الْمَوْلُود من الزَّوْج إِنَّمَا هُوَ (بالفراش السَّابِق) الْقوي الَّذِي يثبت بِهِ النّسَب، وَإِن أنكر الزَّوْج كَونه مِنْهُ إِلَّا مَعَ الْمُلَاعنَة (وَعِنْده) أَي أبي حنيفَة (لَيست) الْولادَة الْمَذْكُورَة (عَلامَة إِلَّا مَعَ أَحدهمَا) أَي الْحَبل الظَّاهِر قبل الطَّلَاق أَو الْمَوْت واعتراف الزَّوْج (فَلَا تقبل) شَهَادَة الْقَابِلَة (دونه) أَي دون أَحدهمَا (لِأَن الْولادَة وَالْحَالة هَذِه) أَي وَالْحَال أَن كَيْفيَّة الْوَاقِعَة عدم ظُهُور الْحَبل وَعدم اعْتِرَاف الزَّوْج بِهِ سَابِقًا (كالعلة لثُبُوت النّسَب) حرا، وَالْجُمْلَة الخالية عَن الْمُضمر المستقر فِيهِ توسطت بَين اسْمهَا وخبرها، وَإِنَّمَا قيد كَونه كالعلة بهَا لِأَن الْولادَة عِنْد ظُهُور الْحَبل أَو الِاعْتِرَاف سَابِقًا أَو الْفراش الْقَائِم لَيست كالعلة فَإِن كلا من ذَلِك دَلِيل ظَاهر يسْتَند إِلَيْهِ ثُبُوت النّسَب وَتَكون الْولادَة حِينَئِذٍ عَلامَة فَقَط (فَيلْزم النّصاب) أَي إِذا كَانَت الْولادَة كالعلة حِينَئِذٍ فَيشْتَرط نِصَاب الشَّهَادَة رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ لإثباتها (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْخلاف وَاقع (إِذا علق طَلاقهَا عَلَيْهَا) أَي على الْولادَة وَأُرِيد إِثْبَات الطَّلَاق لوُجُود الْمُعَلق عَلَيْهِ (قبلت) شَهَادَة الْقَابِلَة على الْولادَة (عِنْدهمَا) أَي الصاحبين اعْتِبَار الْجَانِب كَونهَا عَلامَة (وَعِنْده يلْزم النّصاب) فَلَا تقبل (لِأَنَّهَا) أَي شهادتها حِينَئِذٍ (على الطَّلَاق معنى) وَإِن كَانَت على الْولادَة، وَصُورَة (كَمَا) إِذا شهِدت امْرَأَة (على ثيابة أمة بِيعَتْ بكرا لَا تقبل اتِّفَاقًا للرَّدّ) يَعْنِي إِذا اشْترى أمة على أَنَّهَا بكر، ثمَّ ادّعى أَنَّهَا ثيب وَأنكر البَائِع فَشَهِدت إِلَى آخِره، فَإِنَّهَا لَا تقبل اتِّفَاقًا لاسْتِحْقَاق المُشْتَرِي ردهَا على البَائِع لفَوَات الشَّرْط الْمَعْقُود عَلَيْهِ: أَي الْبكارَة (وَإِن قبلت) شهادتها (فِي الثيابة والبكارة) حَتَّى تثبت الثيابة فِي هَذِه فِي حق توجه الْخُصُومَة فَلَا تنْدَفع عَن البَائِع قبل الْقَبْض إِلَّا بحلفه بِاللَّه مَا بهَا هَذَا الْعَيْب، وَبعده بِاللَّه لقد سلمهَا بِحكم هَذَا البيع وَمَا بهَا هَذَا الْعَيْب.
(فصل: قسم الشَّافِعِيَّة الْقيَاس بِاعْتِبَار الْقُوَّة)
وَمَا يقابلها (إِلَى) قِيَاس (جلي) هُوَ (مَا علم فِيهِ نفي اعْتِبَار الْفَارِق بَين الأَصْل وَالْفرع) إِنَّمَا قَالَ: نفي اعْتِبَار الْفَارِق، وَلم يقل نفي الْفَارِق لِأَنَّهُ لَا بُد من وجود الْفَارِق بَينهمَا فِي كل قِيَاس لَكِن الْمَقْصُود نفي فَارق يَسْتَدْعِي زِيَادَة اخْتِصَاص الحكم بِالْأَصْلِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَبر فِي الْفرق لَا غَيره، وَلَا شكّ أَن الْقيَاس الَّذِي علم فِيهِ نفي اعْتِبَار الْفَارِق أقوى فِي الِاحْتِجَاج من الَّذِي لم يعلم فِيهِ، بل ظن (كقياس الْأمة على العَبْد فِي أَحْكَام الْعتْق من التَّقْوِيم على مُعتق الْبَعْض) وَغَيره، وَقَوله من التَّقْوِيم إِلَى آخِره بَيَان الْأَحْكَام بَيَان ذَلِك أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ بِهِ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ قيمَة عدل فَأعْطى شركاءه حصصهم وَعتق العَبْد عَلَيْهِ وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق " فَإنَّا نقطع بِعَدَمِ اعْتِبَار الشَّارِع الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة، وَأَنه لَا فَارق بَينهمَا سوى ذَلِك (و) إِلَى (خَفِي) قِيَاسه (بظنه) أَي نفي اعْتِبَار الْفَارِق وَلَا بِعِلْمِهِ جزما فَلَا يكون الِاحْتِجَاج بِهِ قَوِيا مثل الأول (كالنبيذ)(4/76)
أَي كقياس النَّبِيذ (على الْخمر فِي حُرْمَة الْقَلِيل مِنْهُ) أَي النَّبِيذ فَإِن كَونه مثل الْخمر فِي حُرْمَة الْقَلِيل غير مَعْلُوم بل مظنون (لتجويز اعْتِبَار) الْفَارِق بَينهمَا: أَي بَين (خُصُوصِيَّة الْخمر) فَإِنَّهُ يجوز عِنْد الْعقل أَن تكون حُرْمَة الْقَلِيل فِيهَا لخصوصها بِاعْتِبَار وصف يَخُصهَا كالنجاسة العينية، أَو أَن قليلها يَدْعُو إِلَى الْكثير أَكثر مِمَّا يَدْعُو قَلِيل النَّبِيذ إِلَى كَثِيره (وَلذَا) أَي ولتجويز اعْتِبَار خصوصيتها فِي نفس الْأَمر (قالته الْحَنَفِيَّة) أَي ذَهَبُوا إِلَى اعْتِبَار خصوصيتها فَلم يحرموا الْقَلِيل من النَّبِيذ. (و) قسموه (بِاعْتِبَار الْعلَّة إِلَى قِيَاس عِلّة) وَهُوَ (مَا صرح فِيهِ بهَا) أَي بِالْعِلَّةِ: كَمَا يُقَال حرم النَّبِيذ كَالْخمرِ للإسكار. (وَقِيَاس دلَالَة) وَهُوَ (أَن يجمع) فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع (بملازمها) أَي بِذكر مَا يلازم الْعلَّة، وَفِي التَّعْبِير بالملازم دون اللَّازِم إِشْعَار بِأَن الْمُعْتَبر اللُّزُوم من الْجَانِبَيْنِ. ثمَّ مثل الملازم بقوله (كرائحة) الشَّرَاب (المشتد بالشدة المطربة الْمُشْتَركَة (بَين النَّبِيذ وَالْخمر لدلالته) أَي الملازم الْمَذْكُور (على وجود الْعلَّة) وَهِي (الْإِسْكَار) لِأَن وجود الملازم يسْتَلْزم وجود الملازم فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ كَانَ) مَا ذكر من الرَّائِحَة (ملازما لَهَا) أَي لِلْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْإِسْكَار (و) إِلَى (قِيَاس فِي معنى الأَصْل) وَهُوَ (أَن يجمع) بَين الأَصْل وَالْفرع فِي الحكم (بِنَفْي الْفَارِق) بَينهمَا (أَي بإلغائه) أَي إِلْغَاء وصف مَوْجُود فِي الأَصْل دون الْفَرْع وَإِظْهَار عدم مدخليته فِي الحكم (كإلغاء كَونه) أَي كَون الْمَقِيس عَلَيْهِ: وَهُوَ الَّذِي جَامع أَهله فِي نَهَار رَمَضَان فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْكَفَّارَةِ على التَّفْصِيل الْمَذْكُور فِي السّنة (أَعْرَابِيًا وَكَونهَا) أَي الَّتِي جَامعهَا (أَهلا) أَي زَوْجَة لَهُ، وَإِذا ألغى الخصوصيات (فَتجب الْكَفَّارَة) أَي كَفَّارَة الْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَان عمدا (على غَيره) أَي غير ذَلِك الْأَعرَابِي بإلغاء الأول (و) تجب (بِالزِّنَا) أَي بمجامعة غير الْأَهْل بطرِيق الزِّنَا بإلغاء الثَّانِي (وَكَذَا) الْحَال فِي تَعديَة الحكم عَن مورد النَّص (إِذْ ألغى الْحَنَفِيّ كَونه) أَي الْمُفطر (جماعا فَتجب) الْكَفَّارَة (بعمد الْأكل) أَي بِالْأَكْلِ عمدا إِذا كَانَ الْمَأْكُول مِمَّا يقْصد بِهِ الْقُوت (وَلَو تعرض) القائس (لغير نفي الْفَارِق من عِلّة) بَيَان للْغَيْر (مَعَه) أَي مَعَ نفي الْفَارِق: يَعْنِي ذكر الْعلَّة للْحكم وَنفي الْفَارِق بَين الْفَرْع وَالْأَصْل (وَكَانَ) نفي الْفَارِق (قَطْعِيا خرج) مَا تعرض فِيهِ لما ذكر مَعَ النَّفْي الْقطعِي (إِلَى الْقيَاس الْجَلِيّ، أَو ظنيا فَإلَى الْخَفي) أَي وَلَو تعرض لما ذكر وَكَانَ النَّفْي ظنيا فَخرج إِلَى الْقيَاس الْخَفي، وَلَيْسَ المُرَاد الْخُرُوج من أحد الضدين إِلَى الآخر، بل البروز من عَالم الْإِمْكَان إِلَى إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ (وَلَا يخفى أَن هَذَا) التَّقْسِيم (تَقْسِيم لما يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْقيَاس) لَا للْقِيَاس الْمُعَرّف بِمَا ذكر فِي صدر الْمقَالة (إِذْ الْجمع) أَي جمع بَيَان الْعلَّة (بِنَفْي الْفَارِق لَيْسَ من حَقِيقَته) أَي الْقيَاس، وَقد يُقَال أَن الْقُيُود الَّتِي يحصل بانضمامها إِلَى الْمقسم الْأَقْسَام المتباينة(4/77)
لَا يجب أَن تكون دَاخِلَة فِي حَقِيقَتهَا لجَوَاز تَقْسِيم الْمَاهِيّة بِاعْتِبَار اقترانها فِي التحقق بِأُمُور متباينة خَارِجَة عَن مَاهِيَّة كل قسم فالتقيد بِوَاحِد من تِلْكَ الْأُمُور دَاخل فِي كل قسم، والقيد خَارج كتقسيم الْإِنْسَان إِلَى الْأَبْيَض وَالْأسود، فَيجوز أَن يكون الْمقسم كالقياس الْمَذْكُور فَتَأمل (و) قسم (الْحَنَفِيَّة) الْقيَاس (إِلَى جلي) وَهُوَ (مَا تبادر) أَي سبق إِلَى الإفهام وَجهه (و) إِلَى (مَا هُوَ خَفِي مِنْهُ) أَي مِمَّا تبادر (فَإِن قيل قَوْله أخْفى يَسْتَدْعِي وجود الخفاء فِي الْمُتَبَادر قُلْنَا الْقيَاس من حَيْثُ هُوَ لَا يَخْلُو من نوع خَفَاء، فالجلاء والخفاء من الْأُمُور الإضافية. (فَالْأول) وَهُوَ الْجَلِيّ (الْقيَاس) أَي يُسمى بِلَفْظ الْقيَاس فَكَأَنَّهُ لكماله هُوَ الْقيَاس لَا غَيره فَلفظ الْقيَاس يسْتَعْمل فِي مَعْنيين: أَحدهمَا الْأَعَمّ الْمقسم للقسمين، وَالثَّانِي مَا يُقَابل الْخَفي (وَالثَّانِي الِاسْتِحْسَان فَهُوَ) أَي الِاسْتِحْسَان (الْقيَاس الْخَفي بِالنِّسْبَةِ إِلَى) قِيَاس (ظَاهر متبادر) وَفِيه إِشَارَة إِلَى مَا ذكرنَا من الْإِضَافَة (وَيُقَال) لفظ الِاسْتِحْسَان (لما هُوَ أَعم) مِمَّا ذكر، وَهُوَ (كل دَلِيل) وَاقع (فِي مُقَابلَة الْقيَاس الظَّاهِر) لفظ كل مقحم تَأْكِيدًا للْعُمُوم الْمَفْهُوم فِي مقَام التَّعْرِيف (نَص) بدل الْبَعْض من كل دَلِيل (كالسلم) أَي كالنص الدَّال على صِحَة بيع السّلم، وَالْقِيَاس الْجَلِيّ يُفِيد عدم جَوَازه لكَون الْمَبِيع مَعْدُوما حَال العقد (أَو إِجْمَاع كالاستصناع) أَي كالإجماع الْوَاقِع على جَوَاز الاستصناع وَهُوَ طلب صَنْعَة لما فِيهِ تعامل من خف وَغَيره بِأَن يَقُول للخفاف: اصْنَع لي خف جلد كَذَا صفته كَذَا، ومقداره كَذَا بِكَذَا، فَإِن الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَهُوَ الْخُف الْمَوْصُوف بِمَا وصف بِهِ الطَّالِب مَعْدُوم حَال العقد، فَالْقِيَاس عدم جَوَازه، غير أَنه ترك للتعامل من غير نَكِير من أهل الْعلم، وتقريرهم على ذَلِك إِجْمَاع عَمَلي، وَلم يجوزه الشَّافِعِي ورفد (أَو ضَرُورَة) هِيَ عُمُوم الْبلوى (كطهارة الْحِيَاض والآبار) أَي كالضرورة الْمُوجبَة للْحكم بِطَهَارَة الْحِيَاض والآبار المتنجسة، فَإِن الحكم بطهارتها بالنزح مثلا لعُمُوم الْبلوى، وَإِلَّا فإخراج بعض المَاء النَّجس من الْحَوْض والبئر لَا يُؤثر فِي طَهَارَة الْبَاقِي، وَلَو أخرج الْكل فَمَا يَنْبع من أَسْفَل أَو ينزل من أَعلَى يلاقي نجسا من طين أَو حجر (فمنكره) أَي الِاسْتِحْسَان حَيْثُ قَالَ: من اسْتحْسنَ فقد شرع (لم يدر المُرَاد بِهِ) أَي بِلَفْظ الِاسْتِحْسَان عِنْد من يَقُول بِهِ: يَعْنِي الْقيَاس الْخَفي أَو كل دَلِيل الخ (وقسموا) أَي الْحَنَفِيَّة (الِاسْتِحْسَان إِلَى مَا قوي أَثَره) أَي تَأْثِير علته بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُقَابِله (و) إِلَى (مَا خَفِي فَسَاده) وَهُوَ خلله، المخل بالاحتجاج بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عدم ظُهُور صِحَّته: أَي خَفِي فَسَاده (بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظُهُور صِحَّته) نَفسه، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظُهُور صِحَة الْقيَاس، لِأَن الخفاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ وَظِيفَة مَا هُوَ أجل مِنْهُ وَهُوَ ظُهُور صِحَّته، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِن كَانَ) ظُهُور صِحَّته (خفِيا بِالنِّسْبَةِ(4/78)
إِلَى الْقيَاس) الْمُقَابل لَهُ (وَظهر صِحَّته) عطف على خَفِي فَإِذا نظرت فِيهِ أدنى نظر وجدته صَحِيحا وَإِذا تَأَمَّلت فِيهِ حق التَّأَمُّل وجدته فَاسِدا (و) قسموا (الْقيَاس إِلَى مَا ضعف أَثَره، و) إِلَى (مَا ظهر فَسَاده وخفي صِحَّته) وَذَلِكَ بِأَن يَنْضَم إِلَى وَجهه معنى دَقِيق يورثه قُوَّة ورجحانا على وَجه مَا مُقَابِله الَّذِي هُوَ اسْتِحْسَان (فَأول الأول) أَي الْقسم الأول من الِاسْتِحْسَان وَهُوَ مَا قوي أَثَره (مقدم على أول الثَّانِي) أَي الْقسم الأول من الْقيَاس، وَهُوَ مَا ضعف أَثَره، وَوجه التَّقْدِيم ظَاهر (وَثَانِي الثَّانِي) وَهُوَ مَا ظهر فَسَاده وخفي صِحَّته مقدم (على ثَانِي الأول) وَهُوَ مَا ظهر صِحَّته وخفي فَسَاده لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة بِالظَّاهِرِ الْمَبْنِيّ على بادئ النّظر فِي مُقَابلَة الْبَاطِن الْمَبْنِيّ على التَّأَمُّل التَّام، فثاني الثَّانِي فِي التَّحْقِيق أقرب إِلَى الصَّوَاب من ثَانِي الأول وَإِن كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ فِي الظَّاهِر، وَإِنَّمَا ترك بَيَان النِّسْبَة بَين قسمي الأول لظُهُوره وَبَين قسمي الثَّانِي اعْتِمَادًا على فهم الْمُخَاطب أَن مَا هُوَ صَحِيح فِي التَّحْقِيق إِذا لم يكن ضَعِيف الْأَثر أولى مِمَّا هُوَ ضَعِيف الْأَثر فَتدبر (مِثَال مَا اجْتمع فِيهِ أول كل) من الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان (سِبَاع الطير) أَي سؤرها كالصقر والبازي إِذْ (الْقيَاس نَجَاسَة سؤرها) قِيَاسا (على) نَجَاسَة سُؤْر (سِبَاع الْبَهَائِم) كالأسد والنمر لاشْتِرَاكهمَا فِي نَجَاسَة اللَّحْم لِحُرْمَتِهِ والسؤر يتبع اللَّحْم لاختلاطه باللعاب الْمُتَوَلد مِنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنى ظَاهر غير قوي الْأَثر (وَالِاسْتِحْسَان) طَهَارَة سؤرها، وَهُوَ (الْقيَاس الْخَفي على) طَهَارَة سُؤْر (الْآدَمِيّ) بِجَامِع عدم مأكولية لحم كل مِنْهُمَا، وَإِن كَانَ فِي الْآدَمِيّ للكرامة، وَفِي سِبَاع الطير للنَّجَاسَة، لِأَن الْحُرْمَة لَا لكرامة آيَة النَّجَاسَة (لضعف أثر الْقيَاس) الْمَذْكُور، تَعْلِيل لتقديم الْقسم الأول من الِاسْتِحْسَان فِي الْمِثَال الْمَذْكُور (أَي مؤثره) الْإِضَافَة لأدنى مُلَابسَة فَإِن الْمُؤثر إِنَّمَا هُوَ مُؤثر للْحكم وَإِرَادَة الْمُؤثر من لفظ الْأَثر من قبيل إِطْلَاق الْمُسَبّب على السَّبَب (وَهُوَ) أَي مؤثره (مُخَالطَة اللعاب) الْمُتَوَلد من اللَّحْم (النَّجس) للْمَاء فِي السؤر (لانتفائه) أَي انْتِفَاء الْمُؤثر الْمَذْكُور فِي سُؤْر سِبَاع الطير تَعْلِيل لضعف أثر الْقيَاس (إِذْ تشرب) سِبَاع الطير تَعْلِيل لانتفائه (بمنقارها الْعظم الطَّاهِر) صفتان لمنقارها لبَيَان كَونه جافا لَا رُطُوبَة فِيهِ وَأَنه طَاهِر من الْمَيِّت فَمن الْحَيّ أولى، وَهِي تَأْخُذ المَاء بِهِ ثمَّ تبتلعه وَلَا ينْفَصل شَيْء من لُعَابهَا فِي المَاء (فانتفت عِلّة النَّجَاسَة) وَهِي المخالطة الْمَذْكُورَة (فَكَانَ طَاهِرا كسؤر الْآدَمِيّ) بِجَامِع انْتِفَاء علتها، وَهَذَا أولى من قَوْلهم بِجَامِع عدم مأكولية اللَّحْم كَمَا ذكر، إِذْ تعلق بتأثيره فِي الحكم بِطَهَارَة السؤر دون ذَلِك، على أَن عدم الْأكل فِي الْآدَمِيّ للكرامة، وَفِي الْمَقِيس للنَّجَاسَة على مَا مر آنِفا (وأثره) أَي الْقيَاس الْخَفي (أقوى) من ذَلِك الْقيَاس الظَّاهِر لما عرفت من انْتِفَاء مُوجب النَّجَاسَة، ثمَّ إِن كَانَت مضبوطة تغذى بالطاهر فَقَط لَا يكره سؤرها كَمَا روى عَن أبي حنيفَة وَأبي(4/79)
يُوسُف وَاسْتَحْسنهُ الْمُتَأَخّرُونَ وأفتوا بِهِ وَإِن كَانَت مُطلقَة يكره لِأَنَّهَا لَا تتحامى الْميتَة فَكَانَت كالدجاجة المخلاة، وَعَن أبي يُوسُف أَن مَا يَقع على الْجِيَف سؤره نجس لعدم خلو منقاره عَن النَّجَاسَة عَادَة وَأجِيب بِأَنَّهَا تدلك منقارها بِالْأَرْضِ بعد الْأكل فيزول مَا عَلَيْهِ، وَلعدم تقين النَّجَاسَة مَعَ الْبلوى بهَا فَإِنَّهَا تنقض من الْهَوَاء على المَاء فثبتت الْكَرَاهَة لَا النَّجَاسَة (فَإِن قلت سبق عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِي شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا تَعْلِيل بِالْعدمِ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَان قِيَاس علل فِيهِ بِهِ) أَي بِالْعدمِ لِأَن حَاصله تَعْلِيل الطَّهَارَة بِعَدَمِ مُخَالطَة النَّجس (قُلْنَا تقدم) ثمَّة (اسْتثِْنَاء عِلّة متحدة) أَي اسْتثِْنَاء التَّعْلِيل بِعَدَمِ عِلّة لَيْسَ لحكمها عِلّة سواهَا من عُمُوم نفي التَّعْلِيل بِالْعدمِ (فيستدل بعدمها) أَي بِعَدَمِ الْعلَّة المتحدة (على عدم حكمهَا) لِأَن الحكم لَا يُوجد بِدُونِ الْعلَّة، والمفروض أَنه لَا عِلّة لَهُ سوى مَا أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم، يَعْنِي أَن التَّعْلِيل بِعَدَمِ الْعلَّة المتحدة عبارَة عَن الِاسْتِدْلَال بِالْعدمِ على الْعَدَم (لَا) أَن ذَلِك التَّعْلِيل (تَعْلِيل حَقِيقِيّ) إِذْ التَّعْلِيل الْحَقِيقِيّ بإبراز عِلّة مُؤثرَة مستجمعة للشرائط الْمُعْتَبرَة فِي الْعلَّة المرعية، وَذَلِكَ مَفْقُود فِيمَا نَحن فِيهِ (ومثلوا مَا اجْتمع فِيهِ ثانياهما) أَي الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان وهما الْقيَاس الظَّاهِر فَسَاده الْخَفي صِحَّته، وَالِاسْتِحْسَان الظَّاهِر صِحَّته الْخَفي فَسَاده (بِسَجْدَة التِّلَاوَة الْوَاجِبَة فِي فِي الصَّلَاة، الْقيَاس) جَوَاز (أَن يرْكَع) فِي الصَّلَاة (بهَا) أَي بِسَبَبِهَا نَاوِيا أداءها بِهِ سَوَاء كَانَ غير رُكُوع الصَّلَاة أَو ركوعها مَا لم يَتَخَلَّل بَينهمَا فاصل وَهُوَ مِقْدَار ثَلَاث آيَات (لظُهُور أَن إِيجَابهَا) أَي سَجْدَة التِّلَاوَة (لإِظْهَار التَّعْظِيم) لله تَعَالَى بالخضوع لَهُ مُوَافقَة لمن عظم، وَمُخَالفَة لمن استكبر (وَهُوَ) أَي إِظْهَار التَّعْظِيم حَاصِل (فِي الرُّكُوع، وَلذَا) أَي ولوفور التَّعْظِيم فِيهِ (أطلق عَلَيْهَا) أَي السَّجْدَة (اسْمه) أَي اسْم الرُّكُوع فِي قَوْله تَعَالَى (وخر رَاكِعا) أَي سقط سَاجِدا لِأَن الخرور السُّقُوط على الْوَجْه، فقيس سُقُوطهَا بِهِ على سُقُوطهَا بِنَفسِهَا بِجَامِع الخضوع تَعْظِيمًا غير أَن السُّجُود أفضل فِي أَدَاء الْوَاجِب (وَهِي) أَي الْعلَّة الْمَذْكُورَة فِي الْقيَاس الْمَذْكُور (صِحَّته الْخفية) أَي وَجه صِحَّته الْخفية (وفساده الظَّاهِر لُزُوم تأدي الْمَأْمُور بِهِ) وَهُوَ السُّجُود (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْمَأْمُور بِهِ، وَهُوَ الرُّكُوع (وَالْعَمَل بالمجاز) أَي بِالْمَعْنَى الْمجَازِي للفظ السُّجُود وَهُوَ الرُّكُوع (مَعَ إِمْكَانه) أَي الْعَمَل (بِالْحَقِيقَةِ) وَهُوَ السُّجُود، وَلَا يخفى أَن لُزُوم مَا ذكر إِنَّمَا هُوَ بِحَسب الظَّاهِر وَبعد التَّأَمُّل تبين أَن الْمَأْمُور بِهِ بِحَسب الْحَقِيقَة إِظْهَار التَّعْظِيم وَلَفظ السُّجُود مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته غير أَنه ألحق بِهِ الرُّكُوع بطرِيق الْقيَاس (وَالِاسْتِحْسَان) الأخفى (لَا) لكَون الْقيَاس الْمُقَابل لَهُ خَفِي الصِّحَّة، وكل اسْتِحْسَان أخْفى مِمَّا يُقَابله أَنه لَا يرْكَع بهَا كَمَا هُوَ قَول الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (قِيَاسا على سُجُود الصَّلَاة) فَإِنَّهُ (لَا يَنُوب ركوعها) أَي الصَّلَاة (عَنهُ)(4/80)
أَي عَن سجودها مَعَ كَمَال الْمُنَاسبَة بَينهمَا لِكَوْنِهِمَا من الْأَركان وموجبات التَّحْرِيمَة، وعَلى عدم تأديها بِهِ خَارج الصَّلَاة، وَأَيْضًا رُكُوع الصَّلَاة مُسْتَحقّ لجِهَة أُخْرَى، وَهُوَ خَارِجهَا غير مُسْتَحقّ لجِهَة أُخْرَى (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (صِحَّته) أَي هَذَا الْقيَاس (الظَّاهِرَة لوجه فَسَاد ذَلِك) الْقيَاس مُتَعَلق بقوله لَا يَنُوب (من تأدى الخ) أَي الْمَأْمُور بِغَيْرِهِ وَالْعَمَل بالمجاز مَعَ إِمْكَانه بِالْحَقِيقَةِ بَيَان لوجه فَسَاد ذَلِك، وَصِحَّة هَذَا وَفَسَاد ذَلِك مشتركان فِي الظُّهُور متحدان فِي الْوَجْه (وَفَسَاد الْبَاطِن) أَي بَاطِن هَذَا الِاسْتِحْسَان (أَنه) أَي هَذَا الِاسْتِحْسَان (قِيَاس مَعَ الْفَارِق وَهُوَ) أَي الْفَارِق (أَن فِي الصَّلَاة كل من الرُّكُوع وَالسُّجُود مَطْلُوب بِطَلَب يَخُصُّهُ) على سَبِيل الْجمع بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى - {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا} - فَلَو لم يكن خُصُوصِيَّة كل مِنْهَا مَطْلُوبا وَكَانَ الْمَطْلُوب إِظْهَار التَّعْظِيم مُطلقًا سَوَاء تحقق فِي ضمن الرُّكُوع وَالسُّجُود، كَانَ حق الْأَدَاء غير هَذَا الأسلوب بِأَن يذكر أَو بدل الْوَاو وَنَحْو ذَلِك (فَمنع) كَون كل مِنْهُمَا مَطْلُوبا بِطَلَب يَخُصُّهُ (تأدى أَحدهمَا فِي ضمن الآخر، بِخِلَاف سَجْدَة التِّلَاوَة) فَإِنَّهَا (طلبت وَحدهَا وعقل) فِيهَا معنى صَالح للعلية، وَهُوَ (أَنه) أَي طلبَهَا (لذَلِك الْإِظْهَار) للتعظيم (وَمُخَالفَة المستكبرين) عَن السُّجُود على مَا يفهم من النُّصُوص الْوَارِدَة فِي مَوَاضِع سَجْدَة التِّلَاوَة (وَهُوَ) أَي كل وَاحِد من إِظْهَار التَّعْظِيم والمخالفة (حَاصِل بِمَا اعْتبر عبَادَة) أَي بركوع اعْتَبرهُ الشَّارِع عبَادَة (غير أَن الرُّكُوع خَارج الصَّلَاة لم يعرف عبَادَة فَتعين) رُكُوع الصَّلَاة للأجزاء عَنْهَا فَإِن قلت تَعْلِيل الحكم الْمَذْكُور فِيهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكرُوا هُوَ إِظْهَار التَّعْظِيم والمخالفة يقتضى أَن يُؤدى الْوَاجِب فِيهِ بِكُل مَا اعْتبر عبَادَة، وَلم يقل لَهُ أحد قلت اظهار التَّعْظِيم والمخالفة على وَجه الْكَمَال لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي تَعْظِيم يخص المعبود وَهُوَ منحصر (فيهمَا) وَقد يُقَال لظَاهِر النَّص طلب السَّجْدَة بِعَينهَا وَهِي غَايَة فِي التَّعْظِيم فَلَيْسَ الرُّكُوع فِي رتبتها فَتدبر (فترجح الْقيَاس) على الِاسْتِحْسَان بِقُوَّة أثر الْبَاطِن لما عرفت من دفع الْإِيرَاد عَنهُ وَعدم دَفعه على الِاسْتِحْسَان (وَنظر فِي أَن ذَلِك ظَاهر وَهَذَا خَفِي) أَي فِي ظُهُور ذَلِك الْقيَاس، وخفاء هَذَا الِاسْتِحْسَان نظر (وَهُوَ) أَي وَجه النّظر (ظَاهر إِذْ لَا شكّ أَن منع تأدى الْمَأْمُور) أَي امْتِنَاعه (شرعا بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْمَأْمُور بِهِ (أقوى تبادراً من جَوَازه لمشاركته) تَعْلِيل للْجُوَاز الْمَرْجُوح أَي لمشاركه غير الْمَأْمُور بِهِ أَي للْمَأْمُور بِهِ فالباء بِمَعْنى اللَّام، وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى مَعَ، وَفِي نُسْخَة لَهُ، وَهُوَ الظَّاهِر (فِي معنى) نيط بِهِ الحكم (كالتعظيم) الْمَذْكُور (أَو لإِطْلَاق لَفظه) مَعْطُوف على قَوْله لمشاركته يَعْنِي لفظ غير الْمَأْمُور بِهِ (عَلَيْهِ) أَي على الْمَأْمُور بِهِ (كَقَوْلِه(4/81)
تَعَالَى وخر رَاكِعا: أَي سَاجِدا) فَإِن فِي إِطْلَاق لفظ الرَّاكِع على الساجد والعدول عَن الظَّاهِر إِيمَاء إِلَى أَن الْمَقْصُود مِنْهُمَا وَاحِد، ثمَّ علل كَون الْمَنْع أقوى تبادرا من الْجَوَاز الْمُعَلل بِالْإِطْلَاقِ الْمَذْكُور بقوله (إِذْ لَا يلْزم من إِطْلَاق لفظ على غير مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ جَوَاز إِيقَاع مُسَمَّاهُ) أَي مُسَمّى الْمُسْتَعْمل مجَازًا (مَكَان مُسَمّى) اللَّفْظ (الآخر) الَّذِي وضع بِإِزَاءِ الْمُسْتَعْمل فِيهِ مجَازًا (شرعا) أَي جَوَازًا شَرْعِيًّا، فاللفظ الأول الرُّكُوع، وَالثَّانِي السُّجُود فَلَا يلْزم من إِطْلَاق الرُّكُوع على معنى السُّجُود، وَجَوَاز إِيقَاع معنى الرُّكُوع مَكَان معنى السُّجُود فِي أَدَاء مَا وَجب بِالطَّلَبِ الْمُتَعَلّق بِالسُّجُود (وَإِن كَانَ الْمُطلق) بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل (الشَّارِع) أَن وصلية لدفع مَا يتَوَهَّم من أَن الْمُطلق إِذا كَانَ الشَّارِع وَالشَّرْع فِي يَده فَمَا الْمَانِع من حمل كَلَامه على جَوَاز الْإِيقَاع لِأَن الْكَلَام فِي عدم لُزُوم جَوَازه من هَذَا الْإِطْلَاق، وَلَا فرق فِي هَذَا بَين أَن يكون الْمُطلق الشَّارِع أَو غَيره فَإِن طَرِيق الِاسْتِعَارَة غير طَرِيق الْقيَاس إِذْ بِنَاء الأول على علاقَة الْمجَاز، وَالثَّانِي على وجود الْعلَّة الشَّرْعِيَّة، وَإِنَّمَا لم يتَعَرَّض إِلَّا الْأَخير من وَجْهي الْجَوَاز لظُهُور الأول (وَلَو فرض قيام دلَالَة على ذَلِك) أَي جَوَاز قيام الرُّكُوع فِي الصَّلَاة مقَامهَا (لَا يصيره) أَي الْقيَاس (أظهر) من الِاسْتِحْسَان، فَإِن وَجه عدم جَوَاز نِيَابَة الرُّكُوع فِي غَايَة الظُّهُور، وَمَا ذكر فِي مُقَابِله لَيْسَ مثله فِي الظُّهُور، والمفروض أخْفى من الْمَذْكُور، كَذَا مَا بَقِي فِي عَالم الْفَرْض وَلم يبرز، وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن السَّجْدَة تكون فِي آخر السُّورَة أيسجد بهَا أم يرْكَع؟ قَالَ إِن شِئْت فاركع وَإِن شِئْت فاسجد ثمَّ اقْرَأ بعْدهَا سُورَة، رَوَاهُ سعيد، وَذكره ابْن أبي شيبَة عَن عَلْقَمَة وَإِبْرَاهِيم وَالْأسود وَطَاوُس ومسروق وَالشعْبِيّ وَالربيع بن خَيْثَم وَعَمْرو بن شُرَحْبِيل (وَحِينَئِذٍ) أَي حِين إِذْ كَانَ منع التأدى أظهر من جَوَازه (وَجب كَون الحكم الْوَاقِع) أَي الَّذِي اسْتَقر رَأْي الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِ عِنْد الْمُعَارضَة (من تأديها بِالرُّكُوعِ) بَيَان للْحكم الْوَاقِع، وَالضَّمِير لسجدة التِّلَاوَة (حكم الِاسْتِحْسَان) خبر الْكَوْن وَذَلِكَ لِأَن مَا يفِيدهُ أخْفى مِمَّا يُفِيد عدم تأديها بِهِ (لَا) يَصح (كَونه) أَي كَون الحكم الْوَاقِع (مِمَّا قدم فِيهِ) أَي فِي حَقه (الْقيَاس عَلَيْهِ) أَي على الِاسْتِحْسَان، بل هُوَ مِمَّا قدم فِيهِ الِاسْتِحْسَان على الْقيَاس، وَقيل الْقيَاس الْمُفِيد للتأدي إِنَّمَا علم من الِاسْتِحْسَان بالأثر الْمَرْوِيّ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَأجِيب بِأَن هَذَا على قَول من يحْتَج بقول الصَّحَابِيّ مُطلقًا سَوَاء كَانَ للرأي فِيهِ مدْخل أَو لَا، وَالْمُخْتَار أَنه يحْتَج بِهِ إِذا لم يكن للرأي فِيهِ مدْخل (وَظهر) من هَذِه الْجُمْلَة (أَن لَا اسْتِحْسَان) كَائِن مَوْصُوفا بِوَصْف (إِلَّا مُعَارضا لقياس) لما عرفت من أَنه عبارَة عَن الْقيَاس الْخَفي بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاس طَاهِر (وَلزِمَ أَن لَا يعدى) من مَحل إِلَى مَحل آخر (مَا) أَي حكم ثَبت (بِغَيْر قِيَاس) أَي على خلاف الْقيَاس (وَهُوَ) أَي(4/82)
الْقيَاس الَّذِي لَا يعدى بِدُونِهِ (اسْتِحْسَان أَولا) أَي أَو لَيْسَ باستحسان، يَعْنِي يعم الْقيَاس الْجَلِيّ والخفي، وَيحْتَمل أَن يكون الضَّمِير رَاجعا إِلَى غير الْقيَاس فَالْمُرَاد حِينَئِذٍ بقوله اسْتِحْسَان الِاسْتِحْسَان بالأثر، وَقد مر (لِأَنَّهُ) أَي مَا ثَبت بِغَيْر الْقيَاس (معدول) عَن سنَن الْقيَاس، وَمن شُرُوط حكم الأَصْل أَن لَا يكون معدولا عَنهُ (كإيجاب يَمِين البَائِع فِي اخْتِلَافهمَا) أَي عِنْد اخْتِلَاف البَائِع وَالْمُشْتَرِي (فِي قدر الثّمن بعد قبض الْمَبِيع) مَعَ قِيَامه (بِإِطْلَاق النَّص) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِذا اخْتلف البيعان وَلم يكن بَينهمَا بَيِّنَة والسلعة قَائِمَة فَالْقَوْل قَول البَائِع أَو يترادان " وَالْقِيَاس أَن لَا يَمِين عَلَيْهِ فَإِن قلت لَيْسَ فِي النَّص إِيجَاب الْيَمين قلت فِي عرف الشَّرْع إِذا قيل فَالْقَوْل قَوْله فِي مقَام الْخُصُومَة يُرَاد مَعَ الْيَمين، وَأَيْضًا قَوْله أَو يترادان مَعْطُوف على مُقَدّر أَي تحالف البائعان أَو يترادان (لِأَن المُشْتَرِي لَا يدعى عَلَيْهِ) أَي البَائِع (مَبِيعًا لتسلمه) أَي المُشْتَرِي (إِيَّاه) أَي الْمَبِيع، وَهُوَ معترف بِهِ وَإِذا لم يكن ثمَّة دَعْوَى من المُشْتَرِي فِي حق الْمَبِيع وَلَا إِنْكَار من البَائِع لَا يتَوَجَّه الْيَمين على البَائِع لِأَن الْيَمين على الْمُنكر، وَقد يُقَال صُورَة الدَّعْوَى من المُشْتَرِي حَاصِلَة وَقد اكْتفى بهَا فِي قبُول بَيته فيكتفي بهَا فِي يَمِين البَائِع أَقُول يُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن بَينهمَا بَيِّنَة دلّ على أَنه إِذا كَانَ تقبل فقبولها اكْتِفَاء بِصُورَة الدَّعْوَى ثَبت بِالنَّصِّ على خلاف الْقيَاس مُقْتَصرا على مورده (فَلَا يتَعَدَّى) إِيجَاب الْيَمين (إِلَى الْإِجَارَة) فِيمَا إِذا اخْتلفَا فِي مِقْدَار الْأُجْرَة بعد اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة بل القَوْل قَول الْمُسْتَأْجر مَعَ يَمِينه لِأَنَّهُ مُنكر الزِّيَادَة (و) إِلَى (الْوَارِثين) بِلَفْظ الْمثنى أَي وَارِث البَائِع ووارث المُشْتَرِي سَوَاء اخْتلف وَارِث البَائِع مَعَ المُشْتَرِي أَو بِالْعَكْسِ أَو الْوَارِث مَعَ الْوَارِث بِعَدَمِ مَوْتهمَا والسلعة قَائِمَة، بل القَوْل قَول المُشْتَرِي أَو وَارثه (خلافًا لمُحَمد) فَإِنَّهُ قَالَ يجْرِي التخالف فِي جَمِيع الصُّور (وَقَوله) أَي مُحَمَّد (إِذْ كل) من الْمُتَبَايعين (يَدعِي) على صَاحبه (عقدا غير) العقد (الآخر) وعَلى عقد الآخر، وينكر مَا يَدعِيهِ صَاحبه فَيحلف كل على دَعْوَى صَاحبه فَكَانَ على سنَن الْقيَاس فيتعدى إِلَى الْوَارِث (دفع) خبر قَوْله (بِأَن اخْتِلَاف الثّمن لَا يُوجِبهُ) أَي اخْتِلَاف العقد (كَمَا) لَا يُوجب اخْتِلَاف الثّمن اخْتِلَاف العقد (فِي زِيَادَته وحطه) فَإِن البيع بِأَلف يصير بِعَيْنِه بِأَلفَيْنِ إِذا زيد الثّمن بعد العقد، وَالْبيع بِأَلفَيْنِ يصير بِأَلف إِذا حطه عَنهُ بعده، لِأَنَّهُ لَو كَانَ الزِّيَادَة أَو الْحَط مُوجبا لاختلافه للَزِمَ تَجْدِيد العقد بِإِيجَاب وَقبُول على حِدة (بِخِلَاف مَا) ثَبت (بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ فَإِنَّهُ يعدى بِشَرْطِهِ فَهُوَ مُتَّصِل بقوله وَلزِمَ أَن لَا يعدى مَا بِغَيْر قِيَاس (وَهُوَ) أَي مَا ثَبت بِهِ نَحْو (مَا) أَي تخالفهما (قبل الْقَبْض) للْمَبِيع إِذا اخْتلفَا فِي قدر الثّمن فَإِنَّهُ على وفْق الْقيَاس الْخَفي، فَإِن البَائِع يُنكر وجوب تَسْلِيم الْمَبِيع بِمَا أقرّ(4/83)
بِهِ المُشْتَرِي من الثّمن، وَالْمُشْتَرِي يُنكر وجوب زِيَادَة الثّمن، وَالْقِيَاس أَن الْيَمين على المُشْتَرِي فَقَط لِأَنَّهُ الْمُنكر وَحده ظَاهرا (فتعدى) التخالف (إِلَيْهِمَا) أَي الْوَارِثين فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة لِكَوْنِهِمَا فِي مقَام مورثيهما فِي حُقُوق العقد وَالْحكم مَعْقُول (وَإِلَى الْإِجَارَة قبل الْعَمَل فتحالف الْقصار وَرب الثَّوْب إِذا اخْتلفَا فِي قدر الْأُجْرَة) رب الثَّوْب يَدعِي اسْتِحْقَاق الْعَمَل بِمَا يعْتَرف بِهِ من الْأُجْرَة، والقصار يُنكره، والقصار يَدعِي زِيَادَة الْأُجْرَة، وَرب الثَّوْب ينكرها (وفسخت) الْإِجَارَة بعد التَّحَالُف لِأَنَّهَا تحْتَمل الْفَسْخ قبل الْعَمَل، وَفِي الْفَسْخ دفع الضَّرَر عَن كل مِنْهُمَا (وَاسْتشْكل اخْتِصَاص قُوَّة الْأَثر وَفَسَاد الْبَاطِن مَعَ صِحَة الظَّاهِر بالاستحسان، و) اخْتِصَاص (قلبهما) أَي ضعف الْأَثر وَصِحَّة الْبَاطِن مَعَ فَسَاد الظَّاهِر (بِالْقِيَاسِ) كَمَا سبق اتبَاعا للْقَوْم، وَقَوله بالاستحسان مُتَعَلق بالاختصاص، والمستشكل صدر الشَّرِيعَة، وَقَالَ لَا دَلِيل على اخْتِصَاص مَا ذكرته (فَأجرى) بِصِيغَة الْمَجْهُول كَمَا فِي اسْتشْكل (تَقْسِيم) على مَا يَقْتَضِيهِ الْعقل بِغَيْر التَّخْصِيص (بِالِاعْتِبَارِ الأول) أَي قُوَّة الْأَثر وَضَعفه إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام لِأَنَّهُمَا (أما قوياه) أَي قَوِيا الْأَثر (أَو ضعيفاه، أَو الْقيَاس قويه وَالِاسْتِحْسَان ضعيفه، أَو بِالْقَلْبِ) أَي الْقيَاس ضعيفه وَالِاسْتِحْسَان قويه (وَإِنَّمَا يتَرَجَّح الِاسْتِحْسَان فِيهِ) أَي فِي الْقلب (و) يتَرَجَّح (الْقيَاس فِيمَا سوى) الْقسم (الثَّانِي) وَهُوَ ضعيفاه (للظهور) كَمَا فِي الأول (وَالْقُوَّة) كَمَا فِي الثَّالِث وَالرَّابِع (أما فِيهِ) أَي فِي الثَّانِي (فَيحْتَمل سقوطهما) أَي الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان لضعفهما (وَضعف) التَّقْسِيم على هَذَا الْوَجْه فِي التَّلْوِيح (بقول فَخر الْإِسْلَام) وَلما صَارَت الْعلَّة عندنَا عِلّة بأثرها (فسمينا مَا ضعف أَثَره قِيَاسا، وَمَا قوى أَثَره اسْتِحْسَانًا) يُرِيد بَيَان وَجه تَسْمِيَة الِاسْتِحْسَان وَحَاصِله أَن هَذَا اللَّفْظ بِاعْتِبَار أَصله يُنبئ عَن الْحسن، وَلَيْسَ فِي مُقَابِله هَذَا الأنباء فَلَا بُد لَهُ من مزية، وَهِي قُوَّة الْأَثر الْمَقْصُود بِالذَّاتِ فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ منَاط الِاسْتِدْلَال. فَعلم من كَلَامه أَن قُوَّة الْأَثر مَخْصُوص بالاستحسان وَضَعفه بِالْقِيَاسِ. ثمَّ أَشَارَ إِلَى دفع التَّضْعِيف بقوله (وَالْكَلَام) فِي أَمْثَال هَذِه التقسيمات (فِي) بَيَان (الِاصْطِلَاح وَهُوَ) أَي الِاصْطِلَاح للحنفية وَاقع (على اعْتِبَار الخفاء فِيهِ) أَي الِاسْتِحْسَان (وَفِي أَثَره) مَعْطُوف على فِيهِ (وفساده) مَعْطُوف على أَثَره فَعلم أَن مدَار الْفرق بَين الِاسْتِحْسَان وَالْقِيَاس فِي الِاصْطِلَاح على الخفاء والظهور، لَا على ضعف الْأَثر وقوته فَإِنَّهُمَا اعتبروا الخفاء فِي نفس الِاسْتِحْسَان وَفِي أَثَره وَفِي فَسَاده والظهور فِي جَانب الْقيَاس على هَذَا الْوَجْه، وَقد نقل الشَّارِح عَن فَخر الْإِسْلَام مَا يُفِيد هَذَا الَّذِي ذكر، وَأَن الْقُوَّة والضعف من حَيْثُ الْأَثر يُوجد فِي كل من الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان، فَمَا نقل عَنهُ فِي وَجه الضعْف يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل (وَبِالثَّانِي) مَعْطُوف على قَوْله(4/84)
بِالِاعْتِبَارِ الأول: أَي وأجرى تقسم لَهما بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَهُوَ الْفساد أَو الصِّحَّة من حَيْثُ الْبَاطِن أَو الظَّاهِر وَهُوَ أَنَّهُمَا بالتقسيم الْعقلِيّ (إِمَّا صَحِيحا الظَّاهِر وَالْبَاطِن أَو فاسداهما أَو الْقيَاس فَاسد الظَّاهِر صَحِيح الْبَاطِن وَالِاسْتِحْسَان قلبه) أَي صَحِيح الظَّاهِر فَاسد الْبَاطِن (أَو قلبه) أَي الْقيَاس صَحِيح الظَّاهِر فَاسد الْبَاطِن، وَالِاسْتِحْسَان فَاسد الظَّاهِر صَحِيح الْبَاطِن (فصور الْمُعَارضَة بَينهمَا) أَي الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان (سِتّ عشرَة) حَاصِلَة (من) ضرب (أَرْبَعَة) الْقيَاس: صَحِيح الظَّاهِر وَالْبَاطِن، فاسدهما، فَاسد الظَّاهِر صَحِيح الْبَاطِن، قلبه (فِي أَرْبَعَة) الِاسْتِحْسَان نظائرها فَإنَّك إِذا ضممت وَاحِدًا من أَرْبَعَة الْقيَاس مَعَ كل وَاحِد من أَرْبَعَة الِاسْتِحْسَان حصل أَربع صور تركيبية، وَهَكَذَا إِلَى آخرهَا، وَإِذا كَانَت صور الْمُعَارضَة سِتّ عشرَة كَانَ مَجْمُوع القياسات والاستحسانات بِاعْتِبَار الاقترانات اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَاحْتَاجَ إِلَى بَيَان كل وَاحِد مِنْهَا بِاعْتِبَار التَّرْجِيح والإسقاط فَقَالَ (فصحيحهما) أَي الظَّاهِر وَالْبَاطِن (من الْقيَاس يقدم لظُهُوره أَو صِحَّته) على سَبِيل منع الْخُلُو (على) جَمِيع (أَقسَام الِاسْتِحْسَان) الْمُعَارضَة لَهُ (و) هِيَ أَرْبَعَة (لَا شكّ فِي رد فاسدهما) أَي الظَّاهِر وَالْبَاطِن (مِنْهُ) أَي من الْقيَاس سَوَاء كَانَ مَا يُقَابله من الِاسْتِحْسَان صَحِيحهمَا أَو فاسدهما أَو صَحِيح الظَّاهِر فَاسد الْبَاطِن أَو قلبه، فَإِن رد فاسدهما مِنْهُ لَا يسْتَلْزم قبُول مَا يُقَابله (فَتسقط أَرْبَعَة) من الْقيَاس حَاصِلَة من تركيب الْقيَاس الْفَاسِد ظَاهرا وَبَاطنا مَعَ كل وَاحِد من أَرْبَعَة الِاسْتِحْسَان: كَمَا سقط أَرْبَعَة من الِاسْتِحْسَان حَاصِلَة من تركيب الْقيَاس الصَّحِيح ظَاهرا وَبَاطنا مَعَ كل وَاحِد من أَرْبَعَة الِاسْتِحْسَان بِسَبَب التَّقْدِيم الْمَذْكُور، فقد علم بذلك حَال ثَمَانِيَة من صور الْمُعَارضَة وَحكم طرفِي كل مِنْهُمَا من حَيْثُ التَّرْجِيح والسقوط، فَإِن بعض الاستحسانات الْمُقَابلَة لهَذِهِ الْأَرْبَعَة سَاقِط كالفاسد ظَاهرا وَبَاطنا أَو بَاطِنا فَقَط وَبَعضهَا غير سَاقِط مِمَّا سواهُمَا فَحِينَئِذٍ (تبقى ثَمَانِيَة) من الْقيَاس أَو الصُّور حَاصِلَة (من) تركيب (بَاقِي حالات الْقيَاس) أَي حالاته الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة، وهما كَونه فَاسد الظَّاهِر صَحِيح الْبَاطِن وَقَلبه (مَعَ أَرْبَعَة الِاسْتِحْسَان) فَالْحَاصِل من تركيب كل وَاحِد من حالتي الْقيَاس مَعَ كل وَاحِد من أَربع الِاسْتِحْسَان أَرْبَعَة فَيتَحَقَّق حِينَئِذٍ ثَمَانِيَة من الصُّور الْمَذْكُورَة للمعارضة، وَحكم هَذِه الثَّمَانِية أَنه (يقدم صَحِيحهمَا) أَي الظَّاهِر وَالْبَاطِن (مِنْهُ) أَي الِاسْتِحْسَان (عَلَيْهِمَا) أَي على بَاقِي حالات الْقيَاس، وَقد عرفت أَنَّهُمَا يتحققان فِي الصُّور الثَّمَانِية لصِحَّته ظَاهرا وَبَاطنا وَعدم تحقق صِحَّته، كَذَا فِيمَا يُقَابله (وَيرد فاسدهما) أَي الظَّاهِر وَالْبَاطِن من الِاسْتِحْسَان لفساده ظَاهرا وَبَاطنا، وَمُقَابِله إِن كَانَ فَاسد الظَّاهِر صَحِيح الْبَاطِن لَا يرد، وَإِن كَانَ عَكسه يرد (تبقى أَرْبَعَة) من تركيب بَاقِي كل من الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان (من) الآخرين فباقي الِاسْتِحْسَان اسْتِحْسَان صَحِيح(4/85)
الظَّاهِر فَاسد الْبَاطِن وَعَكسه، و (بَاقِي) الْقيَاس قِيَاس صَحِيح الظَّاهِر فَاسد الْبَاطِن وَعَكسه، وَحَاصِل ضرب الِاثْنَيْنِ فِي الِاثْنَيْنِ يكون أَرْبَعَة، وَكَون هذَيْن الاستحسانين وهذين القياسين باقيين بِاعْتِبَار هَذَا التَّرْكِيب لَا يُنَافِي كَون (كل) مِنْهُمَا مَذْكُورا فِي التراكيب السَّابِقَة (فالاستسحان الصَّحِيح الْبَاطِن الْفَاسِد الظَّاهِر) إِذا قوبل (مَعَ عَكسه) أَي فَاسد الْبَاطِن صَحِيح الظَّاهِر (من الْقيَاس مقدم) على عَكسه من الْقيَاس (وَفِي قلبه) أَي الِاسْتِحْسَان الْفَاسِد الْبَاطِن صَحِيح الظَّاهِر مَعَ عَكسه من الْقيَاس (الْقيَاس) يقدم على الِاسْتِحْسَان (كَمَا مَعَ الِاسْتِحْسَان الصَّحِيح الْبَاطِن الخ) أَي الْفَاسِد الظَّاهِر (مَعَ مثله) صَحِيح الْبَاطِن فَاسد الظَّاهِر (من الْقيَاس) يَعْنِي عومل مَعَ قلب الصُّورَة الأولى كَمَا عومل مَعَ الِاسْتِحْسَان إِلَى آخِره من تَقْدِيم الْقيَاس عَلَيْهِ (للظهور) يَعْنِي لما اسْتَويَا من حَيْثُ الصِّحَّة بِحَسب الْبَاطِن وَالْفساد بِحَسب الظَّاهِر رجح الْقيَاس لظُهُوره (وَيرد قلبهما) أَي صَحِيح الظَّاهِر فَاسد الْبَاطِن من كل من الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان لَا أَن الْقيَاس مقدم على الِاسْتِحْسَان (قيل) وَالْقَائِل صدر الشَّرِيعَة (وَالظَّاهِر امْتنَاع التَّعَارُض فِي هذَيْن) أَو التصويرين الْمشَار إِلَى أَحدهمَا بقوله كَمَا مَعَ إِلَى قَوْله مَعَ مثله، وَإِلَى الآخر بقوله وَيرد قلبهما (و) كَذَا (الظَّاهِر امْتنَاع التَّعَارُض وَفِي قوى الْأَثر) من الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان (للُزُوم التَّنَاقُض فِي الشَّرْع) حَاصِل كَلَام صدر الشَّرِيعَة هُنَا أَن الِاسْتِحْسَان الصَّحِيح الظَّاهِر الْفَاسِد الْبَاطِن أَو بِالْعَكْسِ إِذا وَقع فِي مُقَابلَة قِيَاس مَوْصُوف بِأحد شقي الترديد إِن اخْتلفَا نوعا، فَلَا شكّ أَن مَا صَحَّ بَاطِنه وَفَسَد ظَاهره أقوى مِمَّا هُوَ على الْعَكْس سَوَاء كَانَ قِيَاسا أَو اسْتِحْسَانًا، وَإِن اتحدا نوعا فتحققهما على هَذِه الصّفة خلاف الظَّاهِر وَلم نجده، وَذَلِكَ لِأَن صِحَة الْقيَاس تَسْتَلْزِم تعْيين الشَّارِع عِلّة تناسب الحكم الَّذِي يفِيدهُ ذَلِك الْقيَاس فَإِن صَحَّ قِيَاس آخر مُخَالف لَهُ مُفِيد خلاف الحكم الأول استلزم تعينه عِلّة أُخْرَى مُخَالفَة لتِلْك الْعلَّة مُنَاسبَة لهَذَا الحكم، وَهَذَا تنَاقض فِي الشَّرْع، ثمَّ قَالَ فَعلم أَن تعَارض قياسين صَحِيحَيْنِ فِي الْوَاقِع مُمْتَنع، وَإِنَّمَا يَقع التَّعَارُض لجهلنا بِالصَّحِيحِ وَالْفَاسِد، وَكَذَا يمْتَنع بَين قِيَاس قوي الْأَثر واستحسان كَذَلِك، وَكَذَا بَين قِيَاس صَحِيح الظَّاهِر وَالْبَاطِن واستحسان كَذَلِك، وَكَذَا بَين قِيَاس فَاسد الظَّاهِر صَحِيح الْبَاطِن واستحسان كَذَلِك أه أَقُول: وَلَا يخفى أَن هَذَا الدَّلِيل إِنَّمَا يُفِيد عدم تحقق صحتي المتعديين مَعًا فِي نفس الْأَمر، لَا فِي نظر الْمُجْتَهد، كَيفَ وكل من الْمُجْتَهدين فِي المسئلة الخلافية يعْتَقد صِحَة قِيَاسه، وَقد لَا يظْهر عِنْد أَحدهمَا فَسَاد قِيَاس الآخر، غير أَنه ترجح قِيَاسه بمرجح، ومدار التَّقْسِيم على مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نظره، لَا على مَا فِي نفس الْأَمر لِأَنَّهُ خَارج عَمَّا يفِيدهُ الِاجْتِهَاد، وَلَعَلَّ المُصَنّف بِصِيغَة التمريض يُشِير إِلَى مَا ذكرنَا، ثمَّ إِنَّهُم ذكرُوا فِي بعض صور اتِّحَاد النَّوْع تَرْجِيح الْقيَاس للظهور كَمَا سبق ذكره فَقَالَ (ويقليل تَأمل ينتفى التَّرْجِيح بالظهور أَي التبادر)(4/86)
إِلَى الذِّهْن (إِذْ لَا أثر لَهُ) أَي الظُّهُور (مَعَ اتِّحَاد جِهَة الْإِيجَاب) للْحكم بِأَن يكون المتعارضان من الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان صَحِيحَيْنِ ظَاهرا وَبَاطنا أَو بَاطِنا مَعَ فَسَاد ظاهرهما (بل يطْلب التَّرْجِيح إِن جَازَ تعارضهما) مَعَ اتِّحَاد جِهَة الْإِيجَاب (بِمَا) يتَعَلَّق بالترجيح الْمَذْكُور (تترجح بِهِ الأقيسة المتعارضة) فِي الْمُتَبَادر لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا فرق بَين الْمُتَبَادر وَغَيره (غير أَنا لَا نسمي أَحدهمَا) وَهُوَ الْمُتَبَادر اسْتِحْسَانًا اصْطِلَاحا) أَي تَسْمِيَة بِحَسب الِاصْطِلَاح، وَهَذَا أَمر لَفْظِي لَا يصلح فارقا بَينهمَا فلنتم المباحث بِذكر الترجيحات عِنْد التَّعَارُض فَنَقُول:
(وَهَذِه) إِشَارَة إِلَى مَا سَيذكرُ من الْوُجُوه فَإِنَّهَا حَاضِرَة فِي الذِّهْن
(تَتِمَّة فِيهِ) أَي فِيمَا يتَرَجَّح بِهِ الأقيسة المتعارضة
(يقدم) الْقيَاس الَّذِي هُوَ (مَنْصُوص الْعلَّة) بِأَن تكون علته ثَابِتَة بِالنَّصِّ (صَرِيحًا على مَا) أَي الثَّابِت علته (بإيماء) وَإِشَارَة من غير تَصْرِيح، لِأَن التَّصْرِيح أقرب إِلَى الْقطع (و) يقدم (مَا) ثَبت علته (بقطعي) أَي بِدَلِيل قَطْعِيّ (على مَا) ثَبت علته (بظني، و) يقدم (مَا غلب ظَنّه) أَي علته على مَا لَا يغلب، فَإِن الظَّن مَرَاتِب بَعْضهَا أقرب إِلَى الْقطع (وَيَنْبَغِي تَقْدِيم) الْقيَاس الْمُشْتَمل على الْعلَّة (ذَات الاجماع الْقطعِي) بِأَن ثَبت عليتها بِالْإِجْمَاع الْقطعِي، لَا الْإِجْمَاع الظني كَمَا عرفت فِي مبَاحث الْإِجْمَاع (على) الْقيَاس الْمُشْتَمل على الْعلَّة (المنصوصة) بِغَيْرِهِ وَإِن كَانَ قَطْعِيا، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد المنصوصة بِغَيْر قَطْعِيّ، غير أَنه أيد مَا ذكره بِأَن قَطْعِيّ الاجماع لَا يحْتَمل النّسخ بِخِلَاف غَيره وَيرد عَلَيْهِ مَا ثَبت بِنَصّ قَطْعِيّ مُحكم لَا يحْتَمل النّسخ، وَلَا نقل عَن السُّبْكِيّ تَقْدِيم الْقيَاس الثَّابِت علته بِالْإِجْمَاع الْقطعِي على الثَّابِت علته بِالنَّصِّ الْقطعِي (و) يقدم (مَا) ثَبت علته (بِالْإِيمَاءِ على مَا) ثَبت علته (بالمناسبة) عِنْد الْجُمْهُور لما فِيهَا من الِاخْتِلَاف، وَلِأَن الشَّارِع أولى بتعليل الْأَحْكَام، وَذهب الْبَيْضَاوِيّ إِلَى تَقْدِيم المنسابة على الْإِيمَاء لِأَنَّهَا تَقْتَضِي وَصفا مناسبا بِخِلَاف الْإِيمَاء، لِأَن تَرْتِيب الحكم يشْعر بالعلية سَوَاء كَانَ مناسبا أَولا، وَإِذا توافقا فِي الثُّبُوت بالمناسبة (فَمَا) أَي الْقيَاس الَّذِي (عرف بِالْإِجْمَاع تَأْثِير عينه) أَي عين وَصفه (فِي عينه) أَي الحكم (أولى بالتقديم على مَا عرف بِهِ) أَي الْإِجْمَاع (تَأْثِير جنسه) أَي جنس وَصفه (فِي نَوعه) أَي الحكم كَمَا لَا يخفى (وَهَذَا) الَّذِي عرف تَأْثِير جنسه فِي نَوعه (أولى من عَكسه) وَهُوَ مَا عرف بِالْإِجْمَاع تَأْثِير نَوعه فِي جنس الحكم، لِأَن اعْتِبَار شَأْن الْمَقْصُود أهم من اعْتِبَار شَأْن الْعلَّة، وَقيل بِالْعَكْسِ، لِأَن الْعلَّة هِيَ الْعُمْدَة فِي التَّعْدِيَة، فَإِن تَعديَة الحكم فرع تعديتها (وكل مِنْهُمَا) أَي هذَيْن (أولى من الْجِنْس فِي الْجِنْس) أَي فِيمَا عرف فِيهِ تَأْثِير جنس الْوَصْف فِي جنس الحكم (ثمَّ(4/87)
الْجِنْس الْقَرِيب فِي الْجِنْس الْقَرِيب) أولى (من) الْجِنْس (غير الْقَرِيب) فِي غير الْقَرِيب وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْقرب فِي أحد الْجَانِبَيْنِ خير من الْبعد فيهمَا، ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب (وَتقدم) فِي المرصد الأول فِي تَقْسِيم الْعلَّة (أَن الْمركب أولى من الْبَسِيط) وَذكر هُنَاكَ وَجهه. (وأقسام المركبات) يقدم فِيهَا (مَا تركيبه أَكثر) على مَا تركيبه أقل (وَمَا تركب من راجحين أولى مِنْهُ) أَي من الْمركب (من مسَاوٍ ومرجوح) فضلا عَن الْمركب من مرجوحين (فَيقدم مَا) أَي الْمركب (من تَأْثِير الْعين فِي الْعين وَالْجِنْس الْقَرِيب على مَا) أَي الْمركب (من) تَأْثِير (الْعين فِي الْجِنْس الْقَرِيب وَالْجِنْس فِي الْعين، وَيظْهر بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا سبق أَقسَام) أخر، فِي التَّلْوِيح كالمركبين الْمُشْتَمل كل مِنْهُمَا على رَاجِح ومرجوح فَإِنَّهُ يقدم فِيهِ مَا يكون فِي جَانب الحكم على مَا يكون فِي جَانب الْعلَّة انْتهى. وَقد أَشرت بِقَوْلِي: وَلَا يخفى إِلَى بَعْضهَا آنِفا (وللشافعية ترجح المظنة على الْحِكْمَة) أَي التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ مَظَنَّة الحكم على التَّعْلِيل بِنَفس الْحِكْمَة لمَكَان الِاخْتِلَاف فِي الثَّانِي دون الأول (وَيَنْبَغِي) أَن يكون هَذَا (عِنْد عدم انضباطها) أَي الْحِكْمَة. حكى الْآمِدِيّ فِي جَوَاز التَّعْلِيل بالحكمة ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَنْع مُطلقًا عَن الْأَكْثَرين، وَالْجَوَاز مُطلقًا وَرجحه الرَّازِيّ والبيضاوي، والجوازان كَانَت ظَاهِرَة منضبطة بِنَفسِهَا وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ مُخْتَار الْآمِدِيّ (ثمَّ الْوَصْف الوجودي) أَي التَّعْلِيل بِهِ للْحكم الوجوي أَو العدمي على التَّعْلِيل بالعدمى أَو الوجودي للعدمي (وَالْحكم الشَّرْعِيّ) أَي يتَرَجَّح التَّعْلِيل بِهِ على التَّعْلِيل بِغَيْرِهِ (والبسيط) أَي ويترجح التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْبَسِيط على التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْمركب لِأَنَّهُ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَالِاجْتِهَاد فِيهِ أقل فيبعد عَن الْخَطَأ، بِخِلَاف الْمركب (وَالْحَنَفِيَّة) على أَن الْبَسِيط (كالمركب) وَلما كَانَ هَذَا يُوهم التدافع بَينه وَبَين مَا سبق من تَقْدِيم الْمركب قَالَ (وَلَيْسَ الْبَسِيط مُقَابلا لذَلِك الْمركب) الْمَذْكُور آنِفا فَإِن المُرَاد بِهِ ثمت وصف مُتَعَدد جِهَات اعْتِبَاره من حَيْثُ الْعين فِي الْعين وَالْجِنْس فِي الْعين أَو فِي الْجِنْس إِلَى غير ذَلِك، وَإِن كَانَ فِي ذَاته بسيطا. وَالْمرَاد هَهُنَا ذُو جزءين فَصَاعِدا (وَمَا بالمناسبة) أَي ويترجح التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الثَّابِت علته بالمناسبة (أَي الإخالة على مَا بالشبه والدوران) وَقد سبق تَعْرِيفهَا وتفصيلها: أَي على التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الثَّابِت عليته بِأحد هذَيْن لاشتمالها على الْمصلحَة، ثمَّ مَا بالشبه على مَا بالدوران لقُرْبه من الْمُنَاسبَة (وَمَا بالسبر) وَقد سبق (عَلَيْهِمَا) أَي على مَا بالشبه وعَلى مَا بالدوران، على مَا اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (وَعلل) تَرْجِيح مَا بالسبر عَلَيْهِمَا (بِمَا فِيهِ) أَي السبر (من التَّعَرُّض لنفي الْمعَارض وَقد يُقَال فَكَذَا الدوران) يتَرَجَّح الْوَصْف الثَّابِت بِهِ على الثَّابِت بِغَيْرِهِ (لزِيَادَة إِثْبَات الانعكاس) لِأَن الْعلَّة المستفادة مِنْهُ مطردَة منعكسة، بِخِلَاف غَيره (وَيلْزمهُ) أَي تَقْدِيم الدوران بِمَا ذكر (تَقْدِيم مَا بالسير على(4/88)
مَا بالدوران) لتحَقّق هَذِه الزِّيَادَة مَعَ أُخْرَى كَمَا أَفَادَ بقوله (لانعكاس علته) أَي الْعلَّة الثَّابِتَة بِهِ (للحصر) أَي لحصر السبر الْأَوْصَاف الصَّالِحَة للعلية فِي عدد، ثمَّ إِلْغَاء الْبَعْض لتعيين الْبَاقِي، فَإِن الْعلَّة لَو لم تنعكس حِينَئِذٍ للُزُوم وجود الحكم بِلَا عِلّة (وَيزِيد) على الدوران (بِنَفْي الْمعَارض فَيبْطل مَا قيل) وَالْقَائِل الْبَيْضَاوِيّ (من عَكسه) بَيَان للموصول: أَي تَقْدِيم مَا بالدوران على مَا بالسبر، وَفِي الْمَحْصُول إِذا كَانَ السبر مَقْطُوعًا بِهِ فَالْعَمَل بِهِ مُتَعَيّن، وَلَيْسَ من قبيل التَّرْجِيح (وَلَا يتَصَوَّر) مَا ذكر من الترجيحات (للحنفية) لعدم صِحَة هَذِه الطّرق عِنْدهم، وَمن قَالَ بالسير مِنْهُم لتعيين الْعَمَل بِهِ عِنْده، وَمَا عداهُ سَاقِط لَا يصلح للمعارضة (والضرورية على الحاجية، والدينية مِنْهَا على غَيرهَا) أَي عِنْد تعَارض أَقسَام الْمُنَاسبَة التَّرْجِيح بِقُوَّة الْمصلحَة فترجح الْمَقَاصِد الْخَمْسَة الضرورية: حفظ الدّين، وَالنَّفس، وَالْعقل، وَالنّسب، وَالْمَال على مَا سواهَا من الحاجية وَغَيرهَا، وترجح الدِّينِيَّة من أَقسَام الضرورية على غَيرهَا مِمَّا ذكر على مَا مر فِي المرصد الأول فِي تَقْسِيم الْعلَّة (وَهِي) أَي الحاجية تقدم (على مَا بعْدهَا) من التحسينية (ومكمل كل) من الضرورية والحاجية والتحسينية (مثله) أَي مثل مَا يكمل بِهِ (فمكمله) أَي الضَّرُورِيّ يرجح (على الحاجي وَعنهُ) أَي عَن كَون مكمل كل مثله (ثَبت) شرعا (فِي) شرب (قَلِيل الْخمر) من الْحَد (مَا) ثَبت (فِي) شرب (كثيرها، وَيقدم حفظ الدّين) من الضروريات على غَيره لِأَنَّهُ الْمَقْصُود والأعظم بِهِ السَّعَادَة السرمدية (ثمَّ) يقدم حفظ (النَّفس) على حفظ النّسَب وَالْعقل وَالْمَال، لِأَن الْكل فرع بَقَاء النَّفس (ثمَّ) يقدم حفظ (النّسَب) على الْبَاقِي لِأَنَّهُ بَقَاء النَّوْع بالتناسل من غير زنا فبتحريمه لَا يحصل اخْتِلَاط النّسَب فينسب الْوَلَد إِلَى شخص وَاحِد فيهتم بتربيته (ثمَّ) يقدم حفظ (الْعقل) على حفظ المَال، لِأَن الْإِنْسَان بفواته يلْتَحق بِالْحَيَوَانِ، وَمن ثمت يجب بتفويته مَا يجب بتفويت النَّفس من الدِّيَة الْكَامِلَة (ثمَّ) حفظ (المَال، وَقيل) يقدم (المَال) أَي حفظه فضلا عَن حفظ الْعقل وَالنّسب وَالنَّفس (على) حفظ (الدّين) كَمَا حَكَاهُ غير وَاحِد لِأَنَّهَا حق الْآدَمِيّ الضَّعِيف، وَهُوَ يتَضَرَّر بفواته، وَالدّين حق الله تَعَالَى الْقوي المتعال عَن التضرر بفواته (وَلذَا) أَي لتقديمه على الدّين (تتْرك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة لحفظه) أَي المَال (وَلأبي يُوسُف تقطع) الصَّلَاة (للدرهم) فِي الْخُلَاصَة وَلَو سرق مِنْهُ أَو من غَيره دِرْهَم يقطع الْفَرْض انْتهى، وَذكروا أَن مَا دون الدِّرْهَم حقير فَلَا يقطع لأَجله الصَّلَاة (وَقدم الْقصاص على قتل الرِّدَّة) عِنْد وجوب الْقَتْل بِكُل مِنْهُمَا لكَونه حق العَبْد (ورد) كَون تَقْدِيم الْقصاص لأجل مَا ذكر (بِأَن فِي الْقصاص حَقه تَعَالَى) وَلذَا يحرم عَلَيْهِ قتل نَفسه، فالتقديم باجتماع الْحَقَّيْنِ، وَمَا ذكره الْأَبْهَرِيّ من أَن الْقصاص لَو كَانَ فِيهِ حق الله تَعَالَى لَكَانَ للْإِمَام أَن يقْتَصّ وَإِن عَفا ولي الدَّم كَمَا فِي قطع السّرقَة مَدْفُوع بِأَن الْغَالِب فِي الْقصاص(4/89)
حق العَبْد، وَأما حد السّرقَة فَحق الله تَعَالَى على الخلوص (وَالْأول) أَي ترك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة لحفظ المَال (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من تَقْدِيم المَال على الدّين (إِذْ لَهُ) أَي لتركهما (خلف) يجبران بِهِ، وَهُوَ الظّهْر والانفراد، وَقد يُقَال: خُصُوصِيَّة الْجُمُعَة مَطْلُوبَة، وَالْجَمَاعَة سنة مُؤَكدَة، وَلذَا يَأْثَم وَإِن صلى الظّهْر إِذا لم يكن لَهُ عذر، وَينْقص أجره كثيرا بالانفراد، فَلَا بُد من فَوَات أَمر ديني فِي كل مِنْهُمَا وَإِن لم يفت أصل فرض الْوَقْت فَتَأمل (وَأما) تَرْجِيح أحد القياسين على الآخر الْمعَارض لَهُ (بترجيح دَلِيل حكم أَصله على دَلِيل حكم) الأَصْل (الآخر) ككون دَلِيل حكم أصل أَحدهمَا متواترا أَو مَشْهُورا أَو حَقِيقَة أَو صَرِيحًا أَو عبارَة، بِخِلَاف الآخر (فللنصوص بِالذَّاتِ) أَي فَذَلِك التَّرْجِيح ثَابت للنصوص بِالذَّاتِ، وللقياس بالتبع، وَقد تقدم فِي فصل التَّرْجِيح (وَتَركنَا أَشْيَاء متبادرة) إِلَى الْفَهم من وُجُوه تَرْجِيح الأقيسة لظهورها للمتيقن مَا سبق من المباحث كانضباط عِلّة أَحدهمَا: أَو جامعيتها ومانعيتها من حَيْثُ الْحِكْمَة، بِخِلَاف الآخر إِلَى غير ذَلِك (وتتعارض المرجحات) للمتعارضين من الأقيسة (فَيحْتَمل) التَّرْجِيح (الِاجْتِهَاد) أَي يسوغه (كالملايمة والبسيطة) يَعْنِي أَن الْقيَاس بعلة ثبتَتْ عليتها بالملائمة ترجح على مَا بالدوران، فَلَو كَانَت الملائمة مركبة، والمطردة المنعكسة بسيطة تعَارض المرجحات، وَاحْتمل التَّرْجِيح الِاجْتِهَاد، كَذَا نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف. (وَعَادَة الْحَنَفِيَّة ذكر أَرْبَعَة) من مرجحات الْقيَاس (قُوَّة الْأَثر والثبات على الحكم وَكَثْرَة الْأُصُول وَالْعَكْس، فَأَما قُوَّة الْأَثر) أَي التَّأْثِير (فَمَا ذكر من) قوته فِي بعض أَقسَام (الْقيَاس، و) فِي بعض أَقسَام (الِاسْتِحْسَان) فِي ضمن التَّقْسِيم والتمثيل (وَمِنْه) أَي من تَرْجِيح أحد القياسين بِقُوَّة الْأَثر مَا ذكر (فِي جَوَاز نِكَاح الْأمة) للْحرّ (مَعَ طول الْحرَّة) أَي قدرته على تزَوجهَا بتمكنه من مهرهَا ونفقتها، وَالْأَصْل الطول على الْحرَّة، فاتسع بِحَذْف الْجَار، وَإِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول من قَوْلهم (يملكهُ) أَي نِكَاح الْأمة (العَبْد) مَعَ طول الْحرَّة بِإِذن مَوْلَاهُ لَهُ فِي نِكَاح من شَاءَ من حرَّة أَو أمة وَدفع مَا يصلح مهْرا لَهَا (فَكَذَا الْحر) يملكهُ مَعَ الطول. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز لَهُ قِيَاسا على الْحر الَّذِي تَحْتَهُ حرَّة، فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، فَإِن قِيَاس نِكَاح الْحر إِيَّاهَا على نِكَاح العَبْد الْمَذْكُور (أقوى من قِيَاسه) أَي نِكَاح الْحر (على نِكَاح الْأمة على الْحرَّة بِجَامِع ارقاق مائَة مَعَ غنيته) عَن ارقاقه إِذْ الارقاق اهلاك معنى لِأَنَّهُ أثر الْكفْر وَالْكفْر موت حكما فَلَا يُبَاح إِلَّا عِنْد الْعَجز عَن نِكَاح الْحرَّة. ثمَّ علل كَونه أقوى بقوله (لِأَن أثر الْحُرِّيَّة) أَي حريَّة الناكح (فِي اتساع الْحل) بِأَن يحل لَهُ مَا شَاءَ من حرَّة أَو أمة (أقوى من) أثر لُزُوم (الرّقّ) للْمَاء (فِيهِ) أَي اتساع الْمحل: بِأَن يَنْفِيه فَلَا يَسعهُ إِلَّا نِكَاح الْحرَّة، وَإِنَّمَا حكمنَا بِكَوْن التَّأْثِير الأول أقوى (تَشْرِيفًا) للْحرّ فِي(4/90)
الاتساع (كَالطَّلَاقِ) فَإِن كَونه ثَلَاثًا يتبع الْحُرِّيَّة، غير أَنا اعْتبرنَا فِي جَانب الْمَرْأَة، وَالشَّافِعِيّ فِي جَانب الزَّوْج (وَالْعدة) فَإِنَّهَا فِي حق الْحرَّة ثَلَاثَة قُرُوء، وَثَلَاثَة أشهر وَأَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام. وَفِي حق الْأمة قُرْآن وَشهر وَنصف وشهران وَخَمْسَة أَيَّام (والتزوج) فَإِنَّهُ يُبَاح للْحرّ أَربع وَلِلْعَبْدِ ثِنْتَانِ. وَلَا شكّ أَن قياسنا يقوى أَثَره بِهَذِهِ الشواهد (وَكثير) مَعْطُوف على الطَّلَاق وككثير من الْأَحْكَام الْمُشْتَملَة على الاتساع تَشْرِيفًا للْحرّ من التمليكات وَغَيرهَا، فالتوسعة على العَبْد، والتضييق على الْحر قلب الْمَشْرُوع وَعكس الْمَعْقُول. وَمَا فِي التَّلْوِيح من أَن هَذَا التَّضْيِيق من بَاب الْكَرَامَة حَيْثُ منع الشريف من تزوج الخسيس مَعَ مَا فِيهِ من مَظَنَّة الارقاق: وَذَلِكَ كَمَا جَازَ نِكَاح الْمَجُوسِيَّة للْكَافِرِ دون الْمُسلم انْتهى، دفع بِأَنَّهُ لَا خسة كالكفر، وَقد جَازَ تجوز الْمُسلم الْقَادِر على الْحرَّة الْمسلمَة بِالْكَفَّارَةِ الْكِتَابِيَّة، وَفِي كَلَام المُصَنّف أَيْضا إِشَارَة إِلَى دَفعه حَيْثُ قَالَ (وَمنع) الشَّارِع من (الارقاق وَإِن تضمنه) أَي الشريف (لكنه) أَي الارقاق بتزوج الْأمة (مُنْتَفٍ لِأَن اللَّازِم) من تزَوجهَا (الِامْتِنَاع عَن) تَحْصِيل إِيجَاد (الْجُزْء) أَي الْوَلَد (الْحر) إِذْ المَاء لَا يُوصف بِالرّقِّ وَالْحريَّة، بل هُوَ قَابل لِأَن يُوجد مِنْهُ الْحر وَالرَّقِيق فَتَزَوجهَا ترك مُبَاشرَة سَبَب الْحُرِّيَّة، وَحين يخلق رَقِيقا (لَا) أَن اللَّازِم مِنْهُ (ارقاقه) أَي الْجُزْء بَان يتنقل من الْحُرِّيَّة إِلَى الرّقّ (وَلَو ادّعى أَنه) أَي الِامْتِنَاع من الْجُزْء الْحر هُوَ (المُرَاد بالارقاق نقض بِنِكَاح العَبْد الْقَادِر) على طول الْحرَّة (أمة لِأَن مَاءَهُ) إِذا خلق مِنْهُ ولد فِي الْحرَّة (حر إِذْ الرّقّ من الْأُم لَا الْأَب) وَهُوَ جَائِز اتِّفَاقًا وَالْفرق بَين الامتناعين لَا عِبْرَة بِهِ (و) نقض (بعزل الْحر) عَن أمته مُطلقًا، وَعَن زَوجته الْحرَّة بِرِضَاهَا، وبنكاح الصَّغِيرَة والعجوز والعقيم، فَإِنَّهُ اتلاف حَقِيقَة، والارقاق اتلاف حكما (وَمِنْه) أَي من التَّرْجِيح بِقُوَّة الْأَثر تَرْجِيح الْقيَاس لنفي استنان تثليث مسح الرَّأْس على الْقيَاس لاستنانه كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَهُوَ مسح الرَّأْس (مسح فَلَا يثلث كالخف) أَي كمسحه فَإِنَّهُ (أقوى أثرا من قِيَاسه) وَهُوَ (ركن فيثلث كالمغسول) أَي كَغسْل الْوَجْه أَو الْيَدَيْنِ أَو الرجلَيْن، وَقَوْلنَا أقوى أثرا (بعد تَسْلِيم تَأْثِيره) أَي كَونه ركنا فِي التَّثْلِيث (فِي الأَصْل) وَهُوَ المغسول وَهُوَ مَمْنُوع. ثمَّ بَين كَونه أقوى بقوله (فَإِن شَرعه) أَي مسح الرَّأْس (مَعَ إِمْكَان) اسْتِيعَاب (شرع غسل الرَّأْس وخصوصا مَعَ عدم اسْتِيعَاب الْمحل) أَي الرَّأْس بِالْمَسْحِ فرضا (لَيْسَ إِلَّا للتَّخْفِيف) وَهُوَ فِي عدم التّكْرَار فَالْحَاصِل أَنا لَا نسلم أَن كَون الْغسْل ركنا أثر فِي تثليث المغسول، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم تَأْثِيره يعْتَبر فِيهِ عدم الْمَانِع وَهُوَ شَرعه للتَّخْفِيف وَهُوَ لمَانع مَوْجُود فِي مسح الرَّأْس (وَإِلَّا فقد نقض طردا وعكسا) يَعْنِي أَن كل مَا ذكرنَا كَانَ بحثا على تَقْدِير التَّسْلِيم، وَإِن لم يسلم تَأْثِير الركنية فِي التَّثْلِيث، فَهُوَ موجه بِأَنَّهُ قد نقض تَأْثِير الركنية(4/91)
فِيهِ من حَيْثُ الاطراد لكَون التَّثْلِيث قد يُفَارق الركنية، وَمن حَيْثُ الانعكاس لكَونه لَا يسْتَغْرق كل ركن كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لوُجُوده) أَي التَّثْلِيث (وَلَا ركن فِي الْمَضْمَضَة) الْجَار مُتَعَلق بالوجود (وَالِاسْتِنْشَاق) فَإِن شَيْئا مِنْهُمَا لَيْسَ بِرُكْن من الْوضُوء مَعَ استنان التَّثْلِيث فيهمَا (وَوُجُود الرُّكْن دونه) أَي التَّثْلِيث (كثير) فِي أَرْكَان الصَّلَاة من الْقيام وَغَيره، وأركان الْحَج إِلَى غير ذَلِك، فَلَا يَصح التَّعْلِيل بالركنية. لَا يُقَال المُرَاد الركنية فِي الْوضُوء لَا الْمُطلقَة، لِأَن الخصوصية ملغاة، لَا لتأثير الْمَفْرُوض لأصل الركنية، فَإِن التَّثْلِيث يُحَقّق الرُّكْن على وَجه الْكَمَال (وَأما الثَّبَات) أَي قُوَّة ثبات الْوَصْف على الحكم الثَّابِت بِهِ (فكثرة اعْتِبَار الْوَصْف) من الشَّارِع (فِي) جنس (الحكم) فِيهِ مُسَامَحَة، لِأَن الْكَثْرَة لَيست عين الثَّبَات بل سَببه: وَذَلِكَ بِاعْتِبَار الشَّارِع علية الْوَصْف فِي صُورَة كَثِيرَة من جنس الحكم، فَإِنَّهُ يحصل بذلك قُوَّة فِي ثُبُوت علته لَهُ (كالمسح) فَإِنَّهُ كثر اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه (فِي التَّخْفِيف) الَّذِي جنس عدم التَّثْلِيث لاعتباره (فِي كل تَطْهِير غير مَعْقُول) كَونه مطهرا (كالتيمم وَمسح الْجَبِيرَة والجورب والخف) فَإِنَّهُ لم يشرع فِي شَيْء مِنْهَا التّكْرَار للتَّخْفِيف، بِخِلَاف الِاسْتِنْجَاء بِغَيْر المَاء من الْحجر وَنَحْوه، فَإِنَّهُ مسح شرع فِيهِ التّكْرَار، لِأَنَّهُ عقل فِيهِ معنى التَّطْهِير (بِخِلَاف الرُّكْن فَإِن أَثَره) أَي الرُّكْن (فِي الْإِكْمَال وَهُوَ) أَي الْإِكْمَال فِيمَا نَحن فِيهِ (الايعاب) بِالْمَسْحِ فِي الْمحل لَا التّكْرَار الَّذِي يكَاد يخرج الْمسْح من حَقِيقَته إِلَى الْغسْل (وكقولهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي) صَوْم (رَمَضَان) صَوْم (مُتَعَيّن) فِي الْوَقْت الْمُتَعَيّن لَهُ (فَلَا يجب تَعْيِينه) فَيسْقط بِمُطلق نِيَّة الصَّوْم: إِذْ اليقيين اثْبتْ فِي سُقُوط التَّعْيِين من الْوَصْف الْمَذْكُور فِي قَول الشَّافِعِي صَوْم فرض الخ (وَهُوَ) أَي التَّعْيِين (وصف اعْتَبرهُ الشَّارِع) فِي سُقُوط التَّعْيِين من الْوَصْف الْمَذْكُور فِي صور كَثِيرَة كَمَا (فِي الودائع والغصوب ورد الْمَبِيع فِي) البيع (الْفَاسِد) إِلَى الْمَالِك حَتَّى لَو وجد رد هَذِه الْأَشْيَاء بِهِبَة أَو صَدَقَة أَو بيع يَقع عَن الْجِهَة الْمُسْتَحقَّة لتعين الْمحل لذَلِك شرعا (وَالْإِيمَان بِاللَّه) وَمَا يجب الْإِيمَان بِهِ فَإِنَّهُ (لَا يشْتَرط) فِي خُرُوجه بِهِ عَن عُهْدَة الْفَرْض (تعْيين نِيَّة الْفَرْض بِهِ) أَي بِالْإِيمَان: أَو بِشَيْء مِمَّا ذكر من رد الْمَذْكُورَات وَالْإِيمَان مَعَ أَنه أقوى الْفَرَائِض يحصل الِامْتِثَال بالمأمور بِهِ على أَي وَجه يَأْتِي بِهِ، وَكَذَا الْحَج يَصح بِمُطلق النِّيَّة وَنِيَّة النَّفْل عِنْده (وَأما كَثْرَة الْأُصُول الَّتِي يُوجد فِيهَا جنس الْوَصْف) فِي عين الحكم أَو جنسه (أَو عينه) أَي الْوَصْف فِي جنس الحكم أَو عينه (على مَا ذكرنَا للشَّافِعِيَّة) فِي الْمَقْصد الأول فِي تَقْسِيم الْعلَّة (فَقيل لَا ترجح) للوصف الْمُشْتَمل على كَثْرَة الْأُصُول على الْوَصْف العاري عَنْهَا، وَهَذَا القَوْل مَنْسُوب إِلَى بعض أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِي (لِأَنَّهُ) أَي التَّرْجِيح بهَا (ككثرة الروَاة) أَي كالترجيح بهَا إِذا لم يبلغُوا حد الشُّهْرَة أَو التَّوَاتُر فَإِن الْخَبَر لَا يرجح(4/92)
بهَا فَكَذَا لَا يرجح بِكَثْرَة الْأُصُول (وَلِأَن كل أصل كعلة) على حِدة (فبالقياس) أَي فالترجيح بِكَثْرَة الْأُصُول تَرْجِيح بِالْقِيَاسِ للْقِيَاس وَهُوَ المُرَاد بالترجيح بِكَثْرَة الْعِلَل، وَهُوَ غير جَائِز. (وَالْمُخْتَار) كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (نعم) ترجح (لِأَن مرجعه) أَي التَّرْجِيح بهَا (اشتهار الدَّلِيل أَي الْوَصْف) الْمُعْتَبرَة عليته فِي أصُول كَثِيرَة (كالخبر المشتهر) أَي كاشتهاره، فَكَمَا رجح اشتهار ذَلِك الْخَبَر رجح اشتهار هَذَا الدَّلِيل (فازداد) بِكَثْرَة الْأُصُول للوصف (ظن اعْتِبَار الشَّارِع حكمه) أَي حكم ذَلِك الْوَصْف (بِخِلَاف مَا إِذا لم يبلغهَا) أَي بِخِلَاف الْوَصْف إِذا لم يبلغ بِكَثْرَة الْأُصُول الشُّهْرَة لما عرفت من أَن الْمُرَجح فِي الْحَقِيقَة الاشتهار، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْمُخْتَار مُقَيّد بِهَذَا الْقَيْد وَالشَّارِح لم يُقَيِّدهُ، وَفَسرهُ بِمَا إِذا لم يبلغ الْوَصْف كَثْرَة الْأُصُول، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من أَن كَثْرَة الْأُصُول إِذا لم تبلغه الشُّهْرَة لم تلتحق بالْخبر المشتهر فَتَأمل، وَذَلِكَ (كالمسح) فَإِنَّهُ وصف يشْهد لتأثيره (فِي التَّخْفِيف) وَعدم التَّثْلِيث أصُول كَثِيرَة إِذْ (يُوجد) أَي الْمسْح مؤثرا فِي التَّخْفِيف (فِي التَّيَمُّم) ، وَمَا ذكرنَا) من مسح الْجَبِيرَة والجورب والخف (فيترجح) تَأْثِيره فِي التَّخْفِيف (على تَأْثِير وصف الركنية فِي التَّثْلِيث فَلِذَا) أَي لكَون الْمسْح وَنَحْوه بِاعْتِبَار تَأْثِيره فِي التَّخْفِيف مِثَالا للثبات وَكَثْرَة الْأُصُول (قيل) وَالْقَائِل فَخر الْإِسْلَام وَصدر الشَّرِيعَة (هُوَ) أَي هَذَا الثَّالِث (قريب من الثَّانِي) غير أَن الملحوظ فِي الثَّالِث جَانب الْمُؤثر، وَفِي الثَّانِي الْأَثر (وَالْحق أَن الثَّلَاثَة) : قُوَّة الْأَثر، والثبات، وَكَثْرَة الْأُصُول (ترجع إِلَى قُوَّة الْأَثر، والتفرقة) بَينهَا (بِالِاعْتِبَارِ، فَهُوَ) أَي الأول، وَهُوَ قُوَّة الْأَثر (بِالنّظرِ إِلَى) نفس (الْوَصْف، والثبات) بِالنّظرِ (إِلَى الحكم وَكَثْرَة الْأُصُول) بِالنّظرِ (إِلَى الأَصْل) وَعَزاهُ سراج الدّين إِلَى الْمُحَقِّقين. وَعَن السَّرخسِيّ وَأبي زيد مَا يقرب من هَذَا (وَأما الْعَكْس) وَيُسمى الانعكاس أَيْضا وَهُوَ عدم الحكم عِنْد عدم الْعلَّة لَا عِبْرَة بِهِ عِنْد بعض الْمُتَأَخِّرين فَلَا يصلح مرجحا. ومختار عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ أَنه يصلح لكنه ضَعِيف كَمَا سَيَأْتِي، لم يذكر جَوَاب أما فَكَأَنَّهُ مُقَدّر مثل فَحكمه فِيمَا سَنذكرُهُ (كمسح) أَي كَقَوْلِنَا فِي مسح الرَّأْس هُوَ مسح لم يعقل فِيهِ معنى التَّطْهِير (فَلَا يسن تكراره، بِخِلَاف) قَول الشَّافِعِي هُوَ (ركن فيكرر لِأَنَّهُ) أَي التّكْرَار (يُوجد مَعَ عَدمه) أَي الرُّكْن (كَمَا ذكرنَا) من الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، بِخِلَاف عدم التّكْرَار فِي الْمسْح فَأَنَّهُ لَا يُوجد مَعَ عدم الْمسْح الْمَذْكُور، فترجح قياسنا لانعكاسه فَإِن قلت: إِذا حصل الانقاء فِي الِاسْتِنْجَاء بِمرَّة لَا يسن التّكْرَار، فتحقق عدم التّكْرَار فِي الْمسْح مَعَ أَنه يعقل فِيهِ معنى التَّطْهِير قلت بعد حُصُول كَون الانقاء لَا نسلم معقولية التَّطْهِير بِالْمَسْحِ بعده فَتدبر (وَقَوْلنَا فِي بيع الطَّعَام الْمعِين) كالحنطة بِالطَّعَامِ الْمعِين كل مِنْهُمَا (مَبِيع معِين فَلَا يشْتَرط قَبضه) فِي الْمجْلس كَمَا فِي سَائِر المبيعات الْمعينَة إِذا(4/93)
بِيعَتْ بِمِثْلِهَا (أولى من) قَول الشَّافِعِي يشْتَرط قَبضه لِأَن كل مِنْهُمَا (مَال لَو قوبل بِجِنْسِهِ حرم التَّفَاضُل) كَمَا أَن الذَّهَب وَالْفِضَّة لَو قوبل بِجِنْسِهِ حرم التَّفَاضُل وَاشْترط الْقَبْض، وَإِنَّمَا قُلْنَا أولى (إِذْ لَا ينعكس) قَوْله إِلَى كل مَا لَو قوبل بِجِنْسِهِ لَا يحرم التَّفَاضُل لَا يشْتَرط فِيهِ الْقَبْض (لاشْتِرَاط قبض رَأس مَال السّلم) حَال كَونه (غير رِبَوِيّ) من ثِيَاب وَغَيرهَا، مَعَ أَنه لَو قوبل بِجِنْسِهِ لَا يحرم التَّفَاضُل (بِخِلَاف الأول) وَهُوَ قَوْلنَا مَبِيع الخ (إِذْ كلما انْتَفَى) الْوَصْف الَّذِي هُوَ التَّعْيِين (انْتَفَى) الحكم الَّذِي هُوَ عدم اشْتِرَاط الْقَبْض (وَلذَا) أَي وَلكَون التَّعْيِين عِلّة عدم اشْتِرَاط الْقَبْض المستلزم كَون عدم التعين عِلّة اشْتِرَاطه (لزم الْقَبْض فِي الصّرْف) وَهُوَ بيع جنس الْأَثْمَان بَعْضهَا بِبَعْض كَبيع الدَّرَاهِم بِالدَّرَاهِمِ أَو بِالذَّهَب (لِأَن النَّقْد لَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ) فَلَو صَحَّ بِدُونِ الْقَبْض لَكَانَ بيع دين بدين وَهُوَ غير جَائِز (و) فِي (السّلم لانْتِفَاء تعْيين الْمَبِيع) وَهُوَ الْمُسلم فِيهِ لكَونه دينا، فاشتراط الْقَبْض لرأس المَال لعدم التعين فَإِن قلت: الشَّافِعِي يَقُول بتعين النُّقُود بِالتَّعْيِينِ فَلَا يتم الْإِلْزَام عَلَيْهِ قلت يتم عَلَيْهِ نظرا إِلَى دَلِيل عدم تعينها بِهِ وَأورد أَيْضا أَن الْمَبِيع فِي بيع إِنَاء فضَّة أَو ذهب بِإِنَاء كَذَلِك يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ، وَمَعَ ذَلِك يشْتَرط قَبضه فِي الْمجْلس وَبِأَن رَأس مَال السّلم إِذا كَانَ ثوبا بِعَيْنِه شَرط قَبضه فِي الْمجْلس أَيْضا مَعَ أَنه مُتَعَيّن بِنَفسِهِ وَأجِيب بِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي فيهمَا عدم اشْتِرَاط الْقَبْض غير أَنه لما كَانَ الأَصْل فِي الصّرْف وَالسّلم ورودهما على الدّين بِالدّينِ وَرُبمَا يَقع على غير ذَلِك، ويتعذر على عَامَّة التُّجَّار معرفَة مَا يتَعَيَّن وَمَا لَا يتَعَيَّن اشْترط الْقَبْض فيهمَا مُطلقًا احْتِيَاطًا وتيسيرا فَإِن قيل: الْمَبِيع فِي السّلم الْمُسلم فِيهِ وَلَيْسَ بمقبوض، والمقبوض رَأس المَال وَلَيْسَ بمبيع أُجِيب بِأَن المُرَاد كل مَبِيع مُتَعَيّن لَا يشْتَرط قبض بدله، وينعكس إِلَى كل مَبِيع غير مُتَعَيّن يشْتَرط قبض بدله، أَو كل مَبِيع يتَعَيَّن فِيهِ الْمَبِيع، وَالثمن لَا يشْتَرط فِيهِ الْقَبْض أصلا وَيشْتَرط فِي كل مَبِيع لَا يتعينان فِيهِ يشْتَرط الْقَبْض فِي الْجُمْلَة فَلْيتَأَمَّل. (وَهَذَا) أَي الْعَكْس (أضعفها) أَي الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة (لِأَن الحكم يثبت بعلل شَتَّى) فَيجوز أَن يُوجد مَعَ انْتِفَاء عِلّة مُعينَة لثُبُوته بغَيْرهَا، فَإِن انْتِفَاء الْخَاص لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء الْعَام، غير أَنه إِذا كَانَ بَين الحكم وَالْعلَّة تلازم وجودا وعدما كَانَ دَلِيلا على وكادة اتِّصَاله بهَا فيصلح مرجحا على مَا لَيْسَ بِهَذِهِ المثابة وَيظْهر ضعفه إِذا عَارضه مُرَجّح من الثَّلَاثَة السَّابِقَة (وابتنى على مَا سلف) فِي فصل التَّرْجِيح (من عدم التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة والرواة) عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (أَن لَا يرجح قِيَاس) فَاعل ابتنى (بآخر) مُتَعَلق بترجح: أَي بِقِيَاس آخر (بِأَن خَالفه) ذَلِك الْقيَاس المنضم إِلَيْهِ (فِي الْعلَّة) مُتَعَلق بخالفة (لَا الحكم على معارضه) أَي على قِيَاس معَارض لَهُ، لِأَنَّهُ لَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة (وَلَو اتفقَا) أَي الْقيَاس المنضم إِلَيْهِ والمنضم (فِيهَا) أَي الْعلَّة كَمَا(4/94)
فِي الحكم (كَانَ) التَّرْجِيح بِسَبَب هَذَا الِاتِّفَاق (من) قبيل (كَثْرَة الْأُصُول لَا) من كَثْرَة (الْأَدِلَّة) لِأَن الدَّلِيل فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ الْعلَّة، وَلَا تعدد فِيهِ، لَا الأَصْل الَّذِي تتَحَقَّق الْعلَّة فِيهِ، فتعدده من غير تعددها لَا يُوجب تعدد الدَّلِيل (فيرجح) الْقيَاس المنضم إِلَيْهِ ذَلِك (على مخالفه) لِأَن كَثْرَة الْأُصُول مُرَجّح صَحِيح (وَكَذَا كل مَا يصلح عِلّة) مُسْتَقلَّة للْحكم (لَا يصلح مرجحا) لعِلَّة مُسْتَقلَّة أُخْرَى لذَلِك الحكم على عِلّة مُعَارضَة لَهَا، إِذْ تقوى الشَّيْء إِنَّمَا يكون بِصفة فِي ذَاته تَابِعَة لَهُ، والمستقل لاستقالته لَا يضم إِلَى الآخر، وَقد يُقَال كَونه بِحَيْثُ وَافقه الآخر وصف لَهُ فَيجوز أَن يعْتَبر مرجحا لَهُ فَتَأمل (فَلم يتَفَاوَت بتفاوت الْملك للشفيعين) كَمَا إِذا كَانَ لأَحَدهمَا ثلث الدَّار وَللْآخر سدسها (مَا يشفعان فِيهِ) وَهُوَ النّصْف الآخر مِنْهَا فالموصول فَاعل لم يتَفَاوَت يَعْنِي إِذا بَاعَ مَالك النّصْف نصِيبه وطلبا أَخذه بِالشُّفْعَة لَيْسَ لصَاحب الثُّلُث مزية على صَاحب السُّدس فِي الِاسْتِحْقَاق، لِأَن كل جُزْء من أَجزَاء نصيبهما عِلّة مُسْتَقلَّة فِي اسْتِحْقَاق جَمِيع الْمَبِيع، وَلَيْسَ فِي جَانب صَاحب الثُّلُث إِلَّا كَثْرَة الْعلَّة وَهِي لَا تصلح للترجيح (خلافًا للشَّافِعِيّ) فَإِن عِنْده يكون الْمَبِيع بَينهمَا أَثلَاثًا ثُلُثَاهُ لصَاحب الثُّلُث. (قَالَ) الشَّافِعِي (هِيَ) أَي الشُّفْعَة (من مرافق الْملك) أَي مَنَافِعه (كَالْوَلَدِ) للحيوان (وَالثَّمَرَة) للشجرة المشتركين بَينهمَا فتقسم بِقدر الْملك (أُجِيب بِأَن ذَلِك) انقسام الْمَعْلُول بِحَسب التَّفَاوُت إِنَّمَا هُوَ فِي أَجزَاء الْعلَّة (فِي الْعِلَل المادية) وَهِي الْأَجْسَام الَّتِي يتَوَلَّد مِنْهَا جسم كالحيوان وَالشَّجر (وَعلة الْقيَاس) أَي الْعلَّة الْمُعْتَبرَة فِي الْقيَاس لَيست مِنْهَا، بل هِيَ عِلّة (كالفاعلية) أَي كالعلة المؤثرة فِي الْعِلَل الْعَقْلِيَّة بِاعْتِبَار التَّأْثِير، وَإِن اخْتلفَا فِي كَيْفيَّة التَّأْثِير كَمَا عرفت، وَقد تقرر أَن تَأْثِير الْعلَّة الفاعلية لَيْسَ بطرِيق التولد، بل بإيجاد الله تَعَالَى إِيَّاه عقبه (وَقد جعل الشَّارِع الْملك عِلّة للشفعة قَلِيله وَكَثِيره) بِالنّصب بَدَلا من الْملك (فَجعل كل جُزْء من الْعلَّة) وَهِي ملك الشَّفِيع (عِلّة لجزء من الْمَعْلُول) وَهُوَ مَا يسْتَحقّهُ الشَّفِيع بِالشُّفْعَة حَتَّى يلْزم بِزِيَادَة الْأَجْزَاء فِي جَانب الْعلَّة زيادتها فِي جَانب الْمَعْلُول (نصب الشَّرْع بِالرَّأْيِ) من غير نَص أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس، لِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة جعل الْملك مُطلقًا عِلّة للاستحقاق. وَالْفرق بَين الْقَلِيل مِنْهُ وَالْكثير، بل الْإِطْلَاق يُنَاسِبه التَّسْوِيَة بَينهمَا، كَيفَ وَالْحكم فِيهِ دفع ضَرَر الْجوَار، وضرر صَاحب الْقَلِيل مثل ضَرَر صَاحب الْكثير، وَلَو نوقشي فِيهِ قُلْنَا: لَا يثبت الحكم بالتفرقة بِهَذَا الْقدر الْمَشْكُوك فِي اعْتِبَاره عِنْد الشَّارِع مَعَ كَون التَّسْوِيَة تناسب الْإِطْلَاق (وَلَو عجز) الْمُجْتَهد (عَن التَّرْجِيح) لأحد القياسين (عمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَة قلبه) على مَا مر بَيَانه فِي فصل التَّعَارُض (وَقَابَلُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (أَرْبَعَة الصِّحَّة) أَي الْوُجُوه الْأَرْبَعَة الصَّحِيحَة الْمَذْكُورَة للترجيح (بأَرْبعَة) من وجوهه (فَاسِدَة) : أَحدهَا (التَّرْجِيح بِمَا يصلح عِلّة مُسْتَقلَّة)(4/95)
لِأَنَّهُ تَرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة، وَقد سبق فِي فصل التَّرْجِيح (و) الثَّانِي التَّرْجِيح (بِغَلَبَة الْأَشْبَاه) أَي (كَون الْفَرْع لَهُ) أَي للفرع (بِأَصْل أَو أصُول) مُتَعَلق بقوله (وُجُوه شبه) وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله لَهُ، وَالْجُمْلَة خبر الْكَوْن، وَكلمَة أَو للتنويع لإِفَادَة أَن وُجُوه شبه الْفَرْع تَارَة تكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصل وَاحِد وَتارَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصُول (فَلَا يتَرَجَّح) الْقيَاس الْمُشْتَمل على فرع ذِي وُجُوه (على مَا) أَي على الْقيَاس الَّذِي (لَهُ) أَي لفرعه (بِهِ) أَي بِأَصْل (شبه) وَاحِد (و) نقل (عَن كثير من الشَّافِعِيَّة، نعم) يرجح مَاله وُجُوه شبه على مَاله شبه وَاحِد، وَنَقله صَاحب القواطع عَن نَص الشَّافِعِي، لِأَن الْقيَاس إِنَّمَا جعل حجَّة لإِفَادَة الظَّن، وَهُوَ يزْدَاد عِنْده كَثْرَة الْأَشْبَاه كَمَا عِنْد كَثْرَة الْأُصُول، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يتَرَجَّح (لِأَنَّهَا) أَي الْأَشْبَاه (تعدد أَوْصَاف) فَكل شبه وصف على حِدة يصلح عِلّة (فترجع) الْأَشْبَاه الَّتِي هِيَ فِي الْحَقِيقَة تعدد الْأَوْصَاف (إِلَى تعدد الأقيسة) فَإنَّك إِذا قصدت إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ بِاعْتِبَار كل شبه هُوَ وصف صَالح للعلية حصل بذلك الِاعْتِبَار قِيَاس على حِدة، فالترجيح بهَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة وَهُوَ غير جَائِز، وَفِيه أَنه يجوز أَن لَا يصلح كل وَاحِد من تِلْكَ الْأَشْبَاه للاستقلال، وَلَكِن بِسَبَبِهَا يحصل للفرع زِيَادَة مُنَاسبَة بِالْأَصْلِ (بِخِلَاف تعدد الْأُصُول) فَإِن التَّرْجِيح بهَا لَيْسَ بِكَثْرَة الْأَدِلَّة (لِاتِّحَاد الْوَصْف) فِيهَا (وكل أصل يشْهد بِصِحَّتِهِ) أَي الْوَصْف من حَيْثُ أَنه عِلّة لوُجُوده مَعَ الحكم فِي جَمِيع تِلْكَ الْأُصُول (فَيُوجب ثبات الحكم عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الْوَصْف وترتبه عَلَيْهِ (وَاعْلَم أَن كَثْرَة الْأُصُول) تكون (بوحدة الْوَصْف) الَّذِي هُوَ عِلّة الحكم بِأَن يتَحَقَّق فِي الْكل وصف وَاحِد صَالح للعلية، فَلم يتَحَقَّق هَهُنَا كَثْرَة الْأَدِلَّة لَهُ، لِأَن مدَار الدَّلِيل هُوَ الْوَصْف وَهُوَ وَاحِد (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (مَحل التَّرْجِيح) أَي مَا يقوم بِهِ المرجحية فَهُوَ الْمُرَجح (و) يكون (مَعَ تعدده) أَي الْوَصْف (واتحاد الحكم) بِأَن تكون أَوْصَاف مُتَغَايِرَة متحققة فِي أصُول مُخْتَلفَة مجتمعة فِي فرع وَاحِد يصلح كل وَاحِد مِنْهَا عِلّة للْحكم الْوَاحِد الَّذِي قصد اثباته فِي ذَلِك الْفَرْع (وَهِي) أَي كَثْرَة الْأُصُول (حِينَئِذٍ) أَي حِين تعدد الْوَصْف واتحد الحكم بِاعْتِبَار مَا يستنبط مِنْهَا (أقيسة متماثلة) لاتحادها من حَيْثُ الحكم (لَا تَرْجِيح) لوَاحِد من تِلْكَ الأقيسة لكَونه مَقْرُونا (مَعهَا) أَي مَعَ كَثْرَة الْأُصُول، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ أَدِلَّة متكثرة وَلَا تَرْجِيح بهَا (و) يكون (مَعَ تعدده) أَي الْوَصْف حَال كَونهَا (متباينة متعارضة، وَهِي الَّتِي يجب فِيهَا التَّرْجِيح) وَالتَّرْجِيح بِغَلَبَة الْأَشْبَاه (كَمَا لَو قيل: الْأَخ كالأبوين فِي الْمَحْرَمِيَّة وَابْن الْعم) أَي وكابن الْعم (فِي حل الحليلة) أَي فِي أَنه يحل لِابْنِ الْعم أَن ينْكح زَوجته ابْن عَمه بعده (وَالزَّكَاة وَالشَّهَادَة وَالْقصاص من الطَّرفَيْنِ) أَي وَفِي حل زَكَاته لَهُ، وَفِي(4/96)
حل شَهَادَته لَهُ، وَفِي حل الْقصاص من الطَّرفَيْنِ بِأَن يقْتَصّ لكل وَاحِد مِنْهُمَا من الآخر، وَإِنَّمَا قَالَ من الطَّرفَيْنِ لِأَن الْقصاص بَين الْوَالِد والمولود مَوْجُود من أحد الطَّرفَيْنِ، فَإِن الْمَوْلُود يقتل بِأَبِيهِ دون الْعَكْس (فيرجح الحاقه) أَي الْأَخ (بِهِ) أَي بِابْن الْعم، فَلَا يعْتق بِملكه إِيَّاه كَمَا لَا يعْتق ابْن الْعم بِملكه إِيَّاه، لِأَن شبه الْأَخ بِهِ أَكثر من شبهه بالأبوين (فَيمْنَع) تَرْجِيح الحاق الْأَخ بِابْن الْعم بِكَثْرَة الْأَشْبَاه (بِأَنَّهُ) أَي التَّرْجِيح بهَا (بمستقل) أَي تَرْجِيح بِوَصْف مُسْتَقل (إِذْ كل) من وُجُوه الشّبَه (يسْتَقلّ) وَصفا (جَامعا) بَين الْأَخ وَابْن الْعم فِي الحكم وَلَا تَرْجِيح بمستقل (و) الثَّالِث التَّرْجِيح (بِزِيَادَة التَّعْدِيَة) أَي بِكَوْن إِحْدَى العلتين أَكثر تَعديَة بِأَن تتعدى إِلَى فروع أَكثر من الْأُخْرَى (كترجيح الطّعْم) أَي التَّعْلِيل بِهِ لحُرْمَة الرِّبَا فِي الْمَنْصُوص على التَّعْلِيل بِالْكَيْلِ وَالْجِنْس (لتعديه) أَي الطّعْم (إِلَى الْقَلِيل) كَمَا إِلَى الْكثير، فَيحرم بيع تفاحة بتفاحتين، وَتَمْرَة بتمرتين (دون الْكَيْل) فَإِنَّهُ لَا يتَعَدَّى إِلَى الْقَلِيل الَّذِي هُوَ نصف صَاع على مَا قَالُوا، كَذَا ذكره الشَّارِح (وَلَا أثر لَهُ) أَي لكَونهَا أَكثر تَعديَة (بل) الْأَثر (لدلَالَة الدَّلِيل) أَي لقُوَّة دلَالَته (على الْوَصْف) بِاعْتِبَار تَأْثِيره فِي الحكم قلت: محاله أَو كثير، وَلَا يظْهر صِحَّته، بل تَعْلِيله لانْتِفَاء الحكم يدل على أَن ثُبُوت مضمونها مُعَلل بِلُزُوم التحكم على تَقْدِير تحقق نقيض مضمونها، فَالْوَجْه أَن يُقَال أَنه اسْتِئْنَاف كَلَام تَقْرِير بِكَسْر الْهمزَة فِي أَنه بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء مِمَّا سبق: من أَنه لَا يثبت الْقيَاس الْعلية والشرطية، وَقد يُقَال الحكم الْمَذْكُور كَمَا يسْتَلْزم عدم إِثْبَات الحكم الابتدائي كَذَلِك يسْتَلْزم اثباته الْعلية والشرطية والوصفية عِنْد ثُبُوت مناطها، لِأَن تَعديَة الحكم إِنَّمَا تُوجد بِسَبَب وجود المناط وَالْأَصْل وَالْفرع: فَإِذا وجد ذَلِك لَا فرق بَين أَن يكون الْهدى خطاب الِاقْتِضَاء والتخيير، أَو خطاب الْوَضع، فَإِن الْكل أَحْكَام شَرْعِيَّة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله لانْتِفَاء الحكم (و) رَابِعهَا الترجيج (بالبساطة) أَي بِكَوْن إِحْدَى العلتين وَصفا لَا جُزْء لَهَا على الْأُخْرَى ذَات أَجزَاء لسُهُولَة إِثْبَاتهَا والاتفاق على صِحَّتهَا (كالطعم على الْكَيْل وَالْجِنْس) لتركب الْكَيْل وَالْجِنْس دون الطّعْم (وَلَا أثر لَهُ) أَي لكَونه بسيطا، بل بِقُوَّة الدَّلِيل (كَمَا ذكرنَا) .
