هَاهُنَا مَا نقل بَين الدفتين، وَمَا لم ينْقل: كالمنسوخ وتلاوته، وَمَا نقل وَلم يتواتر نَحْو: (ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) ، أردنَا تَخْصِيص الِاسْم بالقسم الأول دون الْأَخيرينِ، ليعلم أَن ذَلِك هُوَ الدَّلِيل، وَعَلِيهِ الْأَحْكَام من منع التِّلَاوَة، والمس مُحدثا، وَإِلَّا فَهُوَ اسْم علم شخصي، والتعريف لَا يكون إِلَّا للحقائق الْكُلية قد نبهنا على أَن ضَابِط مَعْرفَته: التَّوَاتُر [من] متون الصُّحُف وصدور الْحفاظ، دون التَّحْدِيد والتعريف، وَهُوَ الْحق) . انْتهى. فنفى الدّور الَّذِي ذَكرُوهُ.
قَوْله: {وَالْكَلَام عِنْد الأشعرية: مُشْتَرك بَين [الْحُرُوف] المسموعة وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ، وَهُوَ: نِسْبَة بَين مفردين قَائِمَة بالمتكلم، وَعند [الإِمَام] أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم: لَا اشْتِرَاك.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: [وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وأئمة الحَدِيث] : (لم يزل الله متكلما، [كَيفَ شَاءَ، وَإِذا شَاءَ] ، بِلَا كَيفَ) .
قَالَ القَاضِي: (إِذا [أَرَادَ] أَن يسمعنا) .(3/1246)
وَقَالَ [الإِمَام] أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل [الله] يَأْمر بِمَا يَشَاء وَيحكم) .} كَمَا تقدم.
هَذِه الْمَسْأَلَة من أعظم مسَائِل أصُول الدّين، وَهِي مَسْأَلَة طَوِيلَة الذيل، حَتَّى قيل: إِنَّه لم يسم علم الْكَلَام إِلَّا لأَجلهَا، وَلذَلِك اخْتلف فِيهَا أَئِمَّة الْإِسْلَام المعتبرين والمقتدى بهم اخْتِلَافا كثيرا متباينا، وَنحن نذْكر - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - أَقْوَالهم، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَنَذْكُر دلائلهم ومآخذهم، ونستوعب الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا، فَإِن غَالب المصنفين لم يستوعبها، وَرُبمَا لم يكن اطلع على بعض مَا يَأْتِي، وَإِن حصل منا بعض تكْرَار فِي نقل المقالات وأقوال الْعلمَاء، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من فَائِدَة، و - أَيْضا - الْقَصْد الْإِتْيَان بِمَا قَالَه النَّاقِل، وَإِن تكَرر بعضه مَعَ غَيره.
فَنَقُول - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد، وَبِه الْعِصْمَة -: قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب وَأَتْبَاعه، مِنْهُم: الشَّيْخ الإِمَام(3/1247)
أَبُو الْحسن عَليّ بن إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه، وَأَتْبَاعه: الْكَلَام مُشْتَرك بَين الْأَلْفَاظ المسموعة وَبَين الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مُشْتَركا.
أما اسْتِعْمَاله فِي الْعبارَة فكثير كَقَوْلِه تَعَالَى: {حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، {يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه} [الْبَقَرَة: 75] .
وَيُقَال: سَمِعت كَلَام فلَان وفصاحته، يَعْنِي: أَلْفَاظه الفصيحة.
وَأما اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى النَّفْسِيّ، وَهُوَ مَدْلُول الْعبارَة، فكقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 8] ، (وأسروا قَوْلكُم أَو(3/1248)
اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، وَقَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي يَوْم السَّقِيفَة: (زورت فِي نَفسِي كلَاما) ، وَقَول الشَّاعِر:
(إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد وَإِنَّمَا ... جعل اللِّسَان على الْفُؤَاد دَلِيلا)
وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) .
وَذكر الْغَزالِيّ: (أَن قوما جعلُوا الْكَلَام حَقِيقَة فِي الْمَعْنى، مجَازًا فِي الْعبارَة، وقوما عكسوا، وقوما قَالُوا بالاشتراك، فَهِيَ ثَلَاثَة أَقْوَال، ونقلت عَن الْأَشْعَرِيّ) .(3/1249)
وَقَوْلنَا: (نِسْبَة بَين مفردين) ، نعني بِالنِّسْبَةِ بَين المفردين - أَي: بَين الْمَعْنيين المفردين -: تعلق أَحدهمَا بِالْآخرِ، أَو إِضَافَته إِلَيْهِ، على جِهَة الْإِسْنَاد الإفادي، أَي: بِحَيْثُ إِذا عبر عَن تِلْكَ النِّسْبَة بِلَفْظ يطابقها وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا، كَانَ ذَلِك اللَّفْظ إِسْنَادًا إفاديا.
وَمعنى قيام النِّسْبَة بالمتكلم مَا قَالَ الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ: أَن الشَّخْص إِذا قَالَ لغيره: [اسْقِنِي] مَاء، فَقبل أَن يتَلَفَّظ بِهَذِهِ الصِّيغَة قَامَ بِنَفسِهِ تصور حَقِيقَة السَّقْي، وَحَقِيقَة المَاء، وَالنِّسْبَة الطلبية بَينهمَا، فَهَذَا هُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَصِيغَة قَوْله: [اسْقِنِي] مَاء، عبارَة عَنهُ وَدَلِيل عَنهُ) .
وَقَالَ الْقَرَافِيّ: (كل عَاقل يجد فِي نَفسه الْأَمر وَالنَّهْي، وَالْخَبَر عَن كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ، وَعَن حُدُوث الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ غير مُخْتَلف فِيهِ، ثمَّ يعبر عَنهُ بعبارات ولغات مُخْتَلفَة، فالمختلف هُوَ الْكَلَام اللساني، وَغير الْمُخْتَلف [هُوَ] الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله تَعَالَى،(3/1250)
وَيُسمى ذَلِك الْعلم الْخَاص: سمعا؛ لِأَن إِدْرَاك الْحَواس إِنَّمَا هِيَ عُلُوم خَاصَّة أخص من مُطلق الْعلم، فَكل إحساس علم، وَلَيْسَ كل علم إحساسا، وَإِذا وجد هَذَا الْعلم الْخَاص فِي نفس مُوسَى، الْمُتَعَلّق بالْكلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِذَات الله، سمي باسمه الْمَوْضُوع لَهُ فِي اللُّغَة، وَهُوَ السماع) . انْتهى.
هَذَا [حَقِيقَة] مَذْهَبهم، لَكِن الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود عندنَا: حِكَايَة كَلَام الله.
وَابْن كلاب وَأَتْبَاعه قَالُوا: الْقُرْآن الْمَوْجُود بَين النَّاس: عبارَة عَن كَلَام الله لَا عينه.
قَالَ ابْن حجر: (وَرَأَيْت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عكس عَنْهُمَا، فَجعل الْعبارَة عَن الْأَشْعَرِيّ، والحكاية عَن ابْن كلاب) .
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: (كَلَام الله الْقَائِم بِذَاتِهِ يسمع عِنْد تِلَاوَة كل تال وَقِرَاءَة كل قاريء) .
وَقَالَ الباقلاني: (إِنَّمَا يسمع التِّلَاوَة دون المتلو، وَالْقِرَاءَة دون المقروء) .(3/1251)
وَذهب الإِمَام أَحْمد - إِمَام أهل السّنة على الْإِطْلَاق من غير مدافعة - وَأَصْحَابه، وَإِمَام أهل الحَدِيث - بِلَا شكّ - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ،(3/1252)
فارغة(3/1253)
وَجُمْهُور الْعلمَاء، - قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر، وَابْن قَاضِي الْجَبَل: (إِن الْكَلَام لَيْسَ مُشْتَركا بَين الْعبارَة ومدلولها، بل الْكَلَام هُوَ الْحُرُوف المسموعة من الصَّوْت) .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (الْمَعْرُوف عِنْد أهل السّنة والْحَدِيث: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهُوَ قَول جَمَاهِير فرق الْأمة، فَإِن جَمَاهِير الطوائف يَقُولُونَ: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، مَعَ تنازعهم فِي أَن كَلَامه هَل هُوَ مَخْلُوق أَو قَائِم بِنَفسِهِ؟ قديم أَو حَادث أَو مازال يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ فَإِنَّهُ قَول الْمُعْتَزلَة، والكرامية، والشيعة، وَأكْثر المرجئة، والسالمية، وَغير هَؤُلَاءِ من الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنبلية، والصوفية، وَلَيْسَ من طوائف الْمُسلمين من أنكر: أَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت إِلَّا ابْن كلاب وَمن اتبعهُ، كَمَا أَن(3/1254)
لَيْسَ فِي طوائف الْمُسلمين من قَالَ: إِن الْكَلَام معنى وَاحِد قَائِم بالمتكلم، إِلَّا هُوَ وَمن اتبعهُ) انْتهى.
إِذا علم ذَلِك؛ فَعِنْدَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره من أهل السّنة: أَن حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَاز فِي مدلولها، وَقد نَص الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهمَا: على أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَقَالُوا: هَذِه الْأَحَادِيث تمر كَمَا جَاءَت، على مَا يَأْتِي، من صَرِيح نصوصهم فِي ذَلِك.
قَالَ الطوفي: (إِنَّمَا كَانَ حَقِيقَة فِي الْعبارَة مجَازًا فِي مدلولها لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن [الْمُتَبَادر] إِلَى فهم أهل اللُّغَة من إِطْلَاق الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، والمبادرة دَلِيل الْحَقِيقَة.(3/1255)
الثَّانِي: أَن الْكَلَام مُشْتَقّ من الْكَلم، لتأثيره فِي نفس السَّامع، والمؤثر فِي نفس السَّامع إِنَّمَا هُوَ الْعبارَات، لَا الْمعَانِي النفسية بِالْفِعْلِ، نعم هِيَ مُؤثرَة للفائدة بِالْقُوَّةِ والعبارة مُؤثرَة بِالْفِعْلِ، فَكَانَت أولى بِأَن تكون حَقِيقَة، وَمَا يكون مؤثرا بِالْقُوَّةِ مجَازًا.
قَوْلهم: اسْتعْمل لُغَة وَعرفا فيهمَا.
قُلْنَا: نعم لَكِن بالاشتراك، أَو بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا ذَكرْنَاهُ، وَالْمجَاز فِيمَا ذكرتموه، وَالْأول مَمْنُوع.
قَوْلهم: الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
قُلْنَا: وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك، ثمَّ قد تعَارض الْمجَاز والاشتراك الْمُجَرّد، وَالْمجَاز أولى، ثمَّ إِن لفظ الْكَلَام أَكثر مَا اسْتعْمل فِي الْعبارَات، وَكَثْرَة موارد الِاسْتِعْمَال تدل على الْحَقِيقَة.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم} [المجادلة: 8] فمجاز، لِأَنَّهُ إِنَّمَا دلّ على الْمَعْنى النَّفْسِيّ بِالْقَرِينَةِ، وَهِي قَوْله: {فِي أنفسهم} ، وَلَو أطلق لما فهم إِلَّا الْعبارَة، وَكَذَلِكَ كل مَا جَاءَ من هَذَا الْبَاب إِنَّمَا يُفِيد مَعَ الْقَرِينَة، وَمِنْه قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: (زورت فِي نَفسِي كلَاما) ، إِنَّمَا أَفَادَ ذَلِك بِقَرِينَة قَوْله: (فِي نَفسِي) .
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، فَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الْإِسْرَار نقيض الْجَهْر، وَكِلَاهُمَا عبارَة، إِحْدَاهمَا أرفع صَوتا من الْأُخْرَى.
وَأما الشّعْر فَهُوَ للأخطل، وَيُقَال: إِن الْمَشْهُور فِيهِ: إِن الْبَيَان(3/1256)
لفي الْفُؤَاد.
وَبِتَقْدِير أَن يكون كَمَا ذكرْتُمْ، فَهُوَ مجَاز عَن مَادَّة الْكَلَام، وَهُوَ التصورات المصححة لَهُ، إِذْ من لَا يتَصَوَّر معنى مَا يَقُول لَا يُوجد مِنْهُ كَلَام، ثمَّ هُوَ مُبَالغَة من هَذَا الشَّاعِر فِي تَرْجِيح الْفُؤَاد على اللِّسَان ". انْتهى كَلَام الطوفي.
وَقد نقل ابْن الْقيم فِي " النونية " أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رد كَلَام النَّفس من تسعين وَجها.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: (من أحَال سَماع مُوسَى كلَاما لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، فليحل يَوْم الْقِيَامَة رُؤْيَة ذَات لَيست بجسم وَلَا عرض) انْتهى.
قَالَ الطوفي: (كل هَذَا تكلّف وَخُرُوج عَن الظَّاهِر، بل عَن الْقَاطِع، من غير ضَرُورَة إِلَّا خيالات لاغية، وأوهام متلاشية، وَمَا ذكره معَارض: بِأَن الْمعَانِي لَا تقوم شَاهدا إِلَّا بالأجسام، فَإِن أَجَازُوا معنى قَامَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَة،(3/1257)
وَلَيْسَت جسما، فليجيزوا خُرُوج صَوت من الذَّات الْقَدِيمَة وَلَيْسَت جسما، إِذْ كلا الْأَمريْنِ خلاف الشَّاهِد وَمن أحَال كلَاما لفظيا من غير جسم فليحل ذاتا مرئية غير جسم وَلَا فرق) .
ثمَّ قَالَ الطوفي: (وَالْعجب من هَؤُلَاءِ الْقَوْم، مَعَ أَنهم عقلاء فضلاء، يجيزون أَن الله تَعَالَى يخلق لمن يَشَاء من عباده علما ضَرُورِيًّا، وسمعا لكَلَامه النَّفْسِيّ من غير توَسط صَوت وَلَا حرف، وَأَن ذَلِك من [خاصية] مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، مَعَ أَن ذَلِك قلب لحقيقة السّمع فِي الشَّاهِد، إِذْ حَقِيقَة السّمع فِي(3/1258)
فِي الشَّاهِد [اتِّصَال] الْأَصْوَات بحاسته، ثمَّ يُنكرُونَ علينا القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت وحرف من فَوق السَّمَاء لكَون ذَلِك مُخَالفا للشَّاهِد، فَإِن جَازَ قلب حَقِيقَة السّمع شَاهدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامه، فَلم لَا تجوز مُخَالفَة الشَّاهِد بِالنِّسْبَةِ إِلَى استوائه وَكَلَامه على مَا قُلْنَاهُ.
فَإِن قَالُوا: لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل وجود حرف وَصَوت لَا من [جسم] ، وَوُجُود فِي جِهَة لَيْسَ بجسم.
قُلْنَا: إِن عنيتم استحالته بِالْإِضَافَة إِلَى الشَّاهِد، فسماع كَلَام بِدُونِ توَسط صَوت وحرف كَذَلِك أَيْضا، وَإِن عنيتم استحالته مُطلقًا، فَلَا يسلم، إِذْ الْبَارِي - جلّ جَلَاله - على خلاف الْمُشَاهدَة والمعقول فِي ذَاته وَصِفَاته، وَقد وَردت النُّصُوص بِمَا قُلْنَا، فَوَجَبَ القَوْل بِهِ) انْتهى.(3/1259)
فارغة(3/1260)
فارغة(3/1261)
فارغة(3/1262)
فارغة(3/1263)
فارغة(3/1264)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر عبيد الله بن سعيد بن حَاتِم السجسْتانِي - عَن(3/1265)
قَول الْأَشْعَرِيّ: (لما كَانَ سَمعه بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه بِلَا حرف وَلَا صَوت) -: (هَذَا غير مُسلم، وَلَا يَقْتَضِي مَا قَالَه، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَن سَمعه لما كَانَ بِلَا انخراق، وَجب أَن يكون كَلَامه من غير لِسَان وشفتين وحنك، وَأَيْضًا لَو كَانَ الْكَلَام غير حرف، وَكَانَت الْحُرُوف عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من أَن يحكم لتِلْك الْعبارَة بِحكم، إِمَّا أَن يكون أحدثها فِي صدر أَو لوح، أَو أنطق بهَا بعض عبيده، فَتكون منسوبة إِلَيْهِ، فَيلْزم من يَقُول ذَلِك أَن يفصح بِمَا عِنْده فِي السُّور والآي والحروف، أَهِي عبارَة جِبْرِيل أَو مُحَمَّد - عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام -؟ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] و " كن " حرفان، وَلَا يَخْلُو الْأَمر من أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون المُرَاد بقوله: " كن "، التكوين كالمعتزلة، أَو أَن يكون المُرَاد بِهِ ظَاهره، وَأَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ إنجاز شَيْء قَالَ لَهُ: كن - على الْحَقِيقَة - فَيكون.
وَقد قَالَ الْأَشْعَرِيّ: (إِنَّه على ظَاهره، لَا بِمَعْنى التكوين) ، فَيكون على ظَاهره، وَهُوَ حرفان، وَهُوَ مُخَالف لمذهبه، وَإِن قَالَ: لَيْسَ بِحرف، صَار بِمَعْنى التكوين كالمعتزلة) انْتهى.
قلت: قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي شرح البُخَارِيّ فِي بَاب(3/1266)
كَلَام الرب مَعَ جِبْرِيل: (وَالْمَنْقُول عَن السّلف اتِّفَاقهم على أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن الله - عز وَجل -، وبلغه جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبلغه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أمته) انْتهى.
وَصَحَّ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره من السّلف أَنهم قَالُوا عَن الْقُرْآن: (مِنْهُ [خرج] وَإِلَيْهِ يعود) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (تنَازع الْعلمَاء فِي أَن الرب تَعَالَى هَل يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ:
فَابْن كلاب وَمن وَافقه قَالُوا: لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، بل كَلَامه لَازم لذاته كحياته.
ثمَّ من [هَؤُلَاءِ] من عرف أَن الْحُرُوف والأصوات لَا تكون قديمَة الْعين، فَلم يُمكنهُ أَن يَقُول: إِن الْقَدِيم هُوَ الْحُرُوف والأصوات، لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا متعاقبة، وَالصَّوْت لَا يبْقى زمانين، فضلا عَن أَن يكون قَدِيما،(3/1267)
فَقَالَ: الْقَدِيم معنى وَاحِد، لِامْتِنَاع معَان لَا نِهَايَة لَهَا، وَامْتِنَاع التَّخْصِيص بِعَدَد دون عدد.
فَقَالُوا: هُوَ معنى وَاحِد، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى لَا يتَكَلَّم بالْكلَام الْعَرَبِيّ والعبري، وَقَالُوا: إِن معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر كَلَام الله معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ وَآيَة الدّين معنى وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّذِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء: إِنَّهَا معلولة الْفساد بضرورة الْعقل.
وَمن هَؤُلَاءِ من عرف أَن الله تكلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ، والتوراة العبرية، وَأَنه نَادَى مُوسَى بِصَوْت، وينادي عباده بِصَوْت، وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله حُرُوفه ومعانيه، لَكِن اعتقدوا مَعَ ذَلِك أَنه قديم وَأَن الله تَعَالَى لم يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، فالتزموا: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة الْأَعْيَان لم تزل وَلَا تزَال، وَقَالُوا: إِن الْبَاء لم تسبق السِّين، وَإِن السِّين لم تسبق الْمِيم، وَإِن جَمِيع الْحُرُوف مقترنة بَعْضهَا بِبَعْض اقترانا [قَدِيما] أزليا، لم يزل وَلَا يزَال، وَقَالُوا: هِيَ مترتبة فِي حَقِيقَتهَا وماهيتها، غير مترتبة فِي وجودهَا، وَقَالَ كثير مِنْهُم، إِنَّهَا مَعَ ذَلِك شَيْء وَاحِد، إِلَى غير ذَلِك من اللوازم الَّتِي يَقُول جُمْهُور الْعُقَلَاء: إِنَّهَا مَعْلُومَة الْفساد بضرورة الْعقل.
وَمن هَؤُلَاءِ من يَقُول: هُوَ قديم، وَلَا يفهم معنى الْقَدِيم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، مَعَ أَنه غير مَخْلُوق، وَهَذَا قَول جَمَاهِير أهل السّنة وَالنَّظَر، وأئمة أهل السّنة والْحَدِيث.
لَكِن من هَؤُلَاءِ من اعْتقد: أَن الله لم يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم فِي الْأَزَل بمشيئته، كَمَا لم يُمكنهُ - عِنْدهم - أَن يفعل فِي الْأَزَل شَيْئا.(3/1268)
فالتزموا: أَنه تكلم بمشيئته بعد أَن لم يكن متكلما، كَمَا أَنه فعل بعد أَن لم يكن فَاعِلا، وَهَذَا قَول كثير من أهل الْكَلَام والْحَدِيث وَالسّنة.
وَأما السّلف وَالْأَئِمَّة فَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك قديم النَّوْع، بِمَعْنى أَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، فَإِن الْكَلَام صفة كَمَال، وَمن يتَكَلَّم أكمل مِمَّن لَا يتَكَلَّم، وَمن يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن لَا يكون متكلما بمشيئته وَقدرته، وَمن لَا يزَال متكلما بمشيئته وَقدرته، أكمل مِمَّن يكون مُمكنا لَهُ بعد أَن يكون مُمْتَنعا مِنْهُ، أَو قدر أَن ذَلِك مُمكن، فيكف إِذا كَانَ مُمْتَنعا، لِامْتِنَاع أَن يصير الرب قَادِرًا بعد أَن لم يكن، وَأَن يكون التَّكَلُّم وَالْفِعْل مُمكنا بعد أَن كَانَ غير مُمكن) انْتهى نقل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله " فِي الْأَمر: (الْأَمر قسم من أَقسَام الْكَلَام، وَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ المنتظمة لمعانيها، وَالْإِنْسَان قبل تلفظه يقوم بِقَلْبِه طلب فَيفزع إِلَى اللَّفْظ، كَمَا إِذا قَالَ: " أسقني مَاء "، كَأَنَّهُ يجد طلبا قَائِما بِقَلْبِه، فيقصد اللَّفْظ.
وَاخْتلف النَّاس فِي حَقِيقَة ذَلِك الطّلب، فَقَالَت طَائِفَة: هُوَ قسم من أَقسَام الْعلم، وَقَالَت أُخْرَى: إِرَادَة الْفِعْل، وَقَالَت الأشعرية: هُوَ كَلَام النَّفس، وَهُوَ مُغَاير للْعلم والإرادة.(3/1269)
وَأنْكرت الجماهير والمعتزلة قيام معنى بِالنَّفسِ غير الْعلم والإرادة، وَقَالُوا: الْقَائِم بِالْقَلْبِ هُوَ صُورَة مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: (الَّذِي يجده الْإِنْسَان فِي نَفسه قبل أَن يتَكَلَّم هُوَ استحضار صور الْكَلَام، وَالْعلم بِمَا يَقُوله شَيْئا فَشَيْئًا، والعزم على إِيرَاده بِاللِّسَانِ، كَمَا يستحضر صُورَة الْكِتَابَة قبل أَن يكْتب، وَلَا مُقْتَضى لإِثْبَات أَمر غير مَا ذَكرْنَاهُ) .
قَالَ: (وَلَو ثَبت لم يكن كلَاما فِي اللُّغَة، وَلَا يُسمى الْإِنْسَان لأَجله متكلما، وَلذَلِك يَقُول أهل اللُّغَة للساكت: (إِنَّه غير مُتَكَلم) ، وَإِن جَازَ أَن يقوم بِهِ ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يَقُولُونَ للساكت: (إِنَّه غير مُرِيد وَلَا عَالم) .
قَالَ: وَقَول أهل اللُّغَة: (فِي نَفسِي كَلَام) ، مجَاز، وَالْمرَاد بذلك: عزم على الْكَلَام، كَقَوْلِهِم: (فِي نَفسِي السّفر) .
قَالَ: (وَلَو ثَبت فِي النَّفس معنى هُوَ الْكَلَام عَن الاعتقادات والعزم، لَكَانَ مُحدثا، لِأَن الَّذِي يشيرون إِلَيْهِ مُرَتّب يَتَجَدَّد فِي النَّفس بعضه بعد بعض، ومرتب حسب تَرْتِيب الْكَلَام المسموع، فَإِن كَانَ كَلَام الله معنى مَا فِي النَّفس من الْكَلَام فِي الشَّاهِد، اسْتَحَالَ قدمه، وَإِن لم يكن مَعْنَاهُ بَطل(3/1270)
قَوْلهم: إِن مَا أَثْبَتْنَاهُ مَعْقُول فِي الشَّاهِد) .
وَقَالَت الأشاعرة: ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ هُوَ الْكَلَام، والحروف والأصوات دلالات عَلَيْهِ ومعرفات، وَإنَّهُ حَقِيقَة وَاحِدَة هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار، وَإِنَّهَا صِفَات لَهُ لَا أَنْوَاع، إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ عَرَبيا، أَو السريانية كَانَ سريانيا، وَكَذَلِكَ فِي سَائِر اللُّغَات، وَإنَّهُ لَا يَتَبَعَّض وَلَا يتَجَزَّأ.
ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره: (الْكَلَام الْمُطلق حَقِيقَة، هُوَ مَا فِي النَّفس شَاهدا أَو غَائِبا، وَإِطْلَاق الْكَلَام على الْحُرُوف والأصوات مجَاز) .
وَقَالَ جمهورهم: يُطلق على كل مِنْهُمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ حَقِيقَة فِي اللساني، مجَاز فِي النَّفْسِيّ، وَلَيْسَ(3/1271)
الْخلاف [جَارِيا] فِي نفس الْكَلَام، بل مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والتصديق والتكذيب، وَنَحْو ذَلِك من عوارض الْكَلَام.
قَالَ الرَّازِيّ فِي " الْأَرْبَعين ": (مَاهِيَّة ذَلِك الطّلب مُغَايرَة لذَلِك اللَّفْظ، وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه:
أَحدهَا: أَن مَاهِيَّة هَذَا الْمَعْنى لَا تتبدل باخْتلَاف الْأَمْكِنَة والأزمنة، والألفاظ الدَّالَّة على هَذَا الْمَعْنى تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمِنَة والأمكنة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: عَلَيْهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: إِن أردْت اخْتِلَاف أجناسها، فَهَذَا مُسلم وَلَا ينفعك، وَإِن أردْت اخْتِلَاف قدرهَا وصفتها فَمَمْنُوع، لأَنا لَا نسلم أَن الطّلب الْحَاصِل بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ الفصيح مَعَ الصَّوْت الجهوري مماثل للطلب بِاللَّفْظِ الأعجمي مَعَ الصَّوْت الضَّعِيف، وَهَذَا لِأَن الْقَائِم بِالنَّفسِ قد يتَفَاوَت، فَيكون طلب أقوى من غَيره وأكمل.
الثَّانِي: هَب أَن الْمَدْلُول مُتحد، وَالدَّال مُخْتَلف، لَكِن لم لَا جيوز وجود الْمَدْلُول مَشْرُوطًا بِالدَّلِيلِ، فَهُوَ وَإِن غايره لَكِن لَا يُوجد إِلَّا بِوُجُودِهِ، أَلا ترى أَن كَون الْإِنْسَان مخبرا لغيره لَا بُد فِيهِ من أَمر ظَاهر، يدل على مَا فِي بَاطِنه من الْمَعْنى، وَذَلِكَ الْأَمر الظَّاهِر وَإِن اخْتلف، لَكِن لَا يكون مخبرا إِلَّا بِهِ، وَإِذا لَاحَ لَك ذَلِك، لم يكن مُجَرّد كَون الْمَعْنى مغايرا كَافِيا فِي مَطْلُوبه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمَعْنى قَائِم بِالروحِ، وَاللَّفْظ قَائِم بِالْبدنِ، ثمَّ إِن وجود الرّوح فِي هَذَا(3/1272)
الْعَالم لَا يُمكن إِلَّا مَعَ الْبدن، و - أَيْضا - فَكل من المتلازمين دَلِيل على الآخر، لَا يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَدْلُول بِدُونِ الدَّلِيل: كالأمور المتضايفة كالأبوة والبنوة) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن جَمِيع الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، دَلِيل على ذَلِك الطّلب [الْقَائِم] بِالْقَلْبِ، وَالدَّلِيل مُغَاير للمدلول) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَب أَن الْأَمر كَذَلِك، لَكِن لم يجمعوا على أَنه يُوجد الْمَدْلُول دون دَلِيله) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الثَّالِث: أَن جَمِيع الْعُقَلَاء يعلمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَا يكون طلبا وأمرا إِلَّا عِنْد اصْطِلَاح النَّاس على هَذَا الْوَضع.
وَأما كَون ذَلِك الْمَعْنى الْقَائِم بِالْقَلْبِ طلبا، فَإِنَّهُ أَمر ذاتي حَقِيقِيّ لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْوَضع والاصطلاح) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: مَا ذكرت مَمْنُوع، فَإِن أَكثر النَّاس لَا يجْعَلُونَ اللُّغَات اصطلاحية، بل إِمَّا توقيفية بإلهام أَو بِغَيْر إلهام، والنزاع فِي ذَلِك مَشْهُور.
وَلَو سلم، فَلم قلت بِإِمْكَان وجوده بِدُونِ اللَّفْظ) .
قَالَ الرَّازِيّ: (الْوَجْه الرَّابِع: هُوَ أَنهم قَالُوا: إِن قَوْلنَا: " ضرب(3/1273)
يضْرب "، إِخْبَار، وَقَوْلنَا: " اضْرِب وَلَا تضرب "، أَمر وَنهي، وَلَو أَن الواضعين قلبوا الْأَمر وَقَالُوا بِالْعَكْسِ، لَكَانَ جَائِزا، أما لَو قَالُوا: إِن حَقِيقَة الطّلب يُمكن أَن تقلب خَبرا، أَو حَقِيقَة الْخَبَر يُمكن أَن تقلب طلبا، لَكَانَ ذَلِك محالا) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قيل: لَو سلم، لم يلْزم أَن لَا يكون وجود أَحدهمَا مَشْرُوطًا بِالْآخرِ، و - أَيْضا - أَنْتُم ادعيتم: أَن حَقِيقَة الطّلب وَحَقِيقَة الْخَبَر شَيْء وَاحِد، بل ادّعى الرَّازِيّ: أَن حَقِيقَة الطّلب دَاخِلَة فِي حَقِيقَة الْخَبَر، فَقَالَ فِي كَون كَلَام الله وَاحِدًا أَمر وَنهي وَخبر: إِنَّه يرجع إِلَى حرف وَاحِد، وَهُوَ الْكَلَام كُله خبر؛ لِأَن الْأَمر عبارَة عَن تَعْرِيف [الْغَيْر] أَنه لَو فعله لصار مُسْتَحقّا [للمدح، وَلَو تَركه صَار] مُسْتَحقّا للذم، وَكَذَا القَوْل فِي النَّهْي، وَإِذا كَانَ مرجع الْكل إِلَى شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْخَبَر، صَحَّ أَن كَلَام الله وَاحِد) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: احْتج الْجُمْهُور بِالْكتاب وَالسّنة واللغة وَالْعرْف.
أما الْكتاب: فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] ، فَلم يسم الْإِشَارَة كلَاما.
وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} [مَرْيَم: 26] .(3/1274)
وَفِي " الصَّحِيح ": أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِن الله تَعَالَى عَفا لأمتي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ ".
وَقسم أهل اللِّسَان الْكَلَام إِلَى: اسْم، وَفعل، وحرف.
وَاتفقَ الْفُقَهَاء كَافَّة: على أَن من حلف لَا يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث بِدُونِ النُّطْق، وَإِن حدثته نَفسه.
فَإِن قيل: الْأَيْمَان مبناها على الْعرف.
قيل: الأَصْل عدم التَّغْيِير، وَأهل الْعرف يسمون النَّاطِق متكلما، وَمن عداهُ ساكتا أَو [أخرسا] .(3/1275)
قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} [المُنَافِقُونَ: 1] ، أكذبهم الله تَعَالَى فِي شَهَادَتهم، وَمَعْلُوم صدقهم فِي النُّطْق اللساني، فَلَا بُد من إِثْبَات كَلَام فِي النَّفس لكَون الْكَذِب عَائِدًا إِلَيْهِ، [فَقَوله] تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} [المجادلة: 3] ، وَقَوله تَعَالَى: {استكبروا فِي أنفسهم} [الْفرْقَان: 21] ، وَقَوله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} [الْملك: 13] ، وَقَوله تَعَالَى: {ونعلم مَا [توسوس] بِهِ نَفسه} [ق: 16] .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (أما الأول: فَلِأَن الشَّهَادَة الْإِخْبَار عَن الشَّيْء مَعَ اعْتِقَاده، فَلَمَّا لم يَكُونُوا معتقدين ذَلِك أكذبهم الله تَعَالَى.
وَعَن الثَّانِي وَجْهَان:
الأول: أَنه قَول بحروف وأصوات خُفْيَة، وَلِهَذَا فسره بِمَا بعده.
الثَّانِي: أَنه قَول مُقَيّد، فَهُوَ مجَاز، وَهُوَ الْجَواب عَن الْإِسْرَار والجهر.
وَعَن الثَّالِث: أَن الاستكبار رُؤْيَة للنَّفس، وَهُوَ خَارج عَن ذَلِك.
قَالُوا: قَول عمر: " زورت فِي نَفسِي كلَاما ".
قُلْنَا: زور: صور مَا يُرِيد النُّطْق بِهِ، أَو كَقَوْل الْقَائِل: زورت فِي نَفسِي نبأ أَو سفرا ".
قَالُوا: قَول الأخطل:
(إِن الْكَلَام لفي الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... )
إِلَى آخِره.(3/1276)
قُلْنَا: الْبَيْت مَوْضُوع على الأخطل، فَلَيْسَ هُوَ فِي نسخ ديوانه، وَإِنَّمَا هُوَ لِابْنِ ضمضام، وَلَفظه: إِن الْبَيَان، وَسَيَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ الْمُوفق.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: " فَإِن قيل: إِذا جعلتم الْحَقَائِق الَّتِي هِيَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار شَيْئا وَاحِدًا، لزمكم أَن ترد الصِّفَات إِلَى معنى وَاحِد.
قُلْنَا: هُوَ سُؤال وَارِد، وَلَعَلَّ عِنْد غَيرنَا حلّه " انْتهى.
وَقَالَ أَبُو نصر السجْزِي: " قَوْلهم: لَا يَتَبَعَّض، يرد عَلَيْهِ أَن مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سمع بعض كَلَام الله، وَلَا يُمكن أَن يُقَال: سمع الْكل) .
وَقَالَ ابْن درباس الشَّافِعِي: " وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} [الْأَنْبِيَاء: 79] ، مَعَ التَّصْرِيح باختصاص مُوسَى بالْكلَام ".) انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل وَنَقله.(3/1277)
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي فتيا لَهُ تسمى بالأزهرية: (وَمن قَالَ: إِن الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، وَقع فِي محذورات:
أَحدهَا: قَوْلهم: " إِن هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَام الله "، فَإِن نفي هَذَا الْإِطْلَاق خلاف مَا علم بالاضطرار من دين الْإِسْلَام، وَخلاف مَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل.
وَالثَّانِي: قَوْلهم: " عبارَة "، إِن أَرَادوا: أَن هَذَا الثَّانِي هُوَ الَّذِي عبر عَن كَلَام الله الْقَائِم بِنَفسِهِ، لزم أَن يكون كل تال معبر عَمَّا فِي نفس الله، والمعبر عَن غَيره هُوَ المنشيء للعبارة، فَيكون كل قاريء هُوَ المنشيء لعبارة الْقُرْآن، وَهَذَا مَعْلُوم الْفساد بِالضَّرُورَةِ.
وَإِن أَرَادوا: أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ عبارَة عَن مَعَانِيه فَهَذَا حق، إِذْ كل كَلَام، فلفظه عبارَة عَن مَعْنَاهُ، لَكِن هَذَا لَا يمْنَع أَن يكون الْكَلَام متناولا للفظ.
وَالْمعْنَى الثَّالِث: أَن الْكَلَام قد قيل: إِنَّه حَقِيقَة فِي اللَّفْظ، مجَاز فِي الْمَعْنى، وَقيل: حَقِيقَة فِي الْمَعْنى مجَاز فِي اللَّفْظ، وَقيل: بل حَقِيقَة فِي كل مِنْهُمَا.
وَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْأَئِمَّة: أَنه حَقِيقَة فِي مجموعهما، كَمَا أَن الْإِنْسَان، قيل: هُوَ حَقِيقَة فِي الْبدن فَقَط، وَقيل: بل فِي الرّوح فَقَط، وَالصَّوَاب: أَنه حَقِيقَة فِي الْمَجْمُوع.(3/1278)
فالنزاع فِي النَّاطِق، كالنزاع فِي مَنْطِقه.
وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فالمتكلم إِذا تكلم بِكَلَام لَهُ لفظ وَمعنى، وَبلغ عَنهُ بِلَفْظ وَمَعْنَاهُ، فَإِذا قيل: مَا بلغه الْمبلغ من اللَّفْظ إِن هَذَا عبارَة عَن الْقُرْآن، وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْنى الَّذِي للمبلغ عَنهُ، نفى عَنهُ اللَّفْظ الَّذِي للمبلغ عَنهُ، وَالْمعْنَى الَّذِي قَامَ بالمبلغ، فَمن لم يثبت إِلَّا الْقُرْآن المسموع، الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، قيل لَهُ: فَهَذَا الْكَلَام المنظوم الَّذِي كَانَ مَوْجُودا قبل قِرَاءَة الْقُرَّاء، هُوَ مَوْجُود قطعا وثابت، فَهَل هُوَ دَاخل فِي الْعبارَة والمعبر عَنهُ أَو غَيرهمَا؟
فَإِن جعلته غَيرهمَا بَطل اقتصارك على الْعبارَة والمعبر عَنهُ، وَإِن جعلته أَحدهمَا، لزمك إِن لم تثبت إِلَّا هَذِه الْعبارَة وَالْمعْنَى الْقَائِم بِالذَّاتِ أَن تَجْعَلهُ نفس مَا يسمع من الْقُرَّاء، فَيجْعَل عين مَا يبلغهُ المبلغون هُوَ عين مَا يسمعوه، وَهُوَ الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَيُقَال لَهُ: القاريء الْمبلغ إِذا قَرَأَ، فَلَا بُد لَهُ فِيمَا يقوم بِهِ من لفظ وَمعنى، وَإِلَّا كَانَ اللَّفْظ الَّذِي قَامَ بِهِ عبارَة عَن الْقُرْآن، فَيجب أَن يكون عبارَة عَن الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِهِ لَا عَن معنى قَامَ بِغَيْرِهِ، فَقَوْلهم: هَذَا هُوَ الْعبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، أخطأوا من وَجْهَيْن.
أخطأوا فِي بَيَان مَذْهَبهم فَإِن حَقِيقَة قَوْلهم: إِن اللَّفْظ المسموع من القاريء حِكَايَة اللَّفْظ الَّذِي عبر بِهِ عَن معنى الْقُرْآن مُطلقًا، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظ(3/1279)
عبارَة عَن الْمَعْنى الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَلَفظه وَمَعْنَاهُ حِكَايَة عَن ذَلِك اللَّفْظ وَالْمعْنَى.
ثمَّ إِذا عرف مَذْهَبهم بَقِي خطؤهم فِي أصُول:
مِنْهَا: زعمهم: أَن مَعَاني الْقُرْآن معنى وَاحِد، هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر، وَأَن معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن معنى وَاحِد، وَمعنى آيَة الْكُرْسِيّ معنى آيَة الدّين، وَفَسَاد هَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ.
وَمِنْهَا: زعمهم أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ لم يتَكَلَّم الله بِهِ) .
وَأطَال فِي ذَلِك وَبرهن عَلَيْهِ بِمَا يطول هُنَا ذكره.
وَقَالَ بعد ذَلِك: (وَأول من قَالَ هَذَا فِي الْإِسْلَام عبد الله بن سعيد بن كلاب، وَجعل الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة عَن ذَلِك الْمَعْنى، فَلَمَّا جَاءَ الْأَشْعَرِيّ وَاتبع ابْن كلاب فِي أَكثر مقَالَته، ناقشه على قَوْله: إِن هَذَا حِكَايَة عَن ذَلِك، وَقَالَ: الْحِكَايَة تماثل المحكي، فَهَذَا اللَّفْظ يَصح من الْمُعْتَزلَة، لِأَن ذَلِك الْمَخْلُوق حُرُوف وأصوات عِنْدهم، وحكاية مثله.
وَأما على أصل ابْن كلاب فَلَا يَصح أَن يكون حِكَايَة بل يَقُول: إِنَّه عبارَة عَن الْمَعْنى، فَأول من قَالَ بالعبارة الْأَشْعَرِيّ.
وَكَانَ الباقلاني - فِيمَا ذكر عَنهُ - إِذا درس مَسْأَلَة الْقُرْآن يَقُول: هَذَا قَول الْأَشْعَرِيّ، وَلم يتَبَيَّن لي صِحَة هَذَا القَوْل، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ.(3/1280)
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول: (مَذْهَب الشَّافِعِي وَسَائِر الْأَئِمَّة فِي الْقُرْآن خلاف قَول الْأَشْعَرِيّ، وَقَوْلهمْ هُوَ قَول الإِمَام أَحْمد) .
وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ ذكر أَن الْأَشْعَرِيّ [خَالف] فِي مَسْأَلَة الْكَلَام قَول الشَّافِعِي وَغَيره، وَأَنه أَخطَأ فِي ذَلِك.
وَكَذَلِكَ سَائِر أَئِمَّة أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا يذكرُونَ قَوْلهم فِي حد الْكَلَام وأنواعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر الْعَام وَالْخَاص وَغير ذَلِك، ويجعلون الْخلاف فِي ذَلِك مَعَ الْأَشْعَرِيّ، كَمَا هُوَ مُبين فِي أصُول الْفِقْه الَّتِي صنفها أَئِمَّة أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم) .(3/1281)
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: (وَمن قَالَ من الْمُعْتَزلَة والكلابية: " إِن الْقُرْآن الْمنزل حِكَايَة ذَلِك "، وظنوا أَن الْمبلغ حاك لذَلِك الْكَلَام، وَلَفظ الْحِكَايَة قد يُرَاد بِهِ محاكاة النَّاس فِيمَا يَقُولُونَهُ ويفعلونه اقْتِدَاء بهم وموافقة لَهُم.
فَمن قَالَ: " إِن الْقُرْآن حِكَايَة كَلَام الله تَعَالَى " بِهَذَا الْمَعْنى فقد غلط وضل ضلالا مُبينًا، فَإِن الْقُرْآن لَا يقدر النَّاس على أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، وَلَا يقدر أحد أَن يَأْتِي بِمَا يحكيه، وَقد يُرَاد بِلَفْظ الْحِكَايَة النَّقْل والتبليغ كَمَا يُقَال: فلَان حكى عَن فلَان أَنه قَالَ كَذَا، كَمَا يُقَال عَنهُ: نقل عَنهُ، فَهُنَا بِمَعْنى التَّبْلِيغ للمعنى، وَقد يُقَال: حكى عَنهُ أَنه قَالَ كَذَا وَكَذَا، لما قَالَه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فالحكاية هُنَا بِمَعْنى التَّبْلِيغ للفظ وَالْمعْنَى، لَكِن يفرق بَين أَن يَقُول: حكيت كَلَامه، على وَجه الْمُمَاثلَة لَهُ وَبَين أَن يَقُول: حكيت عَنهُ كَلَامه وَبَلغت عَنهُ، أَنه قَالَ مثل قَوْله من غير تَبْلِيغ عَنهُ، وَقد يُرَاد بِهِ الْمَعْنى الآخر، وَهُوَ أَنه بلغ عَنهُ مَا قَالَه، فَإِن أُرِيد الْمَعْنى الأول جَازَ أَن يُقَال: هَذَا حِكَايَة كَلَام فلَان، وَهَذَا مثل كَلَام فلَان، وَلَيْسَ هُوَ مبلغا عَنهُ كَلَامه، وَإِن أُرِيد الْمَعْنى الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا حكى الْإِنْسَان عَن غَيره مَا يَقُوله وبلغه عَنهُ، فَهُنَا يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان، وَلَا يُقَال: هَذَا حِكَايَة فلَان، كَمَا لَا يُقَال: هَذَا مثل كَلَام فلَان، بل قد يُقَال: هَذَا كَلَام فلَان بِعَيْنِه، بِمَعْنى: أَنه لم يُغير وَلم يحرف وَلم يزدْ وَلم ينقص) . وَأطَال فِي ذَلِك.
قلت: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق،(3/1282)
وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة) ، وَغلط من قَالَ بهما وجهله. فَقَالَ: (من قَالَ الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى فقد غلط وَجَهل) .
وَقَالَ: (النَّاسِخ والمنسوخ فِي كتاب الله دون الْعبارَة والحكاية) .(3/1283)
وَقَالَ: (هَذِه بِدعَة لم يقلها السّلف، وَقَوله تَعَالَى: {تكليما} ، يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود) .
نَقله ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين "، وَفِي ذَلِك كِفَايَة فِي الرَّد على من قَالَ: هُوَ عبارَة أَو حِكَايَة.
قلت: وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: (لسنا نشك أَن الْقُرْآن فِي الْمُصحف على الْحَقِيقَة، لَا على الْمجَاز، كَمَا يَقُوله بعض أَصْحَاب الْكَلَام: إِن الَّذِي فِي الْمُصحف دَلِيل على الْقُرْآن) انْتهى.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين ابْن قدامَة الْمَقْدِسِي فِي تصنيف مُفْرد لَهُ فِي ذَلِك: (أجمعنا على أَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى، وَقد أخبر الله تَعَالَى بذلك(3/1284)
بقوله: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله} [الْبَقَرَة: 75] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِن قُريْشًا قد مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي "، وَقَالَ أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا هَذَا كَلَامي وَلَا كَلَام صَاحِبي وَلكنه كَلَام الله تَعَالَى ".
وَالْكَلَام: هُوَ الْحُرُوف الْمَنْظُومَة، والكلمات المفهومة، والأصوات الْمَعْلُومَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع.
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} [مَرْيَم: 10 - 11] .
وَقَالَ لِمَرْيَم: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} ، إِلَى قَوْله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} [مَرْيَم: 26 - 29] .(3/1285)
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} [سُورَة النبأ: 38] .
وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْم لَا ينطقون} [المرسلات: 35] ، ومعناهما وَاحِد.
وَقَالَ تَعَالَى: {وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم} [يس: 65] ، يَعْنِي بِهِ: النُّطْق، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله الَّذِي أنطق كل شَيْء} [فصلت: 21] .
وَقَالَ تَعَالَى: {ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا} [آل عمرَان: 46] يَعْنِي بِهِ: النُّطْق.
وَأما السّنة فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عُفيَ لأمي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تكلم أَو تعْمل بِهِ "، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يَصح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس "، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لم يتَكَلَّم فِي المهد إِلَّا ثَلَاثَة ... " الحَدِيث.(3/1286)
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كل [كَلَام] ابْن آدم عَلَيْهِ لَا لَهُ ... " الحَدِيث، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كثر كَلَامه كثر سقطه ".(3/1287)
وَأما الْإِجْمَاع: فَإِن النَّاس فِي أشعارهم، ومنثور كَلَامهم، وعرفهم، وأحكامهم، على أَن الْكَلَام: النُّطْق، وَأَجْمعُوا: أَنه إِذا حلف: لَا يتَكَلَّم، لَا يَحْنَث إِلَّا بالنطق.
قَالَ: وَاعْترض الْقَائِل بِكَلَام النَّفس على ذَلِك بِوُجُوه:
أَحدهَا: قَول الأخطل:
(إِن الْكَلَام [لفي] الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... )
إِلَى آخِره.
الثَّانِي: سلمنَا أَن كَلَام الْآدَمِيّ صَوت وحرف، وَلَكِن كَلَام الله تَعَالَى بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ صفته، فَلَا يشبه صِفَات الْآدَمِيّين، وَلَا كَلَامه كَلَامهم.
الثَّالِث: أَن مذهبكم فِي الصِّفَات أَن لَا تفسر، فَكيف فسرتم كَلَام الله بِمَا ذكرْتُمْ؟
الرَّابِع: أَن الْحُرُوف لَا تخرج إِلَّا من مخارج وأدوات، وَالصَّوْت لَا يكون إِلَّا من جسم، وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك.(3/1288)
الْخَامِس: أَن الْحُرُوف يدخلهَا التَّعَاقُب، فالباء تسبق السِّين، وَالسِّين تسبق الْمِيم، وكل مَسْبُوق مَخْلُوق.
السَّادِس: أَن هَذَا يدْخلهُ التجزؤ والتعداد، وَالْقَدِيم لَا يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد.
قَالَ شيخ الْإِسْلَام الْمُوفق: الْجَواب عَن الأول من وُجُوه:
الأول: أَن هَذَا شَاعِر نَصْرَانِيّ عَدو لله وَرَسُوله وَدينه، أفيجب اطراح كَلَام الله وَرَسُوله وَسَائِر الْخلق تَصْحِيحا لكَلَامه، وَحمل كَلَامهم على الْمجَاز صِيَانة لكلمته هَذِه عَن الْمجَاز.
وَأَيْضًا فتحتاجون إِلَى إِثْبَات هَذَا الشّعْر بِبَيَان إِسْنَاده، وَنقل الثِّقَات لَهُ، وَلَا يقتنع بشهرته، وَقد يشْتَهر الْفَاسِد، وَقد سَمِعت شَيخنَا أَبَا مُحَمَّد بن الخشاب - إِمَام أهل الْعَرَبيَّة فِي زَمَانه - يَقُول: (قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فَلم أجد هَذَا الْبَيْت فِيهَا) .
الثَّانِي: لَا نسلم أَن لَفظه هَكَذَا إِنَّمَا قَالَ:
(إِن الْبَيَان من الْفُؤَاد ... ... ... ... ... ... ... )
فحرفوه وَقَالُوا: الْكَلَام.
الثَّالِث: أَن هَذَا مجَاز أَرَادَ بِهِ: أَن الْكَلَام من عقلاء النَّاس - فِي الْغَالِب - إِنَّمَا يكون بعد التروي فِيهِ، واستحضار مَعَانِيه فِي الْقلب، كَمَا قيل: (لِسَان الْحَكِيم من وَرَاء قلبه، فَإِن كَانَ لَهُ قَالَ، وَإِن لم يكن لَهُ سكت، وَكَلَام الْجَاهِل على طرف لِسَانه) .(3/1289)
وَالدَّلِيل على أَن هَذَا مجَاز وُجُوه كَثِيرَة:
أَحدهَا: مَا ذكرنَا، وَمَا تَرَكْنَاهُ أَكثر مِمَّا ذكرنَا مِمَّا يدل على أَن الْكَلَام هُوَ النُّطْق، وَحمله على حَقِيقَته بِحمْل كلمة الأخطل على مجازها، أولى من الْعَكْس.
الثَّانِي: أَن الْحَقِيقَة يسْتَدلّ عَلَيْهَا بسبقها إِلَى الذِّهْن وتبادر الأفهام إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يفهم من إِطْلَاق الْكَلَام مَا ذَكرْنَاهُ.
الثَّالِث: تَرْتِيب الْأَحْكَام على مَا ذكرنَا دون مَا ذَكرُوهُ.
الرَّابِع: قَول أهل الْعَرَبيَّة، الَّذين هم أهل اللِّسَان، وهم أعرف بِهَذَا الشَّأْن.
الْخَامِس: الِاشْتِقَاق الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
السَّادِس: لَا يَصح إِضَافَة مَا ذَكرُوهُ إِلَى الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ جعل الْكَلَام فِي(3/1290)
الْفُؤَاد، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بذلك، وَجعل اللِّسَان دَلِيلا عَلَيْهِ، وَلِأَن الَّذِي عبر عَنهُ الأخطل بالْكلَام هُوَ: التروي والفكر واستحضار الْمعَانِي، وَحَدِيث النَّفس ووسوستها، وَلَا يجوز إِضَافَة شَيْء من ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، بِلَا خلاف بَين الْمُسلمين.
قَالَ: وَمن أعجب الْأُمُور: أَن خصومنا ردوا على الله وعَلى رَسُوله، وخالفوا جَمِيع الْخلق من الْمُسلمين وَغَيرهم، فِرَارًا من التَّشْبِيه على زعمهم، ثمَّ صَارُوا إِلَى تَشْبِيه أقبح وأفحش من كل تَشْبِيه، وَهَذَا نوع من التغفيل، وَمن أدل الْأَشْيَاء على فَسَاد قَوْلهم: تَركهم قَول الله تَعَالَى وَقَول رَسُوله، وَمَا لَا يُحْصى من الْأَدِلَّة، وتمسكوا بِكَلِمَة قَالَهَا هَذَا الشَّاعِر النَّصْرَانِي، جعلوها أساس مَذْهَبهم، وَقَاعِدَة عقدهم، وَلَو أَنَّهَا انْفَرَدت عَن مُبْطل وخلت عَن معَارض لما جَازَ أَن يبْنى عَلَيْهَا هَذَا الأَصْل الْعَظِيم، فَكيف وَقد عارضها مَا لَا يُمكن رده، فمثلهم كَمثل رجل بنى قصرا على أَعْوَاد الكبريت فِي مجْرى [النّيل] .
وَأما قَوْلهم: عَن كَلَام الله يجب أَن لَا يكون حروفا يشبه كَلَام الْآدَمِيّين، قُلْنَا: جَوَابه من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن الِاتِّفَاق فِي أصل الْحَقِيقَة لَيْسَ بتشبيه كَمَا أَن اتِّفَاق الْبَصَر فِي أَنه أدْرك المبصرات، والسمع فِي أَنه أدْرك المسموعات، وَالْعلم فِي أَنه أدْرك المعلومات لَيْسَ بتشبيه، كَذَلِك هَذَا.(3/1291)
الثَّانِي: أَنه لَو كَانَ ذَلِك تَشْبِيها، كَانَ تشبيههم أقبح وأفحش على مَا ذكرنَا.
الثَّالِث: أَنهم إِن نفوا هَذِه الصّفة، لكَون هَذَا تَشْبِيها، يَنْبَغِي أَن ينفوا سَائِر الصِّفَات من الْوُجُود والحياة والسمع وَالْبَصَر وَغَيرهَا.
الرَّابِع: أَنا - نَحن - لم نفسر هَذَا، إِنَّمَا فسره الْكتاب وَالسّنة.
أما قَوْلهم: أَنْتُم فسرتم هَذِه الصّفة.
قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يجوز تَفْسِير الْمُتَشَابه الَّذِي سكت السّلف عَن تَفْسِيره، وَلَيْسَ كَذَلِك الْكَلَام، فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم بَين الْخلق لَا تَشْبِيه فِيهِ، وَقد فسره الْكتاب وَالسّنة.
الثَّانِي: أننا - نَحن - فسرناه بِحمْلِهِ على حَقِيقَته، تَفْسِيرا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة، وهم فسروه بِمَا لم يرد بِهِ كتاب وَلَا سنة، وَلَا يُوَافق الْحَقِيقَة، وَلَا يجوز نسبته إِلَى الله تَعَالَى.
وَأما قَوْلهم: إِن الْحُرُوف تحْتَاج إِلَى مخارج وأدوات.
قُلْنَا: احتياجها إِلَى ذَلِك فِي حَقنا، لَا يُوجب ذَلِك فِي كَلَام الله تَعَالَى، تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
فَإِن قَالُوا: بل يحْتَاج الله كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا، أخطأوا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه يلْزمهُم فِي سَائِر الصِّفَات الَّتِي سلموها: كالسمع، وَالْبَصَر، وَالْعلم، والحياة، لَا يكون ذَلِك فِي حَقنا إِلَّا فِي جسم، وَلَا يكون الْبَصَر إِلَّا فِي حدقة، وَلَا السّمع إِلَّا من انخراق، وَالله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك.(3/1292)
الثَّانِي: أَن هَذَا تَشْبِيه لله بِنَا، وَقِيَاس لَهُ علينا، وَهَذَا كفر.
الثَّالِث: أَن بعض الْمَخْلُوقَات لم تحتج إِلَى مخارج فِي كَلَامهَا: كالأيدي، والأرجل، والجلود، الَّتِي تَتَكَلَّم يَوْم الْقِيَامَة، وَالْحجر الَّذِي سلم على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والحصى الَّذِي سبح فِي كفيه، والذراع المسمومة الَّتِي كَلمته.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: " كُنَّا نسْمع تَسْبِيح الطَّعَام وَهُوَ يُؤْكَل ".(3/1293)
وَلَا خلاف فِي أَن الله تَعَالَى قَادر على إنطاق الْحجر الْأَصَم بِلَا أدوات، فَكيف عجزوا الله تَعَالَى عَن الْكَلَام بِلَا أدوات.
قلت أَنا: الَّذِي يقطع بِهِ عَنْهُم، أَنهم لَا يَقُولُونَ: إِن الله يحْتَاج كحاجتنا، قِيَاسا لَهُ علينا، فَإِنَّهُ عين التَّشْبِيه، وهم لَا يَقُولُونَ ذَلِك ويفرون مِنْهُ، وَالظَّاهِر: أَن الشَّيْخ قَالَ ذَلِك على تَقْدِير قَوْلهم لَهُ.
ثمَّ قَالَ: وَقَوْلهمْ: إِن التَّعَاقُب يدْخل فِي الْحُرُوف.
قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي حق من ينْطق بالمخارج والأدوات، وَلَا يُوصف الله بذلك.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر: (إِنَّمَا يتَعَيَّن التَّعَاقُب فِيمَن يتَكَلَّم بأداة تعجز عَن أَدَاء شَيْء إِلَّا بعد الْفَرَاغ من غَيره، وَأما الْمُتَكَلّم بِلَا جارحة فَلَا يتَعَيَّن فِي كَلَامه التَّعَاقُب، وَقد اتّفقت الْعلمَاء على أَن الله تَعَالَى يتَوَلَّى الْحساب بَين خلقه يَوْم الْقِيَامَة فِي حَالَة وَاحِدَة، وَعند كل وَاحِد مِنْهُم: أَن الْمُخَاطب فِي الْحَال هُوَ وَحده، وَهَذَا خلاف التَّعَاقُب) انْتهى.
ثمَّ قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: وَقَوْلهمْ: (إِن الْقَدِيم لَا يتَجَزَّأ وَلَا يَتَعَدَّد) ، غير صَحِيح، فَإِن أَسمَاء الله تَعَالَى مَعْدُودَة: قَالَ الله تَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى} [الْأَعْرَاف: 180] ، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما(3/1294)
من أحصاها دخل الْجنَّة "، وَهِي قديمَة.
وَقد نَص الشَّافِعِي: أَن أَسمَاء الله تَعَالَى غير مخلوقة.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: (من قَالَ إِن أَسمَاء الله مخلوقة فقد كفر) .
وَكَذَلِكَ كتب الله، فَإِن التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان مُتعَدِّدَة، وَهِي كَلَام الله تَعَالَى غير مخلوقة، وَإِنَّمَا هَذَا شَيْء أَخَذُوهُ من علم الْكَلَام، وَهِي مطرح عِنْد جَمِيع الْأَئِمَّة.
قَالَ أَبُو يُوسُف: (من طلب الْعلم بالْكلَام تزندق) .
وَقَالَ الشَّافِعِي: (مَا ارتدى بالْكلَام أحد فأفلح) .
وَقَالَ أَحْمد: (مَا أحب الْكَلَام أحد فَكَانَ عاقبته إِلَى خير) .(3/1295)
وَقَالَ ابْن خويز منداد الْمَالِكِي: (الْبدع عِنْد مَالك وَسَائِر أَصْحَابه هِيَ: كتب الْكَلَام، والتنجيم، وَشبه ذَلِك، لَا تصح إِجَارَتهَا، وَلَا تقبل شَهَادَة أَهله) .
قلت أَنا: قَالَ الْحَافِظ أَبُو نصر: (فَإِن قيل: الصَّوْت والحرف إِذا ثبتا فِي الْكَلَام اقتضيا عددا، وَالله تَعَالَى وَاحِد من كل جِهَة.
قيل لَهُم: قد بَينا مرَارًا أَن اعْتِمَاد أولي الْحق فِي هَذِه الْأَبْوَاب على السّمع، وَقد ورد السّمع بِأَن الْقُرْآن ذُو عدد، وَأقر الْمُسلمُونَ بِأَنَّهُ كَلَام الله حَقِيقَة لَا مجَازًا، وَهُوَ صفة، وَقد عد الْأَشْعَرِيّ صِفَات الله [سبع عشرَة] صفة، وَبَين أَن مِنْهَا مَا لَا يعلم إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَإِذا جَازَ أَن يُوصف بِصِفَات مَعْدُودَة لم يلْزمنَا بِدُخُول الْعدَد فِي الْحُرُوف شَيْء) انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق: (الْوَجْه الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويكلم الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة، قَالَ الله تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليما}(3/1296)
[النِّسَاء: 164] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف: 144] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] .
وأجمعنا على أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سمع كَلَام الله تَعَالَى من الله، لَا من الشَّجَرَة، وَلَا من حجر، وَلَا غَيره، لِأَنَّهُ لَو سمع من غير الله كَانَ بنوا إِسْرَائِيل أفضل فِي ذَلِك مِنْهُ، لأَنهم سمعُوا من أفضل مِمَّن سمع مِنْهُ مُوسَى، لكَوْنهم سمعُوا من مُوسَى، فَلم سمي إِذا كليم الرَّحْمَن، وَإِذا ثَبت هَذَا؛ لم يجز أَن يكون الْكَلَام الَّذِي سَمعه مُوسَى إِلَّا صَوتا وحرفا، فَإِنَّهُ لَو كَانَ معنى فِي النَّفس وفكرة وروية لم يكن ذَلِك تكليما لمُوسَى، وَلَا هُوَ شَيْء يسمع، وَلَا يتَعَدَّى الْفِكر والرؤى، وَلَا يُسمى مناداة.
فَإِن قَالُوا: نَحن لَا نُسَمِّيه صَوتا مَعَ كَونه مسموعا.
قُلْنَا: الْجَواب من وُجُوه.
أَحدهَا: أَن هَذَا مُخَالفَة فِي اللَّفْظ مَعَ الْمُوَافقَة فِي الْمَعْنى، فإننا لَا نعني بالصوت إِلَّا مَا كَانَ مسموعا.
الثَّانِي: أَن لفظ الصَّوْت قد جَاءَت بِهِ الْأَخْبَار والْآثَار، وسأذكرها - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - على حِدة.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق بعد ذَلِك: (النزاع فِي أَن الله تَعَالَى تكلم بِحرف وَصَوت أم لَا؟ وَمذهب أهل السّنة اتِّبَاع مَا ورد فِي الْكتاب وَالسّنة، وَقد بَينا - بالأدلة القاطعة - أَن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي عندنَا هُوَ كَلَام الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ(3/1297)
مسموع مقروء متلو مَحْفُوظ مَكْتُوب، وكيفما قريء وتلي وَسمع وَحفظ فَهُوَ الْقُرْآن الْقَدِيم، وَذكرنَا الْآيَات وَالْأَخْبَار الدَّالَّة على أَنه مسموع متلو مَكْتُوب مَحْفُوظ) انْتهى كَلَام شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين، بِمَا أدخلْنَاهُ فِيهِ من كَلَام أبي نصر مُمَيّزا.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (قَالَ الْبَيْهَقِيّ: " الْكَلَام: مَا ينْطق بِهِ الْمُتَكَلّم، وَهُوَ مُسْتَقر فِي نَفسه كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عمر " - يَعْنِي: فِي قصَّة السَّقِيفَة - وَفِيه: " وَكنت زورت فِي نَفسِي مقَالَة "، وَفِي رِوَايَة: " كلَاما "، قَالَ: " فَسَماهُ كلَاما قبل التَّكَلُّم بِهِ ".
قَالَ: " فَإِن كَانَ الْمُتَكَلّم ذَا مخارج سمع كَلَامه ذَا حُرُوف وأصوات، وَإِن كَانَ غير ذِي مخارج فَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك، والباري - عز وَجل - لَيْسَ بِذِي مخارج، فَلَا يكون كَلَامه بحروف وأصوات "، ثمَّ ذكر حَدِيث جَابر عَن عبد الله بن أنيس، وَقَالَ: " اخْتلف الْحفاظ فِي الِاحْتِجَاج بروايات ابْن عقيل لسوء حفظه، وَلم يثبت لفظ الصَّوْت فِي حَدِيث صَحِيح [عَن] النَّبِي(3/1298)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير حَدِيثه، فَإِن كَانَ ثَابتا فَإِنَّهُ يرجع إِلَى غَيره، كَمَا فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود - يَعْنِي: الَّذِي [قبله]- وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - يَعْنِي: الَّذِي بعده -: إِن الْمَلَائِكَة يسمعُونَ عِنْد حُضُور الْوَحْي صَوتا، فَيحْتَمل أَن يكون الصَّوْت للسماء، أَو للْملك الْآتِي بِالْوَحْي، أَو لأجنحة الْمَلَائِكَة، وَإِذا احْتمل ذَلِك لم يكن نصا فِي الْمَسْأَلَة ".
وَأَشَارَ فِي مَوضِع آخر إِلَى أَن الرَّاوِي أَرَادَ فينادي نِدَاء، فَعبر عَنهُ بالصوت انْتهى.
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَهَذَا حَاصِل كَلَام من نفى الصَّوْت من الْأَئِمَّة، وَيلْزم مِنْهُ: أَن الله تَعَالَى لم يسمع أحدا من مَلَائكَته وَلَا رسله كَلَامه، بل ألهمهم إِيَّاه، وَحَاصِل الِاحْتِجَاج للنَّفْي: الرُّجُوع إِلَى الْقيَاس على أصوات المخلوقين، لِأَنَّهَا الَّتِي عهد أَنَّهَا ذَات مخارج، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، إِذْ الصَّوْت قد يكون من غير مخارج، كَمَا أَن الرُّؤْيَة قد تكون من غير اتِّصَال أشعة كَمَا سبق.
سلمنَا، لَكِن نمْنَع الْقيَاس الْمَذْكُور، وَصفَة الْخَالِق لَا تقاس على صفة الْمَخْلُوق، وَإِذا ثَبت ذكر الصَّوْت بِهَذِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَجب الْإِيمَان بِهِ، ثمَّ إِمَّا التَّفْوِيض، وَإِمَّا التَّأْوِيل، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق) انْتهى.(3/1299)
وَلَقَد أَجَاد وأنصف وَاتبع الْحق الَّذِي لَا محيد عَنهُ.
وَمَا أحسن مَا قَالَه الشَّيْخ الشهَاب الدّين السهروردي فِي كتاب " العقيدة " لَهُ، نَقله ابْن حجر: (أخبر الله فِي كِتَابه، وَثَبت عَن رَسُوله: الاسْتوَاء، وَالنُّزُول، وَالنَّفس، وَالْيَد، وَالْعين، فَلَا يتَصَرَّف فِيهَا بتشبيه وَلَا تَعْطِيل، إِذْ لَوْلَا إِخْبَار الله وَرَسُوله مَا تجاسر عقل أَن [يحوم] حول ذَلِك الْحمى) .
قَالَ الطَّيِّبِيّ: (هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمُعْتَمد، وَبِه يَقُول السّلف الصَّالح) . انْتهى.
والأشعري نَفسه قد أثبت لله تَعَالَى: [سبع عشرَة] صفة - كَمَا تقدم - وَبَين أَن مِنْهَا مَا لَا يعلم إِلَّا بِالسَّمْعِ.(3/1300)
قلت: وَكَذَا نقُول: إِنَّه قد ثَبت وَصَحَّ عَن الصَّادِق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذكر الصَّوْت، وَصَححهُ الْحفاظ المقتدى بهم، فَلَا يتَصَرَّف فِيهِ بتشبيه وَلَا تَعْطِيل، فقد صحت أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِضَافَة الصَّوْت إِلَى الله تَعَالَى.
وَقد خرج ابْن شكر الْمصْرِيّ - وَهُوَ من فضلاء أهل الحَدِيث ونقادهم - فِيهِ أَرْبَعَة عشر حَدِيثا، وَذكر أَنَّهَا ثَابِتَة عِنْد الْمُحدثين. نَقله الطوفي فِي " شَرحه ".
قلت: وَكَذَلِكَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1301)
وَغَيره، جمع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذكر الصَّوْت الْمُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وسأذكرها - إِن شَاءَ الله - بعد على حِدة.
وَالْقُرْآن مَمْلُوء بِنَحْوِ ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف: 144] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 16] ، {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى} [الشُّعَرَاء: 10] فِي آي كَثِيرَة، وَقَالَ الله تَعَالَى، وَيَقُول الله تَعَالَى فِي غير مَا آيَة فالقرآن مَمْلُوء بذلك، وَكَذَلِكَ السّنة الصَّحِيحَة، وَمن المستبعد جدا أَن يكون هَذَا الْخطاب كُله مجَازًا، لَا حَقِيقَة فِيهِ وَلَو فِي مَوضِع وَاحِد، وبموضع وَاحِد مِنْهُ يحصل الْمَطْلُوب.
قَالَ الطوفي: (فَإِن قيل: هُوَ حَقِيقَة، وَلَكِن - كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ - بالاشتراك، كَمَا قُلْتُمْ: إِن الصِّفَات الْوَارِدَة فِي الشَّرْع لله تَعَالَى حَقِيقَة، لَكِن مُخَالفَة للصفات الْمُشَاهدَة، وَهِي مقولة بالاشتراك.(3/1302)
قُلْنَا: نَحن اضطرنا إِلَى القَوْل بالاشتراك فِي الصِّفَات وُرُود نُصُوص الشَّرْع الثَّابِتَة بهَا، فَأنْتم [مَا اضطركم] إِلَى إِثْبَات الْكَلَام النَّفْسِيّ؟
فَإِن قيل: دَلِيل الْعقل الدَّال: أَنه لَا صَوت إِلَّا من جسم.
قُلْنَا: فَمَا أفادكم إثْبَاته شَيْئا، لِأَن الْكَلَام النَّفْسِيّ الَّذِي أثبتموه لَا يخرج فِي الْحَقِيقَة عَن أَن يكون علما أَو تصورا - على مَا سبق تَقْرِيره عَن أئمتكم -، فَإِن كَانَ علما، فقد رجعتم معتزلة، ونفيتم الْكَلَام بِالْكُلِّيَّةِ، وموهتم على النَّاس بتسميتكم الْعلم كلَاما، وَإِن كَانَ تصورا، فالتصور فِي الشَّاهِد: حُصُول صُورَة الشَّيْء فِي الْعقل، وَإِنَّمَا يعقل فِي الْأَجْسَام، وَإِن عنيتم تصورا مُخَالفا للتصور فِي الشَّاهِد [لائقا بِجلَال] الله، فأثبتوا كلَاما [هُوَ عبارَة على] خلاف الشَّاهِد، لائقة بِجلَال الله تَعَالَى) انْتهى.
وَهُوَ كَلَام متين لَا محيد عَنهُ [للنمصف] .
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (قَالَ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل ": " أجمع أهل الْإِسْلَام: على أَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام -، وعَلى أَن الْقُرْآن كَلَام الله، وَكَذَا غَيره من الْكتب الْمنزلَة والصحف، ثمَّ اخْتلفُوا.(3/1303)
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: إِن كَلَام الله تَعَالَى صفة فعل مخلوقة، وَإنَّهُ كلم مُوسَى بِكَلَام أحدثه فِي الشَّجَرَة.
وَقَالَ أَحْمد وَمن تبعه: كَلَام الله هُوَ علمه لم يزل، وَلَيْسَ بمخلوق.
وَقَالَت الأشعرية: كَلَام الله صفة ذَات لم تزل، وَلَيْسَ بمخلوق، وَهُوَ غير علم الله تَعَالَى، وَلَيْسَ لله إِلَّا كَلَام وَاحِد.
وَاحْتج لِأَحْمَد بِأَن الدَّلَائِل القاطعة قَامَت على أَن الله تَعَالَى لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه بِوَجْه من الْوُجُوه، فَلَمَّا كَانَ كلامنا غَيرنَا، وَكَانَ مخلوقا، وَجب أَن يكون كَلَام الله لَيْسَ غَيره، وَلَيْسَ مخلوقا، وَأطَال فِي الرَّد على الْمُخَالفين لذَلِك.
وَقَالَ [غَيره] : اخْتلفُوا:
فَقَالَت الْجَهْمِية، والمعتزلة، وَبَعض الزيدية والإمامية، وَبَعض الْخَوَارِج: كَلَام الله مَخْلُوق، خلقه بمشيئته وَقدرته فِي بعض الْأَجْسَام: كالشجرة حِين كلم مُوسَى.(3/1304)
وَحَقِيقَة قَوْلهم: أَن الله تَعَالَى لَا يتَكَلَّم، [وَإِن] نسب إِلَيْهِ ذَلِك فبطريق الْمجَاز.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: يتَكَلَّم حَقِيقَة، لَكِن يخلق ذَلِك الْكَلَام فِي غَيره.
وَقَالَت الْكلابِيَّة: الْكَلَام صفة وَاحِدَة، قديمَة الْعين، لَازِمَة لذات الله كالحياة، وَإنَّهُ لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته، وتكليمه من كَلمه إِنَّمَا هُوَ خلق إِدْرَاك لَهُ يسمع بِهِ الْكَلَام، ونداؤه لمُوسَى لم يزل، لكنه أسمعهُ ذَلِك النداء حِين [ناداه] .
ويحكى عَن أبي مَنْصُور الماتريدي من الْحَنَفِيَّة نَحوه، لَكِن قَالَ: خلق صَوتا حِين ناداه فأسمعه كَلَامه.
وَزعم بَعضهم: أَن هَذَا مُرَاد السّلف الَّذين قَالُوا: إِن الْقُرْآن لَيْسَ بمخلوق.
[وَأخذ بقول ابْن كلاب القلانسي، والأشعري، وأتباعهما، وَقَالُوا: إِذا كَانَ الْكَلَام قَدِيما لعَينه، لَازِما لذات الرب، وَثَبت أَنه لَيْسَ بمخلوق] ، فالحروف لَيست قديمَة لِأَنَّهَا متعاقبة، وَمَا كَانَ مَسْبُوقا لغيره لم يكن قَدِيما، وَالْكَلَام الْقَدِيم معنى قَائِم بِالذَّاتِ لَا يَتَعَدَّد وَلَا يتَجَزَّأ، بل(3/1305)
هُوَ معنى وَاحِد، إِن عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فقرآن، أَو بالعبرانية فتوراة مثلا.
وَذهب بعض الْحَنَابِلَة وَغَيرهم: إِلَى أَن الْقُرْآن الْعَرَبِيّ كَلَام الله، وَكَذَا التَّوْرَاة، وَأَن الله تَعَالَى لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، وَأَنه تكلم بحروف الْقُرْآن، وأسمع من شَاءَ من الْمَلَائِكَة والأنبياء صَوته.
وَقَالُوا: إِن هَذِه الْحُرُوف والأصوات قديمَة لَازِمَة الذَّات، لَيست متعاقبة، بل لم تزل قَائِمَة بِذَات مقترنة لَا تسبق، والتعاقب إِنَّمَا يكون فِي حق الْمَخْلُوق بِخِلَاف الْخَالِق.
وَذهب أَكثر هَؤُلَاءِ: إِلَى أَن الْأَصْوَات والحروف هِيَ المسموعة من القارئين، وأبى ذَلِك كثير مِنْهُم فَقَالُوا: لَيست هِيَ المسموعة من القارئين.
وَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه مُتَكَلم بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيّ بمشيئته وَقدرته، بالحروف والأصوات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ، وَهُوَ غير مَخْلُوق، لكنه فِي الْأَزَل لم يتَكَلَّم؛ لِامْتِنَاع وجود الحادثات فِي الْأَزَل، فَكَلَامه حَادث فِي ذَاته لَا مُحدث.
وَذَهَبت الكرامية: إِلَى أَنه حَادث فِي ذَاته ومحدث.
وَذكر الْفَخر الرَّازِيّ فِي " المطالب الْعَالِيَة ": (أَن قَول من قَالَ: إِنَّه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام يقوم بِذَاتِهِ بمشيئته واختياره هُوَ أصح الْأَقْوَال نقلا وعقلا) ، وَأطَال فِي تَقْرِير ذَلِك.
وَالْمَحْفُوظ عَن جُمْهُور السّلف ترك الْخَوْض فِي ذَلِك والتعمق فِيهِ، والاقتصار على القَوْل بِأَن الْقُرْآن كَلَام الله تَعَالَى، وَأَنه غير مَخْلُوق، ثمَّ(3/1306)
السُّكُوت عَمَّا وَرَاء ذَلِك) ، انْتهى كَلَام الْحَافِظ ابْن حجر.
وَقَالَ - أَيْضا - بعد ذَلِك: (وَاخْتلف أهل الْكَلَام فِي أَن كَلَام الله تَعَالَى هَل هُوَ بِحرف وَصَوت أم لَا؟
فَقَالَت الْمُعْتَزلَة: لَا يكون الْكَلَام [إِلَّا بِحرف] وَصَوت، وَالْكَلَام الْمَنْسُوب إِلَى الله تَعَالَى قَائِم بِالشَّجَرَةِ.
وَقَالَت الأشاعرة: كَلَام الله لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت، وأثبتت الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَحَقِيقَته: معنى قَائِم بِالنَّفسِ، وَإِن اخْتلفت عَنهُ الْعبارَة: كالعربية والعجمية، واختلافها لَا يدل على اخْتِلَاف الْمعبر عَنهُ، وَالْكَلَام النَّفْسِيّ هُوَ ذَلِك الْمعبر عَنهُ.
وأثبتت الْحَنَابِلَة: أَنه الله تَعَالَى مُتَكَلم بِحرف وَصَوت، أما الْحُرُوف فللتصريح بهَا فِي ظَاهر الْقُرْآن، وَأما الصَّوْت فَمن منع قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْهَوَاء الْمُنْقَطع المسموع من الحنجرة.
وَأجَاب من أثْبته: بِأَن الصَّوْت الْمَوْصُوف بذلك هُوَ الْمَعْهُود من الْآدَمِيّين: كالسمع، وَالْبَصَر، وصفات الرب بِخِلَاف ذَلِك، فَلَا يلْزمه الْمَحْذُور الْمَذْكُور مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه وَعدم التَّشْبِيه، وَأَنه يجوز أَن يكون من غير الحنجرة فَلَا يلْزم التَّشْبِيه.(3/1307)
وَقد قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب السّنة ": (سَأَلت أبي عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله مُوسَى لم يتَكَلَّم بِصَوْت. فَقَالَ لي أبي: [بلَى] تكلم بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث تروى كَمَا جَاءَت، وَذكر حَدِيث ابْن مَسْعُود وَغَيره) .
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر - أَيْضا - فِي مَكَان آخر: (و [مُحَصل] مَا نقل عَن أهل الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال:
الأول: قَول الْمُعْتَزلَة: أَنه مَخْلُوق.
وَالثَّانِي: قَول الْكلابِيَّة: أَنه قديم قَائِم بِذَات الرب، لَيْسَ بحروف وَلَا أصوات، وَالْكَلَام الَّذِي بَين النَّاس عبارَة عَنهُ.
وَالثَّالِث: قَول السالمية: أَنه حُرُوف وأصوات قديمَة الْأَعْين، وَهُوَ عين هَذِه الْحُرُوف الْمَكْتُوبَة والأصوات المسموعة.
وَالرَّابِع: قَول الكرامية: أَنه مُحدث لَا مَخْلُوق.
وَالْخَامِس: أَن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَأَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ، نَص على ذَلِك أَحْمد فِي كتاب " الرَّد على الْجَهْمِية "، وافترق أَصْحَابه فرْقَتَيْن:
مِنْهُم من قَالَ هُوَ لَازم لذاته، والحروف والأصوات مقترنة لَا متعاقبة، وَيسمع كَلَامه من شَاءَ.
وَأَكْثَرهم قَالَ: إِنَّه يتَكَلَّم بِمَا شَاءَ، مَتى شَاءَ، وَإنَّهُ نَادَى مُوسَى حِين كَلمه، وَلم يكن ناداه من قبل.(3/1308)
وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ قَول الأشعرية: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف، مَحْفُوظ فِي الصُّدُور، مقروء بالألسنة، قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [التَّوْبَة: 6] ، وَقَالَ تَعَالَى: {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} [العنكبوت: 49] ، وَفِي " الصَّحِيح ": " لَا تسافروا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو كَرَاهِيَة أَن يَنَالهُ الْعَدو "، وَلَيْسَ المُرَاد مَا فِي الصُّدُور، بل مَا فِي الْمُصحف.
وَأجْمع السّلف على [أَن] الَّذِي بَين الدفتين كَلَام الله.
وَقَالَ بَعضهم: الْقُرْآن يُطلق وَيُرَاد بِهِ المقروء، وَهُوَ الصّفة الْقَدِيمَة، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْقِرَاءَة، وَهِي الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على ذَلِك، وبسبب ذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف.
وَأما قَوْلهم: إِنَّه منزه عَن الْحُرُوف والأصوات، فمرادهم الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة، فَهُوَ من الصِّفَات الْمَوْجُودَة الْقَدِيمَة، وَأما الْحُرُوف، فَإِن كَانَت حركات أَو أدوات: كاللسان والشفتين فَهِيَ أَعْرَاض، وَإِن كَانَت كِتَابَة فَهِيَ أجسام، وَقيام الْأَجْسَام والأعراض بِذَات الله محَال، وَيلْزم من [أثبت ذَلِك] ، أَن يَقُول بِخلق الْقُرْآن وَهُوَ يَأْبَى ذَلِك ويفر مِنْهُ،(3/1309)
فألجأ ذَلِك [بَعضهم إِلَى] ادِّعَاء قدم الْحُرُوف كَمَا التزمته السالمية.
وَمِنْهُم من الْتزم قيام ذَلِك بِذَاتِهِ، وَمن شدَّة اللّبْس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض، واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال، وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى.
وَقد جمع أَكثر أَقْوَال الْعلمَاء فِي ذَلِك.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي " الرَّد على الرافضي ": (هَذِه الْمَسْأَلَة - وَهِي كَلَام الله تَعَالَى - اضْطربَ النَّاس فِيهَا، وَعَامة الْكتب المصنفة فِي الْكَلَام وأصول الدّين لم يذكر أَصْحَابهَا جَمِيع الْأَقْوَال، بل مِنْهُم من يذكر قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُم من يذكر ثَلَاثَة أَقْوَال، وَمِنْهُم من يذكر أَرْبَعَة، وَمِنْهُم من يذكر خَمْسَة، وَأَكْثَرهم لَا يعْرفُونَ قَول السّلف، وَقد بلغت أَقْوَالهم إِلَى تِسْعَة:
أَحدهَا: أَن كَلَام الله تَعَالَى: هُوَ مَا يفِيض على النُّفُوس من الْمعَانِي، إِمَّا من الْعقل الفعال عِنْد بَعضهم، أَو من غَيره، وَهُوَ قَول الصابئة والمتفلسفة، وَمِنْهُم: ابْن سينا وَأَمْثَاله.
وَالثَّانِي: أَنه مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى مُنْفَصِلا عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم.
وَالثَّالِث: معنى وَاحِد قَائِم بِذَات الله تَعَالَى، [هُوَ] الْأَمر وَالنَّهْي(3/1310)
وَالْخَبَر والاستخبار، [إِن] عبر عَنهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِن عبر عَنهُ بالعبرية كَانَ توراة، وَهُوَ قَول ابْن كلاب وَمن وَافقه كالأشعري وَغَيره.
الرَّابِع: أَنه حُرُوف وأصوات أزلية، مجتمعة فِي الْأَزَل: وَهُوَ قَول طَائِفَة من أهل الْكَلَام والْحَدِيث، وَذكره الْأَشْعَرِيّ عَن طَائِفَة، وَهُوَ الَّذِي يذكر عَن السالمية وَنَحْوهم.
الْخَامِس: أَنه حُرُوف وأصوات، لَكِن تكلم الله بهَا بعد أَن لم يكن متكلما، وَهُوَ قَول الكرامية وَغَيرهم.
السَّادِس: أَن كَلَامه يرجع إِلَى مَا يحدث من علمه، وإرادته الْقَائِم بِذَاتِهِ، وَهُوَ قَول صَاحب " الْمُعْتَبر "، ويميل إِلَيْهِ الرَّازِيّ فِي " المطالب ".
السَّابِع: أَن كَلَامه يتَضَمَّن معنى قَائِما بِذَاتِهِ، هُوَ مَا خلقه [فِي] غَيره، وَهُوَ قَول أبي مَنْصُور الماتريدي.(3/1311)
الثَّامِن: أَنه مُشْتَرك بَين الْمَعْنى الْقَدِيم الْقَائِم بِالذَّاتِ، وَبَين مَا يخلقه فِي غَيره من الْأَصْوَات، وَهَذَا قَول أبي الْمَعَالِي وَمن تبعه.
التَّاسِع: [أَن يُقَال] : لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ، وَمَتى شَاءَ، وَكَيف شَاءَ، بِكَلَام يقوم بِهِ، وَهُوَ يتَكَلَّم بِهِ بِصَوْت يسمع، وَأَن نوع الْكَلَام قديم، وَإِن لم يكن الصَّوْت الْمعِين قَدِيما، وَهَذَا القَوْل هُوَ الْمَأْثُور عَن أَئِمَّة الحَدِيث وَالسّنة) انْتهى مُلَخصا.
وَمن أعظم [الْقَائِلين] بِهَذَا القَوْل الْأَخير الإِمَام أَحْمد، فَإِنَّهُ قَالَ: (لم يزل الله تَعَالَى متكلما كَيفَ شَاءَ بِلَا تكييف) ، وَفِي لفظ: (إِذا شَاءَ) .
قَالَ القَاضِي: (إِذا شَاءَ أَن يسمعنا) .
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: (لم يزل الله تَعَالَى يَأْمر بِمَا شَاءَ وَيحكم) .(3/1312)
وَقَالَ: (الْقُرْآن كَيفَ تصرف فَهُوَ غير مَخْلُوق، وَلَا نرى القَوْل بالحكاية والعبارة، وَمن قَالَ: الْقُرْآن عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى، فقد غلط وَجَهل) .
وَقَالَ - أَيْضا -: (الْعبارَة والحكاية بِدعَة لم يقلها السّلف، وَقَوله: " تكليما " يبطل الْحِكَايَة، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود) .
كَمَا تقدم فِي الْكَلَام على الْعبارَة والحكاية.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين - أَيْضا -: (لم يكن فِي كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَلَا الْأَئِمَّة: أَن الصَّوْت الَّذِي تكلم بِهِ قديم، بل يَقُولُونَ: لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ بِمَا شَاءَ، كَمَا يَقُوله الإِمَام أَحْمد، وَابْن الْمُبَارك، وَغَيرهمَا) .
وَقَالَ فِي " الرَّد على الرافضي ": (من الْعلمَاء من يَقُول لم يزل الله متكلما إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، كَمَا يَقُول أَئِمَّة السّنة والْحَدِيث: كَعبد الله بن الْمُبَارك، وَأحمد بن حَنْبَل، وَغَيرهمَا من أَئِمَّة السّنة) .
وَقَالَ: (قد تنَازع النَّاس فِي معنى كَون الْقُرْآن غير مَخْلُوق، هَل المُرَاد بِهِ أَن نفس الْكَلَام قديم أزلي كَالْعلمِ، أَو أَن الله تَعَالَى لم يزل مَوْصُوفا بِأَنَّهُ مُتَكَلم يتَكَلَّم إِذا شَاءَ؟ على قَوْلَيْنِ، ذكرهمَا الْحَارِث المحاسبي عَن أهل السّنة، وَأَبُو بكر عبد الْعَزِيز فِي كتاب [الشافي] عَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد،(3/1313)
وذكرهما أَبُو عبد الله بن حَامِد فِي كِتَابه الْأُصُول) . انْتهى كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ الْحَافِظ زين الدّين ابْن رَجَب الْحَنْبَلِيّ فِي كتاب مَنَاقِب الإِمَام أَحْمد ": (وَمن الْبدع الَّتِي أنكرها الإِمَام أَحْمد فِي الْقُرْآن: قَول من قَالَ: إِن الله تكلم بِغَيْر صَوت، فَأنْكر هَذَا القَوْل وبدع قَائِله.
قَالَ: وَقد قيل: إِن الْحَارِث المحاسبي إِنَّمَا هجره الإِمَام أَحْمد لأجل ذَلِك) انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَهَذَا سَبَب تحذير الإِمَام أَحْمد من الْحَارِث المحاسبي وَنَحْوه من الْكلابِيَّة) .
وَقَالَ: (إِنَّمَا أَمر الإِمَام أَحْمد بهجر الْحَارِث المحاسبي وَغَيره من أَصْحَاب ابْن كلاب لما أظهرُوا ذَلِك.
كَمَا أَمر السّري السَّقطِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1314)
[الْجُنَيْد] أَن يَتَّقِي بعض كَلَام الْحَارِث، فَذكرُوا أَن الْحَارِث رَحمَه الله تَابَ من ذَلِك، وَكَانَ لَهُ من الْعلم وَالْفضل والزهد وَالْكَلَام فِي الْحَقَائِق مَا هُوَ مَشْهُور عَنهُ.
وَحكى عَنهُ أَبُو بكر الكلاباذي صَاحب " مقالات الصُّوفِيَّة ": أَنه كَانَ يَقُول: إِن الله تَعَالَى يتَكَلَّم بِصَوْت، وَهَذَا يُوَافق قَول من قَالَ: إِنَّه رَجَعَ عَن قَول ابْن كلاب.
قَالَ أَبُو بكر الكلاباذي: (وَقَالَ طَائِفَة من الصُّوفِيَّة: كَلَام الله حُرُوف وأصوات، وَإنَّهُ لَا يعرف كَلَام إِلَّا كَذَلِك. مَعَ إقرارهم أَنه صفة لله فِي ذَاته، وَأَنه غير مَخْلُوق.
- قَالَ: - وَهُوَ الْحَارِث المحاسبي، وَمن الْمُتَأَخِّرين ابْن سَالم) . انْتهى.(3/1315)
قَالَ ابْن رَجَب فِي " المناقب ": (قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي " كتاب السّنة " لَهُ: فِي بَاب مَا جحدته الْجَهْمِية من كَلَام الله تَعَالَى مَعَ مُوسَى بن عمرَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (سَأَلت أبي عَن قوم يَقُولُونَ: لما كلم الله مُوسَى، لم يتَكَلَّم بِصَوْت، فَقَالَ أبي: بلَى، تكلم بِصَوْت، هَذِه الْأَحَادِيث يمرونها كَمَا جَاءَت، وَقَالَ أبي: حَدِيث ابْن مَسْعُود: " إِذا تكلم الله سمع لَهُ صَوت كمر سلسلة على الصفوان ".
وَقَالَ الْخلال: ثَنَا مُحَمَّد بن عَليّ ثَنَا يَعْقُوب بن بختان قَالَ:(3/1316)
سُئِلَ أَبُو عبد الله عَمَّن زعم أَن الله لم يتَكَلَّم بِصَوْت، فَقَالَ: " بلَى تكلم بِصَوْت ".
هَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ صحتا عَن الإِمَام أَحْمد بِلَا شكّ.
وَقَالَ البُخَارِيّ فِي كِتَابه " خلق أَفعَال الْعباد ": (وَيذكر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ يحب أَن يكون الرجل خفيض الصَّوْت، وَأَن الله تَعَالَى يُنَادي بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب، فَلَيْسَ هَذَا لغير الله تَعَالَى.
وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن صَوت الله تَعَالَى لَا يشبه صَوت الْخلق، لِأَن الله تَعَالَى يسمع من بعد كَمَا يسمع من قرب، وَأَن الْمَلَائِكَة يصعقون من صَوته، فَإِذا [تنادى] الْمَلَائِكَة لم يصعقوا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا} [الْبَقَرَة: 22] ، فَلَيْسَ لصفة الله ند وَلَا مثل، وَلَا يُوجد شَيْء من صِفَاته بالمخلوقين) هَذَا لَفظه بِعَيْنِه.
ثمَّ ذكر بعده حَدِيث عبد الله بن أنيس، ثمَّ حَدِيث ابْن مَسْعُود، وسيأتيان فِي جملَة الْأَحَادِيث.(3/1317)
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه ": (قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثمَّ يناديهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب "، حمله بعض الْأَئِمَّة على مجَاز الْحَذف، أَي: يَأْمر من يُنَادي، واستبعده بعض من أثبت الصَّوْت: بِأَن فِي قَوْله: " يسمعهُ من بعد "، إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ من الْمَخْلُوقَات، لِأَنَّهُ لم يعْهَد مثل هَذَا فيهم، وَبِأَن الْمَلَائِكَة إِذا سَمِعُوهُ صعقوا، وَإِذا سمع بَعضهم بَعْضًا لم يصعقوا.
قَالَ: فعلى هَذَا فصوته صفة من صِفَات ذَاته لَا تشبه صَوت غَيره، إِذْ لَيْسَ يُوجد شَيْء من صِفَاته فِي صِفَات المخلوقين.
قَالَ: وَهَكَذَا قَرَّرَهُ المُصَنّف - يَعْنِي بِهِ البُخَارِيّ - فِي كتاب " خلق أَفعَال الْعباد ") انْتهى.
وَقَالَ الإِمَام مَالك الصَّغِير، أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي زيد القيرواني فِي " عقيدة " لَهُ: (وَأَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه، لَا كلَاما قَامَ فِي غَيره) انْتهى.(3/1318)
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ فِي " عقيدته ": (وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا، وَصدقه الْمُؤْمِنُونَ على ذَلِك حَقًا، وأيقنوا أَنه كَلَام الله بِالْحَقِيقَةِ) انْتهى.
فَقَالَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، فَقَالَ: كَلَام الله قَول، وَهُوَ صَرِيح.
وَنقل الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": (أَن الْفَقِيه أَبَا بكر - أحد الْأَئِمَّة من تلامذة إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة - أمْلى اعْتِقَاده وَفِيه:(3/1319)
" لم يزل الله متكلما وَلَا مثل لكَلَامه "، فاستصوبه ابْن خُزَيْمَة) .
وَذكر القَاضِي أَبُو حُسَيْن [ابْن] القَاضِي أبي يعلى فِي كِتَابه " المرتضى من الدَّلَائِل ": (أَن الْقَادِر بِاللَّه جمع الْعلمَاء من سَائِر الْفرق، وَكتب رِسَالَة فِي الِاعْتِقَاد، وقرئت على الْعلمَاء كلهم، وأقروا بهَا، وَكَتَبُوا خطوطهم عَلَيْهَا، وَأَنه لَيْسَ لَهُ اعْتِقَاد إِلَّا هَذَا، وقرئت مرَارًا فِي أَمَاكِن كَثِيرَة، وفيهَا:(3/1320)
" أَن الْقُرْآن كَلَام الله، غير مَخْلُوق، تكلم بِهِ تكلما، وأنزله على رَسُوله مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على لِسَان جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، بعد مَا سَمعه جِبْرِيل من الله تَعَالَى، فتلاه جِبْرِيل على مُحَمَّد، وتلاه مُحَمَّد على أَصْحَابه، وتلاه أَصْحَابه على الْأمة، وَلم يصر بِتِلَاوَة المخلوقين لَهُ مخلوقا، [لِأَنَّهُ] ذَلِك الْكَلَام بِعَيْنِه الَّذِي تكلم الله بِهِ، وَأطَال فِي ذَلِك) انْتهى.
وَقد تقدم أَن الْحَافِظ ابْن حجر حكى إِجْمَاع السّلف على أَن الْقُرْآن كَلَام [الله] غير مَخْلُوق، تَلقاهُ جِبْرِيل عَن الله، وبلغه جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وبلغه مُحَمَّد إِلَى أمته.(3/1321)
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب " صيد الخاطر ": (نهى الشَّرْع عَن الْخَوْض فِيمَا يثير غُبَار شُبْهَة، وَلَا يقوى على قطع طَرِيقه إقدام الْفَهم، وَإِذا كَانَ قد نهى عَن الْخَوْض فِي الْقدر، فَكيف يُجِيز الْخَوْض فِي صِفَات الْمُقدر؟ وَمَا ذَاك إِلَّا لأحد أَمريْن:
إِمَّا لخوف إثارة شُبْهَة تزلزل العقائد.
أَو لِأَن قوى الْبشر تعجز عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق) .
وَاسْتدلَّ لما ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وأئمة الحَدِيث وَالسَّلَف، بِالْكتاب، وَالسّنة، والْآثَار، والفطرة، وَالْعقل.
أما الْكتاب فقد تقدم فِي غيرما آيَة؛ إِذْ الْقُرْآن مَمْلُوء من المناداة، والمناجاة، وَالْقَوْل بالماضي، والمضارع، وَالْكَلَام بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، والمصدر الْمُؤَكّد الْمُضَاف إِلَى اسْم الله تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليما (164) } [النِّسَاء: 164] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه} [الْأَعْرَاف: 143] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} [الْأَعْرَاف:(3/1322)
144 -] ، وَقَالَ: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} [الْفَتْح: 15] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن حق القَوْل مني} [السَّجْدَة: 13] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} [مَرْيَم: 52] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين} [الشُّعَرَاء: 10] ، وَقَالَ تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (15) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى} [النازعات: 15 - 16] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فاستمع لما يُوحى} [طه: 13] ، وَكَانَ يكلمهُ من وَرَاء حجاب لَا ترجمان بَينهمَا، واستماع الْبشر فِي الْحَقِيقَة لَا يَقع إِلَّا للصوت، وَمن زعم أَن غير الصَّوْت يجوز فِي الْعقل أَن يسمعهُ من كَانَ على هَذِه الْبَيِّنَة الَّتِي نَحن عَلَيْهَا [احْتَاجَ] إِلَى دَلِيل، وَقد قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطيء الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} [الْقَصَص: 30] ، والنداء عِنْد الْعَرَب: صَوت لَا غير، وَلم يرد عَن الله وَلَا عَن رَسُوله وَلَا أحد من السّلف أَنه من الله غير صَوت، ومُوسَى مُكَلم بِلَا وَاسِطَة إِجْمَاعًا.
وَقد قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة طه: {نُودي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنا رَبك} [طه: 11 - 12] : (قَالَ وهب: " نُودي من الشَّجَرَة فَقيل: يَا مُوسَى، فَأجَاب سَرِيعا مَا يدْرِي من دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي أسمع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك؛ فَأَيْنَ أَنْت؟(3/1323)
قَالَ: أَنا فَوْقك، ومعك، وأمامك، وخلفك، وَأقرب إِلَيْك من نَفسك، فَعلم أَن ذَلِك لَا يَنْبَغِي إِلَّا لله فأيقن بِهِ) انْتهى.
وَذكر أَبُو نصر السجسْتانِي فِي كِتَابه " الرَّد على من أنكر الْحَرْف وَالصَّوْت ": عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر [بن] عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن جرير بن جَابر عَن كَعْب أَنه قَالَ: " لما كلم الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلمه بالألسنة كلهَا قبل لِسَانه، فَطَفِقَ مُوسَى يَقُول: وَالله يَا رب مَا أفقه هَذَا، حَتَّى كَلمه بِلِسَانِهِ آخر الْأَلْسِنَة بِمثل صَوته ".
قَالَ: وَهُوَ مَحْفُوظ عَن الزُّهْرِيّ، رَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي عَتيق(3/1324)
والزبيدي، وَمعمر، وَيُونُس بن يزِيد، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وهم كلهم أَئِمَّة، وَلم يُنكره وَاحِد مِنْهُم.
وَقَوله: " بِمثل صَوته "، مَعْنَاهُ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَسبه مثل صَوته فِي تمكنه من سَمَاعه وَبَيَانه عِنْده.
ويوضحه قَوْله تَعَالَى: " لَو كلمتك بكلامي لم تَكُ شَيْئا وَلم تستقم لَهُ " انْتهى.
وَذكر الشَّيْخ موفق الدّين فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: (أَنه لما رآى النَّار هالته وفزع مِنْهَا، فناداه ربه: " يَا مُوسَى " فَأجَاب سَرِيعا - استئناسا بالصوت - فَقَالَ: لبيْك لبيْك، أسمع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك فَأَيْنَ أَنْت؟ قَالَ: فَوْقك، وأمام، ووراءك، وَعَن يَمِينك، وَعَن شمالك، فَعلم أَن هَذِه الصّفة لَا تنبغي إِلَّا لله تَعَالَى، قَالَ: فَكَذَلِك أَنْت يَا إلهي، أفكلامك أسمع أم كَلَام رَسُولك؟ قَالَ: بل كَلَامي يَا مُوسَى) .
وَقَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: (بِمَ شبهت صَوت رَبك؟) .(3/1325)
قَالَ: " إِنَّه لَا شبه لَهُ ".
وَرُوِيَ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام الْآدَمِيّين مقتهم، لما وقر فِي مسامعه من كَلَام الله تَعَالَى.
وَأما السّنة: فقد نقل الطوفي فِي " شَرحه " عَن الْحَافِظ ابْن شكر أَنه قَالَ: صَحَّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَة عشر حَدِيثا فِي الصَّوْت، كَمَا تقدم ذَلِك.
وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه "، وَفِي " خلق أَفعَال الْعباد " جملَة من ذَلِك.
وَكَذَلِكَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " تصنيفه ".
وَجمع الْحَافِظ الضياء الْمَقْدِسِي جُزْءا فِي ذَلِك.
وَذكرت من ذَلِك فِي هَذَا الْكتاب جملَة صَالِحَة، فَمِنْهَا:(3/1326)
الحَدِيث الأول: مَا روى جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: خرجت إِلَى الشَّام إِلَى عبد الله بن أنيس الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ عبد الله بن أنيس: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " يحْشر الله الْعباد - أَو قَالَ: يحْشر الله النَّاس - قَالَ: وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّام عُرَاة غرلًا بهما.
قَالَ: قلت: مَا بهما؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهم شَيْء، فينادي بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمعهُ من قرب: أَنا الْملك [أَنا] الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة وَأحد من أهل النَّار يُطَالِبهُ بمظلمة، وَلَا يَنْبَغِي لأحد من أهل النَّار أَن يدْخل النَّار وَأحد من أهل الْجنَّة يُطَالِبهُ بمظلمة ".
قَالُوا: كَيفَ وَإِنَّا نأتي الله غرلًا بهما؟
قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ والسيئات ".
أخرج أَصله البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَعْلِيقا مستشهدا بِهِ، إِلَى قَوْله: " الديَّان "، وَأخرجه بِتَمَامِهِ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1327)
[فِي] " الْأَدَب الْمُفْرد "، وَأخرجه الإِمَام أَحْمد، وَأَبُو يعلى، [و] الطَّبَرَانِيّ.
وَفِي طَرِيق أُخْرَى ذكرهَا الْحَافِظ الضياء بِسَنَدِهِ إِلَى جَابر، قَالَ جَابر: (بَلغنِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث فِي الْقصاص، وَكَانَ صَاحب الحَدِيث بِمصْر، فاشتريت بَعِيرًا، فشددت عَلَيْهِ رحلا، فسرت عَلَيْهِ حَتَّى وَردت مصر، فقصدت إِلَى بَاب الرجل الَّذِي بَلغنِي عَنهُ الحَدِيث، فقرعت الْبَاب، فَخرج إِلَيّ مَمْلُوك لَهُ، فَنظر فِي وَجْهي وَلم يكلمني، فَدخل على سَيّده فَقَالَ:(3/1328)
أَعْرَابِي على الْبَاب، فَقَالَ: سل من أَنْت؟ فَقلت: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، فَخرج إِلَيّ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا تراءينا اعتنق أَحَدنَا صَاحبه، فَقَالَ: يَا جَابر مَا جِئْت تعرف؟ فَقلت: حَدِيث بَلغنِي عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقصاص، وَلَا أَظن أحدا مِمَّن مضى أَو مِمَّن بَقِي أحفظ لَهُ مِنْك، قَالَ: نعم يَا جَابر: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يبعثكم يَوْم الْقِيَامَة من قبوركم حُفَاة عُرَاة غرلًا بهما، ثمَّ يُنَادي بِصَوْت رفيع غير فظيع، يسمع من بعد كمن قرب: أَنا الديَّان، لَا تظالم الْيَوْم، أما وَعِزَّتِي لَا يجاوزني الْيَوْم ظَالِم، وَلَو لطمة كف بكف أَو يَد على يَد ".
أَلا وَإِن أَشد مَا أَتَخَوَّف على أمتِي من بعدِي عمل قوم لوط، فلترتقب أمتِي الْعَذَاب إِذا تكافأ النِّسَاء بِالنسَاء وَالرِّجَال بِالرِّجَالِ) .
الحَدِيث الثَّانِي: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذا قضى الله الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت الْمَلَائِكَة بأجنحتها تَصْدِيقًا لقَوْله، كَأَنَّهُ سلسلة على صَفْوَان فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا: مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير ... " إِلَى آخِره، رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة.(3/1329)
الحَدِيث الثَّالِث: مَا روى ابْن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله تَعَالَى إِذا تكلم بِالْوَحْي، سمع أهل السَّمَاء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصَّفَا، فيصعقون، فَلَا يزالون كَذَلِك حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِذا جَاءَهُم جِبْرِيل فزع عَن قُلُوبهم، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالَ: يَقُول الْحق، قَالَ: فينادون: الْحق الْحق "، أخرجه أَبُو دَاوُد، وَرِجَاله ثِقَات.
الحَدِيث الرَّابِع: مَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود - أَيْضا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله - عز وَجل - إِذا تكلم بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَوَات السَّبع صلصلة كصلصلة السلسلة على الصَّفَا، قَالَ: فيفزعون حَتَّى يَأْتِيهم جِبْرِيل، فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم يَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل مَاذَا قَالَ رَبك؟
قَالَ: فَيَقُول: الْحق، قَالُوا: الْحق الْحق ".
رَوَاهُ أَحْمد بن الصَّباح بن أبي سُرَيج، عَن أبي ... ... ... ... ... ... ...(3/1330)
مُعَاوِيَة.
الحَدِيث الْخَامِس: بِمَعْنى الَّذِي قبله.
قَالَ شيخ الْإِسْلَام موفق الدّين فِي " تصنيفه ": روى عبد الله بن أَحْمد قَالَ: سَأَلت أبي فَقلت: يَا أبه، الْجَهْمِية يَزْعمُونَ أَن الله لَا يتَكَلَّم(3/1331)
بِصَوْت، فَقَالَ: كذبُوا، إِنَّمَا يدورون على التعطيل، ثمَّ قَالَ الإِمَام أَحْمد: ثَنَا [عبد الرَّحْمَن] بن مُحَمَّد الْمحَاربي قَالَ حَدثنِي الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع صَوته أهل السَّمَاء ".
قَالَ السجْزِي: (وَمَا فِي رُوَاة هَذَا الْخَبَر إِلَّا إِمَام مَقْبُول) انْتهى.
وتتمة الحَدِيث: " فَيَخِرُّونَ سجدا حَتَّى إِذا فُزّع عَن قُلُوبهم: قَالَ: سكن عَن قُلُوبهم، نَادَى أهل السَّمَاء مَاذَا قَالَ ربكُم؟ قَالُوا: الْحق قَالَ كَذَا(3/1332)
وَكَذَا ".
قَالَ القَاضِي أَبُو حُسَيْن وَغَيره: (وَمثل هَذَا لَا يَقُوله ابْن مَسْعُود إِلَّا توقيفا، لِأَنَّهُ إِثْبَات صفة الذَّات) انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الحَدِيث السَّادِس: مَا روى بهز عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(3/1333)
قَالَ: " إِذا نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فزع أهل السَّمَوَات لانحطاطه، وسمعوا صَوت الْوَحْي كأشد مَا يكون صَوت الْحَدِيد على الصَّفَا، فَكلما مر بِأَهْل سَمَاء فُزّع عَن قُلُوبهم، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيل بِمَ أمرت؟ فَيَقُول: نور الْعِزَّة الْعَظِيم، كَلَام الله بِلِسَان عَرَبِيّ ".
الحَدِيث السَّابِع: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} [سبأ: 23] .
قَالَ: " لما أوحى الْجَبَّار عز وَجل إِلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا الرَّسُول من الْمَلَائِكَة ليَبْعَثهُ بِالْوَحْي، فَسمِعت الْمَلَائِكَة صَوت الْجَبَّار يتَكَلَّم بِالْوَحْي، فَلَمَّا كشف عَن قُلُوبهم، سَأَلُوا عَمَّا قَالَ؟ قَالُوا: الْحق، وَعَلمُوا أَن الله لَا يَقُول إِلَّا حَقًا، وَأَنه منجز مَا وعد.(3/1334)
- قَالَ ابْن عَبَّاس -: وَصَوت الْوَحْي كصوت الْحَدِيد على الصَّفَا، فَلَمَّا سَمِعُوهُ خروا سجدا، فَلَمَّا رفعوا رؤوسهم قَالُوا: [مَاذَا قَالَ] ربكُم؟ قَالُوا: الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير ".
الحَدِيث الثَّامِن: مَا رَوَاهُ أَبُو سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَقُول الله تَعَالَى: يَا آدم، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك، فينادي بِصَوْت: إِن الله يَأْمُرك أَن تخرج من ذريتك بعثا إِلَى النَّار " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره.
الحَدِيث التَّاسِع: مَا رَوَاهُ النواس بن سمْعَان، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يوحي بِأَمْر تكلم بِالْوَحْي، أخذت السَّمَوَات مِنْهُ رَجْفَة شَدِيدَة من خوف الله تَعَالَى، فَإِذا سمع بذلك أهل السَّمَاء صعقوا وخروا سجدا، فَيكون أَوَّلهمْ يرفع رَأسه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فيكلمه الله من وحيه بِمَا أَرَادَ، فينتهي بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَلَائِكَة، كلما مر بسماء سَأَلَهُ أَهلهَا: مَاذَا قَالَ رَبنَا يَا جِبْرِيل؟ فَيَقُول جِبْرِيل: قَالَ الْحق وَهُوَ الْعلي(3/1335)
الْكَبِير، فَيَقُولُونَ كلهم مِثْلَمَا قَالَ جِبْرِيل، فينتهي بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ أَمر من السَّمَاء وَالْأَرْض ".
رَوَاهُ الْحَافِظ ضِيَاء الدّين بِسَنَدِهِ إِلَى عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حَيَّان، مُتَّصِلا إِلَى النواس بن سمْعَان.
الحَدِيث الْعَاشِر: مَا رَوَاهُ جَابر بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ رَسُول [الله]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعرض نَفسه على النَّاس بالموقف، وَيَقُول: " أَلا رجل يحملني إِلَى قومه؛ فَإِن قُريْشًا قد مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة.
الحَدِيث الْحَادِي عشر: مَا رَوَاهُ جَابر - أَيْضا - قَالَ: لما قتل أبي يَوْم(3/1336)
أحد، قَالَ لي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا جَابر، أَلا أخْبرك بِمَا قَالَ الله تَعَالَى لأَبِيك، قَالَ: بلَى، قَالَ: وَمَا كلم الله أحدا إِلَّا من وَرَاء حجاب إِلَّا أَبَاك، فَكلم الله أَبَاك كفاحا، فَقَالَ: يَا عبد الله تمن عَليّ أعطك، قَالَ: يَا رب تردني فأقتل فِيك ثَانِيَة، فَقَالَ: سبق مني القَوْل: إِنَّهُم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ، فَقَالَ: يَا رب أخبر من ورائي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله} الْآيَة [آل عمرَان: 169] " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة.
الحَدِيث الثَّانِي عشر: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله تَعَالَى قَرَأَ {طه} و {يس} قبل أَن يخلق آدم بِأَلف عَام، فَلَمَّا سَمِعت(3/1337)
الْمَلَائِكَة قَالَت: طُوبَى لأمة ينزل هَذَا عَلَيْهِم، وطوبى لأجواف تحمل هَذَا، وطوبى لألسن تكلم بِهِ " رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة.(3/1338)
الحَدِيث الثَّالِث عشر: مَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أذن الله لعبد فِي شَيْء أفضل من رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهمَا، وَإِن الْبر ليذر على رَأس العَبْد مَا دَامَ فِي صلَاته، وَمَا تقرب الْعباد إِلَى الله بِمثل مَا خرج مِنْهُ ".(3/1339)
قَالَ أَبُو النَّضر: يَعْنِي الْقُرْآن.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ - أَيْضا - بِلَفْظ:(3/1340)
" مَا أذن الله لعبد "، وَسَاقه - أَيْضا - من غير طَرِيقه.
الحَدِيث الرَّابِع عشر: مَا رَوَاهُ عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الرب تَعَالَى على خلقه، وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ ".(3/1341)
رَوَاهُ الْحَافِظ - أَيْضا - بِسَنَدِهِ.
وروى - أَيْضا - بِسَنَدِهِ عَن عِكْرِمَة، قَالَ: " صليت مَعَ ابْن عَبَّاس على جَنَازَة، فَسمع رجلا يَقُول: يَا رب الْقُرْآن اغْفِر لَهُ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اسْكُتْ فَإِن الْقُرْآن كَلَام الله لَيْسَ بمربوب، مِنْهُ خرج وَإِلَيْهِ يعود ".
الحَدِيث الْخَامِس [عشر] : مَا رَوَاهُ أَبُو شُرَيْح، قَالَ: خرج علينا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَبْشِرُوا، أَبْشِرُوا، ألستم تَشْهَدُون أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَنِّي رَسُول الله؟ "، قَالُوا: بلَى، قَالَ: " فَإِن هَذَا الْقُرْآن سَبَب، طرفه بيد الله، وطرفه [بِأَيْدِيكُمْ] ، فَتمسكُوا بِهِ، فَإِنَّكُم لن تضلوا وَلنْ تهلكوا بعده أبدا "، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة "، وروى مَعْنَاهُ أَبُو دَاوُد(3/1342)
الطَّيَالِسِيّ.
وَفِي " الصَّحِيح ": " مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيكلمه ربه يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان ".
هَذَا آخر الْأَحَادِيث الَّتِي نقلناها من جُزْء الْحَافِظ ضِيَاء الدّين وَغَيره، الْمُشْتَمل على الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْحَرْف وَالصَّوْت، وَهِي قريب من ثَلَاثِينَ حَدِيثا، بَعْضهَا صِحَاح، وَبَعضهَا حسان مُحْتَج بهَا، وَقد أخرج غالبها الْحَافِظ(3/1343)
ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ "، وغالبها احْتج بهَا الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَغَيرهمَا من أَئِمَّة الحَدِيث على أَن الله تَعَالَى تكلم بِصَوْت، وهم أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن، والمقتدى بهم فِيهِ، والمرجع إِلَيْهِم، وَقد صححوا هَذِه الْأَحَادِيث واعتمدوا عَلَيْهَا، واعتقدوا مَا فِيهَا، منزهين لله عَمَّا لَا يَلِيق بجلاله من شُبُهَات الْحُدُوث وَغَيرهَا، كَمَا قَالُوا فِي سَائِر الصِّفَات.
فَإِذا رَأينَا أحدا من النَّاس مَا يقدر عشر معشار أحد هَؤُلَاءِ يَقُول: لم يَصح عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيث وَاحِد أَنه تكلم بِصَوْت، ورأينا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة - أَئِمَّة الْإِسْلَام الَّذين اعْتمد أهل الْإِسْلَام على أَقْوَالهم، وَعمِلُوا بهَا، ودونوها، ودانوا الله بهَا - صَرَّحُوا بِأَن الله تَعَالَى تكلم بِصَوْت لَا يُشبههُ صَوت مَخْلُوق بِوَجْه من الْوُجُوه الْبَتَّةَ، معتمدين على مَا صَحَّ عِنْدهم عَن صَاحب الشَّرِيعَة الْمَعْصُوم فِي أَقْوَاله وأفعاله، الَّذِي لَا ينْطق عَن الْهوى، إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى، مَعَ اعْتِقَادهم - الجازمين بِهِ، لَا يَعْتَرِيه شكّ وَلَا وهم(3/1344)
وَلَا خيال - نفي التَّشْبِيه والتمثيل والتكييف، وَأَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي صفة الْكَلَام، كَمَا يَقُولُونَ فِي جَمِيع صِفَات الله تَعَالَى، من النُّزُول، والمجيء، والاستواء، والسمع، وَالْبَصَر، وَالْيَد، وَغَيرهَا، كَمَا قَالَه سلف هَذِه الْأمة الصَّالح مَعَ إثباتهم لَهَا، {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} [يُونُس: 32] ، {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} [النُّور: 40] .
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين فِي " تصنيفه ": [وَإِذا] كَانَ حَقِيقَة التَّكَلُّم والمناداة شَيْئا، وتواردت الْأَخْبَار والْآثَار بِهِ، فَمَا إِنْكَاره إِلَّا عناد وَاتِّبَاع للهوى الْمُجَرّد، وصدوف عَن الْحق، وَترك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم) انْتهى.
وحد الصَّوْت: مَا يتَحَقَّق سَمَاعه، فَكل مُتَحَقق سَمَاعه صَوت، وكل مَا لَا يَتَأَتَّى سَمَاعه الْبَتَّةَ لَيْسَ بِصَوْت، وَحجَّة الْحَد كَونه مطردا منعكسا.
وَقَول من قَالَ: إِن الصَّوْت هُوَ الْخَارِج من هَوَاء بَين جرمين، فَغير صَحِيح، لِأَنَّهُ يُوجد سَماع الصَّوْت من غير ذَلِك، كتسليم الْأَحْجَار، وتسبيح الطَّعَام وَالْجِبَال، وَشَهَادَة الْأَيْدِي والأرجل، وحنين الْجذع،(3/1345)
وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاء: 44] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد} [ق: 30] ، وَمَا لشَيْء من ذَلِك منخرق بَين جرمين.
وَقد أقرّ الْأَشْعَرِيّ: أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} [فصلت: 11] ، حَقِيقَة لَا مجَازًا، وَالله أعلم.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (وَلَا نزاع بَين الْعلمَاء أَن كَلَام الله لَا يُفَارق ذَات الله سُبْحَانَهُ، وَأَنه لَا يباينه كَلَامه وَلَا شَيْء من صِفَاته، بل لَيْسَ شَيْء من صفة مَوْصُوف تبَاين موصوفها وتنتقل إِلَى غَيره، فَكيف يتَوَهَّم عَاقل أَن كَلَام الله يباينه وينتقل إِلَى غَيره؟ وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: " كَلَام الله من الله لَيْسَ ببائن مِنْهُ ".
وَقد جَاءَ فِي الْأَحَادِيث والْآثَار: " أَنه مِنْهُ بَدَأَ - أَو مِنْهُ خرج - وَإِلَيْهِ يعود " - كَمَا تقدم -، وَنَصّ عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره، وَمعنى ذَلِك: أَنه هُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ، [لم يخرج من غَيره] ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك: أَنه يباينه وانتقل عَنهُ
قَالَ: وَمَعْلُوم أَن كَلَام الْمَخْلُوق لَا يباين مَحَله) انْتهى.(3/1346)
قلت: قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (قَالَ أَحْمد: " مِنْهُ بَدَأَ [وَإِلَيْهِ] يعود ".
وَقَالَ أَيْضا: " مِنْهُ بَدَأَ علمه، وَإِلَيْهِ يعود حكمه ".
وَقَالَ تَارَة: " مِنْهُ خرج، وَهُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ، وَإِلَيْهِ يعود ".
وَقَالَ تَارَة: " الْقُرْآن من علم الله ".
قَالَ ابْن جلبة - يَعْنِي: من أَصْحَابنَا -: عوده على حد حَقِيقَة الْعُلُوم، وَهِي رَاجِعَة إِلَى الله تَعَالَى، وارتفاع الْقُرْآن دفْعَة عَن النَّاس، وترفع تِلَاوَته وَأَحْكَامه فَيَعُود إِلَى الله تَعَالَى حَقِيقَة، نَص عَلَيْهِ أَحْمد) انْتهى.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ فِي " اعْتِقَاد " [صنفه] : (قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَعبد الله بن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1347)
مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس: " الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود ".
وَرُوِيَ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ: سَمِعت عَمْرو بن دِينَار يَقُول: " أدْركْت مَشَايِخنَا وَالنَّاس مُنْذُ سبعين سنة يَقُولُونَ: الْقُرْآن كَلَام الله مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود " رَوَاهُ ابْن جرير، والحافظ هبة الله بن الْحسن بن مَنْصُور الطبريان.
وروى التِّرْمِذِيّ عَن خباب بن الْأَرَت: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّكُم لن(3/1348)
تتقربوا إِلَى الله بِأَفْضَل مِمَّا خرج مِنْهُ "، يَعْنِي: الْقُرْآن) انْتهى نقل الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ.
وَذهب الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه: إِلَى أَن الْقِرَاءَة هُوَ المقروء والتلاوة هِيَ المتلو.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: (وَأما مَا نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَنه سوى بَينهمَا فَإِنَّمَا أَرَادَ حسم الْمَادَّة لِئَلَّا يتدرج أحد إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن، كَمَا نقل عَنهُ أَنه أنكر على من قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق، أَو غير مَخْلُوق، حسما للمادة) انْتهى.
وَإِلَّا فَلَا يخفى الْفرق بَينهمَا، وَهُوَ ظَاهر.
فَإِن قيل: أَي الْمذَاهب أقرب إِلَى الْحق من هَذِه الْأَقْوَال التِّسْعَة؟
قلت: إِن صحت الْأَحَادِيث بِذكر الصَّوْت فَلَا كَلَام فِي أَنه أولى وَأَحْرَى(3/1349)
وَأَصَح من جَمِيع الْمذَاهب، مَعَ الِاعْتِقَاد فِيهِ بِمَا يَلِيق بِجلَال الله وعظمته وكبريائه، من غير تَشْبِيه بِوَجْه من الْوُجُوه الْبَتَّةَ، وَقد صحت الْأَحَادِيث بِحَمْد الله تَعَالَى، وصححها الْأَئِمَّة الْكِبَار الْمُعْتَمد عَلَيْهِم: كَالْإِمَامِ أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، وَالْإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَالْإِمَام عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، وَغَيرهم، حَتَّى الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر فِي زمننا قَالَ: (قد صحت الْأَحَادِيث فِي ذَلِك) - كَمَا تقدم عَنهُ - وَكَذَلِكَ [صححها غَيره] من الْمُحدثين، وَفِي ذَلِك كِفَايَة وهداية، وَلَوْلَا أَن الصَّادِق المصدوق الْمَعْصُوم قَالَ ذَلِك لما قُلْنَاهُ وَلَا حمنا حوله، كَمَا قَالَ السهروردي ذَلِك فِي " عقيدته " - كَمَا تقدم عَنهُ - فَإِن صِفَات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تعرف إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمَحْض من الْكتاب الْعَزِيز، أَو من صَاحب الشَّرِيعَة - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ - وَتَصْحِيح هَؤُلَاءِ وإثباتهم للأحاديث بِذكر الصَّوْت، أولى من نفي من نفى أَنه لم يَأْتِ فِي حَدِيث وَاحِد ذكر الصَّوْت، من وُجُوه عديدة مِنْهَا:
أَن الْمُثبت مقدم على النَّافِي.
وَمِنْهَا: عظم الْمُصَحح وجلالة قدره وَكَثْرَة اطِّلَاعه، لَا سِيمَا فِي إِثْبَات صفة لله تَعَالَى مَعَ الزّهْد الْعَظِيم والورع المتين، أفيليق بِالْإِمَامِ أَحْمد، وَالْإِمَام عبد الله بن الْمُبَارك، أَو البُخَارِيّ، أَو غَيرهم من السّلف الصَّالح، أَن يثبتوا(3/1350)
لله تَعَالَى صفة من صِفَاته من غير دَلِيل؟ ويدينون الله بهَا، ويعتقدونها، ويهجرون من يُخَالِفهَا، من غير دَلِيل صَحَّ عِنْدهم، وَهل [يعْتَقد هَذَا مُسلم] يُؤمن بِاللَّه وباليوم الآخر؟ فضلا عَن إِمَام من أَئِمَّة الْإِسْلَام المقتدى بأقواله وأفعاله.
ثمَّ بعد هَذَا الْمَذْهَب من الْمذَاهب الْبَاقِيَة مَا ذكره الْحَافِظ ابْن حجر فِي " شَرحه " بقوله: (وَمن شدَّة اللّبْس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كثر نهي السّلف عَن الْخَوْض فِيهَا، واكتفوا باعتقاد: أَن الْقُرْآن كَلَام الله - عز وَجل - غير مَخْلُوق، وَلم يزِيدُوا على ذَلِك شَيْئا، وَهُوَ أسلم الْأَقْوَال وَالله الْمُسْتَعَان) انْتهى.
وَالظَّاهِر - وَالله أعلم - إِنَّمَا اكْتفى السّلف بذلك حسما لمادة الْكَلَام فِي ذَلِك، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من وُقُوع النَّاس فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَالَّتِي قبلهَا بِكَثِير، لإثارة شبه كَثِيرَة توجب الْخبط فِي العقائد، وسد الذريعة، كَمَا سد الإِمَام أَحْمد الْبَاب فِي أَن من قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق) جهمي، وَمن قَالَ: (لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غير مَخْلُوق " مُبْتَدع.
وَإِنَّمَا أطلت الْكَلَام فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، ونقلت كَلَام الْعلمَاء المعتبرين(3/1351)
فِيهَا، ليعلم ذَلِك، وَيعلم أَقْوَال الْعلمَاء، وَالْقَائِل بِكُل قَول، وَيعرف قَائِله وَقدره ومكانته فِي الْعلم وَعند الْعلمَاء، إِذْ غَالب النَّاس فِي هَذِه الْأَزْمِنَة يَقُول: (من قَالَ: إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، يكون كَافِرًا) ، فَهَذَا الإِمَام أَحْمد - رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ - قد صرح فِي غير رِوَايَة بِأَن الله يتَكَلَّم بِصَوْت بقدرته ومشيئته إِذا شَاءَ وَكَيف شَاءَ، وهجر من قَالَ: إِنَّه لَا يتَكَلَّم بِصَوْت وبدعه.
وَهَذَا الإِمَام الْكَبِير عبد الله بن الْمُبَارك، إِمَام الدُّنْيَا على الْإِطْلَاق، الَّذِي اجْتمع فِيهِ من خِصَال الْخَيْر مَا لَا يجْتَمع غَالِبا فِي غَيره، قد قَالَ: (إِن الله يتَكَلَّم بقدرته ومشيئته بِصَوْت كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ وَإِذا شَاءَ بِلَا كَيفَ) .
وَهَذَا الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، من أعظم أَئِمَّة الْمُسلمين بِلَا مدافعة فِي ذَلِك، قد قَالَ فِي كِتَابه: " خلق أَفعَال الْعباد ": (إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت، وَإِن صَوته لَا يشابه صَوت المخلوقين، وَإنَّهُ يتَكَلَّم كَيفَ شَاءَ وَمَتى شَاءَ) ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث أم سَلمَة، ذكره(3/1352)
الْحَافِظ ابْن حجر، وَكَذَلِكَ غَيره من السّلف.
وَهَذَا الطَّحَاوِيّ، الْحَافِظ الْجَلِيل، قد قَالَ فِي " عقيدته ": (إِن الْقُرْآن كَلَام الله، مِنْهُ بَدَأَ - بِلَا كَيْفيَّة - قولا، وأنزله على رَسُوله وَحيا) - كَمَا تقدم ذَلِك عَنهُ -.
وَقَالَ ابْن أبي زيد فِي " عقيدته ": (إِن الله كلم مُوسَى بِذَاتِهِ، وأسمعه كَلَامه لَا كلَاما قَامَ فِي غَيره) .
وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد فِي زَمَنه، وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا، لم يُغَادر مِنْهُم أحد، قَالُوا كَمَا قَالَ إمَامهمْ، وصنفوا فِي ذَلِك التصانيف الْكَثِيرَة.
فَإِذا نظر الْإِنْسَان [الْمنصف] فِي كَلَام الْعلمَاء الْأَئِمَّة الْأَعْلَام المقتدى بهم، واطلع على مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، علم الْحق، وَعذر الْقَائِل، وأحجم [عَن] المقالات الَّتِي لَا تلِيق بِمُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، وَعلم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة من جملَة مسَائِل الصِّفَات.(3/1353)
وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن حجر: (قد صحت الْأَحَادِيث بذلك، فَمَا بَقِي إِلَّا التَّسْلِيم أَو التَّأْوِيل) ، كَمَا تقدم عَنهُ.
فَلَيْسَ لأحد أَن يدْفع حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَقُول بعقله هَذِه الْأَحَادِيث مشكلة، وَيلْزم مِنْهَا الْمَحْذُور الْعَظِيم.
فَقَوْل من نتبع؟ قَول هَذَا الْقَائِل، أَو قَول من اتبع الْأَحَادِيث على حكم صِفَات الله اللائقة بجلاله وعظمته، وَالله أعلم.
ونسأله التَّوْفِيق لما يرضيه عَنَّا من القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة، إِنَّه سميع قريب مُجيب.
قَوْله: {وَقَالَ [الإِمَام أَحْمد] : (الْقُرْآن معجز بِنَفسِهِ) } .
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (من قَالَ: الْقُرْآن مَقْدُور على مثله، وَلَكِن منع الله قدرتهم، كفر، بل هُوَ معجز بِنَفسِهِ، وَالْعجز شَمل الْخلق) .(3/1354)
{قَالَ [جمَاعَة من أَصْحَابنَا: (كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي] أَنه معجز فِي لَفظه ونظمه وَمَعْنَاهُ) . [وَهُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة] وَغَيرهم، وَخَالف القَاضِي فِي الْمَعْنى} ، وَاحْتج لذَلِك: بِأَن الله تَعَالَى تحدى بِمثلِهِ فِي اللَّفْظ وَالنّظم.
قيل للْقَاضِي: لَا نسلم أَن الإعجاز فِي اللَّفْظ بل فِي الْمَعْنى.
فَقَالَ: (الدّلَالَة على أَن الإعجاز فِي اللَّفْظ وَالنّظم دون الْمَعْنى أَشْيَاء، مِنْهَا: أَن الْمَعْنى يقدر على مثله كل أحد، يبين صِحَة هَذَا: قَوْله تَعَالَى: {قل فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] ، وَهَذَا يَقْتَضِي: أَن التحدي بألفاظها، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {مثله مفتريات} ، وَالْكذب لَا يكون مثل الصدْق، فَدلَّ أَن المُرَاد مثله فِي اللَّفْظ وَالنّظم) انْتهى.
و {قَالَ ابْن حَامِد} : (فَهَل يسْقط الإعجاز فِي الْحُرُوف الْمُقطعَة أم هُوَ بَاقٍ؟ {الْأَظْهر من جَوَاب الإِمَام أَحْمد: أَن الإعجاز [فِيهَا] بَاقٍ، خلافًا للأشعرية) } .(3/1355)
قَوْله: {وَفِي بعض آيَة إعجاز، ذكره القَاضِي وَغَيره} ، لقَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، وَالظَّاهِر: أَنه أَرَادَ مَا فِيهِ الإعجاز، وَإِلَّا فَلَا يَقُول فِي مثل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ نظر} [المدثر: 21] ، وَنَحْوهَا: إِن فِي بَعْضهَا إعجازا، وفيهَا أَيْضا، وَهُوَ وَاضح.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب} - فِي النّسخ وَغَيره - {وَالْحَنَفِيَّة: (لَا} إعجاز فِي بعض آيَة، بل فِي آيَة) .
وَهَذَا - أَيْضا - لَيْسَ على إِطْلَاقه، [وَقَالَ] : (بعض الْآيَات الطوَال فِيهَا إعجاز) .
{ [وَقَالَ] بَعضهم: (وَلَا فِي آيَة) } .
وَفِيه كَمَا فِي الَّذِي قبله.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الشَّامِل " وَغَيره: (إِنَّمَا يتحدى بِالْآيَةِ إِذا كَانَت(3/1356)
مُشْتَمِلَة على مَا بِهِ التَّعْجِيز، لَا فِي نَحْو: {ثمَّ نظر} [المدثر: 21] .
فَيكون الْمَعْنى فِي قَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، أَي: مثله فِي الاشتمال على مَا بِهِ يَقع الإعجاز لَا مُطلقًا) .
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": (لَا إعجاز وَلَا تحدي بآيتين) } .
قلت: وَفِيه نظر على إِطْلَاقه - كَمَا تقدم - اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: مُرَاده وَمُرَاد غَيره فِي الْجُمْلَة، وَهُوَ أولى عِنْدِي.
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين: (الْقُرْآن كُله معجز، لَكِن مِنْهُ مَا لَو انْفَرد لَكَانَ معجزا بِذَاتِهِ، وَمِنْه مَا إعجازه مَعَ الانضمام) .
تَنْبِيه: ظَاهر مَا تقدم: أَن الإعجاز يحصل بِسُورَة، وَلَو قَصِيرَة بطرِيق أولى وَأَحْرَى، ك: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} [الْكَوْثَر: 1] ، وَهُوَ ظَاهر قَوْله: {فَأتوا بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] .
وَقَالَ الْآمِدِيّ فِي " الْأَبْكَار ": (الْتزم القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني فِي أحد جوابيه: أَن الإعجاز فِي سُورَة الْكَوْثَر وأمثالها، تمسكا وتعلقا بقوله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، وَالصَّحِيح: مَا ارْتَضَاهُ فِي الْجَواب الآخر، وَهُوَ اخْتِيَار الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الأسفراييني وَجَمَاعَة: أَن التحدي إِنَّمَا وَقع بِسُورَة تبلغ فِي الطول مبلغا تبين فِيهِ رتب [ذَوي] البلاغة، فَإِنَّهُ قد يصدر من غير البليغ، أَو مِمَّن هُوَ أدنى فِي البلاغة، من(3/1357)
الْكَلَام البليغ مَا يماثل الْكَلَام البليغ الصَّادِر عَمَّن هُوَ أبلغ مِنْهُ، وَرُبمَا زَاد عَلَيْهِ.
قَالَ: فَيتَعَيَّن تَقْيِيد الْإِطْلَاق فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة} [الْبَقَرَة: 23، وَيُونُس: 38] ، لِأَن تَقْيِيد الْمُطلق بِالدَّلِيلِ وَاجِب) انْتهى.
قَوْله: {قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل، [وَغَيرهمَا] : (فِي بعضه إعجاز أَكثر من بعض) } .
قلت: وَهُوَ صَحِيح، وَقد صرح بِهِ أَئِمَّة عُلَمَاء البلاغة.(3/1358)
(قَوْله: {فصل} )
{الْقرَاءَات السَّبع متواترة عِنْد [الْعلمَاء] } ، إِذا تَوَاتَرَتْ عَن قَارِئهَا.
واحترزنا بذلك؛ عَمَّا يحْكى عَن بَعضهم آحادا، فَإِن ذَلِك من الشاذ الْآتِي بَيَانه.
فالقراءات [السَّبع] متواترة عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الْأَئِمَّة من عُلَمَاء السّنة، نَقله [السرُوجِي] من أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي كتاب(3/1359)
الصَّوْم من الْغَايَة.
وَقَالَ: (قَالَت الْمُعْتَزلَة: آحادا) انْتهى.
[وَمِمَّنْ] ادّعى أَنَّهَا آحَاد، الأبياري شَارِح " الْبُرْهَان "، قَالَ: (وأسانيدهم تشهد لذَلِك) .(3/1360)
وَقَالَ صَاحب " البديع " من الْحَنَفِيَّة: (إِنَّهَا مَشْهُورَة) .
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (وَعِنْدِي فِي [كَونهَا] متواترة نظر، وَالتَّحْقِيق: أَن الْقرَاءَات متواترة عَن الْأَئِمَّة السَّبْعَة، أما تواترها عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْأَئِمَّة فَمحل نظر، فَإِن أَسَانِيد الْأَئِمَّة السَّبْعَة بِهَذِهِ الْقرَاءَات [السَّبع] إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَوْجُودَة فِي كتب الْقِرَاءَة، وَهِي نقل الْوَاحِد عَن الْوَاحِد، لم تستكمل شُرُوط التَّوَاتُر) انْتهى.
قلت: لَا يشك أحد أَن الْقرَاءَات [السَّبع] متواترة من الصَّحَابَة إِلَيْهِم، وانه لم يكن مَذْكُورا مِنْهَا إِلَّا طَرِيقين أَو ثَلَاثَة، لَكِن لَو سُئِلَ كل أحد من الْقُرَّاء السَّبْعَة لبين لَهُ طرقا تبلغ التَّوَاتُر.
وَأَيْضًا فَالَّذِي نتحققه وَلَا نشك فِيهِ: أَن الجم الْغَفِير أخذت الْقُرْآن عَن الصَّحَابَة، بِحَيْثُ أَنه لَا يُمكن حصر من أَخذ مِنْهُم وَلَا عَنْهُم، وَكَذَلِكَ من بعدهمْ.
وَمَا أحسن مَا قَالَ بَعضهم: (انحصار الْأَسَانِيد فِي طَائِفَة لَا يمْنَع مَجِيء الْقرَاءَات عَن غَيرهم، فقد كَانَ يتلقاه من أهل كل بلد بِقِرَاءَة إمَامهمْ(3/1361)
الجم الْغَفِير عَن مثلهم، وَكَذَلِكَ دَائِما، فالتواتر حَاصِل لَهُم، وَلَكِن الْأَئِمَّة الَّذين قصدُوا ضبط الْحُرُوف، وحفظوا شيوخهم فِيهَا، جَاءَ السَّنَد من جهتهم، وَهَذَا كالأخبار الْوَارِدَة فِي حجَّة الْوَدَاع هِيَ آحَاد، وَلم تزل حجَّة الْوَدَاع منقولة عَمَّن يحصل بهم التَّوَاتُر عَن مثلهم فِي كل عصر، فَيَنْبَغِي أَن يتفطن لذَلِك، وان لَا يغتر بقول الْقُرَّاء فِي ذَلِك) انْتهى.
قَوْله: {قَالَ ابْن الْحَاجِب [وَمن تبعه] : (لَا من قبيل صفة الْأَدَاء) ، وَقَالَ أَبُو شامة وَغَيره: (وَلَا صفة الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الْقُرَّاء) ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد وَجمع} .
وَهَذَا بَيَان وَتَقْيِيد لما أطلقهُ الْجُمْهُور من تَوَاتر الْقرَاءَات [السَّبع] ، فَإِنَّهُ لَيْسَ على إِطْلَاقه، بل يسْتَثْنى مِنْهُ مَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَهُوَ مَا كَانَ من قبيل صفة الْأَدَاء: كالمد، والإمالة، وَتَخْفِيف الْهمزَة، وَنَحْوه.(3/1362)
وَمرَاده بالتمثيل بِالْمدِّ، والإمالة: مقادير الْمَدّ، وَكَيْفِيَّة الإمالة، لَا أصل الْمَدّ والإمالة، فَإِن ذَلِك متواتر قطعا.
فالمقادير كمد حَمْزَة وورش فَإِنَّهُ قدر سِتّ ألفات، وَقيل: خمس، وَقيل: أَربع، ورجحوه، وَمد عَاصِم قدر ثَلَاث ألفات، وَالْكسَائِيّ(3/1363)
قدر أَلفَيْنِ وَنصف، وقالون قدر أَلفَيْنِ، والسوسي قدر ألف وَنصف، وَنَحْو ذَلِك.
وَكَذَلِكَ الإمالة، تَنْقَسِم إِلَى مَحْضَة، وَهِي: أَن ينحى بِالْألف إِلَى الْيَاء، وبالفتحة إِلَى الكسرة، وَإِلَى بَين بَين، وَهِي كَذَلِك، إِلَّا أَنَّهَا تكون إِلَى الْألف والفتحة أقرب، وَهِي المختارة عِنْد الْأَئِمَّة، أما أصل الإمالة فمتواتر قطعا.
وَكَذَلِكَ التَّخْفِيف فِي [الْهَمْز، وَالتَّشْدِيد فِيهِ] ، مِنْهُم من يسهل،(3/1364)
وَمِنْهُم من يُبدلهُ، وَنَحْو ذَلِك، فَهَذِهِ الْكَيْفِيَّة هِيَ الَّتِي لَيست متواترة، وَلِهَذَا كره الإِمَام أَحْمد وَجَمَاعَة من السّلف قِرَاءَة حَمْزَة، لما فِيهَا من طول الْمَدّ وَالْكَسْر والإدغام وَنَحْو ذَلِك، لِأَن الْأمة إِذا اجْتمعت على فعل شَيْء لم يكره فعله.
وَهل يظنّ عَاقل: أَن الصّفة الَّتِي فعلهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتواترت إِلَيْنَا، يكرهها أحد من الْعلمَاء، أَو من الْمُسلمين.
فَعلمنَا بِهَذَا أَن هَذِه الصِّفَات لَيست متواترة، وَهُوَ وَاضح.
وَكَذَلِكَ قِرَاءَة الْكسَائي، لِأَنَّهَا كَقِرَاءَة حَمْزَة فِي الإمالة والإدغام كَمَا نَقله [السرُوجِي] فِي الْغَايَة، فَلَو كَانَ ذَلِك متواترا لما كرهه أحد من الْأَئِمَّة.
وَزَاد أَبُو شامة: الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلف فِيهَا بَين الْقُرَّاء، أَي: اخْتلف(3/1365)
الْقُرَّاء فِي صفة تأديتها، كالحرف المشدد يُبَالغ بَعضهم فِيهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يزِيد حرفا، وَبَعْضهمْ لَا يرى ذَلِك، وَبَعْضهمْ يرى التَّوَسُّط بَين الْأَمريْنِ، وَهُوَ ظَاهر، وَيُمكن دُخُوله تَحت قَول ابْن الْحَاجِب فِي الِاحْتِرَاز عَنهُ: (فِيمَا لَيْسَ من قبيل الْأَدَاء) ، على أَن بَعضهم نَازع بِمَا لَا تَحْقِيق فِيهِ.
لَكِن قَالَ ابْن الْجَزرِي: (لَا نعلم أحدا تقدم ابْن الْحَاجِب إِلَى ذَلِك، وَقد نَص على ذَلِك كُله أَئِمَّة الْأُصُول، كَالْقَاضِي أبي بكر وَغَيره، وَهُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ إِذا ثَبت تَوَاتر اللَّفْظ ثَبت تَوَاتر هَيْئَة أَدَائِهِ؛ لِأَن اللَّفْظ لَا يقوم إِلَّا بِهِ، وَلَا يَصح إِلَّا بِوُجُودِهِ) انْتهى.(3/1366)
( [فصل] )
{وَمَا لم يتواتر فَلَيْسَ بقرآن} .
إِذا علم أَن الْقُرْآن لَا يكون إِلَّا متواترا، نَشأ عَنهُ أَن الْقرَاءَات الشاذة لَيست قُرْآنًا، لِأَنَّهَا آحَاد، وَذَلِكَ لِأَن التَّوَاتُر يُفِيد الْقطع، وَثُبُوت الْقُرْآن لَا بُد فِيهِ من التَّوَاتُر، لكَونه مَقْطُوعًا بِهِ، لِأَنَّهُ معجز عَظِيم، فَكَانَ مِمَّا تتوافر الدَّوَاعِي عَادَة على نقل جمله وتفاصيله، لدوران الْإِسْلَام عَلَيْهِ، فَلَا بُد من تواتره وَالْقطع بِهِ، وَمَا لم يتواتر لَا يثبت كَونه قُرْآنًا، وَقطع بِهَذَا كثير من الْعلمَاء، حَتَّى أَنْكَرُوا على من حكى خلافًا.
لَكِن الصَّحِيح: أَن من غير الْمُتَوَاتر ظَاهرا مَا يكون قُرْآنًا، كَمَا لَو صَحَّ سَنَده وَلم يتواتر، على مَا يَأْتِي قَرِيبا محررا.(3/1367)
وَالله أعلم.
{والبسملة بعض آيَة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1368)
فارغة(3/1369)
[فِي] [سُورَة] [النَّمْل إِجْمَاعًا} ، فَهِيَ قرآ] ن قطعا، وَلَيْسَت فِي أول بَرَاءَة إِجْمَاعًا، إِمَّا لكَونهَا أَمَانًا، وَهَذِه [السُّورَة نزلت] بِالسَّيْفِ،(3/1370)
كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقد كشفت أسرار الْمُنَافِقين، وَلذَلِك تسمى الفاضحة.
وَإِمَّا لِأَنَّهَا مُتَّصِلَة بالأنفال سُورَة وَاحِدَة.
وَإِمَّا لغير ذَلِك، على أَقْوَال.
وَأما حكم الْبَسْمَلَة فِي غير ذَلِك، فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الإِمَام أَحْمد وَالْإِمَام أَبُو حنيفَة وَالْإِمَام الشَّافِعِي: أَنَّهَا قُرْآن، نَقله ابْن مُفْلِح عَنْهُم فِي " أُصُوله " و " فروعه ".
لَكِن النَّقْل عَن الشَّافِعِي: أَنه قطع بِأَنَّهَا آيَة من أول الْفَاتِحَة، وَاخْتلف قَوْله فِيمَا سواهَا.
فَفِي قَول: أَنَّهَا آيَة من أول كل سُورَة.(3/1371)
وَفِي قَول: بعض آيَة.
وَفِي قَول: لَا آيَة، وَلَا بعض آيَة.
وَفِي قَول رَابِع: أَنَّهَا آيَة مُفْردَة للفصل بَين السُّور، وَهُوَ غَرِيب لم يَنْقُلهُ أحد من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَلكنه فِي " الطارقيات " لِابْنِ خالويه عَن الرّبيع، قَالَ: (سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: أول الْحَمد " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، وَأول الْبَقَرَة " الم ") .(3/1372)
قَالَ ابْن الصّلاح: (وَله حسن، وَهُوَ أَنَّهَا لما ثبتَتْ أَولا فِي سُورَة الْفَاتِحَة، كَانَت فِي بَاقِي السُّور إِعَادَة لَهَا وتكرارا، فَلَا تكون فِي تِلْكَ السُّور ضَرُورَة، وَلذَلِك لَا يُقَال: هِيَ آيَة من أول كل سُورَة، بل هِيَ آيَة فِي أول كل سُورَة) .
قَالَ بَعضهم: (وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال، وَبِه تَجْتَمِع الْأَدِلَّة، فَإِن إِثْبَاتهَا فِي الْمُصحف بَين السُّور، وَقد أجمع الصَّحَابَة أَلا يكون فِي الْمُصحف غير قُرْآن، [وَأَن] مَا بَين دفتي الْمُصحف كَلَام الله، فَإِن فِي ذَلِك دَلِيلا وَاضحا على ثُبُوتهَا) .
قَالَ جمَاعَة: (وَهَذَا من أحسن الْأَدِلَّة، وَلم يقم دَلِيل على كَونهَا آيَة من أول كل سُورَة) .(3/1373)
قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: (هِيَ آيَة مُفْردَة، أنزلت للفصل بَين السُّور) .
قَالَ ابْن رَجَب فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة: (وَهُوَ الصَّحِيح عَن أبي حنيفَة) .
قلت: وَهَذَا مَنْصُوص الإِمَام أَحْمد، وَعَلِيهِ أَصْحَابه.
قَالَ ابْن رَجَب: (هَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء مِنْهُم: عَطاء، وَالشعْبِيّ، وَالزهْرِيّ، وَالثَّوْري، وَابْن الْمُبَارك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد،(3/1374)
وَإِسْحَاق، [وَأَبُو] عبيد، وَدَاوُد، وَمُحَمّد بن الْحسن) .
وَهُوَ أَيْضا قَول أَكثر الْقُرَّاء، من السَّبْعَة وَغَيرهم.
{ [وَذهب] الإِمَام مَالك، وَأَصْحَابه} ، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَغَيرهم: إِلَى أَنَّهَا لَيست بقرآن بِالْكُلِّيَّةِ، {و} قَالَه {بعض الْحَنَفِيَّة، وَرُوِيَ عَن أَحْمد} .(3/1375)
لَكِن قَالَ ابْن رَجَب فِي تَفْسِير الْفَاتِحَة: (فِي ثُبُوت هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد نظر، بل هِيَ ذكر كالاستعاذة) .
قَوْله: {وَلَيْسَت من الْفَاتِحَة على [أصح الرِّوَايَتَيْنِ] } عَن الإِمَام أَحْمد، وَعَلَيْهَا مُعظم أَصْحَابه.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَنَّهَا من الْفَاتِحَة، اخْتَارَهَا ابْن بطة، وَأَبُو حَفْص، العكبريان من أَصْحَابنَا.
وَهُوَ مَنْصُوص الشَّافِعِي كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَا تَكْفِير [من] الْجَانِبَيْنِ} .(3/1376)
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن الْقطعِي، بل من الْحكمِي، وَهُوَ الْأَصَح للشَّافِعِيَّة؛ بِنَاء على أَنَّهَا هَل هِيَ قُرْآن على سَبِيل الْقطع كَسَائِر الْقُرْآن، أَو على سَبِيل الحكم لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهَا؟
وَقد حكى النَّوَوِيّ: (أَنه لَا يكفر النَّافِي بِأَنَّهَا قُرْآن إِجْمَاعًا) ، وَإِن كَانَ العمراني حكى فِي زوائده عَن صَاحب " الْفُرُوع ": (أَنا إِذا قُلْنَا: إِنَّهَا من الْفَاتِحَة قطعا كفرنا نافيها، [وفسقنا] تاركها) ، لَكِن لَا الْتِفَات لذَلِك.(3/1377)
وَمن ذَلِك: قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَقُوَّة الشُّبْهَة فِي " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، منعت من التَّكْفِير من الْجَانِبَيْنِ) المثبتين لَهَا كالشافعية، والنافين لَهَا كالأئمة الثَّلَاثَة، وَالْقَاضِي أبي بكر، لَكِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ إِذا أثبتناها قُرْآنًا قَطْعِيا، أما إِذا أثبتناها حكميا، فَلَيْسَ هُنَا مُقْتَضى للتكفير حَتَّى يدْفع بِالشُّبْهَةِ، وَكَذَا إِذا قُلْنَا: قطع بتواترها عِنْد الْقَائِل بِهِ دون غَيره، أَو أَن الْقطع بالقرائن، على أَن الْقطع لَا يُوجب تَكْفِير النَّافِي، بل لَا بُد أَن يكون الْمَقْطُوع بِهِ مجمعا عَلَيْهِ، مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ.
ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب: (وَالْقطع أَنَّهَا لم تتواتر ... إِلَى آخِره) .
وَهُوَ عَجِيب، فَأَي قطع مَعَ قُوَّة الشُّبْهَة على قَوْله؟
وَكَذَلِكَ مُبَالغَة الباقلاني فِي تخطئة القَوْل بِأَنَّهَا من الْقُرْآن، لَا يلاقي مدعي: أَن ذَلِك حكى لَا قَطْعِيّ، أَو بتواتر حصل لَهُ، أَو يقطع(3/1378)
بقرائن، وَكَونه قُرْآنًا حكميا أصح الْأَوْجه الثَّلَاثَة؛ لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى تَوَاتر، وَبِه تنْدَفع الإشكالات كلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى) قَالَ ذَلِك الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ".
قَوْله: {وَتكره قِرَاءَة مَا صَحَّ مِنْهُ} .
أَي: من غير الْمُتَوَاتر، وَهُوَ الشاذ، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وَغَيره، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى (1) وَالنَّهَار إِذا تجلى (2) وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} [اللَّيْل: 1 - 3] .(3/1379)
قَالَ الرَّافِعِيّ: من الشَّافِعِيَّة: (تسوغ الْقِرَاءَة بالسبع، وَكَذَا بِالْقِرَاءَةِ الشاذة، إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى، وَلَا زِيَادَة حرف، وَلَا نقصانه) انْتهى، وَظَاهره مُطلقًا.
قَوْله: {وَلَا تصح الصَّلَاة [بِهِ] عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
لِأَنَّهُ لَيْسَ بقرآن، لِأَن الْقُرْآن لَا يكون إِلَّا متواترا - كَمَا تقدم - وَهَذَا غير متواتر، فَلَا يكون قُرْآنًا، فَلَا تصح الصَّلَاة بِهِ.
{وَعنهُ: تصح، [وَرَوَاهُ ابْن وهب] عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن(3/1380)
الْجَوْزِيّ، وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَقدمه ابْن تَمِيم، وَصَاحب " الْفَائِق " من أَصْحَابنَا، لصَلَاة الصَّحَابَة بَعضهم خلف بعض، وَكَذَلِكَ لم يزل الْمُسلمُونَ يصلونَ خلف أَصْحَاب هَذِه الْقرَاءَات: كالحسن الْبَصْرِيّ، وَطَلْحَة بن مصرف، وَابْن مُحَيْصِن، وَالْأَعْمَش، وَغَيرهم من أضرابهم، وَلم يُنكر ذَلِك أحد عَلَيْهِم.(3/1381)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: (هَذِه الرِّوَايَة أنصهما عَن أَحْمد) انْتهى.
وَاخْتَارَ الْمجد - جده - ابْن تَيْمِية: أَنَّهَا لَا تجزيء عَن ركن الْقِرَاءَة.
{و [قطع] النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة "} بِصِحَّة الصَّلَاة بِالْقِرَاءَةِ الشاذة، إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى، وَلَا زِيَادَة حرف وَلَا نقصانه.
وَهُوَ معنى قَوْلنَا: {إِن بَقِي الْمَعْنى وَالصّفة} .
فالرافعي جوز الْقِرَاءَة بذلك، وَالنَّوَوِيّ صحّح الصَّلَاة بِهِ.
{ [وَعَن أَحْمد] تحرم} الْقِرَاءَة بِهِ، ذكرهمَا ابْن مُفْلِح فِي " فروعه "، وَغَيره، {وَحكي إِجْمَاعًا} .
[قَالَ ابْن عبد الْبر: (لَا تجوز الْقِرَاءَة بهَا إِجْمَاعًا) ] .
قَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح الْمُهَذّب "، و " فَتَاوِيهِ ": ... ... ... ... ... ...(3/1382)
(لَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي غَيرهَا) .
وَكَذَا قَالَ السخاوي: (لَا تجوز الْقِرَاءَة بهَا لخروجها عَن إِجْمَاع الْمُسلمين) .
[وَاخْتَارَهُ] جمَاعَة.
{وَقيل: إِن غير الْمَعْنى} حرم، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ معنى مَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ، كَمَا تقدم عَنْهُمَا.
قَوْله: {وَهُوَ مَا خَالف مصحف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -} .(3/1383)
اخْتلف الْعلمَاء فِي الشاذ، فَالصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَعَلِيهِ أَصْحَابه: أَن الشاذ مَا خَالف مصحف عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - الَّذِي كتبه وأرسله إِلَى الْآفَاق.
{فَتَصِح الصَّلَاة [بِقِرَاءَة مَا وَافقه] ، وَصَحَّ} ، سَنَده {وَإِن لم يكن من الْعشْرَة، [نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد] } .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": (تصح بِمَا وَافق عُثْمَان، وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، زَاد بَعضهم: على الْأَصَح) .
وَقد رَأَيْت فِي كَلَام الإِمَام الْحَافِظ، الإِمَام فِي الْقرَاءَات بِلَا مدافعة، ابْن الْجَزرِي، فِي النشر، أَنه ذكر مَا يُوَافق ذَلِك، فَقَالَ: (كل قِرَاءَة وَافَقت [أحد] الْمَصَاحِف العثمانية وَلَو احْتِمَالا، ووافقت الْعَرَبيَّة وَلَو بِوَجْه وَاحِد، وَصَحَّ سندها، فَهِيَ الْقِرَاءَة الصَّحِيحَة الَّتِي لَا يحل لمُسلم أَن ينكرها،(3/1384)
سَوَاء كَانَت عَن السَّبْعَة، أَو عَن الْعشْرَة، أَو عَن غَيرهم من الْأَئِمَّة المقبولين، وَمَتى اخْتَلَّ ركن من هَذِه الْأَركان الثَّلَاثَة، أطلق عَلَيْهَا ضَعِيفَة، أَو شَاذَّة، أَو بَاطِلَة، سَوَاء كَانَت عَن السَّبْعَة، أَو عَمَّن هُوَ أكبر مِنْهُم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَئِمَّة التَّحْقِيق من السّلف وَالْخلف، صرح بذلك الداني، ومكي، والمهدوي، وَأَبُو شامة، وَهُوَ مَذْهَب السّلف الَّذِي لَا يعرف عَن(3/1385)
أحد مِنْهُم خِلَافه) انْتهى، وَأطَال فِي ذَلِك وأجاد.
{وَقيل} : الشاذ {مَا وَرَاء السَّبْعَة} .
اخْتَارَهُ جمَاعَة كَثِيرَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (الْمَشْهُور أَنَّهَا [مَا] وَرَاء السَّبْعَة الْمَعْرُوفَة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الرَّافِعِيّ) .
{وَقَالَ الْبَغَوِيّ [وَجَمَاعَة كَثِيرَة] } الشاذ: { [مَا وَرَاء الْعشْرَة] } .
قلت: {وَهُوَ [أصح] } .
فالثلاثة الزَّائِدَة على السَّبْعَة: يَعْقُوب، ... ... ... ... ... ... ...(3/1386)
وَخلف، وَأَبُو جَعْفَر يزِيد بن الْقَعْقَاع.
وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والسبكي، وَغَيرهمَا.
وَقَالُوا: [الْقرَاءَات الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، قد تَوَاتَرَتْ كالسبعة] .
وَقد حكى الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره " الْإِجْمَاع على جَوَاز الْقِرَاءَة بهَا.
قَالَ أَبُو حَيَّان - وَهُوَ من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن -: (لَا نعلم أحدا من الْمُسلمين حظر الْقِرَاءَة بالقراءات [الثَّلَاث] الزَّائِدَة على السَّبع، بل قرأتها فِي سَائِر الْأَمْصَار) .(3/1387)
قَالَ بعض الْعلمَاء: (القَوْل بِأَن الثَّلَاثَة غير متواترة فِي غَايَة السُّقُوط، وَلَا يَصح القَوْل بِهِ عَمَّن يعْتَبر قَوْله فِي الدّين) انْتهى.
{قَالَ الشَّيْخ [تَقِيّ الدّين] : (قَالَ أَئِمَّة السّلف: مصحف عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أحد الْحُرُوف السَّبْعَة} .
وَرَأَيْت بعض العصريين اسْتشْكل ذَلِك وَلَيْسَ بمشكل، ثمَّ رَأَيْت الْعَلامَة أَبَا شامة، الْفَقِيه، الْمُحدث، الإِمَام فِي الْقرَاءَات، قَالَ فِي كِتَابه " المرشد ": (إِن الْقرَاءَات الَّتِي بأيدي النَّاس من السَّبْعَة وَالْعشرَة وَغَيرهم، هِيَ حرف من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف ".) انْتهى.
وَلم نر وَلم نسْمع أَن أحدا من الْعلمَاء الْقُرَّاء وَغَيرهم اسْتشْكل ذَلِك، وَلَا اعْترض عَلَيْهِ، فصح كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَنَقله.(3/1388)
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة عِنْد أَحْمد، وَأبي حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أَصْحَابهم} .
نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ الْبُوَيْطِيّ فِي بَاب الرَّضَاع، وَفِي تَحْرِيم الْجمع، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه، كَالْقَاضِي الْحُسَيْن فِي الصّيام وَفِي الرَّضَاع، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْضا وَالْقَاضِي أبي الطّيب فِي(3/1389)
الصّيام، وَفِي بَاب وجوب الْعمرَة، والمحاملي فِي الْأَيْمَان فِي كِتَابه " عدَّة الْمُسَافِر وكفاية الْحَاضِر "، وَابْن يُونُس شَارِح " التَّنْبِيه فِي كتاب الْفَرَائِض "، فِي الْكَلَام على مِيرَاث الْأَخ من الْأُم، وَالرُّويَانِيّ، وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب حد السّرقَة، وَغَيرهم.(3/1390)
وَنَقله ابْن الْحَاجِب عَن أبي حنيفَة.
وَنَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " عَن الْحَنَفِيَّة.
وَذكره ابْن عبد الْبر إِجْمَاع الْعلمَاء، وَاحْتج الْعلمَاء على قطع يمنى السَّارِق بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " والسارقون والسارقات فَاقْطَعُوا أَيْمَانهم ".
وَاحْتَجُّوا - أَيْضا - بِمَا نقل عَن مصحف ابْن مَسْعُود: " فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات ".(3/1391)
وَقَالُوا: لِأَنَّهُ إِمَّا قُرْآن أَو خبر، وَكِلَاهُمَا مُوجب للْعَمَل.
وَقَول الْمُخَالف: (يحْتَمل أَنه مَذْهَب لَهُ ثمَّ نَقله قُرْآنًا خطأ، لوُجُوب تَبْلِيغ الْوَحْي على الرَّسُول إِلَى من يحصل بِخَبَرِهِ الْعلم) مَرْدُود، إِذْ نِسْبَة الصَّحَابِيّ رَأْيه إِلَى الرَّسُول، كذب وافتراء لَا يلق بِهِ، فَالظَّاهِر صدق النِّسْبَة، وَالْخَطَأ الْمَذْكُور إِن سلم لَا يضر، إِذا المطرح كَونه قُرْآنًا لَا خَبرا كَمَا ذكرنَا، وَهُوَ كَاف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: (قَالَ الْخصم: لم يُصَرح بِكَوْنِهِ قُرْآنًا، ثمَّ لَو صرح بذلك فَعدم شَرط الْقِرَاءَة لَا يمْنَع صِحَة سَمَاعه.
فَنَقُول، هُوَ مسموع من الشَّارِع، وكل قَوْله حجَّة، وَهَذَا وَاضح) انْتهى.
{ [وَعَن أَحْمد: لَيْسَ بِحجَّة] ، ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1392)
[اخْتَارَهُ] الْآمِدِيّ [وَجمع] ، وَحكي عَن [الإِمَام مَالك، و] الشَّافِعِي} .
وَنسبه ابْن الْحَاجِب إِلَى الشَّافِعِي، وَكَذَا الأبياري شَارِح " الْبُرْهَان "، قَالَ فِيهِ: (إِنَّه الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ) ، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم ": (إِنَّه مَذْهَب الشَّافِعِي) ، قَالَ: (لِأَن ناقلها لم ينقلها إِلَّا على أَنَّهَا قُرْآن، وَالْقُرْآن لَا يثبت إِلَّا بالتواتر، وَإِذا لم يثبت قُرْآنًا، لم يثبت خَبرا) .
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان ": (إِن الشَّافِعِي إِنَّمَا لم يقل بالتتابع(3/1393)
كَأبي حنيفَة، لِأَن عِنْده أَن الشاذ لَا يعْمل بِهِ) ، وَتَبعهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "، والقشيري، وإلكيا، وَابْن السَّمْعَانِيّ، فَهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة تابعوا أَبَا الْمَعَالِي.
ومستنده فِي ذَلِك: عدم إِيجَاب الشَّافِعِي التَّتَابُع فِي الصّيام فِي كَفَّارَة الْيَمين مَعَ قِرَاءَة ابْن مَسْعُود.
قَالَ بَعضهم: (وَهُوَ عَجِيب، فَإِن عدم الْإِيجَاب يجوز أَن يكون لعدم ثُبُوت ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي، أَو لقِيَام معَارض، وَالله أعلم) .(3/1394)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَصَح: أَن الْمُحكم: مَا اتَّضَح [مَعْنَاهُ، والمتشابه] عَكسه، لاشتراك، أَو إِجْمَال، أَو ظُهُور تَشْبِيه، [كصفات الله تَعَالَى] } .
اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِي الْمُحكم والمتشابه، فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} [آل عمرَان: 7] ، على أَقْوَال كَثِيرَة.
وَلَفظ الْمُحكم مفعل، من أحكمت الشَّيْء، أحكمه، إحكاما، فَهُوَ مُحكم: إِذا أتقنته فَكَانَ فِي غَايَة مَا يَنْبَغِي من الْحِكْمَة.(3/1395)
وَمِنْه: بِنَاء مُحكم، أَي: ثَابت متقن يبعد انهدامه.
والمتشابه: متفاعل من الشّبَه، والشبهة، والشبيهة: هُوَ مَا بَينه وَبَين غَيره أَمر مُشْتَرك، يشْتَبه ويلتبس بِهِ.
وَأما مَعْنَاهُ: فأجود مَا قيل فِيهِ: أَن الْمُحكم: المتضح الْمَعْنى، كالنصوص والظواهر، لِأَنَّهُ من الْبَيَان فِي غَايَة الإحكام والإتقان.
والمتشابه: مُقَابِله، وَهُوَ غير المتضح الْمَعْنى، فتشتبه بعض محتملاته بِبَعْض، للاشتراك وَعدم اتضاح مَعْنَاهُ.
فالاشتراك - مثلا - كَالْعَيْنِ، والقرء، وَنَحْوه من المشتركات.
والإجمال كإطلاق اللَّفْظ بِدُونِ بَيَان المُرَاد مِنْهُ: كالمتواطيء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} [الْبَقَرَة: 67] ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] ، وَلم يبين مِقْدَار الْحق، وَسَيَأْتِي فِي الْمُجْمل.
أَو لظُهُور تَشْبِيه فِي صِفَات الله تَعَالَى، كآيات الصِّفَات وأخبارها،(3/1396)
فَاشْتَبَهَ المُرَاد مِنْهُ على النَّاس، فَلذَلِك قَالَ قوم بِظَاهِرِهِ فشبهوا وجسموا، وفر قوم من التَّشْبِيه فتأولوا وحرفوا فعطلوا، وتوسط قوم فَسَلمُوا فأمروه كَمَا جَاءَ مَعَ اعْتِقَاد التَّنْزِيه فَسَلمُوا، وهم أهل السّنة وأئمة السّلف الصَّالح.
وَقيل: الْمُحكم: مَا عرف المُرَاد بِهِ، إِمَّا بالظهور، وَإِمَّا بالتأويل.
والمتشابه: مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ: كقيام السَّاعَة، وَخُرُوج الدَّجَّال وَالدَّابَّة، والحروف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور.
وَقيل: الْمُحكم: مَا وضح مَعْنَاهُ، والمتشابه: نقيضه.
وَقيل: الْمُحكم: مَا لَا يحْتَمل من التَّأْوِيل إِلَّا وَجها وَاحِدًا، والمتشابه: مَا احْتمل أوجها.
وَقيل: الْمُحكم: مَا كَانَ مَعْقُول الْمَعْنى، والمتشابه: بِخِلَافِهِ: كأعداد(3/1397)
الصَّلَوَات، واختصاص الصّيام برمضان دون شعْبَان، قَالَه الْمَاوَرْدِيّ.
وَقيل: الْمُحكم: مَا اسْتَقل بِنَفسِهِ، والمتشابه: مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ إِلَّا برده إِلَى غَيره.
وَقيل: الْمُحكم: مَا تَأْوِيله تَنْزِيله، والمتشابه: مَا لَا يدرى إِلَّا بالتأويل.
وَقيل: الْمُحكم: مَا لم تَتَكَرَّر أَلْفَاظه، وَمُقَابِله الْمُتَشَابه.
وَقيل: الْمُحكم: الْفَرَائِض، والوعد، والوعيد، والمتشابه، الْقَصَص، والأمثال.
وَعَن عِكْرِمَة، وَقَتَادَة، وَغَيرهمَا: أَن الْمُحكم: الَّذِي يعْمل بِهِ، والمتشابه: الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا يعْمل بِهِ.(3/1398)
وَقيل غير ذَلِك.
قَوْله: {وَلَيْسَ فِيهِ مَا لَا معنى لَهُ} .
وَهَذَا مِمَّا يقطع بِهِ كل عَاقل، مِمَّن شم رَائِحَة الْعلم، وَلَا يُخَالف فِي ذَلِك إِلَّا جَاهِل أَو معاند، لِأَن مَا لَا معنى لَهُ هذيان، وَلَا يَلِيق النُّطْق بِهِ من عَاقل، فَكيف بالباري سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثمَّ رَأَيْت جمَاعَة من الْعلمَاء صَرَّحُوا: بِأَن هَذَا لم يقلهُ أحد من الْأمة،(3/1399)
وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة الْآتِيَة بعد هَذِه، وَلَكِن الرَّازِيّ، وَقَبله عبد الْجَبَّار، وَأَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد "، أثبتوا الْخلاف فِي ذَلِك، وتبعهم كثير من الْمُتَأَخِّرين، ومدرك الْمَانِع: التحسين والتقبيح العقليين.
وَقَالُوا: (وَجوزهُ الحشوية، بل قَالُوا بِوُقُوعِهِ فِي الْحُرُوف الْمُقطعَة [فِي أَوَائِل] السُّور، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين} [الصافات: 65] ، وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] ، وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} [الحاقة: 13] ، {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] وَنَحْوه) .
وَأجَاب الْجُمْهُور: بِأَن الْحُرُوف الْمُقطعَة، إِمَّا أَسمَاء السُّور، أَو أَسمَاء الله، أَو سر الله فِي كِتَابه مِمَّا اسْتَأْثر بِعِلْمِهِ، أَو غَيرهَا مِمَّا هُوَ مَذْكُور فِي التفاسير.(3/1400)
وَبِأَن رُؤُوس الشَّيَاطِين مثل فِي الاستقباح، على عَادَة الْعَرَب فِي ضرب الْأَمْثَال بِمَا يتخيلونه قبيحا.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (ورؤوس الشَّيَاطِين اسْتَقر قبحها فِي الْأَنْفس، فَشبه بهَا، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
فَشبه بأنياب الأغوال لقبحها المستقر، وَإِن لم يكن لَهَا حَقِيقَة) .
كَذَلِك ذكره الْمَازرِيّ.
وَقَوله: {عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] ، فِيهِ شَيْئَانِ: الْجمع والتأكيد بالكمال.
وَجَوَاب الْجمع: رفع الْمجَاز المتوهم فِي الْوَاو العاطفة، إِذْ يجوز اسْتِعْمَالهَا بِمَعْنى (أَو) مجَازًا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث وَربَاع} [فاطر: 1] .
والتأكيد أَفَادَ عدم النَّقْص فِي الذَّات، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلين} [الْبَقَرَة: 233] ، أوعدم النَّقْص فِي الْأجر، دفعا لتوهم النَّقْص بِسَبَب التَّأْخِير.(3/1401)
وَوصف النفخة: إبعاد للمجاز، وَتَقْرِير لوحدتها بِسَبَب الْمُفْرد؛ لِأَن الْوَاحِد قد يكون بِالْجِنْسِ.
وَقَوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] ؛ قَالَ صَاحب " الْمثل السائر ": (التكرير فِي الْمَعْنى يدل على مَعْنيين مُخْتَلفين، كدلالته على الْجِنْس وَالْعدَد، وَهُوَ بَاب من التكرير مُشكل، لِأَنَّهُ يسْبق إِلَى الذِّهْن إِلَى تَكْرِير مَحْض يدل على معنى وَاحِد، وَلَيْسَ كَذَلِك) .
فالفائدة - إِذا - فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51] ، {إِلَه وَاحِد} [الْبَقَرَة: 163، وفصلت: 6] ، هِيَ: أَن الِاسْم الْحَامِل لِمَعْنى الْإِفْرَاد والتثنية دَال على الجنسية وَالْعدَد الْمَخْصُوص، فَإِذا أريدت الدّلَالَة على أَن الْمَعْنى بِهِ وَاحِد مِنْهُمَا، وَكَانَ الَّذِي تساق إِلَيْهِ هُوَ الْعدَد، شفع بِمَا يؤكده، وَهَذَا دَقِيق المسلك.
فَائِدَتَانِ:
الأولى: ألحق الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " كَلَام الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَلَام الله(3/1402)
تَعَالَى، فَقَالَ: (لَا يجوز أَن يتَكَلَّم الله وَرَسُوله بِشَيْء وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئا، خلافًا للحشوية) ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
الثَّانِيَة: الحشوية - بِفَتْح الشين -، وَسموا حشوية؛ لأَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي حَلقَة الْحسن الْبَصْرِيّ أَمَامه، فَلَمَّا أنكر كَلَامهم قَالَ: ردوهم إِلَى حَشْو الْحلقَة، أَي: جَانبهَا.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: (فتح الشين غلط، وَإِنَّمَا هُوَ بالإسكان ".
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (الحشوية - بِسُكُون الشين - لِأَنَّهُ إِمَّا من الحشو؛ لأَنهم يَقُولُونَ بِوُجُود الحشو الَّذِي لَا معنى لَهُ فِي كَلَام الْمَعْصُوم، أَو لقَولهم بالتجسيم وَنَحْو ذَلِك، وَيُقَال - أَيْضا - بِالْفَتْح لقصة الْحسن، وَيُقَال فيهم غير ذَلِك) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - فِي آخر تَحْقِيق المناط - عَن أبي الْمَعَالِي: أَنه قَالَ: (لم يُنكر إِلْحَاق معنى النُّصُوص، إِلَّا حشوية لَا يبالى بهم، دَاوُد وَأَصْحَابه، وَأَن ابْن الباقلاني قَالَ: لَا يخرقون الْإِجْمَاع) انْتهى.
قلت: وَقد حدث اصْطِلَاح كثير من النَّاس، على أَنهم يسيمون كل من أثبت صِفَات الرب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِمَّا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة - كَمَا قَالَ(3/1403)
السّلف الصَّالح -، وَلم يتأولها كَمَا تأولوها: حشوية، اصْطِلَاحا اخترعوه تشنيعا عَلَيْهِم، فَالله يحكم بَينهم فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
قَوْله: {وَمَا لَا يعْنى [بِهِ] غير ظَاهره إِلَّا بِدَلِيل} .
أَعنِي: أَنه لَيْسَ فِي الْقُرْآن مَا يعْنى بِهِ غير ظَاهره إِلَّا بِدَلِيل، وَهَذَا قَول أَئِمَّة الْمذَاهب وأتباعهم وَغَيرهم، لِأَنَّهُ يرجع فِي ذَلِك إِلَى مَدْلُول اللُّغَة فِيمَا اقْتَضَاهُ نظام الْكَلَام، وَلِأَن اللَّفْظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الظَّاهِر كَالْمهْلِ.
وَقَوْلنَا: (إِلَّا بِدَلِيل) ، احْتِرَاز من وُرُود الْعَام، وَتَأَخر الْمُخَصّص لَهُ وَنَحْوه.
وَقَالَت المرجئة: يجوز ذَلِك، وَنَفَوْا ضَرَر الْعِصْيَان مَعَ مجامعة الْإِيمَان، فَقَالُوا: (لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة) ، زاعمين أَن آيَات الْوَعيد لتخويف الْفُسَّاق وَلَيْسَت على ظَاهرهَا، بل المُرَاد بِلَا خلاف الظَّاهِر، وَإِن لم يبين الشَّرْع ذَلِك.
وَاحْتَجُّوا: بقوله تَعَالَى: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} [الْإِسْرَاء: 59] .(3/1404)
وَجَوَابه من وُجُوه:
أَحدهَا: [إِنَّمَا كَانَ ذَلِك تخويفا] لنزول الْعَذَاب ووقوعه.
الثَّانِي: أَنه بَاطِل بِأَحْكَام الدُّنْيَا من الْقصاص وَقطع السَّارِق وَنَحْوهمَا.
الثَّالِث: أَنه إِذا فهم أَنه للتخويف لم يبْق تخويف.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: (مَحل الْخلاف فِي آيَات الْوَعيد وَأَحَادِيثه، لَا فِي الْأَوَامِر والنواهي) .
فَائِدَة: المرجئة - بِالْهَمْز -: طَائِفَة من الْقَدَرِيَّة، لأَنهم يرجئون الْأَعْمَال عَن الْإِيمَان من الإرجاء: وَهُوَ التَّأْخِير، وَرُبمَا قيل: (المرجية) بتَشْديد الْيَاء بِلَا همز.(3/1405)
قَوْله: {وَفِيه [مَا لَا يعلم مَعْنَاهُ] إِلَّا الله، عِنْد أَصْحَابنَا [وَجُمْهُور الْعلمَاء] } .
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": (لَيْسَ ببدع أَن يكون فِيهِ مَا يتشابه، لنؤمن بمتشابهه ونقف عِنْده، فَيكون التَّكْلِيف بِهِ هُوَ الْإِيمَان بِهِ جملَة، وَترك الْبَحْث عَن تَفْصِيله، كَمَا كتم الرّوح والساعة والآجال وَغير ذَلِك من الغيوب، وكلفنا التَّصْدِيق بِهِ دون أَن يطلعنا على علمه) انْتهى.
وَهَذَا مَذْهَب سلف هَذِه الْأمة، وَقَالَهُ أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي، وَحَكَاهُ عَن الصَّيْرَفِي مِنْهُم.
{قَالَ ابْن برهَان: يجوز [ذَلِك] عندنَا} ، وَاخْتَارَهُ صَاحب(3/1406)
" الْمَحْصُول " بِنَاء على تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، نَقله ابْن مُفْلِح عَن ابْن برهَان.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَحكى ابْن برهَان وَجْهَيْن: فِي أَن كَلَام الله تَعَالَى هَل يشْتَمل على مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ؟ ثمَّ قَالَ: وَالْحق التَّفْصِيل بَين الْخطاب الَّذِي [يتَعَلَّق] بِهِ تَكْلِيف، فَلَا يجوز أَن يكون غير مَفْهُوم الْمَعْنى، أَولا يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف، فَيجوز) .
{ [قَالَ] أَبُو الْمَعَالِي والقشيري: (مَا فِيهِ تَكْلِيف يمْتَنع د [وام إجماله] ، وَإِلَّا فَلَا) } .
قَالَ ابْن مُفْلِح: { (وَهُوَ مُرَاد غَيره) } ، وتابعناه على ذَلِك، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي.(3/1407)
{وَقَالَ الْمجد} ابْن تَيْمِية فِي " المسودة ": (ثمَّ { [بحث] أَصْحَابنَا يَقْتَضِي فهمه إِجْمَالا لَا تَفْصِيلًا) } ، وَعَن ابْن عقيل: (لَا، وَأَنه يتَعَيَّن: " لَا أَدْرِي "، كَقَوْل أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، أَو تَأْوِيله) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ، مَعَ قَوْله: إِن الْمُحَقِّقين قَالُوا فِي " {سميع بَصِير} [الْحَج: 61، 75، والمجادلة: 1] : يسكت عَمَّا بِهِ يسمع ويبصر، أَو تَأْوِيله بإدراكه، وتأويله بِمَا يُوجب تناقضا أَو تَشْبِيها زيغ) .
وَقَوله: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} [آل عمرَان: 7] ، أَي: كنه ذَلِك) انْتهى.
قَوْله: {وَالأَصَح: الْوَقْف على {إِلَّا الله} ، لَا {والراسخون فِي الْعلم} } .
وَهُوَ الْمُخْتَار، وَهُوَ قَول السّلف.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هَذَا قَول عَامَّة السّلف والأعلام) .
قَالَ الْخطابِيّ: (هُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن(3/1408)
مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب، وَابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة) .
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيره ": (هُوَ قَول الْأَكْثَر، مِنْهُم: أبي بن كَعْب، وَعَائِشَة، وَعُرْوَة بن الزبير، وَرِوَايَة طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس،(3/1409)
وَبِه قَالَ الْحسن، وَأكْثر التَّابِعين، وَاخْتَارَهُ الْكسَائي، وَالْفراء، والأخفش، وَقَالُوا: " لَا يعلم تَأْوِيل الْمُتَشَابه إِلَّا الله تَعَالَى ") . وَأطَال فِي ذَلِك.
وَخَالف الْآمِدِيّ وَجمع، مِنْهُم: أَبُو الْبَقَاء - من أَصْحَابنَا - فِي " إعرابه "، وَالنَّوَوِيّ فِي " شرح مُسلم ".
