لم يجب إِلَيْهِ.
وَاعْلَم أَن هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء:
الأول: أَن هَذِه الْأَمْثِلَة لَا تتَعَيَّن أَن تكون من الْعَام الْمَخْصُوص بالحس، فقد يدعى أَنَّهَا من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص.
الثَّانِي: أَن مَا كَانَ خَارِجا بالحس قد يدعى أَنه لم يدْخل حَتَّى يخرج، كَمَا يَأْتِي نَظِيره فِي التَّخْصِيص بِالْعقلِ، فَلْيَكُن هَذَا على الْخلاف الَّذِي هُنَاكَ.
الثَّالِث: يؤول التَّخْصِيص بالحس إِلَى أَن الْعقل يحكم بِخُرُوج بعض الْأَفْرَاد بِوَاسِطَة الْحس، فَلم يخرج عَن كَونه خَارِجا بِالْعقلِ فليكونا قسما وَاحِدًا، وَإِن اخْتلف طَرِيق الْحُصُول.
قَوْله: {وَالْعقل أَيْضا} من المخصصات الْمُنْفَصِلَة.
الْعقل ضَرُورِيًّا كَانَ أم نظريا، فالضروري كَقَوْلِه تَعَالَى:(6/2639)
{الله خَالق كل شَيْء} [الرَّعْد: 16] ، فَإِن الْعقل قَاض بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يخلق نَفسه الْكَرِيمَة، وَلَا صِفَاته.
والنظري كتخصيص قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمرَان: 97] فَإِن الْعقل بنظره اقْتضى عدم دُخُول الطِّفْل، وَالْمَجْنُون بالتكليف بِالْحَجِّ؛ لعدم فهمهما، بل هما من جملَة الغافلين الَّذين هم غير مخاطبين بخطاب التَّكْلِيف.
قَالَ بعض أَعْيَان الشَّافِعِيَّة: لَا خلاف فِي ذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، منع كثير من الْعلمَاء أَن مَا خرج من الْأَفْرَاد بِالْعقلِ من بَاب التَّخْصِيص، وَإِنَّمَا الْعقل اقْتضى عدم دُخُوله فِي لفظ الْعَام، وَفرق بَين عدم دُخُوله فِي لفظ الْعَام، وَبَين خُرُوجه بعد أَن دخل.
وَمَا ذَكرُوهُ هُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَاب: مَا نزل من الْكتاب عَاما يُرَاد بِهِ الْعَام الَّذِي لم يدْخلهُ خُصُوص: قَوْله تَعَالَى: {الله خَالق كل شَيْء} ، {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها} [هود: 6] قَالَ: فَهَذَا عَام لَا خَاص فِيهِ، فَكل(6/2640)
شَيْء من سَمَاء وَأَرْض، وَذي روح وَشَجر وَغير ذَلِك فَالله تَعَالَى خالقه، وكل دَابَّة فعلى الله رزقها، وَيعلم مستقرها ومستودعها. انْتهى.
فَجعله الشَّافِعِي مِمَّا لم يدْخلهُ تَخْصِيص، وَمَا ذَاك إِلَّا لِأَن مَا اقْتضى الْعقل عدم دُخُوله لم يدْخل، فَكيف يُقَال دخل ثمَّ خرج؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم اخْتلف فِي أَن هَذَا الْخلاف هَل هُوَ معنوي، أَو لَفْظِي لَا فَائِدَة فِيهِ؟ وَبِالثَّانِي قَالَ الباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ، وألكيا، وَغَيرهم، وَوَافَقَهُمْ الْقَرَافِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، وَغَيرهم - وَهُوَ الَّذِي صححناه فِي الْمَتْن -.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الْخلاف لَفْظِي عِنْد التَّحْقِيق، وَيشْهد لَهُ قَول الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: أَجمعُوا على صِحَة دلَالَة الْعقل على خُرُوج شَيْء(6/2641)
عَن حكم الْعُمُوم، وَاخْتلفُوا فِي تَسْمِيَته تَخْصِيصًا، وَمن قَالَ بِالْأولِ قَالَ: لِأَن الْعَام الْمَخْصُوص بِدَلِيل الْعقل على قَول من يجوز تَخْصِيصه بِهِ، يَقُول هُوَ حَقِيقَة بِلَا خلاف كَمَا قَالَه الصفي الْهِنْدِيّ.
قَالَ بَعضهم: أَو يكون عِنْدهم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فيظنه الْخلاف فِي أَنه هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا.
وَجعل أَبُو الْخطاب مَأْخَذ الْخلاف فِي كَون الْعقل مُخَصّصا أَو لَا، التحسين والتقبيح العقليين، فَإِن صَحَّ ذَلِك كَانَ هَذَا أَيْضا من فَائِدَة الْخلاف، لَكِن استدركه عَلَيْهِ الْأَصْفَهَانِي والنقشواني بِمَا فِيهِ نظر.(6/2642)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر إِذا ورد عَام وخاص مقترنين يقدم الْخَاص، وَقيل: يُعَارض الْخَاص بِمَا قابله من الْعَام، وَإِن لم يقترنا قدم الْخَاص مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَغَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد.
وَعنهُ وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي: الْمُتَأَخر نَاسخ} .(6/2643)
إِذا ورد عَام وخاص فَتَارَة يكونَانِ مقترنين، وَتارَة لَا يكونَانِ مقترنين، فَإِن كَانَا مقترنين مثل مَا لَو قَالَ فِي كَلَام متواصل: اقْتُلُوا الْكفَّار وَلَا تقتلُوا الْيَهُود، أَو يَقُول: زكوا الْبَقر وَلَا تزكوا العوامل، ذكره الْمجد فِي " المسودة "، وَقَالَ: وَبِه قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَحكي عَن بَعضهم تعَارض الْخَاص وَمَا قابله من الْعَام وَلَا يخصص بِهِ، ذكره أَبُو الْخطاب.
وَإِن كَانَا غير مقترنين قدم الْخَاص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ الْخَاص مُتَقَدما، أَو مُتَأَخِّرًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقَالَهُ أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه، وَجَمَاعَة من الْحَنَفِيَّة مِنْهُم: أَبُو زيد.
لِأَن فِي تَقْدِيم الْخَاص عملا بكليهما بِخِلَاف الْعَكْس فَكَانَ أولى.
وَعَن أَحْمد، وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة والمعتزلة، وَابْن الباقلاني،(6/2644)
وَأَبُو الْمَعَالِي: إِن تَأَخّر الْعَام نسخ، وَإِن تَأَخّر الْخَاص نسخ من الْعَام بِقَدرِهِ.
فعلى على هَذَا القَوْل إِن جهل التَّارِيخ وقف الْأَمر حَتَّى يعلم التَّارِيخ.
قَالَت الْحَنَفِيَّة: وَيُؤَخر الْمحرم احْتِيَاطًا.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله بعد كَلَام طَوِيل: يُؤْخَذ بهما حَتَّى تؤتي دلَالَة بِأَن الْخَبَر قبل الْخَبَر فَيكون الْأَخير أولى.
وتأولها القَاضِي على أَن الْخَبَرَيْنِ خاصان.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": وَفِيه نظر، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَاسد لتمثيله أول الرِّوَايَة بِخَبَر حَكِيم، وَهُوَ عَام فِي البيع مَعَ السّلم وَهُوَ(6/2645)
خَاص، وبخبر الْمُصراة، وَهُوَ خَاص مَعَ الْخراج بِالضَّمَانِ، وَهُوَ عَام فِي كل ضَمَان.
وَذكر الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة بِتَقْدِيم الْمُتَأَخر مُطلقًا.
وخرجه بعض أَصْحَابنَا على قَول من منع من تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب إِلَى وَقت الْحَاجة من أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ بعض الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، فَإِن جهل التَّارِيخ اقْتَضَت تعارضهما، هَكَذَا قَالَ فِي " الرَّوْضَة ".
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: مَنْصُوص أَحْمد إِن فقد التَّارِيخ يقدم الْخَاص، وَإِلَّا قدم الْمُتَأَخر وَهُوَ أقوى.(6/2646)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة وَبَعض الْمُعْتَزلَة.
قَالَ: وَيقدم الْخَاص؛ لجهل التَّارِيخ، وَإِن قُلْنَا الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ؛ لِأَن الْعَام لم يعلم ثُبُوته فِي قدر الْخَاص لجَوَاز اتصالهما، أَو تقدم الْعَام، أَو تَأَخره مَعَ بَيَان التَّخْصِيص مُقَارنًا، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَجه القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} [الْمَائِدَة: 5] خص {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا عَامَّة الْفُقَهَاء، وروى مَعْنَاهُ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، مِنْهُم: عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَحُذَيْفَة، وَجَابِر، وَابْن عَبَّاس.
وَأَيْضًا الْخَاص قَاطع، أَو أَشد تَصْرِيحًا، وَأَقل احْتِمَالا.
وَلِأَنَّهُ لَا فرق لُغَة بَين تَقْدِيم الْخَاص وتأخيره، قَالُوا: فِي النّسخ: إِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ فِي زمانين، وَفِي التَّخْصِيص إبِْطَال للْعُمُوم فِي بعض أَفْرَاده.(6/2647)
وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: لَا تقتل زيدا للشرك، ثمَّ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْركين، كَانَ فِي قُوَّة: اقْتُل زيدا وَأَنه نسخ.
رد: شَرطه الْمُسَاوَاة، وَعدم الْجمع، ثمَّ التَّخْصِيص مَانع، والنسخ رَافع، وَالدَّفْع أسهل مِنْهُ، وَهُوَ أغلب، والنسخ نَادِر.
قَالُوا: عَن ابْن عَبَّاس عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنه صَامَ فِي سفر ثمَّ أفطر، قَالَ: وَكَانَ صحابة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتبعُون الأحدث فالأحدث من أمره. رَوَاهُ مُسلم.
وَفِي البُخَارِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بِالْآخرِ فالآخر.
وَاحْتج بِهِ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله السَّابِقَة.
رد: بِحمْلِهِ على غير الْمُخَصّص جمعا بَين الْأَدِلَّة. الْمَانِع مِنْهُ فِي الْكتاب.(6/2648)
لَو جَازَ لم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبينًا، وَقد قَالَ تَعَالَى: {لتبين للنَّاس} [النَّحْل: 44] عرُوض بقوله: {تبيانا لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] ثمَّ عَلَيْهِ السَّلَام مُبين لَهما.
قَوْله: {وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، خَاصّا من وَجه تَعَارضا وَطلب الْمُرَجح} .
مَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة قبلهَا فِي حكم الْعَام وَالْخَاص إِذا كَانَا مقترنين أَو غير مقترنين، وَالْكَلَام هُنَا إِذا كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما من وَجه، خَاصّا من وَجه.
مِثَاله: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فَليصل إِذا ذكرهَا " مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس "، فَالْأول خَاص فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة الْفَائِتَة، عَام فِي الْوَقْت، وَالثَّانِي عَكسه؛ لِأَنَّهُ عَام فِي الْمَكْتُوبَة والنافلة، خَاص فِي الْوَقْت.
مثله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهيت عَن قتل النِّسَاء " فَالْأول عَام فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، خَاص فِي الْمُرْتَدين، وَالثَّانِي(6/2649)
خَاص فِي النِّسَاء عَام فِي الحربيات والمرتدات.
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَنَّهُمَا يتعادلان؛ لعدم أَوْلَوِيَّة أَحدهمَا بِالْعَمَلِ بِهِ دون الآخر، وَيطْلب الْمُرَجح من خَارج، وَقد يرجح الأول بِقِيَام الْقَرِينَة على اخْتِصَاص الثَّانِي بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الحربيات.
{وَعند الْحَنَفِيَّة الْمُتَأَخر نَاسخ} ، تابعت فِي ذَلِك التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " لَكِن قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِحه: وَمَا حَكَاهُ عَن الْحَنَفِيَّة من أَن الْمُتَأَخر نَاسخ، فَهُوَ قِيَاس مَا تقدم عَنْهُم، لَكِن لم أَجِدهُ صَرِيحًا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل لَا يخصص الْكتاب بِالْكتاب وَلَا السّنة بِالسنةِ} . هَذَا القَوْل عَائِد إِلَى أصل الْمَسْأَلَة، وَهُوَ مَا إِذا ورد عَام وخاص.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء أَن الْكتاب يخص بِالْكتاب، وَأَن السّنة تخص بِالسنةِ، وَهُوَ من تَخْصِيص قَطْعِيّ الْمَتْن بقطعيه.(6/2650)
مِثَاله قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} [الْبَقَرَة: 228] فَخص عُمُومه بالحوامل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 4] وَخص أَيْضا عُمُومه فِي الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا بقوله تَعَالَى فِي غير الْمَدْخُول بهَا: {تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} [الْأَحْزَاب: 49] .
وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 234] ، خص بقوله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} [الْبَقَرَة: 221] بقوله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} [الْمَائِدَة: 5] كَمَا تقدم فِي بحث الْمَسْأَلَة.
والمخالف فِي مَسْأَلَة تَخْصِيص الْكتاب بِالْكتاب بعض الظَّاهِرِيَّة، وتمسكوا بِأَن التَّخْصِيص بَيَان للمراد بِاللَّفْظِ فَلَا يكون إِلَّا بِالسنةِ؛ لقَوْله تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] وَمَا ذكر من الْأَمْثِلَة يجوز أَن يكون التَّخْصِيص فِيهِ بِالسنةِ، كَمَا فِي حَدِيث أبي السنابل بن بعكك مَعَ سبيعة الأسْلَمِيَّة حِين قَالَ: مَا أَنْت بناكح حَتَّى تمر عَلَيْك أَرْبَعَة أشهر(6/2651)
وَعشر، فَجَاءَت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأفتاها بِأَنَّهَا قد حلت بِوَضْع حملهَا.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يخرج عَن كَونه مُبينًا إِذا بَين مَا أنزل بِآيَة أُخْرَى منزلَة كَمَا بَين مَا أنزل عَلَيْهِ من السّنة، فَإِن الْكل منزل.
تَنْبِيه: لَا يخفى أَن هَذِه الْمَسْأَلَة فرع عَن كَون الْخَاص مَعَ الْعَام يخصصه، سَوَاء تقدم، أَو تَأَخّر، أَو جهل، أَو قَارن فَهُوَ تَخْصِيص، لَا نسخ خلافًا لأبي حنيفَة، وَإِن كَانَ ابْن الْحَاجِب مزجهما مَعًا فِي " مُخْتَصره "، حَتَّى اضْطربَ الشُّرَّاح فِي تَقْرِير كَلَامه. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَالصَّحِيح أَيْضا أَن السّنة تخص بِالسنةِ، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " يخصص(6/2652)
بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة "، وَهُوَ كثير، والمخالف فِي ذَلِك دَاوُد الظَّاهِرِيّ وَطَائِفَة فَقَالَ: إنَّهُمَا يتعارضان.
ومنشأ الْخلاف أَيْضا مَا سبق فِي أَن السّنة إِنَّمَا تكون مبينَة لَا محتاجة للْبَيَان.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: منع بَعضهم من تَخْصِيص السّنة بِالسنةِ.(6/2653)
(قَوْله: {فصل} {تَخْصِيص السّنة بِالْكتاب} )
وَهَذَا قَلِيل جدا حَتَّى إِن الْبَيْضَاوِيّ لم يذكرهُ وَابْن الْحَاجِب وَإِن ذكره لم يمثل لَهُ.
ومثاله قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت " رَوَاهُ ابْن ماجة، خص بقوله تَعَالَى: {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} [النَّحْل: 80] .
وَمن أمثلته قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن عبَادَة بن الصَّامِت: " خُذُوا عني، خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر: جلد مائَة وَنفي(6/2654)
سنة، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ: جلد مائَة وَالرَّجم " فَإِن ذَلِك يَشْمَل الْحر وَالْعَبْد، فخصص بقوله تَعَالَى: {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} [النِّسَاء: 25] .
وَمِنْه حَدِيث: " لَا يقبل الله صَلَاة أحدكُم حَتَّى يتَوَضَّأ " خص مِنْهُ الْمُتَيَمم بِآيَة التَّيَمُّم.
وَقد يمْنَع هَذَا من يرى أَن التَّيَمُّم يرفع الْحَدث.
وَمِنْه حَدِيث: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله " خص بقوله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} [التَّوْبَة: 29] .
وَمِنْه حَدِيث: " إِن الله تجَاوز لأمتي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا " خص بقوله(6/2655)
تَعَالَى فِي سبق اللِّسَان بِالْيَمِينِ: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} [الْبَقَرَة: 225] .
وَعَن أَحْمد: لَا تخصص السّنة بِالْكتاب، اخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهُوَ مُقْتَضى قَول مَكْحُول، وَيحيى بن أبي كثير [إِن] السّنة تقضي على الْكتاب، وَالْكتاب لَا يقْضِي على السّنة. قَالَ: وَهُوَ الْأَغْلَب على كَلَام الشَّافِعِي.
قَوْله: {ويخص الْكتاب بالمتواترة إِجْمَاعًا} ، حَكَاهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره.
قَوْله: {وبخبر الْوَاحِد} ، أَي: يخص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. وَقَالَهُ أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، ...(6/2656)
وأصحابهم، وَبَعض الْحَنَفِيَّة.
وَنَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
{وَعنهُ الْمَنْع، اخْتَارَهُ الْفَخر} إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، {وَغَيره} فَقَالَ: لَهُ ظُهُور واتجاه.
وَنَقله الْغَزالِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، وَنَقله ابْن برهَان عَن طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ خص بِدَلِيل مجمع عَلَيْهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ ابْن أبان: {إِن خص بقاطع جَازَ} تَخْصِيصه بعد ذَلِك بالآحاد؛ لِأَنَّهُ بعد التَّخْصِيص يكون مجَازًا فِي الْبَاقِي، أما قبله فحقيقة فِي الْأَفْرَاد.(6/2657)
وَقَالَ {الْكَرْخِي: إِن خص} قبل ذَلِك {بمنفصل جَازَ} أَن يخص بالآحاد، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ بالتخصيص بالمنفصل يصير مجَازًا عِنْده.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله مبنيان على القَوْل بِأَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد من أَفْرَاده قطيعة.
{ووقف} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني} : إِمَّا على معنى لَا نَدْرِي، وَإِمَّا على معنى تعَارض أَمريْن: دلَالَة الْعُمُوم على إثْبَاته، وَدلَالَة الْخُصُوص على نَفْيه؛ وَذَلِكَ لِأَن متن الْكتاب قَطْعِيّ وفحواه مظنون، وَخبر الْوَاحِد بِالْعَكْسِ فتعارضا، وَلَا مُرَجّح فالوقف، وَالله أعلم.
وَقيل: يجوز أَن يَقع التَّخْصِيص بذلك وَلَكِن مَا وَقع حَكَاهُ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَهُوَ معنى قَوْلنَا: {وَقيل لم يَقع} .
وَاسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة كَمَا خصوا {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} [النِّسَاء: 24] بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَلَا على خَالَتهَا " مُتَّفق عَلَيْهِ.(6/2658)
وَآيَة السّرقَة بِمَا دون النّصاب، وَقتل الْمُشْركين بِإِخْرَاج الْمَجُوس وَغير ذَلِك.
قَالُوا: رد عمر خبر فَاطِمَة بنت قيس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يَجْعَل لَهَا سُكْنى، وَلَا نَفَقَة لتخصيصه لقَوْله: {أسكنوهن} ؛ وَلِهَذَا قَالَ: كَيفَ نَتْرُك كتاب الله لقَوْل امْرَأَة!
رد: لتردده فِي صِحَّته، أَو مُخَالفَته سنة عِنْده، وَلِهَذَا فِي مُسلم: لَا نَتْرُك كتاب الله وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَعَلَّهَا حفظت، أَو نسيت.
مَعَ أَن أَحْمد ضعفه، وَذكر ابْن عقيل عَنهُ بِأَنَّهُ أجَاب بِأَنَّهُ احْتِيَاط، وَضعف الدَّارَقُطْنِيّ قَوْله: (وَسنة نَبينَا) .(6/2659)
وَلَا يَصح: صدقت أَو كذبت.
قَالُوا: الْعَام قَطْعِيّ، وَالْخَبَر ظَنِّي لَا سِيمَا إِن ضعف بتخصيصه.
رد: دلَالَته ظنية والتخصيص فِيهَا، وَالْخَبَر دلَالَته قَطْعِيَّة.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَحكمه يثبت بِأَمْر قَاطع فالجمع أولى.
الْقَائِل بِالْوَقْفِ: كِلَاهُمَا قَطْعِيّ ظَنِّي من وَجه.
رد: الْجمع أولى.
قَوْله: {وَخص السَّمْعَانِيّ مَحل الْخلاف بِخَبَر لم يجمع على الْعَمَل بِهِ} ، فَإِن أجمع على الْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ فِيهِ خلاف فِي أَنه يجوز التَّخْصِيص بِهِ عِنْده.
وَكَذَا ألحق الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور بالمتواتر الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، وَمثله بتخصيص آيَة الْمَوَارِيث بِحَدِيث: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر ".(6/2660)
و [مثله] السَّمْعَانِيّ بِحَدِيث: " لَا مِيرَاث لقَاتل "، و " لَا وَصِيَّة لوَارث " وَنَهْيه عَن الْجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها، فَيجوز التَّخْصِيص بِهِ بِلَا خلاف؛ لِأَن هَذِه الْأَخْبَار بِمَنْزِلَة الْمُتَوَاتر؛ لانعقاد الْإِجْمَاع على حكمهَا وَإِن لم ينْعَقد على رِوَايَتهَا. انْتهى.
ورده الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: قلت وَفِي ذَلِك كُله نظر؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد الْقطع بِصِحَّة الْمَتْن فَهَذِهِ مَسْأَلَة مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مُسْندًا هَل هُوَ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ - كَمَا اخْتَارَهُ ابْن الصّلاح - أَولا؟ وَهُوَ الَّذِي صَوبه النَّوَوِيّ وَقَالَ بِهِ الْأَكْثَر.(6/2661)
وعَلى الثَّانِي فَكيف يُسَاوِي الْقُرْآن وَالْمَانِع من التَّخْصِيص بِالسنةِ لِلْقُرْآنِ إِنَّمَا مُسْتَنده عدم الْمُسَاوَاة.
وَإِن أُرِيد الْقطع فِي الدّلَالَة فَلَا شَيْء مَقْطُوع بدلالته من النقليات، وَإِن أُرِيد انْعِقَاد الْإِجْمَاع على الحكم فالتخصيص حِينَئِذٍ إِنَّمَا هُوَ بِالْإِجْمَاع لَا بِالسنةِ.
قَوْله: {وَكَذَا تَخْصِيص متواتر بآحاد} . هَذِه الْمَسْأَلَة قل من ذكرهَا، وَهِي وَاضِحَة كتخصيص الْكتاب بالآحاد، وَقد صرح بهَا القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني وَغَيره.(6/2662)
(قَوْله: {فصل} )
{يخص الْعَام بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة اتِّفَاقًا} ، قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَمن المخصصات الْمُنْفَصِلَة تَخْصِيص اللَّفْظ الْعَام بفحوى الْخطاب، أَي: بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة مِثَاله: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليُّ الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد.(6/2663)
واللي: المطل، وَالْمرَاد بِحل عرضه أَن يَقُول غَرِيمه: ظَلَمَنِي، وبعقوبته: الْحَبْس.
خص بِمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] فمفهومه أَنه لَا يؤذيهما بِحَبْس، وَلَا غَيره؛ فَلذَلِك لَا يحبس الْوَالِد بدين وَلَده، بل وَلَا لَهُ مُطَالبَته على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَمحل هَذَا حَيْثُ لم يَجْعَل من بَاب الْقيَاس فَأَما إِن قُلْنَا: إِنَّه من بَاب الْقيَاس فَيكون مُخَصّصا بِالْقِيَاسِ.
قَوْله: {وبالمخالفة عِنْد الْقَائِل بِهِ} . يخص الْعُمُوم بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة عِنْد الْقَائِل بِهِ على الصَّحِيح من قولي الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.(6/2664)
مِثَال ذَلِك قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث ". رَوَاهُ الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَالْبَيْهَقِيّ، وَغَيره.
خص بمفهومه وَهُوَ مَا لم يبلغ قُلَّتَيْنِ عُمُوم قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إِلَّا مَا غلب على رِيحه، أَو طعمه، أَو لَونه ". رَوَاهُ ابْن ماجة، وَالْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ أَعم من الْقلَّتَيْنِ ودونهما فَتَصِير القلتان فِي الحَدِيث الأول تنجسهما مَخْصُوص بالتغيير بِالنَّجَاسَةِ، وَيبقى مَا دونهمَا ينجس بِمُجَرَّد الملاقاة فِي غير الْمَوَاضِع المستثناة بِدَلِيل آخر.(6/2665)
قَوْله: {وَخَالف القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب أَيْضا، والمالكية، وَابْن حزم} ، وَغَيرهم، فَقَالُوا: لَا يخص الْعُمُوم بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة.
اسْتدلَّ للْأولِ: أَنه خَاص، وَفِيه جمع بَينهمَا فَكَانَ أولى.
قَالُوا: الْعَام مجمع على دلَالَته.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ الْفَرْض أَن الْمَفْهُوم حجَّة، فَإِن كَانَت صُورَة السُّكُوت أولى بالحكم من الْمَنْطُوق فَهُوَ التَّنْبِيه، وَهُوَ أولى من الْمَفْهُوم أَو اقْتضى الْقيَاس استواءهما فَهُوَ أولى من الْمَفْهُوم كنهيه عَن بيع الطَّعَام مَعَ نَهْيه(6/2666)
عَن بيع مَا لم يقبض، وَقَوله فِي اخْتِلَاف الْمُتَبَايعين والسلعة قَائِمَة. ذكر ذَلِك القَاضِي.
وَفِي " الْوَاضِح ": نَهْيه عَن بيع الطَّعَام مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِ تَنْبِيه على غَيره فَقدم والتحالف مَعَ تلف السّلْعَة أولى؛ لِإِمْكَان الدّلَالَة على صدق أَحدهمَا بِقِيمَتِهَا الشاهدة بِالثّمن لمثلهَا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَيجب أَن يخرج فِي تَقْدِيم الْقيَاس على الْمَفْهُوم وَجْهَان كتخصيص الْمَفْهُوم بِالْقِيَاسِ، بل أولى، وَصرح القَاضِي بِأَن تَقْدِيم الْقيَاس مَأْخُوذ من تَقْدِيمه على الْعُمُوم، وَقَالَهُ فِي " التَّمْهِيد ".(6/2667)
وَفِي الْقيَاس من " الْوَاضِح ": لَا عدَّة على ذِمِّيَّة قبل الدُّخُول قِيَاسا على المؤمنة تَقْدِيمًا لَهُ على الْمَفْهُوم، قَالَ: وَلم يذكر الله قذف المحصنين من الرِّجَال، فَنظر القائسون إِلَى الْمَعْنى.
وَمِنْه قِيَاس عبد على أمة فِي تنصيف الْحَد.
وقاس الْجُمْهُور اسْتِعْمَال آنِية ذهب وَفِضة فِي غير أكل وَشرب عَلَيْهِمَا، وَغير الْحجر عَلَيْهِ فِي الِاسْتِجْمَار، وَالظفر على الشّعْر فِي الْإِحْرَام.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ إِنَّمَا هُوَ فِي كلامين منفصلين من مُتَكَلم وَاحِد، أَو فِي حكم الْوَاحِد، ككلام الله وَرَسُوله، لَا فِي كَلَام وَاحِد مُتَّصِل، وَلَا متكلمين يجب اتِّحَاد مقصودهما، كبينة شهِدت أَن جَمِيع الدَّار لزيد، وَأُخْرَى أَن الْموضع الْفُلَانِيّ مِنْهَا لعَمْرو، فَإِنَّهُمَا يتعارضان فِي ذَلِك الْموضع.
قَالَ: وَغلط بعض النَّاس، فَجمع بَينهمَا؛ لِأَنَّهُ من بَاب الْعَام وَالْخَاص كَمَا غلط بَعضهم فِي كَلَام مُتَكَلم مُتَّصِل.(6/2668)
قَوْله: {وبالإجماع، أَي: بدليله} . يخص الْعَام بِالْإِجْمَاع.
وَالْمرَاد بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا أَنه نَفسه مُخَصص؛ لِأَنَّهُ لَا يعْتَبر زمن الْوَحْي؛ إِذْ الْإِجْمَاع لَا بُد لَهُ من دَلِيل يسْتَند إِلَيْهِ، وَإِن لم نعرفه.
ومثاله: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} [النُّور: 4] خص بِالْإِجْمَاع على أَن العَبْد الْقَاذِف يجلد على النّصْف من الْحر.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي التَّمْثِيل بذلك نظر؛ لاحْتِمَال أَن يكون التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ، ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل لم لَا تَقولُونَ بِأَن الْإِجْمَاع يكون نَاسِخا على معنى أَنه يتَضَمَّن نَاسِخا؟
فَجَوَابه: أَن سَنَد الْإِجْمَاع قد يكون مِمَّا لَا ينْسَخ بِهِ، فَلَيْسَ فِي كل إِجْمَاع تضمن لما يسوغ النّسخ بِهِ، وَأما التَّخْصِيص فَلَمَّا كَانَ من الْبَيَان كَانَ كل دَلِيل مُخَصّصا بِهِ. انْتهى.
وَجعل بعض الْعلمَاء من أَمْثِلَة الْمَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله ... ... كُنْتُم تعلمُونَ} [الْجُمُعَة: 9] خص بِالْإِجْمَاع على عدم وجوب الْجُمُعَة على العَبْد وَالْمَرْأَة.(6/2669)
هَذَا فِي تَخْصِيص الْكتاب بِالْإِجْمَاع، وَأما تَخْصِيص السّنة الْعَامَّة بِالْإِجْمَاع فَلم أرهم تعرضوا لَهُ كَأَنَّهُمْ استغنوا بمثال تَخْصِيص الْقُرْآن، وَالله أعلم.
قَوْله: وَلَو عمل أهل الْإِجْمَاع بِخِلَاف نَص خَاص تضمن نَاسِخا، أَي: لَا يكون إِجْمَاعهم نَاسِخا لذَلِك النَّص، بل النَّاسِخ هُوَ الدَّلِيل الَّذِي تضمنه الْإِجْمَاع، وَهُوَ مُسْتَند الْإِجْمَاع، وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ، وَتَخْصِيص الْإِجْمَاع كَذَلِك فَإِن الدَّلِيل الَّذِي تضمنه الْإِجْمَاع هُوَ الْمُخَصّص، وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ كَمَا تقدم ذَلِك.
قَوْله: {وبفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم إِن شَمله الْعُمُوم، وَمنعه قوم، ووقف عبد الْجَبَّار} .(6/2670)
من المخصصات للعام فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِشَرْط على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، كَمَا لَو قَالَ: كشف الْفَخْذ حرَام على كل مُسلم، ثمَّ فعله؛ لِأَن فعله كَقَوْلِه فِي الدّلَالَة، سَوَاء فاستويا فِي التَّخْصِيص.
وَالظَّاهِر أَنه وَأمته سَوَاء فِيهِ.
وَقد خص أَحْمد قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: دلّ على أَنه أَرَادَ الْجِمَاع.
وَقَالَ جمع - مِنْهُم الْكَرْخِي -: لَا يخص بِهِ مُطلقًا.
اخْتَارَهُ ابْن برهَان، وَذَلِكَ تَخْصِيصًا لدَلِيل الِاتِّبَاع الْعَام بِهَذَا جمعا بَينهمَا.
وَقيل: إِن فعله مرّة فَلَا تَخْصِيص بِهِ؛ لاحْتِمَال أَنه من خَصَائِصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَقله صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر " عَن الْكَرْخِي، وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، قَالَ: فَإِن تكَرر خص بِهِ إِجْمَاعًا.(6/2671)
وَقيل: إِن كَانَ فعلا ظَاهرا خص بِهِ، وَإِن كَانَ مستترا فَلَا.
وَقيل: إِن اشْتهر كَون الْفِعْل من خَصَائِصه لم يخص بِهِ، وَإِلَّا خص، جزم بِهِ سليم الرَّازِيّ فِي " التَّقْرِيب ".
وَقَالَ ألكيا: إِنَّه أصح، قَالَ: وَلِهَذَا حمل الشَّافِعِي تَزْوِيج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم على أَنه كَانَ من خَصَائِصه.
وَقيل بِالْوَقْفِ، وَنقل عَن عبد الْجَبَّار.
وَقيل: إِن كَانَ منافيا للظَّاهِر خص بِهِ، أَو مُوَافقا فَلَا.
قَوْله: {أما إِن ثَبت وجوب اتِّبَاع الْأمة لَهُ بِدَلِيل خَاص فالدليل نَاسخ للعام} مَحل كَونه مُخَصّصا مَا إِذا كَانَ الْعُمُوم شَامِلًا لَهُ وللأمة، بِتَحْرِيم شَيْء مثلا، ثمَّ يفعل الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يجب اتِّبَاعه فِيهِ، إِمَّا لكَونه من خَصَائِصه، أَو غير ذَلِك.
أما إِذا أَوجَبْنَا التأسي بِهِ فِيهِ فيرتفع الحكم عَن الْكل، وَذَلِكَ نسخ، لَا تَخْصِيص.(6/2672)
وَأما إِذا كَانَ الْعُمُوم للْأمة دونه فَفعله لَيْسَ بتخصيص لعدم دُخُوله فِي الْعُمُوم، وَقد مثل لذَلِك بِالنَّهْي عَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها، ثمَّ جلس فِي بَيت حَفْصَة مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس.
فعلى القَوْل بِأَن النَّهْي شَامِل للصحراء والبنيان فَيحرم فيهمَا، وَبِه قَالَ جمع وَيكون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خص بذلك وَخرج من عُمُوم النَّهْي، وَإِن قُلْنَا: إِنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ مُخْتَصًّا بذلك فالتخصيص للبنيان من الْعُمُوم، سَوَاء هُوَ وَالْأمة فِي ذَلِك.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ أَنه لَا وَجه للْخلاف فِي التَّخْصِيص بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن وَجب التأسي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا تَخْصِيص، قَالَ: وَالْأَظْهَر الْوَقْف؛ لِأَن دَلِيل وجوب التأسي عَام أَيْضا فتعارضا.(6/2673)
فَقيل لَهُ: الْفِعْل مَعَ أَدِلَّة التأسي أخص من اللَّفْظ الْعَام.
فَأجَاب: لَا دلَالَة للْفِعْل على وجوب التأسي والموجب مسَاوٍ للعام.
قَوْله: {وبإقراره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر وَهُوَ أقرب من نسخه مُطلقًا، أَو عَن فَاعله، وَقيل: ينْسَخ إِن نسخ بِالْقِيَاسِ} .
تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن فعل فعلا من أمته بِحَضْرَتِهِ مُخَالفا للْعُمُوم وَلم يُنكره مَعَ علمه، تَخْصِيص على الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، وَقَالَهُ أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَهُوَ أقرب من نسخه مُطلقًا أَو عَن فَاعله.
اسْتدلَّ للْأولِ بِأَن سُكُوته عَن ذَلِك مَعَ علمه دَلِيل جَوَازه وَإِلَّا لوَجَبَ إِنْكَاره.
قَالَ المنكرون لذَلِك: التَّقْرِير لَا صِيغَة لَهُ فَلَا يُقَابل: الصِّيغَة.
رد: بِجَوَازِهِ.(6/2674)
قَالَ الْآمِدِيّ: قطعا، فَجَاز تَخْصِيصه.
ثمَّ قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": يعم غَيره.
وَغَيره على الْمُخْتَار، وَهُوَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب أَنه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره وَإِن فهم الْمَعْنى فَمثله يُشَارِكهُ فِيهِ، وَلَو عَم الْأمة كَانَ نسخا لَا تَخْصِيصًا، كَمَا ظن بَعضهم.
وَقَالَ بَعضهم: يكون نَاسِخا إِن جَازَ النّسخ بِالْقِيَاسِ، وَسَيَأْتِي الْخلاف فِي جَوَاز النّسخ بِالْقِيَاسِ فِي بَاب النّسخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: فَائِدَة: التَّخْصِيص بالتقرير، هَل هُوَ تَخْصِيص بِنَفس تَقْرِيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو بِمَا تضمنه من سبق قَول بِهِ، فَيكون مستدلا بتقريره على أَنه خص بقول سَابق؛ إِذْ لَا يجوز لَهُم أَن يَفْعَلُوا مَا فِيهِ مُخَالفَة للعام إِلَّا بِإِذن صَرِيح فتقريره دَلِيل ذَلِك.
فِيهِ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة حَكَاهُمَا ابْن الْقطَّان، وألكيا.(6/2675)
قَالَ ابْن فورك، والطبري: الظَّاهِر الأول.
قلت: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَوْله: {وَمذهب الصَّحَابِيّ إِن قيل هُوَ حجَّة وَإِلَّا فَلَا عِنْد} الْأَئِمَّة {الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} . قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: إِذا قُلْنَا قَول الصَّحَابِيّ حجَّة جَازَ تَخْصِيص الْعَام بِهِ، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة، والمالكية،(6/2676)
وَابْن حزم، وَعِيسَى بن أبان، وللشافعية وَجْهَان إِذا قَالُوا بقوله الْقَدِيم فِي كَونه حجَّة. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك هَل يكون مَذْهَب الصَّحَابِيّ مُخَصّصا أم لَا؟
تَارَة نقُول: إِن قَوْله حجَّة، وَتارَة يَقُول: لَيْسَ بِحجَّة، فَإِن قُلْنَا: إِنَّه حجَّة كَانَ مُخَصّصا على الصَّحِيح، وَقد نَقله ابْن مُفْلِح عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
وَقَالَ: {وَمنعه بعض الشَّافِعِيَّة مُطلقًا} ، أَي: لَا يكون مُخَصّصا وَلَو قُلْنَا إِنَّه حجَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا كَانَ مورد النزاع فِي الصَّحَابِيّ، فَهَل هُوَ تَفْرِيع على أَن قَوْله حجَّة؟
فَأَما إِن قُلْنَا إِنَّه غير حجَّة فَلَا يخصص بِهِ قطعا.
أَو أَنه تَفْرِيع على أَنه غير حجَّة، أما إِذا قُلْنَا إِنَّه حجَّة فيخصص بِهِ قطعا فِيهِ اضْطِرَاب أَيْضا، فَفِي " التَّقْرِيب " للباقلاني الأول، قَالَ: وَقد ينْسب للشَّافِعِيّ ذَلِك فِي قَوْله الَّذِي يجوز فِيهِ تَقْلِيد الصَّحَابِيّ.(6/2677)
قَالَ: وَنقل عَنهُ أَنه لَا يخصص بِهِ إِلَّا إِذا انْتَشَر فِي أهل الْعَصْر / وَلم ينكروه وَجعل ذَلِك منزلا منزلَة الْإِجْمَاع.
وَكَذَا فَرعه كثير من الْعلمَاء على حجية قَول الصَّحَابِيّ، لَكِن فِي استدلالات ابْن الْحَاجِب فِي الْمَسْأَلَة، وَبِه قَالَ جمع من الْعلمَاء إِن ذَلِك إِذا قُلْنَا إِن قَوْله غير حجَّة؛ لِأَن القَوْل بحجيته إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لم يُخَالف قَوْله قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى.
وَإِن قُلْنَا: إِن قَول الصَّحَابِيّ غير حجَّة فَلَا يكون مُخَصّصا للعام، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء.
وَقيل: يخصص بِهِ سَوَاء كَانَ الرَّاوِي صحابيا أَو غَيره، وَنَقله ابْن الْحَاجِب وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة.
اسْتدلَّ لقَوْل من قَالَ: إِنَّه لَا يخصص مُطلقًا بِأَن الصَّحَابِيّ يتْرك مذْهبه للْعُمُوم، كَتَرْكِ ابْن عمر للمخابرة لخَبر رَافع بن خديج.
وَأجَاب أَصْحَابنَا أَنه لَا يتْركهُ إِلَّا للنَّص؛ لِأَن قَوْله عَن دَلِيل نَص أَو قِيَاس ويخص بهما الْعُمُوم، أَو عُمُوم فالترجيح.(6/2678)
وَخرج بعض أَصْحَابنَا [من] الرُّجُوع إِلَى قَوْله مُطلقًا - إِذا كَانَ الرَّاوِي للْخَبَر وَتَركه - مثله هُنَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَالفه لدَلِيل فيخص، وَإِلَّا فسق فَيجب الْجمع.
رد: لدَلِيل فِي ظَنّه يلْزمه اتِّبَاعه لَا غَيره بِدَلِيل صَحَابِيّ آخر.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يَخُصُّهُ إِن سمع الْعَام وَخَالفهُ، وَإِلَّا فمحتمل، وَهُوَ قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقد مثل للمسألة بأمثلة، مِنْهَا: مَا ذكره فِي " الْمَحْصُول " مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة فِي الْأَمر بِالْغسْلِ من ولوغ الْكَلْب سبعا مَعَ فتواه بِثَلَاث.
وَفِيه نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن ذَلِك لم يَصح عَن أبي هُرَيْرَة.(6/2679)
وَثَانِيهمَا: أَن ذَلِك لَيْسَ من بَاب الْعُمُوم، فَإِن الْعدَد نَص لَا عُمُوم فِيهِ والتخصيص فرع الْعُمُوم.
وَقَررهُ الْبَاجِيّ بِأَن لفظ الْكَلْب مُفْرد معرف، وَقَالَ: فَهُوَ عَام يَشْمَل كلب الزَّرْع وَغَيره، وَأَبُو هُرَيْرَة يرى الِاقْتِصَار فِي كلب الزَّرْع على ثَلَاث.
لَكِن لم تعرف هَذِه التَّفْرِقَة عَن أبي هُرَيْرَة.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " فَإِن مَذْهَب رَاوِيه ابْن عَبَّاس أَن الْمَرْأَة لَا تقتل بِالرّدَّةِ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا.
قيل: وَفِي التَّمْثِيل بِهِ نظر؛ لاحْتِمَال أَن يكون من الْقَائِلين بِأَن من الشّرطِيَّة لَا تتَنَاوَل الْإِنَاث.
وَمِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يحتكر إِلَّا خاطئ " رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن(6/2680)
الْمسيب عَن معمر بن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ سعيد يحتكر الزَّيْت، فَقيل لَهُ، فَقَالَ: إِن معمرا رَاوِي الحَدِيث كَانَ يحتكر.
تَنْبِيه: قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقد ترْجم بعض أَصْحَابنَا وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَابْن برهَان مَسْأَلَة هَل يخص الْعُمُوم بِمذهب الرَّاوِي. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي مَوْضُوع الْمَسْأَلَة اضْطِرَاب، فَمرَّة يُقَال: مَذْهَب الصَّحَابِيّ هَل يخص بِهِ، أَو لَا؟ سَوَاء كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَو غَيره، وَمرَّة يُقَال: مُخَالفَة الرَّاوِي فِي بعض مَا رَوَاهُ، هَل هُوَ تَخْصِيص، أَو لَا؟ أَي: وَلَو كَانَ صحابيا.
وَالْأول هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ الْجُمْهُور إِن مَذْهَب الصَّحَابِيّ لَيْسَ بمخصص؛ وَلَو كَانَ الرَّاوِي، وَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيّ إِن مَذْهَب غير الصَّحَابِيّ لَيْسَ مُخَصّصا قطعا، وَكَأَنَّهُ بنى ذَلِك على أَن قَول الصَّحَابِيّ(6/2681)
إِذا لم يقل أحد إِنَّه حجَّة، فَكيف يخص بِهِ؟ وَلَكِن قد ذكر الْخلاف فِي ذَلِك، لَكِن الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي صحابيا أقوى مِمَّا إِذا كَانَ غير صَحَابِيّ.
قَوْله: {وبقضايا الْأَعْيَان} ، أَعنِي يخص الْعَام بقضايا الْأَعْيَان، هَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح خَاصَّة فَإِنَّهُ قَالَ: يخص الْعُمُوم بقضايا الْأَعْيَان ثمَّ قَالَ: وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي الْمجد إِلَى آخِره - وَابْن مُفْلِح أَخذهَا من كَلَام الْمجد فِي " المسودة ".
وَمعنى ذَلِك أَن يرد مَعنا حكم عَام، ثمَّ ترد مَعنا قَضِيَّة عين مُخَالفَة لذَلِك الْعَام فَهَل يخص الْعَام ذَلِك.
مِثَاله: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن لبس الْحَرِير للرِّجَال، ثمَّ أذن فِي لبسه لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَالزُّبَيْر بن الْعَوام؛ لقمل كَانَ بهما وإذنه لَهما فِي(6/2682)
ذَلِك قَضِيَّة عين فَهَل ذَلِك مُخَصص للْعُمُوم أم لَا؟
قَوْله: {وبالقياس} ، أَي: يخص الْعَام بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون قَطْعِيا، فَإِن كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا خص بِهِ الْعَام قطعا، قَالَه الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان "، وَغَيره فَقَالَ: الْقيَاس الْقطعِي يجوز التَّخْصِيص بِهِ بِلَا خلاف، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا كَانَ حكم الأَصْل الَّذِي يسْتَند إِلَيْهِ الْفَرْع مَقْطُوعًا بِهِ، وعلته منصوصة، أَو مجمعا عَلَيْهَا، وَهِي مَوْجُودَة فِي الْفَرْع قطعا، وَلَا فَارق قطعا، فَهَذَا النَّوْع من الْقيَاس لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْخلاف. انْتهى.
قلت: ظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء إِجْرَاء الْخلاف فِيهِ.(6/2683)
وَالثَّانِي: أَن يكون ظنيا، وَهُوَ مَحل الْخلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو هَاشم وَأَبُو الْحُسَيْن {جَوَاز التَّخْصِيص بِهِ} ، نَقله الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وتبعهما ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " على ذَلِك.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: تَنْبِيه فِي مَأْخَذ الْمَسْأَلَة من كَلَام الإِمَام أَحْمد، فَإِن الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب حكياه عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، أَعنِي التَّخْصِيص، قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْحسن بن ثَوَاب: حَدِيث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(6/2684)
لَا ترده الْأَمْثِلَة، وَظَاهره أَن الْقيَاس لَا يرد الظَّاهِر.
قَالَ ابْن عقيل: هَذَا من كَلَام لَا يمْنَع؛ لِأَن التَّخْصِيص لَيْسَ برد، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَان، وتمسكوا للتخصيص بِرِوَايَة بكر بن مُحَمَّد: إِذا قذف زَوجته بعد الثَّلَاث وَله مِنْهَا ولد يُرِيد نَفْيه: يُلَاعن. فَقيل لَهُ: أَلَيْسَ يَقُول الله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} [النُّور: 6] ، وَهَذِه لَيست زَوْجَة، فاحتج بِأَن الرجل يُطلق ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرِيض فترثه؛ لِأَنَّهُ فر من الْمِيرَاث، وَهَذَا فار من الْوَلَد.
قَالَ القَاضِي: فقد عَارض الظَّاهِر بِضَرْب من الْقيَاس.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيص للْعُمُوم، وَإِنَّمَا عَارض الظَّاهِر الْمَفْهُوم؛ لِأَن تَخْصِيص الحكم بالأزواج يَنْفِيه عَمَّن سواهن.
وَنقل الْمَيْمُونِيّ فِي الرجل يُزَوّج ابْنَته وَهِي كَبِيرَة أحب إِلَيّ أَن يستأمرها فَإِن زَوجهَا من غير أَن يستأمرها جَازَ النِّكَاح، وَهَذَا للْأَب خَاصَّة.(6/2685)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: كَأَنَّهُ خص قَوْله: " لَا تنْكح الْبكر حَتَّى تستأذن ". انْتهى.
وَعند ابْن سُرَيج، والطوفي من أَصْحَابنَا يخص الْقيَاس الْجَلِيّ دون غَيره.
وَقَالَهُ جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي، مِنْهُم: ابْن مَرْوَان.
وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْجَلِيّ والخفي، فَقيل: الْجَلِيّ قِيَاس الْعلَّة، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَسَيَأْتِي بيانهما فِي الْقيَاس.
وَقيل: الْجَلِيّ مَا تتبادر علته إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع الحكم، كتعظيم الْأَبَوَيْنِ عِنْد سَماع قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] .
وَقيل: الْجَلِيّ مَا ينْقض قَضَاء القَاضِي بِخِلَافِهِ، والخفي خِلَافه. نقل عَن الْإِصْطَخْرِي.(6/2686)
وَقيل غير ذَلِك، وَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي الْقيَاس.
وَقَالَ ابْن أبان: يخص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا فَقَالَ: إِن خص الْعَام بِغَيْر الْقيَاس جَازَ تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَنَقله ابْن برهَان فِي " وجيزه " عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة.
قَالَ الطوفي: وَحكي عَن أبي حنيفَة، وَعند الْحَنَفِيَّة يخص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا بمجمع عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ خص بِدَلِيل مجمع عَلَيْهِ جَازَ.
وَأخرج الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان " وَغَيره من مَحل الْخلاف كَمَا تقدم لَفظه كَامِلا.(6/2687)
وَعند الْكَرْخِي يجوز التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ إِن كَانَ الْعَام مُخَصّصا بمنفصل وَإِلَّا فَلَا.
وَعند الْآمِدِيّ إِن ثبتَتْ الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع جَازَ التَّخْصِيص بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
زَاد ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": أَو كَانَ الأَصْل مُخَصّصا خصص الْعَام بِهِ وَإِلَّا فَالْمُعْتَبر الْقَرَائِن فِي الوقائع فَإِن ظهر تَرْجِيح خَاص، وَإِلَّا فَالْخَبَر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لكنه آيل إِلَى اتِّبَاع أرجح الظنين، فَإِن تَسَاويا فالوقف.
وَهَذَا رَأْي الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِن تَفَاوتا، أَي: الْعَام وَالْقِيَاس فِي إِفَادَة. الظَّن رجحنا الْأَقْوَى، وَإِلَّا توقفنا.
واعترف الإِمَام فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ حق.
وَكَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِي إِنَّه حق وَاضح.
وَكَذَا الْهِنْدِيّ فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة، وَاسْتَحْسنهُ الْقَرَافِيّ.(6/2688)
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّه مَذْهَب جيد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن جعل هَذَا مذهبا فِي الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة لَا يَسْتَقِيم فَإِنَّهُ أَمر كلي لَا تعلق لَهُ بِخُصُوص الْمَسْأَلَة، وَلَا أحد يُنَازع فِيمَا قَرَّرَهُ من أرجح الظنين وَلَا فِي الْوَقْف عِنْد الاسْتوَاء، فَتَأَمّله.
وَمنعه ابْن حَامِد، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَجمع مُطلقًا، مِنْهُم: أَبُو عَليّ الجبائي، وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَأطلق القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " رِوَايَتَيْنِ، وَأطلق أَبُو إِسْحَاق ابْن شاقلا من أَصْحَابنَا وَجْهَيْن، ثمَّ حكى عَنهُ القَاضِي الْمَنْع، وجوازه إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ مخرجا من الْعُمُوم، كَقَوْل بعض الْعلمَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: وفيهَا قَول إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ مخرجا من عَام جَازَ التَّخْصِيص، وَإِلَّا فَلَا. انْتهى.
وَقوم فِي الْقُرْآن، أَي: منع قوم التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآن(6/2689)
خَاصَّة، وعزي إِلَى الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن التَّخْصِيص عِنْدهم نسخ وَلَا ينْسَخ الْقُرْآن بِالْقِيَاسِ وَلَو كَانَ جليا.
ووقف القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي.
اسْتدلَّ للْأولِ بِأَن الْقيَاس خَاص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص وَفِيه جمع بَينهمَا فَقدم.
وَادّعى بَعضهم إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَاسْتدلَّ للْمَنْع: لَو قدم التَّخْصِيص بِهِ لقدم الأضعف لما سبق فِي تَقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس.
رد بِمَا سبق فَإِن ذَلِك عِنْد إبِْطَال أَحدهمَا، والتخصيص إِعْمَال لَهما.
وألزم بَعضهم الْخصم تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ وَالْمَفْهُوم لَهما.
قَالُوا: وَأجِيب بِمَا سبق فِي الْمَفْهُوم، وباستصحاب الْحَال.(6/2690)
رد: بِأَنَّهُ دَلِيل عِنْد عدم دَلِيل شَرْعِي.
وَاقْتصر فِي " التَّمْهِيد " على أَنه لَيْسَ دَلِيلا.
وَاحْتج الْحَنَفِيَّة بِمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد.
وَاسْتدلَّ للْوَقْف بتعارض الْأَدِلَّة.
رد بِمَا سبق على أَنه خلاف الْإِجْمَاع.
وَاسْتدلَّ الْآمِدِيّ أَن الْعلَّة كَذَلِك كنص خَاص، وللمخالف الْمَنْع.
وَاسْتدلَّ: المستنبطة مرجوحة، أَو مُسَاوِيَة فَلَا تَخْصِيص، أَو راجحة وَوُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من وَاحِد معِين.
رد بلزومه فِي كل تَخْصِيص، وبأنها راجحة، أَو مُسَاوِيَة، وَالْجمع أولى.
قَوْله: {وَكَذَا صرف ظَاهر غير عَام إِلَى احْتِمَال مَرْجُوح بِقِيَاس} .
وَمعنى هَذَا الْكَلَام أَن يكون معنى اللَّفْظ مُحْتملا لشيئين وَهُوَ ظَاهر فِي أَحدهمَا مَرْجُوح فِي الآخر، لَكِن هُوَ مُوَافق للْقِيَاس فَهَل يصرف عَن الظَّاهِر إِلَى الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح لأجل مُوَافقَة الْقيَاس؟ فِيهِ الْخلاف.(6/2691)
وَهَذِه الْمَسْأَلَة لم أرها إِلَّا فِي " أصُول ابْن مُفْلِح "، وَقد ذكر الأصوليون التَّأْوِيل والمؤول، وَقَالُوا: هُوَ حمل ظَاهر على مُحْتَمل مَرْجُوح بِدَلِيل، وَالدَّلِيل أَعم من قِيَاس وَغَيره، فَتدخل هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا.
قَوْله: {هَذِه الْمَسْأَلَة وَنَحْوهَا ظنية} ؛ لِأَن أدلتها ظنية لَا قَطْعِيَّة فَيكون من بَاب الظنون.
وَعند القَاضِي أبي بكر ابْن الباقلاني قَطْعِيَّة للْقطع بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ الرَّاجِح.
قَوْله: {فَائِدَة: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة "} ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما فرغ من الْأَحْزَاب وَأمره جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْمَسِيرِ إِلَى بني قُرَيْظَة، فَفعل الْفَرِيقَيْنِ يرجع إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَعَدَمه.
هَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من " مُصَنف ابْن قَاضِي الْجَبَل " فِي الْأُصُول فَإِنَّهُ قَالَ:
تَنْبِيه: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيح ": " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " ثمَّ ذكر لَهُ أَن طَائِفَة صلت فِي الطَّرِيق فِي الْوَقْت، وَطَائِفَة صلت فِي بني قُرَيْظَة بعد الْوَقْت، فَلم يعب وَاحِدَة مِنْهُمَا.(6/2692)
فَمن أخر الصَّلَاة حَتَّى وصل إِلَى بني قُرَيْظَة أَخذ بِعُمُوم قَوْله: " لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة "، وَمن صلى فِي الْوَقْت قبل أَن يصل أَخذ، بِأَن المُرَاد بقوله ذَلِك للتَّأْكِيد فِي سرعَة الْمسير إِلَيْهِ، لَا فِي تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا.
{فَقَالَ ابْن حزم} : التَّمَسُّك {بِالْعُمُومِ} هُنَا أرجح، وَأَن الْمُؤخر للصَّلَاة حَتَّى وصل بني قُرَيْظَة هُوَ الْمُصِيب فِي فعله.
{وَخَالفهُ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين بِأَن المُرَاد من ذَلِك التأهب وَسُرْعَة الْمسير، لَا تَأْخِير الصَّلَاة، وَإِن من صلى فِي الْوَقْت كَانَ هُوَ الْمُصِيب، وكلا الطَّائِفَتَيْنِ مُجْتَهد؛ فَلذَلِك لم تعنف وَاحِدَة مِنْهُمَا.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الرَّاجِح من الْفِعْلَيْنِ كَمَا تقدم.(6/2693)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر: الْعَادة: الفعلية لَا تخص الْعُمُوم وَلَا تقيد الْمُطلق} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْعَادة لَا تخص، وَلَا تقيد الْمُطلق، نَحْو: " حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام " وعادتهم الْبر عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة وَالْجُمْهُور خلافًا للحنفية، والمالكية.
وَلِهَذَا لَا نقض بنادر عِنْد الْمَالِكِيَّة قصرا للغائط على الْمُعْتَاد.
وَذكره القَاضِي القَاضِي فِي مَوَاضِع، فَقَالَ: فِي النَّقْض المُرَاد بِهِ النّوم(6/2694)
الْمُعْتَاد وَهُوَ المضطجع؛ لِأَنَّهُ الْمَعْقُول من قَوْلك: نَام فلَان.
وَقَالَهُ أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: إِن كتب القَاضِي الَّتِي فِي الْفِقْه على هَذَا، وَأَنه ذكر فِي الْوَصِيَّة لأقاربه، وَبَعض مسَائِل الْإِيمَان أَن {الْعَام يخص بعادة الْمُتَكَلّم وَغَيره فِي الْفِعْل} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه الأول: الْعُمُوم لُغَة وَعرفا، وَالْأَصْل عدم مُخَصص.
قَالُوا: المُرَاد ظَاهره عرفا فيخصص بِهِ كالدابة.
رد بِمَا سبق فَلم يتخصص الِاسْم، فَلَو تخصص كالدابة اخْتصَّ، فَهُوَ تَخْصِيص بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة بعرف قولي، وَالْأول بعرف فعلي.
وَمِنْه مَسْأَلَة من حلف لَا يَأْكُل رَأْسا وبيضا - قَالَه بعض أَصْحَابنَا قَالَ -: وَكَذَا لَحْمًا، هَل يَحْنَث بِمحرم غير مُعْتَاد؟ على وَجْهَيْن. كَذَا قَالَ، وَالْمَعْرُوف حنثه.
وَفِي الْفِقْه مثل هَذِه مسَائِل مُخْتَلفَة، فيوجه القَوْل بِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة فِي عرف الشَّارِع، وَكَلَام الكلف يعْمل فِيهِ بعرفه، أَو عرف خَاص أَو عَام.
وَلِهَذَا قيل للْقَاضِي فِي تَعْلِيقه فِي الطَّلَاق قبل النِّكَاح لَيْسَ مُطلقًا بِدَلِيل مَا لَو علق عتق عَبده بِطَلَاقِهَا فعلقه لم يعْتق، فَقَالَ: لفظ الْحَالِف يحمل على(6/2695)
الْمُسْتَعْمل الْمَعْهُود وَهُوَ الْإِيقَاع والوقوع، وَلَفظ الشَّارِع يحمل على الْعُمُوم فيهمَا، وَلَو حرم الله تَعَالَى أكل الرؤوس عَم، وَعِنْدهم لَا يَحْنَث إِلَّا بِأَكْل رُؤُوس الْأَنْعَام، وَأَن تِلْكَ الْمسَائِل من الْعرف القولي؛ وَلِهَذَا لَا يَحْنَث فِي مَذْهَب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة بِرَأْس كل مَأْكُول وبيضه.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَمثل الْمَسْأَلَة قصر الحكم على الْمُعْتَاد زَمَنه عَلَيْهِ السَّلَام، وَمِنْه قصر أَحْمد نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام على الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم على غير المصانع المحدثة، وَله نَظَائِر، كَذَا قَالَ.
وَفِيه نظر للْعلم بِأَنَّهُ لم يرد كل مَاء فَلم يُخَالف الْأَصْحَاب أَحْمد فِي هَذَا.
وَقَالَ أَيْضا لما قيل لَهُ الْيَمين بِالطَّلَاق حدثت بعد الشَّارِع فَلم يَتَنَاوَلهَا كَلَامه، فَقَالَ: يَتَنَاوَلهَا.
هَذَا بحث ابْن مُفْلِح، وَنَقله عَن الْمذَاهب، وَالْأَصْحَاب.(6/2696)
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَا يخص الْعُمُوم بالعادات عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين خلافًا للحنفية والمالكية، وَذكر النَّقْل.
ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: قَالَت الْمَالِكِيَّة العوائد القولية تُؤثر فِي الْأَلْفَاظ تَخْصِيصًا، ومجازا وَغَيره بِخِلَاف العوائد الفعلية. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": اخْتلف النَّقْل فِي أَن الْعَادة تخصص، أم لَا، فَنقل الرَّازِيّ أَنَّهَا تخصص، وَعكس الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَلم يتوارد النقلان على مَحل وَاحِد، فَكَلَام الرَّازِيّ فِيمَا إِذا ورد من الشَّارِع لفظ عَام، وَوجدنَا الْعَادة [جَارِيَة بِإِخْرَاج بعض أَفْرَاده كالنهي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ مُتَفَاضلا إِذا جرت الْعَادة] بِبيع بعض الْأَطْعِمَة مُتَفَاضلا فَتكون الْعَادة مخصصة للْعُمُوم ودالة على جَوَاز التَّفَاضُل فِي بيع ذَلِك الطَّعَام إِن كَانَت الْعَادة مَوْجُودَة فِي عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأقرهم عَلَيْهَا، وَكَذَا إِذا دلّ على جَوَاز ذَلِك النَّوْع بِجِنْسِهِ مَعَ التَّفَاضُل الْإِجْمَاع.(6/2697)
وَكَلَام الْآمِدِيّ فِيمَا إِذا ورد النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَجَرت الْعَادة بِأَن لَا يُبَاع من الطَّعَام إِلَّا الْقَمْح، فَهَل يخْتَص النَّهْي بِهِ، أَو يَشْمَل كلما صدق عَلَيْهِ اسْم الطَّعَام.
قَالَ أَبُو حنيفَة: يخْتَص بِهِ، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا، فَلَا يخْتَص الحكم بالمعتاد وَلَا بِمَا وَرَاء الْمُعْتَاد، بل تطرح كل الْعَادة وَيُؤْخَذ بِالْعُمُومِ.
فَكَلَام الرَّازِيّ فِي إِخْرَاج الْمُعْتَاد من غير الْمُعْتَاد، وَكَلَام الْآمِدِيّ فِي إِدْخَال غير الْمُعْتَاد مَعَ الْمُعْتَاد فِي حكمه، وَحمل ابْن دَقِيق الْعِيد كَلَام الْآمِدِيّ على الْعَادة الفعلية كَمَا مثلناه.
أما القولية فَكَمَا يعْتَاد أهل الْعرف تَخْصِيص اللَّفْظ بِبَعْض موارده اعْتِبَارا بسبق الذِّهْن بِسَبَبِهِ إِلَى ذَلِك الْخَاص، فَإِذا أطلق الْعَام قوي تَنْزِيله على الْخَاص الْمُعْتَاد؛ لِأَن الظَّاهِر إِنَّمَا يدل بِاللَّفْظِ على مَا شاع اسْتِعْمَاله فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن. انْتهى.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج " لما ذكر الْبَيْضَاوِيّ الْمَسْأَلَة: لَا إِشْكَال أَن الْعَادة القولية تخصص الْعُمُوم، نَص عَلَيْهِ الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الْمُعْتَمد "،(6/2698)
والآمدي، وَمن تبعه، كَمَا إِذا كَانَ عَادَتهم إِطْلَاق الطَّعَام على المقتات خَاصَّة، ثمَّ ورد النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فَإِن النَّهْي يكون خَاصّا بالمقتات؛ لِأَن الْحَقِيقَة الْعُرْفِيَّة مُقَدّمَة على اللُّغَوِيَّة.
وَأما الْعَادة الفعلية فَهِيَ مسئلة الْكتاب الْمُخْتَلف فِيهَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِمَّنْ نَص على أَن الْعَادة القولية تخصص: الْغَزالِيّ، وألكيا، وَصَاحب " الْمُعْتَمد "، والآمدي، وَمن تبعه، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب، والقرطبي، وَفِي " شرح العنوان " لِابْنِ دَقِيق الْعِيد: أَن الصَّوَاب التَّفْصِيل بَين الْعَادة الراجعة إِلَى الْفِعْل، والراجعة إِلَى القَوْل، فيخصص بِالثَّانِيَةِ الْعُمُوم لسبق الذِّهْن عِنْد الْإِطْلَاق إِلَيْهِ دون الأول.
أَي: إِذا تقدّمت أَو تَأَخَّرت وَلَكِن لم يقررها رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يجْتَمع كَلَامه.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: شَذَّ الْآمِدِيّ بحكاية الْخلاف فِي الْعَادة الفعلية،(6/2699)
قَالَ: وَوَقع للمازري خلاف فِي ذَلِك عَن الْمَالِكِيَّة، وَلَعَلَّه مِمَّن الْتبس عَلَيْهِ الفعلية والقولية. قَالَ: وأظن أَنِّي سَمِعت الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام يَحْكِي الْإِجْمَاع أَن الفعلية لَا تخصص.
وَقَالَ العالمي من الْحَنَفِيَّة: الْعَادة الفعلية لَا تكون مخصصة إِلَّا أَن تجمع الْأمة على استحسانها.
وَقد ذكر الْبرمَاوِيّ أَن الْعَادة ثَلَاث حالات، وَبَينهَا وَبَين مَحل الْخلاف.
قَوْله: {وَلَا يخص الْعَام بمقصوده عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ،(6/2700)
وَخَالف عبد الْوَهَّاب وَالْمجد وحفيده، وَقَالَ ابْن مُفْلِح: الْعَام لَا يخص بمقصوده عِنْد الْجُمْهُور لما سبق خلافًا لعبد الْوَهَّاب وَغَيره من الْمَالِكِيَّة، وَغَيرهم.
{وَقَالَ صَاحب " الْمُحَرر ": الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من لمس النِّسَاء مَا يقْصد مِنْهُنَّ غَالِبا من الشَّهْوَة، ثمَّ لَو عَمت خصت بِهِ، وَخَصه حفيده} أَيْضا {بِالْمَقْصُودِ، وَكَذَا قَالَه فِي آيَة الْمَوَارِيث} .
وَقَوله: {وَأحل الله البيع} [الْبَقَرَة: 275] قَصده الْفرق بَينه وَبَين الرِّبَا، و " فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر " قَصده مَا يجب فِيهِ الْعشْر وَنصفه، وَكَذَا قَالَه بعض أَصْحَابنَا فَلَا يحْتَج بِعُمُوم ذَلِك. انْتهى.
وَلم أرها فِي غَيره.
قَوْله: {وَإِذا وَافق خَاص عَاما لم يخصصه عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
وَخَالف أَبُو ثَوْر} ، وَمَعْنَاهُ: أَن يَأْتِي مَعنا لفظ عَام، وَيَأْتِي لفظ(6/2701)
خَاص هُوَ بعض ذَلِك الْعَام وداخل فِيهِ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر "، فَهَذَا عَام، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي شَاة مَيْمُونَة: " دباغها طهورها " خَاص، وَهُوَ بعض أَفْرَاد الْعَام الْمُتَقَدّم فَلَا يخصص الْخَاص الْعَام لموافقته لَهُ خلافًا لأبي ثَوْر، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَجها لبَعض أَصْحَابنَا، قَالَ: وَوهم بَعضهم فِي النَّقْل عَن أبي ثَوْر.
وَقيل: بلَى، كَانَ يَقُول بِمَفْهُوم اللقب. انْتهى.
اسْتدلَّ للْأولِ بِأَنَّهُ لَا تعَارض بَينهمَا فَيعْمل بهما.
قَالُوا: الْمَفْهُوم يخص الْعُمُوم.
رد: لَا مَفْهُوم فِيهِ، ثمَّ لَو سلم أَنه مَفْهُوم فَهُوَ مَفْهُوم لقب، وَلَيْسَ(6/2702)
بِحجَّة ثمَّ دلَالَة الْعُمُوم أقوى، وَلَو سلم فَهُوَ وَارِد على سَببه فَلَا يكون حجَّة اتِّفَاقًا.
وَمن أمثلتها قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} [النَّحْل: 90] ، وَالْإِحْسَان بلام التَّعْرِيف، عَام فِي جَمِيع أَنْوَاع الْإِنْسَان فيندرج فِيهِ إيتَاء ذِي الْقُرْبَى، فَذكره بعده لَيْسَ تَخْصِيصًا للْأولِ بإيتاء ذِي الْقُرْبَى بل اهتماما بِهَذَا النَّوْع، فَإِن عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا إِذا اهتمت بِبَعْض أَنْوَاع الْعَام خصصته بِالذكر إبعادا لَهُ عَن الْمجَاز، والتخصيص بذلك النَّوْع.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَلَائِكَته [وَرُسُله] وَجِبْرِيل وميكال} [الْبَقَرَة: 98] ، وَلَيْسَ من هَذَا الْبَاب، قَوْله تَعَالَى: {فَاكِهَة ونخل ورمان} [الرَّحْمَن: 68] ؛ لِأَن فَاكِهَة مُطلق.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقع فِي الْمَذْهَب الاستدلالات على خلاف هَذِه الْقَاعِدَة، مِنْهَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ " عَام فِيمَا(6/2703)
يمس بِهِ، خصوه بِالْيَدِ عِنْد قوم، وباطن الْكَفّ عِنْد آخَرين لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أفْضى أحدكُم بِيَدِهِ إِلَى ذكره فَليَتَوَضَّأ " وَالْيَد بعض مَا يمس بِهِ.
وَمِنْهَا نَهْيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع مَا لم يقبض، وَنهى عَن بيع الطَّعَام قبل قَبضه، وَالطَّعَام بعض ذَلِك الْعُمُوم.
فَقَالَ مَالك وَجَمَاعَة: إِلَّا الطَّعَام قبل قَبضه.
وَقَالَت طَائِفَة: مُطلق ومقيد، وَهُوَ بَاطِل، بل هَذَا تَخْصِيص الْعَام بِذكر بعض أَنْوَاعه، وَهُوَ بَاطِل. انْتهى.
قَوْله: {وَرُجُوع الضَّمِير إِلَى بعض الْعَام لَا يخصصه عِنْد أَكثر(6/2704)
أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة} . وَعنهُ: بلَى، كأكثر الْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي.
{وَفِي " الْوَاضِح " هُوَ الْمَذْهَب.
ووقف أَبُو الْمَعَالِي، والرازي} .
اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا عَاد الضَّمِير إِلَى بعض الْعَام، هَل يخصص الْعَام أَو لَا يخصصه، أَو يُوقف؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال.
مِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} ثمَّ قَالَ: {وبعولتهن أَحَق بردهن} [الْبَقَرَة: 228] فَإِن المطلقات يعم البوائن والرجعيات، وَالضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن} عَائِد إِلَى الرجعيات فَقَط؛ لِأَن الْبَائِن لَا يملك الزَّوْج ردهَا. وَلَو ورد بعد الْعَام حكم لَا يَأْتِي إِلَّا فِي بعض أَفْرَاده كَانَ حكمه حكم الضَّمِير، وَصرح بِهِ الرَّازِيّ وَغَيره.
وَمثله بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} ثمَّ قَالَ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} [الطَّلَاق: 1] يَعْنِي: الرَّغْبَة فِي مراجعتهن، والمراجعة لَا تَأتي فِي الْبَائِن.(6/2705)
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيره من الْمُعْتَزلَة أَن الضَّمِير إِذا رَجَعَ إِلَى بعض الْعَام لَا يخصص الْعَام؛ لِأَن الْمظهر عَام، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ، فَلَا يلْزم من تَخْصِيص الْمُضمر تَخْصِيصه.
قَالُوا: يلْزم، وَإِلَّا لم يطابقه.
رد: لَا يلْزم، كرجوعه مظْهرا.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يخصصه الضَّمِير، وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي الْكِفَايَة، وَهُوَ قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة. وَذكر الرِّوَايَة هُوَ، وَأَبُو الْخطاب عَن أَحْمد، كَقَوْلِه فِي رِوَايَة أبي طَالب: يَأْخُذُونَ بِأول الْآيَة وَيدعونَ آخرهَا.
وَقَوله فِي آيَة النَّجْوَى: هُوَ علمه لقَوْله فِي أَولهَا ... ... ...(6/2706)
وَآخِرهَا. وَذكره فِي " الْوَاضِح " الْمَذْهَب، وَخطأ من خَالفه؛ لِأَنَّهُ أقرب من آيَة أُخْرَى.
وَقَالَ القَاضِي أَيْضا: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِدَلِيل وعضده لبَيَان الْآيَة.
وللحنفية الْقَوْلَانِ.
وَتوقف أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَقَالَ الإِمَام، وَأَبُو الْحُسَيْن تَخْصِيص، وَقيل: بِالْوَقْفِ.
هَذَا لَفظه، فَخَالف نقل الْمُخْتَصر نقل ابْن مُفْلِح عَنْهُمَا، وَنقل ابْن الْعِرَاقِيّ أَن الرَّازِيّ اخْتَار فِي " الْمَحْصُول " الْوَقْف، ثمَّ رَأَيْت الْإِسْنَوِيّ قَالَ: الْوَقْف مُخْتَار صَاحب " الْمَحْصُول ".(6/2707)
وَنَقله الْآمِدِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأبي الْحُسَيْن، وَنقل ابْن الْحَاجِب عَنْهُمَا التَّخْصِيص، وَالْمَشْهُور عَن أبي الْمَعَالِي وَأبي الْحُسَيْن الْوَقْف، وَكَذَلِكَ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَكَذَلِكَ صَاحب " الْحَاصِل ".
وَلما قَالَت الْحَنَفِيَّة إِنَّه من المخصصات قَالُوا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل " أَي: إِلَّا كَيْلا مِنْهُ بكيل مِنْهُ، فَالضَّمِير مَحْذُوف وَهُوَ عَائِد على الْبر الَّذِي يُمكن كَيْله، لَا جَمِيع الْبر فَيجوز بيع حفْنَة بر بحفنة مِنْهُ؛ لِأَن ذَلِك لَا يُكَال فَيكون الْعَام وَهُوَ الْبر مُخَصّصا بِمَا يُكَال.(6/2708)
(بَاب الْمُطلق والمقيد)(6/2709)
فارغة(6/2710)
(قَوْله: {بَاب} )
{الْمُطلق: مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه} . وَقَالَ الْآمِدِيّ، والجوزي، وَابْن حمدَان: نكرَة فِي إِثْبَات.
لما كَانَ معنى الْمُطلق والمقيد قَرِيبا من معنى الْعَام وَالْخَاص ذكر عقبهما، بل جعله الْبَيْضَاوِيّ تذنيبا دَاخِلا فِي بَاب الْعَام وَالْخَاص، أَي: ذنابة، وتتمة لَهُ.
وَالْمُطلق مَأْخُوذ من مَادَّة تَدور على معنى الانفكاك من الْقَيْد فَلذَلِك قُلْنَا هُوَ مَا تنَاول وَاحِدًا غير معِين بِاعْتِبَار حَقِيقَة شَامِلَة لجنسه.(6/2711)
فَخرج بقولنَا: (مَا تنَاول وَاحِدًا) أَلْفَاظ الْأَعْدَاد المتناولة لأكْثر من وَاحِد.
وَخرج (بِغَيْر معِين) المعارف كزيد وَنَحْوه، وبباقي الْحَد الْمُشْتَرك وَالْوَاجِب الْمُخَير فَإِن كلا مِنْهُمَا يتَنَاوَل وَاحِدًا لَا بِعَيْنِه لَا بِاعْتِبَار حقائق مُخْتَلفَة وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} [المجادلة: 3] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " فَكل وَاحِد من لفظ الرَّقَبَة وَالْوَلِيّ قد يتَنَاوَل وَاحِدًا غير معِين من جنس الرّقاب والأولياء.
وَفِيه حُدُود كَثِيرَة قل أَن يسلم مِنْهَا حد، وَقَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه وَأَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح "، {و} ابْن حمدَان {فِي " الْمقنع "} : هُوَ {نكرَة فِي إِثْبَات} ، وَكَذَلِكَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَقَالَ: {هُوَ مَا دلّ على شَائِع فِي جنسه} .
فَقَوله: شَائِع، أَي: لَا يكون مُتَعَيّنا بِحَيْثُ يمْنَع صَدَقَة على كثيرين.
وَقَوله: فِي جنسه، أَي: لَهُ أَفْرَاد تماثله فَيدْخل فِيهِ الدَّال على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هُوَ، وَالدَّال على وَاحِد غير معِين، وَهُوَ النكرَة.(6/2712)
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَزعم الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب دلَالَته على الْوحدَة الشائعة توهماه النكرَة.
وَمن ثمَّ قَالَا: الْأَمر بِمُطلق الْمَاهِيّة أَمر بجزئي وَلَيْسَ بِشَيْء. انْتهى.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ " شَارِحه ": وَقَول المُصَنّف: (توهماه النكرَة) مَمْنُوع، بل تحققاه، وَمَا صنعاه خير مِمَّا صنعه المُصَنّف؛ فَإِن مَفْهُوم الْمَاهِيّة بِلَا قيد، ومفهومها مَعَ قيد الْوحدَة لَا يخفى تغايرهما على أحد، وَلَكِن لم يفرق الأصوليون بَينهمَا لعدم الْفرق بَينهمَا فِي تَعْلِيق التَّكْلِيف، فَإِن التَّكْلِيف لَا يتَعَلَّق إِلَّا بالموجود فِي الْخَارِج، وَالْمُطلق الْمَوْجُود فِي الْخَارِج وَاحِد غير معِين فِي الْخَارِج؛ لِأَن الْمُطلق لَا يُوجد إِلَّا فِي ضمن الْآحَاد، ووجوده فِي ضمنه هُوَ صَيْرُورَته عينه بانضمام مشخصاته إِلَيْهِ فَيكون الْمُطلق الْمَوْجُود وَاحِدًا غير معِين وَذَلِكَ هُوَ مَفْهُوم النكرَة، والأصولي إِنَّمَا يتَكَلَّم فِيمَا وضع بِهِ التَّكْلِيف، وَأما الاعتبارات الْعَقْلِيَّة كَمَا فعله المُصَنّف فَلَا تَكْلِيف بهَا؛ إِذْ لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج؛ لِأَن الْمُكَلف بِهِ يجب إِيقَاعه والإتيان بِمَا(6/2713)
لَا يقبل الْوُجُود الْخَارِج لَا يُمكن فَلَا يُكَلف بِهِ. انْتهى كَلَام الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ".
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الْمُطلق الدَّال على الْمَاهِيّة بِلَا قيد، أَي: من غير اعْتِبَار عَارض من عوارضها، كَقَوْلِنَا: الرجل خير من الْمَرْأَة.
وَقَوله: (بِلَا قيد) مخرج الْمعرفَة النكرَة؛ لِأَن الأولى تدل عَلَيْهَا مَعَ وحدة مُعينَة كزيد، وَالثَّانيَِة مَعَ وَحده غير مُعينَة كَرجل وَهَذَا صَرِيح مِنْهُ فِي الْفرق بَين الْمُطلق والنكرة.
قَوْله: {والمقيد مَا تنَاول معينا} كزيد، وَعَمْرو، {أَو مَوْصُوفا بزائد} ، أَي: بِوَصْف زَائِد {على حَقِيقَة جنسه} ، نَحْو: {شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4] و {رَقَبَة مُؤمنَة} [النِّسَاء: 92] ، وَهَذَا الرجل.
{وتتفاوت مراتبه} فِي تَقْيِيده بِاعْتِبَار قلَّة الْقُيُود وَكَثْرَتهَا، فَمَا كثرت فِيهِ قيود، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات} الْآيَة [التَّحْرِيم: 5] ، أَعلَى رُتْبَة مِمَّا قيوده أقل.
قَوْله: {وَقد يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد بالجهتين} .
أَي: يجْتَمع الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد فِي لفظ وَاحِد اعْتِبَارا بالجهتين فَيكون مُقَيّدا من وَجه، مُطلقًا من آخر، ك {رَقَبَة مُؤمنَة} قيدت الرَّقَبَة من حَيْثُ الدّين فَيتَعَيَّن المؤمنة لِلْكَفَّارَةِ، وأطلقت من حَيْثُ مَا سواهُ من الْأَوْصَاف، كالصحة والطول وَالْبَيَاض، وأضدادها، وَنَحْوهَا، فالآية مُطلقَة فِي كل(6/2714)
رَقَبَة مُؤمنَة، وَفِي كل كَفَّارَة مجزية، ومقيدة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطلق الرّقاب وَمُطلق الْكَفَّارَات.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد يكونَانِ تَارَة فِي الْأَمر، كأعتق رَقَبَة، وَأعْتق رَقَبَة مُؤمنَة، وَتارَة فِي الْخَبَر ك " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدين " و " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل ".
الثَّانِيَة: الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد من عوارض الْأَلْفَاظ بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا اصْطِلَاحا، وَإِن أطلق على الْمعَانِي عرفا فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح.
قَالَ الطوفي: وهما فِي الْأَلْفَاظ مستعاران مِنْهُمَا فِي الْأَشْخَاص، يُقَال: رجل أَو حَيَوَان مُطلق إِذا خلا عَن قيد، أَو عقال، ومقيد إِذا كَانَ فِي رجله قيد أَو عقال أَو شكال، وَنَحْوه من مَوَانِع الْحَيَوَان من الْحَرَكَة الطبيعية الاختيارية.(6/2715)
فَإِذا قُلْنَا: أعتق رَقَبَة فَهَذِهِ الرَّقَبَة شائعة فِي جِنْسهَا شيوع الْحَيَوَان الْمُطلق بحركته الاختيارية بَين جنسه، وَإِذا قُلْنَا: اعْتِقْ رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت هَذِه الصّفة لَهَا كالقيد الْمُمَيز للحيوان الْمُقَيد من بَين أَفْرَاد جنسه، ومانعة لَهَا من الشُّيُوع كالقيد الْمَانِع للحيوان من الشُّيُوع بالحركة فِي جنسه، وهما أَمْرَانِ نسبيان بِاعْتِبَار الطَّرفَيْنِ فمطلق لَا مُطلق بعده كمعلوم، ومقيد لَا مُقَيّد بعده كزيد، وَبَينهمَا وسائط تكون من الْمُقَيد بِاعْتِبَار مَا قبل، وَمن الْمُطلق بِاعْتِبَار مَا بعد كجسم وحيوان وإنسان.
قَالَ الْهِنْدِيّ: فالمطلق الْحَقِيقِيّ مَا دلّ على الْمَاهِيّة فَقَط والإضافي مُخْتَلف.
وَالْحَاصِل: أَن الشَّيْء قد يكون مُطلقًا بِاعْتِبَار، ومقيدا بِاعْتِبَار، كرقبة مُؤمنَة، مُطلق بِاعْتِبَار سَائِر الرّقاب المؤمنة، ومقيد بِاعْتِبَار مُطلق الرَّقَبَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي الاعتباري لَا الْحَقِيقِيّ.
قَوْله: {وهما كالعام وَالْخَاص} ، فَمَا ذكر من تَخْصِيص الْعُمُوم من مُتَّفق عَلَيْهِ ومختلف فِيهِ، ومختار، ومزيف جَار فِي تَقْيِيد الْمُطلق فَيجوز تَقْيِيد الْكتاب بِالْكتاب وبالسنة، وَالسّنة بِالسنةِ وبالكتاب، وتقييدهما بِالْقِيَاسِ، والمفهومين، وَفعل النَّبِي وَتَقْرِيره، وَمذهب الصَّحَابِيّ، وَنَحْوهَا على الْأَصَح فِي الْجَمِيع.(6/2716)
الثَّالِثَة: يتَفَرَّع على قَول التَّاج السُّبْكِيّ وَمن تَابعه على أَن الْمُطلق الدَّال على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ لَا مَعَ وحدة شائعة أَن الْأَمر الْمُطلق أَمر بالماهية، وَلَكِن لما لم يحصل إِلَّا فِي جزئي اقْتضى ذَلِك أَنه مَطْلُوب من حَيْثُ مَا يحصل بِهِ الِامْتِثَال؛ لِأَن الجزئي مَطْلُوب ابْتِدَاء.
وَأما على طَريقَة الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب فَالْأَمْر بالمطلق أَمر بجزئي من جزئيات الْمَاهِيّة لَا بالكلي الْمُشْتَرك، فالمطلوب من ضرب - مثلا - فعل جزئي من جزئيات الضَّرْب من حَيْثُ مطابقته للماهية الْكُلية الْمُشْتَركَة؛ لِأَن الْمَاهِيّة الْكُلية يَسْتَحِيل وجودهَا فِي الْأَعْيَان.
وَضعف ذَلِك يُوضح الْفرق بَين الْمَاهِيّة بِشَرْط شَيْء وبشرط لَا شَيْء وَلَا بِشَرْط، وَحِينَئِذٍ فالمطلوب الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ لَا بِقَيْد الْجُزْئِيَّة وَلَا بِقَيْد الْكُلية، واستحالة وجودهَا فِي الْخَارِج إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ تجردها لَا فِي ضمن جزئي، وَذَلِكَ كَاف فِي الْقُدْرَة على تَحْصِيلهَا.
قَوْله: {لَكِن إِن ورد مُطلق ومقيد} . لَا يُقَال: كَانَ يَنْبَغِي إِذا كَانَ الْمُطلق والمقيد كالعام وَالْخَاص أَن لَا يفردا بِالذكر؛ لأَنا نقُول تحصل الْمُخَالفَة(6/2717)
بَينهمَا من وجوده، وَهِي أَن لنا هُنَا من يرى وَيَقُول بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَلَا قَائِل هُنَا بِحمْل الْخَاص على الْعَام.
وَأَيْضًا فالحمل هُنَاكَ للعام على غير الْمخْرج بالتخصيص، وَهنا بِالْعَكْسِ الْحمل هُنَا للمطلق على نفس الْمُقَيد.
وَأَيْضًا فَمن أَقسَام وُرُود الْمُطلق والمقيد مَا يكون فِيهِ تَخْصِيص، وَمَا يكون حملا لَا تَخْصِيصًا.
وَأَيْضًا فالحمل هُنَا بطرِيق الْقيَاس على رَأْي، وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام الْآتِي بَيَانهَا، فاحتيج إِلَى الْإِفْرَاد بِالذكر.
إِذا علم ذَلِك فَإِذا ورد مُطلق ومقيد فَنَقُول إِذا ورد مُطلق فَقَط، أَو مُقَيّد فَقَط فَحكمه وَاضح، أَو مُطلق فِي مَوضِع، ومقيد فِي آخر فقصر الْمُقَيد على قَيده يطرقه الْخلاف الَّذِي فِي المفاهيم.
وَأما تَقْيِيد الْمُطلق بِقَيْد الْمُقَيد فَهُوَ المُرَاد هُنَا، لَكِن قَالَ بعض الْعلمَاء أَن يكون الْقَيْد مَعْمُولا بِهِ، نَحْو: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر} [النِّسَاء: 43] الْآيَة وَالْمَرَض وَالسّفر شَرط فِي إِبَاحَة التَّيَمُّم.
فَأَما إِذا لم يكن مَعْمُولا بِهِ فَلَا يحْتَمل عَلَيْهِ الْمُطلق قطعا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} [النِّسَاء: 101] فَلَيْسَ الْخَوْف شرطا فِي الْقصر.(6/2718)
وإهمال الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الشَّرْط؛ إِنَّمَا هُوَ لوضوحه.
إِذا علم ذَلِك فللمطلق والمقيد أَحْوَال.
الْحَالة الأولى: {أَن يخْتَلف حكمهَا، فَلَا حمل اتِّفَاقًا} مُطلقًا، أَي: سَوَاء {اتّفق السَّبَب أَو اخْتلف} .
مِثَال الأول: التَّتَابُع فِي صِيَام كَفَّارَة الْيَمين فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَإِطْلَاق الطَّعَام فِيهَا.
وَمِثَال الثَّانِي: الْأَمر بالتتابع فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَإِطْلَاق الطَّعَام فِي كَفَّارَة الظِّهَار؛ وَلِهَذَا عَن أَحْمد رِوَايَة: لَا يحرم وَطْء من ظَاهر مِنْهَا قبل تكفيره بِالْإِطْعَامِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بكر، وَأَبُو إِسْحَاق من أَصْحَابنَا،(6/2719)
وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتج بهَا القَاضِي وَأَصْحَابه هُنَا، وَمذهب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة يحرم، وقاسوه على الْعتْق وَالصَّوْم.
وَاحْتج القَاضِي فِي تَعْلِيقه لهَذَا بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد، وللذي قبله بعكسه، وَادّعى بعض متأخري أَصْحَابنَا اتِّفَاق الحكم هُنَا؛ لِأَنَّهَا أَنْوَاع الْوَاجِب لَا فرق إِلَّا الْأَسْمَاء.
قَوْله: {وَإِن لم يخْتَلف فَإِن اتَّحد سببهما وَكَانَا مثبتين} ، إِذا لم يخْتَلف الحكم فَتَارَة يتحد سببهما، وَتارَة لَا يتحد، فَإِن اتَّحد فَتَارَة يكونَانِ مثبتين وَتارَة يكونَانِ نهيين، وَتارَة يكون أَحدهمَا أمرا وَالْآخر نهيا.
فَإِن لم يخْتَلف الحكم واتحد السَّبَب وَكَانَا مثبتين، أَو فِي معنى الْمُثبت كالأمر، كَقَوْلِه فِي الظِّهَار: أعتق رَقَبَة ثمَّ قَالَ: أعتق رَقَبَة مُؤمنَة ف {يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد} هُنَا {عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .(6/2720)
وَذكره الْمجد إِجْمَاعًا، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا أعرف فِيهِ خلافًا.
قَالَ القَاضِي الباقلاني، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب، وَابْن فورك، وألكيا، وَغَيرهم: اتِّفَاقًا.
وَحكى ابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِيهِ خلافًا عَن الْحَنَفِيَّة.
وَحكى الطرطوشي خلافًا أَيْضا عَن الْمَالِكِيَّة.
وَقيل للْقَاضِي أبي يعلى فِي تَعْلِيقه فِي خبر ابْن عمر: أَمر لمحرم بِقطع الْخُف، وَأطلق فِي خبر ابْن عَبَّاس فَيحمل عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا يحمل(6/2721)
إِذا لم يُمكن تَأْوِيله، وتأولنا التَّقْيِيد على الْجَوَاز.
وعَلى أَن الْمَرْوذِيّ قَالَ: احتججت على أبي عبد الله بِخَبَر ابْن عمر هَذَا وَقلت: فِيهِ زِيَادَة، فَقَالَ: هَذَا حَدِيث وَذَاكَ حَدِيث، فَظَاهر هَذَا أَنه لم يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار ": لَا يحمل، نَص عَلَيْهِ فِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ، وَإِن سلمنَا - على رِوَايَة - فَإِذا لم يُمكن التَّأْوِيل.
وَقيل: لَهُ فِي التَّحَالُف لاخْتِلَاف المتابعين المُرَاد والسلعة قَائِمَة لقَوْله والسلعة قَائِمَة، فَقَالَ: لَا يحمل على وَجه لنا.
وللمالكية خلاف فِي حمله.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بِأَنَّهُ عمل بِالصَّرِيحِ وَالْيَقِين مَعَ الْجمع بَينهمَا.
فَإِن قيل: الْأَمر بالأيمان للنَّدْب لأجل الْمُطلق، رد بِمَا سبق.
قَوْله: {ثمَّ إِن كَانَ الْمُقَيد آحادا وَالْمُطلق تواترا انبنى على الزِّيَادَة هَل هِيَ نسخ، وعَلى نسخ التَّوَاتُر بالآحاد، وَالْمَنْع للحنفية.(6/2722)
وَالأَصَح أَن الْمُقَيد بَيَان للمطلق.
وَقيل: نسخ إِن تَأَخّر الْمُقَيد.
وَقيل: عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق} .
قيدنَا الْمَسْأَلَة بِهَذَا الْقَيْد وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الْمُقَيد آحادا وَالْمُطلق تواترا انبنى على الزِّيَادَة، هَل هِيَ نسخ أم لَا؟
وَالصَّحِيح أَن الزِّيَادَة لَيست بنسخ على مَا تقدم بَيَانه فِيمَا إِذا ورد عَام وخاص سَوَاء كَانَا مقترنين أَو لَا، وانبنى أَيْضا على نسخ التَّوَاتُر بالآحاد.
وَالصَّحِيح على أَنه لَا ينْسَخ بِهِ على مَا يَأْتِي فِي الْمَتْن وَالشَّرْح، فَإِذا كَانَت الزِّيَادَة لَيست نسخا وَإِن الْآحَاد لَا ينْسَخ التَّوَاتُر على الصَّحِيح فيهمَا، فَالصَّحِيح أَن الْمُقَيد بَيَان للمطلق، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من أَصْحَابنَا وَالْعُلَمَاء كتخصيص الْعَام.
وكما لَا يكون تَأْخِير الْمُطلق نسخا للمقيد مَعَ رَفعه لتقييده فَكَذَا عَكسه.
قَالُوا: فَيكون المُرَاد بالمطلق الْمُقَيد، فَيكون مجَازًا.
رد: بلزومه فِي تَقْيِيد الرَّقَبَة بالسلامة، وَفِيمَا إِذا تقدم الْمُقَيد فَإِنَّهُ بَيَان لَهُ(6/2723)
عِنْدهم، وَبِأَن الْمجَاز أولى من النّسخ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذكرهَا على هَذِه الصّفة، وقيدها بذلك ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " تبعا للمجد فِي " مسودته "، وَتَبعهُ أَيْضا بعض الْمُتَأَخِّرين.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لَا الْمُقَيد على الْمُطلق خلافًا لأبي حنيفَة ولبعضهم، ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِالْحملِ، هَل حمله بَيَان للمطلق، أَو نسخ لحكم الْمُطلق ويجدد لَهُ حكم التَّقْيِيد؟
وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه بَيَان، تقدم الْمُطلق على الْمُقَيد، أَو تَأَخّر، وَذهب قوم إِلَى أَنه إِن تَأَخّر الْمُقَيد كَانَ نسخا، وَإِن تقدم كَانَ بَيَانا. انْتهى.
وَالَّذِي رَأَيْته للشَّافِعِيَّة أَن الْمُقَيد إِن تَأَخّر عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق فَهُوَ نَاسخ، وَإِن تقدم عَلَيْهِ أَو تَأَخّر عَنهُ لَا عَن وَقت الْعَمَل فَهُوَ مَحل الْخلاف الْمَذْكُور.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه مَذْهَب ثَالِث أَنه لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد لَا بَيَانا، وَلَا نسخا. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَقيل: يحمل الْمُقَيد على الْمُطلق عكس الصَّحِيح الْمُقدم فَيبقى الْمُطلق على إِطْلَاقه، وَيكون الْمُقَيد ذكر فَرد من أَفْرَاد الْمَاهِيّة، كَمَا أَن ذكر فَرد من أَفْرَاد الْعَام لَا يخصصه.(6/2724)
قُلْنَا: الْفرق بَينهمَا أَن مَفْهُوم الْمُقَيد حجَّة بِخِلَاف مَفْهُوم اللقب الَّذِي ذكر فَرد من الْعَام مِنْهُ.
فتلخص من الْمَسْأَلَة أَن الْمُطلق هَل يحمل على الْمُقَيد؟
فَإِذا قُلْنَا يحمل، فَهَل هُوَ بَيَان، أَو نسخ؟ إِن تَأَخّر الْمُقَيد عَن الْمُطلق مُطلقًا، أَو عَن وَقت الْعَمَل بالمطلق، أَو لَا يحمل مُطلقًا، أَو يحمل الْمُقَيد على الْمُطلق - عكس الأول -؟
فِيهِ أَقْوَال تقدّمت.
قَوْله: {وَإِن كَانَا نهيين} ، يَعْنِي إِذا اتَّحد السَّبَب وَكَانَا نهيين، أَو نفيين، نَحْو: لَا تعْتق مكَاتبا، لَا تعْتق مكَاتبا كَافِرًا، أَو لَا تكفر بِعِتْق، لَا تكفر بِعِتْق كَافِر، وَلَا نِكَاح إِلَّا بولِي، لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد، {فالمقيد دلّ بِالْمَفْهُومِ.
قَالَ أَبُو الْخطاب: فَمن لَا يرَاهُ حجَّة.
قَالَ الْمجد: أَو لَا يخص الْعُمُوم بِعَمَل بِمُقْتَضى الْإِطْلَاق وَإِلَّا بالمقيد} .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: فالقائل إِن الْمَفْهُوم حجَّة يُقيد قَوْله: لَا تعْتق مكَاتبا، بِمَفْهُوم قَوْله: لَا تعْتق مكَاتبا كَافِرًا، فَيجوز إِعْتَاق الْمكَاتب الْمُسلم، وَبِهَذَا(6/2725)
صرح الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمُنْتَخب "، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام " الْمَحْصُول "، وَمن لَا يَقُول بِالْمَفْهُومِ يعْمل بِالْإِطْلَاقِ، وَيمْنَع إِعْتَاق الْمكَاتب مُطلقًا، وَبِهَذَا قَالَ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب. انْتهى.
فَهَذَا مُوَافق لما قَالَه أَبُو الْخطاب، وَاخْتَارَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": يعْمل بالمطلق؛ لِأَنَّهُ لَا يخص الشَّيْء بِذكر بعض مَا دخل تَحْتَهُ.
{و} ذكر {الْآمِدِيّ} : يعْمل {بالمقيد بِلَا خلاف} ، قَالَ فِي " الإحكام ": لَا خلاف فِي الْعَمَل بمدلولهما، وَالْجمع بَينهمَا؛ إِذا لَا تعذر فِيهِ.
هَذَا لَفظه، وَمَعْنَاهُ: أَنه يلْزم من نفي الْمُطلق نفي الْمُقَيد فَيمكن الْعَمَل بهما فَلَا يعْتق - فِي مثالنا رَقَبَة مُؤمنَة، وَلَا كَافِرَة بِنَاء على أَن ذكر بعض أَفْرَاد الْعُمُوم لَا يكون مُخَصّصا. وَصرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد ".
وَحِينَئِذٍ فَلَا فرق بَين هَذَا القَوْل وَبَين قَول من قَالَ يعْمل بالمطلق كَمَا هُوَ قَول القَاضِي.
وَأما قَول أبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: إِن ذكر بعض أَفْرَاد الْعُمُوم لَا يكون(6/2726)
مُخَصّصا فَفِيهِ نظر؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ ذَلِك الْفَرد لَهُ مَفْهُوم مُعْتَبر فَهِيَ مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ، وَالْمذهب عندنَا تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْمَفْهُومِ، كَمَا تقدم ذَلِك محررا.
قَوْله: {وَقيل: هما من الْعَام وَالْخَاص} ، ذكر غير وَاحِد من الْأُصُولِيِّينَ أَنه إِذا اتَّحد الحكم وَالسَّبَب وَكَانَا نهيين أَو نفيين من صور الْمُطلق والمقيد، وَمن جملَة من ذكره ابْن مُفْلِح وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم وتابعناهم.
وَذهب جمَاعَة من الْعلمَاء - مِنْهُم: الْقَرَافِيّ، وَابْن دَقِيق الْعِيد وَغَيرهمَا - أَنه من صور الْعَام وَالْخَاص؛ لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، والنكرة فِي سِيَاق النَّفْي أَو النَّهْي عَامَّة، وَهَذَا الْأَظْهر، وتسميتهما مُطلقًا ومقيدا مجَاز.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " بعد كَلَام أبي الْخطاب وَالْقَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": قلت: وَإِن كَانَا إباحتين فهما فِي معنى النهيين، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَا كراهتين، فَإِن كَانَا ندبين فَفِيهِ نظر، وَإِن كَانَا خبرين عَن حكم شَرْعِي فَينْظر فِي ذَلِك الحكم. انْتهى.(6/2727)
قَوْله: {وَإِن كَانَ أَحدهمَا أمرا، وَالْآخر نهيا فالمطلق مُقَيّد بضد الصّفة} فأحدهما فِي معنى النَّفْي، وَالْآخر فِي معنى الْإِثْبَات، مثل: إِن ظَاهَرت فَأعتق رَقَبَة، وَيَقُول: لَا تملك رَقَبَة كَافِرَة، فَلَا بُد من التَّقْيِيد بِنَفْي الْكفْر لِاسْتِحَالَة إِعْتَاق الرَّقَبَة الْكَافِرَة، فالحمل فِي ذَلِك ضَرُورِيّ، لَا من حَيْثُ إِن الْمُطلق حمل على الْمُقَيد، وَلذَلِك قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِنَّه وَاضح.
قَوْله: {وَإِن اخْتلف سببهما كالرقبة فِي الظِّهَار، وَالْقَتْل} فَأطلق الرَّقَبَة فِي الظِّهَار وقيدها بِالْإِيمَان فِي الْقَتْل.
الْكَلَام أَيْضا فِيمَا إِذا اخْتلف الحكم فَإِنَّهُ قِسْمَانِ:
قسم يتحد السَّبَب، وَتَحْته أَنْوَاع:
أَحدهمَا: أَن يَكُونَا منفيين.
الثَّانِي: أَن يَكُونَا نهيين.
الثَّالِث: أَن يكون أَحدهمَا نهيا وَالْآخر نفيا، وَتقدم الْكَلَام على ذَلِك كُله.
وَالْقسم الثَّانِي: أَن يتحد الحكم وَيخْتَلف السَّبَب وَهِي مَسْأَلَتنَا، كإعتاق الرَّقَبَة فِي الْقَتْل وَفِي الظِّهَار وَالْيَمِين.(6/2728)
أما فِي الظِّهَار فَإِنَّهَا وَردت فِيهِ مُطلقَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا} [المجادلة: 3] ، وَقَالَ فِي الْيَمين: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - إِلَى قَوْله - {أَو تَحْرِير رَقَبَة} [الْمَائِدَة: 89] .
وَأما فِي الْقَتْل فَإِنَّهَا وَردت فِيهِ مُقَيّدَة بِالْإِيمَان فِي قَوْله: {وَمن قتل مُؤمنا خطئا فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله} [النِّسَاء: 92] .
وَمِنْه: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} [الطَّلَاق: 2] ، فَالصَّحِيح {حمل} الْمُطلق على الْمُقَيد {قِيَاسا بِجَامِع بَينهمَا عِنْد أَحْمد و} أَكثر {أَصْحَابه، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية، وَغَيرهم} .
قَالَ: اخْتَارَهُ أَكثر أَصْحَابنَا كتخصيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: فَجَائِز عِنْد أَصْحَابنَا، وَبِه يَقُول الْمَالِكِيَّة،(6/2729)
وَالشَّافِعِيَّة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والرازي، والباقلاني، وَنسبه للمحققين.
قَالَ عبد الْوَهَّاب: إِنَّه الْأَصَح عِنْدهم.
{وَعنهُ لَا} يحمل عَلَيْهِ {كالحنفية وَغَيرهم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: اخْتَارَهُ ابْن شاقلا وَابْن عقيل فِي فنونه قَالَ: لجَوَاز قصد الْبَارِي للتفرقة بِمَعْنى بَاطِن، أَو ابتلاء.
وَمنع الْمجد دلَالَة هَذِه الرِّوَايَة، ثمَّ قَالَ: نعم، يتَخَرَّج لنا رِوَايَة من عدم تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه.(6/2730)
{وَتوقف أَبُو الْمَعَالِي} .
قَوْله: {وَلَا يحمل عَلَيْهِ لُغَة عِنْد أَحْمد، وَابْن شاقلا، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْمجد، والآمدي، وَالْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الشَّافِعِي} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهُوَ أرجح قولي الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن نصر: وَهُوَ قَول الْمَالِكِيَّة، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، والجويني، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَنَقله عبد الْوَهَّاب عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة.
{وَعَن أَحْمد: يحمل، اخْتَارَهُ القَاضِي} ، وَقَالَ: أَكثر كَلَام أَحْمد يدل عَلَيْهِ.(6/2731)
وَرُوِيَ عَن مَالك، {و} قَالَه {بعض الشَّافِعِيَّة} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَبِه قَالَت الْمَالِكِيَّة.
وَنقل عَن الشَّافِعِي وَبَعض أَصْحَابه، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن جُمْهُور أَصْحَابه.
فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: يحمل مُطلقًا، لَا يحمل مُطلقًا، يحمل بِقِيَاس لَا بلغَة.
تَنْبِيه:
منشأ الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أُمُور:
أَحدهَا: أَن الْمُطلق هَل هُوَ ظَاهر فِيمَا يَشْمَلهُ، أَو نَص فِيهِ؟ فَإِن قُلْنَا نَص، فَلَا يحمل على الْمُقَيد بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يكون نسخا، والنسخ بِالْقِيَاسِ مُمْتَنع.(6/2732)
الثَّانِي: أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَتَخْصِيص عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كَمَا تقدم، والنسخ لَا يجوز بِالْقِيَاسِ وَيجوز التَّخْصِيص.
الثَّالِث: عدم حجية الْمَفْهُوم عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يحمل / الْمُطلق عَلَيْهِ كَذَلِك. وَعِنْدنَا حجَّة فِي الْجُمْلَة.
قَوْله: وَإِن ورد مقيدان متنافيان وَمُطلق، وَاخْتلف السَّبَب، كتتابع صَوْم الظِّهَار، وتفريق صَوْم الْمُتْعَة، وَقَضَاء رَمَضَان مُطلق.
إِذا ورد مَعنا مقيدان متنافيان، وَمُطلق فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يخْتَلف السَّبَب أَو يتَّفق، فَإِن اخْتلف السَّبَب لَكِن جنس الْجَمِيع وَاحِد كتتابع صَوْم الظِّهَار فَإِنَّهُ قد ورد النَّص بتتابعه لقَوْله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين} [المجادلة: 4] وتفريق صَوْم الْمُتْعَة فَإِن النَّص قد ورد بتفريقه لقَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم} [الْبَقَرَة: 196](6/2733)
وَورد قَضَاء رَمَضَان مُطلق لم يرد بِهِ تتَابع، وَلَا تَفْرِيق، قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] فَأطلق الْقَضَاء.
وَمثله بَعضهم بالصيام فِي كَفَّارَة الْيَمين فَإِن فِي تتابعه خلافًا فعلى القَوْل بِعَدَمِ التَّتَابُع هُوَ دائر بَين قيدين: التَّتَابُع فِي صَوْم الظِّهَار، والتفريق فِي صَوْم التَّمَتُّع فِي الْحَج، وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر.
وَمثله بَعضهم أَيْضا بتردد إِطْلَاق الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم بَين الْوضُوء الْمُقَيد بالمرافق، وَقطع السّرقَة الْمُقَيد بالكوع بِالْإِجْمَاع.
وَلَكِن الْأَشْبَه بِهِ أرجح فِي الْحمل وَهُوَ الْوضُوء؛ لِأَن التَّيَمُّم بدله، وهما طهارتان، وَلَا يحمل على أَحدهمَا لُغَة، أَي: فِي اللُّغَة.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا كَانَ مَعنا نصان مقيدان فِي جنس وَاحِد وَالسَّبَب مُخْتَلف، وَهُنَاكَ نَص ثَالِث مُطلق من الْجِنْس فَلَا خلاف أَنه لَا يلْحق بِوَاحِد مِنْهُمَا لُغَة، وَذكر الْمِثَال الْمُتَقَدّم.
وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَا يحمل لُغَة بِلَا خلاف؛ إِذْ لَا مدْخل للغة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة.
وَقَالَهُ الْمجد فِي " المسودة ".
قَوْله: بل {قِيَاسا بِجَامِع} فِي الْأَصَح، إِذا لم يحمل لُغَة فَهَل يحمل قِيَاسا بِجَامِع؟(6/2734)
فِيهِ الْخلاف الَّذِي فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقِيَاسًا بِجَامِع مُعْتَبر الْخلاف، يَعْنِي بِهِ الْخلاف الَّذِي فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد على مَا سبق.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَأما إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا قِيَاسا إِذا وجدت عِلّة تَقْتَضِي الْإِلْحَاق فَإِنَّهُ على الْخلاف الْمَذْكُور فِي الَّتِي قبلهَا. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي وَغَيره تبعا للموفق فِي " الرَّوْضَة ": حمل الْمُطلق على أشبههما بِهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَحكى} بَعضهم {عَن أبي الْخطاب قِيَاس قَضَاء رَمَضَان على كَفَّارَة الْيَمين فِي التَّتَابُع أولى مِنْهُ [على الْمُتْعَة فِي عَدمه] } .
قَوْله: {وَإِن اتَّحد السَّبَب، وتساويا سقطا مَحل تُرَاب ...(6/2735)
فِي غسل نَجَاسَة كلب} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن كَانَ السَّبَب وَاحِدًا، فَإِن كَانَ حمله على أَحدهمَا أرجح من الآخر بِأَن كَانَ الْقيَاس فِيهِ أظهر قيد بِهِ؛ لِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الأجلى أولى، فَإِن تساوى عمل بالمطلق ويلغى القيدان كالبينتين إِذا تَعَارَضَتَا فَإِن الْأَرْجَح فيهمَا التساقط، وَكَانَ كمن لَا بَيِّنَة هُنَاكَ.
وَقَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَأما إِذا أطلقت الصُّورَة الْوَاحِدَة، ثمَّ قيدت تِلْكَ الصُّورَة بِعَينهَا بقيدين متنافيين، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليغسله سبع مَرَّات " وَورد فِي رِوَايَة: " إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ "، وَفِي رِوَايَة: " أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ "، وَفِي أُخْرَى: " السَّابِعَة بِالتُّرَابِ ". رَوَاهَا أَبُو دَاوُد، وَهِي معنى: " وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ "، قيل: إِنَّمَا سميت ثامنة لأجل اسْتِعْمَال التُّرَاب مَعهَا.
فَلَمَّا كَانَ القيدان متنافيين تساقطا، ورجعنا إِلَى الْإِطْلَاق فِي إِحْدَاهُنَّ فَفِي أَي غسلة جعل جَازَ، إِذا أَتَى عَلَيْهِ من المَاء مَا يُزِيلهُ ليحصل الْمَقْصُود(6/2736)
مِنْهُ، لَكِن اخْتلف فِي الْأَوْلَوِيَّة على أَقْوَال عندنَا:
أَحدهَا: أَن إِحْدَى الغسلات لَيْسَ بِأولى من غَيرهَا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمُوفق فِي " الْمقنع "، وَجَمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ مُوَافق لما قُلْنَا أَولا، وَهُوَ التساقط وَالرُّجُوع إِلَى الْإِطْلَاق.
وَعنهُ: الأولى أَن يكون التُّرَاب فِي الأولى، وَهَذَا قطع بِهِ فِي " الْمُغنِي "، و " الشَّرْح "، و " الْكَافِي "، و " النّظم "، و " الْحَاوِي الصَّغِير "، وَغَيرهم، وَاخْتَارَهُ جمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ الْمَذْهَب على المصطلح.(6/2737)
وَعنهُ: إِن غسلهَا ثمانيا، فَفِي الثَّامِنَة، جزم بِهِ ابْن تَمِيم، وَاخْتَارَهُ أَيْضا جمَاعَة.
وَعنهُ: الْأَخِيرَة أولى.
وَلَعَلَّ من اخْتَار غير الْإِطْلَاق بِدَلِيل غير ذَلِك فيترجح عِنْده التَّعْيِين على الْإِطْلَاق للدليل الْخَارِج، وَالله أعلم.
وَقَوْلنَا: وَإِن اتَّحد السَّبَب وتساويا، احْتِرَاز مِمَّا إِذا كَانَ أَحدهمَا أرجح قِيَاسا، فَإِنَّهُ يعْمل بِهِ، وَقد تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي كَلَام الْبرمَاوِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: مَا ذكر فِي مَسْأَلَة اتِّحَاد السَّبَب إِذا لم يكن أولى بِأحد القيدين من طرحهما.
وَالْعَمَل بالمطلق، هُوَ مَا أجَاب بِهِ الْقَرَافِيّ لبَعض الْحَنَفِيَّة فِي قَوْله إِن الشَّافِعِيَّة خالفوا قاعدتهم فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي حَدِيث الولوغ فَإِنَّهُ قد جَاءَ: " إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " وَهُوَ مُطلق، وَجَاء فِي رِوَايَة: " أولَاهُنَّ "، فِي رِوَايَة: " أخراهن " فهما قيدان متنافيان فَلم يحملوا وجوزوا التَّرْتِيب فِي كل من السَّبع، فَقَالَ لَهُ الْقَرَافِيّ: ذَلِك إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يكون قيدا وَاحِدًا، أما فِي القيدين فَيعْمل بالمطلق.(6/2738)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمَا ذكره، هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه من عدم تعْيين شَيْء من السَّبع، وَقَالُوا: التتريب فِي الأولى أولى، لَا وَاجِب.
لَكِن نَص الشَّافِعِي فِي " الْأُم " على تعْيين الأولى، أَو الْأَخِيرَة، وَكَذَا نَص فِي " مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ " أَنه يعْمل بالقيدين على معنى أَن الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَأَحَدهمَا قدر مُشْتَرك، وَفَائِدَته دفع الْخَمْسَة المتوسطة بَين الأولى والأخيرة.
وَبحث السُّبْكِيّ أَنه يجب فِي كليهمَا؛ لوُرُود الحَدِيث فيهمَا وَلَا تنَافِي فِي الْجمع بَينهمَا.
ورد: فنص الشَّافِعِي مُخَالف لما قَالَه أَصْحَابه.
لَكِن ورد عَنهُ نَص بموافقتهم.
قَوْله: تَنْبِيه:
يحمل {الأَصْل فِي الْأَصَح} كالوصف، حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْف مُتَّفق عَلَيْهِ كوصف الرَّقَبَة فِي الْقَتْل وَنَحْوه بِالْإِيمَان، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَصْل أَي الْمَحْذُوف بِالْكُلِّيَّةِ كالإطعام فَإِنَّهُ مَذْكُور فِي كَفَّارَة الظِّهَار دون كَفَّارَة الْقَتْل.(6/2739)
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": فَظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي الأَصْل كَمَا حمل عَلَيْهِ فِي الْوَصْف؛ لأَنهم حكوا فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي وجوب الْإِطْعَام رِوَايَتَيْنِ: الْوُجُوب إِلْحَاقًا بكفارة الظِّهَار، كَمَا حكوا رِوَايَتَيْنِ فِي اشْتِرَاط وصف الْإِيمَان فِي كَفَّارَة الظِّهَار، والاشتراط إِلْحَاقًا بكفارة الْقَتْل، فَدلَّ هَذَا من كَلَامهم لَا فرق فِي الْحمل بَين الأَصْل وَالْوَصْف.
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْحمل بَين الأَصْل وَالْوَصْف ابْن خيران من الشَّافِعِيَّة، وَلَكِن قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ": المُرَاد بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد إِنَّمَا هُوَ الْمُطلق بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْف دون الأَصْل.
قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب أَنه لَا يجب الْإِطْعَام فِي كَفَّارَة الْقَتْل، وَفِي هَذَا تَنْبِيه أَنه لَا يحمل الأَصْل، بل الْحمل مَخْصُوص بِالْوَصْفِ، لَكِن فِي الْمَذْهَب رِوَايَة عَن أَحْمد أَنه يجب الْإِطْعَام، وَاخْتَارَهُ كثير من الْأَصْحَاب، كصاحب " الْمُحَرر " وَغَيره، فعلى هَذَا يحمل كالوصف.
وَأما مَسْأَلَة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة الْوَاجِبَة فِي الظِّهَار، [و] كَفَّارَة الْوَطْء فِي رَمَضَان فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب اشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الْكل، وَعَلِيهِ مُعظم الْأَصْحَاب، وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم.(6/2740)
وَلنَا رِوَايَة ضَعِيفَة إِجْزَاء الرَّقَبَة الْكَافِرَة فِي الظِّهَار، وَالْوَطْء فِي رَمَضَان، وَالْيَمِين، اخْتَارَهَا أَبُو بكر من أَصْحَابنَا، وَهَذِه هِيَ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة وَهِي مَا إِذا اتَّحد الحكم وَاخْتلف السَّبَب فَقِيَاس صَاحب الْقَوَاعِد الْمَسْأَلَة الأولى على هَذِه فِيهِ نظر، بل الحكم مُخْتَلف فيهمَا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: يشْتَرط فِيمَا إِذا اخْتلف السَّبَب واتحد الحكم أَن يُقيد الْمُقَيد صفة، نَحْو تَقْيِيد الرَّقَبَة بِالْإِيمَان، لَا ذاتا كالإطعام فِي كَفَّارَة الْقَتْل فَلَا يحمل على الظِّهَار فِي وُجُوبه عِنْد تعذر صَوْم الشَّهْرَيْنِ على أصح قولي الشَّافِعِي، وكحمل التَّيَمُّم فِي الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة على الْوضُوء فِي ذَلِك، بل يقْتَصر على الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَكَذَا حمل إِطْلَاق الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّم على قيد الْمرَافِق فِي الْوضُوء؛ لِأَن ذَلِك صفة فِي الْيَدَيْنِ، لَا أصل مُسْتَقل كَمَا فِي الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ. انْتهى.
وَمِنْهُم من منع من ذَلِك؛ لِأَنَّهُ فِي ذَات الساعدين زِيَادَة على الكوعين.
ذكر هَذَا الشَّرْط كثير من الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْمَازرِيّ عَن الْأَبْهَرِيّ من الْمَالِكِيَّة وَنقل كَلَام ابْن خيران.(6/2741)
قَوْله: {وَمحله} ، أَي: الْحمل {إِذا لم يسْتَلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن استلزمه حمل على إِطْلَاقه، قَالَه بعض أَصْحَابنَا} الْمُحَقِّقين {كَمَسْأَلَة قطع الْخُف} .
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": مَحل حمل الْمُطلق على الْمُقَيد إِذا لم يسْتَلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، فَإِن استلزمه حمل على إِطْلَاقه، قَالَه طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، مِثَال ذَلِك: لما أطلق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبس الْخُفَّيْنِ بِعَرَفَات، وَكَانَ مَعَه الْخلق الْعَظِيم من أهل مَكَّة، والبوادي، واليمن مِمَّن لم يشْهد خطبَته بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُقيد بِمَا قَالَه فِي الْمَدِينَة وَهُوَ قطع الْخُفَّيْنِ.
وَنَظِير هَذَا فِي حمل اللَّفْظ على إِطْلَاقه قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن سَأَلته عَن دم الْحيض: " حتيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ " لم يشْتَرط عددا مَعَ أَنه وَقت حَاجَة، فَلَو كَانَ الْعدَد شرطا لبينه، وَلم يحلهَا على ولوغ الْكَلْب فَإِنَّهَا رُبمَا لم تسمعه، وَلَعَلَّه لم يشرع الْأَمر بِغسْل ولوغه. انْتهى.
قَوْله: {وَقَالَ بعض محققيهم وَغَيرهم الْمُطلق من الْأَسْمَاء يتَنَاوَل الْكَامِل من المسميات فِي إِثْبَات، لَا نفي} كَالْمَاءِ، والرقبة، وَعقد النِّكَاح(6/2742)
الْخَالِي عَن وَطْء يدْخل فِي قَوْله: {وَلَا تنْكِحُوا} [الْبَقَرَة: 221] لَا {حَتَّى تنْكح} [الْبَقَرَة: 230] .
وَلَو حلف لَا يتَزَوَّج حنث بِمُجَرَّد العقد عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة.
وَلَو حلف ليتزوجن يبر بِمُجَرَّدِهِ عِنْد أَحْمد وَمَالك، {وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْوَاجِبَات الْمُطلقَة تَقْتَضِي السَّلامَة من الْعَيْب فِي عرف الشَّارِع} بِدَلِيل الْإِطْعَام فِي الْكَفَّارَة، وَالزَّكَاة.
{وَصرح القَاضِي، وَابْن عقيل وَغَيرهمَا} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {أَن إِطْلَاق الرَّقَبَة فِي الْكَفَّارَة يَقْتَضِي الصِّحَّة} بِدَلِيل الْمَبِيع وَغَيره، وَسبق خِلَافه من كَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره، وَكَذَا لِابْنِ عقيل فِي الزِّيَادَة على النَّص.
وَحكي عَن دَاوُد أَنه جوز عتق كل رَقَبَة لإِطْلَاق اللَّفْظ، وَسلمهُ(6/2743)
الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَغَيره، وَقَيده قِيَاسا على الْإِطْعَام، وَاخْتَارَ فِي (ليتزوجن) يبر بِالْعقدِ كالنفي؛ لِأَن الْمُسَمّى وَاحِد فَمَا تنَاوله النَّفْي تنَاوله الْإِثْبَات.
أما الْمُعَامَلَة كَالْبيع فإطلاق الدِّرْهَم مُخْتَصّ بعرفها.
قَوْله: خَاتِمَة: الْمُطلق ظَاهر الدّلَالَة على الْمَاهِيّة كالعام، لَكِن على سَبِيل الْبَدَل، وَعند الْحَنَفِيَّة قَطْعِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُطلق قَطْعِيّ الدّلَالَة على الْمَاهِيّة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَظَاهر فِيهَا عِنْد الشَّافِعِيَّة كالعام، وَهُوَ يُشبههُ لاسترساله على كل فَرد إِلَّا على سَبِيل الْبَدَل، وَلِهَذَا قيل عَام عُمُوم بدل. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد ذكر الْمُقَيد وَالْمُطلق: وَقد عرف مِمَّا سبق دلَالَة الْمُطلق وَأَنه كالعام فِي تنَاوله، وأطلقوا عَلَيْهِ الْعُمُوم لكنه على الْبَدَل، وَسبق فِي (إِن أكلت) هَل يعم الزَّمَان، وَالْمَكَان؟
وَقيل للْقَاضِي وَقد احْتج على الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد بقوله: {وَأَن احكم بَينهم} [الْمَائِدَة: 49] لَا يدل على الْمَكَان فَقَالَ: هُوَ أَمر بالحكم فِي عُمُوم الْأَمْكِنَة والأزمنة، إِلَّا مَا خصّه الدَّلِيل.(6/2744)
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": الْمُطلق مُشْتَمل على جَمِيع صِفَات الشَّيْء وأحواله.
وَأجَاب الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " لمن احْتج بِآيَة الْقصاص وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا فِي الملتجئ إِلَى الْحرم: الْأَمر بذلك مُطلق فِي الْأَمْكِنَة والأزمنة يتَنَاوَل مَكَانا ضَرُورَة إِقَامَته فَيمكن فِي غير الْحرم [ثمَّ] لَو عَم خص.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَالْمَعْرُوف فِي كَلَامه وَكَلَام غَيره هُوَ الثَّانِي، وَسبق كَلَام بعض أَصْحَابنَا فِي (إِن أكلت) ، وَفِيه أَن الْمُطلق تنَاول أَفْرَاده على الْبَدَل لُزُوما عقليا، وأوصاف الرَّقَبَة لم يدل عَلَيْهَا لَفظهَا بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، فإيجاب الْإِيمَان إِيجَاب لما لم يُوجِبهُ اللَّفْظ وَلم ينفه.
فَلَو قَالَ: أعْط هَذَا لفقير، ثمَّ قَالَ: لَا تعطه كَافِرًا، فَلَا تنَافِي، وَلَو قَالَ: أعْطه أَي فَقير كَانَ، ثمَّ قَالَ: لَا تعطه كَافِرًا تنافيا لقصده ثُبُوت الحكم لكل فَرد، وَالْمُطلق قَصده ثُبُوته للمعنى الْعَام فَإِذا شَرط فِيهِ شرطا لم يتنافيا.(6/2745)
وَقَالَ أَيْضا: التَّقْيِيد زِيَادَة حكم والتخصيص نقص فَلَو كَانَ بعد الْمُطلق جَازَ بِخَبَر الْوَاحِد، وَحمله لجهل التَّارِيخ على التَّأَخُّر أولى، وَالله أعلم.
انْتهى الْجُزْء الثَّانِي، ويتلوه الْجُزْء الثَّالِث، وأوله بَاب الْمُجْمل، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.(6/2746)
الْجُزْء الثَّالِث من كتاب التحبير شرح التَّحْرِير فِي أصُول الْفِقْه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم اللَّهُمَّ صل على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم.
(بَاب الْإِجْمَاع)(6/2747)
فارغة(6/2748)
(قَوْله: {بَاب} )
{الْمُجْمل لُغَة الْمَجْمُوع} ، أَو الْمُبْهم، {أَو المحصل} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: الْمُجْمل لُغَة الْمَجْمُوع من أجملت الْحساب.
وَقيل: أَو الْمُبْهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ لُغَة من الْجمل، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الْيَهُود: " جملوها "، أَي: خلطوها، وَمِنْه الْعلم الإجمالي لاختلاط الْمَعْلُوم بِالْمَجْهُولِ، وَهنا سمي مُجملا؛ لاختلاط المُرَاد بِغَيْرِهِ، أَو أجملت الْحساب جمعته، وأجملت حصلت.(6/2749)
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُجْمل أَصله من الْجمل وَهُوَ الْجمع، وَمن مَعَانِيه اللُّغَوِيَّة أَيْضا الْإِبْهَام، من أجمل الْأَمر، أَي: أبهمه، وَمِنْه التَّحْصِيل، من أجمل الشَّيْء حصله.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: مَا تردد بَين محتملين فَأكْثر على السوَاء} .
قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، لَكِن قَالَ: اللَّفْظ المتردد إِلَى آخِره فَيرد عَلَيْهِ الْأَفْعَال، نَحْو الْقيام من الرَّكْعَة الثَّانِيَة قبل التَّشَهُّد؛ لتردده بَين الْجَوَاز والسهو فَلذَلِك حذفتها ليدْخل الْإِجْمَال الْفعْلِيّ فَإِن الْمُجْمل يتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل والمشترك والمواطئ.
وَاحْترز بقوله: (بَين محتملين) عَمَّا لَهُ محمل وَاحِد كالنص.
وَقَوله: على السوَاء، احْتِرَاز عَن الظَّاهِر، وَعَن الْحَقِيقَة الَّتِي لَهَا مجَاز.
{وَقيل: مَا لم تتضح دلَالَته} ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع ".(6/2750)
أَي: مَا لَهُ دلَالَة غير وَاضِحَة لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ المهمل؛ لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ أَنه لم تتضح دلَالَته؛ إِذْ لَا دلَالَة فِيهِ، وَلَا اتضاح.
وَهُوَ يتَنَاوَل القَوْل وَالْفِعْل والمشترك والمتواطئ.
وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَضعف تَفْسِيره بِاللَّفْظِ الَّذِي لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق شَيْء؛ لِأَنَّهُ يدْخل فِيهِ المهمل، والمستحيل، أَي: لِأَنَّهُ لَا يفهم من المهمل شَيْء، وَأما المستحيل فَلَيْسَ بِشَيْء.
وانتقد عَلَيْهِ بِأَن قَوْله: (عِنْد الْإِطْلَاق) يَقْتَضِي أَنه يفهم شَيْء عِنْد التَّقْيِيد فَلَا يدْخل المهمل، وَلَا المستحيل؛ لِأَنَّهُمَا لَا يفهم مِنْهُمَا شَيْء لَا عِنْد الْإِطْلَاق وَلَا عِنْد التَّقْيِيد.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَلَا ينعكس، أَي: التَّعْرِيف لجَوَاز فهم أحد المحامل مِنْهُ على الْجُمْلَة، وَهُوَ أحد هذَيْن فيفهم انْتِفَاء غَيرهمَا.
وَلِأَن ذَلِك قد يكون فِي الْفِعْل كَمَا تقدم.
{و} قَالَ أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": مَا أَفَادَ جملَة من الْأَشْيَاء} .(6/2751)
قد يعْتَرض عَلَيْهِ بِأَن الْأَشْيَاء قد يكون بَعْضهَا أظهر من بعض وَهِي جملَة.
{و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْعدة ": مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ من لَفظه} .
قد يرد عَلَيْهِ المهمل، وَقد يُجَاب بِأَن المهمل مَا [لَيْسَ] لَهُ معنى.
{و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الرَّوْضَة ": مَا لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى} .
وَمرَاده معنى معينا، وَإِلَّا بَطل بالمشترك فَإِنَّهُ يفهم معنى غير معِين، والمشترك من جملَة الْمُجْمل.
{وَقَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي " الْإِيضَاح ": {مَا لَا يفهم مِنْهُ مُرَاد الْمُتَكَلّم} ، فَهُوَ حسن ومعانيها مُتَقَارِبَة.
قَوْله: {وَحكمه التَّوَقُّف على الْبَيَان} الْخَارِجِي، فَلَا يجوز الْعَمَل بِأحد محتملاته إِلَّا بِدَلِيل خَارج من لَفظه لعدم دلَالَة لَفظه على المُرَاد وَامْتِنَاع التَّكْلِيف بِمَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ.(6/2752)
قَوْله: {وَيكون فِي الْكتاب وَالسّنة فِي الْأَصَح} ، الْمُخَالف فِي ذَلِك دَاوُد الظَّاهِرِيّ. قَالَ بَعضهم: لَا نعلم أحدا قَالَ بِهِ غَيره، فالحجة عَلَيْهِ من الْكتاب وَالسّنة لَا يُحْصى وَلَا يعد، وإنكاره مُكَابَرَة.
قَالَ دَاوُد: الْإِجْمَال بِدُونِ الْبَيَان لَا يُفِيد، وَمَعَهُ تَطْوِيل، وَلَا يَقع فِي كَلَام البلغاء فضلا عَن الله، وَسيد الْأَنْبِيَاء.
وَالْجَوَاب: أَن الْكَلَام إِذا ورد مُجملا، ثمَّ بَين وَفصل أوقع عِنْد النَّفس من ذكره مُبينًا ابْتِدَاء.
وَأجَاب فِي " الْمَحْصُول " عَن هَذَا السؤل بِأَن الله يفعل مَا يَشَاء، وَلَا يخفى أَنه لَيْسَ بِجَوَاب؛ لِأَن قَوْله: مَعَ الْبَيَان تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة يكون مُسلما عِنْد الْمُجيب، وَلَا يرضى بِهِ عَاقل فضلا عَن مُحَقّق فَاضل، قَالَه الكوراني.
قَوْله: {وَفِي مُفْرد} يكون الْمُجْمل تَارَة فِي الْمُفْرد، وَتارَة فِي الْمركب، فالمفرد كالقرء المتردد بَين الطُّهْر وَالْحيض، وَالْعين المترددة بَين الباصرة وَالْجَارِيَة والنقد والربئية وَعين الْمِيزَان وَغَيرهَا، حَتَّى عد ذَلِك إِلَى قريب(6/2753)
الثَّلَاثِينَ، أَو أَزِيد، وَالْمُخْتَار، وَنَحْوهَا؛ إِذْ أَصله مختير، فَإِن فتحت الْيَاء كَانَ اسْم مفعول، وَإِن كسرتها كَانَ اسْم فَاعل.
وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ الْيَاء حرف عِلّة متحرك وَمَا قبله مَفْتُوح فيقلب ألفا فَلَمَّا قلب ألفا حصل الْإِجْمَال؛ لاحْتِمَال أَن يكون اسْم فَاعل، وَذَلِكَ حكم مُخْتَار وَنَحْوه فقسه على ذَلِك.
قَالَ العسكري: ويتميز بِحرف الْجَرّ تَقول: هَذَا مُخْتَار لكذا فِي الْفَاعِل ومختار من كَذَا فِي الْمَفْعُول، وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين الْقُرْء أَن الْإِجْمَال طَرَأَ على هَذَا بِاعْتِبَار الإعلال وَالْعَمَل التصريفي، والقرء مُجمل من حَيْثُ وَضعه مَعَ أَن كلا مِنْهُمَا إجماله من حَيْثُ هُوَ مُفْرد.
وَحَاصِله: أَن الْمُجْمل أَعم من الْمُشْتَرك؛ لِأَن الْمُجْمل يَشْمَل مَا احْتمل مَعْنيين سَوَاء وَاللَّفْظ فيهمَا حَقِيقَة أَو مجَازًا، أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز مسَاوٍ للْحَقِيقَة، فَلذَلِك يدْخل فِيهِ مَا كَانَ صَالحا لمتماثلين بِوَجْه من الْوُجُوه كالنور لِلْعَقْلِ، وللشمس والجسم للسماء وَالْأَرْض، وَالرجل لزيد وَعَمْرو، قَالَه الْغَزالِيّ، وَفِيه نظر.
وَأما الْمركب فكثير، فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَو يعفوا الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} [الْبَقَرَة: 237] هَل هُوَ الزَّوْج أَو الْوَلِيّ؟ فَيحْتَمل أَن يكون الْوَلِيّ؛(6/2754)
لِأَنَّهُ الَّذِي يعْقد نِكَاح الْمَرْأَة؛ لِأَنَّهَا لَا تزوج نَفسهَا، وَيحْتَمل أَن يكون الزَّوْج؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ دوَام العقد والعصمة، فَوَقع الِاخْتِلَاف فِي بَيَانه، فَالَّذِي قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد إِنَّه الزَّوْج.
وَقَالَهُ كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى أَنه الْأَب، وَهُوَ قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَقَالَهُ جمع من التَّابِعين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، لَكِن قَالَ أَبُو حَفْص: رَجَعَ الإِمَام أَحْمد عَن هَذِه الرِّوَايَة.(6/2755)
وَقَالَ بَعضهم: أَن لَا إِجْمَال فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل على أَن المُرَاد بِهِ الزَّوْج.
وَالظَّاهِر أَنه مُجمل لَكِن بَين.
قَوْله: {وَفِي مرجع الضَّمِير} فِي نَحْو: ضرب زيد عمرا وأكرمني، يحْتَمل أَن يعود الضَّمِير الَّذِي فِي أكرمني إِلَى زيد، وَإِلَى عَمْرو وَهُوَ الْأَقْرَب.
وَفِي قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " لَا يمنعن جَار جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره " يحْتَمل عوده على الغارز، أَي: لَا يمنعهُ جَاره أَن يفعل ذَلِك فِي جِدَار نَفسه، وعَلى هَذَا فَلَا دلَالَة فِيهِ على القَوْل إِنَّه إِذا طلب جَاره مِنْهُ أَن يضع خَشَبَة على جِدَار الْمَطْلُوب مِنْهُ وَجب عَلَيْهِ التَّمْكِين.
وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " مُخْتَصر الْبُوَيْطِيّ "، وَقواهُ النَّوَوِيّ.(6/2756)
وَيحْتَمل أَن يعود على الْجَار الآخر فَيكون فِيهِ دلَالَة على ذَلِك.
وَرجح بَعضهم الأول؛ لموافقته لقواعد الْعَرَبيَّة فِي عود الضَّمِير إِلَى أقرب مَذْكُور، وَالَّذِي عَلَيْهِ إمامنا، وأصحابنا أَن الضَّمِير إِنَّمَا يعود إِلَى الْجَار لَا إِلَى الغارز، وَهُوَ الظَّاهِر، ورجوعه إِلَى الغارز ضَعِيف.
وَفِي الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك لقَوْل أبي هُرَيْرَة: (مَا لي أَرَاكُم عَنْهَا معرضين؛ وَالله لأرمين بهَا بَين أظْهركُم) وَلَو كَانَ ذَلِك عَائِدًا إِلَى الغارز لما قَالَ ذَلِك.
قَوْله: {وَفِي مرجع الصّفة كزيد طَبِيب ماهر} ، يحْتَمل أَن يعود ماهر إِلَى طَبِيب، يَعْنِي طَبِيبا ماهرا فِي طبه، وَيحْتَمل أَن يعود ماهر إِلَى زيد، أَي: زيد ماهر، فَيحْتَمل أَن يعود إِلَى ذَات زيد، وَيحْتَمل أَن يعود إِلَى وَصفه الْمَذْكُور، وَهُوَ طَبِيب.
وَلَا شكّ أَن الْمَعْنى متفاوت باعتبارهما وَإِن كَانَ بَينهمَا فرق، فَإِن أعدنا (ماهرا) إِلَى طَبِيب فَيكون ماهرا فِي طبه، وَإِن أعدنا إِلَى زيد فَتكون مهارته فِي(6/2757)
غير الطِّبّ وَهُوَ الْمُجْمل بِاعْتِبَار التَّرْكِيب، صرح بِهِ الْبرمَاوِيّ، وَغَيره.
وَأما الكوراني فَقَالَ: وَكَذَا زيد طَبِيب ماهر؛ إِذْ المستكن فِي ماهر مُمكن عوده إِلَى زيد وَإِلَى طَبِيب.
فعلى مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي يعود إِلَى طَبِيب؛ فتنحصر مهارة زيد فِي الطِّبّ. انْتهى.
وَهَذَا الْمِثَال لَيْسَ من كَلَام الله، وَلَا من سنة رَسُول الله، وَهُوَ من كَلَام الْعَرَب.
قَوْله: {وَفِي تعدد الْمجَاز عِنْد تعذر الْحَقِيقَة} ، إِذا كَانَت المجازات متكافئة وَمَعَ مَانع من حمله على الْحَقِيقَة.
قَوْله: {وعام خص بِمَجْهُول} ، مِثَال الْعَام الْمَخْصُوص بِمَجْهُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم، وَقد تقدم ذَلِك فِيمَا إِذا خص الْعَام بِمَجْهُول، هَل يكون حجَّة، وَإِذا خص بِمَجْهُول صَار الْبَاقِي مُحْتملا فَكَانَ مُجملا.(6/2758)
{ومستثنى وَصفَة مجهولين} .
مِثَال الْمُسْتَثْنى الْمَجْهُول، نَحْو: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَوْله: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} فَإِنَّهُ قد اسْتثْنى من الْمَعْلُوم مَا لم يعلم فَصَارَ الْبَاقِي مُحْتملا فَكَانَ مُجملا. انْتهى.
وَمِثَال الصّفة المجهولة، نَحْو: {محصنين} مُوجب الْإِجْمَال فِي {وَأحل لكم} إِلَى قَوْله: {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} [النِّسَاء: 24] والإحصان غير مُبين؛ لِأَنَّهُ صفة مَجْهُول.
قَوْله: {وَالْوَاو، وَمن} ، الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى: {والراسخون [فِي الْعلم] يَقُولُونَ آمنا بِهِ} [آل عمرَان: 7] يحْتَمل أَن تكون عاطفة، وَيكون الراسخون فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله، وَيحْتَمل أَن تكون مستأنفة فَتكون للاستئناف، وَيكون الْوَقْف على (إِلَّا الله) ، وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك مُسْتَوفى فِي أَوَاخِر الْكَلَام على الْكتاب الْعَزِيز.(6/2759)
وَأما (من) فلهَا معَان، وَتَأْتِي فِي بعض الْأَمَاكِن مُحْتَملَة لمعان فَتكون مجملة، فَإِنَّهَا تصلح للتَّبْعِيض، وَابْتِدَاء الْغَايَة، وَالْجِنْس وَنَحْوهَا.
والمجمل حصره فِي الْأَمْثِلَة عسر، وَلَكِن الفطن يعلم ذَلِك بالتتبع مَعَ الِاحْتِمَالَات، وَالله أعلم.
تَنْبِيه: حَيْثُ كَانَ الْمُجْمل فِي مُشْتَرك أَو فِي حَقِيقَة ومجاز، أَو فِي مجازين فإجماله حَيْثُ لم يحمل على معنييه، أَو مَعَانِيه، فَأَما إِذا حمل على ذَلِك فَلَا إِجْمَال على مَا تقدم فِي أثْنَاء الْعَام.
قَوْله: {لَا إِجْمَال فِي إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْعين، ك {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 3] و {أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء أَكثر أَصْحَابنَا وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.(6/2760)
وَخَالف فِي ذَلِك القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، الْكَرْخِي وَغَيره، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - أَن تَحْرِيم الْعين غير مُرَاد؛ لِأَن التَّحْرِيم إِنَّمَا يتَعَيَّن بِفعل الْمُكَلف، فَإِذا أضيف إِلَى عين من الْأَعْيَان يقدر الْفِعْل الْمَقْصُود مِنْهُ، فَفِي المأكولات يقدر الْأكل، وَفِي المشروبات الشّرْب، وَفِي الملبوسات اللّبْس، وَفِي الموطوءات الْوَطْء، فَإِذا أطلق أحد هَذِه الْأَلْفَاظ سبق الْمَعْنى المُرَاد إِلَى الْفَهم من غير توقف فَتلك الدّلَالَة متضحة لَا إِجْمَال فِيهَا.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الثَّانِي أَن إِسْنَاد التَّحْرِيم إِلَى الْعين لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْفِعْلِ فَلَا بُد من تَقْدِيره، وَهُوَ مُحْتَمل لأمور لَا حَاجَة إِلَى جَمِيعهَا، وَلَا مُرَجّح لبعضها فَكَانَ مُجملا.(6/2761)
قُلْنَا: الْمُرَجح مَوْجُود، وَهُوَ الْعرف فَإِنَّهُ قَاض بِأَن المُرَاد فِي الأول تَحْرِيم الْأكل وَنَحْوه، وَفِي الثَّانِي تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع بِوَطْء وَنَحْوه.
وَلِأَن الصَّحَابَة احْتَجُّوا بظواهر هَذِه الْأُمُور وَلم يرجِعوا إِلَى غَيرهَا، فَلَو لم تكن من الْمُبين لم يحتجوا بهَا.
قَوْله: {وَهُوَ عَام عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْفَخْر، وَغَيرهم} .
تقدم ذكر ذَلِك فِي دلَالَة الِاقْتِضَاء، والإضمار، فنحو: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَنَحْوه من الْأَمْثِلَة، إِن دلّ دَلِيل على تَقْدِير شَيْء من المحتملات بِعَيْنِه فَذَاك سَوَاء كَانَ الْمُقدر عَاما فِي أُمُور كَثِيرَة، أَو خَاصّا مُقَدّر.
وَإِن لم يدل دَلِيل على تعْيين شَيْء لَا عَام، وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال أُمُور مُتعَدِّدَة لم يتَرَجَّح بَعْضهَا، فَهَل تقدر المحتملات كلهَا، وَهُوَ المُرَاد بِالْعُمُومِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، أَو لَا؟
ذكر ذَلِك الْبرمَاوِيّ فِي دلَالَة الْإِضْمَار.(6/2762)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر أَبُو الطّيب الْعُمُوم عَن قوم من الْحَنَفِيَّة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لَا إِجْمَال فِي {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} ؛ لِأَن الْعرف دلّ على التَّعْمِيم فَيتَنَاوَل العقد وَالْوَطْء.
وَقَالَ فِي الْعَام: الْعرف دلّ على أَن المُرَاد تَحْرِيم الاستمتاعات الْمَقْصُودَة من النِّسَاء من الْوَطْء ومقدماته.
وَقيل: الْعُمُوم من بَاب الِاقْتِضَاء؛ لِاسْتِحَالَة تَحْرِيم الْأَعْيَان فيضمر مَا يَصح بِهِ الْكَلَام، وَيجْرِي فِيهِ الْخلاف فِي عُمُوم الْمُقْتَضى.
وَقد يتَرَجَّح هَذَا بقَوْلهمْ: الْإِضْمَار خير من النَّقْل. انْتهى.
وَهَذَا مُرَاد ابْن مُفْلِح بقوله: إِنَّه عَام عِنْد جمَاعَة، وَهُوَ الَّذِي قدمه وقدمناه، {و} أَيْضا {عِنْد أبي الْخطاب، والموفق، والمالكية} وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة {ينْصَرف إِطْلَاقه فِي كل عين إِلَى الْمَقْصُود اللَّائِق بهَا} ؛ لِأَنَّهُ متبادر لُغَة أَو عرفا، نقل هذَيْن الْقَوْلَيْنِ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله وَلم أرهما على هَذِه الصّفة لغيره وتابعته على ذَلِك.(6/2763)
{وَعند أَكثر الْمُتَكَلِّمين لَا عُمُوم لَهُ} ، لَا أعلم الْآن من أَيْن نقلت هَذَا عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، فيتتبع.
قَوْله: {وَقَالَ التَّمِيمِي، وَالشَّافِعِيَّة: وصف الْعين بِالْحلِّ وَالْحُرْمَة مجَاز} ، فَدلَّ على أَن الْمُقدم أَنه تُوصَف الْعين بهما حَقِيقَة، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب الْحَنَفِيَّة، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَنْهُم فِي كَلَامه على الرُّخْصَة، وَنَقله أَيْضا عَن الْمُعْتَزلَة وَقَالَ: ويعزى للحنفية.
وَنَصره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَقَالَ: رد قَول من منع ذَلِك، بل تُوصَف الْعين بِالْحلِّ، والحظر حَقِيقَة فَهِيَ محظورة علينا، ومباحة كوصفها بِطَهَارَة، ونجاسة، وَطيب، وخبث، فالعموم فِي لفظ التَّحْرِيم.(6/2764)
وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " قَوَاعِده ": قَالَ أَئِمَّتنَا فِي طوائف أهل السّنة: إِن الْحل وَالْحُرْمَة، وَالطَّهَارَة، والنجاسة، وَسَائِر الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة لَيست من صِفَات الْأَعْيَان، فَإِذا قُلْنَا: هَذَا حَلَال، أَو حرَام، أَو طَاهِر، أَو نجس فَلَيْسَ ذَلِك رَاجعا إِلَى نفس الذَّات، وَلَا إِلَى صفة نفسية قَائِمَة بهَا، بل هُوَ من صِفَات التَّعَلُّق، وَصفَة التَّعَلُّق لَا تعود إِلَى وصف فِي الذَّات، فَلَيْسَ معنى قَوْلنَا الْخمر، حرَام ذَاتهَا وَلَا تجرع الشَّارِب، إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا التَّحْرِيم رَاجع إِلَى قَول الشَّارِع فِي النَّهْي عَن شربهَا، وذاتها لم تَتَغَيَّر.
وَهَذَا كمن علم زيدا قَاعِدا بَين يَدَيْهِ، فَإِن علمه وَإِن تعلق بزيد لم يُغير من صِفَات زيد وَلَا أحدث لزيد صفة ذَات.
وَذهب من ينتمي إِلَى أبي حنيفَة من عُلَمَاء الْكَلَام إِلَى أَن الْأَحْكَام(6/2765)
الشَّرْعِيَّة صِفَات للمحال وَرَأَوا أَن التَّحْرِيم وَالْوُجُوب راجعان إِلَى ذَات الْفِعْل الْمحرم وَالْوَاجِب، انْتهى. ذكره الْبرمَاوِيّ وَأطَال فِيهِ.
فَائِدَة: إِذا لم يَتَّضِح أحد المجازات بِقَرِينَة، وَلَا بِشَهَادَة عرف. قدر الْجَمِيع؛ لِأَنَّهُ الْأَقْرَب إِلَى الْحَقِيقَة كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله الْيَهُود حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها وباعوها فَأَكَلُوا ثمنهَا " فَلَو لم يعم جَمِيع التَّصَرُّفَات لما اتجه اللَّعْن فِي البيع.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي رده على الْقَائِل بِالْإِجْمَاع فِي إِضَافَة التَّحْرِيم إِلَى الْأَعْيَان، ثمَّ نمْنَع الْحَاجة إِلَى الْإِضْمَار مَعَ تبادر الْفَهم، ثمَّ يضمر الْجَمِيع؛ لِأَن الْإِضْمَار وَاقع إِجْمَاعًا بِخِلَاف الْإِجْمَال، وَأكْثر وقوعا مِنْهُ، ولإضماره فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله الْيَهُود، حرمت عَلَيْهِم الشحوم فجملوها، وباعوها "، وَإِلَّا لما لعنهم بِبَيْعِهَا. انْتهى.(6/2766)
قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله: {وامسحوا برءوسكم} [الْمَائِدَة: 6] أَعنِي أَنه لَا إِجْمَال فِي ذَلِك، وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ عَنهُ: إِنَّه مُجمل؛ لتردده بَين مسح الْكل وَالْبَعْض، وَإِن السّنة بيّنت الْبَعْض، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: خلافًا للحنفية، أَو لبَعْضهِم.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب بعض الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه مُجمل.
وَحَكَاهُ فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَالصَّحِيح أَنه لَا إِجْمَال فِيهَا، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم؛ لِأَن الْبَاء للإلصاق وَمَعَ الظُّهُور لَا إِجْمَال.(6/2767)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: والقائلون بِعَدَمِ الْإِجْمَال فريقان، الْجُمْهُور مِنْهُم قَالُوا: إِنَّه بِوَضْع حكم اللُّغَة ظَاهر فِي مسح جَمِيع الرَّأْس؛ لِأَن الْبَاء حَقِيقَة فِي الإلصاق، وَقد ألصقت الْمسْح بِالرَّأْسِ وَهُوَ اسْم لكله، لَا لبعضه؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال بعض الرَّأْس رَأس، فَيكون ذَلِك مقتضيا مسح جَمِيعه، وَهُوَ قَول أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَمَالك، والباقلاني، وَابْن جني، كآية التَّيَمُّم {فامسحوا بوجوهكم} [الْمَائِدَة: 6] .
وَمِنْهُم من زعم أَن عرف الِاسْتِعْمَال الطَّارِئ على الْوَضع يَقْتَضِي إلصاق الْمسْح بِبَعْض الرَّأْس، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَعبد الْجَبَّار، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
وَالْمَشْهُور أَن القَوْل بالتبعيض مَذْهَب بعض الشَّافِعِيَّة، فَأَما مَذْهَب الشَّافِعِي وَعبد الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن فَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْكل وَالْبَعْض، وَهُوَ مُطلق مسح الرَّأْس مَعَ قطع النّظر عَن الْكل وَالْبَعْض، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا إِجْمَال.(6/2768)
قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: رفع عَن أمتِي الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان "} عِنْد الْجُمْهُور، وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الْحُسَيْن وَأَبُو عبد الله البصريان، ويحكى عَن الْقَدَرِيَّة، قَالُوا: لتردده بَين نفي الصُّورَة وَالْحكم.
وَأَيْضًا: إِذا لم يكن نفي الْمَذْكُور مرَادا فَلَا بُد من إِضْمَار لمتعلق الرّفْع وَهُوَ مُتَعَدد، فَحصل الْإِجْمَال.
أُجِيب عَن الأول بِأَن نفي الصُّورَة لَا يُمكن أَن يكون مرَادا لما فِيهِ من نِسْبَة كَلَامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْكَذِب وَالْخلف فَتعين أَن المُرَاد نفي الحكم.
وَعَن الثَّانِي - وَهُوَ احْتِمَال الْمُضْمرَات - بِأَنَّهُ قد دلّ الدَّلِيل على المُرَاد إِمَّا بِالْعرْفِ، أَو غَيره كَمَا سبق فِي {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} ، فَيُقَال: هُنَا دلّ الْعرف بِأَن الْمَرْفُوع الْمُؤَاخَذَة، وَالْعِقَاب، وَالْحكم الْمَرْفُوع هُوَ الْإِثْم خَاصَّة دون الضَّمَان، وَالْقَضَاء.(6/2769)
وَقيل بِرَفْع جَمِيع أَحْكَام الْخَطَأ، وَهُوَ ظَاهر قَول أبي الْخطاب، والطوفي وَغَيرهمَا.
فعلى هَذَا حَيْثُ لزم الْقَضَاء وَالضَّمان بعض من ذكر، كَانَ لدَلِيل خَارج، كقضاء الصَّلَاة، وَقتل الْمُكْره.
قَوْله: وَلَا فِي آيَة السّرقَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يَعْنِي: لَا إِجْمَال فِيهَا.
هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء؛ لِأَن الْيَد حَقِيقَة إِلَى الْمنْكب لصِحَّة إِطْلَاق بعض الْيَد لما دونه، وَالْقطع حَقِيقَة فِي إبانة الْمفصل، وَلَا إِجْمَال فِي شَيْء مِنْهَا فإطلاقها إِلَى الْكُوع مجَاز قَامَ الدَّلِيل على إِرَادَته فِي الْآيَة، وَهُوَ فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْإِجْمَاع.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: مُجمل فِي الْقطع، وَفِي الْيَد؛ لِأَن الْيَد تطلق على مَا هُوَ إِلَى الْكُوع وعَلى مَا هُوَ إِلَى الْمنْكب، وعَلى مَا هُوَ إِلَى الْمرَافِق فَيكون مُشْتَركا، وَهُوَ من الْمُجْمل.(6/2770)
وَالْقطع يُطلق على الْإِبَانَة، وَيُطلق على الْجرْح فَيكون مُجملا.
وَالْجَوَاب على ذَلِك: أَن الْمَسْأَلَة لغوية، وَالْيَد حَقِيقَة إِلَى الْمنْكب، وَالْقطع حَقِيقَة فِي الْإِبَانَة، ظَاهر فيهمَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلِهَذَا لما نزلت آيَة التَّيَمُّم تيممت الصَّحَابَة مَعَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى المناكب.
وَأَيْضًا لَو كَانَ مُشْتَركا فِي الْكُوع، والمرفق والمنكب لزم الْإِجْمَال، وَالْمجَاز أولى مِنْهُ على مَا سبق.
وَاسْتدلَّ للثَّانِي: بِأَنَّهُ يحْتَمل الِاشْتِرَاك والتواطؤ، وَحَقِيقَة أَحدهمَا، وَوُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من معِين.
رد ذَلِك بِأَنَّهُ إِثْبَات لُغَة بالترجيح، وبنفي الْمُجْمل، وَفِيه نظر؛ لاخْتِصَاص هَذَا الدَّلِيل بِلَفْظ أطلق على معَان اخْتلف فِي ظُهُوره فِي بَعْضهَا.
قَالُوا: الْيَد للثلاث وَالْقطع للإبانة وَالْجرْح، وَالْأَصْل عدم مُرَجّح.(6/2771)
رد بظهوره بِمَا سبق.
وَسلم الْآمِدِيّ أَن قطع السَّارِق خلاف الظَّاهِر، وَأَنه أولى من الْإِجْمَال.
وَفِي " التَّمْهِيد ": قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ يجب حمله على أول مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ الْكَفّ؛ لِأَن من أَمر بِفعل يَقع على أَشْيَاء - وَالْعقل يحظره - وَجب فعل أقلهَا، وَسبق خِلَافه فِي عُمُوم جمع مُنكر.
قَوْله: {وَلَا فِي {وَأحل الله البيع} [الْبَقَرَة: 275] يَعْنِي: أَن قَوْله: {وَأحل الله البيع} لَيْسَ بمجمل، وَخَالف فِي ذَلِك الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وللقاضي أبي يعلى الْقَوْلَانِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ومنشأ الْخلاف أَن (أل) الَّتِي فِي البيع هَل هِيَ للشمول أَو عهدية أَو للْجِنْس من غير استغراق، أَو مُحْتَملَة. انْتهى.(6/2772)
فَمن قَالَ: إِنَّه مُجمل، قَالَ لتردد الرِّبَا بَين مُسَمَّاهُ اللّغَوِيّ والشرعي؛ لِأَن الرِّبَا فِي اللُّغَة الزِّيَادَة كَيفَ كَانَت، وَحَيْثُ كَانَت، وَفِي الشَّرْع هُوَ زِيَادَة مَخْصُوصَة فَيتَوَقَّف فِيهِ حَتَّى يعلم أَي الزيادتين أَرَادَ.
وَهَذَا التَّعْلِيل وَاضح فِي قَوْله: {وَأحل الله البيع} وَهُوَ الَّذِي ذكره فِي " الرَّوْضَة ".
وَبَيَانه أَن الْبياعَات فِي الشَّرْع مِنْهَا حَلَال كالعقود المستجمعة للشروط وَمِنْهَا حرَام، كَبيع الْغرَر، والتلقي وَنَحْوهمَا، فَمن قَالَ إِنَّه مُجمل قَالَ لتردده بَين هَذِه الْبياعَات الْجَائِزَة، والمحرمة، ثمَّ ورد الْبَيَان من الشَّرْع بالمحرم، والجائز.
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه عَام فِي الْبيُوع الْجَائِز وَغَيرهَا، ثمَّ خصص الْمحرم فِيهَا بأدلة، وَبَقِي مَا عداهُ ثَابتا بِالْعُمُومِ الأول.
وَهُوَ قريب من الَّذِي قبله؛ لِأَن تَخْصِيص الْعُمُوم نوع من الْبَيَان.
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأحل الله البيع} إِن قُلْنَا هُوَ مُجمل، ثمَّ بَين كَانَ حجَّة بِلَا خلاف.
وَإِن قُلْنَا هُوَ عَام خص كَانَ فِي بَقَائِهِ حجَّة الْخلاف السَّابِق فِي أَن الْعَام بعد التَّخْصِيص حجَّة أم لَا؟(6/2773)
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وعَلى كل حَال فكونه من بَاب الْعَام الْمَخْصُوص أولى، وَأكْثر، وَأشهر. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: للشَّافِعِيّ فِي الْآيَة أَرْبَعَة أَقْوَال.
أَحدهَا: أَنَّهَا عَامَّة خصصها الْكتاب.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَامَّة خصصتها السّنة.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا مجملة بَينهَا الْكتاب.
وَالرَّابِع: مجملة بينتها السّنة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وعزي إِلَى الشَّافِعِي هَل البيع مُجمل، أَو لَا؟
قَالَه ابْن برهَان، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَقَالَ: كل بيع فِيهِ زِيَادَة فمجمل، وَإِلَّا فعام.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاخْتلف أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43] على قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا: عَام خصصته السّنة. وَالثَّانِي: مُجمل بَينته السّنة.(6/2774)
وَهنا سُؤال، وَهُوَ أَن اللَّفْظ فِي كل من الْآيَتَيْنِ مُفْرد معرف، فَإِن عَم من حَيْثُ اللَّفْظ فليعم فِي الْآيَتَيْنِ أَو الْمَعْنى فليعم فيهمَا أَيْضا، وَإِن لم يعم لَا من حَيْثُ اللَّفْظ، وَلَا الْمَعْنى فهما مستويان، مَعَ أَن الصَّحِيح فِي آيَة البيع الْعُمُوم، وَفِي آيَة الزَّكَاة الْإِجْمَال.
وَجَوَابه: أَن فِي ذَلِك سرا وَهُوَ أَن حل البيع على وفْق الأَصْل من حَيْثُ إِن الأَصْل فِي الْمَنَافِع الْحل، والمضار الْحُرْمَة بأدلة شَرْعِيَّة فمهما حرم البيع فَهُوَ خلاف الأَصْل.
وَأما الزَّكَاة فَهِيَ خلاف الأَصْل؛ لتضمنها أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر إِرَادَته فوجوبها على خلاف الأَصْل، وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب مشعرة بِهَذَا الْمَعْنى، فَلذَلِك اعتنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَيَان المبيعات الْفَاسِدَة كالنهي عَن بيع حَبل الحبلة، والمنابذة، وَالْمُلَامَسَة، وَغير ذَلِك بِخِلَاف الزَّكَاة فَإِنَّهُ لم(6/2775)
يعتن فِيهَا بِبَيَان مَا لَا زَكَاة فِيهِ، فَمن ادّعى وُجُوبهَا فِي مُخْتَلف فِيهِ كالرقيق، وَالْخَيْل فقد ادّعى حكما على خلاف الدَّلِيل.
وَأما تردد الشَّافِعِي فِي آيَة البيع هَل الْمُخَصّص أَو الْمُبين لَهَا الْكتاب أَو السّنة دون الزَّكَاة فَلِأَنَّهُ عقب على البيع بقوله تَعَالَى: {وَحرم الرِّبَا} والربا من أَنْوَاع البيع اللُّغَوِيَّة، وَلم يعقب آيَة الزَّكَاة بِشَيْء، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَلَا فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور " وَنَحْوه} " لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب "، " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل "، وَالْمرَاد هُنَا من هَذِه الْأَحَادِيث وَنَحْوهَا مِمَّا فِيهِ نفي ذَوَات وَاقعَة تتَوَقَّف الصِّحَّة فِيهَا على إِضْمَار شَيْء.
فالجمهور على أَنَّهَا لَيست مجملة بِنَاء على القَوْل بِثُبُوت الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة؛ فَإِنَّهُ إِذا اخْتَلَّ مِنْهَا شَرط، أَو ركن صَحَّ نَفْيه حَقِيقَة؛ لِأَن الشَّرْعِيّ الَّذِي هُوَ تَامّ الْأَركان متوافر الشُّرُوط، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمسيء فِي صلَاته: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل ".(6/2776)
وَإِذا كَانَت الْحَقِيقَة هِيَ المُرَاد نَفيهَا فَلَا يحْتَاج نَفيهَا إِلَى إِضْمَار شَيْء فَلَا إِجْمَال.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه عدم الْإِجْمَال أَنه من عرف الشَّارِع فِيهِ نفي الصِّحَّة، أَي: لَا عمل شَرْعِي، وَإِن لم يثبت فَعرف اللُّغَة، نَحْو: لَا علم إِلَّا مَا نفع، وَلَا بلد إِلَّا بسُلْطَان، وَلَا حكم إِلَّا لله، وَلَو قدر حذفهَا لَا بُد من إِضْمَار، فنفي الصِّحَّة أولى؛ لِأَنَّهُ يصير كَالْعدمِ فَهُوَ أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة المتعذرة، وَلَيْسَ هَذَا إِثْبَاتًا للغة بالترجيح، بل إِثْبَاتًا لأولوية أحد المجازات، كالصحة والكمال، والإجزاء بعرف اسْتِعْمَاله. انْتهى.
وَعند بعض الشَّافِعِيَّة، والحنابلة، وَابْن الباقلاني،(6/2777)
وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ أَنه مُجمل، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، أَو بَعضهم.
قَالَ الطوفي: الْقَائِل بِأَنَّهُ مُجمل؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين اللّغَوِيّ والشرعي، وَقيل: لِأَن حمله على نفي الصُّورَة بَاطِل فَتعين حمله على نفي الحكم، وَالْأَحْكَام مُتَسَاوِيَة. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن قَول الباقلاني بِنَاء على مذْهبه فِي نفي الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، وَأَن الشَّرْعِيّ للأعم من الصَّحِيح وَالْفَاسِد: نعم، الْقَائِلُونَ بالإجمال اخْتلفُوا فِي سَببه على أَقْوَال:
أَحدهَا: إِنَّه لم يرد بنفيه نفي وُقُوعه، وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ أمرا آخر غير مَذْكُور وَهُوَ مُحْتَمل.
الثَّانِي: أَن ذَلِك مُحْتَمل نفي الْوُجُود وَنفي الحكم.
الثَّالِث: أَنه يحْتَمل نفي الصِّحَّة وَنفي الْكَمَال، وَبِه قَالَ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ". انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ هَؤُلَاءِ الْعرف مُخْتَلف فِي الصِّحَّة والكمال.
رد بِالْمَنْعِ، بل اخْتلف الْعلمَاء، ثمَّ نفي الصِّحَّة أولى لما سبق.(6/2778)
وَقيل بالإجمال لاقْتِضَائه نفي الْعَمَل حسا وَهُوَ ضَعِيف.
قَوْله: {وَيَقْتَضِي نفي الصِّحَّة عِنْد أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم} ، وَغَيرهم. يَعْنِي: إِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بمجمل، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرهم أَنه يَقْتَضِي نفي الصِّحَّة، {وعمومه مَبْنِيّ على دلَالَة الْإِضْمَار} على مَا تقدم من دلَالَة الِاقْتِضَاء والإضمار.
وَالصَّحِيح أَنه عَام على مَا تقدم بَيَانه هُنَاكَ.
{وَقيل: عَام فِي نفي الْوُجُود، وَالْحكم خص الْوُجُود بِالْعقلِ} ، وَهُوَ لأرباب القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل كَمَا ذكره الْبرمَاوِيّ.
وَظَاهر كَلَام ابْن مُفْلِح أَنه مَبْنِيّ على القَوْل الأول.
{وَقيل: عَام فِي نفي الصِّحَّة والكمال، وَهُوَ فِي كَلَام القَاضِي، وَابْن(6/2779)
عقيل} بِنَاء على عُمُوم الْمُضمر، وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة مَبْنِيَّة على القَوْل بِأَن ذَلِك لَيْسَ بمجمل.
فَإِذا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ بمجمل فَمَا يَقْتَضِي فِيهِ هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ". وَظَاهر كَلَام الْبرمَاوِيّ، بل صَرِيحه أَن الْقَوْلَيْنِ الْأَخيرينِ مبنيان على القَوْل بِأَنَّهُ مُجمل.
قَوْله: {وَمثله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " عِنْد الْأَصْحَاب} .
وَمثله الطوفي ب لَا عمل إِلَّا بنية، يحمل على نفي الصِّحَّة؛ لِأَنَّهُ أولى المجازات لكَونه أقرب إِلَى نفي الْحَقِيقَة لانْتِفَاء فَائِدَة الْفِعْل وجدواه.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": إِن نَفْيه يدل على عَدمه، وَعدم إجزائه.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " من هَذَا الْبَاب؛ لِأَن الْأَعْمَال مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَاخْتلفُوا هَل هُوَ الصِّحَّة فَيكون التَّقْدِير: إِنَّمَا الْأَعْمَال صَحِيحَة، أَو الْكَمَال، فَيكون تَقْدِيره: إِنَّمَا الْأَعْمَال كَامِلَة.(6/2780)
قَالَ: وَالْأَظْهَر إِضْمَار الصِّحَّة لما سبق. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَمثله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " لَيْسَ بمجمل؛ لِأَن المُرَاد بِهِ من نوى خيرا فَلهُ خير فَلَا تَقْدِير، وَلَو قدر صِحَة الْأَعْمَال أَو كمالها لقدم إِضْمَار الصِّحَّة لكَونه أقرب إِلَى الْحَقِيقَة، وَالله أعلم. انْتهى.
قَوْله: وَتقدم نفي الْقبُول والإجزاء فِي أَوَاخِر خطاب الْوَضع، وَكثير من الْعلمَاء يذكرهما هُنَا فَلذَلِك نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه لم يذكر.
قَوْله: {اللَّفْظ لِمَعْنى تَارَة، ولمعنيين أُخْرَى، وَلَا ظُهُور، مُجمل فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجمع.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: ظَاهر فِي الْمَعْنيين، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَر.
وَقيل: المعنيان غير الأول، فَإِن كَانَ أَحدهمَا عمل بِهِ، ووقف الآخر} .(6/2781)
إِذا ورد من الشَّارِع لفظ لَهُ استعمالان، أحد الاستعمالين يرد لِمَعْنى وَاحِد، وَالثَّانِي يرد لمعنيين، وَلَا ظُهُور فِي ذَلِك فَفِيهِ مذهبان، أَو ثَلَاثَة:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب، قَالَه ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة -: أَنه مُجمل؛ لتردده بَين الْمَعْنى، والمعنيين، وَمحله إِذا لم تقم قرينَة على المُرَاد.
وَالثَّانِي - وَهُوَ قَول الْآمِدِيّ وَذكره قَول الْأَكْثَر -: أَنه يحمل على مَا يُفِيد مَعْنيين كَمَا لَو دَار بَين مَا يُفِيد، وَمَا لَا يُفِيد؛ وَلِأَنَّهُ أَكثر فَائِدَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح بِأَنَّهُ إِثْبَات لُغَة بالترجيح، ثمَّ الْحَقَائِق لِمَعْنى وَاحِد أَكثر.
وَالْقَوْل الثَّالِث: ينظر إِن كَانَ الْمَعْنى أحد الْمَعْنيين عمل بِهِ جزما لوُجُوده فِي الاستعمالين، وَيُوقف الآخر للتردد فِيهِ، وَهَذَا اخْتِيَار التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع "، قَالَ الْمحلي: هَذَا مَا ظهر لَهُ، وَالظَّاهِر أَنه مُرَادهم أَيْضا.(6/2782)
ثمَّ قَالَ: مِثَال الأول حَدِيث رَوَاهُ مُسلم: " لَا يَنْكِح الْمحرم وَلَا ينُكِح " بِنَاء على أَن النِّكَاح مُشْتَرك بَين العقد وَالْوَطْء، فَإِنَّهُ إِن حمل على الْوَطْء اسْتُفِيدَ مِنْهُ معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن الْمحرم لَا يطَأ وَلَا يُوطأ، أَي: لَا يُمكن غَيره من وَطئه، وَإِن حمل على العقد اسْتُفِيدَ مِنْهُ مَعْنيانِ بَينهمَا قدر مُشْتَرك، وَهُوَ أَن الْمحرم لَا يعْقد لنَفسِهِ، وَلَا يعْقد لغيره.
وَمِثَال الثَّانِي حَدِيث فِي مُسلم أَيْضا: " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا "، أَي: بِأَن تعقد لنَفسهَا أَو تَأذن لوَلِيّهَا فيعقد لَهَا وَلَا يجبرها.
وَقد قَالَ بِصِحَّة عقدهَا لنَفسهَا أَبُو حنيفَة، وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، لَكِن إِذا كَانَت فِي مَكَان لَا ولي فِيهِ، وَلَا حَاكم، وَنَقله يُونُس(6/2783)
ابْن عبد الْأَعْلَى عَن الشَّافِعِي.
قَوْله: {وَمَا لَهُ محمل لُغَة} ، وَشرعا {ك " الطّواف بِالْبَيِّنَاتِ صَلَاة "} فأصحابنا وَالْأَكْثَر الشَّرْعِيّ، وَالْغَزالِيّ مُجمل.
مَاله محمل فِي اللُّغَة، وَيُمكن حمله على حكم شَرْعِي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة " يحْتَمل أَنه كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَام، وَيحْتَمل أَنه صَلَاة لُغَة؛ للدُّعَاء فِيهِ.
وَكَقَوْلِه: " الِاثْنَان جمَاعَة " لَا إِجْمَال فِيهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم(6/2784)
أَصْحَابنَا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لتعريف الْأَحْكَام، لَا اللُّغَة، وَفَائِدَة التأسيس أولى.
وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الطّواف حَقِيقَة الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة فَكَانَ مجَازًا.
وَالْمرَاد أَن حكمه حكم الصَّلَاة فِي الطَّهَارَة، وَالنِّيَّة، وَستر الْعَوْرَة وَغَيره، وَيدل على ذَلِك قَوْله فِي بَقِيَّة الحَدِيث: " إِلَّا أَن الله أحل فِيهِ الْكَلَام "، فَدلَّ على أَن المُرَاد كَونه صَلَاة فِي الحكم، إِلَّا مَا اسْتثْنِي فِي الحكم.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: مُجمل؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدّد بَين الْمجَاز الشَّرْعِيّ والحقيقة اللُّغَوِيَّة وَالْأَصْل عدم النَّقْل.
ورد بِمَا سبق.
قَالَ الْمحلي تبعا لجمع الْجَوَامِع: فَإِن تعذر الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ للفظ حَقِيقَة - وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي - فَيرد إِلَيْهِ بتجوز مُحَافظَة على الشَّرْعِيّ مَا أمكن أَو هُوَ مُجمل؛ لتردده بَين الْمجَاز الشَّرْعِيّ والمسمى اللّغَوِيّ، أَو يحمل على اللّغَوِيّ تَقْدِيمًا للْحَقِيقَة على الْمجَاز أَقْوَال، اخْتَار مِنْهَا التَّاج فِي " شرح(6/2785)
الْمُخْتَصر " كَغَيْرِهِ الأول، وَذكر الحَدِيث، وَقَالَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره.
قَوْله: {وَمَاله حَقِيقَة لُغَة وَشرعا كَالصَّلَاةِ فَأَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، {للشرعي} ، وَأَبُو حنيفَة للغوي، والحلواني وَجمع: مُجمل، وَبَعض الشَّافِعِيَّة لَهما، وَالْغَزالِيّ،(6/2786)
4 - والآمدي فِي إِثْبَات وَلَو أمرا للشرعي وَفِي نفي، وَنهي الْغَزالِيّ مُجمل، والآمدي اللّغَوِيّ.
{وبناه القَاضِي تَارَة على إِثْبَات الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة كَابْن عقيل، وَتارَة مُجمل} قبل الْبَيَان، مُفَسّر بعده.
مَاله حَقِيقَة لُغَة وَشرعا كخطاب الشَّرْع بِلَفْظ يجب حمله على عرف الشَّرْع كَالصَّلَاةِ، وَالْوُضُوء، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحج، وَغَيرهَا، فَهُوَ للشرعي على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، والموفق، وَالشَّارِح وَابْن المنجا، والطوفي، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَالْحَنَفِيَّة؛ وَذَلِكَ لِأَن خطاب الشَّرْع بِلَفْظ يجب حمله على عرف الشَّرْع؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات؛ وَلِأَنَّهُ كالناسخ الْمُتَأَخر فَيجب حمله عَلَيْهِ، وَلذَلِك ضعفوا حمل حَدِيث " من أكل لحم الْجَزُور فَليَتَوَضَّأ " على التَّنْظِيف بِغسْل الْيَد، وَرجح النَّوَوِيّ التوضأ مِنْهُ؛(6/2787)
لضعف الْجَواب عَن الحَدِيث الصَّحِيح بذلك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا أرجح الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: للغوي فَيحمل على اللّغَوِيّ، لَا على الشَّرْعِيّ، وَلَا هُوَ مُجمل إِلَّا أَن يدل على إِرَادَة الشَّرْعِيّ، قَالَ: لِأَن الشَّرْعِيّ مجَاز وَالْكَلَام لحقيقته حَتَّى يدل دَلِيل على الْمجَاز.
وَأجِيب بِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع حَقِيقَة، وَإِلَى اللُّغَة مجَاز فَذَاك دَلِيل عَلَيْهِ، لَا لَهُ.
وَظَاهر كَلَام أَحْمد، قَالَ بعض أَصْحَابنَا: بل نَصه أَنه مُجمل، وَقَالَهُ الْحلْوانِي.
وَحكى [عَن] ابْن عقيل لما فِي الَّتِي قبلهَا، وللشافعية وَجْهَان، وَاخْتلف كَلَام القَاضِي، فَتَارَة بناه على الْحَقِيقَة(6/2788)
الشَّرْعِيَّة: كَابْن عقيل، وَتارَة قَالَ إِنَّه مُجمل وَلَو أثبت الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة، ونفاها فِي " جَامعه " الْكَبِير وَجعل للشرعي.
وَقَالَهُ ابْن عقيل فِي تَقْسِيم الْأَدِلَّة من " الْوَاضِح "، وَفِي " الْوَاضِح " أَيْضا فِي آخر الْعُمُوم مُجمل قبل الْبَيَان، مُفَسّر بعده.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: لَهما، أَي: يعم الْمَعْنيين الشَّرْعِيّ واللغوي فَهُوَ عَام.
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَإِن قيل: يعم الْمَعْنيين قيل ظَاهر فِي الشَّرْعِيّ، ثمَّ لم يقل بِهِ أحد، قَالَه فِي " التَّمْهِيد ".
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح " عَن بعض الشَّافِعِيَّة إِنَّه عَام، وأبطله بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ. انْتهى.
وَقَالَ الْغَزالِيّ والآمدي: هُوَ فِي الْإِثْبَات، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كالأمر(6/2789)
[على] الشَّرْعِيّ كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي إِذا صَائِم " أَي: الصَّوْم الشَّرْعِيّ حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ على جَوَاز النِّيَّة فِي النَّفْل بِالنَّهَارِ، وَأما فِي النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ النَّهْي فاختلفا، فَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ مُجمل كالنهي عَن صِيَام يَوْم النَّحْر؛ إِذْ لَو حمل على اللّغَوِيّ لَكَانَ حملا لكَلَام الْمُتَكَلّم على غير عرفه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد قَوْله، بِأَنَّهُ لَيْسَ معنى الشَّرْعِيّ الصَّحِيح، وَإِلَّا لزم فِي قَوْله للحائض: " دعِي الصَّلَاة " الْإِجْمَال. انْتهى.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يحمل على اللّغَوِيّ للاستحالة الْمُتَقَدّمَة للُزُوم صِحَّته كَبيع الْحر وَالْخمر، وَالْأَصْل اللُّغَة.(6/2790)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ويضعف مَذْهَبهمَا الِاتِّفَاق على حمل نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دعِي الصَّلَاة أَيَّام أَقْرَائِك " على الْمَعْنى الشَّرْعِيّ بِاتِّفَاق مَعَ أَنه فِي معنى النَّهْي.
قَوْله: {وعَلى الأول} ، أَي: على الْمَذْهَب الأول، وَهُوَ أَنه للشرعي، {لَو تعذر الشَّرْعِيّ} حمل على {الْعرفِيّ، فَإِن تعذر} الْعرفِيّ، حمل على {اللّغَوِيّ، فَإِن تعذر} اللّغَوِيّ، {فَهُوَ 5 مجَاز} .