مسئلة
(حكم الْقيَاس) أَي مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من ثَمَرَته (الثُّبُوت) أَي ثُبُوت حكم الأَصْل (فِي الْفَرْع وَهُوَ) أَي الثُّبُوت فِيهِ (التَّعْدِيَة الاصطلاحية) فَلَا يرد أَن الْحمل غير صَحِيح، لِأَن التَّعْدِيَة صفة(4/97)
القائس، أَو الْجَامِع، أَو الحكم لَكِن غير الثُّبُوت فِيهِ، وَلِأَن الْمَوْجُود فِي الأَصْل من الأَصْل وَالْحكم لَا يتَعَدَّى إِلَى الْفَرْع، بل الْكَائِن فِيهِ نظر مَا فِي الأَصْل (فَلَزِمَهُ) أَي الْقيَاس (أَن لَا يثبت الحكم ابْتِدَاء) لِأَن التَّعْدِيَة وَإِن كَانَت اصطلاحية لَكِن لَا بُد فِيهَا من تحقق مَا يعبر بِهِ عَنهُ بِالتَّعَدِّي من ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع بطرِيق الْإِلْحَاق لَهُ بِالْأَصْلِ لما بَينهمَا من الْجَامِع: وَهَذَا يُنَافِي ثُبُوته ابْتِدَاء (كإباحة الرَّكْعَة) الْوَاحِدَة (وَحُرْمَة الْمَدِينَة) على ساكنها وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَن يكون لَهَا حرم كحرم مَكَّة فِي الْأَحْكَام الْمَعْرُوفَة وهما مثالان للْحكم الثَّابِت ابْتِدَاء (أَو وَصفه) أَي الحكم مَعْطُوف على الحكم: أَي لزمَه أَن لَا يثبت وصف الحكم أَيْضا ابْتِدَاء (كصفة الْوتر) من الْوُجُوب والاستنان (بعد مشروعيته) أَي الْوتر بِالنَّصِّ الدَّال على كَونه مَطْلُوبا على وَجه يحْتَمل الْوُجُوب وَالنَّدْب، فمطلوبيته من الْمُكَلف حكم شَرْعِي وَكَونه سنة أَو وَاجِبا كَيْفيَّة لَهَا، وَثُبُوت هَذِه الْكَيْفِيَّة يحْتَاج إِلَى اجْتِهَاد، وَإِنَّمَا لم يثبت بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاء (لانْتِفَاء الأَصْل وَالْفرع) عِنْد الثُّبُوت ابْتِدَاء وَالْقِيَاس لَا يتَحَقَّق بدونهما، وَلما بَين أَن خطاب الِاقْتِضَاء لَا يثبت ابْتِدَاء بِالْقِيَاسِ أَفَادَ أَن خطاب الْوَضع كَذَلِك بقوله (وَكَذَا) لزمَه أَن لَا يثبت (الشّرطِيَّة والعلية ككون الْجِنْس فَقَط) بِأَن يكون البدلان من جنس وَاحِد من غير أَن يَكُونَا مكيلين أَو موزونين (يحرم النِّسَاء) أَي البيع نَسِيئَة (إِلَّا) أَي لَكِن يثبت كل مِنْهُمَا (بِالنَّصِّ دلَالَة وَغَيرهَا) أَي عبارَة أَو إِشَارَة أَو اقْتِضَاء، فَإِن الثَّابِت بِهَذِهِ ثَابت بِالنَّصِّ كَمَا عرف (وَكَذَا) لزمَه أَن لَا يثبت (صفة السّوم) أَي اشْتِرَاط صفة هِيَ السّوم فِي نصب الْأَنْعَام فِي وجوب زَكَاتهَا (والحل) أَي وَكَذَا لزم أَن لَا يثبت اشْتِرَاط صفة الْحل (للْوَطْء الْمُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة) فِي ثُبُوت حرمتهَا من الْجَانِبَيْنِ (وشرطية التَّسْمِيَة) أَي وَكَذَا لزمَه أَن لَا يثبت اشْتِرَاط ذكر اسْم الله تَعَالَى على الْمَذْبُوح (للْحلّ) أَي لِحلِّهِ (و) كَذَا لزمَه أَن لَا يثبت اشْتِرَاط (وَصفِيَّة شَرط النِّكَاح) أَي موصوفية الشَّهَادَة الَّتِي هِيَ شَرط النِّكَاح (بِالْعَدَالَةِ) وَالْعَدَالَة وصف الحكم الَّذِي هُوَ الشَّهَادَة من تعين أَنَّهَا شَرط، لِأَن كَون الشَّيْء شرطا فِي خطاب الْوَضع، وَالْعَدَالَة فِي الْحَقِيقَة وصف مُتَعَلق الحكم فَافْهَم: وَلذَا نَص أَصْحَابنَا على أَن كَون الْجِنْس وَحده محرما للنسيئة، وَاشْتِرَاط السّوم فِي النصب، وَالذكر على الذَّبِيحَة إِنَّمَا هِيَ بالنصوص وَالشَّافِعِيَّة على أَن إِبَاحَة الرَّكْعَة الْوَاحِدَة وَكَون الْمَدِينَة حرما وَاشْتِرَاط الْحل فِي حُرْمَة الْمُصَاهَرَة وَالْعَدَالَة والذكورة فِي شُهُود النِّكَاح إِنَّمَا هِيَ بالنصوص، فَلَو أثبت بِالْقِيَاسِ شَيْء مِنْهَا ابْتِدَاء للَزِمَ نصب الشَّرْع أَو إِبْطَاله أَو نسخه بِالرَّأْيِ وَلَا يخفى عَلَيْك أَن قَوْلهم بِالْقِيَاسِ وَقَوْلهمْ ابْتِدَاء بَينهمَا تدافع ثمَّ أَن النّسخ إِنَّمَا يلْزم فِي إِثْبَات الشَّرْط، لِأَن الحكم بِدُونِ ذَلِك قد كَانَ شروعا، وَبعد الِاشْتِرَاط(4/98)
أبطل (وَأَنه لَو ثَبت) بِنَصّ أَو إِجْمَاع (منَاط علية أَمر) بِشَيْء (أَو) منَاط (شرطيته) أَي أَمر بِشَيْء (أَو) ثَبت منَاط (وصفهما) أَي وصف علية أَو شَرطه (فِي غَيره) أَي غير ذَلِك الْأَمر الثَّابِت منَاط عليته أَو شرطيته وَغير ذَلِك الْوَصْف، يَعْنِي وصف آخر، فالظرف مُتَعَلق يثبت، وَجَوَاب لَو قَوْله (كَانَ) ذَلِك الْغَيْر (فِي مثله) أَي مثل ذَلِك الشَّيْء الَّذِي ثَبت منَاط علية علته إِلَى آخِره (عِلّة وشرطا) لتحَقّق المناط فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لانْتِفَاء التحكم) يَعْنِي لَو لم يَجْعَل ذَلِك الْغَيْر عِلّة أَو شرطا أَو وَصفا للَزِمَ التحكم لمساواة الْغَيْر الْمَذْكُور لذَلِك الْأَمر فِيمَا يُوجب الْعلية أَو الشّرطِيَّة، والتحكم بَاطِل مُنْتَفٍ وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مُقْتَضى عطف قَوْله وَأَنه لَو ثَبت إِلَى آخِره على قَوْله أَن لَا يثبت كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر، ومختار الشَّارِح لزم مَضْمُون هَذِه الشّرطِيَّة حكم الْقيَاس الْمَذْكُور، وَلَا تظهر صِحَّته بل تَعْلِيله لانْتِفَاء التحكم يدل على أَن ثُبُوت مضمونها مُعَلل بِلُزُوم التحكم على تَقْدِير تحكم تحقق نقيض مضمونها: فَالْوَجْه أَن يُقَال أَنه اسْتِئْنَاف كَلَام تقريري بِكَسْر الْهمزَة فِي أَنه بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء مِمَّا سبق، من أَنه لَا يثبت الْقيَاس الْعلية والشرطية، وَقد يُقَال الحكم الْمَذْكُور كَمَا يسْتَلْزم عدم إِثْبَات الْقيَاس الحكم كَذَلِك يسْتَلْزم إثْبَاته الْعلية والوصفية والشرطية عِنْد ثُبُوت مناطها، لِأَن تَعديَة الحكم إِنَّمَا لزمَه بِسَبَب وجود المناط وَالْأَصْل وَالْفرع فَإِذا وجد ذَلِك لَا فرق بَين أَن يكون المعدى خطاب الِاقْتِضَاء والتخيير، أَو خطاب الْوَضع، فَإِن الْكل أَحْكَام شَرْعِيَّة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله لانْتِفَاء التحكم (وَالْخلاف فِي المذهبين) الْحَنَفِيّ وَالشَّافِعِيّ (شهير) أَي مَشْهُور (فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْأَخير المفاد بقوله وَأَنه لَو ثَبت إِلَى آخِره (ففخر الْإِسْلَام وَأَتْبَاعه) وَصدر الشَّرِيعَة (وَصَاحب الْمِيزَان وَطَائِفَة من الشَّافِعِيَّة) قَالُوا (نعم) لَو ثَبت إِلَى آخِره كَانَ عِلّة وشرطا (وَوجد) مَضْمُون الشَّرْط مُرَتبا عَلَيْهِ الْجَزَاء (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْمَوْجُود (الْخلاف فِي اشْتِرَاط التَّقَابُض) بِحَذْف الْمُضَاف، وَالتَّقْدِير هُوَ مَبْنِيّ الْخلاف إِلَى آخِره، لِأَن كلا من الْمُخَالفين يحْتَج فِي الِاشْتِرَاط وجودا وعدما بالموجود (فِي بيع الطَّعَام) مُتَعَلق بِاشْتِرَاط التَّقَابُض (بِالطَّعَامِ الْمعِين) اكْتفى بتقييد الثَّانِي بِالتَّعْيِينِ، فَإِن المُرَاد بِالتَّعْيِينِ تعْيين كل مِنْهُمَا (لِأَنَّهُ وجد لإثباته) أَي إِثْبَات التَّقَابُض فِي هَذَا البيع كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا (أصل هُوَ الصّرْف) فَإِن التَّقَابُض اشْترط فِيهِ (بِجَامِع أَنَّهُمَا) أَي الْبَدَلَيْنِ فِي كل وَاحِد من بيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَبيع أحد الحجرين بِأحد الحجرين (مَا لِأَن يجْرِي فيهمَا رَبًّا الْفضل) فِيمَا إِذا تَسَاويا فِي الْجِنْس وَالْقدر (و) وجد (لنفيه) أَي لعدم اشْتِرَاط التَّقَابُض فِيمَا ذكر كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي (أصل) هُوَ (بيع سَائِر السّلع) مِمَّا لَا يجْرِي فِيهِ رَبًّا الْفضل (بِمِثْلِهَا أَو بِالدَّرَاهِمِ) فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فيهمَا التَّقَابُض (وَقيل لَا) أَي يثبت الْعلية والشرطية بِمَا ذكر، وَهُوَ قَول كثير من الْحَنَفِيَّة(4/99)
كَالْقَاضِي أبي زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، وَمن الشَّافِعِيَّة كالآمدي والبيضاوي. وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب الْمَالِكِي (لِأَنَّهُ لم يثبت كَذَلِك) أَي لم يثبت علية أَمر أَو شرطيته بِسَبَب تحقق منَاط أَحدهمَا فِيهِ معنى لم يتَحَقَّق فِي الشَّرْع اعْتِبَار ذَلِك بِأَن يثبت مَحل فِيهِ وصف اعْتبر عليته أَو شرطيته بِسَبَب تحقق منَاط أَحدهمَا فِيهِ، يَعْنِي لم يتَحَقَّق فِي الشَّرْع اعْتِبَار ذَلِك بِأَن يثبت مَحل فِيهِ وصف اعْتبر عليته أَو شرطيته مُعَللا باشتماله على الْحِكْمَة الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا الْوَصْف الثَّابِت عليته لعدم انضباط الْحِكْمَة وتغاير الوصفين، وَجَوَاز عدم حُصُول الْمِقْدَار الْمُعْتَبر شرعا من تِلْكَ الْحِكْمَة بِالْوَصْفِ الثَّانِي (قيل وَلَو ثَبت) مَا ذكر من الْعلية والشرطية لوصف غير الْوَصْف الْمُعْتَبر فِيهِ أَحدهمَا شرعا لاشْتِرَاكهمَا فِي المناط للْحكم (كَانَ السَّبَب) أَي الْعلَّة أَو الشَّرْط للْحكم (ذَلِك المناط الْمُشْتَرك بَينهمَا) لَا الْوَصْف الأول بِخُصُوصِهِ (إِن انضبط) ذَلِك المناط وَكَانَ ظَاهرا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَنْزِلَة قَول الشَّارِع: كلما تحقق فِيهِ هَذَا المناط كَانَ عِلّة أَو شرطا، فَكل من الوصفين ينْدَرج تَحْتَهُ اندراجا أوليا من غير سبق أَحدهمَا والحاق الآخر بِهِ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَنْضَبِط أَو لم يظْهر (فمظنته) أَي فالسبب مظنته: أَي بِالْوَصْفِ الظَّاهِر المنضبط الَّذِي نيط ذَلِك المناط بِهِ (إِن كَانَ) أَي وجد ذَلِك الْوَصْف وأيا مَا كَانَ فقد اتَّحد السَّبَب فَلَا قِيَاس (وَمَا يخال) أَي يظنّ (أصلا وفرعا) من الوصفين الْمَذْكُورين فهما (فرداه) أَي المناط الْمَذْكُور (كَمَا لَو ثَبت عَلَيْهِ الوقاع) عمدا من الصَّحِيح الْمُقِيم فِي نَهَار رَمَضَان (لِلْكَفَّارَةِ لاشْتِمَاله على الْجِنَايَة المتكاملة على صَوْم رَمَضَان) وَهِي هتك حرمته (فَهِيَ) أَي الْجِنَايَة الْمَذْكُورَة (الْعلَّة) لِلْكَفَّارَةِ (وكل من الْأكل) وَالشرب (وَالْجِمَاع) عمدا بِلَا عذر مُبِيح (صور وجوده) أَي وجود الْمَعْنى الَّذِي هُوَ الْعلَّة، وَهِي الْجِنَايَة المتكاملة على صَوْم رَمَضَان (وكعلية الْقَتْل بالمثقل) للْقصَاص قِيَاسا على الْقَتْل بِالسَّيْفِ بِحَذْف الْمُضَاف (عَلَيْهِ) أَي على علية الْقَتْل (بِالسَّيْفِ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّمَا يخال فِيهِ أصلا وفرعا من القتلين فَردا منَاط عِلّة الْقصاص، إِذْ ثَبت أَنَّهَا: أَي عِلّة الْقصاص الْقَتْل الْعمد الْعدوان (فالمثقل) أَي فالقتل بِهِ (من محاله) أَي منَاط الْقصاص كَمَا أَن الْقَتْل بِالسَّيْفِ مِنْهَا فَإِن قلت: الْمُدَّعِي الفردية، وَالدَّلِيل مُفِيد الْمَحَلِّيَّة قلت: المُرَاد محلية الْفَرد للمفهوم الْكُلِّي على سَبِيل الِاسْتِعَارَة، إِذْ لَا وجود للطبيعة بِدُونِ الْفَرد كَمَا لَا وجود للْحَال بِدُونِ الْمحل (وَقد يخال) أَي يظنّ (عدم التوارد) أَي عدم توارد النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي الخلافية الْمَذْكُورَة على مَحل وَاحِد. ثمَّ بَين مورد الْإِثْبَات بقوله (فَالْأول) أَي القَوْل بِجَوَاز التَّعْدِيَة فِي الْعلية مَعْنَاهُ (تعدِي علية) الْوَصْف (الْوَاحِد لشَيْء) أَي لحكمه (إِلَى شَيْء آخر) صلَة التَّعَدِّي، فالمتعدي إِلَيْهِ وصف آخر فَيصير عِلّة للْحكم الْمُعَلل بِالْوَصْفِ الأول، فتتعدد الْعلَّة لَا الحكم(4/100)
(وَالثَّانِي) أَي القَوْل بِعَدَمِ جَوَاز التَّعْدِيَة فِي الْعلية مَعْنَاهُ (تعدِي عليته) أَي تعدِي علية الْوَصْف الْوَاحِد (إِلَى) وصف (آخر) تعديه (لآخر) أَي لأجل إِثْبَات حكم آخر غير الحكم الْمُعَلل بِالْوَصْفِ الأول فَحِينَئِذٍ تَتَعَدَّد الْعلَّة وَالْحكم. قَالَ الشَّارِح كَون معنى الأول مَا ذكر ظَاهر، وَأما أَن معنى الثَّانِي مَا ذكر فَلَا، بل كل من الْعلَّة وَالْحكم مُتحد للاتحاد فِي النَّوْع وَلَا يضرّهُ التغاير بِحَسب الشَّخْص انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَن الِاتِّحَاد فِي الْعلَّة مُنْتَفٍ بِاتِّفَاق الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّهُ لَا وَجه حِينَئِذٍ للنزاع فِي تعدِي الْعلية اثباتا أَو نفيا وَأَيْضًا يرد عَلَيْهِ أَنه كَيفَ يسلم التَّعَدُّد فِي الْعلَّة فِي الأول مَعَ الِاتِّحَاد فِي النَّوْع، وَأما تعدد الحكم فِي الثَّانِي فَهُوَ أَمر مَبْنِيّ على تحقق ذَلِك الْمَذْهَب (وَمِمَّنْ أنكرهُ) أَي جَرَيَان الْقيَاس فِي الْعلَّة (من اعْترف بِقِيَاس أَنْت حرَام) لإِثْبَات الطَّلَاق الْبَائِن (على طَالِق بَائِن، وَهُوَ) أَي الْقيَاس الْمَذْكُور قِيَاس (فِي السَّبَب) أَي الْعلَّة، فقد نَاقض فعله قَوْله (وَقيل لَا خلاف فِي هَذَا) أَي فِي جَوَاز التَّعْلِيل لتعدية الْعلَّة من وصف إِلَى وصف آخر مشارك للْأولِ فِي الاشتمال على مناطها، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ من إِثْبَات الْعلَّة بِالْقِيَاسِ، لِأَن الْعلَّة حَقِيقَة هُوَ المناط الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَقد مر آنِفا (بل) الْخلاف (فِيمَا إِذا كَانَت) علية الْوَصْف للْحكم (لمُجَرّد مناسبتها) أَي الْعلَّة الَّتِي هِيَ الْوَصْف الْمَذْكُور الحكم الْمَطْلُوب إثْبَاته فِي الْفَرْع: أَي فِي الْمحل الَّذِي أُرِيد إثْبَاته فِيهِ، سمي فرعا لمشاركته الْفَرْع فِي عدم وُرُود النَّص فِيهِ، فَجعل لمُجَرّد هَذِه الْمُنَاسبَة الْعَقْلِيَّة عِلّة للْحكم ليحصل فِي ذَلِك الْفَرْع من غير أَن يتَحَقَّق فِي الْوَصْف منَاط الْعلية (وَلَيْسَ لَهُ) أَي لذَلِك الْوَصْف الْمُنَاسب (مَحل آخر) تحققت فِيهِ عليته لذَلِك الحكم، لِأَنَّهُ لَو تحقق فِي مَحل آخر مَعَ ذَلِك الحكم مؤثرا فِيهِ بِاعْتِبَار الشَّارِع على مَا مر بَيَانه لما بَقِي فِيهِ للْخلاف مجَال، وَلم يتَوَهَّم فِيهِ التَّعْلِيل لإِثْبَات عليته، لِأَن ذَلِك الْوَصْف الْمَوْجُود فِي الْفَرْع حِينَئِذٍ عين الْوَصْف الْمَوْجُود فِي الأَصْل وَلَيْسَ كلامنا فِيهِ (لأَنا إِنَّمَا نثبت) على تَقْدِير إِثْبَات الْعلية بِمُجَرَّد الْمُنَاسبَة (سَبَبِيَّة) وصف (آخر) مُغَاير للوصف الْمَذْكُور مُعْتَبر علية للْحكم فِي أصل ليحصل اعْتِدَاد بشأن هَذَا الْوَصْف، وَلما رَأَوْا وَصفا اعْتبر عليته لحكم فِي مَحل ووصفا آخر فِي مَحل آخر مُنَاسِب لذَلِك الحكم فَأثْبت بِهِ فِي هَذَا الْمحل، زَعَمُوا أَنه عدى الْعلية من الأول إِلَى الثَّانِي قِيَاسا وَلم يدروا أَنَّهُمَا لم يشتركا فِي منَاط لتمكن الْقيَاس الْمَوْجُود فِي الأَصْل عِلّة للْحكم (فَلَيْسَ ذَلِك) مَا ثَبت سَبَبِيَّة بِمُجَرَّد الْمُنَاسبَة (إِلَّا الْمُرْسل) وَقد مر تَفْسِيره، فَيجوز عِنْد من يَقُول بِصِحَّة التَّعْلِيل بِهِ، وَلَا يجوز عِنْد من يشْتَرط التَّأْثِير والملاءمة (وَهَذَا) أَي التَّعْلِيل بالمرسل إِنَّمَا يَصح (على) قَول (الشَّافِعِيَّة: أما مَا تقدم للحنفية فِي سببيته) أَي سَبَبِيَّة وصف(4/101)
مَوْجُود مَعَ حكم ككون الْبَدَل مَا لَا يجرى فِيهِ رَبًّا الْفضل مَعَ اشْتِرَاط التَّقَابُض فِي الصّرْف (بِعَيْنِه لآخر) أَي لحكم آخر كاشتراط التَّقَابُض فِي بيع طَعَام معِين بِطَعَام معِين إِذا قصد إِثْبَات هَذَا الِاشْتِرَاط بذلك الْوَصْف بِعَيْنِه (فَيَنْبَغِي كَونه) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور (الْغَرِيب من الْأَقْسَام الأول) للمناسب، وَهُوَ الْمُؤثر، والملائم، والغريب، والمرسل على مَا سبق، فَإِن الْغَرِيب وصف وجد مَعَ الحكم فِي الأَصْل من غير اعْتِبَار عينه أَو جنسه فِي عين الحكم أَو جنسه من الشَّارِع (لوُجُود أَصله) أَي أصل الْوَصْف الْمَذْكُور كالصرف الْمَوْجُود فِيهِ الْكَوْن الْمَذْكُور مَعَ اشْتِرَاط التَّقَابُض، وَوُجُود الأَصْل هُوَ الْفَارِق بَين الْمُرْسل والغريب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ كَانَت سببيته لشَيْء ثَابِتَة شرعا) بِاعْتِبَار وجوده مَعَ الحكم فِي الأَصْل كَمَا أَفَادَ بقوله (وَهُوَ) أَي ثُبُوته شرعا (الْعين) أَي وجود الْعين، يَعْنِي عين الْوَصْف (مَعَ الْعين فِي الْمحل) أَي مَعَ عين الحكم فِي الأَصْل كَمَا أَفَادَ بقوله كَمَا بَينا (لَكِن لَا يشْهد لَهُ أصل بِالِاعْتِبَارِ) اسْتِدْرَاك لدفع توهم نَاشِئ من ثُبُوت سببيته شرعا وَثُبُوت الْعين مَعَ الْعين وَحَاصِله أَنه لَيْسَ فِي الْغَرِيب سوى الْعين مَعَ الْعين، وبمجرد هَذَا لَا تثبت الْعلية، بل لَا بُد من اعْتِبَار الشَّارِع علية الْوَصْف أَو جنسه فِي عين الحكم أَو جنسه فِي بعض الْموَاد، فَتلك الْمَادَّة أصل يشْهد بِاعْتِبَار الشَّارِع عليته (وَكَانَ الظَّاهِر اتِّفَاقهم) أَي الْحَنَفِيَّة (على مَنعه) أَي منع هَذَا الْقسم الْمُسَمّى بالغريب (لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الإخالة) وَهِي على مَا مر من إبداء الْمُنَاسبَة بَين الأَصْل وَالْوَصْف بملاحظتهما (إِن لم يكنها) أَي إِن لم يكن عين الإخالة، وَهَذِه الْعبارَة بظاهرها تفِيد الشَّك فِي كَونه إخالة، وَلَعَلَّ الشَّك بِسَبَب أَن الإبداء الْمَذْكُور لَا يسْتَلْزم وجود الْعين مَعَ الْعين، ثمَّ إِن الإخالة وَمَا هُوَ فِي منزلتها غير مُعْتَبر عِنْد الْحَنَفِيَّة لاشتراطهم التَّأْثِير فِي ثُبُوت الْعلية على مَا سبق (لَكِن الْخلاف) فِي هَذَا ثَابت (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (وَلَو سلم عدم الْإِرْسَال) مُرْتَبِط بقوله فَلَيْسَ إِلَّا الْمُرْسل وَمَا بَينهمَا تقريبي، وَهُوَ بحث بطرِيق التنزل، يَعْنِي وَلَو فرض أَن الْوَصْف الْمَذْكُور مُنَاسِب لَيْسَ بمرسل أبطلنا كَون التَّعْلِيل بِهِ إِثْبَاتًا للعلية بِالْقِيَاسِ، إِذْ (لَا يتَصَوَّر ذَلِك) أَي إِثْبَاتهَا بِهِ على ذَلِك التَّقْدِير أَيْضا كَمَا لَا يتَصَوَّر على تَقْدِير الْإِرْسَال (لِأَن الْوَصْف الأَصْل) أَي مَعَ الْمَوْجُود مَعَ الحكم فِي الأَصْل (أَن تثبت عليته بِمُجَرَّد الْمُنَاسبَة عِنْد من يَقُول بِهِ) أَي بثبوتها بِمُجَرَّد الْمُنَاسبَة (فَإِذا وجدت) تِلْكَ (الْمُنَاسبَة فِي) وصف (آخر كَانَ) ذَلِك الآخر (عِلّة بطرِيق الْأَصَالَة) لِأَن الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هِيَ تِلْكَ الْمُنَاسبَة، وَالْوَصْف الثَّانِي مثل الأول فِيهَا كَمَا سيشير إِلَيْهِ (لَا) أَن علية الثَّانِي (بالإلحاق بِالْأولِ لاستقلالها) أَي الْمُنَاسبَة (بِإِثْبَات) علية (مَا تحققت) تِلْكَ الْمُنَاسبَة (فِيهِ) وَقد تحققت بِعَينهَا فِي الْوَصْف الثَّانِي، غَايَة الْأَمر وجودهَا فِي الأَصْل فِي ضمن الْوَصْف الأول لَا الثَّانِي،(4/102)
وَهَذَا الْفرق لَا يصحح الْإِلْحَاق (وَإِن ثبتَتْ) علية الأول (بِالنَّصِّ ثمَّ عقلت مناسبتها) أَي مُنَاسبَة تِلْكَ الْعلَّة للْحكم (وَوجدت) تِلْكَ الْمُنَاسبَة (فِيمَا) أَي فِي وصف (لم ينص عَلَيْهِ) أَي على عليته (فَكَذَلِك) أَي كَانَ مَا لم ينص عَلَيْهِ عِلّة بطرِيق الْأَصَالَة (للاستقلال) أَي استقال الْمُنَاسبَة بِإِثْبَات علية مَا تحققت فِيهِ (وَحَاصِله) أَي هَذَا التَّعْلِيل (حِينَئِذٍ ثُبُوت علية وصف بِالنَّصِّ. و) ثُبُوت علية وصف (آخر بالمناسبة) الَّتِي كَانَ علية الأول باعتبارها، وَلَا يَنْبَغِي أَن يَقع فِي مثله خلاف فَتَأمل. (فَالْوَجْه أَن يقصر الْخلاف على مثل حمل عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ) أَي الضَّابِط فِي مثل حمله: يَعْنِي قِيَاسه (أَن ينص على عِلّة منضبطة بِنَفسِهَا) لَا بِمَا يُقَام مقَامهَا (فَيلْحق بهَا) أَي بِتِلْكَ الْعلَّة (مَا تصلح) أَن تكون (مَظَنَّة لَهَا) أَي لتِلْك الْعلَّة (فَيثبت مَعهَا) أَي مَعَ المظنة (حكم المنصوصة كَمَا ألحق) عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (الشّرْب) أَي شرب الْخمر (بِالْقَذْفِ) فِي الْحَد بِهِ ثَمَانِينَ (بِجَامِع الافتراء) بَينهمَا (لكَونه) أَي شربهَا (مظنته) أَي الافتراء، فالافتراء وَهُوَ نِسْبَة الْمُحصن إِلَى الزِّنَا عِلّة للحد منضبطة بِنَفسِهَا، وَهُوَ ظَاهر، وَقد نَص على علته فِي الْكتاب وَالسّنة، وَشرب الْخمر مَظَنَّة الافتراء وإلحاق الشّرْب بِالْقَذْفِ بِجَامِع الافتراء يسلتزم إِلْحَاق الافتراء المظنون بالافتراء الْمُتَيَقن فِي الْعلية للحد، فَمثل هَذَا يُقَال فِيهِ إِثْبَات الْعلية بِالْقِيَاسِ، وللخلاف فِيهِ وَجه ظَاهر للتفاوت الْبَين بَين الافتراء الْمُحَقق والمظنون، وَلذَا قَالَ فَالْوَجْه إِلَى آخِره.
مسئلة
قَالَ (الْحَنَفِيَّة لَا تثبت بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ (الْحُدُود لاشتمالها) أَي الْحُدُود (على تقديرات لَا تعقل) كعدد الْمِائَة فِي الزِّنَا والثمانين فِي الْقَذْف، فَإِن الْعقل لَا يدْرك الْحِكْمَة فِي اعْتِبَار خُصُوص هَذَا الْعدَد، وَالْقِيَاس فرع تعقل الْمَعْنى فِي حكم الأَصْل (وَمَا يعقل) مَعْنَاهُ من الْحُدُود (كالقطع) ليد السَّارِق لجنايتها بِالسَّرقَةِ، وَزِيَادَة اختصاصها فِي الْأَخْذ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْأَعْضَاء (فللشبهة) أَي فَلَا يثبت بِالْقِيَاسِ لمَكَان الشُّبْهَة فِي الْقيَاس لاحْتِمَاله الْخَطَأ، وَالْحُدُود تدرأ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا نطق بِهِ الحَدِيث، وَقد سبق فِي مسئلة: خبر الْوَاحِد فِي الْحَد مَقْبُول. وَقَالَ غير الْحَنَفِيَّة يثبت بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (قَالُوا: أَدِلَّة الْقيَاس) الدَّالَّة على حجتيه (معممة) حجيته للحدود وَغَيرهَا فَيجب الْعَمَل بِمُوجب تعميمها (قُلْنَا) عُمُوم حجيته إِنَّمَا هُوَ (فِي مُسْتَكْمل الشُّرُوط اتِّفَاقًا) أَي فِي قِيَاس استجمع جَمِيع الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِي صِحَة الْقيَاس بالِاتِّفَاقِ وَمَا يَقع فِي الْحُدُود من الْقيَاس وَلَيْسَ بمستكمل لَهَا، فَإِن من الشُّرُوط أَن يكون حكم الأَصْل مَعْقُول(4/103)
الْمَعْنى: وَمِنْهَا أَن لَا يكون مِمَّا يندرئ بِالشُّبْهَةِ، غير أَن الْخصم يناقش فِي الثَّانِي (وانتهاض أثر عَليّ) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ مَا ذكر من إِلْحَاقه الشّرْب بِالْقَذْفِ فِي إِثْبَات حَده (عَلَيْهِم) أَي الْحَنَفِيَّة كَمَا ذكر المجيزون (مَوْقُوف على إِجْمَاع الصَّحَابَة على صِحَة طَرِيقه) الَّذِي هُوَ الْقيَاس على الْقَذْف. (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة فِي قصَّته الْإِجْمَاع الْمَذْكُور إِجْمَاعهم لَيْسَ على طَرِيقه، بل (إِنَّه) أَي إِجْمَاعهم (على حكمه) الَّذِي هُوَ وجوب جلد ثَمَانِينَ (باجتماع دلالات سمعية عَلَيْهِ) أَي على حكمه (كَمَا ذَكرنَاهَا فِي الْفِقْه) فِي حد الشّرْب من شرح الْهِدَايَة. وَفِي أصُول الْفِقْه للْإِمَام أبي بكر الرَّازِيّ أَن اتِّفَاق الصَّحَابَة على إِثْبَات حد الْخمر قِيَاسا إبِْطَال لأصلكم فِي عدم إِثْبَات الْحُدُود قِيَاسا. وَالْجَوَاب بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرب فِي حد الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال، وروى أَنه ضربه أَرْبَعُونَ رجلا كل رجل بنعله ضربتين، فتحروا فِي اجتهادهم مُوَافَقَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجعلوه ثَمَانِينَ ونقلوا الضَّرْب عَن الجريد وَالنعال إِلَى السَّوْط وَلم يبتدئوا إِيجَاب الْحَد بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْمَمْنُوع. ثمَّ أَن الْكَفَّارَات فِي هَذَا كالحدود، بل قيل أَن المُرَاد بهَا مَا يَتَنَاوَلهَا.
مسئلة
(تَكْلِيف الْمُجْتَهد بِطَلَب المناط) للْحكم الشَّرْعِيّ (ليحكم فِي محاله) أَي محَال تحقق المناط (بِحكمِهِ) أَي حكم المناط، وَالْبَاء صلَة الحكم: يَعْنِي كَون الْمُجْتَهد مُكَلّفا فِي حكم شَرْعِي بِأَن يبْذل جهده فِي تَحْصِيل علته شرعا لِأَن يحكم بِثُبُوت ذَلِك الحكم فِي كل مَادَّة تحققت تِلْكَ الْعلَّة فِيهَا (جَائِز) خبر لقَوْله تَكْلِيف الْمُجْتَهد بِطَلَب المناط (عقلا) إِذْ لَا يَتَرَتَّب على فرض وُقُوعه مَحْذُور. (وَقَوْلهمْ) أَي الْأُصُولِيِّينَ التَّكْلِيف (بِالْقِيَاسِ لَا يَصح) بِنَاء (على أَنه) أَي الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ (الْمُسَاوَاة) بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عِلّة حكمه، والمساواة فعل الله تَعَالَى، وَالْعَبْد لَا يُكَلف إِلَّا بِمَا هُوَ فعله، وَقد تقدم الْكَلَام فِي هَذَا فِي أَوَائِل الْقيَاس، (و) قَوْلهم (إِيجَاب الْعَمَل بِمُوجب الْقيَاس) فِي عنوان المسئلة كَمَا فِي الشَّرْح العضدي بدل قَوْلنَا تَكْلِيف الْمُجْتَهد إِلَى آخِره (فِيهِ قُصُور عَن الْمَقْصُود) أَي فِي كل من الْقَوْلَيْنِ قُصُور، أما فِي الأول، فباعتبار أَنه لَو سلم كَون الْقيَاس هُوَ الْمُسَاوَاة لم يرد تَكْلِيف الْمُجْتَهد بِنَفس الْمُسَاوَاة بل بمعرفتها بالأمارات، وَأما الثَّانِي فَلِأَن إِيجَاب الْعَمَل بِهِ إِنَّمَا يكون بعد تحَققه، والنزاع فِي أَنه هَل يُكَلف بِالنّظرِ والفحص ليظْهر وجوده أَولا، وعَلى الثَّانِي هَل يجوز التَّكْلِيف أم لَا؟ وَهَذَا محصول مَا نَقله الشَّارِح عَن المُصَنّف فِي تَوْجِيه الثَّانِي (لَا وَاجِب) مَعْطُوف على قَوْله جَائِز: أَي التَّكْلِيف بِمَا ذكر لَيْسَ بِوَاجِب عقلا (كالقفال) الشَّاشِي (وَأبي(4/104)
الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: أَي كوجوب قَالَا بِهِ لِئَلَّا يلْزم خلو الوقائع عَن الْأَحْكَام فَإِنَّهَا لَا تَنْحَصِر والنصوص محصورة وَالْقِيَاس كافل بهَا، وَأَشَارَ إِلَى جوابهما بقوله (وَلُزُوم خلو وقائع) عَن الحكم (لولاه) أَي تَكْلِيف الْمُجْتَهد بِطَلَب المناط (مُنْتَفٍ لانضباط أَجنَاس الْأَحْكَام وَالْأَفْعَال) أَي أَفعَال الْعباد الَّتِي تتَعَلَّق بهَا الْأَحْكَام (وَإِمْكَان إفادتها) أَي إِفَادَة أجناسها الْمُتَعَلّقَة بالأفعال (العمومات) بِالرَّفْع على أَنه فَاعل إفادتها فَهِيَ مُضَافَة إِلَى الْمَفْعُول: مثل كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام، وكل مُسكر حرَام وكل مَكِيل أَو مطعوم رِبَوِيّ (وَلَو لم تفدها) أَي العمومات الْأَحْكَام كلهَا (ثَبت فِيهَا) أَي فِي الوقائع الَّتِي لم يفد حكمهَا (حكم الأَصْل) وَهُوَ الْإِبَاحَة (فَلَا خلو) لواقعة عَن الحكم، فَلَا وجوب لعدم الْمُوجب (وَلَا مُمْتَنع عقلا) كَمَا ذهب إِلَيْهِ الزيدية وَبَعض الْمُعْتَزلَة مِنْهُم النظام، لكنه قَالَ فِي شريعتنا خَاصَّة وَإِنَّمَا قُلْنَا جَائِز (إِذْ لَا يلْزم إِلْزَامه) أَي الْمُجْتَهد بِطَلَب المناط (محَال) فَاعل لَا يلْزم، وَلَا يَعْنِي بِالْجَوَازِ إِلَّا عدم لُزُوم محَال، لَا لنَفسِهِ وَلَا لغيره (وَكَون) اتِّبَاع (الظَّن مَمْنُوعًا عقلا لاحْتِمَاله) أَي الظَّن (الْخَطَأ) وَالْقِيَاس لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن فَيجب الِاحْتِرَاز عَن مَحْذُوف فَلَا تَكْلِيف بِمَا يَئُول إِلَيْهِ (مَمْنُوع) إِذْ لَا يمْتَنع فِيمَا يغلب فِيهِ جَانب الصَّوَاب (بل أَكثر تَصَرُّفَات الْعُقَلَاء لفوائد غير متيقنة) كَيفَ وَإِلَّا يلْزم ترك الزَّرْع وَالتِّجَارَة والتعلم إِلَى غير ذَلِك لعدم تَيَقّن حُصُول النتيجة (وَبِه) أَي لكَون أَكثر التَّصَرُّفَات كَذَا (ظهر إِيجَابه) أَي الْعقل (الْعَمَل عِنْد ظن الصَّوَاب) كَيفَ وَلَوْلَا إِيجَابه ذَلِك لما اتّفق الْعُقَلَاء فِي مُبَاشرَة تِلْكَ التَّصَرُّفَات بِكَمَال الاهتمام لتَحْصِيل الْفَوَائِد مَعَ إِمْكَان عدم ترتبها على الْعَمَل (وَثَبت) إِيجَاب الْعَمَل عِنْد ظن الصَّوَاب (شرعا) يعلم ذَلِك (بتتبع موارده) أَي الشَّرْع كَمَا سبق فِي خبر الْوَاحِد الْعدْل إِلَى غير ذَلِك من الْأَدِلَّة الظنية (وَثُبُوت الْجمع) شرعا (بَين المختلفات) كالتسوية بَين قتل الْمحرم الصَّيْد عمدا وَخطأ فِي الْفِدَاء وَبَين زنا الْمُحصن وردة الْمُسلم فِي الْقَتْل إِلَى غير ذَلِك (و) ثُبُوت (الْفرق) شرعا (بَين المتماثلات) كَقطع السَّارِق للقليل دون غَاصِب الْكثير مَعَ تماثلهما فِي أَخذ مَال الْغَيْر وَجلد من نسب الْعَفِيف إِلَى الزِّنَا، دون من نسب الْمُسلم إِلَى الْكفْر مَعَ تماثلهما فِي نِسْبَة الْمحرم إِلَى الْمُسلم (إِنَّمَا يستلزمه) أَي كَون التَّكْلِيف بِمَا ذكر مستحيلا الْقيَاس وَهُوَ إِلْحَاق النظير بالنظير وَهُوَ غير مُعْتَبر شرعا، بل قد يعْتَبر خِلَافه (لَو لم يكن) الْجمع بَين المختلفات فِي الحكم الْوَاحِد (بِجَامِع) وصف اشتركت فِيهِ يُوجب (التَّمَاثُل) بَينهَا، لِأَن المختلفات يجوز اجتماعها فِي صفة بهَا يحصل تماثلها وَكَون تِلْكَ الصّفة عِلّة لحكم فيشترك فِي الحكم (أَو) لم يكن الْفرق بَين المتماثلات لوُجُود (فَارق) بَينهَا (تَقْتَضِيه) أَي الْفرق بَينهمَا فِي الحكم وعلته، وَلَا شكّ أَن اشتراكهما فِي الحكم فِي الأَصْل إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ مَا بِهِ التَّمَاثُل عِلّة لَهُ، وَلَا يكون لَهُ فِي الأَصْل معَارض يقتضى(4/105)
حكما آخر وَلَا فِي الْفَرْع معَارض أقوى، وكل ذَلِك غير مَعْلُوم (وَلَا) مُمْتَنع (سمعا) أَيْضا (خلافًا للظاهرية والقاساني) بِالسِّين الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى قَرْيَة بتركستان (والنهرواني) هَكَذَا فِي الْكَشْف، وروى بعض الْأُصُولِيِّينَ عَنْهُم إِنْكَار وُقُوعه، وَذكر الْآمِدِيّ أَنهم اتَّفقُوا على وُقُوع ذِي الْعلَّة الْمَخْصُوصَة والمومى إِلَيْهَا. وَقَالَ السُّبْكِيّ وَهُوَ الْأَصَح فِي النَّقْل عَنْهُم، كَذَا ذكر الشَّارِح لَكِن المُصَنّف اخْتَار مَا فِي الْكَشْف لما ترجح عِنْده من النَّقْل (واستدلالهم) أَي الظَّاهِرِيَّة وَمن مَعَهم على الِامْتِنَاع (بِأَن فِي حكمه) أَي الْقيَاس (اخْتِلَافا) بَين الْعلمَاء، فَمنهمْ من قَالَ بِجَوَازِهِ، وَمِنْهُم من لم يجوزه، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد اخْتلَافهمْ فِي حكم حَادِثَة وَاحِدَة بِحَسب مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ قِيَاس كل وَاحِد مِنْهُم، بل هَذَا هُوَ الْأَظْهر (فَهُوَ) أَي الْقيَاس (مَرْدُود لِأَنَّهُ من عِنْد غير الله) تَعَالَى لقَوْله تَعَالَى - {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} - فَإِنَّهُ يدل على أَن مَا هُوَ من عِنْد الله تَعَالَى لَا يكون فِيهِ اخْتِلَاف، وَمَا من عِنْد غَيره يكون فِيهِ، وَإِلَّا لم يَصح الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الِاخْتِلَاف على كَونه من عِنْد الله تَعَالَى، وَمَا كَانَ من عِنْد غير الله تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُود (مَدْفُوع) خبر لقَوْله استدلالهم (بِمَنْع كَون الِاخْتِلَاف الْمُوجب للرَّدّ فِي الْآيَة مَا) أَي الِاخْتِلَاف الْكَائِن (فِي) بعض (الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة، فَإِن هَذَا غير مَرْدُود بل هُوَ وَاقع ومقبول إِجْمَاعًا كَمَا قيل اخْتِلَاف الْعلمَاء رَحْمَة، وَكَون الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور فِي الْآيَة مُوجبا للرَّدّ لِأَنَّهُ ذكر فِي معرض الذَّم وَالنَّقْص اللَّائِق بمقام الْعباد، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ المثابة فَهُوَ غير مَقْبُول (بل) الِاخْتِلَاف الْمُوجب للرَّدّ (التَّنَاقُض) فِي الْمَعْنى (والقصور) عَن البلاغة الَّتِي وَقع التحدي والإلزام بِأَن يكون الْقُرْآن بعض أخباره مناقضا للْبَعْض أَو مستلزما لنقيض الْبَعْض أَو يكون بعضه ركيكا من حَيْثُ تكون الْمَعْنى أَو النّظم أَو فصيحا لم يبلغ دَرَجَة الإعجاز فَإِن قلت كثيرا من الْكتب المصنفة لَا اخْتِلَاف فِيهِ قُلْنَا لَو سلم لَعَلَّ المُرَاد لُزُوم الِاخْتِلَاف لكتاب من عِنْد غير الله تَعَالَى مفترى بِهِ على الله عز وَجل ليتميز الْكَاذِب من الصَّادِق (وتبيانا لكل شَيْء) مَعْطُوف على قَوْله بِأَن: أَي واستدلالهم بقوله عز وَجل - {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} - (وَنَحْوه) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} - تَقْرِيره لَو أَخذ بعض الْأَحْكَام من الْقيَاس لما كَانَ كِتَابه تبيانا لكل شي، وَلما كَانَ كل الْأَحْكَام فِي الْكتاب الْمُبين، وَالْخَبَر مَحْذُوف بِقَرِينَة مَا سبق: أَي مَدْفُوع بِمَنْع إِرَادَة الْعُمُوم، إِذْ هُوَ (مَخْصُوص قطعا) فَلَا حَاجَة حِينَئِذٍ إِلَى التَّقْدِير، وَهُوَ: أَي كل شَيْء فِيهِ: أَي فِي الْكتاب الْمُبين، وَالْخَبَر محذف أَن أُرِيد تَفْصِيل كل شَيْء، إِذْ لَيْسَ كل الْأَشْيَاء مفصلة فِي الْقُرْآن، وَفِي بعض النّسخ وتبيانا لكل شَيْء وَنَحْوه مَخْصُوص فَلَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير (أَو هُوَ) أَي كل شَيْء (فِيهِ) أَي فِي الْكتاب(4/106)
(إِجْمَالا) وَلَو بالإحالة إِلَى السّنة أَو الْقيَاس (فَجَاز) أَن يكون (فِيهِ) أَي فِي الْكتاب إِجْمَالا وَهُوَ (حكم الْقيَاس) وَهُوَ الحكم الْحَاصِل فِي الْفَرْع قِيَاسا على الأَصْل (فيعلمه الْمُجْتَهد) بعد الِاجْتِهَاد (كَمَا جَازَ) أَن يكون (الْكل) أَي كل شَيْء (فِيهِ) أَي الْكتاب (ويعلمه النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قيل جمع الْعلم: أَي الْقُرْآن، لَكِن تقاصرت عَنهُ الأفهام (مَعَ أَنه) أَي الِاسْتِدْلَال بالآيتين (مُسْتَلْزم أَن لَا يكون غير الْقُرْآن) من السّنة وَالْإِجْمَاع أَيْضا (حجَّة) تعين مَا ذَكرُوهُ فِي نفي حجية الْقيَاس (وَهُوَ) أَي انْتِفَاء حجية غير الْقُرْآن (مُنْتَفٍ عِنْدهم) أَي المانعين (أَيْضا) فَمَا هُوَ جوابهم فَهُوَ جَوَابنَا (وَبِه) أَي بِهَذَا الاستلزام: أَي بِانْتِفَاء هَذَا اللَّازِم (يبعد نِسْبَة هَذَا) الِاسْتِدْلَال (لَهُم) أَي إِلَيْهِم (على) وَجه (الِاقْتِصَار) على نفي الْقيَاس لبعد الْغَفْلَة عَن وُرُود هَذَا النَّقْص الظَّاهِر (وَأما) الْجَواب عَن استدلالهم بهما على مَا ذكره صدر الشَّرِيعَة من أَن الْقُرْآن تبيان للْقِيَاس (بِاعْتِبَار دلَالَته) أَي الْقُرْآن (على حكم الأَصْل نصا، و) على (حكم الْفَرْع دلَالَة) قد سبق أَن دلَالَة اللَّفْظ على حكم مَنْطُوق بمسكوت يفهم مناطه بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة يُسمى دلَالَة فِي الِاصْطِلَاح (فَلَيْسَ) بِصَحِيح (وَإِلَّا) أَي وَإِن صَحَّ مَا ذكره (فَكل قِيَاس مَفْهُوم مُوَافقَة) أَي فَيلْزم أَن يكون كل قِيَاس مَدْلُول اللَّفْظ بِاعْتِبَار حكمه الْأَصْلِيّ نصا، والفرعي دلَالَة بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة كدلالة النَّهْي عَن التأفيف على حرمته نصا، وعَلى حُرْمَة الضَّرْب دلَالَة، وَكَون كل قِيَاس كَذَا بَاطِل بالِاتِّفَاقِ (مَعَ أَنه) أَي كَون الْقُرْآن دَالا على أَحْكَام الْأُصُول كلهَا (مَمْنُوع فِي) الْأَشْيَاء (السِّتَّة) الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ وَالذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْملح بالملح (أصُول) حكم (الرِّبَا) الْمَنْصُوص عَلَيْهَا فِي السّنة عطف بَيَان للستة (و) فِي (كثير) من الْأُصُول الْمَقِيس عَلَيْهَا (بل) بَيَان أَمْثَالهَا إِنَّمَا هُوَ (بِالسنةِ فَقَط، وَحَدِيث) لم يزل أَمر بني إِسْرَائِيل مُسْتَقِيمًا حَتَّى كثرت فيهم أَوْلَاد السبايا، و (قاسوا مَا لم يكن على مَا كَانَ فضلوا) وأضلوا أخرجه الْبَزَّار، وَفِي سَنَده قيس بن الرّبيع فِيهِ مقَال، وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ وَأَبُو عوَانَة بِإِسْنَاد صَحِيح من قَول عُرْوَة (لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ) لِأَن المُرَاد مِنْهُ نصب الشَّرَائِع بِالْأَدَاءِ بِقِيَاس غير الْمَشْرُوع على الْمَشْرُوع من غير جَامع منَاط للْحكم دَال على كَون الثَّانِي مثل الأول فِيهِ (قَالُوا) أَي المانعون لَهُ سمعا أَيْضا (أرشد إِلَى تَركه) أَي الْقيَاس (بِإِيجَاب الْحمل على الأَصْل) وَهُوَ الْإِبَاحَة والبراءة الْأَصْلِيَّة (فِيمَا لم يُوجد فِيهِ نَص) قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ} محرما على طاعم يطعمهُ - الْآيَة، فَكل مَا لم يُوجد فِي الْكتاب محرما لَا يحرم بل يبْقى على الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة (الْجَواب) أَنه (إِنَّمَا يُفِيد) مَا ذكر من الْآيَة (منع إِثْبَات الْحُرْمَة ابْتِدَاء بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا نزلت لرد(4/107)
مَا ذكر قبلهَا من تَحْرِيم الْكفَّار الْمَذْكُورَات من عِنْد أنفسهم ابْتِدَاء من غير الحاق لَهَا بِمَا حرمه الله للاشتراك فِي منَاط التَّحْرِيم، فَإِن الْمحرم عِنْد نزُول الْآيَة إِذا انحصر فِيمَا ذكر فِيهَا وَلَا شَيْء مِنْهُ يصلح لِأَن يلْحق بِهِ مَا حرمه الْكفَّار، فَلَو حرم الرَّسُول مَا حرمُوهُ لزم إِثْبَات الْحُرْمَة ابْتِدَاء (وَبِه) أَي بِمَنْع إِثْبَاتهَا ابْتِدَاء (بقول كَمَا) قُلْنَا فِيمَا (لم يدْرك مناطه) لأَنا شرطنا فِي الْقيَاس كَون حكم الأَصْل مَعْقُول الْمَعْنى (قَالُوا) أَيْضا الْقيَاس (ظَنِّي) فَلَا يجوز إِثْبَات حق الشَّارِع وَهُوَ الحكم الشَّرْعِيّ لقدرته على الْبَيَان الْقطعِي بِخِلَاف حُقُوق الْعباد فَإِنَّهَا تثبت بِقَيْد الظَّن كَالشَّهَادَةِ لعجزهم عَن الْإِثْبَات بقطعي (لَا) أَنه (كَخَبَر الْوَاحِد) فَإِنَّهُ بَيَان من جِهَة الشَّرْع قَطْعِيّ، والشبهة إِنَّمَا عرضت فِي طَرِيق الِانْتِقَال إِلَيْنَا فَلَا يُفِيد الْقطع بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا (وَجَوَابه مَا مر فِي مسئلة تَقْدِيمه) أَي خبر الْوَاحِد (عَلَيْهِ) أَي الْقيَاس: من أَن الِاحْتِجَاج بالْخبر الْحَاصِل الْآن وَهُوَ مظنون فَلَا ينفع كَونه يُفِيد الْقطع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِغَيْر وَاسِطَة، وَالْفرق الْمَذْكُور بَين الْحَقَّيْنِ سَاقِط، لِأَن التَّوَجُّه إِلَى جِهَة الْقبْلَة مَحْض حق الله تَعَالَى، وَقد أطلق لنا الْعَمَل فِيهِ بِالرَّأْيِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وسعنا مَا هُوَ أقوى من ذَلِك، وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي الْأَحْكَام (ثمَّ بعد جَوَازه) أَي تَكْلِيف الْمُجْتَهد بِطَلَب المناط (وَقع) التَّكْلِيف بِهِ (سمعا، قيل) ثَبت وُقُوعه (ظنا) وَهَذَا القَوْل (لأبي الْحُسَيْن، وَلذَا) أَي لوُقُوعه ظنا عِنْده (عدل) فِي إثْبَاته (إِلَى مَا تقدم) من الدَّلِيل الْعقلِيّ الْمُفِيد للْقطع بظنه لِأَنَّهُ أصل ديني لَا يَكْفِي فِيهِ الظَّن (وَقيل) وَقع (قطعا) وَهُوَ قَول الْأَكْثَر (لقَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} ) فَإِن الِاعْتِبَار رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره بِأَن يحكم عَلَيْهِ بِحكمِهِ، وَكَذَا سمى الأَصْل الَّذِي ترد إِلَيْهِ النَّظَائِر عِبْرَة، وَهَذَا يَشْمَل الاتعاظ، وَالْقِيَاس الْعقلِيّ، والشرعي، وَسِيَاق الْآيَة للاتعاظ، فتدل عَلَيْهِ عبارَة، وعَلى الْقيَاس إِشَارَة (وَكَونه) أَي وَكَون عُمُوم - اعتبروا (مَخْصُوصًا بمادة انْتَفَت) فِيهَا (شَرَائِطه) أَي الْقيَاس فَإِنَّهَا خَارِجَة عَنهُ (وَاحْتِمَال كَونه) أَي اعتبروا (للنَّدْب، وَكَونه للحاضرين) عِنْد نُزُولهَا فَقَط (و) احْتِمَال (إِرَادَة الْمرة) الْوَاحِدَة من الِاعْتِبَار وَإِرَادَة الْعَمَل بِهِ (وَفِي بعض الْأَحْوَال والأزمنة) وَغير ذَلِك مِمَّا يقتضى عدم إِرَادَة الْعُمُوم (لَا يَنْفِي الْقطع بِهِ) أَي بِوُقُوع التَّكْلِيف بِهِ، وَأما فِي الأول فنقطع بِمَا عدا مَا خص بِهِ (لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص الْمَذْكُور (تَخْصِيص بِالْعقلِ) والمخصص قَطْعِيّ فِي غير مَا خص بِهِ، وَأما فِي الْبَاقِي فَلَمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَلَيْسَ بِكُل تَجْوِيز عَقْلِي ينتفى الْقطع) فَلَا عِبْرَة بباقي الِاحْتِمَالَات وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْقطع بِالشُّبْهَةِ الناشئة عَن الدَّلِيل كَمَا تقرر فِي مَحَله (وَإِلَّا انْتَفَى) الْقطع (عَن السمعيات) لِأَنَّهُ لم يسلم شَيْء مِنْهَا عَن تجويزها عقلا فَلَا يتَمَسَّك بِشَيْء مِنْهَا (وَأما ظُهُور كَونه) أَي الِاعْتِبَار (فِي الاتعاظ بِالنّظرِ إِلَى خُصُوص(4/108)
السَّبَب) لنزول الْآيَة الْمشَار إِلَيْهَا بقوله (ولبعد) أَن يُرَاد بقوله تَعَالَى - {فاعتبروا} - بعد قَوْله (يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم) وأيدي الْمُؤمنِينَ (فقيسوا الذّرة بِالْبرِّ) كَمَا هُوَ لَازم الِاسْتِدْلَال لعدم الْمُنَاسبَة، فَلَا يحمل كَلَامه تَعَالَى عَلَيْهِ، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا أَفَادَهُ بقوله (فَالْعِبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ) لَا لخُصُوص السَّبَب، فَانْتفى الأول: وَهُوَ ظُهُور كَونه للاتعاظ (وَبِه) أَي بِأَن الْعبْرَة لعمومه (انْتَفَى الثَّانِي) أَيْضا (إِذْ الْمُرَتّب) على السَّبَب الْمَذْكُور الِاعْتِبَار (الْأَعَمّ مِنْهُ) أَي من قِيَاس الذّرة على الْبر (أَي فاعتبروا الشَّيْء بنظيره فِي مناطه) الظّرْف مُتَعَلق بنظيره لما فِيهِ من معنى الْفِعْل (فِي المثلات) أَي الْعُقُوبَات جمع مثلَة بِفَتْح الثَّاء وَضمّهَا مُتَعَلق بِالِاعْتِبَارِ (وَغَيرهَا وَهَذَا) الطَّرِيق فِي إِثْبَات التَّكْلِيف بِالْقِيَاسِ (أيسر من إثْبَاته) أَي التَّكْلِيف بِهِ (دلَالَة) كَمَا ذهب إِلَيْهِ صدر الشَّرِيعَة، لِأَن فهم الْأَمر بِالْقِيَاسِ من الْأَمر بِالِاعْتِبَارِ بطرِيق اللُّغَة من غير اجْتِهَاد لِئَلَّا يلْزم إِثْبَات الْقيَاس بِالْقِيَاسِ بعيد جدا، فَإِن من الْمَعْلُوم أَنه لَا يفهم كل من يعرف اللُّغَة ذَلِك كَمَا أَفَادَهُ بقوله (إِذْ لَا يفهم فهم اللُّغَة) نصب على المصدرية، فَإِن الْمَنْفِيّ إِنَّمَا هُوَ هَذَا النَّوْع من الْفَهم لَا مطلقه (الْأَمر بِالْقِيَاسِ) قَائِم مقَام فَاعل يفهم (فِي الْأَحْكَام) مُتَعَلق بِالْقِيَاسِ (من) الْأَمر ب (الاتعاظ) . وَالشَّارِح تعقب المُصَنّف فِي هَذَا فَليرْجع إِلَيْهِ، وظني أَن مَا ذكره غير مُتَّجه (وَأَيْضًا قد تَوَاتر عَن كثير من الصَّحَابَة الْعَمَل بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ عِنْد عدم النَّص وَإِن كَانَت التفاصيل آحادا، فَإِن الْقدر الْمُشْتَرك متواتر (وَالْعَادَة قاضية فِي مثله) أَي فِي مثل الْعَمَل بِالْقِيَاسِ من كثير من الصَّحَابَة (بِأَنَّهُ) أَي الْعَمَل الْمَذْكُور إِنَّمَا يكون (عَن قَاطع فِيهِ) أَي الْعَمَل بِهِ وَإِن لم نعلمهُ على التَّعْيِين (وَأَيْضًا شاع مباحثتهم فِيهِ) أَي فِي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ (وترجيحهم) بعض الْقيَاس على بعض (بِلَا نَكِير) لذَلِك (فَكَانَ) ذَلِك (إِجْمَاعًا مِنْهُم على حجيته لقَضَاء الْعَادة بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا قَطْعِيا (فِي مثله من أصُول الدّين لَا سكُوتًا) أَي لَا إِجْمَاعًا سكوتيا مُفِيدا للظن، فَإِن ترك الْإِنْكَار فِي أَمر مُنكر يَجْعَل أصلا من أصُول الدّين على تَقْدِير أَن يَتَقَرَّر فِيمَا بَين الصَّحَابَة بِمَا تحيل الْعَادة وُقُوعه من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ (وَحَدِيث معَاذ) الْمُفِيد حجية الْقيَاس، فِي التَّوْضِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ لَهُ بِمَ تقضي؟ قَالَ لَهُ بِمَا فِي كتاب الله. قَالَ فَإِن لم تَجِد فِي كتاب الله؟ قَالَ أَقْْضِي بِمَا قضى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ فَإِن لم تَجِد مَا قضى بِهِ رَسُول الله؟ قَالَ أجتهد: فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول رَسُوله بِمَا يرضى بِهِ رَسُوله. فَإِنَّهُ (يُفِيد طمأنينة) الطُّمَأْنِينَة فَوق الظَّن لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَه احْتِمَال النقيض، وَإِن كَانَ دون الْيَقِين لاحْتِمَال زَوَاله بالتشكيك (فَإِنَّهُ) أَي الحَدِيث الْمَذْكُور (مَشْهُور) على مَا روى (عَن الْحَنَفِيَّة) فَتثبت بِهِ الْأُصُول فَإِن قيل: الْمَذْكُور فِيهِ الِاجْتِهَاد(4/109)
وَهُوَ قد يكون بِغَيْر الْقيَاس الْمُتَنَازع فِيهِ كَالْحكمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة، وَالْقِيَاس الْمَنْصُوص الْعلَّة، والاستنباط من النُّصُوص الْخفية الدّلَالَة قُلْنَا: الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة لَا تحْتَاج إِلَى الِاجْتِهَاد، ومنصوص الْعلَّة لَا يَفِي بِالْأَحْكَامِ. وَأما الاستنباط من النُّصُوص فَأجَاب عَنهُ بقوله (وَكَون الِاجْتِهَاد) كَمَا يتَحَقَّق فِي الْقيَاس يتَحَقَّق (فِي الْمَنْصُوص) فَلَا يتَعَيَّن إِرَادَة الْقيَاس لَا يرد لِأَنَّهُ (دَاخل فِي قَوْله) أَي معَاذ أقضى بِمَا فِي (كتاب الله وَسنة رَسُوله فَلم يبْق) محمل للِاجْتِهَاد (إِلَّا الْقيَاس) . وَفِي بعض النّسخ دَاخِلا على أَنه خبر الْكَوْن، وَهُوَ مجرور على أَنه مَعْطُوف على مَا يفهم من من السِّيَاق كَأَنَّهُ قَالَ لكَونه مَشْهُورا وَلكَون الِاجْتِهَاد إِلَى آخِره، وَهَذَا أقل تَقْدِير (وَالْقطع) حَاصِل (بِأَن إِطْلَاقه) أَي إِطْلَاق جَوَازه لِمعَاذ (لَيْسَ إِلَّا لاجتهاده لَا لخصوصه) فَلَا يرد أَنه يجوز أَن يكون ذَلِك مَخْصُوصًا بمعاذ. ثمَّ أجَاب عَمَّا روى عَن بعض الصَّحَابَة مِمَّا يُوهم نَفْيه بقوله (والمروي عَن جمع من الصَّحَابَة كالصديق والفاروق وَعلي وَابْن مَسْعُود) رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (من ذمَّة) أَي الْقيَاس، عَن الصّديق أَنه لما سُئِلَ عَن الْكَلَالَة قَالَ: أَي سَمَاء تُظِلنِي، وَأي أَرض تُقِلني؟ إِذا قلت فِي كتاب الله تَعَالَى برأيي. وَعَن الْفَارُوق " اتَّقوا الرَّأْي فِي دينكُمْ: إيَّاكُمْ وَأَصْحَاب الرَّأْي فَإِنَّهُم أَعدَاء السّنة: اتهموا الرَّأْي على الدّين ". وَعَن عَليّ " لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من أَعْلَاهُ ". وَعَن ابْن مَسْعُود " لَا أَقيس شَيْئا بِشَيْء فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا ". وَعنهُ " يحدث قوم يقيسون الْأُمُور برأيهم فينهدم الْإِسْلَام وينثلم " كَمَا ذكر الشَّارِح مخرجها إِلَّا الأول، ثمَّ بعد صِحَّته عَنْهُم (فالقطع بِأَنَّهُ) أَي الذَّم (فِي غَيره) أَي غير الْقيَاس الشَّرْعِيّ (إِذْ قَاس كثير) من الصَّحَابَة قَول الرجل: أَنْت عَليّ (حرَام عَليّ) قَوْله: أَنْت (طَالِق) فِي وُقُوع وَاحِدَة رَجْعِيَّة. وَنقل الشَّارِح عَن بَعضهم مَا يُخَالف هَذَا فِي تَفْصِيل ذكره، والعمدة على نقل المُصَنّف وتحقيقه (و) قَاس (على الشَّارِب) للخمر (على الْقَاذِف) فِي الْحَد، وَقد سبق بَيَانه (و) قَاس (الصّديق الزَّكَاة على الصَّلَاة فِي وجوب الْقِتَال) بِالتّرْكِ. فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن عمر قَالَ لأبي بكر كَيفَ تقَاتل النَّاس؟ فساقه إِلَى قَول أبي بكر: وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة: الحَدِيث (وَفِيه) أَي فِي قِيَاس أبي بكر هَذَا (إِجْمَاع الصَّحَابَة أَيْضا، وَورث) أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (أم الْأُم لَا أم الْأَب) لما اجتمعتا (فَقيل لَهُ) وَالْقَائِل عبد الرَّحْمَن بن سهل أَخُو بني حَارِثَة (تركت الَّتِي لَو كَانَت) هِيَ (الْميتَة) وَهُوَ حَيّ (ورث الْكل) مِنْهَا إِذا انْفَرد (اي هِيَ) يَعْنِي أم الْأَب (أقرب) أَي أقوى قرَابَة من أم الْأُم (فشرك) أَبُو بكر (بَينهمَا فِي السُّدس) على السوَاء (و) ورث (عمر المبتوتة بِالرَّأْيِ) فَقَالَ فِي الَّذِي يُطلق امْرَأَته وَهُوَ مَرِيض أَنَّهَا تَرثه فِي الْعدة وَلَا يَرِثهَا، وَهُوَ(4/110)
مَشْهُور عَن عُثْمَان، رَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ بِسَنَد صَحِيح (و) قَاس (ابْن مَسْعُود موت زوج المفوضة) قبل الدُّخُول بهَا فِي لُزُوم جَمِيع مهر الْمثل على موت زوج غَيرهَا قبل الدُّخُول بهَا فِي لُزُوم جَمِيع الْمُسَمّى، والمفوضة الَّتِي زَوجهَا بِغَيْر مهر (وَذَلِكَ) أَي الْعَمَل بِالْقِيَاسِ للصحابة (أَكثر من أَن ينْقل) وَإِن كثر فِي النَّقْل (وَاخْتِلَافهمْ) أَي الصَّحَابَة (فِي تَوْرِيث الْجد مَعَ الْأُخوة) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب (كل) مِنْهُم (قَالَ فِيهِ بالتشبيه) فِي مُسْند أبي حنيفَة عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق أَن عمر شاور عليا وَزيد بن ثَابت فِي الْجد مَعَ الْأُخوة، فَقَالَ لَهُ عَليّ: أَرَأَيْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أَن شَجَرَة انشعب مِنْهَا غُصْن، ثمَّ انشعب من الْغُصْن غُصْن أَيهمَا أقرب إِلَى أحد الغصنين؟ أصاحبه الَّذِي خرج مِنْهُ أم الشَّجَرَة؟ وَقَالَ زيد: لَو أَن جدولا انْبَعَثَ من ساقية ثمَّ انْبَعَثَ من الساقية ساقيتان أَيهمَا أقرب إِلَى أحد الساقيتين أصاحبتها أم الْجَدْوَل؟ انْتهى: وَلَا يخفى أَن هَذَا لَيْسَ من الْقيَاس الْمُتَنَازع فِيهِ، غير أَنه يلْزم من ثُبُوته ثُبُوته بطرِيق أولى.
مسئلة
(النَّص) من الشَّارِع (على الْعلَّة يَكْفِي فِي إِيجَاب تَعديَة الحكم بهَا) أَي بِسَبَب الْعلَّة إِلَى غير مَحل الحكم الْمَنْصُوص المشارك لَهُ فِيهَا (وَلَو لم تثبت شَرْعِيَّة الْقيَاس وفَاقا للحنفية وَأحمد والنظام والقاساني) وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ. (وَأَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ) قَالَ: يَكْفِي فِي إِيجَاب تَعديَة الحكم بهَا (فِي التَّحْرِيم) أَي إِذا كَانَت عِلّة لتَحْرِيم الْفِعْل دون غَيره (خلافًا لِلْجُمْهُورِ) فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي عِنْدهم ذَلِك فِي إِيجَابهَا مُطلقًا (لَهُم) أَي الْجُمْهُور (انْتِفَاء دَلِيل الْوُجُوب) لتعدية الحكم ثَابت (وَهُوَ) أَي دَلِيله (الْأَمر) بالتعدية بهَا (أَو الْإِخْبَار بِهِ) أَي بِالْوُجُوب فينتفى الْوُجُوب (وَأما الِاسْتِدْلَال) لَهُم كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره (بِلُزُوم عتق كل أسود لَو قَالَ أعتقت) عَبدِي (غانما لسواده فمردود) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي عضد الدّين (بِأَنَّهُم) أَي الْحَنَفِيَّة وَمن مَعَهم (لَا يَقُولُونَ بِثُبُوت حكم الْفَرْع من اللَّفْظ ليلزم ذَلِك) اللَّازِم (بل) يَقُولُونَ (أَنه) أَي النَّص على الْعلَّة (دَال على وجوب إِثْبَات الحكم) بهَا على الْمُجْتَهد (أَيْن وجد) الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة، وَفِيه أَنهم لَو قَالُوا بِثُبُوت الْفَرْع من اللَّفْظ للَزِمَ ذَلِك وَلَيْسَ كَذَلِك لوُجُود الْفرق بَين كَلَام الشَّارِع وَغَيره. فَإِنَّهُ إِذا نَص على الْعلَّة كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا عَلامَة للْحكم مهما وجدت وجد، لكَون أَحْكَامه غير معللة بالعلل، وَلَيْسَ غَيره كَذَلِك. فَمَعْنَى أعتقت إِلَى آخِره دَعَاني سوَاده إِلَى الاعتاق، وَلَا يسْتَلْزم هَذَا أَن يَدْعُو سَواد غَيره إِلَى ذَلِك فَتَأمل (وَكَذَا) اسْتِدْلَال الْحَنَفِيَّة وَمن مَعَهم (بِأَنَّهُ لَا فرق بَين حرمت الْخمر لإسكارها، وكل(4/111)
مُسكر إِذا كَانَ) القَوْل الْمَذْكُور صادرا (من وَاجِب الِامْتِثَال) مَرْدُود (لما ذكرنَا) آنِفا من أَنهم لَا يَقُولُونَ بِثُبُوت حكم الْفَرْع من اللَّفْظ (وَالْفرق) بَين مَا نَص فِيهِ على علية علته، وَمَا ذكر من مَادَّة النَّقْض من قبل الْحَنَفِيَّة (بِأَن الْقيَاس حق الله تَعَالَى فَيَكْفِي فِيهِ) أَي فِي ثُبُوت حكمه (الظُّهُور) أَي كَون اللَّفْظ دَالا عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ من غير تَصْرِيح لمزيد الاهتمام بِشَأْنِهِ (وَالْعِتْق زَوَال حق آدَمِيّ فبالصريح) أَي فَيثبت بِالصَّرِيحِ لَا بالظهور، وَقَوله أعتقت إِلَى آخِره لَيْسَ بِصَرِيح (مَمْنُوع بِأَن الْعتْق كَذَلِك) أَي يَكْفِي فِيهِ الظُّهُور (لتشوفه) أَي لتطلع الشَّارِع وَكَمَال توجهه (إِلَيْهِ) أَي الْعتْق فَإِنَّهُ أحب الْمُبَاحَات إِلَيْهِ (وَلِأَن فِيهِ) أَي الْعتْق (حق الله تَعَالَى) لكَونه من الْعِبَادَات (وَلنَا أَن ذكر الْعلَّة) من حَيْثُ هِيَ عِلّة (مَعَ الحكم يُفِيد تعميمه) أَي الحكم (فِي محَال وجودهَا لِأَنَّهُ يتَبَادَر إِلَى فهم كل من سمع حُرْمَة الْخمر لِأَنَّهَا مسكرة) أَي الدَّال على حرمتهَا معللة بالإسكار (تَحْرِيم كل مَا أسكر) ، وَفِيه أَنه يُنَافِي مَا مر من أَنهم لَا يَقُولُونَ بِثُبُوت حكم الْفَرْع من اللَّفْظ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد نفي ثُبُوته منطوقا أَو ثُبُوت حكم الْفَرْع بِخُصُوصِهِ فَتَأمل (و) لِأَنَّهُ يتَبَادَر (من قَول طَبِيب لَا تَأْكُله) أَي الشَّيْء الْفُلَانِيّ (لبرودته مَنعه) أَي الْمُخَاطب (من) أكل (كل بَارِد، وَاحْتِمَال كَونه) أَي النَّص على الْعلَّة (لبَيَان حكمته) أَي الحكم (مَعَ منع الْمُجْتَهد من) قِيَاس (مثله) أَي مثل مَحل الحكم الْمَنْصُوص على علته (أَو أَنه) أَي النَّص عَلَيْهَا فِي نَحْو حرمت الْخمر لإسكارها (لخُصُوص إسكار الْخمر) لَا لمُطلق الْإِسْكَار (لَا يقْدَح فِي الظُّهُور) أَي فِي كَونه ظَاهرا فِي الْإِطْلَاق، والظهور كَاف فِي الْقيَاس الْمَبْنِيّ على الظَّن (كاحتمال خُصُوص الْعَام بعد الْبَحْث) والتفحص (عَن الْمُخَصّص) وَعدم العثور عَلَيْهِ (فَإِنَّهُ) أَي الْعَام (حِينَئِذٍ) أَي حِين بحث عَن مخصصه وَلم يعثر عَلَيْهِ (ظَاهر فِي عدم التَّخْصِيص فَبَطل مَنعه) أَي منع إِيجَاب النَّص على الْعلَّة التَّعْدِيَة (بتجويز كَونه) أَي النَّص على الْعلَّة (لتعقل فَائِدَة شرعيته) أَي الحكم (فِي ذَلِك الْمحل مَعَ قصره) أَي الحكم (عَلَيْهِ) أَي ذَلِك الْمحل وَحَاصِله بَيَان الْحِكْمَة لذَلِك الحكم الْمَخْصُوص بمحله عَن الشَّارِع، فَالْفرق بَين هَذَا وَمَا تقدم عدم التَّقْيِيد بِمَنْع الْمُجْتَهد من مثله صَرِيحًا (وَأبْعد مِنْهُ) أَي من التجويز الْمَذْكُور أَن يُقَال (تَعْلِيل كَونه) أَي تَحْرِيم الْخمر مُعَللا (بإسكارها) خَاصَّة لَا بِمُطلق الْإِسْكَار (بِأَن حُرْمَة الْخمر لَا تعلل بِكُل إسكار) بل بالإسكار الْمُضَاف إِلَيْهَا كَمَا فِي الشَّرْح العضدي، وَقَوله بِأَن صلَة تَعْلِيل (لِأَن الْمُدَّعِي ظُهُور حرمتهَا لِأَنَّهَا مسكرة فِي التَّعْلِيل بالإسكار) الْمُطلق (الدائر فِي كل إسكار، دون الْإِسْكَار الْمُقَيد بِالْإِضَافَة الْخَاصَّة) وَهِي الْإِضَافَة إِلَى الْخمر (لتبادر الْغَايَة) أَي خُصُوص الْإِضَافَة (إِلَى عقل كل من فهم معنى السكر) الْمَأْخُوذ فِي حرمتهَا(4/112)
لِأَنَّهَا مسكرة، لَا يُقَال قد يُفِيد بالمطلق بِالْقَرِينَةِ وَهِي مَوْجُودَة هَهُنَا لِأَن الْمُعَلل حُرْمَة مُغَلّظَة فيناسبه أَن يكون فِي علته أَيْضا غلظة وَلَا تُوجد تِلْكَ الغلظة فِي الْمُطلق على إِطْلَاقه، لأَنا نقُول هَهُنَا مَا يُقَاوم اعْتِبَار مُقْتَضى وضع اللَّفْظ من الْعُمُوم على أَن الْإِطْلَاق أنسب بِقصد الشَّارِع من حسم مَادَّة الْفساد الْحَاصِل بِكُل مُسكر ثمَّ أيد الأبعدية بقوله (واعترف هَذَا الْقَائِل) يَعْنِي القَاضِي (بإفادة قَول الطَّبِيب لَا تَأْكُله لبرده التَّعْمِيم) أَي الْمَنْع من أكل كل بَارِد (وَهُوَ) أَي حرمته الْخمر إِلَى آخِره (مثله) أَي مثل قَول الطَّبِيب الْمَذْكُور (دون أَن الْمَنْع) فِيهِ إِنَّمَا هُوَ (من ذَلِك الْبَارِد) الْمَخْصُوص فَقَوله دون حَال من قَول الطَّبِيب، يَعْنِي أَن قَوْله يُفِيد التَّعْمِيم حَال كَونه متجاوزا إِفَادَة أَن الْمَنْع إِلَى آخِره (وَلَا يُعلل) الْمَنْع من ذَلِك الْبَارِد (بِكُل برودة) بل ببرودته فَقَوله وَلَا يُعلل إِلَى آخِره حَال من الْمَنْع الْمَذْكُور بعد دون، فَقَوله دون إِلَى آخِره يُفِيد نفي إِفَادَة الْمَنْع من الْبَارِد الْمَخْصُوص مُعَللا ببرودته الْمَخْصُوصَة، واعترافه هَذَا مُخَالف لما ادَّعَاهُ فِي الْخمر (وَفرق الْبَصْرِيّ) بَين التَّحْرِيم وَغَيره (بِأَن ترك الْمنْهِي) بارتكاب مَا نهى عَنهُ (يُوجب ضَرَرا) وَهُوَ وُقُوع مفْسدَة نهى لأَجلهَا (فَيُفِيد) النَّهْي عَنهُ بِهَذَا الِاعْتِبَار (الْعُمُوم وَالْفِعْل لتَحْصِيل مصلحَة) كالتصدق على فَقير للمثوبة (لَا يُوجب) الْفِعْل (كل تَحْصِيل) أَي كل تَحْصِيل مصلحَة حَتَّى يلْزم من فَوَاته الْمصَالح كلهَا (لَا يُفِيد) مَطْلُوبه (بعد ظُهُور أَنه) أَي النَّص على الْعلَّة (من الشَّارِع يُفِيد إِيجَاب اعْتِبَار الْوَصْف) من حَيْثُ أَنه عِلّة (ويستلزم) الْإِيجَاب الْمَذْكُور (وجوب التَّرْتِيب) أَي تَرْتِيب الحكم عَلَيْهِ أَيْنَمَا وجد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجب التَّرْتِيب (لَزِمت مُخَالفَة اعْتِبَاره أَي اعْتِبَار الشَّارِع الْوَصْف عِلّة (وَهُوَ) أَي خلاف اعْتِبَاره (مُضر كالنهي) أَي كَمَا أَن مُخَالفَة اعْتِبَاره فِي النَّهْي مُضر (وَهَذَا) الَّذِي ذكرنَا مِمَّا يُخَالف مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور (تَفْصِيل رد دليلهم) أَي الْجُمْهُور (الأول) يَعْنِي انْتِفَاء دَلِيل الْوُجُوب (وَأما مَا ذكر) فِي أصُول ابْن الْحَاجِب وَغَيره (من مسئلة لَا يجرى الْخلاف) أَي بَين مثبتي الْقيَاس (فِي جَمِيع الْأَحْكَام) فِي الشَّرْح العضدي: قد اخْتلف فِي جَرَيَان الْقيَاس فِي جَمِيع الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وأثبته شذوذ، وَالْمُخْتَار نَفْيه، ثمَّ نقل عَن الْمَحْصُول أَن النزاع فِي أَنه هَل فِي الشَّرْع جمل من الْأَحْكَام لَا يجرى فِيهَا الْقيَاس أَو ينظر فِي كل مسئلة مسئلة هَل يجْرِي فِيهَا الْقيَاس أم لَا؟ (فمعلومة من الشُّرُوط) ككون حكم الأَصْل مَعْقُول الْمَعْنى، وَكَون الْفَرْع لَا يتَعَيَّن فِيهِ حكم نَص أَو إِجْمَاع إِلَى غير ذَلِك فَلَا حَاجَة إِلَى أَفْرَاد مسئلة فِيهِ، يَعْنِي أَنه علم من الشُّرُوط أَن مَا لَا يُوجد فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوط لَا يجْرِي فِيهِ الْقيَاس فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى النّظر هَل يجْرِي فِيهِ أم لَا، فَثَبت أَن فِي الشَّرْع(4/113)
جملا لَا يجْرِي فِيهَا (يجب الحكم على الْخلاف الْمَنْقُول على الْإِطْلَاق) بِأَن يَقُول الْبَعْض بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع جَرَيَانه فِي مسئلة من الْمسَائِل، وَالْبَعْض الآخر بامتناعه فِي بَعْضهَا (بالْخَطَأ) صلَة الحكم يَعْنِي نقل الْخلاف على هَذَا الْوَجْه خطأ قطعا فَيجب أَن يحكم عَلَيْهِ بالْخَطَأ.