فَقَالَ: (الراسخون يعلمُونَ تَأْوِيله) .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (هُوَ قَول عَامَّة الْمُتَكَلِّمين) .
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": (قَالَ المؤولة - وهم الْمُعْتَزلَة والأشعرية - وَمن وافقهم: الْوَقْف التَّام على قَوْله تَعَالَى: {والراسخون فِي الْعلم} [آل عمرَان: 7] ) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: (لِابْنِ عَبَّاس قَولَانِ) ، وَهَذَا قَول(3/1410)
مُجَاهِد أَيْضا، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: (الأول مُحدث، لم يقلهُ أحد من السّلف، لَا أَحْمد وَلَا غَيره) .
وَقيل: (الْخلاف فِي ذَلِك لَفْظِي، فَإِن من قَالَ: إِن الراسخ فِي الْعلم يعلم تَأْوِيله، أَرَادَ: أَنه يعلم ظَاهره لَا حَقِيقَته، وَمن قَالَ: لَا يعلم، أَرَادَ بِهِ: لَا يعلم حَقِيقَته، وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى) .
وَالْحكمَة فِي إِنْزَال الْمُتَشَابه ابتلاء الْعُقَلَاء.
{وَقَالَ} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} الشَّافِعِي، {والسهيلي: (الْوَقْف على {إِلَّا الله} ، ويعلمه الراسخون) } .
وَإِنَّمَا امْتنع الْعَطف، لمُخَالفَة علم الله تَعَالَى لعلم الراسخين؛ لِأَن علمهمْ ضَرُورِيّ ونظري، بِخِلَاف علم الله تَعَالَى، على مَا تقدم بَيَانه.(3/1411)
{وَقيل بِالْوَقْفِ} مُطلقًا، فَلَا يجْزم بِوَاحِد من هَذِه الْأَقْوَال، بل نقف لتعارض الْأَدِلَّة، قَالَه الْقفال الشَّاشِي.
فَقَالَ: (الْقَوْلَانِ محتملان، وَلَا ننكر أَن يكون فِي الْمُتَشَابه مَا لَا يعلم) .
وَمِنْهُم من جمع بَين الْقَوْلَيْنِ: (بِأَن الله تَعَالَى يعلم ذَلِك على التَّفْصِيل، والراسخون يعلمونه على الْإِجْمَال) .
وَهُوَ قريب من القَوْل بِأَن الْخلاف لَفْظِي.
الأول: لسياق الْآيَة، من ذمّ مبتغي التَّأْوِيل، وَقَوله: {آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} [آل عمرَان: 7] ، وَلِأَن (وَاو) ، (والراسخون) للابتداء، و (يَقُولُونَ) خَبره، لِأَنَّهَا لَو كَانَت عاطفة عَاد ضمير (يَقُولُونَ) إِلَى الْمَجْمُوع، ويستحيل على الله، وَكَانَ مَوضِع (يَقُولُونَ) نصبا حَالا، فَفِيهِ اخْتِصَاص الْمَعْطُوف بِالْحَال.
قَالُوا: خص ضمير: (يَقُولُونَ) بالراسخين، للدليل الْعقلِيّ، والمعطوف قد يخْتَص بِالْحَال مَعَ عدم اللّبْس، وَنَظِيره: {وَالَّذين تبوؤا الدَّار وَالْإِيمَان [من قبلهم] يحبونَ} [الْحَشْر: 9] فِيهَا الْقَوْلَانِ.(3/1412)
وَقَوله: {نَافِلَة} ، قيل: حَالا من يَعْقُوب، لِأَنَّهَا الزِّيَادَة.
وَقيل: مِنْهُمَا، لِأَنَّهَا الْعَطِيَّة.
وَقيل: هِيَ مصدر كالعاقبة مَعًا، وعامله معنى: {وهبنا} .
وَلنَا أَن نقُول: الأَصْل عدم ذَلِك، وَالْأَشْهر خِلَافه، وَلِهَذَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: {إِن تَأْوِيله إِلَّا عِنْد الله} ، وَفِي قِرَاءَة أبي: {وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ} .
وَمثله عَن ابْن عَبَّاس، فروى عبد الرَّزَّاق فِي " تَفْسِيره "، وَالْحَاكِم فِي " مُسْتَدْركه "، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه كَانَ يقْرَأ {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ} .(3/1413)
فَهَذَا يدل على أَن الْوَاو للاستئناف؛ لِأَن هَذِه الرِّوَايَة وَإِن لم تثبت بهَا الْقِرَاءَة فَأَقل درجاتها أَن تكون خَبرا بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى ترجمان الْقُرْآن، فَيقدم كَلَامه فِي ذَلِك على من دونه.
قَالَه ابْن الأسيوطي.
وَقَالَ الْفراء و [أَبُو عُبَيْدَة] : (الله هُوَ الْمُنْفَرد) .
قَالَ الْمُوفق: (فِي الْآيَة قَرَائِن تدل على أَن الله سُبْحَانَهُ مُنْفَرد بِعلم تَأْوِيل الْمُتَشَابه) .
قَالُوا: فِيهِ إِخْرَاج الْقُرْآن عَن كَونه بَيَانا، وَالْخطاب بِمَا لَا يفهم بعيد.
رد ذَلِك: بِالْمَنْعِ، وَفَائِدَته الِابْتِلَاء.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": (فَإِن قيل: كَيفَ يُخَاطب الله الْخلق بِمَا لَا يعقلونه؟ أم كَيفَ ينزل على رَسُوله مَا لَا يطلع على تَأْوِيله؟
قُلْنَا: يجوز أَن يكلفهم الْإِيمَان بِمَا لَا يطلعون على تَأْوِيله، ليختبر(3/1414)
طاعتهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ} [مُحَمَّد: 31] ، {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم} الْآيَة [الْبَقَرَة: 143] {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} [الْإِسْرَاء: 60] ، وكما [اختبرهم] بِالْإِيمَان بالحروف الْمُقطعَة مَعَ أَنه لَا يعلم مَعْنَاهَا، وَالله أعلم) انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (وَاحْتج بعض أهل اللُّغَة: فَقَالَ: مَعْنَاهُ: والراسخون فِي الْعلم يعلمونه قائلين: آمنا بِهِ، وَزعم أَن مَوضِع {يَقُولُونَ} نصب على الْحَال، وَعَامة أهل اللُّغَة ينكرونه ويستبعدونه، لِأَن الْعَرَب لَا تضمر الْفِعْل وَالْمَفْعُول مَعًا وتذكر حَالا إِلَّا مَعَ ظُهُور الْفِعْل، فَإِذا لم يظْهر فعل، فَلَا يكون حَالا) .
قَوْله: {وَيحرم تَفْسِيره بِرَأْي واجتهاد بِلَا أصل} .
للآثار الْوَارِدَة فِي ذَلِك، وَذكره القَاضِي محتجا بقوله تَعَالَى: {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الْبَقَرَة: 169، والأعراف: 33] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} [النَّحْل: 44] ، فأضاف التَّبْيِين إِلَيْهِ.(3/1415)
وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قَالَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ وَبِمَا لَا يعلم فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ.
وَعَن جُنْدُب عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ فَأصَاب(3/1416)
فقد أَخطَأ "، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن ماجة.
قَوْله: {وَيجوز بِمُقْتَضى اللُّغَة} .
أَي: يجوز تَفْسِير الْقُرْآن بِمُقْتَضى اللُّغَة، {عِنْد الإِمَام أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه} ، مِنْهُم: القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَالْمجد ابْن تَيْمِية.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: (قلت: الْمَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس الِاحْتِجَاج فِي التَّفْسِير بِمُقْتَضى اللُّغَة كثيرا) انْتهى.(3/1417)
وَلِأَن الْقُرْآن عَرَبِيّ.
{ [وَعَن أَحْمد] : لَا} يجوز تَفْسِيره بِمُقْتَضى اللُّغَة من غير دَلِيل، {اخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن} ابْن القَاضِي أبي يعلى، {وَحمله الْمجد على الْكَرَاهَة، أَو صرفه عَن ظَاهره بِقَلِيل من اللُّغَة} .
فَائِدَة: قَالَ الإِمَام أَحْمد: (ثَلَاث كتب لَيْسَ فِيهَا أصُول: الْمَغَازِي، والملاحم، وَالتَّفْسِير) لَيْسَ غالبها الصِّحَّة.(3/1418)
فارغة(3/1419)
(بَاب السّنة)(3/1420)
( {بَاب} [السّنة] )
{السّنة لُغَة: الطَّرِيقَة} ، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا " إِلَى آخِره.(3/1421)
قَالَ الْخطابِيّ: إِذا أطلقت السّنة فَهِيَ المحمودة، وَإِن أُرِيد بهَا غَيرهَا فمقيدة كَقَوْلِه: " من سنّ سنة سَيِّئَة ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (السّنة لُغَة: الطَّرِيقَة وَالْعَادَة) .
قَالَ الله تَعَالَى: {قد خلت من قبلكُمْ سنَن فسيروا فِي الأَرْض} [آل عمرَان: 137] ، أَي: طرق.
وَقَالَ الطوفي: (الطَّرِيقَة والسيرة) .
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (السّنة: الطَّرِيقَة، وَالسّنة: السِّيرَة، حميدة كَانَت أَو ذميمة) .(3/1422)
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (السّنة: السِّيرَة، وَمن الله حكمه وَأمره وَنَهْيه) انْتهى.
قَوْله: {وَشرعا اصْطِلَاحا} .
السّنة فِي الِاصْطِلَاح: تطلق على مَا يُقَابل الْقُرْآن كَمَا هُنَا، وَمِنْه أَحَادِيث وَردت كَثِيرَة، مِنْهَا: فِي " صَحِيح مُسلم " حَدِيث: " يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله، فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ " الحَدِيث.(3/1423)
وَتارَة تطلق: على مَا يُقَابل الْفَرْض وَنَحْوه من الْأَحْكَام، كَمَا سبق فِي بَاب الْمَنْدُوب.
وَرُبمَا لَا يُرَاد إِلَّا مَا يُقَابل الْفَرْض، كفروض الْوضُوء وسننه، وَكَذَا الصَّلَاة وَالصَّوْم وَغَيرهمَا، فَإِنَّهُ لَا يُقَابل بِهِ الْحَرَام وَلَا الْمَكْرُوه فيهمَا، وَإِن كَانَت الْمُقَابلَة لَازِمَة لَهُ، لَكِنَّهَا لَا تقصد.
وَتارَة تطلق: على مَا يُقَابل الْبِدْعَة، فَيُقَال: أهل السّنة، وَأهل الْبِدْعَة.
وَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان الأول.
وَقَوْلنَا: (اصْطِلَاحا) ، احْتِرَاز من السّنة فِي الْعرف الشَّرْعِيّ الْعَام، فَإِنَّهَا تطلق على مَا هُوَ أَعم مِمَّا ذكرنَا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، قَالَه الطوفي، فَإِن عِبَارَته فِي " مُخْتَصره " كعبارتنا، وَحَاصِله: أَن للسّنة عرفا خَاصّا فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء.
قَوْله: {قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غير الْقُرْآن وَلَو بِكِتَابَة، وَفعله وَلَو بِإِشَارَة، وَزيد: الْهم [بِالْفِعْلِ] ، وَإِقْرَاره} .
أَكثر الْأُصُولِيِّينَ حصروا السّنة فِي الِاصْطِلَاح فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: فِي قَوْله، وَفِي فعله، وَفِي إِقْرَاره، وَزيد: الْهم بِالْفِعْلِ وَلم يفعل، على مَا يَأْتِي.
أَحدهَا: القَوْل من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ نَوْعَانِ:(3/1424)
أَحدهمَا: أَن يكون وَحيا كالقرآن وَالْأَحَادِيث الإلهية، فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه من السّنة، كَمَا يَأْتِي.
وَالثَّانِي: غير ذَلِك، وَلَو كَانَ أمرا بِكِتَابَة، كَمَا أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليا بِالْكِتَابَةِ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَأمر بِالْكِتَابَةِ إِلَى الْمُلُوك، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اكتبوا لأبي شاه "، يَعْنِي: الْخطْبَة الَّتِي خطبهَا، وَغير ذَلِك.
لَكِن الْأُسْتَاذ [أَبُو] مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، جعله قسما بِرَأْسِهِ غير القَوْل.(3/1425)
الثَّانِي: الْفِعْل.
وَاعْلَم أَن القَوْل وَإِن كَانَ فعلا لِأَنَّهُ عمل بجارحة اللِّسَان، لَكِن الْغَالِب اسْتِعْمَاله فِي مُقَابلَة الْفِعْل كَمَا هُنَا، حَتَّى وَلَو كَانَ الْفِعْل بِإِشَارَة على الصَّحِيح، لِأَنَّهُ كالأمر بِهِ، كَمَا فِي حَدِيث كَعْب بن مَالك لما تقاضى ابْن أبي حَدْرَد دينا لَهُ عَلَيْهِ فِي مسد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَارْتَفَعت أصواتهما حَتَّى سمعهما النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ فِي بَيته، فَخرج إِلَيْهِمَا حَتَّى كشف [سجف] حجرته، فَنَادَى، فَقَالَ: " يَا كَعْب "، قَالَ: لبيْك يَا رَسُول الله، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَن ضع الشّطْر من دينك، فَقَالَ كَعْب: قد فعلت يَا رَسُول [الله] ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُم فاقضه "، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَاسم ابْن أبي حَدْرَد: عبد الله، وَاسم أَبِيه: سَلامَة بن عُمَيْر.(3/1426)
وَمثله إِشَارَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[إِلَى] أبي بكر أَن يتَقَدَّم فِي الصَّلَاة، مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَطَاف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على بعير كلما أَتَى على الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ.
وَفِي حَدِيث زَيْنَب بنت جحش: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه "، وَعقد تسعين.(3/1427)
وَفِي " الصَّحِيح ": " فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم قَائِم يُصَلِّي يسْأَل الله خيرا إِلَّا أعطَاهُ "، وَقَالَ بِيَدِهِ، وَوضع أنملته على بطن الْوُسْطَى والخنصر، قُلْنَا: يزهدها.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": أَشَارَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ نَحْو الْيمن، فَقَالَ: " أَلا إِن الْإِيمَان هَاهُنَا " الحَدِيث.
وَفِي أبي دَاوُد عَن أبي حميد: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُشِير بِأُصْبُعِهِ فِي تشهده ".
وَفِي حَدِيث ابْن عمر فِي مُسلم: " قبض أَصَابِعه كلهَا، وَأَشَارَ بالأصبع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام ".(3/1428)
وَفِي رِوَايَة: " عقد ثَلَاثَة وَخمسين، وَأَشَارَ بالسبابة ".
وَفِي أبي دَاوُد عَن الزبير - رَضِي الله عَنهُ -: " كَانَ يُشِير بالسبابة وَلَا يحركها ".
وَفِي حَدِيث: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا "، وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْرَة " ثمَّ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا "، وَقبض فِي الثَّالِثَة الْإِبْهَام، إِشَارَة إِلَى أَن الشَّهْر يكون ثَلَاثِينَ، وَيكون تسعا وَعشْرين، إِلَى غير ذَلِك.(3/1429)
وَفِي الْقُرْآن: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} الْآيَة [مَرْيَم: 29] .
وَقَوله تَعَالَى: {ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} [آل عمرَان: 41] ، وَغير ذَلِك.
وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك من قسم الْأَقْوَال: لِأَنَّهُ منزل منزلَة القَوْل، وَلِهَذَا فِي رِوَايَة فِي مُسلم فِي حَدِيث ابْن أبي حَدْرَد: " فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَقُول النّصْف "، وَلذَلِك أجْرى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِشَارَة من الْجَارِيَة - فِي حَدِيث الأوضاح - مجْرى قَوْلهَا: إِن الْيَهُودِيّ قَتلهَا.
وَمن ذَلِك قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم: إِشَارَة الْأَخْرَس بِمَنْزِلَة قَوْله، فِي الصَّلَاة، وَالْبيع، وَالطَّلَاق، وَغير ذَلِك، كَالْإِقْرَارِ، لَا فِي الشَّهَادَة وَنَحْوهَا.
تَنْبِيه: من الْفِعْل - أَيْضا - عمل الْقلب، وَالتّرْك، فَإِنَّهُ كف النَّفس، وَسبق: أَنه لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل على الصَّحِيح، فَإِذا نقل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَرَادَ ذَلِك، كَانَ من السّنة الفعلية، كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ(3/1430)
أَن ينحي مخاط أُسَامَة، قَالَت عَائِشَة: دَعْنِي يَا رَسُول الله حَتَّى أَنا الَّذِي أفعل، قَالَ: " يَا عَائِشَة أحبيه فَإِنِّي أحبه "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي المناقب.
وَحَدِيث أنس: " أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يكْتب إِلَى رَهْط أَو أنَاس من الْعَجم، فَقيل: إِنَّهُم لَا يقبلُونَ كتابا إِلَّا بِخَاتم، فَاتخذ خَاتمًا من فضَّة "، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَمثله حَدِيث جَابر: " أَرَادَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلى، أَو ببركة، وافلح، ويسار، وَنَافِع، وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ رَأَيْته سكت بعد عَنهُ فَلم يقل شَيْئا، ثمَّ قبض وَلم ينْه عَن ذَلِك " رَوَاهُ مُسلم، وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث.(3/1431)
وَإِذا نقل عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه ترك كَذَا، كَانَ - أَيْضا - من السّنة الفعلية، كَمَا ورد " أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قدم إِلَيْهِ الضَّب فَأمْسك عَنهُ وَترك أكله، أمسك الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - وتركوه، حَتَّى بَين لَهُم: أَنه حَلَال وَلكنه يعافه "، وَلِهَذَا لما صلى التَّرَاوِيح وَتركهَا خشيَة أَن تفرض على الْأمة، وَزَالَ هَذَا الْمَعْنى بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَادوا إِلَى الصَّلَاة، وَنَازع بعض الْعلمَاء فِي ذَلِك.
وَلَكِن الْمُفِيد لهَذَا النَّوْع حَتَّى يرْوى عَنهُ، إِمَّا قَوْله: إِنَّه ترك كَذَا، أَو قيام الْقَرَائِن عِنْد الرَّاوِي الَّذِي يروي عَنهُ أَنه ترك كَذَا، إِذا لَا بُد من ذَلِك حَتَّى يعرف.
تَنْبِيه آخر: قَوْلنَا: (غير الْوَحْي) .(3/1432)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (وَالْمرَاد من أَقْوَاله وأفعاله: مَا لم يكن على وَجه الإعجاز) .
قَالَ القَاضِي عضد الدّين وَغَيره: (وَالْمرَاد بِالسنةِ هُنَا: مَا صدر عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من فعل أَو قَول غير الْقُرْآن) .
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: (وَالْمرَاد هُنَا: قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي لم يَأْتِ بِهِ قُرْآنًا) .
قَوْله: (وَزيد الْهم) .
أَي: بِفعل، رَأَيْت ذَلِك للشَّافِعِيَّة، ومثلوه: بِمَا إِذا هم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِفعل وعاقه عَنهُ عائق، كَانَ ذَلِك الْفِعْل مَطْلُوبا شرعا؛ لِأَنَّهُ لَا يهم إِلَّا بِحَق مَحْبُوب مَطْلُوب شرعا؛ لأ [نه] مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات، وَذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيث عبد الله بن زيد بن عَاصِم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان(3/1433)
وَالْحَاكِم وَقَالَ: (صَحِيح على شَرط مُسلم) : " استسقى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلِيهِ خميصة سَوْدَاء، فَأَرَادَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يَأْخُذ بأسفلها فَيَجْعَلهُ أَعْلَاهَا، فَلَمَّا ثقلت قَلبهَا على عَاتِقه ".
فَالْمُرَاد: لَوْلَا ثقل الخميصة، فاستحب الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - لأجل هَذَا الحَدِيث للخطيب فِي الاسْتِسْقَاء مَعَ تَحْويل الرِّدَاء تنكيسه، بِجعْل أَعْلَاهُ أَسْفَله.
قلت: مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه لَا يزِيد على التَّحْوِيل.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: (قلت: وَكَذَا همه بمعاقبة [المتخلفين] عَن الْجَمَاعَة، اسْتدلَّ بِهِ على وُجُوبهَا.(3/1434)
وَقد يُقَال: الْهم خَفِي فَلَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا بقول أَو فعل، فَيكون الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى زِيَادَة) انْتهى.
وعَلى القَوْل الأول: الْفرق بَينه وَبَين مَا تقدم من عمل الْقلب وَالتّرْك: أَن الَّذِي هُنَا أخص؛ لِأَن الْهم عزم على الشَّيْء بتصميم وتأكيد، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: (وَإِقْرَاره) .
أَي: الثَّالِث من السّنة: إِقْرَاره على الشَّيْء يفعل أَو يُقَال، وَيَأْتِي قَرِيبا حكم مَا إِذا سكت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن إِنْكَار فعل أَو قَول بِحَضْرَتِهِ، أَو زَمَنه وَيعلم [بِهِ] .
فإقرار من رَآهُ فعل أَو قَالَ شَيْئا على ذَلِك من السّنة قطعا، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِك هُنَاكَ.
وَزَاد الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: الْكِتَابَة، كَمَا تقدم.
ورد: بأنما ذَلِك من قبيل القَوْل.
وَزَاد - أَيْضا - التَّنْبِيه على الْعلَّة، ورتب الْأَقْسَام: القَوْل، ثمَّ الْفِعْل، ثمَّ الْإِشَارَة، ثمَّ الْكِتَابَة، ثمَّ التَّنْبِيه على الْعلَّة على قَوْله، ورد أَيْضا.(3/1435)
قَوْله: { [وَهُوَ حجَّة للعصمة] } .
أَعنِي: أَن كل مَا سبق من أَقْوَاله وأفعاله وَإِقْرَاره وهمه من أَنْوَاع السّنة حجَّة؛ لِأَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصُوم، والعصمة ثَابِتَة لَهُ ولسائر الْأَنْبِيَاء - صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -.
وَتَأْتِي تفاصيل أَفعاله، وَمَعَ أَقْوَاله - أَيْضا - وَمَا يجوز عَلَيْهِ، وَمَا لَا يجوز عَلَيْهِ.
قَوْله: {وَهِي: سلب الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي حد الْعِصْمَة: فَقيل: (هِيَ سلب الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة) ،(3/1436)
فَلَا يُمكنهُ فعلهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى سلبه الْقُدْرَة عَلَيْهَا، كَمَا سلبه معرفَة الْكِتَابَة وَالشعر وَغَيرهمَا.
قَالَ فِي " الْقَامُوس ": (الْعِصْمَة بِالْكَسْرِ: الْمَنْع، واعتصم بِاللَّه: امْتنع بِلُطْفِهِ من الْمعْصِيَة) .
وَقَالَ فِي " الْبَدْر الْمُنِير ": (عصمه الله تَعَالَى من الْمَكْرُوه [يعصمه] ، من بَاب ضرب: حفظه ووقاه، واعتصمت بِاللَّه: امْتنعت بِهِ، وَالِاسْم الْعِصْمَة) انْتهى.
{وَقيل: [يُمكن فعلهَا مِنْهُ، وَلَكِن تصرف دواعيه عَنْهَا] } بِمَا يلهمه الله عَنهُ من ترغيب وترهيب.
{و} قَالَ التلمساني: (الْعِصْمَة {عِنْد [الأشعرية] } : تهيؤ العَبْد للموافقة مُطلقًا، وَذَلِكَ رَاجع إِلَى خلق الْقُدْرَة على كل طَاعَة، فَإِذن الْعِصْمَة {توفيق عَام} .(3/1437)
{و} قَالَت {الْمُعْتَزلَة: خلق ألطاف تقرب إِلَى الطَّاعَة} .
وَلم يردوها إِلَى الْقُدْرَة؛ لِأَن الْقُدْرَة عِنْدهم على الشَّيْء صَالِحَة لضده.
قَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: (لَا تطلق الْعِصْمَة فِي غير الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة إِلَّا بِقَرِينَة إِرَادَة مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، وَهُوَ السَّلامَة من الشَّيْء) ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ": (واسأله الْعِصْمَة) ، وَجرى على ذَلِك كثير من الْعلمَاء.
وَالْحَاصِل: أَن السَّلامَة أَعم من وجوب السَّلامَة، فقد تُوجد السَّلامَة فِي غير النَّبِي وَالْملك اتِّفَاقًا لَا وجوبا، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
{ [و] } قَالَ أَبُو مُحَمَّد { [الْجَوْزِيّ] } فِي كِتَابه " الْإِيضَاح " فِي الجدل: (الْعِصْمَة {حفظ الْمحل بالتأثيم [أَو] التَّضْمِين} ) .
فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: أَنه لَا يفعل وَلَا يتْرك شَيْئا يحصل بِهِ إِثْم وَلَا ضَمَان، بل هُوَ مَحْفُوظ من ذَلِك، فَتكون (الْبَاء) بِمَعْنى (من) ، يَعْنِي:(3/1438)
حفظ الْمحل من التأثيم أَو التَّضْمِين، فَهُوَ مَعْصُوم من فعل الْمحرم قطعا، وَيَأْتِي حكم الْمَكْرُوه.
وَيحْتَمل: أَن تكون (الْبَاء) بَاء السَّبَبِيَّة، وَيكون معنى الْكَلَام: حفظ الْمحل بِسَبَب التأثيم أَو التَّضْمِين، فَإِذا علم أَن الْفِعْل أَو التّرْك يُوجب إِثْمًا أَو تضمينا تَركه، فَكَانَ التأثيم أَو التَّضْمِين حاجزا و [مَانِعا] عَن فعل مَا يُوجب ذَلِك، وَالله أعلم.
قَوْله: { [فامتناع الْمعْصِيَة] مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الْبعْثَة عقلا مَبْنِيّ على التقبيح الْعقلِيّ، فَمن أثْبته كالروافض منعهَا} ؛ للتنفير، فتنافي الْحِكْمَة، { [وقالته] الْمُعْتَزلَة فِي الْكَبَائِر، [وَمن نفى التقبيح الْعقلِيّ لم يمْنَعهَا] } .
إِنَّمَا قدمنَا هَذِه الْمَسْأَلَة لأجل مَا بعْدهَا؛ لِأَن الِاسْتِدْلَال بأفعالهم وأقوالهم مُتَوَقف على عصمتهم، وَقد ذهب أَكثر الْعلمَاء: إِلَى أَنه لَا يمْتَنع عقلا أَن يصدر قبل الْبعْثَة من الْأَنْبِيَاء مَعْصِيّة كَبِيرَة أَو صَغِيرَة، وَخَالفهُم(3/1439)
الروافض مُطلقًا، فَقَالُوا: لَا يجوز أَن يصدر مِنْهُم قبل الْبعْثَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَوَافَقَهُمْ الْمُعْتَزلَة فِي الْكَبَائِر وجوزوا الصَّغَائِر كالأكثر، فَوَافَقُوا الروافض فِي الْكَبَائِر، ووافقوا أَكثر الْعلمَاء فِي الصَّغَائِر.
ومعتمد الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِك؛ أَن فِيهِ هضما واحتقارا، فتنفر الطباع عَن اتباعهم، فيخل بالحكمة من بعثتهم، وَذَلِكَ قَبِيح عقلا.
وَقد علمت مِمَّا مضى بطلَان قَاعِدَة التقبيح الْعقلِيّ، وَقد رد ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي ردا بليغا كَافِيا شافيا وَأطَال فِي ذَلِك.
قَوْله: { [وَبعد الْبعْثَة] } : مَعْصُوم من تعمد مَا يخل بصدقه، فِيمَا دلّت(3/1440)
المعجزة على صدقه [فِيهِ] ، من رِسَالَة وتبليغ إِجْمَاعًا} حَكَاهُ الْآمِدِيّ وَغَيره من الْعلمَاء.
فالإجماع مُنْعَقد على عصمتهم من تعمد الْكَذِب فِي الْأَحْكَام وَمَا يتَعَلَّق بهَا؛ لِأَن المعجزة قد دلّت على صدقهم فِيهَا، فَلَو جَازَ كذبهمْ فِيهَا لبطل دلَالَة المعجزة.
قَوْله: {وَلَا يَقع [سَهوا وغلطا] عِنْد الْأَكْثَر} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز وُقُوع الْكَذِب مِنْهُم غَلطا وسهوا.(3/1441)
قَالَ ابْن حمدَان فِي " نِهَايَة المبتدئين ": (هُوَ مَعْصُوم فِيمَا يُؤَدِّي عَن الله، وَلَيْسَ مَعْصُوما فِي ذَلِك من الْخَطَأ والزلل وَالنِّسْيَان والسهو والصغائر فِي الْأَشْهر فِيهَا، {وَجوزهُ} - أَيْضا - {القَاضِي} أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، {و} القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني، والآمدي} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا قَول الْجُمْهُور، وَأَنه يدل عَلَيْهِ الْقُرْآن.
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة - حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ - لما سلم من رَكْعَتَيْنِ من ربَاعِية فَقَالَ لَهُ، فَقَالَ: " لم أنس وَلم تقصر "، فَقَالَ: بلَى قد نسيت.(3/1442)
وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: " إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون، فَإِذا نسيت فذكروني "، مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
قَالَ الباقلاني: دلَالَة المعجزة على صدقهم فِيمَا صدر عَنْهُم قصدا واعتقادا، وَمَا صدر عَنْهُم غَلطا فالمعجزة لَا تدل على صدقهم فِيهِ) انْتهى.
وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه لَا يَقع مِنْهُم ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: (وَأما الْكَذِب غَلطا، فجوزه القَاضِي - يَعْنِي الباقلاني - وَمنعه الْبَاقُونَ؛ لما مر من دلَالَة المعجزة على الصدْق) .
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وللعلماء فِي جَوَازه غَلطا ونسيانا قَولَانِ، بِنَاء: على أَن المعجزة هَل دلّت على صدقه فِيهِ؟ وَاخْتلف فِيهِ كَلَام ابْن عقيل) انْتهى.
وَحَاصِله: أَن دلَالَة المعجزة، هَل دلّت على صدقهم مُطلقًا فِي الْعمد والسهو؟ أَو مَا دلّت إِلَّا على مَا صدر عَنْهُم عمدا.(3/1443)
وَتَأَول من منع الْوُقُوع الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي سَهْو النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَنَّهُ قصد بذلك التشريع، كَمَا فِي حَدِيث: " وَلَكِن أُنسى ".
وَمِنْهُم من يعبر فِي هَذَا: بِأَنَّهُ تعتمد ذَلِك ليَقَع النسْيَان فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ خطأ: لتصريحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنِّسْيَانِ فِي قَوْله: " إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون، فَإِذا نسيت فذكروني ".
وَلِأَن الْأَفْعَال العمدية تبطل الصَّلَاة، وَالْبَيَان كَاف بالْقَوْل فَلَا ضَرُورَة إِلَى الْفِعْل.
{وَذكر القَاضِي عِيَاض} وَغَيره: الْخلاف فِي الْأَفْعَال، وَأَنه {لَا [يجوز] فِي الْأَقْوَال البلاغية إِجْمَاعًا، [وَمَعْنَاهُ لِابْنِ عقيل] } فِي(3/1444)
" الْإِرْشَاد "، فَإِنَّهُ قَالَ: (الْأَنْبِيَاء لم يعصموا من الْأَفْعَال، بل فِي نفس الْأَدَاء، فَلَا يجوز عَلَيْهِم الْكَذِب فِي الْأَقْوَال فِيمَا [يؤدونه] عَن الله، وَلَا فِيمَا شَرعه من الْأَحْكَام، عمدا وَلَا سَهوا وَلَا نِسْيَانا) انْتهى.
قَوْله: {ثمَّ لَا يقر عَلَيْهِ إِجْمَاعًا} .
يَعْنِي: إِذا قُلْنَا يَقع ذَلِك مِنْهُم غَلطا ونسيانا، فَإِذا وَقع لم يقر عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، بل يعلم بِهِ.
{قَالَ الْأَكْثَر} : يعلم بِهِ {على الْفَوْر} .
{ [وَقَالَ طَائِفَة] :} يعلم بِهِ فِي {مُدَّة حَيَاته} ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي، ورد الأول.
قَوْله: {وَمَا لَا يخل بصدقه: فمعصوم من كَبِيرَة عمدا إِجْمَاعًا} .(3/1445)
مَا تقدم هُوَ فِي حكم مَا يخل بصدقه، فِيمَا دلّت المعجزة على صدقه فِيهِ، من رِسَالَة وتبليغ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: فعله أَو قَوْله عمدا، فَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ إِجْمَاعًا.
وَالثَّانِي: قَوْله غَلطا أَو نِسْيَانا، فَهَل هُوَ مَعْصُوم مِنْهُ، أَو يجوز وُقُوعه مِنْهُ؟ فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم.
وَمَا قيل هُنَا: فِي حكم [مَا لَا يخل بتصديقه] مِمَّا دلّت المعجز على صدقه فِيهِ، نَوْعَانِ - أَيْضا - كَبَائِر وصغائر، والكبائر - أَيْضا - قِسْمَانِ: أَحدهمَا: فعلهَا عمدا، وَالثَّانِي: سَهوا.
فَالْأول: وَهُوَ فعل الْكَبِيرَة عمدا، فَهُوَ مَعْصُوم من فعلهَا إِجْمَاعًا، وَلَا عِبْرَة بالحشوية وَبَعض الْخَوَارِج.
وَكَذَا هُوَ مَعْصُوم من فعل مَا يُوجب خسة أَو إِسْقَاط مُرُوءَة عمدا.
قَالَ جمَاعَة: (إِجْمَاعًا) ، مِنْهُم الْآمِدِيّ وَمن تبعه.(3/1446)
وَقد قطع بعض أَصْحَابنَا: (بِأَن مَا يسْقط الْعَدَالَة لَا يجوز عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (وَلَعَلَّه مُرَاد غَيره) .
قلت: بل يتَعَيَّن أَنه مُرَاد غَيره.
وَهل مُسْتَند الْمَنْع: السّمع، أَو الْعقل؟ مَبْنِيّ على التحسين والتقبيح العقليين.
وَالْقسم الثَّانِي: فعله سَهوا، فَهَل يجوز وُقُوعه مِنْهُ، أَو هُوَ مَعْصُوم مِنْهُ كالعمد؟ فِيهِ قَولَانِ.
فَعِنْدَ القَاضِي - من أَصْحَابنَا - وَالْأَكْثَر يجوز ذَلِك، وَاخْتلف كَلَام ابْن عقيل فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى: (لَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِ) .(3/1447)
[قَالَ] : (وَتجوز الهمة بهَا لَا الْفِعْل) .
وَالنَّوْع الثَّانِي الصَّغَائِر، وَهُوَ أَيْضا قِسْمَانِ:
أَحدهمَا: فعلهَا عمدا، وَالثَّانِي: سَهوا.
فَالْأول: وَهُوَ فعلهَا عمدا، هَل يجوز وُقُوعهَا مِنْهُ أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْجَوَاز، وَهُوَ قَول القَاضِي، وَابْن عقيل، والأشعرية، والمعتزلة، وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: عدم الْجَوَاز، وَهُوَ قَول فِي مَذْهَبنَا، ذكره ابْن أبي مُوسَى.(3/1448)
وَعند الْحَنَفِيَّة: (مَعْصُوم من مَعْصِيّة وَهِي مَقْصُودَة، لَا زلَّة، وَهُوَ: فعل لم يقْصد جر إِلَيْهِ مُبَاح) .
الْقسم الثَّانِي: فعل الصَّغَائِر سَهوا، فَذهب الْأَكْثَر إِلَى(3/1449)
الْجَوَاز، وَمنع الشِّيعَة مِنْهَا، وَمنع الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني، وَجمع من أَصْحَابنَا وَغَيرهم من الذَّنب مُطلقًا، أَعنِي: سَوَاء كَانَ كَبِيرا أَو(3/1450)
صَغِيرا، عمدا أَو سَهوا، مَا يخل بصدقه أَو لَا، وَاخْتَارَهُ - أَيْضا - أَبُو الْمَعَالِي فِي " الْإِرْشَاد "، وَالْقَاضِي عِيَاض، وَأَبُو بكر ابْن مُجَاهِد، وَابْن(3/1451)
فورك، نَقله عَنهُ ابْن حزم فِي " الْملَل والنحل "، وَابْن حزم، وَابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط "، وَنَقله فِي " الْوَجِيز " عَن اتِّفَاق الْمُحَقِّقين.
وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي " زَوَائِد الرَّوْضَة " عَن الْمُحَقِّقين، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَ: (هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب أَصْحَابنَا) .
وَهُوَ قَول أبي الْفَتْح الشهرستاني، وَابْن عَطِيَّة الْمُفَسّر، وَشَيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ، والسبكي، وَولده التَّاج.
فالعصمة ثَابِتَة لَهُ ولسائر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام من كل ذَنْب، صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، عمدا كَانَ أَو سَهوا، فِي الْأَحْكَام وَغَيرهَا، مبرؤون من جَمِيع(3/1452)
ذَلِك، لقِيَام الْحجَّة على ذَلِك، ولأنا أمرنَا باتبَاعهمْ فِي أفعالهم وآثارهم وسيرهم على الْإِطْلَاق، من غير الْتِزَام قرينَة، وَسَوَاء فِي ذَلِك قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا، تعاضدت الْأَخْبَار بتنزيههم عَن هَذِه النقيصة مُنْذُ ولدُوا، ونشأتهم على كَمَال أوصافهم فِي توحيدهم وَإِيمَانهمْ عقلا أَو شرعا - على الْخلاف فِي ذَلِك - وَلَا سِيمَا فِيمَا بعد الْبعْثَة فِيمَا يُنَافِي المعجزة.
قَالَ ابْن عَطِيَّة: (وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم سبعين مرّة "، إِنَّمَا هُوَ [رُجُوعه من حَالَة إِلَى أرفع] مِنْهَا، لتزيد علومه، واطلاعه على أَمر الله، فَهُوَ يَتُوب من الْمنزلَة الأولى إِلَى الْأُخْرَى، وَالتَّوْبَة هُنَا لغوية) انْتهى، وَتقدم تَأْوِيل سَهْوه قَرِيبا.(3/1453)
(قَوْله: {فصل} )
{مَا كَانَ من أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُخْتَصًّا بِهِ فَوَاضِح} .
وَله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَصَائِص كَثِيرَة، وَذكرهَا أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي كتاب النِّكَاح، وأفردت بالتصانيف.(3/1454)
قَالَ الإِمَام أَحْمد - رَضِي الله عَنهُ -: (خص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات) .
قَوْله: {أَو جبليا} .
أَعنِي: مَا كَانَ من أَفعاله جبليا وَاضحا: كالقيام وَالْقعُود، والذهاب وَالرُّجُوع، وَالْأكل وَالشرب، وَالنَّوْم والاستيقاظ، وَنَحْوهَا، {فمباح، قطع بِهِ الْأَكْثَر} وَلم يحكوا فِيهِ خلافًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودا بِهِ التشريع، وَلَا تعبدنا بِهِ، وَلذَلِك نسب إِلَى الجبلة، وَهِي: الْخلقَة؛ لَكِن لَو تأسى بِهِ متأس فَلَا بَأْس، كَمَا فعل ابْن عمر، فَإِنَّهُ كَانَ إِذا حج يجر بِخِطَام نَاقَته حَتَّى [يبركها] حَيْثُ بَركت نَاقَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تبركا بآثاره.
وَإِن تَركه لَا رَغْبَة عَنهُ وَلَا استكبارا، فَلَا بَأْس.
وَنقل ابْن الباقلاني، وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول " قولا: إِنَّه ينْدب التأسي بِهِ.(3/1455)
وَنقل [أَبُو] إِسْحَاق الأسفراييني وَجْهَيْن، هَذَا، وَعَزاهُ لأكْثر الْمُحدثين، وَالثَّانِي: لَا يتبع فِيهِ أصلا.
فَتَصِير الْأَقْوَال ثَلَاثَة: مُبَاح، ومندوب، وممتنع.
ويحكى قَول رَابِع: بِالْوُجُوب فِي الْجبلي وَغَيره.
قيل: وَهُوَ زلل.
وَحكى ابْن قَاضِي الْجَبَل: النّدب عَن بعض الْحَنَابِلَة والمالكية.
وَحَكَاهُ الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح "، وَقطع بِهِ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع " فَقَالَ: (أما الْجبلي: فالندب، لاستحباب التأسي بِهِ) .
قَوْله: { [فَإِن] احْتمل الْجبلي وَغَيره} ، من حَيْثُ إِنَّه واظب عَلَيْهِ: {كجلسة الاسْتِرَاحَة، وركوبه فِي الْحَج، ودخوله مَكَّة من(3/1456)
كداء، ولبسه السبتي والخاتم، وذهابه ورجوعه فِي الْعِيد، وَنَحْوه} : كتطيبه عِنْد الْإِحْرَام، وَعند تحلله، وغسله بِذِي(3/1457)
طوى، والاضطجاع بعد سنة الْفجْر، وَنَحْوهَا، {فمباح [عِنْد] الْأَكْثَر} ، حَكَاهَا إِلْكيَا الهراسي؛ لإِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهِ، وَقطع بِهِ ابْن الْقطَّان، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَغَيرهم.
{وَقيل: مَنْدُوب، وَهُوَ أظهر} وَأَصَح، {وَهُوَ ظَاهر فعل} الإِمَام(3/1458)
{أَحْمد، فَإِنَّهُ تسرى، واختفى [ثَلَاثَة أَيَّام] } ، ثمَّ انْتقل إِلَى مَوضِع آخر، اقْتِدَاء بِفعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّسَرِّي، واختفائه فِي الْغَار ثَلَاثًا {وَقَالَ: " مَا بَلغنِي حَدِيث إِلَّا عملت بِهِ، حَتَّى أعطي الْحجام دِينَارا ".
وَورد} أَيْضا {عَن} الإِمَام {الشَّافِعِي} ذَلِك، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ(3/1459)
لبَعض أَصْحَابه: " اسْقِنِي قَائِما، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شرب قَائِما ".
ومنشأ الْخلاف فِي ذَلِك: تعَارض الأَصْل وَالظَّاهِر، فَإِن الأَصْل عدم التشريع، وَالظَّاهِر فِي أَفعاله التشريع؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوث لبَيَان الشرعيات.
قلت: أَكثر مَا حكيناه من الْأَمْثِلَة مَنْدُوب، نَص عَلَيْهِ إمامنا وَأَصْحَابه: كذهابه من طَرِيق ورجوعه فِي أُخْرَى فِي الْعِيد، حَتَّى نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد فِي الْجُمُعَة أَيْضا، ودخوله مَكَّة من كداء، وتطيبه عِنْد الْإِحْرَام، وغسله بِذِي طوى، والاضطجاع بعد سنة الْفجْر.
وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن الإِمَام أَحْمد فِي جلْسَة الاسْتِرَاحَة، هَل هِيَ مُسْتَحبَّة أم لَا؟ وَالْمذهب أَنَّهَا لَيست مُسْتَحبَّة.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: (أَكثر الْأَحَادِيث على هَذَا) .(3/1460)
وَعنهُ رِوَايَة: أَنَّهَا تسْتَحب، لحَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث: " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يجلس إِذا رفع رَأسه من السُّجُود قبل أَن ينْهض " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَحمله الْمُوفق وَجَمَاعَة: على أَن جُلُوسه كَانَ فِي آخر عمره حِين ضعف.(3/1461)
وَحَاصِل ذَلِك: أَن من رجح فعل ذَلِك والاقتداء بِهِ والتأسي، قَالَ: لَيْسَ من الْجبلي، بل من الشَّرْعِيّ الَّذِي يتأسى بِهِ فِيهِ، وَمن رأى أَن ذَلِك يحْتَمل الْجبلي وَغَيره، فيحمله على الْجبلي، فألحقه بِهِ.
قَوْله: {وَمَا كَانَ بَيَانا [بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا] كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، [وَفعله] عِنْد الْحَاجة كَقطع [السَّارِق] من [الْكُوع] } ،(3/1462)
وَإِدْخَال الْمرَافِق والكعبين [فِي الْغسْل] ، { [فبيان] } لقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَلقَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَة: 6] ، وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء، وواجب عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِعْلَام بِهِ، لوُجُوب التَّبْلِيغ عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: لَا يتَعَيَّن التَّبْلِيغ بِالْفِعْلِ.
قلت: لَا يخرج ذَلِك عَن كَونه وَاجِبا، فَإِن الْوَاجِب الْمُخَير تُوصَف كل من خصاله بِالْوُجُوب.(3/1463)
قَالَ الْعَضُد: (وَمَعْرِفَة كَونه بَيَانا، إِمَّا بقول، وَإِمَّا بِقَرِينَة.
فَالْقَوْل نَحْو: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، و " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
والقرينة مثل: أَن يَقع الْفِعْل بعد إِجْمَال: كَقطع يَد السَّارِق من الْكُوع دون الْمرْفق والعضد، بَعْدَمَا نزل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] ، وَالْغسْل إِلَى الْمرَافِق بِإِدْخَال الْمرَافِق [أَو إخْرَاجهَا] بَعْدَمَا نزلت: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} [الْمَائِدَة: 6] انْتهى.
قَوْله: { [وَمَا لم يكن كَذَلِك] } .
يَعْنِي: لَا مُخْتَصًّا بِهِ، وَلَا جبليا، وَلَا مترددا، وَلَا بَيَانا، فَهُوَ { [قِسْمَانِ] :} أَحدهمَا: { [مَا] علمت صفته من وجوب [أَو ندب أَو إِبَاحَة] ، [فَقَالَ أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء] } من الْفُقَهَاء والمتكلمين: كالحنفية،(3/1464)
والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: {أمته مثله} فِي ذَلِك؛ لِأَن الأَصْل مُشَاركَة أمته لَهُ، حَتَّى يدل دَلِيل على غير ذَلِك.
{و} قَالَ {القَاضِي} - من أَصْحَابنَا - وَبَعض الشَّافِعِيَّة {و} أَبُو عَليّ { [ابْن خَلاد] } من الْمُعْتَزلَة: أمته مثله {فِي الْعِبَادَات [فَقَط] } دون الْمُعَامَلَات والمناكحات وَغَيرهمَا.
{ [ووقف بعض أَصْحَابنَا] } وَالْفَخْر الرَّازِيّ، فَإِن الإِمَام أَحْمد(3/1465)
قَالَ فِي رِوَايَة ابْن إِبْرَاهِيم: (الْأَمر من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سوى الْفِعْل، لِأَنَّهُ يفعل الشَّيْء لجِهَة الْفضل، ويفعله وَهُوَ خَاص بِهِ، وَإِذا أَمر بالشَّيْء فَهُوَ للْمُسلمين) .
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (ظَاهره الْوَقْف فِي تعديته إِلَى أمته وَإِن علمت صفته؛ لتعليله بِاحْتِمَال تَخْصِيصه) .
وَذكر بعض أَصْحَابنَا أَنه أَقيس، وَقَالَهُ بعض الْأُصُولِيِّينَ.
{و} قَالَ القَاضِي أَبُو بكر {الباقلاني: [حكمه حكم مَا لم تعلم] صفته} - على مَا يَأْتِي بعد هَذَا فَيجْرِي فِيهِ قَول بالندب، وَقَول بِالْإِبَاحَةِ، وَقَول بِالْوَقْفِ.(3/1466)
{و} قَالَ {الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: ( { [من الْمُمكن أَنه يجب علينا وَإِن لم يجب عَلَيْهِ] } ؛ كَمَا تجب مُتَابعَة الإِمَام فِيمَا لَا يجب عَلَيْهِ، وَنبهَ عَلَيْهِ الْقُرْآن بقوله: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله} الْآيَة [التَّوْبَة: 120] ، فَأوجب عَلَيْهِم، وَلَو لم يتَعَيَّن ذَلِك الْغَزْو. - قَالَ -: وَقد يُقَال هَذَا فِيمَا صدر مِنْهُ اتِّفَاقًا) . قَوْله: {فَائِدَة: [تعرف] الصّفة} .
أَعنِي: صفة فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَل هُوَ وَاجِب، أَو مَنْدُوب، أَو مُبَاح؟ { [بِأُمُور] :
[مِنْهَا: النَّص] } مِنْهُ على ذَلِك، بِأَن يَقُول: هَذَا وَاجِب عَليّ، أَو مُسْتَحبّ، أَو مُبَاح، أَو معنى ذَلِك، بِذكر خَاصَّة من خواصه، أَو نَحْو ذَلِك.(3/1467)
{و} مِنْهَا: {تسويته بِفعل قد علمت جِهَته} ، بِأَن يَقُول: هَذَا مثله، أَو مسَاوٍ لَهُ وَنَحْوه.
{ [وَمِنْهَا: الْقَرِينَة: بِأَن] تبين صفة أحد الثَّلَاثَة} ، أما الْوُجُوب، فكالأذان فِي الصَّلَاة، فقد تقرر فِي الشَّرْع: أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة من أَمَارَات الْوُجُوب، وَلِهَذَا لَا يطلبان فِي صَلَاة عيد وكسوف واستسقاء، فيدلان على وجوب الصَّلَاة؛ لِأَنَّهُمَا شعار مُخْتَصّ بالفرائض.
قيل: أَو يكون مَمْنُوعًا مِنْهُ [لَو لم] يجب: كالختان، كَمَا نقل عَن ابْن سُرَيج فِيهِ، وَقطع الْيَد فِي السّرقَة، فَإِن الْجرْح والإبانة مَمْنُوع مِنْهُمَا، فجوازهما يدل على وجوبهما، وَقطع بِهِ فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَكَذَا زِيَادَة [رُكُوع وَقيام] فِي رَكْعَتي الْكُسُوف، وَحجَّة بَعضهم من كَونهَا إِذا صليت(3/1468)
كَسَائِر الصَّلَوَات جَازَ، وَنقض ذَلِك: بسجود السَّهْو والتلاوة فِي الصَّلَاة، فَإِنَّهُمَا سنة مَعَ أَنَّهُمَا مبطلان لَو لم يشرعا، وَكَذَا رفع الْيَدَيْنِ على التوالي فِي تَكْبِيرَات الْعِيد وَنَحْوه، وَمثل بَعضهم: بإحداد [زَوْجَة] الْمُتَوفَّى عَنْهَا.
فَإِن قيل: قد يُجَاب: بِأَن الدَّلِيل دلّ على [سنية] هَذِه الْأُمُور، وَالْكَلَام حَيْثُ لَا دَلِيل.
قيل: الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ إِثْبَات الْقَاعِدَة باستقراء الشَّرْع، حَتَّى ينزل عَلَيْهَا مَا لم يعرف، فَإِذا انتقضت بِمَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل، ارْتَفع مَا ثَبت بالاستقراء.
وَمن قَرَائِن الْوُجُوب أَيْضا: أَن يكون قَضَاء لما علم وُجُوبه، أَو نَحْو ذَلِك.
وَأما النّدب: فكقصد الْقرْبَة مُجَردا عَن دَلِيل وجوب وقرينته، وَالدَّلِيل على ذَلِك كثير.(3/1469)
وَزَاد الْبَيْضَاوِيّ: (أَن يعلم كَونه قَضَاء لفعل مَنْدُوب؛ لِأَن الْقَضَاء يَحْكِي الْأَدَاء) .
وَأما الْإِبَاحَة: فكالفعل الَّذِي ظهر بِالْقَرِينَةِ أَنه لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة.
{ [وَمِنْهَا: أَن يكون الْفِعْل امتثالا لأمر علم أَنه أَمر إِيجَاب أَو ندب] } ، فَيكون هَذَا الْفِعْل تَابعا لأصله فِي حكمه، كَالصَّلَاةِ بَيَانا بعد قَوْله: {أقِيمُوا الصَّلَاة} [الْأَنْعَام: 72] وكالقطع من الْكُوع بَيَانا لآيَة السّرقَة، وَنَحْو ذَلِك.
نعم، فِي الْوَارِد بَيَانا لفعل أَمر آخر، وَهُوَ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجب عَلَيْهِ بَيَان الشَّرْع للْأمة بقوله أَو فعله، فَإِذا أَتَى بِالْفِعْلِ بَيَانا أَتَى بِوَاجِب، وَإِن كَانَ الْفِعْل بَيَانا لأمر ندب أَو إِبَاحَة بِالنِّسْبَةِ للْأمة.
فللفعل حِينَئِذٍ جهتان: جِهَة التشريع وَصفته الْوُجُوب، وجهة مَا يتَعَلَّق بِفعل الْأمة تَابع لأصله من ندب أَو إِبَاحَة.
قَوْله: {وَمَا لَا تعلم صفته} .
هَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي: [مِمَّا لم] يكن جبليا، وَلَا مُخْتَصًّا بِهِ، وَلَا مترددا، وَلَا بَيَانا، { [وَهُوَ نَوْعَانِ] } :(3/1470)
أَحدهمَا: { [مَا يقْصد بِهِ] الْقرْبَة، [فَهُوَ وَاجِب] علينا وَعَلِيهِ، عِنْد أَحْمد [وَأكْثر أَصْحَابه] } ، مِنْهُم: ابْن حَامِد، وَالْقَاضِي، وَابْن أبي مُوسَى، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَذكره عَن أَصْحَابنَا، والحلواني، قَالَه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، { [والمالكية] } ، وَابْن سُرَيج، والإصطخري، وَابْن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(3/1471)
خيران، وَابْن أبي هُرَيْرَة، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الصَّحِيح عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، وَقَالَ: (هُوَ أشبه بِمذهب الشَّافِعِي) ، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ فِي " المعالم ".
{ [وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة: أَنه مَنْدُوب] ، وَاخْتَارَهُ التَّمِيمِي، وَالْقَاضِي} أَيْضا فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَحَكَاهُ السَّرخسِيّ عَن(3/1472)
الْحَنَفِيَّة، وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، والظاهرية، والمعتزلة، والصيرفي، والقفال الْكَبِير، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو شامة، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْمجد ابْن تَيْمِية: (نقل هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد: إِسْحَاق بن(3/1473)
إِبْرَاهِيم، والأثرم، وَجَمَاعَة، بِأَلْفَاظ صَرِيحَة) .
{وَقيل} : إِنَّه {مُبَاح، اخْتَارَهُ الْفَخر} إِسْمَاعِيل {فِي جدله، والجصاص، [وَالْفَخْر الرَّازِيّ] } وَأَبُو الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، {وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ مَذْهَب مَالك] } ، وَاسْتشْكل الْإِبَاحَة فِيمَا يقْصد بِهِ الْقرْبَة.
{وَعَن} الإِمَام {أَحْمد} رِوَايَة - أَيْضا - { [بِالْوَقْفِ] } حَتَّى يقوم(3/1474)
دَلِيل على حكمه { [اخْتَارَهَا] أَبُو الْخطاب، وَحكي عَن التَّمِيمِي} ، وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين، {والأشعرية، و [غَيرهم] } وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب، وَحكي عَن جُمْهُور الْمُحَقِّقين: كالصيرفي، وَالْغَزالِيّ، وأتباعهما، وَقَالَهُ الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ.
فَقيل: الْوَقْف بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة.
وَقيل: بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب فَقَط.
قَوْله: { [وَمَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة] } .(3/1475)
هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي [مِمَّا لم] تعلم صفته، وَهُوَ مَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة، وَفِيه أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه { [مُبَاح] } ، اخْتَارَهُ الْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، وَحكي عَن مَالك، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": (فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُفِيد الْإِبَاحَة، إِذا لم يكن فِيهِ معنى الْقرْبَة، فِي قَول الْجُمْهُور) .
{ [وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه] وَاجِب} ، اخْتَارَهُ جمَاعَة، وَحكي عَن ابْن سُرَيج، والإصطخري، وَابْن خيران، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهم، كَمَا تقدم.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: (وَلَا وَجه لَهُ) على مَا يَأْتِي.
{ [وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه] مَنْدُوب} ، اخْتَارَهُ جمَاعَة - أَيْضا - وَحكي(3/1476)
عَن الشَّافِعِي كَمَا تقدم، فَإِن كثيرا من الْعلمَاء حكى الْخلاف فِيمَا لم تعلم صفته، وأطلقوا الْخلاف، سَوَاء قصد بِهِ الْقرْبَة أَو لَا، وَجعلُوا بعض الْأَقْوَال مفصلة بَين مَا يقْصد بِهِ الْقرْبَة وَبَين مَا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة.
{و} اخْتَار {الْآمِدِيّ} : أَنه {مُشْتَرك [بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب] : فِيمَا قصد فِيهِ الْقرْبَة، [وَمَا لم يقْصد فِيهِ الْقرْبَة مُشْتَرك بَين الثَّلَاثَة] } ، أَعنِي: الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة، {وَمَا اخْتصَّ بِهِ أَحدهمَا [مَشْكُوك] فِيهِ} ، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، وَغَيره.
تَنْبِيه: كثير من المصنفين يجمع بَين نَوْعي مَا لم تعلم صفته، مِمَّا قصد بِهِ الْقرْبَة، وَمِمَّا لم يقْصد بِهِ الْقرْبَة، ويحكي الْخلاف مُطلقًا ثمَّ يفصل فِي القَوْل الثَّالِث وَالرَّابِع، وَبَعْضهمْ يفصل بَينهمَا فيذكر كل وَاحِد على حِدة، ويحكي الْخلاف فِيهِ كَمَا حكيناه فِي الْمَتْن.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " - لما حكى الْخلاف عَن أَحْمد وَأَصْحَابه(3/1477)
وَغَيرهم، وعمم ذَلِك -: (وَمُرَاد أَحْمد وَالْأَصْحَاب: مَا فِيهِ قصد قربَة، وَإِلَّا فَلَا وَجه للْوُجُوب فِي غَيره، وَالنَّدْب فِيهِ مُحْتَمل) .
قَالَ: (وَكَذَا ذكر بعض أَصْحَابنَا - يَعْنِي بِهِ الْمجد فِي " المسودة " - الْخلاف لنا وَلِلنَّاسِ مَعَ قصد الْقرْبَة، وَإِلَّا فالإباحة، وَأَنه قَول الْجُمْهُور، وَأَن قوما قَالُوا بِالْوُجُوب، وَذكره بَعضهم عَن ابْن سُرَيج.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: (قدره أجل من هَذَا) .
وَقَالَ جمَاعَة بالندب هُنَا احْتِيَاطًا، [وَذكر] أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ عَن أَحْمد: الْوُجُوب، وَالنَّدْب.
وَذكر الْآمِدِيّ عَن أَصْحَابنَا وَغَيرهم: الْوُجُوب، قَالَ: (غير أَن الْوُجُوب وَالنَّدْب فِيهِ أبعد) . انْتهى كَلَام الْمجد.
وَقَالَ أَيْضا: (فَأَما مَا لم يظْهر فِيهِ معنى الْقرْبَة، فيستبان فِيهِ ارْتِفَاع الْحَرج عَن الْأمة لَا غير، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور، وَاخْتَارَهُ الْجُوَيْنِيّ والمحققون من الْقَائِلين بِالْوُجُوب أَو النّدب فِيمَا إِذا قصد الْقرْبَة) .(3/1478)
(فصل)
دَلِيل الْقَائِل بِالْوُجُوب: قَوْله تَعَالَى: {واتبعوه} [الْأَعْرَاف: 158] ، وَقَوله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} [النُّور: 63] ، وَالْفِعْل أَمر كَمَا يَأْتِي، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} [الْحَشْر: 7] ، وَقَوله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} [الْأَحْزَاب: 21] ، أَي: تأسوا بِهِ، وَقَوله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني} [آل عمرَان: 31] ومحبته وَاجِبَة، فَيجب لازمها وَهُوَ اتِّبَاعه، وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا} [الْأَحْزَاب: 37] فلولا الْوُجُوب لما رفع تَزْوِيجه الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ فِي أَزوَاج أدعيائهم.(3/1479)
وَلما خلع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَعله فِي الصَّلَاة خلعوا نعَالهمْ، رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سعيد، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة، وَابْن حبَان، وَالْحَاكِم، وَرُوِيَ مُرْسلا.
وَلما أَمرهم بالتحلل فِي صلح الْحُدَيْبِيَة - رَوَاهُ البُخَارِيّ - تمسكوا.
وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجل عَن الْغسْل بِلَا إِنْزَال، فَأجَاب بِفِعْلِهِ، رَوَاهُ مُسلم.
وَلِأَنَّهُ أحوط، كنسيان تعْيين الصَّلَاة، ومطلقة.(3/1480)
وَلِأَن فعله كَقَوْلِه، فِي بَيَان مُجمل وَتَخْصِيص وَتَقْيِيد، فَكَانَ مطلقه [للْوُجُوب] .
وَلِأَن فِي مُخَالفَته تنفيرا وتركا للحق، لِأَن فعله حق.
ورد الأول: بِأَنَّهُ كالتأسي، وَهُوَ غير مَعْلُوم، قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " [وَغَيره] .
وَقَالَ الْآمِدِيّ: (فِي أَقْوَاله، للْإِجْمَاع: أَن الْمُتَابَعَة فِي الْفِعْل إِنَّمَا تجب بِوُجُوبِهِ، وَمُطلق الْفِعْل غير مَعْلُوم) .
ورد الثَّانِي: بِأَن المُرَاد: أَمر الله، ثمَّ المُرَاد بِهِ: القَوْل؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِيهِ، وَلذكر الدُّعَاء قبله، التحذير من مُخَالفَة فعله يَسْتَدْعِي وُجُوبه، فَلَو اسْتُفِيدَ وُجُوبه من التحذير كَانَ دورا.(3/1481)
وَكَذَلِكَ جَوَاب الثَّالِث: لَا يجب الْأَخْذ حَتَّى يجب الْفِعْل، فَلَو وَجب من الْآيَة دَار، ثمَّ المُرَاد: مَا أَمركُم، لمقابلة: {وَمَا نهاكم} .
وَجَوَاب الرَّابِع وَالْخَامِس: مَا سبق فِي التأسي والاتباع.
وَفِي السَّادِس: مُسَاوَاة حكمنَا بِحكمِهِ، وَلَا يلْزم وصف أَفعاله كلهَا بِالْوُجُوب ليجب فعلهَا.
وَلَيْسَ فِي الْخلْع وجوب.
ثمَّ لدَلِيل: إِمَّا: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، أَو غَيره.
والتحلل وَجب بِالْأَمر، لَكِن رجوا نسخه، فَلَمَّا تحلل أيسوا، وَبِقَوْلِهِ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، رَوَاهُ مُسلم.
وَالْغسْل بِلَا إِنْزَال إِنَّمَا وَجب بالْقَوْل، فَفِي مُسلم عَن أبي مُوسَى: أَنهم ذكرُوا مَا يُوجب الْغسْل؟ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَائِشَة: مَا يُوجب الْغسْل؟ فَقَالَت: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان، فقد وَجب الْغسْل "، أَو بِفعل هُوَ بَيَان لقَوْله: {وَإِن كُنْتُم جنبا} [الْمَائِدَة: 6] .(3/1482)
وَالِاحْتِيَاط فِيمَا ثَبت وُجُوبه: كَصَلَاة فَائِتَة من يَوْم وَلَيْلَة، أَو الأَصْل ثُبُوته: كالثلاثين من رَمَضَان.
فَأَما مَا احْتمل الْوُجُوب وَغَيره فَلَا.
وَيمْنَع التنفير.
ولحصول الْمُفَارقَة فِي أَشْيَاء.
وَلَا يلْزم من كَونه حَقًا وُجُوبه.
فَإِن قيل: فعله كتركه.
رد: لَا يجب ترك مَا ترك الْأَمر بِهِ، وَيجب بِالْأَمر.
وَقَالَ ابْن عقيل: (إِن فعل وَترك، مغايرا بَين شَخْصَيْنِ، أَو مكانين، أَو زمانين، وَجب التّرْك، وَإِلَّا فَلَا.
على أَن بَيَانه عِلّة تَركه [أكل] الضَّب، وَفسخ الْحَج، يُعْطي: أَن تَركه يجب الِاقْتِدَاء بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُفَسر وَلَا يخص، وَلم يَجعله الْقَائِل بالندب ندبا) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: (كَذَا قَالَ) .
الْقَائِل بالندب: لِأَنَّهُ الْيَقِين، وغالب فعله.
رد: بِالْمَنْعِ، [وَبِمَا] سبق.(3/1483)
الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: لِأَنَّهَا متيقنة.
رد: بِمَا سبق.
الْقَائِل بِالْوَقْفِ: لاحْتِمَاله الْجَمِيع، وَلَا صِيغَة لَهُ، وَلَا تَرْجِيح.
رد: بِمَا سبق، وَبِأَن الْغَالِب [لَا اخْتِصَاص] ، وَلَا عمل بالنادر.
وَقَالَ ابْن عقيل: (المتبع لَا يجوز إِمْسَاكه عَن بَيَان مَا يَخُصُّهُ، لَا سِيمَا إِن ضرّ غَيره، لِأَنَّهُ غرور، وَلَو فِي طَرِيق أَو أكل أَو شرب، إِن علم أَنه قد يتبع، فَكيف [بِعِلْمِهِ] باتباعه) .
وَقَول التَّمِيمِي وَغَيره: بتجويز سَهْو أَو غَيره - حَتَّى قيل: يتَوَقَّف فِيهِ فِي دلَالَته على حكم حَقه - ضَعِيف، لما سبق، وَلِأَنَّهُ لَا يقر عَلَيْهِ.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ.
الأولى: التأسي: فعلك كَمَا فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأجل أَنه فعل، وَكَذَا التّرْك} ،(3/1484)
فالتأسي فِيهِ: تَركك لَهُ كَمَا ترك لأجل أَنه تَركه.
هَذَا فِي الْفِعْل وَتَركه، {و} أما {فِي القَوْل: [فالامتثال] على الْوَجْه الَّذِي اقْتَضَاهُ} .
{ [وَإِن لم يكن كَذَلِك فِي الْكل، فَهُوَ مُوَافقَة] لَا مُتَابعَة} ، إِذْ الْمُوَافقَة: الْمُشَاركَة فِي الْأَمر وَإِن لم يكن لأَجله، فالموافقة أَعم من التأسي، فَكل تأس مُوَافقَة، وَلَيْسَ كل مُوَافقَة تأس، فقد يُوَافق وَلَا يتأسى، فَلَا بُد من اجْتِمَاعهمَا لحُصُول الْمَقْصُود، وَهُوَ الْمُتَابَعَة.
قَوْله: {الثَّانِيَة: لَا يفعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَكْرُوه ليبين بِهِ الْجَوَاز، بل فعله يَنْفِي(3/1485)
الْكَرَاهَة، قَالَه القَاضِي وَغَيره} من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَقد قَالَ القَاضِي: لَا يفعل الْمَكْرُوه ليبين بِهِ الْجَوَاز، لِأَنَّهُ يحصل فِيهِ التأسي.
قَالَ: { [وَمرَاده] : وَلَا معَارض لَهُ، وَإِلَّا فقد يفعل} غَالِبا {شَيْئا ثمَّ يفعل خِلَافه لبَيَان الْجَوَاز، وَهُوَ كثير عندنَا} وَعند أَرْبَاب الْمذَاهب { [كَقَوْلِهِم فِي ترك] الْوضُوء مَعَ [الْجَنَابَة] لنوم [أَو أكل أَو معاودة] وَطْء} : تَركه لبَيَان الْجَوَاز، وَفعله غَالِبا للفضيلة ... ... ... ... ... ... ...(3/1486)
فارغة(3/1487)
{وتشبيكه [فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْمَسْجِد] ، لَا يَنْفِي الْكَرَاهَة لِأَنَّهُ نَادِر، و [قد] حمل الْحَنَفِيَّة وضوءه بسؤر الهر [لبَيَان] الْجَوَاز مَعَ الْكَرَاهَة} .
ثمَّ التأسي وَالْوُجُوب بِالسَّمْعِ لَا بِالْعقلِ، خلافًا لبَعض الْأُصُولِيِّينَ) .(3/1488)
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: (لَا يَقع الْمَكْرُوه من الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم السَّلَام -؛ لِأَن التأسي بهم مَطْلُوب، فَيلْزم أَن يتأسى بهم فِيهِ، فَيكون جَائِزا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُم أكمل الْخلق، وَلَهُم أَعلَى الدَّرَجَات، فَلَا يلائم أَن يَقع مِنْهُم مَا نهى الله عَنهُ، وَلَو نهي تَنْزِيه، فَإِن الشَّيْء الحقير من الْكَبِير أَمر عَظِيم.
ويقرر ذَلِك بِأَمْر آخر، وَهُوَ: أَنه لَا يتَصَوَّر أَنه يَقع مِنْهُم ذَلِك مَعَ كَونه مَكْرُوها.
قَالَ ابْن الرّفْعَة: (الشَّيْء قد يكون مَكْرُوها، ويفعله النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبَيَان الْجَوَاز، وَيكون أفضل فِي حَقه) .
وَخلاف الأولى كالمكروه، وَإِن لم يتَعَرَّضُوا لَهُ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي وضوء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرّة ومرتين: (قَالَ الْعلمَاء: إِن(3/1489)
ذَلِك كَانَ أفضل فِي حَقه من التَّثْلِيث لبَيَان التشريع) .
قلت: وَمَا قَرّرته أولى من هَذَا، لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن بَيَان الْجَوَاز فِي الْفِعْل، فَفِي القَوْل مَا يُغني عَنهُ، وَفِي الْتِزَام أَن يكون للْفِعْل جهتان، من جِهَة التشريع يكون فَاضلا، وَمن جِهَة أَنه مَنْهِيّ عَنهُ يكون مَكْرُوها، وَهَذَا أَجود من قَول بَعضهم: إِن الْمَكْرُوه لَا يَقع مِنْهُم لندرته، لِأَن وُقُوعه من آحَاد النَّاس نَادِر، فَكيف من خَواص الْخلق، فَفِيهِ الْتِزَام أَنه يَقع) انْتهى.
وَمرَاده بالْكلَام الْأَخير من قَول بَعضهم: التَّاج السُّبْكِيّ فِي " جمع الْجَوَامِع " وَجَمَاعَة.
تَنْبِيه: تلخص مِمَّا تقدم: أَن أَفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - محصورة فِي الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، وَأما الْمحرم فَلَا يَفْعَله الْبَتَّةَ، وَاخْتلف فِي الْمَكْرُوه، وَالصَّحِيح: أَنه لَا يَفْعَله كَمَا قَالَه من أَصْحَابنَا القَاضِي وَغَيره، أَو يَفْعَله لبَيَان الْجَوَاز للمعارض، كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، أَو يَفْعَله نَادرا كَمَا قَالَ جمَاعَة، كَمَا تقدم ذَلِك كُله.(3/1490)
(قَوْله: {فصل} )
{إِذا سكت - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن إِنْكَار [فعل أَو قَول] ، بِحَضْرَتِهِ، أَو زَمَنه [عَالما بِهِ] ، دلّ على جَوَازه [حَتَّى لغيره فِي الْأَصَح] ، وَإِن سبق تَحْرِيمه فنسخ} ؛ لِئَلَّا يكون سُكُوته محرما، وَلِأَن فِيهِ تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة، لإيهام الْجَوَاز والنسخ، ولاسيما إِن استبشر بِهِ.
وَلذَلِك احْتج الإِمَام أَحْمد وَالْإِمَام الشَّافِعِي فِي إِثْبَات النّسَب بالقيافة بِحَدِيث عَائِشَة: " أَن مجزز المدلجي رأى زيد بن(3/1491)
حَارِثَة وَابْنه أُسَامَة، فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض، فسُر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك وَأَعْجَبهُ "، مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَضعف ابْن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي هَذِه الْحجَّة، لِأَن ترك إِنْكَاره لموافقته الْحق، وسُر لإلزام من طعن فِي نسب أُسَامَة، لما يلْزم على اعْتِقَاده فِي إِثْبَات النّسَب بالقافة.
ورد: بِأَن مُوَافقَة الْحق لَا تجوز ترك إِنْكَار طَرِيق مُنكر، لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه حق، وَلَا يرْتَفع إِلْزَامه بالإنكار، لِأَنَّهُ ألزم باعتقاده وَإِن أنكرهُ ملزمه.
تَنْبِيه: لم يُقيد الْمَسْأَلَة بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ، كَمَا ذكره ابْن(3/1492)
الْحَاجِب وَغَيره، إِذْ لَا حَاجَة إِلَيْهِ؛ لِأَن من خَصَائِصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن وجوب إِنْكَاره الْمُنكر لَا يسْقط عَنهُ بالخوف على نَفسه، وَإِن كَانَ ذَلِك إِنَّمَا هُوَ لعدم تحقق خَوفه، بعد إِخْبَار الله تَعَالَى عَنهُ بعصمته من النَّاس.
وَقَوْلنَا: (حَتَّى لغيره فِي الْأَصَح) .
أَعنِي: أَن الْجَوَاز لَا يخْتَص بالفاعل الَّذِي سكت عَنهُ، بل يتَعَدَّى إِلَى غَيره من النَّاس عِنْد الْمُعظم؛ لِأَن الأَصْل: اسْتِوَاء الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام.
وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو بكر الباقلاني، فَقَالَ: (لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره، فَإِن التَّقْرِير لَا صِيغَة لَهُ) انْتهى.
وَمحل هَذِه الْأَحْكَام فِي غير الْكَافِر، وَلذَلِك قُلْنَا: (إِلَّا من كَافِر فِيمَا يَعْتَقِدهُ) : كذهابه إِلَى كَنِيسَة وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ لَا أثر لَهُ اتِّفَاقًا، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره.(3/1493)
وَقيل: (لَا يدل السُّكُوت على الْجَوَاز، فِي حق من يغريه الْإِنْكَار على الْفِعْل، وَلَا يجب الْإِنْكَار عَلَيْهِ) ، وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْمُعْتَزلَة، وَالأَصَح: وجوب الْإِنْكَار، ليزول توهم الْإِبَاحَة.
وَقيل: (لَا يدل السُّكُوت على الْجَوَاز فِي حق الْمُنَافِق) ، قَالَه أَبُو الْمَعَالِي.(3/1494)
(قَوْله: {فصل} )
{فعلاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[وَلَو اخْتلفَا] ، وَأمكن اجْتِمَاعهمَا كَصَوْم وَصَلَاة، أَو لَا، لَكِن لَا [يتناقض] حكماهما، فَلَا تعَارض، وَكَذَا إِن تنَاقض، كصومه فِي وَقت وَأكله فِي مثله، لَكِن: إِن دلّ دَلِيل على وجوب تكَرر [الأول لَهُ، أَو لأمته] ، أَو أقرّ من أكل فِي مثله، فنسخ} .
الصَّادِر مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا قَول، أَو فعل، أَو هما.
فَإِذا انْفَرد أَحدهمَا فَلَا كَلَام.
وَرُبمَا تعَارض دليلان من ذَلِك؛ إِمَّا قَولَانِ، أَو فعلان، أَو قَول وَفعل.(3/1495)
أما الْقَوْلَانِ فَسَيَأْتِي حكم تعارضهما فِي التعادل والتراجيح.
وَأما تعَارض الْفِعْلَيْنِ، أَو الْفِعْل وَالْقَوْل، فمذكوران هُنَا.
فَنَقُول: فعلاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن تماثلا: كَفعل صَلَاة، ثمَّ فعلهَا مرّة أُخْرَى فِي [وَقت] آخر، أَو اخْتلفَا وَأمكن اجْتِمَاعهمَا: كَفعل صَوْم وَفعل صَلَاة، أَو لَا يُمكن اجْتِمَاعهمَا لَكِن لَا يتناقض حكماهما، فَلَا تعَارض بَينهمَا؛ لِإِمْكَان الْجمع، وَحَيْثُ أمكن الْجمع امْتنع التَّعَارُض، وَكَذَا إِن تنَاقض: كصومه فِي وَقت بِعَيْنِه وَأكله فِي مثله، لِإِمْكَان كَونه وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مُبَاحا فِي ذَلِك الْوَقْت، وَفِي الْوَقْت الآخر بِخِلَافِهِ، من غير أَن يكون أَحدهمَا رَافعا أَو مُبْطلًا لحكم الآخر، إِذْ لَا عُمُوم للْفِعْل.
لَكِن إِن دلّ دَلِيل على وجوب تكَرر صَوْمه عَلَيْهِ، أَو وجوب التأسي بِهِ فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، فتلبس بضده: كَالْأَكْلِ مَعَ قدرته على الصَّوْم، دلّ أكله على نسخ دَلِيل تكْرَار الصَّوْم فِي حَقه، لَا نسخ حكم الصَّوْم السَّابِق، لعدم اقتضائه للتكرار، وَرفع [حكم] وجد محَال.
أَو أقرّ من أكل فِي مثله من الْأمة، فنسخ لدَلِيل تَعْمِيم الصَّوْم على الْأمة فِي حق ذَلِك الشَّخْص، أَو تَخْصِيصه، وَقد يُطلق النّسخ والتخصيص على الْمَعْنى، بِمَعْنى زَوَال التَّعَبُّد، مجَازًا.
قَوْله: {وَقيل فِي فَعَلَيهِ الْمُخْتَلِفين: الثَّانِي نَاسخ، وَإِلَّا تَعَارضا، وَمَال(3/1496)
إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَقَالَ الباقلاني وَأَبُو الْمَعَالِي [بجوازهما] مَا لم يتَضَمَّن أَحدهمَا حظرا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد فِي مسَائِل، [وآخرهما أفضل] } .
هَذِه طَريقَة ذكرهَا الْمجد فِي " المسودة "، فَقَالَ: (صَار كثير من الْعلمَاء إِلَى الْعَمَل بآخر الْفِعْلَيْنِ كالقولين، وَجعله نَاسِخا بِمَا يَقْتَضِيهِ لَو انْفَرد، وَجعل الأول مَنْسُوخا بِهِ.
قَالَ الْجُوَيْنِيّ: وَللشَّافِعِيّ صغو إِلَى ذَلِك، وَأَشَارَ إِلَى أَنه قدم حَدِيث [ابْن خَوات] ، على حَدِيث ابْن عمر فِي الْخَوْف لذَلِك، وَأَنه على هَذَا: مَتى لم يعلم التَّارِيخ تَعَارضا، وَعدل إِلَى الْقيَاس وَغَيره من الترجيحات.(3/1497)
ثمَّ قَالَ الْجُوَيْنِيّ: (وَذهب الباقلاني: إِلَى أَن تعدد الْفِعْل مَعَ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُفِيد جَوَاز الْأَمريْنِ، إِذا لم يكن فِي أَحدهمَا مَا يتَضَمَّن حظرا) .
وَرجح الْجُوَيْنِيّ ذَلِك، وَهُوَ ظَاهر كَلَام إمامنا فِي مسَائِل كَثِيرَة.
نعم؛ يكون آخر [الْفِعْل] أولى فِي الْفَضِيلَة وَالِاخْتِيَار، وعَلى هَذَا يحمل قَوْلهم: كُنَّا نَأْخُذ بالأحدث فالأحدث من فعل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِهَذَا جَاءَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فِي الصَّوْم فِي السّفر، مَعَ أَنه قد صَحَّ عَنهُ التَّخْيِير فِي الْأَمريْنِ) ، انْتهى كَلَام الْمجد.(3/1498)
(قَوْله: {فصل} )
إِذا تعَارض قَوْله وَفعله ... إِلَى آخِره.
مَا تقدم فَهُوَ فِي تعَارض فَعَلَيهِ، وَمَا ذكر هُنَا فَهُوَ فِي تعَارض قَوْله وَفعله، وَيَأْتِي فِي التَّرْجِيح إِذا تعَارض قولاه.
[وَاعْلَم أَنه إِذا] صدر مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَول وَفعل كل مِنْهُمَا يَقْتَضِي خلاف مَا يَقْتَضِيهِ الآخر، فَفِيهِ [اثْنَتَانِ] وَسَبْعُونَ مَسْأَلَة.(3/1499)
وَوجه الْحصْر فِي ذَلِك: أَنه لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يدل دَلِيل على التّكْرَار والتأسي، أَو لَا يدل على شَيْء مِنْهُمَا، أَو يدل على الأول - وَهُوَ التكرر - دون الثَّانِي - وَهُوَ التأسي -، أَو بِالْعَكْسِ، فَيدل على التأسي دون التكرر، فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَقسَام، كل [مِنْهَا] يتنوع إِلَى ثَمَانِيَة عشر نوعا، فَيصير الْمَجْمُوع اثْنَيْنِ وَسبعين، لِأَن كل وَاحِد من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون القَوْل [خَاصّا بِهِ، أَو بِنَا، أَو عَاما لَهُ وَلنَا، وعَلى كل تَقْدِير من ذَلِك لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يكون القَوْل] مقدما على الْفِعْل، أَو مُتَأَخِّرًا عَنهُ، أَو مَجْهُول التَّارِيخ، فَهَذِهِ تِسْعَة أَنْوَاع، من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة، وعَلى كل تَقْدِير مِنْهَا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَن يظْهر أَثَره فِي حَقه، أَو حَقنا، صَارَت ثَمَانِيَة عشرَة، مَضْرُوبَة فِي الْأَرْبَعَة الْأَقْسَام، كَمَا تقدم.
إِذا عرف ذَلِك؛ فَقَوله: {إِذا تعَارض [قَوْله وَفعله] [وَلم يدل دَلِيل على تكرره فِي حَقه، وَلَا على التأسي] } ، فَهَذَا هُوَ الْقسم الأول، فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا وَتَأَخر عَن الْفِعْل: كَفِعْلِهِ شَيْئا فِي وَقت، ثمَّ يَقُول بعد(3/1500)
ذَلِك الْفِعْل على الْفَوْر، أَو متراخيا: لَا يجوز لي مثل هَذَا الْفِعْل فِي مثل هَذَا الْوَقْت، فَلَا تعَارض بَينهمَا أصلا فِي حَقه، وَلَا فِي حق أمته؛ لِإِمْكَان الْجمع، لعدم تكْرَار الْفِعْل، وَلم يكن رَافعا لحكم فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبل.
أما فِي حَقه؛ فَلِأَن القَوْل لم يتَنَاوَل الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ الْفِعْل، وَالْفِعْل - أَيْضا - لم يتَنَاوَل الزَّمَان الَّذِي تعلق بِهِ القَوْل، فَلَا يكون أَحدهمَا رَافعا لحكم الآخر.
وَأما فِي حق الْأمة، فَظَاهر؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لوَاحِد من القَوْل وَالْفِعْل تعلق بالأمة.
وَقَوله: {وَإِن تقدم} .
أَي: { [القَوْل] على الْفِعْل، كَقَوْلِه: يجب عَليّ كَذَا وَقت كَذَا، { [ويتلبس] [بضده فِيهِ] ، فالفعل نَاسخ} لحكمه، { [عِنْد من جوز النّسخ قبل التَّمَكُّن] } من الْفِعْل، كَمَا هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، على مَا يَأْتِي فِي النّسخ.(3/1501)
وَمن لم يجوزه كالمعتزلة مَنعه، وَقَالَ: لَا يتَصَوَّر صُدُور مثل هَذَا الْفِعْل بعد القَوْل إِلَّا على سَبِيل الْمعْصِيَة، لِأَن النّسخ قبل التَّمَكُّن [غير جَائِز] عِنْدهم، وَيَأْتِي الْخلاف فِي ذَلِك فِي النّسخ.
وَإِن كَانَ الْفِعْل بعد التَّمَكُّن من مُقْتَضى القَوْل، لم يكن نَاسِخا لِلْقَوْلِ، إِلَّا أَن يدل دَلِيل على وجوب تكَرر مُقْتَضى القَوْل، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون الْفِعْل نَاسِخا، لتكرر مُقْتَضى القَوْل، ذكره الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَلم يذكرهُ ابْن الْحَاجِب، وَلَا ابْن مُفْلِح، وتابعتهما على ذَلِك.
قَوْله: {وَإِن جهل، [فكالجهل الْآتِي] } .
أَي: إِذا لم يعلم هَل القَوْل مقدم على الْفِعْل، أَو عَكسه؟ بل جهلنا ذَلِك، فَحكمه حكم الْجَهْل الْآتِي بعد ذَلِك، وَهُوَ قَوْلنَا: (فَإِن جهل فَلَا تعَارض فِي حَقنا، وَفِي حَقه الْخلاف) .
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا وَجَهل التَّارِيخ، فَحكمه حكم الْقسم الَّذِي دلّ على وجوب التّكْرَار والتأسي وَالْقَوْل خَاص بِهِ وَجَهل التَّارِيخ) انْتهى.
تَنْبِيه: تقدم ثَلَاث مسَائِل فِيمَا إِذا لم يدل دَلِيل على تكرره فِي حَقه،(3/1502)
وَلَا على التأسي بِهِ، وَالْقَوْل خَاص بِهِ: إِذا تقدم القَوْل على الْفِعْل، وَعَكسه، وَالْجهل.
قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ القَوْل بِنَا، [فَلَا تعَارض مُطلقًا] } .
أَعنِي: سَوَاء تقدم الْفِعْل، أَو تَأَخّر، لعدم اجْتِمَاع القَوْل وَالْفِعْل فِي مَحل وَاحِد، لِأَن الْفِعْل خَاص بِهِ، إِذْ لَا دَلِيل على وجوب التأسي بِهِ، وَالْقَوْل خَاص بِنَا، فَلم يتحد مَحلهمَا.
قَوْله: { [أَو عَم] } .
أَعنِي: عَم القَوْل لنا وَله، فَتَارَة يتَقَدَّم الْفِعْل، وَتارَة يتَقَدَّم القَوْل، وَتارَة يجهل.
فَإِن تقدم فَلَا تعَارض فِي حَقه كَمَا سبق، وَلَا فِي حَقنا، لِأَن فعله لم يتَعَلَّق بِنَا.
قَوْله: {وَإِن تقدم القَوْل، [فكالقول] الْخَاص بِهِ} .
فَهُوَ فِي حَقه كَمَا سبق فِي القَوْل الْخَاص بِهِ، {وَلَا تعَارض فِي حَقنا} ؛ لِأَنَّهُمَا لم يتواردا علينا.
قَوْله: {فَإِن كَانَ الْعَام ظَاهرا فِيهِ، فالفعل تَخْصِيص} ، كَمَا سَيَأْتِي.(3/1503)
قَوْله: {وَإِن دلّ [عَلَيْهِمَا] } .
أَي: دلّ على التكرر فِي حَقه، وعَلى التأسي بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الْمُتَقَدّمَة، هُوَ عكس الأول.
فَإِذا دلّ الدَّلِيل على التكرر فِي حَقه، وعَلى وجوب تأسي الْأمة بِهِ، { [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا] بِهِ [فَلَا تعَارض فِينَا] ، [سَوَاء تقدم القَوْل، أَو الْفِعْل] } ؛ لِأَن القَوْل لم يتناولهم.
{ [وَأما فِي حَقه؛ فالمتأخر نَاسخ] } ، لَكِن الْفِعْل ينْسَخ القَوْل الْمُتَقَدّم بعد التَّمَكُّن من الِامْتِثَال، وَقَبله فِيهِ الْخلاف، وَمُوجب للْفِعْل علينا.
قَوْله: { [وَإِن] جهل، فَلَا تعَارض [فِي حَقنا] } ؛ لِأَن القَوْل لم يعمنا.
{ [وَأما فِي حَقه، فَاخْتَارَ] [أَبُو الْخطاب] } فِي " التَّمْهِيد " { [و](3/1504)
ابْن حمدَان} فِي " الْمقنع " { [وجوب الْعَمَل] بالْقَوْل} ، لِأَن الْفِعْل يحْتَاج إِلَى القَوْل فِي بَيَان وَجه وُقُوعه.
قَالَ فِي " التَّمْهِيد ": (وَأما إِن لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر، فالتعلق بالْقَوْل) ، وَذكر الْقَوْلَيْنِ الآخرين وردهما.
{وَقيل} : يجب الْعَمَل {بِالْفِعْلِ} ؛ لِأَنَّهُ أقوى فِي الْبَيَان.
{ [وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب] } وَجَمَاعَة: {الْوَقْف} فِي الْمَسْأَلَة حَتَّى يتَبَيَّن التَّارِيخ؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل تقدم الْفِعْل على القَوْل، وَبِالْعَكْسِ، [وَلَا تَرْجِيح لتقدم أَحدهمَا على الآخر، فالقطع بِوُجُوب الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا على التَّعْيِين تحكم بِلَا دَلِيل، وَهُوَ بَاطِل] .
[ {و} قَالَ أَبُو الْخطاب - أَيْضا - {فِي التَّمْهِيد} - فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر: { (إِن ورد] خبر يُخَالف فعله، إِن لم يعمه فَلَا تعَارض، [وَإِن(3/1505)
عَمه] تَعَارضا، [فتعمل بالتخصيص] ، ثمَّ التَّوَاتُر، ثمَّ التَّرْجِيح، ثمَّ الْوَقْف، [وَالله أعلم] ) } .
قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ القَوْل بِنَا، [فَلَا تعَارض] [فِي حَقه]- عَلَيْهِ السَّلَام - سَوَاء تقدم القَوْل، أَو تَأَخّر، لعدم تنَاول القَوْل لَهُ.
[وَأما فِي حق الْأمة، إِن علم] [الْمُتَأَخر] } فَهُوَ {نَاسخ} ، سَوَاء كَانَ القَوْل مُتَقَدما وَالْفِعْل مُتَأَخِّرًا، أَو بِالْعَكْسِ، إِلَّا أَن يتَقَدَّم القَوْل على الْفِعْل، وَالْفِعْل بعد التَّمَكُّن من مُقْتَضى القَوْل، وَالْقَوْل لم يقتض التّكْرَار، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا مُعَارضَة فِي حَقنا - أَيْضا -، قَالَه الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ".
قَوْله: {فَإِن جهل} .
أَي: التَّارِيخ من تقدم القَوْل أَو الْفِعْل، { [فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة، وَهِي: الْعَمَل بالْقَوْل، أَو بِالْفِعْلِ، أَو الْوَقْف.(3/1506)
{ [لَكِن اخْتَار] [ابْن الْحَاجِب و] ابْن قَاضِي الْجَبَل [وَغَيرهمَا] } . [الْعَمَل] } هُنَا {بالْقَوْل} .
وَاسْتدلَّ لهَذَا القَوْل بِوُجُوه.
أَحدهَا: أَن القَوْل أقوى دلَالَة من الْفِعْل؛ لِأَن القَوْل دلَالَته على الْوُجُوب وَغَيره بِلَا وَاسِطَة، لِأَن القَوْل وضع لذَلِك، بِخِلَاف الْفِعْل، فَإِنَّهُ لم يوضع لذَلِك.
الثَّانِي: أَن الْفِعْل مَخْصُوص بالمحسوس؛ لِأَنَّهُ لَا [ينبيء] عَن الْمَعْقُول، وَالْقَوْل يدل على الْمَعْقُول والمحسوس، فَيكون أَعم فَائِدَة، فَهُوَ أولى.
الثَّالِث: أَن القَوْل لم يخْتَلف فِي كَونه دَالا، وَالْفِعْل اخْتلف فِيهِ، والمتفق عَلَيْهِ أولى من الْمُخْتَلف فِيهِ.
الرَّابِع: أَن الْعَمَل بِالْفِعْلِ يبطل القَوْل بِالْكُلِّيَّةِ، أما فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام: فلعدم تنَاول القَوْل لَهُ، وَأما فِي حق الْأمة: فلوجوب الْعَمَل بِالْفِعْلِ(3/1507)
حِينَئِذٍ، وَالْعَمَل بالْقَوْل لَا يبطل الْفِعْل بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الْعَمَل بِالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَو [عَملنَا] بالْقَوْل أمكن الْجمع بَينهمَا من وَجه، وَلَو [عَملنَا] بِالْفِعْلِ لم يُمكن، وَالْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ وَلَو بِوَجْه أولى.
وَاسْتدلَّ لوُجُوب الْعَمَل بِالْفِعْلِ: أَن الْفِعْل أقوى دلَالَة من القَوْل؛ لِأَن الْفِعْل يتَبَيَّن بِهِ القَوْل، لِأَن مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، و " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، يدل على أَن فعله فِي الصَّلَاة ومناسك الْحَج مُبين لقَوْله: " صلوا "، و " خُذُوا ".
وَكَذَا خطوط الهندسة، تدل على أَن الْفِعْل مُبين لِلْقَوْلِ، فَيكون الْفِعْل أولى، وَلِهَذَا من بَالغ فِي تفهيم، أكد قَوْله بِإِشَارَة وَنَحْوهَا.
أُجِيب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فِي الْفِعْل بَيَان، لَكِن الْبَيَان بالْقَوْل أَكثر، فَهُوَ أولى.
وَإِن سلم تساويهما فِي الْبَيَان، رجح جَانب القَوْل بِمَا ذكر من الْوُجُوه الْأَرْبَعَة.
{و} قَالَ { [أَبُو الْخطاب] [فِي التَّمْهِيد] : ( [إِذا تعَارض قَوْله(3/1508)
وَفعله} من كل وَجه، فالمتأخر نَاسخ [فِيهِ وَفينَا] ، فَإِن جهل عمل بالْقَوْل} ) . انْتهى.
فَإِن قيل: لم لَا يُصَار إِلَى الْوَقْف هُنَا، كَمَا فِي حَقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا سبق؟
قيل: لِأَن القَوْل بالتوقف ضَعِيف هُنَا، لأَنا متعبدون بِالْعَمَلِ، والتوقف فِيهِ إبِْطَال الْعَمَل، وَنفي للتعبد بِهِ، بِخِلَاف الَّذِي قبله، وَهُوَ التَّوَقُّف فِي حق الرَّسُول، لعدم تعبدنا بِهِ.
قَوْله: {وَإِن عَم القَوْل، فالمتأخر نَاسخ [فِي حَقه وحقنا] } ، لوُجُوب تكْرَار الْفِعْل فِي حَقه، ولوجوب التأسي فِي حَقنا، قَالَه الْأَصْفَهَانِي وَغَيره.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": (وَالْمرَاد: إِن اقْتضى القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ للتكرار، إِلَّا فَلَا مُعَارضَة، وَذكره بَعضهم) انْتهى.
وَنحن أبرزنا المُرَاد.(3/1509)
وَإِن تَأَخّر الْفِعْل، فاشتغل بِهِ قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، نسخ [الْفِعْل القَوْل] عندنَا، إِلَّا أَن يتَنَاوَل القَوْل لَهُ ظَاهرا، فالفعل حِينَئِذٍ [مُخَصص] لِلْقَوْلِ.
وَعند الْمُعْتَزلَة: لَا يتَصَوَّر هَذَا الْفِعْل إِلَّا على سَبِيل الْمعْصِيَة، كَمَا تقدم عَنْهُم.
وَإِن اشْتغل بِالْفِعْلِ [بعد] التَّمَكُّن من الْإِتْيَان، فَإِن لم يقتض القَوْل التّكْرَار، فَلَا مُعَارضَة، لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حَقنا، وَإِن اقْتضى القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ للتكرار، قَالَه الْأَصْفَهَانِي، وَلم نذكرهُ فِي الْمَتْن، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح، وَهُوَ تَابع ابْن الْحَاجِب، وَلم يفصل، وَحكم بِأَن الْمُتَأَخر نَاسخ للمتقدم مُطلقًا، ولعلهم اكتفوا بِمَا تقدم فِي أول الْمَسْأَلَة.
قَوْله: { [فَإِن] جهل فالثلاثة} .
أَي: إِن جهل التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، وَهِي: الْوَقْف، أَو الْعَمَل بالْقَوْل، أَو الْفِعْل، وَقد علم الْمُرَجح من ذَلِك فِيمَا تقدم.(3/1510)
قَوْله: {وَإِن دلّ} أَي: الدَّلِيل {على [تكرره فِي حَقه] ، لَا [على التأسي بِهِ فِيهِ] } ، وَهَذَا الْقسم الثَّالِث.
{ [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا بِنَا، فَلَا مُعَارضَة] } أصلا، لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حق الْأمة، سَوَاء تقدم الْفِعْل، أَو القَوْل، لعدم تواردهما على مَحل وَاحِد، كَمَا تقدم نَظِيره.
قَوْله: {أَو بِهِ، أَو عَم} .
أَعنِي: إِذا اخْتصَّ القَوْل بِهِ فَقَط، أَو [عَم] ، فشمله وَشَمل الْأمة، {فَلَا [مُعَارضَة] [فِينَا] } - أَي: فِي الْأمة - تقدم الْفِعْل، أَو تَأَخّر، لعدم تنَاول الْفِعْل لَهُم.
{و} أما { [فِي حَقه] } - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - { [فالمتأخر] نَاسخ} ، إِن علم التَّارِيخ.
قَوْله: {فَإِن جهل} .
أَي: التَّارِيخ، فِي حَقه { [فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة.(3/1511)
قَوْله: {وَإِن دلّ على [عَكسه] } .
أَي: دلّ الدَّلِيل على التأسي بِهِ، لَا على تكَرر الْفِعْل { [فِي حَقه] } ، وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع.
{ [فَإِن كَانَ القَوْل خَاصّا بِهِ] ، وَتَأَخر} عَن الْفِعْل {فَلَا [مُعَارضَة] } .
أما فِي حَقه: فلعدم وجوب تكَرر الْفِعْل.
وَأما فِي حق الْأمة: فلعدم توارد القَوْل وَالْفِعْل على مَحل وَاحِد.
قَوْله: {وَإِن تقدم} .
أَي: القَوْل على الْفِعْل، {فالفعل نَاسخ فِي حَقه} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَإِن تقدم القَوْل على الْفِعْل، فالفعل نَاسخ لِلْقَوْلِ قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، وَفِيه الْخلاف الْمَذْكُور) انْتهى.
قَوْله: {فَإِن جهل، فالثلاثة} .(3/1512)
أَي: إِن جهل التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة، وَالْمُخْتَار لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره: الْوَقْف.
قَوْله: {وَإِن اخْتصَّ} القَوْل {بِنَا، [فَلَا تعَارض] [فِي حَقه] } ، تقدم القَوْل، أَو تَأَخّر، لعدم [تواردهما] على مَحل وَاحِد.
{ [وَأما فِي حق الْأمة] ، فالمتأخر نَاسخ} ، سَوَاء كَانَ قولا، أَو فعلا.
{فَإِن جهل [التَّارِيخ، فَفِيهِ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة، وَالْمُخْتَار: الْعَمَل بالْقَوْل عِنْد ابْن الْحَاجِب، وَمن تَابعه: كَابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وَإِن عَم، وَتقدم الْفِعْل، فَلَا [مُعَارضَة] [فِي حَقه] } - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعدم وجوب تكَرر الْفِعْل.
{ [وَأما فِي حق الْأمة، فَالْقَوْل الْمُتَأَخر] نَاسخ} للْفِعْل [قبل](3/1513)
وُقُوع التأسي بِهِ، وَبعده نَاسخ للتكرار فِي حَقهم، إِن دلّ دَلِيل على وجوب التّكْرَار فِي حَقهم، قَالَه الْأَصْفَهَانِي.
قَوْله: { [وَإِن] تقدم القَوْل، فالفعل نَاسخ} لِلْقَوْلِ فِي حَقه قبل التَّمَكُّن من الْإِتْيَان بِمُقْتَضى القَوْل، إِلَّا أَن يتَنَاوَل الْعُمُوم لَهُ ظَاهرا، فَإِنَّهُ يكون الْفِعْل تَخْصِيصًا لِلْقَوْلِ.
وَفِي حق الْأمة: إِن كَانَ الدَّلِيل على وجوب التأسي مَخْصُوصًا بذلك الْفِعْل فنسخ، وَإِلَّا فتخصيص.
قَوْله: {وَبعد التَّمَكُّن من الْعَمَل [بِمُقْتَضى القَوْل، لَا مُعَارضَة] ، [لَا فِي حَقه، وَلَا فِي حق الْأمة] ، إِلَّا أَن يَقْتَضِي القَوْل التّكْرَار، فالفعل نَاسخ [لَهُ] } ، وَهِي من تَتِمَّة الَّتِي قبلهَا.
{فَإِن جهل، [فَفِيهِ الْمذَاهب الثَّلَاثَة] } الْمُتَقَدّمَة.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: (وَاعْلَم أَن فِي بعض الْأَقْسَام تَفْصِيلًا، وتختلف فِيهِ الْأَحْكَام، وَابْن الْحَاجِب أهمله.(3/1514)
- قَالَ -: وَنحن تعرضنا لبَعض مِنْهَا، وأعرضنا عَن الْبَعْض الآخر، اعْتِمَادًا على اسْتِخْرَاج المحصل الفطن أَحْكَامه بِقُوَّة الْبَاقِي) انْتهى.
وَنحن تابعنا على ذَلِك.
قَوْله: {فَائِدَة: فعل [الصَّحَابِيّ] مَذْهَب لَهُ فِي الْأَصَح} .
إِذا فعل الصَّحَابِيّ فعلا، فَهَل يكون ذَلِك الْفِعْل مذهبا لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَان.
لهَذِهِ الْمَسْأَلَة تعلق بِمَا قبلهَا من الْأَفْعَال.
قتل بعض أَصْحَابنَا: (فعل الصَّحَابِيّ هَل هُوَ مَذْهَب لَهُ؟
فِيهِ وَجْهَان، وَفِي الِاحْتِجَاج بِهِ نظر، وَاحْتج القَاضِي فِي " الْجَامِع الْكَبِير " فِي قَضَاء الْمغمى عَلَيْهِ للصَّلَاة بِفعل عمار وَغَيره، وَقَالَ: (فعل الصَّحَابَة إِذا خرج مخرج الْقرْبَة يَقْتَضِي الْوُجُوب، كَفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَأتم السَّلَام -) .(3/1515)
وَقد قَالَ قوم: (لَو تصور اتِّفَاق أهل الْإِجْمَاع على عمل، لَا قَول مِنْهُم فِيهِ، كَانَ كَفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لثُبُوت الْعِصْمَة) .
وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي، خلافًا لِابْنِ الباقلاني.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: (الأول قَول الْجُمْهُور، حَتَّى أحالوا الْخَطَأ مِنْهُم فِيهِ، إِذا لم يشترطوا انْقِرَاض الْعَصْر) انْتهى.
قلت: تَأتي هَذِه الْمَسْأَلَة قَرِيبا فِي أول الْإِجْمَاع، وَالله أعلم.(3/1516)
فارغة(3/1517)
بَاب الْإِجْمَاع(4/1520)
قَوْله: {بَاب الْإِجْمَاع}
{لُغَة: الْعَزْم والاتفاق} .
قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} [يُونُس: 71] ، أَي: اعزموا.
وَيصِح إِطْلَاقه على الْوَاحِد، يُقَال: أجمع فلَان على كَذَا، أَي: عزم عَلَيْهِ، وَيُقَال: أجمع الْقَوْم على كَذَا، أَي: اتَّفقُوا عَلَيْهِ.
فَكل أَمر من الْأُمُور اتّفقت عَلَيْهِ طَائِفَة فَهُوَ إِجْمَاع لُغَة. وأجمعت الْمسير وَالْأَمر، وأجمعت عَلَيْهِ يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وبالحرف: عزمت عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيث: " من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ "، أَي: من لم يعزم عَلَيْهِ فينويه.(4/1521)
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا} ، أَي: الْإِجْمَاع فِي اصْطِلَاح عُلَمَاء الشَّرِيعَة: {اتِّفَاق مجتهدي الْأمة فِي عصر على أَمر، وَلَو فعلا، بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} .
فَقَوله: {اتِّفَاق} : احْتِرَاز من الِاخْتِلَاف، فَلَا يكون إِجْمَاعًا مَعَ الِاخْتِلَاف وَسَيَأْتِي الْخلاف فِيمَا إِذا خَالف وَاحِد، أَو اثْنَان، أَو أَكثر محرراً مفصلا.
وَالْمرَاد بالِاتِّفَاقِ: اتِّحَاد الِاعْتِقَاد، فَيعم الْأَقْوَال، وَالْأَفْعَال وَالسُّكُوت والتقرير، وَسَيَأْتِي حكم الْإِجْمَاع السكوتي، والفعلي.
وَقَوله: {مجتهدي الْأمة} : احْتِرَاز من غير الْمُجْتَهد فَلَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع على الصَّحِيح، وَتَأْتِي قَرِيبا أَحْكَام الْعَاميّ، وَمن لم يكمل شُرُوط الِاجْتِهَاد، من أصولي، وفروعي، ونحوي، وَغَيرهم فِي الْأَحْكَام.
وَقَوله: {الْأمة} : احْتِرَاز من غير هَذِه الْأمة، وَفِي غير هَذِه الْأمة من سَائِر الْأُمَم خلاف فِي إِجْمَاعهم، يَأْتِي محرراً إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(4/1522)
وَقَوله: {فِي عصر} : يَشْمَل أَي عصر كَانَ، احْتِرَاز عَن قَول من قَالَ: إِن الْإِجْمَاع مَخْصُوص بالصحابة على مَا يَأْتِي ذكر الْخلاف فِيهِ.
وَقَوله: {على أَمر} : يعم جَمِيع الْأُمُور من الْفِعْل، وَالْأَمر الدنيوي، واللغوي، وَغَيرهمَا، وَيَأْتِي لَك علمه فِي موَاضعه مفصلا.
وَقَوله: {وَلَو فعلا} إِنَّمَا أبرزته وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي قَوْله: {على أَمر} ؛ للإيضاح وَالْبَيَان والتأكيد.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا اتَّفقُوا على فعل فَعَلُوهُ، أَو فعل الْبَعْض، وَسكت الْبَعْض مَعَ علمهمْ، هَل يكون إِجْمَاعًا أم لَا؟
والأرجح أَن ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع لعصمة الْأمة، فَيكون كالقول الْمجمع عَلَيْهِ، وكفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا، وَقطع بِهِ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول " وَصرح بِهِ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ فِي " الْمُعْتَمد "، وَتَبعهُ فِي " الْمَحْصُول ".
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: هُوَ قَول الْجُمْهُور، ... ... ... ... ... ... .(4/1523)
حَتَّى أحالوا الْخَطَأ مِنْهُم إِذا لم يشترطوا انْقِرَاض الْعَصْر.
وَقيل: لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع بِهِ، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن ابْن الباقلاني، بل كَون ذَلِك فِي وَقت وَاحِد رُبمَا لَا يتَصَوَّر.
وَيتَفَرَّع على الْمَسْأَلَة إِذا فعلوا فعلا قربَة، وَلَكِن لَا يعلم هَل فَعَلُوهُ وَاجِبا، أَو مَنْدُوبًا؟
فَمُقْتَضى الْقيَاس أَنه كَفعل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأَنا أمرنَا باتبَاعهمْ كم أمرنَا باتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَأَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الْإِجْمَاع اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم حَادِثَة.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " فِي مَكَان آخر: على أَمر، فعل أَو ترك.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " كَمَا قَالَا إِلَّا أَنه أبدل عُلَمَاء بفقهاء،(4/1524)
فَقَالَ: هُوَ اتِّفَاق فُقَهَاء الْعَصْر على حكم حَادِثَة.
قَالَ: وَقَالَ قوم: عُلَمَاء، وَذَلِكَ حد بالمشترك؛ لِأَن اتِّفَاق النُّحَاة والمفسرين غير حجَّة، وهم عُلَمَاء، وَلَا يعْتد بهم فِي حَادِثَة.
وَهَذَا فِيهِ خلاف يَأْتِي قَرِيبا.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": اتِّفَاق عُلَمَاء الْعَصْر على حكم شَرْعِي.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مختصرها ": على أَمر ديني، فَلَا يَشْمَل الْأَمر الدنيوي، واللغوي وَنَحْوهمَا على مَا يَأْتِي آخر الْإِجْمَاع مفصلا، وَكَذَا قَالَ الْغَزالِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُرَاده بقوله: (أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) ، فَلَا يرد عَلَيْهِ أَنه لَا يُوجد اتِّفَاقهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَأَنه لَا يطرد بِتَقْدِير عدم مُجْتَهد فِي عصر، اتّفقت عوامه على أَمر ديني، لكنه لَا ينعكس بِتَقْدِير اتِّفَاق الْمُجْتَهدين على أَمر عَقْلِي، أَو عرفي، إِلَّا أَن يكون كَمَا قيل: لَيْسَ إِجْمَاعًا عِنْده. انْتهى.
قَوْله: {وَأنكر النظام وَبَعض الرافضة ثُبُوته} .(4/1525)
وَرُوِيَ عَن أَحْمد، وَحمل على الْوَرع، أَو على غير عَالم بِالْخِلَافِ، أَو على تعذر معرفَة الْكل، أَو على الْعَام النطقي أَو بعده، أَو غير الصَّحَابَة} .
تنوعت أَقْوَال الْأَصْحَاب وَغَيرهم فِي حمل كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي كَونه أنكر الْإِجْمَاع.
وَأما النظام فَلهُ قَولَانِ فِي ثُبُوته، وَالْأَشْهر عَنهُ إِنْكَاره.
وَأما الإِمَام أَحْمد فَقَالَ فِي رِوَايَة عبد الله: من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب، لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا. هَذِه دَعْوَى بشر المريسي والأصم.(4/1526)
وَفِي رِوَايَة الْمَرْوذِيّ: كَيفَ يجوز أَن يَقُول: أَجمعُوا، إِذا سَمِعْتُمْ يَقُولُونَ: أَجمعُوا فَاتَّهمهُمْ، وَإِنَّمَا وضع هَذَا لوضع الْأَخْبَار، وَقَالُوا: الْأَخْبَار لَا تجب بهَا حجَّة، وَقَالُوا: القَوْل بِالْإِجْمَاع، وَإِن ذَلِك قَول ضرار.
وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي الْحَارِث: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَدعِي الْإِجْمَاع، وَأول من قَالَ: أَجمعُوا، ضرار.
هَذَا الْوَارِد عَن الإِمَام أَحْمد فِي ذَلِك.
وَقد اخْتلف الْأَصْحَاب فِي صفة حمل هَذِه الرِّوَايَات:
فَقَالَ القَاضِي: ظَاهره منع صِحَة الْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا هَذَا على الْوَرع، أَو فِيمَن لَيست لَهُ معرفَة بِخِلَاف السّلف لما يَأْتِي.
وَكَذَا أجَاب أَبُو الْخطاب.(4/1527)
وَحمله ابْن عقيل على الْوَرع، أَو لَا يُحِيط علما بِهِ غَالِبا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَذَا نهي عَن [دَعْوَى] الْإِجْمَاع الْعَام النطقي.
وَقَالَ أَيْضا: الظَّاهِر إِمْكَان وُقُوعه، وَأما إِمْكَان الْعلم بِهِ فَأنكرهُ غَيره وَاحِد من الْأَئِمَّة، كَمَا يُوجد فِي كَلَام أَحْمد وَغَيره.
وَذكر الْآمِدِيّ أَن بَعضهم خَالف فِي تصَوره، وَأَن الْقَائِلين بِهِ خَالف بَعضهم فِي إِمْكَان مَعْرفَته، مِنْهُم: أَحْمد فِي رِوَايَة.
وَتبع ابْن حمدَان الْآمِدِيّ، وَقَالَ: مُرَاد أَحْمد تعذر معرفَة كل المجمعين لَا أَكْثَرهم.
وَقَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَأما مَا رُوِيَ من قَول الإِمَام أَحْمد: من ادّعى الْإِجْمَاع فقد كذب فَهُوَ إِنَّمَا قَالَه إنكاراً على فُقَهَاء الْمُعْتَزلَة الَّذين يدعونَ إِجْمَاع النَّاس على مَا يَقُولُونَهُ، وَكَانُوا من أقل النَّاس(4/1528)
معرفَة بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحمل ابْن تَيْمِية قَوْله ذَلِك على إِجْمَاع غير الصَّحَابَة؛ لانتشارهم، أما الصَّحَابَة فمعرفون محصورون. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": قلت: الَّذِي أنكرهُ أَحْمد دَعْوَى إِجْمَاع الْمُخَالفين بعد الصَّحَابَة، أَو بعدهمْ وَبعد التَّابِعين، أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة المحمودة، وَلَا يكَاد يُوجد فِي كَلَامه احتجاج بِإِجْمَاع بعد عصر التَّابِعين، أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة. انْتهى.
قَالُوا: إِن كَانَ عَن دَلِيل قَاطع فَعدم نَقله مُسْتَحِيل عَادَة، والظني يمْتَنع اتِّفَاقهم فِيهِ عَادَة لتباين قرائحهم، ودواعيهم الْمُقْتَضِيَة لاختلافهم.
رد بمنعها للاستغناء عَن نَقله الْقَاطِع بِالْإِجْمَاع، وَكَون الظني جلياً تتفق فِيهِ القرائح.
قَالُوا: تفرقهم فِي أَطْرَاف الأَرْض يمْنَع نقل الحكم إِلَيْهِم عَادَة.
رد بِالْمَنْعِ لجدهم فِي الْأَحْكَام، وبحثهم عَنْهَا.
قَالُوا: الْعَادة تحيل ثُبُوته عَنْهُم لخفاء بَعضهم أَو كذبه، أَو رُجُوعه قبل(4/1529)
قَول غَيره، ثمَّ لَو جَازَ الْعلم بِثُبُوتِهِ لم يَقع الْعلم بِهِ؛ لِأَن الْعَادة تحيل نَقله لبعد التَّوَاتُر، وَلَا يُفِيد الْآحَاد، وَرُبمَا لَو علم بحصرهم، وَبِأَن تعذره لَا يمْنَع كَونه حجَّة كَقَوْل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِأَن الْعلمَاء كالأعلام لَا سِيمَا الصَّحَابَة، وبالقطع بِتَقْدِيم النَّص الْقَاطِع على الظَّن.
ورده بعض أَصْحَابنَا والآمدي: بِاتِّفَاق أهل الْكتاب على بَاطِل، وَلم نَعْرِف مستندهم من قَول مُتبع يقلدونه.
وَنقض بعض أَصْحَابنَا والآمدي وَغَيرهم بِالْإِجْمَاع على أَرْكَان الْإِسْلَام وَطَرِيق علمهَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا، والوقوع دَلِيل التَّصَوُّر وَزِيَادَة.
قَوْله: {وَهُوَ حجَّة قَاطِعَة} ، هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وأتباعهم، مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأتباعهم، وَغَيرهم من الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم.(4/1530)
وَخَالف النظام، وَبَعض المرجئة، والشيعة، والخوارج، وَغَيرهم.
وَقَالَ الْآمِدِيّ، والرازي: هُوَ حجَّة ظنية، لَا قَطْعِيَّة، نَقله عَنْهُمَا الْبرمَاوِيّ.
وَقيل: حجَّة ظنية فِي الْإِجْمَاع السكوتي وَنَحْوه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فصل الْمُحَقِّقُونَ بَين الْإِجْمَاع الَّذِي لَا خلاف فِي ثُبُوته فَيكون انْعِقَاده قَطْعِيا، وَبَين الَّذِي فِيهِ خلاف، كالإجماع السكوتي، وَمَا لم ينقرض عصره، وَالْإِجْمَاع [بعد] الِاخْتِلَاف، وَمَا ندر الْمُخَالف فِيهِ عِنْد من يرَاهُ، وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يكون قَطْعِيا. انْتهى.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول بقوله تَعَالَى: (وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ(4/1531)
الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً} [النِّسَاء: 115] .
احْتج بهَا الإِمَام الشَّافِعِي، وَغَيره؛ لِأَنَّهُ توعد على مُتَابعَة غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا يجوز لمفسدة مُتَعَلقَة بِهِ وَلَيْسَت من جِهَة المشاقة، وَإِلَّا كَانَت كَافِيَة.
والسبيل: الطَّرِيق، فَلَو خص بِكفْر أَو غَيره كَانَ اللَّفْظ مُبْهما، وَهُوَ خلاف الأَصْل، وَالْمُؤمن حَقِيقَة فِي الْحَيّ المتصف بِهِ.
ثمَّ عُمُومه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يبطل المُرَاد. وَهُوَ الْحَث على مُتَابعَة سبيلهم، وَالْجَاهِل غير مُرَاد.
ثمَّ الْمَخْصُوص حجَّة، والسبيل عَام، والتأويل بمتابعة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو بمتابعتهم فِي الْإِيمَان، أَو الِاجْتِهَاد لَا ضَرُورَة إِلَيْهِ، فَلَا يقبل.
وَلَيْسَ تبين الْهدى شرطا للوعيد بالاتباع بل للمشاقة؛ لِأَن إِطْلَاقهَا لمن عرف الْهدى أَولا؛ وَلِأَن تَبْيِين الْأَحْكَام الفروعية لَيْسَ شرطا فِي المشاقة، فَإِن من تبين لَهُ صدق الرَّسُول وَتَركه فقد شاقه وَلَو جهلها.
وَقَول الإمامية المُرَاد بِهِ من فيهم مَعْصُوم؛ لِأَن سبيلهم حِينَئِذٍ حق(4/1532)
بِخِلَاف الظَّاهِر، وَتَخْصِيص بِلَا ضَرُورَة، وَلَا دَلِيل لَهُم على الْعِصْمَة.
وَمَا قيل من أَن الْآيَة ظَاهِرَة، وَلَا دَلِيل على أَن الظَّاهِر حجَّة إِلَّا الْإِجْمَاع فَيلْزم الدّور، مَمْنُوع لجَوَاز نَص قَاطع على أَنه حجَّة، أَو اسْتِدْلَال قَطْعِيّ؛ لِأَن الظَّاهِر مظنون، وَهُوَ حجَّة؛ لِئَلَّا يلْزم رفع النقيضين، أَو اجْتِمَاعهمَا، أَو الْعَمَل بالمرجوح وَهُوَ خلاف الْعقل.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ} [النِّسَاء: 59] والمشروط عدم عِنْد عدم شَرطه، فاتفاقهم كَاف.
وَاعْترض: عدم الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة عِنْد الْإِجْمَاع إِن بني الْإِجْمَاع على أَحدهمَا فَهُوَ كَاف، وَإِلَّا فَفِيهِ تَجْوِيز الْإِجْمَاع بِلَا دَلِيل، ثمَّ لَا نسلم عدم الشَّرْط؛ فَإِن الْكَلَام مَفْرُوض فِي نزاع مجتهدين متأخرين لإِجْمَاع سَابق.(4/1533)
رد الأول: بِأَن الْإِجْمَاع إِن احْتَاجَ إِلَى مُسْتَند فقد يكون قِيَاسا.
وَالثَّانِي: مُشكل جدا، قَالَه الْآمِدِيّ.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب أَن مُرَاد الْآيَة: فِيمَا لَا نعلم أَنه خطأ، وَإِن ظنناه رددناه إِلَى الله وَرَسُوله.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تفَرقُوا} [آل عمرَان: 103] وَخلاف الْإِجْمَاع تفرق، وَالنَّهْي عَن التَّفَرُّق لَيْسَ فِي الِاعْتِصَام للتَّأْكِيد وَمُخَالفَة الظَّاهِر، وتخصيصه بهَا قبل الْإِجْمَاع لَا يمْنَع الِاحْتِجَاج بِهِ، وَلَا يخْتَص الْخطاب بالموجودين زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَن التَّكْلِيف لكل من وجد مُكَلّفا كَمَا سبق.
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة ... .} [آل عمرَان: 110] ، فَلَو اجْتَمعُوا على بَاطِل كَانُوا قد اجْتَمعُوا على مُنكر لم ينهوا عَنهُ، ومعروف لم يؤمروا بِهِ، وَهُوَ خلاف مَا وَصفهم الله بهم؛ وَلِأَنَّهُ جعلهم أمة وسطا، أَي: عُدُولًا، وَرَضي بِشَهَادَتِهِم مُطلقًا.
وعَلى ذَلِك اعتراضات وأجوبة يطول الْكتاب بذكرها. وَعَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ مَرْفُوعا " إِن الله تَعَالَى أجاركم من ثَلَاث(4/1534)
خلال: أَن لَا يَدْعُو عَلَيْكُم نَبِيكُم فَتَهْلكُوا جَمِيعًا، وَأَن لَا يظْهر أهل الْبَاطِل على أهل الْحق، وَأَن لَا تجتمعوا على ضَلَالَة " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " لَا تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على ضَلَالَة أبدا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَعَن أنس مَرْفُوعا: " إِن أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة، فَإِذا رَأَيْتُمْ الِاخْتِلَاف فَعَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم الْحق وَأَهله " رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَابْن أبي عَاصِم.(4/1535)
وَعَن أبي ذَر مَرْفُوعا: " عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة، فَإِن الله تَعَالَى لم يجمع أمتِي إِلَّا على هدى " رَوَاهُ أَحْمد.
وَعَن أبي ذَر مَرْفُوعا: " من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه " رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد.
وَلَهُمَا عَن مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: " أَن هَذِه الْأمة: سَتَفْتَرِقُ على ثَلَاث وَسبعين - يَعْنِي مِلَّة - ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجنَّة، وَهِي الْجَمَاعَة ".(4/1536)
وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " إِن الله لَا يجمع أمتِي - أَو قَالَ - أمة مُحَمَّد على ضَلَالَة، وَيَد الله على الْجَمَاعَة، وَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.
وَعَن أبي بصرة الْغِفَارِيّ مَرْفُوعا: سَأَلت الله أَن لَا يجمع أمتِي على ضَلَالَة فَأَعْطَانِيهَا " رَوَاهُ أَحْمد.
وَعَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " من رأى من أميره شَيْئا يكرههُ فليصبر؛ فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتته جَاهِلِيَّة ".
وَعَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: " من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة " مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَعَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: " ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم: إخلاص الْعَمَل لله، والنصيحة للْمُسلمين، وَلُزُوم جَمَاعَتهمْ " رَوَاهُ الشَّافِعِي(4/1537)
وَلأَحْمَد مثله.
وَعَن ثَوْبَان مَرْفُوعا: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق، لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم كَذَلِك ".
وَفِي حَدِيث جَابر: " إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَفِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: " حَتَّى تقوم السَّاعَة " رَوَاهُ مُسلم.
وَعَن ابْن عمر مَرْفُوعا: " عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة، وَإِيَّاكُم والفرقة، فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد، وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد، من أَرَادَ بحبوحة الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة ".(4/1538)
رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَأحمد، وَعبد بن حميد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَغَيرهم.
وَعَن ابْن مَسْعُود: " مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن، وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْد الله سيئ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ.
قَالَ الْآمِدِيّ وَغَيره: السّنة أقرب الطّرق إِلَى كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة.
فَإِن قيل: آحَاد، سلمنَا التَّوَاتُر، لَكِن يحْتَمل أَنه أَرَادَ عصمتهم عَن الْكفْر بِلَا تَأْوِيل وشبهة، أَو عَن الْخَطَأ فِي الشَّهَادَة فِي الْآخِرَة، أَو فِيمَا يُوَافق الْمُتَوَاتر.
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ كل الْأمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ لم يلْزم أَنه حجَّة على الْمُجْتَهدين، لَا سِيمَا إِن قيل: كل مُجْتَهد مُصِيب.
رد بِالْقطعِ بمجموعها: إِن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قصد تَعْظِيم أمته، وَبَيَان عصمتها من الْخَطَأ، كالقطع بجود حَاتِم الطَّائِي، فَهُوَ متواترة معنى.(4/1539)
وَفِي كَلَام القَاضِي، وَهُوَ معنى كَلَام الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَا بُد لكثرتها من صِحَة بعض لَفظهَا؛ وَلِأَن الْأمة تلقتها بِالْقبُولِ، وَالظَّن يُفِيد فِي مَسْأَلَة علمية لوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وَلَو وجد مُنكر لاشتهر عَادَة، والاحتجاج فِي الْأُصُول بِمَا لَا صِحَة لَهُ مُسْتَحِيل عَادَة.
وَأجَاب القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل أَيْضا: بِأَن الْإِجْمَاع مَسْأَلَة شَرْعِيَّة، طَرِيقه طَرِيق مسَائِل الْفُرُوع.
وَقَالَ الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا: مَا ذكره ابْن عقيل وَغَيره: يثبت مسَائِل(4/1540)
أصُول الْفِقْه بِالظَّنِّ، وَلَا يفسق الْمُخَالف، وَبِه قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَخَالف بعض الأشعرية وَهُوَ ابْن اللبان فِي الأولى كبعض الْمُتَكَلِّمين فِي الثَّانِيَة، وَيَأْتِي هَذَا آخر الْإِجْمَاع.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: أَجمعُوا على الْقطع بتخطئة الْمُخَالف، وَالْعَادَة تحيل إِجْمَاع عدد كثير من الْمُحَقِّقين على قطع فِي شَرْعِي من غير قَاطع، فَوَجَبَ تَقْدِير نَص فِيهِ.
وَأَجْمعُوا - أَيْضا - على تَقْدِيمه على الدَّلِيل الْقَاطِع، فَكَانَ قَاطعا وَإِلَّا تعَارض الإجماعان لتقديم الْقَاطِع على غَيره إِجْمَاعًا، وَهَذَانِ الإجماعان لَا يلْزم أَن عددهما عدد التَّوَاتُر وَإِن لزم فيهمَا فَلَا يلْزم فِي كل إِجْمَاع.
ورد الْآمِدِيّ، وَبَعضه فِي كَلَام غَيره: بِأَن من قَالَ ذَلِك اعْتبر فِي الْإِجْمَاع عدد التَّوَاتُر، وَأَنه يلْزمه أَن لَا يخْتَص الْإِجْمَاع بِأَهْل الْحل وَالْعقد من(4/1541)
الْمُسلمين، بل عَام فِي كل من بلغ [عَددهمْ] عدد التَّوَاتُر وَإِن لم يَكُونُوا مُسلمين فضلا عَن أهل الْحل وَالْعقد.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا: أَن أَجود الْأَدِلَّة الْإِجْمَاع الثَّانِي.
وَاسْتدلَّ: يمْتَنع عَادَة إِجْمَاعهم على مظنون، فَدلَّ على قَاطع.
رد: بِمَنْعه فِي قِيَاس جلي، وأخبار آحَاد بعد علمهمْ بِوُجُوب الْعَمَل بمظنون.
قَالُوا: {تبياناً لكل شَيْء} [النَّحْل: 89] ، {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} [النِّسَاء: 59] ، {فَحكمه إِلَى الله} [الشورى: 10] ،) وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [الْأَعْرَاف: 33] .
رد: لَا يلْزم أَن لَا يكون الْإِجْمَاع تبياناً وَلَا حجَّة عِنْد التوافق.
ثمَّ يلْزم عَلَيْهِ السّنة، ثمَّ إِنَّمَا ثَبت حجَّة بِالْكتاب وَالسّنة وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع.(4/1542)
قَالُوا: فِي " الصِّحَاح ": " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا "، وَقَوله: " حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رؤساً جُهَّالًا ".
رد: المُرَاد بعض الْأمة، والعصمة إِنَّمَا تثبت للمجموع.
ثمَّ الْجَوَاز عَقْلِي لَا يلْزم مِنْهُ الْوُقُوع، وَيَأْتِي خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد.
قَالُوا: روى أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ: " كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك قَضَاء؟ " قَالَ: أَقْْضِي بِكِتَاب الله تَعَالَى، قَالَ: " فَإِن لم تَجِد؟ " قَالَ: فبسنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قَالَ: " فَإِن لم تَجِد؟ "، قَالَ: أجتهد رَأْي وَلَا آلو. فَضرب بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما يُرْضِي رَسُول الله ".
وَفِي إِسْنَاده مَجْهُول، وَلَيْسَ بِمُتَّصِل.(4/1543)
وَرَوَاهُ سعيد فِي " سنَنه "، قَالَ: (لما بعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معَاذًا إِلَى الْيمن) ، وَفِيه بعد الْكتاب: (بِمَا يقْضِي بِهِ نبيه) ثمَّ قَالَ: (أَقْْضِي بِمَا قضى الصالحون) ، ثمَّ قَالَ: (أؤم الْحق جهدي) ، فَقَالَ: " الْحَمد لله الَّذِي جعل رَسُول رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقْضِي بِمَا يُرْضِي بِهِ رَسُول الله ". مُرْسل جيد.(4/1544)
رد: بِأَن الْإِجْمَاع لم يكن حجَّة فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالُوا: كغيرهم من الْأُمَم قبل النّسخ.
ورده أَبُو الْخطاب وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: بِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْن عقيل: يحْتَمل أَن نقُوله: وَالْفرق بتطرق النّسخ على الْأُمَم، وتجدد الْأَنْبِيَاء.
وَتَأْتِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَرِيبا.
قَوْله: {بِالشَّرْعِ} ، أَي: دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة بِالشَّرْعِ فَقَط، وَذَلِكَ للدلالة الْوَارِدَة من الْكتاب وَالسّنة فِي ذَلِك كَمَا تقدم ذكره، وَبَيَانه فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا.
وَهَذَا عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، وَقطع بِهِ كثير مِنْهُم.
وَقيل: وَالْعقل أَيْضا، أَعنِي أَن دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة تحصل بِالْعقلِ أَيْضا.(4/1545)
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": دلَالَة كَون الْإِجْمَاع حجَّة هُوَ الشَّرْع، وَقيل: الْعقل أَيْضا.
نثبت حجَّته إِمَّا بِالسَّمْعِ، وَإِمَّا بِالْعقلِ، والسمع إِمَّا الْكتاب وَإِمَّا السّنة، وَتثبت السّنة بالتواتر الْمَعْنَوِيّ، وَثُبُوت بَعْضهَا، وَبِأَن الْعَادة وَالدّين يمنعاه من تَصْدِيق مَا لم يثبت، وَمن مُعَارضَة القواطع بِمَا لَيْسَ بقاطع، وَالْعقل إِمَّا الْعَادة الطبيعية وَإِمَّا دين السّلف الشَّرْعِيّ الْمَانِع من الْقطع بِمَا لَيْسَ بِحَق، انْتهى.
وَيُؤْخَذ هَذَا من كَلَام ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا، حَيْثُ بحثوا أَنه يَسْتَحِيل عَادَة اجْتِمَاع مثل هَذَا الْعدَد الْكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين على قطع فِي حكم شَرْعِي من غير اطلَاع على دَلِيل قَاطع فَوَجَبَ تَقْدِير نَص قَاطع فِيهِ كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر فِيهِ قَول مَعْصُوم} عِنْد أَئِمَّة الْإِسْلَام المقتدى بهم، وَخَالف فِي ذَلِك الرافضة فاشترطوه.
وخلافهم ملغي لَا اعْتِبَار بِهِ، بل الْمَعْصُوم لَا يُوجد فِي غير الْأَنْبِيَاء، فَعَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة أَجْمَعِينَ، وَذَلِكَ بِنَاء مِنْهُم على زعمهم أَن(4/1546)
لَا يجوز خلو الزَّمَان عَن مَعْصُوم.
وَلَو تنزلنا وَسلمنَا ذَلِك فالحجة إِنَّمَا هِيَ فِي قَول الْمَعْصُوم لَا فِي الْإِجْمَاع فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِجْمَاع مَعَ قَول الْمَعْصُوم.
قَوْله: {لَيْسَ إِجْمَاع الْأُمَم الخالية حجَّة عِنْد الْمجد وَالْأَكْثَر، وَخَالف الْأُسْتَاذ} وَجمع.
{وَقَالَهُ أَبُو الْمَعَالِي: إِن كَانَ سندهم قَطْعِيا، وَإِلَّا الْوَقْف} ، والطوفي: إِن كَانَ سَنَد إجماعنا عقلياً، وَإِلَّا الْوَقْف. ووقف الباقلاني مُطلقًا.
اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة:(4/1547)
فَذهب الْمجد من أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر: أَن إِجْمَاع الْأُمَم الْمَاضِيَة لَيْسَ بِحجَّة.
وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَقَالَ: هَذَا قَول الْأَكْثَرين. وَصرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره وَخَالف أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم، وَقَالُوا: كَانُوا حجَّة قبل النّسخ.
قَالَ ابْن عقيل: يحْتَمل أَن نقُوله: وَالْفرق لكَون النّسخ يتَطَرَّق على الْأُمَم بتجدد الْأَنْبِيَاء، كَمَا تقدم عَنهُ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِلَى آخِره، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن كَانَ سندهم قَطْعِيا فحجة، أَو ظنياً فالوقف.
وَقَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن قطع أهل الْإِجْمَاع من(4/1548)
كل أمة بقَوْلهمْ فَهُوَ حجَّة؛ لاستناده إِلَى قَاطع فِي الْعَادة، وَالْعَادَة لَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأُمَم، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَنده مظنوناً وَالْوَجْه الْوَقْف.
قَالَ الطوفي: قَوْله أقرب إِلَى الصَّوَاب، ثمَّ قَالَ: وَالْمُخْتَار فِي الْمَسْأَلَة؛ إِن كَانَ مُسْتَند الْإِجْمَاع فِي هَذِه الْأمة عقلياً فَلَا يخْتَلف، وَإِن كَانَ مُسْتَند هَذِه الْأمة سمعياً فالوقف فِي إِجْمَاع غَيرهَا من الْأُمَم؛ إِذْ لم يبلغنَا الدَّلِيل السمعي على أَن إِجْمَاعهم حجَّة فنثبته، وَلَا يلْزم من عدم بُلُوغ ذَلِك عدم وجوده فننفيه. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني بِالْوَقْفِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لست أَدْرِي كَيفَ الْحَال؟ يَعْنِي: هَل كَانَ إِجْمَاعهم حجَّة أَو لَا؟
تَنْبِيه: لهَذِهِ الْمَسْأَلَة الْتِفَات إِلَى أصلين:
أَحدهمَا: شرع من قبلنَا هَل هُوَ شرع لنا أم لَا؟ على مَا يَأْتِي.
الثَّانِي: أَن حجية الاجماع ثَابِتَة بِمَاذَا؟ إِن قُلْنَا بِالْقُرْآنِ أَو بِالنِّسْبَةِ فَلَا يدْخل غير هَذِه الْأمة من الْأُمَم فِي ذَلِك.
وَإِن قُلْنَا: دَلِيله أَنه يَسْتَحِيل فِي الْعَادة اجْتِمَاع مثل هَذَا الْعدَد الْكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين على قطع فِي حكم شَرْعِي من غير اطلَاع على دَلِيل قَاطع فَوَجَبَ فِي كل إِجْمَاع تَقْدِير نَص قَاطع فِيهِ مَحْكُوم بتخطئة مخالفه، كَمَا تقدم(4/1549)
فِي اسْتِدْلَال ابْن الْحَاجِب وَغَيره بذلك، فَلَا يخْتَص ذَلِك بِهَذِهِ الْأمة.
ثمَّ لَو سلم أَنه حجَّة فَالْكَلَام فِي الْإِجْمَاع الَّذِي يسْتَدلّ بِهِ فِي شرعنا، وَذَلِكَ إِن وَقع. وَإِن قُلْنَا إِن شرعهم شرع لنا فَمن أَيْن يعرف وينقل إِلَيْنَا؟(4/1550)
قَوْله: {فصل}
{لَا يعْتَبر قَول الْعَامَّة} فِي الْإِجْمَاع عِنْد الْعلمَاء، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ سَوَاء كَانَت مسَائِله مَشْهُورَة أَو خُفْيَة، فَلَا اعْتِبَار لمخالفتهم، وَلَا بموافقتهم، وَإِنَّمَا يعْتَبر قَول الْمُجْتَهدين فَقَط.
واعتبره قوم مُطلقًا، فَقَالُوا: لابد من موافقتهم حَتَّى يصير إِجْمَاعًا.
واعتبره قوم فِي الْمسَائِل الْمَشْهُورَة، كَالْعلمِ بِوُجُود التَّحْرِيم بِالطَّلَاق الثَّلَاث، وَأَن الْحَدث فِي الْجُمْلَة ينْقض الطَّهَارَة، وَأَن الْحيض يمْنَع أَدَاء الصَّلَاة، ووجوبها، وَنَحْوهَا دون الْمسَائِل الْخفية، كدقائق الْفِقْه.
إِذا علم ذَلِك فَاخْتَلَفُوا فِي معنى ذَلِك:
فَقَالَ الْآمِدِيّ: إِن قيام الْحجَّة يفْتَقر إِلَى وفاقهم.(4/1551)
وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره عَن الباقلاني، وغلطوا ناقله.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْقَوْل بِاعْتِبَارِهِ.
حَكَاهُ ابْن الصّباغ، وَابْن برهَان عَن بعض الْمُتَكَلِّمين، وَنَقله الإِمَام، وَابْن السَّمْعَانِيّ، والهندي عَن القَاضِي الباقلاني، وَكَذَا قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِن ميل القَاضِي إِلَى اعْتِبَاره، أَي: الْمُقَلّد.
لَكِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": يَقْتَضِي أَن القَاضِي لَا يعْتَبر خلافهم وَلَا وفاقهم.(4/1552)
وَفَسرهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ": أَن مَعْنَاهُ أَن الْأمة أَجمعت لَا افتقار كَلَام الْحجَّة إِلَيْهِم. وَخَالفهُ الْآمِدِيّ وَغَيره كَمَا تقدم قبل.
وَالَّذِي فِي " التَّقْرِيب " تَحْرِير الْخلاف على وَجه آخر، فَإِن الْقَائِل بِعَدَمِ اعْتِبَار الْعَامَّة قَالَ لقَوْله تَعَالَى: " فسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} [النَّحْل: 43] ، [الْأَنْبِيَاء: 7] ، وَنَحْوه فَرد الْعَوام إِلَى قَول الْمُجْتَهدين.
وَالْقَائِل باعتبارهم قَالَ: إِن قَول الْأمة إِنَّمَا كَانَ حجَّة لعصمتها من الْخَطَأ، فَلَا يمْتَنع أَن تكون الْعِصْمَة للهيئة الاجتماعية من الْكل، فَلَا يلْزم ثُبُوتهَا للْبَعْض.
فَقَالَ الباقلاني مَا حَاصله: أَن الْخلاف يرجع إِلَى إِطْلَاق الِاسْم يَعْنِي أَن الْمُجْتَهدين إِذا أَجمعُوا هَل يصدق أَن الْأمة أَجمعت وَيحكم بِدُخُول الْعَوام فيهم تبعا أَو لَا؟
فَعنده لَا يصدق، وَإِن كَانَ ذَلِك [لَا يقْدَح] فِي حجيته، وَهُوَ خلاف لَفْظِي؛ لِأَن مخالفتهم لَا تقدح فِي الْإِجْمَاع قطعا.(4/1553)
وَتبع ابْن الباقلاني كثير من الْمُتَأَخِّرين على أَن الْخلاف لَفْظِي رَاجع إِلَى التَّسْمِيَة.
لَكِن أَبُو الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد " نقل عَن قوم أَن الْإِجْمَاع لَا يحْتَج بِهِ إِلَّا مَعَ وفَاق الْعَامَّة. انْتهى.
وَحكى القَاضِي عبد الْوَهَّاب، وَابْن السَّمْعَانِيّ أَنه يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع على عَام، وَهُوَ مَا لَيْسَ بمقصور على الْعلمَاء وَأهل النّظر، كالمسائل الْمَشْهُورَة بِخِلَاف دقائق الْفِقْه.
قيل: وَبِهَذَا التَّفْصِيل يَزُول الْإِشْكَال، وَيَنْبَغِي تَنْزِيل إِطْلَاق المطلقين عَلَيْهِ.
وَخص القَاضِي الباقلاني الْخلاف بالخاص، وَقَالَ: لَا يعْتَبر خلاف الْعَام اتِّفَاقًا وَجرى عَلَيْهِ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر ".(4/1554)
تَنْبِيه:
قَوْلنَا: لَا يعْتَبر قَول الْعَامَّة أولى من قَول الْمُقَلّد؛ لِأَن الْعَاميّ أَعم من أَن يكون مُقَلدًا أَو لَا، فالتعبير بِهِ أولى لشُمُوله.
قَوْله: {وَلَا من عرف الحَدِيث فَقَط، أَو اللُّغَة، أَو علم الْكَلَام، وَنَحْوه} ، كعلم الْعَرَبيَّة، والمعاني، وَالْبَيَان، والتصريف؛ لِأَنَّهُ من جملَة المقلدين فَلَا تعْتَبر مخالفتهم. قَوْله: {وَكَذَا من عرف الْفِقْه فَقَط} فِي مَسْأَلَة فِي أُصُوله، أَو أصُول(4/1555)
الْفِقْه فِي مَسْأَلَة فِي الْفِقْه.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْعلمَاء؛ لأَنهم أَيْضا من جملَة المقلدين؛ لِأَن من شَرط الْإِجْمَاع اتِّفَاق الْمُجْتَهدين، فَمن لم يكن من الْمُجْتَهدين فَهُوَ من المقلدين؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَة بَينهمَا.
فعلى هَذَا لَا يعْتَقد بقوله، وَلَا بِخِلَافِهِ.
وَقيل: بِاعْتِبَار كل من الطَّائِفَتَيْنِ: الْفُقَهَاء والأصوليين لما فِي كل مِنْهُمَا من الْأَهْلِيَّة الْمُنَاسبَة للفنين لتلازم العلمين، وَهُوَ قوي.
وَقيل: يعْتَبر قَول الأصولي فِي الْفِقْه دون الفروعي فِي الْأُصُول؛ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى مَقْصُود الِاجْتِهَاد دون عَكسه، اخْتَارَهُ الباقلاني. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَهُوَ الْحق.(4/1556)
وَقيل: عَكسه، فَيعْتَبر قَول الفروعي فِي الْأُصُول دون الأصولي فِي الْفُرُوع؛ لِأَنَّهُ أعرف بمواضع الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف.
قَوْله: {وَكَذَا من فَاتَهُ بعض شُرُوط الِاجْتِهَاد} ، يَعْنِي: لَا اعْتِبَار بقوله فِي الْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْمُجْتَهدين.
وَمعنى هَذَا لِابْنِ عقيل وَغَيره، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْوَاضِح: لم يعْتد بقول من لم يكن مُجْتَهدا كَامِلا. قَالَ الْمجد: من أحكم أَكثر أدوات الِاجْتِهَاد، وَلم يبْق لَهُ إِلَّا خصْلَة أَو خصلتان، اتّفق الْفُقَهَاء والمتكلمون على أَنه لَا يعْتد بِخِلَافِهِ خلافًا للباقلاني.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": أما قَول الأصولي غير الفروعي وَعَكسه، والنحوي فِي مَسْأَلَة مبناها النَّحْو، كَمَسْأَلَة مسح الرَّأْس المبنية على أَن الْبَاء للإلصاق، أَو للتَّبْعِيض، ومسائل الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَالِاسْتِثْنَاء وَنَحْوه، فَفِي اعْتِبَار قَوْلهم الْخلاف فِي تجزيء الِاجْتِهَاد، وَالْأَشْبَه اعْتِبَار قَول الأصولي والنحوي فَقَط لتمكنهما من دَرك الحكم بِالدَّلِيلِ، وَالْمَسْأَلَة اجتهادية. وَالصَّحِيح أَن الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ على مَا يَأْتِي بَيَانه.(4/1557)
وَقَالَ الطوفي - أَيْضا -: وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْقَرَافِيّ، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: ابْن قَاضِي ابْن الْجَبَل، والبيضاوي، وشراحه، بِمَا يَقْتَضِي أَنه وفَاق يعْتَبر فِي إِجْمَاع كل فن قَول أَهله؛ إِذْ غَيرهم بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ عَامَّة. انْتهى.
وَهُوَ مُتَوَجّه، فعلى هَذَا يعْتَبر فِي إِجْمَاع كل فن، من فقه، وأصول، وَنَحْو، وطب، وَغَيرهَا قَول أَهله، وَهُوَ ظَاهر جدا.
قَوْله: {وَلَا كَافِرًا مُطلقًا} ، يَعْنِي: لَا يعْتد بقول الْكَافِر مُطلقًا، سَوَاء كَانَ متأولاً، وَهُوَ الْمُخطئ فِي الْأُصُول، أَو غَيره كالمرتد، وَنَحْوه لخُرُوج الْكل عَن الْملَّة فَلَا يتناولهم مُسَمّى الْأمة الْمَشْهُود لَهُم بالعصمة.
أما الْكَافِر الْأَصْلِيّ، وَالْمُرْتَدّ فَلَا نزاع بَين الْأمة أَن قَوْلهم لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع، وَلَو انْتهى إِلَى رُتْبَة الِاجْتِهَاد لما علم من اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بِأمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
مَحل الْخلاف فِي المبتدع إِذا كفرناه ببدعته.(4/1558)
وتحرير القَوْل فِي ذَلِك: أَن عِنْد من كفره ببدعته لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع، وَمن لَا يكفره فَهُوَ عِنْده من المبتدعة الَّذين يحكم بفسقهم، وَهُوَ الْقسم الْآتِي بعد هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَقطع بذلك الْعلمَاء مِنْهُم: ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": لَا يعْتد بقول كَافِر سَوَاء كَانَ بِتَأْوِيل أَو بِغَيْر تَأْوِيل.
وَقَالَهُ الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَزَاد: وَقيل: المتأول كالكافر عِنْد الْمُكَفّر دون غَيره.
وَلَا فَائِدَة فِي هَذَا القَوْل، وَلَا ثَمَرَة؛ إِذْ مَحل الْمَسْأَلَة فِي الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: قَالَ أهل السّنة: لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع وفَاق الْقَدَرِيَّة، والخوارج، والرافضة.
وَقَالَ الصَّيْرَفِي: هَل يقْدَح خلاف الْخَوَارِج فِي الْإِجْمَاع؟ فِيهِ قَولَانِ.(4/1559)
قَوْله: {وَلَا فَاسق مُطلقًا} ، لَا يعْتد بقول الْفَاسِق مُطلقًا، سَوَاء كَانَ من جِهَة الِاعْتِقَاد أَو الْأَفْعَال.
فالاعتقاد كالرفض، والاعتزال، وَنَحْوهمَا، وَالْأَفْعَال كشرب الْخمر، وَالزِّنَا، والربا، وَالسَّرِقَة، وَنَحْوهَا.
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالْأَكْثَر. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ: وَذهب إِلَيْهِ مُعظم الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة: هَذَا الصَّحِيح عندنَا. قَالَ ابْن برهَان: هُوَ قَول كَافَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين؟ وَتقدم قَرِيبا كَلَام الْأُسْتَاذ أبي مَنْصُور، والصيرفي. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يقبل قَوْله، وَلَا يُقَلّد فِي فَتْوَى، كالكافر، وَالصَّبِيّ.
وَعند أبي الْخطاب وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول ":(4/1560)
يعْتد بقوله؛ لِأَن الْمعْصِيَة فِي الْفِعْل دون الِاعْتِقَاد، وَذَلِكَ لَا يزِيل اسْم الْإِيمَان.
وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَيْضا.
وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَنَصره.
وَكَذَا الْهِنْدِيّ، وَابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهد من الْأمة فتناولته الْأَدِلَّة بِخِلَاف الْكَافِر، وَالصَّبِيّ قَاصِر، وَلَا يلْزم من اعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع اعْتِبَار قَوْله مُنْفَردا.
{وَقيل: إِن ذكر مُسْتَندا صَالحا اعْتد بقوله} ، وَإِلَّا فَلَا، فَإِذا بَين مأخذه، وَكَانَ صَالحا للأخذ بِهِ اعتبرناه. قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَلَا بَأْس بِهَذَا القَوْل وَهَذَا كُله فِي الْفَاسِق بِلَا تَأْوِيل، أما الْفَاسِق بِتَأْوِيل فمعتبر فِي الْإِجْمَاع كالعدل، انْتهى.(4/1561)
{وَقيل: يعْتَبر فِي نَفسه، اخْتَارَهُ أبي الْمَعَالِي} ، فَإِذا وَافق الْجَمَاعَة كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة على الْكل، وَإِن خالفهم كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة عَلَيْهِم، لَا عَلَيْهِ.
صرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره على هَذِه الصّفة.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": يَنْبَغِي أَن يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ.
قلت: وَالَّذِي يظْهر أَن هَذَا خطأ؛ فَإِن الْعَكْس إِذا وَافق كَانَ حجَّة عَلَيْهِ لَا عَلَيْهِم، وَلَا قَائِل بِهِ، وتابع فِي ذَلِك أَصله، وَهُوَ " شرح الزَّرْكَشِيّ "، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَنْبَغِي عَكسه، أَنه ينْعَقد إِجْمَاع غَيره عَلَيْهِ، وَلَا ينْعَقد إجماعه على غَيره. انْتهى.
فَقَوله: أخيراً وَلَا ينْعَقد إجماعه على غَيره سَهْو؛ لِأَنَّهُ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع مَعَ مُوَافَقَته انْعَقَد على غَيره بِلَا نزاع، وَهُوَ وَالله أعلم إِنَّمَا أَرَادَ إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع لغيره، وَلم يُوَافق هُوَ أَنه يكون إِجْمَاعًا فِي حَقه أَيْضا، وَهَذَا مُتَوَجّه؟
وَأما هُوَ إِذا وَافق الْجَمَاعَة لَا ينْعَقد على غَيره، فَهَذَا غير مُسلم.(4/1562)
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ: لَا يعْتد فِي الْإِجْمَاع بقول الظَّاهِرِيَّة؛ بجحدهم الْقيَاس، وَعدم معرفتهم للمعاني.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: ينظر فِيمَا قَالُوهُ، فَإِن لم يسغْ فِيهِ الِاجْتِهَاد لم يعْتد بِهِ، وَإِن سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَاد اعْتد بِهِ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: وَفِي الِاعْتِدَاد بقول مجتهدي الظَّاهِرِيَّة أَقْوَال: الْمَنْع. اخْتَارَهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ.
وَالثَّانِي: الْجَوَاز، كغيرهم. وَالثَّالِث: الْفرق بَين مَا للِاجْتِهَاد فِيهِ مساغ وَغَيره، كتفريقهم فِي تنجيس المَاء بَين الْبَوْل فِيهِ، وصبه فِيهِ، فَيعْتَبر قَوْله فِي الأول دون الثَّانِي اخْتَارَهُ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: ترك اعْتِقَاده الْعَمَل بِبَعْض الْأَدِلَّة لَا يُخرجهُ عَن كَونه مُجْتَهدا، وَإِلَّا لزم أَن لَا يعْتَبر قَول من خَالف فِي الْمَرَاسِيل،(4/1563)
والعموم، وَأَن الْأَمر على الْوُجُوب، وَغير ذَلِك. انْتهى.
وَقَالَ الأبياري فِي " شرح الْبُرْهَان ": إِن كَانَت الْمَسْأَلَة مِمَّا يتَعَلَّق بالآثار، والتوقيف، وَاللَّفْظ اللّغَوِيّ وَلَيْسَ للْقِيَاس فِيهَا مجَال فَلَا يَصح أَن ينْعَقد الْإِجْمَاع دونهم إِلَّا على قَول من يرى أَن الِاجْتِهَاد قَضِيَّة وَاحِدَة لَا تتجزأ، وَإِن قُلْنَا بالتجزيء فَلَا يمْتَنع أَن يَقع النّظر فِي نوع هم فِيهِ محققون. انْتهى.
وَقَالَ القَاضِي الباقلاني أَيْضا، وَأَبُو الْمَعَالِي: لَا يعْتد بقول منكري الْقيَاس، فَدخل فِي هَذَا كل من أنكر الْقيَاس من الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم.
وَقيل: إِن كَانَ الْقيَاس جلياً، وَإِلَّا اعْتد بهم.
وَقَالَ أَيْضا أَبُو بكر الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ: لَا يعْتد بقول الْأَصَم.(4/1564)
وَهَذَا الْأَصَم هُوَ عبد الرَّحْمَن بن كيسَان، قَالَه ابْن الصّلاح وَغَيره.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي رده على الرافضي هُوَ عبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم المعتزلي من فضلائهم، وَله تَفْسِير، وَمن تلاميذه إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن علية.
ولإبراهيم هَذَا مناظرات فِي الْفِقْه وأصوله مَعَ الشَّافِعِي وَغَيره.(4/1565)
5
- قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم لَا يخْتَص الْإِجْمَاع بالصحابة} .
وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، وَذَلِكَ للأدلة الَّتِي تقدّمت فِي قبُول الْإِجْمَاع من غير تَفْرِيق بَين عصر وعصر قبلهم للأدلة؛ وَلِأَن مَعْقُول السمعي إِثْبَات الْحجَّة الإجماعية مُدَّة التَّكْلِيف، وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بعصر الصَّحَابَة.
وَعَن أَحْمد: يخْتَص بهم، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يكَاد يُوجد عَن أَحْمد احتجاج بِإِجْمَاع بعد التَّابِعين أَو بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة. انْتهى.
قلت: آخر الْقُرُون الثَّلَاثَة إِلَى زَمَنه، فَيكون احْتج بِالْإِجْمَاع إِلَى زَمَنه بِخِلَاف مَا إِذا قُلْنَا بعد التَّابِعين.(4/1566)
قَالَ ابْن حزم: ذهب دَاوُد وأصحابنا إِلَى أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة فَقَط، وَهُوَ قَول لَا يجوز خِلَافه؛ لِأَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا يكون عَن تَوْقِيف، وَالصَّحَابَة هم الَّذين شهدُوا التَّوْقِيف.
قَالَ: فَإِن قيل: فَمَا تَقولُونَ فِي إِجْمَاع من بعدهمْ، أَيجوزُ أَن يجمعوا على خطأ؟ قُلْنَا: هَذَا لَا يجوز لأمرين:
أَحدهمَا: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمننا من ذَلِك بقوله: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق ".
الثَّانِي: أَن سَعَة الأقطار بِالْمُسْلِمين، وَكَثْرَة الْعدَد، وَلَا يُمكن أحدا ضبط أَقْوَالهم، وَمن ادّعى هَذَا لم يخف على أحد كذبه. انْتهى.
وَمُقْتَضَاهُ أَن الظَّاهِرِيَّة لَا يمْنَعُونَ الِاحْتِجَاج بِإِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة وَلَكِن يستبعدون الْعلم بِهِ، كَمَا حمل كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي أحد محامله على ذَلِك كَمَا تقدم.
وَاحْتج لِلْقَوْلِ الثَّانِي أَيْضا بِظَاهِر الْآثَار السَّابِقَة فَكَانُوا كل الْأمة، وَلَيْسَ من بعدهمْ كلهَا دونهم، وموتهم لم يخرجهم مِنْهَا.(4/1567)
رد: فيقدح موت الْمَوْجُود حِين الْخطاب فِي انْعِقَاد إِجْمَاع البَاقِينَ، وَمن أسلم بعد الْخطاب لَا يعْتد بِخِلَافِهِ، وَيبْطل أَيْضا بِسَائِر خطاب التَّكْلِيف، فَإِنَّهُ عَم وَمَا اخْتصَّ.
قَالُوا: مَا لَا قطع فِيهِ سَائِغ فِيهِ الِاجْتِهَاد بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، فَلَو اعْتد بِإِجْمَاع غَيرهم تعَارض الإجماعان.
رد: لم يجمعوا على أَنَّهَا اجتهادية مُطلقًا، وَإِلَّا لما أجمع من بعدهمْ فِيهَا، لتعارض الإجماعين، وبلزومه فِي الصَّحَابَة قبل إِجْمَاعهم فَكَانَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِجْمَاع.
قَوْله: {فصل: أَحْمد وَأَصْحَابه وَالْأَكْثَر: لَا إِجْمَاع مَعَ مُخَالفَة وَاحِد أَو اثْنَيْنِ} ، كالثلاثة قطع بِهِ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ لَا يُسمى إِجْمَاعًا مَعَ الْمُخَالفَة؛ لِأَن الدَّلِيل لم ينْهض إِلَّا فِي كل الْأمة؛ لِأَن الْمُؤمن لفظ عَام، وَالْأمة مَوْضُوعَة للْكُلّ.(4/1568)
وَقيل: ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ مُخَالفَة وَاحِد لَا مُخَالفَة أَكثر؛ لِأَنَّهُ نَادِر لَا اعْتِبَار بِهِ.
وَقيل: ينْعَقد مَعَ مُخَالفَة اثْنَيْنِ، اخْتَارَهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ، وَابْن حمدَان من أَصْحَابنَا فِي " الْمقنع "، وَبَعض الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الْمُعْتَزلَة، وَإِلَيْهِ ميل أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي " الْمُحِيط ".
وَقيل: ينْعَقد مَعَ مُخَالفَة اثْنَيْنِ فِي غير أصُول الدّين، أما فِي أصُول الدّين فَلَا ينْعَقد بمخالفة أحد.
حَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن الأخشيد من الْمُعْتَزلَة.(4/1569)
وَقيل: هُوَ حجَّة مَعَ الْمُخَالفَة، لَا إِجْمَاع، اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره، فَقَالَ: لَو ندر الْمُخَالف مَعَ كَثْرَة المجمعين لم يكن إِجْمَاعًا قطعا، وَالظَّاهِر أَنه حجَّة؛ لتعذر أَن يكون الرَّاجِح متمسك الْمُخَالف؛ لِأَنَّهُ لَا يدل ظَاهرا على وجود رَاجِح، أَو قَاطع؛ لِأَنَّهُ لَو قدر كَون متمسك الْمُخَالف راجحاً والكثيرون لم يطلعوا عَلَيْهِ، أَو اطلعوا وخالفوه غَلطا، أَو عمدا كَانَ فِي غَايَة الْبعد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن حجية الْإِجْمَاع لِاسْتِحَالَة الْعَادة، وَقد سبق ضعفه.
وَنَحْوه قَول الْهِنْدِيّ: الظَّاهِر أَن من قَالَ إِنَّه إِجْمَاع فَإِنَّمَا يَجعله إِجْمَاعًا ظنياً لَا قَطْعِيا. انْتهى.
وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ الْحَنَفِيّ: إِن لم يسوغوا اجْتِهَاد الْمُخَالف، كإباحة الْمُتْعَة، وَربا الْفضل انْعَقَد، وَإِلَّا فَلَا، كالعول؛ فَإِن(4/1570)
الْمُتْعَة، وَربا الْفضل، وَعدم الْعَوْل، قَالَ بِهِ ابْن عَبَّاس، لَكِن عدم الْعَوْل يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد؛ فَلهَذَا لم ينكروا عَلَيْهِ فِيهِ، وأنكروا عَلَيْهِ فِي الْمُتْعَة وَربا الفضب؛ فَلهَذَا يُقَال: إِنَّه رَجَعَ عَنْهُمَا.
وَحكى هَذَا السَّرخسِيّ عَن أبي بكر الرَّازِيّ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، الْآمِدِيّ، والطوفي، وَجمع: الْخلاف فِي الْأَقَل أَيْضا فَشَمَلَ الثَّلَاثَة، وَالْأَرْبَعَة، وَنَحْوهم.
قَالَ الْمُوفق: وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.(4/1571)
قَالَ فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب ": إِنَّه الَّذِي يَصح عَن ابْن جرير.
وَقَالَ بَعضهم: إِن بلغ الْأَقَل عدد التَّوَاتُر منع، وَإِلَّا فَلَا.
احْتج للْأَكْثَر: تنَاول الْأَدِلَّة للْجَمِيع حَقِيقَة، والعصمة للْأمة، وَلَا تصدق بِدُونِهِ، وَقد خَالف ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس فِي مسَائِل جُمْهُور الصَّحَابَة فجوز لَهُم.
قَالُوا: أنكر عَلَيْهِ الْمُتْعَة، وَحصر الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، والعينة على زيد ابْن أَرقم.
قُلْنَا: لخلاف مَشْهُور السّنة، ثمَّ قد أنكر على الْمُنكر فَلَا إِجْمَاع، وَأَيْضًا إنكارهم إِنْكَار مناظرة، لَا للْإِجْمَاع فَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، فَحكمه إِلَى الله، لقَوْله تَعَالَى: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله} [النِّسَاء: 59] .
قَالُوا: يُطلق الْكل على الْأَكْثَر.(4/1572)
قُلْنَا: معَارض بِمَا دلّ على قلَّة أهل الْحق من نَحْو: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة} [الْبَقَرَة: 249] ، {وَقَلِيل مَا هم} [ص: 24] ، {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} [سبأ: 13] ، وَعَكسه كَثْرَة أهل الْبَاطِل، نَحْو: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} [العنكبوت: 63] ، { ... لَا يعلمُونَ} [الْأَنْعَام: 37] ، { ... لَا يشكرون} [الْبَقَرَة: 243] ، {لَا يُؤمنُونَ} [الْبَقَرَة: 100] ، وَإِذا من الْجَائِز إِصَابَة الْأَقَل وخطؤ الْأَكْثَر، كَمَا كشف الْوَحْي عَن إِصَابَة عمر فِي أسرى بدر، وكما انْكَشَفَ الْحَال عَن إِصَابَة أبي بكر فِي أَمر الرِّدَّة.
ثمَّ عمدتهم حمل الْكل على الْأَكْثَر وَهُوَ مجَاز.(4/1573)
قَوْله: {وَلَا إِجْمَاع للصحابة مَعَ مُخَالفَة تَابِعِيّ مُجْتَهد} عِنْد أَحْمد، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والموفق، وَالْأَكْثَر مِنْهُم: عَامَّة الْفُقَهَاء، والمتكلمين مِنْهُم: أَكثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ أَيْضا القَاضِي أَبُو يعلى.
لِأَنَّهُ مُجْتَهد من الْأمة فَلَا ينْهض الدَّلِيل بِدُونِهِ.
وَلِأَن الصَّحَابَة سوغوا اجتهادهم وفتواهم مَعَهم فِي الوقائع الْحَادِثَة فِي زمانهم فَكَانَ سعيد بن الْمسيب يُفْتِي فِي الْمَدِينَة وفيهَا خلق من الصَّحَابَة،(4/1574)
وَشُرَيْح فِي الْكُوفَة وَبهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَحكم عَلَيْهِ فِي خُصُومَة عرضت لَهُ عِنْده على خلاف رَأْيه وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحسن الْبَصْرِيّ، وَغَيرهم كَانُوا يفتون بآرائهم زمن الصَّحَابَة من غير نظر أَنهم أَجمعُوا أَو لَا.
وَلَو لم يعْتَبر قَوْلهم فِي الْإِجْمَاع مَعَهم لسألوا قبل إقدامهم على الْفَتْوَى: هَل أَجمعُوا أم لَا؟ لكِنهمْ لم يسْأَلُوا، فَدلَّ على اعْتِبَار قَوْلهم مَعَهم مُطلقًا.
وَدَعوى أَنهم إِنَّمَا جوزوا لَهُم الْفَتْوَى مَعَ الِاخْتِلَاف دَلِيل عَلَيْهِ، بل الدَّلِيل على خِلَافه.
وَسُئِلَ أنس عَن مَسْأَلَة فَقَالَ: اسألوا مَوْلَانَا الْحسن، فَإِنَّهُ غَابَ وحضرنا، وَحفظ ونسينا.
فقد سوغوا اجتهادهم وَلَوْلَا صِحَّته واعتباره لما سوغوه.
وَإِذا اعْتبر قَوْلهم فِي الِاجْتِهَاد فليعتبر فِي الْإِجْمَاع؛ إِذْ لَا يجوز مَعَ تسويغ الِاجْتِهَاد ترك الأعتداد بقَوْلهمْ وفَاقا.(4/1575)
والأدلة السَّابِقَة تتناولهم، واختصاص الصَّحَابَة بالأوصاف السالفة لَا يمْنَع من الِاعْتِدَاد بذلك، وَإِلَّا لزم أَن لَا يقبل الْأَنْصَار مَعَ خلاف الْمُهَاجِرين، والمهاجرون مَعَ الْعشْرَة، وَلَا قَوْلهم مَعَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وهلم جرا؛ لظُهُور التَّفَاوُت والتفاضل، وَلم يقل بِهِ أحد.
وَعَن أَحْمد: يكون إِجْمَاعًا، اخْتَارَهُ الْخلال والحلواني، وَاخْتَارَهُ القَاضِي أَيْضا، فَلهُ اختياران؛ لأَنهم شاهدوا التَّنْزِيل فهم أعلم بالتأويل، والتابعون مَعَهم كالعامة مَعَ الْعلمَاء؛ وَلذَلِك قدم تفسيرهم.
وَأنْكرت عَائِشَة على أبي سَلمَة لما خَالف ابْن عَبَّاس فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا، وزجرته بقولِهَا: (أَرَاك كالفروج يَصِيح بَين الديكة) ، وَلَو كَانَ قَوْلهم مُعْتَبرا لما أنكرته.(4/1576)
ورد ذَلِك بِأَن كَونهم أعلم لَا يَنْفِي اعْتِبَاره اجْتِهَاد الْمُجْتَهد، وكونهم مَعَهم كالعامة مَعَ الْعلمَاء تهجم مَمْنُوع، والصحبة لَا توجب الِاخْتِصَاص، وإنكار عَائِشَة إِمَّا أَنَّهَا لم تره مُجْتَهدا أَو لتَركه التأدب مَعَ ابْن عَبَّاس حَال المناظرة من رفع صَوت وَنَحْوه، وَقَوْلها، (يَصِيح) يشْعر بِهِ.
قَوْله: {وَإِن صَار مُجْتَهدا بعده} ، أَي: بعد الْإِجْمَاع {فعلى انْقِرَاض الْعَصْر} .
الْكَلَام كَانَ أَولا فِيمَا إِذا كَانَ مُجْتَهدا حَال الْإِجْمَاع، وَالْكَلَام الْآن فِيمَا إِذا صَار مُجْتَهدا بعد الْإِجْمَاع فَاخْتَلَفُوا: هَل يعْتَبر فِي صِحَة الْإِجْمَاع قَوْله أم لَا؟ .
وَالصَّحِيح - وَعَلِيهِ الْأَكْثَر - أَنه مَبْنِيّ على انْقِرَاض الْعَصْر من اشْترط لصِحَّة الْإِجْمَاع انْقِرَاض الْعَصْر قبل الِاخْتِلَاف قَالَ: هَذَا لَيْسَ بِإِجْمَاع إِن خَالف، وَمن قَالَ: لَا يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر قَالَ: الْإِجْمَاع انْعَقَد، وَلَا اعْتِبَار لمُخَالفَة من صَار من أهل الْإِجْمَاع بعد ذَلِك، وَسَيَأْتِي أصل الْمَسْأَلَة وَالْخلاف فِيهَا.
قَوْله: {ونفاه الْمُوفق وَغَيره وَقَالَ: لَا يعْتَبر قَوْله مُطلقًا} ، يَعْنِي: سَوَاء قُلْنَا هُوَ مَبْنِيّ على انْقِرَاض الْعَصْر أم لَا؟(4/1577)
وَحَكَاهُ السَّرخسِيّ عَن أَصْحَابهم، وَاخْتَارَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " لسبقه بِالْإِجْمَاع، كإسلامه بعد الْإِجْمَاع.
لَكِن قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": إِن هَذَا لم يقلهُ أحد، وَمن نقل مقدم على من نفى.
قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": نعم، لَو بلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد بعد إِجْمَاعهم فَهُوَ مَسْبُوق بِالْإِجْمَاع، فَهُوَ كمن أسلم بعد تَمام الْإِجْمَاع. انْتهى.
وَقَالَ الْمجد: إِذا أجمع أهل الْعَصْر على حكم فَنَشَأَ قوم مجتهدون قبل انقراضهم فخالفوهم، وَقُلْنَا: انْقِرَاض الْعَصْر شَرط، فَهَل يرْتَفع الْإِجْمَاع على مذهبين؟ وَإِن قُلْنَا: لَا يعْتَبر الانقراض، فَلَا. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر مُوَافَقَته} ، يَعْنِي: إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع ثمَّ حدث مُجْتَهد من التَّابِعين، فَإِن وافقهم فَلَا كَلَام، وَإِن سكت لم يقْدَح فِي الْإِجْمَاع؛ لِأَن سُكُوته لَا يدل على الْمُخَالفَة.
وَهَذَا ذكره بعض أَصْحَابنَا، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".(4/1578)
وَخَالف ابْن عقيل، وَأَبُو الْخطاب، والآمدي، فَظَاهره أَنه يعْتَبر مُوَافَقَته.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَعَلَّ المُرَاد عدم مُخَالفَته، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَالضَّابِط أَن اللَّاحِق إِمَّا أَن يتأهل قبل الانقراض أَو بعده، وعَلى الأول فإمَّا أَن يُوَافق أَو يُخَالف أَو يسكت. قلت: سر الْمَسْأَلَة أَن الْمدْرك لَا يعْتَبر وفاقه، بل يعْتَبر عدم خِلَافه إِذا قُلْنَا بِهِ. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي مَسْأَلَة انْقِرَاض الْعَصْر: فَإِن قيل: نسلم ونقول: يعْتَبر انْقِرَاض المجمعين فِي وَقت الْحَادِثَة، لَا من حدث بعْدهَا، قيل: فَمَا اعتبرتم إِذا انْقِرَاض الْعَصْر، وَإِنَّمَا اعتبرتم من وجد وَقت الْحَادِثَة، وَهَذَا لم يقلهُ أحد؛ وَلِأَن من حدث يجوز لَهُ الْمُخَالفَة، فَإِذا مَاتَ غَيره لم أسقطت قَوْله، وَمَا كَانَ يجوز لَهُ؟ ! انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة: تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ كَهُوَ مَعَ الصَّحَابِيّ ذكره(4/1579)
القَاضِي وَغَيره} ، وَلَا فرق، يَعْنِي: هَذَا مَا قُلْنَا فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ قُلْنَاهُ فِي تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ.
قلت: لَو قيل: بِاعْتِبَار قَول تَابع التَّابِعِيّ مَعَ التَّابِعِيّ، وَإِن لم نعتبره فِي التَّابِعِيّ بِحَال كَانَ لَهُ وَجه وَقُوَّة للْفرق.(4/1580)
قَوْله: {فصل:}
{إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة لَيْسَ بِحجَّة} عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء للأدلة الْمُتَقَدّمَة فِي ذَلِك؛ وَلِأَنَّهُم بعض الْأمة لَا كلهَا؛ لِأَن الْعِصْمَة من الْخَطَأ إِنَّمَا ينْسب للْأمة كلهَا لَا للْبَعْض، وَلَا مدْخل للمكان فِي الْإِجْمَاع؛ إِذْ لَا أثر لفضيلته فِي عصمَة أَهله بِدَلِيل مَكَّة المشرفة.
وَخَالف مَالك فِي ذَلِك.
قَالَ المحاسبي فِي كتاب " فهم السّنَن ": قَالَ مَالك: إِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَدِينَةِ ظَاهرا مَعْمُولا بِهِ لم أر لأحد خِلَافه، وَلَا يجوز لأحد مُخَالفَته. انْتهى.
وَاحْتج بِأَن القَوْل الْبَاطِل خبث والخبث منفي عَن الْمَدِينَة بقول الصَّادِق، وَإِذا انْتَفَى الْبَاطِل بَقِي الْحق فَوَجَبَ اتِّبَاعه.(4/1581)
فَقَالَ بعض أَصْحَابه بِظَاهِرِهِ؛ وَلذَلِك أطلق كثير من الْعلمَاء القَوْل بِهِ عَن مَالك، لَكِن قَالَ بَعضهم: ذَلِك فِي زمن الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَعَلِيهِ جرى ابْن الْحَاجِب، وَغَيره.
وَقَالَ بَعضهم: فِي زمن الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، وَمن يليهم.
ذكره الْمجد، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح، وَحَكَاهُ ابْن الباقلاني، وَابْن السَّمْعَانِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَادّعى ابْن تَيْمِية أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد.
وَقَالَ الْبَاجِيّ من أَصْحَاب مَالك: أَرَادَ فِيمَا طَرِيقه النَّقْل المستفيض كالصاع، وَالْمدّ، وَعدم الزَّكَاة فِي الخضروات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادة أَن يكون فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، إِذا لم يُغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ لعلمه، فَأَما مسَائِل الِاجْتِهَاد فَهُوَ وَغَيره سَوَاء.(4/1582)
وَحَكَاهُ القَاضِي فِي " التَّقْرِيب " عَن شَيْخه الْأَبْهَرِيّ، وَجرى عَلَيْهِ الْقَرَافِيّ فِي " شرح الْمُنْتَخب "، وَإِن خَالف فِي مَوضِع آخر، وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي كِتَابه " النظريات " الْكِبَار فَقَالَ: عِنْدِي أَن إِجْمَاعهم حجَّة فِيمَا طَرِيقه النَّقْل، وَإِنَّمَا لَا يكون حجَّة فِي بَاب الِاجْتِهَاد، لِأَن مَعنا مثل مَا مَعَهم من الرَّأْي، وَلَيْسَ لنا مثل مَا مَعَهم من الرِّوَايَة، وَلَا سِيمَا نقلهم فِيمَا تعم بِهِ بلواهم، وهم أهل نخيل وثمار، فنقلهم مقدم على كل نقل، لَا سِيمَا فِي هَذَا الْبَاب. انْتهى.
وَقيل: أَرَادَ المنقولات المستمرة، كالأذان، وَالْإِقَامَة، نقل هَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله ابْن مُفْلِح، وغاير بَينهمَا وتابعناه، وَكثير من الْعلمَاء يَجْعَل الْقَوْلَيْنِ قولا وَاحِدًا.(4/1583)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَاب مَالك: إِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقه النَّقْل، كالصاع، وَالْمدّ، وَالْأَذَان، وَالْإِقَامَة، وَعدم الزَّكَاة فِي الخضروات مِمَّا تَقْتَضِي الْعَادة أَن يكون فِي زَمَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا تقدم. انْتهى.
احْتج لمَالِك بِحَدِيث: " إِنَّمَا الْمَدِينَة كالكير تَنْفِي خبثها وينصع طيبها "، مُتَّفق عَلَيْهِ عَن جَابر.
وَخطأ علمائها خبث، وَهُوَ منفي عَنْهُم فَبَقيَ الْحق فَوَجَبَ اتِّبَاعه، فَيكون حجَّة.
وَأما قَوْله: " ينصع طيبها " فبالصاد وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وأوله يَاء مثناة من تَحت " وطيبها " بِالتَّشْدِيدِ مَرْفُوع؛ لِأَنَّهُ فَاعل على الْمَشْهُور، ويروى بِالنّصب و " تنصع " بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، وَالْفَاعِل ضمير الْمَدِينَة.
لَكِن قَالَ الْقَزاز: لم أجد لنصع فِي الطّيب وَجها، وَإِنَّمَا وَجه الْكَلَام(4/1584)
يتضوع طيبها، أَي: يفوح، ويروى: وينضخ بمعجمتين.
وَالْجَوَاب: أَن فضل الْبِقَاع لَا أثر لَهُ فِي عدم خطأ ساكنيها [إِلَّا] من عصمه الله، كَمَا تقدم.
قَالُوا: لَا يجمعُونَ إِلَّا على رَاجِح؛ لأَنهم أفضل وَأكْثر.
رد بمنعهما، فَإِن الصَّحَابَة بغَيْرهَا أَكثر، مِنْهُم: عَليّ، وَابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس، وَأَبُو عُبَيْدَة، وَأَبُو مُوسَى، ومعاذ، وَغَيرهم، ثمَّ الْمَفْضُول مُعْتَبر مَعَ الْفَاضِل.(4/1585)
وَقيل: إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة وَمَكَّة حجَّة، وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا؛ لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة الَّذين جعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم، وَلَا أثر للبقاع وَإِن شرفت كَمَا تقدم.
وَقيل: وَإِجْمَاع أهل الْبَصْرَة مَعَ أهل الْكُوفَة حجَّة، وَهُوَ ضَعِيف - لما تقدم - وَأولى.
وَقيل: وَإِجْمَاع أَحدهمَا حجَّة، وَهُوَ أَضْعَف من الَّذِي قبله.
قَالَ القَاضِي الباقلاني: وَإِنَّمَا صَار من صَار إِلَى ذَلِك؛ لاعتقادهم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالصحابة، وَكَانَت هَذِه الثَّلَاثَة الْأَمَاكِن موطن الصَّحَابَة، وَمَا خرج عَنْهَا أحد مِنْهُم إِلَّا شذوذاً. انْتهى.
فَلَا يظنّ أَن الْقَائِل بذلك يَقُول بِهِ فِي كل عصر، وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ.(4/1586)
ومدرك الْمُخَالف: انتشار الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - فِي هَذِه الْبِلَاد دون غَيرهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": قيل: إِجْمَاع الْبَصْرَة مَعَ الْكُوفَة هُوَ حجَّة. قيل: كل بلد مِنْهُمَا بمفرده.
وَنقل الْغَزالِيّ عَن قوم إِجْمَاع مَكَّة وَالْمَدينَة.(4/1587)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد وَالْأَكْثَر قَول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة مَعَ مُخَالفَة مُجْتَهد} ، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ عِنْد الْأَئِمَّة؛ لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة الَّذين جعلت الْحجَّة فِي قَوْلهم.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: بِأَن قَوْلهم إِجْمَاع وَحجَّة.
اخْتَارَهُ ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا، وَأَبُو خازم - بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي - حَنَفِيّ الْمَذْهَب، وَكَانَ قَاضِيا، وَحكم بذلك زمن المعتضد فِي تَوْرِيث ذَوي(4/1588)
الْأَرْحَام، فأنفذ حكمه، وَكتب بِهِ إِلَى الْآفَاق، فَلم يعْتَبر خلاف زيد فِي منع تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام بِنَاء على أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة يورثونهم، وَلما رد أَبُو سعيد البرذعي عَلَيْهِ باخْتلَاف الصَّحَابَة، قَالَ: الْعَمَل بقول الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نعم، لَا يلْزم من احتجاج أبي خازم أَن يكون إِجْمَاعًا، بل حجَّة فَقَط، وَحِينَئِذٍ لَا معنى لتخصيص أبي خازم بذلك، وَلَا كَونه رِوَايَة عَن أَحْمد؛ فَإِنَّهُ مَنْقُول قَول عَن الشَّافِعِي فقد قَالَ ابْن كج فِي كِتَابه: اخْتِلَاف الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ، وَكَانَت الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِي فِي مَوضِع: يُصَار إِلَى قَوْلهم، وَفِي مَوضِع: لَا بل يطْلب دلَالَة سواهُمَا.(4/1589)
وَاسْتدلَّ كثير من الْأُصُولِيِّينَ من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم لهَذَا الْمَذْهَب بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي، تمسكوا بهَا، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ". رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَالْحَاكِم فِي " الْمُسْتَدْرك " وَقَالَ: على شَرطهمَا.
وَالْمرَاد بالخلفاء هم الْأَرْبَعَة لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخلَافَة من بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ يصير ملكا عَضُوضًا ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: " خلَافَة النُّبُوَّة ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ يُؤْتِي الله الْملك من يَشَاء ". وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.(4/1590)
وَاسْتدلَّ للْأولِ بِأَن ابْن عَبَّاس خَالف جَمِيع الصَّحَابَة فِي خمس مسَائِل فِي الْفَرَائِض انْفَرد بهَا، وَابْن مَسْعُود فِي أَربع، وَغَيرهمَا فِي غير ذَلِك، وَلم يحْتَج عَلَيْهِم أحد بِإِجْمَاع الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَأَنه لَا حجَّة فِي الحَدِيث السَّابِق لمعارضته لحَدِيث: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " لكنه ضَعِيف، وَبِتَقْدِير صِحَّته فَلَا مُعَارضَة؛ فَإِن المُرَاد مِنْهُ أَن الْمُقَلّد يتَخَيَّر فيهم، لَا أَن قَول كل حجَّة.
وَأما حَدِيث: " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء ... " فسياقه فِيمَا يكون حجَّة من حجج الشَّرْع.
وَإِنَّمَا الْجَواب: أَن المُرَاد أَن لَا يبتدع الْإِنْسَان بِمَا لم يكن فِي السّنة، وَلَا فِيمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَة فِي زمن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة لقرب عَهدهم بتلقي الشَّرْع.(4/1591)
وَعنهُ: قَوْلهم حجَّة، لَا إِجْمَاع كَمَا تقدم فِي تَأْوِيل قَول أبي خازم.