أما إِذا تعذر الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ يحمل على الْعرفِيّ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم وَلِهَذَا اعْتبر الشَّارِع الْعَادَات فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
فَإِذا تعذر الْعرفِيّ أَيْضا حمل على اللّغَوِيّ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من دعِي إِلَى وَلِيمَة فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فَليَأْكُل، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل " حمله ابْن حبَان فِي " صَحِيحه " على معنى (فَليدع) .
قلت: وَحمله أَصْحَابنَا، صَاحب " الْمُغنِي " و " الشَّرْح " وَغَيرهمَا على ذَلِك، لَكِن روى أَبُو دَاوُد: " فَإِن كَانَ صَائِما فليَدْعُ "(6/2791)
فَتكون هَذِه الرِّوَايَة مبينَة للرواية الْأُخْرَى " فَليصل " وَيكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرَاده اللُّغَة.
فَإِن تعذر حمله على اللُّغَة فَهُوَ مجَاز.
إِذا تعذر حمله على إِحْدَى الْحَقَائِق الثَّلَاث فَهُوَ مجَاز كَمَا تقدم؛ لِأَن الْكَلَام إِمَّا حَقِيقَة، وَإِمَّا مجَاز، وَقد تعذر حمله على الْحَقِيقَة فَمَا بَقِي إِلَّا الْمجَاز فَيحمل عَلَيْهِ. وَالله أعلم.
فَائِدَة:
قَالَ ابْن مُفْلِح: {الْأَقْوَال السَّابِقَة فِي مجَاز مَشْهُور وَحَقِيقَة لغوية} ، وَسبق مَعْنَاهُ فِي كَلَام القَاضِي، وَإِن لم يكن مَشْهُورا عمل بِالْحَقِيقَةِ، وَفِي " اللامع " لأبي عبد الله بن حَاتِم تلميذ ابْن الباقلاني: اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا فَمنهمْ من قَالَ: لَا يصرف إِلَى وَاحِد مِنْهُمَا إِلَّا بِدَلِيل. انْتهى.(6/2792)
وَذَلِكَ لِأَن الْمُجْمل أَعم من الْمُشْتَرك؛ لِأَن الْمُجْمل يشْتَمل على احْتِمَال مَعْنيين سَوَاء، وَاللَّفْظ فيهمَا حَقِيقَة أَو مجَاز، أَو أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز مسَاوٍ للْحَقِيقَة، كَمَا تقدم ذَلِك فِي مَسْأَلَة اخْتِلَاف أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف.(6/2793)
فارغة(6/2794)
(بَاب الْبَيَان)(6/2795)
فارغة(6/2796)
(قَوْله: بَاب الْبَيَان)
تقدم أَن للمجمل تعريفات وتقسيمات فَخذ ضدها فِي الْمُبين، فَإِن قلت: الْمُجْمل مَا تردد بَين محتملين فَأكْثر على السوَاء فَقل: الْمُبين مَا نَص على معنى معِين من غير إِبْهَام.
وَإِن قلت: الْمُجْمل مَا لَا يفهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى معِين، فَقل: الْمُبين مَا فهم مِنْهُ عِنْد الْإِطْلَاق معنى معِين من نَص، أَو ظُهُور بِالْوَضْعِ، أَو بعد الْبَيَان، وَكَذَا سَائِر التعريفات الصَّحِيحَة.
قَوْله: {وَيكون فِي مُفْرد، ومركب، وَقَول، وَفعل سبق إِجْمَال أم لَا} .
كَمَا أَن الْمُجْمل منقسم إِلَى مُفْرد ومركب، كَذَلِك الْمُبين يَنْقَسِم إِلَى مُفْرد ومركب.
قَالَ الْآمِدِيّ فِي " مُنْتَهى السول ": والمبين نقيض الْمُجْمل، وَيكون فِي(6/2797)
مُفْرد ومركب، وَفِي فعل سبق إِجْمَال، أَو لم يسْبق. انْتهى.
قَوْله: {سبق إِجْمَال أم لَا} ، يَعْنِي: أَن الْفِعْل يكون بَيَانا ابْتِدَاء من غير أَن يسْبقهُ إِجْمَال، وَيكون بَيَانا بعد الْإِجْمَال.
فَإِن الْبَيَان من حَيْثُ هُوَ يكون تَارَة ابْتِدَاء وَيكون تَارَة بعد الْإِجْمَال، وَقد وَقع هَذَا، وَهَذَا وَهُوَ وَاضح.
قَالَ الْعَضُد: وَقد يكون فِيمَا لَا يسْبق فِيهِ إِجْمَال كمن يَقُول ابْتِدَاء: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} الْآيَة [الْبَقَرَة: 282] .
قَوْله: {وَالْبَيَان يُطلق على التَّبْيِين، وَهُوَ الْمَدْلُول} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْبَيَان الْمُتَعَلّق بالتعريف والإعلام بِمَا لَيْسَ بمعرف، وَلَا مَعْلُوم؛ لِأَنَّهُ مصدر (بيّن) ، يُقَال: بَين تبيينا وبيانا، كَمَا يُقَال: كلم تكليما وكلاما، وَهُوَ عبارَة عَن الدّلَالَة. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاعْلَم أَن الْبَيَان يُطلق تَارَة على فعل الْمُبين، وَهُوَ التَّبْيِين كالسلام بِمَعْنى التَّسْلِيم، وَالْكَلَام بِمَعْنى التكليم، فَهُوَ اسْم مصدر لَا مصدر؛ لعدم جَرَيَانه على الْفِعْل. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَلهُ ثَلَاثَة إطلاقات:(6/2798)
أَحدهَا: يُطلق على التَّبْيِين، وَهُوَ فعل الْمُبين الَّذِي هُوَ التَّعْرِيف والإعلام.
الثَّانِي: يُطلق على مَا حصل بِهِ التَّبْيِين، وَهُوَ الدَّلِيل.
الثَّالِث: يُطلق على مُتَعَلق التَّبْيِين وَمحله، وَهُوَ الْمَدْلُول، وَهُوَ الْمُبين - بِفَتْح الْيَاء -.
{فبالنظر إِلَى} الْإِطْلَاق {الأول قَالَ} أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": إِظْهَار الْمَعْلُوم للمخاطب} مُنْفَصِل عَمَّا يشكل، {وإيضاحه} لَهُ.
{وَمَعْنَاهُ فِي وَاضح} ابْن عقيل {وَلم يقل للمخاطب} .
{و} قَالَ {أَبُو بكر} عبد الْعَزِيز، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، {وَابْن عقيل - أَيْضا - والصيرفي: إِخْرَاج الْمَعْنى من حيّز الْإِشْكَال إِلَى حيّز التجلي} ، وَهُوَ للصيرفي، وَتَبعهُ عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَأَبُو الطّيب،(6/2799)
والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، إِلَّا أَنهم زادوا: والوضوح تَأْكِيدًا وتقريرا.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هَذَا الْحَد قَاصِر؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخل فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مُشكلا، ثمَّ أظهر، وَأما مَا بَينه من القَوْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} [النَّحْل: 116] فَهُوَ لم يكن مُشكلا.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: رُبمَا ورد من الله تَعَالَى بَيَان لما لم يخْطر ببال أحد.
وَأَيْضًا فَفِي التَّعْبِير بالحيز وَهُوَ حَقِيقَة فِي الْأَجْسَام يجوز إِطْلَاقه فِي الْمعَانِي وَنَحْوه التجلي.
وَأجِيب عَن الأول بِأَن السَّامع لما يرد من الْمُبين بِمَنْزِلَة من أشكل عَلَيْهِ الحكم فِي ذَلِك إِذا لم يكن عِنْده علم من ذَلِك [كَذَا] أجَاب بِهِ القَاضِي عبد الْوَهَّاب، لَكِن فِي تَسْمِيَته عدم الْعلم إشْكَالًا تجوز، على أَن هَذَا فرع عَن تَسْمِيَة إِيرَاد مَا كَانَ وَاضحا من الِابْتِدَاء بَيَانا، وَقد لَا يختاره(6/2800)
الصَّيْرَفِي، ويخص الْبَيَان بِمَا سبق إِشْكَال فبينه.
وَاعْتَرضهُ ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَن لفظ الْبَيَان أظهر من لفظ إِخْرَاج الشَّيْء إِلَى آخِره، وَقد يمْنَع ذَلِك.
وَعَن الثَّانِي بِأَن الْمجَاز بِالْقَرِينَةِ يدْخل فِي التعاريف، كَمَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ وَغَيره على مَا تقدم فِي الْحُدُود.
{و} بِالنّظرِ {إِلَى} الْإِطْلَاق {الثَّانِي قَالَ التَّمِيمِي، وَأكْثر الأشعرية} ، والمعتزلة: {هُوَ الدَّلِيل} ؛ لصِحَّة إِطْلَاقه عَلَيْهِ لُغَة وَعرفا مَعَ عدم مَا سبق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
لَكِن زَاد التَّمِيمِي على ذَلِك: الْمظهر للْحكم.
ورده القَاضِي أَبُو يعلى بالمجمل.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": لَهُ أَن يَقُول الْمُجْمل لَيْسَ دَلِيلا.(6/2801)
{و} بِالنّظرِ {إِلَى الثَّالِث قَالَ} أَبُو عبد الله {الْبَصْرِيّ وَغَيره} : بِأَنَّهُ {الْعلم} الْحَاصِل {عَن الدَّلِيل} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مفرعان على الإطلاقين الْأَخيرينِ، بل الْأَقْوَال الثَّلَاثَة مفرعة على الإطلاقات الثَّلَاثَة، وَحده الشَّافِعِي إِلَى آخِره.
{قَالَ الشَّافِعِي} فِي " الرسَالَة ": {اسْم جَامع لأمور متفقة الْأُصُول متشعبة الْفُرُوع} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ مُرَاده تَفْسِيره بِمَا فهمه ابْن دَاوُد، وَقَالَ: إِن الْبَيَان أبين من التَّفْسِير، وَإِنَّمَا مُرَاده أَنه أَنْوَاع مُخْتَلفَة الْمَرَاتِب بَعْضهَا أجلى من بعض، فَمِنْهُ مَا لَا يحْتَاج لتدبر، وَمِنْه مَا لَا يحْتَاج لَهُ، وَقد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن من الْبَيَان لسحرا " فَبين أَن بعض الْبَيَان أظهر من بعض.
وَيدل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى خاطبنا بِالنَّصِّ، وَالظَّاهِر وبالمنطوق، وَالْمَفْهُوم، والعموم، والمجمل، والمبين، وَغير ذَلِك؛ وَلذَلِك عِنْد(6/2802)
الشَّافِعِي لكل من الْأَنْوَاع بَاب، فَقَالَ: بَاب الْبَيَان الأول، بَاب الْبَيَان الثَّانِي، وَهَكَذَا.
ورد ابْن عقيل - أَيْضا - على ابْن دَاوُد لما اعْترض عَلَيْهِ بذلك، وَقَالَ: الشَّافِعِي أَبُو هَذَا الْعلم وَأول من هذبه.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: جُمْهُور الْفُقَهَاء قَالُوا: الْبَيَان إِظْهَار المُرَاد بالْكلَام الَّذِي لَا يفهم مِنْهُ المُرَاد إِلَّا بِهِ.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ أحسن من جَمِيع الْحُدُود.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْعجب أَنه أورد على الصَّيْرَفِي الْمُبين ابْتِدَاء، وَلَا شكّ فِي وُرُوده هُنَا، بل أولى؛ لِأَنَّهُ صرح بتقدم كَلَام لم يفهم المُرَاد مِنْهُ.
وَأَيْضًا الْبَيَان قد يرد على فعل وَلَا يُسمى مثل ذَلِك كلَاما.
قَوْله: {وَيجب لمن أُرِيد فهمه اتِّفَاقًا} .(6/2803)
لنا من الْمُجْمل قسم يسْتَمر بِلَا بَيَان إِلَى آخر الدَّهْر، وَذَلِكَ عِنْد عدم الْحَاجة إِلَى بَيَانه بِأَن لَا يكون من دَلَائِل الْأَحْكَام الْمُكَلف بهَا.
فَأَما إِن كَانَ من دَلَائِل الْأَحْكَام الْمُكَلف بهَا وَأُرِيد بِالْخِطَابِ وإفهام الْمُخَاطب بِهِ، ليعْمَل بِهِ وَجب أَن يبين لَهُ ذَلِك على حسب مَا يُرَاد بذلك الْخطاب؛ لِأَن الْفَهم شَرط التَّكْلِيف.
فَأَما من لَا يُرَاد إفهامه ذَلِك فَلَا يجب الْبَيَان لَهُ بالِاتِّفَاقِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: إِنَّه لَا يجب الْبَيَان فِي الْخطاب إِذا كَانَ خَبرا لَا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف، وَإِنَّمَا يجب فِي التكاليف الَّتِي يحْتَاج إِلَى مَعْرفَتهَا.
قَوْله: {وَيحصل بقول} . يحصل الْبَيَان بالْقَوْل بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء وَهُوَ إِمَّا من الله، أَو من رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَالْأول كَقَوْلِه تَعَالَى: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين} [الْبَقَرَة: 69] فَإِنَّهُ مُبين لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] إِذا قُلْنَا المُرَاد بالبقرة بقرة مُعينَة، وَهُوَ الْمَشْهُور.
وَالثَّانِي كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَغَيره عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " فِيمَا سقت السَّمَاء، أَو كَانَ عثريا الْعشْر، وَمَا سقِِي بالنضح نصف(6/2804)
الْعشْر "، وروى مُسلم نَحوه عَن جَابر، وَهُوَ مُبين لقَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] .
واستفدنا من هَذَا الْمِثَال أَن السّنة تبين مُجمل الْكتاب وَهُوَ كثير، كَمَا فِي الصَّلَاة، وَالصَّوْم، وَالزَّكَاة، وَالْحج، وَالْبيع، والربا.
وغالب الْأَحْكَام الَّذِي جَاءَ تفصيلها فِي السّنة.
قَوْله: {وَفعل} . يحصل الْبَيَان بِالْفِعْلِ على الصَّحِيح، وَعَلِيهِ مُعظم الْعلمَاء. وَالْمرَاد فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَخَالف فِيهِ شرذمة قَليلَة، مِنْهُم: الْكَرْخِي، وَجَمَاعَة.
دَلِيل الْجُمْهُور - كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره - أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين الصَّلَاة، وَالْحج بِالْفِعْلِ، وَقَالَ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، وَقَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " روى الأول مُسلم من حَدِيث جَابر، وروى الثَّانِي البُخَارِيّ من حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث.(6/2805)
لَا يُقَال إِن الَّذِي وَقع بِهِ الْبَيَان قَول، وَهُوَ قَوْله: " صلوا " و " خُذُوا "؛ لأَنا نقُول: إِنَّمَا دلّ القَوْل على أَن فعله بَيَان، لَا أَن نفس القَوْل وَقع بَيَانا.
وَأَيْضًا فالفعل مشَاهد، والمشاهدة أدل فَهُوَ أولى من القَوْل بِالْبَيَانِ.
وَفِي الحَدِيث: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة " رَوَاهُ أَحْمد بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَابْن حبَان، وَالطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ: " فَإِن الله تَعَالَى أخبر مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام عَمَّا صنع قومه من بعده فَلم يلق الألواح، فَلَمَّا عاين ذَلِك ألْقى الألواح ".
وَأما شُبْهَة الْخصم بِأَن الْفِعْل يطول فَيتَأَخَّر الْبَيَان بِهِ مَعَ إِمْكَان تَعْجِيله فمردود؛ لِأَنَّهُ قد يطول بالْقَوْل وَيزِيد على زمَان الْفِعْل.
وَأَيْضًا فَهُوَ أقوى من القَوْل فِي الْبَيَان كَمَا سبق.
قَوْله: {وَلَو بِإِشَارَة، أَو كِتَابَة} .
قَالَ صَاحب " الْوَاضِح " من الْحَنَفِيَّة: لَا أعلم خلافًا فِي أَن الْبَيَان يَقع بِالْإِشَارَةِ، وَالْكِتَابَة. انْتهى.(6/2806)
مِثَال الْإِشَارَة قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا " وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْرَة، وَقبض الْإِبْهَام فِي الثَّالِثَة، يَعْنِي تِسْعَة وَعشْرين.
وَمِثَال الْكِتَابَة الَّتِي كتبت وَبَين فِيهَا الزكوات، والديات، وَأرْسلت مَعَ عماله.
قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي} . أَي: الْبَيَان بِالْفِعْلِ أقوى من الْبَيَان بالْقَوْل؛ لِأَن الْمُشَاهدَة أدل على الْمَقْصُود من القَوْل وأسرع إِلَى الْفَهم وَأثبت فِي الذِّهْن، وَعون على التَّصَوُّر، وَقد تقدم قَرِيبا الحَدِيث الَّذِي فِيهِ: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة "، وَقد عرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ابْن آدم، وأجله، وأمله بالخط المربع كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي فِي البُخَارِيّ، وَقد تقدم تَنْبِيه للصَّلَاة وَالْحج وَغَيرهمَا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَإِقْرَار على فعل} . يحصل الْبَيَان بِإِقْرَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل بعض أمته؛ لِأَنَّهُ دَلِيل مُسْتَقل فصح أَن يكون بَيَانا لغيره، كَغَيْرِهِ من الْأَدِلَّة الْمُبين بهَا.(6/2807)
قَوْله: {وكل مُقَيّد من الشَّرْع بَيَان} ، ذكره الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَذَلِكَ من وُجُوه:
مِنْهَا: التّرْك، مثل أَن يتْرك فعلا قد أَمر بِهِ، أَو قد سبق مِنْهُ فعله فَيكون تَركه لَهُ مُبينًا لعدم وُجُوبه، وَذَلِكَ كَمَا أَنه قيل لَهُ: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ثمَّ إِنَّه كَانَ يُبَايع وَلَا يشْهد، بِدَلِيل الْفرس الَّذِي اشْتَرَاهُ من الْأَعرَابِي، ثمَّ أنكر البيع، فَعلم أَن الْإِشْهَاد فِي البيع غير وَاجِب.
وَصلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّرَاوِيح فِي رَمَضَان، ثمَّ تَركهَا خشيَة أَن تفرض عَلَيْهِم، فَدلَّ على عدم الْوُجُوب؛ إِذْ يمْتَنع ترك الْوَاجِب.
وَمِنْهَا: السُّكُوت بعد السُّؤَال عَن حكم الْوَاقِعَة فَيعلم أَنه لَا حكم للشَّرْع فِيهَا، كَمَا رُوِيَ أَن زَوْجَة سعد بن الرّبيع جَاءَت بابنتيها(6/2808)
[إِلَى] النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: يَا رَسُول الله، هَاتَانِ ابنتا سعد قتل أَبوهُمَا مَعَك يَوْم أحد، وَقد أَخذ عَمهمَا مَالهمَا، وَلَا ينكحان إِلَّا بِمَال، فَقَالَ: " اذهبي حَتَّى يقْضِي الله فِيك "، فَذَهَبت، ثمَّ نزلت آيَة الْمِيرَاث: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ، فَبعث خلف الْمَرْأَة وابنتيها وعمهما فَقضى فيهم بِحكم الْآيَة، فَدلَّ ذَلِك على أَن قبل نزُول الْآيَة لم يكن فِي الْمَسْأَلَة حكم، وَإِلَّا لما جَازَ تَأْخِيره عَن وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ - كَمَا يَأْتِي -.
وَمِنْهَا: أَن يسْتَدلّ الشَّارِع اسْتِدْلَالا عقليا فَتبين بِهِ الْعلَّة، أَو مَأْخَذ الحكم، أَو فَائِدَة مَا؛ إِذْ الْكَلَام فِي بَيَان الْمُجْمل ومحتملاته بِالْفَرْضِ مُتَسَاوِيَة فأدنى مُرَجّح يصلح بَيَانا، مُحَافظَة على الْمُبَادلَة إِلَى الِامْتِثَال، وَعدم الإهمال للدليل، قَالَه الطوفي فِي " شَرحه "، وَتَابعه الْعَسْقَلَانِي(6/2809)
فِي " شَرحه "، وَزَاد الْأَخير.
قَوْله: {الْفِعْل وَالْقَوْل بعد الْمُجْمل إِن صلحا واتفقا، وَعرف أسبقهما فَهُوَ الْبَيَان، وَالثَّانِي تَأْكِيد} .
الْفِعْل، وَالْقَوْل إِذا أَتَيَا بعد الْمُجْمل، واتفقا فِي غَرَض الْبَيَان بِلَا تناف، فَإِذا علم الأول فَهُوَ الْمُبين، قولا كَانَ، أَو فعلا بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ قد حصل الْبَيَان بِالْأولِ، وَالثَّانِي حصل بِهِ التَّأْكِيد.
قَوْله: {وَإِن جهل، فأحدهما} ، أَي الْمُبين، وَالْآخر تَأْكِيد.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: الْمُبين الْمَرْجُوح.
وَقَالَ ابْن عقيل: الْمُبين القَوْل.
وَقيل: الْمُبين الْفِعْل.
إِذا لم يعلم السَّابِق من القَوْل وَالْفِعْل فأحدهما هُوَ الْمُبين فَلَا يقْضى على(6/2810)
وَاحِد بِعَيْنِه بِأَنَّهُ الْمُبين، بل يقْضى بِحُصُول الْبَيَان بِوَاحِد مِنْهُمَا لم نطلع عَلَيْهِ وَهُوَ الأول فِي نفس الْأَمر، والتأكيد بِالثَّانِي.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يتَعَيَّن للتقديم غير الْأَرْجَح حَتَّى يكون هُوَ الْمُبين؛ لِأَن الْمَرْجُوح لَا يكون تَأْكِيدًا للراجح لعدم الْفَائِدَة.
وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن الْمُؤَكّد المستقل لَا يلْزم فِيهِ ذَلِك كَالْجمَلِ الَّتِي يذكر بَعْضهَا بعد بعض للتَّأْكِيد، وَأَن التَّأْكِيد يحصل بِالثَّانِيَةِ وَإِن كَانَت أَضْعَف بانضمامها إِلَى الأولى، وَإِنَّمَا يلْزم كَون الْمُؤَكّد أقوى فِي الْمُفْردَات نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم كلهم.
وَقَالَ ابْن عقيل: يقدم القَوْل.
وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة أَيْضا لدلالته بِنَفسِهِ وعمومها لنا، وَبَيَانه عَمَّا فِي النَّفس.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة - أَيْضا -: الْمُبين الْفِعْل؛ لِأَنَّهُ أقوى من القَوْل(6/2811)
على مَا تقدم، وَيَأْتِي بعد ذَلِك مَا يردهُ.
قَوْله: {وَإِن لم يتَّفقَا كَمَا لَو طَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد آيَة الْحَج قَارنا طوافين، وَأمر الْقَارِن بِطواف وَاحِد، فَقَوله بَيَان، وَفعله ندب أَو وَاجِب مُخْتَصّ بِهِ} .
{وَعند} أبي الْحُسَيْن {الْبَصْرِيّ الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا بَيَان} .
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَن الْمُبين هُوَ القَوْل سَوَاء كَانَ قبل الْفِعْل أَو بعده، وَيحمل الْفِعْل حِينَئِذٍ على النّدب، أَو على الْوُجُوب الْمُخْتَص بِهِ(6/2812)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَذَلِكَ لِأَن القَوْل يدل على الْبَيَان بِنَفسِهِ بِخِلَاف الْفِعْل؛ فَإِنَّهُ لَا يدل إِلَّا بِوَاسِطَة انضمام القَوْل إِلَيْهِ، وَالدَّال بِنَفسِهِ أقوى من الدَّال بِغَيْرِهِ، لَا يُقَال: قد سبق أَن الْفِعْل أقوى فِي الْبَيَان؛ لأَنا نقُول: التَّحْقِيق أَن القَوْل أقوى فِي الدّلَالَة على الحكم، وَالْفِعْل أدل على الْكَيْفِيَّة، فَفعل الصَّلَاة أدل من وصفهَا بالْقَوْل؛ لِأَن فِيهِ الْمُشَاهدَة.
وَأما استفادة وُجُوبهَا، أَو ندبها، أَو غَيرهمَا، فَالْقَوْل أقوى وأوضح لصراحته.
وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فَقَالَ: الْمُتَقَدّم هُوَ الْبَيَان قولا كَانَ أَو فعلا.
وَيلْزمهُ - كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره - نسخ الْفِعْل الْمُتَقَدّم كوجوب الطوافين وَرفع أَحدهمَا بالْقَوْل إِذا وَقع الْفِعْل مُتَقَدما مَعَ إِمْكَان الْجمع بَينهمَا؛ لأَنا إِذا حملنَا الْفِعْل على الْبَيَان أَو الخصوصية جَمعنَا بَين القَوْل وَالْفِعْل بِخِلَاف النّسخ؛ فَإِنَّهُ إبِْطَال للمنسوخ.(6/2813)
(قَوْله: فصل)
{أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر يجوز كَون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة، وَاعْتبر الْكَرْخِي الْمُسَاوَاة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب كَونه أقوى} .
إِذا كَانَ الْمُجْمل مَعْلُوما، فَهَل يجوز أَن يكون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة مِنْهُ، أَو لَا بُد من التَّسَاوِي، أَو لَا بُد أَن الْبَيَان أقوى؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه يجوز أَن يكون الْبَيَان أَضْعَف دلَالَة من الْمُبين، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر.
قَالَ أَبُو الْخطاب: قَالَه الْأَكْثَر، وَنَقله الباقلاني عَن الْجُمْهُور أَيْضا، وَاخْتَارَهُ هُوَ، والرازي، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.(6/2814)
قَالَ ابْن مُفْلِح: لنا تَبْيِين السّنة لمجمل الْقُرْآن. انْتهى.
قلت: وَقد تقدم مِثَال ذَلِك، وَهُوَ كثير جدا، تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي - اخْتَارَهُ الْكَرْخِي -: أَنه لَا بُد من الْمُسَاوَاة فَلَا يبين الأضعف عِنْده.
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَلَا يتَوَهَّم فِي حق أحد أَنه ذهب إِلَى اشْتِرَاط أَنه كالمبين فِي قُوَّة الدّلَالَة، فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لما كَانَ بَيَانا لَهُ، بل كَانَ هُوَ مُحْتَاج إِلَى بَيَان آخر، نَقله الْبرمَاوِيّ عَنهُ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا بُد وَأَن يكون الْبَيَان أقوى دلَالَة من الْمُبين، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ الَّذِي قواه شراحه.
قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الْحق أَن الْبَيَان يجوز أَن يكون مظنونا، والمبين مَعْلُوما.(6/2815)
لنا: أَن الْبَيَان كالتخصيص فَكَمَا يجوز تَخْصِيص الْقطعِي بالظني كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، فَكَذَلِك يجوز بَيَان الْمَعْلُوم، أَي مَا كَانَ مَتنه قَطْعِيا بالمظنون؛ لِأَن الْبَيَان يتَوَقَّف على وضوح الدّلَالَة [لَا] على قَطْعِيَّة الْمَتْن.
هَذَا ظَاهر كَلَامه فِي " الْمَحْصُول ".
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام: أَن الْمُبين إِن كَانَ عَاما، أَو مُطلقًا اشْترط أَن يكون بَيَانه أقوى؛ لِأَنَّهُ يرفع الْعُمُوم الظَّاهِر، وَالْإِطْلَاق، وَشرط الرافع أَن يكون أقوى.
وَأما الْمُجْمل فَلَا يشْتَرط أَن يكون بَيَانه أقوى، بل يحصل بِأَدْنَى دلَالَة؛ لِأَن الْمُجْمل لما كَانَ مُحْتملا لمعنيين على السوَاء، فَإِذا انْضَمَّ إِلَى أحد الِاحْتِمَالَيْنِ أدنى مُرَجّح كَفاهُ. انْتهى.
وَنصر الْعَضُد اخْتِيَار ابْن الْحَاجِب، ثمَّ قَالَ: هَذَا كُله فِي الظَّاهِر، وَأما الْمُجْمل فَيَكْفِي فِي بَيَانه أدنى دلَالَة، وَلَو مرجوحا؛ إِذْ لَا تعَارض. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَسبق تَخْصِيص الْعَام، وَتَقْيِيد الْمُطلق، وَيعْتَبر كَون الْمُخَصّص، والمقيد أقوى عِنْد الْقَائِل بِهِ، وَإِلَّا لزمَه تَقْدِيم الأضعف أَو التحكم، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره هَذَا التَّفْصِيل وَأَحْسبهُ اتِّفَاقًا. انْتهى.(6/2816)
قَوْله: {وَلَا تعْتَبر مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين فِي الحكم، قَالَه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره خلافًا لقوم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا تعْتَبر مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين فِي الحكم، قَالَه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره لتَضَمّنه صفته وَالزَّائِد بِدَلِيل خلافًا لقوم.
فَهَذِهِ الْمَسْأَلَة غير الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا؛ لِأَن الأولى فِي ضعف الدّلَالَة وقوتها، وَهَذِه فِي مُسَاوَاة الْبَيَان للمبين فِي الحكم وَعَدَمه.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " لما ذكر الْمَسْأَلَة الَّتِي قبل هَذِه وَذكر الْخلاف الَّذِي فِيهَا، وَاعْلَم أَن هَذِه لَيست مَسْأَلَة الْمُخْتَصر؛ لِأَن الْكَلَام فِي تَبْيِين الْأَقْوَى بالأضعف من جِهَة الدّلَالَة، وَمَسْأَلَة الْمُخْتَصر - أَي: مُخْتَصره - و " الرَّوْضَة " ممثلة بتبيين الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد، وَذَلِكَ أَضْعَف فِي الرُّتْبَة لَا فِي الدّلَالَة، وَلَا يلْزم من ضعف الرُّتْبَة ضعف الدّلَالَة لجَوَاز أَن يكون(6/2817)
الأضعف رُتْبَة أقوى دلَالَة، كتخصيص عُمُوم الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد؛ لِأَنَّهُ أخص فَيكون أدل.
فحاصل هَذَا أَن الضعْف إِن كَانَ فِي الدّلَالَة لم يجز تَبْيِين الْقوي بالضعيف لما سبق، وَإِن كَانَ فِي الرُّتْبَة جَازَ إِذا كَانَ أقوى دلَالَة. انْتهى.
وَهَذَا الْبَحْث الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ فِي قُوَّة الرُّتْبَة وضعفها، وَالْأولَى، فِي قُوَّة الدّلَالَة وضعفها، وَقُوَّة الرُّتْبَة وضعفها قد يكون ضعفها مَوْجُودا لَكِن دلالتها قَوِيَّة، هَذَا مُرَاده قد بَينه، لَكِن مَسْأَلَة صَاحب " التَّمْهِيد " إِنَّمَا هِيَ فِي الحكم فَليعلم ذَلِك.
قَوْله: {لَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة إِلَّا على تَكْلِيف الْمحَال} ، فَمن أجَاز تَكْلِيف الْمحَال أجَاز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَمن مَنعه مَنعه.
وَصورته: أَن يَقُول: صلوا غَدا، ثمَّ لَا يبين لَهُم فِي غَد كَيفَ يصلونَ، أَو آتوا الزَّكَاة عِنْد رَأس الْحول، ثمَّ لَا يبين لَهُم عِنْد رَأس الْحول كم يؤدون، وَلَا لمن يؤدون، وَنَحْو ذَلِك.(6/2818)
لِأَنَّهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، والتفريع على امْتِنَاعه، هَذَا هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْعلمَاء خلافًا للمعتزلة؛ لِأَن الْعلَّة فِي عدم وُقُوع التَّأْخِير عَن وَقت الْعَمَل أَن الْإِتْيَان بالشَّيْء مَعَ عدم الْعلم بِهِ مُمْتَنع، فالتكليف بذلك تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن منعنَا التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق فَلَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، وَإِلَّا جَازَ، وَلَكِن لم يَقع. انْتهى.
{قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {ولمصلحة هُوَ الْبَيَان الْوَاجِب، أَو الْمُسْتَحبّ كتأخيره} للأعرابي {الْمُسِيء فِي صلَاته إِلَى ثَالِث مرّة} ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب لخوف فَوَات الْوَاجِب الْمُؤَقت فِي وقته.
تَنْبِيه: ترددوا فِي المُرَاد بِوَقْت الْحَاجة، هَل هُوَ وَقت الْفِعْل أَو وَقت تضييقه بِحَيْثُ لَا يُمكن معاودته للْفِعْل كالظهر مثلا، هَل يجب بَيَانهَا بِمُجَرَّد دُخُول الْوَقْت، أَو لَا يجب إِلَّا إِذا ضَاقَ وَقتهَا.(6/2819)
صرح أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " الْمُعْتَمد "، وَغَيره بِالثَّانِي، والباقلاني بِالْأولِ وَاسْتشْكل تَعْلِيلهم الْمَنْع فِي أصل الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ من التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق.
وَيُمكن جَوَابه بِأَنَّهُ لما دخل الْوَقْت تعلق الطّلب بِهِ، فَكيف يطْلب مِنْهُ مَا لَا علم لَهُ بِهِ.
قَوْله: {وَيجوز تَأْخِيره عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، والأشعري، وَأكْثر أَصْحَابهم، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، والمالكية} ، فَمن أَصْحَابنَا ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والحلواني، ِ(6/2820)
والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي، وَغَيرهم.
وَحَكَاهُ ابْن عقيل عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَذكره الْمجد عَن أَكثر أَصْحَابنَا فَهُوَ جَائِز، وواقع مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الْمُبين ظَاهرا يعْمل بِهِ كتأخير بَيَان التَّخْصِيص، وَبَيَان التَّقْيِيد، وَبَيَان النّسخ أَو لَا؟ كبيان الْمُجْمل.
{وَعنهُ لَا} يجوز تَأْخِيره. {اخْتَارَهُ أَبُو بكر} عبد الْعَزِيز غُلَام الْخلال، {والتميمي} من أَصْحَابنَا، وَدَاوُد وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَنقل عَن أبي إِسْحَاق، وَأبي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(6/2821)
حَامِد المروزيين، والصيرفي، والدقاق، وَهُوَ قَول كثير من الْحَنَفِيَّة، فَلَا يَقع مُجملا إِلَّا وَالْبَيَان مَعَه، وَكَذَا غير الْمُجْمل.
وَنقل الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق أَن الْأَشْعَرِيّ نزل بالصيرفي ضيفا فناظره فَلم يزل بِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي، {وَأَجَازَهُ} ، أَي: التَّأْخِير {أَكثر الْحَنَفِيَّة فِي الْمُجْمل} ، فَيجوز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل دون غَيره، وَنقل عَن الصَّيْرَفِي.
قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: هُوَ عِنْدِي مَذْهَب أَصْحَابنَا؛ لأَنهم(6/2822)
يجْعَلُونَ الزِّيَادَة على النَّص نسخا إِذا تراخت عَنهُ فَلَا يجيزونها إِلَّا بِمثل مَا يجوز بِهِ النّسخ، وَلَو جَازَ عِنْدهم تَأْخِير الْبَيَان فِي مثله لما كَانَت الزِّيَادَة نسخا، بل بَيَانا. انْتهى.
{و} أجَازه {أَبُو زيد} الدبوسي {إِن لم يكن تبديلا وَلَا تغييرا} ، حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَنهُ، فَقَالَ: قَالَ أَبُو زيد: إِن بَيَان الْمُجْمل إِن لم يكن تبديلا، وَلَا تغييرا جَازَ مُقَارنًا وطارئا، وَإِلَّا فَيجوز مُقَارنًا لَا طارئا، ثمَّ ذكر أَن الِاسْتِثْنَاء من بَيَان التَّغْيِير.
{و} أجَازه {قوم فِي الْخَبَر} ، لَا الْأَمر وَالنَّهْي، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق.
{و} أجَازه {بعض الْمُعْتَزلَة} فِي الْأَمر وَالنَّهْي، لَا الْخَبَر كالوعد والوعيد عكس الَّذِي قبله، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ عَن الْكَرْخِي، وَبَعض الْمُعْتَزلَة.
وَمنع السَّمْعَانِيّ ذَلِك عَن الْكَرْخِي.
{و} أجَازه {الجبائي وَابْنه، وَعبد الْجَبَّار فِي النّسخ} دون غَيره، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن عَنْهُم فِي " الْمُعْتَمد "، وَظَاهره أَن النّسخ دَاخل فِي مَحل الْخلاف، لَكِن قَالَ بَعضهم: إِنَّه يجوز تَأْخِير النّسخ اتِّفَاقًا، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الباقلاني،(6/2823)
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَصرح بِهِ ابْن برهَان، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا.
{و} أجَازه {أَبُو الْحُسَيْن فِيمَا لَيْسَ لَهُ ظَاهر كالمشترك} دون مَاله ظَاهر كالعام وَالْمُطلق والمنسوخ فَإِنَّهُ يجوز تَأْخِير بَيَانه التفصيلي دون الإجمالي، فَإِن الإجمالي يشْتَرط وجوده عِنْد الْخطاب؛ حَتَّى يكون مَانِعا من الْوُقُوع فِي الْخَطَأ فَيُقَال: هَذَا الْعَام مُرَاد بِهِ خَاص، وَهَذَا الْمُطلق مُرَاد بِهِ مُقَيّد، وَهَذِه النكرَة مُرَاد بهَا معِين، أَو هَذَا الحكم سينسخ.
أما الْبَيَان التفصيلي فَلَيْسَ ذكره مَعَ الْخطاب شرطا، نقل هَذَا الْمَذْهَب الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه عَن أبي الْحُسَيْن.
{و} أجَاز {بَعضهم فِي الْعُمُوم} ، يَعْنِي: جوز بعض الْعلمَاء تَأْخِير بَيَان الْعُمُوم دون غَيره، فَإِنَّهُ قبل الْبَيَان مَفْهُوم بِخِلَاف الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ قبل الْبَيَان غير مَفْهُوم، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَجها للشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن عبد الْجَبَّار.(6/2824)
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقوله تَعَالَى: {فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَال: 41] ثمَّ بَين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن السَّلب للْقَاتِل، وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن أَنه لم يخمسه وَلما أعْطى بني الْمطلب مَعَ بني هَاشم من سهم ذِي الْقُرْبَى، وَمنع بني نَوْفَل وَبني عبد شمس، سُئِلَ فَقَالَ: " بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد ". رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَلأَحْمَد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح: " إِنَّهُم لم يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام ".
وَلم ينْقل بَيَان إِجْمَال مُقَارن، وَلَو كَانَ نقل، وَالْأَصْل عَدمه، وَكَذَا الْحجَّة من إِطْلَاق الْأَمر بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاة، وَالْحج، وَالْجهَاد، ثمَّ بَين(6/2825)
ذَلِك، وَكَذَا بيع، وَنِكَاح، وميراث، وسرقة، وكل عُمُوم قُرْآن وَسنة.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث عَائِشَة أَن جبرئيل قَالَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اقْرَأ، قَالَ: مَا أَنا بقارئ، وَكرر ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك} [العلق: 1] .
وَاعْترض: هَذِه الْأَوَامِر ظَاهرهَا مَتْرُوك، لتأخير الْبَيَان عَن وَقت الْخطاب وَهُوَ وَقت الْحَاجة، إِن كَانَ للفور، أَو للتراخي؛ فالفعل جَائِز فِي الْوَقْت الثَّانِي فَيمْتَنع تَأْخِيره عَنهُ.
رد: الْأَمر قبل بَيَان الْمَأْمُور بِهِ لَا يجب بِهِ شَيْء، وَهُوَ كثير عرفا كَقَوْل السَّيِّد: افْعَل فَقَط.
وَاحْتج فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِقصَّة ابْن الزبعري وسبقت.
وَاعْترض - أَيْضا - بِأَنَّهُ خبر وَاحِد، وَالْمَسْأَلَة علمية.
وَجَوَابه الْمَنْع مَعَ أَنه متلقى بِالْقبُولِ، - وَأَيْضًا - لَو امْتنع لَكَانَ لعدم الْبَيَان، وَلَيْسَ بمانع بِدَلِيل النّسخ.(6/2826)
فَإِن قيل: يعْتَبر الْإِشْعَار بالناسخ.
رد بِالْمَنْعِ وَبِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع.
وَاسْتدلَّ بقوله: {أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] وَالْمرَاد مُعينَة بِدَلِيل تَعْيِينهَا بسؤالهم الْمُتَأَخر عَن الْأَمر بذبحها، وبدليل أَنهم لم يؤمروا بمتجدد.
وبدليل مُطَالبَة الْمَأْمُور بهَا لما ذبح.
رد: بِمَنْع التَّعْيِين فَلم يتَأَخَّر بَيَان لتأخيره عَن وَقت الْحَاجة لفورية الْأَمر.
وبدليل - بقرة - والنكرة غير مُعينَة ظَاهرا.
وبدليل قَول الْمُفَسّرين: لَو ذَبَحُوا أَي بقرة أَجْزَأت، وَرُوِيَ نَحوه عَن ابْن عَبَّاس.
وبدليل من طلب الْبَيَان لَا يعنف، وعنفه بقوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَة: 71] .
وَاسْتدلَّ: لَو امْتنع لَكَانَ لذاته أَو لغيره، بضرورة أَو نظر، وهما منتفيان.
رد: لَو جَازَ إِلَى آخِره.
وَاسْتدلَّ لَو امْتنع مَعَ زمن قصير وَبعد جمل معطوفه وبكلام طَوِيل.(6/2827)
رد: لِأَنَّهُ لَيْسَ معرضًا عَن كَلَامه الأول فَهُوَ كجملة وَإِنَّمَا يجوز بِكَلَام طَوِيل للْمصْلحَة.
وَاحْتج ابْن عقيل بِأَن الْمَسْأَلَة أولى من تَجْوِيز خطاب الْمَعْدُوم.
الْقَائِل بِمَنْع تَأْخِير الظَّاهِر: لَو جَازَ لَكَانَ إِلَى مُدَّة مُعينَة، وَهُوَ تحكم لَا قَائِل بِهِ، أَو إِلَى الْأَبَد فَيلْزم التجهيل لعمل الْمُكَلف أبدا بعام أُرِيد بِهِ الْخَاص.
رد إِلَى مُدَّة مُعينَة عِنْد الله، وَهُوَ وَقت وجوب الْعَمَل على الْمُكَلف وَقت الْحَاجة، وَقَبله لَا عمل لَهُ، بل هُوَ مُجَرّد اعْتِقَاد فَلَا يمْتَنع بِدَلِيل النّسخ.
قَالُوا: لَو جَازَ لَكَانَ الشَّارِع مفهما بخطابه لاستلزامه الإفهام، وَظَاهره يُوقع فِي الْجَهْل لِأَنَّهُ غير مُرَاد، وباطنه لَا طَرِيق إِلَيْهِ.
رد: يجْرِي الدَّلِيل فِي النّسخ لظُهُوره فِي الدَّوَام وَبِأَنَّهُ أُرِيد إفهام الظَّاهِر مَعَ تَجْوِيز التَّخْصِيص عِنْد الْحَاجة فَلَا يلْزم شَيْء.
وَاعْترض: التَّخْصِيص يُوجب شكا فِي كل شخص هَل هُوَ مُرَاد من الْعَام بِخِلَاف النّسخ.
رد: يُوجِبهُ على الْبَدَل، وَفِي النّسخ يُوجِبهُ فِي الْجَمِيع لاحْتِمَال الْمَوْت قبل وَقت الْعِبَادَة الْمُسْتَقْبلَة فَهُوَ أولى.(6/2828)
الْقَائِل بِمَنْع تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ يخل بِفعل الْعِبَادَة فِي وَقتهَا للْجَهْل بصفتها بِخِلَاف النّسخ.
رد: وَقتهَا وَقت بَيَانهَا.
قَالُوا: لَو جَازَ لجَاز الْخطاب بالمهمل ثمَّ يُبينهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يفهم مِنْهُمَا شَيْء.
رد: الْمُجْمل مُخَاطب بِأحد مَعَانِيه، فيطيع ويعصي بالعزم والمهمل لَا يُفِيد شَيْئا.
ولأصحابنا منع وَتَسْلِيم فِي جَوَاز خطاب فَارسي بعربية لعدم الْفَائِدَة أَو لعلمه أَنه أَرَادَ مِنْهُ شَيْئا سيبينه؛ وَلِهَذَا خاطبهم عَلَيْهِ السَّلَام بِالْقُرْآنِ.
قَوْله: {فعلى الْمَنْع، قَالَ أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: يجوز تَأْخِير إسماع الْمُخَصّص الْمَوْجُود وَمنعه الجبائي، وَأَبُو الْهُذيْل، ووافقا على الْمُخَصّص الْعقلِيّ} . يجوز على الْمَنْع من جَوَاز التَّأْخِير تَأْخِير إسماع الْمُخَصّص الْمَوْجُود عندنَا، وَعند عَامَّة الْعلمَاء.(6/2829)
وَمنعه أَبُو الْهُذيْل، والجبائي، ووافقا على الْمُخَصّص الْعقلِيّ.
اسْتدلَّ للصحيح بِأَنَّهُ مُحْتَمل سَمَاعه بِخِلَاف الْمَعْدُوم، وَسمعت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] وَلم تسمع الْمُخَصّص، وَسمع الصَّحَابَة الْأَمر بقتل الْكفَّار إِلَى الْجِزْيَة، وَلم يَأْخُذ عمر الْجِزْيَة من الْمَجُوس حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذهَا مِنْهُم. رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وروى مَالك فِي " الْمُوَطَّأ "، وَالشَّافِعِيّ عَنهُ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عمر ذكرهم، فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيفَ أصنع فِي أَمرهم، فَشهد عبد الرَّحْمَن أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سنوا بهم سنة أهل الْكتاب " مُنْقَطع.(6/2830)
وَمنع أَبُو الْهُذيْل، والجبائي فِي التَّخْصِيص بِالسَّمْعِ دون الْعقل.
قَوْله: {وَعَلِيهِ أَيْضا، أَي: على الْمَنْع، قَالَ القَاضِي، وَالْأَكْثَر: يجوز تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة.
وَمنعه عبد الْجَبَّار فِي الْقُرْآن، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل مُطلقًا} .
يجوز على الْمَنْع تَأْخِير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة عِنْد القَاضِي أبي يعلى، والمالكية، والمعتزلة، وَأبي الْمَعَالِي، وَذكره الْآمِدِيّ قَول الْمُحَقِّقين؛ لِأَن وجوب مَعْرفَته إِنَّمَا هُوَ للْعَمَل فَلَا حَاجَة لَهُ قبل وَقت الْعَمَل.(6/2831)
وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَالْأَصْل الْجَوَاز عقلا، وَالْأَمر بالتبليغ بعد تَسْلِيم أَنه للْوُجُوب والفور المُرَاد بِهِ الْقُرْآن؛ لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم من لفظ الْمنزل.
وَحكى صَاحب المصادر عَن عبد الْجَبَّار أَن الْمنزل إِن كَانَ قُرْآنًا فَيجب تبليغه فِي الْحَال لقصد انتشاره، وإبلاغه، أَو غير قُرْآن لم يجب.
وَمنعه أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل مُطلقًا؛ لِأَنَّهُ يخل أَن لَا يعْتَقد الْمُكَلف شَيْئا، وَهُوَ إهمال بِخِلَاف تَأْخِير الْبَيَان، وَلِهَذَا يجوز تَأْخِير النّسخ لَا تَبْلِيغ الْمَنْسُوخ؛ وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} [الْمَائِدَة: 67] .
قَوْله: {وعَلى الْجَوَاز قَالَ أَصْحَابنَا والمحققون: يجوز التدريج فِي الْبَيَان، وَقيل: فِي الْمُجْمل وَقيل: إِن توقع بَيَانا، وَقيل: لَا} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز التدريج بِالْبَيَانِ بِأَن يبين تَخْصِيصًا بعد تَخْصِيص على أَقْوَال:(6/2832)
أَحدهَا - وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، والمحققين مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني -: يجوز ذَلِك فِي الثَّانِي، وَالثَّالِث وَمَا بعدهمَا كَالْأولِ، فَيُقَال - مثلا -: اقْتُلُوا الْمُشْركين، ثمَّ يُقَال: سلخ الْأَشْهر، ثمَّ يُقَال: الْحَرْبِيين، ثمَّ يُقَال: إِذا كَانُوا رجَالًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز ذَلِك فِي الْمُجْمل، وَأما فِي الْعُمُوم فعلى الْخلاف فِي الْبَيَان الأول.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يجوز إِذا علم الْمُكَلف أَن فِيهِ بَيَانا متوقعا.
وَمِنْهُم من يَأْخُذ من هَذَا القَوْل قولا آخر مفصلا فِي أصل الْمَسْأَلَة فَيَقُول: يمْتَنع تَأْخِير بعض الْبَيَان دون بعض، وَلَا يمْتَنع تَأْخِير الْكل، ذكره فِي " جمع الْجَوَامِع " فِي أصل الْمَسْأَلَة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يجوز مُطلقًا فَيمْتَنع فِي الثَّانِي، وَمَا بعده؛ لِأَن قَضِيَّة الْبَيَان أَن يكمله أَو لَا.(6/2833)
وَاسْتدلَّ للْأولِ بِوُقُوعِهِ وَالْأَصْل عدم مَانع.
قَالُوا: تَخْصِيص بعض بِذكرِهِ يُوهم نفي غَيره، وَوُجُوب اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ تجهيل للمكلف.
رد: بِذكر الْعَام بِلَا مُخَصص.(6/2834)
(قَوْله: {فصل} )
{أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية، والصيرفي، والسرخسي: يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ فِي الْحَال} .
وَهَذَا قَول أَكثر أَصْحَابنَا، مِنْهُم: أَبُو بكر، وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل، والموفق، وَابْن حمدَان، والطوفي، والمالكية، والصيرفي، والسرخسي، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَغَيرهم.(6/2835)
وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ: يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث عَن مُخَصص {إِن سَمعه من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على طَرِيق تَعْلِيم الحكم} ، وَإِلَّا فَلَا يمْنَع بَيَان تَأْخِير التَّخْصِيص مِنْهُ.
رد: يجوز، ثمَّ الرَّاوِي عَنهُ مثله.
{وَقيل:} يجب ذَلِك {مَعَ ضيق الْوَقْت} ، وَإِلَّا فَلَا.
هَذَا قَول مفرق بَين ضيق الْوَقْت، وَعَدَمه فَمَعَ ضيق الْوَقْت يجب، وَإِلَّا فَلَا. وَله نَظَائِر، مِنْهَا: هَل للمجتهد أَن يُقَلّد إِذا ضَاقَ الْوَقْت، أم لَا؟ على مَا يَأْتِي.
{وَعنهُ لَا مُطلقًا} ، أَي: لَا يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم {حَتَّى يبْحَث} عَن الْمُخَصّص، {اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والحلواني} ، وَغَيرهمَا من أَصْحَابنَا، {وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَمَال إِلَيْهِ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَذكر الْآمِدِيّ(6/2836)
عَن الصَّيْرَفِي يجب اعْتِقَاد عُمُومه جزما قبله، وَهُوَ خطأ لاحْتِمَال إِرَادَة خصوصه، قَالَ: وَلَا نَعْرِف خلافًا فِي امْتنَاع الْعَمَل قبل بَحثه عَن مُخَصص.
{وَقَالَ الْأُسْتَاذ} أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ {وَغَيره: مَحل ذَلِك بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} ، أما فِي حَيَاته فَلَا خلاف فِي وجوب الْمُبَادرَة إِلَى الْأَخْذ بِهِ وإجراء على عُمُومه؛ لِأَن أصُول الشَّرِيعَة لم تكن متقررة لجَوَاز أَن يحدث بعد وُرُود الْعَام مُخَصص، وَبعد النَّص نسخ، فَلَا يُفِيد الْبَحْث عَن ذَلِك شَيْئا.
وَجه القَوْل الأول: الْمُوجب للاستغراق لفظ الْعُمُوم، والمخصص معَارض [و] الأَصْل عَدمه.
أجَاب بعض أَصْحَابنَا: لَكِن النَّفْي لَا يحكم بِهِ قبل الْبَحْث.
وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد " إِنَّمَا يفِيدهُ بِشَرْط تجرده عَن مُخَصص وَمَا نعلمهُ إِلَّا أَن نبحث فَلَا نجده.
وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا عدم الْمُخَصّص شَرط فِي الْعُمُوم، أَو هُوَ(6/2837)
من بَاب الْمعَارض، فِيهِ قَولَانِ كَمَا فِي تَخْصِيص الْعلَّة، ثمَّ ذكر قَول القَاضِي اللَّفْظ الدَّال على الْعُمُوم هُوَ الْمُجَرّد عَن قرينَة، فَلَا يُوجد إِلَّا وَهُوَ دَال عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يدل على الْخُصُوص بِقَرِينَة، ثمَّ ذكر أَيْضا الْمُوجب للْعُمُوم قصد الْمُتَكَلّم فَيَكْفِي فِي الْخُصُوص عدم قصد الْعُمُوم، أَو يُقَال: الْمُوجب للخصوص قصد الْمُتَكَلّم فَيَكْفِي فِي الْعُمُوم عدم قصد الْخُصُوص.
كَلَام القَاضِي يَقْتَضِي أَن اللَّفْظ لَا يَتَّصِف فِي نَفسه بِعُمُوم، وَلَا خُصُوص إِلَّا بِقصد الْمُتَكَلّم.
قَالَ: وَهَذَا جيد فَيُفَرق بَين إِرَادَة عدم الصُّورَة الْمَخْصُوصَة، أَو عدم إرادتها.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَأَيْضًا كَمَا يجب حمله على عُمُوم الزَّمَان وَإِن جَازَ نسخه فِي بعضه.
أجَاب فِي " التَّمْهِيد ": مَا يخص الْأَعْيَان يرد مَعَه، وَقَبله، فَيجب الْبَحْث، والنسخ لَا يرد إِلَّا بعد وُرُود الصِّيغَة فَلَا يجب كَمَا لَا يتَوَقَّف فِيمَن ثبتَتْ عَدَالَته حَتَّى يرد عَلَيْهِ الْفسق.(6/2838)
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَفِيهِ نظر بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتقدم معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ على الْفَتْوَى.
وَقَالَ ابْن عقيل: النّسخ قد يخفى عَن الْبعيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يلْزمه التَّوَقُّف، وَإِن كَانَ ذَلِك لَا يفوت أصل الْعَمَل عَن وُرُود النّسخ.
وَاحْتج القَاضِي بأسماء الْحَقَائِق، وَذكر عَن خَصمه منعا وتسليما.
وَاحْتج ابْن عقيل والموفق فِي " الرَّوْضَة " بهَا، وبالأمر، وَالنَّهْي.
تَنْبِيه: تابعنا فِي حِكَايَة الْخلاف كثيرا من الْعلمَاء، بل مَذْهَب أَحْمد وَأَصْحَابه، والمالكية، وَكثير من الْعلمَاء كَمَا تقدم وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَالْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث عَن مُخَصص كَمَا تقدم.
وَحكى الكوراني وَابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " وَغَيرهمَا(6/2839)
الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص، وَجعلُوا الْخلاف فِي اعْتِقَاد الْعُمُوم فِي الْعَام بعد وُرُوده، وَقبل وَقت الْعَمَل بِهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد حِكَايَة الْخلاف: هَكَذَا أورد الْخلاف الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَغَيرهمَا، لَكِن اقْتصر أَبُو الطّيب، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ فِي النَّقْل عَن الصَّيْرَفِي على وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم فِي الْحَال قبل الْبَحْث، وَصرح غَيرهم عَنهُ بِأَنَّهُ قَالَ: يجب الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل.
وَلَك أَن تَقول: إِن دخل وَقت الْعَمَل لزم من وجوب الِاعْتِقَاد وجوب الْعَمَل فَلذَلِك اكْتفى من اقْتصر على وجوب الِاعْتِقَاد بذلك.
وَأما الْغَزالِيّ، ثمَّ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب فحكوا الْخلاف على وَجه آخر، وَهُوَ أَنه يمْتَنع الْعَمَل قبل الْبَحْث قطعا، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي كَونه يَكْفِي الظَّن - وَهُوَ قَول الْأَكْثَر - أَولا بُد من الْقطع؟(6/2840)
قَالَ: وَيحصل ذَلِك بتكرير النّظر، والبحث عَن اشتهار كَلَام الْأَئِمَّة.
قَالُوا: وَلَيْسَ خلاف الصَّيْرَفِي إِلَّا فِي اعْتِقَاد عُمُومه قبل دُخُول وَقت الْعَمَل بِهِ، وَإِذا ظهر مُخَصص تعين الِاعْتِقَاد.
وَمِنْهُم من جمع بَين الطريقتين بِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ: وجوب الْعَمَل وَهُوَ مَحل الْقطع، واعتقاد الْعُمُوم، وَهُوَ مَحل الْخلاف.
وَفِيه نظر، فَإِن ذَلِك إِن كَانَ قبل دُخُول وَقت الْعَمَل فقد جعلُوا مَحل خلاف الصَّيْرَفِي فِيهِ، وَإِن كَانَ بعد دُخُول وَقت الْعَمَل فقد سبق أَنه لَا معنى لاعْتِقَاده إِلَّا وجوب الْعَمَل بِهِ. انْتهى.
قَوْله: {وَظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ الْأَكْثَر: يَكْفِي فِي الْبَحْث الظَّن، وَاعْتبر} القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، وَمن تبعه الْقطع} .
{و} اعْتبر {قوم اعتقادا جَازِمًا} .(6/2841)
قَالَ ابْن مُفْلِح: ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْأَكْثَر: يَكْفِي بحث يظنّ مَعَه انتفاؤه؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيق إِلَى الْقطع؛ فاشتراطه يبطل الْعَمَل بِالْعُمُومِ.
وَاعْتبر ابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة الْقطع، وَقَالُوا: مَا كثر الْبَحْث بَين الْعلمَاء فِيهِ يُفِيد الْقطع عَادَة، وَإِلَّا فبحث الْمُجْتَهد يفِيدهُ؛ لِاسْتِحَالَة أَن لَا ينصب الله عَلَيْهِ دَلِيلا ويبلغه للمكلف.
رد الأول: بِمَنْع الِاطِّلَاع عَلَيْهِ، ثمَّ لَو اطلع بَعضهم فنقله غير قَاطع.
ورد الثَّانِي: بِمَنْع نصب دَلِيل وَلُزُوم الِاطِّلَاع وَنَقله، وَقد يجد مُخَصّصا يرجع بِهِ عَن الْعُمُوم، وَلَو قطع لم يرجع.
وَحكى الْغَزالِيّ قولا ثَالِثا متوسطا أَن الشَّرْط أَن يعْتَقد عَدمه اعتقادا جَازِمًا يسكن إِلَيْهِ الْقلب من غير قطع.
تَنْبِيه: مثار الْخلاف فِي أصل الْمَسْأَلَة التَّعَارُض بَين الأَصْل وَالظَّاهِر، وَله مثار آخر، وَهُوَ أَن التَّخْصِيص هَل هُوَ مَانع، أَو عَدمه شَرط؟
فالصيرفي جعله مَانِعا فَالْأَصْل عَدمه، وَابْن سُرَيج ... ...(6/2842)
جعله شرطا فَلَا بُد من تحَققه.
وَنَظِيره الشَّاهِد عِنْد الْحَاكِم الَّذِي لَا يعرف حَاله فيبحث عَنهُ حَتَّى يعْمل بِشَهَادَتِهِ إِذا عدل.
وَنَظِيره أَيْضا صِيغَة الْعُمُوم المحتملة للْعهد، هَل يعْمل بهَا؛ لِأَن الْعَهْد مَانع وَالْأَصْل عَدمه، أَو عدم الْعَهْد شَرط فَلَا بُد من تحَققه.
قَوْله: {وَكَذَا كل دَلِيل مَعَ معارضه، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَقيل: لَا فِي حَقِيقَة ومجاز} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: يجب أَن نقُول: جَمِيع الظَّوَاهِر كالعموم وَكَلَام أَحْمد فِي مُطلق الظَّاهِر من غير فرق، وَكَذَا جزم بِهِ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
وَفِي " التَّمْهِيد ": جَمِيع ذَلِك كمسألتنا، وَإِن سلمنَا أَسمَاء الْحَقَائِق فَقَط، فَإِن لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة فِيهِ مَا لم نجد مُخَصّصا، وَحَقِيقَة فِيهِ وَفِي الْخُصُوص، وَأَيْضًا لَا يلْزمه طلب مَا لَا يُعلمهُ كَطَلَب هَل بعث الله رَسُولا؟(6/2843)
وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد ": يلْزمه كَمَا يلْزمه هُنَا طلب الْمُخَصّص فِي بَلَده.
قيل لَهُ: فَلَو ضَاقَ الْوَقْت عَن طلبه؟
قَالَ: الْأَشْبَه يلْزم الْعَمَل بِالْعُمُومِ، وَإِلَّا لما أسمعهُ الله إِيَّاه قبل تمكنه من الْمعرفَة بالمخصص لِأَنَّهُ وَقت الْحَاجة إِلَى الْبَيَان.
قَالَ: وَيحْتَمل أَن لَا يعْمل حَتَّى يَطْلُبهُ كمجتهد ضَاقَ وَقت اجْتِهَاده لَا يُقَلّد غَيره. انْتهى.
وَالْخلاف جَار عِنْد الشَّافِعِيَّة فِي لفظ الْأَمر وَالنَّهْي.
قَالَه الشَّيْخ أَبُو حَامِد: قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، مِنْهُم من نقل الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجب عِنْد سَماع الْحَقِيقَة طلب الْمجَاز، وَإِن وَجب عِنْد سَماع الْعَام طلب الْمُخَصّص؛ لِأَن تطرق التَّخْصِيص إِلَى الْعَام أَكثر. انْتهى.
وَقَالَهُ السُّبْكِيّ وَفرق بَينهمَا بفرق حسن.(6/2844)
(بَاب)(6/2845)
فارغة(6/2846)
(قَوْله: {بَاب} )
{الظَّاهِر لُغَة} خلاف الْبَاطِن، وَهُوَ {الْوَاضِح} المنكشف، وَمِنْه ظُهُور الْأَمر إِذا اتَّضَح وانكشف، وَيُطلق على الشَّيْء الشاخص الْمُرْتَفع، كَمَا أَن الظَّاهِر من الْأَشْخَاص هُوَ الْمُرْتَفع الَّذِي تتبادر إِلَيْهِ الْأَبْصَار، كَذَلِك فِي الْمعَانِي.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: مَا دلّ دلَالَة ظنية وضعا: كأسد، وَعرفا: كغائط} . قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره.
فَالظَّاهِر الَّذِي يُفِيد معنى مَعَ احْتِمَال غَيره، لكنه ضَعِيف؛ فبسبب ضعفه خَفِي فَلذَلِك سمي اللَّفْظ لدلالته على مُقَابِله وَهُوَ الْقوي ظَاهرا كالأسد؛ فَإِنَّهُ ظَاهر فِي الْحَيَوَان فِي دلَالَة اللَّفْظ الْوَاحِد ليخرج الْمُجْمل(6/2847)
مَعَ الْمُبين؛ لِأَنَّهُ وَإِن أَفَادَ معنى لَا يحْتَمل غَيره، فَإِنَّهُ لَا يُسمى مثله نصا.
قَوْله: {والتأويل لُغَة الرُّجُوع} ، وَهُوَ من آل يؤول، أَي: رَجَعَ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وابتغاء تَأْوِيله} [آل عمرَان: 7] أَي: طلب مَا يؤول إِلَيْهِ مَعْنَاهُ، فَهُوَ مصدر أولت الشَّيْء فسرته من آل إِذا رَجَعَ؛ لِأَنَّهُ رُجُوع من الظَّاهِر إِلَى ذَلِك الَّذِي آل إِلَيْهِ فِي دلَالَته اللَّفْظ.
قَالَ الله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله} [الْأَعْرَاف: 53] أَي: مَا يؤول إِلَيْهِ بَعثهمْ ونشورهم.
فَائِدَة: للنَّاس كَلَام فِي الْفرق بَين التَّأْوِيل وَالتَّفْسِير.
قَالَ الرَّاغِب: أَكثر مَا يسْتَعْمل التَّأْوِيل فِي الْمعَانِي، وَالتَّفْسِير فِي الْأَلْفَاظ، وَأكْثر التَّفْسِير فِي مُفْرَدَات الْأَلْفَاظ، والتأويل أَكْثَره فِي الْجمل.(6/2848)
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: حمل ظَاهر على مُحْتَمل مَرْجُوح} .
أَي: تكون للفظ دلالتان راجحة ومرجوحة فَيحمل على المرجوحة، وَهَذَا يَشْمَل الصَّحِيح وَالْفَاسِد، فَإِن أردْت الصَّحِيح زِدْت فِي الْحَد {بِدَلِيل يصيره راجحا} على مَدْلُوله الظَّاهِر فيسمى تَأْوِيلا صَحِيحا.
فَإِن ترك الظَّاهِر لَا لدَلِيل مُحَقّق، بل لشبه تخيل للسامع أَنَّهَا دَلِيل، وَعند التَّحْقِيق تضمحل يُسمى تَأْوِيلا فَاسِدا، وَرُبمَا قيل تَأْوِيلا بَعيدا، وَقد يكون التَّأْوِيل لَا لشَيْء من ذَلِك فَهَذَا لعب لَا يعبأ بِهِ.
إِذا علم ذَلِك فَحمل اللَّفْظ على ظَاهره لَيْسَ تَأْوِيلا، وَكَذَا حمل الْمُشْتَرك وَنَحْوه من الْمسَاوِي على أحد محمليه، أَو محامله لدَلِيل لَا يُسمى تَأْوِيلا، وَحمله على الْمَجْمُوع لَا يُسمى تَأْوِيلا أَيْضا.
وَقَالَ {الْمُوفق} تبعا للغزالي: حد التَّأْوِيل {احْتِمَال يعضده دَلِيل يصيره أغلب على الظَّن من الظَّاهِر} .(6/2849)
وَيرد عَلَيْهِ أَن الِاحْتِمَال شَرط التَّأْوِيل لَا نَفسه، وَلَيْسَ بِجَامِع لخُرُوج تَأْوِيل مَقْطُوع بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ: صرف اللَّفْظ عَن الِاحْتِمَال الرَّاجِح إِلَى الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح لاعتضاده بِدَلِيل} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت الْحَد غير جَامع؛ لِأَن التَّأْوِيل قد يكون فِي الْفِعْل.
قَوْله: {فَإِن قرب التَّأْوِيل ترجح بِأَدْنَى مُرَجّح، وَإِن بعد افْتقر إِلَى أقوى وَإِن تعذر رد} .
التَّأْوِيل على ثَلَاثَة أَقسَام:
قريب: فيترجح الطّرف الْمَرْجُوح بِأَدْنَى دَلِيل لقُرْبه مثل قَوْله تَعَالَى: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} [الْمَائِدَة: 6] أَي: إِذا عزمتم.
وبعيد: يَعْنِي الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح بعيد من الْإِرَادَة لعدم قرينَة تدل عَلَيْهِ عقلية، أَو حَالية، أَو مقالية فَيحْتَاج فِي حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَصَرفه عَن الظَّاهِر إِلَى دَلِيل قوي.(6/2850)
ومتعذر: لَا يحْتَملهُ اللَّفْظ فَلَا يكون مَقْبُولًا، بل يجب رده وَالْحكم بِبُطْلَانِهِ.
قَوْله: {فَمن} التَّأْوِيل {الْبعيد تَأْوِيل الْحَنَفِيَّة قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لغيلان بن سَلمَة وَقد أسلم على عشرَة نسْوَة: " اختر - وَفِي لفظ - أمسك مِنْهُنَّ أَرْبعا وَفَارق سائرهن " على ابْتِدَاء النِّكَاح، أَو إمْسَاك الْأَوَائِل} ، فَأَوَّلْته الْحَنَفِيَّة على ابْتِدَاء نِكَاح أَربع إِن كَانَ عقد عَلَيْهِنَّ مَعًا، وَإِن كَانَ تزوجهن متفرقات، على إمْسَاك الْأَوَائِل، وَهُوَ بعيد ومردود.
وَوجه بعده ورده: بِأَن الْفرْقَة لَو وَقعت بِالْإِسْلَامِ لم يخيره وَقد خَيره، والمتبادر عِنْد السماع من الْإِمْسَاك الاستدامة وَالسُّؤَال وَقع عَنهُ وَحصر التَّزْوِيج فِيهِنَّ وَلم يبين لَهُ شُرُوط النِّكَاح مَعَ مَسِيس الْحَاجة إِلَيْهِ؛ لقرب إِسْلَامه.
وَأَيْضًا لم ينْقل عَنهُ، وَلَا عَن غَيره مِمَّن أسلم على أَكثر من أَربع أَنه جدد النِّكَاح.
وَأَيْضًا فالابتداء يحْتَاج إِلَى رضى من يبتدئها وَيصير التَّقْدِير فَارق الْكل وابتدئ بعد ذَلِك من شِئْت فيضيع قَوْله: " اختر أَرْبعا "؛ لِأَنَّهُ قد لَا يرضين، أَو بَعضهنَّ.(6/2851)
وَأَيْضًا الْأَمر للْوُجُوب، وَكَيف يجب عَلَيْهِ ابتداؤه وَلَيْسَ بِوَاجِب فِي الأَصْل. وَمن ثمَّ قَالَ أَبُو زيد الدبوسي من الْحَنَفِيَّة: هَذَا الحَدِيث لَا تَأْوِيل فِيهِ وَلَو صَحَّ عِنْدِي لَقلت بِهِ.
قَوْله: {وَأبْعد مِنْهُ تأويلهم قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لفيروز الديلمي وَقد أسلم على أُخْتَيْنِ: " اختر أَيَّتهمَا شِئْت " على أحد الْأَمريْنِ} إِمَّا الِابْتِدَاء أَو إمْسَاك الأولى. أولت الْحَنَفِيَّة هَذَا الحَدِيث بالتأويلين الْمَذْكُورين فِي الَّذِي قبله، وَإِنَّمَا كَانَ أبعد من الَّذِي قبله؛ لِأَن النَّافِي للتأويل الْمَذْكُور فِي الأول هُوَ الْأَمر الْخَارِج عَن اللَّفْظ، وَهُوَ شَهَادَة الْحَال، وَهنا قد انْضَمَّ إِلَى شَهَادَة الْحَال مَانع لفظا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أَيَّتهمَا شِئْت " فَإِن بِتَقْدِير(6/2852)
نِكَاحهمَا على التَّرْتِيب تعْيين الأولى للاختيار، وَلَفظ: " أَيَّتهمَا شِئْت " يأباه. انْتهى.
تَنْبِيه: للحنفية تَأْوِيل ثَالِث فيهمَا وَهُوَ أَنه لَعَلَّ أَن يكون هَذَا كَانَ قبل حصر النِّسَاء فِي أَربع وَقبل تَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَهُوَ مَرْدُود بِمَا سبق.
قَوْله: {وتأويلهم: {فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} [المجادلة: 4] على إطْعَام طَعَام سِتِّينَ} مِسْكينا؛ لِأَن الْمَقْصُود دفع الْحَاجة، وَدفع حَاجَة سِتِّينَ كحاجة وَاحِد فِي سِتِّينَ يَوْمًا، فَجعلُوا الْمَعْدُوم وَهُوَ طَعَام، مَذْكُورا مَفْعُولا بِهِ، وَالْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: سِتِّينَ، مَعْدُوما لم يَجْعَلُوهُ مَفْعُولا بِهِ، مَعَ ظُهُور قصد الْعدَد، لفضل الْجَمَاعَة، وبركتهم، وتظافرهم على الدُّعَاء للمحسن، وَهَذَا لَا يُوجد فِي الْوَاحِد.
وَأَيْضًا حمله على ذَلِك تَعْطِيل للنَّص، ولهذه الْحِكْمَة شرعت الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا.(6/2853)
وَأَيْضًا فَلَا يجوز استنباط معنى من النَّص يعود عَلَيْهِ بالإبطال.
وانتصر الْمَازرِيّ للحنفية بِوَجْهَيْنِ، وَجه فقهي، وَوجه نحوي: فالفقهي أَنه لَا يلْزم من قَوْلهم إبِْطَال النَّص إِلَّا إِذا جوزوا إِعْطَاء الْمِسْكِين السِّتين مدا دفْعَة وَاحِدَة، أما فِي سِتِّينَ يَوْمًا فَكل يَوْم ذَلِك الْمُعْطى يصدق عَلَيْهِ أَنه مِسْكين، فَإِذا أطْعم فِي سِتِّينَ يَوْمًا كَانَ إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؛ لأَنهم لم يعينوا الْمُعْطى، إِنَّمَا ذَلِك على سَبِيل الِاتِّفَاق مثلا، وَأما النَّحْوِيّ فَذكر أَن سِيبَوَيْهٍ يقدر الْمصدر ب (مَا) ويقدره ب (أَن) فَهُنَا يقدره ب (مَا) أَي: فَمَا يطعم سِتِّينَ مِسْكينا، وَإِلَيْهِ جنح أَبُو حنيفَة، وَغَيره يقدره بِأَن.
ورد الأول بِأَن تَعْطِيل النَّص بالاتحاد حَاصِل، سَوَاء كَانَ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَو دفْعَة وَاحِدَة، وَقد سبق حِكْمَة الْجمع.
ورد الثَّانِي بِأَن الَّذِي يقدره سِيبَوَيْهٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمصدر الْعَامِل يقدره بالحرف المصدري مَعَ الْفِعْل على تَفْصِيله الْمَشْهُور فِي الْمَاضِي وَالْحَال والاستقبال.
قَالَ ابْن السُّبْكِيّ: وَقد أرْسلت إِلَى الشَّيْخ جمال الدّين، وَهُوَ أعلم هَذِه الأقاليم الْآن بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَ: لَا نَعْرِف مَا قَالَه الْمَازرِيّ فِي كَلَام(6/2854)
سِيبَوَيْهٍ. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالَه الْمَازرِيّ إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَت (مَا) مَوْصُولَة بِمَعْنى (الَّذِي) حَتَّى يكون معبرا [بِهِ] عَن الأمداد الَّتِي هِيَ الطَّعَام. انْتهى.
قَوْله: {وَأبْعد مِنْهُ} حَدِيث أبي بكر فِي كتاب فَرِيضَة الصَّدَقَة فِي البُخَارِيّ وَفِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ إِلَى عشْرين وَمِائَة شَاة شَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر " فِي الْغنم {فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة " على} أَن المُرَاد فِي أَرْبَعِينَ شَاة {قيمَة شَاة} ؛ لِأَن اندفاع الْحَاجة كَمَا يكون بِالشَّاة يكون بِالْقيمَةِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى بطلَان الأَصْل؛ لِأَنَّهُ إِذا وَجَبت الْقيمَة لم تجب الشَّاة فَعَاد هَذَا الاستنباط على النَّص بالإبطال، وَذَلِكَ غير جَائِز.
قيل: وَفِيه نظر؛ لأَنهم لم يبطلوا إِخْرَاج الشَّاة، بل قَالُوا بالتخيير بَين(6/2855)
الشَّاة وَقِيمَة الشَّاة، وَهُوَ استنباط يعود بالتعميم، كَمَا فِي " وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار " يعمم فِي الْخرق وَنَحْوهَا، وَفِي " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان " يعمم فِي كل مَا يشوش الْفِكر، وَلَا يعود بالإبطال.
وَأجِيب: بِأَن الشَّارِع لَعَلَّه رَاعى أَن يَأْخُذ الْفَقِير من جنس مَال الْغَنِيّ فيتشاركان فِي الْجِنْس فَتبْطل الْقيمَة فَعَاد بِالْبُطْلَانِ من هَذِه الْجِهَة، وَبَاب الزَّكَاة فِيهِ ضرب من التَّعَبُّد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: وَأَيْضًا فَإِذا كَانَ التَّقْدِير قيمَة شَاة يكون قَوْلهم بإجزاء الشَّاة لَيْسَ بِالنَّصِّ، بل بِالْقِيَاسِ فَيتْرك الْمَنْصُوص ظَاهرا، وَيخرج ثمَّ يدْخل بِالْقِيَاسِ فَهَذَا عَائِد بِإِبْطَال النَّص لَا محَالة.(6/2856)
وَهُوَ حسن وَوجه كَونه أبعد مِمَّا قبله؛ لِأَنَّهُ يلْزم أَن لَا تجب الشَّاة كَمَا تقدم، وكل فرع استنبط من أصل يبطل بِبُطْلَانِهِ كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَمِنْه تأويلهم} قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[فِيمَا] روه أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة: {" أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل "} ، وَفِي رِوَايَة: " بَاطِل، بَاطِل، بَاطِل " {على الصَّغِيرَة، وَالْأمة، وَالْمُكَاتبَة} .
وَوجه بعده: أَن الصَّغِيرَة لَيست بِامْرَأَة فِي لِسَان الْعَرَب، وَقد ألزموا بِسُقُوط هَذَا التَّأْوِيل على مَذْهَبهم؛ فَإِن الصَّغِيرَة لَو زوجت نَفسهَا كَانَ العقد عِنْدهم صَحِيحا لَكِن يتَوَقَّف على إجَازَة الْوَلِيّ، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
فَلَمَّا ألزموا بذلك فروا إِلَى حمله على الْأمة فألزموا بِبُطْلَانِهِ بقوله(6/2857)
عَلَيْهِ السَّلَام: " فلهَا الْمهْر " وَمهر الْأمة إِنَّمَا هُوَ لسَيِّدهَا، فَفرُّوا من ذَلِك إِلَى حمله على الْمُكَاتبَة، فَقيل لَهُم: هُوَ أَيْضا بَاطِل؛ لِأَن حمل صِيغَة الْعُمُوم الصَّرِيحَة، وَهِي أَي الْمُؤَكّدَة بِمَا مَعهَا فِي قَوْله: " أَيّمَا " على صُورَة نادرة لَا تخطر بالبال غَالِبا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى المخاطبين فِي غَايَة الْبعد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: حملوه على الصَّغِيرَة وَالْأمة، وَالْمُكَاتبَة، وباطل لمصيره إِلَيْهِ غَالِبا لاعتراض الْوَلِيّ إِن تزوجت بِغَيْر كُفْء؛ لِأَنَّهَا مالكة لبعضها فَكَانَ كَبيع مَالهَا فالصغيرة لَا تسمى امْرَأَة ونكاحها مَوْقُوف عِنْدهم، وَمهر الْأمة للسَّيِّد، وَالْمُكَاتبَة نادرة فأبطلوا ظُهُور قصد التَّعْمِيم لظُهُور (أَي) مُؤَكدَة ب (مَا) ، وتكرير لفظ الْبطلَان، وَحمله على نَادِر يعد كاللغز، وَلَيْسَ مثل هَذَا من كَلَام الْعَرَب، وَلَا يجوز.
[و] معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ. لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء بِحَيْثُ لَا يبْقى إِلَّا النَّادِر مَعَ إِمْكَان قصد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع اسْتِقْلَال الْمَرْأَة فِيمَا يَلِيق بمحاسن الْعَادَات، وَهُوَ النِّكَاح. انْتهى.
قَوْله: {و} من تأويلهم: {" لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من " اللَّيْل "} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة عَن ابْن عمر على خلاف(6/2858)
فِي رَفعه وَوَقفه، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَائِشَة، حملوه {على} صَوْم {الْقَضَاء وَالنّذر} بِنَاء مِنْهُم على مَذْهَبهم فِي صِحَة الْفَرْض بنية من النَّهَار.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: فجعلوه كاللغز، أَي: فِي حملهمْ الْعَام على صُورَة نادرة، فَإِن ثَبت مَا ادعوهُ من الحكم بِدَلِيل كَمَا قَالُوا فليطلب لهَذَا الحَدِيث تَأْوِيل قريب غير هَذَا مثل نفي الْكَمَال.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ أقرب من التَّأْوِيل السَّابِق.
قَالَ الكوراني: فَإِن قيل: إِنَّمَا حملوه على هَذَا لِأَنَّهُ ثَبت بِالدَّلِيلِ صِحَة الصَّوْم بنية النَّهَار فَيجب ذَلِك التَّأْوِيل. قُلْنَا: يحمل على نفي الْفَضِيلَة الَّذِي هُوَ معنى قريب؛ لِأَن [لَا] النافية ترد كثيرا لنفي الْفَضِيلَة كَمَا ذَكرُوهُ فِي قَوْله: " لَا صَلَاة لمن يقْرَأ بِأم الْكتاب ". انْتهى.
قَوْله: {و} من تأويلهم حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن حبَان من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا أَنه قَالَ: {" ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه "} وَهُوَ يرْوى بِالرَّفْع على(6/2859)
الْمَحْفُوظ، وَبِه ينتهض اسْتِدْلَال من اسْتدلَّ على أَنه يحل بِذَكَاة أمه إِذا لم يقدر على ذبحه، وَهُوَ مَذْهَبنَا، وَمذهب الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه، وَغَيرهم.
وَعند الْحَنَفِيَّة تجب ذَكَاة الْجَنِين مُطلقًا، ويروون الحَدِيث بِنصب ذَكَاة أمه على تَقْدِير كذكاة أمه، فنصب على إِسْقَاط الْخَافِض، وعَلى هَذَا يحملون رِوَايَة الرّفْع على حذف مُضَاف، أَي: مثل ذَكَاة أمه، ويوجهون النصب بتوجيه آخر، وَهُوَ أَنه مَنْصُوب على الْمَفْعُول الْمُطلق الْمُبين للنوع، وَالْعَامِل فِيهِ ذَكَاة الأول، وَالْخَبَر مَحْذُوف، أَي: وَاجِبَة، أَو لَازِمَة، أَو نَحْو ذَلِك.
لَكِن الْجُمْهُور وهموا رِوَايَة النصب، وَقَالُوا: الْمَحْفُوظ الرّفْع كَمَا قَالَه الْخطابِيّ وَغَيره، إِمَّا لِأَن ذَكَاة الأول خبر مقدم، وذكاة الثَّانِي هُوَ الْمُبْتَدَأ، أَي: ذَكَاة أم الْجَنِين ذَكَاة لَهُ، وَإِلَّا لم يكن للجنين مزية، وَحَقِيقَة الْجَنِين مَا كَانَ فِي الْبَطن [وذبحه فِي الْبَطن] لَا يُمكن فَعلم أَنه لَيْسَ المُرَاد أَنه يذكى كذكاة أمه، بل إِن ذَكَاة أمه ذَكَاة لَهُ [و] كَافِيَة عَن تذكيته.(6/2860)
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: " ذَكَاة الْجَنِين فِي ذَكَاة أمه "، وَفِي رِوَايَة: " بِذَكَاة " فالنصب إِن ثَبت فَهُوَ على حذف هَذَا الْخَافِض، لَا على حذف الْكَاف كَمَا زَعَمُوا.
قَالَ ابْن عمرون: تقديرهم حذف الْكَاف لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ جَوَاز قَوْلك: زيد عمرا، أَي: كعمرو.
وَأَيْضًا فَحذف حرف الْخَفْض من غير سبق فعل يدل على التَّوَسُّع فِيهِ، وعَلى تَقْدِير صِحَة النصب فَيجوز أَن يكون على الظَّرْفِيَّة، أَي: وَقت ذَكَاة أمه فَحذف الْمُضَاف، وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، وَهَذَا دَلِيل للْجَمَاعَة؛ لِأَن الثَّانِي إِنَّمَا يكون وقتا للْأولِ، إِذا أغْنى الْفِعْل الثَّانِي عَن الأول ويرجح هَذَا التَّقْدِير مُوَافَقَته لرِوَايَة الرّفْع.
قَوْله: وَمِنْه تأويلهم قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَال: 41] فِي آيتي الْفَيْء وَالْغنيمَة على الْفُقَرَاء مِنْهُم دون الْأَغْنِيَاء؛ لِأَن الْمَقْصُود دفع الْخلَّة، وَلَا خلة مَعَ الْغنى فعطلوا لفظ الْعُمُوم مَعَ ظُهُور أَن الْقَرَابَة هِيَ سَبَب استحقاقهم وَلَو مَعَ الْغنى لتعظيمها وتشريفها مَعَ إِضَافَته بلام التَّمْلِيك،(6/2861)
وَلَا يلْزمنَا نَحن، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة ذَلِك فِي الْيَتِيم للْخلاف فِيهِ.
فَإِن عللوا بالفقر وَلم تكن قرَابَة عطلوا لفظ ذِي الْقُرْبَى، وَإِن اعتبروهما مَعًا فَلَا يبعد، وغايته تَخْصِيص عُمُوم، كَمَا فعله الشَّافِعِي فِي أحد الْقَوْلَيْنِ فِي تَخْصِيص الْيَتَامَى بذوي الْحَاجة، لَكِن هُوَ أنزل من صَنِيع الشَّافِعِي فِي الْيَتَامَى من وَجْهَيْن، أَحدهمَا: أَنه زِيَادَة، وَأَبُو حنيفَة يَرَاهَا نسخا، والنسخ لَا يكون بِالْقِيَاسِ، واستنباط الْمَعْنى بِخِلَاف مَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الْيَتَامَى فَإِنَّهُ لَا يرى الزِّيَادَة نسخا.
وَالثَّانِي: أَن لفظ الْيَتِيم مَعَ قرينَة إِعْطَاء المَال مشْعر بِالْحَاجةِ فاعتباره مَأْخُوذ من نفس الْآيَة، واليتيم إِذا تجرد عَن الْحَاجة غير صَالح للتَّعْلِيل بِخِلَاف الْقَرَابَة فَإِنَّهَا مُنَاسبَة للإكرام بِاسْتِحْقَاق خمس الْخمس.
قَوْله: {وَتَأْويل الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: " من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر " على عمودي نسبه} . هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد،(6/2862)
وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة، وَالطَّبَرَانِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: لَا نعرفه مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن الْحسن، وَتكلم فِيهِ غير وَاحِد من الْحفاظ.
وَرُوِيَ من قَول عمر وَمن قَول الْحسن، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مُنكر.
فعلى تَقْدِير صِحَّته حمله بعض الشَّافِعِيَّة على الْأُصُول وَالْفُرُوع؛ لِأَن مَذْهَب الشَّافِعِي اخْتِصَاص الْعتْق بذلك، لَا مُطلق الرَّحِم، وَنَقله الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح عَن الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة.
وَإِنَّمَا كَانَ بَعيدا لصرفه اللَّفْظ الْعَام على بعض مدلولاته من غير دَلِيل.(6/2863)
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لعُمُوم اللَّفْظ وَظُهُور قَصده للتّنْبِيه على حُرْمَة الْمحرم وصلته.
قَالَ الكوراني: فَإِن قلت: فَمَا وَجه مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي إِذا لم يكن هَذَا التَّأْوِيل صَحِيحا عنْدكُمْ؟
قلت: لما دلّ الدَّلِيل على أَن الرّقّ لَا يَزُول إِلَّا بِالْعِتْقِ قَاس عتق الْأُصُول وَالْفُرُوع على وجوب النَّفَقَة؛ إِذْ لَا تجب عِنْده إِلَّا لِلْأُصُولِ وَالْفُرُوع، أَو بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح الْوَارِد فِي مُسلم: " لَا يُجزئ ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده عبدا فيشتريه فيعتقه " أَي: بِنَفس الشِّرَاء وَقد وَافقه الْخصم على هَذَا، وبالآية الْكَرِيمَة فِي عتق الْوَلَد وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون} [الْأَنْبِيَاء: 26] وَجه الدّلَالَة أَنه تَعَالَى أبطل إِثْبَات الولدية بِإِثْبَات الْعُبُودِيَّة فَعلم أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ عَن أصل الْحمل: لَكِن لَيْسَ للشَّافِعِيّ احْتِيَاج إِلَى هَذَا الْحمل لثُبُوت الحكم، إِنَّمَا لَهُ أَدِلَّة أُخْرَى مَشْهُورَة فِي الْفُرُوع، مَعَ ضعف الحَدِيث من الأَصْل فَلَيْسَ هَذَا الْحمل بمرضي عِنْد الحذاق.
تَنْبِيه: عِنْد الْعلمَاء أَمَاكِن كَثِيرَة من الْأَحَادِيث تأولت بتآويل غير مرضية يطول الْكتاب بذكرها.(6/2864)
(بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم)(6/2865)
فارغة(6/2866)
(قَوْله: {بَاب الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم} )
اعْلَم أَن الْمَعْنى الْمُسْتَفَاد من اللَّفْظ إِن اسْتُفِيدَ من حَيْثُ النُّطْق بِهِ سمي منطوقا، أَو من حَيْثُ السُّكُوت اللَّازِم للفظ سمي مفهوما.
قَوْله: {الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم} ، تقدم معنى الدّلَالَة وَأَنَّهَا مصدر دلّ، وَهِي كَون الشَّيْء يلْزم من فهمه فهم شَيْء آخر.
وَمَا يفهم قد يكون من بَاب النُّطْق، وَقد يكون من بَاب غير النُّطْق، فالمنطوق هُوَ: مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ فِي مَحل النُّطْق.
وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيح إِن وضع اللَّفْظ لَهُ، فَيدل عَلَيْهِ بالمطابقة أَو التضمن حَقِيقَة ومجازا على مَا تقدم من أَن التضمن لَفْظِي، وَتقدم الْخلاف فِيهِ.(6/2867)
وَغير صَرِيح، وَهُوَ مَا يلْزم عَنهُ، أَي: مَا دلّ عَلَيْهِ فِي غير مَا وضع لَهُ، وَإِنَّمَا يدل من حَيْثُ إِنَّه لَازم لَهُ، فَهُوَ دَال عَلَيْهِ بالالتزام، وَهُوَ ثَلَاثَة أَقسَام: اقْتِضَاء، وَإِشَارَة، وإيماء؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون مَقْصُودا للمتكلم، وَلَكِن يتَوَقَّف على مَا يُصَحِّحهُ، أَو لَا يتَوَقَّف، أَو يكون غير مَقْصُود للمتكلم.
فَالْأول وَهُوَ مَا توقفت دلَالَته على مُقَدّر آخر، وجهات التَّوَقُّف ثَلَاث: مَا يتَوَقَّف فِيهِ صدق اللَّفْظ، وَمَا يتَوَقَّف فِيهِ صِحَة الحكم عقلا وَمَا يتَوَقَّف فِيهِ صِحَة الحكم شرعا.
الأول: مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ: " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان "، فَإِن ذَات الْخَطَأ وَالنِّسْيَان لم يرتفعا فيتضمن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الصدْق من لفظ الْإِثْم، والمؤاخذة، وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي: مثل قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] (واسأل العير) أَي: أهل الْقرْيَة وَأهل العير؛ إِذْ لَو لم يقدر ذَلِك لم يَصح ذَلِك(6/2868)
عقلا؛ إِذْ الْقرْيَة، وَالْعير لَا يسألان.
وَمثله: {أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} [الشُّعَرَاء: 63] أَي: فَضرب فانفلق، وَمثله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] أَي: فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام أخر.
وَالثَّالِث: كَقَوْل الْقَائِل: اعْتِقْ عَبدك عني على كَذَا، أَو مجَّانا، فَإِنَّهُ فِي الأول بيع ضمني، وَفِي الثَّانِي هبة ضمنية؛ لاستدعائه سبق الْملك لتوقف الْعتْق عَلَيْهِ فدلالة اللَّفْظ دلَالَة اقْتِضَاء.
وَأما الثَّانِي - وَهُوَ مَا يكون غير مَقْصُود للمتكلم - فَهُوَ كَمَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " النِّسَاء ناقصات عقل وَدين "، قيل: وَمَا نُقْصَان دينهن؟ قَالَ: " تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر عمرها لَا تصلي " لم(6/2869)
يقْصد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان أَكثر الْحيض وَأَقل الطُّهْر، لكنه لزم من اقْتِضَاء الْمُبَالغَة ذكر ذَلِك.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} [الْأَحْقَاف: 15] مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وفصاله فِي عَاميْنِ} [لُقْمَان: 14] يلْزم أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] يلْزم مِنْهُ جَوَاز الإصباح جنبا.
وَقد حُكيَ هَذَا الاستنباط عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ من أَئِمَّة التَّابِعين.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فالئن باشروهن} إِلَى قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم} كل ذَلِك يُسمى دلَالَة إِشَارَة.
قَوْله: {وَإِن لم يتَوَقَّف واقترن بِحكم لَو لم يكن لتعليله كَانَ بَعيدا} فيفهم مِنْهُ التَّعْلِيل، وَيدل عَلَيْهِ، وَإِن لم يُصَرح بِهِ؛ {وَيُسمى تَنْبِيها وإيماء} ،(6/2870)
وَسَيَأْتِي فِي بَاب الْقيَاس فِي الثَّانِي من مسالك الْعلَّة بأقسام مفصلة.
تَنْبِيه: جعل دلَالَة الِاقْتِضَاء، وَالْإِشَارَة من أَقسَام الْمَنْطُوق، وَكَذَلِكَ دلَالَة التَّنْبِيه والإيماء، وَهِي طَريقَة ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَجَمَاعَة، وَنحن تابعناهم على ذَلِك، وَهُوَ خلاف مَا صرح بِهِ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره من كَونهَا أقساما للمفهوم.
وقوى هَذَا بَعضهم، وَتعقب على ابْن الْحَاجِب مَا صنع مَعَ قَوْلنَا: أَن الْمَنْطُوق مَا دلّ فِي مَحل النُّطْق، وَالْمَفْهُوم فِي غير مَحل النُّطْق فَأَيْنَ دلَالَة مَحل النُّطْق فِي هَذَا؟
وَقد وَقع بَين القونوي والأصفهاني بحث فِي ذَلِك وكتبا فِيهِ رسالتين، وانتصر الْأَصْفَهَانِي لِابْنِ الْحَاجِب.(6/2871)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر؛ لِأَن للفظ دلَالَة عَلَيْهَا من حَيْثُ هُوَ مَنْطُوق بِخِلَاف الْمَفْهُوم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يدل من [حَيْثُ] هُوَ قَضِيَّة عقلية خَارِجَة عَن اللَّفْظ.
قَالَ بعض شُيُوخنَا: وَيُمكن أَن يَجْعَل ذَلِك وَاسِطَة بَين الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم؛ وَلِهَذَا اعْترف بهَا من يُنكر الْمَفْهُوم.
قَوْله: {وَسمي فِي " الْعدة " الْإِضْمَار} إِلَى آخِره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وسمى فِي " الْعدة " الْإِضْمَار مَفْهُوم الْخطاب وفحواه، ولحنه، وَسَماهُ فِي " التَّمْهِيد " لحن الْخطاب، قَالَ: وَمعنى الْخطاب الْقيَاس، وسمى الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة " {مَا فهم مِنْهُ التَّعْلِيل إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْخطاب، ولحنه} .
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": فهم التَّعْلِيل من إِضَافَة الحكم إِلَى الْوَصْف الْمُنَاسب ك {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] يفهم مِنْهُ كَون السّرقَة عِلّة فَلَيْسَ بمنطوق، وَلَكِن يسْبق إِلَى الْفَهم من فحوى الْكَلَام، وَكَذَا قَوْله: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] أَي: لبرهم، وفجورهم، وَهَذَا قد يُسمى إِيمَاء، وَإِشَارَة، وفحوى الْكَلَام ولحنه.(6/2872)
وَهَذَا كُله مُجَرّد اصْطِلَاح.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: النَّص الصَّرِيح، زَاد القَاضِي، وَابْن الْبَنَّا: وَإِن احْتمل غَيره} .
{و} قَالَ {الْمجد} بن تَيْمِية: {مَا أَفَادَ الحكم يَقِينا أَو ظَاهرا، وَنقل عَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ.
وَقيل: يَقِينا} .
{و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة ": {مَا أَفَادَ الحكم بِنَفسِهِ بِلَا احْتِمَال أَو احْتِمَال لَا دَلِيل عَلَيْهِ} .
وَيُطلق على الظَّاهِر، وَلَا مَانع مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة الظُّهُور، فالنص لُغَة: الْكَشْف والظهور وَمِنْه: نصت الظبية رَأسهَا، أَي: رفعته وأظهرته، وَمِنْه(6/2873)
منصة الْعَرُوس، وَقَالَهُ المطرزي.
قَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: حد النَّص فِي الشَّرْع مَا عري لَفظه عَن الشّركَة وَمَعْنَاهُ عَن الشَّك.
وَقَالَ آخَرُونَ: النَّص هُوَ الْخطاب الْوَاقِع على غير وَاحِد.
قَالَ الْقَرَافِيّ: للنَّص ثَلَاثَة اصْطِلَاحَات:
أَحدهَا: مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل.
الثَّانِي: مَا احتمله احْتِمَالا مرجوحا كَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الْغَالِب فِي إِطْلَاق الْفُقَهَاء.
الثَّالِث: مَا دلّ على معنى كَيفَ [مَا] كَانَ. انْتهى.
وَزَاد ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره رَابِعا، وَهُوَ: دلَالَة الْكتاب وَالسّنة مُطلقًا، وَهُوَ اصْطِلَاح كثير من متأخري الخلافيين، وَعَلِيهِ مَشى الْبَيْضَاوِيّ فِي الْقيَاس.(6/2874)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: كَمَا يُطلق النَّص فِي مُقَابلَة الظَّاهِر يُطلق أَيْضا فِي مُقَابلَة الاستنباط، فَيُقَال مثلا: دلّ عَلَيْهِ النَّص وَالْقِيَاس، فَهُوَ أَعم من أَن لَا يكون مَعَه احْتِمَال آخر، أَو مَعَه.
وَهَذَا كَمَا سَيَأْتِي أَن الْعلَّة إِمَّا منصوصة، أَو مستنبطة، وَفِي أَن شَرط الْفَرْع أَن لَا يكون مَنْصُوصا، وَنَحْو ذَلِك، وَمن هَذَا قَوْلهم: نَص الشَّافِعِي [على] كَذَا فِي مُقَابلَة قَول مَرْجُوح أَو نَحوه يعنون أَعم من النَّص، وَالظَّاهِر. انْتهى.
قَوْله: {الثَّانِيَة: قَالَ} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي كتاب " الْإِيضَاح ": {الْمَقْطُوع بِهِ اللَّفْظ الدَّال دلَالَة لَا تحْتَمل التَّأْوِيل} .
قَوْله: {وَمَفْهُوم} . هَذَا مَعْطُوف على قَوْلنَا فِي أول الْبَاب: الدّلَالَة مَنْطُوق، أَي: الدّلَالَة مَنْطُوق، وَمَفْهُوم.
وَهُوَ {مَا دلّ عَلَيْهِ} اللَّفْظ {لَا فِي مَحل النُّطْق} ، وَإِن كَانَ فِي الأَصْل لكل مَا فهم من نطق، أَو غَيره؛ لِأَنَّهُ اسْم مفعول فهم يفهم، لَكِن(6/2875)
اصْطَلحُوا على اخْتِصَاصه بِهَذَا، أَو هُوَ الْمَفْهُوم الْمُجَرّد الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى النُّطْق، لَكِن فهم من غير تَصْرِيح بالتعبير عَنهُ، بل لَهُ استناد إِلَى طَرِيق عَقْلِي.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْتَفَادَ الحكم من الْمَفْهُوم مُطلقًا، هَل هُوَ بِدلَالَة الْعقل من جِهَة التَّخْصِيص بِالذكر، أم مُسْتَفَاد من اللَّفْظ؟ على قَوْلَيْنِ.
قطع أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان " بِالثَّانِي فَإِن اللَّفْظ لَا يشْعر بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا دلَالَته بِالْوَضْعِ، لَا شكّ أَن الْعَرَب لم تضع اللَّفْظ ليدل على شَيْء مسكوت عَنهُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يشْعر بِهِ بطرِيق الْحَقِيقَة، أَو بطرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ الْمَفْهُوم وَاحِدًا مِنْهُمَا.
وَلَا خلاف أَن دلَالَته لَيست وضعية، إِنَّمَا هِيَ إشارات ذهنية من بَاب التَّنْبِيه بِشَيْء على شَيْء.
إِذا علم ذَلِك فالمفهوم نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: مَفْهُوم الْمُوَافقَة.
وَالثَّانِي: مَفْهُوم الْمُخَالفَة.
فمفهوم الْمُوَافقَة أَن يكون الْمَسْكُوت مُوَافقا لمنطوق فِي الحكم،(6/2876)
{وَيُسمى فحوى الْخطاب، ولحن الْخطاب} .
فلحن الْخطاب مَا لَاحَ فِي أثْنَاء اللَّفْظ، قَالَ الْآمِدِيّ: أَي معنى الْخطاب. {زَاد} القَاضِي {فِي " الْعدة " و} أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد ": وَمَفْهُوم الْخطاب، وَسَماهُ الْمُوفق فحواه، وسمى جمَاعَة} - مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبيضاوي - {لحن الْخطاب} .
{وَالْأولَى فحواه} ، وَيَأْتِي قَرِيبا، مِثَال فحوى الْخطاب مَا يفهم مِنْهُ بطرِيق الْقطع، كدلالة تَحْرِيم التأفيف على تَحْرِيم الضَّرْب، فَهُوَ أولى مِنْهُ بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ أَشد مِنْهُ.
وَمِثَال لحن الْخطاب أَي: معنى الْخطاب مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} [مُحَمَّد: 30] أَي: فِي مَعْنَاهُ، كتحريم(6/2877)
إحراق مَال الْيَتِيم الدَّال عَلَيْهِ نظرا فِي الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} [النِّسَاء: 10] فالإحراق مسَاوٍ لأكل مَالهم بِوَاسِطَة الْإِتْلَاف فِي الصُّورَتَيْنِ.
فَسَماهُ بَعضهم كَمَا تقدم لحن الْخطاب، وَالَّذِي قبله فحوى الْخطاب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما تَسْمِيَة الأولوي بفحوى الْخطاب، والمساوي بلحن الْخطاب فَعَلَيهِ قوم من أَصْحَابنَا، وَبَعْضهمْ يُسَمِّي الأولوي بالاسمين مَعًا.
وَحكى الْمَاوَرْدِيّ فِي الْفرق بَينهمَا وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: مَا سبق.
وَالثَّانِي: أَن الفحوى مَا نبه عَلَيْهِ اللَّفْظ، واللحن مَا يكون محالا على غير المُرَاد فِي الأَصْل والوضع، وَالْمَفْهُوم مَا يكون المُرَاد بِهِ الْمظهر والمسقط. انْتهى.
إِذا عرفت ذَلِك فتحريم الضَّرْب من قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} [الْإِسْرَاء: 23] من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى، وَهُوَ التأفيف على الْأَعْلَى وَهُوَ الضَّرْب، وتأدية مَا دون القنطار من قَوْله تَعَالَى: {يؤده إِلَيْك} [آل عمرَان:(6/2878)
75 -] فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك} من بَاب التَّنْبِيه بالأعلى وَهُوَ تأدية القنطار على الْأَدْنَى، وَهُوَ تأدية مَا دونه. هَكَذَا قَالَ جمَاعَة، مِنْهُم الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى ".
وَقَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": حَقِيقَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة لَا تنفك عَن التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] ، {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك} فَإِن التأفيف والذرة وَالدِّينَار تدل على أَن الحكم فِي الْأَعْلَى بِالطَّرِيقِ الأولى.
وَفِي " الْمُنْتَهى " هُوَ التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، وبالأعلى على الْأَدْنَى، وَحذف الثَّانِي فِي " الْمُخْتَصر "، وَاقْتصر على الْقسم الأول؛ لِأَنَّهُ يُوجد معنى الْأَدْنَى على وَجه يَشْمَل معنى الْأَعْلَى كالمناسبة، مثلا يُقَال: التأفيف(6/2879)
أدنى مُنَاسبَة بِالتَّحْرِيمِ من الضَّرْب، والذرة أدنى مُنَاسبَة بالجزاء من الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَالْقِنْطَار، وَإِن كَانَ أَعلَى من الدِّينَار لكنه أدنى مُنَاسبَة للتأدية من الدِّينَار، فيكتفي بالأدنى على الْأَعْلَى؛ لاندراج الْكل تَحْتَهُ، وَإِذا كَانَ الْمَذْكُور أدنى مُنَاسبَة كَانَ الْمَسْكُوت عَنهُ أَشد مُنَاسبَة بالحكم، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن لَا تعد الْمُسَاوَاة من مَفْهُوم الْمُوَافقَة كالاستدلال بِحرْمَة أكل مَال الْيَتِيم على حُرْمَة إحراق مَاله؛ إِذْ لَا مزية فِي اسْتِحْقَاق الْإِثْم لأَحَدهمَا على الآخر، وَقد عدده الْغَزالِيّ مِنْهُ.
قَوْله: {وَشَرطه فهم الْمَعْنى فِي مَحل النُّطْق، وَأَنه أولى، أَو مسَاوٍ، وَقيل: لَا يكون مُسَاوِيا وَهُوَ لَفْظِي} .
نَص الْغَزالِيّ وَغَيره أَنه مُجَرّد ذكر الْأَدْنَى لَا يحصل مِنْهُ التَّنْبِيه على الْأَعْلَى مَا لم يعلم الْمَقْصُود من الْكَلَام، وَمَا سيق لَهُ فلولا معرفتنا بِأَن الْآيَة إِنَّمَا سيقت لتعظيم الْوَالِدين لما فهمنا حُرْمَة الضَّرْب من قَوْله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِذْ قد يَأْمر السُّلْطَان بقتل إِنْسَان وَيَقُول لَهُ: لَا تقل لَهُ أُفٍّ، وَلَكِن اضْرِب عُنُقه. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " والطوفي وَغَيرهمَا.(6/2880)
وَالصَّحِيح أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة قِسْمَانِ: قسم يكون أولى بالحكم، وَهُوَ الْأَكْثَر، وَقسم يكون مُسَاوِيا، وَقد تقدم مثالهما.
وَهَذَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ ظَاهر استدلالات الْأَئِمَّة.
وَقيل: لَا يكون مَفْهُوم الْمُوَافقَة مُسَاوِيا للمنطوق، وَهُوَ مُقْتَضى نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للْأَكْثَر، وَبِه قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة وَإِن كَانَ مثل الأولى فِي الِاحْتِجَاج بِهِ قَالُوا: وَالْخلاف فِي التَّسْمِيَة فَقَط، وَأما الِاحْتِجَاج فيحتج بالمساوي كاحتجاجهم بِالْأولَى، وَلذَلِك قُلْنَا وَهُوَ لَفْظِي، أَي: الْخلاف فِي اللَّفْظ لَا فِي الْمَعْنى.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الْعلمَاء} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حجَّة، ذكره بَعضهم إِجْمَاعًا لتبادر فهم(6/2881)
الْعُقَلَاء، وَاخْتلف النَّقْل عَن دَاوُد.
قَوْله: {ودلالته لفظية} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل هِيَ لفظية، أَو قِيَاس؟ على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن دلَالَته لفظية، وَهُوَ الصَّحِيح، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَقَالَهُ من أَصْحَابه القَاضِي أَبُو يعلى، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ عَن أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْحَنَفِيَّة، والمالكية،(6/2882)
وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والظاهرية، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي تبعا لأصليهما، وَنَقله سليم فِي " التَّقْرِيب " عَن الْمُتَكَلِّمين بأسرهم من الأشعرية والمعتزلة، وَسَماهُ الْحَنَفِيَّة دلَالَة النَّص.
وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب بِأَنَّهُ يفهم لُغَة قبل شرع الْقيَاس ولاندراج أَصله فِي فَرعه، نَحْو: لَا تعطه ذره.
وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام، ويشترك فِي فهمه اللّغَوِيّ وَغَيره بِلَا قرينَة.
ثمَّ لَهُم على هَذَا القَوْل مذهبان:
أَحدهمَا: أَنَّهَا لفظية فهمت من السِّيَاق والقرائن، وَهُوَ قَول الْغَزالِيّ والآمدي، وَقَوله فِي " جمع الْجَوَامِع " عَنْهُمَا فهمت من السِّيَاق والقرائن،(6/2883)
وَهِي مجازية من إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، هُوَ مِمَّا تصرف فِيهِ من نَفسه، وَإِلَّا فَلَيْسَ هَذَا من كَلَام الْغَزالِيّ والآمدي، وَإِنَّمَا كَلَامهمَا أَنَّهَا فهمت من السِّيَاق والقرائن لَا غَيره.
وَقد رَأَيْت كَلَام الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " فَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمجَاز أَلْبَتَّة، وَلِهَذَا قَالَ الكوراني: وَلَيْسَ فِي كَلَام الْغَزالِيّ ذكر الْمجَاز لَا صَرِيحًا، وَلَا كِنَايَة، قَالَ: وَمَا زَعمه المُصَنّف - يَعْنِي ابْن السُّبْكِيّ - من أَن الدّلَالَة الْمَذْكُورَة مجازية غير مُسْتَقِيم؛ لِأَن الْمجَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ لعلاقة بَين الْمَعْنيين، أَو الْكَلِمَة المستعملة فِي غير مَا وضع لَهُ، لعلاقة مَعَ قرينَة دَالَّة على عدم جَوَاز إِرَادَة مَا وضع لَهُ وَلَا شكّ أَن قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} مُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، غَايَته أَنه علم مِنْهُ حُرْمَة الضَّرْب بقرائن الْأَحْوَال، وَسِيَاق الْكَلَام، وَاللَّفْظ لَا يصير بذلك مجَازًا، فَكَأَنَّهُ لم يفرق بَين الْقَرِينَة المفيدة للدلالة والقرينة الْمَانِعَة من إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَالثَّانيَِة هِيَ اللَّازِمَة للمجاز دون الأولى. انْتهى.
وَقد أَجَاد ثمَّ قَالَ: وَالْعجب أَن شرَّاح كَلَامه لم ينتبهوا لهَذَا مَعَ ظُهُوره. انْتهى.(6/2884)
وَظَاهر كَلَام ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه " أَنه جعل قَوْله: (وَهِي مجازية) إِلَى آخِره من كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي، وَلَيْسَ كَذَلِك لما ذكرنَا.
وَأما الْمحلي فِي " شَرحه " فتردد فِي ذَلِك هَل هُوَ من كَلَامهمَا أَو من كَلَام المُصَنّف؟ وَلَو عاود كَلَام الْغَزالِيّ، والآمدي؛ لعلم أَن هَذَا الْكَلَام لَيْسَ من كَلَامهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ من تَصَرُّفَات المُصَنّف.
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَن اللَّفْظ لَهَا عرفا، فَهِيَ لفظية حَقِيقَة.
نقل اللَّفْظ فِي الْعرف من وَضعه الْأَصْلِيّ لثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور خَاصَّة إِلَى ثُبُوت الحكم فِي الْمَذْكُور، والمسكوت مَعًا. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
ثمَّ قَالَ: قَالَ الشَّارِح - وَهُوَ الزَّرْكَشِيّ -: وَهَذَا الَّذِي أَخّرهُ المُصَنّف وَضَعفه هُوَ الَّذِي ذكره المُصَنّف فِي الْعُمُوم حَيْثُ قَالَ: وَقد يعم اللَّفْظ عرفا كالفحوى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: قلت لَعَلَّه مثل بِهِ هُنَاكَ لهَذَا الْقسم على رَأْي مَرْجُوح. انْتهى.(6/2885)
لَكِن قَالَ الكوراني عَن هَذَا القَوْل: يَعْنِي ذهبت طَائِفَة إِلَى أَن اللَّفْظ صَار حَقِيقَة عرفية فِي الْمَعْنى الالتزامي الَّذِي هُوَ الضَّرْب فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} صَار اللَّفْظ حَقِيقَة فِي المجازاة فِي الْأَكْثَر.
ثمَّ قَالَ: وَهَذَا القَوْل بَاطِل؛ لِأَن الْمُفْردَات كلهَا مستعملة فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة بِلَا ريب مَعَ إِجْمَاع السّلف على أَن فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة إِلْحَاقًا لفرع بِأَصْل، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَن ذَلِك بِالشَّرْعِ أَو باللغة، وَعند الْحَنَفِيَّة، يُسمى دلَالَة النَّص وهم مجمعون على أَن هَذِه الدّلَالَة تفهم لُغَة، وَلَا حَاجَة إِلَى مُلَاحظَة الشَّرْع فِي ذَلِك. انْتهى.
{وَعند الشَّافِعِي وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن أبي مُوسَى، والجوزي، وَأبي الْخطاب، والحلواني، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل، والطوفي من(6/2886)
أَصْحَابنَا {قِيَاس جلي} ؛ لِأَنَّهُ لم يلفظ بِهِ، وَإِنَّمَا حكم بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرك فَهُوَ من بَاب الْقيَاس قيس الْمَسْكُوت على الْمَذْكُور قِيَاسا جليا؛ فَإِنَّهُ إِلْحَاق فرع بِأَصْل لَعَلَّه مستنبطة فَيكون قِيَاسا شَرْعِيًّا لصدق حَده عَلَيْهِ كَمَا سَمَّاهُ الشَّافِعِي بذلك فَإِنَّهُ يشْتَرط فِي الْقيَاس الْجَلِيّ كَون الحكم فِي الْمَقِيس أولى من الْمَقِيس عَلَيْهِ.
ورد: بِأَن الْمَعْنى شَرط لدلَالَة الملفوظ عَلَيْهِ لُغَة بِخِلَاف الْقيَاس.
وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية: إِن قصد التَّنْبِيه فَلَيْسَ قِيَاسا؛ لِأَنَّهُ المُرَاد، وَإِن قصد الْأَدْنَى فَقِيَاس.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الِاحْتِجَاج فِي مثل صُورَة الفحوى الْمَذْكُورَة على الْمَسْكُوت بِحكم الْمَذْكُور هَل هُوَ بطرِيق الْمَفْهُوم، أَو بطرِيق آخر؟
وَإِذا قُلْنَا بطرِيق آخر فَمَا هُوَ؟ وَحَاصِل مَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال، مَعَ الأول تصير أَرْبَعَة:
الأول مِنْهَا: بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الْمَشْهُور.
وَالثَّانِي: إِنَّه من بَاب الْقيَاس.(6/2887)
وَالثَّالِث: إِن اللَّفْظ الدَّال على الْأَخَص نقل عرفا إِلَى الْأَعَمّ، فَنقل: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِلَى معنى وَلَا تؤذهما.
وَالرَّابِع: إِنَّه أطلق على الْأَعَمّ إطلاقا مجازيا من بَاب إِطْلَاق الْأَخَص على الْأَعَمّ، وَلم يبلغ فِي الاشتهار أَن يصير حَقِيقَة عرفية، وَإِنَّمَا دلّ على إِرَادَة الْمجَاز فِيهِ السِّيَاق والقرائن.
وَقَالَ بِهِ كثير من الْمُحَقِّقين كالغزالي فِي مَوضِع، وَإِن كَانَ فِي مَوضِع أطلق أَن النَّص دلّ عَلَيْهِ بالفحوى، فَإِنَّهُ جرى هُنَا على الْمَشْهُور، وحقق هُنَاكَ، قَالَ: وَالْحق أَن لَهُ جِهَتَيْنِ: جِهَة هُوَ بهَا قِيَاس حَقِيقَة، وجهة هُوَ بهَا مُسْتَند إِلَى اللَّفْظ، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للشَّيْء اعتباران، فَلذَلِك أجمع على القَوْل بِهِ مثبتو الْقيَاس ومنكروه كل نظر إِلَى جِهَة.
فَائِدَة: اخْتلف هَل لهَذَا الْخلاف - أَعنِي هَل هُوَ لَفْظِي أَو قِيَاس - فَائِدَة، أَو الْخلاف لَفْظِي؟ قيل: الْخلاف لَفْظِي، وَالصَّحِيح خِلَافه، بل من فَوَائده أَنه إِذا قُلْنَا دلَالَته لفظية يجوز النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا: أَنه يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر إِن كَانَ قِيَاسا، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه فِي " المنخول ". وَقَالَ الْأُسْتَاذ: وَهُوَ قِيَاس، وَلَا يقدم عَلَيْهِ الْخَبَر، وَهُوَ أقوى.(6/2888)
قَوْله: {وَهُوَ قَطْعِيّ كرهن مصحف عِنْد ذمِّي، وظني كشفعة ذمِّي، وَنفي الْفَخر الْقطعِي} .
مِثَال الْقطعِي: مَا احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد فِي رهن الْمُصحف عِنْد الذِّمِّيّ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن السّفر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن تناله أَيْديهم فَهَذَا قَاطع، وَكَذَلِكَ الْأَمْثِلَة الْمُتَقَدّمَة فَإِنَّهَا قَطْعِيَّة.
والقطعي كَون التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع قطعيين.
وَمِثَال الظني: مَا احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد فِي أَنه لَا شُفْعَة لذِمِّيّ على مُسلم، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " وَإِذا لقيتموهم فِي طَرِيق فاضطروهم إِلَى أضيقه " فَهَذَا مظنون.(6/2889)
وَكَذَا شَهَادَة الْكَافِر، وَإِيجَاب الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد، وَيَمِين الْغمُوس على مَا يَأْتِي بعد هَذَا.
وَزعم أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ الْفَخر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا فِي جدله أَنه لَيْسَ فِيهِ قَطْعِيّ؛ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة غير مَا عللوه بِهِ.
وَالْأَكْثَر على خِلَافه.
قَوْله: {وَإِذا ردَّتْ شَهَادَة فَاسق فكافر أولى، فظني وَقيل: فَاسد} .
تقدم حد الْقطعِي، وَأما الظني فَهُوَ مَا إِذا كَانَ التَّعْلِيل فيهمَا ظنيا، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع ظنيا، فَإِن كَانَا قطعيين فقطعي وَإِن كَانَ أَحدهمَا ظنيا فظني.
مِثَال الظني قَوْلهم: إِذا ردَّتْ شَهَادَة الْفَاسِق فالكافر أولى برد شَهَادَته؛ إِذْ الْكفْر فسق وَزِيَادَة، فَهُوَ ظَنِّي على الصَّحِيح، اخْتَارَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، و " شَرحه "، وَابْن الْحَاجِب(6/2890)
وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ وَاقع فِي مَحل الِاجْتِهَاد، إِذْ يجوز أَن يكون الْكَافِر عدلا فِي دينه فيتحرى الصدْق، وَالْأَمَانَة، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِن الْكَافِر الْعدْل فِي دينه يَلِي مَال وَلَده على الصَّحِيح من الْوَجْهَيْنِ، بِخِلَاف الْمُسلم الْفَاسِق، فَإِن مُسْتَند قبُول شَهَادَته الْعَدَالَة، وَهِي مفقودة، فَهُوَ فِي مَظَنَّة الْكَذِب؛ إِذْ لَا وازع لَهُ عَنهُ، فَهَذَا ظَنِّي غير قَاطع.
وَقيل: فَاسد، ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "؛ لِأَن التَّعْلِيل بِكَوْن الْكَافِر أولى بِالرَّدِّ مَرْدُود لما تقدم.
قَوْله: {وَكَذَا إِيجَاب كَفَّارَة فِي قتل عمد، وَيَمِين غموس} ، يَعْنِي: أَن ذَلِك ظَنِّي، واختصاص قتل الْعمد بِسُقُوط الْكَفَّارَة دون الْخَطَأ إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمسقط مُنَاسِب وَهُوَ عظم الذَّنب، فَهُوَ أعظم من أَن يكفر، كاليمين الْغمُوس، وَهِي الْيَمين الكاذبة؛ لِأَنَّهَا أعظم من أَن تكفر، وَلذَلِك سميت غموسا؛ لِأَنَّهَا تغمس صَاحبهَا فِي النَّار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَيْمَان، فَإِن الْحَالِف لم يتَعَمَّد الْكَذِب فِيهَا حَتَّى يحصل لَهُ ذَلِك، فَهَذَا أَيْضا ظَنِّي غير قَاطع.(6/2891)
وَقيل: فَاسد، ذكره ابْن مُفْلِح، وَعند الإِمَام الشَّافِعِي تجب الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَقَالَهُ أَصْحَابه.
وَقَالُوا: إِن الْكَفَّارَة شرعت للرجز لَا للجبر، وزجر الْمُتَعَمد أَحَق من الْمُخطئ.
قَوْله: {وَإِذا جَازَ السّلم مُؤَجّلا فحال أولى لبعده من الْغرَر وَهُوَ الْمَانِع فَاسد} .
مَفْهُوم الْمُوَافقَة إِمَّا قَاطع كآية التأفيف، وَنَحْوهَا، أَو ظَنِّي، ثمَّ الظني إِمَّا صَحِيح وَاقع فِي مَحل الِاجْتِهَاد كرد الشَّهَادَة، وَوُجُوب الْكَفَّارَة كَمَا ذكر، أَو فَاسد، كَقَوْلِه: إِذا جَازَ السّلم مُؤَجّلا فَهُوَ حَال أجوز لبعده من الْغرَر؛ إِذْ الْمُؤَجل على غرر، هَل يحصل أَو لَا يحصل؟ وَالْحَال مُتَحَقق الْحُصُول فِي الْحَال فَهُوَ أولى بِالصِّحَّةِ، لَكِن هَذَا مَرْدُود بِأَن الْغرَر فِي الْعُقُود مَانع من الصِّحَّة لَا مُقْتَض لَهَا.(6/2892)
وَالْحكم إِنَّمَا يثبت لوُجُود مقتضيه ومصححه، لَا لانْتِفَاء مانعه؛ إِذْ قد سبق أَن الْمَانِع يلْزم من وجوده الْعَدَم، وَلَا يلْزم من عَدمه وجود وَلَا عدم، والمقتضى لصِحَّة السّلم هُوَ الارتفاق بالأجل على مَا قرر فِي كتب الْفُرُوع: كالأجل فِي الْكِتَابَة، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَال، وَالْغرر مَانع لَهُ، لكنه احْتمل فِي الْمُؤَجل رخصَة وتحقيقا للمقتضي وَهُوَ الارتفاق. وَالله أعلم.
وَعند الشَّافِعِي وَأَصْحَابه يَصح؛ لِأَن بيع مَا فِي الذِّمَّة لَهُ فَوَائِد، جوز السّلم لأَجلهَا، وَتلك مَوْجُودَة فِي الْحَال، كَمَا فِي الْمُؤَجل مَعَ كَونه أقل خطرا وغررا.
قَوْله: {وَإِن خَالف فمفهوم مُخَالفَة وَيُسمى دَلِيل الْخطاب} .
قد تقدم أَن الْمَفْهُوم نَوْعَانِ: مَفْهُوم مُوَافقَة تقدّمت أَحْكَامه، وَمَفْهُوم مُخَالفَة، وَهُوَ أَن الْمَسْكُوت مُخَالف فِي الحكم، وَيُسمى هَذَا النَّوْع دَلِيل الْخطاب، وَإِنَّمَا سمى بذلك؛ لِأَن دلَالَته من جنس دلالات الْخطاب، أَو لِأَن الْخطاب دَال عَلَيْهِ، أَو لمُخَالفَته منظوم الْخطاب.
وَمِنْهُم من يُسَمِّيه لحن الْخطاب.(6/2893)
وَقَوله: {وَشَرطه أَن لَا تظهر أَوْلَوِيَّة وَلَا مُسَاوَاة} ، أَي: يشْتَرط فِي الْعَمَل بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة وَهُوَ إِثْبَات خلاف الْمَذْكُور للمسكوت شُرُوط بَعْضهَا رَاجع للمسكوت، وَبَعضهَا للمذكور.
فَمن الأول مَا بَدَأَ بِهِ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، وتابعناهم أَن لَا تظهر فِيهِ أَوْلَوِيَّة بالحكم من الْمَذْكُور، وَلَا مُسَاوَاة، فَإِن كَانَ كَذَلِك كَانَ حِينَئِذٍ مَفْهُوم الْمُوَافقَة - كَمَا سبق - لَا مَفْهُوم الْمُخَالفَة.
{و} من الثَّانِي أَن {لَا} يكون {خرج مخرج الْغَالِب} ، أَي: لَا يكون ذكر لكَونه الْغَالِب عَادَة، فَأَما إِن جرى على الْغَالِب فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر مَفْهُومه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} [النِّسَاء: 23] فتقييد تَحْرِيم الربيبة بِكَوْنِهَا فِي حجره لكَونه الْغَالِب، فَلَا يدل على حل الربيبة الَّتِي لَيست فِي حجره عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.(6/2894)
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} [الْمَائِدَة: 95] ، {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا} [الْبَقَرَة: 229] ، وَقَوله: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا " وَنَحْوه.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَلَا خرج مخرج الْغَالِب اتِّفَاقًا.
وَقَالَ دَاوُد: إِنَّه شَرط فِي تَحْرِيم الربيبة، وَمِمَّنْ قَالَ بذلك أَيْضا عَليّ بن أبي طَالب، نَقله عَنهُ ألكيا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه.
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَهُ مَفْهُوم} تَرْجِيحا لما اسْتَقر بِهِ اللَّفْظ على أكثريته الْعُرْفِيَّة. وَقَالَ: الْمَفْهُوم من مقتضيات اللَّفْظ فَلَا يسْقطهُ مُوَافقَة الْغَالِب.
وَقد قَالَ مَالك بِاعْتِبَارِهِ فَلم يحرم الربيبة الْكَبِيرَة وَقت التَّزَوُّج بأمها فِي قَوْله لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَيست فِي حجره، وَقَالَ بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِيمَا أخرجه ابْن أبي حَاتِم فِي تَفْسِيره.
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: الْقَاعِدَة تَقْتَضِي الْعَكْس، وَهُوَ أَن الْوَصْف إِذا خرج مخرج الْغَالِب يكون لَهُ مَفْهُوم بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن غَالِبا؛ وَذَلِكَ لِأَن(6/2895)
الْوَصْف الْغَالِب على الْحَقِيقَة تدل الْعَادة على ثُبُوته لَهَا عِنْد ذكر اسْمه، فَذكره لَهُ إِنَّمَا هُوَ ليدل على سلب الحكم عَمَّا عداهُ؛ لانحصار غَرَضه فِيهِ، ذكره السُّيُوطِيّ فِي شرح منظومته " جمع الْجَوَامِع "، فَليُرَاجع ويكمل.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": يظْهر أَنه من مسالك التَّأْوِيل فيخف على المتأول مَا يبديه من الدَّلِيل العاضد.
قَوْله: {فعلى الأول لَا يعم} ، وَهُوَ القَوْل بِأَن من شَرطه أَن لَا يكون خرج مخرج الْغَالِب فَإِنَّهُ لَا يعم، وَلِهَذَا احْتج الْعلمَاء من أَصْحَابنَا وَغَيرهم لداود على اخْتِصَاص تَحْرِيم الربيبة بِالْحجرِ لِلْآيَةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّهُ لَا حجَّة فِيهَا؛ لخروجها على الْغَالِب.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": تجوز خطْبَة مُسلم على ذمِّي، فَقيل لَهُ النَّهْي على الْغَالِب، فَقَالَ: هُوَ خَاص بِالْمُسلمِ وإلحاق غَيره بِهِ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ مثله.(6/2896)
وَاحْتج أَبُو الْخطاب فِي الِانْتِصَار [على نشر الْحُرْمَة] بِلَبن الْميتَة بقوله: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} [النِّسَاء: 23] فَقيل لَهُ الْآيَة حجتنا؛ لاقتضائها تعلق التَّحْرِيم بِفِعْلِهَا للإرضاع، فَقَالَ: علقه؛ لِأَنَّهُ الْغَالِب كالربيبة، وَلِهَذَا لَو حلب مِنْهَا ثمَّ سقِِي نشر.
وَأجَاب أَبُو الْفَتْح ابْن الْمَنِيّ من أَصْحَابنَا من احْتج لصِحَّة نِكَاح بِلَا إِذن بِالْمَفْهُومِ بِأَن الْمَفْهُوم لَيْسَ بِحجَّة على أصلنَا، ثمَّ هَذَا خرج مخرج الْغَالِب فَيعم، وَيصير كَقَوْلِه: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} [النِّسَاء: 23] لما خرج مخرج الْغَالِب عَم. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: {وَلَا خرج جَوَابا لسؤال} ، فَإِن خرج جَوَابا لسؤال فَلَا مَفْهُوم لَهُ. ذكره الْمجد فِي " شرح الْهِدَايَة " فِي صَلَاة التَّطَوُّع اتِّفَاقًا.
مثل أَن يسْأَل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَلَا يلْزم من جَوَاب السُّؤَال عَن إِحْدَى الصفتين أَن يكون الحكم على الضِّدّ فِي الْأُخْرَى؛ لظُهُور فَائِدَة فِي الذّكر غير الحكم بالضد.(6/2897)
وَذكر القَاضِي فِي ذَلِك احْتِمَالَيْنِ أَحدهمَا كَالْأولِ، وَالِاحْتِمَال الثَّانِي أَنه من بَاب وُرُود الْعَام على سُؤال أَو حَادِثَة صارفا لَهُ عَن عُمُومه.
قَوْله: {زَاد الشَّيْخ أَو حَاجَة إِلَى بَيَان} . قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: إِن تقدم مَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص من سُؤال أَو حَاجَة إِلَى بَيَان، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله قد أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث " فَلَا مَفْهُوم لَهُ.
وَاحْتج بِهِ القَاضِي وَغَيره من الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة على الْوَصِيَّة للْقَاتِل، وَهِي دلَالَة ضَعِيفَة، هَذَا كَلَامه. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ حسن.
تَنْبِيه: هُنَا سُؤال، وَهُوَ أَنه: لم جعلُوا هُنَا السُّؤَال والحادثة قرينَة صارفة عَن القَوْل بضد الحكم فِي الْمَسْكُوت، وَلم يجْعَلُوا ذَلِك فِي وُرُود الْعَام على سُؤال أَو حَادِثَة صارفا لَهُ عَن عُمُومه على الْأَرْجَح، بل لم يجروا هُنَا مَا أجروه هُنَاكَ من الْخلاف فِي أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ، أَو بِخُصُوص السَّبَب،(6/2898)
وَإِن كَانَ حكى عَن القَاضِي أبي يعلى فِيهِ احْتِمَالَيْنِ.
وَقد يُجَاب بِأَن الْمَفْهُوم لما ضعف عَن الْمَنْطُوق فِي الدّلَالَة انْدفع بذلك، وَنَحْوه، وَقُوَّة اللَّفْظ فِي الْعَام بِخِلَاف ذَلِك حَتَّى إِن الْحَنَفِيَّة ادعوا أَن دلَالَة الْعَام على كل فَرد من أَفْرَاده قَطْعِيَّة، كَمَا تقدم فَلم ينْدَفع بذلك على الطَّرِيقَة الراجحة.
قَوْله: {وَلَا مخرج التفخيم} ، أَي: لم يخرج مخرج التفخيم والتأكيد كَحَدِيث: " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت " الحَدِيث، فقيد الْإِيمَان للتفخيم فِي الْأَمر، وَأَن هَذَا لَا يَلِيق بِمن كَانَ مُؤمنا.
قَوْله: {وَلَا لزِيَادَة امتنان} ، من الشُّرُوط أَن لَا يقْصد بِذكرِهِ زِيَادَة امتنان على الْمَسْكُوت، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} [النَّحْل: 14] فَلَا يدل على منع القديد.(6/2899)
قَوْله: {وَلَا لحادثة} ، أَي: وَلَا خرج لبَيَان حكم حَادِثَة اقْتَضَت بَيَان الحكم فِي الْمَذْكُور، كَمَا رُوِيَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بِشَاة لميمونة، فَقَالَ: " دباغها طهورها "، وكما لَو قيل بِحَضْرَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لزيد: غنم سَائِمَة، فَقَالَ: فِي السَّائِمَة الزَّكَاة؛ إِذْ الْقَصْد الحكم على تِلْكَ الْحَادِثَة لَا النَّفْي عَمَّا عَداهَا.
وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} [آل عمرَان: 130] فَإِنَّهُ ورد على مَا كَانُوا يتعاطونه فِي الْآجَال أَنه إِذا حل الدّين يَقُول للمديون: إِمَّا أَن تُعْطِي، وَإِمَّا أَن تزيد فِي الدّين فيتضاعف بذلك مضاعفة كَثِيرَة.
قَوْله: {وَلَا لتقدير جهل الْمُخَاطب} بِأَن علم وجوب زَكَاة المعلوفة، ويجهل حكم السَّائِمَة فيذكر حكمهَا.(6/2900)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْه أَن لَا يكون سكت عَنهُ لكَون الْمُخَاطب غير جَاهِل بِهِ. وَيُمكن جعل هَذَا من شُرُوط الْمَذْكُور على معنى أَن يكون ذكره لأجل جَهَالَة الْمُخَاطب إِيَّاه بِخِلَاف الْمَسْكُوت فَإِنَّهُ يُعلمهُ، كَمَا لَو قيل: صَلَاة السّنة فروضها كَذَا وَكَذَا، فَلَا يُقَال: مَفْهُومه أَن الْفَرْض لَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن ذَلِك مَعْلُوم، وَرُبمَا قدر أَن الْمُتَكَلّم جَاهِل بِحكم الْمَسْكُوت، وَذَلِكَ فِي غير الشَّارِع فَيكون الْمُتَكَلّم غير الشَّارِع إِنَّمَا ترك حكم الْمَسْكُوت جهلا فَظهر للتخصيص بِالذكر سَبَب آخر.
وَرُبمَا يدعى أَن ذَلِك من شُرُوط الْمَذْكُور على معنى أَنه خص بِالذكر لجهل حكم غَيره.
قَوْله: {وَلَا لرفع خوف وَنَحْوه} .
من الشُّرُوط أَن لَا يكون الْمَسْكُوت ترك ذكر حكمه لخوف على الْمُخَاطب أمرا مَا، فَإِن الظَّاهِر أَن هَذَا فَائِدَة التَّخْصِيص للمذكور بِالذكر أَو يكون الْمُتَكَلّم يخَاف من التَّصْرِيح بِحكم الْمَسْكُوت أمرا من ذَلِك، وَهَذَا فِي الْمُتَكَلّم إِذا كَانَ غير الشَّارِع.
وَكَلَام ابْن الْحَاجِب وَغَيره يَقْتَضِي أَن هَذَا من شُرُوط الْمَذْكُور، لَكِن على معنى أَن الْمَذْكُور صرح [بِهِ] لدفع الْخَوْف، كَقَوْلِك لمن يخَاف من(6/2901)
ترك الصَّلَاة الموسعة: تَركهَا فِي أول الْوَقْت جَائِز، لَيْسَ مَفْهُومه عدم الْجَوَاز فِي بَاقِي الْوَقْت، وَهَكَذَا إِلَى أَن يتضيق.
قَوْله: {وَلَا علق حكمه على صفة غير مَقْصُوده، ذكره القَاضِي، وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَإِن كَانَت الصّفة غير مَقْصُوده، فَلَا مَفْهُوم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء} [الْبَقَرَة: 236] الْآيَة، أَرَادَ نفي الْحَرج عَمَّن طلق وَلم يمس وَإِيجَاب الْمُتْعَة تبعا، ذكره القَاضِي وَغَيره من الْمُتَكَلِّمين.
فَوَائِد:
إِحْدَاهَا: من الشُّرُوط أَيْضا أَن لَا يكون عهدا، فَإِن كَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الِاسْم اللقب الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي التَّعْرِيف، فَلَا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ.
وَمِمَّا يذكر من شُرُوط الْعَمَل بِالْمَفْهُومِ أَن لَا يعود على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوق فِيهِ بالإبطال، كَحَدِيث: " لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك " لَا يُقَال:(6/2902)
مَفْهُومه صِحَة بيع الْغَائِب إِذا كَانَ عِنْده؛ إِذْ لَو صَحَّ فِيهِ لصَحَّ فِي الْمَذْكُور وَهُوَ الْغَائِب الَّذِي لَيْسَ عِنْده؛ لِأَن الْمَعْنى فِي الْأَمريْنِ وَاحِد، وَلم يفرق أحد بَينهمَا، وَقد ذكرت شُرُوط أُخْرَى غير مَا ذكر لَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا.
الثَّانِيَة: مَا تقدم من الشُّرُوط يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَذْكُور بِالذكر، لَا نفي الحكم عَن غَيره، وَلَكِن وَرَاء هَذَا من بعد الشُّرُوط بحث آخر، وَهُوَ أَن المقترن من المفاهيم بِمَا يمْنَع القَوْل بِهِ لوُجُود فَائِدَة تَقْتَضِي التَّخْصِيص فِي الْمَذْكُور بِالذكر، هَل يدل اقترانه بذلك على الْغَايَة وَجعله كَالْعدمِ فَيصير المعروض لقيد المفاهيم إِذا كَانَ فِيهِ لفظ عُمُوم شَامِلًا للمذكور والمسكوت حَتَّى لَا يجوز قِيَاس الْمَسْكُوت بالمذكور لعِلَّة جَامِعَة؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوص فَلَا حَاجَة لإثباته بِالْقِيَاسِ، أَو لَا يدل، بل غَايَته الحكم على الْمَذْكُور، وَأما غير الْمَذْكُور فمسكوت عَن حكمه فَيجوز حِينَئِذٍ قِيَاسه.
مِثَاله فِي الصّفة مثلا لَو قيل: هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَيَقُول الْمَسْئُول: فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة، فَغير السَّائِمَة مسكوت عَن حِكْمَة فَيجوز(6/2903)
قِيَاسه على السَّائِمَة بِخِلَاف مَا لَو ألغى لفظ السَّائِمَة، وَصَارَ التَّقْدِير فِي الْغنم زَكَاة، فَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ لقياس المعلوفة بالسائمة؛ لِأَن لفظ الْغنم شَامِل لَهما، فِي ذَلِك خلاف.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْمُخْتَار الثَّانِي حَتَّى إِن بَعضهم حكى فِيهِ الْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر مَا أوردهُ ابْن الْحَاجِب فِي أثْنَاء مَسْأَلَة مَفْهُوم الصّفة.
الثَّالِثَة: الضَّابِط لهَذِهِ الشُّرُوط، وَمَا فِي مَعْنَاهَا أَن لَا يظْهر لتخصيص الْمَنْطُوق فَائِدَة غير نفي الحكم عَن الْمَسْكُوت عَنهُ، وعَلى ذَلِك اقْتصر الْبَيْضَاوِيّ.
قَوْله: {وَهُوَ أَقسَام} - أَعنِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة -:
{أَحدهَا} : مَفْهُوم {الصّفة} ، إِنَّمَا بَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رَأس المفاهيم. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَو عبر معبر عَن جَمِيع المفاهيم بِالصّفةِ كَانَ ذَلِك متجها؛(6/2904)
لِأَن الْمَعْدُود والمحدود موصوفان بعددها وَحدهَا، وَكَذَا سَائِر المفاهيم. انْتهى.
وَمرَاده أَن معنى الوصفية يدعى رُجُوع الْكل إِلَيْهِ بِاعْتِبَار، وَإِن كَانَ الْمَقْصُود هُنَا نوعا من ذَلِك خَاصّا بِاعْتِبَار الْآتِي بَيَانه.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره {وَهُوَ أَن يقْتَرن بعام صفة خَاصَّة} كَقَوْلِه فِي الْغنم: فِي سائمتها الزَّكَاة.
وَقَالَ الطوفي وَغَيره: هِيَ تعقيب ذكر الِاسْم الْعَام بِصفة خَاصَّة فِي معرض الِاسْتِدْلَال نَحْو: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة.
فَمثل كل مِنْهُمَا بمثال، وَلذَلِك قَالَ كثير من الْعلمَاء: هُوَ تَعْلِيق الحكم بِإِحْدَى صِفَتي الذَّات، فَشَمَلَ المثالين، وهما: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، وَفِي سَائِمَة الْغنم، وَهَذَا لفظ الحَدِيث، وَمثل بهما فِي " الرَّوْضَة "، وَبَين الصيغتين فرق فِي الْمَعْنى فَمُقْتَضى الْعبارَة الأولى عدم الْوُجُوب فِي الْغنم المعلوفة الَّتِي لَوْلَا الْقَيْد بالسوم لشملها لفظ الْغنم، وَمُقْتَضى الْعبارَة الثَّانِيَة عدم الْوُجُوب فِي سَائِمَة غير الْغنم كالبقر - مثلا - الَّتِي لَوْلَا تَقْيِيد السَّائِمَة بإضافتها إِلَى الْغنم لشملها لفظ السَّائِمَة، كَذَا قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي منع الْمَوَانِع، وَقَالَ: هُوَ التَّحْقِيق.(6/2905)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَالْحق عِنْدِي أَنه لَا فرق بَينهمَا، فَإِن قُلْنَا: سَائِمَة الْغنم من إِضَافَة الصّفة إِلَى موصوفها فَهِيَ فِي الْمَعْنى كالأولى وَالْغنم مَوْصُوفَة، والسائمة صفة على كل حَال، وَقد علم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالصّفةِ هُنَا النَّعْت، وَلِهَذَا مثلُوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مطل الْغَنِيّ ظلم " وَالتَّقْيِيد فِيهِ بِالْإِضَافَة، لكنه فِي معنى الصّفة، فَإِن المُرَاد بِهِ المطل الْكَائِن من الْغَنِيّ، لَا من الْفَقِير.
وَقدره الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: مطل الشَّخْص الْغَنِيّ.
ورده أَيْضا الْبرمَاوِيّ بِنَحْوِ ذَلِك وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر مَا مثل بِهِ أَصْحَابنَا، فَإِنَّهُ مثلوه تَارَة بالعبارة الأولى، وَتارَة بِالثَّانِيَةِ، وظاهرهم أَن الحكم فيهمَا وَاحِد، وَمثله فِي " الرَّوْضَة " بهما، وَهَذَا الصَّحِيح.
وَمن الْأَمْثِلَة أَيْضا: " من بَاعَ نخلا مؤبرا فثمرتها للْبَائِع ".
وَمثله تَعْلِيق نَفَقَة الْبَائِن على الْحمل.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد الثَّلَاثَة، وَالْأَكْثَر} .
فِي كَون مَفْهُوم الصّفة حجَّة مَعْمُولا بِهِ مَذَاهِب، أَصَحهَا أَنه حجَّة(6/2906)
مَعْمُول بِهِ، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأبي عُبَيْدَة معمر بن مثنى.
وَنَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن السَّمْعَانِيّ عَن أبي عبيد، وَالْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَحَكَاهُ ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَحَكَاهُ سليم الرَّازِيّ عَن الْمُزنِيّ، والاصطخري، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن خيران، وَأبي ثَوْر، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَذكره فِي " الرَّوْضَة " عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن أَكثر أَصْحَاب الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَحَكَاهُ الباقلاني عَن الْأَشْعَرِيّ، وَجرى عَلَيْهِ أَكثر أَصْحَابه.(6/2907)
قَوْله: {لُغَة، وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْفرج، وَحَكَاهُ إِجْمَاع أهل اللُّغَة عقلا، وَفِي المعالم عرفا، وَقيل: شرعا} .
هَذِه الْأَقْوَال مَبْنِيَّة على أَنه حجَّة مَعْمُول بِهِ، فَإِذا قُلْنَا إِن الْمَفْهُوم حجَّة على معنى نفي الحكم الْمَذْكُور فِي الْمَنْطُوق عَن الْمَسْكُوت، سَوَاء مَفْهُوم [الصّفة] وَغَيرهَا فَهُوَ من حَيْثُ دلَالَة اللُّغَة، وَوضع اللِّسَان.
وَهُوَ قَول أَكثر الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَكثر الشَّافِعِيَّة.
وَقيل: من حَيْثُ دلَالَة الْعقل، حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي، وَحَكَاهُ إِجْمَاع أهل اللُّغَة، وَيُوَافِقهُ مَا تقدم فِي بَاب الْعُمُوم أَن عُمُوم الْمَفْهُوم عِنْد بَعضهم بِالْعقلِ.(6/2908)
بل نسبه أَبُو الْفرج إِلَى الْأَصْحَاب، فَإِنَّهُ قَالَ: عندنَا يثبت بِالْعقلِ.
وَقَالَ الرَّازِيّ فِي " المعالم ": إِن ذَلِك من قبيل الْعرف الْعَام؛ لِأَن أهل الْعرف يقصدون مثل ذَلِك.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هُوَ من قبيل الشَّرْع متصرف فِيهِ زَائِد على وضع اللُّغَة، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر.
قَوْله: {وَيحسن الِاسْتِفْهَام، جزم بِهِ فِي " الْوَاضِح "، وَقيل: لَا} . ذكر الْأَصْحَاب فِي ذَلِك: هَل يحسن الِاسْتِفْهَام أم لَا؟ منعا كَالصَّرِيحِ وتسليما لرفع الِاحْتِمَال، وَجزم بِهِ فِي " الْوَاضِح "؛ لِأَن معنى الْخطاب مقدم عَلَيْهِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، وَيحسن الِاسْتِفْهَام فِيهِ، نَحْو: لَا تشرب الْخمر؛ لِأَنَّهُ يُوقع الْعَدَاوَة، فَيَقُول: فَهَل أشْرب النَّبِيذ؟ وَلَا يُنكر أحد استفهامه هَذَا.(6/2909)
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يحْتَمل أَن لَا يحسن؛ وَلِهَذَا يحسن الْإِنْكَار عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ تَخْرِيج حسن إِنْكَاره على الْخلاف. انْتهى.
قَوْله: {ثمَّ مَفْهُومه عِنْد الْمُعظم لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم، فالغنم والسوم عِلّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَأَبُو حَامِد، والرازي: لَا زَكَاة فِي معلوفة كل حَيَوَان، فالسوم عِلّة} .
اخْتلفُوا فِي المثالين السَّابِقين فِي مَفْهُوم الصّفة: هَل الْمَنْفِيّ فيهمَا غير سَائِمَة الْغنم، أَو غير مُطلق السوائم؟
فعلى قَوْله: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، إِنَّمَا يدل على نفي الزَّكَاة عَن معلوفة الْغنم، وعَلى قَوْله: فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة، يدل على نفي الزَّكَاة عَن كل معلوفة من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: اخْتلفُوا، هَل دلّ على النَّفْي عَمَّا عداهُ مُطلقًا سَوَاء كَانَ من جنس المنعوت فِيهِ، أَو لم يكن، أَو تخْتَص دلَالَته بِمَا كَانَ من جنسه؟(6/2910)
فَفِي نَحْو: فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة، هَل الزَّكَاة منفية عَن المعلوفة مُطلقًا، سَوَاء كَانَت من الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم أَو معلوفة الْغنم فَقَط؟ على قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الرَّازِيّ وَغَيره، وَصحح أَبُو حَامِد الثَّانِي.
وَوَجهه: أَن الْمَفْهُوم نقيض الْمَنْطُوق، والمنطوق سَائِمَة الْغنم دون غَيرهَا. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ثمَّ مَفْهُومه عِنْد الْجَمِيع لَا زَكَاة فِي معلوفة الْغنم لتَعلق الحكم بالسوم، وَالْغنم، فهما الْعلَّة.
وَلنَا وَجه اخْتَارَهُ ابْن عقيل، وَذكره القَاضِي.
ظَاهر كَلَام أَحْمد لَا زَكَاة فِي معلوفة كل حَيَوَان، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة بِنَاء على أَن السّوم عِلّة، فعلى هَذَا قَالَ القَاضِي: يلْزم لَا زَكَاة فِي غير سَائِمَة الْغنم من حَيَوَان، أَو غَيره، وَقد لَا يلْزم. انْتهى. وتابعناه على ذَلِك.
قَوْله: {وَهُوَ فِي الْبَحْث عَمَّا يُعَارضهُ كالعام، ذكره فِي " التَّمْهِيد "(6/2911)
وَغَيره، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يعْتَبر} عِنْد من قَالَ بِهِ، قَالَ ذَلِك ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
قَوْله: {وَمِنْهَا الْعلَّة، والظرف، وَالْحَال} ، ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ.
من مَفْهُوم الصّفة الْعلَّة والظرف وَالْحَال.
فمفهوم الْعلَّة: تَعْلِيق الحكم بعلة، كحرمت الْخمر لشدتها، وَالسكر لحلاوته، فَيدل على أَن غير الشَّديد، وَغير الحلو لَا يحرم.
وَهُوَ أخص من مَفْهُوم الصّفة؛ لِأَن الْوَصْف قد يكون تتميما لِلْعِلَّةِ كالسوم، فَإِنَّهُ تتميم للمعنى الَّذِي هُوَ عِلّة، فَالْخِلَاف فِيهِ هُوَ الْخلاف فِي مَفْهُوم الصّفة كَمَا قَالَه الباقلاني وَالْغَزالِيّ وَغَيرهمَا، بل هُوَ يلْحق بِدلَالَة الْإِشَارَة.
وَمِنْهَا مَفْهُوم: الظّرْف، أما الزَّمَان فنحو: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} [الْبَقَرَة: 197] ، {إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} [الْجُمُعَة: 9] ، وَهُوَ حجَّة عِنْد الشَّافِعِي وَغَيره.(6/2912)
وَأما الْمَكَان فنحو: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} [الْبَقَرَة: 198] ، وَهُوَ حجَّة أَيْضا نَقله أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ.
وَمِنْهَا: مَفْهُوم الْحَال: كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} [الْبَقَرَة: 187] ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ فِي " القواطع "، وَإِن لم يذكرهُ أَكثر الْمُتَأَخِّرين، وَقَالَ: إِنَّه كالصفة، وَهُوَ ظَاهر؛ لِأَن الْحَال صفة فِي الْمَعْنى قيد بهَا.
وَالْمذهب الثَّانِي فِي أصل الْمَسْأَلَة: أَنه لَيْسَ بِحجَّة، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَابْن سُرَيج، والقفال، وَأَبُو بكر الْفَارِسِي،(6/2913)
وَجَمَاعَة من الْمَالِكِيَّة، وَابْن دَاوُد، وَابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والشاشي، وَكثير من الْمُعْتَزلَة، والآمدي، وَأَبُو الْحسن التَّمِيمِي من أَصْحَابنَا.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي مَسْأَلَة الْوَلِيّ: هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَذكره فِي " التَّمْهِيد " عَن أَكثر الْمُتَكَلِّمين.
وَاخْتلف النَّقْل عَن الْأَشْعَرِيّ.
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِنَّه حجَّة فِي ثَلَاث صور:
إِحْدَاهَا: أَن يكون الْخطاب ورد للْبَيَان كالسائمة فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة " فَإِنَّهُ ورد بَيَانا لآيَة الزَّكَاة.(6/2914)
الثَّانِيَة: أَن يكون ورد للتعليم، أَي: الِابْتِدَاء بِمَا لم يسْبق حكمه لَا مُجملا، وَلَا مُبينًا كَحَدِيث: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ تحَالفا - فَإِن فِي رِوَايَة - إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ والسلعة قَائِمَة تحَالفا "، مَفْهُومه: أَن السّلْعَة إِذا لم تكن قَائِمَة لَا تحالف، وَهُوَ من مَفْهُوم الْحَال الَّذِي تقدم، والْحَدِيث بِهَذِهِ الزِّيَادَة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
الثَّالِثَة: أَن يكون مَا عدا الصّفة دَاخِلا تحتهَا كَالْحكمِ بالشاهدين؛ لِأَن الْمَفْهُوم، وَهُوَ الشَّاهِد الْوَاحِد دَاخل تَحت لفظ الشَّاهِدين، وَمثله حَدِيث الْقلَّتَيْنِ، فَإِن الْقلَّة الْوَاحِدَة دَاخِلَة تَحت الْقلَّتَيْنِ، أَي: فَلَو لم يكن الحكم فِي الْوَاحِد مُخَالفا لما كَانَ لذكر الِاثْنَيْنِ فَائِدَة، وَالله أعلم.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - لَو لم يدل عَلَيْهِ لُغَة لما فهمه أَهلهَا، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لي الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته " حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة. أَي: مطل الْغَنِيّ، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " مطل الْغَنِيّ ظلم " وَفِيهِمَا: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلئ شعرًا ".(6/2915)
قَالَ أَبُو عبيد: فِي الأول يدل على أَن لي من لَيْسَ بواجد لَا يحل عُقُوبَته، وَفِي الثَّانِي مثله، وَقيل لَهُ: فِي الثَّالِث المُرَاد الهجاء، وهجاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لم يكن لذكر الامتلاء معنى؛ لِأَن قَلِيله كَذَلِك.
فألزم أَبُو عبيد من تَقْدِير الصّفة الْمَفْهُوم، قدر الامتلاء صفة للهجاء وَهُوَ وَالشَّافِعِيّ من أَئِمَّة اللُّغَة.
وَذكره الْآمِدِيّ قَول جمَاعَة من أهل الْعَرَبيَّة.
فَالظَّاهِر أَنهم فَهموا ذَلِك لُغَة فثبتت اللُّغَة بِهِ، وَاحْتِمَال الْبناء على الِاجْتِهَاد مَرْجُوح، وَإِنَّمَا ذكره فِي كتب اللُّغَة لَا الْأَحْكَام وَهِي نقل، وَقد حَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء، وثعلب، وَأَن أَبَا عبيد حكى عَن الْعَرَب القَوْل بِهِ.(6/2916)
عورض بِمذهب الْأَخْفَش قَالَ: قَول الْقَائِل مَا جَاءَنِي غير زيد لَا يدل على مَجِيء زيد.
رد بِمَنْع ثُبُوته. ثمَّ هُوَ نحوي، ثمَّ من ذَكَرْنَاهُمْ أَكثر، وَبَعْضهمْ أفضل، ثمَّ الْمُثبت أولى.
وَأَيْضًا لَو لم يدل كَانَ تَخْصِيص مَحل النُّطْق بِالذكر بِلَا فَائِدَة، وَهُوَ مُمْتَنع من آحَاد البلغاء فالشارع أولى.
وَاعْترض بِأَن هَذَا إِثْبَات للوضع بِمَا فِيهِ من الْفَائِدَة، والفائدة مرتبَة عَلَيْهِ.
رد: يعرف بالاستقراء إِذا لم يكن للفظ فَائِدَة غير وَاحِدَة تعيّنت إرادتها بِهِ، وَبِأَن دلَالَة الْإِيمَاء ثبتَتْ بالاستبعاد كَمَا سبق فِي الصَّرِيح، فَهَذَا أولى.
وَاعْترض بِمَفْهُوم اللقب.
رد: بِأَنَّهُ حجَّة، ثمَّ فَائِدَته حُصُول الْكَلَام بِهِ؛ لِأَنَّهُ يخْتل بِعَدَمِهِ بِخِلَاف الصّفة، أَو لم يحضرهُ الْمَسْكُوت، أَو قِيَاس فِي اللُّغَة.
وَاعْترض: فَائِدَته تَقْوِيَة دلَالَة مَا جعل الْوَصْف وَصفا لَهُ حَتَّى لَا يتَوَهَّم تَخْصِيصه.
رد: بِأَن هَذَا إِذا كَانَ الِاسْم الْمُقَيد بِالصّفةِ عَاما، وَلَا قَائِل بِهِ، ثمَّ(6/2917)
الْفَرْض لَا شَيْء يَقْتَضِي تَخْصِيصه سوى الْمُخَالفَة، كَذَا أجَاب بَعضهم والآمدي: إِنَّمَا اعْترض بِأَن فَائِدَته معرفَة حكم الْمَنْطُوق والمسكوت بنصين مُخْتَلفين؛ لِأَنَّهُ أدل للْخلاف فِي الْعُمُوم، وَإِمْكَان تَخْصِيص مَحل الصّفة وَغَيره بِاجْتِهَاد وَلَيْسَ مُرَاد التَّخْصِيص.
وَجَوَابه: أَن الْعُمُوم لُغَة الْعَرَب، وَالْخلاف فِيهِ حَادث فَمثل هَذَا لَا يقْصد، ثمَّ الْعَرَب لَا تقصد قطع التَّوَهُّم، وَلِهَذَا يتَكَلَّم بِالْحَقِيقَةِ مَعَ توهم غَيرهَا.
وَاعْترض: فَائِدَته ثَوَاب الِاجْتِهَاد بِالْقِيَاسِ، فَإِن تَخْصِيصه يشْعر بِأَنَّهُ عِلّة.
رد: إِن سَاوَى الْفَرْع الأَصْل خرج، وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّا لَا فَائِدَة لَهُ سوى الْمُخَالفَة، وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ لَا يخرج إِلَّا مَعَ ثُبُوته لُغَة وَالْقِيَاس يُثبتهُ عقلا.
وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد ": الْكَلَام فِي اللُّغَة، وَقَالَ أَيْضا: الظَّاهِر مَا ذكرنَا.(6/2918)
وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لتبيين الْأَحْكَام وَالِاجْتِهَاد ثَبت ضَرُورَة.
وَأَيْضًا التَّرْتِيب يدل على الْعلية، وانتفاؤها يدل على انْتِفَاء معلولها.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يدل لزم مُشَاركَة الْمَسْكُوت للمنطوق لعدم وَاسِطَة بَينهمَا، وَلَا مُشَاركَة اتِّفَاقًا.
ورد بِالْمَنْعِ فَلَا يدل على حصر وَلَا اشْتِرَاك، وَبِأَنَّهُ يجْرِي فِي اللقب، وَأما لفظ السَّائِمَة فَلَا يتَنَاوَل المعلوفة اتِّفَاقًا.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يدل لم تنفر الشَّافِعِيَّة من قَول: الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة فضلاء.
رد: النفرة لتركهم على الِاحْتِمَال كتقديم الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِم، أَو لتوهم ذَلِك من يرى الْمَفْهُوم.
وَاسْتدلَّ بِمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قَامَ يُصَلِّي على عبد الله بن أبي، فَقَالَ لَهُ عمر، فَقَالَ: " خيرني الله وسأزيد على السّبْعين ".(6/2919)
وَفِي البُخَارِيّ: " خيرت فاخترت، لَو أعلم أَنِّي [إِن] زِدْت على السّبْعين يغْفر لَهُ لزدت عَلَيْهَا " ففهم أَن مَا زَاد بِخِلَافِهِ.
رد بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْآيَة مُبَالغَة فِي أَن السّبْعين وَمَا فَوْقهَا سَوَاء، وَقَالَ: (لأزيدن) استمالة للإحياء، أَو فهم لبَقَاء وُقُوع الْمَغْفِرَة بِالزِّيَادَةِ على أَصله فِي الْجَوَاز قبل الْآيَة.
وَيُجَاب بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر.
قَالَ ابْن عقيل: لم يقْصد، بل بعد هَذَا فِي سُورَة الْمُنَافِقين.
وَفِيه نظر.
وَاسْتدلَّ بقول يعلى بن أُميَّة لعمر: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مُبينًا} [النِّسَاء: 101] فقد أَمن النَّاس، فَقَالَ: عجب مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " صدقه تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته "(6/2920)
رَوَاهُ مُسلم، ففهما عدم الْقصر لعدم الخو، وَأقر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
رد: لَا يتَعَيَّن من الْمَفْهُوم لجَوَاز استصحابهما وجوب الْإِتْمَام فَعجب لمُخَالفَة الأَصْل.
أُجِيب: لم يدل الْقُرْآن على أَنه الأَصْل، وَعند الْمُخَالف الأَصْل الْقصر، وَقد قَالَ عمر: " صَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عَائِشَة: " فرضت رَكْعَتَيْنِ، فأقرت صَلَاة السّفر وأتمت صَلَاة الْحَضَر "، وَفِي مُسلم عَن ابْن عَبَّاس: " فرضت فِي الْحَضَر أَرْبعا، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ " ثمَّ هُوَ خلاف الظَّاهِر.
وَاسْتدلَّ: دلَالَته على الْمَسْكُوت فِيهِ فَائِدَة، فَهُوَ أولى تكثيرا للفائدة وَهِي تدل على الْوَضع على مَا سبق فِي الْمُجْمل فِي اللَّفْظ لِمَعْنى تَارَة، ولمعنيين أُخْرَى.(6/2921)
ورد بِأَنَّهُ دور لتوقف دلَالَته على الْمَسْكُوت على الْوَضع، وَهُوَ على تَكْثِير الْفَائِدَة، وَهِي على دلَالَته على الْمَسْكُوت.
أُجِيب: يلْزم فِي كل مَوضِع، فَيُقَال: دلَالَة اللَّفْظ تتَوَقَّف على الْوَضع، وَهُوَ على الْفَائِدَة لوضع اللَّفْظ لَهَا، وَهِي [على] الدّلَالَة لعدم الْفَائِدَة بِعَدَمِ اللَّفْظ، وَبِأَن دلَالَة اللَّفْظ على الْمَسْكُوت تتَوَقَّف على تعقل تَكْثِير الْفَائِدَة، لَا على حُصُولهَا وتعقلها لَا يتَوَقَّف بل حُصُولهَا.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن مُخَالفا لم تكن السَّبع فِيمَا رَوَاهُ مُسلم " طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب يغسلهُ سبعا " مطهرة لتطهيره بِمَا دونهَا.
رد: لَا يلْزم الْجَوَاز عدم الطَّهَارَة فِيمَا دونهَا بِدَلِيل.
وَجَوَابه: خلاف الظَّاهِر، وَالْأَصْل عَدمه، وَمثله: " خمس رَضعَات يحرمن " رَوَاهُ مُسلم.
وَاحْتج ابْن عقيل وَغَيره: بِأَنَّهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإِن بَعضهم لم ير(6/2922)
الْغسْل بِدُونِ إِنْزَال لقَوْله: " المَاء من المَاء " وَخَالفهُم غَيرهم بِأَنَّهُ مَنْسُوخ.
وَجه القَوْل الثَّانِي - وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمن وَافقه -: لَو ثَبت بِدَلِيل وَهُوَ عَقْلِي أَو نقلي إِلَى آخِره.
رد: تثبت اللُّغَة بالآحاد، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن الْجُمْهُور، وَذكره ابْن عقيل عَن جمَاعَة من الْعلمَاء؛ لِأَن التَّوَاتُر فِي الْبَعْض تحكم لَا قَائِل بِهِ، وَفِي الْجَمِيع مُتَعَذر، فيتعطل أَكثر الْكتاب، وَالسّنة، واللغة، وَهُوَ فَوق مَحْذُور قبُول خبر الْوَاحِد، وَذكر الْآمِدِيّ: لم يزل الْعلمَاء عَلَيْهِ، وَذكره أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي من أَصْحَابنَا إِجْمَاع أهل اللُّغَة فَإِن عندنَا تثبت بِالْعقلِ، وَذكر الْآمِدِيّ منعا، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة(6/2923)
الْعُمُوم عَن السمناني لَا تثبت بالآحاد.
وَفِي " التَّمْهِيد ": ثَبت ذَلِك باستقرار كَلَامهم، وَمَعْرِفَة مُرَادهم، وفهمته الصَّحَابَة، وهم أهل اللِّسَان.
قَالُوا: لَو ثَبت لثبت فِي الْخَبَر لتقييد كل مِنْهُمَا بِصفة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة " أَو زيد الطَّوِيل فِي الدَّار.
رد بالتزامه، وَقَالَهُ فِي " الْعدة " و " التَّمْهِيد ".
وَذكر ابْن عقيل: أَن الْمَذْهَب القَوْل بِهِ فِي الْخَبَر، وَفِي الْأَسْمَاء، وَالْحكم كالاستثناء والتخصيص، ثمَّ فرق هُوَ وَغَيره بَين الْأَمر، وَالْخَبَر بِأَنَّهُ قد لَا يعلم غَيره، ويقصد بِالْأَمر الْبَيَان والتمييز، وَبِأَن هَذَا قِيَاس لُغَة.(6/2924)
وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ بِهِ.
وَفرق بعض أَصْحَابنَا بَين أَسمَاء الْأَعْلَام والأجناس، وَفرق فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ لَا يخبر عَنهُ لِئَلَّا ينضر.
وَفرق بَعضهم بِأَن الْخَبَر لَا يلْزم عدم حُصُوله للمسكوت؛ لِأَن لَهُ خارجيا بِخِلَاف الحكم، فَإِنَّهُ إِذا لم يدل على الْمُخَالفَة لم يحصل للمسكوت؛ لِأَنَّهُ [لَا] خارجي لَهُ.
قَالَ: لَو دلّ امْتنع، أد زَكَاة السَّائِمَة والمعلوفة لعدم الْفَائِدَة، وللتناقض، كَمَا يمْتَنع لَا تقل أُفٍّ واضربهما.
رد: الْفَائِدَة عدم تَخْصِيص المعلوفة بِاجْتِهَاد، والتناقض فِي الْقَاطِع.
قَالُوا: لَو دلّ لما ثَبت خِلَافه للتعارض، وَالْأَصْل عَدمه، وَقد ثَبت فِي نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} [آل عمرَان: 130] وَاعْتمد عَلَيْهِ الْآمِدِيّ.(6/2925)
وعَلى على بَيَان دَلِيل، وَالْأَصْل عَدمه.
رد: هُوَ دَلِيل عَارضه قَاطع وَالْأَصْل مُخَالف لدَلِيل.
قَالُوا: لَو كَانَ دَلِيلا لم يبطل بِبُطْلَان الْمَنْطُوق.
رد: ذكر القَاضِي وَجْهَيْن، قَالَ: وبطلانه أشبه.
جزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " فِي نسخ الْمَنْطُوق؛ لِأَنَّهُ فَرعه وَعَدَمه كالخطابين، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك.
قَوْله: {فَائِدَة الصّفة الْمُجَرَّدَة كفي السَّائِمَة الزَّكَاة، وَالثَّيِّب أَحَق بِنَفسِهَا، كَالْأولِ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْأول أقوى دلَالَة. وَقيل: سَوَاء، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ مُنَاسبَة الصّفة للْحكم وَإِلَّا فَلَا. وَحكي عَن القَاضِي} .
الصّفة الْعَارِضَة الْمُجَرَّدَة، كَقَوْلِه: السَّائِمَة فِيهَا الزَّكَاة، كالصفة المقترنة بِالْعَام.(6/2926)
قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَذكر الْآمِدِيّ، وَغَيره؛ ذَلِك لِأَن غَايَته أَن الْمَوْصُوف فِيهَا مَحْذُوف.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة "، وَتَبعهُ الطوفي: تَخْصِيص وصف غير قار بالحكم نَحْو: الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا، حجَّة، وَهُوَ قَول أَكثر الشَّافِعِيَّة كَذَلِك، خلافًا للتميمي وَأكْثر الْفُقَهَاء والمتكلمين لاحْتِمَال الْغَفْلَة عَن غير الْوَصْف الْمَذْكُور بِخِلَاف مَا إِذا ذكر مَعَه الْعَام.
لَكِن الأول أقوى دلَالَة فِي الْمَفْهُوم؛ لِأَن الأول - وَهُوَ الْمُقَيد بِالْعَام - كالنص بِخِلَاف هَذَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: مَعَ أَن ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم التَّسْوِيَة، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ مُنَاسبَة الصّفة للْحكم، وَإِلَّا فَلَيْسَ(6/2927)
بِحجَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا ظَاهر اخْتِيَار القَاضِي فِي مَوضِع. انْتهى.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": يفصل بَين أَن يكون الْوَصْف مناسبا فَيكون حجَّة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة " فَإِن خفَّة الْمُؤْنَة مُنَاسبَة للمواساة بِالزَّكَاةِ، وَبَين مَا لَا مُنَاسبَة فِيهِ فَلَا يجوز: الْإِنْسَان الْأَبْيَض ذُو إِرَادَة.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ خلاف مَذْهَب الشَّافِعِي، فَإِن الْعلَّة لَيْسَ من شَرطهَا الانعكاس، لَكِن أَبُو الْمَعَالِي أورد هَذَا على نَفسه.
وَأجَاب بِأَن قَضِيَّة اللِّسَان هِيَ الدَّالَّة عِنْد إِحَالَة الْوَصْف على مَا عداهُ بِخِلَافِهِ، وَقَالَ: إِن هَذَا وضع اللِّسَان وَمُقْتَضَاهُ بِخِلَاف الْعِلَل المستنبطة. انْتهى.
وَهَذَا القَوْل يَنْبَغِي أَن يكون فِي أصل الْمَسْأَلَة، لَا هُنَا، وَلَكِن تابعنا ابْن مُفْلِح عَلَيْهِ.(6/2928)
قَوْله: {الثَّانِي التَّقْسِيم، ك " الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا وَالْبكْر تستأذن " كَالْأولِ، ذكره الْمُوفق وَغَيره} ، وَتَابعه من بعده.
وَذَلِكَ لِأَن تقسيمه إِلَى قسمَيْنِ، وَتَخْصِيص كل وَاحِد بِحكم يدل على انْتِفَاء ذَلِك الحكم عَن الْقسم الأول الآخر، إِذْ لَو عَمهمَا لم يكن للتقسيم فَائِدَة، فَهُوَ من جملَة مَفْهُوم الصّفة.
قَوْله: {الثَّالِث: الشَّرْط} . أَي: الثَّالِث من أَقسَام مَفْهُوم الْمُخَالفَة الشَّرْط، وَالْمرَاد بِهِ مَا علق من الحكم على شَيْء بأداة الشَّرْط، ك (إِن) و (إِذا) وَنَحْوهمَا، وَهُوَ الْمُسَمّى بِالشّرطِ اللّغَوِيّ، لَا الشَّرْط الَّذِي هُوَ قسيم السَّبَب وَالْمَانِع الْمُتَقَدّم ذكره.
مِثَال الشَّرْط اللّغَوِيّ قَوْله: (وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن(6/2929)
حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 6] . دلّ منطوقه على وجوب النَّفَقَة على أولات الْحمل، فَهَل دلّ بِالْمَفْهُومِ بِالْعدمِ على الْعَدَم حَتَّى يسْتَدلّ بِهِ على منع وجوب النَّفَقَة للمعتدة غير الْحَامِل، أَو لَا.
ذهب الْأَكْثَر إِلَى دلَالَته عَلَيْهِ، وكل من قَالَ بِمَفْهُوم الصّفة يَقُول بِهِ؛ لِأَنَّهُ أقوى.
وَأما المنكرون لمَفْهُوم الصّفة فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بِهِ، مِنْهُم: ابْن سُرَيج، وَابْن الصّباغ، والكرخي، وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَكثر الْعلمَاء وَبَالغ فِي الرَّد على منكره، وَنَقله ابْن الْقشيرِي عَن مُعظم أهل الْعرَاق، وَنَقله السُّهيْلي عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة.(6/2930)
وَمِمَّنْ مَنعه كمفهوم الصّفة أَكثر الْمُعْتَزلَة، وَقَالُوا: لَا يَنْتَفِي بِعَدَمِهِ، بل هُوَ بَاقٍ على الأَصْل الَّذِي كَانَ قبل التَّعْلِيق، وَرجحه الْمُحَقِّقُونَ من الْحَنَفِيَّة الْجِرْجَانِيّ، وَغَيره، وَنقل عَن أبي حنيفَة، وَنَقله التلمساني عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والآمدي.
فتلخص أَنه لَا خلاف فِي انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الشَّرْط، لَكِن هَل الدَّال على الانتفاء صِيغَة الشَّرْط، أَو الْبَقَاء على الأَصْل؟ فَمن جعل الشَّرْط حجَّة قَالَ بِالْأولِ، وَمن أنكرهُ قَالَ بِالثَّانِي.
حجَّة الْقَائِل بِهِ مَا سبق من الْأَدِلَّة فِي مَفْهُوم الصّفة؛ وَلِأَنَّهُ يلْزم من عدم الشَّرْط عدم الْمَشْرُوط.
فَإِن قيل: يحْتَمل أَنه سَبَب لمسبب فَلَا تلازم.(6/2931)
رد: خلاف الظَّاهِر، ثمَّ إِن قيل: باتحاد السَّبَب فَأولى بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ مُوجب للمسبب، وَإِن قيل: بتعدده فَالْأَصْل عَدمه.
وَقَوله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} [النُّور: 33] أَي: تعففا شَرط إِرَادَته فِي الْإِكْرَاه، لَا فِي تَحْرِيمه؛ لِاسْتِحَالَة الْإِكْرَاه إِلَّا عِنْد إِرَادَته، وَإِلَّا فَهِيَ تبغي طبعا.
وَقيل: النَّهْي لسَبَب، قَالَ جَابر كَانَ عبد الله بن أبي يَقُول لجارية لَهُ: اذهبي فابغينا شَيْئا، فَنزلت الْآيَة.
وَقيل: عَارض ظَاهر الْآيَة إِجْمَاع قَاطع.
وَبني صَاحب " الْمَحْصُول " الْخلاف على أصل وَهُوَ أَن عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة الشَّرْط مَانع من الحكم، وَعند الْحَنَفِيَّة من انْعِقَاد السَّبَب فالتعليق سَبَب.
وَعِنْدهم عِنْد وجود الشَّرْط، فَعدم الحكم مُضَاف إِلَى انْتِفَاء شَرطه مَعَ وجوب سَببه، وَعِنْدهم إِلَى عدم سَببه.(6/2932)
وَقَالُوا: شَرط الْخِيَار فِي البيع خلاف الْقيَاس؛ لعدم إِمْكَان تَعْلِيق البيع؛ لِأَنَّهُ إِيجَاب، وَالْغَرَض التَّدَارُك فَجعل دَاخِلا على الحكم لمنع اللُّزُوم.
وَقَالُوا: لَو علق طَلاقهَا بقيامها، ثمَّ قَالَ: إِن طَلقتهَا فَعَبْدي حر ثمَّ قَامَت، فَالْقِيَاس يعْتق؛ لِأَنَّهُ طَلقهَا، لَكِن تَرَكْنَاهُ؛ لِأَن الْأَيْمَان تحمل على الْعرف، وَالْعَادَة إِنَّمَا يعْقد يَمِينه على مَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع مِنْهُ.
وبنوا على هَذَا صِحَة تَعْلِيق الطَّلَاق بِالْملكِ، وَامْتِنَاع تَعْجِيل كَفَّارَة الْيَمين، وَأَن طول الْحرَّة، لَا يمْنَع من نِكَاح الْأمة.
وَبني صَاحب " الْمَحْصُول " الْخلاف فِي الصّفة؛ على هَذَا لمنعها من عمل اللَّفْظ الْمُطلق فَهِيَ كالشرط، وَعند الْحَنَفِيَّة غايتها عِلّة، وَلَا أثر لَهَا فِي النَّفْي.
قَوْله: {فَائِدَة: يسْتَعْمل الشَّرْط للتَّعْلِيل ك} قَوْله لوَلَده: {أَطْعمنِي إِن كنت ابْني} ، أَي: لِأَنَّك ابْني، وَإِذا كنت ابْني، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} [الْبَقَرَة: 172] .(6/2933)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لفظ الشَّرْط أَصله التَّعْلِيق، ويستعمله الْعَرَب كثيرا للتَّعْلِيل، لَا للتعليق، فَهُوَ تَنْبِيه على السَّبَب الْبَاعِث على الْمَأْمُور بِهِ، لَا لتعليق الْمَأْمُور بِهِ، فالمقصود التَّنْبِيه على الصّفة الباعثة، لَا التَّعْلِيق. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِنَّمَا يعْتَبر مَفْهُوم الشَّرْط وَغَيره حَيْثُ لم يظْهر للتخصيص فَائِدَة، كَمَا قدمْنَاهُ، وَمثله: (واشكروا نعْمَة الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ) ، وَقَول الْقَائِل لِابْنِهِ: أطعني إِن كنت ابْني، فَإِن المُرَاد التَّنْبِيه على السَّبَب الْبَاعِث للْحكم، لَا تَقْيِيد الحكم بِهِ. انْتهى.
قَوْله: {الرَّابِع: الْغَايَة، ك {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} [الْبَقَرَة: 230] وَهُوَ أقوى من الشَّرْط} ، أَي: الرَّابِع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة مَفْهُوم الْغَايَة، وَهُوَ مد الحكم بأداة الْغَايَة ك (إِلَى) و (حَتَّى) و (اللَّام) .
فمثال الْغَايَة قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] ، {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ، (فَلَا تحل لَهُ [من بعد] حَتَّى(6/2934)
تنْكح زوجا غَيره} [الْبَقَرَة: 230] ، وَحَدِيث: " لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول ".
وَهُوَ حجَّة عِنْد الْجُمْهُور، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَغَيره من الْأَئِمَّة.
وَقد اعْترف بِهِ من أنكر مَفْهُوم الشَّرْط كَابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار، وَأبي الْحُسَيْن، وَإِلَيْهِ ذهب مُعظم نفاة الْمَفْهُوم كَمَا قَالَه الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، قَالَ: كُنَّا نصرنَا إبِْطَال حكم الْغَايَة وَالأَصَح عندنَا القَوْل بِهِ.
وَلِهَذَا أَجمعُوا على تَسْمِيَتهَا حُرُوف الْغَايَة، وَغَايَة الشَّيْء نهايته فَلَو ثَبت الحكم بعْدهَا لم يفد تَسْمِيَتهَا غَايَة.(6/2935)
وَذهب أَكثر الْحَنَفِيَّة وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء، والمتكلمين، والتميمي من أَصْحَابنَا - ذكره عَنهُ ابْن شهَاب - والآمدي إِلَى الْمَنْع.