فصل فِي بَيَان الاعتراضات الْوَارِدَة على الْقيَاس
(يرد على) أَفْرَاد (الْقيَاس أسئلة: مرجع مَا سوى الاستفسار مِنْهَا إِلَى الْمَنْع أَو الْمُعَارضَة) فالمرجع مصدر، لَا اسْم مَكَان، وَألا يلْزم حذف كلمة إِلَى، وَإِنَّمَا قيد بِمَا سواهُ ردا على من أطلق وَهُوَ غير وَاحِد، وَإِلَيْهِ ذهب أَكثر الجدليين، وَوَافَقَهُمْ ابْن الْحَاجِب، وَذهب السُّبْكِيّ إِلَى أَن مرجع الْكل إِلَى الْمَنْع وَحده كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض الجدليين لِأَن الْمُعَارضَة منع لِلْعِلَّةِ عَن الجريان، وَلَا يخفى أَن أدراج النَّقْض الإجمالي فِي الْمَنْع لَهُ وَجه لِأَنَّهُ مُتَعَلق بِالدَّلِيلِ، وَأما الْمُعَارضَة فَلَا تعرض فِيهَا للدليل بل هِيَ إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم. (أَولهَا) أَي الأسئلة (الاستفسار) وَهُوَ طلب بَيَان معنى اللَّفْظ (وَلَا يخْتَص) الْقيَاس (بِهِ) بل هُوَ جَار فِي كل خَفِي المُرَاد، وَهُوَ (مُتَّفق) عَلَيْهِ (وَلم يذكرهُ الْحَنَفِيَّة لثُبُوته بِالضَّرُورَةِ) إِذْ طلب الْمُخَاطب بَيَان مَا لَا يفهمهُ من معنى اللَّفْظ، وَكَونه مُتَوَجها بِحَسب الْآدَاب غير خَفِي (وَإِنَّمَا يسمع) الاستفسار وَيقبل (فِي لفظ يخفي مُرَاده) أَي مَا أُرِيد بِهِ (وَألا) أَي وَلَو لم يكن خفِيا (فتعنت) أَي فالاستفسار تعنت وعناد فَلَا يسمع (مَرْدُود) لِأَنَّهُ خلاف مَا شَرط فِي المناظرة من كَونهَا لإِظْهَار الصَّوَاب (وَله) أَي الْمُسْتَدلّ (أَن لَا يقبله) أَي استفسار الْمُعْتَرض (حَتَّى يُبينهُ) أَي الْمُعْتَرض خَفَاء المُرَاد (لِأَنَّهُ) أَي الخفاء (خلاف الأَصْل) لِأَن وضع الْأَلْفَاظ للْبَيَان، وَالظَّاهِر من حَال الْمُتَكَلّم أَن يُرَاعِي ذَلِك، وَالْبَيِّنَة على من يَدعِي خلاف الأَصْل (ويكفيه) أَي الْمُعْتَرض فِي بَيَان الخفاء (صِحَة إِطْلَاقه) أَي اللَّفْظ (لمتعدد وَلَو) كَانَ إِطْلَاقه على الْمعَانِي المتعددة أولى، وَلَو كَانَ ذَلِك المتعدد (بِلَا تساو) بِأَن يكون بعضه أظهر لكَونه حَقِيقَة، بِخِلَاف غَيره أَو مجَازًا وَاضحا قرينته صارفة ومعينة (لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (يخبر بالاستبهام عَلَيْهِ لتِلْك الصِّحَّة) أَي يَدعِي أَن صِحَة إِطْلَاقه لمتعدد صَارَت سَببا لكَون المُرَاد مِنْهُمَا عِنْدِي فَلَا يضرّهُ كَون المُرَاد أظهر فِي نفس الْأَمر، فَإِنَّهُ بِهَذَا ينْدَفع عَنهُ ظن التعنت، وَيصدق بِظَاهِر عَدَالَته (وَجَوَابه) أَي الاستفسار أَو المستفسر (بَيَان ظُهُوره) أَي اللَّفْظ (فِي مُرَاده) مِنْهُ (بِالْوَضْعِ) أَي بِبَيَان وضع اللَّفْظ لذَلِك المُرَاد، دون مَا يُقَابله (أَو الْقَرِينَة) بِأَن يبين أَن مُرَاده الْمَعْنى الْمجَازِي ويعين قرينته (أَو ذكر مَا أَرَادَ) من غير تعرض للوضع أَو الْقَرِينَة (بِلَا مشاحة تكلّف نقل اللُّغَة) لبَيَان الْوَضع(4/114)
لما فِيهِ من الكلفة المستغنى عَنْهَا لحُصُول الْمَقْصُود بتفهيم المُرَاد (أَو الْعرف فِيهِ) لبَيَان الْقَرِينَة الناشئة من الْعرف وَنَحْوه، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ الْوَضع الْعرفِيّ الَّذِي هجر مَعَه الْوَضع اللّغَوِيّ، وَعند الْبَعْض كَابْن الْحَاجِب يجب أَن يفسره بِمَا يجوز اسْتِعْمَاله فِيهِ كتفسير الثور فِي قَوْله يخرج فِي صَدَقَة الْفطر الثور بالقطعة من الأقط، لَا بِمَا لَا يجوز فَإِنَّهُ من جنس اللّعب الْخَارِج عَن قانون المناظرة الْمَوْضُوعَة لإِظْهَار الصَّوَاب فَلَا يسمع، وَقيل يسمع لِأَن غَايَة الْأَمر أَنه ناظره بلغَة غير مَعْلُومَة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَأما) قَوْله فِي بَيَان ظُهُوره (يلْزم ظُهُوره) أَي اللَّفْظ (فِي أَحدهمَا) أَي الْمَعْنيين اللَّذين يُطلق على كل مِنْهُمَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ظَاهرا فِي أَحدهمَا (فالإجمال) أَي فَيلْزم الْإِجْمَال لَهُ (وَهُوَ) أَي الْإِجْمَال (خلاف الأَصْل أَو) يلْزم ظهروه (فِيمَا قصدت إِذْ لَيْسَ ظَاهرا فِي الآخر) لموافقتك إيَّايَ على ذَلِك فَإِن قلت يرد على الأول أَنه على تَقْدِير تَسْلِيم لُزُوم ظُهُوره فِي أَحدهمَا لَا يُفِيد الْمَقْصُود لجَوَاز أَن يكون مَا هُوَ ظَاهر فِيهِ غير المُرَاد، وعَلى الثَّانِي أَنه يجوز عدم ظُهُوره فِي شَيْء مِنْهُمَا قلت لَا بُد من ضم كل مِنْهُمَا مَعَ الآخر فحاصل الأول لَا بُد من الظُّهُور فِي أَحدهمَا، وَلَيْسَ بِظَاهِر فِي غير المُرَاد اتِّفَاقًا، وَالثَّانِي يلْزم ظُهُوره فِيمَا قصدت إِذْ لَيْسَ ظَاهرا فِي الآخر، وَقد ثَبت لُزُوم ظُهُوره فِي أَحدهمَا، وَلَا يخفى أَنه يصير مآلهما وَاحِدًا، وَكلمَة أَو للتنويع بِاعْتِبَار التَّقْرِير (فَالْحق نَفْيه) جَوَاب أما: أَي فَالْحق نفي هَذَا الدّفع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْحق نَفْيه (فَاتَ الْغَرَض) من المناظرة وَهُوَ إِظْهَار الصَّوَاب عِنْد الْخصم (فَإِنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (ذكر عدم فهمه) مُرَاد الْمُسْتَدلّ (فَلم يبين) لَهُ مُرَاده (وَمثله) أَي مثل سُؤال الاستفسار فِي عدم الِاخْتِصَاص بِالْقِيَاسِ (سُؤال التَّقْسِيم) وَهُوَ (منع أحد مَا تردد اللَّفْظ بَينه وَبَين غَيره) وَحَاصِله منع بعد تَقْسِيم وَلما كَانَ مَا يحْتَملهُ اللَّفْظ مُتَعَددًا يصدق على كل وَاحِد مِنْهُمَا أَنه مَا تردد اللَّفْظ بَينه وَبَين غَيره كَانَ مَفْهُوم مَا تردد إِلَى آخِره كليا ذَا أَفْرَاد، وَصَحَّ إِضَافَة أحد إِلَيْهِ غير أَن الْمَنْع يتَوَجَّه إِلَى أحد بِعَيْنِه (مَعَ تَسْلِيم الآخر) سَوَاء كَانَ الْمَانِع (مُقْتَصرا) على ذكر منع ذَلِك الآخر غير متجاوز إِلَى ذكر تَسْلِيم الآخر صَرِيحًا غير أَنه يفهم ضمنا (أَو) مُصَرحًا (بِذكرِهِ) أَي بِذكر التَّسْلِيم أَيْضا (كفى الصَّحِيح الْمُقِيم) أَي كَمَا فَيُقَال: فِي تَعْلِيل إجَازَة التَّيَمُّم للصحيح الْمُقِيم (فقد المَاء فَوجدَ سَبَب التَّيَمُّم) وَهُوَ فَقده (فَيجوز) التَّيَمُّم (فَقَالَ سَبَبِيَّة الْفَقْد) للْمَاء (مُطلقًا أَو) الْفَقْد (فِي السّفر الأول) أَي كَون السَّبَب الْفَقْد مُطلقًا (مَمْنُوع) فيسكت عَن ذكر تَسْلِيم الثَّانِي أَو يَقُول مَعَ ذَلِك وَالثَّانِي مُسلم، وَلَا شكّ أَنه لَا يُفِيد الْمَقْصُود إِذْ الْكَلَام فِي الصَّحِيح الْمُقِيم (وَفِي الملتجئ) أَي وكما يُقَال فِي الْقَاتِل عمدا عُدْوانًا إِذْ الأز بِالْحرم يقْتَصّ مِنْهُ إِذْ (الْقَتْل) الْعمد (الْعدوان سَببه) أَي سَبَب الاقتصاص(4/115)
مِنْهُ (فيقتص فَيُقَال) الْقَتْل الْعمد الْعدوان سَببه (مُطلقًا) التجأ أَو لم يلتجئ (أَو) هُوَ سَببه (مَا لم يلتجئ، الأول مَمْنُوع) وَالثَّانِي مُسلم لَكِن لَا يُفِيد، لِأَن الْكَلَام فِي الملتجئ، وَقد اخْتلف فِي هَذَا السُّؤَال (فَقيل لَا يقبل لعدم تعين الْمَمْنُوع مرَادا) للمستدل، وَلَا يضرّهُ الْمَنْع إِلَّا إِذا توجه إِلَى مُرَاده (وَلِأَن حَاصله) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (ادِّعَاء الْمُعْتَرض مَانِعا) لثُبُوت مطلب الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ عدم صِحَة بعض مقدماته (وَبَيَانه) أَي الْمَانِع يجب (عَلَيْهِ) أَي الْمُعْتَرض لادعائه مَا هُوَ خلاف الأَصْل (وَالْمُخْتَار قبُوله) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (لجَوَاز عَجزه) أَي الْمُسْتَدلّ (عَن إثْبَاته) بعد مَا تعين مُرَاده على وَجه يتَوَجَّه إِلَيْهِ الْمَنْع، إِذْ رُبمَا لَا يُمكنهُ إِثْبَات مَا منع (وَاللَّفْظ) أَي لفظ السَّائِل (يُفِيد نفي السَّبَبِيَّة) يَعْنِي أَن مَا جعلته سَببا لثُبُوت الحكم لَيْسَ بِسَبَب (لَا وجود الْمَانِع مَعَ السَّبَب) أَي لِأَن الْمَانِع مَوْجُود مَعَ تحقق السَّبَب حَتَّى يُقَال لَهُ إِنَّك بعد مَا اعْترفت بِوُجُود الْمُقْتَضى لَا يسمع مِنْك بِمُجَرَّد دَعْوَى الْمَانِع من غير بَيَان (وَأما كَونه) أَي الْمُسْتَدلّ (بِهِ) أَي بِسَبَب هَذَا السُّؤَال (يتَبَيَّن مُرَاده) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (فَلَيْسَ) كَذَلِك (بل قِيَاسه يفِيدهُ) أَي يبين مُرَاده (إِذْ ترتيبه) أَي الْمُسْتَدلّ الحكم إِنَّمَا هُوَ (على الْفَقْد) أَي فقد المَاء (وَالْقَتْل مُطلقًا) مُتَعَلق بهما على سَبِيل التَّنَازُع (فَهُوَ) أَي مُرَاده (مَعْلُوم) وَقس عَلَيْهِ سَائِر الْأَمْثِلَة وَلما كَانَ هَهُنَا مُطلق مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه لَو كَانَ المُرَاد مَعْلُوما لما كَانَ لترديد السَّائِل وَجه أجَاب عَنهُ بقوله (وترديد السَّائِل تجاهل) عَن مُرَاد الْمُسْتَدلّ مَعَ كَونه عَالما بِهِ فِي نفس الْأَمر (اذ تَجْوِيز التَّرْتِيب) أَي تَرْتِيب الحكم (على الْفَقْد الْمُقَيد) بِالسَّفرِ وَالْقَتْل الْمُقَيد بالالتجاء (مُبَالغَة فِي الاستيضاح) أَي طلب لزِيَادَة الوضوح (ويكفيه) أَي الْمُسْتَدلّ أَن يَقُول إِذا طُولِبَ بِبَيَان عدم الْمَانِع (الأَصْل عدم الْمَانِع) يَعْنِي إِذا قَالَ السَّائِل: إِنَّك تستدل بِوُجُود الْمُقْتَضى لم لَا يجوز أَن يكون هَهُنَا مَانع يَكْفِيهِ أَن يَقُول الأَصْل إِلَى آخِره، وَهَذَا الْكَلَام هَهُنَا تقريبي (هَذَا، وَيقبل) هَذَا السُّؤَال (وَإِن اشْتَركَا) أَي الاحتمالان اللَّذَان يتَرَدَّد اللَّفْظ بَينهمَا (فِي التَّسْلِيم) وَعَدَمه (إِذا اخْتلفَا فِيمَا يرد عَلَيْهِمَا من) الأسئلة (القوادح) فيهمَا، وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْسِيم عَبَثا، وَلَيْسَ من شَرطه أَن يكون أَحدهمَا مَمْنُوعًا وَالْآخر مُسلما (ثمَّ) قَالَ (الْحَنَفِيَّة: الْعِلَل طردية ومؤثرة وَمِنْهَا) أَي من المؤثرة (الملائمة) وَهُوَ مَا ثَبت مَعَ الحكم فِي الأَصْل مَعَ ثُبُوت اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قلبه أَو جنسه فِي جنسه كَمَا مر، يَعْنِي من جملَة المؤثرة عِنْد الْحَنَفِيَّة الملائمة الْمُقَابلَة للمؤثرة (عِنْد الشَّافِعِيَّة وَلَيْسَ للسَّائِل فِيهَا) أَي المؤثرة (إِلَّا الْمَانِعَة) أَي منع مُقَدّمَة الدَّلِيل فَيعم منع ثُبُوت الْوَصْف فِي الأَصْل أَو فِي الْفَرْع أَو منع ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل أَو منع صَلَاحِية علية الْوَصْف للْحكم إِلَى غير(4/116)
ذَلِك (والمعارضة) هِيَ لُغَة الْمُقَابلَة على سَبِيل الممانعة، وَاصْطِلَاحا تَسْلِيم لدَلِيل الْمُعَلل دون مَدْلُوله وَإِلَّا ستدل على نفي مَدْلُوله (لِأَنَّهُمَا) أَي الممانعة والمعارضة (لَا يقدحان فِي الدَّلِيل بِخِلَاف فَسَاد الْوَضع) كَون الْعلَّة مُرَتبا عَلَيْهَا نقيض ذَلِك الحكم (و) فَسَاد (الِاعْتِبَار) كَون الْقيَاس مُعَارضا بِنَصّ أَو إِجْمَاع كَمَا سَيَجِيءُ فَإِنَّهُمَا يقدحان فِيهِ فَإِن قلت لَا فرق بَين الْأَوَّلين والآخرين فِي الْقدح على تَقْدِير الْوُرُود من غير اندفاع وَعدم الْقدح على تَقْدِير الاندفاع قلت الْأَوَّلَانِ لَا يَخْلُو عَنْهُمَا دَلِيل من الْأَدِلَّة فيندفعان تَارَة، وَأُخْرَى لَا، وَفِي عدم الْقدح على تَقْدِير فَلَا يخرج الدَّلِيل بهما عَن دَائِرَة الِاعْتِبَار بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن لم يندفعا، بِخِلَاف الآخرين لندرتهما وكونهما أقبح عِنْد عدم الاندفاع، وَقد علم بالتتبع أَنه لَا يتَوَجَّه على الِاسْتِدْلَال بالعلل المؤثرة مَا يُخرجهُ عَن الِاعْتِبَار بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلما سَيذكرُهُ المُصَنّف (والمناقضة) مَعْطُوف على فَسَاد الْوَضع، وَإِنَّمَا قَالَ (أَي النَّقْض) لِأَن الْمُتَبَادر من المناقضة منع الْمُقدمَة الْمعينَة كَمَا هُوَ اصْطِلَاح الجدليين، وَالْمرَاد نقض الْعلَّة بتخلف الحكم عَنْهَا فِي صُورَة (إِذْ يُوجب) كل مِنْهُمَا (تنَاقض الشَّرْع) على تَقْدِير عدم الاندفاع: إِذْ التَّأْثِير إِنَّمَا يثبت بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع فالمؤثر الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم ونقيضه مُسْتَلْزم لتناقض الشَّرْع كَالَّذي يثبت النَّص أَو الْإِجْمَاع نقيض مُوجبه، وَكَذَا النَّقْض، وَقد يُقَال هَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي عدم تحقق فَسَاد الْوَضع وَالِاعْتِبَار بِحَسب نفس الْأَمر، لَا بِحَسب وهم السَّائِل، وَالوهم كَاف لَهُ فِي جَوَاز السَّائِل: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال معنى قَوْله لَيْسَ للسَّائِل أَنه لَا يتَحَقَّق لَهُ لعدم مَا يظنّ فِيهِ ذَلِك إِلَّا على سَبِيل الندرة، والنادر كَالْمَعْدُومِ (وَهَذَا) الَّذِي قُلْنَا من أَنه لَيْسَ للسَّائِل إِلَى آخِره مَبْنِيّ (على منع تَخْصِيص الْعلَّة) أما على القَوْل بتخصيصها فَلهُ ذَلِك، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون مُرَاد الْمُسْتَدلّ من الْوَصْف الَّذِي جعله عِلّة تَقْيِيده بِقَيْد، وَقد يكون الْمُطلق بِاعْتِبَار تَقْيِيده بِقَيْد يَقْتَضِي حكما، وَبِاعْتِبَار تقيده بآخر يُفِيد ذَلِك الحكم (وَأما وجود الحكم دونهَا) أَي الْعلَّة (وَهُوَ الْعَكْس) أَي الْمُسَمّى بِالْعَكْسِ اصْطِلَاحا (فعام الانتفاء) عَن المؤثرة والطردية عِنْد شارطي انعكاس الْعلَّة، وَقد مر فِي شُرُوطهَا الْخلاف فِيهِ (وَكَذَا الْمُفَارقَة) أَي منع علية الْوَصْف فِي الأَصْل وإبداء وصف آخر صَالح للعلية، أَو منع استدلاله بِالْعِلَّةِ بادعاء أَن الْعلَّة مركب مِنْهَا وَمن غَيرهَا وَلم يُوجد فِي الْفَرْع عَام الانتفاء (فَإِن وجد صُورَة النَّقْض) فِي المؤثرة على قَول من يجوزه، وَهُوَ خلاف الْمُخْتَار (دفع بِأَرْبَع) من الطّرق (نذكرها وعَلى الطَّرْد ترد) الْخَمْسَة الْمَذْكُورَة (مَعَ القَوْل بِالْمُوجبِ) أَي الْتِزَام السَّائِل مَا يلْزمه الْعلَّة بتعليله مَعَ بَقَاء النزاع فِي الحكم الْمَقْصُود (وَلَا وَجه لتخصيصها) أَي الطردية (بِهِ) أَي بِمَا ذكر من الْخَمْسَة وَالْقَوْل بِالْمُوجبِ كَمَا يفهم من كَلَام(4/117)
بَعضهم (وَدفع) هَذَا التَّخْصِيص مُطلقًا (بِأَن الْإِيرَاد) أَي الِاعْتِرَاض إِنَّمَا هُوَ (بِاعْتِبَار ظَنّه) أَي الْمُسْتَدلّ (للعلية لإنكار ظَنّه) يَعْنِي أَن الِاعْتِرَاض بِحَسب الْحَقِيقَة مُتَوَجّه إِلَى ظَنّه لكَون الْمُعْتَرض مُنْكرا مُطَابقَة مَا فِي نفس الْأَمر فيورد على ظَنّه (لَا على) الْعِلَل (الشَّرْعِيَّة) الثَّابِتَة (فِي نفس الْأَمر) الْمُعْتَبرَة عِنْد الشَّارِع (وَألا) أَي وَإِن لم يكن بِاعْتِبَار ظَنّه وَكَانَ على الشَّرْعِيَّة (فَيجب نفي الْمُعَارضَة أَيْضا) على المؤثرة (إِذْ بعد ظُهُور تَأْثِير الْوَصْف) يلْزم (فِي الْمُعَارضَة المناقضة) للشَّرْع (خُصُوصا) الْمُعَارضَة (بطرِيق الْقلب) وَهِي على مَا سَيَجِيءُ مُعَارضَة فِيهَا مناقضة (وَإِذ لَا تَخْصِيص) لنقض الاعتراضات بالمؤثرة دون الطردية وَبِالْعَكْسِ (نذكرها) أَي الاعتراضات (بِلَا تَفْصِيل و) بِلَا (تعرض لخصوصياتهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِيهَا، فَإِن اخْتلَافهمْ فِيهَا مَبْنِيّ على التَّخْصِيص. (الأول فَسَاد الِاعْتِبَار) وَهُوَ (كَون الْقيَاس مُعَارضا بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع فَلَا وجود لَهُ) أَي الْقيَاس (حِينَئِذٍ) لِأَن صِحَّته مَشْرُوطَة بِأَن لَا يكون فِي مُقَابلَة أَحدهمَا (لينْظر فِي مقدماته) مُتَعَلق بالوجود، يَعْنِي النّظر فِي مقدماته فرع أَن يكون لَهُ وجود وَحَيْثُ علم أَنه وَقع فِي غير مَحل إِمْكَانه لَا يلْتَفت بعد ذَلِك إِلَيْهِ وَإِلَى مقدماته، وَسمي بذلك لِأَن الِاعْتِبَار هُوَ الْقيَاس وَقد مر، ففساد الْقيَاس فَسَاد الِاعْتِبَار (وتخلصه) أَي الْمُسْتَدلّ من هَذَا الِاعْتِرَاض (بالطعن فِي السَّنَد) للنَّص (إِن أمكن) بِأَن لَا يكون كتابا وَلَا سنة متوترة أَو مَشْهُورَة وَكَانَ فِي سَنَده من لم يكن عَدَالَته مُتَّفقا عَلَيْهِ أَو كذب فِيهِ الأَصْل الْفَرْع إِلَى غير ذَلِك (أَو) الطعْن (فِي دلَالَته) أَي فِي دلَالَة النَّص على مَطْلُوب الْمُعْتَرض (أَو أَنه) أَي النَّص مَعْطُوف على الطعْن (مؤول) غير مَحْمُول على ظَاهره (بدليله) أَي بِدَلِيل التَّأْوِيل الْمُفِيد ترجحه على الظَّاهِر (أَو) أَنه (خص مِنْهُ) أَي من عُمُوم النَّص (حكم الْقيَاس) مَعَ بَيَان دَلِيل التَّخْصِيص، وَهُوَ أَيْضا من التَّأْوِيل، فَهُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام لمزيد الاهتمام (ومعارضته) أَي الْمُسْتَدلّ نَص الْمُعْتَرض (بمساو) أَي بِنَصّ مسَاوٍ لَهُ (فِي النَّوْع) كالكتاب بِالْكتاب وَالسّنة بِالسنةِ (وَالتَّرْجِيح) لأحد النصين على الآخر (بعد ذَلِك) التَّسَاوِي (بالخصوصية) الممتاز بهَا أَحدهمَا على الآخر كالمحكم على الْمُفَسّر، وَهُوَ على النَّص، وَهُوَ على الظَّاهِر، وَإِن انْتَفَت الخصوصية تساقطا وَسلم قِيَاس الْمُسْتَدلّ (فَلَو عَارض الآخر) أَي الْمُعْتَرض النَّص الَّذِي عَارض بِهِ الْمُسْتَدلّ (بآخر) بِنَصّ آخر مَعَ الأول (من غير نَوعه) أَي غير نوع الأول (وَجب أَن يبْنى) تَرْجِيح الأول بِالثَّانِي (على التَّرْجِيح بِكَثْرَة الرِّوَايَة) وَتقدم مَا فِيهِ من الْخلاف إِذا لم يبلغ حد الشُّهْرَة فِي فصل التَّرْجِيح. قَالَ الشَّارِح: وَالْوَجْه الروَاة يَعْنِي بدل الرِّوَايَة، وَلَا يخفى أَنَّهُمَا متلازما غير أَن الْمَشْهُور كَثْرَة الروَاة (و) بِنَاء (على) القَوْل بِأَن (لَا تَرْجِيح بِكَثْرَة)(4/118)
الروَاة (لَا يُعَارض النَّص) أَي نَص الْمُعْتَرض المنضم مَعَه نَص آخر (النَّص وَالْقِيَاس) أَي نَص الْمُسْتَدلّ وَقِيَاسه لِأَن بانضمام النَّص الآخر لم يحصل للْأولِ زِيَادَة لِأَنَّهُ مثل كَثْرَة الروَاة، وَأما نَص الْمُسْتَدلّ فَلَا شكّ فِي تقويه بقياسه فَلم يتَحَقَّق مُعَارضَة بَين النَّص المنضم إِلَيْهِ النَّص وَبَين النَّص وَالْقِيَاس (ليقف الْقيَاس) عَن علمه وإفادته للْحكم بِسَبَب الْمُعَارضَة (للْعلم بِسُقُوط هَذَا الِاعْتِبَار فِي نظر الصَّحَابَة) فَإِنَّهُم كَانُوا يرجعُونَ عِنْد تعَارض النصين إِلَى الْقيَاس وَلَا يلتفتون إِلَى مَا يَنْضَم إِلَى أحد النصين من نَص آخر، عرف ذَلِك بتتبع أَحْوَالهم (وَمن نَوعه) أَي فَلَو عَارض الْمُعْتَرض نَص الْمُسْتَدلّ بِنَصّ آخر من نوع الأول مَعَ الأول (لَا يرجح) نَصه الأول بِهِ (اتِّفَاقًا) بل يعارضهما جَمِيعًا نَص الْمُسْتَدلّ بِانْفِرَادِهِ كَمَا يُعَارض شَهَادَة الِاثْنَيْنِ شَهَادَة الْأَرْبَع فمعارضة شَهَادَة الِاثْنَيْنِ أصل ألحق بِهِ مُعَارضَة النَّص الْوَاحِد للنصين اللَّذين من نوع وَاحِد بالإتفاق، وَفِي إِلْحَاق مُعَارضَة النَّص الْوَاحِد لنصين أَحدهمَا لَيْسَ من نوع الأول اخْتِلَاف (وَلَو قَالَ الْمُسْتَدلّ) للمعترض (عَارض نصك قياسي فَسلم نصي فَبعد أَنه) أَي هَذَا الْجَواب هُوَ (الِانْتِقَال الْمَمْنُوع) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُثبت بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بعد مَا كَانَ مثبتا بِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ (معترف بِفساد الِاعْتِبَار) أَي بوروده (على قِيَاسه) وَلَا نعني بالإلزام إِلَّا هَذَا، مِثَاله (نَحْو) قَول الشَّافِعِي فِي حل ذَبِيحَة الْمُسلم المتروكة التَّسْمِيَة عمدا (ذبح التارك) للتسمية ذبح (من أَهله) أَي أهل الذّبْح الْمُعْتَبر شرعا، وَهُوَ الْمُسلم فِي حل ذَبِيحَة الْمُسلم (فِي مَحَله) وَهُوَ الْمَأْكُول اللَّحْم (فيحلها) أَي الذّبْح الذَّبِيحَة (كالناسي) أَي كذبح ناسي التَّسْمِيَة فَإِنَّهُ ذبح من أَهله فِي مَحَله فيحلها (فَيُقَال) فِي جَوَابه هَذَا قِيَاس (فَاسد الِاعْتِبَار لمعارضة) قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا} الْآيَة) أَي - {مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق} - وَإِضَافَة الْمُعَارضَة إِلَى وَلَا تَأْكُلُوا إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْفَاعِل: أَي لمعارضة هَذَا النَّص الْقيَاس الْمَذْكُور على مَا يَقْتَضِيهِ تَعْرِيف فَسَاد الِاعْتِبَار (فالمستدل مؤول) على صِيغَة الْمَفْعُول، وَالتَّقْدِير يَقُول: هَذَا مؤول، أَو الْفَاعِل: أَي يؤول الْآيَة (بِذبح الوثني) بالميتة أَو بِمَا ذكر غير اسْم الله عَلَيْهِ (بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمُؤمن يذبح على اسْم الله سمى أَو لم يسم) توقف الشَّارِح فِي ثُبُوته غير أَنه أثبت مَا فِي مَعْنَاهُ مُرْسلا عَن تَابِعِيّ صَغِير. (وَمَا قيل) فِي دفع قَول الشَّافِعِي (خص) مَذْبُوح (النَّاسِي) من نَص وَلَا تَأْكُلُوا (بِالْإِجْمَاع فَلَو قيس عَلَيْهِ) أَي النَّاسِي (الْعَامِد أوجب) الْقيَاس عَلَيْهِ (كَونه) أَي الْقيَاس (نَاسِخا) للنَّص (لَا مُخَصّصا إِذْ لم يبْق تَحت الْعَام) يَعْنِي - مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ - (شَيْء) لِأَنَّهُ لم يكن تَحْتَهُ إِلَّا النَّاسِي والعامد وَقد خرجا (إِنَّمَا ينتهض) دافعا لَهُ (إِذا لم يلْزم) كَون النَّص (مؤولا) قَالَ الشَّارِح نقلا عَن المُصَنّف مَا حَاصله: أَن للحنفية فِي إِفْسَاد هَذَا(4/119)
الْقيَاس طَرِيقين: الأول فَسَاد الِاعْتِبَار، وَإِذا أثبت الشَّافِعِي أَن النَّص مؤول انْدفع. الثَّانِي أَن قِيَاسه حِينَئِذٍ نَاسخ للْكتاب وَهُوَ أَيْضا مندفع بالتأويل: يَعْنِي بِمَا إِذا ذبح للنصب: وَهُوَ أحد قسمي الْعَامِد، فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى تَارِك فَقَط، وتارك مَعَ الذّبْح للنصب، وَإِذا أُرِيد بِالْآيَةِ الثَّانِي يبْقى تَحت الْعَام هَذَا الْعَامِد، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُود بِهِ فِي فصل الشُّرُوط بقوله: وَفِيه نظر يَأْتِي (فَلَو قَالَ) الْمُسْتَدلّ بعد إِلْزَام فَسَاد الِاعْتِبَار (قياسي أرجح من نصك) فَلَا يلْزَمنِي فَسَاد الِاعْتِبَار، لِأَن الْمَرْجُوح لَا يبطل الرَّاجِح (فَلَيْسَ للمعترض إبداء فرق بَينهمَا) أَي الْعَامِد وَالنَّاسِي لدفع الأرجحية وَإِثْبَات فَسَاد الِاعْتِبَار (بِأَنَّهُ) أَي الْعَامِد (صدف) أَي أعرض (عَن الذّكر مَعَ استحضار مطلوبيته) أَي الذّكر (شرعا) فَكَانَ مقصرا (بِخِلَاف النَّاسِي) فَإِنَّهُ مَعْذُور، فَعدم التَّقْصِير مُعْتَبر فِي الْعلَّة، وَإِنَّمَا لم يكن لَهُ ذَلِك (لِأَنَّهُ) أَي بَيَان الْفَارِق مُسْتَقل بِفساد الْقيَاس فَالْجَوَاب بِبَيَان الْفرق عَن دفع الْمُسْتَدلّ فَسَاد الِاعْتِبَار (انْتِقَال عَن فَسَاد الِاعْتِبَار) أَي بَيَان فَسَاد الْقيَاس بطرِيق آخر، وَهُوَ مَمْنُوع فِي المناظرة كَمَا ذكر (وللمعترض منع مُعَارضَة خبر الْوَاحِد) كالحديث الَّذِي ذكره الشَّافِعِي (لعام الْكتاب) كَمَا فِي الْآيَة (فَلَا يتم) كَونه (مؤولا) للمستدل (وللمجيب إثْبَاته) أَي إِثْبَات كَون خبر الْوَاحِد مُعَارضا لعام الْكتاب (إِن قدر) على ذَلِك بِأَن يَقُول دلَالَة الْعَام على الْعُمُوم ظَنِّي كَمَا أَن خبر الْوَاحِد ظَنِّي وَقَامَ بحجته (وَلَيْسَ) إثْبَاته (انْقِطَاعًا) عَمَّا كَانَ المناظرة فِيهِ (وَإِن كَانَ) الْمُجيب وَهُوَ الْمُسْتَدلّ (منتقلا) عَمَّا كَانَ فِيهِ (إِلَى) دَلِيل (آخر يحْتَاج فِيهِ) أَي فِي الآخر (إِلَى مثل مقدماته) أَي الدَّلِيل الأول (أَو (أَكثر) من مقدماته، وَإِنَّمَا لَا يكون انْقِطَاعًا (لِأَنَّهُ) أَي الْمُجيب (بعد ساع فِي إِثْبَات نفس مدعاه) وَهُوَ إِثْبَات الحكم بقياسه الْمَذْكُور، فَلَا يرد أَن من قَالَ عَارض نصك قياسي فَسلم نصي أَيْضا بعد فِي إِثْبَات نَص نفس مدعاه، وَقد حكمت أَن انْتِقَاله مَمْنُوع، فَإِنَّهُ أَرَادَ إِثْبَات الحكم بِالنَّصِّ لَا بقياسه الَّذِي وَقعت المناظرة فِيهِ (كمن احْتج بِالْقِيَاسِ فَمنع جَوَازه) أَي جَوَاز الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ (فاحتج) المحتج بِهِ (بقول عمر لأبي مُوسَى: اعرف الْأَمْثَال والأشباه وَقس الْأُمُور عِنْد ذَلِك فَمنع) جَوَازه أَي جَوَاز الِاحْتِجَاج (حجية قَول الصَّحَابِيّ فأثبته) أَي كَون قَول الصَّحَابِيّ حجَّة (بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا بالذين من بعدِي أبي بكر وَعمر فَمنع) الْمَانِع الْمَذْكُور (حجية خبر الْوَاحِد فأثبته) أَي كَون خبر الْوَاحِد حجَّة بِمَا يدل عَلَيْهِ (وَإِذ يتَرَدَّد) أَي وَإِذ يَقع التَّرَدُّد (فِي الْأَجْوِبَة) عَن الاعتراضات (من هَذَا) أَي من أجل الِانْتِقَال من كَلَام إِلَى آخر بِأَن يشك فِي خصوصياتها من حَيْثُ الِانْقِطَاع وَعَدَمه احْتَاجَ الْمقَام إِلَى تَفْصِيل (فَهَذِهِ) إِشَارَة إِلَى الْوُجُود فِي الذِّهْن من المباحث الْآتِيَة (مُقَدّمَة) وَهِي مَا يذكر(4/120)
أَمَام الْمَشْرُوع فِي الْمَقْصُود مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ (فِي) بَيَان (الِانْتِقَال) من كَلَام إِلَى آخر فِي المناظرة من قبل أَن يسْتَند، وَيتم الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الحكم: الأول هُوَ (إِمَّا من عِلّة إِلَى) عِلّة (أُخْرَى لإثباتها) أَي الْعلَّة الأولى الَّتِي هِيَ عِلّة الْقيَاس (أَو) من حكم (إِلَى حكم آخر يحْتَاج إِلَيْهِ) الْمُعَلل فِي إِثْبَات الْمُتَنَازع فِيهِ كَمَا سَيَجِيءُ يثبت هَذَا الْمُنْتَقل إِلَيْهِ (بِتِلْكَ الْعلَّة) الَّتِي هِيَ عِلّة الْقيَاس (أَو بِأُخْرَى) أَي بعلة أُخْرَى مَعْطُوف على تِلْكَ الْعلَّة فَالْحكم الْمُنْتَقل إِلَيْهِ تَارَة يثبت بعلة الْقيَاس وَتارَة بغَيْرهَا، وَهَذِه الثَّلَاثَة صَحِيحَة اتِّفَاقًا، فَالْأولى الِاشْتِغَال بِمَا تصدى لَهُ من ادِّعَاء علية الْعلَّة للْحكم الْأَصْلِيّ، وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الممانعة، فَإِن السَّائِل قد منع من عليتها، وَأما الأخيران فَإِنَّمَا يتحققان عِنْد مُوَافقَة الْخصم فِي الحكم الأول وادعائه أَن النزاع فِي حكم آخر فَينْتَقل لإِثْبَات الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ بِالْعِلَّةِ الأولى أَو بِأُخْرَى (أَو) من عِلّة (إِلَى) عِلّة (أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول) . قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي فَسَاد الْوَضع والمناقضة إِن لم يكن دفعهما بِبَيَان الملائمة والتأثير والطرد (وَاخْتلف فِي هَذَا) الرَّابِع (فَقيل يقبل لمحاجة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام) نمروذ الْمشَار إِلَيْهَا بقوله تَعَالَى - {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن آتَاهُ الله الْملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت قَالَ أَنا أحيي وأميت قَالَ إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب فبهت الَّذِي كفر} - فانتقل عَلَيْهِ السَّلَام من حجَّة إِلَى أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول، وَقد حكى الله تَعَالَى ذَلِك على سَبِيل التمدح فَهُوَ صَحِيح (وَدفع) هَذَا (بِأَن حجَّته) عَلَيْهِ السَّلَام الأولى (ملزمة) لَهُ: أَي مفحمة (ومعارضة اللعين) لَهُ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله - {أَنا أحيي وأميت} - ثمَّ بَيَانه بإحضار شَخْصَيْنِ من السجْن وَجب قَتلهمَا أطلق أَحدهمَا وَقتل الآخر كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بترك التَّسَبُّب فِي إِزَالَة حَيَاة شخص وإزالتها قتلا) وَحَاصِله السَّبَب فِي إِزَالَتهَا (بَاطِلَة) يَعْنِي ظَاهِرَة الْبطلَان بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى الرَّد (إِذْ المُرَاد) بِالْإِحْيَاءِ فِي حجَّة الْخَلِيل (إيجادها) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْحَيَاة مَوْجُودَة فِي الْخَارِج (فِيمَا لَيست) الْحَيَاة (فِيهِ و) بالاماتة (ازالتها بِلَا مُبَاشرَة محسوسة) أَي بِنَزْع الرّوح بِغَيْر علاج محسوس (وحاضره) أَي مجْلِس اللعين (ضلال) قاصرون عَن التَّأَمُّل (يسْرع إِلَيْهِم إِلْزَام مَا لَا يلْزم) يَحْتَاجُونَ إِلَى قَاطع لإخفاء فِيهِ بِوَجْه (فانتقل إِلَى دَلِيل آخر) بعد تَمام الأول (لَا يحْتَمل) ذَلِك الآخر (التلبيس) والمغالطة، فَهُوَ انْتِقَال إِلَى دَلِيل أوضح (وَالْحق أَن لَا انْتِقَال) أصلا (فَإِن الأول) أَي قَوْله - {رَبِّي الَّذِي رَبِّي يحيي وَيُمِيت} - إِنَّمَا هُوَ (الدَّعْوَى) فَإِن المُرَاد بِهِ أَن رب الْعَالمين إِنَّمَا هُوَ الْقَادِر الْمُطلق الَّذِي لَا يعجز عَن شَيْء لظُهُور أَنه لم يره اخْتِصَاص ربوبيته بِنَفسِهِ وَلَا قدرته بِالْإِحْيَاءِ والإماتة فَقَط، وَالْمرَاد بالرسول الْمَعْهُود الْمَشْهُور بعلته، فَكَأَنَّهُ قَالَ الرب سُبْحَانَهُ هُوَ الله سُبْحَانَهُ لَا غير،(4/121)
فَلَمَّا أنكر اللعين ذَلِك مثبتا لنَفسِهِ تِلْكَ الْقُدْرَة الْمُطلقَة أَرَادَ إِلْزَامه وإفحامه على وَجه لَا يبْقى لَهُ مجَال مجادلة فَقَالَ - {إِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق} - إِلَى آخِره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ المُصَنّف بقوله (واستدلاله) أَي الْخَلِيل (لم يَقع إِلَّا بِمَعْنى الْإِلْزَام) أَي بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْإِلْزَام الْكَائِن (فِي قَوْله: (فَإِن الله يَأْتِي بالشمس إِلَى آخِره) وَعَن الإِمَام نجم الدّين النَّسَفِيّ أَن هَذَا لَيْسَ انتقالا من حجَّة أُخْرَى فِي المناظرة، لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ادّعى انْفِرَاد الله تَعَالَى بالربوبية وَاحْتج لذَلِك بِكَمَال الْقُدْرَة وَدلّ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ والإماتة، فَلَمَّا أَرَادَ نمروذ التلبيس أظهر كَمَال الْقُدْرَة بِحَدِيث الشَّمْس، وَالدَّلِيل وَاحِد، والصورتان مُخْتَلِفَتَانِ انْتهى. وَكَأن المُصَنّف أَرَادَ بالاستدلال اللُّزُوم الَّذِي لَا يبْقى مَعَه مجَال مجادلة فَلذَلِك قصره على القَوْل الثَّانِي فَلَا يُنَافِي كَون الأول دَلِيلا أَيْضا مَعَ إِفَادَة أصل الْمُدَّعِي (وَالْكَلَام) الَّذِي نَحن فِيهِ (فِيمَا إِذا ظهر بطلَان) الدَّلِيل (الأول فانتقل) الْمُسْتَدلّ (إِلَى دَلِيل آخر فَإِنَّهُ) أَي انْتِقَاله حِينَئِذٍ (انْقِطَاع فِي عرفهم) أَي النظار (استحسنوه) أَي الحكم بالانقطاع الْمَمْنُوع عَنهُ فِي الِانْتِقَال الْمَذْكُور (كَيْلا يَخْلُو الْمجْلس) أَي مجْلِس المناظرة (عَن الْمَقْصُود) وَهُوَ أَن تَنْتَهِي الْمُخَاصمَة إِلَى أحد الْجَانِبَيْنِ، وَفَسرهُ الشَّارِح بِإِظْهَار الْحق وَلَا يخفى أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يمْنَع من الِانْتِقَال ويبالغ فِي التَّحْقِيق كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمُدَّعِي الْمَذْكُور (فَفِي) مُقْتَضى (الْعقل لَهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (أَن ينْتَقل) من الدَّلِيل الأول (إِلَى) دَلِيل (آخر، و) من الدَّلِيل الآخر إِلَى دَلِيل (آخر) وَهَكَذَا (إِذا لم يثبت مَا عينه) من الحكم بِمَا ذكر من الدَّلِيل (حَتَّى يعجزه عَن إثْبَاته وَلَو) كَانَ ذَلِك (فِي مجَالِس) كَمَا أَن للْمُدَّعِي فِي حُقُوق النَّاس الِانْتِقَال من بَيِّنَة إِلَى أُخْرَى، وَهُوَ مَقْبُول إِجْمَاعًا (فالانقطاع) للمعلل أَو السَّائِل إِنَّمَا يتَحَقَّق (بدليله) أَي الْعَجز عَن إِثْبَات الْمَطْلُوب أَو مَا هُوَ بصدده (سكُوت) بدل الْبَعْض من دَلِيل كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن اللعين بقوله - {فبهت الَّذِي كفر} - وَهُوَ أظهر أَنْوَاع الِانْقِطَاع (أَو إِنْكَار ضروى) أَي بديهي فَإِنَّهُ يدل على كَمَال عَجزه (أَو منع بعد تَسْلِيم) لَا يُقَال: يحْتَمل أَن يكون تَسْلِيمه لسهو أَو غَفلَة، فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يبين سَنَده وَيذكر أَنه سَهَا أَو غفل (تَسْلِيم) لما ادَّعَاهُ الْخصم خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي فالانقطاع (وَفِي) انْتِقَال الْمُعَلل (فِي معرض الِاسْتِدْلَال إِلَى مَا لَا يُنَاسب الْمَطْلُوب دفعا لظُهُور إفحامه) وعجزه عَن إِقَامَة الدَّلِيل (انْقِطَاع فَاحش) واضطراب بِحَيْثُ لَا يدْرِي مَا يَقُول (فَالْأول) أَي الِانْتِقَال من عِلّة إِلَى أُخْرَى لإِثْبَات الأولى مِثَاله (للحنفية فِي إِثْبَات أَن إِيدَاع الصَّبِي) غير الْمَأْذُون مَا لَيْسَ برقيق (تسليط) للصَّبِيّ على استهلاكه (عِنْد تَعْلِيله) أَي الْحَنَفِيّ (بِهِ) أَي بتسليطه عَلَيْهِ (لنفي ضَمَانه) أَي الصَّبِي إِذا أتْلفه وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد، لِأَن الْإِتْلَاف مَعَ التسليط لَا يُوجب الضَّمَان كَمَا إِذا أَبَاحَ لَهُ طَعَاما فأتلفه(4/122)
لَا يضمن اتِّفَاقًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ يضمن الصَّبِي ذَلِك، وَكَون إيداعه تسليطا تسليط عِلّة الْقيَاس فَإِذا مَنعه الْخصم فانتقل الْمُعَلل إِلَى إثْبَاته بِأَنَّهُ مكنه بالإيداع بِإِثْبَات الْيَد على مَا ينَال بِالْأَيْدِي وَلَا نعني بالتسليط إِلَّا هَذَا، فَهَذَا الِانْتِقَال لَا يكون انْقِطَاعًا (وَالثَّانِي) أَي الِانْتِقَال من حكم إِلَى آخر يحْتَاج إِلَيْهِ يثبت بِتِلْكَ الْعلَّة، مِثَاله (لَهُم) أَي للحنفية فِي جَوَاز إِعْتَاق مكَاتب لم يؤد شَيْئا من بدل الْمُكَاتبَة عَن كَفَّارَة الْيَمين (الْكِتَابَة عقد يحْتَمل الْفَسْخ) بالإقالة وبالعجز عَن أَدَاء الْبَدَل (فَلَا يمْنَع التَّكْفِير بِمن تعلّقت) الْكِتَابَة (بِهِ) اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر وَالشَّافِعِيّ (كَالْبيع بِالْخِيَارِ للْبَائِع والاجارة) فَإِنَّهُ يجوز اجماعاً لمن بَاعَ عَبده بِشَرْط الْخِيَار لَهُ وَلمن أجر عَبده اعتاقه بنية الْكَفَّارَة، فكونها عقد يحْتَمل الْفَسْخ عِلّة الْقيَاس (فَيُقَال) من قبل الْمُعْتَرض أَنا نقُول بِمُوجب هَذِه الْعلَّة أَن الْكِتَابَة من حَيْثُ أَنَّهَا عقد يحْتَمل الْفَسْخ لَا يمْنَع التَّكْفِير (بل الْمَنْع) عَن التَّكْفِير (لغيره) أَي غير عقد الْكِتَابَة، ثمَّ بَين ذَلِك الْغَيْر بقوله (من نُقْصَان الرّقّ بِهِ) أَي بِعقد الْكِتَابَة، لِأَن الْعتْق للْمكَاتب مُسْتَحقّ بِهِ فَصَارَ (كَأُمّ الْوَلَد) فَإِنَّهَا لما اسْتحقَّت الْعتْق بِالْولادَةِ منع ذَلِك التَّكْفِير بهَا، بل أولى لِأَن الْمكَاتب أَحَق بأكسابه وَأَوْلَاده دونهَا (فيجاب بِإِثْبَات عدم نقصانه) أَي الرّقّ بِعقد الْكِتَابَة وَهُوَ حكم آخر (بِالْأولَى) أَي الْعلَّة الأولى، فَيُقَال (احْتِمَال الْفَسْخ) بِعقد الْكِتَابَة (دَلِيل عدم إِيجَابه) أَي عقدهَا (نقصانه) أَي رقّه (لِأَن مَا يُوجِبهُ) أَي نُقْصَان الرّقّ إِنَّمَا هُوَ عقد (لَا يحْتَمل الْفَسْخ) بِوَجْه (إِذْ هُوَ) أَي نُقْصَان الرّقّ (بِثُبُوت الْحُرِّيَّة من وَجه) فَكَمَا أَن ثُبُوتهَا من كل وَجه لَا يحْتَمل الْفَسْخ كَذَلِك ثُبُوتهَا من وَجه لَا يحْتَملهُ فَإِن قلت قَوْلهم الْمكَاتب حر يدا عبد رَقَبَة يُفِيد ثُبُوت الْحُرِّيَّة من وَجه قلت هَذَا أَمر غير ضَرُورَة ليتَمَكَّن من تَحْصِيل بدل الْكِتَابَة فَلَا يعْتَبر فِي حق غَيره تَوْضِيحه أَن حكم الْعتْق فِي الْكِتَابَة مُتَعَلق بِشَرْط الْأَدَاء، وَلَو علق بِشَرْط آخر لَا يثبت بِهِ اسْتِحْقَاق الْعتْق اتِّفَاقًا فَكَذَا هَذَا الشَّرْط بل أولى، لِأَن التَّعْلِيق بِسَائِر الشُّرُوط يمْنَع الْفَسْخ، وَبِهَذَا الشَّرْط لَا يمْنَع، بِخِلَاف الِاسْتِيلَاد فَإِنَّهُ بِهِ يتَمَكَّن النُّقْصَان بِالرّقِّ حَتَّى لَا يعود إِلَى الْحَالة الأولى (وَالثَّالِث) أَي الِانْتِقَال من حكم إِلَى حكم يحْتَاج إِلَيْهِ وَيثبت بعلة أُخْرَى، مِثَاله (أَن يُجيب) الْمُسْتَدلّ فِي جَوَاب الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور آنِفا (بقوله: الْكِتَابَة عقد مُعَاوضَة فَلَا يُوجب نُقْصَانا فِيهِ) أَي الرّقّ (كَالْبيع بِالْخِيَارِ) وَالْإِجَارَة فَيجوز إِعْتَاقه كَمَا فِي الْمَبِيع بِشَرْطِهِ فَإِنَّهُ يجوز اعتاقه فِي مدَّته، وَكَذَا فِي مُدَّة الْإِجَارَة (وَالْكل) أَي جَمِيع الِانْتِقَالَات الثَّلَاثَة (جَائِز) إِلَّا أَن الْأَخيرينِ لَا يخلوان عَن ضرب غَفلَة حَيْثُ لم يبين مَوضِع الْخلاف ابْتِدَاء حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الِانْتِقَال، خُذ (هَذَا، وَيُشبه الاستفسار فِي عُمُومه) للْقِيَاس وَغَيره (و) يشبه (فَسَاد(4/123)
الِاعْتِبَار فِي عدم الْقيَاس) أَي فِي اقتضائه انْتِفَاء الْقيَاس فِي الْوَاقِع (القَوْل بِالْمُوجبِ لِأَن حَاصله) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ (دَعْوَى النصب) أَي نصب الدَّلِيل (فِي غير مَحل النزاع) المساوى: أَي وَغير لَازم مَحَله كَمَا أَن فِي فَسَاد الِاعْتِبَار دَعْوَى النصب: أَي نصب الدَّلِيل فِي غير مَحل النزاع (لَازمه) الْمسَاوِي: أَي وَفِي غير لَازم مَحَله كَمَا أَن فِي فَسَاد الِاعْتِبَار دَعْوَى نصب الدَّلِيل فِي غير مَحل النزاع، لِأَن مَا يُخَالف النَّص وَالْإِجْمَاع بَاطِل بِلَا نزاع، وَإِنَّمَا قَالَ ولازمه لِأَنَّهُ لَو لم ينصب فِي عين مَحل النزاع أَو ينصب فِي لَازمه بِأَن يثبت فِي أَحدهمَا ذَلِك اللَّازِم وينفي الآخر استلزم ذَلِك النزاع فِي الْمَلْزُوم وَهُوَ ظَاهر، ثمَّ بَين كَون مَا ذكر حَاصله بقوله (إِذْ هُوَ) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ فِي اصْطِلَاح النظار (تَسْلِيم مَدْلُول الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع فِي الحكم الْمَقْصُود) للمستدل (فَإِن الْقيَاس حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَ مَدْلُوله غير مَحل النزاع (بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ) أَي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الحكم الْمَقْصُود (مُنْتَفٍ فَظهر) من هَذَا (أَن لَا وَجه لتخصيصه) أَي الْمُخَصّص (القَوْل) الْمُوجب بالطردية) كَمَا ذكر الْحَنَفِيَّة لِاسْتِوَاء نِسْبَة القَوْل بِالْمُوجبِ على مَا عَرفته إِلَى الطردية وَغَيرهَا (وَهُوَ) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ (ثَلَاثَة: الأول فِي إِثْبَات الحكم) يَعْنِي أَن الْمُعْتَرض يثبت الحكم الَّذِي أثْبته الْمُعَلل، ثمَّ يدعى أَن النزاع لَيْسَ فِيهِ، بل فِي غَيره (واستناده) أَي اعْتِمَاد الْمُعْتَرض (فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْقسم من القَوْل بِالْمُوجبِ (إِلَى لفظ الْمُعَلل) فَكَأَنَّهُ يَقُول: هَذَا مفَاد كلامك، سلمناه وَلَكِن لَا يفيدك، وَيُشِير بِهِ إِلَى أَنه لَيْسَ عنْدك أَمر مُسلم غير هَذَا (كَقَوْلِه) أَي الْمُعَلل، وَهُوَ الشَّافِعِي (فِي المثقل) أَي فِي ان الْقَتْل بالمثقل يُوجب الْقصاص هُوَ (قتل بِمَا يقتل غَالِبا، فَلَا يُنَافِي الْقصاص كالحرق) أَي كَالْقَتْلِ بالنَّار، فَإِنَّهُ قتل بِمَا يقتل غَالِبا (فَيسلم) الْمُعْتَرض، وَهُوَ الْحَنَفِيّ (عدم منافاته) أَي الْقَتْل بِمَا يقتل غَالِبا وجوب الْقصاص (مَعَ بَقَاء النزاع فِي ثُبُوت وجوب الْقصاص) إِذْ لَا يلْزم من عدم منافاته إِيَّاه وُجُوبه (وَهُوَ) أَي وجوب (الْمُتَنَازع فِيهِ) وكما أَنه لَيْسَ بمتنازع لَا يسْتَلْزم الْمُتَنَازع فِيهِ (أَو) استناده فِيهِ إِلَى (حمله) أَي لفظ الْمُعَلل (على غير مُرَاده كالمسح) أَي مسح الرَّأْس (ركن فَيسنّ تثليثه) كالغسل للْوَجْه (فَيَقُول) الْمُعْتَرض (بِمُوجبِه) وَهُوَ استنان تثليث الْمسْح، ونقول: عَملنَا بِمُوجبِه (إِذْ سننا الِاسْتِيعَاب) فِي مسح الرَّأْس (وَهُوَ) أَي الِاسْتِيعَاب فِيهِ: أَي (ضم مثلي الْوَاجِب) فِيهِ: أَي (الرّبع وَزِيَادَة) مَعْطُوف على مثلي الْوَاجِب (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الْوَاجِب، وَجعل الشَّيْء ثَلَاثَة أَمْثَاله لَا يقتضى اتِّحَاد الْمحل (ومقصوده) أَي الْمُسْتَدلّ من التَّثْلِيث لَيْسَ هَذَا، بل (التكرير، فَإِذا أظهره) أَي الْمُسْتَدلّ مُرَاده (انْتَفَى) القَوْل بِالْمُوجبِ وتعينت الممانعة: أَي لَا نسلم أَن الرُّكْن يسن تكراره، بل الْمسنون فِيهِ إِلَّا كَمَال، وَهُوَ يحصل بالإطالة فِي مَحَله كَمَا فِي(4/124)
الْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود (وَكَذَا) قَول الشَّافِعِي لتعيين نِيَّة الصَّوْم فِي رَمَضَان (صَوْم فرض فَيشْتَرط) فِيهِ (التَّعْيِين) بِأَن يتَعَلَّق قَصده بخصوصية صَوْم رَمَضَان فرضا (فَيَقُول) الْمُعْتَرض الْحَنَفِيّ (بِمُوجبِه) أَي مُوجب الدَّلِيل الْمَذْكُور (لُزُوم التَّعْيِين) عطف بَيَان لموجبه (والنزاع فِي غَيره) أَي غَيره الْمُوجب الْمَذْكُور، وَهُوَ (كَون الْإِطْلَاق) للنِّيَّة بِأَن ينوى الصَّوْم الْمُطلق (بعد تعْيين لُزُوم التَّعْيِين بعد تعْيين الشَّرْع الْوَقْت الْخَاص لَهُ) أَي للصَّوْم (تعيينا) يَعْنِي هَل يتَعَيَّن الْمَنوِي على وَجه الْإِطْلَاق بِحَسب نفس الْأَمر فِي حكم الشَّرْع بِسَبَب تعين الْوَقْت لَهُ شرعا كَمَا يتَعَيَّن بِتَعْيِين الناوي وقصده الخصوصية أم لَا، بل لَا بُد من تعْيين الناوي (جملا) للتعيين الْمَذْكُور فِي قَول الْمُسْتَدلّ فَيشْتَرط التَّعْيِين (على) التَّعْيِين (الْأَعَمّ) من أَن يكون بِتَعْيِين الْمُكَلف الناوي، أَو بِتَعْيِين الشَّارِع (وَمرَاده) أَي الْمُسْتَدلّ من التَّعْيِين (تعْيين الْمُكَلف) فَإِذا أظهره انْتَفَى القَوْل بِالْمُوجبِ وتعينت الممانعة، (وَالْوَجْه) الَّذِي لَا يعد مَا يُقَابله وَجها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ثَابت (للشارط) فِي التَّعْيِين كَونه بِقصد الْمُكَلف (لِأَن كَون إِطْلَاق الناوي) فِي الْمَنوِي (تعْيين بعض محتملاته) أَي الْمُطلق من غير أَن يتَعَلَّق قَصده بذلك الْبَعْض بِخُصُوصِهِ بِمُجَرَّد تعْيين الشَّرْع (يصير الْأَعَمّ عين الْأَخَص) يرد عَلَيْهِ أَنه إِن أَرَادَ بالتصيير الْمَذْكُور أَن يتحدا فِي ذهن الناوي، فَذَلِك لَا يَقُول بِهِ الْخصم. وَإِن أَرَادَ بِهِ الِاتِّحَاد بِحَسب نفس الْأَمر بِاعْتِبَار الشَّرْع، فَلَا مَحْذُور فِيهِ. وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى أَنه يلْزم على الْخصم أَن يَقُول بالشق الأول من الترديد، لِأَن صِحَة الصَّوْم الْمعِين مَوْقُوفَة على التَّعْيِين فِي نِيَّة الناوى وَفِي ذهنه، فَيلْزم الْمَحْذُور فَتدبر (وَتقدم تَمَامه) فِي الْقسم الثَّانِي من الْوَقْت الْمُقَيد بِهِ الْوَاجِب. (وَالثَّانِي) من أَقسَام القَوْل بِالْمُوجبِ (إبِْطَال مَا ظن من مَأْخَذ خَصمه) ومبني مذْهبه فِي المسئلة الخلافية، يَعْنِي إِبْطَاله من حَيْثُ كَونه مأخذا، فَيجوز أَن يكون فِي حد ذَاته صَحِيحا، غير أَنه لَيْسَ مأخذا للخصم: وَهَهُنَا مُسَامَحَة، إِذْ الثَّانِي مِنْهُ لَيْسَ نفس الْإِبْطَال، إِذْ حَقِيقَته تَسْلِيم مَدْلُول الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع على مَا مر، غير أَنه هُنَا مُتَضَمّن الْإِبْطَال الْمَذْكُور على مَا سَيَجِيءُ (كفى الْقَتْل بالمثقل) أَي مِثَاله مثل أَن يُقَال فِي مسئلة الْقَتْل بالمثقل إِذا اسْتدلَّ الْحَنَفِيّ على نفي الْقَتْل بِهِ، فَقَوله قتل بمثقل فَلَا يقتل بِهِ كالعصا الصَّغِيرَة (للمعترض) الشَّافِعِي أَن يَقُول هُوَ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ لَا تفَاوت بَينهمَا إِلَّا فِي الْوَسِيلَة الَّتِي هِيَ الْآلَة، ثمَّ التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة مَا ظن مأخذا فِي مسئلة الْقَتْل بالمثقل فِي اسْتِدْلَال الْحَنَفِيّ على نفي الْقَتْل بِهِ (التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة لَا يمْنَع الْقصاص) كالمتوسل إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْوَاع الْجِرَاحَات القاتلة (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ قَائِلا بِالْمُوجبِ: إِنِّي أَقُول بِأَن التَّفَاوُت فِيهَا لَا يمْنَع، لَكِن (الْمَانِع) من الْقصاص (غَيره) أَي غير التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة (وَنفي مَانع) خَاص (لَيْسَ نفي الْكل) أَي كل الْمَوَانِع، وَلَا يثبت مقصدك إِلَّا بِنَفْي(4/125)
الْكل (وَيصدق) إِذا قَالَ هَذَا لَيْسَ مأخذي: أَي مَأْخَذ إمامي (لعدالته) وَكَونه أعرف بمذهبه أَو مَذْهَب إِمَامه، وَقيل: لَا يصدق إِلَّا بِبَيَان مَأْخَذ آخر لاحْتِمَال أَن يكون قَوْله على سَبِيل المعاندة. وَلَا يخفى أَن مثل هَذَا لَا يتَوَهَّم فِي حق الْعدْل الطَّالِب للصَّوَاب، فقد أبطل الْقَائِل بِالْمُوجبِ كَون التَّفَاوُت الْمَذْكُور مأخذا لَهُ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من عدم الْقصاص لتسليمه عدم مانعيته وإثباته مَانِعا آخر. (وَالثَّالِث) من أَقسَام القَوْل بِالْمُوجبِ (أَن يسكت) الْمُسْتَدلّ (عَن مُقَدّمَة) غير مَشْهُورَة (يظنّ الْعلم بهَا) أَي يظنّ أَن الْخصم يعلم تِلْكَ الْمُقدمَة فَلَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا (فَيسلم) الْمُعْتَرض (الْمَذْكُورَة) من الْمُقدمَات (و) قد (بَقِي النزاع فِي) الْمُقدمَة (المطوية) للظن الْمَذْكُور (نَحْو) قَول الْمُسْتَدلّ (مَا ثَبت) شرعا من فعل الْمُكَلف كَونه (قربَة) وَعبادَة (فشرطه النِّيَّة كَالصَّلَاةِ) فَإِن صِحَّتهَا مَشْرُوطَة بِالنِّيَّةِ (وطوى) ذكر قَوْله (وَالْوُضُوء قربَة فَيَقُول) الْمُعْتَرض مَا ذكرته من اشْتِرَاط النِّيَّة فِيمَا ثَبت قربَة (مُسلم، وَمن أَيْن يلْزم أَن الْوضُوء شَرطه النِّيَّة) وَلم يطو الصُّغْرَى لتعين الْمَنْع، وَهُوَ أَنه لَا نسلم أَن الْوضُوء ثَبت قربَة بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَن وصف الْقرْبَة، فَلَا يكون من القَوْل بِالْمُوجبِ (قَالُوا) أَي الجدليون (لَا بُد فِيهِ) أَي فِي القَوْل بِالْمُوجبِ (من انْقِطَاع أَحدهمَا) أَي المتناظرين (إِذْ) فِي الْقسم الأول (لَو بَينه) أَي الْمُعَلل مُرَاده بِحَيْثُ لَا يبْقى للخصم مجَال إِثْبَات حكم أثْبته ذَلِك الْمُعَلل. ثمَّ ادّعى أَن النزاع فِي غير (مَحل النزاع) بدل من الضَّمِير الْمَنْصُوب، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الْكَلَام حذف وإيصال، وَالتَّقْدِير لَو بَين لَهُ: أَي للخصم مَحل النزاع (أَو ملزومه) أَي ملزوم مَحل النزاع، فَإِن بَيَان الْمَلْزُوم بَيَان اللَّازِم (أَو) بَين الْمُعْتَرض الْمُدعى بطلَان المأخذ فِي الْقسم الثَّانِي (أَنه) أَي مَا ظن أَنه مَأْخَذ الْمُعَلل (مأخذه) فِي نفس الْأَمر، يبْقى مأخذية مَا سواهُ بِالدَّلِيلِ (أَو) بَين الْمُعَلل فِي الْقسم الثَّالِث (كَيْفيَّة) الْمُقدمَة (المحذوفة) على وَجه ينْتج مَطْلُوبه (انْقَطع الْمُعْتَرض) الْقَائِل بِالْمُوجبِ جَوَاب لَو، يَعْنِي إِذا لم يكن لَهُ مجَال بحث آخر غير القَوْل بِالْمُوجبِ (وَإِلَّا) أَي أَي وَإِن لم يتَحَقَّق شَيْء مِمَّا ذكر من بَيَان مَحل النزاع والمأخذ والكيفية انْقَطع (الْمُسْتَدلّ) إِذْ قد ظهر عدم إفضاء دَلِيله إِلَى مَطْلُوبه (واستبعد) انْقِطَاع أَحدهمَا (فِي) الْقسم (الْأَخير) والمستبعد ابْن الْحَاجِب (إِذْ مُرَاد الْمُسْتَدلّ أَن الْمَتْرُوك) المطوي ذكره (كالمذكور) لظُهُوره (و) مُرَاد (الْمُعْتَرض أَن الْمَذْكُور وَحده لَا يُفِيد، فَإِذا ذكر) الْمُسْتَدلّ (أَنه) أَي الدَّلِيل (الْمَجْمُوع) من الْمَذْكُور والمسكوت (لَا الْمَذْكُور وَحده وَحذف الْمَعْلُوم شَائِع) كَانَ (لَهُ) أَي أَي للمعترض (الْمَنْع) أَي منع استلزام الْمَجْمُوع، أَو كَون ذَلِك المطوي حَقًا (وَاسْتمرّ الْبَحْث) فَإِن سلم انْقَطع (وَكَذَا لَا يخفى بعد قَوْلهم) أَي الجدليين بَيَان انْقِطَاع أَحدهمَا فِي الْقسم الثَّانِي(4/126)
لَو بَين الْمُسْتَدلّ (أَنه) أَي مَا ظن كَونه مأخذا للخصم (مأخذه) فِي نفس الْأَمر (بل يَقُول الْمُعْتَرض مأخذي غَيره) من غير تعْيين فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي اندفاع ذَلِك الْإِبْطَال، وَكَذَا يتَعَيَّن مأخذه فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، ومتعلق الْجَار قَوْله انْقَطع الْمُسْتَدلّ إِن لم يكن لَهُ مجَال طعن فِيمَا بَين وَإِلَّا: أَي وَإِن لم يبين أَن مأخذه غَيره (أَو كَذَا انْقَطع) الْمُعْتَرض وَإِن لم يدْفع إبِْطَال الْمُسْتَدلّ لما ذكر، وَوجه الْبعد أَن الْمُعْتَرض لما ظن أَن مَأْخَذ الْمُسْتَدلّ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ كَذَا فأبطله تعين أَن يَقُول (الْمُسْتَدلّ) فِي دَفعه أَن مأخذي غَيره، أَو كَذَا أَن تيَسّر لَهُ، وَإِلَّا انْقَطع، هَذَا على مَا هُوَ الظَّاهِر، وَأما إِثْبَات الْمُسْتَدلّ أَنه لَا مَأْخَذ لَك سوى هَذَا وَهُوَ بَاطِل، فَلَا يخفى بعده لِأَنَّهُ أعرف بمأخذه، فَيَنْبَغِي أَن يُفَوض إِلَيْهِ بَيَان المأخذ، ثمَّ يظْهر وَجه اخْتِصَاص انْقِطَاع بعده لِأَنَّهُ أعرف بمأخذه، فَيَنْبَغِي أَن يُفَوض إِلَيْهِ بَيَان المأخذ، ثمَّ يظْهر وَجه اخْتِصَاص انْقِطَاع أحد المتناظرين بالْقَوْل بِالْمُوجبِ، بل يجْرِي فِي غَيره أَيْضا (وَظهر) من تَفْصِيل أَقسَام القَوْل بِالْمُوجبِ (أَن قَول الْحَنَفِيَّة أَنه) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ (يلجئ أهل الطَّرْد) وَقد مر تَفْسِيره (إِلَى القَوْل بالتأثير) المستلزم عدم ثُبُوت الْعلية بِمُجَرَّد الطَّرْد (لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض تَعْلِيل للإلجاء (لما سلم مُوجب علته) أَي الْمُسْتَدلّ لقَوْله بِمَا اقتضته علته كَعَدم مانعية الْقَتْل بالمثقل الْقصاص لعدم تَأْثِير التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة (مَعَ بَقَاء الْخلاف) بَينهمَا فِي المسئلة (احْتَاجَ) أهل الطَّرْد (إِلَى معنى مُؤثر) فِي الحكم الْحَاصِل فِيمَا يدعى عليته (غير وَاقع) خبر أَن، وَمعنى عدم وُقُوع القَوْل عدم وُقُوع مقوله، وَهُوَ الإلجاء الْمَذْكُور، أَو القَوْل بِمَعْنى الْمَقُول. ثمَّ علل عدم الْوُقُوع بقوله (لِأَن غَايَة مَا يلْزمه) أَي الْمُعَلل (الْجَواب) عَن القَوْل بِالْمُوجبِ (بِمَا ذكرنَا) من بَيَان مَحل النزاع، أَو ملزومه أَو مأخذه أَو كَيْفيَّة الْمَحْذُوف (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي مِمَّا ذكرنَا (ذَلِك) أَي القَوْل بالتأثير أَو الْمَعْنى الْمُؤثر وَالْحَاصِل أَنه لَا يلْزم الْمُعَلل إِلَّا مَا ذكرنَا، وَمَا قَالَه الْحَنَفِيَّة لَيْسَ مِنْهُ (وَبعد التَّمَكُّن من الْقيَاس) فَالْجَوَاب عَن الاستفسار والتقسيم على مَا عرفت (وتحرير مَحل النزاع يشرع) الْمُسْتَدلّ (فِيهِ) أَي الْقيَاس وَأول مقدماته حكم الأَصْل ثمَّ علته) أَي عِلّة حكم الأَصْل يرد (ثمَّ ثُبُوتهَا) أَي علته (فِي الْفَرْع مَعَ الشُّرُوط) الْمُعْتَبرَة فِي الْعلَّة وَالْحكم (الأول) أَي حكم الأَصْل يرد (عَلَيْهِ منع حكم الأَصْل) أَي منع ثُبُوتهَا مَا هُوَ حكم الأَصْل فِي ظن القائس فِي الأَصْل فِي نفس الْأَمر، كَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول عَلَيْهِ الْمَنْع من غير ذكر حكم الأَصْل، لِأَن إرجاع ضمير عَلَيْهِ إِلَيْهِ يُغني عَنهُ، لِأَن هَذَا الْمركب: أَعنِي منع حكم الأَصْل صَار كَالْعلمِ لهَذَا النَّوْع من الْمَنْع، وَلذَلِك منع وجود الْعلَّة وَمنع كَونه عِلّة، وَالْمَنْع أساس المناظرة، فَلَا يتَجَاوَز إِلَى غَيره إِلَّا بِسَبَب دَاع إِلَيْهِ، وَهل هُوَ قطع للمستدل، قيل نعم إِذْ الِاشْتِغَال بِإِثْبَات مَا منع انْتِقَال(4/127)
إِلَى حكم آخر مثل الأول. (وَالصَّحِيح) أَن مجرده (لَيْسَ قطعا) للمستدل (وَأَنه) أَي هَذَا الْمَنْع (يسمع إِلَّا أَن اصْطَلحُوا) أَي أهل بلد المناظرة على عده قطعا، أَو على صَوْم سَمَاعه كَمَا قَالَ الْغَزالِيّ، من أَنه يتبع عرف الْمَكَان واصطلاح أَهله، وَهَذَا أَمر وضعي لَا مدْخل لِلْعَقْلِ وَالشَّرْع فِيهِ، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح (وَهُوَ) أَي عدم سَمَاعه إِذا اصْطَلحُوا عَلَيْهِ (محمل) قَول (أبي إِسْحَق) الشِّيرَازِيّ على مَا ذكره ابْن الْحَاجِب من أَنه لَا يسمع هَذَا الْمَنْع من الْمُعْتَرض وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ الدّلَالَة على ثُبُوت حكم الأَصْل فينتفى استبعاده بِأَن غَرَض الْمُسْتَدلّ إِقَامَة الْحجَّة على خَصمه وَلَا يقوم عَلَيْهِ مَعَ كَون أَصله مَمْنُوعًا، وَأَن قيام الدَّلِيل عَلَيْهِ جُزْء الدَّلِيل وَلَا يثبت الدَّلِيل إِلَّا بِثُبُوت جَمِيع أَجْزَائِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَ قطعا (لِأَنَّهُ) أَي هَذَا الْمَنْع (منع بعض مُقَدمَات دَلِيله) أَي الْمُسْتَدلّ، وكما لَا يكون منع غير هَذَا الْبَعْض قطعا فَكَذَا وَهَذَا (وَإِلَّا) لَو كَانَ قطعا (فَكل منع قطع) إِذْ لَو فرق بَين المنوع (وَكَونه) أَي الْمُسْتَدلّ (بِهِ) أَي بِهَذَا الْمَنْع (ينْتَقل إِلَى) حكم شَرْعِي هُوَ حكم الأَصْل (مثل الأول) وَهُوَ حكم الْفَرْع (لَا يضر إِذا توقف) الأول (عَلَيْهِ) أَي الْمُنْتَقل إِلَيْهِ سَوَاء (وَسعه) أَي إِثْبَات مَا منع (مجْلِس) وَاحِد (أَو مجَالِس) مُتعَدِّدَة كَمَا لَو منع علية الْعلَّة أَو وجودهَا (وَلَو تعارفه) أَي كَون هَذَا الْمَنْع قطعا (طَائِفَة أُخْرَى) غير طَائِفَة الْمُسْتَدلّ لَا يضرّهُ إِذْ (لم يلْزم الْمُسْتَدلّ عرفهم) إِذْ لم يلتزمه (ثمَّ لَا يَنْقَطِع الْمُعْتَرض بِإِقَامَة دَلِيله) أَي دَلِيل حكم الأَصْل من الْمُسْتَدلّ من غير أَن تكون مقدماته مسلمة عِنْده (على الْمُخْتَار، إِذْ لَا يلْزم صِحَّته) أَي الدَّلِيل (من صورته فَلهُ) أَي للمعترض (الِاعْتِرَاض على مقدماته) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور، وَقيل يَنْقَطِع لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الْخُرُوج عَن الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ، وَقد عرفت مَا فِيهِ. (وَأما معارضته) أَي حكم الأَصْل بِإِقَامَة الْمُعْتَرض دَلِيلا على خِلَافه بعد مَا أَقَامَ الْمُسْتَدلّ دَلِيلا عَلَيْهِ فَاخْتلف فِيهِ (فَقيل لَا) يسمع (لِأَنَّهُ غصب لمنصب الِاسْتِدْلَال) الَّذِي هُوَ حق الْمُسْتَدلّ، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة، وَذهب جُمْهُور الْمُحَقِّقين من الْفُقَهَاء والمتكلمين إِلَى قبُولهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَيْسَ) الْإِيرَاد بالمعارضة بِغَصب (وَإِلَّا) لَو كَانَ غصبا (منعت) الْمُعَارضَة (مُطلقًا) لغير مَا ذكر وَلَيْسَت مَمْنُوعَة اتِّفَاقًا. (وَقَوله) أَي الْمَانِع لقبولها (يصير) الْمُعْتَرض بهَا (مستدلا فِي نفس صُورَة المناظرة) من غير تَبْدِيل بِصُورَة أُخْرَى (إِن أَرَادَ فِي عين دَعْوَى الْمُسْتَدلّ فمنتف) أَي فالاستدلال فِي عين دَعْوَاهُ مُنْتَفٍ، كَيفَ وَهُوَ يسْتَدلّ على خلَافهَا (أَو) أَرَادَ (فِي تِلْكَ المناظرة فَلَا بَأْس) بِهِ (كمعارضة الدَّلِيل) وَهِي إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مدعي دَلِيل الْخصم (وَلَا تتمّ المناظرة) أَي لَا تَنْتَهِي (إِلَّا بِانْقِطَاع أَحدهمَا) انْقِطَاعًا اعْتَبرهُ المتناظرون (مِثَاله) أَي مِثَال الأول، أَعنِي منع حكم الأَصْل (للشَّافِعِيَّة جلد الْخِنْزِير لَا يقبل الدباغة) أَي لَا يطهر بهَا (لنجاسة(4/128)
عينه) والدباغة لَا تزيل الْعين بل رطوباته النَّجِسَة (كَالْكَلْبِ) أَي كَمَا أَن جلد الْكَلْب لَا يقبلهَا لنجاسة عينه فَحكم الأَصْل الَّذِي هُوَ جلد الْكَلْب عدم قبُوله إِيَّاهَا (فَيمْنَع كَون جلد الْكَلْب لَا يقبلهَا، و) مِثَاله حكم الأَصْل (فِي الْعِلَل الطردية) الْمَنْع الْوَارِد فِي قَوْلهم (الْمسْح ركن فَيسنّ تكريره) لركنيته (كالغسل) أَي كَمَا أَن الْغسْل يسن تكريره لركنيته (فَيمْنَع سنية تَكْرِير الْغسْل) الَّذِي هُوَ الأَصْل (بل) السّنة فِي الْغسْل (إكماله، غير أَنه) أَي الْغسْل (استغرق مَحَله) الَّذِي هُوَ تَمام الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ إِلَى الْمرْفقين والكعبين، فَلَا يتَصَوَّر إكماله باستيعابه مَحَله، فَإِن أصل الْفَرْض لَا يُؤَدِّي بِدُونِ الِاسْتِيعَاب (فَكَانَ) إكماله أَي الْغسْل (بتكريره، بِخِلَاف الْمسْح) فَإِنَّهُ لم يسْتَغْرق مَحَله من حَيْثُ الْفَرْضِيَّة، فَإِن الْمَفْرُوض فِيهِ ربع الرَّأْس (فتكميله) أَي الْمسْح (باستيعابه) أَي الْمحل بِهِ فَإِن قلت إِذا كَانَت السّنة إِلَّا كَمَال الْمُطلق وَهُوَ يحصل بِأحد الْأَمريْنِ فَلم عينتم الِاسْتِيعَاب قلت: ثَبت من الشَّارِع الِاسْتِيعَاب لَا التَّثْلِيث (وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة صَوْم رَمَضَان (صَوْم فرض) . وَفِي بعض النّسخ وَفِي وَجَوَاب مَرْدُود قَوْلهم إِلَى آخِره: أَي ومثاله فِي جَوَاب من يردد قَوْلهم (فَيجب تَعْيِينه) بِالنِّيَّةِ (كالقضاء) أَي كَمَا أَن قَضَاء رَمَضَان صَوْم فرض يجب تَعْيِينه بِالنِّيَّةِ (فَيُقَال: إِن) كَانَ المُرَاد وجود تَعْيِينه بِالنِّيَّةِ (بعد تعْيين الشَّرْع) الزَّمَان (لَهُ ف) هُوَ (مُنْتَفٍ فِي الأَصْل) أَي الْقَضَاء فَإِن الشَّارِع لم يعين لَهُ زَمَانا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن المُرَاد مَا ذكر بل وجوب تَعْيِينه بِالنِّيَّةِ من غير تعْيين الشَّرْع الزَّمَان لَهُ (فَفِي الْفَرْع) أَي فَهَذَا مُنْتَفٍ فِي صَوْم رَمَضَان لتعيين الشَّرْع الزَّمَان لَهُ. (الثَّانِي) أَي عِلّة حكم الأَصْل يرد (عَلَيْهِ منوع: أَولهَا منع وجود الْعلَّة فِي الأَصْل، مِثَاله للشَّافِعِيَّة فِي الْكَلْب) الْكَلْب (حَيَوَان يغسل) الْإِنَاء (من ولوغه سبعا فَلَا يطهر) جلده (بالدباغة كالخنزير) فَإِنَّهُ حَيَوَان يغسل الْإِنَاء من ولوغه سبعا (فَيمْنَع كَون الْخِنْزِير يغسل) الْإِنَاء من ولوغه (سبعا و) مِثَاله لَهُم أَيْضا (فِي) الْعِلَل (الطردية) فِي استنان تثليث الْمسْح مسح الرَّأْس (مسح فَيسنّ تثليثه كالاستنجاء) فَإِنَّهُ مسح فَيسنّ تثليثه (فَيمْنَع كَون الِاسْتِنْجَاء طَهَارَة مسح، بل) الِاسْتِنْجَاء طَهَارَة (عَن) النَّجَاسَة (الْحَقِيقِيَّة) قصد بِهِ إِزَالَتهَا، فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ مَا قصد بِهِ إِزَالَة النَّجَاسَة الْحكمِيَّة لعدم وجود الْعلَّة الَّتِي هِيَ طَهَارَة مسح فِي الأَصْل، وَهُوَ الِاسْتِنْجَاء: وَمن ثمَّة كَانَ غسلهَا بِالْمَاءِ أفضل والاستنجاء علته إِذا لم يتلوث شَيْء من ظَاهر بدنه. (وَجَوَابه) أَي هَذَا الْمَنْع (بِإِثْبَات وجوده) أَي الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة فِي الأَصْل (حسا) أَي وجودا حسيا إِن كَانَ الْوَصْف من الحسيات (أَو عقلا) أَي عقليا كَانَ من العقليات (أَو شرعا(4/129)
إِن كَانَ من الْأَوْصَاف الَّتِي اعتبرها الشَّرْع (ثَانِيهَا) أَي النَّوْع (منع كَونه) أَي الْوَصْف الْمُدعى عليته فِي الأَصْل (عِلّة، وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَنْع (قَول الْحَنَفِيَّة) أَي المُرَاد بقَوْلهمْ (منع نسبته) أَي الحكم (إِلَيْهِ) أَي الْوَصْف، هَكَذَا نُسْخَة الشَّارِح. وَفِي نُسْخَة أُخْرَى منع نِسْبَة الحكم إِلَيْهِ وَهُوَ الْأَظْهر. وَاخْتلف فِي قبُوله، فَقيل لَا يقبل. (وَالصَّحِيح قبُوله: لِأَن الْقيَاس المورد عَلَيْهِ) هَذَا الْمَنْع (مُسَاوَاة فِي) وصف (مُشْتَرك) مَوْجُود فِي الأَصْل وَالْفرع (تظن الإناطة) أَي إناطة الحكم (بِهِ) أَي بذلك الْوَصْف الْمُشْتَرك فَهُوَ منَاط الحكم بِحَسب ظن الْمُجْتَهد، وَهَذَا لَا يسْتَلْزم كَونه مناطا بِحَسب نفس الْأَمر لِئَلَّا يقبل الْمَنْع (وَأما مُسَاوَاة فرع الأَصْل فِي عِلّة حكمه) عِنْد الشَّارِع (فَالْقِيَاس) أَي فَهِيَ الْقيَاس (فِي نفس الْأَمر) وَهُوَ لَيْسَ بالمورد عَلَيْهِ. فِي الشَّرْح العضدي قَالُوا أَولا: الْقيَاس حَده وَحَقِيقَته إِنَّه إِلْحَاق فرع بِأَصْل بِجَامِع وَقد حصل، وَإِذا ثَبت مدعاه فَلَا يُكَلف بِإِثْبَات مَا لم يَدعه وَالْجَوَاب لَا نسلم أَن حد الْقيَاس وَحَقِيقَته ذَلِك، بل إِلْحَاق فرع بِأَصْلِهِ بِجَامِع يظنّ صِحَّته وَلم يُوجد هَذَا الْقَيْد (قَالُوا) أَي المانعون قبُول هَذَا الْمَنْع (عدوله) أَي الْمُعْتَرض من الْإِبْطَال (إِلَى الْمَنْع) الْمُجَرّد عَن السَّنَد (دَلِيل عَجزه عَن إِبْطَاله) أَي إبِْطَال كَون الْوَصْف عِلّة للْحكم (أَي نقضه) . وَفِي الشَّرْح الْمَذْكُور قَالُوا ثَانِيًا: عجز عَن إبِْطَال دَلِيل صِحَّته، إِذْ طَرِيق عدم الْعلية من كَون الْوَصْف طرديا وإبداء وصف آخر وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يخفى على الْمُجْتَهد والمناظر، فَلَو وجد لوجده، وَلَو وجده لأظهره فالفرار إِلَى مُجَرّد الْمَنْع يكفينا دَلِيلا على أَنه صَحِيح، فَلَا يسمع الْمَنْع وَلَا يشْتَغل بجوابه، لِأَنَّهُ شَاهد على نَفسه بِالْبُطْلَانِ، وَالْمُصَنّف أَشَارَ إِلَى بعض مُقَدمَات دليلهم الأول فِي ضمن تعليليه للصحيح، وَإِلَى الْبَعْض الآخر فِي ضمن دليلهم الثَّانِي مَعَ تَغْيِير فِي التَّقْرِير كَمَا ترى (لِأَن مرجعه) أَي النَّقْض (إِلَى منع) مقرون (بِسَنَدِهِ) فَإِنَّهُم ردوا النَّقْض الإجمالي إِلَى منع مُسْند كَمَا سَيَجِيءُ، وَهَذَا تَعْلِيل لكَون هَذَا الْمَنْع عُدُولًا عَن النَّقْض الَّذِي لَا بُد فِيهِ من مُسْتَند فَإِنَّهُ قد ادّعى ضمنا (أَو كَونه) أَي كَون الْوَصْف الْمَذْكُور (طرديا) لَا تَأْثِير لَهُ فِي الحكم مَعْطُوف على نقضه، فَإِن الْإِبْطَال كَمَا يحصل بِالنَّقْضِ يحصل بِبَيَان كَون الْوَصْف طرديا، فَإِن التَّأْثِير لَا بُد مِنْهُ فِي وصف الْقيَاس (أما) الْمَنْع (بِغَيْرِهِ) أَي غير مَا ذكر من النَّقْض والطردية (فغصب) من الْمُعْتَرض (لِأَنَّهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ) أَي على حكم الأَصْل بِأَن يَدعِي ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل مُعَللا بِوُجُود مَا هُوَ عِلّة الحكم فِيهِ حَتَّى تكون عليته من مُقَدمَات الدَّلِيل، فَيتَّجه عَلَيْهَا الْمَنْع، وَإِنَّمَا ادّعى إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ لاشْتِرَاكهمَا فِي الْعلَّة وَالْعلَّة للْحكم أَمر مفروغ مِنْهُ، فَإِذن علم أَن منصب الْمُعْتَرض لَيْسَ سوى النَّقْض بِبَيَان تخلف الحكم عَن الْعلَّة وَبَيَان طردية(4/130)
الْوَصْف وَمَا سواهُ غصب، وَالْمَنْع الْمَذْكُور وَلَيْسَ مِنْهُمَا، وارتكاب الْغَصْب دَلِيل الْعَجز: وَهَذَا عِنْد الْبَعْض، وَعند غَيره لَيْسَ بِغَصب لِأَنَّهُ وَإِن لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ لكنه مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة مَا اسْتدلَّ عَلَيْهِ من حكم الْفَرْع، وَيرد عَلَيْهِ أَن تَعْلِيله على هَذَا الْوَجْه يُنَافِي اتفاقه مَعَ غَيره على تَقْدِير الِاسْتِدْلَال: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال أَنه لَا يقبل هَذَا الْمَنْع مُطلقًا غير أَنه يسْتَدلّ لعدم الْقبُول فِي كل صُورَة بطرِيق (وَإِلَّا) لَو فرض أَنه اسْتدلَّ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِك (لم يسمع الْمَنْع اتِّفَاقًا) من الجدليين المانعين لقبُول هَذَا الْمَنْع وَغَيرهم (لِأَنَّهُ) أَي الْمَنْع (بعد إِقَامَة الدَّلِيل غير مُنْتَظم) عقلا (لِأَنَّهُ) أَي الْمَنْع (طلبه) أَي الدَّلِيل (وَقد حصل) الدَّلِيل فَطَلَبه تَحْصِيل الْحَاصِل، وَيرد عَلَيْهِ أَنه لم يسْتَدلّ على علية الْعلَّة حَتَّى يلْزمه تَحْصِيل الْحَاصِل، بل على حكم الأَصْل. فَالْوَجْه أَن لَا يُفَسر الضَّمِير فِي لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِحكم الأَصْل كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّارِح بعلية الْوَصْف (بل) الْمَنْع إِنَّمَا يكون (فِي مقدماته) أَي الدَّلِيل، وعَلى تَقْدِير عدم الِاسْتِدْلَال مَا ثمَّ مُقَدمَات لتمنع فَإِن قلت: قد سبق أَن النَّقْض منع بِسَنَد فَمَا الْفرق بَينه وَبَين الْمَنْع بِلَا سَنَد الْمُوجب سَماع أَحدهمَا قبل الِاسْتِدْلَال دون الآخر قلت: الْفرق أَن الْمَنْع بِلَا سَنَد مورده الْمُقدمَة الْمعينَة، وَحَيْثُ لَا اسْتِدْلَال لَا تعْيين للمقدمات، وَأما الَّذِي منع السَّنَد فمورده مُقَدّمَة لَا على التَّعْيِين والمستدل لَا بُد لَهُ من دَلِيل قبل إبراز الدَّلِيل فَهُوَ بمقدماته مَعْلُوم إِجْمَالا، وَهَذَا الْقدر يَكْفِي فِي النَّقْض الإجمالي (قُلْنَا الْمُلَازمَة) الَّتِي ادَّعَاهَا المانعون بَين الْعُدُول إِلَى الْمَنْع وَالْعجز عَن الْإِبْطَال (مَمْنُوعَة) لجَوَاز الْعُدُول مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ لنكتة كالامتحان للمستدل هَل يقدر على إِثْبَات الْعلية أم لَا (وَلَو سلمت) الْمُلَازمَة (لَا يلْزم) من عَجزه عَن إبِْطَال كَون الْوَصْف عِلّة (صِحَّته) أَي صِحَة كَونه عِلّة فِي نفس الْأَمر (لانتفاضه) أَي هَذَا الدَّلِيل (بِكَثِير) من الصُّور الَّتِي يعجز فِيهَا الْمُعْتَرض عَن إبِْطَال الْمُدعى، وَلم يقل بِصِحَّتِهِ أحد، وَإِذا كَانَت هَذِه الْمُلَازمَة الَّتِي جعلت دَلِيل الصِّحَّة منقوضة كَانَت غير مستلزمة لَهَا، فَبَقيَ صِحَة الْعلية مشكوكة، وَالْعلم بِصِحَّة الْقيَاس مَوْقُوف على الْعلم بِصِحَّتِهَا، ثمَّ فِي نُسْخَة (إِذْ يلْزم صِحَة كل مَا عجز الْمُعْتَرض عَن إِبْطَاله حَتَّى دَلِيل الْحُدُوث) . وَفِي الشَّرْح العضدي وَالْجَوَاب أَنه يَقْتَضِي أَن كل صُورَة عجز الْمُعْتَرض عَن إِبْطَالهَا فَهُوَ صَحِيح حَتَّى دَلِيل الْحُدُوث وَالْإِثْبَات، بل حَتَّى دَلِيل النقيضين إِذا تَعَارضا، وَعجز كل عَن إبِْطَال دَلِيل الآخر انْتهى. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: يَعْنِي حُدُوث الْعَالم أَو إِثْبَات الصَّانِع، فَإِن الْمَطْلُوب وَإِن كَانَ حَقًا لَكِن لَا يَصح دليلهما بِمُجَرَّد عجز الْمُعْتَرض عَن إِبْطَاله، بل لَا بُد من وَجه دلَالَة وَصِحَّة تَرْتِيب (وَإِذا بَينه) أَي الْمُسْتَدلّ كَون الْوَصْف عِلّة (بِنَصّ لَهُ) أَي للمعترض (الِاعْتِرَاض بِمَا يُمكن) الِاعْتِرَاض بِهِ (على ذَلِك السمعي) من منع دلَالَته وَصَرفه عَن الظَّاهِر(4/131)
بدليله وطعنه فِي السَّنَد إِلَى غير ذَلِك (ومعارضته) بِنَصّ آخر مقاوم لَهُ مَعْطُوف على الِاعْتِرَاض فَعلم أَن الْمُعَارضَة لَا تسمى إعْرَاضًا، بل لَا بُد فِيهِ من التَّعَرُّض لدَلِيل الْمُسْتَدلّ (وَكَذَا الْإِجْمَاع) أَي إِذا بَين كَون الْوَصْف عِلّة بِالْإِجْمَاع للمعترض الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ بِمَا يُمكن من منع وجود الْإِجْمَاع لصريح الْمُخَالفَة، وَمنع دلَالَته على كَون الْوَصْف عِلّة وطعنه فِي طَرِيق الْإِخْبَار عَنهُ (وَيزِيد) فِي بَيَانه بِالْإِجْمَاع الِاعْتِرَاض (بِنَفْي كَونه) أَي الْإِجْمَاع (دَلِيلا بِنَحْوِ كَون السُّكُوت يفِيدهُ) أَي الْوِفَاق المستلزم للْإِجْمَاع، وَالْبَاء فِي قَوْله بِنَحْوِ للسَّبَبِيَّة مُتَعَلقَة بِكَوْنِهِ دَلِيلا، فَإِن قسما من الْإِجْمَاع صَيْرُورَته إِجْمَاعًا دَالا على ثُبُوت الحكم الشَّرْعِيّ إِنَّمَا هُوَ بقول الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ، وَعدم الْإِنْكَار على الْقَائِل مَعَ عدم الْعلم بقوله قبل اسْتِقْرَار الْمَذْهَب، وَفِيه اخْتِلَاف على مَا بَين فِي مَوْضِعه وَإِنَّمَا قَالَ بِنَحْوِ ليشْمل أقساما أخر مِنْهُ مِمَّا اخْتلف فِيهِ: فَالْمَعْنى أَن الْمُعْتَرض يَنْفِي كَونه دَلِيلا وإجماعا بِسَبَب مَا ذكرنَا، السَّبَبِيَّة قيد للمنفي لَا النَّفْي، وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق الْبَاء بِالنَّفْيِ فَيكون قيدا للنَّفْي (إِن كَانَ) الْإِجْمَاع الْمُثبت بِهِ الْعلية (مِنْهُ) أَي من نَحْو الْإِجْمَاع السكوتي (أَو) بَينه (بِغَيْرِهِمَا) أَي النَّص وَالْإِجْمَاع (من) مَسْلَك (مُخْتَلف) فِيهِ (كالدوران لَهُ) منع صِحَّته (وَللْآخر) أَي الْمُسْتَدلّ (إِثْبَاتهَا) أَي صِحَّته (وَقَول بعض الْحَنَفِيَّة) كصاحب الْمنَار هَذَا الْمَنْع (يلجئ أهل الطَّرْد) الْقَائِل بالدوران (إِلَى القَوْل بالتأثير) وَاعْتِبَار الشَّرْع علية الْوَصْف على التَّفْصِيل الْمَذْكُور وَعدم الِاكْتِفَاء بِمُجَرَّد الدوران (لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (لَا يقبل غَيره) أَي غير الْمُؤثر فيضطر إِلَى إثْبَاته ليمكنه إِلْزَام الْخصم (يفِيدهُ) الضَّمِير الْمَنْصُوب للمبتدأ، وَالْفَاعِل قَوْله (نفي تَمْكِينه) أَي تَمْكِين الْمُعْتَرض الْمُسْتَدلّ (من إثْبَاته) أَي إِثْبَات صِحَة غير الْمُؤثر وَهُوَ الْوَصْف الطردي وَالْحَاصِل أَنه لما قَالَ للْآخر إِثْبَاتهَا اتجه أَن يَقْتَضِي قَول الْبَعْض أَنه لَيْسَ لَهُ ذَلِك، لِأَن القَوْل بالتأثير إِذا كَانَ لَازِما عَلَيْهِ لَا يتَمَكَّن من إِثْبَات صِحَة غير الْمُؤثر، فَقَالَ إِن ذَلِك القَوْل يُؤَيّدهُ، وَيدل عَلَيْهِ نفي التَّمْكِين، وَفِي بعض النّسخ يُفِيد نفي عَكسه وَمَعْنَاهُ ظَاهر (وَمُقْتَضى مَا) ذكر (فِي الِانْتِقَال) الْمَذْكُور فِيمَا سبق، من أَنه لَا يلْزم الْمُسْتَدلّ عرف طَائِفَة الْمُعْتَرض (يُخَالِفهُ) أَي القَوْل الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ إِذا لم يلْزم عَلَيْهِ مُرَاعَاة مَذْهَب الْمُعْتَرض فَلهُ أَن يثبت صِحَة الْوَصْف الطردي بِمَا يَقْتَضِيهِ مذْهبه (إِلَّا أَن حمل) قَول الْبَعْض (على أَنه) أَي الْوَصْف الطردي (لَا ينتهض) أَي لَا يقوم حجَّة (لأوجه الْبطلَان) أَي وُجُوه بطلَان علية الْوَصْف الطردي متضافرة ظَاهِرَة بِحَيْثُ لَا يقدر أهل الطَّرْد على إِثْبَات عليته (فَيرجع) أهل الطَّرْد بِالضَّرُورَةِ (إِلَى التَّأْثِير) والإتيان بالمؤثر إِن أمكنه وَألا يَنْقَطِع (لكنه) أَي الرُّجُوع إِلَى الْمُؤثر (انْتِقَال) من عِلّة (إِلَى) عِلّة (أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول، وَهُوَ) أَي الحكم الأول(4/132)
(علية الْوَصْف) لإِثْبَات الحكم الْأَصْلِيّ (هُنَا) أَي فِيمَا نَحن فِيهِ من جَوَاب الْمَنْع الْمَذْكُور (وَعلمت مَا فِيهِ) أَي مَا فِي هَذَا الِانْتِقَال من اخْتِلَاف النظار هَل هُوَ انْقِطَاع أم لَا، وَمن أَن الْمُخْتَار مَا هُوَ (مِثَاله) أَي مِثَال الْمَنْع الَّذِي كلامنا فِيهِ فِي الْقيَاس الْمَذْكُور (للشَّافِعِيَّة فِي ذَلِك الْمِثَال) السَّابِق ذكره، يَعْنِي قَوْله الْكَلْب حَيَوَان يغسل من ولوغه سبعا، فَلَا يطهر بالدباغة كالخنزير (منع كَون الْغسْل سبعا عِلّة عدم قبُوله) أَي جلد الْخِنْزِير (الدباغة شرعا، و) مِثَاله (للحنفية فِي قَول الشَّافِعِيَّة) الْأَخ (لَا يعْتق على أَخِيه) بِملكه إِيَّاه (إِذْ لَا بعضية بَينهمَا) أَي الْأَخَوَيْنِ (كَابْن الْعم) فَإِنَّهُ لَا يعْتق على ابْن عَمه، إِذْ لَا بعضية بَينهمَا (منع أَنَّهَا) أَي البعضية (الْعلَّة فِي الْعتْق لينتفى الحكم) الَّذِي هُوَ الْعتْق (بِانْتِفَاء الْعلَّة المتحدة) فِي صُورَتي ملك الْأَخ وَملك ابْن الْعم، وَهِي البعضية: وَلَا يخفى أَن مَحل الْمَنْع فِي الْمِثَال الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ علية عدم البعضية لعدم الْعتْق، غير أَنه لما كَانَ منع علية الْعَدَم للعدم فرع منع مَا ذكر صرح بِهِ ليفهم ذَلِك ضمنا على الطَّرِيق البرهاني (بل) الْعلَّة لِلْعِتْقِ (الْقَرَابَة الْمُحرمَة) وَهِي مَوْجُودَة فِي الآخرين دون ابْن الْعم (ثَالِثهَا) أَي المنوع (عدم تَأْثِيره) أَي الْوَصْف فِي ترَتّب الحكم عَلَيْهِ وَفِيه مُسَامَحَة، لِأَن عدم التَّأْثِير لَازم الْمَنْع لَا عينه (للشَّافِعِيَّة أَي) إِفْرَاد هَذَا الْمَنْع بِالذكر لَهُم: أَي عدم (اعْتِبَاره) عِلّة للْحكم شرعا تَفْسِير لعدم تَأْثِيره (وقسموه) أَي الشَّافِعِيَّة عدم تَأْثِيره (أَرْبَعَة) من الْأَقْسَام مَنْصُوب بقسموه على تضمين الْجعل، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من (أَن يظْهر عدم تَأْثِيره) أَي الْوَصْف (مُطلقًا) فِي حكم الأَصْل وَغَيره (أَو) أَن يظْهر (فِي) حكم (ذَلِك الأَصْل) الَّذِي جعل الْوَصْف عِلّة لَهُ (أَو) أَن يظْهر عدم تَأْثِيره (قيد مِنْهُ) أَي من الْوَصْف (مُطلقًا) أَي فِي حكم ذَلِك الأَصْل وَغَيره (أَو لَا) يظْهر شَيْء من ذَلِك (بل يسْتَدلّ عَلَيْهِ) أَي على عدم تَأْثِيره (بِعَدَمِ اطراده) أَي الْوَصْف (فِي مَحل النزاع) وَهُوَ الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ بتحققه مَعَه تَارَة فِي بعض الْموَاد وتخلفه عَنهُ أُخْرَى فِي بعض أخر (وردوا) أَي الشَّافِعِيَّة الْقسم (الأول) أَي عدم تَأْثِيره مُطلقًا (و) الْقسم (الثَّالِث) أَي عدم تَأْثِير قيد مِنْهُ فِي ذَلِك الأَصْل وَغَيره (إِلَى الْمُطَالبَة بعلية الْوَصْف) الْمعبر عَنْهَا فِيمَا سبق بِمَنْع كَونه عِلّة (وَجَوَابه) أَي جَوَاب الْمَرْدُود إِلَيْهِ (الْمُتَقَدّم جَوَابه) أَي الْمَرْدُود (و) ردوا (الثَّانِي) أَي عدم تَأْثِيره فِي الأَصْل. (وَالرَّابِع) أَن لَا يظْهر شَيْء من ذَلِك (إِلَى الْمُعَارضَة) فِي الأَصْل بإبداء عِلّة أُخْرَى (على خلاف فِي الرَّابِع) يَأْتِي قَرِيبا. وَفِي الشَّرْح العضدي أَن حَاصِل الأول وَالثَّالِث منع الْعلية وَحَاصِل الثَّانِي وَالرَّابِع الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بإبداء عِلّة أُخْرَى، وَقد يُقَال أَن ذَلِك لعدم التَّمْيِيز بَين مَا يقْصد بِهِ منع الْعلية ليدل عَلَيْهَا، وَبَين الدَّلِيل على عدمهَا. وَكَذَا بَين إبداء مَا يُوجب احْتِمَال(4/133)
علية الْغَيْر وَبَين مَا يُوجب الْجَزْم بهَا (مِثَال الأول وَيُسمى) أَي الأول (عدم التَّأْثِير فِي الْوَصْف) أَن يُقَال (فِي) صَلَاة (الصُّبْح) صَلَاة (لَا يقصر فَلَا يقدم أَذَانه) على وَقتهَا، وتذكير الضَّمِير بِاعْتِبَار لفظ الصُّبْح (كالمغرب) فَإِنَّهُ صَلَاة لَا تقصر فَلَا يقدم أَذَانه (فَيرد) عَلَيْهِ أَن يُقَال (عدم الْقصر لَا أثر لَهُ فِي عدم تَقْدِيم الْأَذَان، إِذْ لَا مُنَاسبَة) بَينهمَا تَقْتَضِي ذَلِك (وَلَا شبه) وَهُوَ على مَا ذكرنَا أَن لَا تكون الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْوَصْف، بل بِاعْتِبَار شُبْهَة الْوَصْف الْمُنَاسب للْحكم بِذَاتِهِ، وَهُوَ على مَا ذكر أَن لَا تكون الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْوَصْف (و) مِثَال (الثَّانِي فِي منع بيع الْغَائِب) عِنْد الشَّافِعِيَّة (وَيُسمى) أَي الثَّانِي (عدم التَّأْثِير فِي الأَصْل) الْغَائِب (مَبِيع غير مرئي فَلَا يَصح) بَيْعه (كالطير فِي الْهَوَاء) أَي كَمَا أَن الطير فِي الْهَوَاء الْوَصْف وَهُوَ كَونه غير مرئي، وَإِذا ناسب نفي الصِّحَّة إِذْ لَا تَأْثِير لَهُ فِي الأَصْل كَذَلِك فِي نُسْخَة الشَّارِح، وَفِي نُسْخَة مَصَحَّة (فَيرد هَذَا وَإِن ناسب) أَي فَيرد هَذَا الْمَبِيع وَإِن ناسب الْوَصْف مَا ذكر، أَو الْمَعْنى فَيرد أَن يُقَال وَإِن ناسب الْوَصْف (فَفِي الأَصْل مَا يسْتَقلّ) بِمَنْع الصِّحَّة فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير: أَي فَفِي الأَصْل مَا يسْتَقلّ وَإِن ناسب، وعَلى الأول قَوْله فَفِي الأَصْل تَفْصِيل لبَيَان الْعلَّة الْمُغنيَة عَن الْمُنَاسب الْمَذْكُور الْمَعْلُوم تأثيرها شرعا (وَهُوَ) أَن مَا يسْتَقلّ بِمَنْع الصِّحَّة (الْعَجز عَن التَّسْلِيم، وَلذَا) أَي وَلما أَن فِي الأَصْل مَا يسْتَقلّ بِهِ (رَجَعَ) هَذَا الْقسم (إِلَى الْمُعَارضَة فِي الْعلَّة) بإبداء عِلّة أُخْرَى (وَبِه) أَي بِهَذَا الْبَيَان (ينْكَشف أَن اعْتِبَار جنسه) أَي جنس هَذَا الِاعْتِرَاض (ظُهُور عدم التَّأْثِير غير وَاقع إِذْ لم يظْهر عدم مُنَاسبَة فِي غير مرئي) أَي كَون الْمَبِيع غير مرئي، وَهُوَ الْوَصْف الَّذِي أبداه الْمُسْتَدلّ (بِمَا أبداه) أَي بِسَبَب مَا أبداه الْمُعْتَرض من الْعَجز عَن التَّسْلِيم (بل جوزه مَعَه) أَي بل جوز الْمُعْتَرض مَا أبداه مَعَه: أَي مَعَ مَا أبداه الْمُسْتَدلّ وَهُوَ كَونه غير مرئي (و) مِثَال (الثَّالِث وَيُسمى عدم التَّأْثِير فِي الحكم) يحصل (لَو قَالَ الْحَنَفِيَّة فِي الْمُرْتَدين) إِذا أتلفوا أَمْوَالنَا هم (مشركون أتلفوا مَالا فِي دَار الْحَرْب فَلَا يضمنُون) مَا أتلفوا إِذا أَسْلمُوا كَسَائِر الْمُشْركين (فَيرد لَا تَأْثِير لدار الْحَرْب) فِي نفي الضَّمَان عنْدكُمْ (للانتفاء) أَي لانْتِفَاء الضَّمَان (فِي غَيرهَا) أَي غير دَار الْحَرْب (عنْدكُمْ) فَإِن الْمُرْتَد بعد اللحاق بدار الْحَرْب لَا يضمن لشَيْء من حُقُوق الْعباد إِذا أسلم بعد ذَلِك، وَإِن أتلف فِي غير دَار الْحَرْب أَيْضا كَسَائِر الْمُشْركين من الْحَرْبِيين (فَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (كَالْأولِ) فِي أَن مرجعهما إِلَى الْمُطَالبَة بتأثير الْوَصْف فِي الأَصْل (و) مِثَال (الرَّابِع وَيُسمى عدم التَّأْثِير فِي الْفَرْع) مَا فِي قَوْلهم (زوجت نَفسهَا من غير كُفْء فَيرد) تَزْوِيجهَا (كتزويج الْوَلِيّ الصَّغِيرَة من غير كُفْء فَيَقُول) الْمُعْتَرض (لَا أثر لغير كُفْء) فِي الرَّد (لتحَقّق النزاع فِيهِ) أَي فِيمَا إِذا زوجت نَفسهَا من كُفْء (أَيْضا فَرجع) هَذَا (إِلَى الْمُعَارضَة بتزويج نَفسهَا فَقَط) وَحَاصِله(4/134)
أَن الْمُسْتَدلّ أبدى عِلّة وَهُوَ التَّزْوِيج للنَّفس بِغَيْر الْكُفْء، والمعترض أبدى غَيرهَا وَهُوَ تَزْوِيج نَفسهَا من غير تَقْيِيد بالكفء وَغَيره (وَلَا يخفى رُجُوعه) أَي الرَّابِع (إِلَى الثَّالِث) وَهُوَ عدم تَأْثِير قيد ذكر مَعَه فَرجع إِلَى الْمُطَالبَة بتأثير ذَلِك فِيهِ (وَظهر أَنه) أَي ذَلِك الِاعْتِرَاض (لَيْسَ سؤالا مُسْتقِلّا) بل هُوَ إِمَّا مُطَالبَة بعلية الْوَصْف أَو مُعَارضَة بعلة أُخْرَى (فَتَركه الْحَنَفِيَّة ل) أجل (هَذَا وَلما نذْكر. ثمَّ الْمُخْتَار أَن الثَّالِث مَرْدُود إِذا اعْترف الْمُسْتَدلّ بطرديته) أَي بطردية ذَلِك الْمُقَيد (وَغير مَرْدُود إِن لم يعْتَرف) بطرديته (لجَوَاز) وجود (غَرَض صَحِيح) للمستدل فِي إِيرَاد ذَلِك الْقَيْد، فِي الشَّرْح العضدي لما كَانَ حَاصِل الْقسم الرَّابِع وجود قيد طردي فِي الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ ذكر لذَلِك قَاعِدَة تتَعَلَّق بِهِ وَهِي كل مَا فرض جعله وَصفا فِي الْعلَّة من طردي هَل هُوَ مَرْدُود سد المتناظرين فَلَا يجوزونه، أما إِذا كَانَ الْمُسْتَدلّ معترفا بِأَنَّهُ طردي فالمختار أَنه مَرْدُود لِأَنَّهُ فِي كَونه جُزْء الْعلَّة كَاذِب باعترافه وَأَنه كجدل قَبِيح، وَقيل لَيْسَ بمردود لِأَن الْغَرَض استلزام الحكم، فالجواز استلزم قطعا، وَأما إِذا لم يكن معترفا بِأَنَّهُ طردي فالمختار أَنه غير مَرْدُود لجَوَاز أَن يكون فِيهِ غَرَض صَحِيح كدفع النَّقْض الصَّرِيح إِلَى النَّقْض المكسور وَهُوَ أصعب، بِخِلَاف الأول فَإِنَّهُ معترف بِأَنَّهُ غير مُؤثر وَأَن الْعلَّة هُوَ الثَّانِي فَيرد النَّقْض كَمَا لَو لم يذكرهُ، والتفوه بِهِ لَا يجديه نفعا فِي دفع النَّقْض، وَقيل مَرْدُود لِأَنَّهُ لَغْو، وَإِن لم يعْتَرف وَقد عرف الْفرق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أَن يدْفع النَّقْض المكسور وَهُوَ أصعب على الْمُعْتَرض) . قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ من الشَّارِحين من فسر الْمقَام بِمَا شهد أَنه لم يفهمهُ وَآخَرُونَ اعْترض بِعَدَمِ فهمه، فَلهَذَا تَابع الْمُحَقق فِي تَوْضِيحه بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ، فَقَوله وَهُوَ أصعب يُرِيد أَن إِيرَاد النَّقْض المكسور أصعب على الْمُعْتَرض من إِيرَاد النَّقْض الصَّرِيح لِأَنَّهُ فِيهِ بَيَان عدم تَأْثِير بعض أَجزَاء الْوَصْف وَبَيَان نقض الآخر، وَفِي النَّقْض الصَّرِيح لَيْسَ إِلَّا بَيَان نقض الْوَصْف: أَعنِي ثُبُوته فِي صُورَة مَعَ عدم الحكم، وَقَوله بِخِلَاف الأول مُتَعَلق بقوله لجَوَاز أَن يكون: يَعْنِي أَن الْمُسْتَدلّ إِذا لم يكن معترفا بِكَوْن الْوَصْف طرديا يجوز أَن يكون لَهُ فِي ضم الْوَصْف الطردي إِلَى الْعلَّة غَرَض صَحِيح بِأَن لَا يُوجد الْمَجْمُوع مَعَ عدم الحكم، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ معترفا بِأَن الْوَصْف المضموم طردي، فَإِن ذَلِك اعْتِرَاف بِأَنَّهُ لَا مدْخل لَهُ فِي الْعلية وَأَن الْعلَّة فِي ذَلِك الْأَمر الَّذِي فرض الطردي وَصفا فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يسهل النَّقْض بإيراد صُورَة يُوجد فِيهَا مُجَرّد ذَلِك وَلَا يُوجد الحكم، وتلفظه بِأَن الْعلَّة هِيَ الْمَجْمُوع مَعَ اعترافه بذلك لَا يفِيدهُ انْتهى، وَللَّه درهما تَحْقِيقا لمواضع تحيرت فِيهَا الْعُقُول وَوَقعت فِيهَا الفحول فقد علم بذلك أَن المُرَاد بقول المُصَنّف الثَّالِث مَحل السُّؤَال الثَّالِث، وَبِقَوْلِهِ أَن يدْفع النَّقْض المكسور أَن يدْفع النَّقْض الصَّرِيح إِلَى النَّقْض المكسور، فالنقض مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض وَالْمَفْعُول بِهِ(4/135)
مَحْذُوف، أَو الْمَعْنى الْمُسْتَدلّ أَرَادَ بِذكر الْقَيْد دَفعه النَّقْض الأصعب إِذْ هُوَ يتَعَيَّن بعد ذكره، فالفرض فِي الْحَقِيقَة الصعوبة على الْمُعْتَرض حَيْثُ ألزمهُ الأصعب (وللشافعية بعده) أَي بعد مَا ذكر (أَرْبَعَة) من الاعتراضات مَخْصُوصَة بالمناسبة أَولهَا (الْقدح فِي الْمُنَاسبَة بإبداء مفْسدَة راجحة) على مصلحَة لأَجلهَا قضى على الْوَصْف بالمناسبة (أَو مُسَاوِيَة) لَهَا لما تقدم فِي تَقْسِيم الْعلَّة بِحَسب الْإِفْضَاء من انخرام الْمُنَاسبَة لمفسدة راجحة أَو مُسَاوِيَة (وَجَوَابه) أَي هَذَا الِاعْتِرَاض (تَرْجِيح الْمصلحَة إِجْمَالا) على الْمفْسدَة بِأَن يُقَال لَو لم يقدر رُجْحَانهَا لزم التقيد الْبَاطِل (وَتقدم) ذكره فِي التَّقْسِيم الْمَذْكُور (وتفصيلا بِمَا فِي الخصوصيات) أَي خصوصيات الْمسَائِل من المرجحات (مثل) أَن يُقَال فِي الْفَسْخ فِي الْمجْلس بِخِيَار الْمجْلس (وجد سَبَب الْفَسْخ فِي الْمجْلس وَهُوَ) أَي سَبَب الْفَسْخ (دفع الضَّرَر) عَن الفاسخ (فَيثبت) أَي الْفَسْخ (فيعارض بِضَرَر) الآخر الَّذِي لم يفْسخ فَيُقَال ضَرَر (الآخر مفْسدَة مُسَاوِيَة) لتِلْك الْمصلحَة (فيجاب) عَن الْمُعَارضَة (بِأَن هَذَا) الآخر (يجلب) بِاسْتِيفَاء العقد (نفعا وَذَاكَ) الفاسخ (يدْفع ضَرَرا) عَن نَفسه (وَهُوَ) أَي دفع الضَّرَر (أهم) وَلذَلِك يدْفع كل ضَرَر وَلَا يجلب كل نفع (وَمثله) أَي مثل مَا ذكر (التخلي) أَي تَفْرِيغ النَّفس (لِلْعِبَادَةِ) النَّافِلَة (أفضل من التَّزَوُّج لما فِيهِ) أَي فِي التخلي لَهَا (من تَزْكِيَة النَّفس) الْمشَار إِلَيْهَا بقوله تَعَالَى - {قد أَفْلح من زكاها} - (فيعارض بِفَوَات أضعافها) أَي أَضْعَاف الْمصلحَة الْمَذْكُورَة (فِيهِ) أَي فِي التخلي من كسر الشَّهْوَة وغض الْبَصَر وإعفاف النَّفس وإيجاد الْوَلَد وتربيته وتوسعة الْبَاطِن بالتحمل فِي معاشرة بني النَّوْع إِلَى غير ذَلِك، فالتزكية أَيْضا حَاصِلَة فِي التَّزْوِيج (فيرجح) التَّزَوُّج على مَا ذكر (فيرجحها) أَي مصلحَة الْعِبَادَة المناظر (الآخر بِأَنَّهَا لحفظ الدّين وَتلك) الْمصَالح الَّتِي فِي التَّزَوُّج حِينَئِذٍ (لحفظ النَّسْل) وَحفظ الدّين أرجح من حفظ النَّسْل (غير أَن فرض المسئلة حَالَة الِاعْتِدَال) أَي اعْتِدَال النَّفس فِي الشَّهْوَة (وَعدم الخشية) أَي خشيَة الْوُقُوع فِي الزِّنَا وَمَا يقرب مِنْهُ من الْمحرم، وَإِنَّمَا قَالَ فرض المسئلة كَذَا لوُجُوب التَّزَوُّج عينا عِنْد الخشية فَلَا يُعَارضهُ التخلي للنوافل (و) ثَانِيهَا (الْقدح فِي الْإِفْضَاء) أَي فِي كَون الْوَصْف مفضيا (إِلَى الْمصلحَة) الْمَقْصُودَة (فِي شَرعه) أَي الحكم عِنْده (كتحريم الْمُصَاهَرَة) للمحارم على التَّأْبِيد، يُقَال: صاهرهم إِذا صَار فيهم صهرا، والصهر زوج الْبِنْت وَالْأُخْت، وَالْمرَاد هُنَا أصل الزواج (للْحَاجة إِلَى رفع الْحجاب) فالتحريم الْمَذْكُور هُوَ الحكم وَالْحَاجة إِلَى رفع الْحجاب عَن الْمَحَارِم لِكَثْرَة المخالطة هُوَ الْوَصْف الْعلَّة والمصلحة الَّتِي يُفْضِي إِلَيْهَا الْمَذْكُورَة فِي قَوْله (إِذْ يُفْضِي) الْوَصْف الْمَذْكُور بِاعْتِبَار مَا شرع عِنْده من تأبيد التَّحْرِيم (إِلَى دفع الْفُجُور فَيمْنَع) إفضاؤه إِلَى دفع الْفُجُور (بل سد بَاب العقد) أَي عقد النِّكَاح للتَّحْرِيم الْمَذْكُور(4/136)