وَعنهُ: وَقَول الشَّيْخَيْنِ - أَعنِي: أَبَا بكر وَعمر - رضوَان الله عَلَيْهِمَا - يَعْنِي حجَّة - لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقتدوا بالذين من بعدِي أبي بكر وَعمر " رَوَاهُ أَحْمد، وَابْن مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَابْن حبَان فِي " صَحِيحه ".
ورد ابْن مُفْلِح وَغَيره: بِأَن " الْخُلَفَاء " عَام فَأَيْنَ دَلِيل الْحصْر، ثمَّ يدل على أَنه حجَّة أَو يحمل على تقليدهم فِي فتيا أَو إِجْمَاع لم يخالفهم غَيرهم.(4/1592)
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أَنه إِجْمَاع، وَقَالَهُ بعض الْعلمَاء وَهُوَ ضَعِيف.
قَالَ الْآمِدِيّ: قَالَ بعض النَّاس: قَول أبي بكر وَعمر إِجْمَاع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكره تعض أَصْحَابنَا عَن أَحْمد، وَعنهُ: يحرم خلاف أحدهم، اخْتَارَهُ الْبَرْمَكِي، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، قَالَ ابْن مُفْلِح. قَول أحدهم لَيْسَ بِحجَّة، فَيجوز لبَعْضهِم خِلَافه رِوَايَة وَاحِدَة عِنْد أبي الْخطاب.
وَذكر القَاضِي، وَابْن عقيل رِوَايَة: لَا يجوز.
قَوْله: وَلَا يلْزم الْأَخْذ بقول أفضلهم، وَعجب أَحْمد من قَائِل ذَلِك.(4/1593)
وَقَالَ فِي مُقَدّمَة " رَوْضَة الْفِقْه " لبَعض أَصْحَابنَا إِذا اخْتلف الصَّحَابَة وَفِي أحدهم قَول إِمَام فَفِي تَرْجِيحه على القَوْل الآخر رِوَايَتَانِ، فَإِن كَانَ مَعَ كل مِنْهُمَا إِمَام وَأَحَدهمَا أفضل فَفِي تَرْجِيحه رِوَايَتَانِ. انْتهى.
فَذكر رِوَايَة بترجيح أحد الْقَوْلَيْنِ إِذا كَانَ فيهم إِمَام أَو أفضل، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمَا عقده أحدهم كصلح بني تغلب، وخراج وجزية لَا يجوز نقضه} عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا نَقله ابْن عقيل عَن الْأَصْحَاب كعقد عمر صلح بني تغلب، وَعقد خراج السوَاد، والجزية، وَمَا جرى مجْرَاه.(4/1594)
قَالَ أَبُو حَامِد الشَّافِعِي: لَا ينْقض على أصح قولي الشَّافِعِي، وَسَبقه ابْن الْقَاص واستغره السبخي فِي " شَرحه " قَالَ: يشبه أَن يكون تَفْرِيعا على الْقَدِيم فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ، وَأما على الْجَدِيد فَلَا فرق. انْتهى.
وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز نقضه إِذا رأى ذَلِك فَيكون حكمه حكم رَأْيه فِي جَمِيع الْمسَائِل. قَالَ: لِأَن الْمصَالح تخْتَلف باخْتلَاف الْأَزْمِنَة.
قَوْله: {وَلَا قَول أهل الْبَيْت عِنْد الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم} ، أَعنِي أَنه لَيْسَ(4/1595)
بِإِجْمَاع، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة للأدلة السَّابِقَة الْعَامَّة فِي ذَلِك وَغَيره.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد " وَبَعض الْعلمَاء والشيعة: إِنَّه إِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، قَالَ: وَمثله إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة زمن الْخُلَفَاء، وَإِجْمَاع السّنة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": وَقد ذكر القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد " هُوَ وَطَائِفَة من الْعلمَاء: أَن العترة لَا تَجْتَمِع على خطأ، كَمَا فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ، فَهَذِهِ ثَلَاث إجماعات: العترة، وَالْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَأهل(4/1596)
الْمَدِينَة، وتقترن بهَا أهل السّنة، فَإِن أهل السّنة لَا يجمعُونَ على ضَلَالَة كإجماع أهل بَيته، ومدينته وخلفائه. انْتهى.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} [الْأَحْزَاب: 33] .
لَكِن قيل: الرجس هُوَ الْإِثْم.
وَقيل: الشّرك وَالْخَطَأ؛ لِأَنَّهُ لكل مستقذر.
وَقيل: المُرَاد بِأَهْل الْبَيْت أَزوَاجه؛ لسياق الْقُرْآن.
وَقيل: أَهله، وأزواجه.
وَقيل: فَاطِمَة، وَعلي، وَحسن وحسين؛ لرِوَايَة شهر بن حَوْشَب عَن أم سَلمَة: أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت جلل عَلَيْهِم بكساء وَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي، وخاصتي فَأذْهب عَنْهُم الرجس، وطهرهم تَطْهِيرا "، فَقَالَت أم سَلمَة: وَأَنا مَعكُمْ؟ قَالَ: " إِنَّك إِلَى خير ". رَوَاهُ أَحْمد، وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.(4/1597)
5
- وَعَن جَابر مَرْفُوعا: " إِنِّي تركت فِيكُم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي ".
وَعَن زيد بن أَرقم مَرْفُوعا: " إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا بعدِي، أَحدهمَا أعظم من الآخر وَهُوَ كتاب الله تَعَالَى، وعترتي أهل بَيْتِي لن يفترقا حَتَّى يردوا على الْحَوْض " رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيّ.
وَفِي مُسلم من حَدِيث زيد بن أَرقم: " إِنِّي تَارِك فِيكُم ثقلين، أَولهمَا: كتاب الله، فِيهِ الْهدى والنور، فَخُذُوا بِكِتَاب الله واستمسكوا بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَأهل بَيْتِي، أذكركم الله فِي أهل بَيْتِي ".
لَكِن هَذِه الْأَخْبَار آحَاد، وَلَيْسَ بِحجَّة عِنْد الشِّيعَة، وَأجَاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره أَنه لَا يثبت بِهِ أصل، وَلِأَن زيدا قَالَ: أهل بَيته من حرم الصَّدَقَة: آل عَليّ، وَآل عقيل، وَآل جَعْفَر، وَآل عَبَّاس. وَهُوَ أعلم بِمَا روى.(4/1598)
وَالْخَبَر فِي الْخُلَفَاء أصح وَلم يقل بِهِ الشِّيعَة، ونمنع أَن الْخَطَأ من الرجس. وَفِي " الْوَاضِح ": دلّ سِيَاق الْآيَة أَنه أَرَادَ دفع التُّهْمَة.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: مُفْرد حلي بِاللَّامِ وَلَا يسْتَغْرق، وَلم يحْتَج أهل الْبَيْت بذلك، وَلَا ذَكرُوهُ، وَلَا أَنْكَرُوا على مخالفهم حَتَّى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - زمن ولَايَته، وَلَو كَانَ ذَلِك حجَّة كَانَ تَركه خطأ، ولوجب ذكره، وَمَعْلُوم لَو ذكره لنقل وَقَبله مِنْهُ أَصْحَابه وَغَيرهم كَمَا فِي غَيره.
قَوْله: {وهم عَليّ وَفَاطِمَة ونجلاهما فِي الْأَصَح} ، وَذَلِكَ لما فِي التِّرْمِذِيّ: أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} [الْأَحْزَاب: 33] أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدَار عَلَيْهِم الكساء وَقَالَ: " هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي، وخاصتي، اللَّهُمَّ أذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا " كَمَا تقدم ذكره.
وَرُبمَا قَالَت الشِّيعَة إِن أهل الْبَيْت: عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَحده، كَمَا نَقله عَنْهُم أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع ".(4/1599)
فَائِدَة:
المُرَاد بالشيعة: من ينْسب إِلَى حب عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَيَزْعُم أَنه من شيعته، وَقد كَانَ فِي الأَصْل لقباً للَّذين ألفوه فِي حَيَاته كسلمان، وَأبي ذَر، والمقداد، وعمار، وَغَيرهم - رَضِي الله عَنْهُم -، ثمَّ صَار لقباً بعد ذَلِك على من يرى تفضيله على كل الصَّحَابَة، وَأُمُور أُخْرَى قَالُوا بهَا، لَا يرضاها عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أبدا، وَلَا أحد من ذُريَّته مِمَّن يقْتَدى بِهِ، ثمَّ تفَرقُوا فرقا كَثِيرَة، وَهَؤُلَاء هم المُرَاد بِإِطْلَاق الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم الشِّيعَة.(4/1600)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر لَا يشْتَرط عدد التَّوَاتُر فِيهِ} ، أَي: فِي الْإِجْمَاع، كدليل السّمع، وَنَقله ابْن برهَان عَن مُعظم الْعلمَاء؛ لِأَن الْمَقْصُود اتِّفَاق مجتهدي الْأمة، وَقد حصل الِاتِّفَاق.
{وَخَالف أَبُو الْمَعَالِي} ، وَأَبُو بكر الباقلاني، وَطَوَائِف من الْمُتَكَلِّمين فَقَالُوا: لَا ينْعَقد عقلا.(4/1601)
وَمعنى قَوْلهم: - عقلا - أَنهم إِذا لم يبلغُوا عدد التَّوَاتُر لَا يمْتَنع عقلا تواطؤهم على الْخَطَأ، لَكِن إِنَّمَا هَذَا تَفْرِيع على أَن عِلّة حجية الْإِجْمَاع ذَلِك، وَالْمُعْتَمد - كَمَا تقدم - إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآن وَالسّنة لَا الْعقل.
قَوْله: {فَلَو بَقِي وَاحِد فإجماع فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} ، قَالَه ابْن مُفْلِح وتابعناه، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ، وَابْن سُرَيج، وَابْن عقيل، وَعَزاهُ الْهِنْدِيّ للأكثرين.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " فِيمَا إِذا خَالف وَاحِد أَو اثْنَان: وَمِنْهَا أَنه لَو قل عدد الِاجْتِهَاد فَلم يبْق إِلَّا الْوَاحِد والاثنان لفتنة أَو غَيرهَا استوعبتهم - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - كَمَا قل الْقُرَّاء فِي قتال أهل الرِّدَّة بِكَثْرَة من قتل من الْمُسلمين، كَانَ [من] بَقِي من الْمُجْتَهدين مُسْتقِلّا بِالْإِجْمَاع وَلم ينخرم الْإِجْمَاع؛ لعدم الْكَثْرَة، إِذا كَانَ هَذَا الْعدَد الْقَلِيل يصلح لإِثْبَات أصل الْإِجْمَاع الْمَقْطُوع بِهِ فَأولى أَن يصلح لفك الْإِجْمَاع واختلاله بمخالفته. انْتهى.(4/1602)
وَقَالَ الْغَزالِيّ: إِن وَافقه الْعَوام واعتبرنا قَوْلهم كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا.
وَقيل: يكون حجَّة، وَلَا نُسَمِّيه إِجْمَاعًا.
وَقيل: لَا نُسَمِّيه حجَّة وَلَا إِجْمَاعًا، اخْتَارَهُ كثير من الْعلمَاء، مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وَغَيرهمَا لشعور الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع.
وعَلى كل حَال للشَّافِعِيَّة قَولَانِ، الْمُرَجح أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع.(4/1603)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَحكي عَن الشَّافِعِي، وَأكْثر أَصْحَابه: لَو قَالَ مُجْتَهد قولا وانتشر وَلم يُنكر قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب فإجماع} .
أَي: ظَنِّي وَذَلِكَ لِأَن الظَّاهِر الْمُوَافقَة لبعد سكوتهم عَادَة؛ وَلذَلِك يَأْتِي فِي قَول الصَّحَابِيّ والتابعي فِي معرض الْحجَّة: كَانُوا يَقُولُونَ أَو يرَوْنَ وَنَحْوه، وَمَعْلُوم أَن كل أحد لم يُصَرح بِهِ، وسكوتهم يشْعر بالموافقة وَإِلَّا لأنكر ذَلِك، وَهُوَ مستمد من سُكُوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فعل أحد بِلَا دَاع كَمَا تقدم.
قَالَ الْبَاجِيّ: هُوَ قَول أَكثر المالكيين، وَالْقَاضِي أبي الطّيب،(4/1604)
وَشَيخنَا أبي إِسْحَاق، وَأكْثر أَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن برهَان: إِلَيْهِ ذهب كَافَّة أهل الْعلم. وَنَقله فِي " الْبَحْر " عَن الْأَكْثَرين.
وَفِي " شرح الْوَسِيط " للنووي: الصَّوَاب من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه حجَّة، وَإِجْمَاع، وَهُوَ مَوْجُود فِي كتب الْعِرَاقِيّين. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُرَجح أَنه إِجْمَاع ظَنِّي، لَا قَطْعِيّ؛ لِأَن الْقطع مَعَ قيام الِاحْتِمَال فِي السُّكُوت لَا يُمكن.(4/1605)
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، والآمدي، والرازي: هُوَ ظَنِّي خلافًا لبَعض الْفُقَهَاء.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْفُنُون "، وَالْقَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَحكي عَن الشَّافِعِي أَيْضا، حَكَاهُ الْآمِدِيّ، وَدَاوُد، وَأَبُو هَاشم: لَا يكون إِجْمَاعًا، وَلَا حجَّة؛ لاحْتِمَال توقف السَّاكِت أَو ذَهَابه إِلَى تصويب كل مُجْتَهد. حَكَاهُ الباقلاني عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ: إِنَّه آخر أَقْوَاله.
وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: إِنَّه ظَاهر الْمَذْهَب حَيْثُ قَالَ: لَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول - وَهِي من عباراته الرشيقة -.(4/1606)
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " المنخول ": نَص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد.
وَاسْتدلَّ - أَيْضا - بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يجْتَهد، أَو اجْتهد، ووقف، أَو خَالف وكتم للتروي وَالنَّظَر، أَو لِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب، أَو وقر الْقَائِل أَو هابه.
ورده أَصْحَاب القَوْل الأول بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر، لَا سِيمَا فِي حق الصَّحَابَة مَعَ طول بقائهم، واعتقاد الْإِصَابَة لَا يمْنَع النّظر لتعرف الْحق، كالمعروف من حَالهم.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة، والصيرفي، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب فِي " الْمُخْتَصر الْكَبِير "، وَتردد فِي " الصَّغِير "، وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه حجَّة لَا إِجْمَاع.
وَنَقله فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي هَاشم، وَنَقله ابْن برهَان وَالشَّيْخ فِي " اللمع " عَن الصَّيْرَفِي.(4/1607)
وَقَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة من الشَّافِعِيَّة: يكون حجَّة فِي الْفتيا لَا الحكم. حَكَاهُ الْمجد فِي " المسودة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: يكون إِجْمَاعًا إِن كَانَ فتيا لَا حكما، حَكَاهُ الْأَكْثَر عَنهُ هَكَذَا.
وَفِي " الْمَحْصُول " عَنهُ: أَنه إِن كَانَ من حَاكم وَبَينهمَا فرق لاحْتِمَال أَن يكون فتيا من حَاكم، لَا حكما.
وَهُوَ مَا نَقله عَن الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر "، وَابْن برهَان فِي " الْأَوْسَط ".
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: إِن الْعَادة تقضي بِأَن ترك الْإِنْكَار فِي الْفتيا الْمُوَافقَة ظَاهر، بِخِلَاف ترك الْإِنْكَار فِي حكم الْحَاكِم؛ فَإِنَّهُ قد يحضر الْفُقَهَاء مجَالِس الْحُكَّام، ويشاهدون خطأهم فِي الْأَحْكَام ويتركون الْإِنْكَار عَلَيْهِم؛ لمهابتهم أَو غير ذَلِك.(4/1608)
رد: هَذَا لَا يمْنَع من إبداء الْخلاف، كَمَا قيل لعمر وَغَيره فِي قضايا.
وَقَالَ الْمروزِي عَكسه، يَعْنِي عكس قَول ابْن أبي هُرَيْرَة، يَعْنِي: أَنه حجَّة، أَو إِجْمَاع فِي الحكم لَا الْفتيا؛ لِأَن الْأَغْلَب فِي الحكم أَن يكون عَن مُشَاورَة.
{وَقيل: إِجْمَاع فِيمَا يفوت استدراكه} إِن كَانَ فِي شَيْء يفوت تَدَارُكه، كإراقة دم أَو اسْتِبَاحَة فرج، كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ.
{وَقيل: إِجْمَاع فِيمَا يَدُوم ويتكرر وُقُوعه} ، والخوض فِيهِ فالسكوتي فِيهِ إِجْمَاع. اخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي آخر الْمَسْأَلَة.
وَقيل: إِن كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ فِي " الْبَحْر " وَالْمَاوَرْدِيّ.(4/1609)
{وَقيل: إِن كَانَ السَّاكِت أقل} فإجماع، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ السَّرخسِيّ من الْحَنَفِيَّة.
{وَقيل: إِن انقرض الْعَصْر} كَانَ إِجْمَاعًا، وَإِلَّا كَانَ حجَّة.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب؛ لِأَن الِاحْتِمَال يضعف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: اخْتَار أَبُو الْخطاب، والجبائي، والآمدي، وَغَيرهم اعْتِبَار انْقِرَاض الْعَصْر ليضعف الِاحْتِمَال. انْتهى.
وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع ": إِنَّه الْمَذْهَب.(4/1610)
وَقَالَ أَبُو الْخطاب - أَيْضا - فِي " التَّمْهِيد "، وَالشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي: إِن لم يكن القَوْل فِي تَكْلِيف فَلَا إِجْمَاع، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، كَقَوْل الْقَائِل مثلا: عمار أفضل من حُذَيْفَة، وَبِالْعَكْسِ، لَا يدل السُّكُوت فِيهِ على شَيْء؛ إِذْ لَا تَكْلِيف على النَّاس فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى إِنْكَاره، أَو تصويبه، وَيَأْتِي قَرِيبا فِي تعداد الشُّرُوط، وَلم يفرق كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، بل أطْلقُوا.
تَنْبِيه: حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّه إِجْمَاع، أَو حجَّة لَا بُد يشْتَرط لَهُ شُرُوط، مِنْهَا: كَون ذَلِك فِي الْمسَائِل التكليفية كَمَا تقدم فِي القَوْل الَّذِي قبل هَذَا عَن أبي الْخطاب وَغَيره، وَكَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره يَقْتَضِي أَنه مَحل وفَاق.
وَأَن يكون فِي مَحل الِاجْتِهَاد.
وَأَن يطلعوا على ذَلِك.
وَأَن لَا يكون هُنَاكَ أَمارَة سخط، وَإِن لم يصرحوا بِهِ.(4/1611)
وَأَن يمْضِي قدر مهل النّظر عَادَة فِي تِلْكَ الْحَالة.
وَأَن لَا يُنكر ذَلِك مَعَ طول الزَّمَان.
فَخرج مَا لَيْسَ من مسَائِل التَّكْلِيف كَمَا تقدم، وَمَا إِذا كَانَ الْقَائِل مُخَالفا للثابت الْقطعِي فالسكوت عَنهُ لَيْسَ دَلِيلا على مُوَافَقَته، وَخرج أَيْضا مَا لم يطلع عَلَيْهِ الساكتون فَإِنَّهُ لَا يكون حجَّة قطعا.
وَهل المُرَاد الْقطع باطلاعهم، أَو غَلَبَة الظَّن بذلك؛ لانتشاره وشهرته كَمَا صرح بِهِ الْأُسْتَاذ نقلا عَن مَذْهَب الشَّافِعِي، واختياراً لَهُ، وَأما إِن احْتمل وَاحْتمل فَلَا، كَمَا نَقله ابْن الْحَاجِب عَن الْأَكْثَر، وَمُقَابِله قَول أَنه حجَّة.
وَخرج أَيْضا مَا إِذا كَانَ هُنَاكَ أَمارَة سخط فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة بِلَا خلاف، كَمَا أَنه إِذا كَانَ مَعَه أَمارَة رضى يكون إِجْمَاعًا.(4/1612)
قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَفِي كَلَام الرَّازِيّ مَا هُوَ كَالصَّرِيحِ فِي أَن الْخلاف جَار مَعَ أَمارَة سخط.
وَخرج أَيْضا بِهِ مَا إِذا لم تمض مُدَّة للنَّظَر؛ لاحْتِمَال أَن يكون السَّاكِت فِي مهلة للنَّظَر.
وَمن شَرط مَحل الْخلاف أَيْضا أَن لَا يطول الزَّمَان مَعَ تكَرر الْوَاقِعَة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَحل الْخلاف السَّابِق، كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام أبي الْمَعَالِي، وَصرح بِهِ ابْن التلمساني.
وَأَن يكون قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب، فَأَما بعد استقرارها فَلَا أثر للسكوت قطعا، كإفتاء مقلد سكت عَنهُ المخالفون للْعلم بمذهبهم، ومذهبه، كحنبلي(4/1613)
يُفْتِي بِنَقْض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر، فَلَا يدل سكُوت من يُخَالِفهُ - كالحنفية - على مُوَافَقَته، وَالله أعلم.
تَنْبِيه: يَنْبَغِي أَن يدْخل فِي الْمَسْأَلَة مَا إِذا فعل بعض أهل الْإِجْمَاع فعلا وَلم يصدر مِنْهُم قَول، وَسكت الْبَاقُونَ عَلَيْهِ، أَن يكون هَذَا إِجْمَاعًا سكوتياً بِنَاء على مَا سبق.
من الْمُرَجح فِي أصل الْإِجْمَاع أَنه لَا فرق بَين القَوْل وَالْفِعْل، بل يتَوَلَّد من ذَلِك أَن الْفَاعِل لَو كَانَ من غير أهل الِاجْتِهَاد، وإطلع عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، وَلم ينكروا عَلَيْهِ، وَلَا دَاعِي لعدم إنكارهم - أَن يكون ذَلِك حجَّة؛ لِأَن تقريرهم كتقرير الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شخصا على فعل كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَإِن لم ينتشر} فَتَارَة يكون من صَحَابِيّ أَو من تَابِعِيّ، وَتارَة يكون من غَيرهمَا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا {فَيَأْتِي ذَلِك فِي مَذْهَب الصَّحَابِيّ} مفصلا.(4/1614)
وَلَعَلَّ هَذِه الْمَسْأَلَة غير تِلْكَ، بل يحْتَمل أَن تكون تِلْكَ أَعم من هَذِه؛ لِأَن لهَذِهِ شُرُوطًا لَا تشْتَرط فِي تِلْكَ، وَهُوَ الظَّاهِر وَإِلَّا تنَاقض كَلَامهم، وَإِن كَانَ من غَيرهمَا فَالْأَصَحّ أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة لعدم الدَّلِيل على ذَلِك، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَعند بَعضهم أَنه إِجْمَاع وَحجَّة؛ لِئَلَّا يَخْلُو الْعَصْر عَن الْحق.
رد بِجَوَازِهِ لعدم علمهمْ، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَقيل: يكون حجَّة اخْتَارَهُ بَعضهم.
وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ: الْحق أَنه إِن كَانَ فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى - أَي: يَقع النَّاس فِيهِ كثيرا - كنقض الْوضُوء بِمَسّ الذّكر فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا. وَجزم بِهِ الْبَيْضَاوِيّ.
لَكِن حاكي هَذِه الْأَقْوَال لم يفرق بَين الصَّحَابِيّ وَغَيره فَجعل الْأَقْوَال شَامِلَة لكل مُجْتَهد.(4/1615)
وَاعْلَم أَن المُرَاد عدم الانتشار هُنَا والشهرة، لَا الْعلم ببلوغ الْخَبَر للْبَاقِي، وَاشْترط الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عدم الانتشار، يُريدَان بِهِ نفي الْعلم باطلاعهم وَلم يريدا بِهِ عدم الشُّهْرَة فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى، قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ.
وَفرض ابْن الْحَاجِب أصل الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا عرف الْبَاقِي قَول الْمُجْتَهد فَقَالَ: إِذا أفتى وَاحِد وَعرفُوا بِهِ وَلم يُنكره أحد.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وانتشر، وفسروه بِمَا قَالَه الْقَرَافِيّ وَغَيره.(4/1616)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن فورك، وسليم، وَحكي عَن الْأَشْعَرِيّ، والمعتزلة: يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر.
وَالْأَكْثَر لَا يشْتَرط، مِنْهُم: الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَأَبُو الْخطاب وَقَالَ: أَوْمَأ إِلَيْهِ أَحْمد، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل رِوَايَة. وَقيل: للسكوتي، كالآمدي وَغَيره.(4/1617)
وَقيل: للقياسي. وَقيل: فِيهِ مهلة. وَقيل: إِن بَقِي عدد التَّوَاتُر. وَقيل: فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة اخْتِلَافا كثيرا، فَالَّذِي عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ ابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، وَنَقله ابْن برهَان عَن الْمُعْتَزلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر ابْن برهَان أَنه مَذْهَبهم، وَنَقله الْأُسْتَاذ عَن(4/1618)
الْأَشْعَرِيّ، أَنه يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر.
وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء أَنه لَا يعْتَبر ذَلِك، وَقَالَهُ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة. قَالَ الباقلاني: هُوَ قَول الْجُمْهُور.
وَقَالَ الْبَاجِيّ: هُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ قَول أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَصَححهُ الدبوسي، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وميل ابْن مُفْلِح إِلَيْهِ.
وَقيل: يعْتَبر الانقراض للْإِجْمَاع السكوتي؛ لضَعْفه دون غَيره، اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره.(4/1619)
وَنقل عَن الْأُسْتَاذ أبي مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَقَالَ: إِنَّه قَول الحذاق من أَصْحَاب الشَّافِعِي.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: هُوَ قَول أَكثر الْأَصْحَاب.
وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيّ. وَجعل سليم الرَّازِيّ مَحل الْخلاف فِي غير السكوتي، وَأَن الانقراض فِي السكوتي لَا خلاف فِيهِ.
وَقيل: يعْتَبر الانقراض للْإِجْمَاع القياسي دون غَيره، نَقله ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَيَأْتِي أَن ابْن الْعِرَاقِيّ خطأه فِي ذَلِك،(4/1620)
لَكِن الْهِنْدِيّ وَغَيره نقل عَنهُ التَّفْصِيل بَين أَن يعلم أَن متمسكهم ظَنِّي فَيعْتَبر طول الزَّمَان، أَو لَا فَلَا.
وَقيل: يعْتَبر الانقراض إِن كَانَ فِيهِ مهلة، وَإِلَّا فَلَا. فَينْعَقد قبل الانقراض فِيمَا لَا مهلة فِيهِ مِمَّا لَا يُمكن استدراكه من قتل نفس واستباحة فرج دون غَيره حَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَهُوَ نَظِير مَا سبق فِي السكوتي.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي " أَن مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ إِتْلَاف يشْتَرط فِيهِ الانقراض قطعا وَمَا لَا يُمكن استدراكه فِيهِ وَجْهَان.
وَقيل: لَا يعْتَبر الانقراض إِن بَقِي عدد التَّوَاتُر، وَإِن بَقِي أقل من عدد التَّوَاتُر لم يكترث بِالْبَاقِي، ونحكم بانعقاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف مَا إِذا بَقِي أَكثر، حَكَاهُ الباقلاني فِي " مُخْتَصر التَّقْرِيب "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن برهَان فِي " الْوَجِيز ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ الْمُشْتَرط أَن لَا يبْقى دون عدد التَّوَاتُر، فَحِينَئِذٍ لَا يكترث(4/1621)
بِالْبَاقِي وَيحكم بانعقاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف مَا إِذا بَقِي أَكثر. وَلَعَلَّ " لَا " زَائِدَة فِي قَوْله: أَن لَا يبْقى وَأَنه أَن يبْقى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: الْخَامِس: إِن بَقِي مِنْهُم كثير وَضبط بِعَدَد التَّوَاتُر لم يكن إِجْمَاعهم حجَّة، وَإِن كَانَ الْبَاقِي مِنْهُم قَلِيلا وَهُوَ دون عدد التَّوَاتُر انْعَقَد الْإِجْمَاع. انْتهى.
وَحَاصِله: أَنه إِذا مَاتَ مِنْهُم جمع وَبَقِي مِنْهُم عدد التَّوَاتُر وَرَجَعُوا أَو بَعضهم لم ينْعَقد الْإِجْمَاع، وَإِن بَقِي مِنْهُم دون عدد التَّوَاتُر وَرَجَعُوا أَو بَعضهم لم يُؤثر فِي الْإِجْمَاع.
وَقيل: يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة دون إِجْمَاع غَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الطَّبَرِيّ.
اسْتدلَّ لِأَحْمَد وَمن تَابعه: بقوله تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} [الْبَقَرَة: 143] ومنعهم من الرُّجُوع بعض كَونهم شُهَدَاء على أنفسهم.
أُجِيب: لَا مُنَافَاة، بل هِيَ أولى؛ لانْتِفَاء التُّهْمَة.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِكَوْن عَليّ خَالف عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - بعد مَوته فِي(4/1622)
بيع أم الْوَلَد، وَأَن حد الْخمر ثَمَانُون، وَعمر خَالف أَبَا بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي قسْمَة الْفَيْء ففضل عمر وَسوى أَبُو بكر.
أُجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ لَا يدل على سبق الْإِجْمَاع، وَقَول عُبَيْدَة: (رَأْيك فِي الْجَمَاعَة - أَي: زمن الِاجْتِمَاع والألفة - أحب إِلَيْنَا من رَأْيك(4/1623)
وَحدك) كَيفَ وَقد قَالَ جَابر: بعناهن على زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأبي بكر، وَشطر من ولَايَة عمر) ؟ ! وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس.
وَعَن الثَّانِي: أَنه خَالف السكوتي، ثمَّ هُوَ فعل.
وَعَن الثَّالِث: بِأَنَّهُ خَالف فِي زَمَنه.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِأَنَّهُ اجْتِهَاد فساغ الرُّجُوع، وَإِلَّا منع الِاجْتِهَاد الِاجْتِهَاد. أُجِيب: لَا يجوز؛ إِذْ صَار الأول قَطْعِيا.
وَاسْتدلَّ: بِأَن الْمَنْع يلْزم مِنْهُ إِلْغَاء الْخَبَر الصَّحِيح بِتَقْدِير الِاطِّلَاع عَلَيْهِ إِذا خَالف إِجْمَاعهم.(4/1624)
أُجِيب: لُزُوم الإلغاء مَمْنُوع لتوقفه على تَقْدِيره، وَهُوَ بعيد، أَو مُمْتَنع؛ لِأَن الْبَارِي تَعَالَى عصمهم عَن الِاتِّفَاق على خلاف الْخَبَر الصَّحِيح، وَلَو سلم فالإجماع قَطْعِيّ يقدم على الْخَبَر الظني.
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد بِأَنَّهُ بعيد.
وَقيل: محَال للعصمة، ثمَّ يلْزم لَو انقرضوا فَلَا أثر لَهُ؛ لِأَن الْإِجْمَاع قَاطع؛ وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن نَص لم يتَغَيَّر، وَإِلَّا لم يجز نقض اجْتِهَاد بِمثلِهِ لَا سِيمَا لقِيَام الْإِجْمَاع هُنَا.
وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِذا عَارضه نَص أول الْقَابِل لَهُ وَإِلَّا تساقطا.
وَاسْتدلَّ أَيْضا: بِأَن مَوته عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام شَرط دوَام الحكم فَكَذَا هُنَا.(4/1625)
أُجِيب: لِإِمْكَان نسخه فيرفع قَطْعِيّ بِمثلِهِ.
وَاسْتدلَّ لقَوْل الْأَكْثَر بأدلة الْإِجْمَاع، وَبِأَنَّهُ لَو اعْتبر امْتنع الْإِجْمَاع للتلاحق، احْتج بِهِ أَبُو الْخطاب وَجَمَاعَة.
ورده القَاضِي وَجَمَاعَة: بِأَنَّهُ لَا يعْتَبر التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابَة فِي رِوَايَة، ثمَّ إِن اعْتبر لم يعْتَبر تَابع تَابِعِيّ أدْركهُ مُجْتَهدا؛ لِأَنَّهُ لم يعاصر الصَّحَابَة. زَاد ابْن عقيل: ولندرة إِدْرَاكه مُجْتَهدا.
وللأكثر أَن يَقُولُوا: التَّابِعِيّ فِي هَذَا الْإِجْمَاع كالصحابي لاعْتِبَار قَوْله فِيهِ فَلَا فرق.
وَاسْتدلَّ للْأَكْثَر أَيْضا: الْحجَّة قَوْلهم فَلم يعْتَبر مَوْتهمْ كالرسول.
رد: مَحل النزاع وَقَول الرَّسُول عَن وَحي فَلم يُقَابله غَيره، وَقَوْلهمْ عَن اجْتِهَاد.
قَوْله: {حَيْثُ اعْتبر الانقراض} ، وَهُوَ موت من اعْتبر فِيهِ {سَاغَ لَهُم(4/1626)
ولبعضهم الرُّجُوع لدَلِيل، وَلَو عقب الْإِجْمَاع} ؛ لِأَن الْإِجْمَاع لم يسْتَقرّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَقرّ بِمَوْت من اعْتبر فِيهِ، وَالْمُعْتَبر فِيهِ هم المجتهدون لَا غير على الصَّحِيح كَمَا تقدم.
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": شرطُوا انْقِرَاض كلهم أَو غالبهم أَو عُلَمَائهمْ، أَقْوَال، اعْتِبَار الْعَاميّ والنادر - يَعْنِي من يَقُول فِي الْإِجْمَاع: نعتبر الْعَامَّة والفرد النَّادِر - يعْتَبر مَوْتهمْ، وَمن يَقُول: لَا يعْتَبر قَول النَّادِر اعْتبر موت الْغَالِب، وَمن يَقُول: لَا يعْتَبر إِلَّا قَول الْعَالم الْمُجْتَهد اعْتبر مَوته فَقَط.
هَكَذَا شرح شراحه، لَكِن قَالَ الكوراني: لَيْسَ بسديد؛ لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن الْمَذْكُورين من أَحْمد، وَابْن فورك، وسليم مُخْتَلفُونَ فِي الْمَسْأَلَة؛ بَعضهم شَرط مُوَافقَة الْعَاميّ، وَبَعْضهمْ لَا يُبَالِي بمخالفة النَّادِر، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك؛ إِذْ لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم مَا لزم من هَذَا الْكَلَام، مَعَ أَن الْكَلَام فِي حجية الْإِجْمَاع قبل الانقراض، وَقد تقدم فِي المُصَنّف - يَعْنِي التَّاج - أَن من شَرط وفَاق الْعَاميّ إِنَّمَا شَرط فِي إِطْلَاق الْأمة لَا فِي الحجية، فَتَأمل. انْتهى.(4/1627)
وَلذَلِك عدلنا عَن مثل هَذِه الْعبارَة وَقُلْنَا: وَهُوَ موت من اعْتبر فِيهِ، وَمن يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر لَا يعْتَبر فِيهِ إِلَّا الْمُجْتَهدين فَيعْتَبر مَوْتهمْ لَا غير، فَسلم مِمَّا يرد عَلَيْهِ.
إِذا علم ذَلِك فالمشترطون للانقراض لَا يمْنَعُونَ كَون الْإِجْمَاع حجَّة قبل الانقراض، بل يَقُولُونَ: نحتج بِهِ، لَكِن لَو رَجَعَ رَاجع قدح، أَو حدث مُخَالف قدح.
وَنَظِيره: أَن مَا يَقُوله الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو يَفْعَله حجَّة فِي حَيَاته، وَإِن احْتمل أَن يتبدل بنسخ عملا بِالْأَصْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِذا رَجَعَ [بَعضهم] تبين أَنهم كَانُوا على خطأ لَا يقرونَ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فَإِن قَوْله وَفعله حق فِي الْحَالين.
قَوْله: {وَحَيْثُ لَا يعْتَبر} - يَعْنِي: انْقِرَاض الْعَصْر - {لَا يعْتَبر تمادي الزَّمن مُطلقًا} ، بل يكون اتِّفَاقهم حجَّة بِمُجَرَّدِهِ، حَتَّى لَو رَجَعَ بَعضهم لَا يعْتد بِهِ، وَيكون خارقاً للْإِجْمَاع، وَلَو نَشأ مخالفه لَا يعْتد بقوله، بل يكون الْإِجْمَاع حجَّة عَلَيْهِ، وَلَو ظهر للْكُلّ مَا يُوجب الرُّجُوع فَرجع كلهم مُجْمِعِينَ لم يجز ذَلِك، بل إِجْمَاعهم الأول حجَّة عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم، حَتَّى لَو جَاءَ غَيرهم مُجْمِعِينَ على خلاف ذَلِك لم يجز أَيْضا، وَإِلَّا لتصادم الإجماعان.(4/1628)
وَاسْتدلَّ لهَذَا أَبُو الْمَعَالِي فِي " النِّهَايَة "، حَيْثُ اسْتدلَّ لمقابل قَول ابْن عَبَّاس: إِن الْأُم لَا تحجب إِلَى السُّدس إِلَّا بِثَلَاثَة إخْوَة.
قَوْله: {وَاشْترط أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ فِي " المنخول " فِي الظني مَعَ تكْرَار الْوَاقِعَة} .
قَالَ الْغَزالِيّ: والمدار فِي طول الزَّمَان على الْعرف.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِن كَانَ الحكم ظنياً، لَا إِن قطعُوا بالحكم.
وَيرد على نقل التَّاج السُّبْكِيّ عَن أبي الْمَعَالِي قَوْله: واشترطه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الظني، إِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ لم يقْتَصر على طول الزَّمَان، بل شَرط مَعَ تكْرَار(4/1629)
الْوَاقِعَة، وَعبارَته فِي " الْبُرْهَان ": وَشرط مَا ذَكرْنَاهُ أَن يغلب عَلَيْهِم فِي الزَّمن الطَّوِيل ذكر تِلْكَ الْوَاقِعَة، وترداد الْخَوْض فِيهَا، فَلَو وَقعت الْوَاقِعَة فسبقوا إِلَى حكم فِيهَا، ثمَّ تناسوها إِلَى سواهَا فَلَا أثر للزمان وَالْحَالة هَذِه.
ثمَّ بنى على ذَلِك أَنهم لَو قَالُوا عَن ظن، ثمَّ مَاتُوا على الْفَوْر لَا يكون إِجْمَاعًا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ضبط الزَّمن فَقَالَ: الْمُعْتَبر زمن لَا يفْرض فِي مثله اسْتِقْرَار الجم الْغَفِير على رَأْي إِلَّا عَن قَاطع أَو نَازل منزلَة الْقَاطِع. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَظهر بذلك أَن نقل ابْن الْحَاجِب عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن كَانَ عَن قِيَاس اشْترط انْقِرَاض الْعَصْر، وَإِلَّا فَلَا - غلط عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَا ينظر إِلَى الانقراض، وَإِنَّمَا يعْتَبر طول الْمدَّة وتكرر الْوَاقِعَة.(4/1630)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} من الْعلمَاء {لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن دَلِيل} ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك؛ لِأَن الْإِجْمَاع لَا يكون إِلَّا من الْمُجْتَهدين، والمجتهد لَا يَقُول فِي الدّين بِغَيْر دَلِيل؛ فَإِن القَوْل بِغَيْر دَلِيل خطأ.
وَأَيْضًا فَكَانَ يَقْتَضِي إِثْبَات شرع مُسْتَأْنف بعد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ بَاطِل؛ وَلِأَنَّهُ محَال عَادَة فكالواحد من الْأمة وَلَا عِبْرَة بمخالفة صَاحب النظام فِيهِ.(4/1631)
وَالدَّلِيل إِمَّا كتاب، كإجماعهم على حد الزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَغَيرهمَا مِمَّا لَا ينْحَصر، أَو سنة، كإجماعهم على تَوْرِيث كل من الْجدَّات السُّدس، وَنَحْوه، وَيَأْتِي الْقيَاس بعد ذَلِك.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك فَقَالَ: يجوز أَن يحصل بالبخت والمصادفة، وَالْمعْنَى: أَن الْإِجْمَاع قد يكون عَن توفيق من الله تَعَالَى من غير مُسْتَند.
وَأَجَابُوا عَمَّا سبق بِأَن الْخَطَأ إِنَّمَا هُوَ من الْوَاحِد من الْأمة، أما فِي كل الْأمة فَلَا.
وأفسد ذَلِك بِأَن الْخَطَأ إِذا اجْتمع لَا يَنْقَلِب صَوَابا؛ لِأَن الصَّوَاب فِي قَول الْكل إِنَّمَا هُوَ مُرَاعَاة عدم الْخَطَأ من كل فَرد.
وَقَالُوا: لَو كَانَ عَن دَلِيل كَانَ الدَّلِيل هُوَ الْحجَّة فَلَا فَائِدَة فِيهِ.(4/1632)
رد ذَلِك: بِأَن قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حجَّة فِي نَفسه وَهُوَ عَن دَلِيل هُوَ الْوَحْي، ثمَّ فَائِدَته سُقُوط الْبَحْث عَنَّا عَن دَلِيله وَحُرْمَة الْخلاف الْجَائِز قبله، وَبِأَنَّهُ يُوجب عدم انْعِقَاده عَن دَلِيل وَظهر للآمدي ضعف الْأَدِلَّة من الْجَانِبَيْنِ فَقَالَ: يجب أَن يُقَال: إِن أَجمعُوا عَن غير دَلِيل لم يكن إِلَّا حَقًا، فَجعل الْخلاف فِي الْجَوَاز لَا فِي الْوُقُوع.
ورد: بِأَن الْخُصُوم استدلوا بصور لَا مُسْتَند فِيهَا على زعمهم، فلولا أَنه مَحل النزاع مَا استدلوا بهَا.
قَوْله: {وَيجوز عَن اجْتِهَاد، وَقِيَاس} ، هَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء {وَوَقع وَتحرم مُخَالفَته عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم} .
وَخَالف ابْن جرير، والظاهرية، والشيعة فِي الْجَوَاز، وَقوم فِي(4/1633)
الْقيَاس الْخَفي، وَقوم فِي الْوُقُوع [وَبَعْضهمْ] فِي تَحْرِيم مُخَالفَته.
أما الْوُقُوع فَقَالُوا: مثل إِرَاقَة نَحْو الشيرج إِذا وَقعت فِيهِ الْفَأْرَة قِيَاسا على السّمن، وَتَحْرِيم شَحم الْخِنْزِير قِيَاسا على لَحْمه الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، وَنَحْوه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لنا، وُقُوعه لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وأجمعت الصَّحَابَة على خلَافَة أبي بكر، وقتال مانعي الزَّكَاة، وَتَحْرِيم شَحم الْخِنْزِير،(4/1634)
وَالْأَصْل عدم النَّص، ثمَّ لَو كَانَ نَص لظهر وَاحْتج بِهِ.
وَخَالف ابْن جرير، والظاهرية والشيعة فِي الْجَوَاز، وَنقل عَن مُحَمَّد بن جرير أَنه مَنعه عقلا لاخْتِلَاف الدَّوَاعِي والأغراض، وتفاوتهم فِي الذكاء والفطنة.
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": وَقَالَ قوم: لَا يتَصَوَّر ذَلِك؛ إِذْ كَيفَ يتَصَوَّر اتِّفَاق أمة مَعَ اخْتِلَاف طبائعها، وتفاوت أفهامها على مظنون؟ أم كَيفَ تَجْتَمِع على قِيَاس مَعَ اخْتلَافهمْ فِي الْقيَاس؟ انْتهى.
وَخَالف بَعضهم فِي الْقيَاس الْخَفي فَمَنعه فِيهِ، وَأَجَازَهُ فِي الْقيَاس الْجَلِيّ.(4/1635)
وَبَعْضهمْ خَالف فِي قِيَاس الشّبَه دون قِيَاس الْمَعْنى.
وَبَعْضهمْ خَالف فِي الْوُقُوع فَقَالَ: يجوز أَن يَقع عَن قِيَاس، وَلَكِن لم يَقع.
ورد ذَلِك بِإِقَامَة الصّديق وَغَيره.
وَبَعْضهمْ خَالف فِي تَحْرِيم مُخَالفَته، وَحكي عَن أبي حنيفَة.
قَالَ بَعضهم: وَقع وَلَكِن لَا تحرم مُخَالفَته.
قَالَ المخالفون فِي الْجَوَاز: الْخلاف فِي الْقيَاس فِي كل عصر.(4/1636)
رد ذَلِك بِمَنْعه فِي الصَّحَابَة، بل حَادث، فَهُوَ كَخَبَر الْوَاحِد، والعموم فيهمَا خلاف، وانعقد عَنْهُمَا بِلَا خلاف.
قَالَ: الْقيَاس فرع معرض للخطأ، وَلَا يَصح دَلِيلا لأصل مَعْصُوم عَنهُ.
رد: الْقيَاس فرع الْكتاب وَالسّنة لَا للْإِجْمَاع، فَلم يبن الْإِجْمَاع على فَرعه، وَحكم هَذَا الْقيَاس قَطْعِيّ لعصمتهم عَن الْخَطَأ.
ورده الْآمِدِيّ بِأَن إِجْمَاعهم عَلَيْهِ يسْبقهُ إِجْمَاعهم على صِحَّته فاستندوا إِلَى قَطْعِيّ، ثمَّ ألزم بِخَبَر الْوَاحِد فَإِنَّهُ ظَنِّي وَالْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَيْهِ قَطْعِيّ.
وَلابْن عقيل: مَعْنَاهُ، قَالُوا: يلْزم تَحْرِيم مُخَالفَة الْمُجْتَهد، وَهِي جَائِزَة إِجْمَاعًا.
[رد] الْمجمع عَلَيْهِ مُخَالفَة مُجْتَهد مُنْفَرد لَا الْأمة.(4/1637)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر، إِذا اخْتلفُوا على قَوْلَيْنِ حرم إِحْدَاث ثَالِث} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَعَامة الْعلمَاء. انْتهى.
كَمَا لوأجمعوا على قَول وَاحِد فَإِنَّهُ محرم إِحْدَاث قَول ثَان، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ". قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: هَذَا قَول الْجُمْهُور.(4/1638)
{وَقَالَ الْآمِدِيّ، والرازي، والطوفي، وَجمع: إِن رفع} القَوْل الثَّالِث {الْمجمع عَلَيْهِ} حرم إحداثه، وَإِن لم يرفع الْمجمع عَلَيْهِ جَازَ، فَالَّذِي يرفع الْمجمع عَلَيْهِ.
إِذا رد بكرا بِعَيْب بعد وَطئهَا مجَّانا، أَو أسقط الْجد بالإخوة، فَهَذَا القَوْل يحرم إحداثه.
فَإِنَّهُم اخْتلفُوا فِي الْبكر إِذا وَطئهَا المُشْتَرِي، ثمَّ وجد بهَا عَيْبا. قيل: ترد مَعَ الْأَرْش.(4/1639)
وَقيل: لَا ترد بِوَجْه.
فَالْقَوْل إِنَّهَا ترد مجَّانا رَافع لإِجْمَاع الْقَوْلَيْنِ على منع الرَّد قهرا مجَّانا، وَإِنَّمَا قلت: قهرا؛ لِأَنَّهُمَا إِذا تَرَاضيا على الرَّد مَعَ الْأَرْش، أَو على الْإِمْسَاك، وَأخذ أرش الْعَيْب الْقَدِيم، جَازَ.
فَإِن تشاحا فَالصَّحِيح إِجَابَة من يَدْعُو إِلَى الْإِمْسَاك، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَلَكِن الصَّحِيح من مَذْهَبنَا أَن المُشْتَرِي مُخَيّر بَين الْإِمْسَاك، وَأخذ الْأَرْش، وَبَين الرَّد وَإِعْطَاء الْأَرْش إِن لم يكن دلّس البَائِع، فَإِن دلّس لم يلْزم المُشْتَرِي أرش.
وَكَذَا الْأُخوة مَعَ الْجد، قيل: بالمقاسمة، وَقيل: يسقطهم.
فَالْقَوْل بِأَنَّهُم يسقطونه رَافع الْمجمع عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: فِي " الْمحلى " لِابْنِ حزم قَول بحجب الْجد بهم.(4/1640)
قلت: يحْتَمل أَن هَذَا إِن ثَبت سَابق، أَجمعُوا بعده على خِلَافه، أَو مُتَأَخّر عَن الْإِجْمَاع فَهُوَ حِينَئِذٍ فَاسد غير مُعْتَد بِهِ.
وَمِثَال مَا لَا يرفع مجمعا عَلَيْهِ: الْفَسْخ فِي النِّكَاح بالعيوب الْخَمْسَة: الْجُنُون، والجذام، والبرص، والجب، والعنة، وَنَحْوهَا، إِن كَانَ فِي الزَّوْج والرتق، والقرن، وَنَحْوهمَا إِن كَانَ فِي الزَّوْجَة.
فَقيل: لكل مِنْهُمَا أَن يفْسخ بهَا. وَقيل: لَا، كَمَا نقل عَن أبي حنيفَة: أَنه يفْسخ بِبَعْض دون بعض.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الْمَرْأَة تفسخ دون الرجل لتمكنه من الْخَلَاص بِالطَّلَاق، قَول ثَالِث لكنه لم يرفع مجمعا عَلَيْهِ، بل وَافق فِي كل مَسْأَلَة قولا، وَإِن خَالفه فِي أُخْرَى.
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل كثير من الْعلمَاء؛ وصححوه. نعم، اعْتَرَضَهُ بعض الْحَنَفِيَّة بِأَن هَذَا التَّفْصِيل لَا معنى لَهُ؛ إِذْ لَا نزاع فِي أَن القَوْل الثَّالِث إِن استلزم إبِْطَال مجمع عَلَيْهِ يكون مردوداً، لَكِن الْخصم يَقُول: إِنَّه يسْتَلْزم ذَلِك فِي جَمِيع الصُّور، وَإِن كَانَ فِي بعض لَا يسْتَلْزم فَالْكَلَام فِي الْكل.(4/1641)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَا يخفى ضعف ذَلِك؛ فَإِن الْمحَال المتعددة كل حكم النّظر فِيهِ لمحله لَا لمشاركة غَيره لَهُ فِيهِ، أَو عدم الْمُشَاركَة. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد: لَا يحرم مُطلقًا} ذكره فِي " التَّمْهِيد " ظَاهر كَلَام أَحْمد؛ لِأَن بعض الصَّحَابَة قَالَ: لَا يقْرَأ الْجنب حرفا.
وَقَالَ بَعضهم: يقْرَأ مَا شَاءَ.
فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: يقْرَأ بعض آيَة.
وَفِي تَعْلِيق القَاضِي فِي قِرَاءَة الْجنب: قُلْنَا بِهَذَا مُوَافقَة لكل قَول وَلم يخرج عَنْهُم. انْتهى.(4/1642)
وَلِأَنَّهُ لم يخرق إِجْمَاعًا سَابِقًا فَإِنَّهُ قد لَا يرفع شَيْئا مِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ، قَالَه الْبرمَاوِيّ، وَحَكَاهُ ابْن الْقطَّان عَن دَاوُد، وَحَكَاهُ الصَّيْرَفِي وَغَيره عَن بعض الْمُتَكَلِّمين.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: رَأَيْت بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة يختاره وينصره.
وَنَقله ابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ عَن بعض الْحَنَفِيَّة، والظاهرية.
نعم، أنكر ابْن حزم على من نسبه إِلَى دَاوُد.
قَوْله: {وَإِن اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ على قَوْلَيْنِ إِثْبَاتًا ونفياً فَلِمَنْ بعدهمْ التَّفْصِيل عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَحكي عَن الْأَكْثَر} .(4/1643)
حَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن أَكثر الْعلمَاء، نَقله ابْن مُفْلِح.
وَمنع ذَلِك قوم مُطلقًا، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن أَكثر الْعلمَاء.
وَقَالَ القَاضِي أَيْضا فِي " الْكِفَايَة ": إِن صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ: كإيجاب بعض الْأمة النِّيَّة للْوُضُوء، وَلَا يعْتَبر الصَّوْم للاعتكاف، ويعكس آخر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَبعد بعض أَصْحَابنَا هَذَا التَّمْثِيل.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره: إِن صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُقْتَضى للْحكم ظَاهرا، وَإِن لم يصرحوا فَإِن اخْتلف طَرِيق الحكم فِيهَا كالنية فِي الْوضُوء وَالصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف جَازَ، وَإِلَّا يلْزم من وَافق إِمَامًا فِي مَسْأَلَة مُوَافَقَته فِي جَمِيع مذْهبه، وَإِجْمَاع الْأمة خِلَافه.
وَإِن اتّفق الطَّرِيق كَزَوج، وأبوين، وَامْرَأَة وأبوين، وكإيجاب نِيَّة فِي وضوء وَتيَمّم، وَعَكسه لم يجز، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد.(4/1644)
وَهَذَا التَّفْصِيل قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَذكر ابْن برهَان لأَصْحَابه فِي الْجَوَاز وَعَدَمه وَجْهَيْن.
وَقَالَ الْحلْوانِي، وَالشَّيْخ موفق الدّين: إِن صَرَّحُوا بالتسوية لم يجز، وَإِلَّا جَازَ لموافقته كل طَائِفَة.
قَالَ أَبُو الطّيب الشَّافِعِي: هُوَ قَول أَكْثَرهم.
وَقَالَ الْهِنْدِيّ: إِذا تعدد مَحل الحكم - لَكِن أَجمعُوا على أَن لَا فصل بَينهمَا، بل مَتى حكم بِحكم على أحد المحلين كَانَ الآخر مثله، امْتنع إِحْدَاث قَول بالتفصيل بِلَا خلاف.
لَكِن رد عَلَيْهِ: بِأَن الْخلاف مَشْهُور، حَكَاهُ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ". [و] حَكَاهُ فِي " اللمع " احْتِمَالا لأبي الطّيب.(4/1645)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَإِن لم ينصوا على ذَلِك، وَلَكِن علم اتِّحَاد الْجَامِع بَينهمَا فَهُوَ جَار مجْرى النَّص على عدم الْفرق، كالعمة وَالْخَالَة من ورث إِحْدَاهمَا ورث الْأُخْرَى، وَمن منع منع؛ لِأَن المأخذ وَاحِد وَهُوَ الْقَرَابَة الرحمية. انْتهى.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ الشَّافِعِي: إِذا لم يفصل أهل الْعَصْر بَين مَسْأَلَتَيْنِ، بل أجابوا فيهمَا بِجَوَاب وَاحِد، فَلَيْسَ لمن بعدهمْ التَّفْصِيل بَينهمَا، وَجعل حكمهمَا مُخْتَلفا إِن لزم مِنْهُ خرق الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ:
الأولى: أَن يصرحوا بِعَدَمِ الْفرق بَينهمَا.
الثَّانِيَة: أَن يتحد الْجَامِع بَينهمَا، كتوريث الْعمة وَالْخَالَة، فَإِن الْعلمَاء بَين مورث لَهما ومانع، وَالْجَامِع بَينهمَا عِنْد الطَّائِفَتَيْنِ كَونهمَا من ذَوي الْأَرْحَام فَلَا يجوز منع وَاحِدَة وتوريث أُخْرَى، فَإِن التَّفْصِيل بَينهمَا خارق لإجماعهم فِي الأولى نصا، وَفِي الثَّانِيَة تضمناً، وَيجوز التَّفْصِيل فِيمَا عدا هَاتين الصُّورَتَيْنِ.
وَقيل: بِمَنْع التَّفْصِيل بَينهمَا مُطلقًا، وَإِن ذَلِك خارق للْإِجْمَاع، وَكَلَام الباقلاني، والرازي يدل عَلَيْهِ.(4/1646)
وَقَول الْآمِدِيّ: لَا خلاف هُنَا فِي الْجَوَاز - مَرْدُود.
ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: توهم بَعضهم أَنه لَا فرق بَين هَذِه الْمَسْأَلَة، وَالَّتِي قبلهَا؛ لِأَن الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب جمعا بَينهمَا، وَحكما عَلَيْهِمَا بِحكم وَاحِد؛ لِأَن فِي كل مِنْهُمَا إِحْدَاث قَول ثَالِث، لَكِن الْفرق بَينهمَا أَن هَذِه فِيمَا إِذا كَانَ مَحل الحكم مُتَعَددًا، وَتلك فِيمَا إِذا كَانَ متحداً؛ لذا فرق الْقَرَافِيّ وَغَيره.
قَالَ: وَيُمكن أَن يُقَال: تِلْكَ مَفْرُوضَة فِي الْأَعَمّ من كَون الْمحل مُتَعَددًا، أَو كَونه متحداً، وَهَذِه فِي كَونه مُتَعَددًا، فَالْأولى أَعم. انْتهى.(4/1647)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر يجوز إِحْدَاث دَلِيل آخر، زَاد القَاضِي: من غير أَن يقْصد بَيَان الحكم بِهِ بعد ثُبُوته} ؛ لِأَنَّهُ قَول عَن اجْتِهَاد غير مُخَالف إِجْمَاعًا؛ لأَنهم لم ينصوا على فَسَاد غير مَا ذَكرُوهُ، أَيْضا وَقع كثيرا وَلم يُنكر؛ وَلِأَن الشَّيْء قد يكون عَلَيْهِ أَدِلَّة كَثِيرَة.
وَقيل: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
رد: لَا يخفى فَسَاد ذَلِك؛ لِأَن الْمَطْلُوب من الْأَدِلَّة أَحْكَامهَا، لَا أعيانها فعين الحكم بَاقٍ، وَأَيْضًا المُرَاد مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَإِلَّا لزم الْمَنْع فِيمَا حدث بعدهمْ.(4/1648)
قَالُوا: لَو كَانَ مَعْرُوفا لأمروا بِهِ، لقَوْله تَعَالَى: {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمرَان: 110] .
رد: لَو كَانَ مُنْكرا لنهوا، لقَوْله: {وتنهون عَن الْمُنكر} [آل عمرَان: 110] .
قَالُوا: لَو كَانَ حَقًا كَانَ الْعُدُول عَنهُ خطأ.
رد: للاستغناء عَنهُ.
وَفصل ابْن حزم وَغَيره بَين أَن يكون الْمُحدث نصا آخر لم يطلع عَلَيْهِ الْأَولونَ فَيمْتَنع، أَو لَا، فَلَا يمْتَنع.
وَحكى صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر " قولا رَابِعا الْوَقْف.
وَذهب ابْن برهَان إِلَى قَول خَامِس بالتفصيل بَين الدَّلِيل الظَّاهِر فَلَا يجوز إِحْدَاث غَيره، وَبَين الْخَفي فَيجوز لجَوَاز اشتباهه على الْأَوَّلين.
قَوْله: {وَكَذَا إِحْدَاث عِلّة، ذكره أَبُو الْخطاب، والموفق، والطوفي، وَغَيرهم} ، بل عَلَيْهِ الْأَكْثَر، بِنَاء على جَوَاز تَعْلِيل(4/1649)
الحكم الْوَاحِد بعلتين على مَا يَأْتِي - وَهُوَ الصَّحِيح - فِي بَاب الْقيَاس.
وَقيل: لَا يجوز أَيْضا بِنَاء - أَيْضا - على منع الحكم بعلتين؛ لِأَن علتهم مَقْطُوع بِصِحَّتِهَا، فَفِيهِ دَلِيل على فَسَاد غَيرهَا.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: إِن ثَبت الحكم بعلة، فَهَل يجوز للصحابة تَعْلِيله بِأُخْرَى؟
قيل: يجوز، كالدليل مَعَ عدم تنافيهما.
وَمن النَّاس: من منع لإبطال الْفَائِدَة، كالعقلية.
قَالَ عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي: الْعلَّة إِن كَانَت بِحكم عَقْلِي لم يجز إِحْدَاث عِلّة أُخْرَى؛ لِأَن الحكم الْعقلِيّ لَا يُعلل بعلتين.
قَوْله: {وَكَذَا إِحْدَاث تَأْوِيل} ، يَعْنِي: يجوز إِحْدَاث تَأْوِيل آخر {مَا لم يكن فِيهِ إبِْطَال الأول} ، وَذكر الْآمِدِيّ الْجَوَاز عَن الْجُمْهُور، وَتَبعهُ بعض أَصْحَابنَا.(4/1650)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
وَقيل: لَا يجوز إحداثه وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، قَالَ: لِأَن الْآيَة - مثلا - إِذا احتملت مَعَاني، وَأَجْمعُوا على تَأْوِيلهَا بأحدها صَار كالإفتاء فِي حَادِثَة تحْتَمل أحكاماً بِحكم فَلَا يجوز أَن يؤول بِغَيْرِهِ، كَمَا لَا يُفْتى بِغَيْر مَا أفتوا بِهِ.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَمنعه بَعضهم.
{قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَا يحْتَمل مَذْهَبنَا غير هَذَا، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَمرَاده دفع تَأْوِيل أهل الْبدع الْمُنكر عِنْد السّلف} . انْتهى.
وَذَلِكَ كَمَا أَنه لَا يجوز إِحْدَاث مَذْهَب ثَالِث كَذَلِك لَا يجوز إِحْدَاث تَأْوِيل؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فِيهَا تأوي لآخر لكلفوا طلبه كَالْأولِ.
قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَاقْتصر على ذكر الْقَوْلَيْنِ وتعليلهما من غير نصر أَحدهمَا.(4/1651)
قَوْله: {أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، والأشعري، وَغَيرهم اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الْعلمَاء، وَقد اسْتَقر خلافهم} .
لَا يرفع الْخلاف، وَلَا يكون إِجْمَاعًا؛ لِأَن مَوته لَا يكون مسْقطًا لقَوْله فَيبقى.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق: هُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا.
قَالَ سليم الرَّازِيّ: هُوَ قَول أَكْثَرهم، وَأكْثر الأشعرية.
وَكَذَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ، وَنَقله ابْن الْحَاجِب عَن الْأَشْعَرِيّ.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَإِلَيْهِ ميل الشَّافِعِي وَمن عباراته الرشيقة: الْمذَاهب(4/1652)
لَا تَمُوت بِمَوْت أَرْبَابهَا. وَنَقله ابْن الباقلاني عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، وَاخْتَارَهُ.
وَقَالَ: {أَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَأَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ، والرازي، وَأَتْبَاعه} ، وَغَيرهم، مِنْهُم: الْحَارِث المحاسبي، والإصطخري، وَابْن خيران، والقفال الْكَبِير، وَابْن الصّباغ.
وَنَقله فِي " الْمقنع " عَن أبي حنيفَة، وَنَقله الكيا عَن الجبائي وَابْنه، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ.
وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن الْمُعْتَزلَة.(4/1653)
وَحَكَاهُ الباقلاني عَن الْأَشْعَرِيّ: يجوز أَن يكون حجَّة وإجماعاً ويرتفع الْخلاف، وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ.
وَقيل: إِجْمَاع ظَنِّي.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قيل: وَالْحق فِي الْمَسْأَلَة أَنه إِجْمَاع ظَنِّي، لَا قَطْعِيّ، وَإِلَيْهِ يُشِير كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَفِي كتاب " تَقْوِيم الْأَدِلَّة " لأبي زيد الدبوسي عَن الْحَنَفِيَّة: أَنه من أدنى مَرَاتِب الْإِجْمَاع.
وَقيل: يكون حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع، نَقله ابْن الْقطَّان عَن قوم، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَجه الحجية أَن لهَؤُلَاء مزية على أُولَئِكَ لانفرادهم فِي عصر، فَهُوَ الْمُعْتَبر، قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْء.(4/1654)
وَقيل: لَيْسَ بِإِجْمَاع، وَلَا حجَّة، أَعنِي على القَوْل بِالْجَوَازِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ حجَّة لتعارض الإجماعان، وَأَيْضًا لم يحصل اتِّفَاق الْأمة؛ لِأَن فِيهِ قولا مُخَالفا؛ لِأَن القَوْل لَا يَمُوت [بِمَوْت] صَاحبه، وَأَيْضًا لَو كَانَ حجَّة فَإِن موت بعض الصَّحَابَة الْمُخَالفين للباقين الْقَائِلين بقول وَاحِد يُوجب ذَلِك، أَي: إِجْمَاعًا هُوَ حجَّة؛ وَذَلِكَ لِأَن البَاقِينَ كل الْأمة الْأَحْيَاء فِي ذَلِك الْعَصْر، وَهُوَ الْمُعْتَبر؛ إِذْ لَا عِبْرَة بِالْمَيتِ، وَاللَّازِم بَاطِل اتِّفَاقًا.
وَأجَاب عَنْهَا كلهَا القَاضِي عضد الدّين فِي " الشَّرْح "، وَغَيره فليعاود.
وَعند جمَاعَة من الْعلمَاء: أَن ذَلِك مُمْتَنع، وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الإِمَام أَحْمد، والأشعري، واختياره يمْتَنع، نَقله ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بَعْدَمَا ذكر الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين فَدلَّ أَن هَذَا غير القَوْل الأول.
وَابْن الْحَاجِب لم يذكر عَن الإِمَام أَحْمد والأشعري وَجَمَاعَة غير الِامْتِنَاع وَعَدَمه تبعا للآمدي، وَالظَّاهِر أَن ابْن مُفْلِح ذكر النَّقْل الثَّانِي طَريقَة أُخْرَى فِي صفة حِكَايَة الْخلاف، وَهُوَ أولى وأوضح.(4/1655)
وَوجه ذَلِك: أَن الْقَائِل بالْقَوْل الأول أَجمعُوا على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل مِنْهُمَا، وَالْقَائِل بالْقَوْل الثَّانِي يمنعهُ فَامْتنعَ لِئَلَّا يلْزم تخطئة الْأَوَّلين؛ لِأَن كَون الْحق فِي أَخذه، وَتَركه مَعًا محَال.
رد بِأَن الْإِجْمَاع الأول مَمْنُوع؛ لِأَن أحد الْقَوْلَيْنِ خطأ، وَلَا إِجْمَاع على خطأ، ثمَّ هُوَ إِجْمَاع بِشَرْط عدم إِجْمَاع ثَان، ثمَّ الأول إِجْمَاع على أَحدهمَا، وَالثَّانِي يُوَافق مُقْتَضَاهُ.
رد الأول بِإِصَابَة كل مُجْتَهد، وَالثَّانِي بِإِطْلَاق الْأمة، وَلم يشْتَرط، ثمَّ يلْزم الشَّرْط مَعَ إِجْمَاعهم على قَول وَاحِد، كَمَا يَقُوله أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ المعتزلي، وَالثَّالِث باستلزامه وَامْتِنَاع الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر.
قَالُوا: يمْتَنع ذَلِك عَادَة.
رد بِمَنْعه وَقد عرف وَجه الأول.
وَقَالُوا: لَو كَانَ حجَّة لَكَانَ موت فريق وَبَقَاء الآخر أَو بعضه إِجْمَاعًا؛ لأَنهم كل الْأمة.(4/1656)
أجَاب أَبُو الْخطاب وَغَيره: بالتزامه ثمَّ الْفرق، وَقَالَهُ الْأَكْثَر بمخالفة أهل الْعَصْر بِخِلَاف مَسْأَلَتنَا.
وَاحْتج الثَّانِي بأدلة الْإِجْمَاع.
رد بِالْمَنْعِ لتحَقّق الْمَاضِي لَا من سيوجد.
تَنْبِيه: هَل وَقع مثل ذَلِك أم لَا؟
الظَّاهِر فِي حد الْخمر وُقُوعه.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الْحق أَنه بعيد إِلَّا فِي الْقَلِيل، أَي: إِذا كَانَ الْمُخَالف فِي الأَصْل قَلِيلا كاختلافهم فِي بيع أم الْوَلَد، ثمَّ زَالَ باتفاقهم على الْمَنْع، وكاختلافهم فِي نِكَاح الْمُتْعَة، ثمَّ أَجمعُوا على الْمَنْع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا إِنَّمَا يَصح التَّمْثِيل بِهِ لما سَيَأْتِي فِي الصُّورَة الثَّانِيَة: إِن يَخْتَلِفُوا على قَوْلَيْنِ، ثمَّ يرجع أحد الْفَرِيقَيْنِ إِلَى قَول الآخر.(4/1657)
قَوْله: وَقبل: استقراره إِجْمَاع قطعا، أَي: إِذا وَقع الِاتِّفَاق بعد الِاخْتِلَاف وَكَانَ اتِّفَاق أهل عصر بعده على أحد الْقَوْلَيْنِ، وَكَانَ قبل اسْتِقْرَار خلاف الْأَوَّلين، أَي: قبل مُضِيّ مُدَّة على ذَلِك الْخلاف يعلم بهَا إِن كَانَ قَائِل يصمم على قَوْله: لَا ينثني عَنهُ، فَهَذَا اتَّفقُوا على جَوَازه، وَذَلِكَ كخلاف الصَّحَابَة لأبي بكر فِي قتال مانعي الزَّكَاة، وإجماعهم بعد ذَلِك على قِتَالهمْ، وَإِجْمَاع الْعَصْر الثَّانِي عَلَيْهِ أَيْضا، وكخلافهم فِي دَفنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَي: مَكَان: ثمَّ أَجمعُوا على دَفنه فِي بَيت عَائِشَة؛ إِذْ الْخلاف لم يكن اسْتَقر.
وَنقل الْهِنْدِيّ عَن الصَّيْرَفِي أَنه لَا يجوز.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن الَّذِي فِي كتاب الصَّيْرَفِي ظَاهره يشْعر بموافقة الْجَمَاعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": إِن الْمَسْأَلَة تصير(4/1658)
حِينَئِذٍ إجماعية بِلَا خلاف، وَوَقع للقرافي عكس هَذَا فَزعم أَن مَحل الْخلاف الْآتِي فِي الْمَسْأَلَة الْآتِيَة بعد هَذَا: إِذا لم يسْتَقرّ خِلَافه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ عَجِيب! فَإِن مَحَله إِذا اسْتَقر.
تَنْبِيه: قَوْله: {لَو مَاتَ أَرْبَاب أحد الْقَوْلَيْنِ، أَو ارْتَدَّ لم يصر قَول الْبَاقِي إِجْمَاعًا، ذكره القَاضِي أَبُو يعلى مَحل وفَاق وَصَححهُ الباقلاني فِي التَّقْرِيب، لِأَن حكم الْمَيِّت فِي حكم الْبَاقِي الْمَوْجُود.
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ": إِنَّه الرَّاجِح، وَجزم بِهِ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا فِي بحث الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا.(4/1659)
وَقيل: يصير إِجْمَاعًا وَحجَّة؛ لأَنهم صَارُوا كل الْأمة، اخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والهندي، وَغَيرهمَا، وَقدمه الْبرمَاوِيّ، وَغَيره.
وَبنى السُّهيْلي الْخلاف على الْخلاف فِي إِجْمَاع التَّابِعين بعد اخْتِلَاف الصَّحَابَة هُوَ بِنَاء ظَاهر.
فَائِدَة: لَو مَاتَ بعض أَرْبَاب أحد الْقَوْلَيْنِ، وَرجع من بَقِي مِنْهُم إِلَى قَول الآخرين، قَالَ ابْن كج: فِيهَا وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَنه إِجْمَاع؛ لأَنهم أهل الْعَصْر.
وَالثَّانِي: الْمَنْع؛ لِأَن الصّديق جلد فِي حلد الْخمر أَرْبَعِينَ، وَقد أجمع الصَّحَابَة على ثَمَانِينَ فِي زمن عمر، فَلم يجْعَلُوا الْمَسْأَلَة إِجْمَاعًا؛ لِأَن الْخلاف كَانَ قد تقدم، وَقد مَاتَ مِمَّن قَالَ بذلك بعض، وَرجع بعض إِلَى قَول عمر.
قَوْله: {اتِّفَاق مجتهدي عصر بعد اخْتلَافهمْ إِجْمَاع وَحجَّة} ، يَعْنِي:(4/1660)
أَن اتِّفَاقهم بعد اخْتلَافهمْ، وَقبل استقراره إِجْمَاع، وَكَذَا هُوَ حجَّة فِي الْأَصَح.
ويمثل لَهُ بِمَا وَقع لأبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فِي قتال أهل الرِّدَّة، وَفِي اخْتلَافهمْ فِي أَي مَوضِع يدْفن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ اتِّفَاقهم سَرِيعا فيهمَا؛ لِأَن التَّمْثِيل بهما فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِد.
وَقَالَ قوم: هُوَ إِجْمَاع لَا حجَّة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فَإِن كَانَ ذَلِك قبل اسْتِقْرَار الْخلاف فإجماع، وَكَذَا حجَّة خلافًا لقوم يَقُولُونَ: إِنَّه إِجْمَاع لَا حجَّة؛ وَلِهَذَا جمع ابْن الْحَاجِب بَينهمَا، وَهل ذَلِك وفَاق أَو على خلاف فِيهِ - كَمَا سبق عَن الصَّيْرَفِي وَغَيره -؟ انْتهى.
قَوْله: {وَكَذَا بعد اسْتِقْرَار عندنَا وَعند الْأَكْثَر} .(4/1661)
وَذكر القَاضِي من أَصْحَابنَا أَنه مَحل وفَاق، يَعْنِي: أَنه يكون إِجْمَاعًا وَحجَّة - كَمَا سبق - بل هُنَا أولى بِأَن يكون إِجْمَاعًا وَحجَّة من مَسْأَلَة اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الأول؛ إِذْ لم يبْق قَائِل بِخِلَافِهِ لَا حَيّ وَلَا ميت.
وَقيل: إِن كَانَ الْمُسْتَند قَطْعِيا كَانَ إِجْمَاعًا وَحجَّة، وَإِن الْمُسْتَند ظنياً فَلَا، وَخَالف الباقلاني، والآمدي، وَجمع، وَقَالُوا: لَيْسَ إِجْمَاعًا، بل هُوَ مُمْتَنع؛ لتناقض الإجماعين للِاخْتِلَاف أَولا ثمَّ الِاتِّفَاق ثَانِيًا، كَمَا إِذا كَانُوا على قَول فَرَجَعُوا عَنهُ إِلَى آخر.
وَإِلَيْهِ ميل الْغَزالِيّ وَغَيره، وَنَقله ابْن برهَان فِي " الْوَجِيز " عَن الشَّافِعِي، وَجزم بِهِ أَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع "، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي إِن طَال زمن الْخلاف، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح، وَتَابعه التَّاج السُّبْكِيّ: فَمَعَ طول الزَّمَان يمْتَنع، وَمَعَ الْقرب يجوز.(4/1662)
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَحكي عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْفرق أَن اسْتِمْرَار الْخلاف مَعَ طول الزَّمَان يَقْتَضِي الْعرف فِيهِ بِأَنَّهُ لَو كَانَ ثمَّ وَجه لسُقُوط أحد الْوَجْهَيْنِ لظهر، لَكِن لم يذكرهُ فِي اتِّفَاق الْعَصْر الثَّانِي على أحد قولي الْعَصْر الأول.
وَحَكَاهُ الْإِسْنَوِيّ كَمَا هُنَا، لَكِن لم يغاير بَينه وَبَين قَول ابْن الباقلاني، والآمدي، وَهُوَ الَّذِي يظْهر.
وَقيل يكون حجَّة لَا إِجْمَاعًا - كَمَا سبق -.
وَقيل: إِن كَانَ فِي الْفُرُوع لَا يجْزم مَعَه بِتَحْرِيم الذّهاب لِلْقَوْلِ الآخر، بِخِلَاف مَا فِيهِ تأثيم وتضليل.
{وَمنع الصَّيْرَفِي الِاتِّفَاق بعد الْخلاف} ، وَهُوَ محجوج بالوقوع كَمَسْأَلَة الْخلَافَة لأبي بكر، وَغَيرهَا.(4/1663)
قَوْله: {وَمن شَرط انْقِرَاض الْعَصْر جوزه قطعا} .
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لما ذكر الْمَسْأَلَة، وَالْخلاف فِيهَا، وَلَا يخفى أَن مَحل الْخلاف إِذا لم يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر، فَأَما إِن شرطناه فَإِنَّهُ يجوز قطعا، وَقَالَهُ غَيره، وَهُوَ وَاضح.
وَقيل لأبي الْخطاب: من لم يعْتَبر انْقِرَاض الْعَصْر يَقُول: لَيْسَ بِإِجْمَاع، فَقَالَ: لَا يَصح الْمَنْع لِاتِّفَاق الصَّحَابَة على قتال مانعي الزَّكَاة، والخلافة، وَقسم أَرض السوَاد بعد اخْتلَافهمْ.
قَالَ ابْن الْحَاجِب، وكل من اشْترط انْقِرَاض الْعَصْر قَالَ: إِجْمَاع.(4/1664)
قَوْله: {فصل}
إِذا اقْتضى دَلِيل حكما لَا دَلِيل لَهُ غَيره امْتنع عدم علم الْأمة بِهِ} . إِذا كَانَ فِي الْوَاقِعَة دَلِيل أَو خبر يَقْتَضِي حكما على الْمُكَلّفين، وَلَيْسَ لذَلِك الحكم دَلِيل آخر لم يجز عدم علم الْأمة بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِن عمل بذلك الحكم كَانَ عملا بِهِ عَن غير دَلِيل، بل عَن تشه، وَالْعَمَل بالحكم عَن التشهي لَا يجوز، وَإِن لم يعْمل بِهِ كَانَ تركا للْحكم المتوجه على الْمُكَلف. قَالَه الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ".
قَوْله: {وَإِن كَانَ لَهُ دَلِيل رَاجِح عمل على وَفقه جَازَ عدم الْعلم،(4/1665)
وَهَذَا ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} . قَالَه ابْن مُفْلِح؛ لِأَن عدم الْعلم لَيْسَ من فعلهم، وخطأهم من أَوْصَافه، فَلَا يكون خطأ فَلَا إِجْمَاع مِنْهُم، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَغَيره.
وَقيل: لَا يجوز.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": أما إِذا كَانَ فِي الْوَاقِع دَلِيل أَو خبر رَاجِح - أَي بِلَا معَارض - وَقد عمل وفْق ذَلِك الدَّلِيل أَو الْخَبَر بِدَلِيل آخر فَهَل يجوز عدم علم الْأمة بِهِ، أَو لَا؟ فَمنهمْ من جوزه، وَمِنْهُم من نَفَاهُ.
وَاحْتج المجوز بِأَن اشْتِرَاك جَمِيعهم فِي عدم الْعلم بذلك الْخَبَر، أَو الدَّلِيل الرَّاجِح لم يُوجب محذوراً؛ إِذْ لَيْسَ اشْتِرَاك جَمِيعهم فِي عدم الْعلم إِجْمَاعًا حَتَّى يجب متابعتهم فِيهِ، بل عدم علمهمْ بذلك الدَّلِيل أَو الْخَبَر كَعَدم حكمهم فِي وَاقعَة لم يحكموا فِيهَا بِشَيْء فَجَاز لغَيرهم أَن يسْعَى فِي طلب ذَلِك الدَّلِيل أَو الْخَبَر ليعلم.(4/1666)
وَاحْتج النَّافِي بِأَنَّهُ لَو جَازَ عدم علمهمْ جَمِيعهم بذلك الدَّلِيل، أَو الْخَبَر لحرم تَحْصِيل الْعلم بِهِ، وَالثَّانِي ظَاهر الْفساد، بَيَان الْمُلَازمَة أَنه حِينَئِذٍ يكون عدم علمهمْ سَبِيل الْمُؤمنِينَ، فَلَو طلبُوا الْعلم لاتبعوا غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن عدم علمهمْ لَا يكون سَبِيلا لَهُم؛ لِأَن السَّبِيل مَا اخْتَارَهُ الْإِنْسَان من قَول أَو عمل، وَعدم علمهمْ مَا اختاروه فَلَا يكون سَبِيلا لَهُم. انْتهى.(4/1667)
قَوْله: {فصل}
{ارتداد الْأمة جَائِز عقلا} قطعا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمحال، وَلَا يلْزم مِنْهُ محَال.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا خلاف فِي تصور ارتداد الْأمة الإسلامية فِي بعض الْأَعْصَار عقلا.
قَوْله: {وَلَا يجوز سمعا فِي الْأَصَح، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} . قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، وَصرح بِهِ الطوفي وَغَيره، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَصَححهُ التَّاج السُّبْكِيّ، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لأدلة(4/1668)
الْإِجْمَاع، وَقَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أمتِي لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة " وانعقد الْإِجْمَاع.
وَخَالف ابْن عقيل وَغَيره، وَقَالُوا: الرِّدَّة تخرجهم عَن أمته؛ لأَنهم إِذا ارْتَدُّوا، لم يَكُونُوا مُؤمنين فَلم يتناولهم الْأَدِلَّة.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ يصدق بعد ارتدادهم أَن أمة مُحَمَّد ارْتَدَّت، وَهُوَ أعظم الْخَطَأ فَيمْتَنع الْأَدِلَّة السمعية.
وَقيل: على هَذَا الْجَواب: إِن إِطْلَاق أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَيْهِم بالمجاز، وَالْأمة الْمَذْكُورَة فِي الْأَدِلَّة السمعية لم تتَنَاوَل إِلَّا من هُوَ من الْأمة حَقِيقَة فَانْدفع الْجَواب.
وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ: بِأَن ارتدادهم الَّذِي هُوَ أعظم الْخَطَأ هُوَ الْمُوجب لسلب اسْم الْأمة عَنْهُم حَقِيقَة فَزَالَ اسْم الْأمة عَنْهُم بعد الارتداد بِالذَّاتِ؛ لِأَن الْمَعْلُول مُتَأَخّر عَن الْعلَّة بِالذَّاتِ فَعِنْدَ حُصُول ارتدادهم صدق عَلَيْهِم اسْم الْأمة حَقِيقَة فتتناولهم الْأَدِلَّة السمعية، قَالَه الْأَصْفَهَانِي.(4/1669)
قَوْله: {وَيجوز اتِّفَاقهم على جهل مَا لم تكلّف بِهِ فِي الْأَصَح} ؛ لعدم الْخَطَأ بِعَدَمِ التَّكْلِيف، كتفضيل عمار على حُذَيْفَة، أَو عَكسه، وَنَحْوه؛ لِأَن ذَلِك لَا يقْدَح فِي أصل من الْأُصُول.
وَقيل: لَا يجوز اتفاقها على ذَلِك، وَإِلَّا كَانَ الْجَهْل سَبِيلا لَهَا فَيجب اتباعها فِيهِ وَهُوَ بَاطِل.
أُجِيب: بِمَنْع أَنه سَبِيل لَهَا؛ لِأَن سَبِيل الشَّخْص مَا يختاره من قَول أَو فعل، وَعدم الْعلم بالشَّيْء لَيْسَ من ذَلِك، أما مَا كلفوا بِهِ فَيمْتَنع جهل جَمِيعهم بِهِ، ككون الْوتر وَاجِبا أم لَا، وَنَحْوه.
قَوْله: {وَلَا يجوز انقسامها فرْقَتَيْن، كل فرقة مخطئة فِي مَسْأَلَة مُخَالفَة لِلْأُخْرَى، عِنْد الْأَكْثَر} .(4/1670)
قَالَ الْقَرَافِيّ: اخْتلفُوا هَل يَصح أَن يجمعوا على خطأ فِي مَسْأَلَتَيْنِ؟ كَقَوْل بَعضهم بِمذهب الْخَوَارِج، والبقية بِمذهب الْمُعْتَزلَة، وَفِي الْفُرُوع مثل أَن يَقُول الْبَعْض بِأَن العَبْد يَرث، وَيَقُول الْبَاقِي بِأَن الْقَاتِل عمدا يَرث، فَقيل: لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إِجْمَاع على الْخَطَأ، وَقيل: يجوز؛ لِأَن كل خطأ من هذَيْن الخطأين لم يساعد عَلَيْهِ الْفَرِيق الآخر، وَلم يُوجد فِيهِ إِجْمَاع.
ثمَّ قَالَ: تَنْبِيه: الْأَحْوَال ثَلَاثَة:
الْحَالة الأولى: اتِّفَاقهم على الْخَطَأ فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة، كإجماعهم على أَن العَبْد يَرث فَلَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِم.
الثَّانِيَة: أَن يُخطئ كل فريق فِي مَسْأَلَة أَجْنَبِيَّة عَن الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى، فَيجوز، فَإنَّا نقطع أَن كل مُجْتَهد يجوز أَن يُخطئ، وَمَا من مَذْهَب من الْمذَاهب إِلَّا وَقد وَقع فِيهِ مَا يُنكر وَإِن قل، فَهَذَا لَا بُد للبشر مِنْهُ.
الثَّالِثَة: أَن يخطئوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ فِي حكم الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة، مثل هَذِه الْمَسْأَلَة: فَإِن العَبْد وَالْقَاتِل كِلَاهُمَا يرجع إِلَى فرع وَاحِد، وَهُوَ مَانع الْمِيرَاث، فَوَقع الْخَطَأ فِيهِ كُله، فَمن نظر إِلَى اتِّحَاد الأَصْل منع، وَمن نظر إِلَى تعدد الْفَرْع أجَاز، فَهَذَا تَلْخِيص هَذِه الْمَسْأَلَة. انْتهى.
ومثلوا ذَلِك أَيْضا بِاتِّفَاق شطر الْأمة على أَن التَّرْتِيب فِي الْوضُوء وَاجِب، وَفِي الصَّلَاة الْفَائِتَة غير وَاجِب.(4/1671)
والفرقة الْأُخْرَى على عكس ذَلِك فِي الصُّورَتَيْنِ.
فَذهب الْأَكْثَر إِلَى الْمَنْع؛ لِأَن خطأهم فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا يخرجهم عَن أَن يَكُونُوا قد اتَّفقُوا على الْخَطَأ، وَلَو فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَهُوَ منفي عَنْهُم، وَجوزهُ الْمُتَأَخّرُونَ؛ لِأَن الْمُخطئ فِي كل مَسْأَلَة بعض الْأمة، ومثار الْخلاف أَن المخطئين فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا كل الْأمة أَو بَعضهم.
قَوْله: {وَلَا إِجْمَاع يضاد إِجْمَاعًا، خلافًا للبصري} - أَعنِي: أَبَا عبد الله - ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة على حكم لَا يجوز أَن ينْعَقد بعده إِجْمَاع يضاده لاستلزامه تعَارض دَلِيلين قطعيين.
وَجوزهُ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ وَقَالَ: لَا امْتنَاع من تَخْصِيص بَقَاء كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة بِمَا إِذا لم يطْرَأ عَلَيْهِ إِجْمَاع آخر، لَكِن لما أَجمعُوا على وجوب الْعَمَل بالمجمع عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَعْصَار أمنا من وُقُوع هَذَا الْجَائِز، فاستفيد عدم الْجَوَاز من الْإِجْمَاع الثَّانِي دون الْإِجْمَاع الأول.(4/1672)
قَالَ الْقَرَافِيّ: لما قَالَ الْأَولونَ ككون أَحدهمَا خطأ لَا مُخَالفَة - وإجماعهم على الْخَطَأ غير جَائِز - لُزُوم كَون أَحدهمَا خطأ لَا يلْزم لاحْتِمَال أَن ينزل الله تَعَالَى نصوصاً بِتَقْدِيم الإجماعات بَعْضهَا على بعض بالمناسبة للقواعد، وَيكون ذَلِك مدْركا للترجيح فِي الْعَصْر الأول وَالثَّانِي.
قيل: هَذَا التجويز لم يَقع. انْتهى.
تَنْبِيه: نقل ابْن قَاضِي الْجَبَل أَن ابْن الْخَطِيب وَافق أَبَا عبد الله الْبَصْرِيّ على الْجَوَاز فَقَالَ: هَل يجوز انْعِقَاد الْإِجْمَاع بعد الْإِجْمَاع على خِلَافه؟ جوزه أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، وَابْن الْخَطِيب خلافًا للأكثرين. انْتهى.
قلت: لم نجد من نقل ذَلِك عَن الرَّازِيّ إِلَّا ابْن قَاضِي الْجَبَل، وأرباب مذْهبه أعلم بمقالته؛ إِذْ لَو كَانَ قَالَه لنقلوه وَلما خَفِي عَنْهُم.(4/1673)
قَوْله: {فصل}
{الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل - كدية كتابي الثُّلُث -} لَيْسَ بِإِجْمَاع للْخلاف فِي الزَّائِد خلافًا لمن ظَنّه.
اخْتلفُوا فِي ثُبُوت الْأَقَل وَلَا أَكثر فِي مَسْأَلَة، لَا يَصح التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِي إِثْبَات مَذْهَب الْقَائِل بِالْأَقَلِّ.
مثل قَول الشَّافِعِي: إِن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم؛ فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يتَمَسَّك فِي إثْبَاته بِالْإِجْمَاع، وَيَقُول: إِن الْأمة لَا تخرج عَن الْقَائِل بِالْكُلِّ، وبالنصف، وبالثلث وَالْكل قَائِلُونَ بِالثُّلثِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح؛ لِأَن قَوْله(4/1674)
يشْتَمل على وجوب الثُّلُث، وَنفي الزَّائِد، وَالْإِجْمَاع لم يدل على نفي الزَّائِد، بل على وجوب الثُّلُث فَقَط، وَهُوَ بعض الْمُدعى، فَالثُّلُث وَإِن كَانَ مجمعا عَلَيْهِ، لَكِن نفي الزِّيَادَة لم يكن مجمعا عَلَيْهِ فالمجموع لَا يكون مجمعا عَلَيْهِ، وَالْقَائِل بِالثُّلثِ مَطْلُوبه مركب من أَمريْن:
الثُّلُث وَنفي الزِّيَادَة، فَلَا يكون مذْهبه مُتَّفقا عَلَيْهِ.
فَإِن إبداء نفي الزِّيَادَة بِوُجُود الْمَانِع من الزِّيَادَة أَو بِنَفْي شَرط الزِّيَادَة، أَو إبداء نفي الزِّيَادَة بالاستصحاب لم يكن حِينَئِذٍ نفي الزِّيَادَة ثَابتا بِالْإِجْمَاع.
وَتمسك الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -، وَأَتْبَاعه بذلك إِنَّمَا هُوَ للبراءة الْأَصْلِيَّة؛ وَلذَلِك كَانَ فرض الْمَسْأَلَة فِيمَا إِذا كَانَ فِيهِ الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة؛ فَإِن الأَصْل فِي مَسْأَلَة الدِّيَة - مثلا - بَرَاءَة ذمَّة الْقَاتِل من الزَّائِد على الْأَقَل
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَافق الشَّافِعِي القَاضِي أَبُو بكر(4/1675)
وَالْجُمْهُور؛ وَذَلِكَ كدية الْكِتَابِيّ. قيل: إِنَّهَا كدية الْمُسلم، وَقيل: على النّصْف مِنْهَا، وَقيل: على الثُّلُث، فَأخذ الشَّافِعِي بِالثُّلثِ، وَهُوَ مركب من الْإِجْمَاع، والبراءة الْأَصْلِيَّة - كَمَا تقدم - فَإِن إِيجَاب الثُّلُث مجمع عَلَيْهِ، وَوُجُوب الزِّيَادَة عَلَيْهِ مَدْفُوع بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة.
وَالصُّورَة أَنه لم يقم دَلِيل على إِيجَاب الزِّيَادَة؛ وَلذَلِك أدخلوه فِي مسَائِل الْإِجْمَاع. وَقد عرفت أَنه لَيْسَ إِجْمَاعًا مَحْضا، بل مركب من أَمريْن.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني: إِن النَّاقِل عَن الشَّافِعِي أَنه من الْإِجْمَاع لَعَلَّه زل فِي كَلَامه.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ سوء ظن بِهِ، فَإِن الْمجمع عَلَيْهِ وجوب هَذَا الْقدر، وَلَا مُخَالفَة فِيهِ، والمختلف فِيهِ سُقُوط الزِّيَادَة، وَلَا إِجْمَاع فِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ تمسكاً بِالْإِجْمَاع، بل بِمَجْمُوع هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ. انْتهى.
أما إِذا قَامَ دَلِيل على الزِّيَادَة، فَإِن الشَّافِعِي يَأْخُذ بِهِ، كَمَا قَالَ: بالتسبيع فِي غسل ولوغ الْكَلْب لقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ، وَلم يتَمَسَّك بِأَقَلّ مَا قيل، وَهُوَ الِاقْتِصَار على ثَلَاث غسلات.(4/1676)
وَلذَلِك لم يَأْخُذ بِالثَّلَاثَةِ بانعقاد الْجُمُعَة لقِيَام الدَّلِيل على الْأَكْثَر. قَالَ: الْإِسْنَوِيّ: وَقد اعْتمد الشَّافِعِي على هَذَا الدَّلِيل فِي إِثْبَات الْأَحْكَام إِذا كَانَ الْأَقَل جُزْءا من الْأَكْثَر، وَلم يجد دَلِيلا غَيره. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذِه قَاعِدَة تنْسب إِلَى الشَّافِعِي وَهُوَ الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل وَصورتهَا - كَمَا قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ - أَن يخْتَلف الْعلمَاء فِي مُقَدّر بِالِاجْتِهَادِ فَيُؤْخَذ بِأَقَلِّهَا إِذا لم يدل على الزَّائِد دَلِيل، وَرُبمَا قصر على اخْتِلَاف الصَّحَابَة - كَمَا فسره بِهِ ابْن الْقطَّان.
وَهُوَ الشَّاشِي: هُوَ أَن يرد فعل من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبينًا لمجمل، وَيحْتَاج إِلَى تحديده، فيصار إِلَى أقل مَا يُوجد، وَهَذِه كَمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي أقل الْجِزْيَة: إِنَّه دِينَار؛ لِأَن الدَّلِيل قَامَ على أَنه لابد من تَوْقِيت، فَصَارَ إِلَى أقل مَا حُكيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه أَخذ فِي الْجِزْيَة، قَالَ: وَهَذَا أصل فِي التَّوْقِيت، قد صَار إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي مسَائِل كَثِيرَة: كتحديده مَسَافَة الْقصر بمرحلتين، وَمَا لَا ينجس بملاقاة النَّجس حَتَّى يتَغَيَّر بقلتين وَأَن دِيَة الْيَهُودِيّ ثلث دِيَة الْمُسلم، وَمثله مَا ذهب إِلَيْهِ فِي الدِّيَة أَنَّهَا أَخْمَاس، وَقيل: أَربَاع - فالأخماس أقل فالأقل دَائِما مجمع عَلَيْهِ؛ لِاجْتِمَاع الْكل فِيهِ. انْتهى.(4/1677)
{وَقيل: يَأْخُذ بِالْأَكْثَرِ} ، نقل ابْن حزم عَن قوم الْأَخْذ بِأَكْثَرَ مَا قيل ليعلم بَرَاءَة الذِّمَّة.
ورد ذَلِك بِأَن مَحَله حَيْثُ يعلم شغلها، وَلم يعلم الزَّائِد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِذا اخْتلفت الْبَيِّنَتَانِ فِي قيمَة متْلف، فَهَل يجب الْأَقَل، أَو نسقطهما؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، فَهَذَا يبين أَن فِي إِيجَاب الْأَقَل بِهَذَا المسلك خلافًا، وَهُوَ مُتَوَجّه، كَذَا قَالَ، وَلنَا قَول: يجب الْأَكْثَر. انْتهى.(4/1678)
قَوْله: {فصل}
{ابْن حَامِد، وَجمع، يكفر مُنكر حكم إِجْمَاع قَطْعِيّ} ، وَالْقَاضِي [و] أَبُو الْخطاب، وَجمع لَا، ويفسق والطوفي، والآمدي، وَمن تبعه يكفر بِنَحْوِ الْعِبَادَات الْخمس، وَهُوَ معنى كَلَام أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه: يكفر بِنَحْوِ الْعِبَادَات الْخمس.(4/1679)
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا - مَعَ أَنه حكى الأول عَن أَكثر الْعلمَاء - وَلَا أَظن أحدا لَا يكفر من جحد هَذَا. انْتهى.
وَلِهَذَا وَغَيره قُلْنَا: وَالْحق أَن مُنكر الْمجمع عَلَيْهِ الضَّرُورِيّ، وَالْمَشْهُور الْمَنْصُوص عَلَيْهِ. كَافِر قطعا، وَكَذَا الْمَشْهُور فَقَط، لَا الْخَفي فِي الْأَصَح فيهمَا.
فَهُنَا أَرْبَعَة أَقسَام:
الأول: الْمجمع عَلَيْهِ الضَّرُورِيّ، وَلَا شكّ فِي تَكْفِير مُنكر ذَلِك، وَقد قطع الإِمَام أَحْمد، وَالْأَصْحَاب: بِكفْر جَاحد الصَّلَاة، وَكَذَا لَو أنكر ركنا من أَرْكَان الْإِسْلَام، لَكِن لَيْسَ كفره من حَيْثُ كَون مَا جَحده مجمعا عَلَيْهِ فَقَط، بل مَعَ كَونه مِمَّا اشْترك النَّاس فِي مَعْرفَته فَإِنَّهُ يصير بذلك كَأَنَّهُ جَاحد لصدق الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمعنى كَونه مَعْلُوما بِالضَّرُورَةِ أَن يَسْتَوِي خَاصَّة أهل الدّين، وعامتهم فِي مَعْرفَته حَتَّى يصير كالمعلوم بِالْعلمِ الضَّرُورِيّ فِي عدم تطرق(4/1680)
الشَّك إِلَيْهِ، لَا أَنه يسْتَقلّ الْعقل بإدراكه فَيكون علما ضَرُورِيًّا، كأعداد الصَّلَوَات، وركعاتها، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَالْحج، وزمانها، وَتَحْرِيم الزِّنَا، وَالْخمر، وَالسَّرِقَة، وَنَحْوهَا.
وَإِن لم يكن مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ، وَلَكِن مَنْصُوص عَلَيْهِ مَشْهُور عِنْد الْخَاصَّة والعامة فيشارك الْقسم الَّذِي قبله فِي كَونه مَنْصُوصا، ومشهوراً، وَيُخَالِفهُ من حَيْثُ إِنَّه لم ينْتَه إِلَى كَونه ضَرُورِيًّا فِي الدّين فيكفر بِهِ جاحده أَيْضا.
وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ لكنه بلغ مَعَ كَونه مجمعا عَلَيْهِ فِي الشُّهْرَة مبلغ الْمَنْصُوص بِحَيْثُ تعرفه الْخَاصَّة، والعامة فَهَذَا أَيْضا يكفر منكره فِي أصح قولي الْعلمَاء، حَكَاهَا الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيره؛ لِأَنَّهُ يتَضَمَّن تكذيبهم تَكْذِيب الصَّادِق.
وَقيل: لَا يكفر لعدم التَّصْرِيح بالتكذيب، وَإِن لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ، وَلَا بلغ فِي الشُّهْرَة مبلغ الْمَنْصُوص؛ بل هُوَ خَفِي، لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص، كإنكار اسْتِحْقَاق بنت الابْن السُّدس مَعَ الْبِنْت، وَتَحْرِيم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا أَو خالاتها، أَو إِفْسَاد الْحَج بِالْوَطْءِ قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَنَحْوه، فَهَذَا(4/1681)
لَا يكفر جاحده، وَلَا منكره لعذر الخفاء، خلافًا لبَعض الْفُقَهَاء فِي قَوْله: إِنَّه يكفر؛ لتكذيبه الْأمة.
ورد: بِأَنَّهُ لم يكذبهم صَرِيحًا، إِذا فرض أَنه لم يكن مَشْهُورا، فَهُوَ مِمَّا يخفى على مثله، فَهَذَا تَحْقِيق هَذِه الْمَسْأَلَة وتحريرها، وَقد حَرَّره أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة، وَأما الْآمِدِيّ فَقَالَ: اخْتلفُوا فِي تَكْفِير جَاحد الْمجمع عَلَيْهِ، فأثبته بعض الْفُقَهَاء، وَأنْكرهُ الْبَاقُونَ مَعَ اتِّفَاقهم على أَن إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الظني غير مُوجب كفرا، وَالْمُخْتَار التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن اعْتِقَاد الْإِجْمَاع إِمَّا أَن يكون دَاخِلا فِي مَفْهُوم اسْم الْإِسْلَام كالعبادات الْخمس، وَوُجُوب اعْتِقَاد التَّوْحِيد، والرسالة، أَو لَا يكون كَذَلِك، كَالْحكمِ بِحل البيع وَصِحَّة الْإِجَارَة وَنَحْوه، فَإِن كَانَ الأول فجاحده كَافِر؛ لمزايلة حَقِيقَة الْإِسْلَام لَهُ، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا. انْتهى.(4/1682)
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الْقطعِي ثَالِثهَا الْمُخْتَار أَن نَحْو الْعِبَادَات الْخمس يكفر، وَقد اخْتلف فِي مرادهما بالعبادات الْخمس أَرْكَان الْإِسْلَام أَو الصَّلَوَات الْخمس؟
وأيا مَا كَانَ فَيلْزم حِكَايَة قَول إِن منكرها لَا يكفر، وَلَا يعرف هَذَا؛ وَإِن منكري الْخَفي فِيهِ قَول إِنَّه يكفر، وَقد أنكرهُ كثير، وَسبق أَن بَعضهم قَالَ بِهِ.
وَمن يؤول كَلَام ابْن الْحَاجِب يَقُول: مُرَاده أَن الْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يكفر لمُخَالفَة مُجَرّد الْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ يكفر من حَيْثُ إِنَّه ضَرُورِيّ فِي الدّين فَيكون مُكَذبا لصَاحب الشَّرْع.
ويزداد الْآمِدِيّ إشْكَالًا فِي قَوْله: إِنَّه لَا يكفر إِلَّا بِمَا يكون دَاخِلا تَحت حَقِيقَة الْإِسْلَام فَيخرج إِنْكَار حل البيع مَعَ أَنه يكفر؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوص مجمع عَلَيْهِ، لَكِن لَيْسَ فِي كَلَام الْآمِدِيّ التَّصْرِيح بِأَن الْمذَاهب ثَلَاثَة كَابْن الْحَاجِب.(4/1683)
وَذكر ابْن مُفْلِح عَن أَصْحَابنَا التَّكْفِير وَعَدَمه، وَذكر قَول الْآمِدِيّ، وَقَالَ: هُوَ معنى كَلَام أَصْحَابنَا فِي كتب الْفِقْه، يكفر بجحد حكم ظَاهر مجمع عَلَيْهِ، كالعبادات الْخمس، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا. مَعَ أَنه حكى الأول عَن الْأَكْثَر، وَلَا أَظن أحدا لَا يكفر من جحد هَذَا، وَذكر الْمجد فِي " المسودة ": أَن على قَول بعض الْمُتَكَلِّمين الْإِجْمَاع حجَّة ظنية لَا يكفر، وَلَا يفسق. انْتهى.(4/1684)
قَوْله: {فصل}
{لَا يَصح التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِيمَا يتَوَقَّف صِحَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، كوجود الْبَارِي، وَصِحَّة الرسَالَة وَدلَالَة المعجزة} ؛ لاستلزامه عَلَيْهِ، لُزُوم الدّور.
قَوْله: {وَيصِح فِيمَا لَا يتَوَقَّف وَهُوَ ديني كالرؤية وَنفي الشَّرِيك، وَوُجُوب الْعِبَادَات، وَنَحْوهَا} .
فَإِن الْإِجْمَاع لَا يتَوَقَّف على ذَلِك لِإِمْكَان تَأَخّر مَعْرفَتهَا عَن الْإِجْمَاع بِخِلَاف الأول، وَسَوَاء كَانَ الديني عقلياً كرؤية الْبَارِي وَنفي الشَّرِيك، أَو شَرْعِيًّا كوجوب الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصِّيَام، وَغَيرهَا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: لَا خلاف فِيهِ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: صَحَّ اتِّفَاقًا، وَقطع بِهِ فِي " الْمقنع "، وَغَيره.(4/1685)
قَوْله: {أَو عَقْلِي، كحدوث الْعَالم} ، وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
وَقَالَ فِي " الْمَحْصُول ": وَأما حُدُوث الْعَالم فَيمكن إثْبَاته [بِهِ] ؛ لِأَنَّهُ يمكننا إِثْبَات الصَّانِع بحدوث الْأَعْرَاض، ثمَّ نَعْرِف صِحَة النُّبُوَّة بِهِ، ثمَّ نَعْرِف بِهِ الْإِجْمَاع، ثمَّ نَعْرِف بِهِ حُدُوث الْأَجْسَام. انْتهى.
وَخَالف فِي هَذِه إِمَام الْحَرَمَيْنِ مُطلقًا، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي كليات أصُول الدّين، قَالَ: كحدوث الْعَالم، وَإِثْبَات النُّبُوَّة دون جزئياته كجواز الرُّؤْيَة. انْتهى.
قَالَ الكوراني: لَا معنى للْإِجْمَاع فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ قَطْعِيا بالاستدلال فَمَا فَائِدَة الْإِجْمَاع فِيهِ إِلَّا تعاضد الْأَدِلَّة، لَا إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء.
قَالَ الإِمَام فِي " الْبُرْهَان ": أما مَا ينْعَقد الْإِجْمَاع فِيهِ، فالسمعيات وَلَا اثر للوفاق فِي المعقولات؛ فَإِن المتبع فِي العقليات الْأَدِلَّة القاطعة، فَإِذا أنتصبت لم يعارضها شقَاق، وَلم يعضدها وفَاق، هَذَا كَلَامه. ثمَّ(4/1686)
نقُول: أَي فَائِدَة فِي الْإِجْمَاع فِي العقليات مَعَ أَنه لَا يجوز التَّقْلِيد فِيهَا، وَلَو كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة فِيهَا كَسَائِر الْأَحْكَام لم يجز إِلَّا التَّقْلِيد فِيهَا، وَعدم الْمُخَالفَة. انْتهى.
قَوْله: {أَو دُنْيَوِيّ، كرأي فِي حَرْب وَنَحْوه} ، كتدبير أَمر الرّعية والجيوش.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ مذهبان مشهوران، الْمُرَجح مِنْهُمَا: وجوب الْعَمَل فِيهِ بِالْإِجْمَاع، وَهُوَ ظَاهر كَلَام القَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم فِي حد الْإِجْمَاع، وَاخْتَارَهُ ابْن حمدَان، والآمدي، وَأَتْبَاعه، وَهُوَ أظهر؛ لِأَن الدَّلِيل السمعي دلّ على التَّمَسُّك بِهِ مُطلقًا من غير تَقْيِيد فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ؛ لِأَن الأَصْل عدم التَّقْيِيد.(4/1687)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذَا قَول الْجُمْهُور، وللقاضي عبد الْجَبَّار المعتزلي فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْمَنْع، وَوَجهه اخْتِلَاف الْمصَالح بِحَسب الْأَحْوَال، فَلَو كَانَ حجَّة لزم ترك الْمصلحَة وَإِثْبَات الْمفْسدَة، وَقطع بِهِ الْغَزالِيّ، وَصَححهُ السَّمْعَانِيّ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " فِي حد الْإِجْمَاع.
والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَغَيرهم.
قَالَ الكوراني: لَا معنى للْإِجْمَاع فِي ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أقوى من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ لَيْسَ دَلِيلا لَا يُخَالف فِيهِ، يدل عَلَيْهِ قصَّة التلقيح حَيْثُ قَالَ: " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم " وَالْمجْمَع عَلَيْهِ لَا يجوز خِلَافه، وَمَا ذَكرُوهُ من أُمُور الْحَرْب وَنَحْوهَا، إِن أَثم مُخَالف ذَلِك فلكونه شَرْعِيًّا وَإِلَّا فَلَا معنى لوُجُوب اتِّبَاعه. انْتهى.(4/1688)
{وَقيل: هُوَ حجَّة بعد اسْتِقْرَار الرَّأْي} ، لَا قبله، ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {أَو لغَوِيّ} ، يعْتد بِالْإِجْمَاع فِي أَمر لغَوِيّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا خلاف فِي ذَلِك ككون الْفَاء للتعقيب. فَقطع بِهِ.
وَقيل: يعْتد بِالْإِجْمَاع فِيهِ إِن تعلق بِالدّينِ، وَإِلَّا فَلَا. ذكره الْقُرْطُبِيّ، نَقله عَنهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {تَنْبِيه} : قَالَ أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء: يثبت الْإِجْمَاع بِخَبَر الْوَاحِد.
قَالَ ابْن عقيل: هُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء.(4/1689)
وَقَالَ أَبُو سُفْيَان: هُوَ مَذْهَب شُيُوخنَا الْحَنَفِيَّة. انْتهى.
وَنَقله ابْن مُفْلِح عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْأَصْفَهَانِي عَن أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْقَرَافِيّ عَن مَالك، وَنَقله الْإِسْنَوِيّ عَن الْآمِدِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، والتاج السُّبْكِيّ فِي " مختصريهما "، وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، والآمدي.
وَذَلِكَ أَن نقل الْوَاحِد للْخَبَر الظني مُوجب للْعَمَل بِهِ قطعا، فَنقل الْوَاحِد للدليل الْقطعِي الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاع أولى بِوُجُوب الْعَمَل؛ لِأَن(4/1690)
احْتِمَال الضَّرَر فِي مُخَالفَة الْمَقْطُوع أَكثر من احْتِمَاله فِي مُخَالفَة المظنون، وَاحْتِمَال الْغَلَط لَا يقْدَح فِي وجوب الْعَمَل قطعا كَخَبَر الْوَاحِد.
قَالَ ابْن عقيل: هَذَا نزاع عبارَة؛ إِذْ تحتهَا اتِّفَاق فَإِن خبر الْوَاحِد لَا يُعْطي علما وَلَكِن يُفِيد ظنا، وَنحن إِذا قُلْنَا: إِنَّه يثبت بِهِ الْإِجْمَاع فلسنا قاطعين بِالْإِجْمَاع، وَلَا بحصوله بِخَبَر الْوَاحِد، بل هُوَ بِمَنْزِلَة ثُبُوت قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، والمنازع قَالَ: الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ، وَخبر الْوَاحِد دَلِيل ظَنِّي، فَلَا يثبت قَطْعِيا. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَالْغَزالِيّ، وَبَعض الْحَنَفِيَّة، وَغَيرهم: لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد؛ وَذَلِكَ لِأَن الْإِجْمَاع أصل فَلَا يثبت بِالظَّاهِرِ.
ورد ذَلِك بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ فَلَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد.(4/1691)
قَالَ أَبُو الْخطاب وَغَيره: الْعلم لَا يحصل إِلَّا بالتواتر.
قَالَ الكوراني: هَذَا قَول الْأَكْثَرين، وَحَكَاهُ الإِمَام أَيْضا عَن الْأَكْثَرين، وَحَكَاهُ الْقَرَافِيّ عَن الْأَكْثَرين أَيْضا.
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَغَيره: سَنَده وَمَتنه قَطْعِيّ.
قَالَ الْإِسْنَوِيّ: قَالَ الْآمِدِيّ: وَالْخلاف يَنْبَنِي على أَن دَلِيل أصل الْإِجْمَاع هَل هُوَ مَقْطُوع بِهِ أَو مظنون؟
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِنْهُم من نَازع الْمَنْع على كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة، وَنقل ذَلِك عَن الْجُمْهُور.
وَقَالَ الباقلاني فِي " التَّقْرِيب ": إِنَّه الصَّحِيح.(4/1692)
قَوْله: {فصل}
{يشْتَرك الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد - وَيُقَال: الْإِسْنَاد، والمتن} - لما فَرغْنَا من الأبحاث الْمَخْصُوصَة بِكُل وَاحِد من الْأَدِلَّة الثَّلَاثَة، وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، شرعنا فِي الأبحاث الْمُشْتَركَة بَين الثَّلَاثَة؛ فَلذَلِك قُلْنَا: ويشترك الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فِي السَّنَد، وَالْمرَاد هُنَا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال بالأدلة، وَهِي: الْكتاب، وَالسّنة، وَالْإِجْمَاع، وَالْقِيَاس، وَالَّذِي تثبت [بِهِ] الثَّلَاثَة الأول السَّنَد.
وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي الشَّيْء إِنَّمَا يكون بعد ثُبُوته، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ دلَالَة الْأَلْفَاظ؛ لِأَنَّهُ بعد الصِّحَّة يتَوَجَّه النّظر إِلَى مَا(4/1693)
دلّ عَلَيْهِ ذَلِك الثَّابِت، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من حَيْثُ اسْتِمْرَار الحكم وبقاؤه، فَلم ينْسَخ، ثمَّ يتلوه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الدَّلِيل الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس من بَيَان أَرْكَانه، وشروطه، وَأَحْكَامه؛ لِأَنَّهُ فرع على الثَّلَاثَة الأول.
قَالَ الْعَضُد: وَلَا شكّ أَن الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء مقدم عَلَيْهِ وضعا، وَقَوْلنَا: يشْتَرك كَذَا فِي السَّنَد إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد بالثبوت صِحَة وصولها إِلَيْنَا لَا ثُبُوتهَا فِي نَفسهَا وَكَونهَا حَقًا.
إِذا علم ذَلِك فَالسَّنَد - وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الْإِسْنَاد - هُوَ: الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن قولا أَو فعلا تواتراً أَو آحاداً، وَلَو كَانَ الْإِخْبَار بِوَاسِطَة مخبر آخر فَأكْثر عَمَّن ينْسب الْمَتْن إِلَيْهِ والمتن: هُوَ الْمخبر بِهِ.
وأصل السَّنَد فِي اللُّغَة: مَا يسند إِلَيْهِ، أَو مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَأخذ الْمَعْنى الاصطلاحي من الثَّانِي أَكثر مُنَاسبَة؛ فَلذَلِك قَالَ ابْن طريف: أسندت الحَدِيث رفعته إِلَى الْمُحدث، فَيحْتَمل أَنه اسْم مصدر من(4/1694)
اسند يسند، أطلق على الْمسند إِلَيْهِ، وَأَن يكون مَوْضُوعا لما يسند إِلَيْهِ.
والمسند - بِكَسْر النُّون -: من يروي الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ، سَوَاء كَانَ عِنْده علم بِهِ، أَو لَيْسَ لَهُ إِلَّا مُجَرّد رِوَايَة.
وَأما مَادَّة الْمَتْن فَإِنَّهَا فِي الأَصْل رَاجِعَة إِلَى معنى الصلابة، وَيُقَال: لما صلب من الأَرْض متن، وَالْجمع متان، وَيُسمى أَسْفَل الظّهْر من الْإِنْسَان، والبهيمة متْنا وَالْجمع متون.
فالمتن هُنَا: مَا تضمنه الثَّلَاثَة من أَمر، وَنهي، وعام، وخاص، ومجمل، ومبين، ومنطوق، وَمَفْهُوم، وَنَحْوهَا.
قَوْله: {وَالْخَبَر يُطلق مجَازًا} ، من جِهَة اللُّغَة {على الدّلَالَة المعنوية،(4/1695)
وَالْإِشَارَة الحالية} ، كَقَوْلِهِم: عَيْنَاك تُخبرنِي بِكَذَا، والغراب يخبر بِكَذَا.
وَقَالَ أَبُو الطّيب:
(وَكم لظلام اللَّيْل عنْدك من يَد ... تخبر أَن المانوية تكذب)
قَوْله: {وَحَقِيقَة} ، أَي: يُطلق حَقِيقَة على الصِّيغَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق حَقِيقَة على قَول مَخْصُوص؛ وَذَلِكَ لتبادر الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق إِلَى ذَلِك.
قَوْله: {وَهِي تدل بمجردها عَلَيْهِ} أَعنِي الصِّيغَة، تدل على كَونه خَبرا عِنْد القَاضِي أبي يعلى وَغَيره.(4/1696)
وناقش ابْن عقيل القَاضِي فِي ذَلِك كَمَا يَأْتِي فِي الْأَمر والعموم، وَقَالَ: الصِّيغَة هِيَ الْخَبَر فَلَا يُقَال لَهُ صِيغَة، وَلَا هِيَ دَالَّة عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ كثير من أَصْحَابنَا مَا قَالَه القَاضِي وَقَالُوا: لِأَن الْخَبَر هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى، لَا اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب جُزْء يدل بِنَفسِهِ على الْمركب، وَإِذا قيل: الْخَبَر الصِّيغَة فَقَط بَقِي الدَّلِيل هُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ. انْتهى.
وَاخْتَارَهُ أَيْضا ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: لِأَن الْأَمر وَالنَّهْي والعموم هُوَ اللَّفْظ وَالْمعْنَى جَمِيعًا، لَيْسَ هُوَ اللَّفْظ فَقَط، فتقديره لهَذَا الْمركب خبر يدل بِنَفسِهِ على الْمركب كَمَا تقدم.
وَقَالَت: {الْمُعْتَزلَة: لَا صِيغَة لَهُ، وَيدل اللَّفْظ عَلَيْهِ بِقَرِينَة} هِيَ قصد الْمخبر إِلَى الْإِخْبَار، كالأمر عِنْدهم.(4/1697)
وَقَالَت {الأشعرية: هُوَ الْمَعْنى النَّفْسِيّ} .
وَقَالَ {الْآمِدِيّ: يُطلق على الصِّيغَة وعَلى الْمَعْنى، وَالْأَشْبَه لُغَة حَقِيقَة فِي الصِّيغَة} لتبادرها عِنْد الْإِطْلَاق.
قَوْله: {وَيحد عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله - فِي الْخَبَر هَل يحد أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه يحد، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر، وَلَهُم فِيهِ حُدُود كَثِيرَة، قل أَن يسلم مِنْهَا حد من خدش:(4/1698)
أَحدهَا: مَا قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَأكْثر الْمُعْتَزلَة كالجبائية، وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيرهم أَنه فِي اللُّغَة: {كَلَام يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب} .
وَنقض بِمثل: مُحَمَّد ومسيلمة صادقان.
وَبقول من يكذب دَائِما: كل أخباري كذب. فخبره لَا يدْخلهُ صدق، وَإِلَّا كذبت أخباره وَهُوَ مِنْهَا.
وَلَا كذب، وَإِلَّا كذبت أخباره مَعَ هَذَا وَصدق فِي قَوْله: كل أخباري كذب فيتناقض، وَيلْزم الدّور لتوقف معرفتهما على معرفَة الْخَبَر؛ لِأَن الصدْق: الْخَبَر المطابق، وَالْكذب: ضِدّه.(4/1699)
وبأنهما متقابلان فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي خبر وَاحِد، فَيلْزم امْتنَاع الْخَبَر، أَو وجوده مَعَ عدم صدق الْحَد، وبخبر الْبَارِي.
وَأجِيب عَن الأول: بِأَنَّهُ فِي معنى خبرين؛ لإفادته حكما لشخصين، لَا يوصفان بهما، بل يُوصف بهما الْخَبَر الْوَاحِد من حَيْثُ هُوَ خبر.
ورد: لَا يمْنَع ذَلِك من وَصفه بهما بِدَلِيل الْكَذِب فِي قَول الْقَائِل: كل مَوْجُود حَادث، وَإِن أَفَادَ حكما لأشخاص.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ كذب؛ لِأَنَّهُ أضَاف الْكَذِب إِلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ لأَحَدهمَا، وَسلمهُ بَعضهم، وَلَكِن لم يدْخلهُ الصدْق.
وَأجِيب: بِأَن معنى الْحَد بِأَن اللُّغَة لَا تمنع القَوْل الْمُتَكَلّم بِهِ صدقت أَو كذبت.
ورد: بِرُجُوعِهِ إِلَى التَّصْدِيق والتكذيب وَهُوَ غير الصدْق وَالْكذب فِي(4/1700)
الْخَبَر، وَقَوله: كل أخباري كذب إِن طابق فَصدق وَإِلَّا فكذب، وَلَا يَخْلُو عَنْهُمَا.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يتَنَاوَل قَوْله مَا سوى هَذَا الْخَبَر؛ إِذْ الْخَبَر لَا يكون بعض الْمخبر.
قَالَ: وَنَصّ أَحْمد على مثله، وَلَا جَوَاب على الدّور، وَقد قيل: لَا تتَوَقَّف معرفَة الصدْق وَالْكذب على الْخَبَر لعلمهما ضَرُورَة.
وَأجِيب عَن الْأَخير وَمَا قبله: بِأَن الْمَحْدُود جنس الْخَبَر وَهُوَ قَابل لَهما كالسواد وَالْبَيَاض فِي جنس اللَّوْن.
ورد: لابد من وجود الْحَد فِي كل خبر، وَإِلَّا لزم وجود الْخَبَر دون حَده.(4/1701)
وَأجِيب: الْوَاو وَإِن كَانَت للْجمع لَكِن المُرَاد الترديد بَين الْقسمَيْنِ تجوزاً، لَكِن يصان الْحَد عَن مثله.
وَالْحَد الثَّانِي: قَالَه القَاضِي فِي " الْعدة "، وَغَيره: إِن الْخَبَر كلما دخله الصدْق أَو الْكَذِب.
وَالْحَد الثَّالِث: قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " غَيره: مَا يدْخلهُ {التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب} .
فَيرد عَلَيْهِمَا الدّور الْمُتَقَدّم، وَمَا قبل الدّور أَيْضا، وبمنافاة " أَو " للتعريف؛ لِأَنَّهَا للترديد؛ فَلهَذَا أَتَى الطوفي فِي " مُخْتَصره " وَغَيره بِالْوَاو وَهُوَ الْحَد الرَّابِع.
وَأجِيب: المُرَاد قبُوله فِي أَحدهمَا وَلَا تردد فِيهِ.(4/1702)
قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره: التَّعْبِير بالتصديق والتكذيب أحسن من الصدْق وَالْكذب؛ لِأَن من الْخَبَر مَا لَا يحْتَمل الْكَذِب، كَقَوْلِنَا: مُحَمَّد رَسُول الله، وَمِنْه مَا لَا يحْتَمل الصدْق، كَقَوْلِنَا: مُسَيْلمَة صَادِق، مَعَ أَن كلا من المثالين يحْتَمل التَّصْدِيق والتكذيب؛ وَلذَلِك كذب بعض الْكفَّار الأول، وَصدق الثَّانِي.
وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر من حَيْثُ هُوَ مُحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَفِي سُقُوط أحد الِاحْتِمَالَيْنِ فِي بعض الصُّور لعَارض لَا يُخرجهُ على ماهيته لذَلِك، وَأَيْضًا لِأَن التَّصْدِيق والتكذيب كَون الْخَبَر صدقا أَو كذبا، فتعريفه بِهِ دور. قَالَه الرَّازِيّ.
الْحَد الْخَامِس: قَالَه أَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: إِن الْخَبَر {كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة} ، والكلمة عِنْده كَلَام؛ لِأَنَّهُ حَده بِمَا انتظم من حُرُوف مسموعة متميزة، فَقَالَ: بِنَفسِهِ؛ ليخرج نَحْو: قَائِم، فَإِنَّهُ يُفِيد نِسْبَة إِلَى الضَّمِير بِوَاسِطَة الْمَوْضُوع، وَيرد النّسَب التقييدية: كحيوان نَاطِق، وَمثل:(4/1703)
مَا أحسن زيدا.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَمثل: قُم، وَنَحْوه؛ فَإِنَّهُ يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة الْقيام إِلَى الْمَأْمُور، أَو الطّلب إِلَى الْآمِر مَعَ أَنه قَالَ: هُوَ أقربها.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: أخرجه بِنَفسِهِ، فَإِن الْمَأْمُور بِهِ وَجب بواسطتها استدعاء الْأَمر بِنَفسِهِ من طلب الْفِعْل.
الْحَد السَّادِس: قَالَه ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَجَمَاعَة: هُوَ الْكَلَام الْمَحْكُوم فِيهِ بِنِسْبَة خارجية. قَالَ: وَيَعْنِي الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس، فنحو: طلبت الْقيام، حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي بِخِلَاف " قُم ".
قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَيَعْنِي بالْكلَام مَا تضمن كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ، فَيخرج عَنهُ الْكَلِمَة، والمركب الإضافي والمركب التقييدي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاحِد(4/1704)
مِنْهَا بِكَلَام، وَالْمرَاد بِالنِّسْبَةِ الخارجية الْأَمر الْخَارِج عَن كَلَام النَّفس الَّذِي تعلق بِهِ كَلَام النَّفس بالمطابقة واللامطابقة، وَيُسمى ذَلِك الْأَمر النِّسْبَة الخارجية، فَيدْخل فِي هَذَا التَّعْرِيف مثل: طلبت الْقيام فَإِنَّهُ قد حكم بِنِسْبَة لَهَا خارجي، وَهُوَ نِسْبَة طلب الْقيام إِلَى الْمُتَكَلّم فِي الزَّمَان الْمَاضِي، وَهَذِه النِّسْبَة خارجية عَن الحكم النَّفْسِيّ تعلق بهَا الحكم النَّفْسِيّ بالمطابقة واللامطابقة بِخِلَاف قُم، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بالحكم النَّفْسِيّ وَلَيْسَ لَهُ تعلق خارجي. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْخَبَر مَا لَهُ من الْكَلَام خَارج، أَي: لنسبته وجود خارجي فِي زمن غير زمن الحكم بِالنِّسْبَةِ. انْتهى.
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ": هُوَ قَول يدل على نِسْبَة مَعْلُوم إِلَى مَعْلُوم، أَو سلبها عَنهُ، وَيحسن السُّكُوت عَلَيْهِ.
القَوْل الثَّانِي: إِن الْخَبَر لَا يحد، كالوجود والعدم.
وَلَهُم فِي تَعْلِيل عدم حَده مأخذان:
أَحدهمَا: أَن كَونه لَا يحد لعسره كَمَا تقدم فِي الْعلم فليعاود، فَإِنَّهُ مثله فِي ذَلِك.(4/1705)
المأخذ الثَّانِي: قَالَه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، والسكاكي: إِن تصَوره ضَرُورِيّ؛ لِأَن كل أحد يعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه مَوْجُود.
أَي: يعلم معنى قَوْله: (أَنه مَوْجُود) من حَيْثُ وُقُوع النِّسْبَة فِيهِ على وَجه يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، وَهُوَ خبر خَاص، فمطلق الْخَبَر الَّذِي هُوَ جُزْء هَذَا الْخَبَر الْخَاص أولى أَن يكون ضَرُورِيًّا؛ وَلِأَن كل أحد يجد تَفْرِقَة بَين الْخَبَر وَالْأَمر وَغَيرهمَا ضَرُورَة، والتفرقة بَين شَيْئَيْنِ مسبوقة بتصورهما.
لَا يُقَال: الِاسْتِدْلَال دَلِيل أَنه غير ضَرُورِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يسْتَدلّ على ضَرُورِيّ؛ وَلِأَن كَون الْعلم ضَرُورِيًّا أَو نظرياً قَابل للاستدلال بِخِلَاف الِاسْتِدْلَال على حُصُول الْخَبَر ضَرُورَة؛ فَإِنَّهُ منَاف لضَرُورَة الْخَبَر.
ورد الدَّلِيل الأول: بِأَن الْمُطلق لَو كَانَ جُزْءا لزم انحصار الْأَعَمّ فِي الْأَخَص وَهُوَ محَال.(4/1706)
فَإِن قيل: مُشْتَركَة فِيهِ بَين جزئياته - أَي: أَنه مَوْجُود فِيمَا تَحْتَهُ - فَكَانَ جُزْءا من مَعْنَاهَا [رد] لَيْسَ معنى كَونه مُشْتَركَة فِيهِ هَذَا، بل بِمَعْنى أَن حد الطبيعة الَّتِي عرض لَهَا أَنَّهَا كُلية مُطلقَة مُطَابقَة لحد مَا تحتهَا من الطبائع الْخَاصَّة.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ كل عَام جُزْءا من معنى الْخَاص؛ لِأَن الْأَعْرَاض الْعَامَّة خَارِجَة عَن مَفْهُوم مَعْنَاهُ، كالأبيض وَالْأسود بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ من معنى الْإِنْسَان أَو نَحوه.
ورد الدَّلِيل الأول أَيْضا: بِأَنَّهُ لَا يلْزم من حُصُول الْعلم بالْخبر تصَوره، أَو تقدم تصَوره؛ لِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ بالثبوت لَا يسْتَلْزم الْعلم بالتصور؛ لتغاير التَّصَوُّر والثبوت، وَمَعَ عدم تلازم تصور الْخَاص وثبوته لم يلْزم تصور الْمُطلق مِنْهُ.(4/1707)
ورد هَذَا: بِأَنَّهُ لم يدع أَن حُصُول الْخَبَر تصَوره، بل الْعلم بِحُصُول تصَوره وَلَا يُمكن مَنعه.
ورد الدَّلِيل الثَّانِي: بِأَنَّهُ لَا يلْزم سبق تصور أَحدهمَا بطرِيق الْحَقِيقَة، فَلم تعلم حقيقتهما، ثمَّ يلْزم أَن لَا يحد الْمُخَالف الْأَمر وَقد حَده؛ وَلِأَن حقائق أَنْوَاع اللَّفْظ من خبر وَأمر وَغَيرهمَا مَبْنِيَّة على الْوَضع والاصطلاح؛ وَلِهَذَا لَو أطلقت الْعَرَب الْأَمر على الْمَفْهُوم من الْخَبَر الْآن أَو عَكسه لم يمْتَنع، فَلم تكن ضَرُورِيَّة.
قَالَ الْمحلي: كل من الْعلم وَالْخَبَر والوجود والعدم قيل: ضَرُورِيّ فَلَا حَاجَة إِلَى تَعْرِيفه، وَقيل: لعسر تَعْرِيفه. انْتهى.
وَيَأْتِي فِي الْأَمر: هَل يشْتَرط فِي الْخَبَر الْإِرَادَة كالأمر أم لَا؟
قَوْله: {وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه} قد علم أَن للْكَلَام أنواعاً فلابد من(4/1708)
من بَيَانهَا، وَالْفرق بَينهَا ليحصل الِاسْتِدْلَال بهَا على المُرَاد، وَلِلنَّاسِ فِي تقسيمه طرق، فَمنهمْ من يقسمهُ إِلَى: خبر، وإنشاء، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قدمنَا؛ لِأَنَّهُ إِن احْتمل الصدْق وَالْكذب فَهُوَ الْخَبَر، وَإِلَّا فَهُوَ الْإِنْشَاء.
وَذَلِكَ الْإِنْشَاء إِمَّا طلب أَو غَيره، وَهُوَ الْمَشْهُور باسم الْإِنْشَاء، والطلب إِمَّا أَمر أَو نهي أَو اسْتِفْهَام، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد، وَهل عنْدك أحد؟
وَقد ذكر من الْإِنْشَاء: الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
وَظَاهر قَوْلنَا: وَغير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيه، أَن الْإِنْشَاء هُوَ التَّنْبِيه، وتابعنا فِي ذَلِك ابْن مُفْلِح، وتابع ابْن مُفْلِح ابْن الْحَاجِب؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر ": لم يفرق المُصَنّف بَين الْإِنْشَاء والتنبيه، وَقَالَ بَعضهم: الْكَلَام الَّذِي لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب يُسمى إنْشَاء، فَإِن دلّ بِالْوَضْعِ على طلب الْفِعْل يُسمى أمرا، وَإِن دلّ على طلب الْكَفّ عَن الْفِعْل(4/1709)
يُسمى نهيا، وَإِن دلّ على طلب الإفهام يُسمى استفهاماً، وَإِن لم يدل بِالْوَضْعِ على طلب يُسمى تَنْبِيها، ويندرج فِيهِ التمنى، والترجي، وَالْقسم، والنداء. انْتهى.
وَقَالَهُ أَيْضا القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَيَأْتِي لَفظه بعد قَوْله: وَغير الطّلب إنْشَاء، وَذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " أَيْضا أَن الْإِنْشَاء والتنبيه مُتَرَادِفَانِ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شَرحه ": وهما لفظان مُتَرَادِفَانِ، سمي بالتنبيه؛ لِأَنَّك نبهت بِهِ على مقصودك، وسمى بالإنشاء؛ لِأَنَّك ابتكرته من غير أَن يكون مَوْجُودا قبل ذَلِك فِي الْخَارِج من قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} [الْوَاقِعَة: 35] ، ويندرج فِيهِ التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء.
وَالْفرق بَين الترجي وَالتَّمَنِّي: أَن الترجي لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الْمُمكن بِخِلَاف التَّمَنِّي فَإِنَّهُ يسْتَعْمل فِي الْمُمكن والمستحيل، تَقول: لَيْت الشَّبَاب يعود، وَلَا تَقول: لَعَلَّ الشَّبَاب يعود. انْتهى.(4/1710)
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": التَّنْبِيه قسم بِرَأْسِهِ غير الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، تَحْتَهُ أَقسَام: أَحدهَا: الْعرض، نَحْو: أَلا تنزل عندنَا؟ والتحضيض، نَحوه: هلا تنزل عندنَا؟ وَهُوَ أَشد وأبلغ من الْعرض، وَالتَّمَنِّي [نَحْو] : لَيْت الشَّبَاب يعود والرجاء، نَحْو: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح} [الْمَائِدَة: 52] .
وَاسْتغْنى بِذكر الترجي عَن الإشفاق، وَهُوَ مَا يكون فِي الْمَكْرُوه، وَرُبمَا توسع بِإِطْلَاق الترجي على الْأَعَمّ، وَقد اجْتمعَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لكم} [الْبَقَرَة: 216] فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة وَهِي: الْعرض والتحضيض وَالتَّمَنِّي والترجي لَيْسَ طلبا صَرِيحًا، بل إِيمَاء إِلَى الطّلب، فَهِيَ شَبيه بِالطَّلَبِ الصَّرِيح، ولكونه لَيْسَ طلبا بِالْوَضْعِ جعله قوم، كالبيضاوي قسيماً لَهُ بِحَيْثُ قَالَ: إِن الْكَلَام إِمَّا أَن يُفِيد طلبا بِالْوَضْعِ، وَهُوَ الْأَمر وَالنَّهْي، والاستفهام، أَو لَا، فَمَا لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب تَنْبِيه وإنشاء ومحتملهما الْخَبَر.
وَكَذَا عبر فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَلكنه لَا يعرف مِنْهُ مَا يتَمَيَّز بِهِ التَّنْبِيه من الْإِنْشَاء وَلَا كَونه فِيهِ طلبا مَا، على أَن البيانيين يطلقون عَلَيْهِ اسْم(4/1711)
الطّلب فيجعلون الطّلب أمرا ونهياً واستفهاماً وتنبيهاً. انْتهى.
قلت: قد صرح الْعِرَاقِيّ - كَمَا تقدم - أَن الْإِنْشَاء والتنبيه مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ ظَاهر الْكِتَابَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا المُصَنّف.
وَقَالَ ابْن الْحَاجِب - كَمَا تقدم -: وَيُسمى غير الْخَبَر إنْشَاء وتنبيهاً.
وَتقدم كَلَام الْأَصْفَهَانِي، وَالْقَاضِي عضد الدّين.
قَوْله: {وَصِيغَة عقد وَفسخ وَنَحْوهَا إنْشَاء} الصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء: أَن صِيغَة الْعُقُود والفسوخ وَنَحْوهَا إنْشَاء، وَهُوَ الَّذِي يقْتَرن مَعْنَاهُ بِوُجُود لَفظه، نَحْو: بِعْت، واشتريت، وأعتقت، وَطلقت، وفسخت، وَنَحْوهَا مِمَّا يشابه ذَلِك مِمَّا تستحدث بِهِ الْأَحْكَام فَهِيَ أَخْبَار فِي الأَصْل بِلَا شكّ، وَلَكِن لما اسْتعْملت فِي الشَّرْع فِي معنى الْإِنْشَاء(4/1712)
اخْتلف فِيهَا: هَل هِيَ بَاقِيَة على أَصْلهَا من الْإِخْبَار أَو نقلت؟
فأصحابنا، وَالْأَكْثَر على الثَّانِي، وَالْحَنَفِيَّة على الأول على معنى الْإِخْبَار عَن ثُبُوت الْأَحْكَام، فَمَعْنَى قَوْلك: بِعْتُك: الْإِخْبَار عَمَّا فِي قَلْبك، فَإِن أصل البيع هُوَ التَّرَاضِي، فَصَارَ بِعْت وَنَحْوهَا لفظا دَالا على الرضى بِمَا فِي ضميرك، فَيقدر وجودهَا قبل اللَّفْظ للضَّرُورَة، وَغَايَة ذَلِك أَن يكون مجَازًا وَهُوَ أولى من النَّقْل.
وَدَلِيل الْأَكْثَر: أَنه لَو كَانَ خَبرا لَكَانَ إِمَّا عَن مَاض، أَو حَال، أَو مُسْتَقْبل، والأولان باطلان لِئَلَّا يلْزم أَن لَا يقبل الطَّلَاق وَنَحْوه التَّعْلِيق؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي توقف شَيْء لم يُوجد على مَا لم يُوجد،(4/1713)
والماضي وَالْحَال قد وجدا لَكِن قبُوله التَّعْلِيق إِجْمَاع، والمستقبل يلْزم مِنْهُ أَن لَا يَقع بِهِ شَيْء؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة (سَأُطلقُ) وَالْغَرَض خِلَافه، إِلَى غير ذَلِك من أدلته.
وَأَيْضًا: لَا خَارج لَهَا، وَلَا تقبل صدقا، وَلَا كذبا، وَلَو كَانَت خَبرا لما قبلت تَعْلِيقا لكَونه مَاضِيا؛ وَلِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ قَاطع بِالْفرقِ بَين: طلقت إِذا قصد بِهِ الْوُقُوع، وَطلقت إِذا قصد بِهِ الْإِخْبَار.
وَقَالَ القَاضِي من أَصْحَابنَا: هِيَ إِخْبَار فِي الْعُقُود.
{وَلنَا وَجه أَن (طَلقتك) كِنَايَة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه ": وَقيل: طَلقتك كِنَايَة، فَيتَوَجَّه عَلَيْهِ أَن يحْتَمل الْإِنْشَاء وَالْخَبَر، وعَلى الأول هُوَ إنْشَاء، وَذكر القَاضِي فِي مَسْأَلَة الْأَمر: أَن الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بِلَفْظ الْمَاضِي إِخْبَار، وَقَالَ شَيخنَا - يَعْنِي الشَّيْخ(4/1714)
تَقِيّ الدّين -: هَذِه الصِّيَغ إنْشَاء من حَيْثُ إِنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَت الحكم، وَبهَا تمّ، وَهِي إِخْبَار لدلالتها على الْمَعْنى الَّذِي فِي النَّفس. انْتهى.
قَوْله: {وَلَو قَالَه لرجعية طلقت فِي الْأَصَح} أَعنِي على القَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ إنْشَاء للطَّلَاق، فعلى هَذَا لَا يقبل قَوْله: أَنه أَرَادَ الْإِخْبَار.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا لَا تطلق، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنه قصد الْإِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي، {وَلَو ادّعى طَلَاقا مَاضِيا توجه لنا خلاف} كالمسألة الَّتِي قبلهَا وَغَيرهَا.
فَإِن قَوْله: طَلقتك يحْتَمل أَنه إِخْبَار عَن الطَّلَاق الْمَاضِي الَّذِي كَانَ أوقعه، فَلم يَقع عَلَيْهَا غَيره، لَكِن الظَّاهِر أَنه إنْشَاء، وَهُوَ الْمُتَعَارف بَين النَّاس، وَهَذَا الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب.(4/1715)
قَوْله: {وَأشْهد، إنْشَاء تضمن إِخْبَارًا، وَقيل: إِخْبَار، وَقيل: إنْشَاء} ، فَإِذا قَالَ الشَّاهِد: أشهد بِكَذَا، فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار -: إِنَّهَا إنْشَاء تضمن الْخَبَر بِمَا فِي النَّفس.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا إِخْبَار مَحْض، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أهل اللُّغَة.
قَالَ ابْن فَارس فِي " الْمُجْمل ": الشَّهَادَة خبر عَن علم.
وَقَالَ الرَّازِيّ: قَوْله: (أشهد) إِخْبَار عَن الشَّهَادَة وَهِي الحكم الذهْنِي الْمُسَمّى كَلَام النَّفس.
وَالثَّالِث: إِنَّهَا إنْشَاء، وَإِلَيْهِ ميل الْقَرَافِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ}(4/1716)
[المُنَافِقُونَ: 1] فراجع إِلَى تسميتهم ذَلِك شَهَادَة؛ لِأَنَّهَا مَا واطأ فِيهَا الْقلب اللِّسَان، وَإِنَّمَا اختير الأول لاضطراب النَّاس فِي ذَلِك، فَقَائِل بِأَنَّهَا إِخْبَار - كَمَا فِي كتب اللُّغَة -، وَقَائِل بِأَنَّهَا إنْشَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخلهُ تَكْذِيب شرعا، فالقائل بالثالث، رأى كلا من الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجه فَجمع بَينهمَا بِأَن قَالَ: ذَلِك يضمن إِخْبَارًا.
وَقَالَ الكوراني: إِن أردْت تَحْقِيق الْمَسْأَلَة فاسمع لما أَقُول: اعْلَم أَنا قد قدمنَا أَن دلَالَة الْأَلْفَاظ إِنَّمَا هِيَ على الصُّور الذهنية الْقَائِمَة بِالنَّفسِ، فَإِن أُرِيد بالْكلَام الْإِشَارَة إِلَى أَن النِّسْبَة الْقَائِمَة بِالنَّفسِ مُطَابقَة لأخرى خارجية فِي أحد الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة فَالْكَلَام خبر، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الخارجية قَائِمَة بِالنَّفسِ أَيْضا كعلمت وظننت، أَو بِغَيْرِهِ كخرجت وَدخلت، وَإِن لم يرد مُطَابقَة تِلْكَ النِّسْبَة الذهنية لأخرى خارجية فَالْكَلَام إنْشَاء، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: أشهد بِكَذَا، لَا يشك أحد فِي أَنه لم يقْصد أَن تِلْكَ النِّسْبَة الْقَائِمَة بِنَفسِهِ تطابق نِسْبَة أُخْرَى فِي أحد الْأَزْمِنَة، بل مُرَاده الدّلَالَة على مَا فِي نَفسه(4/1717)
من ثُبُوت هَذِه النِّسْبَة، مثل: اضْرِب وَلَا تضرب فَهُوَ إنْشَاء مَحْض، وَلَا يرجع الصدْق وَالْكذب إِلَيْهِ، وَكَون الْمَشْهُود بِهِ خَبرا لَا يُخرجهُ عَن كَونه إنْشَاء مَحْضا؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة مُسْتَقلَّة بِحكم وأطرافه، وَهَذِه أُخْرَى كَذَلِك، وَلَو كَانَ كَون الشَّيْء متضمناً لآخر يُخرجهُ عَن كَونه مَحْض ذَلِك الشَّيْء لم يبْق إنْشَاء مَحْض قطّ؛ إِذْ قَوْلك: اضْرِب، مُتَضَمّن لِقَوْلِك: الضَّرْب مِنْك مَطْلُوب، أَو أطلب مِنْك، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقُول بِهِ عَاقل. انْتهى.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": وَاعْلَم أَن نقل الْمذَاهب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هَكَذَا لَا يُوجد مجموعاً، وَإِنَّمَا هُوَ مفرق فِي كَلَام الْأَئِمَّة بالتلويح. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: غير الْخَبَر طلب وإنشاء} . قَالَه جمع من الْعلمَاء، ويرون بِأَن الْإِنْشَاء لَيْسَ فِيهِ الطّلب بل قسيمه؛ لِأَن الْمَطْلُوب مستدعى الْحُصُول فِي الْمُسْتَقْبل، والإنشاء مَدْلُوله يحصل فِي الْحَال، وَلَفظ الْإِنْشَاء سَبَب لوُجُود مَعْنَاهُ، وَلَفظ الطّلب لَيْسَ سَببا لوُجُود مَعْنَاهُ، وَإِن أُرِيد بالإنشاء إِحْدَاث شَيْء لم يكن فَالْكل إنْشَاء؛ لِأَن الْخَبَر إِحْدَاث الْإِخْبَار بِهِ وَلَا قَائِل(4/1718)
بذلك، فعلى هَذَا إِن طلب بِالْوَضْعِ تَحْصِيل فعل أَو ترك فَأمر وَنهي، نَحْو: قُم، وَلَا تقعد - كَمَا تقدم -، وَإِن طلب إعلاماً بِشَيْء لَا لتَحْصِيل فعل وَلَا ترك فَهُوَ اسْتِفْهَام، وَمَا أحسن مَا عبر عَنهُ البيانيون فَقَالُوا فِي الْأَمر وَالنَّهْي: إنَّهُمَا طلب مَا هُوَ حَاصِل فِي الذِّهْن أَن يحصل فِي الْخَارِج، وَفِي الِاسْتِفْهَام الْعَكْس - أَي: طلب مَا فِي الْخَارِج أَن يحصل فِي الذِّهْن.
قَوْله: {وَغَيره} ، أَي: غير الطّلب إنْشَاء، وَهُوَ: عرض، وتحضيض، وتمن، وترج، وَقسم، ونداء.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي " شرح الْمُخْتَصر ": غير الْخَبَر مَا لَا يشْعر بِأَن لمدلوله مُتَعَلقا خارجياً، ويسميه المُصَنّف تَنْبِيها وإنشاء، ويندرج فِيهِ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، والاستفهام. والمنطقيون يقسمونه إِلَى مَا يدل على الطّلب لذاته، إِمَّا للفهم، وَهُوَ الِاسْتِفْهَام، وَإِمَّا لغيره وَهُوَ الْأَمر، وَالنَّهْي، وَإِلَى غَيره، ويخصون التَّنْبِيه والإنشاء بالأخير مِنْهُمَا، ويعدون مِنْهُ التَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء، وَبَعْضهمْ(4/1719)
يعد التَّمَنِّي، والنداء من الطّلب. انْتهى.
وَكَلَام المناطقة مُوَافق لِلْقَوْلِ الَّذِي حكيناه قبل.
قَوْله: {وَقيل غير الْخَبَر طلب فَقَط} . من الْعلمَاء من قسم الْكَلَام إِلَى خبر، وَطلب كَمَا قَالَ ابْن مَالك فِي كافيته:
(قَول مُفِيد طلبا أَو خَبرا ... هُوَ الْكَلَام كاستمع وسترى)
وَكَأَنَّهُ رأى أَن الْإِنْشَاء فرع عَن الْخَبَر فيكتفي بِذكر الْخَبَر أَو غير ذَلِك.
فَوَائِد: إِحْدَاهَا: الطّلب مَا يُفِيد بِذَاتِهِ احْتِرَازًا عَمَّا يُفِيد باللازم(4/1720)
أَو بِالْقَرِينَةِ نَحْو: أَنا أطلب مِنْك أَن تُخبرنِي بِكَذَا، أَو أَن تسقيني مَاء، أَو أَن تتْرك الْأَذَى، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ دَالا على الطّلب لَكِن لَا بِذَاتِهِ، بل هَذِه إخبارات لازمها الطّلب، وَلَا يُسمى الأول استفهاماً، وَلَا الثَّانِي أمرا، وَلَا الثَّالِث نهيا لذَلِك.
وَكَذَا قَوْله: أَنا عطشان، كَأَنَّهُ قَالَ: اسْقِنِي، فَإِن هَذَا طلب بِالْقَرِينَةِ لَا بِذَاتِهِ، وَرُبمَا عبر عَن هَذَا الْقَيْد بِكَوْنِهِ بِالْوَضْعِ، وَرُبمَا عبر عَنهُ بِمَا يفِيدهُ إِفَادَة أولية، وَالْكل صَحِيح، وَالله أعلم.
الثَّانِيَة: الْخَبَر مُشْتَمل على مَحْكُوم عَلَيْهِ، ومحكوم بِهِ، ويعبر عَنهُ البيانيون بِمُسْنَد إِلَيْهِ، ومسند ويعدونه إِلَى مُطلق الْكَلَام.
والمناطقة يسمون الْخَبَر قَضِيَّة لما فِيهَا من الْقَضَاء بِشَيْء على شَيْء، ويسمون الْمقْضِي عَلَيْهِ مَوْضُوعا، والمقضي بِهِ يسمونه مَحْمُولا، لِأَنَّك تضع الشَّيْء وَتحمل عَلَيْهِ حكما، ويقسمون الْقَضِيَّة إِلَى طبيعية وَهِي: مَا حكم فِيهَا بِأحد أَمريْن من حَيْثُ هُوَ على الآخر، من حَيْثُ هُوَ لَا بِالنّظرِ إِلَى(4/1721)
أَفْرَاده، نَحْو: الرجل خير من الْمَرْأَة، وَنَحْو: المَاء مرو، وَغير الطبيعية وَهِي: الَّتِي قصد الحكم فِيهَا على مشخص فِي الْخَارِج لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، ثمَّ ينظر فَإِن حكم فِيهَا على جزئي معِين سميت شخصية، نَحْو: زيد قَائِم، أَو لَا على معِين، فَإِذا ذكر فِيهَا سور الْكل أَو الْبَعْض فِي نفي أَو إِثْبَات سميت محصورة، نَحْو: كل إِنْسَان كَاتب بِالْقُوَّةِ، وَبَعض الْإِنْسَان كَاتب بِالْفِعْلِ، وَنَحْو: لَا شَيْء أَو وَاحِد من الْإِنْسَان بجماد، وَلَيْسَ بعض الْإِنْسَان بكاتب بِالْفِعْلِ، أَو بعض الْإِنْسَان لَيْسَ كَذَلِك.
وَإِن لم يكن للقضية سور وَالْمرَاد الحكم فِيهَا على الْأَفْرَاد لَا على الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ سميت مُهْملَة، نَحْو: الْإِنْسَان فِي خسر، وَالْحكم فِيهَا على بعض ضَرُورِيّ، فَهُوَ المتحقق، وَلَا يصدق عَلَيْهَا كُلية، لَكِن إِذا كَانَ فِيهَا " أل " كَمَا فِي " الْإِنْسَان كَاتب " يُطلق عَلَيْهَا ابْن الْحَاجِب وَغَيره كثيرا أَنَّهَا كُلية نظرا إِلَى إِفَادَة " أل " الْعُمُوم، فَهِيَ مثل " كل "، وَإِن لم يكن ذَلِك من اصْطِلَاح المناطقة.(4/1722)
الثَّالِثَة: سَأَلَ بَعضهم أَن سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا الْأَمر، وَالنَّهْي، والاستفهام، وأنواع التَّنْبِيه وَغير ذَلِك فَكيف تسمى كلهَا أَخْبَارًا؟
فَيُقَال: أَخْبَار النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأجَاب الباقلاني بجوابين أَحدهمَا: أَن الْكل أخبر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن حكم الله تَعَالَى فَأمره وَنَهْيه وشبههما هُوَ فِي الْحَقِيقَة خبر عَن حكم الله تَعَالَى.
الثَّانِي: أَنَّهَا سميت أَخْبَارًا لنقل المتوسطين فهم يخبرون بِهِ عَمَّن أخْبرهُم إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى من أمره النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو نَهَاهُ، فَإِن ذَلِك يَقُول: أمرنَا، ونهينا، وَالَّذِي بعده يَقُول: أخبرنَا فلَان عَن فلَان بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمر، وَنهى.
الرَّابِعَة: ذكر الْقَرَافِيّ فروقاً بَين الْخَبَر والإنشاء:
أَحدهَا: قبُول الْخَبَر الصدْق وَالْكذب بِخِلَاف الْإِنْشَاء.
الثَّانِي: أَن الْخَبَر تَابع للمخبر [عَنهُ] فِي أَي زمَان كَانَ، مَاضِيا كَانَ أَو حَالا أَو مُسْتَقْبلا، والإنشاء متبوع لمتعلقه فيترتب عَلَيْهِ بعده.(4/1723)
الثَّالِث: أَن الْإِنْشَاء سَبَب لوُجُود مُتَعَلّقه فيعقب آخر حرف مِنْهُ، أَو يُوجد مَعَ آخر حرف مِنْهُ على الْخلاف فِي ذَلِك إِلَّا أَن يمْنَع مَانع، وَلَيْسَ الْخَبَر سَببا، وَلَا مُعَلّقا عَلَيْهِ، بل مظهر [لَهُ] فَقَط. انْتهى.
وَهَذِه الفروق رَاجِعَة إِلَى أَن الْخَبَر لَهُ خَارج يصدق أَو يكذب.
تَنْبِيه: مِمَّا يَنْبَنِي على الْفرق بَينهمَا أَن الظِّهَار هَل هُوَ خبر أَو إنْشَاء؟
قَالَ الْقَرَافِيّ: قد يتَوَهَّم أَنه إنْشَاء، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن الله تَعَالَى أَشَارَ إِلَى كذب الْمظَاهر ثَلَاث مَرَّات بقوله تَعَالَى: {ماهن أمهاتهم إِن أمهاتهم إِلَّا الائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزوراً} [المجادلة: 2] قَالَ: وَلِأَنَّهُ حرَام، وَلَا سَبَب لتحريمه إِلَّا كَونه كذبا.
وَأجَاب عَمَّن قَالَ سَبَب التَّحْرِيم إِنَّه قَائِم مقَام الطَّلَاق الثَّلَاث، وَذَلِكَ حرَام على رَأْي وَأطَال فِي ذَلِك.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: الظَّاهِر أَنه إنْشَاء خلافًا لَهُ؛ لِأَن مَقْصُود النَّاطِق بِهِ تَحْقِيق مَعْنَاهُ الخبري بإنشاء التَّحْرِيم، فالتكذيب ورد على مَعْنَاهُ الخبري، لَا على مَا قَصده من إنْشَاء التَّحْرِيم، وَهَذَا مثل قَوْله: أَنْت عَليّ حرَام، فَإِن(4/1724)
قَصده إنْشَاء التَّحْرِيم، فَلذَلِك وَجَبت الْكَفَّارَة حَيْثُ لم يقْصد بِهِ طَلَاقا، وَلَا ظِهَارًا، إِلَّا من حَيْثُ الْإِخْبَار.
فالإنشاء ضَرْبَان: ضرب أذن الشَّارِع فِيهِ كَمَا أَرَادَهُ المنشئ كَالطَّلَاقِ، وَضرب لم يَأْذَن فِيهِ الشَّرْع وَلكنه رتب عَلَيْهِ حكما - وَهُوَ الظِّهَار - رتب فِيهِ تَحْرِيم الْمَرْأَة إِذا عَاد حَتَّى يكفر، وَقَوله: إِنَّهَا حرَام لَا بِقصد طَلَاق أَو ظِهَار رتب فِيهِ التَّحْرِيم حَتَّى يكفر. انْتهى.
قَوْله: فَائِدَة: عشر حقائق تتَعَلَّق بمعدوم مستقبلي إِلَى آخِره.
قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": وَجه اختصاصها بالمستقبل، أَن الْأَمر، وَالنَّهْي، وَالدُّعَاء، والترجي، وَالتَّمَنِّي طلب وَطلب الْمَاضِي مُتَعَذر وَالْحَال مَوْجُود، وَطلب تَحْصِيل الْحَاصِل محَال فَتعين الْمُسْتَقْبل، وَالشّرط وجزاؤه ربط أَمر، وتوقيف دُخُوله فِي الْوُجُود على وجود آخر، والتوقف فِي الْوُجُود إِنَّمَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل، وَأما الْوَعْد والوعيد فَإِنَّهُ زجر عَن مُسْتَقْبل أَو حث على مُسْتَقْبل بِمَا تتوقعه النَّفس من خبر فِي الْوَعْد وَشر فِي الْوَعيد، والتوقع لَا يكون إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبل، وَالْإِبَاحَة تَخْيِير بَين الْفِعْل(4/1725)
وَالتّرْك، والتخيير إِنَّمَا يكون فِي مَعْدُوم مُسْتَقْبل؛ لِأَن الْمَاضِي وَالْحَال تعين فنعين تعلق الْعشْرَة بالمستقبل. انْتهى.
وَكَانَ ذكر فِي نفس التَّنْقِيح خَمْسَة فَقَط، وَهِي الْخَمْسَة الأول، ثمَّ زَاد فِي شَرحه الْخَمْسَة الْأُخَر وزدت أَنا الْعرض والتحضيض؛ إِذْ [لَا] شكّ أَنَّهُمَا مختصان بالمستقبل؛ إِذْ قَول الْقَائِل: أَلا تنزل عندنَا فنكرمك لمستقبل مَعْدُوم، وَكَذَا قَوْله: هلا تنزل عندنَا فنكرمك، لَكِن هَذَا أَشد من الْعرض وأبلغ.(4/1726)
قَوْله: {فصل}
{الْأَكْثَر الْخَبَر صدق وَكذب} أَعنِي: أَنه مَحْصُور فِي هذَيْن الْقسمَيْنِ لَا يخرج شَيْء عَنْهُمَا، وَلَا وَاسِطَة بَينهمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر؛ لِأَن الحكم الَّذِي هُوَ مَدْلُول الْخَبَر إِمَّا مُطَابق للْخَارِج الْوَاقِع، أَو غير مُطَابق، فَإِن كَانَ مطابقاً فَهُوَ الصدْق، وَسَوَاء كَانَ مَعَ اعْتِقَاد مُطَابقَة أَو لَا، وَإِن لم يكن مطابقاً فَهُوَ كذب.
قَالَ الكوراني: الْإِنْشَاء كَلَام يحصل مَدْلُوله من اللَّفْظ فِي الْخَارِج مثل: اضْرِب، وَلَا تضرب؛ إِذْ مدلولها إِنَّمَا يحصل من لَفْظهمَا، وَالْخَبَر بِخِلَافِهِ، أَي: مَاله مَدْلُول رُبمَا طابقته النِّسْبَة الذهنية، وَرُبمَا لَا تطابقه، فَإِذا تصورت قيام زيد، وحكمت على زيد بِأَنَّهُ قَائِم، فَإِن كَانَ قَائِما فقد طابق حكمك لما فِي الْخَارِج، وَهُوَ قيام زيد فكلامك صدق، وَإِن لم(4/1727)
يُطَابق فكذب، فَتحَرَّر أَن صدق الْخَبَر مُطَابقَة حكم الْمُتَكَلّم للْوَاقِع وَكذبه عدمهَا، هَذَا مَذْهَب أهل الْحق. انْتهى.
{وَقَالَ الجاحظ: المطابق مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة صدق، وَغير المطابق مَعَ عدمهَا} ، أَي: مَعَ عدم الْمُطَابقَة {كذب، وَغَيرهمَا} وَاسِطَة {لَا صدق وَلَا كذب} ، فَشرط فِي الصدْق أَن يُطَابق مَا فِي نفس الْأَمر مَعَ الِاعْتِقَاد، وَالْكذب عدم مطابقته مَعَ اعْتِقَاد عدمهَا، فَإِن لم يعْتَقد أَحدهمَا سَوَاء طابق أَو لَا فَلَيْسَ بِصدق وَلَا كذب، فَيدْخل فِي الْوَاسِطَة بَينهمَا أَرْبَعَة أَقسَام.
فالأقسام عِنْده سِتَّة: صدق، وَكذب، وواسطة؛ لِأَن الْخَبَر إِمَّا مُطَابق أَو غير مُطَابق، فَإِن كَانَ مطابقاً فإمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد الْمُطَابقَة أَو لَا، وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد أَن لَا مُطَابقَة أَو(4/1728)
لَا، فَإِن كَانَ غير مُطَابق فإمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد أَن لَا مُطَابقَة أَو لَا، وَالثَّانِي إِمَّا أَن يكون مَعَه اعْتِقَاد الْمُطَابقَة أَو لَا.
فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام: الأول مِنْهَا وَهُوَ الْخَبَر المطابق مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة صدق، وَالرَّابِع وَهُوَ الْخَبَر غير المطابق مَعَ اعْتِقَاد عدم الْمُطَابقَة كذب، وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة لَيست بِصدق وَلَا كذب، قَالَه الْأَصْفَهَانِي، وَغَيره، وَقَالَ عَن الْأَرْبَعَة؛ لِأَن المطابق مَعَ نفي اعْتِقَاد الْمُطَابقَة انقسم إِلَى قسمَيْنِ، وَغير المطابق مَعَ نفي اعْتِقَاد اللامطابقة انقسم أَيْضا إِلَى قسمَيْنِ. انْتهى.
قَالَ الكوراني: ذهب الجاحظ إِلَى أَن الصدْق مُطَابقَة الْخَبَر الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد أَنه وَاقع، وَكذبه عدم الْمُطَابقَة مَعَ اعْتِقَاد أَنه غير وَاقع، فَالْأول صَادِق، وَالثَّانِي كَاذِب، وَتبقى أَربع صور: وَاسِطَة بَين الصدْق وَالْكذب، وَهُوَ معنى مَا تقدم.(4/1729)
وَاسْتدلَّ لقَوْل الجاحظ بقوله تَعَالَى: {افترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة} [سبأ: 8] وَالْمرَاد بالحصر فِي الافتراء وَالْجُنُون ضَرُورَة عدم اعترافهم بصدقه، فعلى تَقْدِير أَنه كَلَام مَجْنُون لَا يكون صدقا؛ لأَنهم لَا يَعْتَقِدُونَ صدقه، وَلَا كذبه؛ لِأَنَّهُ قسيم الْكَذِب على مَا زعموه فثبتت الْوَاسِطَة بَين الصدْق وَالْكذب.
وَأجِيب: بِأَن الْمَعْنى افترى على الله كذبا أم لم يفتر فَيكون مَجْنُونا؛ لِأَن الْمَجْنُون لَا افتراء لَهُ لعدم قَصده.
وَاسْتَدَلُّوا - أَيْضا - بِنَحْوِ قَول عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - فِي حَدِيث: " إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ، مَا كذب وَلكنه وهم ".
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد مَا كذب عمدا بل وهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": المُرَاد من الْآيَة عِنْد الْجُمْهُور الْحصْر فِي كَونه(4/1730)
خَبرا كذبا أَو لَيْسَ بِخَبَر لجنونه فَلَا عِبْرَة بِكَلَامِهِ، وَأما الْمَدْح والذم فيتبعان الْقَصْد، ويرجعان إِلَى الْمخبر، لَا إِلَى الْخَبَر، وَمَعْلُوم عِنْد الْأمة صدق المكذب برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله: مُحَمَّد رَسُول الله، مَعَ عدم اعْتِقَاده، وَكذبه فِي نفي الرسَالَة مَعَ اعْتِقَاده، وَكثر فِي السّنة تَكْذِيب من أخبر يعْتَقد الْمُطَابقَة فَلم يكن، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذب أَبُو السنابل ". انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: إِن اعْتقد فطابق فَصدق، وَإِلَّا فكذب} . أَي: الْخَبَر المطابق للمخبر إِن كَانَ مُعْتَقدًا فَصدق، وَإِلَّا فكذب، سَوَاء كَانَ مطابقاً أَو لم يكن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} [المُنَافِقُونَ: 1] كذبهمْ الله تَعَالَى لعدم اعْتِقَادهم مَعَ أَن قَوْلهم مُطَابق للْخَارِج.(4/1731)
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ كذبهمْ فِي شَهَادَتهم؛ لِأَن الشَّهَادَة الصادقة أَن يشْهد بالمطابقة مُعْتَقدًا، وَقَالَ الْفراء: الْكَاذِبُونَ فِي ضمائرهم، وَقيل: فِي تمنيهم. انْتهى.
تَنْبِيه: هَذَا القَوْل ذكره ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَالظَّاهِر أَنه تَابع ابْن الْحَاجِب، لَكِن ابْن الْحَاجِب قَالَ: وَقيل: إِن كَانَ مُعْتَقدًا فَصدق وَإِلَّا فكذب. انْتهى.
فَالْخَبَر عِنْد أَرْبَاب هَذَا القَوْل منحصر فِي الصدْق وَالْكذب، لَكِن لَا على الْوَجْه الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَبَيَانه أَن الْخَبَر إِمَّا أَن يكون مطابقاً للْوَاقِع ومعتقداً مطابقته أَو لَا، وَالْأول: صدق، وَالثَّانِي: كذب.
وَلَا فرق بَين الصدْق بِهَذَا التَّفْسِير، والصدق بتفسير الجاحظ، وَأما الْكَذِب فَهُوَ أَعم بِهَذَا التَّفْسِير من الْكَذِب عِنْد الجاحظ؛ فَإِن الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة الَّتِي لَيست بِصدق، وَلَا بكذب عِنْد الجاحظ تكون كذبا بِهَذَا التَّفْسِير، هَكَذَا قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ، والأصفهاني فِي " شرحيهما للمختصر "، وَالَّذِي(4/1732)
قَالَه القَاضِي عضد الدّين فِي " شَرحه " عَن هَذَا القَوْل: إِن كَانَ الْمخبر مُعْتَقدًا لما يخبر بِهِ فَصدق، وَإِلَّا فكذب، وَلَا عِبْرَة فيهمَا بمطابقة الْوَاقِع وَعدمهَا. انْتهى.
وَهُوَ ظَاهر عبارَة ابْن الْحَاجِب فِي حكايته القَوْل كَمَا تقدم لَفظه، فشرح القَاضِي عضد الدّين هَذَا القَوْل على أَن الصدْق الِاعْتِقَاد، وَشرح القطب، والأصفهاني على أَنه الِاعْتِقَاد مَعَ الْمُطَابقَة فَينْظر فِي أصل القَوْل، وَمن قَالَه، وَعبارَته فيتضح الْمَعْنى، وَلَعَلَّ الْكَلَام مُحْتَمل الْمَعْنيين الْمَذْكُورين.
قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي} ، أَي: الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي، قَالَه الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَ بَعضهم: الْمَسْأَلَة لفظية، وَحَكَاهُ فِي(4/1733)
" التَّمْهِيد " عَن بعض الْمُتَكَلِّمين، وَلم يُخَالِفهُ؛ لِأَن الْمَسْأَلَة رَاجِعَة إِلَى الِاصْطِلَاح، والاصطلاح لَا مشاحة فِيهِ.
قَوْله: {وَمِنْه} ، أَي: من الْخَبَر مَا هُوَ {مَعْلُوم صدقه، وَمَا هُوَ مَعْلُوم كذبه، وَمَا هُوَ مُحْتَمل لَهما} .
قد تقدم أَن الْخَبَر من حَيْثُ ذَاته مُحْتَمل للصدق وَالْكذب، لَكِن قد يعرض لَهُ مَا يَقْتَضِي الْقطع بصدقه، أَو كذبه فَالَّذِي يَقْتَضِي الْقطع بصدقه أَنْوَاع:
أَحدهَا: مَا يكون ضَرُورِيًّا بِنَفس الْخَبَر بِتَكَرُّر الْخَبَر من غير نظر، كالخبر الَّذِي بلغت رُوَاته حد التَّوَاتُر، وَسَوَاء كَانَ لفظياً، أَو معنوياً(4/1734)
على مَا يَأْتِي تفسيرهما.
الثَّانِي: مَا يكون ضَرُورِيًّا بِغَيْر نفس الْخَبَر بل لكَونه مُوَافقا للضروري ونعني بموافق الضَّرُورِيّ مَا يكون مُتَعَلقَة مَعْلُوما لكل أحد من غير كسب وتكرر نَحْو: الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ.
الثَّالِث: مَا يكون نظرياً، كَخَبَر الله، وَخبر رَسُوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَخبر كل الْأمة؛ لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة.
فَكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة علم بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال.
وَاعْترض على الْإِجْمَاع: بِأَنَّهُ [إِن] أُرِيد أَنه حجَّة قَطْعِيَّة، كَمَا صرح بِهِ الْآمِدِيّ هُنَا فَهُوَ مُخَالف لقَوْله، وَقَول الْفَخر الرَّازِيّ أَنه ظَنِّي - كَمَا تقدم -؛ وَإِن أَرَادَ أَنه حجَّة ظنية فالظن لَا يُفِيد الْقطع.(4/1735)
الرَّابِع: مَا يكون غير ضَرُورِيّ، وَغير نَظَرِي، وَلكنه مُوَافق للنظري، وَهُوَ الْخَبَر الَّذِي علم مُتَعَلّقه بِالنّظرِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالم حَادث، وقسمه ابْن مُفْلِح قسمَيْنِ وتابعناه:
أَحدهمَا: خبر من ثَبت بِخَبَر أَحدهَا صدقه، يَعْنِي صدقه الله أَو رَسُوله، أَو الْإِجْمَاع وَثَبت ذَلِك.
الثَّانِي: خبر من وَافق أَحدهَا - أَي: أحد الثَّلَاثَة -، وَهُوَ خبر الله، وَخبر رَسُوله، وَخبر الْإِجْمَاع فخبره وَافق أَحدهَا.
وَالَّذِي يَقْتَضِي الْقطع بكذبه أَنْوَاع أَيْضا:
أَحدهَا: مَا علم خِلَافه بِالضَّرُورَةِ، كَقَوْل الْقَائِل: النَّار بَارِدَة.(4/1736)
الثَّانِي: مَا علم خِلَافه بالاستدلال، كَقَوْل الفيلسوف: الْعَالم قديم.
وَالثَّالِث: أَن يُوهم أمرا بَاطِلا من غير أَن يقبل التَّأْوِيل لمعارضته للدليل الْعقلِيّ، كَمَا لَو اختلق بعض الزَّنَادِقَة حَدِيثا كذبا على الله، أَو على رَسُوله، ويتحقق أَنه كذب.
الرَّابِع: أَن يَدعِي شخص الرسَالَة عَن الله بِغَيْر معْجزَة.
وَالَّذِي لَا يعلم صدقه وَلَا كذبه ثَلَاثَة أَنْوَاع:(4/1737)
أَحدهَا: مَا يظنّ صدقه، كَخَبَر الْعدْل لرجحان صدقه على كذبه، وَخبر الْعدْل يتَفَاوَت فِي الظَّن.
وَالثَّانِي: مَا يظنّ كذبه، كَخَبَر الْكذَّاب لرجحان كذبه على صدقه وَهُوَ متفاوت أَيْضا.
وَالثَّالِث: مَا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَمْرَانِ فيشك فِيهِ لعدم الْمُرَجح، كَخَبَر مَجْهُول الْحَال.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: وَقد خَالف فِي هَذَا التَّقْسِيم بعض الظَّاهِرِيَّة - وَهُوَ التَّقْسِيم الْمُشْتَرك فِي صدقه وَكذبه - فَقَالَ: كل خبر إِلَى آخِره، وَهُوَ قَوْلنَا وَقَول قوم: كل خبر لم يعلم صدقه كذب بَاطِل.(4/1738)
أَي: قَوْلهم ذَلِك بَاطِل.
وَاسْتَدَلُّوا لقَولهم بِأَنَّهُ لَو كَانَ صدقا لنصب عَلَيْهِ دَلِيل، كَخَبَر مدعي الرسَالَة؛ فَإِنَّهُ إِذا كَانَ صدقا دلّ عَلَيْهِ بالمعجزة.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لجَرَيَان مثله فِي نقيض مَا أخبر بِهِ إِذا أخبر بِهِ آخر فَيلْزم اجْتِمَاع النقيضين، وَيعلم بِالضَّرُورَةِ وُقُوع الْخَبَر بهما - أَي: الْإِخْبَار بِشَيْء وبنقيضه - أَي: لَيْسَ هَذَا محالاً أَن يَقع، بل مَعْلُوم الْوُقُوع.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يلْزم الْعلم بكذب كل شَاهد؛ إِذْ لَا يعلم صدقه بِدَلِيل، وَالْعلم بكذب كل مُسلم فِي دَعْوَى إِسْلَامه؛ إِذْ لَا دَلِيل على مَا فِي بَاطِنه، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع والضرورة.
وَأما الْقيَاس على خبر مدعي الرسَالَة فَلَا يَصح؛ لِأَنَّهُ لَا يكذب لعدم الْعلم بصدقه، بل للْعلم بكذبه؛ لِأَنَّهُ خلاف الْعَادة، فَإِن الْعَادة فِيمَا خالفها أَن يصدق بالمعجزة.(4/1739)
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: مَدْلُول الْخَبَر الحكم بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتهَا خلافًا للقرافي} .
مَدْلُول الْخَبَر الحكم بِثُبُوت النِّسْبَة لَا نفس الثُّبُوت، فَإِذا قلت: زيد قَائِم، فمدلوله الحكم بِثُبُوت قِيَامه، لَا نفس ثُبُوت قِيَامه؛ إِذْ لَو كَانَ الثَّانِي لزم مِنْهُ أَن لَا يكون شَيْء من الْخَبَر كذبا، بل يكون كُله صدقا، قَالَه الرَّازِيّ، وَجمع كثير، وَخَالف الْقَرَافِيّ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِن الْعَرَب لم تضع الْخَبَر إِلَّا للصدق؛ لِاتِّفَاق اللغويين والنحويين على أَن معنى " قَامَ زيد " حُصُول الْقيام مِنْهُ فِي الزَّمن الْمَاضِي، واحتماله الْكَذِب لَيْسَ من الْوَضع بل من جِهَة الْمُتَكَلّم. انْتهى.
قَالَ الكوراني: اخْتلف فِي أَن مَدْلُول الْخَبَر هَل هُوَ وُقُوع النِّسْبَة فِي ذَاتهَا، أَو إِيقَاع الْمُتَكَلّم؟ فطائفة قَالَت: إِنَّه الْإِيقَاع لَا الْوُقُوع وَإِلَّا لزم أَن لَا يُوجد الْكَذِب فِي الْكَلَام.(4/1740)
توضيح ذَلِك قَوْلك: إِن زيدا قَائِم، لَو دلّ على ثُبُوت الْقيام فَحَيْثُ مَا وجد " زيد قَائِم " فَيثبت قِيَامه، وَلم يتَصَوَّر الْكَذِب فِي الْكَلَام، وَهُوَ مُخْتَار الإِمَام وَبَعض الْمُتَأَخِّرين.
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام هُوَ: أَن الْخَبَر - مثل: زيد قَائِم - إِذا صدر عَن الْمُتَكَلّم بِالْقَصْدِ يدل على الْإِيقَاع، وَهُوَ الحكم الَّذِي صدر عَن الْمُتَكَلّم، وَيدل أَيْضا على الْوُقُوع فَكل مِنْهُمَا يُسمى حكما، فاحتمال الصدْق وَالْكذب، وَصدق الْخَبَر وَكذبه فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار الْإِيقَاع؛ لِأَنَّهُ المتصف بذلك لَا الْوُقُوع.
وَأما بِاعْتِبَار إِفَادَة الْمُخَاطب فَالْحكم هُوَ الْوُقُوع؛ لِأَنَّك إِذا قلت: زيد قَائِم - إِنَّمَا تفِيد الْمُخَاطب وُقُوع الْقيام، لَا أَنَّك أوقعت الْقيام على زيد، فَإِنَّهُ لَا يعد فَائِدَة.
فَإِن قلت: لَو دلّ - زيد قَائِم - على الْوُقُوع لم يُوجد الْكَذِب فِي خبر قطّ لِامْتِنَاع تخلف الْمَدْلُول عَن الدَّلِيل؟ !
قلت: دلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى وضعية لَا عقلية فَجَاز التَّخَلُّف لمَانع، كَمَا فِي الْمجَاز؛ وَلذَلِك قَالَ بعض أَئِمَّة الْعَرَبيَّة: إِن الصدْق هُوَ مَدْلُول(4/1741)
الْخَبَر وَالْكذب احْتِمَال عَقْلِي.
قَالَ: فَإِذا تَأَمَّلت هَذَا ظهر لَك أَن قَول المُصَنّف: (وَإِلَّا لم يكن شَيْء من الْخَبَر كذبا) لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يتم لَو كَانَت الدّلَالَة عقلية فمورد الصدْق وَالْكذب إِنَّمَا هُوَ ذَلِك الحكم الْمَفْعُول للمتكلم، وَبِه يناط الحكم الشَّرْعِيّ واللغوي. انْتهى.
قَوْله: {قَالَ البيانيون: مورد الصدْق وَالْكذب النِّسْبَة الَّتِي تضمنها} .
هَذِه قَاعِدَة مهمة أهملها الأصوليون، وَأخذت من البيانيين كالسكاكي وَغَيره.
وتقريرها: أَن مورد الصدْق وَالْكذب فِي الْخَبَر هُوَ النِّسْبَة الَّتِي تضمنها الْخَبَر، لَا وَاحِد من طرفيها، وَهُوَ الْمسند والمسند إِلَيْهِ، فَإِذا قيل: زيد بن عَمْرو قَائِم، فَقيل: صدقت أَو كذبت، فالصدق وَالْكذب راجعان إِلَى الْقيام، لَا إِلَى الْبُنُوَّة الْوَاقِعَة فِي الْمسند إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالك وَبَعض(4/1742)
الشَّافِعِيَّة: إِذا شهد شَاهِدَانِ أَن فلَان بن فلَان وكل فلَانا فَهِيَ شَهَادَة بِالْوكَالَةِ فَقَط، وَلَا تنْسب إِلَيْهِمَا الشَّهَادَة بِالنّسَبِ أَلْبَتَّة.
قلت: وقواعد مَذْهَبنَا تَقْتَضِي ذَلِك لَكِن الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الشَّهَادَة بِالنّسَبِ، وَإِن كَانَ أصل الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ بِالْوكَالَةِ.
قَالَ الكوراني: لَكِن جعل الْفُقَهَاء هُنَا الْمَقْصُود تبعا كالمقصود أَصَالَة؛ لِأَن تِلْكَ النِّسْبَة الإضافية فِي قُوَّة الخبرية. انْتهى. ذكره الْهَرَوِيّ(4/1743)
وَالْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَغَيرهم.
قَالَ الزَّرْكَشِيّ شَارِح " جمع الْجَوَامِع ": يَنْبَغِي أَن يسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَت صفة الْمسند إِلَيْهِ مَقْصُودَة بالحكم بِأَن يكون الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمَعْنى الْهَيْئَة الْحَاصِلَة فِي الْمسند إِلَيْهِ وَصفته كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم " فَإِن المُرَاد الَّذِي جمع كرم نَفسه وآبائه، وَكَذَلِكَ الصِّفَات الْوَاقِعَة فِي الْحُدُود كالإنسان حَيَوَان نَاطِق، فَإِن الْمَقْصُود الصّفة والموصوف مَعًا، وَلَو قصد إِخْبَار الْمَوْصُوف فَقَط لعسر. انْتهى.
قَالَ الْقَرَافِيّ: وَيرد على هَذِه الْقَاعِدَة الحَدِيث الْمَرْفُوع فِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " يُقَال لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ؟ فَقَالُوا: كُنَّا نعْبد الْمَسِيح ابْن الله، فَيُقَال: كَذبْتُمْ! مَا اتخذ الله من صَاحِبَة وَلَا ولد ". انْتهى.(4/1744)
قَوْله: {الثَّانِيَة} : أَحْمد، وَابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، والموفق، وَغَيرهم: يكون الْكَذِب فِي الزَّمن الْمُسْتَقْبل كَمَا يكون فِي الْمَاضِي، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
قَالَ الإِمَام أَحْمد فِيمَن قَالَ: لَا آكل، ثمَّ أكل: هَذَا كذب لَا يَنْبَغِي أَن يفعل.
وَقيل للْإِمَام أَحْمد - أَيْضا -: بِمَ يعرف الْكذَّاب؟ قَالَ: بخلف الْوَعْد. وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَالشَّيْخ موفق الدّين ابْن قدامَة، وَغَيرهم؛ لقَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَا يبْعَث الله من يَمُوت} [النَّحْل: 38] ، وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين نافقوا يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب لَئِن أخرجتم ... ...} [الْحَشْر: 11] .(4/1745)
فَقَالَ تَعَالَى: {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} [الْحَشْر: 11] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شَيْء إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12] فأكذبهم الله تَعَالَى.
وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ " قَول سعد بن عبَادَة يَوْم فتح مَكَّة: (الْيَوْم تستحل الْكَعْبَة) فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذب سعد ".
وَفِي " صَحِيح مُسلم " قَول عبد حَاطِب لما جَاءَ يشكو على حَاطِب: (ليدخلن النَّار) ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كذبت لَا يدخلهَا ".(4/1746)
ورد أَبُو جَعْفَر النّحاس على من أنكر ذَلِك بقوله تَعَالَى: {ياليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا} [الْأَنْعَام: 27] .