قَالَ الْحَنَفِيَّة: هُوَ من قبيل الْإِشَارَة، وَهِي مَا اسْتُفِيدَ من اللَّفْظ غير مَقْصُود بِهِ، كَمَا سبق لَا الْمَفْهُوم.
قَالَ ابْن عقيل، وَالْمجد: لَيْسَ لَهَا مَفْهُوم مُوَافقَة.
قَالَ الباقلاني: وَاقع الِاتِّفَاق على تَقْدِير ضد الحكم بعْدهَا فَفِي: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} يقدر: فاقربوهن، وَفِي {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} يقدر: فَتحل، وَنَحْو ذَلِك، وَلَا شكّ أَن الْمُضمر كالملفوظ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أضمر لسبقه إِلَى فهم الْعَارِف بِاللِّسَانِ فَكَأَنَّهُ نَص أهل اللُّغَة على أَنه مَنْطُوق.
وَهَذَا من الباقلاني يدل على أَن انْتِفَاء الحكم فِيمَا بعد الْغَايَة من جِهَة الْمَنْطُوق لَا الْمَفْهُوم على خلاف مَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَنهُ.(6/2936)
وَلِهَذَا قَالَ ابْن الْعَبدَرِي، وَابْن الْحَاج، وَصَاحب " البديع " من الْحَنَفِيَّة: ذهب طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى عدم اعْتِبَار مَفْهُوم الْغَايَة.
اسْتدلَّ الْقَائِل بِهِ بِمَا سبق فِي مَفْهُوم الصّفة [و] اسْتدلَّ بِأَن معنى: صُومُوا إِلَى أَن تغيب الشَّمْس: صُومُوا صوما آخِره غيبوبة الشَّمْس، فَلَو وَجب صَوْم بعْدهَا كَانَت وسطا، لَا آخرا.
ورده الْآمِدِيّ بِأَن هَذَا مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا الْخلاف هَل نفي الحكم بعد الْغَايَة لَازم من التَّقْيِيد بهَا، وَهِي غَايَة للصَّوْم الْمَأْمُور بِهِ أَو لَا.
وَإِنَّمَا تصير وسطا لَو اسْتندَ الصَّوْم بعْدهَا إِلَى الْخطاب قبلهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك.
وَجَوَابه: أَن هَذَا ظَاهر التَّقْيِيد مَا لم يُعَارضهُ دَلِيل، وَلِهَذَا يتَبَادَر إِلَى الْفَهم، وَلَا يحسن الِاسْتِفْهَام فِيمَا بعْدهَا.
وَسلم الْآمِدِيّ أَنه لَا يحسن، لَكِن لعدم دلَالَة اللَّفْظ عَلَيْهِ، وَفِيه نظر لاحْتِمَاله عِنْده.(6/2937)
وَقَالَ ابْن عقيل: لَا يحسن التَّصْرِيح بِأَن مَا بعْدهَا كَمَا قبلهَا، وَهُوَ خلاف مَا فِي " التَّمْهِيد " فِيهِ، وَفِي الشَّرْط وَنقض بهما فِي الصّفة.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا مَانع مِنْهُ إِجْمَاعًا.
فَائِدَة: إِذا تصور فِي الْغَايَة تطاول: هَل يتَعَلَّق الحكم بأولها، أَو يتَوَقَّف الحكم على تَمامهَا؟ الْأَكْثَر على الأول.
تظهر فَائِدَته فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} [الْبَقَرَة: 196] فَيجب دم التَّمَتُّع إِذا فرغ من الْعمرَة وَأحرم بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُسمى حِينَئِذٍ مُتَمَتِّعا فيكتفي بأولها، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَالَ مَالك: مَا لم يقف بِعَرَفَة لَا يجب دم التَّمَتُّع،(6/2938)
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يلْزم الدَّم بِالْوُقُوفِ.
وَقَالَ عَطاء: مَا لم يرم جَمْرَة الْعقبَة.
منشأ ذَلِك أَنه لَا يَكْتَفِي بِأول الْغَايَة، وَالصَّحِيح عندنَا وجوب الدَّم بِطُلُوع فجر يَوْم النَّحْر.
قَوْله: {الْخَامِس: الْعدَد لغير مُبَالغَة كثمانين جلدَة، قَالَ بِهِ أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الشَّافِعِي.
ونفاه ابْن شاقلا، وَالْقَاضِي، وَالْحَنَفِيَّة، والأشعرية،(6/2939)
وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَجعله أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الطّيب وَجمع من قسم الصِّفَات} .
أَي: الْخَامِس من أَنْوَاع مَفْهُوم الْمُخَالفَة مَفْهُوم الْعدَد، أَي: تَعْلِيق الحكم بِعَدَد مَخْصُوص، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} [النُّور: 4] وَهُوَ كالصفة.
قَالَ بِهِ الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَدَاوُد، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَمِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، وَابْن الصّباغ فِي " الْعدة "، وسليم، قَالَ: وَهُوَ دليلنا فِي نِصَاب الزَّكَاة وَالتَّحْرِيم بِخمْس رَضعَات.(6/2940)
وَنَقله أَبُو حَامِد، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْمَاوَرْدِيّ عَن نَص الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن الرّفْعَة: القَوْل بِمَفْهُوم الْعدَد هُوَ الْعُمْدَة عندنَا فِي [عدم] تنقيص الْحِجَارَة فِي الِاسْتِنْجَاء من الثَّلَاثَة.
ونفاه الْحَنَفِيَّة، والمعتزلة، والأشعرية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو يعلى فِي جُزْء صنفه فِي الْمَفْهُوم.
وَذكره أَبُو الْخطاب عَن أبي إِسْحَاق من أَصْحَابنَا فِي مَسْأَلَة الزِّيَادَة على النَّص: هَل هِيَ نسخ أم لَا؟ اسْتدلَّ الْقَائِل بِهِ بِمَا سبق فِي الصّفة من قَوْله: " لأزيدن على السّبْعين " وَلِئَلَّا يعرى عَن فَائِدَة.(6/2941)
فَائِدَة: مَحل الْخلاف فِي ذَلِك فِي عدد لم يقْصد بِهِ التكثير كالألف وَالسبْعين، وَنَحْوهمَا مِمَّا يسْتَعْمل فِي لُغَة الْعَرَب للْمُبَالَغَة.
قَالَ ابْن فورك وَغَيره: فَإِن قَوْلهم الْعدَد نُصُوص إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا قرينَة تدل على إِرَادَة الْمُبَالغَة، نَحْو: جئْتُك ألف مرّة فَلم أجدك. قَالَ: وَبِذَلِك يعلم ضعف الِاحْتِجَاج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما نزل: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} [التَّوْبَة: 80] : " لأزيدن على السّبْعين "، فَعمل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَفْهُومِ فِيهِ، وَذَلِكَ من أشهر حجج المعتبرين لمَفْهُوم الْعدَد.
بل وَيُجَاب عَنهُ بِأَمْر آخر وَهُوَ: أَنه لَعَلَّه قَالَه رَجَاء لحُصُول الْمَغْفِرَة بِنَاء على بَقَاء حكم الأَصْل، وَهُوَ الرَّجَاء الَّذِي كَانَ ثَابتا قبل نزُول الْآيَة، لَا لِأَنَّهُ فهمه من التَّقْيِيد.
وَجَوَاب الباقلاني، وَأبي الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، وَمن تَبِعَهُمْ بالطعن فِي الحَدِيث غير سديد؛ فَإِنَّهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بِلَفْظ " سأزيد ".(6/2942)
قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ: وَمَا رَوَاهُ أَبُو عبيد: " لأزيدن على السّبْعين " لَا يَصح؛ فَإِنَّهُ يمْتَنع غفران ذَنْب الْكَافِر، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ: " لَو علمت أَنه يغْفر لَهُ إِذا زِدْت على السّبْعين لزدت ". انْتهى.
وَهَذِه الزِّيَادَة فِي البُخَارِيّ فِي الْجَنَائِز بِلَفْظ: " لَو أعلم أَنِّي إِن زِدْت على سبعين يغْفر لَهُ لزدت عَلَيْهَا "، وَهِي فِي البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة.
قَالَ ابْن فورك: وَلَيْسَ بمستنكر استغفاره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -؛ لِأَنَّهَا لَا تستحيل عقلا، والإجابة مُمكنَة.
وتلطف ابْن الْمُنِير فَقَالَ: لَعَلَّ الْقَصْد بالاستغفار التَّخْفِيف كَمَا فِي(6/2943)
الدُّعَاء بِهِ لأبي طَالب وَقَوله: " لأزيدن على السّبْعين " أَي: أفعل ذَلِك؛ لأثاب على الاسْتِغْفَار، فَإِنَّهُ عبَادَة. قلت: وَهُوَ عَجِيب، فَإِنَّهُ خلاف مُقْتَضى سِيَاق الْآيَة، وَقد تقدم مَا فِي الْآيَة من الْبَحْث فِي مَفْهُوم الصّفة فليعاود.
قَوْله: {وَجعله أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو الطّيب وَجمع من قسم الصِّفَات} ؛ لِأَن قدر الشَّيْء صفته.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتِيَار أبي الْمَعَالِي أَنه من قسم الصِّفَات، وَكَذَا قَالَ أَبُو الطّيب وَغَيره؛ لِأَن قدر الشَّيْء صفته.
قَوْله: {وَنفى السُّبْكِيّ مَفْهُوم الْمَعْدُود} ، فَقَالَ: التَّحْقِيق عِنْدِي أَن الْخلاف فِي مَفْهُوم الْعدَد إِنَّمَا هُوَ عِنْد ذكر نفس الْعدَد، وَأما الْمَعْدُود(6/2944)
فَلَا يكون مَفْهُومه حجَّة، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ " فَلَا يكون فِيهِ تَحْرِيم ميتَة ثَالِثَة.
قَالَ بَعضهم كَذَا فِي " شرح الْبَيْضَاوِيّ " للسبكي، وَصَوَابه: عدم حل ميتَة ثَالِثَة، وَهُوَ الصَّوَاب.
قَوْله: {السَّادِس اللقب، وَهُوَ تَخْصِيص اسْم بِحكم، حجَّة عِنْد أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَمَالك، وَدَاوُد، والصيرفي، والدقاق، وَابْن فورك، وَابْن خويزمنداد، وَابْن الْقصار.(6/2945)
ونفاه القَاضِي} فِي الْجُزْء الَّذِي صنفه فِي الْمَفْهُوم، {وَابْن عقيل} فِي تَقْسِيم الْأَدِلَّة، {وَأكْثر الْعلمَاء، و} كَذَلِك {الْمُوفق، وَقَالَ: وَلَو كَانَ مشتقا كالطعام.
وَقَيده بعض أَصْحَابنَا بِغَيْر الْمُشْتَقّ} .
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَيصير فِي الْمُشْتَقّ اللَّازِم كالطعام، هَل هُوَ من الصّفة أَو اللقب؟ وَجْهَان.
وَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية، وَغَيره من أَصْحَابنَا وَقَالَ: أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الطّيب فِي مَوضِع أَنه حجَّة بعد سَابِقَة مَا يعمه كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ترابها طهُور " بعد قَوْله: " جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا "، كَمَا لَو قيل: يَا رَسُول الله، أَفِي بَهِيمَة الْأَنْعَام زَكَاة؟ فَقَالَ: فِي الْإِبِل زَكَاة. أَو: هَل نبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ؟ فَقَالَ: لَا تَبِيعُوا الْبر بِالْبرِّ تَقْوِيَة للخاص بِالْعَام كالصفة بالموصوف.
قَالَ: وَأكْثر مَا جَاءَ عَن أَحْمد فِي مَفْهُوم اللقب لَا يخرج عَن هَذَا،(6/2946)
وَجعله الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: [حجَّة] فِي اسْم الْجِنْس، لَا اسْم عين؛ لِأَن خطاب الشَّارِع إِنَّمَا يَجِيء عَاما، لَا شخصا. انْتهى.
وَجه القَوْل الأول: لَو تعلق الحكم بِالْعَام لم يعلق بالخاص؛ لِأَنَّهُ أخص وأعم؛ وَلِأَنَّهُ يُمَيّز مُسَمَّاهُ كالصفة.
فَإِن قيل: الصّفة يجوز جعلهَا عِلّة.
قيل: وَكَذَا الِاسْم، فالتراب عِلّة.
وَاحْتج ابْن عقيل: لَو قَالَ لمن يخاصمه: مَا أُمِّي بزانية، فهم نِسْبَة الزِّنَا إِلَى أمه، وحد عِنْد مَالك وَأحمد.
رد: هَذِه للقرينة.
الْقَائِل بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة - مَا سبق من الْفرق بَينه وَبَين الصّفة - اسْتدلَّ: يلْزم كفر من قَالَ: مُحَمَّد رَسُول الله، وَزيد مَوْجُود، ظَاهرا.
رد: لَا يكفر؛ لِأَنَّهُ لم ينتبه للدلالة، أَو لم يردهَا.(6/2947)
وَاسْتدلَّ: يلْزم إبِْطَال الْقيَاس لظُهُور الأَصْل فِي مُخَالفَة الْفَرْع لَهُ ظَاهرا.
رد: سبق فِي تَخْصِيص الْعَام بِالْمَفْهُومِ يقدم الْقيَاس، أَو يتعارضان، وَسبق فِي الصّفة أَن مَعَ الْمُسَاوَاة لَا مَفْهُوم.
وَأجَاب فِي " الْعدة ": يبطل بِالصّفةِ تمنع الْقيَاس كَذَا هُنَا.
وَأجَاب أَيْضا هُوَ، وَصَاحب " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ يدل لُغَة ويمنعه شرعا، وَبِأَنَّهُ حجَّة مَا لم يسْقط الْقيَاس.
وَاسْتدلَّ: لَو دلّ لم يحسن الْخَبَر عَن أكل زيد إِلَّا بعد علمه بنفيه عَن غَيره.
رد: للقرينة.
وَاسْتدلَّ: لَا يدل على نَفْيه عَن عَمْرو.
أجَاب فِي " التَّمْهِيد " بِمَنْعه إِن أخبر عَنْهُمَا، نَحْو: دعوتهما فَأكل زيد، ثمَّ هَذَا فِي الْخَبَر بِخِلَاف التَّكْلِيف.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره " تبعا لغيره قَالَ: الْمَانِع من مَفْهُوم الْمُخَالفَة لَو(6/2948)
دلّ الْمَفْهُوم على نفي مَا عدا الْمَنْطُوق لدل: زيد عَالم، وَمُحَمّد رَسُول الله على نفي الْعلم، والرسالة عَن غَيرهمَا.
قُلْنَا: مَفْهُوم اللقب، وَفِي كَونه حجَّة خلاف وَإِن سلم فلدلالة الْعقل والحس على عدم اخْتِصَاصه. انْتهى.
قَوْله: {وَنفى قوم الْمَفْهُوم فِي الْخَبَر، والسبكي فِي غير الشَّرْع} .
إِذا كَانَ الْمَفْهُوم فِي الْأَمر وَالنَّهْي عمل بِهِ، وَإِن كَانَ فِي الْخَبَر، كَقَوْلِه: زيد الطَّوِيل فِي الدَّار، فَسلم القَاضِي فِي " الْكِفَايَة " أَنه لَا يدل على الْقصر بِنَفْي، وَلَا إِثْبَات، وَقد قَالَ قبل هَذَا: إِن تَعْلِيق هَذَا الْوُجُوب والإخبار بِالْأَلْقَابِ يَقْتَضِي النَّفْي.
وَأخذ هَذَا القَوْل أَيْضا من كَلَام الْحَاجِب بالاستدلال.
وَقَالَ السُّبْكِيّ: لَا يعْمل بهَا فِي كَلَام الْآدَمِيّين، وَلَيْسَت بِحجَّة فِي كَلَامهم كالأوقاف والأقارير وَغَيرهمَا؛ لغَلَبَة ذهولهم، وَإِنَّمَا هِيَ حجَّة فِي خطاب الشَّرْع خَاصَّة؛ لعلمه ببواطن الْأُمُور وظواهرها.(6/2949)
قَالَ: فَلَو وقف على الْفُقَرَاء، لَا نقُول: إِن الْأَغْنِيَاء خارجون بِالْمَفْهُومِ، بل عدم استحقاقهم بِالْأَصْلِ.
قَوْله: {إِذا خص نوع بِالذكر بمدح، أَو ذمّ، أَو غَيره، مِمَّا لَا يصلح للمسكوت فَلهُ مَفْهُوم} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} [المطففين: 15] فالحجاب عَذَاب، فَلَا يحجب من لَا يعذب، وَلَو حجب الْجَمِيع لم يكن عذَابا.
قَالَ الإِمَام مَالك: لما حجب أعداءه تجلى لأوليائه حَتَّى رَأَوْهُ.
وَقَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: لما حجب هَؤُلَاءِ فِي السخط كَانَ فِي هَذَا دَلِيل على أَن أولياءه يرونه فِي الرضى.
وَقَالَ أَيْضا: فِي الْآيَة دلَالَة على أَن أولياءه يرونه يَوْم الْقِيَامَة بأبصار وُجُوههم.
وبهذه الْآيَة اسْتدلَّ الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْأَئِمَّة على الرُّؤْيَة للْمُؤْمِنين.
قَالَ الزّجاج: لَوْلَا ذَلِك لم يكن فِيهَا فَائِدَة، وَلَا خست ...(6/2950)
مَنْزِلَتهمْ بحجبهم.
قَوْله: {وَإِذا اقْتضى الْحَال، أَو اللَّفْظ عُمُوم الحكم، لَو عَم فتخصيص بعض بِالذكر لَهُ مَفْهُوم، ذكره الشَّيْخ وَغَيره} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وفضلناهم على كثير} ، وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ} - إِلَى قَوْله: - {وَكثير من النَّاس} [الْحَج: 18] .
قَوْله: {وَفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ دَلِيل كدليل الْخطاب عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَمنعه ابْن عقيل وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: فعله عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ دَلِيل، ذكره أَصْحَابنَا، مِنْهُم: القَاضِي، وَأَخذه من قَول أَحْمد: لَا يصلى على ميت بعد شهر لحَدِيث أم سعد، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَرُوَاته ثِقَات.(6/2951)
عَن سعيد بن الْمسيب: (أَن أم سعد مَاتَت وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَائِب، فَلَمَّا قدم صلى عَلَيْهَا وَقد مضى لذَلِك شهر) .
وَضعف هَذِه الدّلَالَة بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَأكْثر كَلَام ابْن عقيل مثله، وَجوز أَن الْمُسْتَند اسْتِصْحَاب الْحَال، وَقَالَ: لَيْسَ للْفِعْل صِيغَة تخص، وَلَا تعم فضلا على أَن نجْعَل لَهَا دَلِيل خطاب.
وَذكر بَعضهم مَفْهُوم قرَان الْعَطف، وسبقت الْمَسْأَلَة فِي الْعُمُوم.
قَوْله: فَائِدَة: كل دلَالَة الْمَفْهُوم بالالتزام، أخذت ذَلِك من كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل، بِمَعْنى أَن النَّفْي فِي الْمَسْكُوت لَازم للثبوت فِي الْمَنْطُوق مُلَازمَة ظنية، لَا قَطْعِيَّة. انْتهى.
قَوْله { (إِنَّمَا) بِالْكَسْرِ تفِيد الْحصْر نطقا عِنْد أبي الْخطاب، وَابْن(6/2952)
الْمَنِيّ، والموفق، وَالْفَخْر، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة.
وَعند القَاضِي، وَابْن عقيل، والحلواني، وَالْأَكْثَر فهما، وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والآمدي، والطوفي، وَغَيرهم: لَا تفيده، بل تؤكد الْإِثْبَات} .
أَكثر الْعلمَاء قَالُوا: إِن (إِنَّمَا) تفِيد الْحصْر، وَهُوَ إِثْبَات الحكم فِي الْمَذْكُور ونفيه عَمَّا عداهُ، فَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن الْمَنِيّ، وَالشَّيْخ الْمُوفق، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد، وَغَيرهم من أَصْحَابنَا،(6/2953)
والجرجاني وَغَيره من الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو حَامِد الْمروزِي وَغَيره من الشَّافِعِيَّة: إِنَّهَا تفيده نطقا.
وَعند القَاضِي أبي يعلى، وَابْن عقيل، والحلواني، وَأكْثر الْعلمَاء: تفيده بِالْمَفْهُومِ، مِنْهُم جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين.
وَأطلق الإفادة الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وألكيا، والرازي وَأَتْبَاعه.
وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والآمدي، والطوفي من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: لَا تفيده، بل تؤكد الْإِثْبَات فَلَا تفِيد الْحصْر، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّان، وَقَالَ: كَمَا لَا يفهم ذَلِك من أخواتها المكفوفة ب (مَا) مثل:(6/2954)
ليتما، ولعلما، وَإِذا فهم من (إِنَّمَا) حصر فَإِنَّمَا هُوَ من السِّيَاق، لَا أَنَّهَا تدل عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ، وَبَالغ فِي إِنْكَار ذَلِك، وَنَقله عَن الْبَصرِيين.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، فَإِن إِمَام اللُّغَة نقل عَن أهل اللُّغَة أَنَّهَا تفيده، نَحْو: إِنَّمَا الْمَرْء بأصغريه، بِمَعْنى: قلبه وَلسَانه، أَي: كَمَا لَهُ بِهَذَيْنِ العضوين، لَا بهيئته ومنظره، ثمَّ قَالَ: نعم، لَهُم طرق فِي إفادتها، أقواها: نقل أهل اللُّغَة، واستقراء استعمالات الْعَرَب إِيَّاهَا فِي ذَلِك، وأضعفها طَريقَة الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: أَن (إِن) للإثبات و (مَا للنَّفْي، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فَيجْعَل الْإِثْبَات للمذكور، وَالنَّفْي للمسكوت. ورد: بِمن كل من الْأَمريْنِ؛ لِأَن (إِن) لتوكيد النِّسْبَة نفيا كَانَ أَو إِثْبَاتًا، نَحْو: إِن زيدا قَامَ، وَإِن زيدا لم يقم.
و (مَا) كَافَّة لَا نَافِيَة على الْمُرَجح، وَبِتَقْدِير التَّسْلِيم فَلَا يلْزم اسْتِمْرَار الْمَعْنى فِي حَالَة الْإِفْرَاد [أَو] حَالَة التَّرْكِيب.
وَقَالَ السكاكي: لَيْسَ الْحصْر فِي (إِنَّمَا) لكَون (مَا) للنَّفْي كَمَا يفهمهُ من لَا وقُوف لَهُ على النَّحْو؛ لِأَنَّهَا لَو كَانَت للنَّفْي لَكَانَ لَهَا الصَّدْر. ثمَّ حكى عَن الربعِي أَن التَّأْكِيد إِثْبَات الْمسند للمسند إِلَيْهِ، و (مَا) مُؤَكدَة فَنَاسَبَ معنى الْحصْر، ورضيه.(6/2955)
دَلِيل الْقَائِل بالحصر: تبادر الْفَهم بِلَا دَلِيل.
عورض: هَذَا لَو انحصر دَلِيل الْحصْر فِي (إِنَّمَا) .
وَجَوَابه: الأَصْل عدم غَيره، وَالْفَرْض فِيهِ، وَاحْتج ابْن عَبَّاس على إِبَاحَة رَبًّا الْفضل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة " وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وشاع فِي الصَّحَابَة، وَلم يُنكر، وَعدل إِلَى دَلِيل.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ نظر؛ إِن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ عَن أُسَامَة بِلَفْظ: " لَيْسَ الرِّبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " كَمَا فِي مُسلم، فَيحْتَمل أَنه مُسْتَند ابْن عَبَّاس.
وَقد يُجَاب بِأَنَّهُم قد رووا أَنه اسْتدلَّ بذلك وَأَنَّهُمْ لما وافقوه كَانَ كالإجماع، وَإِن كَانَ قد رَوَاهُ مرّة أُخْرَى بِصِيغَة (إِلَّا) وغايته أَن الصيغتين سَوَاء فاستدل بِهَذِهِ تَارَة، وبهذه أُخْرَى. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضا: " لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ". ثمَّ قَالَ: وَاسْتدلَّ بِأَن (إِن) للإثبات و (مَا) للنَّفْي.
رد: تحكم؛ لِأَن (مَا) لَهَا أَقسَام، ثمَّ يلْزم نفي طلب الْمجد فِي قَول امْرِئ الْقَيْس:(6/2956)
(ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... )
وَهُوَ يُنَاقض مَا قبله وَمَا بعده.
ثمَّ (مَا) هُنَا زَائِدَة عِنْد النُّحَاة، تكف (إِن) عَن الْعَمَل، وَأَن كلا مِنْهُمَا لَهُ صدر الْكَلَام فَلَا يجمع بَينهمَا ك (لَام) الِابْتِدَاء مَعَ إِن، لَكِن تدخل لَام الِابْتِدَاء على خَبَرهَا، وَتدْخل عَلَيْهِ (مَا) إِن كَانَ جملَة و (إِن) لتأكيد مضمونها.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة " وَغَيرهمَا: (إِنَّمَا) كأداة الِاسْتِثْنَاء، رد: عين الدَّعْوَى.
الْقَائِل بِعَدَمِهِ: إِنَّمَا زيد قَائِم بِمَعْنى إِن زيدا قَائِما و (مَا) زَائِدَة فَهِيَ كَالْعدمِ؛ وَلِأَنَّهَا ترد للحصر وَغَيره فَيلْزم مِنْهُ الْمجَاز أَو الِاشْتِرَاك، وهما خلاف الأَصْل.
رد: بِمَا سبق وَيُخَالف الأَصْل لدَلِيل.(6/2957)
قَوْله: {وَقد ترد لتحقيق الْمَنْصُوص لَا لنفي غَيره، نَحْو: إِنَّمَا الْكَرِيم يُوسُف} بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: {وَالأَصَح أَن الْمَفْتُوحَة كالمكسورة} ، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ وَغَيره، وَادّعى إفادتها للحصر فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد} [الْأَنْبِيَاء: 108] وَقَالَ: إِن الْقصر فِي (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَة الأولى فِي الْآيَة قصر الحكم على الشَّيْء، وَفِي (إِنَّمَا) الثَّانِيَة الْمَفْتُوحَة قصر الشَّيْء على الحكم.
يُرِيد بذلك قصر الصّفة على الْمَوْصُوف، وَعَكسه.
وَبِنَاء الْمَسْأَلَة على أَن الْمَفْتُوحَة فرع الْمَكْسُورَة على أصح الْمذَاهب، وَقد عد سِيبَوَيْهٍ الْمَكْسُورَة والمفتوحة وَاحِدًا.
وَقد رد أَبُو حَيَّان على الزَّمَخْشَرِيّ ذَلِك، رد: كَلَام أبي حَيَّان.(6/2958)
وَقيل: الْمَكْسُورَة فرع الْمَفْتُوحَة.
وَقيل: كل مِنْهُمَا أصل بِرَأْسِهِ، حكاهن ابْن الخباز، وَهُوَ مِمَّا يُقَوي كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ.
قَوْله: {" تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم "، والعالم زيد، وصديقي زيد، وَلَا قرينَة عهد تفِيد الْحصْر نطقا، عِنْد القَاضِي، والموفق، وَالْمجد، والمحققين، وَقيل: فهما.(6/2959)
وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، والباقلاني والآمدي: لَا تفيده} .
من صِيغ الْحصْر الْمُعْتَبر مَفْهُومه حصر الْمُبْتَدَأ فِي الْخَبَر، وَله صيغتان:
إِحْدَاهمَا: نَحْو: صديقي زيد، قَالَه الْمُحَقِّقُونَ مستدلين بِأَن صديقي عَام فَإِذا أخبر عَنهُ بخاص وَهُوَ زيد كَانَ حصرا لذَلِك الْعَام، وَهُوَ الأصدقاء كلهم فِي الْخَبَر، وَهُوَ زيد؛ إِذْ لَو نفى من أَفْرَاد الْعُمُوم مَا لم يدْخل فِي الْخَبَر لزم أَن يكون الْمُبْتَدَأ أَعم من الْخَبَر، وَذَلِكَ لَا يجوز.
قَالَ الْغَزالِيّ: لَا لُغَة وَلَا عقلا، فَلَا نقُول: الْحَيَوَان إِنْسَان، وَلَا الزَّوْج عشرَة، بل أَن يكون الْمُبْتَدَأ أخص أَو مُسَاوِيا. انْتهى.
وَقد حكى ابْن الْحَاجِب فِي أَمَالِيهِ فِي ذَلِك ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: هَذَا.
وَالثَّانِي: مثله، إِلَّا أَن أَيهمَا قَدمته فَهُوَ الْمُبْتَدَأ، لَكِن تَقْدِيم (صديقي) يُفِيد الْحصْر، وَتَقْدِيم زيد لَا يفِيدهُ.
وَالثَّالِث: اسْتِوَاء التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن تُرِيدُ بصديقي خَاصّا، أَو عَاما، إِن أردْت عَاما فَلَا حصر سَوَاء قدمت، أَو أخرت.
وَإِن أدرت خَاصّا أَفَادَ الْحصْر سَوَاء قدمت أَو أخرت.(6/2960)
إِذا علم ذَلِك فَالصَّحِيح أَنه يُفِيد ذَلِك نطقا عِنْد القَاضِي، والموفق، وَالْمجد، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَغَيرهم.
وَعند الْغَزالِيّ، وَبَعض الْفُقَهَاء إِنَّمَا يفِيدهُ من الْمَفْهُوم.
والصيغة الثَّانِيَة: قَوْلنَا: الْعَالم زيد، وَزيد الْعَالم، إِذا جعلت اللَّام للْحَقِيقَة، أَو للاستغراق لَا للْعهد.
وَالْحكم فيهمَا كالصيغ الَّتِي قبلهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم؛ لِأَنَّهُ مُضَاف إِلَى ضمير عَائِد إِلَى الصَّلَاة، وفيهَا اللَّام.
وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي على تعْيين لَفْظِي التَّكْبِير، وَالتَّسْلِيم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم ".
وَمنعه الْحَنَفِيَّة لمنعهم المفاهيم.
ورد: بِأَن التَّعْيِين مُسْتَفَاد من الْحصْر الْمَدْلُول عَلَيْهِ بالمبتدأ وَالْخَبَر، فَإِن التَّحْرِيم منحصر فِي التَّكْبِير: كانحصار زيد فِي صداقتك إِذا قلت: صديقي زيد.(6/2961)
وَأما إِذا كَانَ الْخَبَر نكرَة، نَحْو: زيد قَائِم، فَالْأَصَحّ أَنَّهَا لَا تفِيد الْحصْر، كَمَا فِي الحَدِيث: " الصّيام جنَّة "، فَإِنَّهُ لَا يمْنَع أَن غَيره أَيْضا جنَّة، وَلِهَذَا جَاءَ: " فليتق النَّار وَلَو بشق تَمْرَة ".
وَقيل: يفِيدهُ.
فَقيل: نطقا.
وَقيل: فهما، كَمَا فِي الَّتِي قبلهَا.
قَوْله: {وَمثله حصر بِنَفْي وَنَحْوه، واستثناء تَامّ، ومفرغ، وَفصل الْمُبْتَدَأ من الْخَبَر بضمير الْفَصْل، وَتَقْدِيم الْمَعْمُول} .
فَحصل الْحصْر بِالنَّفْيِ وَنَحْوه، وبالاستثناء التَّام، والمفرغ، وَسَوَاء كَانَ النَّفْي ب (مَا) أَو (لَا) أَو (لَيْسَ) أَو (لم) أَو (إِن) أَو (أما) ، وَهُوَ فِي معنى النَّفْي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ} [الْأَحْقَاف: 35] ، و {يَأْبَى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} [التَّوْبَة: 32] ، وَلذَا قُلْنَا فِي الْمَتْن بِنَفْي وَنَحْوه، وَسَوَاء كَانَت أَدَاة الِاسْتِثْنَاء (إِلَّا) أَو غَيرهَا نَحْو: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَمَا لي سوى الله،(6/2962)
(رضيت بك اللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أرى ... أدين إِلَهًا غَيْرك الله وَاحِدًا)
وَمَا قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَمَا رَأَيْت إِلَّا زيدا، وَنَحْوه، وَهُوَ وَاضح.
وَقد اعْترف أَكثر منكري الْمَفْهُوم كالباقلاني، وَالْغَزالِيّ بِاعْتِبَار الْمَفْهُوم هُنَا، وأصر الْحَنَفِيَّة على نفيهم.
وَالصَّحِيح أَن الدّلَالَة هُنَا بالمنطوق بِدَلِيل مَا لَو قَالَ: مَاله عَليّ إِلَّا دِينَار كَانَ ذَلِك إِقْرَارا بالدينار، وَلَو كَانَ بِالْمَفْهُومِ لم يُؤَاخذ بِهِ لعدم اعْتِبَار الْمَفْهُوم فِي الأقارير، وَبِذَلِك صرح ابْن الْقطَّان فِي نَحْو: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل " فَقَالَ: إِن النَّفْي وَالْإِثْبَات كِلَاهُمَا بالمنطوق، وَلَيْسَ أَحدهمَا بِالْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّك لَو قلت: لَا تعط زيدا شَيْئا إِلَّا إِن دخل الدَّار، كَانَ الْعَطاء وَالْمَنْع مَنْصُوصا عَلَيْهِمَا.
وَمن جزم بِأَنَّهُ مَنْطُوق أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ".(6/2963)
وَرجحه الْقَرَافِيّ فِي " الْقَوَاعِد ".
وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَفْهُوم تبعا للمشهور فِي كتب الْأُصُول.
وَمن الْحصْر أَيْضا: الْحصْر بضمير الْفَصْل، نَحْو: زيد هُوَ الْعَالم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} [الْكَوْثَر: 3] ، {فَالله هُوَ الْوَلِيّ} [الشورى: 9] ذكره البيانيون.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: صَار إِلَيْهِ بعض الْعلمَاء لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} [الصافات: 173] فَإِنَّهُ لم يسق إِلَّا للإعلام بِأَنَّهُم الغالبون دون غَيرهم، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار} [غَافِر: 43] ، و {إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم} [الشورى: 5] .
وَالثَّانِي: أَنه لم يوضع للإفادة، وَلَا فَائِدَة فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} [الزخرف: 76] سوى الْحصْر.
ويفيد الِاخْتِصَاص الْحصْر أَيْضا وَهُوَ تَقْدِيم الْمَعْمُول.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} [الْفَاتِحَة: 5](6/2964)
أَي: نخصك بِالْعبَادَة والاستعانة، وَهَذَا معنى الْحصْر، وَسَوَاء فِي الْمَفْعُول وَالْحَال، والظرف وَالْخَبَر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبْتَدَأ، نَحْو: تميمي أَنا، وَبِه صرح صَاحب " الْمثل السائر "، وَأنْكرهُ عَلَيْهِ صَاحب " الْفلك "، وَقَالَ: لم يقل بِهِ أحد.
وإنكاره عَجِيب فَكَلَام البيانيين طافح بِهِ، وَبِه احْتج أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي على تعْيين لَفْظِي التَّكْبِير وَالتَّسْلِيم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم " كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَهُوَ يُفِيد الِاخْتِصَاص} ، قَالَه البيانيون، وَخَالفهُم فِي ذَلِك ابْن الْحَاجِب وَأَبُو حَيَّان.(6/2965)
فَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل ": إِن توهم النَّاس لذَلِك وهم، وتمسكهم بِنَحْوِ: {بل الله فاعبد} [الزمر: 66] ضَعِيف لوُرُود {فاعبد الله} ، فَيلْزم أَن الْمُؤخر يُفِيد عدم الْحصْر - إِفَادَة نَفْيه - لكَونه نقيضه.
وَأجِيب: لَا يسْتَلْزم حصرا، وَلَا عَدمه، وَلَا يلْزم من عدم إِفَادَة الْحصْر إِفَادَة نَفْيه، لَا سِيمَا ومخلصا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاعبد الله مخلصا} مغن عَن إِفَادَة الْحصْر.
وَقَالَ أَبُو حَيَّان فِي أول تَفْسِيره فِي رد دَعْوَى الِاخْتِصَاص: إِن سِيبَوَيْهٍ قَالَ: إِن التَّقْدِيم للاهتمام والعناية، فَهُوَ فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَمَا فِي (ضرب زيد عمرا) ، و (ضرب عمرا زيد) فَكَمَا أَن هَذَا لَا يدل على الِاخْتِصَاص فَكَذَلِك مثالنا.
وَأجِيب: بِأَن تَشْبِيه سِيبَوَيْهٍ إِنَّمَا هُوَ أصل الْإِسْنَاد، وَأَن التَّقْدِيم يشْعر بالاهتمام والاعتناء وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الِاخْتِصَاص.(6/2966)
وَقَالَ صَاحب " الْفلك الدائر ": الْحق أَنه لَا يدل على الِاخْتِصَاص إِلَّا بالقرائن وَالْأَكْثَر فِي الْقُرْآن التَّصْرِيح بِهِ مَعَ عدم الِاخْتِصَاص، نَحْو: {إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} [طه: 118] وَلم يكن ذَلِك خَاصّا بِهِ، فَإِن حَوَّاء كَذَلِك.
قَوْله: {وَهُوَ الْحصْر} ، كَون الِاخْتِصَاص هُوَ الْحصْر هُوَ رَأْي جُمْهُور الْعلمَاء، وَخَالف السُّبْكِيّ فِي ذَلِك، فَقَالَ: لَيْسَ معنى الِاخْتِصَاص الْحصْر خلافًا لما يفهم كثير من النَّاس؛ لِأَن الْفُضَلَاء كالزمخشري لم يعبروا فِي نَحْو ذَلِك إِلَّا با [لَا] ختصاص، وَالْفرق بَينه وَبَين الْحصْر أَن الِاخْتِصَاص افتعال من الْخُصُوص، وَالْخَاص مركب من عُمُوم، وَمعنى يفصله، فالضرب - مثلا - عَام، فَإِذا قلت: ضربت، خصصته بِإِشَارَة لَك، فَإِذا قلت: زيدا، خصصت ضربك بِوُقُوعِهِ على زيد، فالمتكلم إِمَّا أَن يكون مَقْصُوده الثَّلَاثَة، أَو بَعْضهَا، فتقديمه أَحدهَا باختصاصه لَهَا من مُطلق الضَّرْب لدلَالَة الِابْتِدَاء بالشَّيْء على الاهتمام، وَيبقى ذكر الْبَاقِي بالتبعية فِي قَصده، وَلَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ مَا فِي الْحصْر من نفي غَيره، وَإِنَّمَا جَاءَ الْحصْر فِي {إياك نعْبد} وَنَحْوه للْعلم بِهِ من خَارج لَا من نفس اللَّفْظ بِدَلِيل أَن بَقِيَّة الْآيَات لَا يطرد فِيهَا ذَلِك، أَلا ترى أَن قَوْله تَعَالَى: (أفغير دين الله(6/2967)
يَبْغُونَ} [آل عمرَان: 83] لَيْسَ المُرَاد إِنْكَار كَونهم لَا يَبْغُونَ إِلَّا غير دين الله، بل كَونهم يَبْغُونَ غير دين الله مُطلقًا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد يحْتَج للتغاير بقوله تَعَالَى: {وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء} [الْبَقَرَة: 105] فَإِن رَحْمَة الله لَا تَنْحَصِر.
فَائِدَة: الْمَفْهُوم أَقسَام - كَمَا تقدم -، وَهِي مرتبَة بِاعْتِبَار الْقُوَّة والضعف، وَتظهر فَائِدَته فِي التراجيح، فأقواها مَا كَانَ من الْحصْر بِالنَّفْيِ، وَنَحْوه، وَالِاسْتِثْنَاء إِن قُلْنَا: إِنَّه بِالْمَفْهُومِ، وَسبق الْخلاف فِيهِ، ويليه كل مَا قيل: إِنَّه من قبيل الْمَنْطُوق، وَإِن كَانَ القَوْل بذلك ضَعِيفا؛ إِذْ لَوْلَا قوته لما جعل منطوقا على قَول، وَذَلِكَ كالغاية والحصر بإنما فهما سَوَاء، وبعدهما حصر الْمُبْتَدَأ فِي الْخَبَر، ثمَّ مَفْهُوم الشَّرْط، ثمَّ الصّفة، وَتقدم التَّنْبِيه على ذَلِك.
وَالصّفة لَهَا مَرَاتِب: أَعْلَاهَا الْمُنَاسبَة، ثمَّ غير الْمُنَاسبَة سوى الْعدَد، فَدخلت الْعلَّة، والظرف، وَالْحَال فهم فِي مرتبَة وَاحِدَة، لَكِن يَنْبَغِي تَقْدِيم الْعلَّة، ثمَّ الْعدَد، ثمَّ مَفْهُوم تَقْدِيم الْمَعْمُول.(6/2968)
(بَاب النّسخ)(6/2969)
فارغة(6/2970)
(قَوْله: {بَاب النّسخ} )
{لُغَة: الرّفْع والإزالة، نسخت الشَّمْس الظل، وَالنَّقْل، نسخت الْكتاب} . الِاسْتِدْلَال بِالْكتاب وَالسّنة مُتَوَقف على معرفَة بَقَاء الحكم أَو ارتفاعه، وَهُوَ بَيَان النّسخ وَأَحْكَامه.
والنسخ لَهُ مَعْنيانِ: معنى فِي اللُّغَة، وَمعنى فِي الشَّرْع. فالنسخ فِي اللُّغَة يُطلق على الرّفْع، والإزالة: كنسخت الشَّمْس الظل، أَي: رفعته وأزالته، وَنسخت الرّيح الْأَثر كَذَلِك.
وَيُطلق - أَيْضا - على النَّقْل، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: النَّقْل مَعَ عدم بَقَاء الأول كالمناسخات فِي الْمَوَارِيث، فَإِنَّهَا تنْتَقل من قوم إِلَى قوم مَعَ بَقَاء الْمَوَارِيث فِي نَفسهَا، وَمِنْه قَول بعض المبتدعة بالتناسخ فِي الْأَرْوَاح، يَزْعمُونَ أَن الْأَرْوَاح تنْتَقل من هيكل إِلَى هيكل.(6/2971)
وَالنَّوْع الثَّانِي: النَّقْل مَعَ بَقَاء الأول فَيكون المُرَاد مماثلته، كنسخ الْكتاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] .
قَوْله: {فأصحابنا وَالْأَكْثَر: حَقِيقَة فِي الأول مجَاز فِي الثَّانِي، والقفال عَكسه، والباقلاني وَالْغَزالِيّ وَجمع: مُشْتَرك، وَابْن الْمُنِير متواطئ} .
قد علمت أَن اللُّغَة وَردت بالإزالة وَالرَّفْع وبالنقل، فَذهب أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر أَنه حَقِيقَة فِي الأول، أَي: فِي الرّفْع والإزالة، مجَاز فِي الثَّانِي وَهُوَ النَّقْل، قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْمُخْتَار.(6/2972)
وَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى عَكسه، وَهُوَ: أَنه حَقِيقَة فِي النَّقْل، مجَاز فِي الرّفْع والإزالة، لاستلزامة الْإِزَالَة.
وَقَالَ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهمَا: مُشْتَرك بَين الْإِزَالَة وَالنَّقْل.
وَقيل: الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الرّفْع، فَيكون متواطئا، وَبِه قَالَ ابْن الْمُنِير فِي " شرح الْبُرْهَان ".
وَلَكِن لَا يَتَأَتَّى ذَلِك فِي نَحْو: نسخت الْكتاب؛ إِذْ لَا رفع فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي شَرحه فِي نصْرَة كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي أَنه حَقِيقَة فِي الرّفْع مجَاز فِي الْإِزَالَة: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك؛ لِأَن التَّعَارُض فِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة قد وَقع بَين الِاشْتِرَاك على القَوْل الأول، وَبَين الْمجَاز على الْقَوْلَيْنِ الآخرين، فالمجاز أولى من الِاشْتِرَاك فَيبقى الْأَمر دائرا بَين الْقَوْلَيْنِ الآخرين، وَهُوَ أَن النّسخ حَقِيقَة فِي الرّفْع، مجَاز فِي النَّقْل، أَو بِالْعَكْسِ.
وَالْأول أظهر، وَوَجهه: أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَيكون أولى بِحَقِيقَة النّسخ، أما أَن الرّفْع أخص من النَّقْل فَلِأَن الرّفْع يسْتَلْزم النَّقْل، وَالنَّقْل لَا يسْتَلْزم الرّفْع، فَيكون أخص فَيكون أولى بِحَقِيقَة اللَّفْظ؛ لِأَن الْأَخَص أبين، وأدل، وأوضح، فَيكون بِالْحَقِيقَةِ أولى.(6/2973)
ثمَّ ردد القَوْل فِي ذَلِك، وَذكر طَريقَة أُخْرَى فِي التقوية.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ثمَّ قيل: الْخلف لَفْظِي، وَقيل: معنوي.
تظهر فَائِدَته فِي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَفِيه نظر؛ لِأَن الْمدَار على الْحَقَائِق الْعُرْفِيَّة لَا اللُّغَوِيَّة، وَأَيْضًا فَهُوَ يبْنى على أَن الاصطلاحي نقل من اللُّغَوِيَّة كَمَا نقلت الصَّلَاة إِلَى الشَّرْعِيَّة، وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْمُتَكَلِّمين، لَكِن الْأَظْهر أَنه كنقل الدَّابَّة، فَنقل من الْأَعَمّ إِلَى الْأَخَص. انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا} ، أَي: معنى النّسخ فِي الشَّرْع، وَاخْتلف فِيهِ: هَل هُوَ رفع، أَو بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم؟ على قَوْلَيْنِ:
ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى أَنه رفع الحكم، فَهُوَ: {رفع حكم شَرْعِي بِدَلِيل شَرْعِي متراخ} . ذكر مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح: بقول الشَّارِع أَو فعله، يخرج الْمُبَاح بِحكم الأَصْل عِنْد الْقَائِل بِهِ فَإِن ذَلِك بِحكم عَقْلِي، لَا شَرْعِي، فَإِذا أخرج فَرد من تِلْكَ الْأَفْرَاد فَلَا يُسمى نسخا، وَالرَّفْع لعدم الْفَهم، وَبِنَحْوِ: صل إِلَى آخر الشَّهْر.
وَالْمرَاد بالحكم مَا تعلق بالمكلف بعد وجوده أَهلا، فالتكليف الْمَشْرُوط بِالْعقلِ عدم عِنْد عَدمه فَلَا يرد: الحكم قديم لَا يرْتَفع وَلَا ينْتَقض عَكسه(6/2974)
بتخصيص مُتَأَخّر؛ لِأَنَّهُ بَيَان، لَا رفع عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم خلافًا لبَعْضهِم، وَهَذَا معنى حد أبي الْخطاب.
{وَزَاد: رفع مثل الحكم} ، لِئَلَّا يرد البداء، وَهُوَ ظُهُور مَا لم يكن؛ لِأَنَّهُ رفع نفس الحكم.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا.
وأبطله الْآمِدِيّ بِأَن إِزَالَة الْمثل قبل وجوده، وَبعد عَدمه محَال، وَكَذَا مَعَه؛ لِأَنَّهَا إعدام. قَالَ: وَفِيه نظر، لَكِن يلْزم منع نسخ أَمر مُقَيّد بِمرَّة قبل فعله.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَزَاد ابْن الْحَاجِب: مُتَأَخّر، ليخرج مَا لَو قَالَ: صل عِنْد كل زَوَال إِلَى آخر الشَّهْر، وَنَحْوه المخصصات الْمُتَّصِلَة كلهَا فَإِنَّهَا إِخْرَاج بِدَلِيل شَرْعِي مُقَارن، لَا مُتَأَخّر.
قَالَ: وَإِنَّمَا لم أذكر هَذَا الْقَيْد فِي التَّعْرِيف؛ لِأَن الرّفْع يَسْتَدْعِي ثُبُوت حكم، وَالْحكم لم يثبت بِأول الْكَلَام؛ إِذْ الْكَلَام بِآخِرهِ، فَكيف يرفع؟(6/2975)
وَأَيْضًا: يسْتَغْنى عَن قيد الْمُتَأَخر بقولنَا: بخطاب شَرْعِي فَإِنَّهُ إِذا لم يتَأَخَّر فَكيف يكون رَافعا.
وَأَيْضًا فالمخصصات الْمُتَّصِلَة مُتَأَخِّرَة لفظا فَلَا يُخرجهَا قَوْله: (مُتَأَخّر) ؛ وَلِهَذَا أبدل بَعضهم (مُتَأَخّر) بمتراخ ليخرج المخصصات الْمُتَّصِلَة، وَالْكل لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَمِمَّا يخرج بقولنَا بخطاب شَرْعِي من سَقَطت رِجْلَاهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: رفع بِدَلِيل شَرْعِي، بل بِالْعقلِ، وَمَا وَقع للرازي فِي " الْمَحْصُول " من جعل ذَلِك نسخا فضعيف. انْتهى.
تَنْبِيه: قَوْلنَا: {بِدَلِيل شَرْعِي} أولى من قَول من قَالَ: بخطاب شَرْعِي لدُخُول الْفِعْل فِي الأول، لَا الثَّانِي؛ إِذْ لَا يُقَال: للْفِعْل خطاب.
وَعبر الْبَيْضَاوِيّ: بطرِيق شَرْعِي.
وَهُوَ حسن، فقد جعل الْأَئِمَّة من النّسخ بِالْفِعْلِ، نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة، وَلم يتَوَضَّأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(6/2976)
{و} قَالَ {ابْن حمدَان} فِي " مقنعه ": {منع اسْتِمْرَار حكم خطاب شَرْعِي بخطاب شَرْعِي متراخ عَنهُ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاد الْآمِدِيّ بحده، وَكَذَا فِي " الرَّوْضَة ": رفع حكم ثَابت بخطاب متراخ عَنهُ.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": وَمعنى الرّفْع إِزَالَة الشَّيْء على وَجه لولاه لبقي ثَابتا، على مِثَال رفع حكم الْإِجَارَة بِالْفَسْخِ، فَإِن ذَلِك يُفَارق زَوَال حكمهَا بِانْقِضَاء مدَّتهَا.
قَالَ: وَقَيَّدنَا الْحَد بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم؛ لِأَن ابْتِدَاء الْعِبَادَات فِي الشَّرْع مزيل لحكم الْعقل من بَرَاءَة الذِّمَّة، وَلَيْسَ بنسخ، وقيدناه بِالْخِطَابِ الثَّانِي؛ لِأَن زَوَال الحكم بِالْمَوْتِ وَالْجُنُون لَيْسَ بنسخ، وَقَوْلنَا: مَعَ تراخيه عَنهُ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُتَّصِلا بِهِ كَانَ بَيَانا وإتماما لِمَعْنى الْكَلَام وتقديرا لَهُ بِمدَّة وَشرط. انْتهى.
{و} قَالَ: {القَاضِي: إِخْرَاج مَا لم يرد بِاللَّفْظِ الْعَام فِي الْأَزْمَان مَعَ تراخيه عَنهُ} .(6/2977)
وَغلط من قَالَ: مَا أُرِيد بِاللَّفْظِ لإفضائه إِلَى البداء، وَهُوَ خلاف مَا قَالَه هُوَ، وَقَالَهُ كثير من الْأَصْحَاب وَغَيرهم.
{و} وَقَالَ {الباقلاني، وَابْن عقيل، وَالْغَزالِيّ: خطاب دَال على ارْتِفَاع حكم ثَابت بخطاب مُتَقَدم على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ} .
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لفظ دَال على ظُهُور انْتِفَاء شَرط دوَام الحكم الأول.
فَيرد عَلَيْهِ أَن اللَّفْظ دَلِيل النّسخ لَا نَفسه، وَنقض طرده بقول الْعدْل: نسخ حكم كَذَا وَعَكسه بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثمَّ حَاصله: اللَّفْظ الدَّال على النّسخ؛ لِأَنَّهُ فسر شَرط دوَام الحكم بِانْتِفَاء النّسخ، فانتفاء شَرط دَوَامه حُصُوله، وَأورد الثَّلَاثَة السَّابِقَة على حد الباقلاني وَمن مَعَه، وَأَن قَوْلهم على وَجه إِلَى آخِره، زِيَادَة.
وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الأول بِمَنْع أَن النّسخ ارْتِفَاع الحكم لَا نفس الرّفْع وَهُوَ الْفِعْل صفة الرافع، وَهُوَ الْخطاب الدَّال على الِارْتفَاع ومستلزم لَهُ وَهُوَ الانفعال صفة الْمَرْفُوع الْمَفْعُول على نَحْو فسخ العقد وانفساخه.(6/2978)
وَأَن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يدل على الِارْتفَاع، بل على الْخطاب الدَّال عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة لَا تخل بِصِحَّة الْحَد، وفيهَا فَائِدَة. انْتهى.
{و} قَالَ {القَاضِي} أَبُو يعلى، {والأستاذ} أَبُو إِسْحَاق، {وَأَبُو الْمَعَالِي} ، وَأكْثر الْفُقَهَاء: {بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ التَّأَخُّر عَن زَمَنه} .
وَتقدم حد أبي الْمَعَالِي، وَهَذَا هُوَ القَوْل الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة، الْمُقَابل لما قُلْنَاهُ أَولا، وَهُوَ أَنه بَيَان.
وَمَعْنَاهُ: أَن النَّاسِخ يبين أَن الأول انْتهى التَّكْلِيف بِهِ، وأنكروا كَونه رفعا بِنَاء على أَن الحكم رَاجع إِلَى كَلَام الله تَعَالَى، وَهُوَ قديم، وَالْقَدِيم لَا يرْتَفع، لَكِن جَوَابه أَن الْمَرْفُوع هُوَ تعلق الحكم، والتعلق حَادث كَمَا سبق، فقد اتّفق الْقَوْلَانِ على أَن الحكم الأول انْعَدم تعلقه لَا ذَاته، وعَلى أَن الْخطاب الثَّانِي هُوَ الَّذِي حقق زَوَال الأول، وَإِنَّمَا اخْتلفَا فِي أَن الرافع هُوَ الثَّانِي، لَو لم يَجِيء لبقي الأول، أَو يُقَال: إِن الأول لَهُ غَايَة لَا نعلمها فَلَمَّا جَاءَ الدَّلِيل بَين انتهاءها حَتَّى لَو لم يَجِيء كَانَ الحكم للْأولِ وَإِن لم نعلمهُ.
لَكِن سبق أَنه لَا يجوز تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة فَرجع القَوْل(6/2979)
الثَّانِي إِلَى الأول وينحل الْفرق بَينهمَا إِلَى أَنه زَالَ بِهِ، أَو زَالَ عِنْده لَا بِهِ، لَكِن لما لم نعلم الزَّوَال إِلَّا بِهِ اسْتَوَى الْقَوْلَانِ.
وَنَظِير هَذَا الْخلاف عِنْد الْمُتَكَلِّمين فِي أَن زَوَال الْأَعْرَاض بِالذَّاتِ أَو بالضد، فَإِن من قَالَ ببقائها قَالَ: إِنَّمَا يَنْعَدِم الضِّدّ الْمُتَقَدّم بطريان الطَّارِئ، ولولاه لبقي، وَمن لم يقل ببقائها قَالَ: إِنَّه يَنْعَدِم بِنَفسِهِ وَيحدث الضِّدّ الطَّارِئ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِير فِي إعدام الضِّدّ الأول.
وَنَظِيره فِي الفقهيات: الزائل الْعَائِد كَالَّذي لم يزل، أَو كَالَّذي لم يعد، فَالَّذِي يَقُول بِالْأولِ يَجْعَل الْعود بَيَانا لاستمرار حكم الأول، وَالْقَائِل بِالثَّانِي يَقُول ارْتَفع الحكم الأول بالزوال فَلَا يرجع حكمه بِالْعودِ.
وَقد ظهر بِهَذَا التقرر أَن النزاع لَيْسَ لفظيا من كل وَجه، بل معنوي، لَكِن يعود الْقَوْلَانِ إِلَى مقصد وَاحِد بِالِاعْتِبَارِ الَّذِي سبق.
قَالَ: وَمِمَّا يشبه ذَلِك تعبيرهم عَن الْحَدث بنواقض الْوضُوء، كَمَا قَالَه جمع وَإِن فر مِنْهُ الْأَكْثَر لعدم الرّفْع فِيهِ، لَكِن الأول أَيْضا صَحِيح لما سبق، وَنَحْوه(6/2980)
الْفَسْخ للعقود: هَل هُوَ من حِين الْفَسْخ، أَو من الأَصْل؟ فَمن قَالَ من حِينه جعله كالنسخ هُنَا؛ لِأَن المُرَاد انْتِهَاء الْمدَّة لَا الرّفْع من الأَصْل؛ لِأَن الْوَاقِع لَا يرْتَفع، فَمن أفسد هَذِه الْعبارَة لهَذِهِ الشُّبْهَة أُجِيب بذلك. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح عَن القَوْل الثَّانِي: وَحكي عَن الْفُقَهَاء أَن حد النّسخ: النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم الشَّرْعِيّ مَعَ التَّأَخُّر عَن زمن وُرُوده.
فَيرد الْإِيرَاد الأول وَالثَّالِث على هَذَا الْحَد فَإِن فروا من الرّفْع لقدم الحكم وتعلقه عقلا فانتهاء أمد الْوُجُوب يُنَافِي بَقَاء الْوُجُوب على الْمُكَلف، وَهُوَ معنى الرّفْع، وَإِن فروا؛ لِأَنَّهُ لَا يرْتَفع تعلق بمستقبل لزم منع النّسخ قبل الْفِعْل، وَإِن فروا لِأَنَّهُ يُنَافِي أمد تعلق الحكم بالمستقبل المظنون دَوَامه فَلَا بُد من زَوَال التَّعَلُّق فصح إِطْلَاق الرّفْع علبه. انْتهى.
{و} قَالَت {الْمُعْتَزلَة: خطاب دَال على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ الْمُتَقَدّم زائل على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا} .
فَيرد عَلَيْهِ مَا ورد على حد الْغَزالِيّ، وَأوردهُ الْأَمر الْمُقَيد بِمرَّة ينْسَخ قبل فعله وهم يمنعونه.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": حَدهمْ يُصَرح بِأَن النَّاسِخ يزِيل مَا(6/2981)
ثَبت بِالْخِطَابِ الأول، وَكلهمْ يَقُول: مَا أزاله لم يثبت بِالْأولِ، وَلَو ثَبت بِهِ لم يجز زَوَاله للبداء على الله، وَهَذَا مناقضة. انْتهى.
قَوْله: {والمنسوخ الحكم الْمُرْتَفع بالناسخ} .
لنا نَاسخ وَنسخ وتقدما، ومنسوخ وَهُوَ الحكم الْمُرْتَفع بناسخه كالمرتفع من وجوب تَقْدِيم الصَّدَقَة بَين يَدي مُنَاجَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقد تقدم ذَلِك فِي ضمن الْحُدُود الْمُتَقَدّمَة، بل هَذَا الْكَلَام هُنَا تكْرَار منا.
قَوْله: {أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر لَا يكون النَّاسِخ أَضْعَف} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: تَنْبِيه: يشْتَرط فِي النَّاسِخ عِنْد الْأَكْثَر أَن يكون أقوى من الْمَنْسُوخ أَو مُسَاوِيا، وَلذَلِك ذكره أَبُو الْخطاب عَن أَصْحَابنَا. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: يعْتَبر فِي النَّاسِخ أَن لَا يكون أَضْعَف من الْمَنْسُوخ،(6/2982)
وَفِي " التَّمْهِيد " اشْتَرَطَهُ أَصْحَابنَا لنسخ قُرْآن بآحاد، كَذَا قَالَ. انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: لَا نسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع} ؛ لأَنا إِنَّمَا نحكم بِأَن الأول مَنْسُوخ إِذا تعذر علينا الْجمع بَينهمَا، فَإِذا لم يتَعَذَّر وجمعنا بَينهمَا بمقبول فَلَا نسخ.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة " وَغَيره: لَا يتَحَقَّق النّسخ إِلَّا مَعَ التَّعَارُض، فَأَما مَعَ إِمْكَان الْجمع فَلَا، وَقَول من قَالَ: نسخ صَوْم عَاشُورَاء برمضان، أَو نسخت الزَّكَاة كل صَدَقَة سواهَا، فَلَيْسَ يَصح إِذا حمل على ظَاهره؛ لِأَن الْجمع بَينهمَا لَا مُنَافَاة فِيهِ، وَإِنَّمَا وَافق نسخ عَاشُورَاء صَوْم فرض رَمَضَان، وَنسخ سَائِر الصَّدقَات فرض الزَّكَاة فَحصل النّسخ مَعَه، لَا بِهِ، وَهُوَ قَول القَاضِي وَغَيره. انْتهى.
قَوْله: {الثَّانِيَة: أَصْحَابنَا والأشعرية: النَّاسِخ حَقِيقَة هُوَ الله تَعَالَى، والمعتزلة: هُوَ طَرِيق مَعْرفَته من نَص أَو غَيره، وَهُوَ لَفْظِي} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: النَّاسِخ يُطلق على الله تَعَالَى، يُقَال: نسخ فَهُوَ نَاسخ، قَالَ الله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة} [الْبَقَرَة: 106] ، وَيُطلق(6/2983)
على الطَّرِيق الْمعرفَة؛ لارْتِفَاع الحكم من الْآيَة وَخبر الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفعله وَتَقْرِيره، وَالْإِجْمَاع على الحكم، كَقَوْلِنَا: وجوب صَوْم رَمَضَان نسخ صَوْم عَاشُورَاء وعَلى من يعْتَقد نسخ الحكم كَقَوْلِهِم: فلَان ينْسَخ الْقُرْآن بِالسنةِ، أَي: يعْتَقد ذَلِك فَهُوَ نَاسخ.
والاتفاق على أَن إِطْلَاقه على الآخرين مجَاز، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْأَوَّلين فَعِنْدَ الْمُعْتَزلَة حَقِيقَة فِي الطَّرِيق، لَا فِيهِ تَعَالَى، وَعند الْجُمْهُور حَقِيقَة فِي الله تَعَالَى، مجَاز فِي الطَّرِيق، والنزاع لَفْظِي. انْتهى.
قَوْله: {أهل الشَّرَائِع على جَوَازه عقلا، ووقوعه شرعا، وَخَالف أَكثر الْيَهُود فِي الْجَوَاز، وَأَبُو مُسلم فِي الْوُقُوع، وَسَماهُ تَخْصِيصًا} .(6/2984)
أهل الشَّرَائِع من النَّصَارَى وَالْمُسْلِمين وَغَيرهمَا على جَوَاز النّسخ عقلا، ووقوعه فِي الشَّرْع، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا الْيَهُود فِي الْجُمْلَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: اتّفقت الشَّرَائِع على جَوَاز النّسخ عقلا، سوى الشمعثية من الْيَهُود، فَإِنَّهُم قَالُوا بامتناعه عقلا، وسمعا، وَكَذَا على جَوَازه سمعا سوى الْفرْقَة الْمَذْكُورَة، والعنانية مِنْهُم؛ لتجويزهم عقلا، لَا سمعا، وَوَافَقَهُمْ أَبُو مُسلم الْأَصْفَهَانِي.
وجوزته طَائِفَة من الْيَهُود عقلا، وَشرعا، لكِنهمْ لَا يُؤمنُونَ بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى.
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": أنكر طَائِفَة من الْيَهُود - وهم العنانية أَتبَاع عنان - وُقُوعه عقلا، لَا شرعا، وَأنْكرت الشمعثية مِنْهُم - أَتبَاع شمعثا - الْأَمريْنِ.(6/2985)
وَحكى ابْن الزَّاغُونِيّ عَنْهُم عَكسه.
وَقَالَ بَعضهم: يجوز نسخ عبَادَة بأثقل مِنْهَا عُقُوبَة، وَقَالَ أَكْثَرهم: يجوز شرعا لَا عقلا، وَأَن مُحَمَّدًا وَعِيسَى لم يأتيا بمعجزة، وَقَالَت العيسوية - أَتبَاع غير النَّبِي -: إنَّهُمَا أَتَيَا بالمعجزة وبعثا إِلَى الْعَرَب والأمييين. انْتهى.
وتابع بعض غلاة الرافضة الْيَهُود فِي عدم الْجَوَاز، وَنَقله أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وسليم الرَّازِيّ، وَالْفَخْر الرَّازِيّ عَن أبي مُسلم الْأَصْفَهَانِي المعتزلي إِلَّا أَنه صرح بِأَن الْمَنْع إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُرْآن خَاصَّة، لَا على الْإِطْلَاق.(6/2986)
وَنقل الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب أَنه يُخَالف فِي الْوُقُوع، لَا فِي الْجَوَاز، ثمَّ الْمَانِع من جَوَازه مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ يسْتَلْزم البداء، وَهُوَ محَال، وَإِن جوزه الرافضة، وَمِنْهُم من سَمَّاهُ تَخْصِيصًا، وَقيل غير ذَلِك، وَالْكل بَاطِل، وَالْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ وَلَا شكّ فِيهِ جَوَازه عقلا وَشرعا.
وَأما الْوُقُوع فواقع لَا محَالة وَورد فِي الْكتاب وَالسّنة قطعا، وَأَيْضًا الْقطع بِعَدَمِ اسْتِحَالَة تَكْلِيف فِي وَقت، وَرَفعه.
وَإِن قيل: أَفعَال الله تَابِعَة لمصَالح الْعباد كالمعتزلة، فالمصلحة قد تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات، وَفِي التَّوْرَاة أَنه أَمر آدم بتزويج بَنَاته من بنيه، وَقد حرم ذَلِك، وَاسْتدلَّ بِتَحْرِيم السبت وَكَانَ مُبَاحا، وبجواز الْخِتَان مُطلقًا ثمَّ وَجب فِي ثامن الْولادَة عِنْدهم، وبجواز جمع الْأُخْتَيْنِ، ثمَّ حرم.
رد: رفع مُبَاح الأَصْل لَيْسَ بنسخ إِجْمَاعًا.
قَالُوا: لَو صَحَّ بَطل قَول مُوسَى الْمُتَوَاتر أَن شَرِيعَته مُؤَبّدَة.(6/2987)
رد: مَوْضُوع للْقطع عَادَة بِأَنَّهُ لَو صَحَّ عارضوا بِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلما أسلم علماؤهم كَابْن سَلام، وَكَعب، ووهب، وَغَيرهم، ثمَّ المُرَاد نَحْو التَّوْحِيد، أَو مُؤَبّدَة مَا لم تنسخ.
قَالُوا: إِن نسخ لحكمة ظَهرت بعد أَن لم تكن فَهُوَ البداء، وَلَا يجوز البداء على الله وَهُوَ تجدّد الْعلم، إِلَّا عِنْد الرافضة - عَلَيْهِم لعائن الله تَعَالَى تترا -، وَهُوَ كفر بِإِجْمَاع أَئِمَّة الْمُسلمين المعتبرين لَا يشك فِيهِ مُسلم.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: من قَالَ: إِن الله تَعَالَى لم يكن عَالما حَتَّى خلق لنَفسِهِ علما فَعلم بِهِ فَهُوَ كَافِر.
وَقَالَ ابْن الزَّاغُونِيّ: البداء هُوَ أَن يُرِيد الشَّيْء دَائِما ثمَّ ينْتَقل من الدَّوَام لأمر حَادث، لَا بِعلم سَابق.
قَالَ: أَو يكون سَببه دَالا على فَسَاد الْمُوجب لصِحَّة الْأَمر الأول بِأَن يَأْمُرهُ لمصْلحَة لم تحصل فيبدو لَهُ مَا يُوجب رُجُوعه عَنهُ. انْتهى.(6/2988)
وَمن كذب الرافضة فِي ذَلِك حكايتهم ذَلِك عَن مُوسَى بن جَعْفَر، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَذكره ابْن عقيل عَن الْمُخْتَار وَغَيره، وَأَن بَعضهم جوزه فِيمَا لم يطلعنا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فعبث.
رد: إِن سلم اعْتِبَار الْمصلحَة فَهُوَ لحكمة علمهَا قَدِيما تكون عِنْد نسخه لاخْتِلَاف الْأَوْقَات وَالْأَحْوَال فَلم يظْهر مَا لم يكن.
قَالُوا: إِن قيد الأول بِوَقْت فَلَا نسخ لانتهائه بانتهاء وقته، وَإِن دلّ على التَّأْبِيد فَلَا نسخ لِاجْتِمَاع الْأَخْبَار بالتأبيد ونفيه، وَهُوَ تنَاقض؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تعذر الْإِخْبَار بالتأييد لاحْتِمَال النّسخ، وَإِلَى أَنه لَا يوثق بتأبيد حكم، وَإِلَى نسخ شريعتكم.
رد: مُطلق فَيدل على تعلق الْوُجُوب، لَا على الْبَقَاء ونفيه، ثمَّ لَو دلّ(6/2989)
على التَّأْبِيد فَالْأَمْر بِشَيْء فِي الْمُسْتَقْبل أبدا لَا يسْتَلْزم دَوَامه بل إِن الْفِعْل فِيهِ مُتَعَلق الْوُجُوب، فزوال التَّعَلُّق بِهِ بنسخ لَيْسَ مناقضة كالموت، إِنَّمَا التَّنَاقُض فِي خَبره بِبَقَاء الْوُجُوب أبدا، ثمَّ ينسخه وَنسخ شريعتنا محَال للتواتر بِأَن مُحَمَّدًا خَاتم النَّبِيين.
قَالُوا: لَو جَازَ لَكَانَ قبل الْفِعْل، وَلَا رفع لما لم يُوجد، وَلَا بعده لعدمه، وَلَا مَعَه، وَإِلَّا ارْتَفع حَال وجوده.
رد: المُرَاد زَوَال التَّكْلِيف الثَّابِت بعد أَن لم يكن: كزواله بِالْمَوْتِ؛ لارْتِفَاع الْفِعْل.
قَالُوا: إِن علم دَوَامه أبدا فَلَا نسخ، أَو إِلَى مُدَّة مُعينَة فارتفاع الحكم بِوُجُود غَايَته، لَيْسَ بنسخ.
رد: يُعلمهُ مستمرا إِلَى وَقت ارتفاعه بالنسخ، وَعلمه بارتفاعه [بِهِ] يُحَقّق النّسخ.
ورد مَذْهَب أبي مُسلم الْأَصْفَهَانِي بِالْإِجْمَاع أَن شريعتنا ناسخة لما خالفها، وَنسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَتَقْدِيم الصَّدَقَة لمناجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَصَوْم عَاشُورَاء، وَغَيره.(6/2990)
قَالَ السُّبْكِيّ: وقفت على تَفْسِير أبي مُسلم، وَلَيْسَ هُوَ الجاحظ كَمَا توهمه بَعضهم، قَالَ: وَأَنا أَقُول الْإِنْصَاف أَن الْخلاف بَين أبي مُسلم، وَالْجَمَاعَة لَفْظِي، وَذَلِكَ [أَن] أَبَا مُسلم يَجْعَل مَا كَانَ مغيا فِي علم الله كَمَا هُوَ مغيا فِي اللَّفْظ، وَيُسمى الْجَمِيع تَخْصِيصًا، وَلَا فرق عِنْده بَين أَن يَقُول: {أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} [الْبَقَرَة: 187] وَبَين أَن يَقُول: صُومُوا، مُطلقًا، وَعلمه مُحِيط بِأَنَّهُ سينزل: لَا تَصُومُوا وَقت اللَّيْل.
وَالْجَمَاعَة يجْعَلُونَ الأول تَخْصِيصًا، وَالثَّانِي نسخا، وَلَو أنكر أَبُو مُسلم النّسخ لزم إِنْكَار شَرِيعَة الْمُصْطَفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّمَا يَقُول: كَانَت شَرِيعَة السَّابِقين مغياة إِلَى مبعث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِهَذَا يَتَّضِح لَك الْخلاف الَّذِي حَكَاهُ بَعضهم فِي أَن هَذِه الشَّرِيعَة مخصصة للشرائع السَّابِقَة أَو ناسخة، فَهِيَ منتهية إِلَى مبعث نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قطعا، وَمَا تجدّد من شرعنا مُوَافق لبَعض شرائعهم فَلَيْسَ لكَونهَا بَاقِيَة؛ بل كل مَشْرُوع مفتتح التشريع، وَمَا ادَّعَاهُ ابْن الْحَاجِب من الْإِجْمَاع أَن شريعتنا ناسخة فَصَحِيح، وَلَا يُنَافِيهِ حِكَايَة بَعضهم الْخلاف فِي كَونه تَخْصِيصًا، أَو نسخا لما قَرَّرْنَاهُ فَالْخِلَاف لَفْظِي. انْتهى.
تَنْبِيه: أَبُو مُسلم هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن بَحر الْأَصْفَهَانِي، قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ رجل مَعْرُوف بِالْعلمِ، وَإِن كَانَ قد انتسب إِلَى الْمُعْتَزلَة،(6/2991)
ويعد مِنْهُم، وَله كتاب كَبِير فِي التَّفْسِير، وَله كتب كَثِيرَة، فَلَا أَدْرِي كَيفَ وَقع هَذَا الْخلاف مِنْهُ. انْتهى.
وَلَيْسَ بالجاحظ، وَقَالَ أَبُو الْخطاب: أَبُو مُسلم عمر بن يحيى الْأَصْفَهَانِي. انْتهى.
وَقَالُوا: اسْم الجاحظ عمر بن بَحر، وَلَعَلَّه تصحف عمر بِمُحَمد.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": أَبُو مُسلم يحيى بن عمر بن يحيى الْأَصْفَهَانِي.(6/2992)
(قَوْله: فصل)
{أَكثر أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: بَيَان الْغَايَة المجهولة ك {حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} [النِّسَاء: 15] لَيْسَ بنسخ، وَابْن عقيل وَغَيره: بلَى، فالناسخ: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] الْآيَة، وللقاضي الْقَوْلَانِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: بَيَان الْغَايَة المجهولة ك {حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} اخْتلف كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم هَل هُوَ نسخ أم لَا؟ وَالْأَظْهَر النَّفْي.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": بَيَان الْغَايَة المجهولة مثل الَّتِي فِي قَوْله: {الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} نسخ عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَقَالَ القَاضِي: النَّاسِخ {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} الْآيَة؛ لِأَن هَذِه الْغَايَة مَشْرُوطَة فِي حكم مُطلق؛ لِأَن غَايَة كل حكم إِلَى موت الْمُكَلف أَو إِلَى النّسخ.(6/2993)
وَكَذَلِكَ ذكر فِي مَسْأَلَة نسخ الأخف بالأثقل: أَن حد الزَّانِي فِي أول الْإِسْلَام كَانَ الْحَبْس ثمَّ نسخ، وَجعل حد الْبكر الْجلد والتغريب وَالثَّيِّب الْجلد وَالرَّجم، وَكَذَا قَالَ القَاضِي أَيْضا لما احْتج الْيَهُود بِمَا حكوه عَن مُوسَى أَنه قَالَ: شريعتي مُؤَبّدَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَأجَاب بالتكذيب وبجواب آخر وَهُوَ: أَنه لَو ثَبت لَكَانَ مَعْنَاهُ: إِلَّا أَن يَدْعُو صَادِق إِلَى تَركهَا، وَهُوَ من ظَهرت المعجزة على يَده وَثبتت نبوته بِمثل مَا ثبتَتْ نبوة مُوسَى بِهِ، وَالْخَبَر يجوز تَخْصِيصه كَمَا يجوز تَخْصِيص الْأَمر وَالنَّهْي.
قلت: وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم أَن شريعتنا ناسخة، وَهَذَا قَول أبي الْحُسَيْن وَغَيره، ثمَّ ذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ أَن الْحَبْس فِي الْآيَة لم ينْسَخ؛ لِأَن النّسخ أَن يرد لفظ عَام يتَوَهَّم دَوَامه، ثمَّ يرد مَا يرفع بعضه، وَالْآيَة لم ترد بِالْحَبْسِ على التَّأْبِيد، وَإِنَّمَا وَردت بِهِ إِلَى غَايَة هُوَ أَن يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا فَأثْبت الْغَايَة فَوَجَبَ الْحَد بعد الْغَايَة بالْخبر. انْتهى.
فَائِدَة: للنسخ شُرُوط:
- مِنْهَا: كَون الْمَنْسُوخ حكما شَرْعِيًّا، لَا عقليا، وَأَن يكون مُنْفَصِلا مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ.
- وَأَن يكون النّسخ بخطاب شَرْعِي.(6/2994)
- وَأَن لَا يكون الْمَنْسُوخ مُقَيّدا بِوَقْت يَنْتَهِي بانتهائه على خلاف تقدم قَرِيبا.
- وَمِنْهَا: أَن يكون النَّاسِخ أقوى من الْمَنْسُوخ، أَو مثله، لَا أَضْعَف مِنْهُ على خلاف تقدم.
- وَمِنْهَا: أَن يكون الْمَنْسُوخ، مِمَّا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا، وَأَن لَا يكون فَلَا يدْخل النّسخ أصل التَّوْحِيد بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه، وَصِفَاته لم يزل، وَلَا يزَال.
- وَمِنْهَا: مَا علم بِالدَّلِيلِ أَنه متأبد كشريعة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
- وَمِنْهَا: أَن لَا يكون مِمَّا هُوَ على صفة وَاحِدَة لَا يتَغَيَّر كمعرفة الله تَعَالَى بِمَا يجب لَهُ ويستحيل عَلَيْهِ وَيجوز لَهُ، وَلِهَذَا يمْتَنع نسخ الْأَخْبَار كَمَا سَيَأْتِي؛ إِذْ لَا يتَصَوَّر وُقُوعهَا على خلاف مَا وَقعت عَلَيْهِ، أما الْمُعَلق بِلَفْظ (أبدا) وَنَحْوه فَيَأْتِي بَيَانه.
- وَمِنْهَا: أَن يكون بَين النَّاسِخ والمنسوخ تعَارض، وَقد يُقَال: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الشَّرْط؛ لِأَن هَذَا من ضَرُورَة تصور النّسخ؛ لِأَنَّهُ إِذا أمكن الْجمع فَلَا تعَارض كَمَا تقدم، وَلِهَذَا لَا يُقَال: نسخ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء وجوب صَوْم رَمَضَان، وَوَافَقَ رفع فرض غير الزَّكَاة فرض الزَّكَاة.(6/2995)
فالنسخ رَافع عِنْد ذَلِك، لَا بِهِ، وَقد تقدم ذَلِك محررا فِي كَلَام الْمجد، وَغَيره فِي الْفَائِدَة.
فَائِدَة أُخْرَى:
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: التَّخْصِيص والنسخ يَشْتَرِكَانِ فِي كَون كل مِنْهُمَا يُوجب اخْتِصَاص بعض متناول اللَّفْظ، ويفترقان من أوجه:
مِنْهَا: أَن النَّاسِخ يشْتَرط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ يدْخل فِي الْأَمر بمأمور بِخِلَاف التَّخْصِيص.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يكون إِلَّا بِدَلِيل خطابي أَو مُقْتَضَاهُ، والتخصيص يجوز بأدلة الْعقل وقرائنه.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يدْخل الْأَخْبَار، والتخصيص بِخِلَافِهِ.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ لَا يبْقى مَعَه دلَالَة اللَّفْظ على مَا تَحْتَهُ والتخصيص يبْقى مَعَه ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن النّسخ فِي الْمَقْطُوع لَا يجوز إِلَّا بِمثلِهِ كَمَا تقدم، والتخصيص جَائِز فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس. انْتهى.(6/2996)
(قَوْله {فصل} )
{يجوز النّسخ قبل الْفِعْل بعد دُخُول الْوَقْت إِجْمَاعًا} .
ذكره القَاضِي، وَابْن عقيل، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَابْن برهَان فِي " الْوَجِيز "، والآمدي اتِّفَاقًا.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": لَا أعلم فِيهِ خلافًا.
قَالَ: وَلَا فرق عقلا بَين أَن يَعْصِي أَو يُطِيع، وَجزم بَعضهم بِالْمَنْعِ لعصيانه. انْتهى.
قَوْله: {وَقبل وَقت الْفِعْل} ، أَي: يجوز النّسخ قبل دُخُول وَقت الْفِعْل {عِنْد أَصْحَابنَا، والأشعرية، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} ، وَذكره الْآمِدِيّ(6/2997)
قَول أَكثر الْفُقَهَاء، وَذكره القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد إِذا شَاءَ الله نسخ من كِتَابه مَا أحب.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر، {وَمنعه أَكثر الْحَنَفِيَّة والمعتزلة} ، والصيرفي، وَابْن برهَان، {وللتميمي} من أَصْحَابنَا {قَولَانِ} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَنقل غير ابْن السَّمْعَانِيّ الْمَنْع عَن أَكثر الْحَنَابِلَة.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِمَا تَوَاتر فِي ذَلِك، فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيرهمَا من نسخ فرض خمسين صَلَاة فِي السَّمَاء لَيْلَة الْإِسْرَاء بِخمْس قبل تمكنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْفِعْل.
وَفِي البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعثه فِي بعث، وَقَالَ: " إِن وجدْتُم فلَانا وَفُلَانًا فأحرقوهما بالنَّار "، ثمَّ قَالَ حِين أردنَا الْخُرُوج: " إِن النَّار لَا يعذب بهَا إِلَّا الله، فَإِن وجدتموهما فاقتلوهما ".(6/2998)
وَأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَسْر قدور من لحم حمر إنسية، فَقَالَ رجل: أَو نغسلهَا؟ فَقَالَ: " اغسلوا " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَلأَحْمَد أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث أَبَا بكر يبلغ بَرَاءَة، فَسَار ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ لعَلي: " الحقة، وَبَلغهَا أَنْت ".
وَأَيْضًا كَمَا يجوز رَفعه بِالْمَوْتِ وَغَيره؛ وَلِأَن كل نسخ قبل الْفِعْل لاستحالته بعده لتَحْصِيل الْحَاصِل، وَمَعَهُ لِامْتِنَاع الْفِعْل ونفيه.
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَن إِبْرَاهِيم أَمر بِذبح الْوَلَد بِإِجْمَاع عُلَمَاء النَّقْل بِدَلِيل: {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] ولإقدامه عَلَيْهِ، وَنسخ قبل وقته، وَإِلَّا لعصي بِتَأْخِيرِهِ.
رد: لم ينْسَخ؛ لِأَن الْأَمر قَائِم لم ينْتَه، وَلم يتَّصل بمحله للْفِدَاء لَا النّسخ.
وَجَوَابه: منع بَقَاء الْأَمر بذَبْحه، بل نسخ بِالْفِدَاءِ.
وَسلم الْآمِدِيّ أَنه نسخ لَكِن بعد تمكنه، وَإِنَّمَا يكون قبله، لَو اقْتضى الْأَمر الْفَوْر، وتضيق وَقت الْإِمْكَان.
ورد: لَو كَانَ موسعا قَضَت الْعَادة بِتَأْخِيرِهِ رَجَاء نسخه، أَو مَوته لعظم الْأَمر، وَلم يمْنَع رفع تعلق الْوُجُوب بالمستقبل لبَقَاء الْأَمر على الْمُكَلف لعدم فعله، وَبَقَاء الْأَمر هُوَ الْمَانِع عِنْدهم.(6/2999)
قَالُوا: لم يُؤمر، وَلِهَذَا قَالَ: {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] أَو أَمر بمقدمات الذّبْح بقوله:: {صدقت الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] .
رد: مَنَام النَّبِي وَحي، وَأَرَادَ ب أرى رَأَيْت، وَلِهَذَا أقدم.
وَقيل: {افْعَل مَا تُؤمر} أَي: مَا أمرت، أَو وقتا بعد وَقت، وَلَو أَمر بمقدماته لم يقل: {أذبحك} [الصافات: 102] وَلم يحْتَج إِلَى فدَاء، وَصدق الرُّؤْيَا باعتقاد جَازَ، وَبِكُل فعل أمكنه، وَهُوَ جَوَاب قَوْلهم: ذبحه والتحم مَعَ أَنه كَانَ يشْتَهر؛ لِأَنَّهُ معْجزَة.
قَالُوا: صفح عُنُقه بنحاس مَنعه مِنْهُ.
رد: فَيكون تكليفا بِمَا لَا يُطَاق، ونسخا قبل الْفِعْل وَكَانَ يشْتَهر.
قَالُوا: إِن أَمر بِالْفِعْلِ وَقت نسخه توارد النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَإِلَّا فَلَا نسخ لعدم [رفع] شَيْء.
رد: يبطل بصم رَمَضَان ونسخه فِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورا ذَلِك الْوَقْت، بل قبله، وَانْقطع بالناسخ عِنْد وقته كالموت.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: دَلِيل الْمَسْأَلَة أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أمره الله تَعَالَى بِذبح وَلَده، ثمَّ نسخ ذَلِك عَنهُ قبل الْفِعْل بِدَلِيل أمره بِالذبْحِ قَوْله: {يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر} جَوَابا لقَوْله: {يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} ، وَلقَوْله: {إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين} [الصافات: 106] وَذَلِكَ الذّبْح؛ لِأَن مقدماته لَا تُوصَف بِمثل ذَلِك، وَلقَوْله: {وفديناه} [الصافات: 107] فَلَو لم يكن أَمر بذَبْحه لما احْتَاجَ للْفِدَاء، وَأما كَونه نسخ فَلِأَنَّهُ لَو لم ينْسَخ لوجد(6/3000)
الذّبْح لضَرُورَة الِامْتِثَال، لَكِن لم يذبح، فَدلَّ على النّسخ، وَشَاهده {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَهَذَا كُله جلي. انْتهى.
فَائِدَة: عبرنا عَن الْمَسْأَلَة بِمَا عبر بِهِ الْأَكْثَر بقولنَا: (قبل وَقت الْفِعْل) ، لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهِي قَاصِرَة عَن الْغَرَض، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: نسخ الشَّيْء قبل مضى مِقْدَار مَا يَسعهُ من وقته؛ ليدْخل فِيهِ مَا إِذا حضر وَقت الْعَمَل، وَلَكِن لم يمض مِقْدَار مَا يَسعهُ، فَإِن هَذِه الصُّورَة فِي مَحل النزاع.
وَيُجَاب بِأَن المُرَاد بِمَا قبل الْوَقْت مَا قبل خُرُوجه، لَا قبل دُخُول وقته فَقَط، وَحِينَئِذٍ فَيشْمَل الْأَمريْنِ، وَيكون المُرَاد بِالْوَقْتِ مَا يُمكن فِيهِ الْفِعْل حسا وَشرعا، لَا الْوَقْت الْمُقدر حَتَّى تكون الْمَسْأَلَة خَاصَّة بِالْوَقْتِ فَقَط.
وَعبر الْبَيْضَاوِيّ بقوله: يجوز نسخ الْوُجُوب قبل الْعَمَل.
فَيرد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْوَاجِب وَغَيره، ويشمل مَا قبل دُخُول وَقت الْعَمَل، وَمَا بعده قبل مُضِيّ زمن يَسعهُ، وَفِي مَعْنَاهُ إِذا لم يكن لَهُ وَقت، وَلَكِن أَمر بِهِ على الْفَوْر، ثمَّ نسخ قبل التَّمَكُّن، وإجراء الْخلاف فِي هَذِه الثَّلَاث صُورَة وَاضح ويشمل مَا بعد خُرُوج الْوَقْت، وَلَيْسَ ذَلِك من مَحل الْخلاف.(6/3001)
قَوْله: {وَلَا نسخ قبل علم الْمُكَلف بِهِ، وَجوزهُ الْآمِدِيّ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَا يجوز النّسخ قبل علم الْمُكَلف بالمأمور؛ بِهِ لعدم الْفَائِدَة باعتقاد الْوُجُوب والعزم على الْفِعْل، وَجوزهُ الْآمِدِيّ؛ لعدم مُرَاعَاة الحِكَم فِي أَفعاله تَعَالَى. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز فِي السَّمَاء وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُنَاكَ} ، ذكره ابْن عقيل، وَالْمجد، وَكثير من الْعلمَاء، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد بلغ بعض الْمُكَلّفين، وَهُوَ سيد الْبشر، فَإِنَّهُ قد اعْتقد وُجُوبه وَعلمه، وَعَلِيهِ يدل كَلَام السَّمْعَانِيّ حِين قَالَ: إِن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد علمه واعتقد وُجُوبه فَلم يَقع النّسخ لَهُ إِلَّا بعد علمه واعتقاده. انْتهى. فَسَماهُ نسخا.
وَقد اسْتدلَّ ابْن مُفْلِح على جَوَاز النّسخ قبل وَقت الْفِعْل بنسخ الْخمسين صَلَاة بِخمْس كَمَا تقدم، وَلم يحك فِيهِ خلافًا، وَصرح بِهِ الْكرْمَانِي،(6/3002)
وَابْن حجر فَقَالَ: قَالَ ابْن بطال وَغَيره: أَلا ترى أَنه - عز وَجل - نسخ الْخمسين قبل أَن تصلى، وَتعقبه ابْن الْمُنِير فَقَالَ: هَذَا ذكره طوائف من الْأُصُولِيِّينَ، والشراح، وَهُوَ مُشكل على من أثبت النّسخ قبل الْفِعْل كالأشاعرة أَو مَنعه كالمعتزلة لكَوْنهم اتَّفقُوا جَمِيعًا على أَن النّسخ لَا يتَصَوَّر قبل الْبَلَاغ، وَحَدِيث الْإِسْرَاء وَقع النّسخ فِيهِ قبل الْبَلَاغ فَهُوَ مُشكل عَلَيْهِم جَمِيعًا.
قَالَ: وَهَذِه نُكْتَة مبتكرة، قَالَ ابْن حجر: قلت: إِن أَرَادَ قبل الْبَلَاغ على وَاحِد فَمَمْنُوع، وَإِن أَرَادَ قبل الْبَلَاغ على الْأمة فَمُسلم، لَكِن قد يُقَال: لَيْسَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم نسخا، لَكِن هُوَ نسخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ مُكَلّف بذلك قطعا، ثمَّ نسخ بعد أَن بلغه، وَقبل أَن يفعل فَالْمَسْأَلَة صَحِيحَة التَّصَوُّر فِي حَقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّمَاء قبل النُّزُول إِلَى الأَرْض كفرض خمسين صَلَاة لَيْلَة الْإِسْرَاء لم يتَعَلَّق بِهِ حكم، وَلذَلِك كَانَ رَفعه بِخمْس صلوَات لَيْسَ بنسخ على مَا هُوَ الظَّاهِر.(6/3003)
وَحكى الأول احْتِمَالا، وَحكى الْمجد مَا قَالَه الْبرمَاوِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، فَإِنَّهُ قَالَ: يجوز النّسخ فِي السَّمَاء إِذا كَانَ هُنَاكَ مُكَلّف مثل الْإِسْرَاء بنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يكون ذَلِك بداء، ذكره ابْن عقيل خلافًا للمعتزلة.
وَمن منع كَون الْإِسْرَاء يقظة فِي جحدهم لوُقُوع ذَلِك، ومنعهم مِنْهُ عقلا. انْتهى.(6/3004)
(قَوْله: {فصل} )
{ينْسَخ الْإِنْشَاء، وَالأَصَح لَو بِلَفْظ الْقَضَاء أَو الْخَبَر أَو قيد بالتأبيد أَو الحتم} .
لَا شكّ فِي جَوَاز نسخ الْإِنْشَاء إِذا كَانَ بِلَفْظ الْإِنْشَاء، وَقد تقدم لَهُ صور، وَهَذَا إِجْمَاع فِي الْجُمْلَة، أما إِذا كَانَ الْإِنْشَاء بِلَفْظ الْخَبَر، أَي: تكون صُورَة اللَّفْظ خَبرا، وَمَعْنَاهُ إنْشَاء وَذَلِكَ فِي صور:
إِحْدَاهَا: أَن يكون بِلَفْظ الْقَضَاء، كَقَوْلِك: قضى بِكَذَا، أَو كَذَا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} [الْإِسْرَاء: 23] ، أَي: أَمر، وَهَذَا يجوز نسخه عِنْد الْجُمْهُور.
وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز نسخه؛ لِأَن الْقَضَاء إِنَّمَا يسْتَعْمل فِيمَا لَا يتَغَيَّر كالآية الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": وَهَذَا القَوْل غَرِيب لَا يعرف فِي كتب الْأُصُول، إِنَّمَا أَخذه المُصَنّف من كتب التَّفْسِير. انْتهى.(6/3005)
الصُّورَة الثَّانِيَة: أَن يكون بِصِيغَة الْخَبَر، سَوَاء كَانَ بِمَعْنى الْأَمر أَو النَّهْي، نَحْو: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228] ، {لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} [الْبَقَرَة: 233] ، فَقَالَ الْجُمْهُور: يجوز نسخه بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ، فَإِن مَعْنَاهُ الْإِنْشَاء.
وَقَالَ أَبُو بكر الدقاق: يمْتَنع نسخه بِاعْتِبَار لَفظه.
وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب عَنهُ فِيهِ خلافًا، وَلَا وَجه لَهُ إِلَّا أَن يُقَال: لكَونه على صُورَة الْخَبَر.
الصُّورَة الثَّالِثَة: إِذا قيد الحكم بِلَفْظ التَّأْبِيد، وَنَحْوه بجملة فعلية مثل: صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء أبدا، أَو حتما، أَو غَيره مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَا دَائِما، أَو مستمرا، فَيجوز بعد ذَلِك نسخه عِنْد الْجُمْهُور.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ بِهِ من الْحَنَفِيَّة أَبُو بكر الْجَصَّاص، وَأَبُو مَنْصُور الماتريدي، وَأَبُو زيد الدبوسي، والبزدويان الأخوان.(6/3006)
قَالُوا: لمناقضته الأبدية، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى البداء.
وَجَوَابه: أَن ذَلِك إِنَّمَا يقْصد بِهِ الْمُبَالغَة، لَا الدَّوَام، كَمَا يَقُول: لَازم غريمك أبدا، وَإِنَّمَا يُرِيد لَازمه إِلَى وَقت الْقَضَاء، فَيكون المُرَاد هُنَا لَا تخل بِهِ إِلَى أَن يتقضى وقته، وكما يجوز تَخْصِيص عُمُوم مُؤَكد بِكُل وَيمْنَع التَّأْبِيد عرفا، وبالإلزام بتخصيص عُمُوم مُؤَكد، وَالْجَوَاب وَاحِد.
قَالُوا: إِذا كَانَ الحكم لَو أطلق الْخطاب مستمرا إِلَى النّسخ فَمَا الْفَائِدَة فِي التَّقْيِيد بالتأبيد؟
قُلْنَا: فَائِدَته التَّنْصِيص، والتأكيد، وَأَيْضًا فَلفظ الْأَبَد إِنَّمَا مَدْلُوله الزَّمَان المتطاول.
الصُّورَة الرَّابِعَة: أَن يُقيد بالتأبيد بجملة اسمية كَالصَّوْمِ وَاجِب مُسْتَمر أبدا، إِذا قَالَه على مَسْأَلَة الْإِنْشَاء فالجمهور على جَوَاز نسخه؛ لِأَن الْخَبَر عَن الحكم كالإنشاء فِي جَوَاز النّسخ بِهِ، لَكِن هَل يجوز مَا قيد بِهِ بالتأبيد، أَو يمْتَنع؟
الْجُمْهُور - كَمَا قُلْنَا - على الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة بِمَنْزِلَة الْفِعْل، كَذَا أبدا، وَوَقع فِي ابْن الْحَاجِب عبارَة تحْتَمل الْمَنْع فِي ذَلِك وتحتمل أَن يُرَاد بهَا غَيره.
فَقَالَ: الْجُمْهُور جَوَاز نسخ مثل: صُومُوا أبدا بِخِلَاف الصَّوْم مُسْتَمر(6/3007)
أبدا. هَذَا لَفظه، ففهم بعض شراحه شَيْئا، وَقد اخْتلف الْأَصْفَهَانِي، والعضد فِي حل لَفظه، وَالصَّوَاب مَا قَالَه القَاضِي عضد الدّين وَوَافَقَهُ ابْن السُّبْكِيّ وَغَيره ثمَّ قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخَبَر إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء جَازَ أَن ينْسَخ كَمَا سبق، فمسألتا ابْن الْحَاجِب مستويتان. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز نسخ إِيقَاع الْخَبَر مُطلقًا، ونسخه بنقيضه خلافًا للمعتزلة} .(6/3008)
قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": نسخ الْخَبَر لَهُ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: نسخ إِيقَاع الْخَبَر بِأَن يُكَلف الشَّارِع أحدا بِأَن يخبر بِشَيْء من عَقْلِي أَو عادي أَو شَرْعِي، كوجود الْبَارِي، وإحراق النَّار، وإيمان زيد، ثمَّ ينسخه فَهَذَا جَائِز اتِّفَاقًا، وَهل يجوز نسخه بنقيضه؟ أَي: بِأَن يكون الْإِخْبَار بنقيضه، الْمُخْتَار جَوَازه خلافًا للمعتزلة، ومبناه أصلهم فِي حكم الْعقل؛ لِأَن أَحدهمَا كذب فالتكليف بِهِ قَبِيح، وَقد علمت فَسَاده.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الثَّالِث: أَن يُرَاد مَعَ نسخه التَّكْلِيف بالإخبار بضد الأول، إِلَّا أَن الْمخبر بِهِ مِمَّا لَا يتَغَيَّر كالإخبار بِكَوْن السَّمَاء فَوق الأَرْض ينْسَخ بالإخبار بِأَن السَّمَاء تَحت الأَرْض، وَذَلِكَ جَائِز، وَخَالفهُ الْمُعْتَزلَة فِيهِ - كَمَا قَالَ الْآمِدِيّ - محتجين بِأَن أَحدهمَا كذب، والتكليف بِهِ قَبِيح فَلَا يجوز عقلا، وَهُوَ بِنَاء على قاعدتهم الْبَاطِلَة فِي التحسين والتقبيح العقليين.(6/3009)
فَإِن قيل: الْكَذِب نقص وقبحه بِاتِّفَاق فَلم لَا يمْتَنع ذَلِك؟
وَالْجَوَاب: أَن الْقبْح فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لفَاعِله، لَا بِاعْتِبَار التَّكْلِيف بِهِ، بل إِذا كلف بِهِ صَار جَائِزا فَلَا يكون قبيحا؛ إِذْ لَا حسن، وَلَا قبح إِلَّا بِالشَّرْعِ لَا سِيمَا إِذا تعلق بِهِ غَرَض شَرْعِي فَإِنَّهُ من حَيْثُ ذَلِك يكون حسنا. انْتهى.
وَقد اسْتشْهد لذَلِك بمسائل.
قَوْله: {لَا نسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم فَمَا لَا يتَغَيَّر، فَلَا يجوز فِيهِ النّسخ بِالْإِجْمَاع، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْمروزِي، وَابْن برهَان، وَذَلِكَ كصفات الله تَعَالَى، وأخبار مَا كَانَ وَمَا يكون، وأخبار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وأخبار الْأُمَم السالفة، وَالْأَخْبَار عَن السَّاعَة وأمارتها وَنَحْوه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا.
قَوْله: {وَلَا خبر يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد، وكفره} . إِذا كَانَ ذَلِك الحكم مِمَّا يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد - مثلا - وكفره فَلَا يجوز نسخه أَيْضا على الْأَصَح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.(6/3010)
قَالَ ابْن مُفْلِح: مَنعه جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين، فَمن أَصْحَابنَا ابْن الْأَنْبَارِي، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة ".
وَمن الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم كالصيرفي، وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي، والباقلاني، والجبائي، وَابْنه أبي هَاشم، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَابْن الْحَاجِب، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: هُوَ الْحق.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَأَبُو عبد الله، وَأَبُو الْحُسَيْن البصريان، وَعبد الْجَبَّار، وَنسبه ابْن برهَان للمعظم: يجوز نسخ ذَلِك.(6/3011)
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
يخرج عَلَيْهِ نسخ المحاسبة بِمَا فِي النُّفُوس فِي قَوْله: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم} [الْبَقَرَة: 284] كَقَوْل جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ فِي " صَحِيح مُسلم " عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر.
قَالَ الْخطابِيّ: النّسخ يجْرِي فِيمَا أخبر الله أَنه يَفْعَله؛ لِأَنَّهُ يجوز تَعْلِيقه على شَرط بِخِلَاف إخْبَاره عَمَّا لَا يَفْعَله؛ إِذْ لَا يجوز دُخُول الشَّرْط فِيهِ. قَالَ: وعَلى هَذَا تَأَول ابْن عمر النّسخ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} [الْبَقَرَة: 284] فَإِنَّهُ نسخهَا بعد ذَلِك بِرَفْع حَدِيث النَّفس. انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْصِيل بَين الْخَبَر عَن الْمَاضِي فَيمْتَنع نسخه؛ لِأَنَّهُ يكون تَكْذِيبًا، دون الْمُسْتَقْبل؛ لجريانه مجْرى الْأَمر وَالنَّهْي، فَيجوز أَن يرفع بِهِ، وَهَذَا القَوْل بِاخْتِيَار ابْن عقيل، والخطابي، وَابْن الْقطَّان،(6/3012)
وسليم الرَّازِيّ، والبيضاوي فِي " مُخْتَصره ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ ابْن عقيل إِن تعلق بمستقبل جَازَ فِيهِ نوع احْتِمَال كعفو فِي وَعِيد، وَصفه وَشرط.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي مَوضِع آخر: وَنسخ مَدْلُول خبر لَا يتَغَيَّر محَال إِجْمَاعًا كَمَا تقدم، وَإِلَّا جَازَ، أَي: وَإِن تغير جَازَ عِنْد عبد الْجَبَّار وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَأبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، والآمدي؛ لتكرر مَدْلُوله كَمَا فِي الْأَمر وكالخبر بِمَعْنى الْأَمر.
وَمنعه ابْن الباقلاني، والجبائية، وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر الْمَاضِي. انْتهى.
تَنْبِيه: هَذَا التَّفْصِيل مَبْنِيّ على أَن الْكَذِب لَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل، بل فِي الْمَاضِي، وَهُوَ قَول مَشْهُور تقدم ذكر، وَذكره مُقَابِله فِي أَحْكَام الْخَبَر فِي أَوَائِل أَحْكَام الحَدِيث، وَأَن مَنْصُوص أَحْمد أَنه يكون فِي الْمُسْتَقْبل(6/3013)
كالماضي على مَا سبق تحريره.
وَفِي نسخ الْخَبَر قَول رَابِع بالتفصيل بَين أَن يكون الْخَبَر الأول مُعَلّقا بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء فَيجوز نسخه، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه ابْن مقلة فِي كتاب " الْبُرْهَان "، قَالَ: كَمَا وعد قوم يُونُس بِالْعَذَابِ إِن لم يتوبوا، فَلَمَّا تَابُوا كشف عَنْهُم.
وَقَول خَامِس، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ: يجوز مُطلقًا إِذا كَانَ مِمَّا يتَكَرَّر، وَالْخَبَر عَام فيتبين بالناسخ إِخْرَاج مَا لم يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ.
قَوْله: {وَإِن كَانَ الْخَبَر عَن حكم جَازَ قطعا} .
مَحل الْخلاف الْمُتَقَدّم فِي غير الْخَبَر عَن الحكم، نَحْو: هَذَا الْفِعْل جَائِز، أَو حرَام، فَهَذَا يجوز نسخه بِلَا خلاف؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة إنْشَاء، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره.(6/3014)
قَوْله: {وَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز، خلافًا للآمدي، وَمَال إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَلَو قيدنَا الْخَبَر بالتأبيد لم يجز خلافًا للآمدي.
وَفِي " التَّمْهِيد ": إِفَادَة الدَّوَام فيهمَا لَا يمْنَع من دَلِيل أَن المُرَاد بِهِ غير ظَاهره كالعموم، ثمَّ مُطلق الْخَبَر كالمقيد بالتأبيد فَالْأَمْر مثله ثمَّ مُطلق الْأَمر ينْسَخ فَكَذَا مقيده، وَإِن كَانَ الْخَبَر المُرَاد بِهِ إِذا كَانَ بِمَعْنى الْإِنْشَاء فَهُوَ الصُّورَة الرَّابِعَة الَّتِي تقدّمت، وَإِن كَانَ المُرَاد بتقييده الْخَبَر وَهُوَ على مَا بِهِ فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى، وتابعت فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح.
قَوْله: {وَجَوَاز تأبيد التَّكْلِيف بِلَا غَايَة مَبْنِيّ على وجوب الْجَزَاء، وَجوزهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَأَنه قَول الْفُقَهَاء والأشعرية، وَخَالف بعض أَصْحَابنَا والمعتزلة} .(6/3015)
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَتَبعهُ من بعده: يجوز أَن يرد الْأَمر وَالنَّهْي دَائِما إِلَى غير غَايَة فَيَقُول: صلوا مَا بَقِيتُمْ أبدا، وصوموا رَمَضَان مَا حييتُمْ أَيْضا، فَيَقْتَضِي الدَّوَام مَعَ بَقَاء التَّكْلِيف، وَبِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء والأشاعرة من الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي أَوَاخِر كِتَابه.
قَالَ الْمجد: ومنعت الْمُعْتَزلَة مِنْهُ، وَقَالُوا: مَتى ورد اللَّفْظ بذلك لم يقتض الدَّوَام، وَإِنَّمَا هُوَ حث على التَّمَسُّك بِالْفِعْلِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وحرف الْمَسْأَلَة أَنهم لَا يمْنَعُونَ الدَّوَام مُطلقًا، وَيَقُولُونَ: لَا بُد من دَار ثَوَاب غير دَار التَّكْلِيف وجوبا على الله فَيكون قَوْله: أبدا مجَازًا، وَمُوجب قَوْلهم: أَن الْمَلَائِكَة غير مكلفين، وَقد اسْتدلَّ ابْن عقيل باستعباد الْمَلَائِكَة وإبليس. انْتهى.(6/3016)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَكْثَر على جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَمنعه جمع، وَجمع فِي الْعِبَادَة} .
الَّذِي ذهب إِلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء أَنه يجوز النّسخ بِلَا بدل، وَمنعه قوم وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن جُمْهُور الْمُعْتَزلَة، وَنَقله الباقلاني عَن الْمُعْتَزلَة، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن بعض أهل الظَّاهِر، وَمنعه بعض الْعلمَاء فِي الْعِبَادَة بِنَاء على أَن النّسخ يجمع معنى الرّفْع وَالنَّقْل، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
اسْتدلَّ الْجُمْهُور بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي إِثْبَات النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة أما الْمُنَاجَاة، وَتَحْرِيم ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي.(6/3017)
وَفِي البُخَارِيّ أَنه كَانَ إِذا دخل وَقت الْفطر فَنَامَ قبل أَن يفْطر حرم الطَّعَام وَالشرَاب، وإتيان النِّسَاء إِلَى اللَّيْلَة الْآتِيَة، ثمَّ نسخ.
وَاحْتج الْآمِدِيّ على عَادَته أَنه لَو فرض وُقُوعه لم يلْزم مِنْهُ محَال.
ورده بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى، وَأَن إِمْكَان هَذَا ذهني بِمَعْنى عدم الْعلم بالامتناع، لَيْسَ إِمْكَانه خارجيا بِمَعْنى الْعلم بِهِ خَارِجا فَإِنَّهُ يكون للْعلم بِوُجُودِهِ، أَو نَظِيره أَو أولى مِنْهُ كَمَا يذكر فِي الْقُرْآن، قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} [الْبَقَرَة: 106] .
رد: الْخلاف فِي الحكم لَا فِي اللَّفْظ، ثمَّ لَيْسَ عَاما فِي كل حكم، ثمَّ مَخْصُوص بِمَا سبق، ثمَّ يكون نسخه بِغَيْر بدل خيرا لمصْلحَة علمهَا، ثمَّ إِنَّمَا تدل الْآيَة أَنه لم يَقع لَا أَنه لَا يجوز.
وَأَيْضًا الْمصلحَة قد تكون فِيمَا نسخ، ثمَّ تصير الْمصلحَة فِي عَدمه، هَذَا عِنْد من يعْتَبر الْمصَالح، وَأما من لَا يَعْتَبِرهَا فَلَا إِشْكَال فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء.(6/3018)
قَالَ الباقلاني: كَمَا يجوز أَن الله تَعَالَى يرفع التكاليف كلهَا يجوز أَن يرفع بَعْضهَا بِلَا بدل من بَاب أولى.
قَوْله: {فعلى الأول وَقع عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف الشَّافِعِي وَأول} .
وَالدَّلِيل على الْوُقُوع مَا تقدم من الْآيَات، وَنفى الشَّافِعِي إِيقَاع ذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَيْسَ المُرَاد أَن الشَّافِعِي نفى أَن لَا ينْسَخ حكم إِلَّا وَيثبت حكم آخر متجدد، بل على معنى آخر نذكرهُ بعد حِكَايَة النَّص فَقَالَ فِي الرسَالَة فِي ابْتِدَاء النَّاسِخ والمنسوخ: وَلَيْسَ ينْسَخ فرض أبدا إِلَّا أثبت مَكَانَهُ فرض كَمَا نسخت قبْلَة بَيت الْمُقَدّس فَأثْبت مَكَانهَا الْكَعْبَة. انْتهى.
قَالَ الصَّيْرَفِي فِي " شَرحه ": مُرَاده أَن ينْقل من حظر إِلَى إِبَاحَة، أَو من إِبَاحَة إِلَى حظر، أَو تَخْيِير على حسب أَحْوَال الْفُرُوض. قَالَ: كنسخ الْمُنَاجَاة فَإِنَّهُ تَعَالَى لما فرض تَقْدِيم الصَّدَقَة أَزَال ذَلِك بردهمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِن شَاءُوا تقربُوا إِلَى الله تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ، وَإِن شَاءُوا ناجوه من غَيره صَدَقَة.
قَالَ: فَهَذَا معنى قَول الشَّافِعِي فرض فتفهمه. انْتهى.(6/3019)
فَظهر أَن المُرَاد الشَّافِعِي بِالْبَدَلِ أَعم من حكم آخر ضد الْمَنْسُوخ كالقبلة أَو الرَّد لما كَانُوا عَلَيْهِ قبل شرع الْمَنْسُوخ كالمناجاة، فالمدار على ثُبُوت حكم شَرْعِي فِي الْمَنْسُوخ فِي الْجُمْلَة حَتَّى لَا يتْركُوا هملا إِلَى أَمر آخر وَلَو أَنه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل ذَلِك، فَلم يُغَادر الرب - تَعَالَى - عباده هملا، فالصور أَربع:
إِحْدَاهَا: الْجَوَاز بِلَا بدل، وَلَا يُخَالف فِيهِ إِلَّا بعض الْمُعْتَزلَة، والظاهرية.
وَالثَّانيَِة: الْوُقُوع بِلَا بدل أصلا، وَيصير ذَلِك بِلَا حكم أصلا، بل يبْقى كالأفعال قبل وُرُود الشَّرْع، وَهَذَا مَعَ جَوَازه، لم يقل بِهِ أحد، وَلَا حفظ فِيهِ شَيْء من الشَّرْع يكون مِثَالا لَهُ.
وَالثَّالِثَة: وُقُوعه بِبَدَل، إِمَّا بإحداث أَمر كالكعبة، أَو إِبَاحَة مَا كَانَ وَاجِبا كالمناجاة، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِي بقوله السَّابِق فَلَا يفهم مِمَّا أَرَادَ من الْبَدَل إِلَّا ذَلِك، وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام القَاضِي أبي بكر أَيْضا، وَهُوَ الْحق كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَالرَّابِعَة: وُقُوعه بِبَدَل متجدد أصل كالكعبة بعد بَيت الْمُقَدّس، يكون شرطا لَا بُد مِنْهُ، وَهِي مَسْأَلَة الْوُقُوع الَّتِي فِيهَا الْخلاف، وَالْجُمْهُور على عدم اشْتِرَاط مثل ذَلِك، وَلَيْسَ ذَلِك مَحل كَلَام الشَّافِعِي.(6/3020)
وَمِمَّنْ أَشَارَ إِلَى مَا قَرَّرْنَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيص " " مُخْتَصر التَّقْرِيب ". انْتهى كَلَام الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَيجوز بأثقل عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف قوم مُطلقًا، وَقوم شرعا، وَقوم عقلا، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل} .
قد تقرر أَن النّسخ جَائِز، وواقع بِبَدَل، وَبِغير بدل، فَإِذا كَانَ بِبَدَل فالبدل إِمَّا مسَاوٍ أَو أخف، أَو أثقل، والأولان جائزان بِاتِّفَاق.
مِثَال الْمسَاوِي: نسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالْكَعْبَةِ.
وَمِثَال الأخف: وجوب مصابرة الْعشْرين من الْمُسلمين مِائَتَيْنِ من الْكفَّار وَالْمِائَة ألفا كَمَا فِي الْآيَة نسخ بقوله تَعَالَى: {الئن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ} [الْأَنْفَال: 66] فَأوجب مصابرة الضعْف، وَهُوَ(6/3021)
أخف من الأول، وَمثله نسخ الْعدة بالحول فِي الْوَفَاة بالعدة بأَرْبعَة أشهر وَعشر.
وَأما النّسخ بالأثقل فَهُوَ مَحل الْخلاف، وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز وَدَلِيل وُقُوعه: أَن الْكَفّ عَن الْكفَّار كَانَ وَاجِبا بقوله تَعَالَى: {ودع أذاهم} [الْأَحْزَاب: 48] فنسخ بِإِيجَاب الْقِتَال وَهُوَ أثقل، أَي: أَكثر مشقة، وَكَذَا نسخ وجوب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء بِصَوْم رَمَضَان، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة: إِنَّه كَانَ وَاجِبا، وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد والأثرم صَاحبه.(6/3022)
وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه لم يكن وَاجِبا، وَإِنَّمَا كَانَ متأكد الِاسْتِحْبَاب، وَبِه قَالَ كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
لَكِن يظْهر لي فِي ذَلِك إِشْكَال وَهُوَ أَنه قد تقدم أَن عَاشُورَاء مَا نسخ برمضان، وَإِنَّمَا وَافق نسخ عَاشُورَاء وجوب صِيَام رَمَضَان فَمَا نسخ بأثقل وَلَا بأخف وَإِنَّمَا نسخ عَاشُورَاء وَأوجب الله صِيَام رَمَضَان من غير أَن ينْسَخ بِهِ.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة، وَابْن دَاوُد وَغَيره من الظَّاهِرِيَّة وَذكره ابْن برهَان عَن الْمُعْتَزلَة: لَا يجوز النّسخ بأثقل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: الْجُمْهُور جَوَاز النّسخ بأثقل خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة وَابْن دَاوُد، وَغَيره.(6/3023)
وَأما الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: قَالَ بعض أهل الظَّاهِر بِمَنْعه، ثمَّ مِنْهُم من أجَاز ذَلِك عقلا، وَمنع مِنْهُ سمعا، وَهُوَ رَأْي أبي بكر بن دَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَمِنْهُم من مَنعه عقلا، وَمِنْهُم من قَالَ بِجَوَاز ذَلِك وَلم يَقع.
وَالْمَقْصُود أَن فِي الْمَسْأَلَة أقوالا: الْجَوَاز مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وجوازه عقلا لَا سمعا، وَمنعه عقلا لَا شرعا - وَقُلْنَا اخْتَارَهُ ابْن عقيل - وجوازه مُطلقًا وَإِن لم يَقع.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب - وَهُوَ الصَّحِيح - بِمَا سبق، وَبِأَنَّهُ لَا يمْتَنع لذاته وَلَا لتَضَمّنه مفْسدَة ولوقوعه، كنسخ تَخْيِير الصَّحِيح بَين صَوْم رَمَضَان والفدية بصومه وعاشوراء برمضان.
إِن قيل: إِنَّه كَانَ وَاجِبا كَمَا تقدم، وَالْحَبْس فِي الْبيُوت بِالْحَدِّ، والصفح عَن الْكفَّار بقتل مُقَاتلَتهمْ، ثمَّ بقتالهم كَافَّة كَمَا تقدم.
قَالُوا: أبعد من الْمصلحَة وأشق.
رد: لَازم فِي ابْتِدَاء التَّكْلِيف، وَإِن اعْتبرت الْمصلحَة فقد تكون فِي الأثقل كَمَرَض وَغَيره.
قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: بأيسر على النَّاس.(6/3024)
وَقَالَ غَيره: {أَو مثلهَا} أَي: فِي الثَّوَاب، وَالْحكمَة فِي تبديلها الِاخْتِيَار.
وَجَوَابه مَا سبق فِي الَّتِي قبلهَا، فَإِن ثَبت عَن ابْن عَبَّاس فَمَعْنَاه غَالِبا كَمَا سبق وَهُوَ خير بِاعْتِبَار الثَّوَاب، وَقَالَهُ القَاضِي.
قَالُوا: تَشْدِيد فَلَا يَلِيق برأفة الله تَعَالَى: {الئن خفف الله عَنْكُم} [الْأَنْفَال: 66] ، {يُرِيد الله بكم الْيُسْر} [الْبَقَرَة: 185] ، {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} [النِّسَاء: 28] .
قُلْنَا: منقوض بتسليطه الْمَرَض، والفقر، وأنواع الآلام، والمؤذيات.
فَإِن قيل: لمصَالح علمهَا.
قُلْنَا: قد أجبتم عَنَّا.
{فَائِدَة: تتَعَلَّق بهَا} .
وَجه كَونهَا تتَعَلَّق بِالْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا لِأَن فِيهَا الْخَيْرِيَّة لقَوْله: {نأت بِخَير مِنْهَا} فَدلَّ أَن فِيهِ مَا هُوَ خير من الْمَنْسُوخ، أَو مثله، وَهِي: هَل يتفاضل الْقُرْآن وثوابه، أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء:
أَحدهمَا: أَنه يتفاضل، وثواب بعضه أَكثر من بعض، وَقد وَردت النُّصُوص الصَّرِيحَة الصَّحِيحَة بذلك. وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم:(6/3025)
الإِمَام إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، والقرطبي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والحليمي، وَالْبَيْهَقِيّ، وَابْن الْعَرَبِيّ، وَابْن الْحصار، والقرطبي وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهم، وَالْقَاضِي من أَصْحَابنَا أَيْضا.
وَقَالَ هُوَ أَيْضا وَجَمَاعَة من الْعلمَاء: لَا يجوز أَن يتفاضل ثَوَابه؛ لِأَنَّهُ جَمِيعه صفة لله تَعَالَى.(6/3026)
قَالَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْحَنْبَلِيّ القادري فِي أَدِلَّة أوراده: فِي تَفْضِيل بعض الْآيَات والسور على بعض خلاف، رجح إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَابْن الْعَرَبِيّ، وَابْن الْحصار من الْمَالِكِيَّة، والقرطبي التَّفْضِيل؛ لِأَن مَا تضمنه قَوْله تَعَالَى: {وإلهكم إِلَه وَاحِد} [الْبَقَرَة: 163] ، وَآيَة الْكُرْسِيّ، وَسورَة الْإِخْلَاص، وَنَحْوهَا من الدلالات على وحدانيته وَصِفَاته لَيْسَ مَوْجُودا - مثلا - فِي سُورَة تبت، وَمَا كَانَ مثلهَا، فالتفضيل إِنَّمَا هُوَ بالمعاني العجيبة، وَكَثْرَتهَا، لَا من حَيْثُ الصّفة، وَهَذَا هُوَ الْحق، قَالَه الْقُرْطُبِيّ.
قَالَ ابْن الْحصار: عجبي مِمَّن يذكر الْخلاف مَعَ هَذِه النُّصُوص.(6/3027)
قَالَ بَعضهم: إِطْلَاق أعظم وَأفضل فِي بعض السُّور بِمَعْنى فَاضل وعظيم، وَهُوَ رَاجع إِلَى عظم أجر قَارِئ ذَلِك، وجزيل ثَوَابه. قَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمُخْتَار جَوَاز قَول هَذِه الْآيَة أَو هَذِه السُّورَة أعظم وَأفضل بِمَعْنى أَن الثَّوَاب الْمُتَعَلّق بهَا أكبر، وَأعظم. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا، وَغَيره: لَا يُقَال ذَلِك، وَذَلِكَ لِأَن جَمِيع الْقُرْآن صفة من صِفَات الله تَعَالَى، وَهِي لَا تَتَفَاوَت.
قَوْله: {تَنْبِيه: لم تنسخ إِبَاحَة إِلَى إِيجَاب، وَلَا إِلَى كَرَاهَة} ، رَأَيْت ذَلِك فِي بعض كتب أَصْحَابنَا) .(6/3028)
(قَوْله: {فصل} )
الْأَرْبَعَة وَغَيرهم يجوز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَعَكسه، خلافًا لبَعض الْمُعْتَزلَة، ونسخهما مَعًا} . يَعْنِي: نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم خلافًا للمعتزلة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلم تخَالف الْمُعْتَزلَة فِي نسخهما مَعًا لما حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَنْهُم. انْتهى.
نسخ جَمِيع الْقُرْآن مُمْتَنع بِالْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ معْجزَة نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المستمرة على التَّأْبِيد {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد (42) } [فصلت: 42] فِي بعض التفاسير: لَا يَأْتِي مَا يُبطلهُ.(6/3029)
ثمَّ فِي كَيْفيَّة وُقُوع النّسخ فِي بعضه ثَلَاثَة أَنْوَاع:
- مَا نسخ تِلَاوَته وَحكمه بَاقٍ.
- وَمَا نسخ حكمه فَقَط وتلاوته بَاقِيَة.
- وَمَا جمع فِيهِ نسخ التِّلَاوَة الحكم.
مِثَال الأول: مَا رَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَابْن ماجة عَن عمر أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ أَن تهلكوا عَن آيَة الرَّجْم، أَو يَقُول قَائِل: لَا نجد حَدَّيْنِ فِي كتاب الله، فَلَقَد رجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله لأثبتها: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) فَإنَّا قد قرأناها ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عمر أَنه قَالَ: " كَانَ فِيمَا أنزل آيَة الرَّجْم فقرأناها وعقلناها ورجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ورجمنا بعده ".
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فِي قَوْله: (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) : علقه على الشَّيْخَيْنِ لإحصانهما غَالِبا، فَالْمُرَاد بالشيخ وَالشَّيْخَة المحصنان، حدهما الرَّجْم بِالْإِجْمَاع، وَقد تَابع عمر جمع من الصَّحَابَة على ذَلِك كَأبي ذَر،(6/3030)
فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَصَححهُ.
وَفِي رِوَايَة أَحْمد، وَابْن حبَان: أَنَّهَا كَانَت فِي سُورَة الْأَحْزَاب.
وروى زيد بن ثَابت فِي " مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الْكَبِير "، وَأبي فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان قَالَ: كَانَت توازي سُورَة الْبَقَرَة، فَكَانَ فِي (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِلَى آخِره (إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) وَالْمرَاد بِمَا قضيا من اللَّذَّة.
فَهَذَا الحكم فِيهِ بَاقٍ، وَاللَّفْظ مُرْتَفع، لرجم رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ماعزا، والغامدية، واليهوديين.
وَمِثَال الثَّانِي: مَا نسخ حكمه وَبَقِي لَفظه عكس الَّذِي قبله: آيَة الْمُنَاجَاة وَالصَّدَََقَة بَين يَديهَا، وَلم يعْمل بِهَذِهِ الْآيَة إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ -(6/3031)
فَفِي التِّرْمِذِيّ عَنهُ: أَنَّهَا لما نزلت قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا ترى؟ دِينَارا. قَالَ: لَا يطيقُونَهُ. قَالَ: نصف دِينَار. قَالَ: لَا يطيقُونَهُ. قَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: شعيرَة. قَالَ لَهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّك لَزَهِيد. قَالَ عَليّ: حَتَّى خفف الله عَن هَذِه الْأمة بترك الصَّدَقَة.
وَمعنى قَوْله: (شعيره) من ذهب.
وروى الْبَزَّار عَن عبد الرَّزَّاق عَن مُجَاهِد، قَالَ: قَالَ عَليّ: مَا عمل بهَا أحد غَيْرِي حَتَّى نسخت، وَأَحْسبهُ قَالَ: وَمَا كَانَت إِلَّا سَاعَة من نَهَار.
وَفِي " مُعْجم الطَّبَرَانِيّ ": أرى الَّذِي قدم بَين يَدي الْمُنَاجَاة سعد، وَقَالَ: قدمت شعيرَة، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّك لَزَهِيد.
وَمِثَال آخر لهَذَا الْقسم: الِاعْتِدَاد فِي الْوَفَاة بالحول نسخ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة: 234] على مَا ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْمُفَسّرين.
وَمِثَال الثَّالِث: وَهُوَ مَا نسخ لَفظه، وَحكمه: مَا رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة: كَانَ مِمَّا أنزل عشر رَضعَات مَعْلُومَات فنسخن بِخمْس مَعْلُومَات،(6/3032)
فَلم يبْق لهَذَا اللَّفْظ حكم الْقُرْآن لَا فِي الِاسْتِدْلَال، وَلَا فِي غَيره؛ فَلذَلِك كَانَ الصَّحِيح عندنَا جَوَاز مس الْمُحدث مَا نسخ لَفظه أَعم من أَن ينْسَخ حكمه أَولا.
وَوجه ابْن عقيل: الْمَنْع لبَقَاء حرمته كبيت الْمُقَدّس نسخ كَونه قبْلَة وحرمته بَاقِيَة، وَالْجَوَاز لعدم حُرْمَة كتبه فِي الْمُصحف.
وَجه الْجَوَاز فِي الْكل أَن التِّلَاوَة حكم وَمَا تعلق بهَا من الْأَحْكَام حكم آخر فَجَاز نسخهما، وَنسخ أَحدهمَا كغيرهما، وَقد وَقع ذَلِك كَمَا تقدم فِي الْمُنَاجَاة.
وَقَالَ الْمَانِع من ذَلِك: التِّلَاوَة مَعَ حكمهَا متلازمان كَالْعلمِ مَعَ العالمية وَالْحَرَكَة مَعَ المتحركية، والمنطوق مَعَ الْمَفْهُوم.
رد ذَلِك: بِأَن الْعلم هُوَ العالمية، وَالْحَرَكَة هِيَ المتحركية، وَمنع أَن الْمَنْطُوق لَا يَنْفَكّ عَن الْمَفْهُوم.(6/3033)
سلمنَا الْمُغَايرَة وَأَن الْمَنْطُوق لَا يَنْفَكّ فالتلاوة أَمارَة الحكم ابْتِدَاء لَا دواما فَلَا يلْزم من نَفيهَا نَفْيه، وَبِالْعَكْسِ.
قَالُوا: بَقَاء التِّلَاوَة توهم بَقَاء الحكم فَيُؤَدِّي إِلَى التجهيل، أَو إبِْطَال فَائِدَة الْقُرْآن.
رد ذَلِك بِأَنَّهُ مَبْنِيّ على التحسين الْعقلِيّ، ثمَّ لَا جهل مَعَ الدَّلِيل للمجتهد، وَفرض الْمُقَلّد التَّقْلِيد، والفائدة الإعجاز، وَصِحَّة الصَّلَاة بِهِ.
فَوَائِد:
إِحْدَاهَا: هَذِه الْأَقْسَام الْمُتَقَدّمَة فِيهَا خلاف سوى مَا تقدم.
فَمنع بعض الْأُصُولِيِّينَ نسخ الحكم دون التِّلَاوَة؛ لِأَن الْقَصْد من التِّلَاوَة حكمهَا فَإِذا انْتَفَى الحكم فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهَا، حَكَاهُ جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَمنع بَعضهم نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم، وَبِه صرح شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، وَمنع بَعضهم الْقسمَيْنِ؛ لِأَن أَحدهمَا فِيهِ بَقَاء الدَّلِيل بِلَا مَدْلُول، وَالْآخر بَقَاء الْمَدْلُول بِلَا دَلِيل.(6/3034)
وَالصَّحِيح الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ متغايران فَيجوز رفع أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر.
الثَّانِيَة: قسم كثير من الْعلمَاء النّسخ فِي الْقُرْآن سِتَّة أَقسَام:
أَحدهَا: مَا نسخ حكمه وَبَقِي رسمه، وَحكم النَّاسِخ ورسمه باقيان، كنسخ آيَة الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِآيَة الْمَوَارِيث، وَنسخ عدَّة الْوَفَاة حولا بأَرْبعَة أشهر وَعشر.
الثَّانِي: مَا نسخ حكمه ورسمه، وهما فِي النَّاسِخ ثابتان كنسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس باستقبال الْكَعْبَة، وَصِيَام عَاشُورَاء برمضان على رَأْي، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس بِالسنةِ فنسخ بِالْقُرْآنِ.
الثَّالِث: مَا نسخ حكمه وَبَقِي رسمه، وَرفع رسم النَّاسِخ وَبَقِي حكمه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فأمسكوهن فِي الْبيُوت} [النِّسَاء: 15] الْآيَة ب (الشَّيْخ وَالشَّيْخَة) إِلَى آخِره.(6/3035)
فَإِن قيل: رجم الْمُحصن إِنَّمَا أَخذ من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت فِي مُسلم مَرْفُوعا: " خُذُوا عني، خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر بالبكر جلد مائَة، وتغريب عَام، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم ".
قيل: النّسخ بالشيخ وَالشَّيْخَة، والْحَدِيث مُقَرر أَنه لم ينْسَخ.
وَضعف بِأَن التأسيس أرجح من التَّأْكِيد، وَبِأَن الحَدِيث إِنَّمَا ورد مُبينًا للسبيل فِي {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} فَهُوَ إِمَّا مُسْتَقل، أَو مُبين للسبيل لَا مُتَعَلق بِآيَة الرَّجْم.
الرَّابِع: مَا نسخ حكمه ورسمه وَبَقِي حكم النَّاسِخ لَا رسمه، كَحَدِيث عَائِشَة فِي الْعشْر رَضعَات، فَإِن الْخمس حكمهَا بَاقٍ دون لَفظهَا، وَأما قَول عَائِشَة: (فَتوفي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهن مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن) فمؤول كَمَا قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: بِأَن مرادها يُتْلَى حكمه، أَو أَن من لم يبلغهُ نسخ تِلَاوَته يتلوه، وَهُوَ مَعْذُور.
وَإِنَّمَا أول بذلك لإِجْمَاع الصَّحَابَة على تَركهَا من الْمُصحف حِين جمعُوا الْقُرْآن، وَأجْمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ بعدهمْ.
الْخَامِس: مَا نسخ رسمه وَبَقِي حكمه، وَلَكِن لَا يعلم ناسخه، فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث أنس: أَنه كَانَ فِي الْقُرْآن: " لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا(6/3036)
من ذهب لابتغى أَن يكون لَهُ ثَان، وَلَا يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب الله على من تَابَ ". رَوَاهُ أَحْمد، وَقَالَ: كَانَ هَذَا قُرْآنًا فنسخ خطه.
قَالَ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد ": قيل: إِنَّه من سُورَة ص، لَكِن ورد فِي رِوَايَة: لَا نَدْرِي أَشَيْء نزل، أَو شَيْء كَانَ يَقُوله.
ويمثل لَهُ - أَيْضا - بِمَا فِي البُخَارِيّ فِي السّبْعين الَّذين قتلوا ببئر مَعُونَة وَنزل فيهم: " بلغُوا قَومنَا بِأَنا قد لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا وأرضانا ". قَالَ أنس: فقرأنا فيهم قُرْآنًا. وَذكره ثمَّ رفع بعده.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمثل هَذَا كثير؛ وَلِهَذَا قيل فِي سُورَة الْأَعْرَاف: إِنَّهَا كَانَت نَحْو الْبَقَرَة، وَكَذَا سُورَة الْأَحْزَاب، كَمَا تقدم.
وَلَكِن مثل بَعضهم بذلك مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه.
السَّادِس: نَاسخ صَار مَنْسُوخا، وَلَيْسَ بَينهمَا لفظ متلو، كَالْإِرْثِ(6/3037)
بِالْحلف والنصرة نسخ بالتوارث بِالْإِسْلَامِ وَالْهجْرَة، ثمَّ نسخ التَّوَارُث بذلك.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهَذَا يدْخل فِي النّسخ من وَجه، قَالَ: وَعِنْدِي أَن الْقسمَيْنِ الْأَخيرينِ فِي إدخالهما فِي النّسخ تكلّف.
الثَّالِثَة: تَمْثِيل مَا نسخ تِلَاوَته وَبَقِي حكمه بالشيخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا، اسْتشْكل من حَيْثُ يلْزم من ذَلِك أَن يثبت قُرْآن بالآحاد، وَأَن ذَلِك الْقُرْآن نسخ حَتَّى لَو أنكرهُ شخص كفر، وَمن أنكر مثل هَذَا لَا يكفر، وَإِذا لم تثبت قرآنيته لم يثبت نسخ قُرْآن.
بل يجْرِي هَذَا الِاعْتِرَاض فِي مِثَال مَا نسخ حكمه وَبَقِي تِلَاوَته، ونسخهما مَعًا؛ وَذَلِكَ لِأَن نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد لَا يجوز كَمَا يَأْتِي.
وَأجَاب الْهِنْدِيّ: عَن أصل السُّؤَال بِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا هُوَ شَرط فِي الْقُرْآن الْمُثبت بَين الدفتين، أما الْمَنْسُوخ فَلَا، سلمنَا لَكِن الشَّيْء قد يثبت ضمنا بِمَا لَا يثبت بِهِ أَصله كالنسب بِشَهَادَة القوابل على الْولادَة، وَقبُول الْوَاحِد فِي [أَن] أحد المتواترين بعد الآخر وَنَحْو ذَلِك.(6/3038)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَن الصَّدْر الأول يجوز أَن يَقع فِيهِ التَّوَاتُر ثمَّ يَنْقَطِع فِيهِ التَّوَاتُر فَيصير آحادا، فَمَا رُوِيَ لنا بالآحاد إِنَّمَا هُوَ حِكَايَة عَمَّا كَانَ مَوْجُودا بِشُرُوطِهِ فَتَأَمّله. انْتهى.
الرَّابِعَة: وَقع إِشْكَال فِي قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: لَوْلَا أَن يَقُول النَّاس: زَاد عمر فِي كتاب الله لكتبتها كَمَا هُوَ ظَاهر اللَّفْظ فَهُوَ قُرْآن متلو، وَلَكِن لَو كَانَ متلوا لوَجَبَ على عمر الْمُبَادرَة لكتابتها؛ لِأَن مقَال النَّاس لَا يصلح مَانِعا من فعل الْوَاجِب.
قَالَ السُّبْكِيّ: وَلَعَلَّ الله أَن ييسر علينا حل هَذَا الْإِشْكَال، فَإِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - إِنَّمَا نطق بِالصَّوَابِ، ولكنانتهم فهمنا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن تَأْوِيله بِأَن مُرَاده لكتبتها منبها على أَنَّهَا نسخت تلاوتها ليَكُون فِي كتَابَتهَا فِي محلهَا أَمن من نسيانها بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِن قد تكْتب من غير بَيِّنَة فَيَقُول النَّاس: زَاد عمر، فَتركت كتَابَتهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ من دفع أعظم المفسدتين بأخفهما. انْتهى.
قلت: وَيُمكن أَن يُقَال: إِن هَذَا مِمَّا نسخ رسمه وَبَقِي حكمه، وَلَكِن عمر - رَضِي الله عَنهُ - لشدَّة حرصه على إِظْهَار الْأَحْكَام هم بِأَن يَكْتُبهَا خوفًا(6/3039)
من أَن ينسى حكمهَا لكَونهَا غير مَكْتُوبَة وَنسخ رسمها فيضلوا بترك فَرِيضَة لَا سِيمَا وَالزِّنَا مِمَّا يتواهن النَّاس ويتساهلون فِيهِ وَالله أعلم، وَلذَلِك وَالله أعلم بدلت الْيَهُود ذَلِك مَعَ كَونه فِي التَّوْرَاة، وَلِلنَّاسِ ميل إِلَى رَحْمَة الزَّانِي، وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} [النُّور: 2] .
قَوْله: {وَنسخ} ، أَي: وَيجوز نسخ {قُرْآن وَسنة متواترة بمثلهما وآحاد بِمثلِهِ وبمتواتر} .
يجوز نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ، وَقد وَقع ذَلِك فنسخ الِاعْتِدَاد بالحول فِي الْوَفَاة بأَرْبعَة أشهر وَعشر، كَمَا سبق.
وَأما نسخ متواتر السّنة بمتواترها فَجَائِز عقلا وَشرعا، وَلَكِن وقوعهما مُتَعَذر فِي هَذِه الْأَزْمِنَة، وَقد تقدّمت الْأَحَادِيث، وَأَنَّهَا قَليلَة جدا، بل كلهَا آحَاد إِمَّا فِي أَولهَا وَإِمَّا فِي آخرهَا وَإِمَّا من أول إسنادها إِلَى آخِره.(6/3040)
وَأما نسخ آحَاد السّنة بِمِثْلِهَا فَكَمَا فِي " صَحِيح مُسلم " عَن بُرَيْدَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة: " تذكركم الْآخِرَة "، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
وَوجه الشَّاهِد فِي الحَدِيث أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كنت نَهَيْتُكُمْ " فَصرحَ بِأَن النَّهْي من السّنة، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة كنسخ الْمُتْعَة وَنسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار، وَغَيره.
وَلابْن الْجَوْزِيّ كتاب لطيف جمع فِيهِ أحد وَعشْرين موضعا وَتعقب فِي بَعْضهَا، وَتعقب كثيرا مِنْهَا.
وَأما نسخ الْآحَاد من السّنة بالمتواترة فَجَائِز، وَلَكِن لم يَقع.
قَوْله: {ومتواترة بآحاد عقلا اتِّفَاقًا} ، ذكره الْآمِدِيّ، وَذكر الْبَاجِيّ الْمَالِكِي فِيهِ خلافًا، وَلَا يجوز شرعا عِنْد الجماهير.(6/3041)
وَحَكَاهُ ابْن برهَان وَأَبُو الْمَعَالِي إِجْمَاعًا؛ لجَوَاز قَول الشَّارِع: تعبدتكم بالنسخ بِخَبَر الْوَاحِد.
وَقَالَ دَاوُد والظاهرية والطوفي من أَصْحَابنَا: يجوز، وَهُوَ ظَاهر كَلَام القَاضِي وَابْن عقيل.
قَالَ الطوفي: وَأَجَازَهُ بعض الظَّاهِرِيَّة مُطلقًا، وَلَعَلَّه أولى؛ إِذْ الظَّن قدر مُشْتَرك بَين الْكل، وَهُوَ كَاف فِي الْعَمَل، وَالِاسْتِدْلَال الشَّرْعِيّ، وَقَول عمر: (لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أحفظت أم نسيت) يُفِيد أَنه إِنَّمَا رده لشُبْهَة، وَلَو أَفَادَ خَبَرهَا الظَّن لعمل بِهِ.
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْبَاجِيّ وَلَكِن فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: لَا يجوز بعده إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبْعَث الْآحَاد بالناسخ إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي.(6/3042)
قَوْله: {وَلَا ينْسَخ قُرْآن بِخَبَر آحَاد} . قدمه ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب، وَعَزاهُ للْأَكْثَر، {وجوزوه القَاضِي، وَقَالَ: نَص عَلَيْهِ، قَالَ: وَيجب الْعَمَل بِهِ.
وَقَالَ ابْن عقيل: إِنَّه مَذْهَب أَحْمد} ، وَاسْتشْهدَ لذَلِك بِقصَّة قبَاء فِي الاستدارة فِي الصَّلَاة وَخبر الْخمر لقَوْل أبي طَلْحَة لما سمع مُجَرّد الْخَبَر: " اهريقوها " وَلم ينْظرُوا غَيره. قَالَ: فاحتج بِقصَّة قبَاء، وَأَن الصَّحَابَة(6/3043)
أخذت بالْخبر وَإِن كَانَ فِيهِ نسخ. وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل، وَأَنه مَذْهَب أَحْمد، وَقَالَ: وَهِي تشبه مذْهبه فِي إِثْبَات الصِّفَات بهَا، وَهُوَ أَكثر من النّسخ، وَقَررهُ فِي " فنونه " وَقَالَ فِيهِ: وَفِي الْقيَاس نظر، كَأَن الشَّارِع قَالَ: اقْطَعُوا بِحكم كَلَامي مَا لم يضاده خبر وَاحِد أَو قِيَاس هَذَا هُوَ التَّحْقِيق، وبناه على أَن الْعَمَل بهما قَطْعِيّ.
وَقدمه فِي جمع الْجَوَامِع وشراحه، وَاخْتَارَهُ القَاضِي الباقلاني وَغَيره أَيْضا، وَجعلُوا القَوْل بِالْمَنْعِ سَاقِطا، وَإِن عزاهُ بَعضهم للْأَكْثَر وَأَنَّهُمْ فرقوا بَينه وَبَين التَّخْصِيص بِأَنَّهُ رفع، والتخصيص بَيَان وَجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، الْأَكْثَر على عدم الْوُقُوع خلافًا لجمع من الظَّاهِرِيَّة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: وَالْمَشْهُور جَوَازه عقلا، وَحكى الْآمِدِيّ وَغَيره الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، لَكِن نقل الباقلاني وَغَيره الْخلاف فِيهِ، وَالْمَشْهُور عدم وُقُوعه، حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي إِجْمَاعًا، لَكِن خَالف فِيهِ بعض الظَّاهِرِيَّة. انْتهى.(6/3044)
وَفصل القَاضِي الباقلاني وَالْغَزالِيّ بَين زَمَانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيجوز، وَبعده لَا يجوز، نقل القَاضِي الباقلاني الْإِجْمَاع على الْمَنْع فِيمَا بعده. انْتهى.
احْتج الْمَانِع من الْجَوَاز بِمَا سبق من منع التَّخْصِيص بِهِ.
وَأَيْضًا قَاطع فَلَا يرفع بِالظَّنِّ.
رد: خبر الْوَاحِد دلَالَته قَطْعِيَّة فيرفع دلَالَة ظنية، فَإِن قيل: فَيكون مُخَصّصا.
رد: يكون نسخا إِذا ورد بعد الْعَمَل بقرآن أَو متواتر عَاميْنِ.
وَاحْتج ابْن عقيل: أَن رد الصَّحَابَة بعض قِرَاءَة ابْن مَسْعُود تَنْبِيه لرد رِوَايَته فِي نسخه.
احْتج المجوز بِقصَّة قبَاء السَّابِقَة فِي خبر الْوَاحِد، وَيحْتَمل أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ وعدهم، أَو أخْبرهُم بنسخه إِذا جَاءَهُم رَسُوله، أَو أعلن النَّاس بِهِ وَهُوَ بِقرب مَسْجده.
وَأَيْضًا سبق أَنه كَانَ يبْعَث الْآحَاد لتبليغ الْأَحْكَام.
رد: إِن كَانَ مِنْهَا نَاسخ لمتواتر فمعلوم بالقرائن.(6/3045)
وَأَيْضًا: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} [الْأَنْعَام: 145] نسخ بنهيه عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع.
رد: لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَة الْجَمِيع وبالتخصيص، وَبِأَن (لَا أجد) للْحَال، وَتَحْرِيم مُبَاح الأَصْل لَيْسَ بنسخ.(6/3046)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر} مِنْهُم عَامَّة الْفُقَهَاء، والمتكلمين {تنسخ سنة بقرآن، وَعَن أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا لَا} مِثَاله: مَا كَانَ من تَحْرِيم مُبَاشرَة الصَّائِم أَهله لَيْلًا نسخ بقوله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم} [الْبَقَرَة: 187] كَمَا تقدم هُوَ وَغَيره.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع لذاته وَلَا لغيره؛ إِذْ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَتَحْرِيم الْمُبَاشرَة ليَالِي رَمَضَان، وَجَوَاز تَأْخِير صَلَاة الْخَوْف ثبتَتْ بِالسنةِ وَنسخت بِالْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاع.
احْتج الْمُخَالف بِأَن السّنة مبينَة للْكتاب فَكيف يبطل مبينه؟
وَلِأَن النَّاسِخ يضاد الْمَنْسُوخ وَالْقُرْآن لَا يضاد السّنة، وَمنع الْوُقُوع الْمَذْكُور.(6/3047)
وَأجِيب: بِأَن بعض السّنة مُبين لَهُ وَبَعضهَا مَنْسُوخ بِهِ.
قلت: حكى الْحَازِمِي قَوْلَيْنِ للْعُلَمَاء فِي أَن التَّوَجُّه للقدس هَل كَانَ بِالْقُرْآنِ أَو بِالسنةِ؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: بل القَوْل بِأَنَّهُ كَانَ بِالْقُرْآنِ هُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي، وَعَلِيهِ يدل قَوْله: {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا} [الْبَقَرَة: 143] الْآيَة.
فَإِن الضَّمِير فِي (جعلنَا) لله تَعَالَى، فَالظَّاهِر أَن الْجعل كَانَ بِالْقُرْآنِ، لَكِن فِيهِ نظر؛ فَإِن مَا فِي السّنة هُوَ من جعل الله تَعَالَى وَحكمه.
قَوْله: {وَيجوز عقلا نسخ قُرْآن بِخَبَر متواتر، قَالَه القَاضِي وَغَيره، وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد: لَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: يجوز عقلا نسخ قُرْآن بِخَبَر متواتر، قَالَه القَاضِي، وَقَالَ: ظَاهر كَلَام أَحْمد مَنعه، وَاخْتلفت الشَّافِعِيَّة.(6/3048)
قَالَ ابْن الباقلاني: مِنْهُم من مَنعه تبعا للقدرية فِي الْأَصْلَح. انْتهى.
وَمِمَّنْ قَالَ بِنَفْي الْجَوَاز الْعقلِيّ الْحَارِث المحاسبي، وَعبد الله بن سعيد، والقلانسي، وَغَيرهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ويروى - أَيْضا - عَن أَحْمد، وَهُوَ مَا ذكره القَاضِي ظَاهر كَلَام أَحْمد.
وَمِمَّنْ قَالَ بِالْجَوَازِ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَقيل: الْمُمْتَنع الْوُقُوع فَقَط، وَهُوَ الْمَفْهُوم من كَلَام الشَّافِعِي.(6/3049)
قَوْله: {وَلَا يجوز شرعا عِنْد أَحْمد فِي الْأَشْهر عَنهُ، وَابْن أبي مُوسَى، وَالْقَاضِي، والموفق، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه} ، والظاهرية، وَغَيرهم.
{وَعنهُ: بلَى، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء والمتكلمين، مِنْهُم الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، وَغَيرهم، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب، وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور.
{وَقَالَ ابْن عقيل، وَابْن حمدَان، وَحَكَاهُ} فِي " الْمُغنِي " {عَن الْأَصْحَاب} فِي حد الزِّنَا، {وَقع(6/3050)
وَقيل: لم يَقع، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب} .
اسْتدلَّ للْجُوَاز بِمَا سبق بِأَنَّهُ لَا يلْزم عَنهُ محَال.
وَأَيْضًا: {لتبين للنَّاس} [النَّحْل: 44] ، وللقطع بِأَن الْقَاطِع يرفع الْقَاطِع، وَلَا أثر للفصل ككلام النَّبِي المسموع مِنْهُ، والمتواتر.
وَاسْتدلَّ بِأَن: " لَا وَصِيَّة لوَارث " نسخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين ورجم الْمُحصن نسخ الْجلد.
أُجِيب: آحَاد، وبنسخ الْوَصِيَّة بِآيَة الْمِيرَاث، أَو بقوله بعْدهَا: {تِلْكَ حُدُود الله} [النِّسَاء: 13] إِلَى قَوْله: {وَمن يعْص} الْآيَة [النِّسَاء: 14] ، وَالْجَلد لم ينْسَخ، أَو دلّ عدم فعله على نَاسخ.
قَالُوا: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} .
أُجِيب: لَا عُمُوم، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل أَن مَا يَأْتِي هُوَ النَّاسِخ، وَلَا أَنه من جنس الْمَنْسُوخ، وَالْمرَاد حكم أَنْفَع للمكلف والجميع من الله.
رد: الْأَوَّلَانِ خلاف الظَّاهِر.
قَالَ ابْن عقيل: والمماثلة تَقْتَضِي إِطْلَاقهَا من كل وَجه. وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره مَعَ قَول بَعضهم قد تتفاوتان شدَّة كالحركتين والسوادين.
قَالَ الْجَوْهَرِي: مثل: كلمة تَسْوِيَة.(6/3051)
قَالُوا: {قل مَا يكون لي أَن أبدله} [يُونُس: 15] .
أُجِيب: أَي الْوَحْي، ثمَّ السّنة بِوَحْي، وَبِه يُجَاب عَن قَوْلهم الْقُرْآن أصل، ثمَّ الحكم الْمَنْسُوخ لَيْسَ أصلا.
قَالُوا: الْقُرْآن أقوى لإعجازه ويثاب بعد حفظه على تِلَاوَته بِخِلَاف السّنة.
قَالَ القَاضِي: بِلَا خلاف، فَلَا مماثلة، وَكَذَا ذكر ابْن عقيل وَغَيره: يُثَاب على تِلَاوَته دونهَا، وَاقْتصر بَعضهم على أَنَّهَا دونه.
رد: الْخلاف فِي الحكم، جزم بِهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي، وَغَيرهمَا، وَقَالَهُ فِي " التَّمْهِيد ".
لِأَن اللَّفْظ لَا يُمكن رَفعه إِلَّا أَن يَشَاء الله، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يجوز بِأَن يَقُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تقرؤوا هَذِه الْآيَة "، وَجزم القَاضِي بِهَذَا، وَأَن الْخلاف فِي الْجَمِيع، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل.
وَفِي " التَّمْهِيد ": بعض آيَة لَا إعجاز فِيهَا، وَيجوز نسخ آيَة فِيهَا إعجاز(6/3052)
بِآيَة لَا إعجاز فِيهَا، وَمن سلم اعْتبر الْمُمَاثلَة.
قَالُوا: عَن جَابر مَرْفُوعا: " كَلَامي لَا ينْسَخ كَلَام الله، وَكَلَام الله ينْسَخ كَلَامي، وَكَلَام الله ينْسَخ بعضه بَعْضًا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
رد: ذَلِك بِأَنَّهُ مَوْضُوع [فِيهِ] جبرون بن وَاقد.(6/3053)
(قَوْله: {فصل} )
{يعلم النّسخ بتأخره يَقِينا، وَفِي " الْمقنع " وَغَيره: أَو ظنا} .
إِذا تقرر أَن حكم النّسخ لَا يتَعَلَّق بالمكلف حَتَّى يعرفهُ، فَلَا بُد من بَيَان الطَّرِيق إِلَى مَعْرفَته، وَذَلِكَ بِأَن يعلم، أَو يظنّ أَنه مُتَأَخّر عَن دَلِيل الحكم الْمُقَرّر الَّذِي هُوَ ضِدّه، وَذَلِكَ الطَّرِيق من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن يعرف بِالْإِجْمَاع على أَن هَذَا نَاسخ لهَذَا، كالنسخ بِوُجُوب الزَّكَاة سَائِر الْحُقُوق الْمَالِيَّة.
وَمثله مَا ذكره الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: أَن زر بن حبيس قَالَ لِحُذَيْفَة:(6/3054)
أَي سَاعَة تسحرت مَعَ رَسُول الله؟ قَالَ: هُوَ النَّهَار إِلَّا أَن الشَّمْس لم تطلع، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على أَن طُلُوع الْفجْر يحرم الطَّعَام وَالشرَاب، مَعَ بَيَان ذَلِك من قَوْله تَعَالَى: {وكلوا وَاشْرَبُوا} الْآيَة [الْبَقَرَة: 187] .
قَالَ الْعلمَاء فِي مثل هَذَا: إِن الْإِجْمَاع مُبين للمتأخر، وَأَنه نَاسخ؛ لَا أَن الْإِجْمَاع هُوَ النَّاسِخ.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن يَقُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هَذَا نَاسخ لذَلِك، أَو هَذَا بعده، أَو مَا فِي معنى ذَلِك كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ".
الْوَجْه الثَّالِث: أَن ينص الشَّارِع على خلاف مَا كَانَ مقررا بِدَلِيل بِحَيْثُ لَا يُمكن الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ على تَأَخّر أَحدهمَا فَيكون نَاسِخا للمتقدم وَهُوَ كثير، وَهُوَ قريب من الثَّانِي.
الْوَجْه الرَّابِع: فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، {وَاخْتَارَهُ(6/3055)
القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} .
وَقد جعل الْعلمَاء من ذَلِك نسخ الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار بِأَكْلِهِ من الشَّاة وَلم يتَوَضَّأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه ابْن قَاضِي الْجَبَل.
وَحكى القَاضِي عَن التَّمِيمِي منع نسخ القَوْل بِالْفِعْلِ، وَكَذَا منع ابْن عقيل نسخ القَوْل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَن دلَالَته دونه، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الْمجد فِي " المسودة ".
الْوَجْه الْخَامِس: أَن يَقُول الرَّاوِي، رخص لنا فِي كَذَا ثمَّ نهينَا عَنهُ، كَقَوْلِه: رخص لنا فِي الْمُتْعَة، ثمَّ نهينَا عَنْهَا.
أَو يَقُول الرَّاوِي: هَذَا مُتَأَخّر الْوُرُود عَن الأول، فَيكون نَاسِخا لَهُ، وَذَلِكَ كَقَوْل جَابر - رَضِي الله عَنهُ -: كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ترك الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار.(6/3056)
وَقَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقيامِ للجنازة ثمَّ قعد.
وَفِي معنى ذَلِك كثير.
فَإِن قيل: قَول الرَّاوِي هَذَا ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن أَو غَيره من السّنة المتواترة على تَقْدِير وجودهَا مَعَ أَنه خبر آحَاد، والآحاد لَا ينْسَخ بِهِ الْمُتَوَاتر.
قيل: هَذَا حِكَايَة للنسخ لَا نسخ، والحكاية بالآحاد يجب الْعلم بهَا كَسَائِر أَخْبَار الْآحَاد.
وَأَيْضًا: فاستفادة النّسخ من قَوْله إِنَّمَا هُوَ بطرِيق التضمن والضمني يغْتَفر فِيهِ مَا لَا يغْتَفر فِيمَا إِذا كَانَ أصلا كَمَا فِي مسَائِل كَثِيرَة أصولية وفقهية، كثبوت الشُّفْعَة فِي الشّجر تبعا للعقار، وَنَحْوه.
قَوْله: {وَلَا يقبل قَوْله: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة حَتَّى يبين النَّاسِخ. أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد كالحنفية وَالشَّافِعِيَّة، وَعنهُ: بلَى،(6/3057)
كالكرخي، وَأبي الْخطاب، وَقَالَ الْمجد إِن كَانَ هُنَاكَ نَص يُخَالِفهَا قبل قَوْله} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَإِن قَالَ صَحَابِيّ: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة لم يقبل حَتَّى يخبر بِمَاذَا نسخت.
قَالَ القَاضِي: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد كَقَوْل الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، قَالُوا فِي ذَلِك؛ لِأَنَّهُ قد يكون عَن اجْتِهَاد فَلَا يقبل.
وَذكر ابْن عقيل رِوَايَة أَنه يقبل كَقَوْل بَعضهم؛ لعلمه فَلَا احْتِمَال؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُول غَالِبا إِلَّا عَن نقل.
وَقَالَ الْمجد ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": إِن كَانَ هُنَاكَ نَص يُخَالِفهَا عملا بِالظَّاهِرِ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَذكر الْبَاجِيّ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال:(6/3058)
عدم الْقبُول حَتَّى يبين النَّاسِخ، وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ قَول الباقلاني، والسمناني.
وَالثَّانِي: إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ.
وَالثَّالِث: يَقع النّسخ بِكُل حَال.
قَوْله: {كَقَوْلِه: نزلت هَذِه بعد هَذِه، ذكره القَاضِي وَغَيره، وَمنعه الْآمِدِيّ، وَتردد بَعضهم، وَقيل: إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ، وَإِلَّا وَقع} . هَذَا الْقيَاس فِي قَوْلنَا كَقَوْلِه لَيْسَ مِثَال لما تقدم، وَإِنَّمَا هُوَ أصل قيس عَلَيْهِ القَوْل الَّذِي قبله، وَالله أعلم.
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه الْآيَة بعد هَذِه قبل قَوْله، ذكره القَاضِي وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر قَول من سبق، وَجزم بِهِ الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَجزم الْآمِدِيّ بِالْمَنْعِ لتَضَمّنه نسخ متواتر بآحاد.(6/3059)
وَذكره بَعضهم ترددا للْعلم بنسخ أَحدهمَا، وَخبر الْوَاحِد معِين للناسخ.
وَذكر الْبَاجِيّ الْمَالِكِي قولا إِن ذكر النَّاسِخ لم يَقع بِهِ نسخ، وَإِلَّا وَقع.
قَوْله: {وَهَذَا الْخَبَر مَنْسُوخ كالآية} ، وَهَذَا الصَّحِيح قدمه ابْن مُفْلِح، وَغَيره، وَجزم أَبُو الْخطاب بِأَنَّهُ يقبل، كالرواية الثَّانِيَة الَّتِي ذكرهَا ابْن عقيل فِي قَوْله هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة.
{وَقَالَ القَاضِي} : خبر الْوَاحِد إِذا أخبر بِهِ صَحَابِيّ، وَقَالَ: مَنْسُوخ، {يقبل عِنْد من جوز رِوَايَة الْخَبَر بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا} .
قَوْله: {وَكَانَ كَذَا وَنسخ يقبل فِي قِيَاس الْمَذْهَب، قَالَه الْمجد، وَالْحَنَفِيَّة} ، وَهَذَا أولى بِالصِّحَّةِ من الَّذِي قبله.
{وَقَالَ ابْن برهَان: لَا يقبل عندنَا، وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ} .
قَوْله: {وَلَا يثبت بقبليته فِي الْمُصحف} ؛ لِأَن الْعبْرَة بالنزول لَا بالترتيب(6/3060)
فِي الْوَضع؛ لِأَن النُّزُول بِحَسب الحكم وَالتَّرْتِيب للتلاوة.
قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة مَنْسُوخَة متلوة قبل الناسخة إِلَّا آيتي الْعدة.
قلت: وَآيَة فِي الْأَحْزَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك} الْآيَة [الْأَحْزَاب: 50] ، ناسخة لقَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} [الْأَحْزَاب: 52] فَهِيَ مَنْسُوخَة، وَهِي بعد الْآيَة الناسخة.
وَهَذَا الَّذِي قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وعاكسه ابْن حمدَان فِي " رعايته ".
قَوْله: {وَلَا بصغر صَحَابِيّ، أَو تَأَخّر إِسْلَامه، خلافًا للموفق والرازي فِيهِ} ؛ لِأَن صغر الصَّحَابِيّ لَا يُؤثر فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ تَأَخّر إِسْلَامه؛ لِأَن تَأَخّر رَاوِي أحد الدَّلِيلَيْنِ لَا يدل على أَن مَا رَوَاهُ نَاسخ للْآخر لجَوَاز أَن تحمله قبل الْإِسْلَام.
قَوْله: {وَلَا بموافقة الأَصْل} ، إِذا ورد نصان - فِي حكم - متضادان(6/3061)
وَلم يُمكن الْجمع بَينهمَا، لَكِن أحد النصين مُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة، وَالْآخر مُخَالف، فَزعم بَعضهم أَن ذَلِك الَّذِي خَالف الأَصْل وَلم يُوَافق نَاسخ للَّذي وَافق؛ لِأَن الْمُخَالف اسْتَفَادَ من الشَّرْع وَهُوَ المضاد للبراءة الْأَصْلِيَّة؛ لِأَن الِانْتِقَال من الْبَرَاءَة لاشتغال الذِّمَّة يَقِين، وَالْعود إِلَى الْإِبَاحَة ثَانِيًا شكّ فَقدم ذَلِك الَّذِي لم يُوَافق الأَصْل.
قيل: لَكِن هَذَا بِنَاء على أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: وَفِيه نظر، فَإنَّا وَلَو قُلْنَا بِأَن الأَصْل التَّحْرِيم وَكَانَ أحد النصين تَحْرِيمًا، وَالْآخر إِبَاحَة صدق أَن التَّحْرِيم مُوَافق للْأَصْل إِلَّا أَن تفرض الْمَسْأَلَة فِي خُصُوص الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَلَا يَجْعَل ذَلِك مِثَالا فَقَط.
قَوْله: {وَلَا بعقل وَقِيَاس} ؛ لِأَنَّهُ لَا يكون نَاسِخا إِلَّا بتأخره عَن زمَان الْمَنْسُوخ، وَلَا يدْخل الْعقل، وَلَا الْقيَاس فِي معرفَة الْمُتَقَدّم من الْمُتَأَخر، بل إِنَّمَا يعرف بِالنَّقْلِ الْمُجَرّد، لَا غير أَو المشوب باستدلال عَقْلِي كالإجماع على أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ.(6/3062)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ وَلَا ينْسَخ بِهِ} .
لما انْتهى من الْكَلَام فِي نسخ الْقُرْآن وَالسّنة شرعنا فِي نسخ الْإِجْمَاع والنسخ بِهِ.
فَأَما الْإِجْمَاع فَإِنَّهُ لَا ينْسَخ، وَذَلِكَ وَاضح الْمَنْع؛ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى ينسخه، وَإِذا وَقع بعد وَفَاته فَلَا يُمكن أَن يَأْتِي بعده نَاسخ.
وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع [لشَيْء] مِمَّا سبق من كتاب أَو سنة فَيَقَع صُورَة لَكِن فِي الْحَقِيقَة حَيْثُ وجد إِجْمَاع على خلاف نَص فَيكون قد تضمن نَاسِخا لَا أَنه هُوَ النَّاسِخ؛ وَلِأَن الْإِجْمَاع مَعْصُوم من مُخَالفَة دَلِيل شَرْعِي لَا معَارض لَهُ وَلَا مزيل عَن دلَالَته فَتعين إِذا وَجَدْنَاهُ خَالف شَيْئا أَن ذَلِك إِمَّا غير(6/3063)
صَحِيح إِن أمكن ذَلِك أَو أَنه مؤول أَو نسخ بناسخ؛ لِأَن إِجْمَاعهم حق فالإجماع دَلِيل على النّسخ لَا رَافع للْحكم.
كَمَا قَرَّرَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، والصيرفي، والأستاذ أَبُو مَنْصُور، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ؛ لِأَنَّهُ إِن نسخ بِنَصّ أَو إِجْمَاع قاطعين فَالْأول خطأ. وَهُوَ بَاطِل، وَإِلَّا فالقاطع يقدم.
قَالُوا: أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ فَهِيَ اجتهادية إِجْمَاعًا، فَلَو اتَّفقُوا على أَحدهمَا كَانَ نسخا لحكم الْإِجْمَاع.
رد: بِمَنْع انْعِقَاد إِجْمَاع ثَان، ثمَّ شَرط الْإِجْمَاع الأول عدم إِجْمَاع ثَان فَانْتفى لانْتِفَاء شَرطه.
ثمَّ قَالَ: الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن نَص فَهُوَ النَّاسِخ، وَإِن كَانَ عَن قِيَاس فالمنسوخ إِن كَانَ قَطْعِيا فالإجماع خطأ لانعقاده بِخِلَافِهِ، وَإِن كَانَ ظنيا زَالَ شَرط الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ رجحانه على معارضه الَّذِي هُوَ سَنَد الْإِجْمَاع، وَإِلَّا يكون الْإِجْمَاع خطأ، وَمَعَ زَوَاله لَا ثُبُوت لَهُ فَلَا نسخ.(6/3064)
قَالُوا: مَا سبق فِي أقل الْجمع من قَول ابْن عَبَّاس لعُثْمَان ورده عَلَيْهِ.
أُجِيب: حجب الْأُم عَن الثُّلُث إِنَّمَا يكون نسخا لَو ثَبت الْمَفْهُوم وَأَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا بإخوة قطعا، فَيجب تَقْدِير نَص دلّ على حجبها عَن الثُّلُث، وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاع خطأ، فالنص النَّاسِخ. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا نسخ بِالْقِيَاسِ، وَجوزهُ بِهِ جمع إِن نَص على علته، وَجمع بِقِيَاس جلي، وَقوم فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَطَائِفَة مَا خص ينْسَخ وَنقض} .(6/3065)
لما فرغت من النّسخ الْمُتَعَلّق بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع شرعت فِي الْمُتَعَلّق بِالْقِيَاسِ، وَفِيه مَسْأَلَتَانِ: النّسخ بِهِ، والنسخ لَهُ.
أما النّسخ بِهِ - وَهِي مَسْأَلَتنَا - فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْسَخ بِالْقِيَاسِ، وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَاخْتَارَهُ ابْن الباقلاني، وَنَقله عَن الْفُقَهَاء والأصوليين.
قَالَ: لِأَن الْقيَاس يسْتَعْمل مَعَ عدم النَّص فَلَا ينْسَخ النَّص؛ وَلِأَنَّهُ دَلِيل مُحْتَمل، والنسخ إِنَّمَا يكون بِغَيْر مُحْتَمل.
وَأَيْضًا: فَشرط صِحَة الْقيَاس أَن لَا يُخَالف الْأُصُول، فَإِن خَالف فسد.
قَالَ: بل، وَلَا ينْسَخ قِيَاسا آخر؛ لِأَن الْعَارِض إِن كَانَ بَين أُصَلِّي القياسين فَهُوَ نسخ نَص بِنَصّ، وَإِن كَانَ بَين العلتين فَهُوَ من بَاب الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع، لَا من بَاب الْقيَاس.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه هَذَا القَوْل أَن الْمَنْسُوخ إِن كَانَ قَطْعِيا لم ينْسَخ بمظنون، وَإِن كَانَ ظنيا فَالْعَمَل بِهِ مُقَيّد برجحانه على معارضه وَتبين(6/3066)
بِالْقِيَاسِ زَوَال [شَرط] الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ رجحانه فَلَا ثُبُوت لَهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن كَانَت علته منصوصة جَازَ النّسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْبَاجِيّ: هَذَا هُوَ الْحق.
وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ الْآمِدِيّ: إِن كَانَت منصوصة جَازَ، وَإِلَّا فَإِن كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا كقياس الْأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة فَهُوَ مقدم، لَكِن لَا من بَاب النّسخ، أَو كَانَ ظنيا بِأَن كَانَت علته مستنبطة فَلَا.
وَسَبقه إِلَى هَذَا التَّفْصِيل صَاحب المصادر.
وَالْقَوْل الرَّابِع: ينْسَخ بالجلي، لَا بالخفي، حَكَاهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور عَن الْأنمَاطِي، وَحَكَاهُ صَاحب المصادر عَن ابْن سُرَيج، وَحَكَاهُ ابْن(6/3067)
برهَان عَن أَصْحَابه، وَكَذَا حَكَاهُ الْبَاجِيّ عَنهُ، لَكِن قَالَ: إِنَّه رَجَعَ إِلَى القَوْل بِالْمَنْعِ مُطلقًا؛ لِأَن الْجَلِيّ عِنْده من بَاب الفحوى وَهُوَ جَار مجْرى النَّص فَلَيْسَ نسخا بِقِيَاس.
القَوْل الْخَامِس: إِن كَانَ فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَازَ.
قَالَ الْهِنْدِيّ: على الْأَصَح، بل هُوَ مَحل الْخلاف، وَإِن كَانَ بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يجوز قطعا.
القَوْل السَّادِس: إِن كل مَا خص الْعُمُوم نسخ. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَعَن طَائِفَة مَا جَازَ التَّخْصِيص بِهِ جَازَ النّسخ، وَنقض بِالْعقلِ والحس. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَمثله ابْن عقيل بِأَن ينص على إِبَاحَة التَّفَاضُل فِي الْأرز بالأرز فَإِنَّهُ لَا ينْسَخ بالمستنبطة من نَهْيه عَن بيع الْأَعْيَان السِّتَّة، أَو عَن بعض الطَّعَام مثلا بِمثل.
القَوْل السَّابِع: الْجَوَاز مُطلقًا حَتَّى ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن، وَالسّنة المتواترة، كَمَا فِي التَّخْصِيص، وَلَكِن الْفرق ظَاهر؛ لِأَن التَّخْصِيص بَيَان، والنسخ رفع.(6/3068)
وَجرى التَّاج السُّبْكِيّ على القَوْل الضَّعِيف.
وَهَذَا القَوْل هُوَ المنطوي فِي قَوْلنَا (أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) فَهَذَا القَوْل ضِدّه.
القَوْل الثَّامِن: إِن الْقيَاس ينْسَخ بِهِ الْآحَاد فَقَط، لَا الْمُتَوَاتر. وَهُوَ فَاسد أَيْضا؛ لِأَن الْمعَارض الْمَانِع من الْقيَاس لَا فرق فِيهِ بَين الْمُتَوَاتر والآحاد.
القَوْل التَّاسِع: حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان وَغَيره عَن الْأنمَاطِي إِن الْقيَاس الْمُسْتَخْرج من الْقُرْآن ينْسَخ بِهِ الْقُرْآن، والمستخرج من السّنة تنسخ بِهِ السّنة.
فَهَذِهِ تِسْعَة آراء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا أَن يكون القَوْل السَّادِس هُوَ السَّابِع.
قَوْله: {أما الْقيَاس فَلَا ينْسَخ، ذكره القَاضِي، وَحكي عَن الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَابْن برهَان،(6/3069)
إِلَّا أَن يثبت فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنصه على الْعلَّة أَو تنبيهه فَيجوز.
والموفق: مَا يثبت بِقِيَاس نَص على علته ينْسَخ وينسخ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقيل: يجوز، والآمدي وَجمع بِقِيَاس أمارته أقوى، وَقوم: يكون تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: أما الْقيَاس فَلَا ينْسَخ، ذكره القَاضِي، وَذكره الْآمِدِيّ عَن أَصْحَابنَا لبَقَائه بِبَقَاء أَصله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: مَنعه بعض أَصْحَابنَا، وَعبد الْجَبَّار فِي قَول محتجين بِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ مستنبطا من أصل، فَالْقِيَاس بَاقٍ بِبَقَاء أَصله، فَلَا يتَصَوَّر رفع حكمه مَعَ بَقَاء أَصله، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَمِنْهُم من جوز ذَلِك فِي الْقيَاس الْمَوْجُود زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون مَا بعده، وَهُوَ(6/3070)
اخْتِيَار أبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَابْن برهَان، وَابْن الْخَطِيب، قَالَ أَبُو الْخطاب: مَا ثَبت قِيَاسا فإمَّا فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنصه على الْعلَّة أَو تنبيهه عَلَيْهَا فَيجوز نسخه بنصه أَيْضا.
مِثَاله: أَن ينص على تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْبر، وينص على أَن عِلّة تَحْرِيمه الْكَيْل، ثمَّ ينص بعد ذَلِك على إِبَاحَته فِي الْأرز، وَيمْنَع من قِيَاسه على الْبر، فَيكون ذَلِك نسخا، وَإِمَّا قِيَاس مُسْتَفَاد بعد وَفَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَا يَصح نسخه؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَتَجَدَّد بعد وَفَاته نَص من كتاب أَو سنة. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: يجوز عِنْد الْجُمْهُور فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا فِيمَا بعده، فَينْسَخ، إِمَّا بِنَصّ، أَو قِيَاس آخر لَا بِإِجْمَاع لعدم انْعِقَاده.
وَهَذَا القَوْل غير قَول أبي الْخطاب.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وَأَيْضًا يجوز نسخه بِقِيَاس أمارته أقوى من أَمارَة الأول.(6/3071)
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَقَالَ: إِلَّا أَن من ذهب إِلَيْهِ بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ بَان ناسخه نتبين أَنه كَانَ مَنْسُوخا، قَالَ: وَسَوَاء قُلْنَا كل مُجْتَهد مُصِيب، أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَكَذَا لم يفرق أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: من لم يقل بِهِ لَا يَقُول بتعبده بِالْقِيَاسِ الأول فرفعه لَا يعلم، وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا ثَبت بِالْقِيَاسِ إِن نَص على علته فكالنص ينْسَخ وينسخ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ ابْن عقيل - لما قَالَ: كَقَوْل أبي الْخطاب -: وَإِن قوما قَالُوا: يكون تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ بالطعم فِي الْبر. انْتهى.
وَهِي القَوْل الَّذِي حكيناه، وَقَالَ عبد الْجَبَّار أَيْضا يجوز نسخه.
قَوْله: {وَلَو نسخ حكم الأَصْل تبعه حكم الْفَرْع عِنْد أَصْحَابنَا(6/3072)
وَالشَّافِعِيَّة، وَخَالف القَاضِي وَالْحَنَفِيَّة، وَاخْتَارَ الْمجد إِن نَص على الْعلَّة يتبعهُ الْفَرْع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فَيثبت النّسخ} .
إِذا ورد النّسخ على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ ارْتَفع الْقيَاس عَلَيْهِ بالتبعية عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة، وَخَالف فِي ذَلِك القَاضِي وَالْحَنَفِيَّة.
قَالَ القَاضِي فِي إِثْبَات الْقيَاس عقلا: لَا يمْتَنع عندنَا بَقَاء حكم الْفَرْع مَعَ نسخ حكم الأَصْل.
وَمثله أَصْحَابنَا - وَذكره ابْن عقيل عَن الْمُخَالف أَيْضا - بِبَقَاء حكم النَّبِيذ الْمَطْبُوخ فِي الْوضُوء بعد نسخ النيء، وَصَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار بعد نسخ عَاشُورَاء عِنْدهم.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَعِنْدِي إِن كَانَت الْعلَّة مَنْصُوصا عَلَيْهَا لم(6/3073)
يتبعهُ الْفُرُوع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فَيثبت النّسخ حَيْثُ وجدت. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْمَنْسُوخ عِنْدهم تَجْوِيز شربه فتبعته الطّهُورِيَّة فَإِنَّهَا نفس الْمَسْأَلَة وَقَالَ: جَازَ الْوضُوء بهما، ثمَّ حرم الأَصْل فَالْمَعْنى النَّاسِخ اخْتصَّ بِهِ. قَالَ: وَالصَّحِيح فِي الثَّانِيَة أَن ذَلِك لَا يُوجب نسخ ذَلِك الحكم، والمنسوخ وجوب صَوْم عَاشُورَاء فَسقط إجزاؤه بنية من النَّهَار لعدم الْمحل، فَأَما كَون الْوَاجِب يُجزئ بنية من النَّهَار فَلم يتَعَرَّض لنسخه.
وَقَالَ أَيْضا: التَّحْقِيق أَن هَذَا من بَاب نسخ الأَصْل نَفسه لَا حكمه، فَالْمَسْأَلَة ذَات صُورَتَيْنِ: نسخ حكم الأَصْل، وَهنا يظْهر أَن تتبعه الْفُرُوع المتشعبة الأَصْل، وَأما نسخ نفس الأَصْل الَّذِي هُوَ حكم، هَل هُوَ نسخ لصفاته؟ انْتهى.
وَضعف أَيْضا فِي " الِانْتِصَار ". منع أَصْحَابنَا من نسخ عَاشُورَاء وَبَقَاء حكمه فِي رَمَضَان فَإِنَّهُ إِذا ثَبت جَوَاز النِّيَّة نَهَارا فِي صَوْم وَاجِب لَا يَزُول بِنَقْل الْوَاجِب من مَحل إِلَى مَحل، وزمن إِلَى زمن.
وَفرق ابْن عقيل وَغَيره بِأَن رَمَضَان وجد سَبَب إِيجَابه قبل شُرُوعه فِيهِ فالنية فِيهِ كَحكم وَضعهَا فِي كل وَاجِب. وَإِن قُلْنَا بقول أَصْحَابنَا ومحققي(6/3074)
الشَّافِعِيَّة إِن عَاشُورَاء كَانَ نفلا فَوَاضِح.
قَالَ: وَيُشبه نسخ نفس الأَصْل قرعَة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا لَا تجوز فِي شرعنا؛ لِأَن المذنب لَو عَرفْنَاهُ لم نتلفه، فَهَل نسخ الْقرعَة فِي هَذَا الأَصْل نسخ لجنس الْقرعَة؟ قد احْتج أَصْحَابنَا بهَا على الْقرعَة وقرعة زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام، كَانُوا أجانب، وَكَانَ لَهُم فِي شرعهم ولَايَة حضَانَة المحررة، فارتفاع الحكم فِي غير الأَصْل لارْتِفَاع الأَصْل لَا يكون رفعا لَهُ فِي مثل ذَلِك الأَصْل إِذا وجد.
قَالَ: وَمثله نَهْيه لِمعَاذ عَن الْجمع بَين الائتمام وإمامة قومه إِذا كَانَ للتطويل عَلَيْهِم، هَل هُوَ نسخ لما دلّ الْجمع عَلَيْهِ من ائتمام مفترض بمتنفل؟(6/3075)
وَذكر فِي " التَّمْهِيد " فِي آخر مَسْأَلَة الْقيَاس مَا سبق عَن الْأَصْحَاب احْتِمَالا، ثمَّ سلم. وَاخْتَارَ بعض أَصْحَابنَا إِن نَص على الْعلَّة لم يتبعهُ الْفَرْع إِلَّا أَن يُعلل فِي نسخه بعلة فيتبعها النّسخ.