(أفْضى) إِلَى الْفُجُور (لحرص النَّفس على الْمَمْنُوع فَيدْفَع) هَذَا الْمَنْع (بِأَن تأبيد التَّحْرِيم يمْنَع عَادَة) عَن مُقَدمَات الْهم وَالنَّظَر (إِذْ يصير) الِامْتِنَاع بِهَذَا السَّبَب (كالطبيعي) أَي كالامتناع والمنافرة الَّتِي اقتضتها الطبيعة فَلَا يبْقى الْمحل مشتهى (أَصله) أَي أصل هَذَا التَّحْرِيم المؤبد (الْأُمَّهَات) لِأَنَّهُ شرع من ابْتِدَاء وجود بني آدم فَلم يكن عِنْد ذَلِك تَحْرِيم الْأَخَوَات لضَرُورَة التناسل، ثمَّ لما وجد غير الْمَحَارِم ارْتَفَعت الضَّرُورَة فَألْحق بالأمهات سَائِر الْمَحَارِم (و) ثَالِثهَا (كَون الْوَصْف خفِيا كالرضا) فِي الْعُقُود فَإِنَّهُ أَمر قلبِي (وَيُجَاب) عَن هَذَا السُّؤَال (بضبطه) أَي بضبط الْوَصْف (بِظَاهِر) أَي بضابط ظَاهر (كالصيغة) الدَّالَّة على الرِّضَا فيدور الحكم عَلَيْهَا كصيغ الْعُقُود (و) رَابِعهَا (كَونه) أَي الْوَصْف (غير منضبط) جَعلهمَا قسما وَاحِدًا لكَمَال مناسبتهما سؤالا وجوابا (كَالْحكمِ) جمع حِكْمَة، وَهِي الْأَمر الْبَاعِث من الْمَقَاصِد (والمصالح) أَي مَا يكون لَذَّة أَو وَسِيلَة لَهَا (كالحرج) فَإِن فِي نَفْيه لَذَّة (والزجر) فَإِنَّهُ وَسِيلَة للذة الدُّنْيَوِيَّة والأخروية، ثمَّ علل عدم انضباطها بقوله (لِأَنَّهَا) أَي الحكم والمصالح (مَرَاتِب) أَي كائنة (على) مَرَاتِب على (مَا تقدم) فِي الْكَلَام على الْعلَّة بِحَسب الْمَقَاصِد وَيخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال فَلَا يُمكن تعْيين الْعدَد الْمَقْصُود مِنْهَا (وَجَوَابه بإبداء الضَّابِط بِنَفسِهِ) أَي بِإِظْهَار المُرَاد من غير المنضبط بِوَصْف منضبط بِنَفسِهِ غير مُحْتَاج إِلَى ضَابِط آخر كَمَا يُقَال فِي الْمَشَقَّة والمضرة أَن المُرَاد بهما مَا يُطلق عَلَيْهِ الْمَشَقَّة والمضرة عرفا، كَذَا قَالُوا، وَفِيه مَا فِيهِ (أَو) أَن الْوَصْف (نيط بمنضبط) مَعْطُوف على إبداء (كالسفر) نيط حُصُول الْمَشَقَّة بِهِ (وَالْحَد) الْمَحْدُود شرعا نيط الْقدر الْمُعْتَبر فِي حُصُول الزّجر بِهِ (وَلم يذكرهَا) أَي الاعتراضات الْمَذْكُورَة (الْحَنَفِيَّة لَا لاختصاصها بالمناسبة) وهم لَا يعتبرونها فَلَا وُرُود لَهَا عِنْدهم (لِأَن هَذَا) أَي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة بِالْوَصْفِ (اتِّفَاق) أَي مَحل اتِّفَاق أَو مُتَّفق عَلَيْهِ (بل لِأَنَّهَا) أَي الاعتراضات الْمَذْكُورَة حاصلها (انْتِفَاء لَوَازِم الْعلَّة الباعثة مُطلقًا) أَي بِأَيّ مَسْلَك كَانَ (كَمَا تقدم) فِي فصل الْعلَّة (وَمَعْلُوم أَن بِانْتِفَاء لازمها) أَي الْعلَّة الباعثة (يتَّجه إِيرَاده) أَي إِيرَاد انتفائها (إِذْ يُوجب) انْتِفَاء لازمها (انتفاءها فَهُوَ) أَي إِيرَاد انتفائها (مَعْلُوم من الشُّرُوط) لِأَن كل أحد يعرف أَن الشَّرْط إِذا انْتَفَى فللمعترض الْإِيرَاد الرَّاجِح إِلَى منع الْعلية (ومنعهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بَعْضهَا) أَي بعض هَذِه الاعتراضات مَعْطُوف على مَدْخُول بل فَهُوَ عِلّة أُخْرَى لعدم الذّكر فِي الْبَعْض، وَالْمرَاد بِالْمَنْعِ الحكم بِعَدَمِ وُرُوده من حَيْثُ المناظرة (وَهُوَ) أَي الْبَعْض الْمَمْنُوع (مرجع الثَّانِي وَالرَّابِع) من الْأَرْبَعَة الأول (لمنعهم الْمُعَارضَة لعِلَّة الأَصْل كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَذكروا) أَي الْحَنَفِيَّة (منع الشُّرُوط) للتَّعْلِيل، لِأَن شَرط الشَّيْء سَابق عَلَيْهِ فَلَا بُد من إثْبَاته، ثمَّ القَاضِي(4/137)
أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ لم يشترطا كَون الشَّرْط مُتَّفقا عَلَيْهِ (وَقيد فَخر الْإِسْلَام مَحَله) أَي منع الشَّرْط (بمجمع عَلَيْهِ) فَقَالَ وَإِنَّمَا يجب أَن يمْنَع شرطا مِمَّا هُوَ شَرط بِالْإِجْمَاع وَقد عدم فِي الْفَرْع أَو الأَصْل (فَيتَّجه) الْمَنْع (عِنْد عَدمه) أَي الشَّرْط الْمَذْكُور فَيُفِيد بطلَان التَّعْلِيل، مَا إِذا منع شرطا مُخْتَلفا فِيهِ، فَيَقُول الْمُعَلل ذَلِك لَيْسَ بِشَرْط عِنْدِي فَلَا يضر عَدمه، وَقد يُقَال إِذا كَانَ مَقْصُود الْمُعْتَرض دفع إِلْزَام الْمُعَلل عَن نَفسه، فَفِي هَذَا الْمَنْع ضَرَر ظَاهر إِذا قصد الْمُعَلل ذَلِك، وَقيل المُرَاد بِالْإِجْمَاع الِاتِّفَاق بَين السَّائِل والمجيب، لَا الْإِجْمَاع الْمُطلق (وَرَابِعهَا) أَي المنوع الْوَارِدَة على عِلّة الحكم (النَّقْض، وَتَسْمِيَة الْحَنَفِيَّة المناقضة وَهِي) فِي الِاصْطِلَاح (للجدليين) أَي لمصطلحهم (منع مُقَدّمَة مُعينَة) وَهِي مَا يتَوَقَّف على صِحَة الدَّلِيل شطرا كَانَ أَو شرطا سَوَاء كَانَ مَعَ السَّنَد أَو بِدُونِهِ، وَهُوَ مَا يذكر لتقوية الْمَنْع (و) منع (غير الْمعينَة) أَي مَنعه (بِأَن يلْزم الدَّلِيل مَا يُفْسِدهُ) بِأَن يَقُول لَازم دليلك كَذَا وَهُوَ بَاطِل فدليلك فَاسد (فَيُفِيد) لُزُوم ذَلِك لَهُ (بطلَان مُقَدّمَة غير مُعينَة) لِأَنَّهُ لَو لم يكن شَيْء من مقدماته بَاطِلا كَانَ صَحِيحا بِالضَّرُورَةِ، والمفروض أَنه فَاسد لبُطْلَان لَازمه، وَقَوله وَغير الْمعينَة مُبْتَدأ خَبره (النَّقْض الإجمالي وردوا) أَي الأصوليون (النَّقْض) الَّذِي هُوَ رَابِع المنوع (إِلَى منع مُسْتَند) أما كَونه منعا فَلِأَنَّهُ منع عَلَيْهِ الْوَصْف، وَهُوَ مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة الْقيَاس، وَأما كَونه مُسْتَندا فَلِأَن بَيَان التَّخَلُّف سَنَد لَهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد إِلَيْهِ (كَانَ) النَّقْض (مُعَارضَة قبل الدَّلِيل) لِأَنَّهُ إِذا لم يكن منعا مُسْتَندا كَانَ إِقَامَة الدَّلِيل على عدم الْعلية، والمستدل لم يقم بعد دَلِيلا على الْعلية وَلزِمَ كَونه مُعَارضَة قبل الدَّلِيل (وعَلى هَذَا) أَي الَّذِي ذكر من أَن الصَّارِف عَن كَونه اسْتِدْلَالا، وَهُوَ الظَّاهِر إِنَّمَا هُوَ لُزُوم الْمُعَارضَة قبل الدَّلِيل (يجب) أَن يكون (مُعَارضَة لَو) كَانَ (بعده) أَي بعد إِقَامَة الْمُسْتَدلّ الدَّلِيل على صِحَة علية الْوَصْف لارْتِفَاع الْمَانِع عَن الْحمل على الْمُعَارضَة وَوُجُود مَا يقتضيها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (اسْتدلَّ على بُطْلَانه) أَي بطلَان كَون الْوَصْف عِلّة (بالتخلف) أَي بِوُجُودِهِ فِي صُورَة لَيْسَ فِيهَا الحكم (ويجيب الآخر) أَي الْمُسْتَدلّ عَن الْمَنْع الْمَذْكُور (بِمَنْع وجودهَا) أَي الْعلَّة (فِي مَحل التَّخَلُّف ويستدل الْمُعْتَرض عَلَيْهِ) أَي على وجودهَا فِي مَحل التَّخَلُّف (بعده) أَي بعد منع الْمُسْتَدلّ وجودهَا فِيهِ (أَو) يسْتَدلّ عَلَيْهَا (ابْتِدَاء) أَي قبل منع الْمُسْتَدلّ إِيَّاه، وَإِذا اسْتدلَّ ابْتِدَاء تبدل حَالهمَا (فَانْقَلَبَ) الْمُعْتَرض مُعَللا والمعلل مُعْتَرضًا (وَقيل لَا) يقبل من الْمُعْتَرض إِقَامَة الدَّلِيل على وجود الْوَصْف إِذا منع الْمُسْتَدلّ وجوده فِي صُورَة التَّخَلُّف لِأَنَّهُ انْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال وَهَذَا محكي عَن الْأَكْثَر مِنْهُم الإِمَام الرَّازِيّ (وَقيل) لَا يقبل (إِن كَانَ) ذَلِك الْوَصْف (حكما شَرْعِيًّا) لِأَن الِاشْتِغَال بِإِثْبَات حكم(4/138)
شَرْعِي هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الِانْتِقَال الْمَمْنُوع، وَإِلَّا فَيقبل لِأَنَّهُ بِهِ يتم دَلِيل الْمُعْتَرض وَيبْطل قِيَاس الْمُسْتَدلّ (وَقيل) يقبل (إِن لم يكن لَهُ) أَي للمعترض (قَادِح) لدَلِيل الْمُسْتَدلّ (أقوى) من النَّقْض فَإِن كَانَ لَهُ لَا يقبل لِأَنَّهُ غصب وانتقال من غير أَن تلجئه إِلَيْهِ ضَرُورَة (وَلَيْسَت) هَذِه الْأَقْوَال (بِشَيْء) وَوَجهه ظَاهر (فَلَو كَانَ الْمُسْتَدلّ اسْتدلَّ على وجودهَا) أَي الْعلَّة (فِي الأَصْل بموجود) أَي بِدَلِيل مَوْجُود (فِي مَحل النَّقْض فنقضها) أَي الْمُعْتَرض الْعلَّة بِأَن دليلك الَّذِي أقمته على وجود الْعلَّة فِي الأَصْل مَوْجُود فِي مَحل التَّخَلُّف، فَيلْزم عَنهُ وجودهَا فِيهِ (فَمنع) الْمُسْتَدلّ (وجودهَا) أَي الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض (فَقَالَ الْمُعْتَرض فَيلْزم) عَلَيْك أحد الْأَمريْنِ (إِمَّا انْتِقَاض الْعلَّة) إِن كَانَت مَوْجُودَة فِي مَحل النَّقْض فِي نفس الْأَمر (أَو) انْتِقَاض (دليلها) إِن لم تكن مَوْجُودَة فِيهِ مَعَ جَرَيَان الدَّلِيل ووجوده فِيهِ (وَكَيف كَانَ) اللَّازِم: أَي انْتِقَاض الْعلَّة، أَو دليلها (لَا تثبت) الْعلية، أما على الأول فَلَمَّا مر من أَن النَّقْض يُبْطِلهَا، وَأما على الثَّانِي فَلِأَنَّهَا لَا تثبت إِلَّا بمسلك صَحِيح (قبل) بالِاتِّفَاقِ جَوَاب لَو، فَإِن عدم الِانْتِقَال فِيهِ ظَاهر، إِذْ لم يخرج عَن نقضهَا (وَلَو نقض) الْمُعْتَرض (دليلها) أَي الْعلية (عينا) من غير ترديد بَين نقض الْعلَّة ونقضه (فالجدليون) قَالُوا (لَا يسمع) هَذَا من الْمُعْتَرض (لِسَلَامَةِ الْعلَّة) حِينَئِذٍ من النَّقْض (إِذْ نقضه) أَي نقض دليلها الْمعِين (لَيْسَ نقضهَا) لجَوَاز إِثْبَاتهَا بِدَلِيل آخر فَإِذن يلْزم عَلَيْهِ الِانْتِقَال عَن وظيفته: أَعنِي نقض الْعلَّة (وَنظر فِيهِ) أَي فِي عدم سَمَاعه، والناظر ابْن الْحَاجِب مُسْتَندا (بِأَن بُطْلَانه) أَي دَلِيل الْعلية (بُطْلَانهَا) أَي الْعلية (أَي عدم ثُبُوتهَا إِذْ لَا بُد لَهَا) أَي الْعلية (من مَسْلَك صَحِيح) وَقد ظهر عدم صِحَة المسلك الَّذِي تمسك بِهِ الْمُسْتَدلّ وَوُجُود غَيره غير مَعْلُوم، وَالْأَصْل عَدمه (وَهُوَ) أَي بطلَان الْعلَّة (مَطْلُوبه) أَي الْمُعْتَرض (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَاد النَّاظر بِالْبُطْلَانِ عدم الثُّبُوت (فبطلان الدَّلِيل الْمعِين لَا يُوجِبهُ) أَي بُطْلَانهَا (لكنه) أَي بطلَان الدَّلِيل الْمعِين (يحوجه) أَي الْمُسْتَدلّ (إِلَى الِانْتِقَال إِلَى) دَلِيل (آخر لإِثْبَات) مطلب الدَّلِيل (الأول) يَعْنِي علية الْوَصْف (ويجيب) الْمُسْتَدلّ (أَيْضا) بدل منع وجودهَا (بِمَنْع انْتِفَاء الحكم فِي ذَلِك) أَي فِي مَحل النَّقْض اتِّفَاقًا (وللمعترض الدّلَالَة) بِإِقَامَة الدَّلِيل (عَلَيْهِ) أَي لانْتِفَاء الحكم (فِي) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) إِذْ بِهِ يحصل مَطْلُوبه وَهُوَ إبِْطَال دَلِيل الْمُسْتَدلّ، وَقيل لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ انْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال، وَقيل نعم إِذا لم يكن طَرِيق أولى من النَّقْض فِي الْقدح (وَالْمُخْتَار عدم وجوب الاحتراس) على الْمُسْتَدلّ (عَن النَّقْض فِي الِاسْتِدْلَال) بِذكر قيد يخرج مَحل النَّقْض (وَقيل يجب) الاحتراس عَنهُ بِمَا ذكر (وَقيل) يجب (إِلَّا فِي المستثنيات) أَي يجب الاحتراس فِي التَّعْلِيل عَن كل نقض إِلَّا عَن النَّقْض الَّذِي يرد على مَا ذهب إِلَى عليته(4/139)
مُجْتَهد من الْأَوْصَاف، فِي الشَّرْح العضدي هِيَ مَا تردد على كل عِلّة، فَإِذا قَالَ فِي الذّرة مطعوم فَيجب فِيهِ التَّسَاوِي كالبر فَلَا حَاجَة إِلَى أَن يَقُول وَلَا حَاجَة تدعوك إِلَى التَّفَاضُل فِيهِ فَيخرج الْعَرَايَا فَإِنَّهُ وَارِد على كل تَقْدِير سَوَاء عللنا بالطعم أَو الْقُوت أَو الْكَيْل فَلَا تعلق لَهُ بِإِبْطَال مَذْهَب وَتَصْحِيح آخر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كالعرايا عِنْد الشَّافِعِيَّة) وَهِي عِنْدهم بيع التَّمْر على رُءُوس النّخل على قدر كَيْله من التَّمْر خرصا لَو جف فِيمَا دون خَمْسَة أوسق. وَأما الْحَنَفِيَّة فَلَيْسَتْ الْعَرَايَا عِنْدهم إِلَّا الْعَطِيَّة وَهِي أَن يعري الرجل نَخْلَة من نخله فَلَا يسلم ذَلِك حَتَّى يَبْدُو لَهُ، فَرخص لَهُ أَن يحبس ذَلِك وَيُعْطِيه مَكَانَهُ بخرصه تَمرا، وَلَيْسَ بَين المعرى لَهُ والمعرى بيع حَقِيقِيّ. فَلَا يتَصَوَّر هَذَا التَّمْثِيل عِنْدهم (لنا) على الْمُخْتَار (أَنه) أَي الْمُسْتَدلّ (أتم الدَّلِيل) يَعْنِي سُئِلَ عَن دَلِيل الْعلية فوفى بِهِ (إِذْ انْتِفَاء الْمعَارض) لَهُ (لَيْسَ مِنْهُ) أَي الدَّلِيل: يَعْنِي أَن النَّقْض دَلِيل عدم الْعلية فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ مُعَارضَة وَنفي الْمعَارض لَيْسَ من الدَّلِيل، فَهُوَ غير مُلْتَزم لَهُ فَلَا يلْزم (وَلِأَنَّهُ) أَي الاحتراس عَنهُ بِمَا ذكر (لَا يُفِيد) دفع الِاعْتِرَاض بِالنَّقْضِ (إِذْ يَقُول) الْمُعْتَرض (الْقَيْد) الَّذِي ذكرته احتراسا (طرد) أَي طردي لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْعلية (وَالْبَاقِي) بعده، وَهُوَ الْمُؤثر فِي الْعلية (منتقض) لِأَنَّهُ بِدُونِ ذَلِك الْقَيْد الطردي مَوْجُود فِي مَحل التَّخَلُّف (وَهَذَانِ) أَي منع وجود الْعلَّة وَمنع انْتِفَاء الحكم (دفعان) لتحَقّق النَّقْض لَا يحسمان مَادَّة الشُّبْهَة بِالْكُلِّيَّةِ (وَالْجَوَاب الْحَقِيقِيّ) الحاسم لَهَا (بعد الْوُرُود) أَي وُرُود النَّقْض، وَتبين وجود الْعلَّة، وَانْتِفَاء الحكم فِي مَحل النَّقْض إِنَّمَا يتَحَقَّق (بإبداء الْمَانِع) من تَأْثِير الْعلَّة (فِي مَحل التَّخَلُّف، وَهُوَ) أَي الْمَانِع (معَارض اقْتضى نقيض الحكم) الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ (فِيهِ) أَي فِي مَحل التَّخَلُّف ظرف للاقتضاء، وَالْمرَاد بالنقيض مَا يُقَابله سلبا أَو إِيجَابا أَو مَا يُسَاوِيه (أَو) اقْتضى (خِلَافه) أَي الحكم الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ، وَالْمرَاد بِهِ الضِّدّ الَّذِي هُوَ أخص من نقيضه، وَهَذَا الْمُقْتَضى إِنَّمَا يثبت (لتَحْصِيل مصلحَة) أهم من مصلحَة حكم الأَصْل (كالعرايا) وَقد عرفتها (لَو أوردت) مَادَّة للنقض (على الربويات) أَي على الْعِلَل الْمُعْتَبرَة شرعا بِحَسب اخْتِلَاف الْمذَاهب للْحكم الثَّابِت فِي أصُول الْأَمْوَال الربوية، وَتلك الْمصلحَة دفع الْحَاجة الْعَامَّة إِلَى الرطب وَالتَّمْر، وَعدم وجود تمر آخر غير أحد الْأَمريْنِ (وَكَذَا الدِّيَة) أَي وَكَذَا ضربهَا (على الْعَاقِلَة) لَو أوردت نقضا (على الزّجر) الَّذِي هُوَ عِلّة وجوب الدِّيَة الْمُغَلَّظَة على الْقَاتِل (لمصْلحَة أوليائه) مُتَعَلق بِضَرْب الدِّيَة فَإِنَّهُ لمَنْفَعَة أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، وَجه الْإِيرَاد أَن الْحَاجة إِلَى الزّجر مَوْجُودَة فِي الْقَتْل خطأ مَعَ تخلف الحكم، وَهُوَ وجوب الدِّيَة الْمُغَلَّظَة على الْقَاتِل وَالْجَوَاب الْحَقِيقِيّ إبداء الْمَانِع الَّذِي هُوَ معَارض يَقْتَضِي خلاف الحكم من الدِّيَة المخففة على الْعَاقِلَة (مَعَ عدم تحميله) أَي الْقَاتِل لعدم قَصده(4/140)
الْقَتْل، الظّرْف مُتَعَلق بِضَرْب الدِّيَة على الْعَاقِلَة، فَهَذَا الحكم الَّذِي هُوَ ضرب الدِّيَة المخففة عَلَيْهِم مركب من أَمريْن: ضرب الدِّيَة، وَكَونهَا على الْعَاقِلَة دون الْقَاتِل، فَالْأول وَهُوَ أصل ضرب الدِّيَة إِنَّمَا هُوَ لمصْلحَة أَوْلِيَاء الْمَقْتُول. وَالثَّانِي وَهُوَ كَونهَا على الْعَاقِلَة، لأَنهم يغنمون بِكَوْنِهِ مقتولا فليغرموا بِكَوْنِهِ قَاتلا: وَلذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " مَالك غنمه فَعَلَيْك غرمه ". وَأما أَنَّهَا لَيست على الْقَاتِل، فَلَمَّا ذكر من عدم قَصده الْقَتْل، وَهُوَ الَّذِي ذكرنَا من عدم التحميل على الْقَاتِل إِنَّمَا هُوَ (للشَّافِعِيَّة) . وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة فيودي الْقَاتِل كأحدهم (أَو) يثبت مَا ذكر من نقيض الحكم أَو خِلَافه (لدفع مفْسدَة) أعظم من مفْسدَة شرع حكم الأَصْل لَهُ فِيهَا (كالاضطرار لَو ورد على تَعْلِيل حُرْمَة الْميتَة بالاستقذار فَإِنَّهُ) أَي الِاضْطِرَار (اقْتضى خِلَافه) أَي مَا يَقْتَضِيهِ الاستقذار من التَّحْرِيم (من الْإِبَاحَة) بَيَان لخلافه، فَإِن دفع هَلَاك النَّفس أعظم من مفْسدَة أكل المستقذر: هَذَا كُله إِذا لم تكن الْعلَّة منصوصة بِظَاهِر عَام (فَلَو كَانَت) الْعلَّة (منصوصة ب) ظَاهر (عَام) لَا يجب إبداء الْمَانِع بِعَيْنِه، بل (وَجب تَقْدِير الْمَانِع وتخصيصه) أَي الْعَام (بِغَيْر مَحل النَّقْض) جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ (وَهَذَا) أَي تَخْصِيصه بِغَيْر مَا ذكر (إِذا كَانَ النَّص على استلزامها) أَي الْعلَّة للْحكم (فِي الْمحَال لَا على عليتها) أَي الْعلَّة (فِيهَا) أَي الْمحَال (إِذْ لَا تَنْتفِي عليتها بالمانع) فَإِن قلت: مَا معنى عدم انْتِفَاء الْعلية بِهِ دون الِالْتِزَام قلت: معنى عليتها للْحكم فِي الْمحَال كَونهَا بِحَيْثُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم لَو لم يتَحَقَّق مَعهَا مَانع عَن الحكم، وَهَذَا الْكَوْن مَوْجُود فِي مَحل النَّقْض، فَإِن صدق مَضْمُون هَذِه الشّرطِيَّة لَا يسْتَلْزم وجود الحكم بِالْفِعْلِ، بِخِلَاف مَا إِذا نَص على الاستلزام، وَهُوَ كَونهَا بِحَيْثُ مَتى تحققت تحقق مَعهَا الحكم بِالْفِعْلِ فَافْهَم (أَو) كَانَت منصوصة (بخاص) قَطْعِيّ الدّلَالَة على عليتها (فِيهِ) أَي فِي مَحل النَّقْض، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ (وَجب تَقْدِيره) أَي الْمَانِع (فَقَط) لِأَنَّهُ لَا مجَال لتخصيص الْخَاص بِغَيْر مَحل النَّقْض، وَإِنَّمَا وَجب تَقْدِير الْمَانِع لِأَن عليتها للْحكم: أَي فِي مَحل النَّقْض ثَابِتَة، وَالْحكم مُنْتَفٍ فِيهِ بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع، فَلَا بُد من مَانع هُنَاكَ لِاسْتِحَالَة تخلف الْمَعْلُول عِنْد وجود الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع (و) وَجب (الحكم بعليتها) أَي الْعلَّة (فِيهِ) أَي فِي مَحل النَّقْض لدلَالَة النَّص الْخَاص عَلَيْهِ قطعا، وَهَذَا الْجَواب على قَول من يجوز تَخْصِيص الْعلَّة. (أما مانعو تَخْصِيص الْعلَّة فبعدم وجودهَا) أَي فيجيبون بِعَدَمِ وجود الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض (إِذْ هِيَ) أَي الْعلَّة (الباعثة) على الحكم (مَعَ عَدمه) أَي الْمَانِع فالعلة عِنْدهم لَا تتَحَقَّق إِلَّا بأمرين: الْمُقْتَضى، وَعدم الْمَانِع (فَهُوَ) أَي عدم الْمَانِع (شَرط عليتها) وَحَيْثُ انْتَفَى شَرط الْعلية فِي مَحل النَّقْض انْتَفَت الْعلَّة (وَغَيرهم) أَي غير المانعين لتخصيصها(4/141)
وهم الْأَكْثَرُونَ عِنْدهم عدم الْمَانِع (شَرط ثُبُوت الحكم) لِأَن شَرط علته الْعلَّة (وَتقدم) فِي المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط الْعلَّة (مَا فِيهِ) من الْكَلَام فَليرْجع إِلَيْهِ (و) قَالَ (بعض الْحَنَفِيَّة (لَا يُمكن دفع النَّقْض عَن) الْعِلَل (الطردية) لِأَنَّهُ يُبْطِلهَا حَقِيقَة (إِذْ الاطراد لَا يبْقى بعد النَّقْض) يَعْنِي لَا دَلِيل على علتها سوى كَونهَا بِحَيْثُ مَتى وجدت وجد الحكم مَعهَا، وَحَيْثُ وجدت فِي مَحل النَّقْض بِدُونِ الحكم انْتَفَت الْحَيْثِيَّة، وَهِي الاطراد فانتفت الْعلية لعدم مَا يدل عَلَيْهَا (وَهُوَ) أَي مَا قَالَه الْبَعْض من عدم إِمْكَان دفع النَّقْض عَنْهَا (بعد كَونه على) تَقْدِير تحقق (النَّقْض فِي نفس الْأَمر) لَا بِمُجَرَّد إِيرَاد الْمُعْتَرض إِيَّاه لجَوَاز أَن يكون إِيرَاده على خلاف مَا فِي الْوَاقِع، فيدفعه الْمُجيب حِينَئِذٍ بِدفع تهمته (وَعرف مَا فِيهِ) حَيْثُ قَالَ فِي أول الْفَصْل، وعَلى الطردية ترد مَعَ القَوْل بِالْمُوجبِ إِلَى آخِره فَارْجِع إِلَيْهِ (بِنَاء) أَي مَبْنِيّ خبر لقَوْله، وَهُوَ (على قصر) الْعِلَل (الطردية على مَا) أَي على الطردية الثَّابِتَة (بالدوران) فَقَط من غير مُنَاسبَة وَلَا ملاءمة (وَلَا وَجه لَهُ) أَي لقصرها عَلَيْهِ (بل) الطردية هِيَ (غير المؤثرة) فتعم الْمُنَاسبَة والملائم باصطلاح الْحَنَفِيَّة، وَوجه الْبناء أَن النَّقْض بِحَسب نفس الْأَمر إِنَّمَا يُنَافِي الدوران بِحَسبِهِ لَا الْمُنَاسبَة والملائمة، فَلَو لم يقصر الطردية على مَا بالدوران لَا يَصح قَوْله لَا يبْقى بعد النَّقْض، لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي علتها بِمُجَرَّد انْتِفَاء الدوران لوُجُود الْمُنَاسبَة أَو الملائمة (وعَلى) تَقْدِير (الْوُرُود) أَي وُرُود النَّقْض على الطردية (يحوج) وُرُوده (إِلَى التَّأْثِير كطهارة) أَي كَقَوْل الشَّافِعِي الْوضُوء طَهَارَة (فَيشْتَرط لَهَا) أَي للطَّهَارَة الَّتِي هِيَ الْوضُوء (النِّيَّة كالتيمم) أَي كَمَا يشْتَرط النِّيَّة للتيمم لكَونه طَهَارَة، فَجعل وصف الطَّهَارَة عِلّة لاشْتِرَاط النِّيَّة (فينقض) الْوَصْف الْمَذْكُور عِلّة (بِغسْل الثَّوْب) من النَّجَاسَة فَإِنَّهَا طَهَارَة، وَلَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة (فَيُفَرق) بَينهمَا (بِأَنَّهَا) أَي الطَّهَارَة الَّتِي هِيَ الْوضُوء طَهَارَة (غير معقولة) لِأَنَّهُ لَا يعقل فِي محلهَا نَجَاسَة (فَكَانَت) الطَّهَارَة الْمَذْكُورَة (متعبدا بهَا فافتقرت إِلَى النِّيَّة) تَحْقِيقا لِمَعْنى التَّعَبُّد الَّذِي لم تشرع إِلَّا بِهِ، إِذْ الْعِبَادَة لَا تنَال بِدُونِ النِّيَّة (بِخِلَافِهِ) أَي غسل الثَّوْب من النَّجَاسَة (لعقلية قصد الْإِزَالَة) وَإِذا علم أَن الْمَقْصُود مِنْهَا إِزَالَة النَّجَاسَة لَا التَّعَبُّد بهَا (وبالاستعمال) أَي بِاسْتِعْمَال مَا يزِيل النَّجَاسَة (تحصل) الْإِزَالَة الَّتِي هِيَ الْمَقْصُود (فَلم يفْتَقر) غسله إِلَى النِّيَّة، وَقد مر فِي شُرُوط الْفَرْع جَوَاب الْحَنَفِيَّة عَن هَذَا (وَأما) الْعِلَل (المؤثرة فَتقدم صِحَة وُرُود النَّقْض عَلَيْهَا، وَحَيْثُ ورد) النَّقْض صُورَة عَلَيْهَا (دفع بِأَرْبَع) من الْأَجْوِبَة: أَولهَا (إبداء عدم الْوَصْف) فِي صُورَة النَّقْض (كخارج نجس) أَي كَمَا يُقَال فِي الْخَارِج النَّجس من بدن الْإِنْسَان من غير السَّبِيلَيْنِ أَنه نَاقض للْوُضُوء، لِأَنَّهُ خَارج نجس (من الْبدن فَحدث) أَي فَهُوَ حدث (كَمَا فِي) الْخَارِج النَّجس(4/142)
من (السَّبِيلَيْنِ) فَإِنَّهُ حدث لِأَنَّهُ خَارج نجس من الْبدن (فينقض) الْوَصْف الْمَذْكُور للعلية فِي إِثْبَات الْحَدث (بِمَا) أَي بِخَارِج نجس (لم يسل) من رَأس الْجرْح إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التطهر فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَدَث مَعَ وجود الْوَصْف الْمَذْكُور فِيهِ (فَيدْفَع) النَّقْض بِهِ (بِعَدَمِ الْخُرُوج) أَي بِأَن يُقَال لَا نسلم وجود الْوَصْف فِيمَا لم يسل فَإِنَّهُ باد، وَلَيْسَ بِخَارِج (لِأَنَّهُ) أَي الْخُرُوج إِنَّمَا يتَحَقَّق (بالانتقال) من مَكَان إِلَى آخر، وَهُوَ مُسْتَقر فِي مَكَانَهُ، غير أَنه ظهر بِزَوَال الْجلْدَة الساترة لَهُ، ثمَّ هُوَ لَيْسَ بِنَجس على مَا روى عَن أبي يُوسُف. وَالْمُخْتَار عِنْد كثير من الْمَشَايِخ، بِخِلَاف السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر ظُهُور الْقَلِيل مِنْهُمَا إِلَّا بالانتقال (وَملك بدل الْمَغْصُوب) أَي وكما يُقَال فِي مالكية الْمَغْصُوب مِنْهُ بدل الْمَغْصُوب أَنه (عِلّة ملكه) أَي مالكية الْغَاصِب الْمَغْصُوب لِئَلَّا يجْتَمع الْبَدَل والمبدل فِي ملك شخص وَاحِد (فينقض) الْوَصْف الْمَذْكُور فِي هَذَا التَّعْلِيل (بالمدبر) فَإِن غصبه سَبَب لملك بدله للْمَغْصُوب مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا لَا يملك الْغَاصِب الْمُبدل وَلم يخرج عَن ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ (فَيمْنَع) أَن يكون مَا ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ (ملك بدله) أَي بدل الْمَغْصُوب (بل بدل الْيَد) أَي بل هُوَ ملك بدل الْيَد، لِأَن ضَمَانه لَيْسَ بَدَلا عَن الْعين، بل عَن الْيَد الثَّابِتَة، فَلم يتَحَقَّق الْوَصْف، وَهُوَ ملك بدل الْمَغْصُوب عَلَيْهِ فِي مَادَّة النَّقْض فَلَا نقض (و) ثَانِيهَا الْجَواب (بِمَنْع وجود الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار) الْوَصْف (عِلّة) وَذَلِكَ الْمَعْنى كَالثَّابِتِ بِدلَالَة النَّص بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْصُوص بِمَعْنى أَن الْوَصْف بِوَاسِطَة مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ يدل على معنى آخر هُوَ الْمُؤثر فِي الحكم (فينتفى) الْوَصْف معنى (وَإِن وجد صُورَة كمسح) أَي كَمَا يُقَال فِي مسح الرَّأْس مسح (فَلَا يسن تكريره كمسح الْخُف) فَإِنَّهُ مسح، فَلَا يسن تكريره (فينتقض) الْوَصْف، وَهُوَ كَونه مسحا (بالاستنجاء) بِالْحجرِ: أَي بِأَنَّهُ مَوْجُود فِيهِ مَعَ تخلف الحكم، وَهُوَ عدم مسنونية التكرير عَنهُ، فَإِن تثليث الْمسْح فِيهِ مسنون إِجْمَاعًا إِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ، فَإِن لم يكن تثليث الْحجر مسنونا عِنْد أَصْحَابنَا على الْإِطْلَاق، وَإِذا كَانَ الْحجر ذَا أَطْرَاف ثَلَاثَة وَمسح بِكُل مِنْهَا عمل بِالسنةِ (فَيمْنَع فِيهِ) أَي فِي الِاسْتِنْجَاء (الْمَعْنى الَّذِي شرع لَهُ) الْمسْح فِي الْوضُوء (وَهُوَ) أَي الْمَعْنى الْمَذْكُور (التَّطْهِير الْحكمِي) لِأَن الِاسْتِنْجَاء تَطْهِير حَقِيقِيّ (وَله) أَي التَّطْهِير الْحكمِي (لم يسن) التّكْرَار (لِأَنَّهُ) أَي التّكْرَار (لتأكيد التَّطْهِير الْمَعْقُول) الْمَعْنى، وَهُوَ إِزَالَة النَّجَاسَة الْحَقِيقِيَّة (لتحَقّق الْإِزَالَة) بالتكرار (وَهُوَ) أَي التَّطْهِير الْمَعْقُول ثَابت (فِي الِاسْتِنْجَاء) لِأَنَّهُ إِزَالَة للنَّجَاسَة (دونه) أَي لَيْسَ بِثَابِت فِي الرَّأْس (كَمَا) أَي كالكائن (فِي التَّيَمُّم) فَإِنَّهُ تَطْهِير حكمي غير مَعْقُول الْمَعْنى: وَلِهَذَا لم يشرع فِيهِ التّكْرَار. (و) ثَالِثهَا الْجَواب (بِمَنْع التَّخَلُّف) أَي تخلف الحكم عَن الْعلَّة فِي صُورَة النَّقْض وادعاء تحَققه فِيهَا (كَمَا إِذا نقض) الْمِثَال (الأول)(4/143)
يَعْنِي الْوَصْف الْمَذْكُور فِيهِ، وَهُوَ خُرُوج النَّجس من الْبدن (بِالْجرْحِ السَّائِل) لصَاحب الْعذر بِأَن يُقَال الْجرْح الْمَذْكُور مَوْجُود فِيهِ مَعَ تخلف الحكم، وَهُوَ الْحَدث عَنهُ (فَيمْنَع كَونه) أَي الْخَارِج النَّجس فِي الْجرْح سَائِلًا (لَيْسَ حَدثا بل هُوَ) حدث: أَي مُوجب لَهُ (وَتَأَخر حكمه) الَّذِي هُوَ الْحَدث (إِلَى مَا بعد خُرُوج الْوَقْت) عِنْد أبي حنيفَة وَمن وَافقه (أَو) إِلَى (الْفَرَاغ) من الْمَكْتُوبَة وَمَا يتبعهَا من النَّوَافِل عِنْد الشَّافِعِي وَمن وَافقه، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن الشَّافِعِي لَا يَقُول بِالْحَدَثِ فِيمَا خرج من غير السَّبِيلَيْنِ (ضَرُورَة الْأَدَاء) عِلّة للتأخر فَإِنَّهُ مُخَاطب بأدائها، وَلَا قدرَة عَلَيْهِ إِلَّا بِسُقُوط حكم الْحَدث فِي هَذِه الْحَالة (وَلذَا) أَي وَلأَجل كَونه حَدثا تَأَخّر حكمه ضَرُورَة الْأَدَاء (لم يجز مَسحه) أَي مسح صَاحب الْجرْح السَّائِل (خفه إِذا لبسه فِي الْوَقْت مَعَ السيلان بعد خُرُوجه) أَي الْوَقْت، وَإِنَّمَا قَالَ بعد خُرُوجه لِأَنَّهُ يمسح فِي الْوَقْت كلما تَوَضَّأ لحَدث غير الَّذِي ابتلى بِهِ، وَقيد أَيْضا بمقارنة التَّلَبُّس للسيلان، لِأَن اللّبْس إِذا كَانَ على الِانْقِطَاع يمسح بعد الْوَقْت أَيْضا إِلَى تَمام الْمدَّة، وَإِذا كَانَ الْوضُوء مُقَارنًا للسيلان دون اللّبْس فَحكمه حكم مُقَارنَة اللّبْس للسيلان، وَإِنَّمَا لم يجز مَسحه فِيمَا ذكر بعد خُرُوج الْوَقْت، لِأَنَّهُ بِخُرُوج الْوَقْت يصير مُحدثا بِالْحَدَثِ السَّابِق، فَفِي حق الْمسْح بعد خُرُوج الْوَقْت يعْتَبر كَونه لابسا للخف على غير طَهَارَة، لِأَن ضَرُورَة اعْتِبَار سُقُوط حكم الْحَدث قد انْتَهَت بِخُرُوج الْوَقْت لما عرفت، وَحكم الْحَدث وَإِن ثَبت بعد خُرُوجه لكنه يسْتَند إِلَى السَّبَب، فَيعْتَبر من وَقت اللّبْس. (و) رَابِعهَا الْجَواب (بالغرض) أَي بِبَيَان الْغَرَض الْمَطْلُوب بِالتَّعْلِيلِ (فَيَقُول) الْمُسْتَدلّ (فِي) جَوَاب نقض (الْمِثَال) الْمَذْكُور (غرضي بِهَذَا التَّعْلِيل التَّسْوِيَة بَين الْخَارِج من السَّبِيل و) الْخَارِج من (غَيره فِي كَونهمَا حَدثا، و) كَونهمَا (إِذا لزما) أَي استمرا (صَارا عفوا) بِأَن يسْقط حكمهمَا ضَرُورَة توجه الْخطاب بأَدَاء الصَّلَاة (فَإِن الْبَوْل) الَّذِي هُوَ أصل (كَذَلِك) أَي إِذا اسْتمرّ صَار عفوا للمعنى الْمَذْكُور (فَوَجَبَ فِي الْفَرْع) أَي الْجرْح السَّائِل (مثله) أَي إِذا دَامَ صَار عفوا لما ذكر وَإِلَّا لزم مُخَالفَة الْفَرْع للْأَصْل (وَحَاصِل الثَّانِي) وَهُوَ الْجَواب بِمَنْع وجود الْمَعْنى إِلَى آخِره (الِاسْتِدْلَال على انتفائها) أَي الْعلَّة (إِذْ هِيَ) أَي الْعلَّة عِلّة (بمعناها لَا بِمُجَرَّد صورتهَا) فَلَا عِبْرَة بالصورة عِنْد انْتِفَاء الْمَعْنى (وَذكر الشَّافِعِيَّة من الاعتراضات) نقض الْحِكْمَة فَقَط) بِأَن تُوجد الْحِكْمَة فِي مَادَّة وَلم تُوجد الْعلَّة وَلَا الحكم (ويسمونه) أَي النَّقْض الْمَذْكُور (كسرا، وَتقدم) فِي المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط الْعلَّة (الْخلاف فِي قبُوله) أَي قبُول هَذَا النَّقْض (وَأَن الْمُخْتَار) عِنْد الْأَكْثَر: وَمِنْهُم الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (قبُوله عِنْد الْعلم برجحان) الْحِكْمَة (المنقوضة) بهَا فِي مَحل النَّقْض على الْمَذْكُورَة فِي الأَصْل، يَعْنِي إِذا(4/144)
علم أَنه تحقق فِي مَحل النَّقْض فَرد من أَفْرَاد الْحِكْمَة رَاجِح على الْفَرد الْمَوْجُود فِي الأَصْل (أَو مساواتها) أَي مُسَاوَاة المنقوضة بهَا للمذكورة إِلَّا أَن شرع حكم آخر فِي مَحل النَّقْض أليق بالمنقوضة بهَا (وحققنا ثمَّة خِلَافه) أَي خلاف الْمُخْتَار، وَهُوَ أَن لَا يسمع وَإِن علم رُجْحَان المنقوضة بهَا لما ذكر هُنَاكَ فَارْجِع إِلَيْهِ (ثمَّ منع وجود الْعلَّة) يَعْنِي الْحِكْمَة (هُنَا) أَي فِي الْكسر (على تَقْدِير سَمَاعه) أَي الْكسر (أظهر مِنْهُ) أَي من منع وجودهَا فِي النَّقْض لِأَن قدر الْحِكْمَة يتَفَاوَت، فقد لَا يحصل مَا هُوَ منَاط الحكم مِنْهُ فِي الأَصْل (فِي) مَادَّة (النَّقْض) بِخِلَاف نفس الْوَصْف فَإِنَّهُ لَا يتَفَاوَت فيبعد أَن يخفى وجود الْعلَّة فِي مَادَّة النَّقْض على الناقض فيدعي وجودهَا، وتخلف الحكم بِخِلَاف الْحِكْمَة لما عرفت (خَامِسهَا) أَي خَامِس المنوع على عِلّة حكم الأَصْل (فَسَاد الْوَضع) وَلم يعرفهُ اكْتِفَاء بِمَا يفهم من بَيَان النِّسْبَة، وَهُوَ (أخص من فَسَاد الِاعْتِبَار من وَجه إِذْ قد يجْتَمع ثُبُوت اعْتِبَارهَا) أَي الْعلَّة (فِي نقيض الحكم) الَّذِي هُوَ فَسَاد الْوَضع (مَعَ مُعَارضَة نَص أَو إِجْمَاع) ومعارضة الْعلَّة لأَحَدهمَا هُوَ فَسَاد الِاعْتِبَار (وَلَا يخفى) الْأَمْرَانِ (الْآخرَانِ) اللَّذَان لَا بُد مِنْهُمَا فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه بَينهمَا، يَعْنِي انْفِرَاد ثُبُوت اعْتِبَارهَا فِي نقيض الحكم عَن معارضتها لأَحَدهمَا وَعَكسه، وَقيل فَسَاد الْوَضع أخص مُطلقًا من فَسَاد الِاعْتِبَار وَقيل هما وَاحِد، وَنسب إِلَى أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَمَا ذهب إِلَيْهِ المُصَنّف هُوَ الْوَجْه لما علله بِهِ (وَيُفَارق) فَسَاد الْوَضع (النَّقْض بتأثيره) أَي الْوَصْف فِي فَسَاد الْوَضع (فِي النقيض) أَي نقيض الحكم الَّذِي جعل عِلّة لَهُ، بِخِلَاف النَّقْض لِأَنَّهُ لَا تعرض فِيهِ لتأثير الْوَصْف فِيهِ، وَإِنَّمَا يثبت النقيض مَعَه سَوَاء كَانَ التَّأْثِير لَهُ أَو لغيره (و) يُفَارق (الْقلب بِكَوْنِهِ) أَي الْوَصْف فِي فَسَاد الْوَضع يثبت نقيض الحكم (بِأَصْل آخر) وَفِي الْقلب يثبت نقيض الحكم بِأَصْل الْمُسْتَدلّ (و) يُفَارق (الْقدح فِي الْمُنَاسبَة بمناسبته) أَي الْوَصْف والقدح فِي الْمُنَاسبَة (نقيضه) أَي الحكم (من حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) يَعْنِي أَن يكون مناسبته الْوَصْف لنقيض الحكم من جِهَة ثُبُوته بِتِلْكَ الْجِهَة كَانَ مناسبا للْحكم، فَقَوله من حَيْثُ مُتَعَلق بمناسبته من جِهَته: أَي إِذا كَانَ، وَضمير هُوَ رَاجع إِلَى الْوَصْف مُبْتَدأ خَبره كَذَلِك، وَالْإِشَارَة إِلَى حَال الْوَصْف مَعَ الحكم بِاعْتِبَار الْمُنَاسبَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَحَقَّق (إِذا كَانَ من جِهَته) أَي إِذا كَانَت الْمُنَاسبَة للنقيض من جِهَة مُنَاسبَة الْوَصْف للْحكم، لَا من جِهَة أُخْرَى كمصلحة مترتبة عَلَيْهِ، وتذكير الضَّمِير فِي كَانَ بِتَأْوِيل التناسب (بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ التناسب للنقيض (من غَيره) أَي من غير جِهَة تناسب للْحكم كَمَا (إِذا كَانَ لَهُ) أَي للوصف (جهتان) تناسب بأحداهما الحكم وبالأخرى(4/145)
نقيضه (كَكَوْنِهِ) أَي الْمحل (مشتهى) للنفوس (يُنَاسب الْإِبَاحَة) كإباحة النِّكَاح (لدفع الْحَاجة) من قَضَاء الشَّهْوَة (و) يُنَاسب (التَّحْرِيم) على التَّأْبِيد (لقطع الطمع) إِذْ بِهِ يرفع الطمع المفضي إِلَى مُقَدمَات الْهم وَالنَّظَر المفضية إِلَى الْفُجُور، وَفِي الشَّرْح العضدي وَقد تخلص مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن ثُبُوت النقيض مَعَ الْوَصْف نقض، فَإِن زيد ثُبُوته بِهِ ففساد الْوَضع، وَأَن زيد كَونه بِهِ فِي أصل الْمُسْتَدلّ فَقلب، وَبِدُون ثُبُوته مَعَه فالمناسبة من جِهَة وَاحِدَة قدح فِيهَا وَمن جِهَتَيْنِ لَا، فَعلم أَن الْمُعْتَبر فِي فَسَاد الْوَضع ثُبُوت نقيض الحكم بِالْوَصْفِ بل مَعَ اعْتِبَار الشَّارِع ذَلِك، وَذَلِكَ يسْتَلْزم ثُبُوته مَعَه، وَفِي الْقدح عدم لُزُوم ثُبُوته مَعَه غير أَن الْوَصْف مُنَاسِب للنقيض من الْجِهَة الَّتِي زعم الْمُسْتَدلّ مُنَاسبَة للْحكم اعْتِبَارهَا (مِثَاله) أَي مِثَال فَسَاد الْوَضع أَن يُقَال فِي التَّيَمُّم (مسح فَيسنّ تكراره كالاستنجاء فَيرد) أَن يُقَال إِثْبَات التّكْرَار بِالْمَسْحِ فَاسد الْوَضع إِذْ الْمسْح (مُعْتَبر فِي كَرَاهَته) أَي التّكْرَار (كالخف) فَإِن تكْرَار الْمسْح عَلَيْهِ يكره إِجْمَاعًا (وَجَوَابه) أَي هَذَا الْمَنْع (بالمانع) أَي بِبَيَان وجود الْمَانِع (فِيهِ) أَي فِي الْخُف الَّذِي هُوَ أصل الْمُعْتَرض (فَسَاده) أَي فَسَاد الْخُف وتلافه بتكرار الْمسْح عَلَيْهِ، فَقَوله فَسَاده إِمَّا مجرور عطف بَيَان للمانع أَو مَرْفُوع خبر مَحْذُوف، وَهُوَ ضمير رَاجع إِلَى الْمَانِع (و) مِثَاله (للحنفية إِضَافَة الشَّافِعِي الْفرْقَة) بَين الزَّوْجَيْنِ إِذا أسلمت وأبى (إِلَى إِسْلَام الزَّوْجَة) فَإِن هَذِه الْإِضَافَة من فَسَاد الْوَضع (فَإِنَّهُ) أَي الْإِسْلَام (اعْتبر) شرعا (عَاصِمًا للحقوق) كَمَا يَقْتَضِيهِ الحَدِيث الصَّحِيح، وَقد ذكر فِي بحث التَّأْثِير (فَالْوَجْه) إضافتها (إِلَى آبَائِهِ) أَي امْتِنَاعه من الْإِسْلَام لِأَنَّهَا عُقُوبَة والامتناع مِنْهُ رَأس كل عُقُوبَة (وَكَقَوْلِه) أَي الشَّافِعِي فِي عِلّة تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالْملح إِنَّهَا الطّعْم إِذْ (المطعوم ذُو خطر) أَي عزة وَشرف لكَونه قوام النُّفُوس وبقاءها (فيزاد فِيهِ) أَي فِي تملكه (شَرط التَّقَابُض) إِظْهَارًا للخطر كَالنِّكَاحِ الْمُوجب للاستيلاء على مَحل ذِي خطر فَإِنَّهُ شَرط فِيهِ زَائِد، وَهُوَ حُضُور الشُّهُود (فَيرد) أَن يُقَال (اعْتِبَار مساس الْحَاجة) إِلَى الشَّيْء إِنَّمَا يُنَاسب أَن يكون مؤثرا (فِي التَّوسعَة) وَالْإِطْلَاق فِي ذَلِك الشَّيْء، لَا فِي التَّضْيِيق وَالتَّقْيِيد بِالشّرطِ الزَّائِد، وَلذَا أحل الْميتَة عِنْد الِاضْطِرَار، وَلذَا جرت السّنة الإلهية بالتوسعة فِي المَاء والهواء وَنَحْوهمَا (سادسها) أَي المنوع على الْعلَّة (الْمُعَارضَة فِي الأَصْل) وَهِي (أَن يُبْدِي) الْمُعْتَرض (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل (وَصفا آخر) غير مَا أبداه الْمُسْتَدلّ (صَالحا) للعلية (يحْتَمل أَنه الْعلَّة) وَعبارَة المُصَنّف هَذِه كَانَت وافية بأَدَاء الْمَقْصُود لِأَن الْمَجْمُوع الْمركب من وصف الْمُسْتَدلّ وَوصف الْمُعْتَرض يصدق عَلَيْهِ أَنه اثر وصف آخر غير أَنه قصد التَّوْضِيح فَقَالَ (أَو) أَنه (مَعَ وصف الْمُسْتَدلّ) الْعلَّة (فَالْأول) يَعْنِي مِثَال الأول، وَهُوَ إبداء وصف آخر وَحده (مُعَارضَة الطّعْم)(4/146)
الْمُعَلل بِهِ فِي تَعْلِيل الْمُسْتَدلّ لحُرْمَة الرِّبَا فِي المنصوصات (بالقوت أَو الْكَيْل) جعله مِثَالا للْأولِ وَإِن احْتمل أَن يَجْعَل للثَّانِي أَيْضا بِأَن يَجْعَل الْمُعْتَرض الْعلَّة مَجْمُوع الطّعْم والقوت أَو الْكَيْل (وَالثَّانِي) وَهُوَ إبداء وصف مَعَ وصف الْمُسْتَدلّ للعلية (الْجَارِح للْقَتْل الْعدوان) أَي مُعَارضَة الْجَارِح للْقَتْل الْعدوان الْمُعَلل بِهِ فِي تَعْلِيل الْمُسْتَدلّ الْقصاص فِي المحدد (لنفي المثقل) كالحجر الْكَبِير مُتَعَلق بالمعارضة المفهومة، فَإِن الْمعَارض قصد بإبداء الْمَجْمُوع الْمركب من الْجَارِح وَالْقَتْل الْعدوان للعلية نفي وجوب الْقصاص فِي الْقَتْل بالمثقل لِانْعِدَامِ جُزْء الْعلَّة: وَهُوَ الْجَارِح فِيهِ (وَاخْتلف فِيهِ) أَي (فِي) هَذَا الْمَنْع فِي كل من (المذهبين) للحنفية وَالشَّافِعِيَّة من حَيْثُ الْقبُول وَعَدَمه (وَالْمُخْتَار للشَّافِعِيَّة قبُوله) أَي الْمَنْع الْمَذْكُور (لتَحكم الْمُسْتَدلّ) بِهِ (باستقلال وَصفه مَعَ صَلَاحِية) الْوَصْف (المبدي لَهُ) أَي للاستقلال: يَعْنِي يقبل من الْمُعْتَرض أَن يمْنَع علية وصف الْمُسْتَدلّ بإبداء وصف آخر لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يلْزم أَن يكون حكمه باستقلال وَصفه مَعَ كَون الْوَصْف الآخر مثله فِي صَلَاحِية الْعلَّة تحكما مَحْضا وَهُوَ بَاطِل، وَلَا شكّ فِي قبُول مَا تبين بطلَان التَّعْلِيل (وللجزئية) مَعْطُوف على قَوْله يَعْنِي وَكَذَا يلْزم تحكمه فِي دَعْوَى الِاسْتِقْلَال مَعَ صَلَاحِية المبدي للجزئية، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يجوز أَن يكون الْمُعْتَبر عِنْد الشَّارِع فِي الْعلية الْمَجْمُوع الْمركب من الوصفين كَمَا يجوز أَن يكون وصف الْمُسْتَدلّ من غير رُجْحَان لأَحَدهمَا على الآخر فَالْحكم بالاستقلال من الْمُسْتَدلّ تحكم (وَلَا يرجح) وصف الْمُسْتَدلّ من غير رُجْحَان لأَحَدهمَا على الآخر فَالْحكم بالاستقلال من الْمُسْتَدلّ على وصف الْمُعْتَرض وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب (بالتوسعة) أَي بِسَبَب كَونه أوسع دَائِرَة لِأَن الْجُزْء الْأَعَمّ أَكثر وجودا من الْكل فَيتَحَقَّق الحكم مَعَه أَكثر مِمَّا يتَحَقَّق مَعَ الْكل، أَو الْمَعْنى لَا يرجح وصف الْمُسْتَدلّ سَوَاء كَانَ وصف الْمُعْتَرض مركبا من وصف الْمُسْتَدلّ أَو لَا بِسَبَب كَونه أَعم من الْوَصْف الآخر (لِأَنَّهُ) أَي حُصُول التَّوسعَة (مُرَجّح لما ثبتَتْ عليته) أَي إِذا ثبتَتْ علية وصف بِاعْتِبَار الشَّارِع مَعَ ثُبُوت علية وصف آخر وَكَانَ أَحدهمَا أوسع دَائِرَة من الآخر يرجح الأوسع لكَونه أَكثر إِثْبَاتًا للْحكم وَفِي نُسْخَة لما ثَبت اعْتِبَاره (وَالْكَلَام فِيهِ) فِي أصل ثُبُوت علية وصف الْمُسْتَدلّ، وَقيل ثُبُوتهَا لَا يرجح بِمَا هُوَ أَكثر إِثْبَاتًا لَهُ، لِأَن الأَصْل عَدمه. فَالْحَاصِل أَن الْأَحْوَط بعد ثُبُوت الْعلية اعْتِبَار الأوسع لِئَلَّا يفوت حكم اعْتَبرهُ الشَّارِع بِخِلَاف مَا قبله، فَإِن الأولى فِيهِ رِعَايَة الأَصْل فَتَأمل (وَلَو سلم) التَّرْجِيح بالتوسعة قبل ثُبُوت الْعلية (فمعارض) أَي فَهَذَا الْمُرَجح معَارض على صِيغَة الْمَجْهُول (بِمَا يرجح وصف الْمُعَارضَة) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور فِي مقَام الْمُعَارضَة (وَهُوَ) أَي مَا يرجح وصفهَا (مُوَافقَة الأَصْل) وَهُوَ عدم الحكم (بالانتفاء) أَي بِانْتِفَاء الحكم (فِي الْفَرْع) اللَّازِم لوصف الْمُعَارضَة (و) الْمُخْتَار (للحنفية نَفْيه) أَي نفي قبُوله(4/147)
(ويسمونها) أَي الْمُعَارضَة فِي الأَصْل (الْمُفَارقَة) إِشَارَة إِلَى مَا سَيَأْتِي من أَن سُؤال الْفرق إبداء خُصُوصِيَّة فِي الأَصْل هِيَ شَرط للوصف مَعَ بَيَان انتفائها فِي الْفَرْع أَو بَيَان مَانع من الحكم فِيهِ مَعَ انْتِفَاء ذَلِك الْمَانِع فِي الأَصْل فهما معارضان فِي الأَصْل وَالْفرع لِأَن ابداء شَرط فِي الأَصْل مُعَارضَة فِيهِ وَبَيَان وجوده فِي الْفَرْع مُعَارضَة فِيهِ، وَمن أَن الْمُعْتَرض إِن لم يتَعَرَّض لانْتِفَاء الشَّرْط فِي الْفَرْع لم يكن من الْفرق بل هُوَ مُعَارضَة فِي الأَصْل الْمُسَمّى مُفَارقَة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَلم يذكروه اكْتِفَاء بِذكر الْمُعَارضَة فِي الأَصْل، وَلَعَلَّ وَجه التَّسْمِيَة أَن بَيَان الخصوصية فِي الأَصْل ينْسب للمفارقة بَين الأَصْل وَالْفرع (فَإِن كَانَ صَحِيحا) اسْم كَانَ رَاجع إِلَى الْفرق الْمَفْهُوم فِي ضمن الْمُفَارقَة لِأَن إبداء الْوَصْف الآخر إِنَّمَا يقْصد بِهِ الْفرق بَين الأَصْل وَالْفرع، وَصِحَّته بِوُجُود دَلِيل على وجود الْفَارِق بَينهمَا فِي الْعلَّة الْمُعْتَبرَة فِي ذَلِك الحكم (فليجعل) الْفرق الْمَوْجُود فِي ضمن تِلْكَ الْمُفَارقَة (ممانعة) أَي فليورد فِي صُورَة الممانعة (ليقبل) من الْمُعْتَرض لِأَن الْمُفَارقَة من الأسئلة الْفَاسِدَة عِنْد الْجُمْهُور، وللممانعة أساس المناظرة، وَبهَا يعرف فقه الرجل (فَفِي إِعْتَاق عبد الرَّهْن) أَي إِعْتَاق الرَّاهِن العَبْد الْمَرْهُون إِذا قَالَ الشَّافِعِي بِبُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ (تصرف لَاقَى حق الْمُرْتَهن) بالإبطال بِدُونِ رِضَاهُ (فَيبْطل) إِعْتَاقه (كَبَيْعِهِ) أَي لَا يبطل بيع الرَّاهِن الْمَرْهُون بِغَيْر إِذن الْمُرْتَهن (لَو قَالَ) الْحَنَفِيّ (هِيَ) أَي الْعلَّة (فِي الأَصْل) أَي البيع (كَونه) أَي البيع (يحْتَمل الرّفْع) بعد وُقُوعه فَلَا وَجه لِلْقَوْلِ بانعقاده وَهُوَ على شرف الِانْفِسَاخ من قبل الْمُرْتَهن، بِخِلَاف الْعتْق لكَونه لَا يحْتَمل الرّفْع (لم يقبل) جَوَاب لَو، لما ذكر من أَن الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة عدم قبُول الْمُفَارقَة، وَذَلِكَ لِأَن السَّائِل لَيْسَ لَهُ ولَايَة الْفرق كَمَا سيشير إِلَيْهِ، غير أَن الْفرق هَهُنَا صَحِيح فليجعل ممانعة (فَلْيقل إِن ادعيت حكم الأَصْل) أَي إِن جعلت حكم الأَصْل، وَهُوَ البيع (الْبطلَان منعناه) أَي منعنَا كَونه حكم الأَصْل (أَو) ادعيت حكمه (التَّوَقُّف) على إجَازَة الْمُرْتَهن أَو قَضَاء دينه (فَغير حكمك) الَّذِي تُرِيدُ إثْبَاته (فِي الْفَرْع) وَهُوَ الْبطلَان (وَهَذَا) أَي كَون الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة نفي قبُوله (لِأَنَّهُ غصب) لمنصب التَّعْلِيل، إِذْ السَّائِل مسترشد فِي موقف الْإِنْكَار فَإِن ادّعى شَيْئا آخر وقف موقف الدَّعْوَى بِخِلَاف الْمُعَارضَة فَإِنَّهَا تكون بعد تَمام الدَّلِيل والمعارض لَيْسَ فِي موقف الْإِنْكَار بل فِي موقف الِاسْتِدْلَال على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم (وَلَيْسَ) الْأَمر كَمَا قَالُوا من أَن إبداء وصف آخر غصبه (لِأَنَّهُ) أَي المبدي (لَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ) أَي كَون الْوَصْف الآخر عِلّة (بل يجوز كَونه) أَي المبدي وَحده (الْعلَّة أَو) كَونه (مَعَ مَا ذكر) الْمُسْتَدلّ الْعلَّة. (وَحَاصِله) أَي حَاصِل سُؤَاله هَذَا (منع استقلاله) أَي اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ بالعلية (وتسميته مُعَارضَة تجوز لقَولهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (إِذا أطلقت) الْمُعَارضَة فِي بَاب الْقيَاس(4/148)
(فَمَا فِي الْفَرْع) أَي فَالْمُرَاد الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع (وَهَذِه) أَي الْمُعَارضَة فِي الأَصْل تذكر (بِقَيْد) هُوَ فِي الأَصْل، فَعلم أَن الْحَقِيقَة فِي إِطْلَاق لفظ الْمُعَارضَة مَا فِي الْفَرْع، فَإِذا اسْتعْمل فِي غَيره كَانَ تجوزا على طَرِيق الِاسْتِعَارَة (وَإِذا رد النَّقْض) الَّذِي هُوَ كَالصَّرِيحِ فِي الِاسْتِدْلَال (إِلَى الْمَنْع) كَمَا مر (فَهَذَا) أَي رد الْمُعَارضَة فِي الأَصْل إِلَى الْمَنْع (أولى) مِنْهُ فِي ذَلِك [وَفِي التَّلْوِيح] وَلَا يخفى أَنه نزاع جدلي يقصدون بِهِ عدم وُقُوع الْخبط فِي الْبَحْث وَإِلَّا فَهُوَ ساع فِي إِظْهَار الصَّوَاب. (قَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (ولجواز علتين فِي الأَصْل تعدى) الحكم (بِكُل) مِنْهُمَا (إِلَى محلهَا) أَي إِلَى مَحل تِلْكَ الْعلَّة من موارد تحققها (فَعدم إِحْدَاهمَا) بِعَينهَا (فِي مَحل) تُوجد فِيهِ الْأُخْرَى (لَا يَنْفِي) كَون (الْأُخْرَى) عِلّة للْحكم فتعدى بهَا إِلَى مَحل آخر (وَهَذَا) الْوَجْه (يقْتَصر) فِي إفادته نفي الْقبُول (على مَا يجب فِيهِ) أَي على مَحل يجب فِيهِ (اسْتِقْلَال كل) من العلتين بِدَلِيل يُوجب ذَلِك (دون تَجْوِيز جزئيته) أَي جزئية كل مِنْهُمَا، لما كَانَ الِاسْتِقْلَال الْمُقَابل لتجويز الْجُزْئِيَّة يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: أَحدهمَا أَن يكون كل من المستقلين مجتمعا مَعَ الآخر، وَالثَّانِي بِخِلَافِهِ فَلَا تجمع علية أَحدهمَا مَعَ علية الآخر، وَعدم قبُول السُّؤَال فِي الأول دون الثَّانِي أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَالْحق) أَن يُقَال (أَن أجمع) أَي انْعَقَد الْإِجْمَاع (على أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (فِي مَحل النزاع إِحْدَاهمَا) فَقَط: أَي عِلّة الْمُسْتَدلّ والمعترض اسْتِقْلَالا (كعلة الرِّبَا) فَإِنَّهُ أجمع على أَنَّهَا إِمَّا الْكَيْل وَالْوَزْن، أَو الطّعْم فِي المطعومات وَالثمن فِي الْأَثْمَان، أَو الاقتيات والادخار (قبل) هَذَا السُّؤَال (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجمع على مَا ذكر (لَا) يقبل لجَوَاز أَن يكون كل مِنْهُمَا عِلّة اسْتِقْلَالا كَمَا ذكر. (وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة (بالاستقراء مبَاحث الصَّحَابَة جمع وَفرق) قَوْله مبَاحث الصَّحَابَة مُبْتَدأ خَبره جمع وَفرق: يَعْنِي جمع الْفَرْع مَعَ الأَصْل فِي الحكم بِمُوجب وصف مُشْتَرك بَينهمَا، وتمييز صُورَة عَن صُورَة أُخْرَى عِنْد توهم مشاركتهما فِي الحكم بِوَصْف مُشْتَرك بَينهمَا بِبَيَان فَارق يُفِيد عدم مشاركتهما فِي عِلّة الحكم، وَذَلِكَ بإبداء وصف مُغَاير لما توهم كَونه عِلّة فِي الصُّورَة الَّتِي ظن كَونهَا أصلا لصورته الْأُخْرَى، وَذَلِكَ إِجْمَاع على جَوَاز وصف فَارق غير مَوْجُود فِي الْفَرْع، وَقَوله بالاستقراء مُتَعَلق بِمَا يفهم من السِّيَاق تَقْدِيره علم بالاستقراء أَنه (لَا يمسهُ) خبر قَوْلهم وَالضَّمِير الْمَنْصُوب رَاجع إِلَى مطلبهم، وَهُوَ قبُول السُّؤَال الْمَذْكُور على الْعُمُوم (إِلَّا إِن نقلت) مباحثهم جمعا وفرقا (على) وَجه (الْعُمُوم) بِحَيْثُ ينْدَرج تحتهَا مبَاحث الْفرق فِي الْمُتَنَازع (وَلَا يُمكن) نقلهَا كَذَلِك لِأَن مَا نقل عَنْهُم مضبوط عِنْد أَئِمَّة النَّقْل وَلَيْسَ فِيهِ الْعُمُوم الْمَذْكُور (وعَلى) تَقْدِير (قبُولهَا) أَي الْمُعَارضَة فِي الأَصْل هَل يلْزم بَيَان انْتِفَاء المبدي فِي الْفَرْع؟ فِيهِ أَقْوَال: فأحدها نعم، إِذْ لَو لم ينتف فِيهِ لثبت مَطْلُوب الْمُسْتَدلّ، فثانيها لَا، لِأَن غَرَضه عدم اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ(4/149)
وَهُوَ يحصل بِمُجَرَّد الإبداء (فثالثها) الَّذِي هُوَ (الْمُخْتَار لَا يلْزم بَيَان انتفائه) أَي الْوَصْف المبدي فِي الأَصْل (عَن الْفَرْع إِلَّا إِن ذكره) أَي الْمُعْتَرض انتفاءه فِي الْفَرْع فكلمة أَن شَرْطِيَّة أَو مَصْدَرِيَّة وَالْوَقْف مُقَدّر: أَي لَا يلْزم ذَلِك إِلَّا وَقت ذكره إِيَّاه، فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يعلم أَن غَرَضه إِثْبَات انْتِفَاء الحكم فِي الْفَرْع، وَلَا شكّ أَنه حِينَئِذٍ لَا بُد من بَيَان انْتِفَاء الْوَصْف عَن الْفَرْع (لِأَن مَقْصُوده) أَي الْمُعْتَرض (لم ينْحَصر فِي صده) أَي صرف الْمُسْتَدلّ (عَن التَّعْلِيل) بِمَا ذكره من الْوَصْف (لينتفى لُزُومه) أَي لُزُوم بَيَان انْتِفَاء المبدي فِي الْفَرْع (مُطلقًا) أَي انْتِفَاء مُطلقًا يعم جَمِيع صور الْمعَارض فِي الأَصْل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا لم يكن مَقْصُود الْمُعْتَرض سوى صرف الْمُسْتَدلّ عَن وَصفه وَقد حصل ذَلِك بإبداء وصف آخر يحْتَمل الْعلية كَفاهُ ذَلِك فِي الصّرْف، فَذكر أَن هَذَا المبدي مُنْتَفٍ فِي الْفَرْع أَمر زَائِد على الْمَقْصُود غير مُحْتَاج إِلَيْهِ فِي صُورَة من الصُّور، إِذْ الْمَفْرُوض انحصار قَصده فِي الْجَمِيع فِي ذَلِك (وَلَا نفى حكمه) أَي وَلم ينْحَصر أَيْضا مَقْصُوده فِي نفي حكم الأَصْل (فِي الْفَرْع ليلزم) بَيَان انتفائه (مُطلقًا) أَي لُزُوما مُطلقًا يعم الصُّور كلهَا لِأَن الْمَقْصُود على هَذَا التَّقْدِير لَا يحصل إِلَّا بِبَيَان انتفائه فِيهِ (بل قد) يكون مَقْصُود الْمُعْتَرض الصد (وَقد) يكون نفي الحكم (فَإِذا ادَّعَاهُ) أَي الْمُعْتَرض نفي الحكم (لزمَه إثْبَاته) أَي إِثْبَات مَا ادَّعَاهُ لالتزامه ذَلِك وَإِن لم يجب عَلَيْهِ ابْتِدَاء (و) كَذَا الْمُخْتَار أَنه (لَا) يلْزم الْمُعْتَرض (ذكره) أَي أَن يذكر (أصلا) مُعْتَبرا من الشَّارِع (لوصفه) الَّذِي أبداه فِي الأَصْل تبين ذَلِك الأَصْل تَأْثِير فِي الحكم (كمعارضة الاقتيات بالطعم) أَي كَأَن يَقُول الْمُعْتَرض عَلَيْهِ حُرْمَة الرِّبَا فِي المنصوصات الطّعْم لَا الْقُوت (كَمَا فِي الْملح) الَّذِي هُوَ مِنْهَا وَهُوَ طعم وَلَيْسَ بقوت، ثمَّ علل عدم لُزُوم ذَلِك الأَصْل لوصف الْمُعْتَرض بقوله (لِأَنَّهُ لم يَدعه) أَي الْمُعْتَرض كَون وَصفه عِلّة حَتَّى يحْتَاج إِلَى شَهَادَة الأَصْل (إِنَّمَا جوز مَا ذكر) من كَون وَصفه عِلّة أَو جزءها (ليلزم) الْمُسْتَدلّ (التحكم) فِي جعله الْعلَّة وَصفه لَا وصف الْمُعْتَرض مَعَ تساويهما فِي صلوح الْعلية (وَأَيْضًا يَكْفِيهِ) أَي الْمُعْتَرض فِي وَصفه المبدي (أصل الْمُسْتَدلّ) إِذْ لَا بُد من وجود وَصفه فِيهِ (فَيَقُول) الْمُعْتَرض (جَازَ الطّعْم أَو الْكَيْل أَو هما) عِلّة (كَمَا فِي الْبر بِعَيْنِه وجوابها) أَي الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة من الْمُسْتَدلّ (على) تَقْدِير (الْقبُول) كَمَا هُوَ الْمُخْتَار للشَّافِعِيَّة (بِمَنْع وجوده) أَي الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي الأَصْل كَأَن يَقُول لَا نسلم أَنه مَكِيل فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الْمُعْتَبر (أَو) منع (تَأْثِيره) أَي الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي الأَصْل (إِن كَانَ لم يُثبتهُ الْمُسْتَدلّ أَو أثْبته) بِمَا كَانَ يَقُول إِذْ أثْبته (بِمَا كَانَ) أَي بِأَيّ طَرِيق كَانَ، يَعْنِي بِمَنْع التَّأْثِير على الْإِطْلَاق سَوَاء كَانَ الْمُسْتَدلّ لم يثبت علية وَصفه أَو أثبت وعَلى تَقْدِير الْإِثْبَات سَوَاء أثبتها بالمناسبة أَو الشّبَه أَو غَيرهمَا، وَهَذَا رد لما فِي الشَّرْح العضدي(4/150)
من أَن الْمُطَالبَة بِكَوْن الْوَصْف الْمعَارض مؤثرا بِأَن يُقَال للمعترض لم قلت أَن الْكَيْل يُؤثر إِنَّمَا يسمع من الْمُسْتَدلّ إِذا كَانَ مثبتا للعلية بالمناسبة أَو الشّبَه حَتَّى يحْتَاج الْمعَارض إِلَى بَيَان مُنَاسبَة أَو شبه، بِخِلَاف مَا إِذا أثْبته بالسبر فَإِن الْوَصْف يدْخل فِي السبر بِدُونِ ثُبُوت الْمُنَاسبَة بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال، ثمَّ بَين ذَلِك بقوله (وَتَقْيِيد سَمَاعه) أَي سَماع منع التَّأْثِير وقبوله (من الْمُسْتَدلّ بِمَا إِذا كَانَ الْمُسْتَدلّ أثبت وَصفه) أَي عليته (بالمناسبة وَنَحْوهَا) أَي الشّبَه، وَقد مر الْفرق بَينهمَا وَحَاصِله أَن الأولى بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْوَصْف، وَالْأُخْرَى بِالنّظرِ إِلَى الْخَارِج (لَا بالسبر وَنَحْوه تحكم) خبر الْمُبْتَدَأ (لِأَن ذَاك) إِشَارَة إِلَى مَا جعله الْمُسْتَدلّ عِلّة (وَصفه) أَي الْمُسْتَدلّ، (وَهَذَا) المبدي الْمعَارض بِهِ وصف (آخر مجوز) أَي جوزه الْمُعْتَرض (دَفعه) الْمُسْتَدلّ صفة مجوز (بِعَدَمِ التَّأْثِير، وَهُوَ) أَي عدم التَّأْثِير (عدم الْمُنَاسبَة عِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة (فَيجب إثْبَاته) أَي التَّأْثِير على الْمُسْتَدلّ لِئَلَّا يُقَال لَهُ - {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم} - (فبالمناسبة ظَاهر) أَي فَإِن أثبت التَّأْثِير بِبَيَان الْمُنَاسبَة فَالْأَمْر ظَاهر، إِذْ مُرَاد من يقبل عِنْده هَذَا السُّؤَال من التَّأْثِير الْمُنَاسبَة (وَكَذَا) إِن أثْبته (بالسبر، لِأَن مَا أَفَادَ الْعلية أَفَادَ الْمُنَاسبَة، إِذْ هِيَ) أَي الْمُنَاسبَة (لَازم الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث) فَمَا أَفَادَ الْمَلْزُوم أَفَادَ اللَّازِم (لَكِن لَا يلْزم إبداؤها) أَي الْمُنَاسبَة (فِي السبر وَنَحْوه، وَلذَا) أَي لما ذكر من لُزُوم الْمُنَاسبَة لمُطلق الْعلَّة عِلّة السبر (عورض المستبقى فِيهِ) أَي فِي السبر (لعدمها) أَي لعدم مُنَاسبَة المستبقى، وَقد عرفت أَن السبر عبارَة عَن حصر الْأَوْصَاف الَّتِي يحْتَمل كَونهَا عِلّة فِي عدد وإلغاء مَا عدا وَاحِد مِنْهَا وَهُوَ المستبقى، وَرُبمَا يُعَارض المستبقى بِوَصْف آخر يدعى الْمعَارض عليته وَأَنه الْمُنَاسب للْحكم دون المستبقى لعدم مناسبته، فلولا أَن الْمُنَاسبَة أَمر لَازم لِلْعِلَّةِ لما نفى الْعلية عَن المستبقى لعدمها، فقد علم أَن الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَذَا لُزُوم الْمُنَاسبَة، لَا عدم لُزُوم إبدائها كَمَا زعم الشَّارِح فَإِن قلت: لَعَلَّه أَرَادَ أَنه لَو كَانَ إبداؤها لَازِما لما عورض عَن المستبقى لعدمها، لِأَنَّهُ على تَقْدِير لُزُوم الإبداء لم يتْركهُ الْمُسْتَدلّ، وعَلى تَقْدِير إبدائها لَا وَجه للمعارضة لعدمها فِي المستبقى قلت على تَقْدِير الإبداء بِزَعْمِهِ: لَا يلْزم وجود الْمُنَاسبَة عِنْد الْمُعْتَرض فَافْهَم (وَقيل الْمَعْنى) للمستدل مُطَالبَة الْمُعْتَرض بِكَوْن وَصفه مؤثرا (إِذا كَانَ الْمُعْتَرض أثْبته) أَي أثبت كَون وَصفه عِلّة (بالمناسبة) لَا بالسبر كَمَا ذكره بعض شارحي الْمُخْتَصر (وَهُوَ خبط، إِذْ بِفَرْض إثْبَاته بهَا) أَي الْمُنَاسبَة (كَيفَ يمْنَع) الْمُسْتَدلّ (التَّأْثِير، وَهُوَ) أَي التَّأْثِير (هِيَ) أَي الْمُنَاسبَة. لَا يُقَال لم لَا يجوز أَن يحمل التَّأْثِير على مَا هُوَ مصطلح الشَّافِعِيَّة (إِذْ لَا يُمكن حمله على اصطلاحهم فِيهِ) أَي فِي التَّأْثِير (وَهُوَ كَون الْعين فِي الْعين) أَي كَون عين الْوَصْف مُعْتَبرا فِي عين الحكم شرعا (بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع، إِذْ لَا يتَعَيَّن) إِثْبَات(4/151)
الْمُعْتَرض كَون الْوَصْف عِلّة بِهَذَا الْوَجْه (عَلَيْهِ) أَي الْمُعْتَرض (بعد إثْبَاته) أَي إِثْبَات كَون الْوَصْف عِلّة (بطرِيق صَحِيح هِيَ الْمُنَاسبَة بِالْفَرْضِ) أَي على مَا هُوَ الْمَفْرُوض فِيمَا نَحن فِيهِ (نعم) يتَعَيَّن إِثْبَات التَّأْثِير الْحَنَفِيّ (لَو كَانَ الْمُعْتَرض حنفيا فَإِن الْمُنَاسبَة لَا تَسْتَلْزِم الِاعْتِبَار عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة كَمَا تقدم (فالتأثير عِنْدهم شَرط مَعَ الْمُنَاسبَة، وَهُوَ) أَي التَّأْثِير عِنْدهم (إِن ثَبت اعْتِبَار جنس الْمُنَاسبَة إِلَى آخر الْأَقْسَام) الْمَذْكُورَة فِي بحث التَّأْثِير (وَلَا يَصح) مِمَّن أثبت وَصفه بالسبر مستدلا كَانَ أَو مُعْتَرضًا التَّرْجِيح، هَذِه عبارَة الشَّارِح فِي حل هَذَا الْمحل، جعله كلَاما مُبْتَدأ فِي بَيَان تَرْجِيح وصف على آخر، وَلم يَجعله من تَتِمَّة مُعَارضَة المستبقى فِي السبر الْمَذْكُورَة آنِفا وَلم يدر أَنه لَا يساعده آخر الْكَلَام، إِذْ حَاصله أَن هَذَا التَّرْجِيح لَا يُفِيد مَعَ عدم شَرط الْعلَّة وَهُوَ الْمُنَاسبَة فَيجب أَن يكون عدم الْمُنَاسبَة لَازِما لعِلَّة الْخصم فَتعين كَونه تَتِمَّة مَا ذكرُوا، وَالتَّقْدِير وَلَا يَصح من الْمُسْتَدلّ الفاقد وَصفه الْمُنَاسبَة تَعديَة وَصفه (بترجيح السبر) أَي بترجيح الْوَصْف الثَّابِت عليته بالسبر على الثَّابِت عليته بِغَيْرِهِ (لتعرضه) أَي السبر (لنفي غَيره) من الْأَوْصَاف المحتملة للعلية (و) لَا (بِكَثْرَة الْفَائِدَة) المترتبة على علته بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَرَتَّب على علية الآخر (لِأَن ذَلِك) أَي الْمُرَجح الْمَذْكُور إِنَّمَا يعْتَبر بِهِ (بعد ظُهُور شَرطه) أَي شَرط وصف السبر، وَهُوَ مُنَاسبَة المستبقى (أَو عدم ظُهُور عَدمه) أَي عدم الشَّرْط لجَوَاز خَفَاء الْمُنَاسبَة لما عرفت: من أَنه لَا يلْزم إبداء الْمُنَاسبَة فِي السبر (أما مَعَ ظُهُوره) أَي ظُهُور عدم الشَّرْط (فَلَا) يتَرَجَّح السبر (إِذْ لَا يُفِيد) السبر (مَعَ عدم الشَّرْط) الْمُعْتَبر فِي مُطلق الْعلَّة (وَهُوَ) أَي عدم الشَّرْط (الْمُعْتَرض بِهِ) لما عرفت من أَن مدَار مُعَارضَة المستبقى إِنَّمَا كَانَ على عدم الْمُنَاسبَة (أَو بَيَان خفائه) أَي خَفَاء الْوَصْف الْمعَارض بِهِ مَعْطُوف على منع وجوده، وَكَذَا (أَو عدم انضباطه) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور (أَو منع ظُهُوره أَو) منع (انضباطه) فَإِن كل وَاحِد من الْمَذْكُورَات منَاف لعلية الْوَصْف الْمعَارض بِهِ لما علم فِي شُرُوط الْعلَّة فَلَا يُعَارض بِهِ عِنْد تحقق شَيْء مِنْهَا (أَو أَنه) أَي الْوَصْف الْمعَارض بِهِ لَيْسَ وجوديا، بل هُوَ (عدم معَارض فِي الْفَرْع) والعدم لَا يكون عِلّة وَلَا جُزْءا مِنْهَا فِي الحكم الثبوتي على مَا هُوَ الْمُخْتَار (كالمكره) أَي كقياس الْقَاتِل الْمُضْطَر إِلَى الْقَتْل (على الْمُخْتَار) أَي الْقَاتِل بِاخْتِيَارِهِ (فِي) وجوب (الْقصاص بِجَامِع الْقَتْل فيعارض بِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة فِي حكم الْقصاص (هُوَ) أَي الْقَتْل (مَعَ الطواعية) لِأَنَّهَا مُنَاسبَة لَا يُجَاب الْقصاص لَا الْقَتْل الْمُطلق الَّذِي يعم الْإِكْرَاه (فيجيب) الْمُسْتَدلّ (بِأَنَّهَا) أَي الطواعية (عدم الْإِكْرَاه لَا الْإِكْرَاه الْمُنَاسب لنقيض الحكم) أَي عدم الْقصاص، فحاصله عدم معَارض، وَعدم الْمعَارض طرد لَا يصلح للتَّعْلِيل، لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْبَاعِث فِي شَيْء، كَذَا فِي الشَّرْح العضدي: وَذَلِكَ أَن(4/152)
عدم الْمعَارض من قبيل عدم الْمَانِع، لَا من جَانب الْمُقْتَضى الَّذِي هُوَ الْعلَّة، وَهَذَا لَا غُبَار عَلَيْهِ، لَكِن قَوْله أَنَّهَا عدم الْإِكْرَاه لَا الْإِكْرَاه يُفِيد بِظَاهِرِهِ أَنَّهَا لَو كَانَت عين الْإِكْرَاه لناسبت الحكم وَلَا معنى لَهُ كَمَا لَا يخفى. ثمَّ وَصفه الْإِكْرَاه بمناسبة نقيض الحكم مدافعة، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَالله تَعَالَى أعلم أَن الطواعية إِنَّمَا هُوَ لعدم الْمُضَاف إِلَى الْإِكْرَاه، وَلَا مُنَاسبَة بَين هَذَا الْعَدَم وَالْحكم أصلا وَلَيْسَت هِيَ الْإِكْرَاه الَّذِي فِيهِ مُنَاسبَة فِي الْجُمْلَة، على أَنه لَو كَانَت عين الْإِكْرَاه أَيْضا لما أَفَادَهُ، بل آخِره، لِأَن مُنَاسبَة الْإِكْرَاه إِنَّمَا هِيَ بِالنّظرِ إِلَى نقيض الحكم، وَفِيه مَا فِيهِ (أَو بإلغائه) أَي الْوَصْف إِلَى آخِره، إِمَّا مُطلقًا فِي جنس الْأَحْكَام كالطول وَالْقصر، أَو فِي حكم الْمُعَلل بِهِ كالذكورة فِي الْعتْق (باستقلال وَصفه) أَي بِسَبَب اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ بالعلية (بِنَصّ أَو إِجْمَاع كلا تَبِيعُوا الطَّعَام) بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء (فِي مُعَارضَة الطّعْم) أَي كجواب الْمُسْتَدلّ على أَن عِلّة الرِّبَا الطّعْم المعترضة بمعارضته (بِالْكَيْلِ) لِأَن النَّص دلّ على اعْتِبَار الطّعْم فِي صُورَة مَا، وَهُوَ هَذَا الحَدِيث، فَإِن اعْتِبَار الحكم مُرَتبا على وصف مشْعر بالعلية (وَمن بدل دينه فَاقْتُلُوهُ عِنْد مُعَارضَة مطلقه) يَعْنِي إِذا علل الْمُسْتَدلّ الْقَتْل بِمُطلق تَبْدِيل الدّين ففرع عَلَيْهِ قتل الْيَهُودِيّ إِذا تنصر وَعَكسه إِلَّا أَن يسلم لتحَقّق مَا طلق التبديل فعورض (بتبديل الْإِيمَان بالْكفْر) يَعْنِي فَيَقُول الْمُعْتَرض لَيْسَ الْعلَّة بِمُطلق التبديل، بل تَبْدِيل الْإِيمَان بالْكفْر: وعَلى هَذَا فَالْمُرَاد بِهِ دين الْإِسْلَام، غير أَن الْعلَّة مُطلق التبديل فَألْحق الْيَهُودِيّ إِذا تنصر بِالْمُسلمِ الْمُبدل دينه لاشْتِرَاكهمَا فِي التبديل الْمُطلق (وَلَو قَالَ) الْمُسْتَدلّ (عَم) التبديل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث (فِي كل تَبْدِيل) سَوَاء كَانَ تَبْدِيل دين الْحق بباطل أَو بَاطِل بباطل (كَانَ) هَذَا القَوْل (شَيْئا آخر) وَدَعوى حكم كلي شَرْعِي غير مستنبط من الحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِن الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة دافعة لهَذَا الاستنباط، فَيكون حِينَئِذٍ إثْبَاته بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَلَا يسمع مِنْهُ هَذَا (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من الإلغاء المقبول (انْفِرَاد الحكم عَنهُ) أَي عَن الْوَصْف المبدي للمعترض (لعدم) اشْتِرَاط (الْعَكْس) فِي الْعلَّة على مَا هُوَ الْمُخْتَار، وَقد مر تَفْصِيله فِي الشُّرُوط فِي الشَّرْح العضدي رُبمَا يظنّ أَن إِثْبَات الحكم فِي صُورَة دون وصف الْمعَارض كَاف فِي إلغائه، وَالْحق أَنه لَيْسَ بكاف لجَوَاز وجود عِلّة أُخْرَى لما تقدم من جَوَاز تعدد الْعلَّة وَعدم وجوب الْعَكْس (لَكِن يتم) بِبَيَان انْفِرَاد الحكم عَن الْوَصْف الْمعَارض بِهِ (اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ) إِذْ لَو لم يسْتَقلّ لم يتَحَقَّق الحكم مَعَه فِي صُورَة الِانْفِرَاد الْمَذْكُور (ولكونه) أَي انْفِرَاد الحكم عَنهُ (لَيْسَ إِلْغَاء) لَهُ (لَا يُفِيد إبداء الْخلف) أَي إبداء وصف آخر يخلف الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي صُورَة انْفِرَاد الحكم عَنهُ (من الْمُعْتَرض) لَا يُفِيد دفع الإلغاء لِأَنَّهُ فرع ثُبُوته، وَإِنَّمَا فَائِدَته نفي اسْتِقْلَال وصف(4/153)
الْمُسْتَدلّ (وَهُوَ) أَي إبداء الْخلف من الْمُعْتَرض بعد بَيَان الْمُسْتَدلّ انْفِرَاد الحكم عَن الْوَصْف الْمعَارض بِهِ لِئَلَّا يكون وصف الْمُسْتَدلّ مُسْتقِلّا (تعدد الْوَضع) أَي يُسمى بِهِ لتَعَدد أصل الوضعين أَحدهمَا الْمعَارض بِهِ أَولا. وَالثَّانِي الْخلف المبدي وَالتَّعْلِيل فِي أَحدهمَا بِالْبَاقِي بعد المبدي على وضع: أَي مَعَ قيد، وَفِي الآخر على وضع مَعَ قيد آخر كَمَا سَيظْهر فِي الْمِثَال (نَحْو) أَن يُقَال فِي صِحَة أَمَان العَبْد الْمُسلم الْعَاقِل الْحَرْبِيّ (أَمَان) صادر (من مُسلم عَاقل، فَيقبل كَالْحرِّ) أَي كأمان الْحر الْمُسلم الْعَاقِل (لِأَنَّهُمَا) أَي الْإِسْلَام وَالْعقل (مظنتان للِاحْتِيَاط للأمان) أَي للِاحْتِيَاط فِي مصلحَة الْأمان: أَي بذل الْأمان وَجعله آمنا (فيعترض بِاعْتِبَار) وصف (الْحُرِّيَّة مَعَهُمَا) أَي الْإِسْلَام وَالْعقل فِي الْعلية (لِأَنَّهَا) أَي الْحُرِّيَّة (مَظَنَّة التفرغ) للنَّظَر فِي مصلحَة الْإِيمَان لعدم الِاشْتِغَال بِخِدْمَة الْمولى (فنظره) أَي الْحر (أكمل) من نظر العَبْد (فيلغيها) أَي الْمُسْتَدلّ الْحُرِّيَّة (بالمأذون لَهُ فِي الْقِتَال) أَي باستقلال الْإِسْلَام وَالْعقل بالأمان فِي العَبْد الْمَأْذُون لَهُ فِي قتال الْكفَّار فَإِن لَهُ الْأمان اتِّفَاقًا (فَيَقُول) الْمُعْتَرض (الْإِذْن) أَي إِذن السَّيِّد لَهُ فِيهِ (خلفهَا) أَي الْحُرِّيَّة (لدلالته) أَي الْإِذْن (على علم السَّيِّد بصلاحه) لإِظْهَار مصَالح الْأمان (فالباقي) أَي الْإِسْلَام وَالْعقل (عِلّة) لصِحَّة الْأمان حَال كَونه (على وضع: أَي قيد الْحُرِّيَّة) فالعلة الْمَجْمُوع (و) أَيْضا عِلّة لَهُ على وضع (آخر) أَي قيد (الْإِذْن وَجَوَابه) أَي جَوَاب تعدد الْوَضع (أَن يلغي) أَي الْمُسْتَدلّ ذَلِك (الْخلف) بِصُورَة فِيهَا وصف الْمُسْتَدلّ مَعَ الحكم، و (لَيْسَ) ذَلِك الْخلف (فِيهَا، فَإِن أبدى) الْمُعْتَرض (فِيهَا) أَي فِي الصُّورَة المبتدأة (خلفا) آخر (فَكَذَلِك) أَي فَالْجَوَاب بالإلغاء بِصُورَة أُخْرَى، والاعتراض بإبداء الْخلف يسْتَمر على المنوال الْمَذْكُور (إِلَى أَن يقف أَحدهمَا) أما الْمُسْتَدلّ لعَجزه عَن الإلغاء، أَو الْمُعْتَرض لعَجزه عَن الْخلف (وَلَا يلغي) أَي وَلَا يتَحَقَّق الإلغاء من الْمُسْتَدلّ للوصف الْمعَارض بِهِ (بِضعْف الْحِكْمَة إِن سلم) الْمُسْتَدلّ (المظنة) أَي وجود المظنة المتضمنة لتِلْك الْحِكْمَة (كالردة عِلّة الْقَتْل) وَقِيَاس الْمُرْتَدَّة على الْمُرْتَد بِوُجُوب الْقَتْل (فَيُقَال) على سَبِيل الِاعْتِرَاض، بل (مَعَ الرجولية، لِأَنَّهُ) أَي الارتداد مَعهَا (المظنة لقِتَال الْمُسلمين) إِذْ يعْتَاد ذَلِك من الرِّجَال دون النِّسَاء (فيلغيه) أَي الْمُسْتَدلّ كَون المظنة لذَلِك (بمقطوع الْيَدَيْنِ) بِضعْف الْحِكْمَة فِيهِ مَعَ أَنه يقتل اتِّفَاقًا إِذا ارْتَدَّ: فَهَذَا (لَا يقبل) من الْمُسْتَدلّ (بعد تَسْلِيم كَون الرجولية مَظَنَّة) اعتبرها الشَّرْع فيدار الحكم عَلَيْهَا وَلَا يلْتَفت إِلَى ضعف حكمتها فِي بعض الصُّور كسفر الْملك المرفه لَا يمْنَع التَّرَخُّص (وَلَا يُفِيد تَرْجِيح الْمُسْتَدلّ وَصفه) على وصف الْمُعْتَرض (بِشَيْء) من وُجُوه التَّرْجِيح فِي جَوَاب الْمُعَارضَة خلافًا للآمدي (لِأَن الْمُفِيد) فِي ذَلِك (تَرْجِيح أَوْلَوِيَّة(4/154)
اسْتِقْلَال وَصفه، وَهُوَ) أَي ترجيحها (مُنْتَفٍ مَعَ احْتِمَال الْجُزْئِيَّة) أَي جزئية وصف الْمُعَارضَة من الْعلَّة مَعَ وصف الْمُسْتَدلّ (أَو يدعى) أَي إِلَّا أَن يدعى (الْمُعْتَرض اسْتِقْلَال وَصفه) فَإِنَّهُ يُفِيد تَرْجِيح الْمُسْتَدلّ وصف نَفسه (وَأما أَن) الْعلَّة (المتعدية لَا ترجح) على القاصرة (لمعارضة (مُوَافقَة الأَصْل) أَي لكَون القاصرة مُعَارضَة للمتعدية بِأَنَّهَا مُوَافقَة للْأَصْل الَّذِي هُوَ عدم الْأَحْكَام كَمَا أُشير إِلَيْهِ فِي الشَّرْح العضدي (فَلَا) يَصح، بل المستقل الْمُتَعَدِّي رَاجِح على المستقل الْقَاصِر. (وَاخْتلف فِي) جَوَاز (تعدد الْأُصُول) أَي الْأُصُول الْمَقِيس عَلَيْهَا (فَقيل لَا) يجوز (لِأَن) الأَصْل (الزَّائِد لَا يحْتَاج إِلَيْهِ) لِأَن الْمَقْصُود قد حصل بِالْوَاحِدِ (وَيدْفَع) هَذَا (بِثُبُوت الْحَاجة) إِلَى الزَّائِد (لزِيَادَة الْقُوَّة) إِلَيْهِ نَفسه، وبالنظر إِلَى الْخصم فِي مقَام المناظرة فِي الظَّن بالعلية. (وَالْوَجْه الآخر، وَهُوَ تأديه) أَي جَوَاز تعدد الْأُصُول (إِلَى الانتشار وَزِيَادَة الْخبط يَدْفَعهُ) أَي يدْفع الدّفع الْمَذْكُور (لِأَن مَعَه) أَي مَعَ تأديه إِلَى مَا ذكر (يبعد الظَّن فضلا عَن زِيَادَته) أَي زِيَادَة الظَّن (فاختيار جَوَازه) أَي التَّعَدُّد (مُطلقًا) بِالنّظرِ إِلَى نَفسه وبالنظر إِلَى الْخصم فِي مقَام المناظرة كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْحَاجِب (لَيْسَ بِذَاكَ) الْقوي (بل) الْوَجْه جَوَاز (فِي نظره لنَفسِهِ) لانْتِفَاء الانتشار (لَا) فِي (المناظرة) لتأديه إِلَى الانتشار (وعَلى الْجَوَاز) أَي جَوَاز تعددها (اخْتلف فِي اقْتِصَار الْمعَارض على أَحدهَا) أَي الْأُصُول (فالمجيز) لاقتصاره على أَحدهَا قَالَ (إبِْطَال جُزْء من كَلَامه) أَي الْمُسْتَدلّ (إِبْطَاله) أَي كَلَامه من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع (وملزم إبِْطَال الْكل) وَهُوَ من يَقُول لابد من إبِْطَال كل وَاحِد من أصُول الْمُسْتَدلّ قَالَ (إِذا سلم لَهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (أصل) وَاحِد (كَفاهُ) فِي مَطْلُوبه (وَمحله) أَي مَحل هَذَا القَوْل (اتِّحَاد الْوَصْف دون تعدده) أَي وصف الْمُسْتَدلّ، بَيَانه: أَي الأَصْل إِذا تعدد يحْتَمل أَن يكون الْوَصْف أَيْضا مُتَعَددًا، وَيحْتَمل أَن يكون متحدا، فعلى الأول لَا وَجه للْخلاف فِي عدم لُزُوم إبِْطَال الْكل، لِأَن تعدد وصف الْقيَاس يسْتَلْزم تعدده لِأَنَّهُ المناط فِيهِ، وَإِبْطَال أحد الوصفين إبِْطَال لأحد القياسين، وَإِبْطَال أحد القياسين بِدُونِ إبِْطَال الآخر إِلْزَام تَامّ، وعَلى الثَّانِي أَيْضا لَا وَجه للْخلاف فِي لُزُوم إبِْطَال الْكل، لِأَن اتِّحَاد الْوَصْف يسْتَلْزم اتِّحَاد الْقيَاس، وَالْقِيَاس الْوَاحِد إِذا سلم لَهُ أصل وَاحِد يَكْفِي فِي إِثْبَات الْمطلب، فَلَا بُد من إبِْطَال الْكل لتحَقّق الْإِلْزَام، فَيلْزم إبِْطَال الْكل قَوْله مَبْنِيّ على اتِّحَاد الْوَصْف والمجيز للاقتصار على تعدده، فمورد نفي لُزُوم إبِْطَال الْكل غير مورد إثْبَاته فَلَا خلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا يتلاقيان) أَي النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي مَحل وَاحِد. وَالشَّارِح فسر اتِّحَاد الْوَصْف الْمعَارض بِهِ وَلَو لم يذكر لَهُ وَجها وَلَا وَجه لَهُ، غير أَنه ذكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن اللازمين إبِْطَال الْكل اخْتلفُوا فِي وجوب(4/155)
اتِّحَاد الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي الْجَمِيع (فَنظر) الْقَائِل (الأول) وَهُوَ مجيز الِاقْتِصَار على أَحدهَا (إِلَى أَنه) أَي الْمُسْتَدلّ (الْتزم صِحَة الْإِلْحَاق) أَي إِلْحَاق الْفَرْع (بِكُل) من الْأُصُول (وَعجز عَنهُ) أَي عَن الْإِلْحَاق بِكُل (فَبَطل) بالتزامه (و) الْقَائِل (الآخر) يَقُول (الْمَقْصُود إثْبَاته) أَي الحكم (فِي الْفَرْع، ويكفيه) أَي الْمُسْتَدلّ (مَا سلم) لَهُ: أَي من الْأُصُول بِشَيْء من الْأَجْوِبَة الْمَذْكُورَة من الْأُصُول فَلَا بُد من مُعَارضَة الْكل لِئَلَّا يسلم لَهُ شَيْء من الْأُصُول (وَفِي مُعَارضَة الْكل) أَي جَمِيع الْأُصُول (لَو أجَاب) الْمُسْتَدلّ (عَن) مُعَارضَة (أَحدهَا) أَي الْأُصُول بِشَيْء من الْأَجْوِبَة الْمَذْكُورَة (فالقولان) أَي فالثابت على ذَلِك التَّقْدِير الْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَان: أَي ينظر أَحدهمَا أَنه (لَا بُد أَن يدْفع) الْمُسْتَدلّ (عَمَّا الْتَزمهُ) وَهُوَ الْكل فَلَا يَكْفِيهِ الْجَواب عَن أَحدهمَا، فَقَط وَهُوَ نَظِير القَوْل الأول. وَالثَّانِي أَنه (يَكْفِيهِ) أَي الْمُسْتَدلّ أصل (وَاحِد) من تِلْكَ الْأُصُول، وَقد سلم لَهُ بعد الْجَواب عَن معارضته، وَهَذَا نَظِير القَوْل الثَّانِي كَمَا لَا يخفى (وَأما سُؤال التَّرْكِيب فَتقدم فِي الشُّرُوط) لحكم الأَصْل. وَحَاصِله الْمَنْع إِمَّا لعلية عِلّة حكم الأَصْل أَو لوجودها أَو لحكم الأَصْل فَهُوَ مندرج فِي المنوع الْمَذْكُورَة (و) أما (سُؤال التَّرْجِيح بالتعدية) فمثاله قَول الْمُسْتَدلّ بكر فَيجْبر كالصغيرة (فيعارض الْبكارَة المتعدية إِلَى الْبَالِغَة بالصغر) مُتَعَلق بيعارض (الْمُتَعَدِّي إِلَى الثّيّب) الصَّغِيرَة الْمُنَاسب للإجبار (ليتساويا) فِي التَّعْدِيَة: تَقْدِير الْكَلَام، وَأما سُؤال التَّرْجِيح بالتعدية فمثاله فِي مسئلة إِجْبَار الْبكر الْبَالِغَة قِيَاسا على الْبكر الصَّغِيرَة بتعليل حكم الأَصْل بالبكارة المتعدية إِلَى الْبَالِغَة دون الصَّغِيرَة، ويعارض الْبكارَة (ومرجعه) أَي هَذَا السُّؤَال (إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِمَا يُسَاوِي الْأُخْرَى فِي التَّعْدِيَة) لِئَلَّا يتَرَجَّح وصف الْمُسْتَدلّ بتعديته (وَلَا تَرْجِيح بِزِيَادَة التَّعْدِيَة) الثَّابِت ثَابت (للحنفية، بِخِلَاف أَصْلهَا) أَي أصل التَّعْدِيَة فَإِن التَّرْجِيح بِهِ ثَابت عِنْدهم أَيْضا فَلَيْسَ هَذَا السُّؤَال مُسْتقِلّا بل هُوَ مندرج فِيمَا ذكر (وَإِذ لم يقبلُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (الْمُعَارضَة فِي الأَصْل لم يذكرُوا سُؤال اخْتِلَاف جنس الْمصلحَة) فِي الأَصْل وَالْفرع بعد اتِّحَاد الضَّابِط فيهمَا (كإيلاج محرم) أَي كَأَن يَقُول الْمُسْتَدلّ للحد باللواط هُوَ إيلاج فِي فرج محرم مشتهي طبعا (فَيحد بِهِ كَالزِّنَا فَيَقُول) الْمُعْتَرض (الْمصلحَة مُخْتَلفَة فِي تحريمهما) أَي اللواط وَالزِّنَا (فَفِي الزِّنَا اخْتِلَاط النّسَب المفضي إِلَى عدم تعهد الْوَلَد، وَهُوَ) أَي عدم تعهد الْوَلَد (قتل معنى، وَفِي اللواط دفع رذيلته) وهما متفاوتان فِي نظر الشَّرْع، فَقِيَاس أَحدهمَا على الآخر قِيَاس مَعَ الْفَارِق (لِأَنَّهُ) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (هِيَ) أَي الْمُعَارضَة فِي الأَصْل فَلم يفردوه بِالذكر، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه هِيَ (إِذْ حَاصله) أَي قَول الْمُعْتَرض (الْعلَّة) فِي الأَصْل (شَيْء آخر) وَهُوَ كَونه مُوجبا لاختلاط النّسَب (مَعَ مَا ذكرت)(4/156)
من قَوْلك إيلاج محرم (وَلذَا) أَي وَلكَون معارضته فِي الأَصْل (كَانَ جَوَابه) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (جوابها) أَي الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة (بإلغاء الخصوصية) المبتدأة فِي الأَصْل لبَيَان الِاخْتِلَاف (بطريقه) أَي الإلغاء (مَعَ أَنه) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور بِاعْتِبَار منشئه (ينْدَرج فِي) عُمُوم (معنى الشُّرُوط) للفرع، إِذْ مِنْهَا مساواته الأَصْل فِيمَا علل، وَهِي منتفية هَهُنَا. (الثَّالِث) من مُقَدمَات الْقيَاس الْمَذْكُورَة، وَهُوَ ثُبُوت الْعلَّة فِي الْفَرْع (عَلَيْهِ سؤالان: الأول منع وجودهَا) أَي الْعلَّة (فِي الْفَرْع كَقَوْل الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم) أَي الشَّافِعِيَّة (بيع التفاحة) أَي الْوَاحِدَة (بثنتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فَلَا يَصح كصبرة) أَي كَبيع صبرَة (بصبرتين) ومقول قَول الْحَنَفِيَّة (يمْنَع وجوده) أَي وَصفه (فِي الْفَرْع لِأَن المجازفة بِاعْتِبَار الْكَيْل) إِذْ لَا يُقَال بَاعه مجازفة إِلَّا فِي شَيْء يعْتَاد بَيْعه بِالْكَيْلِ (وَهُوَ) أَي الْكَيْل (مُنْتَفٍ فِيهِ) أَي فِي التفاح (وَيرد) على هَذَا الْمَنْع (أَنَّهَا بِاعْتِبَار الْمُقدر) يَعْنِي أَن المجازفة إِنَّمَا تطلق عرفا بِاعْتِبَار الْقدر المجازف فِيهِ (كَيْلا ووزنا) لَا كَيْلا فَقَط: وَذَلِكَ بِحَسب اعْتِبَار الشَّرْع (فالإلحاق) للفرع بالأصلين الْمَذْكُورين (بِاعْتِبَار) الْقدر (الْأَعَمّ) من الْكَيْل وَالْوَزْن فَالْحَاصِل أَن الْعلَّة فِي الأَصْل المجازفة الْمُطلقَة الَّتِي تتَحَقَّق فِي ضمن كل مِنْهُمَا، فَلَا يَصح منع وجود الْوَصْف المناط للْحكم (فَإِنَّمَا يدْفع هَذَا) الْإِيرَاد (بانتفائها) أَي الْكَيْل وَالْوَزْن مَعًا فِي التفاح (لِأَنَّهُ) أَي التفاح (عددي، وَهُوَ) أَي كَونه عدديا (مَوْقُوف على أَنه) أَي التفاح (كَذَلِك) أَي عدديا (فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي زَمَنه عدديا (فالعادة) أَي فَالْعِبْرَة بِمَا هُوَ الْعرف فِي بَيْعه من وزن وَغَيره (وَهِي) أَي الْعَادة (مُخْتَلفَة فِيهِ) أَي فِي التفاح بِاعْتِبَار الْبلدَانِ (و) كَمَا (لمُحَمد فِي إِيدَاع الصَّبِي) غير الْمَأْذُون مَالا غير الرَّقِيق، من أَنه لَا يضمن إِذا أتْلفه، لِأَن مَالِكه (سلطه على استهلاكه) والاستهلاك إِذا كَانَ من قبل الْمَالِك لَا يُوجب الضَّمَان كَمَا إِذا أتْلفه بِنَفسِهِ، وَقد سبق بَيَانه (فيمنعان) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (أَنه) أَي إيداعه (تسليط) على اتلافه، وَقيل أَبُو حنيفَة مَعَ مُحَمَّد (و) كَمَا (للشَّافِعِيَّة فِي) صِحَة أَمَان العَبْد) من أَنه (أَمَان) صادر (من أَهله) وَهُوَ الْمُسلم الْعَاقِل (فَيعْتَبر كالمأذون لَهُ فِي الْقِتَال فَيمْنَع أَهْلِيَّته) أَي العَبْد (لَهُ) أَي للأمان (وَجَوَابه) أَي هَذَا السُّؤَال (بِبَيَان وجوده) أَي الْوَصْف (بعقل أَو حس أَو شرع) على مَا هُوَ طَرِيق الْإِثْبَات فِي مثله (وَيزِيد الْمُسْتَدلّ هُنَا) أَي فِي الْفَرْع الْمَذْكُور (بَيَان مُرَاده بالأهلية، وَهُوَ) أَي مُرَاده (كَونه) أَي الْمُؤمن (مَظَنَّة لرعاية مصْلحَته) أَي الْأمان بِالنّظرِ إِلَى الْمُسلمين (وَهُوَ) كَونه مَظَنَّة لذَلِك ثَابت (بِإِسْلَامِهِ وبلوغه، وَلَو زَاد الْمُعْتَرض بَيَان الْأَهْلِيَّة) بِاعْتِبَار قيد زَائِد على مَا هُوَ مُرَاد الْمُسْتَدلّ (ليظْهر(4/157)
انتفاؤها) أَي الْعلَّة فِي الْفَرْع. (فالمختار لَا يُمكن) أَي فَفِيهِ خلاف، وَالْمُخْتَار أَنه لَا يُمكن من ذَلِك (إِذْ هُوَ) أَي بَيَان المُرَاد (وَظِيفَة الْمُتَكَلّم بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ الْمُحْتَاج إِلَى الْبَيَان، لِأَنَّهُ الْعَالم بمراده فيتولى تعْيين مَا ادَّعَاهُ (دفعا لنشر الْجِدَال) بالانتقال والاشتغال بالسؤال. (الثَّانِي) من السؤالين (الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِمَا يقتضى نقيض الحكم) أَي حكم الْمُسْتَدلّ (فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (وَهِي) أَي الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِأَن يَقُول مَا ذكرته من الْوَصْف، وَإِن اقْتضى ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع فعندي وصف آخر يَقْتَضِي نقيضه، فَيتَوَقَّف دليلك، وَهِي (الْمُعَارضَة إِذا أطلقت) أَي إِذْ أطلق لفظ الْمُعَارضَة فِي بَاب الْقيَاس، وَلم يُقيد بِقَيْد ككونها فِي الأَصْل وَغَيره لَا يتَبَادَر مِنْهُ إِلَّا هَذِه الْمَذْكُورَة: وَهَذَا عَلامَة كَونه حَقِيقَة فِيهِ كَمَا سيشير إِلَيْهِ (وَلَا بُد لَهُ) أَي لما يَقْتَضِي نقيض الحكم فِيهِ (من أصل) ثَابت عَلَيْهِ الحكم الَّذِي هُوَ نقيض الحكم الأول: أَي هَذِه الْمُعَارضَة (فَهِيَ مُعَارضَة قياسين، وَلذَا) أَي ولكونها مُعَارضَة قياسين (كَانَت) (الْحَقِيقَة) أَي حَقِيقَة لفظ الْمُعَارضَة الْمُطلقَة، والحقيقة كَمَا تطلق على اللَّفْظ تطلق على الْمثنى (وَله) أَي للمعترض (إِثْبَات) علية (وَصفه بمسلكه، وَللْآخر) أَي الْمُسْتَدلّ (اعتراضه) أَي الِاعْتِرَاض على الْمُعْتَرض (بِمَا يعْتَرض بِهِ على الْمُسْتَدلّ فينقلبان) أَي فَيصير الْمُعْتَرض مستدلا والمستدل مُعْتَرضًا (وَهُوَ) أَي انقلابهما لانقلاب التناظر (وَجه منع مانعها) أَي وَجه نفي قبُول الْقَائِل بِنَفْي سَماع هَذِه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ خُرُوج مِمَّا قصداه من معرفَة صِحَة نظر الْمُسْتَدلّ إِلَى آخِره، وَهُوَ معرفَة صِحَة نظر الْمُعْتَرض (وَدفع بِأَن) الانقلاب (الْمُمْتَنع أَن يثبت) الْمُعْتَرض (مُقْتَضى دَلِيله) بِأَن يكون مقْصده إِثْبَات مُقْتَضَاهُ (وَهَذَا) السُّؤَال لَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ (لهدمه) أَي دَلِيل الْمُسْتَدلّ (بنقيضه) أَي بِمَا يُنَافِي دَلِيل الْمُسْتَدلّ لكَونه مُفِيدا خلاف مُقْتَضَاهُ (بعد تَمَامه) أَي بعد تَمام دَلِيل الْمُسْتَدلّ بِمَعْنى عدم التَّعَرُّض لمقدماته، لَا بِمَعْنى تَسْلِيم مُوجبه (فَالْمَعْنى تَمام دليلك) فِي نفس الْأَمر أَيهَا الْمُسْتَدلّ (مَوْقُوف على هدم هَذَا) الَّذِي عارضت بِهِ من دليلي، وَاخْتلف فِي الْجَواب عَن الْمُعَارضَة بالوجوه الْمَذْكُورَة فِي تَرْجِيح الْقيَاس عِنْد الْعَجز عَن الْقدح فِيهَا (وَالْمُخْتَار قبُول التَّرْجِيح بِمَا تقدم) فِي تَرْجِيح الْقيَاس (وَلَا خلاف فِيهِ) أَي فِي قبُول التَّرْجِيح فِيهِ (عِنْد الْحَنَفِيَّة لِأَن وجوب الْعَمَل بعد الْمُعَارضَة) بِمُوجب أحد الدَّلِيلَيْنِ (مَوْقُوف عَلَيْهِ) أَي التَّرْجِيح (وَقيل لَا) يقبل التَّرْجِيح (لتعذر الْعلم بتساوي الظنين) إِذْ لَا ميزَان توزن بِهِ الظنون وَلَا معيار تعرف بِهِ مراتبها (وَالتَّرْجِيح فَرعه) أَي تساويهما (وَهَذَا) الْكَلَام على تَقْدِير صِحَّته (يبطل التَّرْجِيح مُطلقًا وَدلَالَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ) أَي التَّرْجِيح للْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بالراجح (يُبطلهُ) أَي يبطل إبِْطَال التَّرْجِيح مُطلقًا (وعَلى الْمُخْتَار) من قبُول التَّرْجِيح اخْتلف فِي وجوب(4/158)
الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي أثْنَاء الدَّلِيل وَالْمُخْتَار أَنه (لَا تجب الْإِشَارَة إِلَيْهِ) أَي التَّرْجِيح (على الْمُسْتَدلّ لِأَنَّهُ) أَي التَّرْجِيح على الْمُسْتَدلّ (لَيْسَ) جُزْءا (مِنْهُ) أَي الدَّلِيل لدلالته على الْمَطْلُوب مَعَ قطع النّظر عَنهُ (وَتوقف الْعَمَل عَلَيْهِ) أَي التَّرْجِيح (عِنْد ظُهُور الْمُعَارضَة شَرط) أَي مَشْرُوط (مُعَلّق على شَرط) وَهُوَ ظُهُور الْمُعَارضَة (وَالْوَجْه لُزُومه) أَي لُزُوم ذكر التَّرْجِيح (فِي الْعَمَل) أَي عمل الْمُسْتَدلّ (لنَفسِهِ) مُتَعَلق باللزوم أَو بِالْعَمَلِ تَأْكِيدًا لما يفهم ضمنا من الْعَمَل (لَا) فِي (المناظرة) لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ فِيهَا، إِذْ الْمَقْصُود مِنْهَا الْهدم من جَانب الْمعَارض، وَهُوَ حَاصِل بِدُونِ التَّرْجِيح لِأَنَّهُمَا إِذا تَعَارضا تساقطا، وَأما الْمُسْتَدلّ فَقبل الْمُعَارضَة خَالِي البال عَن دَلِيل الْمعَارض وَبعد الْمُعَارضَة إِن أَرَادَ إِلْزَام الْمُعَارضَة كَانَ ذَلِك مناظرة أُخْرَى فَتَأمل (وَأما مَا ذكر الشَّافِعِيَّة من سُؤال اخْتِلَاف الضَّابِط) أَي الْوَصْف الْمُشْتَمل على الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة فِي الأَصْل وَالْفرع (أَن يجمع بمشترك بَين علتين) فَقَوله أَن يجمع إِلَى آخِره بَيَان لمحل السُّؤَال الْمَذْكُور وَبَين ظرف للسؤال بِتَقْدِير الْوَقْت فَهُوَ الْجمع بَين علتين بِوَصْف مُشْتَرك بَينهمَا وَقَوله (كشهود الزُّور تسببوا فِي الْقَتْل فيقتص) مِنْهُم (كالمكره) لغيره على الْقَتْل تَمْثِيل للْجمع الْمَذْكُور، فَإِن الْإِكْرَاه وَالْإِشْهَاد عِلَّتَانِ للْقصَاص وَالْوَصْف الْمُشْتَرك بَينهمَا التَّسَبُّب فِي الْقَتْل، وتصوير السُّؤَال مَا أَفَادَهُ بقوله (فَيُقَال الضَّابِط فِي الأَصْل) وَهُوَ الْمُكْره على الْقَتْل (الْإِكْرَاه، وَفِي الْفَرْع) وَهُوَ شُهُود الزُّور (الشَّهَادَة وَلم يثبت اعْتِبَار تساويهما) أَي الضابطين (مصلحَة) تَمْيِيز عَن النِّسْبَة الإضافية فِي تساويهما: أَي لم يثبت اعْتِبَار تَسَاوِي مصلحتي الضابطين (شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا فَلَيْسَتْ المسئلة الْحَاصِلَة بقتل شَاهِدي الزُّور مُسَاوِيَة للْمصْلحَة الْحَاصِلَة بقتل الْمُكْره (ليقْتل) شَاهد الزُّور (بِالشَّهَادَةِ) قِيَاسا على الْمُكْره، وَإِذ قد عرفت أَن السُّؤَال الْمَذْكُور مُتَضَمّن إِجْمَالا لجَمِيع مَا ذكر من قَوْله أَن يجمع إِلَى هُنَا، فَلَو جعلت هَذَا القَوْل عطف بَيَان لَهُ لَكَانَ حسنا فَإِن قلت الْعلَّة فِي قِيَاس شُهُود الزُّور على الْمُكْره لَيْسَ إِلَّا التَّسَبُّب فِي الْقَتْل فَمَا معنى كَون الْإِكْرَاه وَالشَّهَادَة علتين؟ . قلت التَّسَبُّب مَفْهُوم كلي وهما فرداه المتحققان فِي الأَصْل وَالْفرع، وفرد الشَّيْء متجد مَعَه فِي الْوُجُود وَعليَّة الْمَفْهُوم الْكُلِّي إِنَّمَا يكون باعتبارها ويتحقق فِي ضمنه، بل نقُول من قبيل إِطْلَاق الْعلَّة على الضَّابِط لكَونه منَاط الْعلية (وَجَوَابه) أَي الْمُسْتَدلّ من هَذَا السُّؤَال (إِمَّا بِأَن الضَّابِط) فِي الأَصْل وَالْفرع إِنَّمَا هُوَ (التَّسَبُّب) الْمُطلق، وَهُوَ (منضبط عرفا) وَإِن لم يكن منضبطا بِحَسب الْمَفْهُوم اللّغَوِيّ، فَإِن المُرَاد بِهِ فِي الْعرف مَا يَصح أَن يُضَاف إِلَيْهِ الْقَتْل لكَمَال نسبته لَهُ (على قِيَاس مَا تقدم) فِي مسئلة حكم الْقيَاس الثُّبُوت فِي الْفَرْع (من الْقيَاس لِلْعِلَّةِ) بَيَان لما تقدم فِي مَبْحَث الْقيَاس لَهَا (لمن مَنعه) أَي منع الْقيَاس لإِثْبَات علية الْعلَّة المجوز إثْبَاته بِالْعِلَّةِ(4/159)
الثَّابِتَة عليتها بِالْقِيَاسِ، وَالْمَانِع يَقُول للمجوز: لَا بُد لَك من منَاط مُشْتَرك بَين العلتين حَتَّى تقيس إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى، فَإِنِّي أجعَل ذَلِك المناط عِلّة لحكم الأَصْل بدل الْعلَّة الَّتِي جَعلتهَا مقيسا عَلَيْهَا، فَكَذَا يَقُول الْمُجيب فِيمَا نَحن فِيهِ أجعَل الْعلَّة فِي قِيَاس الْمَشْهُود على الْمُكْره التَّسَبُّب (وَجعل الْمُشْتَرك) الْمَعْلُوم عرفا فِي الأَصْل وَالْفرع (علته أَو بِأَن إفضاءه) أَو إفضاء مَا فِي الْفَرْع من الضَّابِط إِلَى الحكم (مثله) أَي مثل إفضاء مَا فِي الأَصْل من الضَّابِط إِلَيْهِ (أَو أرجح) مَعْطُوف على مثله أَي إفضاء مَا فِي الْفَرْع أرجح وَأقوى مِمَّا فِي الأَصْل، فثبوت الحكم فِي الْفَرْع إِمَّا بطرِيق المناولة أَو بطرِيق أولى (فِيمَا لَو جعل أَصله) أَي أصل هَذَا الْفَرْع (إغراء الْحَيَوَان) وحثه على قتل نفس، فَقيل يجب الْقصاص على الشَّاهِد زورا بإغرائه أَوْلِيَاء الْمَقْتُول على الْقَتْل قِيَاسا على إغراء الْحَيَوَان عَلَيْهِ (فَإِن الشَّهَادَة أفْضى إِلَى الْقَتْل مِنْهُ) أَي من إغراء الْحَيَوَان فَإِن انبعاث أَوْلِيَاء الْمَقْتُول على قتل من شهدُوا عَلَيْهِ طلبا للتشفي وثلج الصَّدْر بالانتقام أغلب من انبعاث الْحَيَوَان على قتل من يغرى عَلَيْهِ لنفرته عَن الْآدَمِيّ وَعدم علمه بالإغراء. وَفِي الشَّرْح العضدي وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يضر اخْتِلَاف أُصَلِّي التَّسَبُّب، وَهُوَ كَونه شَهَادَة وإغراء. فَإِن حَاصله قِيَاس التَّسَبُّب بِالشَّهَادَةِ على التَّسَبُّب بالإغراء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وكونهما) أَي الأَصْل وَالْفرع فِي الْقيَاس الْمَذْكُور (التَّسَبُّب بِالشَّهَادَةِ) قِيَاسا (على التَّسَبُّب بالإغراء بِلَا جَامع) فَهُوَ غير موجه (بل) الموجه فِيهَا أَن يُقَال (الشَّهَادَة) قِيَاسا (على الْإِكْرَاه أَو الإغراء أَو الشَّاهِد على الْمُكْره بالتسبب) أَي بِجَامِع التَّسَبُّب فِي كل من القياسين (أَو) يُجَاب (بإلغاء التَّفَاوُت) بَين ضابطي الأَصْل وَالْفرع فِي الْمصلحَة (إِذا أثْبته) أَي الْمُعْتَرض التَّفَاوُت بَينهمَا (فِي خصوصه) مُتَعَلق بإلغاء التَّفَاوُت: أَي تبين فِي خُصُوص ذَلِك الْمحل الَّذِي أورد فِيهِ السُّؤَال الْمَذْكُور أَن التَّفَاوُت الْمُثبت بَينهمَا ملغى كَأَن يَقُول لَا تفَاوت فِي الْقصاص بِالْقَتْلِ بِقطع الْأُنْمُلَة المفضية إِلَى الْمَوْت وَالْقَتْل بِضَرْب الرَّقَبَة وَإِن كَانَ ضرب لرقبة أَشد إفضاء إِلَى الْمَوْت (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يبين الْمُعْتَرض التَّفَاوُت فِي خصوصه (لم يفد) الإلغاء لجَوَاز تحَققه فِي غير الْمُتَنَازع (فَلم تذكره الْحَنَفِيَّة لرجوعه إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل) جَوَاز أما فِي قَوْله وَأما مَا ذكره الشَّافِعِيَّة (وسؤال الْقلب مندرج فِي الْمُعَارضَة) لِأَنَّهَا إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ، وَكَذَا الْقلب إِلَّا أَن فِيهِ خُصُوصِيَّة كَون الأَصْل وَالْجَامِع مُشْتَركا بَين قياسي الْمُسْتَدلّ والمعارض (وَكَلَام الْحَنَفِيَّة) مُبْتَدأ خَبره (الْمُعَارضَة) إِلَى آخِره، يَعْنِي كَلَامهم فِي تَحْقِيق هَذَا الْمقَام هُوَ قَوْلهم الْمُعَارضَة إِلَى آخر الْبَحْث (نَوْعَانِ) الأول (مُعَارضَة فِيهَا مناقضة، وَهِي) أَي الَّتِي فِيهَا مناقضة (الْقلب) وتستغرق تَفْسِيره عِنْدهم، ثمَّ أَخذ يبين مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْقلب لُغَة من الْمَعْنيين ليجعل كل وَاحِد مِنْهُمَا منشأ لتسمية نوع من مَعْنَاهُ(4/160)