وَقيل: لَا يكون الْكَذِب إِلَّا فِي مَاض.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَ بعض أهل اللُّغَة: لَا يسْتَعْمل الْكَذِب إِلَّا فِي خبر عَن مَاض بِخِلَاف مَا هُوَ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي أثْنَاء النّسخ: وَهُوَ قَول مَشْهُور، بل هُوَ الْمَفْهُوم عَن الشَّافِعِي؛ فَلذَلِك قَالَ: لَا يجب الْوَفَاء بالوعد، وَضعف احتجاج قَائِل الْوُجُوب بِأَنَّهُ كذب وَهُوَ حرَام؛ بِأَن الْوَعْد إنْشَاء لَا خبر، فخلفه خلف وعد لَا كذب؛ وَلذَلِك جَاءَ فِي صفة الْمُنَافِق: إِذا حدث كذب، وَإِذا وعد أخلف، فغاير بَينهمَا، وسمى الثَّانِي إخلافاً، لَا كذبا.
وَكَذَا قَالَ الزجاجي بِأَن الْإِخْبَار بضد الصدْق إِذا كَانَ مُسْتَقْبلا(4/1747)
يُقَال فِيهِ: أخلف، وَلَا يُقَال: كذب.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْحق أَن الْخَبَر عَن الْمُسْتَقْبل يقبل التَّصْدِيق والتكذيب، فَإِن تعلق بالمستقبل وَلم يقبل ذَلِك - كالوعد - كَانَ إنْشَاء وَلَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ. انْتهى.(4/1748)
قَوْله: {فصل}
{الْخَبَر تَوَاتر وآحاد} .
هَذِه قسْمَة أُخْرَى للْخَبَر وَهُوَ أَنه يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر وآحاد، وَسَيَأْتِي أَن من الْآحَاد مستفيض مَشْهُور، وَهَذَا التَّقْسِيم للسند هُوَ الأكثري، وَرُبمَا أطلق على الْمَتْن ذَلِك فَيُقَال: حَدِيث متواتر وآحاد على معنى تَوَاتر أَو آحَاد سَنَده.
قَوْله: {فالتواتر تتَابع} شَيْئَيْنِ فَأكْثر {بمهلة} . وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا} [الْمُؤْمِنُونَ: 44] أَصْلهَا وترا، بدلت التَّاء من الْوَاو. قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَقَالَ: هُوَ لُغَة تتَابع وَاحِد بعد وَاحِد من الْوتر، ثمَّ قَالَ: قلت: قَالَ الجواليقي: من غلط الْعَامَّة قَوْلهم: تَوَاتَرَتْ(4/1749)
كتبك إِلَيّ - أَي: اتَّصَلت من غير انْقِطَاع -، وَإِنَّمَا التَّوَاتُر الشَّيْء بعد الشَّيْء بَينهمَا انْقِطَاع، وَهُوَ تفَاعل من الْوتر وَهُوَ الْعود. انْتهى.
قَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": التَّوَاتُر التَّتَابُع، يُقَال: تَوَاتَرَتْ الْخَيل إِذا جَاءَت يتبع بَعْضهَا بَعْضًا، وَمِنْه {جَاءُوا تترى} أَي: مُتَتَابعين وترا بعد وتر، الْوتر الْفَرد. انْتهى.
قَوْله: {وَاصْطِلَاحا: خبر جمَاعَة مُفِيد للْعلم بِنَفسِهِ} .
فَالْخَبَر: كالجنس يَشْمَل الْمُتَوَاتر وَغَيره، وبإضافته إِلَى الْجَمَاعَة يخرج عَنهُ خبر الْوَاحِد. وَقَوله: مُفِيد للْعلم، يخرج خبر جمَاعَة لَا يُفِيد الْعلم، بل الظَّن، وَإِنَّمَا قيل بِنَفسِهِ ليخرج الْخَبَر الَّذِي صدق المخبرين فِيهِ لسَبَب الْقَرَائِن الزَّائِدَة على مَا لَا يَنْفَكّ عَن الْمُتَوَاتر عَادَة وَغَيرهَا، وَمَا لَا يَنْفَكّ عَن الْمُتَوَاتر الشَّرَائِط الْمُعْتَبرَة فِي التَّوَاتُر كَمَا سَيذكرُ.(4/1750)
والقرائن الزَّائِدَة المفيدة للْعلم قد تكون عَادِية كالقرائن الَّتِي تكون على من يخبر عَن موت وَلَده من شقّ الْجُيُوب والتفجع، وَقد تكون عقلية كَخَبَر جمَاعَة تَقْتَضِي البديهة أَو الِاسْتِدْلَال صدقهم، وَقد تكون حسية كالقرائن الَّتِي تكون على من يخبر عَن عطشه.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: زَاد بَعضهم بِنَفسِهِ ليخرج مَا امْتنع فيهم ذَلِك بالقرائن أَو مُوَافقَة دَلِيل عَقْلِي أَو غير ذَلِك، وَلَا يحْتَاج لذَلِك؛ لِأَن الْمُفِيد للْقطع هُوَ مَعَ الْقَرَائِن. انْتهى.
وَكَذَا قَالَه الْبرمَاوِيّ والتاج السُّبْكِيّ وَغَيرهم.
وَكَون خبر التَّوَاتُر يُفِيد الْعلم هُوَ قَول أَئِمَّة الْمُسلمين وَغَيرهم،(4/1751)
وَخَالف فِي ذَلِك من لَا يعبأ بِهِ على مَا يَأْتِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: التَّوَاتُر خبر جمع يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب عَن محسوس أَو عَن خبر جمع مثلهم إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى محسوس، أَي: مَعْلُوم بِأَصْل الْحَواس الْخمس، كمشاهدة أَو سَماع فَخرج بالقيد الأول خبر الْوَاحِد، وَلَو كَانَ مستفيضاً.
وَخرج بالانتهاء إِلَى محسوس مَا كَانَ عَن مَعْقُول، أَي: مَعْلُوم بِدَلِيل عَقْلِي، كإخبار أهل السّنة دهرياً بحدوث الْعَالم فَإِنَّهُ لَا يُوجب لَهُ علما لتجويزه غلطهم فِي الِاعْتِقَاد، بل هُوَ مُعْتَقد ذَلِك.
وَأَيْضًا فَعلم المخبرين بِهِ نَظَرِي، والتواتر يُفِيد الْعلم الضَّرُورِيّ فَيصير الْفَرْع أقوى من الأَصْل.(4/1752)
وَأَيْضًا: مثل ذَلِك [إِذا] لم يتَّفق المخبرون على وَاحِد بِالنَّصِّ الَّذِي شَرط فِي التَّوَاتُر، بل كل وَاحِد إِنَّمَا يخبر عَن اعْتِقَاد نَفسه وَإِن توافقوا نوعا، وَلأَجل ذَلِك لم يكن الْإِجْمَاع من قبيل الْخَبَر الْمُتَوَاتر.
والحجية فِيهِ إِنَّمَا هِيَ من حَيْثُ بِنَاء الشَّرْع على توَافق اعْتِقَاد الْأُمَم، أَو أَن الْعَادة تحيل تواطؤهم على اعْتِقَاد بَاطِل.
لَكِن قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور، والباقلاني، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، والسمعاني، والرازي، والمازري: إِن التَّقْيِيد بالحس لَا معنى لَهُ، وَإِنَّمَا الْمدَار على الْعلم الضَّرُورِيّ ليدْخل مَا اسْتندَ فِيهِ علم المخبرين إِلَى قَرَائِن الْأَحْوَال، كإخبارهم عَن الخجل الَّذِي علموه بِالضَّرُورَةِ من قَرَائِن الْحَال، فالحس وَإِن وجد لَكِن لم يكتف بِهِ؛ لِأَن الْحمرَة إِنَّمَا تدْرك بالحس(4/1753)
ذَاتهَا، وَحُمرَة الخجل كحمرة الْغَضَب، وَإِنَّمَا يفرق بَينهمَا بِأَمْر يدق عَن ضبط الْعبارَة.
وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن الْقَرَائِن تعود للحس؛ لِأَنَّهَا إِمَّا حَالية وَإِمَّا مقالية.
فَائِدَة: يكون التَّوَاتُر فِي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع.
فَأَما الْكتاب فقد تقدم أَن الْقرَاءَات السَّبع متواترة، وَكَذَلِكَ الْعشْر على الْأَصَح، وَتقدم أَحْكَام التَّوَاتُر فِي ذَلِك.
وَأما الْإِجْمَاع فالمتواتر فِيهِ كثير.
وَأما السّنة فالمتواتر فِيهَا قَلِيل جدا، حَتَّى إِن بَعضهم نَفَاهُ إِذا كَانَ لفظياً، وَهُوَ أَن يتواتر لَفظه بِعَيْنِه، لَا مَا إِذا كَانَ معنوياً، كَأَن يتواتر معنى فِي ضمن أَلْفَاظ مُخْتَلفَة، وَلَو كَانَ الْمَعْنى الْمُشْتَرك فِيهِ بطرِيق اللُّزُوم، وَيُسمى(4/1754)
التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي الْمَتْن هُوَ والتواتر اللَّفْظِيّ قَرِيبا.
وَقد قَالَ الْأَكْثَر: إِن حَدِيث " من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " متواتر؛ فَإِنَّهُ قد نَقله من الصَّحَابَة الجم الْغَفِير.
قَالَ ابْن الصّلاح: يصلح أَن يكون هَذَا مِثَالا للمتواتر من السّنة.
ويعقب عَلَيْهِ بِوَصْف غَيره من الْأَئِمَّة عدَّة أَحَادِيث بِأَنَّهَا متواترة، كَحَدِيث ذكر حَوْض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أورد الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب " الْبَعْث(4/1755)
والنشور " رِوَايَته عَن أَزِيد من ثَلَاثِينَ صحابياً، وأفرده الْمَقْدِسِي بِالْجمعِ. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَحَدِيثه متواتر بِالنَّقْلِ.
وَحَدِيث الشَّفَاعَة، قَالَ القَاضِي عِيَاض: بلغ التَّوَاتُر.
وَحَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، قَالَ ابْن عبد الْبر: رَوَاهُ نَحْو أَرْبَعِينَ صحابياً، واستفاض وتواتر.
وَقَالَ ابْن حزم فِي " الْمحلى ": نقل تَوَاتر يُوجب الْعلم، قَالَ:(4/1756)
وَمن ذَلِك أَحَادِيث النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْإِبِل، وَحَدِيث النَّهْي عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَحَدِيث قَول الْمُصَلِّي: رَبنَا وَلَك الْحَمد، إِلَى آخِره.
وَجَوَابه: ذَلِك يحْتَمل أَن مُرَاد قَائِل ذَلِك بالتواتر إِنَّمَا هُوَ الْمَشْهُور كَمَا يعبر بِهِ كثيرا عَنهُ، أَو أَنَّهَا متواترة معنى أَو غير ذَلِك، وَإِلَّا فالواقع فقدان شَرط التَّوَاتُر فِي بعض طبقاتها.(4/1757)
وَقَالَ الْحَافِظ الشَّيْخ شهَاب الدّين بن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": روى حَدِيث: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا ... " عَن ثَلَاثِينَ صحابياً بأسانيد صِحَاح وَحسان، وَعَن خمسين صحابياً غَيرهم بأسانيد ضَعِيفَة، وَعَن نَحْو عشْرين آخَرين بأسانيد سَاقِطَة، وَقد اعتنى جمَاعَة بِجمع طرقه فأولهم عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَتَبعهُ يَعْقُوب بن شيبَة فَقَالَ: رُوِيَ من عشْرين وَجها عَن الصَّحَابَة، ثمَّ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو بكر البرقاني فَقَالَ: رُوِيَ عَن(4/1758)
أَرْبَعِينَ صحابياً، ثمَّ ابْن صاعد فَزَاد قَلِيلا، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: رَوَاهُ أَكثر من ثَمَانِينَ نفسا.
وخرجها بعض النيسابوريين فزادت قَلِيلا.
وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب " الموضوعات " فجاوز التسعين، وَبِذَلِك جزم ابْن دحْيَة. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: يرويهِ نَحْو مائَة صَحَابِيّ.(4/1759)
وَقد جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل، وَأَبُو عَليّ الْبكْرِيّ، وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر، وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة على مَا فصل قبل، وَلأَجل كَثْرَة طرقه أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر.
وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَنَازع بعض مَشَايِخنَا فِي ذَلِك قَالَ: لِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ، وَمَا بَينهمَا فِي الْكَثْرَة، وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها.
وَأجِيب: بِأَن المُرَاد بِإِطْلَاق كَونه متواتراً رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر، وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم، فَإِن الْعدَد(4/1760)
5 - الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر، بل مَا أَفَادَ الْعلم كفى، وَالصِّفَات العلمية فِي الرِّوَايَة تقوم مقَام الْعدَد، أَو تزيد عَلَيْهِ، وَبَين الرَّد على من ادّعى أَن مِثَال التَّوَاتُر لَا يُوجد إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَبَين أَن أمثلته كَثِيرَة مِنْهَا:
حَدِيث: " من بنى لله مَسْجِدا "، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ، وَرفع الْيَدَيْنِ والحوض، والشفاعة، ورؤية الله فِي الْآخِرَة، وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش،(4/1761)
وَغير ذَلِك. انْتهى كَلَام الْحَافِظ.
قَوْله: ويتفاوت الْمَعْلُوم عِنْد أَحْمد، والمحققين، مِنْهُم: الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والأرموي، والخونجي، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذِه الْمَسْأَلَة ذَات خلاف، وَعَن أَحْمد فِيهَا رِوَايَتَانِ: الْأَصَح التَّفَاوُت؛ فَإنَّا نجد بِالضَّرُورَةِ الْفرق بَين كَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ وَبَين مَا علمناه من جِهَة التَّوَاتُر مَعَ كَون الْيَقِين حَاصِلا فيهمَا، قَالَ: وَوَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة بَين الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام وَبَين(4/1762)
الخونجي، فنفى ابْن عبد السَّلَام التَّفَاوُت، وأثبته الخونجي.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: كَيفَ يَنْفِي التَّفَاوُت مَعَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ الْمخبر كالمعاين؟ " وكما يفرق بَين علم الْيَقِين وَعين الْيَقِين، ثمَّ هُنَا أَمر آخر وَهُوَ أَن من فسر الرُّؤْيَة فِي الْآخِرَة بِزِيَادَة الْعلم، وَكَذَلِكَ الْكَلَام، كَيفَ يُمكنهُ نفي التَّفَاوُت؟ انْتهى.
قَالَ ذَلِك لما أورد شُبْهَة السمنية والبراهمة، واحتجاجهم بِوَجْهَيْنِ وذكرهما، وسأذكرهما بعد ذَلِك.
قَوْله: {وَحكي عَن البراهمة: لَا يفِيدهُ، واكتفوا بِالْعقلِ، وَحصر السمنية الْعلم فِي الْحَواس الْخمس.
وَقيل: يُفِيد بالموجود لَا الْمَاضِي وَهُوَ عناد} .(4/1763)
السمنية - بِضَم السِّين الْمُهْملَة وبتشديد الْمِيم -: طَائِفَة من الْهِنْد عَبدة الْأَصْنَام، يَقُولُونَ بالتناسخ، وينقل ذَلِك عَن البراهمة وهم طَائِفَة لَا يجوزون على الله تَعَالَى بعثة الرُّسُل.
وَعَن السوفسطائية - بِضَم السِّين الْمُهْملَة الأولى وبالفاء، وَرُبمَا قيل: السوفسطانية بنُون بعد الْألف -، قوم يُنكرُونَ الْخَالِق.
قَالَ الْعلمَاء والعقلاء قَالُوا: الْمُتَوَاتر يُفِيد الْعلم لعلمهم بِبِلَاد نائية، وأمم مَاضِيَة، وأنبياء وخلفاء وملوك بِمُجَرَّد الْأَخْبَار، كعلمهم بالمحسات جزما خَالِيا عَن التَّرَدُّد.
وَحكي عَن قوم - قيل: هم البراهمة، وهم لَا يجوزون على الله بعث الرُّسُل، وَقيل: هُوَ السمنية، فرقة من عَبدة الْأَصْنَام يَقُولُونَ بالتناسخ - أَنه لَا يُفِيد الْعلم.(4/1764)
وَقيل: يُفِيد عَن الْمَوْجُود، لَا الْمَاضِي؛ لِأَن تباينهم يمْنَع اجْتِمَاعهم على خبر، كاجتماعهم على حب طَعَام وَاحِد، ثمَّ الْجُمْلَة مركبة من وَاحِد، وَيُمكن كذبه فَكَذَا هِيَ، وَيلْزم تنَاقض المعلومين بتعارض تواترين، وَحُصُول الْعلم بِنَقْل أهل الْكتاب مَا يضاد الْإِسْلَام؛ وَلِأَن الضَّرُورِيّ لَا يخْتَلف وَلَا يُخَالف، وَقد فرقنا ضَرُورَة بَين الْمُتَوَاتر والمحسات وخالفناكم.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ تشكيك فِي الضَّرُورِيّ فَلَا يسمع. قَالَه الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَتَابعه ابْن مُفْلِح وَغَيره.(4/1765)
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قلت: قَالَ الأرموي: وَالْجَوَاب أَن هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب، بل الْحق أَن المعلومات مُتَفَاوِتَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهِي مَسْأَلَة خلاف، وَذكر مَا تقدم قبل ذَلِك فِي مَسْأَلَة ابْن عبد السَّلَام فِي التَّفَاوُت.
قَالَ ابْن مُفْلِح: الأول مَمْنُوع، وَلَا يلْزم من ثُبُوت شَيْء للْوَاحِد ثُبُوته للجملة؛ فَإِن الْوَاحِد جُزْء الْعشْرَة وَلَيْسَت جُزْءا مِنْهُ، والمعلوم الْوَاحِد متناه لَا مَعْلُومَات الله واجتماع المتواترين فرض محَال، وأخبار أهل الْكتاب فِيمَا ذَكرُوهُ لم تتواتر، والقاطع يُقَابله، وَلَا نسلم أَن الضَّرُورِيّ لَا يتَفَاوَت، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه لَا يُفِيد الْعلم، ثمَّ للاستئناس والمخالفة عناد، كَمَا حُكيَ عَن بعض السوفسطائية.(4/1766)
[و] قَالَ ابْن عقيل: أَصْحَاب سوفسطا نعلم أَنه لَا علم أصلا، وَعَن بَعضهم: لَا علم لنا بِمَعْلُوم، وَعَن بَعضهم: لَا يُنكر الْعلم، لَكِن لَا يقوى عَلَيْهِ الْبشر، وَعَن بَعضهم: من اعْتقد شَيْئا فَهُوَ كَمَا اعتقده، وَالْجَوَاب وَاحِد. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: من أَرَادَ أَن يدْفع الْعلم اليقيني المستقر فِي الْقُلُوب بالشبه فقد سلك مَسْلَك السوفسطائية؛ فَإِن السفسطة أَنْوَاع:
أَحدهَا: النَّفْي، والجحد، والتكذيب، إِمَّا بالوجود وَإِمَّا بِالْعلمِ بِهِ.
وَالثَّانِي: الشَّك والريب، وَهَذِه طَريقَة الاادرية الَّذين يَقُولُونَ: لَا نَدْرِي، فَلَا يثبتون وَلَا ينفون، لَكِن هم فِي الْحَقِيقَة قد نفوا الْعلم، وَهُوَ نوع من النَّفْي، فَعَادَت السفسطة إِلَى جحد الْحق الْمَعْلُوم أَو جحد الْعلم بِهِ.(4/1767)
وَالثَّالِث: قَول من يَجْعَل الْحَقَائِق تبعا للعقائد، فلقول من اعْتقد الْعَالم قَدِيما فَهُوَ قديم، وَمن اعتقده مُحدثا فَهُوَ مُحدث.
وَإِذا أُرِيد بذلك أَنه قديم عِنْده، مُحدث عِنْده فَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، فَإِن هَذَا هُوَ اعْتِقَاده، لَكِن السفسطة أَن يُرَاد أَنه كَذَلِك فِي الْخَارِج. انْتهى.
{وَأنْكرت الملحدة والرافضة الْعلم بِالْعقلِ} لتناقض قضاياه لاخْتِلَاف الْعُقَلَاء، وَهَذَا تنَاقض مِنْهُم مَعَ أَن الْعقل حجَّة الله على الْمُكَلف، وَاخْتِلَاف الْعُقَلَاء لقُصُور علم، أَو تَقْصِير فِي شَرط النّظر، ثمَّ جَمِيع ذَلِك شبه لَا أثر لَهَا مَعَ الْعلم، كالحسيات مَعَ أَن النّظر يخْتَلف فِيهَا وَالسَّمَاع.
وَقَالَت الْيَهُود من شَرط التَّوَاتُر أَن لَا يكذب بِهِ أحد، وَهُوَ بَاطِل.(4/1768)
قَوْله: {وَهُوَ لَفْظِي، كَحَدِيث: " من كذب عَليّ " ومعنوي، وَهُوَ تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، كَحَدِيث الْحَوْض، وسخاء حَاتِم} .
التَّوَاتُر: لَفْظِي ومعنوي.
فاللفظي: اشتراكهم فِي لفظ بِعَيْنِه، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا " الحَدِيث كَمَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ، وعَلى طرقه وعدتهم.
والمعنوي: تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، كَحَدِيث الْحَوْض - أَعنِي حَوْض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا تقدم قَرِيبا -، وسخاء حَاتِم وشجاعة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَغَيرهَا. وَذَلِكَ إِذا كثرت الْأَخْبَار فِي الوقائع وَاخْتلف فِيهَا، لَكِن كل وَاحِد مِنْهَا يشْتَمل على معنى مُشْتَرك بَينهَا بِجِهَة التضمن أَو ... ... ... ... . .(4/1769)
الِالْتِزَام، حصل الْعلم بِالْقدرِ الْمُشْتَرك، وَهُوَ مثلا الشجَاعَة وَالْكَرم وَنَحْوهَا، وَيُسمى التَّوَاتُر من جِهَة الْمَعْنى، وَذَلِكَ كوقائع حَاتِم فِيمَا يحْكى من عطاياه من فرس، وإبل، وَعين، وثوب، وَنَحْوهَا؛ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن جوده فَيعلم، وَإِن لم يعلم شَيْء من تِلْكَ القضايا بِعَيْنِه.
وكقضايا عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي حروبه من أَنه هزم فِي خَيْبَر كَذَا، وَفعل فِي أحد كَذَا، إِلَى غير ذَلِك؛ فَإِنَّهُ يدل بالإلتزام على شجاعته، وَقد تَوَاتر ذَلِك مِنْهُ، وَإِن كَانَ شَيْء من تِلْكَ الجزيئات لم يبلغ دَرَجَة الْقطع.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل " التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ كَالْعلمِ بشجاعة عَليّ وسخاء حَاتِم مَعَ اخْتِلَاف المخبرين فِي الوقائع الدَّالَّة على ذَلِك لاشتراكها فِي الْمَدْلُول، وَإِن كَانَت جِهَة دلالتها تَارَة بالتضمن وَتارَة بالإلتزام، وَكثير من الوقائع على هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ: قلت: التَّوَاتُر الْمَعْنَوِيّ تغاير الْأَلْفَاظ مَعَ الِاشْتِرَاك فِي معنى كلي، واللفظي اشتراكهم فِي اللَّفْظ. انْتهى.
وَهَذَا الْأَخير الَّذِي قَالَه حسن؛ فَلذَلِك ذَكرْنَاهُ فِي الْمَتْن بَدَلا عَن الأول فَإِنَّهُ أوضح.(4/1770)
قَوْله: {أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر: الْعلم الْحَاصِل بِهِ ضَرُورِيّ} ؛ إِذْ لَو كَانَ نظرياً لافتقر إِلَى توَسط المقدمتين، وَلما حصل لمن لَيْسَ من أهل النّظر كالنساء وَالصبيان؛ وَلِأَن الضَّرُورِيّ مَا اضْطر الْعقل إِلَى التَّصْدِيق بِهِ، وَهَذَا كَذَلِك، ولساغ الْخلاف فِيهِ عقلاء كَسَائِر النظريات.
{وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَأَبُو الْمَعَالِي، والدقاق، وَغَيرهم: نَظَرِي} .(4/1771)
وَقَالَهُ الكعبي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزليان؛ إِذْ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما افْتقر إِلَى النّظر فِي المقدمتين وَهِي اتِّفَاقهم على الْإِخْبَار وَعدم تواطئهم على الْكَذِب، فصورة التَّرْتِيب مُمكنَة.
رد ذَلِك: بِأَنَّهُ مطرد فِي كل ضَرُورِيّ.
قَالُوا: لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لعلم كَونه ضَرُورِيًّا ضَرُورَة؛ لعدم حُصُول علم ضَرُورِيّ لَا يشْعر بضرورته.
رد: معَارض بِمثلِهِ فِي النظري، ثمَّ لَا يلْزم من حُصُول الْعلم الشُّعُور بِالْعلمِ ضَرُورَة، وَإِن سلم فَلَا يلْزم الشُّعُور بِصفتِهِ ضَرُورَة.
قَالُوا: كَالْعلمِ عَن خبر الله وَرَسُوله.
رد: لتوقفه على معرفتهما، وَهِي نظرية.(4/1772)
وللقاضي أبي يعلى من أَئِمَّة [أَصْحَابنَا] قَولَانِ، وَاخْتَارَ فِي " الْكِفَايَة " أَنه نَظَرِي، وَاخْتَارَ فِي " الْعدة " أَنه ضَرُورِيّ.
وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى ": تَحْقِيق القَوْل فِيهِ أَنه ضَرُورِيّ يَعْنِي أَنه لَا يحْتَاج فِي حُصُوله إِلَى الشُّعُور بتوسط وَاسِطَة مفضية إِلَيْهِ مَعَ أَن الْوَاسِطَة حَاضِرَة فِي الذِّهْن، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنى أَنه حَاصِل من غير وَاسِطَة. انْتهى.
وَنقل أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن الْبَلْخِي مُوَافقَة الْمَعْنى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَكَاهُ أَيْضا عَن الدقاق، وَأبي الْحُسَيْن.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْخلاف لَفْظِي؛ إِذْ مُرَاد الأول بالضروري مَا اضْطر الْعقل إِلَى تَصْدِيقه، وَالثَّانِي البديهي الْكَافِي فِي حُصُول الْجَزْم بِهِ(4/1773)
تصور طَرفَيْهِ، والضروري منقسم إِلَيْهِمَا، فدعوى كل غير دَعْوَى الآخر، والجزم حَاصِل على الْقَوْلَيْنِ. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: اللَّائِق ارْتِفَاع الْخلاف فَإِن حُصُول الْعلم فِيهِ بِالضَّرُورَةِ أَمر مشَاهد.
وَقَالَ الكوراني: لخص الْخلاف بعض الْمُحَقِّقين بِأَن المتواترات والمجربات وَإِن كَانَت قضايا ضَرُورِيَّة إِلَّا أَن فِيهَا قِيَاسا خفِيا؛ إِذْ السَّامع إِنَّمَا يحكم فِي الْمُتَوَاتر؛ لِأَنَّهُ يعلم أَنه صدر عَن جمع لَا يُمكن اتِّفَاقهم على الْكَذِب، فَكَأَنَّهُ يَقُول عِنْد السماع: هَذَا خبر جمع لَا يُمكن تواطؤهم على الْكَذِب، وكل خبر هَذَا شَأْنه فَهُوَ صدق قطعا، فَهَذَا الْخَبَر صدق قطعا.
وَمثل هَذَا الْقيَاس الْخَفي لَا يخرج الْعلم عَن كَونه ضَرُورِيًّا، فقد ظهر لَك أَن لَا خلاف بَين الطَّائِفَتَيْنِ. انْتهى.
{وَتوقف الْآمِدِيّ والمرتضى} من الشِّيعَة لتعارض الْأَدِلَّة، لِأَن تَسْمِيَة مثل هَذَا الْعلم بالنظري غير ظَاهر؛ إِذْ لَا اسْتِدْلَال، وَكَذَا بالضروري(4/1774)
لتوقفه على ذَلِك الْقيَاس الْخَفي، وَصَححهُ صَاحب المصادر.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول رَابِع: إِنَّه يُفِيد علما بَين المكتسب والضروري، قَالَه صَاحب " الكبريت الْأَحْمَر ".
قَوْله: {فَائِدَة: خبر التَّوَاتُر لَا يُولد الْعلم وَيَقَع عِنْده بِفعل الله تَعَالَى عِنْد الْفُقَهَاء وَغَيرهم، وَخَالف قوم} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الأول: قَول الْفُقَهَاء والأشاعرة والمعتزلة خلافًا لقوم، وَقطع بِالْأولِ الطوفي، وَقدمه ابْن حمدَان وَغَيره.(4/1775)
لنا: مَا ثَبت من الْأُصُول أَن لَا موجد إِلَّا الله وَهُوَ بِمَنْزِلَة إِجْرَاء الْعَادة بِخلق الْوَلَد من الْمَنِيّ، وَهُوَ قَادر على خلقه بِدُونِ ذَلِك خلافًا لمن قَالَ بالتولد.
قَالَ الْمُخَالف: يُمكن أَن يخلفه وَيُمكن ضِدّه.
قُلْنَا: مُمكن عقلا، وواجب عَادَة.
وَاسْتدلَّ: لَو ولد الْعلم فإمَّا من الْأَخير وَحده وَهُوَ محَال إِذا كَانَ يَكْفِي مُنْفَردا، أَو مِنْهُ وَمن الْجُمْلَة قبله وَهُوَ محَال أَيْضا لعدم صُدُور الْمُسَبّب عَن شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، أَو لِأَنَّهَا تعدم شَيْئا فَشَيْئًا، والمعدوم لَا يُؤثر.
فَقيل: يجوز تَأْثِير الْأَخير مَشْرُوطًا بِوُجُود مَا قبله وانعدامه أَيْضا فَهُوَ وَارِد فِي إفادته التولد.
ثمَّ قَالُوا من جِهَة الْإِلْزَام لِلْقَائِلين بالتولد: إِن مَاله جِهَة يجوز أَن يُولد شَيْئا فِي غير مَحَله، كالاعتمادات، والحركات، وَمَا لَيْسَ كَذَلِك(4/1776)
فبخلافه، وَالْخَبَر لَيْسَ لَهُ جِهَة، فَلَا يُولد فِي غير مَحَله.
فَقيل: هُوَ ضَعِيف؛ لِأَن مَذْهَب الْمُخَالف: يُولد الشَّيْء فِي غير مَحَله كالإرعاب المولد فِي غير مَحَله الوجل المولد الإصفرار بعد الإحمرار، وكالتوبيخ يُولد الخجل المولد للاحمرار.
قَوْله: {وَشَرطه: بلوغهم عددا يمْتَنع مَعَه التواطؤ على الْكَذِب لكثرتهم} .
وَعَن القَاضِي وَغَيره: {أَو دينهم، مستندين إِلَى الْحس مستوين فِي طرفِي الْخَبَر ووسطه} .(4/1777)
للمتواتر شُرُوط، بَعْضهَا مُتَّفق عَلَيْهِ، وَبَعضهَا مُخْتَلف فِيهِ.
فَمن الْمُتَّفق عَلَيْهِ بِحَسب المخبرين: أَن يَتَعَدَّد المخبرون تعدداً يمْنَع اتِّفَاقهم على الْكَذِب بطرِيق الِاتِّفَاق أَو بطرِيق الْمُوَاضَعَة.
وَفِي بعض كَلَام القَاضِي، وَذكره ابْن عقيل عَن أَصْحَابنَا: لكثرتهم أَو دينهم وصلاحهم وَهُوَ قوي؛ فَإِن إِخْبَار الْأَئِمَّة وَمن قارنهم لَيْسَ كأخبار غَيرهم.
وَأَن يَكُونُوا مستندين فِي إخبارهم إِلَى الْحس فِي الْأَصَح لَا إِلَى دَلِيل عَقْلِي كَمَا تقدم، ذكره فِي كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره فِي حَدِيث التَّوَاتُر فَليُرَاجع.
وَقَوْلنَا: فِي الْأَصَح القَوْل الَّذِي يُقَابل الْأَصَح للأستاذ أبي مَنْصُور،(4/1778)
والباقلاني، والسمعاني، والرازي، والمازري قَالُوا: الْمُعْتَبر أَن يكون ذَلِك الْعلم ضَرُورِيًّا، سَوَاء كَانَ عَن حس أَو عَن قرينَة كَمَا تقدم فِي حد التَّوَاتُر فَليُرَاجع.
وَقَوله: إِلَى الْحس يدل على أَمريْن:
أَحدهمَا: أَن يكون عَن علم لَا ظن.
الثَّانِي: أَن يكون علمهمْ مدْركا بِإِحْدَى الْحَواس الْخمس. ذكره الرَّازِيّ، والآمدي، وأتباعهما، وَتقدم كَلَام الباقلاني، وَغَيره.
وَأَن يَكُونُوا مستوين فِي التَّعَدُّد، والاستناد بَالغا مَا بلغ عدد التَّوَاتُر. وَمحل هَذَا إِن وجد بِأَن يكون للْخَبَر طرفان ووسط، وَإِلَّا فقد يكون عدد التَّوَاتُر عَن أَخْبَار من عاينوه كأخبار الصَّحَابَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(4/1779)
فيكتفي بذلك بِلَا نزاع، بل هُوَ أولى من الطَّرفَيْنِ وَالْوسط، وكأخبار التَّابِعين عَن الصَّحَابَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَمن الْمُخْتَلف فِيهِ: مَا زَاده الْمُوفق، والآمدي، وَابْن حمدَان: أَن يكون المخبرون عَالمين بِمَا أخبروا بِهِ، وَهُوَ ضَعِيف غير مُحْتَاج إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِن أُرِيد علم جَمِيعهم فَبَاطِل؛ لِأَنَّهُ قد لَا يكون جَمِيعهم عَالمين، بل يكون بَعضهم ظَانّا وَمَعَ هَذَا يحصل الْعلم.
وَإِن أُرِيد علم الْبَعْض بِهِ فَهُوَ لَازم مَا ذكرنَا من الْقُيُود الثَّلَاثَة عَادَة؛ وَلِأَنَّهَا لَا تَجْتَمِع إِلَّا وَالْبَعْض عَالم قطعا، وَإِلَّا كَيفَ يعلم حُصُول هَذِه الشُّرُوط مِمَّن زعم أَنه نَظَرِي بِشَرْط تقدم الْعلم بذلك كُله، وَأما نَحن فالضابط عندنَا حُصُول الْعلم بصدقه، فَإِذا علم ذَلِك عَادَة علم وجود الشَّرَائِط، لَا أَن الضَّابِط فِي حُصُول الْعلم سبق الْعلم بهَا كَمَا يَقُوله من يرى أَنه نَظَرِي.(4/1780)
{وَقَالَ} أَبُو الْخطاب {فِي " التَّمْهِيد ": إِن قُلْنَا} إِنَّه {نَظَرِي} اشْترط أَن يكون المخبرون عَالمين، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقع بِهِ الْعلم؛ وَلِأَن علم السَّامع فرع على الْمخبر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: {وَعدم علم السَّامع} مَا تقدم فَهُوَ شَرط فِي المخبرين، وَهَذَا شَرط فِي السامعين، يَعْنِي: أَن لَا يكون السَّامع للمتواتر عَالما بِمَا أخبروا قبل إخبارهم فَإِنَّهُ لَا يفِيدهُ شَيْئا لعلمه قبله.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَأَن يكون علم المستمع غير حَاصِل قبل الْخَبَر. انْتهى.
وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، وَغَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: رَابِع الشُّرُوط كَون السَّامع غير عَالم بمدلوله ضَرُورَة أَو اسْتِدْلَالا، كالإخبار بِأَن السَّمَاء فَوق الأَرْض، وَبِأَن الْعَالم مُحدث لمن هُوَ مُسلم، وَهَذَا خَارج من قَوْلنَا فِي حد التَّوَاتُر: يُفِيد الْعلم؛ لِأَن هَذَا لم(4/1781)
يفد شَيْئا؛ لِأَن الْعلم بذلك كَانَ حَاصِلا انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَيعْتَبر فِي تأهل المستمع للْعلم، وَعَدَمه حَال الْإِخْبَار لِامْتِنَاع تَحْصِيل الْحَاصِل، وَأَن لَا يُعلمهُ السَّامع ضَرُورَة. انْتهى.
قَوْله: {أَصْحَابنَا والمحققون: لَا ينْحَصر عدد التَّوَاتُر فِي عدد، بل مَا حصل الْعلم عِنْده فَيعلم أَيْضا حُصُول الْعدَد، وَلَا دور} .
قَالَ الطوفي: وَالْحق أَن الضَّابِط حُصُول الْعلم بالْخبر فَيعلم إِذن حُصُول الْعدَد، وَلَا دور؛ إِذْ حُصُول الْعلم مَعْلُول الْإِخْبَار وَدَلِيله، كالشبع والري مَعْلُول المشبع والمروي وَدَلِيلهمَا، وَإِن لم يعلم ابْتِدَاء الْقدر الْكَافِي مِنْهُمَا، وَمَا ذكر من التقديرات تحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ، نعم لَو أمكن الْوُقُوف على(4/1782)
حَقِيقَة اللحظة الَّتِي يحصل لنا الْعلم بالمخبر عَنهُ فِيهَا أمكن معرفَة أقل عدد يحصل الْعلم بِخَبَرِهِ لَكِن ذَلِك مُتَعَذر؛ إِذْ الظَّن يتزايد بتزايد المخبرين تزايداً خفِيا تدريجياً كتزايد النَّبَات، وعقل الصَّبِي ونمو بدنه، وضوء الصُّبْح، وحركة الْفَيْء فَلَا يدْرك. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ غَيره، قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: فَإِن قيل: كَيفَ يعلم الْعلم بالتواتر مَعَ الْجَهْل بِأَقَلّ عدده؟
قُلْنَا: كَمَا يعلم أَن الْخبز مشبع وَالْمَاء مرو وَإِن جهلنا عدده. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وضابطه مَا حصل الْعلم عِنْده للْقطع بِهِ من غير علم بِعَدَد خَاص، وَالْعَادَة تقطع بِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى وجدانه لحصوله بتزايد الظنون على تدرج خَفِي كحصول كَمَال الْعقل بِهِ، وَلَا دَلِيل.(4/1783)
قَوْله: {وَعَلِيهِ يمْتَنع الِاسْتِدْلَال بالتواتر على من لم يحصل لَهُ الْعلم بِهِ} لَو حصل التَّوَاتُر عِنْد جمَاعَة وَلم يحصل عِنْد آخَرين امْتنع الِاسْتِدْلَال بالتواتر عِنْد من حصل لَهُ على من لم يحصل لَهُ الْعلم بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُول مَا تدعيه من التَّوَاتُر غير مُسلم فَلَا أسمعهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتواتر عِنْدِي.
قَوْله: {وَيخْتَلف باخْتلَاف الْقَرَائِن} الْعدَد الَّذِي يحصل الْعلم بِصدق الْخَبَر عِنْده يخْتَلف باخْتلَاف قَرَائِن التَّعْرِيف، مثل: الهيئات الْمُقَارنَة للْخَبَر الْمُوجبَة لتعريف مُتَعَلقَة ولاختلاف أَحْوَال المخبرين فِي اطلاعهم على قَرَائِن التَّعْرِيف، ولاختلاف إِدْرَاك المستمعين لتَفَاوت الأذهان، والقرائح، ولاختلاف الوقائع على عظمها وحقارتها، وَهَذِه الْمَسْأَلَة ذَات خلاف.
قَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَالصَّحِيح ثَالِثهَا إِن علمه لِكَثْرَة الْعدَد مُتَّفق وللقرائن قد تخْتَلف فَيحصل لزيد دون عَمْرو.(4/1784)
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: هَل يجب اطراد حُصُول الْعلم بالمتواتر لكل من بلغ، أَو يُمكن حُصُول الْعلم لبَعْضهِم دون بعض؟ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: ثَالِثهَا: وَهُوَ الرَّاجِح عِنْد الْمنصف - أَن علمه مُتَّفق - أَي يتَّفق النَّاس كلهم فِي الْعلم بِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ، وَإِن كَانَ لاحتفاف قَرَائِن بِهِ اضْطربَ فقد يحصل لبَعْضهِم دون بعض، وَفِيه نظر؛ فَإِن الْخَبَر الَّذِي لم يحصل الْعلم فِيهِ إِلَّا بانضمام الْقَرِينَة إِلَى الْخَبَر لَيْسَ من التَّوَاتُر، بل لابد أَن يكون حُصُول الْعلم بِمُجَرَّد روايتهم. انْتهى.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: نقطع أَنه يخْتَلف بالقرائن الَّتِي تتفق فِي التَّعْرِيف غير زَائِدَة على الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي ذَلِك عَادَة من الْجَزْم وتفرس آثَار الصدْق، وباختلاف اطلَاع المخبرين على مثلهَا عَادَة، كدخاليل الْملك(4/1785)
بأحواله الْبَاطِنَة وباختلاف إِدْرَاك المستمعين وفطنتهم وباختلاف الوقائع، وتفاوت كل وَاحِد مِنْهَا مُوجب الْعلم بِخَبَر عدد أَكثر أَو أقل لَا يُمكن ضَبطه، فَكيف إِذا تركبت الْأَسْبَاب. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: بلَى} أَي: وَقيل: ينْحَصر حُصُول التَّوَاتُر فِي عدد، وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بذلك على أَقْوَال كَثِيرَة، أَكْثَرهَا ضَعِيف أَو سَاقِط.
فَقيل: أقل مَا يحصل بِهِ اثْنَان، حَكَاهُ القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب عَن قوم؛ لِأَنَّهُ بَيِّنَة تَامَّة، وَهُوَ ضَعِيف جدا، بل سَاقِط، وَسَيَأْتِي أَن بَعضهم حكى الْإِجْمَاع أَنه لَا يحصل بِدُونِ أَرْبَعَة.
وَقيل: يحصل بأَرْبعَة، حَكَاهُ أَيْضا القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب عَن قوم ذكره فِي " المسودة "؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَة الزِّنَا.(4/1786)
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى مُتَابعَة للْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ، وَقَالَهُ قبلهم القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني مُتَابعَة للجبائي: يجب أَن يكون عَددهمْ أَكثر من أَرْبَعَة؛ لِأَن خبر الْأَرْبَعَة لَو جَازَ أَن يكون مُوجبا للْعلم لوَجَبَ أَن يكون كل أَرْبَعَة مُوجبا لذَلِك، وَلَو كَانَ هَكَذَا لوَجَبَ - إِذا شهد أَرْبَعَة بِالزِّنَا - أَن يعلم الْحَاكِم صدقهم ضَرُورَة.
قَالَ ابْن برهَان: وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْأَرْبَعَة لَيْسَ من الْعدَد الْمُتَوَاتر، وَنسبه التَّاج السُّبْكِيّ للشَّافِعِيَّة.
وَقيل: خَمْسَة، ذكره أَبُو الطّيب، وَنَصره الجبائي وَتردد فِيهِ الباقلاني، وَقَالَ عَن الْأَرْبَعَة: لَو حصل بقول شُهُود الزِّنَا لم يحْتَج إِلَى التَّزْكِيَة.(4/1787)
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: وَيرد عَلَيْهِ أَن وجوب التَّزْكِيَة مُشْتَرك إِلَّا أَن يَقُول: قد يُفِيد الْعلم فَلَا تجب التَّزْكِيَة، وَقد لَا يُفِيد فَيعلم كذب وَاحِد، فالتزكية لتعلم عَدَالَة الْأَرْبَعَة، وَقد يفرق بَين الْخَبَر وَالشَّهَادَة، كَيفَ والاجتماع فِي الشَّهَادَة مَظَنَّة التواطؤ. انْتهى.
قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قيل يحصل بالخمسة؛ لأَنهم بِعَدَد أولي الْعَزْم من الرُّسُل على قَول من فسره بهم، وهم: نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمّد صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ -.
قلت: وَقد ذكرهم الله تَعَالَى منفردين عَن غَيرهم فِي موضِعين من الْقُرْآن: الأول: فِي سُورَة الْأَحْزَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} [الْأَحْزَاب: 7] .
وَالثَّانِي: فِي سُورَة الشورى فِي قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين} [الشورى: 13] ، وَقد نبه على ذَلِك الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره.
وَقيل: عشرَة. وَنسب هَذَا القَوْل إِلَى الْإِصْطَخْرِي؛ ... ... ... ... ... ... ... .(4/1788)
لِأَن مَا دونهَا جمع قلَّة.
وَقيل: اثْنَي عشر، بِعَدَد النُّقَبَاء الَّذِي أرسلهم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ليعرفوه أَحْوَال بني إِسْرَائِيل ليحصل الْعلم بخبرهم، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا} [الْمَائِدَة: 12] .
وَقيل: عشرُون، لقَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَال: 65] . نقل هَذَا القَوْل عَن أبي الْهُذيْل وَغَيره من الْمُعْتَزلَة، وَقَيده الصَّيْرَفِي بِمَا إِذا كَانُوا عُدُولًا، لَكِن المصابرة فِي الْقِتَال لَا علقَة لَهَا بالأخبار.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: بل ليُفِيد خبرهم الْعلم بِإِسْلَامِهِمْ.(4/1789)
وَقيل: أَرْبَعُونَ، عِنْد من تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة، لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} [الْأَنْفَال: 64] ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ.
وَقيل: سَبْعُونَ، لقَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} [الْأَعْرَاف: 155] ، وَإِنَّمَا خصهم بِهَذَا الْعدَد لخبرهم إِذا رجعُوا ليخبروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم.
وَقيل: ثَلَاثمِائَة وبضع عشرَة، بِعَدَد أَصْحَاب بدر؛ لِأَنَّهُ(4/1790)
يحصل بخبرهم الْعلم للْمُشْرِكين.
والبضع - بِكَسْر الْبَاء -: مَا بَين الثَّلَاثَة ألى التِّسْعَة، وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": الْبضْع مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع، أَو إِلَى الْخمس، أَو مَا بَين الْوَاحِد إِلَى الْأَرْبَعَة، أَو من أَربع إِلَى تسع، أَو هُوَ سبع، وَإِذا جَاوَزت لفظ الْعشْر ذهب الْبضْع، لَا يُقَال: بضع وَعِشْرُونَ، أَو يُقَال ذَلِك.
الْفراء: لَا يذكر مَعَ الْعشْرَة وَالْعِشْرين إِلَى التسعين، وَلَا يُقَال: بضع وَمِائَة، وَلَا ألف.
مبرمان: الْبضْع مَا بَين الْعقْدَيْنِ من وَاحِد إِلَى الْعشْرَة، وَمن أحد عشر إِلَى عشْرين، وَمَعَ الْمُذكر بهاء، وَمَعَهَا بِغَيْر هَاء: بضعَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبضع وَعِشْرُونَ امْرَأَة، وَلَا يعكس، أَو الْبضْع: غير مَعْدُود؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْقطعَة. انْتهى.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": الْبضْع - بِالْكَسْرِ، وَبَعض الْعَرَب يفتح - من الثَّلَاثَة إِلَى التِّسْعَة، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث فَيُقَال: بضع رجال، وبضع نسْوَة، وَيسْتَعْمل من ثَلَاثَة عشر إِلَى تِسْعَة عشر، لَكِن تثبت الْهَاء فِي بضع مَعَ الْمُذكر، وتحذف مَعَ الْمُؤَنَّث، كالنيف، وَلَا يسْتَعْمل فِيمَا زَاد على(4/1791)
الْعشْرين، وَأَجَازَهُ بعض الْمَشَايِخ فَتَقول: بضعَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبضع وَعِشْرُونَ امْرَأَة، وَهَكَذَا قَالَه أَبُو زيد، وَقَالُوا: على هَذَا معنى الْبضْع والبضعة فِي الْعدَد قِطْعَة مُبْهمَة غير محدودة. انْتهى.
والنيف ككيس، وَقد يُخَفف، اصله: نيوف، يُقَال: عشرَة ونيف وَكلما زَاد على العقد فنيف إِلَى أَن يبلغ العقد الثَّانِي، والنيف الْفضل وَالْإِحْسَان، وَمن وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث. قَالَه " الْقَامُوس "، وَقَالَ: أفرد الْجَوْهَرِي لَهُ تركيب: ن ى ف وهما، وَالصَّوَاب أَنه واوي.
وَالصَّحِيح أَن أَصْحَاب بدر كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر، وَقيل: وَعشرَة، وَقيل: وَخَمْسَة، وَلَا تبَاين بَينهَا وَبَين الثلاثةعشر، كَمَا توهمه الدمياطي؛ لِأَن الدّين خَرجُوا الَّذين خَرجُوا لِلْقِتَالِ ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة، وَأدْخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَهم فِي الْقِسْمَة ثَمَانِيَة أسْهم لجَماعَة لم يحضروا فنزلوا منزلَة الْحَاضِرين.
وَقيل: خَمْسمِائَة، حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة " عَن قوم وَلم نره لغيره.(4/1792)
وَقيل: ألف وَسَبْعمائة بِعَدَد أهل بيعَة الرضْوَان.
وَقَالَ بَعضهم: لابد للمتواتر من عدد أهل بيعَة الرضْوَان، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وهم ألف وَسَبْعمائة، وَقيل: ألف وَخَمْسمِائة، وَهِي رِوَايَة جَابر فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقيل: ألف وَأَرْبَعمِائَة، وَهِي رِوَايَة جَابر أَيْضا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي " الْهَدْي ": وَالْقلب إِلَى هَذَا أميل، وَهُوَ قَول الْبَراء بن عَازِب، وَمَعْقِل بن يسَار، وَسَلَمَة بن ... ... ... . .(4/1793)
الْأَكْوَع فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَهُوَ قَول الْمسيب بن حزن. انْتهى. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الْأَشْهر، وَعَن عبد الله بن أبي أوفى: كَانُوا ألفا وثلاثمائة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ، ومُوسَى بن عقبَة: كَانُوا ألفا وسِتمِائَة.(4/1794)
وَقيل: غير ذَلِك فِيهَا، وَهَذِه الْأَقْوَال غالبها ضَعِيف جدا، وَبَعضهَا سَاقِط.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا تعلق لشَيْء من هَذِه الْأَعْدَاد بالأخبار فتعيين هَذِه الْأَعْدَاد فِي التَّوَاتُر بِهَذَا الشّبَه لَا يخفى ضعفه، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَقَول أبي الْحُسَيْن، والباقلاني: من حصل بِخَبَرِهِ علم بواقعة لشخص حصل بِمثلِهِ بغَيْرهَا لشخص آخر، صَحِيح إِن تَسَاويا من كل وَجه، وَهُوَ بعيد عَادَة} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: كل عدد أَفَادَ الْعلم لشخص فِي وَاقعَة مُفِيد للْعلم لغيره فِي غَيرهَا، وإطلاقه بَاطِل؛ إِذْ قد يمتاز الشَّخْص بفرط ذكائه فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة دون غَيرهَا، لَكِن هُوَ صَحِيح مَعَ التَّسَاوِي، وَهُوَ بعيد عَادَة. انْتهى.(4/1795)
وَكَذَا قَالَ غَيره، وَكلهمْ تابعوا ابْن الْحَاجِب.
قَوْله: {وَشرط ابْن عَبْدَانِ من الشَّافِعِيَّة الْإِسْلَام وَالْعَدَالَة فِيهِ} ، كَمَا شَرط فِي الشَّهَادَة؛ لِأَن الْكفْر والفسوق عرضة للكذب والتحريف، وَالْإِسْلَام وَالْعَدَالَة يمنعانه، وَأَيْضًا: لَو لم يشْتَرط ذَلِك لأفاد إِخْبَار النَّصَارَى بقتل الْمَسِيح وَهُوَ بَاطِل بِنَصّ الْقُرْآن بقوله تَعَالَى: {وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم} [النِّسَاء: 157] ، وبالإجماع.
وَالْجَوَاب: منع حُصُول شَرط التَّوَاتُر للاختلال فِي الأَصْل، أَي: الطَّبَقَة الأولى لكَوْنهم لم يبلغُوا عدد التَّوَاتُر؛ وَلِأَنَّهُم رَأَوْهُ من بعيد، أَو بعد صلبه فَشبه لَهُم، وللاختلال فِي الْوسط، أَي: قُصُور الناقلين عَن(4/1796)
عدد التَّوَاتُر، وَفِي شَيْء مِمَّا بَينهم وَبَين الناقلين إِلَيْنَا من عدد التَّوَاتُر؛ وَلذَلِك نعلم أَن أهل قسطنطينية لَو أخبروا بقتل ملكهم حصل الْعلم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: من شُرُوط التَّوَاتُر اشْتِرَاط الْعَدَالَة، وَإِلَّا فقد أخبر الإمامية بِالنَّصِّ على إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَلم تقبل أخبارهم مَعَ كثرتهم لفسقهم.
وَمِنْهَا: اشْتِرَاط الْإِسْلَام، وَإِلَّا فقد أخبر النَّصَارَى مَعَ كثرتهم بقتل عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -، وَلم يَصح ذَلِك لكفرهم.
وَجَوَابه فيهمَا: أَن عدد التَّوَاتُر فِيمَا ذكر لَيْسَ فِي كل طبقَة فقد قتل بخْتنصر النَّصَارَى حَتَّى لم يبْق مِنْهُم إِلَّا دون عدد التَّوَاتُر.(4/1797)
قَالَ: وَاعْلَم أَن كَلَام الْآمِدِيّ يُوهم أَن الشطرين لِلْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَة وَاحِد، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِلَّا فَكَانَ الإقتصار على الْعَدَالَة كَافِيا. انْتهى.
وَقَالَ قوم: ذَلِك {إِن طَال الزَّمن} ، يَعْنِي: يشْتَرط الْإِسْلَام وَالْعَدَالَة إِن طَال الزَّمن وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَشرط طوائف من الْفُقَهَاء: أَن لَا يحويهم بلد، وَلَا يحصيهم عدد} ، وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَن أهل الْجَامِع لَو أخبروا عَن سُقُوط الْمُؤَذّن عَن المنارة، أَو الْخَطِيب عَن الْمِنْبَر لَكَانَ إخبارهم مُفِيدا للْعلم فضلا عَن أهل بلد.
{وَشرط قوم اخْتِلَاف النّسَب وَالدّين والوطن} ؛ لتندفع(4/1798)
التُّهْمَة، وَهُوَ أَيْضا بَاطِل؛ لِأَن التُّهْمَة لَو حصلت لم يحصل الْعلم، سَوَاء كَانُوا على دين وَاحِد وَمن نسب وَاحِد فِي وَطن وَاحِد، أَو لم يَكُونُوا كَذَلِك، وَإِن ارْتَفَعت حصل الْعلم كَيفَ كَانُوا.
وشرطت الشِّيعَة وجود الْمَعْصُوم فِي المخبرين؛ لِئَلَّا يتفقوا على الْكَذِب، وَهُوَ بَاطِل؛ لِأَن الْمُفِيد حِينَئِذٍ قَول الْمَعْصُوم، لَا خبر أهل التَّوَاتُر، كَمَا قَالُوا فِي " الْإِجْمَاع ".
{وَشرط قوم إخبارهم طَوْعًا} ، وَهُوَ بَاطِل أَيْضا؛ فَإِن الصدْق لَا يمْتَنع حُصُول الْعلم بِهِ، وَإِلَّا فَاتَ الشَّرْط.
وَشرط المرتضى من الشِّيعَة - وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الموسوي - {عدم اعْتِقَاد نقيض الْمخبر} ، قَالَ: لِأَن اعْتِقَاد النقيض محَال، والطارئ أَضْعَف من المستقر فَلَا يرفعهُ، وَهُوَ بَاطِل أَيْضا؛ بل يحصل سَوَاء كَانَ السَّامع(4/1799)
يعْتَقد نقيض الْمخبر بِهِ أَو لَا، فَلَا يتَوَقَّف الْعلم على ذَلِك، وَتقدم فِي مَسْأَلَة كَون الْحَاصِل بِهِ ضَرُورِيًّا أَو نظرياً، إِن من قَالَ: نَظَرِي، شَرط سبق الْعلم بِجَمِيعِ ذَلِك، وَمن قَالَ: ضَرُورِيّ، فَلَا.
وَضَابِط الْعلم بحصولها عِنْد حُصُول الْعلم بالْخبر؛ لِأَن ضَابِط حُصُول الْعلم بِهِ سبق حُصُول الْعلم بهَا.
وشرطت الْيَهُود وجود أهل الذلة فِي المخبرين دفعا لتواطؤهم على الْكَذِب؛ لِأَن أهل الْعِزَّة لَا خوف عَلَيْهِم فَيجوز أَن يجترئوا على الْكَذِب، وَأهل الذلة أهل خوف فَلَا يجترئون على الْكَذِب، وَهُوَ فَاسد؛ لِأَن أهل الذلة لخستهم لَا ينتهون عَن الْكَذِب، وَأهل الْعِزَّة لشرفهم لَا يقدمُونَ على الْكَذِب.
وَيَأْتِي فِي أثْنَاء خبر الْوَاحِد أَنه يمْتَنع كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله، كامتناع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، وَغَيره من الْمسَائِل يذكرهَا بَعضهم هُنَا.(4/1800)
قَوْله: {فصل}
ابْن الْبَنَّا، والموفق، والطوفي، وَجمع: {خبر الْوَاحِد مَا عدا التَّوَاتُر} .
لما فَرغْنَا من أَحْكَام الْخَبَر الْمُتَوَاتر شرعنا نبين أَحْكَام خبر الْآحَاد، فالآحاد جمع أحد، كبطل وأبطال، وهمزة أحد مبدلة من وَاو الْوَاحِد، فَأصل آحَاد أأحاد بهمزتين أبدلت الثَّانِيَة ألفا ك " آدم ".
فالأخبار قِسْمَانِ: تَوَاتر، وآحاد، لَا غير. قَالَه ابْن الْبَنَّا فِي الْعُقُود والخصال، والموفق، والطوفي، وَجمع كثير: ... ... ... ... ... ... . .(4/1801)
فَلَا وَاسِطَة بَينهمَا، فالآحاد قسيم التَّوَاتُر.
فخبر الْوَاحِد مَا لم ينْتَه إِلَى رُتْبَة التَّوَاتُر إِمَّا بِأَن يرويهِ من هُوَ دون الْعدَد الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي التَّوَاتُر - على الْخلاف فِيهِ -، أَو يرويهِ عدد التَّوَاتُر وَلَكِن لم ينْتَهوا إِلَى إِفَادَة الْعلم باستحالة تواطؤهم على الْكَذِب، أَو لم يكن ذَلِك فِي كل الطَّبَقَات، أَو كَانَ، وَلَكِن لم يخبروا عَن محسوس - على القَوْل باشتراطه فِي التَّوَاتُر -، أَو غير ذَلِك مِمَّا يعْتَبر فِي الْمُتَوَاتر.
فالآحاد هُوَ الَّذِي لَا يُفِيد الْعلم وَالْيَقِين.
فَلَا يقصرون اسْم الْآحَاد على مَا يرويهِ الْوَاحِد، كَمَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ، بل يُرِيدُونَ بِهِ مَا لَا يُفِيد الْعلم، وَلَو كَانَ من عدد كثير، وَلَو أَفَادَ خَبرا، وَلَو أَفَادَ خبر الْوَاحِد الْعلم بانضمام قَرَائِن، أَو بالمعجزة فَلَيْسَ مِنْهُ اصْطِلَاحا، فاصطلاحهم مُخَالف للغة طرداً(4/1802)
وعكساً.
قَالَ يُوسُف الْجَوْزِيّ: خبر الْوَاحِد مَا نَقله وَاحِد عَن وَاحِد، أَو تخَلّل رِوَايَة الكثيرين وَاحِد. انْتهى.
{وَقيل: مَا أَفَادَ الظَّن} . يَعْنِي قيل: إِن خبر الْوَاحِد مَا أَفَادَ الظَّن {وَنقض طرداً وعكساً} ، فنقض طرداً بِالْقِيَاسِ، وعكساً بِمَا لَا يُفِيد ظنا من الْأَخْبَار.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: كَيفَ، وَالظَّن يُطلق على الْعلم، وصيانة للحد عَن الْمُشْتَرك مَا حَده.
وَأجِيب بِمَنْع الِاشْتِرَاك، بل هُوَ فِي الظَّن مجَاز، وَلَا يرد الْخَبَر الْوَاحِد المحتف بالقرائن المفيدة للْقطع؛ لِأَن الإفادة بالانضمام.(4/1803)
{وَقَالَ الْآمِدِيّ، وَأَبُو مُحَمَّد الْجَوْزِيّ، وَابْن حمدَان، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَنسبه إِلَى الْأَصْحَاب وَغَيرهم: من الْآحَاد} مَا يُسمى {مستفيضاً مَشْهُورا} ، فخبر الْآحَاد نَوْعَانِ: آحَاد، ومستفيض.
قَالَ التَّاج السُّبْكِيّ: وَمِنْه المستفيض، وَهُوَ الشَّائِع عَن أصل وَقد يُسمى مَشْهُورا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أرجح الْأَقْوَال وأقواها أَن الْمَشْهُور قسم من الْآحَاد، وَيُسمى أَيْضا: المستفيض.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ فِي " الْحَاوِي ": والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ(4/1804)
وَجمع: إِنَّه قسم ثَالِث غير الْمُتَوَاتر والآحاد. نَقله الْبرمَاوِيّ.
وَنقل ابْن مُفْلِح وَغَيره أَن الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق، وَابْن فورك ذكرُوا المستفيض الْمَشْهُور، وَأَنه يُفِيد الْعلم النظري.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَقَالَ ابْن فورك: المستفيض يُفِيد الْقطع، فَجعله من أَقسَام الْمُتَوَاتر. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي، والقفال الشَّاشِي إِلَى أَنه والمتواتر بِمَعْنى وَاحِد.
وَاخْتَارَ ابْن الصّباغ وَغَيره: لابد أَن يكون سَماع المستفيض من عدد يمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب.(4/1805)
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهُوَ أشبه بِكَلَام الشَّافِعِي. انْتهى.
وَقيل: إِن الْمَشْهُور أَعم من الْمُتَوَاتر، وَهِي طَريقَة الْمُحدثين.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَمعنى الشُّهْرَة مَفْهُوم، ثمَّ اخْتلف الْقَائِل بِأَن مِنْهُ مستفيض، فَالْأَصَحّ أَنه مَا زَاد نقلته على ثَلَاثَة فَلَا بُد أَن يكون أَرْبَعَة فَصَاعِدا مَا لم يتواتر.
وَهُوَ اخْتِيَار الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَجمع من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَقطع بِهِ ابْن حمدَان فِي " الْمقنع ".
وَقيل: مَا زَاد نقلته على اثْنَيْنِ، فَلَا بُد أَن يَكُونُوا ثَلَاثَة فَأكْثر.
وَقيل: مَا زَاد نقلته على وَاحِد، فَلَا بُد أَن يَكُونُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدا.(4/1806)
اخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو إِسْحَاق، وَأَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي، وَإِلَيْهِ ميل أبي الْمَعَالِي.
وَقيل: ماعد شَائِعا. قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره: وَهُوَ الشَّائِع عَن أصل.
{وَقَالَ} الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن يُوسُف بن {الْجَوْزِيّ} : وَهُوَ {مَا ارْتَفع عَن ضعف الْآحَاد، وَلم يلْحق بِقُوَّة التَّوَاتُر} فَلم يخص بِعَدَد، بل إِذا وجدت هَذِه الصّفة كَانَ مستفيضاً.(4/1807)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَالْأَكْثَر: خبر الْوَاحِد الْعدْل يُفِيد الظَّن فَقَط} .
هَذَا هُوَ الصَّحِيح عَن الإِمَام أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْأَكْثَر من الْعلمَاء - أَيْضا - غَيرهم، لاحْتِمَال السَّهْو والغلط وَنَحْوهمَا، نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم، وَأَنه يعْمل بِهِ، وَلَا يشْهد أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه.(4/1808)
وَأطلق ابْن عبد الْبر، وَجَمَاعَة أَنه قَول جُمْهُور أهل الْفِقْه، والأثر وَالنَّظَر؛ لِأَنَّهُ لَو أَفَادَ الْعلم لتناقض معلومان عِنْد إِخْبَار عَدْلَيْنِ بمتناقضين فَلَا يتعارض خبران ولثبتت نبوة مدعي النُّبُوَّة بقوله بِلَا معْجزَة، ولكان كالمتواتر فيعارض بِهِ الْمُتَوَاتر، وَيمْتَنع التشكيك بِمَا يُعَارضهُ، وَكذبه، وسهوه، وغلطه، وَلَا يتزايد بِخَبَر ثَان، وثالث، ويخطئ من خَالفه بِاجْتِهَاد، وَذَلِكَ خلاف الْإِجْمَاع.
وَعَن الإِمَام أَحْمد، وَاخْتَارَهُ طَائِفَة من الْمُحدثين، وَابْن أبي مُوسَى، وَغَيره من أَصْحَابنَا وَغَيرهم أَنه يُفِيد الْعلم.
قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة حَنْبَل أَخْبَار الرُّؤْيَة حق نقطع على الْعلم بهَا.(4/1809)
وَقَالَ لَهُ الْمروزِي: هُنَا إِنْسَان يَقُول الْخَبَر يُوجب عملا، وَلَا يُوجب علما فعابه وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا.
وَفِي كتاب " الرسَالَة ": عَن أَحْمد: لَا تشهد على أحد من أهل الْقبْلَة أَنه فِي النَّار إِلَّا أَن يكون فِي حَدِيث كَمَا جَاءَ نصدقه ونعلم أَنه كَمَا جَاءَ.
قَالَ القَاضِي: ذهب إِلَى هَذَا جمَاعَة من الْأَصْحَاب أَنه يُفِيد الْعلم.
وَذكره فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد " عَن أَصْحَابنَا، وَجزم بِهِ ابْن أبي مُوسَى، وَقَالَهُ كثير من أهل الْأَثر، وَبَعض أهل النّظر، والظاهرية، وَابْن خويزمنداد الْمَالِكِي، وَأَنه يخرج على مَذْهَب مَالك، وَهُوَ قَول(4/1810)
الْكَرَابِيسِي، وَحمل بَعضهم كَلَام أَحْمد على أَنه أَرَادَ الْخَبَر الْمَشْهُور، وَهُوَ الَّذِي صحت لَهُ أَسَانِيد مُتعَدِّدَة سَالِمَة عَن الضعْف وَالتَّعْلِيل، فَإِنَّهُ يُفِيد الْعلم النظري، لكنه لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل أحد، بل إِلَى الْحَافِظ المتبحر.
قَوْله: {تَنْبِيه: ظَاهر الأول وَلَو مَعَ قرينَة} ، يَعْنِي: أَن الْخلاف الْمُتَقَدّم يعم مَا إِذا وجد قرينَة تدل على صدقه أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَذكره جمَاعَة قَول الْأَكْثَر. يَعْنِي: أَن خبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْعلم وَلَو مَعَ قرينَة، وَقَالَهُ طَائِفَة من الْعلمَاء.(4/1811)
قَالَ الْحَارِث المحاسبي فِي كتاب " فهم السّنَن ": هُوَ قَول أَكثر أهل الحَدِيث من أهل الرَّأْي وَالْفِقْه.
وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين، وَالسيف الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والطوفي، وَجمع كثير، مِنْهُم: الرَّازِيّ، والبيضاوي، وَابْن الْحَاجِب، والنظام، وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْجُوَيْنِيّ، وَالْغَزالِيّ: أَنه يُفِيد الْعلم بالقرائن، وَنَقله غَيره عَنْهُمَا.
وَهَذَا أظهر وَأَصَح، لَكِن قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الْقَرَائِن لَا يُمكن أَن(4/1812)
تضبط بِعِبَارَة. وَقَالَ غَيره: يُمكن أَن تضبط بِمَا تسكن إِلَيْهِ النَّفس كسكونها إِلَى الْمُتَوَاتر، أَو قريب مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يبْقى فِيهِ احْتِمَال عِنْده.
وَمن الْقَرَائِن المفيدة للْقطع: الْإِخْبَار بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا يُنكره - على مَا يَأْتِي، أَو بِحَضْرَة جمع يَسْتَحِيل تواطؤهم على الْكَذِب، وَنَحْوه.
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: الْقَرَائِن قد تفِيد الْعلم بِلَا إِخْبَار.
قَوْله: {وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ} من أَصْحَابنَا وَغَيرهم: {لَو نَقله آحَاد الْأَئِمَّة الْمُتَّفق على عدالتهم، وَدينهمْ من طرق مُتَسَاوِيَة، وتلقي بِالْقبُولِ أَفَادَ الْعلم، مِنْهُم القَاضِي} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا {وَقَالَ: هَذَا الْمَذْهَب} ،(4/1813)
{و} مِنْهُم {أَبُو الْخطاب} من أَئِمَّة أَصْحَابنَا، {وَقَالَ: هَذَا ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا} ، وَلم يحك فِيهِ خلافًا.
{و} مِنْهُم {ابْن الزَّاغُونِيّ وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الأصوليون من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد أَن خبر الْوَاحِد إِذا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ، وَعَملا بِهِ يُوجب الْعلم، إِلَّا فرقة قَليلَة تبعوا طَائِفَة من أهل الْكَلَام أَنْكَرُوا ذَلِك.
وَالْأول ذكره أَبُو إِسْحَاق، وَأَبُو الطّيب، وَذكره عبد الْوَهَّاب وَأَمْثَاله من الْمَالِكِيَّة، والسرخسي وَأَمْثَاله من الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الَّذِي(4/1814)
عَلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث، وَالسَّلَف، وَأكْثر الأشعرية، وَغَيرهم. انْتهى.
وَقَالَ: إِن هَؤُلَاءِ اخْتلفُوا: هَل يشْتَرط علمهمْ بِصِحَّتِهِ قبل الْعَمَل؟ على قَوْلَيْنِ، وَقَالَ ابْن عقيل، وَابْن الْجَوْزِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَأَبُو حَامِد، وَابْن برهَان، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، والآمدي، وَغَيرهم: لَا يُفِيد الْعلم مَا نَقله آحَاد الْأَئِمَّة الْمُتَّفق عَلَيْهِم إِذا تلقي بِالْقبُولِ. حَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن أَكثر هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: مَا أسْندهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم الْعلم اليقيني النظري وَاقع بِهِ خلافًا لقَوْل من نفى ذَلِك محتجاً بِأَنَّهُ لَا يُفِيد فِي أَصله إِلَّا الظَّن، وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ؛ لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم الْعَمَل بِالظَّنِّ، وَالظَّن قد يُخطئ.(4/1815)
قَالَ: وَقد كنت أميل إِلَى هَذَا، وَأَحْسبهُ قَوِيا، ثمَّ بَان لي أَن الْمَذْهَب الَّذِي اخترناه أَولا هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن ظن من هُوَ مَعْصُوم من الْخَطَأ لَا يُخطئ، وَالْأمة فِي إجماعها معصومة من الْخَطَأ.
وَقد سبقه إِلَى ذَلِك مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي، وَأَبُو نصر عبد الرَّحِيم ابْن عبد الْخَالِق بن يُوسُف.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَخَالف ابْن الصّلاح الْمُحَقِّقُونَ، وَالْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا: يُفِيد الظَّن مَا لم يتواتر. انْتهى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ: أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ يفِيدهُ عملا لَا قولا.
قَوْله: {فَائِدَة: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .(4/1816)
أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَغَيرهم، وَحكي إِجْمَاعًا يعْمل بِهِ فِي الْأُصُول} - أَعنِي أصُول الدّين -، وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر إِجْمَاعًا.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا نتعدى الْقُرْآن والْحَدِيث.
{و} قَالَ {القَاضِي} أَبُو يعلى: يعْمل بِهِ فِيهَا {فِيمَا تَلَقَّتْهُ} الْأمة بِالْقبُولِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام أَحْمد: قد تلقتها الْعلمَاء بِالْقبُولِ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: مَذْهَب الْحَنَابِلَة أَن أَخْبَار الْآحَاد المتلقاة بِالْقبُولِ تصلح لإِثْبَات أصُول الديانَات، ذكره القَاضِي أَبُو يعلى فِي مُقَدّمَة " الْمُجَرّد "، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " عقيدته ". انْتهى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: لَا يعْمل بِهِ(4/1817)
فِيهَا، وَقد تقدم قَرِيبا أَنه لَا يُفِيد الْعلم، وَإِنَّمَا يُفِيد الظَّن؛ لِأَن طريقها الْعلم وَلَا يفيدها خبر الْآحَاد.
وَبنى الْبرمَاوِيّ وَغَيره الْمَسْأَلَة على أَنه يُفِيد الْعلم أَو لَا؟ إِن قُلْنَا: يُفِيد الْعلم عمل بِهِ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: {وَلَا يكفر منكره فِي الْأَصَح} . أَي: لنا فِي تَكْفِير مُنكر خبر الْآحَاد وَجْهَان حَكَاهُمَا ابْن حَامِد عَن الْأَصْحَاب، وَنقل تكفيره عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه.
وَالْخلاف مَبْنِيّ على الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ يُفِيد الْعلم، أَو لَا، فَإِن قُلْنَا يُفِيد الْعلم كفر منكره، وَإِلَّا فَلَا، ذكره الْبرمَاوِيّ، وَغَيره، وَهُوَ الظَّاهِر، لَكِن التَّكْفِير بمخالفة الْمجمع عَلَيْهِ لابد أَن يكون مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ - كَمَا سبق آخر الْإِجْمَاع - فَهَذَا أولى؛ إِذْ لَا يلْزم من(4/1818)
الْقطع أَن يكفر منكره.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن أصل الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة لَفْظِي، وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك، وَأَن للْخلاف فَوَائِد: مِنْهَا: الْخلاف فِي تَكْفِير منكره، وَمِنْهَا: قبُوله فِي أصُول الدّين إِن قُلْنَا يُفِيد الْعلم قبل وَإِلَّا فَلَا.(4/1819)
قَوْله: {فصل}
{إِذا أخبر وَاحِد بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يُنكر، دلّ على صدقه ظنا، فِي ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَغَيرهم} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، {وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره لتطرق الِاحْتِمَال} .
لاحْتِمَال أَنه مَا سَمعه، أَو مَا فهمه، أَو أَخّرهُ لأمر يُعلمهُ، أَو بَينه قبل ذَلِك الْوَقْت وَنَحْوه.
{وَقيل:} يدل على صدقه {قطعا} ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُقرر الْبَاطِل.
وَقيل: إِن كَانَ الْأَمر دينياً دلّ على صدقه؛ لِأَنَّهُ بعث شَارِعا للْأَحْكَام فَلَا يسكت عَمَّا يُخَالف الشَّرْع بِخِلَاف الدنيوي؛ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يبْعَث لبَيَان الدنيويات، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ".(4/1820)
قَوْله: {وَكَذَا لَو أخبر وَاحِد بِحَضْرَة جمع عَظِيم، وَلم يكذبوه} .
إِذا أخبر وَاحِد بِحَضْرَة جمع عَظِيم وسكتوا عَن تَكْذِيبه فَفِيهِ الْخلاف، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ والرازي: لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن؛ إِذْ رُبمَا خَفِي عَلَيْهِم حَال ذَلِك الْخَبَر، وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يبعد خفاؤه لَا يُفِيد الْقطع وَهُوَ ظَاهر، وَقدمه ابْن مُفْلِح وَنَصره.
{وَقيل: إِن علم أَنه لَو كَانَ كَاذِبًا لعلموه، وَلَا دَاعِي إِلَى السُّكُوت، علم صدقه} ، قطع بِهِ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره "، وَتَبعهُ جمَاعَة.
ورد ذَلِك: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يُعلمهُ إِلَّا وَاحِد أَو اثْنَان، وَالْعَادَة لَا تحيل سكوتهما، ثمَّ يحْتَمل مَانع.(4/1821)
وَحمل القَاضِي الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي إِفَادَة خبر الْعدْل الْعلم على صور مِنْهَا: هَاتَانِ الصورتان المتقدمتان، وَهُوَ إِخْبَار وَاحِد بِحَضْرَتِهِ، أَو بِحَضْرَة جمع عَظِيم، نَقله ابْن مُفْلِح.
قَالَ القَاضِي عضد الدّين: إِذا أخبر وَاحِد بِشَيْء بِحُضُور خلق كثير وَلم يكذبوه، فَإِن كَانَ مِمَّا يحْتَمل أَن لَا يعلموه مثل حَدِيث غَرِيب لَا يقف عَلَيْهِ إِلَّا الْأَفْرَاد لم يدل على صدقه أصلا.
وَإِن كَانَ مِمَّا لَو كَانَ لعلموه فَإِن كَانَ مِمَّا يجوز أَن يكون لَهُم حَامِل على السُّكُوت من خوف أَو غَيره، لم يدل أَيْضا، وَإِن علم أَنه لَا حَامِل لَهُم عَلَيْهِ فَهُوَ يدل على صدقه قطعا.
لنا: أَن سكوتهم، وَعدم تكذيبهم مَعَ علمهمْ بِالْكَذِبِ فِي مثله مُمْتَنع عَادَة، وَلَا يُقَال: لَعَلَّهُم مَا علمُوا، أَو علمه بَعضهم أَو جَمِيعهم وسكتوا؛ لأَنا نقُول: ذَلِك مَعْلُوم الانتفاء بِالْعَادَةِ. انْتهى.
قَوْله: {قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {وَمِنْه مَا تَلقاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقبُولِ كإخباره عَن تَمِيم الدَّارِيّ} فِي قصَّة الْجَسَّاسَة - وَهُوَ فِي " صَحِيح(4/1822)
مُسلم " - فَإِنَّهُ صدقه، وَوَافَقَ مَا كَانَ يخبر بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن الدَّجَّال فَقبله.
{وَمِنْه: إِخْبَار شَخْصَيْنِ عَن قَضِيَّة يتَعَذَّر عَادَة تواطؤهما عَلَيْهَا، أَو على كذب وَخطأ} ، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " مُقْتَصرا عَلَيْهِ من غير خلاف، وَالظَّاهِر أَنه من تَتِمَّة كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين؛ فَإِنَّهُ عقبه لكَلَامه وَلم نر هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غير هَذَا الْكتاب.
قَوْله: {وَيمْتَنع كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله} ، كامتناع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:(4/1823)
الْمَسْأَلَة الأولى: كتمان أهل التَّوَاتُر مَا يحْتَاج إِلَى نَقله مُمْتَنع، خلافًا للرافضة حَيْثُ قَالُوا: لَا يمْتَنع ذَلِك لاعتقادهم كتمان النَّص على إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَهَذَا وَالله لَا يَعْتَقِدهُ مُسلم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يكون خير الْقُرُون الَّذين - رَضِي الله عَنْهُم - وَشهد لَهُم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْجنَّةِ وَقد أخبر الله تَعَالَى فِي كِتَابه عَنْهُم بِأَنَّهُ رَضِي عَنْهُم، يعلمُونَ أَن الْإِمَامَة يَسْتَحِقهَا عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - ويكتمون ذَلِك فِيمَا بَينهم، وَيُوَلُّونَ غَيره، هَذَا من أمحل الْمحَال الَّذِي لَا يرتاب فِيهِ مُسلم، وَلَكِن هَذَا من بهت الرافضة عَلَيْهِم من الله مَا يسْتَحقُّونَ وَأَن هَذَا فِي الْقبْح كتواطؤهم على الْكَذِب وَهُوَ محَال عَلَيْهِم.(4/1824)
واستدلت الرافضة لما ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَن النَّصَارَى وهم أَكثر أمة تركُوا نقل كَلَام الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد مَعَ أَنه من أعجب حَادث حدث فِي الأَرْض.
قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ قبل نبوته، واتباعهم لَهُ، وَظُهُور أمره، وَلم يعن بذلك أحد، والدواعي إِنَّمَا تتوفر على نقل أَعْلَام النُّبُوَّة، وَقد نقل أَن حاضري كَلَامه لم يَكُونُوا كثيرين فاختل شَرط التَّوَاتُر فِي الطّرف الأول، وَكَذَا فِي الْوسط كقصة بخْتنصر وَقَتله النَّصَارَى حَتَّى لم يبْق مِنْهُم قدر عدد التَّوَاتُر.
قلت: وَفِي هَذَا الْأَخير نظر فِيمَا يظْهر.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: امْتنَاع الْكَذِب على عدد التَّوَاتُر عَادَة، وَهُوَ مَمْنُوع فِي الْعَادة، وَإِن كَانَ لَا يحيله الْعقل، وَهَذَا مَأْخَذ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة فِي جَوَاز مَا يحْتَاج إِلَى نَقله؛ لِأَنَّهُ إِذا جَازَ الْكَذِب فالكتمان أولى، وَالأَصَح عدم جَوَازه عَادَة لَا لذاته، وَلَا يلْزم من فرض وُقُوعه محَال.
قَوْله: {فَلَو انْفَرد مخبر فِيمَا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله، وَقد شَاركهُ خلق كثير فكاذب قطعا، خلافًا للشيعة} فِيهِنَّ، مِثَال ذَلِك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن(4/1825)
ينْفَرد مخبر بِأَن ملك الْمَدِينَة قتل عقب الْجُمُعَة وسط الْجَامِع، أَو قتل خطيبها على الْمِنْبَر، فَإِنَّهُ يقطع بكذبه عِنْد الْجَمِيع من الْعلمَاء المعتبرين، وَخَالف فِي ذَلِك الشِّيعَة.
لنا: الْكَذِب بِمثل هَذَا عَادَة فَإِنَّهَا تحيل السُّكُوت عَنهُ، وَلَو جَازَ كِتْمَانه لجَاز الْإِخْبَار عَنهُ بِالْكَذِبِ، وكتمان مثل مَكَّة، وبغداد وبمثله يقطع بكذب مدعي مُعَارضَة الْقُرْآن، وَالنَّص على إِمَامَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - كَمَا تدعيه الشِّيعَة، كَمَا تقدم عَنْهُم.
وَلم تنقل شرائع الْأَنْبِيَاء لعدم الْحَاجة إِلَيْهَا، ونقلت شَرِيعَة مُوسَى، وَعِيسَى لتمسك قوم بهما، وَلَا كَلَام الْمَسِيح فِي المهد؛ لِأَنَّهُ قبل ظُهُوره، واتباعه - كَمَا تقدم -، ومعجزات نَبينَا مَا كَانَت بِحَضْرَة خلق كثير تواتراً وَلم يسْتَمر اسْتغْنَاء بِالْقُرْآنِ، وَإِلَّا فَلَا يلْزم؛ لِأَنَّهُ نَقله من رَآهُ، وَمثل(4/1826)
إِفْرَاد الْإِقَامَة وإفراد الْحَج، ومسخ الْخُف، وَالرَّجم، لم يتْرك نَقله، فَمِنْهُ مَا تَوَاتر، وَمَا لم يتواتر لم يكن بِحَضْرَة خلق، أَو لجَوَاز الْأَمريْنِ، أَو اخْتِلَاف سَماع، أَو غير ذَلِك.
وَقَوْلهمْ: يجوز ترك النَّقْل لغَرَض أَو اعْتِرَاض رد بِالْمَنْعِ لما سبق وَأَنه لَو جَازَ لجَاز كذبهمْ لذَلِك لِأَنَّهُمَا قَبِيح.(4/1827)
قَوْله: {فصل}
{يعْمل بِهِ فِي: الْفَتْوَى، وَالْحكم، وَالشَّهَادَة، والأمور الدُّنْيَوِيَّة إِجْمَاعًا} ، أَي: بِخَبَر الْوَاحِد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": يعْمل بِهِ بِالْإِجْمَاع فِي ثَلَاثَة أَمَاكِن: فِي الْفَتْوَى، وَفِي الحكم؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى فَتْوَى وَزِيَادَة التَّنْفِيذ بِشُرُوطِهِ الْمَعْرُوفَة، وَفِي الشَّهَادَة سَوَاء شَرط الْعدَد أَو [لَا] لِأَنَّهُ لم يخرج عَن الْآحَاد، وَفِي الرِّوَايَة فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كالمعاملات وَنَحْوهَا. انْتهى.
لَكِن قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": مَذْهَب كثير مِمَّن قَالَ لَا يقبل خبر الْوَاحِد لَا يلْزم قبُول قَول مفت وَاحِد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَمِمَّنْ صرح بِأَن الثَّلَاثَة الأول مَحل وفَاق: الْقفال الشَّاشِي فِي كِتَابه وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَابْن ... ... ... ... ...(4/1828)
السَّمْعَانِيّ.
قَوْله: {وَيجوز الْعَمَل بهَا عقلا} ، هَذَا قَول جَمَاهِير الْعلمَاء، وَخَالف فِيهِ قوم مِنْهُم: الجبائي، وَأكْثر الْقَدَرِيَّة، وَبَعض الظَّاهِرِيَّة كالقاشاني، وَنَقله عَن الجبائي ابْن الْحَاجِب، لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: الصَّحِيح فِي النَّقْل عَنهُ تَفْصِيل يَأْتِي ذكره. انْتهى.
لَكِن هَل فِي الشَّرْع مَا يمنعهُ، أَو لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبهُ قَولَانِ.
وَلنَا: لَا يلْزم مِنْهُ محَال، وَلَيْسَ احْتِمَال الْكَذِب، وَالْخَطَأ بمانع وَإِلَّا(4/1829)
لمنع فِي الشَّاهِد، والمفتي، وَلَا يلْزم الْأُصُول - لما سبق - فِي إفادته الْعلم، وَإِلَّا نقل لقَضَاء الْعَادة فِيهِ بالتواتر، وَلَا التَّعَبُّد فِي الْإِخْبَار عَن الله بِلَا معْجزَة؛ لِأَن الْعَادة تحيل صدقه بِدُونِهَا وَلَا التَّنَاقُض بالتعارض؛ لِأَنَّهُ ينْدَفع بالترجيح أَو التَّخْيِير أَو الْوَقْف، ثمَّ قُولُوا بالتعبد، وَلَا تعَارض؛ وَلِأَن بِالْعَمَلِ بِهِ دفع ضَرَر مظنون فَوَجَبَ أخذا بِالِاحْتِيَاطِ وقواطع الشَّرْع نادرة فاعتبارها يعطل أَكثر الْأَحْكَام، وَالرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوث إِلَى الكافة، ومشافهتهم، وإبلاغهم بالتواتر مُتَعَذر فتعينت الْآحَاد.(4/1830)
وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك: أَن نصب الشَّارِع علما ظنياً على وجوب فعل تكليفي جَائِز بِالضَّرُورَةِ.
ثمَّ إِن الْمُنكر لذَلِك إِن أقرّ بِالشَّرْعِ فتعبده بالحكم، والفتيا، وَالشَّهَادَة، وَالِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة، وَالْوَقْت وَنَحْوهَا من الظنيات ينْقض قَوْله: وَإِلَّا فَمَا ذَكرْنَاهُ قبل يُبطلهُ.
ثمَّ إِذا أقرّ بِالشَّرْعِ، وَعرف قَوَاعِده، ومبانيه وَافق، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَلَا يجب} ، أَي: لَا يجب الْعَمَل بِهِ عقلا، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
وَاخْتَارَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة "، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن سُرَيج،(4/1831)
والقفال، والصيرفي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: يجب عقلا لاحتياج النَّاس إِلَى بعض الْأَشْيَاء من جِهَة الْخَبَر، وَفِي ترك ذَلِك أعظم الضَّرَر؛ وَلِأَن الْعَمَل بِهِ يُفِيد دفع ضَرَر مظنون، فَكَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا.
وَتَقَدَّمت أَدِلَّة الْجَوَاز بِمَا يدْخل بَعْضهَا فِي أَدِلَّة الْوُجُوب، لَكِن الْبرمَاوِيّ نقل أَن بَعضهم اسْتغْرب النَّقْل عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الْوُجُوب عقلا، وَأجَاب عَن ذَلِك، وَأول كَلَامهم بِمَا يَقْتَضِي أَنهم لَا يوجبونه عقلا، وَنَقله أَيْضا عَن الإِمَام أَحْمد، وَاعْتذر عَنهُ بأعذار عدَّة.
قَوْله: {وَيجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد سمعا فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة عندنَا، وَعند أَكثر الْعلمَاء} - مَحل الْخلاف الْآتِي فِي وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة.
قَالَ القَاضِي: يجب عندنَا سمعا، وَقَالَهُ عَامَّة(4/1832)
الْفُقَهَاء، والمتكلمين، وَهُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف.
قَالَ ابْن الْقَاص: لَا خلاف بَين أهل الْفِقْه فِي قبُول خبر الْآحَاد، فأصحاب هَذَا القَوْل اتَّفقُوا على أَن الدَّلِيل السمعي دلّ عَلَيْهِ من الْكتاب، وَالسّنة، وَعمل الصَّحَابَة، ورجوعهم كَمَا ثَبت ذَلِك بالتواتر.
لَكِن الجبائي اعْتبر لقبوله شرعا أَن يرويهِ اثْنَان فِي جَمِيع طبقاته، أَو يعضد بِدَلِيل آخر كظاهر أَو انتشاره فِي الصَّحَابَة أَو عمل بَعضهم بِهِ، كَحَدِيث أبي بكر فِي تَوْرِيث الْجدّة؛ لِأَنَّهُ رد خبر الْمُغيرَة فِيهِ حَتَّى شهد(4/1833)
مَعَه مُحَمَّد بن سَلمَة، وَكَذَلِكَ عمر رد قَول أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى وَافقه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.
وَالْجَوَاب: إِنَّمَا فعلا ذَلِك تثبتاً فِي قَضِيَّة خَاصَّة؛ وَلذَلِك حكما فِي وقائع كَثِيرَة بأخبار الْآحَاد.
وَحكي عَن الجبائي أَيْضا؛ وَاخْتَارَهُ عبد الْجَبَّار المعتزلي: يعْتَبر لقبوله فِي الزِّنَا أَن يرويهِ أَرْبَعَة، فَلَا يحد بِخَبَر دَال على حد الزِّنَا [إِلَّا] أَن يرويهِ أَرْبَعَة قِيَاسا على الشَّهَادَة بِهِ.
وَالْجَوَاب: هَذَا قِيَاس مَعَ الْفَارِق؛ إِذْ بَاب الشَّهَادَة أحوط؛ وَلذَلِك أَجمعُوا على اشْتِرَاط الْعدَد فِيهِ.
وَمنع قوم من قبُول أَخْبَار الْآحَاد مُطلقًا، مِنْهُم: ابْن دَاوُد: وَبَعض(4/1834)
الْمُعْتَزلَة، وَبَعض الْقَدَرِيَّة، وَنسبه التَّاج السُّبْكِيّ إِلَى الظَّاهِرِيَّة.
وَكَذَلِكَ الرافضة، وناقضوا فأثبتوا تصدق عَليّ بِخَاتمِهِ فِي الصَّلَاة وَنِكَاح الْمُتْعَة، والنقض بِأَكْل لحم الْإِبِل، وَكلهَا إِنَّمَا ثَبت بِخَبَر الْآحَاد.
قَالَ ابْن الْقَاص: لَا خلاف بَين أهل الْفِقْه فِي قبُول خبر الْآحَاد، وَإِنَّمَا دفع بعض أهل الْكَلَام خبر الْآحَاد لعَجزه عَن السّنَن، زعم أَنه لَا يقبل مِنْهَا إِلَّا مَا تَوَاتر، بِخَبَر من [لَا] يجوز عَلَيْهِ الْغَلَط وَالنِّسْيَان، وَهَذَا ذَرِيعَة إِلَى إبِْطَال السّنَن فَإِن مَا شَرطه لَا يكَاد يُوجد إِلَيْهِ سَبِيل. انْتهى، وَهُوَ كَمَا قَالَ.(4/1835)
وَمنعه الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة فِي الْحُدُود لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ادرأوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ " وَفِي خبر الْوَاحِد شُبْهَة.
وَعبارَة أبي الْحُسَيْن فِي هَذَا القَوْل الْمَنْع فِيمَا يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ، وَذَلِكَ أَعم من أَن يكون حدوداً، أَو غَيرهَا.
قَالَ: أَيْضا فَإِن الْكَرْخِي يقبله فِي إِسْقَاط الْحُدُود، وَلَا يقبله فِي إِثْبَاتهَا.
وَأَجَابُوا عَن قَول الْكَرْخِي أَن معنى الشُّبْهَة لَيْسَ احْتِمَال الْكَذِب، وَإِلَّا انْتقض بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُود لاحتمالها الْكَذِب.
وَمنعه قوم من الْحَنَفِيَّة فِي ابْتِدَاء النصب - أَي: نصب الزَّكَاة - بِخِلَاف الزِّيَادَة عَلَيْهَا؛ وَلذَلِك أوجبوا فِي الزِّيَادَة على خَمْسَة أوسق بحسابها بِخِلَاف السخال الَّتِي مَاتَت أمهاتها؛ فَإِنَّهُم لم يوجبوا فِيهَا لكَونهَا بعد موت الْأُمَّهَات(4/1836)
مُعْتَبرَة اسْتِقْلَالا، وَهُوَ ضَعِيف لشمُول الحَدِيث للْكُلّ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْفرق عِنْدهم أَن ابْتِدَاء النصب أصل، وَالزَّائِد فرع فَيقبل فِي النّصاب الزَّائِد على خَمْسَة أوسق، وَلَا يقبل فِي ابْتِدَاء نِصَاب الفصلان والعجاجيل؛ لِأَنَّهُ أصل. انْتهى.
وَمنعه قوم فِيمَا عمل الْأَكْثَر بِخِلَافِهِ، يَعْنِي إِذا عمل أَكثر الْعلمَاء على خلاف خبر الْآحَاد، وَهُوَ مَرْدُود؛ لِأَن الْمُجْتَهد لَا يُقَلّد مُجْتَهدا فَيجوز أَن يكون عمل الْأَكْثَر لِاتِّفَاق اجتهادهم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْحق أَن عمل الْأَكْثَر مُرَجّح بِهِ، لَا مَانع. انْتهى.
وَمنعه الْمَالِكِيَّة إِذا خَالفه عمل أهل الْمَدِينَة، يَعْنِي: إِذا خالفوا خبر الْآحَاد فعملوا على خِلَافه، فَإِذا عمِلُوا بِخِلَافِهِ لم يقبله الْمَالِكِيَّة؛ وَلِهَذَا لم يَقُولُوا بِخِيَار الْمجْلس الثَّابِت فِي " الصَّحِيحَيْنِ " لمُخَالفَة أهل(4/1837)
الْمَدِينَة.
وَمنعه أَكثر الْحَنَفِيَّة فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى أَو خَالفه رَاوِيه، أَو عَارض الْقيَاس، فمما تعم بِهِ الْبلوى: الْجَهْر بالبسملة، وَحَدِيث مس الذّكر؛ لِأَن مَا تعم بِهِ الْبلوى تَقْتَضِي الْعَادة تواتره.
وَالْجَوَاب: منع قَضَاء الْعَادة، وَقَوْلنَا: أَو خَالفه رَاوِيه؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَالفه لدَلِيل أقوى؛ وَلذَلِك لم يوجبوا التسبيع فِي ... ... . .(4/1838)
الولوغ لمُخَالفَة أبي هُرَيْرَة لروايته.
وَقَالَ صَاحب " البديع " مِنْهُم: إِذا خَالفه بعد الرِّوَايَة، فَإِن خَالفه قبلهَا لم ترد، وَكَذَا إِذا جهل التَّارِيخ.
وَقَوْلنَا: أَو عَارض الْقيَاس خَبره إِذا كَانَ فَقِيها؛ فَإِنَّهُ يدل على رُجْحَان كذبه.
فَعَن الْحَنَفِيَّة: لَا يقبل مَا عَارض الْقيَاس؛ وَلِهَذَا ردوا خبر الْمُصراة، وَقَيده الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره بِكَوْنِهِ عِنْد عدم فقه الرَّاوِي، فَإِن كَانَ فَقِيها فَلَا ترد، وَلَو خَالف الْقيَاس.(4/1839)
وَلَهُم قَول آخر فِي الْخَبَر الْمعَارض للْقِيَاس: إِن عرفت عِلّة الْقيَاس بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر الْمعَارض لَهُ، وَوجدت تِلْكَ الْعلَّة فِي الْفَرْع قطعا، فَالْقِيَاس يقدم، وَإِن لم يكن وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع قَطْعِيا فالوقف، وَإِن انْتَفَى قَطْعِيَّة الْعلَّة فِي الْفَرْع يقبل الْخَبَر كَحَدِيث الْمُصراة فَإِنَّهُ مُخَالف لقياس ضَمَان الْمُتْلفَات.
وَيَأْتِي بعد مَا تذكر أَدِلَّة الْأَقْوَال كَلَام القَاضِي وَأبي الْخطاب فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا وتقييدها بِمَا قَالُوا.
اسْتدلَّ لِلْجُمْهُورِ بِأَنَّهُ قد كثر جدا قبُوله، وَالْعَمَل بِهِ فِي الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ عملا شَائِعا من غير نَكِير، يحصل بِهِ إِجْمَاعهم عَلَيْهِ عَادَة قطعا، فَمِنْهُ: قَول أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - لما جَاءَتْهُ الْجدّة تطلب مِيرَاثهَا: مَالك فِي كتاب الله شَيْء، وَمَا عملت لَك فِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئا فارجعي حَتَّى أسأَل النَّاس، فَسَأَلَ النَّاس، فَقَالَ الْمُغيرَة: حضرت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدس، فَقَالَ: مَعَك غَيْرك؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن مسلمة مثله، فأنفذه لَهَا أَبُو بكر. رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.(4/1840)
وَاسْتَشَارَ عمر النَّاس فِي الْجَنِين، فَقَالَ الْمُغيرَة، قضى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بغرة عبد أَو أمة، فَقَالَ: لتأتين بِمن يشْهد مَعَك، فَشهد لَهُ مُحَمَّد بن مسلمة. مُتَّفق عَلَيْهِ. وَلأبي دَاوُد من حَدِيث طَاوُوس عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ -: (لَو لم نسْمع هَذَا لقضينا بِغَيْرِهِ) .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي، وَسَعِيد من حَدِيث طَاوُوس أَنه سَأَلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: حمل ابْن مَالك أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى فِيهِ بغرة، وَقَول عمر ذَلِك وطاووس لم يُدْرِكهُ.
وَأخذ عمر بِخَبَر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس. رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا يُورث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا حَتَّى أخبرهُ(4/1841)
الضَّحَّاك أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب إِلَيْهِ أَن يُورث امْرَأَة أَشْيَم من دِيَة زَوجهَا، رَوَاهُ مَالك، وَأحمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ.
وروى هَؤُلَاءِ أَن عُثْمَان أَخذ بِخَبَر فريعة بنت مَالك أُخْت أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن عدَّة الْوَفَاة فِي منزل الزَّوْج.(4/1842)
وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن عمر: أَن سَعْدا حَدثهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح على الْخُفَّيْنِ، فَسَأَلَ ابْن عمر أَبَاهُ عَنهُ، فَقَالَ: نعم، إِذا حَدثَك سعد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تسْأَل عَنهُ غَيره.
[و] رَجَعَ ابْن عَبَّاس إِلَى خبر أبي سعيد فِي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل. رَوَاهُ الْأَثْرَم وَغَيره، وَقَالَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره.
وروى سعيد من طرق عدم رُجُوعه.
وتحول أهل قبَاء إِلَى الْقبْلَة وهم فِي الصَّلَاة بِخَبَر وَاحِد، رَوَاهُ أَحْمد، وَمُسلم، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَمَعْنَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " من حَدِيث ابْن عمر.(4/1843)
وَقَالَ ابْن عمر: مَا كُنَّا نرى بالمزارعة بَأْسا حَتَّى سَمِعت رَافع بن خديج يَقُول: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا، فتركتها.
وَللشَّافِعِيّ، وَمُسلم عَن ابْن عمر: كُنَّا نخابر، فَلَا نرى بذلك بَأْسا، فَزعم رَافع أَن نَبِي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَنهُ، فتركناه من أَجله.
وَكَانَ زيد بن ثَابت يرى أَن لَا تصدر الْحَائِض حَتَّى تَطوف بِالْبَيْتِ،(4/1844)
فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: سل فُلَانَة الْأَنْصَارِيَّة، هَل أمرهَا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك؟ فَأَخْبَرته فَرجع زيد وَهُوَ يضْحك فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاس: مَا أَرَاك إِلَّا صدقت. رَوَاهُ مُسلم.
وَغير ذَلِك مِمَّا يطول.
لَا يُقَال: أَخْبَار آحَاد فَيلْزم الدّور؛ لِأَنَّهَا متواترة كَمَا سبق فِي أَخْبَار الْإِجْمَاع، وَلَا يُقَال: يحْتَمل أَن عَمَلهم بغَيْرهَا؛ لِأَنَّهُ محَال عَادَة، وَلم ينْقل، بل الْمَنْقُول خِلَافه كَمَا سبق، والسياق يدل عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: أنكر عمر خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى رَوَاهُ أَبُو سعيد. مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَخبر فَاطِمَة بنت قيس فِي المبتوتة: لَا سُكْنى لَهَا وَلَا نَفَقَة. رَوَاهُ مُسلم.(4/1845)
وَأنْكرت عَائِشَة خبر ابْن عمر فِي تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء أَهله؛ لأَنهم قبلوه بموافقة غير الرَّاوِي، وَلم يتواتر وَلَا يدل على عدم قبُوله لَو انْفَرد، وَكَانَ عمر يفعل ذَلِك سياسة؛ وَلِهَذَا قَالَ لأبي مُوسَى: لم أتهمك، خشيت أَن يتقول النَّاس، أَو للريبة؛ وَلِهَذَا قَالَ عمر عَن خبر فَاطِمَة: كَيفَ نَتْرُك كتاب رَبنَا لقَوْل امْرَأَة، حفظت أَو نسيت؟
وَقَالَت عَائِشَة عَن ابْن عمر: مَا كذب وَلكنه وهم، مُتَّفق عَلَيْهِ، أَي: لم يتَعَمَّد.
وَلَا يُقَال عَمَلهم بهَا لكَونهَا أَخْبَار مَخْصُوصَة، للْعلم بِأَن عَمَلهم لظُهُور صدقهَا لَا لخصوصها، كظاهر الْكتاب، والمتواتر.
وَأَيْضًا تَوَاتر أَنه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَأتم السَّلَام كَانَ يبْعَث الْآحَاد إِلَى النواحي؛ لتبليغ الْأَحْكَام مَعَ الْعلم بتكليف الْمَبْعُوث إِلَيْهِم الْعَمَل بذلك.
وَلَا يُقَال: هَذَا من الْفتيا للعامي؛ لِأَن الِاعْتِمَاد على كتبه مَعَ الْآحَاد إِلَى الْأَطْرَاف، وَمَا يَأْمر بِهِ من قبض زَكَاة، وَغير ذَلِك، وَعمل الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ، وتأسوا بِهِ، وَذَلِكَ مَقْطُوع.(4/1846)
فَإِن قيل: قد بعث الْآحَاد إِلَى الْمُلُوك فِي الْإِسْلَام، وَلَا يقبل فِيهِ وَاحِد.
رده بِالْمَنْعِ عِنْد القَاضِي وَغَيره، وَفِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا: بَعثهمْ لتبليغ الرسَالَة، ورده أَبُو الْخطاب بِأَن دعاءه إِلَى الْإِسْلَام انْتَشَر فِي الْآفَاق فَدَعَاهُمْ للدخول فِيهِ على أَن ذَلِك طَرِيقه الْعقل، أَي: وَبعث للتّنْبِيه على إِعْمَال فكر وَنظر، وَقَالَهُ بَعضهم.
وَاسْتدلَّ جمَاعَة من أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِمثل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون} [الْبَقَرَة: 159] ، {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} [الحجرات: 6] ، {فلولا نفر} [التَّوْبَة: 122] الْآيَات.
وَاعْترض وَأجِيب بِمَا سبق فِي آيَات الْإِجْمَاع، ثمَّ يلْزم الْمَنْع فِي قبُول الشَّاهِد والمفتي، والطبيب.(4/1847)
وَاعْترض: بِخُصُوص هَذِه أَو عُمُوم الرِّوَايَة. رد بِأَصْل الْفَتْوَى.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: مَذْهَب كثير من هَذِه الطَّائِفَة لَا يلْزم قبُول قَول مفت وَاحِد. وَأما توقفه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - عَن قبُول قَول ذِي الْيَدَيْنِ فِي السَّلَام من الصَّلَاة عَن نقص حَتَّى أخبرهُ أَبُو بكر وَعمر فَإِنَّهُ لَا يقبل فِيهِ وَاحِد.
ثمَّ للريبة لظُهُور الْغَلَط، ثمَّ لم يتواتر.
وَاحْتج الْقَائِل بِهِ عقلا بِأَن الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي تَفْصِيل جملَة علم وُجُوبهَا يجب عقلا كإخبار عدل بمضرة شَيْء، وَقيام من تَحت حَائِط مائل يجب؛ لِأَنَّهُ فِي تَفْصِيل مَا علم وُجُوبه وَهُوَ اخْتِيَار دفع المضار وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث للْمصَالح، وَدفع المضار فَالْخَبَر تَفْصِيل لَهَا.
رد: الْعقل لَا يحسن، ثمَّ لم يجب فِي الْعقلِيّ، بل هُوَ أولى، وَإِن(4/1848)
سلم عملا بِالْعَادَةِ، ولمعرفة الْمصلحَة فِيهَا، وَظن الْمضرَّة بالمخالفة، منع فِي الشَّرْعِيّ لعدم ذَلِك، وَإِن سلم فَهُوَ قِيَاس ظَنِّي فِي الْأُصُول، ثمَّ الْمَسْأَلَة دليلها قَطْعِيّ عِنْد الْعلمَاء، وَعند الْآمِدِيّ وَغَيره ظَنِّي وَسبق الْإِجْمَاع مثله فَهُنَا أولى، وَالله أعلم.
قَوْله: فَقَالَ القَاضِي وَغَيره: إِن كَانَ للْعلم طَرِيق، إِلَى آخِره: معنى ذَلِك أَن مَحل الْخلاف إِذا تعذر الْعلم وَلم يتَوَصَّل إِلَيْهِ بطرِيق، فَأَما إِذا كَانَ للْعلم طَرِيق فَاخْتلف فِي ذَلِك.(4/1849)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": فَأَما إِن كَانَ للْعلم طَرِيق لم يجز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد، ذكره القَاضِي وَغَيره هُنَا.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب: إِن أمكنه سُؤَاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكاجتهاده، واختياره لَا يجوز، وَأَن بَقِيَّة أَصْحَابنَا القَاضِي، وَابْن عقيل: يجوز إِن أمكنه سُؤَاله أَو الرُّجُوع إِلَى التَّوَاتُر محتجين بِهِ فِي الْمَسْأَلَة.
وَذكر القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب الْمَسْأَلَة فِيمَا بعد، وجزما بِالْجَوَازِ خلافًا لبَعْضهِم اكْتِفَاء بقول السعاة وَغَيرهم، وَلَا يمْتَنع فِي الْأَحْكَام كَالْوضُوءِ بِمَاء لَا قطع بِطَهَارَتِهِ وَعِنْده نهر مَقْطُوع بِطَهَارَتِهِ.(4/1850)
وَكَذَا ذكر ابْن عقيل، وَفِي " التَّمْهِيد " فِي كَون قَول الصَّحَابِيّ حجَّة: منع عدُول مُتَمَكن من الْعلم إِلَى الظَّن، وَجوزهُ بَعضهم.
قَالَ: وَلَا يجوز؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز تعارضهما. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": قَالَ أَبُو الْخطاب: الحكم بِخَبَر الْوَاحِد عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن يُمكنهُ سُؤَاله مثل الحكم بِاجْتِهَادِهِ واختياره، أَنه لَا يجوز. وَالَّذِي ذكره بَقِيَّة أَصْحَابنَا القَاضِي وَابْن عقيل جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لمن يُمكنهُ سُؤَاله أَو أمكنه الرُّجُوع إِلَى التَّوَاتُر محتجين بِهِ فِي الْمَسْأَلَة بِمُقْتَضى أَنه إِجْمَاع.
وَهَذَا مثل قَول بعض أَصْحَابنَا: إِنَّه لَا يعْمل بقول الْمُؤَذّن مَعَ إِمْكَان الْعلم بِالْوَقْتِ، وَهَذَا القَوْل خلاف مَذْهَب أَحْمد، وَسَائِر الْعلمَاء المعتبرين، وَخلاف مَا شهِدت بِهِ النُّصُوص.
وَذكر فِي مَسْأَلَة منع التَّقْلِيد أَن المتمكن من الْعلم لَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى الظَّن وَجعله مَحل وفَاق وَاحْتج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة. انْتهى.(4/1851)
قَوْله " {فصل}
{للراوي شُرُوط} .
مِنْهَا: الْعقل إِجْمَاعًا؛ إِذْ لَا وازع لغير عَاقل يمنعهُ عَن الْكَذِب؛ وَلَا عبارَة أَيْضا، كالطفل.
وَمِنْهَا: الْإِسْلَام إِجْمَاعًا لتهمة عَدَاوَة الْكَافِر للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولشرعه.
وَمِنْهَا: الْبلُوغ عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الْعلمَاء لاحْتِمَال كذب من لم يبلغ كالفاسق، بل أولى؛ لِأَنَّهُ غير مُكَلّف فَلَا يخَاف الْعقَاب.(4/1852)
وَاسْتدلَّ أَيْضا بِعَدَمِ قدرته على الضَّبْط، وَنقض بالمراهق.
وَبِأَنَّهُ لَا يقبل إِقْرَاره على نَفسه، وَهَهُنَا أولى. وَنقض بالمحجور عَلَيْهِ، وَالْعَبْد.
وَرُوِيَ عَن الإِمَام أَحْمد أَن شَهَادَة الْمُمَيز تقبل، وَعنهُ: ابْن عشر.
وَاخْتلف الصَّحَابَة والتابعون فِيهَا فههنا أولى.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تتخرج فِيهِ رِوَايَتَانِ، كشهادته.
قَوْلهم يَصح الائتمام بِهِ بِنَاء على خَبره بِطَهَارَتِهِ وأذانه لبالغ. رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَا تقف صِحَة صَلَاة الْمَأْمُوم على ذَلِك،(4/1853)
وَفِيه نظر.
قَوْله: {فَائِدَة: لَو تحمل صَغِيرا عَاقِلا ضابطاً، وروى كَبِيرا، قبل عِنْد الإِمَام أَحْمد} ، وَأكْثر الْعلمَاء؛ لإِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ على قبُول مثل ابْن عَبَّاس، وَابْن الزبير، وأشباههما، ولإسماع الصَّغِير، وكالشهادة وَأولى.
ويتحمل كَافِرًا أَو فَاسِقًا ويروي مُسلما عدلا.
قَوْله: {وَمِنْهَا الضَّبْط} .(4/1854)
من شُرُوط صِحَة الرِّوَايَة الضَّبْط لِئَلَّا يُغير اللَّفْظ وَالْمعْنَى فَلَا يوثق بِهِ.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَا يَنْبَغِي لمن لَا يعرف الحَدِيث أَن يحدث بِهِ.
وَالشّرط غَلَبَة ضَبطه وَذكره على سَهْوه لحُصُول الظَّن إِذا. ذكره الْآمِدِيّ وَجَمَاعَة. قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُحْتَمل.
وَفِي " الْوَاضِح " لِابْنِ عقيل قَول أَحْمد وَقيل لَهُ: مَتى يتْرك حَدِيث الرجل؟ قَالَ: إِذا غلب عَلَيْهِ الْخَطَأ.
وَذكر أَصْحَابنَا فِي الْفِقْه: لَا تقبل شَهَادَة مَعْرُوف بِكَثْرَة غلط، وسهو، ونسيان، وَلم يذكرُوا هُنَا شَيْئا، فَالظَّاهِر مِنْهُم التَّسْوِيَة.(4/1855)
وَذكره جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم قَالُوا: إِذا لم يحدث من أصل صَحِيح وَلِأَن أَئِمَّة الحَدِيث تركُوا رِوَايَة كثير مِمَّن ضعف ضَبطه مِمَّن سمع كَبِيرا ضابطاً.
قَوْله: {فَإِن جهل حَاله لم يقبل، ذكره الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة " {وَغَيره} ؛ لِأَنَّهُ لَا غَالب لحَال الروَاة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِيه نظر: وَأَنه يحْتَمل مَا قَالَ الْآمِدِيّ يحمل على غَالب حَال الروَاة.
فَإِن جهل حَالهم اعْتبر حَاله، فَإِن قيل: ظَاهر حَال الْعدْل لَا يروي إِلَّا مَا يضبطه.
وَقد أنكر على أبي هُرَيْرَة الْإِكْثَار وَقبل.
رد: لكنه لَا يُوجب ظنا للسامع، وَلم يُنكر على أبي هُرَيْرَة لعدم(4/1856)
الضَّبْط، بل خيف ذَلِك لإكثاره.
فَإِن قيل: الْخَبَر دَلِيل، وَالْأَصْل صِحَّته فَلَا يتْركهُ بِاحْتِمَال كاحتمال حدث بعد طَهَارَة.
رد: إِنَّمَا هُوَ دَلِيل مَعَ الظَّن، وَلَا ظن مَعَ تَسَاوِي الْمعَارض، وَاحْتِمَال الْحَدث ورد على يَقِين الطُّهْر فَلم يُؤثر.
قَوْله: {وَمِنْهَا الْعَدَالَة إِجْمَاعًا} لما سبق من الْأَدِلَّة وَهُوَ كَاف.
قَوْله: {ظَاهرا، وَبَاطنا عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا} .
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يحْتَمل ظَاهرا وَبَاطنا كَالشَّهَادَةِ.
وَذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر، مِنْهُم: الشَّافِعِي وَأحمد.
قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَعند القَاضِي،(4/1857)
وَابْن الْبَنَّا وَغَيرهمَا: تَكْفِي الْعَدَالَة ظَاهرا للْمَشَقَّة، كَمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَة، على رِوَايَة عَن أَحْمد، اخْتَارَهَا أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا، وَصَاحب " رَوْضَة فقهنا ".
قلت: الْخلاف هُنَا ينْزع إِلَى الْمَسْأَلَة الْآتِيَة قَرِيبا، وَهُوَ عدم [قبُول] رِوَايَة مَجْهُول الْحَال أَو قبُولهَا.
قَوْله: {وَهِي صفة راسخة فِي النَّفس تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة} ، وَترك الْكَبَائِر، والرذائل {بِلَاد بِدعَة مُغَلّظَة} .
الْعَدَالَة لُغَة: التَّوَسُّط فِي الْأَمر من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان.
وَقَوْلنَا: صفة راسخة فِي النَّفس المُرَاد بِالصّفةِ هِيَ الملكة؛ لأَنهم فسروها بهَا فالملكة هِيَ الصّفة الراسخة فِي النَّفس.
أما الْكَيْفِيَّة النفسانية فِي أول حدوثها قبل أَن ترسخ فتسمى(4/1858)
حَالا؛ وَلذَلِك عيب على صَاحب " البديع " فِي تَعْبِيره بِأَن الْعَدَالَة هَيْئَة فِي النَّفس؛ لشمولها الْحَال والملكة.
وَهَذِه الصّفة الراسخة فِي النَّفس تحمل صَاحبهَا على مُلَازمَة التَّقْوَى، والمروءة، وَترك الْكَبَائِر والرذائل، وَيَأْتِي حد الْكَبِيرَة وحقيقتها.
وَأما الرذائل الْمُبَاحَة فكالبول فِي الطَّرِيق، وَالْأكل فِي مجامع الْأَسْوَاق، وَنَحْوه.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمقنع فِي الْفِقْه ": وَالْعَدَالَة اسْتِوَاء أَحْوَاله فِي دينه واعتدال أَقْوَاله وأفعاله. انْتهى.
{فَلَا يَأْتِي كَبِيرَة} لِلْآيَةِ فِي الْقَاذِف، وَقس عَلَيْهِ الْبَاقِي من الْكَبَائِر.
{وَقَالَ أَصْحَابنَا} وَغَيرهم: {إِن قذف بِلَفْظ الشَّهَادَة قبلت رِوَايَته} ؛ لِأَن نقص الْعدَد لَيْسَ من جِهَته.(4/1859)
زَاد القَاضِي فِي " الْعدة ": وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي الْقَذْف، وَقد اخْتلفُوا فِي الْحَد، ويسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد، وَلَا ترد الشَّهَادَة بِمَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد. وَكَذَا زَاد ابْن عقيل.
قَالَ الشِّيرَازِيّ فِي " اللمع ": وَأَبُو بكرَة وَمن شهد مَعَه تقبل روايتهم؛ لأَنهم أخرجُوا ألفاظهم مخرج الْإِخْبَار، لَا مخرج الْقَذْف، وجلدهم عمر بِاجْتِهَادِهِ.
وَجزم صَاحب " الْمُغنِي " برد شَهَادَته، وبفسقه؛ لقَوْل عمر لأبي بكرَة: (إِن تبت قبلت شهادتك) .
احْتج بِهِ الإِمَام أَحْمد وَغَيره.(4/1860)
{وَاتفقَ النَّاس على الرِّوَايَة عَن أبي بكرَة} ، وَالْمذهب عِنْدهم: يحد. وَرُوِيَ عَن أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ: أَنه لَا يحد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَيتَوَجَّه من هَذِه الرِّوَايَة بَقَاء عَدَالَته، وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة، {وَهُوَ معنى مَا جزم بِهِ الْآمِدِيّ} ، وَمن وَافقه، وَأَنه لَيْسَ من الْجرْح؛ لِأَنَّهُ لم يُصَرح بِالْقَذْفِ اقْتصر على هَذَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَكَيف يُقَال مَعَ حَده عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَصرح الْإِسْمَاعِيلِيّ بِالْفِسْقِ، وَفرق بِأَن الرِّوَايَة لَا تهمه فِيهَا، وَبِأَنَّهُ لَا يمْتَنع من قبُوله أحد مَعَ إِجْمَاعهم على منع الشَّهَادَة فَأجرى قبُول خَبره مجْرى الْإِجْمَاع.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ. قَالَ: وَالْأَظْهَر الْعَمَل بِالْآيَةِ، وَهَذَا رام وَإِلَّا لم يحد، وَلَا وَجه للتفرقة كَمَا قالته الْحَنَفِيَّة والمالكية، لَكِن إِن(4/1861)
حد لم تقبله الْحَنَفِيَّة وَلَو تَابَ.
وَقَضِيَّة أبي بكرَة وَاقعَة عين تَابَ مِنْهَا؛ فَلهَذَا روى النَّاس عَنهُ، وَمَات بعد الْخمسين، واسْمه نفيع بن الْحَرْث، وَهُوَ من جملَة من تسور جِدَار الطَّائِف وَجَاء فَأسلم، وَكَانَ عبدا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: {صرح القَاضِي} فِي قِيَاس الشّبَه من " الْعدة " {بعدالة من أَتَى كَبِيرَة} لقَوْله تَعَالَى: فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} الْآيَة: [الْمُؤْمِنُونَ: 102] ، {و} رُوِيَ {عَن أَحْمد فِيمَن أكل الرِّبَا إِن أَكثر لم يصل خَلفه} .
قَالَ القَاضِي، وَابْن عقيل: فَاعْتبر الْكَثْرَة.
{و} قَالَ الْمُوفق {فِي " الْمُغنِي ": إِن أَخذ صَدَقَة مُحرمَة وتكرر ذَلِك مِنْهُ ردَّتْ} . انْتهى.(4/1862)
قَالَ فِي " الْفُرُوع ": وَظَاهر " الْكَافِي " فِي الْعدْل من رجح خَيره وَلم يَأْتِ كَبِيرَة.
قَوْله: {وَأما الصَّغَائِر إِن كفرت باجتناب الْكَبَائِر} . قَالَ ابْن عقيل: أَو بمصائب الدُّنْيَا، وَيكفر بهما فِي الْأَصَح لم يقْدَح وَإِلَّا قدحت عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا.
لم تدخل الصَّغَائِر مُطلقًا فِي حد الْعَدَالَة لما فِيهَا من التَّفْصِيل فَلذَلِك ذَكرنَاهَا على حِدة.
فَنَقُول: الصَّغَائِر إِذا فعلهَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن نقُول: تكفر باجتناب الْكَبَائِر، أَو لَا، فَإِن قُلْنَا إِنَّهَا تكفر بذلك، وَهُوَ الصَّحِيح، وَهُوَ ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} [النِّسَاء: 31] ، وَدلّ على ذَلِك السّنة، قَالَه جمَاعَة من(4/1863)
أَصْحَابنَا، وَكثير من الْعلمَاء، وَحَكَاهُ بَعضهم إِجْمَاعًا، وَحَكَاهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي عَن أَكثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَهُ.
وَقيل: لَا تكفر بذلك.
وعَلى القَوْل الأول قَالَ ابْن عقيل: وَكَذَلِكَ إِن قُلْنَا: تكفر بمصائب الدُّنْيَا، وَفِيه خلاف أَيْضا.
وَالصَّحِيح - أَيْضا - أَنَّهَا تكفر بهَا للأحاديث فِي ذَلِك، وَاخْتَارَهُ أَيْضا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الرَّد على الرافضي، وَحَكَاهُ عَن الْجُمْهُور.
وَقَالَ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور - وَلم يثبت مِنْهُ -: فالصغائر تكفر باجتناب الْكَبَائِر عِنْد جَمَاهِير أهل السّنة.
بل وَعنهُ: الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم أَن الْكَبَائِر تمحى بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ أعظم، وبالمصائب المكفرة وَغير ذَلِك. انْتهى.
قَوْله: {لم يقْدَح} ، يَعْنِي إِذا قُلْنَا: تكفر باجتناب الْكَبَائِر، أَو بمصائب(4/1864)
الدُّنْيَا، وفعلها واجتنب الْكَبَائِر أَو أُصِيب بِشَيْء من مصائب الدُّنْيَا لم يقْدَح فعلهَا فِي الْعَدَالَة، وَلَا فِي الرِّوَايَة.
وَإِن قُلْنَا: لَا تكفر بذلك قدحت، ومنعت الرِّوَايَة عَن صَاحبهَا على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم؛ وَلِأَنَّهُ صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار. رَوَاهُ ابْن جرير، وَابْن أبي حَاتِم.
وَيتَوَجَّهُ إِن قيل: قَول الصَّحَابِيّ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا، قَالَه ابْن مُفْلِح.
وروى التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا: " لَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار " نَقله فِي " الْفُرُوع "، لَكِن قَالَ: وَفِي الْخَبَر الَّذِي فِي التِّرْمِذِيّ،(4/1865)
وَذكره، لَكِن يشْتَرط أَن يتَكَرَّر مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: {إِن تَكَرَّرت مِنْهُ تَكْرَارا يخل الثِّقَة بصدقه، وَهَذَا الصَّحِيح} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": حد الْإِصْرَار الْمَانِع فِي الصَّغَائِر أَن يتَكَرَّر مِنْهُ تَكْرَارا يخل الثِّقَة بصدقه كملاً بسته الْكَبِيرَة. انْتهى.
وَقطع الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": {إِن غلب عَلَيْهِ الطَّاعَات لم يقْدَح} لقَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل ... } الْآيَة [الْأَنْبِيَاء: 94، والزلزلة: 7] .
{وَقيل: يقْدَح تكرارها} فِي الْجُمْلَة، وَقيل: ثَلَاثًا.
قَالَه ابْن حمدَان فِي " الْمقنع "، و " آدَاب الْمُفْتِي ". {و} قَالَ {فِي " التَّرْغِيب " وَغَيره: يقْدَح كَثْرَة الصَّغَائِر وإدمان وَاحِدَة} .(4/1866)
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمقنع ": لَا يدمن على صَغِيرَة.
وَهَذَا الصَّحِيح، وَهُوَ مُرَاد الأول، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب، وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ فِي " الْمُحَرر " و " الْوَجِيز "، و " تذكرة ابْن عَبدُوس "، وَغَيرهم، وَقدمه فِي " الْهِدَايَة "، و " الْمَذْهَب "، و " الْمُسْتَوْعب "، و " الْخُلَاصَة "، و " الْمقنع " للموفق، و " النّظم "، وَغَيرهم.
فالإدمان هُنَا كَمَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله " كَمَا تقدم وَهُوَ الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْمَتْن.(4/1867)
قَوْله: {وَترد بِالْكَذِبِ - وَلَو تدين - فِي الحَدِيث عِنْد أَحْمد، وَمَالك وَغَيرهمَا} ، بل عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤمن عَلَيْهِ أَن يكذب فِيهِ.
وَقيل: لَا ترد بذلك.
وَعنهُ أَيْضا: ترد بكذبة وَاحِدَة، اخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " وَغَيره.
وَاحْتج أَحْمد بِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام رد شَهَادَة رجل فِي كذبه، وَإِسْنَاده جيد لكنه مُرْسل. رَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ والخلال، وَجعله فِي " التَّمْهِيد " إِن صَحَّ(4/1868)
للزجر، وَفِيه وَعِيد فِي مَنَامه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي الصَّحِيح، وَفِي الصَّحِيح الزّجر عَن شَهَادَة الزُّور وَأَنَّهَا من الْكَبَائِر.
وَذكر فِي " الْفُصُول " فِي الشَّهَادَة: أَن بَعضهم اخْتَار هَذِه الرِّوَايَة، وقاس عَلَيْهَا بَقِيَّة الصَّغَائِر.
واختارها الشَّيْخ تَقِيّ الدّين نقلته من " الْإِنْصَاف "، وَهُوَ ظَاهر(4/1869)
كَلَامه فِي " الْمُغنِي "، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن الكذبة الْوَاحِدَة لَا تقدح؛ للْمَشَقَّة وَعدم دَلِيله.
وَذكر ابْن عقيل فِي الشَّهَادَة فِي " الْفُصُول ": أَنه ظَاهر مَذْهَب أَحْمد وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابه. قَالَ ابْن عقيل: وَقِيَاس بَقِيَّة الصَّغَائِر عَلَيْهَا بعيد؛ لِأَن الْكَذِب مَعْصِيّة فِيمَا تحصل بِهِ الشَّهَادَة وَهُوَ الْخَبَر. انْتهى.
وَلِهَذَا الْمَعْنى جزم بِهِ القَاضِي فِي الشَّهَادَة وَالْخَبَر للْحَاجة إِلَى صدق الْمخبر فَهُوَ أولى بِالرَّدِّ مِمَّا يُسمى فَاسِقًا.
{وَأخذ هُوَ وَأَبُو الْخطاب} من هَذِه الرِّوَايَة {أَنَّهَا كَبِيرَة} كشهادته بالزور، وَكذبه على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، {وكالغيبة والنميمة على الْأَصَح} .
اخْتلف فِي الْغَيْبَة والنميمة هَل هما من الصَّغَائِر، أَو من الْكَبَائِر؟(4/1870)
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنَّهُمَا من الْكَبَائِر، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَهُوَ ظَاهر مَا قدمه فِي " فروعه ".
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا خلاف أَن الْغَيْبَة من الْكَبَائِر.
وَقيل: من الصَّغَائِر، اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا، مِنْهُم صَاحب " الْفُصُول "، و " الغنية "، و " الْمُسْتَوْعب ".
قَوْله: {والكذبة الْوَاحِدَة فِي الحَدِيث تقدح فَلَا تقبل رِوَايَته وَإِن تَابَ} . نَص عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد، وَقَالَ: لَا تقبل مُطلقًا.
وَقَالَهُ القَاضِي أَبُو يعلى وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.(4/1871)
قَالَ القَاضِي لِأَنَّهُ زنديق، فَتخرج تَوْبَته على تَوْبَته وَفَارق الشَّهَادَة؛ لِأَنَّهُ قد يكذب فِيهَا لرشوة أَو تقرب إِلَى أَرْبَاب الدُّنْيَا.
وَقَالَ ابْن عقيل: هَذَا فرق بعيد؛ لِأَن الرَّغْبَة إِلَيْهِم بأخبار الرَّجَاء أَو الْوَعيد غَايَته الْفسق.
وَظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَن تَوْبَته تقبل.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء - مِنْهُم أَبُو بكر الشَّامي -: لَكِن فِي غير مَا كذب فِيهِ، كتوبته فِيمَا أقرّ بتزويره.
{وَقبلهَا الدَّامغَانِي} الْحَنَفِيّ فِيهِ - أَيْضا -، قَالَ: لِأَن ردهَا لَيْسَ بِحكم، ورد الشَّهَادَة حكم.(4/1872)
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: سَأَلت أَبَا بكر الشَّامي عَنهُ فَقَالَ: لَا يقبل خَبره فِيمَا رد وَيقبل فِي غَيره اعْتِبَارا بِالشَّهَادَةِ.
قَالَ: وَسَأَلت قَاضِي الْقُضَاة الدَّامغَانِي، فَقَالَ: يقبل حَدِيثه الْمَرْدُود وَغَيره بِخِلَاف شَهَادَته إِذا ردَّتْ ثمَّ تَابَ لم تقبل تِلْكَ خَاصَّة، قَالَ: لِأَن هُنَاكَ حكما من الْحَاكِم بردهَا فَلَا ينْقض، ورد الْخَبَر مِمَّن روى لَهُ لَيْسَ بِحكم. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَهَذَا يتَوَجَّه لَو رددنا الحَدِيث لفسقه، بل يَنْبَغِي أَن يكون هُوَ الْمَذْهَب، فَأَما إِذا علمنَا كذبه فِيهِ فَأَيْنَ هَذَا من الشَّهَادَة؟ فنظيره أَن يَتُوب من شَهَادَة زور ويقر فِيهَا بالتزوير. انْتهى.
قَوْله: {وَلم يفرق أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي الصَّغَائِر} ، بل أطْلقُوا فَظَاهره أَنه لَا فرق؛ بل ذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " التطفيف مِنْهَا، وَاعْتبر التّكْرَار.(4/1873)
وَقَالَ الْآمِدِيّ وَمن وَافقه: إِن مثل سَرقَة لقْمَة، والتطفيف بِحَبَّة، وَاشْتِرَاط أَخذ الْأُجْرَة على سَماع الحَدِيث يعْتَبر تَركه كالكبائر بِلَا خلاف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي اشْتِرَاط أَخذ الْأُجْرَة: لَا يكْتب عَنهُ الحَدِيث، وَلَا كَرَامَة.
وَقَالَهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأَبُو حَاتِم.
قَالَ القَاضِي: هُوَ على الْوَرع؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهد.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": هَذَا غلط؛ لِأَنَّهُ أَكثر دناءة من الْأكل على الطَّرِيق.
يُؤَيّد مَا ذكره نقل أبي الْحَارِث: هَذِه طعمة سوء.
وَحمله ابْن عقيل على أَنه فرض كِفَايَة، قَالَ: {فَإِن قطعه عَن شغله فكنسخ حَدِيث، ومقابلته خلافًا للحنفية} .(4/1874)
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَيعْتَبر ترك مَا فِيهِ دناءة وَترك مُرُوءَة كأكله فِي السُّوق بَين النَّاس الْكثير، وَمد رجلَيْهِ أَو كشف رَأسه بَينهم، وَالْبَوْل فِي الشوارع، واللعب بالحمام، وصحبة الأرذال، والإفراط فِي المزح؛ لحَدِيث أبي مَسْعُود البدري: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " رَوَاهُ البُخَارِيّ.
أَي: صنع مَا شَاءَ فَلَا يوثق بِهِ، لَكِن يعْتَبر تكْرَار ذَلِك كالصغائر، وَمن ذَلِك من صَنعته دنيئة عرفا، وَلَا ضَرُورَة كحجام، وزبال، وقراد، لَكِن الصَّحِيح لَا يقْدَح إِذا حسنت طريقتهم لحَاجَة النَّاس إِلَيْهَا.
وَقيل: تقدح، وَكَذَا حائك، وحارس، ودباغ.
وَتعْتَبر هَذِه الشُّرُوط للشَّهَادَة، وَلَا يعْتَبر للرواية غير ذَلِك فَتقبل رِوَايَة عبد وَغَيره على مَا يَأْتِي.(4/1875)
قَوْله: {فَائِدَة:
نفى الْأُسْتَاذ، والباقلاني، وَابْن فورك، والقشيري، والسبكي، الصَّغَائِر، وَجعلُوا الْكل كَبَائِر} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: القَوْل بانقسام الذَّنب إِلَى صغائر وكبائر عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَقَالَ الْأُسْتَاذ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني، وَابْن الْقشيرِي: إِن جَمِيع الذُّنُوب كَبَائِر. وَنَقله ابْن فورك عَن الأشعرية، وَاخْتَارَهُ نظرا إِلَى من عصى الله عز وَجل.(4/1876)
قَالَ الْقَرَافِيّ: كَأَنَّهُمْ كَرهُوا تَسْمِيَة مَعْصِيّة الله تَعَالَى صَغِيرَة إجلالاً لَهُ مَعَ موافقتهم فِي الْجرْح أَنه لَيْسَ بِمُطلق الْمعْصِيَة؛ بل مِنْهُ مَا يقْدَح، وَمِنْه مَا لَا يقْدَح، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّسْمِيَة. انْتهى.
اسْتدلَّ الْجُمْهُور بقوله: {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ} [النِّسَاء: 31] ، الْآيَة: وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَكْفِير الصَّلَوَات الْخمس وَالْجُمُعَة مَا بَينهمَا إِذا اجْتنبت الْكَبَائِر؛ إِذْ لَو كَانَ الْكل كَبَائِر لم يبْق بعد ذَلِك مَا يكفر بِمَا ذكر، وَفِي الحَدِيث الْكَبَائِر سبع وَفِي رِوَايَة تسع وعدوها، فَلَو كَانَت الذُّنُوب كلهَا كَبَائِر لما سَاغَ ذَلِك.(4/1877)
قلت: وَمَا أحسن مَا قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": إِن أَرَادوا إِسْقَاط الْعَدَالَة فقد خالفوا الْإِجْمَاع، وَإِن أَرَادوا قبح الْمعْصِيَة نظرا إِلَى كبريائه تَعَالَى، وَأَن مُخَالفَته لَا تعد أمرا صَغِيرا فَنعم القَوْل. انْتهى.
قَوْله: {والكبيرة عِنْد أَحْمد وَنقل عَن ابْن عَبَّاس مَا فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيد فِي الْآخِرَة} .
زَاد الشَّيْخ} وَأَتْبَاعه: {أَو لعنة، أَو غضب، أَو نفي إِيمَان} ، إِلَى آخِره.
الْقَائِل بِأَن الذُّنُوب كَبَائِر وصغائر، اخْتلفُوا فِي حد الْكَبِيرَة اخْتِلَافا كثيرا، فَقيل: لَا يعرف ضابطها.(4/1878)
{قَالَ القَاضِي فِي " الْمُعْتَمد ": معنى الْكَبِيرَة أَن عقابها أعظم، وَالصَّغِيرَة أقل، {لَا يعلمَانِ إِلَّا بتوقيف} .
قَالَ الواحدي: الصَّحِيح أَن الْكَبَائِر لَيْسَ لَهَا حد تعرف بِهِ وَإِلَّا لاقتحم النَّاس الصَّغَائِر، واستباحوها، وَلَكِن الله تَعَالَى أخْفى ذَلِك عَن الْعباد ليجتهدوا فِي اجْتِنَاب الْمنْهِي عَنهُ رَجَاء أَن تجتنب الْكَبَائِر، نَظِيره: إخفاء الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَلَيْلَة الْقدر، وَسَاعَة الْإِجَابَة فِي الْجُمُعَة، وَقيام السَّاعَة، وَنَحْو ذَلِك.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: ضابطها مَعْرُوف، فَقَالَ الإِمَام أَحْمد: الْكَبِيرَة مَا فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو وَعِيد فِي الْآخِرَة لوعد الله مجتنبيها بتكفير الصَّغَائِر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلِأَنَّهُ معنى قَول ابْن عَبَّاس، ذكره، أَحْمد، وَأَبُو عبيد، زَاد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَأَتْبَاعه: أَو لعنة الله، أَو غضب أَو نفي الْإِيمَان، قَالَ: وَلَا يجوز أَن يَقع نفي الْإِيمَان لأمر مُسْتَحبّ، بل لكَمَال وَاجِب، قَالَ: وَلَيْسَ لأحد أَن يحمل كَلَام أَحْمد إِلَّا على معنى يبين من كَلَامه مَا يدل على أَنه مُرَاده، لَا على مَا يحْتَملهُ اللَّفْظ من كَلَام كل أحد.(4/1879)
وَفِي كَلَام ابْن حَامِد أَن نفي الْإِيمَان مخرج إِلَى الْفسق.
وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَيْضا مَا مَعْنَاهُ إِنَّمَا ورد فِيهِ لفظ الْكفْر أَو الشّرك للتغليط، وَأَنه كَبِيرَة. انْتهى.
{وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَا تعلق} بِحَق الله صَغِيرَة، وَمَا تعلق {بِحَق الْآمِدِيّ} كَبِيرَة.
وَقيل: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب الله أَو سنة، وَنسب إِلَى الْأَكْثَر.
وَقيل: مَا أوجب حدا، وَمَال إِلَيْهِ جمَاعَة.
وَقَالَ الْهَرَوِيّ: كل مَعْصِيّة يجب فِي جِنْسهَا حد، من قتل، أَو غَيره،(4/1880)
وَترك كل فَرِيضَة مَأْمُور بهَا على الْفَوْر، وَالْكذب فِي الشَّهَادَة، وَالرِّوَايَة وَالْيَمِين.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْكَبِيرَة كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بِالدّينِ، ورقة الدّيانَة. وَرجحه كثير من الْعلمَاء، وَعدد ذَلِك فِي " جمع الْجَوَامِع ".
فَائِدَة: قَالَ العلائي فِي " قَوَاعِده " الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكَبَائِر فِي مَجْمُوع أَحَادِيث كَثِيرَة، وَأَنه كتبهَا فِي مُصَنف مُنْفَرد:(4/1881)
الشّرك بِاللَّه تَعَالَى، وَقتل النَّفس بِغَيْر حق، وَالزِّنَا وأفحشه بحليلة الْجَار، والفرار من الزَّحْف، وَالسحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، وَقذف الْمُحْصنَات، والاستطالة فِي عرض الْمُسلم بِغَيْر حق، وَشَهَادَة الزُّور، وَالْيَمِين الْغمُوس، والنميمة، وَالسَّرِقَة، وَشرب الْخمر، وَاسْتِحْلَال بَيت الله الْحَرَام، ونكث الصَّفْقَة، وَترك السّنة، وَالتَّعَرُّب بعد الْهِجْرَة، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وَمنع ابْن السَّبِيل من فضل المَاء، وَعدم التَّنَزُّه من الْبَوْل، وعقوق الْوَالِدين، والتسبب إِلَى شتمهما، والإضرار فِي الْوَصِيَّة.
هَذَا مَجْمُوع مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيث مَنْصُوصا عَلَيْهِ أَنه كَبِيرَة. انْتهى.(4/1882)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، والمعظم مِنْهُم الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: لَا تقبل رِوَايَة مُبْتَدع دَاعِيَة} ، وعللوا ذَلِك بخوف الْكَذِب لموافقة هَوَاهُ: وَنقض ذَلِك بالداعية فِي الْفُرُوع.
وَلم يفرق الْحَنَفِيَّة، والآمدي، وَجَمَاعَة بَين الداعية وَغَيره.(4/1883)
وَقَبله بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَحكي عَن الشَّافِعِي.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي الْكَفَاءَة من " الْفُصُول ": إِن دَعَا كفر، قَالَ: وَالصَّحِيح لَا كفر؛ لِأَن أَحْمد أجَاز الرِّوَايَة عَن الحرورية، والخوارج.
قَوْله: {وَفِي غَيره} ، أَي: غير الداعية من المبتدعة {رِوَايَات} عَن الإِمَام أَحْمد: إِحْدَاهَا الْقبُول، اخْتَارَهَا أَبُو الْخطاب من الْأَصْحَاب، وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَغَيره.
وَأطْلقهُ الْحَنَفِيَّة؛ لعدم عِلّة الْمَنْع، وَلما فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيرهمَا من المبتدعة كالقدرية والخوارج والرافضة والمرجئة، وَرِوَايَة السّلف وَالْأَئِمَّة عَنْهُم فَهُوَ إِجْمَاع.(4/1884)
لَا يُقَال: قد تكلم فِي بَعضهم؛ لِأَنَّهُ أُرِيد معرفَة حَالهم أَو للترجيح عِنْد التَّعَارُض، ثمَّ يحصل الْمَقْصُود بِمن لم يتَكَلَّم فِيهِ، وَلَا يلْزم من رده رد الْجَمِيع، أَو الْأَكْثَر لِكَثْرَة تفسيق الطوائف وتكفير بَعضهم بَعْضًا؛ وَلِأَنَّهَا حَاجَة عَامَّة فَهِيَ أولى من تَصْدِيقه أَنه ملكه، وَفِي اسْتِئْذَانه، وإرساله بهدية وَهِي إِجْمَاع.
ذكره الْقُرْطُبِيّ وَخص الْآيَة بِهِ، وَلَا تُهْمَة لعُمُوم رِوَايَته لَهُ وَلغيره؛ وَلِأَنَّهُ يوثق بِهِ لتدينه، وكفره بِتَأْوِيل أخطاء فِيهِ وَهُوَ يظنّ أَنه على حق، وَلم يبتغ غير الْإِسْلَام دينا بِخِلَاف غَيره فَإِنَّهُ يقدم على مَا يَعْتَقِدهُ محرما لغرضه فَمثله يكذب وَلَا يوثق بِهِ. وَاعْترض بقول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق} [الحجرات: 6] الْآيَة.
أُجِيب: بِمَنْع فسقه عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم.(4/1885)
وَقَالَهُ ابْن عقيل فِي غير الداعية، وَقَالَهُ القَاضِي فِي " شرح الْخرقِيّ " فِي الْمُقَلّد: قَالَ بعض أَصْحَابنَا: وَنهى أَحْمد عَن الْأَخْذ عَنْهُم إِنَّمَا هُوَ لهجرهم، وَهُوَ يخْتَلف بالأحوال والأشخاص؛ وَلِهَذَا لم يرو الْخلال عَن قوم لنهي الْمَرْوذِيّ، ثمَّ روى عَنْهُم بعد مَوته.
وَلِهَذَا جعل القَاضِي الدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَة قسما غير دَاخل فِي مُطلق الْعَدَالَة، ثمَّ المُرَاد غير المبتدع بِدَلِيل مَا سبق، وسببها وسياقها.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: عدم الْقبُول، وَهُوَ قَول مَالك، وَالْقَاضِي من(4/1886)
أَصْحَابنَا، وَغَيره، والباقلاني، والآمدي، والجبائية، وَجَمَاعَة كَمَا لَو تدين بِالْكَذِبِ كالخطابية من الرافضة، وَهُوَ يظنّ أَنه على حق لما سبق.
والخطابية نِسْبَة إِلَى أبي الْخطاب، وَهُوَ من مَشَايِخ الرافضة، وَكَانَ يَقُول بإلهية جَعْفَر الصَّادِق، ثمَّ ادّعى الإلهية لنَفسِهِ عَلَيْهِ لعائن الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، وَهُوَ وَأَتْبَاعه يسْتَحلُّونَ الْكَذِب فِي نصْرَة مَذْهَبهم فيرون الشَّهَادَة بالزور لموافقهم على مخالفهم.(4/1887)
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: مَا فِي أهل الْأَهْوَاء قوم أشهد بالزور من الرافضة.
وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة: {الْقبُول مَعَ بِدعَة مفسقة لَا مكفرة} ، وَهَذَا قَول الإِمَام الشَّافِعِي، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَبَعض الْحَنَفِيَّة؛ لعظم الْكفْر، فيضعف الْعذر، ويقوى عدم الوثوق، وَلم يفرقُوا بَين الْمُكَفّر وَغَيره.
وَقد قَالَ أَبُو الْخطاب عَن قَول الإِمَام أَحْمد: (يكْتب عَن الْقَدَرِيَّة) : وهم كفار عِنْده، وَكَذَا اخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: من كفره فَهُوَ كالكافر عِنْده، وَأَن الْخلاف فِي قبُوله مَعَ بِدعَة وَاضِحَة وَإِلَّا قبل لقُوَّة الشّبَه من الْجَانِبَيْنِ. {وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {كَلَام أَحْمد يفرق بَين أَنْوَاع الْبدع وَبَين(4/1888)
الْحَاجة إِلَى الرِّوَايَة عَنْهُم وَعدمهَا} .
قَالَ الإِمَام أَحْمد: احملوا عَن المرجئة الحَدِيث، وَيكْتب عَن القدري إِذا لم يكن الداعية، واستعظم الرِّوَايَة عَن رجل وَهُوَ سعد الْعَوْفِيّ، وَقَالَ: ذَلِك جهمي امتحن فَأجَاب وَأَرَادَ بِلَا إِكْرَاه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي " شرح مُقَدّمَة مُسلم ": إِن الْعلمَاء من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والأصوليين قَالُوا: لَا تقبل رِوَايَة من كفر ببدعته اتِّفَاقًا. انْتهى.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين - وَهُوَ القَاضِي عَلَاء الدّين البعلي -: إِن كَانَت بِدعَة أحدهم مُغَلّظَة كالتجهم ردَّتْ رِوَايَته، وَإِن كَانَت متوسطة كالقدر ردَّتْ إِن كَانَ دَاعِيَة، وَإِن كَانَت خَفِيفَة كالإرجاء فَهَل تقبل مَعهَا مُطلقًا أم ترد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .(4/1889)
عَن الداعية؟ رِوَايَتَانِ، هَذَا تَحْقِيق مَذْهَبنَا.
قَوْله: {فَائِدَة: المبتدعة أهل الْأَهْوَاء} ؛ إِذا أطلق الْعلمَاء لَفْظَة المبتدعة فَالْمُرَاد بِهِ أهل الْأَهْوَاء من الْجَهْمِية، والقدرية، والمعتزلة، والخوارج، وَالرَّوَافِض وَمن نحا نحوهم، وَلَيْسَ الْفُقَهَاء مِنْهُم على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَه ابْن عقيل وَغَيره، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء وَهُوَ أولى.
وَخَالف القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن الْبَنَّا، وَجمع فأدخلوهم فِي أهل الْأَهْوَاء.(4/1890)
قَوْله: {فَمن شرب نبيذاً مُخْتَلفا فِيهِ حد عندنَا، وَلم يفسق، كالشافعي} .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: {وَفِيه نظر} ؛ لِأَن الْحَد أضيق.
ورد: الشَّهَادَة أوسع؛ وَلِأَنَّهُ يلْزم من الْحَد التَّحْرِيم فيفسق بِهِ، أَو إِن تكَرر.
وَعَن أَحْمد: يفسق، اخْتَارَهُ ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد "، وَأَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " الْمُبْهِج " وفَاقا للْإِمَام مَالك؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْمجمع عَلَيْهِ وللسنة المستفيضة فِي ذَلِك.(4/1891)
وَعَن أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة: لَا حد عَلَيْهِ، وَلَا يفسق بذلك. اخْتَارَهُ أَبُو ثَوْر، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَهُوَ قوي للْخلاف فِيهِ كَغَيْرِهِ؛ وَلِئَلَّا يفسق بِوَاجِب يَفْعَله مُعْتَقدًا وُجُوبه فِي مَوضِع، وَلَا أثر لاعتقاد الْإِبَاحَة.
وَمثل الْمَسْأَلَة مُتْعَة النِّكَاح، إِن قيل: لَا إِجْمَاع فِيهَا؛ وَلِهَذَا سوى بَينهمَا القَاضِي فِي " الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة "، وَمثله رَبًّا الْفضل، وَالْمَاء من المَاء.
وَذكر بعض أَصْحَابنَا - قِيَاس رِوَايَة فسق الشَّارِب النَّبِيذ - من لعب بشطرنج، وَتسمع غناء بِلَا آلَة.(4/1892)
{تَنْبِيه: مَحَله فِي مُجْتَهد أَو مقلد، وَإِلَّا فَيحرم الْقدوم على مَا لَا يعلم جَوَازه إِجْمَاعًا} ؛ لِأَن إقدامه على مَا لَا يعلم: هَل يجوز فعله، أَو لَا يجوز؟ جرْأَة على الله، وعَلى رَسُوله، وعَلى الْعلمَاء لكَونه لم يسْأَل.
{وَاخْتلف كَلَام القَاضِي فِي فسقه، وفسقه الباقلاني} ، وَقَالَ: ضم جهلا إِلَى فسق.
ورده بعض الشَّافِعِيَّة بِالْفرقِ: بِعَدَمِ الجرأة.
{وَفسق ابْن عقيل عامياً شرب نبيذاً} ، وَلَا يُعَارض ذَلِك قَوْله: فِيمَن زوج أمته، أَو أم وَلَده ثمَّ وَطئهَا جهلا، هَل يَأْثَم لتَركه السُّؤَال أم لَا لعدم شكه فِي التَّحْرِيم؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ. يَعْنِي لعذره بالاستصحاب، وَكَذَا جمعه فِي " الْكَافِي " - فِي بطلَان الصَّلَاة بِكَلَام الْجَاهِل - بَينه وَبَين النَّاسِي بِعَدَمِ التأثيم، واستقصاء ذَلِك وَبَيَان حكم الْبدع فِي كتب الْفِقْه.(4/1893)
قَالَ الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا: وَلَا يحكم بفسق مُخَالف فِي أصُول الْفِقْه.
وَبِه قَالَ جمَاعَة الْفُقَهَاء، والمتكلمين، خلافًا لبَعض الْمُتَكَلِّمين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا أطلقهُ.(4/1894)
قَوْله: {فصل}
{تقبل رِوَايَة عبد} ؛ لظَاهِر الْأَدِلَّة فَإِنَّهَا تشمله.
وَتقبل رِوَايَة الْأُنْثَى لقبولهم خبر عَائِشَة، وَأَسْمَاء، وَأم سَلمَة، وَأم سليم، وغيرهن - رَضِي الله عَنْهُن أَجْمَعِينَ - سَوَاء كن أحراراً أَو أرقاء.
وَتقبل أَيْضا رِوَايَة الْقَرِيب، والضرير، والعدو، وَغَيرهم؛ لِأَن حكم الرِّوَايَة عَام للمخبر والمخبر، وَلَا يخْتَص بشخص فَلَا تُهْمَة فِي ذَلِك بِخِلَاف الشَّهَادَة، وَهَذَا وَاضح جلي.
قَوْله: {وَلَا تعْتَبر كَثْرَة سَماع الحَدِيث} ؛ بل مَتى سمع وَلَو حَدِيثا وَاحِدًا صحت رِوَايَته.(4/1895)
{وَلَا} يعْتَبر أَيْضا {معرفَة نسبه} ، كَالْعَبْدِ، وَغَيره مِمَّن لَا يعرف نسبه وَإِن كَانَ فِي الأَصْل لَهُ نسب، كَعَدم نسبه بِالْكُلِّيَّةِ كَوَلَد الزِّنَا، والمنفي بِلعان إِذا كَانُوا عُدُولًا؛ وَلِأَنَّهُم داخلون فِي عُمُوم الْأَدِلَّة فَصحت روايتهم كغيرهم.
{وَلَا} يعْتَبر أَيْضا {علمه بالفقه والعربية، وَلَا بِمَعْنى الحَدِيث} . وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَاعْتبر الإِمَام مَالك معرفَة الْفِقْه، وَنقل عَن أبي حنيفَة مثله، وَعنهُ أَيْضا: تعْتَبر مَعْرفَته إِن خَالف مَا رَوَاهُ الْقيَاس.(4/1896)
وَاحْتَجُّوا بِأَن غير الْفَقِيه مَظَنَّة سوء الْفَهم، وَوضع النُّصُوص على غير المُرَاد مِنْهَا، فالاحتياط للْأَحْكَام أَن لَا يرْوى عَنهُ.
وَاسْتدلَّ لِلْجُمْهُورِ بِحَدِيث زيد بن ثَابت: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نضر الله امْرَءًا سمع منا حَدِيثا فحفظه حَتَّى يبلغهُ غَيره فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه وَلَيْسَ بفقيه ". إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيّ، وَحسنه، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي وَأحمد بِإِسْنَاد جيد.
وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نضر الله ... . " رَوَاهُ الْأَصْمَعِي بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَأَبُو عبيد بتخفيفه. أَي: نعمه الله، وَكَانَت الصَّحَابَة تقبل رِوَايَة الْأَعرَابِي لحَدِيث وَاحِد، وعَلى ذَلِك عمل الْمُحدثين، وَمَا يعْتَبر من ذَلِك فِي الشَّهَادَة وَالْخلاف فِيهِ مَذْكُور فِي الْفِقْه.(4/1897)
وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: " فَرب مبلغ أوعى من سامع " رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.
وَالْجَوَاب عَمَّا قَالُوا: إِنَّا إِنَّمَا نقبل رِوَايَته إِذا روى بِاللَّفْظِ وَالْمعْنَى المطابق، وَكَانَ يعرف مقتضيات الْأَلْفَاظ، وَالْعَدَالَة تَمنعهُ من تَحْرِيف لَا يجوز.
قَوْله: {وَلَا تقبل رِوَايَة متساهل فِيهَا} ، سَمَاعا وإسماعاً، كالنوم وَقت السماع، وَقبُول التَّلْقِين، أَو يحدث لَا من أصل مصحح وَنَحْوه، وَقد نَص عَلَيْهِ المحدثون، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم.
وَهُوَ قَادِح فِي قِيَاس قَول أَصْحَابنَا وَغَيرهم: يحرم التساهل فِي(4/1898)
الْفتيا واستفتاء مَعْرُوف بِهِ، وَقبُول الحَدِيث مِمَّن هُوَ على هَذِه الصّفة أولى بِالتَّحْرِيمِ.
وَقد جزم بِهِ فِي " الْمَحْصُول " وَغَيره.(4/1899)
قَوْله: {فصل}
{أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: {لَا تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعَدَالَة} .
وَعَن أَحْمد رِوَايَة: يقبل {وفَاقا لأبي حنيفَة، وَأكْثر أَصْحَابه، وَابْن فورك، وسليم الرَّازِيّ، والمحب الطَّبَرِيّ، والطوفي من الْأَصْحَاب كقبوله عقب إِسْلَامه} .
هَكَذَا نقل كثير من الْعلمَاء أَن مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه كَذَلِك.(4/1900)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: إِن رده جَمِيعهم لم يقبل، وَإِن اخْتلفُوا فِيهِ قبل، وَإِن لم يرد، وَلم يقبل جَازَ قبُوله لظَاهِر عَدَالَة الْمُسلم وَلم يجب.
وَجوز الْحَنَفِيَّة الْقَضَاء بِظَاهِر الْعَدَالَة، أما الْيَوْم فَتعْتَبر التَّزْكِيَة لغَلَبَة الْفسق. انْتهى.
وَلم ينْقل إِلَّا عَن تَحْرِير، وَنقل الْبرمَاوِيّ عَن صَاحب " البديع " وَغَيره من الْحَنَفِيَّة أَن أَبَا حنيفَة إِنَّمَا قبل ذَلِك فِي صدر الْإِسْلَام حَيْثُ الْغَالِب على النَّاس الْعَدَالَة، فَأَما الْيَوْم فَلَا بُد من التَّزْكِيَة لغَلَبَة الْفسق. انْتهى.
{وَعَن القَاضِي} : تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعَدَالَة، {وَإِن لم تقبل شَهَادَته} .
نقل فِي " المسودة " فَقَالَ: لما بحث القَاضِي فِي أَحْكَام الْمُرْسل أَن يروي عَن مَجْهُول لم يعرف عينه، ثمَّ قَالَ: فَإِن قيل: فَيجب أَن تقبل شَهَادَته وَإِن لم نبحث عَن عَدَالَته للمعنى الَّذِي ذكرته.(4/1901)
قيل: تقبل شَهَادَته فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، فعلى هَذَا لَا فرق، وَفِي الْأُخْرَى لَا يقبلهَا احْتِيَاطًا للشَّهَادَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قلت: فقد ذكر أَنه تقبل رِوَايَة المستور، وَإِن لم تقبل شَهَادَته. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا وَإِن لم تقبل شَهَادَته.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": تقبل رِوَايَة من عرف إِسْلَامه وجهلت عَدَالَته فِي الزَّمن الَّذِي لم تكْثر فِيهِ الْجِنَايَات، فَأَما مَعَ كَثْرَة الْجِنَايَات فَلَا بُد من معرفَة الْعَدَالَة. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: يُوقف، وَيجب الْكَفّ فِي التَّحْرِيم إِلَى الظُّهُور احْتِيَاطًا} ، فَقَالَ: رِوَايَة المستور مَوْقُوفَة إِلَى استبانة حَاله، فَلَو كُنَّا على اعْتِقَاد فِي حل شَيْء فروى لنا مَسْتُور تَحْرِيمه فَالَّذِي أرَاهُ وجوب الانكفاف عَمَّا كُنَّا نستحله إِلَى تَمام الْبَحْث عَن حَال الرَّاوِي.
قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِك حكما بالحظر الْمُتَرَتب على الرِّوَايَة، وَإِنَّمَا هُوَ توقف فِي الْأَمر والتوقف فِي الْإِبَاحَة يتَضَمَّن الإحجام وَهُوَ معنى الْحَظْر، فَهُوَ إِذا حظر مَأْخُوذ من قَاعِدَة ممهدة، وَهِي التَّوَقُّف عِنْد عدم بَدو ظواهر الْأُمُور إِلَى(4/1902)
استبانتها، فَإِذا ثبتَتْ الْعَدَالَة فَالْحكم بالرواية إِذْ ذَاك. انْتهى.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: يتَوَجَّه أَن يحْتَمل عَدَالَة كل من اعتنى بِالْعلمِ.
وَقَالَهُ ابْن عبد الْبر، وحرف الْمَسْأَلَة أَن شَرط الْقبُول فِي الرِّوَايَة هَل هُوَ الْعلم بِالْعَدَالَةِ فَلَا تقبل رِوَايَة الْمَجْهُول للْجَهْل بهَا، أَو الشَّرْط عدم الْعلم بِالْفِسْقِ فَتقبل رِوَايَة الْمَجْهُول لعدم الْعلم بِفِسْقِهِ؟
هُنَا قَالَ من منع الْعَمَل بروايته: إِنَّمَا عمل بِخَبَر الْوَاحِد للْإِجْمَاع وَلَا إِجْمَاع وَلَا دَلِيل على الْعَمَل؛ وَلِأَن الْفسق مَانع كجهالة الصَّبِي وَالْكفْر.
فَقَالُوا: الْفسق سَبَب التثبت فَإِذا انْتَفَى يَنْتَفِي، وَعَملا بِالظَّاهِرِ وَقبُول الصَّحَابَة لَهُم.
رد: يَنْتَفِي بالخبرة، والتزكية، وبمنع الظَّاهِر ... ... ... ... ... ... ... .(4/1903)
وَالْقَبُول، وَيقبل الْخَبَر بِالْملكِ والذكاة وَلَو من فَاسق وَكَافِر للنصوص وللحاجة وَالْأَشْهر لنا فِي الْمَجْهُول وَأَنه متطهر فَيصح الائتمام بِهِ، لَا أَن المَاء طَاهِر أَو نجس فِي ظَاهر مَذْهَبنَا وَمذهب الشَّافِعِيَّة، وَقَبله الْآمِدِيّ وَمن وَافقه مَعَ فسقه.
قَالُوا: كروايته عقب إِسْلَامه.
أجَاب عَنهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والآمدي بِمَنْعه لاستصحابه للكذب وتسليمه لِأَنَّهُ يعظمه ويهابه.(4/1904)
وَاحْتج ابْن عبد الْبر بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الْجَاهِلين وَإِبْطَال المبطلين وَتَأْويل الغالين " رَوَاهُ الْخلال، وَابْن عدي، وَالْبَيْهَقِيّ، وَله طرق.
قَالَ مهنا لِأَحْمَد: كَأَنَّهُ مَوْضُوع، قَالَ: لَا، هُوَ صَحِيح. قلت: سمعته أَنْت؟ قَالَ: من غير وَاحِد.
وَلقَائِل أَن يُجيب عَنهُ بضعفه، ثمَّ بِتَقْدِير لَام الْأَمر فِي " يحمل " وَهُوَ جَائِز(4/1905)
لُغَة، وَاخْتَارَهُ الزّجاج فِي " يحذر المُنَافِقُونَ ".
قَالَ ابْن الْقطَّان: وخفي على أَحْمد من أمره مَا علمه غَيره، فقد ضعفه ابْن معِين، وَابْن أبي حَاتِم، وَالسَّعْدِي، وَابْن عدي، وَابْن حبَان.
وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا مُسْندًا عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عمر، وَعلي بن أبي طَالب، وَابْن عَمْرو، وَأبي أُمَامَة، وَجَابِر بن سَمُرَة(4/1906)
بطرق ضَعِيفَة، ذكره الْعِرَاقِيّ، وَوَافَقَ ابْن عبد الْبر ابْن الْمواق.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: مَا قَالَه ابْن عبد الْبر فِيهِ اتساع غير مرضِي، واستدلاله بذلك لَا يَصح لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: الْإِرْسَال والضعف.
وَالثَّانِي: عدم صِحَة كَونه خَبرا؛ لِأَن كثير مِمَّن يحمل الْعلم غير عدل فَلم يبْق إِلَّا حمله على الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: أَنه أَمر الثِّقَات بِحمْل الْعلم؛ لِأَن الْعلم إِنَّمَا يبقل من الثِّقَات، وَيدل عَلَيْهِ أَن فِي بعض طرق ابْن أبي حَاتِم: " ليحمل هَذَا الْعلم " بلام الْأَمر، وَالله أعلم. انْتهى.
فَوَافَقَ هَذَا مَا قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَوْله: {فَائِدَة: لَا تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعين، وتزول بِوَاحِد فِي الْأَصَح فيهمَا} : ذكرنَا مَسْأَلَتَيْنِ:(4/1907)
إِحْدَاهمَا: هَل تقبل رِوَايَة مَجْهُول الْعين أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يقبل، وَهُوَ الصَّحِيح وَقطع بِهِ جمع مِنْهُم: التَّاج السُّبْكِيّ، بل ظَاهره أَنه إِجْمَاع، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد حكى الْبرمَاوِيّ وَغَيره فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لَا يقبل مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من الْمُحدثين وَغَيرهم.
وَالثَّانِي: يقبل مُطلقًا، وَهُوَ رَأْي من لم يشْتَرط فِي الرَّاوِي غير الْإِسْلَام.
وَالثَّالِث: إِن كَانَ الْمُنْفَرد بالرواية عَنهُ لَا يروي إِلَّا عَن عدل كَابْن مهْدي، وَيحيى بن سعيد، واكتفينا بالتعديل بِوَاحِد قبل، وَإِلَّا فَلَا.
وَالرَّابِع: إِن كَانَ مَشْهُورا فِي غير الْعلم بالزهد، وَالْقُوَّة فِي الدّين، وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ قَول ابْن عبد الْبر.(4/1908)
وَالْخَامِس: إِن زَكَّاهُ أحد من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل مَعَ رِوَايَة وَاحِد عَنهُ قبل وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَار أبي الْحُسَيْن ابْن الْقطَّان. انْتهى.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: هَل تَزُول الْجَهَالَة بِوَاحِد أم لَا؟
فِيهِ أَقْوَال، قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ": اخْتلف الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل لَهُ أم لَا؟
وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ، وحكوا عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن الشَّافِعِيَّة خلاف ذَلِك.
والنصوص عَن أَحْمد تدل على أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن لم يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل، وَصرح بِهِ طَائِفَة من مُحَقّق أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي. انْتهى.
وَيَأْتِي هَذَا أَيْضا إِذا علم ذَلِك؛ فَفِي الْمَسْأَلَة أَقْوَال:(4/1909)
أَحدهَا: وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَعَلِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ أَنه لَا يخرج الرجل عَن الْجَهَالَة إِلَّا بِرِوَايَة رجلَيْنِ فَصَاعِدا عَنهُ.
وَذكر الْخَطِيب عَن أهل الحَدِيث: لَا تَزُول إِلَّا بِاثْنَيْنِ، وَعلي بن الْمَدِينِيّ يشْتَرط أَكثر من ذَلِك، وَذَلِكَ بِاعْتِبَار من روى عَنهُ.
ذكره عَنهُ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ".
وَقَالَ ابْن معِين: إِذا روى عَن الرجل مثل ابْن سِيرِين؛ وَالشعْبِيّ - وَهَؤُلَاء أهل الْعلم - فَهُوَ غير مَجْهُول، وَإِن روى عَنهُ مثل سماك بن حَرْب، وَأبي إِسْحَاق، فَإِن هَؤُلَاءِ يروون عَن المجهولين.(4/1910)
قَالَ ابْن رَجَب: وَهَذَا تَفْصِيل حسن.
وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يكْتَفى فِيهَا بِمُجَرَّد إِسْلَامه، بل لابد أَن يكون عدلا ظَاهرا.
وَالصَّحِيح أَنه يَزُول بِوَاحِد، وَعَزاهُ بعض الشَّافِعِيَّة إِلَى صَاحِبي الصَّحِيح؛ لِأَن فيهمَا من ذَلِك جمَاعَة، وَأَن الْخلاف مُتَوَجّه لتعديل وَاحِد.
قَالَ ابْن مُفْلِح: يُؤَيّدهُ أَن عَمْرو بن بجدان تفرد عَنهُ أَبُو قلَابَة وَقَبله أَكْثَرهم، وَمثله الْخَطِيب بجبار الطَّائِي، وَعبد الله بن أغر(4/1911)
صفحة فارغة(4/1912)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة} وَالْأَكْثَر، مِنْهُم أَصْحَابنَا، قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَالْجُمْهُور: {يَكْفِي جرح وَاحِد وتعديله} ؛ لِأَن الشَّرْط لَا يزِيد على مشروطه، وَيَكْفِي فِي الرِّوَايَة وَاحِد لَا الشَّهَادَة، فتعديل الرَّاوِي تبع للرواية، وَفرع لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَاد لأَجلهَا، وَالرِّوَايَة لَا يعْتَبر فِيهَا الْعدَد، بل يَكْفِي فِيهَا راو وَاحِد، فَكَذَا مَا هُوَ تبع وَفرع لَهَا.
فَلَو قُلْنَا: نقبل رِوَايَة الْوَاحِد وَلَا يَكْفِي فِي تعديله إِلَّا اثْنَان لزاد الْفَرْع على أَصله، وَزِيَادَة الْفُرُوع على أُصُولهَا غير معهودة عقلا، وَلَا شرعا.(4/1913)
{وَاعْتبر قوم الْعدَد فيهمَا} ، أَي: فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل، مِنْهُم: ابْن حمدَان فِي " مقنعه " {كَالشَّهَادَةِ عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة والمالكية} ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَة فَاعْتبر لَهُ الْعدَد.
رد: بِأَنَّهُ خبر لَا شَهَادَة.
قَالُوا: يعْتَبر الْعدَد؛ لِأَنَّهُ أحوط، وَقَوْلنَا أحوط لِئَلَّا يضيع الشَّرْع، وَعَن أَحْمد: الشَّهَادَة كالرواية فَيَكْفِي فِيهَا جرح وَاحِد وتعديله، اخْتَارَهُ من أَصْحَابنَا أَبُو بكر عبد الْعَزِيز، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَالْحَنَفِيَّة، وَالْقَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني.
{وَاعْتبر قوم الْعدَد فِي الْجرْح} فَقَط فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة، اخْتَارَهُ بعض الْمُحدثين وَالشَّافِعِيَّة.(4/1914)
قَوْله: {وَيشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح لَا التَّعْدِيل عِنْد أَحْمد، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، لاخْتِلَاف النَّاس فِي سَبَب الْجرْح، واعتقاد بَعضهم مَا لَا يصلح أَن يكون سَببا للجرح جارح، كشرب النَّبِيذ متأولاً فَإِنَّهُ يقْدَح فِي الْعَدَالَة عِنْد مَالك دون غَيره، وَكَمن رأى إنْسَانا يَبُول قَائِما فيبادر لجرحه لذَلِك وَلم ينظر فِي أَنه متأول مُخطئ أَو مَعْذُور، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه بَال(4/1915)
قَائِما لعذر كَانَ بِهِ، فَلهَذَا وَشبهه يَنْبَغِي بَيَان سَبَب الْجرْح ليَكُون على ثِقَة، واحتراز من الْخَطَأ والغلو فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَلَقَد رَأَيْت بعض الْعَامَّة يضْرب يدا على يَد، وَيُشِير إِلَى رجل وَيَقُول: مَا هَذَا إِلَّا زنديق لَيْتَني قدرت عَلَيْهِ فأفعل بِهِ وأفعل! فَقلت: مَا رَأَيْت مِنْهُ؟ فَقَالَ: رَأَيْته وَهُوَ يجْهر بالبسملة فِي الصَّلَاة. انْتهى.
وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا حكايات غَرِيبَة عَجِيبَة، لَكِن هَذَا كُله مِمَّن لَا يعْتَمد عَلَيْهِ بِخِلَاف أولي الْعلم الراسخين الجهابذة النقاد، وَقَالُوا بِخِلَاف التَّعْدِيل فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط ذكر سَببه استصحاباً لحَال الْعَدَالَة.
{وَقيل: عَكسه} ، أَي: يشْتَرط ذكر سَبَب التَّعْدِيل لَا الْجرْح.
وَنقل عَن ابْن الباقلاني: لالتباس الْعَدَالَة لِكَثْرَة التصنع.(4/1916)
قلت: وَهُوَ قوي.
{واشترطه ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره فيهمَا} ، أَي: يشْتَرط ذكر سَبَب الْجرْح وَالتَّعْدِيل لما تقدم فِي الْجرْح، والمسارعة إِلَى التَّعْدِيل بِنَاء على الظَّاهِر، فَيَقُول - مثلا -: هَذَا فَاسق؛ لِأَنَّهُ يشرب الْخمر، وَنَحْوه، وَهَذَا عدل؛ لِأَنَّهُ يواظب على فعل الْعِبَادَات، وَترك الْمُحرمَات فِيمَا أعلم؛ وَلِهَذَا القَوْل قُوَّة.
وَعَن أَحْمد عكس هَذَا القَوْل، أَي: لَا يشْتَرط ذكر سَبَب وَاحِد مِنْهُمَا، اخْتَارَهُ جمع من الْعلمَاء، مِنْهُم: ابْن الباقلاني، وَحكي عَن الْحَنَفِيَّة فَيَكْفِي مُجَرّد قَوْله: هُوَ فَاسق، أَو عدل اعْتِمَادًا على الْجَارِح والمعدل.
قلت: وَيَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى حَال الْجَارِح، والمعدل.(4/1917)
{وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، والرازي، والآمدي، وَذكره عَن ابْن الباقلاني: إِن كَانَ عَالما بذلك قبل} عملا بِالظَّاهِرِ من حَال الْعدْل الْعَالم، {وَقَالَهُ مَالك، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الْجرْح} ، يَعْنِي إِن كَانَ عَالما بذلك قبل.
قَوْله: {وَلَا أثر لمن عَادَته التساهل فِي التَّعْدِيل أَو الْمُبَالغَة} ، فيجرح بِلَا سَبَب شَرْعِي أَو يُعْطِيهِ فَوق حَقه وَهَذَا غير جَائِز.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لما حكى الْخلاف الْمُتَقَدّم: وَهَذَا الْخلاف مُطلق، وَالْمرَاد - وَالله أعلم - مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: لَا أثر لمن عَادَته التساهل فِي التَّعْدِيل أَو الْمُبَالغَة. انْتهى.
قَوْله: {وَإِذا لم يقبل الْجرْح الْمُطلق لم يلْزم التَّوَقُّف حَتَّى يتَبَيَّن سَببه} كَالشَّهَادَةِ؛ لِأَن الْخَبَر يلْزم الْعَمَل بِهِ مَا لم يثبت الْقدح، وَالشَّهَادَة آكِد، ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة " مَا لَا نفس لَهُ سائله "، فَإِذا انْتَفَى الْقدح عمل بِهِ.(4/1918)
{وَقيل: بلَى} ، أَي: يلْزم التَّوَقُّف حَتَّى يبين سَبَب الْجرْح الَّذِي أطلقهُ؛ لِأَنَّهُ أوجب رِيبَة، وَإِلَّا انسد بَاب الْجرْح غَالِبا.
وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَإِلَيْهِ ميل ابْن مُفْلِح. قلت: وَهُوَ الْأَحْوَط.
قَوْله: {وَمن اشْتبهَ اسْمه باسم مَجْرُوح وقف خَبره} حَتَّى يتَحَقَّق أمره، ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون الرَّاوِي ذَلِك الْمَجْرُوح فَلَا تقبل رِوَايَته بل يتَوَقَّف حَتَّى يعلم: هَل هُوَ الْمَجْرُوح، أَو غَيره.
وَكثير مَا يفعل المدلسون مثل هَذَا، يذكرُونَ الرَّاوِي الضَّعِيف باسم يُشَارِكهُ فِيهِ راو ثِقَة ليظن أَنه ذَلِك الثِّقَة ترويجاً لروايتهم.
قَوْله: {وَمن أطلق تَضْعِيف خبر بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر ضَعِيف، فَهُوَ كجرح مُطلق} فَيخرج عَلَيْهِ، فَمَا قيل فِي الْجرْح الْمُطلق.
يُقَال فِي تَضْعِيفه للْخَبَر إِذا أطلق، وَهَذَا مَذْهَبنَا، قَالَه الْمجد فِي(4/1919)
" المسودة "، وَتَبعهُ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَغَيره.
وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق، بل لابد من ذكر السَّبَب الْمُطلق كَمَا تقدم قَرِيبا.
وَلَا يُؤثر قَوْله ذَلِك عِنْد الشَّافِعِيَّة فَلَا يمْنَع قبُوله، فَيقبل الحَدِيث إِذا قَالَ الْمُحدث: هَذَا الحَدِيث ضَعِيف من غير أَن يعزوه إِلَى مُسْتَند يرجع إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قد يُضعفهُ بِشَيْء لَو ذكره لم يكن قدحاً.
ويؤثر ذَلِك عِنْد الْحَنَفِيَّة، فَلَا يقبله، وَيكون الْخَبَر ضَعِيفا عِنْدهم بذلك. لِأَن الْمُحدث ثِقَة، وَقد ضعفه.
فتلخص فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال: الْقبُول مُطلقًا، وَعَدَمه مُطلقًا، وإجراؤه كالجرح الْمُطلق، فَأتى فِيهِ من الْخلاف مَا أَتَى فِيهِ على مَا تقدم.
قَوْله: {أَو تَصْحِيحه} ، أَي: أطلق تَصْحِيح خبر بِأَن يَقُول: هَذَا الْخَبَر(4/1920)
صَحِيح، فَهُوَ {كالتعديل الْمُطلق} عندنَا؛ فَإِن إِطْلَاق تَصْحِيحه يسْتَلْزم تَعْدِيل رُوَاته.
وَعَن الإِمَام أَحْمد: إِذا سَمِعت أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: حَدِيث غَرِيب، أَو فَائِدَة فَاعْلَم أَنه خطأ - أَي: لِأَنَّهُ شَاذ - وَإِذا سمعتهم يَقُولُونَ: حَدِيث لَا شَيْء فَاعْلَم أَنه صَحِيح، أَي: لم تفد رِوَايَته لشهرته.
حَكَاهُ القَاضِي، وَجَمَاعَة عَن حِكَايَة أبي إِسْحَاق عَن أبي بكر النقاش، وَهُوَ كَذَّاب، والشاذ أَقسَام عِنْدهم.
قَوْله: {وَلَا شَيْء للجرح بالاستقراء} ، يَعْنِي بِأَن يَقُول: تتبعنا كَذَا(4/1921)
فوجدناه كَذَا مرَارًا كَثِيرَة لم ينخرم، فَلَو قيل: من وَجَدْنَاهُ يعْمل كَذَا فَهُوَ مَجْرُوح واستقرأنا ذَلِك فِي أشخاص كَثِيرَة فوجدناه كذك، فَهَذَا لَيْسَ بِجرح، وَلَيْسَ من طرق الْجرْح حَتَّى نحكم بِهِ.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة أَخَذتهَا من كَلَام ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَيَأْتِي معنى الاستقراء وَأَحْكَامه فِي الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا بعد الِاسْتِدْلَال، كَقَوْلِهِم: الْوتر يفعل رَاكِبًا فَلَيْسَ بِوَاجِب لاستقراء الْوَاجِبَات.
قَوْله: {وَله الْجرْح بالاستفاضة} ، إِذا شاع عَن مُحدث أَن فِيهِ صفة توجب رد الحَدِيث وجرحه بهَا جَازَ الْجرْح بهَا، كَمَا تجوز الشَّهَادَة بالاستفاضة فِي مسَائِل مَخْصُوصَة مَعْلُومَة ذكرهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ فَكَذَلِك هَذَا.(4/1922)
وَمنعه بعض أَصْحَابنَا، فَقَالَ: لَيْسَ لَهُ الْجرْح بالاستفاضة، وَلَا يقبل كَمَا أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يُزكي بالاستفاضة لَو شاعت عَدَالَته، فَكَذَلِك لَيْسَ لَهُ الْجرْح بِمُجَرَّد الاستفاضة بِمَا يُوجب جرحه.
وَهَذَا ضَعِيف، وَالْأول أولى وَأظْهر.
وَخَالف بعض أَصْحَابنَا فِي التَّزْكِيَة بالاستفاضة فَقَالَ: تجوز التَّزْكِيَة بالاستفاضة.
{وَاحْتج} لذَلِك كثير من الْعلمَاء {بِمن شاعت إِمَامَته وعدالته من الْأَئِمَّة} ، فَإِنَّهُ يُزكي بالإستفاضة بِلَا نزاع.
{قلت: وَهَذَا الْمَذْهَب، وَهُوَ معنى قَول الإِمَام أَحْمد، وَجَمَاعَة} من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن هَذَا احْتِمَال قَول ثَالِث، وَأَنه الْمَذْهَب وَهُوَ(4/1923)
معنى قَول أَحْمد وَجَمَاعَة، يسْأَل وَاحِد مِنْهُم عَن مثلهم فَيُقَال: ثِقَة لَا يسْأَل عَن مثله. انْتهى.
كَمَا سُئِلَ - مثلا - عَن الإِمَام مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالثَّوْري، وَنَحْوهم.
{وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا صَحِيح مَذْهَب الشَّافِعِي} ، وَعَلِيهِ الِاعْتِمَاد فِي أصُول الْفِقْه، وَمِمَّنْ ذكره من أهل الحَدِيث: الْخَطِيب.
وَمثل ذَلِك بِمَالك وَشعْبَة، والسفيانين، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاللَّيْث، وَابْن الْمُبَارك، ووكيع، وَأحمد، وَابْن معِين، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَمن جرى مجراهم فِي نباهة الذّكر، واستقامة الْأَمر، وَلَا يسْأَل عَن عَدَالَة هَؤُلَاءِ وأمثالهم، إِنَّمَا يسْأَل عَمَّن خَفِي أمره عَن الطالبين. انْتهى.(4/1924)
وَقد سُئِلَ ابْن معِين عَن أبي عبيد فَقَالَ: مثلي يسْأَل عَن أبي عبيد {أَبُو عبيد يسْأَل عَن النَّاس؟}
وَسُئِلَ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَقَالَ: مثل إِسْحَاق يسْأَل عَنهُ؟ !(4/1925)
قَوْله: {فصل}
{الْأَرْبَعَة، وأصحابنا، وَالْأَكْثَر يقدم جرح مُطلقًا} ، أَعنِي سَوَاء كثر الْجَارِح أَو قل، أَو سَاوَى؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة علم لم يطلع عَلَيْهَا الْمعدل؛ فَلذَلِك قدم. وَهَذَا الصَّحِيح مُطلقًا وَعَلِيهِ الْأَكْثَر. وَقَالَ ابْن حمدَان من أَصْحَابنَا وَغَيره: يقدم الْجرْح إِن كثر الْجَارِح وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَاهُ فِي الْمَحْصُول فَقَالَ: يقدم الْأَكْثَر من الْجَارِح والمعدل؛ لِأَن الْكَثْرَة لَهَا تَأْثِير فِي الْقُوَّة.(4/1926)
ورده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بِأَن المعدلين وَإِن كَثُرُوا فليسوا مخبرين بِعَدَمِ مَا أخبر بِهِ الجارحون، وَلَو أخبروا بذلك كَانَت شَهَادَة نفي وَهِي بَاطِلَة.