وَجه الأول: خُرُوج الْعلَّة عَن اعْتِبَارهَا فَلَا فرع وَإِلَّا وجد الْمَعْلُول بِلَا عِلّة.
فَإِن قيل: أَمارَة فَلم يحْتَج إِلَيْهَا دواما.
رد: باعثة.
قَالُوا: الْفَرْع تَابع للدلالة، لَا للْحكم.
رد: زَالَ الحكم بِزَوَال حكمته.
وَفِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: لَا يُسمى نسخا كزوال حكمه بِزَوَال علته.
وَمَعْنَاهُ فِي " الْعدة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِذا ورد النّسخ على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ ارْتَفع الْقيَاس مَعَه بالتبعية، والمخالف فِيهِ الْحَنَفِيَّة جوزوا صَوْم رَمَضَان بنية من النَّهَار بِالْقِيَاسِ على مَا كَانَ فِي صَوْم يَوْم عَاشُورَاء من الِاكْتِفَاء نِيَّة من النَّهَار حِين(6/3076)
كَانَ وَاجِبا على معتقدهم ذَلِك مَعَ زَوَال فرضيته بالنسخ، وأبقوا الْفَرْع على حَاله، لَكِن لَيْسَ هَذَا نسخا للْقِيَاس، بل رفض لنَصّ فَلَا يكون إِلَّا بِنَصّ؛ لِأَن النَّص لَا ينْسَخ بِقِيَاس.
قَالَ: وَمَا أحسن تَعْبِير ابْن الْحَاجِب عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله: الْمُخْتَار أَن نسخ حكم أصل الْقيَاس لَا يبْقى حكم الْفَرْع، فَعبر بقوله: لَا يبْقى وَلم يعبر بالنسخ كَمَا وَقع فِي كَلَام بَعضهم، وَلَيْسَ بجيد؛ لِأَن الحكم إِذا زَالَ بِزَوَال علته لَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ. انْتهى.(6/3077)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة، والمعظم ينْسَخ بالفحوى، وَقيل: لَا} .
قد سبق فِي بَاب الْمَفْهُوم أَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة، هُوَ مَا يكون الْمَسْكُوت عَنهُ مُوَافقا للمذكور فِي حكمه، وَسبق فِي طَرِيق دلَالَته أَقْوَال:
أَحدهَا: بطرِيق الْمَفْهُوم وَهُوَ المُرَاد هُنَا فِي نسخه والنسخ بِهِ لَا على قَول أَنه بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن ذَلِك دَاخل فِي قَاعِدَة النّسخ للْقِيَاس بِهِ، وَلَا على أَن دلَالَته مجازية بِقَرِينَة، وَلَا على أَنه نقل اللَّفْظ لَهَا عرفا.
إِذا علم ذَلِك فالنسخ إِمَّا أَن يتَوَجَّه على الفحوى، أَو على أَصله، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ التَّعَرُّض لبَقَاء الآخر، أَو مَعَ عدم التَّعَرُّض لذَلِك، وَإِمَّا أَن ينسخا مَعًا، وَإِمَّا أَن يكون النّسخ بالفحوى، فَهَذِهِ سِتّ مسَائِل.(6/3078)
وكلامنا هُنَا هُوَ نسخ الفحوى من غير تعرض لبَقَاء الأَصْل، أَو رَفعه، والنسخ بِهِ، فَقَالَ ابْن مُفْلِح: الفحوى ينْسَخ وينسخ بِهِ، ذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، وَفِي " التَّمْهِيد " الْمَنْع عَن بعض الشَّافِعِيَّة، وَذكره فِي " الْعدة " عَن الشَّافِعِيَّة، قَالَ فِيمَا حَكَاهُ الإِسْفِرَايِينِيّ: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا. لنا: أَنه كالنص وَإِن قيل: قِيَاس، فقطعي. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ عَن الْمَسْأَلَة الأولى: من الْعلمَاء من منع ذَلِك.
وَقَالَ عَن الثَّانِيَة: وَهُوَ النّسخ بِهِ. انتقد على الإِمَام، والآمدي ادعاؤهما الِاتِّفَاق على الْجَوَاز، فقد حكى الْخلاف أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع " بِنَاء على [أَن] الفحوى قِيَاس، وَالْقِيَاس لَا ينْسَخ النَّص.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قلت: فَإِن كَانَت حكايته الِاتِّفَاق بِنَاء على أَنه لَيْسَ(6/3079)
من بَاب الْقيَاس فَلَا انتقاد عَلَيْهِمَا بِالْمَنْعِ تَفْرِيعا على أَنه قِيَاس، وَقد نَص الباقلاني على الْمَنْع أَيْضا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق. انْتهى.
قَوْله: {وَيجوز نسخ أصل الفحوى كالتأفيف دونه كالضرب عِنْد القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر، وَغَيرهم، وَمنعه الْمُوفق، والطوفي، والأثر} .
يجوز نسخ أصل الفحوى كالتأفيف، كَمَا لَو قَالَ: رفعت عَنْك تَحْرِيم التأفيف دون بَقِيَّة أَنْوَاع الْإِيذَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من إِبَاحَته الْخَفِيف إِبَاحَة الشَّديد. وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلى، وَابْن عقيل، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ، وَحكى عَن الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم.(6/3080)
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَتَبعهُ الطوفي بِالْمَنْعِ، وَذكره الْآمِدِيّ قَول الْأَكْثَر وَذَلِكَ لِأَن الْفَرْع يتبع الأَصْل، فَإِذا ارْتَفع الأَصْل فَكيف يبْقى الْفَرْع؟
قَوْله: {وَيجوز عَكسه، فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَمنعه الْمجد، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم} .
عَكسه هُوَ نسخ الفحوى وَهُوَ - مثلا - الضَّرْب دون أَصله وَهُوَ التأفيف كَمَا لَو قَالَ: رفعت تَحْرِيم كل إِيذَاء غير التأفيف، فَيجوز فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُتَكَلِّمين، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَلِأَن الفحوى وَأَصله مدلولان متغايران فَجَاز نسخ كل مِنْهُمَا.
وَمنع الْمجد، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن(6/3081)
الْحَاجِب، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ مَنْقُول عَن أَكثر الْفُقَهَاء، وَحكي عَن الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَاخْتلف كَلَام عبد الْجَبَّار المعتزلي.
قيل: وَلَعَلَّ مأخذه أَن دلَالَته لفظية، أَو قياسية.
وَمنع بَعضهم هُنَا، وَإِن لم يمْنَع فِي الَّتِي قبلهَا؛ لِأَن تَحْرِيم التأفيف يسْتَلْزم تَحْرِيم الضَّرْب لِأَنَّهُ مَعْلُوم مِنْهُ وجوازه لَا يسْتَلْزم جَوَازه؛ لِأَنَّهُ أَكثر أَذَى.
قَالُوا: دلالتان فَجَاز رفع كل مِنْهُمَا.
رد: بِمَنْعه مَعَ الاستلزام لِامْتِنَاع بَقَاء ملزوم بِدُونِ لَازمه.
قَالُوا: الفحوى تَابع لأصله فيرتفع بِهِ.
رد: لدلَالَة الْمَنْطُوق على حكمه، لَا لحكمه، ودلالته بَاقِيَة.
قَوْله: {وَقيل: نسخ أَحدهمَا يسْتَلْزم الآخر.
وَقيل: هُنَا} . قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: نسخ الأَصْل يسْتَلْزم نسخ الفحوى وَعَكسه؛ لِأَن نفي اللَّازِم يسْتَلْزم نفي الْمَلْزُوم. انْتهى.(6/3082)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِلَّا أَنه لم يسْتَدلّ إِلَّا لإحدى الْمَسْأَلَتَيْنِ دون الْأُخْرَى، وَهِي أَن نسخ الأَصْل يلْزم مِنْهُ رفع الفحوى، لَكِن دليلها أَن الفحوى تَابع وَالْأَصْل متبوع، فَإِذا رفع الْمَتْبُوع ارْتَفع التَّابِع.
وَهَذَا الَّذِي رَجحه فيهمَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَر.
لذَلِك قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَالْأَكْثَر أَن نسخ أَحدهمَا يسْتَلْزم الآخر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي الْحَقِيقَة المسألتان مفرعتان على الْجَوَاز فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الأولتين؛ لأَنا إِذا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عِنْد التَّقْيِيد بِبَقَاء الآخر فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يعْمل بالاستلزام لعدم مَا يَقْتَضِي خِلَافه، على أَن الرَّازِيّ قد جزم بِأَن نسخ الأَصْل يسْتَلْزم، وَأما استلزام نسخ الفحوى نسخ الأَصْل فنقله عَن اخْتِيَار أبي الْحُسَيْن، وَسكت عَلَيْهِ، فَيحْتَمل أَنه مُوَافقَة، وَلِهَذَا جرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَيحْتَمل أَنه ذكره على وَجه التَّضْعِيف فَيكون من الْقَائِلين بالتفصيل.(6/3083)
وَأما الْآمِدِيّ فَقَالَ: وَالْمُخْتَار أَن تَحْرِيم الضَّرْب فِي مَحل السُّكُوت إِن جَعَلْنَاهُ من بَاب الْقيَاس فنسخ الأَصْل يُوجب نسخ الْفَرْع؛ لِاسْتِحَالَة بَقَاء الْفَرْع بِدُونِ الأَصْل، وَإِن جَعَلْنَاهُ بِدلَالَة اللَّفْظ فَلَا شكّ أَن إِحْدَى الدلالتين المختلفتين [بِاللَّفْظِ وَالْأُخْرَى بالفحوى، وهما مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يلْزم من رفع إِحْدَى الدلالتين المختلفتين] رفع الْأُخْرَى فَيكون قولا بِعَدَمِ الاستلزام فِي المحلين.
ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: الفحوى تَابع فَكيف يبْقى مَعَ ارْتِفَاع الْمَتْبُوع؟
قيل: التّبعِيَّة إِنَّمَا هِيَ فِي الدّلَالَة فِي الحكم، والنسخ إِنَّمَا [هُوَ] وَارِد على الحكم فقد يرْتَفع الحكم وَالدّلَالَة بَاقِيَة. انْتهى.
قَالَ الْمحلي فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَقيل: نسخ الفحوى لَا يسْتَلْزم نظرا إِلَى أَنه تَابع بِخِلَاف نسخ الأَصْل، وَقيل: نسخ الأَصْل لَا يسْتَلْزم نظرا إِلَى أَنه ملزوم بِخِلَاف نسخه الفحوى.
قَالَ ابْن برهَان: نسخ الفحوى يسْتَلْزم نسخ أَصله وَلَا عكس.
قَالَ فِي " الْأَوْسَط ": وَالْمذهب.(6/3084)
ثمَّ قَالَ الْمحلي: وَاعْلَم أَن استلزام كل مِنْهُمَا للْآخر يُنَافِي مَا صَححهُ فِي " جمع الْجَوَامِع " من جَوَاز نسخ كل مِنْهُمَا دون الآخر، فَإِن الِامْتِنَاع مَبْنِيّ على الاستلزام، وَالْجَوَاز مَبْنِيّ على عَدمه، وَقد اقْتصر ابْن الْحَاجِب على الْجَوَاز مَعَ مُقَابِله، والبيضاوي على الاستلزام، وَجمع المُصَنّف بَينهمَا، كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من قَول الْآمِدِيّ: وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز نسخ الأَصْل دون الفحوى والفحوى دون الأَصْل غير أَن الْأَكْثَر على أَن نسخ الأَصْل يُفِيد نسخ الفحوى. إِلَى آخِره الْمُشْتَمل على الْعَكْس أَيْضا فَكَأَنَّهُ سرى إِلَى ذهن المُصَنّف من غير تَأمل أَن الْخلاف الثَّانِي مُفَرع على الْجَوَاز من الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ بل هُوَ بَيَان لمأخذ الأول الْمُفِيد أَن الْأَكْثَر على الِامْتِنَاع فيتأمل. انْتهى.
قَوْله: {وَلَو ثَبت حكم مَفْهُوم الْمُخَالفَة جَازَ نسخه، وَإِلَّا فَلَا، وَيبْطل بنسخ أَصله عِنْد القَاضِي، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم،(6/3085)
وَقيل: لَا، وَلَا ينْسَخ بِهِ فِي الْأَصَح} .
مَفْهُوم الْمُخَالفَة هَل ينْسَخ أَو ينْسَخ بِهِ؟
أما نسخه وَهِي الْمَسْأَلَة الأولى فَيجوز نسخ حكم الْمَسْكُوت الَّذِي هُوَ مُخَالف للمذكور مَعَ نسخ الأَصْل ودونه، قَالَه كثير من الْعلمَاء.
وَقد قَالَت الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - أَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المَاء من المَاء " عَنْهُم مَنْسُوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا التقى الختانان فقد وَجب الْغسْل " مَعَ أَن الأَصْل بَاقٍ وَهُوَ وجوب الْغسْل بالإنزال.
وَقَوْلنَا: وَيبْطل بنسخ أَصله هِيَ الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَهَذَا الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَجزم بِهِ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَكَذَلِكَ الطوفي؛ لِأَن فَرعه وَعَدَمه كالخطابين، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك.(6/3086)
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه لَا يبطل، وَهُوَ وَجه لِأَصْحَابِنَا، ذكره القَاضِي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَأما نسخ الأَصْل بِدُونِ مَفْهُومه الَّذِي هُوَ مُخَالف لَهُ حكما. فَذكر الصفي الْهِنْدِيّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، قَالَ: وأظهرهما أَنه لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على ضد الحكم فاعتبار ذَلِك بِاعْتِبَار الْقَيْد الْمَذْكُور، فَإِذا بَطل تَأْثِير ذَلِك الْقَيْد بَطل مَا يبْنى عَلَيْهِ. انْتهى.
وعَلى هَذَا فنسخ الأَصْل نسخ للمفهوم مِنْهُ، وَالْمعْنَى أَنه يرْتَفع الحكم الشَّرْعِيّ الَّذِي حكم بِهِ على الْمَسْكُوت بضد حكم الْمَذْكُور.
وَأما النّسخ بِهِ - وَهِي الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة - فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْسَخ بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَصرح بِهِ السَّمْعَانِيّ لِضعْفِهَا عَن مقاومة النَّص.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: الصَّحِيح الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ فِي معنى الْمَنْطُوق.(6/3087)
(قَوْله: {فصل} )
{لَا حكم للناسخ مَعَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام اتِّفَاقًا} .
الحكم قبل نزُول النّسخ وَقبل تبليغه للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يثبت لَهُ حكمه فِي الْجُمْلَة، وَتَحْته ثَلَاث صور:
إِحْدَاهَا: أَن يبلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّمَاء قبل نزُول الأَرْض، وَقد تقدم حكم ذَلِك محررا.
الثَّانِيَة: أَن يوحيه الله تَعَالَى إِلَى جِبْرِيل، وَلم ينزل بِهِ إِلَى الأَرْض بعد.
الثَّالِثَة: أَن يكون ذَلِك بعد النُّزُول من السَّمَاء، وَقبل أَن يبلغهُ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَهَاتَانِ الصورتان لَا يتَعَلَّق بهما حكم اتِّفَاقًا.
قَوْله: {فَإِذا بلغه لم يثبت حكمه فِي حق من لم يبلغهُ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} ؛ لِأَنَّهُ أَخذ بِقصَّة أهل قبَاء،(6/3088)
والقبلة وَإِن جَازَ تَركهَا لعذر.
{وَقيل: يثبت فِي الذِّمَّة، اخْتَارَهُ أَبُو الطّيب، وَابْن برهَان.
وَالْخلاف معنوي فِي الْأَصَح، وخرجه أَبُو الْخطاب من عزل الْوَكِيل قبل علمه، وَلَيْسَ بدور خلافًا للطوفي} .
إِذا بلغ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الحكم إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَبت حكمه فِي حَقه، وَحقّ كل من بلغه النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِيَّاه بطرِيق من الطّرق، وَكَذَا من لم يبلغهُ مَعَ التَّمَكُّن من علمه، وَأما من لم يبلغهُ وَلَا تمكن من علمه فَلَا يتَعَلَّق بِهِ حكمه على الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء لَا بِمَعْنى وجوب الِامْتِثَال، وَلَا بِمَعْنى ثُبُوته فِي الذِّمَّة، وَجرى عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
وَقيل: يثبت فِي الذِّمَّة، اخْتَارَهُ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة كالنائم وَقت الصَّلَاة.
لَكِن عزى الأول ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط " للحنفية، وَحكى الثُّبُوت(6/3089)
عَن الشَّافِعِيَّة وَنَصره قيل وَهُوَ الْمَوْجُود لأَصْحَاب الشَّافِعِي الْمُتَقَدِّمين، وَاخْتَارَهُ أَبُو الطّيب أَيْضا. قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: لَا شكّ أَنه لَا يثبت فِي حكمه التأثيم، وَهل يثبت فِي حكمه الْقَضَاء؟ أَو هُوَ من الْأَحْكَام الوضعية؟
هَذَا فِيهِ تردد؛ لِأَنَّهُ مُمكن بِخِلَاف الأول؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق. انْتهى.
وَذكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " أَن الْخلاف لَفْظِي، وَذكر فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " أَن الْقَائِلين بِثُبُوتِهِ يَقُولُونَ: لَو قدر أَن من لم يبلغهُ النَّاسِخ أقدم على الحكم الأول كَانَ زللا، وَخطأ لَا يُؤَاخذ بِهِ ويعذر لجهله. انْتهى.
فَهَذَا دَلِيل على أَن الْخلاف غير لَفْظِي، وَهُوَ الَّذِي صححناه بِدَلِيل مَا يذكر فِي دَلِيل الْمَسْأَلَة.
وَخرج أَبُو الْخطاب لُزُومه على انعزال الْوَكِيل قبل علمه بِالْعَزْلِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ بتخريج دوري.(6/3090)
وَقَالَ الطوفي: وَهُوَ تَخْرِيج دوري؛ لِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة أصولية وَمَسْأَلَة عزل الْوَكِيل فروعية فَهِيَ فرع على مَسْأَلَة النّسخ؛ لِأَن الْعَادة تَخْرِيج الْفُرُوع على الْأُصُول فَلَو خرجنَا هَذَا الأَصْل الْمَذْكُور فِي النّسخ على الْفَرْع الْمَذْكُور فِي الْوكَالَة لزم الدّور؛ لتوقف الأَصْل على الْفَرْع المتوقف عَلَيْهِ فَيصير من بَاب توقف الشَّيْء على نَفسه بِوَاسِطَة.
وَفرق الْأَصْحَاب بَين الْوكَالَة والنسخ بِأَن أوَامِر الله - تَعَالَى - ونواهيه مقرونة بالثواب وَالْعِقَاب فَاعْتبر فِيهَا الْعلم بالمأمور بِهِ والمنهي عَنهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك الْإِذْن فِي التَّصَرُّف، وَالرُّجُوع فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِهِ ثَوَاب وَلَا عِقَاب، وَلَيْسَ الحكم مُخْتَصًّا بالناسخ بل يَشْمَل الحكم الْمُبْتَدَأ.
وَفِيه أَيْضا الْخلاف ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": هَذِه الْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة، وَذهب بَعضهم إِلَى إلحاقها بالمجتهدات حَتَّى نقلوا فِيهَا قَوْلَيْنِ من الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَكِيل إِذا عزل وَلم يبلغهُ الْعَزْل، فَقيل: يَنْعَزِل فِي الْحَال، وَقيل: لَا، كالنسخ، وَمِنْهُم من عكس فَخرج مَسْأَلَة النّسخ على قولي الْوكَالَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ القَاضِي الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ".(6/3091)
وَفرق بَعضهم بَين النّسخ وَالْوكَالَة - أَيْضا - أَن الِاعْتِدَاد بِالْعبَادَة حق الله تَعَالَى، وَالله تَعَالَى قد شَرط الْعلم فِي الْأَحْكَام بِدَلِيل أَنه لَا يَقع مِنْهُ التَّكْلِيف بالمستحيل، والعقود حق الْمُوكل، وَلم يشْتَرط الْعلم.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَو ثَبت لزم وجوب الشَّيْء وتحريمه فِي وَقت وَاحِد؛ لِأَنَّهُ لَو نسخ وَاجِب بِمحرم أَثم بترك الْوَاجِب اتِّفَاقًا.
وَأَيْضًا يَأْثَم بِعَمَلِهِ بِالثَّانِي اتِّفَاقًا.
قَالُوا: إِسْقَاط حق لَا يعْتَبر فِيهِ رضى من سقط عَنهُ فَكَذَا علمه كَطَلَاق وإبراء.
رد: إِنَّمَا هُوَ تَكْلِيف تضمن رفع حكم خطاب، ثمَّ يلْزم قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل.
قَالُوا: كَمَا يثبت حكم إِبَاحَة الْآدَمِيّ قبل الْعلم فِيمَن حلف لَا خرجت إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِبَاحَة مَاله.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: رفع الحكم بالناسخ.
رد: بِشَرْط الْعلم.
قَالُوا: النَّاسِخ حكم فَلم يتَوَقَّف ثُبُوته على علم الْمُكَلف كَبَقِيَّة الْأَحْكَام.
رد: إِن أُرِيد بِثُبُوتِهِ تعلقه بالمكلف توقف لاعْتِبَار التَّمَكُّن من الِامْتِثَال.(6/3092)
(قَوْله: {فصل} )
{زِيَادَة عبَادَة مُسْتَقلَّة من غير الْجِنْس لَيست نسخا إِجْمَاعًا} كزيادة وجوب الزَّكَاة على وجوب الصَّلَاة، وَكَذَا الصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا، {وَكَذَا من الْجِنْس عِنْد الْأَرْبَعَة والمعظم} كزيادة صَلَاة على الصَّلَوَات الْخمس.
اعْلَم أَنه إِذا زيد شَيْء على مَا تقرر بِنَصّ الشَّرْع إِمَّا أَن يكون عبَادَة مُسْتَقلَّة وَإِمَّا أَن يكون غير مُسْتَقلَّة، فَإِن كَانَ الْعِبَادَة مُسْتَقلَّة فَلهُ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن تكون من غير جنس الْمَزِيد كَمَا تقدم مِثَاله.
وَالثَّانِي: أَن يكون من جنس مَا سبق كزيادة صَلَاة على الْخمس فالأئمة الْأَرْبَعَة وَالْجُمْهُور أَنه لَيْسَ بنسخ، وَقَالَ بعض أهل الْعرَاق: يكون نسخا بِزِيَادَة صَلَاة سادسة، نسخ لتغير الْوسط.
رد ذَلِك: بِزِيَادَة عبَادَة، قَالَ ذَلِك جمع فبينوا أَن سَبَب قَوْلهم: إِنَّه(6/3093)
نسخ كَونه تغير الْوسط، لَكِن الْمُدعى عَام وَهُوَ مُطلق الزِّيَادَة من الْجِنْس سَوَاء فِي الصَّلَاة، أَو غَيرهَا فِيمَا لَهُ وسط، وَمَا لَا وسط لَهُ وَالدَّلِيل خَاص وَهُوَ زِيَادَة صَلَاة سادسة على خمس حَتَّى أَن الْوسط يتَغَيَّر بذلك، فَإِن كَانَ مَحل خلافهم فِي الْأَعَمّ فدليلهم هَذَا سَاقِط؛ لِأَن كَون الشَّيْء لَهُ وسط أَو آخر ويتغير ذَلِك بِالزِّيَادَةِ، فَهُوَ لَيْسَ بشرعي؛ لِأَن الْوسط وَالْآخر أَمر اعتباري عَقْلِي لَا يرد النّسخ عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ مَحل خلافهم هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة فَلَا يَنْبَغِي تغبيرهم بِمُطلق الزِّيَادَة واعتلالهم بتغيير الْوسط بِغَيْر كَونه متوسطا بَين متساويين فَهُوَ أَمر حَقِيقِيّ عَقْلِي لَا شَرْعِي حَتَّى تكون إِزَالَته نسخا، وَأَيْضًا فَلَا يخْتَص بِصَلَاة سادسة، بل يجْرِي فِي كل مزِيد، وَإِن أَرَادوا أَن الْوُسْطَى مَأْمُور بالمحافظة عَلَيْهَا فبزوالها يَزُول ذَلِك، فَإِن كَانَ الْمُسَمّى بالوسطى صَلَاة مُعينَة من عصر، أَو غَيرهَا وَأَن ذَلِك كَالْعلمِ عَلَيْهَا فَالْأَمْر بالمحافظة عَلَيْهَا، وَلَو زيد على الْخمس أَو نقص مِنْهَا، وَإِن كَانَ الْوُسْطَى الْمَأْمُور بالمحافظة عَلَيْهَا مرَادا بهَا المتوسطة كَيفَ كَانَت فَالَّذِي يظْهر حِينَئِذٍ أَن الْأَمر يخْتَلف بِمَا يُزَاد، فَإِن زيد وَاحِدَة فَهِيَ ترفع الْوسط بِالْكُلِّيَّةِ، وَيتَّجه مَا ذَكرُوهُ؛ لِأَن الْوسط حِينَئِذٍ وَإِن كَانَ أمرا حَقِيقِيًّا إِلَّا أَن الشَّرْع ورد عَلَيْهِ وَقَررهُ فَتكون الزِّيَادَة نسخا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيّ، وَإِن زيد ثِنْتَانِ أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يرفع الْوسط فَلَا نسخ، وَيكون الْأَمر بالمحافظة على تِلْكَ الصَّلَاة لذاتها(6/3094)
ولكونها وسطا أَمر اتفاقي، وَإِن كَانَ الْأَمر بالمحافظة عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ من حَيْثُ كَونهَا وسطا لَيْسَ بشرعي فَهُوَ لم يزل بِالزِّيَادَةِ الثَّانِيَة.
قَوْله: {وَزِيَادَة جُزْء مشترط، أَو شَرط، أَو زِيَادَة ترفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة لَيست نسخا عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة نسخ.
وَفِي معالم الرَّازِيّ فِي الثَّالِث، الْكَرْخِي إِن غيرت حكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل كتغريب على [الْحَد] وَزِيَادَة عدد جلد فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.
عبد الْجَبَّار إِن غيرته حَتَّى صَار وجوده كَعَدَمِهِ شرعا كركعة فِي الْفجْر وَزِيَادَة عدد جلد وتخيير فِي ثَالِث بعد اثْنَيْنِ فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.
الْغَزالِيّ إِن غيرته حَتَّى ارْتَفع التَّعَدُّد بَينهمَا كركعة فِي الْفجْر فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.(6/3095)
الْآمِدِيّ وَجمع إِن رفعت حكما شَرْعِيًّا بعد ثُبُوته بِدَلِيل شَرْعِي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا وَمَعْنَاهُ لِأَصْحَابِنَا} .
إِذا زيد فِي الْمَاهِيّة الشَّرْعِيَّة جُزْء مشترط، أَو شَرط أَو زِيَادَة لم يكن ذَلِك نسخا على الْمُرَجح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والجبائية، كنسخ سنة من الصَّلَاة كستر الرَّأْس وَنَحْوه.
فَائِدَة: توصلت الْحَنَفِيَّة بقَوْلهمْ: إِن الزِّيَادَة على الْمَنْصُوص نسخ لمسائل كَثِيرَة كرد أَحَادِيث وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة، وَأَحَادِيث الشَّاهِد وَالْيَمِين، وَاشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة، وَالنِّيَّة فِي(6/3096)
الْوضُوء، وَغير ذَلِك، وخالفوا أصولهم فِي اشتراطهم فِي ذَوي الْقُرْبَى الْحَاجة، وَهُوَ زِيَادَة على الْقُرْآن، وَمُخَالفَة للمعنى الْمَقْصُود فِيهِ، وَفِي أَن القهقهة تنقض الْوضُوء مستندين لأخبار ضَعِيفَة، وَهِي زِيَادَة على نواقض الْوضُوء الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن.
وَالْمذهب الثَّانِي: أَنه يكون نسخا مُطلقًا، وَبِه قَالَت الْحَنَفِيَّة مَعَ اعتبارهم الْفقر فِي ذَوي الْقُرْبَى قِيَاسا، وَقَالَهُ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي وَادّعى أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي.
الْمَذْهَب الثَّالِث: وَبِه قَالَ الرَّازِيّ فِي المعالم: يكون نسخا فِي الزِّيَادَة، وَهُوَ بالثالث، لَا فِي الْجُزْء الْمُشْتَرط، وَلَا فِي الشَّرْط، وَالثَّالِث هُوَ الزِّيَادَة الَّتِي ترفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة أَنَّهَا إِن أفادت خلاف مَا اسْتُفِيدَ من مَفْهُوم الْمُخَالفَة كَانَت نسخا كإيجاب الزَّكَاة فِي معلوفة الْغنم فَإِنَّهُ يُفِيد خلاف مَفْهُوم (فِي السَّائِمَة الزَّكَاة) وَإِلَّا فَلَا.(6/3097)
الْمَذْهَب الرَّابِع: وَبِه قَالَ الْكَرْخِي، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ إِن كَانَت الزِّيَادَة مُغيرَة لحكم الْمَزِيد عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبل، كزيادة التَّغْرِيب، وَزِيَادَة عشْرين جلدَة على الْقَاذِف مثلا كَانَ نسخا، وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاء كَانَت الزِّيَادَة لَا تنفك عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ كَمَا لَو أوجب علينا ستر الْفَخْذ، فَإِنَّهُ يجب ستر بعض الرّكْبَة؛ لِأَنَّهَا مُقَدّمَة الْوَاجِب لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، أَو كَانَت الزِّيَادَة عِنْد تعذر الْمَزِيد عَلَيْهِ كإيجاب قطع رجل السَّاق بعد قطع يَده.
الْمَذْهَب الْخَامِس: وَبِه قَالَ عبد الْجَبَّار، إِن غيرت الزِّيَادَة الْمَزِيد عَلَيْهِ تغييرا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ صَار الْمَزِيد عَلَيْهِ لَو فعل بعد الزِّيَادَة كَمَا كَانَ يفعل قبلهَا كَانَ وجوده كَعَدَمِهِ، وَوَجَب استئنافه كزيادة رَكْعَة على رَكْعَتي الْفجْر كَانَ ذَلِك نسخا، أَو كَانَ قد خير بَين فعلين فزيد فعل ثَالِث فَإِنَّهُ يكون نسخا، وَإِلَّا فَلَا، كزيادة التَّغْرِيب على الْجلد، وَزِيَادَة عشْرين جلدَة على حد الْقَاذِف، وَزِيَادَة شَرط مُنْفَصِل فِي شَرَائِط الصَّلَاة كاشتراط الْوضُوء.
كَذَا نَقله الْآمِدِيّ عَنهُ خلافًا لما فِي " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب " فِي نَقله.(6/3098)
الْمَذْهَب السَّادِس: وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ، إِن كَانَ الزِّيَادَة مُتَّصِلَة بالمزيد عَلَيْهِ اتِّصَال اتِّحَاد رَافع للتعدد والانفصال كزيادة رَكْعَتَيْنِ فنسخ، وَإِلَّا فَلَا، كزيادة عشْرين جلدَة.
الْمَذْهَب السَّابِع: وَبِه قَالَ أَبُو الْحُسَيْن، والآمدي إِن رفعت الزِّيَادَة حكما شَرْعِيًّا بعد ثُبُوته بِدَلِيل شَرْعِي فنسخ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ الباقلاني فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": إِن تَضَمَّنت الزِّيَادَة رفعا فَهِيَ نسخ، وَإِلَّا فَلَا. وَذكر فِي " التَّقْرِيب " نَحوه، وحذا حذوه أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، فَقَالَ فِي " الْمُعْتَمد ": مَا حَاصله: إِن كَانَ الزَّائِد رَافعا لحكم شَرْعِي كَانَ نسخا سَوَاء أثبت بالمنطوق، أم بِالْمَفْهُومِ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل عَقْلِي كالبراءة الْأَصْلِيَّة.
وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَهُوَ قَضِيَّة اخْتِيَار إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا.(6/3099)
وَحَاصِله: أَن المزاد إِن كَانَ حكما شَرْعِيًّا كَانَ نسخا، وَإِلَّا فَلَا.
قيل: وَلَا حَاصِل لذَلِك للاتفاق على أَن رفع الحكم الشَّرْعِيّ نسخ، وَرفع غَيره لَيْسَ بنسخ فينحل ذَلِك إِلَّا أَن الزِّيَادَة إِن كَانَ نسخا فَهِيَ نسخ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا مَحل النزاع أَن ذَلِك هَل هُوَ رفع حَتَّى يكون نسخا، أَو لَا؟ انْتهى.
قَوْله: {وَمَعْنَاهُ لِأَصْحَابِنَا} . يَعْنِي: معنى مَا قَالَه الْآمِدِيّ وَغَيره.
قَالَ ابْن مُفْلِح - بعد قَول الْآمِدِيّ -: وَمَعْنَاهُ لبَعض أَصْحَابنَا وَكَلَام البَاقِينَ نَحوه.
وَقَوْلنَا: {وتتفرع عَلَيْهِ مسَائِل} ، يَعْنِي تتفرع على قَول هَؤُلَاءِ مسَائِل:
مِنْهَا: قَوْله: فِي السَّائِمَة زَكَاة، ثمَّ قَوْله: فِي المعلوفة زَكَاة، نسخ للمفهوم إِن علم أَنه مُرَاد وَإِلَّا فَلَا.
وَمثله: اجلدوا مائَة. قَالَ فِي " الْعدة " و " الرَّوْضَة ": اسْتِقْرَار بِتَأْخِير الْبَيَان نسخ. وَفِي " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح ": نسخ(6/3100)
لمنع الزِّيَادَة وَالْمَفْهُوم ينْسَخ بِخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس.
وَفِي " الْعدة ": رُبمَا قَالَ الْقَائِل تَخْصِيص لرفعه بِقِيَاس وَخبر وَاحِد، قَالَ: وَالصَّحِيح نسخ كالخطاب.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تراخي الْبَيَان لَا يُوجب أَنه مُرَاد فِي ظَاهر الْمَذْهَب لجوازه، وَإِلَّا وَجب.
وَمِنْهَا: لَو زيد رَكْعَة فِي الْفجْر فَلَيْسَ بنسخ عِنْد أَصْحَابنَا وَأبي الْحُسَيْن وَغَيرهم لعدم رفع حكم شَرْعِي، بل ضم إِلَيْهِ حكم.
وَعند الْآمِدِيّ نسخ لرفع وجوب التَّشَهُّد عقب الرَّكْعَتَيْنِ.
رد: التَّشَهُّد آخر الصَّلَاة لِلْخُرُوجِ مِنْهَا فَلَا نسخ، ثمَّ يلْزم زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد.
وَقيل: نسخ لتَحْرِيم الزِّيَادَة.
رد: لم تحرم بِالْأَمر بالركعتين، بل لدَلِيل.
وَقيل: نسخ لرفع الصِّحَّة والإجزاء.(6/3101)
رد: لم يثبتا بِالْخِطَابِ، بل بالاستصحاب، زَاد بعض أَصْحَابنَا: وَالْمَفْهُوم.
وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة " بِأَن النّسخ رفع جَمِيع مُوجب الْخطاب لَا رفع بعضه وَبِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون نسخا إِذا اسْتَقر، وَثَبت.
وَمن الْمُحْتَمل أَن دَلِيل الزِّيَادَة كَانَ مُقَارنًا، كَذَا قَالَ.
وَمِنْهَا: زِيَادَة التَّغْرِيب على الْجلد لَيست نسخا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ لما سبق خلافًا لبَعْضهِم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: قصد بِالزِّيَادَةِ تعبد الْمُكَلف بهَا لَا رفع اسْتِقْلَال مَا كَانَ قبلهَا، بل حصل ضَرُورَة وتبعا، والمنسوخ مَقْصُود بِالرَّفْع، وَلَا يلْزم من قَصدهَا قصد لازمها، وَهُوَ رفع الِاسْتِقْلَال لتصور الْمَلْزُوم غافل عَن لَازمه، وَالله أعلم.
مِنْهَا: لَو وَجب غسل الرجل عينا، ثمَّ خير بَينه وَبَين الْمسْح، فَذكر(6/3102)
الْآمِدِيّ أَنه نسخ؛ لِأَن التَّخْيِير رفع الْوُجُوب، وَلَعَلَّ المُرَاد: عينه مَعَ الْخُف، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، ثمَّ حكمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِشَاهِد وَيَمِين لَيْسَ بنسخ؛ لِأَنَّهُ لم يرفع شَيْئا، وَلَو ثَبت مَفْهُومه وَمَفْهُوم {فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل} [الْبَقَرَة: 282] الْآيَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ منع الحكم بِغَيْرِهِ، بل حصر الاستشهاد.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن كَانَ الْمَفْهُوم حجَّة فرفعه نسخ، وَلَا يجوز بِخَبَر الْوَاحِد، كَذَا قَالَ.
وَمِنْهَا: لَو زيد فِي الْوضُوء اشْتِرَاط غسل عُضْو، أَو شَرط فِي الصَّلَاة، فَلَا نسخ كَمَا سبق.
وَمِنْهَا: فَرضِيَّة الْفَاتِحَة، وَاشْتِرَاط الطَّهَارَة للطَّواف لَيْسَ بنسخ خلافًا للحنفية فِي جَمِيع ذَلِك وَغَيره. انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح وَغَيره.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: اتَّفقُوا على أَن نسخ سنة من سنَن الصَّلَاة كنسخ ستر الرَّأْس لَا يكون نسخا لتِلْك الْعِبَادَة وَنسخ الْحَبْس فِي(6/3103)
الْبيُوت لَا ينْسَخ استشهاد الْأَرْبَعَة. انْتهى.
وَظَاهر كَلَام الْغَزالِيّ جَرَيَان الْخلاف فِيهِ، وأوله بَعضهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، للْخلاف وَجه فَإِن الْعِبَادَة مركبة من الْفُرُوض وَالسّنَن، وَلِهَذَا يُقَال: فروضها كَذَا، وسننها كَذَا، وَإِذا كَانَت السّنَن أَجزَاء مِنْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَار فَلَا يبعد أَن يجْرِي فِيهَا خلاف نقص الرُّكْن فَيكون دَاخِلا فِي قَوْله: (زِيَاد جُزْء أَو نقص جُزْء) . انْتهى.(6/3104)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم نسخ جُزْء عبَادَة أَو شَرطهَا نسخ لَهُ فَقَط، وَالْغَزالِيّ وَغَيره} نسخ {للْكُلّ، وَعبد الْجَبَّار ينْسَخ الْجُزْء، وَالْمجد الْخلاف فِي شَرط مُتَّصِل كالتوجه، والمنفصل كَالْوضُوءِ لَيْسَ نسخا لَهَا إِجْمَاعًا، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ فيهمَا} .
وتعدد مَا تقدم فِي زِيَادَة جُزْء، أَو شَرط، وَالْكَلَام هُنَا فِي نقص جُزْء، أَو شَرط، فنقص جُزْء لِلْعِبَادَةِ، أَو شَرط من شُرُوطهَا نسخ لذَلِك فَقَط، لَا لأصل تِلْكَ الْعِبَادَة على الصَّحِيح، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، نَقله ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، نَقله أَيْضا عَنْهُم، وَكَذَلِكَ ابْن السَّمْعَانِيّ.(6/3105)
وَهُوَ مَذْهَب الْكَرْخِي، وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.
وَعَن بعض الْمُتَكَلِّمين وَالْغَزالِيّ، وَحَكَاهُ ابْن برهَان عَن الْحَنَفِيَّة: تنسخ قَالَ عبد الْجَبَّار: تنسخ بنسخ جزئها، لَا إِن كَانَ شرطا.
وَوَافَقَهُ الْغَزالِيّ أَيْضا فِي الْجُزْء وَتردد فِي الشَّرْط.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَالتَّحْقِيق أَنه نسخ لعدم الْإِجْزَاء بالاقتصار عَلَيْهَا دونهَا وَهُوَ مُسْتَفَاد من الشَّرْع، وَكَذَلِكَ فِي الشَّرْط الْخَارِج إِذا نسخ، فَهُوَ نسخ لنفي الْإِجْزَاء بِدُونِهِ، وَإِن نسخا لوُجُوبهَا. انْتهى.
وَقَالَ الْمجد: مَحل الْخلاف فِي شَرط مُتَّصِل كالتوجه، ومنفصل كوضوء لَيْسَ نسخا لَهَا إِجْمَاعًا.(6/3106)
وَذكر الْآمِدِيّ الْخلاف فيهمَا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره، وَوَافَقَ الْهِنْدِيّ الْمجد، فَقَالَ: الْخلاف فِي الشَّرْط الْمُتَّصِل كاستقبال الْقبْلَة فِي الصَّلَاة لَا الْمُنْفَصِل كالطهارة.
وَقَالَ: فإيراد الإِمَام وَغَيره يشْعر بِأَنَّهُ لَا خلاف، وَكَلَام غَيره يَقْتَضِي إِثْبَات الْخلاف فِي الْكل. انْتهى.
وَصرح ابْن السَّمْعَانِيّ بِأَنَّهُ فِي جَانب الشَّرْط لَيْسَ نسخا، وَأما فِي الْجُزْء كإسقاط رُكُوع فَيَنْبَغِي أَن يكون على مَا ذكرنَا فِيمَا إِذا زيدت رَكْعَة على رَكْعَتَيْنِ.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَن وُجُوبهَا بَاقٍ، وَلَا يفْتَقر إِلَى دَلِيل ثَان إِجْمَاعًا، وَلم يَتَجَدَّد وجوب، وكنسخ سنتها اتِّفَاقًا.(6/3107)
(قَوْله: {فصل} )
{يَسْتَحِيل تَحْرِيم معرفَة الله تَعَالَى إِلَّا على تَكْلِيف الْمحَال} ، وَذَلِكَ لتوقفه على مَعْرفَته وَهُوَ دور، {وَمَا حسن، أَو قبح لذاته كمعرفته وَالْكفْر وَنَحْوه يجوز نسخ وُجُوبه وتحريمه عِنْد من نفى الْحسن والقبح ورعاية الْحِكْمَة فِي أَفعاله، وَمن أثْبته مَنعه، ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَقَالُوا: يجوز نسخ جَمِيع التكاليف، وَمنعه الْغَزالِيّ، وَابْن حمدَان، وَلم يقعا إِجْمَاعًا.
وَقَالَ الْمجد: يجوز نسخهَا كلهَا سوى معرفَة الله تَعَالَى على أصل أَصْحَابنَا وَأهل الحَدِيث خلافًا للقدرية} .(6/3108)
أما تَحْرِيم معرفَة الله تَعَالَى فمستحيل عِنْد الْعلمَاء إِلَّا على القَوْل بتكليف الْمحَال، وَذَلِكَ لتوقفه على مَعْرفَته، وَهُوَ دور.
وَقد تقدم من شَرط الْمَنْسُوخ أَن يكون مَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا، وَأَن لَا يكون اعتقادا، فَلَا يدْخل النّسخ التَّوْحِيد بِحَال؛ لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته لم يزل وَلَا يزَال.
وَكَذَلِكَ مَا علم أَنه متأبد وَنَحْو ذَلِك تقدم.
وَأما مَا قبح وَحسن لذاته كمعرفة الله تَعَالَى، وَتَحْرِيم الْكفْر، وَالظُّلم، وَالْكذب، والقبائح الْعَقْلِيَّة، وشكر الْمُنعم، فَهَل يجوز نسخ وُجُوبه وتحريمه أم لَا؟
فَمن نفى الْحسن والقبح، ورعاية الْحِكْمَة فِي أَفعاله يجوز نسخ ذَلِك وَمن أثبت ذَلِك منع النّسخ، ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره؛ لِأَن الْمُقْتَضى لِلْحسنِ والقبح حِينَئِذٍ صِفَات وَأَحْكَام لَا تَتَغَيَّر بِتَغَيُّر الشَّرَائِع فَامْتنعَ النّسخ لِاسْتِحَالَة الْأَمر بالقبيح، وَالنَّهْي عَن الْحسن.
وَأما من نفى ذَلِك - وَهُوَ الصَّحِيح - فَإِنَّهُ يجوز نسخ هَذِه الْأُمُور لقَوْل الله تَعَالَى: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت} [الرَّعْد: 39] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} [إِبْرَاهِيم: 27] .(6/3109)
وَاخْتلف أَيْضا فِي جَوَاز نسخ جَمِيع التكاليف، فَقَالَ الْآمِدِيّ، وَغَيره: يجوز، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَاخْتَارَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَن كل حكم شَرْعِي يقبل النّسخ.
وَقيل للْقَاضِي أبي يعلى: لَو جَازَ النّسخ لجَاز فِي اعْتِقَاد التَّوْحِيد! فَقَالَ: التَّوْحِيد مصلحَة لجَمِيع الْمُكَلّفين فِي جَمِيع الْأَوْقَات، وَلِهَذَا لَا يجوز الْجمع بَين إِيجَابه وَالنَّهْي عَن مثله فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَاف الْفِعْل الشَّرْعِيّ، وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَيجوز نسخ جَمِيع التكاليف سوى معرفَة الله تَعَالَى على أصل أَصْحَابنَا، وَسَائِر أهل الحَدِيث خلافًا للقدرية فِي قَوْلهم: [الْعِبَادَات] مصَالح، فَلَا يجوز رَفعهَا.
وَقَالَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ".(6/3110)
ورد الْقَرَافِيّ كَلَام أبي إِسْحَاق، ورد على الْقَرَافِيّ ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَالَ ابْن عقيل: وَإِن قُلْنَا بالمصالح فَلَا يمْتَنع لعلمه أَن التكاليف تفسدهم وكجنون بَعضهم وَمَوته وكنسخه مِنْهَا بِحَسب الْأَصْلَح.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَبعد تَكْلِيف العَبْد بهَا اخْتلفُوا فِي جَوَاز نسخ جَمِيع التكاليف.
وَاسْتدلَّ لجَوَاز النّسخ بِأَن جَمِيع التكاليف أَحْكَام فَكَمَا جَازَ نسخ بَعْضهَا جَازَ نسخ جَمِيعهَا.
وَخَالف الْغَزالِيّ، وَابْن حمدَان - من أَصْحَابنَا - والمعتزلة فمنعوا نسخ جَمِيع التكاليف لتوقف الْعلم بذلك الْمَقْصُود مِنْهُ بِتَقْدِير وُقُوعه على معرفَة النّسخ والناسخ، وَهِي من التكاليف فَلَا يَتَأَتَّى نسخهَا.
قُلْنَا: لَا نسلم ذَلِك؛ لِأَن بحصولها يَنْتَهِي التَّكْلِيف بهَا فَيصدق أَنه لم ينتف تَكْلِيف، وَهُوَ الْقَصْد بنسخ جَمِيع التكاليف.(6/3111)
قَالَ الْمحلي: فَلَا نزاع فِي الْمَعْنى. انْتهى.
وَاتَّفَقُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على عدم الْوُقُوع، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ.(6/3112)
قَوْله: {بَاب الْقيَاس}
{لُغَة: التَّقْدِير والمساواة} .
لما فَرغْنَا من المباحث الْمُتَعَلّقَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، شرعنا فِي الْقيَاس ومباحثه، وَهُوَ ميزَان الْعُقُول، قَالَ الله: {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} [الْحَدِيد: 25] .
وَالْقِيَاس فِي اللُّغَة: التَّقْدِير والمساواة، يُقَال: قَاس [النَّعْل بالنعل] ، أَي: حاذاه وساواه، وَتقول: قست الثَّوْب بالذراع، أَي: قدرته بِهِ، وقست الْجراحَة بالمسبار، وَهُوَ شَيْء يشبه الْميل، يعرف بِهِ عمق الْجرْح.
وَتقول: قست الشَّيْء بِغَيْرِهِ وعَلى غَيره.
تَقول: قست أَقيس وأقوس، قيسا وقوساً وَقِيَاسًا فِي اللغتين، إِذا قدرته على مِثَاله، أَي: يُقَال بِالْيَاءِ وبالواو، فَيُقَال على اللُّغَة بِالْوَاو: قِيَاسا أَيْضا كلغة الْيَاء، لِأَن أَصله قواساً، لَكِن لما انْكَسَرَ مَا قبل الْوَاو قلبت يَاء كقيام، وَصِيَام، وصيال إِذْ أَصله الْوَاو.(7/3115)
وَيُقَال فيهمَا: قيس رمح، وقاس رمح، أَي: قدر رمح.
وَإِنَّمَا قيل فِي الشَّرْع: قَاس عَلَيْهِ ليدل على الْبناء، فَإِن انْتِقَال الصِّلَة للتضمين، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بني عَلَيْهِ.
فَالْقِيَاس فِي اللُّغَة يدل على معنى التَّسْوِيَة على الْعُمُوم، لِأَنَّهُ نِسْبَة وَإِضَافَة بَين شَيْئَيْنِ، وَلِهَذَا يُقَال: فلَان يُقَاس بفلان وَلَا يُقَاس بفلان، أَي: يُسَاوِي فلَانا وَلَا يُسَاوِي فلَانا.
وَأما فِي الِاصْطِلَاح: فَيدل على تَسْوِيَة خَاصَّة بَين الأَصْل وَالْفرع، فَهُوَ [كتخصيص] لفظ الدَّابَّة بِبَعْض مسمياتها، فَهُوَ حَقِيقَة عرفية مجَاز(7/3116)
لغَوِيّ، [قَالَه] الطوفي فِي " شَرحه " وَغَيره.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} ، أَي: فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة.
اخْتلف الْعلمَاء فِي تَعْرِيفه اخْتِلَافا كثيرا جدا، وَقل أَن يسلم / مِنْهَا تَعْرِيف.
فَقَالَ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْبَنَّا: هُوَ رد فرع إِلَى أَصله بعلة جَامِعَة.
وَفِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: تَحْصِيل حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.(7/3117)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمرَاده تَحْصِيل مثل حكم الأَصْل، وَمَعْنَاهُ فِي " الْوَاضِح "، وَقَالَ: إِنَّه أَسد مَا رَآهُ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَكِن هُوَ نتيجة الْقيَاس لَا نَفسه. انْتهى.
وَذَلِكَ كرد النَّبِيذ إِلَى الْخمر فِي التَّحْرِيم بعلة الْإِسْكَار، [ونعني] بِالرَّدِّ: الْإِلْحَاق والتسوية بَينهمَا فِي الحكم.
وَقَرِيب مِنْهُ مَا قَالَه الْمُوفق، والطوفي، وَغَيرهمَا: حمل فرع على أصل فِي حكم بِجَامِع [بَينهمَا] .(7/3118)
فَإنَّا نحمل النَّبِيذ على الْخمر فِي التَّحْرِيم بِجَامِع الْإِسْكَار، فالحمل هُوَ الْإِلْحَاق والتسوية بَينهمَا فِي الحكم كَمَا تقدم.
فالجامع بَينهمَا هُوَ عِلّة حكم الأَصْل وَهُوَ التَّحْرِيم بِجَامِع الْإِسْكَار، وَهُوَ الْوَصْف الْمُنَاسب لِأَن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم فِي نظر الشَّارِع.
وَهُوَ هُنَا الْإِسْكَار الَّذِي هُوَ عِلّة تَحْرِيم الْخمر.
لَا يُقَال: الأَصْل وَالْفرع لَا يعرفان إِلَّا بعد معرفَة حَقِيقَة الْقيَاس، فَأَخذهُمَا فِي تَعْرِيفه دور.
لأَنا نقُول: إِنَّمَا نعني بالفرع صُورَة أُرِيد إلحاقها بِالْأُخْرَى فِي الحكم، لوُجُود الْعلَّة الْمُوجبَة للْحكم فيهمَا، وبالأصل: الصُّورَة الملحق(7/3119)
بهَا، فَلَا يلْزم دور من كَون لفظ الْفَرْع وَالْأَصْل، يشْعر أَن لَا يكون هَذَا فرع وَذَاكَ أصل، إِلَّا أَن يكون هَذَا مقيساً على ذَلِك.
وَقَالَ ابْن الْمَنِيّ، وَابْن حمدَان: مُسَاوَاة مَعْلُوم لمعلوم فِي مَعْلُوم ثَالِث، يلْزم من ماواة الثَّانِي للْأولِ فِيهِ مساواته فِي حكمه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهُوَ معنى من قَالَ مُسَاوَاة فرع لأصل فِي عِلّة حكمه ". انْتهى.
وَهُوَ قريب أَيْضا من الأول فَإِن مُرَاده بمساواة [مَعْلُوم] : الْفَرْع، وَمرَاده " لمعلوم ": الأَصْل، وَمرَاده " فِي مَعْلُوم ": الْإِسْكَار مثلا، فَيلْزم على ذَلِك الْمُسَاوَاة فِي الحكم.
وَقَالَ الباقلاني وَمن تبعه: حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم فِي إِثْبَات حكم لَهما أَو نَفْيه عَنْهُمَا بِأَمْر / جَامع بَينهمَا من إِثْبَات حكم أَو صفة أَو نفيهما.
وَتَبعهُ على ذَلِك أَكثر الشَّافِعِيَّة.
لَكِن رد: بِأَن المُرَاد من " الْحمل " إِثْبَات الحكم وَهُوَ ثَمَرَة الْقيَاس.(7/3120)
ورد أَيْضا: بِأَن قَوْله: " فِي إِثْبَات حكم لَهما " يشْعر بِأَن الحكم فِي الأَصْل وَالْفرع بِالْقِيَاسِ.
وَبِأَن قَوْله: " بِجَامِع " كَاف، لِأَنَّهُ الْمُعْتَبر فِي مَاهِيَّة الْقيَاس لَا أقسامه.
وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الأول: بِالْمَنْعِ لما علم مِمَّا يتركب مِنْهُ الْقيَاس، وَعَن الثَّانِي: بِأَنَّهُ زِيَادَة إِيضَاح، وَلَا يلْزم مِنْهُ ذكر أَقسَام الحكم وَالصّفة لعدم وُجُوبه.
قَالَ: لَكِن يرد إِشْكَال لَا محيص عَنهُ، وَهُوَ: أَنه أَخذ فِي الْحَد ثُبُوت حكم الْفَرْع، وَهُوَ فرع الْقيَاس، وَهُوَ دور.(7/3121)
ورد ذَلِك: بِأَن الْمَحْدُود الْقيَاس الذهْنِي، وَثُبُوت [حكم] الْفَرْع الذهْنِي، والخارجي لَيْسَ فرعا للْقِيَاس الذهْنِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَأورد الْآمِدِيّ عَلَيْهِ أَن، إِثْبَات الحكم هُوَ أثر الْقيَاس وناشئ عَنهُ، وَأَخذه فِي تَعْرِيفه، وتوقفه عَلَيْهِ دور ".
وَضَعفه الْهِنْدِيّ: بِأَن الْمَأْخُوذ فِي التَّعْرِيف إِثْبَات، وَالَّذِي هُوَ أثر الْقيَاس ومتفرع عَنهُ الثُّبُوت لَا الْإِثْبَات وَنَحْوه من الْحمل.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: وَفِيه نظر، فَإِن الْقيَاس لَا يثبت حكما إِنَّمَا يظهره بقياسه، إِلَّا أَن يُقَال: إِنَّه على كل حَال غير الثُّبُوت ". انْتهى.
وَقَالَ الطوفي: " وزيف بِأَن قَوْله " فِي إِثْبَات حكم لَهما " غير صَحِيح، لِأَن الْقيَاس لَا يطْلب بِهِ معرفَة حكم الأَصْل، إِذْ حكمه مَعْلُوم، وَإِنَّمَا يطْلب بِهِ حكم الْفَرْع ". انْتهى.(7/3122)
وَقَالَ الْآمِدِيّ: اسْتِوَاء فرع وأصل فِي عِلّة مستنبطة [من] حكم الأَصْل فَيحْتَاج: " أَو غَيرهَا ".
وَمن صوب كل مُجْتَهد زَاد: فِي نظر الْمُجْتَهد.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَاعْلَم أَن المُرَاد بالمساواة الْمَذْكُورَة فِي الْحَد: الْمُسَاوَاة فِي نفس الْأَمر، فَيخْتَص بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح، وَهَذَا عِنْد من يثبت مَا لَا مُسَاوَاة فِيهِ فِي نفس الْأَمر: قِيَاسا فَاسِدا.
وَأما المصوبة وهم الْقَائِلُونَ: بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب، فَالْقِيَاس الصَّحِيح عِنْدهم: مَا حصلت فِيهِ الْمُسَاوَاة فِي / نظر الْمُجْتَهد، سَوَاء [ثبتَتْ] فِي نفس الْأَمر أم لَا، حَتَّى لَو تبين غلطه وجوب الرُّجُوع عَنهُ، فَإِنَّهُ لَا يقْدَح فِي صِحَّته عِنْدهم، بل ذَلِك انْقِطَاع [لحكمه] لدَلِيل آخر حدث وَكَانَ قبل حُدُوثه الْقيَاس الأول صَحِيحا وَإِن زَالَ صِحَّته، بِخِلَاف المخطئة فَإِنَّهُم لَا يرَوْنَ مَا ظهر غلطه وَالرُّجُوع عَنهُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِلَى زمَان ظُهُور غلطه، بل كَانَ فَاسِدا وَتبين فَسَاده، فَإِذا لَا يشْتَرط] المصوبة الْمُسَاوَاة إِلَّا فِي نظر(7/3123)
الْمُجْتَهد، فحقهم أَن يَقُولُوا: هُوَ مُسَاوَاة فرع الأَصْل فِي نظر الْمُجْتَهد، هَذَا إِذا حددنا الْقيَاس الصَّحِيح. وَلَو أردنَا دخلو الْقيَاس الْفَاسِد مَعَه فِي الْحَد لم نشترط الْمُسَاوَاة لَا فِي نفس الْأَمر وَلَا فِي نظر الْمُجْتَهد وَقُلْنَا بدلهَا: إِنَّه تَشْبِيه فرع بِالْأَصْلِ، لِأَنَّهُ قد يكون مطابقاً لحُصُول الشّبَه وَقد لَا يكون لعدمه، وَقد يكون الْمُشبه يرى ذَلِك وَقد لَا يرَاهُ ". انْتهى.
وَقيل: الْقيَاس إصابه الْحق.
وَقيل: بذل الْمُجْتَهد فِي استخراجه.
وَقيل: الْعلم عَن نظر.
وتبطيل ذَلِك بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع.
وَبِأَن إِصَابَة الْحق، وَالْعلم، فرع الْقيَاس وثمرته مَعَ أَن أَكْثَره ظن والبذل حَال القائس.
وَقَالَ أَبُو هَاشم: حمل الشَّيْء على غَيره بإجراء حكمه عَلَيْهِ
وَزَاد عبد الْجَبَّار: بِضَرْب من الشّبَه.(7/3124)
وأبطل: بِخُرُوج قِيَاس فَرعه مَعْدُوم مُمْتَنع لذاته فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْء وَيحْتَاج الأول لجامع.
وَقيل: إِثْبَات مثل حكم فِي غير مَحَله لمقْتَضى مُشْتَرك.
كإثبات مثل تَحْرِيم الْخمر فِي النَّبِيذ، وَهُوَ غير مَحل النَّص على التَّحْرِيم إِذْ مَحَله الْخمر لعِلَّة الْإِسْكَار، وَهُوَ الْمُقْتَضِي للتَّحْرِيم الْمُشْتَرك بَين الْخمر والنبيذ.
وَقيل: تَعديَة حكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ إِلَى غَيره بِجَامِع. كتعدية تَحْرِيم الْخمر الْمَنْصُوص عَلَيْهِ إِلَى النَّبِيذ الَّذِي لم ينص على تَحْرِيمه للجامع الْمَذْكُور الْمُشْتَرك. وَالْحُدُود لذَلِك كَثِيرَة قل أَن يسلم مِنْهَا حد، وحاصلها يرجع إِلَى اعْتِبَار الْفَرْع الأَصْل فِي حكمه وَالْحكم.
قَوْله: {تَنْبِيه: لم يرد بِالْحَدِّ قِيَاس الدّلَالَة وَهُوَ الْجمع بَين أصل وَفرع بِدَلِيل الْعلَّة كالجمع بَين الْخمر والنبيذ بالرائحة الدَّالَّة على الشدَّة المطربة.
وَلَا قِيَاس الْعَكْس: وَهُوَ تَحْصِيل نقيض حكم الْمَعْلُوم فِي غَيره لافتراقهما فِي عِلّة الحكم، مثل: لما وَجب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف بِالنذرِ وَجب بِغَيْر نذر، عَكسه الصَّلَاة لما تجب فِيهِ بِالنذرِ لم تجب بِغَيْر نذر.(7/3125)
وَقيل: بلَى، وَقيل: ليسَا بِقِيَاس}
قَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " وَغَيره: الْمَحْدُود هُنَا هُوَ قِيَاس الطَّرْد فَقَط.
وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره: (الْقيَاس الْمَحْدُود هُوَ قِيَاس الْعلَّة) انْتهى.
قَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْمُنْتَهى " الْقيَاس [فِي] اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ يَنْقَسِم إِلَى قِيَاس الْعَكْس وَحده بِالْحَدِّ الْمَذْكُور، وَإِلَى قِيَاس الطَّرْد هُوَ: عبارَة عَن الاسْتوَاء بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الْعلَّة المستنبطة من حكم الأَصْل.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: " وَقِيَاس الدّلَالَة لم يرد بِالْحَدِّ.
وَقيل: لَيْسَ بِقِيَاس حَقِيقَة.
وَقيل: دَاخل لتَضَمّنه الْمُسَاوَاة فِي الْعلَّة كالجمع بَين الْخمر والنبيذ بالرائحة الدَّالَّة على الشدَّة المطربة.(7/3126)
وَقِيَاس الْعَكْس لم يرد بِالْحَدِّ.
وَقيل: لَيْسَ بِقِيَاس حَقِيقَة.
وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يُسمى قِيَاسا لاخْتِلَاف الحكم وَالْعلَّة.
قَالَ: وَسَماهُ بعض الْحَنَفِيَّة قِيَاسا مجَازًا.
قَالَ: وحد أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ الْقيَاس بِحَدّ يشْتَمل على قِيَاس الطَّرْد وَالْعَكْس، فَقَالَ: الْقيَاس إِثْبَات الحكم فِي الشَّيْء بِاعْتِبَار تَعْلِيل غَيره، لِأَن الطَّرْد يثبت فِيهِ الحكم [فِي] الْفَرْع بِاعْتِبَار تَعْلِيل الأَصْل، وَالْعَكْس يعْتَبر فِيهِ تَعْلِيل الأَصْل لينتفي حكمه عَن الْفَرْع لافتراقهما فِي الْعلَّة فَيكون حد قِيَاس الطَّرْد مَا ذكرنَا أَولا، وحد قِيَاس الْعَكْس: هُوَ إِثْبَات نقيض حكم الشَّيْء فِي غَيره لافتراقهما فِي عِلّة الحكم " انْتهى.(7/3127)
وَلَكِن الأولى فِي حد الْعَكْس مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن تبعا للآمدي وَبَعض أَصْحَابنَا. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ أولى.
وَقيل: قِيَاس الْعَكْس دَاخل فِي حد الْقيَاس، لِأَن الْقَصْد مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف بِغَيْر نذر الصَّوْم فِي اشْتِرَاط الصَّوْم لَهُ بِنذر الصَّوْم، بِمَعْنى لَا فَارق بَينهمَا.
أَو بالسبر / فَيُقَال: الْمُوجب للصَّوْم الِاعْتِكَاف لَا نَذره بِدَلِيل الصَّلَاة، فَالصَّلَاة ذكرت لبَيَان إِلْغَاء النّذر، فَالْأَصْل اعْتِكَاف بِنذر صَوْم، وَالْفرع بِغَيْر نَذره، وَالْحكم اشْتِرَاطه، وَالْعلَّة الِاعْتِكَاف، أَو أَن الْقَصْد قِيَاس الصَّوْم بِنذر على الصَّلَاة بِنذر، فَيُقَال بِتَقْدِير عدم وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف لَا يجب فِيهِ بِنذر كَصَلَاة، وَالْعلَّة: أَنَّهُمَا عبادتان.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِي حجية قِيَاس الْعَكْس، خلاف وَكَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد يَقْتَضِي الْمَنْع، لَكِن الْجُمْهُور على خِلَافه.(7/3128)
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ": " اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ على وَجْهَيْن، أصَحهمَا - وَهُوَ الْمَذْهَب - أَنه يَصح، اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي فِي عدَّة مَوَاضِع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن الِاسْتِدْلَال بِالْعَكْسِ اسْتِدْلَال بِقِيَاس مَدْلُول على صِحَّته بِالْعَكْسِ، وَإِذا صَحَّ الْقيَاس فِي الطَّرْد وَهُوَ غير مَدْلُول على صِحَّته، فَلِأَن يَصح الِاسْتِدْلَال بِالْعَكْسِ وَهُوَ قِيَاس مَدْلُول على صِحَّته أولى ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَيدل عَلَيْهِ أَن الِاسْتِدْلَال بِهِ وَقع فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَفعل الصَّحَابَة:
فَأَما الْقُرْآن: فنحو قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا إلهة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] .
فَدلَّ على أَنه لَيْسَ إِلَه إِلَّا الله لعدم فَسَاد السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النِّسَاء: 82] .
وَلَا اخْتِلَاف فِيهِ فَدلَّ على أَن الْقُرْآن من عِنْد الله بِمُقْتَضى قِيَاس الْعَكْس.
وَأما السّنة: فكحديث: " يَأْتِي أَحَدنَا شَهْوَته ويؤجر؟ قَالَ أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام؟ - يَعْنِي: أَكَانَ يُعَاقب؟ - قَالُوا: نعم، قَالَ: فَمه! ".(7/3129)
فقاس وَضعهَا فِي حَلَال فيؤجر على وَضعهَا فِي حرَام فيؤزر بنقيض الْعلَّة.
وَأما الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من مَاتَ يُشْرك بِهِ شَيْئا دخل النَّار، وَقلت أَنا: وَمن مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة ".
وَفِي بعض أصُول مُسلم رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة. قَالَ: وَقلت أَنا: من مَاتَ يُشْرك بِهِ شَيْئا دخل النَّار ".(7/3130)
قلت: وَالَّذِي يغلب على [الظَّن] أَن هَذَا اللَّفْظ فِي البُخَارِيّ.
وكل مِنْهُمَا يحصل بِهِ الْمَقْصُود، وَلم يُنكر ذَلِك أحد من الصَّحَابَة عَلَيْهِ. لَكِن رَوَاهُمَا مُسلم عَن جَابر مَرْفُوعا، فَلَا حَاجَة إِلَى الْقيَاس.
وَيجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَنه عِنْد ذكر كل لَفْظَة] كَانَ نَاسِيا لِلْأُخْرَى كَمَا جمع بِهِ النَّوَوِيّ.(7/3131)
فَظهر بذلك كُله أَنه حجَّة إِلَّا أَنه هَل يُسمى قِيَاسا حَقِيقَة أَو مجَازًا؟ ثَلَاثَة أَقْوَال، أرجحها الثَّانِي، لِأَن بعضه تلازم، وَنقل عَن صَاحب الْمُعْتَمد.
وَقيل: لَا يُسمى قِيَاسا أصلا، وَبِه صرح ابْن االصباغ فِي " الْعدة ".
قَالَ: لِأَن غَايَته أَنه من نظم التلازم) انْتهى.
قَوْله: {وأركانه: أصل، وَفرع، وَعلة، وَحكم} .
المُرَاد بالأركان هُنَا: مَا لَا يتم الْقيَاس إِلَّا بِهِ، لِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ رد فرع إِلَى أصل، أَو حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم - على مَا بَيناهُ - فالرد أَو الْحمل مصدر، وَهُوَ معنى من الْمعَانِي، فَكيف يكون أَرْكَانه؟ وأركان الشَّيْء: هُوَ مَا يتألف ذَلِك الشَّيْء مِنْهُ، فإطلاق الْأَركان على هَذِه الْأُمُور مجَاز، إِلَّا أَن يَعْنِي بِالْقِيَاسِ: مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور مَعَ الْحمل تَغْلِيبًا فَيصير كل من الْأَرْبَعَة شطراً لَا شرطا، وَنَظِيره فِي الْفِقْه: إِطْلَاق أَن البيع أَرْكَانه ثَلَاثَة: عَاقد، ومعقود، وَصِيغَة، وَالْمرَاد مَا لَا بُد مِنْهُ.(7/3132)
أَرْكَان الْقيَاس أَرْبَعَة وَهِي: الأَصْل، وَالْفرع، وَالْعلَّة الجامعة، وَالْحكم.
وَأما مَا حُكيَ أَن الْقيَاس يجوز من غير أصل.
فَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: " هُوَ قَول من خلط الِاجْتِهَاد بِالْقِيَاسِ " أَي سمى الِاجْتِهَاد قِيَاسا وَالْحق أَنه نوع من الِاجْتِهَاد.
وَالَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى أصل هُوَ مَا سواهُ من أَنْوَاع الِاجْتِهَاد، وَأما الْقيَاس فَلَا بُد لَهُ من أصل.
وَحكي أَيْضا خلاف شَاذ فِي أَن الْعلَّة لَيست من أَرْكَان الْقيَاس، وَأَنه يَصح الْقيَاس بِدُونِهَا إِذا لَاحَ بعض الشّبَه.
وَهُوَ بَاطِل، لَا سِيمَا إِذا قُلْنَا إِن الْعلَّة هِيَ الدَّالَّة على الحكم فِي الأَصْل مَعَ وجود النَّص على الحكم.(7/3133)
وَقَوله: " بَينهمَا بعض الشّبَه " هُوَ غير الْعلَّة فِي الْجُمْلَة.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " ركن الشَّيْء هُوَ جزؤه الدَّاخِل فِي [حَقِيقَته] ، ثمَّ قَالَ: لم كَانَت أَرْكَان الْقيَاس أَرْبَعَة؟ وَله توجيهات إقناعية وَحَقِيقَة:
أَحدهَا: أَنه الْقيَاس معنى مَعْقُول والمعاني المعقولة مَحْمُولَة على الْأَعْيَان المحسوسة، وَقد تقرر أَن اركان المحسوسات هِيَ العناصر، وَهِي أَرْبَعَة، فَكَذَلِك المعقولات تَقْتَضِي بِحكم هَذَا أَن تكون أَرْكَانهَا أَرْبَعَة، فَإِن زَاد شَيْء مِنْهَا أَو نقص عَن ذَلِك فَهُوَ خَارج عَن مُقْتَضى الأَصْل لمقْتَضى خَاص.
الثَّانِي: أَنه قد سبق أَن مدَار المحدثات على عللها الْأَرْبَع المادية، والصورية، والفاعلية، والغائية، وَهِي أَرْكَان لَهَا، وَذَلِكَ بَين فِي المحسوسات، والمعقولات مُلْحقَة بهَا كَمَا سبق آنِفا.
الثَّالِث: أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ رَاجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى الْقيَاس الْعقلِيّ المنطقي الْمُؤلف من الْمُتَقَدِّمين، لِأَن قَوْلنَا: النَّبِيذ مُسكر فَكَانَ حَرَامًا كَالْخمرِ، مُخْتَصر من قَوْلنَا: النَّبِيذ مُسكر وكل مُسكر حرَام، وَقَوْلنَا: الْأرز مَكِيل فَحرم فِيهِ التَّفَاضُل كالبر، مُخْتَصر من قَوْلنَا: الْأرز مَكِيل، وكل مَكِيل يحرم فِيهِ التَّفَاضُل. وَلَيْسَ فِي الأول زِيَادَة على الثَّانِي إِلَّا ذكر الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ على(7/3134)
جِهَة التنظير بِهِ والتأنس، وَلِهَذَا لَو قُلْنَا: النَّبِيذ مُسكر فَهُوَ حرَام، والأرز مَكِيل فَهُوَ رِبَوِيّ لحصل الْمَقْصُود.
وَإِذا ثَبت أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ رَاجع إِلَى الْعقلِيّ لزم فِيهِ مَا لزم فِي الْعقلِيّ من كَونه على أَرْبَعَة أَرْكَان.
وَبَيَانه: أَن المقدمتين والنتيجة تشْتَمل على سِتَّة أَجزَاء من بَين مَوْضُوع ومحمول، فَسقط مِنْهَا بالتكرار جزءان، وَهُوَ الْحَد الْوسط، يبْقى أَرْبَعَة أَجزَاء هِيَ أَرْكَان الْمَقْصُود، وَهِي الَّتِي يقْتَصر عَلَيْهَا الْفُقَهَاء فِي أقيستهم.
مِثَاله: قَوْلنَا /: النَّبِيذ مُسكر، جزءان: مَوْضُوع وَهُوَ النَّبِيذ، ومحمول وَهُوَ مُسكر، ثمَّ نقُول: وكل مُسكر حرَام، فهذان جزءان وَيلْزم عَن ذَلِك النَّبِيذ حرَام وهما جزءان آخرَانِ، صَارَت سِتَّة أَجزَاء هَكَذَا: النَّبِيذ مُسكر وكل مُسكر حرَام فالنبيذ حرَام، يسْقط مِنْهَا لفظ " مُسكر " مرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ(7/3135)
مَحْمُول فِي الْمُقدمَة الأولى، مَوْضُوع فِي الثَّانِيَة يبْقى هَكَذَا: النَّبِيذ مُسكر، فَهُوَ حرَام، وَهُوَ صُورَة قِيَاس الْفُقَهَاء.
فقد بَان بِهَذَا: أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ مَحْمُول على الْعقلِيّ فِي بنائِهِ على أَرْبَعَة أَرْكَان بِالْجُمْلَةِ.
الرَّابِع: أَن الْقيَاس معنى إضافي يفْتَقر فِي تَحْقِيقه إِلَى مقيس، وَهُوَ الْمُسَمّى فرعا، وَإِلَى مقيس عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسَمّى أصلا، وَإِلَى مقيس لَهُ، وَهُوَ الْمُسَمّى عِلّة، وَإِلَى مقيس فِيهِ، وَهُوَ الْمُسَمّى حكما، فَلَمَّا تعلق بِهَذِهِ الْمعَانِي الْأَرْبَعَة وافتقر فِي تَحْقِيقه إِلَيْهَا لَا جرم كَانَت أركاناً لَهُ " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " المُرَاد بالأركان هُنَا مَا لَا يتم الْقيَاس إِلَّا بِهِ، لِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ هُوَ " حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم "، " فالحمل " مصدر، وَهُوَ معنى من الْمعَانِي، فَكيف تكون أَرْكَانه؟ وأركان الشَّيْء مَا يتألف ذَلِك الشَّيْء مِنْهُ، فإطلاق الْأَركان على هَذِه الْأُمُور مجَاز، إِلَّا أَن يَعْنِي بِالْقِيَاسِ مَجْمُوع هَذِه الْأُمُور مَعَ الْحمل تَغْلِيبًا، فَيصير كل من الْأَرْبَعَة شطراً لَا شرطا " انْتهى.
قَوْله: {فَالْأَصْل مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ عِنْد الْفُقَهَاء، وَعند الْمُتَكَلِّمين: دَلِيله، وَعند الرَّازِيّ: حكم الْمحل وَهُوَ لَفْظِي، وَقَالَ(7/3136)
الشَّيْخ: يَقع على الْجَمِيع، وَابْن عقيل هُوَ الحكم وَالْعلَّة}
إِذا تقرر أَن أَرْكَان الْقيَاس أَرْبَعَة: فَلَا بُد من تَعْرِيف كل مِنْهُمَا وَبَيَان شَرطه بوفاق أَو خلاف.
وَإِنَّمَا بدأنا بِالْأَصْلِ لما لَا يخفى من تَفْرِيع غَيره عَلَيْهِ فَهُوَ أولى من تَأْخِيره.
وَقد سبق فِي أول هَذَا الشَّرْح أَن الأَصْل فِي اللُّغَة: مَا يبْنى عَلَيْهِ الشَّيْء أَو نَحْو ذَلِك.
وَأَن لَهُ فِي الِاصْطِلَاح إطلاقات:(7/3137)
أَحدهَا: مَا يذكر فِي الْقيَاس وَهُوَ المُرَاد وَقد اخْتلف فِيهِ على أَقْوَال:
أَحدهَا: وَهُوَ الْمُرَجح، وَقَول الْأَكْثَر، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء وَكثير من الْمُتَكَلِّمين أَنه: مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ، كَالْخمرِ فِي الْمِثَال السَّابِق.
وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْفُقَهَاء وَأَنه أشبه لَا فتقار الحكم وَالنَّص إِلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: / أَن الأَصْل دَلِيل الحكم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَحكي عَن الْمُتَكَلِّمين ".
وَحَكَاهُ فِي " الملخص " عَن الباقلاني.
وَحَكَاهُ صَاحب " الْوَاضِح " عَن الْمُعْتَزلَة فَيكون فِي الْمِثَال فِي قَوْله - تعالي - {فَاجْتَنبُوهُ} [الْمَائِدَة: 90] . وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه نفس حكم الْمحل، فَهُوَ نفس الحكم الَّذِي فِي(7/3138)
الأَصْل كالتحريم فِي الْمِثَال، لِأَنَّهُ الَّذِي يتَفَرَّع عَلَيْهِ الحكم فِي الْفَرْع، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه لَيْسَ بِالْوَصْفِ الْجَامِع اتِّفَاقًا وَحكى قولا فِي ذَلِك. وَالْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: والنزاع لَفْظِي، لصِحَّة إِطْلَاق الأَصْل على كل مِنْهَا.
وَيَأْتِي كَلَام ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الأَصْل يَقع على الْجَمِيع، فَيَقَع الأَصْل على مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ عِنْد الْفُقَهَاء وَهُوَ الْخمر، وَيَقَع على دَلِيل الحكم وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنبُوهُ} ، وَيَقَع على نفس الحكم الَّذِي فِي الأَصْل كالتحريم.(7/3139)
وَاخْتَارَ ابْن عقيل: أَنه الحكم وَالْعلَّة.
قَوْله: {وَالْفرع: الْمُشبه عِنْد الْفُقَهَاء، وَعند الْمُتَكَلِّمين، وَابْن قَاضِي الْجَبَل حكمه} .
وَإِنَّمَا قدم على الحكم وَالْعلَّة، لِأَن الْفَرْع مُقَابل الأَصْل، فَنَاسَبَ أَن يذكر عقبه لما بَين الضدين من اللُّزُوم الذهْنِي.
وَفِي المُرَاد بِهِ فِي الْقيَاس قَولَانِ.
أَحدهمَا: وَهُوَ الْأَرْجَح أَنه: الْمحل الْمُشبه، وَذَلِكَ كالنبيذ فِي الْمِثَال السَّابِق، وَبِه قَالَ الْفُقَهَاء، حَكَاهُ ابْن الْعِرَاقِيّ عَنْهُم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الحكم الْمُشبه بِهِ، وَهُوَ التَّحْرِيم.
وَبِه قَالَ المتكلمون، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهُوَ الْأَصَح.(7/3140)
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مرتبان على القَوْل فِي تَعْرِيف الأَصْل.
فَمن قَالَ: الْمحل هُنَاكَ قَالَ هُنَا الْمحل، وَمن قَالَ هُنَالك الحكم قَالَ هُنَا الحكم، وَأما من قَالَ هُنَاكَ: إِن الأَصْل هُوَ الدَّلِيل، فَلَا يُمكن أَن يَقُول هُنَا دَلِيل الْفَرْع، لِأَن دَلِيله إِنَّمَا هُوَ الْقيَاس وَلذَلِك لم يَجْعَل حكم الْفَرْع من أَرْكَان الْقيَاس، لِأَنَّهُ ثمراته وناشئ عَنهُ كَمَا سبق.
قَالَ ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره: " والأقوال متوجهة لِأَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره، وَلِهَذَا كَانَ الْجَامِع فرعا للْأَصْل لأَخذه مِنْهُ، وَهُوَ أصل للفرع اتِّفَاقًا لبِنَاء حكمه عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن عقيل: والمعلول الحكم لَا الْمَحْكُوم فِيهِ، خلافًا لأبي عَليّ الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي، لِأَنَّهَا أثارته، وَيُقَال: بِمَ تعلل الحكم؟ واعتل فلَان لحكمه بِكَذَا وَعلة الْمَرِيض تقوم بِهِ وتؤثر فِيهِ، فَلهَذَا كَانَ الْجِسْم معلولاً " انْتهى.(7/3141)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " فِي الْكَلَام على الأَصْل: أَشَارَ ابْن الْحَاجِب إِلَى أَن الأَصْل فِي اللُّغَة مَا نَبْنِي عَلَيْهِ غَيره، فَهُوَ يساعد إِطْلَاقه اصْطِلَاحا على كل من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة يَعْنِي الَّتِي فِي الأَصْل، فَلَا بعد فِي الْجَمِيع، لَكِن هَذَا وَإِن كَانَ مُسلما لَكِن الأول من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أرجح من حَيْثُ إِن بَاب الْقيَاس مرجعه إِلَى الْفُقَهَاء، وَقد ساعدهم الأصوليون فِيهِ على [مصطلحهم] وجروا فِي ذَلِك على مُقْتَضى قَوْلهم، فَلَا يطلقون الأَصْل إِلَّا على مَا يُطلقهُ الْفُقَهَاء، وَهُوَ مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ لِئَلَّا يختبط الذِّهْن بَين الاصطلاحات.
ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَكَذَا، أَي: وَلأَجل أَن الأَصْل مَا يبْنى عَلَيْهِ غَيره كَانَ الْوَصْف الْجَامِع فرعا للْأَصْل أصلا للفرع.
وَمرَاده أَن الشَّيْء الْوَاحِد يكون أصلا بِاعْتِبَار، فرعا بِاعْتِبَار، وَهُوَ معنى قَول الرَّازِيّ: إِن الحكم أصل فِي مَحل الْوِفَاق فرع فِي مَحل الْخلاف وَالْعلَّة بِالْعَكْسِ.
وَتَحْقِيق ذَلِك: أَن الأَصْل إِمَّا أَن يكون بِالذَّاتِ، أَي: بِلَا وَاسِطَة، أَو بِالْعرضِ، أَي: بِوَاسِطَة أَمر آخر، فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى بل فِي الِاصْطِلَاح ". انْتهى.(7/3142)
قَوْله: {فصل} {شَرط حكم الأَصْل كَونه إِن استلحق شَرْعِيًّا} .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْقَصْد من الْقيَاس الشَّرْعِيّ.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (والعقلي ومسائل الْأُصُول قَطْعِيَّة لَا تثبت بظني، وَكَذَا لَا يثبت بِهِ أصل الْقيَاس، وأصل خبر الْوَاحِد) انْتهى.
قَالَ الْجُمْهُور: من شَرط حكم الأَصْل أَن يكون شَرْعِيًّا.
أَي: تَفْرِيعا على أَن الْقيَاس لَا يجْرِي فِي اللُّغَات والعقليات. (وَوَافَقَهُمْ فِي " جمع الْجَوَامِع " على اشْتِرَاط كَونه شَرْعِيًّا، لَكِن قَالَ: إِذا استحلق شَرْعِيًّا [فَإِن] اللّغَوِيّ والعقلي على تَقْدِير أَن يجْرِي الْقيَاس(7/3143)
فيهمَا فَلَيْسَ قِيَاسا شَرْعِيًّا، وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ، مَعَ أَن الْقيَاس فيهمَا صَحِيح يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الحكم الشَّرْعِيّ، كقياس تَسْمِيَة اللائط زَانيا /، والنباش سَارِقا، والنبيذ خمرًا ليثبت الْحَد، وَالْقطع، وَالتَّحْرِيم.
فَإِذا قيل: بِأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ فِي استلحاق نفس الحكم الشَّرْعِيّ، فَلَا بُد من اشْتِرَاط كَونه شَرْعِيًّا) . قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وتابعنا صَاحب " جمع الْجَوَامِع " فِي ذَلِك، وَقد وَافقه شراحه.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " وَهُوَ مَفْهُوم من تَعْلِيلهم ".(7/3144)
قَوْله: {وَغير مَنْسُوخ} .
يَعْنِي شَرط حكم الأَصْل أَن لَا يكون مَنْسُوخا، لِأَن الْمَنْسُوخ لم يبْق لَهُ وجود فِي الشَّرْع، فَيلْحق فِيهِ الْأَحْكَام بِقِيَاس وَغَيره، وَلذَلِك لم يذكرهُ بَعضهم فِي الشُّرُوط، لِأَنَّهُ زَالَ اعْتِبَار [الْجَامِع] . قَوْله: {وَلَا شَامِلًا لحكم الْفَرْع} (إِذْ لَو كَانَ شَامِلًا لحكم الْفَرْع لم يكن جعل أَحدهمَا أصلا وَالْآخر فرعا أولى من الْعَكْس، ولكان الْقيَاس ضائعاً، وتطويلاً بِلَا طائل، مِثَاله فِي الذّرة: مطعوم فَلَا يجوز بَيْعه بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، قِيَاسا على الْبر، فَيمْنَع فِي الْبر، فَيَقُول: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا يدا بيد سَوَاء بِسَوَاء.(7/3145)
فَإِن الطَّعَام يتَنَاوَل الذّرة كَمَا يتَنَاوَل الْبر.
وأ نت تعلم مِمَّا ذكر أَن دَلِيل الْعلَّة إِذا كَانَ نصا وَجب أَلا يتَنَاوَل الْفَرْع بِلَفْظِهِ، مثل أَن يَقُول: النباش يقطع، لِأَنَّهُ سَارِق، كالسارق من الْحَيّ إِنَّمَا يقطع لِأَنَّهُ سَارِق، فَيَقُول: لقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] .
رتب الْقطع على السّرقَة بفاء التعقيب، فَدلَّ على أَنه الْمُقْتَضِي للْقطع.
فَيُقَال: فَهَذَا يُوجب ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع بِالنَّصِّ، فَإِن ثُبُوت الْعلَّة بعد ثُبُوت الحكم، وَلَا مخلص للمستدل إِلَّا منع كَونه عَاما) قَالَه الْعَضُد.
قَوْله: {وَلَا معدولاً بِهِ عَن سنَن الْقيَاس كعدد الرَّكْعَات، أَو لَا نَظِير لَهُ، لَهُ معنى ظَاهر كرخص السّفر للْمَشَقَّة، أَو لَا كالقسامة} .
من شَرط حكم الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ أَن لَا يكون معدولاً بِهِ عَن سنَن(7/3146)
الْقيَاس، أَي عَن طَرِيقه الْمُعْتَبر فِيهِ / لتعذر التَّعْدِيَة حِينَئِذٍ وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ.
أَحدهمَا: لكَونه لم يعقل مَعْنَاهُ، إِمَّا لكَونه اسْتثْنِي من قَاعِدَة عَامَّة كالعمل [بِشَهَادَة] خُزَيْمَة وَحده فِيمَا لَا يقبل شَهَادَة الْوَاحِد(7/3147)
فِيهِ، أَو لم يسْتَثْن كتقدير نصب الزكوات، وأعداد الرَّكْعَات، ومقادير الْحُدُود وَالْكَفَّارَات.
وَالضَّرْب الثَّانِي: مَا عقل مَعْنَاهُ وَلَكِن لَا نَظِير لَهُ، سَوَاء كَانَ لَهُ معنى ظَاهر، كرخص السّفر، أَو لَا معنى لَهُ ظَاهر كالقسامة.
كَذَا مثلت بِهِ تبعا لِابْنِ مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " لَكِن فِي جعله الْقسَامَة معقولة الْمَعْنى وَهُوَ خَفِي، بِخِلَاف شَهَادَة خُزَيْمَة، ومقادير الْحُدُود، نظر ظَاهر.(7/3148)
قلت: قد بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَابْن الْقيم الْمَعْنى فِي الْقسَامَة وعللاه بعلل جَيِّدَة.
أما إِذا شرع ابْتِدَاء، فَجعله من الْخَارِج عَن سنَن الْقيَاس مجَاز، لِأَنَّهُ لم يدْخل حَتَّى يخرج، وَإِذا كَانَ أَيْضا خَارِجا عَن الْمَعْنى لِمَعْنى كالعرايا المخرجة من الربويات لحَاجَة الْفُقَرَاء فِي الأَصْل، لَا يُقَال فِيهِ خَارج عَن سنَن الْقيَاس إِلَّا مجَازًا، نبه عَلَيْهِ الْغَزالِيّ وَغَيره، نعم يَقع الْبَحْث فِي أُمُور جعلت خَارِجَة عَن سنَن الْقيَاس من وَجه آخر.
مِنْهَا رخص السّفر، قَالُوا: لَا يدْخل فِيهَا الْقيَاس لعدم النظير، فَيمْنَع لوُجُود الْمَشَقَّة فِي غير السّفر من الْأَعْمَال الشاقة كالحمالين.
وَجَوَابه: أَن التَّعْلِيل بمظنة الْمَشَقَّة لعدم انضباط الْحِكْمَة، وَهِي الْمَشَقَّة.
وَمِنْهَا: قَوْلهم: يجْرِي الْقيَاس فِي الْحُدُود وَالْكَفَّارَات الرُّخص والتقديرات، وَالْمرَاد بهَا نَفسهَا، أما مقاديرها فَلَا يجْرِي فِيهَا الْقيَاس ".
قَوْله: {وَمَا خص من الْقيَاس يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ وَقِيَاسه على غَيره، عِنْد(7/3149)
أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَفِيَّة والمالكية /، وَمنعه أكثرهما إِلَّا أَن يكون مُعَللا أَو مجمعا على قِيَاسه كوجه لنا. قَالَ القَاضِي: لَا يُقَاس على غَيره فِي إِسْقَاط حكم النَّص وَيُقَاس عَلَيْهِ غَيره}
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَاخْتلف فِي الْقيَاس على أصل مَخْصُوص من جملَة الْقيَاس، وَهُوَ تَارَة لَا تفهم علته كجعل شَهَادَة خُزَيْمَة شهادتين فَلَا يُقَاس، وَتارَة تفهم.
قَالَ أَبُو يعلى: " الْمَخْصُوص من جملَة الْقيَاس يُقَاس عَلَيْهِ وَيُقَاس [على] غَيره، أما الأول لِأَن أَحْمد قَالَ فِيمَن نذر ذبح نَفسه: يفدى نَفسه بكبش، فقاس من نذر ذبح نَفسه على من نذر ذبح وَلَده " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض(7/3150)
الْحَنَفِيَّة، وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق الْمَالِكِي، لِأَن الظَّن الْخَاص أرجح، وَلِهَذَا قدم أَصله.
وَمنع ذَلِك أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، والمتكلمين، إِلَّا أَن يكون مُعَللا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا من الطوافين "، أَو مجمعا على جَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ(7/3151)
كالتحالف فِي الْإِجَارَة كَالْبيع ".
قَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع من الْحَنَفِيَّة: إِن ثَبت الْمُسْتَثْنى بِدَلِيل قَطْعِيّ جَازَ الْقيَاس عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.
والكرخي إِن كَانَت عِلّة الْمُسْتَثْنى منصوصة أَو مجمعا عَلَيْهَا أَو مُوَافقَة لبَعض الْأُصُول جَازَ الْقيَاس وَإِلَّا فَلَا.
والرازي: يطْلب الرتجيح بَينه وَبَين غَيره.
" وَلنَا وَجه كأكثر الْحَنَفِيَّة، ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " قَالَ: وَلِهَذَا لَا نقيس على لحم الْإِبِل فِي نقض الْوضُوء وَغير ذَلِك من أصولنا.
قَالَ ابْن فلح: كَذَا قَالَ.(7/3152)
وَفِيه نظر، لعدم فهم الْمَعْنى أَو مساواته، وَلِهَذَا نقيس فِي الْأَشْهر لنا: الْعِنَب على الْعَرَايَا، وَقد قَاس الْحَنَفِيَّة الْمُقدر كالموضحة على(7/3153)
دِيَة النَّفس فِي حمل الْعَاقِلَة ".
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لنا أَن الِاعْتِبَار لوُجُود الْقيَاس بِشُرُوطِهِ وَكَونه مَخْصُوصًا لَا يمْنَع إِلْحَاق مَا فِي مَعْنَاهُ بِهِ.
قَالُوا: لَا نَظِير.
قُلْنَا: لَا يَخْلُو من نَظِير.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": المستثى عَن قَاعِدَة الْقيَاس يُقَاس عَلَيْهِ إِذا وجدت فِيهِ الْعلَّة، كقياس الْعِنَب على الرطب فِي الْعَرَايَا للْحَاجة، لِأَنَّهُ فِي / مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ إِيجَاب صَاع من تمر فِي لبن الْمُصراة، مُسْتَثْنى عَن قَاعِدَة الضَّمَان بِالْمثلِ، فنقيس على مَا لَو رد الْمُصراة بِعَيْب آخر، وكقياس بَقِيَّة الْمُحرمَات على أكل الْميتَة للضَّرُورَة.
وَأما [الثَّانِي] : فتجويز أَحْمد شِرَاء أَرض السوَاد لَا بيعهَا، قَالَ:(7/3154)
اسْتِحْسَان، وَاحْتج بتجويز الصَّحَابَة شِرَاء الْمَصَاحِف لَا بيعهَا.
وَذكر القَاضِي فِي أثْنَاء الْمَسْأَلَة: لَا يُقَاس على غَيره فِي إِسْقَاط حكم النَّص، وَيُقَاس عَلَيْهِ غَيره.(7/3155)
قَوْله: {وَكَونه غير فرع فِي ظَاهر كَلَام أَحْمد، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة.
وَاخْتَارَهُ القَاضِي، وَقَالَ يجوز أَن تستنبط من الْفَرْع الْمُتَوَسّط عِلّة لَيست فِي الأَصْل وَيُقَاس عَلَيْهِ.
وَقَالَ - أَيْضا -: " يجوز كَون الشَّيْء أصلا لغيره فِي حكم وفرعاً لغيره فِي حكم آخر ".(7/3156)
وَجوزهُ الْفَخر، وَأَبُو الْخطاب، وَمنعه أَيْضا.
وَقَالَ - ايضاً - هُوَ، وَابْن عقيل، والبصري، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: يُقَاس عَلَيْهِ بِغَيْر الْعلَّة الَّتِي يثبت بهَا، وَحكي عَن أَصْحَابنَا.
وَمنعه الْمُوفق، وَالْمجد، والطوفي، وَغَيرهم مُطلقًا إِلَّا بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ، وَالشَّيْخ فِي قِيَاس الْعلَّة فَقَط} .(7/3157)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَمِنْه كَونه غير فرع، اخْتَارَهُ القَاضِي فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَقَالَ: هُوَ ظَاهر قَول أَحْمد، وَقيل لَهُ: يقيس الرجل بِالرَّأْيِ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ أَن يسمع الحَدِيث فيقيس عَلَيْهِ.
ثمَّ ذكر أَنه يجوز أَن يستنبط من الْفَرْع الْمُتَوَسّط عِلّة لَيست فِي الأَصْل وَيُقَاس عَلَيْهِ.
وَذكر - أَيْضا - فِي مَسْأَلَة الْقيَاس جَوَاز كَون الشَّيْء أصلا لغيره فِي حكم، وفرعاً لغيره فِي حكم آخر، لَا فِي حكم وَاحِد.
وَجوزهُ القَاضِي - أَيْضا -، وَأَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَقَالَ: لِأَنَّهُ لَا يخل بنظم الْقيَاس وَحَقِيقَته.(7/3158)
وَكَذَا أَبُو الْخطاب، وَمنعه أَيْضا، وَقَالَ فِي سُؤال الْمُعَارضَة: يُقَاس عَلَيْهِ بِغَيْر الْعلَّة الَّتِي ثَبت بهَا وَإِلَّا كَانَ بَاطِلا.
وَقَالَهُ ابْن عقيل وَقَالَ: [على] أصلنَا، وَأَنه قَول أبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَأحد وَجْهي الشَّافِعِيَّة. كأصل ثَبت بِنَصّ لصِحَّة تَعْلِيله بعلتين، وَلِأَنَّهُ لَا مزية لأَحَدهمَا كمنصوص على مثله.
وَاخْتَارَ فِي " الرَّوْضَة ": مَنعه مُطلقًا إِلَّا بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر الجدليين.(7/3159)
وَقَالَ أَيْضا: إِن كَانَ قِيَاس عِلّة لم يجز، وَإِلَّا جَازَ.
وَالْمَنْع قَالَه الْكَرْخِي، والآمدي، وَذكره / عَن أَكثر أَصْحَابهم. وَالْجَوَاز قَالَه الرَّازِيّ، والجرجاني، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَقَالَ ابْن برهَان: يجوز عندنَا خلافًا للحنفية، والصيرفي من أَصْحَابنَا، قَالَ: وحرف الْمَسْأَلَة تَعْلِيل الحكم بعلتين) انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمَشْهُور عِنْد الْأَصْحَاب الْمَنْع مُطلقًا، وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي " الْأُم ") انْتهى.(7/3160)
وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب ": أطلق الأصوليون هَذَا الشَّرْط وَهُوَ مَخْصُوص عِنْدِي بِمَا إِذا لم يظْهر للوسط فَائِدَة، كقياس السفرجل على التفاح، والتفاح على الْبر، أما إِذا ظَهرت لَهُ فَائِدَة فَلَا يمْتَنع عِنْدِي أَن يُقَاس فرع على فرع، إِذا كَانَ حكم الْفَرْع الْمَقِيس عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ وسط أظهر وَأولى، بِحَيْثُ إِنَّه لَو قيس الْفَرْع الأول الَّذِي هُوَ فرع الْفَرْع على الأَصْل [لاستنكر] فِي بادئ الرَّأْي جدا. بِخِلَاف مَا إِذا جعل مندرجاً.
مِثَاله: التفاح رِبَوِيّ قِيَاسا على الزَّبِيب، وَالزَّبِيب رِبَوِيّ قِيَاسا على التَّمْر وَالتَّمْر رِبَوِيّ قِيَاسا على الْأرز، والأرز رِبَوِيّ قِيَاسا على الْبر، إِذا كَانَ الْجَامِع فِي قِيَاس التفاح على الزَّبِيب الطّعْم، وَفِي قِيَاس الزَّبِيب على التَّمْر الطّعْم مَعَ الْكَيْل، والتمرعلى الْأرز الطّعْم والكيل والقوت الْغَالِب. إِذْ لَو قيس ابْتِدَاء التفاح على الْبر لم يسلم من مَانع يمْنَع عِلّة الطّعْم وَحده.
وَكَذَا فِي الأقيسة الَّتِي بعده ليتخلص بِمَا يُزَاد فِيهَا من مَانع يمْنَع اسْتِقْلَال ذَلِك بِالْعِلَّةِ بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَة. انْتهى.
وَجه الْمَنْع فِي أصل الْمَسْأَلَة: إِن اتّحدت الْعلَّة فالوسط لَغْو، كَقَوْل الشَّافِعِي: السفرجل مطعوم فَيكون ربوياً كالتفاح ثمَّ نقيس التفاح على الْبر.(7/3161)
وَإِن لم تتحد فسد الْقيَاس، لِأَن الْجَامِع بَين الْفَرْع الْأَخير والمتوسط لم يثبت اعْتِبَاره، لثُبُوت الحكم فِي الأَصْل الأول بِدُونِهِ، وَالْجَامِع بَين الْمُتَوَسّط وَأَصله / لَيْسَ فِي فَرعه، كَقَوْلِه الشَّافِعِي: الجذام عيب يفْسخ بِهِ البيع فَكَذَا النِّكَاح كالرتق، ثمَّ يقيس الرتق على الْجب بِفَوَات الِاسْتِمْتَاع.
وَهَذَا الْمِثَال مثل بِهِ ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب.
لَكِن قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: هُوَ على سَبِيل ضرب الْمِثَال، وَإِلَّا فَرد الْمَجْبُوب عندنَا إِنَّمَا هُوَ لنُقْصَان عين الْمَبِيع نقصا يفوت بِهِ غَرَض صَحِيح، لَا لفَوَات الِاسْتِمْتَاع، وَأما إِثْبَات الْفَسْخ بالجب فِي النِّكَاح فلفوات الِاسْتِمْتَاع، فالعلتان متغايرتان على كل حَال.(7/3162)
وَهُوَ كَمَا قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجه كَلَام ابْن الْحَاجِب.
قَوْله: {فَإِن كَانَ فرعا يُخَالِفهُ الْمُسْتَدلّ، كَقَوْل حَنَفِيّ فِي صَوْم رَمَضَان بنية نفل: أَتَى بِمَا أَمر بِهِ فصح كحج ففاسد} .
مَا ذكرنَا قبل ذَلِك كَانَ فرعا يُوَافقهُ الْمُسْتَدلّ وَيُخَالِفهُ الْمُعْتَرض. وَأما إِذا كَانَ فرعا يُخَالِفهُ الْمُسْتَدلّ وَيُوَافِقهُ الْمُعْتَرض.
فمثاله: قَول الْحَنَفِيّ فِي الصَّوْم بنية النَّفْل: أَتَى بِمَا أَمر بِهِ فَيصح كفريضة الْحَج، وَهُوَ لَا يَقُول بِصِحَّة فَرِيضَة الْحَج بنية النَّفْل بل خَصمه هُوَ الْقَائِل بِهِ.
فَهَذَا قِيَاس فَاسد، لِأَنَّهُ اعْترف ضمنا بخطئه فِي الأَصْل وَهُوَ إِثْبَات الصِّحَّة فِي فَرِيضَة الْحَج، وَالِاعْتِرَاف بِبُطْلَان إِحْدَى مُقَدمَات دَلِيله اعْتِرَاف بِبُطْلَان دَلِيله، وَلَا يسمع من الْمُدَّعِي مَا هُوَ معترف بِبُطْلَانِهِ وَلَا يُمكن من دَعْوَاهُ.(7/3163)
مِثَال آخر: أَن يَقُول حنبلي فِي قتل الْمُسلم بالذمي: تمكنت الشُّبْهَة، فَلَا يُوجب الْقصاص، كالمثقل، فَإِنَّهُ فرع يُخَالِفهُ الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ على مَذْهَب الْمُعْتَرض وَفرع من فروعه، فَلَا يُمكن الْمُسْتَدلّ من تَقْرِير مذْهبه بِهِ مَعَ اعترافه بِبُطْلَانِهِ.
فَإِن قيل: فَذَلِك يصلح إلزاماً للخصم، إِذْ لَو لزمَه لزم الْمَقْصُود، وَإِلَّا كَانَ مناقضاً فِي مذْهبه [لعمله] بِالْعِلَّةِ فِي مَوضِع دون مَوضِع.
فَالْجَوَاب: أَن الْإِلْزَام مندفع بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن يَقُول: الْعلَّة فِي الأَصْل عِنْدِي غير ذَلِك وَلَا يجب ذكري لَهَا.
وَثَانِيهمَا: بِأَن يَقُول: يلْزم مِنْهُ خطؤك فِي الأَصْل أَو فِي الْفَرْع، وَلَا يلْزم مِنْهُ الْخَطَأ فِي الْفَرْع معينا وَهُوَ مطلوبك، وَرُبمَا اعْترف بخطئه فِي الأَصْل وَلَا يضر من / ذَلِك فِي الْفَرْع. قَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره قَوْله: {وَكَونه مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الْخَصْمَيْنِ.
قَالَ الْآمِدِيّ: مَعَ اخْتِلَاف الْأمة، وَقيل: بَين الْأمة، وَسموا مَا اتّفق عَلَيْهِ قِيَاسا مركبا} .(7/3164)
وَمن شُرُوط حكم الأَصْل - أَيْضا - توَافق الْخَصْمَيْنِ على حكم الأَصْل، فَإِن كَانَ أَحدهمَا يمنعهُ فَلَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ فِيهِ.
وَإِنَّمَا شَرط ذَلِك لِئَلَّا يحْتَاج القائس عِنْد الْمَنْع إِلَى إثْبَاته، فَيكون انتقالاً من مَسْأَلَة إِلَى أُخْرَى.
وَلَا يشْتَرط اتِّفَاق الْأمة، بل يَكْفِي اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ لحُصُول الْمَقْصُود بذلك، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يشْتَرط اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ وَاخْتِلَاف الْأمة، حَتَّى لَا يكون مجمعا عَلَيْهِ، وَهُوَ اخْتِيَار الْآمِدِيّ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يشْتَرط اتِّفَاق الْأمة على ذَلِك مَعَ الْخَصْمَيْنِ، فَمنع قوم الْقيَاس على مُخْتَلف فِيهِ لنقل الْكَلَام إِلَى التسلسل.
وَضعف الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره هَذَا القَوْل لندرة الْمجمع عَلَيْهِ، أَو(7/3165)
بِأَن كلا مِنْهُمَا مقلد، فَلَيْسَ لَهُ منع حكم ثَبت مذهبا لإمامه، لِأَنَّهُ لَا يعلم مأخذه، ثمَّ لَا يلْزم من عَجزه عَجزه، ثمَّ لَا يتَمَكَّن أَحدهمَا من إِلْزَام مَا لم يجمع عَلَيْهِ.
وَكَذَا قَالَ الْآمِدِيّ: " الْمُخْتَار - بعد إبِْطَال مُعَارضَة الْخصم فِي الأول وَتَحْقِيق وجود مَا يَدعِيهِ فِي الأَصْل فِي الثَّانِي - أَن الْمُقَلّد لَيْسَ لَهُ الْمَنْع وتخطئه إِمَامه " انْتهى.
قَوْله: {وَسموا مَا اتّفق عَلَيْهِ قِيَاسا مركبا} .
فَإِن كَانَ لعلتين مُخْتَلفين فمركب الأَصْل: العَبْد فَلَا يقتل بِهِ حر كَالْمكَاتبِ.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة جَهَالَة الْمُسْتَحق من السَّيِّد وَالْوَرَثَة، فَإِن صحت بَطل قياسكم، وَإِن بَطل منعت حكم الأَصْل.
وَلَعَلَّه يمْنَع وجودهَا فِي الأَصْل فمركب الْوَصْف، كتعليق طَلَاق، فَلَا يَصح قبل النِّكَاح، كفلانة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة(7/3166)
تَعْلِيق وَفِي الأَصْل تَنْجِيز، فَإِن صَحَّ هَذَا بَطل قياسكم، وَإِن بطلت منعت حكم الأَصْل.
سمى بَعضهم مَا كَانَ مُتَّفقا بَين خصمين فَقَط قِيَاسا مركبا.
وَالصَّحِيح: أَن / الْقيَاس الْمركب إِنَّمَا هُوَ بِقَيْد أَن يتَّفق الخصمان، لَكِن لعلتين مختلفتين، أَو لعِلَّة يمْنَع الْخصم وجودهَا فِي الأَصْل، كَمَا قَالَه الْآمِدِيّ، وَغَيره.
فيكتفي الْمُسْتَدلّ بموافقة خَصمه فِي الأَصْل مَعَ مَنعه عِلّة الأَصْل، وَمنعه وجودهَا فِي الأَصْل.
فَالْأول [مركب الأَصْل] سمي بذلك لاختلافهما فِي تركيب الحكم، فالمستدل يركب الْعلَّة على الحكم، والخصم بِخِلَافِهِ.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا سمي مركبا لإثباتهما الحكم كل بِقِيَاس فقد اجْتمع قياسهما.
ثمَّ إِن الأول اتفقَا فِيهِ على الحكم، وَهُوَ الأَصْل بالاصطلاح دون الْوَصْف، الَّذِي يُعلل بِهِ الْمُسْتَدلّ، فَسُمي مركب الأَصْل.
وَالثَّانِي: اتفقَا فِيهِ على الْوَصْف الَّذِي يُعلل بِهِ الْمُسْتَدلّ فَسُمي مركب الْوَصْف تمييزاً لَهُ عَن صَاحبه بِأَدْنَى مُنَاسبَة ".(7/3167)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " قيل: سمي مركبا لاختلافهما فِي علته، وَقيل: فِي تركيب الحكم عَلَيْهَا فِي الأَصْل، فَعِنْدَ الْمُسْتَدلّ هِيَ فرع لَهُ، والمعترض بِالْعَكْسِ، وَسمي مركب الأَصْل للنَّظَر فِي عِلّة حكمه " انْتهى. قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " فَإِن كَانَ الْخصم يُوَافق على الْعلَّة وَلَكِن يمْنَع وجودهَا فِي الأَصْل الْوَصْف، فَسُمي بذلك لاختلافهما فِي نفس الْوَصْف الْجَامِع.
مِثَال الأول وَهُوَ مركب الأَصْل: قَول الْحَنْبَلِيّ فِيمَا إِذا قتل الْحر عبدا الْمَقْتُول عبد، فَلَا يقتل بِهِ الْحر، كَالْمكَاتبِ، إِذا قتل وَترك وَفَاء ووارثاً مَعَ الْمولى.
فَإِن أَبَا حنيفَة يَقُول هُنَا: إِنَّه لَا قصاص، فَيلْحق العَبْد بِهِ هُنَا بِجَامِع الرّقّ، فَلَا يحْتَاج الْحَنْبَلِيّ فِيهِ إِلَى إِقَامَة دَلِيل على عدم الْقصاص فِي هَذِه الصُّورَة لموافقة خَصمه.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ فِي منع ذَلِك: إِن الْعلَّة إِنَّمَا هِيَ جَهَالَة الْمُسْتَحق من السَّيِّد وَالْوَرَثَة لَا الرّقّ، لِأَن السَّيِّد وَالْوَارِث وَإِن إجتمعا على طلب الْقصاص، لَا يَزُول الِاشْتِبَاه، لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي مكَاتب يَمُوت عَن وَفَاء:
قَالَ بَعضهم /: يَمُوت عبدا، وَتبطل الْكِتَابَة.(7/3168)
وَقَالَ بَعضهم: تُؤَدّى [الْكِتَابَة] من أكسابه، وَيحكم بِعِتْقِهِ فِي آخر جُزْء من حَيَاته.
فقد اشْتبهَ الْوَلِيّ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَاف فَامْتنعَ الْقصاص. فَإِن اعْترض عَلَيْهِم: بأنكم لَا بُد أَن تحكموا فِي هَذِه الْحَالة بِأحد هذَيْن الْقَوْلَيْنِ إِمَّا بِمَوْتِهِ عبدا أَو حرا، وأيا مَا كَانَ فالمستحق مَعْلُوم.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: نَحن نحكم بِمَوْتِهِ حرا، بِمَعْنى أَنه يُورث، لَا بِمَعْنى وجوب الْقصاص على قَاتله الْحر، لِأَن حكمنَا بِمَوْتِهِ حرا ظَنِّي، لاخْتِلَاف الصَّحَابَة، وَالْقصاص يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ، فَهَذِهِ جَهَالَة تصلح لدرء الْقصاص، وَلَا يمْتَنع علمنَا بمستحق الْإِرْث ".(7/3169)
وَمِثَال آخر: قِيَاس حلي الْبَالِغَة على حلي الصبية، فِي أَنه لَا زَكَاة فِيهِ، فَإِن ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ فِي حلي الصبية لَكِن بعلتين مُخْتَلفين، فَعِنْدَ الْحَنَابِلَة وَالشَّافِعِيَّة لكَونه حليا مُبَاحا، وَعند الْحَنَفِيَّة لكَونه مَال صبية.
وَمِثَال الثَّانِي: وَهُوَ مركب الْوَصْف: أَن يُقَال فِي مَسْأَلَة تَعْلِيق الطَّلَاق قبل النِّكَاح: تَعْلِيق للطَّلَاق فَلَا يَصح، كَمَا لَو قَالَ: زَيْنَب الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق.
فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة الَّتِي هِيَ كَونه تَعْلِيقا مفقودة فِي الأَصْل، فَإِن قَوْله: زَيْنَب الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، تَنْجِيز لَا تَعْلِيق، فَإِن صَحَّ هَذَا بَطل إِلْحَاق التَّعْلِيق بِهِ لعدم الْجَامِع، وَإِلَّا منع حكم الأَصْل، وَهُوَ عدم الْوُقُوع فِي قَوْله: زَيْنَب الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، لِأَنِّي إِنَّمَا منعت الْوُقُوع، لِأَنَّهُ تَنْجِيز، فَلَو كَانَ تَعْلِيقا لَقلت بِهِ.
وَحَاصِله: أَن الْخصم فِي هَذِه الصُّورَة لَا يَنْفَكّ عَن منع الْعلَّة فِي الأَصْل، كَمَا لَو لم يكن التَّعْلِيق ثَابتا فِيهِ، أَو منع حكم الأَصْل كَمَا إِذا كَانَ ثَابتا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يتم الْقصاص.
قَوْله: {وَلَيْسَ بِحجَّة عندنَا، وَعند الْأَكْثَر، وَجوزهُ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي وَابْن عقيل، وَجمع} .(7/3170)
الْمَشْهُور عِنْد الْأُصُولِيِّينَ: أَن هذَيْن النَّوْعَيْنِ غير مقبولين.
أما الأول: فَلِأَن الْخصم لَا يَنْفَكّ عَن منع الْعلَّة فِي الْفَرْع أَو منع الحكم فِي الأَصْل، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ / فَلَا يتم الْقيَاس.
وَأما الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكّ عَن منع الأَصْل، كَمَا لَو لم يكن التَّعْلِيق ثَابتا فِيهِ، أَو منع حكم الأَصْل إِذا كَانَ ثَابتا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يتم الْقيَاس كَمَا تقدم.
قَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: وَخَالف الخلافيون فِي النَّوْعَيْنِ فَقَالُوا: يقبلان
قَالَ ابْن مُفْلِح: " أصل الْقيَاس الْمركب لَيْسَ بِحجَّة عِنْد محققي الشَّافِعِيَّة، وَالْحَنَفِيَّة، وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو الْخطاب، وَجوزهُ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَجَمَاعَة من الطرديين، وَهُوَ كثير فِي كَلَام القَاضِي(7/3171)
وَغَيره من أَصْحَابنَا ".
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": يجوز جعل وصف مركب عِلّة، وَهُوَ أولى من أصل مركب، نَحْو: الْحلِيّ لَا زَكَاة فِيهِ لصغير، فَكَذَا كَبِير كجوهر، لَكِن يقف صِحَة كَونه حجَّة على دَلِيل لغيره، وَهل تجب مُسَاوَاة كَبِير وصغير فِي زَكَاة؟ انْتهى.
قَوْله: {وَقَالَ جمع: لَو سلم الْعلَّة فَأثْبت الْمُسْتَدلّ وجودهَا، أَو سلمه انتهض الدَّلِيل، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة كَثِيرَة} .
أَي: لَو سلم الْخصم الْعلَّة للمستدل أَنَّهَا مَا ذكر، فَأثْبت الْمُسْتَدلّ وجودهَا حَيْثُ اخْتلفُوا فِيهِ، أَو سلمه، أَي: سلم وجودهَا المناظر، انتهض الدَّلِيل عَلَيْهِ لتسليمه فِي الثَّانِي وَقيام الدَّلِيل عَلَيْهِ فِي الأول.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم إِذا سلم الْخصم الْعلَّة فَأثْبت الْمُسْتَدلّ فِي الْقسم الثَّانِي أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الأَصْل، أَو سلم أَن الْعلَّة الَّتِي عينهَا الْمُسْتَدلّ فِي الأول هِيَ الْعلَّة، وَأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْفَرْع انتهض الدَّلِيل عَلَيْهِ، فَيُصْبِح الْقيَاس لاعتراف الْخصم بالمقتضي لصِحَّته، وَذَلِكَ كَمَا لَو كَانَ مُجْتَهدا، اَوْ غلب على ظَنّه صِحَة الْقيَاس، فَإِنَّهُ لَا يكابر نَفسه فِيمَا أوجبه عَلَيْهِ ".(7/3172)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَجزم بَعضهم بِأَن الْمُقَلّد إِن سلم دَلِيل الْمُسْتَدلّ، أَو أثبت الْمُسْتَدلّ وجود الْعلَّة فِي الأَصْل فِي الثَّانِي، قَامَت الْحجَّة عِنْده لاعْتِرَافه كَمَا لَو كَانَ مُجْتَهدا " انْتهى.
وَإِنَّمَا قلت: (وَقَالَ: جمع) ، لكَلَام ابْن مُفْلِح، فَإِنَّهُ ذكر أَولا كَلَام الشَّيْخ موفق الدّين / فِي " الرَّوْضَة "، وَكَلَام الْآمِدِيّ الَّذِي قدمْنَاهُ، ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: " وَجزم بَعضهم بِكَذَا ".
قَوْله: {وَلم يتَّفقَا، فَأثْبت الْمُسْتَدلّ حكمه بِنَصّ، ثمَّ أثبت الْعلَّة قبل ذَلِك بِإِجْمَاع} .
مَا تقدم فِيمَا إِذا كَانَ حكم الأَصْل مُتَّفقا عَلَيْهِ بَينهمَا، إِمَّا بِالْإِجْمَاع مُطلقًا، أَو بَين الْخَصْمَيْنِ، فَإِذا لم يكن مجتمعاً عَلَيْهِ مُطلقًا، وَلَا بَين الْخَصْمَيْنِ، بل حاول إِثْبَات حكم الأَصْل بِنَصّ، ثمَّ أثبت الْعلَّة بطرِيق من طرقها من إِجْمَاع أَو نَص أَو سبر أَو إخالة، فَكَذَلِك يقبل مِنْهُ فِي الْأَصَح.
وَقيل: لَا يقبل بل لَا بُد من إِجْمَاع إِمَّا مُطلقًا، أَو بَين الْخَصْمَيْنِ كَمَا ذكرنَا، وَذَلِكَ لضم نشر الْجِدَال.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَو أثبت الْمُسْتَدلّ حكم الأَصْل بِنَصّ، ثمَّ أثبت الْعلَّة بِأحد طرقها جَازَ، ونهض دَلِيله على الْخصم، زَاد بَعضهم: " الْمُجْتَهد " لجَوَاز اعْتِقَاد الْمُقَلّد دفع إِمَامه دَلِيل الْمُسْتَدلّ. انْتهى ".(7/3173)
مِثَاله أَن يَقُول فِي الْمُتَبَايعين إِذا كَانَت السّلْعَة تالفة: متبايعان تخالفاً، فيتحالفان، ويترادان، كَمَا لَو كَانَت السّلْعَة قَائِمَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ فليتحالفا وليترادا) .(7/3174)
بَيَان الْمُلَازمَة: أَن من يمْنَع ذَلِك يشْتَرط فِي حكم الأَصْل الْإِجْمَاع، إِنَّمَا قَالَ، لِئَلَّا يحصل الِانْتِقَال من مَطْلُوب إِلَى آخر وانتشار كَلَام يُوجب تسلسل الْبَحْث، وَيمْنَع من حُصُول مَقْصُود المناظرة، وَهَذَا لَا يخص بِحكم الأَصْل بل هُوَ ثَابت فِي كل مُقَدّمَة تقبل الْمَنْع.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَرُبمَا يفرق بِأَن هَذَا حكم شَرْعِي مثل الأول يَسْتَدْعِي مَا يستدعيه بِخِلَاف الْمُقدمَات الْأُخَر.
قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ هَذِه اصْطِلَاحَات، وَلكُل نظر فِيمَا يصطلح عَلَيْهِ لَا يُمكن المشاحة فِيهِ ".
قَوْله: {وَيُقَاس على عَام خص كاللائط، وَمن أَتَى بَهِيمَة على الزَّانِي فِي الْأَصَح} .(7/3175)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيجوز الْقيَاس على عَام خص كاللائط، وَمن أَتَى بَهِيمَة على الزَّانِي.
قَالَ ابْن عقيل: هُوَ الْأَصَح لنا وللشافعية.
وَقيل: لَا، لضعف مَعْنَاهُ للْخلاف فِيهِ " انْتهى.
وَقد تقدم أَن من شَرط حكم الأَصْل أَن يكون شَرْعِيًّا، وزدنا / تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ": إِن استلحق شَرْعِيًّا، احْتِرَاز من الْقيَاس فِي اللُّغَات والعقليات، مَعَ أَن الْقيَاس فِي اللُّغَات صَحِيح يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حكم شَرْعِي، كقياس تَسْمِيَة اللائط زَانيا، والنباش سَارِقا، والنبيذ خمرًا، ليثبت الْحَد، وَالْقطع، وَالتَّحْرِيم. لَكِن هَذِه الْمَسْأَلَة تَأتي بِعَينهَا فِي كلامنا فِي شُرُوط الْعلَّة. أَو لغوياً فِي الْأَصَح، فَإنَّا تابعنا هُنَا ابْن مُفْلِح، وتابعنا [هُنَاكَ] صَاحب " جمع الْجَوَامِع " فَحصل التّكْرَار، إِلَّا أَن يُقَال هَذِه لَيست تِلْكَ فَتحَرَّر.(7/3176)
قَوْله: {فصل}
{تقدّمت الْعلَّة وَهِي: الْعَلامَة والمعرف عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، لَا الْمُؤثر فِيهِ، [وَقَالَت] الْمُعْتَزلَة: الْمُؤثر بِذَاتِهِ، وَالْغَزالِيّ وسليم، والهندي: بِإِذن الله تَعَالَى، والرازي: بِالْعرْفِ، والآمدي وَمن تبعه الْبَاعِث} .
الْعلَّة من أَرْكَان الْقيَاس كَمَا تقدم، وَتَقَدَّمت أَحْكَامهَا فِي خطاب الْوَضع مستوفاة بأقسامها.
وَأما تَعْرِيفهَا فَهِيَ وصف ظَاهر منضبط معرف للْحكم.
فَخرج بِقَيْد (الظُّهُور) : الْخَفي كالبخر فِي الْأسد.
(وبالانضباط) المُرَاد بِهِ: تميز الشَّيْء عَن غَيره: مَا هُوَ منتشر لَا ضَابِط لَهُ كالمشقة، فَلذَلِك لَا يُعلل إِلَّا بِوَصْف منضبط يشْتَمل عَلَيْهَا.
وبقولنا: (معرف للْحكم) : مَا يعرف نقيضه وَهُوَ الْمَانِع، أَو مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْمُعَرّف، وَهُوَ الشَّرْط، كَمَا سبق تَقْرِير ذَلِك فِي تَقْسِيم الحكم الوضعي إِلَى: سَبَب، وَشرط، ومانع.
فتقييد الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط بِكَوْنِهِ (مُعَرفا) وحكاية الْخلاف فِيهِ، فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ:(7/3177)
فأصحابنا وَالْأَكْثَر بل هُوَ قَول أهل السّنة: أَن الْعلَّة هِيَ الْمعرفَة للْحكم لَا مُؤثر، لِأَن الحكم قديم فَلَا مُؤثر لَهُ، فَإِن أُرِيد تعلق الحكم بالمكلف فَهُوَ بِإِرَادَة الله - تَعَالَى -، لَا بتأثير شَيْء من الْعَالم.
وَمعنى كَونهَا (معرفَة) : أَنَّهَا نصبت أَمارَة وعلامة ليستدل بهَا الْمُجْتَهد على وجدان الحكم إِذا لم يكن عَارِفًا بِهِ.
وَيجوز أَن يتَخَلَّف، كالغيم الرطب أَمارَة على الْمَطَر، وَقد يتَخَلَّف، وَهَذَا لَا يخرج الأمارة عَن كَونهَا أَمارَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَبِه قَالَت الْمُعْتَزلَة: إِن الْعلَّة مُؤثرَة / فِي الحكم بِنَاء على قاعدتهم فِي التحسين والتقبيح العقليين.
ثمَّ قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا أثرت بذاتها.
وَقَالَ بَعضهم: بِصفة ذاتية فِيهَا.(7/3178)
وَقَالَ بَعضهم: بِوُجُوه واعتبارات.
وَقد تقدم ذَلِك محرراً فِي أول الْأَحْكَام فِي الْمَتْن، وَالشَّرْح.
وَلَيْسَ عِنْد أهل السّنة شَيْء من الْعَالم مؤثراً فِي شَيْء، بل كل مَوْجُود فِيهِ فَهُوَ بِخلق الله تَعَالَى وإرادته.
القَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا مُؤثرَة لَا بذاتها وَلَا بِصفة ذاتية فِيهَا وَلَا غير ذَلِك، بل بِجعْل الشَّارِع إِيَّاهَا مُؤثرَة، وَهُوَ قَول الْغَزالِيّ، وسليم الرَّازِيّ.(7/3179)
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَهُوَ قريب لَا بَأْس بِهِ.
ورده الْفَخر الرَّازِيّ: بِأَن الحكم قديم، فَلَا يتَصَوَّر أَن يُؤثر فِيهِ شَيْء.
وَأَيْضًا: فَإِذا وجد الْمَعْلُول فإمَّا أَن يكون موجده الله تَعَالَى، أَو تِلْكَ الْعلَّة، أَو هما، والأخيران باطلان، لما يلْزم أَن غير الله خَالق. أَو أَن لَهُ شَرِيكا فِي خلقه، وَذَلِكَ محَال، فَتعين الأول.
القَوْل الرَّابِع: أَنا مُؤثرَة بِالْعرْفِ، وَبِه قَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الرسَالَة "
القَوْل الْخَامِس: وَبِه قَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه كَابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَنَّهَا الْبَاعِث، أَي: على التشريع، بِمَعْنى اشْتِمَال الْوَصْف على مصلحَة صَالِحَة أَن يكون الْمَقْصُود للشارع من شرع الحكم، وَهُوَ مَبْنِيّ على جَوَاز تَعْلِيل أَفعَال الْبَارِي - تَعَالَى - بالغرض.(7/3180)
فارغة(7/3181)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " وَهُوَ محكي عَن الْفُقَهَاء، والمنصور عِنْد الأشاعرة خِلَافه، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْعَثهُ شَيْء على شَيْء ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي أول [مَسْأَلَة] التحسين والتقبيح: " وَمن أهل السّنة من يُسَمِّي الْحِكْمَة غَرضا، حَتَّى من الْمُفَسّرين كَالثَّعْلَبِيِّ، كَقَوْل الْمُعْتَزلَة.
وَمِنْهُم من لَا يُطلقهُ، لِأَنَّهُ يُوهم الْمَقْصُود الْفَاسِد ".(7/3182)
وَتقدم الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ بأبسط من هَذَا.
وَفسّر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بتفسير حسن فَليُرَاجع. فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: سبق أَن الْعلَّة قسم من السَّبَب، فالسبب أَعم مِنْهَا، فَإِنَّهَا تعْتَبر فِيهَا الْمُنَاسبَة، وَالسَّبَب أَعم من ذَلِك فقد يكون زَمَانا / ومكاناً وَغير ذَلِك، وَيفرق بَينهمَا فِي اللُّغَة، وَالْكَلَام، وَالْأُصُول، وَالْفِقْه:(7/3183)
فَأَما اللُّغَة: فالسبب مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى غَيره وَلَو بوسائط، كتسمية الْحَبل سَببا، وَذكروا لِلْعِلَّةِ مَعَاني يَدُور الْأَمر الْمُشْتَرك فِيهَا على أَن يكون أمرا مستمراً، وَلِهَذَا يَقُول أَكثر النُّحَاة: اللَّام للتَّعْلِيل، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة وَالتَّعْلِيل فغاير بَينهمَا.
وَأما الْكَلَام: فالسبب: مَا يحصل الشي عِنْده لَا بِهِ، وَالْعلَّة مَا يحصل بِهِ، وَأَيْضًا الْعلَّة: مَا يتأثر بهَا الْمَعْلُول بِلَا وَاسِطَة وَلَا شَرط، وَالسَّبَب: مَا يُفْضِي للْحكم بِوَاسِطَة وبشرط، وَلذَلِك يتراخى حَتَّى تُوجد وسائطه وَشَرطه وتنتفي موانعه.
وَأما فِي الْأُصُول: فَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " جدله ": الْعلَّة: مَا تكون للمظنة وللحكمة. [وَأما السَّبَب فللمظنة دَائِما، إِذْ بالمظنة يتَوَصَّل إِلَى الحكم لأجل الْحِكْمَة] ، وَأما فِي [الْفِقْه] فَذكر لَهُ مسَائِل.(7/3184)
الثَّانِيَة: قد يعبر عَن الْعلَّة بِأَلْفَاظ ذكرهَا المقترح: السَّبَب: الأمارة، الدَّاعِي، المستدعي، الْحَامِل، المناط، الدَّلِيل، الْمُقْتَضِي، الْمُوجب الْمُؤثر. وَزَاد غَيره: الْمَعْنى، وكل ذَلِك اصْطِلَاح سهل.
قَوْله: (وَلها شُرُوط مِنْهَا: أَن تكون مُشْتَمِلَة على حِكْمَة مَقْصُودَة للشارع عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ مُعظم الْأَصْحَاب هِيَ مُجَرّد أَمارَة وعلامة نصبها الشَّارِع دَلِيلا على الحكم، زَاد ابْن عقيل وَغَيره مَعَ أَنَّهَا مُوجبَة لمصَالح دافعة لمفاسد لَيست من جنس الأمارة الساذجة) .
مَا تقدم شُرُوط حكم الأَصْل، وَهَذِه شُرُوط عِلّة الأَصْل، ونعني بِهِ: مَا يُعلل بِهِ الحكم فِي الأَصْل.
وَاشْترط الْأَكْثَر: أَن تكون مُشْتَمِلَة على حِكْمَة مَقْصُودَة للشارع من(7/3185)
شرع الحكم من تَحْصِيل مصلحَة أَو تكميلها، أَو دفع مفْسدَة أَو تقليلها، لَكِن على معنى أَنَّهَا تبْعَث الْمُكَلف على الِامْتِثَال لَا أَنَّهَا باعثة للشَّرْع على ذَلِك الحكم. أَو أَنه على [وفْق] مَا جعله اللَّهِ - تَعَالَى - مصلحَة للْعَبد تفضلا عَلَيْهِ وإحسانا لَهُ لَا وجوبا على اللَّهِ تَعَالَى.
فَفِي ذَلِك بَيَان قَول الْفُقَهَاء: الْبَاعِث على الحكم / بِكَذَا هُوَ كَذَا. وَأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بعث الشَّارِع بل بعث الْمُكَلف على الِامْتِثَال. مثل: حفظ النَّفس باعث على تعَاطِي فعل الْقصاص الَّذِي هُوَ من فعل الْمُكَلف، أما حكم الشَّرْع فَلَا عِلّة وَلَا باعث عَلَيْهِ، فَإِذا انْقَادَ الْمُكَلف لَا متثال أَمر اللَّهِ فِي أَخذ الْقصاص مِنْهُ وَكَونه وَسِيلَة لحفظ النُّفُوس كَانَ لَهُ أَجْرَانِ: أجر على الانقياد، وَأجر على قصد حفظ النَّفس، وَكِلَاهُمَا أَمر اللَّهِ، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص} [الْبَقَرَة: 178] ، {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} [الْبَقَرَة: 179] .
وَمن أجل كَون الْعلَّة لابد من اشتمالها على حِكْمَة تَدْعُو إِلَى الِامْتِثَال، كَانَ مانعها وَصفا وجوديا يخل بحكمتها، وَيُسمى: مَانع السَّبَب، فَإِن لم يخل بحكمتها بل بالحكم فَقَط وَالْحكمَة بَاقِيَة، سمي: مَانع الحكم، وَقد تقدم ذَلِك فِي خطاب الْوَضع.
مِثَال الْمَقْصُود هُنَا وَهُوَ مَانع السَّبَب: الدّين، إِذا قُلْنَا إِنَّه مَانع لوُجُوب الزَّكَاة؛ لن حكمته السَّبَب، وَهُوَ ملك النّصاب، غنى مَالِكه، فَإِذا كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ لوفاء الدّين فَلَا غنى، فاختلت حِكْمَة السَّبَب بِهَذَا الْمَانِع.(7/3186)
وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْعلَّة مُجَرّد أَمارَة وعلامة نصبها الشَّارِع دَلِيلا على الحكم.
زَاد ابْن عقيل وَغَيره: مَعَ أَنَّهَا مُوجبَة لمصَالح ودافعة لمفاسد لَيْسَ من جنس الأمارة الْفَاسِدَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ الأول؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي الأمارة سوى تَعْرِيف الحكم، وَقد عرف بِالْخِطَابِ، وَلِأَنَّهَا معرفَة لحكم الأَصْل، فَهُوَ فرعها وَهِي مستنبطة مِنْهُ، فَهِيَ فَرعه فَيلْزم الدّور. وَفِيه نظر لجَوَاز كَون فائدتها تَعْرِيف حكم الْفَرْع.
فَإِن قيل: يلْزم مِنْهُ تَعْرِيفهَا لحكم الأَصْل، وَإِلَّا لم يكن للْأَصْل مدْخل فِي الْفَرْع لعدم توقف ثُبُوت الْوَصْف فِيهِ وتعريفه لحكمه على حكم الأَصْل لعدم تَعْرِيفه لحكم الأَصْل.
قيل: إِلَّا أَن الْوَصْف مُسْتَفَاد من الأَصْل " انْتهى.(7/3187)
قَوْله: (وَبنى عَلَيْهَا الْأَصْحَاب: صِحَة / التَّعْلِيل باللقب، وَنَصّ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ الْأَكْثَر كالمشتق اتِّفَاقًا، وَمنعه الرَّازِيّ وَغَيره كوجه لنا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَبنى الْأَصْحَاب على قَوْلهم صِحَة التَّعْلِيل بِالِاسْمِ وَأَنه ظَاهر قَول أَحْمد: " يجوز الْوضُوء بِمَاء الباقلاء والحمص لِأَنَّهُ مَاء ". وَعلل الشَّافِعِيَّة أَيْضا بِمثل ذَلِك، وَقَول أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة. وَذكره الْجِرْجَانِيّ، والإسفرييني عَن أصحابهما. وَذكر ابْن برهَان الْجَوَاز عِنْدهم، قَالَ: وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يجوز.(7/3188)
وَقَالَ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا: اخْتلف فِي التَّعْلِيل بِالِاسْمِ اللقب على وَجْهَيْن:
قَالَ: ومذهبنا جَوَازه نَص عَلَيْهِ أَحْمد، كَمَا لَو نَص عَلَيْهِ الشَّارِع بقوله: حرمت التَّفَاضُل فِي الْبر لكَونه برا فَإِنَّهُ اتِّفَاق، وَلَيْسَت مُوجبَة بِخِلَاف الْعلَّة الْعَقْلِيَّة.
قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: الْعقُوبَة لما لم يجز كَونهَا معللة بِإِحْسَان المحسن، لم يجز وُرُود الشَّرْع بهَا " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " التَّعْلِيل بِالِاسْمِ اللقب وَالْمرَاد بِهِ مَا لَيْسَ بمشتق، لَا الَّذِي هُوَ أحد أَقسَام الْعلم فَقَط، كَمَا عبر فِي المفاهيم بِمَفْهُوم اللقب، وَالْمرَاد بِهِ الْأَعَمّ من الْعلم وَاسم الْجِنْس الْجَامِع.
وَمِثَال التَّعْلِيل باللقب: تَعْلِيل الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بكونهما ذَهَبا وَفِضة، وتعليل مَا يتَيَمَّم بِهِ بِكَوْنِهِ تُرَابا، وَمَا يتَوَضَّأ بِهِ بِكَوْنِهِ مَاء ".(7/3189)
وَالْقَوْل الثَّانِي: الْمَنْع من التَّعْلِيل باللقب، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ بل نقل الِاتِّفَاق عَلَيْهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَوَقع فِي " الْمَحْصُول " حِكَايَة الِاتِّفَاق على أَنه لَا يجوز التَّعْلِيل بِالِاسْمِ، كتعليل تَحْرِيم الْخمر بِأَنَّهُ يُسمى خمرًا، قَالَ: فَإنَّا نعلم بِالضَّرُورَةِ أَن هَذَا اللَّفْظ لَا أثر لَهُ، فَإِن أُرِيد بِهِ تَعْلِيل الْمُسَمّى هَذَا الِاسْم من كَونه مخامرا لِلْعَقْلِ، فَذَلِك تَعْلِيل بِالْوَصْفِ لَا بِالِاسْمِ، فَيصير مَا قَالَه طَريقَة أُخْرَى لعدم الْخلاف وَالْقطع بِالْمَنْعِ، لَكِن الْأَصَح الْجَوَاز كَيفَ فرض الْخلاف، وَقد وَقع للشَّافِعِيّ وَغَيره التَّعْلِيل بذلك) كَالْإِمَامِ. /
وَقَوْلنَا: [كالمشتق اتِّفَاقًا] .
حَكَاهُ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَذَلِكَ كاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالصّفة المشبهة وَنَحْو ذَلِك، فَهُوَ جَائِز على معنى أَن الْمَعْنى الْمُشْتَقّ ذَلِك مِنْهُ هُوَ عِلّة الحكم نَحْو {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] .(7/3190)
" مطل الْغَنِيّ ظلم "، وَغير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَفِي مَعْنَاهُ الْمَوْصُول فَإِن صلته تكون عِلّة للْحكم سَوَاء كَانَت صلته فِيهَا مُشْتَقّ كالفعل وَنَحْوه أم لَا.
قَالَ: وَحكى بَعضهم فِيهِ الِاتِّفَاق وَفِيه نظر: فَإِن سليما فِي " التَّقْرِيب " حكى قولا بِمَنْع التَّعْلِيل فِي الِاسْم مُطلقًا جَامِدا كَانَ أَو مشتقا) .(7/3191)
قَوْله: (وَقد تكون دافعة، أَو رَافِعَة، أَو فاعلة للأمرين، [وَتَكون] وَصفا حَقِيقِيًّا ظَاهرا منضبطا، أَو عرفيا مطردا، أَو لغويا فِي الْأَصَح) .
الْوَصْف المجعول عِلّة ثَلَاثَة أَقسَام، فَإِنَّهُ تَارَة يكون دافعا لَا رَافعا، وَيكون رَافعا لَا دافعا، وَيكون دافعا رَافعا، وَله أَمْثِلَة كَثِيرَة.
فَمن الأول: الْعدة فَإِنَّهَا دافعة للنِّكَاح إِذا وجدت فِي ابْتِدَائه لَا رَافِعَة لَهُ إِذا طرأت فِي أثْنَاء النِّكَاح، فَإِن الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة تَعْتَد وَهِي بَاقِيَة على الزَّوْجِيَّة.
وَمن الثَّانِي: الطَّلَاق فَإِنَّهُ يرفع حل الِاسْتِمْتَاع وَلَا يَدْفَعهُ؛ لِأَن الطَّلَاق إِلَى استمراره لَا يمْنَع وُقُوع نِكَاح جَدِيد بِشَرْطِهِ.
وَمن الثَّالِث الرَّضَاع فَإِنَّهُ يمْنَع من ابْتِدَاء النِّكَاح، وَإِذا طَرَأَ فِي أثْنَاء الْعِصْمَة رَفعهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا وَشبهه من مَوَانِع النِّكَاح يمْنَع من الِابْتِدَاء والدوام لتأبده واعتضاده؛ لِأَن الأَصْل فِي الِارْتفَاع: الْحُرْمَة.
وَتَكون الْعلَّة أَيْضا وَصفا حَقِيقِيًّا وَهُوَ مَا تعقل بِاعْتِبَار نَفسه، وَلَا يتَوَقَّف على وضع، كَقَوْلِنَا: مطعوم فَيكون ربويا، فالطعم مدرك بالحس، وَهُوَ أَمر حَقِيقِيّ، أَي: لَا تتَوَقَّف معقوليته على معقوليةغيره.(7/3192)
وَيعْتَبر أَمْرَانِ: أحداهما: أَن يكون ظَاهرا لَا خفِيا. الثَّانِي: أَن يكون / منضبطا أَي: يتَمَيَّز عَن غَيره. وَلَا خلاف فِي التَّعْلِيل بِهِ.
وَتَكون الْعلَّة أَيْضا وَصفا عرفيا وَيشْتَرط فِيهِ أَن يكون مطردا لَا يخْتَلف بِحَسب الْأَوْقَات، وَإِلَّا لجَاز أَن يكون ذَلِك الْعرف فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دون غَيره، فَلَا يُعلل بِهِ.
مِثَاله: الشّرف والخسة فِي [الْكَفَاءَة] وَعدمهَا، فَإِن الشّرف يُنَاسب التَّعْظِيم وَالْإِكْرَام، والخسة تناسب ضد ذَلِك فيعلل بِهِ بِالشّرطِ الْمُتَقَدّم. وَتَكون الْعلَّة أَيْضا وَصفا لغويا، مِثَاله: تَعْلِيل تَحْرِيم النَّبِيذ لِأَنَّهُ يُسمى خمرًا فَحرم كعصير الْعِنَب. وَفِي التَّعْلِيل بِهِ خلاف، وَالصَّحِيح صِحَة التَّعْلِيل بِهِ.
قطع بِهِ ابْن الْبَنَّا فِي " الْعُقُود والخصال " قَالَ كَقَوْلِنَا فِي النباش: هُوَ سَارِق فَيقطع، وَفِي النَّبِيذ خمر فَيحرم.(7/3193)
وَصَححهُ غَيره من الْعلمَاء.
قَالَ الْمحلي: بِنَاء على ثُبُوت اللُّغَة بِالْقِيَاسِ، وَمُقَابل الْأَصَح قَول بِأَنَّهُ لَا يُعلل الحكم الشَّرْعِيّ بِالْأَمر اللّغَوِيّ. [وَلَعَلَّ] هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ الَّتِي تقدّمت قَرِيبا قبيل أَحْكَام الْعلَّة فَينْظر فِيهَا وَيُحَرر لاحْتِمَال التّكْرَار.
قَوْله: [فَلَا يَصح التَّعْلِيل بحكمة مُجَرّدَة عَن وصف ضَابِط لَهَا عِنْد ابْن حمدَان وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَالْأَكْثَر، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا والرازي والبيضاوي: يَصح، و [قَالَ] بعض أَصْحَابنَا والمالكية والآمدي وَغَيرهم: يَصح بحكمة ظَاهِرَة منضبطة وَإِلَّا فَلَا] .(7/3194)
مَا سبق هُوَ الْوَصْف الْمُشْتَمل على الْحِكْمَة، أما نفس الْحِكْمَة فَهَل يجوز التَّعْلِيل بهَا أم لَا؟ وَهِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وفيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه لَا يَصح التَّعْلِيل بهَا مُطلقًا لخفائها كالرضى فِي البيع، وَلذَلِك أنيطت صِحَة البيع بالصيغ الدَّالَّة عَلَيْهِ، وَلعدم انضباطها كالمشقة؛ فَلذَلِك أنيطت بِالسَّفرِ.
اخْتَارَهُ ابْن حمدَان وَابْن قَاضِي الْجَبَل من أَصْحَابنَا.
قَالَ الْآمِدِيّ: مَنعه الْأَكْثَر. وَظَاهر الْكَلَام " جمع الْجَوَامِع ": تَرْجِيحه وَالْقَوْل الثَّانِي: يجوز التَّعْلِيل بهَا مُطلقًا؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُود فِي التَّعْلِيل، وَهَذَا / اخْتِيَار بعض أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، والبيضاوي.
وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، والمالكية، وَصَححهُ(7/3195)
ابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ، والبرماوي: التَّفْصِيل بَين أَن تكون الْحِكْمَة أَي الْمصلحَة الْمَقْصُودَة لشرع الحكم ظَاهِرَة منضبطة فَيجوز التَّعْلِيل بهَا، وَبَين أَلا تكون كَذَلِك فَيمْتَنع.
وَوجه ذَلِك: أَنا نعلم أَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَة للشارع، وَإِنَّمَا عدل عَن اعْتِبَارهَا لخفائها واضطرابها فِي الْأَغْلَب، فَإِذا زَالَ هَذَا الْمَانِع لظهورها وانضباطها صَحَّ أَن يُعلل بهَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: " وَجه الأول وَهُوَ الْمَنْع: رد الشَّارِع فِي ذَلِك إِلَى المظان الظَّاهِرَة دفعا للعسر وَاخْتِلَاف الْأَحْكَام؛ وَلِهَذَا لم يرخص للحمال وَنَحْوه للْمَشَقَّة.
وَلِأَنَّهُ يكون الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط عديم التَّأْثِير اسْتغْنَاء بِأَصْل الْحِكْمَة.(7/3196)
وَلِأَن فِيهِ حرجا بالبحث عَنْهَا فتنتفي بقوله تَعَالَى: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} [الْحَج: 78] .
ورد: بِأَنَّهُ يلْزم فِي الْوَصْف للُزُوم مَعْرفَتهَا فِي جعله عِلّة.
بل الْمَشَقَّة أَكثر، والإطلاع على الْوَصْف أسهل فَلَا يمْنَع مِنْهُ الْمَنْع.
وَأجِيب: يعْتَبر معرفَة كميتها وخصوصيتها؛ لِئَلَّا يخْتَلف الأَصْل وَالْفرع فِيهَا وَلَا يُمكن، بِخِلَافِهِ فِي الْوَصْف، لذا قيل: وَيلْزم من كَونه أسهل تَأْخِير الحكم لَو علل بهَا وَهُوَ مُمْتَنع.
وَوجه الثَّالِث: أَنَّهَا مَعَ ظُهُورهَا وانضباطها كالوصف أَو أولى؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَة من شرع الحكم كَمَا تقدم فِي تَعْلِيله.
ورد: لَا يُمكن ذَلِك لرجوعها إِلَى الْحَاجة إِلَى الْمصلحَة وَدفع الْمفْسدَة، وَهِي مُخْتَلفَة، ثمَّ نَادِر، وَفِيه حرج فَيَنْتَفِي بِالْآيَةِ.(7/3197)
أُجِيب: الْفَرْض أَنَّهَا [ظَاهِرَة] منضبطة فَلَا مَحْذُور فِيهِ وَفِيه نظر " انْتهى.
قَوْله: [ويعلل الثبوتي بِالْعدمِ عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقَالَهُ الشَّيْخ فِي قِيَاس الدّلَالَة، وَمنعه الْحَنَفِيَّة والآمدي وَغَيرهم] .
يَصح تَعْلِيل / الحكم الثبوتي بِالْعدمِ عِنْد أَصْحَابنَا، والرازي، وَأَتْبَاعه، وَذكره ابْن برهَان عَن الشَّافِعِيَّة.
وَالْمَنْع عَن الْحَنَفِيَّة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا.
وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم ".(7/3198)
وَلم يذكرهُ فِي " التَّمْهِيد " إِلَّا عَن بعض الشَّافِعِيَّة.
وَاسْتثنى بعض الْحَنَفِيَّة مثل قَول مُحَمَّد بن الْحسن فِي ولد الْمَغْصُوب: لم يغصب، وَفِيمَا لَا خمس فِيهِ من اللُّؤْلُؤ، لم يوجف عَلَيْهِ بخيل وَلَا ركاب. اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَنَّهُ كنص الشَّارِع عَلَيْهِ.
وكالأحكام تكون نفيا.
وكالعلة الْعَقْلِيَّة مَعَ أَنَّهَا مُوجبَة.
وكتعليل الْعَدَم بِهِ ذكره بَعضهم اتِّفَاقًا، نَحْو: لم أفعل لعدم الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَلم أسلم على فلَان لعدم رُؤْيَته؛ لِأَن نفي الحكم لنفي مقتضيه أَكثر من(7/3199)
نَفْيه لوُجُود منافيه، وَلِأَنَّهُ يَصح تَعْلِيل ضربه لعَبْدِهِ بِعَدَمِ امتثاله.
وَلِأَن الْعلَّة أَمارَة فالعدمية تعرف الحكم كالوجودية، وَإِن اعْتبر الْبَاعِث فالعدم الْمُقَابل للوصف الوجودي الظَّاهِر المنضبط الْمُشْتَمل على مصلحَة أَو دفع مفْسدَة مُشْتَمل على نقيض مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ، فَإِن اشْتَمَل الوجودي على مصلحَة فَعدم عدمهَا وَهُوَ مُشْتَقّ، وَإِلَّا فَعدم الْمفْسدَة مصلحَة وَهُوَ مَقْدُور على الْمُكَلف، فَيصح التَّعْلِيل بِهِ كالوجودي.
وَقد نجيب عَن الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث: بالمطالبة بِصِحَّة الْقيَاس، وبالمانع، أَو بِالْمَنْعِ.
وَأجَاب الْآمِدِيّ عَن الرَّابِع: بِأَن وجود الْعلَّة والداعي شَرط لَا عِلّة، وأضيف عدم الْأَثر إِلَيْهِ بلام التَّعْلِيل مجَاز، لافتقار الْأَمر إِلَى كل مِنْهُمَا جمعا بَين الْأَدِلَّة.
وَعَن الْخَامِس: بِأَن تَعْلِيله بامتناعه وكف نَفسه عَنهُ وَهُوَ ثبوتي.(7/3200)
وَعَن السَّادِس: بِأَنَّهُ تَعْلِيل بالإعدام الْمَقْدُور وَهُوَ جودي، لَا عدم مَحْض لَا قدرَة للمكلف عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَحل النزاع، كَذَا قَالَ.
وَخَالفهُ ابْن الْحَاجِب فاحتج بِهِ للْمَنْع فَقَالَ: لَو كَانَ عدما لَكَانَ مناسبا [أَو مظنته] ، وَتَقْرِير الثَّانِيَة أَن الْعَدَم إِن كَانَ مُطلقًا فَبَاطِل؛ لِأَنَّهُ لَا يخْتَص بِبَعْض الْأَحْكَام الثبوتية، وَإِن كَانَ / مُخَصّصا بِأَمْر أَي مُضَافا إِلَيْهِ، فَإِن كَانَ وجوده منشأ مصلحَة فَبَاطِل؛ لِأَن عَدمه عدمهَا، وَإِن كَانَ منشأ مفْسدَة فمانع وَعدم الْمَانِع لَيْسَ عِلّة، زَاد بَعضهم اتِّفَاقًا، وَإِن كَانَ وجوده يُنَافِي وجود الْمُنَاسب للْحكم الثبوتي لم يصلح عَدمه مَظَنَّة وَإِلَّا لنقيضها الْمُنَاسب؛ لِأَن الْمُنَاسب إِن كَانَ ظَاهرا فَهُوَ عِلّة بِلَا مَظَنَّة وَإِلَّا لَا جتمع عِلَّتَانِ على مَعْلُول وَاحِد، وَإِن كَانَ خفِيا فنقيضه الْأَمر الْعَدَم خَفِي والخفي لَيْسَ مَظَنَّة للخفي وَإِن لم يناف وجوده وجود الْمُنَاسبَة فوجوده كَعَدَمِهِ فَلَيْسَ مناسبا وَإِلَّا مَظَنَّة.(7/3201)
وَجَوَابه: بِمَنْع الْمُقدمَة الأولى، وَبِأَن الْمُنَاسب هُوَ الظَّاهِر المنضبط، فَكيف يَقُول: فَإِن كَانَ خفِيا، وَلَا يلْزم من خَفَاء أحد المتقابلين خَفَاء الآخر، وَإِنَّمَا يلْزم فِي المتضايفين يلْزم من تصور أَحدهمَا تصور الآخر.
فَإِن ادّعى أَنه المُرَاد بَطل قَوْله: وَإِن لم يكن فوجوده كَعَدَمِهِ، وَقد جعل فِي الدَّلِيل النَّافِي للمناسب قسما لما هُوَ منشأ مفْسدَة وَهُوَ مِنْهُ.
قَالُوا: لَا عِلّة عدم، فنقيضه وجود، فَلَو كَانَ الْعَدَم عِلّة اتّصف بالوجودي. رد: سبق مثله فِي التحسين.
قَالُوا: فَيلْزم سبر الأعدام.
أجَاب بعض أَصْحَابنَا: يلْزم، ثمَّ لعدم تناهيها لَا لعدم صلاحيتها عِلّة.
وَجزم بِهِ بَعضهم قَالُوا: الأعدام لَا تتَمَيَّز.(7/3202)
رد: بِالْمَنْعِ لتميز عدم لَازم عَن عدم ملزوم، فعلى هَذَا لَا يكون الْعَدَم جُزْءا مِنْهَا، لما سبق.
قَالُوا: انْتِفَاء مُعَارضَة المعجزة جُزْء من الْمُعَرّف بهَا، لِأَنَّهَا فعل خارق مَعَ التَّحَرِّي، وَنفي الْمعَارض والدوران جزؤه وَهُوَ الْعَكْس عدم. رد: شَرط لَا جُزْء.
قَالَ بعض الْعلمَاء: الْعَدَم عِلّة فِي قِيَاس الدّلَالَة لَا قِيَاس الْعلَّة.
ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي قَاعِدَة لَهُ فِي التَّوْحِيد وَقَالَ ك هَذَا فصل الْخطاب، فَلَا يكون الْعَدَم عِلّة تَامَّة فِي قِيَاس الْعلَّة بل جُزْءا مِنْهَا.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": " فِي ثُبُوت الْخلاف بَين الرَّازِيّ / والآمدي نظر لعدم تواردهما على مَحل وَاحِد، فَإِن الرَّازِيّ بناه على رَأْيه: أَن الْعلَّة بِمَعْنى الْمُعَرّف، وَهُوَ بِهَذَا التَّفْسِير لَا يَنْبَغِي أَن يَقع فِيهِ خلاف، إِذْ لَا امْتنَاع فِي أَن يكون الْمَعْدُوم عِلّة للموجود، والآمدي بناه على أَنَّهَا بِمَعْنى الْبَاعِث ". انْتهى.(7/3203)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ والبرماوي: على كل حَال الْخلاف بَينهمَا ثَابت وَلَو كَانَ مدركهما مُخْتَلف.
وَقَالَ ابْن التلمساني: الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على تَخْصِيص الْعلَّة، فَمن منع التَّخْصِيص جوز هُنَا، وَمن جوز التَّخْصِيص يَقُول: الْعلَّة ضَابِط الْمصلحَة وَهِي شَيْء، والعدم لَا شَيْء، فَكيف يُعلل بِهِ الشَّيْء.
تَنْبِيه: يدْخل فِي الْخلاف مَا إِذا كَانَ الْعَدَم لَيْسَ تَمام الْعلَّة بل جُزْءا مِنْهَا، فَإِن العدمي أَعم من أَن يكون كلا أَو بَعْضًا.
وَمن جملَة العدمي أَيْضا: إِذا كَانَ الْوَصْف إضافيا وَهُوَ مَا تعلقه بِاعْتِبَار غَيره كالبنوة، والأبوة، والتقدم، والتأخر، والمعية، والقبلية، والبعدية، فَفِيهِ الْخلاف، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه عدمي؛ لِأَن وجوده إِنَّمَا هُوَ فِي الأذهان لَا فِي الْخَارِج، وَالصَّحِيح أَنه عدمي.
قَوْله: (وَمِنْهَا أَن لَا تكون مَحل الحكم وَلَا جزءه الْخَاص عِنْد الْأَكْثَر،(7/3204)
وَجوزهُ قوم، وَمنع الْآمِدِيّ الْمحل من الْعِلَل القاصرة) .
مَحل الحكم: كَقَوْلِنَا: الذَّهَب رِبَوِيّ لكَونه ذَهَبا، وَالْخمر حرَام؛ لِأَنَّهُ مُسكر معتصر من الْعِنَب.
وجزء الْمحل الْخَاص بِهِ: كالتعليل باعتصاره من الْعِنَب فَقَط.
وَالْوَصْف اللَّازِم: كالتعدية فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهُ وصف لَازم لَهما.
وَقَيَّدنَا الْجُزْء بالخاص تَحَرُّزًا من الْمُشْتَرك بَين الْمحل وَغَيره، فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا فِي النقدية كتعليل إِبَاحَة البيع بِكَوْنِهِ عقد مُعَاوضَة، فَإِن جزءه الْمُشْتَرك وَهُوَ عقده الَّذِي هُوَ شَامِل للمعاوضة وَغَيرهَا لَا يُعلل بِهِ.
وَجعل الْهِنْدِيّ الْخلاف هُنَا مَبْنِيا على جَوَاز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة، فَمن منع هُنَاكَ منع هُنَا، وَمن أجَاز هُنَاكَ أجَاز هُنَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " لَكِن الْمُتَّجه أَنه من صور القاصرة، فَلَا حَاجَة لجعله مَبْنِيا عَلَيْهِ، فَإِن ذَلِك مشْعر بالمغايرة وَلَيْسَ كَذَلِك ".
اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهَا لَو كَانَت للمحل كَانَت قَاصِرَة؛ لِأَنَّهُ لَو تحقق بِخُصُوصِهِ فِي الْفَرْع اتحدا، وَكَذَا جزؤه، أطلقهُ بَعضهم.(7/3205)
قَالَ / ابْن مُفْلِح: " وَلَعَلَّ مُرَاده الْخَاص بِهِ كَقَوْل بَعضهم قلت: صَرَّحُوا بِهِ كَمَا تقدم لِإِمْكَان وجود الْجُزْء الْمُشْتَرك فِي الْفَرْع، وَتجوز القاصرة لجَوَاز استلزام مَحل الحكم لحكمة دَاعِيَة إِلَيْهِ، زَاد الْآمِدِيّ: كاستلزام التَّعْلِيل بِهِ لاحْتِمَال عُمُومه للْأَصْل وَالْفرع.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة فِي القاصرة: نَحن منعناه مُطلقًا.
وَأطلق بَعضهم: لَا يُعلل بِالْمحل؛ لِأَن الْقَائِل لَا يفعل.
رد: بِالْمَنْعِ ثمَّ الْعلَّة الْمُعَرّف.
قَوْله (وَلَا قَاصِرَة مستنبطة عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَعنهُ: يَصح كمالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَأبي الْخطاب، وَالْمجد، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم كالثابتة بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِي الْأَصَح) .
الْعلَّة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون متعدية أَو قَاصِرَة، فَإِن كَانَت متعدية عمل بهَا، وَإِن كَانَت قَاصِرَة لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون عليتها ثَابِتَة بِنَصّ أَو إِجْمَاع، اَوْ تكون مستنبطة.
فَأَما الأول فأطبق الْعلمَاء كَافَّة على جَوَاز التَّعْلِيل بهَا، وَأَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي المستنبطة.(7/3206)
وَأغْرب القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي فِي " الملخص " بحكاية قَول يمْنَع التَّعْلِيل بهَا مُطلقًا منصوصة كَانَت أَو مستنبطة.
وَقَالَ: إِنَّه قَول أَكثر فُقَهَاء الْعرَاق.
وَأما الثَّانِي وَهُوَ أَن تكون مستنبطة، فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهَا على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد.
أَحدهمَا: أَنه لَا يُعلل بهَا وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَأَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، مِنْهُم الْكَرْخِي، وَبِه قَالَ أَبُو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيّ.(7/3207)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " مَنعه أَبُو حنيفَة " وَأكْثر أَصْحَابه ".
وَهُوَ وَجه لأَصْحَاب الشَّافِعِي.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يُعلل بهَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَأَبُو بكر الباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَعبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه،(7/3208)
والآمدي وَذكره عَن أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد، واختارها أَبُو الْخطاب، وَالْمجد، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهم من أَصْحَابنَا.
قَالَ الْمجد: ثَبت مذهبا لِأَحْمَد حَيْثُ علل الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بالثمنية.
اسْتدلَّ لصِحَّة التَّعْلِيل بهَا: بِحُصُول الظَّن بِأَن الحكم لأَجلهَا، وَلَا معنى للصِّحَّة سوى ذَلِك كالثابتة بِنَصّ أَو إِجْمَاع.
ورده الْآمِدِيّ بتحققها إِذا وَبِأَنَّهُ / قِيَاس فِي الْأَسْبَاب.
وَأجِيب: بِأَن الظَّن كَاف، وَهُوَ إِلْحَاق بِعَدَمِ الْفَارِق؛ وَلِأَن دوران الحكم مَعَ الْوَصْف الْقَاصِر عِلّة كالمتعدي.
وَاسْتدلَّ: لَو وقفت صِحَّتهَا على تعديتها لم تنعكس للدور، وتنعكس اتِّفَاقًا.(7/3209)
رد: إِنَّمَا يلْزم لَو كَانَ التَّوَقُّف مَشْرُوطًا بتقدم كل مِنْهُمَا على الآخر لَا فِي توقف الْمَعِيَّة كالمتضايفين.
قَالُوا: لَو صحت لأفادت، وَالْحكم فِي الأَصْل بِنَصّ أَو إِجْمَاع وَلَا فرع لتصورها.
رد: يلْزم فِي القاصرة بِنَصّ. وَبِأَن فَائِدَته معرفَة الْبَاعِث ليَكُون أسْرع قبولا. وَبِأَنَّهُ يمْتَنع لأَجلهَا تَعديَة الحكم إِلَى الْفَرْع، وَبِأَنَّهُ إِذا قدر فِي محلهَا وصف آخر مُتَعَذر اعْتبر دَلِيل لاستقلاله.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " وَرُبمَا حدث جنس يَجْعَل ثمنا فَتكون تِلْكَ علته ".
وَقيل: ثَبت حكم الأَصْل بهَا، وَالنَّص أَو الْإِجْمَاع دَلِيل الدَّلِيل. ورد: ثَبت بِالنَّصِّ ثمَّ هِيَ بِهِ فَلَو ثَبت بهَا دَار. قَوْله: (وفائدتها معرفَة الْمُنَاسبَة، وَمنع الْإِلْحَاق، وتقوية النَّص، قَالَ السُّبْكِيّ: وَزِيَادَة الْأجر عِنْد قصد الِامْتِثَال لأَجلهَا) .
إِنَّمَا قيل ذَلِك؛ لِأَن الْمَانِع احْتج بِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي التَّعْلِيل بهَا؛ لِأَن الحكم مُقَرر بِالنَّصِّ، وَغير النَّص لَا تُوجد فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة، فَأَي فَائِدَة بهَا؟ !
فَقيل فِي الْجَواب: إِن القاصرة المنصوصة، أَو الْمجمع عَلَيْهَا مُتَّفق عَلَيْهَا، وَمَا قَالُوهُ مَوْجُود فِيهَا، فَلَو صَحَّ مَا قَالُوهُ لَكَانَ النَّص عَلَيْهَا عَبَثا وَالْإِجْمَاع عَلَيْهَا خطأ، وَنفي الْفَائِدَة أَو حصرها فِيمَا نفوه مَمْنُوع.(7/3210)
وَلها فَوَائِد مِنْهَا: معرفَة مُنَاسبَة الحكم للحكمة إِذْ بِالتَّعْلِيلِ تعرف الْحِكْمَة، وَأَن الحكم على وفْق الْحِكْمَة والمصلحة، فَيكون أدعى إِلَى الْقبُول والانقياد مِمَّا لم تعلم مناسبته.
لَكِن قَالَ فِي " المقترح ": إِن السَّبَبِيَّة إِنَّمَا جعلت لتعريف الحكم لَا لما ذكر. وَجَوَابه: إِنَّه لَا يُنَافِي فِي الْإِعْلَام طلب الانقياد لحكمته. وَمِنْهَا: إِفَادَة الْمَنْع لإلحاق فرع بذلك لعدم حُصُول الْجَامِع الَّذِي هُوَ عِلّة فِي الأَصْل.
وَاعْترض: بِأَن ذَلِك من الْمَعْلُوم وموضوع الْقيَاس فَأَيْنَ الْفَائِدَة المتجددة.
وَأجِيب / بِأَنَّهُ لَو وجد وصف آخر مُتَعَدٍّ لَا يُمكن الْقيَاس بِهِ حَتَّى يقوم دَلِيل على أَنه أرجح من تِلْكَ الْعلَّة القاصرة، بِخِلَاف مَا لَو لم يكن سوى الْعلَّة المتعدية، فَإِنَّهُ لَا يفْتَقر الْإِلْحَاق بهَا إِلَى دَلِيل على تَرْجِيح.
وَسَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح إِذا تَعَارضا من غير مُرَجّح: قدمت المتعدية، وَقيل: القاصرة، وَقيل: بِالْوَقْفِ.(7/3211)
فَلَا يعْتَرض بِهِ على مَا قرر للْحكم بِسَبَب تِلْكَ الْعلَّة الْمَقْصُودَة للشارع من شَرعه، فَيكون لَهُ أَجْرَانِ: أجر فِي امْتِثَال النَّص، وَأجر بامتثال الْمَعْنى فِيهِ.
وَذكر بَعضهم معنى خَامِسًا: أَن معرفَة الْعلَّة زِيَادَة فِي الْعلم، وَلَا شكّ أَنه فضل على من لم يعلم.
وَفِيه نظر؛ لِأَن الْمَانِع يمْنَع أَن يكون هَذَا علية حَتَّى يكون الْعلم بِهِ فَضِيلَة، بِخِلَاف الْفَوَائِد الْمَذْكُورَة.
لِأَن الْقَصْد أَنَّهَا إِذا رجحت القاصرة بِدَلِيل قدمت، أَو كَانَ للقاصرة مُرَجّح يُقَابل المتعديلة تعادلا، فظهرت الْفَائِدَة.
وَمِنْهَا: أَن النَّص يزْدَاد قُوَّة بهَا، فيصيران كدليلين يتقوى كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ، قَالَه الباقلاني.
وَهُوَ مَخْصُوص بِمَا يكون دَلِيل الحكم فِيهِ ظنيا، اما الْقطعِي فَلَا يحْتَاج لتقوية، نبه عَلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي.
وَمِنْهَا: مَا قَالَه السُّبْكِيّ: أَن الْمُكَلف يزْدَاد أجرا بانقياده.(7/3212)
وَذكر أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ من الْفَوَائِد: لَو حدث فرع فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة ألحق بِالْأَصْلِ لأَجلهَا، فَلَو لم تكن مَعْلُومَة من قبل حُدُوثه لما ألحقناه.
وَضعف: بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يتَبَيَّن أَن الْعلَّة غير قَاصِرَة، وَالْكَلَام فِي القاصرة، فَلذَلِك لم يتَعَرَّض لَهما.
قَوْله: [النَّقْض وجود الْعلَّة بِلَا حكم، وَسَماهُ الْحَنَفِيَّة: تَخْصِيص الْعلَّة، فَالْقَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَحكي عَن أَكثر أَصْحَابنَا: لَا قدح مُطلقًا، وَيكون حجَّة فِي غير مَا خص. وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن حَامِد، والخرزي، وَالْقَاضِي، والماتريدي: يقْدَح مُطلقًا. والموفق: فِي مستنبطة فَقَط إِلَّا لمَانع أَو فَوَات شَرط، وَقوم عَكسه، وَابْن الْحَاجِب: فِي منصوصة إِلَّا بِظَاهِر عَام، وَفِي مستنبطه إِلَّا إِن تخلف لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط، وَالْفَخْر: إِلَّا فِي منصوصة أَو مَا اسْتثْنِي / من الْقَوَاعِد، كالمصراة، والعاقلة والرازي: إِلَّا أَن يرد على سَبِيل الِاسْتِثْنَاء، والبيضاوي والهندي: إِلَّا لمَانع أَو فقد شَرط وَبَعض الْمُعْتَزلَة: فِي عِلّة حظر، والآمدي: إِلَّا لمَانع أَو فقد شَرط، أَو فِي معرض الِاسْتِثْنَاء، أَو فِي منصوصة لَا تقبل التَّأْوِيل] .(7/3213)
قد يعد من شُرُوط الْعلَّة أَن تكون مطردَة، أَي: كلما وجدت وجد الحكم، وَعدم الاطراد يُسمى نقضا.
وَهُوَ: أَن يُوجد الْوَصْف الَّذِي يدعى أَنه عِلّة فِي مَحل [مَا، مَعَ] عدم الحكم وتخلف عَنْهَا.
وَاعْلَم أَن النَّقْض وَالْكَلَام فِيهِ من مشكلات علم الْأُصُول والجدل، فلنقتصر على مَا يتَبَيَّن بِهِ الْمَقْصُود.
وَهُوَ أَن الْوَصْف الْمُدعى عِلّة يُوجد فِي بعض الصُّور ويتخلف عَنهُ الحكم، فَهَل يكون ذَلِك قادحا فِي عليته أَو لَا؟
مِثَاله: أَن يُقَال فِي تَعْلِيل وجوب تبييت النِّيَّة فِي الصَّوْم الْوَاجِب: صَوْم عري أَوله عَن النِّيَّة فَلَا يَصح كَالصَّلَاةِ، فتنتقص الْعلَّة وَهِي: العري، فِي(7/3214)
أَوله بِصَوْم التَّطَوُّع، فَإِنَّهُ يَصح من غير تبييت.
ثمَّ تخلف الحكم عَن الْوَصْف، إِمَّا فِي وصف ثبتَتْ عليته بِنَصّ قَطْعِيّ، أَو ظَنِّي، أَو باستنباط، والتخلف إِمَّا لمَانع، أَو فقد شَرط، أَو غَيرهمَا، فَهِيَ تِسْعَة من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي بَقَاء الْعلَّة حجَّة بعد النَّقْض، فلأحمد رِوَايَتَانِ، وللقاضي أبي يعلى قَولَانِ، وَفِي الْمَسْأَلَة عشرَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن النَّقْض لَا يقْدَح ملطقا، بل يكون حجَّة فِي غير مَا خص كالعام إِذا خص بِهِ، وَهَذَا قَول القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أَكثر أَصْحَابنَا.
قَالَ القَاضِي: وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد.(7/3215)
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وشهرته عَن الْحَنَفِيَّة أَكثر، غير أَنهم مَا سمحوا بتسميته نقضا، وسموه بتخصيص الْعلَّة. لَكِن قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّه قَول الْعِرَاقِيّين مِنْهُم. وَقَالَ أَبُو زيد: إِنَّه مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يقْدَح، اخْتَارَهُ / من أَصْحَابنَا: ابْن حَامِد، وَأَبُو الْحسن الخرزي، وَالْقَاضِي أَبُو يعلى أَيْضا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي،(7/3216)
وَأَصْحَابه إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُم، وَهُوَ قَول كثير من الْمُتَكَلِّمين، وَاخْتَارَهُ من الْحَنَفِيَّة الماتريدي.
وَقَالَ: تَخْصِيص الْعلَّة بَاطِل، قَالَ: وَمن قَالَ بتخصيصها فقد وصف اللَّهِ - تَعَالَى - بالسفه والعبث، فَأَي فَائِدَة فِي وجود الْعلَّة وَلَا حكم.
وَنَقله أَبُو زيد عَن الخراسانيين.(7/3217)
فَصَاحب هَذَا القَوْل يَقُول: تخصيصها نقض لَهَا، ونقضها يتَضَمَّن إِبْطَالهَا.
وعَلى هَذَا القَوْل: فَالْفرق بَين هَذَا وَبَين جَوَاز تَخْصِيص الْعُمُوم، وَيبقى فِي الْبَاقِي حجَّة على الْمُرَجح كَمَا تقدم: أَن الْعَام يجوز إِطْلَاقه على بعض مَا يتَنَاوَلهُ، فَإِذا خص فَلَا مَحْذُور فِيهِ، وَأما الْعلَّة فَهِيَ الْمُقْتَضِيَة للْحكم، فَلَا يخْتَلف مقتضاها عَنْهَا، فَشرط فِيهَا الاطراد.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يقْدَح فِي المستنبطة إِلَّا لمَانع أَو فَوَات شَرط، وَلَا يقْدَح فِي المنصوصة.
مِثَال الْقدح فِي المستنبطة: تَعْلِيل الْقصاص بِالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان مَعَ انتفائه فِي قتل الْأَب.
وَعدم الْقدح فِي المنصوصة: كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا ذَلِك عرق "، مَعَ(7/3218)
القَوْل بِعَدَمِ النَّقْض بالخارج النَّجس من غير السَّبِيلَيْنِ على رَأْي.
وَهَذَا اخْتِيَار الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة ".
القَوْل الرَّابِع عكس هَذَا القَوْل وَهُوَ: الْقدح فِي المنصوصة وَعَدَمه فِي المستنبطة، إِلَّا إِذا كَانَ لمَانع أَو فَوَات شَرط، قَيده بذلك فِي المستنبطة السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب ".
قَالَ: وَإِن لم يقْدَح بذلك حصل فِي كَلَام مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب التّكْرَار.(7/3219)
القَوْل الْخَامِس: يقْدَح فِي المنصوصة، إِلَّا إِذا كَانَ بِظَاهِر عَام، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ بقاطع لم يتَخَلَّف الحكم، وَإِذا كَانَ خَاصّا بِمحل الحكم لم يثبت التَّخَلُّف، وَهُوَ خلاف الْفَرْض، وَأما فِي المستنبطة فَيجوز فِيمَا إِذا كَانَ التَّخَلُّف لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط، فيقدح فِيمَا إِذا كَانَ التَّخَلُّف دونهمَا، وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب.
فَإِنَّهُ قَالَ: " وَالْمُخْتَار: إِن كَانَت مستنبطة لم يجز إِلَّا بمانع أَو عدم شَرط؛ لِأَنَّهَا / لَا تثبت عليتها إِلَّا بِبَيَان أَحدهمَا، لِأَن انْتِفَاء الحكم إِذا لم يكن ذَلِك مَانع لعدم الْمُقْتَضى، وَإِن [كَانَت] منصوصة بِظَاهِر عَام فَيجب تَخْصِيصه كعام وخاص، وَيجب تَقْدِير الْمَانِع " انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: " وَحَاصِل هَذَا الْمَذْهَب أَنه لَا بُد من مَانع أَو عدم شَرط، لَكِن فِي المستنبطة: يجب الْعلم بِعَيْنِه، وَإِلَّا لم تظن الْعلية، وَفِي المنصوصة: لَا يجب، وَيَكْفِي فِي ظن الْعلية تَقْدِيره، وَفِي الصُّورَتَيْنِ لَا تبطل الْعلية بالتخلف " انْتهى.
القَوْل السَّادِس: الْمَنْع فِي المنصوصة أَو مَا اسْتثْنِي من الْقَوَاعِد كالمصراة،(7/3220)
والعاقلة، اخْتَارَهُ الْفَخر إِسْمَاعِيل من اصحابنا.
القَوْل السَّابِع: الْقدح مُطلقًا إِلَّا أَن يرد على سَبِيل الِاسْتِثْنَاء ويعترض على جَمِيع الْمذَاهب كالعرايا، حَكَاهُ فِي " جمع الْجَوَامِع "(7/3221)
عَن الْفَخر الرَّازِيّ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَقد حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن قوم، وَاقْتضى كَلَامه موافقتهم، وَقَالَ فِي الْحَاصِل: إِنَّه الْأَصَح) .
القَوْل الثَّامِن: يقْدَح إِلَّا لمَانع أَو فقد شَرط، وَبِه قَالَ الْبَيْضَاوِيّ والهندي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " إِذا كَانَ التَّخَلُّف لمَانع أَو فقد شَرط فَلَا يقْدَح مُطلقًا سَوَاء كَانَ فِي الْعلَّة المنصوصة والمستنبطة، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ والهندي " انْتهى.(7/3222)
وَظَاهر كَلَام الْعِرَاقِيّ: فِي شَرحه: أَن مُخْتَار الْبَيْضَاوِيّ مُخْتَار الْفَخر الرَّازِيّ. فَإِنَّهُ ذكر مَا قَالَه الْفَخر ثمَّ قَالَ: (وَقَالَ فِي الْحَاصِل: إِنَّه الْأَصَح، وَجزم بِهِ فِي " الْمِنْهَاج "، وَاقْتضى كَلَامه أَنه لَيْسَ من مَحل الْخلاف) انْتهى. إِلَّا أَن تكون النُّسْخَة مغلوطة.
القَوْل التَّاسِع: إِن كَانَ عِلّة حظر لم يجز تخصيصها، وَإِلَّا جَازَ، حَكَاهُ الباقلاني عَن بعض الْمُعْتَزلَة.
القَوْل الْعَاشِر: إِن كَانَ التَّخَلُّف لمَانع أَو فقد شَرط، أَو فِي معرض الِاسْتِثْنَاء، أَو كَانَت منصوصة بِمَا لَا يقبل التاويل لم يقْدَح، وَإِلَّا قدح، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ.(7/3223)
وَإِنَّمَا حكم على النَّص بِقبُول التَّأْوِيل؛ لِأَن مُرَاده بِهِ مَا هُوَ أَعم من الصَّرِيح وَالظَّاهِر.
وَحكى / الْخلاف فِي " أصُول ابْن مُفْلِح " على خلاف هَذِه الصُّورَة
فَقَالَ: " وَاخْتلف قَول أَحْمد وَأَصْحَابه فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة ونقضها بِهِ، وَالْمَنْع: اخْتَارَهُ أَبُو الْحسن الخرزي، وَابْن حَامِد، وَقَالَهُ أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره ابْن برهَان عَن الشَّافِعِي.
وَالْجَوَاز: اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَذكره الْآمِدِيّ عَن اكثر أَصْحَابنَا.
وَاخْتلف اخْتِيَار القَاضِي: فعلى الأول فِي المنصوصة قَولَانِ لنا ولغيرنا.
وعَلى الثَّانِي: إِن لم يكن فِي مَحل التَّخْصِيص مَانع وَلَا عدم شَرط، اخْتلف كَلَام أبي الْخطاب وَغَيره.
وَالْمَنْع قَالَه الْأَكْثَر.(7/3224)
وَعَكسه أَيْضا: يجوز تَخْصِيص المنصوصة، ذكره الْآمِدِيّ اتِّفَاقًا، وَخَالف بَعضهم ".