الاصطلاحي بقوله (وَيُقَال) الْقلب (لجعل الْأَعْلَى أَسْفَل) والأسفل أَعلَى (وَمِنْه) أَي من جعل الْأَعْلَى أَسْفَل (جعل الْمَعْلُول عِلّة، وَقَلبه) أَي جعل الْعلَّة معلولا (فَإِن الْعلَّة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْلُول (أَعلَى للأصلية) أَي لكَونهَا أصلا فِي الْإِثْبَات والمعلول فرعا لَهَا فِيهِ، فتبديلها كجعل الْإِنَاء منكوسا (وَإِنَّمَا يُمكن) هَذَا النَّوْع من الْقلب (فِي التَّعْلِيل بِحكم) أَي فِيمَا إِذا علل حكم الأَصْل بِحكم آخر شَرْعِي، ثمَّ يعدي إِلَى الْفَرْع: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي شَيْء لَهُ حيثيتان: الْعلية والمعلولية، وَالْحكم الشَّرْعِيّ إِذا كَانَ عِلّة لمثله فَهُوَ عِلّة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، ومعلول من حَيْثُ إِنَّه لَا بُد فِي كل حكم شَرْعِي من عِلّة، وَمثل هَذَا لَا يتَصَوَّر فِي التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْمَحْض، لِأَنَّهُ لَا يصير حكما بِوَجْه، والمعلولية مَوْقُوفَة على كَونه حكما، كَذَا قَالُوا (كالكفار يجلد بكرهم) . قَالَ الشَّافِعِي: الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط الْإِحْصَان حَتَّى لَو زنى الذِّمِّيّ الْحر الْبَالِغ الَّذِي وطئ امْرَأَة فِي الْقبل بِنِكَاح صَحِيح يرْجم، لِأَن الْكفَّار جنس يجلد بكرهم مائَة إِذا كَانَ حرا (فيرجم ثيبهم كالمسلمين) أَي كَمَا أَن الْمُسلمين الْأَحْرَار الْبَالِغين الْعُقَلَاء الواطئين لامْرَأَة فِي الْقبل بِنِكَاح صَحِيح يرجمون، لِأَنَّهُ يجلد بكرهم مائَة، فَجعل جلد الْبكر مائَة عِلّة لوُجُوب رجم الثّيّب فِي الْمُسلمين، وقاس الْكفَّار عَلَيْهِم بِهَذَا الْجَامِع، وَهُوَ حكم شَرْعِي، وَالْبكْر وَالثَّيِّب يطلقان على الذّكر وَالْأُنْثَى (فَيَقُول) الْمُعْتَرض الْحَنَفِيّ لَا نسلم أَن الْمُسلمين إِنَّمَا يرْجم ثيبهم، لِأَنَّهُ يجلد بكرهم بل (إِنَّمَا يجلد بكر الْمُسلمين) ، لِأَنَّهُ يرْجم ثيبهم) فَلَا يلْزم رجم الذِّمِّيّ الْمَذْكُور إِذا زنا ثَيِّبًا (فَحَيْثُ جعل) الْمُعْتَرض (الْعلَّة) أَي الَّذِي جعله الشَّافِعِي عِلّة فِي الأَصْل، وَهُوَ جلد الْمِائَة (حكما) فِيهِ، وَمَا جعله حكما فِيهِ رجم الثّيّب عِلّة فِيهِ (لَزِمَهَا) أَي لزم الْعلَّة المجعولة حكما (النَّقْض) لتخلف الحكم عَنْهَا حِينَئِذٍ لِأَنَّهَا صَارَت بِنَفسِهَا حكما وصارما كَانَ حكما مترتبا عَلَيْهَا عِلّة مُتَقَدّمَة عَلَيْهَا، والمتقدم على الشَّيْء لَا يكون حكما لَهُ فَلَزِمَ تخلف الحكم عَنهُ، وَفِيه أَنه لَا يرد على الشَّافِعِي إِلَّا بحث وَاحِد، وَهُوَ إِنَّمَا جعلته عِلّة لَيْسَ بعلة، وَبعد هَذَا لَا يرد عَلَيْهِ النَّقْض، لِأَن النَّقْض فرع الْعلية، وَقد تقدّمت (وَهُوَ) أَي هَذَا الَّذِي ذكرنَا (قَوْلهم) أَي معنى قَول الْحَنَفِيَّة مُعَارضَة (فِيهَا مناقضة) وَقد سبق أَن الْحَنَفِيَّة يسمون النَّقْض مناقضة، وَإِطْلَاق الْمُعَارضَة عَلَيْهِ من حَيْثُ أَن الْقلب قَابل تَعْلِيل الْمُعَلل بتعليل يلْزم مِنْهُ بُطْلَانه، ثمَّ يلْزم مِنْهُ بطلَان حكمه، لَا بِمَعْنى إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ بِهِ علية الْخصم، فَهُوَ من قبيل إِطْلَاق اسْم الْمَلْزُوم على اللَّازِم، فَلَا يرد شَيْء مِمَّا أطنبوا فِيهِ (والاحتراس عَنهُ) أَي عَن هَذَا الْقلب حَتَّى لَا يُنَافِي إِيرَاده (جعله) أَي الْكَلَام (اسْتِدْلَالا) بِأَن لَا يُعلل أحد الْحكمَيْنِ بِالْآخرِ، بل يسْتَدلّ بِثُبُوت أَحدهمَا على ثُبُوت الآخر، إِذْ لَا امْتنَاع فِي الِاسْتِدْلَال(4/161)
بِوُجُود الْمَعْلُول على وجود الْعلَّة كَمَا يُقَال هَذَا متعفن الإخلاط لِأَنَّهُ مَحْمُوم (وَهُوَ) أَي الاحتراس عَنهُ بِهَذَا الطَّرِيق إِنَّمَا يتم (إِذا ثَبت التلازم) بَين الْحكمَيْنِ: أَي اللُّزُوم من الْجَانِبَيْنِ (شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا (كالتوءمين) أَي المولودين فِي بطن وَاحِد (فِي الْحُرِّيَّة وَالرّق وَالنّسب) فَإِنَّهُ يثبت حُرْمَة الأَصْل لأَحَدهمَا بثبوتها للْآخر، وَهَكَذَا: أَي الرّقّ وَالنّسب (و) يُقَال (لجعل الظّهْر بَطنا) والبطن ظهرا كقلب الجراب (وَمِنْه) أَي من هَذَا النَّوْع من الْقلب (جعل وَصفه) أَي الْمُسْتَدلّ (شَاهدا) أَي حجَّة (لَك) أَيهَا الْمُعْتَرض لإِثْبَات خلاف حكم الْمُسْتَدلّ بعد أَن كَانَ شَاهدا لَهُ عَلَيْك، فَكَأَنَّهُ كَانَ وَجه الْوَصْف مُقبلا على الْمُسْتَدلّ وظهره إِلَى الْمُعْتَرض فَانْقَلَبَ (وَلَا بُد فِيهِ) أَي فِي هَذَا النَّوْع (من زِيَادَة) فِي الْوَصْف الَّذِي ذكره الْمُعْتَرض على الْوَصْف الَّذِي ذكره الْمُسْتَدلّ (تورد تَفْسِيرا لما أبهمه الْمُسْتَدلّ) من الْوَصْف وتقريرا، لَهُ لَا تغييرا فَيلْزم أَن لَا يكون قلبا، بل مُعَارضَة مَحْضَة غير متضمنة لإبطال دَلِيل الْمُسْتَدلّ (كَصَوْم فرض) على مَا قَالَه الشَّافِعِي فِي نِيَّة صَوْم رَمَضَان (فَلَا يتَأَدَّى بِلَا تعْيين) للنِّيَّة (كالقضاء) فَإِنَّهُ لَا يتَأَدَّى بِلَا تعْيين لوصف الْفَرْضِيَّة (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ (صَوْم فرض مُتَعَيّن) يتَعَيَّن بِتَعْيِين الشَّارِع لنَهْيه عَن سَائِر الصيامات فِي الْوَقْت (فَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ) إِلَى تعْيين النِّيَّة بعد تَعْيِينه (كالقضاء بعد الشُّرُوع فِيهِ) فَإِن الْقَضَاء إِذا شرع فِيهِ مَقْرُونا مَعَ النِّيَّة يصدق عَلَيْهِ أَنه صَوْم فرض مُتَعَيّن، وَقبل الشُّرُوع لم يتَعَيَّن، لجَوَاز أَن يَنْوِي الصَّوْم فِي يَوْم بِعَيْنِه، ثمَّ قبل الشُّرُوع فِيهِ يَنْقَلِب رَأْيه فَلَا يَصُوم فِيهِ، فقد أبهم الْمُسْتَدلّ الْوَصْف حَيْثُ قَالَ صَوْم فرض وَلم يذكر تَعْيِينه بِتَعْيِين الشَّارِع، وَلَو ذكره لما تحققت الْمُشَاركَة فِي الْوَصْف بَين صَوْم رَمَضَان وَصَوْم الْقَضَاء إِلَّا بعد اعْتِبَار الْفَرْضِيَّة وَالتَّعْيِين فِيهِ، وَهَذَا الِاعْتِبَار لَا يتَحَقَّق فِيهِ إِلَّا بعد الشُّرُوع وَبعد الشُّرُوع لَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة ليقاس عَلَيْهِ فَذكر الْمُعْتَرض إِيَّاه تَفْسِير وَبَيَان لمحل النزاع، فَإِن الصَّوْم الْفَرْض الْمُتَعَيّن فِي وقته، فَالْأَصْل فِيهِ الْقَضَاء الْمَشْرُوع فِيهِ، غَايَته أَن التَّعْيِين فِي رَمَضَان قبل الشُّرُوع، وَفِي الْقَضَاء بعده، وَلَا يكون تعْيين الشَّارِع لَهُ أدنى من تعْيين العَبْد، وَفِيه بحث ذكره المُصَنّف فِيمَا سبق، وَفِي شرح الْهِدَايَة أَيْضا (وَمِنْه) أَي من هَذَا النَّوْع قَول الشَّافِعِي فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء: الْمسْح (ركن فِي الْوضُوء، فَيسنّ تكريره كالغسل: فَيَقُول) الْحَنَفِيّ الْمسْح (ركن فِيهِ) أَي الْوضُوء (أكمل بِزِيَادَة) فِي مَحَله (على) قدر (الْفَرْض) وَهُوَ اسْتِيعَاب بَاقِيه (فَلَا يسن تكراره كالغسل، فَهِيَ) أَي الزِّيَادَة الَّتِي أكمل بهَا (تَفْسِير) لما أبهم من الْوَصْف وَتَحْقِيق لمحل الْخلاف (لِأَن الْخلاف فِي تثليث الْمسْح بعد إكماله كَذَلِك) أَي بِزِيَادَة على الْفَرْض (وَهُوَ) أَي إِلَّا كَمَال على هَذَا الْوَجْه فِي جَانب الْمسْح إِنَّمَا هُوَ (الِاسْتِيعَاب) أَي استيعابه جَمِيع الراس فَإِنَّهُ زِيَادَة على(4/162)
الْفَرْض الَّذِي هُوَ الرّبع مكملة لَهُ كَمَا أَنَّهَا فِي جَانب الْغسْل التَّثْلِيث وَالْحَاصِل أَن الْمُسْتَدلّ نظر فِي الأَصْل وَهُوَ الْغسْل إِلَى وصف الركنية الْمُشْتَركَة بَينه وَبَين الْفَرْع الَّذِي هُوَ الْمسْح وظنه مؤثرا فِي ترَتّب حكم التَّثْلِيث عَلَيْهِ فَحكم بسنية التَّثْلِيث فِي الْفَرْع كَمَا فِي الأَصْل، والمعترض دقق النّظر فَوجدَ أَن الركنية لَا تَقْتَضِي خُصُوصِيَّة التَّثْلِيث، بل إِلَّا كَمَال الْمُطلق سَوَاء تحقق فِي ضمن التَّثْلِيث أَو الِاسْتِيعَاب، وَقد تحقق مُقْتَضَاهُ فِي الْمسْح فِي ضمن الِاسْتِيعَاب فقد استوعب حَقه، فَلَا يُزَاد الْفَرْع على الأَصْل بِالْجمعِ لَهُ بَين واستيعاب والتثليث (وَلم يَصح إِيرَاد فَخر الْإِسْلَام لهَذَا) الْمِثَال (فِي الْمُعَارضَة الْخَالِصَة) لوُجُود الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة الدَّالَّة على أَن دَلِيل الْمعَارض لَيْسَ دَلِيل الْمُسْتَدلّ بِعَيْنِه على مَا هُوَ الْمُعْتَبر فِي الْخَالِصَة كَمَا سَيَجِيءُ، وَتحقّق مَا هُوَ الْمُعْتَبر فِي النَّوْع الأول فِيهِ (وَإِذ علمت) فِي أَوَائِل هَذَا الْفَصْل (أَن الْإِيرَاد) أَي إِيرَاد الْمُعْتَرض للاعتراض إِنَّمَا هُوَ (على ظَنّه) أَي الْمُسْتَدلّ (التَّأْثِير، لَا) على (حَقِيقَته) أَي حَقِيقَة التَّأْثِير فِي نفس الْأَمر (صَحَّ إِيرَاد الْقلب على) الْعِلَل (المؤثرة) لِأَن مرجع المناقضة إِنَّمَا هُوَ ظن الْمُعَلل، لَا اعْتِبَار الشَّارِع فِي نفس الْأَمر (كفساد الْوَضع) أَي كَمَا أَن فَسَاد الْوَضع، وَقد مر تَفْسِيره مورده ظن الْمُعَلل للتأثير لَا حَقِيقَة التَّأْثِير (وَيُخَالِفهُ) أَي يُخَالف هَذَا النَّوْع من الْقلب فَسَاد الْوَضع (بِالزِّيَادَةِ) الْمَذْكُورَة (وبكونه) أَي بِكَوْن هَذَا النَّوْع مِنْهُ يُورد فِي مطلب يكون (أَعم من مدعاه) أَي مدعي فَسَاد الْوَضع وَهُوَ نقيض حكم الْمُسْتَدلّ، فَإِن شَهَادَة وصف الْمُسْتَدلّ للمعترض كَمَا تحقق فِيمَا يثبت نقيض حكمه تتَحَقَّق فِيمَا يسْتَلْزم نقيضه، وَلَو اطَّلَعت على مَا ذكره الشَّارِح فِي حل هَذَا الْمحل على مَا هُوَ عَادَته فِي أَمْثَاله من المشكلات لقضيت مِنْهُ الْعجب. هَذَا فِي بَيَان الْفرق بَين النَّوْع الثَّانِي من الْقلب وَفَسَاد الْوَضع، وَقد سبق قَرِيبا أَن فَسَاد الْوَضع يُفَارق الْقلب الْمُطلق بِكَوْن الْوَصْف فِي فَسَاد الْوَضع يثبت نقيض الحكم بِأَصْل آخر، وَفِي الْقلب يُثبتهُ بِأَصْل الْمُسْتَدلّ المُرَاد بِإِثْبَات الْقلب نقيضه مَا يعم إثْبَاته بِوَاسِطَة فَلَا يُنَافِي مَا سبق. (قَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (ويقلب الْعلَّة من وَجه فَاسد كعبادة لَا يجب الْمُضِيّ فِي فاسدها، فَلَا تلْزم بِالشُّرُوعِ) فِيهَا (كَالْوضُوءِ) أَي كَقَوْل الشَّافِعِي: إِن الشُّرُوع فِي نفل من صَلَاة أَو صَوْم غير مُلْزم إِتْمَامه وقضاؤه إِذا فسد أَنه عبَادَة لَا يجب الْمُضِيّ فِيهَا إِذا فَسدتْ، فَلَا تلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَالْوضُوءِ بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا عبَادَة لَا يمْضِي فِي فاسدها، وَاحْترز بِهِ عَن الْحَج، فَإِنَّهُ يجب الْمُضِيّ فِي فاسده، وَكَذَا يلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَجعل عدم لُزُوم المضيف فِي الْفَاسِد عِلّة لعدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ إِذا كَانَت الْعِبَادَة الْمَذْكُورَة حَالهَا كَحال الْوضُوء (فيستوي عمل النّذر والشروع فِيهَا كَالْوضُوءِ) أَي كَمَا يَسْتَوِي عملهما فِي الْوضُوء فَإِنَّهُ لما لم يلْزم بِالشُّرُوعِ لم يلْزم بِالنذرِ فمساواة عملهما فِي الْوضُوء كَونهمَا متساويين فِي عدم الْإِلْزَام(4/163)
على الْمُكَلف النَّاذِر والشارع فِي الْعِبَادَة الْمَذْكُورَة كَونهمَا متساويين فِي الْإِلْزَام، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فتلزم) النَّافِلَة (بِالشُّرُوعِ لِأَنَّهَا تلْزم بِالنذرِ) إِجْمَاعًا فَالْحَاصِل أَن العباة الْمَذْكُورَة لَزِمَهَا الْمُسَاوَاة بَين نذرها وشروعها، وَلَا يتَصَوَّر مساواتهما فِيهَا بالإلزام لتعين الْإِلْزَام فِي نذرها بِالْإِجْمَاع، وَيُسمى هَذَا الْقلب قلب التَّسْوِيَة، وَأما قلب الْعلَّة الَّتِي هِيَ عدم لُزُوم الْمُضِيّ فِي الْفَاسِد وَكَونه من وَجه فَاسد فَلَمَّا سيشير إِلَيْهِ (وَسَماهُ) أَي هَذَا الْقلب بدليله (فَخر الْإِسْلَام عكسا، لِأَن حَاصله عكس خُصُوص حكم الأَصْل) الَّذِي هُوَ الْوضُوء (وَهُوَ) أَي حكمه فِي الْمِثَال (عدم اللُّزُوم بِالنذرِ والشروع فِي الْفَرْع) أَي النَّافِلَة، وَلَا يخفى أَن عكس حكم الأَصْل عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ فَقَط لَا عدم اللُّزُوم بهما جَمِيعًا فَفِيهِ مُسَامَحَة، أَو المُرَاد بِحكمِهِ مَا يلْزم الحكم الَّذِي ذكره الْمُسْتَدلّ وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَهُوَ عدم اللُّزُوم الْمُتَرَتب على مُسَاوَاة عملهما فِي الْوضُوء الَّذِي لزم تَعْلِيل الْمُسْتَدلّ وَإِنَّمَا قَالَ خُصُوص حكم الأَصْل لعدم كَون حَاصله عكس مُطلق حكم الشَّامِل مُسَاوَاة عملهما فِيهِ فَتدبر (وَهَذَا) النَّوْع من الْقلب هُوَ (الْمَنْسُوب إِلَى الْحَنَفِيَّة أول الْقيَاس) أَي فِي أول مباحثه (مُسَمّى بِقِيَاس الْعَكْس) وَلَيْسَ بِقِيَاس (وَإِنَّمَا هُوَ اسْم الِاعْتِرَاض) هُوَ رد الحكم بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُور. (وَاخْتلف فِي قبُوله، فَقيل نعم) يقبل وَهُوَ معزو إِلَى الْأَكْثَر: مِنْهُم أَبُو إِسْحَق الشِّيرَازِيّ وَالْإِمَام الرَّازِيّ (إِذْ جعل) الْمُعْتَرض (وَصفه) أَي الْمُسْتَدلّ (شَاهدا لما يسْتَلْزم نقيض مَطْلُوبه) أَي الْمُسْتَدلّ (وَهُوَ) أَي مَا يسْتَلْزم نقيض مَطْلُوب الْمُسْتَدلّ (الاسْتوَاء) لِأَنَّهُ يلْزم من اسْتِوَاء الشُّرُوع وَالنّذر فِي الْعَمَل كَون الشُّرُوع ملزما كالنذر وَهُوَ نقيض مَطْلُوبه، أَعنِي عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ. (وَالْمُخْتَار) كَمَا ذهب إِلَيْهِ آخَرُونَ: مِنْهُم القَاضِي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَصَاحب البديع أَنه (لَا) يقبل (لِأَن كَون الْوَصْف يُوجب شبها فِي شَيْء لَا يسْتَلْزم عُمُوم الشّبَه) من المتشابهين فِي كل شَيْء (ليلزم الاسْتوَاء مُطلقًا) وَالْحَاصِل أَن القالب لما ادّعى أَن علية عدم وجوب الْمُضِيّ فِي الْفَاسِد لعدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ فِي الْوضُوء والنافلة أوجب شبها بَين الْوضُوء والنافلة فِي عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ والمتشابهان متساويان فِي الْأَحْكَام، وَمن جملَة أَحْكَام الْوضُوء اسْتِوَاء عمل النّذر والشروع فِيهِ فَلَزِمَ اسْتِوَاء عملهما فِي النَّافِلَة، وعَلى تَقْدِير اسْتِوَاء عملهما فِي النَّافِلَة يلْزم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ لما ذكر رد عَلَيْهِ الْمُخْتَار بِأَن إِيجَاب الشّبَه فِي شَيْء، وَهُوَ هَهُنَا عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ لَا يسْتَلْزم عُمُوم الشّبَه حَتَّى يلْزم الشّبَه بَين الْوضُوء والنافلة فِي اسْتِوَاء عملهما، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله ليلزم الخ: أَي ليلزم اسْتِوَاء عملهما مُطلقًا فِي الْوضُوء والنافلة، وَلَا يخفى أَنه لَا يلْزم حِينَئِذٍ التَّنَاقُض لِأَن اسْتِوَاء عملهما فِي الْوضُوء يسْتَلْزم عدم اللُّزُوم بِشَيْء مِنْهُمَا، وَفِي النَّافِلَة يسْتَلْزم اللُّزُوم بِكُل مِنْهُمَا للزومها بِالنذرِ إِجْمَاعًا، فعموم الشّبَه يسْتَلْزم مُشَاركَة الْوضُوء والنافلة فِي كل من اللازمين(4/164)
فَافْهَم (وَمَا أوردهُ الشَّافِعِيَّة) فِي كتبهمْ من هَذَا السُّؤَال فَهُوَ (من) النَّوْع (الثَّانِي) من الْقلب أَو الْمَعْنى: وَمَا أوردهُ من هَذَا الْجِنْس من الِاعْتِرَاض على أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة فَهُوَ كَذَا. ثمَّ بَين مَا أوردهُ بقوله (وَهُوَ دَعْوَى تَجْوِيز ثُبُوت نقيض حكم الْمُسْتَدلّ فِي الْفَرْع) مُتَعَلق بالثبوت كَقَوْلِه (بوصفه) أَي بِوَصْف الْمُسْتَدلّ أَو حكمه. وَحَاصِله أَن الْمُعْتَرض يَدعِي مُنَاسبَة وَصفه لحكمين مناقضين بِاعْتِبَار تحَققه فِي المحلين: الأَصْل وَالْفرع، فقد أَشَارَ بِلَفْظ التجويز إِلَى هَذِه الْمُنَاسبَة (وَهُوَ) أَي مَا أوردهُ قِسْمَانِ: أَحدهمَا (قلب لتصحيح مذْهبه) أَي الْمُعْتَرض (ليبطل الْمُسْتَدلّ) أَي ليلزم مِنْهُ بطلَان مذْهبه لتنافيهما (كلبث) أَي كَقَوْل الْحَنَفِيّ: الِاعْتِكَاف يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص (ومجرده) أَي مُجَرّد اللّّبْث (غير قربَة كالوقوف) بِعَرَفَة فَإِن مجرده غير قربَة، وَإِنَّمَا صَار قربَة بانضمام عبَادَة إِلَيْهِ، وَهُوَ الْإِحْرَام فَلَا بُد من انضمام عبَادَة مَعَ اللّّبْث ليصير عبَادَة (فَيشْتَرط فِيهِ) أَي فِي الِاعْتِكَاف (الصَّوْم) لعدم ظُهُور مُنَاسبَة اعْتِبَار عبَادَة غَيره فِيهِ (فَيَقُول) الشَّافِعِي (فَلَا يشْتَرط) فِيهِ الصَّوْم (كالوقوف) أَي إِذا كَانَ الِاعْتِكَاف شَبيه الْوُقُوف بِعَرَفَة لزم أَن لَا يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم كَمَا لَا يشْتَرط فِي الْوُقُوف. (و) الْقسم الآخر قلب (لإبطال) مَذْهَب (الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا لتصحيح مذْهبه) أَي ليلزم مِنْهُ صِحَة مَذْهَب الْمُعْتَرض ضمنا (كالحنفي فِي الرَّأْس) أَي كَقَوْلِه فِي مسح الرَّأْس أَنه مُقَدّر بِالربعِ لِأَنَّهُ عُضْو (من أَعْضَاء الْوضُوء فَلَا يَكْفِي أَقَله) أَي مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الرَّأْس (كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء) فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهَا غسل أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم (فَيَقُول) الشَّافِعِي أَنه مسح عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء (فَلَا يقدر بِالربعِ كبقيتها) فقد أبطل الْمُعْتَرض مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا ليلزم تَصْحِيح مذْهبه ضمنا. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَن عدم التَّقْدِير بِالربعِ لَا يسْتَلْزم الِاكْتِفَاء بِالْأَقَلِّ، فَكيف يلْزم من إبِْطَال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ تَصْحِيح مَذْهَب الْمُعْتَرض؟ أَشَارَ إِلَى دَفعه بقوله (ووروده) أَي الْقلب الْمَذْكُور فِي هَذَا الْمِثَال بِنَاء (على أَن المُرَاد) أَي مُرَاد القالب (اتفقنا) نَحن وَأَنْتُم أَيهَا الْحَنَفِيَّة على (أَن الثَّابِت أَحدهمَا) أَي أقل الرَّأْس أَو الرّبع، وَإِذا انْتَفَى أَحدهمَا ثَبت الآخر، وَإِلَّا فَلَا يلْزم من نفي الرّبع الأول لجَوَاز الِاسْتِيعَاب كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، وَفِيه نظر، وَهُوَ أَن كلا من المتخاصمين تعين عِنْده مذْهبه، وَإِذا أبطل أَحدهمَا مَذْهَب الآخر لم يثبت علية مَذْهَب الْمُبْطل، بل يجوز حِينَئِذٍ الثَّالِث: نعم لَو لم يكن فِي الْوُجُود إِلَّا المذهبان كَانَ يلْزم الْإِجْمَاع على نفي الثَّالِث فَتَأمل (أَو) لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ (التزاما كَقَوْلِه) أَي الْحَنَفِيّ (فِي بيع غير المرئي: عقد مُعَاوضَة فَيصح مَعَ الْجَهْل بِالْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ، فَيَقُول) الشَّافِعِي عقد مُعَاوضَة (فَلَا يثبت فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة) كَمَا لَا يثبت فِي النِّكَاح، فالمعترض لم يتَعَرَّض لإبطال مَذْهَب الْخصم، وَهُوَ القَوْل بِالصِّحَّةِ صَرِيحًا(4/165)
بل التزاما: وَذَلِكَ لِأَن من قَالَ بِصِحَّة بيع المرئي مَعَ الْجَهْل بالمعوض قَالَ بِخِيَار الرُّؤْيَة فهما متلازمان فَيلْزم من انْتِفَاء خِيَار الرُّؤْيَة انْتِفَاء الصِّحَّة، وَلذَا قَالَ (فَلَا يَصح) البيع الْمَذْكُور (الثَّانِي) من نَوْعي (الْمُعَارضَة الْخَالِصَة) عَن معنى المناقضة (فِي) حكم (الْفَرْع) بِأَن يذكر عِلّة أُخْرَى توجب خلاف مَا توجبه عِلّة الْمُسْتَدلّ (بِلَا تَغْيِير) وَلَا زِيَادَة فِي الحكم الأول فَيَقَع بهَا الْمُقَابلَة من غير تعرض لإبطال عِلّة الْمُسْتَدلّ فَيمْتَنع الْعَمَل بِشَيْء مِنْهُمَا لمدافعة كل مِنْهُمَا الْأُخْرَى مَا لم تترجح إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى (ويستدعى) هَذَا النَّوْع (أصلا آخر وَعلة) أُخْرَى (كالمسح) أَي كَقَوْل الشَّافِعِي الْمسْح (ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تكريره كالغسل، فَيَقُول) الْحَنَفِيّ: مسح الرَّأْس (مسح فَلَا يُكَرر كمسح الْخُف) فَأصل الأول الْغسْل، وعلته الركنية، وأصل الثَّانِي مسح الْخُف، وعلته كَونه مسحا، والتكرر وَعَدَمه حكمان متخالفان فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ مسح الرَّأْس وَلم يَقع تَغْيِير فِي الحكم الأول، فمورد الْإِيجَاب وَالسَّلب وَاحِد (وَالْأَحْسَن أَن يَجْعَل أَصله) أَي الْمُعْتَرض (التَّيَمُّم) فَيُقَال كالتيمم (فيندفع) على هَذَا الْفَارِق (المتوهم من مَانع فَسَاد الْخُف) بَيَان للمتوهم: أَي الركنية إِنَّمَا يَقْتَضِي التكرير، غير أَنه لم يتَحَقَّق الْمُقْتَضِي فِي مسح الْخُف لوُجُود الْمَانِع، وَهُوَ الْإِفْضَاء إِلَى إِتْلَاف الْخُف بتكرير الْمسْح (أَو بتغيير مَا) فِي الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ، مَعْطُوف على قَوْله بِلَا تَغْيِير، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى تَقْسِيم هَذَا النَّوْع إِلَى قسمَيْنِ كَقَوْل الْحَنَفِيّ لإِثْبَات ولَايَة التَّزْوِيج بِغَيْر الْأَب وَالْجد من الْأَوْلِيَاء كالأخ (فِي صَغِيرَة بِلَا أَب وجد صَغِيرَة فيولى عَلَيْهَا فِي الانكاح كذات الْأَب) أَي كالصغيرة الَّتِي لَهَا أَب بِجَامِع الصغر الْمُوجب للعجز عَن مُرَاعَاة مصالحها (فَيَقُول) الشَّافِعِي (الْأَخ قَاصِر الشَّفَقَة، فَلَا يولي عَلَيْهَا كَالْمَالِ) فَإِنَّهُ لَا ولَايَة للْأَخ على المَال إِجْمَاعًا: فَهَذِهِ مُعَارضَة خَالِصَة صَحِيحَة مثبتة حكما مُخَالفا للْأولِ بعلة أُخْرَى فِي ذَلِك الْمحل بِعَيْنِه، لَكِن مَعَ تَغْيِير مَا فِي الحكم الأول من الْإِطْلَاق الشَّامِل للْأَخ وَغَيره إِلَى التَّقْيِيد بالأخ (وَأما نظمه) أَي الْمعَارض الْمُعَارضَة هَكَذَا (صَغِيرَة فَلَا يولي عَلَيْهَا قرَابَة الْأُخوة كَالْمَالِ) كَمَا فِي أصُول فَخر الْإِسْلَام والتنقيح وَغَيرهمَا. قَالَ الشَّارِح: لَكِن الْمَذْكُور فِيهَا بِولَايَة الْأُخوة انْتهى، وعَلى مَا ذكره المُصَنّف نِسْبَة التوالية إِلَى الْقَرَابَة مجَاز لكَونهَا سَببا للتولية (فَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من هَذَا الْقسم الْمُعَارضَة الْخَالِصَة من الْقلب، فالمعترض (عَارض مُطلق الْولَايَة) الَّتِي أثبتها الْمُسْتَدلّ (بنفيها) أَي الْولَايَة (عَن خُصُوص) مندرج تَحت عُمُوم إِطْلَاقهَا وَهُوَ الْأَخ (يلْزمه) أَي يلْزم نَفيهَا عَن (نفي) الحكم (الْمُعَلل لِأَن قرَابَته) أَي الْأَخ (أقرب) من سَائِر الْقرَابَات (بعد الولاد، فنفيها) أَي ولَايَة الْأَخ (نفى مَا بعْدهَا) أَي مَا سواهَا من ولَايَة الْعم وَغَيره (مُطلقًا) . وَأَشَارَ إِلَى قسم ثَالِث مِنْهَا بقوله (أَو إِثْبَات) بِالْجَرِّ(4/166)
عطفا على بِلَا تَغْيِير: أَي إِثْبَات الْمُعْتَرض حكما (آخر) غير مَا ذكره الْمُعَلل (يستلزمه) أَي يسْتَلْزم إثْبَاته نفي حكم الْمُعَلل (كَقَوْل أبي حنيفَة فِي أحقية المنعي) أَي الَّذِي نعى إِلَى زَوجته: أَي أخْبرت بِمَوْتِهِ فتربصت مِنْهُ ثمَّ تزوجت (بِوَلَدِهَا) مُتَعَلق بالأحقية: أَي الَّذِي وَلدته (فِي) زمَان (نِكَاح من تزوجته بعده) أَي بعد المنعي من الَّذِي تزَوجهَا بعده، فالمنعي إِذا جَاءَ بعد الْولادَة وَادّعى نسبه (صَاحب فرَاش صَحِيح) مقول قَوْله: أَي المنعي صَاحب فرَاش صَحِيح لقِيَام مَكَانَهُ (فَهُوَ أَحَق) بِالْوَلَدِ الْمَذْكُور (من) صَاحب الْفراش (الْفَاسِد) وَهُوَ المتزوج بهَا مَعَ قيام نِكَاح المنعي (كَمَا لَا يُحْصى) من تَقْدِيم الصَّحِيح على الْفَاسِد عِنْد التَّعَارُض (فَيَقُول) المعترص كالصاحبين: الزَّوْج (الثَّانِي صَاحب فرَاش فَاسد فيلحقه) الْوَلَد (كالمتزوج بِلَا شُهُود) إِذا ولدت المتزوج بهَا يثبت النّسَب مِنْهُ مَعَ فَسَاد الْفراش: كَيفَ وَظَاهر الْحَال يَقْتَضِي كَون الْعلُوق مِنْهُ (فإثباته) أَي إِثْبَات نسب الْوَلَد (من الثَّانِي يلْزمه) أَي الْإِثْبَات الْمَذْكُور (نَفْيه) أَي الْوَلَد (عَن الأول للْإِجْمَاع) على (أَن لَا يثبت) نسبه (مِنْهُمَا) جَمِيعًا، وَقد وجد مَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق النّسَب فِي حق الثَّانِي (فرجح) أَبُو حنيفَة (الْملك وَالصِّحَّة) الكائنين للْأولِ (على الْحُضُور وَالْمَاء) أَي كَون الثَّانِي حَاضرا وَالْمَاء لَهُ (كَالزِّنَا) فَإِنَّهُ وَقع فِيهِ هَذَا التَّرْجِيح (وَالْوَجْه) أَن يُقَال (ترجح) المنعي على الزَّوْج الثَّانِي (بِالصِّحَّةِ على الْحُضُور) أَي بِسَبَب تَرْجِيح وصف صِحَة الْفراش على وصف الْحُضُور مَعَ انْتِفَاء الصِّحَّة (أما المَاء فمقدر فيهمَا) أَي الزَّوْجَيْنِ لعدم الْقطع بِهِ من الثَّانِي. (وَذكر الشَّافِعِيَّة من الأسئلة: مُخَالفَة حكم الْفَرْع لحكم الأَصْل) إِذْ من شَرط الْقيَاس اتِّحَاد الحكم كَمَا عرف (كقياس البيع على النِّكَاح وَعَكسه) أَي قِيَاس النِّكَاح على البيع (فِي عدم الصِّحَّة) بِجَامِع فِي صُورَة (فَيَقُول) الْمُعْتَرض الحكم فيهمَا مُخْتَلف حَقِيقَة (عدمهَا) أَي الصِّحَّة (فِي البيع حُرْمَة الِانْتِفَاع) بِالْمَبِيعِ (و) عدمهَا (فِي النِّكَاح حُرْمَة الْمُبَاشرَة. وَالْجَوَاب) عَن الْإِيرَاد الْمَذْكُور أَن يُقَال (الْبطلَان) الَّذِي هُوَ عدم الصِّحَّة فيهمَا (وَاحِد) وَهُوَ (عدم) ترَتّب (الْمَقْصُود من العقد) عَلَيْهِ (وَإِن اخْتلف صوره) أَي صور الْبطلَان ومحاله الَّتِي يُضَاف إِلَيْهَا كَالْبيع وَالنِّكَاح، فَإِن اخْتِلَاف الْمحل لَا يُوجب اخْتِلَاف الْحَال، بل لَا بُد فِي كل قِيَاس من اخْتِلَاف مَحل الحكم، وَإِلَّا لم يتَحَقَّق الأَصْل وَالْفرع. ثمَّ الْمُمْتَنع فِي الْقيَاس اخْتِلَاف الحكم جِنْسا كالوجوب وَالْحُرْمَة وَالنَّفْي وَالْإِثْبَات (وَهَذَا) السُّؤَال (وَغَيره) من الأسئلة (ككون الأَصْل معدولا) عَن سنَن الْقيَاس (دَاخل فِيمَا ذكر الْحَنَفِيَّة من منع وجود الشَّرْط) فَلَا حَاجَة إِلَى إِفْرَاده بِالذكر. (وَأما سُؤال الْفرق) بَين الأَصْل وَالْفرع (إبداء خُصُوصِيَّة فِي الأَصْل) عطف بَيَان لسؤال الْفرق، ثمَّ نعت الخصوصية بقوله (هِيَ) أَي تِلْكَ الخصوصية(4/167)
(شَرط) للعلية (مَعَ بَيَان انتفائها) أَي تِلْكَ الخصوصية (فِي الْفَرْع أَو بَيَان مَانع) بِالرَّفْع عطفا على إبداء (فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع عَن الحكم (و) بَيَان (انتفائه) أَي الْمَانِع (فِي الأَصْل فمجموع معارضتين فِي الأَصْل وَالْفرع) جَوَاب لأما، بِمَعْنى أَن حَقِيقَة الْفرق الْمَذْكُور مركبة من معارضتين: مُعَارضَة فِي الأَصْل: وحاصلها أَنَّك زعمت أَن الْوَصْف الَّذِي ذكرته فِي الأَصْل عِلّة من غير شَرط أَو بِدُونِ اعْتِبَار عدم الْمَانِع، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مَشْرُوط بالخصوصية الْمَذْكُورَة أَو مُعْتَبر فِيهِ عدم مَانع كَذَا. ومعارضة فِي الْفَرْع: وحاصلها أَنَّك ادعيت وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع وَلَيْسَ كَذَلِك لانْتِفَاء شَرطهَا فِيهِ، أَو وجود الْمَانِع من تأثيرها فِيهِ (وَهُوَ) أَي كَونه مَجْمُوع المعارضتين (فِي) الشق (الثَّانِي) من الترديد، أَعنِي بَيَان مَانع فِي الْفَرْع وانتفائه فِي الأَصْل مَبْنِيّ (على أَن الْعلَّة الْوَصْف مَعَ عدم هَذَا الْمَانِع) لِأَنَّهُ لَو لم يعْتَبر فِي الْعلَّة عدم الْمَانِع لما صَحَّ نفي وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع، وَلِأَن الْمَانِع عَن الشَّيْء فِي قُوَّة الْمُقْتَضى لنقيضه فَيكون فِي الْفَرْع نقيض الحكم الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ (وَعَلِيهِ) أَي على الْمُعْتَرض (بَيَان كَونه) أَي كَون مَا أبداه من الخصوصية فِي الأَصْل شرطا فِي الشق الأول (أَو) مَا أبداه من الْمَانِع فِي الْفَرْع (مَانِعا) فِي الشق الثَّانِي (على طَرِيق إِثْبَات الْمُسْتَدلّ علية الْوَصْف) أَي كَمَا أثبت الْمُسْتَدلّ علية الْوَصْف على الْوَجْه الَّذِي ادَّعَاهُ يثبت الْمعَارض عليته على الْوَجْه الَّذِي يَدعِيهِ (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْفرق (معارضتان) فِي الأَصْل وَالْفرع (على) الشق الأول من الترديد (ادِّعَاء الشَّرْط و) معارضته (فِي الْفَرْع فَقَط على) الشق الثَّانِي مِنْهُ: أَي بَيَان (الْمَانِع لما تقدم) فِي شُرُوط الْعلَّة (من الْحق) من (أَن عدم الْمَانِع لَيْسَ جُزْءا من الْعلَّة الباعثة، بِخِلَاف الشَّرْط لِأَنَّهُ) أَي الشَّرْط (خُصُوصِيَّة زَائِدَة على الْوَصْف) الَّذِي علل بِهِ الْمُعَلل فَهِيَ جُزْء مِنْهُ (وَلَو لم يتَعَرَّض) الْمُعْتَرض (لانتفائه) أَي الشَّرْط (من الْفَرْع لم يكن) إبداء الخصوصية الَّتِي هِيَ شَرط فِي الأَصْل (الْفرق) الَّذِي هُوَ مَجْمُوع المعارضتين (بل) هُوَ (مُعَارضَة فِي الأَصْل الْمُسَمّى مُفَارقَة) عِنْد الْحَنَفِيَّة وَتقدم الْكَلَام فِيهَا (والاتفاق على) جَوَاز (جمعهَا) أَي الاعتراضات إِذا كَانَت (من جنس) وَاحِد، إِذْ لَا يلْزم مِنْهُ مَحْذُور من التَّنَاقُض والانتقال وَغير ذَلِك (و) ذكر (بعض الْأُصُولِيِّينَ النَّوْع للْجِنْس) يَعْنِي أطلق النَّوْع وَأَرَادَ بِهِ الْجِنْس (وَالْجِنْس للنوع) عكس على مَا فِيهِ اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ، فَالْمُرَاد بِالْجِنْسِ الْمَذْكُور فِي الِاتِّفَاق النَّوْع (وأصول الْحَنَفِيَّة) وفروعهم أَيْضا يذكر فِيهَا (الْجِنْس للنوع) كالحنطة (وَالنَّوْع للصنف كَرجل) وَلَا مناقشة فِي الِاصْطِلَاح (وَذَلِكَ) أَي جمعهَا من جنس (كالاستفسارات والمنوع والمعارضات) فَإِن كل وَاحِدَة مِنْهَا يجمعها جنس هُوَ الاستفسار وَالْمَنْع والمعارضة (وَفِي) جمع (الْأَجْنَاس) من الاعتراضات اخْتِلَاف (مَنعه) أَي جمعهَا (السمرقنديون للخبط) اللَّازِم من ذَلِك (للانتشار) بِخِلَاف مَا إِذا كَانَت من جنس(4/168)
وَاحِد، فَإِن النشر فِي الْمُخْتَلفَة أَكثر، وَالْجُمْهُور جوزوا الْجمع بَينهمَا أَيْضا (ثمَّ) إِذا جَازَ الْجمع (منع أَكثر النظار) الاعتراضات (الْمرتبَة طبعا) أَي جمعهَا، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ أَعم من أَن تكون من جنس وَاحِد أَولا، وَالدَّلِيل يُفِيد الْأَعَمّ، غير أَن الشَّارِح خصصه بِمَا إِذا كَانَ من نوع وَاحِد (كمنع حكم الأَصْل وَمنع أَنه مُعَلل بذلك) الْوَصْف فَإِن تَعْلِيله بعد ثُبُوته طبعا (إِذْ يُفِيد) الْأَخير (تَسْلِيم الأول) فَيتَعَيَّن الْأَخير سؤالا فيجاب عَنهُ دون الأول (وَالْمُخْتَار جَوَازه) أَي جمع الْمرتبَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاق الاسفرايني (لِأَن التَّسْلِيم) للمتقدم (فَرضِي: أَي لَو سلم) الأول (ورد الثَّانِي) فَلَا يلْزم تَسْلِيمه فِي نفس الْأَمر (وَحِينَئِذٍ) أَي حِين اختير جَوَازه (الْوَاجِب) على الْمُعْتَرض (ترتيبها) أَي الْمرتبَة طبعا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرتبها وَعكس التَّرْتِيب (فَمنع) فحاصله منع (بعد التَّسْلِيم إِذْ) قَول الْمُعْتَرض (لَا نسلم أَن الحكم مُعَلل بِكَذَا يتَضَمَّن تَسْلِيمه) أَي الحكم (فَقَوله) بعد ذَلِك (بِمَنْع ثُبُوت الحكم رُجُوع) عَن تَسْلِيمه (لَا يسمع) لِأَنَّهُ إِنْكَار بعد الْإِقْرَار فَالْمُرَاد من التَّرْتِيب الْوَاجِب على الْمُعْتَرض أَن يرد الْمرتبَة على وَجه لَا يلْزم عَلَيْهِ الْمَنْع بعد التَّسْلِيم فَيمْنَع ثُبُوت الحكم أَولا، ثمَّ يمْنَع كَونه مُعَللا بِكَذَا، فَيكون تَسْلِيمًا بعد الْمَنْع على طَرِيق التنزل، وَلما بَين وجوب التَّرْتِيب على هَذَا الْوَجْه فِي جَمِيع الْمرتبَة على الْمَذْهَب الْمُخْتَار ظهر أَن منع أَكثر النظار جمعهَا على التَّرْتِيب الطبيعي الْمُفِيد تَسْلِيم مَا منع على عكس مَا هُوَ الْوَاجِب، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَيبْطل مَا يلْزم قَول الْأَكْثَرين من وُجُوبهَا) بَيَان لما: أَي من لُزُوم جَمِيع الاعتراضات الْمرتبَة طبعا حَال كَونهَا (غير مرتبَة) وَإِنَّمَا حكم بِلُزُوم ذَلِك لقَولهم لأَنهم قد منعُوا جمعهَا على التَّرْتِيب الطبيعي فَتعين ذكرهَا غير مرتبَة، لَا يُقَال لَا يسْتَلْزم منع ذكرهَا مترتبة ذكرهَا غير مترتبة لجَوَاز أَن لَا يذكرهَا أصلا، لِأَن جَوَاز ذكرهَا اتِّفَاق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا فالاتفاق على) جَوَاز (التَّعَدُّد) إِذا كَانَ المتعدد (من نوع) وَاحِد، وَإِنَّمَا حكم بِبُطْلَان اللَّازِم الْمَذْكُور، لِأَن الْمَنْع قبل التَّسْلِيم إِذا كَانَ قبيحا فَهُوَ بعد التَّسْلِيم أقبح (وَلَا مخلص لَهُم) أَي للأكثرين عَن هَذَا الْإِبْطَال (إِلَّا بادعاء أَن منع الْعلية بِفَرْض وجود الحكم) يَعْنِي أَن تَسْلِيم حكم الأَصْل بِحَسب نفس الْأَمر لَا يلْزم من منع علية الْوَصْف لجَوَاز أَن يكون بِحَسب الْفَرْض، فَإِذا منع ثُبُوت الحكم بعد منع عليته الْوَصْف علم أَن مُرَاده من التَّسْلِيم الَّذِي يتضمنه منع الْعلية إِنَّمَا هُوَ بِحَسب الْفَرْض وَحِينَئِذٍ يلْزمهُم مثله فِي مَنعهم المترتبة. (وَمَا قيل) على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ إِذْ (كل من الْخَمْسَة وَالْعِشْرين) اعتراضا الْوَارِدَة على الْقيَاس الَّذِي سبق ذكرهَا (جنس ينْدَرج تَحت نوع) على مَا مر من اصْطِلَاح بعض الْأُصُولِيِّينَ بعكس مَا هُوَ الْمَشْهُور من اندراج النَّوْع تَحت الْجِنْس (غلط) لِأَنَّهُ (يبطل حِكَايَة الِاتِّفَاق على) جَوَاز جمع (المتعدد من جنس إِذْ لَا يتَصَوَّر(4/169)
التَّعَدُّد مثلا من منع وجود الْعلَّة) أَي مِنْهُ (وَهُوَ أَحدهَا) أَي أحد الْخَمْسَة وَالْعِشْرين، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ الْمَنْع الْمَذْكُور جِنْسا فَبعد منع وجودهَا فِي قِيَاس وَاحِد مرّة لَا يُمكن منع وجودهَا ثَانِيًا فَلَا يتَصَوَّر التَّعَدُّد من هَذَا الْجِنْس، وَهَذَا إِنَّمَا يرد على الْقَائِل الْمَذْكُور إِذا حمل لفظ الْجِنْس فِي الْمحل على الْمَعْنى الَّذِي اخْتَارَهُ فَجعله خَمْسَة وَعشْرين، وَأما إِذا حمله على الْمَعْنى الَّذِي عبر عَنهُ بالنوع فَلَا يرد، غير أَن اخْتِيَاره على وَجه لَا يلائم كَلَام الْقَوْم خُرُوج عَن الجادة (و) أَيْضا (كَلَامهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (فِي) ذكر (الْمثل) أَي أَمْثِلَة الْمَذْكُورَات (وَذكر الْأَجْنَاس) للاعتراضات (خِلَافه) أَي خلاف مَا ذكره هَذَا الْقَائِل، بل الْمَنْع نوع مندرج تَحْتَهُ منع حكم الأَصْل وَمنع وجود الْوَصْف وَمنع عليته وَمنع وجودهَا فِي الْفَرْع وَغَيرهَا، والمعارضة نوع ينْدَرج فِيهَا الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَغَيرهمَا وكل وَاحِد من أَقسَام الْمَنْع والمعارضة جنس وَاحِد إِذْ الْفَرْض أَن الْجِنْس هُوَ النَّوْع المنطقي بِهَذَا الِاصْطِلَاح فالنقد جنس انحصر فِيهِ نَوعه كَمَا نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه يرد عَلَيْهِم حِينَئِذٍ مَا أوردهُ على الْقَائِل الْمَذْكُور فَالصَّوَاب أَن يكون ذكرا للْجِنْس على وَجه لَا يكون كل وَاحِد من الْخَمْسَة وَالْعِشْرين جِنْسا حَتَّى يتَحَقَّق الْخلاف، ثمَّ أَخذ يبين التَّرْتِيب الطبيعي بقوله (فَتقدم الْمُتَعَلّق بِالْأَصْلِ) من الِاعْتِرَاض فَيقدم منع حكم الأَصْل لِأَنَّهُ نظر فِيهِ تَفْصِيلًا، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَالْوَجْه أَن يُقَال الْمَنْع طلب الدَّلِيل من الْمُسْتَدلّ وَهُوَ الَّذِي يتَبَادَر إِلَيْهِ الذِّهْن، بِخِلَاف إِقَامَة الدَّلِيل على خِلَافه (ثمَّ) الْمُتَعَلّق (بِالْعِلَّةِ) لِأَنَّهُ نظر فِيمَا هُوَ متفرع عَن حكم الأَصْل فَتقدم منع وجود الْعلَّة فِي الأَصْل ثمَّ الْمُطَالبَة بتأهيرها إِلَى غير ذَلِك (ثمَّ) الْمُتَعَلّق (بالفرع) لابتنائه على الْعلَّة (وَتقدم النَّقْض على مُعَارضَة الأَصْل عِنْد معتبرها) أَي مُعَارضَة الأَصْل، وَقد مر بَيَانه (إِذْ هِيَ) أَي مُعَارضَة الأَصْل (لإبطال استقلالها) أَي الْعلَّة بالتأثير والنقض لإبطال أَصْلهَا (وَمنع وجود الْعلَّة فِي الأَصْل قبل منعهَا) أَي قبل منع عليتها (وَالْقلب قبل الْمُعَارضَة الْخَالِصَة) وَقد مر تَفْسِيرهَا (لِأَنَّهُ) أَي الْقلب (مُعَارضَة بِدَلِيل الْمُسْتَدلّ) بِخِلَاف الْخَالِصَة فَتذكر الْقلب أَولا (ثمَّ يُقَال وَلَو سلم أَنه) أَي دَلِيل الْمُسْتَدلّ (يُفِيد مَطْلُوبه عندنَا دَلِيل آخر يَنْفِيه) أَي مَطْلُوبه ثمَّ الجدل بِالْحَقِّ مَأْمُور بِهِ. قَالَ تَعَالَى - {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} - وَفعله الصَّحَابَة وَالسَّلَف لما يلْزم من إِنْكَار الْبَاطِل واستنقاذ الْهَالِك عَن ضلاله فَيشْتَرط أَن يكون الْمَقْصُود مِنْهُ إِظْهَار الصَّوَاب. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِن جادلوك فَقل الله أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} - هَذَا أدب حسن علمه الله تَعَالَى ليردوا بِهِ من جادل تعنتا وَلَا يُجِيبُوهُ، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا " مَا ضل قوم بعد هدي كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل، ثمَّ تَلا - {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا} - " صَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَعنهُ مَرْفُوعا " من ترك المُرَاد وَهُوَ مُبْطل بني لَهُ بَيت(4/170)
فِي ربض الْجنَّة، وَمن تَركه وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وَسطهَا " حسنه التِّرْمِذِيّ، والمراء اسْتِخْرَاج غضب المجادل، من مريت الشَّاة: استخرجت لَبنهَا.
خَاتِمَة
للمقالة الثَّانِيَة (الِاتِّفَاق على) كَون (الْأَرْبَعَة) : الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس أَدِلَّة شَرْعِيَّة للْأَحْكَام (عِنْد مثبتي الْقيَاس) وهم الْجُمْهُور مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة (وَاخْتلف فِي) كَون (أُمُور) أُخْرَى أَدِلَّة شَرْعِيَّة: مِنْهَا (الِاسْتِدْلَال بِالْعدمِ، نَفَاهُ الْحَنَفِيَّة) وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي المرصد الثَّانِي من شُرُوط الْعلَّة نفياله مُطلقًا عَنْهُم إِلَّا عدم عِلّة متحدة على تَحْقِيق من المُصَنّف هُنَاكَ، وإثباتا لَهُ عَن غَيرهم على تَفْصِيل بَين أَن يكون عدما مُطلقًا أَو مُضَافا، وَبَين أَن يكون الْمُعَلل بِهِ عدميا أَو وجوديا فَارْجِع إِلَيْهِ، فِي التَّلْوِيح: لَا قَائِل بِأَن التَّعْلِيل بِالنَّفْيِ إِحْدَى علل الْحجَج الشَّرْعِيَّة انْتهى، وَإِنَّمَا هُوَ نفي الحكم الشَّرْعِيّ بِنَفْي الْمدْرك الشَّرْعِيّ، وَفِيه مَا فِيهِ (والمصالح الْمُرْسلَة) وَهِي الَّتِي لَا يشْهد لَهَا أصل بِالِاعْتِبَارِ فِي الشَّرْع وَلَا بالإلغاء وَإِن كَانَت على سنَن الْمصَالح وتلقتها الْعُقُول بِالْقبُولِ (أثبتها مَالك) وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم (ومنعها الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم) مِنْهُم أَكثر الشَّافِعِيَّة ومتأخرو الْحَنَابِلَة (لعدم مَا يشْهد) لَهَا (بِالِاعْتِبَارِ، وَلعدم أصل الْقيَاس فِيهَا كَمَا يعرف مِمَّا تقدم) فِي المرصد الأول، من فصل الْعلَّة، وَالصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم عمِلُوا أمورا لمُطلق الْمصلحَة بِلَا تَقْدِيم شَاهد بِالِاعْتِبَارِ نَحْو كِتَابَة الْمُصحف وَولَايَة الْعَهْد من أبي بكر لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَتَدْوِين الدَّوَاوِين وَعمل السِّكَّة للْمُسلمين واتخاذ السجْن، فَعمل ذَلِك عمر رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى عَنهُ والأوقاف بِإِزَاءِ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتوسعة فِي الْمَسْجِد عِنْد ضيقه فعله عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَذَا تَجْدِيد أَذَان فِي الْجُمُعَة بِالسوقِ وَهُوَ الْأَذَان الأول، فعله عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ نَقله هِشَام إِلَى الْمَسْجِد (وتعارض الْأَشْبَاه) أَي بَقَاء الحكم الْأَصْلِيّ فِي الْمُتَنَازع فِيهِ لتعارض أصلين فِيهِ يُمكن إِلْحَاقه بِكُل مِنْهُمَا (كَقَوْل زفر فِي الْمرَافِق) لَا يجب غسلهَا فِي الْوضُوء لِأَنَّهَا (غَايَة) لغسل الْيَد، والغاية قِسْمَانِ (دخل) قسم (مِنْهَا) فِي المغيا كَقَوْلِه تَعَالَى - {من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} (وَخرج) قسم مِنْهَا كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَأَتمُّوا الصّيام إِلَى اللَّيْل} {فَلَا يدْخل} الْمرْفق (بِالشَّكِّ) فِي وجوب الْغسْل (وَدفع) كَونه دَلِيلا (بِأَنَّهُ إِثْبَات حكم شَرْعِي بِالْجَهْلِ وَأجِيب بِأَن المُرَاد) لزفَر (الأَصْل عَدمه) أَي عدم دُخُول الْمرَافِق فِي الْغسْل (فَيبقى) عَدمه مستمرا (إِلَى ثُبُوت مُوجبه) أَي الدُّخُول (وَالثَّابِت) بِالِاجْتِهَادِ فِي حق الْمرَافِق إِنَّمَا هُوَ (التَّعَارُض) وَقد عرفت الْجَواب من هَذَا فِيمَا سبق فِي مسئلة: إِلَى من حُرُوف الْجَرّ(4/171)
(وَمِنْهَا) أَي من الْأُمُور الْمَذْكُورَة (الِاسْتِدْلَال) وَهُوَ فِي اللُّغَة طلب الدَّلِيل، وَفِي الْعرف إِقَامَته، وَالْمرَاد مِنْهُ هَهُنَا (قيل مَا لَيْسَ بِأحد) الْأَدِلَّة (الْأَرْبَعَة فَيخرج) من هَذَا التَّعْرِيف (قِيَاس الدّلَالَة) وَهُوَ على مَا سبق مَا لَا يذكر فِيهِ الْعلَّة بل وصف ملازم لَهَا نَحْو النَّبِيذ حرَام كَالْخمرِ بِجَامِع الرَّائِحَة المشتدة (وَمَا فِي معنى الأَصْل تَنْقِيح المناط) عطف بَيَان للموصول، وَهُوَ الْجمع بَين الأَصْل وَالْفرع بإلغاء الْفَارِق كقياس الْبَوْل فِي إِنَاء وصبه فِي المَاء الدَّائِم على الْبَوْل فِيهِ الْمنْهِي عَنهُ فِي الْخَبَر الصَّحِيح لعدم الْفرق بَينهمَا فِيمَا يقْصد بِالْمَنْعِ كَمَا يخرج قِيَاس الْعلَّة الْمُصَرّح فِيهِ بِالْعِلَّةِ نَحْو: محرم النَّبِيذ كَالْخمرِ للإسكار لاندراجه فِي الْأَرْبَعَة، فَإِن الْقيَاس الْمُطلق يعم الْكل (وَقد يُقيد الْقيَاس) الْمَنْفِيّ (بِقِيَاس الْعلَّة) فَإِنَّهُ الْمُتَبَادر من الْقيَاس الْمَعْدُود من الْأَرْبَعَة (فيدخلانه) أَي فعلى هَذَا يدْخل قِيَاس الدّلَالَة وَمَا فِي معنى الأَصْل فِي الِاسْتِدْلَال (واختير أَن أَنْوَاعه) أَي الِاسْتِدْلَال ثَلَاثَة على مَا صرح ابْن الْحَاجِب (شرع من قبلنَا، والاستصحاب، والتلازم، وَهُوَ) التلازم (المفاد بالاستثنائي والاقتراني بضروبهما) الْجَار وَالْمَجْرُور بدل من الْجَار وَالْمَجْرُور، أَو الْمَعْنى ملحوظين بِاعْتِبَار جَمِيع ضروبهما، وَذَلِكَ لِأَن حَاصِل الأول الحكم بِلُزُوم شَيْء لشَيْء، ثمَّ الحكم بِوُجُود الْمَلْزُوم فينتج وجود اللَّازِم، أَو الحكم بِانْتِفَاء اللَّازِم فَيُفِيد انْتِفَاء الْمَلْزُوم، ومرجع ضروب الاقتراني إِلَى الشكل الأول، وَحَاصِله لُزُوم مَحْمُول النتيجة للأوسط اللَّازِم لموضوعها فَيثبت محمولها لموضوعها بِالضَّرُورَةِ، فَظهر أَن مفَاد الْكل اللُّزُوم الْمُفِيد للمطلوب (وَقدمنَا زِيَادَة ضرب) للاستثنائي هِيَ على مَا أثْبته الْقَوْم حَاصله (فِي) صُورَة (تَسَاوِي الْمُقدم والتالي) كَأَن كَانَ هَذَا وَاجِبا فتاركه يسْتَحق الْعقَاب لكنه لَا يسْتَحق الْعقَاب، فَإِن الْمَفْرُوض مُسَاوَاة الِاسْتِحْقَاق وَالْوُجُوب، فانتفاء أحد المتساويين يسْتَلْزم انْتِفَاء الآخر، وَإِن كَانَ هَذَا وَاجِبا فتاركه يسْتَحق الْعقَاب لَكِن تَاركه يسْتَحق الْعقَاب فَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِنَّمَا اعتبرها ضربا وَاحِدًا، لِأَن منَاط الْكل أَمر وَاحِد وَهُوَ التَّسَاوِي (وَكَذَا) زِيَادَة ضرب (فِي الاقتراني) وَهُوَ الْمركب من كَلِمَتَيْنِ صغرى سالبة وكبرى مُوجبَة مُتَسَاوِيَة الطَّرفَيْنِ كلا شَيْء من الْإِنْسَان بصهال وكل صهال فرس فَلَا شَيْء من الْإِنْسَان بفرس (إِلَّا أَنه) أَي التلازم الْمَذْكُور (هُنَا) أَي فِي هَذَا الْمقَام مَحْمُول (على خُصُوص) من مُطلق التلازم (هُوَ إِثْبَات أحد موجبي الْعلَّة بِالْآخرِ فتلازمهما) أَي موجبهما، وهما الحكمان إِنَّمَا يكون (بِلَا تعْيين عِلّة) مُوجبَة لَهما (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَا بل يتَعَيَّن عِلّة جَامِعَة (فَقِيَاس) أَي فإثباته بهَا قِيَاس (وَيكون) التلازم (بَين ثبوتين) بَينهمَا اطراد وانعكاس كَمَا إِذا تساوى الْمُقدم والتالي أَو اطراد من طرف وَاحِد من غير انعكاس كَمَا إِذا كَانَ التَّالِي أَعم من الْمُقدم (كمن صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره(4/172)
وَهُوَ) أَي ثُبُوت التلازم بَينهمَا يكون (بالاطراد) الشَّرْعِيّ بِأَن تتبع فَوجدَ كل من صَحَّ طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره، فَعلم أَن المُرَاد بالتلازم مُطلق اللُّزُوم سَوَاء كَانَ من الْجَانِبَيْنِ أَو من جَانب وَاحِد، وَزَاد الشَّارِح هُنَا فِي تَصْوِير الاطراد: وكل من صَحَّ ظِهَاره صَحَّ طَلَاقه، وعَلى هَذَا لَا يبْقى لقَوْله (ويقوى) ثُبُوته بَينهمَا (بالانعكاس) معنى لِأَن الموجبتين الكليتين حاصلهما الْمُسَاوَاة ونقيضا المتساويين متساويان، وَهُوَ محصول قَوْله كل شخص لَا يَصح طَلَاقه لَا يَصح ظِهَاره، وكل شخص لَا يَصح ظِهَاره لَا يَصح طَلَاقه فِي تَفْسِير الانعكاس، وَقَوله: وَحَاصِله التَّمَسُّك بالدوران: يَعْنِي حَاصِل التلازم بَين الطَّلَاق وَصِحَّة الظِّهَار وَعدم الانفكاك بَينهمَا وجودا وعدما، والبحث أَنه فسر الاطراد والانعكاس أَولا باللزوم من الْجَانِبَيْنِ حَيْثُ قَالَ وَلَا بُد فِيهِ أما من الاطراد أَو الانعكاس من الطَّرفَيْنِ كَمَا فِيمَا يكون التَّالِي فِيهِ مُسَاوِيا للعدم، أَو طردا لَا عكسا من طرف وَاحِد فِيمَا يكون التَّالِي أَعم من الْمُقدم انْتهى، وَالضَّمِير فِي قَوْله فِيهِ رَاجع إِلَى التلازم بَين ثبوتين فالاطراد والانعكاس كِلَاهُمَا بِالْبُطْلَانِ، وَحَاصِله كل من صَحَّ ظِهَاره صَحَّ طَلَاقه، وَهَذَا يسْتَلْزم مَا فسر بِهِ الانعكاس ثَانِيًا من اعْتِبَار التلازم بَين نقيضي الثبوتين (ويقرر ثُبُوت) التلازم بَينهمَا إِذا كَانَا أثرين لمؤثر بالاستدلال بِثُبُوت (أحد الأثرين فَيلْزم) أَن يثبت (الآخر للُزُوم) وجود (الْمُؤثر) ثُبُوت أحد الأثرين، وَعند وجود الْمُؤثر يلْزم وجود الْأَثر الآخر بِالضَّرُورَةِ (و) تقرر أَيْضا (بِمَعْنَاهُ) أَي بِمَعْنى مَا ذكر، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوت أحد الأثرين عِنْد وجود الْمُؤثر يلْزم وجود الْأَثر الآخر على ثُبُوت الْمُؤثر ثمَّ ثُبُوته على ثُبُوت الآخر (كفرض الصحتين) للطَّلَاق وَالظِّهَار (أثر الْوَاحِد) كالأهلية لَهما، فَإِذا ثَبت صِحَة الطَّلَاق ثَبت الْأَهْلِيَّة لَهَا، وَيلْزم من ثُبُوت الْأَهْلِيَّة ثُبُوت صِحَة الظِّهَار (وَمَتى عين الْمُؤثر خرج) عَن الِاسْتِدْلَال (إِلَى قِيَاس الْعلَّة، و) يكون التلازم (بَين نفيين) . وَفِي الشَّرْح العضدي: التلازم أَرْبَعَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون بن حكمين، وَالْحكم إِمَّا إِثْبَات أَو نفي، فالأقسام أَرْبَعَة: إِمَّا بَين ثبوتين أَو نفييت أَو ثُبُوت وَنفي، أَو نفي وَثُبُوت، وَمحل الحكم ان لم يكن متلازمين وَلَا متنافيين كالأسود وَالْمُسَافر لم يجز فِيهِ شَيْء من الْأَرْبَعَة، والتلازم إِمَّا أَن يكون طردا أَو عكسا: أَي من الطَّرفَيْنِ، أَو طردا لَا عكسا: أَي من طرف وَاحِد، والتنافي لَا بُد أَن يكون من الطَّرفَيْنِ، لكنه إِمَّا أَن يكون طردا أَو عكسا: أَي إِثْبَاتًا ونفيا، وَإِمَّا طردا فَقَط: أَي إِثْبَاتًا، وَإِمَّا عكسا فَقَط: أَي نفيا، فَهَذِهِ خَمْسَة أَقسَام انْتهى. وَفسّر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة للتنافي بالانفصال الْحَقِيقِيّ، وَمنع الْجمع، وَمنع الْخُلُو، وَقد حمل الشَّارِح قَول المُصَنّف (وَلَا بُد من كَونه الطَّرفَيْنِ طردا وعكسا أَو أَحدهمَا) على هَذِه الثَّلَاثَة، وَجعل تَقْدِير الْكَلَام وَلَا بُد من كَون التَّنَافِي بَين الطَّرفَيْنِ طردا وعكسا: أَي إِثْبَاتًا ونفيا كَمَا هُوَ الْمُنْفَصِلَة(4/173)
الْحَقِيقِيَّة أَو طردا فَقَط كَمَا هُوَ مَانِعَة الْجمع، أَو عكسا فَقَط كَمَا هُوَ مَانِعَة الْخُلُو: وَلَا يخفى مَا فِيهِ لعدم ذكر التَّنَافِي فِي هَذَا السِّيَاق، وَتَقْرِيره بَين فَالْوَجْه أَن يُقَال: الْمَعْنى أَنه لَا بُد من كَون طرفِي التلازم الْوَاقِع بَين النفيين، طردا وعكسا، أَو ذَا طرد فَقَط، أَو ذَا عكس فَقَط فَإِن قلت: على هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال وَلَا بُد من كَونهمَا: أَي النفيين طردا الخ، لِأَن طرفِي التلازم عبارَة عَنْهُمَا قلت: قصد التَّعْمِيم على وَجه يَشْمَل النفيين والمنفيين، فَإِن المُرَاد بالطرد وَالْعَكْس هَهُنَا كليتان فِي جَانِبي النَّفْي وَالْإِثْبَات (لَا يَصح التَّيَمُّم بِلَا نِيَّة فَلَا يَصح الْوضُوء) بِلَا نِيَّة خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف: أَي مِثَاله لَا يَصح الخ (وَهُوَ) أَي ثُبُوت التلازم بَين النفيين (أَيْضا بالاطراد) كَمَا أَنه بَين الثبوتين كَذَلِك (ويقوى) اللُّزُوم الْحَاصِل بالاطراد (بالانعكاس) على طبق مَا سبق: أَي كل تيَمّم يَصح بِالنِّيَّةِ، وكل وضوء يَصح بِالنِّيَّةِ: وَهَذَا عِنْد الشَّافِعِيَّة. وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة فالتلازم طردا وعكسا فِي أحد الطَّرفَيْنِ فَقَط، وَهُوَ التَّيَمُّم، بِخِلَاف الْوضُوء فَإِنَّهُ لَا يَصح عِنْدهم كل وضوء بِالنِّيَّةِ كَمَا لَا يخفى انْتهى. وَيفهم مِنْهُ أَنه يعْتَبر الاطراد والانعكاس فِي كل من طرفِي التلازم: وَهَذَا خبط آخر، بل الانعكاس فِيهِ لُزُوم عدم صِحَة التَّيَمُّم بِغَيْر نِيَّة لعدم صِحَة الْوضُوء بِغَيْر نِيَّة كَعَكْسِهِ (ويقرر) ثُبُوت التلازم بَين النفيين إِذا كَانَا أثرين لمؤثر (بِانْتِفَاء أحد الأثرين، فالآخر) أَي فَيلْزم انْتِفَاء الآخر لانْتِفَاء الْمُؤثر لفرض ثبوتهما أثرا لوَاحِد وَلَيْسَ فرض كَون الثَّوَاب وَاشْتِرَاط النِّيَّة أثرين لِلْعِبَادَةِ (يُوجِبهُ) أَي يُوجب التلازم بَين النفيين، أَعنِي عدم صِحَة التَّيَمُّم بِلَا نِيَّة، وَعدم صِحَة الْوضُوء بِلَا نِيَّة (على) مَذْهَب (الْحَنَفِيّ) لعدم اشْتِرَاط صِحَة الْوضُوء بِالنِّيَّةِ عِنْدهم وَعدم لُزُوم الثَّوَاب لصِحَّته، بِخِلَاف صِحَة التَّيَمُّم فَإِنَّهُ يشْتَرط صِحَّته بِالنِّيَّةِ وَيلْزمهُ الثَّوَاب وَالْعِبَادَة (و) يكون التلازم (بَين نفي مُلْزم للثبوت) وَبَين الثُّبُوت اللَّازِم لَهُ حذفه لانسياق الذِّهْن لَهُ (وَعَكسه) أَي وَبَين ثُبُوت ملزوم للنَّفْي، وَنفي لَازم لَهُ، مِثَال الأول (مُبَاح فَلَيْسَ بِحرَام) فَإِن كَون الشَّيْء مُبَاحا ثُبُوت لَازمه نفي الْحُرْمَة فبينهما تلازم بِمَعْنى أَن نفي الْحُرْمَة ملازم للْإِبَاحَة من غير أَن تذكر الْإِبَاحَة لَازِمَة لنفي الْحُرْمَة لتحَقّق هَذَا النَّفْي فِي ضمن الْوُجُوب وَمِثَال الثَّانِي (لَيْسَ جَائِزا فَحَرَام) فَإِن كَون الشَّيْء منفي الْجَوَاز يلْزمه الْحُرْمَة وَكَذَلِكَ عَكسه، فالتلازم هَهُنَا من الطَّرفَيْنِ (ويقرران) أَي هَذَانِ التلازمان (بِإِثْبَات التَّنَافِي بَينهمَا) أَي بَين الثُّبُوت والمنفي، لَا بَين الثُّبُوت وَالنَّفْي كَمَا يُوهِمهُ ظَاهر الْعبارَة لعدم التَّنَافِي بَين الْإِبَاحَة وَنفي الْحُرْمَة مثلا، بل نَفيهَا لَازم للْإِبَاحَة (أَو) بِإِثْبَات التَّنَافِي بَين (لوازمهما) أَي لَوَازِم الثُّبُوت والمنفي كالتأثيم اللَّازِم لِلْحَرَامِ وَعَدَمه اللَّازِم للمباح والجائز، فَإِن تنَافِي اللوازم يسْتَلْزم تنَافِي الملزومات (وَيرد عَلَيْهَا) أَي على الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة من الاعتراضات (منع اللُّزُوم كالحنفي) أَي كمنعه(4/174)
(فِي الْأَوَّلين) التلازم بَين الظِّهَار وَالطَّلَاق وَبَين نفي صِحَة التَّيَمُّم بِغَيْر نِيَّة وَصِحَّة الْوضُوء بغَيْرهَا وَقد مر بَيَانه (و) منع (ثُبُوت الْمَلْزُوم، و) كَذَا مَا يرد عَلَيْهِ (مَا لَا يخْتَص بِالْعِلَّةِ) من الأسئلة الْوَارِدَة على الْقيَاس، لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن الْعلَّة فِي التلازم، وَمَا لم يتَعَيَّن لم يرد عَلَيْهِ شَيْء (وَيخْتَص) التلازم بسؤال لَا يرد على الْقيَاس وَهُوَ منع تحقق الْمُلَازمَة (فِي مثل تقطع الْأَيْدِي بيد) أَي بِقطع يَد وَاحِدَة (كَقَتل الْجَمَاعَة بِوَاحِد) أَي بقتل وَاحِد (لملازمته) أَي الْقصاص الْمَذْكُور (لثُبُوت الدِّيَة على الْكل) مُتَعَلق بالثبوت لتَضَمّنه معنى الْوُجُوب (فِي الأَصْل) ظرف للملازمة (أَي النَّفس) تَفْسِير للْأَصْل (لِأَنَّهُمَا) أَي الْقصاص وَالدية (أثران فِيهَا) أَي فِي النَّفس يترتبان على الْجِنَايَة (وَوجد أَحدهمَا) أَي أحد الأثرين، وَهُوَ الدِّيَة (فِي الْفَرْع) أَي الْيَد (فالآخر) أَي فَيثبت الْأَثر الآخر، وَهُوَ (الْقصاص) فِيهِ أَيْضا (لِأَن علتهما) أَي عِلّة الأثرين الْمَذْكُورين (فِي الأَصْل إِن) كَانَت (وَاحِدَة فَظَاهر) ثُبُوت الْقصاص على الْكل فِي الْفَرْع لِأَن وجود الْأَثر وَهُوَ الدِّيَة فِيهِ يسْتَلْزم وجود الْعلَّة المؤثرة، وَعند وجودهَا يثبت أَثَرهَا الآخر (أَو) كَانَت (مُتعَدِّدَة، فتلازمهما) أَي الأثرين: وجوب الدِّيَة وَالْقصاص فِي الْجَمِيع (فِي الأَصْل) أَي النَّفس (لتلازمهما) أَي العلتين فوجود أحد الأثرين، وَهُوَ الدِّيَة فِي الْفَرْع يسْتَلْزم وجود علته، وَوُجُود علته يسْتَلْزم عِلّة الْأَثر الآخر للتلازم بَينهمَا (فَيثبت) الْأَثر (الآخر) وَهُوَ الْقصاص فِي الْفَرْع أَيْضا لثُبُوت علته (فَيرد) السُّؤَال الْمُخْتَص بِمثل هَذَا، وَهُوَ (تَجْوِيز كَونه) أَي ذَلِك الْأَثر، وَهُوَ وجوب الدِّيَة على الْكل (بعلة) فِي الْفَرْع: أَي الْيَد يَقْتَضِي وجوب الدِّيَة على الْكل، و (لَا تَقْتَضِي قطع الْأَيْدِي) بِالْيَدِ (وَلَا) هِيَ (مُلَازمَة مقتضية) أَي مُقْتَضى قطع الْأَيْدِي بِالْيَدِ (و) الْأَثر الْمَذْكُور (فِي الأَصْل) أَي النَّفس (بِأُخْرَى) أَي بعلة أُخْرَى غير علته فِي الْفَرْع (تقتضيهما) أَي الْقصاص وَوُجُوب الدِّيَة صفة عِلّة أُخْرَى: وَهَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن أَن تكون عِلّة الْقصاص بِعَينهَا عِلّة الدِّيَة، وَالثَّانِي أَن تكون عِلّة الْقصاص غير عِلّة الدِّيَة لَكِن بَينهمَا تلازم وَأفَاد بقوله (أَو) بعلة أُخْرَى (لَا تلازم مُقْتَض قبل الْكل) وَجها ثَالِثا لَا اتِّحَاد فِيهِ وَلَا تلازم (ويرجح) الْمُعْتَرض ثُبُوته فِي الْفَرْع بعلة أُخْرَى (باتساع مدارك الْأَحْكَام) يَعْنِي على هَذَا التَّقْدِير لَا يلْزم الاتساع فِي الْأَدِلَّة الَّتِي يدْرك بهَا الْأَحْكَام، فَإِن تعدد الْعلَّة تعدد الدَّلِيل (وَهُوَ) أَي اتساع مدارك الْأَحْكَام (أَكثر فَائِدَة، وَجَوَابه) أَي جَوَاب هَذَا السُّؤَال أَن يُقَال (الأَصْل عدم) عِلّة (أُخْرَى، ويرجح الِاتِّحَاد) أَي اتِّحَاد الْعلَّة فِي الحكم الْوَاحِد بالنوع على تعددها (بِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة المتحدة (منعكسة) متحققة فِي جَمِيع صور الحكم والمنعكس عِلّة بالِاتِّفَاقِ، بِخِلَاف غَيرهَا، إِذْ الْمُتَّفق عَلَيْهَا أرجح (فَإِن دَفعه) أَي الْمُعْتَرض الْجَواب الْمَذْكُور بِأَنَّهُ(4/175)
معَارض (بِأَن الأَصْل أَيْضا عدم عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع قَالَ) الْمُسْتَدلّ تعَارض الأصلان فتساقطا غير أَنِّي أَقُول (المتعدية أولى) من القاصرة، وعَلى تَقْدِير اتِّحَاد الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع تكون متعدية، وعَلى تَقْدِير التَّعَدُّد قَاصِرَة، وَفِيه بِأَنَّهُ على تَقْدِير التَّعَدُّد لَا يلْزم كَونهَا قَاصِرَة لجَوَاز تعديها إِلَى غير مَحل النزاع فَتَأمل. قَالَ (الْآمِدِيّ وَمِنْه) أَي من الِاسْتِدْلَال (وجد السَّبَب) فَيثبت الحكم فَالْمُرَاد مَا يَتَرَتَّب على وجوده الحكم (و) وجد (الْمَانِع وفقد الشَّرْط) فيعدم الحكم (وَنفي الحكم لانْتِفَاء مدركه) وَهُوَ المُرَاد بِالتَّعْلِيلِ بِالْعدمِ (و) اتّفق (الْحَنَفِيَّة وَكثير) من الْأُصُولِيِّينَ (على نَفْيه) أَي نفي الِاسْتِدْلَال بِأحد هَذِه الْأُمُور الْأَرْبَعَة (إِذْ هُوَ دَعْوَى الدَّلِيل) فَهُوَ بِمَثَابَة وجد دَلِيل الحكم فَيُؤْخَذ فَإِنَّهُ لَا يسمع مَا لم يعين ذَلِك الدَّلِيل (فالدليل وجود الْمعِين مِنْهَا) أَي من الْأُمُور الْمَذْكُورَة من الْمُقْتَضى وَالْمَانِع وفقد الشَّرْط (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْمَذْكُور من قَوْله وجد الحكم إِلَى آخِره (دَلِيل) لِأَنَّهُ عبارَة عَمَّا إِذا سلم لزم مِنْهُ الْمَطْلُوب (بعض مقدماته نظرية) وَهِي الصُّغْرَى (وَالْمُخْتَار أَن لم يثبت ذَلِك) أَي وجود السَّبَب أَو الْمَانِع أَو فقد الشَّرْط (بأحدها) قَالَ الشَّارِح: وَهُوَ سَهْو وَالصَّوَاب بغَيْرهَا يَعْنِي بدل أَحدهَا، وَهَذَا خطأ ظَاهر مِنْهُ لَعَلَّه وَقع فِيهَا لما رأى فِي الشَّرْح العضدي وحاشية الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ عَلَيْهِ من لَفْظَة بغَيْرهَا مُتَعَلقا بالثبوت حَيْثُ قَالَ، وَقيل وَالِاسْتِدْلَال أَن يثبت وجود السَّبَب إِلَى آخِره بِغَيْر الثَّلَاثَة وَلم يفرق بَين كَون الْمُتَعَلّق الثُّبُوت أَو نفي الثُّبُوت، فَإِن نفي الثُّبُوت إِذا قيد بغَيْرهَا يكون حَاصله الثُّبُوت بهَا وَهُوَ خلاف الْمَقْصُود، فسبحان من جزأ الأرنب على الْأسد (فاستدلال وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك (فبأحدها) أَي فَهُوَ ثَابت بأحدها من النَّص وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، لَا بالاستدلال (وعَلى هَذَا) التَّفْصِيل (يرد الِاسْتِدْلَال مُطلقًا إِلَى أَحدهَا) ليعتد بِهِ شرعا (إِذْ ثُبُوت ذَلِك التلازم) الْمُفَسّر بِهِ أحد أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال (لَا بُد فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الثُّبُوت (شرعا) قيد للثبوت: أَي ثبوتا شَرْعِيًّا (مِنْهُ) أَي من أَحدهَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ثُبُوته شرعا بأحدها (فَلَيْسَ) ذَلِك الحكم الثَّابِت بِهِ (حكما شَرْعِيًّا، فَالْحق أَنه) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (كَيْفيَّة اسْتِدْلَال) بِأحد الْأَرْبَعَة: الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (لَا) دَلِيل (آخر غير الْأَرْبَعَة وَتقدم شرع من قبلنَا) قبل فصل التَّعَارُض بمسئلتين (وَيرد إِلَى الْكتاب) لِأَنَّهُ يقص علينا من غير إِنْكَار (وَالسّنة) لمثل مَا ذكرنَا (وَقَول الصَّحَابِيّ) على مَا عرف فِيهِ من التَّفْصِيل (ورد) أَي قَول الصَّحَابِيّ (إِلَى السّنة) كَمَا مر فِي المسئلة الَّتِي يَليهَا فصل التَّعَارُض (ورد الِاسْتِصْحَاب إِلَى مَا بِهِ ثَبت الأَصْل الْمَحْكُوم باستمراره) بِهِ (فَهُوَ) أَي الِاسْتِصْحَاب (الحكم) الظني (بِبَقَاء أَمر تحقق) سَابِقًا (وَلم يظنّ عَدمه) بعد تحَققه (وَهُوَ حجَّة عِنْد الشَّافِعِيَّة وَطَائِفَة من الْحَنَفِيَّة) السمرقنديين: مِنْهُم(4/176)
أَبُو مَنْصُور الماتريدي، وَاخْتَارَهُ صَاحب الْمِيزَان والحنابلة (مُطلقًا) أَي للإثبات وَالدَّفْع (ونفاه) أَي كَونه حجَّة (كثير) من الْحَنَفِيَّة وَبَعض الشَّافِعِيَّة والمتكلمون (مُطلقًا) فِي الْإِثْبَات وَالدَّفْع (وَأَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة وفخر الْإِسْلَام) وَصدر الْإِسْلَام قَالُوا: هُوَ حجَّة (للدَّفْع) لَا للإثبات. (وَالْوَجْه) أَن يُقَال (لَيْسَ) الِاسْتِصْحَاب (حجَّة) أصلا كَمَا قَالَ الْكثير (وَالدَّفْع اسْتِمْرَار عَدمه) أَي عدم ذَلِك الْأَمر الَّذِي يتَوَهَّم طرده على مَا تحقق وجوده (الْأَصْلِيّ) صفة للعدم (لِأَن مُوجب الْوُجُود لَيْسَ مُوجب بَقَائِهِ) فَإِن الْبَقَاء اسْتِمْرَار الْوُجُود وَصفته، وَعلة الْمَوْصُوف لَا يجب أَن يكون عِلّة لصفته، وَالْمرَاد نفي لُزُوم الِاتِّحَاد بَينهمَا، لَا للُزُوم الْمُغَايرَة، فَلَا يرد أَنه لم لَا يجوز أَن يكون عِلّة الْوُجُود عِلّة الْبَقَاء، وهذاالقدر كَاف فِي التَّعْلِيل، لِأَن حجية الِاسْتِصْحَاب مَوْقُوفَة على كَون مُوجب الْوُجُود مُوجب الْبَقَاء، لِأَن حَاصله إبْقَاء مَا قد تحقق لموجب على مَا كَانَ، وَلَيْسَ عندنَا إِلَّا الْعلم بِوُجُود الْمُوجب للوجود فِيمَا سبق، فَلَو كَانَ يلْزم كَون مُوجب الْوُجُود مُوجب الْبَقَاء كَانَ ذَلِك دَلِيلا على الْبَقَاء وَحَيْثُ لم يلْزم لم يكن للبقاء دَلِيل، وَلذَا قَالَ (فَالْحكم بِبَقَائِهِ) أَي الْوُجُود (بِلَا دَلِيل) فَذكر اسْتِمْرَار الْعَدَم فِي مقَام الدّفع لثُبُوت أَمر طَارِئ على مَا تحقق وجوده إِنَّمَا هُوَ أَمر مَبْنِيّ على ظَاهر الْحَال، وَهُوَ إبْقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ، فَإِن الْعقل إِذا تردد بَين بَقَاء الشَّيْء وزواله وَلم يكن عِنْده مَا يدل على الزَّوَال كَانَ الرَّاجِح من الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْده الْبَقَاء. (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بحجيته مُطلقًا: الحكم بِالْبَقَاءِ أَمر (ضَرُورِيّ لتصرفات الْعُقَلَاء) أَي لصدور تصرفاتهم (بِاعْتِبَارِهِ) لولاه لما صدرت عَنْهُم، ثمَّ بَينهَا بقوله (من إرْسَال الرُّسُل والكتب والهدايا) من بلد إِلَى بلد إِلَى غير ذَلِك، وَلَوْلَا الحكم الظني بِبَقَاء الْمُرْسل إِلَيْهِ مثلا لَكَانَ ذَلِك منعهَا (وَمِنْهُم) أَي من الْقَائِلين بحجيته مُطلقًا (من استبعده) أَي كَونه حجَّة بِالضَّرُورَةِ (فِي مَحل النزاع) فَإِنَّهُ لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما نَازع فِيهِ جم غفير من الْعلمَاء (فعدلوا إِلَى أَنه لَو لم يكن حجَّة لم يجْزم بِبَقَاء الشَّرَائِع مَعَ احْتِمَال الرّفْع) أَي طريان النَّاسِخ، وَاللَّازِم بَاطِل (و) إِلَى (الْإِجْمَاع) أَيْضا (عَلَيْهِ) أَي على الِاسْتِصْحَاب على مَا يظْهر اعْتِبَاره فِي فروع الْمذَاهب كَمَا (فِي نَحْو بَقَاء الْوضُوء وَالْحَدَث والزوجية وَالْملك مَعَ طرُو الشَّك) فِي طريان الضِّدّ (وَأجِيب) عَن الأول (بِمَنْع الْمُلَازمَة لجوازه) أَي الْجَزْم ببقائها وَالْقطع بِعَدَمِ نسخهَا (بِغَيْرِهِ) أَي بِدَلِيل آخر غير الِاسْتِصْحَاب (كتواتر إِيجَاب الْعَمَل فِي كل شَرِيعَة بهَا) أَي بِتِلْكَ الشَّرِيعَة لأَهْلهَا (إِلَى ظُهُور النَّاسِخ وَتلك الْفُرُوع) لَيست مَبْنِيَّة على الِاسْتِصْحَاب بل (لِأَن الْأَسْبَاب توجب أحكاما) من الْوضُوء وَالْحَدَث والزوجية وَالْملك وَغير ذَلِك (ممتدة إِلَى ظُهُور الناقض) فَكَأَن الشَّارِع قَالَ أوجبت الْعَمَل(4/177)
بِمُوجب هَذِه الشَّرَائِع مستمرا إِلَى أَن يظْهر النَّاسِخ وَأثبت هَذِه الْأَسْبَاب أحكاما ثَابِتَة مستمرة إِلَى ظُهُور نواقضها (شرعا) فعلى هَذَا بَقَاؤُهَا أَيْضا مَنْصُوص عَلَيْهِ كأصل ثُبُوتهَا، فَلَا حَاجَة إِلَى التَّمَسُّك بالاستصحاب (وَاعْلَم أَن مدَار الْخلاف) فِي كَون الِاسْتِصْحَاب حجَّة أَولا (على أَن سبق الْوُجُود مَعَ عدم ظن الانتفاء هَل هُوَ دَلِيل الْبَقَاء) أَولا (فَقَالُوا) أَي الشَّافِعِيَّة وَمن وافقهم (نعم فَلَيْسَ الحكم بِهِ) أَي بالاستصحاب حكما (بِلَا دَلِيل. و) قَالَ (الْحَنَفِيَّة لَا، إِذْ لَا بُد فِي الدَّلِيل من جِهَة يسْتَلْزم بهَا) الْمَطْلُوب (وَهِي) أَي الْجِهَة المستلزمة لَهُ (منتفية فتفرعت الخلافيات) بَين الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (فيرث الْمَفْقُود) من مَاتَ مِمَّن يَرِثهُ فِي غيبته (عِنْده) أَي الشَّافِعِي باستصحاب حَيَاته الْمُوجبَة لاسْتِحْقَاق الْإِرْث (لَا عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَن الْإِرْث من بَاب الْإِثْبَات، وحياته بالاستصحاب لَا توجب اسْتِحْقَاقه (وَلَا يُورث لِأَنَّهُ) أَي عدم الْإِرْث (دفع) لاسْتِحْقَاق الْإِرْث فَيثبت الِاسْتِصْحَاب (وعَلى مَا حققنا) من أَنه لَيْسَ حجَّة أصلا، فَإِن الدّفع اسْتِمْرَار عَدمه الْأَصْلِيّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (عَدمه) أَي الْإِرْث (أُصَلِّي لعدم) ثُبُوت (سَببه) أَي الْإِرْث (إِذْ لم يثبت مَوته) أَي الْمَفْقُود (وَلَا صلح على إِنْكَار) إِذْ لَا صِحَة لَهُ مَعَ إِنْكَار الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد الشَّافِعِي (لإِثْبَات اسْتِصْحَاب بَرَاءَة الذِّمَّة) يَعْنِي أَن فَائِدَة الصُّلْح حُصُول بَرَاءَة ذمَّة الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ حَاصِل بِدُونِ الصُّلْح، وَلَا شكّ أَن بَرَاءَة الذِّمَّة هُوَ الأَصْل فالاستصحاب الَّذِي هُوَ إبْقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ يثبتها فَلَا يَتَرَتَّب على هَذَا الصُّلْح فَائِدَة وَلَا صِحَة للمعقود بِدُونِ الْفَائِدَة فَلَا صلح على الْإِنْكَار، وَهَذَا الِاسْتِصْحَاب حجَّة للْمُدَّعِي عَلَيْهِ على الْمُدَّعِي لإِثْبَات بَرَاءَة ذمَّة الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد من يحْتَج بِهِ فِي الْإِثْبَات (كاليمين) أَي كَمَا أَن الْيَمين لإِثْبَات بَرَاءَة الذِّمَّة (وَصَحَّ) الصُّلْح على الْإِنْكَار (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَن الِاسْتِصْحَاب لَا يصلح حجَّة للإثبات فَلَا يثبت بَرَاءَة ذمَّة الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بالاستصحاب (وَلم تجب الْبَيِّنَة على الشَّفِيع) على إِثْبَات ملك الْمَشْفُوع بِهِ لإنكار المُشْتَرِي الْملك الْمَشْفُوع بِهِ للشَّفِيع عِنْد الشَّافِعِي لِأَنَّهُ متمسك بِالْأَصْلِ، فَإِن الْيَد دَلِيل الْملك فِي الظَّاهِر والتمسك بِالْأَصْلِ يحصل للدَّفْع والإلزام جَمِيعًا عِنْده (وَوَجَبَت) الْبَيِّنَة الْمَذْكُورَة (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَن التَّمَسُّك بِالْأَصْلِ لَا يصلح للالزام إِلَى غير ذَلِك من الخلافيات قد فرغ من المبادئ والأدلة السمعية وَشرع فِي مبَاحث الِاجْتِهَاد فَقَالَ:
الْمقَالة الثَّالِثَة فِي الِاجْتِهَاد وَمَا يتبعهُ من التَّقْلِيد والإفتاء
(هُوَ) أَي الِاجْتِهَاد (لُغَة بذل الطَّاقَة) أَي استفراغ الْقُوَّة بِحَيْثُ يحس بِالْعَجزِ عِنْد الْمَزِيد (فِي تَحْصِيل ذِي كلفة) أَي مشقة، يُقَال: اجْتهد فِي حمل الصَّخْرَة(4/178)
وَلَا يُقَال اجْتهد فِي حمل النواة (وَاصْطِلَاحا: ذَلِك) أَي بذل الطَّاقَة (من الْفَقِيه) وَقد مر تَفْسِيره فِي أول الْكتاب (فِي تَحْصِيل حكم شَرْعِي ظَنِّي) فبذلها من غَيره كالعامي خَارج عَن الِاجْتِهَاد وَخرج أَيْضا بذل طَاقَة الْفَقِيه فِي غير حكم كالعبادة مثلا، وبذله طاقته فِي حكم غير شَرْعِي من حسي أَو عَقْلِي، وَإِنَّمَا قَالَ ظَنِّي لِأَن الْقطعِي لَا اجْتِهَاد فِيهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ. وَفِي قَوْله حكم إِشْعَار بِأَن استغراق الْأَحْكَام لَيْسَ بِشَرْط فِي تحقق حَقِيقَة الِاجْتِهَاد كَمَا لَا يلْزم إحاطة الْمُجْتَهد جَمِيع الْأَحْكَام ومداركها بِالْفِعْلِ، لِأَن ذَلِك خَارج عَن طوق الْبشر (وَنفي الْحَاجة إِلَى قيد الْفَقِيه) كَمَا ذكره التَّفْتَازَانِيّ (للتلازم بَينه) أَي بَين الْفَقِيه (وَبَين الِاجْتِهَاد) فَإِنَّهُ لَا يصير فَقِيها إِلَّا بِهِ وَلذَا لم يذكرهُ الْغَزالِيّ والآمدي (سَهْو لِأَن الْمَذْكُور) فِي التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ (بذل الطَّاقَة لَا الِاجْتِهَاد) وَكَيف يذكر الِاجْتِهَاد فِي تَعْرِيف نَفسه، وَكَأن المُصَنّف أغمض عَن هَذَا (وَيتَصَوَّر) بذل الطَّاقَة (من غَيره) أَي الْفَقِيه (فِي طلب حكم) شَرْعِي، وَلَا يبعد أَن يُقَال بذل الوسع لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتحصيل جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ استنباط ذَلِك الحكم، وَعند ذَلِك يصير مُجْتَهدا فِيهِ فَتَأمل (وشيوع) إِطْلَاق (الْفَقِيه لغيره) أَي الْمُجْتَهد (مِمَّن يحفظ الْفُرُوع) إِنَّمَا هُوَ (فِي غير اصْطِلَاح الْأُصُول، ثمَّ هُوَ) أَي هَذَا التَّعْرِيف لَيْسَ تعريفا للِاجْتِهَاد مُطلقًا، بل هُوَ (تَعْرِيف لنَوْع من الِاجْتِهَاد) وَهُوَ الِاجْتِهَاد فِي الحكم الشَّرْعِيّ العملي الظني (لِأَن مَا) يَقع من بذل الوسع (فِي العقليات) من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الاعتقادية (اجْتِهَاد) عِنْد الْأُصُولِيِّينَ (غير أَن الْمُصِيب) فِيهَا من الْمُخَالفين (وَاحِد) بِاتِّفَاق المصوبة والمخطئة (والمخطئ آثم، وَالْأَحْسَن) فِيهَا تعميمه (أَي التَّعْرِيف بِحَيْثُ يعم العمليات والاعتقاديات ظنية كَانَت أَو قَطْعِيَّة (بِحَذْف) قيد (ظَنِّي) من التَّعْرِيف. (ثمَّ يَنْقَسِم) الِاجْتِهَاد (من حَيْثُ الحكم) الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ (إِلَى) اجْتِهَاد (وَاجِب (عينا على) الْمُجْتَهد (الْمَسْئُول) عَن حكم حَادث (إِذا خَافَ) أَي الْمُجْتَهد (فَوت الْحَادِثَة) أَي فَوت آداء مَا وَجب على المستفتى فِي تِلْكَ الْحَادِثَة على غير الْوَجْه الشَّرْعِيّ، حَال عَن الْحَادِثَة: أَي وُقُوعهَا على خلاف الشَّرْع فَإِنَّهُ يتَعَيَّن حِينَئِذٍ على الْمَسْئُول الِاجْتِهَاد فِيهَا فَوْرًا لِأَن حِوَالَة المستفتى إِلَى مُجْتَهد آخر يُوجب فَوتهَا (وَفِي حق نَفسه إِذا نزلت الْحَادِثَة بِهِ) مَعْطُوف على قَوْله على الْمَسْئُول: أَي وَإِلَى وَاجِب وجوبا عينيا لحق نَفسه، فكلمة فِي تعليلية، وَحِينَئِذٍ إِن خَافَ فَوت الْحَادِثَة يجب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ فَوْرًا وَإِلَّا على التَّرَاخِي (وكفاية) مَعْطُوف على عينا: أَي وَإِلَى اجْتِهَاد وَاجِب كِفَايَة على الْمَسْئُول فِي حق غَيره (لَو لم يخف) فَوت الْحَادِثَة على غير الْوَجْه (وَثمّ غَيره) من الْمُجْتَهدين فَيتَوَجَّه الْوُجُوب على جَمِيعهم حَتَّى لَو أَمْسكُوا مَعَ اقتدارهم على الْجَواب أثموا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فيأثمون بِتَرْكِهِ) أَي الِاجْتِهَاد حَيْثُ لَا عذر لَهُم (وَيسْقط) الْوُجُوب عَن الْكل(4/179)
(بفتوى أحدهم، وعَلى هَذَا) أَي على سُقُوط الْوُجُوب بفتوى أحدهم لَو أَن مُجْتَهدا ظن خطأ الْمُفْتِي فِيمَا أصَاب بِهِ (لَا يجب على من ظَنّه) أَي الْجَواب (خطأ) الِاجْتِهَاد فِيهِ لسُقُوط الْوُجُوب بذلك الِاجْتِهَاد المظنون كَونه خطأ إِذا كَانَ فِي قَضيته شُهُود يحصل الْغَرَض ببعضهم، ذكرُوا أَنه يجب الْإِجَابَة إِذا طلب الْأَدَاء من الْبَعْض فَيحْتَاج إِلَى إتْيَان الْفرق، وَقيل الْعلَّة أَن الْفَتْوَى تحْتَاج إِلَى تَأمل وفكر والمشوشات كَثِيرَة بِخِلَاف الشَّهَادَة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَكَذَلِكَ حكم تردد بَين قاضيين) أَي إِذا رفعت قَضِيَّة إِلَيْهِمَا وَجب الحكم وَفصل الْخُصُومَة عَلَيْهِمَا كِفَايَة، إِن تركا أثما وَإِن حكم أحدهم سقط عَنْهُمَا فالمشبه الحكم المتردد بَين القاضيين، والمشبه بِهِ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَذَا الاستفتاء المتردد بَين الْمُجْتَهدين، وَمن قيد كَون القاضيين فِي هَذَا الْمحل مجتهدين مشتركين فِي النّظر فِي الحكم الْمَذْكُور وَجعل وَجه الشّبَه وجوب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِمَا كِفَايَة، فقد ارْتكب تَكْرَارا مَعَ أَنه لَا يبْقى حِينَئِذٍ للْقَضَاء وَالْحكم مدْخل (أَيهمَا حكم بِشَرْطِهِ) الْمُعْتَبر شرعا (سقط) الْوُجُوب عَنْهُمَا (ومندوب) مَعْطُوف على وَاجِب وَهُوَ مَا يَقع (قبلهمَا) أَي قبل وُجُوبه عينا ووجوبه كِفَايَة لما ذكر أَو قبل السُّؤَال ونزول الْحَادِثَة بِهِ ليَكُون حَاضرا عِنْده فينفعه عِنْد الْحَادِثَة، ومناسب الْوَجْه الثَّانِي قَوْله (وَمَعَ سُؤال فَقَط) من غير نزُول الْحَادِثَة (و) إِلَى (حرَام) وَهُوَ الِاجْتِهَاد (فِي مُقَابلَة) دَلِيل (قَاطع) من (نَص) كتاب أَو سنة (أَو إِجْمَاع وَشرط مطلقه) أَي الِاجْتِهَاد فِي حق الْمُجْتَهد (بعد صِحَة إيمَانه) بِمَا يجب أَن يُؤمن بِهِ إِجْمَالا أَو تَفْصِيلًا (معرفَة محَال جزئيات مفاهيم الألقاب الاصطلاحية الْمُتَقَدّمَة للمتن من شخص الْكتاب وَالسّنة) قد سبق أَن للْكتاب مفهوما كليا هُوَ اللَّفْظ الْعَرَبِيّ الْمنزل للتدبر والتذكر الْمُتَوَاتر وللسنة كَذَلِك من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفعله وَتَقْرِيره، وشخص كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا صدق عَلَيْهِ، وَكلمَة من بَيَانِيَّة للمتن الْمُطلق، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ من الْمُتُون المصنفة فِي الْعُلُوم المبينة بالشروح والحواشي الْمَأْخُوذَة من الْمَتْن بِمَعْنى الظّهْر، فَإِن ظهر الشَّيْء أَصله، إِذْ الألقاب الاصطلاحية بدل الْأَلْفَاظ المصطلحة للأصوليين، وَإِنَّمَا سميت ألقابا لدلالتها على مسمياتها على وَجه يشْعر بمعان مَقْصُودَة للأصولي من تِلْكَ المسميات تشبها لَهَا بِالْأَلْقَابِ الَّتِي هِيَ نوع من الْأَعْلَام دَالَّة على مدح أَو ذمّ وَلَا شكّ أَن لتِلْك الألقاب مفهومات كُلية، ولتلك المفهومات أَفْرَاد هِيَ جزئياتها، ولتلك الجزئيات محَال هِيَ الْآيَات والتراكيب الْمعينَة الْمُشْتَملَة عَلَيْهَا، فمعرفة الْمحَال الْمَذْكُورَة من شخص الْكتاب وَالسّنة شَرط فِي مُطلق الِاجْتِهَاد، وَيحْتَمل أَن تكون من تبعيضية، فَإِن الْمحَال الْمَذْكُورَة بعض من شخص الْكتاب وَالسّنة، وَيُؤَيّد الأول قَوْله فِيمَا بعد من التَّوَاتُر (فِي الظُّهُور كَالظَّاهِرِ وَالْعَام والخفاء كالخفي، والمجمل: وَهِي أَقسَام اللُّغَة متْنا واستعمالا) فَإِن قلت: قَوْله فِي الظُّهُور(4/180)
بِمَ يتَعَلَّق؟ وَكَيف جمع بَين الظَّاهِر وَالْعَام؟ وَكَيف اكْتفى بِمَا ذكر؟ وَقد ذكر فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة للمفرد انقسامات بِاعْتِبَار ذَاته ودلالته ومقايسته لمفرد آخر، ومدلوله واستعماله، وإطلاقه وتقييده، وَجعل الظَّاهِر وَالنَّص والمفسر والمؤول والمحكم من تقسيمه من اعْتِبَار ظُهُور الدّلَالَة. والخفي الْمُشكل، والمجمل والمتشابه من تقسيمه بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع لَهُ قلت: أما قَوْله فِي الظُّهُور فمتعلق بقوله الاصطلاحية، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الألقاب المصطلحة فِي جَانب الظُّهُور وَفِي جَانب الخفاء أَو بقوله الْمُتَقَدّمَة، والمآل وَاحِد، وَلم يرد بالظهور مَا هُوَ مصطلح الْأُصُول حَتَّى يسْتَشْكل بِجمع الْعَام مَعَ الظَّاهِر، بل الْمَعْنى اللّغَوِيّ. وَلَا شكّ أَن كل وَاحِد من الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة فِي كل وَاحِد من التقسيمات الْمَذْكُورَة لَا يَخْلُو من أَن يكون ظَاهرا بِحَسب الْفَهم أَو خفِيا، بل ذكر الْعَام مَعَ الظَّاهِر إِشْعَار بِأَنَّهُ لم يرد بالظهور مَا هُوَ المصطلح، وَأما الِاكْتِفَاء فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بصدد تَفْصِيل الْأَقْسَام، وَإِنَّمَا ذكر مَا ذكره على سَبِيل التَّمْثِيل، وَقَوله متْنا واستعمالا تمييزان عَن نِسْبَة الْأَقْسَام إِلَى اللُّغَة، فَإِن اللُّغَة، وَهُوَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع تَارَة يَنْقَسِم بِاعْتِبَار وَضعه، فالخارج من هَذَا التَّقْسِيم أقسامها متْنا، وَتارَة بِاعْتِبَار اسْتِعْمَالهَا، فالخارج من أقسامها اسْتِعْمَالا، وكونهما مُتَعَلقين بالظهور والخفاء خلاف الظَّاهِر، وَالْمرَاد بمعرفتها أَن يتَمَكَّن من الرُّجُوع إِلَيْهَا عِنْد طلب الحكم كَمَا جزم بِهِ غير وَاحِد: مِنْهُم الإِمَام الرَّازِيّ، ثمَّ قيل هُوَ من الْكتاب خَمْسمِائَة آيَة مَشى عَلَيْهَا الْغَزالِيّ وَابْن الْعَرَبِيّ، وَمن السّنة خَمْسمِائَة حَدِيث، وَقيل: ثَلَاثَة آلَاف. وَعَن أَحْمد ثلثمِائة ألف على الِاحْتِيَاط والتغليظ فِي الْفتيا. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ: لَا يشْتَرط استحضار جَمِيع مَا ورد فِي ذَلِك الْبَاب، إِذْ لَا يُمكن الْإِحَاطَة، وَقد اجْتهد عمر وَغَيره من الصَّحَابَة فِي مسَائِل كَثِيرَة وَلم يستحضروا فِيهَا الْمَنْصُوص حَتَّى رويت لَهُم فَرَجَعُوا إِلَيْهَا، وَأما فِي الْقُرْآن، فَقيل يتَوَقَّف على معرفَة الْجَمِيع، لِأَن الْمُجْتَهدين يتفاوتون فِي استنباط الْأَحْكَام من الْآيَات باخْتلَاف القرائح والأذهان وَمَا يَفْتَحهُ الله تَعَالَى على عباده. وَقيل غَالب الْقُرْآن لَا يَخْلُو من أَن يستنبط مِنْهُ حكم شَرْعِي (لاحفظها) مَعْطُوف على معرفَة الْمحَال: أَي الشَّرْط مَعْرفَتهَا على الْوَجْه الْمَذْكُور لأحفظها عَن ظهر الْغَيْب، وَقيل يجب حفظ مَا اخْتصَّ بِالْأَحْكَامِ من الْقُرْآن. وَنقل عَن كثير من أهل الْعلم لُزُوم حفظ الْقُرْآن، لِأَن الْحَافِظ أضبط لمعانيه من النَّاظر فِيهِ، وَنقل فِي الْمُسْتَوْعب عَن الشَّافِعِي (وللسند من الْمُتَوَاتر والضعيف وَالْعدْل والمستور وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل) قَوْله وللسند مَعْطُوف على قَوْله للمتن، يَعْنِي وَشرط معرفَة محَال جزئيات مفاهيم الألقاب الاصطلاحية الْمُتَقَدّمَة فِي مبَاحث السّنيَّة للسند: أَي لَا بُد لَهُ من معرفَة المصطلحات الْمُتَعَلّقَة بالسند، وَهُوَ الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن، فبعضها أَقسَام للسند كالمتواتر والضعيف، وَبَعضهَا أَقسَام لمتعلق السَّنَد، وَهُوَ الرَّاوِي كالعدل والمستور(4/181)
وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل إِن فسرا بالجروح وَالْعدْل. قَالُوا: والبحث فِي زَمَاننَا عَن أَحْوَال الروَاة مَعَ طول الْمدَّة وَكَثْرَة الوسائط كالمتعذر، فَالْأولى الِاكْتِفَاء بتعديل الْأَئِمَّة الْمَعْرُوف صِحَة مَذْهَبهم فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح (وَعدم الْقَاطِع) بِالرَّفْع عطفا على الْمعرفَة، وَهُوَ الدَّلِيل الْقطعِي المتحقق فِي مَحل الحكم (و) عدم (النّسخ) لما يقْصد استنباط الحكم مِنْهُ من الْكتاب وَالسّنة، فَلَزِمَ من هَذَا معرفَة مواقع الْإِجْمَاع، لِأَن الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ، وَشرط الِاجْتِهَاد أَن لَا يكون خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد مَقْطُوعًا بِهِ (و) شَرط (الْخَاص) بِالْجَرِّ عطفا على مطلقه (مِنْهُ) أَي من الِاجْتِهَاد معرفَة (مَا يحْتَاج إِلَيْهِ) الْمُجْتَهد بِالِاجْتِهَادِ الْخَاص: أَي الْمُقَيد بِبَعْض الْأَحْكَام (من) جملَة (ذَلِك) الْمَذْكُور من متن الْكتاب وَالسّنة والسند، والظرف حَال من الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى الْمَوْصُول (فِيمَا) يَقع (فِيهِ) ذَلِك الِاجْتِهَاد، وَالْخَاص ظرف للاحتياج (كَذَا) أَي كَمَا ذكرنَا من الِاقْتِصَار على معرفَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْخَاص مِنْهُ، وَوَقع (لكثير) من الْمَشَايِخ فِي بَيَان هَذَا الشَّرْط (بِلَا حِكَايَة عدم جَوَاز تجزي الِاجْتِهَاد) فَعدم حكايتهم ذَلِك يدل على أَنه لم يثبت عِنْدهم خلاف فِي جَوَاز التجزي (كَأَنَّهُمْ لَا يعرفونها) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن حكايته أَمر مُتَحَقق، غير أَنهم مَا يعرفونها، وَإِلَى أَنه لَيْسَ لَهَا اشتهار تَامّ فَهُوَ دَلِيل على قُوَّة القَوْل بِجَوَاز التجزي (وَعَلِيهِ) على جَوَازه (فرع) أَنه يجوز (اجْتِهَاد الفرضي) نِسْبَة إِلَى الْفَرَائِض، فَإِن النِّسْبَة إِلَى الْجمع فِي علم الْفَرَائِض ترده إِلَى الأَصْل، وإلحاق الْيَاء (فِي) علم (الْفَرَائِض دون غَيره) أَي من غير أَن يجْتَهد فِي غير علم الْفَرَائِض من الْعُلُوم لعدم بُلُوغه رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِيهَا (وَقد حكيت) هَذِه المسئلة ذكر فِيهَا الْجَوَاز، وَهُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا ومختار الْغَزالِيّ، وَنسبه السُّبْكِيّ وَغَيره إِلَى الْأَكْثَر وَقَالَ أَنه الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هُوَ الْمُخْتَار، وَسَيذكر المُصَنّف أَنه الْحق. (وَاخْتَارَ طَائِفَة نَفْيه) أَي نفي جَوَاز التجزي (مُطلقًا لِأَنَّهُ) أَي الْمُجْتَهد (وَإِن ظن حُصُول كل مَا يَحْتَاجهُ) أَي إِلَيْهِ (لَهَا) أَي للمسئلة الْمُجْتَهد فِيهَا (احْتمل غيبَة بعضه) أَي بعض مَا يحْتَاج إِلَيْهِ (عَنهُ) أَي الْمُجْتَهد صلَة الْغَيْبَة. كلمة أَن وصلية، تَقْدِير الْكَلَام احْتمل وَإِن ظن، ثمَّ رد هَذَا التَّعْلِيل بقوله (وَهَذَا الِاحْتِمَال) أَي احْتِمَال غيبَة بعض الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَاد الْخَاص (كَذَلِك) أَي كاحتمال غيبَة بعض الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَاد (الْمُطلق) فَإِن كَانَ مَانِعا من جَوَاز الِاجْتِهَاد هَهُنَا كَانَ مَانِعا هُنَاكَ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْفرق بَينهمَا بقوله (لكنه) أَي الِاحْتِمَال الْمَذْكُور (يضعف فِي حَقه) أَي الْمُجْتَهد الْمُطلق لِأَن غيبَة الْبَعْض لَا تنفد فِي حَقه (ل) عدم (سعته) التَّامَّة (ويقوى فِي غَيره، وَقد يمْنَع التَّفَاوُت) بَينهمَا بِاعْتِبَار الْقُوَّة والضعف (بعد كَون الآخر) الَّذِي لَيْسَ بمجتهد مُطلقًا (قَرِيبا) من رُتْبَة الْمُجْتَهد الْمُطلق محصلا فِيمَا يخص بِهِ فِي جَمِيع مَا حصله الْمُطلق: وَلذَلِك ترى أَن من صرف عمره(4/182)
فِي فن وَاحِد أوسع إحاطة فِيمَا يتَعَلَّق بفنه من المتفنن (بل) الْمُجْتَهد الْخَاص (مثله) أَي الْمُطلق فِيهِ (وسعته) أَي الْمُطلق (بِحُصُول مواد أُخْرَى) لَا دخل لَهَا فِيمَا يجْتَهد فِيهِ الْمُجْتَهد الْخَاص (لَا توجبه) أَي التَّفَاوُت فِي الِاحْتِمَال: أَي فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمَطْلُوب الْخَاص (فَإِذا وَقع) الِاجْتِهَاد (فِي) مسئلة (صلوية) أَي مُتَعَلقَة بِالصَّلَاةِ (وَفرض) وجود جَمِيع (مَا يحْتَاج إِلَيْهَا) الْمُجْتَهد فِيهَا (من الْأَدِلَّة وَالْقَوَاعِد) الْمُتَعَلّقَة بكيفية استنباطها (فسعة الآخر) أَي الْمُطلق (بِحُضُور مواد) الْأَحْكَام (البيعيات والغصبيات شَيْء آخر) لَا دخل لَهُ فِي إِيجَاب التَّفَاوُت بَين الِاجْتِهَاد الْمُطلق وَالْخَاص فِي الصلوية. (وَأما مَا قيل) من قبل المثبتين للتجزي (لَو شَرط) فِي الْخَاص مَا شَرط فِي الْمُطلق (شَرط فِي الِاجْتِهَاد الْعلم بِكُل المآخذ) بِمَا ذكر من الْكتاب وَالسّنة (وَيلْزم) الْعلم بِكُل المآخذ (علم كل الْأَحْكَام فَمَمْنُوع الْمُلَازمَة) مَا بعد الْفَاء جَوَاب أما، وَخبر الْمَوْصُول، يَعْنِي لَا نسلم أَن الْعلم بِكُل المآخذ يسْتَلْزم الْعلم بِكُل الْأَحْكَام (للْوَقْف بعده على الِاجْتِهَاد) يَعْنِي أَن الْعلم بِالْأَحْكَامِ يتَوَقَّف بعد حُصُول الْعلم بالمآخذ على أَمر آخر، وَهُوَ الِاجْتِهَاد، غَايَة الْأَمر أَنه يحصل بِالْعلمِ بالمآخذ التَّمَكُّن من الْعلم بِالْأَحْكَامِ، وَأما حُصُول الْعلم بِالْأَحْكَامِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّمَا يكون بعد الِاجْتِهَاد فِي كل وَاحِد وَهُوَ ظَاهر. (وَأما الْعَدَالَة) فِي الْمُجْتَهد (فَشرط قبُول فتواه) لِأَنَّهُ لَا يقبل قَول الْفَاسِق فِي الديانَات، لَا شَرط صِحَة الِاجْتِهَاد لجَوَاز أَن يكون لِلْفَاسِقِ قُوَّة الِاجْتِهَاد فَلهُ أَن يجْتَهد لنَفسِهِ، وَلَا يشْتَرط أَيْضا الْحُرِّيَّة وَلَا الذُّكُورَة وَلَا علم الْكَلَام وَلَا علم الْفِقْه.