وَقيل: يقدم التَّعْدِيل مُطلقًا؛ لِأَن الْجَارِح قد يجرح بِمَا لَيْسَ فِي نفس الْأَمر جرحا، والمعدل لَا يعدل حَتَّى يتَحَقَّق بطرِيق سَلَامَته من كل جارح.
وَهَذَا القَوْل حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف، لَكِن قَضِيَّة تَعْلِيله بِمَا سبق تَخْصِيص الْخلاف بِالْجرْحِ غير الْمُفَسّر بِنَاء على قبُوله.
وَقيل: يقدم التَّعْدِيل على الْجرْح إِن كثر المعدلون، وَاخْتَارَهُ الْمجد من أَصْحَابنَا مَعَ جرح مُطلق إِن قبلناه، يَعْنِي على القَوْل بِقبُول الْجرْح الْمُطلق،(4/1927)
وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل الْجرْح الْمُطلق كَمَا تقدم.
اعْلَم أَن القَاضِي أَبَا بكر ابْن الباقلاني فِي كِتَابه " التَّقْرِيب " جعل مَوضِع الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ عدد المعدلين أَكثر، فَأَما إِن اسْتَويَا فَإِنَّهُ يقدم الْجرْح إِجْمَاعًا، وَكَذَا قَالَ الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة "، وَابْن الْقطَّان وَأَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ، وَاعْترض على حكايته ذَلِك بِأَن الْقشيرِي نصب الْخلاف فِيمَا إِذا اسْتَوَى عدد الْجَارِح والمعدل، فَإِن كثر المعدلون فقبولهم أولى.
وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَحكى ابْن شعْبَان فِي كِتَابه " الزاهي " الْخلاف مَعَ(4/1928)
التَّسَاوِي فِي الْعدَد، قَالَ: فَإِن زَاد عدد الجارحين فَلَا وَجه لجَرَيَان الْخلاف.
وَبِه صرح الْبَاجِيّ فَقَالَ: لَا خلاف فِي تَقْدِيم الْجرْح، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا شكّ فِيهِ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وعَلى هَذَا فَيخرج فِي مَحل الْخلاف ثَلَاث طرق. انْتهى.
قَوْله: {وَقيل: التَّرْجِيح كإثبات معِين ونفيه يَقِينا} ، أَعنِي أَن التَّرْجِيح قَول محكي فِي الْمَسْأَلَة، أَعنِي أَنَّهُمَا يتعارضان عِنْده فيقف على مُرَجّح يرجع إِلَيْهِ.(4/1929)
وَقَوله: (كإثبات معِين ونفيه يَقِينا) وَهَذِه الصُّورَة يتعارضان فِيهَا، وَيقف الْأَمر على مُرَجّح من خَارج بِلَا خلاف عِنْدهم، مثل أَن يَقُول الْجَارِح: هُوَ قتل فلَانا يَوْم كَذَا، وَيَقُول الْمعدل: هُوَ حَيّ وَأَنا رَأَيْته بعد ذَلِك الْيَوْم.
فَيَقَع بَينهمَا التَّعَارُض لعدم إِمْكَان الْجمع الْمَذْكُور فِي تَقْدِيم قَول الْجَارِح على الصَّحِيح فَإِنَّهُ هُنَا يتَعَذَّر فَحِينَئِذٍ يُصَار إِلَى التَّرْجِيح.
قَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي هَذَا الْمِثَال: فههنا يتعارضان فيتساقطان وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا، ثمَّ قَالَ: قلت: وَيحْتَمل هُنَا أَن يقدم قَول الْمعدل؛ لِأَن السَّبَب الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ الْجَارِح قد تبين بُطْلَانه فَتبين بِهِ أَن الْجرْح كَأَنَّهُ لم يكن فَيبقى التَّعْدِيل مُسْتقِلّا وَالْحكم وَاحِد. انْتهى.
قلت: وَهَذَا ضَعِيف وَكَذَا قَوْله: (وَيبقى أصل الْعَدَالَة ثَابتا) وَلَعَلَّه بنى ذَلِك على أَن الأَصْل فِي الْإِنْسَان الْعَدَالَة، وفيهَا خلاف، وَالْمَشْهُور خلاف(4/1930)
ذَلِك، وَالله أعلم.
قَوْله: {تَنْبِيه: يعدل بقول، وَحكم، وَعمل، وَرِوَايَة} ، أَعنِي يكون التَّعْدِيل تَارَة بالْقَوْل، وَتارَة بالحكم، وَتارَة بِالْعَمَلِ، وَتارَة بالرواية.
وَلما تقرر فِي حَقِيقَة الْجرْح وَالتَّعْدِيل وَالْحكم فِي بَيَان سببهما وَاعْتِبَار الْعَدَالَة فيهمَا وَجب القَوْل فِيمَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، وَهُوَ أَرْبَعَة أَشْيَاء: أَحدهَا: صَرِيح القَوْل فِي الرَّاوِي وَالشَّاهِد، وَله صفتان:(4/1931)
إِحْدَاهمَا وَهِي أكملهما: قَول الْمعدل: هُوَ عدل رضى، مَعَ بَيَان السَّبَب، أَي: يبين سَبَب الْعَدَالَة مَعَ هَذَا القَوْل بِأَن يثني عَلَيْهِ بِذكر محَاسِن عمله مِمَّا يعلم مِنْهُ مِمَّا يَنْبَغِي شرعا من أَدَاء الْوَاجِبَات وَاجْتنَاب الْمُحرمَات، وَاسْتِعْمَال وظائف الْمُرُوءَة، وَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب التَّعْدِيل للاتفاق عَلَيْهِ.
ويليه قَوْله: هُوَ عدل رضى، من غير ذكر سَبَب الْعَدَالَة، وَهِي أدنى من الَّتِي قبلهَا.
وَقد ذكر أَرْبَاب فن الْجرْح وَالتَّعْدِيل أَن مَرَاتِب التَّعْدِيل أَرْبَعَة:
الأولى: الْعليا مِنْهَا تكْرَار اللَّفْظ، بِأَن يَقُول: ثِقَة، ثِقَة، أَو: عدل، عدل، أَو: ثِقَة، عدل. أَو ثِقَة متقن، وَنَحْو ذَلِك.
الثَّانِيَة: ذكر ذَلِك من غير تكْرَار، كَقَوْلِه: ثِقَة، أَو عدل، أَو: متقن، أَو: ثَبت، أَو: حجَّة، أَو: حَافظ، أَو: ضَابِط. قَالَ الْخَطِيب: أرفع(4/1932)
الْعبارَات أَن يَقُول: حجَّة، أَو ثِقَة.
الثَّالِثَة: قَوْلهم: لَا بَأْس، وَنَحْوه، أَو صَدُوق، أَو مَأْمُون، أَو خِيَار.
الرَّابِعَة: قَوْلهم: مَحَله الصدْق، أَو رووا عَنهُ، أَو صَالح الحَدِيث، أَو مقارب الحَدِيث، أَو حسن الحَدِيث، أَو صُوَيْلِح، أَو صَدُوق إِن شَاءَ الله تَعَالَى، أَو أَرْجُو أَنه لَيْسَ بِهِ بَأْس وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَحكم مشترط الْعَدَالَة بهَا تَعْدِيل اتِّفَاقًا} .
وَهَذَا الثَّانِي من الْأَرْبَعَة الَّذِي يحصل بهَا التَّعْدِيل، فَهَذَا مَا يحصل بِهِ التَّعْدِيل.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: وَحكم الْحَاكِم تَعْدِيل اتِّفَاقًا، أطلقهُ فِي " الرَّوْضَة "، وَمرَاده مَا صرح بِهِ غَيره: حَاكم يشْتَرط الْعَدَالَة، وَهُوَ(4/1933)
كَمَا قَالَ، وَهُوَ تَعْدِيل مُتَّفق عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحَاكِم فَاسِقًا لقبُول شَهَادَة من لَيْسَ عدلا عِنْده.
قَوْله: {وَهُوَ أقوى من القولي بِالسَّبَبِ} ، يَعْنِي أَن حكم مشترط الْعَدَالَة بهَا أقوى من التَّعْدِيل بالْقَوْل الَّذِي ذكر مَعَه سَببه؛ لِأَن ذَلِك قَول مُجَرّد، وَالْحكم بروايته فعل تضمن القَوْل أَو استلزمه؛ إِذْ تعديله القولي تَقْديرا من لَوَازِم الحكم بروايته، وَإِلَّا [كَانَ] هَذَا الْحَاكِم حَاكما بِالْبَاطِلِ.
وَهَذَا اخْتِيَار الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ، وَغَيره مِنْهُم الْعَسْقَلَانِي شَارِح الطوفي، التَّسْوِيَة بَينهمَا.
قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " هُنَا، وَقَالَ فِي التَّرْجِيح: قَالَ(4/1934)
الْآمِدِيّ وَتَبعهُ بعض أَصْحَابنَا: وتزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ لاحْتِمَاله بِغَيْرِهِ، وَالْحكم على عمله، وَسبق فِي السّنة. انْتهى.
فَظَاهره التَّنَاقُض عَن الْآمِدِيّ؛ لِأَنَّهُ حكى عَنهُ هُنَا أَنه سوى بَين التَّعْدِيل القولي وَبَين الحكم من مشترط الْعَدَالَة؟
وَحكى عَنهُ فِي التَّرْجِيح أَنه قدم تزكيته بِصَرِيح القَوْل على حكمه أَو عمله بِشَهَادَتِهِ، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ أَو يكون غير الْمَسْأَلَة، وَهُوَ بعيد.
وَمحل الْخلاف هُنَا مَعَ ذكر السَّبَب فِي القولي، أما مَعَ عدم ذكره، فَالثَّانِي أقوى للاتفاق عَلَيْهِ.(4/1935)
قَوْله: {وَعَمله بروايته تَعْدِيل إِن علم أَن لَا مُسْتَند لَهُ غَيره وَإِلَّا فَلَا عِنْد القَاضِي، وَالْأَكْثَر} .
وَهَذَا الثَّالِث مِمَّا يحصل بِهِ التَّعْدِيل، فمما يحصل بِهِ التَّعْدِيل الْعَمَل بِخَبَر الرَّاوِي بِشَرْط أَن يعلم أَن لَا مُسْتَند للْعَمَل غير رِوَايَته، وَإِلَّا فَلَا، أَي: وَإِن لم يعلم ذَلِك مِنْهُ لم يكن تعديلاً لاحْتِمَال أَنه يكون عمل بِدَلِيل آخر وَافق رِوَايَته.
{وَقَالَهُ الْمُوفق، وَأَبُو الْمَعَالِي إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ احْتِيَاطًا} ؛ لفسقه لَو عمل بفاسق.
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": قَالَ الْجُوَيْنِيّ والمقدسي: يكون تعديلاً(4/1936)
إِلَّا فِيمَا الْعَمَل بِهِ من مسالك الِاحْتِيَاط.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنه يفصل بَين أَن يكون الرَّاوِي مِمَّن يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو لَا يرَاهُ، أَو يجهل مذْهبه فِيهِ. انْتهى.
فَكَأَن الْمجد يخْتَار أَنه إِن كَانَ الرَّاوِي يرى أَنه لَا يروي إِلَّا عَن بارز الْعَدَالَة فعمله بروايته تَعْدِيل، وَإِن كَانَ يرى قبُول مَسْتُور الْحَال، أَو يجهل مذْهبه فِيهِ فَلَيْسَ بتعديل للإبهام فَيرجع فِيهِ إِلَى رَأْي الرَّاوِي فِيمَن يروي عَنهُ.
فعلى الأول قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ كتعديله بِلَا سَبَب، وَمَعْنَاهُ للآمدي وَمن تبعه.
يَعْنِي إِذا عمل بروايته وَقُلْنَا إِنَّهَا تَعْدِيل فَيكون هَذَا التَّعْدِيل كالتعديل(4/1937)
القولي بِلَا ذكر السَّبَب على مَا تقدم عِنْد الشَّيْخ موفق الدّين، وَمن تَابعه.
وَقيل: بل هُوَ كحكمه بِهِ، فعلى هَذَا القَوْل يكون أقوى من القَوْل الَّذِي قبله؛ لِأَن الحكم بِهِ أقوى من التَّعْدِيل القولي وَلَو مَعَ ذكر السَّبَب كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَلَيْسَ ترك الْعَمَل بهَا وبالشهادة جرحا} .
يَعْنِي: لَو ترك الْعَمَل بالرواية أَو بِالشَّهَادَةِ لَا يكون ذَلِك جرحا لاحْتِمَال سَبَب سوى ترك الْعَمَل فَلَا يحكم على الرَّاوِي وَالشَّاهِد إِذا ترك الْعَمَل بهما بجرحهما عِنْد الْجُمْهُور؛ لِأَنَّهُ تَركه للْعَمَل قد يكون لأجل معنى فيهمَا من تُهْمَة قرَابَة، أَو عَدَاوَة، أَو غير ذَلِك، وَقد يكون لغير ذَلِك.
فَإِذا لم يعْمل وَاحْتمل فَلَا يحكم عَلَيْهِ بِالْجرْحِ بذلك مَعَ الِاحْتِمَال؛ لِأَن الأَصْل عَدمه، وَلَيْسَ ترك الحكم بهَا منحصراً فِي الْفسق.(4/1938)
وَلِأَن عمله قد يكون متوقفاً على أَمر آخر زَائِد على الْعَدَالَة فَيكون التّرْك لعدم ذَلِك لَا لانْتِفَاء الْعَدَالَة.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يكون جرحا إِذا تحقق ارْتِفَاع الدوافع، والموانع، وَأَنه لَو كَانَ ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ.
أما إِن لم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر فَلَا يكون جرحا، وَفِي الْحَقِيقَة لَا يُخَالف الأول، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَرِوَايَة الْعدْل تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا عَن عدل} عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ موفق الدّين، وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والطوفي، وَأبي الْمَعَالِي، والآمدي، وَابْن الْقشيرِي، ... ... ... ... .(4/1939)
وَالْغَزالِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والهندي، والباجي، وَغَيرهم، وَهُوَ وَاضح.
وَهَذَا الرَّابِع الَّذِي يحصل بِهِ التَّعْدِيل.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": اخْتلف الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الثِّقَة عَن رجل غير مَعْرُوف: هَل هُوَ تَعْدِيل، أم لَا؟
وَحكى أَصْحَابنَا عَن أَحْمد فِي ذَلِك رِوَايَتَيْنِ، وحكوا عَن الْحَنَفِيَّة أَنه تَعْدِيل، وَعَن الشَّافِعِيَّة خلاف ذَلِك.
قَالَ: فالمنصوص عَن أَحْمد أَنه إِن عرف مِنْهُ أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة(4/1940)
فروايته عَن إِنْسَان تَعْدِيل لَهُ، وَمن لم يعرف مِنْهُ ذَلِك فَلَيْسَ بتعديل. وَصرح بِهِ طَائِفَة من محققي أَصْحَابنَا، وَأَصْحَاب الشَّافِعِي.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة الْأَثْرَم: إِذا روى الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن رجل فَهُوَ حجَّة، ثمَّ قَالَ: كَانَ عبد الرَّحْمَن أَولا يتساهل فِي الرِّوَايَة عَن غير وَاحِد ثمَّ شدد بعد.
وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة أبي زرْعَة مَالك بن أنس إِذا روى عَن رجل لَا يعرف فَهُوَ حجَّة.
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن هَانِئ: مَا روى مَالك عَن أحد إِلَّا وَهُوَ ثِقَة(4/1941)
وكل من روى عَنهُ مَالك فَهُوَ ثِقَة.
وَذكر نصوصاً أخر فِي ذَلِك عَنهُ، وَعَن ابْن معِين، وَغَيره. انْتهى.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": مذْهبه التَّفْضِيل بَين بعض الْأَشْخَاص.
وَقَالَ أَيْضا: وَالصَّحِيح الَّذِي يُوجِبهُ كَلَام أَحْمد أَن من عرف من حَاله الْأَخْذ عَن الثِّقَات كمالك، وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، كَانَ تعديلاً دون غَيره. انْتهى.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَالْحق أَنه إِن عرف من مذْهبه أَو عَادَته أَو صَرِيح قَوْله أَنه لَا يرى الرِّوَايَة وَلَا يروي إِلَّا عَن عدل كَانَ تعديلاً، وَإِلَّا فَلَا؛ إِذْ قد يروي الشَّخْص عَمَّن لَو سُئِلَ عَنهُ لسكت.
وَقَالَ ابْن اللحام فِي " مُخْتَصره " فِي الْأُصُول: وَفِي رِوَايَة الْعدْل عَنهُ(4/1942)
أَقْوَال، ثَالِثهَا الْمُخْتَار وَهُوَ الْمَذْهَب: تَعْدِيل إِن كَانَ عَادَته لَا يروي إِلَّا عَن عدل. انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَيعرف كَونه لَا يروي إِلَّا عَن عدل إِمَّا بتصريحه وَهُوَ الْغَايَة، أَو باعتبارنا لحاله، أَو استقرائنا لمن يروي عَنهُ، وَهُوَ دون الأول، قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد، وَغَيره وَتقدم كَلَام الطوفي.
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يكون ذَلِك تعديلاً.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله: وَرِوَايَة الْعدْل لَيست تعديلاً عِنْد أَكثر الْعلمَاء من الطوائف وفَاقا للمالكية، وَالشَّافِعِيَّة. انْتهى.
وَقيل: تَعْدِيل مُطلقًا، اخْتَارَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة عملا بِظَاهِر الْحَال.(4/1943)
رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع، وبعدم الدَّلِيل.
وَرُوِيَ عَن القَاضِي: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم الْغرَر، وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته ضيَاعًا.
وَلَعَلَّه أَرَادَ بِمَا إِذا سَمَّاهُ أَنه وكل تعديله وجرحه إِلَى غَيره، وأظن أَنِّي رَأَيْت هَذَا النَّقْل عَن القَاضِي فِي " المسودة "، لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح: وَأَشَارَ بعض أَصْحَابنَا: إِن سَمَّاهُ فَلَا تَعْدِيل لعدم الْغرَر وَإِلَّا فتعديل لِئَلَّا تكون رِوَايَته ضيَاعًا كَذَا قَالَ. انْتهى.
وَلم ينْسب النَّقْل إِلَى القَاضِي.
قَوْله: فَائِدَة: {يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالشَّيْخ الْمُوفق، وَالْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْآدَاب الْكُبْرَى ": قطع غير وَاحِد مِمَّن صنف فِي عُلُوم(4/1944)
5 - الحَدِيث حِكَايَة عَن الْعلمَاء أَنه يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِيمَا لَيْسَ تحليلاً وَلَا تَحْرِيمًا كالفضائل.
وَعَن أَحْمد مَا يُوَافق ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَلَال وَالْحرَام شددنا فِي الْأَسَانِيد، وَإِذا روينَا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَضَائِل الْأَعْمَال، وَمَا لَا يضع حكما، وَلَا يرفعهُ تساهلنا فِي الْأَسَانِيد.
ذكر هَذِه الْفَضَائِل القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، وَاسْتحبَّ الإِمَام أَحْمد الِاجْتِمَاع لَيْلَة الْعِيد فِي رِوَايَة فَدلَّ على الْعَمَل بِهِ لَو كَانَ شعاراً.
وَفِي " الْمُغنِي " فِي صَلَاة التَّسْبِيح: الْفَضَائِل لَا يشْتَرط لَهَا صِحَة(4/1945)
الْخَبَر، واستحبها جمَاعَة، لَا لَيْلَة الْعِيد فَدلَّ على التَّفْرِقَة بَين الشعار وَغَيره، قَالَه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: لَا يعْمل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي الْفَضَائِل؛ وَلِهَذَا لم يسْتَحبّ صَلَاة التَّسْبِيح لضعف خَبَرهَا عِنْده، مَعَ أَنه خبر مَشْهُور عمل بِهِ وَصَححهُ غير وَاحِد من الْأَئِمَّة.(4/1946)
وَلم يسْتَحبّ أَيْضا التَّيَمُّم بضربتين على الصَّحِيح عَنهُ، مَعَ أَن فِيهِ أَخْبَارًا أوآثاراً، وَغير ذَلِك من مسَائِل الْفُرُوع.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم ير أَحْمد الْعَمَل بالْخبر فِي صَلَاة التَّسْبِيح لضَعْفه، فَدلَّ على أَنه لَا يعْمل بِهِ فِي الْفَضَائِل.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ فِيمَا فِيهِ شعار. قَالَ فِي " الْآدَاب ": وَيحْتَمل أَن يُقَال: يحمل الأول على عدم الشعار، وَأَنه إِنَّمَا ترك الْعَمَل بِالثَّانِي لما فِيهِ من الشعار، وَهُوَ معنى مُنَاسِب، وَالله أعلم.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب، والترهيب، لَا فِي إِثْبَات مُسْتَحبّ، وَلَا غَيره} .(4/1947)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن قَول أَحْمد وَقَول الْعلمَاء فِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي فَضَائِل الْأَعْمَال قَالَ: الْعَمَل بِهِ بِمَعْنى أَن النَّفس ترجو ذَلِك الثَّوَاب، أَو تخَاف ذَلِك الْعقَاب.
وَمِثَال ذَلِك التَّرْغِيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات، وكلمات السّلف، وَالْعُلَمَاء، ووقائع الْعَالم، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يجوز بِمُجَرَّدِهِ إِثْبَات حكم شَرْعِي، لَا اسْتِحْبَاب، وَلَا غَيره، لَكِن يجوز أَن يدْخل فِي التَّرْغِيب والترهيب فِيمَا علم حسنه أَو قبحه بأدلة الشَّرْع فَإِن ذَلِك ينفع، وَلَا يضر وَسَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر حَقًا أَو بَاطِلا إِلَى أَن قَالَ: وَالْحَاصِل: أَن هَذَا الْبَاب يرْوى وَيعْمل بِهِ فِي التَّرْغِيب والترهيب لَا فِي الِاسْتِحْبَاب.
ثمَّ اعْتِقَاد مُوجبه وَهُوَ مقادير الثَّوَاب وَالْعِقَاب يتَوَقَّف على الدَّلِيل الشَّرْعِيّ.
وَقَالَ فِي " شرح الْعُمْدَة " فِي التَّيَمُّم بضربتين: وَالْعَمَل بالضعاف إِنَّمَا يسوغ فِي عمل قد علم أَنه مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة، فَإِذا رغب فِي بعض أَنْوَاعه بِحَدِيث ضَعِيف عمل بِهِ، أما إِثْبَات سنة فَلَا. انْتهى كَلَامه.
وَنقل الْجَمَاعَة عَن أَحْمد أَنه كَانَ يكْتب حَدِيث الرجل الضَّعِيف،(4/1948)
كَابْن لَهِيعَة، وَجَابِر الْجعْفِيّ، وَابْن أبي مَرْيَم، فَيُقَال لَهُ، فَيَقُول: أعرفهُ، أعتبر بِهِ كَأَنِّي أستدل بِهِ مَعَ غَيره، لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد،(4/1949)
وَيَقُول: يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَرَأى ذَلِك أَيْضا، وَيَقُول الحَدِيث عَن الْجعْفِيّ قد يحْتَاج إِلَيْهِ فِي وَقت وَقَالَ: كنت لَا أكتب حَدِيث جَابر الْجعْفِيّ ثمَّ كتبته، أعتبر بِهِ.
وَعجب أَيْضا من ذَلِك وَقَالَ: مَا أعجب أَمر الْفُقَهَاء فِي ذَلِك، وَيزِيد بن هَارُون من أعجبهم يكْتب عَن الرجل مَعَ علمه بضعفه.
وَظَاهر هَذَا مِنْهُ أَنه لَا يحْتَج بِهِ مَعَ غَيره كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام جمَاعَة، وَظَاهر الأول يحْتَج بِهِ، وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم، وَالْمرَاد إِلَّا من ضعفه لكذبه.(4/1950)
أما مُنْفَردا فَلَا يحْتَج بِهِ عِنْد الْعلمَاء لاعْتِبَار الشُّرُوط السَّابِقَة فِي الرَّاوِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: إِذا جَاءَ الْحَلَال وَالْحرَام أردنَا أَقْوَامًا هَكَذَا، وَقبض كَفه وَأقَام إبهاميه.
وَقَالَ أَيْضا: شددنا فِي الْأَسَانِيد، كَمَا تقدم.
وَفِي جَامع القَاضِي فِي أَوْقَات الصَّلَاة، وَفِي غَيره أَن الحَدِيث الضَّعِيف لَا يحْتَج بِهِ فِي المآثم، قَالَ فِي حَدِيث: " الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُسلم ".(4/1951)
مذْهبه - يَعْنِي: أَحْمد - أَن الحَدِيث الضَّعِيف إِذا لم يكن لَهُ معَارض قَالَ بِهِ.
وَقَالَ فِي كَفَّارَة وَطْء الْحَائِض: مذْهبه فِي الْأَحَادِيث وَإِن كَانَت مضطربة وَلم يكن لَهَا معَارض قَالَ بهَا.
وَاحْتج القَاضِي بِحَدِيث مظَاهر ابْن أسلم: " أَن عدَّة الْأمة قرءان " فضعفه خَصمه فطالبه بِسَبَبِهِ، ثمَّ قَالَ: مَعَ أَن أَحْمد يقبل الحَدِيث الحَدِيث الضَّعِيف.(4/1952)
وَقَالَ فِي " الْعدة " و " الْوَاضِح ": أطلق أَحْمد القَوْل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف، فَقَالَ النَّاس أكفاء إِلَّا حائكاً أَو حجاماً: ضَعِيف وَالْعَمَل عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي حَدِيث غيلَان: " أَنه أسلم على عشر نسْوَة ": لَا يَصح،(4/1953)
وَالْعَمَل عَلَيْهِ فَمَعْنَى قَوْله: ضَعِيف، عِنْد الْمُحدثين [بِمَا] لَا يُوجب ضعفه عِنْد الْفُقَهَاء كتدليس وإرسال والتفرد بِزِيَادَة فِي حَدِيث.
ثمَّ ذكر فِي " الْعدة " مَا سبق من رِوَايَة أَحْمد عَن الضَّعِيف، وَقَالَ: فِيهِ فَائِدَة بِأَن يروي الحَدِيث من طَرِيق صَحِيح فرواية الضَّعِيف تَرْجِيح أَو ينْفَرد الضَّعِيف بالرواية فَيعلم ضعفه فَلَا يقبل.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: قَول أَحْمد: (اسْتدلَّ بِهِ مَعَ غَيره لَا أَنه حجَّة إِذا انْفَرد) يُفِيد يصير حجَّة بالانضمام لَا مُنْفَردا.(4/1954)
وَقَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة عبد الله: طريقتي: لست أُخَالِف مَا ضعف من الحَدِيث إِذا لم يكن فِي الْبَاب مَا يَدْفَعهُ.
قَوْله: {وَلَا يقبل تَعْدِيل مُبْهَم، كحدثني ثِقَة، أَو عدل أَو من لَا أتهم عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الْقفال الشَّاشِي، والصيرفي، والخطيب، وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب، وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَابْن الصّباغ، وَالْمَاوَرْدِيّ فِي قَوْله: (حَدثنِي ثِقَة) لاحْتِمَال كَونه مجروحاً عِنْد غَيره.(4/1955)
{وَذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب وَابْن عقيل، من صور الْمُرْسل على الْخلاف فِيهِ} ، قَالَ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة: هُوَ كالمرسل.
وَصَححهُ ابْن الصّباغ، قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَكَذَا أَبُو الْمَعَالِي واختياره قبُوله، وَأَن الشَّافِعِي أَشَارَ إِلَيْهِ، وَقَبله الْمجد من أَصْحَابنَا، وَإِن لم يقبل الْمُرْسل والمجهول} ، فَقَالَ: إِذا قَالَ الْعدْل: حَدثنِي الثِّقَة، أَو من لَا أَتَّهِمهُ، أَو رجل عدل، وَنَحْو ذَلِك، فَإِنَّهُ يقبل وَإِن رددنا الْمُرْسل والمجهول؛ لِأَن ذَلِك تَعْدِيل صَرِيح عندنَا. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَنقل ابْن الصّلاح عَن أبي حنيفَة أَنه يقبل، وَقيل: فِيهِ تَفْصِيل، من يعرف من عَادَته إِذا أطلق ذَلِك، أَنه(4/1956)
يَعْنِي بِهِ معينا وَهُوَ مَعْرُوف بِأَنَّهُ ثِقَة فَيقبل وَإِلَّا فَلَا.
حَكَاهُ شَارِح " اللمع الْيَمَانِيّ " عَن صَاحب " الْإِرْشَاد ".
وَقيل: وَهُوَ الظَّاهِر الَّذِي قطع بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَنَقله ابْن الصّلاح عَن اخْتِيَار بعض الْمُحَقِّقين - إِنَّه إِن كَانَ الْقَائِل لذَلِك من أَئِمَّة الشَّأْن العارفين بِمَا اشْتَرَطَهُ هُوَ وخصومه فِي الْعدْل، وَقد ذكره فِي مقَام الِاحْتِجَاج فَيقبل؛ لِأَن مثل هَؤُلَاءِ لَا يُطلق فِي مقَام الِاحْتِجَاج إِلَّا فِي مَوضِع يَأْمَن أَن يُخَالف فِيمَن أطلق أَنه ثِقَة.
فَائِدَة: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: حَدثنِي الثِّقَة، فَتَارَة يُرِيد بِهِ أَحْمد، وَتارَة يُرِيد يحيى بن حسان، وَتارَة يُرِيد بِهِ ابْن أبي فديك، وَتارَة يُرِيد(4/1957)
بِهِ سعيد بن سَالم القداح، وَتارَة يُرِيد بِهِ إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل، واشتهر عَنهُ ذَلِك فِيهِ، وَتارَة يُرِيد بِهِ مَالِكًا.
وَقيل: مُسلم بن خَالِد الزنْجِي إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر، وَاحْترز عَن التَّصْرِيح باسمه لهَذَا الْمَعْنى.
وَذكر الْحَاكِم جمَاعَة أخر.(4/1958)
وَقَالَ ابْن حبَان: إِذا قَالَ: أَخْبرنِي الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب فَهُوَ عَن أبي فديك، أَو عَن اللَّيْث، فَهُوَ يحيى بن حسان، أَو عَن الْوَلِيد بن كثير فَهُوَ عَمْرو بن أبي سَلمَة، أَو عَن ابْن جريج فَهُوَ مُسلم بن خَالِد الزنْجِي، أَو عَن صَالح مولى التؤمة فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى.
وَقَالَ الرّبيع: إِذا قَالَ الشَّافِعِي: أخبرنَا الثِّقَة فَهُوَ يحيى بن حسان، وَإِذا قَالَ: من لَا أتهم فَهُوَ إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى، فَإِذا قَالَ: بعض [النَّاس] فَهُوَ يُرِيد أهل الْعرَاق، وَإِذا قَالَ: بعض أَصْحَابنَا فيريد أهل الْحجاز.(4/1959)
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
أَحدهمَا: الْجرْح نِسْبَة مَا يرد لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص} الْقَائِل من خبر أَو شَهَادَة، من فعل مَعْصِيّة أَو ارْتِكَاب ذَنْب أَو مَا يخل بِالْعَدَالَةِ. قَالَه الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَشَرحه فِي حد الْجرْح.
قَوْله: {وَالتَّعْدِيل بِخِلَافِهِ} ، أَي: فَهُوَ نِسْبَة مَا يقبل لأَجله القَوْل إِلَى الشَّخْص الْقَائِل من فعل الْخَيْر، والعفة والمروءة، وَالدّين بِفعل الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْإِخْبَار عَن عَام لَا يخْتَص بِمعين، وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام، هُوَ الرِّوَايَة وَعَكسه الشَّهَادَة. قَالَه الْمَازرِيّ: وَمَعْنَاهُ للشَّافِعِيّ} .(4/1960)
لما وَقع التَّفْصِيل بَين قبُول تَعْدِيل وَاحِد وجرحه فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك فِي الشَّهَادَة احْتِيجَ إِلَى الْفرق بَينهمَا، وَقد خَاضَ جمَاعَة غمره.
وَأكْثر مَا يفرقون بَينهمَا باختلافهما فِي الْأَحْكَام كاشتراط الْعدَد فِي الشَّهَادَة، وَالْحريَّة على قَول، والذكورية فِي صور.
وَلَا يخفى أَن هَذِه أَحْكَام مترتبة على معرفَة الْحَقِيقَة، فَلَو ثبتَتْ الْحَقِيقَة بهَا لزم الدّور.
قَالَ الْقَرَافِيّ: أَقمت مُدَّة أتطلب الْفرق بَينهمَا حَتَّى ظَفرت بِهِ فِي " شرح الْبُرْهَان ".
فَذكر مَا حَاصله أَن الْخَبَر إِن كَانَ عَن عَام لَا يخْتَص بِمعين وَلَا ترافع فِيهِ يُمكن عِنْد الْحُكَّام فَهُوَ الرِّوَايَة، وَإِن كَانَ خَاصّا، وَفِيه ترافع مُمكن فَهُوَ الشَّهَادَة.(4/1961)
وَعلم من هَذَا الْفرق الْمَعْنى فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة من الْعدَد، والذكورية، وَالْحريَّة، وَنَحْوهَا.
وَاحْترز بِإِمْكَان الترافع عَن الرِّوَايَة عَن خَاص معِين فَإِنَّهُ لَا ترافع فِيهِ مُمكن، انْتهى مُلَخصا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": قلت: هَذَا الْفرق نَفسه فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَبَين المُرَاد من الْعُمُوم وَالْخُصُوص هُنَا، فَقَالَ فِيمَا نَقله الْمُزنِيّ فِي " الْمُخْتَصر " فِي بَاب شَهَادَة النِّسَاء لَا رجل مَعَهُنَّ وَالرَّدّ على من أجَاز شَهَادَة امْرَأَة من هَذَا الْكتاب فِي مَسْأَلَة الْخلاف بَينه وَبَين أبي حنيفَة، وَأَصْحَابه حَيْثُ قبلوا شَهَادَة امْرَأَة على ولادَة الزَّوْجَة دون الْمُطلقَة مَا نَصه:(4/1962)
وَقلت لمن يُجِيز شَهَادَة امْرَأَة فِي الْولادَة، كَمَا يُجِيز الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة، وَأَيْنَ الْخَبَر من الشَّهَادَة؟ : أتقبل امْرَأَة عَن امْرَأَة أَن امْرَأَة رجل ولدت هَذَا الْوَلَد؟ قَالَ: لَا. قلت: وَتقبل فِي الْخَبَر: أخبرنَا فلَان عَن فلَان؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالْخَبَر هُوَ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمخبر والمخبر والعامة من حرَام وحلال؟ قَالَ: نعم. قلت: وَالشَّهَادَة مَا كَانَ الشَّاهِد مِنْهُ خلياً والعامة وَإِنَّمَا تلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم. قلت: أفترى هَذَا مشبهاً لهَذَا؟ قَالَ: أما فِي مثل هَذَا فَلَا. انْتهى. وَقَوله: الْخَبَر بهَا لَا من قبل الشَّهَادَة هُوَ المصطلح على تَسْمِيَته رِوَايَة، وَإِن كَانَت الشَّهَادَة أَيْضا خَبرا بِاعْتِبَار مُقَابلَة الْإِنْشَاء.
فللخبر إطلاقات، والمتقدمون يعبرون عَن الرِّوَايَة بالْخبر كَمَا هُوَ فِي بعض عِبَارَات الباقلاني، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَغَيرهمَا.(4/1963)
وَبَين الشَّافِعِي السَّبَب فِيمَا تفارق فِيهِ الشَّهَادَة الرِّوَايَة من الْأَحْكَام، وترتبه على مَا افْتَرَقت بِهِ حقيقتاهما من الْمَعْنى، وَذكر بعض الْأَحْكَام قِيَاسا على الْبَعْض ردا على خَصمه الَّذِي قد سلم الْمَعْنى وَفرق فِي الْأَحْكَام بِمَا لَا يُنَاسب.
فَإِن قلت: فَأَيْنَ اعْتِبَار إِمْكَان الترافع فِي الشَّهَادَة دون الرِّوَايَة فِي كَلَام الشَّافِعِي؟
قلت: من قَوْله: (وَإِنَّمَا يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ) فَإِن اللُّزُوم يَسْتَدْعِي مخاصمة وترافعاً.
فَإِن قيل: لَيْسَ فِيمَا نقلت عَن الشَّافِعِي وَلَا فِيمَا نَقله الْقَرَافِيّ عَن الْمَازرِيّ ذكر مَا يعْتَبر فِي الشَّهَادَة من لفظ: أشهد.
وَكَونه عِنْد الْحَاكِم أَو الْمُحكم أَو سيد العَبْد أَو الْأمة حَيْثُ سمع عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَة لإِقَامَة الْحُدُود إِن جَوَّزنَا لَهُ ذَلِك، وَلَا مَا أشبه ذَلِك مِمَّا يخْتَص بِالشَّهَادَةِ.
قلت: إِنَّمَا لم يذكر لكَونهَا أحكاماً وشروطاً خَارِجا عَن الْحَقِيقَة وعَلى كل حَال فقد علم مِمَّا سبق وَجه الْمُنَاسبَة فِيمَا اخْتصّت بِهِ الشَّهَادَة عَن رِوَايَات الْأَخْبَار.
قَالَ ابْن عبد السَّلَام: لِأَن الْغَالِب من الْمُسلمين مهابة الْكَذِب على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخِلَاف شَهَادَة الزُّور فاحتيج إِلَى الِاسْتِظْهَار فِي الشَّهَادَات، وَأَيْضًا فقد ينْفَرد الحَدِيث النَّبَوِيّ بِشَاهِد وَاحِد فِي المحاكمات؛ وَلِهَذَا يظْهر فِيمَا سبق فِي تَزْكِيَة الْوَاحِد فِي الرِّوَايَة أَنه لكَونه أحوط.(4/1964)
وَأَيْضًا بَين كثير من النَّاس إحن وعداوات قد تحمل على شَهَادَة الزُّور من بعض بِخِلَاف الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة. انْتهى مُلَخصا.
وَفصل غَيره الْمَعْنى فِيمَا اعْتبر فِي الشَّهَادَة، أما الْعدَد فَإِنَّهَا لما تعلّقت بِمعين تطرقت إِلَيْهَا التُّهْمَة بِاحْتِمَال الْعَدَاوَة فاحتيط بإبعاد التُّهْمَة بِخِلَاف الرِّوَايَة.
وَأما الذُّكُورَة حَيْثُ اشْترطت فَإِن إِلْزَام الْمعِين فِيهِ نوع سلطنة وقهر، والنفوس تأباه، وَلَا سِيمَا من النِّسَاء لنَقص عقلهن ودينهن بِخِلَاف الرِّوَايَة؛ لِأَنَّهَا عَامَّة تتأسى فِيهَا النُّفُوس فيخف الْأَلَم.
وَأَيْضًا فلنقص النِّسَاء يكثر غلطهن وَلَا ينْكَشف ذَلِك غَالِبا فِي الشَّهَادَة لانقضائها بِانْقِضَاء زمانها بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِن متعلقها بِالْعُمُومِ يَقع الْكَشْف عَنْهَا فيتبين مَا عساه وَقع من الْمَرْأَة من غلط وَنَحْوه.(4/1965)
قَوْله: {فصل}
{تَدْلِيس الْمَتْن عمدا محرم} .
وجرح التَّدْلِيس لَهُ مَعْنيانِ، معنى فِي اللُّغَة وَمعنى فِي الِاصْطِلَاح.
فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة: كتمان الْعَيْب فِي مَبِيع أَو غَيره، وَيُقَال: دالسه خادعه، كَأَنَّهُ من الدلس وَهُوَ الظلمَة؛ لِأَنَّهُ إِذا غطى عَلَيْهِ الْأَمر أظلمه عَلَيْهِ.
وَأما فِي الِاصْطِلَاح: فَهُوَ قِسْمَانِ، قسم مُضر يمْنَع الْقبُول، وَقسم لَا يضر.
فَالْأول هُوَ الَّذِي ذكرنَا أَولا وَيُسمى المدرج، سَمَّاهُ بذلك المحدثون، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء اسْم فَاعل.(4/1966)
فالراوي للْحَدِيث إِذا أَدخل فِيهِ شَيْئا من كَلَامه أَولا أَو آخرا أَو وسطا على وَجه يُوهم أَنه من جملَة الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ [فَهُوَ المدرج] وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الْمُتُون، وفاعله عمدا مرتكب محرما مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء لما فِيهِ من الْغِشّ.
أما لَو اتّفق ذَلِك من غير قصد من صَحَابِيّ أَو غَيره فَلَا يكون ذَلِك محرما، وَمن ذَلِك كثير أفرده الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ بالتصنيف.
وَمن أمثلته حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي التَّشَهُّد، قَالَ فِي آخِره: (وَإِذا قلت هَذَا فَإِن شِئْت أَن تقوم فَقُمْ، وَإِن شِئْت أَن تقعد فَاقْعُدْ) ، وَهُوَ من كَلَامه لَا من الحَدِيث الْمَرْفُوع. قَالَه الْبَيْهَقِيّ والخطيب(4/1967)
وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم: وَهَذَا من المدرج أخيراً.
وَمِثَال المدرج أَولا: مَا رَوَاهُ الْخَطِيب بِسَنَدِهِ عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -: " أَسْبغُوا الْوضُوء، ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار "، فَإِن " أَسْبغُوا الْوضُوء " من كَلَام أبي هُرَيْرَة.
وَمِثَال الْوسط مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن بسرة بنت صَفْوَان - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: " من مس ذكره أَو أثنييه أَو رفغيه فَليَتَوَضَّأ " قَالَ: فَذكر الْأُنْثَيَيْنِ والرفغ مدرج، إِنَّمَا هُوَ من قَول(4/1968)
عُرْوَة الرَّاوِي عَن بسرة، ومرجع ذَلِك إِلَى الْمُحدثين.
وَيعرف ذَلِك بِأَن يرد من طرق أُخْرَى التَّصْرِيح بِأَن ذَلِك من كَلَام الرَّاوِي، وَهُوَ طَرِيق ظَنِّي قد يقوى، وَقد يضعف.
وعَلى كل حَال حَيْثُ فعل ذَلِك الْمُحدث عمدا بِأَن قصد إدراج كَلَامه فِي حَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غير تَبْيِين، بل دلّس ذَلِك كَانَ فعله حَرَامًا، وَهُوَ مَجْرُوح عِنْد الْعلمَاء غير مَقْبُول الحَدِيث، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَغَيره مَكْرُوه مُطلقًا} .
هَذَا الْقسم الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي لَا يضر، وَله صور:
إِحْدَاهَا: أَن يُسمى شَيْخه فِي رِوَايَته باسم لَهُ غير مَشْهُور من كنية، أَو لقب، أَو اسْم، أَو نَحوه، كَقَوْل أبي بكر بن مُجَاهِد الْمُقْرِئ الإِمَام: ثَنَا الإِمَام عبد الله بن أبي أوفى، يُرِيد بِهِ عبد الله بن أبي دَاوُد(4/1969)
السجسْتانِي.
وَقَوله أَيْضا: ثَنَا مُحَمَّد بن سَنَد، يُرِيد بِهِ النقاش الْمُفَسّر نسبه إِلَى جده، وَهُوَ كثير جدا وَيُسمى هَذَا تَدْلِيس الشُّيُوخ.
وَأما تَدْلِيس الْإِسْنَاد، وَهُوَ أَن يروي عَمَّن لقِيه أَو عاصره مَا لم يسمعهُ مِنْهُ موهماً سَمَاعه مِنْهُ قَائِلا: قَالَ فلَان، أَو عَن فلَان وَنَحْوه، وَرُبمَا لم يسْقط شَيْخه وَأسْقط غَيره.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَمثله غَيره بِمَا فِي التِّرْمِذِيّ عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - مَرْفُوعا: " لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته(4/1970)
كَفَّارَة يَمِين "، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا يَصح؛ لِأَن الزُّهْرِيّ لم يسمعهُ من أبي سَلمَة.
ثمَّ ذكر أَن بَينهمَا سُلَيْمَان بن أَرقم عَن يحيى بن أبي كثير، وَأَن هَذَا وَجه الحَدِيث، قَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا الْقسم مَكْرُوه جدا، ذمه الْعلمَاء، وَكَانَ شُعْبَة من أَشَّدهم ذماً لَهُ. وَقَالَ مرّة لَهُ: التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب وَمرَّة: لِأَن أزني أحب إِلَيّ من أَن أدلس.
وَهَذَا مِنْهُ إفراط مَحْمُول على الْمُبَالغَة فِي الزّجر عَنهُ.(4/1971)
الصُّور الثَّانِيَة: أَن يُسَمِّي شَيْخه باسم شيخ آخر لَا يُمكن أَن يكون رَوَاهُ عَنهُ، كَمَا يَقُول تلامذة الْحَافِظ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ، تَشْبِيها بقول الْبَيْهَقِيّ فِيمَا يرويهِ عَن شَيْخه أبي عبد الله الْحَاكِم: ثَنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ.
وَهَذَا لَا يقْدَح لظُهُور الْمَقْصُود.
الصُّورَة الثَّالِثَة: أَن يَأْتِي فِي التحديث بِلَفْظ يُوهم أمرا لَا قدح فِي إيهامه ذَلِك، كَقَوْلِه: ثَنَا وَرَاء النَّهر، موهماً نهر جيحون، وَهُوَ نهر عِيسَى(4/1972)
بِبَغْدَاد أَو الجيزة وَنَحْوهَا بِمصْر، فَلَا حرج فِي ذَلِك، قَالَه الْآمِدِيّ؛ لِأَن ذَلِك من بَاب الإغراب وَإِن كَانَ فِيهِ إِيهَام الرحلة إِلَّا أَنه صدق فِي نَفسه، إِذا علم ذَلِك.
فَالْمُرَاد بذلك الأول، وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه مَكْرُوه كَمَا تقدم.
قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة حَرْب، وَنقل الْمَرْوذِيّ: {لَا يُعجبنِي هُوَ من أهل الرِّيبَة} ، وَلَا يُغير اسْم رجل؛ لِأَنَّهُ لَا يعرف وَسَأَلَهُ مهنا عَن هشيم قَالَ: ثِقَة إِذا لم يُدَلس. قلت: التَّدْلِيس عيب؟ قَالَ: نعم.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَل كَرَاهَته تَنْزِيه أَو تَحْرِيم يخرج على(4/1973)
الْخلاف لنا فِي معاريض غير ظَالِم وَلَا مظلوم، قَالَ: وَالْأَشْبَه تَحْرِيمه؛ لِأَنَّهُ أبلغ من تَدْلِيس الْمَبِيع.
قَوْله: {وَمن فعل متأولاً. قبل: عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر} من الْفُقَهَاء، والمحدثين، {وَلم يفسق} ؛ لِأَنَّهُ قد صدر من الْأَعْيَان المتقدى بهم.
وَقل من سلم مِنْهُ.
وَقد رد الإِمَام أَحْمد قَول شُعْبَة (التَّدْلِيس كذب) قيل للْإِمَام أَحْمد: كَانَ شُعْبَة يَقُول: التَّدْلِيس كذب. فَقَالَ: لَا، قد دلّس قوم وَنحن نروي عَنْهُم، وَتقدم تَأْوِيل كَلَام شُعْبَة.
وَقطع ابْن حمدَان فِي " مقنعه "، وَغَيره بِأَن تَدْلِيس الْأَسْمَاء لَيْسَ بِجرح.(4/1974)
قَوْله: {وَمن عرف بِهِ عَن الضُّعَفَاء لم تقبل رِوَايَته حَتَّى يبين سَمَاعه عِنْد الْمُحدثين} ، وَغَيرهم، {وَقَالَهُ بعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم} ، وَأَبُو الطّيب وَغَيره من الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى، وسبقت رِوَايَة مهنا، {وَقَالَ الْمجد} ، بن تَيْمِية: {من كثر مِنْهُ التَّدْلِيس لم تقبل عنعنته} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَن يحْتَمل تَشْبِيه ذَلِك بِمَا سبق فِي الضَّبْط من كَثْرَة السَّهْو وغلبته، وَمَا فِي البُخَارِيّ وَمُسلم من ذَلِك مَحْمُول على أَن(4/1975)
السماع من طَرِيق آخر، كَذَا قيل.
وَقد قيل لِأَحْمَد فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: الرجل يعرف بالتدليس يحْتَج بِمَا لم يقل فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
قلت: الْأَعْمَش مَتى تصاب لَهُ الْأَلْفَاظ؟ قَالَ: يضيق إِن لم يحْتَج بِهِ.
قَوْله: {والإسناد المعنعن بِلَا تَدْلِيس بِأَيّ لفظ كَانَ مُتَّصِل عِنْد أَحْمد وَالْأَكْثَر} من الْمُحدثين، وَغَيرهم، عملا بِالظَّاهِرِ، وَالْأَصْل عدم التَّدْلِيس.
قَالَ ابْن الصّلاح: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه من قبيل الْإِسْنَاد الْمُتَّصِل.
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي " التَّمْهِيد " إِجْمَاعًا، وَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عَمْرو(4/1976)
الداني إِجْمَاعًا، وَلَكِن شَرط ابْن عبد الْبر ثَلَاثَة شُرُوط: الْعَدَالَة، واللقاء، وَعدم التَّدْلِيس.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه وَدَاوُد عَن الشّعبِيّ عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل ذَلِك ثَابت.
وَذكر جمَاعَة أَن الْإِسْنَاد المعنعن لَيْسَ بِمُتَّصِل.(4/1977)
قَالَ ابْن الصّلاح: عده بعض النَّاس من قبيل الْمُرْسل والمنقطع حَتَّى يتَبَيَّن اتِّصَاله بِغَيْرِهِ فَيجْعَل مُرْسلا إِن كَانَ من قبل الصَّحَابِيّ، ومنقطعاً إِن كَانَ من قبل غَيره.
وَقَوْلنَا: (بِأَيّ لفظ كَانَ) يَشْمَل (عَن) و (أَن) و (قَالَ) وَنَحْوه، وَهَذَا الصَّحِيح كَمَا يَأْتِي فِي (قَالَ) وَنَحْوه.
وَنقل أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد أَن (أَن فلَانا) لَيست للاتصال.
وَأطلق القَاضِي وَغَيره من أَصْحَابنَا وَبَعض الْعلمَاء فَلم يفرقُوا بَين المدلس أَو غَيره أَو علم إِمْكَان اللِّقَاء أَو لَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه غير مُرَاد، وَقَالَ أَبُو بكر البرذعي: إِن حرف (أَن) مَحْمُول على الِانْقِطَاع حَتَّى يتَبَيَّن السماع فِي ذَلِك الْخَبَر من جِهَة أُخْرَى.(4/1978)
وَقَالَهُ الْحَافِظ الْفَحْل ابْن شيبَة كَمَا قَالَه الإِمَام أَحْمد، وَيَأْتِي حكم (قَالَ، وَفعل، وَأقر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
قَوْله: {وَيَكْفِي إِمْكَان اللقي عِنْد مُسلم، وَحَكَاهُ عَن أهل الْعلم بالأخبار} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ معنى مَا ذكره أَصْحَابنَا فِيمَا يرد بِهِ الْخَبَر وَمَا لم يرد.
قَالَ ابْن رَجَب فِي آخر " شرح التِّرْمِذِيّ ": وَهُوَ قَول كثير من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حبَان، وَغَيره، وَاشْترط عَليّ ابْن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا الْعلم باللقي وَهُوَ أظهر.(4/1979)
قَالَ ابْن رَجَب فِي " شرح التِّرْمِذِيّ ": هُوَ قَول جُمْهُور الْمُتَقَدِّمين، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم، وَغَيرهم من أَعْيَان الْحفاظ، بل كَلَامهم يدل على اشْتِرَاط ثُبُوت السماع كَمَا تقدم عَن الشَّافِعِي فَإِنَّهُم قَالُوا فِي جمَاعَة من الْأَعْيَان: ثبتَتْ لَهُم الرُّؤْيَة لبَعض الصَّحَابَة وَقَالُوا: مَعَ ذَلِك لم يثبت لَهُم السماع مِنْهُم فرواياتهم عَنْهُم مُرْسلَة، مِنْهُم: الْأَعْمَش وَيحيى بن أبي كثير، وَأَيوب، وَابْن عون وقرة بن خَالِد(4/1980)
رَأَوْا أنسا وَلم يسمعوا مِنْهُ، فرواياتهم عَنهُ مُرْسلَة، كَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم، وَقَالَهُ أَبُو زرْعَة أَيْضا فِي يحيى بن أبي كثير وَقَالَ أَحْمد فِي يحيى بن أبي كثير: قد رأى أنسا فَلَا أَدْرِي سمع مِنْهُ أم لَا؟
وَلم يجْعَلُوا رِوَايَته عَنهُ مُتَّصِلَة بِمُجَرَّد الرُّؤْيَة والرؤية أبلغ من إِمْكَان اللقي، وَكَذَلِكَ كثير من صبيان الصَّحَابَة رَأَوْا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يَصح لَهُم سَماع مِنْهُ فرواياتهم عَنهُ مرسله، كطارق ابْن شهَاب وَغَيرهم، وَكَذَلِكَ من علم مِنْهُ أَنه مَعَ اللِّقَاء لم يسمع مِمَّن لقِيه إِلَّا شَيْئا يَسِيرا فروايته عَنهُ زِيَادَة على ذَلِك مُرْسلَة، كروايات ابْن الْمسيب عَن عمر فَإِن الْأَكْثَرين نفوا سَمَاعه مِنْهُ وَأثبت أَحْمد أَنه رَآهُ وَسمع مِنْهُ، وَقَالَ: مَعَ ذَلِك رواياته عَنهُ مُرْسلَة، إِنَّمَا سمع مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا.(4/1981)
مِثَاله: نعيه النُّعْمَان بن مقرن على الْمِنْبَر، وَنَحْو ذَلِك، وَكَذَلِكَ سَماع الْحسن من عُثْمَان وَهُوَ على الْمِنْبَر [يَأْمر] بقتل الْكلاب وَذبح الْحمام.
ورواياته عَنهُ غير ذَلِك مُرْسلَة.
وَقَالَ أَحْمد: [بن] جريج لم يسمع من طَاوُوس، وَلَا حرفا، وَيَقُول: رَأَيْت طاووساً.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ أَيْضا: الزُّهْرِيّ لَا يَصح سَمَاعه من ابْن عمر رَآهُ وَلم يسمع مِنْهُ، وَرَأى عبد الله بن جَعْفَر وَلم يسمع مِنْهُ.(4/1982)
وَأثبت أَيْضا دُخُول مَكْحُول على وَاثِلَة بن الْأَسْقَع ورؤيته لَهُ ومشافهته، وَأنكر سَمَاعه، وَقَالَ: لم يَصح لَهُ مِنْهُ سَماع، وَجعل رواياته عَنهُ؟ مُرْسلَة.
وَقَالَ أَحْمد: أبان بن عُثْمَان لم يسمع من أَبِيه، من أَيْن سمع مِنْهُ؟ وَمرَاده: من أَيْن صحت الرِّوَايَة بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَإِلَّا فإمكان ذَلِك واحتماله غير مستبعد.
وَقَالَ أَبُو زرْعَة فِي أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف: لم يسمع من عمر.
هَذَا مَعَ أَن أَبَا أُمَامَة رأى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَدلَّ كَلَام الإِمَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة، وَأبي حَاتِم على أَن الِاتِّصَال لَا يثبت إِلَّا بِثُبُوت التَّصْرِيح بِالسَّمَاعِ،(4/1983)
وَهَذَا أضيق من قَول ابْن الْمَدِينِيّ، وَالْبُخَارِيّ؛ فَإِن المحكي عَنْهُمَا أَنه يعْتَبر أحد أَمريْن: إِمَّا السماع، وَإِمَّا اللِّقَاء.
وَأحمد وَمن تبعه عِنْدهم لابد من ثُبُوت السماع.
وَيدل على أَن هَذَا مُرَادهم، أَن أَحْمد قَالَ: ابْن سِيرِين لم يَجِيء عَنهُ سَماع من ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الزُّهْرِيّ أدْرك أبان بن عُثْمَان وَمن هُوَ أكبر مِنْهُ، وَلَكِن لَا يثبت لَهُ السماع، كَمَا أَن حبيب بن أبي ثَابت لَا يثبت لَهُ السماع من عُرْوَة، وَقد سمع مِمَّن هُوَ أكبر مِنْهُ غير أَن أهل الحَدِيث قد اتَّفقُوا على ذَلِك، واتفاقهم على شَيْء يكون حجَّة، وَاعْتِبَار السماع لاتصال الحَدِيث هُوَ الَّذِي ذكره ابْن عبد الْبر، وَحَكَاهُ عَن الْعلمَاء، وَقُوَّة كَلَامه تشعر بإنه إِجْمَاع مِنْهُم.
قَالَ ابْن رَجَب: وَقد تقدم أَنه قَول الشَّافِعِي أَيْضا.
وَأطَال النَّقْل فِي ذَلِك عَن الْأَئِمَّة ثمَّ قَالَ: كَلَام أَحْمد، وَأبي زرْعَة،(4/1984)
وَأبي حَاتِم فِي هَذَا الْمَعْنى كثير جدا، وَكله يَدُور على أَن مُجَرّد ثُبُوت الرُّؤْيَة لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت السماع، وَأَن السماع لَا يثبت بِدُونِ التَّصْرِيح بِهِ، وَأَن رِوَايَة من روى عَمَّن عاصره تَارَة بِوَاسِطَة، وَتارَة بِغَيْر وَاسِطَة يدل على أَنه لم يسمع مِنْهُ إِلَّا أَن يثبت لَهُ السماع من وَجه.
ثمَّ قَالَ: فَإِذا كَانَ هَذَا قَول هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، وهم أعلم أهل زمانهم بِالْحَدِيثِ وَعلله، وَصَحِيحه، وسقيمه مَعَ مُوَافقَة البُخَارِيّ وَغَيره، فَكيف يَصح لمُسلم رَحمَه الله دَعْوَى الْإِجْمَاع على خلاف قَوْلهم، بل اتِّفَاق هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة على قَوْلهم هَذَا يَقْتَضِي حِكَايَة إِجْمَاع الْحفاظ المعتبرين على هَذَا القَوْل، وَإِن القَوْل بِخِلَاف قَوْلهم لَا يعرف عَن أحد من نظرائهم وَلَا عَمَّن قبلهم مِمَّن هُوَ فِي درجتهم وحفظهم.
وَيشْهد لصِحَّة ذَلِك حِكَايَة أبي حَاتِم اتِّفَاق أهل الحَدِيث على أَن حبيب ابْن أبي ثَابت لم يثبت لَهُ السماع من عُرْوَة مَعَ إِدْرَاكه لَهُ، وَقد ذكرنَا من قبل أَن كَلَام الشَّافِعِي إِنَّمَا يدل على مثل هَذَا لَا على خِلَافه؛ وَلذَلِك حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن الْعلمَاء فَلَا يبعد حِينَئِذٍ أَن يُقَال: هَذَا قَول الْأَئِمَّة من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء.(4/1985)
وَزَاد ابْن رَجَب مَا ذكره مُسلم من الرِّوَايَات وَاحِدَة وَاحِدَة وَبَين مَا يرد عَلَيْهِ فليعاود فَإِنَّهُ أَجَاد وَأفَاد.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الداني: لابد مَعَ ذَلِك من الْعلم بالرواية عَنهُ مَعَ اللقي؛ إِذْ لَا يلْزم من اللقي الرِّوَايَة عَنهُ.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: لابد من طول الصُّحْبَة فلابد من اللقي وَطول الصُّحْبَة، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ أضيق من الْأَقْوَال الْمُتَقَدّمَة.
قَوْله: {وَظَاهر الأول أَن من روى عَمَّن [لم] يعرف بِصُحْبَتِهِ وَالرِّوَايَة عَنهُ} أَن رِوَايَته عَنهُ تقبل مُطلقًا. أَعنِي {وَلَو أجمع أَصْحَاب الشَّيْخ أَنه لَيْسَ من أَصْحَابه} ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة.
وَقَالَ الحنيفة، وَابْن برهَان، وَلم تقبله الشَّافِعِيَّة، وَظَاهر كَلَام أَحْمد فِي ذَلِك مُخْتَلف.(4/1986)
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": إِذا روى رجل خَبرا عَن شيخ مَشْهُور لم يعرف بِصُحْبَتِهِ، وَلم يشْتَهر بالرواية عَنهُ، وَأجْمع أَصْحَاب الشَّيْخ المعروفون على جهالته بَينهم، وَأَنه لَيْسَ مِنْهُم، هَل يمْنَع ذَلِك قبُول خَبره؟ قَالَت الشَّافِعِيَّة: يمْنَع. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يمْنَع، وَنَصره ابْن برهَان.
وَالْأول ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي مَوَاضِع، وَأكْثر الْمُحدثين.
وَالثَّانِي يدل عَلَيْهِ كَلَام الإِمَام أَحْمد فِي اعتذاره لجَابِر الْجعْفِيّ فِي قصَّة هِشَام بن عُرْوَة مَعَ زَوجته.(4/1987)
وَقد قَالَ ابْن عقيل: الْمُحَقِّقُونَ من الْعلمَاء يمْنَعُونَ رد الْخَبَر بالاستدلال، كرد خبر القهقهة اسْتِدْلَالا بِفضل الصَّحَابَة الْمَانِع من الضحك، وَردت عَائِشَة قَول ابْن عَبَّاس فِي الرُّؤْيَة، وَقَول بَعضهم إِن قَوْله: (لأزيدن على السّبْعين) بعيد الصِّحَّة؛ لِأَن السّنة تَأتي بالعجائب،(4/1988)
وَلَو شهِدت بَيِّنَة على مَعْرُوف بِالْخَيرِ بِإِتْلَاف أَو غصب لم ترد بالاستبعاد
هَذَا معنى كَلَام أَصْحَابنَا، وَغَيرهم فِي رده بِمَا يحيله الْعقل، وَالله أعلم.
قَوْله: وَلَيْسَ ترك الْإِنْكَار شرطا فِي قبُول الْخَبَر عندنَا، [وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد خلافًا للحنفية ذكره القَاضِي فِي الْخلاف فِي خبر فَاطِمَة بنت قيس] ورد عمر لَهُ.
وَكَذَا قَالَ ابْن عقيل جَوَاب من قَالَ: رده السّلف: إِن الثِّقَة لَا يرد حَدِيثه بإنكار غَيره؛ لِأَن مَعَه زِيَادَة.(4/1989)
قَوْله: {فصل}
{أَصْحَابنَا، والمعظم: الصَّحَابَة عدُول} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَغَيره: الَّذِي عَلَيْهِ سلف الْأمة وَجُمْهُور الْخلف أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول بتعديل الله تَعَالَى لَهُم.
قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: الْأمة مجمعة على تَعْدِيل جَمِيع الصَّحَابَة، وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم. انْتهى.(4/1990)
وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي مُقَدّمَة " الِاسْتِيعَاب " إِجْمَاع أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَحكى فِيهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاع.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل كَمَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فهم عدُول بتعديل الله تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} [التَّوْبَة: 100] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لقد رضى الله عَن الْمُؤمنِينَ} [الْفَتْح: 18] ، وَقَالَ: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} [الْفَتْح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} [آل عمرَان: 110] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} [الْبَقَرَة: 143] .
وَقد تَوَاتر امتثالهم الْأَوَامِر والنواهي.
وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد مَا بلغ مد أحدهم، وَلَا نصيفه ".(4/1991)
وَلَو ورد على سَبَب خَاص فَالْعِبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ، وَلَا يضرنا أَيْضا كَون الْخطاب بذلك للصحابة، أَيْضا؛ لِأَن الْمَعْنى لَا يسب غير أَصْحَابِي أَصْحَابِي، وَلَا يسب أَصْحَابِي بَعضهم بَعْضًا.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خير الْقُرُون قَرْني " مُتَّفق عَلَيْهِمَا.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِن الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحاباً وأنصاراً، لَا تؤذوني فِي أَصْحَابِي " فَأَي تَعْدِيل أصح من تَعْدِيل علام الغيوب وتعديل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ {
فَإِن قيل: هَذِه الْأَدِلَّة دلّت على فَضلهمْ فَأَيْنَ التَّصْرِيح بِعَدَالَتِهِمْ؟
قلت: من أثنى الله عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّنَاء، لَا يكون عدلا؟} فَإِذا كَانَ التَّعْدِيل يثبت بقول اثْنَيْنِ من النَّاس فَكيف لَا تثبت الْعَدَالَة بِهَذَا الثَّنَاء الْعَظِيم من الله وَرَسُوله؟ !(4/1992)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": ومرادهم من جهل حَاله فَلم يعرف بقدح.
قَالَ الْمَازرِيّ: وَالْحكم بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا هُوَ لمن اشتهرت صحبته. نَقله الْبرمَاوِيّ.
وَالظَّاهِر أَن هُنَا فِي النُّسْخَة غَلطا.
وَقيل: هم عدُول إِلَى زمن الْفِتَن، وَبعد حُدُوث الْفِتَن كغيرهم، ومثلوا ذَلِك بقتل عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -.
{وَقَالَت الْمُعْتَزلَة} : هم عدُول {إِلَّا من قَاتل عليا} .
وَقَالَت: من قَاتل عليا فَهُوَ فَاسق لِخُرُوجِهِ على الإِمَام بِغَيْر حق.(4/1993)
وَهُوَ ضَعِيف؛ بل فعلوا ذَلِك اجْتِهَادًا، وهم من أَهله، وَالْعَمَل بِالِاجْتِهَادِ وَاجِب، أَو جَائِز.
{وَقيل: هم كغيرهم} مُطلقًا للعمومات الدَّالَّة على ذَلِك.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَهَذِه الْأَقْوَال الْبَاطِلَة بَعْضهَا مَنْسُوب إِلَى عَمْرو بن عبيد وَأَضْرَابه، وَمَا وَقع بَينهم مَحْمُول على الِاجْتِهَاد، وَلَا قدح على مُجْتَهد عِنْد المصوبة وَغَيرهم، وَهَذَا متأول.
الأولى: لَيْسَ المُرَاد بكونهم عُدُولًا الْعِصْمَة لَهُم، واستحالة الْمعْصِيَة عَلَيْهِم، إِنَّمَا المُرَاد أَن لَا نتكلف الْبَحْث عَن عدالتهم، وَلَا طلب التَّزْكِيَة فيهم.(4/1994)
الثَّانِيَة: قَالَ الْحَافِظ الْمزي: من الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز بالنفاق من الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم -.
الثَّالِثَة: من فَوَائِد القَوْل بِعَدَالَتِهِمْ مُطلقًا إِذا قيل عَن رجل من الصَّحَابَة: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ كَذَا كَانَ ذَلِك كتعيينه باسمه لِاسْتِوَاء الْكل فِي الْعَدَالَة.
وَقَالَ أَبُو زيد الدبوسي: بِشَرْط أَن يعْمل بروايته السّلف، أَو يسكتوا عَن الرَّد مَعَ الانتشار، أَو تكون مُوَافقَة للْقِيَاس، وَإِلَّا فَلَا يحْتَج بهَا.
وَهَذَا ضَعِيف.(4/1995)
قَوْله: {وهم من لَقِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو رَآهُ يقظة حَيا، عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَالْبُخَارِيّ} وَغَيرهمَا.
لما تقرر أَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - عدُول فلابد من بَيَان الصَّحَابِيّ من هُوَ، وَمَا الطَّرِيق فِي معرفَة كَونه صحابياً؟
وَقد اخْتلف فِي تَفْسِير الصَّحَابِيّ على أَقْوَال منتشرة، الْمُخْتَار مِنْهَا مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم، وَهُوَ مَا قدمْنَاهُ أَولا.(4/1996)
قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: وَهِي طَريقَة أهل الحَدِيث.
فقولنا: {من لقِيه} ليعم الْبَصِير وَالْأَعْمَى فَهُوَ أحسن من قَول من قَالَ: من رَآهُ. وَزَاد بَعضهم: أَو رَآهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يدْخل الْأَعْمَى.
وَقَوْلنَا: {يقظة} احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ مناماً؛ فَإِنَّهُ لَا يُسمى صحابياً إِجْمَاعًا، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَوْلنَا: {حَيا} ، احْتِرَاز مِمَّن رَآهُ بعد مَوته: كَأبي ذُؤَيْب الشَّاعِر خويلد بن خَالِد الْهُذلِيّ؛ لِأَنَّهُ لما أسلم وَأخْبر بِمَرَض النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافر ليراه فَوَجَدَهُ مَيتا مسجى فَحَضَرَ الصَّلَاة عَلَيْهِ والدفن فَلم يعد صحابياً.
على أَن الذَّهَبِيّ فِي " التَّجْرِيد " للصحابة عد مِنْهُم أَبَا ذُؤَيْب، وَقواهُ الشَّيْخ أَبُو حَفْص البُلْقِينِيّ، وَقَالَ الشَّيْخ: الظَّاهِر أَنه يعد صحابياً،(4/1997)
وَلَكِن مُرَادهم كلهم الصُّحْبَة الْحكمِيَّة الَّتِي سنبينها لَا حَقِيقَة الصُّحْبَة.
وَقَوْلنَا: {مُسلما} ؛ ليخرج من رَآهُ وَاجْتمعَ بِهِ قبل النُّبُوَّة وَلم يره بعد ذَلِك، كَمَا فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، فَإِنَّهُ مَاتَ قبل المبعث، وَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّه يبْعَث أمه وَحده " كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
وَيخرج أَيْضا من رَآهُ وَهُوَ كَافِر ثمَّ أسلم بعد مَوته.
وَقَوْلنَا: {وَلَو ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلم يره وَمَات مُسلما} ، لَهُ مَفْهُوم ومنطوق، فمفهومه أَنه إِذا ارْتَدَّ فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو بعد مَوته؛ وَقتل على الرِّدَّة: كَابْن خطل وَغَيره؛ فَإِنَّهُ لَا يعد من الصَّحَابَة قطعا؛ فَإِنَّهُ بِالرّدَّةِ(4/1998)
تبين أَنه لم يجْتَمع بِهِ مُؤمنا تَفْرِيعا على قَول الْأَشْعَرِيّ: إِن الْكفْر وَالْإِيمَان لَا يتبدلان خلافًا للحنفية، وَالِاعْتِبَار فيهمَا بالخاتمة.
ومنطوقه لَو ارْتَدَّ ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام: كالأشعث بن قيس فقد تبين أَنه لم يزل مُؤمنا.
فَإِن كَانَ قد رَآهُ مُؤمنا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ رَآهُ ثَانِيًا مُؤمنا فَأولى وأوضح أَن يكون صحابياً؛ فَإِن الصُّحْبَة قد صحت بالاجتماع الثَّانِي قطعا.
وَخرج من اجْتمع بِهِ قبل النُّبُوَّة ثمَّ أسلم بعد المبعث وَلم يلقه، فَإِن الظَّاهِر أَنه لَا يكون صحابياً بذلك الِاجْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ لم يكن حِينَئِذٍ مُؤمنا، كَمَا(4/1999)
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن عبد الله بن أبي الحمساء قَالَ: بَايَعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أَن يبْعَث فوعدته أَن آتيه بهَا فِي مَكَانَهُ، ونسيت، ثمَّ ذكرت بعد ثَلَاث فَجئْت فَإِذا هُوَ فِي مَكَانَهُ فَقَالَ: يَا فَتى لقد شققت عَليّ أَنا فِي انتظارك مُنْذُ ثَلَاث.
ثمَّ لم ينْقل أَنه اجْتمع بِهِ بعد المبعث.
وَدخل فِي قَوْلنَا: من لَقِي، من جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ غير مُمَيّز فحنكه: كَعبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل، أَو تفل فِي فِيهِ: كمحمود بن(4/2000)
الرّبيع، بل مجه بِالْمَاءِ كَمَا فِي البُخَارِيّ، وَهُوَ ابْن خمس سِنِين أَو أَربع أَو مسح وَجهه: كَعبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير - بالصَّاد وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ - وَنَحْو ذَلِك.
فَهَؤُلَاءِ صحابة وَإِن اخْتَار جمَاعَة خلاف ذَلِك، كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام ابْن معِين، وَأبي زرْعَة الرَّازِيّ، وَأبي حَاتِم، وَأبي دَاوُد،(4/2001)
وَابْن عبد الْبر، وَغَيرهم، وَكَأَنَّهُم نفوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة.
وَقَوْلنَا: {وَلَو جنياً على الْأَظْهر} .
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْجِنّ الَّذين قدمُوا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من نَصِيبين وهم ثَمَانِيَة من الْيَهُود أَو سَبْعَة؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أنزل من بعد مُوسَى} [الْأَحْقَاف: 30] ، وَذكر فِي أسمائهم: شاصر وماصر وناشي ومنشي والأحقب وزوبعة وسرق وَعَمْرو بن جَابر.
وَقد اسْتشْكل ابْن الْأَثِير فِي " أَسد الغابة " قَول من ذكرهم فِي(4/2002)
الصَّحَابَة، وَهُوَ مَحل نظر.
قلت: الأولى أَنهم من الصَّحَابَة، وَأَنَّهُمْ لقوا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وآمنوا بِهِ، وَأَسْلمُوا وذهبوا إِلَى قَومهمْ منذرين.
فَائِدَة: قَالَ بعض الْعلمَاء: خرج من الصَّحَابَة من رَآهُمْ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين كشف لَهُ عَنْهُم لَيْلَة الْإِسْرَاء، أَو غَيرهَا، وَمن رَآهُ فِي غير عَالم الشَّهَادَة: كالمنام كَمَا تقدم، وَكَذَا من اجْتمع بِهِ من الْأَنْبِيَاء، وَالْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات؛ لِأَن مقامهم أجل من رُتْبَة الصُّحْبَة. قَالَه الْبرمَاوِيّ.
وَكَذَا من اجْتمع بِهِ فِي الأَرْض: كعيسى وَالْخضر - عَلَيْهِمَا من الله الصَّلَاة وَالسَّلَام - إِن صَحَّ فَإِن المُرَاد اللقي الْمَعْرُوف على الْوَجْه الْمُعْتَاد لَا خوارق الْعَادَات، وَالله أعلم.
وَقد ذكرت أَقْوَال غير ذَلِك كلهَا ضَعِيفَة فَشرط بعض الْعلمَاء فِي(4/2003)
الصَّحَابَة زِيَادَة على مَا ذَكرْنَاهُ أَن يروي عَنهُ وَلَو حَدِيث وَاحِدًا، وَإِلَّا فَلَا يكون صحابياً.
وَشرط بَعضهم أَن تطول الصُّحْبَة وتكثر المجالسة على طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ، وينقل ذَلِك عَن أهل الْأُصُول.
قلت: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَقَالَ عمر بن يحيى هُوَ من طَالَتْ صحبته، وَأخذ عَنهُ.
وَقَالَت طَائِفَة: هُوَ وَاقع على من صَحبه وجالسه واختص بِهِ لَا على من كَانَ فِي عَهده. اخْتَارَهُ الجاحظ والباقلاني.
وَشرط سعيد بن الْمسيب أَن يُقيم مَعَه سنة أَو سنتَيْن أَو يَغْزُو مَعَه غَزْوَة أَو غزوتين.(4/2004)
وَقد اعْترض عَلَيْهِ بِنَحْوِ جرير بن عبد الله، وَوَائِل بن حجر وَغَيرهمَا مِمَّن وَفد عَلَيْهِ فِي السّنة الْعَاشِرَة وَمَا قاربها، مَعَ أَن الْإِجْمَاع على عدهم من الصَّحَابَة.
ذكر ابْن الْعِرَاقِيّ: إِلَّا أَن يُرِيدُوا الصُّحْبَة الْمُؤَكّدَة فيستقيم.
وَشرط بَعضهم الْبلُوغ، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن أهل الْعلم، ورد ذَلِك بِخُرُوج عبد الله بن الزبير، وَالْحسن، وَالْحُسَيْن، وأشباههم - رَضِي الله عَنْهُم -.
وَاشْترط أَبُو الْحسن ابْن الْقطَّان الْعَدَالَة، قَالَ: والوليد الَّذِي(4/2005)
شرب الْخمر لَيْسَ بصحابي، وَإِنَّمَا صَحبه الَّذين هم على طَرِيقَته، وَالصَّحِيح خِلَافه.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: قَالَ ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ، وَغَيرهمَا: فِي التَّابِعِيّ مَعَ الصَّحَابِيّ الْخلاف} الْمُتَقَدّم فِي الصَّحَابَة قِيَاسا عَلَيْهِم.
وَاشْترط الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَجَمَاعَة فِي التَّابِعين الصُّحْبَة، فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد الرُّؤْيَة وَلَا اللقي، بِخِلَاف الصَّحَابَة فَإِن لَهُم مزية على سَائِر النَّاس وشرفاً بِرُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَاشْترط ابْن حبَان فِي التَّابِعِيّ كَونه فِي سنّ يحفظ عَنهُ بِخِلَاف الصَّحَابِيّ فَإِن الصَّحَابَة قد اختصوا بِشَيْء لم يُوجد فِي غَيرهم.(4/2006)
قَوْله: {وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة عِنْد الْأَرْبَعَة وَغَيرهم [خلافًا] لقوم} .
اعْلَم أَن طَريقَة معرفَة الصَّحَابَة تَارَة تكون ظَاهِرَة، وَتارَة خُفْيَة، فالظاهرة مَعْلُومَة فَمِنْهَا: التَّوَاتُر، وَمِنْهَا: استفاضة بِكَوْنِهِ صحابياً أَو بِكَوْنِهِ من الْمُهَاجِرين أَو من الْأَنْصَار.
وَقَول الصَّحَابِيّ ثَابت الصُّحْبَة: هَذَا صَحَابِيّ، أَو ذكر مَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون صحابياً، نَحْو: كنت أَنا وَفُلَان عِنْد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو دَخَلنَا عَلَيْهِ، وَنَحْوه، لَكِن بِشَرْط أَن يعرف إِسْلَامه فِي تِلْكَ الْحَال واستمراره عَلَيْهِ.
وَأما الْخفية فَكَمَا لَو ادّعى الْعدْل المعاصر للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه صَحَابِيّ.(4/2007)
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلَا يعْتَبر الْعلم فِي ثُبُوت الصُّحْبَة وفَاقا للأئمة الْأَرْبَعَة، خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة، فَلَو قَالَ معاصر عدل: أَنا صَحَابِيّ قبل عِنْد أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور. انْتهى.
وَقيل: لَا يقبل، وَإِلَيْهِ ميل الطوفي فِي " مُخْتَصره "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن الْقطَّان الْمُحدث، وَبِه قَالَ أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال: إِنَّه صَحَابِيّ إِلَّا عَن علم ضَرُورِيّ أَو كسبي، وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ أَيْضا.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": وَتعلم الصُّحْبَة بِإِخْبَار غَيره عَنهُ أَو عَن نَفسه، وَفِيه نظر؛ إِذْ هُوَ مُتَّهم بتحصيل منصب الصَّحَابَة، وَلَا يُمكن تَفْرِيع قبُول قَوْله على عَدَالَة الصَّحَابَة، إِذْ عدالتهم فرع الصُّحْبَة، فَلَو ثبتَتْ الصُّحْبَة بهَا لزم الدّور. انْتهى.(4/2008)
وَفِي قَوْله: لزم الدّور نظر بَينه شَارِحه.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: وَتخرج من كَلَام بَعضهم مَذْهَب ثَالِث بالتفصيل بَين مدعي الصُّحْبَة القصيرة فَيقبل؛ لِأَنَّهُ يتَعَذَّر إِثْبَات صحبته بِالنَّقْلِ، إِذْ رُبمَا لَا يحضرهُ حِين اجتماعه بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحد، أَو حَال رُؤْيَته إِيَّاه، وَبَين مدعي طول الصُّحْبَة، وَكَثْرَة التَّرَدُّد فِي السّفر والحضر فَلَا يقبل ذَلِك مِنْهُ؛ لِأَن مثل ذَلِك يشْتَهر وينقل. انْتهى.
وَهُوَ قَول حسن.
قَوْله: {الثَّانِيَة: لَو قَالَ تَابِعِيّ عدل: فلَان صَحَابِيّ، لم يقبل فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَامهم لكَوْنهم خصوا ذَلِك بالصحابي.
قَالَ بعض شرَّاح " اللمع ": لَا أعرف فِيهِ نقلا، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقيَاس أَنه لَا يقبل؛ لِأَن ذَلِك مُرْسل؛ لِأَنَّهَا قَضِيَّة لم يحضرها.(4/2009)
قيل: وَالظَّاهِر خلاف ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن علم اضطراري أَو اكتسابي.
قَوْله: {وَلَو قَالَ: أَنا تَابِعِيّ أدْركْت الصَّحَابَة، فَالظَّاهِر أَنه كالصحابي} فِي قَوْله: أَنا صَحَابِيّ؛ لِأَنَّهُ ثِقَة عدل مَقْبُول القَوْل، فَقبل كالصحابي.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،(4/2010)
(قَوْله: {فصل} {فِي مُسْتَند الصَّحَابِيّ} الْمُخْتَلف)
اعْلَم أَن مُسْتَند الصَّحَابِيّ فِي الرِّوَايَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: لَا خلاف فِيهِ؛ إِذْ هُوَ صَرِيح فِي ذَلِك لَا يحْتَمل شَيْئا كَقَوْلِه: سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو حَدثنِي، أَو أَخْبرنِي، أَو شافهني، أَو رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول: أَو يفعل كَذَا. وَهَذَا أرفع الدَّرَجَات لكَونه يدل على عدم الْوَاسِطَة بَينهمَا قطعا.
النَّوْع الثَّانِي: مَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ لكَونه غير صَرِيح، بل مُحْتَمل الْوَاسِطَة، وَهُوَ مَرَاتِب:(5/2011)
الْمرتبَة الأولى: أَن يَقُول الصَّحَابِيّ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا، أَو فعل كَذَا، أَو أقرّ على كَذَا، فَهَذَا من الْمُخْتَلف فِيهِ.
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابنَا، وَأكْثر الْعلمَاء: أَنه يحمل على الِاتِّصَال وَأَنه لَا وَاسِطَة بَينهمَا، وَيكون ذَلِك حكما شَرْعِيًّا يجب الْعَمَل بِهِ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر من حَال الصَّحَابِيّ الْقَائِل ذَلِك.
وَقَوْلنَا: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْوه، أَعنِي نَحْو: قَالَ كَفعل أَو أقرّ، كَمَا تقدم.
وَيدخل فِي ذَلِك (عَن) و (أَن) ، وَتقدم ذَلِك فِي الْإِسْنَاد المعنعن، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو الْخطاب من أَصْحَابنَا، وَجمع من الْعلمَاء، مِنْهُم:(5/2012)
القَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب عَن الأشعرية فَقَالُوا: لَا يحمل على السماع لاحْتِمَاله وتردده بَين سَمَاعه مِنْهُ وَمن غَيره.
قَالَ الباقلاني: مُتَرَدّد بَين سَمَاعه مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَين سَمَاعه من غَيره بِنَاء على عَدَالَة الصَّحَابَة، نَقله الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَنهُ، ورده السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر "، وَقَالَ: الْمَنْقُول عَنهُ فِي " التَّقْرِيب " أَنه مَحْمُول على السماع. انْتهى.
قلت: يحْتَمل أَن لَهُ قَوْلَيْنِ، إِذا علم ذَلِك.(5/2013)
فَقَالَ ابْن مُفْلِح: لما قَالَ أَبُو الْخطاب: إِنَّه مُحْتَمل، وَإنَّهُ ظَاهر قَول من نصر أَن الْمُرْسل لَيْسَ بِحجَّة فَظَاهره كمرسل لاحْتِمَال سَمَاعه من تَابِعِيّ.
وَالْأَشْهر يَنْبَنِي على عَدَالَة الصَّحَابَة لظُهُور سَمَاعه مِنْهُم. انْتهى.
وَقَالَ كثير من الْعلمَاء: إِن قُلْنَا بعدالة جَمِيع الصَّحَابَة قبل وَإِلَّا فكمرسل.
وَتقدم حكم (عَن) و (أَن) والإسناد المعنعن وَالْخلاف فِي ذَلِك.
قَوْله: {أَمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِكَذَا، أَو نهى عَن كَذَا، أَو أمرنَا بِكَذَا، أَو نَهَانَا} عَن كَذَا، فَحكمه حكم، قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لكنه فِي الدّلَالَة دون ذَلِك لاحْتِمَال الْوَاسِطَة، واعتقاد مَا لَيْسَ بِأَمْر وَلَا نهي، أمرا أَو نهيا، لَكِن الظَّاهِر أَنه لم يُصَرح بِنَقْل الْأَمر إِلَّا بعد جزمه بِوُجُود حَقِيقَته.
وَمَعْرِفَة الْأَمر مستفادة من اللُّغَة، وهم أَهلهَا، فَلَا يخفى عَلَيْهِم، ثمَّ إِنَّهُم لم يكن بَينهم فِي صِيغَة الْأَمر وَنَحْوهَا خلاف، وخلافنا فِيهِ(5/2014)
لَا يستلزمه، فعلى هَذَا يكون حجَّة، وَرجعت إِلَيْهِ الصَّحَابَة وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء.
وَخَالف بعض الْمُتَكَلِّمين فِي ذَلِك، وَنقل عَن دَاوُد قَولَانِ.
وَمن خَالف فِي الَّتِي قبلهَا فَفِيهَا أولى.
قَوْله: {وأمرنا، أَو نهينَا، أَو رخص لنا، أَو حرم علينا وَنَحْوه} كأباح لنا، حجَّة عندنَا، وَعند الشَّافِعِي، وَالْأَكْثَر، وَنقل عَن أهل الحَدِيث؛ إِذْ مُرَاد الصَّحَابِيّ الِاحْتِجَاج بِهِ فَيحمل على صدوره مِمَّن يحْتَج(5/2015)
بقوله وَهُوَ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، [وَأَنه] هُوَ الَّذِي أَمرهم، ونهاهم، وَرخّص، وَحرم عَلَيْهِم، تبليغا عَن الله تَعَالَى، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَنه من بعض الْخُلَفَاء، لكنه بعيد فَإِن المشرع لذَلِك هُوَ صَاحب الشَّرْع.
وَخَالف الصَّيْرَفِي، والباقلاني، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ، والكرخي: الحنفيين، والإسماعيلي، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَأكْثر مالكية بَغْدَاد، وَنَقله ابْن الْقطَّان عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد: لاحْتِمَال أَن الْآمِر غير النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَذَلِكَ الناهي.(5/2016)
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِن اقْترن بِهِ أَن الْأَمر على عَهده لم يتَوَجَّه الْخلاف.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يحْتَمل أَرَادَ أَمر الله بِنَاء على تَأْوِيل أَخطَأ فِيهِ فَيخرج إِذن على كَون مذْهبه حجَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر القَاضِي أَبُو الطّيب: أَن (رخص لنا) حجَّة بِلَا خلاف، وَهُوَ ظَاهر.
وَحكى ابْن السَّمْعَانِيّ قولا بِالْوَقْفِ، وَابْن الْأَثِير قولا إِن كَانَ من أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - فمرفوع؛ لِأَنَّهُ لم يتأمر عَلَيْهِ غَيره، وَإِلَّا فَلَا.
وَفِي " شرح الْإِلْمَام ": إِن كَانَ قَائِله من أكَابِر الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ من غَيرهم فالاحتمال فِيهِ قوي.(5/2017)
قَوْله: {وَمثله: من السّنة كَذَا} ، يَعْنِي: أَن قَوْله: من السّنة كَذَا مثل قَوْله: أمرنَا أَو نهينَا، فِيهَا من الْخلاف مَا فِي ذَلِك، وَأَن الصَّحِيح أَنه حجَّة، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء.
وَكَذَا قَوْله: جرت السّنة، أَو مَضَت السّنة بِكَذَا: كَقَوْل عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: (من السّنة وضع الْكَفّ على الْكَفّ فِي الصَّلَاة تَحت السُّرَّة) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَول أنس: (من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا) مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَاخْتِيَار الصَّيْرَفِي، والكرخي، والقشيري، وَأبي الْمَعَالِي أَن قَوْله: من السّنة، لَا يَقْتَضِي سنة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.(5/2018)
وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي عَن الْمُحَقِّقين، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هُوَ مُحْتَمل عِنْد الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَكَونه مُحْتملا على سنة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْقَدِيم.
وَنَقله غَيره حَتَّى قيل: إِنَّهَا من الْمسَائِل الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بالقديم فِي الْأُصُول، لَكِن الْمَشْهُور عِنْدهم أَن هَذَا هُوَ الْجَدِيد.
وَقيل: مَوْقُوف، نَقله ابْن الصّلاح، وَالنَّوَوِيّ عَن أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ.
قَوْله: قد يكون قَوْله: من السّنة، مُسْتَحبا، كَمَا فِي حَدِيث عَليّ، وَقد يكون وَاجِبا كَمَا فِي حَدِيث أنس، فَلَيْسَ فِي الصِّيغَة تعْيين حكم من وجوب أَو غَيره.
قَوْله: وَكُنَّا نَفْعل وَنَحْوه مثل قَوْله: كُنَّا نقُول أَو نرى على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكُنَّا نقُول على عَهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُنَّا نرى، أَيْضا، كل ذَلِك حجَّة، أطلقهُ(5/2019)
أَبُو الْخطاب والموفق فِي " الرَّوْضَة "، والطوفي، وَالْحَاكِم، والرازي، وَذكره أَبُو الطّيب ظَاهر مَذْهَبهم؛ لِأَنَّهُ فِي معرض الْحجَّة، فَالظَّاهِر بُلُوغه وَتَقْرِيره.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هُوَ حجَّة إِذا كَانَ من الْأُمُور الظَّاهِرَة الَّتِي لَا يخفى مثلهَا على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. انْتهى.
وَتبع فِي ذَلِك الْمجد فِي " مسودته "، وَهُوَ تَوْجِيه احْتِمَال لِابْنِ مُفْلِح.
وَنَقله النَّوَوِيّ فِي أَوَائِل " شرح مُسلم " عَن جمَاعَة، مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا.(5/2020)
وَخَالف الْحَنَفِيَّة فَلم يَقُولُوا هِيَ حجَّة.
وَقَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ، وَابْن الصّلاح: هُوَ مَوْقُوف.
وَأطلق القَاضِي أَبُو يعلى فِي الْكِفَايَة احْتِمَالَيْنِ.
قَوْله: {فَائِدَة: لم يذكر} الأصوليون وَغَيرهم {أَنه حجَّة لتقرير الله تَعَالَى، وَذكره الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين محتجا {بقول جَابر} بن عبد الله - رَضِي الله عَنْهُمَا -: {كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل} لَو كَانَ شَيْء ينْهَى عَنهُ لنهانا عَنهُ الْقُرْآن مُتَّفق عَلَيْهِ.(5/2021)
وَهُوَ ظَاهر الدّلَالَة.
فَائِدَة: لَو قَالَ الصَّحَابِيّ: نزلت هَذِه فِي كَذَا، هَل هُوَ من بَاب الرِّوَايَة أَو الِاجْتِهَاد؟
طَريقَة البُخَارِيّ فِي " صَحِيحه " تَقْتَضِي أَنه من بَاب الْمَرْفُوع، وَأحمد فِي " الْمسند " لم يذكر مثل هَذَا. انْتهى.
قَوْله: {وَكَانُوا يَفْعَلُونَ حجَّة عندنَا، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم الْآمِدِيّ، وَغَيره، وذكروه عَن الْأَكْثَر لقَوْل عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: (كَانُوا لَا يقطعون فِي الشَّيْء التافه) .
{وَخَالف قوم} مِنْهُم بعض الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ بعض متأخري أَصْحَابنَا.(5/2022)
وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. وَلم يرتضه ابْن مُفْلِح.
وَنقل النَّوَوِيّ فِي مُقَدّمَة " مُسلم " عَن جُمْهُور الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين: أَنه مَوْقُوف. ورد قَوْله فِي ذَلِك.
وَقَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": إِن أضيف إِلَى عهد النُّبُوَّة دلّ على جَوَازه، أَو وُجُوبه على حسب مَفْهُوم لفظ الرَّاوِي؛ إِذا ذكره فِي معرض الِاحْتِجَاج يَقْتَضِي أَنه بلغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأقره عَلَيْهِ، وَإِلَّا لم يفد.
{وَقَالَ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب: إِجْمَاع أَو حجَّة} ؛ لِأَنَّهُ ظَاهر اللَّفْظ فِي معرض الْحجَّة، وَجَازَت مُخَالفَته؛ لِأَن طَرِيقه ظَنِّي كَخَبَر وَاحِد.
وَاقْتصر ابْن حمدَان فِي " مقنعه " على قَوْله: انْصَرف إِلَى فعل الْأَكْثَرين. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": ثمَّ قَوْله: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " لَا يُفِيد الْإِجْمَاع عِنْد بعض الشَّافِعِيَّة مَا لم يُصَرح بِهِ عَن أَهله، وَهُوَ نقل لَهُ عِنْد(5/2023)
أبي الْخطاب.
قَوْله: {وَسوى الْآمِدِيّ، وَابْن حمدَان، والطوفي بَين (كَانُوا) و (كُنَّا) وَهُوَ مُتَّجه} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُتَّجه، وتبعته على ذَلِك، لَكِن هُوَ أنزل من قَوْله: (كُنَّا نَفْعل على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) .
قَالَ ابْن مُفْلِح: واقتصار بعض أَصْحَابنَا على (كَانُوا) لَا يدل على التَّفْرِقَة.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: قَول غير الصَّحَابِيّ يرفعهُ أَو ينميه أَو يبلغ بِهِ أَو رِوَايَة كالمرفوع صَرِيحًا عِنْد الْعلمَاء} .
قَالَ ابْن الصّلاح: حكم ذَلِك عِنْد أهل الْعلم حكم الْمَرْفُوع صَرِيحًا،(5/2024)
وَذَلِكَ كَقَوْل سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: " الشِّفَاء فِي ثَلَاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية بِنَار ". ثمَّ قَالَ: رفع الحَدِيث، رَوَاهُ البُخَارِيّ.
وكحديث أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة يبلغ بِهِ قَالَ: (النَّاس تبع لقريش) ، وَغَيره كثير.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن أبي هُرَيْرَة رِوَايَة: " تقاتلون قوما ... " الحَدِيث.(5/2025)
وروى مَالك عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد: " كَانَ النَّاس يؤمرون أَن يضع الرجل يَده الْيُمْنَى على ذراعه الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة ".
قَالَ أَبُو حَازِم: لَا أعلم إِلَّا أَنه ينمي ذَلِك.
قَالَ مَالك [رفع] ذَلِك، هَذَا لفظ رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق القعْنبِي عَن مَالك فَقَالَ: ينمي ذَلِك إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَصرحَ بِرَفْعِهِ.(5/2026)
قَوْله: {الثَّانِيَة: قَول التَّابِعِيّ: أمرنَا، أَو نهينَا، أَو من السّنة} ، كَقَوْل الصَّحَابِيّ ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمد فِي " من السّنة " لكنه كالمرسل.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": وأصل ذَلِك الْمَرَاسِيل وفيهَا رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَو قَالَ تَابِعِيّ: من السّنة كَذَا، كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْمُرْسل، حجَّة على إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّيْخ: هما سَوَاء، وَإِن كَانَ قَول الصَّحَابِيّ أولى. انْتهى.
وَكَذَا قَالَ الطوفي فِي " من السّنة " فَقَالَ: وَقَول التَّابِعِيّ والصحابي فِي حَال حَيَاة الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبعد مَوته سَوَاء إِلَّا أَن الْحجَّة فِي قَول الصَّحَابِيّ أظهر.
قَوْله: {وَقَوله: " كَانُوا يَفْعَلُونَ " كَقَوْل الصَّحَابِيّ ذَلِك.(5/2027)
ذكره القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، وَغَيرهم، وَخَالف الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين وَقَالَ: لَيْسَ بِحجَّة؛ لِأَنَّهُ قد يَعْنِي من أدْركهُ كَقَوْل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ. يُرِيد أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود، وَأَشَارَ إِلَى أَنه وَجه لنا.(5/2028)
(قَوْله: {فصل} )
{مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ أَقسَام} . المُرَاد بذلك أَن مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ مثله فِي الرِّوَايَة لَهُ مَرَاتِب وَإِن كَانَ بَعْضهَا يكون فِي الصَّحَابِيّ كَعَكْسِهِ، وَهُوَ أَن أَلْفَاظ الصَّحَابِيّ قد يكون مِنْهَا مَا هُوَ فِي غير الصَّحَابِيّ، لَكِن الضَّرُورَة دَاعِيَة إِلَى بَيَان مُسْتَند غير الصَّحَابِيّ، والاصطلاح فِي ذَلِك وَلَو كَانَ الحكم فيهمَا سَوَاء.
قَوْله: {مِنْهَا: قِرَاءَة الشَّيْخ} والراوي عَنهُ يُسمى، سَوَاء كَانَ إملاءً أَو تحديثا من حفظه، أَو من كِتَابه، ثمَّ {الْقِرَاءَة عَلَيْهِ} .
هَذَا الصَّحِيح، أَعنِي أَن قِرَاءَة الشَّيْخ والراوي يسمع أَعلَى من الْقِرَاءَة عَلَيْهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء.(5/2029)
قَالَ ابْن مُفْلِح: ذكره فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَقَالَهُ جُمْهُور الْمُحدثين، وَغَيرهم.
وَعَن أبي حنيفَة: الْقِرَاءَة عَلَيْهِ أَعلَى من قِرَاءَة الشَّيْخ.
وَذكره بَعضهم اتِّفَاقًا، وَرُوِيَ عَن مَالك مثله، نَقله عَنهُ ابْن فَارس والخطيب.
وَالْأَشْهر عَن مَالك أَنَّهُمَا سَوَاء، وَعَلِيهِ أشياخه، وَأَصْحَابه، وعلماء الْكُوفَة، والحجاز، وَالْبُخَارِيّ.(5/2030)
وَاسْتدلَّ لأبي حنيفَة أَن الْقِرَاءَة على الشَّيْخ أبعد من الْخَطَأ والسهو، وَإِنَّمَا كَانَ أَكثر التَّحَمُّل عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بتحديثه؛ لِأَنَّهُ لَا يعلم إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ لَا يحدث إِلَّا من حفظه، وَغَيره لَيْسَ كَذَلِك.
وَأجَاب الْأَكْثَرُونَ: أَن تَجْوِيز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي صُورَة الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَهُوَ يسمع أقرب.
قَوْله: {ثمَّ قصد} - أَي الشَّيْخ - {إسماعه وَحده، أَو} قصد إسماعه {مَعَ غَيره} سَاغَ لَهُ أَن يَقُول: حَدثنَا، أَو أخبرنَا، وَقَالَ، وَسمعت، وَكَذَا يَقُول: أَنبأَنَا، ونبأنا، وَلكنه قَلِيل عِنْدهم؛ لِأَنَّهُ أشهر اسْتِعْمَالهَا فِي الْإِجَازَة فَيجوز فِي التحديث إِذا قَرَأَ الشَّيْخ أَن يَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وأنبأنا، وَسمعت فلَانا يَقُول، وَقَالَ: لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان.
وَقد نقل القَاضِي عِيَاض الْإِجْمَاع فِي هَذَا كُله؛ فَلِذَا تعقب بَعضهم على ابْن الصّلاح فِي قَوْله بعد أَن حكى ذَلِك: أَن فِيهِ نظرا، أَو أَنه يَنْبَغِي فِيمَا شاع اسْتِعْمَاله من هَذِه الْأَلْفَاظ أَن يكون مَخْصُوصًا بِمَا سمع من غير لفظ الشَّيْخ.
وَجه التعقيب عَلَيْهِ معارضته للْإِجْمَاع، وَأَنه لَا يجب على السَّامع أَن(5/2031)
يبين: هَل كَانَ السماع من لفظ الشَّيْخ أَو عرضا.
قَوْله: {وَإِن لم يقْصد} ، أَي: الشَّيْخ، الإسماع {قَالَ: حدث، وَأخْبر، وَقَالَ، وسمعته، وأنبأ، ونبأ} .
قطع بِهِ ابْن مُفْلِح وَغَيره.
قَوْله: {ثمَّ سَمَاعه} ، هَذِه الْمرتبَة الثَّالِثَة، فَإِن الأولى قِرَاءَة الشَّيْخ، وَالثَّانيَِة: قِرَاءَته على الشَّيْخ، وَهَذِه الثَّالِثَة وَهِي: سَمَاعه.
وَهُوَ: أَن يقْرَأ أحد على الشَّيْخ وَغير القاريء يسمع، وَيُسمى هَذَا عرضا كَالَّذي قبله، وَإِن كَانَ أنزل.
وَفِي الرِّوَايَة بِهِ خلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وجماهير الْعلمَاء: أَنه صَحِيح وَعَلِيهِ الْعَمَل.(5/2032)
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَوَقع الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَقبلهَا.
وَحكى الرامَهُرْمُزِي عَن أبي عَاصِم النَّبِيل: الْمَنْع.
وَحَكَاهُ الْخَطِيب عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام، وَكَذَا عبد الرَّحْمَن بن سَلام الجُمَحِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": خلافًا لبَعض الْعِرَاقِيّين، كعرض الْحَاكِم(5/2033)
وَالشَّاهِد على الْمقر وَكَرِهَهُ ابْن عُيَيْنَة وَغَيره.
{وَقيل: إِن أمسك أصل} .
شَرط بعض الْعلمَاء فِي الْعرض أَن يكون الشَّيْخ ممسكا لأصله إِن لم يكن حَافِظًا مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، أَو يمسك غير الشَّيْخ من الثِّقَات على خلاف فِي هَذَا لبَعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَفِي معنى إمْسَاك الثِّقَة أصل الشَّيْخ حفظه مَا يعرض على الشَّيْخ والثقة مستمع، أَو يكون القاريء نَفسه هُوَ الْحَافِظ فَيقْرَأ من حفظه وَالشَّيْخ يسمع.
قَوْله: {وأرفعها: سَمِعت، فحدثنا، وحَدثني، فَأخْبرنَا، فأنبأنا، ونبأنا} ، إِذا قَالَ: سَمِعت أَو حَدثنَا، كَانَ أرفع من غَيرهمَا؛ إِذْ فِيهِ احْتِرَاز من الْإِجَازَة.(5/2034)
قَالَ الْخَطِيب: أرفع الْعبارَات " سَمِعت "، ثمَّ " حَدثنَا "، و " حَدثنِي "، ثمَّ " أخبرنَا " وَهُوَ كثير فِي الِاسْتِعْمَال، ثمَّ " أَنبأَنَا " و " نبأنا "، وَهُوَ قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال. انْتهى.
وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: " أخبرنَا "، و " أَنبأَنَا " دون " حَدثنَا ".
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: " أخبرنَا " أسهل من " حَدثنَا "؛ فَإِن " حَدثنَا " شَدِيد.
وَبسط الْخلاف وتوجيهه مَحَله فِي كتب الحَدِيث.
قَوْله: {وَله إِذا سمع مَعَ غَيره قَول: حَدثنِي} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْعلمَاء.
وَعَن الإِمَام أَحْمد: أَنه أحب إِلَيّ أَن يَقُول فِي ذَلِك: حَدثنَا، إِذا سمع مَعَ النَّاس. نَقله عَنهُ الْفضل بن زِيَاد.(5/2035)
وَأما قَول " حَدثنَا " فمتفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، وَكَذَا إِذا سمع وَحده لَهُ قَول: " حَدثنَا "، وَلم أر فِيهِ خلافًا.
قَوْله: {وسكوته عِنْد الْقِرَاءَة بِلَا مُوجب من غَفلَة أَو غَيرهَا، وَقَوله: " نعم " كإقراره عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: عَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء والمحدثين. انْتهى.
قَالَ: والأحوط أَن يستنطقه بِالْإِقْرَارِ بِهِ.
وَشرط بعض الظَّاهِرِيَّة إِقْرَار الشَّيْخ بِصِحَّة مَا قريء عَلَيْهِ نطقا.
وَالصَّحِيح أَن عدم إِنْكَاره، وَلَا حَامِل لَهُ على ذَلِك من إِكْرَاه، أَو نوم، أَو غَفلَة، أَو نَحْو ذَلِك كَاف؛ لِأَن الْعرف قَاض بِأَن السُّكُوت تَقْرِير فِي مثل(5/2036)
هَذَا، وَإِلَّا لَكَانَ سُكُوته - لَو كَانَ غير صَحِيح - قادحا فِيهِ.
قَوْله: {وَيَقُول: حَدثنَا وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ} ، بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، {وَيجوز الْإِطْلَاق} فَيَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، من غير ذكر " قِرَاءَة عَلَيْهِ " {عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأبي حنيفَة، وَمَالك، والخلال، وَصَاحبه} أبي بكر عبد الْعَزِيز، {وَالْقَاضِي} أبي يعلى، {وَغَيرهم} .
وَحَكَاهُ القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ قَول عُلَمَاء الْحجاز، والكوفة، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ.(5/2037)
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة: لَا يُطلق، بل يَقُول: قِرَاءَة عَلَيْهِ.
وَقَالَهُ جمَاعَة من الْمُحدثين، مِنْهُم: ابْن مَنْدَه من أَصْحَابنَا وَغَيره، وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن يحيى، وَابْن عُيَيْنَة، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، والنيسابوري، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ كذب، كَمَا لَا يجوز قَوْله: " سَمِعت " عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء.(5/2038)
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة: يجوز قَوْله: " أخبرنَا "، وَيُطلق لَا " حَدثنَا "، وَقَالَهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وعلماء الْمشرق وَغَيرهم.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة رَابِعَة: جوازهما فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا.
وَعنهُ رِوَايَة خَامِسَة: جَوَاز " أخبرنَا " فَقَط فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا.
فهاتان الرِّوَايَتَانِ يشْتَرط فيهمَا ذَلِك، وَإِلَّا كَانَت الرِّوَايَة الرَّابِعَة تَكْرَارا؛ لأَنا قد قدمنَا أَنه لَا يجوز الْإِطْلَاق.
{وَقيل: يَقُول قَرَأت عَلَيْهِ، أَو قرئَ عَلَيْهِ وَهُوَ يسمع فَقَط إِن لم يقر نطقا} .
ذهب سليم الرَّازِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن الصّباغ،(5/2039)
وَابْن السَّمْعَانِيّ: إِلَى أَنه لَا يَقُول شَيْئا من ذَلِك إِن لم يقر الشَّيْخ نطقا، وَإِنَّمَا يَقُول: قَرَأت عَلَيْهِ أَو قرئَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يسمع، كَمَا إِذا قَرَأَ على إِنْسَان كتابا فِيهِ أَنه أقرّ بدين، أَو بيع، أَو نَحْو ذَلِك فَلم يقر بِهِ لم يجز أَن يشْهد عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا، وَقد يفرق من اطراد الْعرف فِي نَحْو ذَلِك بِخِلَاف بَاب الشَّهَادَة، فَإِنَّهُ أضيق.
قَوْله: {وَيحرم إِبْدَال} قَول الشَّيْخ: {" حَدثنَا " بأخبرنا، وَعَكسه} لاحْتِمَال أَن يكون الشَّيْخ لَا يرى التَّسْوِيَة فَيكون كذبا عَلَيْهِ.
وَعنهُ: لَا يحرم، اخْتَارَهُ الْخلال وبناه على الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، وبناؤه ظَاهر.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: أَخذهَا القَاضِي من قَوْله فِي رِوَايَة أَحْمد بن(5/2040)
عبد الْجَبَّار " حَدثنَا وَأخْبرنَا " وَاحِد، وَنَقله عَنهُ سَلمَة بن شبيب أَيْضا.
قَوْله: {وَظَاهر مَا سبق، وَقَالَهُ جمع: إِن منع الشَّيْخ الرَّاوِي من رِوَايَته عَنهُ} بِلَا قَادِح لَا يُؤثر، وَأَنه لَا يروي إِلَّا مَا سمع من الشَّيْخ فَلَا يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن سَمعه مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَخَالف هُنَا قوم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن تكلم على مَا تقدم: وَظَاهر مَا سبق أَن منع الشَّيْخ للراوي من رِوَايَته وَلم يسند ذَلِك إِلَى خطاء أَو شكّ لَا يُؤثر، وَقَالَهُ بَعضهم، ثمَّ قَالَ: وَظَاهر مَا سبق أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يروي إِلَّا مَا سَمعه من الشَّيْخ فَلَا يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَقَالَهُ جمَاعَة خلافًا لآخرين.
قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": قَالَ صَالح: قلت لأبي: الشَّيْخ(5/2041)
يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا وَلَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يروي ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا.
وَقَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن: نرى فِيمَا سقط عَنهُ من الْحَرْف الْوَاحِد وَالِاسْم مِمَّا يسمعهُ من سُفْيَان وَالْأَعْمَش، واستفهم من أَصْحَابه، أَن يرويهِ عَن أَصْحَابه، لَا نرى [غير] ذَلِك وَاسِعًا.
وَجَاء ذَلِك - أَيْضا - عَن زَائِدَة بن قدامَة قَالَ خلف بن تَمِيم:(5/2042)
سَمِعت من الثَّوْريّ عشرَة آلَاف حَدِيث أَو نَحْوهَا، فَكنت أستفهم جليسي، فَقلت لزائدة، فَقَالَ: لَا تحدث بهَا إِلَّا مَا تحفظ بقلبك وَسمع أُذُنك! قَالَ: فألقيتها.
قَوْله: {وَمن شكّ فِي سَماع حَدِيث حرم رِوَايَته} مَعَ الشَّك، ذكره الْآمِدِيّ إِجْمَاعًا؛ لِأَن الأَصْل عدم السماع؛ وَلِأَن ذَلِك شَهَادَته على شَيْخه، وَلَو اشْتبهَ بِغَيْرِهِ، لم يرو شَيْئا مِمَّا اشْتبهَ بِهِ؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا يحْتَمل أَن يكون غير المسموع، وَإِن ظن أَنه وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه، أَو أَن هَذَا مسموعه عمل بِهِ عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر عملا بِالظَّنِّ.
قيل للْإِمَام أَحْمد: الشَّيْخ يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا لَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يرْوى ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ لِإِمْكَان اعْتِبَار الْعلم بِمَا يرويهِ.(5/2043)
قَوْله: {وَمِنْهَا الْإِجَازَة، فَتجوز الرِّوَايَة بهَا عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما، وَالْأَكْثَر} .
وَحكى الباقلاني، والباجي، وَغَيرهمَا من الْأُصُولِيِّينَ: الِاتِّفَاق عَلَيْهِ.
وَاحْتج ابْن الصّلاح لَهَا بِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يروي عَنهُ مروياته فقد أخبرهُ بهَا جملَة، فَهُوَ كَمَا لَو أخبرهُ بِهِ تَفْصِيلًا، وإخباره بهَا غير مُتَوَقف على التَّصْرِيح نطقا، كَمَا فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. انْتهى.
وَيجب الْعَمَل بهَا على هَذَا كالحديث الْمُرْسل، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَغَيره.(5/2044)
ومنعها شُعْبَة، وَأَبُو زرْعَة الرَّازِيّ، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد، وَجمع كثير، مِنْهُم جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، وَجَمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الظَّاهِرِيَّة، وَنَقله الرّبيع عَن الشَّافِعِي.
قَالَ شُعْبَة: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة.
وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لَو صحت لبطل الْعلم.
وَاخْتَارَهُ القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، ونقلوه عَن نَص الشَّافِعِي، وَنقل ابْن وهب عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا أرى هَذَا يجوز، وَلَا يُعجبنِي.(5/2045)
وَقَالَ أَبُو طَاهِر الدباس الْحَنَفِيّ: من قَالَ لغيره: أجزت لَك أَن تروي عني، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أجزت لَك أَن تكذب عَليّ.
وَكَذَا قَالَ غَيره: إِنَّه بِمَنْزِلَة أبحت لَك مَا لَا يجوز فِي الشَّرْع؛ لِأَن الشَّرْع لَا يُبِيح رِوَايَة مَا لَا يسمع.
{وَعند أبي حنيفَة، وَمُحَمّد: إِن علم الْمُجِيز مَا فِي الْكتاب وَالْمجَاز لَهُ ضَابِط جَازَ، وَإِلَّا فَلَا} ؛ لما فِيهِ من صِيَانة السّنة وحفظها.
وأجازها أَبُو يُوسُف، وَذَلِكَ تَخْرِيج من كتاب القَاضِي إِلَى مثله، فَإِن علم مَا فِيهِ شَرط عِنْدهمَا دونه.
وَحكى السَّرخسِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف: الْمَنْع.
قَوْله: {وَهِي خَاص لخاص} ، الْإِجَازَة أَقسَام:
أَحدهَا: إجَازَة خَاص لخاص، كَقَوْلِه: أجزت هَذَا الْكتاب لفُلَان، وَهِي أَصَحهَا، حَتَّى ذهب بَعضهم أَنه لَا خلاف فِيهَا، وَالصَّحِيح أَن الْخلاف الْمَذْكُور يشملها.(5/2046)
الثَّانِي: {عَام لخاص} ، كَقَوْلِه: أجزت لفُلَان جَمِيع مروياتي.
وَالْخلاف فِي هَذَا النَّوْع أقوى من الَّذِي قبله، وَذهب أَبُو الْمَعَالِي إِلَى الْمَنْع؛ إِذْ قَالَ: يبعد أَن يحصل الْعلم إِلَّا بالتعويل على خطوطهم مُشْتَمِلَة على سَماع الشَّيْخ؛ فَإِن تحقق ظُهُور سَماع لموثوق بِهِ فَذَلِك وهيهات. انْتهى.
وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز، وَغَايَة مَا قَالَه استبعاد.
الثَّالِث: {عَكسه} ، وَهِي خَاص لعام، كَقَوْلِه: أجزت للْمُسلمين أَو لمن أدْرك حَياتِي، أَو لكل أحد كتابي الْفُلَانِيّ.
الرَّابِع: عكس الأول {و} وَهِي {عَام لعام} ، كَقَوْلِه: أجزت جَمِيع مروياتي لكل أحد.
ذكر هذَيْن الْقسمَيْنِ القَاضِي أَبُو يعلى، وَغَيره، وَقَالَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا فِي جَمِيع مَا يرويهِ لمن أَرَادَهُ.(5/2047)
وَهَذَا الرَّابِع دون الَّذِي قبله، وَقد مَنعه جمَاعَة، وَجوزهُ الْخَطِيب وَغَيره، وَفعله ابْن مَنْدَه وَغَيره، قَالَ: أجزت لمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَكَانَ ابْن الْقطَّان وَغَيره يمِيل إِلَى الْجَوَاز، وَجوز أَبُو الطّيب الْإِجَازَة لجَمِيع الْمُسلمين من كَانَ مِنْهُم مَوْجُودا عِنْد الْإِجَازَة.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: لم نرو، وَلم نسْمع عَن أحد مِمَّن يقْتَدى بِهِ اسْتعْمل هَذِه الْإِجَازَة إِلَّا عَن الشرذمة المجوزة، وَالْإِجَازَة فِي أَصْلهَا ضعف، وتزداد بِهَذَا التَّوَسُّع ضعفا كثيرا لَا يَنْبَغِي احْتِمَاله.
وَقَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": مِمَّن أجازها: أَبُو الْفضل بن خيرون الْبَغْدَادِيّ، وَابْن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(5/2048)
رشد الْمَالِكِي، والسلفي، وَغَيرهم، وَرجحه ابْن الْحَاجِب، وَصَححهُ النَّوَوِيّ من زِيَادَة " الرَّوْضَة "، وَغَيره.
قَوْله: {وَلَا يجوز لمعدوم تبعا لموجود} : كأجزت لفُلَان وَلمن يُولد لَهُ، أَو أجزت لَك ولولدك، أَو لعقبك مَا تَنَاسَلُوا، فِي ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ غَيرهم؛ لِأَنَّهَا محادثة أَو إِذن فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف الْوَقْف.(5/2049)
وأجازها أَبُو بكر بن أبي دَاوُد من أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة، كَمَا تجوز الْإِجَازَة لطفل لَا سَماع [لَهُ] ، ولمجنون فِي أصح قولي الْعلمَاء؛ لِأَنَّهَا إِبَاحَة للرواية كَمَا تجوز للْغَائِب.
قَالَ ابْن أبي دَاوُد لما سُئِلَ الْإِجَازَة: وَقد أجزت لَك ولأولادك ولحبل الحبلة، يَعْنِي لمن يُولد بعد.
وَأما الْكَافِر فقد صححوا تحمله إِذا أَدَّاهُ بعد الْإِسْلَام كَمَا تقدم، فَالْقِيَاس جَوَاز الْإِجَازَة لَهُ، ثمَّ إِذا أسلم يرويهِ بِالْإِجَازَةِ.
وَقد وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي زمن الْحَافِظ أبي الْحجَّاج الْمزي بِدِمَشْق، وَكَانَ طَبِيب يُسمى مُحَمَّد بن عبد السَّيِّد يسمع الحَدِيث - وَهُوَ يَهُودِيّ - على أبي عبد الله بن عبد الْمُؤمن الصُّورِي، وَكتب اسْمه فِي طَبَقَات السماع مَعَ النَّاس.
وَأَجَازَ ابْن عبد الْمُؤمن لمن سَمعه وَهُوَ من جُمْلَتهمْ، وَكَانَ السماع وَالْإِجَازَة بِحَضْرَة الْمزي الْحَافِظ وَبَعض السماع بقرَاءَته وَلم يُنكره، ثمَّ هدى(5/2050)
الله الْيَهُودِيّ لِلْإِسْلَامِ وَحدث بِمَا أُجِيز وَتحمل الطلاب عَنهُ.
قَالَ الْحَافِظ عبد الرَّحِيم الْعِرَاقِيّ: ورأيته وَلم أسمع مِنْهُ.
قَوْله: {وَلَا تجوز لمعدوم أصلا عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، نَحْو: أجزت لمن يُولد لفُلَان؛ وَلِأَن الْإِجَازَة فِي حكم الْإِخْبَار جملَة بالمجاز كَمَا تقدم، فَكَمَا لَا يَصح الْإِخْبَار للمعدوم لَا تصح إِجَازَته.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة كالوقف عندنَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّحِيح الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْي القَاضِي أبي الطّيب وَابْن الصّباغ أَنه لَا يَصح.(5/2051)
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيره، وَنَظِيره فِي الْوَقْف لَا يجوز عندنَا، وَأَجَازَهُ أَصْحَاب مَالك وَأبي حنيفَة فجوزوا الْوَقْف على من سيولد أَو يُوجد من نسل فلَان. انْتهى.
وَأَجَازَ هَذِه الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة القَاضِي أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، وَابْن عمروس من الْمَالِكِيَّة، والخطيب من الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ صَاحب " الْمُغنِي " جَوَاز الْوَقْف فقد يتَوَجَّه(5/2052)
احْتِمَال تَخْرِيج، يَعْنِي بِصِحَّة الْإِجَازَة على هَذِه الصّفة من اخْتِيَار صَاحب " الْمُغنِي " فِي الْوَقْف.
تَنْبِيه: مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم تكن الْإِجَازَة للمعدوم على الْعُمُوم: كأجزت لمن يُوجد بعد ذَلِك فَلَا يَصح بِالْإِجْمَاع، وَكَأَنَّهَا إجَازَة من مَعْدُوم لمعدوم، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَلَا لمجهول وَلَا بِمَجْهُول} . لَا تجوز الْإِجَازَة لمجهول: كأجزت لرجل من النَّاس، أَو لفُلَان ويشترك فِي ذَلِك الِاسْم جمع.
وَلَا تجوز الْإِجَازَة أَيْضا بِمَجْهُول من مروياته: كأجزت لَك أَن تروي عني شَيْئا، أَو بعض مروياتي، أَو كتاب السّنَن مثلا. {وَجوز القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن عمروس الْمَالِكِي " أجزت لمن يَشَاء فلَان "} ، وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك، وَهُوَ عدم الصِّحَّة لما فِيهِ من الْجَهَالَة وَالتَّعْلِيق.(5/2053)
وَقد أفتى أَبُو الطّيب وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إجَازَة لمجهول، قَالَ: كَقَوْلِه: أجزت بعض النَّاس.
تَنْبِيه: لَيْسَ من هَذِه الْإِجَازَة لمسميين مُعينين بأنسابهم والمخبر جَاهِل بأعيانهم فَلَا يقْدَح كَمَا لَا يقْدَح عدم مَعْرفَته بِمن هُوَ خَاص يسمع بشخصه، وَكَذَا لَو جَازَ للمسمين فِي الاستجازة وَلم يعرفهُمْ بأعيانهم، وَلَا بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا تصفحهم وَاحِدًا وَاحِدًا.
قَوْله: {وَيَقُول: أجَاز لي فلَان} ، حَيْثُ صححنا الْإِجَازَة، اخْتلف فِيمَا يَقُول الرَّاوِي بِالْإِجَازَةِ، فَإِن قَالَ: أجَاز لي، أَو أجَاز لنا فَهُوَ الأجود، {وَيجوز} قَوْله: {" حَدثنَا وَأخْبرنَا إجَازَة "} عِنْد أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء.
{وَمنع قوم فِي " حَدثنَا "} فَلَا يَقُول فِي الْإِجَازَة: " حَدثنَا، وَلَكِن(5/2054)
يَقُول: أخبرنَا إجَازَة فَقَط.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجوز أَبُو نعيم، وَأَبُو عبد الله المرزباني أَن يَقُول: " أخبرنَا " دون " حَدثنَا "، وَأَجَازَهُ قوم مُطلقًا، يَعْنِي سَوَاء قَالَ: حَدثنَا، أَو أخبرنَا إجَازَة أَو لم يقل إجَازَة، وَكَانَ يفعل ذَلِك أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي.
قلت: وَفِيه بعد وإيهام أَن يكون بِالتَّحْدِيثِ على الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
قَوْله: {وَتجوز إجَازَة الْمجَاز بِهِ فِي الْأَصَح} : كأجزت لَك مجازاتي، أَو أجزت لَك مَا أُجِيز لي رِوَايَته.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْعَمَل خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين.(5/2055)
وَقد كَانَ الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي يروي بِالْإِجَازَةِ عَن الْإِجَازَة، وَعَلِيهِ الْعَمَل إِلَى زَمَاننَا هَذَا.
قَوْله: {وَلَا يجوز لما يتحمله} فِي الْمُسْتَقْبل أَن يُجِيزهُ قبل أَن يتحمله {ليرويه عَنهُ إِذا تحمله فِي الْأَصَح} .
قَالَ القَاضِي عِيَاض: لم أرهم تكلمُوا فِيهِ، وَرَأَيْت بعض العصريين يَفْعَله، قَالَ عبد الْملك الطبني: كنت عِنْد القَاضِي أبي الْوَلِيد يُونُس(5/2056)
بقرطبة فَسَأَلَهُ إِنْسَان الْإِجَازَة بِمَا رَوَاهُ وَمَا يرويهِ من بعد، فَلم يجبهُ، فَغَضب، فَقلت: يَا هَذَا {يعطيك مَا لم يَأْخُذ؟} فَقَالَ أَبُو الْوَلِيد: هَذَا جوابي. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ الصَّحِيح، وصححناه تبعا لما صححوه.
قَوْله: {وَمِنْهَا المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن} .
هَذَا الْقسم يُسمى عرض المناولة، كَمَا أَن سَماع الشَّيْخ يُسمى عرض الْقِرَاءَة، وَهِي نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: مَا ذكرنَا وَهِي المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن، وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة.
قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي " الإلماع ": جَائِزَة بِالْإِجْمَاع.
وَكَذَا قَالَ الْمَازرِيّ: لَا شكّ فِي وجوب الْعَمَل بِهِ. انْتهى.(5/2057)
لَكِن الصَّيْرَفِي حكى الْخلاف فِي الْمَسْأَلَة، وَأَن الْمَانِع خرجه على الشَّهَادَة: كَمَا فِي الصَّك، وَلم يقْرَأ على الشُّهُود عَلَيْهِ، بل قَالَ: اشهدا عَليّ بِمَا فِيهِ، فَإِن القَوْل بِمَنْعه مَشْهُور كَمَا ذَكرُوهُ فِي الْكتاب إِلَى القَاضِي.
وَمِمَّا اسْتدلَّ للمناولة بِدُونِ الْقِرَاءَة مَا قَالَه البُخَارِيّ: إِن بعض أهل الْحجاز احْتَجُّوا عَلَيْهَا بِحَدِيث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيْثُ كتب لأمير السّريَّة كتابا، قَالَ: لَا تَقْرَأهُ حَتَّى تبلغ مَكَان كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا بلغ ذَلِك الْمَكَان قَرَأَهُ على النَّاس، وَأخْبرهمْ بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
لَكِن أَشَارَ الْبَيْهَقِيّ إِلَى أَنه لَا حجَّة فِيهِ، وَهُوَ ظَاهر لاحْتِمَال أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَيكون وَاقعَة عين يسْقط مِنْهَا الِاسْتِدْلَال للاحتمال.(5/2058)
وأمير السّريَّة هُوَ عبد الله بن جحش المجدع فِي الله، وَذَلِكَ فِي رَجَب فِي السّنة الثَّانِيَة، والْحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرِيّ مَرْفُوعا.
وَصفَة هَذَا النَّوْع: أَن يُجِيزهُ بِشَيْء نَاوَلَهُ إِيَّاه بِأَن يدْفع الشَّيْخ إِلَى الطَّالِب أصل مرويه، أَو فرعا مُقَابلا بِهِ وَيَقُول لَهُ: هَذَا سَمَاعي أَو مرويي بطرِيق كَذَا فاروه عني، أَو أجزته لَك أَن ترويه عني ثمَّ يملكهُ إِيَّاه بطرِيق أَو يعيره لَهُ، يَنْقُلهُ، ويقابله بِهِ.
وَفِي مَعْنَاهُ: أَن يَجِيء الطَّالِب بذلك للشَّيْخ ابْتِدَاء ويعرضه عَلَيْهِ فيتأمله الشَّيْخ الْعَارِف اليقظ وَيَقُول: نعم، هَذَا مسموعي، أَو روايتي(5/2059)
بطرِيق كَذَا، فاروه عني، أَو أجزته لَك، أَو يُعْطِيهِ شَيْئا من تصانيفه فَيَقُول: اروه عني.
وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة - كَمَا تقدم -، لكنه لَيْسَ كالسماع، بل منحط عَنهُ، وَهُوَ الصَّحِيح.
حَكَاهُ الْحَافِظ عَن فُقَهَاء الْإِسْلَام الْمُفْتِينَ فِي الْحَلَال وَالْحرَام: الشَّافِعِي وصاحبيه الْمُزنِيّ والبويطي، وَأحمد، وَإِسْحَاق،(5/2060)
وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن يحيى، قَالَ: وَعَلِيهِ عهدنا أَئِمَّتنَا، وَإِلَيْهِ نَذْهَب.
وَأما مُقَابِله: فَقَوْل الزُّهْرِيّ، وَرَبِيعَة، وَيحيى بن سعيد، وَمَالك، وَمُجاهد، وَأبي الزبير، وَابْن(5/2061)
عُيَيْنَة، وَقَتَادَة، وَأبي الْعَالِيَة، وَابْن وهب، وَآخَرين - نَقله الْبرمَاوِيّ عَنْهُم - فَيكون عِنْد هَؤُلَاءِ كالسماع.
قَوْله: {وَهِي أَعلَى من الْإِجَازَة} - أَي الْمُجَرَّدَة - {فِي الْأَصَح} ، وَهُوَ الرَّاجِح الَّذِي عَلَيْهِ المحدثون، وَإِن كَانَ الأصوليون خالفوهم فِي ذَلِك كَمَا صرح بِهِ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ.
وَقَالُوا: المناولة لَيْسَ شرطا وَلَيْسَ فِيهَا مزِيد تَأْكِيد، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَة تكلّف أحدثه بعض الْمُحدثين.
قَوْله: {وبمجردها} هَذَا النَّوْع الثَّانِي من المناولة، وَهُوَ مُجَرّد المناولة العاري عَن الْإِجَازَة وَالْإِذْن، {لَا يجوز عندنَا، وَعند الْأَكْثَر.(5/2062)
قَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {إِنَّمَا نَص الإِمَام أَحْمد فِي مناولة مَا عرفه الْمُحدث} .
وأصل المناولة لُغَة: الْإِعْطَاء بِالْيَدِ. ثمَّ اسْتعْملت عِنْد الْمُحدثين وَغَيرهم فِي إِعْطَاء كتاب أَو ورقة مَكْتُوبَة، وَنَحْو ذَلِك.
وَيَقُول المناول: هَذَا سَمَاعي من قبل فلَان أَو مرويي عَنهُ بطرِيق كَذَا.
وَسَوَاء قَالَ مَعَ ذَلِك: خُذْهُ، أَو نَاوَلَهُ ساكتا، فَإِذا لم يَنْضَم إِلَيْهَا إِذن وَلَا إجَازَة تسمى المناولة الْمُجَرَّدَة، وَالَّذِي رَجحه الْأَكْثَر أَن الرِّوَايَة لَا تصح بهَا.
وَحكى الْخَطِيب عَن قوم أَنهم صححوها، وَبِه قَالَ ابْن الصّباغ.(5/2063)
قَالَ الْهِنْدِيّ: وَكَلَام الرَّازِيّ صَرِيح فِيهِ، وَكَلَام غَيره يدل على الْمَنْع.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّهَا إجَازَة مجملة لَا تجوز الرِّوَايَة بهَا.
وعابها غير وَاحِد من الْفُقَهَاء والأصوليين على الْمُحدثين.
قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح الْمَنْع عَن الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء.
قَوْله: {و} لم ير {الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة} ، وهم: الإِمَام أَبُو حنيفَة، وَالْإِمَام الشَّافِعِي، وَالْإِمَام أَحْمد، وَأكْثر الْعلمَاء، {إِطْلَاق " حَدثنَا " و " أخبرنَا " فِيهَا} ، أَي: فِي المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن.(5/2064)
{وَجوزهُ الزُّهْرِيّ، وَمَالك} ، وَجمع؛ لِأَنَّهَا كالسماع عِنْدهم، كَمَا تقدم عَنْهُم.
قَوْله: {وَيَكْفِي اللَّفْظ بِلَا مناولة} . يَعْنِي لَو كَانَ الْكتاب بيد الْمجَاز لَهُ أَو على الأَرْض، وَنَحْوه جَازَ، وَلَا يشْتَرط فِيهَا فعل المناولة؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لَهُ.
قَوْله: {وَمِنْهَا الْمُكَاتبَة مَعَ الْإِجَازَة فِي الْأَصَح} .
من الْأَقْسَام: الْمُكَاتبَة، بِأَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى غَيره سَمِعت من فلَان كَذَا، للمكتوب إِلَيْهِ إِذا علم خطه، أَو ظَنّه بِإِخْبَار عدل أَنه خطه، أَو شَاهده يكْتب، أَن يعْمل بِهِ وَيَرْوِيه عَنهُ.(5/2065)
قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": الْمُكَاتبَة أَن يكْتب الشَّيْخ شَيْئا من حَدِيثه بِخَطِّهِ، أَو يَأْمر غَيره فَيكْتب عَنهُ بِإِذْنِهِ سَوَاء كتبه، أَو كتب عَنهُ إِلَى غَائِب عَنهُ، أَو حَاضر عِنْده.
فهذان نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن يُجِيزهُ مَعَ ذَلِك فَتجوز الرِّوَايَة بِهِ على الصَّحِيح، كالمناولة.
وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِنَّه كالسماع؛ لِأَن الْكِتَابَة أحد اللسانين، وَقد كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبلغ الْغَائِب بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يكْتب إِلَى عماله تَارَة وَيُرْسل أُخْرَى.
وَمنع قوم من الرِّوَايَة بِالْكِتَابَةِ مُطلقًا، مِنْهُم: الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ وأجابا عَن كتب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن الِاعْتِمَاد على إِخْبَار الْمُرْسلَة على يَده، وَنقل إِنْكَار ذَلِك عَن الدَّارَقُطْنِيّ.(5/2066)
قَوْله: {وبدونها} ، أَي: بِدُونِ الْإِجَازَة بل كتبه إِلَيْهِ يُخبرهُ بذلك فَقَط، وَهُوَ النَّوْع الثَّانِي.
{وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، والخلال الْجَوَاز} ، فَإِن أَبَا مسْهر وَأَبا تَوْبَة كتبا إِلَيْهِ بِأَحَادِيث وَحدث بهَا، وَهُوَ الْأَشْهر للمحدثين، وَاخْتَارَهُ كثير من الْمُتَقَدِّمين حَتَّى قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة.
وَجزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ". وَفِي " البُخَارِيّ " فِي كتاب الْأَيْمَان(5/2067)
وَالنُّذُور: كتب إِلَى مُحَمَّد بن بشار. وَفِي " مُسلم ": عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص كتب إِلَى جَابر بن سَمُرَة.
وللشافعية خلاف عملا بِالْقَرِينَةِ، وَأَنَّهَا تَضَمَّنت الْإِجَازَة، وَقد تقدم مَا فِيهَا مَعَ الْإِجَازَة فَمَعَ عدمهَا الْخلاف أقوى.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يرويهِ إِلَّا بتسليط الشَّيْخ كَقَوْلِه: فاروه عني، أَو أجزت لَك رِوَايَته.(5/2068)
قَوْله: {وَيَكْفِي معرفَة خطه عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} .
تقدم أَنه يَكْفِي معرفَة خطه بطرق، مِنْهَا: أَن يعرف خطه. وَمِنْهَا: أَن يَظُنّهُ، وَيَكْفِي الظَّن فِي ذَلِك بِإِخْبَار عدل. وَمِنْهَا: أَن يُشَاهِدهُ يكْتب ذَلِك، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَقد حكى أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان عَن بَعضهم أَن لَا يَكْفِي فِي ذَلِك إِلَّا شَاهِدَانِ على الْكَاتِب بِأَنَّهُ كتبه على حد شَرط كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، وَتقدم ذَلِك قَرِيبا.
قَوْله: {وَلَا يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " " وَأخْبرنَا " فِيهَا خلافًا لقوم} .(5/2069)
الأول هُوَ الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، بل يَقُول: كتب إِلَيّ، أَو أَخْبرنِي كِتَابه.
وَجوز الْفَخر الرَّازِيّ أَن يُطلق " أَخْبرنِي " وَإِن لم يقل كِتَابه، وَجرى عَلَيْهِ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان " فَجعل قَول الرَّاوِي " كِتَابَة " أدبا، لَا شرطا، وَنقل نَحْو ذَلِك عَن اللَّيْث بن سعد أَنه يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " و " أخبرنَا ".
قَوْله: {وَمُجَرَّد قَول الشَّيْخ: هَذَا سَمَاعي أَو روايتي، لَا تجوز رِوَايَته عَنهُ بذلك عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} من الْمُحدثين، والآمدي، وَغَيرهم، وَبِه قطع أَبُو حَامِد الطوسي من الشَّافِعِيَّة، كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بِهِ الْغَزالِيّ، فَإِنَّهُ كَذَلِك فِي(5/2070)
" الْمُسْتَصْفى ". قَالَ: لِأَنَّهُ لم يَأْذَن فِي الرِّوَايَة فَلَعَلَّهُ لَا يجوز الرِّوَايَة؛ لخلل يعرفهُ فِيهِ، وَإِن سَمعه. انْتهى.
وَذهب جمع كثير إِلَى الْجَوَاز، مِنْهُم: ابْن جريج، وَعبد الله الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة - وَأَصْحَابه المدنيون، وَطَائِفَة من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين، وَأهل الظَّاهِر، وَابْن الصّباغ، وَنَصره أَيْضا الْوَلِيد بن بكر الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَيْضا - فِي كتاب " الوجازة " لَهُ.(5/2071)
وَجوزهُ أَبُو مُحَمَّد بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي قَالَ: حَتَّى لَو قَالَ: هَذِه روايتي وَلَكِن لَا تَرَوْهَا وَلَا أجيزه، لم يضرّهُ ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَمَا قَالَه صَحِيح لَا يَقْتَضِي النّظر سواهُ؛ لِأَن مَنعه لَا لعِلَّة، وَلَا لريبة لَا يُؤثر فَهُوَ من الَّذِي لَا يرجع فِيهِ.
ورده ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ كالشاهد قد يسمع من يذكر شَيْئا فِي غير مجْلِس الحكم لَيْسَ لَهُ أَن يشْهد على شَهَادَته إِذا لم يَأْذَن لَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ مِمَّا تَسَاوَت فِيهِ الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. انْتهى.
وَاعْلَم أَن هَذَا كُله فِي جَوَاز الرِّوَايَة، أما الْعَمَل بِمَا أخبرهُ الشَّيْخ أَنه سَمَاعه، أَو مرويه فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِذا صَحَّ إِسْنَاده، كَمَا جزم بِهِ ابْن الصّلاح، وَحكى عِيَاض عَن محققي أَصْحَاب الْأُصُول أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
قَوْله: {وَلَا تجوز بِالْوَصِيَّةِ} بكتبه فِي الْأَصَح، أَي:(5/2072)
لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْوَصِيَّةِ بكتبه، مثل أَن يُوصي قبل مَوته، أَو عِنْد سَفَره بِشَيْء من مروياته لشخص.
فَعَن بعض السّلف أَنه يجوز للْمُوصى لَهُ أَن يرويهِ عَن الْمُوصي.
قَالَ أَيُّوب لمُحَمد بن سِيرِين: إِن فلَانا أوصى إِلَيّ بكتبه أفأحدث بهَا عَنهُ؟ قَالَ: نعم. ثمَّ قَالَ لي بعد ذَلِك: لَا آمُرك وَلَا أَنهَاك.
قَالَ حَمَّاد: وَكَانَ أَبُو قلَابَة قَالَ: ادفعوا كتبي إِلَى أَيُّوب: إِن كَانَ حَيا وَإِلَّا فأحرقوها.
وَعلل ذَلِك القَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ نوع من الْإِذْن.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهَذَا بعيد جدا، وَهُوَ إِمَّا زلَّة عَالم، أَو مؤول على أَنه أَرَادَ أَن يكون ذَلِك على سَبِيل الوجادة.
وَأنكر عَلَيْهِ ابْن أبي الدَّم ذَلِك وَقَالَ: الْوَصِيَّة أرفع رُتْبَة من الوجادة(5/2073)
بِلَا خلاف، وَهِي مَعْمُول بهَا عِنْد الشَّافِعِي وَغَيره. انْتهى.
فعلى القَوْل بِالْعَمَلِ يَنْبَغِي أَن يُصَرح بذلك، فَيَقُول: أوصى إِلَيّ فلَان أَن أروي عَنهُ كَذَا، وَلَا يُطلق " حَدثنَا "، و " أخبرنَا "، وَكَذَا فِي الْإِعْلَام.
قَوْله: {وَلَو وجد شَيْئا بِخَط الشَّيْخ لم تجز رِوَايَته عَنهُ} ، لَكِن يَقُول: وجدت بِخَط فلَان. وَتسَمى الوِجادة - بِكَسْر الْوَاو - مصدر مُؤَكد لوجد.
قَالَ الْمعَافى بن زَكَرِيَّا النهرواني: إِن المولدين ولدوه، وَلَيْسَ عَرَبيا جَعَلُوهُ مباينا لمصادر " وجد " الْمُخْتَلفَة الْمَعْنى، وكما ميزت الْعَرَب بَين مَعَانِيهَا، فرق هَؤُلَاءِ بَين مَا قصدوه من هَذَا النَّوْع وَبَين تِلْكَ، فمادة " وجد " متحدة الْمَاضِي والمضارع مُخْتَلفَة المصادر بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي، فَيُقَال فِي الْغَضَب: موجدة، وَفِي الْمَطْلُوب: وجودا، وَفِي الضَّالة: وجدانا، وَفِي(5/2074)
الْحبّ: وَجدا - بِالْفَتْح - وَفِي المَال: وُجدانا - بِالضَّمِّ -، وَفِي الْغنى: جِدة - بِكَسْر الْجِيم وَتَخْفِيف الدَّال الْمَفْتُوحَة على الْأَشْهر فِي جَمِيع ذَلِك.
وَقَالُوا أَيْضا فِي الْمَكْتُوب: وجادة، وَهِي مولدة، وَزيد فِي الْغَضَب أَيْضا: جدة، وَفِي الْغنى: اجدانا، ذكره ابْن حجر وَغَيره.
والوجادة فِي الِاصْطِلَاح: أَن يحدث الحَدِيث أَو نَحوه بِخَط من يعرفهُ، ويثق بِأَنَّهُ خطه حَيا كَانَ أَو مَيتا.
فَأَما الرِّوَايَة بِهِ فَيَقُول: {وجدت بِخَط فلَان} كَذَا، وَإِذا لم يَثِق بذلك يَقُول: ذكر أَنه خطّ فلَان، وَلَا يَقُول: " حَدثنَا "، و " أخبرنَا " خلافًا لمن جازف فِي إِطْلَاق ذَلِك.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا تجوز الرِّوَايَة بِرُؤْيَة خطّ الشَّيْخ سَمِعت كَذَا سَوَاء قَالَ: هَذَا خطي، أَو لم يقل} . وَأَن أَبَا الْخطاب قَالَ: نَص(5/2075)
أَحْمد على جَوَازه، كَذَا قَالَ. انْتهى.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا أعلم أحدا مِمَّن يقْتَدى بِهِ أجَاز ذَلِك، وَإِنَّمَا أَن يَقُول: عَن فلَان.
قَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه تَدْلِيس قَبِيح إِذا كَانَ يُوهم سَمَاعه مِنْهُ.
قَوْله: {فَائِدَة:
يجب الْعَمَل بِمَا ظن صِحَّته من ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم فَلَا يتَوَقَّف الْعَمَل على رِوَايَتهَا.(5/2076)
قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لعمل الصَّحَابَة على كتبه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": قَالَه الشَّافِعِي ونظار أَصْحَابه، وَنَصره الْجُوَيْنِيّ، وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الَّذِي لَا يتَّجه غَيره فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: أَكثر الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء من(5/2077)
الْمَالِكِيَّة وَغَيرهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِهِ.
تَنْبِيه: بل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم يكن لَهُ بِمَا وجده رِوَايَة، وَصرح بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره.
وَمِمَّا يدل على كَونهم ذكرُوا ذَلِك عقب الوجادة.
وَأما إِذا كَانَ لَهُ رِوَايَة بِمَا وجده فالاعتماد على الرِّوَايَة، لَا على الوجادة، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمن رأى سَمَاعه وَلم يذكرهُ فَلهُ رِوَايَته وَالْعَمَل بِهِ إِذا عرف الْخط عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَأبي يُوسُف، وَمُحَمّد} ، وَغَيرهم، لما سبق.(5/2078)
وَخَالف أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا تجوز حَتَّى يذكر سَمَاعه. قلت: نظيرها لَو رأى الشَّاهِد خطه بِشَهَادَة، أَو الْحَاكِم خطه بِحكم وَلم يذكراه، هَل للشَّاهِد أَن يشْهد، وللحاكم أَن ينفذ حكمه أم لَا.
فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد، وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَالْمُخْتَار عَدمه.
فعلى الأول قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يعْمل بِهِ إِذا ظَنّه خطه، فَيَكْفِي ظَنّه، وَهَذَا الصَّحِيح، ونقلوه عَمَّن أجَاز الرِّوَايَة.
وَقَالَ الْمجد: لَا يعْمل بِهِ إِلَّا إِذا تحَققه، وَقطع بِهِ فِي " المسودة ".
وَنقل الأول ابْن مُفْلِح، ثمَّ قَالَ: وَلِهَذَا قيل لِأَحْمَد: فَإِن أَعَارَهُ من لم يَثِق بِهِ؟ فَقَالَ: كل ذَلِك أَرْجُو. فَإِن الزِّيَادَة فِي الحَدِيث لَا تكَاد تخفي؛ لِأَن الْأَخْبَار مَبْنِيَّة على حسن الظَّن وغلبته.(5/2079)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَالْأَكْثَر تجوز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى للعارف} بِمَا يحِيل الْمَعْنى.
هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وجماهير الْعلمَاء مُطلقًا، وَعَلِيهِ الْعَمَل.
وَقد روى ابْن مَنْدَه فِي " معرفَة الصَّحَابَة " من حَدِيث عبد الله بن(5/2080)
سُلَيْمَان بن أكيمَة اللَّيْثِيّ، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسمع مِنْك الحَدِيث لَا أَسْتَطِيع أَن أرويه كَمَا سمعته مِنْك يزِيد حرفا أَو ينقص حرفا، فَقَالَ: إِذا لم تحلوا حَرَامًا، وَلَا تحرموا حَلَالا، وأصبتم الْمَعْنى فَلَا بَأْس.
فَذكر ذَلِك لِلْحسنِ، فَقَالَ: لَوْلَا هَذَا مَا حَدثنَا.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: مَا زَالَ الْحفاظ يحدثُونَ بِالْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة - على مَا يَأْتِي -:
{وَعنهُ: لَا} يجوز، {اخْتَارَهُ جمع} من الْعلمَاء، مِنْهُم: مُحَمَّد بن سِيرِين، وثعلب من الْحَنَابِلَة، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ من(5/2081)
الْحَنَفِيَّة، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي، والقشيري عَن مُعظم الْمُحدثين وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَنَقله القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن الظَّاهِرِيَّة، وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ عَن ابْن عمر، وَجمع من التَّابِعين، وَبِه أجَاب الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.
وَنقل عَن مَالك أَيْضا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي نَقله عَن ابْن عمر، وَمن مَعَه من التَّابِعين: فِيهِ نظر؛ فَإِنَّهُ لم يَصح عَنْهُم سوى مُرَاعَاة اللَّفْظ، فَلَعَلَّهُ اسْتِحْبَاب، أَو لغير عَارِف، فَإِنَّهُ إِجْمَاع فيهمَا.(5/2082)
{وَجوزهُ الْمَاوَرْدِيّ إِن نسي اللَّفْظ} ؛ لِأَنَّهُ قد تحمل اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَعجز عَن أَحدهمَا فَيلْزمهُ إِذن الآخر، وَجعل مَحل الْخلاف فِي الصَّحَابِيّ، وَقطع فِي غَيره بِالْمَنْعِ.
{وَقيل:} يجوز {إِن كَانَ مُوجبه علما} ، فَهَذَا القَوْل مفصل: وَهُوَ إِن كَانَ مُقْتَضَاهُ علما جَازَ، وَإِن اقْتضى عملا فَمِنْهُ مَا لَا يجوز الْإِخْلَال بِهِ كَقَوْلِه: تَحْرِيمهَا التَّكْبِير وتحليلها التَّسْلِيم، وَخمْس تقتل فِي الْحل وَالْحرم.
وَحَكَاهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَجها لبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي.
وَقيل: يجوز ذَلِك للصحابة فَقَط، وَتقدم ذَلِك عَن الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من النَّاس، وَقيل: يجوز ذَلِك فِي الْأَحَادِيث الطوَال دون الْأَحَادِيث الْقصار، حُكيَ عَن القَاضِي عبد الْوَهَّاب.(5/2083)
{وَقيل: يجوز للاحتجاج لَا التَّبْلِيغ} فيورد على وَجه الِاحْتِجَاج والفتيا لَا التَّبْلِيغ فَلَا يجوز لظَاهِر حَدِيث الْبَراء، قَالَه ابْن حزم فِي الإحكام.
{وَقيل} يجوز {بِلَفْظ مرادف} فَقَط، فَلَا يجوز بِغَيْرِهِ، اخْتَارَهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ.
{وَمنع أَبُو الْخطاب إِبْدَاله بأظهر مِنْهُ معنى أَو أخْفى} لجَوَاز قصد الشَّارِع التَّعْرِيف بذلك.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": قَالَ أَبُو الْخطاب: وَلَا يُبدل الرَّاوِي بِالْمَعْنَى لفظا بأظهر مِنْهُ؛ لِأَن الشَّاعِر إِنَّمَا قصد إِيصَال الحكم إِلَى الْمُكَلّفين بِاللَّفْظِ الْجَلِيّ تَارَة تسهيلا للفهم عَلَيْهِم وباللفظ الْخَفي أُخْرَى تكثيرا لأجرهم بإجادة النّظر فِيهِ.
قلت: وَكَذَا بِالْعَكْسِ وَأولى، أَي: كَذَلِك لَا يُبدل لفظا بِلَفْظ أخْفى مِنْهُ، وَهُوَ أولى بِعَدَمِ الْجَوَاز مِمَّا ذكره أَبُو الْخطاب.
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي الْوَاضِح} : إِبْدَاله {بِالظَّاهِرِ أولى، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: يجوز بأظهر اتِّفَاقًا} لجوازه [بِغَيْر] عَرَبِيَّة وَهِي أتم بَيَانا.(5/2084)
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز لَيْسَ بِكَلَام الله، وَهُوَ وَحي، وَإِلَّا فَكَلَامه} يَعْنِي وَإِن لم يجز فَهُوَ كَلَامه، {هَذَا إِن روى مُطلقًا، وَإِن بَين النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن الله أَمر أَو نهى فكالقرآن.
وَقَالَ ابْن أبي مُوسَى، وحفيد القَاضِي وَغَيرهمَا: مَا كَانَ خَبرا عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَه فَحكمه كالقرآن} .
اسْتدلَّ للْجُوَاز بِعَمَل السّلف من غير نَكِير مِنْهُم فَهُوَ إِجْمَاع.
وَقد تقدم أَن الإِمَام أَحْمد قَالَ: مَا زَالَ الْحفاظ يحدثُونَ بِالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة مستدلا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْن مَنْدَه.
وَقد روى عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة التَّصْرِيح بذلك، وَلأَحْمَد بِإِسْنَاد حسن عَن وَاثِلَة: إِذا حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ على مَعْنَاهُ فحسبكم.(5/2085)
وروى الْخلال هَذَا الْمَعْنى عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا، وَحدث ابْن مَسْعُود عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَدِيثا فَقَالَ: أَو دون ذَلِك، أَو فَوق ذَلِك أَو قَرِيبا من ذَلِك.
وَكَانَ أنس إِذا حدث عَنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَو كَمَا قَالَ.
إسنادهما صَحِيح، رَوَاهُمَا ابْن ماجة، وَكَذَلِكَ نقلت وقائع متحدة بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة.
وَلِأَنَّهُ يجوز تَفْسِيره بعجمية إِجْمَاعًا فبعربية أولى، ولحصول الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَعْنى، وَلِهَذَا لَا يجب تِلَاوَة اللَّفْظ وَلَا ترتيبه بِخِلَاف الْقُرْآن وَالْأَذَان وَنَحْوه.(5/2086)
وَاحْتج أَصْحَابنَا بِجَوَازِهِ فِي كَلَام غَيره عَلَيْهِ السَّلَام لتَحْرِيم الْكَذِب فيهمَا.
رد بِالْخِلَافِ فِيهِ، ثمَّ بِالْفرقِ.
قَالُوا: نضر الله امْرَءًا ... ، وَسبق ذَلِك فِي شُرُوط الرَّاوِي.
رد: لَا وَعِيد، ثمَّ أَدَّاهُ كَمَا سَمعه بِدَلِيل تَرْجَمته، أَو لغير عَارِف.
قَالُوا: يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَاف الْمَعْنى؛ لتَفَاوت الأفهام، وَلِهَذَا لما علم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَراء بن عَازِب عِنْد النّوم: " آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت، وبنبيك الَّذِي أرْسلت ". قَالَ: وَرَسُولك، قَالَ: لَا، وَنَبِيك. مُتَّفق عَلَيْهِ.
رد: إِنَّمَا يجوز لمن علم الْمَعْنى.
وَفَائِدَة قَوْله للبراء: عدم الالتباس بِجِبْرِيل، أَو الْجمع بَين لَفْظِي النُّبُوَّة والرسالة.(5/2087)
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الْجَواب عَن حَدِيث الْبَراء من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن الرَّسُول كَمَا يكون من الْأَنْبِيَاء يكون من الْمَلَائِكَة.
الثَّانِي: أَن تضمن قَوْله: " وَرَسُولك " النُّبُوَّة بطرِيق الِالْتِزَام، فَأَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُصَرح بِذكرِهِ النُّبُوَّة.
الثَّالِث: الْجمع بَين لَفْظِي النُّبُوَّة والرسالة. انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الْبرمَاوِيّ وَغَيره: إِذا قُلْنَا تجوز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى فلهَا شُرُوط:
أَحدهَا: كَون الرَّاوِي عَارِفًا بدلالات الْأَلْفَاظ وَاخْتِلَاف مواقعها.
وَالثَّانِي: أَن لَا يكون متعبدا بِلَفْظِهِ كالقرآن قطعا وكالتشهد فَلَا يجوز نقل أَلْفَاظه بِالْمَعْنَى اتِّفَاقًا. نَقله الكيا، وَالْغَزالِيّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْن برهَان، وَابْن فورك، وَغَيرهمَا.
وَالثَّالِث: أَن لَا يكون من الْمُتَشَابه؛ ليَقَع الْإِيمَان بِلَفْظِهِ من غير تَأْوِيل أَو بِتَأْوِيل على المذهبين، فروايته بِالْمَعْنَى يُؤَدِّي إِلَى خلل على الرِّوَايَتَيْنِ.(5/2088)
وَالرَّابِع: أَن لَا يكون من جَوَامِع الْكَلم، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" الْخراج بِالضَّمَانِ "، " وَالْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي "، و " العجماء جَبَّار "، و " لَا ضَرَر وَلَا ضرار "، و " لَا ينتطح فِيهَا عنزان "، و " حمي(5/2089)
الْوَطِيس " وَنَحْوه مِمَّا لَا ينْحَصر، وَنقل بعض الْحَنَفِيَّة فِيهِ خلافًا عَن بعض مشائخهم.
قَوْله: {تَنْبِيه: مَحل الْخلال فِي غير الْكتب المصنفة لما فِيهِ من تَغْيِير تصنيفه، وَقَالَهُ ابْن الصّلاح وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّ المُرَاد بِالْخِلَافِ فِي غير ذَلِك. انْتهى.
قَالَ ابْن الصّلاح: لَا نرى الْخلاف جَارِيا وَلَا أجراه النَّاس فِيمَا نعلم فِيمَا تضمنه بطُون الْكتب، فَلَيْسَ لأحد أَن يُغير لفظ شَيْء من كتاب، وَيثبت فِيهِ بدله لفظا آخر بِمَعْنَاهُ؛ فَإِن الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى رخص فِيهَا من رخص لما كَانَ عَلَيْهِم فِي ضبط الْأَلْفَاظ، والجمود عَلَيْهَا من الْحَرج، وَالنّصب وَذَلِكَ غير مَوْجُود فِيمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ بطُون الأوراق والكتب؛ وَلِأَنَّهُ إِن ملك تَغْيِير اللَّفْظ فَلَيْسَ يملك تَغْيِير تصنيف غَيره. انْتهى.(5/2090)
وَتعقبه ابْن دَقِيق الْعِيد بِأَنَّهُ قَالَ: فَأَقل مَا فِيهِ أَنه يَقْتَضِي تَجْوِيز هَذَا فِيمَا ينْقل من المصنفات فِي أجزائنا وتخاريجنا، وَأَنه لَيْسَ فِيهِ تَغْيِير المُصَنّف، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا جَارِيا على الِاصْطِلَاح، فَإِن الِاصْطِلَاح على أَن [لَا] تغير الْأَلْفَاظ بعد الِانْتِهَاء إِلَى الْكتب المصنفة سَوَاء رويناها فِيهَا أَو نقلناها مِنْهَا. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ بعض شُيُوخنَا وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نسلم أَن يَقْتَضِي جَوَاز التَّغْيِير فِيمَا نَقَلْنَاهُ إِلَى تخاريجنا بل لَا يجوز نَقله عَن ذَلِك الْكتاب إِلَّا بِلَفْظِهِ دون مَعْنَاهُ، سَوَاء فِي مصنفاتنا وَغَيرهَا. انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة:
إِبْدَال الرَّسُول بِالنَّبِيِّ وَعَكسه عِنْد أَحْمد وَالْقَاضِي وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم} ، وَنَصّ على ذَلِك الإِمَام أَحْمد فِيمَا رَوَاهُ(5/2091)
عَنهُ عمر المغازلي، وَقَالَ صَالح: قلت لأبي: يكون فِي الحَدِيث: " قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَيجْعَل الْإِنْسَان " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "! قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس.
وَاقْتصر على التَّعْلِيق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": هَذِه الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على الْمَسْأَلَة قبلهَا، يَعْنِي على جَوَاز رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، فَمن أجازها أجَاز الْإِبْدَال وَمن لَا فَلَا.
قلت: قد منع ابْن الصّلاح وَغَيره جَوَاز الْإِبْدَال مَعَ تجويزهم رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، فَدلَّ على أَنَّهَا غير مَبْنِيَّة، وَقد فرق الْعلمَاء بَين النَّبِي وَالرَّسُول بفروق كَثِيرَة.
وَأجَاب أَحْمد بِأَن الرسَالَة طرأت على النُّبُوَّة، وَلم يكن رَسُولا وَأرْسل كشعيب، نَقله عَنهُ ابْن مُفْلِح.(5/2092)
(قَوْله: {فصل} )
لَو كذب أصل فرعا - قَالَ ابْن الباقلاني - أَو غلطه لم يعْمل بِهِ عندنَا، وَعند الْأَكْثَر، وَحكي إِجْمَاعًا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: حَكَاهُ جمَاعَة إِجْمَاعًا لكذب أَحدهمَا.
وَنقل عَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، لكنهما على عدالتهما فَلَا تبطل بِالشَّكِّ، فَلَو شَهدا عِنْد حَاكم فِي وَاقعَة قبلا؛ لِأَن قَوْله لَا يقْدَح فِي(5/2093)
عَدَالَته؛ لِأَنَّهُ عدل، وتكذيبه قد يكون لظن مِنْهُ، أَو غَيره.
{وَاخْتَارَ جمَاعَة الْعَمَل بِهِ} ، مِنْهُم: ابْن الْقطَّان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، وَابْن السُّبْكِيّ - فِي " جمع الْجَوَامِع " - والبرماوي فِي " منظومته " و " شرحها "؛ لِأَن الْفَرْع قد يضْبط وَيكون الشَّيْخ نَاسِيا فينكره اعْتِمَادًا على غَلَبَة ظَنّه أَنه مَا أخبرهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحَالِف على غَلَبَة ظَنّه، وَالْأَمر بِخِلَافِهِ لَا يَحْنَث.
ووقف أَبُو الْمَعَالِي فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ: إِن قطع بكذبه وغلطه تَعَارضا ووقف الْأَمر على مُرَجّح بَين الْخَبَرَيْنِ لتعارض قطع الشَّيْخ بكذب الرَّاوِي، وَقطع الرَّاوِي بِأَن الشَّيْخ رَوَاهُ لَهُ.
وَقَالَ ابْن الباقلاني: إِن كذبه أَو غلطه لم يعْمل بِهِ، وَحَكَاهُ عَن الشَّافِعِي.(5/2094)
قَوْله: {وَإِن أنكرهُ، وَلم يكذبهُ عمل بِهِ عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَمَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَمُحَمّد، وَالْأَكْثَر} ، وَهُوَ الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ عدل جازم غير مكذب، كموت الأَصْل أَو جُنُونه.
وروى سعيد عَن الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد،(5/2095)
ونسيه سُهَيْل، وَقَالَ: حَدثنِي ربيعَة عني.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن الدَّرَاورْدِي قَالَ: فَذكرت ذَلِك لسهيل فَقَالَ: أَخْبرنِي ربيعَة وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة، إِنِّي حدثته إِيَّاه وَلَا أحفظه، وَكَانَ سُهَيْل يحدثه بعد عَن ربيعَة عَنهُ عَن أَبِيه.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَإِسْنَاده جيد، وَلم يُنكر ذَلِك.
فَإِن قيل: فَأَيْنَ الْعَمَل بِهِ؟
قيل: مَذْكُور فِي معرض الْحجَّة، ثمَّ فَإِنَّهُ إِذا جَازَ أَن يعْمل بِهِ ثَبت أَنه حق يجب الْعَمَل بِهِ.
{وَعنهُ: لَا} يعْمل بِهِ.
{وَقَالَهُ أَبُو حنيفَة، وَأَبُو يُوسُف، والكرخي} ، والرازي، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة: وَلذَلِك ردوا خبر " أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل "؛(5/2096)
لِأَن رَاوِيه الزُّهْرِيّ وَقَالَ: لَا أذكرهُ.
وَكَذَلِكَ حَدِيث سُهَيْل فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين.
وَقَالَ أَرْبَاب هَذَا القَوْل: كَالشَّهَادَةِ إِذا نسي شَاهد الأَصْل.
أجابوا: بِأَن الشَّهَادَة أضيق.
قَالَ ابْن مُفْلِح: {وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: عُمُوم كَلَام أَحْمد يَقْتَضِي وَلَو جحد الْمَرْوِيّ عَنهُ} ؛ لِأَن الْإِنْكَار يَشْمَل الْقسمَيْنِ.
وَقيل: إِن غلب نسيانه، واعتاد ذَلِك قبل، وَإِلَّا فَلَا، حَكَاهُ أَبُو زيد الدبوسي.
وَقيل: إِن كَانَ هُنَاكَ دَلِيل مُسْتَقل لم يعْمل بِهِ، وَإِلَّا عمل بِهِ، حَكَاهُ ألكيا وَحسنه.
وَقيل يجوز لكل أحد أَن يرويهِ إِلَّا الَّذِي نَسيَه لكَون الْمَرْء لَا يعْمل بِخَبَر أحد عَن فعل نَفسه كَمَا فِي الْمُصَلِّي يُنَبه على مَا لَا يَعْتَقِدهُ.(5/2097)
(قَوْله: {فصل} )
{تقبل زِيَادَة ثِقَة ضَابِط لفظا أَو معنى} . يَعْنِي سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة فِي الحَدِيث فِي اللَّفْظ أَو فِي الْمَعْنى تقبل {إِن تعدد الْمجْلس إِجْمَاعًا} ، قَالَه ابْن مُفْلِح.
قَالَ الأبياري، وَابْن الْحَاجِب، والهندي: بِلَا خلاف.
لَكِن انتقد عَلَيْهِ ذَلِك بِأَن ابْن السَّمْعَانِيّ قد أجْرى فِيهَا الْخلاف.
قلت: وَإِن وجد خلاف فَهُوَ شَاذ ضَعِيف لَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
{وَإِن اتَّحد} الْمجْلس {وَفِيه} جمَاعَة {لَا يتَصَوَّر غفلتهم} عَادَة {لم تقبل عِنْد الْأَكْثَر، مِنْهُم: أَبُو الْخطاب، وَابْن حمدَان} فِي(5/2098)
" مقنعه "، وَذكره بَعضهم إِجْمَاعًا.
{وَقيل: أَو كَانَت تتوفر الدَّوَاعِي على نقلهَا} ، اخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، والتاج السُّبْكِيّ، والبرماوي، وألحقوها بِمَا إِذا كَانَ فِي الْمجْلس جمَاعَة لَا تتَصَوَّر غفلتهم، وَهُوَ قوي فِي النّظر.
{وَعنهُ: تقبل، اخْتَارَهُ القَاضِي وَغَيره} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ ظَاهر مَا ذكره القَاضِي، وَجَمَاعَة وذكروه عَن أَحْمد، وَجَمَاعَة الْفُقَهَاء والمتكلمين.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن أَصْحَابنَا، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء والمحدثين، قَالَ: وَلِهَذَا قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خبر(5/2099)
الْأَعرَابِي عَن رُؤْيَة الْهلَال مَعَ انْفِرَاده، وَقبل خبر ذِي الْيَدَيْنِ، وَأبي بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُم -، وَإِن انفردوا عَن جَمِيع الروَاة.
وَمِمَّنْ نقل عَنهُ إِطْلَاق الْقبُول مَالك، حَكَاهُ عَنهُ عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص ".
وَجرى على الْإِطْلَاق ابْن الْقطَّان، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَان "، وَالْغَزالِيّ فِي " الْمُسْتَصْفى "، وَأَبُو إِسْحَاق فِي " اللمع "، وَابْن برهَان، وَابْن الْقشيرِي.(5/2100)
قَوْله: {وَإِن تصورت غفلتهم قبلت} ، وَهَذَا الصَّحِيح، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء، مِنْهُم ابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِن اسْتَوَى الْعدَد قدم بِزِيَادَة حفظ وَضبط وثقة، فَإِن اسْتَويَا، فَذكر شَيخنَا - يَعْنِي بِهِ القَاضِي أَبَا يعلى - رِوَايَتَيْنِ، ثمَّ ضعف مَأْخَذ رُوَاة عدم الْقبُول.
وَأطلق القَاضِي فِي " الْعدة " أَن زِيَادَة ثِقَة فِي حَدِيث تقبل، وَأَن أَحْمد نَص على الْأَخْذ بِالزَّائِدِ فِي مَوَاضِع، وردهَا جمَاعَة من الْمُحدثين، وَعَن أَحْمد نَحوه.(5/2101)
وَإِنَّمَا ذكر كَلَام أَحْمد فِي وقائع إِلَّا رِوَايَة ابْن الْقَاسِم فِي فَوَات الْحَج فِيهِ زِيَادَة دم.
قَالَ أَحْمد: الزَّائِد أولى أَن يُؤْخَذ بِهِ، قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبنَا فِي الْأَحَادِيث إِذا كَانَت الزِّيَادَة فِي أَحدهمَا أَخذنَا بِالزِّيَادَةِ.
وَكَذَا أطلقهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ عَن جُمْهُور الْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث.
وَذكره بعض الشَّافِعِيَّة مَذْهَب الشَّافِعِي وللمالكية وَجْهَان، وَخص بَعضهم رِوَايَة عدم قبُولهَا عَن أَحْمد؛ لمخالفتها ظَاهر الْمَزِيد عَلَيْهِ،(5/2102)
وَبَعْضهمْ؛ لمُخَالفَته رِوَايَة الْجُمْهُور، وَفِي " الْوَاضِح " إِنَّهَا إِن خَالَفت الْمَزِيد عَلَيْهِ ردَّتْ، وَلَيْسَ مَسْأَلَة الْخلاف.
اسْتدلَّ للقبول بِأَنَّهُ عدل جازم فَقبل، وَلَا نسلم مَانِعا؛ إِذْ الأَصْل عَدمه، وَمن ترك الزِّيَادَة يحْتَمل أَنه لشاغل أَو سَهْو أَو نِسْيَان.
وقاس أَصْحَابنَا على الشَّهَادَة، لَو شهد ألف أَنه أقرّ بِأَلف وَاثْنَانِ بِأَلفَيْنِ ثبتَتْ الزِّيَادَة.
قَالَ الْمُخَالف: الظَّاهِر الْغَلَط؛ لِتَفَرُّدِهِ مَعَ احْتِمَال مَا سبق فِيهِ.
رد: قَوْلنَا أرجح؛ بِدَلِيل انْفِرَاده بِخَبَر، وبالشهادة، والسهو فِيمَا سَمعه أَكثر مِنْهُ فِيمَا لم يسمعهُ.
قَوْله: {وَإِن جهل الْمجْلس} ، يَعْنِي هَل فِيهِ من يتَصَوَّر غفلته، أَو لَا يتَصَوَّر غفلته؟ وَهل هُوَ فِي مجْلِس أَو مجَالِس؟(5/2103)
وعَلى كل حَال فَالصَّحِيح الْقبُول، وَهُوَ ظَاهر " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا، وَقطع بذلك الْبرمَاوِيّ وَقَالَ: هُوَ كَمَا إِذا تعدد الْمجْلس.
قَالَ ابْن مُفْلِح: هَذَا أولى، فَظَاهر كَلَام القَاضِي وَغَيره أَنه كاتحاد الْمجْلس، وَقَالَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، فَيعْطى حكمه.
{وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {كَلَام أَحْمد، وَغَيره مُخْتَلف فِي الوقائع وَأهل الحَدِيث أعلم} .
قَوْله: {وَإِن خَالَفت الزِّيَادَة للمزيد عَلَيْهِ تَعَارضا فيرجح.
ذكره القَاضِي وَغَيره} ، وَنَقله الأبياري عَن قوم وَأطلق(5/2104)
آخَرُونَ من أَصْحَابنَا، وَغَيرهم، وَنقل الأبياري عَن قوم تَقْدِيم الزِّيَادَة، قَالَ: وَهُوَ الظَّاهِر عندنَا، إِذْ لم يكن بُد من تطرق الْوَهم إِلَى أَحدهمَا لِاسْتِحَالَة صدقهما وَامْتنع الْحمل على تعمد الْكَذِب، لم يبْق إِلَّا الذهول وَالنِّسْيَان وَالْعَادَة ترشد إِلَى أَن نِسْيَان مَا جرى أقرب من تخيل مَا لم يجر وَحِينَئِذٍ فالمثبت أولى.
وَقَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": إِن خَالَفت الْمَزِيد عَلَيْهِ ردَّتْ، وَلَيْسَت مَسْأَلَة الْخلاف كَمَا تقدم.
قَالَ ابْن الصّلاح: إِن الزِّيَادَة إِذا خَالَفت مَا رَوَاهُ الثِّقَات فَهِيَ مَرْدُودَة.
{وَعند أبي الْحُسَيْن: إِن غيرت الْمَعْنى لَا الْإِعْرَاب قبلت وَإِلَّا فَلَا} .(5/2105)
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شَرحه ": إِذا غيرت الزِّيَادَة الْإِعْرَاب تَعَارضا كَمَا هُوَ الْحق عِنْد الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه، وَحَكَاهُ الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر، قَالَ: لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يروي غير مَا رَوَاهُ الآخر فَيكون نافيا لَهُ، مِثَاله: لَو روى راو فِي كل أَرْبَعِينَ شَاة شَاة، وروى آخر نصف شَاة فيتعارضان.
وَخَالف أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، لَكِن الَّذِي فِي " الْمُعْتَمد " عَنهُ قبُول الزِّيَادَة، سَوَاء أثرت فِي اللَّفْظ أَو لَا، إِذا أثرت فِي الْمَعْنى، وَأَن القَاضِي عبد الْجَبَّار يقبلهَا إِذا أثرت فِي الْمَعْنى دون مَا إِذا أثرت فِي إِعْرَاب اللَّفْظ.
وَقَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: إِن غيرت الزِّيَادَة إِعْرَاب الْكَلَام وَمَعْنَاهُ تَعَارضا، مثل أَن يروي أَحدهمَا " صَدَقَة الْفطر صَاعا من بر " وروى الآخر " نصف صَاع من بر "، وَإِن غيرت الْمَعْنى دون الْإِعْرَاب، كَقَوْل الآخر: صَاعا من بر بَين الِاثْنَيْنِ قبلت الزِّيَادَة. انْتهى.(5/2106)
قَوْله: {وَلَو رَوَاهُ مرّة، وَتركهَا أُخْرَى فكتعدد الروَاة} ، قَالَه ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، والبرماوي، وَغَيرهم. مَا تقدم فِيمَا إِذا كَانَت الزِّيَادَة من بعض الروَاة دون بعض، وَمَا ذكر هُنَا فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي للزِّيَادَة هُوَ السَّاكِت عَنْهَا فِي مرّة أُخْرَى، فَالْحكم فِيهَا يجْرِي كتعدد الروَاة حَتَّى يفصل فِيهِ بَين اتِّحَاد سماعهَا من الَّذِي روى عَنهُ وتعدده، وَالْمرَاد مَا أمكن جَرَيَانه من الشُّرُوط والأقوال لَا مَا لَا يُمكن، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ": إِن روى الزِّيَادَة مرّة، وَلم يروها أُخْرَى فالاعتبار لِكَثْرَة المرات وَإِن تَسَاوَت قبلت.
وَنقل الباقلاني، وَابْن الْقشيرِي عَن قوم أَنَّهَا ترد من الرَّاوِي الْوَاحِد، وَلَا ترد من أحد الروايين.
وَقَالَ ابْن الصّباغ فِي الْوَاحِد: إِن صرح بِأَنَّهُ سمع النَّاقِص فِي مجْلِس(5/2107)
وَالزَّائِد فِي آخر قبلت، وَإِن عزاهما لمجلس وَاحِد، وتكررت رِوَايَته بِغَيْر زِيَادَة، ثمَّ روى الزِّيَادَة، فَإِن قَالَ: كنت نسيت هَذِه الزِّيَادَة قبل مِنْهُ، وَإِن لم يقل ذَلِك وَجب التَّوَقُّف فِي الزِّيَادَة.
فَائِدَة: مِثَال زِيَادَة ثِقَة سكت عَنْهَا بَقِيَّة الثِّقَات حَدِيث أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَوْله: " قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذا قَالَ العَبْد: الْحَمد لله رب الْعَالمين. يَقُول الله تَعَالَى: حمدني عَبدِي ... " حَدِيث صَحِيح، ثمَّ روى عبد الله بن زِيَاد بن سمْعَان عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة الْخَبَر وَذكر فِيهِ: " فَإِذا قَالَ العَبْد: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَالَ تَعَالَى: ذَكرنِي عَبدِي " تفرد بِالزِّيَادَةِ عبد الله، وَفِيه مقَال.(5/2108)
وَحَدِيث ابْن عمر فِي صَدَقَة الْفطر: " أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن نخرج صَدَقَة الْفطر صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر " انْفَرد سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِزِيَادَة " أَو صَاع من قَمح ".
وَحَدِيث ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من شرب(5/2109)
من إِنَاء من ذهب أَو فضَّة فَإِنَّمَا يجرجر فِي جَوْفه نَار جَهَنَّم "، زَاد فِيهِ يحيى بن مُحَمَّد الْجَارِي، عَن زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن مُطِيع عَن أَبِيه عَن جده عَن ابْن عمر: " أَو إِنَاء فِيهِ شَيْء من ذَلِك ".
وَمثل زِيَادَة الرَّاوِي مرّة، وَتركهَا أُخْرَى: حَدِيث سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن(5/2110)
طَلْحَة بن يحيى بن طَلْحَة بن عبيد الله بِسَنَدِهِ إِلَى عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -، قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقلت: إِنَّا خبأنا لَك حَيْسًا، فَقَالَ: " أما أَنِّي كنت أُرِيد الصَّوْم، وَلَكِن قربيه "، وأسنده الشَّافِعِي عَن سُفْيَان هَكَذَا.
وَرَوَاهُ عَن سُفْيَان شيخ باهلي، وَزِيَادَة فِيهِ: " وَأَصُوم يَوْمًا مَكَانَهُ " ثمَّ عرضته عَلَيْهِ قبل مَوته بِسنة فَذكر هَذِه الزِّيَادَة.
قَوْله: {وَلَو أسْندهُ، وأرسله غَيره، أَو وَصله، وقطعه غَيره، أَو رَفعه، وَوَقفه غَيره فكالزيادة، ذكره} القَاضِي {فِي " الْعدة "، وَغَيرهَا} ؛(5/2111)
لِأَنَّهُ زِيَادَة، وَيَأْتِي أَن البُخَارِيّ قَالَ فِي الْمُرْسل والمسند: الحكم لمن وَصله.
وَذكر أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الأولى وَالثَّانيَِة وَقطع بِأَنَّهُ يقبل مُطلقًا من غير بِنَاء على الزِّيَادَة وَقَالَ: لم يمْنَع من قبُوله على الرِّوَايَتَيْنِ.
{وَعَن أهل الحَدِيث: الحكم لمن أرْسلهُ} ، حَكَاهُ عَنْهُم الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
قَوْله: {وَلَو فعله راو وَاحِد قبل مُطلقًا، قطع بِهِ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَحكي عَن الشَّافِعِيَّة خلافًا لبَعض الْمُحدثين} . لَو فعل ذَلِك(5/2112)
راو وَاحِد بِأَن أسْندهُ تَارَة، وأرسله أُخْرَى، أَو وَصله تَارَة، وقطعه أُخْرَى، أَو رَفعه تَارَة وَوَقفه أُخْرَى قبل، قطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَغَيره، قَالَ أَبُو الْخطاب: لِأَن الرَّاوِي إِذا صَحَّ عِنْده الْخَبَر أفتى بِهِ تَارَة، وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُخْرَى.
وَحَكَاهُ بعض أَصْحَابنَا عَن الشَّافِعِيَّة، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَقطع بِهِ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه فِيمَا إِذا كَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا. وَخَالف بعض الْمُحدثين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَحَكَاهُ فِي " منهاج الْبَيْضَاوِيّ " قولا فِي الْمَسْأَلَة، وَعلله فَقَالَ: لِأَن إهماله يدل على الضعْف.
وَحمله ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمِنْهَاج " على مَا إِذا كَانَ من شَأْنه إرْسَال الْأَخْبَار وأسنده.
وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ فِي " شَرحه ": اعْلَم أَن الرَّاوِي إِذا أرسل حَدِيثا مرّة ثمَّ أسْندهُ أُخْرَى أَو وَقفه على الصَّحَابِيّ ثمَّ رَفعه فَلَا إِشْكَال فِي(5/2113)
قبُوله، وَبِه جزم الإِمَام وَأَتْبَاعه.
وَأما إِذا كَانَ الرَّاوِي من شَأْنه إرْسَال الْأَحَادِيث إِذا رَوَاهَا فاتفق أَنه روى حَدِيثا مُسْندًا فَفِي قبُوله مذهبان فِي " الْمَحْصُول " وَالْحَاصِل من غير تَرْجِيح، وَهَذِه هِيَ مَسْأَلَة الْكتاب فَافْهَم ذَلِك، أرجحهما عِنْد المُصَنّف قبُوله لوُجُود شَرطه وَعلله.
وَالْمذهب الثَّانِي: لَا يقبل؛ لِأَن إهماله لاسم الروَاة يدل على علمه بضعفهم؛ إِذْ لَو علم عدالتهم لصرح بهم، وَلَا شكّ أَن تَركه للراوي مَعَ علمه خِيَانَة وغش، فَإِنَّهُ إِيقَاع فِي الْعَمَل بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَإِذا كَانَ خائنا لم تقبل رِوَايَته مُطلقًا، هَذَا حَاصِل مَا قَالَه الإِمَام.
وَالْجَوَاب: أَن ترك الرَّاوِي قد يكون لنسيان اسْمه أَولا لإيثار الِاخْتِصَار. انْتهى كَلَام الْإِسْنَوِيّ.
فَائِدَة: مِثَال مَا إِذا أسْند، وَأرْسل غَيره: إِسْنَاد إِسْرَائِيل بن يُونُس(5/2114)
عَن جده أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي بردة عَن أَبِيه عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، حَدِيث: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي بردة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقضى البُخَارِيّ لمن وَصله، وَقَالَ زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة.