ثمَّ ذكر اخْتِيَار الْمُوفق وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، فَخَالف فِي النَّقْل عَن الْمذَاهب، وَبنى الْأَقْوَال على الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين.
وَالَّذِي نَقَلْنَاهُ عَن الْمذَاهب من " شرح الْبرمَاوِيّ "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهمَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَجه مَا قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": أَن المنصوصة كظاهر عَام وَلَا تبطل بالتخصيص، وَلِأَنَّهُ جمع بَين دَلِيلين، وكما لَا تبطل الْعلَّة القاطعة كعلل الْقصاص.
والمستنبطة لَا يثبت كَونهَا عِلّة عِنْد تخلف الحكم إِلَّا بمانع، لبَقَاء الظَّن مَعَه، أَو عدم شَرط وَإِلَّا فلعدم الْمُقْتَضِي، وَيمْتَنع تخلف الحكم عَن الْعلَّة عِنْد الشَّرْط وَعدم الْمَانِع.
استدال الْقَائِل بِالْمَنْعِ: النَّقْض يلْزم فِيهِ مَانع أَو عدم شَرط وَإِلَّا فَلَا عِلّة،(7/3225)
ونقيض أَحدهمَا جُزْء من الْعلَّة لتوقف الحكم عَلَيْهِ، وَالْكل وَهُوَ الْعلَّة يَنْتَفِي بِعَدَمِ جزئه.
رد: إِن أُرِيد بِالْعِلَّةِ الْبَاعِث فَلَيْسَ جُزْء أَحدهمَا مِنْهَا وَلَا يقْدَح، وَإِن أُرِيد بِمَا يثبت الحكم فِيهَا ويقدح فالنزاع لَفْظِي.
قَالُوا: لَو جَازَ لزم الحكم فِي صُورَة النَّقْض لاستلزام الْعلَّة معلولها.
رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهَا باعثة.
وَإِن قيل: تَامَّة، فلفظي.
قَالُوا: سقط دَلِيل اعْتِبَارهَا، وإبطالها تبعا فيهمَا.
رد: انْتِفَاء الحكم لعَارض / لَا يُنَافِي دَلِيل اعْتِبَارهَا.
قَالُوا: كالعقلية.(7/3226)
رد: باقتضائها معلوها بِالذَّاتِ.
قَالَ ابْن عقيل: فَلَا يجوز تخصيصها عِنْد أحد، وَلَا تفْتَقر إِلَى شَرط، وتنعكس كالحركة على كَون الْمحل الْقَائِم بِهِ متحرك فَمَا لم يقم بِهِ لَيْسَ متحركا.
وَهِي مُقَارنَة لحكمها، مُوجبَة لَهُ بِنَفسِهَا فَلَا توجب حكمين، والشرعية بِوَضْع الشَّارِع.(7/3227)
وَجوز الْآمِدِيّ تخلف حكم الْعَقْلِيَّة عَنْهَا عِنْد عدم الْقَابِل لَهُ. وَكَذَا منعهَا فِي " التميهد "؛ لِأَن عِلّة هبوط الْحجر ثقله ثمَّ، قد لَا يهْبط فِي مَوضِع لمَانع.
وَفِي " الْوَاضِح ": لَا يجوز تخصيصها عِنْد أحد.
اسْتدلَّ الْقَائِل بِالْجَوَازِ فِي المنصوصة: بِأَن صِحَة المستنبطة تتَوَقَّف على الْمَانِع، وَإِلَّا لم يتَخَلَّف الحكم وَهُوَ علتها؛ لِأَن الْمَانِع إِنَّمَا يكون مَانِعا مَعَ الْمُقْتَضِي فدار.
رد: توقف معية، وَبِأَن صِحَّتهَا لَا تتَوَقَّف على الْمَانِع بل دوَام ظَنّهَا عِنْد تخلف الحكم، وَتحقّق الْمَانِع يتَوَقَّف على ظُهُور صِحَّتهَا فَلَا دور، كإعطاء فَقير يظنّ أَنه لفقره، فَإِن لم يُعْط آخر وقف الظَّن، فَإِن بَان مَانع عَاد وَإِلَّا فَلَا.(7/3228)
اسْتدلَّ الْقَائِل بِالْجَوَازِ فِي المستنبطة: بِأَن دَلِيل الْمَنْصُوص عَام.
رد: إِن دلّ على الْعلَّة قطعا لم يقبل النَّقْض وَإِلَّا قبل.
اسْتدلَّ الْقَائِل بِالْجَوَازِ فِي المستنبطة: لِأَنَّهَا عِلّة بِدَلِيل ظَاهر وَهُوَ الْمُنَاسبَة، وَيحْتَمل الحكم يحْتَمل لعدم الْعلَّة ولمعارض، فَلَا يُعَارض الظَّاهِر.
رد: بتساوي الِاحْتِمَال؛ لِأَن الشَّك فِي أحد المتقابلين شكّ فِي الآخر.
قَالُوا: لَا يتَوَقَّف كَونهَا أَمارَة على ثُبُوت الحكم فِي مَحل النَّقْض؛ لِأَنَّهُ إِن انعكس فدور وَإِلَّا تحكم.
رد: دور معية، وَبِأَن دوَام الظَّن بِكَوْنِهِ أَمارَة يتَوَقَّف على الْمَانِع فِي مَحل النَّقْض، وَثُبُوت الحكم فِيهِ على ظُهُور كَونه أَمارَة فَلَا دور.
وَفِي " التَّمْهِيد ": أَمارَة فَلَا يجب اطرادها، كغيم رطب شتاء أَمارَة على الْمَطَر، ومركوب القَاضِي على بَاب أَمِير، أَمارَة على كَونه عِنْده.
قَالَ: وَهَذَا عُمْدَة الْمَسْأَلَة.(7/3229)
\ وَمن هُنَا قَالَ: يجوز زَوَال الحكم وَبَقَاء / الْعلَّة كالعكس، وَالله أعلم) .
قَوْله: [وَلَيْسَ الْخلاف لفظيا، خلافًا لأبي الْمَعَالِي، وَتَأْتِي أَحْكَام النَّقْض فِي القوادح] .
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَابْن الْحَاجِب: [الْخلاف] فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي.
وَقد تقدم فِي بحثها مَا يدل على ذَلِك.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ، لِاتِّفَاق المجوز وَالْمَانِع على أَن اقْتِضَاء الْعلَّة للْحكم لابد فِيهِ من عدم التَّخْصِيص، وسلموا أَن الْمُعَلل لَو ذكر الْقَيْد فِي ابْتِدَاء التَّعْلِيل لاستقامت الْعلَّة، فَرجع الْخلاف إِلَى ذَلِك الْقَيْد العدمي هَل يُسمى جُزْء الْعلَّة أَو لَا؟
لَكِن رد ذَلِك الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": " بِأَنا إِذا فسرنا الْعلَّة بالداعي أَو الْمُوجب لم نجْعَل الْعَدَم جُزْءا من الْعلَّة بل كاشفا عَن حُدُوث جُزْء الْعلَّة، وَمن جوز التَّخْصِيص لَا يَقُول بذلك، وَإِن فسرنا الْعلَّة بالأمارة ظهر الْخلاف(7/3230)
بِالْمَعْنَى أَيْضا؛ لِأَن من يثبت الْعلَّة بالمناسبة يبْحَث عَن ذَلِك الْقَيْد العدمي، فَإِن وجد فِيهِ مُنَاسبَة صحّح الْعلَّة وَإِلَّا أبطلها، وَمن يجوز التَّخْصِيص لَا يبطل الْمُنَاسبَة أصلا من هَذَا الْقَيْد العدمي ".
وَأما نفي الْفَائِدَة فمردود بِأَن للْخلاف فَوَائِد.
مِنْهَا: جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين.
وَمِنْهَا: انْقِطَاع الْخصم، وَإِذا ادّعى بعد ذَلِك أَنه أَرَادَ بِالْعُمُومِ الْخُصُوص، وباللفظ الْمُطلق مَا وَرَاء مَحل النَّقْض لَا تسمع دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ يشبه الدَّعْوَى بعد الْإِقْرَار، فَلَا يسمع إِلَّا مِمَّن لَهُ قدرَة على الْإِنْشَاء، والقائلون بِجَوَاز التَّخْصِيص يقبلُونَ دَعْوَاهُ.
لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَو ذكر لفظا مُقْتَضَاهُ عُمُوم الْعلَّة، فورد نقض فَقَالَ: خصص لَفْظِي، نظر فَإِن كَانَ النَّقْض مُبْطلًا لم يقبل مِنْهُ التَّخْصِيص، وَإِن [كَانَ] غير مُبْطل، فَمن الجدليين من جعله مُنْقَطِعًا إِذا لم يَفِ بِظَاهِر لَفظه.
قَالَ: وَالْمُخْتَار لَا يكون مُنْقَطِعًا، لكنه خَالف الْأَحْسَن، إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَن يُشِير إِلَيْهِ.(7/3231)
قَوْله: [ثمَّ الْعلَّة عِنْد من [لَا] يخصصها إِن كَانَ لجنس الحكم اعْتبر طردها وعكسها، وَإِن كَانَت لعَينه، فَإِن كَانَت لإلحاقه انتقضت بأعيان / الْمسَائِل، وَإِن كَانَت لإِثْبَات حكم مُجمل لم تنْتَقض إِلَّا بِنَفْي مُجمل، ولإثبات مفصل تنْتَقض بِنَفْي مُجمل، ولنفي مُجمل بِإِثْبَات مُجمل أَو مفصل، ولنفي مفصل بِإِثْبَات مُجمل] .
هَذِه الْمسَائِل نقلهَا ابْن مُفْلِح عَن أبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَأَنا رَأَيْتهَا فِي " التَّمْهِيد "، وأنقلها هُنَا بحروفها ومثالاتها.
فَقَالَ: " النَّقْض وجود الْعلَّة وَلَا حكم، وَهُوَ لَا يفْسد الْعلَّة على قَول من يرى تَخْصِيص الْعلَّة، لِأَن ذَلِك كتخصيص اللَّفْظ الْعَام لَا يبطل التَّخْصِيص دلَالَته كَذَلِك تَخْصِيص الْعلَّة.
وَهَذَا إِنَّمَا يجوز إِذا كَانَ التَّخْصِيص بِدَلِيل، فَأَما إِذا أخل من الْعلَّة بِوَصْف فَانْتقضَ كَانَت فَاسِدَة عِنْده فِي هَذَا الْموضع.
وَذَلِكَ مثل: أَن يُعلل ثُبُوت الرِّبَا فِي الْمكيل: بِأَنَّهُ مَكِيل يحرم فِيهِ التَّفَاضُل.
دَلِيله: الْبر فنقض علته بِبيع الجنسين وَإِن كَانَ مَكِيلًا وَلَا يحرم فِيهِ التَّفَاضُل، فَيكون نقضا صَحِيحا؛ لِأَنَّهُ ذكر بعد الْعلَّة.
فَأَما من لَا يَقُول بتخصيص الْعلَّة، فَإِن النَّقْض عِنْده [مُفسد] لَهَا بِكُل حَال، وَالْعلَّة عِنْده على ضَرْبَيْنِ: عِلّة وضعت لجنس الحكم، وَعلة(7/3232)
وضعت [للعين، فالموضوعة] للْجِنْس تجْرِي مجْرى الْحَد، إِن يطرد وينعكس، وتفسد بِأَن ينْتَقض طردها وعكسها.
وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول: الشّركَة هِيَ الْمُوجبَة للشفعة، والعمد الْمَحْض هُوَ الْمُوجب للقود، فَمَتَى تعلّقت الشُّفْعَة بِغَيْر الشّركَة فِي مَوضِع، أَو ثَبت الْقود فِي غير الْعمد الْمَحْض بطلت الْعلَّة.
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: الْمُبِيح للدم الرِّدَّة، كَانَ ذَلِك منتقضا؛ لِأَنَّهُ يستباح بِغَيْرِهِ من زنا الْمُحصن، وَالْقَتْل، وَغير ذَلِك.
فَأَما إِن كَانَت الْعلَّة للأعيان نظرت، فَإِن كَانَت الْعلَّة لوُجُوب الحكم فَمَتَى وجدت الْعلَّة دون حكمهَا كَانَت منتقضة.
مثل: أَن يَقُول الْحَنَفِيّ: الْوضُوء طَهَارَة فَلَا يفْتَقر إِلَى النِّيَّة كإزالة النَّجَاسَة.
فينتقض ذَلِك بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ / طَهَارَة ويفتقر إِلَى النِّيَّة بإجماعنا ".
ثمَّ قَالَ: فصل: " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل لإِثْبَات حكم مُجمل لم ينْتَقض إِلَّا بِالنَّفْيِ [الْمُجْمل فَأَما بِالنَّفْيِ] فِي مَوضِع فَلَا ينْتَقض ذَلِك.
كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي قتل الْمُسلم بالذمي: إنَّهُمَا محقونا الدَّم، فَجرى بَينهمَا الْقصاص كالمسلمين.(7/3233)
فَيَقُول الْمُعْتَرض: تنْتَقض الْعلَّة إِذا قَتله الْمُسلم خطأ لَا يجْرِي الْقصاص فَهَذَا لَيْسَ بِنَقْض؛ لِأَنَّهُ علل بجريان الْقصاص فِي الْجُمْلَة، فَلَا ينْتَقض بانتفائه فِي مَوضِع آخر، وَلَكِن إِن نقض بِالْأَبِ مَعَ الابْن، كَانَ نقضا، لِأَنَّهُ لَا يقْتَصّ من الْأَب بِكُل حَال ".
ثمَّ قَالَ: فصل: " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل لنفي حكم مُجمل انْتقض بِإِثْبَات حكم فِي مَوضِع. مِثَال ذَلِك: أَن يُعلل نفي الْقصاص فِي الْأَطْرَاف من الْعَبْدَيْنِ فَيَقُول: مملوكان فَلم يجر بَينهمَا الْقصاص كالصغيرين.
فتنقض علته بجريان الْقصاص بَينهمَا فِي النَّفس.(7/3234)
فَلذَلِك نقض صَحِيح، لِأَنَّهُ نفى أَن يُوجد الْقصاص بَينهمَا فِي مَوضِع، فأري موضعا يجْرِي فِيهِ، فَبَطل تَعْلِيله بِأَنَّهُ لَا يصدق أَنه لَا قصاص بَينهمَا ".
ثمَّ قَالَ: فصل: " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل للنَّفْي الْمفصل [لم] ينْتَقض بالإثبات الْمُجْمل.
مِثَاله: أَن يَقُول: محقونا الدَّم فَلم يجر بَينهمَا الْقصاص فِي الْخَطَأ.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينْتَقض بِوُجُود الْقصاص بَينهمَا فِي الْعمد، فَإِن ذَلِك لَيْسَ بِنَقْض؛ لِأَن ثُبُوت الْقصاص بَينهمَا فِي الْجُمْلَة لَا يمْنَع من انتفائه عَنْهُمَا فِي بعض الْمَوَاضِع.
ثمَّ قَالَ: فصل: فَإِن كَانَ التَّعْلِيل للإثبات الْمفصل فَإِنَّهُ ينْتَقض بِالنَّفْيِ الْمُجْمل.
مِثَاله: أَن يَقُول الْمُعَلل فِي الْأَب مَعَ الابْن: إنَّهُمَا محقونا الدَّم، فَوَجَبَ بَينهمَا الْقصاص فِي الْقَتْل الْعمد، فينتقض عَلَيْهِ بِالْحرِّ مَعَ العَبْد لَا يثبت بَينهمَا قصاص فِي الْجُمْلَة.
[فَيكون] : نقضا صَحِيحا؛ لِأَن الانتفاء على الْإِطْلَاق يزِيل ثُبُوت الْقصاص فِي بعض الْمَوَاضِع " انْتهى كَلَام صَاحب " التَّمْهِيد ".(7/3235)
قَوْله: [وَالتَّعْلِيل لجَوَاز الحكم لَا ينْتَقض بأعيان الْمسَائِل، كَالصَّبِيِّ: حر مُسلم، فَجَاز أَن تجب زَكَاة مَاله كبالغ، فَلَا ينْتَقض بِغَيْر الزكوي] . /
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن كَانَ التَّعْلِيل للْجُوَاز لم ينْتَقض بأعيان الْمسَائِل، كَقَوْلِنَا فِي الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي: بِأَنَّهُ حر مُسلم، فَجَاز أَن تجب الزَّكَاة فِي مَاله كَالْبَالِغِ.
فَقَالَ الْمُعْتَرض: ينْتَقض إِذا [كَانَت إبِله] معلوفة، أَو عوامل، أَو مَاله دون نِصَاب، فَإِن ذَلِك لَيْسَ بِنَقْض؛ لِأَن الْمُعَلل أثبت بِالْجَوَازِ حَالَة وَاحِدَة، وَانْتِفَاء الزَّكَاة فِي حَالَة لَا يمْنَع وُجُوبهَا فِي حَالَة أُخْرَى " انْتهى.
قَوْله: [وَالتَّعْلِيل بِنَوْع الحكم لَا ينْتَقض بِعَين مَسْأَلَة، كالنقض بِلَحْم الْإِبِل نوع عبَادَة تفْسد بِالْحَدَثِ فتفسد بِالْأَكْلِ كَالصَّلَاةِ فَلَا تنْتَقض بِالطّوافِ؛ لِأَنَّهُ بعض النَّوْع] .
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " فَإِن علل بالنوع لم ينْتَقض بِعَين مَسْأَلَة كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي أكل لحم الْجَزُور: إِنَّه ينْقض الْوضُوء؛ لِأَنَّهُ عبَادَة تفْسد بِالْحَدَثِ، ففسدت بِالْأَكْلِ، أَصله الصَّلَاة.
فَيَقُول: فتنتقض بِالطّوافِ، فَإِنَّهُ نوع يفْسد بِالْحَدَثِ وَلَا يفْسد بِالْأَكْلِ.(7/3236)
فَقَالُوا: عللنا نوع هَذِه الْعِبَادَة الَّتِي تفْسد بِالْحَدَثِ فَلَا ينْتَقض بأعيان الْمسَائِل؛ لِأَن الطّواف بعض نوعها، فَإِذا لم يُوجد الحكم فِيهِ وجد فِي بَقِيَّة [النَّوْع] " انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " - بعد أَن ذكر الْمَسْأَلَتَيْنِ وعللهما بِمَا قَالَ أَبُو الْخطاب -: " وَعِنْدِي فِي هَذَا نظر؛ لِأَن التَّعْلِيل إِن كَانَ لكل نوع انْتقض، وَإِن كَانَ لمُطلق النَّوْع لم يلْزم [دُخُول] [الْفَرْع] ، بل يَكْفِي الأَصْل إِلَّا أَن يُقَال: مَقْصُوده إِثْبَات الحكم فِي نوع آخر " انْتهى.(7/3237)
(قَوْله [فصل] )
[الْكسر: وجود الْحِكْمَة بِلَا حكم، لَا يبطل الْعلَّة عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، كَقَوْل حَنَفِيّ فِي عَاص بِسَفَرِهِ: مُسَافر فيترخص كَغَيْر العَاصِي، ثمَّ يبين مُنَاسبَة السّفر بالمشقة، فيعترض بِمن صَنعته شاقة حضرا لَا يترخص إِجْمَاعًا.
وَقَالَ القَاضِي: سُؤال الْكسر صَحِيح، وَجَوَابه بالتسوية يَصح اتِّفَاقًا.
قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: فَإِن الْتزم الْمُعَلل الْكسر لزمَه أَن يُجيب عَنهُ بفرق تضمنته علته نطقا أَو معنى كجواب النَّقْض. وَقَالَ الشَّيْخ وَغَيره /: يَكْفِيهِ وَلَو لم تتضمنه] .
قد شَرط قوم فِي عِلّة الحكم إِذْ لم تكن حِكْمَة بل مَظَنَّة حِكْمَة أَن تكون حكمتها مطردَة، أَي: كلما وجدت الْحِكْمَة وجد الحكم، فَإِذا وجدت فِي مَحل بِدُونِ الْعلَّة وَلم يُوجد الحكم فِيهِ سمي كسرا، ويعبر عَنهُ بِأَن الْكسر يبطل الْعلَّة. وَالصَّحِيح أَن الْكسر لَا يبطل الْعلَّة عِنْد أَصْحَابنَا. وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر.
مِثَاله: أَن يَقُول الْحَنَفِيّ فِي الْمُسَافِر العَاصِي بِسَفَرِهِ مُسَافر فيترخص بِسَفَرِهِ كَغَيْر العَاصِي.
فَإِذا قيل لَهُ: لم قلت إِن السّفر عِلّة للترخص؟(7/3238)
قَالَ: الْمُنَاسبَة لما فِيهِ من الْمَشَقَّة الْمُقْتَضِيَة للترخص؛ لِأَنَّهُ تَخْفيف، وَهُوَ يَقع للمرخص.
فيعترض عَلَيْهِ: بصنعة شاقة فِي الْحَضَر كحمل الأثقال وَضرب المعاول. اسْتدلَّ للصحيح: بِأَنَّهُ قد سبق عدم التَّعْلِيل بالحكمة، وَالْعلَّة السّفر، وَلَا نقض عَلَيْهِ.
قَالُوا: الْحِكْمَة هِيَ الْمَقْصُودَة من شرع الحكم.
رد: مُسَاوَاة قدر حِكْمَة النَّقْض حِكْمَة الأَصْل مظنون؛ ثمَّ لَعَلَّ انْتِفَاء حِكْمَة لمعارض وَالْعلَّة فِي الأَصْل مَوْجُودَة قطعا، وَلَا تعَارض بَين قطع وَظن.
فَإِن قيل: وَلَو وجد قدرهَا قطعا.
قيل: إِن وَقع، يذكر الْآمِدِيّ عَن بعض أَصْحَابهم لَا أثر لَهُ لندرته وعسره، ثمَّ اخْتَار هُوَ وَمن تبعه أَنه يبطل لتعارضهما حِينَئِذٍ؛ لِأَن مَحْذُور نفي الحكم مَعَ وجود حكمته قطعا، وَالْعَكْس فَوق الْمَحْذُور اللَّازِم للمجتهد من(7/3239)
الْبَحْث عَن الْحِكْمَة فِي آحَاد الصُّور، إِلَّا أَن يثبت حكم آخر فِي مَحل النَّقْض أليق بالحكمة فَلَا يبطل.
كَمَا لَو علل قطع الْيَد قصاصا بحكمة الزّجر. فيعترض: بِأَنَّهَا فِي الْقَتْل الْعمد الْعدوان أعظم. فَيَقُول الْمُعْتَرض: ثَبت مَعهَا حكم أليق بهَا، وَهُوَ الْقَتْل، وَالله أعلم. وَذكر القَاضِي ضمن جَوَاب التَّسْوِيَة: أَن سُؤال / الْكسر صَحِيح، وَأَن جَوَابه بالتسوية يَصح وفَاقا.
قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: فَإِن الْتزم الْمُعَلل الْكسر لزمَه أَن يُجيب عَنهُ بفرق تضمنته عِلّة [نطقا] أَو معنى لجواب النَّقْض، وَعند بَعضهم يَكْفِيهِ وَلَو تضمنه، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: اخْتلفُوا فِي الْكسر، قَالَ أَبُو الْخطاب: لَيْسَ بسؤال صَحِيح، وَذكر شَيخنَا فَسَاده.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " وَالْكَسْر غير لَازم، لِأَن الحكم مِمَّا لَا تنضبط بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد فَتعين النّظر إِلَى مرد الشَّارِع فِي ضبط مقدارها.
وَقيل: الْكسر: نقض على حِكْمَة الْعلَّة دون ضابطها " انْتهى.(7/3240)
قَوْله: [النَّقْض المكسور نقض بعض الْأَوْصَاف لَا يُبْطِلهَا عندنَا وَعند الْأَكْثَر، كمبيع مَجْهُول الصّفة عِنْد الْعَاقِد، فَلَا يَصح كبعتك عبدا، فيعترض بِمَا لَو تزوج امْرَأَة لم يرهَا] .
إِذا نقض الْعلَّة بترك بعض الصِّفَات سمي نقضا مكسورا.
وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ نقض بعض الصِّفَات، وَأَنه بَين النَّقْض وَالْكَسْر، كَأَنَّهُ قَالَ الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة تحصل بِاعْتِبَار هَذَا الْبَعْض، وَقد وجد فِي الْمحل وَلم يُوجد الحكم فِيهِ، فَهُوَ نقض لما ادَّعَاهُ عِلّة بِاعْتِبَار الْحِكْمَة.
تابعنا فِي هَذَا المصطلح - وَقد ذكرنَا النَّقْض المكسور بعد ذكر الْكسر - لِابْنِ مُفْلِح، وَهُوَ تَابع ابْن الْحَاجِب، وَابْن الْحَاجِب تَابع الْآمِدِيّ.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَأما تَفْسِير ابْن الْحَاجِب الْكسر الَّذِي ذكرنَا مُسَمَّاهُ تبعا للآمدي: بِالنَّقْضِ المكسور، هِيَ تَسْمِيَة لَا يعرفهَا الجدليون.
وَذكر قبل ذَلِك الْكسر وَأَحْكَام الْكسر فَقَالَ: قَالَ أَكثر الْأُصُولِيِّينَ والجدليين: إِنَّه إِسْقَاط وصف من أَوْصَاف الْعلَّة المركبة، وإخراجه من الِاعْتِبَار بِبَيَان أَنه لَا أثر [لَهُ] ، وَله صُورَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَن يُبدل ذَلِك الْوَصْف الْخَاص الَّذِي يبين أَنه لَغْو بِوَصْف أَعم مِنْهُ، ثمَّ ينْقضه على الْمُسْتَدلّ.(7/3241)
كَقَوْل الشَّافِعِي فِي إِثْبَات صَلَاة الْخَوْف: صَلَاة يجب قَضَاؤُهَا فَيجب أَدَاؤُهَا كَصَلَاة / الآمن.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: خُصُوص كَونهَا صَلَاة ملغي لَا أثر لَهُ؛ لِأَن الْحَج وَالصَّوْم كَذَلِك، فَلم يبْق إِلَّا الْوَصْف الْعَام وَهُوَ كَونهَا عبَادَة، فينقضه عَلَيْهِ بِصَوْم الْحَائِض فَإِنَّهُ عبَادَة، يجب قَضَاؤُهَا وَلَا يجب أَدَاؤُهَا، بل يحرم.
الصُّورَة الثَّانِيَة: أَن لَا يُبدل خُصُوص الصَّلَاة فَلَا يبْقى عِلّة للمستدل إِلَّا قَوْله: يجب قَضَاؤُهَا، فَيُقَال عَلَيْهِ: وَلَيْسَ كل مَا يجب قَضَاؤُهُ يُؤدى، دَلِيله الْحَائِض فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهَا قَضَاء الصَّوْم دون أَدَائِهِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " الملخص ": " وَهُوَ سُؤال مليح والاشتغال بِهِ يَنْتَهِي إِلَى بَيَان الْفِقْه وَتَصْحِيح الْعلَّة، وَقد اتّفق أَكثر أهل الْعلم على صِحَّته وإفساد الْعلَّة بِهِ، ويسمونه النَّقْض من طَرِيق الْمَعْنى، والإلزام من طَرِيق الْفِقْه، وَأنكر ذَلِك طَائِفَة من الخراسانيين " انْتهى.
وَمن أمثله ذَلِك: أَن يَقُول شَافِعِيّ فِي بيع مَا لم يره المُشْتَرِي: بيع مَجْهُول الصّفة عِنْد الْعَاقِد فَلَا يَصح، كَمَا لَو قَالَ: بِعْتُك عبدا.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينكسر بِمَا إِذا نكح امْرَأَة لم يرهَا، فَإِنَّهُ يَصح مَعَ كَونهَا مَجْهُولَة الصّفة عِنْد الْعَاقِد.(7/3242)
فَهَذَا كسر؛ لِأَنَّهُ نقض من جِهَة الْمَعْنى، إِذْ النِّكَاح فِي الْجَهَالَة كَالْبيع، بِدَلِيل أَن الْجَهْل بِالْعينِ فِي كل مِنْهُمَا يُوجب الْفساد، فوصف كَونه مَبِيعًا ملغى، بِدَلِيل أَن الرَّهْن وَنَحْوه كَذَلِك، وَيبقى عدم الرُّؤْيَة، فينتقض بِنِكَاح من لم يرهَا.
وَإِن نزلته على الصُّورَة الأولى وَهِي الْإِبْدَال بالأعم، فَيَقُول: عقد على من لم يره الْعَاقِد فينتقض بِالنِّكَاحِ.
ثمَّ قَالَ: هَذَا تَمام تَقْرِير الْكسر وَقد وضح أَنه نقض وَارِد على [الْمَعْنى] كَمَا ذكر الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهمَا.
اسْتدلَّ لقَوْل أَصْحَابنَا وألأكثر: أَن الْعلَّة مَجْمُوع الْأَوْصَاف وَلم [ننقضها] .
فَإِن بَين الْمُعْتَرض بِأَنَّهُ لَا أثر لكَونه مَبِيعًا، / فَإِن أصر الْمُسْتَدلّ على التَّعْلِيل بالوصفين بَطل مَا علل بِهِ لعدم تَأْثِيره لَا بِالنَّقْضِ، وَإِن اقْتصر على الْوَصْف المنقوض بَطل النَّقْض؛ لِأَنَّهُ ورد على كل الْعلَّة، وَإِن أَتَى بِوَصْف لَا أثر لَهُ فِي الأَصْل ليحترز بِهِ عَن النَّقْض لم يجز.(7/3243)
وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد " للْقَاضِي أبي يعلى: يحْتَمل أَن لَا يجوز وَيحْتَمل أَن يجوز، لِأَن الْأَوْصَاف يحْتَاج إِلَيْهَا للتأثير والاحتراز، وَالْحكم تعلق بالمؤثر فَكَذَا المحترز بِهِ.
رد: بِمَنْع مَا لَا تَأْثِير لَهُ.
وَأَجَازَهُ من صحّح الْعلَّة بالطرد وَبَعْضهمْ مُطلقًا، ذكره أَبُو الْمَعَالِي، ثمَّ اخْتَار تَفْصِيلًا.
قَوْله: [الْعَكْس عدم الحكم لعدم الْعلَّة، فأصحابنا وَالْأَكْثَر لَيْسَ شرطا، وَقيل بلَى، وَالْحق أَنه مَبْنِيّ على تَعْلِيل الحكم بعلتين فَمن مَنعه اشْتَرَطَهُ وَمن لَا فَلَا، قَالَ الشَّيْخ هَذَا إِن كَانَ التَّعْلِيل لنَوْع الحكم، فَأَما لجنسه فالعكس شَرط] .
اخْتلفُوا فِي اشْتِرَاط الْعَكْس فِي صِحَة الْعلَّة وَهِي نفي الحكم لنفي الْعلَّة.
قَالَ فِي " المسودة ": لَيْسَ الْعَكْس شرطا فِي صِحَة الْعلَّة لجَوَاز الحكم بعلل، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا، وَمُقْتَضى قَول إمامنا، وَكَذَلِكَ قَول(7/3244)
الْجُمْهُور والأصوليين.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْعَكْس لُغَة: رد أول الشَّيْء إِلَى آخِره وَآخره إِلَى أَوله، وَأَصله شدّ رَأس الْبَعِير بخطامه إِلَى ذراعه.
وَفِي اصْطِلَاح الْحُكَمَاء: جعل اللَّازِم ملزوما والملزوم لَازِما مَعَ بَقَاء الْقَضِيَّة بِحَالِهَا من السَّلب والإيجاب.
كَقَوْلِنَا: لَا شَيْء من الْإِنْسَان بِحجر، فعكسه: لَا شَيْء من الْحجر بِإِنْسَان.
وَعند الْفُقَهَاء والأصوليين لَهُ اعتباران:
أَحدهمَا: مثل قَول الْحَنَفِيّ: لما لم يجب الْقصاص بصغير المثقل لم يجب بكبيره بِدَلِيل عَكسه فِي المحدد لما وَجب بكبيره وَجب بصغيره.
ثَانِيهمَا: انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الْعلَّة وَهُوَ الْمَقْصُود هُنَا. أثْبته قوم، ونفاه أَصْحَابنَا.(7/3245)
وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَكَذَلِكَ جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين الشَّافِعِيَّة، / والمعتزلة.
وَالْحق أَن اشْتِرَاطه مَبْنِيّ على منع تَعْلِيل الحكم بعلتين إِلَى آخِره.
ثمَّ قَالَ: قَالَ شَيخنَا: لَا يرد الْعَكْس إِذا كَانَ تعليلا لنَوْع الحكم وَإِن كَانَ التَّعْلِيل لجنسه فالعكس شَرط.
مِثَال الأول قَوْلنَا: الرِّدَّة عِلّة لإباحة الدَّم، فَهُوَ صَحِيح فَلَيْسَ ينعكس.
وَمِثَال الثَّانِي قَوْلنَا: الرِّدَّة عِلّة لجنس إِبَاحَة الدَّم، فَلَيْسَ بِصَحِيح لفَوَات الْعَكْس. انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.
تَنْبِيه: تابعنا فِي ذكر الْعَكْس ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَصَاحب " الْمَحْصُول " وَغَيرهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَرُبمَا عبر عَن ذَلِك بِأَنَّهُ هَل يشْتَرط فِي الْعلَّة الانعكاس كَمَا يشْتَرط فِي الاطراد.(7/3246)
ثمَّ قَالَ: فتسمية صَاحب " الْمَحْصُول " ذَلِك بِالْعَكْسِ فِيهِ نظر إِلَّا أَن يؤول، وَأما هُوَ فسماها عدم الْعَكْس، فَقَالَ: فَأَما عدم الْعَكْس فَالْمُرَاد بِهِ أَن لَا يَنْتَفِي الحكم بِانْتِفَاء الْمُدَّعِي أَنه عِلّة فَهُوَ مُقَابل للطرد وَهُوَ أ، يُوجد بوجدوه، فالعلة إِن كَانَت مطردَة منعكسة فَوَاضِح، أَو غير مطردَة فَهُوَ الِاعْتِرَاض بِالنَّقْضِ، أَو غير منعكسة فَهُوَ المُرَاد هُنَا. انْتهى.
قَالَ الْعَضُد: شَرط قوم فِي عِلّة حكم الأَصْل الانعكاس وَهُوَ: أَنه كلما عدم الْوَصْف عدم الحكم، وَلم يَشْتَرِطه آخَرُونَ.
وَالْحق أَنه مَبْنِيّ على جَوَاز تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين مختلفتين؛ لِأَنَّهُ إِذا جَازَ ذَلِك صَحَّ أَن يَنْتَفِي الْوَصْف وَلَا يَنْتَفِي الحكم لوُجُود [الْوَصْف] الآخر وقيامه مقَامه.
وَأما إِذا لم يجز فثبوت الحكم دون الْوَصْف يدل على أَنه لَيْسَ عِلّة لَهُ وأمارة عَلَيْهِ وَإِلَّا لانتفى الحكم بانتفائه، لوُجُوب انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء دَلِيله، وَيَعْنِي بذلك انْتِفَاء الْعلم أَو الظَّن لَا انْتِفَاء نفس الحكم؛ إِذْ لَا يلْزم من انْتِفَاء دَلِيل الشَّيْء انتفاؤه، وَإِلَّا لزم من انْتِفَاء الدَّلِيل على الصَّانِع انْتِفَاء الصَّانِع تَعَالَى وَأَنه بَاطِل.(7/3247)
نعم يلْزم انْتِفَاء الْعلم أَو الظَّن بالصانع، فَإنَّا نعلم قطعا أَن الصَّانِع تَعَالَى لَو لم يخلق الْعَالم أَو لم يخلق فِيهِ الدّلَالَة لما لزم انتفاؤه قطعا. /
هَذَا بِنَاء على رَأينَا، يَعْنِي أَن بعض الْمُجْتَهدين مُصِيب وَبَعْضهمْ مخطىء.
وَأما عِنْد المصوبة فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا الْعذر؛ لِأَن منَاط الحكم عِنْدهم الْعلم أَو الظَّن، فَإِذا انتفيا انْتَفَى الحكم، وعَلى رَأينَا يُمكن أَن يُقَال بِسُقُوط الحكم؛ لِئَلَّا يلْزم تَكْلِيف الْمحَال، وَقد يُقَال: الْعلَّة الدَّلِيل الْبَاعِث على الحكم، وَقد يُخَالف مُطلق الدَّلِيل، فَيلْزم من عَدمه عدم الحكم، وَكَيف لَا وَالْحكم لَا يكون إِلَّا الْبَاعِث إِمَّا وجوبا وَإِمَّا تفضلا.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: " اشْتِرَاطه مَبْنِيّ على منع تَعْلِيل الحكم بعلتين.
فَمن مَنعه اشْتَرَطَهُ كَعَدم الحكم لعدم دَلِيله، وَالْمرَاد بِعَدَمِ الحكم عدم الظَّن، أَو الظَّن بِهِ لتوقفه على النّظر الصَّحِيح فِي الدَّلِيل وَلَا دَلِيل، وَإِلَّا فالصنعة دَلِيل وجود الصَّانِع وَلَا يلْزم من عدمهَا عَدمه.
وَمن جوزه لم يَشْتَرِطه لجَوَاز دَلِيل آخر هَذَا إِن كَانَ التَّعْلِيل لنَوْع آخر، هَذَا إِن كَانَ التَّعْلِيل لنَوْع الحكم نَحْو: الرِّدَّة عِلّة لإباحة الدَّم، فَأَما جنسه فالعكس شَرط نَحْو: الرِّدَّة عِلّة لجنس إِبَاحَة الدَّم فَلَا يَصح لفَوَات الْعَكْس.
وَظَاهر مَا سبق أَن الْخلاف فِي تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين مَعًا وعَلى الْبَدَل، وَكَذَا لم يُقيد جمَاعَة الْمَسْأَلَة بالمعية.(7/3248)
وقيدها الْآمِدِيّ وَقَالَ فِي الْعَكْس: أثْبته قوم ونفاه أَصْحَابنَا والمعتزلة ثمَّ اخْتَار أَنه [إِنَّمَا] يكون مُعَللا بعلة على الْبَدَل فَلَا يلْزم من نَفيهَا لجَوَاز بدلهَا " انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.(7/3249)
(قَوْله: [فصل] )
[يجوز تَعْلِيل حكم بعلل كل صُورَة بعلة اتِّفَاقًا، وَفِي صُورَة وَاحِدَة بعلتين، أَو علل مُسْتَقلَّة عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر ويقتضيه كَلَام أَحْمد، وَقيل فِي التَّعَاقُب، وَمنعه بعض الْمَالِكِيَّة والأشعرية مُطلقًا، وَابْن فورك، وَالْغَزالِيّ، والرازي فِي المستنبطة، وَقيل عسكه، وَأَبُو الْمَعَالِي شرعا مُطلقًا] .
الْمُعَلل بالعلل المتعددة لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون وَاحِدًا بالنوع أَو وَاحِدًا بالشخص.
فالواحد بالنوع يجوز تعدد علله بِحَسب تعدد أشخاصه بِلَا خوف كتعليل قتل زيد بردته، وَقتل عَمْرو بِالْقصاصِ، وَقتل بكر بِالزِّنَا، وَقتل خَالِد / بترك الصَّلَاة.
وَأما الْوَاحِد بالشخص فَلَا خلاف فِي امْتنَاع تعدد الْعِلَل الْعَقْلِيَّة فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنى تَأْثِير كل وَاحِد، والمؤثرات على أثر وَاحِد محَال كَمَا قرر فِي مَحَله(7/3250)
وَأما الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فَهِيَ مَحل الْخلاف، وَالصَّحِيح فِيهَا من الْمذَاهب الْجَوَاز والوقوع كتحريم وَطْء الْحَائِض الْمُعْتَدَّة الْمُحرمَة، وكالحدث لخُرُوج من فرج، وَزَوَال عقل، وَمَسّ فرج، ولمس أُنْثَى، فَإِن كل وَاحِد من المتعددين الْمَذْكُورين يثبت الحكم مُسْتقِلّا.
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ لِأَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة بِمَعْنى الْمُعَرّف كَمَا تقدم، وَلَا يمْتَنع تعدد الْمُعَرّف؛ لِأَن من شَأْن كل وَاحِد أَن يعرف، لَا الَّذِي وجد بِهِ التَّعْرِيف حَتَّى تكون الْوَاحِدَة إِذا عرفت فَلَا تعرف الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا.
قَالَ بَعضهم: ويقتضيه كَلَام أَحْمد فِي خِنْزِير ميت وَغَيره، وَذكره ابْن عقيل عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء والأصوليين.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه غير جَائِز، فبالضرورة يكون غير وَاقع، وَأَن مَا ذكرُوا من الْوُقُوع يعود إِلَى الْقسم الأول وَهُوَ أَن الْمُعَلل بهَا وَاحِد بالنوع، وَأما الشَّخْص فمتعذر.(7/3251)
فالقتل بِأَسْبَاب أشخاص: الْقَتْل مُتعَدِّدَة وَالنَّوْع وَاحِد فِي الْمحل الْوَاحِد، فَأَما الْقَتْل فِي صُورَة وَاحِدَة: محَال تعدده إِذْ هُوَ إزهاق الرّوح، وَكَذَلِكَ أَسبَاب الْحَدث إِنَّمَا هِيَ أَحْدَاث فِي مَحل لَا حدث وَاحِد.
مثل: لَو ارتضعت صَغِيرَة بِلَبن زَوْجَة أَخِيك، وبلبن أختك، كَانَت مُحرمَة عَلَيْك لكونك خالها وعمها، وَلَا يُقَال فِيهِ تحريمان تَحْرِيم الْعم وَتَحْرِيم الْخَال، فَهَذَا يزِيل مَا تعلقوا فِيهِ من الشُّبْهَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِيه نظر، فقد يُقَال فِيهِ بذلك بِحَسب التَّقْدِير، إِذْ لَا مَانع من ذَلِك.
[وَبِهَذَا] القَوْل قَالَ الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، من تابعهما، والآمدي، وَابْن برهَان، ومتقدمو الْمَالِكِيَّة.(7/3252)
القَوْل الثَّالِث: إِن ذَلِك جَائِز فِي الْعلَّة المنصوصة دون المستنبطة؛ لِأَن المنصوصة دلّ الشَّرْع على تعددها فَكَانَت أَمَارَات / وَأما المستنبطة فَمَا فَائِدَة استخراجها عِلّة؟ إِلَّا أَنه لَا عِلّة غَيرهَا تتخيل.
وَجَوَابه: أَنَّهَا إِذا كَانَت أَمَارَات فاستنبطت مُتعَدِّدَة فَلَا فرق.
وَهَذَا قَول الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَالْغَزالِيّ، وَابْن فورك، والرازي، وَأَتْبَاعه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: والأستاذ.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: القَوْل الرَّابِع: أَن ذَلِك جَائِز فِي الْعلَّة المستنبطة دون المنصوصة عكس الَّذِي قبله، ذكره ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَلم يذكرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
القَوْل الْخَامِس: إِن المتعدد جَائِز عقلا وممتنع شرعا، على معنى أَنه لم يَقع فِي الشَّرْع لَا على معنى أَن الشَّرْع دلّ على مَنعه.(7/3253)
نَقله ابْن الْحَاجِب عَن أبي الْمَعَالِي وَنقل الْآمِدِيّ عَنهُ خلاف ذَلِك.
لَكِن الْهِنْدِيّ قَالَ: إِن هَذَا هُوَ الْأَشْهر فِي النَّقْل عَنهُ، قيل: وَهُوَ الصَّحِيح فَإِن عِبَارَته فِي " الْبُرْهَان ": لَيْسَ مُمْتَنعا عقلا وتسويغا ونظرا إِلَى الْمصَالح الْكُلية، لكنه مُمْتَنع شرعا، وَقَوْلنَا: مُطلقًا، أَي: فِي المنصوصة والمستنبطة.
القَوْل السَّادِس: جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين متعاقبتين، أَي: إِحْدَاهمَا فِي وَقت وَالْأُخْرَى فِي وَقت آخر، وَلَا يجوز التَّعْلِيل بهما فِي حَالَة وَاحِدَة.
وأدخلنا هَذَا القَوْل فِي مَحل الْخلاف تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ".
وَفِي ذَلِك رد على ابْن الْحَاجِب حَيْثُ اقْتضى كَلَامه: أَن مَحل الْخلاف فِي حَال الْمَعِيَّة، وَأَنه يجوز مَعَ التَّعَاقُب قطعا، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ لما حكى الْخلاف: " نعم هَل يجْرِي الْخلاف فِي التَّعْلِيل نعلتين سَوَاء كَانَتَا متعاقبتين أَو مَعًا، أَو مُخْتَصّ بالمعية؟(7/3254)
كَلَام ابْن الْحَاجِب يَقْتَضِي الأول وَرجح غَيره الثَّانِي، لما يلْزم من شُمُوله حَالَة التَّعَاقُب، أَن يكون أحد من الْأمة يمْنَع أَن اللَّمْس والمس ليسَا بعلتين، وَإِن وجد أَحدهمَا بمفرده بل لَا / عِلّة إِلَّا وَاحِد، فَلَا يكون للْحَدَث مثلا غير عِلّة وَاحِدَة، وَلَا قَائِل بذلك " انْتهى.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول وَهُوَ الصَّحِيح: بِأَن وُقُوعه دَلِيل جَوَازه وَقد وَقع فللحدث علل مُسْتَقلَّة كالبول وَالْغَائِط والمذي وَكَذَلِكَ للْقَتْل وَغَيره.
وَاعْترض الْآمِدِيّ: بِأَن الحكم أَيْضا مُتَعَدد شخصا مُتحد نوعا، وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْقَتْل بِالرّدَّةِ، وَبَان ارْتَدَّ بعد الْقَتْل ثمَّ أسلم وَيبقى الْقصاص، وينفى الْقَتْل بِالْقصاصِ بِأَن عَفا الْوَلِيّ، وَيبقى بِالرّدَّةِ.
وَالْإِبَاحَة لجِهَة الْقَتْل حق الْآدَمِيّ، وبالردة لله، وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي شَيْء وَاحِد، وَيقدم الْآدَمِيّ فِي الِاسْتِيفَاء.
وَقَالَهُ قبله أَبُو الْمَعَالِي.
وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا قَالَ: وَعَلِيهِ نَص الْأَئِمَّة كَقَوْل أَحْمد فِي بعض مَا ذكره: هَذَا مثل خِنْزِير ميت حرَام من وَجْهَيْن، فَأثْبت تحريمين.(7/3255)
وَحل الدَّم مُتَعَدد لَكِن ضَاقَ الْمحل، وَلِهَذَا يَزُول وَاحِد وَيبقى الآخر، وَلَو اتَّحد الْحل بَقِي بعض حل فَلَا يُبِيح.
وَقَول الْفُقَهَاء: وتتداخل هَذِه الْأَحْكَام هُوَ دَلِيل تعددها وَإِلَّا شَيْء وَاحِد لَا يعقل فِيهِ تدَاخل.
قَالَ: وَقَول أبي بكر من أَصْحَابنَا - فِي مَسْأَلَة الْأَحْدَاث: إِذا نوى أَحدهَا ارْتَفع وَحده - يَقْتَضِي ذَلِك.
وَالْأَشْهر لنا وللشافعية: يرْتَفع الْجَمِيع، وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة. و [رد] ذَلِك بِأَن الشَّيْء لَا يَتَعَدَّد فِي نَفسه بِتَعَدُّد إِضَافَته وَإِلَّا غاير حدث الْبَوْل حدث الْغَائِط، وتعدده باخْتلَاف الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة، بِدَعْوَى خَاصَّة لَا يُفِيد.
وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": باستحالة اجْتِمَاع مثلين.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا وَأَيْضًا الْعلَّة دَلِيل فَجَاز تعددها كالأدلة.(7/3256)
الْقَائِل بِالْمَنْعِ: لَو جَازَ كَانَت كل مِنْهُمَا مُسْتَقلَّة غير مُسْتَقلَّة؛ لِأَن معنى استقلالها ثُبُوت الحكم فتتناقض [بتعددها] .
رد: مُسْتَقلَّة حَالَة الِانْفِرَاد فَقَط فَلَا يتناقض.
أُجِيب: الْكَلَام فِي حَالَة الِاجْتِمَاع، وَأَيْضًا لَو جَازَ فَإِن كَانَتَا مَعًا اجْتمع مثلان للُزُوم كل / مِنْهُمَا مَا لزم من الْأُخْرَى وَهُوَ معلولها فَيلْزم التَّنَاقُض؛ لِأَن الحكم يكون مستغنيا غير مستغن لثُبُوته بِكُل مِنْهُمَا، وَإِن ترتبا فَفِيهِ تَحْصِيل الْحَاصِل.
رد: إِنَّمَا يلْزم فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة، وَيجوز لمدلول وَاحِد أَدِلَّة.
وَأَيْضًا: لَو جَازَ لم يقل الْأَئِمَّة فِي عِلّة الرِّبَا بالترجيح لصِحَّة اسْتِقْلَال كل مِنْهُمَا وَالتَّرْجِيح يُنَافِيهِ وَإِلَّا لَكَانَ الْجَمِيع عِلّة. رد: إِنَّمَا تعرضوا للإبطال، سلمنَا فَلَا تحاد عَلَيْهِ الرِّبَا إِجْمَاعًا فتعرضوا للترجيح؛ لِئَلَّا يلْزم جعلهَا أَجزَاء عِلّة؛ لِأَن جعل أَحدهمَا عِلّة بِلَا مُرَجّح محَال.
قَالُوا: لَا يجْتَمع مؤثران على أثر وَاحِد كمقدور بَين قَادِرين أجَاب ابْن عقيل: تستقل مُنْفَرِدَة، وَمَعَ الِاجْتِمَاع الْعلَّة وَاحِدَة، لِأَنَّهَا بِوَضْع الشَّارِع كشدة الْخمر، والمقدور بَينهمَا لَيْسَ الْجعل والوضع، فَمن أَحَالهُ فلمعنى يعود إِلَى نَفسه.(7/3257)
وَقَالَ ابْن عقيل - أَيْضا - فِي مناظراته: التَّحْقِيق أَن الحكم إِذا اسْتَقل بعلة تعطلت الْأُخْرَى كمكان امْتَلَأَ بجسم، وَفعل وَقع بِوَاحِد، وكما لَا يَصح فعل من فاعلين هَذَا مَعَ تساويهما، وَإِلَّا فالعلة الضعيفة لَا تعْمل مَعَ القوية بِلَا خلاف.
الْقَائِل بالمنصوصة: لاستقلال كل مِنْهُمَا بنصه، فَكل وَاحِد عَلامَة، والمستنبطة إِن عين بِنَصّ اسْتِقْلَال كل وصف فمنصوصة، وَإِلَّا فإسناد الحكم إِلَى أَحدهمَا تحكم وَإِلَى كل مِنْهُمَا تنَاقض؛ لِأَنَّهُ يكون مستغنيا عَن كل مِنْهُمَا غير مستغن، فَتعين إِلَيْهِمَا مَعًا كل مِنْهُمَا جُزْء عِلّة.
رد: يستنبط استقلالها بِثُبُوت الحكم فِي مَحل كل مِنْهُمَا مُنْفَردا.
الْقَائِل بالمستنبطة: لاستقلالها لما سبق فِيمَا قبله والمنصوصة قَطْعِيَّة فَفِي استقلالها اجْتِمَاع المثلين، أَو تَحْصِيل الْحَاصِل.
رد: لَيست قَطْعِيَّة، ثمَّ يجوز اجْتِمَاع أَدِلَّة قَطْعِيَّة على مَدْلُول وَاحِد.
قَوْله: [فعلى الْجَوَاز كل / وَاحِدَة عِلّة عِنْد الْأَكْثَر، وَعند ابْن عقيل جُزْء عِلّة، وَقيل وَاحِدَة لَا بِعَينهَا] .(7/3258)
اسْتدلَّ للْأولِ: بِأَنَّهُ ثَبت اسْتِقْلَال كل مِنْهُمَا مُنْفَرِدَة.
رد: لم ثبتَتْ مجتمعة، وَأَيْضًا: لَو لم تكن كل وَاحِدَة عِلّة لَا لامتنع اجْتِمَاع الْأَدِلَّة؛ لِأَنَّهَا أَدِلَّة.
وَاسْتدلَّ للثَّانِي: بِأَنَّهُ يلْزم من الِاسْتِقْلَال اجْتِمَاع مثلين، وَسبق دَلِيلا للقائل بِالْمَنْعِ، أَو التحكم إِن ثَبت بِوَاحِدَة فَتعين الْجُزْء.
رد: ثَبت بِكُل وَاحِدَة كأدلة عقلية وسمعية [فَيثبت] الْمَدْلُول بِكُل مِنْهُمَا.
اسْتدلَّ [للثَّالِث] : بِمَا يلْزم من التحكم أَو الْجُزْئِيَّة.
وَجَوَابه: مَا سبق.
وَقد ذكر فِي " التَّمْهِيد ": جَوَاز تَعْلِيل الحكم بعلتين وَإِن دلّت إِحْدَاهمَا على حكم الأَصْل وَالْأُخْرَى لم تدل.
كَقَوْلِنَا فِي الطَّلَاق قبل النِّكَاح: من لَا ينفذ طَلَاقه الْمُبَاشر لَا ينفذ الْمُعَلق كَالصَّبِيِّ، فَيَقُول الْحَنَفِيّ: الْعلَّة فِي الصَّبِي أَنه غير(7/3259)
مُكَلّف، فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ: أَقُول بالعلتين.
فَقَالَ بَعضهم: يجوز تَعْلِيله بِالْعِلَّةِ الَّتِي لَا تدل عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا طَرِيق فِيهِ كالنص حكمه لَا يمْنَع التَّعْلِيل بِبَعْض أَوْصَافه المؤثرة.
وَمنعه بَعضهم: لِأَنَّهَا لَو وجدت وَحدهَا فِي الأَصْل لم يثبت حكمه لَهَا.
قَالَ: وَالْأول أشبه بأصولنا. وبناه بعض أَصْحَابنَا على فرع ثَبت بِالْقِيَاسِ بعلة غير علته، وَسبق لنا فِيهِ قَولَانِ. انْتهى.
قَوْله: [وَيجوز تَعْلِيل حكمين بعلة بِمَعْنى الأمارة اتِّفَاقًا، وَبِمَعْنى الْبَاعِث إِثْبَاتًا ونفيا وَثَالِثهَا إِن لم يتضادا] .
هَذِه الْمَسْأَلَة مُقَابلَة للمسألة السَّابِقَة وَهِي أَن تتحد الْعلَّة ويتعدد الْمَعْلُول فَيكون أحكاما مُخْتَلفَة، وَله صُورَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: أَن لَا يكون المتعدد من الحكم فِيهِ تضَاد.(7/3260)
وَالثَّانيَِة: أَن يكون فِيهِ تضَاد.
فَأَما الأولى: فَذهب الْجُمْهُور: إِلَى أَن الْعلَّة الْوَاحِدَة الشَّرْعِيَّة يجوز أَن يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حكمان شرعيان مُخْتَلِفَانِ.
لِأَن الْعلَّة إِن فسرت بالمعرف فجوازه ظَاهر؛ إِذْ لَا يمْتَنع عقلا وَلَا شرعا نصب أَمارَة وَاحِدَة على حكمين مُخْتَلفين.
بل قَالَ الْآمِدِيّ: " لَا نَعْرِف فِي ذَلِك خلافًا، كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع: جعلت / طُلُوع الْهلَال أَمارَة على وجوب الصَّوْم وَالصَّلَاة ".
أَو طُلُوع فجر رَمَضَان أَمارَة لوُجُوب الْإِمْسَاك وَصَلَاة الصُّبْح، وَسَوَاء كَانَت فِي الْإِثْبَات أَو فِي النَّفْي.
فَمن الْإِثْبَات: السّرقَة فَإِنَّهَا عِلّة فِي الْقطع لمناسبة زجر السَّارِق حَتَّى لَا يعود، وَفِي غَرَامَة المَال الْمَسْرُوق لصَاحبه لمناسبته لجبره.
وَمن الْعلَّة فِي النَّفْي: الْحيض، فَإِنَّهُ عِلّة لمنع الصَّلَاة، وَالطّواف، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، وَمَسّ الْمُصحف، وَوَطئهَا، وَطَلَاق الزَّوْج، وَغير ذَلِك لمناسبته للْمَنْع من كل ذَلِك.
وَلَا يعد فِي مُنَاسبَة وصف وَاحِد لعدد من الْأَحْكَام كَمَا مثلناه.
وَذهب جمع يسير إِلَى الْمَنْع من ذَلِك قَالُوا: لما فِيهِ من تَحْصِيل الْحَاصِل؛ لِأَن الْحِكْمَة الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوَصْف اسْتَوْفَاهُ أحد الْحكمَيْنِ.(7/3261)
ورد: بِأَنَّهُ يتَوَقَّف الْمَقْصُود عَلَيْهِمَا، فَلَا يحصل جَمِيعهَا إِلَّا بهما، أَو يحصل الحكم الثَّانِي حِكْمَة أُخْرَى فتتعدد الْحِكْمَة، وَالْوَصْف ضَابِط لأَحَدهمَا.
" وَأما الصُّورَة الثَّانِيَة: هِيَ: أَن يكون بَين المتعدد من الحكم الْمُعَلل تضَاد، وَلم يُصَرح بهَا ابْن الْحَاجِب وَلَا ابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا، وَلكنهَا دَاخِلَة فِي إِطْلَاقهم تَعْلِيل حكمين بعلة وَاحِدَة، وَلَكِن لَا يجوز هُنَا إِلَّا بِشَرْطَيْنِ متضادين كالجسم يكون عِلّة للسكون بِشَرْط الْبَقَاء فِي الحيز، وَعلة للحركة بِشَرْط الِانْتِقَال عَنهُ.
وَإِنَّمَا اعْتبر فِيهِ الشرطان؛ لِأَنَّهُ لَا يُمكن اقتضاؤها لَهما بِدُونِ ذَلِك، لِئَلَّا يلْزم اجْتِمَاع الضدين وَهُوَ محَال.
وَإِنَّمَا شَرط التضاد فِي الشَّرْطَيْنِ، لِأَنَّهُ لَو أمكن اجْتِمَاعهمَا كالبقاء فِي الحيز مَعَ الِانْتِقَال مثلا، فَعِنْدَ حُصُول ذَيْنك الشَّرْطَيْنِ: إِن حصل الحكمان - أَعنِي السّكُون وَالْحَرَكَة - لزم اجْتِمَاع الضدين، وَإِن حصل أَحدهمَا دون الآخر لزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَإِن [لم] يحصل وَاحِدَة مِنْهُمَا خرجت الْعلَّة عَن أَن تكون عِلّة، فَتعين التضاد فِي الشَّرْطَيْنِ " قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَقَالَ الكوراني: " عِنْد قوم لَا يجوز إِذا كَانَا متضادين؛ لِأَن الشي الْوَاحِد لَا يُنَاسب الضدين. وَالْجَوَاب / منع ذَلِك لجَوَاز تعدد الْجِهَات فيهمَا.
قَالَ الإِمَام: تَعْلِيل المتضادين بعلة وَاحِدَة إِنَّمَا يجوز إِذا كَانَا مشروطين(7/3262)
بِشَرْطَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَأما إِذا جَازَ اجْتِمَاع الشَّرْطَيْنِ فالتعليل محَال؛ لِأَنَّهُمَا إِذا اجْتمعَا لم تكن الْعلَّة بِأَحَدِهِمَا أولى من الْأُخْرَى " انْتهى.
وَقَالَ الْمحلي: " وَالْقَوْل الثُّلُث: يجوز تَعْلِيل حكمين بعلة إِن لم يتضادا، الْخلاف مَا إِذا تضادا، كالتأبيد لصِحَّة البيع وَبطلَان الْإِجَارَة؛ لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يُنَاسب المتضادين " انْتهى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " القَوْل الثَّالِث: الْجَوَاز إِن لم يتضادا، الْحيض لتَحْرِيم الصَّلَاة وَالصَّوْم، وَالْمَنْع إِن تضادا، كَأَن يكون مُبْطلًا لبَعض الْعُقُود مصححا لبعضها، كالتأبيد يصحح البيع وَيبْطل الْإِجَارَة " انْتهى.
وَهَذَا القَوْل الثَّالِث الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: [وَمِنْهَا أَن لَا تتأخر عِلّة الأَصْل عَن حكمه فِي الْأَصَح] .
من جملَة شُرُوط الْعلَّة: أَن لَا يكون ثُبُوت الْعلَّة مُتَأَخِّرًا عَن ثُبُوت حكم الأَصْل، وَخَالف فِي ذَلِك قوم من أهل الْعرَاق.
كَمَا لَو قيل فِيمَن أَصَابَهُ عرق الْكَلْب، أَصَابَهُ عرق حَيَوَان نجس فَكَانَ نجسا كلعابه، فَيمْنَع السَّائِل كَون عرق الْكَلْب نجسا.(7/3263)
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: لِأَنَّهُ مستقذر شرعا، أَي: أَمر الشَّرْع بالتنزه عَنهُ فَكَانَ نجسا كالبول.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذِه الْعلَّة ثُبُوتهَا مُتَأَخّر عَن حكم الأَصْل فَتكون فَاسِدَة؛ لِأَن حكم الأَصْل وَهُوَ [نَجَاسَته] يجب أَن تكون سَابِقَة على استقذاره؛ لِأَن الحكم باستقذاره إِنَّمَا هُوَ مُرَتّب على ثُبُوت [نَجَاسَته] ، وَإِنَّمَا [كَانَت] هَذِه الْعلَّة فَاسِدَة لتأخرها عَن حكم الأَصْل [لما] يلْزم من ثُبُوت الحكم بِغَيْر باعث على تَقْدِير تَفْسِير الْعلَّة بالباعث، وَقد فَرضنَا تأخرها عَن الحكم وَهُوَ محَال؛ لِأَن الْفَرْض أَن الحكم قد عرف قبل ثُبُوت علته، لَكِن إِنَّمَا يَتَأَتَّى هَذَا إِذا قُلْنَا إِن معنى الْمُعَرّف الَّذِي يحصل التَّعْرِيف بِهِ، أما إِذا قُلْنَا إِن الَّذِي من شَأْنه التَّعْرِيف فَلَا كَذَلِك.
قَالَ الْهِنْدِيّ: الْحق الْجَوَاز إِن أُرِيد بِالْعِلَّةِ الْمُعَرّف / أَي: لِأَن الْمُعَرّف يتَأَخَّر، بل الْحَادِث تَعْرِيف الْقَدِيم كَمَا فِي تَعْرِيف الْعَالم لوُجُود الصَّانِع، واتصافه بِصِفَات ذَاته السّنيَّة، وَإِن أُرِيد بهَا الْمُوجب أَو الْبَاعِث فَلَا. انْتهى.(7/3264)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " اخْتلفُوا فِي جَوَاز تَأْخِير عِلّة الأَصْل عَن حكمه، كتعليل ولَايَة الْأَب على صَغِير عرض لَهُ جُنُون: بالجنون.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَغَيره: الْمَنْع لِاسْتِحَالَة ثُبُوت الحكم بِلَا باعث، وَإِن جَازَ التَّعْلِيل بالأمارة فتعريف الْمُعَرّف كتعريف الحكم بِالنَّصِّ. وَفِيه نظر؛ لجَوَاز كَون فائدتها تَعْرِيف حكم الْفَرْع فَيتَوَجَّه قَول ثَالِث " انْتهى.
قَوْله: [وَأَن لَا ترجع عَلَيْهِ بالإبطال، وَإِن عَادَتْ عَلَيْهِ بالتخصيص فَالْخِلَاف] .
من الشُّرُوط أَن لَا تعود على حكم الأَصْل الَّذِي استنبطت مِنْهُ بالإبطال حَتَّى لَو استنبطت من نَص وَكَانَت تُؤدِّي إِلَى ذَلِك كَانَ فَاسِدا؛ وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل منشئها، فإبطالها لَهُ إبِْطَال لَهَا لِأَنَّهَا فَرعه وَالْفرع لَا يبطل أَصله، إِذْ لَو أبطل أَصله لأبطل نَفسه.
كتعليل الْحَنَفِيَّة وجوب الشَّاة فِي الزَّكَاة بِدفع حَاجَة الْفَقِير، فَإِنَّهُ مجوز لإِخْرَاج قيمَة الشَّاة، مفض إِلَى عدم وُجُوبهَا بالتخيير بَينهَا وَبَين قيمتهَا.
وَلَهُم أَن يَقُولُوا: مَا الْفرق بَين هَذَا وَبَين تجويزكم [الِاسْتِنْجَاء] بِكُل جامد طَاهِر قالع غير مُحْتَرم استنباطا من أمره عَلَيْهِ السَّلَام: " فِي الِاسْتِنْجَاء(7/3265)
بِثَلَاثَة أَحْجَار "، فَإِنَّكُم أبطلتم هَذَا التوسيع بِعَين الْأَحْجَار الْمَأْمُور بهَا.
لَكنا نقُول: إِنَّمَا فهمنا إبِْطَال تَعْيِينهَا من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد مَا أمره بالاستنجاء بِثَلَاثَة أَحْجَار: " وَلَا يستنجي برجيع وَلَا عظم "، فَدلَّ على أَنه أَرَادَ أَولا الْأَحْجَار وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَإِلَّا لم يكن فِي النَّهْي عَن الرجيع والعظم فَائِدَة. وَأما إِذا عَادَتْ عَلَيْهِ بالتخصيص فللعلماء فِيهِ قَولَانِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَإِن عَادَتْ عَلَيْهِ بالتخصيص فَالْخِلَاف " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَأما عودهَا بتخصيص النَّص فللشافعي فِيهِ قَولَانِ مستنبطان من اخْتِلَاف / قَوْله فِي نقض الْوضُوء بِمَسّ الْمَحَارِم، فَلهُ قَول: ينْتَقض، [تمسكا بِالْعُمُومِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] . وَفِي قَول وَهُوَ الرَّاجِح: لَا ينْقض] ؛ نظرا إِلَى كَون الملموس مَظَنَّة الِاسْتِمْتَاع، فَعَادَت الْعلَّة على عُمُوم النِّسَاء بالتخصيص بِغَيْر الْمَحَارِم.
وَمثله: حَدِيث " النَّهْي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ ".(7/3266)
شَامِل للمأكول وَغَيره، وَالْعلَّة فِيهِ وَهُوَ معنى الرِّبَا، تَقْتَضِي تَخْصِيصه بالمأكول؛ لِأَنَّهُ بيع رِبَوِيّ بِأَصْلِهِ، فَمَا لَيْسَ بربوي لَا مدْخل لَهُ فِي النَّهْي، فقد عَادَتْ الْعلَّة على أَصْلهَا بالتخصيص.
فَلذَلِك جرى للشَّافِعِيّ قَولَانِ فِي بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ غير الْمَأْكُول مأخذهما ذَلِك) .
قلت: ولأصحابنا فِي كل من الْمَسْأَلَتَيْنِ قَولَانِ، وَالصَّحِيح النَّقْض بِمَسّ الْمَحَارِم، وَصِحَّة البيع فِي بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ مُطلقًا.(7/3267)
(وَأما عودهَا بالتعميم فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف كَمَا يستنبط من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان " أَن الْعلَّة تشويش الْفِكر، فيتعدى إِلَى كل مشوش من شدَّة فَرح وَنَحْوه.
الْعجب من قَول القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ: أَجمعُوا على أَنه لَيْسَ لنا عِلّة تعود على أَصْلهَا بالتعميم إِلَّا هَذَا الْمِثَال، وَذَلِكَ جَائِز بِالْإِجْمَاع.
فقد وجد من ذَلِك كثير نَحْو: النَّهْي عَن الصَّلَاة وَهُوَ يدافع أحد الأخبثين، وَالْأَمر بِتَقْدِيم الْعشَاء على الصَّلَاة، فَإِن الْعلَّة ترك الْخُشُوع، فَيعم كل مَا يحصل ذَلِك، بل بَاب الْقيَاس كُله من تَعْمِيم النَّص بِالْعِلَّةِ) .(7/3268)
قَوْله: [فَائِدَة: مَا حكم بِهِ الشَّارِع مُطلقًا، أَو فِي عين أَو فعله، أَو أقره لَا يُعلل بعلة مُخْتَصَّة بذلك الْوَقْت، بِحَيْثُ يَزُول الحكم مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة، وَجوزهُ الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَقَالَ الشَّيْخ وَغَيره: قد تَزُول الْعلَّة وَيبقى الحكم كالرمل، أما تَعْلِيله بعلة زَالَت لَكِن إِذا عَادَتْ عَاد، فَفِيهِ نظر، وَعَكسه: تَعْلِيل النَّاسِخ بعلة مُخْتَصَّة بذلك الزَّمن بِحَيْثُ إِذا زَالَت زَالَ، وَيَقَع الْفُقَهَاء فِيهِ كثيرا، ووقوعه فِي خطاب عَام فِيهِ نظر، وَألْحق الْحَنَفِيَّة النّسخ بِزَوَال الْعلَّة] .
قَالَ ابْن مُفْلِح عقيب الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة كالمستشهد لَهَا بذلك: (وَقد قَالَ بعض أَصْحَابنَا / - وعنى بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين -: مَا حكم بِهِ الشَّارِع مُطلقًا أَو فِي عين، أَو فعله، أَو أقره، هَل يجوز تَعْلِيله بعلة مُخْتَصَّة بذلك الْوَقْت بِحَيْثُ يَزُول الحكم مُطلقًا؟
جوزه الْحَنَفِيَّة، والمالكية ذَكرُوهُ فِي مَسْأَلَة التَّخْلِيل، وَذكره الْمَالِكِيَّة(7/3269)
فِي حكمه بِتَضْعِيف الْغرم على سَارِق الثَّمر الْمُعَلق، والضالة(7/3270)
المكتومة، ومانع الزَّكَاة، وتحريق مَتَاع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .(7/3271)
الغال، وَهُوَ شبهتهم أَن حكم الْمُؤَلّفَة انْقَطع.
وَمنعه أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، ثمَّ قَالَ بَعضهم - يَعْنِي بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا -: قد تَزُول الْعلَّة وَيبقى الحكم كالرمل.(7/3272)
وَقَالَ بَعضهم: النُّطْق حكم مُطلق وَإِن كَانَ سَببه خَاصّا، قد ثبتَتْ الْعلَّة مُطلقًا.
وَهَذَانِ جوابان لَا حَاجَة إِلَيْهِمَا.
وَاحْتج: بِأَن هَذَا رَأْي مُجَرّد، وَتمسك الصَّحَابَة بنهيه عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي فِي الْعَام الْقَابِل، وَمرَاده أَنه صَحَّ عَن ابْن عمر، وَأبي سعيد،(7/3273)
وَقَتَادَة بن النُّعْمَان، وَقَول جَابر: " كُنَّا لَا نَأْكُل فأرخص لنا ".
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَالْحكم هُنَا أَقسَام:
أَعْلَاهَا: أَن يكون بخطاب مُطلق.
الثَّانِي: أَن يثبت فِي أَعْيَان.(7/3274)
الثَّالِث: أَن يكون فعلا وإقرارا.
فَإِن كَانَ الحكم مُطلقًا، فَهَل يجوز تَعْلِيله بعلة قد زَالَت، لَكِن إِذا عَادَتْ يعود، فَهَذَا أخف من الأول وَفِيه نظر.
قلت: نَظِيره قَول من يَقُول: بِانْقِطَاع نصيب الْمُؤَلّفَة عِنْد عدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، فَإِن وجدت الْحَاجة إِلَى التَّأْلِيف عَاد جَوَاز الدّفع لعود الْعلَّة.
أما تَعْلِيله بعلة زَالَت، لَكِن إِذا عَادَتْ فَفِيهِ نظر. وَعَكسه: تَعْلِيل النَّاسِخ بعلة مُخْتَصَّة بذلك الزَّمن بِحَيْثُ إِذا زَالَت زَالَت وَيَقَع الْفُقَهَاء فِيهِ كثيرا وَالله أعلم.
وَيَأْتِي فِي كَلَام أبي الْخطاب فِي اسْتِصْحَاب حكم الْإِجْمَاع.
وَفِي " وَاضح " ابْن عقيل: ألحق الْحَنَفِيَّة النّسخ بِزَوَال الْعلَّة، كَالْخمرِ حرمت أَولا وألفوا شربهَا، فَنهى عَن تخليلها تَغْلِيظًا، وزالت باعتياد التّرْك فَزَالَ الحكم، ثمَّ أبْطلهُ بِأَنَّهُ نسخ بِالِاحْتِمَالِ كمنعه حد وَفسق ونجاستها. انْتهى نقل ابْن مُفْلِح غير كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل. /(7/3275)
قَوْله: [وَمِنْهَا أَن لَا يكون للمستنبطة معَارض فِي الأَصْل، وَقيل: رَاجِح، وَقيل: وَلَا فِي الْفَرْع، وَقيد الْآمِدِيّ الْمعَارض بِكَوْنِهِ راجحا عِنْد من جوز تَخْصِيص الْعلَّة، قَالَ: وَيَكْفِي الظَّن فِي نفي معَارض فِي أصل وَفرع] .
يشْتَرط فِي الْعلَّة إِذا كَانَت مستنبطة أَن لَا تكون مُعَارضَة بمعارض منَاف مَوْجُود فِي الأَصْل صَالح للعلية، وَلَيْسَ مَوْجُودا فِي الْفَرْع؛ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ فِي الأَصْل وصفان متنافيان يَقْتَضِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نقيض الآخر، لم يصلح أَن يَجْعَل أَحدهمَا عِلّة إِلَّا بمرجح.
مِثَال ذَلِك: أَن يَقُول حَنَفِيّ فِي صَوْم الْفَرْض: صَوْم عين فيتأدى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال كالنفل.
فَيُقَال لَهُ: صَوْم فرض، فيحتاط فِيهِ، وَلَا يبْنى على السهولة.
وَبَعْضهمْ اشْترط أَن لَا يكون فِي الْفَرْع وصف معَارض، مَتى وجد فِيهِ وصف منَاف يَقْتَضِي إِلْحَاقه بِأَصْل آخر تَعَارضا.
مِثَاله: قَول الشَّافِعِي فِي مسح الرَّأْس ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كَغسْل الْوَجْه.
فيعارضه الْخصم فَيَقُول: مسح فِي وضوء فَلَا يسن تثليثه كالمسح على الْخُفَّيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَن انْتِفَاء التَّعَارُض فِي الْفَرْع إِنَّمَا هُوَ بِشَرْط ثُبُوت حكم الْعلَّة فِي الْفَرْع لَا شَرط فِي صِحَة الْعلَّة نَفسهَا، فَيجوز أَن تكون صَحِيحَة، سَوَاء ثَبت الحكم فِي الْفَرْع أم تخلف لسَبَب من الْأَسْبَاب اقْتضى تخلفه، فَمن(7/3276)
ادَّعَاهُ شرطا فِي الْعلَّة فقد وهم، فالمعارضة فِي الْفَرْع تقدح فِي الْقيَاس لَا فِي خُصُوص الْعلَّة.
فَإِن قيل: قيد الْمعَارض بالمنافي، وَمَفْهُوم الْمُعَارضَة تَقْتَضِي الْمُنَافَاة.
قيل: لِأَن المعرض قد يكون غير منَاف، وَذَلِكَ فِي غير الْعلَّة فَأُرِيد تَحْقِيق أَن المُرَاد هُنَا الْمنَافِي؛ لِأَن مَالا يُنَافِي من الأصاف غَايَته أَن يكون عِلّة أُخْرَى.
مِثَاله: أَن يتَّفقَا على أَن الْبر رِبَوِيّ، ويعلل أَحدهمَا بالطعم وَيذكر مناسبته، ويعلل الآخر بِالْكَيْلِ وَيذكر مناسبته.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن الْمعَارض فِي الأَصْل إِنَّمَا يكون شرطا إِذا كَانَ الْمعَارض راجحا، وَهُوَ مَمْنُوع؛ إِذْ الْمعَارض الْمسَاوِي يمْنَع الْعلَّة أَيْضا، قَالَه الْأَصْفَهَانِي.
قَالَ الْعَضُد: " وَقيل: أَن يكون الْمعَارض / فِي الْفَرْع مَعَ تَرْجِيح الْمعَارض، وَلَا بَأْس بالمساوي لِأَنَّهُ لَا يبطل، وَإِنَّمَا يحوج إِلَى التَّرْجِيح وَهُوَ دَلِيل الصِّحَّة بِخِلَاف الرَّاجِح فَإِنَّهُ يبطل " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَقيل معَارض رَاجِح وَفِيه نظر، قَالَ: وَقيد الْآمِدِيّ الْمعَارض بِكَوْنِهِ راجحا عِنْد من جوز تَخْصِيص الْعلَّة ليقيد الْقيَاس، قَالَ: وَيَكْفِي الظَّن فِي نفي معَارض فِي أصل وَفرع " انْتهى.(7/3277)
قَوْله: [وَأَن لَا تخَالف نصا وَلَا إِجْمَاعًا] .
مِمَّا اشْترط فِي الْعلَّة أَن تكون عرية عَن مُخَالفَة كتاب أَو سنة، أَو مُخَالفَة إِجْمَاع؛ لِأَن النَّص وَالْإِجْمَاع لَا يقاومهما الْقيَاس، بل يكون إِذا خالفهما بَاطِلا.
مِثَال مُخَالفَة النَّص: أَن يَقُول حَنَفِيّ: امْرَأَة مالكة لبضعها، فَيصح نِكَاحهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا، قِيَاسا على مَا لَو باعت سلعتها.
فَيُقَال لَهُ: هَذِه عِلّة مُخَالفَة لقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ".
وَمِثَال مُخَالفَة الْإِجْمَاع: أَن يُقَال: مُسَافر فَلَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة فِي السّفر، قِيَاسا على صَوْمه فِي عدم الْوُجُوب فِي السّفر بِجَامِع الْمَشَقَّة.
فَيُقَال: هَذِه الْعلَّة مُخَالفَة، الْإِجْمَاع على عدم اعْتِبَارهَا فِي الصَّلَاة، وَأَن الصَّلَاة وَاجِبَة على الْمُسَافِر مَعَ وجود مشقة السّفر.
وَمِثَال آخر: لَو قيل الْملك لَا يعْتق فِي الْكَفَّارَة لسهولته عَلَيْهِ، بل يَصُوم، وَهُوَ يصلح مِثَالا لَهما، قَالَه الْعَضُد.
قَوْله: [وَلَا تَتَضَمَّن زِيَادَة على النَّص، وَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن نافت مُقْتَضَاهُ] .(7/3278)
من شُرُوط الْعلَّة المستنبطة أَيْضا: أَن لَا تَتَضَمَّن زِيَادَة على النَّص، أَي حكما فِي الأَصْل غير مَا أثْبته النَّص؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تعلم مِمَّا أثبت فِيهِ.
مِثَاله: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء "، فتعلل الْحُرْمَة بِأَنَّهُ رَبًّا فِيمَا يُوزن كالنقدين، فَيلْزم التَّقَابُض مَعَ أَن النَّص لم يتَعَرَّض لَهُ، وَهَذَا قدمه ابْن الْحَاجِب، وشراحه وَغَيرهم.
وَقيل: لَا يشْتَرط، إِلَّا أَن تكون الزِّيَادَة مُنَافِيَة للنَّص، وَهَذَا / اخْتِيَار الْآمِدِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهُوَ الْمُخْتَار، لِأَنَّهَا إِذا لم تناف لَا يضر وجودهَا ".
قَالَ الْعَضُد: " وَقيل: إِن كَانَت الزِّيَادَة مُنَافِيَة لحكم الأَصْل، لِأَنَّهُ نسخ لَهُ فَهُوَ مِمَّا يكر على أَصله بالإبطال وَإِلَّا جَازَ ".(7/3279)
قَوْله: [وَأَن يكون دليلها شَرْعِيًّا] .
أَي: من شُرُوط عِلّة الأَصْل أَن يكون دليلها شَرْعِيًّا؛ وَذَلِكَ لِأَن دليلها لَو كَانَ غير شَرْعِي للَزِمَ أَن لَا يكون الْقيَاس شَرْعِيًّا، وَهَذَا فِي بعض نسخ " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، وَلذَلِك شرحها الْأَصْفَهَانِي، وَبَعض النّسخ لَيْسَ هِيَ فِيهَا، وَلذَلِك لم يشرحها الْعَضُد.
قَوْله: [وَلَا يعم دليلها حكم الْفَرْع بِعُمُومِهِ أَو خصوصه] .
أَي: من شَرط صِحَّتهَا أَن لَا يكون دَلِيل الْعلَّة شَامِلًا لحكم الْفَرْع بِعُمُومِهِ، كقياس التفاح على الْبر بِجَامِع الطّعْم.
فَيُقَال: الْعلَّة دليلها حَدِيث: " الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل " رَوَاهُ مُسلم، وَأما تَمْثِيل ابْن الْحَاجِب ب " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا مثلا بِمثل " فَلَا يعرف، بِهَذَا اللَّفْظ فالفرع دَاخل فِي الطَّعَام.
أَو بِخُصُوص لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من قاء أَو رعف فَليَتَوَضَّأ "، وَإِن(7/3280)
كَانَ الحَدِيث ضَعِيفا لَكِن يذكر للتمثيل.
فَلَو قيل فِي الْقَيْء: خَارج من غير السَّبِيلَيْنِ فينتقض كالخارج مِنْهُمَا، ثمَّ اسْتدلَّ على أَن الْخَارِج مِنْهُمَا ينْقض بِهَذَا الحَدِيث، لم يَصح؛ لِأَنَّهُ تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة، بل فِي الثَّانِي مَعَ كَونه تَطْوِيلًا رُجُوع عَن الْقيَاس؛ لِأَن الحكم حِينَئِذٍ يثبت بِدَلِيل الْعلَّة لَا بِنَفس الْعلَّة، فَلم يثبت الحكم بِالْقِيَاسِ.
قَالَ الْعَضُد: " لنا: أَنه يُمكن إِثْبَات الْفَرْع بِالنَّصِّ كَمَا يُمكن إِثْبَات الأَصْل بِهِ، فالعدول عَنهُ إِلَى إِثْبَات الأَصْل ثمَّ الْعلَّة، ثمَّ بَيَان وجودهَا فِي الْفَرْع، ثمَّ بَيَان ثُبُوت الحكم: تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة، وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ رُجُوع من الْقيَاس إِلَى النَّص ".
ثمَّ ذكر الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب: أَنه قيل إِن هَذِه مناقشة جدلية وَهِي لَا تقدح فِي صِحَة الْقيَاس؛ لِأَن المناقشة الجدلية ترجع إِلَى بَيَان أوضاع / الْأَدِلَّة وَلَيْسَ فِيهَا بحث فقهي.(7/3281)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَلم يجيبا عَن ذَلِك، وَلَكِن جَوَابه: أَن لَهَا فَائِدَة فقهية، وَذَلِكَ لِأَن الحكم فِي الْمَسْأَلَة الأولى كَانَ مُسْتَندا [للنَّص] فَجعله المناظر مُسْتَندا للْقِيَاس، وَحكم العمومين وَالْقِيَاس مُخْتَلف، وَفِي الثَّانِي كَانَ قِيَاسا فَعَاد مَنْصُوصا، وَلَا يَخْلُو مثل ذَلِك من غَرَض، فَيُقَال: إِن كَانَ فِي التَّطْوِيل مقصد فقهي [قبل] وَإِلَّا فَلَا.
قلت: وَأَيْضًا فقد سبق أَن اجْتِمَاع النَّص وَالْقِيَاس فِي الْفَرْع اجْتِمَاع دَلِيلين، وَلَا يمْنَع من ذَلِك لما فِيهِ من التَّرْجِيح لَو عورض لِكَثْرَة الْأَدِلَّة " انْتهى.
وَقَالَ الْعَضُد: " وَقَالُوا إِنَّهَا مناقشة جدلية؛ إِذْ الْغَرَض الظَّن بِأَيّ طَرِيق حصل، فَلَا معنى لتعيين الطَّرِيق.
الْجَواب: أَنه رُجُوع عَن الْقيَاس.
وَاعْلَم أَنه رُبمَا يكون النَّص مُخَصّصا، والمستدل أَو الْمُعْتَرض لَا يرَاهُ حجَّة إِلَّا فِي أقل الْجمع، فَلَو أَرَادَ إدراج الْفَرْع فِيهِ تعسر، فَيثبت بِهِ الْعلَّة
فِي الْجُمْلَة، ثمَّ يعم بِهِ الحكم فِي جَمِيع موارد وجود الْعلَّة.
وَأَيْضًا: فقد يكون دلَالَته على الْعلية أظهر من دلَالَته على الْعُمُوم، كَمَا يَقُول: حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام للطعم، فَإِن الْعلَّة فِي غَايَة الوضوح، والعموم فِي الْمُفْرد الْمُعَرّف مَحل خلاف الظَّاهِر " انْتهى.(7/3282)
قَوْله: [وَأَن تتَعَيَّن فِي الْأَصَح] .
من الشُّرُوط أَن تكون الْعلَّة مُعينَة لَا مُبْهمَة، بِمَعْنى: شائعة، خلافًا لمن اكْتفى بذلك تعلقا بقول عمر - رَضِي اللَّهِ عَنهُ -: " اعرف الْأَشْبَاه والنظائر، وَقس الْأُمُور بِرَأْيِك "، فَيَكْفِي عِنْدهم كَون الشَّيْء مشبها(7/3283)
للشَّيْء شبها مَا.
قَالَ الْهِنْدِيّ: لَكِن أطبق الجماهير على فَسَاده. لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَن الْعَاميّ والمجتهد سَوَاء فِي إِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فِي الْحَوَادِث، إِذْ مَا من عَامي جَاهِل إِلَّا وَعِنْده معرفَة بِأَن هَذَا النَّوْع أصل من الْأُصُول فِي أَحْكَام كَثِيرَة.
وَأجْمع السّلف على أَنه لَا بُد فِي الْإِلْحَاق من الِاشْتِرَاك بِوَصْف خَاص. [قَوْله] : [وَلَا تكون وَصفا مُقَدرا خلافًا لقوم، وَتَكون حكما(7/3284)
شَرْعِيًّا عِنْد ابْن عقيل وَالْأَكْثَر، وَحكي عَن أَصْحَابنَا، وَمنع جمَاعَة وَحكي عَن ابْن عقيل وَابْن الْمَنِيّ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ الْجَوَاز بِمَعْنى الأمارة فِي غير أصل الْقيَاس.
وَتَكون صفة الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف عِلّة عِنْد أَصْحَابنَا،(7/3285)
وَالْأَكْثَر، وَمنعه القَاضِي وَغَيره.
ويتعدد الْوَصْف وَيَقَع عندنَا، وَعند الْأَكْثَر وَعند الْجِرْجَانِيّ:(7/3286)
إِلَى خَمْسَة، وَحكي: سَبْعَة، وَقيل: لَا] .(7/3287)
( [قَوْله] : (فصل))
( [لَا يشْتَرط الْقطع بِحكم الأَصْل، وَلَا بوجودها فِي الْفَرْع، وَلَا انْتِفَاء مُخَالفَة مَذْهَب صَحَابِيّ إِن لم يكن حجَّة فِي الْأَصَح فِيهِنَّ] ) .
[اشْترط بَعضهم فِي المستنبطة أَن تكون من أصل مَقْطُوع] بِحكمِهِ.
وَالصَّحِيح لَا؛ إِذْ يجوز الْقيَاس على مَا ثَبت حكمه بِدَلِيل ظَنِّي كَخَبَر الْوَاحِد والعموم وَالْمَفْهُوم وَغَيرهَا؛ لِأَنَّهُ غَايَة الِاجْتِهَاد فِيمَا يقْصد بِهِ الْعَمَل.
وَالصَّحِيح أَيْضا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه لَا يشْتَرط الْقطع بِوُجُود الْعلَّة فِي الْفَرْع. وَشرط بَعضهم ذَلِك.(7/3288)
وَالصَّحِيح الأول؛ لِأَن الْقيَاس إِذا كَانَ ظنيا فَلَا يضر كَون مقدماته أَو شَيْء مِنْهَا ظنيا.
وَلَا يشْتَرط أَيْضا انْتِفَاء مُخَالفَة مَذْهَب صَحَابِيّ إِن لم يكن حجَّة على الصَّحِيح.
وَإِن قُلْنَا هُوَ حجَّة فيتقدم على الْقيَاس على مَا يَأْتِي بَيَانه فِي مذْهبه. واشترطه بَعضهم. وَالصَّحِيح خِلَافه كَمَا تقدم.
[قَوْله] : (وَلَا يشْتَرط النَّص على الْعلَّة، وَلَا الْإِجْمَاع على تَعْلِيله خلافًا لبشر المريسي) .
الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْعلمَاء المعتبرون أَنه لَا يشْتَرط: أَن يرد نَص دَال على عين تِلْكَ الْعلَّة، وَلَا الِاتِّفَاق على أَن حكم الأَصْل مُعَلل.
وَخَالف فِي ذَلِك بشر المريسي، فَاشْترط أَحدهمَا، هَذَا ظَاهر كَلَامه فِي " جمع الْجَوَامِع ".(7/3289)
وَالَّذِي ذكره هُنَا الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " عَن بشر: اشْتِرَاط الْأَمريْنِ مَعًا، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح.
وَحكى الْبَيْضَاوِيّ عَنهُ: أَنه شَرط إِمَّا قيام الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، أَو كَون علته منصوصة، وَهُوَ مُخَالف لكَلَام الرَّازِيّ من وَجْهَيْن، وَكَلَامه فِي " جمع الْجَوَامِع " يخالفهما.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَشرط بَعضهم فِي الأَصْل أَن يجمعوا على أَن حكمه مُعَلل لَا تعبدي، وَنقل عَن بشر المريسي، والشريف المرتضي، وَمِنْهُم من شَرط الِاتِّفَاق على وجود الْعلَّة فِي الأَصْل، وَخَالف الْجُمْهُور فاكتفوا بانتهاض الدَّلِيل على ذَلِك ".(7/3290)
فَظَاهره أَن مُخَالفَة بشر فِي الثَّانِيَة فَقَط، وعَلى كل حَال يَكْفِي إِثْبَات التَّعْلِيل بِدَلِيل على الصَّحِيح.
قَوْله: [وَإِذا كَانَت عِلّة انْتِفَاء الحكم وجود مَانع، أَو عدم شَرط، لزم وجود الْمُقْتَضِي عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: لَا، وَصحح ابْن عقيل وَجمع كَون الْعلَّة صُورَة الْمَسْأَلَة / نَحْو: يَصح رهن مشَاع كرهنه من شَرِيكه، وَمنعه قوم] .
إِذا علل حكم عدمي بِوُجُود مَانع أَو انْتِفَاء شَرط كَمَا يُقَال: عدم شَرط صِحَة البيع وَهُوَ الرُّؤْيَة، أَو وجد الْمَانِع وَهُوَ الْجَهْل بِالْمَبِيعِ فَلَا يَصح، وَكَذَا يُقَال: عدم الشَّرْط كَعَدم الرَّجْم لعدم الْإِحْصَان، أَو وجد الْمَانِع لعدم الْقصاص كَعَدم الْقصاص على الْأَب لمَانع وَهُوَ الْأُبُوَّة.
فَهَل يجب وجود الْمُقْتَضِي مثل بيع من [أَهله] فِي مَحَله أَو لَا يجب؟ أَكثر الْعلمَاء على أَنه يجب وجود الْمُقْتَضِي.
قَالَ الْآمِدِيّ: لِأَن الحكم شرع لمصْلحَة الْخلق فَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لم يشرع، فَانْتفى لنفي فَائِدَته.
قَالَ الْمُخَالف: أَدِلَّة مُتعَدِّدَة، وَإِذا اسْتَقل الْمَانِع وَعدم الشَّرْط مَعَ وجود معارضه الْمُقْتَضِي فَمَعَ عَدمه أولى.(7/3291)
رد: لَا يلْزم لما سبق. قَالُوا: يلْزم التَّعَارُض بَينهمَا وَهُوَ خلاف الأَصْل. رد: وَهُوَ أَهْون. وَلِهَذَا اتّفق من خصص الْعلَّة على نفي الحكم بالمانع وَعدم الشَّرْط مَعَ وجود الْمُقْتَضِي، وَاخْتلفُوا فِيهِ مَعَ عَدمه.
قَالُوا: لَو أُحِيل نفي الحكم عِنْد انْتِفَاء الْمُقْتَضِي على نَفْيه مَعَ مُنَاسبَة نَفْيه من الْمَانِع وَعدم الشَّرْط لزم إهمالها، وَهُوَ خلاف الأَصْل. رد: هُوَ أولى وَلِهَذَا يسْتَقلّ بنفيه عِنْد عدم الْمعَارض اتِّفَاقًا، وَفِي اسْتِقْلَال الْمَانِع ونفيه الْخلاف فِي تَخْصِيص الْعلَّة. وَإِن قيل: يُحَال نَفْيه عَلَيْهِمَا مَعًا. رد: إِن اسْتَقل كل مِنْهُمَا بنفيه فَفِيهِ تَعْلِيل حكم وَاحِد فِي صُورَة بعلتين، وَإِلَّا امْتنع لِلْخُرُوجِ المستقل بِالنَّفْيِ.(7/3292)
وَهُوَ نفي الْمُقْتَضِي عِنْد نفي معارضه عِنْد الِاسْتِقْلَال.
قَالَ ابْن عقيل: هَل يَصح كَون الْعلَّة صُورَة الْمَسْأَلَة، نَحْو: يَصح رهن مشَاع كرهن من شَرِيكه؟ مَنعه بَعضهم لإفضائه إِلَى تَعْلِيل الْمَسْأَلَة وَعَدَمه. وَصَححهُ بَعضهم، وَقَالَ: وَهُوَ أصح.
قَالَ بَعضهم: يسْتَدلّ بِوُجُود الْعلَّة على الحكم لَا بعليتها لتوقفها عَلَيْهِ لِأَنَّهَا نِسْبَة.
قَوْله: [تَنْبِيه: أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة [حكم] الأَصْل ثَابت بِالنَّصِّ، وَالشَّافِعِيَّة بِالْعِلَّةِ وَهُوَ الْمُعَرّف، وَالْخلاف / لَفْظِي وَقيل: لَا] .(7/3293)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " حكم الأَصْل ثَابت بِالنَّصِّ عندنَا، وَعند الْحَنَفِيَّة؛ لِأَنَّهُ قد يثبت تعبدا، فَلَو ثَبت بِالْعِلَّةِ لم يثبت مَعَ عدمهَا؛ وَلِأَنَّهَا مظنونة، وَفرع عَلَيْهِ ومرادهم أَنه معرف لَهُ.
وَعند الشَّافِعِيَّة: بِالْعِلَّةِ، ومرادهم الباعثة عَلَيْهِ، فَالْخِلَاف لَفْظِي " انْتهى.(7/3294)
ذكر التَّاج السُّبْكِيّ والبرماوي هَذِه الْمَسْأَلَة من أول أَحْكَام الْعلَّة عِنْد حَدهَا، فَقَالُوا: قَالَ أهل الْحق الْعلَّة الْمُعَرّف، وَحكم الأَصْل ثَابت بهَا لَا بِالنَّصِّ، خلافًا للحنفية.
(قَالُوا: وَوجه ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة بعد هَذَا التَّعْرِيف: التَّنْبِيه على خطأ ابْن الْحَاجِب فِي قَوْله: إِن أَصْحَابنَا بنوا قَوْلهم: إِن حكم الأَصْل ثَابت بِالْعِلَّةِ على تَفْسِيرهَا بالباعث.
فَأَشَارَ التَّاج فِي " جمع الْجَوَامِع " إِلَى أَنهم قَالُوا هَذَا مَعَ تفسيرهم الْعلَّة بالمعرف.
وَوجه توهم [ابْن الْحَاجِب] أَنه جعل الْعلَّة فرعا للْأَصْل أصلا للفرع، خوفًا من لُزُوم الدّور، فَإِنَّهَا مستنبطة من النَّص، فَلَو كَانَت معرفَة لَهُ، وَهِي إِنَّمَا عرفت بِهِ لزم الدّور.(7/3295)
وَالْحق تَفْسِيرهَا بالمعرف بِمَعْنى أَنَّهَا نصبت أَمارَة يسْتَدلّ بهَا الْمُجْتَهد على وجود الحكم إِذا لم يكن عَارِفًا بِهِ، وَيجوز تخلفه فِي حق الْعَارِف، كالغيم الرطب أَمارَة الْمَطَر، وَقد يتَخَلَّف، وتخلف التَّعْرِيف بِالنِّسْبَةِ للعارف لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا أَمارَة، فاتضح أَن الْعلَّة هِيَ الْمُعَرّف فِي الأَصْل وَالْفرع، وَلَا يلْزم الدّور) هَذَا لفظ ابْن الْعِرَاقِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " اقْتضى نقل الْحَنَفِيَّة عَن الشَّافِعِيَّة ذَلِك: أَنهم يفسرون الْعلَّة بالمؤثر أَو الْبَاعِث، حَتَّى لَا يكون النَّص على الحكم منافيا لتعليله، بِخِلَاف مَا لَو فسرت بالمعرف فَإِنَّهُ يُنَافِي النَّص؛ لِأَن النَّص أَيْضا معرف، وَهُوَ قد عرف من التَّعْلِيل فَأَي فَائِدَة فِي النَّص، وَلَكِن الشَّافِعِيَّة لَيْسَ عِنْدهم الْعلَّة إِلَّا معرفَة لَا مُؤثرَة، أَي: أَنَّهَا أَمارَة دَالَّة على الحكم، وغايته أَن / يكون للْحكم معرفان: النَّص، وَالْعلَّة ".
ثمَّ ذكر مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره ثمَّ قَالَ: وللخلاف بَينهمَا فَوَائِد كَثِيرَة، يظْهر أثر اخْتِلَاف الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فِيهِ، خلافًا لمن زعم أَن الْخلاف لَفْظِي كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْآمِدِيّ، وَابْن برهَان، وَابْن الْحَاجِب، والهندي.(7/3296)
- وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ تبعا لما جزم بِهِ ابْن مُفْلِح - مِنْهَا: التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة، وَذكر غَيرهَا بِمَا يطول.(7/3297)
(قَوْله: [فصل] )
[شَرط الْفَرْع أَن تُوجد فِيهِ الْعلَّة بِتَمَامِهَا فِيمَا يقْصد من عين الْعلَّة، أَو جِنْسهَا، فَإِن كَانَت قَطْعِيَّة فقطعي، وَهُوَ قِيَاس الأولى والمساواة، أَو ظنية فظني وَهُوَ قِيَاس الأدون، وَعَن بعض الْحَنَفِيَّة يَكْفِي مُجَرّد الشّبَه] .
لما فَرغْنَا من شُرُوط الْعلَّة شرعنا فِي شُرُوط الْفَرْع، وَقد تقدم حَده وَأَن الصَّحِيح فِيهِ [أَنه] الْمحل الْمُشبه.
فَمن شُرُوطه أَن يشْتَمل على عِلّة حكم الأَصْل بِتَمَامِهَا حَتَّى لَو كَانَت ذَات أَجزَاء، فَلَا بُد من اجْتِمَاع الْكل فِي الْفَرْع، وَهَذِه الْعبارَة أحسن من عبارَة ابْن الْحَاجِب وَمن تبعه: " أَن يُسَاوِي الْفَرْع فِي الْعلَّة عِلّة الأَصْل "، لِأَن لفظ الْمُسَاوَاة قد يفهم منع الزِّيَادَة، فَيخرج قِيَاس الأولى، بِخِلَاف هَذِه الْعبارَة فَإِن الزِّيَادَة لَا تنافيه، وَهِي شَامِلَة لقياس الأولى، والمساوي، والأدون.(7/3298)
إِذا علم ذَلِك فَإِن كَانَ وجودهَا بِتَمَامِهَا فِيهِ قَطْعِيا كقياس الضَّرْب للْوَالِدين على قَول " أُفٍّ " بِجَامِع أَنه إِيذَاء، وكالنبيذ يُقَاس على الْخمر بِجَامِع الْإِسْكَار، وَيُسمى الأول قِيَاس الأولى، وَالثَّانِي قِيَاس الْمُسَاوَاة، وكل مِنْهُمَا قَطْعِيّ.
وَإِن كَانَ وجود الْعلَّة بِتَمَامِهَا ظنيا فَالْقِيَاس ظَنِّي، وَيُسمى قِيَاس الأدون كقياس التفاح على الْبر فِي أَنه لَا يُبَاع إِلَّا يدا بيد وَنَحْو ذَلِك بِجَامِع الطّعْم، فَالْمَعْنى الْمُعْتَبر وَهُوَ الطّعْم مَوْجُود فِي الْفَرْع بِتَمَامِهِ، وَإِنَّمَا سمي قِيَاس أدون؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُلْحقًا بِالْأَصْلِ / إِلَّا على تَقْدِير أَن الْعلَّة فِيهِ الطّعْم، فَإِن كَانَت فِيهِ تركب من الطّعْم مَعَ التَّقْدِير بِالْكَيْلِ، أَو كَانَت الْعلَّة الْقُوت أَو غير ذَلِك لم يلْحق بالتفاح.
وَظهر بذلك أَنه لَيْسَ المُرَاد بالأدون أَن لَا يُوجد فِيهِ الْمَعْنى بِتَمَامِهِ، بل أَن تكون الْعلَّة فِي الأَصْل ظنية.
قَالَ ابْن مُفْلِح تبعا لِابْنِ الْحَاجِب: " من شُرُوط الْفَرْع مُسَاوَاة عِلّة الأَصْل فِيمَا يقْصد من عين الْعلَّة أَو جِنْسهَا، كالشدة المطربة فِي النَّبِيذ، وكالجناية فِي قِيَاس قصاص طرف على النَّفس ". أما الْعين: فكقياس النَّبِيذ على الْخمر بِجَامِع الشدَّة المطربة، وَهِي بِعَينهَا مَوْجُودَة فِي النَّبِيذ.
وَأما الْجِنْس: فكقياس الْأَطْرَاف على الْقَتْل فِي الْقصاص بِجَامِع الْجِنَايَة الْمُشْتَركَة بَينهمَا، فَإِن جنس الْجِنَايَة هُوَ جنس لإتلاف النَّفس والأطراف، وَهُوَ الَّذِي قصد الِاتِّحَاد فِيهِ.(7/3299)
" وَعَن بعض الْحَنَفِيَّة يَكْفِي مُجَرّد الشّبَه ".
لنا: اعْتِبَار الصَّحَابَة الْمَعْنى الْمُؤثر فِي الحكم، ولاشتراك الْعَاميّ والعالم فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ هَذَا الشّبَه بِأولى من عَكسه، وكالقياس الْعقلِيّ.
قَالُوا: لم تعْتَبر الصَّحَابَة سوى مُجَرّد الشّبَه.
رد: بِالْمَنْعِ " انْتهى.
وَقد تقدّمت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي قَوْلنَا: من شُرُوط الْعلَّة وَأَن تتَعَيَّن فِي الْأَصَح، فَالظَّاهِر أَنه وَقع فِيهِ منا تكْرَار.
قَوْله: [وَأَن تُؤثر فِي أَصْلهَا الْمَقِيس عَلَيْهِ عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْحَنَفِيَّة،(7/3300)
وَالشَّافِعِيَّة، وَاكْتفى الْحلْوانِي وَأَبُو الطّيب بتأثيرها فِي أصل مَا، وَقيل فِي أَصْلهَا، (وَفِي بَقِيَّة الْمَوَاضِع كَقَوْل الْمَالِكِيَّة فِي الْكَلْب: حَيَوَان فَكَانَ طَاهِرا كالشاة، تَأْثِيره فِي الْحَيَوَان إِذا مَاتَ، وَلَا تَأْثِير لَهُ فِي الجماد، فالحياة تُؤثر فِي مَحل دون مَحل) وَتَأْتِي الْمُعَارضَة فِيهِ] .
نقلت ذَلِك من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي أَوَائِل أَحْكَام الأَصْل. " إِن بَعضهم شَرط شُرُوطًا فِي(7/3301)
الأَصْل وَلَيْسَت شُرُوطًا فِيهِ، فَقَالَ: وَمِنْهُم من شَرط كَونه مؤثرا فِي كل مَوضِع كَمَا قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب: فِي إبِْطَال بيع الْغَائِب: بَاعَ عينا لم ير مِنْهَا شَيْئا فَبَطل كَبيع النَّوَى فِي الثَّمر.
فَقيل: إِذا كَانَ يرى بعضه يَصح؟
فَيُقَال: لَيْسَ من شَرط / تَأْثِيره فِي كل مَوضِع " انْتهى.
قَوْله: [وَأَن يُسَاوِي حكمه حكم الأَصْل فِيمَا يقْصد كَونه وَسِيلَة للحكمة من عين الحكم، أَو جنسه، وَيَأْتِي فِي الاعتراضات] .
وَذَلِكَ كَالْقصاصِ فِي النَّفس بالمثقل على المحدد، وكالولاية فِي نِكَاح الصَّغِيرَة على الْولَايَة فِي مَالهَا.
فالمثال الأول: مِثَال لعين الحكم فَالْحكم فِي الْفَرْع هُوَ الحكم فِي الأَصْل بِعَيْنِه وَهُوَ الْقَتْل.
وَمِثَال الثَّانِي مِثَال لجنس الحكم، فَإِن ولَايَة النِّكَاح مُسَاوِيَة لولاية المَال فِي جنس الْولَايَة لَا فِي عين تِلْكَ الْولَايَة، فَإِنَّهَا سَبَب لنفاذ التَّصَرُّف وَلَيْسَت عينهَا لاخْتِلَاف التصرفين.(7/3302)
وَلم يذكر بَعضهم هَذَا الشَّرْط هُنَا قَالَ: لِأَنَّهُ من إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع بِالْقِيَاسِ [أَي] تعْيين مَا يحكم على الْفَرْع بِهِ من حكم الأَصْل.
وَأما إِذا اخْتلف الحكم لم يَصح كَقَوْلي الْحَنْبَلِيّ: يُوجب الظِّهَار الْحُرْمَة فِي حق الذِّمِّيّ كَالْمُسلمِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّة: الْحُرْمَة فِي الْمُسلم متناهية بِالْكَفَّارَةِ، وَالْحُرْمَة فِي الذِّمِّيّ مُؤَبّدَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْكَفَّارَة وَيخْتَلف الحكم فيهمَا.
وَجَوَابه: أَن يبين الْمُسْتَدلّ الِاتِّحَاد، فَيمْنَع كَون الذِّمِّيّ لَيْسَ من أهل الْكَفَّارَة بل عَلَيْهِ الصَّوْم، بِأَن يسلم وَيَأْتِي بِهِ، وَيصِح إِعْتَاقه وإطعامه مَعَ الْكفْر اتِّفَاقًا، فَهُوَ من أهل الْكَفَّارَة، فَالْحكم مُتحد وَالْقِيَاس صَحِيح.
قَوْله: [وَأَن لَا يكون مَنْصُوصا على حكمه بموافق، خلافًا للغزالي،(7/3303)
والآمدي، وَجمع] .
لَا يشْتَرط انْتِفَاء نَص مُوَافق الحكم الَّذِي يُرَاد إثْبَاته بِالْقِيَاسِ عِنْد الْأَكْثَر، خلافًا للغزالي والآمدي.
قَالَا: للاستغناء بِالنَّصِّ، وَلِهَذَا فِي قصَّة معَاذ كَانَ الْقيَاس فِيهَا مُرَتبا بإن الشّرطِيَّة على فقدان النَّص، وَهِي أصل فِي مَشْرُوعِيَّة الْقيَاس.
وَأجِيب: أَن المُرَاد تعين الْقيَاس عِنْد الْفَقْد، وَأما عِنْد وجوده فَيكون من اجْتِمَاع دَلِيلين، إِذْ لَا يمْتَنع ترادف الْأَدِلَّة على مَدْلُول وَاحِد.
وَأَيْضًا: فبالقياس يعرف عِلّة الحكم /.
وَقد فهم من القيدين الْمَذْكُورين فِي الْمَسْأَلَة أَمْرَانِ: الأول: أَن يكون النَّص الدَّال على حكم الأَصْل هُوَ الدَّال على ذَلِك الْفَرْع بِعَيْنِه فَهَذَا قِيَاس بَاطِل؛ إِذْ لَيْسَ مَا ادعِي بِهِ أصل وَأَن الآخر فرع بِأولى من عَكسه، كَمَا لَو قيس السفرجل على الْعِنَب فِي جَرَيَان الرِّبَا فِيهِ بعلة الطّعْم، فَيُقَال: النَّهْي عَن بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ شَامِل للأمرين، فَجعل أَحدهمَا أصلا وَالْآخر فرعا تحكم.
الْأَمر الثَّانِي: أَن يكون النَّص فِي الْفَرْع على خلاف الحكم المُرَاد إثْبَاته(7/3304)
بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن الْقيَاس حِينَئِذٍ بَاطِل إِذْ الْقيَاس لَا يقدم على النَّص، لَكِن الْقيَاس فِي نَفسه صَحِيح إِلَّا أَنه ملغي لَا يعْمل بِهِ، وَلذَلِك يُقَال: إِذا تعَارض النَّص وَالْقِيَاس فالنص مقدم؛ لِأَن التَّعَارُض إِنَّمَا يكون عِنْد صِحَة المتعارضين، ففائدة الْقيَاس التمرين ورياضة الذِّهْن.
قَالَ الْعَضُد: " وَمِنْهَا: أَن لَا يكون الْفَرْع مَنْصُوصا عَلَيْهِ لَا إِثْبَاتًا وَإِلَّا ضَاعَ الْقيَاس، وَلَا نفيا، وَإِلَّا لم يجز الْقيَاس ".
وَقَالَ الكوراني: " من شُرُوط الْفَرْع أَن لَا يكون حكمه مَنْصُوصا عَلَيْهِ بِنَصّ مُوَافق؛ لِأَن وجود النَّص يُغني عَن الْقيَاس لتقدمه عَلَيْهِ، خلافًا لمن يجوز قيام دَلِيلين على مَدْلُول وَاحِد، فَإِنَّهُ يجْتَمع عِنْده النَّص وَالْقِيَاس على حكم وَاحِد.
فالتحقيق: أَنه أَرَادَ أَن طَائِفَة جوزت قيام دَلِيلين، بِمَعْنى أَن كلا مِنْهُمَا يُفِيد الْعلم بالمدلول فَهَذَا غير مَعْقُول؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيل الْحَاصِل، وَإِن أَرَادَ إيضاحا واستظهرا، فَلم يُخَالف فِيهِ أحد أَلا تراهم يَقُولُونَ: الدَّلِيل على الْمَسْأَلَة الْإِجْمَاع وَالنَّص وَالْقِيَاس، وَأما إِذا كَانَ النَّص مُخَالفا فقد علمت أَنه مقدم على الْقيَاس " انْتهى.
قَوْله: [قَالَ الْحَنَفِيَّة، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن(7/3305)
حمدَان: وَلَا مُتَقَدما على حكم الأَصْل، زَاد الْآمِدِيّ: إِلَّا أَن يذكرهُ إلزاما للخصم، وَقَالَ الرَّازِيّ: يجوز عِنْد دَلِيل آخر، والموفق، وَالْمجد، والطوفي: يشْتَرط لقياس الْعلَّة لَا لقياس الدّلَالَة] .
قَالَ من منع: لِأَن الْمُسْتَفَاد / لَا بُد من تَأَخره على الْمُسْتَفَاد مِنْهُ، وَإِلَّا لتناقض فرض مَعَ تَأَخره، فَلَا يُقَاس الْوضُوء على التَّيَمُّم فِي فِي وجوب النِّيَّة؛ لِأَن وُرُود التَّيَمُّم بعد الْهِجْرَة، وَالْوُضُوء قبلهَا.(7/3306)
ورد: بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن الشَّيْء علته أَمَارَات مُتَقَدّمَة ومتأخرة، كمعجزات النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا مَا هُوَ مُقَارن لنبوته، وَمِنْهَا مَا هُوَ بعد ذَلِك.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّمَا يشْتَرط هَذَا إِذا كَانَ طَرِيق حكم الْفَرْع مُتَعَيّنا فِي استناده للْأَصْل.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب تبعا للآمدي: لَا يمْتَنع أَن يكون إلزاما للخصم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى مَا فِي المقالتين من نظر.
قَالَ الكوراني: (وَمن شُرُوطه أَن لَا يتَقَدَّم على حكم الأَصْل، كقياس الْوضُوء على التَّيَمُّم، فِي وجوب النِّيَّة، فَإِن التَّيَمُّم مُتَأَخّر عَنهُ، فَلَو ثَبت بِهِ ثَبت حكم شَرْعِي بِلَا دَلِيل، إِذْ الْفَرْض أَنه لَا دَلِيل عَلَيْهِ سوى الْقيَاس، نعم لَو قيل ذَلِك إلزاما صَحَّ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِي للحنفية: طهارتان أَنى يفترقان؟
هَكَذَا قيل، وَفِيه نظر؛ لِأَن الْحَنَفِيَّة لَيْسَ عِنْدهم فِي الْمَسْأَلَة قِيَاس حَتَّى يلزموا، وَلَا الشَّافِعِي قَائِل بِالْقِيَاسِ، بل وجوب النِّيَّة فيهمَا إِنَّمَا ثَبت بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ".
وَقَوله: جوزه الرَّازِيّ عِنْد دَلِيل آخر.(7/3307)
مِمَّا لَا وَجه لَهُ، إِلَّا أَن يكون الْقيَاس استظهارا وإيضاحا؛ لِأَنَّهُ محَال أَن يعلم شَيْء بدليلين وَذَلِكَ لَا يُخَالف أحد فِيهِ، واستنادهم فِي ذَلِك على تَأَخّر معجزاته عَن ثُبُوت نبوته لَيْسَ بِشَيْء؛ إِذْ المعجزات الْمُتَأَخِّرَة لَيست مثبتة للنبوة بل هِيَ إِمَّا لمعاند لم يقنع بِنَوْع مِنْهَا، أَو لطَالب مسترشد لم يسْبق لَهُ رُؤْيَة، أَو إِظْهَارًا لكرامته لتكاثر معجزاته، وَلِهَذَا ترى من كَانَ مِنْهُم أعظم شَأْنًا كَانَ أَكثر معْجزَة وأنور برهانا، وَلَو كَانَ الدَّلِيل الْأَخير [مثبتا] كَانَ الْمَفْضُول مِنْهُم أَحْرَى / بِتِلْكَ المعجزات) انْتهى.
وَقَالَ الرَّازِيّ تبعا [لأبي] الْحُسَيْن: يجوز إِن كَانَ لحكم الْفَرْع دَلِيل آخر مقدم، لجَوَاز أَن يدلنا اللَّهِ تَعَالَى على الحكم بأدلة مترادفة، كَمَا يترادف معجزات النُّبُوَّة بعد المعجزة الْمُقَارنَة لابتداء الدعْوَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَا مُتَقَدما على حكم الأَصْل كقياس أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة: الْوضُوء على التَّيَمُّم فِي اشْتِرَاط النِّيَّة لثُبُوت حكم الْفَرْع قبل ثُبُوت الْعلَّة لتأخر الأَصْل.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": يشْتَرط لقياس الْعلَّة لَا الدّلَالَة، فيقاس(7/3308)
الْوضُوء على التَّيَمُّم، لجَوَاز تَأَخّر الدَّلِيل على الْمَدْلُول، كحدث الْعَالم دَلِيل على الْقَدِيم، والأثر على الْمُؤثر.
وَذكر أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل: من الأسئلة الْفَاسِدَة تَأَخّر حكم الأَصْل عَن حكم الْفَرْع؛ لِأَن الأمارة وَالدَّلِيل يتَأَخَّر ويتقدم كالمعجزة مَعَ النُّبُوَّة والعالم على الصَّانِع، وَيمْتَنع فِي الْعلَّة الْعَقْلِيَّة كتحرك الْجِسْم أَو سوَاده لحركة، أَو سَواد يتَأَخَّر) انْتهى.(7/3309)
قَوْله: [وَلَا يشْتَرط ثُبُوت حكمه بِنَصّ جملَة خلافًا لأبي زيد، وَأبي [هَاشم] .
لَا يشْتَرط فِي الْفَرْع أَن يدل النَّص على حكمه فِي الْجُمْلَة لَا بالتفصيل، خلافًا لأبي هَاشم: أَنه يشْتَرط، وَأَن التَّفْصِيل يُطلق بِالْقِيَاسِ، وَحَكَاهُ أَيْضا الكيا، عَن أبي زيد.
مثل ذَلِك: إِذا قُلْنَا فِي اجْتِمَاع الْجد مَعَ الْأُخوة يَرث مَعَهم قِيَاسا على أحدهم؛ لِأَن كلا من الْجد وَالْأَخ يُدْلِي بِالْأَبِ، فلولا دلّ الدَّلِيل على إِرْث الْجد فِي الْجُمْلَة لما سَاغَ الْقيَاس فِي هَذِه الصُّورَة.
ورد عَلَيْهِم: بِأَن الْعلمَاء قاسوا: " أَنْت عَليّ حرَام " إِمَّا على الطَّلَاق لَا فِي تَحْرِيمهَا، أَو على الظِّهَار فِي وجوب الْكفَّار، أَو على الْيَمين فِي كَونه إِيلَاء، وَلم يجد فِي ذَلِك نَص يدل على الحكم، لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا.(7/3310)
(قَوْله: [مسالك الْعلَّة] )
[الأول: الْإِجْمَاع كالصغر للولاية فِي المَال، فَيلْحق بِهِ الْولَايَة فِي النِّكَاح] .
لما فَرغْنَا من شُرُوط الْعلَّة وَغَيرهَا من أَرْكَان الْقيَاس شرعنا فِي بَيَان الطّرق الَّتِي تدل على كَون الْوَصْف عِلّة / ويعبر عَنْهَا أَيْضا بمسالك الْعلَّة، وَذَلِكَ إِمَّا إِجْمَاع، أَو نَص، أَو استنباط، أَو غَيرهَا، وَالنَّص إِمَّا صَرِيح أَو ظَاهر أَو إِيمَاء.
فَأَما الأول: وَهُوَ الْإِجْمَاع.
فَإِنَّمَا قدم؛ لِأَنَّهُ أقوى قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا؛ وَلِأَن النَّص تفاصيله كَثِيرَة.
وَبَعْضهمْ كالبيضاوي يقدم النَّص لكَونه أصل الْإِجْمَاع.
وَالْمرَاد [بثبوتها] بِالْإِجْمَاع: أَن تجمع الْأمة على أَن هَذَا الحكم علته كَذَا، [كإجماعهم] فِي " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان " على أَن علته شغل الْقلب، وَمِمَّنْ حكى فِيهِ الْإِجْمَاع القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ.(7/3311)
" وكإجماعهم على تَعْلِيل تَقْدِيم الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِرْث على الْأَخ للْأَب، بامتزاج النسبين، أَي: وجودهما فِيهَا، فيقاس عَلَيْهِ تَقْدِيمه فِي ولَايَة النِّكَاح، وَصَلَاة الْجِنَازَة، وَتحمل الْعقل وَالْوَصِيَّة لأَقْرَب الْأَقَارِب، وَالْوَقْف عَلَيْهِ وَنَحْوه.
فَإِن قلت: إِذا أَجمعُوا على هَذَا التَّعْلِيل فَكيف يتَّجه الْخلاف فِي هَذِه الصُّور؟
قلت: لَعَلَّ منشأ الْخلاف التَّنَازُع فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع، أَو حُصُول شَرطهَا أَو مانعها لَا فِي كَونهَا عِلّة "، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره.
وكإجماعهم على تَعْلِيل الْولَايَة على الصَّغِير كَونه صَغِيرا، فيقاس عَلَيْهِ، الْولَايَة عَلَيْهِ فِي النِّكَاح.
قَوْله: [الثَّانِي: النَّص فَمِنْهُ صَرِيح مثل الْعلَّة كَذَا، أَو السَّبَب [كَذَا] ، أَو لأجل كَذَا، أَو من أجل كَذَا، أَو كي، أَو إِذن] .
الثَّانِي من المسالك: النَّص.(7/3312)
أَي: من الْكتاب أَو السّنة، فَمِنْهُ صَرِيح وَمِنْه ظَاهر، فالصريح: مَا وضع لإِفَادَة التَّعْلِيل بِحَيْثُ لَا يحْتَمل غير الْعلية، وَلذَلِك عبر عَنهُ الْبَيْضَاوِيّ بِالنَّصِّ الْقَاطِع.
فالصريح الَّذِي لَا يحْتَمل غير الْعلَّة مثل أَن يُقَال: الْعلَّة كَذَا، أَو بِسَبَب كَذَا، أَو لأجل كَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {من أجل ذَلِك كتبنَا على بنى إِسْرَائِيل} [الْمَائِدَة: 32] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل الْبَصَر " مُتَّفق عَلَيْهِ. وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ - يَعْنِي عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي - من أجل الدافة الَّتِي دفت عَلَيْكُم فَكُلُوا وَادخرُوا " / رَوَاهُ مُسلم، أَي: لأجل التَّوسعَة على الطَّائِفَة الَّتِي قدمت الْمَدِينَة أَيَّام التَّشْرِيق.
والدافة: الْقَافِلَة السائرة مُشْتَقَّة من الدفيف وَهُوَ السّير اللين، وَمِنْه قَوْلهم: دفت علينا من بني فلَان دافة، قَالَه الْجَوْهَرِي.(7/3313)
وَنَحْو " [كي] "، سَوَاء كَانَت مُجَرّدَة عَن لَا كَقَوْلِه: {كى تقر عينهَا وَلَا تحزن} [طه: 40] ، أَو مقرونة كَقَوْلِه تَعَالَى: {لكيلا تأسوا} [الْحَدِيد: 23] ، {كى لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} [الْحَشْر: 7] ، أَي: إِنَّمَا وَجب [تخميسه] لِئَلَّا يتَنَاوَلهُ الْأَغْنِيَاء مِنْكُم فَلَا يحصل للْفُقَرَاء شَيْء.
وَذكر ابْن السَّمْعَانِيّ: أَن لأجل وكي دون مَا قبلهَا فِي الصراحة.
وَمثل: " إِذا " فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بن كَعْب وَقد قَالَ لَهُ: " أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا؟ قَالَ: إِذا يغْفر اللَّهِ لَك ذَنْبك كُله "، وَفِي رِوَايَة: " إِذا يَكْفِيك اللَّهِ هم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة "، {إِذا لأمسكتم خشيَة الْإِنْفَاق} [الْإِسْرَاء: 100] ، {إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات} [الْإِسْرَاء: 75] وَالله أعلم.(7/3314)
قَوْله: [وَظَاهر كاللام ظَاهِرَة ومقدرة، وَالْبَاء، قَالَه جمع، [وَجعلهَا] ابْن الْحَاجِب، والموفق، والطوفي من الصَّرِيح، وَزَاد الْمَفْعُول لَهُ] .
هَذَا قسم من النَّص؛ لِأَن النَّص تَارَة يكون صَرِيحًا كَمَا تقدم، وَتارَة يكون ظَاهرا وَهَذَا قسم الظَّاهِر.
وَالظَّاهِر: الَّذِي يحْتَمل غير الْعلية احْتِمَالا مرجوحا، وَله أَلْفَاظ: أَحدهَا: اللَّام، وَهِي تَارَة تكون ظَاهِرَة أَي: ملفوظا بهَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} [إِبْرَاهِيم: 1] ، {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {لنعلم} ، {إِلَّا لنعلم} ، {ليذوق وبال أمره} [الْمَائِدَة: 95] ، وَنَحْوه كثير.
وَتارَة تكون مقدرَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {عتل بعد ذَلِك زنيم أَن كَانَ ذَا مَال وبنين} [الْقَلَم: 13، 14] ، أَي: لِأَن كَانَ، وكما يُقَال فِي الْكَلَام أَن كَانَ كَذَا، فالتعليل مُسْتَفَاد من اللَّام الْمقدرَة لَا من أَن.
وَمن هَذَا مَا فِي " الصَّحِيح " فِي قصَّة الزبير من قَول الْأنْصَارِيّ لما خاصمه فِي شراج الْحرَّة: " أَن كَانَ ابْن عَمَّتك! ". وَيدخل فِي هَذَا إِذا كَانَ الْوَاقِع(7/3315)
بعد " أَن " " كَانَ " وحذفت وَاسْمهَا وَبَقِي خَبَرهَا، وَعوض عَن ذَلِك " مَا " كَقَوْلِه:
(أَبَا خراشة أما أَنْت ذَا نفر / ... فَإِن قومِي لم تأكلهم الضبع)
أَي: لِأَن كنت ذَا نفر.
وَإِنَّمَا لم تجْعَل اللَّام وَمَا سَيَأْتِي بعْدهَا من الصَّرِيح، لِأَن كلا مِنْهَا لَهُ معَان غير التَّعْلِيل.(7/3316)
وَالثَّانِي: الْبَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فبمَا رَحْمَة من اللَّهِ لنت لَهُم} [آل عمرَان: 159] أَي: بِسَبَب الرَّحْمَة، وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التَّوْبَة: 82] ، فَهِيَ وَإِن كَانَ أصل مَعْنَاهَا الإلصاق، وَلها معَان أخر، لَكِن كثر اسْتِعْمَالهَا فِي التَّعْلِيل.
تكون اللَّام للْملك وللاختصاص أَو لبَيَان الْعَاقِبَة أَو نَحْو: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب وَنَحْو ذَلِك.
وَقيل: لِأَن فِي التَّعْلِيل أَيْضا إلصاقا، كَمَا قَرَّرَهُ الرَّازِيّ بِأَنَّهَا لما اقْتَضَت وجود الْمَعْلُول حصل معنى الإلصاق فَحسن اسْتِعْمَاله فِيهِ مجَازًا بِكَثْرَة.
وَعند ابْن الْحَاجِب وَغَيره: أَن هَذَا من الصَّرِيح، ويقويه إِذا كَانَ فِي(7/3317)
الْكَلَام صَرِيح شَرط أَو معنى شَرط كالنكرة الموصوفة وَالِاسْم الْمَوْصُول كَمَا يَأْتِي، لَكِن جَعلهمَا الْعَضُد من الظَّاهِر، وَهُوَ الصَّوَاب لما تقدم من الِاحْتِمَالَات.
وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها " وَغَيرهمَا، وَزَادا: الْمَفْعُول لأَجله، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: [ {لأمسكتم خشيَة الْإِنْفَاق} ] [الْإِسْرَاء: 100] ، {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي ءاذانهم من الصَّوَاعِق حذر الْمَوْت} [الْبَقَرَة: 19] أَي: لخشية الْإِنْفَاق، وحذر الْمَوْت؛ لِأَن هَذَا من بَاب الْمَفْعُول لَهُ، وَهُوَ عِلّة الْفِعْل.
قَوْله: [أما إِنَّهَا رِجْس وَنَحْوه، فَالْقَاضِي وَأَبُو الْخطاب والآمدي وَابْن الْحَاجِب: صَرِيح، وَإِن لحقته الْفَاء تَأَكد، والبيضاوي وَغَيره: ظَاهر، وَابْن الْبَنَّا: إِيمَاء، وَابْن الْأَنْبَارِي، وَابْن الْمَنِيّ، وَالْفَخْر والجوزي: توكيد] .(7/3318)
اخْتلفُوا فِي التَّعْلِيل " بإن " الْمُشَدّدَة الْمَكْسُورَة هَل هُوَ صَرِيح أَو ظَاهر أَو إِيمَاء فِي نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما ألْقى الروثة: " إِنَّهَا رِجْس "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْهِرَّة: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات " مُعَللا طَهَارَتهَا بذلك، وَقَوله فِي الْمحرم الَّذِي وقصته رَاحِلَته: " فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة / ملبيا ". وَقَوله(7/3319)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الشُّهَدَاء: " زملوهم بكلومهم وَدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُم يبعثون يَوْم الْقِيَامَة وأوداجهم تشخب دَمًا ".
فَهَذَا كُله صَرِيح فِي التَّعْلِيل عِنْد القَاضِي، وَأبي الْخطاب، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم، خُصُوصا فِيمَا لحقته الْفَاء كَمَا تقدم.
فَإِنَّهُ يبْعَث ويبعثون، فَإِنَّهَا يُزَاد بهَا تَأْكِيدًا لدلالتها على أَن مَا بعْدهَا سَبَب للْحكم قبلهَا. وَعند ابْن الْبناء وَغَيره: إِيمَاء.(7/3320)
قَالَ الطوفي: " وَعند غيرأبي الْخطاب: إِيمَاء، ثمَّ قَالَ: قلت: النزاع فِي هَذَا لَفْظِي؛ لِأَن أَبَا الْخطاب يَعْنِي بِكَوْنِهَا صَرِيحًا فِي التَّعْلِيل كَونه يُبَادر فِيهِ إِلَى الذِّهْن بِلَا توقف فِي عرف اللُّغَة، وَغير أبي الْخطاب يَعْنِي بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَرِيح أَن حرف (إِن) لَيست مَوْضُوعَة للتَّعْلِيل فِي اللُّغَة.
قَالَ: وَهَذَا أقرب إِلَى التَّحْقِيق وَإِنَّمَا فهم التَّعْلِيل مِنْهُ فهما ظَاهرا متبادرا بِقَرِينَة سِيَاق الْكَلَام، وصيانة لَهُ عَن الإلغاء ".
وَعند الْبَيْضَاوِيّ، وَابْن السُّبْكِيّ، وَغَيرهمَا: ظَاهر، وَهُوَ فِي عبارَة الطوفي الْمُتَقَدّمَة، وَهُوَ الظَّاهِر والأقوى. وَعند ابْن الْمَنِيّ: أَنَّهَا توكيد.
فَإِن قيل لَهُ فِي زَوَال الْبكارَة بِالزِّنَا أَن " إِن " مَوْضُوعَة للتَّعْلِيل كَقَوْلِه: " إِنَّهَا من الطوافين ".
فَقَالَ: لَا نسلم، وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَة للتَّأْكِيد، وَإِنَّمَا كَانَ الطّواف عِلّة لعسر الِاحْتِرَاز عَنهُ لَا لَفْظَة " إِن ".
وَكَذَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: " أجمع عُلَمَاء الْعَرَبيَّة أَنَّهَا لم تأت للتَّعْلِيل بل للتَّأْكِيد، أَو بِمَعْنى نعم، وَإِنَّمَا جعلنَا الطّواف عِلّة لِأَنَّهُ قرنه بِحكم الطَّهَارَة وَهُوَ مُنَاسِب " انْتهى.(7/3321)
قَالَ التبريزي فِي " التَّنْقِيح ": وَالْحق أَن " إِن " لتأكيد مَضْمُون الْجُمْلَة، وَلَا إِشْعَار لَهَا بِالتَّعْلِيلِ، وَلِهَذَا يحسن اسْتِعْمَالهَا ابْتِدَاء من غير سبق حكم.
وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن الْأَنْبَارِي.
قَوْله: [وَسبق بعض حُرُوف التَّعْلِيل] ك " إِذا " و " حَتَّى " و " على " و " فِي " و " من " وَغَيرهَا لما تكلمنا على الْحُرُوف.
قَوْله: [وَعند الْأَصْحَاب وَغَيرهم: إِن قَامَ دَلِيل أَنه لم يقْصد التَّعْلِيل فمجاز نَحْو: لم فعلت؟ فَيَقُول: لِأَنِّي أردْت] .(7/3322)
معنى هَذَا الْكَلَام / أَن الْفِعْل بِحكم الأَصْل فِي وضع اللُّغَة أَو اسْتِعْمَالهَا إِنَّمَا يُضَاف إِلَى علته وَسَببه، فَإِن أضيف إِلَى مَا لَا يصلح عِلّة فَهُوَ مجَاز، وَيعرف [ذَلِك] [بِقِيَام] الدَّلِيل على عدم صلاحيته عِلّة، مثل أَن يُقَال للْفَاعِل لم فعلت؟ فَيَقُول: لِأَنِّي أردْت، فَإِن هَذَا لَا يصلح أَن يكون عِلّة فَهُوَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَحَله، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن الْإِرَادَة لَيست عِلّة للْفِعْل [وَإِن] كَانَت هِيَ الْمُوجبَة لوُجُوده أَو المصححة لَهُ؛ لِأَن المُرَاد بِالْعِلَّةِ فِي الِاصْطِلَاح هُوَ الْمُقْتَضِي الْخَارِجِي للْفِعْل، أَي: الْمُقْتَضِي لَهُ من خَارج، والإرادة لَيست معنى خَارِجا عَن الْفَاعِل.
قَوْله: [وإيماء وتنبيه] .
قسمنا النَّص إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام:
إِلَى صَرِيح، وَظَاهر، وإيماء وتنبيه.
وتبعنا فِي ذَلِك ابْن الْبناء فِي " عقوده "، والبيضاوي، والسبكي، والبرماوي، وَغَيرهم.
وَلم يذكر أَكثر الْأَصْحَاب تَقْسِيم النَّص إِلَى: صَرِيح، وَظَاهر، وإيماء(7/3323)
بل يذكرُونَ النَّص ويقسمونه إِلَى صَرِيح وإيماء، كَأبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، والموفق فِي " الرَّوْضَة "، وَابْن حمدَان، والطوفي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَغير الصَّرِيح، وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِالْإِيمَاءِ والتنبيه، ولاشك أَن النَّص فِيهِ صَرِيح فِي الْعلَّة وَظَاهر فِيهَا، فإطلاق من أطلق النَّص أَرَادَ ذَلِك، وَأَنه مُشْتَمل عَلَيْهِمَا.
قَوْله [وَهُوَ أَنْوَاع: الْإِيمَاء: هُوَ اقتران الْوَصْف بِحكم لَو لم يكم هُوَ أَو نَظِيره للتَّعْلِيل لَكَانَ ذَلِك الاقتران بَعيدا من فصاحة كَلَام الشَّارِع، وإتيانه بالألفاظ [فِي غير] موَاضعهَا لتنزه كَلَامه عَن الحشو الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ.
وَهُوَ أَنْوَاع: مِنْهَا: ترَتّب حكم عقب وصف بِالْفَاءِ من كَلَام الشَّارِع وَغَيره.(7/3324)
فَإِنَّهَا للتعقيب ظَاهرا وَيلْزم مِنْهُ السببيه نَحْو: {قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا} [الْبَقَرَة: 222] " وسها فَسجدَ ".
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: صَرِيح، وَقوم: ظَاهر] . الْفَاء لَهَا ثَلَاثَة / أَحْوَال مرتبَة:
الأولى: أَن تكون فِي كَلَام الشَّارِع دَاخِلَة على الْعلَّة وَالْحكم مُتَقَدم، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته كَمَا تقدم.
الثَّانِيَة: أَن تدخل فِي كَلَام الشَّارِع على الحكم نَحْو {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا} [الْبَقَرَة: 222] .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمَا ذكرته من أَن تقدم الْعلَّة ثمَّ مَجِيء الحكم بِالْفَاءِ أقوى من عَكسه هُوَ مَا قَالَه الرَّازِيّ: لِأَن إِشْعَار الْعلَّة بالمعلول أقوى من إِشْعَار الْمَعْلُول بِالْعِلَّةِ؛ لِأَن الطَّرْد وَاجِب فِي الْعِلَل دون الْعَكْس.
ونازعه النقشواني وَقَالَ: بل تَقْدِيم الْمَعْلُول على الْعلَّة أقوى؛ لِأَن الحكم إِذا تقدم طلبت النَّفس علته، فَإِذا ذكر وصف ركنت إِلَى أَنه هُوَ الْعلَّة، بِخِلَاف مَا لَو تقدّمت الْعلَّة ثمَّ جَاءَ الحكم فقد تكتفي النَّفس بِأَن مَا سبق [علته] ، وَقد تطلب لَهُ عِلّة بطرِيق أُخْرَى وَأطَال فِي ذَلِك.(7/3325)
وَلَا يخفى ضعفه وَقُوَّة مَا قَالَه الإِمَام، وَهل مَا دخلت عَلَيْهِ الْفَاء فِي نَص الْكتاب أقوى مِمَّا فِي نَص السّنة، أَو متساويان؟
فبالأول: قَالَ الْآمِدِيّ، وَبِالثَّانِي: قَالَ الْهِنْدِيّ.
قيل: وَهُوَ الْحق لِاسْتِوَائِهِمَا فِي عدم تطرق الْخَطَأ إِلَيْهِمَا.
الثَّالِثَة، أَن تكون الْفَاء من كَلَام الرَّاوِي، وَلَا تكون إِلَّا دَاخِلَة على الحكم وَالْعلَّة مَا قبلهَا نَحْو: " سَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسجدَ " كَقَوْل عمرَان بن حُصَيْن: " سَهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسجدَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره،(7/3326)
" وزنا مَاعِز فرجم ".
وَسَوَاء كَانَ الرَّاوِي فَقِيها أَو لَا، لكنه إِذا كَانَ فَقِيها كَانَ أقوى.
قيل: وَيَنْبَغِي قصره على الصَّحَابِيّ أَو من بعده إِذا كَانَ عَالما بمدلولات الْأَلْفَاظ وَهُوَ ظَاهر.
فَإِن قيل: إِذا قَالَ الرَّاوِي هَذَا مَنْسُوخ، أَو حمل حَدِيثا رَوَاهُ على غير ظَاهره لَا يعْمل بِهِ لجَوَاز أَن يكون عَن اجْتِهَاد، فَكيف إِذا قَالَ الرَّاوِي: " سَهَا فَسجدَ " وَنَحْوه يعْمل بِهِ مَعَ احْتِمَال أَن يكون عَن اجْتِهَاد؟(7/3327)
فَالْجَوَاب: / أَن هَذَا من قبيل فهم الْأَلْفَاظ من حَيْثُ اللُّغَة، لَا أَنه يرجع للِاجْتِهَاد، بِخِلَاف قَوْله: هَذَا مَنْسُوخ، وَنَحْوه، وَلِهَذَا لَو قَالَ: أَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَذَا وَنهى عَن كَذَا، يعْمل بِهِ حملا على الرّفْع لَا على الِاجْتِهَاد. إِذا علم ذَلِك: فَإِذا رتب الشَّارِع حكما عقب اوصف بالفاءء كَمَا تقدم من الْأَمْثِلَة إِذْ الْفَاء للتعقيب، فتفيد تعقيب الحكم الْوَصْف وَأَنه سَببه، إِذْ السَّبَب مَا ثَبت الحكم عقبه، وَلِهَذَا تفهم السببيه مَعَ عدم الْمُنَاسبَة ك " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ ".
وَالصَّحِيح أَن هَذَا من الْإِيمَاء، قَالَه الْمُوفق، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، والآمدي، والبيضاوي، وَغَيرهم، فَيُفِيد الْعلَّة بِالْإِيمَاءِ.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: من أَقسَام الصَّرِيح.
وَقَالَ السُّبْكِيّ وَغَيره: من أَقسَام الظَّاهِر، وَقَالَهُ الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن لَهَا معَان غير ذَلِك فَإِن الْفَاء تكون بِمَعْنى الْوَاو وَغَيره.(7/3328)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " [ويقوى] كَلَام ابْن الْحَاجِب إِذا كَانَ فِي الْكَلَام صَرِيح شَرط أَو معنى شَرط، كالنكرة الموصوفة، وَالِاسْم الْمَوْصُول، فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل الْفَاء فيهمَا على معنى الْوَاو العاطفة، إِذْ الْعَطف لَا يحسن قبل تَمام الْجُمْلَة ".
والفقيه وَغَيره سَوَاء؛ لِأَنَّهُ ظَاهر حَاله مَعَ دينه وَعلمه.
قَالَ الطوفي: وَاشْترط بَعضهم الْمُنَاسبَة وَإِلَّا لفهم من " صلى فَأكل " سَبَبِيَّة الصَّلَاة للْأَكْل، وَذكره الْبَيْضَاوِيّ قولا.
قَوْله: [وَمِنْهَا ترَتّب حكم على وصف بِصِيغَة الْجَزَاء نَحْو: {وَمن يتق اللَّهِ يَجْعَل لَهُ مخرجا} أَي: لتقواه] .
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " الثَّانِي: تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف بِصِيغَة الْجَزَاء يدل على التَّعْلِيل بِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى: {من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} [الْأَحْزَاب: 30] ، {وَمن يقنت مِنْكُم لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} [الْأَحْزَاب: 31] ، {وَمن يتق اللَّهِ يَجْعَل لَهُ مخرجا} [الطَّلَاق: 2] . أَي: لتقواه.
وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من اتخذ كَلْبا إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو صيد نقص من أجره(7/3329)
كل يَوْم قيراطان / وَكَذَا مَا أشبهه، فَإِن الْجَزَاء يتعقب شَرطه ويلازمه وَلَا معنى للسبب إِلَّا مَا يستعقب الحكم وَيُوجد بِوُجُودِهِ " انْتهى.
وَلم يذكر ابْن مُفْلِح هَذَا النَّوْع فِي أُصُوله.
قَوْله: [وَمِنْه اقتران وصف بِحكم لَو لم يكن هُوَ أَو نَظِيره عِلّة للْحكم كَانَ اقترانه بَعيدا شرعا ولغة.
فَالْأول: كَقَوْل الْأَعرَابِي: " وَقعت على أَهلِي فِي رَمَضَان فَقَالَ: أعتق رقبه " فَإِن حذف بعض الْأَوْصَاف كَكَوْنِهِ أَعْرَابِيًا، وَتلك الْمَرْأَة،(7/3330)
والشهر، فتنقيح المناط أقرّ بِهِ أَكثر منكري الْقيَاس، حَتَّى أَبُو حنيفَة فِي الْكَفَّارَة، وَقيل: إِنَّه أحد مسالك الْعلَّة بِأَن يبين إِلْغَاء الْفَارِق، وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ " أينقص إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم، فَنهى عَنهُ ".
وَالثَّانِي: كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للسائلة، " أَرَأَيْت لَو كَانَ على أمك دين أَكنت قاضيته؟ قَالَت: نعم، قَالَ: اقضوا اللَّهِ فَالله أَحَق بِالْوَفَاءِ ".] .
من الْإِيمَاء أَن يقْتَرن الْوَصْف بِحكم لَو لم يكن هُوَ وَنَظِيره عِلّة للْحكم كَانَ اقترانه بَعيدا شرعا ولغة.
فَالْأول وَله مثالان: الْمِثَال الأول: أَن يحكم عقب علمه بِصفة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَقد أنهى إِلَيْهِ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ حَاله، كَقَوْل الْأَعرَابِي: " واقعت أَهلِي فِي رَمَضَان، فَقَالَ: أعتق رَقَبَة "، أخرجه السِّتَّة، وَهَذَا لفظ ابْن مَاجَه.(7/3331)
فَكَأَنَّهُ قيل: كفر لكونك واقعت فِي نَهَار رَمَضَان، فَكَانَ الْحَذف الَّذِي ترَتّب بِهِ الحكم لفظا مَوْجُودا هُنَا، فَيكون مَوْجُودا تَقْديرا، هَذَا هُوَ الَّذِي يغلب على الظَّن من ذَلِك.
وَأَيْضًا: لَو كَانَ المُرَاد غير ذَلِك يلْزم خلو السُّؤَال عَن الْجَواب، وَتَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة.
فَإِن حذف شَيْء من الْأَوْصَاف الْمُرَتّب عَلَيْهَا الْجَواب لكَونه لَا مدْخل لَهُ فِي الْعلَّة لكَونه أَعْرَابِيًا أَو زيدا، وَكَون المجامعة زَوْجَة أَو أمة، أَو فِي قبلهَا، وَكَونه شهر تِلْكَ السّنة وَنَحْوه، فيسمى إِخْرَاج ذَلِك عَن الِاعْتِبَار تَنْقِيح المناط.
والتنقيح لُغَة: التخليص والتهذيب، يُقَال: نقحت الْعظم إِذا استخرجت مخه.(7/3332)
والمناط: مفعل من ناط نياطا، أَي: علق.
وَالْمرَاد: / أَن الحكم تعلق بذلك الْوَصْف.
فَمَعْنَى تَنْقِيح المناط: الِاجْتِهَاد فِي تَحْصِيل المناط الَّذِي ربط بِهِ الشَّارِع الحكم، فَيبقى من الْأَوْصَاف مَا يصلح، ويلغى مَا لَا يصلح.
وَقد أقرّ بِهِ أَكثر منكري الْقيَاس، وأجراه أَبُو حنيفَة فِي الْكَفَّارَات، مَعَ مَنعه الْقيَاس فِيهَا.
وَذكر جمَاعَة كالتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا: أَنه أَجود مسالك الْعلَّة بِأَن يبين إِلْغَاء الْفَارِق.
وَقد يُقَال الْعلَّة الْمُشْتَرك أَو الْمُمَيز، وَالثَّانِي بَاطِل فَيثبت الأول.
وَلَا يَكْفِي أَن يُقَال: مَحل الحكم إِمَّا الْمُشْتَرك أَو مُمَيّز الأَصْل؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ثُبُوت الْمحل ثُبُوت الحكم.
قيل: لَا دَلِيل على عدم عليته فَهُوَ عِلّة.
رد: لَا دَلِيل لعليته وَلَيْسَ بعلة.
قيل: لَو كَانَ عِلّة لتأتى الْقيَاس الْمَأْمُور بِهِ.
رد: هُوَ دور.(7/3333)
وَسَيَأْتِي لهَذَا مزِيد بَيَان عَن ذكرنَا تَنْقِيح المناط وتحقيقه وتخريجه عقب المسالك.
الْمِثَال الثَّانِي: أَن يقدر فِي كَلَام الشَّارِع وصف لَو لم يكن للتَّعْلِيل، لَكَانَ بَعيدا، أَو يكون التَّقْدِير فِي مَحل السُّؤَال، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَقد سُئِلَ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ: " أينقص إِذا يبس؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: فَلَا إِذا "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه، وَابْن خُزَيْمَة، وَالْحَاكِم.
فَلَو لم يكن تَقْدِير نُقْصَان الرطب بالجفاف لأجل التَّعْلِيل لَكَانَ تَقْدِيره بَعيدا؛ إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ حِينَئِذٍ وَالْجَوَاب يتم دونه.
الثَّانِي: التَّقْدِير فِي نَظِير مَحل السُّؤَال مِثَاله: مَا رُوِيَ فِي الْكتب السِّتَّة أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما سَأَلته الْمَرْأَة الخثعمية: أَن أبي أَدْرَكته الْوَفَاة وَعَلِيهِ فَرِيضَة الْحَج، أينفعه إِن حججْت عَنهُ؟ قَالَ: " أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيتيه أَكَانَ يَنْفَعهُ؟ " قَالَت: نعم.(7/3334)
فنظيره فِي الْمَسْئُول عَنهُ كَذَلِك، وَفِيه تَنْبِيه على الأَصْل: الَّذِي هُوَ دين الْآدَمِيّ على الْمَيِّت، وَالْفرع وَهُوَ الْحَج الْوَاجِب عَلَيْهِ، وَالْعلَّة وَهُوَ قَضَاء دين الْمَيِّت / فقد جمع فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْكَان الْقيَاس كلهَا.
وَنَحْو ذَلِك فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَت: يَا رَسُول اللَّهِ إِن أُمِّي مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْم نذر، أفأصوم؟ [فَقَالَ] : أ {أيت لَو كَانَ على أمك دين فقضيتيه أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِك عَنْهَا؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فصومي عَن أمك ".(7/3335)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: مِثَال التَّقْدِير فِي نَظِير مَحل السُّؤَال " قَول امْرَأَة من جُهَيْنَة لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن أُمِّي نذرت أَن تحج فَلم تحج حَتَّى مَاتَت أفأحج عَنْهَا؟ قَالَ: حجي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَو كَانَ على أمك دين أَكنت قاضيته، قَالَت: نعم، قَالَ: اقضوا اللَّهِ فَالله أَحَق بِالْوَفَاءِ " مُتَّفق عَلَيْهِ، وتابعناه فِي التَّمْثِيل بذلك، وَالْكل صَحِيح وَفِي الصَّحِيح.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، وَغَيرهمَا: أَن من هَذَا قَول عمر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صنعت الْيَوْم أمرا عَظِيما قبلت وَأَنا صَائِم، فَقَالَ: " أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء وَأَنت صَائِم أتفطر؟ قَالَ لَا، قلت:(7/3336)
لَا بَأْس. قَالَ: فَفِيمَ "، وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ: " لما سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم [قَالَ] أَرَأَيْت لَو تمضمضت من المَاء وَأَنت صَائِم أتفطر؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمه ".(7/3337)
وَذَلِكَ أَنه ذكر الْوَصْف فِي نَظِير السُّؤَال عَنهُ وَهُوَ الْمَضْمَضَة الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الشّرْب، ورتب عَلَيْهَا الحكم وَهُوَ عدم الْإِفْسَاد، وَنبهَ على [الأَصْل] وَهُوَ: الصَّوْم مَعَ الْمَضْمَضَة، وَالْفرع وَهُوَ: الصَّوْم مَعَ الْقبْلَة.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك وَإِنَّمَا هُوَ نقض لما توهمه عمر من إِفْسَاد الْقبْلَة الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْجِمَاع الَّذِي هُوَ مُفسد، فَإِن عمر _ رَضِي اللَّهِ عَنهُ - توهم أَن الْقبْلَة تفْسد كَمَا يفْسد الْجِمَاع، فنقض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توهمه بالمضمضة؛ لِأَن ذَلِك تَعْلِيل لمنع الْإِفْسَاد.
قَوْله: [وَمِنْهَا أَن يفرق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَين حكمين بِصفة مَعَ ذكرهمَا نَحْو: " للراجل سهم وللفارس سَهْمَان "، / أَو مَعَ ذكر أَحدهمَا نَحْو: " الْقَاتِل لَا يَرث "، أَو بِشَرْط وَجَزَاء نَحْو: " فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَوْصَاف فبيعوا "، أَو بغاية {حَتَّى يطهرن} ، أَو اسْتثِْنَاء {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} ، أَو اسْتِدْرَاك {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} .] .(7/3338)
من الْإِيمَاء أَن يفرق بَين حكمين بصفتين كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " للراجل سهم وللفارس سَهْمَان ".(7/3339)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: كَذَا يمثلون بِهِ وَالَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " جعله للْفرس سَهْمَيْنِ ولصاحبه سَهْما "، وَفِي البُخَارِيّ: " للْفرس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما،(7/3340)
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: " جعل للفارس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما ".(7/3341)
أَو بِصفة مَعَ أحد الْحكمَيْنِ دون الآخر كَحَدِيث: " الْقَاتِل لَا يَرث، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: لَا يَصح.(7/3342)
فَإِن مُقَابِله وَهُوَ من لَيْسَ بِقَاتِل من الْوَرَثَة يكون مَحْكُومًا عَلَيْهِ بضد هَذَا الحكم وَهُوَ منع الْإِرْث فَيكون وَارِثا.
وَفِي معنى التَّفْرِيق بَين الْحكمَيْنِ بِصفة التَّفْرِقَة بَينهمَا بِشَرْط كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اخْتلفت هَذِه الْأَجْنَاس فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد ".(7/3343)
وبغاية كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] ، فقد فرق فِي الحكم بَين الْحيض وَالطُّهْر.
أَو اسْتثِْنَاء كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} [الْبَقَرَة: 237] . أَو لفظ دَال على الِاسْتِدْرَاك كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذكُم اللَّهِ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} [الْمَائِدَة: 89] .
وَجه استفادة الْعلَّة من ذَلِك كُله: أَن التَّفْرِقَة لَا بُد لَهَا من فَائِدَة، وَالْأَصْل عدم غير الْمُدَّعِي وَهُوَ إِفَادَة كَون ذَلِك عِلّة.
قَوْله: [وَمِنْهَا تعقيب الْكَلَام أَو تَضْمِينه مَا لَو لم يُعلل بِهِ لم يَنْتَظِم، نَحْو {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر اللَّهِ وذروا البيع} ، " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ".]
تابعنا فِي ذَلِك الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، فَمن أَنْوَاع الْإِيمَاء / تعقيب الشَّارِع الْكَلَام الَّذِي أنشأه لبَيَان حكم أَو تَضْمِينه لَهُ بِمَا لَو لم يُعلل الحكم الْمَذْكُور لم يَنْتَظِم الْكَلَام وَلم يكن لَهُ بِهِ تعلق.
فالمتعقب للْكَلَام [نَحْو] قَوْله تَعَالَى: {يأيها الَّذين ءامنوا إِذا نُودي للصلواة من يَوْم الْجُمُعَة فاسعو إِلَى ذكر اللَّهِ وذروا البيع} [الْجُمُعَة: 9] .(7/3344)
وَالَّذِي تضمنه الْكَلَام نَحْو قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان رَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ: " لَا يحكم الْحَاكِم أَو لَا يقْضِي بَين اثْنَيْنِ "، وَرَوَاهُ أَصْحَاب الْكتب بِلَفْظ: " لَا يقضين حَاكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ".
فالآية إِنَّمَا سيقت لبَيَان أَحْكَام الْجُمُعَة لَا لبَيَان أَحْكَام البيع، فَلَو لم يُعلل النَّهْي عَن البيع حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ شاغلا عَن السَّعْي لَكَانَ ذكره لاغيا لكَونه غير مُرْتَبِط بِأَحْكَام الْجُمُعَة.
وَلَو لم يُعلل النَّهْي [عَن] الْقَضَاء عِنْد الْغَضَب بِكَوْنِهِ يتَضَمَّن اضْطِرَاب المزاج الْمُقْتَضِي تشويش الْفِكر المفضي إِلَى الْخَطَأ فِي الحكم غَالِبا، لَكَانَ ذكره لاغيا، إِذْ البيع وَالْقَضَاء لَا يمنعان مُطلقًا لجَوَاز البيع فِي غير وَقت النداء، وَالْقَضَاء مَعَ عدم الْغَضَب أَو مَعَ يسيره فَلَا بُد إِذا من مَانع، وَلَيْسَ إِلَّا مَا فهم من سِيَاق النَّص ومضمونه من شغل البيع عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فتفوت، واضطراب الفكرة لأجل الْغَضَب فَيَقَع الْخَطَأ فَوَجَبَ إِضَافَة النَّهْي إِلَيْهِ.
وَأما الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم، فَجعلُوا الحَدِيث وَنَحْوه من النَّوْع الْآتِي: وَهُوَ قَوْله: [وَمِنْهَا اقتران الحكم بِوَصْف مُنَاسِب كأكرم الْعلمَاء وأهن الْجُهَّال] .(7/3345)
فَهُوَ وصف مُنَاسِب وَمِنْه: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، {إِن الْأَبْرَار لفى نعيم} وَإِن الْفجار لفى جحيم} [الانفطار: 13، 14] .
فالإكرام للْعلم، والإهانة للْجَهْل، وَالْقطع للسرقة، وَالْجَلد للزِّنَا وَالنَّعِيم للبر، والجحيم للفجور، وَنَحْوه؛ لِأَن الْمَعْلُوم من تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء تَرْتِيب الْأَحْكَام على الْأُمُور الْمُنَاسبَة، وَالشَّرْع لَا يخرج عَن تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء؛ وَلِأَنَّهُ قد ألف من الشَّارِع اعْتِبَار / المناسبات دون إلغائها، فَإِذا قرن بالحكم فِي لَفظه وَصفا مناسبا غلب على الظَّن اعْتِبَاره.
فَفِي قَوْله: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان "، تَنْبِيه على أَن عِلّة ذَلِك مَا فِيهِ تشويش الْفِكر فيطرد ذَلِك فِي كل مشوش؛ لِأَن خُصُوص كَونه غَضْبَان لَيْسَ هُوَ الْمُنَاسب للْحكم فَيلْحق بِهِ الجائع والحاقن وَنَحْوه.
وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا مُلَازمَة بَين التشويش وَالْغَضَب؛ لِأَن التشويش إِنَّمَا ينشأ عَن الْغَضَب الشَّديد لَا مُطلق الْغَضَب.
وَأجِيب عَنهُ: بِأَن الْغَضَب مَظَنَّة التشويش فَكَانَ هُوَ الْعلَّة، كالسفر مَعَ الْمَشَقَّة، وَكلما كَانَ مَظَنَّة من جوع وَنَحْوه يكون كَذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَاعْلَم أَن هَذَا سبق التَّمْثِيل بِهِ لما أَجمعُوا على أَنه عِلّة، فَالْمُرَاد بالتمثيل بِهِ هُنَا أَن يكون فِي الِابْتِدَاء قبل أَن يجمعوا.(7/3346)
قَوْله: [فَإِن ذكر الْوَصْف صَرِيحًا وَالْحكم مستنبط مِنْهُ ك {وَأحل اللَّهِ البيع} صِحَّته مستنبطة من حلّه، فمومى إِلَيْهِ فِي الْأَصَح، وَعَكسه بعكسه كحرمت الْخمر، الْوَصْف مستنبط من تَحْرِيمه] .
إِذا كَانَ الحكم مَقْرُونا بِوَصْف لم يشْتَرط فِي وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون مَذْكُورا، بل قد يكون وَاحِد مِنْهُمَا مستنبطا.
مِثَال كَون الْوَصْف مَذْكُورا مُصَرحًا بِهِ وَالْحكم مستنبطا قَوْله تَعَالَى: {وَأحل اللَّهِ البيع} [الْبَقَرَة: 275] ، فَإِن الْوَصْف الَّذِي هُوَ حل البيع مُصَرح بِهِ، وَالْحكم وَهُوَ الصِّحَّة مستنبط من الْحل، فَإِنَّهُ يلْزم من حلّه صِحَّته.
وَأما الْعَكْس وَهُوَ كَون الحكم مَذْكُورا وَالْوَصْف مستنبطا، فَهُوَ الَّذِي فِي أَكثر الْعِلَل المستنبطة كَقَوْلِه: حرمت الْخمر، فَإِن الحكم وَهُوَ التَّحْرِيم مُصَرح بِهِ، وَالْوَصْف وَهُوَ الْإِسْكَار مستنبط [مِنْهُ] ، وكعلة الرِّبَا مستنبطة من حكمه فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ خلاف.
وَالصَّحِيح أَن النَّوْع الأول من الْإِيمَاء، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره، وَذكره عَن الْمُحَقِّقين، للُزُوم الصِّحَّة للْحلّ لذكره، لِأَن التَّلَفُّظ بِالْوَصْفِ إِيمَاء إِلَى تَعْلِيل الحكم الْمُصَرّح بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْهِنْدِيّ أَيْضا.
وَلنَا قَول آخر أَنه لَيْسَ / من الْإِيمَاء، لِأَن الْعلَّة غير مُصَرح بهَا فِيهِ كَمَا لَو صرح بالحكم.(7/3347)
وَالصَّحِيح: أَن النَّوْع الثَّانِي لَيْسَ من الْإِيمَاء، جزم بِهِ الْآمِدِيّ، والطوفي فِي " شَرحه "، وَمَال إِلَيْهِ الْهِنْدِيّ، وَقَالَ: الْخلاف فِيهِ بعيد نقلا وَمعنى؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن يكون الْعلَّة والإيماء متلازمين لَا يَنْفَكّ أَحدهمَا، وَادّعى بَعضهم الِاتِّفَاق عَلَيْهِ.
وَلنَا قَول آخر أَنه من الْإِيمَاء، لِأَن الْإِيمَاء اقتران الْوَصْف بالحكم وَهُوَ حَاصِل هُنَا ثمَّ لاستلزام، وَهُوَ ظَاهر مَا نَصره ابْن مُفْلِح.
قَوْله: [وَلَا يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ عِنْد ابْن الْمَنِيّ وَالْأَكْثَر، وَعند الْغَزالِيّ والجوزي بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب: إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة، وَمَعْنَاهُ للموفق وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل] .(7/3348)
لَا يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر بِنَاء على أَن الْعلَّة الْمُعَرّف.
وَقيل: يشْتَرط بِنَاء على أَنَّهَا بِمَعْنى الْبَاعِث.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَهل يشْتَرط مُنَاسبَة الْوَصْف المومى إِلَيْهِ؟ أطلق بعض أَصْحَابنَا وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: اشْتَرَطَهُ قوم، ونفاه آخَرُونَ، ثمَّ اخْتَار إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة اشْترط؛ لِأَن الْمُنَاسبَة فِيهِ منشأ للإيماء مثل " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ". وَإِلَّا، فَلَا لِأَنَّهُ بِمَعْنى الأمارة. وَمَعْنَاهُ فِي الرَّوْضَة، وجدل أبي مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ.(7/3349)
وَقَالَ الْمجد: تَرْتِيب الحكم على اسْم مُشْتَقّ يدل أَن مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاق عِلّة فِي قَول [أَكثر] الْأُصُولِيِّينَ وَاخْتَارَهُ ابْن الْمَنِيّ.
وَقَالَ قوم: إِن كَانَ مناسبا، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب فِي تَعْلِيل الرِّبَا من الِانْتِصَار، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ وَإِنَّمَا ذكر أَبُو الْخطاب منعا وتسليما. اسْتدلَّ لعدم الِاشْتِرَاط: أَنه لَو اشْترط لم يفهم التَّعْلِيل من تَرْتِيب الحكم على وصف غير مُنَاسِب كأهن الْعَالم، وَأكْرم الْجَاهِل، وَلم يلم عَلَيْهِ. / رد: لم يفهم مِنْهُ واللوم للإساءة فِي الْجَزَاء، وَلِهَذَا توجه اللوم لَو سكت عَن الْجَزَاء فِي مَوضِع يفهم من السُّكُوت ".(7/3350)
(قَوْله: [فصل] )
[الثَّالِث: السّير والتقسيم: حصر الْأَوْصَاف وَإِبْطَال مَا لَا يصلح، فَيتَعَيَّن الْبَاقِي عِلّة] .
الثَّالِث من مسالك الْعلَّة وَهِي الطّرق الدَّالَّة على الْعلية: السبر والتقسيم.
وَهُوَ: ذكر أَوْصَاف فِي الأَصْل الْمَقِيس [عَلَيْهِ] محصورة وَإِبْطَال بَعْضهَا بِدَلِيل، فَيتَعَيَّن الْبَاقِي للعلية.
سمي بذلك؛ لِأَن النَّاظر يقسم الصِّفَات ويختبر صَلَاحِية كل وَاحِد مِنْهَا للعلية، فَيبْطل مَا لَا يصلح ويبقي مَا يصلح.
والسبر فِي اللُّغَة: هُوَ الاختبار، فالتسمية بِمَجْمُوع الاسمين(7/3351)
وَاضِحَة، وَقد يقْتَصر على السبر فَقَط.
والتقسيم مقدم فِي الْوُجُود عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تعداد الْأَوْصَاف الَّتِي يتَوَهَّم صلاحيتها للتَّعْلِيل ثمَّ يسبرها، أَي: يختبرها ليميز الصَّالح للتَّعْلِيل من غَيره، فَكَانَ الأولى أَن يُقَال: التَّقْسِيم والسبر؛ لِأَن الْوَاو وَإِن لم تدل على التَّرْتِيب لَكِن الْبدَاءَة بالمقدم أَجود، وَقَالَهُ ابْن الْعِرَاقِيّ.
وَأجِيب عَنهُ: بِأَن السبر وَإِن تَأَخّر عَن التَّقْسِيم فَهُوَ مقدم عَلَيْهِ أَيْضا، لِأَنَّهُ أَولا يسبر الْمحل، هَل فِيهِ أَوْصَاف أم لَا؟ ثمَّ يقسم، ثمَّ يسبر ثَانِيًا، فَقدم السبر فِي اللَّفْظ بِاعْتِبَار السبر الأول.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَفِيه نظر؛ لِأَن لنا تقسيما سَابِقًا على هَذَا السبر الْمُدعى وَهُوَ أَن يَقُول: إِن هَذَا الحكم إِمَّا لَهُ عِلّة أَو تعبدي لَا عِلّة [لَهُ] ، ثمَّ يسبر بِنَفْي كَونه تعبدا، ثمَّ يقسم الْأَوْصَاف إِلَيْهَا، فكونه علما بِاعْتِبَار السبر الأول والتقسيم من غير نظر إِلَى السبر الثَّانِي خلاف الظَّاهِر. وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُجَاب: بِأَن الْمُؤثر فِي علم الْعلية إِنَّمَا هُوَ السبر، وَأما التَّقْسِيم فَإِنَّمَا هُوَ لاحتياج السبر إِلَى شَيْء يسبر، وَرُبمَا سمي بالتقسيم / الحاصر " انْتهى.
قَوْله: [وَيَكْفِي المناظر بحثت فَلم أجد غَيره، أَو الأَصْل عَدمه] .(7/3352)
يَكْفِي المناظر فِي بَيَان الْحصْر إِذا منع أَن يَقُول: بحثت فَلم أجد غير هَذِه الْأَوْصَاف فَيقبل قَوْله؛ لِأَنَّهُ ثِقَة أهل للنَّظَر، فَالْحكم بِنَفْي مَا سوى هَذَا مُسْتَندا إِلَى [ظن] عَدمه، لَا إِلَى عدم الْعلم بِوَصْف آخر؛ لِأَن الْأَوْصَاف الْعَقْلِيَّة والشرعية لَو كَانَت لما خفيت على الباحث عَنْهَا.
مِثَاله: أَن يَقُول فِي قِيَاس الذّرة على الْبر فِي الربوية: بحثت عَن أَوْصَاف الْبر فَمَا وجدت مَا يصلح عِلّة للربوية فِي بادىء الرَّأْي إِلَّا الطّعْم أَو الْقُوت أَو الْكَيْل، لَكِن الطّعْم والقوت لَا يصلح لذَلِك عِنْد التَّأَمُّل، فَيتَعَيَّن الْكَيْل. أَو يَقُول: الأَصْل عدم مَا سواهَا فَإِن بذلك يحصل الظَّن الْمَقْصُود. قَوْله: [فَإِن بَين الْمُعْتَرض وَصفا آخر لزم إِبْطَاله] . مثل أَن يَقُول: هُنَا وصف آخر، وَهُوَ كَونه خير قوت، فَإِذا بَين ذَلِك، لزم الْمُسْتَدلّ إِبْطَاله؛ إِذْ لَا يثبت الْحصْر الَّذِي قد ادَّعَاهُ بِدُونِهِ.
قَوْله: [وَلَا يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان صلاحيته للتَّعْلِيل] . للمعترض بعد إتْمَام الْمُسْتَدلّ السبر والتقسيم إبداء وصف زَائِد على(7/3353)
الْأَوْصَاف [الَّتِي] ذكرهَا الْمُسْتَدلّ كَمَا تقدم، لَكِن لَا يلْزمه أَن يبين أَن الْوَصْف الْمَذْكُور صَالح للتَّعْلِيل، بل إبِْطَال صلاحيته لذَلِك وَظِيفَة الْمُسْتَدلّ لَا يتم دَلِيله إِلَّا بذلك.
قَوْله [وَلَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ فِي الأَصْل إِلَّا بعجزه عَن إِبْطَاله، والمجتهد يعْمل بظنه] , لَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بِمُجَرَّد إبداء الْمُعْتَرض الْوَصْف بِظُهُور بطلَان مَا ادَّعَاهُ من الْحصْر، وَإِلَّا كَانَ كل منع قطعا والاتفاق على خِلَافه، وَهَذَا الصَّحِيح وَعَلِيهِ عَمَلهم.
وَقيل: يَنْقَطِع؛ لِأَنَّهُ ادّعى حصرا وَقد ظهر بُطْلَانه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَجَوَابه: أَنه لَا يظْهر بُطْلَانه إِلَّا إِن عجز عَن دَفعه ".
قَالَ الْعَضُد: " وَالْحق: أَنه إِذا أبْطلهُ فقد سلم حصره، وَكَانَ لَهُ أَن يَقُول: هَذَا مِمَّا علمت أَنه لَا يصلح فَلم أدخلهُ فِي حصري. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لم يدع الْحصْر قطعا، بل قَالَ: إِنِّي مَا وجدت أَو [أَظن] الْعَدَم وَهُوَ فِيهِ صَادِق، فَيكون كالمجتهد إِذا ظهر لَهُ مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ وَإنَّهُ غير مستنكر / " انْتهى.
وَقَالَ ابْن السُّبْكِيّ: " وَعِنْدِي أَنه يَنْقَطِع إِن كَانَ مَا اعْترض بِهِ الْمُعْتَرض(7/3354)
مُسَاوِيا فِي الْعلَّة لما ذكره الْمُسْتَدلّ فِي حصر الْأَوْصَاف، وأبطله؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذكر الْمَذْكُور وإبطاله أولى من ذَلِك الْمَسْكُوت عَنهُ الْمسَاوِي لَهُ، وَإِن كَانَ دونه فَلَا انْقِطَاع لَهُ، إِلَّا أَن لَهُ أَن يَقُول: هَذَا لم يكن عِنْدِي مختلا أَلْبَتَّة بِخِلَاف مَا ذكرته وأبطلته ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " قلت: مَا من وصف يَأْتِي بِهِ الْمُعْتَرض إِلَّا والمستدل يُنَازع فِي مساواته، وَلِهَذَا يَدْفَعهُ، فَأَيْنَ مَحل هَذَا التَّفْصِيل " انْتهى.
وَأما النَّاظر الْمُجْتَهد، فَإِنَّهُ يعْمل بظنه فَيرجع إِلَيْهِ، فَإِذا حصل لَهُ الظَّن عمل بذلك وَكَانَ مؤاخذا بِمَا اقْتَضَاهُ ظَنّه، فَيلْزمهُ الْأَخْذ بِهِ وَلَا يكابر نَفسه
قَوْله: [وَمَتى كَانَ الْحصْر والإبطال قَطْعِيا فالتعليل قَطْعِيّ وَإِلَّا فظني] . السبر والتقسيم ضَرْبَان: أَحدهمَا: مَا يكون الْحصْر فِي الْأَوْصَاف وَإِبْطَال مَا يبطل مِنْهَا قَطْعِيا فَيكون دلَالَته قَطْعِيَّة بِلَا خلاف، وَلَكِن هَذَا قَلِيل فِي الشرعيات.(7/3355)
وَالثَّانِي: مَا يكون حصر الْأَوْصَاف ظنيا أَو السبر ظنيا، أَو كِلَاهُمَا، وَهُوَ الْأَغْلَب، فَلَا يُفِيد إِلَّا الظَّن وَيعْمل بِهِ فِيمَا لَا يتعبد فِيهِ بِالْقطعِ من العقائد وَنَحْوهَا.(7/3356)
قَوْله: [وَمن طرق الْحَذف الإلغاء وَهُوَ إِثْبَات الحكم بِالْبَاقِي فَقَط فِي صُورَة وَلم يثبت دونه فَيظْهر استقلاله وَحده، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يَكْفِي فِي استقلاله بِدُونِ طَرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة] . إبِْطَال بعض الْأَوْصَاف لَهُ طرق يعرف بهَا:
أَحدهَا: أَن يدل بِدَلِيل شَرْعِي على إلغائه كَمَا تقدم، فالإلغاء من الطّرق وَهُوَ بَيَان الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الحكم بِالْبَاقِي فَقَط فِي صُورَة وَلم يثبت دونه فَيظْهر استقلاله وَحده.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يَكْفِي ذَلِك فِي استقلاله بِدُونِ طَرِيق من طرق إِثْبَات الْعلَّة، وَإِلَّا لكفى فِي أصل الْقيَاس، فَإِن ثَبت فِي صُورَة الإلغاء بالسبر فَالْأَصْل الأول تَطْوِيل / بِلَا فَائِدَة، وَإِن بَينه بطرِيق آخر لزم مَحْذُور آخر وَهُوَ الِانْتِقَال.
وَعلل، بَعضهم: بِجَوَاز أَن الْوَصْف [الْمَحْذُوف] جُزْء عِلّة وأعم من الْمَعْلُوم، فَلَا يلْزم من وجود الحكم دونه وَعدم الحكم عِنْد وجوده اسْتِقْلَال الْبَاقِي.
قَوْله: [وَيُشبه الإلغاء نفي الْعَكْس، وَلَيْسَ هُوَ] .(7/3357)
يشبه الإلغاء نفي الْعَكْس الَّذِي لَا يقبل، لِأَن كلا مِنْهُمَا إِثْبَات الحكم بِدُونِ الْوَصْف، وَلَيْسَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ لم يقْصد فِي الإلغاء لَو كَانَ الْمَحْذُوف عِلّة لَا نتفى عِنْد انتفائه، بل لَو قصد أَن الْبَاقِي جُزْء عِلّة لما اسْتَقل.
قَوْله: [وَمِنْهَا] ، أَي: من طرق الْحَذف.
[طرد الْمَحْذُوف مُطلقًا [كطول وَقصر، أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الحكم كالذكورية فِي الْعتْق.
وَمِنْهَا: عدم ظُهُور مناسبته.
وَيَكْفِي المناظر: بحثت.(7/3358)
فَلَو قَالَ معترض: الْبَاقِي كَذَلِك بعد تَسْلِيمه مناسبته لم يقبل، وَإِلَّا فسبر الْمُسْتَدلّ أرجح وَلَيْسَ لَهُ بَيَان الْمُنَاسبَة.
وَاخْتَارَ الْمُوفق: لَيْسَ مِنْهَا لمعارضة خَصمه لَهُ بِمثلِهِ وَلَا يَكْفِيهِ نقضه. والسبر الظني حجَّة مُطلقًا فِي ظَاهر كَلَام القَاضِي وَغَيره، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَالْأَكْثَر.(7/3359)
وَخَالف الْحَنَفِيَّة.
قَالَ أَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي: لَا يَصح لجَوَاز التَّعَبُّد.
وَأَبُو الْمَعَالِي: حجَّة إِن أجمع على تَعْلِيل الحكم.
وَقيل: للنَّاظِر دون المناظر] ) .
فَائِدَة: يَكْفِي فِي حصر الْأَوْصَاف اتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفي مَا عَداهَا، وَأما إِذا اتفقَا مثلا على أَن الحكم مُعَلل، وَأَن الْعلَّة فِيهِ أحد الْمَعْنيين،(7/3360)
وَاخْتَارَ الْمُسْتَدلّ وَاحِدَة والمعترض الْأُخْرَى، فَقَالَ الْمُسْتَدلّ: لعلتي مُرَجّح، وَهُوَ كَذَا فَهَل يَكْفِي ذَلِك؟
قَالَ أَبُو الطّيب فِي مناظرته مَعَ أبي الْحسن الْقَدُورِيّ: لَا يَكْفِي، فَإِن اتفاقي مَعَك على أَن الْعلَّة أحد الْمَعْنيين لَيْسَ دَلِيلا، فَإِن إجماعنا لَيْسَ بِحجَّة، وَإِنَّمَا الْحجَّة فِي إِجْمَاع الْأمة.
وَقَالَ الْقَدُورِيّ: يَكْفِي لقطع الْمُنَازعَة.
قَوْله: [وَلَو أفسد حنبلي عِلّة شَافِعِيّ لم يدل على صِحَة علته، لكنه طَرِيق لإبطال مَذْهَب خَصمه وإلزام لَهُ صِحَة علته، وَقيل: لَا تثبت عِلّة الأَصْل باستنباط وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد.
وَقيل: لَا يقبل سبر فِي ظَنِّي، وَقيل: وَلَا فِي التَّعْلِيل إِلَّا الْإِيمَاء وَمَا علم بِغَيْر نظر كبوله فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي مَاء] .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأما إِن أفسد حنبلي عِلّة شَافِعِيّ فِي الرِّبَا لم يدل على صِحَة علته لتعليل بعض الْفُقَهَاء بِغَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ إجماعهما دَلِيلا على من خالفهما، لَكِن يكون طَرِيقا فِي إبِْطَال مَذْهَب خَصمه وإلزاما لَهُ صِحَة علته.(7/3361)
وَفِي " الرَّوْضَة ": فِي هَذِه الصُّورَة / الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا وَفِيه نظر. وَقد ذكر القَاضِي عَن ابْن حَامِد أَن عِلّة الأَصْل كعلة الرِّبَا لَا تثبت بالاستنباط، قَالَ: وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فَسَأَلَهُ مهنا: " هَل نقيس بِالرَّأْيِ؟ قَالَ: لَا هُوَ أَن يسمع الحَدِيث فيقيس عَلَيْهِ ". وَعلله بِعَدَمِ الْقطع بِصِحَّتِهَا. ثمَّ اخْتَار أَنه يَصح، وَذكر كَلَام أَحْمد فِي عِلّة الرِّبَا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُخَالف ابْن حَامِد فِي استنباط سَمْعِي وَهُوَ التَّنْبِيه والإيماء، وَهَذِه أشهر.(7/3362)
وَعَن [البخاريين] : لَا يقبل السبر [فِي ظَنِّي] ، وَذكره أَبُو الْمَعَالِي عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَذكر أَيْضا عَن النهرواني والقاشاني: لَا يقبل فِي التَّعْلِيل إِلَّا الْإِيمَاء وَمَا علم بِغَيْر نظر كبوله فِي إِنَاء ثمَّ يصبهُ فِي مَاء، وافقهما أَبُو هَاشم) . انْتهى.