مسئلة
(الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُور) فِي حَادِثَة لَا وَحي فِيهَا (بانتظار الْوَحْي أَولا) أَي فِي أول زمَان وُقُوع الْحَادِثَة (مَا كَانَ راجيه) أَي مَا دَامَ كَونه راجيا نزُول الْوَحْي (إِلَى خوف فَوت الْحَادِثَة) على غير الْوَجْه الشَّرْعِيّ (ثمَّ بِالِاجْتِهَادِ) أَي تمّ بعد تحقق الْخَوْف مَأْمُور بِالِاجْتِهَادِ (وَهُوَ) أَي الِاجْتِهَاد (فِي حَقه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يخص) أَي الِاجْتِهَاد (الْقيَاس بِخِلَاف غَيره) من الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ لَا يخص اجتهادهم الْقيَاس: أما فِي الْقيَاس فَظَاهر، وَأما فِي غَيره (فَفِي دلالات الْأَلْفَاظ) أَي فقد يكون الِاجْتِهَاد فِي دلَالَة الْأَلْفَاظ على مَا هُوَ المُرَاد مِنْهَا أَيْضا كَمَا فِي الْمُجْمل والمشكل، والخفي والمتشابه على قَول من يَقُول: إِن الراسخين فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله، فَإِن الخفاء يستدعى كَون المُرَاد نظريا مُحْتَاجا إِلَى نظر واجتهاد، وَأما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْمُرَاد عِنْده ظَاهر بَين لَا يحْتَاج إِلَى نظر واجتهاد مِنْهُ (و) فِي (الْبَحْث عَن(4/183)
مُخَصص الْعَام، وَالْمرَاد من الْمُشْتَرك وباقيها) أَي وَبَاقِي الْأَقْسَام الَّتِي فِي دلالتها خَفَاء من الْمُجْمل وأخواته: أما الْبَحْث عَن مُخَصص الْعَام فَلِأَن احْتِمَال التَّخْصِيص غير التَّخْصِيص بعيد، وَلذَا قيل: مَا من عَام إِلَّا وَخص مِنْهُ الْبَعْض وَأما الْبَحْث عَن المُرَاد من الْمُشْتَرك فَلَا بُد مِنْهُ وَهُوَ ظَاهر، وكل ذَلِك ظَاهر عِنْده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحْتَاج إِلَى نظر وفكر (و) فِي (التَّرْجِيح) لأحد الدَّلِيلَيْنِ (عِنْد التَّعَارُض) بَينهمَا (لعدم علم الْمُتَأَخر) مِنْهُمَا، يَعْنِي لَا بُد من الْمُتَأَخر فِي نفس الْأَمر غير أَنه لَيْسَ بِمَعْلُوم عِنْد الْمُجْتَهد، وَلَا يتَصَوَّر عدم الْعلم بالمتأخر فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (فَإِن أقرّ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده عِنْد خوف فَوت الْحَادِثَة (أوجب) إِقْرَاره عَلَيْهِ (الْقطع بِصِحَّتِهِ) أَي بِصِحَّة مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده لِأَنَّهُ لَا يقر على الْخَطَأ (فَلم تجز مُخَالفَته) أَي مَا أقرّ عَلَيْهِ (بِخِلَاف غَيره من الْمُجْتَهدين) فَإِنَّهُ تجوز مُخَالفَته إِلَى اجْتِهَاد آخر لاحْتِمَال الْخَطَأ والقرار عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي اجْتِهَاده الْمقر عَلَيْهِ (وَحي بَاطِن) على مَا عَلَيْهِ فَخر الْإِسْلَام وَغَيره، وَسَماهُ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ بِمَا يشبه الْوَحْي (وَالْوَحي عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة أَرْبَعَة: (بَاطِن) وَهُوَ (هَذَا، وَظَاهر) وَهُوَ (ثَلَاثَة: مَا يسمعهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من الْملك شفاها) من شافهه: أَي أدنى شفته من شفته، وَالْمرَاد سَمَاعه من الْملك بِغَيْر وسط مَعَ علمه بِأَنَّهُ ملك، وَالْمرَاد بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لقَوْله تَعَالَى - {قل نزله روح الْقُدس} - مَعَ قَوْله تَعَالَى - {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} - (أَو) مَا (يُشِير إِلَيْهِ) الْملك، فَقَوله يُشِير مَعْطُوف على يسمع (إِشَارَة مفهمة) للمراد من غير بَيَان بالْكلَام (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم من الْوَحْي (المُرَاد بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن روح الْقُدس نفث فِي ورعى أَن نفسا لن تَمُوت حَتَّى تستوفى رزقها، الحَدِيث) فِي الْقَامُوس: النفث كالنفخ، وَأَقل من التفل، وَالْمرَاد إِلْقَاء معنى فِي الْقلب كالنفخ، وَأَقل من التفل، والروع بِالضَّمِّ: الْقلب، أَو مَوضِع الْفَزع مِنْهُ (أَو) مَا (يلهمه، وَهُوَ) أَي الإلهام (إِلْقَاء معنى فِي الْقلب بِلَا وَاسِطَة عبارَة الْملك وإشارته مقرون) بِالرَّفْع على أَنه صفة لإلقاء، أَو بِالْجَرِّ على أَنه صفة لِمَعْنى (بِخلق علم ضَرُورِيّ أَنه) أَي ذَلِك الْمَعْنى (مِنْهُ تَعَالَى) وَأَن مَعَ اسْمه وَخَبره مُتَعَلق الْعلم الضَّرُورِيّ: أَي إِلْقَاء الْمَعْنى على الْوَجْه الْمَذْكُور (وَجعله حَيا ظَاهرا) مَعَ خفائه (إِذْ فِي) الْوَحْي الظَّاهِر الَّذِي يسمعهُ من (الْملك) شفاها (لَا بُد من خلق) الْعلم (الضَّرُورِيّ أَنه) أَي الَّذِي جَاءَ بِالْوَحْي (هُوَ) أَي الْملك، فشاركه فِيمَا هُوَ مدَار الْأَمر، وَإِن خَالفه بِعَدَمِ المشافهة فَهُوَ جدير بِأَن يلْحق بِهِ فِي الظُّهُور (وَلذَا) أَي وَلكَون إلهامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحيا ظَاهرا (كَانَ حجَّة قَطْعِيَّة عَلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وعَلى غَيره) كَمَا أَن الشفاهي والإشاري حجَّة عَلَيْهِمَا (بِخِلَاف إلهام غَيره) من الْمُسلمين فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَحْي. وَقَالَ الشَّارِح(4/184)
فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا حجَّة فِي حق الْأَحْكَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى الملهم وَغَيره، وَهَذَا فِي الْمِيزَان معزو إِلَى قوم من الصُّوفِيَّة، بل عزى إِلَى صنف من الرافضة لقبوا بالجعفرية أَنه لَا حجَّة سواهُ ثَانِيهَا حجَّة عَلَيْهِ لَا على غَيره: أَي يجب على الملهم الْعَمَل بِهِ، وَلَا يجوز أَن يَدْعُو إِلَيْهِ غَيره، وَعَزاهُ فِي الْمِيزَان إِلَى عَامَّة الْعلمَاء، وَمَشى عَلَيْهِ الإِمَام السهروردي، وَاعْتَمدهُ الإِمَام الرَّازِيّ فِي أَدِلَّة الْقبْلَة وَابْن الصّباغ من الشَّافِعِيَّة، قَالَ: وَمن علامته أَن ينشرح لَهُ الصَّدْر، وَلَا يُعَارضهُ معترض من خاطر آخر. (ثَالِثهَا) أَي ثَالِث الْأَقْوَال فِي إلهام غَيره وَهُوَ (الْمُخْتَار فِيهِ) أَي فِي إلهام غَيره أَنه (لَا حجَّة عَلَيْهِ) أَي على الملهم (وَلَا) على (غَيره لعدم مَا يُوجب نسبته) أَي نِسْبَة مَا ألهم بِهِ (إِلَيْهِ تَعَالَى) فَإِن قيل: الْمُوجب مَوْجُود، وَهُوَ الْعلم الضَّرُورِيّ بِأَنَّهُ من الله تَعَالَى قُلْنَا: لَيْسَ بمعصوم من أَن يكون مَا يحسبه من الله تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ من الشَّيْطَان فِي نفس الْأَمر فَلَا يعْتَمد عَلَيْهِ إِلَّا إِذا قَامَ لَهُ حجَّة من الْكتاب أَو السّنة (وَالْأَكْثَر) أَي أَكثر أهل الْعلم على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَأْمُورا (بِالِاجْتِهَادِ مُطلقًا) فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة والحروب والأمور الدِّينِيَّة من غير تَقْيِيد بِشَيْء مِنْهَا، أَو من غير تَقْيِيد بانتظار الْوَحْي، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَعَامة أهل الحَدِيث، وَنقل عَن أبي يُوسُف: كَذَا نقل الشَّارِح عَن شرح البديع (وَقيل) الْقَائِل الأشاعرة وَأكْثر الْمُعْتَزلَة والمتكلمين (لَا) يَصح أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. ثمَّ عَن الجبائي وَابْنه أَنه غير جَائِز عَلَيْهِ عقلا. وَعَن غَيرهمَا جَائِز عقلا وَلكنه لم يتعبد بِهِ شرعا، وَقيل كَانَ لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة والحروب دون الْأَحْكَام (وَقيل) كَانَ لَهُ الِاجْتِهَاد (فِي الحروب فَقَط) وَهُوَ محكي عَن القَاضِي والجبائي (لقَوْله تَعَالَى - {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} - عوتب على الْإِذْن لما ظهر نفاقهم فِي التَّخَلُّف عَن غَزْوَة تَبُوك، وَلَا عتب فِيمَا عَن الْوَحْي، فَكَانَ عَن اجْتِهَاد لِامْتِنَاع كَونه عَن تشه، وَدفعه السُّبْكِيّ بِأَنَّهُ كَانَ مُخَيّرا فِي الْأذن وَعَدَمه. قَالَ تَعَالَى - {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} - فَلَمَّا أذن أعلمهُ بِمَا لم يطلع عَلَيْهِ من شرهم أَنه لَو لم يَأْذَن لَهُم لقعدوا، وَأَنه لَا حرج عَلَيْهِ فِيمَا فعل وَلَا خطأ. قَالَ الْقشيرِي: وَمن قَالَ: الْعَفو لَا يكون إِلَّا عَن ذَنْب فَهُوَ غير عَار بِكَلَام الْعَرَب، وَإِنَّمَا معنى - {عَفا الله عَنْك} - لم يلزمك ذَنْب كَمَا عَفا فِي صَدَقَة الْخَيل وَلم يجب عَلَيْهِم ذَلِك قطّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَنه عتاب على ترك الأولى (و) لقَوْله تَعَالَى {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} - فَإِنَّهَا نزلت فِي فدَاء أُسَارَى بدر، فَإِنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر وَعمر مَا ترَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بكر: هم بَنو الْعم وَالْعشيرَة أرى أَن تَأْخُذ مِنْهُم فديَة فَتكون لنا قُوَّة على الْكفَّار فَعَسَى الله أَن يهْدِيهم لِلْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:(4/185)
مَا ترى يَا بن الْخطاب؟ قَالَ قلت لَا يَا رَسُول الله مَا أرى الَّذِي رأى أَبُو بكر وَلَكِن أرى أَن تمكننا فَنَضْرِب أَعْنَاقهم، فَتمكن عليا من عقيل فَيضْرب عُنُقه، وتمكنني من فلَان نسيب لعمر فَأَضْرب عُنُقه، فَإِن هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكفْر وَصَنَادِيدهَا، فهوى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ أَبُو بكر وَلم يَهو مَا قلت، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جِئْت فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر قاعدان يَبْكِيَانِ، قلت: يَا رَسُول الله أَخْبرنِي من أَي شَيْء تبْكي أَنْت وَصَاحِبك؟ فَإِن وجدت بكاء بَكَيْت وَإِلَّا تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبْكِي للَّذي عرض على أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء لقد عرض عَليّ عَذَابهمْ أدنى من هَذِه الشَّجَرَة: شَجَرَة قريبَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأنزل الله عز وَجل - {مَا كَانَ لنَبِيّ} - إِلَى قَوْله - {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا} -، فأحل الله الْغَنِيمَة لَهُم. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَو نزل الْعَذَاب مَا نجا إِلَّا عمر ": فَدلَّ على أَن أَخذه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِدَاء كَانَ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ ذَلِك الِاجْتِهَاد خطأ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَوَابا لما ترَتّب عَلَيْهِ الْعَذَاب على تَقْدِير عدم سبق الْكتاب فَإِن قلت: كَيفَ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَقد تقرر أَن الْمُخطئ فِي الِاجْتِهَاد لَهُ أجر وَاحِد قلت: الْأجر على تَقْدِير أَن لَا يكون خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ ظَاهرا، فَأَما إِذا كَانَ ظَاهرا فَلَا، بل يسْتَحق الْمُجْتَهد الْعَذَاب، أَلا ترى أَن المبتدعة قد كَانُوا مجتهدين، فَحَيْثُ كَانَ خلاف رَأْيهمْ ظَاهرا استحقوا الْعَذَاب، حَيْثُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " كلهم فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة " بعد قَوْله " سَتَفْتَرِقُ أمتِي ثَلَاثًا وَسبعين فرقة ". وَمِنْهُم من قَالَ معنى سبق الْكتاب أَنه كتب فِي اللَّوْح أَن لَا يعذب الْمُخطئ فِي الِاجْتِهَاد، وَيرد عَلَيْهِ تَعْذِيب المبتدعة. وَقد يُجَاب بتخصيص عدم الْعَذَاب بِمَا إِذا لم يكن فِي العقيدة فَإِن قلت: إِذا كَانَت الْحِكْمَة فِي عدم تَعْذِيب الْمُخطئ أَنه بذل وَسعه فِي طلب الصَّوَاب، فَلَا يفْتَرق الْحَال بِكَوْن الْمُجْتَهد فِيهِ عمليا أَو اعتقاديا قلت فِي الِاعْتِقَاد لم يكن الْمحل صَالحا للِاجْتِهَاد لوُجُود النُّصُوص المفيدة للْقطع. والشارع قد مَنعهم عَن الْخَوْض فِي ذَلِك (وَقد قُلْنَا بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ مَأْمُورا بِالِاجْتِهَادِ فِي الحروب (وَثَبت) اجْتِهَاده (فِي الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة (أَيْضا بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لما سقت الْهدى) أَي لَو علمت قبل سوق الْهدى مَا عَلمته بعده من أَمْرِي يُرِيد بِهِ مَا ظهر عِنْده من الْمَشَقَّة عَلَيْهِ وعَلى من تبعه فِي سوقه الملزم دوَام الْإِحْرَام إِلَى قَضَاء مَنَاسِك الْحَج لما سقته، بل كنت أَحرمت بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أحللت بعد أَدَائِهَا كَمَا هُوَ دأب الْمُتَمَتّع، فَعلم أَنه لم يسق بِالْوَحْي وَإِلَّا لم يقل ذَلِك وَأَيْضًا لَا يَتَرَتَّب الْجَزَاء عَنْهُم، أَعنِي سوق الْهدى على الشَّرْط، أَعنِي الْعلم بِمَا ذكر قبل السُّوق لَو لم يكن عَاملا بِالِاجْتِهَادِ، لِأَن الْقَائِل بِمُوجب الْوَحْي علمه بِالْمَصْلَحَةِ كَعَدم علمه بهَا(4/186)
(وسوقه) الْهدى (مُتَعَلق حكم الْمَنْدُوب) لِأَنَّهُ لم يفعل فِي أَدَاء الْمَنَاسِك تَقْرِيبًا إِلَّا الْوَاجِب أَو الْمَنْدُوب، وَقد علم عدم الْوُجُوب فَتعين النّدب (وَهُوَ) أَي النّدب (حكم شَرْعِي) فَثَبت اجْتِهَاده فِي الْأَحْكَام أَيْضا (وَلِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِهَاد (منصب شرِيف) حَتَّى قيل أَنه أفضل دَرَجَات أهل الْعلم، فَإِذا (لَا يحرمه) أفضل أهل الْعلم (وتناله أمته) فَإِن حرمانه مَعَ عدم حرمَان الْأمة بعيد عَن دَائِرَة الِاعْتِبَار (ولأكثرية الثَّوَاب لأكثرية الْمَشَقَّة) . وَلَا شكّ أَن تَحْصِيل الْعلم بالحكم الشَّرْعِيّ ثمَّ الْعَمَل بِهِ أَكثر مشقة من الْعَمَل بِدُونِ الِاجْتِهَاد فَيكون أَكثر ثَوابًا فَكَانَ لائقا بِشَأْنِهِ الشريف: وَهَذَا الَّذِي ذكر من أكثرية الثَّوَاب لأكثرية الْمَشَقَّة هُوَ مُقْتَضى الأَصْل وَالْقِيَاس. فَلَا يُنَافِيهِ مَا وَقع فِي بعض الخصوصيات من كَون ثَوَاب مَا لَيْسَ فِيهِ مشقة أَكثر من ثَوَاب مَا فِيهِ الْمَشَقَّة كالكلمتين الخفيفتين على اللِّسَان الثقيلتين فِي الْمِيزَان. (وَأما الْجَواب) عَن هَذَا الدَّلِيل كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الْحَاجِب وَقَررهُ القَاضِي (بِأَن السُّقُوط) أَي سُقُوط الِاجْتِهَاد فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لدرجة الْعليا) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة، وَهِي الْوَحْي، فَإِن مُتَعَلّقه أَعلَى من مُتَعَلق الِاجْتِهَاد لكَونه مَقْطُوعًا بِهِ ابْتِدَاء (لَا يُوجب نقصا فِي قدره وأجره) أما فِي قدره فَظَاهر لِأَنَّهُ أُرِيد لَهُ الدرجَة الْعليا، وَأما فِي أجره فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُعْطي أجرا عَظِيما مناسبا لتِلْك الدرجَة (وَلَا) يُوجب السُّقُوط الْمَذْكُور (اخْتِصَاص غَيره بفضيلة لَيست لَهُ) لكَون الِاجْتِهَاد نظرا إِلَى هَذَا الْمَعْنى فَضِيلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تنزل من الدرجَة الْعليا (فَقيل) جَوَاب أما (ذَلِك) أَي سُقُوط الْأَدْنَى للأعلى إِنَّمَا يكون (عِنْد الْمُنَافَاة) بَينهمَا (كَالشَّهَادَةِ مَعَ الْقَضَاء والتقليد مَعَ الِاجْتِهَاد) فَإِنَّهُ سُقُوط وجوب أَدَاء الشَّهَادَة على القَاضِي لوُجُوب مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ، وَهُوَ الْقَضَاء فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلذَلِك سقط وجوب التَّقْلِيد وَمن وجههما ظَاهر، وَمَا نَحن فِيهِ لَيْسَ كَذَلِك لجَوَاز أَن يجْتَهد ثمَّ يقرره الْوَحْي (وَالْحق أَن مَا سوى هَذَا) أَي مَا سوى الدَّلِيل الْمَعْنَوِيّ الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله منصب شرِيف إِلَى قَوْله لأكثرية الْمَشَقَّة (لَا يُفِيد مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي مَحل النزاع (الْإِيجَاب) أَي إِيجَاب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا يُفِيد، لِأَن الِاجْتِهَاد الْوَاقِع على وَجه الْفَرْضِيَّة أشرف، وثواب الْفَرْض أَكثر، وَأما الْأَدِلَّة النقلية فَلَا تفِيد إِلَّا وُقُوع الِاجْتِهَاد وَلَا يدل وُقُوعه فرضا كَمَا سيشير إِلَيْهِ، وناقش الشَّارِح فِي كَون مَحل النزاع الْوُجُوب فَقَط، وَنقل عَن الْمُعْتَمد مَا دلّ على النزاع فِي الْجَوَاز، وَعَن الْمَاوَرْدِيّ أَن الْأَصَح التَّفْصِيل فِي حق النَّاس الْوُجُوب لأَنهم لَا يصلونَ إِلَى حُقُوقهم بِدُونِهِ، وَفِي حُقُوق الله تَعَالَى عدم الْوُجُوب وَهَذَا يُؤَيّدهُ المُصَنّف. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن فِي وجوب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ بعد جَوَازه لَهُ وَجْهَيْن، وَأَنه صحّح الْوُجُوب. وَعَن بَعضهم أَنه غير(4/187)
جَائِز عقلا، وَلَعَلَّ المُصَنّف حقق من طَرِيق النَّقْل أَن كل من قَالَ بِالْجَوَازِ مِمَّن يعْتد بِكَلَامِهِ قَالَ بِالْوُجُوب: فَيرجع الْخلاف إِلَى الِامْتِنَاع وَالْوُجُوب، فَلَا بُد أَن يكون كل دَلِيل فِي هَذَا الْمقَام دَالا على أَحدهمَا (وَأما هَذَا) الدَّلِيل الْمَعْنَوِيّ وَإِن أَفَادَ مَحل النزاع (فقد اقْتَضَت) أَي فَيُقَال فِيهِ إِن الِاسْتِدْلَال بنيل الْأمة شَيْئا من الْفَضَائِل وَالثَّوَاب على نيله ذَلِك غير مُسلم لِأَنَّهُ قد اقْتَضَت (رتبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة سُقُوط مَا) يجب (على غَيره كَحُرْمَةِ الزِّيَادَة) من الزَّوْجَات (على الْأَرْبَع) فَهَذِهِ الْحُرْمَة حكم ثَابت فِي حق الْأمة سَاقِط فِي حَقه لجَوَاز الزِّيَادَة لَهُ (وَمرَّة) اقْتَضَت رتبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لُزُوم مَا لَيْسَ) بِلَازِم (عَلَيْهِم) كمصابرة الْعَدو، وَإِن كثر عَددهمْ، بِخِلَاف الْأمة فَإِنَّهَا لَا تلزمهم إِن زَاد عدد الْكفَّار على الضعْف، وإنكار الْمُنكر، وتغييره مُطلقًا لكَونه مَوْعُودًا بِالْحِفْظِ والعصمة، وَغَيره إِنَّمَا يلْزمه بِشَرْطِهِ، وكالسواك والتهجد إِلَى غير ذَلِك، فَلَا يُقَاس حَاله بِحَال غَيره، فَلَا بُد فِي إِثْبَات حكم فِي حَقه من وجود مُقْتَض يَخُصُّهُ (فالشأن فِي تَحْقِيق) وجود (خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى فِي حَقه فِي) خصوصيات (الْموَاد وَعَدَمه) أَي عدم خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى بِحَذْف الْمُضَاف، إِن وجدنَا مَا يقتضى إِثْبَات حكم فِي حَقه أَثْبَتْنَاهُ وَإِلَّا فَلَا (وَغَايَة مَا يُمكن) أَن يُقَال فِيمَا نَحن فِيهِ (أَنَّهَا) أَي أَدِلَّة المثبتين (لدفع الْمَنْع) أَي تدفع منع الْجَوَاز، فَيثبت الْجَوَاز لعدم الِامْتِنَاع (فَيثبت الْوُجُوب، إِذْ لَا قَائِل بِالْجَوَازِ دونه) أَي الْوُجُوب، يَعْنِي لَو لم يجب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ على تَقْدِير الْجَوَاز لثبت جَوَاز بِلَا وجوب، وَهُوَ منفي بِإِجْمَاع الْمُجْتَهدين، لِأَن الْقَائِل بالامتناع نَفَاهُ، وَكَذَلِكَ الْقَائِل بِالْوُجُوب، وَلَا مُجْتَهد سوى الْفَرِيقَيْنِ. احْتج (الْمَانِع) لاجتهاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ} أَي الَّذِي ينْطق بِهِ من الشَّرَائِع {إِلَّا وَحي يُوحى} وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد لَيْسَ بِوَحْي (أُجِيب بتخصيصه) أَي بتخصيص الْمَنْفِيّ فِي الْآيَة (بِسَبَبِهِ) أَي بِمَا يدل عَلَيْهِ سَبَب نُزُولهَا، وَهُوَ رد مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْقُرْآن إِنَّه افتراء، فَيخْتَص بِمَا بلغه، وينتفي الْعُمُوم الَّذِي هُوَ منَاط الِاسْتِدْلَال، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لنفي دَعوَاهُم افتراءه) عطف بَيَان بِسَبَبِهِ، فَالْمُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى إِن هُوَ الْقُرْآن (سلمنَا عُمُومه) أَي عُمُوم النَّفْي فِي قَوْله تَعَالَى - {ان هُوَ} - بِحَيْثُ يعم كل مَا ينْطق بِهِ (فَالْقَوْل) النَّاشِئ (عَن الِاجْتِهَاد لَيْسَ عَن الْهوى، بل) هُوَ نَاشِئ (عَن الْأَمر بِهِ) أَي بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّهُ أمره بِالْعَمَلِ بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (وَهَذَا) أَي إِدْخَال مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي الْوَحْي الموحى بالتأويل الْمَذْكُور (وَإِن كَانَ خلاف الظَّاهِر، وَهُوَ) أَي الظَّاهِر (أَن مَا ينْطق بِهِ نفس مَا يُوحى إِلَيْهِ) لَا أَمر مندرج تَحت عُمُوم وَحي أثبت بِالدَّلِيلِ، لَكِن (يجب الْمصير إِلَيْهِ للدليل الْمَذْكُور) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي ": الحَدِيث وَنَحْوه مِمَّا يدل على(4/188)
أَنه نطق بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فِي الْأَحْكَام، فَلَا بُد من إدراجه تَحت الْوَحْي لِئَلَّا يُنَاقض الْآيَة (وَلَا يَحْتَاجهُ الْحَنَفِيَّة) أَي لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى ارْتِكَاب خلاف الظَّاهِر كغيرهم على مَا عرفت (إِذْ هُوَ) أَي مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَحي بَاطِن) عِنْدهم فَإِن قلت حمل الْوَحْي الْمَذْكُور على مَا يعمه خلاف الظَّاهِر قلت مَعَ مُلَاحظَة مَا دلّ على كَونه خلاف الظَّاهِر. (قَالُوا) أَي المانعون ثَانِيًا (لَو جَازَ) اجْتِهَاده (جَازَت مُخَالفَته) لمجتهد آخر إِذا أدّى اجْتِهَاده إِلَى خلاف رَأْيه لاحْتِمَال الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد (وَتقدم مَا يَدْفَعهُ) من أَن اجْتِهَاده وَحي بَاطِن لَيْسَ كاجتهاد غَيره، أَو أَن اجْتِهَاده نَاشِئ عَن الْأَمر بِهِ، وَأمره بِالِاجْتِهَادِ فِي حق النَّاس يسْتَلْزم أَمر النَّاس باتباعه فِيمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده. و (قَالُوا) ثَالِثا (لَو أَمر بِهِ) أَي بِالِاجْتِهَادِ (لم يُؤَخر جَوَابا) احْتَاجَ النَّاس إِلَيْهِ منتظرا للوحي بل كَانَ يجْتَهد فيجيب من غير انْتِظَار لَهُ (وَكَثِيرًا مَا أخر) أَي أخر تَأْخِيرا كثيرا، فَقَوله كثيرا مَنْصُوب على المصدرية، قدم على عَامله، وَكلمَة مَا مزيدة تفِيد مَا قبلهَا وثاقة وَقُوَّة فِيمَا قصد مِنْهُ (الْجَواب) أَنه (جَازَ) أَن يكون التَّأْخِير (لاشْتِرَاط الِانْتِظَار) أَي لكَون الِانْتِظَار للوحي فِي مُدَّة مَعْلُومَة عِنْده شرطا فِي اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كالحنفية) أَي اشتراطا كاشتراط الْحَنَفِيَّة على مَا سبق (أَو لاستدعائه) أَي الِاجْتِهَاد فِي تِلْكَ الْحَادِثَة (زَمَانا) لغموضه، فَالْجَوَاب الأول مَبْنِيّ على التَّأْخِير لانتظار الْوَحْي، وَهَذَا الْجَواب مَبْنِيّ على عدم تَسْلِيم كَون التَّأْخِير لانتظار الْوَحْي. (قَالُوا) رَابِعا: الِاجْتِهَاد لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، و (لَا يجوز الظَّن مَعَ الْقُدْرَة على الْيَقِين) فَإِنَّهُ يقدر أَن يسْأَل ربه أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي مَحل السُّؤَال، وسؤاله لَا يرد، فَكَانَ قَادِرًا على الْيَقِين الَّذِي هُوَ الْوَحْي (أُجِيب بِالْمَنْعِ) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا منع كَونه قَادِرًا على الْيَقِين لجَوَاز أَن لَا يكون مَأْذُونا فِي سُؤال إِنْزَال الْوَحْي، أَو لإِيجَاب على تَقْدِير السُّؤَال لحكمة تَقْتَضِيه، وَالثَّانِي منع استلزام الْقُدْرَة على الْيَقِين عدم جَوَاز الْعَمَل بِالظَّنِّ، كَيفَ والعمليات يَكْفِي فِيهَا الظَّن، وَالشَّيْخ أَرَادَ أَن يبْحَث عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَقَالَ (فَإِن) كَانَ الْمَنْع (بِمَعْنى أَنه) أَي الْيَقِين بِالْوَحْي (غير مَقْدُور لَهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْفِعْلِ (فَصَحِيح) أَي فَهَذَا الْمَعْنى صَحِيح (لكنه) أَي عدم المقدورية لَهُ بِالْفِعْلِ (لَا يُوجب النَّفْي) أَي نفي الْقُدْرَة مُطلقًا لجَوَاز أَن يصير قَادِرًا بأقداره تَعَالَى، فالمنع حِينَئِذٍ لَا يجوز الِاجْتِهَاد بِلَا انْتِظَار كَمَا ذهب إِلَيْهِ غير الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُ كَمَا يمْنَع عَن الِاجْتِهَاد الْقُدْرَة بِالْفِعْلِ كَذَلِك يمْنَع عَنهُ احْتِمَال صَيْرُورَته قَادِرًا بأقداره تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الْمَنْع من قبل الْحَنَفِيَّة، وَلَيْسَ معنى الْكَلَام لَا يُوجب النَّفْي لتعبده بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ بِنَفْي إِيجَابه إِيَّاه بل مُرَاده أَن يُوجب الْمَنْع جَوَاز التَّعَبُّد وَهُوَ ظَاهر (بل) بِاعْتِبَار دلَالَته على احْتِمَال حُصُول الْقُدْرَة لما عرفت يُوجب (أَن لَا يجْتَهد إِلَى الْيَأْس من(4/189)
الْوَحْي) قطعا (أَو) إِلَى (غَلَبَة ظَنّه) أَي الْيَأْس (مَعَ خوف الْفَوْت) أَي فَوت الْحَادِثَة المحوجة إِلَى الِاجْتِهَاد. قَوْله مَعَ قيد للمفهوم المردد للأخير (وَهُوَ) أَي عدم الِاجْتِهَاد إِلَى أَحدهمَا (قَول الْحَنَفِيَّة) أَي بِاعْتِبَار الْمَآل (كل من طريقي الظَّن وَالْيَقِين) يَعْنِي الِاجْتِهَاد وَالْوَحي (مُمكن فَيجب تَقْدِيم) رِعَايَة احْتِمَال (الثَّانِي) يَعْنِي الْيَقِين (بالانتظار فَإِذا غلب ظن عَدمه) أَي الْيَقِين (وجد شَرط الِاجْتِهَاد) وَهُوَ غَلَبَة ظن الْيَأْس من حُصُول الْيَقِين بِالْوَحْي، فَقَوله كل من طريقي الظَّن وَالْيَقِين إِلَى آخِره مقول قَول الْحَنَفِيَّة (وَهُوَ) أَي قَول الْحَنَفِيَّة (الْمُخْتَار) لكَونه أحوط مَعَ قُوَّة دَلِيله (وَإِن) كَانَ الْمَنْع (بِمَعْنى جَوَاز تَركه) أَي ترك طلب الْيَقِين (مَعَ الْقُدْرَة) عَلَيْهِ ميلًا (إِلَى مُحْتَمل الْخَطَأ) وَهُوَ الِاجْتِهَاد (مُخْتَارًا) أَي حَال كَون التارك مُخْتَارًا فِي تَركه وميله وَحَاصِله منع استلزام الْقُدْرَة على الْيَقِين عدم جَوَاز الْعَمَل بِالظَّنِّ (فيمنعه) أَي الْجَوَاز الْمَذْكُور (الْعقل) بِمُقْتَضى قَوَاعِد الشَّرْع من أَن اتِّبَاع الظَّن خلاف الأَصْل فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَمن أَن الظَّن بدل الْعلم كالتيمم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوضُوء لَا يجوز إِلَّا عِنْد عدم الْقُدْرَة على الْوضُوء، وَمن أَن اخْتِيَار مُحْتَمل الْخَطَأ على مَا لَا يحْتَملهُ تَرْجِيح للمرجوح، وَهُوَ بَاطِل شرعا وعقلا (وَمَا أَوْهَمهُ) أَي جَوَاز تَركه مَعَ الْقُدْرَة (سَيَأْتِي) ذكره، و (جَوَابه، وَقد ظهر من الْمُخْتَار) وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة الْمَذْكُور (جَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِأَنَّهُ لَو لم يكن احْتِمَال الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ مثل الْوَحْي فِي عدم احْتِمَال الْخَطَأ، وَإِذن لَا وَجه للانتظار (إِلَّا أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كلمة إِلَّا بِمَعْنى لَكِن (لَا يقر عَلَيْهِ) أَي على الْخَطَأ (بِخِلَاف غَيره) من الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُم قد يقرونَ عَلَيْهِ (وَقيل بامتناعه) أَي امْتنَاع الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده لتعبده بِالِاجْتِهَادِ، إِذْ لَا معنى لَهُ، لِأَن المُرَاد الْمُجيب بِالْمَنْعِ لَيْسَ إِيجَابه نفي التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ بِنَفْي إِيجَابه إِيَّاه، بل مُرَاده أَن يُوجب الْمَنْع فِي نقل فِي الْكَشْف عَن أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ والحليمي أَنه الْحق، والسبكي أَنه الصَّوَاب وَالشَّافِعِيّ نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم (لِأَنَّهُ) أَي اجْتِهَاده (أولى بالعصمة عَن الْخَطَأ من الْإِجْمَاع لِأَن عصمته) أَي الْإِجْمَاع (لنسبته) أَي الْإِجْمَاع (إِلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاعْتِبَار صدوره عَن أمته (وللزوم جَوَاز الْأَمر بِاتِّبَاع الْخَطَأ) وَلَا يجوز الْأَمر بِهِ فضلا عَن الْوُقُوع، وَجه اللُّزُوم أَن الْأمة مأمورون باتباعه فِي جَمِيع أَحْكَامه. وَمِنْهَا مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وعَلى تَقْدِير جَوَاز الْخَطَأ فِيهِ يلْزم الْأَمر بِاتِّبَاع جَائِز الْخطاب يسْتَلْزم جَوَاز الْأَمر بِاتِّبَاع جَائِز الْخَطَأ وَالْأَمر بِاتِّبَاع جَائِز الْخَطَأ فِيهِ نظر (و) للُزُوم (الشَّك فِي قَوْله) فِي كَونه صَوَابا أَو خطأ لِأَن الْمَفْرُوض جَوَاز الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده، فَإِذا قَالَ بِمُوجب اجْتِهَاده لزم حُصُول الشَّك فِيهِ (فيخل بمقصود الْبعْثَة) وَهُوَ الوثوق بِمَا يَقُول إِنَّه حكم الله تَعَالَى (أُجِيب عَن هَذَا) أَي الْإِخْلَال بِالْمَقْصُودِ(4/190)
(بَان المخل) بمقصود الْبعْثَة (مَا) أَي الشَّك (فِي) نفس (الرسَالَة) وَالشَّكّ فِي قَوْله الَّذِي صدر عَن الِاجْتِهَاد لَا يسْتَلْزم الشَّك فِيهَا (و) أُجِيب (عَمَّا قبله) أَي قبل هَذَا الَّذِي أجبنا عَنهُ (بِمَنْع بُطْلَانه) أَي الثَّانِي، وَهُوَ جَوَاز الْأَمر بِاتِّبَاع الْخَطَأ بِمَعْنى جَائِز الْخَطَأ، كَيفَ والمجتهد وَمن يقلده مأمورون بِاتِّبَاع مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد إِجْمَاعًا وَهُوَ جَائِز الْخَطَأ عندنَا. ثمَّ ذكر سَنَد الْمَنْع بقوله (على أَن الْأَمر باتباعه) أَي الِاجْتِهَاد (من حَيْثُ هُوَ) أَي الحكم الاجتهادي (صَوَاب فِي نظر الْعَالم) الْمُجْتَهد، لَا من حَيْثُ أَنه خطأ (وَإِن خَالف) ذَلِك الحكم (نفس الْأَمر) وَهُوَ حكم الله تَعَالَى الْمعِين فِي تِلْكَ الْحَادِثَة (و) أُجِيب (عَن الأول) وَهُوَ أَنه أولى بالعصمة من الْإِجْمَاع (بِأَن اخْتِصَاصه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي لَا بُد لَهُ مِنْهُ حَاصِل (برتبة النُّبُوَّة) وَلَا يخل بِكَمَالِهِ أَن يخْتَص أمته بشرف متابعتهم إِيَّاه برتبة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَإِن رُتْبَة الْعِصْمَة للْأمة) الْحَاصِلَة لَهُم (لاتباعهم) إِيَّاه (لَا يقتضى) بِاعْتِبَار حُصُولهَا لَهُم (لُزُوم هَذِه الرُّتْبَة) لَهُم فِي ذكر اللُّزُوم إِشَارَة إِلَى أَن أصل الْعِصْمَة حَاصِل فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن لم يكن على وَجه اللُّزُوم. وَلَا شكّ أَن شرف لُزُومهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأمة بِسَبَب الِاتِّبَاع رَاجع إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن لم تكن لَازِمَة (لَهُ) لحكمة تَقْتَضِيه لَا ينقص من كَمَاله شَيْئا (كَالْإِمَامِ) يُرِيد الْإِمَامَة الْكُبْرَى (لَا يلْزم لَهُ رُتْبَة الْقَضَاء) وَإِن كَانَت مستفادة مِنْهُ ثمَّ لَا يعود ذَلِك عَلَيْهِ بِنَقص وانحطاط: وَلَا يخفى أَنه لَو كَانَ رُتْبَة الْقَضَاء لَهُ مَخْصُوصَة بِغَيْر الإِمَام كَانَ التنظير على الْوَجْه الْأَكْمَل، لكنه قصد أَنه كَمَا لَا ينقص كَمَال الْمَتْبُوع بمساواة التَّابِع إِيَّاه فِي حكم حصل لَهُ بتبعيته إِيَّاه كَذَلِك لَا ينقص اخْتِصَاص التَّابِع بِحكم حصل لَهُ بِسَبَب التّبعِيَّة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَوَاب آخر بقوله (وَتقدم مَا يَدْفَعهُ) أَي الِاسْتِدْلَال الأول من قَوْله فقد اقْتَضَت رتبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة سُقُوط مَا على غَيره إِلَى قَوْله والشأن فِي تحقق خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى فِي حَقه، فَمن قَالَ أَن المُرَاد بِمَا يَدْفَعهُ مَا ذكر من أَنه لَا مُنَافَاة بَين مرتبَة النُّبُوَّة ودرجة الِاجْتِهَاد جعل مرجع ضمير يَدْفَعهُ الْجَواب لَا الِاسْتِدْلَال، وَلَزِمَه كَون ذَلِك الدّفع مرضيا للْمُصَنف وَهُوَ ضَعِيف، لِأَنَّهُ لَا يدْفع الْمَنْع الْمَذْكُور فَتدبر، وَلَا يبعد أَن يُقَال فِي تَحْقِيق خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى أَن فِي جَوَاز الْخَطَأ فِي اجْتِهَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِشَارَة إِلَى أَن فكر الْبشر وَإِن كَانَ فِي أَعلَى الدَّرَجَات يحْتَمل الْخَطَأ، بِخِلَاف الْوَحْي وَالله تَعَالَى أعلم (وَأَيْضًا) إِن كَانَ أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ مُوجبا للشغب (فالوقوع) أَي وُقُوع الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يقطع الشغب) بِالسُّكُونِ: أَي النزاع فِي الْجَوَاز كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْهُم الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (وَدَلِيله) أَي الْوُقُوع قَوْله تَعَالَى {عَفا الله عَنْك} الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ} أَن تكون لَهُ أسرى (حَتَّى قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو نزل من السَّمَاء عَذَاب مَا نجا مِنْهُ إِلَّا عمر) رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ فِي كتاب الْمَغَازِي(4/191)
والطبري بِلَفْظ " لما نجا مِنْهُ غير عمر بن الْخطاب وَسعد بن معَاذ " وَتَأْويل الْآيَتَيْنِ إِلَى خلاف مَا يدل عَلَيْهِ الظَّاهِر على وَجه يخل بِكَمَال بلاغة الْقُرْآن من غير ضَرُورَة ملجئة إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يقدم عَلَيْهِ أهل الْعلم مُبَالغَة فِي علو شَأْن الْأَنْبِيَاء لِأَن هَذَا لَا يخل بعلو شَأْنهمْ كَمَا عرفت. قَالَ صدر الشَّرِيعَة فِي قَوْله تَعَالَى - {لَوْلَا كتاب} - الْآيَة: أَي لَوْلَا حكم سبق فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَهُوَ أَنه لَا يُعَاقب أحد بالْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد وَكَانَ هَذَا خطأ فِي الِاجْتِهَاد لأَنهم نظرُوا إِلَى أَن استبقاءهم سَبَب لإسلامهم، وفداءهم يتقوى بِهِ على الْجِهَاد، وخفى عَلَيْهِم أَن قَتلهمْ أعز لِلْإِسْلَامِ وأهيب لمن وَرَاءَهُمْ وَأَقل لشوكتهم، ورد هَذَا القَاضِي أَبُو زيد بِأَنَّهُ لَو كَانَ خطأ لما أقرّ عَلَيْهِ، وَقد أقرّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: - {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا} - وَتَأْويل العتاب مَا كَانَ لمن قبلك أَن تكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فَكَانَ لَك كَرَامَة خصصت بهَا رخصَة لَوْلَا كتاب من الله سبق بِهَذِهِ الخصوصية لمسكم الْعَذَاب بِحكم الْعَزِيمَة على مَا قَالَ عمر انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن التَّقْرِير لم يَقع حَيْثُ نبه بِكَوْنِهِ خطأ: بل دلّت الْآيَة على أَن حكم الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر كَانَ خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ ذَلِك الِاجْتِهَاد غير أَنه عَفا عَنْهُم، وَنسخ ذَلِك الحكم، فالحل بعد النّسخ لَا قبله وَتَأْويل العتاب على الْوَجْه الْمَذْكُور غير مرضِي لِأَنَّهُ إِذا رخص لَهُ فِي الْفِدَاء كَرَامَة لَا يبْقى للعتاب سَبَب فَإِن قلت يجوز أَن يكون سَببه ترك الأولى، وَهُوَ الْعَمَل بالعزيمة دون الرُّخْصَة قلت مثل هَذَا الْوَعيد لَا يلائم ترك الأولى وَالْعَمَل بِالرُّخْصَةِ الَّتِي هِيَ كَرَامَة لَهُ فَإِن قلت الْوَعيد مُرَتّب على الْمَفْرُوض قلت نعم لكنه يدل أَنه على ذَلِك التَّقْدِير كَانُوا يسْتَحقُّونَ الْعَذَاب الْعَظِيم، وَكَيف يستحقونه على ذَلِك التَّقْدِير إِن كَانَ لَهُم أَن يَأْخُذُوا الْفِدَاء رخصَة (وَبِه) أَي بالوقوع (يدْفع دفع الدَّلِيل الْقَائِل) إِسْنَاد مجازي من قبيل إِسْنَاد القَوْل إِلَى سَببه، وَلِأَن الدَّلِيل فِي الْحَقِيقَة أَمر معنوي، وَهُوَ مَا يسْتَلْزم الْعلم بِهِ الْعلم بِشَيْء، وَذَلِكَ سَبَب لِلْقَوْلِ الْمَذْكُور (لَو جَازَ) امْتنَاع الْخَطَأ عَلَيْهِ (لَكَانَ) ذَلِك الِامْتِنَاع (لمَانع) عَن الْخَطَأ لِأَنَّهُ مُمكن ذَلِك لذاته وطبع الْبشر يَقْتَضِيهِ عَادَة (وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم الْمَانِع (بِأَن الْمَانِع) صلَة لدفع الدَّلِيل الْمَذْكُور بِتَعْيِين الْمَانِع عَن الْخَطَأ، وَهُوَ (علو رتبته وَكَمَال عقله وَقُوَّة حدسه) وَهُوَ حُصُول الْمُقدمَات مرتبَة فِي الذِّهْن دفْعَة (وفهمه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكر هَذَا الدّفع الْعَلامَة، وَمَعَ الْوُقُوع لَا يلْتَفت إِلَى أَمْثَال هَذِه التعليلات (وَأما الِاسْتِدْلَال) لجَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ (بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(" وَإِنَّكُمْ تختصمون إِلَيّ) فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضى لَهُ على نَحْو مَا أسمع فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار " مُتَّفق عَلَيْهِ (وَقَوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنا أحكم(4/192)
بِالظَّاهِرِ) قد سبق أَنه لَا وجود لهَذَا الحَدِيث غير أَنه يُؤْخَذ مَعْنَاهُ من الحَدِيث السَّابِق (فَلَيْسَ بِشَيْء) جَوَاب أما، وَخبر الْمُبْتَدَأ: أَي لَيْسَ بِشَيْء يعْتد بِهِ فِي إِثْبَات الْمُدَّعِي لِأَن الْخلاف فِي الْخَطَأ فِي استنباط الحكم الشَّرْعِيّ على أمارته بِأَن لَا يكون المستنبط مطابقا لحكم الله تَعَالَى الْمعِين فِي تِلْكَ الْحَادِثَة، وَلم يقل أحد إِن لله فِي كل قَضِيَّة جزئية تقع فِيهَا الْخُصُومَة بَين يَدي القَاضِي حكما معينا إِن وَافقه القَاضِي فَحكمه صَوَاب وَإِلَّا فخطأ، وَلَو سلم فَلَيْسَ هَذَا خطأ فِي الِاجْتِهَاد لِأَن أَسبَاب حكم القَاضِي لَيست بأمارات يستنبط مِنْهَا الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد، وَهُوَ ظَاهر (وَكَذَا) لَيْسَ بِشَيْء (مَا يُوهِمهُ عبارَة بَعضهم من ثُبُوت الْخلاف) من بَيَانِيَّة للموصول (فِي الْإِقْرَار على الْخَطَأ فِيهِ) أَي الِاجْتِهَاد، يَعْنِي يُوهم عبارَة بعض الْأُصُولِيِّينَ أَن الَّذين قَالُوا بِجَوَاز وُقُوع الْخَطَأ فِي اجْتِهَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يقر على الْخَطَأ أم لَا؟ وَهَذَا الْوَهم لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ لَا خلاف فِيهِ (بل نَفْيه اتِّفَاق) أَي مُتَّفق عَلَيْهِ كَمَا صرح بِهِ الْعَلامَة وَغَيره. قَالَ الشَّارِح: ثمَّ قد ظهر سُقُوط التَّوَقُّف فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذهب إِلَيْهِ الرَّازِيّ، وَالله تَعَالَى أعلم.
مسئلة
قَالَت (طَائِفَة لَا يجوز) عقلا (اجْتِهَاد غَيره) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي عصره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَكْثَر) على أَنه (يجوز) اجْتِهَاد غَيره فِي زَمَانه (فَقيل) يجوز (مُطلقًا) أَي بِحَضْرَتِهِ وغيبته، كَذَا نقل عَن مُحَمَّد بن الْحسن، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَرين مِنْهُم القَاضِي وَالْغَزالِيّ والآمدي والرازي (وَقيل) يجوز (بِشَرْط غيبته للقضاة) مُتَعَلق بيجوز، وَكَذَا الْوُلَاة دون غَيرهم (وَقيل) يجوز (بِإِذن خَاص) فَمنهمْ من شَرط صَرِيحه، وَمِنْهُم من نزل السُّكُوت عَن الْمَنْع مِنْهُ مَعَ الْعلم بِوُقُوعِهِ منزلَة الْإِذْن. (وَفِي الْوُقُوع) اخْتلفُوا. فَمنهمْ من قَالَ (نعم) وَقع (مُطلقًا) حضورا وغيبة (ظنا) أَي وقوعا ظنيا لَا قَطْعِيا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب. قَالَ السُّبْكِيّ لم يقل أحد وَقع قطعا، (و) مِنْهُم من قَالَ (لَا) أَي لم يَقع أصلا (وَالْمَشْهُور أَنه) أَي عدم الْوُقُوع أصلا (للجبائي وَأبي هَاشم، و) مِنْهُم من مذْهبه (الْوَقْف) فِي الْوُقُوع مُطلقًا، نسبه الْآمِدِيّ للجبائي (وَقيل) الْوَقْف (فِي) حق (من بِحَضْرَتِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا) فِي حق (من غَابَ) عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (الْوَقْف) منشؤه أَنه (لَا دَلِيل) على الْوُقُوع وَلَا على عَدمه عِنْد الْوَقْف. قَالَ (الْمَانِع) للْجُوَاز مُطلقًا: مجتهدو عصره (قادرون على(4/193)
الْعلم بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَامْتنعَ ارْتِكَاب طَرِيق الظَّن) وَهُوَ الِاجْتِهَاد لِأَن معرفَة الْأَحْكَام وَاجِبَة، وَالْأَصْل فِيهَا الْعلم وَلَا يعدل عَن الأَصْل إِلَّا عِنْد عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ (أُجِيب بِمَنْع الْمُلَازمَة) يَعْنِي لَا نسلم استلزام الْقُدْرَة الْمَذْكُورَة الِامْتِنَاع الْمَذْكُور منعا مُسْتَندا (بقول أبي بكر) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي حَدِيث أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ " خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام حنين فَذكر قصَّته فِي قَتله الْقَتِيل، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه. فَقُمْت فَقلت من يشْهد لي. ثمَّ جَلَست إِلَى أَن قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَالك أَبَا قَتَادَة؟ فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة. فَقَالَ رجل من الْقَوْم صدق يَا رَسُول الله سلب ذَلِك الْقَتِيل عِنْدِي فأرضه من حَقه " (لَاها الله) ذَا (" لَا يعمد إِلَى أَسد من أسود الله تَعَالَى يُقَاتل عَن الله وَرَسُوله فيعطيك سلبه. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق) فأعطه إِيَّاه، فأعطانيه ". قَالَ الْخطابِيّ لَاها الله ذَا بِغَيْر ألف قبل الذَّال، وَمَعْنَاهُ فِي كَلَامهم وَالله، يجْعَلُونَ الْهَاء مَكَان الْوَاو، وَمَعْنَاهُ لَا وَالله يكون ذَا: كَذَا فِي شرح السّنة، وَالْخطاب لمن لَهُ السَّلب وَيطْلب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرضاء أبي قَتَادَة من ذَلِك السَّلب، وفاعل لَا يعمد ويعطيك ضمير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَأما الصِّيغَة فتروى لَاها الله بِإِثْبَات الْألف والتقاء الساكنين على حَده، ولاها الله بِحَذْف الْألف وَالْأَصْل لَا وَالله فحذفت الْوَاو وَعوض مِنْهَا حرف التَّنْبِيه، وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا مُرَاد من قَالَ يجْعَلُونَ الْهَاء مَكَان الْوَاو، وَأما التَّقْدِير فَقَوْل الْخَلِيل إِن ذَا مقسم عَلَيْهِ، وَتَقْدِيره لَا وَالله الْأَمر كَذَا فَحذف الْأَمر لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال، وَقَول الْأَخْفَش أَنه من جملَة الْقسم وتوكيده لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ ذَا قسمي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنهم يَقُولُونَ لَاها الله ذَا لقد كَانَ كَذَا فيجيبون بالمقسم عَلَيْهِ بعد هَذَا، وَالظَّاهِر أَن هَذَا من أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ وَقد صَوبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَتقدم أَن ترك الْيَقِين لطَالب الصَّوَاب) ميلًا (إِلَى مُحْتَمل الْخَطَأ مُخْتَارًا يأباه الْعقل) فَلَا يحمل صَنِيع أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَلَيْهِ. بل الِاعْتِمَاد على أَنه إِن كَانَ خطأ يردهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّوَاب، فَيحصل الْيَقِين كَمَا سيشير إِلَيْهِ (واجتهاد أبي بكر فِي هَذِه الْحَالة لَا يسْتَلْزم تخييره) بَين الرُّجُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الِاجْتِهَاد (مُطلقًا) فِي الْحُضُور والغيبة للْفرق الظَّاهِر بَينهمَا، فَإِن التَّخْيِير فِي الْحُضُور لَا يسْتَلْزم مَا يأباه الْعقل لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى الْيَقِين بتقريره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قلت إِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِذا لم يكن تَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ قلت يَكْفِيهِ اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف اجْتِهَاده رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ بِدُونِ تَقْرِيره، واجتهاده رد أَبَا بكر واجتهاده إِلَى الصَّوَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا اجْتهد أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِحَضْرَتِهِ (لعلمه) أَي أبي بكر (أَنه لكَونه بِحَضْرَتِهِ إِن خَالف) الصَّوَاب فِي(4/194)
اجْتِهَاده (رده) أَي أَبَا بكر واجتهاده إِلَى الصَّوَاب (فَالْوَجْه جَوَازه) أَي الِاجْتِهَاد فِي عصره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (للْغَائِب ضَرُورَة) لتعذر الرُّجُوع إِلَيْهِ، أَو تعسره، وَخَوف فَوت الْحَادِثَة على غير الْوَجْه الشَّرْعِيّ (والحاضر) مَعْطُوف على الْغَائِب: أَي وَالْوَجْه جَوَازه لمن لم يكن غَائِبا عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غيبَة مَانِعَة عَن الرُّجُوع إِلَيْهِ (بِشَرْط أَمن الْخَطَأ) أَي الْأَمْن من الْخَطَأ (وَهُوَ) أَي أَمنه مِنْهُ يحصل (بِأحد أَمريْن: حَضرته) بِأَن يكون فِي مَجْلِسه، أَو حَيْثُ يرَاهُ، أَو يطلع عَلَيْهِ (أَو أُذُنه) لَهُ فِي الِاجْتِهَاد (كتحكيمه سعد بن معَاذ فِي بني قُرَيْظَة) فَإِنَّهُ لما حكم بقتل الرِّجَال وَقسم الْأَمْوَال وَسبي الذَّرَارِي وَالنِّسَاء، قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لقد حكمت فيهم بِحكم الله " كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَة " بِحكم الله الَّذِي حكم بِهِ من فَوق سبع سموات "، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ " بِحكم الْملك ".
مسئلة
قد سبق أَن الِاجْتِهَاد يكون فِي العقليات، فَأخذ يبين مَا يتَعَلَّق بذلك فَقَالَ: (العقليات) من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (مَا لَا يتَوَقَّف) ثُبُوته (على سمع) أَي على دَلِيل سَمْعِي من قبيل إِطْلَاق الْمصدر على الْمَنْسُوب إِلَيْهِ مجَازًا، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ الْمَفْعُول أَو الْمَعْنى المصدري: أَي على الِاسْتِمَاع من الشَّارِع، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَن يدل عَلَيْهِ السّمع أَيْضا (كحدوث الْعَالم) أَي حُدُوثه ومسبوقيته بِالْعدمِ (وَوُجُود موجده) أَي الْعَالم (تَعَالَى) مَوْصُوفا (بصفاته) الذاتية والإضافية (وبعثة الرُّسُل، والمصيب من مجتهديها) أَي العقليات (وَاحِد اتِّفَاقًا) لعدم إِمْكَان اجْتِمَاع النقيضين فَإِنَّهَا مضمونات جزئية وكل من الْمُخَالفين على طرف من النقيضين (والمخطئ) مِنْهُم (إِن) أَخطَأ (فِيمَا يَنْفِي مِلَّة الْإِسْلَام) كلا أَو بَعْضًا (فكافر آثم مُطلقًا عِنْد الْمُعْتَزلَة: أَي بعد الْبلُوغ وَقَبله) تَفْسِير للإطلاق (بعد تأهله) أَي صَيْرُورَته أَهلا فَإِن قلت هَذَا الْقَيْد مُسْتَغْنى عَنهُ فَإِن الْكَلَام فِي الْمُجْتَهد الْمُخطئ قلت فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن شَرط الِاجْتِهَاد فِي العقليات أَهْلِيَّة النّظر لِئَلَّا يتَوَهَّم كَونه مَشْرُوطًا بِمَا هُوَ شَرط الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام العملية (للنَّظَر وبشرط الْبلُوغ) مَعْطُوف على مُطلقًا، أَو الْمَعْنى أَثم مُطلقًا عِنْد الْمُعْتَزلَة وأثم لشرط الْبلُوغ (عِنْد من أسلفنا) فِي فصل الْحَاكِم (من الْحَنَفِيَّة كفخر الْإِسْلَام إِذا أدْرك) الْبَالِغ (مُدَّة التَّأَمُّل) وقدرها مفوض إِلَى الله تَعَالَى فَإِن النَّاس متفاوتون فِي الْفِكر سرعَة وَأَبْطَأ (إِن لم يبلغهُ سمع) حَقِيقَة أَو حكما بِأَن يكون فِي دَار الْإِسْلَام (ومطلقا) مَعْطُوف على قَوْله إِذا أدْرك فَهُوَ فِي معنى قَوْله مُقَيّدا، يَعْنِي الْمُخطئ فِيمَا يَنْفِي مِلَّة الْإِسْلَام كَافِر عِنْد من أسلفنا بِشَرْط الْبلُوغ مُطلقًا(4/195)
أَي أدْرك مُدَّة التَّأَمُّل أَو لَا (إِن بلغه) السّمع (وبشرط بُلُوغه) أَي السّمع إِيَّاه مَعْطُوف على قَوْله بِشَرْط الْبلُوغ، يَعْنِي الْمُخطئ الْمَذْكُور كَافِر بِشَرْط الْبلُوغ وبشرط بُلُوغ السّمع من غير الْتِفَات إِلَى إِدْرَاك مُدَّة التَّأَمُّل (للأشعرية) أَي عِنْد الأشعرية، وَفِي الْقَامُوس إِن اللَّام تَأتي بِمَعْنى عِنْد (وقدمناه) أَي مثل هَذَا القَوْل نَاقِلا (عَن بُخَارى الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ الْمُخْتَار) لِأَن مِلَّة الْإِسْلَام كَانَت فِي حد ذَاتهَا بِحَيْثُ إِذا تَأمل فِيهَا الْعقل - يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار} - فَإِذا تأيدت بالبلوغين صَارَت أظهر من الشَّمْس، فَلم يبْق مجَال بعد ذَلِك لنفيها بِالِاجْتِهَادِ إِذْ الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يكون فِيمَا فِيهِ بعض غموض، فالمعاند فِيهَا مكابر (وَإِن) كَانَ مَا أَخطَأ فِيهِ (غَيرهَا أَي غير مِلَّة الْإِسْلَام (كخلق الْقُرْآن) فَعلم أَن المُرَاد من مِلَّة الْإِسْلَام مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْإِيمَان من العقائد إِجْمَاعًا، وَالْمرَاد القَوْل بخلقه فَإِنَّهُ خطأ لكَونه من صِفَات الله عز وَجل وَصِفَاته قديمَة، وَالْقَدِيم لَيْسَ بمخلوق، إِذْ كل مَخْلُوق حَادث (وَإِرَادَة الشَّرّ) فَإِنَّهَا مِمَّا أَخطَأ فِيهَا الْمُعْتَزلَة حَيْثُ نفوها، وَهِي غير الْملَّة بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (فمبتدع آثم) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن ذكر الْإِثْم هَهُنَا فِي مَحَله لِأَن من الْبِدْعَة مَا لَيْسَ بإثم بل قد تكون وَاجِبَة كعلم النَّحْو أَو مُسْتَحبَّة كبناء الْمدَارِس، بِخِلَاف ذكره مَعَ الْكفْر كَمَا سبق فَإِنَّهُ ذكر هُنَاكَ إِشَارَة إِلَى كَونه مُشْتَركا بَين أَقسَام الْخَطَأ غير أَنه كَانَ الأولى تَقْدِيمه على الْكفْر لكَونه بِمَنْزِلَة الْجِنْس: لَكِن قدم الْكفْر للاهتمام بِشَأْنِهِ من حَيْثُ الِاحْتِرَاز عَنهُ (لَا كَافِر) لعدم كَون مَا ذكر من ضروريات الدّين كَمَا لَا يخفى (وَسَيَأْتِي فِيهِ) أَي فِي هَذَا النَّوْع (زِيَادَة) أَي زِيَادَة بَيَان، وَمَا عَن الشَّافِعِي فِي تَكْفِير الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن فجمهور أَصْحَابه تأولوه على كفران النِّعْمَة صرح بِهِ النَّوَوِيّ وَغَيره (وَأما) الْأَحْكَام (الْفِقْهِيَّة فمنكر الضَّرُورِيّ) مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي يعرفهُ كل أحد حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان (كالأركان) أَي فَرضِيَّة الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج (وَحُرْمَة الزِّنَا وَالشرب) للخمر، وَقتل النَّفس الْمُحرمَة (وَالسَّرِقَة كَذَلِك) أَي كَافِر آثم لِأَن إِنْكَار مَا هُوَ من ضروريات مِلَّة الْإِسْلَام يسْتَلْزم إنكارها بِاجْتِهَاد بَاطِل (لانْتِفَاء شَرط الِاجْتِهَاد) وَهُوَ كَون الْمُجْتَهد فِيهِ نظريا بِأَن لَا يكون خِلَافه بديهيا (فَهُوَ) أَي إِنْكَار ذَلِك (إِنْكَار للمعلوم ابْتِدَاء) قبل النّظر. قَوْله ابْتِدَاء مُتَعَلق بالإنكار وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بالمعلوم، وَالْأول أوجه. وَأما قَوْله (عنادا) فَهُوَ يتَعَلَّق بالإنكار قطعا (و) مُنكر (غَيرهَا) أَي الضرورية (الْأَصْلِيَّة) بدل من غَيرهَا أَو صفة لَهُ لكَون التَّعْرِيف فِيهَا لفظيا فَلَا يضرّهُ كَون الْغَيْر نكرَة لعدم اكتسابه التَّعْرِيف لتوغله فِي الْإِبْهَام، وَالْمرَاد بهَا الْأَحْكَام الَّتِي يتَفَرَّع عَلَيْهَا مسَائِل فرعية (ككون الْإِجْمَاع حجَّة، وَالْخَبَر) أَي خبر الْوَاحِد حجَّة فَهُوَ مَعْطُوف على الْإِجْمَاع (وَالْقِيَاس) حجَّة (آثم) خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي مُنكر غَيرهَا. وَقَالَ(4/196)
الْقَرَافِيّ وَقد خَالف جمع من الْأَئِمَّة فِي مسَائِل ضَعِيفَة المدارك بِالْإِجْمَاع السكوتي وَالْإِجْمَاع على الْحُرُوف وَنَحْوهَا فَلَا يَنْبَغِي تأثيمه لِأَنَّهَا لَيست قَطْعِيَّة: كَمَا أَن لَا نؤثم من يَقُول: الْعرض يبْقى زمانين أَو يَقُول بِنَفْي الْخَلَاء وَإِثْبَات الملاء وَغير ذَلِك (بِخِلَاف حجية لقرآن) وَالسّنة (فَإِنَّهُ) أَي إنكارها (كفر) فَإِنَّهُ من ضروريات مِلَّة الْإِسْلَام، وإنكاره كإنكارها (و) مُنكر (غَيرهَا) أَي الضرورية (الفرعية) إعرابه كإعراب الْأَصْلِيَّة فَارْجِع إِلَيْهِ. أَي الْأَحْكَام (الفرعية) الاجتهادية (فالقطع) حَاصِل على أَنه (لَا إِثْم) على الْمُخطئ فِيهَا (وَهُوَ) أَي الْقطع بِنَفْي الْإِثْم (مُقَيّد بِوُجُود شَرط حلّه) أَي الِاجْتِهَاد (من عدم كَونه فِي مُقَابلَة) دَلِيل (قَاطع: نَص أَو إِجْمَاع وَلَا يعبأ) أَي لَا يعْتد (بتأثيم بشر) المريسي (والأصم) أبي بكر وَابْن علية والظاهرية والإمامية الْمُخطئ فِي الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع لِأَن الْحق فِيهَا مُتَعَيّن وَعَلِيهِ دَلِيل قَاطع، فَمن أَخطَأ فَهُوَ آثم غير كَافِر، وَإِنَّمَا لَا يعبأ بِهِ (لدلَالَة إِجْمَاع الصَّحَابَة على نَفْيه) أَي تأثيم الْمُخطئ فِيهَا (إِذْ شاع اخْتلَافهمْ) فِي الْمسَائِل الاجتهادية، وَلَا بُد من خطأ وَاحِد من المتناقضين (وَلم ينْقل تأثيم) من بَعضهم لبَعض (وَلَو كَانَ) أَي لَو وجد الْإِثْم للمخطئ (لوقع) ذَلِك لِأَنَّهُ أَمر خطير وَلَو ذكر لنقل واشتهر، وَلما لم ينْقل تأثيم علم عدم الذّكر وَعدم الْإِثْم، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى وَلَو كَانَ التأثيم لوقع ذكره عندنَا بِنَقْل التأثيم (وَلَو استؤنس لَهما) أَي لبشر والأصم. وَالْمعْنَى وَلَو طلب زَوَال الوحشة عَن كَلَامهمَا الْبعيد عَن الْأنس (بقول ابْن عَبَّاس أَلا يتقى الله زيد بن ثَابت، يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا أمكن) جَوَاب لَو: أَي أمكن أَن يسْتَأْنس بِهِ قد جَاءَ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاع على عدم التَّأْثِير بِأَن يُقَال كَيفَ يتَحَقَّق الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة على عَدمه مَعَ وُقُوع التأثيم من ابْن عَبَّاس فِي حق زيد (لكنه) أَي ابْن عَبَّاس (لم يتبع) أَي لم يتبعهُ أحد (على مثله) أَي على مثل تأثيمه زيدا، وَلَا يُمكن أَن يُقَال عدم الِاتِّبَاع لعدم وُقُوع مثل مَا وَقع من زيد أَو اتبع لَكِن لم ينْقل إِلَيْنَا لندرته (إِذْ) عدد (وقائع الْخلاف) من زمن الصَّحَابَة إِلَى انْقِرَاض الْمُجْتَهدين (أَكثر من أَن تحصى) أَي من عدد مَا يدْخل تَحت الْحصْر، وَكلمَة أَن مَصْدَرِيَّة، وَالْمرَاد بِالْمَصْدَرِ المحصور والمضاف مَحْذُوف (وَلَا تأثيم) وَاقع فِي وَاقعَة مِنْهَا من أحد لأحد، فَعدم الْإِنْكَار والتأثيم فِي كل عصر إِجْمَاع من أهل ذَلِك الْعَصْر على خلاف مَا قَالَه ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ (الجاحظ لَا إِثْم على مُجْتَهد) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي يعم كل مُجْتَهد (وَلَو) كَانَ الْخَطَأ مِنْهُ وَاقعا (فِي نفي الْإِسْلَام وَإِن) كَانَ ذَلِك النَّفْي للِاجْتِهَاد صادرا (مِمَّن لَيْسَ مُسلما) كلمة إِن وصلية، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوت نفي الْإِثْم عَن الْمُسلم الْمُؤَدى اجْتِهَاده إِلَى نفي الْإِسْلَام بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهُوَ غير ظَاهر، بل الظَّاهِر أَن وُقُوع مثل هَذَا(4/197)
الِاجْتِهَاد من الْمُسلم أَشد فِي الْإِثْم لِأَنَّهُ قد ظهر عِنْده حقية الْإِسْلَام قبل هَذَا الِاجْتِهَاد، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن مَقْصُود الجاحظ من نفي الْإِثْم عدم الخلود فِي النَّار وَعدم الخلود فِي حق من لم يَتَّصِف بِالْإِسْلَامِ فَقَط أبعد من عَدمه فِي حق من اتّصف بِهِ ثمَّ صدر مِنْهُ مَا لَيْسَ بإثم فَتَأمل (وتجري عَلَيْهِ) أَي على النَّافِي الْمَذْكُور فِي الدُّنْيَا (أَحْكَام الْكفَّار) لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى إِجْرَاء أَحْكَام الْمُسلمين عَلَيْهِ لعدم الْإِسْلَام، وَلَا وَاسِطَة فِي الدُّنْيَا بَين أَحْكَام الْكفَّار وَأَحْكَام الْمُسلمين. فَإِذا انْتَفَى إِحْدَاهمَا تعين الْأُخْرَى (وَهُوَ) أَي نفي الْإِثْم (مُرَاد الْعَنْبَري بقوله الْمُجْتَهد) أَي كل مُجْتَهد (فِي العقليات مُصِيب، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَاده من الْإِصَابَة نفي الْإِثْم (اجْتمع النقيضان فِي نفس الْأَمر) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يلْزم أَن يكون مُرَاده مُطَابقَة مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده نفس الْأَمر، إِذْ لَا سَبِيل إِلَى مَا يُرَاد بهَا فِي العمليات، وَهُوَ كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى بِمَعْنى خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد يجوز أَن يكون مُتَعَلق خطاب الْمُجْتَهد مُخَالفا لمتعلق خطاب مُجْتَهد آخر فِي مسئلة وَاحِدَة، وَذَلِكَ لِأَن الْمَطْلُوب فِيهَا الْعَمَل بِخِلَاف العقليات. فَإِن الْمَطْلُوب فِيهَا الِاعْتِقَاد كمضمون خبري مُطَابق للْوَاقِع فَلَا يتَصَوَّر أَن يكون الْمَطْلُوب من زيد اعْتِقَاد حُدُوث الْعَالم وَمن عَمْرو قدمه لِأَن أَحدهمَا غير مُطَابق قطعا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي نفس الْأَمر احْتِرَازًا عَن اجْتِمَاعهمَا فِي المطلوبية صُورَة كَمَا فِي العمليات، وَإِنَّمَا قُلْنَا صُورَة إِذْ لَيْسَ الْمَطْلُوب من الآخر حَقِيقَته لعدم اتِّحَاد الْمَطْلُوب مِنْهُ، هَذَا وَفِيه رد على السُّبْكِيّ حَيْثُ نفى أَن يكون مُرَاد الْعَنْبَري نفي الْإِثْم، فَإِن ذَلِك مَذْهَب الجاحظ، بل كَون مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده حكم الله وَافق نفس الْأَمر أَولا، وَوَافَقَهُ الْكرْمَانِي، ورد عَلَيْهِمَا الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِأَن الْكَلَام فِي العقليات الَّتِي لَا دخل فِيهَا لوضع الشَّارِع ككون الْعَالم قَدِيما وَكَون الصَّانِع مُمكن الرُّؤْيَة. ثمَّ قيل أَنه عمم فِي العقليات بِحَيْثُ شَمل أصُول الديانَات وَأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس على صَوَاب. وَقيل أُصُولهَا الَّتِي يخْتَلف فِيهَا أهل الْقبْلَة، وَهَذَا وَإِن كَانَ أنسب بِحَال الْمُسلم غير أَن دليلهم يُفِيد التَّعْمِيم كَمَا سَيَجِيءُ. (لنا إِجْمَاع الْمُسلمين قبل الْمُخَالف) أَي الجاحظ والعنبري وَمن تبعهما (من الصَّحَابَة وَغَيرهم) بَيَان للْمُسلمين (من لَدنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال من الْإِجْمَاع أَي مبتدئا من زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى زمَان الْمُخَالف، ترك ذكر الْغَايَة للظهور (وهلم عصرا تلو عصر) أَرَادَ بِهِ اسْتِيعَاب الْأَعْصَار فِيمَا بَين الْمُبْتَدَأ والمنتهى الْمَذْكُورين، وهلم اسْم فعل، وعصرا مَفْعُوله، يَعْنِي أحضر عصرا بعد عصر فِي نظرك إِلَى أَن تستوعب الْأَعْصَار، فَهَلُمَّ اسْم فعل لَا يتَصَرَّف، أَصله هالم بِمَعْنى اقصد حذفت الْألف (على قتال الْكفَّار) مُتَعَلق بِالْإِجْمَاع (وَأَنَّهُمْ فِي النَّار) مَعْطُوف على الْقِتَال (بِلَا فرق بَين مُجْتَهد ومعاند) وَهُوَ الَّذِي اخْتَار الْكفْر(4/198)
من غير اجْتِهَاد مُكَابَرَة (مَعَ علمهمْ) أَي الْمُسلمين المجمعين (بِأَن كفرهم لَيْسَ بعد ظُهُور حقية الْإِسْلَام لَهُم) مُتَعَلق بالظهور، وَالضَّمِير للْكفَّار، فَلَا يرد أَن إِجْمَاع الْمُسلمين على قِتَالهمْ إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيّ على اجتهادهم بعد ظُهُور حقيته كاجتهاد من يجْتَهد فِي الْفُرُوع فِي مُقَابلَة الْقطع فِي عدم الصِّحَّة كَمَا أَن صِحَة الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع مَوْقُوفَة على عدم الْقطع فِي مَحل الِاجْتِهَاد فَكَذَلِك صِحَّته فِي الْأُصُول أَعنِي العقائد مَوْقُوفَة على عدم حقيتها، وَمن هَذَا لَا يلْزم عدم صِحَة الِاجْتِهَاد فِيهَا إِذا لم تظهر حقيتها قبل الِاجْتِهَاد، فَلَا يلْزم بطلَان مَذْهَب الجاحظ لِأَن مُرَاده عدم الْإِثْم على من يجْتَهد اجْتِهَادًا صَحِيحا (وَالْأول) أَي الْإِجْمَاع على قِتَالهمْ (لَا يجْرِي) دَلِيلا على تأثيم الْمُجْتَهد مِنْهُم بِنَاء (على) رَأْي (الْحَنَفِيَّة الْقَائِلين) ب (وُجُوبه) أَي وجوب قِتَالهمْ (لكَوْنهم حَربًا) أَي عدوا مُحَاربًا، يَسْتَوِي فِيهِ الْجمع وَالْوَاحد وَالذكر وَالْأُنْثَى (علينا لَا لكفرهم) يَعْنِي لَو كَانَ سَبَب قتال الْكفَّار الَّذين أدّى اجتهادهم إِلَى الْكفْر كفرهم كَانَ يلْزم تأثيمهم لِأَن الْكفْر الَّذِي لَا إِثْم فِيهِ لَا يصلح سَببا لِلْقِتَالِ، وَأما إِذا كَانَ سَببه دفع غلبتهم الْمُوجبَة لهدم الْإِسْلَام فَلَا يلْزم كَونهم آثمين فِي كفرهم الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم، فَلَيْسَ للحنفية أَن يحتجوا على الجاحظ بِالْإِجْمَاع على الْقِتَال (وَإِنَّمَا لَهُم الْقطع) فِي تأثيمهم على الْإِطْلَاق سَوَاء كفرهم بِالِاجْتِهَادِ أَو لَا (بالعمومات) الدَّالَّة على ذَلِك (مثل) قَوْله تَعَالَى و ( {ويل للْكَافِرِينَ} ) فَإِنَّهُ يعم الْمُجْتَهد وَغَيره وَقَوله تَعَالَى ( {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} ) سَوَاء كَانَ ابتغاؤه لذَلِك بِالِاجْتِهَادِ أَو لَا، وَهَذَا الْقطع (إِمَّا من الصِّيغَة) الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم كالمحلى بلام الِاسْتِغْرَاق والموصول كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة من أَن مَدْلُول الْعَام قَطْعِيّ (أَو) من (الاجماعات) الكائنة من الصَّدْر الأول من قبل ظُهُور الْمُخَالف (على عدم التَّفْصِيل) فِي كفرهم وَعدم الْفرق بَين أَن يكون عَن اجْتِهَاد وَبَين أَن لَا يكون عَنهُ، وَهَذَا من قبل الْكل الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم. (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِنَفْي الْإِثْم عَن الْمُجْتَهد فِي الْإِسْلَام (تكليفهم) أَي مجتهدي الْكفَّار (بنقيض مجتهدهم) على صِيغَة الْمَفْعُول: أَي بنقيض مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم، وَهُوَ الْإِسْلَام فَفِيهِ حذف واتصال، أَصله مُجْتَهد فِيهِ تَكْلِيف (بِمَا لَا يُطَاق لِأَنَّهُ) أَي نقيض مجتهدهم وَهُوَ التَّصْدِيق الإسلامي (كَيفَ) غير اخْتِيَاري فَإِنَّهُ علم، وَالْعلم من مقولة الكيف (لَا فعل) وَهُوَ التَّأْثِير لقَوْله الكيف الصَّادِر اخْتِيَارا، فَإِذا لم يكن مجتهدهم مُكَلّفا بخصوصية الْإِسْلَام. وَلَا شكّ أَنه مُكَلّف (فالمكلف بِهِ اجْتِهَاده) فِي تَحْصِيل الْإِسْلَام (وَقد فعل) مَا كلف بِهِ فَخرج عَن عُهْدَة الِامْتِثَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ. (الْجَواب منع فعله) أَي لَا نسلم أَنه فعل مَا كلف بِهِ (إِذْ لَا شكّ أَن على هَذَا الْمَطْلُوب) الَّذِي هُوَ الْإِسْلَام (أَدِلَّة قَطْعِيَّة ظَاهِرَة) فِي نفس الْأَمر بِحَيْثُ (لَو وَقع النّظر فِي موادها)(4/199)
الْمَوْجُودَة فِي الْأَنْفس والآفاق المنادية بِلِسَان الْحَال أَن الطَّرِيق هَكَذَا لَا يتَغَيَّر لظاهره كَالشَّمْسِ فِيمَا يتَعَلَّق بِالْعقلِ، وَالْخَبَر كالمتواتر فِيمَا يتَعَلَّق بِالسَّمْعِ (لَزِمَهَا) جَوَاب لَو: أَي لزم الْمَطْلُوب الْمَذْكُور الْموَاد الْمَذْكُورَة على تَقْدِير النّظر (قطعا) فَكيف يكون ممتثلا الْأَمر بِالِاجْتِهَادِ وَلم يفتح بَصَره إِلَى تِلْكَ الْموَاد: إِذْ لَو فتح لرآها لكَمَال ظُهُورهَا (فَإِذا لم يثبت) الْمَطْلُوب عِنْد الْمَأْمُور بِالِاجْتِهَادِ (علم أَنه) أَي عدم ثُبُوته عِنْده (لعدم) تحقق (الشُّرُوط) الْمُعْتَبرَة فِي النّظر، وَلَيْسَ عدم تحققها لكَمَال غموضها وَعجز الْمُكَلف عَن الْوُصُول إِلَيْهَا، بل (بالتقصير) وَعدم الِالْتِفَات إِلَى مَا يرشده إِلَى الْمَطْلُوب لانهماكه فِي مطمورة تَقْلِيد الْآبَاء، وَهُوَ بمعزل عَن دَائِرَة الِاجْتِهَاد، وَأَنا أضْرب لَك (مثلا) فِي هَذَا فَأَقُول (من بلغه بأقصى فَارس) الْبَاء بِمَعْنى فِي وَهُوَ ظرف للبلوغ (ظُهُور مدعي نبوة) فَاعل بلغ (ادّعى نسخ شريعتكم) قَوْله ادّعى صفة لمُدعِي النُّبُوَّة وخطاب شريعتكم إِنَّمَا هُوَ فِي كَلَام الْمبلغ ذكر على سَبِيل الْحِكَايَة (لزمَه) أَي الَّذِي بلغه فِي أقْصَى فَارس (السّفر) أَن يُسَافر (إِلَى مَحل ظُهُور دَعوته) كبلاد الْعَرَب (لينْظر أتواتر وجوده ودعواه) فَإِن أَخْبَار الْآحَاد لَا تفِيد الْقطع (ثمَّ أتواتر من) أَخْبَار (صِفَاته وأحواله مَا يُوجب الْعلم بنبوته، فَإِذا اجْتهد) اجْتِهَادًا (جَامعا للشروط قَطعنَا من) مُقْتَضى (الْعَادة أَنه يلْزمه) أَي الْمُجْتَهد الْجَامِع لَهَا (علمه بِهِ) أَي الْمَطْلُوب (لفرض وضوح الْأَدِلَّة) وضوحا لَا يخفى على من لَهُ أدنى مرتبَة من الِاجْتِهَاد (وَلَو اجْتهد) من بلغه مَا ذكر (فِي مَكَانَهُ فَلم يجْزم بِهِ) أَي بِمَا أخبر عَنهُ (لَا يعْذر لِأَنَّهُ) أَي اجْتِهَاده (فِي غير مَحَله) أَي ظُهُور دَعوته (وَالْحَاصِل أَنه كلف بِالنّظرِ الصَّحِيح) المستجمع شُرُوطه (وَلم يَفْعَله) أَي مَا كلف بِهِ من النّظر الصَّحِيح. (وَأما الْجَواب) عَن حجتهم (بِمَنْع كَون نقيض اعْتِقَادهم) أَي معتقدهم الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم (غير مَقْدُور إِذْ ذَاك) تَعْلِيل للْمَنْع: أَي الَّذِي لَا يجوز التَّكْلِيف بِهِ لكَونه غير مَقْدُور لِأَنَّهُ هُوَ (الْمُمْتَنع عَادَة) أَي امتناعا عاديا (كالطيران وَحمل الْجَبَل) وَمَا نَحن فِيهِ لَيْسَ مِنْهُ (وَمَا ذكرُوا من الِامْتِنَاع) فَهُوَ مَعْطُوف على مَدْخُول الْبَاء: أَي وَأما الْجَواب بِمَا ذكر من الِامْتِنَاع فِي تكليفهم بنقيض مجتهدهم (بِشَرْط وصف الْمَوْضُوع) خبر الْمَوْصُول، يَعْنِي أَن الِامْتِنَاع الَّذِي ادعيتموه إِنَّمَا يَصح إِذا أخذت الْقَضِيَّة الْمَذْكُورَة فِي الدَّلِيل مَشْرُوطَة بِشَرْط الْوَصْف العنواني، تَقْرِيره (هَكَذَا مُعْتَقد) بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل (ذَلِك الْكفْر) الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (يمْتَنع اعْتِقَاده غَيره) أَي غير معتقده (مَا دَامَ) ذَلِك المعتقد (معتقده والمكلف بِهِ) أَي الَّذِي كلف بِهِ الْكَافِر الْمُجْتَهد إِنَّمَا هُوَ (الْإِسْلَام) مُطلقًا، لَا الْإِسْلَام عِنْد وجود معتقده حَتَّى يمْنَع تَكْلِيفه وَالْحَاصِل أَن الْمُمْتَنع اعْتِقَاد النقيض مَعَ وجود اعْتِقَاد(4/200)
النقيض الآخر، وَأما عِنْد زَوَال الِاعْتِقَاد عَن أحد النقيضين فَلَا يمْتَنع أَن يعْتَقد النقيض الآخر (وَهُوَ) أَي الْإِسْلَام مُطلقًا لَا مُقَيّدا بِمَا ذكر (مَقْدُور) للمكلف بِهِ (لَا يزِيل الشغب) وَهُوَ تهييج الشَّرّ فِي الأَصْل، وَالْمرَاد أَن الْجَواب بِمَا ذكر من الْأَمريْنِ لَا يزِيل الْخُصُومَة بَين الْفَرِيقَيْنِ (إِذْ يُقَال التَّكْلِيف) لمجتهدي الْكفَّار (بِالِاجْتِهَادِ لاستعلام ذَلِك) أَي طلب الْعلم بِمَا يُؤمن بِهِ بِأَن يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَيْهِ (فَإِذا لم يؤد) الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ) أَي إِلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوب (لَو لزم) على الْمُجْتَهد الَّذِي لم يؤد اجْتِهَاده إِلَيْهِ بل إِلَى نقيضه (كَانَ) ذَلِك اللَّازِم الْمُكَلف بِهِ تكليفا (بِمَا لَا يُطَاق) فَلَا وَجه حِينَئِذٍ لِأَن يُقَال حِينَئِذٍ: لَا نسلم أَن نقيض اعْتِقَادهم غير مَقْدُور، إِذْ ذَاك الْمُمْتَنع عَادَة، لِأَن من اجْتهد وَآل اجْتِهَاده إِلَى الْكفْر وَلم يظْهر لَهُ سواهُ فَهُوَ عَاجز عَن الْإِيمَان كمن هُوَ عَاجز عَن الطيران، أَو يُقَال الِامْتِنَاع بِشَرْط الْوَصْف، فَإِن الْوَصْف إِذا كَانَ لَازِما للموضوع يَسْتَحِيل أَن يُفَارق، فَكيف يطْلب من موصوفه الاتصاف بِخِلَافِهِ؟
مسئلة
قَالَ (الجبائي) رَئِيس الْمُعْتَزلَة (وَنسب إِلَى الْمُعْتَزلَة) كلهم مقول القَوْل، ونائب الْفَاعِل فِي نسب على سَبِيل التَّنَازُع قَوْله (لَا حكم فِي المسئلة الاجتهادية) أَي الَّتِي لَا قَاطع فِيهَا من نَص أَو إِجْمَاع (قبل الِاجْتِهَاد سوى إِيجَابه) أَي الِاجْتِهَاد فِيهَا (بِشَرْطِهِ) أَي الْإِيجَاب إِمَّا عينا بِأَن خَافَ فَوت الْحَادِثَة الَّتِي استفتى فِيهَا على غير الْوَجْه الشَّرْعِيّ لَو لم يكن ثمَّ غَيره من الْمُجْتَهدين، أَو الَّتِي نزلت بِهِ، أَو كِفَايَة لَو لم يخف، وَثمّ غَيره على مَا مر (فَمَا أدّى) الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ) من الظَّن الْحَاصِل بِهِ (تعلق) الحكم الشَّرْعِيّ بِتِلْكَ المسئلة ويتحقق حِينَئِذٍ (وَلَا يمْتَنع تبعيته) أَي الحكم (للِاجْتِهَاد لحدوثه) أَي الحكم (عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَقد ينْسب ذَلِك إِلَى الْأَشْعَرِيّ بِمَعْنى أَنه لم يتَعَلَّق الحكم بالمسئلة قبل الِاجْتِهَاد، وَإِلَّا فَالْحكم قديم عِنْده انْتهى. (و) قَالَ (الباقلاني وَطَائِفَة) من الْأُصُولِيِّينَ (الثَّابِت قبله) أَي الِاجْتِهَاد (تعلق مَا يتَعَيَّن بِهِ) أَي أَن حكم الله تَعَالَى تعلق إِجْمَالا بِمَا سيتعين بِالِاجْتِهَادِ: كَأَنَّهُ قَالَ لَو أوجبت عَلَيْك الْعَمَل بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد (وَإِذ علمه) تَعَالَى (مُحِيط بِمَا سيتعين) بعد الِاجْتِهَاد من الحكم (أمكن كَون الثَّابِت) فِي نفس الْأَمر وَفِي علم الله تَعَالَى (تعلق) حكم (معِين فِي حق كل) من الْمُجْتَهدين (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْمعِين (مَا علم) الْمُحِيط بِمَا سيتعين (أَنه يَقع) ويستقر (عَلَيْهِ اجْتِهَاده) غَايَة الْأَمر أَن علم الْمُجْتَهد بالتعين إِنَّمَا يحصل بعد الِاجْتِهَاد، وَلَا يُقَال هَذَا تَكْلِيف بِالْمَجْهُولِ، وَهُوَ لَيْسَ فِي وَسعه. لِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزم التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق إِذا لم يكن لَهُ طَرِيق إِلَى الْعلم بِهِ(4/201)
وَطَرِيقَة الِاجْتِهَاد، فَمن لم يثبت الحكم الْمعِين قبل الِاجْتِهَاد لم يتفطن لهَذِهِ الدفعة (وَإِذ وَجب الِاجْتِهَاد) فِي المسئلة الاجتهادية على الْمُجْتَهدين (تعدد الحكم) فِيهَا (بتعددهم) وَاخْتِلَاف آرائهم الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا اجتهادهم، وَعدم جَوَاز بتقليد بَعضهم بَعْضًا. (وَالْمُخْتَار) عِنْد الْمُحَقِّقين من أهل الْحق أَن حكم الْوَاقِعَة الْمُجْتَهد فِيهَا قبل الِاجْتِهَاد (حكم معِين أوجب) الله تَعَالَى (طلبه) على من لَهُ أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد (فَمن أَصَابَهُ) أَي ذَلِك الْمعِين فَهُوَ (الْمُصِيب) لإصابته إِيَّاه (وَمن لَا) يُصِيبهُ فَهُوَ (الْمُخطئ) لعدم إِصَابَته. (وَنقل عَن) الْأَئِمَّة (الْأَرْبَعَة) هَذَا الْمُخْتَار (ثمَّ) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار أَن الْمُخطئ مأجور) أجرا وَاحِدًا لاجتهاده، بِخِلَاف الْمُصِيب فَإِن لَهُ أَجْرَيْنِ: لاجتهاده، وإصابته (و) نقل (عَن طَائِفَة) أَنه (لَا أجر) للمخطئ (وَلَا إِثْم) عَلَيْهِ (وَلَعَلَّه) أَي الْخلاف فِي وجود الْأجر (لَا يتَحَقَّق) فِي نفس الْأَمر (فَإِن القَوْل بأجره لَيْسَ على خطئه) فَمن قَالَ مأجور لم يقل إِنَّه مأجور لخطئه (بل لامتثاله أَمر الِاجْتِهَاد، وَثُبُوت ثَوَاب ممتثل الْأَمر مَعْلُوم من الدّين) ضَرُورَة (لَا يَتَأَتَّى نَفْيه) فَكيف يَنْفِيه الْقَائِل بنفيه، فَتعين أَن مُرَاده نفى الْأجر لخطئه (وإثم خطئه مَوْضُوع) أَي مَرْفُوع عَنهُ (اتِّفَاقًا) فَلَا يرد أَن الْإِثْم فِي اجْتِهَاده فَكيف يَنْفِيه الْقَائِل بنفيه، فَتعين أَن مُرَاده نفي الْأجر لخطئه وإثم خطئه مَوْضُوع يُؤجر (فَهُوَ الأول) أَي القَوْل الثَّانِي عين القَوْل الأول بِحَسب الْمَآل (وَهَذَانِ) الْقَوْلَانِ مبنيان (على أَن عَلَيْهِ) أَي على الحكم الْمعِين (دَلِيلا ظنيا) وَعَلِيهِ أَكثر الْفُقَهَاء وَكثير من الْمُتَكَلِّمين (وَقيل) بل عَلَيْهِ دَلِيل (قَطْعِيّ، والمخطئ آثم) كَأَنَّهُ زعم فِيهِ بعض تَقْصِير فِي اجْتِهَاده، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَهُوَ (قَول بشر والأصم، وَقيل غير آثم لخفائه) أَي الدَّلِيل الْقطعِي، قيل وَمَال إِلَيْهِ الماتريدي، وَنسبه إِلَى الْجُمْهُور. (وَنقل الْحَنَفِيَّة الْخلاف) فِي (أَنه) أَي الْمُخطئ (مُخطئ ابْتِدَاء وانتهاء، أَو انْتِهَاء) فَقَط (وَهُوَ) أَي كَونه مُخطئ انْتِهَاء فَقَط (الْمُخْتَار) وَعَزاهُ بَعضهم إِلَى الشَّافِعِي. وَقَوله نقل الْحَنَفِيَّة مُبْتَدأ خَبره (لَا يتَحَقَّق) لعدم معقوليته (إِذْ الِابْتِدَاء بِالِاجْتِهَادِ) وبذل المجهود لنيل الْمَقْصُود (وَهُوَ) أَي الْمُجْتَهد (بِهِ) أَي بِاجْتِهَادِهِ (مؤتمر) أَي ممتثل لما أَمر بِهِ بِقدر وَسعه (غير مُخطئ بِهِ) أَي بِهَذَا الائتمار وبذل الوسع (قطعا) كَيفَ وَهُوَ آتٍ بِمَا كلف بِهِ (وَإِن حمل) كَونه مخطئا ابْتِدَاء (على خطئه) أَي الْمُجْتَهد (فِيهِ) أَي الِاجْتِهَاد (لَا خلاله) أَي الْمُجْتَهد (بِبَعْض شُرُوط الصِّحَّة) أَي صِحَة الدَّلِيل الْموصل إِلَى الحكم الْمعِين عِنْد الله تَعَالَى من حَيْثُ الْمَادَّة أَو الصُّورَة (فاتفاق) أَي فالمحمول عَلَيْهِ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ عين القَوْل الْمُخْتَار، فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى بَين من يَقُول ابْتِدَاء وانتهاء، وَبَين من يَقُول انْتِهَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّسْمِيَة فَقَط، فَعلم أَن نقل الْخلاف غير صَحِيح (لنا) على الْمَذْهَب الْمُخْتَار أَن لله تَعَالَى(4/202)
حكما معينا فِي مَحل الِاجْتِهَاد يُصِيبهُ تَارَة ويخطئه أُخْرَى، وَلَيْسَ كل مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر (لَو كَانَ الحكم) أَي خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد هُوَ عين (مَا) أدّى الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ كَانَ) الْمُجْتَهد (بظنه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ (يقطع بِأَنَّهُ) أَي المظنون الَّذِي أدّى إِلَيْهِ (حكمه تَعَالَى) وَالثَّانِي بَاطِل يدل على بُطْلَانه قَوْله (وَالْقطع) حَاصِل (بِأَن الْقطع) بِأَن مظتونه حكمه تَعَالَى (مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ، لِأَن الَّذِي علم قطعا أَن مظنونه عين حكم الله تَعَالَى فِي حَقه كَيفَ يتَصَوَّر أَن يتَحَوَّل عَنهُ بِأَن يشك فِيهِ أَو يظنّ خِلَافه فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون قطعه بِكَوْن المظنون حكم الله تَعَالَى فِي حَقه مُقَيّدا بِعَدَمِ طرُو مَا يُنَافِي ذَلِك الظَّن من شكّ أَو ظن بِخِلَافِهِ، وَعند طروه يتَغَيَّر حكم الله تَعَالَى فِي حَقه إِلَى بدل أَن تعلق ظَنّه بِخِلَاف مُتَعَلق الظَّن الأول أَولا إِلَى بدل أَن لم يتَعَلَّق قلت: يلْزم حِينَئِذٍ تعدد حكم الله تَعَالَى فِي حَادِثَة وَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص وَاحِد والنسخ، وَسَيَجِيءُ تَفْصِيله (وَالْإِجْمَاع) مُنْعَقد (على جَوَاز تغيره) أَي الظَّن الْمَذْكُور بِأحد الْوَجْهَيْنِ (وَوُجُوب الرُّجُوع) عَن الظَّن الْمَذْكُور مَعْطُوف على مَدْخُول على الْمُتَعَلّقَة بِالْإِجْمَاع (وَأَنه) أَي الْمُجْتَهد (لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع) أَي الْقطع بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى. قَوْله أَنه لم يزل مَعْطُوف على بَقَاء ظَنّه، وَالْمرَاد بِاشْتِرَاط الْقطع بِكَوْنِهِ لم يزل عِنْده لُزُوم هَذَا الْكَوْن لَهُ، فَلَا يرد أَنه لَا وَجه لتقديم هَذَا الْكَوْن على الْقطع (وإنكاره) أَي إِنْكَار بَقَاء الظَّن وَعدم جزم مزيل لَهُ (بهت) أَي مُكَابَرَة، يجوز أَن يكون الْمَعْنى وإنكار لُزُوم كَونه لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع للْقطع بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى فِي حَقه بهت، لِأَن الْعلم الْقطعِي لَا يتَغَيَّر: وَهَذَا أظهر من حَيْثُ الْعبارَة، لَكِن القَاضِي عضد الدّين صدر بِهِ فِي شرح الْمُخْتَصر بِالْمَعْنَى الأول (فيجتمع الْعلم) الْقطعِي بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَالظَّن) بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى (فيجتمع النقيضان: تَجْوِيز النقيض) اللَّازِم لحقيقة الظَّن الْمُتَعَلّق بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَعَدَمه) أَي عدم تَجْوِيز النقيض اللَّازِم لحقيقة الْعلم وَالْقطع بِأَنَّهُ حكمه، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْعلم وَالظَّن المتعلقان بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد ومآلهما وَاحِد حَاصِل الِاسْتِدْلَال أَن كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي حَقه يسْتَلْزم الْقطع المستلزم للمحظورات الثَّلَاث لُزُوم بَقَاء الظَّن وَالْإِجْمَاع على عدم لُزُومه واستمرار الْقطع المزيل للظن وإنكار بَقَاء الظَّن بهت، واجتماع الْعلم وَالظَّن المستلزم لِاجْتِمَاع النقيضين (وإلزام كَونه) أَي كَون اجْتِمَاع النقيضين (مُشْتَرك الْإِلْزَام) بِأَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على وجوب اتِّبَاع الظَّن، فَيجب الْفِعْل إِذا ظن الْوُجُوب قطعا، وَيحرم إِذا ظن الْحُرْمَة قطعا، ثمَّ شَرط الْقطع بَقَاء الظَّن بِمَا ذكرْتُمْ، فَيلْزم الظَّن وَالْقطع مَعًا، ويجتمع النقيضان (مُنْتَفٍ) خبر الْمُبْتَدَأ (لاخْتِلَاف مَحل الظَّن) أَي مُتَعَلّقه على الْمَذْهَب الْحق (وَهُوَ)(4/203)
أَي مَحل الظَّن (حكمه) تَعَالَى (أَي خطابه) الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ (وَالْعلم) مَعْطُوف على الظَّن (وَهُوَ) أَي مَحل الْعلم (حُرْمَة مُخَالفَته) أَي المظنون (بِشَرْط بَقَاء ظَنّه) أَي الحكم أَو الْمُجْتَهد (فَهُنَا) أَي فِي المسئلة الاجتهادية (خطابان) : أَحدهمَا الْخطاب (الثَّابِت فِي نفس الْأَمر) قبل الِاجْتِهَاد الْمُؤَدِّي إِلَى الظَّن لما عرفت. من أَن لله تَعَالَى فِي كل حَادِثَة حكما معينا وخطابا مُتَعَلقا بِفعل العَبْد (وَهُوَ) أَي الثَّابِت فِي نفس الْأَمر (المظنون) أَي الَّذِي بذل الْمُجْتَهد وَسعه فِي تَحْصِيله فَظن أَنه كَذَا لما أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده. لَا يُقَال مَا أدّى إِلَيْهِ تَارَة يكون على خلاف الثَّابِت فِي نفس الْأَمر، فَكيف يحكم بِأَن الثَّابِت هُوَ المظنون؟ . لأَنا نقُول: لَيْسَ المُرَاد بالمظنون الحكم الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، بل الثَّابِت الَّذِي ظن مُطَابقَة مَا أدّى إِلَيْهِ إِيَّاه. (و) ثَانِيهمَا (تَحْرِيم تَركه) أَي المظنون الَّذِي أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد (ويلازمه) أَي تَحْرِيم التّرْك (إِيجَاب الْفَتْوَى بِهِ) أَي بالمظنون (وهما) أَي كل وَاحِد من تَحْرِيم التّرْك وَإِيجَاب الْفَتْوَى (مُتَعَلقَة) بِكَسْر اللَّام: أَي مُتَعَلق المظنون الَّذِي أدّى الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ (الْمَعْلُوم) صفة مُتَعَلقَة، وَفَائِدَته الْإِشْعَار بِأَن كلا مِنْهُمَا حكم مَعْلُوم بِعَيْنِه قطعا، بِخِلَاف الثَّابِت فَإِنَّهُ لم يتَعَلَّق بِهِ الْعلم وَأَن تعلق بِهِ الظَّن (بِخِلَاف) قَول (المصوبة) فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الخطابان على مَا ذكرنَا (فَإِن الحكم فِي نفس الْأَمر) عِنْدهم (لَيْسَ إِلَّا مَا تأدى) الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ) لأَنهم لم يثبتوا حكما قبل الِاجْتِهَاد فَلَا يُمكنهُم أَن يَقُولُوا فِي دفع التَّنَاقُض مُتَعَلق الظَّن الحكم الثَّابِت فِي نفس الْأَمر، ومتعلق الْعلم غَيره (فَإِن قَالُوا) أَي المصوبة (نقُول مُتَعَلق الظَّن) كَونه) أَي كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الظَّن من الأمارة الْمَخْصُوصَة (دَلِيلا) على الحكم المظنون (و) مُتَعَلق (الْعلم ثُبُوت مَدْلُوله شرعا بذلك الشَّرْط) يَعْنِي بَقَاء الظَّن (فَإِذا زَالَ) الشَّرْط (رَجَعَ) الْمُجْتَهد عَنهُ فَانْدفع عَنْهُم التَّنَاقُض وَلُزُوم عدم إِمْكَان رُجُوع الْمُجْتَهد عَمَّا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده بِمُوجب الْقطع لِأَن مُتَعَلق الْعلم الثُّبُوت المغيا بِتِلْكَ الْغَايَة. (أُجِيب بِأَن كَونه) أَي الدَّلِيل (دَلِيلا) أَيْضا (حكم شَرْعِي) يتَفَرَّع عَلَيْهِ أَحْكَام شَرْعِيَّة (وَإِن كَانَ غير عَمَلي فَإِذا ظَنّه) أَي إِذا ظن الْمُجْتَهد كَونه دَلِيلا (علمه) أَي علم أَنه دَلِيل (وَيتم إِلْزَامه اجْتِمَاع النقيضين) لِاتِّحَاد مُتَعَلق الظَّن وَالْعلم. وَلما أجَاب عَن الجوابين من أجوبة المصوبة أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ الْعدة فِي الْجَواب من قبلهم، فَقَالَ: (وَالْجَوَاب أَن اللَّازِم) من التصويب (ثُبُوت الْعلم بالحكم مَا لم يثبت الرُّجُوع) أَي رُجُوع الْمُجْتَهد عَمَّا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (وَهُوَ) أَي ثُبُوت الرُّجُوع عَنهُ (انْفِسَاخ هَذَا الحكم) المرجوع عَنهُ (بِظُهُور المرجوع) إِلَيْهِ فَإِن قلت هَذَا نسخ بعد انْقِطَاع الْوَحْي قلت ظُهُوره بعد الِانْقِطَاع لَا أَصله، فَإِن أَصله حكم الله تَعَالَى قبل الِانْقِطَاع على الْمُجْتَهد بِأَنَّهُ إِذا ظهر لَك خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادك فَارْجِع عَنهُ إِلَيْهِ (لَا) ظُهُور (خطئه) أَي الحكم الأول (وبطلانه عِنْدهم) أَي المصوبة ثمَّ.(4/204)
لما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه كَيفَ يثبت الْعلم بالحكم مَعَ تَجْوِيز زَوَال مُوجبه؟ وَهُوَ الظَّن، وَزَوَال الْمُوجب يسْتَلْزم زَوَال الْمُوجب أجَاب عَنهُ بقوله (وتجويز انْقِضَاء مُدَّة الحكم بعد هَذَا الْوَقْت) أَي مُدَّة عدم ثُبُوت الرُّجُوع (لَا يقْدَح فِي الْقطع بِهِ) أَي بالحكم وَكَونه وَاجِب الْعَمَل مَا لم يثبت الرُّجُوع (حَال هَذَا التجويز) ظرف للْقطع بِهِ، ذكر تَأْكِيد الْعَدَم التَّنَافِي بَين الْقطع والتجويز، وَذَلِكَ لِأَن زمَان مُتَعَلق التجويز غير زمَان مُتَعَلق الْعلم (فَبَطل الدَّلِيل) الْمَذْكُور للمخطئة مندفعا (عَنْهُم) أَي المصوبة فَإِن قلت الدَّلِيل الْمَذْكُور يتَضَمَّن الْمَحْظُورَات الثَّلَاث كَمَا عرفت لُزُوم بَقَاء الظَّن، وَقد انْدفع بقييد زمَان الْقطع فَإِنَّهُ كَانَ مَبْنِيا على إِطْلَاقه بِحَيْثُ يسْتَغْرق الْأَزْمِنَة، واستمرار الْقطع المزيل للظن واندفاعه ظَاهر، لَكِن بَقِي دفع التَّنَاقُض قلت كَأَنَّهُ تَركه لظُهُوره وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي عضد الدّين بقوله: فَإِنَّهُ يسْتَمر الظَّن ريثما يحصل بِهِ الْقطع، فَإِذا حصل زَالَ الظَّن ضَرُورَة وَحكم الْقطع هُوَ اتِّبَاعه وَهُوَ بِهِ أَجْدَر من الظَّن. لَا يُقَال بِمُجَرَّد حُصُول الظَّن تعلق الْخطاب الْمُوجب للْعلم فاتحدا زَمَانا. لأَنا نقُول غَايَة الْأَمر مُقَارنَة الظَّن مَعَ تعلق الْخطاب، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم مقارنته مَعَ الْعلم (وَبِهَذَا) الْجَواب (ينْدَفع) عَن المصوبة الدَّلِيل (الْقَائِل) وصف الدَّلِيل بالْقَوْل مجَازًا، ومقول القَوْل (لَو كَانَ) الظَّن مُوجبا للْعلم (امْتنع الرُّجُوع) عَن المظنون (لاستلزامه) أَي الرُّجُوع (ظن النقيض) أَي نقيض المظنون الَّذِي تعلق بِهِ الْعلم (وَالْعلم يَنْفِي احْتِمَاله) أَي احْتِمَال نقيض مُتَعَلّقه، وَإِن كَانَ مرجوحا فضلا عَن الظَّن، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا فِيمَا إِذا كَانَ الرُّجُوع عَن المظنون الأول إِلَى مظنون آخر، أما إِذا كَانَ عَنهُ إِلَى الشَّك فَيُقَال حِينَئِذٍ لاستلزامه احْتِمَال النقيض وَالْعلم يَنْفِيه (فَلم يكن الْعلم حِين كَانَ) أَي تحقق بزعمكم أَيهَا المصوبة (علما) لم يكن وَجه الاندفاع ظَاهر عِنْد تَقْيِيد ثُبُوت الْعلم بِمَا إِذا لم يثبت الرُّجُوع (أَو لَو كَانَ) الظَّن مُوجبا للْعلم مَعْطُوف على مقول القَوْل (جَازَ ظَنّه) أَي الْمُتَعَلّق بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده ثَانِيًا (مَعَ تذكر مُوجب الْعلم، وَهُوَ) أَي مُوجب الْعلم (الظَّن الأول لجَوَاز الرُّجُوع) تَعْلِيل لجَوَاز تعلق ظَنّه ثَانِيًا، بِخِلَاف مظنونه الأول فَيلْزم تخلف الْمُوجب عَن الْمُوجب مَعَ تذكره من غير ذُهُول، وَفِيه أَن تذكره عبارَة عَن تصَوره الْمُوجب إِنَّمَا هُوَ الادعاء وَقد زَالَ (أَو لَو كَانَ) ظن الحكم مُوجبا للْعلم (امْتنع ظَنّه) بِخِلَاف المظنون الأول (مَعَ تذكر الظَّن) الأول (لِامْتِنَاع ظن نقيض مَا علم مَعَ تذكر الْمُوجب) للْعلم (وَإِلَّا) أَي إِن لم يمْتَنع ظن نقيض مَا علم مَعَ تذكر الْمُوجب (لم يكن) ذَلِك الْمُوجب (مُوجبا) وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض (لكنه) أَي الظَّن (جَائِز) بِخِلَاف المظنون الأول إِجْمَاعًا (بِالرُّجُوعِ) أَي بِأَن يرجع عَن الظَّن الأول إِلَى خِلَافه (وَقد لَا يَكْتَفِي بِدَعْوَى ضَرُورِيَّة البهت) الْمَأْخُوذَة فِي دَلِيل المخطئة (فتجعل) الْأَوْجه الثَّلَاثَة المفادة بقوله لَو كَانَ امْتنع الرُّجُوع(4/205)
إِلَى قَوْله لكنه جَائِز، فالرجوع (دَلِيل بَقَاء الظَّن) لِأَن محصول كل وَاحِد مِنْهَا لُزُوم الْفساد لكَون الظَّن مُوجبا للْعلم، فَإِذا انْتَفَى إِيجَابه للْعلم بَقِي مستمرا مَا لم يثبت الرُّجُوع عَنهُ (عِنْد الْقطع بمتعلقه) أَي الظَّن، الظّرْف مُتَعَلق بِبَقَاء الظَّن الْمَأْخُوذ فِي دَلِيل المخطئة الْمَذْكُور أَولا المفاد بقوله، وَالْقطع بِأَن الْقطع مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه إِلَى قَوْله وإنكاره بهت فحاصله لَو كَانَ الظَّن مُوجبا للْعلم لزم عِنْد ذَلِك بَقَاء الظَّن للأوجه الثَّلَاثَة وَهُوَ يسْتَلْزم أَن لَا يكون مَعَه الْعلم لِأَن بَينهمَا تنافيا فِي اللوازم (لَا) أَن يَجْعَل كل وَاحِد مِنْهَا دَلِيلا (مُسْتقِلّا) على إبِْطَال مَذْهَب المصوبة (وألزم على) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) وَهُوَ مَذْهَب المخطئة (انْتِفَاء كَون الْمُوجب) للْحكم (مُوجبا) لَهُ مَعَ تذكر الْمُوجب (فِي) حق (الأمارة) على الحكم حَيْثُ قَالُوا: لَا يمْتَنع زَوَال ظن الحكم إِلَى ظن نقيضه مَعَ تذكر الأمارة الَّتِي عَنْهَا الظَّن فَهِيَ مُوجبَة لَهُ (وَجَوَابه) أَي الْإِلْزَام الْمَذْكُور (أَن بُطْلَانه) أَي بطلَان انْتِفَاء كَون الْمُوجب مُوجبا (فِي غَيرهَا) خبر أَن: أَي فِي غير الأمارة (أما هِيَ) أَي الأمارة (فَإذْ لَا رابط) بَينهَا وَبَين الحكم (عَقْلِي) صفة اسْم لَا مَرْفُوع فِي مَحَله، وَالْخَبَر مَحْذُوف (جَازَ انْتِفَاء مُوجبهَا مَعَ تذكرها) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي هِيَ، وَقَوله: إِذْ لَا رابط عَقْلِي مُعْتَرضَة تعليلا للْجُوَاز، وَذَلِكَ كَمَا يَزُول ظن نزُول الْمَطَر من الْغَيْم الرطب الَّذِي هُوَ أَمارَة لَهُ إِلَى ظن عَدمه مَعَ وجوده. وَلما زيف دَلِيل المخطئة بِمَا ذكر أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ الْمُعْتَمد فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَقَالَ (بل الدَّلِيل) الَّذِي مَا عداهُ كَالْعدمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (إِطْلَاق) الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد) أَي إِطْلَاقهم لفظ الْخَطَأ فِي بعض الِاجْتِهَاد أَو عدم تقييدهم الْخَطَأ بِمَا يُفِيد كَونه خطأ بِسَبَب مُخَالفَة نَص أَو قِيَاس جلي أَو إِجْمَاع، وَهُوَ عِنْد الْإِطْلَاق يُرَاد بِهِ مُخَالفَة حكم الله تَعَالَى (شَائِعا) أَي إطلاقا شَائِعا بَينهم (متكررا) فِي حوادث كَثِيرَة من كثير مِنْهُم بِالنِّسْبَةِ إِلَى كثير مِنْهُم (بِلَا نَكِير) من أحد مِنْهُم على أحد مِمَّن أطلق الْخَطَأ، فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُم على أَن الْمُجْتَهد قد يُخطئ وَلَا يُصِيب حكم الله تَعَالَى فِي اجْتِهَاده (كعلي) أَي كإطلاق عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْخَطَأ (وَزيد بن ثَابت وَغَيرهمَا من مخطئة ابْن عَبَّاس) رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (فِي ترك الْعَوْل) وَهُوَ أَن يُزَاد على الْمخْرج من أَجْزَائِهِ إِذْ ضَاقَ عَن فرض من فروضه (وَهُوَ خطأهم) أَي ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا خطأ الصَّحَابَة (فَقَالَ من شَاءَ) مِنْكُم أَيهَا الْقَائِلُونَ بالعول (باهلته) أَي لَاعَنته، فَيَقُول كل منا: لعنة الله على من كذب (إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل فِي مَال وَاحِد نصفا وَنصفا وَثلثا، وَقَول أبي بكر) رَضِي الله عَنهُ (فِي الْكَلَالَة) وَهِي مَا خلا الْوَالِد وَالْولد (أَقُول فِيهَا برأيي إِلَى قَوْله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان) يَعْنِي إِن يكن صَوَابا فَمن الله تَعَالَى (وَمثله) أَي وَمثل قَول أبي بكر (قَول ابْن مَسْعُود) رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (فِي المفوضة) فِي الْقَامُوس(4/206)
فوض الْمَرْأَة: زَوجهَا بِلَا مهر (الْمُتَوفَّى عَنْهَا) زَوجهَا (أجتهد) مقول القَوْل (إِلَى قَوْله فَإِن يكن) مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادي (خطأ فَمن ابْن أم عبد) أَي عبد الله، يَعْنِي نَفسه، لم يقل فَمن ابْن مَسْعُود، إِشَارَة إِلَى أَنه ابْن امْرَأَة من جنس ناقصات الْعقل لَا يبعد الْخَطَأ مِنْهُ (و) روى (عَنهُ) أَي ابْن مَسْعُود (مثل) قَول (أبي بكر) فَفِي سنَن أبي دَاوُد عَنهُ: فَإِن بك صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَإِن يَك خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله بريئان (وَقَول عَليّ لعمر فِي المجهضة) بِضَم الْمِيم وَكسر الْهَاء وَهِي الَّتِي أسقطت جَنِينا مَيتا خوفًا من عمر حَيْثُ استحضرها وَسَأَلَ من حَضَره عَن حكم ذَلِك، فَقَالَ عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِنَّمَا أَنْت مؤدب لَا نرى عَلَيْك شَيْئا، ثمَّ سَأَلَ عليا مَاذَا تَقول فَقَالَ (إِن كَانَا قد اجتهدا فقد أخطآ، يَعْنِي عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف) وَإِن يجتهدا فقد غشاك، عَلَيْك الدِّيَة، فَقَالَ عمر لعَلي عزمت عَلَيْك لتقسمانها على قَوْمك أَرَادَ قوم عمر أضَاف إِلَى عَليّ إِكْرَاما. وَقَالَ الشَّارِح: ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي خلافًا لأَصْحَابه. وَلَا حجَّة فِي هَذَا على أُصُوله لِأَنَّهُ مُنْقَطع، فَإِن الْحسن ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من خلَافَة عمر، ثمَّ الإجهاض إِلْقَاء الْوَلَد قبل تَمَامه (وَاسْتدلَّ) للمختار بأوجه ضَعِيفَة، أَحدهَا إِن كَانَ أحد قولي الْمُجْتَهدين أَو كِلَاهُمَا بِلَا دَلِيل فَبَاطِل وَإِلَّا (إِن تساوى دليلاهما) بِأَن لَا يُوجد فِي أَحدهمَا مَا يرجحه على الآخر (تساقطا) (وَإِلَّا تعين الرَّاجِح) وَجه استلزامه للْمُدَّعِي أَن تعدد حكم الله بِتَعَدُّد الِاجْتِهَاد غير مَعْقُول، لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يسقطا مَعًا أَو أَحدهمَا، والساقط مَعْدُوم لَا يصلح لِأَن يكون أَمارَة لحكم الله تَعَالَى، وَكَذَا الْحَال إِذا كَانَ فِي المسئلة أَقْوَال ينظر بَين كل اثْنَيْنِ حَتَّى يسْقط الْكل أَو يَنْتَهِي إِلَى وَاحِد (وَأجِيب أَن ذَلِك) التَّقْسِيم (بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفس الْأَمر) فَإِنَّهُمَا فِي نفس الْأَمر إِمَّا متساويان فِي مصلحَة الْقبُول أَو لَا، بل أَحدهمَا أرجح، بل الْإِرَادَة بِمَا على طبق مَا فِي نفس الْأَمر، بل قد يتَرَجَّح فِي رَأْي الْمُجْتَهد مَا هُوَ مَرْجُوح بِحَسب نفس الْأَمر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَكِن الأمارات) الَّتِي تظهر للمجتهد (ترجحها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد فَكل) من الْقَوْلَيْنِ (رَاجِح عِنْد قَائِله) وَإِن كَانَ الرَّاجِح فِي نفس الْأَمر أَحدهمَا أَو اسْتَويَا (وصواب) على رَأْي المصوبة، (و) أَيْضا اسْتدلَّ (بِأَن الْمُجْتَهد طَالب) لتَحْصِيل حكم الله تَعَالَى (ويستحيل) الطّلب (بِلَا مَطْلُوب فَمن أخطأه) أَي الْمَطْلُوب وَلم يجده فَهُوَ (الْمُخطئ) وَمن وجده فَهُوَ الْمُصِيب (أُجِيب) بِأَنَّهُ (نعم) هُوَ طَالب ويستحيل الطّلب بِلَا مَطْلُوب وَلَكِن (فَهُوَ) أَي الْمَطْلُوب (غَلَبَة ظَنّه) أَي الْمُجْتَهد بِوَجْه من وُجُوه مَحل الِاجْتِهَاد فَإِذا اجْتهد أَو غلب ظن كل وَاحِد بِشَيْء وجد كل مِنْهُمَا مَطْلُوبه (فيتعدد) حِينَئِذٍ (الصَّوَاب) لِأَن الْمَفْرُوض أَن المظنون هُوَ حكم الله فِي حق كل (و) أَيْضا اسْتدلَّ (بِالْإِجْمَاع على شرع المناظرة) أَي على مشروعيتها (وفائدتها) أَي المناظرة (ظُهُور الصَّوَاب) لِأَن الْمَفْرُوض أَن(4/207)
المظنون هُوَ حكم الله فِي حق كل وَلذَا أَخذ فِي تَعْرِيفهَا، وَقيل هِيَ النّظر من الْجَانِبَيْنِ فِي نِسْبَة خبرية إِظْهَارًا للصَّوَاب، فَلَو كَانَ كل مَا أدّى إِلَيْهِ النّظر وَالِاجْتِهَاد صَوَابا لما كَانَ لَهَا فَائِدَة لحُصُول الْعلم بِالصَّوَابِ بِمُجَرَّد النّظر من غير مناظرة (وَأجِيب بِمَنْع الْحصْر) أَي حصر الْفَائِدَة فِي ظُهُور الصَّوَاب (لجوازها) أَي لجَوَاز كَون فائدتها (تَرْجِيحا) أَو لجَوَاز المناظرة للترجيح لأحد الصوابين على الآخر، وَهَذَا مَبْنِيّ على قَول من يَقُول بِعَدَمِ تَسَاوِي الْحُقُوق (وتمرينا) للنَّفس على طرق النّظر ليحصل ملكة الْوُقُوف على المأخذ ورد الشّبَه وتشحيذا للخاطر معاونة على الِاجْتِهَاد (وَلَا يخفى ضعفه) أَي الِاسْتِدْلَال. وَالْجَوَاب لاشتهار كَون الْغَرَض مِنْهَا إِظْهَار الصَّوَاب بَين أهل الْعلم من غير نَكِير وَهُوَ الْمُتَبَادر من الْعبارَة لذكره بعد الْجَواب فَتَأمل، (و) أَيْضا اسْتدلَّ (بِلُزُوم حل) الْمَرْأَة (المجتهدة) على تَقْدِير إِصَابَة كل مُجْتَهد (كالحنفية) أَي اجْتِهَادًا كاجتهاد الْحَنَفِيَّة، أَو حَال كَونهَا كالحنفية فِي الِاجْتِهَاد، وَإِنَّمَا فرض كَونهَا مجتهدة وَلم يقل حل الْحَنَفِيَّة مَعَ كَونه أخصر، لِأَن الْمُقَلّد يجوز لَهُ تَقْلِيد غير مقلده على مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَحِينَئِذٍ يجوز أَن تقلد مَذْهَب زَوجهَا فَلَا يلْزم اجْتِمَاع الْحل وَالْحُرْمَة (وحرمتها لَو قَالَ بَعْلهَا الْمُجْتَهد كالشافعية) فِي الِاجْتِهَاد (أَنْت بَائِن) مقول القَوْل (ثمَّ قَالَ رَاجَعتك) فَإِن الرّجْعَة عِنْده صَحِيحَة لِأَن الْكِنَايَات عِنْده لَيست بوائن، وَعِنْدهَا غير صَحِيحَة لِأَنَّهَا عِنْدهَا بوائن، وَأَنت بَائِن مِنْهَا، وَلَا رَجْعَة فِي البوائن (و) بِلُزُوم (حلهَا) أَي المجتهدة الَّتِي هِيَ كالحنفية (لاثْنَيْنِ لَو تزَوجهَا مُجْتَهد) يرى رَأْي الْحَنَفِيَّة (بِلَا ولي ثمَّ) تزَوجهَا (مثله) مُجْتَهد آخر يرى رَأْي الشَّافِعِيَّة (بِهِ) أَي بولِي، وَيجوز تَصْوِير المسئلة على وَجه لَا يلْزم عَلَيْهَا تعمد الْحَرَام بِفَرْض توكيلها وَليهَا فِي التَّزْوِيج وشخصا آخر لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهَا فزوج كل مِنْهُمَا فِي غيبَة الآخر تقدم التَّزْوِيج بِغَيْر الْوَلِيّ فَيصح تَزْوِيج الثَّانِي لعدم صِحَة الأول عِنْد الْمُجْتَهد الثَّانِي (وَأجِيب) بِأَن لُزُوم اجْتِمَاع الْحل وَالْحُرْمَة (مُشْتَرك الْإِلْزَام إِذْ لَا خلاف) بَين الْفَرِيقَيْنِ (فِي وجوب اتِّبَاع ظَنّه) لِأَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَنه يجب على كل مُجْتَهد أَن يتبع ظَنّه الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده من حلهَا بِتِلْكَ الرّجْعَة (فيجتمع النقيضان: وجوب الْعَمَل بحلها لَهُ) يَعْنِي يجب على الزَّوْج الْمُجْتَهد الرَّاجِع إِلَى المجتهدة أَن يعْمل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده من حلهَا بِتِلْكَ الرّجْعَة (ووجوبه) أَي الْعَمَل (بحرمتها عَلَيْهِ) أَي يجب على الْمَرْأَة أَن تعْمل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادها من حرمتهَا على الزَّوْج لعدم صِحَة الرّجْعَة، والوجوبان يدلان على النقيضان بدل النَّقْض، وَهَذَا تَقْرِير الْإِلْزَام بِالنّظرِ إِلَى المسئلة الأولى، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِيَة فَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله (وَكَذَا وجوب الْعَمَل) على المجتهدة والمجتهد الأول (بحلها للْأولِ) أَي للزَّوْج الأول لصِحَّة النِّكَاح بِلَا ولي على رأيهما (ووجوبه) أَي الْعَمَل بحلها (للثَّانِي) أَي(4/208)
الزَّوْج الثَّانِي لعدم صِحَة النِّكَاح الأول عِنْد الزَّوْج الثَّانِي فَيجب عَلَيْهِ أَن يعْمل بِمُوجب اجْتِهَاده (فَإِن لم يكن الوجوبان متناقضين) كتناقض الْحل وَالْحُرْمَة (لتناقض متعلقيهما) يَعْنِي إِن كَانَا متناقضين بِسَبَب تنَاقض متعلقيهما، وهما الْحل وَالْحُرْمَة فِي الصُّورَة الأولى، وَحل الزَّوْج الأول وَحل الزَّوْج الثَّانِي فِي الثَّانِيَة، فَإِن الْحل لكل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَلْزم الْحُرْمَة على الآخر، فقد ثَبت الْمُدعى فَإِن لم يَكُونَا متناقضين لتناقضهما فقد (استلزم) اجْتِمَاع الوجوبين (اجْتِمَاع متعلقيه) أَي الْوُجُوب المتحقق فِي ضمن الوجوبين (المتناقضين) صفة متعلقية (فَإِن أجبتم) أَيهَا المخطئة بِأَنَّهُ (لَا يمْتَنع) مَا ذكر من وجوب الضدين (بِالنِّسْبَةِ إِلَى مجتهدين) مُخْتَلفين فِي الِاجْتِهَاد (فَكَذَلِك الْمُتَنَازع فِيهِ) الَّذِي ادعيتم لُزُومه علينا من لُزُوم الْحل وَالْحُرْمَة إِلَى آخر الصُّورَتَيْنِ فَنَقُول: لَا يمْتَنع ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى مجتهدين، فَإِن قَالَ المخطئة يلْزم عَلَيْكُم أَن الله تَعَالَى حكم بِحل امْرَأَة وَاحِدَة وحرمتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى زوج وَاحِد وبحلها لزوجين وَلَا يلْزم علينا ذَلِك لكَون أحد الاجتهادين خطأ قطعا. قَالَ المصوبة فَكيف يحكم الله تَعَالَى على الزَّوْجَة وَالزَّوْج بِاتِّبَاع الْحل وَالْحُرْمَة وعَلى الزَّوْجَيْنِ بِاتِّبَاع الْعَمَل بِالْحلِّ (نعم يسْتَلْزم مثله) أَي مثل مَا ذكر من الصُّورَتَيْنِ (مفْسدَة الْمُنَازعَة) بَين الزَّوْج وَالزَّوْجَة أَو الزَّوْجَيْنِ مثلا (وَقد يُفْضِي) النزاع (إِلَى التقاتل فَيلْزم فِيهِ) أَي فِي مثله (رَفعه إِلَى قَاض يحكم بِرَأْيهِ) الْمُوَافق لأحد المنازعين (فَيلْزم) المنازع (الآخر) مَا حكم بِهِ ليرتفع النزاع وَالْفساد (واذن) أَي وَإِذا كَانَ الْأَمر كَمَا عرفت من اشْتِرَاك الْإِلْزَام وَالْوُجُوب (فَالْجَوَاب الْحق) من قبل المصوبة والمخطئة الَّذِي هُوَ مخلص من لُزُوم تِلْكَ الْمُنَازعَة الَّتِي تكَاد أَن تنجر إِلَى الْمُقَاتلَة قبل الرّفْع إِلَى القَاضِي (أَن مثله) أَي مَا ذكر (مَخْصُوص) أَي خَارج (من) عُمُوم (تعلق الْحكمَيْنِ) الصوابين على رَأْي المصوبة، أَو اللَّذين أَحدهمَا خطأ على رَأْي المخطئة وهما وجوب الِاتِّبَاع على الْمُجْتَهدين (بل الثَّابِت) فِي مثله فِي نفس الْأَمر (حرمتهَا) أَي الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة فِي الصُّورَتَيْنِ مستمرة (إِلَى غَايَة الحكم) أَي حكم القَاضِي بعد الرّفْع إِلَيْهِ (لِأَن لُزُوم الْمفْسدَة يمْنَع شرع ذَلِك) أَي مَشْرُوعِيَّة مُتَعَلق الْحكمَيْنِ (وَبِمَا وضحناه) من التَّخْصِيص وَثُبُوت الْحُرْمَة المغياة بِمَنْع لُزُوم الْمفْسدَة شَرْعِيَّة ذَلِك (انْدفع مَا أورد) على مَا ذكر من لُزُوم الرّفْع إِلَى قَاض دفعا للنزاع (من أَن الْقَضَاء لرفع النزاع إِذا تنَازعا فِي التَّمْكِين) أَي تَمْكِين الْمَرْأَة (وَالْمَنْع) عَنهُ (لَا لرفع تعلق الْحل وَالْحُرْمَة بِوَاحِد) من مظنوني الْمُجْتَهدين، فَإِنَّهُ بعد التَّعَلُّق لَا يرْتَفع، وَمَا لم يرْتَفع فالنزاع بَاقٍ فَلَا يكون الرّفْع إِلَى القَاضِي مخلصا للمصوبة وَاعْلَم أَنه قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي شرح(4/209)
الْمُخْتَصر بعد الْجَواب بِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام أَن الْجَواب الْحق هُوَ الْحل، وَهُوَ أَنه يرجع إِلَى حَاكم ليحكم بَينهمَا فيتبعان حكمه لوُجُوب اتِّبَاع الحكم للموافق والمخالف. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَة عَلَيْهِ يُشِير إِلَى أَن الْجَواب جدلي، لَكِن فِي كَون هَذَا جَوَابا عَن الْإِلْزَام الْمَذْكُور نظر، لِأَن حكم الْحَاكِم إِنَّمَا يصلح لرفع النزاع إِذا تنَازعا لرفع تعلق الْحل وَالْحُرْمَة بِشَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ بعد الحكم لم يرْتَفع ذَلِك التَّعَلُّق على تَقْدِير تصويب كل مُجْتَهد: نعم لَو أجَاب بِأَن الْحل بِالْإِضَافَة إِلَى أَحدهمَا، وَالْحُرْمَة بِالْإِضَافَة إِلَى الآخر فَلَا امْتنَاع فِي ذَلِك لَكَانَ وَجها، كَذَا فِي بعض الشُّرُوح انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقَررهُ) أَي مَا أوردهُ (مُحَقّق) يَعْنِي الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ حَيْثُ سكت عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي مَا أورد (بعد اندفاعه بِمَا ذكرنَا) من أَنه مَخْصُوص الخ (غير صَحِيح فِي نَفسه، إِذْ لَا مَانع من رفع تعلق الْحل وَالْحُرْمَة بِالْقضَاءِ مَعَ كَون كل مِنْهُمَا صَوَابا لِأَنَّهُ) أَي رفع التَّعَلُّق الْمَذْكُور (نسخ مِنْهُ تَعَالَى عِنْد حكم القَاضِي كالرجوع عِنْدهم) أَي كَمَا أَن الْمُجْتَهد إِذا رَجَعَ عَن ظَنّه الأول إِلَى ظن آخر كَانَ ذَلِك نسخا للْأولِ عِنْد المصوبة (قَالُوا) أَي المصوبة (لَو كَانَ الْمُصِيب وَاحِدًا وَجب النقيضان على الْمُخطئ إِن وَجب حكم نفس الْأَمر عَلَيْهِ) أَيْضا لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع ظَنّه إِجْمَاعًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجب عَلَيْهِ حكم نفس الْأَمر (وَجب) عَلَيْهِ (الْعَمَل بالْخَطَأ) لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ مُتَابعَة ظَنّه إِجْمَاعًا (وَحرم) عَلَيْهِ الْعَمَل (بِالصَّوَابِ) لِأَنَّهُ خلاف ظَنّه، وَيحرم على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِخِلَاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده إِجْمَاعًا (وَهُوَ) أَي كَون الْعَمَل بِالصَّوَابِ حَرَامًا مَعَ وجوب الْعَمَل بالْخَطَأ (محَال) لِأَنَّهُ خلاف الْمَعْقُول (أُجِيب بِاخْتِيَار) الشق (الثَّانِي) وَهُوَ أَن لَا يجب عَلَيْهِ حكم نفس الْأَمر (وَمنع انْتِفَاء التَّالِي) اللَّازِم للاستحالة، يَعْنِي حُرْمَة الْعَمَل بِالصَّوَابِ مَعَ وجوب الْعَمَل بالْخَطَأ أَمر مُتَحَقق، فَكيف يكون محالا؟ (للْقطع بِهِ) أَي بالتالي فِيمَا لَو خَفِي على الْمُجْتَهد (قَاطع) أَي فِي وَقت خَفَاء الدَّلِيل الْقَاطِع على الْمُجْتَهد فَإِنَّهُ لَو لم يخف لم يكن اجْتِهَاده صَحِيحا، لِأَن شَرط الِاجْتِهَاد عدم وجود الْقَاطِع فِي مَحل الِاجْتِهَاد (حَيْثُ تجب) عَلَيْهِ (مُخَالفَته) لوُجُوب اتِّبَاعه مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَهُوَ مُخَالف لما هُوَ مُوجب الْقطعِي (والاتفاق) على (أَنه) أَي خلاف الْقطعِي الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (خطأ إِذْ الْخلاف) بَين المصوبة والمخطئة، وَإِنَّمَا وَاقع (فِيمَا لَا قَاطع) فِيهِ من الْأَحْكَام الاجتهادية (أما مَا فِيهِ) أَي الَّذِي فِيهِ قَاطع من الْأَحْكَام الاجتهادية (فالاجتهاد على خِلَافه خطأ اتِّفَاقًا) أَي مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد الْوَاقِع على خلاف الْقطعِي خطأ إِجْمَاعًا وَإِن وَجب الْعَمَل بِهِ لخفاء الْقَاطِع على الْمُجْتَهد (قَالُوا) أَي المصوبة؟ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) وَمن الْمَعْلُوم أَن أَكثر الخلافات الْوَاقِعَة بَين الْمُجْتَهدين من الْخلف قد وَقع فِيمَا بَينهم (فَلَا خطأ) فِي(4/210)
شَيْء مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَطَأ منفيا عَنْهُم بِأَن كَانَ بَعضهم على الْخَطَأ (ثَبت الْهدى فِي الْخَطَأ) عِنْد الِاقْتِدَاء بذلك الْبَعْض (وَهُوَ ضلال) أَي وَالْحَال أَن الْخَطَأ ضلال وَهل يتَصَوَّر أَن يكون الْمُقْتَدِي بالضال مهديا؟ وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى أَن القَوْل بِثُبُوت الْهدى فِي الْخَطَأ ضلال (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الِاقْتِدَاء بالمخطئ أَو الْخَطَأ (هدى من وَجه) وَلذَا وَجب الْعَمَل بِهِ على الْمُجْتَهد وعَلى مقلده (فيتناوله) لفظ اهْتَدَيْتُمْ. وَقيل الحَدِيث لَهُ طرق بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَلم يَصح مِنْهَا شَيْء، وَأَنت خَبِير بِأَن الطّرق الضعيفة إِذا كثرت يرتقى الحَدِيث بهَا من الضعْف إِلَى الْحسن.