وَمِثَال من رفع ووقف غَيره حَدِيث مَالك فِي الْمُوَطَّأ " عَن أبي النَّضر عَن بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت مَوْقُوفا عَلَيْهِ: " أفضل صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إِلَّا الْمَكْتُوبَة ".(5/2115)
وَخَالفهُ مُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن سعيد بن أبي هِنْد وَغَيرهمَا فَرَوَوْه عَن أبي النَّضر مَرْفُوعا، وَمثل ذَلِك كثير.(5/2116)
(قَوْله: {فصل} )
يسن نقل الحَدِيث بِكَمَالِهِ} بِلَا نزاع بَين الْعلمَاء، {فَإِن ترك بعضه وَلم يتَعَلَّق بِالْبَاقِي جَازَ} عِنْد أَكثر الْعلمَاء، مِنْهُم الإِمَام أَحْمد، وَالْإِمَام مَالك، وَالْإِمَام الشَّافِعِي وَغَيرهم، كأخبار مُتعَدِّدَة.
وَقيل: لَا يجوز.
وَقيل: إِن نقل بِتَمَامِهِ مرّة جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقيل: إِن كَانَ الحَدِيث مَشْهُورا بِتَمَامِهِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.(5/2117)
قَوْله: {وَإِلَّا لم يجز} ، يَعْنِي إِذا تعلق الْبَاقِي بِمَا تَركه لم يجز {إِجْمَاعًا} ؛ لبُطْلَان الْمَقْصُود مِنْهُ نَحْو الْغَايَة وَالِاسْتِثْنَاء وَنَحْوهمَا.
كنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى تزهي، فَيتْرك: حَتَّى تزهي.
وَكَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْفضة بِالْفِضَّةِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء " فَيتْرك إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء.
وَكَذَلِكَ الصّفة، نَحْو: " فِي الْغنم السَّائِمَة الزَّكَاة ".
أَو كَانَ فِيهِ تَغْيِير معنوي، كَمَا فِي النّسخ، نَحْو: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن(5/2118)
زِيَارَة الْقُبُور فزوروها "، أَو بَيَان للمجمل فِيهِ، أَو تَخْصِيص للعام، أَو تَقْيِيد للمطلق، وَنَحْو ذَلِك، فَلَا يجوز تَركه إِجْمَاعًا.
قَوْله: {يجب الْعَمَل بِحمْل الصَّحَابِيّ وَعنهُ أَو التَّابِعِيّ زَاد جمَاعَة أَو بعض الْأَئِمَّة، مَا رَوَاهُ على أحد محمليه المتنافيين عندنَا وَعند الْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: عندنَا، وَعند عَامَّة الْفُقَهَاء.
هَذِه الْمَسْأَلَة تعرف بِمَا إِذا قَالَ رَاوِي الحَدِيث فِيهِ شَيْئا، هَل يقبل أَو يعْمل بِالْحَدِيثِ؟(5/2119)
وَلها أَحْوَال، مِنْهَا: أَن يكون الْخَبَر عَاما فيحمله الرَّاوِي على بعض أَفْرَاده - وَيَأْتِي ذَلِك فِي تَخْصِيص الْعَام - أَو يَدعِي تقييدا فِي مُطلق، فكالعام يخصصه، أَو يَدعِي نسخه - وَيَأْتِي فِي النّسخ - أَو يُخَالِفهُ بترك نَص الحَدِيث، كَرِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي الولوغ سبعا، وَقَوله: " يغسل ثَلَاثًا ".
وَبَعْضهمْ يمثل بذلك لتخصيص الْعَام، وَلَا يَصح؛ لِأَن الْعدَد نَص فِيهِ، وَهَذِه تَأتي فِي كَلَام الْمَتْن قَرِيبا.
وَمِنْهَا: مَسْأَلَة الْكتاب، وَهُوَ أَن يروي الصَّحَابِيّ خَبرا مُحْتملا لمعنيين، ويحمله على أَحدهمَا، فَإِن تنافيا كالقرء، يحملهُ الرَّاوِي على الْأَطْهَار - مثلا - وَجب الرُّجُوع إِلَى حمله عملا بِالظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا، وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، كالأستاذين أبي إِسْحَاق، وَأبي مَنْصُور، وَابْن فورك، والكيا، وسليم، وَنَقله أَبُو الطّيب عَن مَذْهَب(5/2120)
الشَّافِعِي؛ وَلِهَذَا رَجَعَ إِلَى تَفْسِير ابْن عمر فِي التَّفَرُّق فِي خِيَار الْمجْلس بالأبدان، وَإِلَى تَفْسِيره حَبل الحبلة بِبيعِهِ إِلَى نتاج النِّتَاج، وَإِلَى قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - فِي هَاء وهاء أَنه التَّقَابُض فِي مجْلِس العقد.
{وَخَالف أبي بكر الرَّازِيّ} من الْحَنَفِيَّة، حكى السَّرخسِيّ عَن أبي بكر الرَّازِيّ أَنه لَا يعْمل بِحمْل الصَّحَابِيّ كتفسير ابْن عمر تَفْرِيق الْمُتَبَايعين بالأبدان.(5/2121)
{وَقيل: لَا يجب} الْحمل، {فيجتهد فَإِن لم يظْهر شَيْء وَجب} .
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يبعد أَن لَا يجب الْعَمَل بِحمْلِهِ، فَيعْمل بِالِاجْتِهَادِ، فَإِن لم يظْهر شَيْء وَجب الْعَمَل بِحمْلِهِ، وللمالكية خلاف.
{قَالَ بعض أَصْحَابنَا: الْمَسْأَلَة فرع على أَن قَوْله لَيْسَ بِحجَّة} .
تَنْبِيه:
قَوْله: {وَعنهُ والتابعي} ، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَفِي وجوب الرُّجُوع إِلَى التَّابِعِيّ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد ذكرهمَا أَبُو الْخطاب وَغَيره، وَتَأَول القَاضِي رِوَايَة الْوُجُوب.(5/2122)
وَاخْتَارَ ابْن عقيل لَا يجب.
والاقتصار فِي المسالة على الصَّحَابِيّ هِيَ طَريقَة الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، ورجحها الْقَرَافِيّ، لَكِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ، والرازي، وَغَيرهمَا فرضوها فِي الرَّاوِي، سَوَاء كَانَ صحابيا أَو غَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ورجحها كثير، لَكِن بِشَرْط أَن يكون الرَّاوِي من الْأَئِمَّة.
قَوْله: {وَغير الْمنَافِي كمشترك فِي الْحمل} .
اعْلَم أَنه إِذا لم يكن بَين الْمَعْنيين تناف فَإِن قُلْنَا: اللَّفْظ الْمُشْتَرك ظَاهر فِي(5/2123)
جَمِيع محامله، كالعام فتعود الْمَسْأَلَة إِلَى التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ، وَإِن قُلْنَا: لَا يحمل على جَمِيعهَا، فَفِي " البديع ": يحمل فِيهِ على مَا حمله رَاوِيه وعينه؛ لِأَن الظَّاهِر أَنه لم يحملهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِقَرِينَة، قَالَ: وَلَا يبعد أَن يُقَال: لَا يكون تَأْوِيله حجَّة على غَيره، فَإِن لَاحَ لمجتهد تَأْوِيل غَيره بِدَلِيل حمله عَلَيْهِ، وَإِلَّا فتعيين الرَّاوِي صَالح للترجيح إِذا علم ذَلِك فمحله إِذا لم يجتمعوا على أَن المُرَاد أَحدهمَا، وجوزوا كلا مِنْهُمَا، كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر فِي التَّفَرُّق فِي خِيَار الْمجْلس، هَل هُوَ التَّفَرُّق بالأبدان، أَو بالأقوال، فقد أَجمعُوا أَن المُرَاد أَحدهمَا فَكَانَ مَا صَار إِلَيْهِ الرَّاوِي أولى.
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: أحملهُ عَلَيْهِمَا مَعًا فأجعل لَهما الْخِيَار فِي الْحَالين بالْخبر.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: هَذَا صَحِيح، لَوْلَا أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن المُرَاد أَحدهمَا.(5/2124)
وَاعْلَم أَن الْخلاف كَمَا قَالَ الْهِنْدِيّ فِيمَا إِذا ذكر ذَلِك لَا بطرِيق التَّفْسِير للفظه، وَإِلَّا فتفسيره أولى بِلَا خلاف.
قَوْله: {وَإِن حمله على غير ظَاهره عمل بِالظَّاهِرِ على الْأَصَح} .
إِنَّمَا قبلنَا قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا مضى إِذا اسْتَوَى المعنيان، أَو حمله على الرَّاجِح، أما إِذا حمله الصَّحَابِيّ بتفسيره أَو عمله على غير ظَاهره بل حمله على الْمَرْجُوح كَمَا إِذا حمل مَا ظَاهره الْوُجُوب على النّدب أَو بِالْعَكْسِ، أَو مَا هُوَ حَقِيقَة على الْمجَاز، وَنَحْو ذَلِك فَيعْمل بِالظَّاهِرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَاخْتَارَهُ القَاضِي وَغَيره {- وَلَو قُلْنَا: قَوْله حجَّة -} ، وَقَالَهُ أَيْضا أَكثر الْفُقَهَاء مِنْهُم: الشَّافِعِي وَأكْثر الْحَنَفِيَّة؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي: كَيفَ أترك الْخَبَر لأقوال أَقوام لَو عاصرتهم لحججتهم.(5/2125)
{وَعَن أَحْمد: يعْمل بقوله} وَيتْرك الظَّاهِر، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن أَكثر الْحَنَفِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا يفعل ذَلِك إِلَّا عَن تَوْقِيف.
وللمالكية خلاف، وَاخْتَارَ ابْن عقيل، والآمدي، وَأَبُو الْحُسَيْن.
وَعبد الْجَبَّار يعْمل بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَن يعلم مأخذه، وَيكون صَالحا، وَهَذَا أظهر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَعَلَّه مُرَاد من أطلق، وَمَا هُوَ بِبَعِيد.
وَلَكِن غاير الْبرمَاوِيّ بَين قَول أبي الْحُسَيْن وَقَول الْآمِدِيّ، وَلم يغاير بَينهمَا ابْن مُفْلِح.(5/2126)
وَإِن كَانَ الظَّاهِر عُمُوما، فَيَأْتِي فِي التَّخْصِيص.
قَوْله: {وَإِن كَانَ نصا لَا يحْتَمل وَخَالفهُ، فَالْأَصَحّ عندنَا لَا يرد بِهِ الْخَبَر وَلَا ينْسَخ، وقالته الشَّافِعِيَّة} لاحْتِمَال نسيانه، ثمَّ لَو عرف ناسخه لذكره وَرَوَاهُ وَلَو مرّة؛ لِئَلَّا يكون كَاتِما للْعلم، كَرِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي غسل الولوغ سبعا، وَقَوله: يغسل ثَلَاثًا كَمَا تقدم.
{عَن أَحْمد} رِوَايَة {وقالته الْحَنَفِيَّة: لَا يعْمل بالْخبر} .
وَقَالَ الْآمِدِيّ: يتَعَيَّن ظُهُور نَاسخ عِنْده، وَقد لَا يكون نَاسِخا عِنْد غَيره فَلَا يتْرك النَّص بِاحْتِمَال.
وَخَالفهُ ابْن الْحَاجِب وَقَالَ: فِي الْعَمَل بِالنَّصِّ نظر.(5/2127)
وَحكي عَن ابْن أبان أَنه إِن كَانَ من الْأَئِمَّة فَيدل على نسخ الْخَبَر.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي: إِن تحققنا نسيانه للْخَبَر أَو فَرضنَا مُخَالفَته لخَبر لم يروه، وجوزنا أَنه لم يبلغهُ فَالْعَمَل بالْخبر، أَو روى خَبرا يَقْتَضِي رفع الْحَرج فِيمَا سبق فِيهِ حظر، ثمَّ رَأَيْنَاهُ يتحرج فَالْعَمَل بالْخبر أَيْضا، وَيحمل تحرجه على الْوَرع.
قَوْله: {وَإِن عمل أَكثر الْأمة بِخِلَاف الْخَبَر عمل بالْخبر، وَحكي إِجْمَاعًا} حَكَاهُ ابْن مُفْلِح وَغَيره.(5/2128)
{وَاسْتثنى ابْن الْحَاجِب إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة} ، فَقَالَ: فَالْعَمَل بالْخبر إِلَّا إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَذَلِكَ على قَاعِدَة الْمَالِكِيَّة على - مَا سبق - فِي الْإِجْمَاع، وَسبق أَنه لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الجماهير، بل مُقْتَضى كَلَامه هُنَا تَقْيِيد إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة بكونهم أَكثر الْأمة وَلَا قَائِل بِهِ، بل إِمَّا لحجيتهم وَإِن كَانُوا أقل الْأمة، أَو لَا حجَّة فِي قَوْلهم مُطلقًا إِلَّا أَن تَأَول عِبَارَته بِأَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع.
قَوْله: {نَص أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، والكرخي، وَالْأَكْثَر: خبر الْوَاحِد الْمُخَالف للْقِيَاس من كل وَجه مقدم عَلَيْهِ} .
وَاسْتدلَّ لَهُ بقول عمر: لَوْلَا هَذَا لقضينا فِيهِ برأينا، ورجوعه إِلَى تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا، وَعمل جمَاعَة من الصَّحَابَة.(5/2129)
قَالَ الإِمَام أَحْمد: أَكْثَرهم ينْهَى عَن الْوضُوء بِفضل وضوء الْمَرْأَة، والقرعة فِي عتق جمَاعَة فِي مرض مَوته، وَغير ذَلِك وشاع وَلم يُنكر.
{وَقدم الْمَالِكِيَّة الْقيَاس، وَقَالَهُ الْحَنَفِيَّة إِن خَالف الْأُصُول، أَو معنى الْأُصُول لَا قِيَاس الْأُصُول(5/2130)
وأجازوا الْوضُوء بالنبيذ سفرا وأبطلوه بالقهقهة دَاخل الصَّلَاة} .
قَالَت الْمَالِكِيَّة لما قدمت الْقيَاس؛ لاحْتِمَال كذب الرَّاوِي وفسقه وكفره وخطئه والإجمال فِي الدّلَالَة، والتجوز والإضمار والنسخ مِمَّا لَا يحْتَملهُ الْقيَاس.(5/2131)
رد ذَلِك بِأَنَّهُ بعيد وبتطرقه إِلَى أصل ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد، وبتقديم ظَاهر الْكتاب وَالسّنة المتواترة مَعَ التطرق فِي الدّلَالَة.
قَالُوا: ظَنّه فِي الْخَبَر من جِهَة غَيره، وَفِي الْقيَاس من جِهَة نَفسه، وَهُوَ بهَا أوثق.
رد بِأَن الْخَطَأ إِلَيْهِ أقرب من الْخَبَر، وَالْخَبَر مُسْتَند إِلَى الْمَعْصُوم، وَيصير ضَرُورِيًّا بِضَم أَخْبَار إِلَيْهِ، وَلَا يفْتَقر إِلَى قِيَاس.
وَلَا إِجْمَاع فِي لبن الْمُصراة، وَهُوَ أصل بِنَفسِهِ، أَو مُسْتَثْنى للْمصْلحَة، وَقطع النزاع لاختلاطه.(5/2132)
وَاعْترض بِمثل قَول ابْن عَبَّاس لأبي هُرَيْرَة وَقد روى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار " فَقَالَ: أَنَتَوَضَّأُ من الْحَمِيم؟ - أَي: المَاء الْحَار - فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: يَا ابْن أخي إِذا سَمِعت حَدِيثا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تضرب لَهُ مثلا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْن ماجة.
ورد بِأَن ذَلِك استبعاد لمُخَالفَة الظَّاهِر، وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من كتف شَاة وَصلى وَلم يتَوَضَّأ.
وَأَيْضًا خبر معَاذ سبق فِي أَن الْإِجْمَاع حجَّة؛ وَلِأَن الْخَبَر أقوى فِي غَلَبَة الظَّن؛ لِأَنَّهُ يجْتَهد فِيهِ فِي الْعَدَالَة وَالدّلَالَة، ويجتهد فِي الْقيَاس فِي(5/2133)
ثُبُوت حكم الأَصْل وَكَونه مُعَللا، وصلاحية الْوَصْف للتَّعْلِيل ووجوده فِي الْفُرُوع وَنفي الْمعَارض فِي الأَصْل وَالْفرع.
وَلما تَعَارَضَت الْأَدِلَّة عِنْد ابْن الباقلاني توقف فِي الْمَسْأَلَة.
{وَعند أبي الْحُسَيْن إِن كَانَت الْعلَّة بِنَصّ قَطْعِيّ فَالْقِيَاس} كالنص على حكمهَا، {وَإِن كَانَ الأَصْل مَقْطُوعًا بِهِ فَقَط فالاجتهاد وَالتَّرْجِيح.
وَعند صَاحب " الْمَحْصُول " يقدم الْخَبَر مَا لم توجب الضَّرُورَة تَركه} ، كَخَبَر الْمُصراة لمعارضة الْإِجْمَاع فِي ضَمَان الْمثل أَو الْقيمَة.
{وَعند الْآمِدِيّ وَمن وَافقه} كَابْن الْحَاجِب وَغَيره: {إِن ثبتَتْ الْعلَّة بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر وَهِي قطيعة فِي الْفَرْع فَالْقِيَاس، أَو ظنية فالوقف، وَإِلَّا فَالْخَبَر} ، وَمعنى كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا يَقْتَضِيهِ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهُوَ مُتَّجه.(5/2134)
وَأما إِذا كَانَ أَحدهمَا أَعم خص بِالْآخرِ على خلاف يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلنَا: ويخص أعمهما بِالْآخرِ.(5/2135)
(قَوْله: {فصل} )
{الْمُرْسل قَول غير الصَّحَابِيّ فِي سَائِر الْأَعْصَار: " قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "، عِنْد أَصْحَابنَا، والكرخي، والجرجاني، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، والمحدثين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد:} رُبمَا كَانَ الْمُنْقَطع أقوى إِسْنَادًا.
وَقَالَهُ ابْن الْحَاجِب وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ، بل ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى الْأُصُولِيِّينَ.
{وَخَصه أَكثر الْمُحدثين} وَكثير من الْأُصُولِيِّينَ {بالتابعي} ،(5/2136)
سَوَاء كَانَ من كبارهم وَهُوَ من لَقِي جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة، كعبيد الله بن عدي بن الْخِيَار حَتَّى قَالَ ابْن عبد الْبر، وَابْن حبَان، وَابْن مَنْدَه: إِنَّه صَحَابِيّ لكَونه ولد فِي حَيَاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَذْهَبهم.
وكسعيد بن الْمسيب، وعلقمة بن قيس النَّخعِيّ - ولد فِي حَيَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكأبي مُسلم الْخَولَانِيّ - حَكِيم هَذِه الْأمة -، ومسروق، وَكَعب الْأَحْبَار، وأشباههم.
أَو من صغارهم وَهُوَ من لم يلق من الصَّحَابَة إِلَّا الْقَلِيل، كيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَأبي حَازِم، وَابْن شهَاب لَقِي عشرَة من الصَّحَابَة.(5/2137)
وَقيل: مَا كَانَ من صغَار التَّابِعين لَا يُسمى مُرْسلا، بل مُنْقَطِعًا لِكَثْرَة الوسائط لغَلَبَة روايتهم عَن التَّابِعين.
وَقيل: يُسمى مُرْسلا إِذا سقط من الْإِسْنَاد وَاحِد أَو أَكثر، سَوَاء الصَّحَابِيّ وَغَيره فيتحد مَعَ الْمُسَمّى بالمنقطع بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ.
قَالَ ابْن الصّلاح: فَفِي الْفِقْه وأصوله أَن كل ذَلِك يُسمى مُرْسلا، قَالَ: وَإِلَيْهِ ذهب من أهل الحَدِيث أَبُو بكر الْخَطِيب، وَقطع بِهِ.
إِلَّا أَن أَكثر مَا يُوصف بِالْإِرْسَال من حَيْثُ الِاسْتِعْمَال مَا رَوَاهُ التَّابِعِيّ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَا رَوَاهُ تَابع التَّابِعِيّ فيسمونه معضلا، فَسمى(5/2138)
الْبرمَاوِيّ هَذَا القَوْل مُرْسلا غير الْمُرْسل الَّذِي ذكره ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم فَجعله نوعا بِرَأْسِهِ، وَكَأَنَّهُ يَجعله أَعم من قَوْلنَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا.
يَعْنِي سَوَاء قَالَ فِيهِ: قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو لَا، وَفِيه نظر.
قَوْله: {فَلَو قَالَه تَابع التَّابِعِيّ، أَو سقط بَين الروايين أَكثر من وَاحِد فمعضل} .
هَذَا تَفْرِيع على قَول أَكثر الْمُحدثين إِن الْمُرْسل لَا يكون إِلَّا من التَّابِعين، فَلَو قَالَ تَابع التَّابِعِيّ أَو سقط أَكثر من وَاحِد سمي معضلا فِي اصطلاحهم.(5/2139)
وَقَالَ قوم - كَمَا تقدم من حِكَايَة ابْن عبد الْبر -: إِن قَالَه تَابِعِيّ صَغِير يكون مُنْقَطِعًا.
قَوْله: {ثمَّ هُوَ حجَّة عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية} والمعتزلة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمَالك، وَأشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد.
وَحَكَاهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " عَن الْجُمْهُور - أَي: جُمْهُور(5/2140)
الْأُصُولِيِّينَ -، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَذكر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن التَّابِعين أَجمعُوا بأسرهم على قبُول الْمَرَاسِيل، وَلم يَأْتِ عَن أحد إِنْكَاره إِلَى رَأس الْمِائَتَيْنِ.
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: إِنْكَار كَونه حجَّة بِدعَة حدثت بعد الْمِائَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لقبولهم مَرَاسِيل الْأَئِمَّة من غير نَكِير.
وَبِأَن الظَّاهِر مِنْهُم لَا يطلقون إِلَّا بعد ثُبُوته، لإلزام الله تَعَالَى بِحكمِهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوع لما سبق من التَّفْرِقَة.
وَعَن أَحْمد لَيْسَ بِحجَّة.(5/2141)
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هُوَ قَول أهل الحَدِيث.
قَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْي أهل الحَدِيث ونقاد الْأَثر، كَمَا قَالَه الْخَطِيب فِي " الْكِفَايَة ".
وَبِه قَالَ أَبُو بكر ابْن الباقلاني من الْأُصُولِيِّينَ، {وَحَكَاهُ مُسلم عَن أهل الْعلم بالأخبار} .
وَهَذَا، وَإِن قَالَه مُسلم على لِسَان غَيره لكنه أقره، وَاحْتَجُّوا بِأَن فِيهِ جهلا بِعَين الرَّاوِي، وَصفته.
{وَقَالَ السَّرخسِيّ: هُوَ حجَّة فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة} ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أثنى عَلَيْهِم، وَقَالَ عِيسَى بن أبان و {من أَئِمَّة النَّقْل} ، فَقَالَ: إِن كَانَ(5/2142)
[من] مَرَاسِيل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وتابعي التَّابِعين وَمن كَانَ من أَئِمَّة النَّقْل قبل، وَإِلَّا فَلَا.
{وَقَالَ الشَّافِعِي} وَأَتْبَاعه: إِن كَانَ من كبار التَّابِعين وَلم يُرْسل إِلَّا عَن عدل، {وأسنده غَيره، أَو أرْسلهُ، وشيوخهما مُخْتَلفَة أَو عضده عمل صَحَابِيّ أَو الْأَكْثَر} ، أَو قِيَاس أَو انتشار أَو عمل الْعَصْر قبل، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَت الشَّافِعِيَّة: إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يتقوى بِهِ يكون حجَّة.
فَمن ذَلِك إِذا كَانَ الْمُرْسل لَهُ مِمَّن عرف أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل، وَقد اعْتبرت فَوجدت مسانيد، كسعيد بن الْمسيب.
وَمن ذَلِك إِذا كَانَ تابعيا كَبِيرا، فَإِن الْغَالِب فِي مثله أَنه لَا يروي إِلَّا عَن الصَّحَابَة، وهم عدُول، وَقد نَص عَلَيْهِمَا الشَّافِعِي، وَقَالَ(5/2143)
الشَّافِعِي فِي بَاب الْحجَّة على تثبيت خبر الْوَاحِد مَا حَاصله من المقويات لقبُول الْمُرْسل أُمُور:
أَحدهَا: أَن يَأْتِي بِمَعْنَاهُ مُسْندًا من طَرِيق آخر، وَهُوَ أقوى الْأُمُور، وَمن شَرط الْمسند أَن يكون صَحِيحا، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي خلافًا لما زَعمه الرَّازِيّ أَن مُرَاد الشَّافِعِي الْمسند الضَّعِيف.
وَالثَّانِي: أَن يُوَافقهُ مُرْسل أَخذ من أرْسلهُ الْعلم من غير مَأْخَذ مِنْهُ مُرْسل الأول.
وَالثَّالِث: أَن يُوَافقهُ قَول بعض الصَّحَابَة.
وَالرَّابِع: أَن يُوَافقهُ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره عَن الشَّافِعِي: أَن يُوَافقهُ قِيَاس، أَو انتشار من غير دَافع، أَو عمل أهل الْعَصْر أَو فعل صَحَابِيّ، لَكِن قَوْله أَو فعل صَحَابِيّ تقدم نَظِيره فِي الثَّالِث بقوله الثَّالِث أَن يُوَافقهُ قَول بعض الصَّحَابَة، لَكِن هَذَا فعل، وَذَلِكَ قَول فيجمعهما قَوْلنَا: أَو عضده عمل صَحَابِيّ فَإِن الْعَمَل يَشْمَل القَوْل وَالْفِعْل، وَقد نَص الشَّافِعِي عَلَيْهِمَا.(5/2144)
وَزَاد الْمَاوَرْدِيّ: تاسعا، وَهُوَ أَن لَا يُوجد دَلِيل سواهُ؟
وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الشَّافِعِي.
ورد بِأَنَّهُ لَا يعرف هَذَا عَن الشَّافِعِي.
وأوله بَعضهم أَنه أُرِيد بفقد الدَّلِيل، فقد دَلِيل يُخَالِفهُ فَرجع إِلَى أَنه حجَّة ضَعِيفَة لَا تقاوم شَيْئا من الْأَدِلَّة إِلَّا الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة لفقد غَيرهَا فَإِنَّهَا أَضْعَف مِنْهُ.
وَزَاد بَعضهم عاشرا كَمَا هُوَ ظَاهر عبارَة " الْمَحْصُول ": أَن يكون مِمَّن سبر مرسله فَوجدَ مُسْندًا كَابْن الْمسيب لكنه تَفْرِيع على أَن مُرْسل ابْن الْمسيب وَنَحْوه يحْتَج بِهِ بِمُجَرَّدِهِ من غير انضمام عاضد، لَكِن الرَّاجِح خِلَافه، وَبِتَقْدِير التَّسْلِيم فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُسْند، فَيحصل لهَذَا الْمُرْسل(5/2145)
بِهَذِهِ المقويات الْجَبْر بِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ ويزيل ضعفه بِمَا يزل التُّهْمَة فِيهِ عَن الرَّاوِي الْمَحْذُوف فالحجة بِمَجْمُوع الْأَمريْنِ.
والمسند إِذا انْضَمَّ إِلَى الْمُرْسل كَأَنَّهُ بَين أَن السَّاقِط فِي الْمُرْسل عدل مُحْتَج بِهِ فَوَجَبَ أَن يكون دَلِيلا، وَلَا امْتنَاع أَن يكون للْحكم دليلان، وَتظهر فَائِدَته فِي التَّرْجِيح عِنْد التَّعَارُض.
وَأما انضمام إِجْمَاع أَو قِيَاس فَكَذَلِك فِيهِ على صِحَة سَنَد الْمُرْسل فيكونان دَلِيلين، وَالله أعلم.
وَذكر الْآمِدِيّ أَنه وَافق الشَّافِعِي على ذَلِك أَكثر أَصْحَابه.
وَقَالَ القَاضِي عَلَاء الدّين ابْن اللحام البعلي فِي " أُصُوله ": اعْتبر الشَّافِعِي لقبوله فِي الرَّاوِي أَن لَا يعرف لَهُ رِوَايَة إِلَّا عَن مَقْبُول، وَأَن لَا يُخَالف الثِّقَات إِذا أسْند الحَدِيث فِيمَا أسندوه وَأَن يكون من كبار التَّابِعين.
وَفِي الْمَتْن أَن يسند الْحفاظ المأمونون عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وَجه آخر، معنى ذَلِك الْمُرْسل، أَو يُرْسِلهُ غَيره وشيوخهما مُخْتَلفَة، أَو يعضده قَول صَحَابِيّ أَو قَول عَامَّة الْعلمَاء.
وَكَلَام الإِمَام أَحْمد فِي الْمُرْسل قريب من كَلَام الشَّافِعِي.(5/2146)
{وَاخْتَارَ الطوفي} من أَصْحَابنَا {بِنَاء الْمَسْأَلَة على} الْخلاف فِي {قبُول الْمَجْهُول} ، قَالَ: إِذا السَّاقِط من السَّنَد مَجْهُول.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، {و} قَالَ {بعض أَصْحَابنَا:} هُوَ مَبْنِيّ {على رِوَايَة الْعدْل عَن غير، وَهَذَا أظهر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ أَنه مَذْهَب أَحْمد، فَإِنَّهُ فرق بَين مُرْسل من يعرف أَنه لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة، وَبَين غَيره، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مرسلات سعيد بن الْمسيب: أَصَحهَا، ومرسلات إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: لَا بَأْس بهَا، وأضعفها مرسلات الْحسن وَعَطَاء كَانَا يأخذان عَن كل، ومرسلات ابْن سِيرِين صِحَاح، ومرسلات عَمْرو بن دِينَار أحب إِلَيّ من مرسلات إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد إِسْمَاعِيل لَا يُبَالِي عَمَّن حدث، وَعَمْرو لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة، وَلَا يُعجبنِي مُرْسل يحيى بن أبي كثير؛ لِأَنَّهُ روى عَن ضِعَاف، وَقيل لَهُ: لم كرهت مرسلات الْأَعْمَش؟ قَالَ: لَا يُبَالِي عَمَّن حدث، وَقيل لَهُ: عَن مرسلات سُفْيَان؟ قَالَ: لَا يُبَالِي عَمَّن روى.(5/2147)
وَنقل مهنا أَن مُرْسل الْحسن صَحِيح.
وَقَالَهُ ابْن الْمَدِينِيّ: وَمثل ذَلِك كثير فِي كَلَام الْأَئِمَّة، وَقد قَالَ يحيى الْقطَّان: مرسلات ابْن عُيَيْنَة تشبه الرّيح ثمَّ قَالَ: - أَي: وَالله وسُفْيَان بن سعيد.
قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: قلت مرسلات مَالك؟ قَالَ: هِيَ أحب إِلَيّ.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَيْسَ هَذَا مَذْهَب أَحْمد؛ فَإِنَّهُ لَا يحْتَج بمراسيل وقته، لَكِن هَذَا إِذا قَالَه مُحدث عَارِف، أَو احْتج بِهِ فَنعم، كتعليق البُخَارِيّ المجزوم بِهِ.
قَالَت: بحث القَاضِي يدل على أَنه أَرَادَ بالمرسل فِي عصرنا مَا أرْسلهُ عَن وَاحِد، وَهَذَا قريب. وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد " أَيْضا: يقبل الْمُرْسل إِن أرسل فِي وَقت لم تكن الْأَحَادِيث مضبوطة وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: {فَائِدَة: قَالَ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(5/2148)
القَاضِي وَكثير من الْفُقَهَاء، وَغَيرهم لَو انْقَطع فِي الْإِسْنَاد وَاحِد كَرِوَايَة تَابِعِيّ التَّابِعِيّ عَن صَحَابِيّ فَهُوَ مُرْسل، وَالْأَشْهر عِنْد الْمُحدثين أَنه مُنْقَطع} .
قَوْله: {وَمن روى عَمَّن لم يلقه وَوَقفه عَلَيْهِ فمرسل، أَو مُنْقَطع، وَيُسمى مَوْقُوفا} .
الْمُنْقَطع سُقُوط راو فَأكْثر مِمَّن هُوَ دون الصَّحَابِيّ، والمنقطع إِمَّا فِي الحَدِيث أَو الْإِسْنَاد على مَا يُؤْخَذ فِي كَلَامهم من الإطلاقين؛ إِذْ مرّة يَقُولُونَ فِي الحَدِيث مُنْقَطع، وَمرَّة فِي الْإِسْنَاد مُنْقَطع.(5/2149)
فالمنقطع بِهَذَا الِاعْتِبَار أخص من مُطلق الْمُنْقَطع الْمُقَابل للمتصل الَّذِي هُوَ مورد التَّقْسِيم، وَإِن كَانَ السَّاقِط أَكثر من وَاحِد بِاعْتِبَار طبقتين فَصَاعِدا، إِن كَانَ فِي مَوضِع وَاحِد سمي معضلا، وَإِن كَانَ فِي موضِعين [سمي مُنْقَطِعًا من موضِعين] .
إِذا علم ذَلِك فَإِذا روى عَمَّن لم يلقه فَهُوَ مُرْسل من حَيْثُ كَونه انْقَطع بَينه وَبَين من روى عَنهُ كَمَا تقدم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي قبلهَا على رَأْي القَاضِي وَكثير من الْفُقَهَاء، ومنقطع على رَأْي الْمُحدثين كَمَا تقدم عَنْهُم فِي أصل الْمُرْسل، وَمَوْقُوف بِكَوْنِهِ وَقفه على شخص فَهُوَ بِهَذِهِ الاعتبارات لَهُ ثَلَاث صِفَات يُسمى مُرْسلا بِاعْتِبَار، ومنقطعا على رَأْي الْمُحدثين، وموقوفا بِاعْتِبَار كَونه وَقفه على شخص.
هَذَا مَا ظهر لي فَإِنِّي تبِعت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".(5/2150)
قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا والمعظم: مُرْسل الصَّحَابِيّ حجَّة} ؛ لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأَنهم كلهم عدُول، وَهَذَا فِي الْغَالِب، وَإِلَّا فقد يروي عَن التَّابِعِيّ وَهُوَ قَلِيل.
وَخَالف الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ: لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا أَن يَقُول إِنَّه لَا يروي إِلَّا عَن صَحَابِيّ، أَي: فِيمَا لَا يُمكنهُ إِدْرَاكه وَمِمَّا يُمكن أَن يروي إِلَّا عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو يعضده بِمَا سبق فِي مَرَاسِيل التَّابِعين.
وَهَذَا بِنَاء على الْمَشْهُور من تَعْلِيل الْمَنْع بِأَن الصَّحَابِيّ قد يروي عَمَّن لَا يعلم عَدَالَته.
قَوْله: {تَنْبِيه: اسْتثْنِي مَرَاسِيل صغارهم كمحمد بن أبي بكر(5/2151)
وَنَحْوه، فَهُوَ كمراسيل التَّابِعين} ، وَهَذَا بِلَا شكّ فَإِنَّهُ لم يدْرك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ وَاضح جدا.
قَالَ الْحَافِظ شهَاب الدّين ابْن حجر فِي " شرح البُخَارِيّ ": أَحَادِيث مثل هَؤُلَاءِ من مَرَاسِيل كبار التَّابِعين لَا من قبيل مَرَاسِيل الصَّحَابَة الَّذين سمعُوا من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذَا مِمَّا يلغز بِهِ فَيُقَال: صَحَابِيّ حَدِيثه مُرْسل لَا يقبله من يقبل مَرَاسِيل الصَّحَابَة، وَمُحَمّد بن أبي بكر ولد قبل وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثَلَاثَة أشهر وَأَيَّام كَمَا ثَبت فِي مُسلم أَن أمه أَسمَاء بنت عُمَيْس وَلدته فِي حجَّة الْوَدَاع قبل أَن يدخلُوا مَكَّة، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر ذِي الْحجَّة سنة عشر من الْهِجْرَة، وَالله أعلم.(5/2152)
(بَاب الْأَمر)(5/2153)
فارغة(5/2154)
( {بَاب الْأَمر: حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص اتِّفَاقًا)
لما فرغ من السَّنَد شرع فِي الْمَتْن بِمَا يشْتَرك فِيهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، فَمِنْهُ: أَمر، وَنهي، وعام، وخاص، وَمُطلق، ومقيد، ومجمل، ومبين، وَظَاهر، ومؤول، ومنطوق، وَمَفْهُوم، فَبَدَأَ بِالْأَمر ثمَّ بِالنَّهْي؛ لِأَن انقسام الْكَلَام إِلَيْهِمَا بِالذَّاتِ، لَا بِاعْتِبَار الدّلَالَة والمدلول.
فَالْأَمْر لَا يَعْنِي بِهِ مُسَمَّاهُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي الْإِخْبَار عَن الْأَلْفَاظ أَن يلفظ بهَا وَالْمرَاد مسمياتها بل لَفْظَة الْأَمر وَهُوَ أَمر كَمَا يُقَال زيد مُبْتَدأ وَضرب فعل مَاض، وَفِي حرف جر [وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه] حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص اتِّفَاقًا، وَأَنه قسم من الْكَلَام؛ وَلِهَذَا قُلْنَا وَهُوَ قسم من(5/2155)
أَقسَام الْكَلَام؛ لِأَن الْكَلَام يكون من الْأَسْمَاء فَقَط، وَمن الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال، وَيكون من الْفِعْل الْمَاضِي وفاعله، وَمن الْفِعْل الْمُضَارع وفاعله، وَمن فعل الْأَمر وفاعله، فَالْكَلَام: الْأَلْفَاظ المتضمنة لمعانيها.
وَعند الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه اللَّفْظ، والنفسي الْقَدِيم، {وَإِن كَانَ وَاحِدًا بِالذَّاتِ فيسمى أمرا ونهيا وخبرا وَغَيرهَا من أَقسَام الْكَلَام باخْتلَاف تعلقه ومتعلقه} ، وَقد تقدم ذَلِك وتحرير هَذَا الْمَذْهَب وَغَيره تحريرا شافيا لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي أَوَائِل الْكتاب وَهُوَ الْقُرْآن فليعاود ذَلِك.
قَوْله: {وَالْكِتَابَة كَلَام حَقِيقَة} . وَقيل: لَا، كالإشارة، وَهُوَ أظهر وَأَصَح.(5/2156)
{وَاخْتلف كَلَام القَاضِي وَغَيره من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي تَسْمِيَة الْكِتَابَة كلَاما حَقِيقَة} ، فَذكر الْمجد فِي " المسودة " فصلا ذكر فِيهِ كَلَام القَاضِي فَقَالَ: ذكر القَاضِي أَن الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة لَا تسمى أمرا - يَعْنِي حَقِيقَة - ذكره مَحل وفَاق، وَذكر فِي مَوضِع آخر عَن القَاضِي أَنه قَالَ: إِن الْكِتَابَة عندنَا كَلَام حَقِيقَة، أَظُنهُ فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق بِالْكِتَابَةِ. انْتهى.
قلت: قد ذكر الْأَصْحَاب أَنه لَو كتب صَرِيح الطَّلَاق وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَقع الطَّلَاق بذلك على الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْأَصْحَاب، وَقَطعُوا بِهِ وَخَرجُوا قولا بِعَدَمِ وُقُوع الطَّلَاق وَلَو نوى بِهِ الطَّلَاق، بل هُوَ لَغْو.
وَإِن لم ينْو شَيْئا، بل كتب صَرِيح الطَّلَاق من غير نِيَّة الطَّلَاق بِهِ فللأصحاب فِي وُقُوع الطَّلَاق بذلك وَجْهَان:
أَحدهمَا: هُوَ أَيْضا صَرِيح فَيَقَع من غير نِيَّة، وَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَعَلِيهِ أَكثر الْأَصْحَاب.(5/2157)
قَالَ ناظم " الْمُفْردَات ": أدخلهُ الْأَصْحَاب فِي الصَّرِيح، وَنَصره القَاضِي من أَئِمَّة أَصْحَابنَا وَتَبعهُ أَصْحَابه، وَذكره الْحلْوانِي عَن الْأَصْحَاب.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كِنَايَة لَا صَرِيح، اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا مِنْهُم صَاحب الْوَجِيز وَابْن حمدَان، وَهُوَ أظهر وَأَصَح.
قَوْله: {وَالْأَمر مجَاز فِي الْفِعْل} ، أَعنِي فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صرح بِهِ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ".
وَهَذَا الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَأكْثر الْعلمَاء.(5/2158)
وَاعْلَم أَن لفظ الْأَمر يُطلق بِإِزَاءِ معَان:
مِنْهَا: الْمَعْنى الاصطلاحي الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود فِي هَذَا الْبَاب.
وَمِنْهَا: الْفِعْل، يُقَال: زيد فِي أَمر عَظِيم من سفر أَو غَيره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} [آل عمرَان: 159] ، أَي: فِي الْفِعْل، وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى: {أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله} [هود: 73] ، {حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا} [هود: 40] .
وَمِنْهَا: الشَّأْن، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} [هود: 97] ، أَي: شَأْنه.
وَالْمعْنَى الَّذِي هُوَ مبَاشر لَهُ، وَقَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه} [النَّحْل: 40] .
وَمِنْهَا: الصّفة، كَقَوْل الشَّاعِر:
( ... ... ... ... ... ... ... لأمر مَا يسوّد من يسود)
أَي: بِصفة من صِفَات الْكَمَال.
وَمِنْهَا: الشَّيْء، كَقَوْلِهِم: تحرّك الْجِسْم لأمر، أَي: لشَيْء.(5/2159)
وَمِنْهَا: الطَّرِيق، وَقع فِي عبارَة بَعضهم، قَالَ فِي " الْعمد ": الطَّرِيق والشأن بِمَعْنى وَاحِد، وَقد يُطلق على الْقَصْد وَالْمَقْصُود.
إِذا علم ذَلِك فإطلاقه على الْمَعْنى الاصطلاحي حَقِيقَة بِلَا نزاع، وَفِي غَيره الْأَصَح عِنْد الْعلمَاء أَنه مجَاز فِيهِ، وَإِلَّا لزم الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز عِنْدهم خير من الِاشْتِرَاك؛ لأَنا إِذا حكمنَا بِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي كل وَاحِد من هَذِه الْمعَانِي كَانَ مُشْتَركا وَالْمجَاز خير مِنْهُ.
وَقد تقدم فِي صدر الْمَسْأَلَة أَن الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه وَأكْثر أهل الْعلم، قَالَ: إِن إِطْلَاق الْأَمر على الْفِعْل مجَاز، وَهُوَ الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة.(5/2160)
{وَقيل: مُشْتَرك بَين الْفِعْل وَالْقَوْل} بالاشتراك اللَّفْظِيّ؛ لِأَنَّهُ أطلق عَلَيْهِمَا، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة.
{وَقيل: متواطيء} . اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، قَالَه ابْن مُفْلِح وَغَيره، فَهُوَ للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا من بَاب التواطؤ دفعا للاشتراك وَالْمجَاز على وَجه الْإِلْزَام للخصم، أَي: أَنه لَو قيل بذلك فَمَا الْمَانِع مِنْهُ؟ وَلِهَذَا لما تعرض لَهُ ابْن الْحَاجِب قَالَ فِي آخر الْمَسْأَلَة: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَول حَادث هُنَا.
قلت: كَونه حَادِثا لَا يَنْفِي أَنه مَا قيل، فَإِن للْعُلَمَاء أقوالا كَثِيرَة حدثت قبل الْآمِدِيّ وَبعده وَفِي زَمَنه، وَله هُوَ أَقْوَال قَالَهَا لم يسْبق إِلَيْهَا.
{و} قَالَ القَاضِي {فِي " الْكِفَايَة ": مُشْتَرك بَين القَوْل والشأن والطريقة وَنَحْوه} ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ.(5/2161)
قَالَ الشَّيْخ عبد الْحَلِيم ولد الْمجد ووالد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هَذَا هُوَ الصَّحِيح لمن أنصف، وَنَصره ابْن برهَان وَأَبُو الطّيب، فبعضهم عَن أبي الْحُسَيْن أَنه مُشْتَرك بَين الصِّيغَة وَبَين الْفِعْل وَبَين الشَّأْن، وَعبارَته فِي " الْمُعْتَمد ": وَأَنا أذهب إِلَى أَن قَول الْقَائِل: " أَمر " مُشْتَرك بَين الصِّيغَة وَالشَّيْء وَالطَّرِيق، وَبَين جملَة الشَّأْن وَبَين القَوْل الْمَخْصُوص. انْتهى.
وَلم يذكر الْفِعْل أصلا إِلَّا أَن يكون قد دخل فِي الشَّأْن، وَذكر الطَّرِيق.
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر بِأَن القَوْل يسْبق إِلَى الْفَهم عِنْد الْإِطْلَاق، وَلَو كَانَ متواطئا لم يفهم مِنْهُ الْأَخَص؛ لِأَن الْأَعَمّ لَا يدل على الْأَخَص. هُوَ قَول أهل اللُّغَة.(5/2162)
وَاسْتدلَّ: لَو كَانَ حَقِيقَة فِي الْفِعْل لزم الِاشْتِرَاك، ولاطرد؛ لِأَنَّهُ من لوازمها، وَلَا يُقَال للْأَكْل أَمر، ولاشتق لَهُ مِنْهُ آمُر، وَلَا مَانع، ولاتحد جمعاهما، ولوصف بِكَوْنِهِ مُطَاعًا ومخالفا، وَلما صَحَّ نَفْيه.
ورد الأول بِمَنْع إِطْلَاقه عَلَيْهِ بل على شَأْنه وَصفته، وَمِنْه قَوْله.
ثمَّ: مجَاز؛ لدليلنا، وَسبق فيتعارض الْمجَاز والحقيقة.
وَالثَّانِي: بِالْمَنْعِ، ثمَّ: خص بِبَعْض الْأَفْعَال، كالأمر بقول مَخْصُوص.
وَالثَّالِث: بِأَن الِاشْتِقَاق تَابع للنَّقْل والوضع، وكما يتبع الْحَقِيقَة يتبع بعض المسميات، فَلَا يطرد لعدم الِاشْتِرَاك فِي ذَلِك الْمُسَمّى.(5/2163)
وَبِه يُجَاب عَن الرَّابِع وَالْخَامِس وَالسَّادِس بِالْمَنْعِ.
الْقَائِل مُشْتَرك إِطْلَاقه وَجمعه وَلَا علاقَة فَكَانَ حَقِيقَة [رد] بِالْمَنْعِ وَالْمرَاد: القَوْل أَو شَأْنه وَصفته وحمار للبليد جمع حمر.
ثمَّ كل وَاحِد من الْأَمر والأمور يَقع موقع الآخر وَلَيْسَ جمعا لَهُ.
قلت: وَقد تقدم فِي الْمجَاز يجمع على خلاف جمع الْحَقِيقَة، الْقَائِل متواطيء لدفع الْمجَاز والاشتراك فَيجْعَل لقدر مُشْتَرك وَهُوَ الْوُجُود وَالصّفة.
ورد ذَلِك بِأَنَّهُ يلْزم رفعهما أبدا كَذَلِك، وَأَن [يدل] الْأَعَمّ على الْأَخَص وَبِأَنَّهُ إِحْدَاث قَول ثَالِث، كَمَا تقدم، وَتقدم جَوَابه. قَوْله: {وَأما حَده} ، ذكرنَا لِلْأَمْرِ حدودا، فَمِنْهَا مَا قَالَه القَاضِي فِي(5/2164)
" الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": {اقْتِضَاء فعل، أَو استدعاء فعل بقول مِمَّن هُوَ دونه} .
وَقَالَ فِي " الْوَاضِح " أَيْضا: استدعاء الْأَعْلَى لتعود الْهَاء إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز فِي الْحَد إِضْمَار، فَيجوز استدعاء فعل بقول من الدون.
{و} قَالَ أَبُو الْخطاب فِي {" التَّمْهِيد "، و} الشَّيْخ الْمُوفق فِي {" الرَّوْضَة ": استدعاء فعل بقول بِجِهَة الاستعلاء} أَو على جِهَة الاستعلاء، وَهُوَ معنى حد الأشعرية.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": لَو أسقط: بقول، أَو زيد، أَو مَا قَامَ مقَامه، استقام.(5/2165)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَقَالَ: وَالْأولَى على أصلنَا قَول مَعَ اقْتِضَاء بِجِهَة الاستعلاء.
{و} قَالَ {الْفَخر} إِسْمَاعِيل، {وَابْن حمدَان: قَول يطْلب بِهِ الْأَعْلَى من الْأَدْنَى فعلا أَو غَيره} .
ورده أَيْضا ابْن مُفْلِح.
{وَقَالَ ابْن برهَان: تعْتَبر إِرَادَة الْمُتَكَلّم بالصيغة بِلَا خلاف} حَتَّى لَا يرد نَحْو نَائِم، وساه، وَالْكِتَابَة لَيست كلَاما حَقِيقَة.
قَالَ ابْن عقيل: عِنْد أحد وَأخرج أَصْحَابنَا ذَلِك والتهديد وَغَيره. وحد أَصْحَابنَا وجود اللَّفْظ بالاستدعاء لجِهَة الاستعلاء، وَإِن عدلنا(5/2166)
فلقرينة، ثمَّ {قَالَ ابْن عقيل وَغَيره: اتفقنا أَن إِرَادَة النُّطْق مُعْتَبرَة} وَإِلَّا فَلَيْسَ طلبا واقتضاء واستدعاء.
وَاخْتلف النَّاس هَل هُوَ كَلَام؟
فنفاه الْمُحَقِّقُونَ فقوم لقِيَام الْكَلَام بِالنَّفسِ، وَقوم لعدم الْإِرَادَة، وَعِنْدنَا لِأَنَّهُ مَدْفُوع إِلَيْهِ كخروج حرف عَن غَلَبَة عطاس وَنَحْو.
{و} حد {أَكثر الْمُعْتَزلَة} الْأَمر {بقول الْقَائِل لمن دونه: افْعَل، أَو مَا يقوم مقَامه من غير الْعَرَبيَّة} .
وَنقض طرده بالتهديد، وَالْإِبَاحَة، والتكوين، والإرشاد، والحاكي، وبصدوره من الْأَعْلَى خضوعا، وَعَكسه: بصدوره من الْأَدْنَى استعلاء.
{وَبَعْضهمْ: صِيغَة افْعَل مُجَرّدَة عَن الْقَرَائِن الصارفة عَن الْأَمر} .
وَفِيه: تَعْرِيف الْأَمر بِالْأَمر فَهُوَ من تَعْرِيف الشَّيْء بِنَفسِهِ، وَإِن أسقط قيد الْقَرَائِن بَقِي صِيغَة افْعَل مُجَرّدَة فَيرد التهديد وَغَيره.(5/2167)
{وَبَعْضهمْ: صِيغَة افْعَل باقتران} إرادات ثَلَاث؛ {إِرَادَة وجود اللَّفْظ، وَإِرَادَة دلالتها على الْأَمر، وَإِرَادَة الِامْتِثَال} .
فَالْأول عَن النَّائِم، وَالثَّانِي عَن التهديد وَغَيره، وَالثَّالِث عَن الْمبلغ والحاكي.
وَهُوَ فَاسد؛ فَإِن الْأَمر الَّذِي هُوَ الْمَدْلُول إِن كَانَ الصِّيغَة فسد، فَإِنَّهَا لم ترد دلالتها على اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الْمَعْنى لم يكن الْأَمر الصِّيغَة، وَقد قَالَ إِنَّه هِيَ.
فَإِن قيل: الْأَمر الأول اللَّفْظ مُفَسّر بالصيغة وَالْأَمر الثَّانِي الْمَعْنى وَهُوَ الطّلب، أَي: الْأَمر الصِّيغَة المُرَاد بهَا دلالتها على الطّلب.
رد: فِيهِ اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك فِي التَّعْرِيف بِلَا قرينَة.(5/2168)
وَاعْتبر الجبائي وَابْنه {إِرَادَة الدّلَالَة، وَبَعْضهمْ إِرَادَة الْفِعْل} .
وَنقض عَكسه: بصدوره بِلَا إِرَادَة بِأَن توعد سُلْطَان على ضرب زيد
عَبده بِلَا جرم فَادّعى مُخَالفَة أمره، وَأَرَادَ تمهيد عذره بمشاهدته فَإِنَّهُ يَأْمُرهُ وَلَا يُرِيد امتثاله، وَهَذَا أَيْضا يلْزم من حد الْأَمر بِالطَّلَبِ، وَهُوَ الِاقْتِضَاء.
ورده أَيْضا أَصْحَابنَا وَغَيرهم: بِأَنَّهُ كَانَ يجب وجود كل أوَامِر الله تَعَالَى، فَإِن إِرَادَة الْفِعْل تخصصه بِوَقْت حُدُوثه، وَإِذا لم يُوجد لم يتخصص وَلم تتَعَلَّق بِهِ، وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة لُغَة إِجْمَاعًا على مَا يَأْتِي.(5/2169)
وَحده بعض الشَّافِعِيَّة بِأَنَّهُ خبر عَن الثَّوَاب على الْفِعْل، وَالْعِقَاب على التّرْك.
وَفِيه: لزومهما. فَقيل: باستحقاقهما. فَرد: بِالْتِزَام الْخَبَر للصدق أَو الْكَذِب، وَالْأَمر لَا يحْتَملهُ.
{و} حَده ابْن {الباقلاني، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ} ، قَالَ الْآمِدِيّ وَأَكْثَرهم {بالْقَوْل الْمُقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور بِفعل الْمَأْمُور بِهِ} .
ورد بِأَن الْمَأْمُور مُشْتَقّ من الْأَمر، وَبِأَن الطَّاعَة مُوَافقَة الْأَمر، وهما دور.
وَاخْتَارَ {الْآمِدِيّ} على قَاعِدَة أَصْحَابه فِي كَلَام النَّفس: أَنه {طلب فعل على جِهَة الاستعلاء} .(5/2170)
فالفعل عَن النَّهْي، وَالْبَاقِي عَن الدُّعَاء والالتماس.
{وَقيد} جمَاعَة - مِنْهُم ابْن الْحَاجِب - {الْفِعْل بِغَيْر كف} ليخرج النَّهْي فَإِنَّهُ فعل كف.
وَأوردهُ: (اترك، وكف) أَمْرَانِ وهما اقْتِضَاء فعل هُوَ كف، و (لَا تتْرك وَلَا تكف) نهي وهما اقْتِضَاء فعل غير كف بِجِهَة الاستعلاء، وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": اقْتِضَاء فعل غير كف مَدْلُول عَلَيْهِ بِغَيْر كف.
فَقَوله: اقْتِضَاء فعل، أَي: طلب فعل، وَهُوَ جنس؛ ليشْمل الْأَمر وَالنَّهْي وَيخرج الْإِبَاحَة وَغَيرهَا مِمَّا يسْتَعْمل مِنْهُ صِيغَة الْأَمر وَلَيْسَ أمرا.
وَقَوله: غير كف، فصل خرج بِهِ النَّهْي فَإِنَّهُ طلب فعل هُوَ كف.
وَقَوله: مَدْلُول عَلَيْهِ بِغَيْر كف وصف لقَوْل (كف) وَهُوَ قيد زَاده على ابْن الْحَاجِب؛ لإدخال قَوْلنَا: (كف نَفسك عَن كَذَا أَو أمسك عَن كَذَا) فَإِنَّهُ أَمر مَعَ أَنه يخرج بقولنَا: (غير كف) فَبين أَن الْكَفّ الَّذِي أُرِيد إِخْرَاجه مَا دلّ عَلَيْهِ غير كف، أما طلب فعل هُوَ كف دلّ على كف فَإِنَّهُ لَيْسَ نهيا بل أمرا. انْتهى.(5/2171)
وَهَذَا التَّعْرِيف وتعريف الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب على الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَأما من نَفَاهُ عرفه بِأَنَّهُ: القَوْل الطَّالِب للْفِعْل.
وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة: هُوَ اقْتِضَاء وَطلب.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": وَهُوَ قَول حسن.
قَوْله: {فَائِدَة اعْتبر أَبُو الْخطاب، والموفق، و} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ، والطوفي، وَابْن مُفْلِح، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن برهَان} فِي " الْأَوْسَط "، {و} الْفَخر {الرَّازِيّ، والآمدي، وَغَيرهم فِيهِ الاستعلاء} ، وَهُوَ قَول أبي الْحُسَيْن من الْمُعْتَزلَة، وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره.(5/2172)
{و} اعْتبر أَكثر أَصْحَابنَا، مِنْهُم: {القَاضِي، وَابْن عقيل، وَابْن الْبَنَّا، وَالْفَخْر} إِسْمَاعِيل {وَالْمجد} ابْن تَيْمِية {وَابْن حمدَان} وَغَيرهم، وَنسبه ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " إِلَى الْمُحَقِّقين، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ} - نقل عَنهُ الْبرمَاوِيّ -، {والمعتزلة: الْعُلُوّ، فالمساوي} عِنْدهم {التمَاس} ، أَعنِي: أَمر الْمسَاوِي لغيره يُسمى عِنْدهم التماسا، {والأدون سؤالا} .
وَنَقله الْبرمَاوِيّ عَن ابْن الصّباغ، وَحَكَاهُ ابْن الصّباغ عَن أَصْحَابهم، والباقلاني، وَعبد الْوَهَّاب فِي ... ... ... ... ... ...(5/2173)
" الملخص "، وَأَبُو الْفضل ابْن عَبْدَانِ.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي " الملخص ": هَذَا عَلَيْهِ أهل اللُّغَة وَجُمْهُور أهل الْعلم.
وَاعْتبر الاستعلاء والعلو مَعًا ابْن {الْقشيرِي وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب} الْمَالِكِي، نَقله عَنْهُمَا الْبرمَاوِيّ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: من النَّاس من يشْتَرط الْعُلُوّ والاستعلاء كَقَوْل أَصْحَابنَا وَغَيرهم. انْتهى.
وَالظَّاهِر أَنه أَخذه من " المسودة " فَإِن الْمجد قَالَ فِيهَا: الْآمِر لَا بُد أَن يكون أعلا رُتْبَة من الْمَأْمُور من حَيْثُ هُوَ آمُر، وَإِلَّا كَانَ سؤالا وتضرعا، وَيُسمى أمرا مجَازًا، هَذَا قَول أَصْحَابنَا وَالْجُمْهُور، وَقَالَ بعض الأشعرية: لَا تشْتَرط الرُّتْبَة. انْتهى.
لَكِن لَيْسَ فِي كَلَام الْمجد إِلَّا أَن الْآمِر يكون أعلا رُتْبَة من الْمَأْمُور وَهُوَ(5/2174)
اشْتِرَاط الْعُلُوّ فَهُوَ مُوَافق لما نَقَلْنَاهُ عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَابْن قَاضِي الْجَبَل نسب إِلَى الْأَصْحَاب الْعُلُوّ والاستعلاء وَلم يعْتَبر وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَحَكَاهُ فِي " الْمَحْصُول " عَن أَصْحَابهم.
تَنْبِيه: تلخص فِي الْمَسْأَلَة أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: اعْتِبَار الْعُلُوّ والاستعلاء، وَالثَّانِي: عَكسه، وَالثَّالِث: اعْتِبَار الاستعلاء فَقَط، وَالرَّابِع: اعْتِبَار الْعُلُوّ فَقَط.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَلم يشْتَرط بعض الأشعرية الرُّتْبَة، فَعَزاهُ إِلَى بعض الأشعرية، قَالَ: وَحكي عَن الْمُعْتَزلَة، لقَوْل فِرْعَوْن: {فَمَاذَا تأمرون} [الْأَعْرَاف: 110] وأبطل الْعُلُوّ والاستعلاء ب (مَاذَا تأمرون) .
رد ذَلِك بِأَنَّهُ من قَول الْمَلأ، ثمَّ هُوَ استشارة؛ لِأَن من أَمر سَيّده أَحمَق إِجْمَاعًا.(5/2175)
قَالَ فِي " الْوَاضِح ": لَا خلاف أَنه من العَبْد لَيْسَ أمرا؛ لدنو الرُّتْبَة، وَأَجْمعُوا على اعْتِبَار الرُّتْبَة فِي الْحَد، وَهُوَ من المماثل سُؤال.
قَوْله: {فالاستعلاء طلب بغلظة، والعلو كَون الطَّالِب أَعلَى رُتْبَة، قَالَه الْقَرَافِيّ} .
فَقَالَ فِي " التَّنْقِيح ": الاستعلاء هَيْئَة فِي الْآمِر من الترفع وَإِظْهَار الْقَهْر والعلو يرجع إِلَى هَيْئَة الْآمِر من شرفه وعلو مَنْزِلَته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَأْمُور. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالْمرَاد بالعلو أَن يكون الْآمِر فِي نَفسه عَالِيا، أَي: أَعلَى دَرَجَة من الْمَأْمُور والاستعلاء أَن يَجْعَل الْآمِر نَفسه عَالِيا بكبرياء أَو غير ذَلِك، سَوَاء كَانَ فِي نفس الْأَمر كَذَلِك أَو لَا، فالعلو من الصِّفَات الْعَارِضَة لِلْأَمْرِ، والاستعلاء من صفة صِيغَة الْأَمر وهيئته نطقه مثلا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: فالعلو صفة للمتكلم، والاستعلاء صفة للْكَلَام.(5/2176)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَالْأَكْثَر لِلْأَمْرِ صِيغَة تدل بمجردها عَلَيْهِ لُغَة} .
نَقله عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره، وَقَالَ: هُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَوْزَاعِيّ، وَجَمَاعَة أهل الْعلم وَبِه يَقُول الْبَلْخِي من الْمُعْتَزلَة.
{وَقَالَ ابْن عقيل: الصِّيغَة الْأَمر} ، فَمنع أَن يُقَال: لِلْأَمْرِ صِيغَة، أَو أَن يُقَال: هِيَ دَالَّة عَلَيْهِ بل الصِّيغَة نَفسهَا هِيَ الْأَمر وَالشَّيْء لَا يدل على نَفسه.(5/2177)
وَإِنَّمَا يَصح عِنْد الْمُعْتَزلَة: الْأَمر الْإِرَادَة، أَو الأشعرية: الْأَمر معنى فِي النَّفس، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ صِيغَة الْأَمر كَقَوْلِك: ذَات الشَّيْء وَنَفسه.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: قَوْلهم لِلْأَمْرِ صِيغَة صَحِيح؛ لِأَن الْأَمر اللَّفْظ، وَالْمعْنَى فاللفظ دلّ على التَّرْكِيب وَلَيْسَ هُوَ عين الْمَدْلُول؛ وَلِأَن اللَّفْظ دلّ على صفته الَّتِي هِيَ الأمرية كَمَا يُقَال: يدل على كَونه أمرا، وَلم يقل: على الْأَمر.
وَقَالَ القَاضِي: الْأَمر يدل على طلب الْفِعْل واستدعائه، فَجعله مَدْلُول الْأَمر لَا عين الْأَمر.
{وَقَالَ القَاضِي} عَن قَول أَحْمد: من تَأَول الْقُرْآن على ظَاهره بِلَا أَدِلَّة من الرَّسُول وَلَا أحد من الصَّحَابَة فَهُوَ تَأْوِيل أهل الْبدع؛ لِأَن الْآيَة قد تكون(5/2178)
عَامَّة قصدت لشَيْء بِعَيْنِه، وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن كتاب الله: {ظَاهره: لَا صِيغَة لَهُ} ، بل الْوَقْف؛ {حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد} من وجوب وَندب، قَالَ بعض أَصْحَابنَا: نَص أَحْمد فِي الْعُمُوم، وَاعْتبر القَاضِي جنس الظَّاهِر وَهُوَ اعْتِبَار جيد.
فَيبقى قد حكى رِوَايَة بِمَنْع التَّمَسُّك بالظواهر الْمُجَرَّدَة؛ حَتَّى يعلم مَا يُفَسِّرهَا، وَهُوَ الْوَقْف الْمُطلق وقوفا شَرْعِيًّا؛ لمجيء التَّفْسِير وَالْبَيَان كثيرا مَعَ ظُهُوره لُغَة.
وَمن أَصْحَابنَا من يُفَسر هَذِه الرِّوَايَة بِمَا يُوَافق كَلَامه.
قَوْله: {وَعند [أَكثر] الْقَائِلين بِكَلَام النَّفس أَن لِلْأَمْرِ صِيغَة} .(5/2179)
{و} عِنْد {الْأَشْعَرِيّ} وَمن تبعه {لَا صِيغَة لَهُ.
فَقيل: مُشْتَركَة، وَقيل: لَا نَدْرِي} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: الْقَائِلُونَ بِالنَّفسِ اخْتلفُوا: هَل لَهُ صِيغَة تخصه؟ فَنقل عَن أبي الْحسن وَمن تَابعه النَّفْي، وَإِنَّمَا يدل عَلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ والقرائن، وَعَن غَيرهم: الْإِثْبَات.
وَنقل عَن الباقلاني أَنه قَالَ: لَا صِيغَة لَهُ تفيده بِنَفسِهَا، بل هِيَ كالزاي من زيد يَنْضَم إِلَيْهَا قرينَة فتفيد الْمَجْمُوع، ثمَّ قَالَ: اخْتلف ابْن كلاب والأشعري، وَكَانَ ابْن كلاب يَقُول: هِيَ حِكَايَة عَن الْأَمر، وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ: هِيَ عبارَة عَن الْمَعْنى النفساني. انْتهى.
وَقَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره: اخْتلف الْقَائِلُونَ بالْكلَام النَّفْسِيّ فِي أَن الْأَمر هَل لَهُ صِيغَة تخصه أم لَا؟ قَوْلَيْنِ:(5/2180)
أَحدهمَا: وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الْأَشْعَرِيّ أَنه لَيست لَهُ صِيغَة تخصه، فَقَوْل الْقَائِل: افْعَل، مُتَرَدّد بَين الْأَمر وَالنَّهْي، ثمَّ اخْتلف أَصْحَابه فِي تَحْقِيق مذْهبه.
فَقيل: أَرَادَ الْوَقْف، أَي: أَن قَول الْقَائِل: افْعَل، لَا يدْرِي وضع فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ لماذا؟
وَقيل: أَرَادَ الِاشْتِرَاك، أَي: أَن اللَّفْظ صَالح لجَمِيع المحامل صَلَاحِية اللَّفْظ الْمُشْتَرك للمعاني الَّتِي يثبت اللَّفْظ لَهَا.
الثَّانِي: أَن لَهُ صيغا تخصه لَا يفهم مِنْهَا غَيره عِنْد التجرد عَن الْقَرَائِن، كَفعل الْأَمر وَاسم الْفِعْل وَالْفِعْل الْمُضَارع المقرون بِاللَّامِ.
وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزالِيّ أَن الْخلاف فِي صِيغَة (افْعَل) دون قَول الْقَائِل: أَمرتك فأوجبت عَلَيْك، وندبت وألزمتك فَأَنت مَأْمُور فَإِنَّهُ من صِيغ الْأَمر بِلَا خلاف، وتبعهم جمَاعَة.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: لَا وَجه لهَذَا التَّخْصِيص فَإِن مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ أَن الْأَمر عبارَة عَن الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَلَيْسَ لَهُ صِيغَة تخصه، وَإِنَّمَا يعبر بِمَا يدل عَلَيْهِ؛ لانضمام الْقَرِينَة إِلَيْهِ. انْتهى.(5/2181)
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: لَا تشْتَرط} فِيهِ وَلَا فِي الْخَبَر {إِرَادَة} ، خلافًا {للمعتزلة} ، كاللغة إِجْمَاعًا، لَا تشْتَرط فِي الْأَمر إِرَادَة عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء خلافًا للمعتزلة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: هَذِه الْإِرَادَة نفس الصِّيغَة للطلب عِنْدهم؛ لِأَن للصيغة بضعَة عشر محملًا لَا يتَعَيَّن أَحدهَا إِلَّا بالإرادة.
ثمَّ قَالَ: لنا أَن الله تَعَالَى أَمر إِبْرَاهِيم بِذبح وَلَده وَلم يردهُ مِنْهُ، وَأمر إِبْلِيس بِالسُّجُود وَلم يردهُ مِنْهُ، وَلَو أَرَادَهُ لوقع؛ لِأَنَّهُ فعال لما يُرِيد؛ وَلِأَن الله تَعَالَى أَمر برد الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا، ثمَّ إِنَّه لَو قَالَ: وَالله لأؤدين أمانتك إِلَيْك غَدا إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلم يفعل لم يَحْنَث، وَلَو كَانَ مُرَاد الله لوَجَبَ أَن يَحْنَث وَلَا حنث بِالْإِجْمَاع، خلافًا لمن حنثه كالجبائي، وخرق الْإِجْمَاع.(5/2182)
قَالَ الشَّيْخ الْمُوفق، والطوفي، وَغَيرهمَا من الْأَصْحَاب: لنا على أَن الْأَمر لَا تشْتَرط لَهُ إِرَادَة، إِجْمَاع أهل اللُّغَة على عدم اشْتِرَاطهَا.
قَالُوا: الصِّيغَة مستعملة فِيمَا سبق من الْمعَانِي فَلَا يتَعَيَّن الْأَمر إِلَّا بالإرادة؛ إِذْ لَيست أمرا لذاتها وَلَا لتجردها عَن الْقَرَائِن.
قُلْنَا: اسْتِعْمَالهَا فِي غير الْأَمر مجَاز، فَهِيَ بإطلاقها لَهُ، ثمَّ الْأَمر والإرادة ينفكان كمن يَأْمر وَلَا يُرِيد، أَو يُرِيد وَلَا يَأْمر فَلَا يتلازمان، وَإِلَّا اجْتمع النقيضان.
تَنْبِيه: وَأما الْخَبَر فَلَا تشْتَرط فِيهِ إِرَادَة أَيْضا على الصَّحِيح من قولي(5/2183)
الْعلمَاء، والمخالف فِي ذَلِك الْمُعْتَزلَة كَمَا قَالُوا فِي الْأَمر.
قَالَت الْمُعْتَزلَة: الْخَبَر يَأْتِي دُعَاء كَقَوْلِه: غفر الله لنا، وَيَأْتِي تهديدا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {سنفرغ لكم أيه الثَّقَلَان} [الرَّحْمَن: 31] ، وَيَأْتِي أمرا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] ، فَإِذا اخْتلف موارد الِاسْتِعْمَال لم يتَعَيَّن الْخَبَر إِلَّا بِإِرَادَة.
وَجَوَابه: أَن الصِّيغَة حَقِيقَة فِي الْخَبَر فتصرف لمدلولها وضعا لَا بالإرادة، وإتيانه لهَذِهِ الْمعَانِي مجَاز؛ لِأَن الْمجَاز صرفهَا عَن حَقِيقَتهَا إِلَى ذَلِك الْمَعْنى {قَوْله: كاللغة إِجْمَاعًا} ، قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا تشْتَرط الْإِرَادَة لُغَة إِجْمَاعًا.
قَوْله: {الثَّانِيَة: ترد صِيغَة (افْعَل) } لمعان كَثِيرَة.
أَحدهَا: الْوُجُوب، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} [الْإِسْرَاء: 78] ، {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} [الْبَقَرَة: 43] إِذا كَانَ المُرَاد بهَا الصَّلَوَات الْخمس، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " بِخِلَاف نَحْو: {وصل عَلَيْهِم} [التَّوْبَة: 103] .(5/2184)
وَمن الْوُجُوب أَيْضا: {لينفق ذُو سَعَة من سعته} [الطَّلَاق: 7] ، {وليتق الله ربه} [الْبَقَرَة: 283] .
قَوْله: الثَّانِي: النّدب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] فَإِنَّهُ للنَّدْب على الْأَصَح عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء، وَرُوِيَ عَن دَاوُد وَجمع أَنه للْوُجُوب.
قلت: حمل الْآيَة على الْوُجُوب هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَأَنه يجب إتْيَان العَبْد شَيْئا من الْكِتَابَة.
وَحَكَاهُ الشَّيْخ موفق الدّين وَالشَّارِح عَن الشَّافِعِي وَإِسْحَاق.
وَحكي الِاسْتِحْبَاب عَن أبي حنيفَة وَمَالك، لَكِن الشَّيْخ موفق الدّين فِي " الرَّوْضَة "، وَغَيره من أَصْحَاب الْأُصُول من أَصْحَابنَا اسْتشْهدُوا للاستحباب بِآيَة الْمكَاتب، وَهَذَا لَا يضر فَإِن الاستشهاد يجوز وَلَو على قَول من أَقْوَال الْعلمَاء لَا سِيمَا فِي الْمحل؛ فَإِن أَكثر أهل الْعلم قد قَالُوا:(5/2185)
إِن الْأَمر فِي الْآيَة للاستحباب، وَقَالُوا: إِن قرينَة صرفه عَن الْوُجُوب إِمَّا لكَونه علق على رَأْي السادات، أَو لكَونه أمرا بعد حظر، وَالله أعلم.
وَالْأولَى فِي الاستشهاد للاستحباب قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " استاكوا ".
الثَّالِث: الْإِبَاحَة، كَقَوْلِه: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2] ، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] .
وَاعْلَم أَن الْإِبَاحَة إِنَّمَا تستفاد من خَارج؛ فلهذه الْقَرِينَة يحمل الْأَمر عَلَيْهَا مجَازًا بعلاقة المشابهة المعنوية؛ لِأَن كلا مِنْهُمَا مَأْذُون فِيهِ.
الرَّابِع: الْإِرْشَاد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَنَحْوه: {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} [الْبَقَرَة: 282] ، وَالضَّابِط فِيهِ أَن يرجع لمصْلحَة فِي الدُّنْيَا بِخِلَاف النّدب فَإِنَّهُ لمصَالح الْآخِرَة.
وَأَيْضًا الْإِرْشَاد لَا ثَوَاب فِيهِ وَالنَّدْب فِيهِ الثَّوَاب.(5/2186)
الْخَامِس: الْإِذْن، كَقَوْلِك لمستأذن عَلَيْك: ادخل. وَمِنْهُم من يدْخل هَذَا فِي قسم الْإِبَاحَة، وَقد يُقَال: الْإِبَاحَة إِنَّمَا تكون من صِيغ الشَّرْع الَّذِي لَهُ الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم، وَإِنَّمَا الْإِذْن يعلم بِأَن الشَّرْع أَبَاحَهُ دُخُول ملك ذَلِك الآذان مثلا فتغايرا.
السَّادِس: التَّأْدِيب، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر بن أبي سَلمَة: " يَا غُلَام سم الله وكل بيمينك وكل مِمَّا يليك " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَقَالَ لعكراش: " كل من مَوضِع وَاحِد فَإِنَّهُ طَعَام وَاحِد ".
وَمِنْهُم من يدْخل ذَلِك فِي قسم النّدب، مِنْهُم: الْبَيْضَاوِيّ، وَمِنْهُم من قَالَ: يقرب من النّدب، وَهُوَ يدل على الْمُغَايرَة.(5/2187)
وَالظَّاهِر أَن بَينهمَا عُمُوما وخصوصا من وَجه؛ لِأَن الْأَدَب مُتَعَلق بمحاسن الْأَخْلَاق أَعم من أَن يكون بَين مُكَلّف أَو غَيره؛ لِأَن عمر كَانَ صَغِيرا، وَالنَّدْب يخْتَص بالمكلف وأعم من أَن يكون من محَاسِن الْأَخْلَاق وَغَيرهَا.
السَّابِع: الامتنان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كلوا مِمَّا رزقكم الله} [الْأَنْعَام: 142] ، وَسَماهُ أَبُو الْمَعَالِي: الإنعام، وَالْفرق بَينه وَبَين الْإِبَاحَة أَنَّهَا مُجَرّد إِذن، والامتنان لَا بُد فِيهِ من اقتران حَاجَة الْخلق لذَلِك وَعدم قدرتهم عَلَيْهِ.
والعلاقة بَين الامتنان وَالْوُجُوب المشابهة فِي الْإِذْن، إِذْ الْمَمْنُون لَا يكون إِلَّا مَأْذُونا فِيهِ.
الثَّامِن: الْإِكْرَام، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخلوها بِسَلام آمِنين} [الْحجر: 46] فَإِن قرينَة " بِسَلام آمِنين " يدل على الْإِكْرَام.
التَّاسِع: الْجَزَاء، كَقَوْلِه: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32] .(5/2188)
الْعَاشِر: الْوَعْد، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لبني تَمِيم: " أَبْشِرُوا "، وَقَوله تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم توعدون} [فصلت: 30] ، وَقد يُقَال بِدُخُول ذَلِك فِي الامتنان فَإِن بشرى العَبْد منَّة عَلَيْهِ.
الْحَادِي عشر: التهديد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] ، وَقَوله: {واستفزز ماستطعت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} الْآيَة [الْإِسْرَاء: 64] .
الثَّانِي عشر: الْإِنْذَار، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} [إِبْرَاهِيم: 30] .
وَقد جعله قوم قسما من التهديد، وَهُوَ ظَاهر الْبَيْضَاوِيّ، وَالصَّوَاب.(5/2189)
الْمُغَايرَة، وَالْفرق: أَن التهديد هُوَ التخويف، والإنذار إبلاغ الْمخوف، كَمَا فسره الْجَوْهَرِي بهما.
وَقيل: الْإِنْذَار يجب أَن يكون مَقْرُونا بالوعيد كالآية، والتهديد لَا يجب فِيهِ ذَلِك، بل قد يكون مَقْرُونا وَقد لَا يكون مَقْرُونا.
وَقيل: التهديد عرفا أبلغ فِي الْوَعيد وَالْغَضَب من الْإِنْذَار.
الثَّالِث عشر: التحسير والتلهيف، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمرَان: 119] ، وَمثله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] حَكَاهُ ابْن فَارس.
الرَّابِع عشر: التسخير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} [الْبَقَرَة: 65] ، وَالْمرَاد بالتسخير هُنَا السخرية بالمخاطب بِهِ لَا بِمَعْنى التكوين، كَمَا قَالَه بَعضهم.
الْخَامِس عشر: التَّعْجِيز، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَأتوا بِسُورَة مثله} [يُونُس: 38] .(5/2190)
والعلاقة بَينه وَبَين الْوُجُوب: المضادة؛ لِأَن التَّعْجِيز إِنَّمَا هُوَ فِي الممتنعات والإيجاب فِي الممكنات وَمثله {فليأتوا بِحَدِيث مثله} [الطّور: 34] ، وَمثله بَعضهم بقوله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} [الْإِسْرَاء: 50] .
وَالْفرق بَين التَّعْجِيز والتسخير: أَن التسخير نوع من التكوين، فَمَعْنَى كونُوا قردة: انقلبوا إِلَيْهَا، وَأما التَّعْجِيز فإلزامهم أَن ينقلبوا، وهم لَا يقدرُونَ أَن ينقلبوا.
قَالَ ابْن عَطِيَّة فِي " تَفْسِيره ": فِي التَّمَسُّك بِهَذَا نظر، وَإِنَّمَا التَّعْجِيز حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمر فعل مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْمُخَاطب، نَحْو: {فادرءوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت} [آل عمرَان: 168] .
السَّادِس عشر: الإهانة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] ، وَمِنْهُم من يُسَمِّيه التهكم، وضابطه: أَن يَأْتِي بِلَفْظ ظَاهره الْخَيْر والكرامة وَالْمرَاد ضِدّه، ويمثل بقوله تَعَالَى: {وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} [الْإِسْرَاء: 64] ، والعلاقة أَيْضا هُنَا المضادة.(5/2191)
السَّابِع عشر: الاحتقار، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى يُخَاطب السَّحَرَة: {ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} [الشُّعَرَاء: 43] ؛ إِذْ أَمرهم فِي مُقَابلَة المعجزة حقير، وَهُوَ مِمَّا أوردهُ الْبَيْضَاوِيّ.
وَالْفرق بَينه وَبَين الإهانة: أَنَّهَا إِمَّا بقول أَو فعل أَو تَقْرِير كَتَرْكِ إجَابَته أَو نَحْو ذَلِك لَا بِمُجَرَّد اعْتِقَاد، والاحتقار قد يكون بِمُجَرَّد اعْتِقَاد؛ فَلهَذَا يُقَال فِي مثل ذَلِك: احتقره، وَلَا يُقَال: أهانه، وَأجِيب عَن ذَلِك.
الثَّامِن عشر: التَّسْوِيَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} [الطّور: 16] بعد قَوْله: {اصلوها} أَي: هَذِه التصلية لكم سَوَاء صَبَرْتُمْ، أَو لَا، فالحالتان سَوَاء. والعلاقة المضادة؛ لِأَن التَّسْوِيَة بَين الْفِعْل [وَالتّرْك] مضادة لوُجُوب الْفِعْل، وَمِنْه قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي هُرَيْرَة: " فاختص على ذَلِك أَو ذَر " رَوَاهُ البُخَارِيّ.(5/2192)
التَّاسِع عشر: الدُّعَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {رب اغْفِر لي ولوالدي} [نوح: 28] ، {رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا} [آل عمرَان: 147] ، وَكله طلب أَن يعطيهم ذَلِك على وَجه التفضل وَالْإِحْسَان.
والعلاقة بَينه وَبَين الْإِيجَاب طلب أَن يَقع ذَلِك لَا محَالة.
الْعشْرُونَ: التَّمَنِّي، كَقَوْل امريء الْقَيْس:
(أَلا أَيهَا اللَّيْل الطَّوِيل أَلا انجلي ... )
وَإِنَّمَا حمل على التَّمَنِّي دون الترجي؛ لِأَنَّهُ أبلغ؛ لِأَنَّهُ نزل ليله لطوله منزلَة المستحيل انجلاؤه كَمَا قَالَ الآخر:
(وليل الْمُحب بِلَا آخر ... )
قَالَ بَعضهم: وَالْأَحْسَن تَمْثِيل هَذَا كُله كَمَا مثله ابْن فَارس لشخص ترَاهُ: كن فلَانا، وَفِي الحَدِيث قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ على تَبُوك: " كن أَبَا ذَر "،(5/2193)
وَرَأى آخر فَقَالَ: " كن أَبَا خَيْثَمَة "؛ لِأَن [بَيت] امريء الْقَيْس قد يدعى استفادة التَّمَنِّي [فِيهِ] من أَلا لَا من صِيغَة (افْعَل) بِخِلَاف هَذَا الْمِثَال.
وَقد يُقَال: إِن (أَلا) قرينَة إِرَادَة التَّمَنِّي ب (افْعَل) ، وَأما (كن فلَانا) فَلَيْسَ تمنيا أَن يكون إِيَّاه، بل الْجَزْم بِهِ، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يكون كَذَلِك، فَلَمَّا احْتمل هَذَا المثالين ذكرتهما.
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: كَمَال الْقُدْرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] هَكَذَا سَمَّاهُ الْغَزالِيّ والآمدي، وَبَعْضهمْ عبر عَنهُ بالتكوين، وَسَماهُ الْقفال وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو(5/2194)
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ التسخير، فَهُوَ تفعيل من كَانَ بِمَعْنى وجد، فتكوين الشَّيْء إيجاده من الْعَدَم، وَالله تَعَالَى هُوَ الموجد لكل شَيْء وخالقه.
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: أَن يكون الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا} [التَّوْبَة: 82] ، وَقَوله تَعَالَى: {فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} [مَرْيَم: 75] ، {ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12] ، {أسمع بهم وَأبْصر} [مَرْيَم: 38] ، وَمِنْه - على رَأْي -: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت ".
تَنْبِيه: كَمَا جَاءَ الْأَمر بِمَعْنى الْخَبَر جَاءَ الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} [الْبَقَرَة: 233] وَكَذَا يَجِيء بِمَعْنى النَّهْي كَمَا فِي حَدِيث رَوَاهُ ابْن ماجة بِسَنَد جيد: أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تزوج المرأةُ الْمَرْأَة، وَلَا تزوج الْمَرْأَة نَفسهَا " بِالرَّفْع؛ إِذْ لَو كَانَ نهيا لجزم فيكسر لالتقاء الساكنين.(5/2195)
قَالَ أَرْبَاب الْمعَانِي وَهُوَ أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي؛ لِأَن الْمُتَكَلّم لشدَّة طلبه نزل الْمَطْلُوب منزلَة الْوَاقِع لَا محَالة.
وَمن هُنَا تعرف العلاقة فِي إِطْلَاق الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي.
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: التَّفْوِيض، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} [طه: 72] ذكره أَبُو الْمَعَالِي، وَيُسمى أَيْضا التَّحْكِيم، وَسَماهُ ابْن فَارس والعبادي: التَّسْلِيم، وَسَماهُ نصر بن مُحَمَّد الْمروزِي: الاستبسال، قَالَ: أعلموه أَنهم قد اسْتَعدوا لَهُ بِالصبرِ، وَأَنَّهُمْ غير تاركين لدينهم، وَأَنَّهُمْ يستقلون مَا هُوَ فَاعل فِي جنب مَا يتوقعونه من ثَوَاب الله تَعَالَى.
قَالَ: وَمِنْه قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} [يُونُس: 71] أخْبرهُم بهوانهم.(5/2196)
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: التَّكْذِيب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} [آل عمرَان: 93] ، وَمِنْه: {فَأتوا بِسُورَة من مثله} [الْبَقَرَة: 23] ، {قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ} الْآيَة [الْأَنْعَام: 150] .
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: المشورة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَانْظُر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] فِي قَول إِبْرَاهِيم لِابْنِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِشَارَة إِلَى مشاورته فِي هَذَا الْأَمر وَهُوَ قَوْله: {يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك فَانْظُر مَاذَا ترى} [الصافات: 102] ، ذكره الْعَبَّادِيّ.
السَّادِس وَالْعشْرُونَ: الِاعْتِبَار، كَقَوْلِه تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه} [الْأَنْعَام: 99] فَإِن فِي ذَلِك عِبْرَة لمن يعْتَبر.
السَّابِع وَالْعشْرُونَ: التَّعَجُّب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال} [الْإِسْرَاء: 48] قَالَه الْفَارِسِي، وَمثله الْهِنْدِيّ بقوله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} [الْإِسْرَاء: 50] .(5/2197)
وَتقدم أَن بَعضهم مثل بِهِ للتعجيز، وَأَن ابْن عَطِيَّة قَالَ: فِيهِ نظر، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهُوَ الظَّاهِر فَإِن التَّمْثِيل بِهِ للتعجب أوضح؛ لِأَن المُرَاد التَّعَجُّب.
الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: إِرَادَة امْتِثَال أَمر آخر، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل "، فَإِنَّمَا الْمَقْصُود الاستسلام والكف عَن الْفِتَن.
فَهَذَا الَّذِي وَقع اختيارنا عَلَيْهِ، وَقد ذكر جمَاعَة من الْعلمَاء غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ نظر، مِنْهَا - وَهُوَ -:(5/2198)
التَّاسِع وَالْعشْرُونَ: التَّخْيِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} [الْمَائِدَة: 42] ، ذكره الْقفال.
وَقد يُقَال: نفس صِيغَة (افْعَل) لَيْسَ فِيهَا تَخْيِير [إِلَّا] بانضمام أَمر آخر يفِيدهُ، لَكِن تَمْثِيل ذَلِك يَأْتِي فِي التَّسْوِيَة.
وَمِنْهَا - وَهُوَ - الثَّلَاثُونَ: الِاحْتِيَاط، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا " بِدَلِيل " فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده ". قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا دَاخل تَحت النّدب، فَلَا حَاجَة لإفراده.
قلت: لَيست فِي هَذَا صِيغَة أَمر، وَإِنَّمَا هُوَ صِيغَة نهي كَمَا ترى.(5/2199)
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: الْوَعيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقل الْحق من ربكُم فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} [الْكَهْف: 29] ، وَلَكِن هَذَا من التهديد، وَقَالَ بَعضهم: التهديد أبلغ من الْوَعيد.
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الالتماس، كَقَوْلِك لنظيرك: افْعَل. وَهَذَا يَأْتِي على رَأْي كَمَا تقدم، وَهُوَ وَشبهه مِمَّا يقل جدواه فِي دَلَائِل الْأَحْكَام.
وَمِنْهَا - وَهُوَ - الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ: التصبر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا تحزن إِن الله مَعنا} [التَّوْبَة: 40] ، {فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا} [الطارق: 17] ، {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} [الزخرف: 83] ، ذكره الْقفال.
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: قرب الْمنزلَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {ادخُلُوا الْجنَّة} [الْأَعْرَاف: 49] .(5/2200)
قَالَ بَعضهم: وَمِنْهَا - وَهُوَ - الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ: التحذير والإخبار عَمَّا يؤول الْأَمر إِلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام} [هود: 65] ، قَالَه الصَّيْرَفِي.
وَمِنْهَا: - وَهُوَ - السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ: التحسير والتلهيف، ذكره ابْن فَارس، وَمثله بقوله تَعَالَى: {قل موتوا بغيظكم} [آل عمرَان: 119] ، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] ، وَقد تقدم أَنهم مثلُوا ذَلِك للتحسير لَا غير.(5/2201)
(قَوْله: {فصل} )
{أَحْمد وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر: الْأَمر الْمُجَرّد عَن قرينَة حَقِيقَة فِي الْوُجُوب} .
هَذَا مَذْهَب إمامنا وَأَصْحَابه وَجُمْهُور الْعلمَاء من أَرْبَاب الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي " شرح اللمع "، وَابْن برهَان فِي " الْوَجِيز ": هَذَا مَذْهَب الْفُقَهَاء.
ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَب هَل اقْتِضَاء الْوُجُوب بِوَضْع اللُّغَة، أم(5/2202)
بِالشَّرْعِ، أم بِالْعقلِ؟ ثَلَاثَة مَذَاهِب، اخْتَار أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ، وَابْن حمدَان من أَصْحَابنَا أَنه اقْتَضَاهُ بِوَضْع الشَّرْع.
وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن الشَّافِعِي أَنه اقْتَضَاهُ بِوَضْع اللُّغَة.
وَاخْتَارَ بَعضهم أَنه اقْتَضَاهُ بِالْعقلِ، قَالَ ابْن مُفْلِح من أَصْحَابنَا وَغَيره: وَمنع أَصْحَابنَا وَغَيرهم حسن الِاسْتِفْهَام.
وَاسْتدلَّ لمَذْهَب الْجُمْهُور بقوله تَعَالَى: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} [النُّور: 63] ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ، ذمهم وذم إِبْلِيس على مُخَالفَة الْأَمر الْمُجَرّد، وَدَعوى قرينَة الْوُجُوب واقتضاء تِلْكَ اللُّغَة لُغَة لَهُ دون هَذِه غير مسموعة، وَأَن السَّيِّد لَا يلام على عِقَاب عَبده على مُخَالفَة مُجَرّد أمره بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء.(5/2203)
الْمَذْهَب الثَّانِي: أَنه حَقِيقَة للنَّدْب، اخْتَارَهُ أَبُو هَاشم، نَقله ابْن الْحَاجِب.
ونوزع بِأَن عِبَارَته لَا تَقْتَضِيه، وَنَقله أَيْضا عَن كثير من الْمُتَكَلِّمين. وَنَقله أَبُو حَامِد عَن الْمُعْتَزلَة بأسرها، وَنَقله الْغَزالِيّ والآمدي عَن الشَّافِعِي، وَقَالَهُ بعض الشَّافِعِيَّة.
وَرُوِيَ عَن أَحْمد أَنه قَالَ: مَا أَمر بِهِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسهل مِمَّا نهى عَنهُ.
قَالَ جمَاعَة من أَصْحَابنَا: لَعَلَّه أَرَادَ لِأَن جمَاعَة قَالُوا: الْأَمر للنَّدْب وَلَا تكْرَار، وَالنَّهْي للتَّحْرِيم والدوام، لِئَلَّا يُخَالف نصوصه.
وَأما أَبُو الْخطاب فَإِنَّهُ أَخذ مِنْهُ أَنه للنَّدْب.
وَوجه هَذَا القَوْل: أَنا نحمل الْأَمر الْمُطلق على مُطلق الرجحان،(5/2204)
ونفيا للعقاب بالاستصحاب، وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم "، فَرده إِلَى استطاعتنا؛ وَلِأَنَّهُ الْيَقِين؛ وَلِأَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة.
رد الأول بِأَن كل وَاجِب كَذَلِك، وَالثَّانِي: بِأَن الْإِبَاحَة أولى لتيقن نفي الْحَرج عَن الْفِعْل بِخِلَاف رُجْحَان جَانِبه.
الْمَذْهَب الثَّالِث: أَنه حَقِيقَة فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا، أَي: الطّلب الْمُشْتَرك، أَي: مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب وَهُوَ الطّلب فَيكون من المتواطيء، اخْتَارَهُ الماتريدي من الْحَنَفِيَّة، لَكِن قَالَ:(5/2205)
يحكم بِالْوُجُوب ظَاهرا فِي حق الْعَمَل احْتِيَاطًا دون الِاعْتِقَاد. انْتهى.
وَاسْتدلَّ لذَلِك بِأَن الشَّارِع أطلق، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة، وَيحسن الِاسْتِفْهَام، وَالتَّقْيِيد: أفعل وَاجِبا أَو ندبا.
رد: خلاف الأَصْل.
وَمنع أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ لَا يحسن الِاسْتِفْهَام كَمَا تقدم، وَبِأَنَّهُ يبطل بأسماء الْحَقَائِق، وَالتَّقْيِيد بِالْوُجُوب تَأْكِيد، وَبِغَيْرِهِ: قرينَة صارفة.
الْمَذْهَب الرَّابِع: أَنه {للاشتراك اللَّفْظِيّ} ، جزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمُنْتَخب "، وَصَاحب " التَّحْصِيل "، كِلَاهُمَا فِي بَاب الِاشْتِرَاك، فَيكون على هَذَا مُشْتَركا لَا متواطئا.(5/2206)
الْمَذْهَب الْخَامِس: الْوَقْف، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": قَالَ الْأَشْعَرِيّ والباقلاني وَغَيرهمَا بِالْوَقْفِ فيهمَا، أَي: فِي الِاشْتِرَاك أَو الِانْفِرَاد.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: قَالَ القَاضِي وَأَتْبَاعه: حَقِيقَة إِمَّا فِي الْوُجُوب وَإِمَّا فِي النّدب، وَإِمَّا فيهمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ، لَكنا لَا نَدْرِي مَا هُوَ الْوَاقِع من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة.
وَنَقله ابْن الْقطَّان عَن ابْن سُرَيج وَنسبه إِلَى الشَّافِعِي.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: حكى الْهِنْدِيّ عَن القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ التَّوَقُّف فِي أَنه حَقِيقَة فِي الْوُجُوب فَقَط أَو النّدب فَقَط، أَو فيهمَا بالاشتراك اللَّفْظِيّ أَو الْمَعْنَوِيّ، فَزَاد على القَوْل الَّذِي قبله أمرا رَابِعا.(5/2207)
الْمَذْهَب السَّادِس: أَنه حَقِيقَة فِي الْإِبَاحَة؛ لِأَن الْجَوَاز مُطلق وَالْأَصْل عدم الطّلب.
الْمَذْهَب السَّابِع: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فِي الثَّلَاثَة.
الْمَذْهَب الثَّامِن: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ فِي الثَّلَاثَة، وَهُوَ الْإِذْن فَيكون من المتواطيء، حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب والبرماوي وَغَيرهمَا، وَمَا علل بِهِ القَوْل بالاشتراك فِي الْمَذْهَب الثَّالِث يُعلل بِهِ هَهُنَا.
الْمَذْهَب التَّاسِع: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِيهِنَّ، وَفِي التهديد وَهُوَ قَول الشِّيعَة فَهُوَ قريب من قَول من قَالَ: إِنَّه مُشْتَرك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة؛ لِأَن التهديد يدْخل تَحْتَهُ التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة لَكِن غاير بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ.(5/2208)
الْمَذْهَب الْعَاشِر: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِي الْأَرْبَعَة وَفِي الْإِرْشَاد، حَكَاهُ الْغَزالِيّ.
الْمَذْهَب الْحَادِي عشر: أَنه حَقِيقَة فِي الِاشْتِرَاك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة، حَكَاهُ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول "، وَكَأن المُرَاد بِالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَة، مَا تضمنه التهديد وَنسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ.
الْمَذْهَب الثَّانِي عشر: هُوَ حَقِيقَة مَوْضُوع لوَاحِد من هَذِه الْخَمْسَة وَلَا نعلمهُ، نَقله فِي " الْبُرْهَان "، وَنسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ أَيْضا.
فَإِن قيل: كَيفَ يسْتَعْمل لفظ الْأَمر فِي التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة؟
قيل: لِأَنَّهُ يسْتَعْمل فِي التهديد والمهدد عَلَيْهِ إِمَّا حرَام أَو مَكْرُوه كَمَا تقدم فِي أَنه مُشْتَرك فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة.
الْمَذْهَب الثَّالِث عشر: قَالَه الْأَبْهَرِيّ فِي بعض أَقْوَاله، حَكَاهُ عَنهُ تِلْمِيذه القَاضِي عبد الْوَهَّاب فِي " ملخصه " أَن أَمر الله تَعَالَى للْإِيجَاب، وَأمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُبْتَدَأ للنَّدْب، أَي: الَّذِي لَيْسَ مُوَافقا لنَصّ أَو بَيَانا لمجمل.(5/2209)
وَحَكَاهُ القيرواني فِي " الْمُسْتَوْعب " عَن الْأَبْهَرِيّ أَيْضا فِي بعض أَقْوَاله، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه حَقِيقَة فِي النّدب، فَيكون لَهُ قَولَانِ.
الْمَذْهَب الرَّابِع عشر: اخْتَارَهُ أَبُو الْمَعَالِي ابْن منجا من أَصْحَابنَا: الْفرق بَين أَمر الشَّارِع وَغَيره فَأمر الشَّارِع للْوُجُوب دونه غَيره، وَبنى على ذَلِك من أخر دفع مَال أَمر بِدَفْعِهِ بِلَا عذر، قَالَ: لَا يضمن بِنَاء على اخْتِصَاص الْوُجُوب بِأَمْر الشَّارِع.
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يضمن بِنَاء على الْقَاعِدَة.
قد سبق فِي آخر الْأَحْكَام إِذا نسخ الْوُجُوب أَو صرف الْأَمر عَن الْوُجُوب هَل يبْقى النّدب أَو غَيره؟ فَإِن لَهُ تعلقا بِهَذَا الْموضع ويذكره بَعضهم هُنَا.(5/2210)
(قَوْله: {فصل} )
قَالَ الإِمَام {أَحْمد وَأكْثر الْأَصْحَاب، والأستاذ} أَبُو إِسْحَاق، {وَغَيرهم: الْأَمر بِلَا قرينَة} - أَي: الْأَمر الْمُطلق الَّذِي لَيْسَ مُقَيّدا بِمرَّة وَلَا تكْرَار - {للتكرار حسب الْإِمْكَان} .
ذكره ابْن عقيل مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَأَصْحَابه، وَذكره الشَّيْخ مجد الدّين عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ.
قَالَ الْآمِدِيّ: وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين.(5/2211)
وَذكره ابْن برهَان عَن الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن الْمُزنِيّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي.
وَحكي عَن القَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَنَقله الْغَزالِيّ فِي " المنخول " عَن أبي حنيفَة والمعتزلة، وَنَقله الْبَاجِيّ عَن ابْن خويزمنداد، وَحَكَاهُ ابْن الْقصار عَن مَالك: فَيجب اسْتِيعَاب الْعُمر بِهِ دون أزمنة قَضَاء الْحَاجة وَالنَّوْم، وضروريات الْإِنْسَان.(5/2212)
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة: لَا يَقْتَضِي التّكْرَار إِلَّا بِقَرِينَة وَبلا قرينَة لَا يَقْتَضِيهِ، واختارها الشَّيْخ موفق الدّين والطوفي، وَهُوَ قَول أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين، نَقله ابْن مُفْلِح، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَنَقله عَن الأقلين، وَرجحه الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَذكر أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي - من أَصْحَابنَا - أَنه قَول الإِمَام أَحْمد، وَأَن أَصْحَابه اخْتلفُوا، وَاخْتلف اخْتِيَار القَاضِي أبي يعلى من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فَتَارَة قَالَ بِالْأولِ، وَتارَة بِهَذَا، فعلى هَذَا القَوْل يُفِيد طلب الْمَاهِيّة من غير إِشْعَار بوحدة، وَلَا بِكَثْرَة إِلَّا أَنه لَا يُمكن [إِدْخَال] الْمَاهِيّة فِي الْوُجُود بِأَقَلّ من مرّة فَصَارَت الْمرة من ضروريات الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ لَا أَن الْأَمر يدل عَلَيْهَا بِذَاتِهِ، بل بطرِيق الْإِلْزَام.(5/2213)
7
- {وَقيل: يَقْتَضِي فعل مرّة} بِلَفْظِهِ وَوَضعه، حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن أَكثر أَصْحَابهم، وَأبي حنيفَة، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَعَن اخْتِيَار أبي الطّيب، وَأبي حَامِد.
قَالَ أَبُو حَامِد: وَهُوَ مُقْتَضى قَول الشَّافِعِي.
وَحَكَاهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " عَن أَكثر الْفُقَهَاء، والمتكلمين وَأَنه أقوى. انْتهى.
فعلى هَذَا القَوْل وَالَّذِي قبله {يحْتَمل الزَّائِد التّكْرَار، وَهُوَ الْأَشْهر للشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ} الْآمِدِيّ وَغَيره.
وَقيل: لَا يَقْتَضِي وَلَا يحْتَمل التّكْرَار، {اخْتَارَهُ كثير من الْحَنَفِيَّة} قَالَ السَّرخسِيّ: الْأَصَح عَن عُلَمَائهمْ لَا يحْتَملهُ.(5/2214)
قَوْلنَا: {ووقف أَبُو الْمَعَالِي} ، أَي: وقف فِي الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخيرينِ وَهُوَ احْتِمَال التّكْرَار وَعَدَمه.
وَقَوْلنَا: {الْوَقْف مُطلقًا للباقلاني وَجمع} ، أَي: الْوَقْف فِي أصل الْمَسْأَلَة هَل يَقْتَضِي التّكْرَار، أَو الْمرة، أَو لَا يَقْتَضِي هَذَا، وَلَا هَذَا أَو لكَونه مُشْتَركا بَين الْمرة والتكرار؟
فَيُوقف إعماله فِي أَحدهمَا على قرينَة أَو لكَونه لأَحَدهمَا وَلَا نعرفه فَيتَوَقَّف لعدم علمنَا بالواقع.
ومنشأ الْخلاف اسْتِعْمَاله فيهمَا، كأمر الْحَج وَالْعمْرَة، وَأمر الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم، هَل هُوَ حَقِيقَة فيهمَا - لِأَن الأَصْل فِي الِاسْتِعْمَال الْحَقِيقَة -، أَو فِي أَحدهمَا؟ حذرا من الِاشْتِرَاك وَلَا نعرفه، أَو هُوَ التّكْرَار؛ لِأَنَّهُ الْأَغْلَب، أَو الْمرة؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقن، أَو فِي الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا حذرا من الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز؟(5/2215)
احْتج القَوْل الأول بِأَن النَّهْي يَقْتَضِي تكْرَار التّرْك، وَالْأَمر يَقْتَضِيهِ فَيَقْتَضِي تكْرَار ترك الْفِعْل؛ وَلِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه فَيَقْتَضِي تكْرَار ترك الضِّدّ.
وَأجِيب عَن الأول بِأَن الْأَمر يَقْتَضِي فعل الْمَاهِيّة، وَهُوَ حَاصِل بِفعل فَرد من أفرادها فِي زمن مَا، وَالنَّهْي يَقْتَضِي تَركهَا، وَلَا يحصل إِلَّا بترك جَمِيع أفرادها فِي كل زمَان فَافْتَرقَا.
وَعَن الثَّانِي بِمَنْع أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، وَإِن سلم فَلَا يلْزم من ترك الضِّدّ الْمنْهِي عَنهُ التَّلَبُّس بالضد الْمَأْمُور بِهِ لجَوَاز أَن يكون للمنهي عَنهُ أضداد فيتلبس بِغَيْر الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بتكرار الصَّوْم وَالصَّلَاة.
رد: التّكْرَار فيهمَا بِدَلِيل، وعورض بِالْحَجِّ، وَأَيْضًا كالنهي؛ لِأَنَّهُمَا طلب.
[رد] قِيَاس فِي اللُّغَة وَبِأَن النَّهْي يَقْتَضِي النَّفْي، وَلِهَذَا لَو قَالَ: لَا يفعل كَذَا مرّة عَم، وَبِأَن التّكْرَار فِي النَّهْي لَا يمْنَع من فعل غَيره بِخِلَافِهِ فِي الْأَمر.(5/2216)
وَأَيْضًا الْأَمر نهي عَن ضِدّه، وَالنَّهْي يعم فَيلْزم تكْرَار الْمَأْمُور بِهِ.
رد بِالْمَنْعِ، وَبِأَن النَّهْي الْمُسْتَفَاد من الْأَمر لَا يعم؛ لِأَن عُمُومه فرع عُمُوم الْآمِر.
وَأَيْضًا قَوْله لعَبْدِهِ: أكْرم فلَانا وَأحسن عشرته، أَو احفظ كَذَا للدوام، رد لقَرِينَة إكرامه وَحفظه.
وَلِأَنَّهُ يجب تكْرَار اعْتِقَاد الْوُجُوب، وعزم الِامْتِثَال، كَذَا الْفِعْل.
رد: لَو غفل بعد الِاعْتِقَاد والعزم جَازَ، وَبِأَنَّهُ وَجب بِإِخْبَار الشَّارِع أَنه يجب اعْتِقَاد أوامره فَمن عرف الْأَمر وَلم يعْتَقد وُجُوبه صَار مُكَذبا،
وبوجوبهما دون الْفِعْل فِي (افْعَل) مرّة وَاحِدَة.
وَأَيْضًا: " إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم ".
رد: مَفْهُومه: الْعَجز عَن بعضه لَا يسْقطهُ.
وَأَيْضًا: لَو لم يتَكَرَّر لم يرد نسخ.
رد هُوَ قرينَة.(5/2217)
وَوجه الْمرة أَيْضا، لَو قَالَ: افْعَل كَذَا، فَفعله مرّة امتثل.
رد: لفعل الْمَأْمُور بِهِ؛ لِأَنَّهَا من ضَرُورَته، لَا أَن الْأَمر ظَاهر فِيهَا وَلَا فِي التّكْرَار.
وَمنع ابْن عقيل أَنه امتثل، وَأَنه دَعْوَى، فَقيل لَهُ: يحسن قَوْله: فعلت، فَقَالَ: للْعُرْف ووقوعه على شُرُوعه فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَو أمره بتكراره لم يقبح مِنْهُ فِي الفعلة الْوَاحِدَة.
وَقَالَ: لَا يمْتَنع أَن يقف اسْم ممتثل على الخاتمة بِنَاء على مَسْأَلَة الموافاة.
قَالُوا: لَو كَانَ للتكرار كَانَ (صل) مرَارًا تكريرا وَمرَّة نقضا كَمَا تقدم.
رد: يُقَال مثله لَو كَانَ للمرة، وَحسن لرفع الِاحْتِمَال.
وَاحْتج الْفَرِيقَانِ بِحسن الِاسْتِفْهَام، وَمنع القَاضِي وَغَيره حسن الِاسْتِفْهَام، ثمَّ سلموه، قَالُوا: لَو قَالَ: طَلِّقِي نَفسك أَو طَلقهَا يَا فلَان، وَلَا نِيَّة فَوَاحِدَة.(5/2218)
وَأجَاب القَاضِي بِأَن هَذَا فِي الشَّرْع وَالْخلاف فِي اللُّغَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.
ورده أَبُو الْخطاب: بِأَن الشَّرْع لَا يُغير اللُّغَة بِدَلِيل طَلقهَا مَا أملكهُ.
وَأجَاب ابْن عقيل بِأَنَّهَا نِيَابَة فِي مَشْرُوع فتقيدت بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يطلقهَا فِي حيض وطهر وطِئت فِيهِ.
وَقَالَ: الْيَمين وَالْوكَالَة للْعُرْف، وَالْأَمر للْحَقِيقَة بِدَلِيل مَسْأَلَة الرؤوس الْمَشْهُورَة، يَعْنِي: فِي الْأَيْمَان.
وَوجه مَا فِي " الرَّوْضَة ": أَن مَدْلُول الْأَمر طلب الْفِعْل، والمرة والتكرار خارجان عَنهُ، وَإِلَّا لزم التّكْرَار أَو النَّقْض لَو قرن بِأَحَدِهِمَا، وَلم يبرأ بالمرة؛ وَلِأَنَّهُمَا صفتان للْفِعْل كالقليل وَالْكثير، وَلَا دلَالَة للموصوف على الصّفة، وَوجه الْوَقْف كَالَّتِي قبلهَا، وَالله أعلم.(5/2219)
قَوْله: {وَلَو علق أَمر بِشَرْط أَو صفة فَإِن كَانَ عِلّة ثَابِتَة تكَرر بتكررها اتِّفَاقًا} ، قَالَه ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَقَالَهُ الْآمِدِيّ، وَتَبعهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح وَغَيرهمَا.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَكَلَام أَصْحَابنَا يَقْتَضِيهِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لاتباع الْعلَّة لَا لِلْأَمْرِ.
فَمَعْنَى هَذَا التّكْرَار أَنه كلما وجدت الْعلَّة وجد الحكم؛ لِأَنَّهُ إِذا وجدت الْعلَّة يتَكَرَّر الْفِعْل، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} [الْمَائِدَة: 6] ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا} [النُّور: 2] ، وَنَحْوهَا، فالجنابة عِلّة للطهر، وَالسَّرِقَة عِلّة للْقطع، وَالزِّنَا عِلّة للجلد.(5/2220)
تَنْبِيه: فِي هَذِه الْمَسْأَلَة طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: أَن الْعلَّة الثَّابِتَة [يتَكَرَّر الْأَمر] بتكررها اتِّفَاقًا كَمَا تقدم، وَهِي طَرِيق ابْن الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب، والصفي الْهِنْدِيّ، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهم.
وَالطَّرِيق الثَّانِي: أَن الْخلاف جَار فِيهَا كَمَا لَو علق بِشَرْط أَو صفة وَلم تكن عِلّة ثَابِتَة وَهُوَ قَول الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه.
وَقد مثلُوا بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَعَ كَونهمَا عِلّة ثَابِتَة لذَلِك.
قَوْله: {وَإِلَّا فكالمسألة قبلهَا} فِيهَا الْخلاف الْمُتَقَدّم.(5/2221)
يَعْنِي إِذا علق الْأَمر على غير عِلّة، أَي: على أَمر لم تثبت علته، مثل أَن يَقُول: إِذا دخل الشَّهْر فاعتق عبدا عَبِيدِي، فَهَل يَقْتَضِي التّكْرَار؟ هِيَ كالمسألة قبلهَا على مَا تقدم من الْخلاف.
قَالَ ابْن مُفْلِح: فَهِيَ كالمسألة الَّتِي قبلهَا عِنْد الْجَمِيع.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر.
{وَقَالَ القَاضِي، وَالْمجد، وحفيده، وَغَيرهم: يُفِيد التّكْرَار هُنَا} وَإِن لم يفد فِي الَّتِي قبلهَا كالنهي.
قَالَ ابْن الْقطَّان: قَالَ أَصْحَابنَا وَهُوَ أشبه بِمذهب الشَّافِعِي.
ونقلوا عَن الصَّيْرَفِي أَن الْأَظْهر على الْمَذْهَب التّكْرَار.
لنا على الأول مَا سبق، وَلَا أثر للشّرط بِدَلِيل قَوْله لعَبْدِهِ: إِن دخلت السُّوق فاشتر كَذَا، يمتثل بِمرَّة، وَإِن قُمْت فَأَنت طَالِق.(5/2222)
قَوْلهم: (التَّرْتِيب يُفِيد الْعلية) رد: بِالْمَنْعِ بِمَا سبق.
وَاسْتدلَّ فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره بِأَن تَعْلِيق الْخَبَر لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْمخبر عَنهُ كَذَا هُنَا، وَهُوَ قِيَاس فِي اللُّغَة.
قَالُوا: أَكثر أوَامِر الشَّرْع: {إِذا قُمْتُم ... فَاغْسِلُوا} ، {يَا أَيهَا ... وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ، {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا} ، {الزَّانِيَة} الْآيَتَانِ.
رد فِي غير الْعلَّة بِدَلِيل خارجي؛ وَلذَلِك لم يتَكَرَّر الْحَج مَعَ تَعْلِيقه بالاستطاعة.
قَالُوا: تكَرر بِالْعِلَّةِ فبالشرط أولى لانْتِفَاء الْمَشْرُوط بانتفائه.
[رد] : الْعلَّة مقتضية لمعلولها، وَالشّرط لَا يَقْتَضِي مشروطه، وَيَأْتِي كَلَام ابْن عقيل.(5/2223)
تَنْبِيه: إِذا علم ذَلِك فعلى هَذَا القَوْل وَهُوَ القَوْل بالتكرار هُنَا وَإِن لم يفد فِي الَّتِي قبلهَا، اخْتلفُوا فِي إِفَادَة التّكْرَار بِمَاذَا؟
فَقيل: أَفَادَ التّكْرَار من جِهَة اللَّفْظ، أَي: هَذَا اللَّفْظ وضع للتكرار، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر.
وَقيل: أَفَادَ التّكْرَار من جِهَة الْقيَاس لَا اللَّفْظ، قَالَ الرَّازِيّ وَتَبعهُ الْبَيْضَاوِيّ: لَا يدل على التّكْرَار من جِهَة اللَّفْظ، بل من جِهَة الْقيَاس.
قَالَ فِي " الْمَحْصُول ": هَذَا هُوَ الْمُخْتَار.
وَقَالَ ابْن عقيل: الْأَمر الْمُعَلق بمستحيل لَيْسَ أمرا، نَحْو: صل إِن كَانَ زيد متحركا سَاكِنا، فَهُوَ كَقَوْلِه: كن الْآن متحركا سَاكِنا.
قَوْله: {تَنْبِيه: من قَالَ بالتكرار قَالَ بالفور} ، يَعْنِي: من قَالَ: الْأَمر للتكرار قَالَ: هُوَ للفور أَيْضا.
وَاخْتلف غَيرهم، أَي: اخْتلف من قَالَ: إِن الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار فَهَل يَقْتَضِي الْفَوْر أم لَا؟(5/2224)
فَقَالَ {أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَبَعض الشَّافِعِيَّة} ، مِنْهُم: الصَّيْرَفِي، وَأَبُو حَامِد الْمروزِي، والدقاق، وَأَبُو الطّيب، وَجزم بِهِ الْمُتَوَلِي، وَنقل عَن الْمُزنِيّ، وَأهل الْعرَاق، وَقَالَهُ الظَّاهِرِيَّة: يَقْتَضِي الْفَوْر.
قَالَ القَاضِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(5/2225)
حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة: إِنَّه الصَّحِيح من مَذْهَبهم، وَإِنَّمَا جَوَّزنَا تَأْخِير الْحَج بِدَلِيل خارجي.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنه لَا يَقْتَضِي الْفَوْر، وَقَالَهُ: أَكثر الشَّافِعِيَّة، نَقله الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور، وسليم الرَّازِيّ، وَنَصره الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، والرازي.
وَأخذت هَذِه الرِّوَايَة عَن أَحْمد من قَوْله عَن قَضَاء رَمَضَان: يفرق، قَالَ الله تَعَالَى: {فَعدَّة من أَيَّام أخر} [الْبَقَرَة: 184] ، وَقَالَهُ أَيْضا الجبائية، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَذكر السَّرخسِيّ أَنه الَّذِي يَصح عِنْده من مَذْهَب عُلَمَائهمْ.(5/2226)
فعلى هَذَا القَوْل، يَعْنِي القَوْل إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْفَوْرِيَّة، هَل يعْتَبر الْعَزْم على فعله لجَوَاز تَأْخِيره، أم لَا يعْتَبر؟ حكمه حكم الْوَاجِب الموسع على مَا تقدم فِي أَوْقَات الصَّلَوَات الْخمس، نَقله ابْن مُفْلِح وَغَيره.
وَالصَّحِيح وجوب الْعَزْم.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ لُغَة} ، قَالَه أَكثر الاشعرية، فَإِن بَادر امتثل.
وَقيل: بِالْوَقْفِ وَإِن بَادر، وَهُوَ ضَعِيف جدا، بل الْإِجْمَاع قبله خِلَافه، حَكَاهُ ابْن الصّباغ.
وَجه الأول بِأَنا نقطع بالفور إِذا قَالَ: اسْقِنِي.
رد ذَلِك: إِنَّمَا دلّ على الْفَوْرِيَّة لقَرِينَة حَاجَة طَالب المَاء إِلَيْهِ سَرِيعا عَادَة.
وَأَيْضًا: كل مخبر أَو منشئ فَالظَّاهِر قَصده الزَّمن الْحَاضِر، كقام زيد، وَأَنت طَالِق، أَو حرَّة.
رد ذَلِك: بِأَنَّهُ قِيَاس فِي اللُّغَة.
ورده فِي " التَّمْهِيد ": يتَبَيَّن بذلك أَن اللَّفْظ وضع للتعجيل.(5/2227)
وَأَيْضًا الْأَمر نهي عَن ضِدّه وَالْأَمر طلب كالنهي، وَأَيْضًا: {مَا مَنعك أَلا تسْجد} [الْأَعْرَاف: 12] ذمه؛ إِذْ لم يُبَادر.
رد: لقَوْله: {فَإِذا سويته} [ص: 72] .
وَأَيْضًا: مُسْتَلْزم لِلْأَمْرِ لاستلزام الْوُجُوب إِيَّاه؛ لِأَن وجوب الْفِعْل مُسْتَلْزم لوُجُوب اعْتِقَاده على الْفَوْر؛ وَلِأَنَّهُ أحوط لِخُرُوجِهِ عَن الْعهْدَة إِجْمَاعًا، ولأثمه بِمَوْت.
رد: لَو صرح بِالتَّأْخِيرِ وَجب تَعْجِيل الِاعْتِقَاد لَا تَعْجِيل الْفِعْل فَلَا مُلَازمَة.
وَقيل للْقَاضِي: يجب الِاعْتِقَاد فِي: " صل بعد شهر لَا الْفِعْل.
فَأجَاب بِتَأْخِير الِاعْتِقَاد بِالشّرطِ، وَالِاحْتِيَاط اتِّبَاع مُوجب الظَّن، وَإِلَّا فَوَجَبَ التَّعْجِيل لمن ظن التَّرَاخِي حرَام.
ثمَّ لَا يلْزم من كَونه أحوط وُجُوبه.
وَأَيْضًا: لَو جَازَ التَّأْخِير فإمَّا إِلَى غَايَة مُعينَة مَعْلُومَة مَذْكُورَة - وَالْخلاف فِي الْأَمر الْمُطلق - أَو لَا، وَإِمَّا إِلَى ظن الْمَوْت، فَلَا يَنْضَبِط وَيَأْتِي بَغْتَة، أَو مُطلقًا: فمحال لإِخْرَاج الْوَاجِب عَن حَقِيقَته، وَإِمَّا بِبَدَل غير وَاجِب فَلَا يجوز إِجْمَاعًا، أَو وَاجِب فممتنع؛ لعدم دَلِيله، ولوجب إنباه النَّائِم أول(5/2228)
الْوَقْت؛ حذرا من فَوَات الْبَدَل كضيق الْوَقْت، ولكان الْبَدَل محصلا مَقْصُود الْمُبدل، فَيسْقط الْمُبدل بِهِ، ولكان الْمُبدل إِمَّا أَن يجوز تَأْخِيره فَالْكَلَام فِيهِ كالمأمور بِهِ، وَهُوَ تسلسل مُمْتَنع، أَو لَا يجوز فيزيد الْبَدَل على أَصله.
رد: يلْزم لَو صرح بِجَوَاز التَّأْخِير.
وَجَوَابه: يجْرِي الدَّلِيل فِيهِ.
ورده فِي " الرَّوْضَة " بِأَنَّهُ يتناقض بِجَوَاز تَركه مُطلقًا. وَفِي " التَّمْهِيد ": لَا يتم الْوُجُوب مَعَ جَوَاز التَّأْخِير.
اعْترض على القَاضِي: بِالْأَمر بِالْوَصِيَّةِ عِنْد الْمَوْت للأقربين.
فَأجَاب: بِأَن الْمَوْت عَلَيْهِ أَمارَة، وبإمكان فعلهَا عِنْد الْمَوْت بِخِلَاف غَيرهَا.
وَأَيْضًا: {فاستبقوا الْخيرَات} [الْبَقَرَة: 148] وَالْأَمر للْوُجُوب.
رد: المسارعة إِلَى سَبَب الْخَيْر فَهِيَ دلَالَة اقْتِضَاء لَا تعم فَيخْتَص بِمَا يلْزم تَعْجِيله إِجْمَاعًا كالتوبة، ثمَّ المُرَاد الْأَفْضَلِيَّة وَإِلَّا فَلَا مسارعة لضيق وقته.(5/2229)
وجوابهما بِالْمَنْعِ، والخيرات الْأَعْمَال الصَّالِحَة عِنْد الْمُفَسّرين، وَالْأَصْل لَا يقدر، وضيق الْوَقْت لَا يمْنَع المسارعة بِدَلِيل مَا يلْزم تَعْجِيله كالتوبة.
وَسلم بَعضهم الْفَوْر من (سارعوا) لَا من الْأَمر.
الْقَائِل لَا فَور: مَا سبق أَنه لَا يدل على تكْرَار وَلَا مرّة.
ورد بِالْمَنْعِ، بل يَقْتَضِيهِ بِلَفْظِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يخْتَص بمَكَان.
رد: بِالنَّهْي، ثمَّ بِالْمَنْعِ لفَوَات زمن، حَتَّى لَو قَالَ: اضْرِب رجلا اخْتصَّ بِمَا قرب مِنْهُ، ثمَّ: لَا مزية فِي الْأَشْخَاص فتساويا، ذكر ذَلِك فِي " التَّمْهِيد " وَغَيره.
وَمَعْنَاهُ فِي " وَاضح ابْن عقيل ".
وَأجَاب فِي " الرَّوْضَة ": بتساوي الْأَمْكِنَة بِخِلَاف الزَّمَان؛ وَلِأَنَّهُ يحسن الِاسْتِفْهَام.(5/2230)
وَمنعه القَاضِي إِن كَانَ الْآمِر لَا يضع شَيْئا غير مَكَانَهُ، وكالوعد، كقضية الْحُدَيْبِيَة.
[رد] : بِأَن عمر تعجل فِيهَا الْوَعْد، ثمَّ بِالْفرقِ وَالْيَمِين كالوعد، ثمَّ مُقَيّدَة بِالْعرْفِ بِدَلِيل مَسْأَلَة الرؤوس، وَالْيَمِين على لبس أَو ركُوب يخْتَص بملبوس ومركوب عرفا.
تَنْبِيه: قَوْله: {وَيسْتَثْنى مِنْهُ} ، أَي: من مَحل الْخلال نَحْو: دع، واترك؛ فَإِنَّهُ فِي حكم النَّهْي، وَسَيَأْتِي أَن النَّهْي يَقْتَضِي التّكْرَار والفور، وَإِلَّا لم يَقع مِنْهُ امْتِثَال، وَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْأَمر الكفي، وَهَذَا يفهم من ردهم على من قَالَ: إِن الْأَمر للفور كالنهي، وَالْفرق بَينهمَا عدم إِمْكَان الِامْتِثَال فِي النَّهْي إِلَّا بذلك فَافْتَرقَا، وَظَاهر كَلَام كثير من الْعلمَاء عدم اسْتثِْنَاء ذَلِك من الْأَمر.(5/2231)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَغَيرهم: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه معنى لَا لفظا} ، أَي: من جِهَة الْمَعْنى لَا من جِهَة اللَّفْظ.
وَقَالَهُ الكعبي، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي، وَذكره أَبُو الْخطاب عَن الْفُقَهَاء، قَالَ القَاضِي وَغَيره: بِنَاء على أصلنَا أَن مُطلق الْأَمر الْفَوْر، وَعند الْمُعْتَزلَة لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه بِنَاء على أصلهم فِي اعْتِبَار إِرَادَة الناهي وَلَيْسَت مَعْلُومَة، وَقطع بِهِ النَّوَوِيّ فِي " الرَّوْضَة " فِي كتاب الطَّلَاق؛(5/2232)
لِأَن الْقَائِل: (اسكن) قد يكون غافلا عَن ضد السّكُون وَهُوَ الْحَرَكَة فَلَيْسَ عينه، وَلَا يتضمنه.
وَعند الأشعرية: الْأَمر معنى فِي النَّفس.
فَقَالَ بَعضهم: {هُوَ عين النَّهْي عَن ضِدّه الوجودي} ، وَهُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَالْأَكْثَر.
قَالَ أَبُو حَامِد: بنى الْأَشْعَرِيّ ذَلِك على أَن الْأَمر لَا صِيغَة لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ، فَالْأَمْر عِنْدهم هُوَ نفس النَّهْي من هَذَا الْوَجْه فاتصافه بِكَوْنِهِ أمرا ونهيا كاتصاف الْكَوْن الْوَاحِد بِكَوْنِهِ قَرِيبا من شَيْء بَعيدا من شَيْء.
{و} قَالَ {ابْن الصّباغ، وَأَبُو الطّيب والشيرازي:} إِنَّه لَيْسَ عين النَّهْي، وَلكنه يتضمنه {ويستلزمه} من طَرِيق الْمَعْنى.
وَنقل عَن أَكثر أَصْحَابهم، وَأكْثر الْفُقَهَاء، وَاخْتَارَهُ الباقلاني آخرا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ إِلَّا أَن نقُول بتكليف الْمحَال.(5/2233)
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: هُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَنَقله عبد الْوَهَّاب عَن أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَإِن لم يصرحوا بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَالْغَزالِيّ، والكيا: إِنَّه لَيْسَ عين النَّهْي عَن ضِدّه وَلَا يَقْتَضِيهِ.
{و} للْقَاضِي أبي بكر {الباقلاني} الْأَقْوَال {الثَّلَاثَة} الْمُتَقَدّمَة.
{وَعند بعض الْحَنَفِيَّة يسْتَلْزم كَرَاهَة ضِدّه، و} عِنْد {الرَّازِيّ} فِي " الْمَحْصُول " {الْكَرَاهَة} ؛ لِأَن النَّهْي لما لم يكن مَقْصُودا سمي اقْتِضَاء؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ وَأثبت بِهِ أقل مَا أثبت بِالنَّهْي وَهُوَ الْكَرَاهَة.(5/2234)
تَنْبِيه: قَوْلنَا: الوجودي هُوَ قيد فِي الْمَسْأَلَة؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ من لَوَازِم نقيض الشَّيْء الْمَأْمُور، كالأمر بالحركة هَل هِيَ نهي عَن نفس السّكُون الَّذِي هُوَ ضد لَهَا أم لَا؟
فَإِن لم يكن لَهُ إِلَّا ضد وَاحِد فَالْخِلَاف فِي النَّهْي عَنهُ: كَصَوْم يَوْم الْعِيد الْأَمر بِالْفطرِ فِيهِ نهي عَن ضِدّه وَهُوَ الصَّوْم.
وَمثله الْأَمر بِالْإِيمَان نهي عَن الْكفْر، وَإِن كَانَ لَهُ أضداد كالأمر بِالْقيامِ فَإِن لَهُ أضداد من قعُود وركوع وَسُجُود وَنَحْوهَا، فَفِي النَّهْي عَنهُ إِذا قُلْنَا نهي عَن ضِدّه أَو يستلزمه هَل المُرَاد جَمِيع الأضداد، أَو وَاحِد مِنْهَا لَا بِعَيْنِه؟ - فِيهِ خلاف - انْتهى.
وَجه القَوْل الأول فِي أصل الْمَسْأَلَة - وَهُوَ الصَّحِيح - أَمر الْإِيجَاب طلب فعل يذم تَاركه إِجْمَاعًا، وَلَا ذمّ إِلَّا على فعل وَهُوَ والكف عَنهُ أَو الضِّدّ، فيستلزم النَّهْي عَن ضِدّه، أَو النَّهْي عَن الْكَفّ عَنهُ.
رد: مَبْنِيّ على أَن الْأَمر يدل على الذَّم، لَا بِدَلِيل خارجي، وَإِن سلم فالذم على أَنه لم يفعل، لَا على فعل بِنَاء على أَن الْعَدَم مَقْدُور، وَإِن سلم فالنهي طلب كف عَن فعل لَا عَن كف، وَإِلَّا لزم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ لكل آمُر، وَالْوَاقِع خِلَافه.
وَفِيه نظر وَمنع؛ وَلِأَنَّهُ لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بترك ضِدّه فَيكون مَطْلُوبا،(5/2235)
وَهُوَ معنى النَّهْي، وسبقت الْمَسْأَلَة.
وَاحْتج ابْن عقيل بِأَن عِنْد الْمُعْتَزلَة يَقْتَضِي الْأَمر إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ وَحسنه، فبتركه يَقْتَضِي ضدهما كَرَاهَته وقبحه وهما مقتضيان حظره.
وَلِأَن الْأَمر غير النَّهْي؛ لتغاير الصيغتين وَالْمعْنَى النَّفْسِيّ الْقَدِيم غير مُتحد، وَإِن اتَّحد فَإِنَّهُ يخْتَلف بتعلقه ومتعلقه فهما غيران؛ لتَعَدد الْحَادِث.
الْقَائِل: الْأَمر عين النَّهْي لَو لم يكن لَكَانَ ضدا أَو مثلا أَو خلافًا؛ لِأَنَّهُمَا إِن تَسَاويا فِي الذاتيات واللوازم فمثلان، وَإِلَّا فَإِن تنافيا بأنفسهما فضدان، وَإِلَّا فخلافان، وَلَيْسَ هُوَ بالأولين وَإِلَّا لما اجْتمعَا، وَلَا الثَّالِث وَإِلَّا فَجَاز أَحدهمَا مَعَ ضد الآخر، وَمَعَ خلاف الآخر؛ لِأَنَّهُ حكم الخلافين فالعلم والإرادة خلافان: يُوجد الْعلم مَعَ الْكَرَاهَة وَهِي ضد الْإِرَادَة وَخلاف الْمحبَّة، وتوجد الْإِرَادَة مَعَ الْجَهْل، والسخاء ضد الْعلم وخلافه، ويستحيل الْأَمر بِفعل مَعَ ضد النَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ الْأَمر بضده؛ لِأَنَّهُمَا نقيضان أَو تَكْلِيف بِغَيْر مُمكن.
رد: إِن أُرِيد بِطَلَب ترك الضِّدّ وَهُوَ معنى النَّهْي عنة طلب الْكَفّ عَنهُ(5/2236)
فهما خلافان، ونمنع أَن حكم الخلافين مَا سبق فالمتضايفان متلازمان فيستحيل وجود أَحدهمَا مَعَ ضد الآخر لِاجْتِمَاع الضدين.
وَقد يكون كل من الخلافين ضدا لضد الآخر كالكاتب والضاحك كل مِنْهُمَا ضد للصاهل، فَيكون كل من الْأَمر بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن ضِدّه ضدا لضده فَيمكن اجْتِمَاعهمَا.
وَإِن أُرِيد بترك ضِدّه عين الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ عَاد النزاع لفظيا فِي تَسْمِيَة الْفِعْل تركا، ثمَّ فِي تَسْمِيَة طلبه نهيا.
الْقَائِل بِالنَّفْيِ: لَو كَانَ عينه أَو يستلزمه لزم تعقل الضِّدّ والكف عَنهُ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوب النَّهْي وَيمْتَنع تعقل الشَّيْء بِدُونِ نَفسه أَو لَازمه ونقطع بِالطَّلَبِ مَعَ الذهول عَنْهُمَا.
ورد: المُرَاد الضِّدّ الْعَام، وَهُوَ ترك الْمَأْمُور بِهِ لَا الْخَاص وَهُوَ مَا يسْتَلْزم فعله ترك الْمَأْمُور، كَالْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة والضد الْعَام متعقل؛ لِأَن الطّلب لَا يكون لموجود.
[رد] : المُرَاد طلبه فِي الْمُسْتَقْبل وَلَو سلم تعقل الضِّدّ فَعدم تعقل الْكَفّ وَاضح.(5/2237)
رد: أَمر الْإِيجَاب لَا يتَحَقَّق بِغَيْر الْكَفّ عَن الضِّدّ الْعَام؛ لِأَنَّهُ طلب فعل مَعَ الْمَنْع من تَركه الْقَائِل (يستلزمه) ؛ لِأَنَّهُ طلب نفي فعل هُوَ عدم، وَالْأَمر طلب وجود فعل، وللزوم وجوب الزِّنَا وَنفي الْمُبَاح ولاستلزام أَمر الْإِيجَاب الذَّم على التّرْك، وَهُوَ فعل لاستلزام الذَّم على الْفِعْل، وَالنَّهْي: طلب كف عَن فعل فَلم يسْتَلْزم الْأَمر؛ لِأَنَّهُ طلب فعل.
قَوْله: {وَالنَّهْي إِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فمأمور بِهِ قطعا} كالنهي عَن الْكفْر، فَإِنَّهُ أَمر بِالْإِيمَان، وَالنَّهْي عَن الصَّوْم؛ فَإِنَّهُ أَمر بالإفطار، وَنَحْو ذَلِك.
قَوْله: {وَإِلَّا فكالأمر} ، يَعْنِي أَن النَّهْي عَن الشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ أضداد فَحكمه حكم الْأَمر على مَا تقدم فِي أَن الْأَمر بِشَيْء معِين نهي عَن ضِدّه، وَتقدم الْخلاف فِي ذَلِك، فَكَذَا يكون الْخلاف هُنَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَقدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ".
{و} قَالَ {الْجِرْجَانِيّ} من الْحَنَفِيَّة: {لَيْسَ أمرا بِهِ} .(5/2238)
{و} قَالَ {الْجَصَّاص} الْحَنَفِيّ: هُوَ {أَمر بضد} لَا بأضداد.
وَجزم الباقلاني فِي " التَّقْرِيب " أَنه أَمر بالضد قطعا.
وَوَجهه: أَن دلَالَة النَّهْي عَن مُقْتَضَاهُ أقوى من دلَالَة الْأَمر على مُقْتَضَاهُ، فَإِن دَرْء الْمَفَاسِد مقدم على جلب الْمصَالح.
وَضعف أَبُو الْمَعَالِي هَذِه الطَّرِيقَة، وَقَالَ: يلْزم مِنْهَا القَوْل بِمذهب الكعبي فِي نفي الْمُبَاح فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يقدر مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ضد مَحْظُور فَيكون وَاجِبا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَحكى ابْن الْحَاجِب طَريقَة الْقطع على عكس الْمَذْكُورَة هُنَا، وَهُوَ أَنه لَيْسَ أمرا بالضد قطعا، ونازعه التَّاج السُّبْكِيّ فِي ثُبُوتهَا، وَقَالَ: إِنَّه لم يعثر على نقل، وَلم يتَّجه لَهُ عقل.
وَقَالَ غَيره: إِنَّه مَبْنِيّ على أَن النَّهْي طلب نفي الْفِعْل لَا طلب الْكَفّ عَنهُ الَّذِي هُوَ ضِدّه، كمذهب أبي هَاشم فَلَا يكون أمرا بالضد. انْتهى.(5/2239)
وَلنَا خلاف فِي حنث من قَالَ: إِذا أَمرتك فخالفتيني فَأَنت طَالِق فَنَهَاهَا فخالفته وَلَا نِيَّة بِنَاء على ذَلِك. قلت: لنا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال.
أَحدهَا: وَهُوَ الصَّحِيح من الثَّلَاثَة أَنه لَا يَحْنَث، إِلَّا أَن يَنْوِي مُطلق الْمُخَالفَة.
اخْتَارَهُ أَبُو بكر، وَغَيره، وَقطع بِهِ فِي " الْوَجِيز "، و " منتخب الْآدَمِيّ " وَقدمه فِي " الْخُلَاصَة "، و " الشَّرْح " و " النّظم " و " الْفُرُوع " وَغَيرهمَا، قَالَ ابْن منجا فِي " شَرحه ": هَذَا الْمَذْهَب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا تطلق مُطلقًا، جزم بِهِ فِي " المنثور "، وَاخْتَارَهُ ابْن عَبدُوس فِي " تَذكرته "، وَقدمه فِي " الْمُحَرر " و " الرِّعَايَتَيْنِ "، و " الْحَاوِي الصَّغِير ".
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: أَن لم يعرف حَقِيقَة الْأَمر وَالنَّهْي حنث وَهُوَ قوي.(5/2240)
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": وَلَعَلَّ هَذَا أقرب إِلَى الْفِقْه وَالتَّحْقِيق.
قَوْله: {وَأمر ندب كإيجاب عِنْد القَاضِي، وَغَيره} ، من أَصْحَابنَا {وَالْأَكْثَر: أَن قيل: مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَأمر النّدب كالإيجاب عِنْد الْجَمِيع إِن قيل مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة، وَذكره القَاضِي وَغَيره. انْتهى.
وَصرح بِهِ القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني فِي " التَّقْرِيب "، وَحمل النَّهْي عَن الضِّدّ فِي الْوُجُوب تَحْرِيمًا وَفِي النّدب تَنْزِيها.
قَالَ: وَبَعض أهل الْحق خصص ذَلِك بِأَمْر الْإِيجَاب لَا النّدب وَهُوَ مَا حَكَاهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب عَن الْأَشْعَرِيّ.(5/2241)
{وَتقدم} حكم {الْإِجْزَاء فِي خطاب الْوَضع} ؛ لِأَن كثيرا من المصنفين يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هُنَا فِي هَذَا الْمحل.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ: الأولى: المعلومات أَربع} ... إِلَى آخِره.
هَاتَانِ الفائدتان ذكرهمَا الْقَرَافِيّ فِي " التَّنْقِيح " و " شَرحه "، وَتَبعهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره، وهما مذكورتان فِيمَا تقدم فِي الْبَحْث فِي الْمسَائِل الْمُتَقَدّمَة؛ فَلهَذَا أفردتهما بِالذكر.
قَالَ الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ": دَلِيل الْحصْر أَن المعلومين إِمَّا أَن يُمكن اجْتِمَاعهمَا أَو لَا، فَإِن أمكن اجْتِمَاعهمَا فهما الخلافان كالحركة وَالْبَيَاض، وَإِن لم يُمكن اجْتِمَاعهمَا فإمَّا أَن يُمكن ارتفاعهما، أَو لَا، الثَّانِي النقيضان، كوجود زيد وَعَدَمه، وَالْأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يختلفا فِي الْحَقِيقَة أم لَا.
الأول: الضدان كسواد وَبَيَاض؛ لاخْتِلَاف الْحَقِيقَة.
وَالثَّانِي: المثلان كبياض وَبَيَاض، ثمَّ قَالَ: سُؤال: كَيفَ يُقَال فِي حد الضدين إِنَّه يُمكن ارتفاعهما، وَالْحَرَكَة والسكون ضدان لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْجِسْم، والحياة وَالْمَوْت لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْحَيَوَان، وَالْعلم وَالْجهل لَا يُمكن ارتفاعهما عَن الْحَيّ؟
وَجَوَابه: أَن إِمْكَان الِارْتفَاع أَعم من إِمْكَان الِارْتفَاع مَعَ بَقَاء الْمحل، فَنحْن نقُول: يُمكن ارتفاعهما من حَيْثُ الْجُمْلَة وهما مُمكنا الرّفْع مَعَ ارْتِفَاع الْمحل، فَقيل للمحل: الْعَالم لَا متحرك، وَلَا سَاكن، وَلَا من الْعَالم حَيّ وَلَا ميت، وَلَا عَالم وَلَا جَاهِل فصح الْحَد.(5/2242)
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: الخلافان قد يتَعَذَّر ارتفاعهما لخُصُوص حَقِيقَة غير كَونهمَا خلافين كذات وَاجِب الْوُجُود، - سُبْحَانَهُ - مَعَ صِفَاته، وَقد يتَعَذَّر افتراقهما كالعشرة مَعَ الزَّوْجِيَّة خلافان ويستحيل افتراقهما، والخمسة مَعَ الفردية، والجوهر مَعَ الأكوان، وَهُوَ كثير، وَلَا تنَافِي بَين إِمْكَان الِافْتِرَاق والارتفاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات، وَتعذر الِارْتفَاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَمر خارجي عَنْهُمَا.
الثَّانِيَة: حصر المعلومات فِي هَذِه الْأَرْبَعَة كلهَا حَتَّى لَا يخرج مِنْهَا شَيْء إِلَّا مَا توَحد الله تَعَالَى بِهِ وَتفرد بِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ضد الشَّيْء، وَلَا نقيضا، وَلَا مثلا، وَلَا خلافًا لتعذر الرّفْع، وَهَذَا حكم عَام فِي صِفَاته العلى وذاته لتعذر رَفعهَا بِسَبَب وجوب وجودهَا.
قَوْله: {الثَّانِيَة: الْحَقَائِق الْأَرْبَعَة} - أَي: نِسْبَة الْحَقَائِق بَعْضهَا إِلَى بعض أَرْبَعَة - متساويان ... إِلَى آخِره.
هَذَا أَيْضا أخذناه من كَلَام الْقَرَافِيّ، فَقَالَ: دَلِيل الْحصْر أَن المعلومين إِمَّا أَن يجتمعا أَو لَا، الثَّانِي المتباينان، وَالْأول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي جَمِيع موارد الآخر، أَو لَا.
الأول المتساويان، وَالثَّانِي إِن صدق أَحدهمَا فِي كل موارد الآخر من غير عكس فَهُوَ الْأَعَمّ مُطلقًا، وَإِلَّا فَهُوَ الْأَعَمّ من وَجه، والأخص من وَجه،(5/2243)
وَقد مثلهَا بِهَذِهِ الْأَمْثِلَة الْفِقْهِيَّة؛ لِأَنَّهَا أقرب لطلبة الْعلم، وَكنت قد تابعته فِي الْأَمْثِلَة كلهَا، مِنْهَا الرَّابِع: وَهُوَ النِّكَاح وَملك الْيَمين، ثمَّ أضربت عَنهُ؛ لِأَن مَذْهَبنَا أَنه لَا يجْتَمع النِّكَاح وَملك الْيَمين، فَحَيْثُ وجد ملك الْيَمين امْتنع النِّكَاح، وَحَيْثُ وجد النِّكَاح امْتنع ملك الْيَمين، فمثلت بمثال يُوَافق مَذْهَبنَا فمثلت بِالْوضُوءِ وَالتَّيَمُّم فِي صُورَة، وَهُوَ صِحَة إِفْرَاد التَّيَمُّم عِنْد الْعَدَم، أَو الْعَجز عَن اسْتِعْمَاله، وَصِحَّة الْوضُوء لشرطه واجتماعهما فِيمَا إِذا غمس يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهَا ثَلَاثًا، وَلَيْسَ عِنْده غَيره، فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ بِهِ، وَيتَيَمَّم مَعَه على الصَّحِيح من الْمَذْهَب.
ويمثل أَيْضا ذَلِك بالموارد الْعَقْلِيَّة فالمتساويان كالإنسان والضحك بِالْقُوَّةِ، يلْزم من وجود كل وَاحِد مِنْهُمَا وجود الآخر وَمن عَدمه عدمُه، فَلَا إِنْسَان إِلَّا وَهُوَ ضَاحِك بِالْقُوَّةِ، وَلَا ضَاحِك بِالْقُوَّةِ إِلَّا وَهُوَ إِنْسَان.
ونعني بِالْقُوَّةِ كَونه قَابلا وَلَو لم يَقع، ويقابله الضاحك بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْمُبَاشر للضحك.
والمتباينان كالإنسان، وَالْفرس، فَمَا هُوَ إِنْسَان لَيْسَ بفرس، وَمَا هُوَ فرس فَلَيْسَ بِإِنْسَان، فَيلْزم من صدق أَحدهمَا على مَحل عدم صدق الآخر.
والأعم مُطلقًا [والأخص مُطلقًا] كالحيوان وَالْإِنْسَان فالحيوان صَادِق على جَمِيع أَفْرَاد الْإِنْسَان فَلَا يُوجد إِنْسَان بِدُونِ الحيوانية أَلْبَتَّة.(5/2244)
والأعم من وَجه ضابطه: أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَة وينفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِصُورَة، كالحيوان والأبيض فَإِن الْحَيَوَان يُوجد بِدُونِ الْأَبْيَض فِي السودَان، وَيُوجد الْأَبْيَض بِدُونِ الْحَيَوَان فِي الْحجر الْأَبْيَض وَغَيره كالثلج مِمَّا لَيْسَ بحيوان، ويجتمعان فِي الْحَيَوَانَات فِي الْبيض، فَلَا يلْزم من وجود الْأَبْيَض وجود الْحَيَوَان، وَلَا من وجود الْحَيَوَان وجود الْأَبْيَض، وَلَا من عدم أَحدهمَا عدم الآخر، فَلَا جرم لَا دلَالَة فيهمَا مُطلقًا لَا فِي وجوده وَلَا فِي عَدمه بِخِلَاف الْأَعَمّ مُطلقًا، يلْزم من عدم الْحَيَوَان عدم الْإِنْسَان، وَمن وجود الْإِنْسَان الَّذِي هُوَ أخص وجود الْحَيَوَان، وَلَا يلْزم من عدم الْأَخَص عدم الْأَعَمّ؛ لِأَن الْحَيَوَان قد يبْقى مَوْجُودا فِي الْفرس وَغَيره من الْأَنْوَاع.
ففائدة هَذِه الْقَاعِدَة: الِاسْتِدْلَال بِبَعْض الْحَقَائِق على بعض.
والتمثيل فِي المتساويين بِالرَّجمِ وزنا الْمُحصن بِنَاء على اللائط لَا يرْجم، أما لَو فرعنا على أَنه يرْجم كَانَ الرَّجْم أَعم من الزِّنَا عُمُوما مُطلقًا كالغسل والإنزال الْمُعْتَبر فَإِن الْغسْل أَعم مُطلقًا؛ لوُجُوده بِدُونِ الْإِنْزَال فِي انْقِطَاع دم الْحيض، والتقاء الختانين وَغير ذَلِك من أَسبَاب الْغسْل. انْتهى.
قلت: الصَّحِيح من مَذْهَبنَا أَن حد اللوطي كَحَد الزَّانِي سَوَاء، فَيحْتَاج إِلَى مِثَال غير ذَلِك.(5/2245)
(قَوْله: {فصل} )
{أَحْمد، وَمَالك، وأصحابهما، وَالشَّافِعِيّ، وَالْأَكْثَر: الْأَمر بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة} ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَمحل ذَلِك: إِذا فرعنا على أَن اقْتِضَاء الْأَمر الْوُجُوب فورد بعد حظر فَفِيهِ هَذَا الْخلاف.
وَالصَّحِيح أَنه للْإِبَاحَة حَقِيقَة؛ لتبادرهما إِلَى الذِّهْن فِي ذَلِك؛ لعلية اسْتِعْمَاله فِيهَا حِينَئِذٍ، والتبادر عَلامَة للْحَقِيقَة.(5/2246)
وَأَيْضًا: فَإِن النَّهْي يدل على التَّحْرِيم فورود الْأَمر بعده يكون لرفع التَّحْرِيم وَهُوَ الْمُتَبَادر، فالوجوب أَو النّدب زِيَادَة لَا بُد لَهَا من دَلِيل.
فَمن اسْتِعْمَاله بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2] ، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] ، {فَإِذا تطهرن فأتوهن} [الْبَقَرَة: 222] .
وَأَيْضًا عرف الشَّرْع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه} [النِّسَاء: 4] ، {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 4] .
وَقَوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي فادخروها "، وَالْأَصْل عدم دَلِيل سوى الْحَظْر، وَالْإِجْمَاع حَادث بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَكَقَوْلِه لعَبْدِهِ: لَا تَأْكُل هَذَا، ثمَّ يَقُول: كُله.
وَاعْترض بقوله: لَا تقتل هَذَا، ثمَّ يَقُول: اقتله، للْإِيجَاب.(5/2247)
رد: بِالْمَنْعِ فِي قَوْلنَا وَهُوَ ظَاهر قَول غَيرنَا ثمَّ الْخلاف فِي حظر أَفَادَهُ النَّهْي، اعْتمد عَلَيْهِ فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح " مَعَ قَول القَاضِي وَأبي الْفرج الْمَقْدِسِي لما قيل لَهما: يلْزم أَن جَمِيع الْأَوَامِر للْإِبَاحَة على قَوْلكُم - أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْحَظْر - بِأَنَّهَا مَسْأَلَة خلاف، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد "، وَفِيه: هِيَ مُبَاحَة فِي وَجه فَالْأَمْر بعد الْحَظْر يرفعهُ وَيعود إِلَى أصل الْإِبَاحَة.
وَكَذَا احْتج ابْن عقيل على من جعلهَا للْإِبَاحَة بِأَن الْأَمر يرفع الْحَظْر فَيَعُود إِلَى الأَصْل فَقَالَ: عندنَا لَيْسَ بِأَمْر بل إِبَاحَة، وَمن لقب الْمَسْأَلَة بِالْأَمر فلصيغته.
وَقَالَ: إِن جعلناها للْإِبَاحَة فَالْأَمْر يعد إِبَاحَة، وَإِن جعلناها للحظر فَلَيْسَ بحظر نطقي، وَفرق بَينهمَا بِدَلِيل النّسخ لحكم ثَبت نطقا.
قَالُوا: لَو منع الْحَظْر الْوُجُوب منع التَّصْرِيح بِهِ، وَلم يخْتَص الْأَمر بِصِيغَة (افْعَل) .(5/2248)
رد: الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر.
وَقَالَهُ فِي " الرَّوْضَة "، ثمَّ اخْتصَّ؛ لِأَن الْعرف فِيهَا.
قَالَ الْمجد: عِنْدِي أَنه الْمَذْهَب، وَقَالَهُ قوم.
{وَذهب القَاضِي} أَبُو يعلى، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، {و} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَتْبَاعه، وَصدر الشَّرِيعَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه {كالأمر ابْتِدَاء} .
وَاسْتدلَّ للْوُجُوب بقوله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] .(5/2249)
وَالْجَوَاب عِنْد ذَلِك عَن الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: أَن الْمُتَبَادر غير ذَلِك، وَفِي الْآيَة إِنَّمَا علم بِدَلِيل خارجي.
{و} ذهب {أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ} فِي " المنخول "، وَابْن الْقشيرِي {والآمدي} ، وَغَيرهم إِلَى {الْوَقْف} فِي الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب لتعارض الْأَدِلَّة.
وَذهب القَاضِي الْحُسَيْن من الشَّافِعِيَّة إِلَى الِاسْتِحْبَاب، وَمثله بقوله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] .
قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ للاستحباب، وَإِنَّمَا ذَلِك من الْأَمر بعد الْحَظْر؛ لِأَن بيع الْإِنْسَان مَاله من مَاله مُمْتَنع بِلَا شكّ.
قلت: على الصَّحِيح من مَذْهَبنَا اسْتِحْبَاب الْكِتَابَة باجتماع الشَّرْط فِيهَا، وَعنهُ أَنَّهَا وَاجِبَة إِذا ابتاعها من سَيّده أجبر عَلَيْهَا(5/2250)
بِقِيمَتِه، اخْتَارَهُ أَبُو بكر من أَصْحَابنَا.
قَالَ الكوراني فِي " شَرحه ": لم يذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " القَوْل بالندب، وَذكره صَاحب " التَّلْوِيح "، وَأسْندَ إِلَى سعيد بن جُبَير أَن الْإِنْسَان إِذا انْصَرف من الْجُمُعَة ندب لَهُ أَن يساوم شَيْئا وَلَو لم يشتره. انْتهى.
{وَذهب الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَجمع - وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْقفال الشَّاشِي - والبلقيني {أَنه كَمَا قبل الْحَظْر} فَهُوَ لدفع الْحَظْر السَّابِق وإعادة حَال الْفِعْل إِلَى مَا كَانَ قبل الْحَظْر، فَإِن كَانَ مُبَاحا كَانَت للْإِبَاحَة نَحْو: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} ، أَو وَاجِبا كَانَت للْوُجُوب، نَحْو: {فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} ، إِذا قُلْنَا بِوُجُوب الْوَطْء، وَنسب إِلَى الْمُزنِيّ، {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَعَلِيهِ يخرج {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} الْآيَة. {وَقَالَ: هُوَ الْمَعْرُوف عَن السّلف وَالْأَئِمَّة} . انْتهى.(5/2251)
{وَقيل: للْوُجُوب إِن كَانَ بِلَفْظ (أَمرتك، وَأَنت مَأْمُور) قَالَ الْمجد بن تَيْمِية: هَذَا عِنْدِي الْمَذْهَب} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره بِقَرِينَة، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر، كَمَا تقدم فِي الْبَحْث.
تَنْبِيه: قَالَ الكوراني: هَذَا الْخلاف إِنَّمَا هُوَ عِنْد انْتِفَاء الْقَرِينَة، وَأما عِنْد وجودهَا فَيحمل على مَا يُنَاسب الْمقَام بِلَا خلاف. انْتهى.
قَوْله: {وَالْأَمر بعد الاسْتِئْذَان للْإِبَاحَة، قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل} ، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْأَصْحَاب، قَالَ: لَا فرق بَين الْأَمر بعد الْحَظْر، وَبَين الْأَمر بعد الاسْتِئْذَان.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا فرعنا على أَن الْأَمر الْمُجَرّد للْوُجُوب فَوجدَ أَمر بعد اسْتِئْذَان فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب بل الْإِبَاحَة، ذكره القَاضِي مَحل وفَاق، قلت: وَكَذَا ابْن عقيل.(5/2252)
ثمَّ قَالَ: وَإِطْلَاق جمَاعَة: ظَاهره يَقْتَضِي الْوُجُوب، مِنْهُم: الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " فَإِنَّهُ جعل الْأَمر بعد الْحَظْر والاستئذان، الحكم فيهمَا وَاحِد، وَاخْتَارَ أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْوُجُوب، فَكَذَا بعد الاسْتِئْذَان عِنْده. انْتهى.
فَإِذا علم ذَلِك لَا يَسْتَقِيم قَول القَاضِي وَابْن عقيل لما استدلا على نقض الْوضُوء بِلَحْم الْإِبِل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسلم، لما سُئِلَ عَن التَّوَضُّؤ من لُحُوم الْإِبِل، فَقَالَ: نعم تَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل.
وَمِمَّا يُقَوي الْإِشْكَال أَن فِي الحَدِيث الْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي مرابض الْغنم، وَهُوَ بعد سُؤال، وَلَا يجب بِلَا خلاف، بل وَلَا يسْتَحبّ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم يستحبون الْوضُوء مِنْهُ؟ والاستحباب حكم شَرْعِي يفْتَقر إِلَى دَلِيل وَعِنْدهم هَذَا الْأَمر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة.
قلت: إِذا قيل باستحبابه فلدليل غير هَذَا الْأَمر، وَهُوَ أَن الْأكل من لُحُوم الْإِبِل يُورث قُوَّة نارية فيناسب أَن تطفأ بِالْمَاءِ كَالْوضُوءِ عِنْد الْغَضَب، وَلَو كَانَ الْوضُوء من أكل لحم الْإِبِل وَاجِبا على الْأمة، وَكلهمْ كَانُوا يَأْكُلُون لحم الْإِبِل لم يُؤَخر بَيَان وُجُوبه، حَتَّى يسْأَله سَائل فَيُجِيبهُ، فَعلم أَن مَقْصُوده أَن الْوضُوء من لحومها مَشْرُوع، وَهُوَ حق، وَالله أعلم.(5/2253)
وَقد يُقَال: الحَدِيث إِنَّمَا ذكر فِيهِ بَيَان وجوب مَا يتَوَضَّأ مِنْهُ بِدَلِيل أَنه لما سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم، قَالَ: " إِن شِئْت فَتَوَضَّأ وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ " مَعَ أَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم مُبَاح، فَلَمَّا خير فِي لحم الْغنم، وَأمر بِالْوضُوءِ من لحم الْإِبِل، دلّ على أَن الْأَمر لَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الْإِذْن، بل للطلب الْجَازِم. انْتهى.
قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمثله الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم} .
وَفِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم كالأمر بعد الاسْتِئْذَان فِي الْأَحْكَام وَالْمعْنَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَقِيم اسْتِدْلَال الْأَصْحَاب على وجوب الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد الْأَخير بِمَا ثَبت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه قيل لَهُ: يَا رَسُول الله، قد علمنَا كَيفَ نسلم عَلَيْك فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد ... " الحَدِيث.(5/2254)
نعم إِن ثَبت الْوُجُوب من خَارج فَيكون هَذَا الْأَمر للْوُجُوب؛ لِأَنَّهُ بَيَان لكيفية وَاجِبَة، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَالْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كالأمر، قَالَه الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَغَيره} .
هَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَبَين الشَّيْخ ابْن الزملكاني، وَهِي: أَن صِيغَة الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي، هَل يجْرِي فيهمَا الْخلاف الَّذِي فِي الْأَمر وَالنَّهْي فِي كَونهمَا حَقِيقَة فِي الْوُجُوب، وَالتَّحْرِيم وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا أَحْكَام الْأَمر، وَالنَّهْي الصريحين، أم لَا؟
ذكر ابْن دَقِيق الْعِيد فِيهَا احْتِمَالَيْنِ من عِنْده، وَلم يرجح شَيْئا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يجْرِي الْخلاف فِي ذَلِك.
قَالَ ابْن الزملكاني: لَا يجْرِي فِيهِ شَيْء من ذَلِك، إِنَّمَا ذَلِك فِي الصِّيغَة الْأَصْلِيَّة، قَالَ: فدعوى خلاف ذَلِك مُكَابَرَة.(5/2255)
وَقَالَ: ويغلط فِي ذَلِك كثير من الْفُقَهَاء، ويغترون بِإِطْلَاق الْأُصُولِيِّينَ، فَيدْخلُونَ فِيهِ كلما أَفَادَ أمرا، أَو نهيا، وَإِن لم يكن فِيهِ الْأَمر، أَو النَّهْي من الْمُحَقق.
وأيد بعض الْعلمَاء قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بقول الْقفال.
وَمن الدَّلِيل على أَن ذَلِك مَعْنَاهُ، وَأَن ذَلِك كُله كالأمر وَالنَّهْي: دُخُول النّسخ فِيهِ إِذْ الْأَخْبَار الْمَحْضَة لَا يدخلهَا النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خَبرا لم يُوجد خِلَافه.
قَالَ: وَمن هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا قَوْله تَعَالَى: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، واستند بَعضهم فِي ذَلِك لقَوْل البيانيين، وَغَيرهم إِن ذَلِك أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي، فَيَنْبَغِي أَن يكون للْوُجُوب قطعا.
وَأجِيب عَن ذَلِك ... ، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما تكلم على الْأَمر: وَظَاهر الْمَسْأَلَة أَن الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَذَلِك ك {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228] ، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يحْتَمل النّدب؛ لِأَنَّهُ إِذن، إِنَّه كالمحقق المستمر. انْتهى.(5/2256)
قَوْله: {وَالنَّهْي بعد الْأَمر للتَّحْرِيم، قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، والحلواني، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق، والباقلاني، وحكياه إِجْمَاعًا، لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا أرى الْمُخَالفين فِي الْأَمر بعد الْحَظْر يسلمُونَ ذَلِك. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي: {للكراهة} ، فَقَالَ: وَتقدم الْوُجُوب قرينَة فِي أَن النَّهْي بعده للكراهة، وَقطع بِهِ.
وَقَالَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، ثمَّ سلما أَنه للتَّحْرِيم؛ لِأَنَّهُ آكِد.(5/2257)
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ لإباحة التّرْك كَقَوْلِه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " وَلَا تتوضأوا من لُحُوم الْغنم "، ثمَّ سلم أَنه للتَّحْرِيم.
وَكَذَا اخْتَار ابْن عقيل: يَقْتَضِي إِسْقَاط مَا أوجبه الْأَمر، وَأَنه وزان الْإِبَاحَة بعد الْحَظْر؛ لإخراجهما عَن جَمِيع أقسامهما.
وَغلط مَا حَكَاهُ قَول أَصْحَابنَا للتنزيه فضلا عَن التَّحْرِيم، وَقَالَ: تأكده لَا يزِيد على مُقْتَضى الْأَمر، وَقد جعلُوا تقدم الْحَظْر قرينَة.
{وَقيل: للْإِبَاحَة} ، كالقول فِي مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِن سَأَلتك عَن شَيْء بعْدهَا فَلَا تُصَاحِبنِي} [الْكَهْف: 76] .
ووقف أَبُو الْمَعَالِي لتعارض الْأَدِلَّة، كَمَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - وَقَول الْجُمْهُور، وَفرق بَينه وَبَين الْأَمر بأوجه:
أَحدهَا: أَن مُقْتَضى النَّهْي وَهُوَ التّرْك مُوَافق للْأَصْل بِخِلَاف مُقْتَضى الْأَمر وَهُوَ الْفِعْل.
الثَّانِي: أَن النَّهْي لدفع مفْسدَة الْمنْهِي عَنهُ، وَالْأَمر لتَحْصِيل مصلحَة الْمَأْمُور بِهِ، واعتناء الشَّارِع بِدفع الْمَفَاسِد أَشد من جلب الْمصَالح.(5/2258)
الثَّالِث: أَن القَوْل بِالْإِبَاحَةِ فِي الْأَمر بعد التَّحْرِيم سَببه وُرُوده فِي الْقُرْآن وَالسّنة كثيرا للْإِبَاحَة، وَهَذَا غير مَوْجُود فِي النَّهْي بعد الْوُجُوب. انْتهى.
وَترْجم الْبرمَاوِيّ الْمَسْأَلَة بِأَن صِيغَة النَّهْي إِذا وَردت فِي شَيْء قد كَانَ وَاجِبا إِلَى حِين وُرُودهَا، هَل يكون سبق الْوُجُوب قرينَة تبين أَن النَّهْي خرج عَن حَقِيقَته - وَهُوَ التَّحْرِيم - أَو لَا؟
وَهِي مَبْنِيَّة على مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر.
إِن قُلْنَا: يسْتَمر على الْوُجُوب فَهُنَا يسْتَمر على التَّحْرِيم من بَاب أولى، وَإِن قُلْنَا هُنَاكَ قرينَة فَهُنَا طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: الْقطع بِعَدَمِ كَون الْوُجُوب السَّابِق قرينَة صارفة عَن التَّحْرِيم.
وَالثَّانِي: طرد مَا يُمكن طرده من خلاف الْأَمر كالقول بِأَنَّهُ للْإِبَاحَة. وَمِنْهُم من قَالَ هُنَا: إِنَّه للكراهة، وَمِنْهُم من قَالَ: لدفع الْوُجُوب فَيكون نسخا، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا كَانَ قبله. انْتهى.(5/2259)
(قَوْله: فصل)
{الْأَمر بِعبَادة فِي وَقت مُقَدّر إِذا فَاتَ عَنهُ فالقضاء بِالْأَمر الأول} فِي الْأَشْهر.
اخْتَارَهُ {القَاضِي، والحلواني، والموفق، وَابْن حمدَان} ، والطوفي {وَغَيرهم} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " فروعه " فِي بَاب الْحيض: يمْنَع الْحيض الصَّوْم إِجْمَاعًا، وتقتضيه إِجْمَاعًا هِيَ وكل مَعْذُور بِالْأَمر السَّابِق، لَا بِأَمْر جَدِيد فِي الْأَشْهر.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخطاب وَابْن عقيل وَالْمجد وَالْأَكْثَر من الْفُقَهَاء(5/2260)
والمتكلمين، مِنْهُم أَكثر الشَّافِعِيَّة والمعتزلة وَبَعض الْحَنَفِيَّة.
قَالَ الْبَاجِيّ من الْمَالِكِيَّة: وَهُوَ الصَّحِيح.
وَنَقله عَن ابْن الباقلاني، وَابْن خويز منداد أَنه بِأَمْر جَدِيد.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن صَاحب " التَّقْوِيم " أَنه يجب بِالْقِيَاسِ على الْعِبَادَات الْفَائِتَة الَّتِي دلّ الدَّلِيل على وجوب قَضَائهَا، وَالْجَامِع بَينهمَا اسْتِدْرَاك مصلحَة الْفَائِت.
وَحَاصِله: أَن مَا لم ينْقل فِيهِ أَمر بِالْقضَاءِ يكون مَأْمُورا قِيَاسا لَا بِالْأَمر الأول وَلَا بِأَمْر جَدِيد.
وَنقل مَعْنَاهُ عَن أبي زيد الدبوسي، وَأوجب أَكثر الْحَنَفِيَّة قَضَاء الْمَنْذُور بِالْقِيَاسِ على الْمَفْرُوض، نَقله ابْن مُفْلِح فِي أُصُوله.(5/2261)
فَائِدَة: الْأَمر الْجَدِيد إِجْمَاع، أَو نَص، أَو قِيَاس جلي احْتمل مَجِيئه.
قَوْله: {وَإِن لم يُقيد بِوَقْت - وَقُلْنَا بالفورية -} وَفعله بعده، {فالقضاء بِالْأَمر الأول عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: أَكثر الْمَالِكِيَّة، والرازي الْحَنَفِيّ.
{قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: الْإِجْمَاع أَنه مؤد لَا قَاض، وَعند جمَاعَة كالمؤقت} ، مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَأَبُو الْفرج الْمَالِكِي، والكرخي وَغَيره من الْحَنَفِيَّة.
وَإِن قُلْنَا الْأَمر للتراخي فَلَيْسَ بِقَضَاء قطعا.(5/2262)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر عَن ابْنه عبد الله: " مره فَلْيُرَاجِعهَا "، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " مُرُوهُمْ بهَا لسبع "، {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] .
وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ أمرا لَكَانَ قَول الْقَائِل: مر عَبدك، تَعَديا وتناقضا لقَوْله للْعَبد: لَا تفعل.
{وَخَالف بَعضهم} ، مِنْهُم الْعَبدَرِي، وَابْن الْحَاج، وَقَالا: هُوَ أَمر(5/2263)
حَقِيقَة، لُغَة أَو شرعا، وَقَالا: فهم ذَلِك من أَمر الله وَرَسُوله، وَمن قَول الْملك لنوابه: قُولُوا لزيد قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ مبلغ.
قَالَا: قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مره فَلْيُرَاجِعهَا " دَلِيل على أَن الْأَمر بِالْأَمر أَمر.
قُلْنَا: لِأَنَّهُ مبلغ لَا آمُر.
قَوْله: { {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} [التَّوْبَة: 103] لَيْسَ أمرا لَهُم بالإعطاء} على {الصَّحِيح} .
وَقَالَ ابْن حمدَان: مِمَّا يلْحق بِالْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة ويشبهها هَذِه الْمَسْأَلَة، فَإِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يتَوَقَّف على إعطائهم ذَلِك، فَهَل يكون أمرا بالإعطاء أم لَا؟ فِيهِ خلاف.
فَقَالَ ابْن حمدَان وَقَبله الْقشيرِي: هُوَ أَمر بالإعطاء.
قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يجب عَلَيْهِ الْإِعْطَاء من حَيْثُ إِن الْأَمر بِالْأَخْذِ يتَوَقَّف عَلَيْهِ فَيجب من حَيْثُ كَونه مُقَدّمَة الْوَاجِب كالطهارة للصَّلَاة، وَإِن اخْتلف الْفَاعِل هُنَا فَيكون كالأمر لَهُم ابْتِدَاء.(5/2264)
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: يجب الْإِعْطَاء لَا بِهَذَا الطَّرِيق بل بِالْإِجْمَاع؛ لِأَنَّهُ إِذا أوجب عَلَيْهِ الْأَخْذ قيل لَهُ: مر بالإعطاء، وامتثال أمره وَاجِب.
قَوْله: {وَالْأَمر بِالصّفةِ أَمر بالموصوف نصا} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل تبعا للمجد بن تَيْمِية فِي " المسودة ": إِذا ورد الْأَمر بهيئة أَو صفة لفعل، وَدلّ الدَّلِيل على استحبابها سَاغَ التَّمَسُّك بِهِ على وجوب أصل الْفِعْل، لتَضَمّنه الْأَمر بِهِ؛ لِأَن مُقْتَضَاهُ وجوبهما، فَإِذا خُولِفَ فِي الصَّرِيح بَقِي المتضمن على أصل الِاقْتِضَاء.
ذكره أَصْحَابنَا، وَنَصّ عَلَيْهِ إمامنا حَيْثُ تمسك على وجوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة خلافًا ... ... ... ... ... ... ... ... ...(5/2265)
للحنفية بِأَنَّهُ لَا يبْقى دَلِيلا على وجوب الأَصْل، حَكَاهُ الْجِرْجَانِيّ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَحَقِيقَة الْمَسْأَلَة أَن مُخَالفَة الظَّاهِر فِي لفظ الْخطاب لَا تَقْتَضِي مُخَالفَة الظَّاهِر فِي فحواه، وَهُوَ يشبه نسخ اللَّفْظ، هَل يكون نسخا للفحوى؟ هَكَذَا يَجِيء فِي جَمِيع دلالات الْتِزَام، وَقَول الْمُخَالف مُتَوَجّه، وسرها أَنه هَل هُوَ بِمَنْزِلَة أَمريْن، أَو أَمر بفعلين، أَو أَمر بِفعل وَاحِد ولوازمه جَاءَت ضَرُورَة، وَهُوَ يستمد من الْأَمر بالشَّيْء هَل هُوَ نهي عَن أضداده، انْتهى.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: الْأَمر بِالصّفةِ أَمر بالموصوف ويقتضيه كالأمر بالطمأنينة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود يكون أمرا بهما.
قَالَ: وغلطت الْحَنَفِيَّة؛ حَيْثُ استدلوا على وجوب التَّلْبِيَة فِي الْإِحْرَام بِمَا رُوِيَ أَن جِبْرِيل نزل على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " مر أَصْحَابك أَن يرفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ " فَجعلُوا النّدب إِلَى الصّفة وَهُوَ رفع الصَّوْت بهَا(5/2266)
دَلِيلا على وُجُوبهَا.
أَي: فَكيف يكون الْأَمر بِالصّفةِ للنَّدْب، وَهُوَ يتَضَمَّن الْأَمر بالموصوف إِيجَابا؟
قيل: قد نقل غَيره عَن الْحَنَفِيَّة عكس ذَلِك، وَنقل بعض الْحَنَابِلَة ذَلِك عَن أَحْمد وَأَصْحَابه؛ لِأَن الْأَمر بهَا لما كَانَ أمرا بالموصوف كَانَ ظَاهره الْوُجُوب فيهمَا، فَلَمَّا دلّ الدَّلِيل على صرف الْأَمر بِالصّفةِ عَن الْوُجُوب إِلَى النّدب بَقِي الْأَمر بالموصوف على وُجُوبه.
قَالَ: وَقد تمسك بِهِ أَحْمد فِي وجوب الِاسْتِنْشَاق بِالْأَمر بالمبالغة.
{وَيَأْتِي بَقَاء التَّكْلِيف بِلَا غَايَة فِي} أثْنَاء {النّسخ} ، فَإِن بَعضهم يذكر الْمَسْأَلَة هُنَا، وَبَعْضهمْ هُنَاكَ.(5/2267)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَمر الْمُطلق بِبيع يتَنَاوَلهُ وَلَو بِغَبن فَاحش، وَيصِح العقد، وَيضمن وَلَو النَّقْص عِنْد أَصْحَابنَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": إِذا أطلق الْأَمر، كَقَوْلِه لوَكِيله: بِعْ كَذَا، فَعِنْدَ أَصْحَابنَا تنَاول البيع بِغَبن فَاحش وَاعْتبر ثمن الْمثل للْعُرْف وَالِاحْتِيَاط للْمُوكل.
وَفرقُوا أَيْضا بَينه وَبَين أمره - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي اعْتِبَار إِطْلَاقه بالتعدية بتعليله بِخِلَاف الْمُوكل، ثمَّ هَل يَصح العقد وَيضمن الْوَكِيل النَّقْص أم لَا، كَقَوْل الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، {وَعند الْحَنَفِيَّة لَا يعْتَبر ثمن الْمثل واعتبروه فِي} الْوَكِيل فِي {الشِّرَاء.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة: الْأَمر بالماهية الْكُلية إِذا(5/2268)
أَتَى بمسماها امتثل، وَلم يتَنَاوَل اللَّفْظ الجزئيات وَلم ينفها، فَهِيَ مِمَّا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ. وَجَبت عقلا لَا قصدا} .
أَي: بِالْقَصْدِ الأول، بل بِالثَّانِي.
وَاخْتَارَ صَاحب " الْمَحْصُول " أَن {الْمَطْلُوب بِالْأَمر} نفس {الْمَاهِيّة الْكُلية فَالْأَمْر بِالْبيعِ لَيْسَ أمرا بِغَبن فَاحش، وَلَا ثمن الْمثل} ؛ لتَعَلُّقه بِقدر مُشْتَرك، وَهُوَ غير مُسْتَلْزم لكل مِنْهُمَا، وَالْأَمر بالأعم لَيْسَ أمرا بالأخص، وَأَنه لَا يمتثل إِلَّا بِالْأَمر بِمعين.
وَذكر بَعضهم الِاتِّفَاق على بُطْلَانه، {وَقَالَ الْآمِدِيّ، وَغَيره: الْمَطْلُوب فعل مُمكن مُطَابق للماهية الْمُشْتَركَة} ، وَأَنه لَو سلم تعلقه بِقدر مُشْتَرك فَأتى بِبَعْض الجزئيات فقد أَتَى بمسماه.
وَجه هَذَا أَن مَاهِيَّة الْفِعْل الْمُطلق كلي؛ لاشْتِرَاكهمَا بَين كثيرين فيستحيل وجودهَا خَارِجا وَإِلَّا لتشخص، فَيكون كليا وجزئيا مَعًا، وَهُوَ محَال فَلم يكن مَطْلُوبا بِالْأَمر وَإِلَّا لَكَانَ تكليفا بالمحال.
رد: الْمَاهِيّة بِشَرْط عدم التشخيص وَيُسمى الْمُجَرّد، وبشرط لَا شَيْء، لَا تُوجد خَارِجا.
قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: وَلَا ذهنا، وبشرط عدم التَّقْيِيد الْخَارِجِي تُوجد ذهنا، وَمن حَيْثُ هِيَ من غير اعْتِبَار تشخيص أَولا يُسمى الْمُطلق والماهية(5/2269)
لَا بِشَرْط شَيْء يُوجد خَارِجا جُزْء المشخص، فَمن حَيْثُ هِيَ لَا تَقْتَضِي وحدة، وَلَو اقْتَضَت تعددا امْتنع عرُوض التشخيص لَهَا، وَلِهَذَا قيل: لكل شَيْء حَقِيقَة هُوَ بهَا، هُوَ: فَمَا دلّ عَلَيْهِ الْمُطلق، وَعَلَيْهَا مَعَ وحدة مُعينَة الْمعرفَة، وَإِلَّا فالنكرة وَعَلَيْهَا مَعَ وحدات مَعْدُودَة الْعدَد، وَمَعَ كل جزئياتها الْعَام.
وَجه الثَّانِي: الْفِعْل مُطلق والجزئي مُقَيّد بالمشخص فَلَيْسَ بمطلوب، فالمطلوب الْفِعْل الْمُشْتَرك.
رد باستحالته بِمَا سبق.
ورد: الْمَاهِيّة بِقَيْد الِاشْتِرَاك لَيست مَطْلُوبَة من حَيْثُ معروضة لَهُ، وَهِي مَوْجُودَة خَارِجا، انْتهى كَلَام ابْن مُفْلِح.
لما ذكر ابْن قَاضِي الْجَبَل الْمَسْأَلَة، وَذكر نَص مَا ذكره ابْن مُفْلِح، قَالَ بعد ذَلِك: تَنْبِيه، هَذَا فَرد من قَاعِدَة عَامَّة، وَهِي الدَّال على الْأَعَمّ غير دَال على الْأَخَص، فَإِذا قُلْنَا: جسم، لَا يفهم أَنه نَام، وَإِذا قُلْنَا: نَام، لَا يفهم أَنه حَيَوَان، وَإِذا قُلْنَا: حَيَوَان، لَا يفهم أَنه إِنْسَان، وَإِذا قُلْنَا: إِنْسَان لَا يفهم أَنه زيد، فَإِن قُلْنَا: إِن الْكُلِّي قد يخص نَوعه فِي شخصه: كانحصار الشَّمْس فِي فَرد مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْقَمَر، وَكَذَلِكَ جَمِيع مُلُوك الأقاليم وقضاة الْأُصُول تَنْحَصِر أنواعهم فِي أشخاصهم، فَإِذا قلت: صَاحب مصر، إِنَّمَا ينْصَرف الذِّهْن إِلَى الْملك الْحَاضِر فِي وَقت الصِّيغَة، فَيكون الْآمِر(5/2270)
بِتِلْكَ الْمَاهِيّة يتَنَاوَل الجزئي فِي جَمِيع هَذِه الصُّور، قلت: لم يَأْتِ ذَلِك من قبل اللَّفْظ، بل من جِهَة أَن الْوَاقِع كَذَلِك.
ومقصود الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ دلَالَة اللَّفْظ من حَيْثُ هُوَ لفظ.
انْتهى كَلَام ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: فصل {الْأَمْرَانِ المتعاقبان بِلَا عطف إِن اخْتلفَا عمل بهما إِجْمَاعًا} ، كَقَوْلِك: صل، صم، زك، حج، وَنَحْوهَا على الِاخْتِلَاف فِي مُقْتَضى الْأَمر، كَمَا سبق.
قَوْله: {وَإِن تماثلا وَلم يقبل تَكْرَارا} ، كصم يَوْم الْجُمُعَة، صم يَوْم الْجُمُعَة، واقتل زيدا، اقْتُل زيدا، واعتق سالما، اعْتِقْ سالما، واجلد الزناة، اجلد الزناة، وَنَحْوه: {أَو قبل} التّكْرَار {ومنعت الْعَادة} مِنْهُ، كاسقني مَاء، اسْقِنِي مَاء، {أَو} كَانَ {الثَّانِي مُعَرفا} يَعْنِي يقبل التّكْرَار، وَلَكِن الثَّانِي معرف، كصل رَكْعَتَيْنِ، صل الرَّكْعَتَيْنِ، أَو كَانَ بَين الْآمِر والمأمور عهد ذهني يَعْنِي إِذا قبل التّكْرَار، وَلَكِن بَين الْأَمر والمأمور عهد ذهني يمْنَع التّكْرَار - قَالَه الْبرمَاوِيّ - {فَالثَّانِي مُؤَكد} للْأولِ {إِجْمَاعًا} .(5/2271)
قَوْله: {وَإِن لم تمنع} الْعَادة، {وَلم يتعرف} وَلَا كَانَ بَينهمَا عهد ذهني، {كصم صم} ، صل صل، أَو أعْط زيدا درهما، أعْط زيدا درهما وَنَحْو ذَلِك، {فَالثَّانِي تأسيس} لَا تَأْكِيد {عِنْد القَاضِي وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا} ، وَذكره القَاضِي وَغَيره عَن الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَهُ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " فِي مَسْأَلَة الْمُطلق والمقيد كبعد امْتِثَال الأول، {قَالَ أَبُو الْمجد: وَهُوَ الْأَشْبَه بمذهبنا} كَقَوْلِنَا فِيمَن قَالَ لزوجته: أَنْت طَالِق، أَنْت طَالِق، تلْزمهُ طَلْقَتَانِ.
وَذكره ابْن برهَان عَن الْفُقَهَاء قاطبة، وَقَالَهُ عبد الْجَبَّار والجبائي، وَابْن الباقلاني، والآمدي، وَغَيرهم؛ لِأَن الأَصْل(5/2272)
التأسيس.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": الثَّانِي تَأْكِيد لَا تأسيس؛ لِئَلَّا يجب فعل بِالشَّكِّ وَلَا تَرْجِيح.
وَمنع أَن تغاير اللَّفْظ يُفِيد تغاير الْمَعْنى، ثمَّ سلمه والتأكيد فَائِدَة، قَالَ ابْن مُفْلِح، كَذَا قَالَ.