قَوْله: [فَائِدَة: لكل حكم عِلّة عِنْد الْفُقَهَاء تفضلا، وَعند الْمُعْتَزلَة وجوبا، قَالَ: أَبُو الْخطاب كلهَا معللة وتخفى نَادرا، قَالَ القَاضِي: هِيَ الأَصْل وَترك نَادرا، وَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ فِيهَا إِجْمَاعًا، وَقيل: الأَصْل عدمهَا، قَالَ ابْن عقيل: أَكثر الْأَحْكَام غير معللة] .
لما فَرغْنَا من السبر والتقسيم ذكرنَا دَلِيل وجوب الْعَمَل بالطرق الدَّالَّة على الْعلية من السبر، وَكَذَا تَخْرِيج المناط، والشبه، وَتَقْرِيره: أَنه لابد للْحكم من عِلّة للْإِجْمَاع على أَن أَحْكَام اللَّهِ مقترنة بِالْعِلَّةِ.(7/3363)
وَإِن اخْتلفُوا فِي اقترانها بِالْعِلَّةِ بطرِيق الْوُجُوب أَو بطرِيق اللطف، قَالَه الْأَصْفَهَانِي شَارِح " الْمُخْتَصر "، تبعا للآمدي.
وَهَذِه الْفَائِدَة الَّتِي ذَكرنَاهَا إِنَّمَا هِيَ كالاستدلال للمسألة الْمُتَقَدّمَة وَهِي صِحَة مَسْلَك السبر والتقسيم.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَجه الأول يَعْنِي أَن السبر مَسْلَك صَحِيح، لابد للْحكم من عِلّة.
وَذكر الْآمِدِيّ: إِجْمَاع الْفُقَهَاء بطرِيق الْوُجُوب عِنْد الْمُعْتَزلَة، وبطريق اللطف والاتفاق عِنْد الأشعرية وَسبق فِي مَسْأَلَة التحسين. /
وَكَذَا ذكر أَبُو الْخطاب: وَإِنَّمَا ثَبت حكمه بِنَصّ أَو إِجْمَاع كُله مُعَلل وَيخْفى علينا علته نَادرا.
وَاحْتج الْآمِدِيّ بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} [الْأَنْبِيَاء: 107] ، فَظَاهره جَمِيع مَا جَاءَ بِهِ، فَلَو خلا حكم عَن عِلّة لم يكن رَحْمَة، لِأَن التكاليف بِهِ بِلَا حِكْمَة وَفَائِدَة: مشقة، كَذَا قَالَ. ثمَّ لَو سلم فالتعليل الْغَالِب، قَالَ القَاضِي: التَّعْلِيل الأَصْل، ترك نَادرا.(7/3364)
لِأَن تعقل الْعلَّة أقرب إِلَى الْقبُول من التَّعَبُّد؛ وَلِأَنَّهُ المألوف عرفا وَالْأَصْل مُوَافقَة الشَّرْع لَهُ، فَيحمل مَا نَحن فِيهِ على الْغَالِب وَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي علل الْأَحْكَام إِجْمَاعًا على مَا يَأْتِي فِي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ.
وَقيل: الأَصْل عدم التَّعْلِيل؛ لِأَن الْمُوجب الصِّيغَة، وبالتعليل ينْتَقل حكمه إِلَى مَعْنَاهُ، فَهُوَ كالمجاز من الْحَقِيقَة. وَنَصره بعض الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن التَّعْلِيل لَا يجب للنَّص دَائِما فَيعْتَبر لدعواه دَلِيل.
وَفِي " وَاضح ابْن عقيل " فِي مَسْأَلَة الْقيَاس أَكثر الْأَحْكَام غير مُعَلل.(7/3365)
وَقَالَ فِي " فنونه " لمن قَاس الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي على الْعشْر وَبَين الْعلَّة، فأبطلها ابْن عقيل فَقَالَ لَهُ: مَا الْعلَّة إِذن؟ فَقَالَ: لَا يلْزم، ويتبرع، فَيَقُول: سؤالك عَن الْعلَّة قَول من من يُوجب لكل حِكْمَة عِلّة، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن من النَّاس من يَقُول: الْأُصُول معللة، وَبَعْضهمْ يَقُول غير معللة، وَبَعْضهمْ يَقُول: بَعْضهَا مُعَلل وَبَعضهَا غير مُعَلل، فَيجوز أَن هَذَا لَا عِلّة [لَهُ] ، أَوله عِلّة خافية عَنَّا.
قَالُوا: شرع الحكم لَا يسْتَلْزم الْحِكْمَة وَالْمَقْصُود؛ لِأَنَّهُ من صَنِيعَة، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم ذَلِك كخلق العَاصِي، وَمَوْت الْأَنْبِيَاء، وإنظار إِبْلِيس، وَالتَّخْلِيد فِي النَّار، وتكليف من علم عدم إيمَانه، وَخلق الْعَالم فِي وقته الْمَحْدُود وشكله الْمُقدر.
رد: لَيست الْحِكْمَة قَطْعِيَّة وَلَا مُلَازمَة لجَمِيع أَفعاله.(7/3366)
سلمنَا لُزُومهَا لَكِن قد تخفى علينا) انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
وَزَاد مَسْأَلَة تعلق الْقُدْرَة بالحدوث والإرادة وَالْحَال فِي ذَلِك.
وَقد بحث الْمَسْأَلَة / الْأَصْفَهَانِي، والعضد وَغَيرهمَا من شرَّاح " الْمُخْتَصر ".
قَوْله: [الرَّابِع: الْمُنَاسبَة والإخالة واستخراجها يُسمى تَخْرِيج المناط، وَهُوَ تعْيين عِلّة الأَصْل بإبداء الْمُنَاسبَة من ذَات الْوَصْف لَا بِنَصّ وَغَيره(7/3367)
كالإسكار والمناسبة لغوية فَلَا دور] .
من الطّرق الدَّالَّة على الْعلية الْمُنَاسبَة، وَيُقَال: الإخالة، وَهُوَ: أَن يكون الأَصْل مُشْتَمِلًا على وصف مُنَاسِب للْحكم، فَيحكم الْعقل بِوُجُود تِلْكَ الْمُنَاسبَة أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم كالإسكار للتَّحْرِيم، وَالْقَتْل الْعمد الْعدوان للْقصَاص.
وَالْمرَاد بالمناسبة اللُّغَوِيَّة بِخِلَاف الْمُعَرّف، وَهُوَ الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهَا بِالْمَعْنَى الاصطلاحي حَتَّى لَا يكون تعريفا للشَّيْء بِنَفسِهِ. وَتسَمى الْمُنَاسبَة أَيْضا: " الإخالة " بِكَسْر الْهمزَة وبالخاء الْمُعْجَمَة من خَال إِذا ظن، لِأَنَّهُ بِالنّظرِ إِلَيْهِ يخال أَنه عِلّة. وَتسَمى أَيْضا: تَخْرِيج المناط، لما فِيهِ من [إبداء] مَا نيط بِهِ الحكم، أَي علق عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَيُزَاد فِيهَا الإخالة وَتَخْرِيج المناط.(7/3368)
وَهَذَا هُوَ الَّذِي عظم فِيهِ الْخلاف بَين الْعلمَاء على مَا يَأْتِي بعد الْفَرَاغ من المسالك.
قَوْله: [ويتحقق الِاسْتِقْلَال بِعَدَمِ مَا سواهُ بالسبر] .
يتَحَقَّق الِاسْتِقْلَال على أَن الْوَصْف الَّذِي أبداه هُوَ الْعلَّة بِعَدَمِ مَا سواهُ بطرِيق السبر، وَلَا يَكْفِي أَن يَقُول: بحثت فَلم اجد غَيره، وَإِلَّا يلْزم الِاكْتِفَاء بِهِ ابْتِدَاء، وَلَا قَائِل بِهِ بِخِلَاف مَا سبق فِي طَرِيق السبر والتقسيم، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بذلك؛ لِأَن الْمدَار هُنَاكَ على الْحصْر، فَاكْتفى فِيهِ ببحثه فَلم يجد، وَهنا على أَنه ظفر بِوَصْف فِي الأَصْل مُنَاسِب، فَافْتَرقَا.
قَوْله: [وَالْمُنَاسِب: مَا تقع الْمصلحَة عقبه، قَالَ الْمُوفق والطوفي، وَزَاد لرابط عَقْلِي، وَقوم: الملائم لأفعال الْعُقَلَاء عَادَة، والبيضاوي وَغَيره: مَا يجلب نفعا أَو يدْفع ضَرَرا، وَأَبُو زيد: مَا لَو عرض على الْعُقُول لتلقته بِالْقبُولِ، والآمدي وَمن تبعه /: وصف ظَاهر منضبط يلْزم من ترَتّب الحكم عَلَيْهِ مَا يصلح كَونه مَقْصُودا من شرع الحكم من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة] .
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " وَمعنى الْمُنَاسب: أَن يكون فِي إِثْبَات الحكم عَقِبَيْهِ مصلحَة.(7/3369)
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": الْمُنَاسب هُوَ مَا تتَوَقَّع الْمصلحَة عَقِيبه لرابط مَا عَقْلِي ".
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " اخْتلف فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب، واستقصاء القَوْل [فِيهِ] من الْمُهِمَّات؛ لِأَن عَلَيْهِ مدَار الشَّرِيعَة، بل مدَار الْوُجُود؛ إِذْ لَا وجود إِلَّا وَهُوَ على وفْق الْمُنَاسبَة الْعَقْلِيَّة، لَكِن أَنْوَاع الْمُنَاسبَة تَتَفَاوَت فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والخفاء والظهور، فَمَا خفيت عَنَّا مناسبته سمي تعبدا، وَمَا ظَهرت مناسبته سمي مُعَللا.
وَقَوْلنَا: الْمُنَاسب مَا تتَوَقَّع الْمصلحَة عقبه، أَي: إِذا وجد أَو إِذا سمع، أدْرك الْعقل السَّلِيم كَون ذَلِك الْوَصْف سَببا مفضيا إِلَى مصلحَة من الْمصَالح لرابط من الروابط الْعَقْلِيَّة بَين تِلْكَ الْمصلحَة، وَذَلِكَ الْوَصْف، وَهُوَ معنى قولي: لرابط مَا عَقْلِي.
مِثَاله: إِذا قيل: الْمُسكر حرَام، أدْرك الْعقل أَن تَحْرِيم الْمُسكر مفض إِلَى مصلحَة وَهِي حفظ الْعقل من الِاضْطِرَاب، وَإِذا قيل: الْقصاص مَشْرُوع، أدْرك الْعقل أَن مَشْرُوعِيَّة الْقصاص سَبَب مفض إِلَى مصلحَة وَهِي حفظ النُّفُوس.
ثمَّ قَالَ: قلت لرابط عَقْلِي، أخذا من النّسَب الَّذِي هُوَ الْقَرَابَة، فَإِن الْمُنَاسب هُنَا مستعار ومشتق من ذَلِك، وَلَا شكّ أَن المتناسبين فِي بَاب النّسَب كالأخوين وَابْني الْعم وَنَحْوه، إِنَّمَا كَانَا متناسبين لِمَعْنى رابط بَينهمَا وَهُوَ الْقَرَابَة، فَكَذَلِك الْوَصْف الْمُنَاسب هُنَا، لابد وَأَن يكون بَينه وَبَين مَا يُنَاسِبه(7/3370)
من الْمصلحَة رابط عَقْلِي، وَهُوَ كَون الْوَصْف صَالحا للإفضاء إِلَى تِلْكَ الْمصلحَة عقلا " انْتهى.
وَقَالَ جمَاعَة: الْمُنَاسب الْوَصْف الملائم لأفعال / الْعُقَلَاء.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الْأَرْجَح، وَهَذِه الملائمة تدْرك بِوَاسِطَة الْعَادة الَّتِي أجراها اللَّهِ تَعَالَى.
أَي: يَقْصِدهُ الْعُقَلَاء لتَحْصِيل الْمَقْصُود كَمَا يُقَال: هَذِه اللؤلؤة تناسب هَذِه اللؤلؤة، وَهَذِه الْجُبَّة تناسب الْعِمَامَة، وَلها تَفْصِيل لِأَنَّهَا إِمَّا لجلب مصلحَة أَو دفع مفْسدَة، وَإِمَّا بِأَنَّهَا ضَرُورِيّ، أَو حاجي، أَو تحسيني وَنَحْوه مِمَّا يَأْتِي مفصلا وموضحا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا يحمل قَول ابْن الْحَاجِب فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب وَبَين ذَلِك ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مغايرا لتعريفه بل بِهَذَا التَّقْدِير يكون بسطا لَهُ وإيضاحا وَإِن غاير بَينهمَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلَكِن هَذَا عِنْدِي أَجود. انْتهى.(7/3371)
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره: " الْمُنَاسب مَا يجلب للْإنْسَان نفعا أَو يدْفع عَنهُ ضَرَرا ".
وَقيد بالأنسان لتعالي الرب - سُبْحَانَهُ - عَن الضَّرَر وَالِانْتِفَاع.
وَقد اعْترض على هَذَا التَّعْرِيف: بِأَن فِيهِ تَفْسِير الْعلَّة بالحكم؛ لِأَن الْوَصْف الْمُنَاسب من أَقسَام الْعلَّة كَالْقَتْلِ يُنَاسب إِيجَاب الْقصاص، والجالب للنفع الدَّافِع لضررهو الحكم، كإيجاب الْقصاص جالب لنفعه بَقَاء الْحَيَاة، ودافع لضَرَر التَّعَدِّي.
وَلذَلِك قَالَ بَعضهم: إِنَّه الْوَصْف المفضي إِلَى مَا يجب للْإنْسَان نفعا أَو يدْفع عَنهُ ضَرَرا.(7/3372)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَهَذَا التَّعْرِيف مُغَاير لتعريف الْبَيْضَاوِيّ؛ لِأَن هَذَا لم يَجْعَل الْمَقْصُود فِي جلب النَّفْع وَدفع الضَّرَر نفس الْوَصْف بل الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ الْوَصْف، والبيضاوي جعله نفس الْوَصْف ".
وَهَذَا التَّعْرِيف وَالَّذِي قبله جَار على طَريقَة [من يُعلل] أَفعَال اللَّهِ تَعَالَى بالمصالح، أَي: لمراعاة الْمصَالح للعباد تفضلا وإحسانا لَا لُزُوما كَمَا يَقُوله الْمُعْتَزلَة، وَتسَمى الْمُنَاسبَة أَيْضا. قَالَ ذَلِك فِي " الْمَحْصُول ".
قَالَ أَبُو زيد الدبوسي من الْحَنَفِيَّة: الْمُنَاسب مَا لَو عرض / على الْعُقُول لتلقته بِالْقبُولِ.
قَالَ صَاحب " البديع ": وَهُوَ أقرب إِلَى اللُّغَة، وَبني عَلَيْهِ الِاحْتِجَاج بِهِ على الْعلَّة فِي مقَام المناظرة دون مقَام النّظر، لِإِمْكَان أَن يَقُول الْخصم: هَذَا لَا يتلقاه عَقْلِي بِالْقبُولِ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاج على تلقي غَيْرِي لَهُ بِأولى من الِاحْتِجَاج على ذَلِك الْغَيْر، لعدم تلقي عَقْلِي لَهُ بِالْقبُولِ.
وَمِنْهُم من أجَاب عَن ذَلِك: أَنه لَيْسَ الِاعْتِبَار بتلقي عقله وَلَا عقل مناظره فَقَط، بل المُرَاد الْعُقُول السليمة والطباع المستقيمة إِذا عرض عَلَيْهَا وَتَلَقَّتْهُ انتهض دَلِيلا على مناظره.(7/3373)
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَأَتْبَاعه: الْمُنَاسب: وصف ظَاهر منضبط يلْزم من ترَتّب الحكم عَلَيْهِ مَا يصلح كَونه مَقْصُودا، من شرع الحكم من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة.
تقديرهم: بِالْوَصْفِ جرى على الْغَالِب، لما سبق من أَن الْعلَّة تكون حكما شَرْعِيًّا وأمرا عرفيا أَو لغويا، فَلَو قَالَ: مَعْلُوم، لتناول ذَلِك، فَخرج بِالظَّاهِرِ: الْخَفي، وبالمنضبط: مَا لَا يَنْضَبِط فَلَا يُسمى مناسبا، وَبِمَا يصلح: الْوَصْف المستبقى فِي السبر والمدار فِي الدوران وَغَيرهمَا من الْأَوْصَاف الَّتِي تصلح للعلية، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَا ذكر، وَقَوْلهمْ: من حُصُول مصلحَة أَو دفع مفْسدَة بَيَان لما فِي مَا يصلح، وَالله أعلم.
قَوْله: [فَإِن كَانَ الْوَصْف خفِيا أَو غير منضبط اعْتبر الْمُلَازمَة وَهِي المظنة] .
هَذَا تَفْرِيع على تَعْرِيف الْآمِدِيّ أَنه مَتى كَانَ الْوَصْف خفِيا أَو غير منضبط اعْتبر بلازمه، وَهُوَ وصف ظَاهر منضبط ملازم للوصف الْخَفي، وَهُوَ المظنة، أَي: مَظَنَّة الْمُنَاسب، كالسفر، فَإِنَّهُ ملازم للْمَشَقَّة لَكِن اعْتِبَارهَا مُتَعَذر لعدم انضباطها؛ لِأَنَّهَا ذَات مَرَاتِب تخْتَلف بالأشخاص، وَلَا يناط التَّرَخُّص بِالْكُلِّ، وَلَا يمتاز الْبَعْض بِنَفسِهِ فنيط التَّرَخُّص بملازمها وَهُوَ السّفر.(7/3374)
قَوْله: [وَالْمَقْصُود من شرع الحكم قد يعلم حُصُوله كَبيع، ويظن: / كقصاص، ويشك فِيهِ: كَحَد خمر، ويتوهم: كَنِكَاح آيسة للتوالد] .
حُصُول الحكم فِي الْوَصْف الْمُنَاسب قد يكون يَقِينا كَالْبيع، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ صَحِيحا حصل مِنْهُ الْملك الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود.
وَقد يكون ظنا كَالْقصاصِ فَإِن حُصُول الانزجار عَن الْقَتْل لَيْسَ قَطْعِيا، بِدَلِيل وجود الْإِقْدَام مَعَ علمهمْ بِأَن الْقصاص مَشْرُوع. وَقد يتساوى حُصُول الْمَقْصُود وَعدم حُصُوله، فَلَا يُوجد يَقِين وَلَا ظن بل يكونَانِ متساويين.
قَالَ صَاحب " البديع ": " وَلَا مِثَال لَهُ على التَّحْقِيق ".
وَيقرب مِنْهُ مَا مثل بِهِ ابْن الْحَاجِب من حد شَارِب الْمُسكر لحفظ الْعقل، فَإِن المقدمين كثير، والمتجنبين كثير، فتساوى الْمَقْصُود وَعَدَمه فِيهِ.
وَقد يكون عدم حُصُول الْمَقْصُود أرجح من حُصُوله، كَنِكَاح الآيسة لمصْلحَة التوالد؛ لِأَنَّهُ مَعَ إِمْكَانه عقلا بعيد عَادَة.(7/3375)
قَوْله: [وَقيل: لَا يُعلل بِهَذَيْنِ، وَالْأَظْهَر بلَى اتِّفَاقًا إِن ظهر الْمَقْصُود فِي غَالب صور الْجِنْس، وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا قَول ابْن عقيل وَغَيره: السّفر مشقته عَامَّة وَيخْتَلف قدرهَا] .
اخْتلف فِي التَّعْلِيل فِي هذَيْن الْأَخيرينِ.
فَمنهمْ من منع فِي الأول للتردد بَين حُصُول الْمَقْصُود وَعَدَمه من غير تَرْجِيح وَفِي الثَّانِي أَيْضا لرجحان نفي الْمَقْصُود على حُصُوله.
لَكِن الْأَظْهر مَا ذكره الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب [وَتَبعهُ] فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيرهم: جَوَاز التَّعْلِيل بالقسمين الْأَخيرينِ، بِدَلِيل جَوَاز الْقصر للْملك المترفة فِي السّفر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَأنكر بَعضهم جَوَاز التَّعْلِيل بِهَذَا وَالَّذِي قبله، ذكره بَعضهم.
وَاحْتج عَلَيْهِ: بِأَن البيع مَظَنَّة الْحَاجة إِلَى التعاوض، وَالسّفر مَظَنَّة الْمَشَقَّة واعتبرا، وَإِن انْتَفَى الظَّن فِي بعض الصُّور، كَذَا قَالَ.(7/3376)
ثمَّ قَالَ: وَالْأَظْهَر مَا ذكره الْآمِدِيّ: أَنه يَصح التَّعْلِيل بهما اتِّفَاقًا إِذا / ظهر الْمَقْصُود فِي غَالب صور الْجِنْس وَإِلَّا فَلَا، أَي: الِاحْتِمَال الترتب وَعَدَمه سَوَاء أَو عَدمه أرجح. - ثمَّ قَالَ: الْأَظْهر أَيْضا مَا فِي " الْفُنُون " وَغَيرهَا: السّفر مشقة عَامَّة وَيخْتَلف قدرهَا، وَكَذَا يحسن التهنئة بالقدوم للْجَمِيع، كالمرضى بالسلامة) انْتهى.
وَقَالَ فِي " البديع ": " إِن هذَيْن الْأَخيرينِ مُتَّفق على اعتبارهما إِذا كَانَ الْمَقْصُود ظَاهرا من الْوَصْف فِي غَالب صور الْجِنْس وَإِلَّا فَلَا ". وَهَذَا كَلَام الْآمِدِيّ بِعَيْنِه.
قَوْله: (وَلَو فَاتَ يَقِينا كلحوق نسب مشرقي بمغربية وَنَحْوه، لم يُعلل بِهِ خلافًا للحنفية) .
لَو كَانَ الْمَقْصُود فائتا قطعا لم يعْتَبر عِنْد الْجُمْهُور.
وَخَالف فِي ذَلِك الْحَنَفِيَّة، فَيلْحق عِنْدهم النّسَب لَو تزوج بطرِيق التَّوْكِيل مشرقي بمغربية فَأَتَت بِولد، مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء اجْتِمَاعهمَا، فاعتبره الْحَنَفِيَّة لاقْتِضَاء الزواج ذَلِك فِي الْأَغْلَب، فعمم ذَلِك حفظا للنسب وألحقوا بِهِ النّسَب.(7/3377)
وَأما الْجُمْهُور فَلم يلحقوه بِهِ.
فَإِن قيل: قد [اعْتَبرهُ] أَكثر أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة أَيْضا، فأوجبوا الِاسْتِبْرَاء على من بَاعَ جَارِيَة ثمَّ اشْتَرَاهَا من المُشْتَرِي مِنْهُ فِي مجْلِس العقد، مَعَ الْقطع بِانْتِفَاء شغل رَحمهَا من الثَّانِي.
وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك تعبد غير مَعْقُول الْمَعْنى، وَلَيْسَ مُعَللا بِاحْتِمَال الشّغل، لَكِن الْآمِدِيّ مثل بالمتزوج وَالْمُشْتَرِي، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّة لَا تستبرأ، وَعند الشَّافِعِيَّة تستبرأ.
وَلنَا خلاف، وَالْمَشْهُور تستبرأ، وهما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.(7/3378)
قَوْله: (وَالْمُنَاسِب دُنْيَوِيّ ضَرُورِيّ أصلا، وَهُوَ أَعلَى مراتبها، وَهِي الْخَمْسَة الَّتِي روعيت فِي كل مِلَّة: حفظ الدّين، فَالنَّفْس، فالعقل، فالنسل، فَالْمَال وَالْعرض) .
لما ذكرنَا فِي تَعْرِيف الْمُنَاسب أَنه الملائم لفعل ذَوي الْعُقُول، وَفِي مَعْنَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ من التعاريف.
ثَبت هُنَا مَا اشير إِلَيْهِ من جَمِيع ذَلِك من وَجه الملائمة والمناسبة، وَهِي لَا تَخْلُو عَن ثَلَاثَة أُمُور مرتبَة فِي الملائمة: ضَرُورِيّ: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته فِي مَحل الضَّرُورَة /.
وحاجي: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته فِي مَحل الْحَاجة.
وتحسيني: وَهُوَ مَا كَانَت مصْلحَته مستحسنة فِي الْعَادَات.
فالضروري الَّذِي يكون فِي مَحل ضَرُورَة الْعباد لابد مِنْهُ، وَذَلِكَ خَمْسَة أَنْوَاع وَهِي الْمَقَاصِد [الَّتِي] اتّفق أهل الْملَل فِي حفظهَا وَهِي: الدّين، فَالنَّفْس، فالعقل، فَالْمَال، فالنسل، وَعند كثير فالنسب، وَالْمعْنَى وَاحِد،(7/3379)
وَهَذِه أَعلَى الْمَرَاتِب فِي إِفَادَة ظن الِاعْتِبَار، وَهِي فِي إِفَادَة الظَّن مترتبة على مَا أَتَيْنَا بهَا بِالْفَاءِ ليدل على ذَلِك.
فَأَما حفظ الدّين: فبقتال الْكفَّار قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} [التَّوْبَة: 29] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّهِ ".
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَأما حفظ النَّفس: فبمشروعية الْقصاص قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} [الْبَقَرَة: 179] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا أنس كتاب اللَّهِ الْقصاص ".(7/3380)
وَأما حفظ الْعقل: فبتحريم المسكرات وَنَحْوهَا قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر} [الْمَائِدَة: 91] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل مُسكر حرَام ".
وَأما حفظ المَال ك فبقطع السَّارِق وتضمينه وتضمين الْغَاصِب وَنَحْوه، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن أَمْوَالكُم عَلَيْكُم حرَام "، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188] .(7/3381)
وَأما النَّسْل أَو النّسَب: فبوجوب حد الزِّنَى، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} [النُّور: 2] ، وَقد جلد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ورجم.
وَقد أُشير إِلَى هَذِه الْأَرْبَعَة بقوله تَعَالَى: {على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان بفترينه} [الممتحنة: 12] /.
إِذا لَا تعرض فِي الْآيَة لحفظ الْعُقُول.
وَزَاد الطوفي من أَصْحَابنَا فِي " مختصرة ": سادسا هُوَ: الْعرض، وَتَبعهُ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وشراحه، والبرماوي، وَغَيرهم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي خطبَته فِي حجَّة الْوَدَاع: " إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام " الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة وَأَحْكَام حفظه شهيرة فِي الشَّرْع، فَهُوَ من الضروريات الْمَعْلُومَة فِي الدّين وَحفظه بِحَدّ الْقَذْف أَيْضا، وترتيبها كَمَا ذكرنَا بِالْفَاءِ فِي الْوُجُوب.(7/3382)
وَأما الْعرض فَجعله فِي جمع الْجَوَامِع، و " منظومة " الْبرمَاوِيّ فِي رُتْبَة المَال لعطفه بِالْوَاو، وتابعناه فَيكون من أدنى الكليات، وَيحْتَمل أَن لَا يَجْعَل من الكليات وَإِنَّمَا يكون مُلْحقًا بهَا، وَيحْتَمل أَن يفصل فِي ذَلِك:
قيل: وَهُوَ الظَّاهِر؛ لِأَن الْأَعْرَاض تَتَفَاوَت، فَمِنْهَا مَا هُوَ من الكليات وَهُوَ الْأَنْسَاب وَهِي أرفع من الْأَمْوَال، فَإِن حفظ النّسَب بِتَحْرِيم الزِّنَا تَارَة، وبتحريم الْقَذْف الْمُؤَدِّي إِلَى الشَّك فِي انساب الْخلق، وبنسبتهم إِلَى غير آبَائِهِم تَارَة وَتَحْرِيم الْأَنْسَاب مقدم على الْأَمْوَال، وَمِنْهَا مَا هُوَ دونهَا وَهُوَ مَا يكون من الْأَعْرَاض غير الْأَنْسَاب.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيتَوَجَّهُ من الضَّرُورِيّ حفظ الْعرض بشرع عُقُوبَة المفتري ".
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي إهمال الْأَعْرَاض من الكليات. وَالله أعلم.
قَوْله: (ومكمله كحفظ الْعقل بِالْحَدِّ بِقَلِيل مُسكر) .
أَي: وَيلْحق بالضروري مكمله فِي حكمه، وَمعنى كَونه مكملا لَهُ أَنه لَا يسْتَقلّ ضَرُورِيًّا بِنَفسِهِ بل بطرِيق الانضمام، فَلهُ تَأْثِير فِيهِ لَكِن لَا بِنَفسِهِ فَيكون فِي حكم الضَّرُورَة مُبَالغَة فِي مراعاته.
كالمبالغة فِي حفظ الْعقل: بِتَحْرِيم شرب قَلِيل الْمُسكر وَالْحَد عَلَيْهِ.
وَالْمُبَالغَة فِي حفظ الدّين: بِتَحْرِيم الْبِدْعَة وعقوبة المبتدع الدَّاعِي إِلَيْهَا.(7/3383)
وَالْمُبَالغَة فِي حفظ النَّفس: بإجراء الْقصاص فِي الْجِرَاحَات وَنَحْو ذَلِك.
وَذَلِكَ لِأَن الْكثير الْمُسكر مُفسد / لِلْعَقْلِ؛ وَلَا يحصل إِلَّا بإفساد كل وَاحِد من أَجْزَائِهِ بِحَدّ شَارِب الْقَلِيل؛ لِأَن الْقَلِيل متْلف لجزء من الْعقل وَإِن قل.
وَكَذَلِكَ الْمُبَالغَة فِي حفظ المَال وَالْعرض وَغَيرهَا: بتعزير الْغَاصِب وَنَحْوه، وتعزير الساب بِغَيْر الْقَذْف وَنَحْو ذَلِك.
وَالْمُبَالغَة فِي حفظ النّسَب: بِتَحْرِيم النّظر والمس، وَالتَّعْزِير عَلَيْهِ.
وَقد نبه الشَّارِع على إِلْحَاق ذَلِك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَالرَّاعِي يرْعَى حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ "، ثمَّ قَالَ: " أَلا وَإِن حمى اللَّهِ مَحَارمه ".(7/3384)
قَوْله: (وحاجي: كَبيع وَنَحْوه، وَبَعضهَا أبلغ، وَقد يكون ضَرُورِيًّا كَشِرَاء ولي مَا يَحْتَاجهُ طِفْل وَنَحْوه) .
الثَّانِي من الْأَقْسَام وَالثَّلَاثَة: الحاجي، وَهُوَ الَّذِي لَا يكون فِي مَحل الضَّرُورَة بل مَحل الْحَاجة، وَيُقَال لَهُ: المصلحي، كَمَا عبر بِهِ الْبَيْضَاوِيّ.
كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَنَحْوهمَا كالمساقاة وَالْمُضَاربَة؛ لِأَن مَالك الشَّيْء قد لَا يعيره وَلَا يَهبهُ، وَلَيْسَ كل أحد يعرف عمل الْأَشْجَار وَلَا التِّجَارَة، وَقد يعرف ذَلِك، لكنه مَشْغُول بأهم من ذَلِك.
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء وَمَا أشبههَا لَا يلْزم من فَوَاتهَا فَوَات شَيْء من الضروريات [الْخمس] .
وَادّعى أَبُو الْمَعَالِي أَن البيع ضَرُورِيّ.
وَلَعَلَّه أَرَادَ مَا ةكثر الْحَاجة إِلَيْهِ بِحَيْثُ صَار ضَرُورِيًّا؛ لِأَن النَّاس لَو لم يتبادلوا مَا بِأَيْدِيهِم لجر ذَلِك ضَرُورَة، فعلى الأول بَعْضهَا أبلغ.
وَقد يكون ضَرُورِيًّا كَالْإِجَارَةِ على تَرْبِيَته الطِّفْل، أَو شِرَاء المطعوم والملبوس لَهُ، حَيْثُ كَانَ فِي معرض التّلف من الْجُوع وَالْبرد.(7/3385)
وَحَاصِله: أَن الحاجي متفاوت حَتَّى إِن بعضه يَنْتَهِي إِلَى رُتْبَة الضَّرُورِيّ
قَالَ فِي جمع الْجَوَامِع ": " وَقد يكون ضَرُورِيًّا كالإجازة لتربية الطِّفْل ".
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " قلت: تحصل تَرْبِيَته بِمُبَاشَرَة الْوَلِيّ لذَلِك، وبشراء جَارِيَة لَهُ، وبمتبرع / بِهِ، وبمن جعل لَهُ عَلَيْهِ جعل، فَلَا ينْحَصر الْأَمر فِي الِاسْتِئْجَار فَلَيْسَ ضَرُورِيًّا، وَلَو مثل بشرَاء الْوَلِيّ لَهُ المطعوم والملبوس لَكَانَ أولى " انْتهى.
قلت: يرد عَلَيْهِ أَيْضا مَا أوردهُ على الأَصْل، فَإِن المطعوم والملبوس قد يحصل بِهِبَة، وبمتبرع بِهِ.
لَكِن الصَّوَاب فِي الْجَمِيع تضييق الْغَرَض بِحَيْثُ لَا يُوجد مَا ذكر فَيكون ضَرُورِيًّا، وعبارتنا فِي الْمَتْن سَالِمَة من ذَلِك.
قَوْله: (ومكمله كرعاية كفاءة، وَمهر مثل فِي تَزْوِيج صَغِيرَة) . مثل ذَلِك ابْن مُفْلِح وَقَالَ: " لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى دوَام النِّكَاح ".
وَزَاد الْبرمَاوِيّ: " وتكميل مقاصده، وَإِن حصلت أصل الْحَاجة بِدُونِ ذَلِك.(7/3386)
وَمثله: إِثْبَات الْخِيَار فِي البيع بأنواعه لما فِيهِ من التروي، وَإِن كَانَ أصل الْحَاجة حَاصِلا بِدُونِهِ ".
قَوْله: (وتحسيني [غير معَارض الْقَوَاعِد، كتحريم النَّجَاسَة وسلب الْمَرْأَة عبارَة عقد النِّكَاح] ) .
وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّالِث وَهُوَ التحسيني.
وَهُوَ: مَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا وَلَا حاجيا، وَلكنه من مَحل التحسين وَذَلِكَ ضَرْبَان:(7/3387)
أَحدهمَا: مَا لَيْسَ فِيهِ مُنَافَاة لقاعدة من قَوَاعِد الشَّرْع. كتحريم القاذورات، فَإِن نفرة الطباع معنى يُنَاسب تَحْرِيمهَا، حَتَّى يحرم التضمخ بِالنَّجَاسَةِ بِلَا عذر.
وكاعتبار الْوَلِيّ فِي النِّكَاح لاستحياء النِّسَاء من مُبَاشرَة الْعُقُود على فروجهن، لإشعاره بتوقان نفوسهن إِلَى الرِّجَال وَهُوَ غير لَائِق بالمروءة.
وَكَذَلِكَ اعْتِبَار الشَّهَادَة فِي النِّكَاح لتعظيم شَأْنه وتميزه عَن السفاح بالإعلام والإظهار.
قَوْله: (لَا العَبْد أَهْلِيَّة الشَّهَادَة على أصلنَا) .
مثل أَصْحَابنَا بِعقد النِّكَاح، وَمثل الْآمِدِيّ وَمن بعده بسلب العَبْد أَهْلِيَّة الشَّهَادَة لانحطاطه عَنْهَا.
لِأَنَّهُ منصب شرِيف جَريا على مَا ألف من محَاسِن [الْعَادَات] .
لَكِن لَا يتمشى ذَلِك على أصلنَا، فَإِن عندنَا شَهَادَة العَبْد مَقْبُولَة فِي(7/3388)
كل شَيْء إِلَّا فِي الْحُدُود وَالْقصاص على خلاف فِيهِ، لَكِن لَو مثل بِقَضَائِهِ وَنَحْوه صَحَّ.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم سلب الْولَايَة عَنهُ من الحاجي؛ لِأَنَّهَا تستدعي فراغا وَالرَّقِيق مُسْتَغْرق فِي خدمَة سَيّده، وَأما رِوَايَته وفتواه فَإِنَّمَا جَازَ / مِنْهُ لعدم الضَّرَر بِمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا فَلذَلِك فارقا الْقَضَاء وَنَحْوه.
قَوْله: (أَو معَارض كالكتابة) . هَذَا الضَّرْب الثَّانِي من التحسين وَهُوَ مَا يُنَافِي قَاعِدَة شَرْعِيَّة كالكتابة،(7/3389)
فَإِنَّهَا من حَيْثُ كَونهَا مكرمَة فِي [الْعَادة] مستحسنة احْتمل الشَّرْع فِيهَا خرم قَاعِدَة مهمة، وَهِي امْتنَاع بيع الْإِنْسَان مَال نَفسه بِمَال نَفسه ومعاملة عَبده، وَمن ثمَّ لم تجب الْكِتَابَة عِنْد الْمُعظم.
وَقيل: تجب إِذا طلبَهَا العَبْد وَعلم السَّيِّد فِيهَا خيرا، عملا بِالْأَمر الْوَارِد فِي الْإِيجَاب، والمعظم حملوه على النّدب؛ لما تقدم من الْمَعْنى.
" وَمثل أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ تَتِمَّة الضَّرُورِيّ أَيْضا: بمراعاة الْمُمَاثلَة فِي الْقصاص.
والحاجي: بتسليط الْوَلِيّ على تَزْوِيج صَغِيرَة وتتمته كَمَا سبق.
وَمثل التحسيني هُوَ وَغَيره أَيْضا: بِتَحْرِيم تنَاول القاذورات وسلب الْمَرْأَة عبارَة النِّكَاح ".
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": " مَا لم يشْهد الشَّرْع بإبطاله أَو اعْتِبَاره، مِنْهُ(7/3390)
حاجي كتسليط الْوَلِيّ على تَزْوِيج صَغِيرَة تحصيلا للكفء، وَمِنْه تحسيني كاعتبار الْوَلِيّ فِي نِكَاح، فَلَا يحْتَج بهما، لَا نعلم فِيهِ خلافًا، فَإِنَّهُ وضع للشَّرْع بِالرَّأْيِ " انْتهى.
قَوْله: (وَكَون حفظ الْعقل ضَرُورِيًّا فِي كل مِلَّة [فِيهِ] نظر، فَإِن الْكِتَابِيّ لَا يحد عندنَا على الْأَصَح وَلَا عِنْدهم) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ وَاضح، وَزَاد: لاعتقاد إِبَاحَته.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: " قلت ": فِي كَون الْملَل اتّفقت على مَا ذكر من حفظ الْعقل، فالحد فِي المسكرات قَلِيله وَكَثِيره نظر، فَإِن أهل الْكتاب لَا تحرم الْقَلِيل، قيل: وَلَا مَا أسكر، وَكَذَلِكَ كثير من أهل الْملَل ". انْتهى.
قَوْله: (وَلَيْسَت هَذِه الْمصلحَة بِحجَّة خلافًا لمَالِك وَبَعض الشَّافِعِيَّة) . اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمصلحَة، وَتسَمى الْمصلحَة الْمُرْسلَة. فَذهب الْأَكْثَر: إِلَى أَنَّهَا لَيست بِحجَّة.
قَالَ / فِي " الرَّوْضَة ": " وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَيست بِحجَّة ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: (فَلَيْسَ هَذِه الْمصلحَة بِحجَّة خلافًا لمَالِك وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَفِي " الْوَاضِح " مَا يُسَمِّيه الْفُقَهَاء: الذرائع، وَأهل الجدل: الْمُؤَدِّي(7/3391)
إِلَى المستحيل عقلا أَو شرعا، وَمثل بِمَسْأَلَة الْوَلِيّ وَغَيرهَا، ثمَّ اعْترض على هَذِه الدّلَالَة بِوَجْهَيْنِ) . انْتهى.
وَاحْتج لهَذَا الْمَذْهَب: بِأَنا لم نعلم مُحَافظَة الشَّرْع عَلَيْهَا؛ وَلذَلِك لم يشرع فِي زواجرها أبلغ مِمَّا شرع، كالمثلة فِي الْقصاص، فَإِنَّهَا أبلغ فِي الزّجر عَن الْقَتْل، وَكَذَا الْقَتْل فِي السّرقَة وَشرب الْخمر فَإِنَّهُ أبلغ فِي الزّجر عَنْهُمَا، وَلم يشرع شَيْء من ذَلِك، لَو كَانَت هَذِه [الْمصلحَة] حجَّة لحافظ الشَّرْع على تَحْصِيلهَا بأبلغ الطّرق؛ لكنه لم يعلم بِفعل ذَلِك فَلَا تكون حجَّة، فإثباتها حجَّة بِوَضْع الشَّرْع بِالرَّأْيِ.
كَمَا يحْكى أَن مَالِكًا أجَاز قتل ثلث الْخلق لاستصلاح الثُّلثَيْنِ،(7/3392)
ومحافظة الشَّرْع على مصلحتهم بِهَذَا الطَّرِيق غير مَعْلُوم.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " قلت: لم أجد هَذَا مَنْقُولًا فِيمَا وقفت عَلَيْهِ من كتب الْمَالِكِيَّة، وَسَأَلت عَنهُ بعض فضلائهم فَقَالُوا: لَا نعرفه، قلت: مَعَ أَنه إِذا دعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة مُتَّجه جدا، وَقد حَكَاهُ عَن مَالك جمَاعَة: مِنْهُم الْحوَاري، [والبروي] فِي جدلهما.
ثمَّ قَالَ: قلت: الْمُخْتَار اعْتِبَار الْمصلحَة الْمُرْسلَة " انْتهى.(7/3393)
وَاحْتج من اعتبرها: بِأَن قد علمنَا أَنَّهَا من مَقَاصِد الشَّرْع بأدلة كَثِيرَة لَا حصر لَهَا فِي الْكتاب وَالسّنة، وقرائن الْأَحْوَال والأمارات.
وسموها مصلحَة مُرْسلَة وَلم يسموها قِيَاسا؛ لِأَن الْقيَاس يرجع إِلَى أصل معِين، بِخِلَاف هَذِه الْمصلحَة فَإِنَّهَا لَا ترجع إِلَى أصل معِين، بل رَأينَا الشَّارِع اعتبرها فِي مَوَاضِع من الشَّرِيعَة، فاعتبرناها حَيْثُ وجدت بعلمنا أَن جِنْسهَا مَقْصُود لَهَا، وَبِأَن الرُّسُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثوا لتَحْصِيل / مصَالح الْعباد، فَيعلم ذَلِك بالاستقراء، فمهما وجدنَا مصلحَة غلب على الظَّن أَنَّهَا مَطْلُوبَة للشَّرْع، فنعتبرها؛ لِأَن الظَّن منَاط الْعَمَل.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: الْمصَالح بِالْإِضَافَة إِلَى شَهَادَة الشَّرْع لَهَا بِالِاعْتِبَارِ ثَلَاثَة أَقسَام:
مَا شهد الشَّرْع بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ الْقيَاس.
وَمَا شهد الشَّرْع بِعَدَمِ اعْتِبَاره: كالمنع من زراعة الْعِنَب؛ لِئَلَّا يعصر مِنْهُ الْخمر، وَالشَّرِكَة فِي سُكْنى الدَّار خشيَة الزِّنَا.
وَمَا لم يشْهد بِاعْتِبَارِهِ وَلَا إلغائه وَهِي الْمصلحَة الْمُرْسلَة، وَعند مَالك حجَّة. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي: " رَأَيْت مِمَّن وقفت على كَلَامه من أَصْحَابنَا حَتَّى الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد فِي كتبه، إِذا استغرقوا فِي تَوْجِيه الْأَحْكَام يتمسكون بمناسبات [مصلحية] ، يكَاد الشَّخْص يجْزم بِأَنَّهَا لَيست مُرَادة للشارع، والتمسك(7/3394)
بهَا يشبه التَّمَسُّك بحبال الْقَمَر " انْتهى.
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: " وَأما الْمصَالح الْمُرْسلَة فغيرنا يُصَرح بإنكارها، وَلَكنهُمْ عِنْد التَّفْرِيع تجدهم يعللون بِمُطلق الْمصلحَة، وَلَا يطالبون أنفسهم عِنْد الفروق والجوامع بإبداء الشَّاهِد لَهَا بِالِاعْتِبَارِ، بل يعتمدون على مُجَرّد الْمُنَاسبَة ". انْتهى.
وَقَالَ: الْمصلحَة الْمُرْسلَة فِي جَمِيع الْمذَاهب؛ لأَنهم يقيسون ويعرفون بالمناسبات وَلَا يطْلبُونَ شَاهدا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يَعْنِي الْمصلحَة الْمُرْسلَة إِلَّا ذَلِك.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي الِاسْتِدْلَال: " الْمصَالح الْمُرْسلَة سبقت فِي المسلك الرَّابِع إِثْبَات الْعلَّة بالمناسبة.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: أنكرها متأخرو أَصْحَابنَا من أهل الْأُصُول والجدل، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، وَقَالَ بهَا مَالك) .(7/3395)
[قَوْله] : ((وأخروي كتزكية النَّفس ورياضتها، وتهذيب الْأَخْلَاق، وَقد يتَعَلَّق بهما كإيجاب الْكَفَّارَة وإقناعي يَنْتَفِي ظن مناسبته بتأمله] ) .(7/3396)
( [فصل] )
( [إِذا اشْتَمَل وصف على مصلحَة ومفسدة راجحة أَو مُسَاوِيَة، لم تنخرم مناسبته عِنْد الْمُوفق، وَالْفَخْر، وَالْمجد /، والجوزي، والرازي، والبيضاوي.
وَعند الْآمِدِيّ، وَأَتْبَاعه، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: بلَى] ) .(7/3397)
[قَالَ ابْن قدامَة فِي " الرَّوْضَة "] : [" مَتى لزم من تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف المتضمن للْمصْلحَة مفْسدَة مُسَاوِيَة للْمصْلحَة أَو راجحة عَلَيْهَا:
فَقيل: إِن الْمُنَاسبَة تَنْتفِي، فَإِن تَحْصِيل الْمصلحَة على وَجه يتَضَمَّن فَوَات مثلهَا أَو أكبر مِنْهَا لَيْسَ من شَأْن الْعُقَلَاء؛ لعدم الْفَائِدَة على تَقْدِير التَّسَاوِي وَكَثْرَة الضَّرَر على تَقْدِير الرجحان فَلَا يكون مناسبا، إِذْ الْمُنَاسب إِذا عرض على الْعُقُول السليمة تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ، فَيعلم أَن الشَّارِع لم يرد بالحكم تحصيلا للْمصْلحَة فِي ضمن الْوَصْف الْمعِين.
وَهَذَا غير صَحِيح: فَإِن الْمُنَاسب المتضمن للْمصْلحَة والمصلحة أَمر حَقِيقِيّ لَا يَنْعَدِم بمعارض، إِذْ يَنْتَظِم من الْعَاقِل أَن يَقُول: لي مصلحَة فِي كَذَا يصدني عَنهُ مَا فِيهِ من الضَّرَر من وَجه آخر، وَقد أخبر اللَّهِ - تَعَالَى - أَن فِي الْخمر وَالْميسر مَنَافِع، وَأَن إثمهما أكبر من نفعهما، فَلم ينف منافعهما مَعَ رُجْحَان إثمهما، والمصلحة جلب الْمَنْفَعَة أَو دفع الْمضرَّة، وَلَو أفردنا النّظر إِلَيْهَا غلب على الظَّن ثُبُوت الحكم من أجلهَا] .
وَإِنَّمَا يخْتل ذَلِك الظَّن مَعَ النّظر إِلَى الْمفْسدَة اللَّازِمَة من اعْتِبَار الْوَصْف الآخر فَيكون هَذَا مُعَارضا، إِذْ هَذَا حَال كل دَلِيل لَهُ معَارض، ثمَّ ثُبُوت الحكم مَعَ وجود / الْمعَارض لَا يعد بَعيدا، وَنَظِيره مَا لَو ظفر الْملك بجاسوس لعَدوه فَإِنَّهُ يتعارض فِي النّظر اقتضاءان:
أَحدهمَا: قَتله دفعا لضرره.(7/3398)
وَالثَّانِي: إحسانا إِلَيْهِ استمالة لتكشف حَال عدوه، فسلوكه أحد الطَّرِيقَيْنِ لَا يعد عَبَثا جَريا على مُوجب الْعقل.
وَلذَلِك ورد الشَّرْع بِالْأَحْكَامِ الْمُخْتَلفَة فِي الْفِعْل الْوَاحِد نظرا إِلَى الْجِهَات الْمُخْتَلفَة، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، فَإِنَّهَا سَبَب للثَّواب من حَيْثُ إِنَّهَا صَلَاة، وللعقاب من حَيْثُ إِنَّه غصب، نظرا إِلَى الْمصلحَة والمفسدة مَعَ أَنه لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يتساويا أَو يرجح أَحدهمَا، فعلى تَقْدِير التَّسَاوِي لَا تبقى الْمصلحَة مصلحَة وَلَا الْمفْسدَة مفْسدَة، فَيلْزم انْتِفَاء الصِّحَّة وَالْحُرْمَة، وعَلى تَقْدِير رُجْحَان الْمصلحَة يلْزم انْتِفَاء الْحُرْمَة، وعَلى تَقْدِير رُجْحَان الْمفْسدَة يلْزم انْتِفَاء الصِّحَّة، فَلَا يجْتَمع الحكمان مَعًا، وَمَعَ ذَلِك اجْتمعَا فَدلَّ على بطلَان مَا ذَكرُوهُ.
ثمَّ لَو قَدرنَا توقف الْمُنَاسبَة على رُجْحَان الْمصلحَة فدليل الرجحان أَنا لم نجد فِي مَحل الْوِفَاق مناسبا سوى مَا ذكرنَا، فَلَو قَدرنَا الرجحان يكون الحكم ثَابتا معقولا، وعَلى تَقْدِير عَدمه يكون تعبدا، وَاحْتِمَال التَّعَبُّد أبعد وأندر، فَيكون احْتِمَال الرجحان أظهر.
وَمِثَال ذَلِك: تعليلنا وجوب الْقصاص على المشتركين فِي الْقَتْل بحكمة الردع والزجر؛ كَيْلا يُفْضِي إِسْقَاطه إِلَى فتح بَاب الدِّمَاء.
فيعارض الْخصم بِضَرَر إِيجَاب الْقَتْل الْكَامِل على من لم يصدر مِنْهُ ذَلِك، فَيكون جَوَابه مَا ذَكرْنَاهُ " انْتهى كَلَامه فِي " الرَّوْضَة ".
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: " الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي يرجع إِلَى أَن هَذَا الْوَصْف هَل يبْقى فِيهِ مَعَ ذَلِك مُنَاسبَة أم لَا، مَعَ الِاتِّفَاق على أَنَّهَا غير مَعْمُول بهَا " انْتهى.(7/3399)
قَوْله: (وللمعلل / تَرْجِيح وَصفه بطرِيق تفصيلي يخْتَلف باخْتلَاف الْمسَائِل، وإجمالي: وَهُوَ لَو لم يقدر رُجْحَان الْمصلحَة ثَبت الحكم تعبدا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد مَا ذكر مَا قُلْنَا هُنَا: " ذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَسبق فِي السبر.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَن لقَائِل أَن يُعَارضهُ [بِعَدَمِ] الِاطِّلَاع على مَا بِهِ يكون راجحا مَعَ الْبَحْث عَنهُ.
فَإِن قيل: بحثنا عَن وصف صَالح للتَّعْلِيل لَا يتَعَدَّى مَحل الحكم فَهُوَ أولى.
قيل: إِن خرج مَا بِهِ التَّرْجِيح عَن مَحل الحكم يتَحَقَّق بِهِ تَرْجِيح وَإِلَّا اتَّحد مَحلهمَا فَلَا تَرْجِيح، وَإِن سلم اتِّحَاد مَحل بحث الْمُسْتَدلّ فَقَط، فَإِنَّمَا يتَرَجَّح ظَنّه بِتَقْدِير كَون ظَنّه راجحا لَا الْعَكْس وَلَا مُسَاوِيا، وَوُقُوع احْتِمَال من اثْنَيْنِ أقرب.
قَالَ: وَاشْتِرَاط التَّرْجِيح فِي تحقق الْمُنَاسبَة إِنَّمَا هُوَ عِنْد من يخصص الْعلَّة وَإِلَّا فَلَا ".(7/3400)
(قَوْله: [فصل] )
(الْمُنَاسب إِن اعْتبر بِنَصّ كتعليل الْحَدث بِمَسّ الذّكر، أَو إِجْمَاع كتعليل ولَايَة المَال بالصغر، فالمؤثر إِن اعْتبر بترتب الحكم على الْوَصْف فَقَط، إِن ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم، أَو بِالْعَكْسِ، أَو جنسه فِي جنس الحكم، فالملائم وَهُوَ حجَّة عِنْد الْمُعظم، وَإِلَّا فالغريب وَهُوَ حجَّة، وَمنعه أَبُو الْخطاب وَالْحَنَفِيَّة، وَإِن اعْتبر الشَّارِع جنسه الْبعيد فِي جنس الحكم فمرسل ملائم، وَإِلَّا فمرسل غَرِيب مَنعه الْجُمْهُور، أَو مُرْسل ثَبت إلغاؤه كإيجاب الصَّوْم على واطىء قَادر فِي رَمَضَان، مَرْدُود اتِّفَاقًا) .
لابد فِي كَون الْوَصْف الْمُنَاسب الْمُعَلل بِهِ أَن يعلم من الشَّارِع الْتِفَات إِلَيْهِ، وَيظْهر ذَلِك بتقسيم الْمُنَاسب، وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى: مُؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل.(7/3401)
وَهُوَ: مُرْسل ملائم، ومرسل غَرِيب، ومرسل ثَبت إلغاؤه؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يعلم أَن الشَّرْع اعْتَبرهُ / أَو يعلم أَنه ألغاه، أَو لَا يعلم أَنه اعْتَبرهُ وَلَا ألغاه.
وَالْمرَاد بِالْعلمِ هُنَا ": مَا هُوَ أَعم من الْيَقِين وَالظَّن، وَذَلِكَ إِمَّا بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع.
وَالْمرَاد بِاعْتِبَار الشَّرْع أَن يُورد الْفُرُوع على وَفقه لَا أَن ينص على الْعلَّة أَو يُومِئ إِلَيْهَا، وَإِلَّا لم تكن الْعلَّة مستفادة بالمناسبة.
وَالْمرَاد بِالْعينِ النَّوْع لَا الشَّخْص من النَّوْع، فَالْمُعْتَبر بِنَصّ كتعليل الْحَدث بِمَسّ الذّكر، اعْتبر عينه فِي عين الحكم وَهُوَ الْحَدث لحَدِيث: " من مس ذكره " فَليَتَوَضَّأ "، وَمثله تعْيين السكر عِلّة التَّحْرِيم فِي الْخمر، اعْتبر عينه فِي عين الحكم وَهُوَ التَّحْرِيم، حَيْثُ حرم الْخمر فَيلْحق بِهِ النَّبِيذ.
وَالْمُعْتَبر بِالْإِجْمَاع كتعليل ولَايَة المَال بالصغر فَإِنَّهُ اعْتبر عين الصغر فِي عين الْولَايَة فِي المَال بِالْإِجْمَاع.
فهذان النوعان يسميان مؤثرا، وَسمي مؤثرا لحُصُول التَّأْثِير فِيهِ عينا وجنسا فَظهر تَأْثِيره فِي الحكم. وَالْمُعْتَبر بترتب الحكم على الْوَصْف فَقَط أَن يثبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم، أَو بِالْعَكْسِ، أَو جنسه فِي جنس الحكم، يُسمى ملائما؛ لكَونه مُوَافقا لما اعْتَبرهُ الشَّارِع، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع:
مِثَال مَا اعْتبر الشَّارِع عين الْوَصْف فِي جنس الحكم من الملائم: امتزاج النسبين فِي الْأَخ من الْأَبَوَيْنِ، اعْتبر تَقْدِيمه على الْأَخ من الْأَب فِي الْإِرْث،(7/3402)
وقسنا عَلَيْهِ تَقْدِيمه فِي ولَايَة النِّكَاح وَغَيرهَا من الْأَحْكَام الَّذِي قدم عَلَيْهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ وَإِن لم يعتبره الشَّارِع فِي عين هَذِه الْأَحْكَام، لَكِن اعْتَبرهُ فِي جِنْسهَا وَهُوَ التَّقْدِيم فِي الْجُمْلَة.
وَمِثَال مَا اعْتبر فِيهِ جنس الْوَصْف فِي عين الحكم عكس الَّذِي قبله، مِنْهُ: الْمَشَقَّة الْمُشْتَركَة بَين الْحَائِض وَالْمُسَافر فِي سُقُوط الْقَضَاء، فَإِن الشَّارِع اعتبرها فِي عين سُقُوط الْقَضَاء فِي الرَّكْعَتَيْنِ من الرّبَاعِيّة، فَسقط بهَا الْقَضَاء فِي صَلَاة الْحَائِض قِيَاسا.
وَإِنَّمَا جعل [الْوَصْف] هُنَا جِنْسا والإسقاط نوعا؛ لِأَن مشقة السّفر نوع مُخَالف لمَشَقَّة / الْحيض، وَأما السُّقُوط فَأمر وَاحِد وَإِن اخْتلف محاله.
وَمِثَال مَا اعْتبر جنس الْوَصْف فِي جنس الحكم مِنْهُ: مَا رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي اللَّهِ عَنهُ - فِي شَارِب الْخمر: " أَنه إِذا شرب هذى وَإِذا هذى افترى، فَيكون عَلَيْهِ حد المفتري "، أَي: الْقَاذِف.
وَوَافَقَهُ الصَّحَابَة عَلَيْهِ، فأوجبوا حد الْقَذْف على الشَّارِب، لَا لكَونه شرب بل لكَون الشّرْب مَظَنَّة الْقَذْف، فأقاموه مقَام الْقَذْف قِيَاسا على إِقَامَة الْخلْوَة بالأجنبية مقَام الْوَطْء فِي التَّحْرِيم؛ لكَون الْخلْوَة مَظَنَّة لَهُ.
فَظهر أَن الشَّارِع إِنَّمَا اعْتبر المظنة الَّتِي هِيَ جنس لمظنة الْوَطْء، ومظنة الْقَذْف فِي الحكم الَّذِي هُوَ جنس لإِيجَاب حد الْقَذْف وَحُرْمَة الْوَطْء.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره:(7/3403)
" الأول: كالتعليل بالصغر فِي قِيَاس النِّكَاح على المَال فِي الْولَايَة، فَإِن الشَّرْع اعْتبر عين الصغر فِي عين ولَايَة المَال بِهِ، منبها على الصغر، وَثَبت اعْتِبَار عين الصغر فِي جنس حكم الْولَايَة إِجْمَاعًا.
وَالثَّانِي: كالتعليل بِعُذْر الْحَرج فِي قِيَاس الْحَضَر بِعُذْر الْمَطَر على السّفر فِي الْجمع، فجنس الْحَرج مُعْتَبر فِي عين رخصَة الْجمع إِجْمَاعًا.
وَالثَّالِث: كالتعليل بِجِنَايَة الْقَتْل الْعمد الْعدوان فِي قِيَاس المثقل على
المحدد فِي الْقصاص، فجنس الْجِنَايَة مُعْتَبرَة فِي جنس قصاص النَّفس، لاشْتِمَاله على قصاص [النَّفس] وَغَيرهَا كالأطراف " انْتهى.
وَأما الْغَرِيب من الْمُعْتَبر فَهُوَ كالتعليل بالإسكار فِي قِيَاس النَّبِيذ على الْخمر بِتَقْدِير عدم نَص بعلية الْإِسْكَار، فعين الْإِسْكَار مُعْتَبر فِي عين التَّحْرِيم بترتيب الحكم عَلَيْهِ فَقَط، كاعتبار جنس الْمَشَقَّة الْمُشْتَركَة بَين الْحَائِض وَالْمُسَافر فِي جنس التَّخْفِيف.
وَهَذَا الْمِثَال دون مَا قبله لرجحان النّظر بِاعْتِبَار الْخُصُوص لِكَثْرَة مَا بِهِ الِاخْتِصَاص، قَالَه ابْن مُفْلِح، والأصبهاني. /
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمِثَال الْغَرِيب - وَسمي بذلك؛ لِأَنَّهُ لم يشْهد لَهُ غير أَصله بِالِاعْتِبَارِ: الطّعْم فِي الرِّبَا فَإِن نوع الطّعْم مُؤثر فِي حُرْمَة الرِّبَا وَلَيْسَ جنسه مؤثرا فِي جنسه ".(7/3404)
وَمِثَال الملائم الْمُرْسل: تَعْلِيل تَحْرِيم قَلِيل الْخمر بِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى كثيرها، فجنسه الْبعيد مُعْتَبر فِي جنس الحكم كتحريم الْخلْوَة بِتَحْرِيم الزِّنَا.
وَمِثَال الْغَرِيب الْمُرْسل: التَّعْلِيل بِالْفِعْلِ الْمحرم لغَرَض فَاسد فِي قِيَاس البات فِي مَرضه، على الْقَاتِل فِي الحكم بالمعرضة بنقيض مَقْصُوده، وَصَارَ تَوْرِيث المبتوتة كحرمان الْقَاتِل.
وَإِنَّمَا كَانَ غَرِيبا مُرْسلا؛ لِأَنَّهُ [لم] يعْتَبر الشَّارِع عين الْفِعْل الْمحرم لغَرَض فَاسد فِي عين الْمُعَارضَة بنقيض الْمَقْصُود بترتيب الحكم عَلَيْهِ، وَلم يثبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الْمُعَارضَة بنقيض الْمَقْصُود وَلَا جنسه فِي عينهَا، وَلَا جنسه فِي جِنْسهَا.
وَمِثَال الْمُرْسل الملغى وَهُوَ الَّذِي علم من الشَّارِع إلغاؤه مَعَ أَنه [متخيل] : الْمُنَاسبَة، وَلَا يجوز التَّعْلِيل بِهِ.(7/3405)
وَذَلِكَ كإيجاب صَوْم شَهْرَيْن ابْتِدَاء فِي الظِّهَار، أَو الْوَطْء فِي رَمَضَان على من يسهل عَلَيْهِ الْعتْق، كَمَا أفتى يحيى بن يحيى بن كثير اللَّيْثِيّ صَاحب [مَالك، إِمَام أهل الأندلس حَيْثُ أفتى بعض مُلُوك المغاربة بذلك وَهُوَ] . الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بن الحكم الْأمَوِي الْمَعْرُوف بالربضي، صَاحب الأندلس، وَكَانَ قد [نظر] فِي [رَمَضَان] إِلَى جَارِيَة لَهُ كَانَ يُحِبهَا حبا شَدِيدا، [فعبث] بهَا، فَلم يملك نَفسه أَن وَقع عَلَيْهَا، ثمَّ نَدم ندما شَدِيدا، فَسَأَلَ الْفُقَهَاء عَن تَوْبَته وكفارته فَقَالَ يحيى بن يحيى: تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، فَلَمَّا بدر يحيى بذلك [سكت] بَقِيَّة الْفُقَهَاء حَتَّى خَرجُوا.(7/3406)
فَقَالُوا ليحيى: مَالك لم تفته بِمذهب مَالك وَهُوَ التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالْإِطْعَام، [وَالصِّيَام] ؟ فَقَالَ: لَو فتحنا لَهُ هَذَا الْبَاب سهل عَلَيْهِ أَن يطَأ كل يَوْم وَيعتق رَقَبَة، وَلَكِن حَملته على أصعب الْأُمُور؛ لِئَلَّا يعود.
فَهَذَا أَمر مَرْدُود إِجْمَاعًا، ذكره جمَاعَة.
لَكِن رَأَيْت الطوفي فِي " شَرحه " قَالَ: " أما تعين الصَّوْم فِي كَفَّارَة رَمَضَان على الْمُوسر / فَلَيْسَ يبعد إِذا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد مُجْتَهد، وَلَيْسَ ذَلِك من بَاب وضع الشَّرْع بِالرَّأْيِ بل من بَاب الِاجْتِهَاد بِحَسب الْمصلحَة، أَو من بَاب تَخْصِيص الْعَام الْمُسْتَفَاد من ترك الاستفصال فِي حَدِيث الْأَعرَابِي، وَهُوَ عَام ضَعِيف فيخص بِهَذَا الِاجْتِهَاد المصلحي الْمُنَاسب وَتَخْصِيص الْعُمُوم طَرِيق مهيع،(7/3407)
وَقد فرق الشَّرْع بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي غير مَوضِع فَلْيَكُن هَذَا من تِلْكَ الْمَوَاضِع " انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَالْمُرَاد بِالْجِنْسِ دَائِما هُوَ الْقَرِيب لَا الْبعيد، وَأَعْلَى الملائم الثَّلَاثَة مَا أثر عين الْوَصْف فِي جنس الحكم، لِأَن الْإِبْهَام فِي الْعلَّة أَكثر محذورا من الْإِبْهَام فِي الْمَعْلُول ثمَّ عَكسه ثمَّ الْجِنْس فِي الْجِنْس. وأقسام الملائم كلهَا يسوغ التَّعْلِيل بهَا عِنْد الْجُمْهُور.
لِأَن اللَّهِ - تَعَالَى - شرع أَحْكَامه لمصَالح الْعباد وَعلم ذَلِك بطرِيق الاستقراء، وَذَلِكَ من فضل اللَّهِ تَعَالَى وإحسانه، فَإِذا وجد وصف صَالح للعلية وَقد اعْتَبرهُ الشَّرْع بِوَجْه من الْوُجُوه السَّابِقَة [غلب] على الظَّن أَنه عِلّة للْحكم.
قَوْله: (والمرسل الملائم لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْأَكْثَر، وَقيل: فِي الْعِبَادَات، وَقَالَ مَالك: حجَّة، وَأنْكرهُ أَصْحَابه، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ بِشَرْط كَون الْمصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية كتترس كفار بِمُسلم، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ لاعتباره فَهُوَ حق قطعا، وَمعنى كَلَام الْمُوفق وَالْفَخْر والطوفي [أَن](7/3408)
غير الملغي حجَّة، وَقيل: لَا يشْتَرط [فِي] الْمُؤثر كَونه مناسبا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ الْآمِدِيّ: (الملائم الأول مُتَّفق عَلَيْهِ مُخْتَلف فِيمَا عداهُ.
[وَاخْتَارَ] اعْتِبَار الرَّابِع وَهُوَ الْغَرِيب من الْمُعْتَبر.
وَأَن مَا بعده وَهُوَ الْمُنَاسب الْمُرْسل لم يشْهد الشَّرْع بِاعْتِبَارِهِ وإلغائه لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَهُوَ الْحق لتردده بَين مُعْتَبر وملغى، فَلَا بُد من شَاهد قريب بِالِاعْتِبَارِ.
فَإِن قيل: هُوَ من جنس مَا اعْتبر.
قيل: وَمن جنس مَا ألغي، فَيلْزم اعْتِبَار وصف وَاحِد وإلغاؤه بِالنّظرِ إِلَى حكم وَاحِد، وَهُوَ محَال.
وَعَن مَالك: القَوْل بِهِ وَأنْكرهُ أَصْحَابه. /(7/3409)
قَالَ: فَإِن صَحَّ عَنهُ فالأشبه أَنه فِي مصلحَة ضَرُورِيَّة كُلية قَطْعِيَّة كَمَسْأَلَة التترس.
وَمعنى اخْتِيَاره فِي " الرَّوْضَة "، وَاخْتِيَار أبي مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ من أَصْحَابنَا: أَن غير الملغي حجَّة، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَنْهُمَا. وَيُوَافِقهُ مَا احْتج بِهِ الْأَصْحَاب فِي الْفُرُوع كَالْقَاضِي، وَأَصْحَابه بالقسم الْخَامِس، وَالسَّادِس، لما سبق، وَلما يَأْتِي.
وَمنع فِي " الِانْتِصَار " - فِي أَن عِلّة الرِّبَا الطّعْم - التَّعْلِيل بالقسم الرَّابِع وَهُوَ الْغَرِيب الْمُعْتَبر، غير الْغَرِيب الْمُرْسل، كَقَوْل الْحَنَفِيَّة.
ثمَّ قَالَ: الْأَقْوَى أَن لَا تنَازع فِي الْمُنَاسبَة وَمَا يظنّ تَعْلِيق الحكم عَلَيْهِ. وَسبق قَول ابْن حَامِد فِي السبر.(7/3410)
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يشْتَرط فِي الْمُؤثر كَونه مناسبا وَجعله فِي " الرَّوْضَة " من قسم الْمُنَاسب.
قَالَ: وَنَظِيره تَعْلِيق الحكم بِوَصْف مُشْتَقّ فِي [اشْتِرَاط مناسبته] وَجْهَان.
قَالَ: وَكَلَام القَاضِي والعراقيين: يَقْتَضِي أَنه لَا يحْتَج بالمناسب الْغَرِيب ويحتج بالمؤثر مناسبا أَو لَا.
قَالَ: فَصَارَ الْمُؤثر الْمُنَاسب لم يُخَالف فِيهِ إِلَّا ابْن حَامِد، والمؤثر غير الْمُنَاسب، أَو الْمُنَاسب غير الْمُؤثر فيهمَا أوجه.
وذكرن ابْن الْحَاجِب: أَن الْقسم السَّادِس وَهُوَ الْغَرِيب الْمُرْسل مَرْدُود اتِّفَاقًا، وَتَبعهُ شراحه، لَكِن فِيهِ خلاف ضَعِيف.
وَقيل أَبُو الْمَعَالِي الْقسم الْخَامِس، وَذكره عَن الْمُحَقِّقين.(7/3411)
وَيذكر عَن مَالك، وَالشَّافِعِيّ. ورده بَعضهم.
وَقَبله الْغَزالِيّ بِشَرْط كَون الْمصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية، كتترس كفار بمسلمين مَعَ الْجَزْم لَو لم نقتلهم ملكوا جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام، وَقتلُوا جَمِيع الْمُسلمين حَتَّى الترس، فَقتل الترس مصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْفَتْح: " قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِه الْمصلحَة لَا يَنْبَغِي أَن نَخْتَلِف فِيهَا، وَنَفر من لم يمعن النّظر للمفسدة " انْتهى.
وَيجوز قتل الترس عِنْد إمامنا أَحْمد، وَالْأَكْثَر، للخوف على الْمُسلمين، ومذهبه من مَاتَ بِموضع لَا حَاكم فِيهِ، فلرجل مُسلم بيع مَا فِيهِ مصلحَة؛ / لِأَنَّهُ ضَرُورَة كولاية تكفينه) .
فتخلص لنا فِي الْمُرْسل الملائم أَرْبَعَة أَقْوَال:(7/3412)
أَحدهَا: الْمَنْع مُطلقًا وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَالثَّانِي: الْقبُول مُطلقًا؛ لإفادته ظن الْعلية، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن مَالك، وَبَالغ أَبُو الْمَعَالِي فِي الرَّد عَلَيْهِ.
وَالثَّالِث: الْقبُول فِي غير الْعِبَادَات كَبيع وَنِكَاح وحدود وقصاص نَحْوهَا، لِأَن الملاحظ فِيهَا المناسبات اللائحة من مصالحها، وَعدم الْقبُول فِي الْعِبَادَات فَلَا يجوز التَّعْلِيل بِهِ لما فِيهَا من مُلَاحظَة التَّعَبُّد؛ وَلِأَنَّهُ لَا نظر فِيهَا للْمصْلحَة اخْتَارَهُ [الأبياري] فِي " شرح الْبُرْهَان "، وَزعم أَنه يَقْتَضِيهِ مَذْهَب مَالك.(7/3413)
وَالرَّابِع: قَول الْغَزالِيّ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيّ أَنه يُعلل بِهِ بِثَلَاثَة قيود: أَن يشْتَمل ذَلِك الْمُنَاسب الْمُرْسل على مصلحَة ضَرُورِيَّة كُلية قَطْعِيَّة - كَمَا تقدم -، فَإِن فَاتَ من الثَّلَاثَة لم يعْتَبر، فالضرورية: مَا يكون من الضروريات الْخمس السَّابِقَة، والكلية: مَا تكون وَاجِبَة لفائدة تعم الْمُسلمين، والقطعية: مَا يجْزم بِحُصُول الْمصلحَة فِيهَا كَمَسْأَلَة التترس.
تَنْبِيه: تَقْسِيم الْمُرْسل إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام.
مُرْسل ملائم، ومرسل غَرِيب، ومرسل ثَبت إلغؤه. تابعنا فِيهِ ابْن مُفْلِح، وَتبع هُوَ ابْن الْحَاجِب، وَجَمَاعَة كَثِيرَة. وَأكْثر الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم إِنَّمَا يذكرُونَ الْمُؤثر والملائم بأقسامه.(7/3414)
والمرسل وَهُوَ مَا لم يعلم أَن الشَّرْع ألغاه وَلَا اعْتَبرهُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة فَهُوَ مَحل الْخلاف، وَهُوَ الَّذِي يُسمى بالمصالح الْمُرْسلَة، ويذكرون الملغى، فَلَيْسَ عِنْدهم تَقْسِيم الْمُرْسل إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام كَمَا ذكر ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
قَوْله: (فَائِدَة: أَعم الجنسية فِي الْوَصْف: كَونه وَصفا، ثمَّ مناطا، ثمَّ مصلحَة [خَاصَّة] ، وَفِي الحكم: كَونه حكما، ثمَّ وَاجِبا وَنَحْوه، ثمَّ عبَادَة، ثمَّ صَلَاة، ثمَّ ظهرا، وتأثير الْأَخَص فِي الْأَخَص أقوى، وتأثير الْأَعَمّ فِي الْأَعَمّ / يُقَابله، والأخص فِي الْأَعَمّ وَعَكسه واسطتان) .
اعْلَم أَن كلا من الْوَصْف وَالْحكم نوع، وَمَا هُوَ أَعم مِنْهُ: جنس، وَله مَرَاتِب: عَال، وسافل، ومتوسط، وَالْعبْرَة دَائِما بالأسفل الْقَرِيب من الْمعِين فِي الْوَصْف وَفِي الحكم.
فأعم الْأَوْصَاف وصف يناط بِهِ الحكم، ثمَّ كَونه مناسبا، ثمَّ كَونه مثلا ضَرُورِيًّا، ثمَّ كَونه لحفظ النُّفُوس.
وأعم أَجنَاس الحكم كَونه حكما شَرْعِيًّا، ثمَّ كَونه وَاجِبا، ثمَّ كَونه عبَادَة، ثمَّ كَونه صَلَاة، ثمَّ كَونه ظهرا.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": " لما تقرر أَن الْوَصْف مُؤثر فِي الحكم، وَالْحكم(7/3415)
ثَابت بِالْوَصْفِ، [ومسمى] الْوَصْف وَالْحكم جنس تخْتَلف أَنْوَاع مَدْلُوله بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص، كاختلاف أَنْوَاع مَدْلُول الْجِسْم وَالْحَيَوَان، وَلِهَذَا اخْتلف تَأْثِير الْوَصْف فِي الحكم تَارَة بِالْجِنْسِ، وَتارَة بالنوع، احتجنا إِلَى بَيَان مَرَاتِب جنس الْوَصْف وَالْحكم، وَمَعْرِفَة الْأَخَص مِنْهَا من الْأَعَمّ ليتَحَقَّق لنا معرفَة أَنْوَاع تَأْثِير الْأَوْصَاف فِي الْأَحْكَام.
فأعم مَرَاتِب الْوَصْف كَونه وَصفا؛ لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون مناطا للْحكم أَو لَا يكون، إِذْ بِتَقْدِير أَن يكون طرديا غير مُنَاسِب لَا يصلح أَن يناط بِهِ حكم، فَكل منَاط وصف وَلَيْسَ كل وصف مناطا، ثمَّ كَونه مناطا أَعم من أَن يكون مصلحَة أَو لَا، فَكل مصلحَة منَاط الحكم وَلَيْسَ كل منَاط مصلحَة، لجَوَاز أَن يناط الحكم بِوَصْف تعبدي، لَا يظْهر وَجه الْمصلحَة فِيهِ، ثمَّ كَون الْوَصْف مصلحَة؛ لِأَنَّهَا قد تكون عَامَّة بِمَعْنى أَنَّهَا متضمنة لمُطلق النَّفْع، وَقد تكون خَاصَّة بِمَعْنى كَونهَا من بَاب الضرورات والحاجات والتكملات.
وَأما الحكم فأعم مراتبه كَونه حكما؛ لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون وجوبا أَو تَحْرِيمًا، أَو صِحَة، أَو فَسَادًا، ثمَّ كَونه وَاجِبا وَنَحْوه، أَي من الْأَحْكَام الْخَمْسَة، وَهِي: الْوَاجِب، وَالْحرَام، وَالْمَنْدُوب، وَالْمَكْرُوه، والمباح، وَمَا يلْحق / بذلك من الْأَحْكَام الوضعية، إِذْ الْوَاجِب أَعم من أَن يكون عبَادَة اصطلاحية أَو غَيرهَا، ثمَّ كَونه عباده؛ لِأَنَّهُ أَعم من الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهمَا من الْعِبَادَات، ثمَّ كَونهَا صَلَاة؛ إِذْ كل صَلَاة عبَادَة وَلَيْسَ كل عبَادَة صَلَاة ". انْتهى.
ثمَّ كَونهَا ظهرا؛ لِأَن الصَّلَاة أَعم من الظّهْر، إِذْ كل ظهر صَلَاة وَلَيْسَ كل صَلَاة ظهرا.(7/3416)
إِذا علم ذَلِك أَعنِي الْأَعَمّ والأخص من الْأَوْصَاف وَالْأَحْكَام، فَليعلم أَن تَأْثِير بَعْضهَا فِي بعض يتَفَاوَت فِي الْقُوَّة والضعف.
فتأثير الْأَخَص فِي الْأَخَص أقوى أَنْوَاع التَّأْثِير، كمشقة التّكْرَار فِي سُقُوط الصَّلَاة، والصغر فِي ولَايَة النِّكَاح.
وتأثير الْأَعَمّ فِي الْأَعَمّ يُقَابل ذَلِك، فَهُوَ أَضْعَف أَنْوَاع التَّأْثِير.
وتأثير الْأَخَص فِي الْأَعَمّ، وَعَكسه وَهُوَ تَأْثِير الْأَعَمّ فِي الْأَخَص بَين ذَيْنك الطَّرفَيْنِ؛ إِذْ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا قُوَّة من جِهَة الأخصية، وَضعف من جِهَة الأعمية، بِخِلَاف الطَّرفَيْنِ؛ إِذْ الأول تمحضت فِيهِ الأخصية، فتمحضت لَهُ الْقُوَّة، وَالثَّانِي تمحضت فِيهِ الأعمية فتمحض لَهُ الضعْف
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": فَمَا ظهر تَأْثِيره فِي الصَّلَاة الْوَاجِبَة أخص مِمَّا ظهر فِي الْعِبَادَة، وَمَا ظهر فِي الْعِبَادَة أخص مِمَّا ظهر فِي الْوَاجِب، وَمَا ظهر فِي الْوَاجِب أخص مِمَّا ظهر فِي الْأَحْكَام.
ثمَّ قَالَ: فلأجل تفَاوت دَرَجَات الجنسية فِي الْقرب والبعد تَتَفَاوَت دَرَجَات الظَّن، والأعلى مقدم على مَا دونه انْتهى.
تَنْبِيه: للْعُلَمَاء خلاف فِي التَّسْمِيَة لَا فَائِدَة فِيهِ إِلَّا مُجَرّد اصْطِلَاح.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قلت: مَا تضمنه " الْمُخْتَصر " وَأَصله - أَي " الرَّوْضَة " -: أَن الْوَصْف الْمُنَاسب ثَلَاثَة أَنْوَاع: مُؤثر، وملائم، وغريب، وَفِي جَمِيعهَا خلاف.
أما الْمُؤثر فَفِيهِ قَولَانِ:(7/3417)
أَحدهمَا: أَنه مَا تُؤثر عينه فِي عين الحكم أَو فِي جنسه بِنَصّ أَو إِجْمَاع. الثَّانِي: أَن الْمُؤثر هَذَانِ / القسمان وَقسم ثَالِث: وَهُوَ مَا ظهر [تَأْثِير جنسه] فِي عين الحكم.
والملائم فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا ظهر تَأْثِير جنسه فِي عين الحكم. وَالثَّانِي: مَا ظهر تَأْثِير جنسه فِي جنس الحكم.
والغريب فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا ظهر تَأْثِير جنسه فِي جنس الحكم. وَالثَّانِي: مَا لم يظهره تَأْثِيره وَلَا ملاءمته لجنس تَصَرُّفَات الشَّارِع.
وَذكر [البروي] فِي " المقترح ": أَن الْمُؤثر مَا دلّ النَّص أَو الْإِجْمَاع على اعْتِبَار عينه فِي عين الحكم، والملائم هُوَ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الْأُخْرَى) انْتهى.(7/3418)
(قَوْله: (فصل))
(الْخَامِس: إِثْبَات الْعلَّة بالشبه)
وَهُوَ بِفَتْح الشين وَالْبَاء الْمُوَحدَة، أصل مَعْنَاهُ الشّبَه يُقَال: هَذَا شبه هَذَا وَشبهه بِكَسْر الشين وَسُكُون الْبَاء، وشبيهه كَمَا تَقول: مثله وَمثله ومثيله، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى يُطلق على كل قِيَاس؛ لِأَن [الْفَرْع] لابد أَن يشبه الأَصْل، لَكِن غلب إِطْلَاقه فِي الِاصْطِلَاح الأصولي على هَذَا النَّوْع. أَي الْخَامِس، من مسالك الْعلَّة إِثْبَاتهَا بالشبه. وَاخْتلف فِي تَعْرِيف الشّبَه.(7/3419)
فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى وَالْقَاضِي يَعْقُوب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم تردد الْفَرْع بَين أصلين فِيهِ منَاط كل مِنْهُمَا، إِلَّا أَنه يشبه أَحدهمَا فِي أَوْصَاف أَكثر، فإلحاقه بِهِ هُوَ الشّبَه.
كَالْعَبْدِ هَل يملك؟ وَهل يضمنهُ قَاتله بِأَكْثَرَ من ديه الْحر؟ فَإِن العَبْد مُتَرَدّد بَين الْحر والبهيمة، والمذي المتردد بَين الْبَوْل والمني.
وَتظهر فَائِدَة العَبْد فِي التَّمْلِيك لَهُ، فَمن قَالَ: يملك بالتمليك، قَالَ: هُوَ إِنْسَان يُثَاب ويعاقب، وينكح وَيُطلق، ويكلف بأنواع من الْعِبَادَات، وَيفهم وَيعْقل، وَهُوَ ذُو نفس ناطقة، فَأشبه الْحر. وَمن قَالَ: لَا يملك،(7/3420)
قَالَ: هُوَ حَيَوَان يجوز بَيْعه، وَرَهنه، وهبته، وإجارته، وإرثه، وَنَحْوهَا، أشبه الدَّابَّة.
والمذي تردد بَين الْبَوْل والمني، فَمن حكم / بِنَجَاسَتِهِ قَالَ: وَهُوَ خَارج من الْفرج لَا يخلق مِنْهُ الْوَلَد، وَلَا يجب بِهِ الْغسْل أشبه الْبَوْل، وَمن حكم بِطَهَارَتِهِ قَالَ: هُوَ خَارج تحلله الشَّهْوَة وَيخرج أمامها أشبه الْمَنِيّ.(7/3421)
قَالَ الْآمِدِيّ: لَيْسَ هَذَا من الشّبَه فِي شَيْء، فَإِن كل منَاط مُنَاسِب، وَكَثْرَة المشابهة للترجيح.
وَقيل: هُوَ منزلَة بَين الْمُنَاسب والطردي، يَعْنِي أَنه وصف يشبه الْمُنَاسب فِي إشعاره بالحكم، لَكِن لَا يُسَاوِيه بل دونه، وَيُشبه الطردي فِي كَونه لَا يَقْتَضِي الحكم مُنَاسبَة بَينهمَا فَهُوَ بَين الْمُنَاسب والطردي.
وَالْحَاصِل: أَن الشّبَه منزلَة بَين منزلتين، فَهُوَ يشبه الْمُنَاسب الذاتي من حَيْثُ الْتِفَات الشَّرْع إِلَيْهِ، وَيُشبه الْوَصْف الطردي من حَيْثُ إِنَّه غير مُنَاسِب، فَهُوَ يتَمَيَّز عَن الْمُنَاسب بِأَنَّهُ غير مُنَاسِب بِالذَّاتِ، وَبِأَن مُنَاسبَة الْمُنَاسب عقلية وَإِن لم ترد بشرع كالإسكار فِي التَّحْرِيم، بِخِلَاف الشّبَه، ويتميز عَن الطردي بِأَن وجود الطردي كَالْعدمِ، بِخِلَاف الشّبَه فَإِنَّهُ يعْتَبر فِي بعض الْأَحْكَام.
وَقَالَ الباقلاني: هُوَ قِيَاس الدّلَالَة.
قَالَه ابْن مُفْلِح تبعا للآمدي، وَفَسرهُ الباقلاني بِقِيَاس الدّلَالَة.
و [قَالَ] ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: " وعرفه القَاضِي أَبُو بكر بِأَنَّهُ الْمُنَاسب بالتبع، أَي: بالالتزام كالطهارة لاشْتِرَاط النِّيَّة، فَإِنَّهَا من حَيْثُ هِيَ(7/3422)
لَا تناسب اشْتِرَاط النِّيَّة، لَكِن تناسبها من حَيْثُ هِيَ عبَادَة وَالْعِبَادَة مُنَاسبَة اشْتِرَاط النِّيَّة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (حَاصِل تَفْسِير القَاضِي الشّبَه أَنه وصف مُقَارن للْحكم مُنَاسِب لَهُ بالتبع، أَو يُقَال: مُسْتَلْزم لما يُنَاسِبه، هَذَا مَا نقل فِي " الْبُرْهَان " عَن القَاضِي.
لَكِن الَّذِي فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب " و " الْإِرْشَاد ": أَن قِيَاس الشّبَه إِلْحَاق فرع بِأَصْل لِكَثْرَة اشتباهه للْأَصْل فِي الْأَوْصَاف، من غير أَن يعْتَقد أَن الْأَوْصَاف / الَّتِي يشابه الْفَرْع فِيهَا الأَصْل عِلّة حكم الأَصْل) .
وَقَالَ القر افي: قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: الشّبَه الْوَصْف الَّذِي لَا يُنَاسب لذاته ويستلزم الْمُنَاسب لذاته، كَقَوْلِنَا: الْخلّ مَائِع وَلَا تبنى القنطرة على جنسه، لَيْسَ مناسبا فِي ذَاته، لكنه مُسْتَلْزم للمناسب، إِذْ الْعَادة أَن القنطرة لَا تبنى على ألأشياء القليلة بل على الْكَثِيرَة كالأنهار وَنَحْوهَا.
قَالَ القَاضِي أَبُو بكر: فالوصف إِمَّا مُنَاسِب بِذَاتِهِ أَو لَا، فَالْأول هُوَ(7/3423)
الْمُنَاسب الْمُعْتَبر، وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون مستلزما للمناسب أَو لَا، فَالْأول الشّبَه وَالثَّانِي الطَّرْد.
قَالَ الطوفي: " هَذَا التَّقْسِيم يتَّجه أَن يكون صَحِيحا، لَكِن تمثيله بِمَا يسْتَلْزم الْمُنَاسب بقوله: مَائِع لَا تبنى على جنسه القناطر فِيهِ، وَمَا وَجه بِهِ مناسبته تمحل بعيد، وَالْأَكْثَر على أَن ذَلِك طرد مَحْض لَا مُنَاسِب وَلَا مُسْتَلْزم للمناسب، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: مَائِع لَا تجْرِي فِيهِ السفن، أَو لَا يصاد مِنْهُ السّمك وَنَحْوه ".
وَقَالَ الْجَمَاعَة: الشّبَه مَا يُوهم الْمُنَاسبَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَفَسرهُ بَعضهم بِمَا يُوهم [الْمُنَاسبَة] .
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَن الْمُنَاسبَة لَيست مُخْتَصَّة فِيهِ، وَإِنَّمَا يحصل التَّوَهُّم بهَا.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْعبارَة الثَّالِثَة أَي القَوْل الثَّالِث: أَن الْوَصْف الَّذِي لَا يُنَاسب الحكم، إِن علم اعْتِبَار جنسه الْقَرِيب فِي جنس الحكم الْقَرِيب فَهُوَ الشّبَه؛ لِأَنَّهُ من حَيْثُ كَونه غير مُنَاسِب يظنّ عدم اعْتِبَاره، وَمن حَيْثُ إِنَّه(7/3424)
عرف تَأْثِير جنسه الْقَرِيب فِي الْجِنْس الْقَرِيب للْحكم يظنّ أَنه أولى بِالِاعْتِبَارِ مُتَرَدّد بَين أَن يكون مُعْتَبرا أَو لَا.
الْعبارَة الرَّابِعَة: أَن الشّبَه هُوَ الْوَصْف الَّذِي لَا تظهر فِيهِ الْمُنَاسبَة بعد الْبَحْث التَّام، وَلَكِن ألف من الشَّارِع الِالْتِفَات إِلَيْهِ فِي بعض الْأَحْكَام.
فَهُوَ دون الْمُنَاسب وَفَوق الطَّرْد؛ فَلذَلِك سمي شبها لشبهه لكل مِنْهُمَا، وَهَذَا القَوْل نَقله الْآمِدِيّ عَن أَكثر الْمُحَقِّقين وَهُوَ الْأَقْرَب / إِلَى(7/3425)
قَوَاعِد الْأُصُول، وَهُوَ قريب من الأولى بل الْعبارَات كلهَا تكَاد أَن تتحدد.
لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّه لَا يتحرر فِيهِ عبارَة مستمرة فِي صناعَة الْحُدُود.
قَوْله: (وَالِاعْتِبَار بالشبه حكما لَا حَقِيقَة خلافًا لِابْنِ علية) .(7/3426)
إِذا قُلْنَا إِن الشّبَه حجَّة فلنا خلاف:
فَذهب الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه وأصحابنا، وَغَيرهم: إِلَى أَن المشابهة فِي الحكم، وَلِهَذَا ألْحقُوا العَبْد الْمَقْتُول بِسَائِر الْأَمْوَال الْمَمْلُوكَة فِي لُزُوم قِيمَته على الْقَاتِل بِجَامِع أَن كلا مِنْهَا يُبَاع ويشترى.
وَمن أمثلته عِنْد الشَّافِعِيَّة أَن يَقُول فِي التَّرْتِيب فِي الضَّوْء: عبَادَة يُبْطِلهَا الْحَدث فَكَانَ التَّرْتِيب فِيهَا مُسْتَحبا، أَصله الصَّلَاة والمشابهة فِي الحكم الَّذِي هُوَ الْبطلَان بِالْحَدَثِ وَلَا تعلق [لَهُ] بالترتيب وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد شبه.
وَاعْتبر أَبُو بشر إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن علية المشابهة فِي الصُّورَة دون الحكم، كقياس الْخَيل على البغال وَالْحمير فِي سُقُوط الزَّكَاة، وَقِيَاس الْحَنَفِيَّة فِي حُرْمَة اللَّحْم، وكرد وَطْء الشُّبْهَة إِلَى النِّكَاح فِي سُقُوط الْحُدُود(7/3427)
وَوُجُوب الْمهْر، لشبهه بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاح فِي الْأَحْكَام.
وَمُقْتَضى ذَلِك قتل الْحر بِالْعَبدِ كَمَا يَقُوله أَبُو حنيفَة.
وَلِهَذَا نقل عَنهُ أَبُو الْمَعَالِي [فِي] " الْبُرْهَان " كَابْن علية وَقَالَ إِنَّه ألحق التَّشَهُّد الثَّانِي بِالْأولِ فِي عدم الْوُجُوب فَقَالَ: تشهد فَلَا يجب كالتشهد الأول.
وَنَحْو ذَلِك عَن أَحْمد إِذْ قَالَ بِوُجُوب الْجُلُوس للتَّشَهُّد الأول؛ لِأَنَّهُ أحد الجلوسين فِي تشهد الصَّلَاة، فَوَجَبَ كالتشهد الْأَخير.
وَقَالَ الرَّازِيّ: الْمُعْتَبر حُصُول المشابهة فِيمَا يظنّ أَنه مُسْتَلْزم لعِلَّة الحكم، أَو أَنه عِلّة للْحكم سَوَاء كَانَت المشابهة فِي الصُّورَة أَو الْمَعْنى.(7/3428)
ثمَّ الَّذين قَالُوا بعلية الشّبَه فِي الحكم وَفِي الصُّورَة اخْتلفُوا أَيهمَا أولى:
فَقيل: فِي الحكم أولى.
وَقيل: هُوَ والصوري سَوَاء.
قَوْله: (وَلَا يُصَار إِلَيْهِ مَعَ قِيَاس الْعلَّة إِجْمَاعًا) . /
قَالَه القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " فَحَيْثُ كَانَ هُنَاكَ وصف مُنَاسِب يُعلل بِهِ فَقَالَ: أجمع النَّاس على أَنه لَا يُصَار إِلَى قِيَاس الشّبَه مَعَ إِمْكَان قِيَاس الْعلَّة انْتهى.
قَوْله: (فَإِن عدم فحجة عندنَا، وَعند الشَّافِعِيَّة، وَخَالف الْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي، والصيرفي، والباقلاني، وَجمع، وَلأَحْمَد، وَالشَّافِعِيّ: قَولَانِ) .
إِذا عرف معنى الشّبَه فَهَل يجوز التَّعْلِيل بِهِ وَيكون حجَّة أم لَا؟ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه يُعلل بِهِ وَيكون حجَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلِيهِ أَصْحَابنَا،(7/3429)
وَالشَّافِعِيَّة، حَتَّى قَالَ ابْن عقيل: لَا عِبْرَة بالمخالف لما سبق فِي السبر. وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الإِمَام الشَّافِعِي.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَيْسَ بِحجَّة وَالتَّعْلِيل بِهِ فَاسد، اخْتَارَهُ القَاضِي من أَصْحَابنَا قَالَه فِي " الرَّوْضَة ".(7/3430)
وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، والصيرفي، والباقلاني، و [أبي] إِسْحَاق الْمروزِي، وَالشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، لكنه عِنْد الباقلاني صَالح لِأَن يرجح بِهِ.(7/3431)
وَذكر القَاضِي عَن أَحْمد رِوَايَتَيْنِ.
وَذكر الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": أَن للشَّافِعِيّ قَوْلَيْنِ.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: " إِنَّمَا يُقَاس الشَّيْء على الشَّيْء إِذا كَانَ مثله فِي كل أَحْوَاله ".(7/3432)
وَالْقَوْل الثَّالِث: إِنَّمَا يحْتَج بِهِ فِي التَّعْلِيل إِذا كَانَ فِي قِيَاس فرع قد اجتذبه أصلان، فَيلْحق بِأَحَدِهِمَا بعلة الِاشْتِبَاه، ويسمونه قِيَاس عِلّة الِاشْتِبَاه، وَهُوَ مَا يدل عَلَيْهِ نَص الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَذكر الْآمِدِيّ عَن بعض أَصْحَابهم صِحَة الشّبَه إِن اعْتبر عينه فِي عين الحكم فَقَط، لعدم الظَّن؛ وَلِأَنَّهُ دون الْمُنَاسب الْمُرْسل.
وَأجَاب بِالْمَنْعِ لاعْتِبَار الشَّارِع لَهُ فِي بعض الْأَحْكَام انْتهى.
وَاكْتفى بعض الْحَنَفِيَّة بِضَرْب من الشّبَه.(7/3433)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَيلْزم من كَونه حجَّة على تَفْسِير القَاضِي التَّسْوِيَة بَين شَيْئَيْنِ مَعَ الْعلم بافتراقهما فِي صفة أَو صِفَات مُؤثرَة لَكِن لضَرُورَة إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا، كَفعل الْقَافة بِالْوَلَدِ، قَالَه بعض أَصْحَابنَا.
وَقَالَ الْقَائِلُونَ / بالأشبه كَالْقَاضِي: سلمُوا أَن الْعلَّة لم تُوجد فِي الْفَرْع، وَأَنه حكم بِغَيْر قِيَاس، بل إِنَّه أشبه بِهَذَا من غَيره، وَيَقُولُونَ: لَا يعْطى حكمهمَا، ذكره الشَّافِعِي وأصحابنا، وَكَذَا من قَالَ: لَيْسَ بِحجَّة.(7/3434)
وَعند الْحَنَفِيَّة يعْطى حكمهمَا، وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة وَهِي طَريقَة [الشبهين] .
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ كثير فِي مَذْهَب مَالك وَأحمد كتعلق الزَّكَاة بِالْعينِ أَو بِالذِّمةِ، وَالْوَقْف هَل هُوَ ملك لله أَو للْمَوْقُوف عَلَيْهِ.؟(7/3435)
وَملك العَبْد.
وسلك القَاضِي وَغَيره هَذَا فِي تَعْلِيل إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا إِذا أقرّ اثْنَان بِنسَب أَو دين: لَا يعْتَبر لفظ الشَّهَادَة وَالْعَدَالَة [لِأَنَّهُ] يشبه [الشَّهَادَة] ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات حق على غَيره، وَالْإِقْرَار لثُبُوت الْمُشَاركَة فِيمَا بِيَدِهِ من المَال فأعطيناه حكم الْأَصْلَيْنِ فاشترطنا الْعدَد كَالشَّهَادَةِ لَا غير كَالْإِقْرَارِ.
وَكَذَا قالالحنفية وَقَالَ الْمَالِكِيَّة فِي شبه مَعَ فرَاش.
وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَأَنه يعْمل بهما إِن أمكن وَإِلَّا بالأشبه "، نقل ذَلِك ابْن مُفْلِح ".(7/3436)
(قَوْله: (فصل))
(السَّادِس الدوران: ترَتّب حكم على وصف وجودا وعدما، يُفِيد الْعلَّة ظنا عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَقيل: قطعا، وَلنَا وَجه، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، لَا يفيدها كأكثر الْحَنَفِيَّة والآمدي وَغَيره) . السَّادِس من مسالك الْعلَّة: الدوران.
وَسَماهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب: الطَّرْد وَالْعَكْس لكَونه بِمَعْنَاهُ، وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح.
الطَّرْد وَالْعَكْس وَهُوَ: الدوران، وَهُوَ أَن يُوجد الحكم، أَي: تعلقه عِنْد وجود وصف وينعدم عِنْد عَدمه، وَيُسمى ذَلِك الْوَصْف حِينَئِذٍ مدارا وَالْحكم دائرا.(7/3437)
ثمَّ الدوران: إِمَّا فِي مَحل وَاحِد كالإسكار فِي الْعصير، فَإِن الْعصير قبل أَن يُوجد الْإِسْكَار كَانَ حَلَالا، فَلَمَّا / حدث الْإِسْكَار حرم، فَلَمَّا زَالَ الْإِسْكَار وَصَارَ خلا صَار حَلَالا، فدار التَّحْرِيم مَعَ الْإِسْكَار وجودا وعدما.
وَإِمَّا فِي محلين كالطعم مَعَ تَحْرِيم الرِّبَا، فَإِنَّهُ لما وجد الطّعْم فِي التفاح كَانَ ربويا، وَلما لم يُوجد فِي الْحَرِير مثلا لم يكن ربويا، فدار جَرَيَان الرِّبَا مَعَ الطّعْم.
قَالَ الطوفي: " لَكِن الدوران فِي صُورَة أقوى مِنْهُ فِي صُورَتَيْنِ على مَا هُوَ مدرك ضَرُورَة أَو نظرا ظَاهرا ".
إِذا علم ذَلِك فَهَل يُفِيد الدوران ظن الْعلية، أَو الْقطع، أَو لَا يُفِيد مُطلقًا؟ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه يُفِيد ظن الْعلية فَقَط، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، قَالَه أَكثر أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والجرجاني، والسرخسي،(7/3438)
والرازي، وَأَتْبَاعه، [وَقَالَهُ] الجدليون.
وَأهل [الْعرَاق] من الشَّافِعِيَّة مشغوفون بِإِثْبَات الْعِلَل، حَتَّى كَانَ أَبُو الطّيب يَدعِي فِيهِ الْقطع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يُفِيد الْقطع بالعلية، وَعَلِيهِ بعض الْمُعْتَزلَة، وَرُبمَا قيل: لَا دَلِيل فَوْقه.
قيل: وَلَعَلَّ من يَدعِي الْقطع إِنَّمَا هُوَ من يشْتَرط ظُهُور الْمُنَاسبَة فِي قِيَاس الْعِلَل مُطلقًا، وَلَا يَكْتَفِي بالسبر وَلَا بالدوران بِمُجَرَّدِهِ، فَإِذا انْضَمَّ الدوران.(7/3439)
إِلَى الْمُنَاسبَة ارْتقى بِهَذِهِ الزِّيَادَة إِلَى الْيَقِين، وَإِلَّا فَأَي وَجه لتخيل الْقطع فِي مُجَرّد الدوران.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه لَا يُفِيد بِمُجَرَّدِهِ ظنا وَلَا قطعا، أَي: لَا يُفِيد ظن الْعلية وَلَا الْقطع بهَا، لَا أَنه لَا يُفِيد الحكم، بل قد يثبت الحكم بالدوران، بل وبالطرد وَحده، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَاب الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا، فِي الْكَلَام على الِاسْتِدْلَال فِي التلازم.
وَهَذَا قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة، كالكرخي، وَأبي زيد، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، وَهُوَ اخْتِيَار ابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْغَزالِيّ، وَابْن(7/3440)
الْحَاجِب، والآمدي، وَذكره قَول الْمُحَقِّقين من أَصْحَابهم.
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح -: لَو دعِي رجل باسم فَغَضب، وَبِغَيْرِهِ لم يغْضب، وتكرر وَلَا مَانع، دلّ أَنه سببب الْغَضَب.
رد: بِالْمَنْعِ بل بطرِيق السبر، لجَوَاز مُلَازمَة الْوَصْف الْعلَّة كرائحة الْخمر / مَعَ الشدَّة المطربة، وَلِهَذَا الدوران فِي المتضايفين وَلَا عِلّة، فَإِن المتضايفين يُوجد أَحدهمَا مَعَ وجود الآخر وينتفي مَعَ انتفائه، وَلَيْسَ أَحدهمَا عِلّة فِي الآخر.
أُجِيب: الْجَوَاز لَا يمْنَع الظُّهُور كالقطع بِأَن الرَّائِحَة لَيست عِلّة، وَكَذَا الدوران فِي المتضايفين كالأبوة والبنوة؛ وَلِأَن كلا مِنْهُمَا مَعَ الآخر.
وَأجَاب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ عَن الْعلَّة: بِأَن الْعلَّة الأمارة الْمعرفَة للْحكم، فالمدار مَعَه عِلّة، لَكِن التَّعْلِيل بالشدة المطربة مقدم على الطَّرْد الْمَحْض.(7/3441)
وقاس أَصْحَابنَا على الْعلَّة الْعَقْلِيَّة.
قَالَ الْغَزالِيّ: الطَّرْد سَلَامَته من النَّقْض، وسلامته من مُفسد لَا يُوجب سَلَامَته من كل مُفسد، [وَلَو] سلم فالصحة بمصحح وَلَا أثر للعكس؛ لِأَنَّهُ غير شَرط فِيهَا.
رد: للاجتماع تَأْثِير، كأجزاء الْعلَّة.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد "، و " الرَّوْضَة ": وَيُشبه ذَلِك شَهَادَة الْأُصُول، نَحْو الْخَيل لَا زَكَاة فِي ذكورها مُنْفَرِدَة، فَكَذَا فِي إناثها كَبَقِيَّة الْحَيَوَان وَصَححهُ القَاضِي.(7/3442)
وللشافعية وَجْهَان. .
قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ، فَإِن أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر ترجح جَانب الْمُسْتَدلّ بالتعدية، وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى الْفَرْع ضرّ عِنْد مَانع علتين أَو إِلَى فرع آخر طلب التَّرْجِيح) .
تبِعت فِي ذَلِك " جمع الْجَوَامِع " وَتَبعهُ شراحه، وَسَيَأْتِي كَلَام الْبرمَاوِيّ.
إِذا ثَبت أَنه يُفِيد الظَّن فَهَل يشْتَرط نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ بالعلية أم لَا يشْتَرط؟
الْمُخْتَار عدم الِاشْتِرَاط؛ لِأَنَّهُ لَو لزمَه ذَلِك للَزِمَ نفي سَائِر القوادح، وينتشر الْبَحْث، وَيخرج الْكَلَام عَن الضَّبْط.(7/3443)
وَمن ادّعى وَصفا أَصْلِيًّا فَعَلَيهِ إبداؤه، أطبق على ذَلِك الجدليون. وَذهب القَاضِي أَبُو بكر: إِلَى أَنه يلْزمه ذَلِك.
قَالَ الْغَزالِيّ: وَهُوَ بعيد فِي حق المناظر مُتَّجه فِي حق الْمُجْتَهد، فَإِن عَلَيْهِ تَمام النّظر لتحل لَهُ الْفَتْوَى فَهَذَا مَذْهَب ثَالِث.
فَإِن أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر، / فَإِن كَانَ قاصرا يرجح الْوَصْف الَّذِي أبداه الْمُسْتَدلّ بِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ بِنَاء على تَرْجِيح المتعدية على القاصرة.
وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى الْفَرْع الْمُتَنَازع فِيهِ بني على جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين، فَإِن منعناه ضرّ، وَإِلَّا فَلَا، لجَوَاز اجْتِمَاع معرفين على معرف وَاحِد.(7/3444)
وَإِن كَانَ مُتَعَدِّيا إِلَى فرع آخر غير الْمُتَنَازع فِيهِ طلب تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِدَلِيل خارجي، فَلَو كَانَ وصف الْمُسْتَدلّ غير مُنَاسِب وَوصف الْمُعْتَرض مناسبا قدم قطعا.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَزَاد فِي " جمع الْجَوَامِع " هُنَا أَنه لَا يلْزم الْمُسْتَدلّ نفي مَا هُوَ أولى مِنْهُ، وَأَنه إِذا أبدى الْمُعْتَرض وَصفا آخر ترجح جَانب الْمُسْتَدلّ بالتعدية، وَلَكِن هَذَا مَعَ كَونه من مبَاحث الجدل، لَا يخْتَص بِالْوَصْفِ الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ بالدوران) انْتهى.
قَوْله: (والطرد: مُقَارنَة الحكم للوصف بِلَا مُنَاسبَة) .
الطَّرْد: مُقَارنَة الحكم للوصف، وَلَيْسَ مناسبا لَا بِالذَّاتِ وَلَا بالتبع، كَمَا سبقت الْإِشَارَة فِي كَلَام الباقلاني وَغَيره.
مِثَاله فِي قَول بَعضهم فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِنَحْوِ الْخلّ: مَائِع لَا يبْنى على جنسه القناطر، وَلَا يصاد مِنْهُ السّمك، وَلَا تجْرِي عَلَيْهِ السفن، أَو لَا ينْبت فِيهِ الْقصب، أَو لَا تعوم فِيهِ الجواميس، أَو لَا يزرع عَلَيْهِ الزَّرْع وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يزَال بِهِ النَّجَاسَة كالدهن.(7/3445)
وَقَول بَعضهم: فِي عدم نقض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر: طَوِيل ممشوق، فَلَا يجب بمسه الْوضُوء كالبوق.
وَقَول بَعضهم فِي طَهَارَة الْكَلْب: حَيَوَان مألوف، لَهُ شعر كالصوف فَكَانَ طَاهِرا كالخروف.
وَاعْلَم أَن الْمُقَارنَة لَهَا ثَلَاثَة أَحْوَال:
أَحدهَا: أَن يقارن فِي جَمِيع الصُّور، وَعَلِيهِ جرى جمع مِنْهُم التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع "، ويشعر بِهِ كَلَام جمَاعَة أَيْضا حَيْثُ قَالُوا: إِنَّه وجود الحكم عِنْد وجود الْوَصْف.
الثَّانِيَة: الْمُقَارنَة فِيمَا سوى صُورَة النزاع / وَهُوَ الَّذِي عزاهُ فِي " الْمَحْصُول " للأكثرين، وَجرى عَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَيثبت حِينَئِذٍ الحكم فِي صُورَة النزاع إِلْحَاقًا للفرد بالأعم الْأَغْلَب، فَإِن الاستقراء يدل على إِلْحَاق النَّادِر بالغالب.(7/3446)
وَلَكِن هَذَا ضَعِيف فقد يمْنَع أَن كل نَادِر يلْحق بالغالب؛ لما يرد عَلَيْهِ من النقوض الْكَثِيرَة.
وَأَيْضًا: فَلَا يلْزم من علية الاقتران كَونه عِلّة للْحكم.
الثَّالِثَة: أَن يقارن فِي صُورَة وَاحِدَة.
وَهُوَ ضَعِيف جدا؛ لِأَن من يَقُول بالطرد فَإِنَّمَا مُسْتَنده غَلَبَة الظَّن عِنْد التّكْرَار، وَالْفَرْض عَدمه.
قَوْله: (وَلَيْسَ دَلِيلا وَحده عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَقيل: بلَى، وَجوزهُ الْكَرْخِي جدلا لَا عملا أَو فَتْوَى، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: إِن قارنه فِيمَا عدا صُورَة النزاع أَفَادَ، وَقيل: تَكْفِي مقارنته فِي صُورَة، قَالَ الشَّيْخ وَغَيره: تَنْقَسِم الْعلَّة الْعَقْلِيَّة والشرعية: إِلَى مَا تُؤثر فِي معلولها كوجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع، وَإِلَى مَا يُؤثر فِيهَا معلولها كالدوران) .(7/3447)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ الطَّرْد وَحده دَلِيلا فِي مَذْهَب الْأَرْبَعَة، والمتكلمين.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا أرجح الْمذَاهب، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، كَمَا قَالَه أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد علما وَلَا ظنا، فَهُوَ تحكم.
وَبَالغ الباقلاني فِي الْإِنْكَار على الْقَائِل بِهِ، وَقَالَ: إِنَّه هازىء بالشريعة فَقَالَ هُوَ والأستاذ: من طرد عَن غرر فجاهل، وَمن مارس الشَّرِيعَة واستجازه فهازىء بالشريعة.(7/3448)
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره: " قِيَاس الْمَعْنى تَحْقِيق، والشبه تقريب، والطرد تحكم ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه حجَّة مُطلقًا، وتكفي الْمُقَارنَة وَلَو فِي صُورَة وَاحِدَة، كَمَا سبق.
وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن قَارن فِي غير صُورَة النزاع وَهُوَ مَا سبق عَن الرَّازِيّ، والبيضاوي ألحاقا للفرد بالأعم الْأَغْلَب، وَتقدم.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه يُفِيد [فِي] المناظرة المناظر، وَلَا يُفِيد النَّاظر الْمُجْتَهد لنَفسِهِ.(7/3449)
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي / فِي " الْبُرْهَان ": وَقد نَاقض، إِذْ المناظر بحث عَن المآخذ الصَّحِيحَة، فَإِذا كَانَ مذْهبه أَنه لَا يصلح مأخذا فَهَذَا مُرَاد خَصمه من الجدل، فَلَيْسَ فِي الجدل مَا يقبل، مَعَ الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ بَاطِل.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: تَنْقَسِم الْعلَّة الْعَقْلِيَّة والشرعية إِلَى: مَا تُؤثر فِي معلولها كوجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع مُؤثر فِي نقل حكمه. وَإِلَى مَا يُؤثر فِيهَا معلولها كالدوران.(7/3450)
(قَوْله: (فَوَائِد))
(المناط مُتَعَلق الحكم، سبق تنقيحه فِي الْإِيمَاء، وتخريجه فِي الْمُنَاسبَة) . هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنْوَاع الِاجْتِهَاد فِي الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالأقيسة.
وَهُوَ إِمَّا تَحْقِيق المناط، أَو تنقيحه، أَو تَخْرِيجه، وَقد جرت عَادَة أهل الْأُصُول والجدل إِذا ذكرُوا تَحْقِيق المناط أَن يتَعَرَّضُوا لتفسير مَا يُسمى [تَنْقِيح] المناط، وتخريجه، وَقد قدمنَا فِي الْإِيمَاء تَنْقِيح المناط، وَقدمنَا فِي الْمُنَاسبَة تَخْرِيج المناط، فَلم يبْق إِلَّا تَحْقِيق المناط.
فالمناط: مفعل من ناط نياطا، أَي: علق فَهُوَ مَا نيط بِهِ الحكم، أَي: علق بِهِ، وَهُوَ الْعلَّة الَّتِي رتب عَلَيْهَا الحكم فِي الأَصْل.
يُقَال: نطت الْحَبل بالوتد أنوطه نوطا: إِذا علقته، وَمِنْه ذَات أنواط:(7/3451)
شَجَرَة كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يعلقون فِيهَا سِلَاحهمْ وَقد ذكرت فِي الحَدِيث.
وَأما التَّنْقِيح: فَهُوَ فِي اللُّغَة التخليص والتهذيب، يُقَال: نقحت الْعظم: إِذا استخرجت مخه.
وَأما التَّخْرِيج: فَهُوَ الاستخراج والاستنباط وَهُوَ إِضَافَة حكم لم يتَعَرَّض الشَّرْع لعلته إِلَى وصف يُنَاسب فِي نظر الْمُجْتَهد بالسبر والتقسيم.
قَوْله: (وتحقيقه: إِثْبَات الْعلَّة فِي آحَاد صورها، فَإِن علمت الْعلَّة بِنَصّ كجهة الْقبْلَة منَاط وجوب استقبالها، ومعرفتها عِنْد الِاشْتِبَاه مظنون، أَو إِجْمَاع كالعدالة منَاط قبُول الشَّهَادَة، ومظنونة فِي الشَّخْص الْمعِين، وكالمثل فِي جَزَاء الصَّيْد) .
تَحْقِيق المناط: هُوَ: / النّظر وَالِاجْتِهَاد فِي معرفَة وجود الْعلَّة فِي آحَاد(7/3452)
الصُّور بعد مَعْرفَتهَا فِي نَفسهَا، سَوَاء عرفت بِالنَّصِّ، كجهة الْقبْلَة الَّتِي هِيَ منَاط وجود استقبالها الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} [الْبَقَرَة: 144] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا ذوى عدل مِنْكُم} [الطَّلَاق: 2] ، أَو بِالْإِجْمَاع، أَو الاستنباط، كالشدة المطربة الَّتِي هِيَ منَاط تَحْرِيم شرب الْخمر، فالنظر فِي كَون هَذِه الْجِهَة جِهَة الْقبْلَة فِي حَال الِاشْتِبَاه، وَكَون الشَّخْص عدلا، وَكَون النَّبِيذ خمرًا للشدة المطربة المظنونة بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ تَحْقِيق الْمثل فِي قَوْله تَعَالَى: {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} [الْمَائِدَة: 95] .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: وَلَا نَعْرِف خلافًا فِي صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ إِذا كَانَت الْعلَّة مَعْلُومَة بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع، إِنَّمَا الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ مدرك مَعْرفَتهَا الاستنباط.
وَذكر الْمُوفق وَالْفَخْر والطوفي من جملَة تَحْقِيق المناط اعْتِبَار الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي أماكنها لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم "، فَيعْتَبر الْأَمر فِي كل طائف.(7/3453)
قَالَ الْمُوفق: وَهُوَ قِيَاس جلي أقرّ بِهِ جمَاعَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَلَيْسَ ذَلِك قِيَاسا للاتفاق عَلَيْهِ من منكري الْقيَاس انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " نعم! هَل يشْتَرط الْقطع بتحقيق المناط أم يَكْتَفِي بِالظَّنِّ؟ فِيهِ أَقْوَال، حَكَاهَا ابْن التلمساني.
ثَالِثهَا: الْفرق بَين أَن تكون الْعلَّة وَصفا شَرْعِيًّا، فيكتفى فِيهِ بِالظَّنِّ، أَو حَقِيقِيًّا أَو عرفيا فَيشْتَرط الْقطع بِوُجُودِهِ.
قَالَ: وَهَذَا أعدل الْأَقْوَال ".
تَنْبِيه: حَاصِل الْفرق بَين الثَّلَاثَة أَن تَخْرِيج المناط اسْتِخْرَاج وصف مُنَاسِب يحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عِلّة ذَلِك الحكم.
وتنقيحه: أَن يبقي من الْأَوْصَاف مَا يصلح ويلغي بِالدَّلِيلِ مَا لَا يصلح.
وتحقيقه: أَن يَجِيء إِلَى وصف دلّ على عليته نَص أَو إِجْمَاع أَو غَيرهمَا من الطّرق، وَلَكِن / يَقع الِاخْتِلَاف فِي وجوده فِي صُورَة النزاع فيحقق وجودهَا فِيهِ.(7/3454)
ومناسبة التَّسْمِيَة فِي الثَّلَاثَة ظَاهِرَة؛ لِأَنَّهُ أَولا استخرجها من مَنْصُوص حكم من غير نَص على علته، ثمَّ جَاءَ فِي اوصاف قد ذكرت فِي التَّعْلِيل، فنقح النَّص وَنَحْوه فِي ذَلِك، وَأخذ مِنْهُ مَا يصلح عِلّة، وألغى غَيره، ثمَّ لم نوزع فِي كَون الْعلَّة لَيست فِي الْمحل الْمُتَنَازع فِيهِ بَين أَنَّهَا فِيهِ وحقق ذَلِك، وَالله أعلم.
قَوْله: (احْتج بِهِ الْأَكْثَر، وَقيل: لَا يقبل مِنْهُ إِلَّا قِسْمَانِ، وَزَاد أَبُو هَاشم ثَالِثا) .
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين والآمدي وأتباعهما: لَا نَعْرِف خلافًا فِي صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي أَن النهرواني والقاشاني لم يقبلا من النّظر فِي مسالك الظَّن إِلَّا تَرْتِيب الحكم على اسْم مُشْتَقّ، كآية السّرقَة، وَقَول الرَّاوِي: " زنا مَاعِز فرجم "، وَمَا يعلم أَنه فِي معنى الْمَنْصُوص بِلَا نظر، كالبول فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي مَاء.(7/3455)
وَوَافَقَهُمَا أَبُو هَاشم وَزَاد قسما ثَالِثا وَمثله بِطَلَب الْقبْلَة عِنْد الِاشْتِبَاه، والمثل فِي الصَّيْد.
ثمَّ رد عَلَيْهِم فِي [الْحصْر] .
وَقَالَ: إِنَّه لم يُنكر إِلْحَاق معنى الْمَنْصُوص إِلَّا حشوية لَا يبالى بهم، دَاوُد وَأَصْحَابه، وَأَن ابْن الباقلاني قَالَ: لَا يخرقون الْإِجْمَاع.
تَنْبِيه: ذكرنَا مسالك الْعلَّة سِتَّة تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا، وَذكرهَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، و " منظومة الْبرمَاوِيّ وَشَرحهَا "، وَغَيرهم عشرَة، فزادوا: إِلْغَاء الْفَارِق بَين الْفَرْع وَالْأَصْل، وتنقيح المناط، والطرد، والإيماء، وَهِي مَذْكُورَة ضمنا فِي المسالك السِّتَّة على مَا تقدم.(7/3456)
قَوْله: (الثَّانِيَة مدَار الحكم مُوجبَة أَو مُتَعَلّقه، ولازم الحكم مَا لَا يثبت الحكم مَعَ عَدمه، وملزوم الحكم مَا يسْتَلْزم وجوده وجود الحكم) .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح " فِي الجدل فَذكر مدَار الحكم، ولازمه، وملزومه فَقَالَ: مدَار الحكم: مُوجبه أَو مُتَعَلّقه، ولازم الحكم مَا لَا يثبت الحكم مَعَ عَدمه فَيكون أَعم من الشَّرْط لدُخُول الشَّرْط وَالْعلَّة / وَالسَّبَب وجزؤه وَمحل الحكم بِهِ، وملزوم الحكم: مَا يسْتَلْزم وجوده وجود الحكم. انْتهى.
يُقَال: مدَار الحكم على كَذَا، أَي: يتَوَقَّف الحكم على وجود كَذَا.
قَوْله: (الثَّالِثَة: الْقيَاس: جلي، وَهُوَ مَا قطع فِيهِ بِنَفْي الْفَارِق، كالأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة، أَو علته منصوصة، أَو مجمع عَلَيْهَا، وخفي كالمثقل على المحدد) .
الْقيَاس لَهُ اعتبارات، فَتَارَة يكون بِاعْتِبَار قوته وَضَعفه، وَتارَة بِاعْتِبَار علته، وكل مِنْهُمَا لَهُ أَقسَام.
فَالْقِيَاس يَنْقَسِم بِاعْتِبَار قوته وَضَعفه إِلَى: جلي وخفي.(7/3457)
فالجلي: مَا قطع فِيهِ بِنَفْي الْفَارِق كقياس الْأمة على العَبْد فِي السَّرَايَة وَغَيرهَا، فِي الْعتْق وَغَيره فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أعتق شركا لَهُ فِي عبد، وَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل ... ... الحَدِيث ".، فَإنَّا نقطع بِعَدَمِ اعْتِبَار الشَّارِع الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة فِيهِ.
وَمثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا رجل أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه "، نقطع أَن الْمَرْأَة فِي مَعْنَاهُ.
وَمثله قِيَاس الصبية على الصَّبِي فِي حَدِيث: " مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع(7/3458)
وَاضْرِبُوهُمْ على تَركهَا لعشر "، فَإنَّا نقطع - أَيْضا - بِعَدَمِ اعْتِبَار الشَّرْع الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة، ونقطع بِأَن لَا فَارق بَينهمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَأما الْخَفي: فَهُوَ خلاف الْجَلِيّ، وَهُوَ مَا كَانَ احْتِمَال تَأْثِير الْفَارِق فِيهِ قَوِيا، كقياس الْقَتْل بمثقل على الْقَتْل بمحدد فِي وجوب الْقصاص، وَقد قَالَ أَبُو حنفية بِعَدَمِ وُجُوبه فِي المثقل.
وقسمه بَعضهم إِلَى: جلي وخفي [و] وَاضح.
فالجلي: مَا تقدم، والخفي: قِيَاس الشّبَه، والواضح: مَا كَانَ بَينهمَا.
وَقَالَ بَعضهم: الْجَلِيّ مَا كَانَ ثُبُوت الحكم فِيهِ فِي الْفَرْع أولى من الأَصْل كالضرب مَعَ التأفيف.
قَالَ بَعضهم: وَيَنْبَغِي تمثيله بِقِيَاس العمياء على العوراء فِي منع التَّضْحِيَة بهَا.
والواضح: مَا كَانَ مُسَاوِيا لَهُ كالنبيذ مَعَ الْخمر. /
والخفي: مَا كَانَ دونه كقياس اللينوفر على الْأرز بِجَامِع الطّعْم، وَكَونه ينْبت فِي المَاء، وَيرجع ذَلِك إِلَى الِاصْطِلَاح وَلَا مشاحة فِيهِ.
قَالَ فِي " الْمقنع ": وَقيل الْجَلِيّ قِيَاس الْمَعْنى، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَقيل: الْجَلِيّ مَا فهمت علته كَقَوْلِه: " لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان ".(7/3459)
قَوْله: (وَقِيَاس عِلّة بِأَن صرح فِيهِ بهَا، وَقِيَاس دلَالَة بِأَن جمع فِيهِ بِمَا [يلازم] الْعلَّة، أَو جمع بِأحد موجبي الْعلَّة فِي الأَصْل لملازمة الآخر، وَقِيَاس فِي معنى الأَصْل بِأَن جمع بِنَفْي الْفَارِق كالأمة فِي الْعتْق) .
يَنْقَسِم الْقيَاس بِاعْتِبَار علته إِلَى قِيَاس عِلّة، وَقِيَاس دلَالَة، وَقِيَاس فِي معنى الأَصْل.
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون بِذكر الْجَامِع أَو بإلغاء الْفَارِق، فَإِن كَانَ بِذكر الْجَامِع فالجامع إِن كَانَ هُوَ الْعلَّة سمي قِيَاس الْعلَّة.
كَقَوْلِنَا فِي المثقل: قتل عمد عدوان فَيجب فِيهِ الْقصاص كالجارح. وَإِن كَانَ الْجَامِع وَصفا لَا زما من لَوَازِم الْعلَّة، أَو أثرا من آثارها، أَو حكما من أَحْكَامهَا، فَهُوَ قِيَاس الدّلَالَة؛ لِأَن الْمَذْكُور لَيْسَ عين الْعلَّة بل شَيْء يدل عَلَيْهَا.
مِثَال الأول: قِيَاس النَّبِيذ على الْخمر بِجَامِع الرَّائِحَة الفائحة الْمُلَازمَة للشدة المطربة، وَلَيْسَت نفس الْعلَّة وَإِنَّمَا هِيَ لَازِمَة لَهَا.
وَمِثَال الثَّانِي: قَوْلنَا فِي المثقل: قتل أَثم بِهِ فَاعله من حَيْثُ إِنَّه قتل فَوَجَبَ فِيهِ الْقصاص كالجارح، فالأثم بِهِ لَيْسَ نفس الْعلَّة بل أثر من أثارها.(7/3460)
وَمِثَال الثَّالِث: قَوْلنَا فِي قطع الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِد ة: قطع يَقْتَضِي وجوب الدِّيَة عَلَيْهِم فَيكون وُجُوبه كوجوب الْقصاص عَلَيْهِم، فوجوب الدِّيَة لَيْسَ عين عِلّة الْقصاص بل حكم من أَحْكَامهَا.
فَإِن كَانَ بإلغاء الْفَارِق فَهُوَ الْقيَاس فِي معنى الأَصْل كإلحاق الْبَوْل فِي إِنَاء وصبه فِي المَاء الدَّائِم بالبول فِيهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمثل ابْن الْحَاجِب مَا يكون الْجَامِع فِيهِ بِلَازِم الْعلَّة بِقِيَاس قطع الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ على قَتلهمْ بِالْوَاحِدِ بِوَاسِطَة اشتراكهما فِي وجوب الدِّيَة على الْجَمِيع، فَإِن الْجَامِع / الَّذِي هُوَ وجوب الدِّيَة على الْجَمَاعَة لَازم الْعلَّة فِي الأَصْل، وَهِي الْقَتْل الْعمد الْعدوان، وَوُجُوب الدِّيَة عَلَيْهِم إِنَّمَا هُوَ أحد موجبي الْعلَّة الَّذِي هُوَ وجوب الدِّيَة، ليستدل بِهِ على مُوجبهَا الآخر وَهُوَ وجوب الْقصاص عَلَيْهِم.
قَالَ: وَالْأولَى أَن يَجْعَل هَذَا مِثَالا لكَون الْجَامِع حكما من أَحْكَام الْعلَّة. ويمثل للجامع بِمَا يلازم الْعلَّة بِقِيَاس النَّبِيذ على [الْخمر] بِجَامِع الرَّائِحَة الْمُلَازمَة للسكر ".
وَذكر ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " للْقِيَاس تقاسيم فَذكر مَا ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ: تَقْسِيم آخر: إِمَّا مُؤثر الْعلَّة الجامعة فِيهِ نَص أَو إِجْمَاع، أَو أثر عينهَا فِي عين الحكم أَو فِي جنسه، أَو جِنْسهَا فِي عين الحكم، أَو ملائم أثر جنس الْعلَّة فِيهِ فِي جنس الحكم.(7/3461)
ثمَّ قَالَ: تَقْسِيم آخر: وَهُوَ أَن طرق إِثْبَات الْعلَّة المستنبطة: [الْمُنَاسبَة] ، أَو الشّبَه أَو السبر والتقسيم، أَو الطَّرْد وَالْعَكْس، فَالْأول قِيَاس الإخالة، وَالثَّانِي قِيَاس الشّبَه، وَالثَّالِث قِيَاس السبر، وَالرَّابِع قِيَاس الطَّرْد. انْتهى.(7/3462)
(قَوْله (فصل))
(الْأَرْبَعَة وَغَيرهم يجوز التَّعَبُّد بِهِ عقلا، وَقيل: لَا، فَقيل: لعدم معرفَة الحكم مِنْهُ، وَقيل: [لوُجُوب] الحكم المتضاد، وَقيل: لِأَنَّهُ أدون البيانين مَعَ الْقُدْرَة على أعلاهما، وأوجبه القَاضِي وَأَبُو الْخطاب والقفال وَجمع) .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: يجوز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الشرعيات عقلا عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة،(7/3463)
وَعَامة الْفُقَهَاء والمتكلمين، خلافًا للشيعة، وَجَمَاعَة من معتزلة بَغْدَاد،(7/3464)
كالنظام، والجعفرين، وَيحيى الإسكافي.(7/3465)
فعلى قَول هَؤُلَاءِ.
قيل: لعدم معرفَة الحكم مِنْهُ لبنائه على الْمصلحَة الَّتِي لَا تعرف بِهِ.
وَقيل: لوُجُوب الحكم المتضاد.
وَقيل: لِأَنَّهُ أدون البيانين مَعَ الْقُدْرَة على أعلاهما.
وأوجبه أَبُو الْخطاب، والقفال، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ،(7/3466)
وَقَالَهُ القَاضِي أَيْضا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْهُم من مَنعه عقلا.
فَقيل: / لِأَنَّهُ قَبِيح فِي نَفسه فَيحرم.
وَقيل: لِأَنَّهُ يجب على الشَّارِع أَن يستنصح لِعِبَادِهِ، وينص لَهُم على الْأَحْكَام كلهَا، وَهَذَا على رَأْي الْمُعْتَزلَة الْمَعْلُوم فَسَاده، وَذكر أقوالا غير ذَلِك.
وَمعنى التَّعَبُّد بِهِ عقلا: أَنه يجوز أَن يَقُول الشَّارِع: إِذا ثَبت حكم فِي صُورَة، وَوجد فِي صُورَة أُخْرَى مُشَاركَة للصورة الأولى فِي وصف، وَغلب على ظنكم أَن هَذَا الحكم فِي الصُّورَة الأولى مُعَلل بذلك الْوَصْف، فقيسوا الصُّورَة الثَّانِيَة على الأولى.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع عقلا نَحْو قَول الشَّارِع: حرمت الْخمر لإسكاره فقيسوا عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ.
قَالَ ابْن عقيل والآمدي: لَا خلاف بَين الْعُقَلَاء فِي حسن ذَلِك.(7/3467)
وَلِأَنَّهُ وَقع شرعا كَمَا يَأْتِي. وَلِأَنَّهُ يتَضَمَّن دفع ضَرَر مظنون وَهُوَ وَاجِب عقلا، فَالْقِيَاس وَاجِب عقلا، وَالْوُجُوب يسْتَلْزم الْجَوَاز.
قَالُوا: الْعقل يمْنَع وُقُوع مَا فِيهِ خطأ، لِأَنَّهُ مَحْذُور.
رد: منع احْتِيَاطًا لَا إِحَالَة، ثمَّ لَا منع مَعَ ظن الصَّوَاب بِدَلِيل الْعُمُوم وَخبر الْوَاحِد وَالشَّهَادَة.
قَالُوا: أَمر الشَّارِع بمخالفة الظَّن كَالْحكمِ بِشَاهِد وَاحِد، وَشَهَادَة النِّسَاء فِي الزِّنَا، وَنِكَاح أَجْنَبِيَّة من عشر فِيهِنَّ رضيعة مشتبهة.(7/3468)
رد: لمَانع شَرْعِي لَا عَقْلِي لما سبق.
وَاحْتج النظام: بِأَن الشَّرْع فرق بَين المتماثلات كإيجاب الْغسْل بالمني لَا بالبول، وَغسل بَوْل صبية ونضح بَوْل صبي، وَالْجَلد بِنِسْبَة زنا لَا كفر، وَقطع سَارِق قَلِيل لَا غَاصِب كثير، وَالْقَتْل بِشَاهِدين لَا الزِّنَا، وعدتي موت وَطَلَاق.
وَجمع بَين المختلفات: كردة وزنا فِي إِيجَاب قتل، وَقتل صيد عمدا أَو خطأ فِي ضَمَانه، وَقَاتل، وواطىء فِي صَوْم رمصان، وَمظَاهر فِي كَفَّارَة.
رد: / فرق لعدم صَلَاحِية مَا وَقع جَامعا أَو لمعارض لَهُ فِي أصل أَو فرع، وَجمع لاشتراك المختلفات فِي معنى جَامع، أَو اخْتِصَاص كل مِنْهُمَا بعلة مثل حكم خِلَافه.(7/3469)
وألزمه فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِالْقِيَاسِ الْعقلِيّ كَقطع الْعرق، والرفق بِالصَّبِيِّ، كل مِنْهُمَا يكون حسنا وقبيحا وهما متفقان، فالرفق بِهِ وضربه حسنان، وهما مُخْتَلِفَانِ معنى.
قَالُوا: الْقيَاس فِيهِ اخْتِلَاف لتَعَدد الأمارة والمجتهد فَيرد لقَوْله تَعَالَى: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير اللَّهِ لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النِّسَاء: 82] .
رد: بنقيضه بِالظَّاهِرِ.
وَبِأَن مُرَاد الْآيَة تناقضه، أَو مَا يخل ببلاغته، للختلاف فِي الْأَحْكَام قطعا.
قَالُوا: إِذا اخْتلف قِيَاس مجتهدين: فَإِن كَانَ كل مُجْتَهد مصيبا: لزم كَون الشَّيْء ونقيضه حَقًا، وَإِلَّا فتصويب أحد الظنين مَعَ استوائهما تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح.(7/3470)
رد: بِالظَّاهِرِ، وَحكم اللَّهِ يخْتَلف لتَعَدد الْمُجْتَهد والمقلد والزمن، فَلَا اتِّحَاد فَلَا تنَاقض، وَبِأَن أحد الْمُجْتَهدين لَا بِعَيْنِه مُصِيب فَلَا يلْزم تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح.
قَالُوا: مُقْتَضى الْقيَاس إِن وَافق الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة فمستغنى عَنهُ، وَإِلَّا لم يرفع الْيَقِين بِالظَّنِّ.
رد: بِالظَّاهِرِ.
قَالُوا: حكم اللَّهِ يسْتَلْزم خبر اللَّهِ عَنهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَسّر بخطابه، ويستحيل خَبره بِلَا تَوْقِيف.
رد: الْقيَاس تَوْقِيف؛ لثُبُوته بِنَصّ أَو إِجْمَاع.(7/3471)
قَالُوا: إِن تعَارض عِلَّتَانِ، فَالْعَمَل بِأَحَدِهِمَا تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَبِهِمَا تنَاقض.
رد: بِالظَّاهِرِ، ثمَّ لَا تنَاقض إِن تعدد الْمُجْتَهد، وَإِلَّا رجح، فَإِن تعذر وقف.
وَذكر الْآمِدِيّ: أَنه عرف من مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد يعْمل بِمَا شَاءَ.
وَكَذَا خَيره ابْن عقيل كالكفارة قَالَ: وَهَذَا لَا يَجِيء على تصويب كل مُجْتَهد، وَنحن وكل من لم يصوبه على أَنه لَا بُد من تَرْجِيح فعدمه لتَقْصِيره.(7/3472)
قَالُوا: كأصول الدّين.
رد: لَا جَامع، ثمَّ / فِيهَا أَدِلَّة تَقْتَضِي الْعلم ذكره فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَفِي " الْوَاضِح ": لَيْسَ فِي أصل صفة جعلت أَمارَة لإِثْبَات أصل آخر، وَلَو قُلْنَا بِهِ فمنعنا لعدم الطَّرِيق، كَمَا لَو عدمت فِي الْفُرُوع لَا لكَونه أصلا.(7/3473)
وَقَالَ الطوفي: فِي كل مِنْهُمَا قِيَاس بِحَسب مَطْلُوبَة قطعا، فِي الأول وظنا فِي الثَّانِي، ثمَّ هَذَا قِيَاس مِنْكُم، فَإِن صَحَّ صَحَّ قَوْلنَا.
وَقيل: يجْرِي فِي العقليات عِنْد أَكثر الْمُتَكَلِّمين.
قَالُوا: بَيَان بالأدون.
رد: بِالظَّاهِرِ، ثمَّ قد يكون مصلحَة.
قَالُوا: مَبْنِيّ على الْمصَالح وَلَا يعلمهَا إِلَّا اللَّهِ.
رد: تعرف بِهِ.(7/3474)
الْقَائِل " يجب ": النَّص متناه وَالْأَحْكَام لَا تتناهى، فَيجب؛ لِئَلَّا يَخْلُو بَعْضهَا عَن حكم، وَهُوَ خلاف الْقَصْد من بعثة الرُّسُل.
رد: إِنَّمَا كلف النَّبِي بِمَا يُمكنهُ تبليغه خطابا، وَأَيْضًا الْعُمُوم يستوعبها نَحْو: كل مُسكر حرَام.
أجَاب فِي " الرَّوْضَة ": إِن تصور فَلَيْسَ بواقع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " كَذَا قَالَ، وَذكر بعض أَصْحَابنَا اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ، فَقيل: لَا يُمكن، وَقيل: بلَى، فَقيل: وَقع.
قَالَ: وَهُوَ الصَّوَاب.
وَقيل: لَا، فَقيل النَّص يَفِي بِالتَّعْلِيلِ، وَقيل: بالكثير أَو أَكثر " انْتهى.
قَوْله: (فعلى الْجَوَاز وَقع شرعا عندنَا وَعند الْمُعظم، وَمنعه دَاوُد وَبَعض أَصْحَابنَا وَجمع، وَعَن أَحْمد مثله، فأثبتها أَبُو الْخطاب، وَحملهَا القَاضِي وَابْن عقيل على قِيَاس خَالف نصا، وَابْن رَجَب على من لم يبْحَث عَن الدَّلِيل، أَو لم يحصل شُرُوطه، فَعَلَيهِ قيل: منع الشَّرْع مِنْهُ، وَقيل: لم يَأْتِ دَلِيل بِجَوَازِهِ، وعَلى الأول وُقُوعه بِدَلِيل السّمع لَا الْعقل، عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر قَطْعِيّ لَا ظَنِّي فِي الْأَصَح) .(7/3475)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " الْقَائِل بِجَوَازِهِ عقلا قَالَ: وَقع شرعا. إِلَّا دَاوُد، وَابْنه، [و] القاشاني، والنهرواني، فَإِن عِنْدهم(7/3476)
منع الشَّرْع مِنْهُ.
وَقيل: بل بِلَا دَلِيل فِيهِ بِجَوَازِهِ. وَأكْثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم وَقع التَّعَبُّد بِهِ سمعا.
وَقيل: وعقلا.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: " والقائلون بحجيته اخْتلفُوا هَل ذَلِك بِالشَّرْعِ / أَو بِالْعقلِ؟
قَالَ الْأَكْثَر بِالْأولِ.(7/3477)
وَقَالَ الْقفال وَأَبُو الْحُسَيْن بِالثَّانِي، وَأَن الْأَدِلَّة السمعية وَردت مُؤَكدَة، وَلَو لم ترد لَكَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا.
وَقَالَ [الدقاق] : يجب الْعَمَل بِهِ فِي الشَّرْع وَالْعقل حَكَاهُ فِي " اللمع ". ".
وَفِي كَلَام القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل: أَنه قَطْعِيّ،(7/3478)
وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَفِي كَلَامهم أَيْضا: أَنه ظَنِّي.
وَذكر الْآمِدِيّ: الْقطع عَن الْجَمِيع، وَعند أبي الْحُسَيْن ظَنِّي.
قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَار.(7/3479)
وَذكر ابْن حَامِد عَن بعض أَصْحَابنَا: لَيْسَ بِحجَّة لقَوْل أَحْمد فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " يجْتَنب الْمُتَكَلّم هذَيْن الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمل وَالْقِيَاس ".
وَحمله القَاضِي، وَابْن عقيل على قِيَاس عَارضه سنة.
قَالَ أَبُو الْخطاب: وَالظَّاهِر خِلَافه.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": قَالَ أَحْمد للميموني: " خصلتان يَنْبَغِي أَن يتهيب الْكَلَام: الْمُجْمل وَالْقِيَاس، فَمن تكلم فِي الْفِقْه يجتنبهما فَإِنِّي أراهما يحْملَانِ الرجل على مَا يرغب لَهُ عَنهُ " انْتهى.
قَالَ ابْن رَجَب: فَتَنَازَعَ أَصْحَابنَا فِي مَعْنَاهُ:
فَقَالَ بعض الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين كَأبي الْخطاب وَغَيره: هَذَا يدل على الْمَنْع فِي اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأكْثر الْأَصْحَاب لم يثبتوا عَن أَحْمد فِي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ خلافًا كَابْن أبي مُوسَى، وَالْقَاضِي، وَابْن عقيل وَغَيرهم.(7/3480)
قَالَ ابْن رَجَب: وَهُوَ الصَّوَاب.
ثمَّ مِنْهُم من قَالَ أَمر باجتناب الْقيَاس، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقيَاس الْمُخَالف للنَّص.
وَهَذَا ضَعِيف وَلأَجل ضعفه حمل أَبُو الْخطاب الرِّوَايَة على [نفي] الْقيَاس جملَة.
قَالَ ابْن رَجَب: وَالصَّوَاب أَنه أَرَادَ اجْتِنَاب الْعَمَل بِالْقِيَاسِ قبل الْبَحْث عَن السّنَن والْآثَار، وَعَن الْقيَاس قبل إحكام النّظر فِي استجماع شُرُوط صِحَّته، كَمَا يَفْعَله كثير من الْفُقَهَاء، وَيدل على هَذَا وُجُوه، وَذكرهَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَالْمرَاد من الْإِنْكَار الْقيَاس الْبَاطِل بِأَن صدر عَن غير مُجْتَهد، أَو فِي / مُقَابلَة نَص، أَو فِيمَا اعْتبر فِيهِ الْعلم، أَو أَصله فَاسد، أَو على من غلب وَلم يعرف الْأَخْبَار، أَو احْتج بِهِ قبل طلب نَص لَا يعرفهُ مَعَ رجائه لَو طلب.
فَإِنَّهُ لَا يجوز عندأحمد وَالشَّافِعِيّ وفقهاء الحَدِيث، وَلِهَذَا جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَة التَّيَمُّم قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَطَرِيقَة الْحَنَفِيَّة تَقْتَضِي جَوَازه بِدَلِيل مَا سبق جمعا وتوفيقا " انْتهى.(7/3481)
وَقد احْتج القَاضِي وَغَيره على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ بقول أَحْمد: " لَا يَسْتَغْنِي أحد عَن الْقيَاس "، وَقَوله " وَمَا تصنع بِهِ، وَفِي الْأَثر مَا يُغْنِيك عَنهُ ".
وَقَوله فِي رِوَايَة الْمَيْمُونِيّ: " سَأَلت الشَّافِعِي عَنهُ فَقَالَ: ضَرُورَة وَأَعْجَبهُ ذَلِك ".
اسْتدلَّ للْأولِ وَهُوَ الصَّحِيح بقوله تَعَالَى؛ {فأعتبروا يَا أولى الْأَبْصَار} [الْحَشْر: 2] ، وَالِاعْتِبَار اختبار شَيْء بِغَيْرِهِ وانتقال من شَيْء إِلَى غَيره، وَالنَّظَر فِي شَيْء ليعرف بِهِ آخر من جنسه.
فَإِن قيل: هُوَ الاتعاظ لسياق الْآيَة.
رد: مُطلق.
فَإِن قيل: الدَّال على الْكُلِّي لَا يدل على الجزئي.
رد: بلَى.
ثمَّ مُرَاد الشَّارِع الْقيَاس الشَّرْعِيّ؛ لِأَن خطابه غَالِبا بِالْأَمر الشَّرْعِيّ.
وَفِي كَلَام أَصْحَابنَا وَغَيرهم: عَام لجَوَاز الِاسْتِثْنَاء ثمَّ مُتَحَقق فِيهِ؛ لِأَن المتعظ بِغَيْرِهِ منتقل من الْعلم بِغَيْرِهِ إِلَى نَفسه فَالْمُرَاد قدر مُشْتَرك.(7/3482)
وَمنعه الْآمِدِيّ بِمَعْنى الاتعاظ، كَقَوْلِهِم: اعْتبر فلَان فاتعظ، وَالشَّيْء لَا يَتَرَتَّب على نَفسه.
وَجَوَابه: منع صِحَّته.
فَإِن قيل: لَو كَانَ بِمَعْنى الْقيَاس لما حسن ترتيبه فِي الْآيَة.
رد: بِالْمَنْعِ مَعَ تحقق الِانْتِقَال فِي الاتعاظ. وَسبق فِي الْأَمر ظُهُور صِيغَة " افْعَل " فِي الطّلب. وَأَيْضًا سبق خبر الخثعمية وَغَيره فِي مسالك الْعلَّة. وَسبق خبر معَاذ فِي الْإِجْمَاع.
وروى سعيد بِإِسْنَاد جيد معنى حَدِيث معَاذ عَن ابْن مَسْعُود قَوْله، وَعَن الشّعبِيّ عَن عمر قَوْله، وَولد لست سِنِين خلت من(7/3483)
خِلَافَته.
قَالَ أَحْمد الْعجلِيّ: مرسله صَحِيح، وبإسناد جيد مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس فعله، وللنسائي قَول ابْن مَسْعُود.(7/3484)
وَله عَن شُرَيْح عَن عمر / " بعد مَا قضى بِهِ الصالحون فَإِن شِئْت تقدم والتأخر خير لَك ".
وَعَن أم سَلمَة مَرْفُوعا: " إِنَّمَا أَقْْضِي لكم برأيي فِيمَا لم ينزل عَليّ فِيهِ ".(7/3485)
حَدِيث حسن، رَوَاهُ أَبُو عبيد، وَأَبُو دَاوُد، وَكَذَا المعمري، وَالطَّبَرَانِيّ،(7/3486)
وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيرهم، وَزَادُوا فِي [آخِره] " الْوَحْي ".
وَاحْتج القَاضِي وَأَبُو الْخطاب وَغَيرهمَا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا اجْتهد(7/3487)
الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر " رَوَاهُ مُسلم.
فَقيل [لَهُم] : يحْتَمل أَن اجْتِهَاده فِي تَأْوِيل أَو بِنَاء لفظ على لفظ.
فَقَالُوا: عَام.
وَفِي " الرَّوْضَة ": " يتَّجه عَلَيْهِ أَن يجْتَهد فِي تَحْقِيق المناط لَا تَخْرِيجه ".
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بِإِجْمَاع الصَّحَابَة.(7/3488)
قَالَ بعض أَصْحَابنَا والآمدي وَغَيرهم: هُوَ أقوى الْحجَج.
فَمِنْهُ اخْتلَافهمْ الْكثير الشَّائِع المتباين فِي مِيرَاث الْجد مَعَ الْإِخْوَة، وَفِي الأكدرية، والخرقاء، وَلَا نَص عِنْدهم.(7/3489)
وَلِهَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَن عمر قَالَ فِي الْخطْبَة على الْمِنْبَر " ثَلَاث " وددت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عهد إِلَيْنَا فِيهِنَّ عهدا ننتهي إِلَيْهِ: الْجد، والكلالة، وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا ".
وَصَحَّ عَن [ابْن] عمر: " أجرؤكم على الْجد أجرؤكم على جَهَنَّم "، وَصَحَّ عَن ابْن الْمسيب، عَن عمر وَعلي، وَرَوَاهُ سعيد فِي " سنَنه "(7/3490)
بِإِسْنَاد جيد عَن الْمسيب مَرْفُوعا.
وَضرب زيد لعمر مثلا " بشجرة انشعب من أَصْلهَا غُصْن، ثمَّ انشعب من الْغُصْن خوطان، فالغصن يجمع الخوطين دون الأَصْل، وَأحد الخوطين أقرب إِلَى أَخِيه مِنْهُ إِلَى الأَصْل ".(7/3491)
وَضرب عَليّ وَابْن عَبَّاس لعمر مثلا مَعْنَاهُ: أَن سيلا سَالَ فخلج مِنْهُ خليج، ثمَّ خلج من ذَلِك الخليج شعْبَان.
وَصَحَّ عَن عمر قَوْله لعُثْمَان: " رَأَيْت فِي الْجد رَأيا فَإِن رَأَيْتُمْ فَاتَّبعُوهُ، فَقلت: إِن نتبع رَأْيك فَهُوَ رشد، وَإِن نتبع رَأْي الشَّيْخ قبلك فَنعم ذُو الرَّأْي كَانَ ".(7/3492)
وَسُئِلَ عُبَيْدَة عَن مَسْأَلَة فِيهَا جد فَقَالَ: " حفظت / عَن عمر فِيهِ مائَة قصَّة مُخْتَلفَة ".
قَالَ ابْن حزم: لَا إِسْنَاد أصح مِنْهُ.
وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس وَاحْتج بِهِ ابْن حزم - أَنه قَالَ لزيد عَن قَوْله فِي العمريتين: " أتقوله بِرَأْيِك، أم تَجدهُ فِي كتاب اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: برأيي(7/3493)
لَا افضل أما على أَب ".
وَمِنْه اخْتلَافهمْ فِي قَوْله لزوجته: " أَنْت عَليّ حرَام ".(7/3494)
(صفحة فارغة)(7/3495)
وَكتب عمر إِلَى أبي مُوسَى: " مَا لم يبلغك فِي الْكتاب وَالسّنة، اعرف الْأَمْثَال [والأشباه] ، ثمَّ قس الْأُمُور عِنْد ذَلِك فاعمد إِلَى أحبها إِلَى اللَّهِ(7/3496)
وأشبهها بِالْحَقِّ " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، والخلال.(7/3497)
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أَحْمد بن الْحسن قَالَ عمر بن الْخطاب: " اعرف الْأَمْثَال [والأشباه] وقايس الْأُمُور ".
وَقَالَ أَحْمد أَيْضا فِي رِوَايَة بكر: " على الإِمَام وَالْحَاكِم يرد عَلَيْهِ الْأَمر أَن يقيس وَيُشبه، كَمَا كتب عمر إِلَى شُرَيْح: أَن قس الْأُمُور وَكَذَا وَكَذَا، فَأَما رجل لم يُقَلّد إِلَيْهِ هَذَا فأرجو أَن لَا يلْزمه ".(7/3498)
وَسُئِلَ فِي رِوَايَة يُوسُف بن مُوسَى عَن الْقيَاس فَقَالَ: " ذهب قوم إِلَيْهِ؛ لِأَن عمر قَالَ: يشبه بالشَّيْء
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا.
قيل: فَقَالَ فَمَا تَقول؟
قَالَ: أعفني.
قيل: من فعله يعنف.
قَالَ: إِذا وضع الْكتب وَأكْثر ". وَمرَاده مَا سبق أَنه ضَرُورَة. وَصَحَّ عَن عُثْمَان " الْقَضَاء بتوريث المبتوتة فِي مرض الْمَوْت " رَوَاهُ(7/3499)
مَالك، وَالشَّافِعِيّ،(7/3500)
وَأحمد، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن عمر.(7/3501)
وَلما حصر عُثْمَان طلق أم الْبَنِينَ، فَورثَهَا عَليّ وَقَالَ: " تَركهَا حَتَّى أشرف على الْمَوْت طَلقهَا ".
وَسبق قَول عَليّ: " إِذا سكر هذى، وَإِذا هذى افترى ". وَلم يُنكر شَيْء مِمَّا سبق.
فَإِن قيل: آحَاد وَالْمَسْأَلَة قَطْعِيَّة. ثمَّ لَعَلَّ عَمَلهم بِغَيْر الْقيَاس. ثمَّ من عمل بعض الصَّحَابَة.(7/3502)
ثمَّ لَا نسلم عدم الْإِنْكَار فَلَعَلَّهُ لم ينْقل.
ثمَّ قد نقل فَعَن الصّديق: " أَي أَرض تُقِلني؟ أَو أَي سَمَاء تُظِلنِي؟ أَو أَيْن أذهب؟ أَو كَيفَ أصنع؟ أَن قلت فِي آيَة من كتاب اللَّهِ برأيي أَو بِمَا لَا أعلم ".
قَالَ ابْن حزم ثَبت عَنهُ.
وَفِي " الصَّحِيح " عَن الْفَارُوق /: " اتهموا الرَّأْي على الدّين ".(7/3503)
وَكَذَا عَن سهل بن حنيف.(7/3504)
وَعَن عَليّ " لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَل الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من أَعْلَاهُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَغَيره.
عَن عمر: " إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنَن أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فضلوا وأضلوا " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ،(7/3505)
وَابْن عبد الْبر.
وَعَن [ابْن] مَسْعُود: " يَجِيء قوم يقيسون الْأُمُور بآرائهم "، رَوَاهُ الدَّارمِيّ، والخلال.(7/3506)
وَرَوَوْهُ أَيْضا بِإِسْنَاد جيد عَن ابْن سِيرِين: " أول من قَاس إِبْلِيس، وَمَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس ".
وَرَوَوْهُ عَن الشّعبِيّ: " إيَّاكُمْ والمقايسه ".
قَالَ ابْن حزم: القَوْل بِالْقِيَاسِ أَو بِالرَّأْيِ لَا يحل فِي الدّين.
أبطلناه بِالنَّصِّ وَالْعقل، وَأجْمع الصَّحَابَة على إِبْطَاله؛ لأَنهم يصدقون بِالْكتاب وَفِيه: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} [الْمَائِدَة: 3] ، {فَإِن تنازعتم فِي شىء} الْآيَة.(7/3507)
وكل رَأْي جَاءَ عَنْهُم فَلَيْسَ أَنه إِلْزَام أَو حق لكنه إِشَارَة بِعَفْو أَو صلح أَو تورع.
ثمَّ احْتج بِخَبَر عَوْف بن مَالك: " تفترق أمتِي على بضع وَسبعين فرقة، أعظمها فتْنَة على أمتِي قوم يقيسون الْأُمُور برأيهم، فيحللون الْحَرَام ويحرمون الْحَلَال ".(7/3508)
لَكِن الحَدِيث مُنكر رده الْحفاظ.
سلمنَا عدم الْإِنْكَار لكنه لَا يدل على الْمُوَافقَة لاحْتِمَال خوف أَو غَيره.
ثمَّ لَا حجَّة فِي إِجْمَاعهم.
ثمَّ هِيَ أقيسة مَخْصُوصَة.
ثمَّ يجوز لَهُم خَاصَّة.
رد الأول: يتواتراها معنى، كشجاعة عَليّ وسخاء حَاتِم، ثمَّ هِيَ ظنية.(7/3509)
وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ دلّ السِّيَاق والقرائن أَن الْعَمَل بِهِ، وَلَو كَانَ بِغَيْرِهِ لظهر واشتهر وَنقل، ولأصحابنا الجوابان.
وَسبق الثَّالِث وَالرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس فِي الْإِجْمَاع.
وَالْمرَاد من الْإِنْكَار مَا تقدم قَرِيبا من مُرَاد الإِمَام أَحْمد وَحمل كَلَامه عَلَيْهِ. وَدَعوى ابْن حزم بَاطِلَة.
وَجَوَاب مَا احْتج بِهِ من الْكتاب مَا سبق، وَمن الْبَاطِل حجَّته بقوله: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} [النَّحْل: 74] ، ثمَّ الْقيَاس مَأْمُور بِهِ شرعا.(7/3510)
وَكَذَا جَوَاب من احْتج بقوله تَعَالَى: {لَا تقدمُوا بَين يَدي اللَّهِ / وَرَسُوله} [الحجرات: 1] ، {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل اللَّهِ} [الْمَائِدَة: 49] ، {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} [الْأَنْعَام: 38] .
وَقيل: الْكتاب اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
قَوْلهم: أقيسة مَخْصُوصَة.
رد: بِمَا سبق، ثمَّ عمِلُوا لظهورها كالأدلة الظَّاهِرَة لَا لخصوصها.
وَقَوْلهمْ: يجوز لَهُم خَاصَّة.
رد: بِمَا سبق، ثمَّ لَا قَائِل بالتفرقة.(7/3511)
وَأَيْضًا: ظن تَعْلِيل حكم الأَصْل بعلة تُوجد فِي الْفَرْع يُوجب التَّسْوِيَة، والنقيضان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان، وَالْعَمَل بالمرجوح مَمْنُوع، فالراجح مُتَعَيّن.
قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّق والمنازعة الْمنْهِي عَنْهُمَا.
رد: بِالْمَنْعِ، ثمَّ بِخَبَر الْوَاحِد والعموم، وَالله أعلم.
قَوْله: (وَهُوَ حجَّة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة اتِّفَاقًا) .
قَالَ فِي " الْمَحْصُول " مَا مَعْنَاهُ: إِذا كَانَ تَعْلِيل الأَصْل قَطْعِيا وَوُجُود الْعلَّة فِي الأَصْل قَطْعِيا كَانَ الْقيَاس قَطْعِيا مُتَّفقا عَلَيْهِ، وَأَن الْقيَاس الظني حجَّة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة اتِّفَاقًا كمداواة الْأَمْرَاض، والأغذية، والأسفار والمتاجر وَغير ذَلِك.
إِنَّمَا النزاع فِي كَونه حجَّة فِي الشرعيات ومستندات الْمُجْتَهدين.
وَتَابعه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيرهمَا.
قَوْله: (وَفِي غَيرهَا أَيْضا عِنْد أَكثر الْقَائِل بِهِ - أَن الْقيَاس حجَّة فِي غير الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كالشرعيات -، وَمنع الباقلاني فِي قِيَاس الْعَكْس، وَابْن عَبْدَانِ مَا لم يضْطَر إِلَيْهِ، وَقوم فِي أصُول الْعِبَادَات، وَجمع: الجزئي الحاجي إِذا(7/3512)
لم يرد نَص على وَفقه، وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: فِي حد، وَكَفَّارَة، وَبدل، وَرخّص، ومقدر، مَعَ تقديرهم الْجُمُعَة بأَرْبعَة، وخرق الْخُف بِثَلَاثَة أَصَابِع قِيَاسا، وَجمع: سَبَب وَشرط ومانع، وَفِي " الْمُغنِي ": لَا يجْرِي فِي المظان وَإِنَّمَا يتَعَدَّى الحكم بتعدي سَببه، وَطَائِفَة فِي العقليات، وَقَالَ الطوفي فِيهِ قِيَاس قَطْعِيّ بِحَسب مَطْلُوبه، وَقوم: فِي الْعَادَات والحقائق) .
أَي الْقيَاس حجَّة فِي غير الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كالشرعيات وَغَيرهَا، وَهَذَا عَلَيْهِ الْعلمَاء من الْقَائِلين بِالْقِيَاسِ للأدلة الْمُتَقَدّمَة.
وَلَكِن اسْتثْنى طوائف من الْعلمَاء مسَائِل من ذَلِك وَمنع الْقيَاس فِيهِ، فَمنع القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني وَغَيره كَونه حجَّة فِي قِيَاس الْعَكْس.
قَالَ ابْن مُفْلِح /: " فَإِن قيل: مَا حكم قِيَاس الْعَكْس؟
قيل: حجَّة، ذكره القَاضِي وَغَيره من أَصْحَابنَا والمالكية، وَهُوَ(7/3513)
الْمَشْهُور عَن الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، كالدلالة لطهارة دم السّمك بِأَكْلِهِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ نجسا لما أكل بِهِ، كالحيوانات النَّجِسَة دَمهَا، وَنَحْو: لَو سنت السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ لسن الْجَهْر كالأوليين.
وَفِي مُسلم من حَدِيث أبي ذَر: " وَفِي بعض أحدكُم صَدَقَة، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيكون لَهُ فِيهَا أجر؟ قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أَكَانَ عَلَيْهِ وزر؟ فَكَذَلِك إِذا وَضعهَا فِي الْحَلَال كَانَ لَهُ أجر ".
وَمنع مِنْهُ قوم مِنْهُم الباقلاني، وَسبق بَيَانه فِي أول الْقيَاس وَحده " انْتهى.
وَقد حررنا هَذَا هُنَاكَ فَليُرَاجع.
وَمنع ابْن عَبْدَانِ من الشَّافِعِيَّة من الْقيَاس إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة، بِأَن تحدث حَادِثَة تَقْتَضِي الضَّرُورَة معرفَة حكمهَا لَيْسَ فِيهَا نَص، فيقيس إِذا للْحَاجة إِلَيْهِ، بِخِلَاف مَا لم تقع فَلَا يجوز الْقيَاس فِيهِ لانْتِفَاء فَائِدَته.
قُلْنَا: فَائِدَته الْعَمَل بِهِ فِيمَا إِذا وَقعت تِلْكَ الْمَسْأَلَة.(7/3514)
حَكَاهُ عَنهُ ابْن الصّلاح فِي " طبقاته " وَقَالَ: يَأْبَى هَذَا وضع الْأَئِمَّة الْكتب الطافحة بالمسائل القياسية من غير تَقْيِيد بحادثة.
وَمنع قوم الْقيَاس فِي إِثْبَات أصُول الْعِبَادَات، فنفوا جَوَاز الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ المقيسة على صَلَاة الْقَاعِد بِجَامِع الْعَجز.
قَالُوا: لِأَن الدَّوَاعِي تتوفر على فعل أصُول الْعِبَادَات وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَعدم نقل الصَّلَاة بِالْإِيمَاءِ الَّتِي هِيَ من ذَلِك يدل على عدم جَوَازهَا، فَلَا يثبت جَوَازهَا بِالْقِيَاسِ وَدفع ذَلِك بِمَنْعه ظَاهر.
وَمنع جمع: الجزئي الحاجي، أَي: الَّذِي تَدْعُو الْحَاجة إِلَى مُقْتَضَاهُ إِذا لم يرد نَص على وَفقه فِي مُقْتَضَاهُ، كضمان الدَّرك وَهُوَ ضَمَان الثّمن للْمُشْتَرِي إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا.
الْقيَاس يَقْتَضِي مَنعه؛ لِأَنَّهُ ضَمَان مَا لم يجب / وَعَلِيهِ ابْن [سُرَيج] .
وَالأَصَح صِحَّته لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ لمعاملة الغرباء وَغَيرهم، لَكِن بعد قبض الثّمن الَّذِي هُوَ سَبَب الْوُجُوب حَيْثُ يخرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا.(7/3515)
والمثال غير مُطَابق، فَإِن الْحَاجة إِلَيْهِ دَاعِيَة إِلَيْهِ أَو إِلَى خِلَافه، فَإِن الْمَسْأَلَة مَأْخُوذَة من ابْن الْوَكِيل، وَقد قَالَ: قَاعِدَة الْقيَاس الجزئي إِذا لم يرد من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان على وَفقه مَعَ عُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ فِي زَمَانه وَعُمُوم الْحَاجة إِلَى خِلَافه، هَل يعْمل بذلك الْقيَاس؟ فِيهِ خلاف وَذكر لَهُ صورا:
مِنْهَا: ضَمَان الدَّرك وَهُوَ مِثَال للشق الثَّانِي من الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا وَهُوَ مِثَال الأول: صَلَاة الْإِنْسَان على من مَاتَ من الْمُسلمين فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا، وغسلوا وكفنوا فِي ذَلِك الْيَوْم.
الْقيَاس يَقْتَضِي جَوَازهَا وَعَلِيهِ الرَّوْيَانِيّ، لِأَنَّهَا صَلَاة على غَائِب وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك لنفع الْمُصَلِّي والمصلى عَلَيْهِم، وَلم يرد من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَان ذَلِك.
وَوجه منع الْقيَاس فِي الشق الأول الِاسْتِغْنَاء عَنهُ بِعُمُوم الْحَاجة، وَفِي الثَّانِي بمعارضة عُمُوم الْحَاجة لَهُ.
والمجيز فِي الأول قَالَ: لَا مَانع من ضم دَلِيل إِلَى آخر، وَفِي الثَّانِي قدم الْقيَاس على عُمُوم الْحَاجة.
" وَمنعه أَبُو حنفية وَأَصْحَابه فِي حد وَكَفَّارَة وَبدل وَرخّص ومقدر.
قيل: لِأَنَّهَا لَا يدْرك الْمَعْنى فِيهَا.(7/3516)
وَأجِيب: أَنه يدْرك فِي بَعْضهَا فَيجْرِي فِيهِ الْقيَاس كقياس النباش على السَّارِق فِي وجوب الْقطع، بِجَامِع أَخذ مَال الْغَيْر من حرز خُفْيَة.
وَقِيَاس الْقَاتِل عمدا على الْقَاتِل خطا فِي وجوب الْكَفَّارَة بِجَامِع الْقَتْل بِغَيْر حق.
وَقِيَاس غير الْحجر عَلَيْهِ فِي جَوَاز الِاسْتِجْمَار بِهِ الَّذِي هُوَ رخصَة بِجَامِع الجامد الطَّاهِر المنقي.
وَأخرج أَبُو حنيفَة ذَلِك عَن الْقيَاس لكَونه فِي معنى الْحجر، وَسَماهُ دلَالَة النَّص وَهُوَ لَا يخرج بذلك عَنهُ.
وَقِيَاس نَفَقَة الزَّوْجَة على الْكَفَّارَة / فِي تقديرها على الْمُوسر بمدين كَمَا فِي فديَة الْحَج، والمعسر بِمد كَمَا فِي كَفَّارَة الوقاع، بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا مَال يجب بِالشَّرْعِ ويستقر فِي الذِّمَّة، وأصل التَّفَاوُت من قَوْله تَعَالَى: {لينفق ذُو سَعَة من سعته ... ... ... ... ... ... ... ... الْآيَة} " قَالَه الْمحلي.
قَالَ ابْن مُفْلِح: والرخص كقياس الْعِنَب على الرطب فِي الْعَرَايَا، إِن لم يكن ورد فِيهِ نَص.
والتقديرات: كأعداد الرَّكْعَات، مَعَ تقديرهم الْجُمُعَة بأَرْبعَة،(7/3517)
وخرق الْخُف بِثَلَاث أَصَابِع قِيَاسا.
وَمَا ذكر من جَرَيَان الْقيَاس فِي الرُّخص هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي حَكَاهُ الرَّازِيّ وَغَيره، وَنَصّ أَيْضا على أَنه لَا يجْرِي [فِيهَا] فَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ.
وَأما مَذْهَبنَا: فَالَّذِي قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَقَالَ: إِنَّه الْمَشْهُور جَوَاز قِيَاس الْعِنَب على الرطب فِي الْعَرَايَا.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر فِي الْفِقْه عدم الْجَوَاز.(7/3518)
قَالَ ابْن مُفْلِح: يجْرِي الْقيَاس فِي الْكَفَّارَات وَالْحُدُود والأبدال والمقدرات عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة وَالْأَكْثَر، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد، خلافًا للحنفية.
لنا: عُمُوم دَلِيل كَون الْقيَاس حجَّة، وَقَوله: " إِذا سكر هذى "، وكبقية الْأَحْكَام.
قَالُوا: فهم الْمَعْنى شَرط.
رد: الْفَرْض فهمه كَالْقَتْلِ بالمثقل وَقطع النباش.
قَالُوا: فِيهِ شُبْهَة وَالْحَد يدْرَأ بهَا.(7/3519)
رد: بِخَبَر الْوَاحِد وَالشَّهَادَة.
وَمنعه جمع فِي سَبَب وَشرط ومانع، كجعل الزِّنَا سَببا لإِيجَاب الْحَد، فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ اللواط.
قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": وَهُوَ الْمَشْهُور فِي الْأَسْبَاب.
وَصَححهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجزم بِهِ الْبَيْضَاوِيّ، وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْحَنَفِيَّة.
لَكِن نقل الْآمِدِيّ عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة جَرَيَانه فِيهَا، وَمَشى عَلَيْهِ فِي " جمع الْجَوَامِع ".(7/3520)
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي الْكَلَام على اخْتِلَاف الضَّابِط: وَفِي " شرح المقترح " لأبي الْعِزّ: " أَن الْمُعْتَبر فِي الْقيَاس الْقطع بالجامع أَو ظن وجود الْجَامِع كَاف، وبنبني على ذَلِك الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب، فَمن اعْتبر / الْقطع منع الْقيَاس فِيهَا، وَلَا يتَصَوَّر عَادَة الْقطع بتساوي المصلحتين، فَلَا يتَحَقَّق جَامع بَين الوصفين بِاعْتِبَار يثبت حكم السَّبَبِيَّة بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا، وَمن اكْتفى بِالظَّنِّ [صحّح] ذَلِك؛ إِذْ يجوز تَسَاوِي المصلحتين فَيتَحَقَّق الْجَامِع وَلَا يمْتَنع الْقيَاس ". انْتهى. وَتقدم هَذَا هُنَاكَ.
وَيجْرِي الْخلاف فِي الشُّرُوط كَمَا ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَصرح بِهِ الكيا الهراسي فِي الشُّرُوط والموانع.
وَفِي " الِانْتِصَار " لأبي الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْمُوَالَاة: شُرُوط الصَّلَاة لَا مدْخل للْقِيَاس فِيهَا لعدم [فهم] [مَعْنَاهَا] ، ثمَّ سلم.(7/3521)
قَالَ المانعون: لِأَن الْقيَاس فِيهَا يُخرجهَا عَن أَن تكون كَذَلِك؛ إِذْ يكون الْمَعْنى الْمُشْتَرك بَينهَا وَبَين الْمَقِيس عَلَيْهَا هُوَ السَّبَب وَالشّرط وَالْمَانِع، لَا خُصُوص الْمَقِيس عَلَيْهِ أَو الْمَقِيس.
وَأجِيب: بِأَن الْقيَاس لَا يُخرجهَا عَمَّا ذكر، وَالْمعْنَى الْمُشْتَرك فِيهِ كَمَا هُوَ عِلّة لَهَا يكون عِلّة لما يَتَرَتَّب عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " فِي مَسْأَلَة اللوث: لَا يجوز الْقيَاس فِي المظان؛ لِأَنَّهُ جمع لمُجَرّد الْحِكْمَة وَإِنَّمَا يتَعَدَّى حكم بتعدي سَببه.(7/3522)
قَالَ ابْن مُفْلِح: (الْقَائِل بالجريان: إِطْلَاق الصَّحَابَة، وَقَول عَليّ: " إِذا سكر افترى " ولإفادته للظن وَأَيْضًا: لصِحَّته التَّعْلِيل بالحكمة أَو ضابطها.
رد ذَلِك: مُسْتَقل بِثُبُوت الحكم، وَالْوَصْف الَّذِي جعل سَببا للْحكم مستغني عَنهُ.
وَقد يُجَاب: بِأَنَّهُ لَا يمْنَع الْجَوَاز.
الْقَائِل بِالْمَنْعِ: ثَبت الْقَتْل بالمثقل سَببا كالمحدد، واللواط سَببا كَالزِّنَا، وَنَحْو ذَلِك.
رد: السَّبَب وَاحِد وَهُوَ الْقَتْل الْعمد الْعدوان،، وإيلاج فرج فِي فرج) .
وَمنعه طَائِفَة فِي العقليات.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي بحث جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ فِي الشرعيات: قَالَ الْمَانِع لَا يجوز الْقيَاس كالأصول.
رد: لَا جَامع ثمَّ فِيهَا أَدِلَّة تَقْتَضِي الْعلم.
ذكره فِي التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لَيْسَ فِي أصل صفة جعلت أَمارَة لإِثْبَات أصل آخر، وَلَو قُلْنَا / بِهِ فمنعنا لعدم الطَّرِيق، كَمَا لَو عدمت فِي الْفُرُوع لَا لكَونه أصلا.(7/3523)
وَقَالَ الطوفي: فِي كل مِنْهُمَا قِيَاس بِحَسب مَطْلُوبه قطعا فِي الأول، وظنا فِي الثَّانِي.
وَقَالَ: أَكثر الْمُتَكَلِّمين يجْرِي فِي العقليات، كَمَا تَقول فِي الرُّؤْيَة للبارىء: لِأَنَّهُ مَوْجُود، وكل مَوْجُود مرئي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَمنعه قوم من الحشوية وغلاة الظَّاهِرِيَّة فِي العقليات، وَالأَصَح الْجَوَاز، وَمثل بِمَا ذكرنَا.
ثمَّ قَالَ: وَوَافَقَهُمْ على الْمَنْع ابْن برهَان فِي الْوَجِيز ".
وَمنعه قوم فِي الْعَادَات والحقائق.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَابْن مُفْلِح تبعا للمسودة: " قَالَ قوم: الْقيَاس إِنَّمَا يجوز وَيثبت فِي الْأَحْكَام دون الْحَقَائِق، ذكرُوا ذَلِك فِي قَوْلهم فِي إِثْبَات حَيَاة الشّعْر أَنه جُزْء من الْحَيَوَان مُتَّصِل بِهِ اتِّصَال خلقَة، فَلم يُفَارق الْحَيَوَان فِي النَّجَاسَة بِالْمَوْتِ كالأعضاء.
قَالُوا: وَالدَّلِيل على أَنه تحله الْحَيَاة أَنه نمى بِالْحَيَاةِ وَيَنْقَطِع نماؤه بِالْمَوْتِ، وَهَذَا من بَاب الِاسْتِدْلَال على الْحَيَاة بخصائصها لَا من بَاب إِثْبَات الْحَيَاة بِالْقِيَاسِ؛ لِأَن الْقيَاس إِنَّمَا يجوز فِي الْأَحْكَام لَا فِي إِثْبَات الْحَقَائِق كَمَا يسْتَدلّ بالحركة الاختيارية على الْحَيَاة.
قَالَ شَيخنَا: وَهَذَا لَا طائل تَحْتَهُ بل الْقيَاس قِيَاس التأصيل وَالتَّعْلِيل والتمثيل يجْرِي فِي كل شَيْء، وعمدة الطِّبّ مبناها على الْقيَاس، وَإِنَّمَا هُوَ(7/3524)
لإِثْبَات حقائق الْأَجْسَام، وَكَذَلِكَ عَامَّة أُمُور النَّاس مبناها على الْقيَاس فِي الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال، وعمدة الطِّبّ مبناها على الْقيَاس، وَإِنَّمَا هُوَ لإِثْبَات حقائق الْأَجْسَام، وَكَذَلِكَ عَامَّة أُمُور النَّاس مبناها على الْقيَاس فِي الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال، وَمَتى ثَبت أَن الْأَمر الْفُلَانِيّ مُعَلل بِكَذَا ثَبت وجوده حَيْثُ وجدت الْعلَّة سَوَاء كَانَ عينا، أَو صفة، أَو حكما، أَو فعلا، وَكَذَلِكَ إِذا ثَبت أَن لَا فَارق بَين هذَيْن إِلَّا كَذَا، وَلَا تَأْثِير لَهُ فِي الْأَمر الْفُلَانِيّ.
ثمَّ هُوَ منقسم إِلَى مَقْطُوع ومظنون كالقياس / فِي الْأَحْكَام، ثمَّ أَي فرق بَين الْقيَاس فِي خلق اللَّهِ أَو فِي أمره؟ نعم قد يمْنَع من الْقيَاس الظني حَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَقَائِق.
وَمن الْعُمْدَة فِي الْقيَاس قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للَّذي أَرَادَ الانتفاء من وَلَده لمُخَالفَة لَونه: " لَعَلَّه نَزعه عرق " وَهَذَا قِيَاس لجَوَاز مُخَالفَة الْوَلَد للوالد فِي(7/3525)
أحد نَوْعي الْحَيَوَان على النَّوْع الآخر وَقِيَاس فِي الطبيعيات، لِأَن الأَصْل لَيْسَ فِيهِ نسب حَتَّى يُقَاس فِي الْأَنْسَاب " انْتهى.
وصححت الشَّافِعِيَّة: أَنه لَا يحْتَج بِهِ فِي الْأُمُور العادية والخلقية وَقَالَهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَمثله: بِأَقَلّ الْحيض وَالنّفاس وأكثرهما وَأَقل مُدَّة الْحمل وَأَكْثَره فَلَا قِيَاس فِيهِ بل طَرِيقه خبر الصَّادِق.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (لَا يجْرِي الْقيَاس فِي الْأُمُور العادية والخلقية حَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق.
لَكِن فصل فِي " شرح اللمع " بَين مَا لَا يكون عَلَيْهِ أَمارَة كأقل الْحيض وَأَكْثَره فَلَا يجْرِي فِيهِ الْقيَاس، لِأَن أشباهها غير مَعْلُومَة لَا قطعا وَلَا ظنا، وَبَين مَا عَلَيْهِ أَمارَة فَيجوز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ كالخلاف فِي الشّعْر هَل تحله الرّوح أم لَا؟(7/3526)
وَذكر الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ: أَن الصَّحِيح جَوَاز الْقيَاس فِي الْمَقَادِير كأقل الْحيض وَأَكْثَره " انْتهى.
تَنْبِيه: تقدم الْخلاف فِي الْقيَاس فِي اللُّغَات قبيل الْكَلَام على الْحُرُوف وَالْقِيَاس فِي الْمجَاز، وَالْخلاف هَل يُقَاس على الْمَنْسُوخ فِي آوخر شُرُوط الْعلَّة.(7/3527)
(قَوْله (فصل))
(أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر وَأَشَارَ إِلَيْهِ أَحْمد: أَن النَّص على عِلّة حكم الأَصْل يَكْفِي فِي التَّعَدِّي.