تَتِمَّة
(من) مبَاحث (المخطئة: الْحَنَفِيَّة قسموا) أَي الْحَنَفِيَّة (الْخَطَأ وَهُوَ الْجَهْل الْمركب إِلَى ثَلَاثَة) من الْأَقْسَام فِي التَّلْوِيح. الْجَهْل عدم الْعلم عَمَّا من شَأْنه، فَإِن قَارن اعْتِقَاد النقيض فمركب، وَإِلَّا فبسيط وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْجَهْل الْمركب على هَذَا أَعم من الْخَطَأ الْمَذْكُور فِي بَاب الِاجْتِهَاد لجَوَاز أَن يكون فِي غير الْمُجْتَهد: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بالْخَطَأ فِي هَذَا التَّقْسِيم مَا هُوَ أَعم من خطأ الْمُجْتَهد. الْقسم (الأول جهل لَا يصلح) لِأَن يكون (عذرا) لصَاحبه فِي عدم الْمُؤَاخَذَة (وَلَا شُبْهَة) يَتَرَتَّب عَلَيْهَا دَرْء حد وَنَحْو (وَهُوَ) أَي الَّذِي لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة (أَرْبَعَة) أَحدهَا (جهل الْكَافِر بِالذَّاتِ) أَي ذَات الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا قيد بالكافر لِأَن الْمُؤمن لَا يجهل بِالذَّاتِ من حَيْثُ الْوُجُود (وَالصِّفَات) أَي وجهله بِالصِّفَاتِ الْمُؤمن بهَا، وَإِنَّمَا لَا يصلح جَهله بهما عذرا وَلَا شُبْهَة (لِأَنَّهُ) أَي الْكَافِر (مكابر) أَي مترفع عَن الانقياد للحق وَالنَّظَر فِي الْآيَات ومعاند لما يَقْتَضِيهِ الْعقل (لوضوح دَلِيله) أَي دَلِيل مَا جهل بِهِ من الذَّات وَالصِّفَات (حسا) أَي دلَالَة حسية لكَون مَا يسْتَدلّ بِهِ حسا أَو وضوحا حسا (من الْحَوَادِث المحيطة بِهِ) أَي بالكافر أنفسا وآفاقا، بَيَان لدليله، فَالْمُرَاد بِالدَّلِيلِ مَا يُمكن بِأَن يُوصل بِالنّظرِ إِلَى الْمَطْلُوب (وعقلا) أَي دلَالَة عقلية لكَون مَا يسْتَدلّ بِهِ أمرا عقليا أَو وضوحا عقليا لتبادر مقدماته واستلزامه إِلَى الْعقل (إِذْ لَا يخلوا الْجِسْم عَنْهَا) أَي تِلْكَ الْحَوَادِث تَعْلِيل للوضوح على وَجه يثبت الْإِحَاطَة أَيْضا (وَمَا لَا يَخْلُو عَنْهَا) أَي الْحَوَادِث (حَادث بِالضَّرُورَةِ) فَإِن قلت: الْفلك قديم على رَأْي الْحَكِيم وَلَا يَخْلُو عَن الْحَرَكَة الْحَادِثَة، فالاستدلال بِدَعْوَى الضَّرُورَة غير مُسلم، كَيفَ وَلَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما أجمع على خِلَافه الْحُكَمَاء قاطبة قلت: معنى كَلَامه مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث الَّتِي هِيَ حَادِثَة شخصا ونوعا، وحركات الأفلاك عِنْدهم قديمَة نوعا كَيفَ؟ وَلَو كَانَت حَادِثَة نوعا والمفروض لُزُوم(4/211)
فَرد مَا مِنْهَا للفلك للَزِمَ وجود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم: نعم يبْقى الْكَلَام حِينَئِذٍ فِي الصُّغْرَى، وَهِي أَن الْجِسْم لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث شخصا ونوعا إِن تمّ تمّ وَإِلَّا فَلَا، وَقدم الْحَوَادِث المحيطة بالأجسام بأسرها نوعا يكَاد أَن لَا يتَصَوَّر، وحركة الْفلك غير مسلمة فضلا عَن قدمهَا (لَا بُد لَهُ) أَي لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث، فَقَوله لَا بُد خبر بعد خبر (من موجد) لَهُ (إِذْ لم يكن الْوُجُود مُقْتَضى ذَاته) أَي الْحَادِث الْمَذْكُور، وبديهة الْعقل حاكمة بِأَن وجود الْحَادِث لَا بُد لَهُ من الْمُقْتَضى (ويستلزم) الحكم بِوُجُود الْوَاجِب تَعَالَى (الحكم بصفاته) من الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة إِلَى آخر مَا ذكر فِي علم الْكَلَام بأدلتها الْوَاضِحَة الَّتِي لَا ينكرها إِلَّا معاند، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كَمَا عرف) أَي على الْوَجْه الَّذِي عرف فِي مَحَله (وَكَذَا مُنكر الرسَالَة) أَي وَكَذَا جهل مُنكر الرسَالَة لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة لِأَنَّهُ مكابر (بعد ثُبُوت المعجزة) الَّتِي هِيَ شَهَادَة وَاضِحَة من الله تَعَالَى بِصدق دَعْوَى الرَّسُول، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى من شهد زمَان الرسَالَة (وتواتر مَا يُوجب النُّبُوَّة) من الْأَخْبَار الدَّالَّة على صُدُور المعجزة من مدعيها بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لم يشْهد زمانها، فَإِن خصوصيات الْأَخْبَار لَو لم تبلغ حدا التَّوَاتُر فالقدر الْمُشْتَرك متواتر قطعا، وَلَا سِيمَا الْقُرْآن المعجز لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَاقِي على صفحة الدَّهْر إِلَى آخر الدُّنْيَا، فانه متواتر إِجْمَاعًا ظَاهر إعجازه لكل بليغ كَامِل فِي بلاغته، وَفِي ذكر النُّبُوَّة مَوضِع الرسَالَة إِشْعَار بِأَن المُرَاد بالرسالة النُّبُوَّة الْمَشْهُورَة فِي الْمَعْنى الْأَعَمّ، فَإِن خُصُوصِيَّة كَونه صَاحب شَرِيعَة مَخْصُوصَة مَا لَا دخل لَهُ فِي هَذَا الْمقَام (فَلِذَا) أَي فلكون إِنْكَار الرسَالَة بعد ثُبُوتهَا مُكَابَرَة (لَا تلْزم) على الْمُسلمين (مناظرته) أَي مُنكر الرسَالَة، لِأَنَّهُ لم يبْق لَهُ حجَّة على الله تَعَالَى بعد الرُّسُل، وَثُبُوت معجزتهم، وبلوغ الْخَبَر إِلَيْهِ (بل إِن لم يتب) بعض أَفْرَاد منكري الرسَالَة، وَهُوَ (الْمُرْتَد) عَن الرَّسُول (قَتَلْنَاهُ) كَمَا نقْتل الْمُرْتَد عَن الله سُبْحَانَهُ خُصُوصا إِن عرض الْإِسْلَام عَلَيْهِ وَلم يرجع إِلَيْهِ، بِخِلَاف غَيره من الْكفَّار فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن فِي حَقهم الْقَتْل، بل أحد الْأُمُور: إِمَّا الْقَتْل أَو الْجِزْيَة أَو الاسترقاق، وَإِنَّمَا شدد على الْمُرْتَد، لِأَن مكابرته بُد ذوق لَذَّة الْإِسْلَام أَشد (وَكَذَا) أَي وَكَذَا الْجَهْل (فِي حكم لَا يقبل التبدل) عقلا وَلَا شرعا باخْتلَاف الْأَدْيَان لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة لكَون صَاحبه مكابرا لوضوح دَلِيله (كعبادة غَيره تَعَالَى. وَأما تدينه) أَي الْكَافِر (فِي) الْقَامُوس: تدين اتخذ دينا وَالْمرَاد عمله بِمَا اتَّخذهُ دينا فِي حكم (غَيره) أَي غير مَا لَا يقبل التبدل كتحريم الْخمر (ذِمِّيا) حَال من الضَّمِير فِي تدينه فَإِنَّهُ فَاعل معِين (فالاتفاق على اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار تدينه الْمَذْكُور (دافعا للتعرض) لَهُ حَتَّى لَو بَاشر مَا دَان بِهِ لَا يتَعَرَّض لَهُ فَقَوله دافعا مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى الْجعل (فَلَا يحد) الذِّمِّيّ (لشرب الْخمر إِجْمَاعًا، ثمَّ لم يضمن الشَّافِعِي متلفها) أَي خمر(4/212)
الذِّمِّيّ مثلهَا إِن كَانَ ذِمِّيا وَلَا قيمتهَا إِن كَانَ مُسلما، وَبِه قَالَ أَحْمد لما فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حُرْمَة بيعهَا كالميتة، وَمَا يحرم بَيْعه لم يجب قِيمَته، وَلِأَنَّهَا لَيست بِمَال مُتَقَوّم: فَلَا تكون سَببا للضَّمَان، وَعقد الذِّمَّة خلف عَن الْإِسْلَام فَيثبت فِيهِ أَحْكَامه، وَعُمُوم خطاب التَّحْرِيم يتَنَاوَل الذِّمِّيّ، وَقد بلغه فِي دَار الْإِسْلَام (وضمنوه) أَي الْحَنَفِيَّة متلفها مثلهَا إِن كَانَ ذِمِّيا وَقيمتهَا إِن كَانَ مُسلما، وَبِه قَالَ مَالك (لَا للتعدي) يَعْنِي أَن فِي إِتْلَافه غير الْخمر وَنَحْوهَا عُدْوانًا وإعداما لمَال الْغَيْر، فالتضمين فِيهِ لمجموع الْأَمريْنِ، وَأما الْخمر وَنَحْوهَا فَلَيْسَ للتعدي لِأَنَّهُ إهانة لما أهانه الله تَعَالَى، فَلَا يُسمى عُدْوانًا وَلَا ظلما، وَإِنَّمَا هُوَ لإعدام مُتَقَوّم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّمِّيّ لما روى أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بلغه أَن عماله يَأْخُذُونَ الْجِزْيَة من الْخمر فَمَنعهُمْ عَن أَخذهَا وَقَالَ: ولوا أَرْبَابهَا بيعهَا ثمَّ خُذُوا الثّمن مِنْهُم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل لبَقَاء التقوم فِي حَقهم) أهل الذِّمَّة، يَعْنِي أَن تقويمها فِي حق الْمُسلمين بعد تَحْرِيمهَا وَبَقِي فِي حَقهم (وَلِأَن الدّفع) أَي دفع التَّعَرُّض الْمَقْصُود من عقد الذِّمَّة (عَن النَّفس وَالْمَال) أَي نفس الذِّمِّيّ وَمَاله لَا يتَحَقَّق إِلَّا (بذلك) أَي التَّضْمِين (فَهُوَ) أَي التَّضْمِين (من ضَرُورَته) أَي الدّفع. (ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة) فِي رد الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ: تتَنَاوَل الْأَحْكَام أهل الذِّمَّة، فَإِن الْكفْر لَا يصلح للتَّخْفِيف عَنْهُم (وَمنع تنَاول الْخطاب إيَّاهُم) أَي منع الله أَن يدخلهم تَحت خطابه (مكرا بهم واستدراجا لَهُم) مفعول لَهُ للْمَنْع، وَهُوَ الْأَخْذ على غرَّة لَا تَخْفِيفًا عَنْهُم، وَقد يتْرك الْخطاب لشخص عِنْد الْعلم بِأَنَّهُ لَا يَنْفَعهُ كالطبيب يتْرك مدواة الْمَرِيض، وَلَا يمنعهُ من التَّخْلِيط عِنْد يأسه من الْبُرْء، وَقَوله منع يحْتَمل أَن يكون على صِيغَة الْفِعْل الْمَجْهُول أَو الْمصدر، وَالْخَبَر مَحْذُوف (فِيمَا يحْتَمل التبدل) ظرف لمنع التَّنَاوُل، فَإِن الْخطاب فِيمَا لَا يحْتَملهُ تناولهم (خطاب لم يشْتَهر) بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، فَإِنَّهُ ترك خطاب وَلم ينتشر بعد فِي دِيَارنَا كَمَا فِي قصَّة أهل قبَاء حَيْثُ تحولوا نَحْو الْكَعْبَة فِي الصَّلَاة عِنْد بُلُوغ خبر تَحْويل الْقبْلَة إيَّاهُم، فَإِنَّهُ لَا يتناولهم، وَإِلَّا لما بنوا مَا بَقِي من صلَاتهم على مَا صلوه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بعد نزُول الْوَحْي قبل أَن يبلغهم الْخَبَر، فَكَمَا أَنه لَا يتناولنا فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة فِي الدَّلِيل الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَا يتناولهم مَا يَقْتَضِيهِ (فَلَو نكح مَجُوسِيّ بنته أَو أُخْته صَحَّ) النِّكَاح (فِي أَحْكَام الدُّنْيَا) يَعْنِي أَنه لَا يتَعَرَّض لَهُم فَإِنَّهُ مِمَّا يحْتَمل التبدل كَيفَ وَقد كَانَ فِي شرع آدم عَلَيْهِ السَّلَام نِكَاح الْأُخْت وَلَا يتناولهم هَذَا الْخطاب، وَأما فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى فَلَا يَصح، وَكَذَا إِذا ترافعا أَي الزَّوْجَانِ المجوسيان (فَلَا نفرق بَينهمَا إِلَّا إِن ترافعا إِلَيْنَا) لانقيادهما لحكم الْإِسْلَام حِينَئِذٍ فيتناولهم الْخطاب. قَالَ تَعَالَى - {فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم} - (لَا) يفرق بَينهمَا إِن رفع (أَحدهمَا) صَاحبه إِلَيْنَا (خلافًا لَهما) أَي لأبي يُوسُف وَمُحَمّد (فِي) نِكَاح (الْمَحَارِم) فَإِنَّهُ(4/213)
لَا يَصح عِنْدهمَا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا أَيْضا (لِأَنَّهُ) أَي جَوَاز نِكَاحهنَّ (لم يكن حكما ثَابتا) قبل الْإِسْلَام لنسخه فِي زمن نوح عَلَيْهِ السَّلَام (ليبقى) على حَاله: أَي بعده (لقصر الدَّلِيل) عَنْهُم وَعدم تنَاول عُمُوم الْخطاب إيَّاهُم لتدينهم ذَلِك، وَقَوله لقصر الدَّلِيل مُتَعَلق بيبقى، وَقد يُجَاب بِأَن ترك التَّعَرُّض بِمُوجب الذِّمَّة يَقْتَضِي عدم تنَاول الْخطاب إيَّاهُم فِي جَمِيع مَا يحْتَمل التبدل سَوَاء كَانَ حكما ثَابتا من الله تَعَالَى فِي حَقهم، أَو من عِنْد أنفسهم مِمَّا أحدثوه فِي دينهم وَزَعَمُوا أَنه من الله تَعَالَى تحريفا، لِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْقسمَيْنِ فِي الْبطلَان بعد الْإِسْلَام: نعم يجب أَن لَا يكون من قبيل - {وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ} - كَمَا سَيَأْتِي (و) أَيْضا خلافًا لَهما (فِي مرافعة أَحدهمَا) أَي أحد الزَّوْجَيْنِ المحرمين مَعَ صَاحبه إِلَيْنَا، فَإِنَّهُمَا يفرقان بَينهمَا حِينَئِذٍ، قيل لزوَال الْمَانِع من التَّفْرِيق لانقياد أَحدهمَا لحكم الْإِسْلَام قِيَاسا على إِسْلَامه، وَمن ثمَّة لَا يتوارثون بِهَذِهِ الْأَنْكِحَة إِجْمَاعًا انْتهى قلت: بل لتناول عُمُوم خطاب التَّحْرِيم آبَاءَهُم فِيمَا لم يكن حكما ثَابتا على مَا سبق، فعلى هَذَا بَيَان هَذَا الْخلاف من التَّصْرِيح بِمَا علم ضمنا، وَالْقِيَاس على الْإِسْلَام مَعَ الْفَارِق فَتدبر (وَلَو دخل) الْمَجُوسِيّ (بهَا) أَي بمنكوحته الْمَذْكُورَة (ثمَّ أسلم) الْمَجُوسِيّ الْمَذْكُور (حد قاذفها) قيل وَالْوَجْه قَاذفه، وَالْأَحْسَن، ثمَّ أسلما حد قاذفهما انْتهى قلت صَحَّ قَوْله حد قاذفها على سَبِيل الْإِطْلَاق بِأَن يُرَاد قاذفهما جَمِيعًا، غَايَة الْأَمر أَن الْحَد لأَجله إِن أسلم فَقَط ولأجلهما إِن أسلما، وَيفهم ضمنا حكم قذف كل وَاحِد مِنْهُمَا انفرادا، فَإِن إِسْلَام الْمَقْذُوف هُوَ الْمُقْتَضى للحد، وَالْمَقْصُود أَن الدُّخُول بهَا حَال الْكفْر لَا يصلح درءا للحد فِي الْقَذْف حَال إِسْلَامه (بِخِلَاف الرِّبَا) أَي صِحَة نِكَاح الْمَحَارِم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا ثَابت، بِخِلَاف صِحَة الرِّبَا فِيهَا (لأَنهم) أَي أهل الذِّمَّة (فسقوا بِهِ) أَي بالربا (لتحريمه عَلَيْهِم. قَالَ تَعَالَى {وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ} . وروى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كتب فِي صلح أهل نَجْرَان أَن لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فَمن أكل مِنْهُم فذمتي مِنْهُ بريئة، وَيرد أَن هَذَا فِي حق من نهى عَن الرِّبَا من أهل الْكتاب فَقَط: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال لما نَص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صلح قوم من أهل الذِّمَّة يعْتَبر ذَلِك شرطا فِي سَائِر الصُّلْح، فيتناولهم حِينَئِذٍ عُمُوم خطاب تَحْرِيم الرِّبَا، وَالله تَعَالَى أعلم (وَأورد) على مَا ذكر من تَحْرِيم الرِّبَا عَلَيْهِم بِالنَّهْي عَنهُ من حد الْقَاذِف (أَن نِكَاح الْمَحَارِم كَذَلِك) مَنْهِيّ عَنهُ (لِأَنَّهُ) أَي نِكَاح الْمَحَارِم (نسخ بعد آدم) عَلَيْهِ السَّلَام (فِي زمن نوح) فَصَارَ مَنْهِيّا عَنهُ (فَيجب أَن لَا يَصح) نِكَاح الْمَحَارِم فِي قَوْله (كقولهما) أَي كَمَا لَا يَصح فِي قَوْلهمَا (فَلَا حد) على الْقَاذِف (وَلَا نَفَقَة) للمنكوحة الْمَذْكُورَة بِنَاء على عدم صِحَة النِّكَاح (إِلَّا أَن يُقَال) فِي بَيَان الْفرق بَين النِّكَاح والربا (بعد) تَسْلِيم (ثُبُوته) أَي(4/214)
النّسخ لجَوَاز نِكَاح الْمَحَارِم (المُرَاد من تدينهم) الَّذِي لَا يتَعَرَّض لَهُ وَفَاء لعهد الذِّمَّة (مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ) فِيمَا بَينهم واتخذوه دينا سَوَاء كَانَ مُوَافقا لما شرع الله تَعَالَى لَهُم أَو لَا، وَالنِّكَاح الْمَذْكُور من هَذَا الْقَبِيل، بِخِلَاف الرِّبَا وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا مَبْنِيّ على معرفَة ملتهم تَفْصِيلًا، وَحكم مَحل الِاتِّفَاق (بِخِلَاف انْفِرَاد الْقَلِيل) مِنْهُم (بِعَدَمِ حد الزِّنَا وَنَحْوه) مِمَّا لم يتفقوا عَلَيْهِ (وَلِأَن أقل مَا يُوجب الدَّلِيل) مَعْطُوف على مَا يدل عَلَيْهِ الْكَلَام السَّابِق، كَأَنَّهُ قَالَ: اعْترض على مَا ذكر لِأَن نِكَاح الْمَحَارِم الخ (كحرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم الشُّبْهَة، فيدرأ الْحَد) خبر أَن، يَعْنِي الشُّبْهَة فِي إِحْصَان الْمُسلم الَّذِي دخل بمحرمه فِي زمَان كفره لاحْتِمَال تنَاوله الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ على ذَلِك يصير زَانيا فَكيف يحد قَاذفه مَعَ هَذِه الشُّبْهَة؟ وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ (وَفرق) أَبُو حنيفَة (بَين الْمِيرَاث وَالنَّفقَة) بِاعْتِبَار التدين فِي حق النَّفَقَة دون الْمِيرَاث (فَلَو ترك بنتين إِحْدَاهمَا زَوجته، فَالْمَال بَينهمَا نِصْفَيْنِ: أَي بِاعْتِبَار الرَّد) مَعَ فرضيهما (لِأَنَّهُ) أَي الْمِيرَاث (صلَة) لرحم أَو مَا يقوم مقَامه (مُبتَدأَة) من غير أَن تكون عوضا لشَيْء (لَا جَزَاء) للاحتباس (لدفع الْهَلَاك) كَمَا فِي الزَّوْجَة فَإِنَّهَا محبوسة دَائِما لحق الزَّوْج عاجزة عَن الْكسْب لنَفسهَا، فَلَو لم ينْفق عَلَيْهَا لهلكت، فَقَوله لدفع الْهَلَاك تَعْلِيل للُزُوم الْجَزَاء (بِخِلَاف النَّفَقَة) فَإِنَّهَا لَيست بصلَة مُبتَدأَة، بل جَزَاء لدفع الْهَلَاك، والتدين سَبَب ضَعِيف يصلح لِأَن يعْتَبر فِي حق ضَرُورِيّ وَلَا يصلح لِأَن يثبت حق ابْتِدَاء من غير ضَرُورَة ملجئة إِلَى اعْتِبَاره (فَلَو وَجب إِرْث الزَّوْجَة) الْمَنْكُوحَة بِالنِّكَاحِ الْمَذْكُور (بديانتها) أَي بِسَبَب أَنَّهَا تعتقد صِحَة نِكَاحهَا بِمُقْتَضى دينهَا (كَانَت) الدّيانَة (ملزمة على) الْبِنْت (الْأُخْرَى) نقصا فِي حَقّهَا لأخذ الْبِنْت الزَّوْجَة سَهْما زَائِدا على مَا تستحقه من النّسَب (والديانة دافعة) لُزُوم الضَّرَر عَن صَاحبهَا (لَا متعدية) ملزمة للضَّرَر على غَيره، وَكم من شَيْء يصلح للدَّفْع لَا للإثبات كالاستصحاب وَغَيره (وَأورد) على الْفرق الْمَذْكُور (أَن) الْبِنْت (الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ) أَي بِجَوَاز نِكَاح أُخْتهَا لاتِّفَاقهمَا فِي العقيدة، فلزمها الِاعْتِرَاف بِزِيَادَة اسْتِحْقَاق أُخْتهَا فَلَا ضَرَر فِي وجوب الْإِرْث من حَيْثُ الزَّوْجِيَّة نظرا إِلَى دينهم.
وَأَنت خَبِير بِأَن عدم وجوب الْإِرْث إِذا كَانَ بِسَبَب أَن الدّيانَة دافعة فِي نفس الْأَمر لَا متعدية لَا يخْتَلف الحكم بديانة الْأُخْرَى صِحَة النِّكَاح للُزُوم كَون الدّيانَة متعدية فِي نفس الْأَمر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال أَن بطلَان كَون الدّيانَة متعدية على هَذَا الْوَجْه مَمْنُوع (فَذهب بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة، قيل هَذَا معزو إِلَى كثير من الْمَشَايِخ (إِلَى أَن قِيَاس قَوْله) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى (أَن ترثا) أَي الزَّوْجَة وَالْبِنْت، وَكَانَ الْأَظْهر أَن يَقُول أَن تَرث من الْجِهَتَيْنِ، لَكِن لما كَانَت(4/215)
بِمَنْزِلَة وارثين بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ نزلت منزلتهما، فَعبر عَنْهَا بضمير التَّثْنِيَة إشعارا بِأَنَّهُ لَو كَانَت الجهتان فِي ذاتين لَكَانَ يَأْخُذ كل وَاحِد مُقْتَضى جِهَته، فَكَذَا إِذا اجتمعتا فِي ذَات وَاحِدَة (وَأَن النَّفْي) لإرثها بِالزَّوْجِيَّةِ (قَوْلهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (لعدم الصِّحَّة) للنِّكَاح (عِنْدهمَا، وَقيل بل) لَا تَرث عِنْدهمَا (لِأَنَّهُ إِنَّمَا تثبت صِحَّته فِيمَا سلف) أَي فِي شَرِيعَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام (وَلم يثبت كَونه سَببا للإرث) فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة، فَلَا يثبت سَببا للإرث بديانتهم، إِذْ لَا عِبْرَة بهَا إِذْ لم تعتمد على شرع، كَذَا فِي الْمُحِيط. (وَالْقَاضِي) أَبُو زيد (الدبوسي) قَالَ لَا تَرث (لفساده) أَي النِّكَاح (فِي حق) الْبِنْت (الْأُخْرَى لِأَنَّهَا إِذا نازعتها) أَي الْبِنْت الزَّوْجَة (عِنْد القَاضِي) فِي اسْتِحْقَاقهَا الْإِرْث بِالزَّوْجِيَّةِ (دلّ) النزاع على (أَنَّهَا لم تعتقده) أَي جَوَاز النِّكَاح وَالْإِرْث مَبْنِيّ عَلَيْهِ، وَلم يُوجد فِي حَقّهَا (وَمُقْتَضَاهُ) أَي الْمَذْكُور للْقَاضِي الدبوسي (أَنَّهَا) أَي الْبِنْت الْأُخْرَى (لَو سكتت) عَن مُنَازعَة أُخْتهَا (ورثت) الْبِنْت الزَّوْجَة بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضا (وَلَا يعرف عَنهُ) أَي أبي حنيفَة (تَفْصِيل) فِي هَذَا. ثمَّ لما ظهر من كَلَام الْقَوْم اضْطِرَاب فِي دفع الْإِيرَاد الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ الْحق عِنْده فَقَالَ (وَالْحق فِي) لُزُوم (النَّفَقَة) الزَّوْجِيَّة على الْمَجُوسِيّ سَوَاء كَانَت محتاجة أَو لَا (أَن الزَّوْج) الْمَجُوسِيّ (أَخذ) وألزم بِالنَّفَقَةِ (بديانته) واعتقاده (الصِّحَّة) أَي صِحَة النِّكَاح، فالتزم بالإقدام على النِّكَاح الْإِنْفَاق عَلَيْهَا وديانته حجَّة عَلَيْهِ (فَلَا يسْقط حق غَيره) وَهُوَ نَفَقَة الزَّوْجِيَّة (لمنازعته) أَي الزَّوْج الزَّوْجَة فِي تَسْلِيم النَّفَقَة (بعده) أَي بعد تحقق النِّكَاح الْمُوجب الْتِزَام النَّفَقَة، وَإِنَّمَا يسْقط عَنهُ بِإِسْقَاط صَاحب الْحق وَلم يُوجد (بِخِلَاف من لَيْسَ فِي نِكَاحهمَا) كَذَا وَقع فِي عبارَة فَخر الْإِسْلَام وَصدر الشَّرِيعَة. وَالْمعْنَى مُنَازعَة الزَّوْج فِي حق السُّقُوط، بِخِلَاف مُنَازعَة من لَيْسَ لَهُ دخل فِي النِّكَاح الْوَاقِع بَينهمَا، وَلَيْسَ بملتزم مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَتسقط النَّفَقَة بعد موت الْمَجُوسِيّ، فقد تعيّنت النَّفَقَة إِذا نازعتها الْأُخْرَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي من لَيْسَ فِي نِكَاحهمَا. (الْبِنْت الْأُخْرَى) ، وَمُقْتَضَاهُ عدم الْإِرْث من حَيْثُ الزَّوْجِيَّة أَيْضا. وَفِي الْمُحِيط: كل نِكَاح حرم لحُرْمَة الْمحل لَا يجوز عِنْدهمَا، وَاخْتلفُوا على قَول أبي حنيفَة: فَعِنْدَ مَشَايِخ الْعرَاق لَا يَصح إِذا لم يعْتَمد شرعا كَنِكَاح الْمَحَارِم، لِأَنَّهُ لم يكن مَشْرُوعا فِي شَرِيعَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا لضَرُورَة النَّسْل عِنْد عدم الْأَجَانِب، وَعند مَشَايِخنَا يَصح لِأَنَّهُ كَانَ فِي شرع آدم، وَلم يثبت النّسخ حَال كَثْرَة الْأَجَانِب عِنْد الْمَجُوس (و) الثَّانِي من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل المبتدع كالمعتزلة مانعي ثُبُوت الصِّفَات) الثبوتية من الْحَيَاة، وَالْقُدْرَة، وَالْعلم، والإرادة، وَالْكَلَام وَغَيرهَا لله تَعَالَى. قَوْله مانعي ثُبُوت الصِّفَات صفة أَو عطف بَيَان للمعتزلة لشهرتهم بِهِ، وَغَيرهم من الْمُتَكَلِّمين الموافقين لَهُم فِي منع(4/216)
ثُبُوتهَا تبع لَهُم (زَائِدَة) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الثُّبُوت إِلَى الصِّفَات، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَنَّهَا عين الذَّات وَلَا يمْنَعُونَ أصل وجودهَا، بل كَونهَا موجودات زَائِدَة على الذَّات، فمرجع النَّفْي إِلَى الزِّيَادَة (و) ثُبُوت (عَذَاب الْقَبْر) وَمن متأخريهم من حكى ذَلِك عَن ضرار بن عَمْرو، وَقَالَ إِنَّمَا نسب إِلَى الْمُعْتَزلَة وهم بُرَآء عَنهُ لمخالطة ضرار إيَّاهُم، وَتَبعهُ قوم من السُّفَهَاء المعاندين للحق (و) ثُبُوت (الشَّفَاعَة) للرسل والأخيار فِي أهل الْكَبَائِر يَوْم الْقِيَامَة وَبعد دُخُول النَّار (و) ثُبُوت (خُرُوج مرتكب الْكَبِيرَة) من النَّار إِذا مَاتَ بِلَا تَوْبَة (و) ثُبُوت (الرُّؤْيَة) البصرية لله تَعَالَى للْمُؤْمِنين فِي الدَّار الْآخِرَة (و) مثل (الشُّبْهَة لمثبتيها) أَي الصِّفَات الْمَذْكُورَة لله تَعَالَى زَائِدَة على الذَّات لَكِن (على مَا) أَي على الْوَجْه الَّذِي (يُفْضِي إِلَى التَّشْبِيه) بالمخلوق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ - {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} -. وَقَوله لمثبتيها مُضَاف إِلَى الضَّمِير من قبيل الضار بك (لَا يصلح عذرا) خبر الْمُبْتَدَأ، يَعْنِي جهل المبتدع لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة فَإِن قلت: كَونه لَا يكفر يدل على أَنه يصلح شُبْهَة قلت: المُرَاد أَنه لَا يصلح شُبْهَة فِي حق التفسيق (لوضوح الْأَدِلَّة) الدَّالَّة على خلاف مَا زَعَمُوا (من الْكتاب وَالسّنة الصَّحِيحَة، لَكِن لَا يكفر) المبتدع بِهِ (إِذْ تمسكه) فِي ذَلِك الْجَهْل وَمَا ذهب إِلَيْهِ (بِالْقُرْآنِ أَو الحَدِيث أَو الْعقل) كَمَا ذكر فِي مَحَله (وللنهي عَن تَكْفِير أهل الْقبْلَة) . روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح أَن جَابر بن عبد الله سُئِلَ هَل تسمون الذُّنُوب كفرا أَو شركا أَو نفَاقًا. قَالَ معَاذ الله وَلَكنَّا نقُول مُؤمنين مذنبين، وروى أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث من أصل الْإِيمَان: الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا نكفره بذنب وَلَا نخرجهُ عَن الْإِسْلَام بِعَمَل فَإِنَّمَا هُوَ هُوَ (وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى صَلَاتنَا واستقبل قبلتنا وَأكل ذبيحتنا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان) رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ إِلَّا أَنهم قَالُوا بدل فَاشْهَدُوا إِلَى آخِره، فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله وَفِي هَذَا أَحَادِيث كَثِيرَة وَقد نَص عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْفِقْه الْأَكْبَر حَيْثُ قَالَ: وَلَا نكفر أحدا بذنب من الذُّنُوب وَإِن كَانَ كَبِيرَة مَا لم يستحلها (وَجمع بَينه) أَي هَذَا الحَدِيث (وَبَين) حَدِيث افْتَرَقت الْيَهُود على إِحْدَى وَسبعين، وافترقت النَّصَارَى على ثِنْتَيْنِ وَسبعين فرقة، و (ستفرق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين) فرقة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وللترمذي كلهم فِي النَّار إِلَّا مِلَّة وَاحِدَة قَالُوا: من هِيَ يَا رَسُول الله.؟ قَالَ مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي، وَلِلْحَدِيثِ طرق كَثِيرَة من رِوَايَة كثير من الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة (أَن الَّتِي فِي الْجنَّة المتبعون) لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأصحابه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (فِي العقائد والخصال) الْخصْلَة الْخلَّة والفضيلة، وَالْمرَاد هَهُنَا الْأَخْلَاق الحميدة كالجود(4/217)
والحلم وَالرَّحْمَة والتواضع إِلَى غير ذَلِك (وَغَيرهم) أَي غير المتبعين (يُعَذبُونَ) فِي النَّار بِمَا شَاءَ الله (وَالْعَاقبَة الْجنَّة وعدوهم) أَي عَدو أهل السّنة وَالْجَمَاعَة غير المتبعين فِيمَا ذكر (من أهل الْكَبَائِر) لكَون بدعتهم فِي العقيدة كَبِيرَة لمخالفتهم ظواهر النُّصُوص وجوابهم عَلَيْهَا بتأويلها اعْتِمَادًا على مَا تستحسنه عُقُولهمْ الزائغة وتعمقهم فِي أُمُور منع الشَّارِع عَن الْخَوْض فِيهَا على خلاف مَا نَص عَلَيْهِ الصَّحَابَة وتابعوهم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (وللإجماع على قبُول شَهَادَتهم على غَيرهم) وَمَا قيل من أَن مَالِكًا لَا يقبلهَا، وَتَابعه أَبُو حَامِد من الشَّافِعِيَّة، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد إِجْمَاع من قبله لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ يسْتَلْزم مُخَالفَته الْإِجْمَاع وَهُوَ بَاطِل بل يحمل على الْإِجْمَاع الظني وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الْمُخَالف نَادرا كإجماع من عدا ابْن عَبَّاس على الْعَوْل، وَمن عدا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ على أَن النّوم نَاقض وَمن عدا أَبَا طَلْحَة على أَن الْبرد مفطر. وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين: الظَّاهِر أَنه حجَّة لِأَنَّهُ يدل ظَاهرا على وجود رَاجِح أَو قَاطع (وَلَا شَهَادَة لكَافِر على مُسلم) لقَوْله تَعَالَى - {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} - (وَعَدَمه) أَي عدم قبُول الشَّهَادَة (فِي الخطابية) من الرافضة (لَيْسَ لَهُ) أَي لكفرهم بل لتدينهم الْكَذِب فِيهَا لمن كَانَ على رَأْيهمْ أَو حلف أَنه محق (وَإِذ كَانُوا) أَي المبتدعة (كَذَلِك) أَي غير كفار (وَجب علينا مناظرتهم) لإِزَالَة الشُّبْهَة الَّتِي أوقعتهم فِي تِلْكَ الْبِدْعَة وإظهارا للصَّوَاب. (وَأورد) على نفي تكفيرهم بطرِيق الْمُعَارضَة: يَعْنِي إِن كَانَ لكم دَلِيل يدل على عدم تكفيرهم فعندنا دَلِيل يدل على كفرهم، وَهُوَ قَوْلنَا (اسْتِبَاحَة الْمعْصِيَة كفر) فنائب الْفَاعِل فِي أورد هَذِه الْجُمْلَة بِتَأْوِيل هَذَا القَوْل. (وَأجِيب) عَن الْإِيرَاد بِأَن اسْتِبَاحَة الْمعْصِيَة كفر (إِذا كَانَ ذَلِك عَن مُكَابَرَة وَعدم دَلِيل، بِخِلَاف مَا) إِذا كَانَ (عَن دَلِيل شَرْعِي) أَي مَأْخُوذ من الشَّرْع احْتِرَازًا عَمَّا إِذا لم يكن شَرْعِيًّا كالأدلة الشَّرْعِيَّة الْحكمِيَّة فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَهُم دَلِيل شَرْعِي يدل بزعمهم على أَن مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ حق يجب اتِّبَاعه لَا يُقَال حِينَئِذٍ أَنهم استباحوا مَعْصِيّة فَإِن قلت فَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَن يفسقوا بذلك أَيْضا لأَنهم اجتهدوا فآل اجتهادهم إِلَى ذَلِك قلت شبهتهم تصلح لدرء الْكفْر، لَا لدرء الْفسق، لِأَن الشَّارِع أمرنَا بِعَدَمِ تَكْفِير أهل الْقبْلَة، لَا بِعَدَمِ تفسيقهم إِذا كَانَ مَا يدل على خلافهم من الْكتاب وَالسّنة وَاضح الدّلَالَة (والمبتدع مُخطئ فِي تمسكه) بِمَا كَانَ يزْعم أَنه دَلِيل لَهُ من الْكتاب وَالسّنة لعدم إِصَابَته حكم الله تَعَالَى فِي اجْتِهَاده، فَإِن حكم الله فِيمَا يتَعَلَّق بالاعتقاد وَاحِد بِاتِّفَاق المخطئة والمصوبة (لَا مكابر) ومعاند، لِأَن المكابرة إِنَّمَا تكون عِنْد الْعلم بِخِلَاف مَا يَدعِيهِ (وَالله تَعَالَى أعلم بسرائر عباده) فيجازيهم بموجبها. قَالَ المُصَنّف فِي المسايرة: لَا خلاف فِي تَكْفِير الْمُخَالف فِي ضروريات الْإِسْلَام من حُدُوث الْعَالم وَحشر الأجساد وَنفي الْعلم بالجزئيات وَإِن كَانَ من أهل الْقبْلَة المواظب(4/218)
طول الْعُمر على الطَّاعَات انْتهى. وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام رَجَعَ الْأَشْعَرِيّ عِنْد مَوته عَن تَكْفِير أهل الْقبْلَة، لِأَن الْجَهْل بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جهلا بالموصوفات انْتهى. وَذهب الإِمَام الرَّازِيّ وَالشَّيْخ الْمَذْكُور أَن من يلْزمه الْكفْر وَلم يقل بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِر، فعلى هَذَا لَا تكفر المجسمة، وَإِن لزم عَلَيْهِم إِثْبَات النَّقْص، تَعَالَى شَأْنه عَمَّا يَقُولُونَ لأَنهم لم يَقُولُوا بِهِ، لَكِن المُصَنّف ذكر فِي المسايرة أَن الْأَظْهر كفرهم، فَإِن إِطْلَاق الْجِسْم مُخْتَارًا مَعَ الْعلم بِمَا فِيهِ من النَّقْص استخفاف (و) الثَّالِث من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل الْبَاغِي وَهُوَ) الْمُسلم (الْخَارِج على الإِمَام الْحق) مثل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن سلك طريقهم، يظنّ أَنه على الْحق وَالْإِمَام على الْبَاطِل (بِتَأْوِيل فَاسد) فَإِن لم يكن لَهُ تَأْوِيل فَهُوَ فِي حكم اللُّصُوص، وَهُوَ لَا يصلح عذرا لمُخَالفَته التَّأْوِيل الْوَاضِح، وَهَذَا الْجَهْل (دون جهل المبتدعة) لِأَنَّهُ لَا يخل بِأَصْل العقيدة، الظّرْف خبر الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف، وَقَوله (لم يكفره) أَي الْبَاغِي مُسْتَأْنف لبَيَان مَضْمُون الْخَبَر (أحد) من أهل الْعلم، فالجهل الَّذِي لَا يُوجب الْكفْر إِجْمَاعًا دون الْجَهْل الَّذِي اخْتلف فِي إِيجَابه إِيَّاه (إِلَّا أَن يضم) الْبَاغِي إِلَيْهِ (أمرا آخر) كإنكار شَيْء من ضروريات الدّين فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكفر بِسَبَب ذَلِك الْأَمر، لَا للبغي، وَالِاسْتِثْنَاء من عُمُوم الْأَوْقَات بِتَقْدِير الْوَقْت بعد إِلَّا (وَقَالَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) فِي أهل الْبَغي (إِخْوَاننَا (بغوا علينا) وَلَا يُقَال للْكَافِرِ إِخْوَاننَا، فَإِن المُرَاد مِنْهُ أخوة الْإِسْلَام، وَقَالَ تَعَالَى - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم} - فِي بَيَان حكم أهل الْبَغي (فنناظره) أَي الْبَاغِي (لكشف شبهته) ليرْجع إِلَى طَاعَة الإِمَام بِغَيْر قتال (بعث عَليّ) بن أبي طَالب (ابْن عَبَّاس) رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (لذَلِك) أَي لمناظرة أهل الْبَغي من الْخَوَارِج كَمَا أخرجه النَّسَائِيّ وَغَيره (فَإِن رَجَعَ) إِلَى طَاعَة الإِمَام (بِالَّتِي) أَي بالخصلة الَّتِي (هِيَ أحسن) وَهِي إِزَالَة الشُّبْهَة وَإِظْهَار الْحق من غير قتال فبها (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرجع إِلَى طَاعَته (وَجب جهاده) لقَوْله تَعَالَى - {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى (فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي} حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} - أَي ترجع إِلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن النَّهْي عَن الْمُنكر فرض، وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ حِينَئِذٍ، ظَاهر سِيَاق الْآيَة يدل على أَن هَذِه الدعْوَة لَهُم قبل الْقِتَال وَاجِبَة، وَإِنَّمَا الْقِتَال يجب بعْدهَا، وَفِي الْمَبْسُوط أَن الْقِتَال وَاجِب قبلهَا، وَإِنَّمَا تَقْدِيمهَا أحسن، وَقيل مُسْتَحبّ (وَمَا لم يصر لَهُ) أَي وَمَا دَامَ لم يصر للباغي (مَنْعَة) بِالتَّحْرِيكِ، وَقد يسكن: أَي قُوَّة يمْنَع بهَا من قَصده (فيجرى عَلَيْهِ) أَي على الْبَاغِي (الحكم الْمَعْرُوف) فِي الْقصاص وغرامات الْأَمْوَال وَغَيرهَا من الْمُسلمين لبَقَاء ولَايَة الْإِلْزَام فِي حَقه كَمَا فِي حَقهم (فَيقْتل) الْبَاغِي (بِالْقَتْلِ) الْعمد الْعدوان (وَيحرم) الْبَاغِي (بِهِ) أَي بِالْقَتْلِ لمورثه الْإِرْث مِنْهُ (وَمَعَهَا) أَي المنعة (لَا) يجْرِي عَلَيْهِ الحكم الْمَعْرُوف (لقُصُور الدَّلِيل(4/219)
عَنهُ) أَي الْبَاغِي (لسُقُوط الْتِزَامه) الَّذِي كَانَ لَهُ قبل الْبَغي بِسَبَب تَأْوِيله الَّذِي اسْتندَ إِلَيْهِ لدفع الْخَطَأ عَنهُ (وَالْعجز عَن إِلْزَامه) بِسَبَب المنعة (فَوَجَبَ الْعَمَل بتأويله) الْفَاسِد، تَحْقِيق الْمقَام على مَا ذكر المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة أَنه أجمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن لَا يقيموا على أحد حدا فِي فرج اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآن، وَلَا قصاصا فِي دم اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآن، وَلَا برد مَال اسْتَحَلُّوهُ بِتَأْوِيل الْقُرْآن إِلَّا أَن وجد شَيْء بِعَيْنِه فَيرد على صَاحبه، وَأَيْضًا الْفَاسِد من الِاجْتِهَاد يلْحق بِالصَّحِيحِ عِنْد انضمام المنعة إِلَيْهِ لانْقِطَاع ولَايَة الْإِلْزَام وَلَا يخفى أَن إِلْحَاق الِاجْتِهَاد الْفَاسِد من الِاجْتِهَاد الَّذِي ضلل مرتكبه بعلة انْقِطَاع ولَايَة الْإِلْزَام إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ بِسَبَب الْإِجْمَاع، وَإِلَّا فَلَا يلْزم من الْعَجز عَن الْإِلْزَام سُقُوطه، بل إِنَّمَا يلْزم سُقُوط الْخطاب بالإلزام مَا دَامَ الْعَجز عَن إِلْزَامه ثَابتا فَإِذا ثبتَتْ الْقُدْرَة تعلق خطاب الْإِلْزَام كَمَا يَقُوله الشَّافِعِي (وَلَا نضمن مَا أتلفنا من نفس وَمَال) . قيل هَذَا ظَاهر لَا خلاف فِيهِ، وَقد كَانَ الأولى لَا يضمن الْبَاغِي مَا أتلف من نفس وَمَال فِي هَذِه الْحَالة بعد أَخذه أَو تَوْبَته كَمَا فِي الْحَرْبِيّ بعد الْإِسْلَام تَفْرِيعا على وجوب الْعَمَل بتأويله انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه صرح بقوله لَا لقُصُور الدَّلِيل عَنهُ إِلَى آخِره أَن الْبَاغِي إِذا كَانَ مَعَ المنعة لَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب، وَلَا شكّ أَن من لَا يتَنَاوَلهُ الْخطاب لَا يضمن، فالمحتاج إِلَى الذّكر حكم من لم يقصر عَنهُ الدَّلِيل وَقد أتلف نفس الْبَاغِي وَمَاله وَهُوَ مُسلم فَقَالَ: لَا نضمن، فَذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونا مَأْمُورا من قبل الشَّارِع بِالْقِتَالِ وَمن ضَرُورَته إتلافهما فقد عرفت أَنه لَا يتَفَرَّع عدم الضَّمَان على وجوب الْعَمَل بتأويله بل على قَوْله وَجب جهاده. قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة: الْحَاصِل أَن نفي الضَّمَان مَنُوط بالمنعة مَعَ التَّأْوِيل فَلَو تجرد المنعة عَن التَّأْوِيل كقوم غلبوا على أهل بَلْدَة فَقتلُوا واستهلكوا الْأَمْوَال بِلَا تَأْوِيل، ثمَّ ظهر عَلَيْهِم أخذُوا بِجَمِيعِ ذَلِك، وَلَو انْفَرد التَّأْوِيل عَن المنعة بِأَن انْفَرد وَاحِد أَو اثْنَان فَقتلُوا وَأخذُوا عَن تَأْوِيل ضمنُوا إِذا تَابُوا أَو قدر عَلَيْهِم (ويذفف على جرحاهم) فِي الْمغرب. ذفف على الجريح بِالذَّالِ وَالدَّال، أسْرع قَتله، وَفِي كَلَام مُحَمَّد عبارَة عَن إتْمَام الْقَتْل، وَظَاهر هَذِه الْعبارَة وجوب التدفيف كَمَا صرح بِهِ فَخر الْإِسْلَام، وَذَلِكَ لقطع مَادَّة الْفساد الْمَذْكُور. فِي الْمَبْسُوط أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد لَا يجوز لما روى عَن عَليّ أَنه قَالَ: يَوْم الْجمل لَا تتبعوا مُدبرا وَلَا تجهزوا جريحا، وَقَالُوا أَن التدفيف مَشْرُوط بِمَا إِذا كَانَت لَهُم فِئَة، وَيفهم اعْتِبَار هَذَا الْقَيْد من اشْتِرَاط المنعة فِي نفي الضَّمَان (وَيَرِث) الْعَادِل (مُوَرِثه) الْبَاغِي (إِذا قَتله) أَي قتل الْعَادِل الْبَاغِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مَأْمُور بقتْله فَلَا يحرم الْمِيرَاث بِهِ (وَكَذَا عَكسه) أَي يَرث الْبَاغِي مُوَرِثه الْعَادِل إِذا قَتله وَقَالَ كنت على الْحق وَأَنا الْآن عَلَيْهِ لما عرفت من أَنه بِسَبَب التَّأْوِيل والمنعة لَا يتَنَاوَل الْخطاب وَهُوَ مُسلم فَلَا مَانع من الْإِرْث (لأبي حنيفَة وَمُحَمّد) مُتَعَلق بقوله وَكَذَا(4/220)
وَكَذَا عَكسه: أَي عكس مَذْهَب لَهما، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ لَا يَرِثهُ فِي الْوَجْهَيْنِ: أَي سَوَاء قَالَ كنت على الْحق أَو قَالَ: كنت على الْبَاطِل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يتَنَاوَلهُ خطاب تَحْرِيم قتل الْمُسلم وحرمان الْقَاتِل من الْإِرْث عِنْدهمَا (وَلَا يملك مَاله) أَي مَال الْبَاغِي (بوحدة الدَّار) أَي بِسَبَب وحدة الدَّار لِأَنَّهُمَا فِي دَار الْإِسْلَام، فَإِن تملك المَال بطرِيق الِاسْتِيلَاء يتَوَقَّف على اخْتِلَاف الدَّاريْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ (على هَذَا اتّفق عَليّ وَالصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم) أخرج ابْن أبي شيبَة أَن عليا لما هزم طَلْحَة وَأَصْحَابه أَمر مناديه فَنَادَى أَن لَا يقتل مقبل وَلَا مُدبر وَلَا يفتح بَاب وَلَا يسْتَحل فرج وَلَا مَال، وَلم ينْقل عَن غَيره من الصَّحَابَة مُخَالفَته فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُم (و) الرَّابِع من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل من عَارض مجتهده) على الْبناء للْمَفْعُول، فِيهِ حذف وإيصال كالمشترك أَصله مُشْتَرك فِيهِ (الْكتاب كحل مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا) مِثَال لمجتهده الْعَارِض للْكتاب وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى كجهل مُجْتَهد قَالَ بحله (و) جَوَاز (الْقَضَاء بِشَاهِد) وَاحِد (وَيَمِين) من الْمُدَّعِي معارضين (مَعَ) قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} أَو رد عَلَيْهِ أَن مَا فِي الْآيَة كِنَايَة عَمَّا لم يذبحه موحد، وَفِي الْكِنَايَة أَنه لَا يلْزم تحقق الْمَعْنى الْأَصْلِيّ، وَلَو سلم إِرَادَة الْحَقِيقَة، لم لَا يجوز أَن يكون الذّكر القلبي كَافِيا؟ وَالْجَوَاب أَن صرف الْعبارَة عَن الْحَقِيقَة بِغَيْر صَارف لَا يجوز فَإِن قلت الصَّارِف مَا احْتج بِهِ الشَّافِعِي من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " الْمُسلم يذبح على اسْم الله تَعَالَى سمى أَو لم يسم " قُلْنَا هَذَا ورد فِي النسْيَان، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَمَّن نسي التَّسْمِيَة على الذَّبِيحَة فَقَالَ: اسْم الله على لِسَان كل مُسلم، وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَبِيحَة الْمُسلم حَلَال سمى أَو لم يسم مَا لم يتَعَمَّد تَركه. وَحجَّتنَا الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، أما الْكتاب فَهَذِهِ الْآيَة، وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعدي بن حَاتِم: إِذا أرْسلت كلبك الْمعلم وَذكرت اسْم الله تَعَالَى فَكل فَإِن شَاركهُ كلب آخر فَلَا تَأْكُل فَإنَّك إِنَّمَا سميت على كلبك فعلل الْحُرْمَة بترك التَّسْمِيَة، وَأما الْإِجْمَاع فَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة فِي حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم فِي متروكها نَاسِيا، فمذهب ابْن عمر أَنه يحرم، وَمذهب عَليّ وَابْن عَبَّاس أَنه يحل، وَقَالَ أَبُو يُوسُف مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد حَتَّى لَو قضى قَاض بِجَوَاز بَيْعه لَا ينفذ لكَونه مُخَالفا للْإِجْمَاع، كَذَا فِي شرح الْقَدُورِيّ للْإِمَام الحدادي، وَصُورَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا أَن يعلم أَن التَّسْمِيَة شَرط وَيَتْرُكهَا مَعَ ذكرهَا، أما لَو تَركهَا من لَا يعلم اشْتِرَاطهَا فَهُوَ فِي حكم النَّاسِي: كَذَا فِي الْحَقَائِق، وَأما الْجَواب عَن الذّكر القلبي فَمَا قَالُوا من أَنه يُقَال ذكر عَلَيْهِ وسمى عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَلَا يُقَال بِقَلْبِه (فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ) مَعْطُوف على مَدْخُول مَعَ والعاطف مَحْذُوف كَقَوْلِه تَعَالَى - (وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت(4/221)
أَي وَقلت وَيجوز أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف مُضَافا إِلَيْهِ مَعَ على سَبِيل اللف والنشر الْمُرَتّب، قَالُوا إِن الله تَعَالَى بَين الْمُعْتَاد بَين النَّاس، وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ، ثمَّ انْتقل إِلَى غَيره، فَإِن حضورهن مجَالِس الحكم غير مُعْتَاد مُبَالغَة فِي الْبَيَان، فَلَو كَانَ يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ شَاهد كَافِيا لانتقل إِلَيْهِ لكَونه أيسر وجودا فَدلَّ النَّص التزاما على عدم حجية يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ شَاهد (وَالسّنة الْمَشْهُورَة) مَعْطُوف على الْكتاب: أَي وَجعل من يُعَارض مجتهده للسّنة الْمَشْهُورَة (كالقضاء الْمَذْكُور مَعَ) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
" الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي (وَالْيَمِين على من أنكر) لفظ الصَّحِيحَيْنِ وَالْبَيْهَقِيّ: وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، جعل جنس الْأَيْمَان على الْمُنكر، وَلَيْسَ وَرَاء الْجِنْس شَيْء، وَمَا عَن ابْن عَبَّاس من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين، فقد روى عَن البُخَارِيّ وَغَيره انْقِطَاعه، وَمِنْهُم من ذكره فِي الضُّعَفَاء، وَله طرق لَا تَخْلُو كلهَا من نظر، وَعَن الزُّهْرِيّ بِأَنَّهُ بِدعَة، وَأول من قضى بِهِ مُعَاوِيَة. وَأورد أَنه لم يبْق لتضعيف الحَدِيث مجَال بعد مَا أخرجه مُسلم وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ بمعصوم عَن الْخَطَأ فِي الْمُحدثين، فَمن الْمُحدثين من قَالَ فِي كِتَابه أَرْبَعَة عشر حَدِيثا مَقْطُوعًا، وَمِنْهُم من أَخذ عَلَيْهِ فِي سبعين موضعا رَوَاهُ مُتَّصِلا وَهُوَ مُنْقَطع، على أَن مَا رَوَاهُ حِكَايَة وَاقعَة لَا عُمُوم لَهَا، وَيجوز أَن تكون فِي مَحل الِاتِّفَاق: كَشَهَادَة الطّيب أَو امْرَأَة فِي عيب لَا يطلع عَلَيْهِ غير ذَلِك الشَّاهِد واستحلاف المُشْتَرِي على أَنه لم يرض بِالْعَيْبِ، ثمَّ أَن الْقَضَاء بِيَمِين الْمُدَّعِي وَشَاهد وَاحِد لَا يَصح فِي غير الْأَمْوَال عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء (والتحليل) أَي وكالقول بِحل الْمُطلقَة ثَلَاثًا لزَوجهَا الأول إِذا تزَوجهَا الثَّانِي ثمَّ طَلقهَا (بِلَا وَطْء) كَمَا هُوَ قَول سعيد بن الْمسيب (مَعَ حَدِيث الْعسيلَة) وَهُوَ مَا روى الْجَمَاعَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن رجل طلق امْرَأَته ثَلَاثًا فَتزوّجت زوجا غَيره فَدخل بهَا ثمَّ طَلقهَا قبل أَن يواقعها أتحل لزَوجهَا الأول؟ قَالَ لَا حَتَّى يَذُوق الآخر من عسيلتها مَا ذاق الأول. قَالَ الصَّدْر الشَّهِيد: وَمن أفتى بِهَذَا القَوْل فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. وَفِي الْمَبْسُوط: لَو أفتى فَقِيه بذلك يعزز (وَالْإِجْمَاع) أَي وَجَهل من عَارض مجتهده الْإِجْمَاع (كَبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد) أَي جَوَازه كَمَا ذهب إِلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيّ (مَعَ إِجْمَاع الْمُتَأَخر من الصَّحَابَة) قيل وَالْوَجْه من التَّابِعين لما تقدم من اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي جَوَازه وَإِجْمَاع التَّابِعين على مَنعه.
أَقُول فِي هَذَا الْكَلَام بعد مَا ذكر فِي بحث الْإِجْمَاع اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَإِجْمَاع التَّابِعين إِشَارَة إِلَى مَا عرف من أَن الصَّحَابَة كلهم على عدم جَوَاز بيعهنَّ إِلَّا عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَبعد موت عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حصل الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة. وَقد علم إِجْمَاع التَّابِعين مِمَّا سبق، فعلى قَول من لم يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع إِلَّا إِجْمَاع الصَّحَابَة أَيْضا يتم الِاسْتِدْلَال (فَلَا ينفذ الْقَضَاء(4/222)
بِشَيْء مِنْهَا) أَي المجتهدات الْمَذْكُورَة الْمُخَالفَة للْكتاب أَو السّنة الْمَشْهُورَة أَو الْإِجْمَاع لكَونهَا فِي مُقَابلَة الْقطعِي وَلَا يخفى عَلَيْك أَن للبحث فِي كل مِنْهَا مجالا لعدم قَطْعِيَّة دلَالَة الْكتاب على الْخلاف وَكَون الْمَشْهُور آحادا فِي الأَصْل، وَكَون الْإِجْمَاع الْمَسْبُوق بِالْخِلَافِ مُخْتَلفا فِيهِ بَين الْعلمَاء، غير أَنه لما كَانَ أمرا مقررا فِي الْمَذْهَب لم يتَعَرَّض المُصَنّف لَهُ، وَعدم نَفاذ الْقَضَاء بهَا قَول الْجُمْهُور من الْحَنَفِيَّة، وتفصيلة فِي الْكتب المفصلة من الْفُرُوع (وكترك الْعَوْل) كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس (وَربا الْفضل) أَي القَوْل بحله كَمَا صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس، وَقد روى رُجُوعه عَنهُ. أخرج الطَّحَاوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قلت: لِابْنِ عَبَّاس: أَرَأَيْت الَّذِي يَبِيع الدينارين بالدينار وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ أشهد لسمعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الدِّينَار بالدينار وَالدِّرْهَم بالدرهم لَا فضل بَينهمَا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَنْت سَمِعت هَذَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت نعم، فَقَالَ إِنِّي لم أسمع هَذَا إِنَّمَا أخبرنيه أُسَامَة بن زيد، وَقَالَ أَبُو سعيد وَنزع عَنْهَا ابْن عَبَّاس (الثَّانِي) من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة (جهل يصلح شُبْهَة) دارئة للحد وَالْكَفَّارَة، وعذرا فِي غَيرهمَا (كالجهل فِي مَوضِع اجْتِهَاد صَحِيح بِأَن لم يُخَالف) الْمُجْتَهد (مَا ذكر) من الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع (كمن صلى الظّهْر بِلَا وضوء ثمَّ صلى الْعَصْر بِهِ) أَي بِوضُوء (ثمَّ ذكر) أَنه صلى الظّهْر بِلَا وضوء (فَقضى الظّهْر فَقَط ثمَّ صلى الْمغرب يظنّ جَوَاز الْعَصْر) لجهله بِوُجُوب التَّرْتِيب (جَازَ) أَدَاؤُهُ صَلَاة الْمغرب (لِأَنَّهُ) أَي ظَنّه جَوَاز الْعَصْر (فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد) الصَّحِيح (فِي تَرْتِيب الْفَوَائِت) فَإِنَّهُ وَقع بَين الْعلمَاء خلاف فِي وجوب التَّرْتِيب، وَلَيْسَ فِي الْمحل دَلِيل قَطْعِيّ، وَكَانَ هَذَا الْجَهْل عذرا فِي جَوَاز الْمغرب لَا الْعَصْر، وَالْفرق أَن فَسَاد الظّهْر بترك الْوضُوء قوي، وَفَسَاد الْعَصْر بترك التَّرْتِيب ضَعِيف لِأَنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ، فيؤثر الأول فِيمَا بعده دون الثَّانِي، وَكَانَ الْحسن بن زِيَاد يَقُول إِنَّمَا يجب مُرَاعَاة التَّرْتِيب على من يعلم، لَا على من لَا يعلم، وَكَانَ زفر يَقُول إِذا كَانَ عِنْده أَن ذَلِك يجْزِيه فَهُوَ فِي معنى النَّاسِي للفائتة، وَفِيه مَا فِيهِ (وكقتل أحد الوليين) قَاتل موليه عمدا عُدْوانًا (بعد عَفْو) الْوَلِيّ (الآخر) جَاهِلا بِسُقُوط الْقود بعفوه (لَا يقْتَصّ مِنْهُ) أَي من الْقَاتِل لِأَن هَذَا جهل فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد (لقَوْل بعض الْعلمَاء) من أهل الْمَدِينَة على مَا فِي التذهيب (بِعَدَمِ سُقُوطه) أَي الْقصاص (بِعَفْو أحدهم) أَي الْأَوْلِيَاء، حَتَّى لَو عَفا أحدهم كَانَ للباقين الْقَتْل (فَصَارَ) الْقَتْل الْمَذْكُور (شُبْهَة يدْرَأ) بِهِ (الْقصاص) وَهُوَ قد يسْقط بِالظَّنِّ كَمَا لَو رمى إِلَى شخص ظَنّه كَافِرًا فَإِذا هُوَ مُؤمن، وَإِذا قسط الْقصاص بِالشُّبْهَةِ لزمَه الدِّيَة فِي مَاله لِأَن فعله عمد وَيجب لَهُ مِنْهَا نصف الدِّيَة، إِذْ بِعَفْو شَرِيكه وَجب لَهُ نصف الدِّيَة على الْمَقْتُول فَيصير نصف الدِّيَة قصاصا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِي، وَلَو علم سُقُوطه بِالْعَفو ثمَّ قَتله عمدا يجب الْقود عَلَيْهِ. وَقَالَ زفر عَلَيْهِ(4/223)
الْقصاص علم بِهِ أَولا: كَمَا لَو قتل رجلا يظنّ أَنه قتل وليه ثمَّ جَاءَ وليه حَيا (و) مثل (المحتجم) فِي نَهَار رَمَضَان (إِذا ظَنّهَا) أَي الْحجامَة (فطرته) فَأفْطر بعْدهَا (لَا كَفَّارَة) عَلَيْهِ: وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاء (لِأَن) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أفطر الحاجم والمحجوم) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم (أورث شُبْهَة فِيهِ) أَي فِي وجوب الْكَفَّارَة بِالْفطرِ بعد الْحجامَة (وَهَذِه الْكَفَّارَة يغلب فِيهَا معنى الْعقُوبَة) على الْعِبَادَة عندنَا (فتنتفى بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا يدل على أَن الْعَاميّ إِذا اعْتمد على الحَدِيث غير عَالم بتأويله ونسخه فَفعل مَا يُوجب الْكَفَّارَة كَانَ ذَلِك مورثا للشُّبْهَة فِي حَقه. كَمَا أَن قَول الْمُعْتَمد فِي الْفَتْوَى فِي الْبَلَد يُورثهَا بِحَيْثُ لَو أفطر الْعَاميّ بقوله لَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة، بل الحَدِيث أولى بذلك، وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهِ الْكَفَّارَة إِذْ لَيْسَ للعامي الْأَخْذ بِظَاهِر الحَدِيث لجَوَاز كَونه مصروفا عَن ظَاهره أَو مَنْسُوخا، بل عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى الْفُقَهَاء، وَإِذا لم يسْتَند ظَنّه إِلَى دَلِيل شَرْعِي وَأفْطر يجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ جهل مُجَرّد، وَهُوَ لَيْسَ بِعُذْر فِي دَار الْإِسْلَام (وَمن زنى بِجَارِيَة وَالِده) أَو والدته (أَو زَوجته) حَال كَونه (يظنّ حلهَا لَا يحد) عِنْد الثَّلَاثَة، وَقَالَ زفر يحد وَلَا عِبْرَة بظنه الْفَاسِد: كَمَا لَو وطئ جَارِيَة أَخِيه وَعَمه يظنّ الْحل (للاشتباه) لِأَن بَين الْإِنْسَان وَأَبِيهِ وَأمه وَزَوجته انبساطا فِي الِانْتِفَاع بِالْمَالِ، بِخِلَاف الْأَخ وَالْعم (وَلَا يثبت نسب) بِهَذَا الْوَطْء وَإِن ادَّعَاهُ الْوَاطِئ (وَلَا عدَّة) أَيْضا على الْمَوْطُوءَة بِهَذَا الْوَطْء (لما) عرف (فِي مَوْضِعه) إِذْ لَا حق لَهُ فِي الْمحل، وللعاهر الْحجر، وَلَا عدَّة عَن الزِّنَا، وَتسَمى هَذِه شُبْهَة فِي الْفِعْل يسْقط بهَا الْحَد على من اشْتبهَ عَلَيْهِ، لَا على من لَا يشْتَبه عَلَيْهِ، بِخِلَاف الشُّبْهَة فِي الْمحل كَوَطْء الْأَب جَارِيَة ابْنه، فَإِنَّهُ لَا يحد، وَإِن قَالَ علمت أَنَّهَا حرَام، لِأَن الْمُؤثر فِيهِ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت وَمَالك لأَبِيك، وَيثبت النّسَب إِذا ادَّعَاهُ، وَتصير أم ولد لَهُ. وَعند أبي حنيفَة شُبْهَة أُخْرَى دارئة للحد، وَهِي شُبْهَة العقد سَوَاء علم الْحُرْمَة أم لَا كَوَطْء الَّتِي تزَوجهَا بِغَيْر شُهُود (وَكَذَا حَرْبِيّ دخل دَارنَا فَأسلم فَشرب الْخمر جَاهِلا بِالْحُرْمَةِ لَا يحد) لِأَنَّهُ فِي مَوضِع الشُّبْهَة لحلها فِي وَقت: كَذَا ذكره الشَّارِح، وَالْوَجْه لحلها فِي بعض الْأَدْيَان لما سَيَأْتِي (بِخِلَاف مَا إِذا زنى) بعد دُخُوله دَارنَا وإسلامه (لِأَن جَهله بِحرْمَة الزِّنَا لَا يكون شُبْهَة لِأَن الزِّنَا حرَام فِي جَمِيع الْأَدْيَان فَلَا يكون جَهله عذرا، بِخِلَاف الْخمر) لعدم حُرْمَة شربهَا فِي سَائِر الْأَدْيَان (فَمَا فِي الْمُحِيط وَغَيره: شَرط الْحَد أَن لَا يظنّ الزِّنَا حَلَالا مُشكل) فَإِنَّهُ يدل على أَن جَهله بحرمته وظنه الْحل عذر يسْقط بِهِ الْحَد عَنهُ، وَقد قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَنقل فِي اشْتِرَاط الْعلم بِحرْمَة الزِّنَا إِجْمَاع الْفُقَهَاء (بِخِلَاف الذِّمِّيّ أسلم فَشرب الْخمر) وَقَالَ لم أعلم بحرمتها، وَقَوله: أسلم صفة للذِّمِّيّ لكَونه فِي معنى النكرَة كَقَوْلِه: وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني (يحد لظُهُور(4/224)
الحكم) أَي حُرْمَة الْخمر لشيوعها (فِي دَار الْإِسْلَام) وَهُوَ مُقيم بهَا (فجهله) بحرمتها مَعَ شيوعها فِيهِ (لتَقْصِيره) فِي طلب مَعْرفَتهَا فَلَا يكون عذرا فِي دَرْء الْحَد وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا إِنَّمَا يَصح إِذا وجد فرْصَة أمكنه تَحْصِيل الْعلم فِيهَا، فَأَما فِي بَدْء إِسْلَامه فَلَا يحكم بتقصيره، وَترك طلب معرفَة الْأَحْكَام فِي زمَان الْكفْر لَا يُوجب التَّقْصِير، على أَن الْإِسْلَام يمحو مَا قبله الْقسم (الثَّالِث: جهل يصلح عذرا كمن أسلم فِي دَار الْحَرْب) أَي كجهل من أسلم فِيهَا (فَترك بهَا صلوَات جَاهِلا لُزُومهَا فِي الْإِسْلَام لَا قَضَاء) عَلَيْهِ إِذا علمه بعد ذَلِك لعدم تَقْصِيره لعدم اشتهار الْأَحْكَام فِي دَار الْحَرْب. وَقَالَ زفر: عَلَيْهِ الْقَضَاء لالتزامه الْأَحْكَام بِالْإِسْلَامِ وَإِن قصر عَنهُ خطاب الْأَدَاء وَهُوَ لَا يسْقط الْقَضَاء بعد تقرر السَّبَب: كالنائم إِذا انتبه بعد مُضِيّ الْوَقْت (وكل خطاب ترك وَلم ينتشر فجهله عذر) لانْتِفَاء التَّقْصِير، يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} مَا لم يتَعَلَّق علمهمْ بحرمته، سَوَاء لم يحرم أصلا أَو حرم وَلم ينتشر خَبره (للَّذين شربوا) الْخمر (بعد تَحْرِيمهَا غير عَالمين) بحرمتها، فَقَوله للَّذين مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره لقَوْله تَعَالَى - {لَيْسَ على الَّذين} - منزلا للَّذين شربوا، ولبيان حكم شربهم، روى أَن بعض الصَّحَابَة كَانُوا فِي سفر فَشَرِبُوا بعد التَّحْرِيم غير عَالمين بحرمتها فَنزلت. وَعَن ابْن كيسَان لما نزل تَحْرِيم الْخمر وَالْميسر، قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: كَيفَ بإخواننا الَّذين مَاتُوا وَقد شربوا الْخمر وأكلوا الميسر؟ وَكَيف بالغائبين عَنَّا فِي الْبلدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بتحريمها وهم يطعمونها؟ فَإِذا نزل الله تَعَالَى (بِخِلَافِهِ) أَي الْخطاب (بعد الانتشار) فَإِن جَهله لَيْسَ بِعُذْر. وَيَنْبَغِي أَن يُرَاد بِهِ الانتشار فِي بلد الْمُكَلف، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ بَلَده بَعيدا عَن مهبط الْوَحْي وَعَن الْبلدَانِ الَّتِي انْتَشَر فِيهَا فعذره وَاضح: وَظَاهر هَذِه الْعبارَة أَن الْجَهْل بعد تحقق الانتشار لَيْسَ بِعُذْر سَوَاء كَانَ الانتشار فِي بَلَده أَولا، وَيُؤَيِّدهُ إِطْلَاق قَوْلهم: الْجَهْل فِي دَار الْإِسْلَام لَيْسَ بِعُذْر لاستفاضة الْأَحْكَام وشيوعها فِيهَا والاستفاضة فِيهَا أُقِيمَت مقَام الْعلم: فعلى هَذَا كَون الْجَهْل عذرا يخص بابتداء الْإِسْلَام، لَكِن مُقْتَضى الدَّلِيل مَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَا وَجه لإِقَامَة الاستفاضة فِي غير بَلَده مقَام الْعلم وَإِن كَانَ بَعيدا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُؤَاخذ بترك المهاجرة لطلب الْعلم مَعَ قدرته عَلَيْهَا (لِأَنَّهُ) أَي جَهله بعد الانتشار (لتَقْصِيره) فِي طلب مَا يجب عَلَيْهِ (كمن لم يطْلب المَاء فِي الْعمرَان فَتَيَمم وَصلى لَا يَصح) تيَمّمه فَلَا تصح صلَاته (لقِيَام دَلِيل الْوُجُود) وَهُوَ الْعمرَان لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن المَاء غَالِبا (وَتَركه الْعَمَل) بِالدَّلِيلِ وَهُوَ طلبه فِيهِ. هَذَا إِذا لم يستكشفه، أما لَو استكشفه فَلم يجده فِيهِ فقد صرح بِجَوَازِهِ الْبَعْض وَهُوَ الْوَجْه، وَالتَّقْيِيد بالعمران أَن يدل على أَنه لَو ترك الطّلب فِي المفارة(4/225)
وَتيَمّم وَصلى جَازَت صلَاته لِأَنَّهَا مَظَنَّة الْعَدَم (وَكَذَا الْجَهْل بِأَنَّهُ وَكيل أَو مَأْذُون) أَي وَكَذَا جهل الْإِنْسَان بِكَوْنِهِ وَكيلا لشخص بِأَنَّهُ وَكله وَلم يبلغهُ الْخَبَر، وبكونه مَأْذُونا إِن كَانَ عبدا أذن لَهُ سَيّده وَلم يبلغهُ الْإِذْن (عذر) خبر الْجَهْل. ثمَّ أَخذ يبين ثَمَرَة كَونه عذرا، فَقَالَ (حَتَّى لَا ينفذ تصرفهما) أَي تصرف الْوَكِيل والمأذون قبل الْعلم بالوكيل وَالْإِذْن فِي حق الْمُوكل وَالْمولى مُطلقًا وَفِي حق نفسهما أَيْضا إِذا كَانَ مَحل التَّصَرُّف ملك الْمُوكل وَالْمولى أَو ملك غَيرهمَا، وَلكَون التَّصَرُّف لَهما (ويتوقف) نَفاذ تصرفهما على إِذن الْمُوكل وَالْمولى إِذا كَانَ فِي ملكهمَا أوفى غَيره، لَكِن لَهما (كالفضولي) أَي كتوقف تصرف الْفُضُولِيّ على إِذن من لَهُ الْولَايَة (إِلَّا فِي شِرَاء الْوَكِيل) اسْتثِْنَاء من عُمُوم نفي نَفاذ تصرفهما، وَالْمرَاد شِرَاؤُهُ مثلا فَيعم كل تصرف مِنْهُ لَا يكون فِي ملك الْمُوكل وَلَا يُضَاف إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف. بل (ينفذ على نَفسه) فَبَقيَ عُمُوم نفي نَفاذ تصرف الْمَأْذُون على إِطْلَاقه لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّة للتَّصَرُّف بِغَيْر الْإِذْن فلولا أَن الْجَهْل عذر للْوَكِيل لما نفذ تصرفه فِي حق الشِّرَاء لنَفسِهِ إِذا كَانَ التَّوْكِيل بشرَاء ذَلِك المُشْتَرِي بِعَيْنِه (كَمَا عرف) من أَن العقد إِذا وجد نفاذا على الْعَاقِد نفذ عَلَيْهِ. فِي النِّهَايَة: اتّفقت الرِّوَايَات على أَن الْوكَالَة إِذا ثبتَتْ قصدا لَا تثبت بِدُونِ الْعلم، أما إِذا ثبتَتْ فِي ضمن أَمر الْحَاضِر بِالتَّصَرُّفِ بِأَن قَالَ لغيره: اشْتَرِ عَبدِي من فلَان لنَفسك، أَو لعَبْدِهِ انْطلق إِلَى فلَان ليعتقك فَاشْترى من فلَان أَو أعتق بِدُونِ الْعلم جَازَ، وَعَن أبي يُوسُف أَن الْوكَالَة بِمَنْزِلَة الْوِصَايَة لَا يشْتَرط فِيهَا الْعلم لِأَن كلا مِنْهُمَا إِثْبَات الْولَايَة، فحكاية الِاتِّفَاق على مَا فِي النِّهَايَة أَنه مَبْنِيّ على عدم الِاعْتِدَاد بِهَذِهِ الرُّؤْيَة وَيحمل كَلَام المُصَنّف على الْوكَالَة الثَّابِتَة قصدا جمعا بَين الرِّوَايَات بِحَسب الْإِمْكَان، يردهُ مَا فِي الْمُحِيط من أَنه أَي الْوَكِيل لَا يصير وَكيلا قبل الْعلم بِالْوكَالَةِ فِي رِوَايَة الزِّيَادَات وَيصير وَكيلا فِي رِوَايَة وكَالَة الأَصْل، فَالْوَجْه أَن يُقَال فِيهِ رِوَايَتَانِ، ومختار المُصَنّف مَا فِي الزِّيَادَات وَالله تَعَالَى أعلم (و) كَذَا الْجَهْل (بِالْعَزْلِ) للْوَكِيل (وَالْحجر) على الْمَأْذُون عذر، فَالْأول مَعْطُوف على قَوْله بِأَنَّهُ، وَالثَّانِي على الْعَزْل وَذَلِكَ للُزُوم الضَّرَر عَلَيْهِمَا على تَقْدِير ثبوتهما بِدُونِ الْعلم لِأَنَّهُمَا يتصرفان اعْتِمَادًا على أَنه يلْزم الْمُوكل وَالْمولى وبالعزل يلْزم الْوَكِيل، وبالفك يلْزم فِي ذمَّة العَبْد فَيتَأَخَّر الدّين إِلَى الْعتْق (فَيصح تصرفهما) أَي الْوَكِيل والمأذون على الْمُوكل وَالْمولى قبل علمهما بِالْعَزْلِ، ثمَّ إِن الْأذن إِذا كَانَ مَشْهُورا لَا ينحجر إِلَّا بشهرة حجره عِنْد أهل السُّوق دفعا للضَّرَر عَنْهُم للُزُوم تَأَخّر حَقهم إِلَى الْعتْق (و) كَذَا (جهل الْمولى بِجِنَايَة العَبْد) خطأ عذر للْمولى فِي عدم تعين لُزُوم الْفِدَاء مُطلقًا إِذا أخرجه عَن ملكه قبل علمه (فَلَا يكون) الْمولى (بِبيعِهِ) أَي العَبْد قبل الْعلم بِالْجِنَايَةِ (مُخْتَارًا للْفِدَاء) وَهُوَ الْأَرْش الَّذِي كَانَ مخبرا بَينه وَبَين الدّفع بل يجب عَلَيْهِ الْأَقَل من الْقيمَة وَالْأَرْش (و) كَذَا(4/226)
جهل (الشَّفِيع بِالْبيعِ) لما يشفع فِيهِ عذر لَهُ فِي عدم سُقُوط شفعته (فَلَو بَاعَ) الشَّفِيع (الدَّار الْمَشْفُوع بهَا بعد بيع دَار بجوارها) أَي بجوار الدَّار الْمَشْفُوع بهَا (غير عَالم) بِبيع الْمَشْفُوع فِيهَا حَال عَن فَاعل بَاعَ (لَا يكون) بَيْعه الْمَشْفُوع بهَا (تَسْلِيمًا للشفعة) بل لَهُ الشُّفْعَة فِيهَا إِذا علم بِالْبيعِ لِأَن دَلِيل الْعلم خَفِي لانفراد صَاحب الْملك بِبيعِهِ (و) كَذَا جهل (الْأمة الْمَنْكُوحَة) عذر لَهَا فِي عدم سُقُوط خِيَار الْعتْق لَهَا (إِذا جهلت عتق الْمولى) إِيَّاهَا (فَلم تفسخ) النِّكَاح فَوْرًا (أَو عَلمته) أَي عتق الْمولى (وجهلت ثُبُوت الْخِيَار لَهَا شرعا لَا يبطل خِيَارهَا) قَوْله لَا يبطل جَزَاء الشَّرْط وَقَوله (وعذرت) مَعْطُوف عَلَيْهِ، أما الأولى فَلِأَن الْمولى مُسْتَقل بِالْعِتْقِ وَلَا يُمكنهَا الْوُقُوف عَلَيْهِ قبل الْإِخْبَار. وَأما الثَّانِي فلاشتغالها بِخِدْمَة الْمولى وَلعدم فراغها لمعْرِفَة أَحْكَام الشَّرْع فَلَا يقوم اشتهار الدَّلِيل فِي دَار الْإِسْلَام مقَام علمهَا (بِخِلَاف الْحرَّة زَوجهَا غير الْأَب وَالْجد) حَال كَونهَا (صَغِيرَة فبلغت جاهلة بِثُبُوت حق الْفَسْخ) أَي فسخ النِّكَاح (لَهَا) إِذا بلغت فَلم تفسخ (لَا تعذر) لجهلها بِهَذَا الحكم فَلَيْسَ لَهَا حق الْفَسْخ بِهِ (لِأَن الدَّار دَار الْعلم، وَلَيْسَ للْحرَّة مَا يشغلها عَن التَّعَلُّم فَكَانَ جهلها لتقصيرها) فِي التَّعَلُّم (بِخِلَاف الْأمة) لما ذكر، وَالْمرَاد بالجد الْجد الصَّحِيح، بِخِلَاف من سوى الْأَب وَالْجد لعدم كَمَال الرَّأْي فِي الْأُم وَعدم وفور الشَّفَقَة فِي غَيرهَا.
مسئلة
(الْمُجْتَهد بعد اجْتِهَاده فِي) تَحْصِيل (حكم) لحادثة اجْتِهَادًا انْتهى إِلَى تعينه على وَجه (مَمْنُوع من التَّقْلِيد) لغيره من الْمُجْتَهدين (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الحكم، فَالْحكم الْمُجْتَهد فِيهِ الَّذِي قَصده الْمُجْتَهد أَمر إجمالي فِي بداية الِاجْتِهَاد يتَعَيَّن آخر بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ على وَجه، وبالنسبة إِلَى مُجْتَهد آخر على وَجه فَيجب على الْمُجْتَهد اتِّبَاع مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَلَا يجوز لَهُ اتِّبَاع مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر (اتِّفَاقًا) لوُجُوب اتِّبَاع اجْتِهَاده إِجْمَاعًا (وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ فِي تَقْلِيده لغيره قبله) أَي قبل اجْتِهَاده فِي الحكم. (وَالْأَكْثَر) من الْعلمَاء على أَنه (مَمْنُوع) من تَقْلِيد غَيره مطبقا: مِنْهُم أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على مَا ذكره أَبُو بكر الرَّازِيّ وَأَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَمَالك على مَا فِي أصُول ابْن مُفْلِح، وَذكر الْبَاجِيّ أَنه قَول أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَذكر الرَّوْيَانِيّ أَنه مَذْهَب عَامَّة الشَّافِعِيَّة: وَظَاهر نَص الشَّافِعِي وَأحمد وَأكْثر أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب، وَمَا روى عَن أبي يُوسُف أَنه صلى بِالنَّاسِ الْجُمُعَة وَتَفَرَّقُوا ثمَّ أخبر بِوُجُود فَأْرَة ميتَة فِي بِئْر حمام اغْتسل مِنْهُ، فَقَالَ: نَأْخُذ بقول أَصْحَابنَا من أهل الْمَدِينَة: إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لَا يحمل(4/227)
خبثا لَا يُنَافِي مَا ذكرنَا لجَوَاز أَن مُرَاده من قَوْله نَأْخُذ الَّذين اقتدوا بِهِ، يَعْنِي نَأْخُذ فِي حَقهم بعد التَّفَرُّق: وَمن هَذَا لَا يلْزم عدم إِعَادَته تقليدا لمَذْهَب الْغَيْر فَتدبر (وَمَا) روى (عَن ابْن سُرَيج) من أَن الْمُجْتَهد مَمْنُوع من التَّقْلِيد (إِلَّا أَن تعذر عَلَيْهِ) الِاجْتِهَاد فِي الْحَادِثَة لَا يُخَالف الْأَكْثَر، وَيحْتَمل أَن يكون تَقْدِير الْكَلَام: وَمَا عَن ابْن سُرَيج أَنه مَمْنُوع إِلَّا وَقت التَّعَذُّر، وَخبر الْمَوْصُول انه مَمْنُوع، فَيكون الْمَرْوِيّ عَنهُ الْمَنْع فِي غير صُورَة التَّعَذُّر، والتعذر إِمَّا بِالْعَجزِ عَن وَجه الِاجْتِهَاد، وَإِمَّا بالخوف عَن الْفَوْت على مَا سَيَأْتِي (وَلَا يَنْبَغِي أَن يخْتَلف فِيهِ) لِأَن الِامْتِثَال بِمُوجب الْخطاب وَجب عَلَيْهِ لكَونه مُكَلّفا، وَقد تعذر الِاجْتِهَاد فَتعين التَّقْلِيد تحصيلا لما هُوَ الْوَاجِب (وَقيل لَا) يمْنَع من التَّقْلِيد قبل الِاجْتِهَاد مُطلقًا فِيمَا يَخُصُّهُ وَفِيمَا يُفْتِي بِهِ سَوَاء تعذر عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد أَو لَا، وَعَلِيهِ الثَّوْريّ وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة على مَا ذكر الْكَرْخِي والرازي. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ الَّذِي ظهر من تمسكات مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَعَزاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ إِلَى أَحْمد. قَالَ بعض الْحَنَابِلَة: لَا يعرف (وَقيل) يمْنَع من التَّقْلِيد (فِيمَا يُفْتى بِهِ) غَيره (لَا فِيمَا يَخُصُّهُ) أَي لَا يمْنَع من تَقْلِيد غَيره فِي حكم يُرِيد الْعَمَل بِهِ من غير أَن يُفْتى بِهِ. وَحكى هَذَا عَن أهل الْعرَاق (وَقيل) يمْنَع عَن التَّقْلِيد (فِيهِ) أَي فِيمَا يَخُصُّهُ (أَيْضا إِلَّا أَن خشِي الْفَوْت) أَي فَوت أَدَاء مَا يجب عَلَيْهِ (كَأَن ضَاقَ وَقت صَلَاة) أَي كخشية الْفَوْت عِنْد ضيق وَقت صَلَاة (وَالِاجْتِهَاد فِيهَا يفوتها) أَي وَالْحَال أَن الِاشْتِغَال بِالِاجْتِهَادِ فِي حق تِلْكَ الصَّلَاة لتَحْصِيل مَا هُوَ مَجْهُول فِيهَا من الحكم يفوتها لمضي الْوَقْت، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن سُرَيج. (وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ) : إِحْدَاهمَا الْجَوَاز على مَا تقدم، وَالْأُخْرَى الْمَنْع (و) روى (عَن مُحَمَّد) أَنه (يُقَلّد) مُجْتَهدا (أعلم مِنْهُ) لَا أدون مِنْهُ وَلَا مُسَاوِيا لَهُ، وَقيل إِنَّه ضرب من الِاجْتِهَاد (و) قَالَ (الشَّافِعِي) فِي الْقَدِيم (والجبائي) وَابْنه (يجوز) أَن يُقَلّد غَيره (إِن) كَانَ (صحابيا راجحا) فِي نظره على غَيره مِمَّن خَالف من الصَّحَابَة (فَإِن اسْتَووا) أَي الصَّحَابَة فِي نظره بِحَسب الْعلم وَاخْتلفت فتواهم (تخير) فيقلد أَيهمْ شَاءَ، وَلَا يجوز تَقْلِيد من عداهم (وَهَذَا) النَّقْل (رِوَايَة عَنهُ) أَي الشَّافِعِي (فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ) للمجتهد مَذْكُور فِي رسَالَته الْقَدِيمَة. قَالَ الْأَبْهَرِيّ: وَالْمَشْهُور من مذْهبه عدم جَوَاز تَقْلِيده للْغَيْر مُطلقًا (وَقيل) يجوز تَقْلِيده أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَا غَيرهمَا. وَعَن أَحْمد وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ: جَوَاز تَقْلِيد الصَّحَابَة دون غَيرهم إِلَّا عمر ابْن عبد الْعَزِيز، وَاسْتَغْرَبَهُ بعض الْحَنَابِلَة، وَقيل يجوز أَن يُقَلّد صحابيا (وتابعيا) دون غَيرهمَا وعزى إِلَى الْحَنَفِيَّة، لَكِن بِلَفْظ أَو خِيَار التَّابِعين، وَقيل: يجوز للْقَاضِي لَا غير. الْحجَّة (للْأَكْثَر) الْقَائِلين بِالْمَنْعِ مُطلقًا (الْجَوَاز) أَي جَوَاز التَّقْلِيد (حكم شَرْعِي فيفتقر إِلَى دَلِيل) شَرْعِي(4/228)
(وَلم يثبت) الدَّلِيل وَالْأَصْل عَدمه (فَلَا يثبت) الْجَوَاز (وَدفع) هَذَا من قبل المجوزين (بِأَنَّهُ) أَي الْجَوَاز مرجعه (الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة) بِمَعْنى عدم ترَتّب الْعقَاب على التَّقْلِيد وَهِي لَيست بِحكم شَرْعِي، فَلَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل شَرْعِي (بِخِلَاف تحريمكم) أَيهَا المانعون (فَهُوَ) أَي تحريمكم (المفتقر) إِلَى الدَّلِيل وَلم يثبت فَلَا يثبت (وَأما) الدّفع عَن الْأَكْثَر (بِأَن الِاجْتِهَاد أصل) فِي الْأَحْكَام الاجتهادية كَالْوضُوءِ فِي بَاب الطَّهَارَة (والتقليد بدل) مِنْهُ كالتيمم فِيهِ، وَلَا يُصَار إِلَى الْبَدَل مَعَ إِمْكَان الْمُبدل (فَيتَوَقَّف) التَّقْلِيد (على عَدمه) أَي عدم إِمْكَان الِاجْتِهَاد، كَمَا أَنه لَا يجوز التَّيَمُّم مَعَ الْقُدْرَة على المَاء (فَمنع) جَوَاب أما: أَي منع كَونه بَدَلا من الِاجْتِهَاد (بل كل) من الِاجْتِهَاد والتقليد (أصل) بِمَعْنى أَن الْمُكَلف مُخَيّر بَينهمَا كَمَا فِي مسح الْخُف وَغسل الرجلَيْن، فَلَا يتَوَقَّف التَّقْلِيد على عدم الِاجْتِهَاد (فَإِن تمّ إِثْبَات الْبَدَلِيَّة بِعُمُوم) قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} - فَإِنَّهُ يعم الْمُجْتَهد والعامي، وَترك الْعَمَل بِهِ فِي حق الْعَاميّ لعَجزه فَبَقيَ مَعْمُولا بِهِ فِي حق الْمُجْتَهد، وَالِاعْتِبَار رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره، وَهُوَ يرجع إِلَى الِاجْتِهَاد (تمّ) الدّفع الْمَذْكُور، وَفِي كلمة إِن إِشَارَة إِلَى الْمَنْع للتمام: وَذَلِكَ بِاعْتِبَار أَنه يجوز أَن يُرَاد بِالِاعْتِبَارِ معنى آخر لألفاظ، وَيجوز أَن يخص بِمَا إِذا لم يتَعَذَّر عَلَيْهِ وَجه الرَّد كَمَا هُوَ قَول ابْن سُرَيج إِلَى غير ذَلِك (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتم بِهَذَا (لَا) يتم الدّفع الْمَذْكُور لعدم دَلِيل آخر على الْبَدَلِيَّة، وَالْأَصْل الْعَدَم. (وَاسْتدلَّ) للْأَكْثَر بِأَنَّهُ (لَا يجوز) التَّقْلِيد (بعده) أَي الِاجْتِهَاد اتِّفَاقًا (فَكَذَا) لَا يجوز (قبله لوُجُود الْجَامِع) بَين الْمَنْع بعد الِاجْتِهَاد وَالْمَنْع قبله (وَهُوَ) أَي الْجَامِع (كَونه) أَي الْمُقَلّد (مُجْتَهدا أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف المشير للْحكم (فِي الأَصْل) أَي التَّقْلِيد بعد الِاجْتِهَاد (إِعْمَال الْأَرْجَح) أَي وجوب اتِّبَاع مَا هُوَ الْأَرْجَح من حَيْثُ كَونه حكم الله تَعَالَى فِي نظره (وَهُوَ) أَي الْأَرْجَح (ظن نَفسه) الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَإِنَّهُ أرجح عِنْد من ظن غَيره من الْمُجْتَهدين، وَهَذِه الْعلَّة، مفقودة فِي الْفَرْع وَهُوَ ظَاهر. احْتج (الشَّافِعِي) بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ) بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ " فَإِنَّهُ خطاب عَام يعم الْمُجْتَهد والعامي، وَلَا يمْنَع الشَّخْص من الاهتداء (وَيبعد) الِاحْتِجَاج بِهِ (مِنْهُ) أَي الشَّافِعِي (لِأَنَّهُ لم يثبت) حَيْثُ تقدم جَوَابه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَو ثَبت تقدم جَوَابه) حَيْثُ قَالَ أُجِيب بِأَنَّهُ هدي من وَجه انْتهى، وَلَيْسَ بِهَدي من كل وَجه حَتَّى لَا يمْنَع مِنْهُ فَإِن كَونه هدى من وَجه لَا يُنَافِي كَونه خطأ. فَإِن قلت: احْتِمَال الْخَطَأ مُشْتَرك بَين ظن الصَّحَابِيّ وظنه، لَكِن ظن الصَّحَابِيّ أبعد عَن الْخَطَأ قلت هَذَا بِحَسب نفس الْأَمر، وَأما بِحَسب مَا عِنْده فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ، وَالْإِنْسَان مَأْمُور بِاتِّبَاع مَا هُوَ الْأَظْهر عِنْده وَاعْترض على المُصَنّف من لم يفهم كَلَامه بِأَنَّهُ لَا يُفِيد منع(4/229)
تَقْلِيد الصَّحَابِيّ، بل تقرر جَوَاز تَقْلِيده وَلم يعرف أَن وَظِيفَة الْمُجيب هُنَا منع بطلَان منع التَّقْلِيد لَا إِثْبَات منع التَّقْلِيد، وَبَينهمَا بون بعيد. احْتج (المجوز) للتقليد مُطلقًا بقوله تَعَالَى { (فاسئلوا أهل الذّكر} : أَي الْعلم بِدَلِيل) قَوْله تَعَالَى {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَلَيْسَ المُرَاد أَن لَا يعلم السَّائِل شَيْئا أصلا، بل مَا أحوجه إِلَى السُّؤَال من الْوَاقِعَة الَّتِي ابتلى بهَا، وَإِذا كَانَ منشأ السُّؤَال عدم علمه بذلك يجب أَن يُرَاد بِأَهْل الْعلم من هُوَ عَالم بِمَا هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ من أهل الذّكر وَلَا يعلم ذَلِك لَا وَجه لسؤاله إِيَّاه (وَقيل: الِاجْتِهَاد لَا يعلم) مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فِي الْعَمَل، فيتناوله خطاب الْأَمر بالسؤال لتحَقّق شَرطه الْمَذْكُور، غَايَة الْأَمر أَنه لم يتَعَيَّن فِي حَقه السُّؤَال، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ حُصُول الْعلم بِمَا وَجب الْعَمَل بِهِ، فَإِذا حصل الِاجْتِهَاد حصل الْمَقْصُود (أُجِيب) عَن الِاحْتِجَاج الْمَذْكُور (بِأَن الْخطاب) فِي قَوْله تَعَالَى - {فاسئلوا} - (للمقلدين، إِذْ الْمَعْنى ليسأل أهل الْعلم من لَيْسَ أَهله بِقَرِينَة مُقَابلَة من لَا يعلم بِمن هُوَ أهل) للْعلم (وَأهل الْعلم من لَهُ الملكة) أَي ملكة استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من أدلتها (لَا) يُفِيد مَعْنَاهُ (بِقَيْد حروج الْمُمكن) استنباطه بِتِلْكَ الملكة (عَنهُ) أَي عَن الْإِمْكَان وَالْقُوَّة (إِلَى الْفِعْل) والوجود فِي الْخَارِج، لِأَن أهل الشَّيْء من هُوَ متأهل لَهُ ومستعد لَهُ اسْتِعْدَادًا قَرِيبا، وَإِذا كَانَ أهل الْعلم صَاحب الملكة كَانَ مُقَابِله من لَيْسَ لَهُ الملكة، وَهُوَ الْمُقَلّد (قَالُوا) ثَانِيًا (الْمُعْتَبر) فِي الْأَحْكَام العملية (الظَّن) بِكَوْنِهَا حكم الله تَعَالَى، فَإِن الْمُجْتَهد بِاجْتِهَادِهِ لَا يقدر على غَيره (وَهُوَ) أَي الظَّن (حَاصِل بفتوى غَيره) كَمَا يحصل بفتوى نَفسه لتساويهما فِي أَن الِاجْتِهَاد قد أدّى إِلَيْهِمَا (أُجِيب بِأَن ظَنّه اجْتِهَاده) بِنصب الدَّال، إِمَّا بِنَزْع الْخَافِض، أَو على أَنه بدل من ظَنّه (أقوى) من ظَنّه بفتوى الْغَيْر لقِيَام الأمارة الدَّالَّة عَلَيْهِ عِنْده (فَيجب الرَّاجِح) تَقْرِيبًا للصَّوَاب بِحَسب الوسع (فَإِن قيل: ثَبت عَن أبي حنيفَة) فِي الْفُرُوع (فِي القَاضِي الْمُجْتَهد يقْضِي بِغَيْر رَأْيه ذَاكِرًا لَهُ) أَي لرأيه (نفذ) قَضَاؤُهُ (خلافًا لصاحبيه، فَيبْطل) بِهَذَا الثَّابِت عِنْد (نقل الِاتِّفَاق على الْمَنْع بعده) أَي على منع الْمُجْتَهد من التَّقْلِيد بعد الِاجْتِهَاد (إِذْ لَيْسَ التَّقْلِيد إِلَّا الْعَمَل أَو الْفَتْوَى بقول غَيره) وَالْقَضَاء بِرَأْي الْغَيْر يتَضَمَّن الْعَمَل وَالْفَتْوَى مَعَ زِيَادَة إِلْزَام على الْمقْضِي عَلَيْهِ (وَإِن ذكر) أَيْضا فِي الْفُرُوع (فِيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة (اخْتِلَاف الرِّوَايَة) عَن أبي حنيفَة فَعَنْهُ ينفذ، وَجعلهَا فِي الْخَانِية أظهر الرِّوَايَات، لِأَن رَأْيه يحْتَمل الْخَطَأ وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده أَنه الصَّوَاب، ورأي غَيره يحْتَمل الصَّوَاب، وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده خطأ فَهُوَ قَضَاء فِي مَحل مُجْتَهد فِيهِ فَينفذ، وَبِه أَخذ الصَّدْر الشَّهِيد وَغَيره. وَعنهُ لَا ينفذ، لِأَن قَضَاءَهُ بِهِ مَعَ اعْتِقَاده أَنه غير حق عَبث: كالمصلي إِلَى غير جِهَة تحريه تَقْلِيد التَّحَرِّي غَيره، وَبِه أَخذ شمس الْأَئِمَّة الأوزجندي(4/230)
(فقد صحّح أَنه) أَي نَفاذ الْقَضَاء (مذْهبه) أَي أبي حنيفَة فِي الْفُصُول الْعمادِيَّة، فَهُوَ الصَّحِيح من مذْهبه (قُلْنَا) فِي الْجَواب لتصحيح النَّقْل للاتفاق (النَّفاذ) أَي نَفاذ الْقَضَاء (بِتَقْدِير الْفِعْل) أَي على تَقْدِير وُقُوع الْقَضَاء (لَا يُوجب حلّه) أَي الْفِعْل، وَإِذا كَانَ الْقَضَاء بِرَأْي الْغَيْر حَرَامًا عِنْده فقد اتّفق مَعَ الْقَوْم فِي الْمَنْع عَن التَّقْلِيد (نعم ذكر بَعضهم) كصاحب الْمُحِيط (أَنه ذكر الْخلاف فِي بعض الْمَوَاضِع فِي النَّفاذ، وَفِي بَعْضهَا فِي الْحل) أَي حل الْقَضَاء بِخِلَاف مذْهبه (لَكِن لَا يلْزم أَن الْمعول الْحل، بل يجب تَرْجِيح رِوَايَة النَّفْي) للْحلّ، لِأَن الْمُجْتَهد مَأْمُور بِاتِّبَاع ظَنّه إِجْمَاعًا (وَصرح بِأَن ظَاهر الْمَذْهَب عدم تَقْلِيد التَّابِعِيّ وَإِن روى خِلَافه) كَمَا سبق بَيَانه قبيل فصل التَّعَارُض.