وَقَالَهُ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة "، وَاحْتج بِالْيَمِينِ وَالنّذر.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر أَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن أَحْمد الثَّانِي تَأْكِيد، وَاخْتلف أَصْحَابه.
وللشافعية كالقولين وَقَول ثَالِث بِالْوَقْفِ، وَقَالَهُ ابْن فورك، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَهُوَ الصَّحِيح عَن الباقلاني؛ لمُخَالفَته الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة، فَلَا يحمل على التَّأْكِيد وَلَا على التّكْرَار إِلَّا بِدَلِيل.(5/2273)
وعورض: يلْزم من الْوَقْف مُخَالفَة مُقْتَضى الْأَمر، فَيسلم التَّرْجِيح بالتأسيس.
قَوْله: {وَإِن كَانَ الثَّانِي مَعْطُوفًا وَاخْتلفَا عمل بهما} ، مَا تقدم من الْأَحْكَام، والتقاسيم فِيمَا إِذا كَانَ الْأَمْرَانِ بِلَا عطف.
وَمَا ذكر هُنَا إِذا كَانَ مَعْطُوفًا على الأول وَاخْتلفَا عمل بهما، كصل، وصم، وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة، وَنَحْوهمَا.
{وَإِن تماثلا وَلم يقبل تَكْرَارا} إِذا تماثلا، فَتَارَة يقبل الْعَطف التّكْرَار وَتارَة لَا يقبل، فَإِن لم يقبل التّكْرَار - وَهِي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب - فَتَارَة لَا يقبله حسا، كاقتل زيدا واقتل زيدا، وَتارَة لَا يقبله حكما: كأعتق سالما، وَأعْتق سالما، فَهُوَ تَأْكِيد بِلَا خلاف.
{وَإِن قبل} التّكْرَار {وَلم تمنع عَادَة وَلَا الثَّانِي معرف فالأقوال الثَّلَاثَة} الْمُتَقَدّمَة تَأتي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": مَعَ تَرْجِيح آخر وَهُوَ الْعَطف، انْتهى.
قَوْله: {وَإِن منعت عَادَة تَعَارضا والأقوال الثَّلَاثَة} فِيهَا.
{وَجزم الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين هُنَا {بالتكرار} .(5/2274)
(بَاب النَّهْي)(5/2275)
فارغة(5/2276)
فارغة(5/2277)
فارغة(5/2278)
(قَوْله: {بَاب النَّهْي} )
{يُقَابل الْأَمر فِي حَده وصيغته ومسائله وَغير ذَلِك} .
لَا شكّ أَن النَّهْي مُقَابل الْأَمر فَكل مَا قيل فِي حد الْأَمر وَأَن لَهُ صِيغَة، وَمَا فِي مسَائِله من مُخْتَار ومزيف يكون مثله فِي النَّهْي.
وَمن الْعلمَاء من فرق بَين النَّهْي وَالْأَمر، فَحمل النَّهْي على التَّحْرِيم وَالْأَمر على النّدب، وخرجه أَبُو يعلى رِوَايَة ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وَترد} - أَي صِيغَة النَّهْي - {للتَّحْرِيم} .
ترد صِيغَة النَّهْي لمعان ذكرنَا هُنَا غالبها:
أَحدهَا: التَّحْرِيم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] ، {وَلَا تقربُوا الزِّنَا} [الْإِسْرَاء: 32] ، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [النِّسَاء: 29] وَنَحْوه، فَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ، وَمَا عداهُ مجَاز.(5/2279)
الثَّانِي: ترد {للكراهة} ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {" لَا يمسكن} أحدكُم {ذكره وَهُوَ يَبُول "} ، مثله الْمحلي وَغَيره، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} [الْبَقَرَة: 267] .
الثَّالِث: {التحقير} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} [الْحجر: 88] .
الرَّابِع: {بَيَان الْعَاقِبَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {وَلَا تحسبن الله غافلا} عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} [إِبْرَاهِيم: 42] .
الْخَامِس: {الدُّعَاء} ، كَقَوْلِه: {رَبنَا {لَا تُؤَاخِذنَا} إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} [الْبَقَرَة: 286] ، {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] .
السَّادِس: {الْيَأْس} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تعتذروا} قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} [التَّوْبَة: 66] ، وَقد يُقَال إِنَّه رَاجع إِلَى الاحتقار فَلهَذَا مثله بَعضهم بِهِ.(5/2280)
السَّابِع: {الْإِرْشَاد} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء} إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101] وَالْمرَاد أَن الدّلَالَة على الْأَحْوَط ترك ذَلِك.
قيل: وَفِيه نظر، بل هِيَ للتَّحْرِيم، وَالْأَظْهَر الأول؛ لِأَن الْأَشْيَاء الَّذِي يسْأَل عَنْهَا السَّائِل لَا يعرف حِين السُّؤَال، هَل تُؤدِّي إِلَى مَحْذُور أم لَا؟ وَلَا تَحْرِيم إِلَّا بالتحقق.
الثَّامِن: الْأَدَب، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} [الْبَقَرَة: 237] ، وَلَكِن هَذَا رَاجع للكراهة؛ إِذْ المُرَاد: لَا تتعاطوا أَسبَاب النسْيَان، فَإِن نفس النسْيَان لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة حَتَّى ينْهَى عَنهُ.
وَبَعْضهمْ يعد من ذَلِك الْخَبَر، وَلَيْسَ للْخَبَر مِثَال صَحِيح، وَمثله بَعضهم بقوله تَعَالَى: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، وَهَذَا الْمِثَال إِنَّمَا هُوَ للْخَبَر بِمَعْنى النَّهْي لَا للنَّهْي بِمَعْنى الْخَبَر، وَهُوَ المُرَاد هُنَا فَليعلم.
التَّاسِع: {التهديد} ، كَقَوْلِك لمن تهدده: أَنْت {لَا تمتثل أَمْرِي} .(5/2281)
الْعَاشِر: {إِبَاحَة التّرْك، كالنهي بعد الْإِيجَاب} على قَول تقدم فِي أَن النَّهْي بعد الْأَمر للْإِبَاحَة، وَالصَّحِيح خِلَافه.
الْحَادِي عشر: {للالتماس، كَقَوْلِك لنظيرك: لَا تفعل} ، عِنْد من يَقُول إِن صِيغَة الْأَمر لَهَا ثَلَاث صِفَات: أَعلَى، وَنَظِير، وأدون، وَكَذَلِكَ النَّهْي.
الثَّانِي عشر: {التصبر} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تحزن} إِن الله مَعنا} [التَّوْبَة: 40] .
الثَّالِث عشر: {إِيقَاع الْأَمْن} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {لَا تخف} إِنَّك من الْآمنينَ} ، [الْقَصَص: 31] ، {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} [الْقَصَص: 25] ، وَلَكِن قيل: إِنَّه رَاجع إِلَى الْخَبَر كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت لَا تخَاف.
الرَّابِع عشر: التحذير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} [آل عمرَان: 102] .
الْخَامِس عشر: {التَّسْوِيَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} } [الطّور: 16] ، وَهَذَا أَنا قلته وَلم أر من ذكره، لكِنهمْ لما ذكرُوا أَن صِيغَة(5/2282)
الْأَمر ترد للتسوية ومثلوا بِهَذِهِ الْآيَة، وَالْآيَة قد تَضَمَّنت الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ وَاضح، ثمَّ رَأَيْت الْبرمَاوِيّ ذكره وَقَالَ: لم أر من ذكره، وَهُوَ أولى بِالذكر من كثير مِمَّا ذَكرُوهُ، فحمدت الله تَعَالَى على ذَلِك.
قَوْله: {فَإِن تجردت} صِيغَة النَّهْي عَن الْمعَانِي الْمَذْكُورَة والقرائن، اقْتَضَت التَّحْرِيم على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
وَقيل: تَقْتَضِي صيغته الْكَرَاهَة، وَبَالغ الإِمَام الشَّافِعِي فِي إِنْكَار ذَلِك، ذكره الْجُوَيْنِيّ.
{وَقيل: بَينهمَا} - أَي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة - فَيكون مُجملا، قَالَه بَعضهم.(5/2283)
{وَقيل:} يكون {للقدر الْمُشْتَرك} بَينهمَا، أَعنِي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة، وَهُوَ مُطلق التّرْك.
{وَقيل: لأَحَدهمَا لَا بِعَيْنِه} ، قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " عَن هَذَا القَوْل: وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ بَعضهم يكون مُجملا على هذَيْن الْقَوْلَيْنِ، وَقد يُقَال عَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: يرجع إِلَى القَوْل بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَن ترك الْحَرَام وَاجِب وَهَذَا اللَّفْظ مُشْتَرك بَين الْحَرَام وَغَيره فَيجب الْكَفّ، فَإِنَّهُ من بَاب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، وَالله أعلم.
{وَقيل: للْإِبَاحَة} ، ذكره الْقَرَافِيّ، وَهُوَ بعيد جدا.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ} فِي هَذِه الْمعَانِي لتعارض الْأَدِلَّة والاحتمالات، وَكثير من الْعلمَاء يجْعَلُونَ الْأَقْوَال الَّتِي فِي الْأَمر الْمُجَرّد فِي النَّهْي الَّذِي يُمكن تصَوره فِيهِ.
قَالَ أَبُو زيد فِي " التَّقْوِيم ": لم أَقف على الْخلاف فِي حكم النَّهْي كَمَا فِي الْأَمر، فَيحْتَمل أَنه على الْخلاف فِيهِ.(5/2284)
وَقَالَ الْبَزْدَوِيّ: قَالَ الْمُعْتَزلَة بالندب فِي الْأَمر وبالتحريم فِي النَّهْي؛ لِأَن الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالْوَاجِب وَالْمَنْدُوب داخلان فِي اقْتِضَاء الْحسن بِخِلَاف النَّهْي، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي قبح الْمنْهِي عَنهُ، والانتهاء عَن الْقَبِيح وَاجِب.(5/2285)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر مُطلق النَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه يَقْتَضِي فَسَاده} ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ من أَقْوَال الْعلمَاء من فُقَهَاء الْحَنَفِيَّة، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، والحنابلة، والظاهرية، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين، وَغَيرهم.
قَالَ الْخطابِيّ: هَذَا مَذْهَب الْعلمَاء فِي قديم الدَّهْر وَحَدِيثه، كَحَدِيث عَائِشَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد ".(5/2286)
ومثلوا للنَّهْي عَن الشَّيْء لعَينه، أَي: لذاته كالكفر، وَالْكذب، وَالظُّلم، والجور، وَنَحْوهَا من المستقبح لذاته عقلا عِنْد من يرى ذَلِك.
وَقَالَ الْغَزالِيّ، والرازي، وَأَبُو الْحُسَيْن وَجمع: مُطلق النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد فِي الْعِبَادَات دون غَيرهَا، لجَوَاز لَا تفعل، فَإِن فعلت ترَتّب الحكم، نَحْو: لَا تطَأ جَارِيَة ولدك، فَإِن فعلت صَارَت أم ولد لَك، وَلَا تطلق فِي الْحيض، فَإِن فعلت وَقع، وَلَا تغسل الثَّوْب بِمَاء مَغْصُوب ويطهر إِن فعلت.
وَالْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْعِبَادَة قربَة، وارتكاب الْمنْهِي عَنهُ مَعْصِيّة، فيتناقضان بِخِلَاف الْمُعَامَلَات.
الثَّانِي: أَن فَسَاد الْمُعَامَلَات بِالنَّهْي يضر بِالنَّاسِ لقطع مَعَايشهمْ أَو تقليلها فَصحت؛ رِعَايَة لمصلحتهم وَعَلَيْهِم إِثْم ارْتِكَاب النَّهْي بِخِلَاف(5/2287)
الْعِبَادَات، فَإِنَّهَا حق الله تَعَالَى فتعطيلها لَا يضر بِهِ، بل من أوقعهَا بِسَبَب صَحِيح أطَاع وَمن لَا، عصي، وَأمر الْجمع إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة.
{و} قَالَ {بعض الْحَنَفِيَّة، والأشعرية} ، وَعَامة الْمُعْتَزلَة والمتكلمين: لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَلَا صِحَة.
وَحَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن محققي أَصْحَابهم، كالقفال وَالْغَزالِيّ، وَحَكَاهُ عَن جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين، وَحَكَاهُ الكيا عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَحَكَاهُ الرَّازِيّ عَن أَكثر الْفُقَهَاء.
وَقيل: يَقْتَضِي الصِّحَّة، حُكيَ ذَلِك عَن أبي حنيفَة، وَمُحَمّد بن(5/2288)
الْحسن؛ لدلالته على تصور الْمنْهِي عَنهُ.
فعلى الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - اقتضاؤه للْفَسَاد من جِهَة الشَّرْع لَا غير، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ الْجُمْهُور اقتضاؤه الْفساد من جِهَة الشَّرْع بعرف شَرْعِي، انْتهى؛ لِأَن النَّهْي عَنهُ فِي قَوْلنَا: لَا يَصح صَوْم يَوْم النَّحْر: هُوَ الصَّوْم الشَّرْعِيّ قطعا، فَلَا بُد وَأَن تكون الدّلَالَة شَرْعِيَّة، إِذْ أهل اللُّغَة لَا يفهمون الْمَعْنى الشَّرْعِيّ، فَكيف يدل اللَّفْظ عَلَيْهِ.
وَقيل: اقتضاؤه للْفَسَاد من جِهَة اللُّغَة، وَقَالَهُ كثير من أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل للقائل بفساده لُغَة احتجاج الصِّحَّة: قُلْنَا: نمْنَع فهمهم الْفساد لُغَة، بل شرعا.
قَالُوا: يَقْتَضِي الْأَمر الصِّحَّة، وَالنَّهْي نقيضه فمقتضاه الْفساد لوُجُوب التقابل.(5/2289)
قُلْنَا: إِذا أُرِيد لُغَة فَمَمْنُوع، وَشرعا فَمُسلم، وَلَو سلم لُغَة فَلَا نسلم لُزُوم الِاخْتِلَاف فِي المتقابلات اشتراكهما فِي لَازم وَاحِد، وَلَو سلم فَإِنَّمَا يلْزم أَن لَا يكون النَّهْي مقتضيا للصِّحَّة لَا أَن يَقْتَضِي الْفساد، انْتهى.
وَقيل: اقتضاؤه للْفَسَاد من جِهَة الْمَعْنى، حَكَاهُ طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة؛ لِأَن النَّهْي دلّ على قبح الْمنْهِي عَنهُ، وَهُوَ مضاد للمشروعية، قَالَ: وَهُوَ أولى.
قَوْلنَا: مُطلق النَّهْي خرج بِهِ مَا اقْترن بِهِ مَا يدل على الْفساد أَو الصِّحَّة فَلَيْسَ من مَحل الْخلاف فِي شَيْء.
احْتج للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَبنَا وَمذهب الْعلمَاء - بِالْكتاب وَالسّنة، وَالِاعْتِبَار، ومناقضة الْخُصُوم، أما الْإِجْمَاع فَلم يزل الْعلمَاء يستدلون على الْفساد بِالنَّهْي، كاحتجاج ابْن عمر بقوله تَعَالَى: (وَلَا(5/2290)
تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، وكاستدلال الصَّحَابَة على فَسَاد عُقُود الرِّبَا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَب إِلَّا مثلا بِمثل " الحَدِيث، ولنكاح الْمحرم بِالنَّهْي عَنهُ، وكبيع الطَّعَام قبل قَبضه وشاع وذاع من غير نَكِير.
فَإِن قلت احتجاجهم إِنَّمَا هُوَ على التَّحْرِيم لَا على الْفساد، قلت: بل على كليهمَا، أَلا ترى إِلَى حَدِيث بيع الصاعين بالصاع، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أوه عين الرِّبَا " وَذَلِكَ بعد الْقَبْض فَأمر برده.
وَأما الثَّانِي فَفِي " صَحِيح مُسلم ": أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَالرَّدّ إِذا أضيف إِلَى الْعِبَادَات اقْتضى عدم الِاعْتِدَاد، وَإِن أضيف إِلَى الْعُقُود اقْتضى الْفساد.
فَإِن قيل: وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ بمقبول، وَلَا طَاعَة.(5/2291)
قُلْنَا: الحَدِيث يَقْتَضِي رد ذَاته، فَإِذا لم يُمكن اقْتضى رد مُتَعَلّقه.
فَإِن قيل: هُوَ من أَخْبَار الْآحَاد وَالْمَسْأَلَة من الْأُصُول.
قيل: تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، وَالْمَسْأَلَة من بَاب الْفُرُوع، فَيكون وجوده كَعَدَمِهِ.
وَاحْتج الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، و " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل "، وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ: وَمَعْلُوم إِنَّه لم يرد بذلك نفي نفس الْفِعْل؛ لِأَن الْفِعْل مَوْجُود من حَيْثُ الْمُشَاهدَة، وَإِنَّمَا يُرَاد نفي حكمه، فَإِذا وجد الْفِعْل على الصّفة الْمنْهِي عَنْهَا لم يكن لَهُ حكم فوجوده كَعَدَمِهِ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يُؤثر إيجاده وَكَانَ الْفَرْض الأول على عَادَته.
وَأما الثَّالِث - وَهُوَ الِاعْتِبَار - فَلِأَن النَّهْي يدل على تعلق مفْسدَة بالمنهي عَنهُ، أَو بِمَا يلازمه؛ لِأَن الشَّارِع حَكِيم لَا ينْهَى عَن الْمصَالح، وَفِي الْقَضَاء(5/2292)
بإفسادها إعدام لَهَا بأبلغ الطّرق؛ وَلِأَن النَّهْي عَنْهَا مَعَ ربط الحكم بهَا مفض إِلَى التَّنَاقُض فِي الْحِكْمَة؛ لِأَن نصبها سَببا يُمكن من التوسل، وَالنَّهْي منع من التوسل؛ وَلِأَن حكمهَا مَقْصُود الْآدَمِيّ ومتعلق غَرَضه، فتمكينه مِنْهُ حث على تعاطيه، وَالنَّهْي منع من التعاطي؛ لِأَنَّهُ لَو لم يفْسد الْمنْهِي عَنهُ لزم من نَفْيه، لكَونه مَطْلُوب التّرْك بِالنَّهْي حكمه للنَّهْي، وَمن ثُبُوته لكَون الْغَرَض جَوَاز التَّصَرُّف وَصِحَّته، حكم الصِّحَّة، وَذَلِكَ بَاطِل.
أما الْمُلَازمَة فلاستحالة خلو الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة عَن الْحِكْمَة.
وَأما بطلَان الثَّانِي فَلِأَن اجْتِمَاعهمَا يُؤَدِّي إِلَى خلو الحكم عَن الْحِكْمَة وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع؛ لِأَن حِكْمَة النَّهْي إِمَّا أَن تكون راجحة على الصِّحَّة، أَو مرجوحة، أَو مُسَاوِيَة، لَا جَائِز أَن تكون مرجوحة، وَلَا مُسَاوِيَة؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لامتنع النَّهْي فَلم يبْق إِلَّا أَن تكون راجحة على حكم الصِّحَّة، وَفِي رُجْحَان النَّهْي يمْتَنع الصِّحَّة.
فَإِن قلت: التَّرْجِيح غَايَته أَن يُنَاسب نفي الصِّحَّة وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الْحِكْمَة إِلَّا بإيراد شَاهد بِالِاعْتِبَارِ، وَلَو ظهر كَانَ الْفساد لَازِما من الْقيَاس.
قُلْنَا: الْقَضَاء بِالْفَسَادِ لعدم الصِّحَّة، فَلَا يفْتَقر إِلَى شَاهد الِاعْتِبَار؛ وَلِأَن فِي الشرعيات منهيات بَاطِلَة وَلَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا أَن النَّهْي للْأَصْل.(5/2293)
وَأما المناقضة - وَهُوَ الرَّابِع - فلأنهم أبطلوا النِّكَاح فِي الْعدة، وَنِكَاح الْمحرم، والمحاقلة، والمزابنة، وَالْمُلَامَسَة، وَالْعقد على مَنْكُوحَة الْأَب؛ لقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} الْآيَة [النِّسَاء: 22] ، {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، وَالصَّلَاة فِي الْمَكَان النَّجس وَالثَّوْب النَّجس، وَحَالَة كشف الْعَوْرَة، إِلَى غير ذَلِك، وَلَا مُسْتَند إِلَّا النَّهْي.
قَالَ: لَو دلّ الْفساد لناقض التَّصْرِيح بِالصِّحَّةِ فِي قَوْله: نهيتك عَن فعل كَذَا، فَإِن فعلت صَحَّ.
قُلْنَا: الْجَواب عَنهُ من أوجه:
أَحدهَا: أَن ذَلِك لَهُ نقل.
الثَّانِي: الْمَنْع من جَوَاز التَّصْرِيح بِالصِّحَّةِ لما ذكرنَا من حِكْمَة الْفساد ورجحانها.(5/2294)
الثَّالِث: لَو سلم فالتصريح بِخِلَاف الظَّاهِر لَا يُنَاقض، نَحْو: رَأَيْت أسدا يَرْمِي، قَالَ ذَلِك ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره.
قَوْله: {وَكَذَا الْمنْهِي عَنهُ لوصفه عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم} .
الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام:
أَحدهَا: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لعَينه كَمَا تقدم تمثيله.
الثَّانِي: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لخارج، لكنه لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، كالنهي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد، وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَعَن الرِّبَا لوصف الزِّيَادَة الْمُقَارن للْعقد اللَّازِم، وَلكَون الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام ضِيَافَة الله، وَهَذَا معنى لَازم لَهَا.
لَكِن منع صَاحب " الْمُحَرر " أَن النَّهْي لم يعد إِلَى عين الْمنْهِي عَنهُ؛ لِأَن النَّص أَضَافَهُ إِلَى صَوْم هَذَا الْيَوْم كإضافة النَّهْي إِلَى صَلَاة حَائِض، ومحدث، انْتهى.(5/2295)
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": كالنهي عَن نِكَاح الْكَافِر للمسلمة، وَعَن بيع العَبْد الْمُسلم من كَافِر، فَإِن ذَلِك يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الْقيام والاستيلاء، والسبيل للْكَافِرِ على الْمُسلم، فَيبْطل لهَذَا الْوَصْف اللَّازِم لَهُ، انْتهى.
{وَعند الْحَنَفِيَّة، وَأبي الْخطاب، يَقْتَضِي صِحَة الشَّيْء وَفَسَاد وَصفه} ، فَيدل على فَسَاد الْوَصْف لَا الْمَوْصُوف الْمنْهِي عَنهُ لكَونه مَشْرُوعا بِدُونِ الْوَصْف، وبنوا على ذَلِك لَو بَاعَ درهما بِدِرْهَمَيْنِ، ثمَّ طرحا الزِّيَادَة، فَإِنَّهُ يَصح العقد.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره، عِنْد الْحَنَفِيَّة يَقْتَضِي صِحَة الشَّيْء وَفَسَاد وَصفه، فالمحرم عِنْدهم وُقُوع الصَّوْم فِي الْعِيد، لَا الْوَاقِع، [فَهُوَ] حسن؛ لِأَنَّهُ صَوْم، قَبِيح لوُقُوعه فِي الْعِيد، فَهُوَ طَاعَة فَيصح النّذر بِهِ، وَوصف قبحه لَازم للْفِعْل لَا للاسم، وَلَا يلْزم بِالشُّرُوعِ.(5/2296)
وَالْفساد فِي الصَّلَاة وَقت النَّهْي فِي وَصفه للنسبة إِلَى الشَّيْطَان، وَالْوَقْت سَبَب وظرف؛ فأثر نَقصه فِي نَقصهَا، فَلم يتأدبها الْكَامِل، وضمنت بِالشُّرُوعِ.
وَوقت الصَّوْم معيار فَلم يضمن بِهِ عِنْد أبي حنيفَة، وَخَالفهُ صَاحِبَاه.
وَإِذا بَاعَ بِخَمْر صَحَّ بِأَصْلِهِ، لَا وَصفه، وَلَو بَاعَ خمرًا بِعَبْد لم يَصح؛ لِأَن الثّمن تَابع غير مَقْصُود بِخِلَاف الْمُثمن.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا:
وَقيل: لأبي الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي نذر صَوْم يَوْم الْعِيد: نَهْيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - عَن صَوْم الْعِيد يدل على الْفساد، فَقَالَ: هُوَ حجتنا؛ لِأَن النَّهْي عَمَّا لَا يكون محَال، كنهي [الْأَعْمَى] عَن النّظر، فَلَو لم يَصح لما نهى عَنهُ، انْتهى.
{وَاخْتَارَ الطوفي} فِي " مُخْتَصره " أَن النَّهْي يَقْتَضِي {الصِّحَّة فِي وصف غير لَازم} ، فَقَالَ فِي " مُخْتَصره ": وَالْمُخْتَار أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لذاته، أَو وصف لَازم لَهُ مُبْطل، ولخارج عَنهُ غير مُبْطل.(5/2297)
وَفِيه: لوصف غير لَازم تردد وَالْأولَى الصِّحَّة.
فَاخْتَارَ الصِّحَّة فِي شَيْئَيْنِ: فِي وصف خَارج عَنهُ، وَفِي وصف غير لَازم، والبطلان فِي شَيْئَيْنِ: فِي الْمنْهِي عَنهُ لذاته، أَو لوصف لَازم لَهُ، فالشيء الْمنْهِي عَنهُ لذاته تَابع فِيهِ الْمَذْهَب.
والجماهير كَمَا تقدم وَتقدم أمثلتهما، وَمِثَال النَّهْي عَن الْفِعْل لأمر خَارج عَنهُ لَا تعلق لَهُ بِهِ عقلا، كالنهي عَن الصَّلَاة فِي دَار؛ لِأَن فِيهَا صنما مَدْفُونا، أَو كَافِرًا مسجونا، أَو شرعا كالنهي عَن بيع الْجَوْز، وَالْبيض خشيَة أَن يقامر بِهِ، وَنَحْو ذَلِك.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: النَّهْي إِن أوجب حظرا أوجبه مَعَ النَّهْي عَن السَّبَب: كَطَلَاق الْحَائِض، وظهار} الذِّمِّيّ، محرمان موجبان للتَّحْرِيم.
{وَنبهَ عَلَيْهِ أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة البيع الْفَاسِد لَا ينْقل الْملك.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " لمن احْتج بِالنَّهْي عَن الْعُمْرَى والرقبى: النَّهْي إِنَّمَا يمْنَع صِحَّته مَا يُفِيد الْمنْهِي عَنهُ فَائِدَة فَإِن(5/2298)
[كَانَت] صِحَّته ضَرَرا على مرتكبه، لم يمْنَع صِحَّته، كَطَلَاق الْحَائِض، والعمرى؛ لزوَال ملكه بِلَا عوض، انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَوجه الأول مَا سبق، واستدلال الصَّحَابَة بِالنَّهْي عَن صَوْم الْعِيد وَغَيره من غير فرق، وَسلم الخالف الصَّلَاة بِلَا طَهَارَة.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِي إِلْزَامه بيع الملاقيح، والمضامين وَنَحْوهمَا نظر، وَتقدم منع الْمجد.
قَالُوا: وَأجِيب بِمَا سبق أَنه لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَيَقْتَضِي صِحَة غير الْعِبَادَة.
قَالُوا: لَو دلّ لما صَحَّ طَلَاق حَائِض، وَالْحَد بِسَوْط غصب، وَذبح ملك غَيره.
رد: ترك الظَّاهِر لدَلِيل، وَهُوَ خبر ابْن عمر فِي الطَّلَاق.
وَقَالَ القَاضِي: تَغْلِيظًا عَلَيْهِ.(5/2299)
وَفِي الْحَد للْإِجْمَاع، قَالَه فِي " التَّمْهِيد "؛ لِئَلَّا يُزَاد الْحَد.
وَيحل الْمَذْبُوح على الْأَصَح عندنَا للْخَبَر.
وَتقدم كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَصَاحب " الْمُغنِي ".
قَوْله: {وَكَذَا النَّهْي لِمَعْنى فِي الْمنْهِي عَنهُ، كَبيع بعد نِدَاء الْجُمُعَة عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية} ، والظاهرية، والجبائية، {وَابْن الْحَاجِب} ، وَغَيرهم.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي - وعزي هَذَا القَوْل إِلَى طوائف من الْفُقَهَاء:
تقدم أَن الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام:(5/2300)
تَارَة يكون لذاته كَمَا مثلنَا بِهِ قبل، وَتارَة يكون لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَتقدم، وَتارَة يكون لأمر خَارج غير لَازم كَالْبيع بعد نِدَاء الْجُمُعَة، وكالوضوء بِمَاء مَغْصُوب، فَإِن الْمنْهِي عَنهُ لأمر خَارج عَنهُ وَهُوَ الْغَصْب، يَنْفَكّ بِالْإِذْنِ من صَاحبه، أَو الْملك وَنَحْوه، فَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب، إِنَّه كَالَّذي قبله وَعَلِيهِ كثير من الْعلمَاء كَمَا تقدم.
{وَخَالف الطوفي} كَمَا تقدم عَنْهُم، {وَالْأَكْثَر} فِي ذَلِك فَقَالُوا: لَا يَقْتَضِي الْفساد، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا خلاف أَنه لَا يَقْتَضِي الْفساد، إِلَّا مَا نقل عَن مَالك وَأحمد، وَلَا فرق بَين الْعِبَادَات والمعاملات.
إِذا علم ذَلِك فالدليل والاعتراض وَالْجَوَاب كَمَا سبق.
وألزم القَاضِي الشَّافِعِيَّة بِبُطْلَان البيع بالتفرقة بَين وَالِدَة وَوَلدهَا.
قَوْله: {وَلَو كَانَ النَّهْي عَن غير عقد لحق آدَمِيّ كتلق، ونجش(5/2301)
وسوم وخطبة وتدليس صَحَّ فِي الْأَصَح عندنَا وَعند الْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَحَيْثُ قَالَ أَصْحَابنَا اقْتضى النَّهْي الْفساد، فمرادهم: مَا لم يكن النَّهْي لحق آدَمِيّ يُمكن استدراكه، فَإِن كَانَ وَلَا مَانع كتلقي الركْبَان والنجش، فَإِنَّهُمَا يصحان على الْأَصَح عندنَا، وَعند الْأَكْثَر لإِثْبَات الشَّرْع الْخِيَار فِي التلقي وعللوه بِمَا سبق. انْتهى.
وَلنَا رِوَايَة عَن أَحْمد بِعَدَمِ الصِّحَّة، وَلنَا مسَائِل كَثِيرَة فروعية، كَبيع الْفُضُولِيّ والمجهول، وَغير ذَلِك لَهَا أَدِلَّة خَاصَّة هُنَاكَ.
{تَنْبِيه: النَّهْي يَقْتَضِي الْفَوْر والدوام عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ،(5/2302)
وَيُؤْخَذ من أَن النَّهْي للدوام أَنه للفور؛ لِأَنَّهُ من لوازمه؛ وَلِأَن من نهى عَن فعل بِلَا قرينَة عد مُخَالفا لُغَة وَعرفا أَي وَقت فعله؛ وَلِهَذَا لم تزل الْعلمَاء تستدل بِهِ من غير نَكِير.
وَحَكَاهُ أَبُو حَامِد، وَابْن برهَان، وَأَبُو زيد الدبوسي إِجْمَاعًا.
وَالْفرق بَينه وَبَين الْأَمر أَن الْأَمر لَهُ حد يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَيَقَع الِامْتِثَال فِيهِ بالمرة، وَأما الِانْتِهَاء عَن الْمنْهِي فَلَا يتَحَقَّق إِلَّا باستيعابه فِي الْعُمر، فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ تكْرَار، بل اسْتِمْرَار بِهِ يتَحَقَّق الْكَفّ.
وَخَالف القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَنَقله ابْن عقيل عَن الباقلاني، وَنقل الْمَازرِيّ عَنهُ خِلَافه، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: النَّهْي يَقْتَضِي الْفَوْر والدوام عِنْد أَصْحَابنَا وَعَامة الْعلمَاء خلافًا لِابْنِ الباقلاني، وَصَاحب " الْمَحْصُول "؛ لِأَن النَّهْي(5/2303)
منقسم إِلَى الدَّوَام وَغَيره: كَالزِّنَا وَالْحَائِض عَن الصَّلَاة فَكَانَ الْقدر الْمُشْتَرك دفعا للاشتراك وَالْمجَاز.
رد: عدم الدَّوَام لقَرِينَة هِيَ تَقْيِيد بِالْحيضِ وَكَونه حَقِيقَة للدوام أولى من الْمرة لدليلنا ولإمكان التَّجَوُّز عَن بعضه لاستلزامه لَهُ بِخِلَاف الْعَكْس.
قَوْله: {وَلَا تفعل هَذَا مرّة، يَقْتَضِي تكْرَار التّرْك} ، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَعند القَاضِي وَالْأَكْثَر يسْقط بِمرَّة، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع " حَتَّى قَالَ شَارِحه ابْن الْعِرَاقِيّ عَن القَوْل بِأَنَّهُ يَقْتَضِي التّكْرَار: غَرِيب لم نره لغير ابْن السُّبْكِيّ.
وَقطع بِهِ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته "، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا لم يطلعا على كَلَام الْحَنَابِلَة فِي ذَلِك.
وَقد تقدم فِي الْأَمر فِي مَسْأَلَة مَا إِذا تجرد الْأَمر عَن الْقَرِينَة هَل يَقْتَضِي التّكْرَار؟ فِي أثْنَاء بحث الْمَسْأَلَة أَنه لَو قَالَ: لَا تفعل هَذَا مرّة، عَم.(5/2304)
قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي بحث الْمَسْأَلَة، وَعند القَاضِي لَا يعم؛ لقبح الْمنْهِي عَنهُ فِي وَقت وَحسنه فِي آخر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَقَالَ غَيره: يعم. يَعْنِي غير القَاضِي.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": إِذا قَالَ: لَا تفعل هَذَا مرّة.
فَقَالَ القَاضِي: يَقْتَضِي الْكَفّ مرّة، فَإِذا ترك مرّة يسْقط النَّهْي.
وَقَالَ غَيره: يَقْتَضِي التّكْرَار. انْتهى.
فَظَاهره أَن غير القَاضِي يَقُول بتكرار التّرْك.
قَوْله: {فَائِدَة: يكون النَّهْي عَن وَاحِد، ومتعدد جمعا، وفرقا وجميعا} .
قد يكون النَّهْي عَن وَاحِد فَقَط، وَهُوَ كثير وَاضح، وَقد يكون عَن مُتَعَدد: أَي عَن شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَهَذَا ثَلَاثَة أَنْوَاع:
الأول: أَن يكون نهيا عَن الْجَمِيع، أَي: عَن الْهَيْئَة الاجتماعية، فَلهُ فعل أَيهَا شَاءَ على انْفِرَاده، كَمَا تقدم آخر الْوَاجِب أَنه يجوز النَّهْي(5/2305)
عَن وَاحِد لَا بِعَيْنِه.
الثَّانِي: عكس الأول، وَهُوَ النَّهْي عَن الِافْتِرَاق دون الْجمع كالنهي عَن الِاقْتِصَار على أحد الشَّيْئَيْنِ، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تمش فِي نعل وَاحِدَة "، فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لَا عَن لبسهما، وَلَا عَن نزعهما، وَلذَلِك قَالَ: " ليلبسهما جَمِيعًا أَو ليحفهما جَمِيعًا ".
الثَّالِث: أَن يكون نهيا عَن الْجَمِيع، أَي: كل وَاحِد، سَوَاء أَتَى بِهِ مُنْفَردا أَو مَعَ الآخر، كالنهي عَن الزِّنَا، والربا، وَالسَّرِقَة وَغَيرهَا، وَكَقَوْلِه: " لَا تباغضوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدابروا ".
قَالَ الكوراني: وَالْحق أَن هَذَا مُسْتَدْرك؛ لِأَنَّهُ من قبيل النَّهْي عَن الْوَاحِد.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: إِذا تعلق النَّهْي بأَشْيَاء فإمَّا على الْجَمِيع، كالميتة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير، وَإِمَّا على الْجمع، كالجمع بَين(5/2306)
الْأُخْتَيْنِ، أَو على الْبَدَل كجعل الصَّلَاة بَدَلا عَن الصَّوْم، وَنَظِيره: لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن.
إِن جزمت الْفِعْلَيْنِ كَانَ كل مِنْهُمَا مُتَعَلق النَّهْي، وَإِن نصبت الثَّانِي مَعَ جزم الأول كَانَ مُتَعَلق النَّهْي الْجمع بَينهمَا وكل وَاحِد مِنْهُمَا غير مَنْهِيّ عَنهُ بِانْفِرَادِهِ، وَإِن جزمت الأول وَرفعت الثَّانِي كَانَ الأول مُتَعَلق النَّهْي فَقَط فِي حَال مُلَابسَة الثَّانِي. انْتهى.(5/2307)
فارغة(5/2308)
(بَاب الْعَام)(5/2309)
فارغة(5/2310)
(قَوْله: {بَاب} )
{الْعَام: اللَّفْظ الدَّال على جَمِيع أَجزَاء مَاهِيَّة مَدْلُوله} .
إِنَّمَا أخر الْكَلَام فِي الْعَام وَالْخَاص عَن الْأَمر وَالنَّهْي؛ لتعلقهما بِنَفس الْخطاب الشَّرْعِيّ، وَتعلق الْعُمُوم وَالْخُصُوص بِاعْتِبَار الْمُخَاطب بِهِ، وَإِنَّمَا قدمنَا هَذَا الْحَد على الْحُدُود الْبَاقِيَة لما نذكرهُ فَإِن الطوفي ذكره فِي " مُخْتَصره "، وَقَالَ: هُوَ أَجود الْحُدُود.
فَإِنَّهُ ذكر حدودا كلهَا مُعْتَرضَة، وَذكر هَذَا فِي جملَة تَقْسِيم فَقَالَ: وَقيل: اللَّفْظ إِن دلّ على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ، فَهُوَ الْمُطلق كالإنسان، أَو على وَحده مُعينَة كزيد فَهُوَ الْعلم، أَو غير مُعينَة كَرجل فَهُوَ النكرَة، أَو على وحدات مُتعَدِّدَة فَهِيَ: إِمَّا بعض وحدات الْمَاهِيّة فَهُوَ اسْم الْعدَد، كعشرين رجلا أَو جَمِيعهَا فَهُوَ الْعَام.(5/2311)
فَإِذن: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على جَمِيع أَجزَاء مَاهِيَّة مَدْلُوله، وَهُوَ أَجودهَا. انْتهى.
فَهَذَا الْحَد مُسْتَفَاد من التَّقْسِيم الْمَذْكُور؛ لِأَن التَّقْسِيم الصَّحِيح يرد على جنس الْأَقْسَام، ثمَّ يُمَيّز بَعْضهَا عَن بعض بِذكر خواصها الَّتِي يتَمَيَّز بهَا فيتركب كل وَاحِد من أقسامه من جنسه الْمُشْتَرك ومميزه الْخَاص وَهُوَ الْفَصْل، وَلَا معنى للحد إِلَّا اللَّفْظ الْمركب من الْجِنْس والفصل.
وعَلى هَذَا فقد استفدنا من هَذَا التَّقْسِيم معرفَة حُدُود مَا تضمنه من الْحَقَائِق وَهُوَ الْمُطلق، وَالْعلم، والنكرة وَاسم الْعدَد.
فالمطلق: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على الْمَاهِيّة الْمُجَرَّدَة عَن وصف زَائِد.
وَالْعلم: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على وحدة مُعينَة.
وَاسم الْعدَد: هُوَ اللَّفْظ الدَّال على بعض وحدات مَاهِيَّة مَدْلُوله.
وَالْعَام مَا ذكرنَا. انْتهى.
وَقَوله: فَإِن دلّ على الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ، أَي: مَعَ قطع النّظر عَن جَمِيع مَا يعرض لَهَا من وحدة وَكَثْرَة، وحدوث وَقدم، وَطول وَقصر، وَسَوَاد وَبَيَاض، فَهَذَا الْمُطلق كالإنسان من حَيْثُ هُوَ إِنْسَان إِنَّمَا يدل على(5/2312)
حَيَوَان نَاطِق لَا على وَاحِد وَلَا على غَيره مِمَّا ذكر، وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَا يَنْفَكّ عَن بعض تِلْكَ.
قَوْله: {وَقَالَ أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم: هُوَ مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا} .
وَلم أعلم الْآن من أَيْن نقلت ذَلِك، ولعلنا أردنَا كَلَامه فِي " الرَّوْضَة " وَغَيرهَا.
وَقد قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": والعموم مَا شَمل شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا شمولا وَاحِدًا، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء: مَا عَم شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا وَلَيْسَ بمرضي؛ لِأَن قَوْله: عَم - وَعَن الْعُمُوم سُئِلَ - لَيْسَ بتحديد، كمن قيل لَهُ: مَا السوَاد، فَقَالَ: مَا سود الْمحل الَّذِي يقوم بِهِ. انْتهى.
{و} قَالَ {أَبُو الْخطاب، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَبُو الْحُسَيْن المعتزلي: {اللَّفْظ الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ} .(5/2313)
فَقيل: لَيْسَ بمانع لدُخُول كل نكرَة من أَسمَاء الْأَعْدَاد، كعشرة، وكنحو: ضرب زيد عمرا.
وَفِيه نظر، فَإِنَّهُ أُرِيد بِمَا يصلح أَفْرَاد مُسَمّى اللَّفْظ فَلم تدخل النكرَة، وَإِن فسر (مَا يصلح) بأجزاء مُسَمّى اللَّفْظ لَا بجزئياته فالعشرة مستغرقة أجزاءها، أَي: وحداتها، وَنَحْو (ضرب زيد عمرا، إِن استغرق لما يصلح من أَفْرَاد (ضرب زيد عمرا) فعام، وَإِلَّا لم يدْخل.
وأبطله الْآمِدِيّ بِأَنَّهُ عرف الْعَام بالمستغرق وهما مُتَرَادِفَانِ وَلَيْسَ الْقَصْد شرح اسْم الْعَام ليَكُون الْحَد لفظيا بل مُسَمَّاهُ بِحَدّ حَقِيقِيّ أَو رسمي.
وَزيد فِي الْحَد (من غير حصر) احْتِرَاز من اسْم الْعدَد، نَحْو: عشرَة فَإِنَّهَا تستغرق الْأَفْرَاد المركبة، لَكِن تحصر؛ إِذْ دلَالَته كل على أَجْزَائِهِ، وَدلَالَة الْعُمُوم كلي على جزئياته.(5/2314)
{و} قَالَ {الْمُوفق} فِي " الرَّوْضَة "، {و} أَبُو مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ} فِي " الْإِيضَاح ": {اللَّفْظ الْوَاحِد الدَّال على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا مُطلقًا} .
فاللفط كالجنس لَهُ وللخاص والمشترك وَغير ذَلِك من أَصْنَاف اللَّفْظ، وَفِيه إِشْعَار بِأَن الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ دن الْمعَانِي على مَا يَأْتِي.
وَاحْترز بِالْوَاحِدِ عَن كل مَا ذكر مَعَه عَام يَقْتَضِيهِ من الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَنَحْوه، مثل (ضرب زيد عمرا) فَإِنَّهُ إِن دلّ على شَيْئَيْنِ وَلَكِن لَا بِلَفْظ وَاحِد، إِذْ هما لفظان.
وَاحْترز بشيئين عَن مثل رجل فِي الْإِثْبَات، وَعَن أَسمَاء الْأَعْلَام كزيد، وَعَمْرو، فَإِن لفظ رجل، وَدِرْهَم، وَزيد، وَإِن كَانَت صَالِحَة لكل وَاحِد من آحَاد الرِّجَال، وآحاد الدَّرَاهِم فَلَا يَتَنَاوَلهَا مَعًا بل على سَبِيل الْبَدَل.
و (فَصَاعِدا) عَن لفظ اثْنَيْنِ وَنَحْوهَا من كل مثنى نَحْو رجلَيْنِ، وَاحْترز ب (مُطلقًا) عَن مثل عشرَة رجال وَنَحْوه من الْأَعْدَاد الْمقدرَة، فَإِنَّهُ لَيْسَ من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة وَإِن كَانَ مَعَ اتحاده الْأَصْلِيّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا وَهِي الْآحَاد الدَّاخِلَة فِيهَا إِلَّا أَنه إِنَّمَا دلّ على تَمام عشرَة فَقَط لَا مُطلقًا.(5/2315)
قَالَ الطوفي: وَفِي الِاحْتِرَاز ب (مُطلقًا) عَمَّا قَالَه نظر؛ إِذْ هُوَ خَارج بقوله: فَصَاعِدا، إِذا هِيَ لَفْظَة لَيْسَ لَهَا نِهَايَة تقف عِنْدهَا، فَكل مَا كَانَ من الْأَعْدَاد فَوق الْوَاحِد انتظمه قَوْله: فَصَاعِدا.
قَالَ الْعَسْقَلَانِي شَارِح " مُخْتَصر الطوفي ": وَفِي هَذَا النّظر من هَذِه الْحَيْثِيَّة نظر؛ إِذْ الْعشْرَة يصدق عَلَيْهِ أَنه يدل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَلَيْسَ فِي الْحَد مَا يَقْتَضِي أَنه يدل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا بِمَا لَا نِهَايَة لَهُ يقف عِنْدهَا؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لَخَرَجت أَكثر العمومات عَن كَونهَا عَامَّة، إِذا لَا بُد لَهَا من نِهَايَة. انْتهى.
لَكِن هَذَا الْحَد لَيْسَ بِجَامِع لخُرُوج لَفْظِي المستحيل والمعدوم عَنهُ، وهما من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة وَلَا دلَالَة لَهما على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا؛ لِأَن مدلولهما لَيْسَ بِشَيْء، أما المستحيل فبالإجماع وَأما الْمَعْدُوم فعلى قَول.
ولخروج الموصولات؛ لِأَنَّهَا عَامَّة وَلَيْسَ بِلَفْظ وَاحِد؛ لِأَنَّهَا لَا تتمّ إِلَّا بصلاتها.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: اللَّفْظ الْوَاحِد الدَّال من جِهَة وَاحِدَة على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا.
لَكِن قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": حَده فِي " الرَّوْضَة " أَجود من حد الْغَزالِيّ، وَاخْتَارَ هَذَا الْحَد الْآمِدِيّ وأبدل (شَيْئَيْنِ) بمسميين.(5/2316)
{و} قَالَ {ابْن الْمَنِيّ} فِي " جدله الْكَبِير "، {و} تِلْمِيذه {الْفَخر} إِسْمَاعِيل: {مَا دلّ على مسميات دلَالَة لَا تَنْحَصِر فِي عدد} ، نَقله عَنهُ ابْن حمدَان فِي " مقنعه " وَهُوَ حسن لَكِن دخل فِيهِ الْمعَانِي وفيهَا خلاف يَأْتِي قَرِيبا.
{و} قَالَ {ابْن الْحَاجِب: مَا دلّ على مسميات بِاعْتِبَار أَمر اشتركت فِيهِ مُطلقًا} ضربه أَي دَفعه ليخرج نَحْو رجل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَا حَاجَة إِلَى زيادتها. وَدخل فِي حَده الْمعَانِي والمعدوم، والمستحيل، وَخرج الْمُسَمّى الْوَاحِد، والمثنى، والنكرة الْمُطلقَة كَرجل، وَخرج نَحْو: عشرَة ب (اشتركت فِيهِ) ، وَخرج الْمَعْهُود بقوله مُطلقًا.
قَوْله: {وَيكون مجَازًا فِي الْأَصَح} .
يكون الْعَام مجَازًا على الْأَصَح، كَقَوْلِك: رَأَيْت الْأسود على الْخُيُول، فالمجاز هُنَا كالحقيقة فِي أَنه قد يكون عَاما.
وَخَالف بعض الْحَنَفِيَّة، فَزعم أَن الْمجَاز لَا يعم بصيغته؛ لِأَنَّهُ على خلاف الأَصْل فَيقْتَصر بِهِ على الضَّرُورَة.(5/2317)
وَيرد: بِأَن الْمجَاز لَيْسَ خَاصّا بِحَال الضَّرُورَة، بل هُوَ عِنْد قوم غَالب على اللُّغَات كَمَا تقدم.
وَاسْتدلَّ على أَن الْعَام قد يكون مجَازًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن الله أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَام "، فَإِن الِاسْتِثْنَاء معيار الْعُمُوم فَدلَّ على تَعْمِيم كَون الطّواف صَلَاة، وَكَون الطّواف صَلَاة مجَاز.
قَوْله: {وَالْخَاص بِخِلَافِهِ} ، أَي: بِخِلَاف الْعَام، {أَي: مَا دلّ وَلَيْسَ بعام فَلَا يرد المهمل} .
قَالَ القطب الشِّيرَازِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر ": وَأما قَوْله: وَالْخَاص بِخِلَافِهِ، فَالْمُرَاد مِنْهُ أَن الْخَاص هُوَ مَا دلّ لَا على مسميات على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أَن الْخَاص مَا لَيْسَ بعام على مَا يُوهم.
وَأورد عَلَيْهِ أَنه لَا يطرد لدُخُول اللَّفْظ المهمل فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بعام لعدم دلَالَته، وَأَن فِيهِ تَعْرِيف الْخَاص بسلب الْعَام، وَهُوَ ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ بَينهمَا وَاسِطَة فَلَا يلْزم من سلب الْعَام تعين الْخَاص، وَإِلَّا فَلَيْسَ تَعْرِيف(5/2318)
أَحدهمَا بسلب حَقِيقَة الآخر عَنهُ أولى من الْعَكْس.
وَأَيْضًا فَإِن اللَّفْظ قد يكون خَاصّا كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان، وَلَا يخرج عَن كَونه عَاما بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ.
وَالْأول وَالثَّانِي إِنَّمَا يرد على مَا توهم أَنه مُرَاده لَا على مَا هُوَ مُرَاده.
وَأما الثَّالِث فَلَا يرد على مَا توهم أَيْضا؛ لِأَن الْإِنْسَان لَيْسَ خَاصّا بِالْمَعْنَى الْمُقَابل للعام، بل بِاعْتِبَار آخر؛ لِأَن الْخَاص كَمَا يُطلق على مَا يُقَابل الْعَام كزيد مثلا كَذَلِك يُطلق على خصوصيته بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعم مِنْهُ كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان.
وَيحد بِأَنَّهُ: اللَّفْظ الَّذِي يُقَال على مَدْلُوله وعَلى غير مَدْلُوله، لفظ آخر من جِهَة وَاحِدَة. انْتهى.
قَوْله: {ثمَّ لَا أَعم من المتصور} لتنَاوله الْمَوْجُود والمعلوم والمسلوب وضدها. وَقَالَ ابْن حمدَان فِي " مقنعه ": وَلَا أَعم من مَعْلُوم ومسمى ومذكور.
{وَقيل: لَيْسَ بموجود} ، هَذَا القَوْل ضربنا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا حُكيَ بعد قَوْلهم لَا أَعم من الْمَعْلُوم فورد الْمَجْهُول أَو الشَّيْء فورد الْمَعْدُوم.
وَذكره فِي " الرَّوْضَة " تبعا للغزالي، وسترى مَا فِيهِ.
قَالَ الطوفي فِي " مُخْتَصره ": الَّذِي لَا أَعم مِنْهُ الْمَعْلُوم أَو الشَّيْء،(5/2319)
وَيُسمى الْعَام الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ إِذا أطلق لَا تخرج عَنهُ صُورَة.
وَقيل: لَيْسَ بموجود لخُرُوج الْمَجْهُول عَن الأول والمعدوم عَن الثَّانِي فِي قَول، وَأطْرد مِنْهُمَا الْمُسَمّى، أَو الْمَذْكُور؛ لِأَنَّهُ لَا تخرج عَنْهُمَا صُورَة، قَالَه الْعَسْقَلَانِي.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": وَقَوله: وَقيل لَيْسَ بموجود يَعْنِي أَن الْعَام الْمُطلق، قيل: هُوَ مَوْجُود، وَقيل: لَا.
وَلَيْسَ لنا عَام مُطلق، وَهَذَا ذكره الْغَزالِيّ بِاعْتِبَار، وَتَابعه أَبُو مُحَمَّد فَجعله قولا ثَانِيًا، ولنحك كَلَام الْغَزالِيّ ليتبين مَا ذَكرْنَاهُ.
قَالَ الْغَزالِيّ: وَاعْلَم أَن اللَّفْظ إِمَّا خَاص فِي ذَاته مُطلقًا كزيد، وَإِمَّا عَام مُطلق كالمذكور والمعلوم، وَإِمَّا عَام بِالْإِضَافَة، كَلَفْظِ الْمُؤمنِينَ، فَإِنَّهُ عَام بِالْإِضَافَة إِلَى آحَاد الْمُؤمنِينَ، خَاص بِالْإِضَافَة إِلَى جُمْلَتهمْ إِذْ يتناولهم دون الْمُشْركين فَكَأَنَّهُ يُسمى عَاما من حَيْثُ شُمُوله للآحاد، خَاصّا من حَيْثُ اقْتِصَاره على مَا شَمله وقصوره عَمَّا لم يَشْمَلهُ.
وَمن هَذَا الْوَجْه يُمكن أَن يُقَال: لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظ عَام مُطلق؛ لِأَن لفظ الْمَعْلُوم لَا يتَنَاوَل الْمَجْهُول، وَالْمَذْكُور لَا يتَنَاوَل الْمَسْكُوت عَنهُ.
قلت: فحاصل قَوْله: إِن كل لفظ، فَهُوَ بِالنّظرِ إِلَى شُمُوله أَفْرَاد مَا تَحْتَهُ عَام، وبالنظر إِلَى اقْتِصَاره على مَدْلُوله خَاص / وَبِهَذَا التَّفْسِير لَا يبْقى لنا عَام(5/2320)
مُطلق، لَكِن هَذَا غير تفسيرنا الْعَام الْمُطلق بِمَا لَا أَعم مِنْهُ؛ لِأَن من الْأَلْفَاظ مَا يكون عَاما مَعَ أَنه مَقْصُور الدّلَالَة على مَا تَحْتَهُ فَيكون حِينَئِذٍ عَاما مُطلقًا، لَا عَاما مُطلقًا باعتبارين كَمَا ذكر من التفسيرين لَكِن مثل ذَلِك لَا يَنْبَغِي أَن يحْكى قولا مُطلقًا كَمَا فعل أَبُو مُحَمَّد؛ لِئَلَّا يُوهم أَن فِي وجود الْعَام الْمُطلق بتفسير وَاحِد قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يذكر ذَلِك بتفسيرين كَمَا ذكر الْغَزالِيّ. انْتهى كَلَام الطوفي.
قَوْله: {وَلَا أخص من علم الشَّخْص} كزيد مثلا، وَنَحْوه، وَهَذَا الرجل؛ إِذْ لَا أخص من اسْم شخص يعرف بِهِ.
قَوْله: {وعام خَاص نسبي} كالموجود، والجوهر، والجسم، والنامي، وَالْحَيَوَان، وَالْإِنْسَان، فَإِن كل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ خَاص بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقه، عَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ كالموجود أحد مدلولي الْمَذْكُور، وَالثَّانِي الْمَجْهُول.
والجوهر أحد مدلولي الْمَوْجُود وَالْآخر الْعرض، والجسم، وَهُوَ الْمركب أحد مدلولي الْجَوْهَر وَالْآخر الْفَرد الَّذِي لَا تركيب فِيهِ.(5/2321)
والنامي أحد مدلولي الْجِسْم وَالْآخر الجماد، وَالْحَيَوَان أحد مدلولي النامي وَالْآخر النَّبَات، وَالْإِنْسَان أحد مدلولي الْحَيَوَان وَالْآخر مَا دب غير النَّاطِق، وَالْمُؤمن أحد مدلولي الْإِنْسَان، وَالْآخر الْكَافِر.
وَلِهَذَا قُلْنَا يُسمى عَاما خَاصّا نسبيا، أَي: بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دونه عَام، وبالنسبة إِلَى مَا فَوْقه خَاص، وَالله أعلم.(5/2322)
(قَوْله: {فصل} )
{الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ حَقِيقَة إِجْمَاعًا} .
يُقَال: هَذَا لفظ عَام كَمَا يُقَال: لفظ خَاص يَعْنِي {بِمَعْنى الشّركَة فِي الْمَفْهُوم} مَعْنَاهُ لَا بِمَعْنى الشّركَة فِي اللَّفْظ.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: بِمَعْنى كل لفظ يَصح شركَة الكثيرين فِي مَعْنَاهُ لَا أَنه يُسمى عَاما حَقِيقَة؛ إِذْ لَو كَانَت الشّركَة فِي مُجَرّد الِاسْم لَا فِي مَفْهُومه لَكَانَ مُشْتَركا لَا عَاما، وَبِه يبطل قَول من قَالَ: إِنَّه من عوارض الْأَلْفَاظ لذاتها. انْتهى.
قَوْله: {وَكَذَا من عوارض الْمعَانِي حَقِيقَة} أَي: كَمَا أَنه من عوارض الْأَلْفَاظ حَقِيقَة فَهُوَ من عوارض الْمعَانِي حَقِيقَة.
وَهَذَا قَول القَاضِي، وَالشَّيْخ، وَابْن الْحَاجِب، وَأبي بكر(5/2323)
الرَّازِيّ، وَحَكَاهُ عَن مَذْهَبهم وَغَيرهم فَيكون الْعُمُوم مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا بالتواطؤ على الْأَصَح.
وَقيل: مَوْضُوع لكل مِنْهُمَا حَقِيقَة فَهُوَ مُشْتَرك.
{وَعند الْمُوفق، و} أبي مُحَمَّد {الْجَوْزِيّ، وَالْأَكْثَر: مجَاز} ، يَعْنِي: أَنه من عوارض الْمعَانِي لكنه مجَاز لَا حَقِيقَة.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: إِنَّه قَول الْأَكْثَرين.
وَصَححهُ ابْن برهَان وَغَيره، وَنَقله عبد الْوَهَّاب فِي الإفادة عَن الْجُمْهُور، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَغَيره، وَذكره عَن أَصْحَابهم وَجُمْهُور الْأَئِمَّة.
وَقيل بنفيهما، أَي: أَن الْعُمُوم لَا يكون فِي الْمعَانِي لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا.(5/2324)
حَكَاهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَهُوَ ظَاهر مَا حُكيَ عَن أبي الْخطاب، وَنَقله ابْن مُفْلِح.
{وَقيل: من عوارض الْمَعْنى الذهْنِي} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عَن الْغَزالِيّ، وَصَاحب " الرَّوْضَة " أَنه من عوارض اللَّفْظ وَالْمعْنَى الذهْنِي.
وَفِي " الرَّوْضَة ": من عوارض الْأَلْفَاظ مجَاز فِي غَيرهَا، وَقَالَ فِي الْمَعْنى الْكُلِّي: إِن سمي عَاما، فَلَا بَأْس.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَجه الأول: حَقِيقَة الْعَام لُغَة: شُمُول أَمر لمتعدد وَهُوَ فِي الْمعَانِي، كعم الْمَطَر، وَالْخصب، وَفِي الْمَعْنى الْكُلِّي؛ لشُمُوله لمعاني الجزئيات.
وَاعْترض على ذَلِك: بِأَن المُرَاد أَمر وَاحِد شَامِل، وَعُمُوم الْمَطَر شُمُول مُتَعَدد لمتعدد؛ لِأَن كل جُزْء من الأَرْض يخْتَص بِجُزْء من الْمَطَر.(5/2325)
ورد هَذَا: بِأَن هَذَا لَيْسَ بِشَرْط للْعُمُوم لُغَة، وَلَو سلم فعموم الصَّوْت بِاعْتِبَار وَاحِد شَامِل للأصوات المتعددة الْحَاصِلَة لسامعيه، وَعُمُوم الْأَمر وَالنَّهْي بِاعْتِبَار وَاحِد وَهُوَ الطّلب الشَّامِل لكل طلب تعلق بِكُل مُكَلّف، وَكَذَا الْمَعْنى الْكُلِّي الذهْنِي.
وَقد فرق طَائِفَة بَين الذهْنِي والخارجي فَقَالُوا بعروض الْعُمُوم للمعنى الذهْنِي دون الْخَارِجِي؛ لِأَن الْعُمُوم عبارَة عَن شُمُول أَمر وَاحِد لمنفرد، وَالْخَارِج لَا يتَصَوَّر ذَلِك؛ لِأَن الْمَطَر الْوَاقِع فِي هَذَا الْمَكَان بل كل قَطْرَة مِنْهُ بِخُصُوصِهِ بمَكَان خَاص كَمَا تقدم.
وَالْجَوَاب: أَن مُطلق الشُّمُول كَاف.
تَنْبِيه: لَيْسَ المُرَاد الْمعَانِي التابعة للألفاظ فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي عمومها؛ لِأَن لَفظهَا عَام، وَإِنَّمَا المُرَاد الْمعَانِي المستقلة كالمقتضى وَالْمَفْهُوم. قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره.(5/2326)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة، وَالْأَكْثَر للْعُمُوم صِيغَة خَاصَّة بِهِ} . هَذَا مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة [و] الظَّاهِرِيَّة، وَعَامة الْمُتَكَلِّمين.
{و} قَالَ {ابْن عقيل: الْعُمُوم صِيغَة} ، وَلَا يُقَال للْعُمُوم صِيغَة، كَمَا سبق عَنهُ فِي الْأَمر.
{ف} على الأول {هُوَ حَقِيقَة فِي الْعُمُوم مجَاز فِي الْخُصُوص} على الْأَصَح؛ لِأَن الْعُمُوم أحوط فَكَانَ أولى.
{وَقيل: عَكسه} ، فَهُوَ حَقِيقَة فِي الْخُصُوص مجَاز فِي الْعُمُوم؛ لِأَن الْخُصُوص مُتَيَقن فَجعله لَهُ حَقِيقَة أولى.(5/2327)
رد: هَذَا إِثْبَات اللُّغَة بالترجيح وَلَيْسَ بطرِيق لنا - على مَا يَأْتِي فِي المبحث - وَهَذَا اخْتِيَار الْآمِدِيّ، وَالْخُصُوص أقل الْجمع وَتوقف فِيمَا زَاد.
{وَقيل: مُشْتَركَة} .
وَقَالَ الْأَشْعَرِيّ، {والأشعرية، وَغَيرهم: لَا صِيغَة لَهُ} . وَقَالَهُ المرجئة، وَذكره التَّمِيمِي عَن بعض أَصْحَابنَا.
ثمَّ للأشعرية، ولجماعة من الْأُصُولِيِّينَ قَولَانِ:
أَحدهمَا: الْوَقْف، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم، {فَقيل:} معنى الْوَقْف {لَا نَدْرِي. وَقيل: نَدْرِي ونجهل} هَل هُوَ {حَقِيقَة} فِي الْعُمُوم، {أم مجَاز} .
وَقيل: الْأَمر وَالنَّهْي للْعُمُوم، وَالْوَقْف فِي الْأَخْبَار، وَقيل: عَكسه، فالأخبار للْعُمُوم وَالْوَقْف فِي الْأَمر وَالنَّهْي.(5/2328)
وَعند أَرْبَاب الْخُصُوص هِيَ حَقِيقَة فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَتوقف فِيمَا زَاد، كَمَا تقدم، وَعند مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي، وَأبي هَاشم، وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة: لفظ الْجمع وَاسم الْجِنْس لثَلَاثَة، وَيُوقف فِيمَا زَاد.
اسْتدلَّ أَصْحَاب القَوْل الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقول الْإِنْسَان: لَا تضرب أحدا، وكل من قَالَ كَذَا فَقل لَهُ كَذَا: عَام قطعا.
وَلمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: قَالُوا: فالحمر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " مَا أنزل عَليّ فِيهَا شَيْء إِلَّا هَذِه الْآيَة الجامعة الفاذة {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7، 8] .
وَعَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما رَجَعَ من الْأَحْزَاب قَالَ: " لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأدْرك بَعضهم الْعَصْر فِي الطَّرِيق، فَقَالَ بَعضهم: لَا نصلي حَتَّى نأتيها، وَقَالَ بَعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذَلِك، فَذكر للنَّبِي(5/2329)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم. مُتَّفق عَلَيْهِ.
وأجنب عَمْرو بن الْعَاصِ فِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل، فصلى بِأَصْحَابِهِ، وَلم يغْتَسل؛ لخوفه، وَتَأَول قَوْله تَعَالَى؛ {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29] . فَذكر ذَلِك للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَضَحِك، وَلم يقل شَيْئا. رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالْحَاكِم وَقَالَ: على شَرط الصَّحِيحَيْنِ.
وَلِأَن نوحًا تمسك بقوله: {وَأهْلك} [هود: 40] بِأَن ابْنه من أَهله وَأقرهُ الله تَعَالَى وَبَين الْمَانِع.
وَلِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فهم الْعُمُوم من {أهل هَذِه الْقرْيَة}(5/2330)
[العنكبوت: 31] فَقَالَ للْمَلَائكَة: {إِن فِيهَا لوطا} [العنكبوت: 32] ، وأجابوه: {لننجينه وَأَهله} [العنكبوت: 32] .
واستدلال الصَّحَابَة وَالْأَئِمَّة على حد كل سَارِق وزان بقوله: {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] ، {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} [النُّور: 2] .
وَفِي " الصَّحِيح ": احتجاج عمر على أبي بكر فِي قتال مانعي الزَّكَاة بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس؛ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله ".
وَللشَّافِعِيّ: فَقَالَ أَبُو بكر: هَذِه من حَقّهَا.
وللترمذي فِي غير جَامعه عَن عمر عَن أبي بكر مَرْفُوعا: " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث ".
ولمالك عَن ابْن شهَاب عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب أَن رجلا سَأَلَ عُثْمَان(5/2331)
عَن الْأُخْتَيْنِ من ملك الْيَمين: هَل يجمع بَينهمَا؟ فَقَالَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَة، وحرمتهما آيَة، وَأَنا لَا أحب أَن أصنع هَذَا، فَخرج من عِنْده فلقي رجلا من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَو كَانَ لي من الْأَمر شَيْء ثمَّ وجدت أحدا فعل ذَلِك لجعلته نكالا. فَقَالَ ابْن شهَاب: أرَاهُ عليا. قَالَ مَالك: وَبَلغنِي عَن الزبير مثل ذَلِك.
وللطحاوي وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس كَقَوْل عُثْمَان.
وللبخاري عَن زيد بن ثَابت أَنه لما نزل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النِّسَاء: 95] ، قَالَ ابْن أم مَكْتُوم: يَا رَسُول الله، لَو أَسْتَطِيع الْجِهَاد لَجَاهَدْت! فَأنْزل الله تَعَالَى: {غير أولي الضَّرَر} [النِّسَاء: 95] .(5/2332)
وَشرب قدامَة بن مَظْعُون خمرًا، وَاحْتج بقوله: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} [الْمَائِدَة: 93] الْآيَة، فَقَالَ عمر: أَخْطَأت التَّأْوِيل إِذا اتَّقَيْت اجْتنبت مَا حرم الله، وَحده عمر.
رَوَاهُ الْحميدِي بِسَنَد البُخَارِيّ.
وشاع وَلم يُنكر.
وَاعْترض: فهم من الْقَرَائِن، ثمَّ أَخْبَار آحَاد.
رد: الأَصْل عدم الْقَرِينَة، ثمَّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَرِيح، وَهِي متواترة معنى وتلقتها الْأمة بِالْقبُولِ، ثمَّ الظَّن كَاف.
وَأَيْضًا صِحَة الِاسْتِثْنَاء فِي (أكْرم النَّاس إِلَّا الْفَاسِق) ، وَهُوَ إِخْرَاج مَا لولاه لدخل بِإِجْمَاع أهل الْعَرَبيَّة، لَا لصلح دُخُوله، وَأَيْضًا: (من دخل(5/2333)
من عَبِيدِي حر، وَمن نسَائِي طَالِق) يعم اتِّفَاقًا، أَو (فَأكْرمه) يتَوَجَّه اللوم بترك وَاحِد، وَأَيْضًا (من جَاءَك؟) اسْتِفْهَام عَام؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوع اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ بِحَقِيقَة فِي الْخُصُوص لحسن جَوَابه بجملة الْعُقَلَاء، وَكَذَا الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف وَإِلَّا لما حسن إِلَّا بعد الِاسْتِفْهَام.
وَالْفرق بَين كل وَبَعض وَبَين تَأْكِيد الْعُمُوم وَالْخُصُوص قَطْعِيّ، وَكَذَا تَفْرِيق أهل اللُّغَة بَين لفظ الْعُمُوم وَلَفظ الْخُصُوص.
وَأَيْضًا (كل النَّاس عُلَمَاء يكذبهُ كلهم لَيْسُوا عُلَمَاء) .
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم أَنه لما نزل قَوْله: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} [الْأَنْبِيَاء: 98] ، قَالَ عبد الله بن الزبعري للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قد عُبدت الْمَلَائِكَة، وعزير، وَعِيسَى، هَؤُلَاءِ فِي النَّار مَعَ آلِهَتنَا! فَنزل {وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} [الزخرف: 57] {إِن الَّذين سبقت} [الْأَنْبِيَاء: 101] إِسْنَاده جيد. رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن عَبَّاس.(5/2334)
وَفِيه قَالَ الْمُشْركُونَ: وَلَيْسَ فِيهِ الْمَلَائِكَة وَلَا {وَلما ضرب} الْآيَة. رَوَاهُ الضياء فِي " المختارة ".
ورد بِأَن (مَا) لما لَا يعقل؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِابْنِ الزبعري: " مَا أجهلك بِلِسَان قَوْمك! ".
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": كَذَا قيل، وَلَا وَجه لصِحَّة الْإِسْنَاد، وَلم يَصح قَوْله ذَلِك لَهُ، وَلَو اخْتصّت مَا بِمن لَا يعقل لما احْتِيجَ إِلَى قَوْله: {من دون الله} ؛ لعدم تنَاولهَا لله، و (مَا) هُنَا بِمَعْنى الَّذِي وَالَّذِي يصلح لما يعقل، كَقَوْلِهِم: الَّذِي جَاءَ زيد، وَصِحَّة (مَا فِي الدَّار من العبيد أَحْرَار) .
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: فَكَذَا (مَا) بمعناها يكون للعاقل أَيْضا، كَقَوْلِه: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} [الشَّمْس: 5] وَمَا بعْدهَا، ذكره بَعضهم فِيهِنَّ، وَبَعْضهمْ بِمَعْنى (من) ، وَبَعْضهمْ مَصْدَرِيَّة.
وَاحْتَجُّوا - أَيْضا - بِأَن الْعُمُوم معنى ظَاهر يحْتَاج إِلَى التَّعْبِير عَنهُ كَغَيْرِهِ.
ورد: بالاستغناء بالمجاز والمشترك، كَذَا قيل، وَالظَّاهِر خِلَافه.(5/2335)
الْقَائِل بالخصوص مُتَيَقن فَجعله حَقِيقَة أولى.
رد: إِثْبَات للغة بالترجيح وَلَيْسَ بطرِيق لَهَا، وَسبق فِي الْأَمر.
وعورض بِأَن الْعُمُوم أحوط فَكَانَ أولى.
قَالُوا: يلْزم من كَونهَا للْعُمُوم كذب الْخُصُوص كعشرة مَعَ إِرَادَة خَمْسَة.
رد: لَا يلْزم إِذا كَانَ نصا كعشرة.
قَالُوا: يلْزم من كَونهَا للْعُمُوم كَون التَّأْكِيد عَبَثا وَالِاسْتِثْنَاء نقضا وَأَن لَا يحسن الِاسْتِفْهَام.
رد: لدفع احْتِمَال التَّخْصِيص وبلزوم ذَلِك فِي الْخَاص، ولصحة اسْتثِْنَاء خَمْسَة من عشرَة وَلَيْسَ بِنَقْض مَعَ أَنه صَرِيح.
قَالُوا: الْخُصُوص أغلب فَهُوَ أولى.
رد: بِمَنْعه فِي الْمُؤَكّد، وَمنعه بَعضهم فِي الْخَبَر.
ثمَّ هَذَا الْغَالِب لَا يخْتَص بِثَلَاثَة، وَقد يسْتَعْمل الشَّيْء غَالِبا مجَازًا وافتقار تخصيصها إِلَى دَلِيل يدل على أَنَّهَا للْعُمُوم.
الْقَائِل مُشْتَركَة أَو مَوْقُوفَة مَا سبق فِي الْأَمر للْوُجُوب.
الْقَائِل بِالْفرقِ: الْإِجْمَاع على تَكْلِيف الْمُكَلّفين لأجل الْعَام بِالْأَمر وَالنَّهْي فَتجب إفادتها للْعُمُوم.(5/2336)
رد: مثله الْخَبَر الَّذِي يَقع التَّكْلِيف الْعَام بمعرفته نَحْو: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] ، وَعُمُوم الْوَعْد والوعيد.
قَوْله: {فَائِدَة: يُقَال للمعنى أَعم وأخص، وللفظ عَام وخاص} .
قَالَ الكوراني فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": هَذَا مُجَرّد اصْطِلَاح لَا يدْرك لَهُ وَجه سوى التَّمْيِيز بَين صفة اللَّفْظ وَصفَة الْمَعْنى.
وَمَا وَقع من أَن صِيغَة التَّفْضِيل اخْتصّت بِالْمَعْنَى؛ لكَونه أهم من اللَّفْظ فسهو؛ إِذْ الْأَعَمّ لم يرد بِهِ معنى التَّفْضِيل بل الشُّمُول مُطلقًا، وَلَو كَانَ الْأَمر على مَا توهم لَكَانَ اعْتِبَاره فِي الْأَلْفَاظ أَيْضا وَاجِبا حَيْثُ كَانَت الزِّيَادَة مَقْصُودَة، وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك الْعَلامَة الشريف الْجِرْجَانِيّ فِي بعض تصانيفه فِي الْمنطق. انْتهى.
وَكَأَنَّهُ عني: الْقَرَافِيّ وَمن تَابعه، فَإِنَّهُ قَالَ: وَجه الْمُنَاسبَة أَن صِيغَة (افْعَل) تدل على الزِّيَادَة والرجحان والمعاني أَعم من الْأَلْفَاظ فخصت بِصِيغَة (افْعَل) التَّفْضِيل، وَمِنْهُم من يَقُول فِيهَا عَام وخاص أَيْضا. انْتهى.
قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد.
قوه: {ومدلوله كُلية، أَي: مَحْكُوم فِيهِ على كل فَرد} ، فَرد بِحَيْثُ لَا يبْقى فَرد، فَقَوله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] بِمَنْزِلَة قَوْله: اقْتُل زيدا الْمُشرك وعمرا الْمُشرك إِلَى آخِره، وَهُوَ مثل قَوْلنَا: كل رجل(5/2337)
يشبعه رغيفان، أَي: كل وَاحِد على انْفِرَاده، وَلَيْسَ دلَالَته من بَاب الْكل وَهُوَ الحكم على الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ كأسماء الْعدَد، وَمِنْه: كل رجل يحمل الصَّخْرَة، أَي: الْمَجْمُوع لَا كل وَاحِد، وَلَا من بَاب الْكُلِّي، وَهُوَ مَا اشْترك فِي مَفْهُومه كَثِيرُونَ كالحيوان، وَالْإِنْسَان فَإِنَّهُ صَادِق على جَمِيع أَفْرَاده وَيُقَال الْكُلية والجزئية، وَالْكل والجزء، والكلي والجزئي فصيغة الْعُمُوم للكلية، وَأَسْمَاء الْأَعْدَاد للْكُلّ، والنكرات للكلي، والأعلام للجزئي، وَبَعض الْعدَد زوج للجزئية، وَمَا تركب مِنْهُ وَمن غَيره كل كالخمسة للجزء.
وَالْفرق بَين الْكل والكلي من أوجه.
مِنْهَا: الْكل مُتَقَوّم بأجزائه والكلي بجزئياته.
وَمِنْهَا: الْكل فِي الْخَارِج والكلي فِي الذِّهْن.
وَمِنْهَا: الْأَجْزَاء متناهية، والجزئيات غير متناهية.
وَمِنْهَا الْكل مَحْمُول على أَجْزَائِهِ والكلي على جزئياته، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل، وَالظَّاهِر أَنه من كَلَام الْقَرَافِيّ.
قَوْله: {ودلالته على أصل الْمَعْنى قَطْعِيَّة} ، وَهَذَا بِلَا نزاع، فَلَا معنى لقَوْله فِي " جمع الْجَوَامِع " وَهُوَ عَن الشَّافِعِي.
قَوْله: {وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ بِلَا قرينَة، ظنية عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا،(5/2338)
وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم من الْحَنَفِيَّة الماتريدي وَمن تبعه من مَشَايِخ سَمَرْقَنْد.
قَالَ ابْن اللحام فِي " أُصُوله ": وعَلى كل فَرد بِخُصُوصِهِ ظنية عِنْد الْأَكْثَر.
وَقَالَ فِي " جمع الْجَوَامِع ": هُوَ عَن الشَّافِعِيَّة.
وَقَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأَصْلِيَّة ": هَذَا الْمَشْهُور عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم.
وَقد ذكر القَاضِي وَأَصْحَابه، وَاسْتَدَلُّوا لذَلِك بِأَن التَّخْصِيص بالمتراخي لَا يكون نسخا، وَلَو كَانَ الْعَام نصا على أَفْرَاده لَكَانَ نسخا، وَذَلِكَ أَن صِيغ الْعُمُوم ترد تَارَة بَاقِيَة على عمومها، وَتارَة يُرَاد بهَا بعض الْأَفْرَاد، وَتارَة يَقع فِيهَا التَّخْصِيص، وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا قطع، بل لما كَانَ الأَصْل بَقَاء الْعُمُوم فِيهَا كَانَ هُوَ الظَّاهِر الْمُعْتَمد للظن، وَيخرج بذلك عَن الْإِجْمَال.
وَقَالَ ابْن عقيل: وَالْفَخْر إِسْمَاعِيل من أَصْحَابنَا، وَحكي عَن(5/2339)
الإِمَام الشَّافِعِي، حَكَاهُ الأبياري عَن الشَّافِعِي والمعتزلة أَن دلَالَته قَطْعِيَّة، وَرُوِيَ عَن الْحَنَفِيَّة.
قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": إِذا تَعَارَضَت دلَالَة الْعَام وَالْخَاص فِي شَيْء وَاحِد تَسَاويا. انْتهى.
تَنْبِيه: قَوْله: {بِلَا قرينَة} يَقْتَضِي كل فَرد: كالعمومات الَّتِي يقطع بعمومها وَلَا يدخلهَا تَخْصِيص، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] ، {لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} [الْبَقَرَة: 284] ، {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} [هود: 6] ، وَنَحْوه.
وَإِن اقْترن بِهِ مَا يدل على أَن الْمحل غير قَابل للتعميم فَهُوَ كالمجمل يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى ظُهُور المُرَاد مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} [الْحَشْر: 20] ذكره ابْن الْعِرَاقِيّ.(5/2340)
تَنْبِيه آخر: قد علم مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَن لفظ الْعَام لَهُ دلالتان دلَالَة على الْمَعْنى الَّذِي اشتركت فِيهِ أَفْرَاده، وَهِي الَّتِي بَينا أَن الحكم فِيهَا على الْكُلِّي وَلَيْسَ للعام بهَا اخْتِصَاص فَإِنَّهَا تتَعَلَّق بالكلي سَوَاء كَانَ فِيهِ عُمُوم أَو لَا، ودلالته على كل فَرد من أَفْرَاده من خُصُوص، وَهِي الَّتِي لَهَا خُصُوصِيَّة بِالْعَام، ويعبر عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أما الأولى فقطعية بِلَا شكّ، وَهُوَ مَحل وفَاق.
وَمعنى الْقطع فِيهِ دلَالَة النصوصية، أَي: هُوَ نَص بِالْقطعِ فِيهِ من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَيكون كدلالة الْخَاص.
وَالدّلَالَة الثَّانِيَة مَحل خلاف، والأثر على أَنَّهَا ظنية كَمَا تقدم.
قَوْله: {الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْأَحْوَال وَغَيرهَا} كالأزمنة وَالْبِقَاع والمتعلقات {عِنْد الإِمَام وَالْأَكْثَر} ، مِنْهُم: ابْن السَّمْعَانِيّ والرازي.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأَصْلِيَّة ": الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْأَحْوَال، هَذَا الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء، قَالَ الإِمَام أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ظَاهرهَا على الْعُمُوم؛ أَن من وَقع عَلَيْهِ اسْم(5/2341)
وَلَده فَلهُ مَا فرض الله، وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن الْكتاب، وَالْآيَة إِنَّمَا قصدت للْمُسلمِ لَا الْكَافِر. انْتهى.
وَخَالف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، والآمدي، والقرافي، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، وَغَيرهم.
قَالَ الْقَرَافِيّ، وَتَابعه ابْن قَاضِي الْجَبَل فِي " أُصُوله ": صِيغ الْعُمُوم وَإِن كَانَت عَامَّة فِي الْأَشْخَاص فَهِيَ مُطلقَة فِي الْأَزْمِنَة، وَالْبِقَاع، وَالْأَحْوَال، والمتعلقات، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة لَا عُمُوم فِيهَا من جِهَة ثُبُوت الْعُمُوم فِي غَيرهَا حَتَّى يُوجد لفظ يَقْتَضِي الْعُمُوم، نَحْو: لأصومنَّ الْأَيَّام، ولأصلين فِي جَمِيع الْبِقَاع، وَلَا عصيت الله فِي جَمِيع الْأَحْوَال، ولأشتغلن بتحصيل جَمِيع المعلومات.
فَإِذا قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ عَام فِي جَمِيع أَفْرَاد الْمُشْركين، مُطلق فِي الْأَزْمِنَة، وَالْبِقَاع، وَالْأَحْوَال، والمتعلقات، فَيَقْتَضِي النَّص قتل كل مُشْرك فِي زمَان مَا، فِي مَكَان مَا، فِي حَالَة مَا، وَقد أشرك بِشَيْء مَا.
وَلَا يدل اللَّفْظ على خُصُوص يَوْم السبت، وَلَا مَدِينَة مُعينَة من مَدَائِن الْمُشْركين، وَلَا أَن ذَلِك الْمُشرك طَوِيل، أَو قصير، وَلَا أَن شركه وَقع بالصنم، أَو بالكوكب، بل اللَّفْظ مُطلق فِي هَذِه الْأَرْبَع. انْتهى.(5/2342)
ورد ذَلِك ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْعُمْدَة "، فَقَالَ: أولع بعض أهل الْعَصْر - وَمَا قرب مِنْهُ - بِأَن قَالُوا: صِيغَة الْعُمُوم إِذا وَردت على الذوات مثلا، أَو على الْأَفْعَال كَانَت عَامَّة فِي ذَلِك، مُطلقَة فِي الزَّمَان، وَالْمَكَان، وَالْأَحْوَال، والمتعلقات.
ثمَّ قَالَ: الْمُطلق يَكْفِي فِي الْعَمَل بِهِ صُورَة وَاحِدَة فَلَا يكون حجَّة فِيمَا عداهُ، وَأَكْثرُوا من هَذَا السُّؤَال فِيمَا لَا يُحْصى كَثْرَة من أَلْفَاظ الْكتاب وَالسّنة، وَصَارَ ذَلِك ديدنا لَهُم فِي الْجِدَال.
قَالَ: وَهَذَا عندنَا بَاطِل، بل الْوَاجِب أَن مَا دلّ على الْعُمُوم فِي الذوات - مثلا - يكون دَالا على ثُبُوت الحكم فِي كل ذَات تنَاولهَا اللَّفْظ، وَلَا تخرج عَنْهَا ذَات إِلَّا بِدَلِيل يَخُصهَا، فَمن أخرج شَيْئا من تِلْكَ الذوات فقد خَالف مُقْتَضى الْعُمُوم.
مِثَال ذَلِك: إِذا قَالَ: من دخل دَاري فأعطه درهما، فتقتضي الصِّيغَة العمومة فِي كل ذَات صدق عَلَيْهَا أَنَّهَا الدَّاخِلَة.
فَإِذا قَالَ قَائِل: هُوَ مُطلق فِي الزَّمَان فأعمل بِهِ فِي الذوات الدَّاخِلَة الدَّار فِي أول النَّهَار - مثلا - وَلَا أعمل بِهِ فِي غير ذَلِك الْوَقْت؛ لِأَنَّهُ مُطلق فِي الزَّمَان، وَقد علمت بِهِ مرّة، فَلَا يلْزم أَن أعمل بِهِ أُخْرَى لعدم عُمُوم الْمُطلق.
قُلْنَا: الصِّيغَة لما دلّت على الْعُمُوم فِي كل ذَات دخلت الدَّار، وَمن جُمْلَتهَا الدَّاخِلَة فِي آخر النَّهَار، فَإِذا أخرجت تِلْكَ الذوات فقد أخرجت مَا(5/2343)
دلّت الصِّيغَة على دُخُوله، وَقَول أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ: (فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت نَحْو الْقبْلَة فننحرف عَنْهَا ونستغفر الله) يدل على أَن الْعَام فِي الْأَشْخَاص عَام فِي الْمَكَان. انْتهى.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث اخْتَارَهُ ابْن المرحل، والسبكي، وَولده التَّاج: إِنَّه يعم بطرِيق الِالْتِزَام لَا بطرِيق الْوَضع، وجمعوا بَين المقالتين، أَي: فَيلْزم من لَازم تَعْمِيم الْأَشْخَاص عُمُوم فِي الْأَحْوَال والأزمنة، وَالْبِقَاع.
وَتكلم على ذَلِك الْبرمَاوِيّ، وَأطَال من كَلَامهم.(5/2344)
(قَوْله: {فصل} )
{صِيغ الْعُمُوم: اسْم شَرط، واستفهام} . أَي: للْعُمُوم صِيغ عِنْد الْقَائِل بهَا، أَي: بِأَن للْعُمُوم صِيغَة تخصه.
مِنْهَا: أَسمَاء الشَّرْط، والاستفهام {كمن فِي (من يعقل) } نَحْو: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} [الطَّلَاق: 2] ، {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} [الطَّلَاق: 3] ، {من عمل صَالحا فلنفسه} [فصلت: 46] ، {وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون} [الْحجر: 56] .
وَتَأْتِي (من) الشّرطِيَّة بخصوصها مُنْفَرِدَة بِالْأَحْكَامِ، وَالْخلاف فِيهَا قبل التَّخْصِيص، وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: من عنْدك؟
{و (مَا) فِيمَا لَا يعقل} ، نَحْو، {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} [فاطر: 2] ، {وَمَا عِنْد الله خير للأبرار} [آل عمرَان: 198] ، {مَا عنْدكُمْ ينْفد وَمَا عِنْد الله بَاقٍ} [النَّحْل: 96] ، وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: مَا عنْدك؟
هَذَا هُوَ الصَّحِيح، أَعنِي أَن اسْتِعْمَال (من) فِيمَا يعقل، وَاسْتِعْمَال(5/2345)
(مَا) فِيمَا لَا يعقل، وَهُوَ اسْتِعْمَال كثير شَائِع، قد ورد فِي الْكتاب وَالسّنة، وَكَلَام الْعَرَب.
{وَقيل: (مَا) لَهما} ، يَعْنِي: لمن يعقل وَلمن لَا يعقل فِي الْخَبَر والاستفهام، ذكره ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح " عَن جمَاعَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": كل مِن (مَن) و (مَا) قد يسْتَعْمل فِي الآخر كثيرا فِي مَوَاضِع مَشْهُورَة فِي النَّحْو، والعموم مَوْجُود فَلَا حَاجَة لذكر اخْتِصَاص وَلَا غَيره فيهمَا. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره: من، وَمَا فِي الِاسْتِفْهَام للْعُمُوم، فَإِذا قُلْنَا: من فِي الدَّار؟ حسن الْجَواب بِوَاحِد، فَيُقَال مثلا: زيد، وَهُوَ مُطَابق للسؤال.
فاستشكل ذَلِك قوم.
وَجَوَابه: أَن الْعُمُوم إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار حكم الِاسْتِفْهَام، لَا بِاعْتِبَار الْكَائِن فِي الدَّار، فالاستفهام عَم جَمِيع الرتب، فالمستفهم عَم بسؤاله كل وَاحِد يتَصَوَّر كَونه فِيهَا، فالعموم لَيْسَ بِاعْتِبَار الْوُقُوع، بل بِاعْتِبَار الِاسْتِفْهَام، واشتماله على كل الرتب المتوهمة. انْتهى.(5/2346)
وَسَبقه إِلَى ذَلِك الْقَرَافِيّ، بل هُوَ أَخذه من كَلَامه.
قَوْله: {و (أَيْن) و (أَنى) و (حَيْثُ) للمكان} ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم} [الْحَدِيد: 4] ، و {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت} [النِّسَاء: 78] فِي الْجَزَاء وَتقول مستفهما: أَنى زيد؟
قَوْله: {و (مَتى) للزمان الْمُبْهم} ، نَحْو: مَتى يقم أقِم.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقيد ابْن الْحَاجِب وَغَيره عُمُوم (مَتى) بالأزمان المبهمة، فَلَا يُقَال: مَتى طلعت الشَّمْس، بل يُقَال: إِذا طلعت الشَّمْس.
وَهَذَا مُرَاد من أطلق الْعبارَة. انْتهى.
فَلهَذَا قيدها بذلك.
وَاسْتدلَّ لمتى بقول الشَّاعِر:
(مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد)
أَي: أَي وَقت أتيت، وَنَحْوه فِي الْجَزَاء، مَتى جئتني أكرمتك.
وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام: مَتى جَاءَ زيد.
قَوْله: و (أَي) المضافة للْكُلّ، أَي للعاقل وَغَيره، فَمن الأول: {لنعلم أَي الحزبين أحصى لما لَبِثُوا أمدا} [الْكَهْف: 12] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيّمَا امْرَأَة نكحت نَفسهَا بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل ".(5/2347)
وَمن الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان عَليّ} [الْقَصَص: 28] وَتقول: أَي وَقت تخرج؟
قَوْله: {وتعم (من) و (أَي) المضافة إِلَى الشَّخْص ضميرهما فَاعِلا كَانَ أَو مَفْعُولا} ، فَلَو قَالَ: من قَامَ مِنْكُم، أَو أَيّكُم قَامَ، أَو من أقمته، أَو أَيّكُم أقمته فَهُوَ حر، فَقَامُوا، أَو أقامهم عتقوا.
قَالَ الشَّيْخ مجد الدّين فِي " الْمُحَرر ": وعَلى قِيَاسه، أَي: عَبِيدِي ضَربته أَو من ضَربته من عَبِيدِي فَهُوَ حر، فضربهم، عتقوا.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: و (أَي) عَامَّة فِيمَا تُضَاف إِلَيْهِ من الْأَشْخَاص والأزمان، والأمكنة، وَالْأَحْوَال.
وَمِنْه: " أَي امْرَأَة نكحت نَفسهَا ... "، وَيَنْبَغِي تقييدها بالاستفهامية، أَو الشّرطِيَّة، أَو الموصولة؛ لتخرج الصّفة، كمررت بِرَجُل أَي رجل، وَالْحَال: مَرَرْت بزيد أَي رجل. انْتهى.
{وَعنهُ: لَا تعم أَي} .
قَالَ ابْن أبي مُوسَى فِي " الْإِرْشَاد ": إِن قَالَ أَيّكُم جَاءَ بِخَبَر كَذَا فَهُوَ(5/2348)
حر فَجَاءَتْهُ جمَاعَة: فَعَن أَحْمد يعتقون.
وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّهَا لَيست للْعُمُوم الشمولي، وَإِنَّمَا للْعُمُوم البدلي: ابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَأَبُو زيد الدبوسي، وَصَاحب " اللّبَاب " من الْحَنَفِيَّة، وَأَنَّهَا نكرَة لَا تَقْتَضِي الْعُمُوم إِلَّا بِقَرِينَة حَتَّى لَو قَالَ: أَي عَبِيدِي ضَربته فَهُوَ حر، فضربهم لَا يعْتق إِلَّا وَاحِد بِخِلَاف (أَي عَبِيدِي ضربك فَهُوَ حر) فضربوه جَمِيعًا عتقوا لعُمُوم فعل الضَّرْب، وَاخْتَارَهُ بعض الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ الْحَنَفِيَّة: (أَي عَبِيدِي ضربك حر) ، فَضربُوا عتقوا؛ لعُمُوم صفة الضَّرْب، وَلَو قَالَ: ضَربته فضربهم عتق وَاحِد؛ لِأَنَّهُ نكرَة فِي إثْبَاته إِثْبَات لانْقِطَاع هَذِه الصّفة عَنْهَا إِلَيْهِ، وَلَو قَالَ: من شِئْت من عَبِيدِي فَأعْتقهُ، فشاء عتق كلهم، فَعِنْدَ أبي حنيفَة يَسْتَثْنِي وَاحِد؛ لِأَن من(5/2349)
للتَّبْعِيض، وَعند صَاحِبيهِ يعْتق كلهم؛ لِأَن من للْبَيَان، وَعنهُ: أحدهم.
وَقيل: لَا تعم، أَي الموصولة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا عُمُوم فِي الموصولة، نَحْو: (يُعجبنِي أَيهمْ هُوَ قَائِم) فَلَا عُمُوم فِيهَا، بِخِلَاف الشّرطِيَّة، نَحْو: {أيا مَا تدعوا فَلهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} [الْإِسْرَاء: 110] ، والاستفهامية نَحْو: {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} [النَّمْل: 38] ، وَالله أعلم.
قَوْله: {وموصول من صِيغ الْعُمُوم} .
الْمَوْصُول سَوَاء كَانَ مُفردا كَالَّذي، وَالَّتِي، أَو مثنى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واللذان يأتيانها مِنْكُم} [النِّسَاء: 16] ، أَو مجموعا نَحْو: {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} [الْأَنْبِيَاء: 101] ، {واللاتي تخافون نشوزهن} [النِّسَاء: 34] ، {واللائي يئسن من الْمَحِيض} [الطَّلَاق: 4] ، وَنَحْوهَا.
وَالرَّاجِح عُمُوم الموصولات كلهَا إِلَّا (أَي) على مَا تقدم.
قَوْله: {و (كل) } . من صِيغ الْعُمُوم كل، وَهِي أقوى صِيغَة.(5/2350)
وَلها بِالنِّسْبَةِ إِلَى إضافتها معَان، مِنْهَا: أَنَّهَا إِذا أضيفت إِلَى نكرَة فَهِيَ لشمُول أَفْرَاده، نَحْو: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} [آل عمرَان: 185] .
وَمِنْهَا: إِذا أضيفت إِلَى معرفَة، وَهِي جمع، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ، فَهِيَ لاستغراق أَفْرَاده أَيْضا، نَحْو: (كل الرِّجَال، أَو كل النِّسَاء على وَجل إِلَّا من أَمنه الله) ، وَفِي الحَدِيث: " كل النَّاس يَغْدُو فبائع نَفسه فمعتقها أَو موبقها ".
وَمِنْهَا: إِذا أضيفت إِلَى معرفَة مُفْرد فَهِيَ لاستغراق أَجْزَائِهِ أَيْضا، نَحْو: كل الْجَارِيَة حسن، أَو كل زيد جميل، إِذا علم ذَلِك، فمادتها تَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق والشمول: كالإكليل لإحاطته بِالرَّأْسِ، والكلالة لإحاطتها بالوالد وَالْولد؛ فَلهَذَا كَانَت أصرح صِيغ الْعُمُوم؛ لشمولها الْعَاقِل وَغَيره، الْمُذكر والمؤنث، الْمُفْرد والمثنى، وَالْجمع، وَسَوَاء بقيت على إضافتها كَمَا مثلنَا، أَو حذفت، نَحْو: {كل لَهُ قانتون} [الْبَقَرَة: 116] ، {كل آمن بِاللَّه} [الْبَقَرَة: 285] .
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: لَيست فِي كَلَام الْعَرَب كلمة أَعم مِنْهَا تفِيد الْعُمُوم مُبتَدأَة، وتابعة لتأكيد الْعَام، نَحْو: جَاءَ الْقَوْم كلهم.
وَهنا فَوَائِد:
مِنْهَا: أَن مَا سبق من كَونهَا تستغرق الْأَفْرَاد فِيمَا إِذا أضيفت لجمع معرف كَمَا لَو أضيفت إِلَى نكرَة فَيكون من الْكُلية، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِكَايَة عَن ربه(5/2351)
- عز وَجل -: " يَا عبَادي كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته " الحَدِيث، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه من الْكل المجموعي لَا من الْكُلية.
وَمِنْهَا: إِذا دخلت كل على جمع معرف بِاللَّامِ، وَقُلْنَا بعمومها، فَهَل الْمُفِيد للْعُمُوم الْألف وَاللَّام وكل تَأْكِيد، أَو اللَّام لبَيَان الْحَقِيقَة، وكل لتأسيس إِفَادَة الْعُمُوم؟
الثَّانِي أظهر؛ لِأَن كلا إِنَّمَا تكون مُؤَكدَة إِذا كَانَت تَابِعَة، وَقد يُقَال: اللَّام أفادت عُمُوم مَرَاتِب مَا دخلت عَلَيْهِ، وكل أفادت استغراق الْأَفْرَاد، فنحو (كل الرِّجَال) تفِيد فِيهَا الْألف وَاللَّام عُمُوم مَرَاتِب جمع الرجل، وكل استغراق الْآحَاد، وَلِهَذَا قَالَ ابْن السراج: إِن (كل) لَا تدخل فِي الْمُفْرد، والمعرف بِالْألف وَاللَّام إِذا أُرِيد بِكُل مِنْهُمَا الْعُمُوم. انْتهى.
وَهُوَ ظَاهر؛ وَلِهَذَا منع دُخُول (أل) على كل وعيب قَول بعض النُّحَاة: بدل الْكل من الْكل.
وَمِنْهَا: لَيْسَ من دُخُولهَا على الْمُفْرد والمعرف نَحْو قَوْله تَعَالَى: {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل} [آل عمرَان: 93] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:(5/2352)
" كل الطَّلَاق وَاقع إِلَّا طَلَاق الْمَعْتُوه "؛ لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا مِمَّا هُوَ فِي معنى الْجمع الْمُعَرّف، حَتَّى تكون لاستغراق الْأَفْرَاد لَا الْأَجْزَاء.
وَمِنْهَا: مَحل عمومها إِذا لم يدْخل عَلَيْهَا نفي مُتَقَدم عَلَيْهَا، نَحْو: (لم يقم كل الرِّجَال) فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ للمجموع، وَالنَّفْي وَارِد عَلَيْهِ وَسميت سلب الْعُمُوم بِخِلَاف مَا لَو تَأَخّر عَنْهَا نَحْو: كل إِنْسَان لم يقم، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لاستغراق النَّفْي فِي كل فَرد، وَيُسمى عُمُوم السَّلب.
وَهَذِه الْقَاعِدَة مُتَّفق عَلَيْهَا عِنْد أَرْبَاب الْبَيَان، وَأَصلهَا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: " كل ذَلِك لم يكن " جَوَابا لقَوْله: (أنسيت، أم قصرت الصَّلَاة؟) أَي: لم يكن كل من الْأَمريْنِ، لَكِن بِحَسب ظَنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلذَلِك صَحَّ أَن يكون جَوَابا للاستفهام عَن أَي الْأَمريْنِ وَقع.(5/2353)
وَلَو كَانَ لنفي الْمَجْمُوع لم يكن مطابقا للسؤال، وَلَا لقَوْل ذِي الْيَدَيْنِ فِي بعض الرِّوَايَات قد كَانَ بعض ذَلِك؛ فَإِن السَّلب الْكُلِّي نقيضه الْإِيجَاب الجزئي.
وَأورد على قَوْلهم تقدم النَّفْي لسلب الْعُمُوم نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا} [مَرْيَم: 93] ، فَيَنْبَغِي أَن تقيد الْقَاعِدَة بِأَن لَا ينْتَقض النَّفْي، فَإِن انْتقض كَانَت لعُمُوم السَّلب.
وَقد يُقَال: انْتِقَاض النَّفْي قرينَة إِرَادَة عُمُوم السَّلب. قَالَه الْبرمَاوِيّ وَأطَال هُنَا وَفِي الْحُرُوف.
قَوْله: {و (جمع) } من صِيغ الْعُمُوم، جَمِيع وَهِي مثل كل إِلَّا أَنَّهَا لَا تُضَاف إِلَّا إِلَى معرفَة، فَلَا يُقَال: جَمِيع رجل، وَيَقُول: جَمِيع النَّاس، وَجَمِيع العبيد.
ودلالتها على كل فَرد فَرد بطرِيق الظُّهُور بِخِلَاف كل، فَإِنَّهَا بطرِيق النصوصية.
وَفرق الْحَنَفِيَّة بَينهمَا بِأَن كلا تعم على جِهَة الِانْفِرَاد، وجميعا على جِهَة الِاجْتِمَاع.(5/2354)
قَالَ بَعضهم: إِذا كَانَت (جَمِيع) إِنَّمَا تُضَاف لمعْرِفَة فَهُوَ إِمَّا بِاللَّامِ، أَو بِكَوْنِهِ مُضَافا لمعْرِفَة، وكل مِنْهُمَا يُفِيد الْعُمُوم فَلم تفده جَمِيع.
وَجَوَابه: أَن مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام تقدر حِينَئِذٍ أَنَّهَا للْجِنْس والعموم مُسْتَفَاد من جَمِيع.
وَأما الْمُضَاف، نَحْو: جَمِيع غُلَام زيد، فَلَيْسَتْ فِيهِ لعُمُوم كل فَرد، بل لعُمُوم الْأَجْزَاء كَمَا تقدم.
قَوْله: {وَنَحْوه} ، إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ من هَذِه الْمَادَّة مثلهَا فِي الْعُمُوم كأجمع، وأجمعين، وَنَحْوهمَا، وَمن زعم أَن أَجْمَعِينَ تَقْتَضِي الِاتِّحَاد فِي الزَّمَان بِخِلَاف جَمِيع، فَالْأَصَحّ خلاف قَوْله، قَالَ الله تَعَالَى: {ولأغوينهم أَجْمَعِينَ} [الْحجر: 39] .
وَاخْتلف فِي (أجمع) وَنَحْوه إِذا وَقع بعد كل: هَل التَّأْكِيد بِالْأولِ، وَالثَّانِي زِيَادَة فِيهِ أَو بِكُل مِنْهُمَا أَو بهما مَعًا؟ الْأَرْجَح الأول كَمَا فِي سَائِر التوابع.(5/2355)
وَمن مَادَّة جَمِيع أَيْضا: جَاءَ الْقَوْم بأجمعهم - وَهُوَ بِضَم الْمِيم - جمعُ جمعٍ، وَسُكُون ثَانِيه، كَعبد وأعبد، وَلَا يُقَال: بأجمعهم - بِفَتْح الْمِيم - لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه أجمع الَّذِي يُؤَكد بِهِ؛ لِأَن ذَلِك لَا يُضَاف للضمير وَلَا يدْخل على حرف الْجَرّ.
قَالَه الحريري فِي " درة الغواص "، وَحكى ابْن السّكيت الْوَجْهَيْنِ وَإِن كَانَ الأقيس الضَّم.
قَوْله: {ومعشر ومعاشر وَعَامة وكافة وقاطبة} .
ذكر الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": أَن من صِيغ الْعُمُوم الَّتِي هِيَ نَحْو جَمِيع هَذِه الْخَمْسَة الْأَلْفَاظ، نَحْو: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس} [الرَّحْمَن: 33] ، " إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث "، {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يقاتلونكم كَافَّة} [التَّوْبَة: 36] ، وَقَالَت عَائِشَة: (لما مَاتَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْتَدَّت الْعَرَب قاطبة) .(5/2356)
قَالَ ابْن الْأَثِير: أَي جَمِيعهم، لَكِن معشر ومعاشر لَا يكونَانِ إِلَّا مضافين بِخِلَاف قاطبة، وَعَامة، وكافة، فَإِنَّهَا تُضَاف وَتفرد.
قَوْله: {وَجمع مُطلقًا معرف بلام أَو إِضَافَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1] .
من جملَة صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُعَرّف تَعْرِيف جنس سَوَاء كَانَ الْمُذكر، أَو مؤنث سَالم، أَو مكسر، جمع قلَّة أَو كَثْرَة، فَلهَذَا قُلْنَا: وَجمع مُطلقًا، ليشْمل هَذَا كُله.
وَمن أمثلته أَيْضا: {أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 3] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة} [النَّمْل: 88] ، {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} [الْأَحْزَاب: 35] ، فَجمع الْكَثْرَة كرجال وَصَوَاحِب، والسالم الْمُذكر: الْمُسلمُونَ، والمؤنث: المسلمات، والتكسير: كأكسية، وأفلس، وصبية، وأجمال، والقلة: من ثَلَاثَة، أَو اثْنَيْنِ إِلَى أحد عشر، وَمن بعْدهَا للكثرة.(5/2357)
أَو جمع معرف بِالْإِضَافَة، نَحْو: عَبِيدِي أَحْرَار، ونسائي طَوَالِق، وَنَحْوهمَا، وَقَوله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ، و {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] ، وَهَذَا قَول أَكثر الْعلمَاء وَالصَّحِيح عَنْهُم.
قَالَ ابْن برهَان: القَوْل بعمومها هُوَ قَول مُعظم الْعلمَاء.
قَالَ ابْن الصّباغ: هُوَ إِجْمَاع أَصْحَابنَا.
وَدَلِيله: أَن الْعلمَاء لم تزل تستدل بِآيَة السّرقَة وَآيَة الزِّنَا، وَآيَة الْأَمر بِقِتَال الْمُشْركين، وَنَحْو ذَلِك، وَمِنْهَا قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد فِي السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين: " فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمْ ذَلِك فقد سلمتم على كل عبد الله صَالح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَقيل: لَا تعم، فَلَا تفِيد الِاسْتِغْرَاق.
وَحَكَاهُ صَاحب الْمُعْتَمد عَن الجبائي، وَحكي أَيْضا عَن جمع من(5/2358)
الْفُقَهَاء، وَحكي أَيْضا فِي " الْمُعْتَمد " عَن أبي هَاشم أَنه يُفِيد الْجِنْس دون الِاسْتِغْرَاق، وَحَكَاهُ غَيره عَنهُ أَيْضا وَعَن الْفَارِسِي.
وَقيل: لَا يعم غَيره، قَالَ فِي " الرَّوْضَة ": قَالَ البستي: الْكَامِل فِي الْعُمُوم هُوَ الْجمع؛ لوُجُود صورته وَمَعْنَاهُ، وَمَا عداهُ قَاصِر فِي الْعُمُوم؛ لِأَنَّهُ لصيغته إِنَّمَا يتَنَاوَل وَاحِدًا لكنه يَنْتَظِم جَمِيعًا من المسميات معنى فالعموم قَائِم بمعناها لَا بصيغتها. انْتهى.
قَالَ القَاضِي وَغَيره: التَّعْرِيف يصرف الِاسْم إِلَى مَا الْإِنْسَان بِهِ أعرف، فَإِن كَانَ معهودا فَهُوَ بِهِ أعرف فَيَنْصَرِف إِلَيْهِ، وَلَا يكون مجَازًا وَإِلَّا انْصَرف إِلَى الْجِنْس؛ لِأَنَّهُ بِهِ أعرف من أَبْعَاضه، وَاحْتج بعمومها مَعَ الْعَهْد على من خَالف فِيهِ مَعَ الْجِنْس.
وَقَالَهُ أَبُو الْحُسَيْن، وَأَبُو الْخطاب، وَقَالَ: لَو قيل: يصير الِاسْم مجَازًا بِقَرِينَة الْعَهْد، لجَاز.(5/2359)
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَجزم بِهِ غَيره.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: زعم بَعضهم أَن القَوْل بِعُمُوم الْجمع الْمُعَرّف إِذا كَانَ جمع قلَّة مُشكل؛ لِأَنَّهُ إِلَى عشرَة والعموم يُنَافِي ذَلِك، وَعنهُ أجوبة كَثِيرَة:
مِنْهَا: جَوَاب أبي الْمَعَالِي: حمل كَلَام سِيبَوَيْهٍ والنحاة على الْمُنكر وَكَلَام الْأُصُولِيِّينَ على الْمُعَرّف.
وَمِنْهَا: أَن أصل الْوَضع فِي الْقلَّة ذَلِك، وَلَكِن اسْتِعْمَاله كالكثرة إِمَّا بعرف الِاسْتِعْمَال أَو بعرف الشَّرْع.
وَمِنْهَا: أَن الْمُقْتَضى للْعُمُوم إِذا دخل على الْوَاحِد لَا تَدْفَعهُ وحدته فدخوله على جمع الْقلَّة لَا يَدْفَعهُ تحديده بِهَذَا الْعدَد من بَاب أولى.
وَقيل: السُّؤَال من أَصله لَا يرد، فقد قَالَ الزّجاج وَابْن خروف: إِن جمعي الْقلَّة وَالْكَثْرَة سَوَاء.
وَقيل: لَا يرد لأمر آخر، وَهُوَ: أَن الْمُقْتَضى للْعُمُوم إِذا دخل على جمع، فِيهِ خلاف سَيَأْتِي أَن آحاده جموع أَو وحدان، فَإِن كَانَ وحدانا فقد ذهب(5/2360)
اعْتِبَار الجمعية بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِن كَانَ جموعا فَلَا تنَافِي بَين استغراق كل جمع جمع؛ لِأَن تِلْكَ الجموع كل وَاحِد مِنْهَا لَهُ عدد معِين، وَقيل: غير ذَلِك. انْتهى.
تَنْبِيه: على القَوْل بِالْعُمُومِ قيل: أَفْرَاده جموع، وَالأَصَح آحَاد فِي الْإِثْبَات وَغَيره، وَعَلِيهِ أَئِمَّة التَّفْسِير فِي اسْتِعْمَال الْقُرْآن، نَحْو: {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} [آل عمرَان: 134] أَي: يحب كل محسن، {فَإِن الله لَا يحب الْكَافرين} [آل عمرَان: 32] أَي: كلا مِنْهُم بِأَن يعاقبهم، {فَلَا تُطِع المكذبين} [الْقَلَم: 8] أَي: كل وَاحِد مِنْهُم، وتؤيده صِحَة اسْتثِْنَاء الْوَاحِد مِنْهُ، نَحْو: جَاءَ الرِّجَال إِلَّا زيدا، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ جَاءَ كل جمع من جموع الرِّجَال لم يَصح إِلَّا أَن يكون مُنْقَطِعًا، قَالَه الْمحلي وَغَيره.
قَالَ من قَالَ بِالْأولِ: يَقُول: قَامَت قرينَة الْآحَاد فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة وَنَحْوهَا.
قَوْله: {وَاسم جنس معرف تَعْرِيف جنس} ، وَهُوَ مَا لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه كالناس، وَالْحَيَوَان، وَالْمَاء، وَالتُّرَاب، وَنَحْوهَا، حملا للتعريف على فَائِدَة لم تكن، وَهُوَ تَعْرِيف جمع الْجِنْس؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِر كالجمع، وَالِاسْتِثْنَاء(5/2361)
مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر (2) إِلَّا الَّذين آمنُوا} [الْعَصْر: 2، 3] .
{وَقَالَ الْغَزالِيّ: إِن تميز واحده عَن جنسه بِالتَّاءِ وخلا عَنْهَا أَو لم يتَمَيَّز بوصفه بالوحدة عَم وَإِلَّا فَلَا} ، كالبر، وَالتَّمْر، وَنَحْوهمَا فَيعم؛ لِأَن وَاحِد الْبر برة، وَوَاحِدَة التَّمْر تَمْرَة بِخِلَاف مَا لم يدْخل عَلَيْهِ التَّاء، كَالرّجلِ، وَالدُّنْيَا، فَلَا عُمُوم فِي ذَلِك.
قَوْله: {وَلَا يعم مَعَ قرينَة اتِّفَاقًا} ، إِذا عَارض اسْم الْجِنْس الْمُعَرّف تَعْرِيف الْجِنْس قرينَة عهد منعته الْعُمُوم اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ كسبق تنكير قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا (15) فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} [المزمل: 15، 16] ؛ لِأَنَّهُ يصرفهُ إِلَى ذَلِك، فَلَا يعم إِذا عرف، إِرَادَة الْعَهْد لقَرِينَة، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا} [الْفرْقَان: 27] ، وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى} [آل عمرَان: 36] .
وَمِمَّنْ نقل الِاتِّفَاق على ذَلِك الْفَخر الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " وَغَيره.(5/2362)
[ {وَمَعَ جهلها يعم عندنَا وَعند الْأَكْثَر ووقف أَبُو الْمَعَالِي وَإِن عَارض الِاسْتِغْرَاق احْتِمَال تَعْرِيف جنس وَعرف. كعلي الطَّلَاق وَنَحْوه لم يعم على الْأَصَح.
ومفرد محلي بلام غير عهدية عندنَا وَعند الْأَكْثَر كَالرّجلِ وَالسَّارِق لفظا عِنْد الْأَكْثَر، وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: معنى، وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره:(5/2363)
لَا يعم، وَقيل: مُجمل.
وَجمع مُضَاف ومفرد مُضَاف لمعْرِفَة كعبدي وامرأتي، عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَمَالك وَبَعض أَصْحَابه تبعا لعَلي وَابْن عَبَّاس وَحكي عَن الْأَكْثَر، وَخَالف الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة.
ونكرة فِي نفي: وضعا، وَقيل: لُزُوما، نصا وظاهرا(5/2364)
وَعند أبي الْبَقَاء وَغَيره لَا تعمم إِلَّا مَعَ من ظَاهِرَة أَو مقدرَة، وَحكي إِجْمَاع وَمَعَ من الْعُمُوم قَطْعِيّ فَلَا مجَاز.
وَفِي إِثْبَات لامتنان واستفهام إنكاري، وَفِي نهي، وَقيل: وَأمر، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَالشَّيْخ وَغَيرهمَا وَشرط.(5/2365)
قَالَ الشَّيْخ: هَل تفيده لفظا أَو معنى فِيهِ نظر. وَفِي " الْمُغنِي " مَا يدل على أَنَّهَا لَا تعم.
وَجمع مُنكر غير مُضَاف لَا يعم عِنْد أَحْمد وَأَصْحَابه وَالْأَكْثَر، وَيحمل على أقل الْجمع.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر: وَجمع يعم.
فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْأَكْثَر ساير بِمَعْنى بَاقٍ، وَفِي الصِّحَاح وَغَيرهَا لجملة(5/2366)
الشَّيْء، وَهُوَ فِي كَلَام الْخرقِيّ والموفق وَجمع.
الثَّانِيَة: معيار الْعُمُوم صِحَة الِاسْتِثْنَاء من غير عدد.(5/2367)
(فصل:)
الْأَرْبَعَة وَغَيرهم: أقل الْجمع ثَلَاثَة حَقِيقَة.
والأستاذ والباقلاني وَالْغَزالِيّ وَبَعض أَصْحَابنَا والمالكية وَغَيرهم اثْنَان حَقِيقَة، ثمَّ قَالَ: أَبُو الْمَعَالِي: يَصح فِي الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحد مجَازًا وَقيل فِي الِاثْنَيْنِ.
وَقيل: لَا يَصح.(5/2368)
فَائِدَة:
مَحل الْخلاف فِي غير لفظ " جمع " و " نَحن " و " قُلْنَا " و " قُلُوبكُمَا " مِمَّا فِي الْإِنْسَان مِنْهُ شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ وفَاق وَأَقل الْجَمَاعَة فِي غير صَلَاة ثَلَاثَة.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَصَاحب الْبلْغَة: اثْنَان.
وَقيل: جمع قلَّة من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة حَقِيقَة، وَجمع كَثْرَة مَا زَاد على عشرَة حَقِيقَة وَحكي عَن أهل اللُّغَة} ] .(5/2369)
وَقَالَ ابْن الصّباغ: إِنَّه قَول أَصْحَابنَا وَبِه قَالَ ألكيا.
قَالَ: لكنه دون مَا [لم] يتَطَرَّق التَّخْصِيص إِلَيْهِ يكسبه ضربا من التَّجَوُّز.
وَقَالَ الدبوسي: هُوَ الَّذِي صَحَّ عندنَا من مَذْهَب السّلف ... قَالَ: لكنه غير مُوجب للْعلم قطعا بِخِلَاف مَا قبل التَّخْصِيص. انْتهى.
وَالْمرَاد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا خص بِمَعْلُوم، أَو خص باستثناء بِمَعْلُوم على مَا يَأْتِي فِي كلامنا فِي أَوَاخِر الْمَسْأَلَة.
وَقيل: حجَّة فِي أقل الْجمع اثْنَيْنِ، أَو ثَلَاثَة على الْخلاف، لَا فِي مَا زَاد، حَكَاهُ الباقلاني، وَالْغَزالِيّ، والقشيري، وَقَالَ: إِنَّه تحكم. وَقَالَ الْهِنْدِيّ: لَعَلَّه قَول من لَا يجوز التَّخْصِيص إِلَيْهِ.
وَقيل: حجَّة فِي وَاحِد فَقَط، حَكَاهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول " عَن أبي هَاشم، وَلَا يتَمَسَّك بِهِ فِي جمع.(5/2370)
وَقَالَ الْبَلْخِي: حجَّة إِن خص بِمُتَّصِل، وَإِن خص بمنفصل فمجمل فِي الْبَاقِي.
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِن كَانَ الْعُمُوم منبئا عَنهُ قبل التَّخْصِيص ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} منبئ عَن الذِّمِّيّ، وَإِلَّا فَلَا، ك (السَّارِق) لَا يُنبئ عَن النّصاب والحرز فيفتقر إِلَى بَيَان كَحكم مُجمل.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ حجَّة فَإِنَّهُ يُنبئ عَن الْحَرْبِيّ كَمَا يُنبئ عَن الْمُسْتَأْمن، وَإِن يكن منبئا فَلَيْسَ بِحجَّة، ك {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] فَإِنَّهُ لَا يُنبئ عَن النّصاب والحرز، فَإِذا انْتَفَى الْعَمَل بِهِ عِنْد عدم النّصاب والحرز، لم يعْمل بِهِ عِنْد وجودهما. انْتهى.
قَالَ عبد الْجَبَّار: إِن كَانَ قبله غير مفتقر إِلَى بَيَان ك (الْمُشْركين) فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا، ك (أقِيمُوا الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر قبل إِخْرَاج الْحَائِض.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ حجَّة عندنَا إِن كَانَ لَا يتَوَقَّف على الْبَيَان، ك (الْمُشْركين) فَإِنَّهُ بَين فِي الذِّمِّيّ قبل إِخْرَاجه بِخِلَاف نَحْو: (أقِيمُوا الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى الْبَيَان قبل إِخْرَاج الْحَائِض من عُمُوم اللَّفْظ؛ وَلذَلِك بَينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". انْتهى.(5/2371)
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد؛ إِذْ لَا فرق، ثمَّ فرق ابْن عقيل بِأَنَّهُ إِذا خرج من (أقِيمُوا الصَّلَاة) من لم يرد، وَلم يُمكن الْحمل على المُرَاد بِالْآيَةِ. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَعِيسَى بن أبان، والكرخي، وَحَكَاهُ الْقفال الشَّاشِي عَن أهل الْعرَاق، وَحَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن الْقَدَرِيَّة، وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، عَن كثير من الشَّافِعِيَّة، والمالكية، وَالْحَنَفِيَّة، وَعَن الجبائي وَابْنه: إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة.
قَالُوا: لِأَن اللَّفْظ مَوْضُوع للاستغراق وَإِنَّمَا يخرج عَنهُ بِقَرِينَة، وَمِقْدَار تَأْثِير الْقَرِينَة فِي اللَّفْظ مَجْهُول فَيصير مُجملا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَمُرَاد من قَالَ من أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاء بِمَعْلُوم فَإِنَّهُ بالِاتِّفَاقِ.(5/2372)
ذكره القَاضِي وَالْمجد من أَصْحَابنَا وَغَيرهمَا، وَاحْتَجُّوا بِهِ وَفهم الْآمِدِيّ، وَغَيره الْإِطْلَاق فَلم يستثنوا ذَلِك.
قَوْله: {وَقيل بِالْوَقْفِ} ، أَي فِي الْمَسْأَلَة، فَلَا يحكم بِأَنَّهُ خَاص أَو عَام أَلا بِدَلِيل، حَكَاهُ ابْن الْقطَّان، وَجعله مغايرا لقَوْل ابْن أبان وَغَيره.
نعم، من يَقُول: أَنه مُجمل اخْتلفُوا: هَل هُوَ مُجمل من حَيْثُ اللَّفْظ وَالْمعْنَى؛ فَإِنَّهُ لَا يعقل المُرَاد من ظَاهره إِلَّا بِقَرِينَة، أَو مُجمل من حَيْثُ الْمَعْنى فَقَط؟ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة: الْأَكْثَرُونَ على الثَّانِي لافتقار الْعَام الْمَخْصُوص لقَرِينَة تبين مَا هُوَ مُرَاد بِهِ، وافتقار الْعَام المُرَاد بِهِ خَاص إِلَى قرينَة تبين مَا لَيْسَ مرَادا بِهِ فتزيد الْمذَاهب.
وَاسْتدلَّ للصحيح بِمَا سبق فِي إِثْبَات الْعُمُوم بِأَن الصَّحَابَة لم تزل تستدل بالعمومات مَعَ وجود التَّخْصِيص فِيهَا، وَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم وَلَا تكرم فلَانا فَترك عصي قطعا، وَلِأَنَّهُ كَانَ حجَّة، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ؛ وَلِأَن دلَالَته على بعض لَا تتَوَقَّف على بعض آخر للدور.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن حجَّة بعد التَّخْصِيص كَانَت دلَالَته عَلَيْهِ قبله مَوْقُوفَة على دلَالَته على الآخر وَاللَّازِم بَاطِل؛ لِأَنَّهُ إِن عكس فدور، وَإِلَّا فتحكم.(5/2373)
فَأُجِيب بِالْعَكْسِ، وَلَا دور؛ لِأَنَّهُ توقف معية كتوقف كل من معلولي عِلّة على الآخر، لَا توقف تقدم كتوقف مَعْلُول على عِلّة.
قَالُوا: صَار مجَازًا.
رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ هِيَ حجَّة.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ مجَاز لُغَة، حَقِيقَة شرعا.
قَالُوا: صَار مُجملا؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه مجَاز فِي الْبَاقِي، وَفِي كل فَرد مِنْهُ، وَلَا تَرْجِيح.
رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْبَاقِي كَانَ مرَادا، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على القَوْل بِأَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، فَأَما إِن قُلْنَا إِنَّه حَقِيقَة فَهُوَ حجَّة قطعا، وَكَانَ يَنْبَغِي الإفصاح فِي ذَلِك؛ لدفع الْإِيهَام. انْتهى.
قلت: وَهُوَ ظَاهر صَنِيع ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، فَإِنَّهُ فِي الْمَسْأَلَة الأولى نصر أَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، وَنصر بعد ذَلِك أَنه حجَّة.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قد ذكرنَا أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على الَّتِي(5/2374)
قبلهَا، نعم، من جوز التَّعَلُّق بِهِ مَعَ كَونه مجَازًا كَالْقَاضِي يبْقى الْخلاف على قَوْله لفظيا، كَمَا قَالَه أَبُو حَامِد وَغَيره؛ لِأَنَّهُ هَل يحْتَج بِهِ، وَيُسمى مجَازًا أم لَا يُسمى مجَازًا؟
وَقَالَ صَاحب " الْمِيزَان " من الْحَنَفِيَّة: إِن الْمَسْأَلَة مفرعة على أَن دلَالَة الْعَام على أَفْرَاده قَطْعِيَّة، أَو ظنية، فَمن قَالَ قَطْعِيَّة جعل الَّذِي خص كَالَّذي لم يخص.
قيل: وَفِيه نظر.
وَقيل: مفرعة على أَن اللَّفْظ الْعَام هَل يتَنَاوَل الْجِنْس، وتندرج الْآحَاد تَحْتَهُ ضَرُورَة اشتماله عَلَيْهَا، أَو يتَنَاوَل الْآحَاد وَاحِدًا وَاحِدًا؛ حَتَّى يسْتَغْرق الْجِنْس؟
فالمعتزلة قَالُوا بِالْأولِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يظْهر عُمُومه، فَإِذا خص تبين أَنه لم يرد الْعُمُوم، وَعند إِرَادَة عدم الْعُمُوم لَيْسَ بعض أولى من بعض فَيكون مُجملا. انْتهى.
تَنْبِيه: وَقد علمنَا أَن هَذَا الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَام الْمَخْصُوص، أما الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فمجاز قطعا.(5/2375)
قَوْله: {وَلَو خص بِمَجْهُول لم يكن حجَّة كاقتلوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم اتِّفَاقًا} . قَالَه جمع مِنْهُم: الباقلاني، والآمدي، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، وَهُوَ ظَاهر تَقْيِيد ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَغَيرهمَا.
مَحل الْخلاف الْمُخَصّص بِمعين، وَقطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَغَيرهمَا، فَلَا يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على الْأَمر بقتل فَرد من الْأَفْرَاد، إِذْ مَا من فَرد إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ الْمخْرج، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] .(5/2376)
وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: حجَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَاخْتَارَهُ صَاحب " الْمَحْصُول "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "، فَإِنَّهُ قَالَ: أَلا ترى أَنه لَو أقرّ بِعشْرَة إِلَّا درهما لزمَه تِسْعَة، وَلَو قَالَ: إِلَّا شَيْئا إِلَّا عددا جهلنا الْبَاقِي فَلم يُمكن الحكم بِهِ، فعلى هَذَا يقف على الْبَيَان. انْتهى.
وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر، وَتبع فِي ذَلِك ابْن برهَان، وَالصَّوَاب مَا تقدم، وَالَّذِي حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن الرَّازِيّ أَنه لَيْسَ بِحجَّة، فَليعلم ذَلِك، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ حِكَايَة الِاتِّفَاق بصحيحة.
فَفِي " الْوَجِيز " لِابْنِ برهَان حِكَايَة الْخلاف فِي هَذِه الْحَالة، بل صحّح الْعَمَل بِهِ مَعَ الْإِبْهَام قَالَ: لأَنا إِذا نَظرنَا إِلَى فَرد شككنا فِيهِ: هَل هُوَ من الْمخْرج، أَو لَا؟ وَالْأَصْل عَدمه فَيبقى على الأَصْل، وَيعْمل بِهِ إِلَى أَن يعلم بِالْقَرِينَةِ، أَن الدَّلِيل الْمُخَصّص معَارض للفظ الْعَام، وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا عِنْد الْعلم بِهِ. انْتهى.(5/2377)
وَهُوَ صَرِيح فِي الإضراب عَن الْمُخَصّص، وَالْعَمَل بِالْعَام فِي جَمِيع أَفْرَاده وَهُوَ بعيد، وَإِن قَالَ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة.
وَبِالْجُمْلَةِ فالراجح الْمَنْع؛ لِأَن إِخْرَاج الْمَجْهُول من الْمَعْلُوم، يصير الْمَعْلُوم مَجْهُولا.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْعَام الْخُصُوص عُمُومه مُرَاد تناولا لَا حكما، وقرينته لفظية قد تنفك عَنهُ، وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَيْسَ مرَادا، بل كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَمن ثمَّ كَانَ مجَازًا قطعا، وقرينته عقلية، لَا تنفك عَنهُ، وَالْأول أَعم مِنْهُ} .
لم يتَعَرَّض كثير من الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم للْفرق بَين الْعَام الْمَخْصُوص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، وَهُوَ من مهمات هَذَا الْبَاب، وَهُوَ عَزِيز الْوُجُود.(5/2378)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى تغايرهما فِي ترديده فِي آيَة البيع وَنَحْوه، وَكَثُرت مقالات أَصْحَابه فِي تَقْرِير ذَلِك، وَفرق بَينهمَا أَبُو حَامِد أَن الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص كَانَ المُرَاد بِهِ أقل، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَام الْمَخْصُوص؛ لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْأَكْثَر، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَقَل.
قَالَ: ويفترقان فِي الحكم من جِهَة أَن الأول لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُمكن التَّعَلُّق بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارا بِالْأَكْثَرِ.
وَفرق الْمَاوَرْدِيّ بِوَجْهَيْنِ، أَحدهمَا هَذَا.
وَالثَّانِي: أَن إِرَادَة مَا أُرِيد بِهِ الْعُمُوم، ثمَّ خص مُتَأَخّر أَو تقارن.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يجب أَن ينتبه للْفرق بَينهمَا، فالعام الْمَخْصُوص أَعم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، أَلا ترى أَن الْمُتَكَلّم إِذا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَولا مَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهره من الْعُمُوم، ثمَّ أخرج بعد ذَلِك بعض مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ كَانَ عَاما مَخْصُوصًا، وَلم يكن عَاما أُرِيد بِهِ الْخُصُوص.(5/2379)
وَيُقَال: إِنَّه مَنْسُوخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض الَّذِي أخرج، وَهَذَا مُتَوَجّه إِذا قصد الْعُمُوم، وَفرق بَينه وَبَين أَن لَا يقْصد الْخُصُوص بِخِلَاف مَا إِذا نطق بِاللَّفْظِ الْعَام مرِيدا بِهِ بعض مَا تنَاوله فِي هَذَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِل مَا قَرَّرَهُ أَن الْعَام إِذا قصر على بعضه، لَهُ ثَلَاث حالات:
الأولى: أَن يُرَاد بِهِ فِي الِابْتِدَاء خَاص، فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهِ خَاص.
الثَّانِيَة: أَن يُرَاد بِهِ عَام ثمَّ يخرج مِنْهُ بعضه فَهُوَ نسخ.
وَالثَّالِثَة: أَن لَا يقْصد بِهِ خَاص وَلَا عَام فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ يخرج مِنْهُ أَمر، ويتبين بذلك أَنه لم يرد بِهِ فِي الِابْتِدَاء عُمُومه، فَهَذَا هُوَ الْعَام الْمَخْصُوص؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّخْصِيص عندنَا بَيَانا لَا نسخا، إِلَّا إِن أخرج بعد دُخُول وَقت الْعَمَل بِالْعَام فَيكون نسخا؛ لِأَنَّهُ قد تبين أَن الْعُمُوم أُرِيد فِي الِابْتِدَاء. انْتهى.
وَفرق السُّبْكِيّ فَقَالَ: الْعَام الْمَخْصُوص أُرِيد عُمُومه وشموله لجَمِيع الْأَفْرَاد من جِهَة تنَاول اللَّفْظ لَهَا، لَا من جِهَة الحكم، وَالَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لم يرد شُمُوله لجَمِيع الْأَفْرَاد لَا من جِهَة التَّنَاوُل وَلَا من جِهَة الحكم، بل هُوَ كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَلِهَذَا كَانَ مجَازًا قطعا لنقل اللَّفْظ عَن مَوْضِعه الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْعَام الْمَخْصُوص فَإِن فِيهِ خلافًا يَأْتِي.(5/2380)
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ: الْفرق بَينهمَا من أوجه:
أَحدهَا: أَن قرينَة الْعَام الْمَخْصُوص لفظية، وقرينة الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص عقلية.
الثَّانِي: أَن قرينَة الْمَخْصُوص قد تنفك عَنهُ، وقرينة الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَا تنفك عَنهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد أَن حكى الفروق فِي ذَلِك: وَيعلم من ذَلِك أَن قَول بعض متأخري الْحَنَابِلَة فِي الْفرق بِأَن الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ [الْخُصُوص أَن يُطلق الْمُتَكَلّم اللَّفْظ الْعَام وَيُرِيد بِهِ بَعْضًا معينا وَالْعَام الْمَخْصُوص هُوَ الَّذِي أُرِيد بِهِ] سلب الحكم عَن بعض مِنْهُ، وَأَيْضًا فَالَّذِي أُرِيد بِهِ خُصُوص يحْتَاج لدَلِيل معنوي يمْنَع إِرَادَة الْجَمِيع فَتعين لَهُ الْبَعْض، والمخصوص يحْتَاج لدَلِيل لَفْظِي غَالِبا، كالشرط وَالِاسْتِثْنَاء والغاية والمنفصل. انْتهى.
وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَيحْتَمل إِرَادَة غَيره، وَلم نطلع على قَائِله. وَقد قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: يجوز وُرُود الْعَام وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص خَبرا كَانَ أَو أمرا.(5/2381)
قَالَ أَبُو الْخطاب: وَقد ذكره الإِمَام أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] قَالَ: وَأَتَتْ على أَشْيَاء لم تدمرها كمساكنهم وَالْجِبَال. وَبِه قَالَ الْجُمْهُور. انْتهى.
فَهَذَا عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فِيمَا يظْهر.
قَوْله: {الثَّانِيَة، قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن عَام لم يخص إِلَّا قَوْله تَعَالَى:} {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} [هود: 6] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] .
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا من عُمُوم إِلَّا وَقد تطرق إِلَيْهِ التَّخْصِيص إِلَّا الْيَسِير، كَقَوْلِه تَعَالَى ... وَذكر الْآيَتَيْنِ.
قَالَ الطوفي فِي " الإشارات ": قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] هَذَا عَام لم يخص بِشَيْء أصلا لتَعلق علمه عز وَجل بالمواد الثَّلَاث مَادَّة الْوَاجِب والممكن والممتنع، بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى: {إِن الله على كل شَيْء قدير} [الْبَقَرَة: 20] فَإِنَّهُ عَام مَخْصُوص بالمحالات والواجبات الَّتِي لَا تدخل تَحت الْمَقْدُور بِهِ كالجمع بَين الضدين، وكخلق ذَاته وَصِفَاته، وَأَشْبَاه ذَلِك. انْتهى.(5/2382)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: اعْترض ابْن دَاوُد على الشَّافِعِي فِي جعله {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} من الْعَام الَّذِي لم يخص، بِأَن من الدَّوَابّ من أفناه الله تَعَالَى قبل أَن يرزقه.
ورده الصَّيْرَفِي: بِأَن ذَلِك خطأ؛ لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من رزق يقوم بِهِ وَلَو بِنَفس يَأْتِيهِ، وَقد جعل الله تَعَالَى غذَاء طَائِفَة من الطير التنفس إِلَى مُدَّة يصلح فِيهَا للْأَكْل وَالشرب. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: نعم، هَل يُطلق على الْمَعْدُوم شَيْء؟ إِن كَانَ مستحيلا فَلَا، بِلَا خلاف عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَغلظ الزَّمَخْشَرِيّ على الْمُعْتَزلَة فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا خلافهم فِي الْمَعْدُوم الَّذِي لَيْسَ بمستحيل. نعم، عِنْد النُّحَاة أَن الْمَعْدُوم يُطلق عَلَيْهِ شَيْء مستحيلا كَانَ أَو لَا.
إِذا تقرر أَن المستحيل لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي الْمُتَكَلِّمين تبين أَن نَحْو قَوْله: {الله على كل شَيْء قدير} من الْعَام الْمَخْصُوص بِالْعقلِ، أَو من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص على الْخلاف السَّابِق. انْتهى.
وَقَالَ بعض أهل الْعلم: الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه قَلِيل جدا، وَلم يُوجد مِنْهُ إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 282] ، وَقَوله تَعَالَى: {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} [النِّسَاء: 1] ثمَّ قَالَ: قلت: الظَّاهِر(5/2383)
إِن من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} الْآيَة [النِّسَاء: 23] ، فَإِن من صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُضَاف، وَلَا تَخْصِيص فِيهَا. انْتهى.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح الطوفي ": وَقد ولع النَّاس كثيرا بقَوْلهمْ: إِن كل عَام فِي الْقُرْآن مَخْصُوص إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} ، وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا:، وَقد تدبرت ذَلِك فَوجدت فِي الْقُرْآن وَالسّنة مَا لَا تحصى كَثْرَة من العمومات الْبَاقِيَة على عمومها، فَتَأَمّله تَجدهُ كَذَلِك. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هُنَا نَوْعَانِ: نوع يمْتَنع لذاته مِمَّا يُنَاقض صِفَاته اللَّازِمَة كالموت، وَالنَّوْم، وَالْجهل، واللغوب، وَنَحْوه، فَهَذَا مُمْتَنع وجوده مُطلقًا، كَمَا يمْتَنع وجود إِلَه آخر مسَاوٍ لَهُ، وكما يمْتَنع عَدمه - سُبْحَانَهُ -، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله على كل شَيْء قدير} فَإِنَّهُ يمْتَنع وجوده فِي الْخَارِج؛ إِذْ كَانَ مستلزما للْجمع بَين النقيضين بَين الْوُجُود والعدم، وَكَون الشَّيْء مَوْجُودا مَعْدُوما مُمْتَنع. انْتهى.(5/2384)
(قَوْله: {فصل} )
{الْجَواب غير المستقل تَابع للسؤال فِي عُمُومه اتِّفَاقًا} ، كجوابه لمن سَأَلَهُ عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ: " أينقص الرطب إِذا يبس؟ " قيل: نعم. قَالَ: " فَلَا إِذا "، لَكِن ابْن قَاضِي الْجَبَل قَالَ: تَابع فِي عُمُومه عِنْد الْأَكْثَر.
قَوْله: {وَكَذَا فِي خصوصه} ، يَعْنِي: أَن الْجَواب غير المستقل تَابع للسؤال فِي خصوصه أَيْضا، كنحو قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} [الْأَعْرَاف: 44] ، وكحديث أنس: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، الرجل منا يلقى أَخَاهُ أَو صديقه أينحني لَهُ؟ قَالَ: " لَا "، قَالَ: أفيلزمه(5/2385)
ويقبله؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: فَيَأْخُذ بِيَدِهِ ويصافحه؟ قَالَ: " نعم ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن.
قَالَ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": كَقَوْلِه لغيره: تغد عِنْدِي، فَيَقُول: لَا.
وَقَالَ القَاضِي وَغَيره: كَقَوْلِه لأبي بردة: " تجزئك وَلَا تجزيء أحدا بعْدك "، أَي: فِي الْأُضْحِية.
قَالَ الْآمِدِيّ: فَهَذَا وَأَمْثَاله وَإِن ترك فِيهِ الاستفصال مَعَ تعَارض الْأَحْوَال لَا يدل على التَّعْمِيم فِي حق غَيره كَمَا قَالَه الشَّافِعِي؛ إِذْ اللَّفْظ لَا عُمُوم لَهُ، وَلَعَلَّ الحكم على ذَلِك الشَّخْص لِمَعْنى مُخْتَصّ بِهِ كتخصيص أبي بردة بقوله: " وَلَا تجزيء أحدا بعْدك "، ثمَّ بِتَقْدِير تَعْمِيم الْمَعْنى فبالعلة لَا بِالنَّصِّ.(5/2386)
وَقَالَهُ قبله أَبُو الْمَعَالِي لاحْتِمَال مَعْرفَته، فَأجَاب على مَا عرف وعَلى هَذَا تجْرِي أَكثر الْفَتَاوَى من الْمُفْتِينَ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَالَّذِي عِنْد أَصْحَابنَا التَّعْمِيم، قَالُوا: لَو اخْتصَّ بِهِ لما احْتِيجَ إِلَى تَخْصِيص، {وَهَذَا ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي} أَيْضا {فِي قَوْله: ترك الاستفصال فِي حِكَايَة الْحَال مَعَ قيام الِاحْتِمَال ينزل منزلَة الْعُمُوم فِي الْمقَال، وَيحسن بهَا الِاسْتِدْلَال} .
قَالَ الْمجد فِي " المسودة ": وَهَذَا ظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد؛ لِأَنَّهُ احْتج فِي مَوَاضِع كَثِيرَة بِمثل ذَلِك، وَكَذَلِكَ أَصْحَابنَا.
قَالَ الْمجد: فِيمَا سبق إِنَّمَا يمْنَع قُوَّة الْعُمُوم لَا ظُهُوره؛ لِأَن الأَصْل عدم الْمعرفَة لما لم يذكر.
وَمثله الشَّافِعِي بقوله لغيلان وَقد أسلم على عشر نسْوَة: " أمسك أَرْبعا " وَلم يسْأَله هَل ورد العقد عَلَيْهِنَّ مَعًا أَو مُرَتبا فَدلَّ على عدم الْفرق.
وَرُوِيَ عَن الشَّافِعِي عبارَة أُخْرَى، {وَهِي: حِكَايَة الْحَال؛ إِذا تطرق إِلَيْهَا الِاحْتِمَال كساها ثوب الْإِجْمَال وَسقط بهَا الِاسْتِدْلَال} ، فاختلفت أجوبة الْعلمَاء عَن ذَلِك، فَمنهمْ من قَالَ: هَذَا(5/2387)
مُشكل، وَمِنْهُم من قَالَ: لَهُ قَولَانِ.
{وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي: يحمل الأول على قَول يُحَال عَلَيْهِ الْعُمُوم، و} يحمل {الثَّانِي على فعل؛ لِأَنَّهُ لَا عُمُوم لَهُ، وَاخْتَارَهُ} شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ، وَابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح الْإِلْمَام "، والسبكي فِي بَاب مَا يحرم من النِّكَاح فِي " شرح الْمِنْهَاج ".
{وَقَالَ الْقَرَافِيّ: الأول مَعَ بعد الِاحْتِمَال} ، وَالثَّانِي مَعَ قرب الِاحْتِمَال ثمَّ الِاحْتِمَال إِن كَانَ فِي دَلِيل الحكم سقط الِاسْتِدْلَال، كَقَوْلِه فِي الْمحرم: " لَا تقربوه طيبا فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا ".
وَقَالَ أَيْضا: الأول إِذا كَانَ الِاحْتِمَال فِي مَحل الحكم كقصة غيلَان، وَالثَّانِي إِذا كَانَ الِاحْتِمَال فِي دَلِيل الحكم.(5/2388)
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَعند أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه الحكم عَام فِي كل محرم، قَالَ أَصْحَابنَا فِي ذَلِك: حكمه فِي وَاحِد حكمه فِي مثله إِلَّا أَن يرد تَخْصِيصه.
وَهَذَا حكمه فِي شُهَدَاء أحد حكم فِي سَائِر الشُّهَدَاء.
قَالَ القَاضِي وَغَيره: اللَّفْظ خَاص، وَالتَّعْلِيل عَام فِي كل محرم، وَعند الْحَنَفِيَّة، وَعند الْمَالِكِيَّة يخْتَص بذلك الْمحرم.
قَوْله: {وَإِن اسْتَقل الْجَواب} بِحَيْثُ لَو ورد ابْتِدَاء لأفاد الْعُمُوم {وساوى السُّؤَال، تَابعه فِي عُمُومه وخصوصه} عِنْد كَون السُّؤَال عَاما أَو خَاصّا، كَمَا لَو لم يسْتَقلّ، فالخصوص: كسؤال الْأَعرَابِي عَن وَطئه فِي نَهَار رَمَضَان فَقَالَ: " اعْتِقْ رَقَبَة "، والعموم: كسؤال عَن الْوضُوء بِمَاء(5/2389)
الْبَحْر، فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ، الْحل ميتَته ".
{قَالَ الْغَزالِيّ: هَذَا مُرَاد الشَّافِعِي بالعبارة الأولى} .
قَوْله: {وَإِن كَانَ أخص من السُّؤَال اخْتصَّ بِالْجَوَابِ} ، كسؤاله عَن قتل النِّسَاء الكوافر، فَيَقُول: اقْتُلُوا المرتدات فَيخْتَص بِالْجَوَابِ.
قَوْله: {وَإِن كَانَ أَعم} ، يَعْنِي إِذا كَانَ الْجَواب أَعم من السُّؤَال فَهُوَ مندرج فِي الْآتِي بعده، وَهُوَ الْعَام على سَبَب خَاص؛ لِأَن السَّبَب قد يكون سؤالا وَقد يكون غَيره.
مِثَاله: سُؤَاله عَن مَاء بِئْر بضَاعَة، فَقَالَ: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء ".(5/2390)
{أَو ورد عَام على سَبَب خَاص بِغَيْر سُؤال} ، كَمَا رُوِيَ أَنه مر بِشَاة ميتَة لميمونة فَقَالَ: " أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر " {اعْتبر عُمُومه وَلم يقصر على سَببه عِنْد أَحْمد، وَالشَّافِعِيّ، وَأكْثر أصحابهما، وَالْحَنَفِيَّة، وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، والأشعرية} ، فالسبب لَا يخْتَص بِهِ والعموم بَاقٍ على عُمُومه؛ لِأَن عدُول الْمُجيب عَمَّا سُئِلَ عَنهُ، أَو عَمَّا اقْتَضَاهُ حَال السَّبَب الَّذِي ورد الْعَام عَلَيْهِ عَن ذكره بِخُصُوصِهِ إِلَى الْعُمُوم دَلِيل على إِرَادَته؛ لِأَن الْحجَّة فِي اللَّفْظ - وَهُوَ مُقْتَضى الْعُمُوم - وَالسَّبَب لَا يصلح مُعَارضا(5/2391)
لجَوَاز أَن يكون الْمَقْصُود عِنْد وُرُود السَّبَب بَيَان الْقَاعِدَة الْعَامَّة لهَذِهِ الصُّورَة، وَغَيرهَا.
قَالَ أَبُو حَامِد، وَأَبُو الطّيب، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَابْن برهَان: هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: عَامَّة الْأَصْحَاب تسنده إِلَى الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي، وَابْن الْقطَّان، وَصَححهُ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق، وَالشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق، وَابْن الْقشيرِي، وألكيا، وَالْغَزالِيّ، وَجزم بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَنَقله ابْن كج عَن عَامَّة أَصْحَابهم، وَأَنه(5/2392)
مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَأَن بِهِ قَالَ أَبُو حنيفَة، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والمالكية، وَنَقله الْبَاجِيّ أَيْضا عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَصَححهُ أَيْضا الباقلاني.
{وَلنَا قَول} فِي مَذْهَبنَا.
{وَقَالَهُ جمع} كثير إِنَّه {يقصر على سَببه} .
قَالَ القَاضِي فِي " الْكِفَايَة ": قَالَ بعض أَصْحَابنَا يقصر على سَببه، وَذكره بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة من لفظين، وذكرهما ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَنَقله جمَاعَة عَن أبي ثَوْر، والمزني، والدقاق،(5/2393)
والخفاف فِي " الْخِصَال "، وَنسبه الْأُسْتَاذ إِلَى الْأَشْعَرِيّ، وَنسبه عبد الْوَهَّاب لأبي الْفرج من أَصْحَاب مَالك، وَابْن نصر، وَنسبه كثير من الْمُتَأَخِّرين للشَّافِعِيّ، وَنسبه أَبُو الْمَعَالِي لأبي حنيفَة، وَقَالَ: إِنَّه الَّذِي صَحَّ عندنَا من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَنَقله جمَاعَة عَن مَالك.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَالصَّحِيح -: أَن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ استدلوا على التَّعْمِيم مَعَ السَّبَب الْخَاص وَلم يُنكر، كآية اللّعان، وَنزلت(5/2394)
فِي هِلَال بن أُميَّة وَهُوَ فِي " الصَّحِيح "، وَآيَة الظِّهَار، وَنزلت فِي أَوْس بن الصَّامِت. رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا، وَمَعْنَاهُ فِي البُخَارِيّ، وقصة عَائِشَة فِي الْإِفْك فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغير ذَلِك، فَكَذَا هُنَا؛ وَلِأَن اللَّفْظ عَام بِوَضْعِهِ، وَالِاعْتِبَار بِهِ، بِدَلِيل لَو كَانَ أخص، وَالْأَصْل عدم مَانع.
وقاس أَصْحَابنَا وَغَيرهم على الزَّمَان وَالْمَكَان مَعَ أَن الْمصلحَة قد تخْتَلف فيهمَا.(5/2395)
رد: لَا يصلحان عِلّة للْحكم بِخِلَاف لفظ السَّائِل.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: لَو عَم جَازَ تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ كَغَيْرِهِ.
رد: السَّبَب مُرَاد قطعا بِقَرِينَة خارجية لوُرُود الْخطاب بَيَانا لَهُ، وَغَيره ظَاهر، وَلِهَذَا لَو سَأَلته امْرَأَة من نِسَائِهِ طَلاقهَا، فَقَالَ: نسَائِي طَوَالِق، طلقت، ذكره ابْن عقيل إِجْمَاعًا، وَأَنه لَا يجوز تَخْصِيصه، وَالْأَشْهر عندنَا وَلَو استثناها بِقَلْبِه، لَكِن يدين.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ فِيهِ خلاف، وَلَو اسْتثْنى غَيرهَا لم تطلق على أَنه منع فِي " الْإِرْشَاد " و " الْمُبْهِج " و " الْفُصُول " الْمُعْتَمِر الْمحصر من التَّحَلُّل مَعَ أَن سَبَب الْآيَة فِي حصر الْحُدَيْبِيَة وَكَانُوا معتمرين.
وَحكي هَذَا عَن مَالك، وَأَنه لَا هدي أَيْضا.(5/2396)
وَعَن أَحْمد أَنه حمل مَا فِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ " على أَمر الْآخِرَة مَعَ أَن سَببه أَمر الدُّنْيَا، لَكِن يحْتَمل أَنه لم يَصح عِنْده سَببه، وَالأَصَح عَن أَحْمد أَنه لَا يَصح اللّعان على حمل، وَقَالَهُ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ سَبَب آيَة اللّعان وَاللّعان عَلَيْهِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، لَكِن ضعفه أَحْمد، وَلِهَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنه لَاعن بعد الْوَضع.
ثمَّ يحْتَمل أَنه علم وجوده بِوَحْي فَلَا يكون اللّعان مُعَلّقا بِشَرْط، وَلَيْسَ سَبَب الْآيَة قذف حَامِل ولعانها.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَن عَائِشَة أَن عتبَة بن أبي وَقاص عهد إِلَى أَخِيه(5/2397)
سعد أَن ابْن وليدة زَمعَة ابْني فاقبضه إِلَيْك فَلَمَّا كَانَ عَام الْفَتْح أَخذه سعد، وَفِيه: فَقَالَ سعد: هَذَا يَا رَسُول الله ابْن أخي عتبَة عهد إِلَيّ أَنه ابْنه، انْظُر: إِلَى شبهه! فَرَأى شبها بَينا بِعتبَة، فَقَالَ: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة، الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر، واحتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة بنت زَمعَة ". وَكَانَت تَحت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَفِي لفظ البُخَارِيّ: " هُوَ أَخُوك يَا عبد ".
وَلأَحْمَد، وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث عبد الله بن الزبير أَن زَمعَة(5/2398)
كَانَت لَهُ جَارِيَة يَطَؤُهَا، وَكَانَت تظن بآخر، وَفِيه: " احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة! فَلَيْسَ لَك بِأَخ " زَاد أَحْمد: " أما الْمِيرَاث فَلهُ ".
وَعند أبي حنيفَة لَا تصير الْأمة فراشا حَتَّى يقر بِوَلَدِهَا، فَإِذا أقرّ بِهِ صَارَت فراشا ولحقه أَوْلَاده بعد ذَلِك فَأخْرج السَّبَب قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لم يبلغهُ هَذَا وَاللّعان على الْحمل.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَسبق الْجَواب عَن اللّعان، وَهَذَا لَا جَوَاب عَنهُ.
قَالُوا: لَو عَم لم ينْقل السَّبَب لعدم الْفَائِدَة.
رد: فَائِدَته منع تَخْصِيصه، وَمَعْرِفَة الْأَسْبَاب.
قَالُوا: لَو قَالَ تغد عِنْدِي، فَحلف: لَا تغديت، لم يعم، وَمثله نظائرها.(5/2399)
رد: بِالْمَنْعِ فِي الْأَصَح عَن أَحْمد، وَإِن سلم كَقَوْل مَالك: فللعرف ولدلالة السَّبَب على النِّيَّة فَصَارَ كمنوي.
قَالُوا: لَو عَم لم يُطَابق الْجَواب السُّؤَال.
رد: طابق وَزَاد.
قَوْله: {وَصُورَة السَّبَب قَطْعِيَّة الدُّخُول عِنْد الْأَكْثَر فَلَا يخص بِالِاجْتِهَادِ} .
صُورَة السَّبَب مَقْصُودَة بِالْعُمُومِ قطعا، وَالْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَداهَا فيطرق التَّخْصِيص ذَلِك الْعَام إِلَّا تِلْكَ الصُّورَة؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز إخْرَاجهَا.
لَكِن السُّبْكِيّ قَالَ: إِنَّمَا تكون صُورَة السَّبَب قَطْعِيَّة إِذا دلّ الدَّلِيل على دُخُولهَا وضعا تَحت اللَّفْظ الْعَام، وَإِلَّا فقد يُنَازع فِيهِ الْخصم، وَيَدعِي أَنه قد يقْصد الْمُتَكَلّم بِالْعَام إِخْرَاج السَّبَب، فالمقطوع بِهِ إِنَّمَا هُوَ بَيَان حِكْمَة السَّبَب، وَهُوَ حَاصِل مَعَ كَونه خَارِجا كَمَا يحصل بِدُخُولِهِ، وَلَا دَلِيل على تعْيين وَاحِد من الْأَمريْنِ.(5/2400)
وللحنفية أَن يَقُولُوا فِي حَدِيث عبد بن زَمعَة: إِن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَد للْفراش " وَإِن كَانَ واردا فِي أمه فَهُوَ وَارِد لبَيَان حكم ذَلِك الْوَلَد، وَبَيَان حكمه إِمَّا بالثبوت أَو بالانتفاء فَإِذا ثَبت أَن الْفراش هُوَ الزَّوْجَة؛ لِأَنَّهَا الَّتِي يتَّخذ لَهَا الْفراش غَالِبا، وَقَالَ الْوَلَد للْفراش كَانَ فِيهِ حصر أَن الْوَلَد للْحرَّة، وَمُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يكون للْأمة فَكَانَ فِيهِ بَيَان الْحكمَيْنِ جَمِيعًا نفي النّسَب عَن السَّبَب وإثباته لغيره، وَلَا يَلِيق دَعْوَى الْقطع هُنَا، وَذَلِكَ من جِهَة اللَّفْظ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة نزاع فِي أَن اسْم الْفراش هَل هُوَ مَوْضُوع للْحرَّة وَالْأمة الْمَوْطُوءَة، أَو للْحرَّة فَقَط، فالحنفية يدعونَ الثَّانِي فَلَا عُمُوم عِنْدهم فِي الْآيَة فَتخرج الْمَسْأَلَة من بَاب أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ أَو بِخُصُوص السَّبَب.
قَوْله: {وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر يَصح إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه، أَو مَعَانِيه مَعًا، والحقيقة وَالْمجَاز الرَّاجِح بِلَفْظ وَاحِد} .
هُنَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهمَا: يَصح أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم بالمشترك معنييه أَو مَعَانِيه فاستعماله(5/2401)
فِي أحد معنييه، أَو مَعَانِيه جَائِز قطعا، وَهُوَ حَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ فِيمَا وضع لَهُ.
وَأما إِطْلَاقه على الْكل مَعًا فِي حَالَة وَاحِدَة فَفِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا - وَهُوَ الصَّحِيح - يَصح كَقَوْلِنَا الْعين مخلوقة، ونريد جَمِيع مَعَانِيهَا، وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابنَا، كَالْقَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَابْن عقيل، والحلواني، وَغَيرهم.
قَالَ فِي " الِانْتِصَار ": وَلما قيل لَهُ فِيمَن لَا يجد نَفَقَة امْرَأَته، يفرق(5/2402)
بَينهمَا - أَي: لَا يحبسها؟ فَقَالَ: الظَّاهِر مِنْهَا الْإِطْلَاق، على أَنه عَام فِي العقد وَالْمَكَان مَعًا.
وَنسب للشَّافِعِيّ، وَقطع بِهِ من أَصْحَابه ابْن أبي هُرَيْرَة، وَمثله بقوله: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} [الْأَحْزَاب: 56]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فَإِن الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة دُعَاء، وَكَذَا لفظ {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] وشهادته تَعَالَى علمه، وَغَيره إِقْرَار بذلك، وَبِقَوْلِهِ: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} [النِّسَاء: 22] النِّكَاح: العقد وَالْوَطْء مرادان مِنْهُ إِذا قُلْنَا مُشْتَرك، وَقطع بِهِ الباقلاني، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي عَن مَذْهَب الْمُحَقِّقين، وجماهير الْفُقَهَاء، وَحكي عَن أَكثر الْمُعْتَزلَة، وَأكْثر الْحَنَفِيَّة، وَعَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَنسبه القَاضِي عبد الْوَهَّاب لمذهبهم، قَالَ: وَهُوَ قَول جُمْهُور أهل الْعلم.(5/2403)
قَوْله: {مجَازًا} ، اخْتلف من صحّح إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه مَعًا، فَقيل: يكون إِطْلَاقه على معنييه، أَو مَعَانِيه مجَازًا، لَا حَقِيقَة، نَقله صَاحب " التَّلْخِيص " من الشَّافِعِيَّة عَن الشَّافِعِي، وَإِلَيْهِ مَال إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَتَبعهُ فِي " جمع الْجَوَامِع ".
وَقيل: {حَقِيقَة} ، قَالَ الْأَصْفَهَانِي: وَهُوَ اللَّائِق بِمذهب الشَّافِعِي؛ لِأَنَّهُ يُوجب حمله على الْجَمِيع، وَنَقله أَيْضا عَن الشَّافِعِي، وَالْقَاضِي أبي بكر الباقلاني، وَنَقله أَيْضا الْآمِدِيّ عَنْهُمَا.
الْمَذْهَب الثَّانِي: {يَصح} إِطْلَاقه على معنييه أَو مَعَانِيه {بِقَرِينَة مُتَّصِلَة} ، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أبي الْمَعَالِي فِي " الْبُرْهَان "، وَأبي بكر الباقلاني.
الْمَذْهَب الثَّالِث: صِحَة اسْتِعْمَاله فِي معنييه {فِي النَّفْي} دون(5/2404)
الْإِثْبَات؛ لِأَن النكرَة فِي النَّفْي تعم.
ورد بِأَن النَّفْي لَا يرفع إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِثْبَات.
وَهَذَا القَوْل احْتِمَال لأبي الْحُسَيْن فِي " الْمُعْتَمد "، وَتَبعهُ عَلَيْهِ الرَّازِيّ، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْحَنَفِيَّة.
الْمَذْهَب الرَّابِع: صِحَة اسْتِعْمَاله {فِي غير مُفْرد} ، فَإِن كَانَ جمعا كاعتدي بِالْأَقْرَاءِ، أَو مثنى: كقرءين صَحَّ؛ لِأَن الْجمع فِي حكم تعدد الْأَلْفَاظ، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ مُفَرع على جَوَاز تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه، أَو مَعَانِيه على مَا يَأْتِي فِي آخر الْمَسْأَلَة.
الْمَذْهَب الْخَامِس: صِحَة اسْتِعْمَاله {إِن تعلق أحد الْمَعْنيين بِالْآخرِ}(5/2405)
نَحْو قَوْله: {أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] فَإِن كلا من اللَّمْس بِالْيَدِ وَالْوَطْء لَازم للْآخر، وَالنِّكَاح للْوَطْء وَالْعقد كَذَلِك، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ غَرِيب.
الْمَذْهَب السَّادِس {- قَالَه بعض أَصْحَابنَا، وَالْغَزالِيّ - يَصح} اسْتِعْمَاله {إِرَادَة، لَا لُغَة} فَيصح أَن يُرَاد بِاللَّفْظِ الْوَاحِد معنياه بِوَضْع جَدِيد؛ لَكِن لَيْسَ من اللُّغَة؛ فَإِن اللُّغَة منعت مِنْهُ.
الْمَذْهَب السَّابِع: {لَا يَصح مُطلقًا} ، اخْتَارَهُ القَاضِي أَبُو يعلى، وَأَبُو الْخطاب، وَابْن الْقيم، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَر، وَقَالَهُ أَبُو هَاشم، والكرخي، وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، وَابْن الصّباغ، والرازي، وَغَيرهم.(5/2406)
وَحَكَاهُ الْكَرْخِي عَن أبي حنيفَة، وَنقل عَن جمع من أَصْحَابه، وَغَيرهم، فَلَا يَصح إِرَادَة جَمِيع مَعَانِيه، وَلَا يحمل عِنْد الْإِطْلَاق على جَمِيعهَا.
قَالَ ابْن الْقيم فِي كِتَابه " الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي منع كَون الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة: الْأَكْثَرُونَ لَا يجوزون اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه لَا بطرِيق الْحَقِيقَة، وَلَا بطرِيق الْمجَاز، ورد مَا ورد عَن الشَّافِعِي قَالَ: وَقد ذكرنَا على إبِْطَال اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه مَعًا بضعَة عشر دَلِيلا فِي مَسْأَلَة الْقُرْء فِي كتاب التَّعْلِيق على الْأَحْكَام. انْتهى.
تَنْبِيه: قَالَ الْبرمَاوِيّ: اخْتلف المانعون فِي سَبَب الْمَنْع، فَقيل: لِأَنَّهُ لَا يَصح أَن يقْصد من حَيْثُ اللُّغَة لكَونه لم يوضع إِلَّا لوَاحِد، قَالَه الْغَزالِيّ كَمَا تقدم، وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ، وَضعف ذَلِك.
وَقيل: السَّبَب أَنه اسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ، وَهُوَ على الْبَدَل فَيكون مجَازًا، فَهُوَ رَاجع إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ مجَاز.
الْمَذْهَب الثَّامِن: {الْوَقْف} ، قَالَ الْآمِدِيّ: إِذْ لَيْسَ بَعْضهَا أولى من بعض فَوَجَبَ التَّوَقُّف حَتَّى يدل دَلِيل على الْكل، أَو الْبَعْض.(5/2407)
تَنْبِيه آخر: قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَغَيره: مَحل الْخلاف بَين الشَّافِعِي وَغَيره فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي كل مَعَانِيه إِنَّمَا هُوَ فِي الْكُلِّي العددي، كَمَا قَالَه فِي " التَّحْصِيل "، أَي: فِي كل فَرد فَرد، وَذَلِكَ بِأَن يَجعله يدل على كل وَاحِد مِنْهُمَا على حِدته، بالمطابقة فِي الْحَالة الَّتِي تدل على الْمَعْنى الآخر بهَا وَلَيْسَ المُرَاد الْكُلِّي المجموعي، أَي: يَجعله مَجْمُوع الْمَعْنيين مدلولا مطابقا، كدلالة الْعشْرَة على آحادها، وَإِلَّا الْكُلِّي البدلي، أَي: يَجْعَل كل وَاحِد مِنْهُمَا مدلولا مطابقا على الْبدن. انْتهى.
وَادّعى الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمَحْصُول " أَنه رأى فِي مُصَنف آخر لصَاحب " التَّحْصِيل " أَن الْخلاف فِي الْكل المجموعي، قَالَ: لِأَن أَكْثَرهم صَرَّحُوا بِأَن الْمُشْتَرك عِنْد الشَّافِعِي كالعام.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هَذَا عَلَيْهِ، لَا لَهُ، فَإِن دلَالَة الْعَام من دلَالَة الْكُلِّي على جزئياته، لَا الْكل على أَجْزَائِهِ، وَإِلَّا لتعذر الِاسْتِدْلَال بِالْعَام على بعض أَفْرَاده، وَأما إِذا لم يسْتَعْمل فِي وَقت وَاحِد، بل فِي وَقْتَيْنِ - مثلا - فَإِن ذَلِك جَائِز قطعا. انْتهى.
قَوْله: {فعلى الْجَوَاز هُوَ ظَاهر فيهمَا مَعَ عدم قرينَة فَيحمل عَلَيْهِمَا} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن ذكر الْجَوَاز: هَل هُوَ ظَاهر فِي ذَلِك مَعَ عدم قرينَة كالعام، أم مُجمل، فَيرجع إِلَى مُخَصص خَارج؟(5/2408)
ظَاهر كَلَامهم أَو صَرِيحه: الأول، وَلِهَذَا قَالُوا يحمل عَلَيْهِمَا.
وَهُوَ كثير فِي كَلَام القَاضِي وَأَصْحَابه، وَقَالَ هُوَ، وَابْن عقيل: اللَّمْس حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ مجَاز فِي الْجِمَاع فَيحمل عَلَيْهِمَا، وَيجب الْوضُوء مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تدافع بَينهمَا.
وَقَالَ الْمجد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " اقرؤوا يس على مَوْتَاكُم ": يَشْمَل المحتضر، وَالْمَيِّت قبل الدّفن وَبعده.
وَنقل عَن عبد الْجَبَّار، والجبائي، وَغَيرهمَا، وَقَالَ ابْن الْقشيرِي: وَعَلِيهِ يدل كَلَام الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ حمل {أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] على الجس بِالْيَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَقِيقَة، وعَلى الوقاع الَّذِي هُوَ فِيهِ مجَاز، قَالَ: وَإِذا قَالَ ذَلِك فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَفِي الحقيقتين أولى.(5/2409)
وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: إِنَّه قَول أَصْحَابنَا، قَالَ: وَلِهَذَا حملنَا اللَّمْس على الْجِمَاع، والجس بِالْيَدِ.
وَنَقله غَيرهمَا أَيْضا عَن الشَّافِعِي وَالْقَاضِي صَرِيحًا. انْتهى.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه مُجمل فَيرجع إِلَى مُخَصص خَارج. صرح بِهِ أَيْضا القَاضِي، وَابْن عقيل، وَالشَّيْخ، وَغَيرهم، نَقله عَنْهُم ابْن مُفْلِح، وَنَقله الْهِنْدِيّ عَن الْأَكْثَر، وَنَقله أَبُو زيد الدبوسي عَن الْحَنَفِيَّة.
القَوْل الثَّالِث: الْوَقْف فِي الْحمل؛ إِذْ لَيْسَ بَعْضهَا أولى من بعض فَيجب التَّوَقُّف حَتَّى يدل على الْكل، أَو الْبَعْض.(5/2410)
القَوْل الرَّابِع: قَالَ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته ": إِن كَانَ بِلَفْظ الْمُفْرد فمجمل، أَو بِلَفْظ الْجمع فَيجب الْحمل، وَبِه قَالَ القَاضِي من الْحَنَابِلَة. انْتهى.
فتلخص إِذا قُلْنَا بِصِحَّة إِطْلَاق الْمُشْتَرك على معنييه هَل يجب الْحمل عَلَيْهِمَا مَعَ عدم قرينَة، أَو لَا يجب؟ فَيكون مُجملا، أَو يجب إِن كَانَ بِلَفْظ الْجمع، وَإِلَّا فمجمل أَو الْوَقْف: أَرْبَعَة أَقْوَال، وَالصَّحِيح الأول.
قَوْله: {كالعام فِي الْأَصَح} . الْقَائِلُونَ بِوُجُوب الْحمل على الْجَمِيع اخْتلفُوا فِي سَبَب ذَلِك: هَل هُوَ لكَونه من بَاب الْعُمُوم أَو أَن ذَلِك احْتِيَاطًا؟ فبالأول قَالَ أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْغَزالِيّ، والآمدي، وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب حَتَّى إِنَّه ذكر الْمَسْأَلَة فِي بَاب الْعُمُوم، وَقَالَهُ ابْن مُفْلِح، وتابعناه.
وَقيل: إِنَّه قَول الواقفية فِي صِيغ الْعُمُوم.(5/2411)
وتوجيه ذَلِك أَن نِسْبَة الْمُشْتَرك إِلَى مَعَانِيه كنسبة الْعَام إِلَى أَفْرَاده، وَعند التجرد يعم الْأَفْرَاد، فَكَذَا الْمُشْتَرك، وَالْجَامِع صدق اللَّفْظ بِالْوَضْعِ على كل فَرد من أَفْرَاده، وَإِن افْتَرقَا من حَيْثُ إِن الْعَام صدقه بِوَاسِطَة أَمر اشتركت فِيهِ، والمشترك صدقه بِوَاسِطَة الِاشْتِرَاك فِي أَن اللَّفْظ وضع لكل وَاحِد.
وبالقول الثَّانِي وَهُوَ كَونه احْتِيَاطًا مَنْقُول عَن الباقلاني، نَقله ابْن السُّبْكِيّ، وَنقل الْآمِدِيّ عَن الشَّافِعِي، والباقلاني أَنه من بَاب الْعُمُوم، وَنقل الْبَيْضَاوِيّ عَنْهُمَا أَنه من بَاب الِاحْتِيَاط.
{تَنْبِيه: مَحل صِحَة الْإِطْلَاق، وَالْحمل إِذا لم يتنافيا، فَإِن تنافيا امتنعا كافعل، أمرا، وتهديدا} ، مَحل الْحمل على الْكل عِنْد الْقَائِل بِهِ؛ حَيْثُ لَا يكون بَين الْمَعْنيين، أَو الْمعَانِي تناف كاستعمال لفظ (افْعَل) فِي الْأَمر، والتهديد عَن الْفِعْل، وَهَذَا قيد فِي الِاسْتِعْمَال أَيْضا.(5/2412)
وَذكر هَذَا الْقَيْد ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ: إِن صَحَّ الْجمع، والبيضاوي بقوله: فِي جَمِيع مفهوماته الْغَيْر متضادة، وَإِن لم يذكرهُ شَيْخه الرَّازِيّ، وَنَقله الْآمِدِيّ عَن الشَّافِعِي، والباقلاني، والجبائي، وَعبد الْجَبَّار، وَغَيرهم.
وَمَعْنَاهُ ذكره أَبُو الْمَعَالِي، وَأَبُو الْخطاب عَن المجوزين، وَقَالَهُ ابْن عقيل، قَالَ: وَلِهَذَا لَا يحسن أَن يُصَرح بِهِ بِخِلَاف هَذَا.
تَنْبِيه: الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: قد تقدم من أول الْكَلَام على ذَلِك.
إِن هُنَا مَسْأَلَتَيْنِ ذكرنَا أَحْكَام الْمَسْأَلَة الأولى، وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَالْكَلَام الْآن فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، وَهِي أَنَّهَا مثل الْمَسْأَلَة الأولى فِي الْأَحْكَام، وَهِي إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد على الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز إِذا كَانَ للفظ حَقِيقَة، ومجاز، وَالْحمل عَلَيْهِمَا على مَا تقدم من الْأَقْوَال وَالْأَحْكَام، وَلذَلِك جَمعنَا فِي الْمَتْن(5/2413)
بَينهَا وَبَين الْمُشْتَرك فِي الحكم لاتحادهما، إِلَّا أَن القَاضِي أَبَا بكر الباقلاني قَالَ: لَا يَصح إِطْلَاق اللَّفْظ الْوَاحِد على الْحَقِيقَة وَالْمجَاز مَعًا، وَإِن صَححهُ فِي غَيره.
وَقَالَ: اسْتِعْمَاله فيهمَا محَال هُنَا؛ لِأَن الْحَقِيقَة اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيمَا وضع لَهُ، وَالْمجَاز فِيمَا لم يوضع لَهُ، وهما متناقضان، فَلَا يَصح أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعْنيانِ متناقضان. انْتهى.
فعلى الأول مَحَله فِي الْحَقِيقَة مُقَدّمَة قطعا، مِثَال ذَلِك إِطْلَاق النِّكَاح للْعقد، وَالْوَطْء مَعًا إِذا قُلْنَا حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الآخر؛ وَلذَلِك حمل قَوْله تَعَالَى: {أَو لامستم النِّسَاء فامسحوا} على الجس بِالْيَدِ، وَهُوَ حَقِيقَة، وعَلى الوقاع، وَهُوَ مجَاز.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] فَإِنَّهُ حَقِيقَة فِي ولد الصلب، مجَاز فِي ولد الابْن.(5/2414)
وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وافعلوا الْخَيْر} [الْحَج: 77] فَإِنَّهُ شَامِل للْوُجُوب وَالنَّدْب خلافًا لمن خصّه بِالْوَاجِبِ بِنَاء على منع الِاسْتِعْمَال فِي الْكل، وَبَعْضهمْ قَالَ: للقدر الْمُشْتَرك، وَهُوَ مُطلق الطّلب فِرَارًا من الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز.
وَمن ذَلِك مَا قَالَه الْمجد فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " اقرؤوا يس على مَوْتَاكُم " يَشْمَل المحتضر وَالْمَيِّت قبل الدّفن وَبعده، كَمَا تقدم، فَبعد الْمَوْت حَقِيقَة، وَقَبله مجَاز.
وَمن ذَلِك مَا قَالَه القَاضِي، وَابْن عقيل، وَغَيرهمَا: اللَّمْس حَقِيقَة فِي اللَّمْس بِالْيَدِ مجَاز فِي الْجِمَاع، كَمَا تقدم التَّمْثِيل بذلك فَيحمل عَلَيْهِمَا وَيجب الْوضُوء مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تدافع بَينهمَا.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول آخر إِنَّه يجب الْحمل على الْحَقِيقَة دون الْمجَاز، قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَهُوَ المُرَاد بقولنَا كالعام فِي الْأَصَح.
{وَقيل: على الْحَقِيقَة فَقَط} فَهَذَا القَوْل هُوَ مَا قَالَه عبد الْوَهَّاب يَعْنِي أَنه فِي الْمُشْتَرك حمله على الْجَمِيع، وَهنا فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز يجب حمله على(5/2415)
الْحَقِيقَة فَقَط، فَهَذَا القَوْل مُخَالف للمشترك أَيْضا، فَهُنَا ثَلَاث مسَائِل فِي مُخَالفَة الْحَقِيقَة، وَالْمجَاز للمشترك:
إِحْدَاهَا: إِذا أطلق عَلَيْهِمَا وجوزناه لَا يكون إِلَّا مجَازًا، وَفِي الْمُشْتَرك قَولَانِ: هَل هُوَ حَقِيقَة أم مجَاز، فَإِن قُلْنَا مجَاز أَيْضا فَلَا مُخَالفَة، وَإِن قُلْنَا: حَقِيقَة حصلت الْمُخَالفَة.
الثَّانِيَة: عدم جَوَاز الْإِطْلَاق فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَإِن جوزناه فِي الْمُشْتَرك، وَهُوَ قَول الباقلاني، كَمَا تقدم.
الثَّالِثَة: الْحمل فِي الْمُشْتَرك على الْجَمِيع، وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يحمل إِلَّا على الْحَقِيقَة فَقَط، على قَول تقدم، وَالله أعلم.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: ألحق جمع من الْعلمَاء المجازين المتساويين بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز} إِذا تعذر حمل اللَّفْظ على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، أَو قَامَ دَلِيل على أَنه غير مُرَاد، وَعدل إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي إطلاقا أَو حملا وَكَانَ الْمجَاز متعذرا، هَل يجوز إِرَادَة الْكل وَهل يسوغ مَعَه الْحمل على الْكل؟
وَقل من تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، وَقد ذكرهَا أَبُو الْمَعَالِي، وَابْن(5/2416)
السَّمْعَانِيّ، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب فِي بَاب الْمُجْمل، لَكِن اختارا فيهمَا الْإِجْمَال عكس اختيارهما فِي الحقيقتين والحقيقة وَالْمجَاز.
فعلى قَول من قَالَ بِأَن هَذِه الْمَسْأَلَة كالحقيقة وَالْمجَاز أَعْطَاهَا حكم تِلْكَ، فَفِيهَا من الْأَحْكَام مَا فِي تِلْكَ، لَكِن يشْتَرط أَن يكون المجازان متساويين.
مِثَال ذَلِك: لَو حلف لَا يَشْتَرِي دَار زيد، وَقَامَت قرينَة على أَن المُرَاد أَنه لَا يعْقد بِنَفسِهِ وَتردد الْحَال بَين السّوم وشرى الْوَكِيل، هَل يحمل عَلَيْهِمَا، أم لَا؟ فَمن جوز الْحمل يَقُول يَحْنَث بِكُل مِنْهُمَا.
قَوْله: {الثَّانِيَة: جمع الْمُشْتَرك بِاعْتِبَار مَعَانِيه} مَبْنِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمُفْرد فِي مَعَانِيه.
وَهَذِه إِحْدَى الطّرق فِي الْمَسْأَلَة.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: وَالْأَكْثَر: جمعه بِاعْتِبَار معنييه مَبْنِيّ على الْخلاف فِي الْمُفْرد فِيهِ: إِن جَازَ سَاغَ، وَإِلَّا فَلَا.(5/2417)
وَوجه الْبناء أَن التَّثْنِيَة وَالْجمع تابعان لما يسوغ الْمُفْرد فِيهِ فَحَيْثُ جَازَ اسْتِعْمَال مُفْرد فِي معنييه، أَو مَعَانِيه جَازَ تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه، وَحَيْثُ لَا، فَلَا، فَيَقُول: عُيُون زيد وتريد بِهِ الْعين الباصرة، وَالْعين الْجَارِيَة، وَعين الْمِيزَان وَالذَّهَب، وَغَيرهَا.
وَالطَّرِيق الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال، رجح ابْن الْحَاجِب فِي " شرح الْمفصل " الْمَنْع مُطلقًا، وَحَكَاهُ عَن الْأَكْثَرين.
وَرجح ابْن مَالك الْجَوَاز مُطلقًا كَمَا فِي الحَدِيث الْأَيْدِي ثَلَاثَة، وَحَدِيث: " مَا لنا إِلَّا الأسودان "، وَاسْتعْمل الْحَرِير ذَلِك فِي المقامات فِي قَوْله:(5/2418)
( ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فانثنى بِلَا عينين)
يُرِيد الباصرة وَالذَّهَب.
وَفصل ابْن عُصْفُور بَين أَن يتَّفقَا فِي معنى التَّسْمِيَة نَحْو: الأحمران الذَّهَب والزعفران فَيجوز، أَو لَا، فَلَا يجوز كَالْعَيْنِ الباصرة وَالذَّهَب، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من النّظر.
وَقَالَ بَعضهم: يجوز، وَإِن لم يجز فِي الْمُفْرد؛ لِأَنَّهُ كَمَا سبق فِي حكم أَلْفَاظ مُتعَدِّدَة. انْتهى. وَهَذِه الطَّرِيق الثَّالِث.
تَنْبِيه: تلخص لنا فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاث طرق:
أَحدهَا: جَوَاز تَثْنِيَة الْمُشْتَرك وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه، أَو مَعَانِيه، مَبْنِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْمُفْرد فِي مَعَانِيه، وَهُوَ الَّذِي ذكره ابْن الْحَاجِب، وَالْأَكْثَر.
وَالثَّانِي: فِي جَوَاز تثنيته وَجمعه بِاعْتِبَار معنييه أَو مَعَانِيه أَقْوَال.
وَالثَّالِث: جَوَاز تثنيته وَجمعه وَإِن لم نصحح إِطْلَاق الْمُفْرد على مَعَانِيه كَمَا تقدم، وَقد تحررت الْمَسْأَلَة وَللَّه الْحَمد.(5/2419)
(قَوْله: {فصل} )
{أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة نفي الْمُسَاوَاة للْعُمُوم} نَحْو قَوْله: {هَل يستوون الْحَمد لله} [النَّحْل: 75] ، {هَل يستويان مثلا} [هود: 24] وَنَحْوه.
{وَعند الْحَنَفِيَّة} ، والمعتزلة، وَالْغَزالِيّ، والرازي، والبيضاوي، وَغَيرهم لَيْسَ للْعُمُوم، {وَيَكْفِي النَّفْي فِي شَيْء وَاحِد} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ: نفي الاسْتوَاء، وَمَا فِي مَعْنَاهُ من التَّسَاوِي والمساواة والتماثل والمماثلة وَنَحْو ذَلِك، سَوَاء فِيهِ نَفْيه فِي فعل، مثل: لَا يَسْتَوِي كَذَا وَكَذَا، أَو فِي اسْم، مثل: لَا مُسَاوَاة بَين كَذَا وَكَذَا، هَل يعم كل اسْتِوَاء، أَو لَا؟ قَولَانِ:(5/2420)
بأولهما قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وَعَلِيهِ جرى الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا، وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حنيفَة، وَأَصْحَابه، والمعتزلة، وَالْغَزالِيّ، والرازي وَأَتْبَاعه، كالبيضاوي.