وَأَبُو الْخطاب والموفق وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والسرخي والآمدي: إِن ورد التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ كفى وَإِلَّا فَلَا.
والبصري: يَكْفِي فِي عِلّة التَّحْرِيم لَا غَيرهَا.
قَالَ الشَّيْخ: هُوَ قِيَاس مَذْهَبنَا.
وسمى ابْن عقيل [المنصوصة] اسْتِدْلَالا، وَقَالَ: مَذْهَبنَا لَيْسَ بِقِيَاس وَقَالَهُ بعض الْفُقَهَاء) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (النَّص على عِلّة حكم الأَصْل يَكْفِي فِي التَّعَدِّي عِنْد أَصْحَابنَا.
قَالَ القَاضِي وَابْن عقيل: أَشَارَ أَحْمد / إِلَيْهِ " لَا يجوز بيع رطب بيابس "(7/3528)
وَاحْتج بنهيه عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم عَن الْأَكْثَر من مثبتي الْقيَاس كالرازي، والكرخي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة وَمن منكريه كالنظام،(7/3529)
والقاشاني، والنهرواني.
وَفِي " الرَّوْضَة ". إِن ورد التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ كفى وَإِلَّا فَلَا.
وَذكره فِي " التَّمْهِيد " ضمن مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعلَّة.
وَاخْتَارَهُ السَّرخسِيّ، وَذكره عَن بعض شُيُوخه.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَذكره عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَقَالَهُ الجعفران(7/3530)
وَبَعض الظَّاهِرِيَّة.
وَذكر عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي وَبَعض أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور ونصروه.
وَعَن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيّ: يَكْفِي فِي عِلّة التَّحْرِيم لَا غَيرهَا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هُوَ قِيَاس مَذْهَبنَا فِي الْأَيْمَان وَغَيرهَا؛ لِأَنَّهُ يجب ترك الْمَفَاسِد كلهَا بِخِلَاف الْمصَالح فَإِنَّهَا يجب تَحْصِيل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ) .
وسمى ابْن عقيل الْعلَّة المنصوصة اسْتِدْلَالا، وَقَالَ: مَذْهَبنَا لَيْسَ بِقِيَاس، وَأَنه قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء؛ لِأَن الْفَأْرَة كالهرة فِي الطّواف الْمُصَرّح بِهِ.(7/3531)
وَذكر القَاضِي: التَّنْبِيه وَالْعلَّة [المنصوصة] وَمَا فِي معنى الأَصْل كالزيت مَعَ السّمن، وَالْأمة مَعَ العَبْد، [والجوع مَعَ الْغَضَب مَسْأَلَة وَاحِدَة.
وَكَذَا ذكر أَبُو الْمَعَالِي الْأمة مَعَ العَبْد] ، وَالْبَوْل فِي إِنَاء وصبه فِي مَاء، وَنَحْوهمَا فِي تَسْمِيَته قِيَاسا مذهبان نَحْو الْخلاف فِي الْعلَّة المنصوصة، وَرجح تَسْمِيَته قِيَاسا، قَالَ وَهِي لفظية.
وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يجوز الْمَنْع من هَذَا الْقيَاس؛ وَإِن نهى عَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ.
وقصره ابْن الباقلاني وَأَبُو حَامِد الإسفريني وَغَيرهمَا: على الصُّورَة المعللة تعبدنا بِالْقِيَاسِ أَو لَا.(7/3532)
وَفِي " التَّمْهِيد ": لم يقلهُ أحد كَمَا قَالَ.
وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": احْتِمَالَانِ، [أَحدهمَا لَا يتَعَدَّى حَتَّى يَقُول قيسوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي يتَعَدَّى.
وَذكر الشِّيرَازِيّ احْتِمَالَيْنِ] : أَحدهمَا: يتَعَدَّى، وَالثَّانِي: كَالْوَكِيلِ فِيهِ وَرجحه.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يظْهر فِي " حرمت السكر لحلاوته "، التَّعْلِيل بالحلاوة الْخَاصَّة لَا الْمُطلقَة بِخِلَاف قَوْله: لِأَنَّهُ حُلْو.
وَسوى ابْن عقيل وَغَيره.(7/3533)
وَجه الثَّانِي: لَا دَلِيل، وَالْأَصْل عَدمه.
وَأَيْضًا: أعتقت سالما لدينِهِ، أَو لِأَنَّهُ دين لَا يتَعَدَّى ومناقضة الْعُقَلَاء / لَهُ لطلب فَائِدَة التَّخْصِيص لَا الْعُمُوم.
وَذكر الْآمِدِيّ عَن بَعضهم: إِن علم قَصده للدّين عَم.
وَعَن بَعضهم يعم بِالنِّيَّةِ.
وَعَن بَعضهم: يعم إِن قَالَ: قيسوا عَلَيْهِ كل دين، وَاخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي الشَّافِعِي.
وَفِي " الرَّوْضَة ": فِي هَذِه الصُّورَة لَا يعم.
وَفِي " الْعدة " يعم.
فَإِن احْتج بِهِ نفاة الْقيَاس.(7/3534)
رد: بِأَن التَّعَبُّد منع مِنْهُ مُبَالغَة فِي صِيَانة ملك الْآدَمِيّ بِخِلَاف الْأَحْكَام، وَيجوز أَن تنَاقض علته، وَلِهَذَا لَو قَالَ الشَّارِع قيسوا عَلَيْهِ عَم، وَلِهَذَا فهم الْقيَاس لُغَة وَعرفا فِي غير الْملك نَحْو: " لَا تشربه فَإِنَّهُ مسهل "، و " لَا تجالسه لبدعته "، وَلَو قَالَ لمُوكلِه: " أعْتقهُ لدينِهِ، أَو لِأَنَّهُ دين " لم يعم إِجْمَاعًا، ذكره الْآمِدِيّ.
وَكَذَا لَو قَالَ: قس عَلَيْهِ، أَو كَانَ قَالَ لَهُ: إِذا أَمرتك بِشَيْء لعِلَّة فقس عَلَيْهِ لجَوَاز المناقضة والبداء؛ لِأَن الشَّارِع لم يدل عَلَيْهِ وَلم يُكَلف بِهِ.
وَعند أبي الْخطاب يعم.
وَفِي كَلَام القَاضِي والآمدي مَا يُوَافقهُ ككلام الشَّارِع، وَالْأَصْل عدم البداء، وَلِأَنَّهُ كجواز وُرُود النّسخ وَلَا يمْنَع الْقيَاس.
قَالُوا: حرمت الْخمر لإسكاره كرمت كل مُسكر.
رد: دَعْوَى بِلَا دَلِيل، ثمَّ لَو كَانَ عتق من سبق.
فَإِن قيل: لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ فَوقف على الصَّرِيح.
رد: دَعْوَى، ثمَّ يلْزم التَّعَارُض وَهُوَ خلاف الأَصْل، ثمَّ الظَّاهِر فِيهِ كَالصَّرِيحِ.
قَالُوا: قَوْله لِابْنِهِ: " لَا تَأْكُله؛ لِأَنَّهُ مَسْمُوم " يتَعَدَّى.(7/3535)
رد: لقَرِينَة شَفَقَة الْأَب، وَالْأَحْكَام يجمع فِيهَا بَين مُخْتَلفين وَيفرق بَين متماثلين؛ لِأَن الْمصلحَة إِن اعْتبرت فقد تخْتَلف بالأوقات.
وألزم ابْن عقيل بِالزَّمَانِ.
قَالُوا: إِن لم يعم فَلَا فَائِدَة.
رد: فَائِدَته تعقل الْمَعْنى فَإِنَّهُ أدعى إِلَى الْقبُول، وَنفي الحكم عِنْد عَدمه.
قَالُوا: كالتنبيه.
رد: إِنَّمَا فهم مِنْهُ لقَرِينَة إكرام الْوَالِدين.
قَالُوا: كَقَوْلِه الْإِسْكَار عِلّة التَّحْرِيم.
رد: حكم بِالْعِلَّةِ على مُسكر فَلَا أَوْلَوِيَّة لتساوي نسبتهما إِلَى الْجَمِيع. وَاعْتمد فِي " التَّمْهِيد " على قَوْله: / أوجبت أكل السكر كل يَوْم؛ لِأَنَّهُ حُلْو، كَذَا قَالَ.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ يبطل إِيجَاب السكر.
احْتج الْبَصْرِيّ: بِأَن من ترك رمانة لحموضتها لزمَه التَّعْمِيم بِخِلَاف صدقته على فَقير.(7/3536)
رد: لَا يلْزمه، ثمَّ لقَرِينَة الْأَذَى وَلَا قرينَة فِي الْأَحْكَام.
احْتج من قصره: باحتماله الْجُزْئِيَّة.
رد: ظَاهر اقْتِصَار الشَّارِع عَلَيْهِ استقلاله فَلَا يتْرك بِاحْتِمَال) وَالله أعلم.
قَوْله: (وَالْحكم الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْع بعلة منصوصة مُرَاد بِالنَّصِّ، كعلة مُجْتَهد فِيهَا فرعها مُرَاد بِالِاجْتِهَادِ، وَقيل: لَا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: " الحكم الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْع بعلة منصوصة مُرَاد بِالنَّصِّ، كعلة مُجْتَهد فِيهَا /، فرعها مُرَاد بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَن الأَصْل مستتبع لفرعه، خلافًا لبَعْضهِم، ذكره أَبُو الْخطاب.
قَالَ الْمجد: كَلَامه يَقْتَضِي أَنَّهَا مُسْتَقلَّة، قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهَا مَبْنِيَّة على الْمَسْأَلَة قبلهَا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَذكر القَاضِي أَعم من ذَلِك، فَقَالَ: الحكم بِالْقِيَاسِ على أصل مَنْصُوص عَلَيْهِ مُرَاد بِالنَّصِّ الَّذِي فِي الأَصْل خلافًا لبَعض الْمُتَكَلِّمين ".(7/3537)
قَوْله: (وَيجوز ثُبُوت كل الْأَحْكَام بِنَصّ من الشَّارِع لَا بِالْقِيَاسِ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) .
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الأولى: هَل يجوز ثُبُوت كل الْأَحْكَام بنصوص من الشَّارِع أم لَا؟
الْجُمْهُور: على الْجَوَاز.
قَالَ شذوذ: لَا يجوز؛ لِأَن الْحَوَادِث لَا تتناهى، فَكيف تنطبق عَلَيْهَا نُصُوص متناهية.(7/3538)
رد ذَلِك: بِأَنَّهَا تتناهى لتناهي التكاليف بالقيامة، ثمَّ يجوز أَن تحدث نُصُوص غير متناهية.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت بل متناهية، لِأَن الْحَوَادِث المفتقرة إِلَى الْأَحْكَام هِيَ الْوَاقِعَة فِي دَار التَّكْلِيف، وَالْأَفْعَال فِيهَا متناهية ضَرُورَة تناهيها، أما الْجنَّة فدار جَزَاء لَا دَار تَكْلِيف. انْتهى.
الثَّانِيَة: هَل يجوز ثُبُوت كل الْأَحْكَام بِالْقِيَاسِ أم لَا؟
الْجُمْهُور: على عدم الْجَوَاز؛ لِأَن / الْقيَاس لَا بُد لَهُ من أصل، وَلِأَن فِيهَا مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ كضرب الدِّيَة على الْعَاقِلَة، فإجراء الْقيَاس فِي مثله مُتَعَذر، لما علم أَن الْقيَاس فرع تعقل الْمَعْنى الْمُعَلل بِهِ الحكم فِي الأَصْل، وَأَيْضًا: فَإِن فِيهَا مَا تخْتَلف أَحْكَامه فَلَا يجْرِي فِيهِ.
وَجوزهُ قوم قَالُوا: كَمَا يجوز إِثْبَاتهَا كلهَا بِالنَّصِّ، وَمَعْنَاهُ: أَن كلا من الْأَحْكَام صَالح لِأَن يثبت بِالْقِيَاسِ بِأَن يدْرك مَعْنَاهُ، وَوُجُوب الدِّيَة على الْعَاقِلَة لَهُ معنى يدْرك، وَهُوَ إِعَانَة الْجَانِي فِيهَا هُوَ مَعْذُور فِيهِ، كَمَا يعان الْغَارِم لإِصْلَاح ذَات الْبَين بِمَا يصرف إِلَيْهِ من الزَّكَاة.
قلت: قد ذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَتَبعهُ ابْن الْقيم فِي " أَعْلَام الموقعين ": أَنه لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَا يُخَالف الْقيَاس وَلَا مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ، وبينوا ذَلِك بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، وَالله أعلم.(7/3539)
قَوْله: (فَائِدَتَانِ: الأولى: مَعْرفَته فرض كِفَايَة، وَيكون فرض عين على بعض الْمُجْتَهدين) .
مِمَّا يُسْتَفَاد أَن الْقيَاس فرض كِفَايَة عِنْد تعدد الْمُجْتَهدين، لَكِن إِذا احْتَاجَ الْمُجْتَهد - وَكَانَ وَاحِدًا فَقَط مَعَ ضيق الْوَقْت - يصير فرض عين.
وغاير ابْن حمدَان فِي " الْمقنع " بَين الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: فرض كِفَايَة، وَقيل فرض عين.
وَالصَّوَاب مَا قُلْنَاهُ أَولا.
قَوْله: (وَهُوَ من الدّين خلافًا للْقَاضِي وَأبي الْهُذيْل، وَقَالَ الجبائي الْوَاجِب مِنْهُ) .
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": " هَل يُسمى دينا مَأْمُورا بِهِ أم لَا؟
أما كَونه مَأْمُورا بِهِ فَصَحِيح، وَأما كَونه مَأْمُورا بِهِ بِصِيغَة " افْعَل " فَصَحِيح أ] أَيْضا من قَوْله: {فاعتبروا يَا أولى الْأَبْصَار} [الْحَشْر: 2] .
وَأما من وَصفه بِأَنَّهُ دين فَلَا شُبْهَة فِيهِ؛ لِأَن مَا تعبدنا اللَّهِ بِهِ فَهُوَ دين.
وَقد امْتنع أَبُو الْهُذيْل من إِطْلَاق اسْم الدّين عَلَيْهِ.(7/3540)
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنا متعبدون بِهِ بِمَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل، وَلِأَن من نزلت بِهِ حَادِثَة - وَكَانَ فِيهَا قَاض أَو مفت أَو مُجْتَهد لنَفسِهِ وضاق عَلَيْهِ الْوَقْت -، وَجب عَلَيْهِ / أَن يقيس " انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " الْقيَاس دين، وَعند أبي الْهُذيْل: لَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم دين، وَهُوَ فِي بعض كَلَام القَاضِي، وَعند الجبائي: الْوَاجِب مِنْهُ دين " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْقيَاس لَيْسَ ببدعة، بل هُوَ من الدّين على الْأَصَح من الْأَقْوَال الثَّلَاثَة.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد ": كَون الْقيَاس دين اللَّهِ لَا ريب فِيهِ إِذا عني لَيْسَ ببدعة، فَإِن أُرِيد غير ذَلِك فَذكر الْخلاف.
قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ": الْقيَاس عندنَا دين اللَّهِ وحجته وشرعه.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّه دين اللَّهِ وَدين رَسُوله بِمَعْنى أَنه دلّ عَلَيْهِ، وَلَا يجوز أَن يُقَال: هُوَ قَول اللَّهِ تَعَالَى.
فَالْقَوْل الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن هُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن(7/3541)
وَعبد الْجَبَّار، وَقدمه ابْن مُفْلِح، وَغَيره، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
قَوْله: (الثَّانِيَة: النَّفْي أُصَلِّي [يجْرِي] فِيهِ قِيَاس الدّلَالَة فيؤكد بِهِ الِاسْتِصْحَاب، وطارىء كبراءة الذِّمَّة يجْرِي فِيهِ [هُوَ] وَقِيَاس الْعلَّة) .
النَّفْي ضَرْبَان: أُصَلِّي، وطارئ.
فالأصلي: هُوَ الْبَقَاء على مَا كَانَ قبل وُرُود الشَّرْع، كانتفاء صَلَاة سادسة، فَهُوَ مبقى باستصحاب مُوجب الْعقل، فَلَا يجْرِي فِيهِ قِيَاس الْعلَّة؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجب لَهُ قبل وُرُود السّمع، فَلَيْسَ بِحكم شَرْعِي حَتَّى يطْلب لَهُ عِلّة شَرْعِيَّة بل هُوَ نفي حكم الشَّرْع وَلَا عِلّة، وَإِنَّمَا الْعلَّة لما يَتَجَدَّد لَكِن يجْرِي فِيهِ قِيَاس الدّلَالَة / وَهُوَ أَن يسْتَدلّ بِانْتِفَاء حكم سيء على انتفائه عَن مثله وَيكون ذَلِك ضم دَلِيل إِلَى دَلِيل هُوَ اسْتِصْحَاب الْحَال وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي الْفرق بِكَوْنِهِ لَا يجْرِي فِيهِ قِيَاس الْعلَّة(7/3542)
وَيجْرِي فِيهِ قِيَاس الدّلَالَة اخْتَارَهُ الْغَزالِيّ والرازي وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للمحققين. فَقَالُوا: يجوز بِقِيَاس الدّلَالَة وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِانْتِفَاء آثاره وخواصه على عَدمه دون قِيَاس الْعلَّة، لِأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ أولى، وَالْعلَّة حَادِثَة بعده فَلَا يُعلل بهَا. وَالنَّفْي الطَّارِئ كبراءة الذِّمَّة من الدّين وَنَحْوه، حكم شَرْعِي يجْرِي فِيهِ قِيَاس الْعلَّة وَقِيَاس الدّلَالَة اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ حكم شَرْعِي حَادث فَهُوَ كَسَائِر الْأَحْكَام الوجودية.
قَالَ ابْن مُفْلِح عقب الْمَسْأَلَة: " وَيسْتَعْمل الْقيَاس على وَجه التلازم فَيجْعَل حكم الأَصْل فِي الثُّبُوت ملزوما وَفِي النَّفْي نقيضه لَازِما نَحْو: لما وَجَبت زَكَاة مَال الْبَالِغ للمشترك بَينه وَبَين مَال الصَّبِي وَجَبت فِيهِ، وَلَو وَجَبت فِي حلي وَجَبت فِي جَوْهَر قِيَاسا، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي ملزومه " انْتهى.(7/3543)
(قَوْله: (فصل القوادح)
لما فَرغْنَا من الطّرق الدَّالَّة على الْعلية شرعنا فِي ذكر مَا يحْتَمل أَنه من مبطلاتها.
فإيراد القوادح مَا يقْدَح فِي الدَّلِيل بجملته سَوَاء الْعلَّة وَغَيرهَا، لِأَنَّهُ قد يطْرَأ على من يثبت عَلَيْهِ الحكم اعْتِرَاض يقْدَح فِي علية مَا ادَّعَاهُ عِلّة، وَذَلِكَ من أحد وُجُوه يعبر عَنْهَا بالقوادح، وَرُبمَا كَانَت قادحة لَا فِي خُصُوص الْعلَّة فَلذَلِك ترجمها ابْن الْحَاجِب وَغَيره بالاعتراضات.
وَإِنَّمَا ترجمت [لَهَا] بقوادح الْعلَّة تبعا لجَماعَة؛ لِأَنَّهَا ترجع إِلَى الْقدح فِي الْعلَّة كَمَا ستعرفه، وَلِأَن أغلبها موجه إِلَى الْعلَّة بالخصوص.
قَوْله: (ترجع إِلَى الْمَنْع فِي الْمُقدمَات أَو الْمُعَارضَة فِي الحكم عِنْد الْمُعظم، وَقيل: إِلَى الْمَنْع وَحده) .
قَالَ أهل الجدل: الاعتراضات رَاجِعَة إِمَّا إِلَى منع فِي مُقَدّمَة فِي الْمُقدمَات، أَو مُعَارضَة فِي الحكم، فَمَتَى حصل الْجَواب عَنْهَا فقد تمّ الدَّلِيل، وَلم يبْق للمعترض مجَال، فَيكون مَا سوى ذَلِك من الأسئلة بَاطِلا فَلَا يسمع.
وَقَالَ بَعضهم، وَتَبعهُ التَّاج السُّبْكِيّ فِي " شرح مُخْتَصر ابْن(7/3544)
الْحَاجِب "، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع ": إِنَّهَا ترجع إِلَى الْمَنْع؛ لِأَن الْكَلَام إِذا كَانَ مُجملا لَا يحصل غَرَض الْمُسْتَدلّ بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره تَسْتَلْزِم منع تحقق الْوَصْف، وَمنع لُزُوم الحكم عَنهُ.
وَقد ذكرنَا هُنَا تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا خَمْسَة وَعشْرين قادحا، وَذكرهَا فِي " مُخْتَصر الرَّوْضَة " للطوفي فِي اثْنَي عشر بِصِيغَة: قيل.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": " قَالَ بعض أهل الْعلم يتَوَجَّه على الْقيَاس اثْنَا عشر سؤالا ".
وَهَذِه القوادح لم يذكرهَا الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى " بل أعرض عَنْهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا كالعلاوة على أصُول الْفِقْه، وَإِن مَوضِع ذكرهَا علم الجدل. الَّذِي ذكرهَا يَقُول: إِنَّهَا من مكملات الْقيَاس الَّذِي هُوَ من أصُول الْفِقْه، ومكمل الشَّيْء من ذَلِك الشَّيْء.(7/3545)
ولهذه [الشُّبْهَة] أَكثر قوم من ذكر الْمنطق والعربية وَالْأَحْكَام الكلامية؛ [لِأَنَّهَا] من مواده ومكملاته.
قَوْله: (ومقدمها) .
أَي: القوادح.
(الاستفسار) .
أَي: هُوَ طَلِيعَة لَهَا، كطليعة الْجَيْش؛ لِأَنَّهُ الْمُقدم على كل اعْتِرَاض، وَإِنَّمَا كَانَ مقدم الاعتراضات؛ لِأَنَّهُ إِذا لم يعرف مَدْلُول اللَّفْظ اسْتَحَالَ توجه الْمَنْع أَو الْمُعَارضَة، وهما مُرَاد الاعتراضات كلهَا.
وَكَانَ الْإِسْنَوِيّ يَقُول: فِي [كَونه] من الاعتراضات نظر؛ لِأَنَّهُ طَلِيعَة جنس الاعتراضات لَا بهَا، لِأَنَّهَا خدش كَلَام الْمُسْتَدلّ، والاستفسار لَيْسَ فِيهِ خدش بل تعرف للمراد، ويتبين الْمَطْلُوب ليتوجه عَلَيْهِ السُّؤَال.(7/3546)
وَيقرب مِنْهُ حِكَايَة الْهِنْدِيّ عَن بعض متأخري أهل الجدل: أَنه أنكر هَذَا السُّؤَال.
وَهَذَا وَاضح؛ لِأَن غَايَته اسْتِفْهَام لَا اعْتِرَاض، وَهُوَ من الفسر، وَهُوَ لُغَة: طلب الْكَشْف والإظهار، وَمِنْه التَّفْسِير.
قَوْله: (وَهُوَ طلب معنى لفظ الْمُسْتَدلّ لإجماله أَو غرابته، وبيانها على الْمُعْتَرض فِي الْأَصَح باحتماله، / أَو بِجِهَة الغرابة بطريقة، وَلَا يلْزمه بَيَان تَسَاوِي الِاحْتِمَالَات) .
والاستفسار: طلب معنى اللَّفْظ الَّذِي قَالَه الْمُسْتَدلّ، وَإِنَّمَا يسمع إِذا كَانَ فِي اللَّفْظ إِجْمَال أَو غرابة، وَإِلَّا فَهُوَ تعنت مفوت لفائدة المناظرة؛ إِذْ يَأْتِي فِي كل لفظ يُفَسر بِهِ لفظ ويتسلسل.
وَلذَلِك قَالَ الباقلاني: مَا يُمكن فِيهِ [الاستبهام] حسن فِيهِ الِاسْتِفْهَام. وَذَلِكَ [إِمَّا] لإجماله كَمَا لَو قَالَ الْمُسْتَدلّ: الْمُطلقَة تَعْتَد بالإقراء، فَلفظ الإقراء مُجمل.(7/3547)
فَيَقُول الْمُعْتَرض: مَا مرادك بِالْأَقْرَاءِ؟ فَإِذا قَالَ: الْحيض أَو الْأَطْهَار.
أجَاب: بِحَسب ذَلِك من تَسْلِيم أَو منع.
وَإِمَّا لغرابته؛ إِمَّا من حَيْثُ الْوَضع كَقَوْلِنَا: لَا يحل السبد أَي: الذِّئْب، وكما لَو قَالَ فِي الْكَلْب الَّذِي لم يعلم: خرَاش لم يبل، فَلَا يُطلق فريسته كالسبد.
وَمعنى: لم يبل: لم يختبر.
قَالَ الْجَوْهَرِي: بلاه وأبلاه بلَاء حسنا وابتلاه اختبره.
والفريسة: الصَّيْد، من فرس الْأسد فريسته: إِذا دق عُنُقهَا، ثمَّ كثر حَتَّى أطلق على كل قَتِيل فرسا.
والسبد: الذِّئْب، وَهُوَ بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة.
والخراش: الْكَلْب، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء، وَقبل الْألف رَاء بعْدهَا شين مُعْجمَة.(7/3548)
وَإِمَّا من حَيْثُ الِاصْطِلَاح، أَي: من الغرابة خلط اصْطِلَاح باصطلاح، كَمَا يُقَال فِي القياسات الْفِقْهِيَّة لفظ الدّور، أَو التسلسل أَو الهيولى، أَو الْمَادَّة، أَو المبدأ، أَو الْغَايَة.
نَحْو أَن يُقَال فِي شُهُود الْقَتْل إِذا رجعُوا: لَا يجب الْقصاص؛ لِأَن وجوب الْقصاص تجرد مبداه عَن غَايَة مَقْصُوده فَوَجَبَ أَن لَا يثبت.
وَكَذَا مَا أشبه ذَلِك من اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين إِلَّا أَن يعرف من حَال خَصمه أَنه يعرف ذَلِك فَلَا غرابة حِينَئِذٍ.
إِذا علم ذَلِك فبيان كَونه مُجملا أَو غَرِيبا حَتَّى يحْتَاج إِلَى تَفْسِير على الْمُعْتَرض على الْأَصَح بطريقه، إِلَّا أَن الأَصْل عدم الْإِجْمَال وَعدم الغرابة، فيبين أَن / اللَّفْظ مُجمل لكَونه مُتَعَددًا وَلَا يُكَلف بَيَان التَّسَاوِي لعسره.
فَإِن قَالَ: إِن الأَصْل عدم رُجْحَان بَعْضهَا.(7/3549)
فَهُوَ جيد، وَيكون ذَلِك تَبَرعا من الْمُعْتَرض، هَذَا الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ.
وَقيل: لِأَنَّهُ سلمه لما سلم الِاسْتِعْمَال، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك.
رد: لَا ينْحَصر سَبَب الْإِجْمَال فِي الِاشْتِرَاك.
قَوْله: (وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ بِمَنْع احْتِمَاله أَو بَيَان ظُهُوره فِي مَقْصُوده بِنَقْل، أَو عرف، أَو قرينَة، أَو تَفْسِيره إِن تعذر إبِْطَال غرابته، وَلَو قَالَ: يلْزم ظُهُوره فِي أَحدهمَا دفعا للإجمال، أَو فِيمَا قصد بِهِ لعدم ظُهُوره [فِي الآخر] اتِّفَاقًا كفى فِي الْأَصَح، بِنَاء على أَن الْمجَاز أولى، وَلَا يعْتد بتفسيره بِمَا لَا يحْتَملهُ لُغَة) .
بَيَان أَنه لَيْسَ بمجمل وَلَا غَرِيب على الْمُسْتَدلّ؛ لِأَن شَرط الدّلَالَة على المُرَاد عدم إجماله أَو غرابته.
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه: هَذَا ظَاهر فِي مقصودي، وَيبين ذَلِك:
إِمَّا بِنَقْل من اللُّغَة، كَمَا لَو اعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: الْوضُوء قربَة فَتجب لَهُ النِّيَّة، فَيَقُول الْوضُوء يُطلق على النَّظَافَة وعَلى الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة، فَمَا الَّذِي تُرِيدُ بِالَّذِي تجب لَهُ النِّيَّة؟ فَيَقُول: حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة، وَهِي الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة.
وَإِمَّا من الْعرف، كالدابة.
أَو بقول ظَاهر لقَرِينَة مَعَه، مثل قَوْله: قرء تحرم فِيهِ الصَّلَاة فَيحرم الصَّوْم، فقرينة تَحْرِيم الصَّلَاة فِيهِ يدل [أَن] المُرَاد بِهِ الْحيض.(7/3550)
وَفِي الغرابة، مثل: قَوْله طلة زوجت نَفسهَا، فَلَا يَصح، فالطلة: الْمَرْأَة بِدَلِيل قَوْله زوجت نَفسهَا، لَا صفة الْخمر.
أَو يُفَسر مَقْصُوده إِن تعذر إبِْطَال غرابته بِأَن يَقُول: مرادي الْمَعْنى الْفُلَانِيّ، لَكِن لابد أَن يفسره بِمَا يحْتَملهُ اللَّفْظ وَإِن بعد، كَمَا يَقُول: يخرج فِي الْفطْرَة الثور، ويفسره بالقطعة من الأقط.
فَلَو قَالَ: الْمُسْتَدلّ: هُوَ غير ظَاهر فِي غير مرادي بِاتِّفَاق مني ومنك، فَيكون ظَاهرا فِي مرادي؛ / لِئَلَّا يكون الْإِجْمَال.
فَمنهمْ من رده بِرُجُوعِهِ إِلَى قَوْله إِن الأَصْل عدم الْإِجْمَال وَالْفَرْض أَن الْمُعْتَرض بَين أَنه مُجمل، وَأَيْضًا فَلَا يلْزم من عدم [ظُهُوره] فِي الآخر ظُهُوره فِي مَقْصُوده؛ لجَوَاز عدم الظُّهُور فِيهَا جَمِيعًا.
وَصَوَّبَهُ بَعضهم دفعا لمحذور الْإِجْمَال، وَذَلِكَ حَيْثُ [لَا يكون] اللَّفْظ مَشْهُورا بالإجمال، أما إِذا اشْتهر باللإجمال كَالْعَيْنِ والقرء والجون وَنَحْوهَا، فَلَا يَصح فِيهِ دَعْوَى الظُّهُور أصلا.
وَأما إِذا فسره بِمَا لَا يحْتَمل فلعب، فَلَا يسمع؛ لِأَن غَايَته أَنه ينْطق بلغَة [غَيره] مَعْرُوفَة.(7/3551)
قَالَ الْحوَاري: وَهَذَا الْحق.
وَقَالَ [العميدي] : لَا يلْزمه التَّفْسِير أصلا.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَابْن الْحَاجِب وتابعناه: " وَلَو قَالَ يلْزم ظُهُوره فِي أَحدهمَا دفعا للإجمال وَفِيمَا قصدته؛ لعدم ظُهُوره فِي الآخر اتِّفَاقًا كفى، بِنَاء على أَن الْمجَاز أولى " انْتهى.
لَكِن هَذَا كُله إِذا لم يكن اللَّفْظ مَشْهُورا، فَإِن كَانَ مَشْهُورا فالجزم تبكيت الْمُعْتَرض. وَيُقَال: مر فتعلم ثمَّ ارْجع فَتكلم، وَهَذَا معنى قَوْلنَا: وَلَا يعْتد بتفسيره بِمَا لَا يحْتَملهُ لُغَة.(7/3552)
قَوْله (فَسَاد الِاعْتِبَار: مُخَالفَة الْقيَاس نصا، أَو إِجْمَاعًا، وَجَوَابه: بضعفه، أَو منع ظهروه، أَو تَأْوِيله، أَو القَوْل بِمُوجبِه، أَو معارضته بِمثلِهِ، وَهُوَ أَعم من فَسَاد الْوَضع، وَفَسرهُ ابْن الْمَنِيّ: بتوجيه الْمُنَازعَة فِي دلَالَة الْقيَاس) .
الثَّانِي من القوادح والاعتراضات: فَسَاد الِاعْتِبَار.
هَذَا نوع ثَان من القوادح، وَهُوَ الْمُسَمّى بِفساد الِاعْتِبَار، وَهُوَ كَون الْقيَاس مُخَالفا للنَّص أَو الْإِجْمَاع؛ فَإِن ذَلِك يدل على فَسَاده.
سَوَاء كَانَ النَّص نَص الْقُرْآن، كَمَا يُقَال فِي تبييت الصَّوْم: صَوْم مَفْرُوض، فَلَا يَصح بنية من النَّهَار كالقضاء.
فَيُقَال: هَذَا فَاسد الِاعْتِبَار [لمُخَالفَته] قَوْله تَعَالَى {والصائمين والصائمات} [الْأَحْزَاب: 35] ، فَإِنَّهُ يدل على أَن كل صَائِم يحصل لَهُ أجر عَظِيم، وَذَلِكَ يسْتَلْزم الصِّحَّة.
أَو كَانَ النَّص سنة، كَمَا يُقَال: لَا يَصح السّلم فِي الْحَيَوَان؛ لِأَنَّهُ يشْتَمل على غرر فَلَا يَصح فِي الْمُخْتَلط.(7/3553)
فَيُقَال: هَذَا فَاسد / الِاعْتِبَار لمُخَالفَة مَا فِي السّنة: " أَن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي السّلم ".
أما مُخَالفَة الْإِجْمَاع فكقول حَنَفِيّ: لَا يجوز للرجل أَن يغسل امْرَأَته؛ لِأَنَّهُ يحرم النّظر إِلَيْهَا كالأجنبية.
فَيُقَال: هَذَا فَاسد الِاعْتِبَار لمُخَالفَة الْإِجْمَاع السكوتي، وَهُوَ أَن عليا غسل فَاطِمَة.(7/3554)
ٍ وَفِي حكم مُخَالفَة النَّص وَالْإِجْمَاع: أَن تكون إِحْدَى مُقَدمَات الْقيَاس هِيَ الْمُخَالفَة للنَّص أَو الْإِجْمَاع، وَيَدعِي دُخُوله فِي إِطْلَاق مُخَالفَة النَّص أَو الْإِجْمَاع.
وَفِي معنى ذَلِك أَن يكون الحكم مِمَّا لَا يُمكن إثْبَاته بِالْقِيَاسِ، كإلحاق الْمُصراة بغَيْرهَا من الْمَعِيب فِي حكم الرَّد وَعَدَمه، وَوُجُوب بدل لَبنهَا الْمَوْجُود فِي الضَّرع؛ لِأَن هَذَا الْقيَاس مُخَالف لصريح النَّص الْوَارِد فِيهَا، أَو كَانَ تركيبه مشعرا بنقيض الحكم الْمَطْلُوب.
وَإِنَّمَا سمي هَذَا النَّوْع بذلك؛ لِأَن اعْتِبَار الْقيَاس مَعَ النَّص وَالْإِجْمَاع اعْتِبَار لَهُ مَعَ دَلِيل أقوى مِنْهُ، وَهُوَ اعْتِبَار فَاسد لحَدِيث معَاذ، فَإِنَّهُ أخر الِاجْتِهَاد عَن النَّص.
قَالَ الْعَسْقَلَانِي: " سمي بذلك؛ لِأَن الْفساد لَيْسَ فِي وضع الْقيَاس وتركيبه، بل لأمر من خَارج وَهُوَ عدم صِحَة الِاحْتِجَاج بِهِ مَعَ وجود النَّص الْمُخَالف لَهُ، لحَدِيث معَاذ حَيْثُ أخر الْعَمَل بِالْقِيَاسِ. وَصَوَّبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدلَّ على أَن رُتْبَة الْقيَاس بعد النَّص. وَلِأَن الظَّن الْمُسْتَفَاد من النَّص أقوى من الظَّن الْمُسْتَفَاد من الْقيَاس ".(7/3555)
وَكَذَا الصَّحَابَة لم يقيسوا إِلَّا مَعَ عدم النَّص، وَتقدم أَنه لَا يجوز الحكم بِالْقِيَاسِ إِلَّا بعد طلبه من النُّصُوص.
فَإِن قيل: هَذَا النَّوْع يؤول إِلَى فَسَاد الْوَضع - على مَا يَأْتِي - لِأَن كلا مِنْهُمَا اجْتِهَاد فِي مُقَابلَة النَّص، فَمَا وَجه تَمْيِيزه عَنهُ؟ وَلذَلِك جَعلهمَا أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَاحِدًا.
وَالْجَوَاب: أَن من انواع فَسَاد الِاعْتِبَار كَون تركيبه مشعرا بنقيض الحكم الْمَطْلُوب، فَهُوَ أَعم من فَسَاد الْوَضع، وَقد صرحنا بِهِ فِي الْمَتْن.
وَلذَلِك قَالَ الجدليون فِي تَرْتِيب الأسئلة: _ إِن فَسَاد الِاعْتِبَار مقدم على فَسَاد الْوَضع على مَا يَأْتِي -.
لِأَن فَسَاد الِاعْتِبَار نظر فِي فَسَاد الْقيَاس / من حَيْثُ الْجُمْلَة، وَفَسَاد الْوَضع أخص بِاعْتِبَار؛ لِأَنَّهُ يسْتَلْزم عدم اعْتِبَار الْقيَاس؛ لِأَنَّهُ قد يكون بِالنّظرِ إِلَى أَمر خَارج عَنهُ.
وَمِمَّنْ قَالَ إِن فَسَاد الِاعْتِبَار أَعم: الْهِنْدِيّ، والتاج السُّبْكِيّ فِي(7/3556)
" جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة.
وَقَالَ الْعَضُد: " النَّوْع الثَّانِي من الاعتراضات وَهُوَ اعْتِبَار تمكنه من الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة، فَإِن منع تمكنه من الْقيَاس مُطلقًا فَهُوَ فَسَاد الِاعْتِبَار، [كَأَن] يَدعِي أَن الْقيَاس لَا يعْتَبر فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة، وَإِن مَنعه من الْقيَاس الْمَخْصُوص فَهُوَ من فَسَاد الْوَضع؛ لِأَنَّهُ يَدعِي أَنه وضع فِي الْمَسْأَلَة قِيَاسا لَا يَصح ".
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي: " وَاعْلَم أَن فَسَاد الْوَضع أَعم من فَسَاد الِاعْتِبَار؛ لِأَن الْقيَاس قد يكون صَحِيح الْوَضع، وَإِن كَانَ اعْتِبَاره فَاسِدا بِالنّظرِ إِلَى أَمر من خَارج، فَكل فَسَاد الْوَضع فَسَاد الِاعْتِبَار لَا عكس " انْتهى.
وَفَسرهُ ابْن الْمَنِيّ من أَصْحَابنَا بتوجيه الْمُنَازعَة فِي دلَالَة الْقيَاس.
قَوْله: (وَجَوَابه: بضعفه، أَو منع ظُهُوره، أَو تَأْوِيله، أَو القَوْل بِمُوجبِه، أَو معارضته بِمثلِهِ) . يحصل جَوَاب ذَلِك بأوجه مِنْهَا: بالطعن فِي سَنَده فَيمْنَع صِحَّته أويمنع دلَالَته.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (منع النَّص الَّذِي ادّعى أَن الْقيَاس على خِلَافه إِمَّا منع دلَالَة أَو منع صِحَة.
مِثَال الأول: أَن يَقُول فِي الصَّوْم: لَا نسلم أَن الْآيَة تدل على صِحَة(7/3557)
الصَّوْم بِدُونِ تبييت النِّيَّة، [لِأَنَّهَا] مُطلقَة، وقيدناها بِحَدِيث: " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل ".
أَو يَقُول: إِنَّهَا دلّت على أَن الصَّائِم يُثَاب، وَأَنا أَقُول بِهِ، لَكِنَّهَا لَا تدل على أَنه لَا يلْزمه الْقَضَاء والنزاع فِيهِ. أَو يَقُول: إِنَّهَا دلّت على ثَوَاب الصَّائِم، وَأَنا لَا أسلم أَن الممسك بِدُونِ تبييت النِّيَّة صَائِم.
وَمِثَال الثَّانِي: أَن يَقُول فِي مَسْأَلَة السّلم: لَا نسلم صِحَة الترخيص فِي السّلم، وَإِن سلمنَا فَلَا نسلم أَن اللَّام فِيهِ للاستغراق، فَلَا يتَنَاوَل الْحَيَوَان وَإِن صَحَّ السّلم فِي غَيره.
وَأما مَسْأَلَة غسل الزَّوْجَة: فبأن يمْنَع صِحَة ذَلِك عَن عَليّ، وَإِن سلم فَلَا نسلم أَن ذَلِك اشْتهر، وَإِن سلم فَلَا نسلم أَن الْإِجْمَاع السكوتي حجَّة، وَإِن سلم فَالْفرق بَين عَليّ وَغَيره / أَن فَاطِمَة زَوجته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فالموت لم يقطع النِّكَاح بَينهمَا " بِإِخْبَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، بِخِلَاف غَيرهمَا فَإِن(7/3558)
الْمَوْت يقطع نِكَاحهمَا.
الْوَجْه الثَّانِي: أَن يبين الْمُسْتَدلّ أَن مَا ذكره من الْقيَاس يسْتَحق التَّقْدِيم على النَّص، إِمَّا لضَعْفه فَيكون الْقيَاس أولى مِنْهُ، أَو لكَون النَّص عَاما فَيكون الْقيَاس مُخَصّصا لَهُ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ،، أَو لكَون مَذْهَب الْمُسْتَدلّ يَقْتَضِي تَقْدِيم الْقيَاس على ذَلِك النَّص لكَونه حنفيا يرى تَقْدِيم الْقيَاس على الْخَبَر [إِذا خَالف الْأُصُول أَو فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، أَو مالكيا يرى تَقْدِيم الْقيَاس على الْخَبَر] إِذا خَالفه خبر الْوَاحِد) .
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": اعْتِبَار مَا بِنَاؤُه على التَّوسعَة والتضييق على الآخر، أَو الِابْتِدَاء بالدوام، أَو الرّقّ بِالْعِتْقِ، أَو الْعتْق بِالْبيعِ، أَو الْمَرْأَة بِالرجلِ فِي الْقَتْل بِالرّدَّةِ مَعَ اخْتِلَافهمَا فِي كفر أُصَلِّي.(7/3559)
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " يحصل الْجَواب [بِوُجُوه] : مِنْهَا: الطعْن فِي النَّص الَّذِي ادّعى أَن الْقيَاس على خِلَافه، إِمَّا بِمَنْع صِحَّته لضعف إِسْنَاده، أَو منع دلَالَته، أَو غير ذَلِك.
وَمِنْهَا: الْمُعَارضَة بِنَصّ آخر فَيسلم الْقيَاس حِينَئِذٍ.
وَمِنْهَا: أَن يبين الْمُسْتَدلّ رُجْحَان قِيَاسه على النَّص الَّذِي ذكر أَنه معَارض بِمَا ذكر فِي خبر الْوَاحِد.
كَقَوْلِنَا فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة: ذبح صَار من أَهله فِي مَحَله فَيحل كذبح ناسي التَّسْمِيَة.
فيورد الْمُعْتَرض: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق} [الْأَنْعَام: 121] ، وَيَقُول: قياسهم فَاسد الِاعْتِبَار لمعارضته هَذَا النَّص.
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: هَذَا مَحْمُول على تَحْرِيم مَذْبُوح عَبدة الْأَوْثَان، فَإِن عدم ذكر اللَّهِ غَالب على أهل الشّرك.(7/3560)
وَمِنْهَا: عدم ظُهُور دلَالَته على مَا يلْزم مِنْهُ فَسَاد الْقيَاس.
وَمِنْهَا: أَن يَدعِي أَن النَّص الْمعَارض بِهِ مؤول بِدَلِيل يرجحه على الظَّاهِر.
وَمِنْهَا: أَن يَقُول بِمُوجبِه، أَي: يبقيه على ظَاهره، وَيَدعِي أَن مَدْلُوله لَا يُنَافِي الْقيَاس، إِلَى غير ذَلِك من الطّرق " انْتهى.
قَوْله: (فَسَاد الْوَضع بِأَن يكون الْجَامِع ثَبت اعْتِبَاره بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِي نقيض الحكم، كَقَوْل شَافِعِيّ فِي مسح الرَّأْس: مسح فسن تكراره كالاستجمار، فيعترض / بِكَرَاهَة تكْرَار مسح الْخُف) .
قَالَ الطوفي وَغَيره: " إِنَّمَا سمي هَذَا فَسَاد الْوَضع؛ لِأَن وضع الشَّيْء جعله فِي مَحل على هَيْئَة أَو كَيْفيَّة، فَإِذا كَانَ ذَلِك الْمحل أَو تِلْكَ الْهَيْئَة لَا تناسبه كَانَ وَضعه على خلاف الْحِكْمَة يكون فَاسِدا.
فَنَقُول هُنَا: إِن الْعلَّة إِذا اقْتَضَت نقيض الحكم الْمُدعى أَو خِلَافه كَانَ ذَلِك مُخَالفا للحكمة؛ إِذْ من شَأْن الْعلَّة أَن تناسب معلولها، لَا أَنَّهَا تخَالفه، فَكَانَ ذَلِك فَاسد الْوَضع بِهَذَا الِاعْتِبَار: " انْتهى.
أَي: من القوادح فَسَاد الْوَضع، وَهُوَ اعْتِبَار الْجَامِع فِي نقيض(7/3561)
الحكم، أَو بَيَان [أَن] الدَّلِيل مَوْضُوع على غير هَيئته الَّتِي يجب اعْتِبَارهَا فِي تَرْتِيب الحكم عَلَيْهِ واستنتاجه مِنْهُ، فَالْأول كَمَا مثلنَا.
قَالَ الْمحلي: (مِثَال الْجَامِع ذِي النَّص قَول الْحَنَفِيَّة: الْهِرَّة سبع ذُو نَاب، فَيكون سؤره نجسا كَالْكَلْبِ.
فَيُقَال السبعية اعتبرها الشَّارِع عِلّة للطَّهَارَة، حَيْثُ " دعِي إِلَى دَار فِيهَا كلب فَامْتنعَ، ودعي إِلَى أُخْرَى فِيهَا سنور فَأجَاب فَقيل لَهُ، فَقَالَ: السنور سبع "، رَوَاهُ أَحْمد، وَغَيره.(7/3562)
وَمِثَال ذِي الْإِجْمَاع: قَول الشَّافِعِيَّة فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء: يسْتَحبّ تكراره كالاستجمار حَيْثُ اسْتحبَّ الإيتار فِيهِ.
فَيُقَال: الْمسْح فِي الْخُف لَا يسْتَحبّ تكراره كالاستجمار إِجْمَاعًا، وَإِن حكى ابْن كج اسْتِحْبَاب تثليثه كمسح الرَّأْس) انْتهى.
وَهَذَا الْمُعْتَمد.
وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ: بِبَيَان الْمَانِع لتعرضه لتلف الْخُف.
وسؤال فَسَاد الْوَضع نقض خَاص لإثباته نقيض الحكم، فَإِن ذكر الْمُعْتَرض نقيض الحكم مَعَ أَصله فَقَالَ: لَا يسن تكْرَار مسح الرَّأْس كالخف، فَهُوَ الْقلب، لَكِن اخْتلف أَصلهمَا.
وَإِن بَين الْمُعْتَرض مُنَاسبَة الْجَامِع للنقيض وَلم يذكر أَصله، فَإِن بَينهمَا من جِهَة دَعْوَى الْمُسْتَدلّ فَهُوَ: الْقدح فِي الْمُنَاسبَة، وَإِلَّا لم يقْدَح لجَوَاز أَن للوصف جِهَتَيْنِ، كمحل مشتهى يُنَاسب حلّه لإراحة الْقلب، وتحريمه لكف النَّفس.
وَفسّر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ فَسَاد الْوَضع: بجعله الْقيَاس دَلِيلا على منكره فيمنعه.(7/3563)
وَجَوَابه بَيَان كَونه / حجَّة، ورد التَّفْسِير السَّابِق إِلَى الْقلب.
قَوْله: (وَمِنْه أَن لَا يكون الدَّلِيل على الْهَيْئَة الصَّالِحَة لاعتباره من تَرْتِيب الحكم) .
كَأَن يكون صَالحا لضد ذَلِك الحكم أَو نقيضه.
اقْتصر عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، على هَذَا هُوَ خطاب الْوَضع فَقَط
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمن فَسَاد الْوَضع فرع آخر، وَهُوَ مَا اقْتصر عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب ".
فَدلَّ أَنَّهُمَا نَوْعَانِ لخطاب الْوَضع، وَقد ذكرهمَا فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَغَيره، فَلذَلِك جمعتهما.(7/3564)
قَوْله: (كتلقي التَّخْفِيف من التَّغْلِيظ، كَقَوْل حَنَفِيّ: الْقَتْل جِنَايَة عَظِيمَة فَلَا تجب فِيهِ الْكَفَّارَة كَبَقِيَّة الْكَبَائِر، فجناية عَظِيمَة تناسب التَّغْلِيظ.
أَو التوسيع من التضيق كَقَوْلِه فِي الزَّكَاة: مَال وَجب إرفاقا لدفع الْحَاجة، فَكَانَ على التَّرَاخِي كالدية على الْعَاقِلَة، فَدفع الْحَاجة يَقْتَضِي الْفَوْر.
أَو الْإِثْبَات من النَّفْي: كالمعاطاة فِي الْيَسِير: بيع لم يُوجد فِيهِ سوى الرضى فَوَجَبَ أَن يبطل كَغَيْرِهِ، فالرضى يُنَاسب الِانْعِقَاد) . وَهَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي.
وَإِنَّمَا سمي هَذَا فَسَاد الْوَضع؛ لِأَن وضع الْقيَاس أَن يكون على هَيْئَة صَالِحَة لِأَن يَتَرَتَّب على ذَلِك الحكم الْمَطْلُوب إثْبَاته، فَمَتَى خلا عَن ذَلِك فسد وَضعه.
قَوْله: (وجوابهما بتقرير كَونهمَا كَذَلِك) .(7/3565)
أَي: جَوَاب نَوْعي فَسَاد الْوَضع بتقرير كَونه كَذَلِك، فيقرر كَون الدَّلِيل صَالحا لاعتباره فِي تَرْتِيب الحكم عَلَيْهِ، كَأَن يكون لَهُ جهتان ينظر الْمُسْتَدلّ فِيهِ من إِحْدَاهمَا، والمعترض من الْأُخْرَى، كالارتفاق وَدفع الْحَاجة فِي مَسْأَلَة الزَّكَاة.
وَيُجَاب عَن الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل: بِأَنَّهُ غلظ فِيهِ بِالْقصاصِ فَلَا يغلظ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ.
وَعَن المعاطاة: بِأَن عدم الِانْعِقَاد بهَا مُرَتّب على عدم الصِّيغَة لَا على الرضى.
وتقرر النَّوْع الأول فِيمَا تابعنا فِيهِ ابْن الْحَاجِب كَون الْجَامِع مُعْتَبرا فِي ذَلِك الحكم، وَيكون تخلفه عَنهُ بِأَن وجد مَعَ نقيضه لمَانع كَمَا فِي مسح الْخُف / فَإِن تكراره يُفْسِدهُ تغسيله.
قَوْله: (منع حكم الأَصْل يسمع فِي الْأَصَح فَلَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّدِهِ عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فَيدل عَلَيْهِ كمنع الْعلَّة أَو وجودهَا، وَقيل: بلَى. وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ مَعَ ظُهُور الْمَنْع، وَاخْتَارَ الْغَزالِيّ اتِّبَاع عرف الْمَكَان.
وَفِي " الْوَاضِح ": إِن اعْترض على حكم الأَصْل: بِأَنِّي لَا أعرف مذهبي فِيهِ، فَإِن أمكن الْمُسْتَدلّ بَيَانه وَإِلَّا دلّ على إثْبَاته) .(7/3566)
من القوادح منع حكم الأَصْل، فَيمْنَع الْمُعْتَرض حكم الأَصْل.
كَأَن يَقُول حنبلي: الْخلّ مَائِع لَا يرفع الْحَدث فَلَا يزِيل النَّجَاسَة كالدهن.
فَيَقُول حَنَفِيّ: لَا أسلم الحكم فِي الأَصْل فَإِن الدّهن عِنْدِي يزِيل النَّجَاسَة، فَهَل يسمع منع حكم الأَصْل أم لَا؟
فالجمهور قَالُوا: يسمع.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: لَا يسمع أصلا، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ ذكر دَلِيل الأَصْل، بل يَقُول: قست على أُصَلِّي وَهُوَ بعيد، فَإِن الْقيَاس على أصل لَا يُقَام عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا يَعْتَقِدهُ الْخصم، لَا ينتهض دَلِيلا على الْخصم.(7/3567)
لَكِن الَّذِي فِي " الملخص " لَهُ، أَن لَهُ سَماع الْمَنْع.
فعلى الأول هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد هَل يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بذلك أم لَا؟ على مَذَاهِب: أَصَحهَا: لَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّد ذَلِك، اخْتَارَهُ الْأَصْحَاب، وَالْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ منع مُقَدّمَة من مُقَدمَات الْقيَاس، فَلهُ إثْبَاته كَسَائِر الْمُقدمَات وكمنع الْعلَّة، أَو وجودهَا بِأَنَّهُ إِجْمَاع، ذكره الْآمِدِيّ.(7/3568)
وَالثَّانِي: يَنْقَطِع [للانتقال] عَن إِثْبَات حكم الْفَرْع الَّذِي هُوَ بصدده إِلَى غَيره وَهُوَ حكم الأَصْل.
وَالثَّالِث: إِن كَانَ الْمَنْع ظَاهرا يعرفهُ أَكثر الْفُقَهَاء صَار مُنْقَطِعًا؛ لبنائه الْمُخْتَلف فِيهِ على الْمُخْتَلف فِيهِ، وَإِن كَانَ خفِيا بِحَيْثُ لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص فَلَا، وَهَذَا اخْتِيَار الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَنقل ابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط " عَنهُ: أَنه اسْتثْنى من الظَّاهِر مَا إِذا قَالَ فِي نفس الِاسْتِدْلَال: إِن سلمت، وَإِلَّا انْقَلب الْكَلَام عَلَيْهِ فَلَا يعد مُنْقَطِعًا.
وَالرَّابِع - وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ -: يعْتَبر عرف ذَلِك الْمَكَان، فَإِن عدوه مُنْقَطِعًا فَذَلِك، وَإِلَّا لم يَنْقَطِع، / فَإِن للجدل عرفا ومراسم فِي كل مَكَان فَيتبع.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": فَإِن اعْترض على حكم الأَصْل: بِأَنِّي لَا أعرف مذهبي فِيهِ، فَإِن أمكن الْمُسْتَدلّ بَيَانه، وَإِلَّا دلّ على إثْبَاته.(7/3569)
هَذَا الْكَلَام زَائِد على مَا نَحن فِيهِ؛ لِأَن الْكَلَام هُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا اعْترض على الْمُسْتَدلّ وَمنع حكم أَصله؟ هَل يدل الْمُسْتَدلّ على حكم أَصله، وَكَلَام ابْن عقيل إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعْتَرض إِذا قَالَ: لَا أعرف مذهبي فِيمَا قست عَلَيْهِ، فَأَما إِن بَينه الْمُسْتَدلّ فالأدلة على إثْبَاته.
قَوْله: (ثمَّ الْأَصَح لَا يَنْقَطِع الْمُعْتَرض بِدلَالَة الْمُسْتَدلّ فَلهُ الِاعْتِرَاض، وَلَيْسَ بِخَارِج عَن الْمَقْصُود) .
يَعْنِي: إِذا فرعنا على سَماع الْمَنْع، وَأَنه لَا يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ، بل لَهُ إِقَامَة الدَّلِيل على حكم الأَصْل، فَإِذا أَقَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ فَهَل يَنْقَطِع الْمُعْتَرض أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أصَحهمَا: لَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّد دلَالَة الْمُسْتَدلّ، فَلهُ الِاعْتِرَاض على ذَلِك الدَّلِيل بطريقه، إِذْ لَا يلْزم من وجود صُورَة دَلِيل صِحَّته.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَنْقَطِع؛ لِأَن اشْتِغَاله بذلك خُرُوج عَن الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ، فَلَيْسَ لَهُ أَن يَعْتَرِضهُ.
قَوْله: (فَيتَوَجَّه [سَبْعَة] [منوع] مترتبة) .(7/3570)
فِي هَذِه الْجُمْلَة [سَبْعَة] اعتراضات: ثَلَاثَة تتَعَلَّق بِالْأَصْلِ، وَثَلَاثَة بِالْعِلَّةِ، وَوَاحِد بالفرع:
فَيُقَال فِي الْإِثْبَات بمنوع مرتبَة: لَا نسلم حكم الأَصْل. سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم أَنه مِمَّا يُقَاس فِيهِ، لم لَا يكون مِمَّا اخْتلف فِي جَوَاز الْقيَاس فِيهِ؟
سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم أَنه مُعَلل، لم لَا يُقَال إِنَّه تعبدي؟
سلمنَا ذَلِك / وَلَا نسلم أَن هَذَا الْوَصْف علته، لم لَا يُقَال: الْعلَّة غَيره؟
سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم وجود الْوَصْف فِي الأَصْل.
سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم أَن الْوَصْف مُتَعَدٍّ، لم لَا يُقَال: إِنَّه قَاصِر؟ سلمنَا ذَلِك، وَلَا نسلم وجوده فِي الْفَرْع.
وَظَاهر إيرادها على هَذَا / التَّرْتِيب وُجُوبه لمناسبة ذَلِك التَّرْتِيب الطبيعي، فَيقدم مِنْهَا مَا يتَعَلَّق بِالْأَصْلِ من منع حكمه، أَو كَونه مِمَّا لَا يُقَاس عَلَيْهِ، أَو كَونه غير مُعَلل، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا فَرعه، لاستنباطها مِنْهُ من منع كَون ذَلِك الْوَصْف عِلّة أَو منع وجوده فِي الأَصْل، أَو منع كَونه مُتَعَدِّيا، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بالفرع لابتنائه عَلَيْهِمَا، كمنع وجود الْوَصْف الْمُدعى عليته فِي الْفَرْع.
وَجَوَاب هَذِه الاعتراضات بِدفع مَا يُرَاد دَفعه مِنْهَا بطريقة المفهومة.(7/3571)
وَقد أَجَاد فِي ذَلِك الْعَلامَة أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي كتاب " الْإِيضَاح "، فَإِنَّهُ فِي فن الجدل، وَهُوَ فِي غَايَة الْحسن.
وَيَأْتِي بعد تَمام القوادح فِي الخاتمة حكم تعدد الاعتراضات من جنس أَو أَجنَاس.
قَوْله: (قَالَ أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم: للمستدل أَن يسْتَدلّ بِدَلِيل عِنْده فَقَط، كمفهوم وَقِيَاس، فَإِن مَنعه خَصمه دلّ عَلَيْهِ وَلم يَنْقَطِع، خلافًا لأبي عَليّ إِن كَانَ الأَصْل خفِيا، وَأطلق قوم الْمَنْع، وَلَيْسَ للمعترض أَن يلْزمه مَا يَعْتَقِدهُ هُوَ، وَلَا أَن يَقُول: إِن سلمت وَإِلَّا دللت عَلَيْهِ، خلافًا للكيا، وَقَالَ الشَّيْخ: لم يَنْقَطِع وَاحِد مِنْهُمَا) . هَذَا من تَمام الْمَسْأَلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " قَالَ أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم: للمستدل أَن(7/3572)
يحْتَج بِدَلِيل عِنْده فَقَط كمفهوم وَقِيَاس، فَإِن مَنعه خَصمه دلّ عَلَيْهِ وَلم يَنْقَطِع خلافًا لأبي عَليّ الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي إِن كَانَ الأَصْل خفِيا.
وَأطلق أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ الْمَنْع عَن قوم.
وَلَيْسَ للمعترض أَن يلْزمه مَا يَعْتَقِدهُ هُوَ فَقَط، وَلَا أَن يَقُول: إِن سلمته وَإِلَّا دللت عَلَيْهِ، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة.
قَالَ: لِأَنَّهُ بالمعارضة كالمستدل - وعنى بِهِ الكيا -.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا - وعنى بِهِ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - لَا يَنْقَطِع وَاحِد مِنْهُمَا فَيكون الِاسْتِدْلَال فِي مهلة النّظر فِي الْمُعَارضَة " انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
قَوْله: (التَّقْسِيم: احْتِمَال لفظ الْمُسْتَدلّ لأمرين فَأكْثر على السوَاء، بَعْضهَا مَمْنُوع / [وَهُوَ] وَارِد عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَبَيَانه على الْمُعْتَرض: كَالصَّحِيحِ فِي الْحَضَر وجد السَّبَب بتعذر المَاء فَجَاز التَّيَمُّم، فَيُقَال: السَّبَب تعذره مُطلقًا، أَو فِي سفر، أَو فِي مرض. الأول مَمْنُوع فَهُوَ منع بعد تَقْسِيم، وَجَوَابه كالاستفسار.(7/3573)
من جملَة القوادح التَّقْسِيم. وَهُوَ كَون اللَّفْظ مترددا بَين احْتِمَالَيْنِ متساويين:
أَحدهمَا: مُسلم لَا يحصل الْمَقْصُود.
وَالْآخر: مَمْنُوع وهوالذي يحصل الْمَقْصُود.
وأهملنا هَذَا الْقَيْد الْأَخير تبعا لِابْنِ الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ، وَلَا بُد مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا مُسلمين يحصلان الْمَقْصُود أَو لَا يحصلان لم يكن للتقسيم معنى؛ لِأَن الْمَقْصُود حَاصِل أَو غير حَاصِل على التَّقْدِيرَيْنِ مَعًا وَمَعَ زِيَادَته.
فَيرد عَلَيْهِ مَا لَو حصلا الْمَقْصُود وَورد على أَحدهمَا من القوادح مَا لَا يرد على الآخر، فَإِنَّهُ من التَّقْسِيم - أَيْضا - لحُصُول غَرَض الْمُعْتَرض بِهِ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: " وَقَوْلنَا على السوَاء لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظَاهرا فِي أَحدهمَا لوَجَبَ تَنْزِيله عَلَيْهِ ".
ومثاله فِي اكثر من اثْنَيْنِ لَو قيل: امْرَأَة بَالِغَة عَاقِلَة يَصح مِنْهَا النِّكَاح كَالرّجلِ.(7/3574)
فَيَقُول الْمُعْتَرض: إِمَّا بِمَعْنى أَن لَهَا تجربة، أَو أَن لَهَا حسن رَأْي وتدبير، أَو أَن لَهَا عقلا غريزيا، فَالْأول وَالثَّانِي ممنوعان، وَالثَّالِث مُسلم، لَكِن لَا يَكْفِي؛ لِأَن الصَّغِيرَة لَهَا عقل غريزي، وَلَا يَصح مِنْهَا النِّكَاح.
وَذكرنَا فِي الْمَتْن مِثَال الْأَمريْنِ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي قبُول هَذَا السُّؤَال.
وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، لَكِن بعد مَا يبين الْمُعْتَرض مَحل التَّرَدُّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن سُؤال الاستفسار يُغني عَنهُ، فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ.
وَجَوَاب هَذَا الِاعْتِرَاض: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ لَفْظِي الَّذِي ذكرته مَحْمُول على الْمَعْنى الَّذِي يُؤَدِّي للدلالة، وَالدَّال لَهَا على حمله على ذَلِك: اللُّغَة، أَو الْعرف الشَّرْعِيّ، اَوْ الْعرف الْعَام، أَو كَونه مجَازًا راجحا بعرف الِاسْتِعْمَال، أَو يكون / أحد الِاحْتِمَالَات ظَاهرا بِسَبَب مَا انْضَمَّ إِلَيْهِ من الْقَرِينَة من لفظ الْمُسْتَدلّ، إِن كَانَ هُنَاكَ قرينَة لفظية أَو حَالية أَو عقلية، بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى إثْبَاته لُغَة وَلَا عرفا.
قَالَ ابْن مُفْلِح بعد ذَلِك: " وَلَو نذْكر الْمُعْتَرض احْتِمَالَيْنِ لم يدل عَلَيْهِمَا لفظ الْمُسْتَدلّ كَقَوْل الْمُسْتَدلّ: وجد سَبَب اسْتِيفَاء الْقصاص فَيجب، فَيَقُول: مَتى منع مَانع الالتجاء إِلَى الْحرم أَو عَدمه؟ الأول مَمْنُوع.
فَإِن أوردهُ على لفظ الْمُسْتَدلّ لم يقبل لعدم تردد لفظ السَّبَب بَين الِاحْتِمَالَيْنِ، وَإِن أوردهُ على دَعْوَاهُ الْمُلَازمَة بَين الحكم وَدَلِيله فَهُوَ مُطَالبَة(7/3575)
بِنَفْي الْمَانِع، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ. فَإِن اسْتدلَّ الْمُعْتَرض مَعَ ذَلِك على وجود الْمعَارض فيعارضه " انْتهى.
قَوْله: (منع وجود الْمُدعى عِلّة فِي الأَصْل، كَالْكَلْبِ حَيَوَان يغسل من ولوغه سبعا، فَلَا يطهر بدبغ كخنزير فَيمْنَع، وَجَوَابه: ببيانه بِدَلِيل من عقل أَو حس أَو شرع بِحَسب حَال الْوَصْف، وَله تَفْسِير لَفظه بمحتمل) .
من الأسئلة والقوادح: منع كَون مَا يدعى عِلّة لحكم الأَصْل مَوْجُودا فِي الأَصْل، فضلا عَن أَن تكون هِيَ الْعلَّة.
مِثَال أَن يَقُول فِي الْكَلْب: حَيَوَان يغسل من ولوغه سبعا فَلَا يقبل جلده الدّباغ كالخنزير.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَا نسلم أَن الْخِنْزِير يغسل من ولوغه سبعا.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا الِاعْتِرَاض: بِإِثْبَات وجود الْوَصْف فِي الأَصْل بِمَا هُوَ طَرِيق ثُبُوت مثله، لِأَن الْوَصْف قد يكون حسيا فبالحس، أَو عقليا فبالعقل، أَو شَرْعِيًّا فبالشرع.
مِثَال لجَمِيع الثَّلَاثَة: إِذا قَالَ فِي الْقَتْل بالمثقل: قتل عمد عدوان، فَلَو قَالَ: لَا نسلم أَنه قتل، قَالَ: بالحس، وَلَو قيل: لَا نسلم أَنه عمد، قَالَ: مَعْلُوم عقلا بأمارته، وَلَو قيل: لَا نسلم أَنه عدوان، قَالَ: لِأَن الشَّرْع حرمه.(7/3576)
وَله تَفْسِير لَفظه بمحتمل.
وَذكر الْآمِدِيّ عَن بَعضهم: يقبل بِمَالِه وجوده فِي الأَصْل وَلَو لم يحْتَملهُ. وَلَيْسَ بِشَيْء.
قَوْله: (منع كَونه / عِلّة: أعظم الأسئلة، وَيقبل عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَجَوَابه ببيانه باحد مسالك الْعلَّة) .
وَهُوَ هُنَا منع الْعلَّة فِي الْوَصْف الَّذِي علل بِهِ الْمُسْتَدلّ، والمطالبة بتصحيح ذَلِك.
قَالَ الْآمِدِيّ وَمن تبعه: هُوَ أعظم الأسئلة؛ لعُمُوم وُرُوده وتشعب مسالكه. وَيقبل؛ لِئَلَّا يحْتَج الْمُسْتَدلّ بِكُل طرد، وَهُوَ لعب، وَلِأَن الأَصْل عدم دَلِيل الْقيَاس.(7/3577)
خُولِفَ فِي مَا نقل عَن الصَّحَابَة وَأفَاد الظَّن.
وَلَيْسَ الْقيَاس رد فرع إِلَى أصل بِجَامِع " مَا "، بل بِجَامِع مظنون، وَلَيْسَ عجز الْمعَارض دَلِيل صِحَّته للُزُوم صِحَة كل صُورَة دَلِيل لعَجزه.
فَهَذَا السُّؤَال يعم كل مَا يدعى أَنه عِلّة.
فطرقه كَثِيرَة مُخْتَلفَة، وَيُقَال لَهُ: سُؤال الْمُطَالبَة، وَحَيْثُ أطلقت الْمُطَالبَة فَلَا يقْصد فِي الْعرف سوى ذَلِك، وَمَتى أُرِيد غَيره ذكر مُقَيّدا، فَيُقَال: الْمُطَالبَة بِكَذَا.
وَلَو لم يقبل لَأَدَّى الْحَال إِلَى اللّعب فِي التَّمَسُّك بِكُل طرد من الْأَوْصَاف كالطول وَالْقصر، فَإِن الْمُسْتَدلّ يَأْمَن الْمَنْع فَيتَعَلَّق بِمَا شَاءَ من الْأَوْصَاف.
وَقيل: لَا يقبل؛ لِأَن الْقيَاس رد فرع إِلَى أصل بِجَامِع، وَقد وجد، فَفِيمَ الْمَنْع؟
ورده: أَن ذَلِك مظنون الصِّحَّة، وَالْوَصْف الطردي مظنون الْفساد.
وَجَوَاب هَذَا السُّؤَال: بِأَن يثبت الْمُسْتَدلّ علية الْوَصْف بِأحد الطّرق المفيدة لِلْعِلَّةِ: من إِجْمَاع، أَو نَص، أَو مُنَاسبَة، أَو غير ذَلِك من مسالك الْعلَّة.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَلما ظهر أَن هَذَا الْمَنْع مسموع.
فَالْجَوَاب: إِثْبَات الْعلية بمسلك من مسالكها الْمَذْكُورَة من قبل، وكل مَسْلَك تمسك بهَا فَيرد عَلَيْهِ مَا هُوَ شَرطه، أَي: بِمَا يَلِيق بِهِ من الأسئلة الْمَخْصُوصَة بِهِ، وَقد نبه - أَي: ابْن الْحَاجِب - هَهُنَا على اعتراضات الْأَدِلَّة(7/3578)
الْأُخْرَى [بتبعية] اعتراضات الْقيَاس على سَبِيل الإيجاز، وَلَا بَأْس أَن نبسط فِيهِ الْكَلَام بعض الْبسط؛ لِأَن الْبَحْث كَمَا يَقع فِي الْقيَاس يَقع فِي سَائِر الْأَدِلَّة، وَمَعْرِفَة هَذِه الأسئلة نافعة فِي الْمَوْضِعَيْنِ
فَنَقُول: الأسئلة بِحَسب مَا يرد عَلَيْهِ من الْإِجْمَاع وَالْكتاب / وَالسّنة وَتَخْرِيج المناط أَرْبَعَة أَصْنَاف: الصِّنْف الأول: على الْإِجْمَاع، وَلم يذكرهُ ابْن الْحَاجِب لقلته.
مِثَاله: مَا قَالَت الْحَنَفِيَّة فِي وَطْء الثّيّب: الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز الرَّد مجَّانا، فَإِن عمر وزيدا أوجبا نصف عشر الْقيمَة وَفِي الْبكر عشرهَا، وعَلى منع الرَّد، من غير نَكِير، وَهُوَ ظَنِّي فِي دلَالَته وَفِي نَقله، وَلَوْلَا أَحدهمَا لما تصور فِي مَحل الْخلاف.
والاعتراض على وُجُوه:
الأول: منع وجود الْإِجْمَاع بِصَرِيح مُخَالفَة، أَو منع دلَالَة السُّكُوت على الْمُوَافقَة.
الثَّانِي: الطعْن فِي السَّنَد بِأَن نَقله فلَان وَهُوَ ضَعِيف إِن أمكنه.(7/3579)
الثَّالِث: الْمُعَارضَة، وَلَا يجوز بِالْقِيَاسِ، مثل: الْعَيْب يثبت الرَّد، وَيثبت عَلَيْهِ الْعَيْب للرَّدّ بالمناسبة أَو غَيرهَا، وَلَا بِخَبَر وَاحِد إِلَّا إِذا كَانَت دلَالَته قَاطِعَة، وَلَكِن بِإِجْمَاع آخر أَو بمتواتر.
الصِّنْف الثَّانِي: على ظَاهر الْكتاب كَمَا إِذا اسْتدلَّ فِي مَسْأَلَة بيع الْغَائِب بقوله: {وَأحل اللَّهِ البيع} [الْبَقَرَة 275] ، وَهُوَ يدل على صِحَة كل بيع.
والاعتراض على وُجُوه:
الأول: الاستفسار، وَقد عَرفته.
الثَّانِي: منع ظُهُوره فِي الدّلَالَة، فَإِنَّهُ خرج صور لَا تحصى، أَو لَا نسلم أَن اللَّام للْعُمُوم فَإِنَّهُ يَجِيء للْعُمُوم وَالْخُصُوص.
الثَّالِث: التَّأْوِيل، وَهُوَ أَنه وَإِن كَانَ ظَاهرا فِيمَا ذكرت، لَكِن يجب صرفه عَنهُ إِلَى محمل مَرْجُوح بِدَلِيل يصيره راجحا، نَحْو قَوْله: " نهى عَن بيع الْغرَر "، وَهَذَا أقوى؛ لِأَنَّهُ عَام لم يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَخْصِيص أَو التَّخْصِيص [فِيهِ أقل] .(7/3580)
الرَّابِع: الْإِجْمَال، فَإِن مَا ذَكرْنَاهُ من وَجه التَّرْجِيح وَإِن لم يصيره راجحا فَإِنَّهُ يُعَارض الظُّهُور، فَيبقى مُجملا.
الْخَامِس: الْمُعَارضَة بِآيَة أُخْرَى نَحْو قَوْله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [الْبَقَرَة: 188] ، وَهَذَا لم يتَحَقَّق فِيهِ الرضى فَيكون بَاطِلا، أَو لحَدِيث متواتر كَمَا ذكرنَا.
السَّادِس: منع القَوْل بِمُوجبِه، وَهُوَ تَسْلِيم مُقْتَضى النَّص مَعَ بَقَاء الْخلاف، مثل أَن يَقُول: سلمنَا حل البيع وَالْخلاف فِي صِحَّته بَاقٍ، فَإِنَّهُ مَا أثْبته.
[الصِّنْف] الثَّالِث / مَا يرد على ظَاهر السّنة، كَمَا إِذا اسْتدلَّ بقوله: " أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن "، على أَن النِّكَاح لَا يَنْفَسِخ.(7/3581)
والاعتراض عَلَيْهِ بالوجوه السِّتَّة الْمَذْكُورَة:
الأول: الاستفسار.
الثَّانِي: منع الظُّهُور، إِذْ لَيْسَ فِيمَا ذكرت من الْخَبَر صِيغَة عُمُوم، أَو لِأَنَّهُ خطاب لخاص، أَو لِأَنَّهُ ورد على سَبَب خَاص.
الثَّالِث: التَّأْوِيل بِأَن المُرَاد: تزوج مِنْهُنَّ أَرْبعا بِعقد جَدِيد، فَإِن الطَّارِئ كالمبتدأ فِي إِفْسَاد النِّكَاح كالرضاع.
الرَّابِع: الْإِجْمَال، كَمَا ذكرنَا.
الْخَامِس: الْمُعَارضَة بِنَصّ آخر.
السَّادِس: بِالْمُوجبِ.
وَهَهُنَا أسئلة تخْتَص بأخبار الْآحَاد، وَهُوَ الطعْن فِي السَّنَد بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر مُرْسل، أَو ضَعِيف، أَو فِي رِوَايَته قدح، فَإِن رَاوِيه ضَعِيف لخلل فِي عَدَالَته، أَو ضَبطه، أَو بِأَنَّهُ كذبه الشَّيْخ فَقَالَ: لم يرو عني.(7/3582)
مِثَاله: إِذا قَالَ الْأَصْحَاب: " الْمُتَبَايعَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا " قَالَ الْحَنَفِيَّة: لَا يَصح لِأَن رَاوِيه مَالك وَقد خَالفه.
وَإِذا قُلْنَا: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا، فنكاحها بَاطِل " قَالُوا: لَا يَصح؛ لِأَنَّهُ يرويهِ سُلَيْمَان بن مُوسَى الدِّمَشْقِي عَن الزُّهْرِيّ، فَسئلَ؟ فَقَالَ: لَا أعرفهُ.(7/3583)
الصِّنْف الرَّابِع: مَا يرد على تَخْرِيج المناط، وَهُوَ مَا تقدم من عدم الْإِفْضَاء والمعارضة، أَو عدم الظُّهُور، أَو عدم الانضباط لَهُ، وَمَا تقدم مِنْهُ أَنه مُرْسل أَو غَرِيب أَو شبه) انْتهى كَلَام الْعَضُد وَقد أَجَاد.
وَهَذَا بِعَيْنِه كُله فِي " الْإِيضَاح " لأبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ.
قَوْله: (عدم التَّأْثِير بِأَن الْوَصْف لَا مُنَاسبَة لَهُ، لَا يُؤثر فِي قِيَاس الدّلَالَة فِي الْأَصَح، وَفِي " الِانْتِصَار " لَا يرد على قِيَاس ناف للْحكم) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يُؤثر فِي قِيَاس الدّلَالَة على الصَّحِيح فِيهِ.(7/3584)
وَقَالَ ابْن عقيل: لِأَنَّهُ لَا يلْزم من عدم الدَّلِيل عدم الْمَدْلُول.
وَذكره أَبُو الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي مَسْأَلَة عَدَالَة الشُّهُود وَالنِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة.
وَقَالَ أَيْضا: لَا يرد على الْقيَاس النَّافِي للْحكم، لتَعَدد سَبَب انتفائه لعدم الْعلَّة، أَو جزئها، أَو وجود مَانع، / أَو فَوَات شَرط، بِخِلَاف سَبَب ثُبُوته؛ لِأَن عدم التَّأْثِير إِنَّمَا يَصح إِذا لم تخلف الْعلَّة عِلّة أُخْرَى؛ وَلِأَنَّهُ يرجع إِلَى قِيَاس الدّلَالَة، وَالْقَاضِي يفْسد كثيرا الْجمع وَالْفرق بِعَدَمِ التَّأْثِير فِي النَّفْي، وَهُوَ ضَعِيف، كالفرق فِي لبن الآدميات بَين الْحَيَّة وَالْميتَة بِالنَّجَاسَةِ.
فَيَقُول: لَا تَأْثِير لهَذَا، فَإِن لبن الرجل وَالصَّيْد طَاهِر، وَلَا يجوز بَيْعه. وكالفرق بَين اللَّبن وَبَين الدمع والعرق لعدم الْمَنْفَعَة.
فَيَقُول: الْوَقْف وَأم الْوَلَد فِيهِ مَنْفَعَة، وَلَا يجوز بَيْعه.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " من القوادح فِي الْعلَّة عدم التَّأْثِير، كَأَن يَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا الَّذِي علل بِهِ غير مُنَاسِب للتَّعْلِيل؛ لكَونه طرديا، أَو لاختلال شَرط من شُرُوط الْعلَّة فِيهِ، فَلَا يكْتَفى بِهِ فِي التَّعْلِيل.(7/3585)
وَوجه تَسْمِيَته بذلك أَن المُرَاد بالتأثير هُنَا اقتضاؤه ذَلِك إِمَّا بِمَعْنى [الْمُعَرّف] أَو الْمُؤثر على مَا سبق من الْخلاف؛ فَإِذا لم يفد أثرا فَلَا تَأْثِير لَهُ.
وعرفه الرَّازِيّ، والبيضاوي: بِثُبُوت الحكم بِدُونِ الْوَصْف فِي ذَلِك الأَصْل بِخُصُوصِهِ بِخِلَاف عدم الْعَكْس فَإِنَّهُ فِي صُورَة أُخْرَى، لَكِن تَعْرِيفه بِمَا ذكرنَا أَعم من هَذَا التَّفْسِير؛ لِأَن تفسيرنا أَن يُوجد الْوَصْف وَلكنه غير مُنَاسِب سَوَاء وجد الحكم أَو لم يُوجد، مَعَ أَن الحكم إِذا وجد قد لَا يُوجد مَعَه الْوَصْف، وَيَنْبَنِي على التعريفين بَيَان مَا يقْدَح فِيهِ من الْعِلَل، فعلى تفسيرنا لَا يكون قادحا إِلَّا فِي قِيَاس الْمَعْنى دون قِيَاس الشّبَه والطرد، وَأَن لَا يكون إِلَّا فِي الْعلَّة المستنبطة الْمُخْتَلف فِيهَا دون المنصوصة أَو المستنبطة الْمجمع عَلَيْهَا " انْتهى.
قَوْله: (وَقسم أَرْبَعَة أَقسَام) .
أَي: قسم الجدليون عدم التَّأْثِير أَرْبَعَة أَقسَام: مَا لَا تَأْثِير لَهُ أصلا.(7/3586)
وَمَا لَا تَأْثِير لَهُ فِي حكم ذَلِك الأَصْل.
وَمَا اشْتَمَل على قيد لَا تَأْثِير لَهُ.
وَمَا لَا يظْهر فِيهِ شَيْء من ذَلِك، وَلَكِن لَا يطرد فِي مَحل النزاع.
فَيعلم / من ذَلِك عدم تَأْثِيره، وَلكُل قسم اسْم يعرف بِهِ. فَالْأول قَوْلنَا: (عدم التَّأْثِير فِي الْوَصْف) .
أَي: فِي ذَلِك الْوَصْف، أَي: لَا تَأْثِير لَهُ أصلا لكَونه طرديا.
مِثَاله: صَلَاة الصُّبْح صَلَاة لَا تقصر فَلَا يقدم أذانها على وَقتهَا كالمغرب، فَعدم الْقصر هُنَا بِالنِّسْبَةِ لعدم التَّقْدِيم طردي، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يقدم الْأَذَان على الْفجْر لِأَنَّهَا لَا تقصر، واطرد ذَلِك فِي الْمغرب، لكنه لم ينعكس فِي بَقِيَّة الصَّلَوَات، إِذْ مُقْتَضى هَذَا الْقيَاس أَن مَا يقصر من الصَّلَوَات يجوز تَقْدِيم أَذَانه على وقته من حَيْثُ انعكاس الْعلَّة، وَيرجع حَاصله إِلَى سُؤال الْمُطَالبَة بصلاحية كَونه عِلّة، كَمَا سبق.
وَالثَّانِي قَوْلنَا: (عدم التَّأْثِير فِي الأَصْل) .(7/3587)
بِأَن يسْتَغْنى عَنهُ بِوَصْف آخر لثُبُوت حكمه بِدُونِهِ.
مِثَال فِي بيع الْغَائِب: بيع غير مرئي فَبَطل كالطير فِي الْهَوَاء. فيعارض بِأَن الْعلَّة الْعَجز عَن التَّسْلِيم، وَهُوَ كَاف فِي الْبطلَان.
وَعدم التَّأْثِير هُنَا جِهَة الْعَكْس، لِأَن [تَعْلِيل عدم] صِحَة بيع الْغَائِب بِكَوْنِهِ غير مرئي، يَقْتَضِي أَن كل مرئي يجوز بَيْعه، وَقد بَطل بيع الطير فِي الْهَوَاء، وَحَاصِله مُعَارضَة فِي الأَصْل، أَي: بإبداء عِلّة أُخْرَى وَهِي الْعَجز عَن التَّسْلِيم.
وَلذَلِك بناه الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره على جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين، فَإِن قُلْنَا بِجَوَازِهِ لم يقْدَح وَإِلَّا قدح.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره (وقبوله ورده مَبْنِيّ على تَعْلِيل الحكم بعلتين
وَلم يقبله أَبُو مُحَمَّد الْفَخر إِسْمَاعِيل؛ بِنَاء على هَذَا.
وَقَبله الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيره.(7/3588)
وَهُوَ مُعَارضَة فِي الأَصْل) .
وَقرر الْمِثَال القَاضِي أَبُو الطّيب بتقرير آخر فَقَالَ: " لنا أَنه بَاعَ عينا لم ير مِنْهَا شَيْئا فَلَا يَصح، كَمَا لَو بَاعَ النَّوَى فِي التَّمْر.
قَالَ: فَإِن قيل: قَوْلكُم لم ير مِنْهَا شَيْئا لَا تَأْثِير لَهُ فِي الأَصْل؛ لِأَن بعض النَّوَى إِذا كَانَ ظَاهرا يرى، وَبَعضه غير ظَاهر، فَلَا يَصح البيع.
فَالْجَوَاب: أَنه لَيْسَ من شُرُوط التَّأْثِير أَن يكون مَوْجُودا فِي كل مَوضِع، وَإِنَّمَا يكون وجود التَّأْثِير فِي مَوضِع وَاحِد، [وتأثيره] فِي بيع الْبِطِّيخ واللوز / فَإِنَّهُ يرى بَعْضهَا وَيكون بيعهَا صَحِيحا ".
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": عدم التَّأْثِير فِي الأَصْل هُوَ تَقْيِيد عِلّة الأَصْل بِوَصْف لَا أثر لأَجله فِي الأَصْل. كَقَوْل الشَّافِعِي فِي منع نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة: أمة كَافِرَة فَلَا تنْكح كالأمة الْمَجُوسِيَّة، فَلَا أثر للرق فِي الأَصْل قَالَ: والمحققون على فَسَاد الْعلَّة بذلك.
وَقيل بِصِحَّتِهَا؛ إِذْ الرّقّ فِي الْجُمْلَة أثر فِي الْمَنْع، وَشبهه بِالشَّاهِدِ الثَّالِث المستظهر بِهِ، وَهُوَ ضَعِيف؛ إِذْ الثَّالِث مبقى لوُقُوعه ركنا عِنْد تعذر أحد الشَّاهِدين بِخِلَاف الرّقّ.(7/3589)
ثمَّ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِذا لم يكن لذَلِك الْوَصْف أثر وَلَا غَرَض فِيهِ فَهُوَ لَغْو، وَلَا تبطل الْعلَّة لاستقلالها مَعَ حذف الْقَيْد.
قَوْله: (وَعَدَمه فِي الحكم) .
أَي: عدم التَّأْثِير فِي الحكم، فَيكون من جملَة مَا علل بِهِ قيد لَا تَأْثِير لَهُ فِي حكم الأَصْل الَّذِي قد علل لَهُ، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا قَوْلنَا: (أَن لَا يكون لذكره فَائِدَة) .
مِثَاله: فِي الْمُرْتَدين مشركون أتلفوا مَالا فِي دَار الْحَرْب، فَلَا ضَمَان عَلَيْهِم كالحربي فقيد دَار الْحَرْب طردي لَا فَائِدَة فِي ذكره، فَإِن من أوجب الضَّمَان أوجبه مُطلقًا، وَمن نَفَاهُ نَفَاهُ مُطلقًا، فَيرجع إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ الْقسم الأول، وَهُوَ الْمُطَالبَة بتأثير كَونه فِي دَار الْحَرْب.
وَمثله بعض أَصْحَابنَا بقولنَا فِي تَخْلِيل الْخمر: مَائِع لَا يطهر بِالْكَثْرَةِ؛ فَلَا يطهر بالصنعة: كالدهن وَاللَّبن.
فَقيل للْقَاضِي: قَوْلك لَا يطهر بالصنعة لَا أثر لَهُ فِي الأَصْل.
فَقَالَ: هَذَا حكم الْعلَّة، والتأثير يعْتَبر فِي الْعلَّة دون الحكم.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هَذَا ضَعِيف.(7/3590)
وَذكر أَبُو الْخطاب فِيهِ مذهبين، وَمثله بِهَذَا.
قَوْلنَا: (أَوله فَائِدَة ضَرُورِيَّة) .
هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي: لَا تَأْثِير لذَلِك الْقَيْد، وَلَكِن لَهُ فَائِدَة فِي الْقيَاس.
كَمَا يُقَال فِي اشْتِرَاط الْعدَد فِي الْأَحْجَار المستجمر بهَا: عبَادَة مُتَعَلقَة بالأحجار لم يتقدمها مَعْصِيّة، فَاعْتبر فِيهَا الْعدَد كرمي الْجمار، وَقيد لم يتقدمها مَعْصِيّة لَا تَأْثِير لَهُ، لَكِن لذكره فَائِدَة إِذْ لَو حذفه لانتقضت علته بِالرَّجمِ.
وَهَذَا أَيْضا رَاجع إِلَى الأول كَالَّذي قبله.
قَوْلنَا: (أَو غير ضَرُورِيَّة) .
هَذَا هُوَ النَّوْع / الثَّالِث.(7/3591)
وَهُوَ أَن لَهُ فَائِدَة، لَكِن الْمُعَلل لَا يضْطَر إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْقيَاس، وَلِهَذَا يُسمى الحشو، كَمَا لَو قيل /: إِن الْجُمُعَة تصح بِغَيْر إِذن الإِمَام: صَلَاة مَفْرُوضَة، فَلم تفْتَقر إِقَامَتهَا إِلَى إِذْنه كالظهر.
فَذكر الْفَرْض لَا فَائِدَة فِيهِ؛ لِأَن النَّفْل كَذَلِك، وَإِنَّمَا ذكر لتقريب الْفَرْع من الأَصْل وتقوية الشّبَه بَينهمَا؛ إِذْ الْفَرْض بِالْفَرْضِ أشبه من غَيره.
وَقيل: لَا يضر، للتّنْبِيه على أَن غير الْمَفْرُوض أولى أَن لَا يفْتَقر.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": فمفروضة، قيل: يضر دُخُوله؛ لِأَنَّهُ بعض الْعلَّة.
وَقيل: لَا، فَإِن فِيهِ تَنْبِيها على أَن غير الْفَرْض أولى أَن لَا يفْتَقر، وَلِأَنَّهُ يزِيد تقريبه من الأَصْل فَالْأولى ذكره انْتهى.
قَوْلنَا: (الرَّابِع: عَدمه) .
أَي: عدم التَّأْثِير فِي الْفَرْع لَكِن لَهُ تَأْثِير، وَلَا يطرد فِي ذَلِك الْفَرْع وَنَحْوه من محَال النزاع.
مِثَاله فِي ولَايَة الْمَرْأَة: زوجت نَفسهَا فَلَا يَصح، كَمَا لَو زَوجهَا وَليهَا بِغَيْر كُفْء.
فالتزويج من غير كُفْء وَإِن ناسب الْبطلَان، إِلَّا أَنه لَا اطراد لَهُ فِي صُورَة النزاع الَّتِي هِيَ تَزْوِيجهَا نَفسهَا مُطلقًا، فَبَان أَن الْوَصْف لَا أثر لَهُ فِي الْفَرْع الْمُتَنَازع فِيهِ.(7/3592)
وَحَاصِل هَذَا أَنه كالثاني، من حَيْثُ إِن حكم الْفَرْع هُنَا مُضَاف إِلَى غير الْوَصْف الْمَذْكُور، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والتاج السُّبْكِيّ.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير ": إِنَّه كالثالث.
وَقيل: إِنَّه الصَّوَاب.
قَالَ الْآمِدِيّ: عدم التَّأْثِير فِي مَحل النزاع رده قوم، لمنعهم جَوَاز الْفَرْض فِي الدَّلِيل، وَقَبله من لم يمنعهُ، وَهُوَ الْمُخْتَار.
وَمَعَ ذَلِك كُله فالوصف قد يُقيد لقصد دفع النَّقْض، أَو لقصد الْفَرْض فِي الدَّلِيل.(7/3593)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: (وَهَذَا مَبْنِيّ على جَوَاز الْفَرْض فِي بعض صور الْمَسْأَلَة، من جوزه رده، وَمن مَنعه قبله، فالجواز للموفق، وَالْمجد، وَالْأَكْثَر، وَالْجَوَاز بِشَرْط بِنَاء مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض عَلَيْهِ لقوم، وَالْمَنْع لِابْنِ فورك، أَي: الْمَنْع مُطلقًا، وَالْمَنْع إِن كَانَ الْوَصْف طردا لِابْنِ الْحَاجِب) .
وَاعْلَم / أَن هَذَا الْقسم الرَّابِع كَيفَ كَانَ مَبْنِيا على قبُول الْفَرْض، من قبل الْفَرْض رد هَذَا، وَمن مَنعه قبل هَذَا.
كَمَا لَو قَالَ الْمَسْئُول عَن نُفُوذ عتق الرَّاهِن: أفرض الْكَلَام فِي الْمُعسر، أَو عَمَّن زوجت نَفسهَا، أَو أفرض فِي من زوجت بِغَيْر كُفْء، فَإِذا خص الْمُسْتَدلّ تَزْوِيجهَا نَفسهَا من غير الْكُفْء بِالدَّلِيلِ فقد فرض دَلِيله فِي بعض صور النزاع.
إِذا علم ذَلِك فحاصل الْخلاف فِي الْفَرْض مَذَاهِب:(7/3594)
أَحدهَا: الْجَوَاز، وَبِه قَالَ الْمُوفق، وَالْمجد، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، وَجُمْهُور الْعلمَاء.
قَالَ الشَّيْخ مجد الدّين: يجوز الْفَرْض فِي بعض صور الْمَسْئُول عَنْهَا عِنْد عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ.
وَلذَلِك قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَهُ أَن يخص الدَّلِيل، فيقيد لغَرَض الْفَرْض بِبَعْض صور الْخلاف إِلَّا أَن يعم الْفتيا فَلَا. انْتهى.
وَقَالَ الْفَخر إِسْمَاعِيل: وَالْمُخْتَار جَوَاز الْفَرْض من غير بِنَاء، وعلته الِاصْطِلَاح لإرفاق الْمُسْتَدلّ وتقريب الْفَائِدَة.
وَاسْتدلَّ للْجُوَاز بِأَنَّهُ قد لَا يساعده الدَّلِيل على الْكل، أَو يساعده غير أَنه لَا يُعلل على دفع كَلَام الْخصم بِأَن يكون كَلَامه فِي بعض الصُّور أشكل، فيستفيد بِالْفَرْضِ غَرضا صَحِيحا، وَلَا يفْسد بذلك جَوَابه؛ لِأَن من سَأَلَ عَن الْكل فقد سَأَلَ عَن الْبَعْض.
الْمَذْهَب الثَّانِي: الْجَوَاز بِشَرْط بِنَاء مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض إِلَى الْفَرْض، أَي: يَبْنِي غير مَا فَرْضه، اخْتَارَهُ جمَاعَة.(7/3595)
الْمَذْهَب الثَّالِث: الْمَنْع، وَبِه قَالَ ابْن فورك.
فَشرط أَن يكون الدَّلِيل عَاما لجَمِيع مواقع النزاع ليَكُون مطابقا للسؤال ودافعا لاعتراض الْخصم.
الْمَذْهَب الرَّابِع: وَبِه قَالَ ابْن الْحَاجِب: الْمَنْع إِن كَانَ الْوَصْف المجعول فِي الْفَرْض طردا وَإِلَّا قبل.
وَقَالَ ابْن التلمساني: الْوَجْه أَن يُقَال قد يُسْتَفَاد بِالْفَرْضِ تضييق مجاري الِاعْتِرَاض على الْخصم، وَهُوَ من مَقْصُود الجدل، أَو وضوح التَّقْرِير.
وَلِهَذَا الْمَعْنى عدل الْخَلِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي تَقْرِير الِاسْتِدْلَال / على نمْرُود بالأثر على الْمُؤثر، أَي: الأوضح عِنْد نمْرُود بقوله تَعَالَى: {فَإِن اللَّهِ يَأْتِي بالشمس من الْمشرق} الْآيَة [الْبَقَرَة: 258] .
وَيَأْتِي ذَلِك فِي فَائِدَة الجدل قبيل الاستدال.(7/3596)
قَوْله: (فعلى الْجَوَاز يكفى قَوْله: ثَبت الحكم فِي بعض الصُّور فَلَزِمَ ثُبُوته فِي الْبَاقِي، وَقيل: لَا، فلابد من رد مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض إِلَيْهِ بِجَامِع، وَقيل: إِن كَانَ الْفَرْض فِي صُورَة السُّؤَال لم يحْتَج إِلَيْهِ، وَإِلَّا احْتِيجَ، وَاخْتَارَ الْفَخر جَوَاز الْفَرْض من غير بِنَاء، ومطابقة الْجَواب السُّؤَال، وَيجوز أَعم) .
على جَوَاز الْفَرْض اخْتلف فِي كَيْفيَّة الْبناء:
فَقيل: يَكْفِي أَن يَقُول: ثَبت الحكم فِي بعض الصُّور فَيلْزم القَوْل بِثُبُوتِهِ فِي الْبَاقِي ضَرُورَة أَن لَا قَائِل بِالْفرقِ، وَهَذَا الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن.
وَقيل: لَا يَكْفِيهِ ذَلِك، بل يحْتَاج إِلَى رد مَا خرج عَن مَحل الْفَرْض إِلَى مَحل الْفَرْض بِجَامِع صَحِيح، كَمَا هُوَ قَاعِدَة الْقيَاس.
وَقيل: إِن كَانَ الْفَرْض فِي صُورَة السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْبناء، وَإِن عدل عَن الْفَرْض إِلَى غير مَحل السُّؤَال فَلَا بُد حِينَئِذٍ من بِنَاء السُّؤَال على مَحل الْفَرْض بطرِيق الْقيَاس، وَالله أعلم.
وَاخْتَارَ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: مُطَابقَة الْجَواب للسؤال وَيجوز أَعم، وَإِن كَانَ أخص.
فَمنع ابْن فورك الْفَرْض فِي الْجَواب وَالدَّلِيل، وَجوزهُ غَيره.
مثل: السُّؤَال عَن فسخ النِّكَاح بالعيوب الْخمس، فَيعرض فِي وَاحِد مِنْهَا؛ لِأَن الدَّلِيل قد يساعده فِي الرتق دون غَيره وَله غَرَض صَحِيح.(7/3597)
وَجوز قوم الْفَرْض فِي الدَّلِيل لَا الْجَواب ليطابق، وَهُوَ خطأ، انْتهى كَلَام الْفَخر.
قَوْله: (وَعِنْدنَا وَعند الْأَكْثَر: إِن أَتَى بِمَا لَا أثر لَهُ فِي الأَصْل لدفع النَّقْض لم يجز، وَقيل: بِلَا وَقيل إِن صححت لعِلَّة بالطرد، وَفِي " التَّمْهِيد " مَا يقتضى منع الْإِتْيَان [بِهِ] تَأْكِيدًا، وَقَالَ ابْن عقيل: لَهُ ذكره تَأْكِيدًا، أَو لتأكيد الْعلَّة فيتأكد الحكم، وللبيان، ولتقريبه من الأَصْل، وَقَالَ: إِن جعل الْوَصْف مُخَصّصا لحكم الْعلَّة لم يَصح فِي الْأَصَح) . /
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (وَعِنْدنَا الْأَكْثَر: إِن أَتَى بِمَا [لَا] أثر لَهُ فِي الأَصْل لقصد دفع النَّقْض لم يجز.
وَفِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد ": يحْتَمل أَن لَا يجوز، وَيحْتَمل أَن يجوز؛ لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ لتعليق الحكم بِالْوَصْفِ الْمُؤثر.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي: أَنه أجَازه من صحّح الْعلَّة بالطرد، وَبَعْضهمْ مُطلقًا، ثمَّ اخْتَار تَفْصِيلًا) .(7/3598)
قَالَ ابْن مُفْلِح: " فَإِن أَتَى بِهِ تَأْكِيدًا فَكَلَامه فِي " التَّمْهِيد " يَقْتَضِي مَنعه بِخِلَافِهِ لزِيَادَة بَيَان.
وَيَقْتَضِي كَلَام ابْن عقيل أَن لَهُ ذكره تَأْكِيدًا، أَو لتأكيد الْعلَّة فيتأكد الحكم، وللبيان، ولتقريبه من الأَصْل.
وَقَالَ: إِن جعل الْوَصْف مُخَصّصا لحكم الْعلَّة: كتخليل الْخمر: مَائِع لَا يطهر بِكَثْرَة فَكَذَا بصنعة آدَمِيّ كخل نجس، فَلَا يطهر الأَصْل مُطلقًا.
فصححه بعض الجدليين وَبَعض الشَّافِعِيَّة؛ لِأَن التَّأْثِير يُطَالب بِهِ فِي الْعلَّة لَا الحكم.(7/3599)
وَقيل: الحكم عدم الطَّهَارَة، وتعلقه بالصنعة من الْعلَّة فَيجب بَيَان تَأْثِيره، قَالَ: وَهَذَا أصح: انْتهى نقل ابْن مُفْلِح.
وتابعناه على ذَلِك، وَهَذَا الْكَلَام لابد فِيهِ بعض التّكْرَار من النَّوْع الثَّالِث، من عدم التَّأْثِير فِي الحكم، وَمن عَدمه فِي الأَصْل فَليُحرر، فَإِنِّي نقلت هَذَا الْأَخير من كَلَام ابْن مُفْلِح، ونقلت ذَلِك من غَيره.
قَوْله: (فَائِدَة الْفَرْض أَن يسْأَل عَاما فيجيب خَاصّا، أَو يُفْتِي عَاما وَيدل خَاصّا، وَقيل: تخصص بعض [الصُّور] النزاع بِالدَّلِيلِ، وَالتَّقْدِير: إِعْطَاء الْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم وَعَكسه، وَمحل النزاع: الْمحل الْمُفْتى بِهِ فِي الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا) .
هَذِه فَائِدَة تدل على مَعَاني أَلْفَاظ متداولة بَين الجدليين لَا بَأْس بذكرها، نقلتها من " الْإِيضَاح " لأبي مُحَمَّد الْجَوْزِيّ.
فَقَالَ: الْفَرْض آكِد من الْوَاجِب، وَالْفَرْض: أَن يسْأَل عَاما فيجيب خَاصّا، أَو يُفْتِي عَاما وَيدل خَاصّا.
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": الْفَرْض: وَهُوَ تَخْصِيص بعض صور النزاع بالحجاج، أَي: وَإِقَامَة الدَّلِيل عَلَيْهِ.(7/3600)
وَإِنَّمَا تعرضنا لحد الْفَرْض هُنَا لقولنا قبل: وَهَذَا مَبْنِيّ على جَوَاز الْفَرْض، وَلذَلِك ذكره التَّاج السُّبْكِيّ وَغَيره هُنَا.
وَهُوَ معنى كَلَام أبي مُحَمَّد / الْجَوْزِيّ: فَمَا فِي ذكر الْخلاف فَائِدَة.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ - أَيْضا -: " التَّقْدِير: هُوَ إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود، وَالْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم ".
وَهُوَ مُقَارن الْفَرْض؛ فَإِنَّهُ يُقَال: يقدر الْفَرْض فِي كَذَا، وَالْفَرْض مُقَدّر فِي كَذَا.
مِثَال إِعْطَاء الْمَوْجُود حكم الْمَعْدُوم: المَاء للْمَرِيض الَّذِي يخَاف على نَفسه بِاسْتِعْمَالِهِ فَتَيَمم وَتَركه مَعَ وجوده حسا.
وَمِثَال إِعْطَاء الْمَعْدُوم حكم الْمَوْجُود: الْمَقْتُول تورث عَنهُ الدِّيَة، وَإِنَّمَا تجب بِمَوْتِهِ وَلَا تورث عَنهُ إِلَّا إِذا دخلت فِي ملكه، فَيقدر دُخُولهَا قبل مَوته.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد: " مَحل النزاع هُوَ الحكم الْمُفْتى بِهِ فِي الْمَسْأَلَة الْمُخْتَلف فِيهَا "، وَهُوَ - أَيْضا - كالمقارن للْفَرض، وَالتَّقْدِير بِمحل النزاع هُوَ الْمُتَكَلّم فِيهِ من الْجَانِبَيْنِ بَين الْخَصْمَيْنِ، وَذَلِكَ كُله وَاضح، وَلَكِن لما كَانَ لَهُ بعض تعلق بِهَذَا الْموضع ذكرنَا ذَلِك فَائِدَة.
قَوْله: (الْقدح فِي مُنَاسبَة الْوَصْف بِمَا يلْزم من مفْسدَة راجحة، أَو مُسَاوِيَة.
وَجَوَابه بالترجيح الْقدح فِي إفضاء الحكم إِلَى الْمَقْصُود، كتعليل حُرْمَة الْمُصَاهَرَة أبدا بِالْحَاجةِ إِلَى رفع الْحجاب، فَإِذا تأبد انسد بَاب القمع، فَيُقَال:(7/3601)
سَده يُفْضِي إِلَى الْفُجُور، وَجَوَابه: أَن التَّأْبِيد يمْنَع عَادَة، فَيصير طبعيا كرحم محرم) .
من القوادح [فِي] الْعلَّة - أَيْضا - مَا اشْتهر باسم الْقدح، وَذكرت مِنْهُ أَرْبَعَة أَنْوَاع، اثْنَان فِي هَذِه الْجُمْلَة، والاثنان الْآخرَانِ الآتيان بعد هَذَا، وَهَذِه الْأَرْبَعَة الْمَخْصُوصَة بالمناسبة، وَيخْتَص باسم الْقدح فِي الْمُنَاسبَة أحد القدحين الْأَوَّلين.
الْقدح فِي مُنَاسبَة الْوَصْف للْحكم الْمُسْتَدلّ عَلَيْهِ بِمَا يلْزم فِيهِ من مفْسدَة راجحة على الْمصلحَة الَّتِي من أجلهَا قضي عَلَيْهِ بالمناسبة، أَو مُسَاوِيَة لَهَا، وَذَلِكَ لما سبق من أَن الْمُنَاسبَة تنخرم بالمعارضة، وَإِنَّمَا أعيدها لأجل التَّقْسِيم، وَبَيَان أَن ذَلِك من جملَة القوادح الْوَارِدَة / على الْمُسْتَدلّ حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْجَواب عَنْهَا.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك: بِبَيَان تَرْجِيح تِلْكَ [الْمصلحَة] الَّتِي هِيَ فِي الْعلَّة، على تِلْكَ الْمفْسدَة الَّتِي يعْتَرض بهَا تَفْصِيلًا وإجمالا.
أما تَفْصِيلًا فبخصوص الْمَسْأَلَة بِأَن هَذَا ضَرُورِيّ وَذَلِكَ حاجي، أَو بِأَن هَذَا إفضاء قَطْعِيّ أَو أكثري وَذَلِكَ ظَنِّي أَو أقلي، أَو أَن هَذَا اعْتبر نَوعه فِي نوع الحكم، وَذَلِكَ اعْتبر نَوعه فِي جنس الحكم، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تنبهت لَهُ.(7/3602)
وَأما إِجْمَالا فبلزوم التَّعَبُّد لَوْلَا اعْتِبَار الْمصلحَة، وَقد أبطلناه. مِثَاله: أَن يَقُول فِي الْفَسْخ فِي الْمجْلس: وجد سَبَب الْفَسْخ فيوجد الْفَسْخ، وَذَلِكَ دفع ضَرَر للمحتاج إِلَيْهِ من الْمُتَعَاقدين.
فَيُقَال: معَارض بِضَرَر آخر.
فَيَقُول: الآخر يجلب نفعا وَهَذَا يدْفع ضَرَرا، وَدفع الضَّرَر أهم عِنْد الْعُقَلَاء، وَلذَلِك يدْفع كل ضَرَر وَلَا يجلب كل نفع.
مِثَال آخر: إِذا قُلْنَا: التخلي لِلْعِبَادَةِ أفضل لما فِيهِ من تَزْكِيَة النَّفس.
فَيُقَال: لكنه يفوت أَضْعَاف تِلْكَ الْمصلحَة، مِنْهَا: إِيجَاد الْوَلَد، وكف النّظر، [وَكسر] الشَّهْوَة، وَهَذِه أرجح من مصَالح الْعِبَادَة.
فَيَقُول: بل مصلحَة الْعِبَادَة أرجح؛ لِأَنَّهَا لحفظ الدّين، وَمَا ذكرْتُمْ لحفظ النَّسْل.
القادح الثَّانِي: فِي صَلَاحِية إفضاء الحكم إِلَى الْمَقْصُود، وَهُوَ الْمصلحَة من شرع الحكم.
كَمَا لَو علل الْمُسْتَدلّ حُرْمَة الْمُصَاهَرَة على التَّأْبِيد فِي حق الْمَحَارِم إِلَى ارْتِفَاع الْحجاب بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء الْمُؤَدِّي إِلَى الْفُجُور، فَإِذا تأبد التَّحْرِيم انسد بَاب الطمع المفضي إِلَى مُقَدمَات الْهم وَالنَّظَر المفضي إِلَى ذَلِك.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: بل سد بَاب النِّكَاح أَشد إفضاء للفجور؛ لِأَن النَّفس تميل إِلَى الْمَمْنُوع، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:(7/3603)
(وَالْقلب يطْلب من يجور ويعتدي ... وَالنَّفس مائلة إِلَى الْمَمْنُوع)
(وَلكُل شَيْء تشتهيه طلاوة ... مدفوعة إِلَّا عَن الْمَدْفُوع)
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك تَبْيِين أَن التَّأْبِيد يمْنَع عَادَة من ذَلِك، بانسداد بَاب الطمع، فَيصير بتطاول الْأَمر وتماديه / كالطبيعي، بِحَيْثُ لَا يبْقى الْمحل مشتهى كالأمهات.
قَوْله: (كَون الْوَصْف خفِيا كتعليله صِحَة النِّكَاح بالرضى، فَيُقَال: خَفِي، والخفي لَا يعرف الْخَفي، وَجَوَابه: ضَبطه بِمَا يدل عَلَيْهِ من صِيغَة كإيجاب وَقبُول أَو فعل، كَونه غير منضبط كتعليله بالحكم والمقاصد كرخص السّفر بالمشقة، فيعترض: باختلافهما بالأشخاص والأزمان وَالْأَحْوَال، وَجَوَابه: بِأَنَّهُ منضبط بِنَفسِهِ أَو بضابط للحكمة) .
هَذَانِ القادحان الْآخرَانِ.
أَحدهمَا، وَهُوَ الثَّالِث: الْقدح فِي كَون الْوَصْف ظَاهرا بل هُوَ خَفِي.(7/3604)
كالرضى فِي الْعُقُود، وَالْقَصْد فِي الْأَفْعَال الدَّالَّة على إزهاق النَّفس فِي وجوب الْقصاص، فَإِن حكم الشَّرْع خَفِي، والخفي لَا يعرف الْخَفي.
وَجَوَابه: بِأَن يبين ظُهُوره بِصفة ظَاهِرَة: كضبط الرضى بِمَا يدل عَلَيْهِ من الصِّيَغ، وَضبط الْعمد بِفعل يدل عَلَيْهِ عَادَة: كاستعمال الْجَارِح والمثقل، أَو غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَبْسُوط فِي الْفِقْه.
القادح الثَّانِي، وَهُوَ الرَّابِع: الْقدح فِي أَن الْوَصْف منضبط بل هُوَ مُضْطَرب: كالتعليل بالحكمة والمصالح، كالمشقة فِي الْقصر /، والزجر فِي التَّعْزِير، والحرج فِي الْفطر.
فَإِنَّهَا لَا تتَمَيَّز وتختلف بالأشخاص وَالْأَحْوَال والأزمان، فَلَا يُمكن تعْيين الْقدر الْمَقْصُود مِنْهَا.
وَجَوَابه: بِبَيَان أَنه منضبط،، إِمَّا بِنَفسِهِ: كَمَا تَقول فِي الْمَشَقَّة والمضرة: إِنَّه منضبط عرفا بِنَاء على [جَوَاز] التَّعْلِيل بالحكمة إِذا انضبطت، وَقد سبق بَيَان ذَلِك، وَإِمَّا بوصفه بِأَن تكون الْعلَّة هِيَ الْوَصْف المنضبط الْمُشْتَمل على الْحِكْمَة: كالمشقة فِي السّفر، والزجر بِالْحَدِّ، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: (النَّقْض) .
سبق من جملَة القوادح النَّقْض، وَقد سبق بَيَانه فِي أَحْكَام الْعلَّة، وَهل يقْدَح فِي الْعلَّة مُطلقًا أم لَا؟ ذكرنَا فِيهِ عشرَة أَقْوَال.(7/3605)
مِثَال ذَلِك إِذا قُلْنَا: الْحلِيّ مَال غير نَام فَلَا زَكَاة فِيهِ كثياب البذلة.
فيعترض: / بالحلي الْمحرم.
وَجَوَابه: منع وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض، أَو منع الحكم فِيهَا، فَجَوَابه بِأحد وَجْهَيْن:
إِمَّا أَن يمْنَع وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض؛ لِأَن النَّقْض إِنَّمَا يتَحَقَّق بِوُجُود الْعلَّة وتخلف الحكم عَنْهَا، فَإِذا منع وجود الْعلَّة لم يتَحَقَّق النَّقْض، وَإِنَّمَا تخلف الحكم فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة لعدم علته فَهُوَ يدل على صِحَة علتي عكسا، وَهُوَ انْتِفَاء الحكم لانتفائها، كَقَوْلِه: لَا نسلم أَن الْحلِيّ كثياب البذلة، ويبرهن على ذَلِك.
وَإِمَّا أَن يمْنَع الحكم فِيهَا فَيَقُول: حكم ثِيَاب البذلة مُخَالف لحكم الْحلِيّ، وَيبين الْفرق بَينهمَا.
فَإِذا منع الْمُسْتَدلّ وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض، فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي تَمْكِين الْمُعْتَرض من الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض على أَقْوَال:
أَحدهَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِك.
وَهُوَ قَوْلنَا: (وَلَيْسَ للمعترض الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِيهَا، قَالَه الْمُوفق والطوفي، وَقَالَهُ القَاضِي وَأَبُو الطّيب إِلَّا أَن يبين مَذْهَب الْمَانِع، وَقيل: بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن تعذر الِاعْتِرَاض بِغَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ بَعضهم إِن لم يكن طَرِيق أولى بالقدح، وَمنعه بَعضهم فِي الحكم الشَّرْعِيّ) .(7/3606)
أحد الْأَقْوَال: لَا يُمكن الْمُعْتَرض من الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض.
وَهَذَا صَحِيح وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، مِنْهُم: الشَّيْخ الْمُوفق، والطوفي من أَصْحَابنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ انْتِقَال، وَيلْزم مِنْهُ أَن يكون الْمُعْتَرض مستدلا فَهُوَ قلب لقاعدة المصطلح؛ لكَونه يبْقى مستدلا والمستدل مُعْتَرضًا.
وَذكره القَاضِي أَبُو يعلى، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب الشَّافِعِي، إِلَّا أَن يبين مَذْهَب الْمَانِع.
وَقيل: لَهُ ذَلِك فَيمكن؛ لِأَن فِيهِ تَحْقِيق اعتراضه بِالنَّقْضِ فَهُوَ من تَمَامه وَإِنَّمَا يتفرد بِالْمَنْعِ بِالدّلَالَةِ.
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِن تعذر الِاعْتِرَاض بِغَيْرِهِ، فَقَالَ: يُمكن مَا لم يكن للمعترض دَلِيل، فَإِن أمكنه الْقدح بطرِيق آخر لم يُمكن.
وَاخْتَارَهُ بَعضهم إِن لم يكن طَرِيق أولى بالقدح، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب،(7/3607)
وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا.
وَكَأن هَذَا القَوْل أخص من قَول الْآمِدِيّ، فَعِنْدَ الْآمِدِيّ: يُمكن إِن تعذر الِاعْتِرَاض بِغَيْرِهِ مُطلقًا، وَعند صَاحب هَذَا القَوْل: إِن لم يكن طَرِيق أولى بالقدح. /
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَرَابِعهَا: يُمكن مَا لم تكن للمعترض طَرِيق أُخْرَى أولى بالقدح من النَّقْض، تَحْقِيقا لفائدة المناظرة، وَإِن كَانَ لَهُ طَرِيق أُخْرَى فَلَا يُمكن، وَلَكِن لم يذكر قَول الْآمِدِيّ.
وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره قولا: يُمكن للمعترض فِي الحكم الْعقلِيّ؛ لِأَنَّهُ يقْدَح فِيهِ فَتحصل فَائِدَة، وَلَا يُمكن فِي الحكم الشَّرْعِيّ.
لِأَن التَّمْكِين فِيهِ انْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال، وَلَا تَجِد بِهِ نفعا؛ لِأَنَّهُ بعد بَيَان الْمُعْتَرض وجود الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض يَقُول الْمُسْتَدلّ: يجوز أَن يكون تخلف الحكم لوُجُود مَانع أَو انْتِفَاء شَرط، فَيجب الْحمل عَلَيْهِ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ: دَلِيل الاستنباط، وَدَلِيل التَّخَلُّف، فَلَا يبطل الْعلَّة بجلاوة الحكم الْعقلِيّ فَإِنَّهُ لَا يتمشى فِيهِ ذَلِك.
" وَكَذَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ لَهُ الْجَواب بِجَوَاب: تخلف الحكم فيهمَا لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط.(7/3608)
وَإِن قيل: انْتِفَاء الحكم مَعَ علته خلاف الأَصْل.
قيل: وانتفاؤها مَعَ دليلها خلاف الأَصْل.
قيل: وَهَذَا أرجح؛ لِإِمْكَان إِحَالَة الحكم على مَانع أَو انْتِفَاء شَرط، فَهُوَ ترك للدليل وَأخذ بِغَيْرِهِ، وَإِذا لم يعْمل بِدَلِيل الْعلية ترك بِالْكُلِّيَّةِ من غير عدُول إِلَى غَيره.
قَالَ: وَإِن أجَاب بِأَن انْتِفَاء الحكم لمَانع أَو انْتِفَاء شَرط لزمَه تَحْقِيقه؛ لِأَنَّهُ كَانَ من حَقه أَن يحْتَرز عَنهُ أَولا فَلَزِمَهُ ثَانِيًا " انْتهى.
قَوْله: (قَالَ أهل الجدل وَقوم: لَو دلّ الْمُسْتَدلّ على وجود الْعلَّة بِدَلِيل مَوْجُود فِي صُورَة النَّقْض /، فَقَالَ الْمُعْتَرض: ينْتَقض دليلك فقد انْتقل من نقض الْعلَّة إِلَى نقض دليلها فَلَا يقبل، وَفِي " الرَّوْضَة ": انْتقل، وَيَكْفِي الْمُسْتَدلّ دَلِيل يَلِيق بِأَصْلِهِ) .
قَالَ أهل الجدل، والآمدي، وَجمع غَيره: لَو اسْتدلَّ الْمُسْتَدلّ على وجود الْعلَّة فِي مَحل التَّعْلِيل بِدَلِيل مَوْجُود فِي مَحل النَّقْض فنقض الْمُعْتَرض الْعلَّة؛ فَمنع الْمُسْتَدلّ وجود الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض.
فَقَالَ الْمُعْتَرض: ينْتَقض دليلك حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُود فِي مَحل النَّقْض، وَالْعلَّة غير مَوْجُودَة فِيهِ على زعمك.
لم يسمع؛ / لِأَن الْمُعْتَرض انْتقل من نقض الْعلَّة إِلَى نقض دَلِيل الْعلَّة.(7/3609)
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": انْتقل، وَيَكْفِي الْمُسْتَدلّ دَلِيل يَلِيق بِأَصْلِهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لِأَنَّهُ انْتِقَال من نقض الْعلَّة نَفسهَا إِلَى نقض دليلها.
ومثلوا لذَلِك: قَول الْحَنَفِيّ فِي مَسْأَلَة تبييت النِّيَّة: أَتَى بمسمى [الصَّوْم] فَيصح كَمَا فِي مَحل الْوِفَاق، وَاسْتدلَّ على وجود الصَّوْم بِأَنَّهُ إمْسَاك مَعَ النِّيَّة، وَهُوَ مَوْجُود فِي مَحل النزاع.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: تنْتَقض الْعلَّة بِمَا إِذا نوى بعد الزَّوَال. فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: لَا نسلم وجود الْعلَّة فِيمَا إِذا نوى بعد الزَّوَال فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينْتَقض دليلك الَّذِي استدللت بِهِ على وجود الْعلَّة فِي مَحل التَّعْلِيل.
قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره ": وَفِيه نظر.
لِأَن الْمُعْتَرض فِي معرض الْقدح فِي الْعلَّة فَتَارَة يقْدَح فِيهَا، وَتارَة يقْدَح فِي دليلها، والانتقال من الْقدح فِي الْعلَّة إِلَى الْقدح فِي دليلها جَائِز.
والانتقال الَّذِي لَا يكون جَائِزا هُوَ الِانْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال. ورد ذَلِك - أَيْضا -.
قَوْله: (وَلَو قَالَ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء: يلزمك انْتِقَاض علتك أَو دليلها قبل) .(7/3610)
مَا تقدم إِذا ادّعى انْتِقَاض دَلِيل الْعلَّة مَعًا، أما لَو ادّعى أحد الْأَمريْنِ فَقَالَ: يلْزم إِمَّا انْتِقَاض الْعلَّة أَو انْتِقَاض دليلها، وَكَيف كَانَ فَلَا تثبت الْعلَّة، كَانَ مسموعا بالِاتِّفَاقِ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: " أما إِذا قَالَ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء: يلزمك إِمَّا انْتِقَاض علتك أَو انْتِقَاض دَلِيل علتك، لِأَنَّك إِن اعتقدت وجود الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض انْتقض علتك، وَإِن اعتقدت عدم الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض انْتقض دليلك، كَانَ متجها مسموعا ".
قَوْله: (وَلَو منع الْمُسْتَدلّ تخلف الحكم فِي صُورَة النَّقْض، فَفِي تَمْكِين الْمُعْتَرض من الدّلَالَة الْخلاف فِي تَمْكِينه ليدل على وجود الْعلَّة فِيهَا، وَقَالَ ابْن برهَان: إِن منع الحكم انْقَطع الناقض، وَإِن منع الْوَصْف فَلَا، وَحكي عَن أبي الْخطاب وَابْن عقيل: وَيَكْفِي الْمُسْتَدلّ، لَا أعرف الرِّوَايَة فِيهَا عِنْد الْأَصْحَاب، وَقيل: لَا، وَفِي " التَّمْهِيد ": إِن قَالَ: أَنا أحملها على مُقْتَضى الْقيَاس / وَأَقُول فِيهَا كَمَسْأَلَة الْخلاف، فَإِن كَانَ إِمَامه يرى تَخْصِيص الْعلَّة لم يجز، وَإِلَّا الْأَظْهر الْمَنْع _ أَيْضا -، وَفِي " الْوَاضِح ": [لَيْسَ] لَهُ إِلَّا أَن ينْقل عَنهُ أَنه علل بهَا فيجريها) .
إِذا منع الْمُسْتَدلّ تخلف الحكم فِي صُورَة النَّقْض، فقد اخْتلفُوا فِي تَمْكِين الْمُعْتَرض من الدّلَالَة على تخلف الحكم فِي صُورَة النَّقْض على مَذَاهِب(7/3611)
كالأقوال الْمُتَقَدّمَة فِي قَوْلنَا: وَلَيْسَ للمعترض الدّلَالَة على وجود الْعلَّة فِيهَا، على مَا تقدم.
أَحدهَا: يُمكن مُطلقًا.
وَالثَّانِي: لَا يُمكن مُطلقًا.
وَالثَّالِث: يُمكن مَا لم يكن للمعترض طَرِيق أولى بالقدح من النَّقْض. وَدَلَائِل هَذِه الْمذَاهب الثَّلَاثَة مَا تقدم.
مِثَاله: قَول الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة الثّيّب الصَّغِيرَة: ثيب فَلَا تجبر كالثيب الْكَبِيرَة.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: ينْتَقض بِالثَّيِّبِ الْمَجْنُونَة.
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: لَا نسلم جَوَاز إِجْبَار الثّيّب الْمَجْنُونَة.
وَذكر ابْن برهَان: إِن منع الحكم انْقَطع الناقض، وَإِن منع الْوَصْف فَلَا، فَيدل عَلَيْهِ.
وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب، وَابْن عقيل.
وَعلله فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ بَيَان للنقض لَا من جِهَة الدّلَالَة عَلَيْهِ فَجَاز.(7/3612)
وَيَكْفِي قَول الْمُسْتَدلّ فِي دفع النَّقْض: لَا أعرف الرِّوَايَة فِيهَا، ذكره أَصْحَابنَا للشَّكّ فِي كَونهَا من مذْهبه؛ إِذْ دَلِيله صَحِيح فَلَا يبطل بمشكوك فِيهِ.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " لقَائِل أَن يُجيب عَنهُ: لَا يثبت أَنه قِيَاس حَتَّى يعلم سَلَامَته من النَّقْض، بِخِلَاف اسْتِصْحَاب الْحَال، فَإِنَّهُ تمسك بِأَصْل مَوْضُوع ".
وَكَذَا اخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة.
" وَإِن قَالَ: أَنا أحملها على مُقْتَضى الْقيَاس، وَأَقُول فِيهَا كَمَسْأَلَة الْخلاف، فَإِن كَانَ إِمَامه يرى تَخْصِيص الْعلَّة لم يجز، لِأَنَّهُ لَا يجب الطَّرْد عِنْده، وَإِلَّا احْتمل الْجَوَاز؛ لِأَنَّهُ طرد علته، وَاحْتمل الْمَنْع؛ لِئَلَّا يثبت لإمامه مذهبا بِالشَّكِّ، وَهُوَ الْأَظْهر عِنْدِي " ذكره فِي " التَّمْهِيد ".
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": " لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات مَذْهَب بِقِيَاس، إِلَّا أَن ينْقل عَنهُ أَنه علل بهَا فيجريها ".(7/3613)
قَوْله: (وَإِن فسر الْمُسْتَدلّ لَفظه بِمَا يدْفع النَّقْض بِخِلَاف ظَاهره: كتفسير عَام بخاص، لم يقبل فِي الْأَصَح) .
الصَّحِيح أَن الْمُسْتَدلّ لَو فسر لَفظه بِمَا يدْفع النَّقْض / لَكِن هُوَ خلاف ظَاهر لَفظه: كتفسير عَام بخاص وَنَحْوه مِمَّا هُوَ بعيد عَن اللَّفْظ لكنه مُحْتَمل، لم يقبل.
ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ، وَالشَّافِعِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ يزِيد وَصفا لم يكن، وَذكره لِلْعِلَّةِ وَقت حَاجته فَلَا يُؤَخر عَنهُ بِخِلَاف تَأْخِير الشَّارِع الْبَيَان عَن وَقت خطابه.
وَظَاهر كَلَام بعض أَصْحَابنَا: يقبل، كَقَوْل بَعضهم.
وَكَذَا ذكر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، تَفْسِيرا للفظ بِمَا يحْتَملهُ: إِن قَالَ الْمُسْتَدلّ عللت لما سَأَلتنِي عَنهُ، فَيجْعَل سُؤَاله عَن تَمام الْعلَّة لوُجُوب استقلالها فَلَا يحْتَاج إِلَى قرينَة وَنِيَّة.(7/3614)
قَوْله: (وَإِن أجَاب بالتسوية بَين الأَصْل وَالْفرع لدفع النَّقْض قبل، عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَخَالف ابْن عقيل وَالشَّافِعِيَّة، وَأَجَازَهُ أَبُو الْخطاب إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة) .
إِذا أجَاب الْمُسْتَدلّ بالتسوية بَين الأَصْل وَالْفرع لدفع النَّقْض، جَازَ عِنْد القَاضِي، والحلواني، وَالْحَنَفِيَّة.
وَمنعه الشَّافِعِيَّة، وَابْن عقيل وَذكره عَن الْمُحَقِّقين.
وَالْأول عَن أَصْحَابنَا، وَعلل بِاشْتِرَاط الطَّرْد.
وَأَجَازَهُ أَبُو الْخطاب إِن جَازَ تَخْصِيص الْعلَّة؛ لِأَن الطَّرْد لَيْسَ شرطا لِلْعِلَّةِ إِذا، وَإِلَّا لم يجز لاشتراطه فقد وجد النَّقْض، وَهُوَ وجود الْعلَّة بِلَا حكم فِي الأَصْل وَالْفرع.(7/3615)
فَإِن قيل: من شَرطه أَن لَا يَسْتَوِي الأَصْل وَالْفرع.
رد: هَذَا بَاطِل.
مِثَاله فِي الْمسْح على الْعِمَامَة: عُضْو يسْقط فِي التَّيَمُّم فَمسح حائله كالقدم.
فينتقض بِالرَّأْسِ فِي الطَّهَارَة الْكُبْرَى.
فَيُجِيبهُ: يَسْتَوِي فِيهَا الأَصْل وَالْفرع.
وَمثل ذَلِك: بَائِن مُعْتَدَّة فلزمها الْإِحْدَاد كالمتوفى عَنْهَا زَوجهَا، فينتقض بالذمية وَالصَّغِيرَة.
فَيُجِيبهُ: بالتسوية.
قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ بِمَا لَا يَقُول بِهِ الْمُعْتَرض: كمفهوم وَقِيَاس، وَقَول صَحَابِيّ، إِلَّا النَّقْض وَالْكَسْر على قَول من التزمهما، قَالَه: أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَجوز بَعضهم معارضته بعلة منتقضة على أصل الْمُعْتَرض، وَقَالَهُ الشَّيْخ إِن قصد إبِْطَال دَلِيل الْمُسْتَدلّ لإثباته مذْهبه، وَقَالَ ابْن عقيل: إِن احْتج بِمَا [لَا يرَاهُ: كحنفي] بِخَبَر وَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، فَقَالَ: أَنْت / لَا تَقول بِهِ، أجَاب: أَنْت تَقول بِهِ فيلزمك، فَهَذَا قد اسْتمرّ عَلَيْهِ اكثر الْفُقَهَاء. وَعِنْدِي لَا يحسن) .(7/3616)
لَيْسَ للمعترض أَن يلْزم الْمُسْتَدلّ مَا لَا يَقُول بِهِ الْمُعْتَرض، كمفهوم وَقِيَاس، وَمذهب صَحَابِيّ؛ لِأَنَّهُ احْتج وَأثبت الحكم بِلَا دَلِيل، ولاتفاقهما على تَركه؛ لِأَن أَحدهمَا لَا يرَاهُ دَلِيلا وَالْآخر لما خَالفه دلّ على دَلِيل أقوى مِنْهُ إِلَّا النَّقْض وَالْكَسْر على قَول من التزمهما؛ لِأَن الناقض لم يحْتَج بِالنَّقْضِ وَلَا أثبت الحكم بِهِ، ولاتفاقهما على فَسَاد الْعلَّة على أصل الْمُسْتَدلّ بِصُورَة الْإِلْزَام، وعَلى أصل الْمُعْتَرض بِمحل النزاع، ذكره أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.
وَجوز بعض الشَّافِعِيَّة معارضته بعلة منتقضة على أصل الْمُعْتَرض.
وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " إِن قصد إبِْطَال دَلِيل الْمُسْتَدلّ لإِثْبَات مذْهبه، لِأَن الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا يتم دَلِيله إِذا سلم عَن الْمُعَارضَة والمناقضة فَكيف يلْزم بِهِ غَيره ".
وَقَالَ ابْن عقيل: إِن احْتج بِمَا لَا يرَاهُ: كحنفي بِخَبَر وَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى.
فَاعْترضَ عَلَيْهِ: لَا تَقول بِهِ.
فَأجَاب: أَنْت تَقول بِهِ فيلزمك، فَهَذَا قد اسْتمرّ عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء.
وَعِنْدِي لَا يحسن مثل هَذَا لِأَنَّهُ إِذا إِنَّمَا هُوَ مستدل صُورَة.(7/3617)
قَالَ: وَمن نصر الأول قَالَ: على هَذَا لَا يحسن بِنَا أَن نحتج على نبوة نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل المبدلين، لَكِن نحتج بِهِ على أهل الْكتاب لتصديقهم بِهِ. انْتهى.
قَوْله: (وَإِن نقض أَحدهمَا عِلّة الآخر بِأَصْل نَفسه لم يجز عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَقيل: بلَى، وَقَالَ الشَّيْخ: هُوَ كقياسه على أصل نَفسه) .
لَو نقض الْمُعْتَرض أَو الْمُسْتَدلّ عِلّة الآخر بِأَصْل نَفسه لم يجز عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، خلافًا للجرجاني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن الباقلاني: لَهُ وَجه، فَإِن سلمه خَصمه وَإِلَّا دلّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: " نقض الْمُعْتَرض بِأَصْل نَفسه كقياسه على أصل نَفسه، وَحَاصِله أَن مُقَدّمَة الدَّلِيل الْمعَارض مَمْنُوعَة وَلَيْسَ / بِبَعِيد، كَمَا يجوز ذَلِك للمستدل ".(7/3618)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: (وَلَو زَاد الْمُسْتَدلّ وَصفا معهودا مَعْرُوفا فِي الْعلَّة لم يجز، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَقيل: بلَى) .
لَو زَاد الْمُسْتَدلّ وَصفا معهودا مَعْرُوفا فِي الْعلَّة لم يجز، ذكره أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال، وفَاقا لبَعض الجدليين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة؛ لِأَنَّهُ تَركه سَهوا، أَو سبق لِسَان فعذر.(7/3619)
قَوْله: (وَلَا يقبل النَّقْض بمنسوخ وَلَا بخاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَصَح، وَلَا بِرُخْصَة ثَابِتَة على خلاف مُقْتَضى الْقيَاس، وَلَا بموضوع اسْتِحْسَان عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَعند الشَّيْخ: تنْتَقض المستنبطة إِن لم يبين مَانِعا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَفِي قبُول النَّقْض بالمنسوخ وبخاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مذهبان فِي " التَّمْهِيد " و " الْوَاضِح ".
وَلَا نقض بِرُخْصَة ثَابِتَة على خلاف مقتضي الدَّلِيل، ذكره جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.(7/3620)
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: هَل تنْتَقض الْعلَّة بِموضع الِاسْتِحْسَان؟ يحْتَمل وَجْهَيْن، وَمثله بِمَا إِذا سوى بَين الْعمد والسهو فِيمَا يبطل الْعِبَادَة فينتقض بِأَكْل الصَّائِم.
وَفِي " الْوَاضِح ": عَن أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة لَا نقض بِموضع اسْتِحْسَان، وَمثل بِهَذَا ثمَّ قَالَ: يَقُول الْمُعْتَرض: النَّص دلّ على انتقاضه فَيكون آكِد للنقض.
وَعند الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: تنْتَقض المستنبطة إِن لم يبين مَانِعا: كالنقض بالعرايا فِي الرِّبَا، وَإِيجَاب الدِّيَة على الْعَاقِلَة لاقْتِضَاء الْمصلحَة الْخَاصَّة ذَلِك، أَو لدفع مفْسدَة آكِد: كحل الْميتَة للْمُضْطَر إِذا نقض بهَا عِلّة تَحْرِيم النَّجَاسَة) .(7/3621)
قَوْله: (وَيجب احْتِرَاز الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله عَن النَّقْض عِنْد ابْن عقيل، والموفق، والطوفي، وَالْفَخْر، وَذكره عَن مُعظم الجدليين، وَقيل: إِلَّا فِي المستثنيات، وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: لَا) .
هَل يجب احْتِرَاز الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله عَن النَّقْض أم لَا؟ أم يجب إِلَّا فِي نقض؟ وطرد بطرِيق الِاسْتِثْنَاء ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: يجب، وَهُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، / وَالشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها "، , أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَذكره عَن مُعظم الجدليين لقُرْبه من الضَّبْط، وَدفع انتشار الْكَلَام وسد بَابه؛ فَكَانَ وَاجِبا لما فِيهِ من صِيَانة الْكَلَام عَن التبديل.(7/3622)
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجب؛ لِأَن انْتِفَاء الْمعَارض لَيْسَ من الدَّلِيل لحُصُول الْعلم أَو الظَّن بِدُونِ التَّعَرُّض لَهُ، وَلِأَن الدَّلِيل يتم بِدُونِهِ إِن لم يكن فِي نفس الْأَمر وَإِلَّا ورد وَإِن احْتَرز عَنهُ اتِّفَاقًا ومنعا وَضعف الْمَنْع.
قَالَ الطوفي: " النَّقْض سُؤال خَارج عَن الْقيَاس؛ فَلَا يجب إِدْخَاله فِي صلب الْقيَاس، بل إِذا أوردهُ الْمُعْتَرض، لزم جَوَابه بِمَا يَدْفَعهُ كَسَائِر الأسئلة؛ وَلِأَن فِيهِ تَنْبِيها للمعترض على مَوضِع النَّقْض، وَفِي ذَلِك نشر الْكَلَام وتبدده، وَهُوَ خلاف الْمَطْلُوب من المناظرة ".
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل ابْن الْحَاجِب.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يجب إِلَّا فِي نقض وطرد بطرِيق الِاسْتِثْنَاء، وَهِي مَا يرد على كل عِلّة.
فَإِذا قَالَ: فِي الذّرة مطعوم فَيجب فِيهِ التَّسَاوِي كالبر؛ فَلَا حَاجَة إِلَى أَن يَقُول: وَلَا حَاجَة تَدْعُو إِلَى التَّفَاضُل فِيهِ، فَيخرج الْعَرَايَا فَإِنَّهُ وَارِد على كل تَقْدِير، سَوَاء عللنا بالطعم، أَو الْقُوت، أَو الْكَيْل، فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إبِْطَال مَذْهَب وَتَصْحِيح آخر.
قَوْله: (وَإِن احْتَرز عَن النَّقْض بِشَرْط ذكره فِي الحكم، فَالْأَصَحّ: يَصح، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَقَالَ: إِن احْتَرز بِحَذْف الحكم لم يَصح) .(7/3623)
لَو احْتَرز عَن النَّقْض بِشَرْط ذكره فِي الحكم نَحْو: حران مكلفان محقونا الدَّم، فَيجب الْقود بَينهمَا كالمسلمين.
فَقيل: لَا يَصح؛ لاعْتِرَافه بِالنَّقْضِ، فَإِن الحكم يتَخَلَّف عَن الْأَوْصَاف فِي الْخَطَأ.
وَقيل: يَصح؛ لِأَن الشَّرْط الْمُتَأَخر مُتَقَدم فِي الْمَعْنى: كتقديم الْمَفْعُول على الْفَاعِل، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب.
قَالَ: وَإِن احْتَرز بِحَذْف الحكم لم يَصح.
كَقَوْل حَنَفِيّ فِي الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة: بَائِن كالمتوفى عَنْهَا زَوجهَا. فينتقض بصغيرة وذمية.
فَيَقُول: قصدت التسويه بَينهمَا.
فَيُقَال: التَّسْوِيَة بَينهمَا حكم، فَيحْتَاج إِلَى أصل يُقَاس عَلَيْهِ كَمَا تقدم.
قَوْله: / الْكسر: نقض الْمَعْنى، سبق، وَهُوَ كالنقض) .
لَا شكّ أَن الْكسر قد تقدم حَده، وَحكمه، وَهل يبطل الْعلَّة أَو لَا يُبْطِلهَا؟ وَأَن هَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، فِي أَحْكَام [الْعلَّة] وشروطها.(7/3624)
قَالَ ابْن مُفْلِح: (هُنَا الْكسر نقض الْمَعْنى، وَالْكَلَام فِيهِ كالنقض، وَقد سبق.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": يشبه الْكسر من الأسئلة الْفَاسِدَة قَوْله: لَو كَانَ هَذَا عِلّة فِي كَذَا لَكَانَ عِلّة فِي كَذَا، نَحْو: لَو منع عدم الرُّؤْيَة صِحَة البيع، منع النِّكَاح.
وَيُشبه ذَلِك قَوْلهم: أخذت النَّفْي من الْإِثْبَات أَو بِالْعَكْسِ فَلم يجز، كالقول فِي الْمَوْطُوءَة مغلوبة: مَا فطرها مَعَ الْعمد لم يفطرها مغلوبة كالقيء.
وَجَوَابه: يجوز لتضاد حكمهمَا للاختيار وَعَدَمه، وَلِهَذَا للشارع تَفْرِيق الحكم بهما.
وَمن ذَلِك قَوْلهم: هَذَا اسْتِدْلَال بالتابع على الْمَتْبُوع فَلم يجز، بِخِلَاف الْعَكْس.(7/3625)
كَقَوْلِنَا فِي نِكَاح مَوْقُوف: نِكَاح لَا يتَعَلَّق بِهِ أَحْكَامه المختصة بِهِ كالمتعة.
فَيُقَال: الْأَحْكَام تَابعه وَالْعقد متبوع، فَهَذَا فَاسد بِدَلِيل بَقِيَّة الْأَنْكِحَة. وتناقضوا فأبطلوا ظِهَار الذِّمِّيّ وَيَمِينه لبُطْلَان تكفيره وَهُوَ فرع يَمِينه) .
وَقد تقدم أَحْكَام الْكسر، والنقض المكسور، وَالْخلاف فِي تَفْسِيره، فِي أَحْكَام الْعلَّة فَليُرَاجع.
قَوْله: (الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِمَعْنى آخر مُسْتَقل: كمعارضة عِلّة الطّعْم بِالْكَيْلِ أَو الْقُوت، أَو غير مُسْتَقل: كمعارضة الْقَتْل الْعمد الْعدوان بِوَصْف الْجَارِح، فَالثَّانِي مَقْبُول عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَخَالف قوم) .(7/3626)
معنى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل: هُوَ أَن يُبْدِي الْمُعْتَرض معنى آخر يصلح للعلية غير مَا علل بِهِ الْمُسْتَدلّ.
وَهِي: إِمَّا أَن تكون بِمَعْنى مُسْتَقل بِالتَّعْلِيلِ، كَمَا لَو علل الشَّافِعِي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل فِي الْبر بالطعم، فعارضه الْحَنَفِيّ بتعليل تَحْرِيمه بِالْكَيْلِ، أَو الْجِنْس، أَو الْقُوت.
وَإِمَّا أَن يكون بِمَعْنى غير مُسْتَقل بِالتَّعْلِيلِ، وَلكنه دَاخل فِيهِ وَصَالح لَهُ، كَمَا لَو علل الشَّافِعِي وجوب الْقصاص فِي الْقَتْل بالمثقل الْعمد الْعدوان، فعارضه الْحَنَفِيّ بتعليل وُجُوبه بالجارح. /
وَقد اخْتلف الجدليون فِي قبُول هَذِه الْمُعَارضَة.
وَهَذَا الْقسم الثَّانِي مَقْبُول عندنَا، وَعند أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَالْجُمْهُور، لِئَلَّا يلْزم التحكم؛ لِأَن وصف الْمُسْتَدلّ لَيْسَ بِأولى بِكَوْنِهِ جُزْءا أَو مُسْتقِلّا.(7/3627)
فَإِن رجح استقلاله بتوسعة الحكم فِي الأَصْل وَالْفرع فتكثر الْفَائِدَة، فللمعترض منع دلَالَة الِاسْتِقْلَال عَلَيْهَا، ثمَّ لَهُ معارضته بِأَن الأَصْل انْتِفَاء الْأَحْكَام، وباعتبارهما مَعًا فَهُوَ أولى.
قَالُوا: يلْزم مِنْهُ استقلالهما بالعلية فَيلْزم تعدد الْعلَّة المستقلة.
رد: بِالْمَنْعِ لجَوَاز اعتبارهما مَعًا، كَمَا لَو أعْطى قَرِيبا عَالما.
(وَمثل فِي " التَّمْهِيد " الْمُعَارضَة فِي الأَصْل: بِأَن الذِّمِّيّ يَصح طَلَاقه فصح ظِهَاره كَالْمُسلمِ.
فيعترض: بِصِحَّة تكفيره.
فَيُجِيبهُ: بِأَنَّهَا عِلّة واقفه لَا تصح، وَإِن قَالَ بِصِحَّتِهَا قَالَ: أَقُول بالعلتين فِي الأَصْل وتتعدى علتي إِلَى الْفَرْع.
وَإِن قَالَ: أَقرَرت بِصِحَّة علتي، فَإِن ادعيت عِلّة أُخْرَى لزمك الدَّلِيل.
قيل: هَذَا مُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة، فَيجب تَقْدِيمه على الْمُعَارضَة وَإِلَّا خرجت عَن مُقْتَضى الجدل) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقَالَهُ قبله أَبُو الطّيب الشَّافِعِي: إِن عَارضه بعلة معلولها دَاخل فِي مَعْلُول علته، لم يَصح، كمعارضة الْمكيل بالقوت.(7/3628)
وَمعنى ذَلِك كُله فِي " الْوَاضِح ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هِيَ: كمعارضة متعدية لقاصرة، وَهِي مُعَارضَة صَحِيحَة.
قَوْله: (وَلَا يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان نفي وصف الْمُعَارضَة عَن الْفَرْع، وَقيل: بلَى، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ: إِن قصد الْفرق وَإِلَّا فَلَا، وَقيل: إِن صرح بنفيه لزمَه) .
هَذَا بحث يتَفَرَّع على قبُول الْمُعَارضَة، وَهُوَ أَنه هَل يلْزم الْمُعْتَرض بَيَان أَن الْوَصْف الَّذِي أبديته مُنْتَفٍ فِي الْفَرْع أَو لَا يقبل؟
لَا يلْزمه؛ لِأَن غَرَضه عدم اسْتِقْلَال مَا ادّعى الْمُسْتَدلّ أَنه مُسْتَقل، وَهَذَا الْقدر يحصل بِمُجَرَّد إبدائه، وَهَذَا الَّذِي قدمْنَاهُ تبعا لِابْنِ / مُفْلِح.
وَقيل: يلْزمه؛ لِأَنَّهُ قصد الْفرق وَلَا يتم إِلَّا بِهِ.
قَالَ الْعَضُد: يلْزمه لينفعه دَعْوَى التَّعْلِيل بِهِ؛ إِذْ لولاه لم [تنتف] الْعلَّة فِي الْفَرْع، فَيثبت الحكم فِيهِ وَحصل مَطْلُوب الْمُسْتَدلّ.(7/3629)
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل الْآمِدِيّ، لَكِن قَيده بِأَن قَالَ: إِن قصد الْفرق وَإِلَّا فَلَا يلْزمه بِأَن يَقُول: هُوَ من الْعلَّة، فَإِن لم يجد فِي الْفَرْع ثَبت الْفَرْع، وَإِلَّا فَالْحكم فِيهِ لَهما.
وَلنَا قَول رَابِع: أَنه إِن صرح بنفيه لزمَه، وَهُوَ الَّذِي نَصره ابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْعَضُد: " وَقيل: إِن تعرض لعدمه فِي الْفَرْع صَرِيحًا لزمَه بَيَانه وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار.
أما أَنه إِذا لم يُصَرح فَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيَانه؛ فَلِأَنَّهُ قد أَتَى بِمَا لَا يتم الدَّلِيل مَعَه، وَهَذَا غَرَضه، لَا بَيَان عدم الحكم فِي الْفَرْع، حَتَّى لَو ثَبت بِدَلِيل آخر لم يكن إلزاما لَهُ، وَرُبمَا سلمه.
وَأما أَنه إِذا صرح بِهِ؛ فَلِأَنَّهُ الْتزم أمرا، وَإِن لم يجب عَلَيْهِ ابْتِدَاء فَيلْزمهُ بالتزامه وَيجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بِمَا الْتَزمهُ ".
قَوْله: (وَلَا يحْتَاج وصف الْمُعَارضَة إِلَى أصل عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر) .
هَذَا بحث آخر يتَفَرَّع على قبُول الْمُعَارضَة، وَهُوَ أَنه: هَل يحْتَاج الْمعَارض إِلَى أصل يبين تَأْثِير وَصفه الَّذِي أبداه فِي ذَلِك الأَصْل حَتَّى يقبل مِنْهُ، بِأَن يَقُول: الْعلَّة الطّعْم دون الْقُوت كَمَا فِي الْملح، فقد اخْتلف فِيهِ.(7/3630)
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور: أَنه لَا يحْتَاج؛ لِأَن حَاصِل هَذَا الِاعْتِرَاض أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا نفي ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع بعلة الْمُسْتَدلّ، ويكفيه أَن لَا يثبت عليتها بالاستقلال، وَلَا يحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى أَن يثبت علية مَا أبداه بالاستقلال، فَإِن كَونه جُزْء الْعلَّة يحصل مَقْصُوده، فقد لَا يكون عِلّة فَلَا يُؤثر فِي أصل أصلا.
وَإِمَّا صد الْمُسْتَدلّ عَن التَّعْلِيل بذلك الْوَصْف الَّذِي ذكره الْمُسْتَدلّ، لجَوَاز أَن تَأْثِير هَذَا وَالِاحْتِمَال كَاف، / فَهُوَ لَا يَدعِي عليته حَتَّى يحْتَاج شَهَادَة أصل.
وَأَيْضًا: فَإِن أصل الْمُسْتَدلّ أَصله؛ لِأَنَّهُ كَمَا يشْهد لوصف الْمُسْتَدلّ بِالِاعْتِبَارِ كَذَلِك يشْهد لوصف الْمُعْتَرض بِالِاعْتِبَارِ، لِأَن الوصفين موجودان فِيهِ، وَكَذَلِكَ الحكم مَوْجُود بِأَن يَقُول: الْعلَّة الطّعْم، أَو الْكَيْل، أَو كِلَاهُمَا، كَمَا فِي الْبر بِعَيْنِه، فَإِذا مُطَالبَته بِأَصْل مُطَالبَة لَهُ بِمَا قد يُحَقّق حُصُوله فَلَا فَائِدَة فِيهِ.
قَوْله: (وجوابها بِمَنْع وجود الْوَصْف أَو الْمُطَالبَة بتأثيره إِن كَانَ مثبتا بمناسبة أَو بشبه لَا بسبر، أَو بخفائه، أَو لَيْسَ منضبطا، أَو منع ظُهُوره أَو انضباطه، أَو بَيَان أَنه عدم معَارض فِي الْفَرْع، أَو ملغى، أَو أَن مَا عداهُ مُسْتَقل فِي صُورَة بِظَاهِر نَص أَو إِجْمَاع) .(7/3631)
إِذا عرفت أَن الْمُعَارضَة مَقْبُولَة فَالْجَوَاب عَنْهَا من وُجُوه:
مِنْهَا: منع وجود الْوَصْف، مثل أَن يُعَارض الْقُوت بِالْكَيْلِ، فَيَقُول: لَا نسلم أَنه مَكِيل؛ لِأَن الْعبْرَة بعادة زمن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ حِينَئِذٍ مَوْزُونا.
وَمِنْهَا: الْمُطَالبَة بِكَوْن وصف الْمعَارض مؤثرا.
يُقَال: وَلم قلت: إِن الْكَيْل مُؤثر وَهَذَا إِنَّمَا يسمع من الْمُسْتَدلّ إِذا كَانَ مثبتا للعلية بالمناسبة أَو الشّبَه، حَتَّى يحْتَاج الْمعَارض فِي معارضته إِلَى بَيَان مُنَاسبَة أَو شبه، بِخِلَاف مَا إِذا أثْبته بالسبر، فَإِن الْوَصْف يدْخل فِي السبر بِدُونِ ثُبُوت الْمُنَاسبَة بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال.
وَمِنْهَا: بَيَان خفائه.
وَمِنْهَا: عدم انضباط هَذِه الْأَرْبَعَة؛ لما علمت أَن الظُّهُور والانضباط شَرط فِي الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ، فَلَا بُد فِي دَعْوَى صلوح الْوَصْف عِلّة من بَيَانهَا، وللصاد عَنْهُمَا أَن يبين عدمهما، وَأَن يُطَالب بِبَيَان وجودهما.
وَمِنْهَا: بَيَان أَن الْوَصْف عدم معَارض فِي الْفَرْع.
مِثَاله: أَن يقيس الْمُكْره على الْمُخْتَار فِي الْقصاص بِجَامِع الْقَتْل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: معَارض بالطواعية فَإِن الْعلَّة هِيَ الْقَتْل مَعَ الطواعية.
فيجيب الْمُسْتَدلّ: بِأَن الطواعية عدم الْإِكْرَاه الْمُنَاسب لنقيض الحكم، وَهُوَ عدم الْقصاص، فحاصله عدم / معَارض، وَعدم الْمعَارض طرد لَا يصلح للتَّعْلِيل؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْبَاعِث فِي شَيْء كَمَا علمت.
وَمِنْهَا: أَن يبين كَون الْوَصْف الْمعَارض ملغى؛ إِذْ قد تبين اسْتِقْلَال الْبَاقِي بالعلية فِي صُورَة مَا بِظَاهِر نَص أَو إِجْمَاع.
مِثَاله: إِذا عَارض فِي الرِّبَا الطّعْم بِالْكَيْلِ.
فيجيب: بِأَن النَّص دلّ على اعْتِبَار الطّعْم فِي صُورَة مَا، وَهُوَ قَوْله: " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ".(7/3632)
وَمِثَال آخر: أَن يَقُول فِي يَهُودِيّ صَار نَصْرَانِيّا، أَو بِالْعَكْسِ: بدل دينه فَيقْتل كالمرتد.
فيعارضه بالْكفْر بعد الْإِيمَان.
فيجيب: بِأَن التبديل مُعْتَبر فِي صُورَة مَا لقَوْله: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ".
وَهَذَا إِذا لم يتَعَرَّض للتعميم، فَلَو عمم وَقَالَ: فَيثبت ربوية كل مطعوم، أَو اعْتِبَار كل تَبْدِيل للْحَدِيث لم يسمع؛ لِأَن ذَلِك إِثْبَات للْحكم بِالنَّصِّ دون الْقيَاس، وَلَا تتميم للْقِيَاس بالإلغاء، وَالْمَقْصُود ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَو ثَبت الْعُمُوم لَكَانَ الْقيَاس ضائعا، وَلَا يضر كَونه عَاما إِذا لم يتَعَرَّض للتعميم وَلم يسْتَدلّ بِهِ.
وَمعنى هَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَلم يذكرهُ فِي الْمَتْن.
قَوْله: (وَاكْتفى الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا فِي بَيَان استقلاله، بِإِثْبَات الحكم فِي صُورَة دونه؛ لِأَن الأَصْل عدم غَيره، وَيدل عَلَيْهِ عجز الْمعَارض عَنهُ، وَقيل: لَا، لجَوَاز عِلّة أُخْرَى، قطع بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، فَلَو أبدى وَصفا آخر يقوم مقَام مَا ألغاه الْمُسْتَدلّ بِثُبُوت الحكم دونه فسد الإلغاء، وَيُسمى تعدد الْوَضع، لتَعَدد أصليهما، وَجَوَاب إِفْسَاد الإلغاء إِلَى أَن يقف أَحدهمَا) .(7/3633)
قَالَ: " رُبمَا يظنّ أَن إِثْبَات الحكم فِي صُورَة دون وصف الْمعَارض كَاف فِي فِي إلغائه.
وَالْحق: أَنه لَيْسَ بكاف؛ لجَوَاز وجود عِلّة أُخْرَى، لما تقدم من جَوَاز تعدد الْعلَّة وَعدم وجوب الْعَكْس.
وَلأَجل ذَلِك لَو أبدى الْمُعْتَرض فِي صُورَة عدم وصف الْمُعَارضَة وَصفا آخر يقوم مقَام مَا ألغاه الْمُسْتَدلّ، بِثُبُوت الحكم دونه فسد الإلغاء؛ لابتنائه على اسْتِقْلَال الْبَاقِي فِي تِلْكَ الصُّورَة، وَقد بَطل.
وَتسَمى هَذِه الْحَالة تعدد / الْوَضع لتَعَدد أصليهما، وَالتَّعْلِيل فِي أَحدهمَا بِالْبَاقِي على وضع، أَي: مَعَ قيد، وَفِي الآخر على وضع آخر، أَي: مَعَ قيد آخر.
مِثَاله: أَن يُقَال فِي مَسْأَلَة أَمَان العَبْد للحربي: أَمَان من مُسلم عَاقل فَيقبل كَالْحرِّ؛ لِأَن الْإِسْلَام وَالْعقل مظنتان لإِظْهَار مصلحَة الْإِيمَان، أَي: بذل الْأمان وَجعله آمنا.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هُوَ معَارض بِكَوْنِهِ حرا، أَي: الْعلَّة كَونه مُسلما عَاقِلا حرا، فَإِن الْحُرِّيَّة مَظَنَّة فرَاغ قلبه للنَّظَر، لعدم اشْتِغَاله بِخِدْمَة السَّيِّد، فَيكون إِظْهَار مصَالح الْإِيمَان مَعَه أكمل.
فَيَقُول الْمُسْتَدلّ: الْحُرِّيَّة ملغاة لاستقلال الْإِسْلَام وَالْعقل بِهِ فِي صُورَة العَبْد الْمَأْذُون لَهُ من قبل سَيّده فِي أَن يُقَاتل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: إِذن السَّيِّد لَهُ خلف عَن الْحُرِّيَّة، فَإِنَّهُ مَظَنَّة لبذل(7/3634)
الوسع فِيمَا تصدى لَهُ من مصَالح الْقِتَال، أَو لعلم السَّيِّد صَلَاحه، لإِظْهَار مصَالح الْإِيمَان.
وَجَوَاب تعدد الْوَضع: أَن يلغي الْمُسْتَدلّ ذَلِك الْخلف، بإبداء صُورَة لَا يُوجد فِيهَا الْخلف.
فَإِن أبدى الْمُعْتَرض خلفا آخر، فَجَوَابه: إلغاؤه، وعَلى هَذَا إِلَى أَن يقف أَحدهمَا فَتكون الدبرة عَلَيْهِ، فَإِن [ظَهرت] صُورَة لَا خلف فِيهِ تمّ الإلغاء، وَبَطل الِاعْتِرَاض، وَإِلَّا ظهر عجز الْمُعْتَرض ".
قَوْله: (وَلَا يُفِيد الإلغاء لضعف المظنة بعد تَسْلِيمهَا) .
" قد عرفت أَن من أجوبة الْمُعَارضَة الإلغاء، فالإلغاء [هَل] يثبت ضعف الْمَعْنى، إِذا سلم وجود المظنة المتضمنة لذَلِك الْمَعْنى؟ الْحق أَنه لَا يثبت.
مِثَاله: أَن يَقُول: الرِّدَّة عِلّة الْقَتْل.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: بل مَعَ الرجولية؛ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْإِقْدَام على قتال الْمُسلمين، إِذْ يعْتَاد ذَلِك من الرِّجَال دون النِّسَاء.
فيجيب الْمُسْتَدلّ: بِأَن الرجولية وَكَونهَا مَظَنَّة الْإِقْدَام لَا تعْتَبر، وَإِلَّا لم يقتل مَقْطُوع الْيَدَيْنِ؛ لِأَن احْتِمَال الْإِقْدَام فِيهِ ضَعِيف، بل أَضْعَف من احْتِمَاله فِي النِّسَاء.
وَهَذَا لَا يقبل من حَيْثُ سلم أَن الرجولية مَظَنَّة اعتبرها الشَّارِع، وَذَلِكَ(7/3635)
كترفه الْملك فِي السّفر، لَا يمْنَع رخص السّفر فِي / حَقه، إِذْ الْمُعْتَبر المظنة وَقد وجدت، لَا مِقْدَار الْحِكْمَة لعدم انضباطها ".
قَوْله: (وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدلّ رُجْحَان وَصفه، خلافًا للآمدي، أما لَو اتفقَا على كَون الحكم مُعَللا بِأَحَدِهِمَا، قدم الرَّاجِح، وَلَا يَكْفِيهِ كَونه مُتَعَدِّيا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " لَا يَكْفِي الْمُسْتَدلّ رُجْحَان وَصفه خلافًا للآمدي، لقُوَّة بعض أَجزَاء الْعلَّة، كَالْقَتْلِ على الْعمد الْعدوان.
أما لَو اتفقَا على كَون الحكم مُعَللا بِأَحَدِهِمَا، قدم الرَّاجِح، وَلَا يَكْفِيهِ كَونه مُتَعَدِّيا لاحْتِمَال جزئه الْقَاصِر ".
لم يذكر ابْن الْحَاجِب الِاتِّفَاق على كَونه مُعَللا، إِنَّمَا ذكر الأول والأخير.
فَلهَذَا قَالَ الْعَضُد: " هَذَانِ وَجْهَان توهما جَوَابا للمعارضة وَلَا يكفيان.
الأول: رُجْحَان الْمعِين، وَهُوَ أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَاب الْمُعَارضَة: مَا عينته من الْوَصْف رَاجِح على مَا عارضت بِهِ، ثمَّ يظْهر وَجها من وُجُوه التَّرْجِيح وَهَذَا الْقدر غير كَاف؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل على أَن اسْتِقْلَال وَصفه أولى(7/3636)
من اسْتِقْلَال وصف الْمُعَارضَة، إِذْ لَا يُعلل بالمرجوح مَعَ وجود الرَّاجِح، لَكِن احْتِمَال الْجُزْئِيَّة بَاقٍ، وَلَا بعد فِي تَرْجِيح بعض الْأَجْزَاء على بعض، فَيَجِيء التحكم.
الثَّانِي: [كَون] مَا عينه الْمُسْتَدلّ مُتَعَدِّيا وَالْآخر قاصرا غير كَاف فِي جَوَاب الْمُعَارضَة، إِذْ مرجعه التَّرْجِيح بذلك، فَيَجِيء التحكم، هَذَا والشأن فِي التَّرْجِيح فَإِنَّهُ إِن رجحت المتعدية بِأَن اعْتِبَاره يُوجب الاتساع فِي الْأَحْكَام، وبأنها مُتَّفق على اعْتِبَارهَا، بِخِلَاف القاصرة، رجحت القاصرة بِأَنَّهَا مُوَافقَة للْأَصْل، إِذْ الأَصْل عدم الْأَحْكَام، وَبِأَن اعْتِبَارهَا إِعْمَال للدليلين مَعًا، دَلِيل الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، وَدَلِيل القاصرة بِخِلَاف إلغائها ".
قَوْله: (وَيجوز تعدد أصُول الْمُسْتَدلّ فِي الْأَصَح، فَيجوز اقْتِصَار الْمُعَارضَة على أصل وَاحِد، وَفِي " الْوَاضِح ": لَا، فَيجب اتِّحَاد الْمعَارض فِي الْجَمِيع، وَقيل: لَا، فللمستدل الِاقْتِصَار فِي جَوَابه على أصل وَاحِد، وَقيل: لَا) .
قد اخْتلف فِي جَوَاز تعدد أصُول الْمُسْتَدلّ:
فَقيل: لَا يجوز، بل يجب عَلَيْهِ [الِاكْتِفَاء] بِأَصْل وَاحِد إِذْ مَقْصُوده الظَّن، وَهُوَ يحصل بِوَاحِد، فيلغوا مَا زَاد عَلَيْهِ.(7/3637)
وَالصَّحِيح: أَنه جَائِز؛ لِأَن الظَّن يقوى بِهِ، وكما أَن أصل [الظَّن] مَقْصُود، فقوته - أَيْضا - مَقْصُودَة.
فعلى هَذَا إِذا تعدد الأَصْل فَهَل يجوز للمعترض / أَن يقْتَصر فِي الْمُعَارضَة على أصل وَاحِد، وَلَا يتَعَرَّض لسَائِر الْأُصُول؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: يجوز الِاقْتِصَار على أصل وَاحِد؛ لِأَن إبِْطَال جُزْء من كَلَامه يبطل كَلَامه كُله.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يجوز، وَجزم بِهِ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "؛ لِأَنَّهُ لَو سلم لَهُ أصل لكفاه الْمَقْصُود، فَلَا بُد من إبِْطَال الْجَمِيع.
فعلى هَذَا القَوْل يجب اتِّحَاد الْمعَارض فِي الْجَمِيع للنشر.
وَقيل: لَا، للتيسير على الْمُعْتَرض.
وعَلى كَونه لَا يجوز الِاكْتِفَاء بِوَاحِد بل تجب الْمُعَارضَة فِي جَمِيع الْأُصُول، لَو عَارض فِي الْجَمِيع وَدفع الْمُسْتَدلّ معارضته عَن أصل وَاحِد، فَهَل يجوز وَيكون ذَلِك كَافِيا؟(7/3638)
فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْجَوَاز، وَجهه أَنه يحصل بِهِ مَطْلُوبه.
وَالثَّانِي: الْمَنْع وَوَجهه أَنه الْتزم الْجَمِيع، فَلَزِمَهُ الذب عَن الْجَمِيع كَأَن الْجَمِيع صَار مدعى بِالْعرضِ.
قَوْله: (التَّرْكِيب، سبق، كالبالغة أُنْثَى فَلَا تزوج نَفسهَا كَبِنْت خمس عشرَة، فالخصم يعْتَقد لصغرها، وَهُوَ صَحِيح فِي الْأَصَح، وَقَالَ الْفَخر: يرجع إِلَى منع الحكم فِي الأَصْل أَو الْعلَّة، ثمَّ هُوَ غير صَحِيح.
يَعْنِي: هَذَا سُؤال التَّرْكِيب، وَهُوَ الْوَارِد على الْقيَاس الْمركب، وَقد تقدم فِي شُرُوط حكم الأَصْل.
يَعْنِي: الْقيَاس الْمركب، وتقسيمه، وَوجه تَسْمِيَته بذلك، وتوجيه الْإِيرَاد عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (التَّرْكِيب سبق فِي شُرُوط حكم الأَصْل، وَذكره فِي " الرَّوْضَة " من الأسئلة، وَقَالَ: هُوَ الْقيَاس الْمركب من اخْتِلَاف مَذْهَب(7/3639)
الْخصم، نَحْو: الْبَالِغَة: أُنْثَى فَلَا تزوج نَفسهَا كابنة خمس عشرَة، فالخصم يعْتَقد لصغرها.
فَقيل: فَاسد لرد الْكَلَام إِلَى سنّ الْبلُوغ وَلَيْسَ بِأولى من عَكسه.
وَقيل: يَصح؛ لِأَن حَاصله مُنَازعَة فِي الأَصْل، فَيبْطل الْمُسْتَدلّ مَا يَدعِي الْمُعْتَرض تَعْلِيل الحكم بِهِ ليسلم مَا يَدعِيهِ جَامعا فِي الأَصْل. [وَاخْتَارَ] بعض أَصْحَابنَا الصِّحَّة.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: يرجع إِلَى منع الحكم فِي الأَصْل أَو الْعلَّة. ثمَّ هُوَ غير صَحِيح؛ لاشْتِمَاله على منع حكم على مَذْهَب إِمَام نَصه / بِخِلَافِهِ، فَلَا يجوز) .(7/3640)
وَسَيَأْتِي كَلَام الْعَضُد قَرِيبا فِي التَّعْدِيَة.
قَوْله: (التَّعْدِيَة: مُعَارضَة وصف الْمُسْتَدلّ بِوَصْف آخر مُتَعَدٍّ: كَقَوْلِه فِي بكر بَالغ: بكر فأجبرت كبكر صَغِيرَة، فيعترض: بالصغر ويعديه إِلَى ثيب صَغِيرَة، وَيرجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل، وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا يخرج عَنْهَا، وَلَا أثر لزِيَادَة التَّسْوِيَة فِي التَّعْدِيَة، خلافًا للداركي) .
قَالَ القَاضِي عضد الدّين عَن التَّرْكِيب والتعدية: " هَذَانِ اعتراضان يعدهما الجدليون فِي عداد الاعتراضات، وهما راجعان إِلَى بعض من سَائِر الاعتراضات، وَنَوع مِنْهُ خص باسم، وَلَيْسَ شَيْء مِنْهُمَا سؤالا بِرَأْسِهِ.
فَالْأول: سُؤال التَّرْكِيب، وَهُوَ مَا عَرفته حَيْثُ قُلْنَا: شَرط حكم [الأَصْل] أَن لَا يكون ذَا قِيَاس مركب، وَأَنه قِسْمَانِ: مركب الأَصْل ومركب الْوَصْف، وَأَن مرجع أَحدهمَا منع حكم الأَصْل، أَو منع الْعلَّة، ومرجع الآخر منع حكم الأَصْل، أَو منع وجود الْعلَّة، فِي الْفَرْع فَلَيْسَ، بِالْحَقِيقَةِ سؤالا بِرَأْسِهِ، وَقد عرفت الْأَمْثِلَة فَلَا معنى للإعادة.
الثَّانِي: سُؤال التَّعْدِيَة، وَذكر فِي مِثَاله: أَن يَقُول الْمُسْتَدلّ فِي الْبكر الْبَالِغَة: بكر فتجبر كالصغيرة.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا معَارض بالصغر.
وَمَا ذكرته وَإِن تعدى بِهِ الحكم إِلَى الْبكر الْبَالِغَة، فَمَا ذكرته قد تعدى بِهِ الحكم إِلَى الثّيّب الصَّغِيرَة، وَهَذَا التَّمْثِيل يَجْعَل هَذَا السُّؤَال رَاجعا إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِوَصْف آخر، وَهُوَ الْبكارَة بالصغر، مَعَ زِيَادَة تعرض للتساوي فِي التَّعْدِيَة، فَلَا يكون سؤالا.(7/3641)
النَّوْع الْخَامِس من الاعتراضات: مَا يرد بِاعْتِبَار الْمُقدمَة الثَّالِثَة، وَهِي دَعْوَى وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع سَوَاء، وَهُوَ إِمَّا بِدفع وجودهَا بِالْمَنْعِ، أَو بالمعارضة، وَإِمَّا بِدفع الْمُسَاوَاة بِاعْتِبَار ضميمة شَرط فِي الأَصْل، أَو مَانع فِي الْفَرْع، وَيُسمى الْفرق، أَو بِاعْتِبَار نفس الْعلَّة، لاخْتِلَاف فِي الضَّابِط، أَو فِي الْمصلحَة، فَهَذِهِ خَمْسَة أَنْوَاع " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لم أذكر فِي الاعتراضات مَا ذكر ابْن الْحَاجِب من التَّرْكِيب؛ لِأَنَّهُ / قد تقدم فِي شُرُوط حكم الأَصْل، وَكَذَلِكَ لم أذكر مِنْهَا سُؤال التَّعْدِيَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: " وَلَا أثر لزِيَادَة التَّسْوِيَة فِي التَّعْدِيَة خلافًا للداركي ".
قَوْله: (منع وجود وصف الْمُسْتَدلّ فِي الْفَرْع: كأمان عبد، [أَمَان] صدر من أَهله كالمأذون فَيمْنَع الْأَهْلِيَّة، فَيُجِيبهُ: بِوُجُود مَا عناه بالأهلية(7/3642)
فِي الْفَرْع: كجواب مَنعه فِي الأَصْل، وَالأَصَح منع الْمُعْتَرض من تَقْرِير نفي الْوَصْف عَن الْفَرْع) . من الاعتراضات أَن نقُول: لَا نسلم وجود الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ فِي الْفَرْع.
مِثَاله أَن نقُول فِي أَمَان العَبْد: أَمَان صدر عَن أَهله كَالْعَبْدِ الْمَأْذُون لَهُ فِي الْقِتَال.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: لَا نسلم أَن العَبْد أهل للأمان.
وَالْجَوَاب: بِبَيَان مَا يعنيه بالأهلية، ثمَّ بِبَيَان وجوده، بحس، أَو عقل، أَو شرع كَمَا تقدم، ثمَّ فِي منع وجوده من الأَصْل.
فَيَقُول: أُرِيد بالأهلية كَونه مَظَنَّة لرعاية مصلحَة الْأمان، وَهُوَ بِإِسْلَامِهِ وبلوغه كَذَلِك عقلا.
فَلَو تعرض الْمُعْتَرض لتقدير معنى الْأَهْلِيَّة بَيَانا لعدمه.
فَالصَّحِيح أَنه لَا يُمكن مِنْهُ؛ لِأَن تَفْسِيرهَا وَظِيفَة من تلفظ بهَا؛ لِأَنَّهُ الْعَالم بمراده، وإثباتها وَظِيفَة من ادَّعَاهَا، فيتولى تعْيين مَا ادَّعَاهُ، كل ذَلِك لِئَلَّا ينتشر الْجِدَال.(7/3643)
قَوْله: (الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِمَا يَقْتَضِي نقيض حكم الْمُسْتَدلّ، بِأحد طرق الْعلَّة، يقبل عندنَا وَعند الْأَكْثَر، وَجَوَاب الْمُسْتَدلّ بِمَا يعْتَرض بِهِ الْمُعْتَرض ابْتِدَاء، وَيقبل التَّرْجِيح بِوَجْه تَرْجِيح، عِنْد أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، فَيتَعَيَّن الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُود، وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي دَلِيله، خلافًا لقوم فيهمَا) .
[من الاعتراضات الْمُعَارضَة: فِي الْفَرْع بِمَا يَقْتَضِي الحكم فِيهِ بِأَن يَقُول مَا ذكرته من الْوَصْف] ، وَإِن اقْتضى ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع فعندي وصف آخر يَقْتَضِي نقيضه، فَيتَوَقَّف دليلك، وَهُوَ المعني بالمعارضة إِذا أطلقت، ولابد من بنائِهِ على أصل بِجَامِع ثَبت عليته، وَله الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات عليته بِأَيّ مَسْلَك من مسالك الْعلَّة شَاءَ، على نَحْو طرق إِثْبَات الْمُسْتَدلّ للعلية سَوَاء فَيصير هُوَ مستدلا آنِفا، والمستدل مُعْتَرضًا؛ فتنقلب الوظيفتان. /
وَقد اخْتلف فِي قبُول سُؤال الْمُعَارضَة.
وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر؛ لِئَلَّا تختل(7/3644)
فَائِدَة المناظرة، وَهُوَ ثُبُوت الحكم، لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق بِمُجَرَّد الدَّلِيل، مَا لم يعلم عدم الْمعَارض.
قَالَ الْمُخَالف: فِيهِ قلب التناظر، لِأَنَّهُ [اسْتِدْلَال] من معترض، فَصَارَ الِاسْتِدْلَال إِلَى الْمُعْتَرض، والاعتراض إِلَى الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ خُرُوج مِمَّا قصداه، من معرفَة صِحَة نظر الْمُسْتَدلّ فِي دَلِيله إِلَى أَمر آخر، وَهُوَ معرفَة صِحَة نظر الْمُعْتَرض فِي دَلِيله، والمستدل لَا تعلق لَهُ بذلك، وَلَا عَلَيْهِ أتم نظره أم لَا.
وَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا يكون قلبا للتناظر لَو قصد بِهِ إِثْبَات مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيله، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَصده إِلَى هدم دَلِيل الْمُسْتَدلّ، وقصوره عَن إِفَادَة مَدْلُوله، فَكَأَنَّهُ يَقُول: دليلك لَا يُفِيد مَا ادعيت بِقِيَام الْمعَارض، وَهُوَ دليلي، فَعَلَيْك إبِْطَال دليلي ليسلم لَك دليلك فَيُفِيد، وَكَيف يقْصد بِهِ إِثْبَات مَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ معَارض بِدَلِيل الْمُسْتَدلّ فَإِن الْمُعَارضَة من الطَّرفَيْنِ، وكل يبطل حكم الآخر.
وَالْجَوَاب عَن سُؤال الْمُعَارضَة جَمِيع مَا مر من الاعتراضات من قبل الْمُعْتَرض على الْمُسْتَدلّ ابْتِدَاء، وَالْجَوَاب: لَا فرق.(7/3645)
وَقد يُجَاب التَّرْجِيح بِوَجْه من وجوهه الَّتِي نذكرها فِي بَاب التراجيح. وَقد اخْتلف فِي قبُول التَّرْجِيح.
وَالصَّحِيح: أَنه يقبل، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب؛ لِأَنَّهُ إِذا ترجح وَجب الْعَمَل بِهِ، للْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بالراجح، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُود.
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَا يقبل؛ لِأَن تَسَاوِي الظَّن الْحَاصِل بهما غير مَعْلُوم، وَلَا يشْتَرط ذَلِك، وَإِلَّا لم تحصل الْمُعَارضَة، لِامْتِنَاع الْعلم بذلك. ,
نعم، الْمُعْتَبر حُصُول أصل الظَّن، وَأَنه لَا ينْدَفع بالترجيح.
وعَلى الصَّحِيح: هَل يجب الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي متن الدَّلِيل؟ بِأَن يَقُول: أَمَان من مُسلم عَاقل مُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة فِيهِ خلاف:
وَالصَّحِيح: أَنه لَا يجب؛ لِأَن التَّرْجِيح على مَا يُعَارضهُ خَارج عَن الدَّلِيل، وَتوقف الْعَمَل على التَّرْجِيح لَيْسَ جُزْء الدَّلِيل، بل شَرط لَهُ لَا مُطلقًا بل إِذا حصل الْمعَارض، واحتيج إِلَى دَفعه، فَهُوَ من تَوَابِع ظُهُور الْمعَارض لدفعه؛ / لِأَنَّهُ جُزْء من الدَّلِيل فَلَا يجب ذكره من الدَّلِيل.
وَقيل: يجب؛ لِأَنَّهُ شَرط فِي الْعَمَل بِهِ فَلَا يثبت الحكم دونه، فَكَانَ كجزء الْعلَّة.(7/3646)
قَوْله: (الْفرق رَاجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل أَو الْفَرْع وَقيل: بل إِلَيْهِمَا مَعًا، فَلهَذَا لَا يقبل، وَقيل: بلَى، فهما سؤالان جَازَ الْجمع بَينهمَا، وَقيل وَاحِد، وَقَالَ ابْن عقيل: يحْتَاج الْفرق القادح فِي الْجمع إِلَى دلَالَة وأصل كالجمع، وَإِلَّا فدعوى بِلَا دَلِيل، خلافًا لقوم، وَإِن أحب إِسْقَاطه عَنهُ، طَالب الْمُسْتَدلّ بِصِحَّة الْجمع) .
من القوادح الْفرق، وَهُوَ: إبداء الْمُعْتَرض معنى يحصل بِهِ الْفرق بَين الأَصْل وَالْفرع حَتَّى لَا يلْحق بِهِ فِي حكمه، وَهُوَ نَوْعَانِ:
الأول: أَن يَجْعَل الْمُعْتَرض تعين صُورَة الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهَا هُوَ الْعلَّة فِي الحكم:: كَقَوْل حنبلي فِي النِّيَّة فِي الْوضُوء طَهَارَة عَن حدث فَوَجَبَ لَهُ النِّيَّة كالتيمم.
فَيَقُول الْمُعْتَرض بِالْفرقِ: الْعلَّة فِي الأَصْل كَون الطَّهَارَة بِتُرَاب، فَذكر لَهُ خُصُوصِيَّة لَا تعدوه.
وكقول حَنَفِيّ فِي التبييت: صَوْم عين فيتأدى بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال كالنفل. فَيُقَال: صَوْم نفل فينبني على السهولة، فَجَاز بنية مُتَأَخِّرَة بِخِلَاف الْفَرْض.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْقسم رَاجع إِلَى مُعَارضَة فِي الأَصْل، أَي: مُعَارضَة عِلّة(7/3647)
الْمُسْتَدلّ فِيهِ لعِلَّة أُخْرَى، وَلِهَذَا بناه الْبَيْضَاوِيّ، وكثيسر من الْعلمَاء على تَعْلِيل الحكم بعلتين فَصَاعِدا.
وَوجه الْبناء: أَن الْمُعْتَرض عَارض عِلّة الْمُسْتَدلّ بعلة أُخْرَى، فَمن منع التَّعْلِيل بعلتين رَآهُ اعتراضا يلْزم مِنْهُ تعدد الْعِلَل، وَهُوَ مُمْتَنع عِنْده، وَمن لم يمْنَع لم يره سؤالا قادحا لجَوَاز كَون الحكم لَهُ عِلَّتَانِ.
وَذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى عدم الْبناء.
النَّوْع الثَّانِي: أَن يَجْعَل تعين الْفَرْع مَانِعا من ثُبُوت حكم الأَصْل فِيهِ، كَقَوْلِهِم: يُقَاد الْمُسلم بالذمي قِيَاسا على غير الْمُسلم، بِجَامِع الْقَتْل الْعمد الْعدوان.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: تعين الْفَرْع وَهُوَ الْإِسْلَام مَانع من وجوب الْقصاص عَلَيْهِ. وَلَعَلَّه - أَيْضا -: مَبْنِيّ على / جَوَاز التَّعْلِيل بالقاصرة.
لَكِن بناه الْبَيْضَاوِيّ، وَغَيره على الْخلاف فِي النَّقْض إِذا كَانَ لمَانع: هَل يقْدَح فِي الْعلية أم لَا؟
فَإِن قُلْنَا لَا يقْدَح فَهَذَا كَذَلِك؛ لِأَن الْوَصْف الَّذِي ادّعى الْمُسْتَدلّ عليته لما وجد فِي الْفَرْع وتخلف فِيهِ الحكم لمَانع قَامَ بِهِ، فَهَذَا نقض لمَانع، فيقدح عِنْد الْقَائِل بالقدح بِالنَّقْضِ لمَانع، وَإِلَّا فَلَا.(7/3648)
فَيكون مُخْتَار الْبَيْضَاوِيّ قدح النَّوْع الأول فِي المستنبطة دون المنصوصة، وَعدم قدح النَّوْع الثَّانِي مُطلقًا، لاختيار جَوَاز التَّعْلِيل بعلتين فِي المستنبطة دون المنصوصة، وَأَن النَّقْض لمَانع غير قَادِح.
إِذا علم ذَلِك فالقدح رَاجع إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع، فَحكمه فِي الرَّد وَالْقَبُول حكمه، هَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
وَذهب كثير من الْمُتَقَدِّمين: إِلَى أَن الْفرق مُعَارضَة فِي الأَصْل وَالْفرع مَعًا، حَتَّى لَو اقْتصر على أَحدهمَا لَا يكون فرقا.
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي " أَنه وَإِن اشْتَمَل على معَارض، وَلَكِن لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ الْمُعَارضَة، وَإِنَّمَا الْغَرَض مِنْهُ المناقضة للْجمع ".
فَالْكَلَام فِي الْفرق وَرَاء الْمُعَارضَة وخاصته وسره، فقد تنَاقض أصل الْجمع، وَقد رده من يقبل الْمُعَارضَة.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي قبُول الْفرق مذهبان: أَحدهمَا: أَنه مَرْدُود، فَلَا يكون قادحا، وَعَزاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ للمحققين، لِأَنَّهُ جمع بَين أسئلة مُخْتَلفَة.
وأصحهما؛ أَنه مَقْبُول وَأَنه قَادِح؛ لِأَنَّهُ على أَي وَجه ورد يوهن غَرَض(7/3649)
الْمُسْتَدلّ من الْجمع، وَيبْطل مَقْصُوده.
وَذكر فِي " الملخص ": " أَنه " أفقه شَيْء يجْرِي فِي النّظر، وَبِه يعرف فقه الْمَسْأَلَة ".
وَذكر أَبُو الْمَعَالِي: أَنه الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْفُقَهَاء، لِأَن [شَرط] عِلّة الْخصم خلوها من الْمعَارض.
وَعند ابْن السَّمْعَانِيّ: " أَنه عِنْد الْمُحَقِّقين أَضْعَف سُؤال يذكر، وَلَيْسَ [مِمَّا] يمس الَّتِي الْعلَّة وصفهَا الْمُعَلل بِوَجْه مَا ".
ورد على أبي الْمَعَالِي.(7/3650)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " وَالْحق مَا سبق: أَنه إِذا كَانَ كعارضته فِي الْفَرْع فَهُوَ قَادِح، تَفْرِيعا على سَماع النَّقْض وقدحه مُطلقًا، وَإِن / كَانَ فِي الأَصْل فمبني على تعدد الْعِلَل.
وَاخْتلف - أَيْضا - فِي أَنه سُؤال وَاحِد أَو سؤالان:
فَقيل: وَاحِد، لِاتِّحَاد الْمَقْصُود مِنْهُ، وَهُوَ قطع الْجمع، فعلى هَذَا مَقْبُول قطعا.
وَقَالَ ابْن سُرَيج: سؤالان، لاشْتِمَاله على مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة، ثمَّ على مُعَارضَة عِلّة الْفَرْع بعلة مستنبطة فِي جَانب الْفَرْع،، لِأَنَّهُ أدل على الْفرق. فعلى قَوْله فِي قبُوله خلاف:
مِنْهُم من رده وَقَالَ: يَنْبَغِي أَن يُورد كل سُؤال على حياله.
وَمِنْهُم من قبله، وَهُوَ الْأَصَح، وَلَو كَانَ فِيهِ جمع سؤالين؛ لِأَنَّهُ أضبط للغرض، وَأجْمع لتفرق الْكَلَام.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: حَاصِل مَذَاهِب الجدليين فِيهِ ثَلَاثَة:
رده تَفْرِيعا على رد الْمُعَارضَة.
وَهُوَ مَذْهَب سَاقِط.(7/3651)
وَقَول ابْن سُرَيج، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق، أَنه لَيْسَ سؤالا وَاحِدًا إِنَّمَا هُوَ مُعَارضَة معنى الأَصْل بِمَعْنى، ومعارضة الْفَرْع لعِلَّة مُسْتَقلَّة، ومعارضة الْعلَّة بعلة مَقْبُولَة.
قَالَ: وَالثَّالِث الْمُخْتَار: أَنه مَقْبُول مُطلقًا، وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ كل من ينتمي إِلَى التَّحْقِيق " انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " فَعلم أَن الْقَائِل بِأَنَّهُ سؤالان؛ لم يقبله على أَنه فرق، بل مُعَارضَة.
وَإِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ قَادِح.
فَقيل: يجب على الْفَارِق نَفْيه عَن الْفَرْع؛ لِأَن قَصده افْتِرَاق صُورَتَيْنِ.
وَقيل: لَا يجب.
وَقيل: بالتفصيل بَين أَن يُصَرح فِي إِفْرَاد الْفرق بالافتراق بَين الأَصْل وَالْفرع، فَلَا بُد من نَفْيه عَنهُ، وَإِن لم يُصَرح بل قصد الْمُعَارضَة وَدَلِيله غير تَامّ فَلَا.
قَالَ: المقترح: إِنَّه أقرب إِلَى الصَّوَاب.
هَذَا إِن كَانَ الْمَقِيس عَلَيْهِ وَاحِدًا، فَإِن تعدد:
فَقيل: بِالْمَنْعِ؛ لإفضائه بالانتشار، مَعَ [إِمْكَان] حُصُول الْمَقْصُود(7/3652)
بِوَاحِد مِنْهَا، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا، وَلَو جَازَ تعدد الْعِلَل.
وَقيل: يجوز؛ لما فِيهِ من تَكْثِير الْأَدِلَّة، وَهُوَ أقوى فِي إِفَادَة الظَّن، وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب وَغَيره.
نعم، إِذا فرعنا على جَوَاز التَّعَدُّد.
إِذا فرق الْمُعْتَرض بَين أصل وَاحِد وَبَين الْفَرْع هَل يَكْفِيهِ ذَلِك؟ الْأَصَح: - كَمَا قَالَ الْهِنْدِيّ - / نعم؛ لانخرام غَرَض الْمُسْتَدلّ فِي إِلْحَاقه لجَمِيع تِلْكَ الْأُصُول.
وَالثَّانِي: يحْتَاج أَن يفرق بَين الْفَرْع وَبَين كل وَاحِد.
وَقَالَ الْهِنْدِيّ: الْمُخْتَار إِن كَانَ غَرَض الْمُسْتَدلّ من الأقيسة المتعددة إِثْبَات الْمَطْلُوب بِصفة الرجحان، [وَغَلَبَة] الظَّن الْمَخْصُوص -[فَالْفرق] الْمَذْكُور قَادِح فِي غَرَضه وَيحصل لغَرَض الْمُعْتَرض، وَإِن كَانَ(7/3653)
غَرَضه إِثْبَات أصل الْمَطْلُوب كفى ".
قَالَ ابْن عقيل: يحْتَاج الْفرق القادح فِي الْجمع إِلَى دلَالَة وأصل كالجمع، وَإِلَّا فدعوى بِلَا دَلِيل، خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَإِن أحب إِسْقَاطه عَنهُ، طَالب الْمُسْتَدلّ بِصِحَّة الْجمع.
وَمثل: الصَّبِي غير الْمُكَلف فَلَا يزكّى كمن لم تبلغه [الدعْوَة] ، فينتقض بِعشر زرعه، والفطرة.
فسؤال صَحِيح، بِخِلَاف التَّفْرِقَة بِالْفِسْقِ بَين النَّبِيذ وَالْخمر، لِأَنَّهُ(7/3654)
لَيْسَ من حكم الْعلَّة، ثمَّ يجوز جلبها للتَّحْرِيم فَقَط، لِأَنَّهُ أَعم.
وَمن يرى أَن الْعلَّة لَا تستدعي أَحْكَامهَا لَا يلْزم؛ لِأَنَّهَا تكون عِلّة فِي مَوضِع دون آخر.
وَمثل: النِّكَاح الْمَوْقُوف لَا يبح فَبَطل.
فَيُقَال: اعْتبرت فَسَاد الأَصْل بِفساد الْفَرْع؛ لِأَن الْإِبَاحَة حكم العقد: ففاسد لِأَن العقد يُرَاد لأحكامه، قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَوْله: (اخْتِلَاف الضَّابِط فِي الأَصْل وَالْفرع: كتسببوا بِالشَّهَادَةِ فَوَجَبَ الْقود كالمكره، فَيُقَال: ضباط الْفَرْع الشَّهَادَة، وَالْأَصْل الْإِكْرَاه، فَلَا يتَحَقَّق تساويهما، وَجَوَابه: بَيَان أَن الْجَامِع التَّسَبُّب الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَهُوَ مضبوط عرفا أَو بِأَن إفضاءه فِي الْفَرْع مثله، أَو أرجح) .
من القوادح اخْتِلَاف الضَّابِط.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: فِي قياسك اخْتِلَاف الضَّابِط من الأَصْل وَالْفرع، فَلَيْسَ ضَابِط الأَصْل فِيهِ هُوَ ضَابِط الْفَرْع، فَلَا وثوق بِمَا ادعيت جَامعا بَينهمَا.(7/3655)
مِثَاله: قَوْلنَا فِي شَهَادَة الزُّور بِالْقَتْلِ: تسببوا بِالشَّهَادَةِ إِلَى الْقَتْل عمدا فَعَلَيْهِم الْقصاص كالمكره.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: الضَّابِط فِي الْفَرْع وَالشَّهَادَة، وَفِي الأَصْل الْإِكْرَاه، فَلَا يتَحَقَّق التَّسَاوِي بَينهمَا.
وَحَاصِل هَذَا السُّؤَال يرجع إِلَى منع وجود الأَصْل فِي الْفَرْع. /
وَفِي " شرح المقترح " لأبي الْعِزّ حِكَايَة قَوْلَيْنِ فِي قبُوله، قَالَ: " ومدار الْكَلَام فِيهِ يَنْبَنِي على شَيْء وَاحِد، وَهُوَ أَن الْمُعْتَبر فِي الْقيَاس الْقطع بالجامع، أَو ظن وجود الْجَامِع كَاف.
وَيَنْبَنِي على ذَلِك الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب، فَمن اعْتبر الْقطع منع الْقيَاس فِيهَا، إِذا لَا يتَصَوَّر عَادَة الْقطع بتساوي المصلحتين، فَلَا يتَحَقَّق جَامع بَين الوصفين بِاعْتِبَار يثبت حكم السَّبَبِيَّة بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا، وَمن اكْتفى بِالظَّنِّ صحّح ذَلِك، إِذْ يجوز تَسَاوِي المصلحتين، فَيتَحَقَّق الْجَامِع وَلَا يمْتَنع الْقيَاس ".
وَجَوَابه: بَيَان أَن الْجَامِع التَّسَبُّب الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ مضبوط عرفا. أَو بِأَن إفضاء ضَابِط الْفَرْع إِلَى الْمَقْصُود أَكثر، كَمَا لَو كَانَ أصل الْفَرْع المغري للحيوان بِجَامِع التَّسَبُّب، فَإِن انبعاث الْوَلِيّ على الْقَتْل بِسَبَب الشَّهَادَة للتشفي أَكثر من انبعاث الْحَيَوَان بالإغراء، لنفرته من الْإِنْسَان، وَعدم علمه بِجَوَاز الْقَتْل وَعَدَمه، فاختلاف أصل التَّسَبُّب لَا يضر، فَإِنَّهُ اخْتِلَاف أصل وَفرع.(7/3656)
وَلَا يُفِيد قَول الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه: التَّفَاوُت فِي الضَّابِط ملغى لحفظ النَّفس: كَمَا ألغي التَّفَاوُت بَين قطع الْأُنْمُلَة وَقطع الرَّقَبَة فِي قَود النَّفس؛ لِأَن الإلغاء المتفاوت فِي صُورَة لَا توجب عُمُومه: كإلغاء الشّرف وَغَيره دون الْإِسْلَام وَالْحريَّة.
قَوْله: (وَمِنْه: أولج فِي فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فحد كزان، فَيُقَال: حكمه الْفَرْع الصيانة عَن رذيلة اللواط، وَحكمه الأَصْل دفع مَحْذُور اشْتِبَاه الْأَنْسَاب، وَقد يتفاوتان فِي نظر الشَّرْع، وَحَاصِله مُعَارضَة فِي الأَصْل، وَجَوَابه بحذفه عَن الِاعْتِبَار) .
لم نذْكر من القوادح مَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا: اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة، اكْتِفَاء باخْتلَاف الضَّابِط؛ لِأَن تعدد الضَّابِط فِي الأَصْل وَالْفرع، تَارَة يكون مَعَ اتِّحَاد الْمصلحَة، وَتارَة يكون مَعَ اختلافها.
فَإِذا قدح مَعَ الِاتِّحَاد، فَلِأَن يقْدَح مَعَ اخْتِلَاف الْجِنْس فِي التَّأْثِير أولى، فَإِنَّهُ يحصل جِهَتَيْنِ فِي التَّفَاوُت: جِهَة فِي كمية الْمصلحَة ومقدارها، وجهة فِي إفضاء / ضابطها إِلَيْهَا، فالتساوي يكون أبعد، قَالَ ذَلِك الْبرمَاوِيّ وتابعناه.(7/3657)
وَجَوَاب قَادِح اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة بحذفه من الِاعْتِبَار، وَسبق فِي السبر.
قَوْله: (مُخَالفَة حكم الْفَرْع لحكم الأَصْل، وَجَوَابه: بِبَيَان اتِّحَاد الحكم عينا: كصحة البيع على النِّكَاح، وَالِاخْتِلَاف عَائِد إِلَى الْمحل، واختلافه شَرط فِيهِ، أَو جِنْسا: كَقطع الْأَيْدِي بِالْيَدِ، كالأنفس بِالنَّفسِ) . بعد تَسْلِيم عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع.
يَقُول الْمُعْتَرض: الحكم فِي الْفَرْع مُخَالف للْحكم فِي الأَصْل حَقِيقَة، وَإِن ساواه بدليلك صُورَة، وَالْمَطْلُوب مساواته لَهُ حَقِيقَة، فَمَا هُوَ مطلوبك غير مَا أَفَادَهُ دليلك إِذا نصب فِي غير مَحل النزاع كَانَ فَاسِدا؛ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات مَحل النزاع.
مِثَاله: أَن يُقَاس النِّكَاح على البيع، أَو البيع على النِّكَاح، فِي عدم الصِّحَّة لجامع فِي صُورَة.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: الحكم يخْتَلف، فَإِن عدم الصِّحَّة فِي البيع حُرْمَة الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، وَفِي النِّكَاح حُرْمَة الْمُبَاشرَة.
وَالْجَوَاب: أَن الْبطلَان شَيْء وَاحِد، وَهُوَ عدم ترَتّب الْمَقْصُود من العقد عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اخْتلف الْمحل بِكَوْنِهِ بيعا ونكاحا، وَاخْتِلَاف الْمحل لَا يُوجب(7/3658)
اخْتِلَاف مَا حل فِيهِ، بل اخْتِلَاف الْمحل شَرط فِي الْقيَاس ضَرُورَة، فَكيف يَجْعَل شَرطه مَانِعا عَنهُ، فيستلزم امْتِنَاعه أبدا.
قَوْله: (وَتعْتَبر مماثلة التَّعْدِيَة، ذكره القَاضِي، والموفق، وَغَيرهمَا، وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة: لَا، وَحكي عَن القَاضِي) .
قَالَ: ابْن مُفْلِح: (وَتعْتَبر مماثلة التَّعْدِيَة، ذكره فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَذكره القَاضِي، وَمثله: بقول الْحَنَفِيَّة فِي ضم الذَّهَب إِلَى الْفضة فِي الزَّكَاة: كصحاح ومكسرة.
فالضم فِي الأَصْل بالأجزاء، وَفِي الْفَرْع بِالْقيمَةِ عِنْدهم. ثمَّ لما نصر جَوَاز قلب التَّسْوِيَة، لِأَن الحكم التَّسْوِيَة فَقَط: كقياس الْحَنَفِيَّة طَلَاق الْمُكْره على الْمُخْتَار.
فَيُقَال: فَيجب اسْتِوَاء حكم إِيقَاعه وَإِقْرَاره كالمختار.
وَقَالَ: فعلى هَذَا يجوز قِيَاس الْحَنَفِيَّة الْمَذْكُور، وَمن منع هَذَا لتضاد حكم / الأَصْل وَالْفرع لم يجزه لاختلافهما.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَصَارَ لَهُ قَولَانِ: وَالْمَنْع فيهمَا قَول بعض الشَّافِعِيَّة.(7/3659)
وَالْجَوَاز قَول الْحَنَفِيَّة.
وَاخْتَارَهُ فِي " التَّمْهِيد "
وَفِي " الْوَاضِح " فِي " مَسْأَلَة الضَّم ": إِن اعْترض بِأَن حكم الأَصْل لم يَتَعَدَّ، حَيْثُ ألحقت فِي وجوب الضَّم لَا صفته.
وَيُمكن الْمُعْتَرض أَن يَقُول: الضَّم فِي الأَصْل بفرع غير الْفَرْع.
وَجعله الْآمِدِيّ كالقلب الثَّالِث، وَسَيَأْتِي.
وَجعله فِي " الْوَاضِح " كالقلب الثَّانِي) .(7/3660)
قَوْله: (وَإِن اخْتلف الحكم جِنْسا ونوعا، كوجوب على تَحْرِيم، وَنفي على إِثْبَات، وَبِالْعَكْسِ - فَبَاطِل) .
وَذَلِكَ لِأَن الحكم إِنَّمَا شرع لإفضائه إِلَى مَقْصُود العَبْد، واختلافه مُوجب للمخالفة بَينهمَا فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْحِكْمَة.
فَإِن كَانَ بِزِيَادَة فِي إفضاء حكم الأَصْل إِلَيْهَا، لم يلْزمه من شَرعه شرع الحكم فِي الْفَرْع؛ لِأَن زِيَادَة الْإِفْضَاء مَقْصُودَة، وَيمْتَنع كَون حكم الْفَرْع أفْضى إِلَى الْمَقْصُود، وَإِلَّا كَانَ تنصيص الشَّارِع عَلَيْهِ أولى.
فَإِن قيل: الحكم لَا يخْتَلف؛ لِأَنَّهُ كَلَام اللَّهِ وخطابه، بل يخْتَلف تعلقه ومتعلقه.
قَوْلكُم: كَانَ النَّص عَلَيْهِ أولى إِنَّمَا يلْزم لَو لم يقْصد التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، ثمَّ يحْتَمل أَنه لمَانع مُخْتَصّ بِهِ.
رد الأول: بَان التَّعَلُّق دَاخل فِي مَفْهُوم الحكم، كَمَا سبق فِي حد الحكم، فَيلْزم من اختلافه اختلافه.
وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ لَو كَانَ لجَاز إِثْبَات الشَّرْع فِي الأَصْل.
وَالثَّالِث: بِأَنَّهُ يلْزم فِيهِ امْتنَاع ثُبُوت حكم الأَصْل فِيهِ.
قَوْله: (الْقلب: تَعْلِيق نقيض الحكم أَو لَازمه على الْعلَّة إِلْحَاقًا بِالْأَصْلِ، فَهُوَ نوع مُعَارضَة عِنْد أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَحكي عَن الْأَكْثَر، [وَقيل: إِفْسَاد] ، وَقيل: تَسْلِيم للصِّحَّة، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره) .(7/3661)
الْقلب قِسْمَانِ: قلب الدَّعْوَى، وقلب الدَّلِيل.
وَالْمرَاد هُنَا الثَّانِي، وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ:
قلب دلَالَة الْأَلْفَاظ، وقلب الْعِلَل.
فَالْأول: أَن يبين الْمُعْتَرض أَن مَا ذكره الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل / يدل عَلَيْهِ لَا لَهُ، يَأْتِي مِثَاله.
وَالثَّانِي قلب الْعِلَل، وَهُوَ تَعْلِيق الْمُعْتَرض نقيض الحكم الْمُسْتَدلّ الَّذِي ادَّعَاهُ على علته الَّتِي تثبت ذَلِك الحكم عَلَيْهَا بِعَينهَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " الْقلب: إِمَّا خَاص بِبَاب الْقيَاس، وَهُوَ الَّذِي ذكره الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره هُنَا؛ لِأَن كَلَامهم فِي الْقيَاس، وَإِمَّا أَعم مِمَّا يعْتَرض(7/3662)
بِهِ على الْقيَاس وعَلى غَيره من الْأَدِلَّة ". فَهُوَ نوع الْمُعَارضَة عِنْد أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
وَحَكَاهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " عَن اكثر الْعلمَاء بل أولى بِالْقبُولِ؛ لِأَنَّهُ اشْترك فِيهِ الأَصْل، وَالْجَامِع، وَإِن نَشأ من نفس دَلِيل الْمُسْتَدلّ، لَكِن لما الْتزم فِي دَلِيله وجود الْوَصْف لم يمنعهُ.
وكالشركة فِي دلَالَة النَّص، كاستدلال الْحَنَفِيّ فِي " مَسْأَلَة الساجة "، وَعدم نقض بِنَاء الْغَاصِب بقوله: " لَا ضَرَر وَلَا ضرار " وَاسْتدلَّ غَيره لمنع الْمَغْصُوب أَخذ مَاله.(7/3663)
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: الْقلب إِفْسَاد لَا مُعَارضَة، فَلَا يتَكَلَّم عَلَيْهِ بِمَا يتَكَلَّم على الْعلَّة المبتدأة؛ لِأَن الْعلَّة الْوَاحِدَة لَا يعلق عَلَيْهَا حكمان متضادان.
رد: لَيْسَ الْقلب بحكمين متضادين من كل وَجه، بل لَا يُمكن الْخصم الْجمع بَينهمَا بِمَعْنى آخر، فالحجة مُشْتَركَة، ولابد لتَعلق الْحكمَيْنِ بِالْعِلَّةِ تَرْجِيح.
وَمنع جمع من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم من الْقلب، بل هُوَ تَسْلِيم للحجة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
لِأَنَّهُ لَيْسَ للمعترض فرض مَسْأَلَة على الْمُسْتَدلّ.(7/3664)
رد: بالمشاركة فِي دلَالَة النَّص، ثمَّ إِنَّمَا شَاركهُ فِي علته وَأَصله فِي معنى الحكم الَّذِي فرض فِيهِ.
قَالُوا: اعْترف الْمُعْتَرض باقتضاء الدَّلِيل لما رتبه عَلَيْهِ من الحكم، ومجال اقْتِصَاره لمقابل ذَلِك الحكم من جِهَة احْتج لَهَا الْمُسْتَدلّ لاقْتِضَاء الْعلَّة من جِهَة وَاحِدَة للْحكم ويقتضيه.
وَمن جِهَة أُخْرَى لَيْسَ بقلب؛ لِأَنَّهُ لابد فِيهِ من اتِّحَاد الْعلَّة فِي القياسين، بل معارضته بِدَلِيل مُنْفَصِل.
أجَاب فِي " التَّمْهِيد ": إِنَّمَا لَا يجْتَمع الشَّيْء وضده إِذا صرح بِهِ، وَإِلَّا جَازَ وَإِن أدّى أَحدهمَا إِلَى نفي الآخر.
وَأجَاب غَيره: بِأَن التَّنَافِي حصل فِي الْفَرْع لما هُوَ بغرض الِاجْتِمَاع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: " وَفِي قَول: إِن الْقلب تَسْلِيم للصِّحَّة مُطلقًا. وَهَذَا / مَأْخُوذ من قَول بعض أَصْحَابنَا:
الْقلب شَاهد زور كَمَا [يشْهد لَك] يشْهد عَلَيْك ".(7/3665)
قَوْله: (فَمِنْهُ اعْلَم أَن الْقلب أَنْوَاع: أَحدهَا: الْقلب لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْرِيحًا. وَالثَّانِي: الْقلب لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ من غير تَصْرِيح) .
هَذِه أمثله لأنواع الْقلب.
فمثال الأول - وَهُوَ الَّذِي لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْرِيحًا -: مَا يُقَال فِي بيع الْفُضُولِيّ: عقد فِي حق الْغَيْر بِلَا ولَايَة، فَلَا يَصح كالشراء لَهُ.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: تصرف فِي مَال الْغَيْر فَيصح: كالشراء للْغَيْر فَإِنَّهُ يَصح للْمُشْتَرِي وَإِن لم يَصح لمن اشْترى لَهُ.
وَمِثَال الثَّانِي - وَهُوَ الَّذِي لتصحيح مذْهبه مَعَ إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ من غير تَصْرِيح -: بِهِ قَول الْحَنَفِيّ فِي الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف: لبث فِي مَحل مَخْصُوص، فَلَا يكون قربَة بِنَفسِهِ: كالوقوف بِعَرَفَة، وغرضه التَّعَرُّض لاشْتِرَاط، الصَّوْم فِيهِ، وَلَكِن لم يتَمَكَّن من التَّصْرِيح بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أصل لَهُ يقيسه عَلَيْهِ.(7/3666)
فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ أَو الشَّافِعِي الْمُعْتَرض: لبث فِي مَحل مَخْصُوص، فَلَا يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم: كالوقوف بِعَرَفَة، فقد تعرض لِلْعِلَّةِ بتصريحه بنقيض الْمَقْصُود.
قَوْله: (وقلب لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ فَقَط صَرِيحًا: كالرأس مَمْسُوح فَلَا يجب استيعابه كالخف، فَيُقَال: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ: كالخف، أَو لُزُوما: كَبيع غَائِب عقد مُعَاوضَة، فَيصح مَعَ جهل المعوض: كَالنِّكَاحِ، فَيُقَال: فَلَا يعْتَبر خِيَار رُؤْيَة: كَالنِّكَاحِ، فَإِذا انْتَفَى اللَّازِم انْتَفَى الْمَلْزُوم) .
هَذَا الْقلب لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا أَو لُزُوما.
مِثَال الأول - وَهُوَ الثَّالِث -: كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي مسح الرَّأْس: عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء، فَلَا يَكْفِي أَقَله كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: فَلَا يتَقَدَّر بِالربعِ: كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء.
فَفِيهِ نفي مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا، وَلم يثبت مذْهبه لاحْتِمَال أَن يكون(7/3667)
الْحق فِي غير ذَلِك، وَهُوَ الِاسْتِيعَاب، كَمَا هُوَ قَول أَحْمد، وَمَالك.
وَمِثَال الثَّانِي - وَهُوَ الرَّابِع -: كَقَوْل الْحَنَفِيّ فِي بيع الْمَجْهُول: عقد مُعَاوضَة فَيصح، مَعَ جهل المعوض: كَالنِّكَاحِ.
فَيُقَال: عقد مُعَاوضَة فَلَا يعْتَبر فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة: كَالنِّكَاحِ، فثبوت خِيَار الرُّؤْيَة لَازم لصِحَّة بيع الْغَائِب عِنْدهم، / وَإِذا انْتَفَى اللَّازِم انْتَفَى الْمَلْزُوم.(7/3668)
قَوْله: (وقلب الْمُسَاوَاة خلافًا للباقلاني، والسمعاني: كالخل مَائِع طَاهِر مزيل كَالْمَاءِ، فَيُقَال: يَسْتَوِي فِيهِ الْحَدث والخبث) .
هَذَا قلب الْمُسَاوَاة.
وَمِثَال الْخَامِس: قِيَاس طَلَاق الْمُكْره على طَلَاق الْمُخْتَار.
فَيُقَال: يجب اسْتِوَاء حكم إِيقَاعه وَإِقْرَاره كالمختار.
وَمثله أَيْضا - قَول الْحَنَفِيَّة فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بالخل: مَاء طَاهِر مزيل كَالْمَاءِ.
فَيُقَال: فيستوي فِيهِ الْحَدث والخبث كَالْمَاءِ.
وَهَذَا قَول الْأَكْثَر، وَمِنْهُم الْأُسْتَاذ.
قَوْله: (وَمِنْه: قَول أبي الْخطاب، وَالشَّيْخ، وَغَيرهمَا: يَصح جعل الْمَعْلُول عِلّة، وَعَكسه: كمن صَحَّ طَلَاقه ظِهَاره، وَعَكسه، فَالسَّابِق عِلّة الآخر، وَهَذَا نوع ثَالِث من الْقلب لَا يفْسد الْعلَّة، عِنْد أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَخَالف الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم) .(7/3669)
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": الْقلب ثَلَاثَة أَنْوَاع:
الحكم بِحكم مَقْصُود غير حكم الْمُعَلل.
وَالثَّانِي: قلب التَّسْوِيَة.
" وَالثَّالِث: يَصح أَن يَجْعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا.
كَقَوْل أَصْحَابنَا فِي ظِهَار الذِّمِّيّ: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره كَالْمُسلمِ. فَيَقُول الْحَنَفِيّ: أجعَل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا، وَأَقُول: الْمُسلم. إِنَّمَا صَحَّ طَلَاقه؛ لِأَنَّهُ صَحَّ ظِهَاره، وَمَتى كَانَ الظِّهَار عِلّة للطَّلَاق لم يثبت ظِهَار الذِّمِّيّ بِثُبُوت طَلَاقه.
فَقَالَ أَصْحَابنَا: هَذَا لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِالْعِلَّةِ، وَهُوَ قَول أَكثر الشَّافِعِيَّة.
وَقَالَ قوم: لَا يَصح أَن يكون عِلّة، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين.
وَالدّلَالَة على صِحَة ذَلِك أَن علل الشَّرْع أَمَارَات على الْأَحْكَام بِجعْل جَاعل وَنصب ناصب، وَهُوَ صَاحب الشَّرْع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَغير مُمْتَنع أَن يَقُول صَاحب الشَّرْع: من صَحَّ طَلَاقه فاعلموا أَنه يَصح ظِهَاره، فإيهما ثَبت مِنْهُ صِحَة أَحدهمَا حكمنَا بِصِحَّة الآخر مِنْهُ.(7/3670)
وَاحْتج الْمُخَالف: بِأَنَّهُ إِذا جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة الآخر وقف كل وَاحِد مِنْهُمَا على ثُبُوت الآخر، فَلَا يثبت وَاحِد مِنْهُمَا، كَمَا لَو قَالَ: لَا يدْخل زيد الدَّار حَتَّى / يدْخل بكر، وَلَا يدْخل بكر حَتَّى يدْخل زيد، فَلَا يُمكن دُخُول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُنَا.
الْجَواب: أَن هَذَا يعْتَبر فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة؛ لِأَن الحكم لَا يجوز أَن يثبت فِي الْعقل بِأَكْثَرَ من عِلّة وَاحِدَة، وَأما فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يجوز أَن يثبت بطرِيق آخر فيستدل بِهِ على الحكم الآخر " انْتهى. وَأطَال فِي ذَلِك.
قَالَ ابْن مُفْلِح عَن كَلَامه: فَالسَّابِق فِي الثُّبُوت عِلّة للْآخر، وَهَذَا نوع من الْقلب لَا يفْسد الْعلَّة.
قَوْله: (وَزيد قلب الدَّعْوَى مَعَ إِضْمَار الدَّلِيل فِيهَا: ككل مَوْجُود مرئي، فَيُقَال: كل مَا لَيْسَ فِي جِهَة لَيْسَ مرئيا، فدليل الرُّؤْيَة: الْوُجُود، وَكَونه لَا فِي جِهَة دَلِيل منعهَا، أَو مَعَ عَدمه: كشكر الْمُنعم وَاجِب لذاته فيقبله) .
تابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح فَإِنَّهُ قَالَ: أما قلب الدَّعْوَى مَعَ إِضْمَار الدَّلِيل فِيهَا فَمثل كل مَوْجُود مرئي، فَيُقَال: كل مَا لَيْسَ فِي جِهَة لَيْسَ مرئيا؛(7/3671)
فدليل الرُّؤْيَة الْوُجُود، وَكَونه لَا فِي جِهَة دَلِيل منعهَا.
وَمَعَ عدم إضماره، مثل: شكر الْمُنعم وَاجِب لذاته.
فيقبله فَيُقَال: شكر الْمُنعم لَيْسَ بِوَاجِب لذاته.
قَوْله: (وقلب الاستبعاد كالإلحاق تحكيم الْوَلَد، فِيهِ تحكم بِلَا دَلِيل،
فَيُقَال: تحكيم الْقَائِف تحكم بِلَا دَلِيل) .
ذكر ذَلِك - أَيْضا - ابْن مُفْلِح، وَذكره قبله الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " وَلم يزدْ تعليلا غير مَا ذكر
وَذكر أَيْضا، الَّذِي قبله وَهُوَ قلب الدَّعْوَى، وَالظَّاهِر أَنه تَابع فِي ذَلِك الْآمِدِيّ.(7/3672)
قَوْله: (وقلب الدَّلِيل على وَجه يكون مَا ذكره الْمُسْتَدلّ يدل عَلَيْهِ لَا لَهُ ك: " الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ " فَيُقَال يدل على أَن لَا يَرث بطرِيق أبلغ، لِأَنَّهُ نفي عَام مثل: الْجُوع زَاد من لَا زَاد لَهُ، وَفِيه نظر) .
هَذَا هُوَ أحد الضربين الَّذِي وعدنا بِذكر مِثَاله، لِأَنَّهُ قد تقدم أَنه ضَرْبَان: لِأَن مَا يَأْتِي بِهِ الْمُعْتَرض إِمَّا أَن يكون دَلِيلا على الْمُسْتَدلّ لَا لَهُ. وَإِمَّا أَن يدل لكل مِنْهُمَا، لَا للمستدل وَحده.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا دَلِيل لي وَلَك، فَهُوَ لنا مَعًا.
قَالَ الْآمِدِيّ: / وَالْأول قل مَا يتَّفق لَهُ مِثَال فِي الأقيسة.
ومثاله من الْمَنْصُوص: اسْتِدْلَال من يُورث ذَوي الْأَرْحَام فِي تَوْرِيث الْخَال بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ ".(7/3673)
فَيَقُول الْمُعْتَرض: هَذَا يدل عَلَيْك لَا لَك، إِذْ مَعْنَاهُ: نفي تَوْرِيث الْخَال بطرِيق الْمُبَالغَة، أَي: الْخَال لَا يَرث: كَمَا يُقَال: الْجُوع زَاد من لَا زَاد لَهُ، وَالصَّبْر حِيلَة من لَا حِيلَة لَهُ، أَي: لَيْسَ الْجُوع زادا، وَلَا الصَّبْر حِيلَة.
قَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: وَقَوله " وَارِث من لَا ورث لَهُ " يَنْفِي إِرْثه، فَإِن أَرَادَ نفي كل وَارِث سوى الْخَال، بَطل بِإِرْث الزَّوْج وَالزَّوْجَة، وَإِن أَرَادَ نفي كل وَارِث عصبَة، فَلَا فَائِدَة فِي تَخْصِيص الْخَال بِالذكر دون بَقِيَّة ذَوي الْأَرْحَام، وَيُشبه فَسَاد الْوَضع انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَيْسَ بمثال جيد.
قَوْله: (القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم مُقْتَضى الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع) .(7/3674)
من القوادح القَوْل بِالْمُوجبِ، وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم، أَي: بِمَا أوجبه دَلِيل الْمُسْتَدلّ واقتضاه، وَأما الْمُوجب بِكَسْر الْجِيم، فَهُوَ الدَّلِيل، وَهُوَ غير مُخْتَصّ بِالْقِيَاسِ وَحده، أَي: القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم مُقْتَضى الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع.
قَالَ الطوفي وَغَيره: " القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم الدَّلِيل مَعَ منع الْمَدْلُول، أَو تَسْلِيم مُقْتَضى الدَّلِيل مَعَ دَعْوَى بَقَاء الْخلاف " انْتهى.
ومعانيها مُتَقَارِبَة، وَشَاهد ذَلِك من الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} [المُنَافِقُونَ: 8] ، جَوَابا لقَوْل عبد اللَّهِ بن أبي بن سلول، أَو غَيره {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} [المُنَافِقُونَ: 8] ، فَإِنَّهُ لما ذكر صفة وَهِي الْعِزَّة، وَأثبت بهَا حكما وَهُوَ الْإِخْرَاج من الْمَدِينَة.(7/3675)
رد عَلَيْهِ: بِأَن تِلْكَ الصّفة ثَابِتَة، لَكِن لما أَرَادَ غير ثُبُوتهَا لَهُ، فَإِنَّهَا ثَابِتَة على اقتضائها للْحكم وَهُوَ الْإِخْرَاج، فالعزة [الْمَوْجُودَة] لَكِن لَا لَهُ، بل لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ.
وَمن أمثلته أَيْضا:
(وإخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها وَلَكِن للأعادي /)
(وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها وَلَكِن فِي فُؤَادِي)
(وَقَالُوا: قد صفت منا قُلُوب ... لقد صدقُوا وَلَكِن من ودادي)
وَقَول آخر:
(قلت: ثقلت إِذْ أتيت مرَارًا ... قَالَ: ثقلت كاهلي بالأيادي)
وَهُوَ نوع من بديع الْكَلَام.(7/3676)
قَوْله: (وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: أَن يستنتج الْمُسْتَدلّ مَا يتوهمه مَحل النزاع، أَو لَازمه: كَالْقَتْلِ بالمثقل: قتل بِمَا يقتل غَالِبا، فَلَا يُنَافِي الْقود: كالمحدد، فَيُقَال: عدم الْمُنَافَاة لَيْسَ مَحل النزاع، وَلَا لَازمه.
وَالثَّانِي: أَن يستنتج إبِْطَال مَا يتوهمه مَأْخَذ الْخصم: كالتفاوت فِي الْوَسِيلَة لَا يمْنَع الْقود كالمتوسل إِلَيْهِ، فَيُقَال: لَا يلْزم من إبِْطَال مَانع عدم كل مَانع، وَوُجُود الشُّرُوط والمقتضي، وَيصدق الْمُعْتَرض فِي قَوْله: لَيْسَ هَذَا مأخذي، وَقيل: لَا، وَأَجَازَهُ جمع من أَصْحَابنَا، مِنْهُم الْفَخر، وَقَالَ: فَإِن أبْطلهُ الْمُسْتَدلّ وَإِلَّا انْقَطع. الثَّالِث: أَن يسكت فِي دَلِيله عَن صغرى قِيَاسه، وَلَيْسَت مَشْهُورَة: ككل قربَة شَرطهَا النِّيَّة، ويسكت عَن: الْوضُوء قربَة، فَيَقُول الْمُعْتَرض: أَقُول بِمُوجبِه وَلَا ينْتج، وَلَو ذكرهَا لم يرد إِلَّا منعهَا. وَجَوَاب الأول: [بِأَنَّهُ] مَحل النزاع، أَو لَازمه، وَالثَّانِي: أَنه المأخذ لشهرته، وَالثَّالِث: لجَوَاز الْحَذف. وَيُجَاب فِي الْجَمِيع بِقَرِينَة أَو عهد، وَنَحْوه، انْتهى) .
وُرُود القَوْل بِالْمُوجبِ فِي الْأَدِلَّة على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: أَن يستنتج الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل مَا يتَوَهَّم أَنه مَحل النزاع، أَو(7/3677)
ملازمه، مثل: أَن يَقُول فِي الْقَتْل بالمثقل: قتل بِمَا يقتل غَالِبا، فَلَا يُنَافِي وجوب الْقصاص كالإحراق.
فَيَقُول الْمُعْتَرض: عدم الْمُنَافَاة لَيْسَ مَحل النزاع وَلَا يَقْتَضِيهِ، وَأَنا أَقُول بذلك أَيْضا، وَلَا يكون ذَلِك دَلِيلا عَليّ فِي مَحل النزاع الَّذِي هُوَ وجوب الْقصاص، وَهُوَ لَيْسَ عدم الْمُنَافَاة وَلَا مُلَازمَة.
الثَّانِي: أَن يستنتج مِنْهُ إبِْطَال مَا يتَوَهَّم مِنْهُ أَنه مَأْخَذ مَذْهَب الْخصم: كَقَوْلِنَا - أَيْضا - فِي الْقَتْل / بالمثقل: التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة لَا يمْنَع وجوب الْقصاص، كالتفاوت فِي المتوسل إِلَيْهِ.
فَيَقُول الْخصم: أَنا أَقُول بِمُوجب ذَلِك، وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك وجوب الْقصاص الَّذِي هُوَ مَحل النزاع؛ إِذْ لَا يلْزم من إبِْطَال كَون التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة مَانِعا انْتِفَاء كل مَانع، وَوُجُود الشَّرَائِط، فَيجوز أَن لَا يجب الْقصاص لمَانع آخر، أَو لفَوَات شَرط، أَو لعدم الْمُقْتَضِي.
وَالصَّحِيح أَن الْمُعْتَرض إِذا قَالَ: إِن مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُسْتَدلّ لَيْسَ ماخذ إمامي - يصدق، فَإِنَّهُ أعرف بمذهبه وَمذهب إِمَامه.
ثمَّ لَو لزمَه إبداء المأخذ، فَإِن مكن الْمُسْتَدلّ من إِبْطَاله، صَار مُعْتَرضًا، وَإِلَّا فَلَا فَائِدَة.
وَقيل: لَا يصدق إِلَّا بِبَيَان مَأْخَذ آخر، إِذْ رُبمَا كَانَ ذَلِك مأخذه، وَلكنه معاند.
ورد: بِأَنَّهُ لَو أَوجَبْنَا عَلَيْهِ ذكر المأخذ فَإِن مكنا الْمُسْتَدلّ من إِبْطَاله، لزم قلب الْمُسْتَدلّ مُعْتَرضًا والمعترض مستدلا، وَإِن لم يُمكنهُ فَلَا فَائِدَة فِي إبداء المأخذ لِإِمْكَان ادعائه مَا لَا يصلح، ترويجا لكَلَامه.(7/3678)
وَأَجَازَهُ جمع من أَصْحَابنَا مِنْهُم: أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ.
وَقَالَ: فَإِن أبْطلهُ الْمُسْتَدلّ وَإِلَّا انْقَطع.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَأكْثر القَوْل بِالْمُوجبِ هَذَا الْقسم، أَي: الَّذِي يستنتج فِيهِ مَا يتَوَهَّم أَنه مَأْخَذ الْخصم وَلم يكن كَذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَكثر لخفاء المأخذ، وَقلة العارفين بِهَذَا والمطلعين على أسرارها، بِخِلَاف محَال الْخلاف فَإِن ذَلِك مَشْهُور، فكم من يعرف مَحل الْخلاف وَلَكِن لَا يعرف المأخذ!
الثَّالِث: أَن يكون دَلِيل الْمُسْتَدلّ مُقْتَصرا فِيهِ على الْمُقدمَة الْكُبْرَى، مسكوتا عَن الصُّغْرَى، فَيرد القَوْل بِالْمُوجبِ من أجل حذفهَا.
مثل أَن يَقُول الْحَنْبَلِيّ أَو الشَّافِعِي فِي وجوب نِيَّة الْوضُوء: كل مَا ثَبت أَنه قربَة اشْتِرَاط فِيهِ النِّيَّة كَالصَّلَاةِ، ويسكت عَن قَوْله: وَالْوُضُوء قربَة.
فَإِذا اعْترض بالْقَوْل بِالْمُوجبِ.
قَالَ: هَذَا مُسلم، وَلَكِن من أَيْن يلْزم اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْوضُوء؟ فَإِنَّمَا ورد هَذَا لكَون الصُّغْرَى محذوفة، / فَلَو ذكرت لم يتَوَجَّه لَهُ اعْتِرَاض بالْقَوْل بِالْمُوجبِ.
وَإِنَّمَا يرد الِاعْتِرَاض بِالْمَنْعِ للصغرى، بِأَن يُقَال: لَا نسلم أَن الْوضُوء قربَة، نعم يشْتَرط فِي الصُّغْرَى أَن تكون غير مَشْهُورَة، أما لَو كَانَت مَشْهُورَة فَإِنَّهَا تكون كالمذكورة، فَيمْنَع وَلَا يُؤْتى بالْقَوْل بِالْمُوجبِ.(7/3679)
تَنْبِيهَانِ: الأول: قَالَ الجدليون: إِن فِي القَوْل بِالْمُوجبِ انْقِطَاعًا لأحد المتناظرين؛ لِأَن الْمُسْتَدلّ إِن أثبت مَا ادَّعَاهُ انْقَطع الْمُعْتَرض. وَمَا قَالُوهُ صَحِيح فِي الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين كَمَا عرف، وَهُوَ بعيد فِي الْقسم الثَّالِث؛ لاخْتِلَاف المرادين، لِأَن مُرَاد الْمُسْتَدلّ أَن الصُّغْرَى وَإِن كَانَت محذوفة لفظا فَإِنَّهَا مَذْكُورَة تَقْديرا، وَالْمَجْمُوع يُفِيد الْمَطْلُوب، وَمُرَاد الْمُعْتَرض أَن الْمَذْكُور لما كَانَت الْكُبْرَى وَحدهَا وَهِي لَا تفِيد الْمَطْلُوب، توجه الِاعْتِرَاض.
الثَّانِي: جَوَاب الْقسم الأول بِأَنَّهُ مَحل النزاع، أَو مُسْتَلْزم لمحل النزاع، كَمَا لَو قَالَ حنبلي، أَو شَافِعِيّ: لَا يجوز قتل الْمُسلم بالذمي، قِيَاسا على الْحَرْبِيّ.
فَيُقَال بِالْمُوجبِ؛ لِأَنَّهُ يجب قَتله بِهِ، وقولكم: لَا يجوز نفي الْإِبَاحَة، الَّتِي مَعْنَاهَا اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ، ونفيها لَيْسَ نفيا للْوُجُوب، وَلَا مستلزما لَهُ.
فَيَقُول الْحَنْبَلِيّ: المعني بِلَا يجوز تَحْرِيمه، وَيلْزم من ثُبُوت التَّحْرِيم نفي الْوُجُوب لِاسْتِحَالَة الْجمع بَين الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم.
وَجَوَاب الْقسم الثَّانِي: بِأَن يبين فِي المستنتج أَنه المأخذ بِالنَّقْلِ عَن أَئِمَّة الْمَذْهَب وشهرة المأخذ.
وَجَوَاب الْقسم الثَّالِث بِأَن الْحَذف لإحدى المقدمتين سَائِغ عِنْد الْعلم بالمحذوف، والمحذوف مُرَاد وَمَعْلُوم فَلَا يضر حذفه، وَالدَّلِيل هُوَ الْمَجْمُوع لَا الْمَذْكُور وَحده، وَكتب الْفِقْه مشحونة بذلك، بل لَا يكَاد يُوجد ذكر المقدمتين فِي قِيَاس إِلَّا نَادرا؛ قصدا للاختصار والاستشهاد، أَو للقرينة وَنَحْوهمَا.(7/3680)
فَائِدَة: كَون القَوْل بِالْمُوجبِ قادحا / فِي الْعلَّة ذكره الْآمِدِيّ، وَأَتْبَاعه، والهندي، ووجهوه بِأَنَّهُ إِذا كَانَ فِيهِ [تَسْلِيم] مُوجب مَا ذكره الْمُسْتَدلّ من الدَّلِيل، وَأَنه لَا يرفع الْخلاف علمنَا أَن مَا ذكره لَيْسَ بِدَلِيل الحكم.
وَنَازع التَّاج السُّبْكِيّ فِي ذَلِك فَقَالَ: " إِن هَذَا يخرج لفظ القَوْل بِالْمُوجبِ عَن إجرائه على قَضيته، بل الْحق أَن القَوْل بِالْمُوجبِ تَسْلِيم لَهُ.
وَهَذَا مَا اقْتَضَاهُ كَلَام الجدليين، وإليهم الْمرجع فِي ذَلِك، وَحِينَئِذٍ لَا يتَّجه عده من مبطلات الْعلَّة " انْتهى.
وَبِذَلِك صرح - أَيْضا - أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ".
[فَقَالَ] : مَتى تحقق انْقَطع، وَلَيْسَ اعتراضا فِي الْحَقِيقَة لِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ فِيهِ على صِحَة الْعلَّة.
وَسبق قَرِيبا أَن الجدليين قَالُوا: إِن فِيهِ انْقِطَاعًا لأحد المتناظرين.
قَوْله: (وَفِي الْإِثْبَات: كالخيل حَيَوَان [يسابق] عَلَيْهِ فَفِيهِ الزَّكَاة(7/3681)
كَالْإِبِلِ، فَيُقَال بِمُوجبِه فِي زَكَاة التِّجَارَة، فيجاب بلام الْعَهْد، وَالسُّؤَال [عَن] زَكَاة السّوم لَا يَصح عِنْد أبي الْخطاب، وَابْن عقيل وَصَححهُ الْمُوفق وَغَيره) .
المثالان الْأَوَّلَانِ فِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك فِي جَانب النَّفْي، وَلَكِن قد يكون ذَلِك فِي إِثْبَات، نَحْو: الْخَيل يسابق عَلَيْهَا فَتجب فِيهَا الزَّكَاة كَالْإِبِلِ.
فَيَقُول بِالْمُوجبِ لَكِن زَكَاة التِّجَارَة والنزاع فِي زَكَاة الْعين، ودليلكم إِنَّمَا أنتج الزَّكَاة فِي الْجُمْلَة، فَإِن ادّعى أَنه أَرَادَ زَكَاة الْعين فَلَيْسَ هَذَا قولا بِالْمُوجبِ.
فَيُقَال: الْعبْرَة بِدلَالَة اللَّفْظ لَا بِقَرِينَة، أجَاب بِهِ الْهِنْدِيّ.
وَلَكِن قد يُقَال: إِذا كَانَت اللَّام للْعهد، فالعهد مقدم على الْجِنْس والعموم، وَالْعلَّة لَيست مُنَاسبَة لزكاة التِّجَارَة، إِنَّمَا الْمُنَاسب الْمُقْتَضِي هُوَ النَّمَاء الْحَاصِل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: - لما ذكر عَن " التَّمْهِيد " هَذِه الصُّورَة وَهِي صُورَة الْإِثْبَات -:
(وَقيل: لَا يَصح، وَجزم بِهِ فِي " الْوَاضِح " لوُجُوب اسْتِقْلَال الْعلَّة بلفظها.(7/3682)
وَقيل: يَصح، وَجزم بِهِ فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا.
ثمَّ قَالَ: أما مثل قَوْله فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بالخل: مَائِع كالمرق.
فَيُقَال بِمُوجبِه فِي خل نجس فَلَا يَصح.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد / الْبَغْدَادِيّ وَغَيره: لَو حكم الْعلَّة فَقَالَ بِهِ فِي صُورَة لم يقل بِالْمُوجبِ) انْتهى.
قَوْله: (ترد الأسئلة على قِيَاس الدّلَالَة إِلَّا مَا تعلق بمناسبة الْجَامِع، وَكَذَا قِيَاس فِي معنى الأَصْل، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا تعلق بِنَفس الْجَامِع) .
وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح: " ترد الأسئلة على قِيَاس الدّلَالَة إِلَّا مَا تعلق بمناسبة الْجَامِع، لِأَنَّهُ لَيْسَ بعلة فِيهِ، وَكَذَا الْقيَاس فِي معنى الأَصْل، وَلَا يرد عَلَيْهِ - أَيْضا - مَا تعلق بِنَفس الْجَامِع لعدم ذكره فِيهِ ".
قَوْله: (خَاتِمَة: تَتَعَدَّد الاعتراضات من جنس اتِّفَاقًا /، وَكَذَا من أَجنَاس إِلَّا عِنْد أهل سَمَرْقَنْد، وَمنع الْأَكْثَر الْمرتبَة، وَيَكْفِي جَوَاب آخرهَا، قَالَه القَاضِي، وَجمع، وَجوزهُ الْأُسْتَاذ، وَالْفَخْر، والآمدي،(7/3683)
وَابْن الْحَاجِب، فَيقدم الاستفسار، ثمَّ فَسَاد الِاعْتِبَار، ثمَّ الْوَضع، ثمَّ مَا تعلق بِالْأَصْلِ، ثمَّ بِالْعِلَّةِ، ثمَّ الْفَرْع، وَيقدم النَّقْض على الْمُعَارضَة.
وَأوجب ابْن الْمَنِيّ وَالْفَخْر تَرْتِيب الأسئلة، وَاخْتَارَ فَسَاد الْوَضع، ثمَّ الِاعْتِبَار، ثمَّ الاستفسار، ثمَّ الْمَنْع، ثمَّ الْمُطَالبَة، وَهُوَ منع الْعلَّة فِي الأَصْل، ثمَّ الْفرق، ثمَّ النَّقْض، ثمَّ القَوْل بِالْمُوجبِ ثمَّ الْقلب، ثمَّ رد التَّقْسِيم إِلَى الاستفسار، أَو الْفرق. وَعَن ابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَابْن الْمَنِيّ وَأكْثر الجدليين: لَا يُطَالِبهُ بطرد دَلِيل إِلَّا بعد تَسْلِيم مَا ادَّعَاهُ من دلَالَته، فَلَا ينقصهُ حَتَّى يُسلمهُ، فَلَا يقبل الْمَنْع بعد التَّسْلِيم وَعَن ابْن عقيل: الْجَواب إِذْ زَاد أَو نقص لم يُطَابق، ويجيب قوم بِمثلِهِ، ويعدونه جَوَابا، وَلَو سُئِلَ عَن الْمَذْهَب فَذكر دَلِيله، فَلَيْسَ بِجَوَاب مُحَقّق، كَمَا لَا يخلط السُّؤَال عَن الْمَذْهَب بالسؤال عَن دَلِيله، وَالصَّحِيح خلاف هَذَا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر) .
تقدم أَن الجدلين قَالُوا: الاعتراضات رَاجِعَة إِمَّا إِلَى منع فِي مُقَدّمَة من الْمُقدمَات، أَو مُعَارضَة فِي الحكم، فَمَتَى حصل الْجَواب عَنْهُمَا فقد تمّ الدَّلِيل، وَلم يبْق للمعترض مجَال، فَيكون مَا سوى ذَلِك من الأسئلة بَاطِلا، وَإِلَّا فَيسمع.(7/3684)
وَقَالَ بعض الجدليين: إِنَّهَا كلهَا ترجع إِلَى الْمَنْع فَقَط؛ لِأَن الْمُعَارضَة منع لِلْعِلَّةِ عَن الجريان.
إِذا علم ذَلِك فالاعتراضات [إِمَّا] أَن تكون من جنس وَاحِد: كالنقوض والمعارضات فِي الأَصْل وَالْفرع، أَو من أَجنَاس مُخْتَلفَة: كالمنع، والمطالبة، والنقض، والمعارضة. /
فَإِن كَانَت من جنس وَاحِد جَازَ إيرادها مَعًا اتِّفَاقًا، إِذْ لَا يلْزم مِنْهُ تنَاقض وَلَا انْتِقَال من سُؤال إِلَى آخر.
وَإِن كَانَت من أَجنَاس فَإِن كَانَت غير مترتبة: فقد منع أهل سَمَرْقَنْد التَّعَدُّد فِيهَا للخبط اللَّازِم مِنْهَا والانتشار، وأوجبوا الِاقْتِصَار على سُؤال وَاحِد حرصا على الضَّبْط.
قَالُوا: وَلَا يرد علينا إِذا كَانَت من جنس، فَإنَّا جَوَّزنَا تعددها وَإِن أدَّت إِلَى النشر؛ لِأَن النشر فِي الْمُخْتَلفَة أَكثر مِنْهُ فِي المتفقة.
وَجوز الْجُمْهُور الْجمع بَينهمَا، وَهُوَ الْحق.(7/3685)
وَأما إِذا كَانَت مترتبة، فَأكْثر أهل المناظرة /: منع من التَّعَدُّد فِيهَا؛ لِأَن فِي تعددها تَسْلِيمًا للمقدم، لِأَن الْمُعْتَرض إِذا طَالبه بتأثير الْوَصْف بعد أَن منع وجود الْوَصْف - فقد نزل عَن الْمَنْع، وَسلم وجود الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْمُقدم؛ لِأَنَّهُ لَو أصر على منع وجود الْوَصْف، لما طَالبه بتأثير الْوَصْف؛ لِأَن تَأْثِير مَا لَا وجود لَهُ محَال، فَلَا يسْتَحق الْمُعْتَرض غير جَوَاب الْأَخير، فَيتَعَيَّن الْأَخير للورود فَقَط.
وَلِهَذَا قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب: لَو أورد النَّقْض ثمَّ منع وجود الْعلَّة لم يقبل تَسْلِيمه للمتقدم.
وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم - جَوَاز التَّعَدُّد فِي الْمرتبَة؛ لِأَن تَسْلِيم الْمُتَقَدّم تَسْلِيم تقديري، إِذْ مَعْنَاهُ: لَو سلم وجود الْوَصْف، فَلَا نسلم تَأْثِيره، وَالتَّسْلِيم التقديري لَا يُنَافِي الْمَنْع، بِخِلَاف التَّسْلِيم تَحْقِيقا فَإِنَّهُ يُنَافِي الْمَنْع، فَلَو منع بعد التَّسْلِيم تَحْقِيقا لم يسمع.(7/3686)
قَالَ الْهِنْدِيّ عَن هَذَا القَوْل: وَهُوَ الْحق، وَعَلِيهِ الْعَمَل فِي المصنفات.
وَإِذا كَانَ كَذَلِك فتترتب الأسئلة، وَإِلَّا لَكَانَ إيرادها بِلَا تَرْتِيب منعا بعد التَّسْلِيم. فَإِذا قلت: إِن الأَصْل مُعَلل، بِكَذَا فقد سلمت ضمنا فَيتَوَجَّه الحكم، فَكيف نمنعه بعد ذَلِك؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَقد يُقَال: إِذا كَانَ التَّسْلِيم تقديريا فَلَا يضر ذَلِك /
قَالَ ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَلم لَا يرقى الْمُسْتَدلّ فَيَقُول: لَا أسلم أَن الأَصْل مُعَلل بِكَذَا، بل لَا أسلم ثُبُوت الحكم فِيهِ؟ كَمَا يَقُول: لَا أسلم [الحكم] ، وَإِن سلمته فَلَا أسلم الْعلَّة، فَيكون الْأَظْهر تَجْوِيز ذَلِك) .
إِذا تحرر هَذَا " فالاعتراضات بَعْضهَا مقدم طبعا على بعض، فليقدم وضعا، فَيقدم الاستفسار؛ لِأَن من لَا يعرف مَدْلُول اللَّفْظ لَا يعرف مَا يرد عَلَيْهِ، ثمَّ فَسَاد الِاعْتِبَار؛ لِأَنَّهُ نظر فِي فَسَاد الْقيَاس من حَيْثُ الْجُمْلَة. وَقيل: النّظر فِي تَفْصِيله، ثمَّ فَسَاد الْوَضع؛ لِأَنَّهُ أخص من فَسَاد الِاعْتِبَار، وَالنَّظَر فِي الْأَعَمّ مقدم على النّظر فِي الْأَخَص، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْأَصْلِ على مَا تعلق بِالْعِلَّةِ؛ لِأَن الْعلَّة مستنبطة من حكم الأَصْل، ثمَّ مَا يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ على مَا يتَعَلَّق بالفرع؛ لِأَن الْفَرْع يتَوَقَّف على الْعلَّة، وَيقدم النَّقْض على الْمُعَارضَة؛ لِأَن النَّقْض يُورد لإبطال الْعلَّة والمعارضة تورد لاستقلالها، وَالْعلَّة مُقَدّمَة على استقلالها.(7/3687)
وَأوجب أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَشَيْخه ابْن الْمَنِيّ تَرْتِيب الأسئلة، فاختارا فَسَاد الْوَضع، ثمَّ الِاعْتِبَار، ثمَّ الاستفسار، ثمَّ الْمَنْع، ثمَّ الْمُطَالبَة: وَهُوَ منع الْعلَّة فِي الأَصْل، ثمَّ الْفرق، ثمَّ النَّقْض، ثمَّ القَوْل بِالْمُوجبِ، ثمَّ الْقلب، ورد التَّقْسِيم إِلَى الاستفسار أَو الْفرق، وَأَن عدم التَّأْثِير مناقشة لفظية " انْتهى.
قَالَ الطوفي: " وترتيب الأسئلة: وَهُوَ جعل كل سُؤال فِي رتبته على وَجه لَا يُفْضِي بالتعرض إِلَى الْمَنْع بعد التَّسْلِيم أولى اتِّفَاقًا؛ لِأَن الْمَنْع بعد التَّسْلِيم قَبِيح، فَأَقل أَحْوَاله أَن يكون التَّحَرُّز مِنْهُ أولى، فَمنهمْ من أوجبه نفيا للْحكم الْمَذْكُور وَنفي الْقبْح وَاجِب، وَمِنْهُم من لم يُوجِبهُ نظرا إِلَى أَن كل سُؤال مُسْتَقل بِنَفسِهِ، وَجَوَابه مُرْتَبِط بِهِ، فَلَا فرق إِذا بَين تقدمه وتأخره " انْتهى.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَذكر ابْن عقيل، وَابْن الْمَنِيّ، وَجُمْهُور الجدليين: أَنه لَا يُطَالِبهُ بطرد دَلِيل إِلَّا بعد تَسْلِيم مَا ادَّعَاهُ من دلَالَته، فَلَا ينْقضه حَتَّى يُسلمهُ، فَلَا يقبل الْمَنْع بعد التَّسْلِيم.
قَالَ: / وَهَذَا ضَعِيف؛ لِأَن السُّكُوت لَا يدل على التَّسْلِيم؛ وَلِأَنَّهُ لَو سلم صَرِيحًا؛ جَازَ، بل وَجب رُجُوعه للحق: كمفت، وحاكم، وَشَاهد، وَلَا عيب.(7/3688)
وَقد اعْتَرَفُوا بِالْفرقِ بَين أسئلة الجدل وأسئلة الاسترشاد لَا الْغَلَبَة وَالِاسْتِدْلَال وَالْوَاجِب رد الْجَمِيع إِلَى مَا دلّ عَلَيْهِ كتاب أَو سنة، وَإِلَّا فَلهم من الْحِيَل والاصطلاح الْفَاسِد أوضاع، كَمَا للفقهاء وَالْحَاكِم فِي الجدل الْحكمِي أوضاع.
وَقد ذكر ابْن عقيل فِي الجدل: أَن الْجَواب إِذا زَاد أَو نقص لم يُطَابق السُّؤَال لعدوله عَن مَطْلُوبه، ويجيب قوم بِمثلِهِ، ويعدونه جَوَابا.
وَلَو سُئِلَ عَن الْمَذْهَب فَذكر دَلِيله فَلَيْسَ بِجَوَاب مُحَقّق، كَمَا لَا يخلط السُّؤَال عَن الْمَذْهَب بالسؤال عَن دَلِيله، كَقَوْلِه: مذهبي كَذَا بِدَلِيل كَذَا، قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ كَذَا فَهُوَ الِاتِّبَاع بِجَوَاب مَا لم يسْأَل عَنهُ كالخلط بِمَا لم يسْأَل عَنهُ، وَالصَّحِيح خلاف هَذَا، وَعَلِيهِ عمل أَكثر الجدليين انْتهى.
تَنْبِيهَانِ:
الأول: تابعنا ابْن مُفْلِح فِي أَن الاعتراضات خَمْسَة وَعِشْرُونَ، وتابع هُوَ فِي ذَلِك ابْن الْحَاجِب، وتابع ابْن الْحَاجِب فِي ذَلِك الْآمِدِيّ فِي(7/3689)
" الْمُنْتَهى " لَكِن، نَحن أسقطنا مِنْهَا اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة كَمَا تقدم، اكْتِفَاء باخْتلَاف الضَّابِط.
وَذكر الشَّيْخ موفق الدّين أَنَّهَا اثْنَا عشر فتابعه الطوفي.
وَذكر [البروي] أَنَّهَا خَمْسَة عشر.
وَذكر النيلي أَنَّهَا أَرْبَعَة عشر.
وَذكر الْآمِدِيّ فِي " جدله " أَنَّهَا وَاحِد وَعِشْرُونَ.
وَبَعْضهمْ نقص عَن ذَلِك، وَبَعْضهمْ زَاد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: " لم أذكر مِنْهَا التَّرْكِيب؛ لِأَنَّهُ قد تقدم من شُرُوط حكم الأَصْل، وَلَا سُؤال التَّعْدِيَة، وَلَا سُؤال تعدد الْوَضع؛ لرجوعهما إِلَى الْمُعَارضَة فَإِنَّهَا مُعَارضَة خَاصَّة، وَلَا سُؤال اخْتِلَاف الْمصلحَة.(7/3690)
قَالَ: فَقَوْل ابْن الْحَاجِب: إِنَّهَا خَمْسَة وَعِشْرُونَ قد علمت تداخلها ".
وَلما ذكر الطوفي فِي شَرحه الِاخْتِلَاف فِي عَددهَا قَالَ: " وَالْأَشْبَه أَن كل مَا قدح فِي الدَّلِيل اتجه إِيرَاده: كَمَا أَن كل سلَاح / صلح للتأثير فِي الْعَدو، يَنْبَغِي استصحابه، فَيَنْبَغِي إِيرَاد الأسئلة، وَلَا يضر تداخلها وَرُجُوع بَعْضهَا إِلَى بعض، لِأَن صناعَة الجدل اصطلاحية، وَقد اصْطلحَ الْفُضَلَاء على إِيرَاد هَذِه الأسئلة، فَهِيَ وَإِن تداخلت وَرجع بَعْضهَا إِلَى بعض أَجْدَر بِحُصُول الْفَائِدَة فِي إفهام الْخصم، وتهذيب الخواطر، وتمرين الأذهان على فهم السُّؤَال، واستحضار الْجَواب، وتكررها الْمَعْنَوِيّ لَا يضر: كَمَا لَو رمى الْقَاتِل بِسَهْم وَاحِد مرَّتَيْنِ أَو أَكثر " انْتهى.
" التَّنْبِيه الثَّانِي: فِي ضَابِط لأهل الجدل، وَهُوَ: أَن الْمَنْع فِي الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون لمقدمة من مقدماته قبل التَّمام أَو بعده، وَهُوَ أَن الْمَنْع فِي الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون مُجَردا عَن الْمُسْتَند أَو مَعَ الْمُسْتَند، وَهُوَ المناقضة: فَهِيَ منع مُقَدّمَة فِي الدَّلِيل، سَوَاء ذكر مَعهَا مُسْتَندا أَو لَا؟(7/3691)
قَالَ الجدليون: ومستند الْمَنْع هُوَ مَا يكون الْمَنْع مَبْنِيا عَلَيْهِ، نَحْو: لَا نسلم كَذَا، أَو لم لَا يكون كَذَا؟ أَو لَا نسلم لُزُوم كَذَا، وَإِنَّمَا يلْزم هَذَا ان لَو كَانَ كَذَا، ثمَّ إِن احْتج لانْتِفَاء الْمُقدمَة، فيسمى عِنْدهم الْغَصْب، أَي: غصب منصب التَّعْلِيل، وَهُوَ غير مسموع عِنْد النظار لاستلزامه الْخبط فِي الْبَحْث.
نعم، يتَوَجَّه ذَلِك من الْمُعْتَرض بعد إِقَامَة الْمُسْتَدلّ الدَّلِيل على تِلْكَ الْمُقدمَة.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْع بعد تَمَامه، فإمَّا أَن يكون مَعَ منع الدَّلِيل بِنَاء على تخلف حكمه، فيسمى النَّقْض الإجمالي، لِأَن النَّقْض التفصيلي: هُوَ تخلف الحكم عَن الدَّلِيل للقدح فِي مُقَدّمَة مُعينَة من مقدماته، بِخِلَاف الإجمالي: فَإِنَّهُ تخلف الحكم عَن الدَّلِيل بالقدح من مقدماته على التَّعْيِين.
وَإِمَّا أَن يكون مَعَ تَسْلِيم الدَّلِيل، وَالِاسْتِدْلَال بِمَا يُنَافِي ثُبُوت الْمَدْلُول فَهُوَ: الْمُعَارضَة، فَهِيَ تَسْلِيم الدَّلِيل فَلَا يسمع مِنْهُ بعْدهَا فضلا عَن سُؤال الاستفسار.(7/3692)
فَيَقُول الْمُعْتَرض: مَا ذكرت من الدَّلِيل وَإِن دلّ على مَا تدعيه، فعندي مَا يُنَافِيهِ أَو يدل على نقيضه، / ويبينه بطريقه، فَهُوَ يَنْقَلِب مستدلا.
فَلهَذَا لم يقبله بَعضهم؛ لما فِيهِ من انقلاب دست المناظرة، إِذْ يصير الْمُسْتَدلّ مُعْتَرضًا، والمعترض مستدلا، لَكِن الصَّحِيح الْقبُول؛ لِأَن ذَلِك بِنَاء بِالْعرضِ هدم بِالذَّاتِ، فالمستدل مُدع بِالذَّاتِ معترض بِالْعرضِ، والمعترض بِالْعَكْسِ، فصارا كالمتخالفين.
مِثَاله: الْمسْح ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تثليثه كالوجه.
فيعارضه: بِأَنَّهُ مسح فَلَا يسن تثليثه كالمسح على الْخُفَّيْنِ.
نعم، على الْمُعَلل دفع الِاعْتِرَاض عَنهُ بِدَلِيل، وَلَا يَكْفِيهِ الْمَنْع الْمُجَرّد، فَإِن ذكر دَلِيله وَمنع ثَانِيًا فَكَمَا سبق، وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِي الْأَمر إِمَّا إِلَى الإفحام أَو الْإِلْزَام.
فالإفحام عِنْدهم: انْقِطَاع الْمُسْتَدلّ بِالْمَنْعِ، أَو بالمعارضة، على مَا يَأْتِي بِمَاذَا يحصل الِانْقِطَاع.
والإلزام: انْتِهَاء دَلِيل الْمُسْتَدلّ إِلَى مُقَدمَات ضروية أَو يقينية مَشْهُورَة يلْزم الْمُعْتَرض الِاعْتِرَاف بهَا، وَلَا يُمكنهُ الْجحْد فَيَنْقَطِع بذلك، فَإِذا الْإِلْزَام من الْمُسْتَدلّ للمعترض، والإفحام من الْمُعْتَرض للمستدل ".(7/3693)
قَوْله: (فَائِدَة) .
(الجدل: فتل الْخصم عَن قَصده لطلب صِحَة قَوْله وَإِبْطَال غَيره) .
ذكرنَا هُنَا فَائِدَة فِي أَحْكَام الجدل، وآدابه، وَحده، وَصفته، لَا يسع طَالب الْعلم الْجَهْل بهَا، بل يَنْبَغِي لَهُ مَعْرفَتهَا والتخلق بهَا، لخصتها من " أصُول ابْن مُفْلِح "، وزدت عَلَيْهِ بعض شَيْء، وَهُوَ لخصها من " وَاضح ابْن عقيل "، وَزَاد عَلَيْهِ بعض شَيْء.
أما حَده: فَهُوَ فتل الْخصم عَن قَصده لطلب صِحَة قَوْله وَإِبْطَال غَيره؛ لِأَن لَهُ مَعْنيين لُغَة وَاصْطِلَاحا.
فاللغة كَمَا قَالَ فِي " الْقَامُوس ": " جدله يجدله ويجدله أحكم فتله "، " والجدل محركة: اللدد فِي الْخُصُومَة وَالْقُدْرَة عَلَيْهَا، جادله فَهُوَ جدل وَمجدل، ومجدال ومجدل كمنبر ومحراب ومقعد: الْجَمَاعَة منا) .
وَنقل ابْن مُفْلِح عَن أهل اللُّغَة فَقَالَ: (الإجدال هُوَ الظفر عِنْدهم. وجدلت الْحَبل اجدله جدلا: فتلته فَتلا محكما. والجدالة: الأَرْض، يُقَال: طعنه فجدله: أَي رَمَاه فِي الأَرْض، فانجدل / أَي: فَسقط. وجادله، أَي: خاصمه، مجادلة وجدالا، وَالِاسْم: الجدل، وَهُوَ شدَّة فِي الْخُصُومَة ".(7/3694)
وَقَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْبَنَّا، وَغَيرهم: وَهُوَ تردد الْكَلَام بَين خصمين، يطْلب كل مِنْهُمَا تَصْحِيح قَوْله وَإِبْطَال قَول خَصمه، وَقيل: إحكام كَلَامه ليرد بِهِ كَلَام خَصمه.
وَيَأْتِي كَلَام الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح " وَتَفْسِير الفتل قَرِيبا.
وَقَالَ ابْن عقيل - أَيْضا -: " اعْلَم أَن الجدل: هُوَ الفتل للخصم عَن الْمَذْهَب بالمحاجة فِيهِ، وَلَا يَخْلُو أَن يفتل عَنهُ بِحجَّة أَو شُبْهَة، وَأما الشغب فَلَيْسَ مِمَّا يعْتد بِهِ مَذْهَب.
وَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون فَتلا على طَريقَة السُّؤَال، أَو على طَريقَة الْجَواب، فطريقة السُّؤَال: الْهدم للْمَذْهَب، كَمَا أَن طَريقَة الْجَواب: الْبناء للْمَذْهَب؛ لِأَن على الْمُجيب أَن يَبْنِي مذْهبه على الْأُصُول الصَّحِيحَة، وعَلى السَّائِل أَن يعجزه عَن ذَلِك أَو عَن ذَلِك الِانْفِصَال مِمَّا يلْزمه عَلَيْهِ من الْأُمُور الْفَاسِدَة، فأحدهما معجز عَن قِيَاس الْحجَّة على الْمَذْهَب، [و] الآخر مُبين لقِيَام الْحجَّة عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَا يَدعِيهِ كل وَاحِد إِلَى أَن يظْهر مَا يُوجب استعلاء أَحدهمَا على الآخر بِالْحجَّةِ.
وكل جدل فَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لأجل الْخلاف فِي الْمَذْهَب، وَلَو ارْتَفع الْخلاف لم يَصح جدل، وَذَلِكَ أَن السَّائِل إِذا لم يكن غَرَضه فتل الْمَسْئُول عَن(7/3695)
مذْهبه فَلَيْسَ سُؤَاله بسؤال جدل، وَكَذَلِكَ الْمُجيب إِذا لم يكن غَرَضه فتل [السَّائِل] عَن مذْهبه لم يكن جَوَابه جدلا، وَلَا بُد من مَذْهَب يَخْتَلِفَانِ فِيهِ، فَيكون أَحدهمَا على الْإِيجَاب، وَالْآخر على السَّلب: كاختلاف اثْنَيْنِ فِي الِاسْتِطَاعَة هَل هِيَ قبل الْفِعْل أَو مَعَ الْفِعْل؟ " انْتهى.
قَوْله: (وَهُوَ مَأْمُور بِهِ على وَجه الْإِنْصَاف وَإِظْهَار الْحق) .
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " اعْلَم وفقنا اللَّهِ وَإِيَّاك أَن معرفَة هَذَا الْعلم لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا نَاظر، وَلَا يتمشى بِدُونِهَا كَلَام مناظر؛ لِأَن بِهِ يتَبَيَّن صِحَة الدَّلِيل من / فَسَاده تحريرا وتقريرا، وتتضح الأسئلة الْوَارِدَة من الْمَرْدُودَة إِجْمَالا وتفصيلا، ولولاه لاشتبه التَّحْقِيق فِي المناظرة بالمكابرة، وَلَو خلي كل مُدع وَدَعوى مَا يرومه على الْوَجْه الَّذِي يخْتَار، وَلَو مكن كل مَانع من ممانعه مَا يسمعهُ مَتى شَاءَ - لَأَدَّى إِلَى الْخبط وَعدم الضَّبْط.
وَإِنَّمَا المراسيم الجدلية تفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَتبين الْمُسْتَقيم من(7/3696)
السقيم، فَمن لم يحط بهَا علما كَانَ فِي مناظرته كحاطب ليل.
وَيدل عَلَيْهِ الِاشْتِقَاق، فَإِن الجدل من قَوْلك: جدلت الْحَبل أجدله جدلا: إِذا فتلته فَتلا محكما.
وَله بِهَذَا الِاشْتِقَاق مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن يكون استعمالك إِيَّاه فِي محافل النّظر سَببا لفتل خصمك إِلَى موافقتك بتوجيه أدلتك وَإِبْطَال شبهته.
الثَّانِي: أَن يكون سمي بذلك لكَونه محكما للأدلة والأسئلة والأجوبة، مبرما لمنتشرها بقوانينه الْمُعْتَبرَة " انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح ": " قَالَ بعض أهل الْعلم: الْغَرَض بالجدل إِصَابَة الْحق بطريقه.
فاعترضه حنبلي قَالَ: ذَلِك هُوَ النّظر؛ لِأَن غَرَض النَّاظر إِصَابَة الْحق بطريقة، لَكِن الْغَرَض بالجدل من الْمنصف نقل الْمُخَالف عَن الْبَاطِل إِلَى الْحق، وَعَن الْخَطَأ إِلَى الْإِصَابَة، وَمَا سوى هَذَا فَلَيْسَ بغرض صَحِيح، مثل: بَيَان غَلَبَة الْخصم، وصناعة المجادل " انْتهى.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " أول مَا يجب الْبدَاءَة بِهِ حسن الْقَصْد فِي إِظْهَار الْحق طلبا لما عِنْد اللَّهِ، فَإِن آنس من نَفسه الحيد عَن الْغَرَض الصَّحِيح، فليكفها بِجهْدِهِ، فَإِن ملكهَا، وَإِلَّا فليترك المناظرة فِي ذَلِك الْمجْلس: وليتق السباب والمنافرة؛ فَإِنَّهُمَا يضعان الْقدر، ويكسبان الْوزر. وَإِن زل خَصمه فليوقفه على الله، غير مخجل لَهُ بالتشنيع عَلَيْهِ،(7/3697)
فَإِن أصر أمسك، إِلَّا أَن يكون ذَلِك الزلل مِمَّا يحاذر استقراره عِنْد السامعين، فينبههم على الصَّوَاب فِيهِ بألطف الْوُجُوه جمعا بَين المصلحتين " انْتهى.
قَوْله: / (دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَفعله الصَّحَابَة وَالسَّلَف، وَحكي إِجْمَاعًا) .
الْجِدَال مَأْمُور بِهِ لقصد الْحق وإظهاره كَمَا تقدم، دلّ على ذَلِك الْقُرْآن، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وجادلهم بالتى هى أحسن} [النَّحْل: 125] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} [العنكبوت: 46] وَقَوله تَعَالَى: {قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} [الْبَقَرَة: 111] .
وَقد فعله الصَّحَابَة - رَضِي اللَّهِ عَنْهُم - كَمَا فعل ذَلِك ابْن عَبَّاس لما جادل الْخَوَارِج، والحرورية، وَرجع مِنْهُم عَن مقَالَته خلق كثير، وَكَذَلِكَ غَيره.(7/3698)
وَفعله السّلف كعمر بن عبد الْعَزِيز، فَإِنَّهُ - أَيْضا - جادل الْخَوَارِج، وَرجع إِلَيْهِ فِي بعض الْمسَائِل، ذكره ابْن كثير فِي " تَارِيخه ".
وَكَذَلِكَ غَيرهم، وهم السَّادة القادة المقتدى بهم فِي أَقْوَالهم وأفعالهم.
وَقد أَجَاد الْعَلامَة أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه " الْإِيضَاح " فِي الجدل، وَكَذَلِكَ الْآمِدِيّ فِي " جدله "، والنيلي، وَخلق لَا يُحصونَ قد صنفوا فِي ذَلِك التصانيف الرائقة الْحَسَنَة الجامعة، وَكلهمْ قصد بذلك إِظْهَار الْحق وإعلاءه، وَإِبْطَال غَيره وإخماده.
قَالَ البربهاري - وَهُوَ الْحسن بن عَليّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا الْمُتَقَدِّمين - فِي " كتاب شرح السّنة " لَهُ: " وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي السّنة قِيَاس، وَلَا يضْرب لَهَا الْأَمْثَال، وَلَا يتبع فِيهَا الْأَهْوَاء، بل هُوَ التَّصْدِيق بآثار رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَا كَيفَ وَلَا شرح، وَلَا يُقَال:(7/3699)
لم؟ وَكَيف؟ فَالْكَلَام وَالْخُصُومَة والجدال والمراء مُحدث، يقْدَح الشَّك فِي الْقلب، وَإِن أصَاب صَاحبه السّنة وَالْحق ".
إِلَى أَن قَالَ: " وَإِذا سَأَلَك رجل عَن مَسْأَلَة فِي هَذَا الْبَاب وَهُوَ مسترشد، فَكَلمهُ وأرشده، وَإِن جَاءَك يناظرك فاحذره، فَإِن فِي المناظرة: المراء، والجدال، والمغالبة، وَالْخُصُومَة، وَالْغَضَب، وَقد نهيت عَن جَمِيع هَذَا، وَهُوَ يزِيل عَن طَرِيق الْحق، وَلم يبلغنَا عَن أحد من فقهائنا وعلمائنا أَنه جادل أَو نَاظر أَو خَاصم ". /
وَقَالَ - أَيْضا -: " المجالسة للمناصحة فتح بَاب الْفَائِدَة، والمجالسة للمناظرة غلق بَاب الْفَائِدَة ".
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون ": (قَالَ بعض مَشَايِخنَا الْمُحَقِّقين: إِذا كَانَت مجَالِس النّظر الَّتِي تدعون أَنكُمْ عقدتموها لاستخراج الْحَقَائِق، والاطلاع على عوار الشّبَه، وإيضاح الْحجَج لصِحَّة المعتقد - مشحونة بالمحاباة لأرباب المناصب تقربا، وللعوام تخونا، وللنظراء تعملا وتجملا، فَهَذَا فِي النّظر الظَّاهِر.
ثمَّ إِذا عولتم بالإنكار فلاح دَلِيل يردكم عَن مُعْتَقد الأسلاف والإلف وَالْعرْف، وَمذهب الْمحلة والمنشأ، خونتم اللائح، وأطفأتم مِصْبَاح الْحق الْوَاضِح، إخلادا إِلَى مَا ألفتم، فَمَتَى تستجيبون إِلَى دَاعِيَة الْحق؟ وَمَتى يُرْجَى الْفَلاح فِي دَرك البغية من مُتَابعَة الْأَمر، وَمُخَالفَة الْهوى وَالنَّفس،(7/3700)
والخلاص من الْغِشّ؟ هَذَا وَالله هُوَ الْإِيَاس من الْخَيْر، والإفلاس من إِصَابَة الْحق، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون من مُصِيبَة عَمت الْعُقَلَاء فِي أديانهم، مَعَ كَونهم فِي غَايَة التَّحْقِيق وَترك الْمُحَابَاة فِي أَمْوَالهم، وَمَا ذَاك إِلَّا لأَنهم لم يشموا ريح الْيَقِين، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْض الشَّك وَمُجَرَّد التخمين انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " وكل جدل لم يكن الْغَرَض فِيهِ نصْرَة الْحق فَإِنَّهُ وبال على صَاحبه، والمضرة فِيهِ أَكثر من الْمَنْفَعَة؛ لِأَن الْمُخَالفَة توحش، وَلَوْلَا مَا يلْزم من إِنْكَار الْبَاطِل واستنقاذ الْهَالِك بِالِاجْتِهَادِ فِي رده عَن ضلالته، لما حسنت المجادلة للإيحاش فِيهَا غَالِبا، وَلَكِن فِيهَا أعظم الْمَنْفَعَة، إِذا قصد بهَا نصْرَة الْحق وَالتَّقوى على الِاجْتِهَاد ".
ونعوذ بِاللَّه من قصد المغالبة، وَبَيَان الفراهة، وَيَنْبَغِي أَن تجتنبه.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: طلب الرِّئَاسَة والتقدم بِالْعلمِ يهْلك، ثمَّ ذكر اشْتِغَال أَكْثَرهم فِي الجدل، وَرفع أَصْوَاتهم فِي الْمَسَاجِد، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود الْغَلَبَة والرفعة، وإفتاء من لَيْسَ أَهلا.(7/3701)
وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: / {فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} [الْحَج: 67] ، أَي: فِي الذَّبَائِح، وَالْمعْنَى: فَلَا تنازعهم؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِن جادلوك فَقل اللَّهِ أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْحَج: 68] .
قَالَ: وَهَذَا أدب حسن، علمه اللَّهِ عباده ليردوا بِهِ من جادل تعنتا، وَلَا يحبيبوه.
قَالَ ابْن هُبَيْرَة: " الجدل الَّذِي يَقع بَين الْمذَاهب أَو فق مَا يحمل الْأَمر فِيهِ: بِأَن يخرج مخرج الْإِعَادَة والدرس، فَأَما اجْتِمَاع جمع متجاذبين فِي مَسْأَلَة، مَعَ أَن كلا مِنْهُم لَا يطْمع أَن يرجع إِن ظَهرت حجَّة، وَلَا فِيهِ مؤانسة ومودة، وتوطئة الْقُلُوب لوعي حق، بل هُوَ على الضِّدّ، فتلكم فِيهِ الْعلمَاء - كَابْن بطة - وَهُوَ مُحدث ".
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَمَا قَالَه صَحِيح وَذكره بَعضهم عَن الْعلمَاء، وَعَلِيهِ يحمل مَا رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ عَن أبي غَالب، وَهُوَ(7/3702)
مُخْتَلف فِيهِ، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَتَوا الجدل "، ثمَّ تَلا: {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا} [الزخرف: 58] .
وَلأَحْمَد عَن مَكْحُول عَن أبي هُرَيْرَة - وَلم يسمع مِنْهُ - مَرْفُوعا: " لَا يُؤمن العَبْد الْإِيمَان كُله حَتَّى يتْرك المراء، وَإِن كَانَ محقا ".
وللترمذي عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " لَا تمار أَخَاك ".(7/3703)
وَلأبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: " أَنا زعيم بَيت فِي ربض الْجنَّة لمن ترك المراء وَإِن كَانَ محقا ".
وَلابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ - وَحسنه - عَن سَلمَة بن وردان - وَهُوَ ضَعِيف - عَن أنس مَرْفُوعا: " من ترك المراء، وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وسط الْجنَّة ".(7/3704)
يُقَال: مارى يُمَارِي مماراة ومراء: جادل والمراء: اسْتِخْرَاج غضب المجادل، من قَوْلهم: مرئت الشَّاة، أَي: استخرجت لَبنهَا.
قَوْله: (فَلَو بَان سوء قصد خَصمه، توجه فِي تَحْرِيم مجادلته خلاف) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " يتَوَجَّه فِي تَحْرِيم مجادلته خلاف: كدخول من لَا جُمُعَة عَلَيْهِ فِي البيع مَعَ من تلْزمهُ، لنا فِيهِ وَجْهَان " انْتهى.
قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب التَّحْرِيم، وَقد تقدم كَلَام الْجَوْزِيّ فِي ذَلِك.
قَوْله: (وَقَالَ قوم: يجوز أَن يطْلب الْمَذْهَب، لَا وضع مَذْهَب وَيطْلب لَهُ دَلِيلا) .(7/3705)
نَقله ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَقَالَ: لَكِن أهل مَذْهَبنَا يتبعُون مذهبا / بالعصبية ثمَّ يطْلبُونَ لَهُ أَدِلَّة، وَصَاحب العصبية يقنع بِأَيّ شَيْء يخيله دَلِيلا، لما قد حصل فِي نَفسه من نَفسه، ويسخر من نَفسه لتطلبه لما وَضعه بِمَا يقويه فِي نَفسه.
قَوْله: (قَالَ ابْن عقيل: وَيبدأ كل مِنْهُمَا بِحَمْد اللَّهِ وَالثنَاء عَلَيْهِ) .
قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " وَمن أدب الجدل أَن يَجْعَل السَّائِل والمسؤول مبدأ كَلَامه حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ، " فَإِن كل أَمر ذِي بَال لم يبْدَأ فِيهِ بِبسْم اللَّهِ فَهُوَ أَبتر "، ويجعلا قصدهما أحد أَمريْن، ويجتهدا فِي اجْتِنَاب الثَّالِث.
فأعلى الثَّلَاثَة من الْمَقَاصِد: نصْرَة الله بِبَيَان الْحجَّة، ودحض الْبَاطِل بِإِبْطَال الشّبَه؛ لتَكون كلمة اللَّهِ هِيَ الْعليا.
وَالثَّانِي: الإدمان للتقوى على الِاجْتِهَاد من مَرَاتِب الدّين المحمودة، فَالْأولى: كالجهاد، وَالثَّانيَِة: كالمناضلة الَّتِي يقْصد بهَا التَّقْوَى على الْجِهَاد.
ونعوذ بِاللَّه من الثَّالِثَة وَهِي: المغالبة، وَبَيَان الفراهة على الْخصم، وَالتَّرْجِيح عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقَة " انْتهى.
قلت: إِنَّمَا يبْدَأ كل مِنْهُمَا بِحَمْد اللَّهِ للْحَدِيث الْمَذْكُور وَغَيره؛ وَلِأَن الْحَمد وَالثنَاء عَلَيْهِ مِمَّا يعين على تَحْصِيل التَّوْفِيق للحق والإعانة على الصَّوَاب.(7/3706)
فَائِدَة: الْحجَّة لُغَة: الْقَصْد، وَمِنْه حج الْبَيْت.
وَقد يُقَال للشُّبْهَة: " حجَّة داحضة "، وَلَا يجوز إِطْلَاقه حَتَّى يبين أَنه استعاره.
وَمَا شهد بِمَعْنى حكم آخر: حجَّة، نَحْو: " الْجِسْم مُحدث " يشْهد بِأَن لَهُ مُحدثا، وَمَا لَا يشْهد: دلَالَة " كالجسم مَوْجُود " إِلَّا أَنه كثر فَوَقَعت مَعَ الْحجَّة، وَمن الْفرق: إِشَارَة الْهَادِي إِلَى الطَّرِيق، والنجم وَالرِّيح على الْقبْلَة: دلَالَة لَا حجَّة.
قَوْله: (وللسائل إلجاؤه إِلَى الْجَواب، فيجيب أَو يبين عَجزه، وَلَيْسَ لَهُ الْجَواب تعريضا لمن أفْصح بِهِ، وَعَلِيهِ أَن يُجيب فِيمَا بَينه وَبَينه فِيهِ خلاف لتظهر حجَّته، وَالْكَلَام فِي هَذَا الشَّأْن إِنَّمَا يعول فِيهِ على الْحجَّة لتظهر، والشبهة لتبطل، وَإِلَّا فَهدر، وَهُوَ الَّذِي رفعت بشؤمه لَيْلَة(7/3707)
الْقدر، وَإِلَيْهِ انْصَرف النَّهْي عَن " قيل وَقَالَ ") . /
هَذَا الْكَلَام كُله وَاضح.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " يَنْبَغِي [للسَّائِل] أَن ينظر إِلَى الْمَعْنى الْمَطْلُوب فِي السُّؤَال، فَإِن عدل الْمُجيب لم يرض مِنْهُ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى جَوَاب مَا سَأَلَهُ عَنهُ.
مِثَاله: أَن يَقُول السَّائِل: هَل يحرم النَّبِيذ؟
فَيَقُول الْمُجيب: قد حرمه قوم من الْعلمَاء.
هَذَا عِنْد أهل الجدل لَيْسَ بِجَوَاب، وللسائل أَن يضايقه فِي ذَلِك بِأَن يَقُول: لم أَسأَلك عَن هَذَا، وَلَا بَان من سُؤَالِي إياك جهلي بِأَن قوما حرمُوهُ،(7/3708)
وَلَا سَأَلتك عَن مَذْهَب النَّاس فِيهِ، بل سَأَلتك أحرام هُوَ؟ فجوابي أَن تَقول: حرَام أَو لَيْسَ بِحرَام، أَو لَا أعلم، فَإِذا ضايقه أَلْجَأَهُ إِلَى الْجَواب، أَو بِأَن جَهله بتحقيق الْجَواب، وَلَيْسَ لَهُ يُجيب أَن بالتعريض لمن سَأَلَهُ بالإفصاح، فَإِذا سَأَلَهُ السَّائِل بالإفصاح لم يقنع بِالْجَوَابِ إِلَّا بالإفصاح " انْتهى. وَقَالَ - أَيْضا -: " وَلَا يَصح الجدل مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَذْهَب إِلَّا أَن يتكلما على طَريقَة المباحثة، فيتعدون الْخلاف لتصح [الْمُطَالبَة] ، ويتمكن من الزِّيَادَة، وَلَيْسَ على المسؤول أَن يُجيب السَّائِل عَن كل مَا سَأَلَهُ عَنهُ، إِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يجِيبه فِيمَا بَينه وَبَينه فِيهِ خلاف، لتظهر حجَّته فِيهِ، وسلامته من المطاعن عَلَيْهِ، وَإِلَّا خرج عَن حد السُّؤَال الجدلي " انْتهى.
قَوْله: (وللسائل أَن يَقُول: لم ذَاك؟ فَإِن قَالَ: لِأَنَّهُ لَا فرق، قَالَ: دعواك لعدم الْفرق كدعواك للْجمع، ونخالفك فيهمَا، فَإِن قَالَ: لَا أجد فرقا، قَالَ: لَيْسَ كل مَا لم تَجدهُ يكون بَاطِلا) .
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الْمُجيب: لَو جَازَ كَذَا لجَاز كَذَا، فَهُوَ كَقَوْل السَّائِل: إِذا كَانَ كَذَا، فَلم لَا يجوز كَذَا؟ إِلَّا أَنه لَا يلْزمه أَن يَأْتِي بِالْعِلَّةِ الْمُوَافقَة بَينهمَا؛ لِأَنَّهَا من فرض الْمُجيب، وَيلْزم الْمُجيب أَن يبين لَهُ، فَلَو كَانَ للمجيب أَن يَقُول لَهُ: وَمن [أَيْن] اشتبها؟ لَكَانَ لَهُ أَن يصير سَائِلًا، وَكَانَ على السَّائِل(7/3709)
/ أَن يصير مجيبا، وَكَانَ لَهُ - أَيْضا - أَن يَقُول: وَلم يُنكر تشابهما والمجيب مدعيه؟ .
اعْلَم أَن سُؤال الجدل على خَمْسَة أَقسَام: سُؤال عَن الْمَذْهَب، وسؤال عَن الدَّلِيل وسؤال عَن وَجه الدَّلِيل، وسؤال عَن تَصْحِيح الدَّعْوَى فِي الدَّلِيل، وسؤال عَن الْإِلْزَام.
وتحسين الْجَواب وتحديده يقوى بِهِ الْعَمَل وَالْعلم.
فَأول ضروب الْجَواب الْإِخْبَار عَن مَاهِيَّة الْمَذْهَب، ثمَّ الْإِخْبَار عَن مَاهِيَّة برهانه، ثمَّ وَجه دلَالَة الْبُرْهَان عَلَيْهِ، ثمَّ إِجْرَاء الْعلَّة فِي الْمَعْلُول وحياطته من الزِّيَادَة فِيهِ وَالنُّقْصَان مِنْهُ؛ لِئَلَّا يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيخرج عَنهُ مَا هُوَ مِنْهُ.
وَالْحجّة فِي تَرْتِيب الْجَواب كالحجة فِي تَرْتِيب السُّؤَال؛ لِأَن كل ضرب من ضروبه مُقَابل لضرب من ضروب السُّؤَال.
قَوْله: (وَقَالَ الْفَخر، والجوزي: يشْتَرط الانتماء إِلَى [مَذْهَب] ذِي(7/3710)
مَذْهَب للضبط، زَاد الْفَخر: وَإِن كَانَ الْأَلْيَق بِحَالهِ التجرد عَن الْمذَاهب وَأَن لَا يسْأَل عَن أَمر جلي فَيكون معاندا، قَالَ: وَيكرهُ اصْطِلَاحا تَأْخِير الْجَواب عَن السُّؤَال كثيرا، وَقيل: يَنْقَطِع، ويعزو الحَدِيث إِلَى أَهله) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: " قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ: لَا بُد للسَّائِل من الانتماء إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب للضبط، وَإِن كَانَ الْأَلْيَق بِحَالهِ التجرد عَن الْمذَاهب باسترشاده.
قَالَ: كَذَا قَالَ، قَالَ: وَأَن لَا يسْأَل عَن أَمر جلي فَيكون معاندا.
قَالَ المتنبي:
(وَلَيْسَ يَصح فِي الأذهان شَيْء ... إِذا احْتَاجَ النَّهَار إِلَى دَلِيل)
قَالَ: وَيكرهُ اصْطِلَاحا تَأْخِير الْجَواب عَن السُّؤَال كثيرا.
وَعَن بعض الجدليين يَنْقَطِع.
وَلَا يَكْفِيهِ عزو حَدِيث إِلَى كتب الْفُقَهَاء؛ لِأَن الْمَطْلُوب مِنْهُ صَنْعَة الْمُحدثين، بل إِلَى كتاب مِنْهُم غير مَشْهُور بِالسقمِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ ".
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ فِي " الْإِيضَاح ": " اعْلَم أَنه لابد من معرفَة السَّائِل، بالسؤال، والمسؤول، وَالْجَوَاب.
أما السَّائِل: فَهُوَ الْقَائِل: مَا حكم اللَّهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة؟ وَبعد ذكر الحكم: مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟ وَيلْزمهُ الانتماء إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب صِيَانة(7/3711)
للْكَلَام / عَن النشر الَّذِي لَا يجدي، فَإِن الْمُسْتَدلّ إِذا ذكر مثلا الْإِجْمَاع دَلِيلا، فَلَا فَائِدَة فِي تَمْكِين السَّائِل من ممانعة كَونه حجَّة، بعد مَا اتّفق على التَّمَسُّك بِهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَيتَعَيَّن عَلَيْهِ قصد الِاسْتِفْهَام وَترك الْعَنَت.
وَلَا يُمكن المداخل من إِيرَاد أَمر خَارج عَن الدَّلِيل، بِالنّظرِ إِلَيْهِ يفْسد الدَّلِيل: كالقلب، والمعارضة؛ لِأَن ذَلِك وَظِيفَة الْمُعْتَرض.
وَأما السُّؤَال: فَهُوَ قَول الْقَائِل: مَا الحكم فِي كَذَا؟ مَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟ وَنَحْو ذَلِك.
أما المسؤول: فَهُوَ المتصدي للاستدلال، وَيسْتَحب لَهُ أَن يَأْخُذ فِي الدَّلِيل عقب السُّؤَال عَنهُ، وَإِن أَخّرهُ لم يكن مُنْقَطِعًا إِلَّا إِن عجز عَنهُ مُطلقًا.
وَأما الْجَواب: فَهُوَ الحكم الْمُفْتى بِهِ.(7/3712)
وَالْأولَى: أَن يكون الْجَواب مطابقا للسؤال، وَإِن كَانَ أَعم مِنْهُ جَازَ.
وَإِن كَانَ أخص، فَمنهمْ من جوزه فِي الْفَتْوَى دون الدَّلِيل، وَمِنْهُم من عكس، وَمِنْهُم من منع مُطلقًا، وَمِنْهُم من جوزه مُطلقًا "، وَاخْتَارَ هُوَ الأول.
قلت: تقدم هَذَا محررا فِي القوادح فِي عدم التَّأْثِير.
قَوْله: (وَيعرف انْقِطَاع السَّائِل بعجزه عَن بَيَان السُّؤَال، وَطلب الدَّلِيل، وَطلب وَجه الدَّلِيل، وطعنه فِي دَلِيل الْمُسْتَدلّ ومعارضته، وانتقاله إِلَى دَلِيل آخر، أَو مَسْأَلَة أُخْرَى قبل تَمام الأول، قَالَ أَبُو الْخطاب: من الِانْتِقَال مَا لَيْسَ انْقِطَاعًا، كمن سُئِلَ عَن رد الْيَمين، وبناه على الحكم بِالنّكُولِ، أَو عَن قَضَاء صَوْم نفل، فبناه على لُزُوم إِتْمَامه، وَإِن طَالبه السَّائِل بِدَلِيل على مَا سَأَلَهُ فانقطاع مِنْهُ لبِنَاء بعض الْأُصُول على بعض، وَلَيْسَ لكلها دَلِيل، يَخُصُّهُ، وَانْقِطَاع المسؤول بعجزه عَن الْجَواب، وَإِقَامَة الدَّلِيل وتقوية وَجه الدَّلِيل، وَدفع اعتراضه، وانقطاعهما بجحد مَا عرف من مذْهبه، أَو ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَلَيْسَ مذْهبه خلاف النَّص، وعجزه عَن تَمام مَا شرع فِيهِ، وخلط كَلَامه على وَجه لَا يفهم، وسكوته سكُوت حيرة بِلَا عذر وتشاغله / بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالنّظرِ، وغضبه أَو قِيَامه فِي غير مَكَانَهُ وسفهه على خَصمه) .(7/3713)
ذكر ذَلِك الْأَصْحَاب مِنْهُم صَاحب " التَّمْهِيد " وَغَيره، و " الْوَاضِح " وَأطَال، وصور لذَلِك صورا كَثِيرَة، وأجاد وَأفَاد، فجزاهم اللَّهِ خيرا، وَهَذَا كُله وَاضح للمتأمل.
وَقد قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " اعْلَم أَن الِانْقِطَاع هُوَ: الْعَجز عَن إِقَامَة الْحجَّة فِي الْوَجْه الَّذِي ابْتَدَأَ للمقالة.
والانقطاع فِي الأَصْل: هُوَ بَيَان الانتفاء عَن الشَّيْء، وَذَلِكَ أَنه لابد من أَن يكون انْقِطَاع شَيْء [عَن شَيْء] .
وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ.
أَحدهمَا: تبَاعد شَيْء عَن شَيْء: كانقطاع طرف الْحَبل عَن جملَته، وَانْقِطَاع المَاء عَن مجْرَاه.(7/3714)
وَالْآخر: عدم شَيْء عَن شَيْء: كانقطاع ثَانِي الْكَلَام عَن ماضيه.
وَتَقْدِير الِانْقِطَاع فِي الجدل، على أَنه انْقِطَاع الْقُوَّة عَن النُّصْرَة للْمَذْهَب الَّذِي شرع فِي نصرته.
وَذَلِكَ أَن الْمَسْأَلَة تكون مراتبها خَمْسَة، فَيكون مَعَ المجادل قُوَّة على الْمرتبَة الأولى وَالثَّانيَِة، ثمَّ يَنْقَطِع فَلَا يكون لَهُ قُوَّة على الْمرتبَة الثَّالِثَة وَمَا بعْدهَا من الْمَرَاتِب، وَانْقِطَاع الْقُوَّة عَن الثَّالِثَة عجز عَن الثَّانِيَة، فَلذَلِك قُلْنَا: الِانْقِطَاع فِي الجدل عجز عَنهُ، فَكل انْقِطَاع فِي الجدل عجز عَنهُ، وَلَيْسَ كل عجز عَنهُ انْقِطَاعًا فِيهِ، وَإِن كَانَ عَاجِزا عَنهُ ".
وَأطَال فِي ذَلِك جدا.
ثمَّ ذكر الِانْقِطَاع بالمكابرة، ثمَّ بالمناقضة، ثمَّ بالانتقال، ثمَّ(7/3715)
بالمشاغبة، ثمَّ بالاستفسار، ثمَّ بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّسْلِيم، ثمَّ بجحد الْمَذْهَب، ثمَّ بالمسابة، وَذكر لكل وَاحِد من ذَلِك فصلا.
وَقَالَ أَيْضا: والانقطاع أَرْبَعَة أضْرب:
أَحدهَا: السُّكُوت للعجز.
وَالثَّانِي: جحد الضروريات، وَدفع المشاهدات، والمكابرة، والبهت، وَهَذَا الضَّرْب شَرّ من الأول.
وَالثَّالِث: المناقضة.(7/3716)
وَالرَّابِع: الِانْتِقَال عَن الاعتلال بِشَيْء إِلَى الاعتلال بِغَيْرِهِ.
وَيَأْتِي فِي انْتِقَال السَّائِل بأتم من هَذَا.
قَوْله: (وَظهر من هَذَا الْقطع بالشغب بالإيهام بِلَا شُبْهَة، وَقَالَهُ ابْن عقيل وَغَيره، وَقَالَ: إِن تَمَادى أعرض [عَنهُ] ، وَهُوَ الأولى بِذِي الرَّأْي(7/3717)
وَالْعقل، / ولاسيما إِن أوهم الْحَاضِرين أَنه سالك طَرِيق الْحجَّة بالاستفسار عَمَّا لَا يستفهم عَن مثله، وَفِي " الْفُصُول ": لَا يَنْبَغِي أَن يَصِيح على الْخصم فِي غير مَوْضِعه انْتهى) .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": " فصل فِي الِانْقِطَاع بالمشاغبة، اعْلَم أَن الِانْقِطَاع بالمشاغبة عجز عَن الاستتمام، لما تضمن من نصْرَة الْمقَالة إِلَى الممانعة بالإيهام من غير حجَّة وَلَا شُبْهَة.
وَحقّ مثل هَذَا إِذا وَقع: أَن يفصح فِيهِ بِأَنَّهُ شغب، وَأَن الشغب لَا يسْتَحق زِيَادَة.
فَإِن كَانَ المشاغب مسؤولا، قيل لَهُ: إِن أجبْت عَن الْمَسْأَلَة وَإِلَّا زِدْنَا عَلَيْك، وَإِن لم تجب عَنْهَا أمسكنا عَنْك.
وَإِن كَانَ سَائِلًا قيل لَهُ: إِن حصلت سؤالا سَمِعت جَوَابا، وَإِلَّا فَإِن الشغب لَا يسْتَحق جَوَابا.
فَإِن لج وَتَمَادَى فِي غيه أعرض عَنهُ؛ لِأَن أهل الْعلم إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ على مَا فِيهِ حجَّة أَو شُبْهَة، فَإِذا عرى الجدل عَن الْأَمريْنِ إِلَى الشغب لم يكن فِيهِ فَائِدَة، وَكَانَ الأولى بِذِي الرَّأْي الْأَصِيل وَالْعقل الرصين: أَن يصون نَفسه، ويرغب بوقته عَن التضييع مَعَه، وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الِاشْتِغَال بِهِ مَا يُوهم الْحَاضِرين أَن صَاحبه سالك لطريق الْحجَّة، فَإِنَّهُ رُبمَا كَانَ فِي ذَلِك تشبه بِمَا يرى مِنْهُ من حسن الْعبارَة، واغترار بإقبال خَصمه عَلَيْهِ فِي المناظرة، فَحق مثل هَذَا: أَن يبين أَنه على جِهَة المشاغبة دون طَرِيق الْحجَّة أَو الشُّبْهَة " انْتهى.(7/3718)
وَقَالَ فِي " الْفُصُول " فِي طَرِيق الحكم: " لَا يَنْبَغِي أَن يَصِيح على الْخصم فِي غير مَوْضُوعه؛ لِأَنَّهُ يمنعهُ من إِقَامَة حجَّته، وَلِهَذَا منعناه فِي المناظرة والجدل، وجعلناه من الشغب " انْتهى.
قَوْله: (وَفِي " الْوَاضِح ": احذر الْكَلَام فِي مجَالِس الْخَوْف، وَالَّتِي لَا إنصاف فِيهَا، وَكَلَام من تخافه، أَو تبْغضهُ، أَو لَا يفهم عَنْك، واستصغار الْخصم، وَلَا يَنْبَغِي كَلَام من عَادَته ظلم خَصمه، والهزء والتشفي لعدواته، والمترصد للمساوئ والتحريف والتزيد والبهت، وكل جدل وَقع فِيهِ ظلم الْخصم اخْتَلَّ فَيَنْبَغِي أَن يحْتَرز مِنْهُ، وَعَلَيْك [بِالصبرِ] والحلم، وَلَا تنقص بالحلم إِلَّا عِنْد الْجَاهِل، وَلَا بِالصبرِ / على الشغب للمسائل إِلَّا عِنْد غبي وترتفع عِنْد الْعلمَاء، وتنبل عِنْد أهل الجدل، وَمن خَاضَ فِي الشغب تعوده، وَمن تعوده حرم الْإِصَابَة، واستروح إِلَيْهِ، وَمن عرف بِهِ سقط سُقُوط الذّرة، وَمن عرف لرئيس فَضله، وَغفر زلَّة نَظِير، وَرفع نَفسه عَن دني مُسلم من الْغَضَب، وفاز بالظفر، وَلَا رَأْي لغضبان، مَعَ هَذَا لَا يسلم أحد من الِانْقِطَاع إِلَّا من عصمه اللَّهِ، وَلَيْسَ حد الْعَالم كَونه حاذقا بالجدل، فَإِنَّهُ صناعَة، وَالْعلم صناعَة، وَهُوَ مَادَّة الجدل، والمجادل يحْتَاج إِلَى الْعَالم وَلَا عكس، وَيَنْبَغِي أَن يحْتَرز فِي كل جدل من حِيلَة الْخصم.
وآداب الجدل يزين صَاحبه، وَتَركه يشينه، وَلَا يَنْبَغِي أَن ينظر لما اتّفق لبَعض من تَركه من الحظوة فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ إِن كَانَ رفيعا عِنْد الْجُهَّال فَهُوَ سَاقِط عِنْد ذَوي الْأَلْبَاب، وَلَا تغتر بخطأ الْخصم فِي مَذْهَب، فَإِنَّهُ لَا يدل(7/3719)
على الْخَطَأ فِي غَيره، وَإِن صد عَن الجدل آفَة كتقبيحه، وَعدم النَّفْع، والتقليد، والإلف وَالْعَادَة، ومحبته الرِّئَاسَة، والميل إِلَى الدُّنْيَا، والمفاخرة - أزالها.
وَيجب لكل مِنْهُمَا الْإِجْمَال فِي خطابه، وإقباله عَلَيْهِ، وتأمله لما يَأْتِي بِهِ، وَترك قطع كَلَامه، والصياح فِي وَجهه، والضجر عَلَيْهِ، والإخراج لَهُ عَمَّا عَلَيْهِ، والاستصغار لَهُ، وَإِذا نفرت النُّفُوس، عميت الْقُلُوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أَبْوَاب الْفَوَائِد، [ورياضة] الأدون وَاجِبَة على الْعلمَاء، وَتَركه سدى مضرَّة لَهُ، فَإِن عود لترك مَا يسْتَحقّهُ الْأَعْلَى أخلد إِلَى خطابه، وَلم يزعه عَن الْغَلَط وازع، ومقام التَّعْلِيم والتأدب تَارَة بالعنف، وَتارَة باللطف) .
هَذَا الْكَلَام لخصه ابْن مُفْلِح من كَلَام ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، ولخصته من كَلَام ابْن مُفْلِح، وَلَا بَأْس بِذكر كَلَام ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، فَإِنَّهُ مطول وَفِيه فَوَائِد وَمَعَان كَثِيرَة.
فقد قَالَ: فصل:
" قَالَ الْعلمَاء: احذر الْكَلَام فِي مجَالِس الْخَوْف، فَإِن الْخَوْف يذهل الْعقل الَّذِي مِنْهُ يستمد المناظر حجَّته، ويستقي مِنْهُ الرَّأْي فِي دفع شُبُهَات الْخصم،(7/3720)
وَإِنَّمَا يذهله ويشغله بِطَلَبِهِ حراسة نَفسه، / الَّتِي هِيَ أهم من مذْهبه، وَدَلِيل مذْهبه، فاجتنب مكالمة من تخَاف، فَإِنَّهَا مميتة للخواطر، مانعه من التثبيت.
وَاحْذَرْ كَلَام من اشْتَدَّ بغضك إِيَّاه، فَإِنَّهَا دَاعِيَة إِلَى الضجر، وَالْغَضَب من قلَّة مَا يكون مِنْهُ، والضجر وَالْغَضَب مضيق للصدر، ومضعف لقوى الْعقل.
وَاحْذَرْ المحافل الَّتِي لَا إنصاف فِيهَا فِي التَّسْوِيَة بَيْنك وَبَين خصمك فِي الإقبال وَالِاسْتِمَاع، وَلَا أدب لَهُم يمنعهُم من [التسرع] إِلَى الحكم عَلَيْك، وَمن إِظْهَار العصبية لخصمك.
والاعتراض يخلق الْكَلَام، وَيذْهب بهجة الْمعَانِي بِمَا يلجأ إِلَيْهِ من كَثْرَة الترداد، وَمن ترك الترداد مَعَ الِاعْتِرَاض، انْقَطع كَلَامه وَبَطلَت مَعَانِيه.
وَاحْذَرْ استصغار خصمك، فَإِنَّهُ يمْنَع من التحفظ، ويثبط عَن المغالبة، وَلَعَلَّ الْكَلَام يَحْكِي فيعتد عَلَيْك بالتقصير.
وَاحْذَرْ كَلَام من لَا يفهم عَنْك؛ لِأَنَّهُ يضجرك ويغضبك، إِلَّا أَن يكون لَهُ غريزة صَحِيحَة، وَيكون الَّذِي بطأ بِهِ عَن الْفَهم فقد الاعتياد، فَهَذَا خَلِيل مسترشد تعلمه، وَلَيْسَ بخصم فتجادله، وتنازعه.
وَقدر فِي نَفسك الصَّبْر والحلم؛ لِئَلَّا تستفزك بغتات الإغضاب، فَلَو لم يكن فِي الْحلم خَاصَّة لَهَا تجتلب، لكَانَتْ مَعُونَة على المناظرة توجب إِضَافَته إِلَيْهَا.(7/3721)
وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ يسلم أحد من الِانْقِطَاع إِلَّا من قرنه اللَّهِ تَعَالَى بالعصمة من الزلل، وَلَيْسَ حد الْعَالم: أَن يكون حاذقا بالجدل، فالعلم صناعَة، والجدل صناعَة، إِلَّا أَن الْعلم مَادَّة الجدل، والمجادل يحْتَاج إِلَى الْعلم، والعالم لَا يحْتَاج فِي علمه إِلَى المجادل، كَمَا يحْتَاج المجادل فِي جدله إِلَى الْعَالم وَلَيْسَ حد الجدل بالمجادلة: أَن يَنْقَطِع المجادل أبدا، وَلَا يكون مِنْهُ انْقِطَاع كثير إِذا كثرت مجادلته، وَلَكِن المجادل: من كَانَ طَرِيقه فِي الجدل مَحْمُودًا، وَإِن ناله الِانْقِطَاع لبَعض الْآفَات الَّتِي تعرف ".
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك:
" فصل: فِيمَا يجب على الْخَصْمَيْنِ فِي الجدل.
اعْلَم / أَنه يجب لكل وَاحِد على صَاحبه مثل الَّذِي يجب للْآخر عَلَيْهِ، من الْإِجْمَال فِي خطابه، وَترك التقطيع لكَلَامه، والإقبال عَلَيْهِ، وَترك الصياح فِي وَجهه، والتأمل لما يَأْتِي بِهِ، والتجنب للحدة والضجر عَلَيْهِ، وَترك الْحمل لَهُ على جحد الضَّرُورَة، إِلَّا من حَيْثُ يلْزمه ذَلِك بمذهبه وَترك الْإِخْرَاج لَهُ عَن الْحَد الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهِ فِي السُّؤَال أَو الْجَواب، وَترك الاستصغار لَهُ، والاحتقار لما يَأْتِي بِهِ، إِلَّا من حَيْثُ يلْزمه الْحجَّة إِيَّاه، والتنبه لَهُ عَن ذَلِك إِن بدر عَنهُ، أَو مناقضة إِن ظَهرت فِي كَلَامه، وَأَن لَا يمانعه الْعبارَة إِذا أدَّت الْمَعْنى، وَكَانَ الْغَرَض إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنى دون الْعبارَة، وَأَن لَا يخرج فِي عِبَارَته عَن الْعَادة، وَأَن لَا يدْخل فِي كَلَامه مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يسْتَعْمل مَا يَقْتَضِي التَّعَدِّي على خَصمه، والتعدي: خُرُوجه عَمَّا(7/3722)
يَقْتَضِيهِ السُّؤَال وَالْجَوَاب، وَلَا يمنعهُ الْبناء على أَمْثِلَة، وَلَا يشنع مَا لَيْسَ بشنيع فِي مذْهبه، أَو يعود عَلَيْهِ من الشناعة مثله، وَلَا يَأْخُذ على شرف الْمجْلس للاستظهار عَلَيْهِ، وَلَا يسْتَعْمل الْإِيهَام بِمَا يخرج عَن حد الْكَلَام ".
ثمَّ قَالَ:
" فصل: فِي الْغَضَب الَّذِي يعتري فِي الجدل. اعْلَم أَنه أَدخل المجادل على توطين النَّفس على الْحلم عَن بادرة إِن كَانَت من الْخصم سلم من سُورَة الْغَضَب وَاعْلَم أَن تِلْكَ البادرة لَا تَخْلُو: إِمَّا أَن تكون من رَئِيس تعرف لَهُ فَضِيلَة أَو نَظِير لَهُ زللة، أَو وضيع ترفع النَّفس عَن مشاغبته ومقابلته فَإِذا عرفت ذَلِك وطنت النَّفس عَلَيْهِ سلمت من سُورَة الْغَضَب اعْلَم أَن الْغَضَب ظفر الْخصم إِذا كَانَ سَفِيها، وَالْغَالِب فِي السَّفه هُوَ الأسفه، كَمَا أَن الْغَالِب فِي الْعلم هُوَ الأعلم وَلَو لم يكن من شُؤْم الْغَضَب إِلَّا أَنه عزل بِهِ عَن الْقَضَاء فَقَالَ الشَّارِع عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يقْضِي القَاضِي حِين يقْضِي وَهُوَ / غَضْبَان ".
وكما أَن القَاضِي يحْتَاج إِلَى صحو من سكر الْغَضَب، يحْتَاج المناظر إِلَى ذَلِك؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاء فِي الِاحْتِيَاج إِلَى الِاجْتِهَاد، وأداة الِاجْتِهَاد الْعقل، وَلَا رَأْي لغضبان، فَيَعُود الوبال عَلَيْهِ عِنْد الْغَضَب بإرتاج طرق النّظر فِي(7/3723)
وَجهه، وضلال رَأْيه عَن قَصده، فَمن أولى الْأَشْيَاء التحفظ من الْغَضَب فِي النّظر والجدل لما فِيهِ من الْعَيْب؛ وَلِأَنَّهُ يقطع عَن اسْتِيفَاء الْحجَّة وَالْبَيَان عَن حل الشُّبْهَة، وَلَا يقطع عَلَيْهِ كَلَامه فَإِنَّهُ مَانع من الْفَهم ".
ثمَّ قَالَ:
" فصل: اعْلَم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يتَكَلَّم فِي الجدل بِحَضْرَة من دأبه التلهي والهزوء والتشفي، ولعداوة بَينه وَبَين الْخصم، وَلَا إِذا كَانَ متحفظا للمساوئ مترصدا لَهَا، والتحريف لِلْقَوْلِ والتزيد فِيهِ بِمَا يُفْسِدهُ، والمباهتة، فَإِن الْكَلَام مَعَ هَذَا تعرض للهجينة، وَالْخُرُوج عَن الطَّرِيقَة والديانة، والتعدي، واستطالة السَّفِيه، وانتصال الْعَالم، وزالت الْفَائِدَة، وَلم يحصل الْمَقْصُود ".
ثمَّ قَالَ:
" فصل: فِي تَرْتِيب الْخُصُوم فِي الجدل.
اعْلَم أَنه لَا يَخْلُو الْخصم فِي الجدل من أَن يكون فِي طبقَة خَصمه، أَو أَعلَى، أَو أدون.(7/3724)
فَإِن كَانَ فِي طبقته: كَانَ قَوْله لَهُ: الْحق فِي هَذَا كَذَا دون كَذَا، من قبل كَيْت وَكَيْت، وَلأَجل كَذَا، وعَلى الآخر: أَن يتحَرَّى لَهُ الموازنة فِي الْخطاب، فَذَلِك أسلم للقلوب، وَأبقى لشغلها عَن تَرْتِيب النّظر، فَإِن التطفيف فِي الْخطاب يعمي الْقلب عَن فهم السُّؤَال وَالْجَوَاب.
وَإِن كَانَ أَعلَى: فليتحر، ويجتنب القَوْل لَهُ: هَذَا خطأ أَو غلط، وَلَيْسَ كَمَا تَقول، بل يكون قَوْله لَهُ: أَرَأَيْت إِن قَالَ قَائِل: يلْزم على مَا ذكرت كَذَا، إِن اعْترض على مَا ذكرت معترض بِكَذَا، فَإِن نفوس الْكِرَام الرؤساء المقدمين تأبى خشونة الْكَلَام، إِذْ لَا عَادَة لَهُم بذلك، وَإِذا نفرت النُّفُوس عميت الْقُلُوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أَبْوَاب الْفَوَائِد، فَحرم / الْكل الْفَوَائِد بِسَفَه السَّفِيه، وتقصير الْجَاهِل فِي حُقُوق الصُّدُور، وَقد أدب اللَّهِ تَعَالَى أنبياءه للرؤساء من أعدائه، فَقَالَ لمُوسَى وَهَارُون فِي حق فِرْعَوْن: {فقولا لَهُ قولا لينًا} [طه: 44] .
سَمِعت بعض المشاريخ فِي عُلُوم الْقُرْآن يَقُول: صفة هَذَا القَوْل اللين فِي قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (17) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى} [النازعات: 17، 18] ، وَمَا ذَاك إِلَّا مُرَاعَاة لِقَلْبِهِ، حَتَّى لَا ينْصَرف بالْقَوْل الخشن عَن فهم الْخطاب، فَكيف برئيس تقدم فِي الْعلم، تطلب فَوَائده، ويرجى الْخَيْر فِي إِيرَاده، وَمَا تسنح لَهُ خواطره؟ فأحرى بِنَا أَن نذلل لَهُ الْعبارَة، ونوطئ لَهُ جَانب الْجِدَال لتنهال فَوَائده انهيالا.(7/3725)
وَفِي الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل: الْأَدَب معيار الْعُقُول، ومعاملة الْكِرَام، وَسُوء الْأَدَب مقطعَة للخير، ومدمغة للجاهل، فَلَا تتأخر إهانته، وَلَو لم يكن إِلَّا هجرانه وحرمانه.
وَأما الأدون: فيكلم بِكَلَام اللطف والتفهيم، إِلَّا أَنه يجوز أَن يُقَال لَهُ إِذا أَتَى بالْخَطَأ: هَذَا خطأ، وَهَذَا غلط من قبل كَذَا، ليذوق مرَارَة سلوك الْخَطَأ فيجتنبه، وحلاوة الصَّوَاب فيتبعه، ورياضة هَذَا وَاجِبَة على الْعلمَاء، وَتَركه سدى مضرَّة لَهُ، فَإِن عود الْإِكْرَام الَّذِي يسْتَحقّهُ الْأَعْلَى طبقَة، أخلد إِلَى خطئه، وَلم يزعه عَن الْغَلَط وازع، ومقام التَّعْلِيم والتأديب تَارَة بالعنف، وَتارَة باللطف، وسلوك أَحدهمَا يفوت فَائِدَة الآخر، قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} [الضُّحَى: 10] ، وَقيل فِي التَّفْسِير: إِنَّه السَّائِل فِي الْعُلُوم دون سُؤال المَال، وَقيل: هُوَ عَام فيهمَا ".
وَكَانَ قَالَ قبل ذَلِك: فصل: إِذا كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ فِي الْجِدَال أحسن عبارَة، وَالْآخر مقصرا عَنهُ فِي [البلاغة]- فَرُبمَا أَدخل ذَلِك الضيم على الْمعَانِي الصَّحِيحَة.
وَالتَّدْبِير فِي ذَلِك: أَن يقْصد إِلَى الْمَعْنى الَّذِي قد رتبه صَاحبه بعبارته عَنهُ، فيعبر عَنهُ بِعِبَارَة أُخْرَى تدل عَلَيْهِ، من غير تَزْيِين لَهُ، فَإِنَّهُ يظْهر فِي(7/3726)
نَفسه، وَيبين / العوار الَّذِي فِيهِ، وينكشف عِنْد الْحَاضِرين التمويه الَّذِي وَقع بِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذا أردْت أَن تمتحن معنى قد أَتَى بِهِ بليغ، فانقله إِلَى غير تِلْكَ الْعبارَة، ثمَّ تَأمله فَإِن كَانَ حسنا فِي نَفسه، فَإِنَّهُ لَا يبطل حسنه نَقله عَن عبارَة إِلَى عبارَة، كَمَا لَا يبطل حسنه نَقله من الفارسية إِلَى الْعَرَبيَّة.
وَإِذا كَانَت عبارَة السَّائِل أَو الْمُسْتَدلّ [تقصره] عَن تَحْقِيق الْحجَّة و [الشُّبْهَة] ، وَكَانَ خَصمه قَادِرًا على إخْرَاجهَا إِلَى عبارَة تنكشف بهَا قُوَّة كَلَامه، فَيَنْبَغِي أَن يُخرجهَا بعبارته إِلَى الْإِيضَاح، فَإِن اتَّضَح فِيهَا الْحق اتبعهُ، وَإِن كَانَ شُبْهَة بعد إيضاحها زيفه وأبطله.
وَإِذا كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ فِي الجدل قد [أَخطَأ] فِي بعض الْمذَاهب، فاحذر الاغترار بذلك، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي خطئه فِي مَذْهَب دَلِيل على أَنه قد أَخطَأ فِي مَذْهَب آخر، فَلَا تلْتَفت إِلَى التمويه، بِأَن بعض مَذَاهِب فلَان تتَعَلَّق بِبَعْض، فَإِن فسد وَاحِد مِنْهَا فسد جَمِيعهَا، فَإِن ذَلِك يحملك على التخطئة بِغَيْر بَصِيرَة لمن لَعَلَّه أَن يكون مصيبا فِيمَا أَتَى بِهِ، فَاعْتبر ذَلِك، وَلَا تتكل على مثل هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن إِذا كثر خَطؤُهُ أوجبت ذَلِك تُهْمَة لمذهبه، وَقلة سُكُون إِلَى اخْتِيَاره، من غير أَن يحصل ذَلِك دَلِيلا على فَسَاده لَا محَالة.(7/3727)
وَإِذا كَانَ الْخصم مَعْرُوفا بالمجون فِي الجدل، وَقلة الاكتراث بِمَا يَقُول وَمَا يُقَال لَهُ، لَيْسَ غَرَضه إِقَامَة حجَّة، وَلَا بَصِيرَة ديانَة، وَإِنَّمَا يُرِيد الْمُطَالبَة والمباهاة، وَأَن يُقَال: علا قرنه، وَغلب خَصمه، أَو قطع خَصمه، فَيَنْبَغِي أَن تجتنب وتحذر مكالمته، فَلَيْسَ يحصل بمناظرته دين وَلَا دينا، وَرُبمَا ورد على خَصمه مَا يخجله وَلَا يستحسن مكافأته عَلَيْهِ فَيَنْقَطِع فِي يَدَيْهِ، فَيكون فِي انْقِطَاعه فتْنَة لمن حَضَره.
وَإِذا كَانَ الْغَرَض بالجدل إِدْرَاك الْحق بِهِ، وَكَانَ السَّبِيل إِلَى ذَلِك التثبت والتأمل، وَجب على كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ / استعمالهما، وَإِلَّا حصلا على مُجَرّد الطّلب مَعَ [حرمَان] الظفر، وحاجة كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ إِلَى التنبه عَن مَا يَأْتِي بِهِ صَاحبه كحاجة الآخر إِلَى ذَلِك ".
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: وَإِذا كَانَ الصَّبْر على شغب الْمسَائِل فِي الجدل فَضِيلَة، والحلم عَن بادرة إِن كَانَت مِنْهُ رفْعَة - فَيَنْبَغِي لمن أحب اكْتِسَاب الْفَضَائِل أَن يسْتَعْمل ذَلِك بِحَسب علمه بِمَا لَهُ فِيهِ من الْحَظ الجزيل وَالْمحل الْجَلِيل، وَلَيْسَ ينقصهُ الْحلم إِلَّا عِنْد جَاهِل، وَلَا يضيع مِنْهُ الصَّبْر على شغب الْمسَائِل، إِلَّا عِنْد غبي يعْتَقد أَن ذَلِك من الذل والركاكة وقصور اللِّسَان فِي الشغب هُوَ الْفضل، فَإِن من خَاضَ تعوده، وَمن تعوده حرم الْإِصَابَة واستروح إِلَيْهِ، وَمن عرف بذلك سقط سُقُوط الذّرة، وَمن صَبر على ذَلِك وحلم عَنهُ ارْتَفع فِي نفوس الْعلمَاء، ونبل عِنْد أهل الجدل، وَبَانَتْ مِنْهُ الْقُوَّة على نَفسه، حَيْثُ منعهَا الْمُقَابلَة على الْجفَاء بِمثلِهِ وَالْقُوَّة على خَصمه، أحوجه(7/3728)
إِلَى الشغب، لَا سِيمَا إِذا ظهر مِنْهُ أَنه فعل ذَلِك حرصا على الْإِرْشَاد إِلَى الْحق، ومحبة للاستنقاذ من الْبَاطِل الَّذِي أثارته الشُّبْهَة من الضلال الْمُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى العطب والهلاك، فَلهُ بِهَذِهِ النِّيَّة الجميلة الثَّوَاب من ربه، والمدحة من كل منصف حَضَره أَو سمع بِهِ.
وَإِذا كَانَ الْمجْلس مجْلِس عصبية على أحد الْخَصْمَيْنِ بالتخليط عَلَيْهِ، وَقل فِيهِ التَّمْكِين من الْإِنْصَاف، فَيَنْبَغِي أَن يحذر من الْكَلَام فِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِك إثارة للطباع وجلب للأفحاش، ويفضي إِلَى انْقِطَاع الْقوي الْمنصف بِمَا يتداخله من الْغَضَب وَالْغَم الْمَانِع لَهُ من صِحَة النّظر، والصادين لَهُ عَن طَرِيق الْعلم، وكل صناعَة فَإِن الْعلم بهَا غير الجدل فِيهَا.
وَذَلِكَ أَن الْعلم بهَا هُوَ الْمعرفَة بِجَوَاب مسَائِل الْفتيا فِيهَا الَّتِي ترد إِلَى المصادرة لَهَا.
فَأَما الجدل فَإِنَّمَا هُوَ الْحجَّاج فِي مسَائِل الْخلاف مِنْهَا. /
فالعلم صناعَة، والجدل صناعَة، إِلَّا أَن الْعلم مَادَّة الجدل؛ لِأَن الجدل بِغَيْر علم بِالْحجَّةِ والشبهة فَإِنَّمَا هُوَ شغب، وَإِنَّمَا الِاعْتِمَاد فِي الجدل على إِقَامَة الْحجَّة، أَو حل الشُّبْهَة فِيمَا وَقعت فِيهِ مُخَالفَة.
وَإِذا كَانَ الجدل قد صد عَنهُ آفَة عرضت لبَعض من هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يعْمل فِي إِزَالَة تِلْكَ الآفة ليرتفع الصَّاد عَنهُ، وَيظْهر للنَّفس الْحَاجة إِلَيْهِ وَمِقْدَار الْمَنْفَعَة بِهِ.
فَمن الْآفَات فِيهِ: الشُّبْهَة الدَّاخِلَة على النَّفس فِي تقبيحه، أَو أَنه [لَا] يُؤَدِّي إِلَى حق، وَلَا يحصل بِهِ نفع.(7/3729)
وَمِنْهَا: التَّقْلِيد، والإلف وَالْعَادَة، وَالنَّظَر فِيمَا عَلَيْهِ الأسلاف، أَو الْآبَاء، أَو الأجداد.
وَمِنْهَا: الْمحبَّة للرئاسة، والميل إِلَى الدُّنْيَا، والمفاخرة والمباهاة بهَا، والتشاغل بِمَا فِيهِ اللَّذَّة، وَمَا يَدْعُو إِلَى الشَّهْوَة، دون ماتوجبه الْحجَّة، وَيَقْضِي بِهِ الْعقل والمعرفة.
فعلى نَحْو هَذَا من الْأَسْبَاب تكون الآفة الصارفة عَنهُ والموجبة لَهُ.
وَيَنْبَغِي لمن عرف هَذِه الْآفَات أَن يجْتَهد فِي نَفيهَا وَمَا شاكلها، ويتحرز مِنْهَا وَمن أَمْثَالهَا، فَإِن الْمضرَّة بهَا عَظِيمَة، فَمن عرفهَا وتحرز مِنْهَا بصر رشده، وَأمن الزيغ.
نسْأَل اللَّهِ أَن يوفقنا للصَّوَاب من القَوْل وَالْعَمَل برحمته " انْتهى.
قَوْله: (وانتقال السَّائِل انْقِطَاع عِنْد الْأَكْثَر، وَخَالف الشَّيْخ والشاشي، وَقَالَ: لَو قَالَ: ظننته لَازِما فمكنوني من سُؤال آخر فخلاف، قَالَ: وَالأَصَح يُمكن من أدنى وَمن أَعلَى، قَولَانِ) .
" اعْلَم أَن [الِانْقِطَاع] على أَرْبَعَة أضْرب.
أَحدهَا: السُّكُوت للعجز.(7/3730)
الثَّانِي: جحد الضرورات، وَدفع المشاهدات، والمكابرة، والبهت.
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا من الِانْقِطَاع أَن الْمُجيب إِنَّمَا يَبْنِي جَوَابه على تَصْحِيح الْمُشَاهدَة والاستشهاد [بالمعقول] ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُوم عِنْد إجَابَته، فَإِذا لم يجد فِي الْعُقُول والضرورات شَيْئا يُحَقّق / بِهِ مذْهبه وَيتم بِهِ جَوَابه، فقد عجز عَمَّا ضمنه على نَفسه بِخُرُوجِهِ عَن الْمَعْقُول والضرورات إِلَى المكابرة والبهت، وَإِنَّمَا تَمام الشَّرْط أَن يكون مادته من هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ، أَعنِي: الْعقل والضرورة، دون مَا صَار إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْب شَرّ من الأول، أَعنِي: السُّكُوت؛ لِأَن أحسن الْأُمُور إِذا لم يجد حَقًا يتَكَلَّم بِهِ أَن يمسك عَن الْبَاطِل، وأقبح مَا ينْطق بِهِ من الْبَاطِل بهت الْعُقُول والطبائع والحواس ومكابرتها.
الضَّرْب الثَّالِث: المناقضة، وَهُوَ: أَن يَنْفِي بآخر كَلَامه مَا أثْبته بأوله، أَو يثبت بِآخِرهِ مَا نَفَاهُ فِي أَوله.
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا الضَّرْب انْقِطَاع أَيْضا: أَن الْمُجيب لما ابْتَدَأَ بالإثبات كَانَ قد ضمن على نَفسه تَحْقِيقه وَالدّلَالَة على صِحَّته، وَبنى سَائِر الْجَواب عَلَيْهِ، و [ملاءمة] مَا يُورِدهُ بعده لَهُ، فَإِذا نَفَاهُ فقد عجز عَن تَصْحِيح مَا ضمنه من ذَلِك على نَفسه، وافتقر إِلَى نقضه عِنْد الْإِيَاس من صِحَّته.
وَصَاحب هَذَا الضَّرْب احسن حَالا من المباهت؛ لِأَن الرُّجُوع عَن الْبَاطِل عِنْد انكشافه أحسن من المكابرة، وَالرُّجُوع إِلَى الْحق حسن جميل، وَلَا عيب فِي الْعَجز عَن نصْرَة الْبَاطِل كَمَا لَا عيب فِي الرُّجُوع عَنهُ.
وَالضَّرْب الرَّابِع: الِانْتِقَال عَن الاعتلال بِشَيْء إِلَى الاعتلال بِغَيْرِهِ.(7/3731)
وَالدّلَالَة على أَن هَذَا الضَّرْب انْقِطَاع: أَن الْمُعَلل إِذا ابْتَدَأَ بعلة فقد ضمن على نَفسه تَصْحِيح مذْهبه بهَا وَمَا تفرع عَنْهَا.
وَذَلِكَ أَنه لم يُعلل بهَا إِلَّا وَهِي عِنْده صَحِيحَة مصححة لما علل لَهُ، فَإِذا انْتقل عَنْهَا إِلَى غَيرهَا فقد عجز عَن الْوَفَاء بِمَا وعد، والإيفاء بِمَا ضمن، وافتقر إِلَى غَيرهَا لتَقْصِيره عَمَّا ظَنّه بهَا ".
إِذا علم هَذَا فانتقال السَّائِل انْقِطَاع عِنْد أَكثر الْعلمَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء.
وَقدمه ابْن عقيل فِي " واضحه " وَغَيره.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين والشاشي من الشَّافِعِيَّة: لَيْسَ الِانْتِقَال بِانْقِطَاع.
قَالَ الشَّاشِي: فَإِن قَالَ: ظننته لَازِما فمكنوني من سُؤال آخر، فِيهِ خلاف.(7/3732)
قَالَ: وَالأَصَح: يُمكن من أدنى، فَأَما من أَعلَى: كانتقاله من الْمُعَارضَة إِلَى الْمَنْع.
فَقيل: لَا يُمكن؛ لتكذيبه لنَفسِهِ.
وَقيل: يُمكن؛ لِأَن قَصده الاسترشاد. /
قَالَ: وَترك المسؤول الدَّلِيل لعجز فهم السَّائِل لَيْسَ انْقِطَاعًا لقصة إِبْرَاهِيم.
وَقيل: بلَى؛ لِأَنَّهُ [الْتزم تفهيمه] .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون ": لما قَابل نمْرُود قَول الْخَلِيل فِي الْحَيَاة الْحَقِيقَة بِالْحَيَاةِ المجازية، انْتقل إِلَى دَلِيل لَا يُمكنهُ يُقَابل الْحَقِيقَة فِيهِ بالمجاز.
وَمن انْتقل من دَلِيل غامض إِلَى دَلِيل وَاضح، فَذَلِك طلب للْبَيَان، وَلَيْسَ انْقِطَاعًا.
قَالَ فِي " الْوَاضِح ": " فَإِن قيل: فقد انْتقل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من عِلّة إِلَى غَيرهَا، وَكَانَ فِي مقَام المحاجة، كَمَا أخبر اللَّهِ تَعَالَى عَنهُ، وَبِهَذَا تعلق من رأى أَن الِانْتِقَال من دَلِيل إِلَى غَيره لَيْسَ بِانْقِطَاع، وَلَا خُرُوج عَن مُقْتَضى الْجِدَال وَالْحجاج.(7/3733)
قيل: لم يكن انْتِقَاله للعجز؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ يقدر أَن يُحَقّق مَعَ نمْرُود حَقِيقَة الْإِحْيَاء الَّذِي أَرَادَهُ، وَهُوَ إِعَادَة الرّوح إِلَى جَسَد الْمَيِّت، أَو إنْشَاء حَيّ من الْأَمْوَات، وَأَن الإماتة الَّتِي أرادها هِيَ إزهاق النَّفس من غير ممارسة بِآلَة وَلَا مُبَاشرَة، وَيَقُول لَهُ: إِذا فعلت ذَلِك كنت محيياً مميتاً، أَو أفعل ذَلِك إِن كنت صَادِقا، ومعاذ الله أَن يظنّ ذَلِك بذلك الْكَرِيم، وَمَا عدل عَمَّا ابْتَدَأَ بِهِ إِلَى غَيره عَجزا عَن استتمام النُّصْرَة، لكنه لما رأى نمْرُود غبيا أَو متغابيا بِمَا كشفه عَن نَفسه من الْإِحْيَاء، وَهُوَ الْعَفو عَن مُسْتَحقّ الْقَتْل، والإماتة وَهِي الْقَتْل الَّذِي [يُسَاوِيه فِيهِ] كل أهل مَمْلَكَته وأصاغر رَعيته؛ انْتقل إِلَى الدَّلِيل الأوضح فِي بَاب تعجيزه عَن دَعْوَاهُ فِيهِ الْمُشَاركَة لبادئه، بِحكم مَا رأى من الْحَال، فَلم يُوجد فِي حَقه الْعَجز عَن إتْمَام مَا بدا بِهِ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ ". انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رأى ضعف فهمه لمعارضته اللَّفْظ بِمثلِهِ، مَعَ اخْتِلَاف الْفِعْلَيْنِ، فانتقل إِلَى حجَّة أُخْرَى قصدا لقطعه لَا عَجزا.
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": " انْتِقَال إِبْرَاهِيم إِلَى حجَّة أُخْرَى لَيْسَ عَجزا؛ لِأَن حجَّته كَانَت لَازِمَة، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِحْيَاءِ: إحْيَاء الْمَيِّت، فَكَانَ لَهُ أَن(7/3734)
يَقُول: فأحي من أمت إِن كنت صَادِقا، فانتقل إِلَى حجَّة أوضح من الأولى " انْتهى. /
قَالَ أَبُو حَيَّان فِي " النَّهر ": " لما رأى إِبْرَاهِيم مغالطة الْكَافِر، وادعاءه مَا يُوهم أَنه إِلَه، ذكر لَهُ مَا لَا يُمكن أَن يغالط فِيهِ وَلَا أَن يَدعِيهِ، وَقد كَانَ لإِبْرَاهِيم أَن ينازعه فِيمَا ادَّعَاهُ، وَلكنه أَرَادَ قطع تشغيبه عَن قرب، وَأَن لَا يُطِيل مَعَه الْكَلَام، إِذْ شَاهد مِنْهُ مَا لَا يُمكن أَن يَدعِيهِ عَاقل " انْتهى.
قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي " تَفْسِيره ": " أعرض إِبْرَاهِيم عَن الِاعْتِرَاض على معارضته الْفَاسِدَة إِلَى الِاحْتِجَاج بِمَا لَا يقدر فِيهِ على نَحْو هَذَا التمويه دفعا للمشاغبة، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة عدُول عَن مِثَال خَفِي إِلَى مِثَال جلي من مقدوراته الَّتِي يعجز عَن الْإِتْيَان بهَا غَيره، لَا عَن حجَّة إِلَى أُخْرَى، وَلَعَلَّ نمْرُود [زعم] أَنه يقدر، أَن يفعل كل جنس يَفْعَله اللَّهِ فنقيضه إِبْرَاهِيم بذلك " انْتهى.
قَالَ ابْن التلمساني: قد يُسْتَفَاد بِالْفَرْضِ تضييق مجاري الا عتراض على الْخصم، وَهُوَ من مَقْصُود الجدل، ووضوح التَّقْدِير.
وَلِهَذَا الْمَعْنى عدل الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي تَقْرِير الِاسْتِدْلَال على(7/3735)
نمْرُود بالأثر على الْمُؤثر، إِلَى الأوضح عِنْده انْتهى.
وَتقدم ذَلِك بِلَفْظِهِ فِي آخر عدم التَّأْثِير فِي الْفَرْض.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - بعد كَلَام الشَّاشِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ -: " حَاصله: أَنه يجوز الِانْتِقَال لمصْلحَة، وَلَيْسَ انْقِطَاعًا ".
قَالَ ابْن عقيل: الِانْتِقَال عَن السُّؤَال هُوَ الْخُرُوج عَمَّا يُوجِبهُ أَوله من مُلَازمَة السّنَن فِيهِ، مثل قَوْله: هَل الْخمر مَال لأهل الذِّمَّة؟
فَيَقُول: نعم.
فَيَقُول: وَمَا حد المَال؟
فَهَذَا انْتِقَال، فَإِن أَجَابَهُ عَن ذَلِك خرج مَعَه - أَيْضا -، وَهَذَا كثير يتم بَين المخلين بآداب الجدل انْتهى.
تمّ بِحَمْد اللَّهِ(7/3736)
(بَاب الِاسْتِدْلَال)(8/3737)
فارغة(8/3738)
(قَوْله: {بَاب الِاسْتِدْلَال} )
{لُغَة: طلب الدَّلِيل} .
لما كَانَ طلب الِاسْتِدْلَال من جملَة الطّرق المفيدة للْأَحْكَام، ذَكرْنَاهُ بعد الْفَرَاغ من الْأَدِلَّة الْأَرْبَعَة وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس.
وَالِاسْتِدْلَال فِي اللُّغَة: طلب الدَّلِيل.
وَفِي الِاصْطِلَاح: يُطلق على معنى عَام وَهُوَ ذكر الدَّلِيل نصا كَانَ، أَو إِجْمَاعًا، أَو قِيَاسا، أَو غَيره، وَيُطلق على معنى خَاص، وَهُوَ الْمَقْصُود هُنَا.
وَعقد هَذَا الْبَاب للأدلة الْمُخْتَلف فِيهَا، وَإِنَّمَا عبر عَنْهَا بالاستدلال؛ لِأَن كل مَا ذكر فِيهِ إِنَّمَا قَالَه عَالم بطرِيق الِاسْتِدْلَال والاستنباط، وَلَيْسَ بِهِ دَلِيل قَطْعِيّ، وَلَا أَجمعُوا عَلَيْهِ.
وتعريفه بِهَذَا الِاصْطِلَاح: إِقَامَة دَلِيل لَيْسَ بِنَصّ، وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قِيَاس.
أَي: شَرْعِي بِالْمَعْنَى الْخَاص الْمُتَقَدّم، فَإِن الْقيَاس الاقتراني والاستثنائي داخلان فِي هَذَا التَّعْرِيف كَمَا سَيَأْتِي، وَتقدم.(8/3739)
وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّعْرِيف إفصاح عَن كل مَا دخل فِيهِ، وَإِنَّمَا ذكر ذَلِك إِجْمَالا، ويتبين الْأَمر فِيهِ بالتفصيل فَيدْخل فِي ذَلِك أُمُور:
أَحدهَا: الْقيَاس الاقتراني، وَهُوَ قِيَاس مؤلف من قضيتين مَتى سلمتا لزم عَنْهُمَا لذاتهما قَول آخر، أَي: قَضِيَّة أُخْرَى نتيجة لَهما، كَقَوْلِنَا: الْعَالم متغير، وكل متغير حَادث، فَيلْزم مِنْهُ أَن الْعَالم حَادث، وكما يُقَال: هَذَا حكم دلّ عَلَيْهِ الْقيَاس، وكل مَا دلّ عَلَيْهِ الْقيَاس فَهُوَ حكم شَرْعِي، فَهَذَا حكم شَرْعِي، وكما يُقَال: مَا ذكرته معَارض بِالْإِجْمَاع، وكل معَارض بِالْإِجْمَاع بَاطِل، فَمَا ذكرته بَاطِل، وَقس على ذَلِك.
الثَّانِي: الْقيَاس الاستثنائي يكون فِي الشرطيات، وَهُوَ مَا يذكر فِيهِ النتيجة أَو نقيضها.
فَفِي المتصلات كَمَا يُقَال: إِن كَانَ هَذَا إنْسَانا فَهُوَ حَيَوَان، لكنه لَيْسَ بحيوان ينْتج أَنه لَيْسَ بِإِنْسَان، أَو أَنه إِنْسَان ينْتج أَنه حَيَوَان، فاستثناء عين الأول ينْتج عين الثَّانِي، واستثناء نقيض الثَّانِي ينْتج نقيض الْمُقدم، وَعين الثَّانِي لَا ينْتج عين الأول لاحْتِمَال كَونه عَاما، وَلَا يلْزم من إِثْبَات الْعَام(8/3740)
إِثْبَات الْخَاص كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، فَإِن الْحَيَوَان لَا يسْتَلْزم وجود الْإِنْسَان، وَكَذَا نقيض الْإِنْسَان لَا يسْتَلْزم نقيض الْحَيَوَان لوُجُوده فِي الْفرس.
وَفِي المنفصلات: الْعدَد إِمَّا زوج أَو فَرد، لكنه زوج ينْتج أَنه لَيْسَ بفرد، أَو فَرد ينْتج أَنه لَيْسَ بِزَوْج.
مِثَاله فِي الشرعيات: الضَّب إِمَّا حَلَال أَو حرَام، لكنه حَلَال؛ لِأَنَّهُ " أكل على مائدته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، فَلَيْسَ بِحرَام.
مِثَال آخر: صيد الْمحرم إِمَّا حَلَال أَو حرَام، لكنه حرَام؛ لِأَنَّهُ نهي عَنهُ فَلَيْسَ بحلال.
وَقد تقدم بَيَان ذَلِك فِي أَوَائِل الشَّرْح فَليُرَاجع، وَلِهَذَا تفاريع كَثِيرَة لَيست مَقْصُودَة تركناها خوف الإطالة.(8/3741)
الثَّالِث: الْعَكْس: وَهُوَ مَا يسْتَدلّ بِهِ على نقيض الْمَطْلُوب، ثمَّ يبطل فَيصح الْمَطْلُوب كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} [النِّسَاء: 82] ، فَإِنَّهُ اسْتدلَّ على حَقِيقَة القرين بِإِبْطَال نقيضه، وَهُوَ وجدان الِاخْتِلَاف فِيهِ فَتَأمل.
قلت: قد تقدم قِيَاس الْعَكْس فِي أول الْقيَاس وَحده فليعاود.
قَالَ الْمحلي: يدْخل فِيهِ قِيَاس الْعَكْس، وَهُوَ إِثْبَات عكس حكم شَيْء لمثله، لتعاكسهما فِي الْعلَّة كَمَا تقدم حَدِيث مُسلم: " أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَله فِيهَا أجر؟ قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أَكَانَ عَلَيْهِ وزر؟ " انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: وَلَا قِيَاس عِلّة، فعلى هَذَا القَوْل دخل نفي الْفَارِق، وَقِيَاس الدّلَالَة} .
فَيكون نظم الْحَد: إِقَامَة دَلِيل لَيْسَ بِنَصّ، وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قِيَاس عِلّة، فَيدْخل فِيهِ الْقيَاس بِنَفْي الْفَارِق، وَهُوَ الْقيَاس فِي معنى الأَصْل.
مثل: أَن نقيس الْخَالَة على الْخَال لعدم الْفَارِق بَينهمَا لَا لوُجُود عِلّة، وَيدخل فِيهِ - أَيْضا - قِيَاس الدّلَالَة، وَهُوَ قِيَاس التلازم، ونعني بِهِ إِثْبَات أحد موجبي الْعلَّة بِالْآخرِ لتلازمهما، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ قِيَاس الدّلَالَة، وهما غير داخلين فِي الْحَد الأول، فَالْأول أخص.(8/3742)
قَوْله: {أما نَحْو: وجد السَّبَب فَثَبت الحكم، وَوجد الْمَانِع أَو فَاتَ الشَّرْط فَانْتفى الحكم، فالأكثر على أَنه دَعْوَى دَلِيل، وَابْن حمدَان: دَلِيل واستدلال - أَيْضا -، وَقيل: إِن أثبت بِغَيْر الثَّلَاثَة} .
إِذا اقْتصر على إِحْدَى المقدمتين، اعْتِمَادًا على شهرة الْأُخْرَى، كَقَوْلِنَا: وجد الْمُقْتَضِي، أَي: السَّبَب فيوجد الحكم، أَو وجد الْمَانِع فَيَنْتَفِي الحكم، أَو فقد الشَّرْط فَيَنْتَفِي - أَيْضا -، فَإِنَّهُ ينْتج مَعَ مُقَدّمَة أُخْرَى مقدرَة، وَهِي قَوْلنَا: وكل سَبَب إِذا وجد وجد الحكم، فَلم تذكر لظهورها، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] ، فَإِن حُصُول النتيجة مِنْهُ يتَوَقَّف على مُقَدّمَة أُخْرَى ظَاهِرَة وَهِي: وَمَا فسدتا.
وَقد اخْتلف فِي هَذَا: فالأكثر على أَنه لَيْسَ بِدَلِيل، وَإِنَّمَا قطع دَعْوَى دَلِيل، فَإنَّا إِذا قُلْنَا: وجد الْمُقْتَضِي، مَعْنَاهُ الدَّلِيل، وَلم يقم على وجوده دَلِيل.(8/3743)
وَاخْتَارَ [ابْن حمدَان] وَغَيره: أَنه دَلِيل فَإِنَّهُ يلْزم من ثُبُوته ثُبُوت الْمَطْلُوب.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِهَذَا القَوْل، وَهُوَ أَنه دَلِيل.
فَقَالَ ابْن حمدَان وَغَيره: هُوَ اسْتِدْلَال لدُخُوله فِي تَعْرِيف الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَصّ، وَلَا إِجْمَاع، وَلَا قِيَاس، فالحد منطبق عَلَيْهِ.
وَقيل: اسْتِدْلَال إِن ثَبت وجود السَّبَب أَو الْمَانِع، أَو فقد الشَّرْط، يَعْنِي النَّص، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَإِلَّا فَهُوَ من قبيل مَا ثَبت بِهِ.
قَالَ الكوراني: " هَذَا مُخْتَار الْمُحَقِّقين؛ لِأَنَّهُ يَقُول: هَذَا حكم وجد سَببه، وكل مَا وجد سَببه فَهُوَ مَوْجُود، فكبرى الْقيَاس، وَهُوَ قَوْلنَا: كل مَا وجد سَببه فَهُوَ مَوْجُود قَطْعِيَّة لَا يُخَالف فِيهَا أحد " وَأطَال.(8/3744)
قَوْله: {وَقيل: هُوَ الْقيَاس الاقتراني، والاستثنائي، وَنفي الحكم لنفي مدركه، وَوُجُود الْمَانِع، أَو فَوَات الشَّرْط، أَو ثَبت الحكم لوُجُود السَّبَب. اخْتَارَهُ ابْن حمدَان، وَغَيره، وَالْفَخْر، وَزَاد: التلازم بَين حكمين بِلَا تعْيين عِلّة، والاستصحاب، وَقَول الْقَائِل: لَا فَارق بَين مَحل النزاع وَالْإِجْمَاع إِلَّا هَذَا، وَلَا أثر لَهُ، وَالْأَصْل فِي الْمَنَافِع الْإِذْن، وَفِي المضار الْمَنْع شرعا لَا عقلا} .
هَذَانِ قَولَانِ - أَيْضا - فِي الِاسْتِدْلَال مَا هُوَ، وَقد تقدم الْقيَاس الاقتراني والاستثنائي فَذكر فِي هذَيْن الْقَوْلَيْنِ أَن: الِاسْتِدْلَال هُوَ الْقيَاس بنوعيه، وَمِنْه نفي الحكم لنفي مدركه.
وَتَقْرِيره: أَن الحكم الشَّرْعِيّ لَا يُمكن ثُبُوته من غير دَلِيل، إِذْ لَو ثَبت من غير دَلِيل لزم الْمحَال، وَهُوَ وُقُوع تَكْلِيف [مَا لَا يُطَاق] ، لِأَن ذَلِك الحكم لَا بُد وَأَن يكون مُتَعَلقا بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، وَقد فرض أَنه لَا دَلِيل لَهُ يعرفهُ، وَلَا معنى للمحال إِلَّا مَا لَا يُمكن تعلق قدرَة العَبْد بِهِ عَادَة، وَلَو كَانَ لَهُ دَلِيل لَكَانَ إِمَّا نصا أَو إِجْمَاعًا أَو قِيَاسا، وَقد سبرنا فَلم نجد من ذَلِك شَيْئا، أَولا يتَعَرَّض للسبر بل يَقُول: شَيْء من النَّص، وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس غير مَوْجُود، إِذْ الأَصْل الْعَدَم، وَالْأَصْل بَقَاء مَا كَانَ، وَهَذَا النَّفْي حكم شَرْعِي؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَاد دَلِيل شَرْعِي هُوَ انْتِفَاء سَبَب الحكم الَّذِي علم من الدَّلِيل ضَرُورَة حَيْثُ لَا دَلِيل، لَا حكم، لما قدمنَا من لُزُوم الْمحَال.
وَمن أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال على هَذَا القَوْل قَوْلنَا: وجد الْمَانِع، أَو فَاتَ(8/3745)
الشَّرْط، وانتفى الحكم، كَمَا تقدم، أَو ثَبت الحكم لوُجُود السَّبَب، وَقد تقدم - أَيْضا - ذَلِك قَرِيبا.
وَهَذَا القَوْل اخْتَارَهُ ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَغَيره.
وَاخْتَارَهُ الْفَخر أَبُو مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ، وَزَاد: التلازم بَين حكمين بِلَا تعْيين عِلّة، والاستصحاب، كَمَا يَأْتِي شرح ذَلِك، وَقَول الْقَائِل: لَا فَارق بَين مَحل النزاع وَالْإِجْمَاع إِلَّا هَذَا، وَلَا أثر لَهُ، وَالْأَصْل فِي الْمَنَافِع الْإِذْن، وَفِي المضار الْمَنْع شرعا لَا عقلا.
نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، فأسقط شرع من قبلنَا هَل هُوَ شرع لنا، وَزَاد قَوْله: لَا فَارق.
وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب: أَن الِاسْتِدْلَال هُنَا هُوَ التلازم بَين حكمين بِلَا تعْيين عِلّة، والاستصحاب، وَشرع من قبلنَا، فَاخْتَارَ أَنه هَذِه الثَّلَاثَة.
قد تقدم اخْتلَافهمْ فِي أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال، وَقَول ابْن الْحَاجِب إِنَّهَا هَذِه الثَّلَاثَة، وَسَيَأْتِي قَول الْحَنَفِيَّة [فِي] الِاسْتِحْسَان، والمالكية فِي الْمصَالح الْمُرْسلَة، وَالِاخْتِلَاف فِي شرع من قبلنَا، وَغير ذَلِك.
قَوْله: {الأول} .
أَي: من الْأَنْوَاع الِاسْتِدْلَال على قَول من يَقُول ذَلِك.(8/3746)
{تلازم بَين ثبوتين: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره، أَو عَكسه، لَو صَحَّ وضوء بِلَا نِيَّة صَحَّ تيَمّم.
أَو ثُبُوت وَنفي: مَا يكون مُبَاحا لَا يكون حَرَامًا، أَو عَكسه: مَا لَا يكون جَائِزا يكون حَرَامًا} .
الْكَلَام فِي التلازم وَهُوَ أَرْبَعَة أَقسَام، لِأَن التلازم إِنَّمَا يكون بَين حكمين، وَالْحكم إِمَّا إِثْبَات أَو نفي، وَيحصل بِحَسب التَّرْكِيب أَقسَام أَرْبَعَة: بَين ثبوتين، أَو بَين نفيين، أَو بَين ثُبُوت وَنفي، أَو بَين نفي وَثُبُوت، وَقد مثل لذَلِك من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة:
فَالْأول تلازم بَين ثبوتين، كَقَوْلِهِم: من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره، وَهَذَا يثبت بالطرد، وَهُوَ أَنا تتبعنا فَوَجَدنَا كل شخص يَصح طَلَاقه يَصح ظِهَاره، ويقوى بِالْعَكْسِ وَإِن لم يكن دَلِيلا مُسْتقِلّا، فَهُوَ مقو للدليل، وَهُوَ أَنا تتبعنا فَوَجَدنَا كل شخص لَا يَصح طَلَاقه لَا يَصح ظِهَاره وَحَاصِله التَّمْثِيل بالدوران، وَلَكِن على أَن الْعَدَم لَيْسَ جَزَاء لما تقدم، ويقرر التلازم بِأَن الصحتين أثران لمؤثر، فَيلْزم من ثُبُوت أَحدهمَا ثُبُوت الآخر، للُزُوم ثُبُوت الْمُؤثر لثُبُوت أَحدهمَا.
ويقرر - أَيْضا - بِأَن يُقَال: ثَبت الْمُؤثر فِي صِحَة الطَّلَاق فَثَبت الآخر؛ لِأَنَّهُمَا أثراه، وَلَا يعين الْمُؤثر، فَيكون انتقالا إِلَى قِيَاس الْعلَّة.
وَالثَّانِي: عَكسه، وَهُوَ التلازم بَين نفيين كَقَوْلِهِم: لَو صَحَّ الْوضُوء بِلَا نِيَّة صَحَّ التَّيَمُّم؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّة قَوْلك: لَو لم تشْتَرط النِّيَّة فِي الْوضُوء لم تشْتَرط فِي التَّيَمُّم، وتساهل فِيهِ إِذْ لَا عبره بِالْعبَادَة، وَهَذَا - أَيْضا - يثبت(8/3747)
بالطرد، ويقوى بِالْعَكْسِ كَمَا مر، ويقرر بِوَجْه آخر وَهُوَ أَن يُقَال: انْتَفَى أحد الأثرين فَيلْزم انْتِفَاء الآخر للُزُوم انْتِفَاء الْمُؤثر، أَو يُقَال: قد انْتَفَى أحد الأثرين فَيَنْتَفِي الْمُؤثر، فَيَنْتَفِي أَثَره الآخر، وللفرض أَن الثَّوَاب وَاشْتِرَاط النِّيَّة أثران لِلْعِبَادَةِ.
وَالثَّالِث تلازم بَين ثُبُوت وَنفي: [مَا يكون] مُبَاحا لَا يكون حَرَامًا.
وَالرَّابِع: عَكسه، وَهُوَ تلازم بَين نفي وَثُبُوت: مَا لَا يكون جَائِزا يكون حَرَامًا.
وَهَذَا القسمان يقرران بِثُبُوت التَّنَافِي بَينهمَا أَو بَين لوازمهما؛ لِأَن تنَافِي اللوازم يدل على تنَافِي الملزومات.
إِذا علم ذَلِك فَجَمِيع أَقسَام التلازم يرد عَلَيْهِ منع الْأَمريْنِ، وهما تحقق الْمَلْزُوم من نفي أَو إِثْبَات، وَتحقّق الْمُلَازمَة، وَيرد من الأسئلة الْخَمْسَة وَالْعِشْرين الْوَارِدَة على الْقيَاس جَمِيعهَا، مَا عدا الأسئلة الْمُتَعَلّقَة بِنَفس الْوَصْف الْجَامِع؛ لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ وصف جَامع، وَيخْتَص بسؤال لَا يرد على الْقيَاس، وَقد مثل الْعَضُد لذَلِك مِثَالا.(8/3748)
قَوْله: {والمتلازمان طردا وعكسا: كالجسم والتأليف يلْزم من وجود كل [مِنْهُمَا] وجود الآخر، وَمن نَفْيه نَفْيه، إِلَى آخِره} .
تقدم أَن التلازم أَرْبَعَة أَقسَام:
بَين ثبوتين، أَو نفيين، أَو ثُبُوت وَنفي، أَو عَكسه.
(وَمحل الحكم إِن لم يكن المحلان متلازمين، وَلَا متنافيين وهما الْعَام وَالْخَاص من وَجه: كالأسود وَالْمُسَافر، لم يجز فِيهِ شَيْئا مِنْهَا، فَلَا يَصح إِن كَانَ مُسَافِرًا فَهُوَ أسود وَلَا إِن لم يكن أسود فَلَيْسَ مُسَافِرًا، وَلَا إِن كَانَ أسود فَلَيْسَ مُسَافِرًا، وَلَا إِن لم يكن أسود فَهُوَ مُسَافر، وَإِنَّمَا يجْرِي فِيمَا فِيهِ تلازم أَو تناف.(8/3749)
إِذا علم ذَلِك فالتلازم إِمَّا أَن يكون طردا أَو عكسا [أَي: من الطَّرفَيْنِ، أَو طردا لَا عكسا، أَي: من طرف وَاحِد، والتنافي لَا بُد أَن يكون من الطَّرفَيْنِ، لكنه إِمَّا أَن يكون طردا وعكسا] .
أَي: إِثْبَاتًا ونفيا، وَإِمَّا طردا فَقَط، أَي: إِثْبَاتًا، وَإِمَّا عكسا فَقَط، أَي: نفيا، فَهَذِهِ خَمْسَة أَقسَام فَلْينْظر مَاذَا يجْرِي فِيهَا من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة.
الأول من الْأَقْسَام الْخَمْسَة، أَي: مَا يصدق فِيهَا المتلازمان طردا أَو عكسا وَهُوَ: كالجسم والتأليف، إِذْ كل جسم مؤلف، وكل مؤلف جسم وَهَذَا يجْرِي فِيهِ الْأَوَّلَانِ، أَي: التلازم بَين الثبوتين وَبَين النفيين كِلَاهُمَا طردا وعكسا، فَيصدق كل مَا كَانَ جسما كَانَ مؤلفا، وكل مَا كَانَ مؤلفا كَانَ جسما، وكل مَا لم يكن جسما لم يكن مؤلفا، وكل مَا لم يكن مؤلفا لم يكن جسما.
الثَّانِي: المتلازمان طردا فَقَط كالجسم والحدوث، إِذْ كل جسم حَادث، وَلَا ينعكس فِي الْجَوْهَر الْفَرد وَالْعرض، فهذان يجْرِي فيهمَا الأول، أَي: التلازم بَين ثبوتين طردا، فَيصدق كل مَا كَانَ جسما كَانَ حَادِثا لَا عكسا، وَلَا يصدق كل مَا كَانَ حَادِثا كَانَ جسما، ويجرى فيهمَا الثَّانِي، أَي: التلازم بَين النفيين عكسا، فَيصدق كل مَا لم يكن حَادِثا لم يكن جسما، لَا طردا، فَلَا يصدق كل مَا لم يكن جسما لم يكن حَادِثا.
الثَّالِث: المتنافيان طردا وعكسا: كالحدوث وَوُجُوب الْبَقَاء، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي ذَات فَيكون وَاجِب الْبَقَاء، وَلَا يرتفعان فَيكون قَدِيما غير(8/3750)
وَاجِب الْبَقَاء، فهذان يجْرِي فيهمَا الأخيران، أَي: تلازم الثُّبُوت وَالنَّفْي، وَالنَّفْي والثبوت طردا وعكسا، أَي: من الطَّرفَيْنِ فَيصدق لَو كَانَ حَادِثا لم يجب بَقَاؤُهُ، وَلَو وَجب بَقَاؤُهُ لم يكن حَادِثا، وَلَو لم يكن حَادِثا فَلَيْسَ لَا يجب بَقَاؤُهُ، وَلَو لم يجب بَقَاؤُهُ فَلَيْسَ بحادث.
الرَّابِع: المتنافيان طردا لَا عكسا، أَي: إِثْبَاتًا لَا نفيا، كالتأليف والقدم إِذْ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا يُوجد شَيْء [هُوَ] مؤلف وقديم، لكنهما قد يرتفعان كالجزء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ، وَهَذَانِ يجْرِي فيهمَا الثَّالِث: أَي: تلازم الثُّبُوت وَالنَّفْي طردا وعكسا، أَي: من الْجَانِبَيْنِ، فَيصدق: كل مَا كَانَ جسما لم يكن قَدِيما، وكل مَا كَانَ قَدِيما لم يكن جسما، لَا الرَّابِع، أَي: تلازم النَّفْي وَالْإِثْبَات من شَيْء من الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يصدق: كل مَا لم يكن جسما كَانَ قَدِيما، أَو كل مَا لم يكن قَدِيما كَانَ جسما.
الْخَامِس: المتنافيان عكسا، أَي: نفيا، كالأساس والخلل، فَإِنَّهُمَا لَا يرتفعان، فَلَا يُوجد مَا لَيْسَ لَهُ أساس وَلَا يخْتل، فقد يَجْتَمِعَانِ، وكل ذِي أساس يخْتل بِوَجْه آخر، وَهَذَانِ يجْرِي فيهمَا الرَّابِع، أَي: تلازم النَّفْي والثبوت طردا وعكسا، فَيصدق كل مَا لم يكن لَهُ أساس فَهُوَ مختل، وكل مَا لم يكن مختلا فَلهُ أساس، وَلَا يجْرِي فيهمَا الثَّالِث، فَلَا يصدق كل مَا كَانَ لَهُ أساس فَلَيْسَ بمختل، أَو كَانَ مَا كَانَ مختلا فَلَيْسَ لَهُ أساس ".(8/3751)
وَقد شرح ذَلِك شرَّاح " مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب "، وَغَيرهم.
وتابعنا فِيهِ القَاضِي عضد الدّين لتحقيقه.(8/3752)
(قَوْله: {فصل} )
{الِاسْتِصْحَاب: التَّمَسُّك بِدَلِيل عَقْلِي أَو شَرْعِي، لم يظْهر عَنهُ ناقل مُطلقًا} .
من [الْمُخْتَلف] فِي كَونه دَلِيلا مغايرا لِلْأُصُولِ الْمُتَقَدّمَة: الِاسْتِصْحَاب.(8/3753)
وَحَقِيقَة اسْتِصْحَاب الْحَال: التَّمَسُّك بِدَلِيل عَقْلِي تَارَة يكون بِحكم دَلِيل الْعقل: كاستصحاب حَال الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، فَإِن الْعقل دَلِيل براءتها، وَعدم توجه الحكم إِلَى الْمُكَلف.
وَتارَة يكون الِاسْتِصْحَاب بِحكم الدَّلِيل الشَّرْعِيّ: كاستصحاب حكم الْعُمُوم وَالْإِجْمَاع، إِلَى أَن يظْهر دَلِيل ناقل عَن حكم الدَّلِيل المستصحب، فَيجب الْمصير إِلَيْهِ: كالبينة الدَّالَّة على شغل الذِّمَّة، وَتَخْصِيص الْعُمُوم، وَنَحْو ذَلِك، وَالْمعْنَى إِذا كَانَ حكما مَوْجُودا، وَهُوَ مُحْتَمل أَن يتَغَيَّر، فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ، وَنفي مَا يُغَيِّرهُ.
وَمِنْه اسْتِصْحَاب الْعَدَم الْأَصْلِيّ، وَهُوَ الَّذِي عرف بِالْعقلِ انتفاؤه، وَأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ بَاقٍ على حَاله: كالأصل عدم وجوب صَلَاة سادسة، وَصَوْم شهر غير رَمَضَان، فَلَمَّا لم يرد السّمع بذلك حكم الْعقل بانتفائه لعدم الْمُثبت لَهُ.(8/3754)
وَمِنْه اسْتِصْحَاب حكم دلّ الشَّرْع على ثُبُوته ودوامه لوُجُود سَببه: كالملك عِنْد حُصُول السَّبَب، وشغل الذِّمَّة عَن قرض أَو إِتْلَاف، فَهَذَا وَإِن لم يكن حكما أَصْلِيًّا فَهُوَ حكم دلّ الشَّرْع على ثُبُوته ودوامه جَمِيعًا، وَلَوْلَا أَن الشَّرْع دلّ على دَوَامه إِلَى أَن يُوجد السَّبَب المزيل والمبريء لما زَالَ استصحابه.
قَوْله: {وَهُوَ دَلِيل عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْأَكْثَر، خلافًا لأبي الْخطاب، وَجمع، وَحكي عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة، وعنهم حجَّة فِي الدّفع دون الرّفْع} .(8/3755)
ذهب أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة قاطبة، وَأكْثر الْعلمَاء.
وَذكره القَاضِي أَبُو يعلى إِجْمَاعًا.
وَكَذَا أَبُو الطّيب الشَّافِعِي، قَالَ: وَقد ذكره الْحَنَفِيَّة.(8/3756)
وَذكره السَّرخسِيّ مِنْهُم، وَقَالَ: عدم الدَّلِيل دَلِيل.
ثمَّ ذكر عَن بعض الْفُقَهَاء بُطْلَانه.
وَذكر الْآمِدِيّ بُطْلَانه عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين(8/3757)
كَأبي الْحُسَيْن، وَعَزاهُ أَيْضا الإِمَام للحنفية.
وَكَذَا ذكره أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة الْقيَاس أَنه لَيْسَ دَلِيلا، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا.
فعلى هَذَا ذهب بعض الْعلمَاء: أَنه يجوز التَّرْجِيح بِهِ.
وَعَن الْحَنَفِيَّة: أَنه حجَّة فِي الدّفع، أَي: فِي بَقَاء مَا كَانَ، وَأما فِي رفع بِإِثْبَات شَيْء رَافع لشَيْء يستدام حكم ذَلِك الرافع فَلَيْسَ بِحجَّة، وَهَذَا كالمفقود لَا يُورث لبَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ وَهُوَ حَيَاته، وَلَا يَرث؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالِكًا لمَال مُوَرِثه حَتَّى [يستصحب] ملكه قبل.(8/3758)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا القَوْل حسن، وَخرج عَلَيْهِ فرعا فِي مَذْهَبهم.
قَوْله: {وَقيل: يشْتَرط أَن لَا يُعَارضهُ ظَاهر، وَقيل: ظَاهر غَالب} .
قلت: لنا مسَائِل كَثِيرَة يقدم فِيهَا الظَّاهِر على الأَصْل، ومسائل فِيهَا خلاف، إِطْلَاق الِاحْتِجَاج بالاستصحاب شَامِل لمعارضة ظَاهر أَو لَا، وَلَكِن يرد علينا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات مسَائِل كَثِيرَة فِيمَا تعَارض فِي الأَصْل وَالظَّاهِر: كطين الشوارع، وَثيَاب مدمني الْخمر، وأواني الْكفَّار المتلبسين بِالنَّجَاسَةِ، وَثيَاب القصابين، وأفواه الصغار، وَغير ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي لَا تكَاد تحصى.
وَقد ذكر الْعَلامَة ابْن رَجَب فِي " قَوَاعِده ": فِيمَا يغلب الأَصْل على الظَّاهِر، وَفِيمَا يغلب الظَّاهِر على الأَصْل ومسائل كَثِيرَة مترددة بَينهمَا(8/3759)
وَالتَّرْجِيح مُخْتَلف فليعاود، فَإِنَّهُ فِي أَوَاخِر الْقَوَاعِد.(8/3760)
لَكِن إِذا قدمنَا الظَّاهِر على الأَصْل لَيْسَ تَقْدِيمه من حَيْثُ الِاسْتِصْحَاب، بل لمرجح من خَارج يَنْضَم إِلَى ذَلِك، وَقد صحّح الشَّافِعِيَّة الْأَخْذ بِالْأَصْلِ دَائِما.
وَقيل: غَالِبا.
قَالُوا: لِأَن الأَصْل أصدق وأضبط من الْغَالِب الَّذِي يخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمَان وَالْأَحْوَال.(8/3761)