وَأثر الْخلاف فِي الِاسْتِدْلَال على أَن الْمُسلم لَا يقتل بالذمي بقوله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} [الْحَشْر: 20] فَلَو قتل بِهِ لثبت استواؤهما، وَالِاسْتِدْلَال على أَن الْفَاسِق لَا يَلِي عقد النِّكَاح بقوله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} [السَّجْدَة: 18] ، إِذْ لَو قُلْنَا: يَلِي لاستوى، مَعَ الْمُؤمن الْكَامِل، وَهُوَ الْعدْل وَمن نفى الْعُمُوم فِي الْآيَتَيْنِ لَا يمْنَع قصاص الْمُؤمن بالذمي، لَا ولَايَة الْفَاسِق.
ثمَّ قَالَ: وَاعْلَم أَن مَأْخَذ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة أَن الاسْتوَاء فِي الْإِثْبَات هَل هُوَ من كل وَجه فِي اللُّغَة، أَو مدلولة لُغَة الاسْتوَاء من وَجه مَا؟ فَإِن قُلْنَا: من كل وَجه فنفيه من سلب الْعُمُوم فَلَا يكون عَاما.
وَإِن قُلْنَا: من بعض الْوُجُوه فَهُوَ من عُمُوم السَّلب فِي الحكم؛ لِأَن(5/2421)
نقيض الْإِيجَاب الْكُلِّي سلب جزئي، ونقيض الْإِيجَاب الجزئي سلب كلي، وَلَكِن كَون الاسْتوَاء فِي الْإِثْبَات عَاما من غير صِيغَة عُمُوم مَمْنُوع.
غَايَته: أَن حَقِيقَة الاسْتوَاء ثبتَتْ، وَقَول الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه نفي الاسْتوَاء أَعم من نَفْيه من كل وَجه، وَمن نَفْيه من بعض الْوُجُوه، والأعم لَا يلْزم مِنْهُ الْأَخَص مَرْدُود بِمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب وَغَيره: بِأَن ذَلِك فِي الْإِثْبَات، أما نفي الْأَعَمّ فَيلْزم مِنْهُ انْتِفَاء الْأَخَص، كنفي الْحَيَوَان نفي الْإِنْسَان، هَذَا إِذا سلمنَا أَن الاسْتوَاء عَام لَهُ جزئيات.
أما إِذا قُلْنَا حَقِيقَته وَاحِدَة، فَإِنَّهُ يلْزم من نَفيهَا نفي كل متصف بهَا.
وَقد اسْتدلَّ من نفي الْعُمُوم فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا: بِأَنَّهُ لَو عَم لم يصدق؛ إِذْ لَا بُد بَين كل شَيْئَيْنِ من مُسَاوَاة وَلَو فِي نفي مَا سواهُمَا عَنْهُمَا.
وَجَوَابه: أَنه إِنَّمَا يَنْفِي مُسَاوَاة يَصح انتفاؤها لَا كل مُسَاوَاة؛ لِأَن ذَلِك مدرك إِرَادَته بِالْعقلِ، وَقد ذكر مَعْنَاهُ ابْن الْحَاجِب، وَابْن مُفْلِح، وَغَيرهمَا.
وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: إِنَّه من بَاب الْمُجْمل؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل من كل وَجه، وَمن الْوَجْه الَّذِي قد ذكر فِي الْآيَتَيْنِ الْأَوليين، وَعَلِيهِ جرى(5/2422)
الْهِنْدِيّ إِذْ قَالَ: الْحق أَن قَوْله (يَسْتَوِي أَو لَا يَسْتَوِي) من بَاب الْمُجْمل، من بَاب المتواطئ لَا الْعَام. انْتهى.
وَقد سبق أَن ذَلِك من ذكر بعض أَفْرَاد الْعَام، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يبْقى مُجملا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَدلَالَة الِاقْتِضَاء، والإضمار عَامَّة عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَأكْثر الْمَالِكِيَّة، وَالنَّوَوِيّ} وَغَيرهم.
{وَعند القَاضِي أَيْضا} ، وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، {وَالْغَزالِيّ، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(5/2423)
والرازي، والآمدي، وَغَيرهم مجملة.
وَعند أَكثر الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَابْن حمدَان هِيَ لنفي الْإِثْم} .
اسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِمَا روى الطَّبَرَانِيّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: " إِن الله تجَاوز لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ".
وَرَوَاهُ ابْن ماجة، وَلَفظه: " إِن الله وضع "، وروى ابْن عدي: " رفع الله عَن هَذِه الْأمة ثَلَاثًا: الْخَطَأ، وَالنِّسْيَان، وَالْأَمر يكْرهُونَ عَلَيْهِ "، فَمثل(5/2424)
هَذَا يُقَال فِيهِ: مُقْتَضى الْإِضْمَار وَمُقْتَضَاهُ الْإِضْمَار ودلالته على الْمُضمر، دلَالَة إِضْمَار واقتضاء فالمضمر عَام.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَيُسمى مقتضيا؛ لِأَنَّهُ أَمر اقْتَضَاهُ النَّص لتوقف صِحَّته عَلَيْهِ، وَهُوَ بِكَسْر الضَّاد اللَّفْظ الطَّالِب للإضمار، وَبِفَتْحِهَا ذَلِك الْمُضمر نَفسه الَّذِي اقْتَضَاهُ الْكَلَام تَصْحِيحا، وَهُوَ المُرَاد هُنَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمُقْتَضِي - بِالْكَسْرِ - الْكَلَام الْمُحْتَاج للإضمار - بِالْفَتْح - هُوَ ذَلِك الْمَحْذُوف، ويعبر عَنهُ أَيْضا بالمضمر، فالمختلف فِي عُمُومه على الصَّحِيح الْمُقْتَضى - بِالْفَتْح - بِدَلِيل اسْتِدْلَال من نفى عُمُومه بِكَوْن الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ، فَلَا يجوز دَعْوَاهُ فِي الْمعَانِي، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الْمُقْتَضِي - بِالْكَسْرِ - وَهُوَ الْمَنْطُوق بِهِ الْمُحْتَاج فِي دلَالَته للإضمار، كَمَا صور بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة.
وَبِالْجُمْلَةِ فِي أصل الْمَسْأَلَة أَن الْمُحْتَاج إِلَى تَقْدِير فِي نَحْو: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} [الْمَائِدَة: 5] وَغَيرهَا من الْأَمْثِلَة، إِن دلّ دَلِيل على تَقْدِير شَيْء من المحتملات بِعَيْنِه فَذَاك سَوَاء كَانَ الْمُقدر عَاما فِي أُمُور كَثِيرَة، أَو خَاصّا بفرد، وَإِن لم يدل دَلِيل على تعْيين شَيْء، لَا عَام، وَلَا خَاص مَعَ احْتِمَال أُمُور(5/2425)
مُتعَدِّدَة، لم يتَرَجَّح بَعْضهَا فَهَل تقدر المحتملات كلهَا وَهُوَ المُرَاد بِالْعُمُومِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَو لَا فِيهِ مَذَاهِب.
وَوَجهه: أَنه لم يرد رفع الْفِعْل الْوَاقِع، بل مَا تعلق بِهِ، فاللفظ مَحْمُول عَلَيْهِ بِنَفسِهِ لَا بِدَلِيل.
احْتج بِهِ القَاضِي وَغَيره، قَالَ بعض أَصْحَابنَا مضمونه أَن مَا عَلَيْهِ اللَّفْظ بِنَفسِهِ مَعَ قرينَة عقلية فَهُوَ حَقِيقَة، أَو أَنه حَقِيقَة عرفية، لَكِن مُقْتَضَاهُ الأول، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد " و " الرَّوْضَة " أَن اللَّفْظ يَقْتَضِي ذَلِك.
وَاعْترض: لَا بُد من إِضْمَار فَهُوَ مجَاز.
رد بِالْمَنْعِ لذَلِك، ثمَّ قَوْلنَا أقرب إِلَى الْحَقِيقَة.
عورض: بِأَن بَاب الْإِضْمَار فِي الْمجَاز أولى فَكلما قل قلت مُخَالفَة الأَصْل فِيهِ فَيسلم قَوْلنَا لَو عَم اضمر من غير حَاجَة، وَلَا تجوز.(5/2426)
رد بِالْمَنْعِ فَإِن حكم الْخَطَأ عَام وَلَا زِيَادَة.
ونمنع أَن زِيَادَة حكم مَانع.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا عَن بَعضهم: التَّخْصِيص كالإضمار، وَكَذَا قَالَ ألكيا فِي الْإِضْمَار: هَل هُوَ من الْمجَاز، أم لَا؟
فِيهِ قَولَانِ كالقولين فِي الْعُمُوم الْمَخْصُوص، فَإِنَّهُ نقص الْمَعْنى عَن اللَّفْظ، والإضمار عَكسه لَيْسَ فيهمَا اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي مَوْضُوع آخر.
وَفِي " التَّمْهِيد ": لِأَن الْإِثْم لَا مزية لأمته فِيهِ على الْأُمَم؛ لِأَن النَّاسِي غير مُكَلّف؛ وَلِأَنَّهُ الْعرف نَحْو: لَيْسَ للبلد سُلْطَان لنفي الصِّفَات الَّتِي تنبغي لَهُ، وَلَا وَجه لمنع الْآمِدِيّ الْعرف فِي نَحْو: لَيْسَ للبلد سُلْطَان، وَلَا لرد غَيره بِأَنَّهُ قِيَاس فِي الْعرف، وَلَا يجوز كاللغة بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ الْقيَاس، ثمَّ من مَنعه عرفا، ثمَّ فِيهِ لُغَة خلاف سبق ذكره ابْن مُفْلِح.(5/2427)
وَكَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره فِي التَّحْرِيم الْمُضَاف إِلَى الْعين، وَنَحْو: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، يُخَالف مَا ذَكرُوهُ هُنَا، وَقَالُوا فِيهِ بِزِيَادَة الْإِضْمَار، وَإنَّهُ أولى.
وَقَالُوا أَيْضا فِي " رفع عَن أمتِي " لَا إِجْمَال فِيهِ، وَلَا إِضْمَار لظُهُوره لُغَة قبل الشَّرْع فِي نفي الْمُؤَاخَذَة، وَالْعِقَاب، وتبادره إِلَى الْفَهم، وَالْأَصْل فِيمَا تبادر أَنه حَقِيقَة لُغَة، أَو عرفا.
فَقيل لَهُم: فَلم يجب الضَّمَان؟
فَقَالُوا: لَيْسَ بعقوبة؛ لوُجُوبه على من لَا عُقُوبَة عَلَيْهِ أَو تَخْصِيصًا لعُمُوم الْخَبَر، وَالله أعلم.(5/2428)
(قَوْله: {فصل} )
مثل: {لَا آكل، أَو إِن أكلت فَعَبْدي حر، يعم مفعولاته فَيقبل تَخْصِيصه} .
الْفِعْل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول، نَحْو: وَالله لَا آكل، إِن أكلت فَعَبْدي حر يعم مفعولاته فَيقبل تَخْصِيصه.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْفِعْل الْمَنْفِيّ هَل يعم؟ حَتَّى إِذا وَقع فِي عين نَحْو: وَالله لَا آكل، أَو لَا أضْرب، أَولا أقوم، أَو مَا أكلت، أَو مَا قعدت، وَنَحْو ذَلِك وَنوى تَخْصِيصه بِشَيْء يقبل، أَو لَا يعلم فَلَا يقبل.
ينظر: إِمَّا أَن يكون الْفِعْل مُتَعَدِّيا، أَو لَازِما، فَالْأول هُوَ الَّذِي ينصب فِيهِ الْخلاف عِنْد الْأَكْثَر، فَإِذا نفي وَلم يذكر لَهُ مفعول بِهِ فَفِيهِ مذهبان:
أَحدهمَا: قَوْله أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَأبي يُوسُف إِنَّه يعم.(5/2429)
وَالْمذهب الثَّانِي: أَنه لَا يعم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة والقرطبي والرازي.
ومنشأ الْخلاف [أَن] الْمَنْفِيّ الْأَفْرَاد، فَيقبل إِرَادَة التَّخْصِيص بِبَعْض المفاعيل بِهِ لعمومه، أَو الْمَنْفِيّ الْمَاهِيّة وَلَا تعدد فِيهَا فَلَا عُمُوم.
وَالأَصَح هُوَ الأول.
قَوْله: {فَلَو نوى مَأْكُولا معينا قبل بَاطِنا عِنْد أَصْحَابنَا والمالكية وَالشَّافِعِيَّة.
وَعند الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْبَنَّا} ، والقرطبي، والرازي، {لَا يقبل بَاطِنا} .
قَالَ الْبرمَاوِيّ لما ذكر الْمَسْأَلَة، وَالْخلاف فِيهَا قَالَ: وبنوا عَلَيْهِ أَن الْحَالِف إِذا قَالَ: إِن تزوجت، أَو أكلت، أَو شربت، أَو سكنت، أَو لبست، وَنوى شَيْئا دون شَيْء، هَل يقبل أَو لَا يقبل؟ - على(5/2430)
الْخلاف - فَإِن ذكر الْمَفْعُول بِهِ، ك لَا آكل تَمرا، أَو لَا أضْرب زيدا، فَلَا خلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي عُمُومه وقبوله التَّخْصِيص. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لَو نوى مَأْكُولا معينا لم يَحْنَث بِغَيْرِهِ بَاطِنا عِنْد أَصْحَابنَا، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَهل يقبل حكما - كَقَوْل مَالك، وَأبي يُوسُف، وَمُحَمّد، أم لَا؟ كَقَوْل الشَّافِعِيَّة.
فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَعند ابْن الْبَنَّا من أَصْحَابنَا لَا يقبل بَاطِنا وفَاقا للحنفية، ثمَّ قَالَ: لنا عُمُومه، وإطلاقه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأكل، وَلَا يعقل إِلَّا بِهِ فَثَبت بِهِ حكمه، وَكَقَوْلِه: لَا آكل أكلا.
وَفرق الْحَنَفِيَّة بِأَن أكلا يدل على التَّوْحِيد.
رد: هُوَ تَأْكِيد، فالواحد وَالْجمع سَوَاء.(5/2431)
وَاحْتج القَاضِي بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء فِيهِ، فَكَذَا تَخْصِيصه.
قَالُوا: الْمَأْكُول لم يلفظ بِهِ فَلَا عُمُوم كالزمان وَالْمَكَان.
رد: الحكم وَاحِد عندنَا، وَعند الْمَالِكِيَّة وَعنهُ قَوْلَيْنِ، ويعم للزمان، وَالْمَكَان عندنَا، وَعند الْمَالِكِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَيتَوَجَّهُ احْتِمَال بِالْفرقِ، كَقَوْل الشَّافِعِيَّة، وَجزم بِهِ الْآمِدِيّ لِأَنَّهُمَا لَا يدل عَلَيْهِمَا اللَّفْظ بل من ضَرُورَة الْفِعْل بِخِلَاف الْمَأْكُول.
قَالُوا: الْأكل مُطلق كلي لَا يشْعر بالمخصص فَلَا يَصح تَفْسِيره بِهِ.
رد: الْكُلِّي غير مُرَاد لاستحالته خَارِجا، بل الْمُقَيد المطابق لَهُ؛ وَلِهَذَا يَحْنَث بِهِ إِجْمَاعًا.
قَوْله: {فَلَو زَاد فَقَالَ لَحْمًا مثلا وَنوى معينا قبل عندنَا} ، وَهُوَ ظَاهر مَا ذكر عَن غَيرنَا، قَالَه ابْن مُفْلِح، {و} قَالَه {الْحَنَفِيَّة} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا اتِّفَاقًا.(5/2432)
وخرجه الْحلْوانِي من أَصْحَابنَا على رِوَايَتَيْنِ بَاطِنا، وَذكر غَيره عَن ابْن الْبَنَّا: لَا يقبل. قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ، وَذكر بَعضهم: يقبل حكما على الْأَصَح عَن أَحْمد.
قَوْله: {تَنْبِيه: علم من ذَلِك} ، يَعْنِي مَا تقدم {أَن الْعَام فِي شَيْء عَام فِي متعلقاته، قَالَه الْعلمَاء إِلَّا من شَذَّ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقد عرف من ذَلِك أَن الْعَام فِي شَيْء عَام فِي متعلقاته كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين.
قَالَ أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] ظَاهرهَا على الْعُمُوم، أَن من وَقع عَلَيْهِ اسْم ولد فَلهُ مَا فرض الله، فَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمعبر عَن الْكتاب إِن الْآيَة إِنَّمَا قصدت الْمُسلم، لَا الْكَافِر.
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: سَمَّاهُ عَاما وَهُوَ مُطلق فِي الْأَحْوَال يعمها على الْبَدَل، وَمن أَخذ بِهَذَا لم يَأْخُذ بِمَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر لفظ الْقُرْآن، بل بِمَا ظهر لَهُ مِمَّا سكت عَنهُ الْقُرْآن.(5/2433)
وَقَالَ فِي: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] عَامَّة فيهم، مُطلقَة فِي أَحْوَالهم لَا يدل عَلَيْهَا بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، فَإِذا جَاءَت السّنة بِحكم لم يكن مُخَالفا لظَاهِر لفظ الْقُرْآن، بل لما لم يتَعَرَّض لَهُ.
وَقَالَ: وَاحْتج أَصْحَابنَا كَالْقَاضِي، وَأبي الْخطاب، وَغَيرهم من الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة بِعُمُوم قَوْله: " لَا وَصِيَّة لوَارث " فِي وَصِيَّة الْقَاتِل وَفِي وَصِيَّة الْمُمَيز، وَفِيه نظر.
وَاحْتج جمَاعَة على الشُّفْعَة للذِّمِّيّ على الْمُسلم بقوله: " الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم ".
وَأجَاب جمَاعَة من أَصْحَابنَا: إِنَّمَا هُوَ عَام فِي الْأَمْلَاك، وَالله أعلم.(5/2434)
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: إِذا قَالَ: إِن أكلت، فَهُوَ مثل لَا أكلت؛ لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط تعم، كالنفي فَمن ثمَّ جَمعنَا بَينهمَا؛ تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهمَا، وَإِن كَانَ التَّاج السُّبْكِيّ جعل ذَلِك ضَعِيفا فِي " جمع الْجَوَامِع "؛ إِذْ قَالَ: لَا أكلت، قيل: وَإِن أكلت؛ لِأَنَّهُ يحمل كَلَام من قَالَ: النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط للْعُمُوم البدلي.
وَقد تقدم رد ذَلِك، وَأَن المُرَاد الْعُمُوم الشمولي.
الثَّانِي: لَا يخْتَص جَوَاز التَّخْصِيص بِالنِّيَّةِ بِالْعَام، بل يجْرِي فِي تَقْيِيد الْمُطلق بِالنِّيَّةِ، وَلذَلِك لما قَالَ الْحَنَفِيَّة فِي (لَا أكلت) إِنَّه لَا عُمُوم فِيهِ، بل مُطلق، والتخصيص فرع الْعُمُوم.
اعْترض عَلَيْهِم بِأَنَّهُ يصير بِالنِّيَّةِ تقييدا فَلم يمنعوه.
الثَّالِث: هَذِه الْمَسْأَلَة هِيَ مَسْأَلَة تَخْصِيص الْعُمُوم بِالنِّيَّةِ، وَقد ذكر الْأَصْحَاب حكمهَا فِي أول بَاب جَامع الْأَيْمَان، وَذكروا الْخلاف فِي ذَلِك.(5/2435)
(قَوْله: {فصل} )
{فعله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يعم أقسامه وجهاته} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْفِعْل الْوَاقِع لَا يعم أقسامه وجهاته كصلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخل الْكَعْبَة لَا يعم الْفَرْض وَالنَّفْل فَلَا يحْتَج بِهِ على جوازهما فِيهَا، وَقَول الرَّاوِي: صلى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الشَّفق لَا يعم الشفقين إِلَّا عِنْد من حمل الْمُشْتَرك على معنييه.
قَوْله: {وتكرر الْجمع مِنْهُ مَبْنِيّ على (كَانَ) } هَل هِيَ لدوام الْفِعْل وتكراره، أَوله عرفا، أَو لَا مُطلقًا على أَقْوَال.(5/2436)
وَالَّذِي قَالَه القَاضِي وَأَصْحَابه: إِنَّهَا لدوام الْفِعْل وتكراره، وَذكر القَاضِي أَيْضا فِي " الْكِفَايَة ": هَل تفِيد التّكْرَار؟ فِيهِ قَولَانِ.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " وَأَتْبَاعه فِي اعْتِبَار التّكْرَار للْعَادَة (كَانَ) لدوام الْفِعْل وتكراره.
{وَاخْتَارَهُ} القَاضِي أَبُو بكر ابْن {الباقلاني، وَأَبُو الطّيب، والآمدي وَغَيرهم} ؛ لِأَنَّهُ الْعرف كَقَوْل الْقَائِل: كَانَ فلَان يكرم الضيفان، وَقد قَالَ الله تَعَالَى عَن إِسْمَاعِيل: {وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة} [مَرْيَم: 55] أَي: كَانَ يداوم على ذَلِك.
وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَخَوَّلنَا بِالْمَوْعِظَةِ " فَالْمُرَاد هُنَا الِاسْتِمْرَار.(5/2437)
وَمِنْه: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا سلم سلم ثَلَاثًا، وَإِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا.
وَمِنْه: كَانَ يعالج من التَّنْزِيل شدَّة. فَهِيَ كَذَلِك تفِيد الِاسْتِمْرَار والتكرار.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَهِي لمُطلق الْفِعْل فِي الْمَاضِي كَسَائِر الْأَفْعَال تكَرر، أَو انْقَطع أَو لَا، فَلهَذَا قَالَ جمَاعَة: يَصح وَيصدق على وجود الله تَعَالَى، كَانَ كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " كَانَ الله وَلَا شَيْء قبله "، وَفِي لفظ: " شَيْء مَعَه ".
وَمِنْه جمَاعَة لشعوره بالتقضي والعدم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّ المُرَاد عرفا، نَحْو: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} [النِّسَاء: 96] أَي: لم يزل، قَالَ بَعضهم: للقرينة.
وَزعم الْجَوْهَرِي زيادتها.
وَقَالَ فِي " الْقَامُوس ": وَتَكون (كَانَ) زَائِدَة.
وَقَالَ عبد الْجَبَّار: إِنَّهَا تَقْتَضِي التّكْرَار عرفا لَا لُغَة.(5/2438)
قلت: وَهُوَ قوي جدا.
وَقَالَهُ الرَّازِيّ، وَالنَّوَوِيّ - فِي " شرح مُسلم " - وَقَالَ: عَلَيْهِ أَكثر الْمُحَقِّقين من الْأُصُولِيِّينَ فَهِيَ تفِيد مرّة.
فَإِن دلّ دَلِيل على التّكْرَار من خَارج عمل بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالتَّحْقِيق مَا قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد: إِنَّهَا تدل على التّكْرَار كثيرا، كَمَا يُقَال: كَانَ فلَان يقري الضَّيْف، وَمِنْه كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجود النَّاس. الحَدِيث.
ولمجرد الْفِعْل قَلِيلا من غير تكَرر، نَحْو: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقف بِعَرَفَات عِنْد الصخرات، وَقَول عَائِشَة: كنت أطيب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحلِّهِ وَحرمه.(5/2439)
وَلم يَقع وُقُوفه بِعَرَفَة وإحرامه وَعَائِشَة مَعَه إِلَّا مرّة وَاحِدَة.
وَمِنْه: مَا فِي سنَن أبي دَاوُد بِسَنَد صَحِيح عَن عَائِشَة، وَهِي تذكر شَأْن خَيْبَر: كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يبْعَث عبد الله بن رَوَاحَة إِلَى يهود خَيْبَر فيخرص النّخل. فَهَذَا لَا يُمكن فِيهِ التّكْرَار؛ لِأَن فتح خَيْبَر كَانَ سنة سبع، وَعبد الله بن رَوَاحَة قتل فِي غَزْوَة مُؤْتَة سنة ثَمَان.
وَاعْلَم أَن هَذَا الْخلاف غير خلاف النُّحَاة فِي أَن (كَانَ) هَل تدل على الِانْقِطَاع أَو لَا؟ اخْتِيَار ابْن مَالك الثَّانِي، وَرجح أَبُو حَيَّان الأول.(5/2440)
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه غَيره؛ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من التّكْرَار عدم الِانْقِطَاع فقد يتَكَرَّر الشَّيْء ثمَّ يَنْقَطِع نعم يلْزم بِالضَّرُورَةِ فِي عدم الِانْقِطَاع التكرر، لَكِن لَا قَائِل بِهِ.
قَوْله: {وَأما الْأمة فَلم تدخل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَأما الْأمة فَلم تدخل بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بل بِدَلِيل قَوْله أَو قرينَة، نَحْو: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، و " خُذُوا عني مَنَاسِككُم "، ووقوعه بعد إِجْمَال، أَو إِطْلَاق، أَو عُمُوم قصد بَيَانه، أَو بالتأسي بِهِ، أَو بِالْقِيَاسِ على فعله.
وَاعْترض بِعُمُومِهِ، نَحْو: (سَهَا فَسجدَ) ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أما أَنا فأفيض المَاء ".(5/2441)
رد بِالْفَاءِ فَإِنَّهَا للسَّبَبِيَّة، وَبِمَا سبق.(5/2442)
(قَوْله: {فصل} )
نَحْو {قَول صَحَابِيّ: نهى عَن بيع الْغرَر، وَالْمُخَابَرَة، وَقضى بِالشُّفْعَة للْجَار} فِيمَا لم يقسم، {يعم كل غرر، ومخابرة، وجار} عندنَا وَعند جمَاعَة مِنْهُم: الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب وَشَيْخه الأبياري، وَابْن الساعاتي فِي " البديع ".
{وَقَالَ الْأَكْثَر: لَا يعم} ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُم: الباقلاني، والقفال الشَّاشِي، والأستاذ أَبُو مَنْصُور، وَأَبُو حَامِد،(5/2443)
وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْمَعَالِي، وَابْن الْقشيرِي، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَغَيرهم، فَقَالُوا: يحْتَمل فعلا، وجارا خَاصّا، أَو سمع صِيغَة غير عَامَّة فَتوهم الْعُمُوم، وَالْحجّة هِيَ المحكية لَا الْحِكَايَة.
رد ذَلِك بِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر.
وَاسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بِإِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي رجوعهم إِلَيْهِ، وعملهم بِهِ، كَمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد.
وَلِأَنَّهُ عدل عَارِف باللغة وَالْمعْنَى، فَالظَّاهِر أَنه لم ينْقل الْعُمُوم إِلَّا بعد ظُهُوره، وَظن صدقه مُوجب لاتباعه لَهُ.
وَيَأْتِي: هَل يعم الحكم الْمُعَلق على عِلّة، فِي الْقيَاس فِي قَوْله: فصل: النَّص على عِلّة حكم الأَصْل تَكْفِي فِي التَّعَدِّي، قبيل القوادح بِيَسِير.(5/2444)
(قَوْله: {فصل} )
{أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم الْمَفْهُوم مُطلقًا عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق يجوز تَخْصِيصه بِمَا يخصص بِهِ الْعَام وَرفع كُله تَخْصِيص أَيْضا} لإِفَادَة اللَّفْظ فِي منطوقه وَمَفْهُومه فَهُوَ كبعض الْعَام.
وَقيل لأبي الْخطاب، وَغَيره من أَصْحَابنَا: لَو كَانَ حجَّة لما خص؛ لِأَنَّهُ مستنبط من اللَّفْظ، كالعلة.
فَأَجَابُوا: بِالْمَنْعِ، وَأَن اللَّفْظ بِنَفسِهِ دلّ عَلَيْهِ بِمُقْتَضى اللُّغَة فَخص كالنطق، وَقد قَالَ أَحْمد فِي الْمحرم: يقتل السَّبع وَالذِّئْب، والغراب، وَنَحْوه، وَاحْتج بقوله: {لَا تقتلُوا الصَّيْد} [الْمَائِدَة: 95] الْآيَة.
لَكِن مَفْهُوم الْمُوَافقَة هَل يعمه النُّطْق؟ فِيهِ خلاف يَأْتِي.(5/2445)
{وَاخْتَارَ ابْن عقيل، والموفق، وَالشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَالْغَزالِيّ، وَغَيرهم: لَا يعم، وتكفي الْمُخَالفَة فِي صُورَة مَا} ، اخْتَارَهُ الشَّيْخ موفق الدّين، ذكره فِي مَسْأَلَة الْقلَّتَيْنِ فِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة: لَا يعم، وَيَكْفِي الْمُخَالفَة فِي صُورَة فَإِن الْجَارِي لَا ينجس إِلَّا بالتغيير خلافًا للمشهور عَن أَحْمد وَأَصْحَابه، وَاخْتَارَ بعض الْمُتَأَخِّرين من الشَّافِعِيَّة لَا يعم، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا، وَقَالَ: لِأَنَّهُ يدل بطرِيق التَّعْلِيل، والتخصيص، وَالْحكم إِذا ثَبت بعلة وانتفت جَازَ أَن تخلفها فِي بعض الصُّور، أَو كلهَا عِلّة أُخْرَى، وَقصد التَّخْصِيص يحصل بالتفصيل.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ شَارِح " الورقات ": الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، والأصوليين أَنه لَا عُمُوم للمفهوم، سَوَاء كَانَ مَفْهُوم مُوَافقَة، أَو مُخَالفَة؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تُوصَف الدّلَالَة بِالْعُمُومِ، إِذْ لَو تناولت غَيرهَا، والغير هُنَا لَيْسَ من صُورَة الْمَفْهُوم، وَلَا من صُورَة الْمَنْطُوق؛ وَلِأَن الْعُمُوم من عوارض النُّطْق. انْتهى.
{وَقيل: لَا يتَحَقَّق الْخلاف} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الْخلاف فِي أَن الْمَفْهُوم لَهُ عُمُوم، لَفْظِي؛ لِأَن مفهومي الْمُوَافقَة والمخالفة عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق بِهِ بِلَا خلاف،(5/2446)
وَمن نفي الْعُمُوم - كالغزالي - أَرَادَ أَن الْعُمُوم لم يثبت بالمنطوق بِهِ بِغَيْر توَسط الْمَفْهُوم، وَلَا خلاف فِيهِ أَيْضا. كَذَا ذكره الْآمِدِيّ، وَمن تبعه، وَكَذَا قَالَ صَاحب " الْمَحْصُول "، إِن عني أَنه لَا يُسمى عَاما لفظيا فقريب، وَإِن عني أَنه لَا يُفِيد انْتِفَاء عُمُوم الحكم، فدليل كَون الْمَفْهُوم حجَّة يَنْفِيه. انْتهى.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: قَالَ الْآمِدِيّ، والرازي: الْخلاف فِي الْمَفْهُوم هَل لَهُ عُمُوم لَا يتَحَقَّق؟ لِأَن مفهومي الْمُوَافقَة والمخالفة عَام فِيمَا سوى الْمَنْطُوق، وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة " يَقْتَضِي عُمُومه سلب الحكم عَن معلوفة الْغنم دون غَيرهَا على الصَّحِيح، فَمَتَى جَعَلْنَاهُ حجَّة لزم انْتِفَاء الحكم عَن جملَة صور الْمُخَالفَة، وَإِلَّا لم يكن للتخصيص فَائِدَة، وتأولوا ذَلِك على أَن الْمُخَالفين أَرَادوا أَنه لم يثبت بالمنطوق وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.(5/2447)
قيل: قَوْلهم الْمَفْهُوم لَا عُمُوم لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظ حَتَّى يعم لَا يُرِيدُونَ بِهِ سلب الحكم عَن جَمِيع المعلوفة؛ لِأَنَّهُ خلاف مَذْهَب الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ، وَلَكنهُمْ قد يذكرُونَهُ فِي معرض الْبَحْث.
فقد قَالُوا: دلَالَة الِاقْتِضَاء تجوز رفع الْخَطَأ، أَي: حكمه، لَا يعم حكم الْإِثْم وَالْغُرْم - مثلا - تقليلا للإضمار فَلذَلِك يُقَال فِي الْمَفْهُوم: هُوَ حجَّة لضَرُورَة ظُهُور فَائِدَة التَّقْيِيد بِالصّفةِ، وَيَكْفِي فِي الْفَائِدَة انْتِفَاء الحكم عَن صُورَة وَاحِدَة لتوقف بَيَانهَا على دَلِيل آخر، وَإِن لم يقل بذلك أهل الْمَفْهُوم، لكنه بحث مُتَّجه.
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَلقَائِل أَن يَقُول الْحَال فِي هَذِه منقسمة بِحَيْثُ يكون مَحل النُّطْق إِثْبَاتًا جزئيا فَالْحكم مُنْتَفٍ فِي جملَة صور الْمُخَالفَة، وَحَيْثُ يكون مَحل النُّطْق نفيا لم يلْزم أَنه يثبت الحكم فِي جملَة صور الْمُخَالفَة؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْمَنْطُوق إِثْبَاتًا لزم نفي الحكم؛ إِذا انْتَفَى عَن كل أَفْرَاد الْمُخَالف؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يدل على تنَاول الحكم لكل فَرد من أَفْرَاد الْمُخَالف، أَو لَا، فَإِن دلّ فَهُوَ المُرَاد، وَإِن لم يدل فَهُوَ دَال حِينَئِذٍ على نفي الحكم عَن مُسَمّى الْمُخَالف فَيلْزم انتفاؤه عَن كل فَرد ضَرُورَة أَنه يثبت النَّفْي للمسمى وَمَا يثبت - أَعنِي النَّفْي عَن الْأَعَمّ - يثبت لجملة أَفْرَاده.
وَهَذَا كتعليق الْوُجُوب بسائمة الْغنم فَإِن مَحل النُّطْق إِثْبَات فَيَقْتَضِي نفي(5/2448)
وجوب الزَّكَاة عَن المعلوفة، فَإِذا كَانَ بِصفة للْعُمُوم فَذَاك، وَإِلَّا فَهُوَ سلب عَن مُسَمّى المعلوفة فَيلْزم انتفا الْوُجُوب عَن كل أَفْرَاد المعلوفة لما بَيناهُ أَن المسلوب عَن الْأَعَمّ مسلوب عَن كل أَفْرَاده.
وَأما إِن كَانَ مَحل النُّطْق نفيا، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ، كنهيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم، ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاء الحكم عَن الْمُخَالف وَهُوَ النَّفْي فَيكون الثَّابِت للمخالف إِثْبَاتًا، فَإِن مُطلق الحكم فِي السّوم لَيْسَ يلْزم مِنْهُ الْعُمُوم، فَإِن الْعُمُوم لَهُ صِيغ مَخْصُوصَة، لَا كل صِيغَة، فَإِذا كَانَ بعض الْأَلْفَاظ المنطوقة بهَا لَا تدل على الْعُمُوم إِذا كَانَت فِي طرف الْإِثْبَات، فَمَا ظَنك بِمَا لَا لفظ فِيهِ أصلا فمدعي الْعُمُوم لَا بُد لَهُ من دَلِيل، وَقَول الْقَائِل: وَمَتى جعلنَا حجَّة لزم انْتِفَاء الحكم فِي جملَة الصُّور، وَإِلَّا لم يكن للتخصيص فَائِدَة مَمْنُوع؛ لأَنا إِذا علقنا الحكم بِالْمُسَمّى الْمُطلق كَانَت فَائِدَة الْمَفْهُوم حَاصِلَة فِي بعض الصُّور ضَرُورَة، فَلَا يَخْلُو الْمَفْهُوم من فَائِدَة، وَفِي مثل هَذَا يتَوَجَّه كَلَام الْغَزالِيّ. انْتهى.(5/2449)
(قَوْله: {فصل} )
لَا يلْزم من إِضْمَار شَيْء فِي الْمَعْطُوف أَن يضمر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، ذكره أَبُو الْخطاب، وَابْن حمدَان، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، والمالكية، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم خلافًا للحنفية، وَالْقَاضِي، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَابْن الْحَاجِب، وَغَيرهم} .
وَهَذِه التَّرْجَمَة الَّتِي ترجمنا بهَا الْمَسْأَلَة هِيَ تَرْجَمَة أبي الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ".(5/2450)
وترجمها الرَّازِيّ، والبيضاوي، والهندي، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَغَيرهم بقَوْلهمْ: عطف الْخَاص على الْعَام لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ.
وترجمها ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بقوله: هَل يلْزم أَن يضمر فِي الْمَعْطُوف مَا يُمكن مِمَّا فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، وَإِذا لزم وَلم يضمر فِي الْمَعْطُوف خَاص يلْزم أَن يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كَذَلِك.
وَمثل الْفَرِيقَانِ لهَذِهِ الْمَسْأَلَة بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ: " لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده ".
وَالْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَشْهُور بَين الْعلمَاء مَعَ الِاتِّفَاق على أَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي للْعُمُوم.
فالحنفية وَمن تَابعهمْ يقدرُونَ تتميما للجملة الثَّانِيَة لفظا عَاما تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي مُتَعَلّقه فَيكون على حد قَوْله تَعَالَى: {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون} [الْبَقَرَة: 285] فَيقدر: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر؛ إِذْ لَو قدر خَاصّا، وَهُوَ وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي(5/2451)
لزم التخالف بَين المتعاطفين، وَأَن يكون تَقْديرا بِلَا دَلِيل بِخِلَاف مَا لَو قدر عَاما فَإِن الدَّلِيل دلّ عَلَيْهِ من الْمُصَرّح بِهِ فِي الْجُمْلَة الَّتِي قبلهَا، وَحِينَئِذٍ فيخصص الْعُمُوم فِي الثَّانِيَة بالحربي بِدَلِيل آخر، وَهُوَ الِاتِّفَاق على أَن الْمعَاهد لَا يقتل بالحربي، وَيقتل بالمعاهد وَالذِّمِّيّ.
قَالُوا: وَإِذا تقرر هَذَا وَجب أَن يخصص الْعَام الْمَذْكُور أَولا؛ ليتساويا فَيصير لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر حَرْبِيّ.
وَأما أَصْحَابنَا وَغَيرهم فَإِذا قدرُوا فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة فَإِنَّمَا يقدرُونَ خَاصّا فَيَقُولُونَ: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي؛ لِأَن التَّقْدِير إِنَّمَا هُوَ بِمَا تنْدَفع بِهِ الْحَاجة بِلَا زِيَادَة، وَفِي التَّقْدِير بحربي كِفَايَة، وَلَا يضر تخَالفه مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي ذَلِك؛ إِذْ لَا يشْتَرط إِلَّا اشتراكهما فِي أصل الحكم، وَهُوَ هُنَا منع الْقَتْل بِمَا يذكر، أَو بِمَا يقوم الدَّلِيل عَلَيْهِ لَا فِي كل الْأَحْوَال كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن أَحَق بردهن} [الْبَقَرَة: 228] فَإِنَّهُ مُخْتَصّ بالرجعيات، وَإِن تقدم المطلقات بِالْعُمُومِ.(5/2452)
{وَقيل بِالْوَقْفِ} فِي الْمَسْأَلَة؛ لتعارض الْأَدِلَّة.
وَقيل: {إِن قيد بِقَيْد غير قيد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَلَا يضمر فِيهِ، وَإِن أطلق أضمر فِيهِ} ، وَهَذَا قَالَه أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ".
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين: {إِنَّمَا يخصص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِمَا فِي الْمَعْطُوف من الْخُصُوص إِذا كَانَ بِخُصُوص الْمَادَّة كالحديث} ، لَا نَحْو: (اضْرِب زيدا وعمرا قَائِما فِي الدَّار) ، وَلأَجل ذَلِك عيب على من ترْجم هَذِه الْمَسْأَلَة - كالآمدي - بِأَن الْمَعْطُوف على الْعَام هَل يَقْتَضِي الْعُمُوم فِي الْمَعْطُوف؟
فَإِن هَذَا شَامِل لما لَا خلاف فِيهِ، وَهُوَ مَا لَو قَالَ: وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بحربي فَلَا يسمع أحدا أَن يَقُول: باقتضاء الْعَطف على الْعَام هُنَا الْعُمُوم مَعَ كَون الْمَعْطُوف خَاصّا، وَلَا نَحن نقُول فِيمَا إِذا قدر عَام أَنه خَاص بِلَا دَلِيل خصصه، إِنَّمَا الْمَقْصُود بِالْمَسْأَلَة أَن إِحْدَى الجملتين إِذا عطف على الْأُخْرَى وَكَانَت الثَّانِيَة تَقْتَضِي إضمارا يَسْتَقِيم، وَكَانَ نَظِيره فِي الْجُمْلَة الأولى عَاما هَل يجب أَن يُسَاوِيه فِي عُمُومه فيضمر عَام، أَو لَا؟ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.(5/2453)
وَلذَلِك لما رأى ابْن الْحَاجِب التَّرْجَمَة بذلك مختلة عبر عَنْهَا بقوله مَسْأَلَة قَالَ الْحَنَفِيَّة: مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ... الحَدِيث.
وَمِنْهُم من يصحح التَّرْجَمَة بالْعَطْف على الْعَام، وَأَن هَذَا خرج مخرج اللقب على الْمَسْأَلَة لَا لمراعاة قيودها.
وَترْجم الرَّازِيّ، والبيضاوي، والهندي بعطف الْخَاص على الْعَام لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، فَإِن (بِكَافِر) فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة مُخَصص بالحربي، فَهَل يكون تَخْصِيصًا للعام الأول، وَيكون التَّقْدِير: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر حَرْبِيّ، أَي: بل يقتل بالذمي، أَو هُوَ بَاقٍ على عُمُومه وَلَا يقْدَح عطف الْخَاص عَلَيْهِ.
الأولى قَول الْحَنَفِيَّة، وَالثَّانيَِة قَول الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم.
وَلَكِن هَذَا يَشْمَل مَا لَو صرح فِي الثَّانِيَة بحربي من بَاب أولى، وَلَا يضر ذَلِك فِي التَّصْوِير إِلَّا أَنه يخرج عَن مُلَاحظَة الْمُقدر: هَل يقدر عَاما، أَو خَاصّا؟
وَمِمَّا يضعف قَوْلهم أَن كَون الْحَرْبِيّ مهدرا من الْمَعْلُوم من الدّين(5/2454)
بِالضَّرُورَةِ فَلَا يتَوَهَّم أحد قتل مُسلم بِهِ فَحمل الْكَافِر فِي " لَا يقتل مُسلم بِكَافِر " عَلَيْهِ ضَعِيف لعدم فَائِدَته.
على أَن تَرْجَمَة الْمَسْأَلَة بالمعطوف على كل حَال فِيهِ نظر؛ لِأَن الْمَعْطُوف فِي الحَدِيث فِي الْحَقِيقَة هُوَ (ذُو عهد) على النَّائِب عَن الْفَاعِل فِي (يقتل) وَهُوَ مُسلم، إِلَّا أَن يقدر بعده مجرور بباء ليقابل بِكَافِر فِي الْجُمْلَة الأولى فَيكون من عطف معمولين على معمولي عَامل وَهُوَ جَائِز قطعا، لَكِن فِيهِ على كل حَال إِيهَام؛ لأَنا لَا نعلم مَا المُرَاد بالمعطوف أَو الْمَجْرُور.
نعم، جمع من الشَّافِعِيَّة وَافق الْحَنَفِيَّة على أَن مدعاهم فِي الْمَسْأَلَة أرجح، وَكَذَا ابْن الْحَاجِب صرح بموافقتهم، وَاسْتدلَّ لَهُم وَأجَاب عَن أَدِلَّة غَيرهم وَإِن لم يكن من مذْهبه قتل الْمُسلم بالكافر إِلَّا أَنه يَقُول: التَّخْصِيص طرق الْعَام الأول بِدَلِيل من خَارج، وَالْعَام الثَّانِي كَذَلِك.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب قوم من أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْجُمْلَة الثَّانِيَة كَلَام تَامّ لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير خَاص، وَلَا عَام، وَأَن الْمَعْنى النَّهْي عَن قتل الْمعَاهد مَا دَامَ فِي عَهده، فالقيد فِي منع قَتله كَونه فِي عَهده والفائدة حَاصِلَة بذلك.(5/2455)
وَذكر الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة فِي " كِفَايَة التَّجْرِيد ": فِي الحَدِيث تقديرين آخَرين غير تقديرهم الْمَشْهُور:
أَحدهمَا: أَنه لَا حذف فِيهِ، بل على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَالْأَصْل لَا يقتل مُسلم وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر.
وَالثَّانِي: أَن ذَا عهد مُبْتَدأ، وَفِي عَهده خَبره، وَالْوَاو للْحَال، أَي: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَالْحَال أَنه لَيْسَ ذَا عهد فِي عَهده، ورد من وَجْهَيْن.(5/2456)
(قَوْله: {فصل} )
القِران بَين شَيْئَيْنِ لفظا لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَينهمَا حكما فِي غير الْمَذْكُور إِلَّا بِدَلِيل من خَارج، عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة} ، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن كل الْأَصْحَاب.
وَذَلِكَ مثل قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَلَا يغْتَسل فِيهِ من جَنَابَة "؛ لِأَن الأَصْل عدم الشّركَة.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَا يلْزم من تنجيسه بالبول تنجيسه بالاغتسال.
وَمن الدَّلِيل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {كلوا من ثمره إِذا أثمر وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} [الْأَنْعَام: 141] فعطف ... ... ... ... ... ... ... ...(5/2457)
وَاجِبا على مُبَاح؛ لِأَن الأَصْل عدم الشّركَة ودليلها.
{وَخَالف أَبُو يُوسُف، والمزني، والحلواني، وَالْقَاضِي أَيْضا} ؛ لِأَن الْعَطف يَقْتَضِي الْمُشَاركَة، نَحْو: أقِيمُوا الصَّلَاة، وَآتوا الزَّكَاة فَلذَلِك لَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الصَّغِير؛ لِأَنَّهُ لَو أُرِيد دُخُوله فِي الزَّكَاة لَكَانَ فِيهِ عطف وَاجِب على مَنْدُوب؛ لِأَن الصَّلَاة عَلَيْهِ مَنْدُوبَة اتِّفَاقًا.
وَضعف بِأَن الأَصْل فِي اشْتِرَاك الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يذكر لَا فِيمَا سواهُ من الْأُمُور الخارجية وَقد أَجمعُوا على أَن اللَّفْظَيْنِ العامين إِذا عطف أَحدهمَا على الآخر، وَخص أَحدهمَا لَا يَقْتَضِي تَخْصِيص الآخر.
وَاسْتدلَّ لهَذَا الْمَذْهَب أَيْضا بقول الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: (وَالله لأقتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة) .(5/2458)
وَاسْتدلَّ ابْن عَبَّاس لوُجُوب الْعمرَة بِأَنَّهَا قرينَة الْحَج فِي كتاب الله.
رد: لدَلِيل وقرينته فِي الْأَمر بهَا.
وَاسْتدلَّ القَاضِي بقوله تَعَالَى: {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء} [النِّسَاء: 43] قَالَ: فعطف اللَّمْس على الْغَائِط مُوجب للْوُضُوء، قَالَ: وخصص أَحْمد بِالْقَرِينَةِ فَذكر قَوْله فِي آيَة النَّجْوَى، وَقَوله: {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} [الْبَقَرَة: 282] إِذا أَمن فَلَا بَأْس. انْظُر إِلَى آخر الْآيَة.
وَاخْتلف كَلَام أبي يعلى الصَّغِير وَغَيره.(5/2459)
(قَوْله: {فصل} )
أَحْمد، وَأكْثر أَصْحَابه، وَالْحَنَفِيَّة، والمالكية الْخطاب الْخَاص بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} [المزمل: 1] وَنَحْوه عَام للْأمة إِلَّا بِدَلِيل يَخُصُّهُ} .
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} [التَّحْرِيم: 1] ، وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ على مَا يؤول إِلَيْهِ تَفْصِيل لَهُ.(5/2460)
فعلى هَذَا - وَهُوَ القَوْل بالشمول - يَقُولُونَ: إِذا قَالَ يَا أَيهَا النَّبِي للْأمة لَا يَقُولُونَ إِنَّه باللغة بل للْعُرْف فِي مثله حَتَّى لَو قَامَ دَلِيل على خُرُوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ذَلِك كَانَ من بَاب الْعَام الْمَخْصُوص، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُم داخلون بِدَلِيل آخر، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مَحل النزاع فيتحد الْقَوْلَانِ.
{و} قَالَ {التَّمِيمِي، وَأَبُو الْخطاب، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والأشعرية} ، والمعتزلة، وَغَيرهم: {لَا يعمهم إِلَّا بِدَلِيل} يُوجب التَّشْرِيك إِمَّا مُطلقًا، وَإِمَّا فِي ذَلِك الحكم بِخُصُوصِهِ من قِيَاس أَو غَيره، وَحِينَئِذٍ فشمول الحكم لَهُ بذلك لَا بِاللَّفْظِ؛ لِأَن اللُّغَة تَقْتَضِي أَن خطاب الْمُفْرد لَا يتَنَاوَل غَيره.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بقوله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا لكَي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم} [الْأَحْزَاب: 37] فعلل الْإِبَاحَة بِنَفْي الْحَرج عَن أمته، وَلَو اخْتصَّ بِهِ الحكم لما كَانَ عِلّة لذَلِك.(5/2461)
وَأَيْضًا: {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} [الْأَحْزَاب: 50] وَلَو كَانَ اللَّفْظ مُخْتَصًّا لم يحْتَج إِلَى التَّخْصِيص.
فَإِن قيل: الْفَائِدَة فِي التَّخْصِيص عدم الْإِلْحَاق بطرِيق الْقيَاس، وَلذَلِك رفع الْحَرج.
قُلْنَا: ظَاهر اللَّفْظ مُقْتَض للمشاركة؛ لِأَنَّهُ علل إِبَاحَة التَّزْوِيج بِرَفْع الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ، وَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ بالخصوية، فَالْقِيَاس بمعزل عَن ذَلِك.
وَأَيْضًا فِي مُسلم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَأَلَهُ رجل فَقَالَ: تدركني الصَّلَاة وَأَنا جنب فأصوم؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَأَنا تدركني الصَّلَاة وَأَنا جنب فأصوم! " فَقَالَ: لست مثلنَا يَا رَسُول الله، قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر، فَقَالَ: " وَالله، إِنِّي لأرجو أَن أكون أخشاكم لله وَأعْلمكُمْ بِمَا أتقي ".
وَرُوِيَ عَنهُ فِي القُبلة مثله، فَدلَّ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه أجابهم بِفِعْلِهِ، وَلَو اخْتصَّ الحكم بِهِ لم يكن جَوَابا لَهُم.
الثَّانِي: أَنه أنكر عَلَيْهِم مراجعتهم لَهُ باختصاصه بالحكم، فَدلَّ على أَنه لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ.(5/2462)
وَلِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ إِلَى أَفعاله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من الْأَحْكَام كرجوعهم فِي التقاء الختانين، وَصِحَّة صَوْم من أصبح جنبا، وَغير ذَلِك.
قَالُوا: الْمُفْرد لَا يتَنَاوَل غَيره لُغَة.
قُلْنَا: مَحل النزاع لَيْسَ فِي اللُّغَة، بل فِي الْعرف الشَّرْعِيّ.
قَالُوا: يُوجب كَون خُرُوج غَيره تَخْصِيصًا.
قُلْنَا: من الْعرف الشَّرْعِيّ مُسلم إِذا ظَهرت مشاركتهم لَهُ فِي الْأَحْكَام ثَبت مشاركته لَهُم أَيْضا لوُجُود التلازم ظَاهرا؛ فَإِن مَا ثَبت لأحد المتلازمين ثَبت للْآخر، أَو لَو ثَبت لَهُم حكم انفردوا بِهِ دونه لثبت نقيضه فِي حَقه دونهم، وَقد ظهر الدَّلِيل على خِلَافه. انْتهى.
{ووقف أَبُو الْمَعَالِي} ، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَيَأْتِي تَفْصِيل فِي الْمَسْأَلَة.(5/2463)
تَنْبِيه: مَحل ذَلِك مَا يُمكن إِرَادَة الْأمة مَعَه، أما مَا لَا يُمكن إِرَادَة الْأمة مَعَه فِيهِ مثل: {يَا أَيهَا المدثر (1) قُم فَأَنْذر} [المدثر: 1، 2] ، {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} [الْمَائِدَة: 67] ، وَنَحْوه فَلَا تدخل الْأمة فِيهِ قطعا، وَمِنْه مَا قَامَت فِيهِ قرينَة على اخْتِصَاصه بِهِ من خَارج، نَحْو: {وَلَا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] .
فتفصيل إِمَام الْحَرَمَيْنِ بَين أَن ترد الصِّيغَة فِي مَحل التَّخْصِيص فَيكون خَاصّا بِهِ وَإِلَّا فَيكون عَاما لَيْسَ قولا آخر، بل يتَبَيَّن بِمحل الْخلاف، وَأما [مَا] لَا يُمكن فِيهِ إِرَادَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذلك الحكم المقترن بخطابه، بل يكون الْخطاب لَهُ وَالْمرَاد الْأمة فَلَيْسَ ذَلِك من مَحل النزاع أَيْضا، وَذَلِكَ مثل قَوْله: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} [الزمر: 65] ، فخطابه بذلك من مجَاز التَّرْكِيب، وَهُوَ مَا أسْند فِيهِ الحكم لغير من هُوَ لَهُ، نَحْو: أنبت الرّبيع البقل، {يَا هامان ابْن لي صرحا} [غَافِر: 36] ؛ وَلأَجل ذَلِك انتقد على ابْن الْحَاجِب تمثيله مَحل النزاع بِآيَة {لَئِن أشركت} .
ورد ذَلِك ابْن عَطِيَّة بِمَا فِيهِ شِفَاء.
وَقَول التَّمِيمِي وَمن مَعَه: (لَا يعمهم إِلَّا بِدَلِيل) تقييدا لهَذَا القَوْل(5/2464)
بِأَن لَا قرينَة على إِرَادَة الْأمة مَعَه فَإِن كَانَت قرينَة تدل على إرادتهم مَعَه دخلُوا بِلَا خلاف، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} [الطَّلَاق: 1] ، فَإِن ضمير الْجمع فِي (طلّقْتُم) و (طلقوهن) قرينَة لفظية تدل على أَن الْأمة مَقْصُودَة مَعَه بالحكم وَإِن تَخْصِيصه بالنداء تشريف لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّهُ إمَامهمْ وقدوتهم وسيدهم الَّذِي يصدر فعلهم عَن رَأْيه وإرشاده. انْتهى.
فتلخص أَن خطابه ثَلَاثَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: يكون مُخْتَصًّا بِهِ بِلَا نزاع.
وَالثَّانِي: دُخُول أمته مَعَه بِلَا نزاع.
وَالثَّالِث: مَحل الْخلاف.
تَنْبِيه: عكس هَذِه الْمَسْأَلَة، نَحْو: يَا أَيهَا الْأمة، قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب، والهندي: لَا يدْخل قطعا.(5/2465)
قَوْله: {وَكَذَا خطاب الله تَعَالَى لأَصْحَابه، هَل يعمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟} فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم.
وَالصَّحِيح أَنه يعمه على مَا تقدم، لَكِن قَالَ ابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": نفي دَخَلُوهُ هُنَا عَن الْأَكْثَر من الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَذَلِكَ بِنَاء على أَنه لَا يَأْمر كالسيد مَعَ عبيده.
رد بِأَنَّهُ مخبر بِأَمْر الله تَعَالَى.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَه القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، والهندي فِي التَّنْبِيه الَّذِي قبل هَذَا، وَاحْتج الأول: بفهم أهل اللُّغَة من الْأَمر للأمير بالركوب لكسر الْعَدو، وَنَحْوه أَنه أَمر لأتباعه مَعَه.
رد بِالْمَنْعِ، وَلِهَذَا يُقَال: أَمر الْأَمِير، لَا أَتْبَاعه.
قَوْله: {وَكَذَا خطابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لوَاحِد من الْأمة هَل يعم غَيره} ، أم لَا؟(5/2466)
فِيهِ الْخلاف الْمُتَقَدّم، وَالصَّحِيح عندنَا أَنه عَام مُطلقًا فَيتَنَاوَل الْمُخَاطب وَغَيره وَلَو اخْتصَّ بِهِ الْمُخَاطب لم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَبْعُوثًا إِلَى الْجَمِيع.
رد بِالْمَنْعِ، فَإِن مَعْنَاهُ تَعْرِيف كل وَاحِد مَا يخْتَص بِهِ، وَلَا يلْزم شركَة الْجَمِيع فِي الْجَمِيع.
قَالُوا: هُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة لرجوعهم إِلَى قصَّة مَاعِز، وَبرْوَع بنت واشق، وَأَخذه الْجِزْيَة من مجوس هجر، وَغير ذَلِك.(5/2467)
رد: بِدَلِيل هُوَ التَّسَاوِي فِي السَّبَب.
وَقَالَ أَبُو الْخطاب: إِن وَقع جَوَابا لسؤال، كَقَوْل الْأَعرَابِي: واقعت أَهلِي فِي رَمَضَان فَقَالَ: اعْتِقْ، كَانَ عَاما، وَإِلَّا فَلَا، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ " فَلَا يدْخل فِيهِ غَيره.
وَعند الشَّافِعِي، وَأكْثر الْعلمَاء، مِنْهُم: الْحَنَفِيَّة، أَنه لَا يعم.
قَالَت الْحَنَفِيَّة: لِأَنَّهُ عَم فِي الَّتِي قبلهَا لفهم الِاتِّبَاع؛ لِأَنَّهُ مُتبع وَهنا مُتبع.
{وَاخْتَارَ أَبُو الْمَعَالِي} أَنه {يعم هُنَا وَأَنه قَول الواقفية فِي الْفِعْل} ، وَذكره بعض أَصْحَابنَا عَن أبي الْخطاب، قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَ.(5/2468)
تَنْبِيه: إِذا علم هَذَا النَّقْل، فقد قَالَت الشَّافِعِيَّة: الْخطاب الْخَاص لُغَة لوَاحِد من الْأمة لَا يتعداه إِلَى غَيره إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل، قَالَه الْجُمْهُور.
وَقيل: يعم بِنَفسِهِ من جِهَة الْعَادة، لَا من جِهَة اللُّغَة.
وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: الْخلاف لَفْظِي.
وَقَالَ غَيره: معنوي.
قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ على قَوْله فِي " جمع الْجَوَامِع ": وَأَن خطاب الْوَاحِد لَا يتعداه.
وَكَذَا قَالَ الكوراني، وَنسب القَوْل بِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى جَمِيع الْأمة إِلَى الْحَنَابِلَة، وَذكر دَلِيل الْفَرِيقَيْنِ فليعاود.
وَمَا قُلْنَا فِي الْمَتْن وَالشَّرْح تبعا لِابْنِ مُفْلِح، وَلذَلِك الْبرمَاوِيّ صحّح مَا قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره فَإِنَّهُ نَص الشَّافِعِيَّة وعَلى الْأَكْثَر.
تَنْبِيه: مَحل ذَلِك، وَالْخلاف فِيهِ إِذا لم يخص ذَلِك الْوَاحِد فَلَا يكون غَيره مثله فِي الحكم لحَدِيث أبي بردة لقَوْله: " اذْبَحْهَا وَلنْ تُجزئ عَن أحد بعْدك ".(5/2469)
وَمثله حَدِيث زيد بن خَالِد، وَعقبَة بن عَامر، فَإِنَّهُ وَقع لَهما مثل ذَلِك فَرخص النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ كَمَا فِي أبي دَاوُد، كَمَا رخص لأبي بردة، وَرخّص أَيْضا لعقبة بن عَامر كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَهُوَ مَبْنِيّ على تَخْصِيص لعُمُوم بعد تَخْصِيص.
وَاسْتدلَّ للْأولِ - وَهُوَ الصَّحِيح - رُجُوع الصَّحَابَة إِلَى التَّمَسُّك بقضايا الْأَعْيَان كقصة مَاعِز، ودية الْجَنِين، والمفوضة، وَالسُّكْنَى للمبتوتة، وَغير ذَلِك.
وَأَيْضًا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي بردة: " تجزئك وَلَا تُجزئ عَن أحد بعْدك " فلولا أَن الْإِطْلَاق يَقْتَضِي الْمُشَاركَة لم يخص.
وَكَذَلِكَ تَخْصِيص خُزَيْمَة بِجعْل شَهَادَته كشهادتين، وَقَوله تَعَالَى:(5/2470)
{وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس ... ... ... ... يعلمُونَ (28) } [سبأ: 28] ، وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود ".
قَالُوا: لتعريف كل مَا يخْتَص.
قُلْنَا: إِذا لم يكن اخْتِصَاص ظهر اقْتِصَار الحكم بِمَا ذَكرْنَاهُ.
وَأَيْضًا فَقَوْل الرَّاوِي: نهى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَو قضى يعم، وَلَو اخْتصَّ بِمن سوقه [لَهُ] لم يعم لاحْتِمَال سَماع الرَّاوِي أمرا، أَو نهيا لوَاحِد فَلَا يكون عَاما.
قَالُوا: لنا مَا تقدم من الْقطع والتخصيص.
قُلْنَا: سبق جوابهما.
قَالُوا: يلْزم عدم فَائِدَة (حكمي على الْوَاحِد) .(5/2471)
قُلْنَا: الحَدِيث غير مَعْرُوف أصلا، ثمَّ لَو صَحَّ آكِد، قَالَه ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وتعدي فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أمته يخرج على الْخطاب المتوجه إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر} .
قَالَ صَاحب " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " فِي " مُخْتَصره فِي الْأُصُول ": وَحكم فعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي تعديه إِلَى أمته يخرج على الْخلاف فِي الْخطاب المتوجه إِلَيْهِ عِنْد الْأَكْثَر.
وَفرق أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره، وَقَالُوا: يتَعَدَّى فعله. انْتهى.(5/2472)
وَكَذَا قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " إِلَّا أَنه قَالَ: قَالَه بعض أَصْحَابنَا، زَاد بَعضهم إِذا عرف وَجهه، وَفرق أَبُو الْمَعَالِي، وَغَيره فَقَالُوا: يتَعَدَّى فعله، وَمعنى كَلَام الْآمِدِيّ وَغَيره الْفرق - أَيْضا -. انْتهى.(5/2473)
(قَوْله: {فصل} )
{لفظ الرِّجَال، والرهط لَا يعم النِّسَاء، وَلَا الْعَكْس} أَعنِي لفظ النِّسَاء لَا يعم الرِّجَال، وَلَا الرَّهْط {قطعا، ويعم النَّاس وَنَحْوه الْكل إِجْمَاعًا} .
ذكر أَصْحَابنَا الرَّهْط فَقَالَ ابْن مُفْلِح فِي " الْفُرُوع ": والرهط مَا دون الْعشْرَة خَاصَّة لُغَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَجمعه أرهط وأرهاط، وأراهط، وَأما لفظ الرِّجَال، وَالنَّاس، وَنَحْوهم فقد ذكره الْعلمَاء وَلَا إِشْكَال فِيهِ.
قَوْله: {وَالْقَوْم للرِّجَال فِي الْأَصَح، وَقيل: ولهن تبعا} ، أَي: وللنساء تبعا.(5/2474)
فِي الْقَوْم ثَلَاثَة أَقْوَال: هَل يخْتَص بِالرِّجَالِ؟ - وَهُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَر -، أَو يَشْمَل الرِّجَال وَالنِّسَاء؟ أَو هُوَ للرِّجَال وَيدخل النِّسَاء تبعا؟
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الْقَوْم للرِّجَال دون النِّسَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يسخر قوم من قوم} الْآيَة [الحجرات: 11] ، لَكِن الَّذِي يظْهر أَنه قد يَأْتِي الْقَوْم للرِّجَال وَالنِّسَاء.
ويستأنس لَهُ بقوله تَعَالَى: {يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله} [الْأَحْقَاف: 31] فَيدْخل النِّسَاء فِي ذَلِك، ثمَّ وجدته فِي " الْقَامُوس " قَالَ: الْقَوْم الْجَمَاعَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء، أَو من الرِّجَال خَاصَّة، أَو يدْخل النِّسَاء على التّبعِيَّة وَيُؤَنث. انْتهى.
فَذكر ثَلَاثَة أَقْوَال.
وَقَالَ فِي " الْمِصْبَاح الْمُنِير ": الْقَوْم جمَاعَة الرِّجَال لَيْسَ فيهم امْرَأَة الْوَاحِد رجل وامرؤ من غير لَفظه، وَالْجمع أَقوام، سموا بذلك؛ لقيامهم بالعظائم والمهمات.
وَقَالَ الصغاني: وَرُبمَا دخل النِّسَاء تبعا؛ لِأَن قوم كل نَبِي رجال وَنسَاء، وَيذكر الْقَوْم وَيُؤَنث، وَكَذَا كل اسْم جمع لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، كرهط وَنَفر، وَنَحْوهمَا. انْتهى.(5/2475)
قَوْله: {وَنَحْو الْمُسلمين، وفعلوا} وَكَذَا فافعلوا، ويفعلون، وفعلتم وَنَحْوه، بل وَلَا يخْتَص بالضمائر بل اللواحق لذَلِك، نَحْو: ذَلِكُم وَإِيَّاكُم {مِمَّا يغلب فِيهِ الْمُذكر يعم النِّسَاء تبعا عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا وَالْحَنَفِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد} ، وَهُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، وَحَكَاهُ أَبُو الطّيب عَن أبي حنيفَة، وَحَكَاهُ الْبَاجِيّ عَن ابْن خويز منداد.
{وَعنهُ: لَا يعم، اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، والطوفي، وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، والأشعرية، وَغَيرهم} .(5/2476)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَأَصْحَابه وَالْجُمْهُور.
وَنَقله ابْن برهَان عَن مُعظم الْفُقَهَاء، وَنَقله ابْن الْقشيرِي عَن مُعظم أهل اللُّغَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ظَاهر القَوْل الأول أَنه لَيْسَ من حَيْثُ اللُّغَة، بل بِالْعرْفِ أَو بِعُمُوم الْأَحْكَام، أَو نَحْو ذَلِك.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: اندراج النِّسَاء تَحت لفظ الْمُسلمين بالتغليب لَا بِأَصْل الْوَضع.
وَقَالَ الأبياري: لَا خلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ والنحاة فِي عدم تناولهن لجَمِيع كجمع الذُّكُور، وَإِنَّمَا ذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى ثُبُوت التَّنَاوُل؛ لِكَثْرَة اشْتِرَاك النَّوْعَيْنِ فِي الْأَحْكَام لَا غير فَيكون الدُّخُول عرفا، أَو نَحوه، لَا لُغَة.
ثمَّ قَالَ: وَإِذا قُلْنَا بالتناول هَل يكون دَالا عَلَيْهَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز أَو عَلَيْهِمَا مجَازًا صرفا؟ خلاف، ظَاهر مَذْهَب القَاضِي ابْن الباقلاني الثَّانِي، وَقِيَاس قَول الإِمَام - أَي: أبي الْمَعَالِي - الأولى. انْتهى.(5/2477)
{و} قَالَ ابْن عقيل {فِي " الْوَاضِح ": لَا يَقع مُؤمن على أُنْثَى بالتكفير بِالرَّقَبَةِ فِي قَتلهَا قِيَاسا، وَخص الله تَعَالَى الْحجب بالأخوة، فَعدى إِلَى الْأَخَوَات بِالْمَعْنَى} . انْتهى.
وَفِي هَذَا الْكَلَام تَقْوِيَة للْمَذْهَب الثَّانِي.
وَاسْتدلَّ للْأولِ بمشاركة الذُّكُور فِي الْأَحْكَام لظَاهِر اللَّفْظ.
رد بِالْمَنْعِ، بل لدَلِيل، وَلِهَذَا لم يعمهن الْجِهَاد، وَالْجُمُعَة، وَغَيرهمَا.
أُجِيب بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَو كَانَ لعرف، وَالْأَصْل عَدمه، وخروجهن من بعض الْأَحْكَام لَا يمْنَع كبعض الذُّكُور.
وَلِأَن أهل اللُّغَة غلبوا الْمُذكر بِاتِّفَاق.
بِدَلِيل {اهبطوا} [الْبَقَرَة: 36] لآدَم وحواء وإبليس.
رد: بِقصد الْمُتَكَلّم وَيكون مجَازًا.
أُجِيب: لم يشْتَرط أحد من أهل اللُّغَة الْعلم بِقَصْدِهِ، ثمَّ لَو لم يعمهن لما عَم بِالْقَصْدِ بِدَلِيل جمع الرِّجَال، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة وَلَو كَانَ مجَازًا لم يعد الْعُدُول عَنهُ عيا.(5/2478)
وَاسْتدلَّ: لَو أوصى لرجال وَنسَاء بِشَيْء ثمَّ قَالَت: أوصيت لَهُم بِكَذَا، عمهم.
رد: بِقَرِينَة الْإِيصَاء الأول.
قَالُوا: لَو عمهن لما حسن {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} [الْأَحْزَاب: 35] .
رد: تنصيص وتأكيد لما سبق، وَإِن كَانَ التأسيس أولى، وكعطف لَا يمْنَع بِدَلِيل عطف جِبْرِيل وَمِيكَائِيل على مَلَائكَته وَرُسُله.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح} [الْأَحْزَاب: 7] .
وَذكر أَصْحَابنَا وَجها بِمَنْعه.
وَمن عطف الْعَام قَوْله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} [الْبَقَرَة: 136] ، {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} [الْأَحْزَاب: 27] .
قَالُوا: قَالَت أم سَلمَة لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: مَا لنا لَا نذْكر فِي الْقُرْآن كَمَا تذكر الرِّجَال؟ فَنزلت {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} الْآيَة. إِسْنَاده جيد، رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره، وَلَو دخلن لم يصدق نَفيهَا، وَلم يَصح تَقْرِيره لَهُ.(5/2479)
رد: يصدق وَيصِح لِأَنَّهَا أَرَادَت التَّنْصِيص تَشْرِيفًا لَهُنَّ لَا تبعا لما سبق.
قَالُوا: الْجمع تَضْعِيف الْوَاحِد، وَمُسلم لرجل فمسلمون لجمعه.
رد: يحْتَمل مَنعه، قَالَه الْحلْوانِي.
وَقَالَ فِي " الْعدة ": إِن سلمناه، ثمَّ فرق.
وَقَالَ فِي " التَّمْهِيد ": مَنعه بَعضهم، وَالصَّحِيح تَسْلِيمه للبس، ولعموم الْجمع لَهما بِدَلِيل قَصده بِخِلَاف الْمُفْرد.
وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِأَن قَوْله: {الْحر بِالْحرِّ} [الْبَقَرَة: 178] عَام للذّكر وللأنثى.
تَنْبِيه: سكت الأصوليون عَن الخناثا هَل يدْخلُونَ فِي خطاب الْمُذكر والمؤنث، أما إِن قُلْنَا بِدُخُول النِّسَاء فالخناثا بطرِيق أولى، وَأما إِذا قُلْنَا لَا يدخلن فَالظَّاهِر من تصرف الْفُقَهَاء دُخُولهمْ فِي خطاب النِّسَاء فِي التَّغْلِيظ، وَالرِّجَال فِي التَّخْفِيف، وَرُبمَا أخرجُوا من الْقسمَيْنِ، وَلَهُم أَحْكَام كَثِيرَة مُخْتَلفَة.(5/2480)
وللقاضي وَغَيره من أَصْحَابنَا تصنيف فِي أَحْكَام الخناثا، وَالله أعلم.
تَنْبِيه آخر: مِمَّا يخرج على هَذِه الْقَاعِدَة مَسْأَلَة الْوَاعِظ الْمَشْهُورَة، وَهُوَ قَوْله للحاضرين عِنْده: طلقتكم ثَلَاثًا، وَامْرَأَته فيهم وَهُوَ لَا يدْرِي، فَأفْتى أَبُو الْمَعَالِي بالوقوع.
قَالَ الْغَزالِيّ: وَفِي الْقلب مِنْهُ شَيْء، قلت: الصَّوَاب عدم الْوُقُوع.
وَقَالَ الرَّافِعِيّ، وَالنَّوَوِيّ: وَيَنْبَغِي أَن لَا يَقع، وَلَهُم فِيهَا كَلَام كثير.
تَنْبِيه: لَو جَاءَ الْمُذكر بِلَفْظ الْوَاحِد، كَقَوْلِه: فَإِن جَاءَ مُسلم أعْطه درهما، فَذكر الْحلْوانِي وَغَيره احْتِمَالَيْنِ فِيهَا:
أَحدهمَا: اخْتِصَاص الْمُذكر.
وَالثَّانِي: الْمُشَاركَة. انْتهى.(5/2481)
قَوْله: {وَالْمذهب أَن الْأُخوة والعمومة يعم} الذُّكُور وَالْإِنَاث، قطع بِهِ فِي " الْمُغنِي " و " الشَّرْح "، و " شرح ابْن رزين "، وَصَاحب " الْفُرُوع " فِيهِ، وَغَيرهم، وَظَاهر كَلَامه فِي " الْوَاضِح " الْمُتَقَدّم أَن الْأُخوة لَا تعم الْإِنَاث وَأَن الْمُؤمن لَا يعمهن كَمَا تقدم.(5/2482)
(قَوْله: {فصل} )
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم أَن (من) الشّرطِيَّة تعم الْمُؤَنَّث} لقَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى} [النِّسَاء: 124] فالتفسير بِالذكر وَالْأُنْثَى دَال على تنَاول الْقسمَيْنِ.
وَلقَوْله تَعَالَى: {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله} [الْأَحْزَاب: 31] .
وَلقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من جر ثَوْبه خلاء لم ينظر الله إِلَيْهِ " فَقَالَت أم سَلمَة: فَكيف يصنع النِّسَاء بذيولهن؟ فأقرها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على فهم دُخُول النِّسَاء فِي (من) الشّرطِيَّة.
وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: من دخل دَاري فَهُوَ حر، فدخله الْإِمَاء عتقن بِالْإِجْمَاع، قَالَه فِي " الْمَحْصُول ".(5/2483)
وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره قولا إِنَّهَا تخْتَص بالذكور، وتبعناهم على ذَلِك، وَحَكَاهُ ابْن برهَان النَّحْوِيّ عَن الشَّافِعِي، وَهُوَ غَرِيب، وَإِنَّمَا هُوَ محكي عَن بعض الْحَنَفِيَّة، وَأَنَّهُمْ تمسكوا بِهِ فِي مَسْأَلَة الْمُرْتَدَّة فَجعلُوا قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " لَا يَتَنَاوَلهَا، وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا، وَمذهب الْجُمْهُور أَنَّهَا تقتل؛ لدخولها فِي الحَدِيث.
تَنْبِيه: قد تقدم (من) الشّرطِيَّة فِي أول صِيغ الْعُمُوم وَكَذَلِكَ (من) الاستفهامية، وتقييدهم هُنَا بِمن الشّرطِيَّة يخرج (من) الموصولة والاستفهامية.
وَقَالَ الصفي الْهِنْدِيّ: الظَّاهِر أَنه لَا فرق، وَالْخلاف جَار فِي الْجَمِيع.(5/2484)
وَاعْتذر بَعضهم عَن أبي الْمَعَالِي فِي إِفْرَاده (من) الشّرطِيَّة دون الموصولة والاستفهامية بِأَنَّهُ إِنَّمَا خص الشّرطِيَّة؛ لِأَنَّهُ لم يذكر الاستفهامية والموصولة فِي صِيغ الْعُمُوم.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: وَالْحق أَن الاستفهامية من صِيغ الْعُمُوم دون الموصولة، نَحْو: مَرَرْت بِمن قَامَ، فَلَا عُمُوم لَهَا. انْتهى.
ويعاود كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره هُنَاكَ.
قَوْله: {ويعم النَّاس، والمؤمنون، وَنَحْوهمَا} ، ك {وَالَّذين آمنُوا} [الْبَقَرَة: 9] ، و {يَا عبَادي} [العنكبوت: 56] {العبيد عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَأكْثر أَتبَاع الْأَئِمَّة} ؛ لأَنهم يدْخلُونَ فِي الْخَبَر فَكَذَا فِي الْأَمر، وباستثناء الشَّارِع لَهُم فِي الْجُمُعَة.
{وَقيل:} لَا يدْخلُونَ {إِلَّا بِدَلِيل} ؛ لأَنهم أَتبَاع الْأَحْرَار.
وَحَكَاهُ ابْن مُفْلِح عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَذكره(5/2485)
ابْن تَمِيم - من تَمِيم - من فُقَهَاء أَصْحَابنَا عَن بعض أَصْحَابنَا.
لَكِن حُكيَ هَذَا القَوْل أَنهم لَا يدْخلُونَ، وَلم يقل فِيهِ: إِلَّا بِدَلِيل.
{وَقيل: إِن تضمن تعبدا دخلُوا، وَإِلَّا فَلَا، اخْتَارَهُ أَبُو بكر الرَّازِيّ} الْحَنَفِيّ، {وَغَيره} ، قَالَ فَإِن تضمن الْخطاب تعبدا توجه إِلَيْهِ، وَإِن تضمن ملكا، أَو ولَايَة، أَو عقدا فَلَا، بل حكى بَعضهم الْإِجْمَاع على عدم خطابهم بالعبادات الْمَالِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُم، وَفِيه نظر.
قَالَ الْهِنْدِيّ: الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ دُخُول العبيد وَالْكفَّار فِي لفظ النَّاس وَنَحْوه، إِن زَعَمُوا أَنه لَا يتناولهم لُغَة فمكابرة، وَإِن زَعَمُوا أَن الرّقّ وَالْكفْر أخرجهم شرعا فَبَاطِل؛ لِأَن الْإِجْمَاع أَنهم مكلفون فِي الْجُمْلَة. انْتهى.(5/2486)
قَوْله: {وَأما الْمبعض فَالظَّاهِر دُخُوله} إِن قُلْنَا بِدُخُول العبيد وَالْإِمَاء فِي الْخطاب ويعمهم، فالمبعض بطرِيق أولى وَأَحْرَى، وَإِن قُلْنَا: لَا يدْخلُونَ فَمَا حكم الْمبعض؟ لم يذكروه.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: أما الْمبعض فَالظَّاهِر تَغْلِيب الْحُرِّيَّة فَلَا يجْرِي فِيهِ الْخلاف فِي العبيد. انْتهى.
قلت: لنا فِي الْفِقْه مسَائِل فِي الْمبعض مُخْتَلف فِيهَا، مِنْهَا: الْأمة المبعضة الْحُرِّيَّة فِي الستْرَة فِي الصَّلَاة، هَل هِيَ كَالْحرَّةِ، أَو كالأمة، وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنَّهَا كالأمة، وَلنَا قَول اخْتَارَهُ الْمجد بن تَيْمِية وَغَيره من الْمُحَقِّقين إِنَّهَا كَالْحرَّةِ وَهُوَ أولى وَأظْهر.
قَوْله: {وَاخْتَارَ السَّمْعَانِيّ دُخُول الْكفَّار فِي {الَّذين آمنُوا} } يَعْنِي: يشملهم اللَّفْظ بذلك، فَقَالَ: الْمُخْتَار أَنه يعم الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار؛ لعُمُوم التَّكْلِيف، وَإِنَّمَا خص الْمُؤْمِنُونَ بذلك؛ للتشريف لَا للتخصيص بِدَلِيل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 278] وَقد ثَبت تَحْرِيم الرِّبَا فِي حق أهل الذِّمَّة. انْتهى.(5/2487)
وَضعف قَوْله بِأَن هَذَا لأمر خارجي لَا من حَيْثُ الصِّيغَة إِمَّا لعُمُوم الشَّرْع لَهُم، وَإِمَّا للعمومات الشاملة لَهُم لُغَة، أَو غير ذَلِك، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء.
قَوْله: {ويدخلون} ، أَي: الْكفَّار {فِي} لفظ {النَّاس، وَنَحْوه} ، مثل أولي الْأَلْبَاب {فِي الْأَصَح من غير قرينَة} لُغَة.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَبِه قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيره؛ إِذْ لَا مَانع من ذَلِك.
وَنقل عَن بعض الشَّافِعِيَّة أَنهم لَا يدْخلُونَ، وَلَعَلَّه لكَون الْكفَّار غير مخاطبين بالفروع، إِلَّا أَن الْمَانِع هُنَا أطلق وَلم يُقيد بخطاب الْفُرُوع.
تَنْبِيه: أما إِن قَامَت قرينَة بِعَدَمِ دُخُولهمْ، أَو أَنهم هم المُرَاد لَا الْمُؤْمِنُونَ عمل بهَا، نَحْو {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم} [آل عمرَان: 173] ؛ لِأَن الأول للْمُؤْمِنين فَقَط، إِمَّا نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ(5/2488)
الَّذِي قَالَه الْمُفَسِّرُونَ، أَو أَرْبَعَة كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، وَالثَّانِي لكفار مَكَّة، لَكِن قد يُقَال بِأَن اللَّام فِي ذَلِك للْعهد الذهْنِي، وَالْكَلَام فِي الاستغراقية.
وَقَوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل فَاسْتَمعُوا لَهُ} [الْحَج: 73] المُرَاد الْكفَّار بِدَلِيل بَاقِي الْآيَة، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة "، وَجعله من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخَاص، فقد يدعى ذَلِك أَيْضا فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا فَلَا تكون (أل) فِيهَا عهدية.
قَوْله: {و {يَا أهل الْكتاب} [آل عمرَان: 64] {لَا يَشْمَل الْأمة} ، أَي: أمة نَبينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد مُعظم الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم قطع بذلك، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ} [النِّسَاء: 171] ، {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا} [النِّسَاء: 47] ، (قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا(5/2489)
إِلَى كلمة} [آل عمرَان: 64] ، {قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا} [الْمَائِدَة: 59] فَلَا يدْخل فِيهِ أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَن يدل دَلِيل على مشاركتهم لَهُم فِيمَا خوطبوا بِهِ، وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ قَاصِر عَلَيْهِم فَلَا يتعداهم. وَالْمرَاد الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَخَالف فِي هَذَا الشَّيْخ مجد الدّين بن تَيْمِية فِي " مسودته "، فَقَالَ: يَشْمَل الْأمة إِن شركوهم فِي الْمَعْنى، قَالَ: لِأَن شَرعه عَام لبني إِسْرَائِيل وَغَيرهم من أهل الْكتاب وَغَيرهم كالمؤمنين فَثَبت الحكم فيهم كأمي أهل الْكتاب، وَذَلِكَ كَاف لوَاحِد من الْمُكَلّفين فَإِنَّهُ يعم غَيره - أَي: على رَأْي من يَقُول بِهِ - قَالَ: وَإِن لم يشركهم فَلَا، كَمَا فِي قَوْله لأهل بدر: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم} [الْأَنْفَال: 69] ، وَلأَهل أحد: {إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} [آل عمرَان: 122] فَإِن ذَلِك لَا يعم غَيرهم، قَالَ: ثمَّ الشُّمُول هُنَا هَل هُوَ بطرِيق الْعَادة الْعُرْفِيَّة أَو الِاعْتِبَار الْعقلِيّ؟ فِيهِ الْخلاف الْمَشْهُور.
قَالَ: وعَلى هَذَا يَنْبَنِي اسْتِدْلَال الْأمة على حكمنَا، بِمثل قَوْله تَعَالَى: {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ} الْآيَة [الْبَقَرَة: 44] فَإِن هَذِه الضمائر رَاجِعَة لبني إِسْرَائِيل.
قَالَ: وَهَذَا كُله فِي الْخطاب على لِسَان مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أما خطابه لَهُم على لِسَان مُوسَى وَغَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَهِيَ مَسْأَلَة شرع من قبلنَا هَل هُوَ(5/2490)
شرع لنا؟ وَالْحكم هُنَا لَا يثبت بطرِيق الْعُمُوم الْخطابِيّ قطعا بل بِالِاعْتِبَارِ الْعقلِيّ عِنْد الْجُمْهُور.
قَوْله: ويعم {يَا أَيهَا النَّاس} [الْبَقَرَة: 21] و {وَالَّذين آمنُوا} [الْبَقَرَة: 9] و {يَا عباد} [الزمر: 10] ، وَنَحْوه الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْد الْأَكْثَر من الْعلمَاء حَيْثُ لَا قرينَة، مثل: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} [الْبَقَرَة: 21] ، {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا} [الْبَقَرَة: 278] ، {يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم} [الزخرف: 68] ، هَل يَشْمَل الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟
فِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا: يعمه حَيْثُ لَا قرينَة، وَهُوَ الصَّحِيح من أَقْوَال الْعلمَاء، وَعَلِيهِ جُمْهُور الْعلمَاء؛ لصدق ذَلِك عَلَيْهِ فَلَا يخرج إِلَّا بِدَلِيل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يدْخل فِي خطاب الْقُرْآن وَلَا يدْخل فِي خطاب السّنة، قَالَه المقترح.(5/2491)
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يدْخل مُطلقًا لقَرِينَة المشافهة؛ لِأَن المشافِه غير المشافَه، والمبلِّغ غير المبلَّغ، والآمر والناهي غير الْمَأْمُور والمنهي فَلَا يكون دَاخِلا.
رد: بِأَن الْخطاب فِي الْحَقِيقَة هُوَ من الله تَعَالَى للعباد، وَهُوَ مِنْهُم وَهُوَ مَعَ ذَلِك مبلغ للْأمة، فَالله تَعَالَى هُوَ الْآمِر الناهي وَجِبْرِيل هُوَ الْمبلغ لَهُ، وَلَا يُنَافِي كَون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مخاطِبا مخاطَبا مبلِّغا مبلَّغا باعتبارين.
وَرُبمَا اعتل الْمَانِع بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ خَصَائِص، فَيحْتَمل أَنه غير دَاخل لخصوصيته بِخِلَاف الْأَمر الَّذِي خَاطب بِهِ النَّاس.
ورد بِأَن الأَصْل عَدمه حَتَّى يَأْتِي دَلِيل.
وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يدْخل إِن اقْترن ذَلِك ب (قل) نَحْو: {قل يَا أَيهَا النَّاس} [الْأَعْرَاف: 158] ، {قل يَا عبَادي} [الزمر: 53] اخْتَارَهُ الصَّيْرَفِي والحليمي.(5/2492)
ورده أَبُو الْمَعَالِي بِأَن القَوْل مُسْتَند إِلَى الله وَالرَّسُول مبلغ عَنهُ فَلَا معنى للتفرقة.
تَنْبِيهَانِ: أَحدهمَا: مَحل هَذَا الْخلاف الْمُتَقَدّم حَيْثُ لَا قرينَة تَنْفِي دُخُوله، نَحْو: يَا أيتها الْأمة، يَا أمة مُحَمَّد فَلَا يدْخل بِلَا خلاف. قَالَه الْهِنْدِيّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي عبد الْوَهَّاب.
وَمثله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَال: 24] لأَنا مأمورون بالاستجابة.
الثَّانِي: قيل: لَا فَائِدَة للْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخل فِي الحكم كالأمة قطعا.
ورد بِاحْتِمَال أَن يَقُول الْمُخَالف إِن ذَلِك بِدَلِيل خارجي، وَتظهر فَائِدَته فِيمَا إِذا فعل مَا يُخَالف ذَلِك، هَل يكون نسخا فِي حَقه إِن قُلْنَا هُوَ دَاخل فنسخ، أَي: إِذا دخل وَقت الْعَمَل؛ لِأَن ذَلِك شَرط الْمَسْأَلَة وَإِلَّا فَلَا.(5/2493)
قَوْله: {قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيرهم: ويعم الْغَائِب والمعدوم إِذا وجد وكلف لُغَة. وَقيل: بل بِدَلِيل وَتقدم} .
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: لَيْسَ النزاع فِي قَوْلنَا: ويعم الْغَائِب والمعدوم إِذا وجد وكلف، فِي الْكَلَام النَّفْسِيّ، بل هَذِه خَاصَّة بِاللَّفْظِ اللّغَوِيّ؛ ولأننا مأمورون بِأَمْر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَحصل ذَلِك إِخْبَارًا عَن أَمر الله تَعَالَى عِنْد وجودنا مُقْتَض بطرِيق التَّصْدِيق والتكذيب، وَأَن لَا يكون قسيما للْخَبَر. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: مِمَّا اخْتلف فِي عُمُومه الْخطاب الْوَارِد شفاها فِي الْكتاب وَالسّنة، مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس} ، {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} ، {يَا عبَادي} لَا خلاف فِي أَنه عَام فِي الحكم الَّذِي تضمنه لمن لم يشافه بِهِ، سَوَاء كَانَ مَوْجُودا غَائِبا وَقت تَبْلِيغ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو مَعْدُوما بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِذا بلغ الْغَائِب والمعدوم بِعَدَمِ وجوده تعلق بِهِ الحكم، وَإِنَّمَا اخْتلف فِي جِهَة عُمُومه.(5/2494)
وَالْحَاصِل: أَن الْعَام المشافه فِيهِ بِحكم لَا خلاف فِي شُمُوله لُغَة للمشافهين وَفِي غَيرهم حكما، وَكَذَا الْخلاف فِي غَيرهم: هَل الحكم شَامِل لَهُم باللغة، أَو بِدَلِيل آخر؟
ذهب جمع من الْحَنَابِلَة وَالْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه من اللَّفْظ، أَي: اللّغَوِيّ.
وَذهب الْأَكْثَر إِلَى أَنه بِدَلِيل آخر، وَذَلِكَ مِمَّا علم من عُمُوم دينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالضَّرُورَةِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] ، وَقَوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بعث إِلَى النَّاس كَافَّة " قَالَ: وَهَذَا معنى قَول كثير كَابْن الْحَاجِب: إِن مثل {يَا أَيهَا النَّاس} لَيْسَ خطابا لمن بعدهمْ، أَي: من بعد المواجهين وَإِنَّمَا ثَبت الحكم بِدَلِيل آخر من إِجْمَاع أَو نَص، أَو قِيَاس.
وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّهُ لَا يُقَال للمعدومين: {يَا أَيهَا النَّاس} .
وَأَجَابُوا عَمَّا اسْتدلَّ بِهِ الْخصم بِأَنَّهُ لَو لم يكن المعدومون مخاطبين بذلك لم يكن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرْسلا إِلَيْهِم، بِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن الْخطاب الشفاهي فِي الْإِرْسَال، بل مُطلق الْخطاب كَاف، وَالله أعلم.(5/2495)
قَوْله: {أَكثر أَصْحَابنَا، وَبَعض الشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم: الْمُتَكَلّم دَاخل فِي عُمُوم كَلَامه مُطلقًا} ، أَي: سَوَاء كَانَ خَبرا أَو إنْشَاء، أَو أمرا، أَو نهيا {إِن صلح} ، نَحْو: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 282] إِذا قُلْنَا بِصِحَّة إِطْلَاق شَيْء عَلَيْهِ، وَقَول السَّيِّد لعَبْدِهِ: من أحسن إِلَيْك فَأكْرمه، أَو فَلَا تهنه. ذكره الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر.
وَلِأَن اللَّفْظ عَام، وَلَا مَانع من الدُّخُول، وَالْأَصْل عَدمه.
{وَعنهُ} : لَا يدْخل إِلَّا {بِدَلِيل} .
{وَقيل: لَا} يدْخل مُطلقًا.(5/2496)
{و} قَالَ {أَبُو الْخطاب وَالْأَكْثَر: لَا فِي الْأَمر} وَالنَّهْي {وَهُوَ أَكثر كَلَام القَاضِي، وَهُوَ أظهر} .
خرج بقولنَا: (إِن صلح) يَعْنِي أَن يكون اللَّفْظ صَالحا لَهُ أَي: لدُخُوله فِيهِ، مَا إِذا كَانَ بِلَفْظ المخاطبة، نَحْو: " إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ ".
وَقَوْلنَا: (مُطلقًا) ليشْمل الْخَبَر والإنشاء وَالْأَمر وَالنَّهْي.
وَعَزاهُ فِي " الْمَحْصُول " إِلَى الْأَكْثَر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يدْخل إِلَّا بِدَلِيل، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد، حَكَاهَا التَّمِيمِي عَنهُ، فَقَالَ: وَعَن أَحْمد لَا يدْخل الْآمِر فِي الْأَمر إِلَّا بِدَلِيل، وَاخْتلف أَصْحَابه.(5/2497)
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يدْخل مُطلقًا، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد سبق فِي بَاب الْأَوَامِر والنواهي أَن مُقْتَضى كَلَام الرَّافِعِيّ، وَالنَّوَوِيّ فِي مسَائِل من الطَّلَاق أَن الْمُتَكَلّم لَا يدْخل فِي عُمُوم كَلَامه وَلَو كَانَ غير آمُر وناه على الْأَصَح. انْتهى.
وَمن الْمسَائِل الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا: الْوَقْف على الْفُقَرَاء ثمَّ صَار فَقِيرا، هَل يجوز لَهُ الْأَخْذ، أم لَا؟ وَالصَّحِيح من مَذْهَبنَا جَوَاز الْأَخْذ، وَقيل: لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ؛ لِأَن مُطلق الْوَقْف ينْصَرف إِلَى غير الْوَاقِف.
وَالْقَوْل الرَّابِع: لَا يدْخل فِي الْأَمر وَالنَّهْي، وَيدخل فِي غَيرهمَا.
اخْتَارَهُ أَبُو الْخطاب، وَأكْثر الْفُقَهَاء والمتكلمين، وَهُوَ أَكثر كَلَام القَاضِي أَبُو يعلى، وَهُوَ أظهر.
وَفرق أَبُو الْخطاب بَينهمَا بِأَن الْأَمر استدعاء الْفِعْل على جِهَة الاستعلاء، فَلَو دخل الْمُتَكَلّم تَحت مَا يَأْمر بِهِ غَيره لَكَانَ مستدعيا من نَفسه(5/2498)
ومستعليا وَهُوَ محَال، وَهُوَ احْتِمَال فِي " الْمَحْصُول ".
تَنْبِيه: من فروع هَذِه الْمَسْأَلَة: هَل كَانَ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يتَزَوَّج بِلَا ولي، وَلَا شُهُود، وزمن الْإِحْرَام؟ فِي الْمَسْأَلَة وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا، الْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب جَوَاز ذَلِك لَهُ، وَخَالف ابْن حَامِد فِي ذَلِك.
وَقَالَ الشَّيْخ موفق الدّين: يُمكن أَن تنبني هَذِه الْمَسْأَلَة على أَن مَا ثَبت فِي حَقهم شاركهم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ذَلِك الحكم، وَلذَلِك لما أَمرهم بِفَسْخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، ثمَّ لم يفعل سَأَلُوهُ عَن تَركه الْفَسْخ فَبين لَهُم عذره. انْتهى.
قَوْله: {وَيَأْتِي آخل الْبَيَان: هَل يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم وَغَيره قبل الْبَحْث} عَنهُ، أم لَا؟
فَإِن جمَاعَة يذكرُونَ الْمَسْأَلَة هُنَا، وَجَمَاعَة يذكرونها هُنَاكَ، مِنْهُم: ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " وَنحن تابعناه على ذَلِك فنذكرها هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(5/2499)
(قَوْله: {فصل} )
{مثل {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} [التَّوْبَة: 103] يَقْتَضِي أَخذ الصَّدَقَة من كل نوع من المَال فِي ظَاهر كَلَام أبي الْفرج} الشِّيرَازِيّ، {وَقَالَهُ ابْن حمدَان} فِي " الْمقنع "، وَأكْثر الْعلمَاء من أَصْحَاب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، إِلَّا أَن يخص بِدَلِيل من السّنة، وَهُوَ مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي " الرسَالَة ".
{وَخَالف الْكَرْخِي وَابْن الْحَاجِب} ، فَقَالَا: يَكْفِي الْأَخْذ من نوع وَاحِد.(5/2500)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَنقل عَن الْكَرْخِي من الْحَنَفِيَّة أَن مُقْتَضى الْآيَة إِنَّمَا هُوَ أَخذ صَدَقَة وَاحِدَة من نوع وَاحِد، وَرجحه ابْن الْحَاجِب حَيْثُ قَالَ: خلافًا للأكثرين، ثمَّ قَالَ: لنا أَنه بِصَدقَة وَاحِدَة يصدق أَنَّهَا أَخذ مِنْهَا صَدَقَة فَيلْزم الِامْتِثَال، وَأَيْضًا فَإِن كل دِينَار مَال وَلَا يجب ذَلِك بِإِجْمَاع. انْتهى.
أُجِيب عَن الأول بِمَنْع صدق ذَلِك؛ لِأَن أَمْوَالهم جمع مُضَاف فَكَانَ عَاما فِي كل نوع نوع، وفرد فَرد إِلَّا مَا خرج بِالسنةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي.
وَعَن الثَّانِي: بِأَن المُرَاد عَن كل نِصَاب نِصَاب كَمَا بَينته السّنة.
وَمِمَّا ذكر احتجاجا للكرخي أَن (من) فِي الْآيَة للتَّبْعِيض، وَلَو كَانَت الْآيَة عَامَّة، والتبعيض يصدق بِبَعْض الْمَجْمُوع، وَلَو من نوع وَاحِد.
وَجَوَابه: أَن التَّبْعِيض فِي الْعَام إِنَّمَا يكون بِاعْتِبَار تبعيض كل جزئي جزئي مِنْهُ فَلَا بُد أَن يكون مأخوذا من كل نِصَاب، إِذْ لَو أسقطت (مِن) لَكَانَ المَال يُؤْخَذ كُله صَدَقَة.
وَأما الْآمِدِيّ فتوقف فِي الْمَسْأَلَة، فَلم يرجح شَيْئا؛ إِذْ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَبِالْجُمْلَةِ فَهِيَ مُحْتَملَة، ومأخذ الْكَرْخِي دَقِيق، قَالَه الْبرمَاوِيّ.(5/2501)
قلت: بل ميل الْآمِدِيّ إِلَى مُوَافقَة الْكَرْخِي لقَوْله: مأخذه دَقِيق؛ وَلأَجل ذَلِك - وَالله أعلم - اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَنَصره.
قَوْله: {وَإِذا تضمن الْعَام مدحا أَو ذما كالأبرار، والفجار} كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} [الانفطار: 13، 14] ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} [التَّوْبَة: 34] ، وَقَوله تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون} [الْمُؤْمِنُونَ: 5] {لم يمْنَع عُمُومه} ، أَي: لم يُغير عُمُومه {عِنْد} الْأَئِمَّة {الْأَرْبَعَة} .
قَالَ الْأُسْتَاذ: هُوَ ظَاهر الْمَذْهَب، وَقَالَ أَبُو حَامِد، وسليم، وَابْن برهَان، وَابْن السَّمْعَانِيّ، هُوَ الْمَذْهَب وَهُوَ الثَّابِت عَن الشَّافِعِي،(5/2502)
وَهُوَ الصَّحِيح؛ إِذْ لَا تنَافِي بَين قصد الْعُمُوم وَبَين الْمَدْح، أَو الذَّم فَيحمل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغَيرهمَا على الْعُمُوم؛ إِذْ لَا صَارف لَهُ عَنهُ.
{وَقيل: بلَى} ، أَي: تمنع الْعُمُوم، وَنَقله أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره عَن الشَّافِعِي، وَاخْتَارَهُ ألكيا، والقفال، وَالْقَاضِي حُسَيْن، وَقَالَهُ بعض الْحَنَفِيَّة كالكرخي وَغَيره، وَبَعض الْمَالِكِيَّة.
وَلذَلِك منع الشَّافِعِي التَّمَسُّك بِآيَة الزَّكَاة السَّابِقَة فِي وجوب زَكَاة الْحلِيّ الْمُبَاح.(5/2503)
وَالْآيَة {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب} قَالُوا: الْقَصْد الْمُبَالغَة فِي الْحَث والزجر فَلم يعم.
رد: الْعُمُوم أبلغ من ذَلِك، وَلَا مُنَافَاة فَعم للمقتضي، وَانْتِفَاء الْمَانِع.
{وَقيل: يمْنَع إِن عَارضه عَام آخر، وَإِلَّا فَلَا} يمْنَع فَيكون بَاقِيا على عُمُومه إِذا لم يُعَارضهُ عَام آخر لم يسق لمدح وَلَا ذمّ، فَإِن عَارضه ذَلِك عمل بالمعارض الْخَالِي عَن الْمَدْح والذم.
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة عين القَوْل بِالْعُمُومِ؛ لِأَن غَايَة الْمُعَارضَة قرينَة تقدم غَيره عَلَيْهِ فِي صُورَة.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَهَذَا القَوْل أَصَحهَا، وَهُوَ الثَّابِت عَن الشَّافِعِي الصَّحِيح من مذْهبه.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: الثَّالِث أَنه للْعُمُوم إِلَّا إِن عَارضه عَام آخر لم يقْصد بِهِ الْمَدْح أَو الذَّم فيترجح الَّذِي لم يسق لذَلِك عَلَيْهِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى:(5/2504)
{وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاء: 23] ، مَعَ قَوْله: {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 3] فَالْأولى سيقت؛ لبَيَان الحكم فَقدمت على مَا سياقها الْمِنَّة بِإِبَاحَة الْوَطْء بِملك الْيَمين.
وَقد رد أَصْحَابنَا بِهَذَا على دَاوُد الظَّاهِرِيّ احتجاجه بِالثَّانِيَةِ على إِبَاحَة الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين. انْتهى.(5/2505)
(بَاب التَّخْصِيص)(6/2507)
فارغة(6/2508)
(قَوْله: {بَاب التَّخْصِيص} )
لما انْتهى الْكَلَام فِي الْعُمُوم وصيغه شرعنا فِي مُقَابِله، وَهُوَ الْخُصُوص.
فالخاص فِي الِابْتِدَاء أمره ظَاهر، وَإِنَّمَا النّظر فِيمَا إِذا كَانَ عَاما ثمَّ صَار خَاصّا بِدَلِيل، فَهَذَا تتَوَقَّف مَعْرفَته على بَيَان التَّخْصِيص والمخصص - بِالْفَتْح - والمخصص - بِالْكَسْرِ -.
فَأَما التَّخْصِيص فرسمه: {قصر الْعَام على بعض أَجْزَائِهِ} .
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَلَعَلَّه مُرَاد من قَالَ على بعض مسمياته، فَإِن مُسَمّى الْعَام جَمِيع مَا يصلح لَهُ اللَّفْظ، لَا بعضه.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: هُوَ قصر الْعَام على بعض مسمياته.
وَوَافَقَهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره.(6/2509)
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ تبعا ل " جمع الْجَوَامِع ": (هُوَ قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، فَخرج تَقْيِيد الْمُطلق؛ لِأَنَّهُ قصر مُطلق لَا عَام، كرقبة مُؤمنَة، وَكَذَا الْإِخْرَاج من الْعدَد كعشرة إِلَّا ثَلَاثَة، وَنَحْو ذَلِك، وَدخل مَا عُمُومه بِاللَّفْظِ ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} قصر بِالدَّلِيلِ على غير الذِّمِّيّ وَغَيره مِمَّن عصم بِأَمَان، وَمَا عُمُومه بِالْمَعْنَى كقصر عِلّة الرِّبَا فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ - مثلا - بِأَنَّهُ ينقص إِذا جف على غير الْعَرَايَا.
وَالَّذِي يظْهر أَن الْحَد الَّذِي قدمْنَاهُ مُوَافق لما قَالَه فِي " جمع الْجَوَامِع " وَغَيره، وَمَا قَالَه ابْن الْحَاجِب وَغَيره، هُوَ كَمَا قَالَه ابْن مُفْلِح فَيكون معنى هَذِه الْحُدُود وَاحِدًا.
لَكِن قَالَ الكوراني: وَإِنَّمَا عدل المُصَنّف عَن حد ابْن الْحَاجِب على مَا فِي بعض الشُّرُوح؛ لِأَن مُسَمّى الْعَام وَاحِد، وَهُوَ كل الْأَفْرَاد، قَالَ: وَهَذَا وهم مِنْهُ؛ لِأَن المُرَاد بالمسميات هِيَ الْآحَاد الَّتِي اشتركت فِي أَمر، كالرجال - مثلا - فَإِنَّهَا مُشْتَركَة فِي معنى الرجل، فَهِيَ مسميات ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك فِيهِ لَا مسميات الْعَام؛ وَلذَلِك يصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد أَنه ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك مَعَ توجه الِاعْتِرَاض على عبارَة المُصَنّف من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْمُتَبَادر من الْأَفْرَاد هِيَ الجزئيات، كزيد، وَعَمْرو، وَبكر؛ فَإِنَّهَا أَفْرَاد الْإِنْسَان، أَي: جزئياته فَيصدق على كل وَاحِد أَنه إِنْسَان بِخِلَاف(6/2510)
الْعَام فَإِنَّهُ لَا يصدق على تِلْكَ الْأَفْرَاد.
الثَّانِي: أَن أَفْرَاد الْجمع الْمُسْتَغْرق هِيَ الجموع، لَا الوحدان؛ فَيلْزم أَن يكونه معنى الْعُمُوم فِي الرِّجَال يتَنَاوَلهُ جَمِيع الجموع، لَا الوحدان، وَالْمُصَنّف لم يقل بِهِ، وَإِن صَار إِلَى التَّأْوِيل فَإِن المُرَاد هِيَ آحَاد بِاعْتِبَار أَمر اشتركت فِيهِ على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَوْجِيه كَلَام الشَّيْخ فَلَا وَجه للعدول عَنهُ.
تَنْبِيه: المُرَاد من قصر الْعَام قصر حكمه، وَإِن كَانَ لفظ الْعَام بَاقِيا على عُمُومه، لَكِن لفظا لَا حكما فبذلك يخرج إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، فَإِن ذَلِك قصر دلَالَة لفظ الْعَام لَا قصر حكمه.
وَقد أورد على تَعْرِيف التَّخْصِيص أَنه إِنَّمَا يكون تَخْصِيصًا بِدَلِيل، فَلم لَا، قيل: قصر الْعَام بدليله؟
وَجَوَابه: أَن الْكَلَام فِي التَّخْصِيص الشَّرْعِيّ فالتقدير قصر الشَّارِع الْعَام على بعض أَفْرَاده فأضيف الْمصدر إِلَى مَفْعُوله وَحذف الْفَاعِل للْعلم بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ المعتزلي: هُوَ {إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب} عَن الْخطاب، لشُمُوله - بِتَقْدِير وجود الْمُخَصّص - جَمِيع الْأَفْرَاد فِي نَفسه، والمخصص أخرج بَعْضهَا عَنهُ.(6/2511)
وَقيل: أَرَادَ مَا يتَنَاوَلهُ بِتَقْدِير عدم الْمُخَصّص، نَحْو قَوْلهم، خص الْعَام فَيرد - إِذا - دور لَا جَوَاب عَنهُ.
وَعند الْآمِدِيّ: تَعْرِيف أَن الْعُمُوم للخصوص، فَيرد الدّور؛ لِأَنَّهُمَا لِمَعْنى وَاحِد.
أُجِيب: المُرَاد فِي الْحَد التَّخْصِيص لُغَة أَخذ فِي حَده اصْطِلَاحا، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَيُطلق على قصر لفظ غير عَام على بعض مُسَمَّاهُ كَمَا يُطلق عَام على غير لفظ عَام} ، كعشرة وَالْمُسْلِمين للْعهد.
زَاد بَعضهم وضمائر الْجمع؛ لِأَنَّهَا لَا تدل بِنَفسِهَا.
وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سبق؛ لِأَنَّهَا تَابِعَة للمظهر.
قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: وَيُطلق التَّخْصِيص على قصر اللَّفْظ على بعض مُسَمَّاهُ، وَإِن لم يكن عَاما بالاصطلاح، كإطلاق الْعشْرَة على بعض آحادها، وَكَذَلِكَ يُطلق على اللَّفْظ عَام وَإِن لم يكن عَاما؛ لتعدده كعشرة(6/2512)
وَالْمُسْلِمين المعهودين، لَا الْمُسلمين مُطلقًا، وَإِلَّا كَانَ عَاما اصْطِلَاحا. انْتهى.
قَالَ الْعَضُد: كَمَا يُطلق الْعَام على بعض مسمياته فقد يُطلق على قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته وَإِن لم يكن عَاما، وَذَلِكَ كَمَا يُطلق على اللَّفْظ كَونه عَاما؛ لتَعَدد مسمياته كعشرة، يُقَال لَهُ عَام بِاعْتِبَار آحاده، فَإِذا قصر على خَمْسَة بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ قيل: قد خصص، وَكَذَلِكَ الْمُسلمُونَ للمعهودين، نَحْو: جَاءَنِي مُسلمُونَ، وأكرمت الْمُسلمين إِلَّا زيدا؛ فَإِنَّهُم يسمون الْمُسلمُونَ عَاما، وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ تَخْصِيصًا. انْتهى.
قَوْله: {وَأَجَازَهُ الْأَرْبَعَة والمعظم مُطلقًا، وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، وَمنع قوم فِي الْخَبَر، وَقوم فِي الْأَمر} .
أجَاز الْجُمْهُور التَّخْصِيص مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ أمرا أَو نهيا أَو خَبرا.(6/2513)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد تعرض ابْن الْحَاجِب، وَغَيره إِلَى حِكَايَة الْخلاف فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعَام فَقَالَ: التَّخْصِيص جَائِز إِلَّا عِنْد شذوذ، وَأَرَادَ بذلك أَن الْعَام، سَوَاء كَانَ أمرا، أَو خَبرا، أَو نهيا يجوز أَن يطرقه التَّخْصِيص. انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح: التَّخْصِيص جَائِز عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وَغَيرهم خلافًا لبَعض الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ فِي الْخَبَر، وَعَن بَعضهم: وَفِي الْأَمر. انْتهى.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي الْكتاب، وَالسّنة.
قَالُوا: يُوهم فِي الْخَبَر الْكَذِب، وَفِي الْأَمر البداء.
رد: بِالْمَنْعِ.
قَالُوا: كنسخ الْخَبَر.(6/2514)
فَأجَاب أَبُو الْخطاب، وَابْن عقيل، والآمدي بِالْمَنْعِ، ثمَّ التَّخْصِيص يبين المُرَاد بِاللَّفْظِ، والنسخ رفع.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: لَكِن مُقْتَضى إِيرَاد جمَاعَة، مِنْهُم: الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وسليم، وَابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن، والآمدي: أَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيص الْعَام إِذا كَانَ خَبرا لَا أمرا، أَو نهيا فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف.
وَيرد ذَلِك كُله وُرُود مَا هُوَ مَخْصُوص قطعا، نَحْو: {الله خلق كل شَيْء} [الزمر: 62] ، {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] ، {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء} [الْقَصَص: 57] ، {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، {وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا} [الْكَهْف: 84] .
وَفِي الْأَمر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، وَفِي النَّهْي: {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} [الْبَقَرَة: 222] مَعَ أَن بعض القربان غير مَنْهِيّ عَنهُ قطعا.(6/2515)
بل قَالُوا: لَا عَام إِلَّا وطرقه التَّخْصِيص إِلَّا مَوَاضِع يسيرَة.
قَوْله: وَلَو لمؤكد فِي الْأَصَح، أَي: لعام مُؤَكد، فالعام إِذا أكد لَا يمْنَع تَخْصِيصه على أصح قولي الْعلمَاء، حَكَاهُمَا جمع من الْعلمَاء وصححوا الْجَوَاز، وَنقل القَوْل بِالْمَنْعِ من ذَلِك أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن بَعضهم، وَجزم بِهِ الْمَازرِيّ، مستندين إِلَى التَّأْكِيد لنفي الْمجَاز، وَلِهَذَا وَقع الْجَواب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله} [آل عمرَان: 154] على قِرَاءَة نصب (كُله) ؛ لِأَنَّهُ لَو لم يكن معينا للْعُمُوم لما وَقع جَوَابا لمن قَالَ: {هَل لنا من الْأَمر من شَيْء} ، وَلَكِن الْأَصَح أَنه يخصص بِدَلِيل {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيس} [الْحجر: 30، 31] إِذا قدر مُتَّصِلا.(6/2516)
وَفِي الحَدِيث: " فأحرموا كلهم إِلَّا أَبَا قَتَادَة ".
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَفِي " الْبُرْهَان " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن الْجَوَاز قَضِيَّة كَلَام الْأَشْعَرِيّ، وَصرح بِهِ الْقفال الشَّاشِي، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، بل ظَاهر كَلَام الْهِنْدِيّ فِي بَاب النّسخ أَنه إِجْمَاع. انْتهى.
قَوْله: {وَلَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا لَهُ شُمُول حسا أَو حكما} .
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره: لَا تَخْصِيص إِلَّا فِيمَا يَصح توكيده بِكُل، وَهُوَ مَا لَهُ شُمُول حسا، نَحْو: جَاءَنِي الْقَوْم، أَو حكما نَحْو: اشْتريت العَبْد.(6/2517)
قَالَ الْعَسْقَلَانِي: لَا يَسْتَقِيم التَّخْصِيص إِلَّا بِمَا فِيهِ معنى الشُّمُول، وَيصِح توكيده بِكُل ليَكُون ذَا أَجزَاء يَصح اقترانها إِمَّا حسا ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ، أَو حكما كاشتريت الْجَارِيَة كلهَا لِإِمْكَان افْتِرَاق أَجْزَائِهَا. انْتهى.
قَالَ ابْن عقيل: التَّخْصِيص والنسخ فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا يتَنَاوَل أفعالنا الْوَاقِعَة فِي الْأَزْمَان، والأعيان فَقَط، وَالْفُقَهَاء والمتكلمون أَكْثرُوا القَوْل بِأَن النّسخ يتَنَاوَل الْأَزْمَان فَقَط، والتخصيص يتَنَاوَل الْجَمِيع، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلهُ المحصلون تجوزا. انْتهى.(6/2518)
(قَوْله: {فصل} )
{أَكثر أَصْحَابنَا وَغَيرهم يجوز تَخْصِيصه إِلَى أَن يبْقى وَاحِد.
وَمنع الْمجد وَغَيره} من أَصْحَابنَا، {وَأَبُو بكر الرَّازِيّ من أقل الْجمع.
والقفال وَغَيره إِن كَانَ لَفظه جمعا.
وَالْقَاضِي وَولد الْمجد، وَجمع لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر.
وَالْمجد، وَابْن حمدَان، وَطَائِفَة كثرت تقرب من مَدْلُول اللَّفْظ.
وَجوزهُ ابْن الْحَاجِب باستثناء وَبدل إِلَى وَاحِد، وبمتصل(6/2519)
كصفة، ومنفصل فِي مَحْصُور قَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ، وَغير المحصور، وَالْعدَد الْكثير، كالمجد} .
الْمَذْهَب الأول هُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَأَصْحَابه.
قَالَ ابْن مُفْلِح: يجوز تَخْصِيص الْعَام إِلَى أَن يبْقى وَاحِد عِنْد أَصْحَابنَا.
قَالَ الْحلْوانِي: هُوَ قَول الْجَمَاعَة. وَكَذَا قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَالَ ابْن برهَان: هُوَ الْمَذْهَب الْمَنْصُور.
قَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: هُوَ قَول مَالك وَالْجُمْهُور.
وَحكى الْجُوَيْنِيّ إِجْمَاع أهل السّنة على ذَلِك فِي (من) و (مَا)(6/2520)
وَنَحْوهمَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي " التَّلْخِيص " وَغَيره عَن مُعظم أَصْحَاب الشَّافِعِي، قَالَ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ.
وَنَقله أَيْضا عَن معظمهم ابْن الصّباغ، وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن سَائِر أَصْحَاب الشَّافِعِي خلا الْقفال.
وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ عَن إِجْمَاع أَئِمَّتنَا، وَصَححهُ القَاضِي أَبُو الطّيب.
وَمنع الْمجد، وَغَيره من أَصْحَابنَا، وَأَبُو بكر الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ، والقفال، وَالْغَزالِيّ النَّقْص من أقل الْجمع، قَالَه ابْن مُفْلِح.(6/2521)
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيهِ مَذَاهِب:
أَحدهَا - وَهُوَ الْمُخْتَار، ورأي الْقفال -: أَنه يجوز التَّخْصِيص إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى أقل الْمَرَاتِب الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا ذَلِك الْعَام الَّذِي يخص، فَإِن لم يكن جمعا، وَلَا فِي معنى الْجمع كمن، وَمَا، وَأَيْنَ، وَنَحْو ذَلِك، فَإلَى أَن يبْقى وَاحِد، وَإِن كَانَ جمعا، كالرجال أَو مَا فِي مَعْنَاهُ كالنساء وَالْقَوْم، والرهط، وَنَحْو ذَلِك، فَإلَى أَن يبْقى أقل مَا ينطبق عَلَيْهِ الْجمع، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ.
وعَلى هَذَا فيفصل فِي الْجمع فَإِن كَانَ جمع قلَّة فَإلَى ثَلَاثَة، وَإِن كَانَ جمع كَثْرَة، أَو مَا فِي معنى الْجمع فَإلَى أحد عشر.
لَكِن هَذَا التَّفْصِيل مُفَرع على أَن الْجمع الْعَام آحاده جموع لَا وحدان، فَأَما إِن قُلْنَا الْآحَاد وحدان فَهُوَ حِينَئِذٍ كمن، وَمَا، وَنَحْوهمَا. انْتهى.
لَكِن القَوْل الثَّانِي غير قَول الْقفال، فَإِن القَوْل الثَّانِي الْمَنْع من أقل الْجمع مُطلقًا، أَعنِي سَوَاء كَانَ لفظا أَو معنى، أَو لَا كَمَا تقدم تمثيله، وَهُوَ مَذْهَب حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ فَقَالَ: الْمَذْهَب الرَّابِع: أَنه لَا بُد من بَقَاء أقل الْجمع مُطلقًا، وَلَو لم تكن صِيغَة الْعُمُوم جمعا، حَكَاهُ ابْن برهَان، وَغَيره. انْتهى.(6/2522)
فَنقل ابْن مُفْلِح فِيهِ نظر؛ فَإِن مَذْهَب الْمجد، وَجمع كَمَا ذكر، وَهَذَا الْمَذْهَب غَيره، وَلذَلِك أفردناه فِي الْمَتْن عَن هَذَا القَوْل فَقُلْنَا بعد حِكَايَة القَوْل الثَّانِي: والقفال وَغَيره إِن كَانَ لَفظه جمعا، فمذهب الْقفال وَالْجمع الَّذِي مَعَه أخص من الْمَذْهَب الَّذِي قبله، فَليعلم ذَلِك.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي " الْكِفَايَة "، وَولد الْمجد الشَّيْخ عبد الْحَلِيم وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَجمع: لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: الْمَذْهَب الثَّالِث: مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو الْحُسَيْن، وَرُبمَا نقل عَن الْمُعْتَزلَة من غير تعْيين وَإِلَيْهِ ميل إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ، وَنَقله بعض الْمُتَأَخِّرين عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَأَنه لَا بُد مِمَّن بَقَاء جمع كثير.
قيل: إِلَّا أَن يسْتَعْمل ذَلِك الْعَام فِي الْوَاحِد تَعْظِيمًا، نَحْو: {فقدرنا فَنعم القادرون} [المرسلات: 23] ، وَلَكِن لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَن هَذَا من إِطْلَاق الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص، وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ.(6/2523)
وَهَذَا الْمَذْهَب نَقله أَيْضا الْآمِدِيّ، وَابْن الْحَاجِب عَن الْأَكْثَرين، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، وَأَتْبَاعه، لَكِن اخْتلفُوا فِي ذَلِك الْجمع الْكثير، فَقَالَ الْمجد بن تَيْمِية، وَابْن حمدَان، وَطَائِفَة: كَثْرَة تقرب من مَدْلُول اللَّفْظ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: فَقَالَ ابْن الْحَاجِب: الَّذِي يقرب من مَدْلُوله قبل التَّخْصِيص، قَالَ: وَمُقْتَضى هَذَا أَن يكون أَكثر من النّصْف.
وَفسّر جمع - كالبيضاوي - بِأَن يبْقى غير مَحْصُور.
قلت: وَقَرِيب مِنْهُ مَا قَالَه القَاضِي، وَولد الْمجد، لَا بُد أَن تبقى كَثْرَة وَإِن لم تقدر بِحَال.(6/2524)
وَالتَّفْسِير متقاربان؛ إِذْ المُرَاد بِكَوْنِهِ يقرب من مَدْلُول الْعَام أَن يكون غير مَحْصُور فَإِن الْعَام هُوَ الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ من غير حصر فَهُوَ معنى أَن يبْقى غير مَحْصُور.
قَوْله: {وَجوزهُ ابْن الْحَاجِب} ، هَذَا تَفْصِيل لِابْنِ الْحَاجِب وَقَالَ: إِنَّه الْمُخْتَار، وَهُوَ أَنه جوزه {باستثناء وَبدل إِلَى وَاحِد، وبمتصل كصفة ومنفصل فِي مَحْصُور قَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ} ، مثل: قتلت كل زنديق، وَقد قتل اثْنَيْنِ والزنادقة كَانُوا ثَلَاثَة.
{وَغير المحصور وَالْعدَد الْكثير ك} - يَقُول {الْمجد} ، وَهُوَ أَن تبقى بعد التَّخْصِيص كَثِيرَة تقرب من مَدْلُول الْعَام، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي وَغَيره: وَلَا يعرف هَذَا التَّفْصِيل لغيره.
وَلَهُم قَول آخر بالتفصيل بَين أَن يكون التَّخْصِيص بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالْبدل فَيجوز إِلَى وَاحِد، وَبَين أَن لَا يكون بهما فَلَا يجوز إِلَى وَاحِد، حَكَاهُ ابْن المطهر.(6/2525)
اسْتدلَّ لِلْقَوْلِ الأول - وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب -: لَو امْتنع ذَلِك لَكَانَ الِامْتِنَاع، إِمَّا لِأَنَّهُ مجَاز، أَو لاستعماله فِي غير مَوْضُوعه فَيمْتَنع تَخْصِيصه مُطلقًا.
وَاعْترض على ذَلِك بِأَن الْمَنْع لعدم اسْتِعْمَاله فِيهِ لُغَة.
وَجَوَابه بِالْمَنْعِ، ثمَّ لَا فرق.
وَأَيْضًا: أكْرم النَّاس إِلَّا الْجُهَّال.
وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خص بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَجَوَابه: الْمَعْرُوف التَّسْوِيَة، ثمَّ لَا فرق.
اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} [آل عمرَان: 173] وَأُرِيد نعيم بن مَسْعُود.
رد: لَيْسَ بعام؛ لِأَنَّهُ لمعهود.
وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] .
أُجِيب: أطلق الْجمع عَلَيْهِ؛ للتعظيم وَمحل النزاع فِي الْإِخْرَاج مِنْهُ.
وَاسْتدلَّ بِجَوَاز قَوْله: (أكلت الْخبز وشربت المَاء لأَقل) .
رد: المُرَاد بعض مُطَابق لمعهود ذهني.
الْقَائِل بِأَقَلّ الْجمع مَا سبق.(6/2526)
رد: لَيْسَ الْجمع بعام ليطلق الْعَام على مَا يُطلق عَلَيْهِ.
الْقَائِل بِالْكَثْرَةِ لَو قَالَ: قتلت كل من كَانَ فِي الْبَلَد، أَو أكلت كل رمانة، أَو من دخل فَأكْرمه، وَفَسرهُ بِثَلَاثَة عد قبيحا لُغَة.
أجَاب الْآمِدِيّ بِالْمَنْعِ مَعَ قرينَة بِدَلِيل مَا سبق من إِرَادَة نعيم بن مَسْعُود من (النَّاس) وَصِحَّة (أكلت الْخبز) .
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد ": يلْزم الِاسْتِثْنَاء فِيهِ لُغَة، وَيجوز عِنْد الْخصم، وَبِأَنَّهُ قد يَقُول ذَلِك وَإِن أكل قَلِيلا كَقَوْل مَرِيض: أكلت اللَّحْم، يُرِيد قَلِيلا.
وَفِي هَذَا الْموضع يَقُول الْخصم: المُرَاد أكل الْجِنْس فَلَا يلْزمه.
قَوْله: {والمخصص الْمخْرج وَهُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم وَيُطلق على الدَّلِيل مجَازًا وَهُوَ المُرَاد هُنَا} وَقَالَ ذَلِك أَكثر الْعلمَاء.
لما فرغ من بَيَان التَّخْصِيص شرعنا فِي الْمُخَصّص - بِكَسْر الصَّاد - وَهُوَ حَقِيقَة فَاعل التَّخْصِيص الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج، 5 ثمَّ أطلق على إِرَادَة الْإِخْرَاج؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخصص بالإرادة فَأطلق على نفس الْإِرَادَة مُخَصّصا، حَتَّى(6/2527)
قَالَ الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه: إِن حَقِيقَة التَّخْصِيص هُوَ الْإِرَادَة ثمَّ أطلق الْمُخَصّص على الدَّلِيل الدَّال على الْإِرَادَة.
وَمِنْهُم من يَحْكِي هذَيْن قَوْلَيْنِ، كَمَا فعل القَاضِي عبد الْوَهَّاب وَابْن برهَان:
أَحدهمَا: أَن الْمُخَصّص إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب.
وَالثَّانِي: الدَّلِيل الدَّال على إدادة ذَلِك.
وَبِالْجُمْلَةِ فالمقصود من التَّرْجَمَة الثَّانِي وَهُوَ الدَّلِيل فَإِنَّهُ الشَّائِع فِي الْأُصُول حَتَّى صَار حَقِيقَة عرفية، وَرُبمَا أطلق الْمُخَصّص على الْمظهر لإِرَادَة مُرِيد التَّخْصِيص من مُجْتَهد وَغَيره.
إِذا علم ذَلِك فالمخصص قِسْمَانِ:
مُتَّصِل: وَهُوَ مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، بل مُرْتَبِط بِكَلَام آخر.
ومنفصل: وَهُوَ مَا يسْتَقلّ.
فَلذَلِك قُلْنَا: {وَهُوَ مُتَّصِل، ومنفصل، وَخَصه بعض أَصْحَابنَا(6/2528)
وَغَيرهم بالمنفصل، وَقَالَ: لَا يدْخل فِي التَّخْصِيص الْمُطلق} .
أَكثر أهل الْعلم، على أَن الْمُخَصّص قِسْمَانِ: مُتَّصِل، ومنفصل وَقَطعُوا بذلك.
وَخَصه بعض أَصْحَابنَا بالمنفصل، وَقَالَ: هُوَ اصْطِلَاح كثير من الْأُصُولِيِّينَ؛ لِأَن الِاتِّصَال مَنعه الْعُمُوم فَلم يدل إِلَّا مُتَّصِلا فَلَا يُسمى عَاما مَخْصُوصًا.
وَقَالَ أَيْضا: لَا يدْخل فِي التَّخْصِيص الْمُطلق.
وَفِي " التَّمْهِيد ": الْعُمُوم بِدُونِ ذَلِك لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، بل الْمَجْمُوع الْحَقِيقَة؛ لِأَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ الْبَعْض بالمجموع، وَاحْتج بِهَذَا على أَنه لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس، وَفِي " الرَّوْضَة " فِي كَلَامه على الشَّرْط معنى ذَلِك.
قَوْله: {فالمتصل: اسْتثِْنَاء مُتَّصِل [وَشرط] ، وَصفَة، وَغَايَة،(6/2529)
وَزَاد الْآمِدِيّ وَمن تبعه} - كَابْن الْحَاجِب - {بدل الْبَعْض} .
أما الْأَرْبَعَة الأول فَلَا خلاف فِي أَنَّهَا من المخصصات، وَأما بدل الْبَعْض فَذكره الْآمِدِيّ وَمن تبعه من المخصصات.
قَالَ الْأَصْفَهَانِي فِي " شرح الْمُخْتَصر " وَغَيره: وَقد زَاد المُصَنّف بدل الْبَعْض عَن الْكل؛ لِأَنَّهُ إِخْرَاج بعض مَا يتَنَاوَلهُ اللَّفْظ.
قَالَ: وَفِيه نظر، فَإِن الْمُبدل فِي حكم المطرح وَالْبدل قد أقيم مقَامه فَلَا يكون مُخَصّصا لَهُ، وَخص المُصَنّف بدل الْبَعْض بِكَوْنِهِ مُخَصّصا دون الأبدال الْبَاقِيَة لكَونهَا غير متناهية. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: من المخصصات الْمُتَّصِلَة بدل الْبَعْض من الْكل، مثل: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمرَان: 97] ، {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (2) نصفه} [المزمل: 2، 3] ، {ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم} [الْمَائِدَة: 71] ، عده ابْن الْحَاجِب من الْمُخَصّص، وَأنْكرهُ الصفي(6/2530)
الْهِنْدِيّ فِي " الرسَالَة السيفية "، قَالَ: لِأَن الْمُبدل مِنْهُ كالمطرح فَلم يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْإِخْرَاج والتخصيص لَا بُد فِيهِ من الْإِخْرَاج، فَلذَلِك قدرُوا فِي آيَة الْحَج: وَللَّه الْحَج على المستطيع.
وَكَذَا انْظُر الْأَصْفَهَانِي كَمَا تقدم، وَمن ثمَّ لم يذكرهُ الْأَكْثَر - مِنْهُم: السُّبْكِيّ -، وعللوه بِمَا تقدم.
لَكِن قَالَ الْبرمَاوِيّ: فِيمَا قَالُوهُ نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن أَبَا حَيَّان نقل التَّخْصِيص بِالْبَدَلِ عَن الشَّافِعِي؛ إِذْ قَالَ فِي قصيدته الَّتِي مدح فِيهَا الشَّافِعِي:
إِنَّه هُوَ الَّذِي استنبط الْفَنّ الأصولي، وَإنَّهُ الَّذِي يَقُول بتخصيص الْعُمُوم بالبدلين.
وَمرَاده بدل الْبَعْض، وَبدل الاشتمال، فاستفدنا مِنْهُ أَن بدل الاشتمال فِي معنى بدل الْبَعْض فِي التَّخْصِيص عِنْد من يَقُول بِهِ، وَمَعْنَاهُ ظَاهر؛ لِأَن قَوْلك: أعجبني زيد علمه، يكون الأول معبرا بِهِ عَن مَجْمُوع(6/2531)
ذَاته وَعلمه وَسَائِر أَوْصَافه، فَإِذا قلت: علمه، تخصص الحكم بِعِلْمِهِ فَقَط، وَفهم بَعضهم من الْبَدَلَيْنِ بدل الْبَعْض، وَبدل الْمُطَابقَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن مَا قَالُوهُ فِي اطراح الْمُبدل مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ تَفْرِيع على أَن الْمُبدل مِنْهُ مطرح، وَهُوَ أحد الْأَقْوَال فِي الْمَسْأَلَة، وَالْأَكْثَر على خِلَافه. انْتهى.
قَوْله: {الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل كَلَام ذُو صِيغ محصورة تدل على أَن الْمَذْكُور فِيهِ لم يرد بالْقَوْل الأول قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل وَالْغَزالِيّ} .
لما ذكرنَا أَن المخصصات أَرْبَعَة أَو خَمْسَة - على رَأْي - شرعنا نبين أَحْكَامهَا على التَّرْتِيب، فالاستثناء مَأْخُوذ من الثني وَهُوَ الْعَطف، تَقول: ثنيت الْحَبل أثنيه إِذا عطف بعضه على بعض.(6/2532)
وَقيل: من ثنيته عَن الشَّيْء إِذا صرفته عَنهُ.
وَهُوَ شَيْئَانِ: اسْتثِْنَاء مُتَّصِل، واستثناء مُنْقَطع، وَالْمرَاد هُنَا الْمُتَّصِل، أما الْمُنْقَطع فَسَيَأْتِي أَن الرَّاجِح أَنه لَا يعد من المخصصات، وَفِي تَعْرِيف كل مِنْهُمَا عِبَارَات، ذكرنَا فِي الْمُتَّصِل عبارتين: مَا قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى، وَابْن عقيل، وَالْغَزالِيّ الْمُتَقَدّم ذكره.
فَقَوْلهم: ذُو صِيغ محصورة مُرَادهم أدوات الِاسْتِثْنَاء الثَّمَانِية الْمَشْهُورَة الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ حرف اتِّفَاقًا ك (إِلَّا) ، أَو على الْأَصَح ك (حاشا) فَإِنَّهَا حرف عِنْد سِيبَوَيْهٍ دَائِما، وَيُقَال فِيهَا: حاش وحشا.
وَمِنْهَا مَا هُوَ فعل ك (لَا يكون) ، أَو على الرَّاجِح ك (لَيْسَ) ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَرَدّد بَين الحرفية، والفعلية، فَإِن نصب مَا بعده كَانَ فعلا،(6/2533)
أَو جَرّه كَانَ حرفا، وَهُوَ (خلا) بِاتِّفَاق، و (عدا) عِنْد غير سِيبَوَيْهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ اسْم، وَهُوَ (غير) ، و (سوى) .
سَوَاء قُلْنَا: هُوَ ظرف، وَإِنَّمَا اسْتثْنِي بِهِ، أَو قُلْنَا: يتَصَرَّف تصرف الْأَسْمَاء، وَيُقَال فِيهِ: سوا - بِضَم السِّين - وسَوآ - بِفَتْحِهَا وَالْمدّ وبكسرها وَالْمدّ، ذكرهَا الفاسي فِي " شرح الشاطبية ".
إِذا علم ذَلِك رَجعْنَا إِلَى قيود الْحَد:
فَقَوْلهم: (كَلَام) احْتِرَاز من التَّخْصِيص بِغَيْر القَوْل، كَفعل، وقرينة، وَدَلِيل، عقل، وحس.
وَقَوْلهمْ: (ذُو صِيغ محصورة) أورد عَلَيْهِ الْأَقْوَال الْمُوجبَة للتخصيص الْخَارِجَة عَن الِاسْتِثْنَاء، كالشرط، والغاية، وَنَحْو: (فَاقْتُلُوا(6/2534)
الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] وَلَا تقتلُوا النِّسَاء، فَلَو زادوا بعد (صِيغ محصورة) مَخْصُوصَة لاندفع الْإِيرَاد.
قلت: قد ذكره ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره " عَن الْغَزالِيّ، قَالَ: وَأوردهُ على طرده التَّخْصِيص بِالشّرطِ، وَالْوَصْف بِالَّذِي، والغاية، وَمثل: قَامَ الْقَوْم، وَلم يقم زيد، وَلَا يرد الْأَوَّلَانِ، وعَلى عَكسه جَاءَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِذِي صِيغ. انْتهى.
قَالَ الطوفي: وَهَذَا الْحَد قَول من يزْعم أَن التَّعْرِيف بِالْإِخْرَاجِ تنَاقض؛ لِأَن قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا ينْحل إِلَى (قَامَ زيد، لم يقم زيد وَلَيْسَ بِشَيْء) ؛ لِأَن دُخُول زيد إِنَّمَا هُوَ بِحَسب اللَّفْظ ظَاهرا، لَا بِحَسب الحكم؛ إِذْ لَا يثبت إِلَّا بِتمَام الْكَلَام فَيكون الِاسْتِثْنَاء دافعا لثُبُوت الحكم؛ لِأَن أَفعاله بعد ثُبُوته، وَإِلَّا لزم التَّنَاقُض الْمَحْض فِي قَوْله تَعَالَى: {ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] وَهُوَ محَال، وَهَذَا مَحل شُبْهَة أبي بكر من(6/2535)
أَصْحَابنَا، وَمنعه صِحَة الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق بِنَاء على امْتنَاع ارْتِفَاع الطَّلَاق بعد وُقُوعه.
ثمَّ الْمرجع فِي هَذَا الشَّأْن إِلَى أهل اللُّغَة وَقد عرفوه بِالْإِخْرَاجِ، مِنْهُم ابْن جني، وَغَيره، فَلهَذَا قُلْنَا: وَالأَصَح الْإِخْرَاج بإلا، أَو إِحْدَى أخواتها، وَقد عرفت أخواتها فِيمَا تقدم، وَيَأْتِي تَتِمَّة الْحَد قَرِيبا، وَهَذَا الْحَد قَالَه الطوفي، وَكثير من الْعلمَاء.
قَوْله: {من مُتَكَلم وَاحِد [و] قيل مُطلقًا} .
الصَّحِيح أَن من شَرط صِحَة الِاسْتِثْنَاء كَونه من مُتَكَلم وَاحِد، ليخرج مَا لَو قَالَ الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] ، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِلَّا أهل الذِّمَّة؛ فَإِن ذَلِك اسْتثِْنَاء مُنْفَصِل، لَا مُتَّصِل، وَقدم هَذَا القَوْل فِي " جمع الْجَوَامِع ".(6/2536)
وَقَالَهُ الباقلاني، والصفي الْهِنْدِيّ، وَغَيرهمَا، وَضعف مُقَابِله؛ وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو قَالَ: لي عَلَيْك مائَة، فَقَالَ: إِلَّا درهما لم يكن مقرا بِمَا عدا الْمُسْتَثْنى على الْأَصَح.
وَأما استناد من جوزه من متكلمين إِلَى أَن الْمِثَال السَّابِق فِي قَول الله تَعَالَى، وَقَول الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا بدع فِيهِ؛ لِأَن الْكَلَامَيْنِ كالواحد؛ لِأَنَّهُ مبلغ عَن الله تَعَالَى فَذَاك بِخُصُوص الْمِثَال، لَا فِي كل اسْتثِْنَاء من متكلمين.
وَلذَلِك احْتِيجَ فِي قَول الْعَبَّاس بعد قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا يخْتَلى خلاه إِلَّا الْإِذْخر " فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر "، إِلَى تَأْوِيله بِأَن الْعَبَّاس أَرَادَ أَن يذكرهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالِاسْتِثْنَاءِ خشيَة أَن يسكت عَنهُ اتكالا على فهم السَّامع ذَلِك بِقَرِينَة، وَفهم مِنْهُ أَنه يُرِيد اسْتثِْنَاء؛ وَلأَجل ذَلِك أعَاد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الِاسْتِثْنَاء فَقَالَ: " إِلَّا الْإِذْخر " وَلم يكْتب باستثناء الْعَبَّاس.
فَكل ذَلِك يرشد إِلَى اعْتِبَار كَونه من مُتَكَلم وَاحِد، وَأطَال الْبرمَاوِيّ فِي ذَلِك.(6/2537)
تَنْبِيه: أورد على تَعْرِيف الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بِأَن إِلَّا، وَنَحْوه من التَّعْرِيف لكَونه أَدَاة اسْتثِْنَاء فتصور ذَلِك فِيهِ مُتَوَقف على تصور الِاسْتِثْنَاء، فَلَو عَرفْنَاهُ بِهِ كَانَ دورا.
وَجَوَابه: أَنه إِنَّمَا وقف التَّعْرِيف بهَا من حَيْثُ كَونهَا مخرجة لَا من حَيْثُ خُصُوص الِاسْتِثْنَاء، فَإِن الْإِخْرَاج أَعم.
وَيُجَاب بِهَذَا - أَيْضا - عَن السُّؤَال فِي قَوْله: (وَنَحْوهَا) أَنه كَانَ من حَيْثُ الِاسْتِثْنَاء لزم الدّور؛ إِذْ من حَيْثُ الْإِخْرَاج فِي الْجُمْلَة دخل التَّخْصِيص بالمنفصل، وَغير الِاسْتِثْنَاء من الْمُتَّصِل، فَقَالَ الْمخْرج بِالْوَضْعِ إِنَّمَا هُوَ ذَوَات الِاسْتِثْنَاء، فَهُوَ المُرَاد. انْتهى.
قَوْله: {فَهُوَ إِخْرَاج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله لُغَة، عِنْد أَصْحَابنَا وَغَيرهم} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا قَول أَصْحَابنَا، والأكثرين.
فعلى هَذَا لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من النكرَة، لَا مَا جَازَ دُخُوله.
يَعْنِي: أَنه لَا يقدر إِخْرَاج مَا لولاه لجَاز دُخُوله، خلافًا لقوم فِي هَذَا القَوْل يَصح الِاسْتِثْنَاء من النكرَة، وَسلمهُ القَاضِي، وَابْن(6/2538)
عقيل، وَقَالَهُ ابْن مَالك، أَي: قَالَ بِالصِّحَّةِ، إِن وصفت النكرَة، وَإِلَّا فَلَا.
وَالْأول هُوَ الصَّحِيح من الْأَقْوَال، وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْعلمَاء، أَعنِي: أَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج مَا لولاه لوَجَبَ دُخُوله لُغَة، احْتِرَاز من نَحْو: جَاءَ رجال إِلَّا زيدا؛ لاحْتِمَال أَن لَا يُرِيد الْمُتَكَلّم دُخُوله حَتَّى يُخرجهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أما إِذا أَفَادَ الِاسْتِثْنَاء من النكرَة كاستثناء جُزْء من مركب فَيجوز، نَحْو: اشْتريت عبدا إِلَّا ربعه، أَو دَارا إِلَّا سقفها، فالاستثناء من النكرَة إِذا لم يفد لم يكن مُتَّصِلا، وَلَا يكون مُنْقَطِعًا؛ لِأَن شَرطه لَا يدْخل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قطعا.
وَقَالَ ابْن مَالك: إِن وصفت النكرَة صَحَّ الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْله: {وَالْمرَاد من قَوْله عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة سَبْعَة، و (إِلَّا) قرينَة مخصصة عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} .
اخْتلف فِي تَقْدِير دلَالَة الِاسْتِثْنَاء على مَذَاهِب.(6/2539)
منشأ الْمذَاهب إِشْكَال فِي معقولية الِاسْتِثْنَاء، فَإنَّك إِذا قلت: قَامَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، فَإِن لم يكن زيد دخل فيهم فَكيف أخرج؟
هَذَا، وَقد اتّفق أهل الْعَرَبيَّة على أَنه إِخْرَاج، وَإِن كَانَ دخل فيناقض أول الْكَلَام آخِره، وَكَذَا نَحْو قَوْله: لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا درهما، بل أبلغ؛ لِأَن الْعدَد نَص فِي مَدْلُوله وَالْعَام فِيهِ الْخلاف السَّابِق، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى نفي الِاسْتِثْنَاء من كَلَام الْعَرَب؛ لِأَنَّهُ كذب على هَذَا التَّقْدِير فِي أحد الطَّرفَيْنِ، وَلَكِن قد وَقع فِي الْقُرْآن الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه.
أحد الْمذَاهب الْمَذْكُورَة قبل، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْأَكْثَر.
نَقله ابْن الْحَاجِب عَنْهُم أَن المُرَاد بِعشْرَة سَبْعَة، وَإِلَّا قرينَة تثبت أَن الْكل اسْتعْمل وَأُرِيد بِهِ الْجُزْء مجَازًا.
وعَلى هَذَا فالاستثناء مُبين لغَرَض الْمُتَكَلّم بِهِ، بالمستثنى مِنْهُ، فَإِذا قَالَ: لَهُ عَليّ عشرَة كَانَ ظَاهرا فِي الْجَمِيع وَيحْتَمل إِرَادَة بَعْضهَا مجَازًا، فَإِذا قَالَ: إِلَّا ثَلَاثَة فقد بَين أَن مُرَاده بِالْعشرَةِ سَبْعَة فَقَط كَمَا فِي سَائِر التخصيصات.(6/2540)
قَالَ ابْن مُفْلِح: الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج مَا تنَاوله الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، يبين أَنه لم يرد بِهِ كالتخصيص عِنْد القَاضِي وَغَيره.
وَفِي " التَّمْهِيد " - أَيْضا -: مَا لولاه لدخل فِي اللَّفْظ كالتخصيص.
وَمرَاده كَالْأولِ، وَمَعْنَاهُ قَالَه الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة " وَغَيره. انْتهى. واستنكر أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْمَذْهَب وَقَالَ: إِنَّه محَال لَا يَعْتَقِدهُ لَبِيب. انْتهى.
وَالْمذهب الثَّانِي - وَبِه قَالَ أَبُو بكر الباقلاني - أَن نَحْو عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة مَدْلُوله سَبْعَة، لَكِن لَهُ لفظان: أَحدهمَا مركب، وَهُوَ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، وَاللَّفْظ الآخر سَبْعَة.
وَقصد بذلك أَن يفرق بَين التَّخْصِيص بِدَلِيل مُتَّصِل فَيكون الْبَاقِي فِيهِ حَقِيقَة، أَو بالمنفصل فَيكون تنَاول اللَّفْظ للْبَاقِي مجَازًا.
وَوَافَقَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ على ذَلِك بِمَنْزِلَة اسْمَيْنِ بِالْوَضْعِ: أَحدهمَا(6/2541)
مُفْرد، وَالْآخر مركب، وَمَعْنَاهُ فِي " الرَّوْضَة " فِي كَلَامه فِي الشَّرْط.
وَحكي عَن الشَّافِعِي: إِخْرَاج لشَيْء دلّ عَلَيْهِ صدر الْجُمْلَة بالمعارضة فَمَعْنَى عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة فَإِنَّهَا لَيست عَليّ.
وَالْمذهب الثَّالِث - وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب، وَغَيره مِنْهُم: ابْن قَاضِي الْجَبَل وَنَصره من سِتَّة أوجه -: أَن المُرَاد بِالْعشرَةِ عشرَة بِاعْتِبَار أَفْرَاده، وَلَكِن لَا يحكم بِمَا أسْند إِلَيْهَا إِلَّا بعد إِخْرَاج الثَّلَاثَة مِنْهَا، فَفِي اللَّفْظ أسْند الحكم إِلَى عشرَة، وَفِي الْمَعْنى إِلَى سَبْعَة، وعَلى هَذَا فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاء مُبينًا للمراد بِالْأولِ، بل بِهِ يحصل الْإِخْرَاج، وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا الْإِثْبَات، وَلَا نفي أصلا، فَلَا تنَاقض، وَنصر ذَلِك وَأطَال.
فالاستثناء على قَول الباقلاني لَيْسَ بتخصيص؛ لِأَن التَّخْصِيص قصر الْعَام على بعض أَفْرَاده، وَهنا لم يرد بِالْعَام بعض أَفْرَاده، بل بالمجموع(6/2542)
الْمركب، وَأَنه على قَول الْأَكْثَرين تَخْصِيص، أَي: لما فِيهِ من قصر اللَّفْظ على بعض مسمياته.
وَأما على الْمَذْهَب الثَّالِث فَيحْتَمل أَن يكون تَخْصِيصًا نظرا إِلَى كَون الحكم فِي الظَّاهِر للعام وَالْمرَاد الْخُصُوص، وَيحْتَمل أَن لَا يكون تَخْصِيصًا نظرا إِلَى أَنه أُرِيد بالمستثنى مِنْهُ تَمام مُسَمَّاهُ.
وَذكر القَاضِي عضد الدّين فِي تَحْقِيق هَذِه الْمذَاهب كلَاما أَطَالَ فِيهِ، وَتعقب عَلَيْهِ فِي بعضه ابْن السُّبْكِيّ فِي " شرح الْمُخْتَصر " فَليُرَاجع مِنْهُ.
وَجه الأول: لَو أُرِيد عشرَة كَامِلَة امْتنع مثل {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} [العنكبوت: 14] ؛ لِأَنَّهُ يلْزم كذب أَحدهمَا وَلم نقطع بِأَنَّهُ إِنَّمَا أقرّ بسبعة.
رد ذَلِك بِأَن الصدْق وَالْكذب وَالْحكم بِالْإِقْرَارِ بِاعْتِبَار الْإِسْنَاد لَا بِاعْتِبَار الْعشْرَة، والإسناد بعد الْإِخْرَاج.
وَوجه الثَّانِي: مَا سبق وَضعف أَدِلَّة غَيره.(6/2543)
وَوجه الثَّالِث: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَبِالْعَكْسِ لما يَأْتِي فَوَجَبَ كَونه مُعَارضا لصدر الْجُمْلَة فِي بعض.
رد: معَارض بقَوْلهمْ تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا.
وَوجه الْأَخير: ضعف مَا سبق، أما الأول فَلِأَنَّهُ يلْزم من قَالَ اشْتريت الشَّيْء إِلَّا نصفه، أَن يُرِيد اسْتثِْنَاء نصفه من نصفه ولتسلسله إِذا، وللقطع بِأَن الضَّمِير للشَّيْء الْمَبِيع كَامِلا، ولإجماع النُّحَاة أَنه إِخْرَاج بعض من كل، ولإبطال النُّصُوص، وللقطع بِأَنا نسقط الْخَارِج فَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا بَقِي، وَلَو كَانَ المُرَاد بالمستثنى مِنْهُ هُوَ الْبَاقِي لم يعلم بالإسقاط أَن الْمسند إِلَيْهِ هُوَ مَا بَقِي لتوقف إِسْقَاطه على حُصُول خَارج، وَلَا خَارج إِذا.
رد ذَلِك: أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ هُوَ الْجَمِيع بِحَسب ظَاهره وَالِاسْتِثْنَاء بَين أَن المُرَاد بِهِ النّصْف فَجَمِيع ذَلِك بِحَسب الظَّاهِر، فَلَا مُنَافَاة، وَلَا يلْزم إبِْطَال نَص، وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِد عِنْد عدم قرينَة.
وَأما ضعف الثَّانِي فخروجه عَن اللُّغَة؛ إِذْ لَيْسَ فِيهَا كلمة وَاحِدَة مركبة من ثَلَاث وأولها مُعرب أَيْضا وَلَا إِضَافَة؛ وَلِأَنَّهُ يعود الضَّمِير فِي إِلَّا(6/2544)
نصفه على جُزْء الِاسْم وَهُوَ مُمْتَنع ولإجماع النُّحَاة أَنه إِخْرَاج.
فَوَائِد: ذكرهَا الْقَرَافِيّ فِي " شرح التَّنْقِيح ":
إِحْدَاهَا: أَن الِاسْتِثْنَاء أَرْبَعَة أَنْوَاع:
أَحدهَا: مَا لولاه لعلم دُخُوله كالاستثناء من النُّصُوص مثل: عنْدك عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة.
الثَّانِي: لظن دُخُوله كالاستثناء من الظَّوَاهِر، نَحْو: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا زيدا.
وَالثَّالِث: مَا لولاه لجَاز دُخُوله كالاستثناء من الْمحَال والأزمان وَالْأَحْوَال، كأكرم رجلا إِلَّا زيدا أَو عمرا، وصل إِلَّا عِنْد الزَّوَال {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] .
وَالرَّابِع: مَا لولاه لقطع بِعَدَمِ دُخُوله كالاستثناء الْمُنْقَطع، كجاء الْقَوْم إِلَّا حمارا.
قلت: وَفِي هَذَا نظر.
الْفَائِدَة الثَّانِيَة: يَقع الِاسْتِثْنَاء فِي عشرَة أُمُور: اثْنَان ينْطق بهما وَثَمَانِية لَا ينْطق بهَا، وَوَقع الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا، فَمَا ينْطق بهَا الْأَحْكَام وَالصِّفَات، فالأحكام: قَالَ الْقَوْم إِلَّا زيدا، وَالصِّفَات قَول الشَّاعِر:
(قَاتل ابْن البتول إِلَّا عليا ... )(6/2545)
يُرِيد الْحُسَيْن ابْن فَاطِمَة، وَمعنى البتول: المنقطعة، قيل: عَن النظير والشبيه، وَقيل: عَن الْأزْوَاج، وَهُوَ مُرَاد الشَّاعِر. قيل: انْقَطَعت عَن الْأزْوَاج إِلَّا عَن عَليّ فاستثنى من صفتهَا، لَا مِنْهَا.
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أفما نَحن بميتين (58) إِلَّا موتنا الأولى} [الصافات: 58، 59] استثنوا من صفتهمْ الموتة الأولى، لَا من ذواتهم.
وَالِاسْتِثْنَاء من الصّفة ثَلَاثَة أَقسَام:
أَحدهَا: عَن متعلقها: كَقَوْل الشَّاعِر الْمُتَقَدّم مُتَعَلق التبتل.
وَثَانِيها: من بعض أَنْوَاعهَا: كالآية؛ لِأَن الموتة الأولى أحد أَنْوَاع الْمَوْت.
وَثَالِثهَا: أَن يَسْتَثْنِي بجملتها لَا يتْرك مِنْهَا شَيْء، كَأَنْت طَالِق وَاحِدَة إِلَّا وَاحِدَة.
وَالثَّمَانِيَة الْبَاقِيَة لَا ينْطق بهَا وَيَقَع الِاسْتِثْنَاء مِنْهَا:
أَحدهَا: الْأَسْبَاب، نَحْو: لَا عُقُوبَة إِلَّا بِجِنَايَة.
وَالثَّانيَِة: الشُّرُوط، لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور.
وَالثَّالِث: الْمَوَانِع، لَا تسْقط الصَّلَاة عَن الْمَرْأَة إِلَّا بِالْحيضِ.
وَالرَّابِع: الْمحَال، أكْرم رجلا إِلَّا زيدا، أَو عمرا، أَو بكرا فَإِن كل شخص هُوَ مَحل الأعمية.(6/2546)
وَالْخَامِس: الْأَحْوَال {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] ، أَي: لتأتنني بِهِ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَالَة الْإِحَاطَة فَإِنِّي أعذركم.
وَالسَّادِس: الْأَزْمَان، صل إِلَّا عِنْد الزَّوَال.
وَالسَّابِع: الْأَمْكِنَة، صل إِلَّا على المزبلة، وَنَحْوهَا.
وَالثَّامِن: مُطلق الْوُجُود مَعَ قطع النّظر عَن الخصوصيات: {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} [النَّجْم: 23] ، أَي: لَا حَقِيقَة للأصنام أَلْبَتَّة إِلَّا أَنَّهَا لفظ مُجَرّد فاستثنى اللَّفْظ من مُطلق الْوُجُود على سَبِيل الْمُبَالغَة فِي النَّفْي، أَي: لم يثبت لَهَا وجود أَلْبَتَّة إِلَّا وجود اللَّفْظ وَلَا شَيْء وَرَاءه.
فَهَذِهِ الثَّمَانِية لم يذكر فِيهَا الِاسْتِثْنَاء، وَإِنَّمَا يعلم لما ذكر بعد الِاسْتِثْنَاء فَرد مِنْهَا، فيستدل بذلك الْفَرد على جنسه، وَهُوَ الْكَائِن بعد الِاسْتِثْنَاء وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الِاسْتِثْنَاء فِي هَذِه الْأُمُور الَّتِي لم تذكر كلهَا اسْتثِْنَاء مُتَّصِل؛ لِأَنَّهُ من الْجِنْس وَحكم بالنقيض بعد (إِلَّا) ، وَهَذَانِ القيدان وافيان بِحَقِيقَة الْمُتَّصِل. انْتهى.(6/2547)
(قَوْله: {فصل} )
{أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَمُحَمّد، وَزفر، وَحكي عَن الْأَكْثَر لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس} ، حَكَاهُ الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَر.
وَذكر التَّمِيمِي أَن أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد اخْتلفُوا، وَقَالَ ابْن برهَان: قَول عدم صِحَّته قَول عَامَّة أَصْحَابنَا وَالْفُقَهَاء قاطبة، وَهُوَ الْمَنْصُور، نَقله ابْن مُفْلِح عَنهُ، وَنَقله ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن ابْن كيسَان بِهَذَا(6/2548)
اللَّفْظ و [هُوَ] وَالله أعلم تَصْحِيف، وَإِنَّمَا هُوَ ابْن برهَان، وَحَكَاهُ جمَاعَة عَن أبي حنيفَة، وَاخْتَارَهُ ألكيا، وَابْن برهَان، وَحكي عَن ابْن الْبَاجِيّ، وَابْن خويزمنداد.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله رِوَايَة بِصِحَّة اسْتثِْنَاء أحد النَّقْدَيْنِ من الآخر، فَإِذا قَالَ: لَهُ عِنْدِي مائَة إِلَّا دِينَارا، أَو مائَة دِينَار إِلَّا ألف دِرْهَم، صَحَّ اخْتَارَهُ الْخرقِيّ، وَجَمَاعَة من أَصْحَابنَا، مِنْهُم: أَبُو حَفْص العكبري والحلواني صَاحب " التَّبْصِرَة "، وَقدمه فِي " الْخُلَاصَة " لِابْنِ المنجي و " شرح ابْن رزين ".(6/2549)
ثمَّ اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَأْخَذ هَذِه الرِّوَايَة، فَقَالَ فِي " رَوْضَة فقه أَصْحَابنَا " بِنَاء على أَنه جنس، أَو جِنْسَانِ، وَإِن قُلْنَا: هما جنس صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ القَاضِي فِي " الْعدة "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح ": لِأَنَّهُمَا كالجنس فِي أَشْيَاء فَكَذَا فِي الِاسْتِثْنَاء.
وَقَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": يُمكن حمل هَذِه الرِّوَايَة على مَا إِذا كَانَ أَحدهمَا يعبر بِهِ عَن الآخر، أَو يعلم قدره مِنْهُ.
وَقَالَ الطوفي فِي " شرح مُخْتَصره " فِي الْأُصُول: إِنَّمَا صَحَّ ذَلِك اسْتِحْسَانًا، وأجراه بعض أَصْحَابنَا على ظَاهره، وأنهما نَوْعَانِ، فَيصح اسْتثِْنَاء نوع من نوع آخر، فَقَالَ: يلْزم من هَذِه الرِّوَايَة صِحَة اسْتثِْنَاء نوع من آخر.
فَقَالَ أَبُو الْخطاب: يلْزم مِنْهَا صِحَة اسْتثِْنَاء ثوب وَنَحْوه من دَرَاهِم.(6/2550)
وَقَالَهُ الْمَالِكِيَّة، وَابْن الباقلاني، وَجَمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين، والنحاة.
قَالَ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي ": وَقَالَ مَالك، وَالشَّافِعِيّ: يَصح الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس مُطلقًا؛ لِأَنَّهُ ورد فِي الْكتاب الْعَزِيز ولغة الْعَرَب. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلِهَذَا نقل الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الِاتِّفَاق على صِحَة الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس.
وللشافعية كالقولين، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَالْأَشْهر عَن أبي حنيفَة صِحَّته فِي مَكِيل أَو مَوْزُون من أَحدهمَا فَقَط.(6/2551)
وَجه الْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح -: أَن الِاسْتِثْنَاء صرف اللَّفْظ بحرفه عَمَّا يَقْتَضِيهِ لولاه، أَو إِخْرَاج؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذ من الثني من قَوْلهم: ثنيت فلَانا عَن رَأْيه، وثنيت عنان دَابَّتي كَمَا تقدم.
وَلِأَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَصح؛ لتَعَلُّقه بِالْأولِ لعدم استقلاله، وَإِلَّا لصَحَّ كل شَيْء من كل شَيْء؛ لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى عَام.
وَلِأَنَّهُ لَو قَالَ: جَاءَ النَّاس إِلَّا الْكلاب، وَإِلَّا الْحمير عد قبيحا لُغَة وَعرفا.
ورد الأول بِأَنَّهُ مَحل النزاع، وَبِأَنَّهُ مُشْتَقّ من التَّثْنِيَة كَأَنَّهُ ثنى الْكَلَام بِهِ، وَلَا يلْزم من الِاشْتِقَاق لِمَعْنى [نفي] كَونه حَقِيقَة لِمَعْنى آخر. وَلَا الاطراد، وقبح مَا ذكر لَا يمْتَنع لُغَة كَقَوْل الدَّاعِي: يَا رب الْكلاب وَالْحمير.
ثمَّ إِن امْتنع من اللَّفْظ مُطَابقَة لَا يمْتَنع من لَازم لَهُ، وَلَا يلْزم اسْتثِْنَاء كل شَيْء من كل شَيْء لاعْتِبَار مُنَاسبَة بَينهمَا كَقَوْل الْقَائِل: لَيْسَ لي بنت إِلَّا ذكر، بِخِلَاف قَوْله: إِلَّا أَنِّي بِعْت دَاري.
وَاحْتج أَصْحَابنَا وَغَيرهم بِأَنَّهُ تَخْصِيص فَلَا يَصح فِي غير دَاخل.(6/2552)
وَجه الثَّانِي: وُقُوعه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِلَّا رمزا} [آل عمرَان: 41] ، {أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطئا} [النِّسَاء: 92] ، {من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] ، {من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم} [إِبْرَاهِيم: 22] ، وَقَول الْعَرَب: مَا بِالدَّار أحد إِلَّا وتد، وَمَا جَاءَنِي زيد إِلَّا عَمْرو، وَلِأَنَّهُ لَو أقرّ بِمِائَة دِرْهَم إِلَّا ثوبا لغى على الأول مَعَ إِمْكَان تَصْحِيحه بِأَن مَعْنَاهُ قيمَة ثوب، لَا سِيمَا إِن أَرَادَهُ.
ورد أَن (إِلَّا) فِي ذَلِك بِمَعْنى (لَكِن) عِنْد النُّحَاة، مِنْهُم: الزّجاج وَابْن قُتَيْبَة، وَقَالَ: هُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ، وَهُوَ اسْتِدْرَاك، وَلِهَذَا لم يَأْتِ إِلَّا بعد نفي، أَو بعد إِثْبَات بعده جملَة، وَلَا مدْخل للاستدراك فِي إِقْرَار فَبَطل وَلَو مَعَ جملَة بعده، كَقَوْلِه: مائَة دِرْهَم إِلَّا ثوبا لي عَلَيْهِ، فَيصح كإقراره وَتبطل دَعْوَاهُ، كتصريحه بذلك بِغَيْر اسْتثِْنَاء.
وَفِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد ": لَو صَحَّ لصَحَّ إِذا أقرّ بِثَوْب، وَأَرَادَ قِيمَته.(6/2553)
زَاد فِي " التَّمْهِيد ": وَقد قيل يَصح ذَلِك لَا على وَجه الِاسْتِثْنَاء؛ بل للفظ الْمقر، كمن أقرّ بِمِائَة ثمَّ فَسرهَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالَا، قَالَ: وَالْمذهب الأول أظهر لسبق الْمُتَّصِل إِلَى الْفَهم، وَهُوَ دَلِيل الْحَقِيقَة، لَكِن عِنْد تعذره فِي الْعَمَل بالمنقطع نظر. انْتهى.
قَوْله: {فَائِدَة: الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع مجَاز} . إِذا قُلْنَا بِصِحَّة الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع، فَهَل هُوَ حَقِيقَة: أَو مجَاز؟ فِيهِ قَولَانِ:
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنه مجَاز، قَالَه الْبرمَاوِيّ وَغَيره، وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَابْن الْحَاجِب، وَابْن قَاضِي الْجَبَل، وَابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع "، وَغَيرهم.(6/2554)
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه حَقِيقَة، فعلى هَذَا القَوْل هَل يكون مَعَ الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل مُشْتَركا أَو مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك بَين الْمُتَّصِل والمنقطع فَيكون متواطئا؟ فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: إِن إِطْلَاقه عَلَيْهِ وعَلى الْمُتَّصِل من بَاب الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ، أَي: أَنه مَوْضُوع لكل مِنْهُمَا على انْفِرَاده فَإِنَّهُ لَيْسَ بَينهمَا قدر مُشْتَرك، فَإِن الْمُتَّصِل إِخْرَاج بِخِلَاف الْمُنْفَصِل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه من بَاب المتواطئ، أَي: أَن حقيقتهما وَاحِدَة والاشتراك بَينهمَا معنوي، وَالله أعلم.
قَالَ ابْن مُفْلِح: لتقسيم الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز.
{وَقيل بِالْوَقْفِ} لتكافؤ الْأَدِلَّة واختلافها من الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ من زِيَادَته فِي " جمع الْجَوَامِع "، وعَلى كل الْأَقْوَال يُسمى اسْتثِْنَاء قطع بِهِ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن الْحَاجِب فِي " مُخْتَصره الْكَبِير ": إِن ذَلِك بالِاتِّفَاقِ.(6/2555)
لَكِن حكى الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَنه لَا يُسمى اسْتثِْنَاء لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا.
ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب وَمن تَابعه: إِنَّه إِذا قُلْنَا إِنَّه مجَاز أَو مُشْتَرك لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حد وَاحِد.
ثمَّ عرف الْمُنْقَطع، لكنه قَالَ فِي تَعْرِيفه: (من غير إِخْرَاج) . ليخرج بِهِ الْمُتَّصِل، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنه إِذا سَقَطت هَذِه اللَّفْظَة كَانَ بَقِيَّة التَّعْرِيف شَامِلًا لَهما، ثمَّ ذكر تَعْرِيفه على القَوْل بالتواطؤ بِمَا دلّ على مُخَالفَة بإلا غير الصّفة وَأَخَوَاتهَا.
وَأما ابْن مَالك فجمعهما فِي تَعْرِيفه فِي " التسهيل "، فَقَالَ فِي الْمُسْتَثْنى: هُوَ الْمخْرج تَحْقِيقا، أَو تَقْديرا من مَذْكُور، أَو مَتْرُوك بإلا، أَو بِمَا فِي مَعْنَاهَا بِشَرْط الْفَائِدَة، فَأدْخل الْمُنْقَطع بقوله: (أَو تَقْديرا) نَحْو: {مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن} [النِّسَاء: 157] ، فالظن لم يدْخل فِي الْعلم تَحْقِيقا، لكنه فِي تَقْدِير الدَّاخِل؛ إِذْ هُوَ مستحضر بِذكرِهِ، أَي: مَا لَهُم بِهِ من علم، وَلَا غَيره من الشُّعُور إِلَّا اتِّبَاع الظَّن، وَمثله، مَا فِي الدَّار أحد إِلَّا حمارا، فَإِن الْمَعْنى مَا فِيهَا عَاقل وَلَا شَيْء من متعلقاته إِلَّا الْحمار.(6/2556)
قَوْله: {وَيشْتَرط لصِحَّته مُخَالفَة فِي نفي الحكم، أَو فِي أَن الْمُسْتَثْنى حكم آخر لَهُ مُخَالفَة بِوَجْه} .
لَا بُد فِي الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع من مُخَالفَة الْمُسْتَثْنى للمستثنى مِنْهُ فِي نفي الحكم، نَحْو: مَا جَاءَنِي الْقَوْم إِلَّا حمارا، أَو مَا جَاءَ زيد إِلَّا عمرا.
أَو إِن فِي الْمُسْتَثْنى حكم آخر، لَهُ مُخَالفَة مَعَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، نَحْو: مَا زَاد إِلَّا مَا نقص، وَمَا نفع إِلَّا مَا ضرّ، فَالْمَشْهُور أَنه اسْتثِْنَاء من غير الْجِنْس لاستثناء النُّقْصَان من الزِّيَادَة، وَالنُّقْصَان لَيْسَ مِنْهَا.
ورد بِمَنْع كَون مَعْنَاهُ مَا زَاد إِلَّا النُّقْصَان لجَوَاز أَن لَا يكون (مَا) مَصْدَرِيَّة، بل يكون بِمَعْنى (الَّذِي) كَأَنَّهُ قَالَ: مَا زَاد إِلَّا الَّذِي نقص.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: أَي مَا زَاد المَاء إِلَّا مَا نقص، وَمَا نفع زيد إِلَّا مَا ضرّ. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: قسم النُّحَاة الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع إِلَى مَا لَيْسَ لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ تسلط فَيجب نَصبه بِاتِّفَاق، نَحْو: مَا زَاد المَال إِلَّا نقص، وَمَا نفع زيدا إِلَّا مَا ضرّ.(6/2557)
وَمَا لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ تسلط فالحجازيون يوجبون نَصبه، وَتَمِيم ترجحه وتجيز الْبَدَل. انْتهى.
وَإِذا علم ذَلِك فَفِي (مَا) الثَّانِيَة قَولَانِ، أَحدهمَا: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّة، قَالَه سِيبَوَيْهٍ، فَقَالَ: الأولى نَافِيَة، وَالثَّانيَِة مَصْدَرِيَّة، وفاعلهما مصدر، أَي: فلَان، ومفعولهما مَحْذُوف، أَي: إِلَّا نُقْصَانا، ومضرة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا مَوْصُولَة بِمَعْنى الَّذِي، وَالله أعلم.
فَائِدَة: قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: يَنْقَسِم الِاسْتِثْنَاء إِلَى مُنْقَطع ومتصل، وَفِي ضبط الْمُنْقَطع إِشْكَال، فكثير من الْعُقَلَاء يَعْتَقِدُونَ أَن الْمُنْقَطع الِاسْتِثْنَاء من غير الْجِنْس، وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} [الدُّخان: 56] مُنْقَطع على الْأَصَح مَعَ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بعد إِلَّا هُوَ نقيض الْمَحْكُوم عَلَيْهِ أَولا وَمن جنسه.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة} [النِّسَاء: 29] مُنْقَطع، مَعَ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بعد إِلَّا هُوَ عين الْأَمْوَال الَّتِي حكم عَلَيْهَا قبل إِلَّا، بل الْمُحَقق أَن يعلم أَن الْمُتَّصِل عبارَة عَن أَن تحكم على جنس كَمَا حكمت عَلَيْهِ أَولا بنقيض مَا حكمت فِيهِ أَولا، فَمَتَى انخرم قيد من هذَيْن القيدين كَانَ مُنْقَطِعًا وَيكون الْمُنْقَطع بِحكم على جنس كَمَا حكمت عَلَيْهِ أَولا بِغَيْر مَا حكمت عَلَيْهِ أَولا، وعَلى هَذَا يكون الِاسْتِثْنَاء فِي الْآيَتَيْنِ مُنْقَطِعًا، فَإِن نقيض {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت}(6/2558)
يذوقون فِيهَا الْمَوْت وَلم يحكم بِهِ بل بالذوق فِي الدُّنْيَا، ونقيض: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} كلوها بِالْبَاطِلِ وَلم يحكم بِهِ، وعَلى هَذَا تخرج أَقْوَال الْعلمَاء فِي الْكتاب وَالسّنة ولسان الْعَرَب. انْتهى.(6/2559)
(قَوْله: فصل) .
{الْأَرْبَعَة وَغَيرهم شَرط الِاسْتِثْنَاء اتِّصَال مُعْتَاد لفظا، أَو حكما كانقطاعه بتنفس، وسعال، وَنَحْوه كَبَقِيَّة التوابع.
عَن ابْن عَبَّاس: يَصح وَلَو بعد سنة} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وروى سعيد، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة، ثَنَا الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يرى الِاسْتِثْنَاء وَلَو بعد سنة، الْأَعْمَش مُدَلّس {وَمَعْنَاهُ} قَول {طَاوُوس ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(6/2560)
وَمُجاهد} .
وَعَن مُجَاهِد أَيْضا: إِلَى سنتَيْن.
{وَعَن ابْن عَبَّاس} أَيْضا: أَنه يَصح الِاسْتِثْنَاء {إِلَى شهر} .
وَرُوِيَ عَنهُ: يَصح أبدا كَمَا يجوز التَّأْخِير فِي تَخْصِيص الْعَام، وَبَيَان الْمُجْمل. لَكِن حمل الإِمَام أَحْمد، وَجَمَاعَة من الْعلمَاء كَلَام ابْن عَبَّاس على نِسْيَان قَول (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) ، مِنْهُم الْقَرَافِيّ.
قَالَ ابْن جرير: إِن صَحَّ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس فَمَحْمُول على أَن السّنة أَن يَقُول الْحَالِف: إِن شَاءَ الله، وَلَو بعد سنة.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: إِنَّه لَا يثبت عَن ابْن عَبَّاس، ثمَّ قَالَ: إِن صَحَّ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس فَيحْتَمل أَن الْمَعْنى إِذا نسيت الِاسْتِثْنَاء فَاسْتَثْنِ إِذا ذكرت، وَقيل: رَجَعَ. قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى: يحْتَمل أَيْضا أَنه رَجَعَ عَنهُ.(6/2561)
{و} رُوِيَ {عَن} سعيد {بن جُبَير} أَنه أجَازه {أَرْبَعَة اشهر.
وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: يَصح اتِّصَاله بِالنِّيَّةِ وانقطاعه لفظا فيدين} ، قَالَ الْآمِدِيّ: وَلَعَلَّه مَذْهَب ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الباقلاني: لَعَلَّ مُرَاد ابْن عَبَّاس أَن يَسْتَثْنِي مُتَّصِلا بالْكلَام ثمَّ يظْهر مَا نَوَاه بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ يدين.
{وَعَن أَحْمد: يَصح فِي الْيَمين مُنْفَصِلا فِي زمن يسير إِذا لم يخلط كَلَامه بِغَيْرِهِ، وَعنهُ} أَيْضا: {وَفِي الْمجْلس، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين وَغَيره، {وَرُوِيَ عَن الْحسن وَعَطَاء.(6/2562)
وَقيل} : يَصح {مَا لم يدْخل فِي كَلَام آخر} .
وَقَالَ أَبُو الْفرج الْمَقْدِسِي: يَصح {وَلَو تكلم.
وَقيل} : يجوز ذَلِك {فِي الْقُرْآن خَاصَّة} .
وَحمل بَعضهم كَلَام ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: ذهب بَعضهم إِلَى جَوَاز الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل فِي كَلَام الله تَعَالَى، وَحمل بَعضهم كَلَام ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ، وَأَنه جوز ذَلِك فِي استثناءات الْقُرْآن خَاصَّة.
اسْتدلَّ للْمَذْهَب الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - بقول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليأت الَّذِي هُوَ خير " وَلم يقل: أَو يسْتَثْن.
وَكَذَلِكَ لما أرشد الله - أَيُّوب - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بقوله: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} [ص: 44] جعل طَرِيق بره ذَلِك، وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء المتراخي يحصل بِهِ الْبر لما جعل الله تَعَالَى لَهُ الْوَسِيلَة إِلَى الْبر ذَلِك.(6/2563)
وَفِي " تَارِيخ بَغْدَاد " لِابْنِ النجار أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ أَرَادَ الْخُرُوج مرّة من بَغْدَاد فاجتاز فِي بعض الطَّرِيق وَإِذا بِرَجُل على رَأسه سلة فِيهَا بقل وَهُوَ يَقُول لآخر: مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي تراخي الِاسْتِثْنَاء غير صَحِيح، وَلَو صَحَّ لما قَالَ الله تَعَالَى لأيوب عَلَيْهِ السَّلَام: {وَخذ بِيَدِك ضغثا ... وَلَا تَحنث} ، بل كَانَ يَقُول لَهُ: استثن، وَلَا حَاجَة إِلَى التوسل إِلَى الْبر بذلك، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق: بَلْدَة فِيهَا رجل يحمل البقل يرد على ابْن عَبَّاس لَا تسْتَحقّ أَن يخرج مِنْهَا. انْتهى.
وَحكى ابْن الْعَرَبِيّ فِي الْفِقْه، مثل ذَلِك عَن امْرَأَة قَالَت لجارتها ذَلِك كَمَا تقدم.(6/2564)
وَمن لطيف مَا يَحْكِي أَن الرشيد استدعى أَبَا يُوسُف القَاضِي وَقَالَ لَهُ: كَيفَ مَذْهَب ابْن عَبَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء؟ فَقَالَ: يلْحق عِنْده بِالْخِطَابِ، ويغير حكمه وَلَو بعد زمَان، فَقَالَ: عزمت عَلَيْك أَن تُفْتِي بِهِ وَلَا تخَالفه.
وَكَانَ أَبُو يُوسُف لطيفا فِيمَا يُورِدهُ متأنيا فِيمَا يَقُوله، فَقَالَ: رأى ابْن عَبَّاس يفْسد عَلَيْك بيعتك؛ لِأَن من حلف لَك وبايعك يرجع إِلَى منزله فَيَسْتَثْنِي، فانتبه الرشيد، وَقَالَ: إياك أَن تعرف النَّاس مذْهبه فِي ذَلِك، واكتمه.
وَوَقع قريب من ذَلِك لأبي حنيفَة مَعَ الْمَنْصُور، وَكَانَ قَالَ لَهُ رجل يبغض أَبَا حنيفَة: أَبُو حنيفَة يبغض جدك ابْن عَبَّاس وَيَقُول: إِن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لَا يَصح، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الرجل يُرِيد أَن يفْسد عَلَيْك دولتك، فَقَالَ: وَكَيف ذَلِك؟ قَالَ: لِأَن الِاسْتِثْنَاء الْمُنْفَصِل لَو صَحَّ لجَاز لكل من بَايَعَك عَام أول أَن يَسْتَثْنِي الْآن، أَو بعده مُدَّة اسْتثِْنَاء تحل بِهِ الْبيعَة من عُنُقه، ثمَّ يخرج عَلَيْك! فَضَحِك الْمَنْصُور، وَقَالَ لَهُ: الزم مَقَالَتك. انْتهى.(6/2565)
{وَقَالَ الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين: {يجب إِجْرَاء الرِّوَايَتَيْنِ} اللَّتَيْنِ فِي الْيَمين المتقدمتين {فِي صلات الْكَلَام الْمُغيرَة لَهُ من تَخْصِيص، وَتَقْيِيد قِيَاسا على الْيَمين وَجوزهُ فِي الْجَزَاء مَعَ الشَّرْط، وَالْخَبَر مَعَ الْمُبْتَدَأ بِزَمن يسير} .
قَوْله: {وتشترط نِيَّة الِاسْتِثْنَاء قبل تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} .
تقدم أَنه يشْتَرط فِي الِاسْتِثْنَاء الِاتِّصَال الْمُعْتَاد إِلَّا مَا اسْتثْنى وَمَعَ هَذَا يشْتَرط نِيَّة الِاسْتِثْنَاء قبل تَمام الْمُسْتَثْنى مِنْهُ على الصَّحِيح من مَذْهَب الإِمَام أَحْمد، وَمذهب أَصْحَابه.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": هَذَا الْمَذْهَب وَقَالَهُ القَاضِي وَغَيره، وَاخْتَارَهُ فِي " التَّرْغِيب " وَغَيره، وَقطع بِهِ الْمجد فِي " محرره "، وَابْن حمدَان فِي رعايته، وَصَاحب " الْحَاوِي " و " الْوَجِيز "، و " النّظم "،(6/2566)
و " تَجْرِيد الْعِنَايَة "، و " الْمنور "، وَغَيرهم.
وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ: اتّفق الذاهبون إِلَى اشْتِرَاط اتِّصَاله أَنه يَنْوِي فِي الْكَلَام، فَلَو لم يعرض لَهُ نِيَّة الِاسْتِثْنَاء إِلَّا بعد فرَاغ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لم يعْتد بِهِ، ثمَّ قيل: يعْتَبر وجود النِّيَّة فِي أول الْكَلَام، وَقيل: يَكْتَفِي بوجودها قبل فَرَاغه، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح. انْتهى.
{وَقيل} : يشْتَرط أَن تكون {من أول الْكَلَام} ، قَالَه فِي " التَّرْغِيب " توجيها من عِنْده.
وَقد سَأَلَ أَبُو دَاوُد أَحْمد عَمَّن تزوج امْرَأَة، فَقيل: لَك امْرَأَة سوى هَذِه؟ فَقَالَ: كل امْرَأَة لي طَالِق، فَسكت، فَقيل: إِلَّا فُلَانَة، قَالَ: إِلَّا فُلَانَة فَإِنِّي لم أعنها، فَأبى أَن يُفْتِي بِهِ.
وَقطع أَبُو الْفرج الشِّيرَازِيّ فِي " الْمُبْهِج "، وَصَاحب " الْمُسْتَوْعب "، و " الْمُغنِي " و " الشَّرْح ".(6/2567)
وَبعد فرَاغ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قبل فرَاغ الْمُسْتَثْنى، قَالَ فِي " التَّرْغِيب ": هُوَ ظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَقَالَ: دلّ عَلَيْهِ كَلَام أَحْمد، وَعَلِيهِ متقدمو أَصْحَابه، وَزَاد أَيْضا: لَا يضر فصل يسير بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالِاسْتِثْنَاءِ. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: لَا بُد أَن يَنْوِي قبل تَمام اللَّفْظ بالمستثنى بِهِ، وَمرَاده قبل تَمام آلَة الِاسْتِثْنَاء، وَهِي إِلَّا أَو إِحْدَى أخواتها، وَالله أعلم.(6/2568)