مسئلة
(إِذا تَكَرَّرت الْوَاقِعَة) بالاحتياج إِلَيْهَا مرّة بعد أُخْرَى للْعَمَل أَو الافتاء هَل يجب عَلَيْهِ تَكْرِير النّظر وتجديد الِاجْتِهَاد فِيهَا أم يَكْفِي الِاجْتِهَاد الأول؟ (قيل) وَالْقَائِل ابْن الْحَاجِب وَغَيره (الْمُخْتَار لَا يلْزمه تَكْرِير النّظر لِأَنَّهُ) أَي إِلْزَام التكرير (إِيجَاب بِلَا مُوجب، وَقيل: يلْزمه) تَكْرِير النّظر، وَبِه جزم القَاضِي وَابْن عقيل (لِأَن الِاجْتِهَاد كثيرا مَا يتَغَيَّر) فَيرجع صَاحبه عَنهُ إِلَى غَيره (وَلَيْسَ) ذَلِك التَّغَيُّر (إِلَّا بتكريره) أَي النّظر (فالاحتياط ذَلِك) أَي تكريره، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْعَمَلِ بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ بذل وَسعه عِنْد الْعَمَل، وَهُوَ متفاوت بِاعْتِبَار الْأَوْقَات (أُجِيب) بِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرت لَا يَنْتَهِي إِلَى حد (فَيجب تكراره) أَي النّظر (أبدا لِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِهَاد (يحْتَمل ذَلِك) التَّغَيُّر (فِي كل وَقت يمْضِي بعد الِاجْتِهَاد الأول) وَالْوُجُوب الأبدي لَهُ بَاطِل اتِّفَاقًا (وَهَذَا) أَي وجوب التّكْرَار أبدا (لَيْسَ بِلَازِم) للُزُوم تَكْرِير النّظر عِنْد تكَرر الْوَاقِعَة (لِأَن وجوب الِاجْتِهَاد لَا يثبت إِلَّا عِنْد وُقُوع (الْحَادِثَة بِشَرْطِهِ) أَي بِشَرْط وُجُوبه، وَإِذا تحقق شَرطه فاجتهد فَأدى إِلَى الحكم (فقد أَخذ السَّبَب) أَي شَرط وجوب الِاجْتِهَاد أَو الِاجْتِهَاد (حكمه) أَي الِاجْتِهَاد على الأول. أَو مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد على الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَنْتَهِي وجوب الِاجْتِهَاد بِاعْتِبَار ذَلِك السَّبَب (وَاحْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الِاجْتِهَاد الْمَذْكُور (لم يقْدَح) فِي أَدَاء مَا وَجب على الْمُجْتَهد (فَلَا يجب) الِاجْتِهَاد (الآخر إِلَّا بِمثلِهِ) أَي بِمثل شَرط وجوب الأول، فَإِذا تحقق شَرط وجوب الآخر وَجب وَإِلَّا فَلَا فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون مُرَاد الْقَائِل بِلُزُوم التكرير من وجوب التّكْرَار إبداء وُجُوبه عِنْد كل مرّة من مَرَّات وُقُوع الْحَادِثَة المستجمعة شُرُوط وجوب الِاجْتِهَاد قلت إِذن لَا نسلم(4/231)
بطلَان الثَّانِي. كَيفَ وَقد وَقع الْخلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء. وَقَالَ الْآمِدِيّ: الْمُخْتَار أَنه إِذا لم يكن ذَاكِرًا لاجتهاده الأول يجب التكرير وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ السُّبْكِيّ: الْأَصَح فِي مَذْهَبنَا عدم لُزُوم التَّجْدِيد فِيمَا إِذا لم يذكر الدَّلِيل الأول، وَلم يَتَجَدَّد مَا يُوجب الرُّجُوع عَن الأول، فَإِن كَانَ ذَاكِرًا لم يلْزمه قطعا، وَإِن تجدّد مَا يُوجب الرُّجُوع يجب عَلَيْهِ قطعا انْتهى. وَفِي رَوْضَة الْحُكَّام اجْتهد لنازلة فَحكم أَو لم يحكم، ثمَّ حدثت ثَانِيًا فِيهِ وَجْهَان، الصَّحِيح إِذا كَانَ الزَّمَان قَرِيبا لَا يخْتَلف فِي مثله الِاجْتِهَاد لَا يستأنفه، وَإِلَّا اسْتَأْنف. وَذكر الشَّافِعِيَّة فِي الْعَاميّ استفتى ثمَّ وَقع لَهُ الْحَاجة إِلَى ذَلِك ثَانِيًا إِن أفتاه عَن نَص: كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع، أَو كَانَ متبحرا فِي مذْهبه وَإِن لم يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد فأفتاه عَن نَص صَاحب الْمَذْهَب فَلهُ أَن يعْمل بالفتوى الأولى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أصَحهمَا لُزُوم السُّؤَال ثَانِيًا إِلَى غير ذَلِك يطْلب تفاصيله فِي مَحَله.
مسئلة
(لَا يَصح فِي مسئلة لمجتهد) وَاحِد فِي وَقت وَاحِد (قَولَانِ) من غير أَن يكون أَحدهمَا مرجوعا عَنهُ (للتناقض) أَي للُزُوم اعْتِقَاد النقيضين، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِمَّا عين نقيض الآخر أَو مُسْتَلْزم لَهُ (فَإِن) نسب إِلَى مُجْتَهد وَاحِد قَولَانِ، و (عرف الْمُتَأَخر) مِنْهُمَا صدورا عَنهُ (تعين) الْمُتَأَخر (رُجُوعا) أَي مرجوعا إِلَيْهِ عَن الأول، أَو الْمَعْنى تعين الْمصير إِلَى الْمُتَأَخر رُجُوعا عَن الأول (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعرف الْمُتَأَخر (وَجب تَرْجِيح الْمُجْتَهد) أَي الَّذِي اجْتهد (بعده) أَي بعد الْمُجْتَهد الَّذِي نسب إِلَيْهِ الْقَوْلَانِ (بِشَهَادَة قلبه) مُتَعَلق بالترجيح: أَي وَجب فِي الْعَمَل بِأحد الْقَوْلَيْنِ أَن يرجح الْمُجْتَهد الثَّانِي أَحدهمَا بِسَبَب أَن يمِيل قلبه إِلَيْهِ بِاعْتِبَار مَا ظهر عِنْده من الأمارة الدَّالَّة على كَونه أقرب إِلَى الصَّوَاب (وَعند بعض الشَّافِعِيَّة يخبر متبعه) أَي صَاحب الْقَوْلَيْنِ (الْمُقَلّد) صفة كاشفة للمتبع لِأَن الْمُجْتَهد لَا يجوز لَهُ الِاتِّبَاع (فِي الْعَمَل) مُتَعَلق بيخير (بِأَيِّهِمَا) أَي الْقَوْلَيْنِ، وَالْجَار مُتَعَلق بِالْعَمَلِ (شَاءَ: كَذَا فِي بعض كتب الْحَنَفِيَّة الْمَشْهُورَة) صفة للكتب، (وَكَانَ المُرَاد بالمجتهد) فِي قَوْلهم وَجب تَرْجِيح الْمُجْتَهد: الْمُجْتَهد (فِي الْمَذْهَب وَإِلَّا فترجيح) الْمُجْتَهد (الْمُطلق بِشَهَادَتِهِ) أَي بِشَهَادَة قلبه إِنَّمَا يكون (فِيمَا عَن) أَي ظهر (لَهُ) فِي اجْتِهَاده عِنْد تعَارض الأمارات الْمُخْتَلفَة فِي مَحل الِاجْتِهَاد، لَا فِي قَول مُجْتَهد آخر، وَهُوَ ظَاهر (وَالتَّرْجِيح) الْمَطْلُوب (هُنَا) لأحد الْقَوْلَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّنْصِيص (على أَنه) أَي أَحدهمَا بِعَيْنِه هُوَ (الْمعول) أَي الْمُعْتَمد عَلَيْهِ (لصاحبهما) أَي الْقَوْلَيْنِ. (وَقَول الْبَعْض) من الشَّافِعِيَّة (يُخَيّر المتبع فِي الْعَمَل لَيْسَ خلافًا) لما قبله (بل) هُوَ (مَحل آخر) أَي مَا قبله، وَهُوَ وجوب التَّرْجِيح بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد فِي الْمَذْهَب(4/232)
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره من المقلدين فَكل وَاحِد من الْحكمَيْنِ: أَعنِي الْوُجُوب والتخيير مَحل آخر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ذكره ذَلِك الْبَعْض بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الْمُجْتَهد فِي حق الْعَمَل لَا التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا (وَفِي بَعْضهَا) أَي كتب الْحَنَفِيَّة (إِن لم يعرف تَارِيخ) للقولين (فَإِن نقل فِي أحد الْقَوْلَيْنِ عَنهُ) أَي صَاحب الْقَوْلَيْنِ (مَا يقويه) كَقَوْلِه هَذَا أشبه أَو تَفْرِيع عَلَيْهِ (فَهُوَ أَي ذَلِك القَوْل الْمُؤَيد بالمقوى (الصَّحِيح عِنْده) أَي عِنْد صَاحبهمَا، وَفِيه أَن مُجَرّد التقوية لَا تَسْتَلْزِم عدم صِحَة الآخر كَمَا يفهم من قَوْله: هُوَ الصَّحِيح (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم ينْقل عَنهُ مَا يقوى أَحدهمَا (إِن كَانَ) أَي وجد (مُتبع بلغ الِاجْتِهَاد) فِي الْمَذْهَب (رجح) أَحدهمَا (بِمَا مر من المرجحات إِن وجد) شَيْء مِنْهَا (وَإِلَّا يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَة قلبه، وَإِن كَانَ عاميا اتبع فَتْوَى الْمُفْتِي فِيهِ) أَي الْعَمَل أَو الْمَذْهَب (الأتقى الأعلم) الثَّابِت كَونه كَذَا (بِالتَّسَامُعِ) وَهَذَا بِنَاء على أَن الَّذِي يستفتى مِنْهُ غير صَاحب الْقَوْلَيْنِ (وَإِن) كَانَ (متفقها) تعلم الْفِقْه وتتبع كتب الْمَذْهَب من غير أَن يصير مُجْتَهدا فِي الْمَذْهَب كَمَا يدل عَلَيْهِ صِيغَة التفعل (تبع الْمُتَأَخِّرين) من أهل الْفَتْوَى فِي الْمَذْهَب (وَعمل بِمَا هُوَ أصوب وأحوط عِنْده، وَإِذ نقل قَول الشَّافِعِي فِي سبع عشرَة مسئلة فِيهَا قَولَانِ) كَمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره. قَوْله فِيهَا قَولَانِ مقول قَول الشَّافِعِي (حمل) قَول الشَّافِعِي فِيهَا قَولَانِ (على أَن للْعُلَمَاء) السَّابِقين عَلَيْهِ (قَوْلَيْنِ) فِيهَا، وَفَائِدَته التَّنْبِيه على أَنَّهَا مَحل الِاجْتِهَاد لم يَقع عَلَيْهَا الْإِجْمَاع، وَقيل التَّنْبِيه على أَن مَا سواهُمَا منفي بِالْإِجْمَاع على مَا بَين فِي مَحَله (أَو يحتملهما) أَي الْمحل يحْتَمل الْقَوْلَيْنِ لوُجُود تعادل الدَّلِيلَيْنِ عِنْده، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لم ينْسب إِلَيْهِ شَيْء مِنْهُمَا، ذكره الإِمَام الرَّازِيّ وَمن تبعه (أولى فِيهَا) قَولَانِ مَعْطُوف على قَوْله للْعُلَمَاء (على القَوْل بالتخيير عِنْد التعادل) أَي يتَخَيَّر الْمُجْتَهد عِنْد تعادل الدَّلِيلَيْنِ وَعدم رُجْحَان أَحدهمَا عِنْده فَيعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ: قَالَه القَاضِي فِي التَّقْرِيب، وَتعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ بِنَاء على اعْتِقَاده أَن مَذْهَب الشَّافِعِي تصويب الْمُجْتَهدين، لَكِن الصَّحِيح من مذْهبه أَن الْمُصِيب وَاحِد فَلَا يُمكن القَوْل عَنهُ بالتخيير، وَقد يكون الْقَوْلَانِ: التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة، ويستحيل التَّخْيِير بَينهمَا (أَو تقدما) أَي الْقَوْلَانِ (لي) فَيكون حِكَايَة لقوليه المرتبين فِي الزَّمَان الْمُتَقَدّم فَقَوله: أَو يحتملهما، وَقَوله أَو تقدما معطوفان على قَوْله ان للْعُلَمَاء بارادة الْمَعْنى المصدري: أَي حمل على احتمالهما أَو تقدمهما بتقرراته، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَعِنْدِي أَنه حَيْثُ نَص على الْقَوْلَيْنِ فِي مَوضِع وَاحِد فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَذْهَب، وَقَالَ هَذَا يدل على علو رتبته وَعلمه بطرق الِاشْتِبَاه، وَأما اخْتِلَاف الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة فَلَيْسَ من بَاب الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ الإِمَام أَبُو بكر البليغي: أَن الِاخْتِلَاف فِي الرِّوَايَة عَنهُ من وُجُوه: مِنْهَا الْغَلَط فِي السماع، وَمِنْهَا رِوَايَة قَول رَجَعَ عَنهُ وَلم يعلم(4/233)
الرَّاوِي رُجُوعه، وَمِنْهَا أَنه قَالَ الْقيَاس كَذَا وَالِاسْتِحْسَان كَذَا وَلَا يعرف الرَّاوِي ذَلِك ويروى مُطلقًا إِلَى غير ذَلِك.
مسئلة
(لَا ينْقض حكم اجتهادي) أَي حكم أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد مُجْتَهد مستجمع شَرَائِط الِاجْتِهَاد (صَحِيح) صفة أُخْرَى للْحكم بِأَن كَانَ القَاضِي الْحَاكِم قد رأى شَرَائِط صِحَة الحكم عِنْد المرافعة من صِحَة الدَّعْوَى وَصِحَّة الْبَيِّنَة إِلَى غير ذَلِك، فَلَا يرد مَا قيل من أَن الْوَجْه إِسْقَاط قَوْله (إِذا لم يُخَالف مَا ذكر) من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ إِذا خَالف مَا ذكر لَا يكون صَحِيحا، وَإِذا رفع إِلَى قَاض آخر حكم كَذَا لَا يجوز لَهُ أَن ينْقضه بل يمضيه، ثمَّ لَا فرق بَين أَن يكون الْحَاكِم بذلك الحكم نَفسه بِأَن حكم بِشَيْء ثمَّ تغير اجْتِهَاده أَو غَيره (وَإِلَّا) أَي وَإِن جوز النَّقْض للْحكم الْمَذْكُور (نقض) ذَلِك (النَّقْض) أَيْضا (وتسلسل) إِذْ لَا يَنْتَهِي النَّقْض بعد فتح بَابه إِلَى حد (فَيفوت) فَائِدَة (نصب الْحَاكِم من قطع المنازعات) بَيَان للفائدة، وَحكى الِاتِّفَاق على هَذِه المسئلة الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا، فَلَا وَجه لتجويز الْبَعْض نقض مَا بَان فِيهِ أَن غَيره أصوب (وَفِي أصُول الشَّافِعِيَّة لَو حكم) حَاكم مُجْتَهد (بِخِلَاف اجْتِهَاده وَإِن) كَانَ (مُقَلدًا فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الحكم مُجْتَهدا آخر (كَانَ) ذَلِك الحكم (بَاطِلا اتِّفَاقًا) أَفَادَ بِأَن الوصلية أَنه لَو حكم بِخِلَاف اجْتِهَاده من غير اتِّبَاع مُجْتَهد آخر كَانَ ذَلِك أولى بِالْبُطْلَانِ (وَعلل) الْبطلَان كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (بِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بظنه وَعدم جَوَاز تَقْلِيده) مَعْطُوف على مَدْخُول الْبَاء فِي قَوْله أَنه: أَي وَعلل بِعَدَمِ جَوَاز تَقْلِيده (إِجْمَاعًا) أَي أجمع على الْوُجُوب وَعدم الْجَوَاز الْمَذْكُورين إِجْمَاعًا (إِنَّمَا الْخلاف) فِي جَوَاز (التَّقْلِيد (قلبه) اي الِاجْتِهَاد (على مَا مر، وَأَنت علمت قَول أبي حنيفَة بنفاذ قَضَائِهِ) أَي الْمُجْتَهد (على خلاف اجْتِهَاده فَبَطل عدم نفاذه) أَي بَطل دَعْوَى اتِّفَاق عدم نفاذه (وَأَن فِي) جَوَاز (التَّقْلِيد بعد الِاجْتِهَاد رِوَايَتَيْنِ) عَن أبي حنيفَة أَيْضا، يرد عَلَيْهِ أَنه ذكر فِي مسئلة الْمُجْتَهد بعد اجْتِهَاده فِي حكم أَنه مَمْنُوع من التَّقْلِيد اتِّفَاقًا، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ ذكر هُنَاكَ على طبق مَا قَالُوا، وَهَهُنَا ذكر اقْتِضَاء تَحْقِيقه (ثمَّ عدل حل التَّقْلِيد لَا يسْتَلْزم عدم النَّفاذ لَو ارْتكب) الْمُجْتَهد التَّقْلِيد الْمحرم على القَوْل بحرمته (فكم) من (تصرف لَا يحل) وَلَكِن (يَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَة ونفاذ لآخر) أَي تصرف آخر كعتق المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا، فَإِن الشِّرَاء تصرف فَاسد وَقد انبنى عَلَيْهِ الْعتْق الصَّحِيح الَّذِي هُوَ تصرف آخر (وللشافعية: فرع) وَهُوَ أَنه (لَو تزوج مُجْتَهد بِلَا ولي) بِنَاء على جَوَازه فِي اجْتِهَاده (فَتغير) اجْتِهَاده بِأَن رَآهُ غير جَائِز (فالمختار التَّحْرِيم مُطلقًا) أَي حكم(4/234)
الْحَاكِم بِالْجَوَازِ أَولا (لِأَنَّهُ) حِينَئِذٍ (مستديم لما يَعْتَقِدهُ حَرَامًا، وَقيل) التَّحْرِيم تقيد (بِقَيْد أَن لَا يحكم بِهِ) أَي بِالْجَوَازِ قبل تغير اجْتِهَاده (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق الْقَيْد الْمَذْكُور بِأَن حرم النِّكَاح بِلَا ولي بَعْدَمَا رفع إِلَى حَاكم يرى جَوَازه فَحكم بِصِحَّة النِّكَاح (نقض الحكم) أَي وَألا يلْزم نقض حكم الْحَاكِم فِي مَحل مُجْتَهد فِيهِ (بِالِاجْتِهَادِ) وَالْحكم لَا ينْقض بِالِاجْتِهَادِ. وَفِيه أَن عدم نقض الحكم مُسلم لَكِن لَا يلْزم مِنْهُ الْحل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَتَأمل (وَلَوْلَا) (مَا) روى (عَن أبي يُوسُف) على مَا سَيَأْتِي (لحكم بِأَن الْخلاف) الْوَاقِع من الْمُطلق جملَة على الْإِطْلَاق (خطأ وَأَن الْقَيْد) الْمَذْكُور (مُرَاد الْمُطلق إِذْ لم ينْقل خلاف فِي) الْمَسْأَلَتَيْنِ (السابقتين) فِي مسئلة (المجتهدة) الْحَنَفِيَّة (زَوْجَة الْمُجْتَهد) الشَّافِعِي، يَعْنِي فِي حلهَا لَهُ وحرمته عَلَيْهَا إِذا قَالَ لَهَا أَنْت بَائِن ثمَّ رَاجعهَا (و) فِي مسئلة (حلهَا) أَي الَّتِي تزَوجهَا مُجْتَهد بِلَا ولي ثمَّ مُجْتَهد بولِي (للاثنين) أَي الْمُجْتَهدين الْمَذْكُورين، حَيْثُ قَالَ فَيلْزم فِيهِ رَفعه إِلَى قَاض يحكم بِرَأْيهِ فَيلْزم الآخر، فَالْحكم بِلُزُوم حكم القَاضِي على الآخر من غير ذكر خلاف دَلِيل على أَن مَا حكم بِهِ القَاضِي فِي مَحل الْخلاف لَا ينْقض بالِاتِّفَاقِ سَوَاء تغير اجْتِهَاد الْمَحْكُوم عَلَيْهِ أَو لم يتَغَيَّر، فَإِذن لزم حمل قَول الشَّافِعِيَّة فِي الْفَرْع الْمَذْكُور بِإِطْلَاق التَّحْرِيم عِنْد تغير الِاجْتِهَاد على مَا إِذا لم يحكم بِهِ حَاكم، لَكِن كَلَام أبي يُوسُف على مَا سَيَأْتِي يدل على أَن مَا ذكر فِي السابقتين لَيْسَ مُتَّفقا عَلَيْهِ (وَلِأَن الْقَضَاء) فِي الْمحل الْمُخْتَلف فِيهِ (يرفع حكم الْخلاف) من جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَترك الْعَمَل بِالْآخرِ فَيصير المقضى بِهِ وَاجِب الْعَمَل بِعَيْنِه إِلَّا إِذا كَانَ نفس الْقَضَاء مُخْتَلفا فِيهِ (لَكِن عِنْده) أَي أبي يُوسُف (فِي مُجْتَهد طلق) امْرَأَته (أَلْبَتَّة) أَي طَلَاق الْبَتَّةَ بِأَن قَالَ أَنْت طَالِق الْبَتَّةَ يَقع بِهِ بَائِن عندنَا، رَجْعِيّ عِنْد الشَّافِعِي (وَنوى) بِهِ (وَاحِدَة فَقضى) عَلَيْهِ (بِثَلَاث) بِأَن كَانَ القَاضِي يرى وُقُوع الثَّلَاث بِهِ لِأَن الْبَتّ الَّذِي هُوَ الْقطع إِنَّمَا يحصل بهَا (إِن كَانَ) الْمُجْتَهد الْمُطلق (مقضيا عَلَيْهِ) بِأَن كَانَ مدعي الثَّلَاث زَوجته (لزم) أَي وَقع عَلَيْهِ الثَّلَاث إلزاما من القَاضِي لحق الْخصم (أَو) كَانَ مقضيا (لَهُ) بِأَن كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي للثلاث (أَخذ) الْمقْضِي لَهُ (بأشد الْأَمريْنِ) وأصعبهما على نَفسه، وَالْمرَاد بالأمرين: الْمقْضِي بِهِ، وَهُوَ الثَّلَاث هُنَا، وَحكم رَأْيه، وَإِنَّمَا لم يتَعَيَّن فِي الْمقْضِي بِهِ لِأَنَّهُ حق الْمقْضِي لَهُ، فَلهُ أَن يتْركهُ وَيَأْخُذ بِمَا هُوَ الأولى مِنْهُ (فَلَو قضى) للزَّوْج الْمُجْتَهد (بالرجعة) أَي بِصِحَّتِهَا فِي طَلَاق اخْتلف فِي كَونه متعقبا للرجعة (ومعتقده) أَي الزَّوْج أَنه يَتَرَتَّب على طَلَاقه (الْبَيْنُونَة يُؤْخَذ بهَا) أَي بالبينونة لكَونهَا أَشد الْأَمريْنِ (فَلم يرفع حكم رَأْيه) أَي الْمُجْتَهد (بِالْقضَاءِ مُطلقًا كَقَوْل مُحَمَّد) فَإِنَّهُ قَالَ يرفع مُطلقًا. قَوْله كَقَوْل مُحَمَّد صفة الْمَفْعُول الْمُطلق: أَي رفعا مثل مقول مُحَمَّد فِي الْإِطْلَاق(4/235)
(وَلَو) فرض (أَن المتزوج مقلد) وَقد كَانَ صِحَة نِكَاحه مَبْنِيا على قَول مقلده (ثمَّ علم تغير اجْتِهَاد إِمَامه فالمختار كَذَلِك) أَي يحرم عَلَيْهِ كإمامه لِأَنَّهُ تبع لَهُ، وَقيل: لَا يحرم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قد بنى عمله على قَول الْمُجْتَهد كَمَا هُوَ وَظِيفَة الْعَاميّ، وَيجْعَل إِمَامه بعد التَّغَيُّر بِمَنْزِلَة مُجْتَهد آخر (وَلَو تغير اجْتِهَاده) أَي الْمُجْتَهد (فِي أثْنَاء صلَاته عمل فِي الْبَاقِي) من صلَاته (بِهِ) أَي بِاجْتِهَادِهِ الثَّانِي (وَالْأَصْل) فِي مَسْأَلَة تغير اجْتِهَاد الْمُجْتَهد (أَن تغيره كحدوث النَّاسِخ يعْمل بِهِ فِي الْمُسْتَقْبل والماضي) من عمله الْمَبْنِيّ على الِاجْتِهَاد الأول ثَابت مُسْتَمر (على الصِّحَّة) .
مسئلة
تعرف بمسئلة التَّعْرِيض (فِي أصُول الشَّافِعِيَّة، الْمُخْتَار جَوَاز أَن يُقَال للمجتهد: احكم بِمَا شِئْت بِلَا اجْتِهَاد فَإِنَّهُ) أَي مَا حكمت بِهِ (صَوَاب) . قَالَ ابْن الصّباغ، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم غير الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بالمجتهد والبيضاوي والسبكي بالعالم وَالنَّبِيّ، فالعامي خَارج. وَقَالَ الْآمِدِيّ بِجَوَازِهِ فِي حق الْعَاميّ أَيْضا، وَمنعه غَيره: وَهَذَا القَوْل فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَحْي، وَفِي غَيره بإعلام النَّبِي أَو بالإلهام، وَقيل: يجوز للنَّبِي دون غَيره. وَذكر ابْن السَّمْعَانِيّ أَن كَلَام الشَّافِعِي فِي الرسَالَة يدل على هَذَا. وَقَالَ أَكثر الْمُعْتَزلَة لَا يجوز. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ أَنه الصَّحِيح (وَتردد الشَّافِعِي) فِي الْجَوَاز (ثمَّ) اخْتلف فِي الْوُقُوع على تَقْدِير الْجَوَاز (الْمُخْتَار عدم الْوُقُوع، وَاسْتَدَلُّوا للتردد بتأديته) أَي الْجَوَاز (إِلَى اخْتِيَار مَا لَا مصلحَة فِيهِ) لعدم التَّأَمُّل وَالِاجْتِهَاد الْموصل إِلَى معرفَة وُجُوه الْمصَالح (فَيكون بَاطِلا) لِأَن الشَّارِع لَا يرتضيه (وَهَذَا) الدَّلِيل (يصلح للنَّفْي) أَي نفي الْجَوَاز (لَا للتردد الْمَفْهُوم مِنْهُ الْوَقْف ثمَّ الْعجب مِنْهُ) أَي الشَّافِعِي كَيفَ تردد فِي الْجَوَاز (وَالْفَرْض) أَي الْمَفْرُوض فِي تَصْوِير المسئلة (قَول الله تَعَالَى) للمجتهد الْمَذْكُور (مَا تحكم بِهِ صَوَاب) وَالله يحكم مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد على أَنه يجوز أَن يصونه بعد هَذَا التَّفْوِيض عَن اخْتِيَار مَا لَا مصلحَة فِيهِ (وَلَا مَانع من) قبل (الْعقل، والأليق أَن تردده فِي الْوُقُوع) لَا فِي الْجَوَاز (كَمَا نقل عَنهُ الْوُقُوع) وَدَلِيله قَوْله تَعَالَى - {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} ) فَإِنَّهُ لَا يحرم يَعْقُوب على نَفسه إِلَّا بتفويض التَّحْرِيم إِلَيْهِ وَإِلَّا يلْزم أَن يفعل مَا لَيْسَ لَهُ، وشأن النَّبِي يَأْبَى ذَلِك (أُجِيب) بِأَنَّهُ (لَا يلْزم كَونه) أَي تَحْرِيم إِسْرَائِيل (عَن تَفْوِيض لجوازه) أَي لجَوَاز كَونه صادرا (عَن اجْتِهَاد فِي) حكم (ظَنِّي) وَإسْنَاد التَّحْرِيم إِلَيْهِ كَمَا يُقَال: حرم أَبُو حنيفَة، وَالْحَاكِم هُوَ الله. (وَقد يُقَال لَو) كَانَ تَحْرِيمه (عَنهُ) أَي عَن اجْتِهَاد (لم يكن كُله) أَي كل الطَّعَام مقولا فِيهِ كَانَ (حلا)(4/236)
لبني إِسْرَائِيل (قبله) أَي قبل اجْتِهَاده الْمُؤَدى إِلَى التَّحْرِيم (لِأَن الدَّلِيل) الَّذِي يرتبه الْمُجْتَهد إِنَّمَا (يظْهر فِي الحكم) الثَّابِت قبله (لَا ينشئه) أَي الدَّلِيل لَا يحدث الحكم (لقدمه) أَي الحكم، لِأَنَّهُ خطاب الله تَعَالَى المنزه عَن أَن يكون صِفَاته حَادِثَة وَالْحَاصِل ان الْقُرْآن دلّ على أَن كل الطَّعَام مِمَّا حرم إِسْرَائِيل وَغَيره قد كَانَ حلا قبل تَحْرِيمه، فَلَو كَانَ تَحْرِيمه بطرِيق الِاجْتِهَاد لزم أَن لَا يكون مَا حرم حلا قبل تَحْرِيمه، بل يكون حَرَامًا لم تظهر حرمته إِلَّا بعد اجْتِهَاده، لِأَن الدَّلِيل مظهر لما كَانَ ثَابتا. (قَالَ) الْقَائِل بالوقوع أَيْضا (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) " إِن الله حرم مَكَّة فَلم تحل لأحد قبلي وَلَا تحل لأحد بعدِي، وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار (لَا يخْتَلى خَلاهَا) وَلَا يعضد شَجَرهَا وَلَا تلْتَقط لقطتهَا إِلَّا الْمُعَرّف ". الخلا مَقْصُور النَّبَات الرَّقِيق مَا دَامَ رطبا. وَفِي الْقَامُوس اختلاه: خره أَو نَزعه (فَقَالَ الْعَبَّاس) يَا رَسُول الله (إِلَّا الأذخر، فَقَالَ إِلَّا الأذخر) والأذخر بِالذَّالِ وَالْخَاء المعجمتين وَكسر الْهمزَة وَالْخَاء: نبت طيب الرَّائِحَة مَعْرُوف و (مثله) أَي مثل هَذَا الالتماس والإجابة على الْفَوْر (لَا يكون) ناشئا (عَن وَحي لزِيَادَة السرعة) فِي الْجَواب على الْقدر الْمُعْتَاد فِي نزُول الْوَحْي مَعَ عدم ظُهُور علاماته (وَلَا) يكون عَن (اجْتِهَاد) لذَلِك أَيْضا (أُجِيب) عَن هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأحد أُمُور: كَون الأذخر لَيْسَ مِنْهُ) أَي من الخلا (واستثناء الْعَبَّاس مُنْقَطع) علم الْعَبَّاس إِبَاحَته باستصحابه حَال الْحل (وَفَائِدَته) أَي الِاسْتِثْنَاء (دفع توهم شُمُوله) أَي شُمُول الخلا: الأذخر من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول (بالحكم) أَي بِاعْتِبَار حكم الَّذِي هُوَ الْمَنْع (وتأكيد حَاله) الَّذِي هُوَ الْحل مَعْطُوف على دفع توهم (أَو) كَون الأذخر (مِنْهُ) أَي من الخلا (وَلم يردهُ) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عُمُوم لفظ خَلاهَا كَمَا قيل: مَا من عَام إِلَّا وَخص مِنْهُ الْبَعْض (وَفهم) الْعَبَّاس (عدمهَا) أَي عدم إِرَادَته (فَصرحَ) بالمراد (ليقرر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِلَّا الأذخر، وَقَررهُ على ذَلِك (وَأورد) على التَّوْجِيه الْأَخير بِأَنَّهُ (إِذا لم يرد) النَّبِي أَو الْعَبَّاس الأذخر بِلَفْظ الخلا (فَكيف يسْتَثْنى) الأذخر مِنْهُ، وَهل يتَصَوَّر الِاسْتِثْنَاء بِدُونِ تنَاول الْمُسْتَثْنى مِنْهُ للمستثنى (أُجِيب) عَن هَذَا الْإِيرَاد (بِأَنَّهُ) أَي الأذخر (لَيْسَ) مُسْتَثْنى (من) الخلا (الْمَذْكُور) فِي كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بل من مثله مُقَدرا) فِي كَلَام الْعَبَّاس، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يخْتَلى خَلاهَا إِلَّا الأذخر، فالعباس أخرج الأذخر بعد شُمُول صدر كَلَامه إِيَّاه، وَأما كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا اسْتثِْنَاء فِيهِ، غير أَن الأذخر غير مندرج فِيهِ (وَهَذَا السُّؤَال) يَعْنِي الْإِيرَاد الْمَذْكُور (بِنَاء) أَي مَبْنِيّ (على مَا تقدم) فِي بحث الِاسْتِثْنَاء (من اخْتِيَار أَن الْمخْرج) من الصَّدْر (مُرَاد بالصدر بعد دُخُوله) أَي الْمخْرج (فِي دلَالَته)(4/237)
أَي الصَّدْر عَلَيْهِ، فالمخرج مَدْلُول الصَّدْر بِاعْتِبَار الْوَضع مُرَاد للمتكلم عِنْد الِاسْتِعْمَال خلافًا لمن قَالَ مَدْلُول لَهُ غير مُرَاد مِنْهُ (ثمَّ أخرج) الْمخْرج بعد الدّلَالَة والإرادة (ثمَّ أسْند) الحكم إِلَى الصَّدْر، فالمحكوم عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ الْبَاقِي بعد الثنيا (وَنحن وجهنا قَول الْجُمْهُور) هُنَا (أَنه) أَي بِأَن الْمخْرج (لم يرد) بالصدر، وَإِن كَانَ مدلولا بِحَسب الْوَضع (و) كلمة (إِلَّا قرينَة عدم الْإِرَادَة) مِنْهُ (كَمَا هُوَ) أَي عدم إِرَادَة بعد إِفْرَاد الْعَام يتَحَقَّق (بِسَائِر التخصيصات) للعمومات (فَلَا حَاجَة للسؤال) أَي إِلَى السُّؤَال (وتكلف هَذَا الْجَواب) لِأَن مدَار السُّؤَال على كَون الْمُسْتَثْنى مرَادا بصدر الْكَلَام وَإِذا لم يكن مرَادا بِهِ لأتيح السُّؤَال (وَإِمَّا مِنْهُ) أَي من الْخَلَاء، وَهِي عديلة قَوْله أَو مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا للْعَطْف على قَوْله لَيْسَ مِنْهُ (وَأُرِيد) أَي الأذخر (بالحكم) وَهُوَ منع الْقطع (ثمَّ نسخ) الحكم الْمَذْكُور (بِوَحْي) سريع النُّزُول (كلمح الْبَصَر) أَي كرجع الطّرف من أَعلَى الحدقة إِلَى أَسْفَلهَا (خُصُوصا على قَول الْحَنَفِيَّة إلهامه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَحي، وَهُوَ إِلْقَاء معنى فِي الْقلب دفْعَة وَأورد) على هَذَا التَّوْجِيه المستدعى لنفي الِاسْتِثْنَاء تَحْقِيقا لِمَعْنى النّسخ أَن يُقَال (الِاسْتِثْنَاء يأباه) أَي النّسخ (أُجِيب بِأَن) النّسخ (الِاسْتِثْنَاء من مُقَدّر للْعَبَّاس) على مَا ذكر (لَا مِمَّا ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنسخ بعده) أَي بعد ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَقْرُونا (مَعَ ذكر الْعَبَّاس) يَعْنِي قَوْله: إِلَّا الأذخر، وَإِنَّمَا قَالَ مَعَ ذكر الْعَبَّاس، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الأذخر مُتَّصِل بِذكرِهِ، وَلَا بُد من سبق النّسخ على قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيلْزم مقارنته مَعَ قَول الْعَبَّاس، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي قَوْله إِلَّا الأذخر (بعده) أَي بعد النّسخ (ثمَّ لَا يخفى أَن اسْتثِْنَاء الْعَبَّاس من مُقَدّر) فِي كَلَامه (على كل تَقْدِير) من التقادير الْمَذْكُورَة سَوَاء قُلْنَا بِانْقِطَاع الِاسْتِثْنَاء أَو باتصاله وَسَوَاء قُلْنَا بالنسخ أَو لَا (لِأَنَّهُ) أَي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا يخْتَلى خَلاهَا " (تركيب مُتَكَلم آخر ووحدة الْمُتَكَلّم مُعْتَبرَة فِي) وحدة (الْكَلَام) فَلَا يجوز أَن يتركب كَلَام وَاحِد من لفظ متكلمين، وَاللَّفْظ الْمُشْتَمل على الِاسْتِثْنَاء كَلَام وَاحِد (على مَا هُوَ الْحق) من الْقَوْلَيْنِ بِاعْتِبَار وحدة الْمُتَكَلّم وَعدم اعْتِبَارهَا وَذَلِكَ (لاشْتِمَاله) أَي الْكَلَام (على النِّسْبَة الإسنادية وَلَا يتَصَوَّر قِيَامهَا بِنَفسِهَا بمحلين) وَإِنَّمَا قَالَ بِنَفسِهَا لِأَن مَا بِنَفسِهَا يتَوَهَّم فِيهِ كَونه مركبا من لفظ اثْنَيْنِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة كلامان، وَنسبَة كلاميهما بِاعْتِبَار نفسيهما فَقَط قَائِمَة بِمحل وَاحِد وَلَكِن بِاعْتِبَار نفسيهما ونظيرها قَائِمَة بمحلين (و) كَذَا الِاسْتِثْنَاء (مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من مُقَدّر بِنَاء على التَّقْدِير الثَّانِي وَهُوَ تَوْجِيه النّسخ جعل مَا قبله من الْوُجُوه الأول لمشاركتها فِي عدم النّسخ، وَإِنَّمَا قَالَ (على الثَّانِي) لِأَن فِي الأول سَوَاء جعل الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا أَو مُتَّصِلا لَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير لِاتِّحَاد الْمُتَكَلّم(4/238)
وَعدم النّسخ المستلزم شُمُول الْخَلَاء للأذخر قبله. (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بالوقوع أَيْضا (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْلَا أَن أشق على أمتِي) أَي لَوْلَا مُخَالفَة إيقاعي إيَّاهُم فِي الْمَشَقَّة (لأمرتهم) بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء. أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وعلقه البُخَارِيّ وَهُوَ صَرِيح فِي أَن الْأَمر وَعَدَمه مفوض إِلَيْهِ، لِأَن مثل هَذَا مَا يَقُوله إِلَّا من كَانَ الْأَمر بِيَدِهِ (وَقَالَ) أَيْضا (لقَائِل أحجنا هَذَا لِعَامِنَا) أَي لسنتنا (أم لِلْأَبَد) أَي هَذَا الْحَج الَّذِي أَتَيْنَا بِهِ حق هَذِه السّنة، أم يكفينا إِلَى آخر الْعُمر: يَعْنِي هُوَ وَظِيفَة كل سنة أم وَظِيفَة الْعُمر، وَالْقَائِل الْأَقْرَع بن حَابِس (فَقَالَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لِلْأَبَد وَلَو قلت نعم) لِعَامِنَا هَذَا (لوَجَبَ) الْحَج عَلَيْكُم فِي كل سنة "، والْحَدِيث صَحِيح اتِّفَاقًا: يَعْنِي لَا تسألوا مثل هَذَا السُّؤَال لِأَنَّهُ يتسبب لقولي نعم فتعجزون وَلَوْلَا أَن الْأَمر مفوض إِلَيْهِ لما أنْجز سُؤَالهمْ إِلَى الْجَواب بنعم، بل مُتَوَقف على الْوَحْي (" وَلما قتل) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النَّضر بن الْحَارِث) أَمر عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بذلك بالصفراء فِي مرجعه من بدر فَقتله صبرا (ثمَّ سمع) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا أنشدته أُخْته قتيلة) على مَا ذكر ابْن إِسْحَاق وَابْن هِشَام واليعمري. وَقَالَ السُّهيْلي: الصَّحِيح أَنَّهَا بنت النَّضر وَمَشى عَلَيْهِ الذَّهَبِيّ وَغَيره.
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق)
(فِي أَبْيَات) سَابِقَة على هَذَا مَذْكُورَة فِي الشَّرْح، وَالْمعْنَى أَي شَيْء كَانَ يَضرك لَو عَفَوْت؟ والفتى وَإِن كَانَ مضجرا مطويا على حنق وحقد قد يمن وَيَعْفُو (قَالَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو بَلغنِي هَذَا) الشّعْر (قبل قَتله لمننت عَلَيْهِ) وَذكر الزبير بن بكار: فرق لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى دَمَعَتْ عَيناهُ، وَقَالَ لأبي بكر لَو سَمِعت شعرهَا مَا قتلت أَبَاهَا " فَلَو لم يكن الْقَتْل وَعَدَمه إِلَيْهِ لَكَانَ بُلُوغ الشّعْر وَعَدَمه على السوية (أُجِيب بِجَوَاز كَونه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خير فِيهَا) فِي هَذِه الصُّور الثَّلَاث (معينا) أَي تخييرا مَخْصُوصًا بهَا لِأَنَّهُ قيل لَهُ أَنْت مُخَيّر فِي إِيجَاب السُّؤَال وَعَدَمه وتكرار الْحَج وَعَدَمه وَقتل النَّضر وَعَدَمه.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا الِاحْتِمَال مَعَ بعده يأباه السِّيَاق خُصُوصا فِي الْأَخيرينِ (أَو) كَون مَا ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِوَحْي سريع) لَا من تِلْقَاء نَفسه (وَلَا يخفى أَن) الْجَواب (الأول رُجُوع عَن الدَّعْوَى، وَهُوَ) أَي الدَّعْوَى (أَنه) أَي التَّفْوِيض (لم يَقع اعترافا بالْخَطَأ) فِي نفي الْوُقُوع مُطلقًا، وَلَك أَن نقُول بِجَوَاز أَن يكون مُرَاد الْمُدعى نفي التَّفْوِيض الْمُطلق فَلَا يُنَافِيهِ الْوُقُوع فِي الْجُمْلَة فَتَأمل (فَالْحق أَنه) أَي التَّفْوِيض فِي الْجُمْلَة (وَقع وَلَا يُنَافِي) وُقُوعه (مَا تقدم من أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (متعبد بِالِاجْتِهَادِ) أَي مَأْمُور بِهِ عِنْد حُضُور الْوَاقِعَة وَعدم النَّص (لِأَن وُقُوع التَّفْوِيض فِي أُمُور مَخْصُوصَة لَا يُنَافِيهِ) أَي كَونه متعبدا بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ وُقُوعه فِي(4/239)
الْكل وَلَا يخفى أَن المُصَنّف لَا يَدعِي مثل دَعوَاهُم حَتَّى يلْزم عَلَيْهِ الرُّجُوع عَن الدَّعْوَى بِهَذَا التَّحْقِيق (وَإِذن) أَي وَإِذا كَانَ التَّفْوِيض وَاقعا فِي الْجُمْلَة (فكونه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَذَلِك) أَي فوض إِلَيْهِ (فِي الأذخر أسهل مِمَّا تكلّف) فِي أجوبته (وَأقرب إِلَى الْوُجُود) بِحَسب نفس الْأَمر. وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: هَذِه المسئلة وَإِن أوردهَا متكلمو الْأُصُولِيِّينَ فَلَيْسَتْ بمعروفة بَين الْفُقَهَاء، وَلَيْسَ فِيهَا كثير فَائِدَة لِأَنَّهَا فِي غير الْأَنْبِيَاء لم تُوجد وَلَا يتَوَهَّم وجوده فِي الْمُسْتَقْبل.
مسئلة
(يجوز خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد) كَمَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْأَكْثَر مِنْهُم الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (خلافًا للحنابلة) والأستاذ أبي إِسْحَاق والزبيري من الشَّافِعِيَّة فِي منع الْخُلُو مُطلقًا وَلابْن دَقِيق الْعِيد فِي مَنعه قبل اشْتِرَاط السَّاعَة الْكُبْرَى، وَالظَّاهِر عدم الْخلاف فِيمَا بعْدهَا وَأَن إِطْلَاق الْمُخَالف مَحْمُول على مَا دون هَذَا. (لنا لَا مُوجب) لمَنعه (وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم الْمُوجب (بل دلّ على الْخُلُو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أَن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا) ينتزعه من الْعباد وَلَكِن ينتزعه بِقَبض الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِلَى قَوْله حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأظلوا ") رَوَاهُ أَحْمد والستة، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم وَيثبت الْجَهْل " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَا يخفى أَن هَذَا لَا يقوم حجَّة على ابْن دَقِيق الْعِيد وعَلى الْحَنَابِلَة أَيْضا أَن حمل إِطْلَاقهم على مَا قبل الأشراط (قَالُوا) أَي الْحَنَابِلَة. (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق) من الظُّهُور: يَعْنِي الْغَلَبَة (حَتَّى يَأْتِي أَمر الله) وهم ظاهرون ". أخرجه البُخَارِيّ بِدُونِ لفظ على الْحق لكنه مَوْجُود فِي بعض الرِّوَايَات فَيحمل عَلَيْهِ، وَفِي بعض الرِّوَايَات حَتَّى تقوم السَّاعَة فَهُوَ المُرَاد بِأَمْر الله (أَو حَتَّى يظْهر الدَّجَّال) وَكلمَة أَو للشَّكّ فِي لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفس الْأَمر بِسَبَب اخْتِلَاف الرِّوَايَات، ثمَّ الظُّهُور على الْحق لَا يُمكن إِلَّا بِالْعلمِ، وَلَا علم بِدُونِ الِاجْتِهَاد كَمَا بَين فِي مَحَله (أُجِيب) بِأَنَّهُ (لَا يدل) الحَدِيث (على نفي الْجَوَاز) بل على نفي الْوُقُوع، وَالْمُدَّعى نفي الْجَوَاز (وَلَا يخفى أَن مُرَادهم) أَي الْحَنَابِلَة من قَوْلهم لَا يجوز (لَا يَقع) خلو الزَّمَان عَنهُ لحمل الْجَوَاز على الْوُقُوع بِدَلِيل قَوْلهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق عدم الْوُقُوع بِأَن يَقع الْخُلُو (لزم كذبه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ بَين اللُّزُوم بقوله (والْحَدِيث يفِيدهُ) أَي عدم الْوُقُوع لدلالته على اسْتِمْرَار وجود الْعَالم إِلَى قيام السَّاعَة. وَخبر أَن مَجْمُوع قَوْله لَا يَقع إِلَى قَوْله لزم كذبه، ثمَّ علل كَون ذَلِك مرَادا بقوله: أَي تَرْجِيح الحَدِيث الدَّال على الْجَوَاز على الحَدِيث الدَّال على عَدمه (إِذْ لَا يَتَأَتَّى لعاقل إحالته) أَي الْخُلُو (عقلا) فهم يُرِيدُونَ نفي(4/240)
الْوُقُوع من طَرِيق السّمع لَا الْعقل (فَالْوَجْه) فِي الْجَواب (التَّرْجِيح) أَي تَرْجِيح الحَدِيث الدَّال على عَدمه (بأظهرية الدّلَالَة) أَي دلَالَة الحَدِيث الدَّال على الْجَوَاز بل على الْوُقُوع (على نفي الْعَالم الْأَعَمّ من الْمُجْتَهد) وَنفي الْعَام مُسْتَلْزم نفي الْخَاص (بِخِلَاف الظُّهُور على الْحق) فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم وجود الْمُجْتَهد (لِأَنَّهُ) أَي الظُّهُور على الْحق (يتَحَقَّق بِدُونِ اجْتِهَاد كَمَا يتَحَقَّق بِإِرَادَة الِاتِّبَاع) شبه تحقق الظُّهُور على الْحق عِنْد فقد الْمُجْتَهد بتحقق وجود الْمُجْتَهد بِقصد اتِّبَاعه قصدا مَقْرُونا بِالْفِعْلِ (وَلَو تَعَارضا) أَي الحديثان أَشَارَ بِكَلِمَة لَو إِلَى أَنه لَا مجَال للتعارض لما ذكر لكنه لَو فرض (بَقِي) لنا للْجُوَاز أَن نقُول عدم الْجَوَاز لَا يكون بِلَا مُوجب، وَالْأَصْل (عدم الْمُوجب. قَالُوا) ثَانِيًا الِاجْتِهَاد (فرض كِفَايَة فَلَو خلا) الزَّمَان عَن الْمُجْتَهد (اجْتَمعُوا) أَي الْأمة (على الْبَاطِل) وَهُوَ الْعِصْيَان بترك الْفَرْض الْمَذْكُور، وَالْبَاطِل ضَلَالَة، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة " (أُجِيب) بِأَنَّهُ (إِذا فرض موت الْعلمَاء) رَأْسا (لم يبْق) الِاجْتِهَاد فرضا، لِأَن شَرط التَّكْلِيف الْإِمْكَان، لَا يُقَال الْإِمْكَان مَوْجُود لوُجُود أَسبَاب الْعلم من الْكتب وَغَيره، لأَنا نقُول لزم الْخُلُو فِي مُدَّة التَّحْصِيل قبل الْحُصُول (على أَنه) أَي هَذَا الدَّلِيل (فِي غير مَحل النزاع لِأَن فرض الْكِفَايَة الِاجْتِهَاد بِالْفِعْلِ) أَي السَّعْي فِي تَحْصِيله وَهُوَ مُمكن للعوام، وَمحل النزاع إِنَّمَا هُوَ حُصُوله بِالْفِعْلِ، وَالْأول مَوْجُود عِنْد موت الْعلمَاء دون الثَّانِي، عَن السُّبْكِيّ لم يثبت خلو الزَّمَان من الْمُجْتَهد، فَإِن أَرَادَ الْمُطلق مُخَالفَة قَول الْقفال وَالْغَزالِيّ: الْعَصْر خلا عَن الْمُجْتَهد المستقل، وَقَالَ الرَّافِعِيّ بالخلو كالمتفقين على أَنه لَا مُجْتَهد الْيَوْم، وَفِي الْخُلَاصَة القَاضِي إِذا قَاس مسئلة على مسئلة فَظهر رَأْيه أَن الحكم بِخِلَافِهِ، فالخصومة للْمُدَّعى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة على القَاضِي وعَلى الْمُدعى لِأَنَّهُ لَيْسَ أحد من أهل الِاجْتِهَاد فِي زَمَاننَا. وَلما فرغ من الِاجْتِهَاد شرع فِي مُقَابِله وَهُوَ الاستفتاء والبحث فِيهِ عَن الْمُقَلّد والمفتي والاستفتاء وَمَا فِيهِ الاستفتاء فَقَالَ.
مسئلة
(التَّقْلِيد الْعَمَل بقول من لَيْسَ قَوْله إِحْدَى الْحجَج بِلَا حجَّة مِنْهَا) وَإِنَّمَا عرفه ابْن الْحَاجِب بِالْعَمَلِ بقول الْغَيْر من غير حجَّة. وَخرج بقوله من غير حجَّة الْعَمَل بقول الرَّسُول وَالْعَمَل بِالْإِجْمَاع وَرُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي إِلَى الْعُدُول فِي شَهَادَتهم لوُجُود الْحجَّة فِي الْكل، فَفِي الرَّسُول المعجزة الدَّالَّة على صدقه فِي الْأَخْبَار عَن الله تَعَالَى وَفِي الْإِجْمَاع مَا مر فِي حجيته، وَفِي قَول الشَّاهِد والمفتي الْإِجْمَاع على وجوب اتباعهما، وَإِنَّمَا عدل المُصَنّف عَنهُ وَقيد الْغَيْر بِمن لَيْسَ قَوْله إِحْدَى الْحجَج من الْكتاب(4/241)
وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، لِأَن الْمُتَبَادر من قَوْله بِلَا حجَّة نفي الْحجَّة الْمَخْصُوصَة بِمَا عمل بِهِ من القَوْل الْخَاص فَحِينَئِذٍ يدْخل الْعَمَل بقول الرَّسُول فِي التَّقْلِيد، لِأَن النَّاس كَانُوا يعْملُونَ بِهِ من غير أَن يعرفوا دَلِيله الْخَاص: وَلذَلِك يعْملُونَ بقول أهل الْإِجْمَاع، من غير أَن يعرفوا ذَلِك فالتقييد لإخراجهما، ثمَّ لما حمل الْحجَّة المنفية على الْخُصُومَة لما مر لزم دُخُول عمل الْعَاميّ بقول الْمُفْتِي فِي التَّقْيِيد على خلاف مَا مَشى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، وَهُوَ يلْتَزم ذَلِك كَمَا قَالَ بعض الْمُحَقِّقين فِي شرح الْمُخْتَصر. وَلَو سمي بعض ذَلِك تقليدا كَمَا سمي فِي الْعرف الْمُقَلّد الْعَاميّ وَقَول الْمُفْتِي تقليدا، فَلَا مشاححة فِي التَّسْمِيَة والاصطلاح، وسيشير إِلَيْهِ المُصَنّف وَبَقِي قَضِيَّة القَاضِي، فَنَقُول إِنَّه غير عَامل بقول الشَّاهِد، بل بقول الله: احكم أَيهَا القَاضِي عِنْد قَوْله وَالله الْمُوفق (فَلَيْسَ الرُّجُوع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم و) أهل (الْإِجْمَاع مِنْهُ) أَي من التَّقْلِيد (بل الْمُجْتَهد والعامي إِلَى مثله) أَي رُجُوع كل مِنْهُمَا إِلَى مثله من التَّقْلِيد (و) الْعَاميّ (إِلَى الْمُفْتِي) أَي رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي أَيْضا من التَّقْلِيد (هَذَا) الَّذِي ذكره من معنى التَّقْلِيد بِحَيْثُ عَم رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي (هُوَ الْمَعْرُوف من قلد عَامَّة مصر الشَّافِعِي وَنَحْوه) أَي هَذَا الَّذِي يعرف، وَيُسْتَفَاد من قَوْلهم: قلد عَامَّة مصر الشَّافِعِي وَنَحْوه كَقَوْلِهِم: قلد عَامَّة الرّوم أَبَا حنيفَة، وَالْمَشْهُور الْمَعْرُوف أولى بِالِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ يتلَقَّى بِالْقبُولِ، بل يظْهر أَنه من عرف السّلف وَأَيْضًا على تَقْدِير اخْتِصَاصه بِرُجُوع الْمُجْتَهد أَو الْعَاميّ إِلَى مثله يلْزم أَن لَا يكون لَهُ فَرد مَشْرُوع أصلا وَهُوَ خلاف الظَّاهِر، لَكِن بَقِي شَيْء: وَهُوَ أَن الْمُقَلّد الَّذِي عِنْده طرف من الْعلم بِحَيْثُ يعرف تفاصيل الْأَدِلَّة كَيفَ يصدق عَلَيْهِ أَنه أَخذ بقول إِمَامه بِلَا حجَّة فَالْجَوَاب أَن معرفَة الدَّلِيل إِنَّمَا تكون للمجتهد لَا لغيره لتوقفها على سَلَامَته من الْمعَارض، وَهِي متوقفة على استقراء الْأَدِلَّة فَلَا يَتَيَسَّر إِلَّا للمجتهد، وَالْمرَاد تقربا لقَوْل مَا يعم الْفِعْل والتقرير تَغْلِيبًا (وَكَانَ الْوَجْه جعل الْمُعَرّف بِمَا ذكر) من التَّعْرِيف (التقلد لِأَنَّهُ) أَي الْمُقَلّد بِصِيغَة الْمَفْعُول (جعل قَوْله قلادة) فِي عتق من عمل بقوله، فالتابع متقلد وتبعيته تقلد (فتصحيحه) أَي تَصْحِيح وَجه التَّسْمِيَة (جعل عمله قلادة إِمَامه) لكَون الإِمَام ضَامِنا صِحَّته عِنْد الله تَعَالَى (والمفتى الْمُجْتَهد وَهُوَ) أَي الْمُجْتَهد (الْفَقِيه) اصْطِلَاحا أصوليا، وَقد سبق تَعْرِيف الْفِقْه، وَيشْتَرط فِي قبُول فتواه الْعَدَالَة حَتَّى يوثق بِهِ لَا فِي صِحَة اجْتِهَاده، وللمفتي رد الْفَتْوَى إِذا كَانَ فِي الْبَلَد غَيره أَهلا لَهَا خلافًا للحليمي، وَلَا يلْزمه جَوَاب مَا لم يَقع وَمَا لَا يحْتَملهُ السَّائِل وَلَا يَنْفَعهُ. قَالَ ابْن أبي ليلى: أدْركْت مائَة وَعشْرين من الْأَنْصَار من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل أحدهم عَن الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول، وَقد نهى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الغلوطات بِفَتْح(4/242)
الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَصْلهَا أغلوطات. قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: هِيَ شَدَّاد الْمسَائِل. وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " سَيكون أَقوام من أمتِي يغلطون فقهاءهم أُولَئِكَ شرار أمتِي " (والمستفتى من لَيْسَ إِيَّاه) أَي مفتيا (وَدخل) فِي المستفتى (الْمُجْتَهد فِي الْبَعْض) من الْمسَائِل الاجتهادية لاستكمال مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْبَعْض من الْكتاب وَالسّنة وَسَائِر الشُّرُوط فَهُوَ مستفتى (بِالنِّسْبَةِ إِلَى) الْمُجْتَهد (الْمُطلق) حَيْثُ قُلْنَا بتجزؤ الِاجْتِهَاد فَهُوَ مفت فِي بعض الْأَحْكَام مستفتي فِي الآخر (والمستفتى فِيهِ) الْأَحْكَام (الفرعية الظنية) . قَالَ المُصَنّف (والعقلية) مِمَّا يتَعَلَّق بالاعتقاد (وَلذَا) أَي وَلكَون المستفتى فِيهِ قد يكون عقليا (صححنا إِيمَان الْمُقَلّد وَإِن أثمناه) فَلَو كَانَ إيمَانه غير صَحِيح مَعَ كَونه آثِما لما كَانَ يَتَرَتَّب على استفتائه ثَمَرَة أصلا، فصحة إيمَانه تدل على أَن الْإِيمَان وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بالاعتقاد مِمَّا يتَجَزَّأ فِيهِ الاستفتاء، غَايَة الْأَمر أَن المستفتى آثم إِذا اكْتفى بِمُجَرَّد التَّقْلِيد فِيهِ، وَلم يجْتَهد فِي تَحْصِيل الْعلم بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَكثير من الْمُتَكَلِّمين وَقيل لَا يسْتَحق اسْم الْمُؤمن إِلَّا بعد عرفان الْأَدِلَّة، وَهُوَ مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ (فَمَا يحل الاستفتاء فِيهِ) الْأَحْكَام (الظنية لَا الْعَقْلِيَّة) الْمُتَعَلّقَة بالاعتقاد فَإِن الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم (على) الْمَذْهَب (الصَّحِيح) فَلَا يجوز التَّقْلِيد فِيهَا، بل يجب تَحْصِيلهَا بِالنّظرِ الصَّحِيح، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين: وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب، بل حَكَاهُ الْأُسْتَاذ الاسفراينى عَن إِجْمَاع أهل الْعلم من الْحق وَغَيرهم من الطوائف، فقد عرفت أَن الْحق عدم الاستفتاء فِي الْعَقْلِيَّة (لَا قصر صِحَّته) أَي صِحَة المستفتى فِيهِ (على الظنية) بِأَن لَا يَصح المستفتى فِيهِ إِلَّا إِذا كَانَ من الْأَحْكَام الظنية، بل يَصح إِذا كَانَ من الْعَقْلِيَّة أَيْضا صِحَة مقرونة مَعَ اسْم المستفتى الْعَامِل بِتِلْكَ الْفَتْوَى تقليدا (كوجوده تَعَالَى) مِثَال للعقلية: أَي كَالْحكمِ بِوُجُودِهِ تَعَالَى تقليدا لمن أفتى بِهِ، فَإِنَّهُ صَحِيح يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الْإِيمَان، غير أَن المستفتى آثم بتقاعده عَن الِاسْتِدْلَال (وَقيل يجب) التَّقْلِيد فِي الْعَقْلِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالاعتقاد (وَيحرم النّظر) والبحث فِيهَا، وَالْقَائِل قوم من أهل الحَدِيث، وَنسبه الزَّرْكَشِيّ إِلَى الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَلم يحفظ عَنْهُم، وَإِنَّمَا توهم من نهيهم عَن تعلم علم الْكَلَام، وَهُوَ مَحْمُول على من خيف أَن يزل فِيهِ لعدم استقامة طبعه (و) قَالَ (الْعَنْبَري) وَبَعض الشَّافِعِيَّة (يجوز) التَّقْلِيد فِيهَا وَلَا يجب النّظر (لنا الْإِجْمَاع) معقد (على وجوب الْعلم بِاللَّه تَعَالَى) وَصِفَاته على الْمُكَلف (وَلَا يحصل) الْعلم بِهِ (بالتقليد لَا مَكَان كذبه) أَي الْمُفْتِي الْمُقَلّد (إِذْ نَفْيه) أَي الْكَذِب عَنهُ (بِالضَّرُورَةِ مُنْتَفٍ) يَعْنِي عدم كذبه لَيْسَ ببديهي، إِذْ لَيْسَ بمعصوم عِنْد المستفتى فَلَا يحصل الْعلم بِخَبَرِهِ فَإِن قلت: فعلى هَذَا لَا يَصح إِيمَان الْمُقَلّد، لِأَن الْمُعْتَبر فِي الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ الْعلم وَلم يحصل قلت:(4/243)
الْأَمر كَذَلِك إِذا لم يحصل الْعلم، وَأما إِذا حصل من غير مُوجب يَقْتَضِيهِ حتما حكمنَا بِصِحَّتِهِ لحُصُول الْمَقْصُود وأثمناه لتَقْصِيره فِي تَحْصِيله على وَجه لَا يَزُول بتشكيك المشكك (وبالنظر) أَي نظر الْمُقَلّد فِيمَا يُوجب الْعلم بِاللَّه تَعَالَى وَصِفَاته (لَو تحقق يرفع التَّقْلِيد) لِأَن التَّقْلِيد إِنَّمَا هُوَ الْعَمَل بقول الْغَيْر من غير حجَّة، وَقد تحقق الْحجَّة بِالنّظرِ الْمَذْكُور: فعلى هَذَا أَكثر الْعَوام لَيْسُوا بمقلدين فِي الْإِيمَان لأَنهم علمُوا بِالنّظرِ، وَإِن عجزوا عَن تَرْتِيب الْمُقدمَات على طَريقَة أهل الْعلم كَمَا عرف (وَلِأَنَّهُ) مَعْطُوف على قَوْله لَا مَكَان كذبه (لَو حصل) الْعلم بالتقليد (لزم النقيضان بتقليد اثْنَتَيْنِ) اثْنَيْنِ (فِي حُدُوث الْعَالم وَقدمه) بِأَن يحصل لزيد الْعلم بحدوثه تقليدا للقائل بِهِ ولعمرو الْعلم بقدمه تَقْلِيد الْقَائِل بِهِ، إِذْ الْعلم يستدعى الْمُطَابقَة فَيلْزم حقية الْحُدُوث والقدم. قَالَ (المجوز) للتقليد فِي الْعَقْلِيَّة (لَو وَجب النّظر) فِيهَا (لفعله) أَي النّظر (الصَّحَابَة وَأمرُوا بِهِ) مَعْطُوف على فعله، فَإِنَّهُم لَا يتركون الْوَاجِب (وَهُوَ) أَي كل وَاحِد من الْفِعْل وَالْأَمر (مُنْتَفٍ) عَنْهُم خُصُوصا عَن عوامهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ذَلِك منتفيا بِأَن وجد مِنْهُم (لنقل) إِلَيْنَا (كَمَا) نقل عَنْهُم النّظر (فِي الْفُرُوع) فَلَمَّا لم ينْقل عَنْهُم علم أَنه لم يَقع (الْجَواب منع انْتِفَاء التَّالِي) أَي عدم فعلهم وَأمرهمْ وَإِلَّا لزم جهلهم بِاللَّه تَعَالَى، لِأَن الْعلم بِهِ لَيْسَ بضروري (بل علمهمْ و) علم (عَامَّة الْعَوام) فِي زمانهم كَانَ ناشئا (عَن النّظر إِلَّا أَنه) أَي النّظر والبحث (لم يدر بَينهم) دورانا ظَاهرا كَمَا بَينا (لظُهُوره) أَي النّظر ومادته عِنْدهم لصفاء قُلُوبهم بمشاهدة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. ونزول الْوَحْي، وبركة الصُّحْبَة وَالتَّقوى (ونيله بِأَدْنَى الْتِفَات إِلَى الْحَوَادِث) الدَّالَّة على وجود الْمُحدث الْقَدِيم، وحياته، وَعلمه، وَقدرته إِلَى غير ذَلِك كوحدته بِاعْتِبَار نظامها المستمر بِلَا خلل (وَلَيْسَ المُرَاد) من النّظر الْوَاجِب (تحريره) أَي تَقْرِيره وتقويمه (على) طبق (قَوَاعِد الْمنطق) كالقياس الاقتراني المنقسم إِلَى الأشكال الْأَرْبَعَة والاستثنائي بأقسامه (وَمن أصغى) أَي أمال سامعته (إِلَى عوام الْأَسْوَاق امْتَلَأَ سَمعه من استدلالهم بالحوادث) على مَا ذكر (والمقلد الْمَفْرُوض) أَي الْقَائِل بقول الْغَيْر من غير حجَّة فِي الْإِيمَان بِأَن يصدق بِاللَّه وَصِفَاته بِمُجَرَّد السماع من غير أَن يخْطر بِبَالِهِ مَا يدل عَلَيْهِ من الْآيَات (لَا يكَاد يُوجد، فَإِنَّهُ قل أَن يسمع من لم ينْقل ذهنه قطّ من الْحَوَادِث إِلَى موجدها وَلم يخْطر لَهُ الموجد) أَي لم يخْطر بِبَالِهِ الموجد عِنْد مُشَاهدَة الْحَوَادِث، فَقَوله وَلم يخْطر عطف تفسيري لقَوْله من لم ينْتَقل (أَو خطر) لَهُ الموجد (فَشك فِيهِ) أَي فِي وجوده مَعْطُوف على لم يخْطر فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُقَابل بقوله من لم ينْتَقل (من يَقُول لهَذِهِ الموجودات: رب أوجدها متصف بِالْعلمِ بِكُل شَيْء وَالْقُدْرَة الخ) أَي آخر مَا يُؤمن بِهِ من الصِّفَات الْمَوْصُول الأول فَاعل يسمع، وَالثَّانِي مَفْعُوله (فيعتقد)(4/244)
بِالنّصب عطفا على مَدْخُول أَن، وَالْعلَّة بِاعْتِبَارِهِ (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَضْمُون مقول القَوْل (بِمُجَرَّد تَصْدِيقه) أَي الْقَائِل تقليدا لَهُ (من غير انْتِقَال) أَي من غير أَن ينْتَقل ذهنه بِسَبَب هَذَا القَوْل المنبه إِلَى معنى كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن ينْتَقل إِلَيْهِ بِغَيْر مُنَبّه لما هُوَ مركوز فِي جبلته بِمُقْتَضى الْمِيثَاق الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى - {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} - الْآيَة انتقالا (يُفِيد اللُّزُوم) بِاعْتِبَار مُتَعَلّقه، أَعنِي الْمُنْتَقل (بَين الْمُحدث) على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول (والموجد) على صِيغَة اسْم الْفَاعِل، وَإِنَّمَا خص السماع فِي هَذَا الْبَيَان بِمن لم ينْتَقل ذهنه إِلَى الموجد، لِأَن من انْتقل ذهنه إِلَيْهِ قبل هَذَا السماع يَسْتَحِيل أَن يصير مُقَلدًا للقائل الْمَذْكُور، لأَنا لَا نعني لنظر وَالِاسْتِدْلَال إِلَّا هَذَا الِانْتِقَال فَإِن قلت: يجوز أَن يكون انْتِقَاله بطرِيق البداهة قلت: مرْحَبًا بالوفاق فَإِنَّهُ أبعد عَن التَّقْلِيد (قَالُوا) ثَالِثا (وجوب النّظر) أَي الْعلم بِوُجُوبِهِ (دور) أَي مُسْتَلْزم لَهُ (لتوقفه) أَي الْعلم بِالْوُجُوب (على معرفَة الله) تَعَالَى، لِأَن الْوُجُوب عبارَة عَن كَون الْفِعْل مُتَعَلق خطاب الله تَعَالَى اقْتِضَاء، فَمَا لم يعرف الله لم يعرف كَون النّظر مَطْلُوبا لله تَعَالَى لَازِما عَلَيْهِ يَتَرَتَّب على تَركه الْعقَاب، فمعرفة وجوب النّظر مَوْقُوف على معرفَة الله تَعَالَى، وَقد تقرر أَن معرفَة الله تَعَالَى مَوْقُوفَة على النّظر، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، فَإِن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ معرفَة الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ ذَات النّظر لَا الْعلم بِوُجُوبِهِ فَلَا دور: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مُرَادهم أَن الْعلم بِوُجُوب النّظر، إِذْ جعل عِلّة لصدور النّظر يلْزم الدّور، لِأَنَّهُ يلْزم تقدم الْعلم بِالْوُجُوب على معرفَة الله تَعَالَى لِأَن عِلّة الْعلَّة للشَّيْء عِلّة لذَلِك الشَّيْء، فَثَبت توقف معرفَة الله تَعَالَى على الْعلم بِوُجُوب النّظر أَيْضا فَتَأمل (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْعلم بِوُجُوب النّظر مَوْقُوف (على مَعْرفَته) تَعَالَى (بِوَجْه) مَا (وَالْمَوْقُوف على النّظر) الْمَوْقُوف على الْعلم بِوُجُوبِهِ (مَا) أَي معرفَة (بأتم) أَي بِوَجْه أتم (أَي الاتصاف) تَفْسِير للْوَجْه الأتم (بِمَا) أَي بِصِفَات صلَة للاتصاف (يجب لَهُ كالصفات الثَّمَانِية) : الْحَيَاة، وَالْقُدْرَة، وَالْعلم، والإرادة، والسمع، وَالْبَصَر، وَالْكَلَام، والتكوين (وَمَا يمْتَنع عَلَيْهِ) من النقيصة والزوال، لَا يخفى بعده فَالْوَجْه أَن يُقَال: لَيْسَ مُرَاد الْمُجيب بالمعرفة بِوَجْه التَّصَوُّر بِوَجْه، بل مَعْرفَته تَعَالَى من حَيْثُ أَنه مَوْجُود طَالب من عباده النّظر، ليحصل الْعلم بِهِ وبصفاته علما تفصيليا على الْوَجْه الْمَعْرُوف فِي علم الْكَلَام. قَالَ (المانعون) من النّظر، النّظر (مَظَنَّة الْوُقُوع فِي الشّبَه) أَي مَحل ظن الْوُقُوع فِي احتمالات مُوجبَة لشكوك وأوهام مخلة بالتصديق الإيماني: وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ قَوْله (والضلال) فَإِن الشّبَه طَرِيق للضلال الَّذِي هُوَ ضد الْهِدَايَة والعقيدة الصَّحِيحَة، بِخِلَاف التَّقْلِيد فَإِنَّهُ طَرِيق آمن فَوَجَبَ احْتِيَاطًا، ولوجوب الِاحْتِرَاز عَن مَظَنَّة الضلال إِجْمَاعًا (قُلْنَا) إِنَّمَا يكون النّظر(4/245)
مَمْنُوعًا (إِذا فعل غير الصَّحِيح الْمُكَلف بِهِ) من النّظر، يَعْنِي أَنه كلف بِالنّظرِ الصَّحِيح، وَهُوَ لَيْسَ بمظنة الْوُقُوع فِيهَا (وَأَيْضًا) إِذا أطلق حُرْمَة النّظر تحرم على كل وَاحِد (فَيحرم على الْمُقَلّد) بِفَتْح اللَّام (النَّاظر إِذْ لَا بُد من الِانْتِهَاء إِلَيْهِ) فَإِنَّهُ يلْزم عَلَيْكُم الِاعْتِرَاف بِأَن التَّقْلِيد يَنْتَهِي إِلَى مقلد علمه حَاصِل بطرِيق النّظر (وَإِلَّا لتسلسل) التَّقْلِيد إِلَى غير نِهَايَة ضَرُورَة أَن الْمُقَلّد لَا بُد لَهُ من مقلد (والانتهاء إِلَى الْمُؤَيد بِالْوَحْي وَالْأَخْذ عَنهُ لَيْسَ تقليدا) أَي الِانْتِهَاء إِلَيْهِ وَالْأَخْذ عَنهُ لَيْسَ على وَجه التَّقْلِيد (بل) على وَجه الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَر لِأَن الْأَخْذ عَن الرَّسُول بقول مخبر صَادِق بِدلَالَة المعجزة الصادقة، وكل مَا أخبر بِهِ الرَّسُول الْمخبر الصَّادِق عَن الْمُرْسل صَادِق حق: وَهَذَا عين النّظر وَالِاسْتِدْلَال، وَلَيْسَ الْعلم الْحَاصِل للأخذ عَن الْمُؤَيد بِالْوَحْي علما تقليديا، بل هُوَ (علم نَظَرِي) .
مسئلة
(غير الْمُجْتَهد الْمُطلق يلْزمه) عِنْد الْجُمْهُور (التَّقْلِيد وَإِن كَانَ مُجْتَهدا فِي بعض مسَائِل الْفِقْه أَو بعض الْعُلُوم) فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا سبق، من أَن الِاجْتِهَاد يجْرِي فِي غير الْفِقْه أَيْضا من العقليات وَغَيرهَا (كالفرائض) أَفَادَ أَن الْفَرَائِض لَيست من الْفِقْه لإدراجها فِيمَا جعل قسيما لَهُ. وَكَيف والمبحوث عَنهُ فِيهَا سِهَام الْمُسْتَحقّين وَمَا يتَعَلَّق بهَا. وَفِي الْفِقْه: أَفعَال الْمُكَلّفين، لَا يُقَال يُمكن إدراجها فِيهِ بِاعْتِبَار كَون الْعباد مكلفين بإيصال تِلْكَ السِّهَام إِلَى الْمُسْتَحقّين، لِأَنَّهُ تكلّف مُسْتَغْنى عَنهُ (على القَوْل بالتجزي) للِاجْتِهَاد: أَي يلْزمه التَّقْلِيد بِنَاء على القَوْل بِأَن الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ فَيجوز أَن يكون شخص مُجْتَهد فِي بعض الْمسَائِل دون بعض (وَهُوَ الْحق) أَي القَوْل بالتجزؤ هُوَ الْحق كَمَا سبق وَجهه، وَأَنه عَلَيْهِ الْأَكْثَر (فِيمَا لَا يقدر عَلَيْهِ) من الْأَحْكَام مُتَعَلق بالتقليد (ومطلقا) أَي وَيلْزمهُ التَّقْلِيد مُطلقًا فِيمَا يقدر عَلَيْهِ وَمَا لَا يقدر عَلَيْهِ من الْأَحْكَام بِنَاء (على نَفْيه) أَي نفي القَوْل بالتجزي (وَقيل) وَالْقَائِل بعض الْمُعْتَزلَة لُزُوم التَّقْلِيد (فِي) حق (الْعَالم) مَشْرُوط (بِشَرْط تَبْيِين صِحَة مُسْتَنده) فِيمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَبَيَّن لَهُ (لم يجز) لَهُ تَقْلِيده (لنا عُمُوم) قَوْله (فاسألوا) أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ (فِيمَن لَا يعلم) سَوَاء كَانَ عاميا صرفا أَو عَالما بِالْبَعْضِ دون الْبَعْض (وَفِيمَا لَا يعلم) من الْأَحْكَام سَوَاء كَانَ مَجْهُولا بالكيلة أَو من وَجه، وَلما لم تكن صِيغَة الْعُمُوم فِيهَا صرفا أَشَارَ إِلَى دَلِيل الْعُمُوم بقوله (لتَعَلُّقه) أَي الْأَمر بالسؤال (بعلة عدم الْعلم) إِضَافَة الْعلم إِلَى الْعَدَم بَيَانِيَّة، فَكلما تحقق عدم الْعلم تحقق وجوب السُّؤَال: وَهَذَا كَمَا يسْتَلْزم الْعُمُوم بِاعْتِبَار الْأَشْخَاص يستلزمه بِاعْتِبَار الْأَحْكَام كَمَا لَا يخفى، دَلِيل العلمية(4/246)
كَمَال مناسبته للعلية مَعَ عدم مَا يصلح لَهَا سواهُ، وَأَن الْغَالِب فِي الشَّرْط النَّحْوِيّ السَّبَبِيَّة (وَأَيْضًا لم يزل المستفتون يتبعُون) الْمُفْتِينَ (بِلَا إبداء مُسْتَند) فِيمَا يفتون بِهِ (وَلَا نَكِير) عَلَيْهِم من أحد، فَكَانَ إِجْمَاعًا سكوتيا على جَوَاز اتِّبَاع الْعَالم من غير إبداء الْمُسْتَند (وَهَذَا) الْوَجْه (يتَوَقَّف) استلزامه عُمُوم الْجَوَاز (على ثُبُوته) أَي الاستفتاء (فِي الْعلمَاء المتأهلين) للِاجْتِهَاد (كَذَلِك) أَي بِلَا إبداء مُسْتَند لَهُم (قَالُوا) أَي الشارطون تَبْيِين صِحَة الْمُسْتَند (يُؤَدِّي) لُزُوم اتِّبَاع الْعَالم بِغَيْر تبينها (إِلَى وجوب اتِّبَاع الْخَطَأ) لِأَن المستفتى يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمَا أفتى بِهِ الْمُفْتِي، وَعند عدم تَبْيِين صِحَة الْمُسْتَند قد يكون خطأ (قُلْنَا وَكَذَا) يُؤَدِّي إِلَى وجوب اتِّبَاع الْخَطَأ (لَو أبدى) صِحَة الْمُسْتَند، لِأَن مَا أبدا صِحَّته قد يكون خطأ أَيْضا لِأَن ظُهُور الصِّحَّة فِي نظرهما لَا يسْتَلْزم الصِّحَّة بِحَسب نفس الْأَمر (وَكَذَا) لُزُوم اتِّبَاع (الْمُفْتى نَفسه) أَي اجْتِهَاد نَفسه يُؤَدِّي إِلَى وجوب اتِّبَاع الْخَطَأ بِغَيْر مَا ذكر، وَكَذَا على نَفسه: وَهَذَا على تَقْدِير نصب نَفسه، وَأما على رَفعه كالمفتي وكالعالم المستفتى الْمُفْتى نَفسه فنفسه تَأْكِيد للمفتى (فَمَا هُوَ جوابكم) فِي الْخَلَاص عَن وجوب اتِّبَاع الْخَطَأ أَيهَا الشارطون فَهُوَ (جَوَابنَا) إِذا لم يبد صِحَة الْمُسْتَند (والحل) أَي حل الشُّبْهَة بِحَيْثُ ينْكَشف حَقِيقَة الْحَال أَن يُقَال: (الْوُجُوب لاتباع) (الظَّن) فِي حق الْمُجْتَهد ومقلده (أَو الحكم من حَيْثُ هُوَ مظنون) أَتَى بِكَلِمَة أَو للتسوية بَين التعبيرين، وَقد وَقع كلا التعبيرين فِي كَلَام الْقَوْم تَنْبِيها على أَن مآلهما وَاحِد وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى بل، كَقَوْلِه تَعَالَى - {مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} -: تَنْبِيها على أَن الَّذِي يجب اتِّبَاعه مَا هُوَ حكم الله تَعَالَى بِاعْتِبَار ظننا، وعَلى هَذَا يقدر قيد الْحَيْثِيَّة فِي جَانب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ: أَي من حَيْثُ أَن مُتَعَلّقه حكم الله تَعَالَى وَالْحَاصِل أَن وجوب اتِّبَاع مَا هُوَ خطأ من كل وَجه مَحْذُور، بِخِلَاف مَا ظن كَونه حكم الله وَإِن كَانَ خطأ فِي نفس الْأَمر، فَإِنَّهُ لم يجب اتِّبَاعه من حَيْثُ أَنه خطأ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا من حَيْثُ هُوَ خطأ) فَإِنَّهُ الْمُمْتَنع (نعم لَو سَأَلَهُ) أَي المستفتى الْمُفْتى (عَن دَلِيله) أَي الحكم استرشادا للإذعان وَالْقَبُول لَا تعنتا (وَجب) على الْمُفْتِي (إبداؤه) أَي الدَّلِيل (فِي) القَوْل (الْمُخْتَار إِلَّا إِن) كَانَ دَلِيله (غامضا) أَي خفِيا (مَعَ قصوره) عَن فهمه، فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ إبداؤه حِينَئِذٍ، عَن الزَّرْكَشِيّ أَن مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ كالمتواتر لَا يجوز فِيهِ التَّقْلِيد لأحد، بل يجب عَلَيْهِ مَعْرفَته بدليله، فَإِنَّهُ لَا يشق مَعْرفَته على الْعَاميّ كالإيمان ثمَّ جُمْهُور الْعلمَاء على أَنه لَا يلْزم على الْمُقَلّد التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه وَقيل فِي الْتِزَام ذَلِك طَاعَة لغير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل أمره وَنَهْيه، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع.(4/247)
انْعَقَد (الِاتِّفَاق على حل استفتاء من عرف) على صِيغَة الْمَجْهُول وَإِضَافَة الاستفتاء إِلَى الْمَوْصُول إِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول (من أهل الْعلم) بَيَان للموصول وَأهل الْعلم أَعم من الْمُجْتَهد لشُمُوله من حصل بعض الْعُلُوم وَلم يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد (بِالِاجْتِهَادِ) مُتَعَلق بقوله عرف (وَالْعَدَالَة) مَعْطُوف على الِاجْتِهَاد ومعروفيته بهما إِمَّا بالشهرة أَو بالخبرة (أَو رَآهُ منتصبا) من نَصبه فانتصب: أَي رَفعه فارتفع، وَمِنْه المنصب لِأَنَّهُ سَبَب الِارْتفَاع، وَالْمعْنَى مرتفعا بَين النَّاس بِسَبَب كَونه ممتازا بَينهم فِي الْعلم (وَالنَّاس يستفتونه) حَال كَونهم (معظمين) لَهُ (وعَلى امْتِنَاعه) أَي الاستفتاء مَعْطُوف على حل الاستفتاء (إِن ظن) المستفتى (عدم أَحدهمَا) أَي الِاجْتِهَاد وَالْعَدَالَة فضلا عَن ظن عدمهما فالصورتان كِلَاهُمَا مَحل الِاتِّفَاق (فَإِن جهل اجْتِهَاده دون عَدَالَته فالمختار منع استفتائه) وَنقل فِي الْمَحْصُول الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَغير الْمُخْتَار جَوَاز استفتائه (لنا) فِي الْمُخْتَار (الِاجْتِهَاد شَرط) فِي الْإِفْتَاء وَقبُول فتواه (فَلَا بُد من ثُبُوته عِنْد السَّائِل وَلَو) كَانَ الثُّبُوت (ظنا) أَي ظنيا (لم يثبت) والمشروط ينتفى بِانْتِفَاء الشَّرْط (وَأَيْضًا ثَبت عَدمه) أَي عدم الِاجْتِهَاد (إِلْحَاقًا) لعدمه فِي الْحَال (بِالْأَصْلِ) أَي بِعَدَمِهِ الْأَصْلِيّ فَإِن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْعَدَم والوجود طَارِئ (كالراوي) الْمَجْهُول الْعَدَالَة لَا تقبل رِوَايَته إِلْحَاقًا لَهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عدم الْعَدَالَة (أَو بالغالب) فِي أهل الْعلم مَعْطُوف على قَوْله بِالْأَصْلِ (إِذْ أَكثر الْعلمَاء بِبَعْض الْعُلُوم) الْجَار مُتَعَلق بالعلماء (الَّتِي لَهَا دخل فِي الِاجْتِهَاد غير مجتهدين) خبر أَكثر الْعلمَاء (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الِامْتِنَاع (لَو امْتنع) الاستفتاء فِيمَن جهل اجْتِهَاده دون عَدَالَته (امْتنع فِيمَن علم اجْتِهَاده دون عَدَالَته) بِمثل مَا ذكرْتُمْ من اشْتِرَاط الْعَدَالَة وَإِن الأَصْل عدمهَا وَالْأَكْثَر فِي الْمُجْتَهدين عدمهَا (أُجِيب بالتزامه) أَي الِامْتِنَاع فِي هَذَا أَيْضا (لاحْتِمَال الْكَذِب) تَعْلِيل لالتزام امْتنَاع الاستفتاء فِي الْمَجْهُول عَدَالَته، فَإِن الْكَذِب فِي الْمُجْتَهد غير نَادِر وَإِن كَانَ غَيره من الفسوق فِيهِ نَادرا (وَلَو سلم عدم امْتِنَاعه وَهُوَ) أَي الاستفتاء فِي مَجْهُول الْعَدَالَة (الْحق، فَالْفرق) بَين مَجْهُول الِاجْتِهَاد ومجهول الْعَدَالَة (أَن الْغَالِب فِي الْمُجْتَهدين الْعَدَالَة، فالإلحاق) أَي إِلْحَاق مَجْهُول الْعَدَالَة (بِهِ) أَي بالغالب فِي الْمُجْتَهدين (أرجح مِنْهُ) أَي من الْإِلْحَاق (بِالْأَصْلِ) فالجار مُتَعَلق بالضمير بِاعْتِبَار رُجُوعه إِلَى الْمصدر توسعة فِي الظروف: يَعْنِي أَن إِلْحَاق مَجْهُول الْعَدَالَة لغالب الْمُجْتَهدين أرجح عقلا وَشرعا من الْإِلْحَاق بِمَا هُوَ الأَصْل فِي الْأَشْيَاء وَهُوَ الْعَدَم، لِأَن الِاسْتِصْحَاب دَلِيل ضَعِيف (بِخِلَاف الِاجْتِهَاد) إِذْ (لَيْسَ) الِاجْتِهَاد (غَالِبا فِي أهل الْعلم فِي الْجُمْلَة) أَي أهل الْعلم بِبَعْض الْعُلُوم، وَشرط الاسفراينى تَوَاتر الْخَبَر بِكَوْنِهِ مُجْتَهدا ورده الْغَزالِيّ بِأَن التَّوَاتُر(4/248)
يُفِيد فِي المحسوسات وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا، ويكفى الاستفاضة بَين النَّاس، وَقَالَ القَاضِي يَكْفِيهِ أَن يُخبرهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ مفت، وَجزم أَبُو إِسْحَاق الاسفراينى بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ خبر الْوَاحِد الْعدْل عَن فقهه وأمانته لِأَن طَرِيقه طَرِيق الْإِخْبَار، وَالْمُخْتَار فِي الْفتيا الِاعْتِمَاد على قَوْله إِنِّي مفت بِشَرْط ظُهُور ورعه، قيل وَهَذَا أصح الْمذَاهب، وَقيل غير ذَلِك.
مسئلة
(إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد بِمذهب مُجْتَهد) أَي بِمَا ذهب إِلَيْهِ مُجْتَهد (تخريجا) نصب على الْمصدر أَي إِفْتَاء تَخْرِيج بِأَن لَا يكون الْمُفْتى بِهِ مَنْصُوصا لصَاحب الْمَذْهَب، لَكِن الْمُفْتى أخرجه من أُصُوله كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا نقل عينه) مَعْطُوف على تخريجا: أَي لَا يكون الْإِفْتَاء بِنَقْل عين مَا ذهب إِلَيْهِ (فَإِنَّهُ) أَي نقل الْعين (يقبل بشرائط) قبُول رِوَايَة (الرَّاوِي) من الْعَدَالَة وَغَيرهَا اتِّفَاقًا وَهَذَا اعْتِرَاض بَين مَوْضُوع المسئلة وجوابها وَهُوَ (إِن كَانَ) غير الْمُجْتَهد (مطلعا على مبانيه) أَي مَأْخَذ مَذْهَب الْمُجْتَهد (أَهلا) للتخريج ولمعرفة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (جَازَ) الْإِفْتَاء جَزَاء الشَّرْط وَالْمَجْمُوع خبر الْمُبْتَدَأ وَهَذَا هُوَ الْمُسَمّى بالمجتهد فِي الْمَذْهَب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن غير الْمُجْتَهد كَذَلِك (لَا) يجوز إفتاؤه تخريجا، وَفِي شرح البديع للهندي وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد كثير من الْمُحَقِّقين من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، فَإِنَّهُ نقل عَن أبي يُوسُف وَزفر وَغَيرهمَا من أَئِمَّتنَا أَنه لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن قُلْنَا، وَعبارَة بَعضهم من حفظ الْأَقَاوِيل وَلم يعرف الْحجَج فَلَا يحل لَهُ أَن يُفْتِي فِيمَا اخْتلف فِيهِ وَلَا يخفى أَن هَذَا مُخَالف لما سبق من قَوْله لَا نقل عينه فَإِنَّهُ يقبل بشرائط الرَّاوِي، فَإِن مُقْتَضَاهُ جَوَاز الْإِفْتَاء بِغَيْر معرفَة الْحجَج، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال إِن ذَلِك لَا يُسمى فِي عرفهم إِفْتَاء (وَقيل) جَازَ إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد بِمذهب مُجْتَهد (بِشَرْط عدم مُجْتَهد) فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَلَا يخفى أَن مُقْتَضى السِّيَاق جَوَاز إفتائه تخريجا وَجَوَاز هَذَا مَعَ فرض عدم الِاطِّلَاع على المباني فِي غَايَة الْبعد، وَلَعَلَّ قَوْله (واستغرب) يكون إِشَارَة إِلَيْهِ، وَقيل المستغرب الْوُلَاة، وَأَيْضًا إِن كَانَ الِاطِّلَاع على المباني مَوْجُودا فَلَا يضر وجود الْمُجْتَهد وَإِلَّا فَلَا يَقع عَدمه فَتَأمل (وَقيل يجوز) إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد بِمذهب الْمُجْتَهد (مُطلقًا) سَوَاء كَانَ مطلعا على المأخذ أم لَا، عدم الْمُجْتَهد أَولا، (و) قيل، اخْتَارَهُ كثير (هُوَ) أَي هَذَا القَوْل (خليق) أَي جدير (بِالنَّفْيِ) أَي بِنَفْي الصِّحَّة إِن حمل على ظَاهره، وَنفي كَونه قولا رَابِعا إِن حمل على خلاف الظَّاهِر كَمَا يدل عَلَيْهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وسيظهر) كَونه خليقا بِالنَّفْيِ. وَقَالَ (أَبُو الْحُسَيْن لَا) يجوز إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد (مُطلقًا) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور فِيهِ، قيل وَبِه قَالَ القَاضِي من الْحَنَابِلَة وَالرُّويَانِيّ من الشَّافِعِيَّة، وروى عَن أَحْمد (لنا وُقُوعه) أَي إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد بِمذهب الْمُجْتَهد (بِلَا نَكِير) فَكَانَ إِجْمَاعًا على جَوَاز إِفْتَاء غير(4/249)
الْمُجْتَهد الْمُطلق إِذا كَانَ مُجْتَهدا فِي الْمَذْهَب (وينكر) أَي الْإِفْتَاء تخريجا (من غَيره) أَي غير الْأَهْل المطلع على المباني (فَإِن قيل إِذا فرض عدم الْمُجْتَهدين) فِي حَال عدم الْإِنْكَار (فعدمه) أَي الْإِنْكَار وَوُجُود الِاتِّفَاق (من غير أهل الْإِجْمَاع لَيْسَ حجَّة، فَالْوَجْه كَونه) أَي جَوَاز الْإِفْتَاء (للضَّرُورَة) لحَاجَة النَّاس وَعدم الْمُجْتَهد (إِذن) أَي إِن لم يُوجد الْمُجْتَهد (قُلْنَا إِنَّمَا يلْزم) وجود الِاتِّفَاق من غير أهل الْإِجْمَاع (لَو منع الِاجْتِهَاد فِي مسئلة) أَي لَو منع تجزى الِاجْتِهَاد والمفروض أَن الْمُفْتِي لَا بُد أَن يكون مُجْتَهدا فِي الْمَذْهَب وَمثله قَادر على الِاجْتِهَاد فِي مسئلة (وَهُوَ) أَي منع تجزى الِاجْتِهَاد (مَمْنُوع) فالمتفقون على جَوَاز الْإِفْتَاء مجتهدون فِي هَذِه الْمَسْأَلَة (فكلاهما) أَي الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاع، وَالِاسْتِدْلَال بِالضَّرُورَةِ (حق، وَبِهَذَا) الْجَواب الَّذِي حَاصله اخْتِيَار تجزى الِاجْتِهَاد الْمُصَحح لكَون الْمُجْتَهدين فِي الْمَذْهَب أَهلا للْإِجْمَاع المستلزم كَون اتِّفَاقهم إِجْمَاعًا (يدْفع دَفعه) مَرْفُوع بيدفع، وَالضَّمِير الْمَجْرُور رَاجع للاعتراض المجاب عَنهُ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُور (لدَلِيل تَقْلِيد الْمَيِّت) اللَّام مُتَعَلق بقوله دَفعه، يعْنى أَن الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور قد كَانَ دافعا لدَلِيل قَول مُخْتَار فَالْجَوَاب الْمَذْكُور كَمَا يدْفع نفس الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور كَذَلِك يدْفع دَفعه، ثمَّ بَين ذَلِك بقوله (وَهُوَ) أَي جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت (الْمُخْتَار) من الْقَوْلَيْنِ (وَهُوَ) أَي دَلِيل تَقْلِيد الْمَيِّت (أَنه) أَي جَوَاز تَقْلِيده (إِجْمَاع) أَي جمع عَلَيْهِ لوُقُوعه فِي ممر الْأَعْصَار من غير نَكِير (فَلَا يُعَارضهُ) أَي هَذَا الدَّلِيل (قَوْلهم) أَي مانعي تَقْلِيده كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ (لَا قَول لَهُ) أَي للْمَيت (وَإِلَّا) لَو كَانَ لَهُ قَول بَاقٍ بعده (لم ينْعَقد الْإِجْمَاع على خِلَافه) أَي خلاف قَول الْمَيِّت (كالحي) أَي كَمَا لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع على خلاف قَول الْحَيّ. والتالي بَاطِل، وَلذَا قُلْتُمْ إِن الْإِجْمَاع الْمُتَأَخر يرفع الْخلاف الْمُتَقَدّم وَإِنَّمَا قُلْنَا فَلَا يُعَارضهُ الخ، لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة، وَقَوْلهمْ لَا قَول الْمَيِّت الخ اسْتِدْلَال ضَعِيف لِأَن عدم مانعية قَول لمَيت انْعِقَاد الْإِجْمَاع لَا يسْتَلْزم أَن لَا يكون مثل قَول الْحَيّ فِي جَوَاز الْإِفْتَاء بِهِ عِنْد عدم الْإِجْمَاع على خِلَافه لِأَن مانعية الْحَيّ انْعِقَاد الْإِجْمَاع لَيْسَ لذاته بل لوُجُود قَائِله، فَإِن اجْتِمَاع الْأمة عبارَة عَن اتِّفَاق الْعلمَاء الْأَحْيَاء كلهم فَلَا ينْعَقد مَعَ خُرُوج عَالم حَيّ عَنهُ، وَوجه دفع الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور دَلِيل الْمَيِّت منع أَهْلِيَّة المتفقين للْإِجْمَاع لعدم كَونهم مجتهدين وَحَيْثُ انْدفع الِاعْتِرَاض انْدفع دَفعه أَيْضا قَالَ (المجوز) للإفتاء مُطلقًا من غير تَقْيِيد باطلاع المباني: الْمُفْتِي (ناقل) كَلَام الْمُجْتَهد فَلَا فرق بَين الْعَالم وَغَيره كَمَا لَا يشْتَرط الْعلم فِي رِوَايَة الحَدِيث (أُجِيب) عَنهُ بِأَنَّهُ (لَيْسَ الْخلاف فِي النَّقْل) أَي فِي الْإِفْتَاء بطرِيق النَّقْل (بل فِي) الْإِفْتَاء بطرِيق (التَّخْرِيج) والاستنباط من الْأُصُول على مَا ذكر (وَإِذن) أَي وَإِذا عرفت أَن إِطْلَاق المجوز مَبْنِيّ على الْغَلَط (سقط هَذَا القَوْل) عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار (لظُهُور أَن مُرَاده) وَهُوَ عُمُوم جَوَاز النَّقْل للْعَالم وَغَيره (اتِّفَاق) أَي مُتَّفق عَلَيْهِ (فَهِيَ) أَي هَذِه الْأَقْوَال فِي هَذِه الْمَسْأَلَة (ثَلَاثَة) لَا أَرْبَعَة: جَوَاز(4/250)
الْإِفْتَاء، وتخريجا بِشَرْط الإطلاع، أَو بِشَرْط عدم الْمُجْتَهد، وَعدم الْجَوَاز مُطلقًا لَو جَازَ الْإِفْتَاء تخريجا بِشَرْط الِاطِّلَاع. قَالَ (أَبُو الْحُسَيْن) فِي عدم الْجَوَاز مُطلقًا (لَو جَازَ) الْإِفْتَاء للْعَالم (لجَاز للعاميّ) بِجَامِع عدم الْبلُوغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد (وَمَا أبعده) مُبَالغَة فِي التَّعَجُّب من بعده عَن الصَّوَاب، حَيْثُ سوى بَين الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ وَعَن الْمَعْقُول حَيْثُ لم يفرق بَينهمَا. (وَالْفرق) بَينهمَا فِي الوضوح (كَالشَّمْسِ) وَفِي شرح الْهِدَايَة للْمُصَنف قد اسْتَقر رَأْي الْأُصُولِيِّينَ على أَن الْمُفْتِي هُوَ الْمُجْتَهد، فَأَما غير الْمُجْتَهد مِمَّن يحفظ أَقْوَال الْمُجْتَهد فَلَيْسَ بمفت، وَالْوَاجِب عَلَيْهِ إِذا سُئِلَ أَن يذكر قَول الْمُجْتَهد على جِهَة الْحِكَايَة فَعرف أَن مَا يكون من فَتْوَى الْمَوْجُودين لَيْسَ بفتوى بل هُوَ نقل كَلَام الْمُفْتِي ليَأْخُذ بِهِ المستفتي وَلَا بُد لَهُ من أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا أَن يكون لَهُ سَنَد فِيهِ إِلَيْهِ أَو يَأْخُذهُ من كتاب مَعْرُوف متداول ككتب مُحَمَّد بن الْحسن وَنَحْوهَا من الْكتب الْمَشْهُورَة للمجتهدين لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور وَكَذَا ذكر الرَّازِيّ، فعلى هَذَا الْوَجْه فِي بعض الْكتب النَّوَادِر فِي زَمَاننَا لَا يَصح عزو مَا فِيهَا إِلَى مُحَمَّد وَلَا إِلَى أبي يُوسُف لعدم الشُّهْرَة والتداول، نعم إِذْ وجد النَّقْل عَن النَّوَادِر فِي كتاب مَشْهُور كالهداية والمبسوط كَانَ ذَلِك تعويلا على ذَلِك الْكتاب انْتهى. وَالْمُخْتَار أَن الرَّاوِي عَن الْأَئِمَّة إِذا كَانَ عدلا فهم كَلَام الإِمَام، ثمَّ حكى للمقلد قَوْله فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ، وَقيل الصَّوَاب أَنه إِذا وجد عَالم لَا يحل الاستفتاء من غَيره وَإِن لم يكن فِي بَلَده أَو ناحيته. إِلَّا من لم يبلغ دَرَجَة أهل الْعلم، فَلَا ريب أَن رُجُوعه إِلَيْهِ أولى من الْإِقْدَام على الْعَمَل بِلَا علم والبقاء فِي الْحيرَة والعمى والجهالة.
مسئلة
(يجوز تَقْلِيد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْأَفْضَل) عِنْد أَكثر الْحَنَابِلَة كَالْقَاضِي وَأبي الْخطاب وَصَاحب الرَّوْضَة، وَقَالَ الْحَنَفِيَّة والمالكية وَأكْثر الشَّافِعِيَّة (وَأحمد، وَطَائِفَة كَثِيرَة من الْفُقَهَاء) متفقون (على الْمَنْع) كَابْن سُرَيج والقفال والمروزي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَالْخلاف فِي الْقطر الْوَاحِد إِذْ لَا خلاف فِي أَنه لَا يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد أفضل أهل الدُّنْيَا، كَذَا ذكره الزَّرْكَشِيّ فِي شَرحه، وَفِي رِوَايَة أَحْمد مَعَ الْجُمْهُور (للْأولِ) أَي مجيزي تَقْلِيد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْأَفْضَل (الْقطع باستفتاء كل صَحَابِيّ مفضول) مَعَ وجود الْأَفْضَل (بِلَا نَكِير على المستفتى) فَكَانَ إِجْمَاعًا من الصَّحَابَة على جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْأَفْضَل (وَهُوَ) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور فِي استلزامه للْمُدَّعِي (مُتَوَقف على كَونه) أَي التَّقْلِيد الْمَذْكُور الْوَاقِع فِي زمن الصَّحَابَة (كَانَ عِنْد مُخَالفَته) أَي الْمَفْضُول (للْكُلّ) أَي لكل من لَا يُوجد أفضل مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَو فرض مُوَافَقَته مَعَ بعض من يُوجد أفضل عَنهُ فِي ذَلِك الْقطر لجَاز أَن يكون عدم الْإِنْكَار عَلَيْهِ بِاعْتِبَار تِلْكَ الْمُوَافقَة (فَإِنَّهُ) أَي كَون(4/251)
تَقْلِيد الْمَفْضُول فِي ذَلِك الزَّمَان: أَي عِنْد مُخَالفَته للْكُلّ (من صورها) أَي من صور مسئلة جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول، فَإِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع على هَذِه الصُّورَة يلْزم انْعِقَاده على جَمِيع الصُّور بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن تَقْلِيد الْمَفْضُول فِي زمانهم عِنْد مُخَالفَته للْكُلّ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يثبت جَمِيع صور هَذِه المسئلة وَثُبُوت هَذَا صَعب. (وَاسْتدلَّ) للْأولِ (بتعذر التَّرْجِيح للعامي) اللَّام مُتَعَلق بالتعذر يَعْنِي لَو منع عَن تَقْلِيد الْمَفْضُول لزم على المستفتى معرفَة من هُوَ فِي الْعلم أرجح، وَهَذَا معنى التَّرْجِيح وَالتَّرْجِيح مُتَعَذر فِي حق الْعَاميّ فَيلْزم فِي حَقه الْحَرج، وَلَا حرج فِي الدّين فَإِن قلت هَذَا يُفِيد الْجَوَاز فِي حق الْعَاميّ لَا فِي حق غَيره، وَجَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول يعم الْكل قلت يجوز أَن يكون مُرَادهم من اطلاق تَجْوِيز تَقْلِيد الْمَفْضُول تَقْلِيد الْعَاميّ. وَأما غير الْعَاميّ فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَيُؤَيّد تَقْيِيد تعذر التَّرْجِيح بالعامي لَكِن الْأَوْجه أَن يكون غير الْعَاميّ مثله فِي هَذَا التجويز لِأَن مَعْرفَته أقل مَرَاتِب على من هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِي الْعلم فيتعذر، وَالتَّرْجِيح فرع ذَلِك، كَيفَ والأعلم أحَاط بِمَا لم يحط بِهِ غَيره، وَمن الْجَائِز أَنه إِذا بلغ مبلغه انْقَلب رَأْيه فَلَا عِبْرَة بترجيحه، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَا مَا نقل من أَن الْمُخْتَار عِنْد ابْن الْحَاجِب أَنه كالعامي الصّرْف لعَجزه عَن الِاجْتِهَاد على مَا ذكر فِي مسئلة لُزُوم التَّقْلِيد لغير الْمُجْتَهد (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي التَّرْجِيح غير مُتَعَذر من الْعَاميّ بل يظْهر لَهُ (بِالتَّسَامُعِ) من النَّاس وبرجوع الْعلمَاء إِلَيْهِ وَعدم رُجُوعه إِلَيْهِم وَكَثْرَة المستفتين. قَالَ (المانعون) من تَقْلِيد الْمَفْضُول (أَقْوَالهم) أَي الْمُجْتَهدين بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلّد (كالأدلة للمجتهد) أَي كالأدلة المتعارضة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد، فَاللَّام فِي قَوْله للمجتهد لاخْتِصَاص الْأَدِلَّة بِهِ، فَلَا يجوز للمقلد الْعَمَل بِأحد الْأَقْوَال بِدُونِ التَّرْجِيح كَمَا لَا يجوز للمجتهد الْعَمَل بِأحد الْأَدِلَّة دون التَّرْجِيح (فَيجب) على الْمُقَلّد (التَّرْجِيح) أَي تَرْجِيح من يُرِيد تَقْلِيده على غَيره من الْمُجْتَهدين. (أُجِيب) بِأَن هَذَا قِيَاس (لَا يُقَاوم مَا ذكرنَا) من الْإِجْمَاع لتقدم الْإِجْمَاع على الْقيَاس إِجْمَاعًا (وَعلمت مَا فِيهِ) أَي فِيمَا ذكرنَا من أَنه يتَوَقَّف على كَونه إِلَى آخِره (وبعسره) مَعْطُوف على جَار ومجرور مُقَدّر صلَة لأجيب وَالتَّقْدِير وَأجِيب بعسر التَّرْجِيح (على الْعَاميّ) بِخِلَاف الْمُجْتَهد فَإِنَّهُ لَا يعسر عَلَيْهِ التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة (وَلَا يخفى أَنه) أَي التَّرْجِيح (إِذا كَانَ بِالتَّسَامُعِ لَا عسر عَلَيْهِ) أَي على الْعَاميّ (وَكَون الِاجْتِهَاد) مُطلقًا هُوَ (المناط) لجَوَاز التَّقْلِيد لَا بِشَرْط شَيْء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا يُقيد) أَي لَا يُقيد بِقَيْد، وَالْجُمْلَة حَال عَن الِاجْتِهَاد فَلَا يتَوَقَّف الْجَوَاز إِلَّا على الِاجْتِهَاد فمهما تحقق الِاجْتِهَاد جَازَ التَّقْلِيد (لنا مَنعه) خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي الْكَوْن الْمُضَاف، والعائد الضَّمِير الْمَجْرُور، يَعْنِي لَا نسم ترَتّب جَوَاز التَّقْلِيد على مُجَرّد الِاجْتِهَاد فِي جَمِيع الصُّور، لأَنا نمْنَع ترتبه عَلَيْهِ (عِنْد مُخَالفَة) الْمُجْتَهد (الْمَفْضُول الْكل) أَي كل من أفضل مِنْهُ، فَعلم أَن(4/252)
مناطا مَشْرُوط بِشَرْط ومقيد بِقَيْد، وَهُوَ أَن لَا يُوجد أفضل مِنْهُ فِي ظَنّه ظنا مَبْنِيا على دَلِيل مُعْتَبر شرعا: نقل الرَّافِعِيّ عَن الْغَزالِيّ لَو اعْتقد أَن أحدهم أفضل لَا يجوز تَقْلِيده لغيره، وَإِن لم يجب عَلَيْهِ الْبَحْث عَن الأعلم إِذا لم يعْتَقد فِي أحدهم زِيَادَة علم، كَذَا نقل عَن ابْن الصّلاح وَإِن، ترجح أَحدهمَا فِي الْعلم وَالْآخر فِي الْوَرع، فالأرجح على مَا ذكره الرَّازِيّ والسبكي الْأَخْذ بقول الأعلم، وَقيل بقول الأورع. وَفِي بَحر الزَّرْكَشِيّ يقدم الأسن.
مسئلة
(لَا يرجع الْمُقَلّد فِيمَا قلد فِيهِ) من الْأَحْكَام أحدا من الْمُجْتَهدين (أَي عمل بِهِ) تَفْسِير لقلد، وَالضَّمِير الْمَجْرُور رَاجع إِلَى الْمَوْصُول (اتِّفَاقًا) نقل الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب الْإِجْمَاع على عدم جَوَاز رُجُوع الْمُقَلّد فِيمَا قلد بِهِ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ: لَيْسَ كَمَا قَالَا، فَفِي كَلَام غَيرهمَا مَا يَقْتَضِي جَرَيَان الْخلاف بعد الْعَمَل أَيْضا (وَهل يُقَلّد غَيره) أَي غير من قَلّدهُ أَو لَا (فِي) حكم (غَيره) أَي غير الحكم الَّذِي عمل بِهِ أَو لَا (الْمُخْتَار) فِي الْجَواب (نعم) يُقَلّد غَيره فِي غَيره، تَقْدِير الْكَلَام الْمُخْتَار جَوَاز التَّقْلِيد لغيره فِي غَيره (للْقطع) بالاستقراء (بِأَنَّهُم) أَي المستفتين فِي كل عصر من زمن الصَّحَابَة (كَانُوا يستفتون مرّة وَاحِدًا) من الْمُجْتَهدين (وَمرَّة غَيره) أَي غير الْمُجْتَهد الأول حَال كَونهم (غير ملتزمين مفتيا وَاحِدًا) وشاع ذَلِك من غير نَكِير: وَهَذَا إِذا لم يلْتَزم مذهبا معينا (فَلَو الْتزم مذهبا معينا كَأبي حنيفَة أَو الشَّافِعِي) فَهَل يلْزم الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ فَلَا يُقَلّد غَيره فِي مسئلة من الْمسَائِل أم لَا؟ (فَقيل يلْزم) كَمَا يلْزمه الِاسْتِمْرَار فِي حكم حَادِثَة مُعينَة قلد فِيهِ، وَلِأَنَّهُ اعْتقد أَن مذْهبه حق فَيجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمُوجب اعْتِقَاده (وَقيل لَا) يلْزم وَهُوَ الْأَصَح، لِأَن الْتِزَامه غير مُلْزم إِذْ لَا وَاجِب إِلَّا مَا أوجبه الله وَرَسُوله، وَلم يُوجب على أحد أَن يتمذهب بِمذهب رجل من الْأمة فيقلده فِي كل مَا يَأْتِي ويذر دون غَيره، والتزامه لَيْسَ بِنذر حَتَّى يجب الْوَفَاء بِهِ. وَقَالَ ابْن خرم: أَنه لَا يحل لحَاكم وَلَا مفت تَقْلِيد رجل فَلَا يحكم وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقوله، بل قيل لَا يَصح للعامي مَذْهَب، لِأَن الْمَذْهَب إِنَّمَا يكون لمن لَهُ نوع نظر وبصيرة بالمذاهب، أَو لمن قَرَأَ كتابا فِي فروع مَذْهَب وَعرف فَتَاوَى إِمَامه وأقواله، وَإِلَّا فَمن لم يتأهل لذَلِك، بل قَالَ: أَنا حَنَفِيّ أَو شَافِعِيّ لم يصر من أهل ذَلِك الْمَذْهَب بِمُجَرَّد هَذَا، بل لَو قَالَ: أَنا فَقِيه أَو نحوي لم يصر فَقِيها أَو نحويا. وَقَالَ الإِمَام صَلَاح الدّين العلائي: وَالَّذِي صرح بِهِ الْفُقَهَاء مَشْهُور فِي كتبهمْ جَوَاز الِانْتِقَال فِي آحَاد الْمسَائِل وَالْعَمَل فِيهَا، بِخِلَاف مذْهبه إِذا لم يكن على وَجه التتبع للرخص (وَقيل) الْمُلْتَزم (كمن لم يلْتَزم) بِمَعْنى (إِن عمل بِحكم تقليدا) لمجتهد (لَا يرجع عَنهُ) أَي عَن ذَلِك الحكم (وَفِي غَيره) أَي غير ذَلِك الحكم (لَهُ تَقْلِيد غَيره)(4/253)
من الْمُجْتَهدين. قَالَ المُصَنّف: وَهَذَا القَوْل فِي الْحَقِيقَة تَفْصِيل لقَوْله، وَقيل لَا. قَالَ المُصَنّف (وَهُوَ) يَعْنِي هَذَا القَوْل (الْغَالِب على الظَّن) كِنَايَة عَن كَمَال قوته بِحَيْثُ جعل الظَّن مُتَعَلقا بِنَفسِهِ فَلَا يتَعَلَّق بِمَا يُخَالِفهُ، ثمَّ بَين وَجه غلبته بقوله (لعدم مَا يُوجِبهُ) أَي لُزُوم اتِّبَاع من الْتزم تَقْلِيده (شرعا) أَي إِيجَابا شَرْعِيًّا، إِذْ لَا يجب على الْمُقَلّد إِلَّا اتِّبَاع أهل الْعلم لقَوْله تَعَالَى - {فاسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} -: فَلَيْسَ الْتِزَامه من الموجبات شرعا (وَيتَخَرَّج) أَي يستنبط (مِنْهُ) أَي من جَوَاز اتِّبَاع غير مقلده الأول وَعدم التَّضْيِيق عَلَيْهِ (جَوَاز اتِّبَاعه رخص الْمذَاهب) أَي أَخذه من الْمذَاهب مَا هُوَ الأهون عَلَيْهِ فِيمَا يَقع من الْمسَائِل (وَلَا يمْنَع مِنْهُ مَانع شَرْعِي، إِذْ للْإنْسَان أَن يسْلك) المسلك (الأخف عَلَيْهِ إِذا كَانَ لَهُ) أَي للْإنْسَان (إِلَيْهِ) أَي ذَلِك المسلك الأخف (سَبِيل) . ثمَّ بَين السَّبِيل بقوله (بِأَن لم يكن عمل بآخر) أَي بقول آخر مُخَالف لذَلِك الأخف (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْمحل الْمُخْتَلف فِيهِ (وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب مَا خفف عَلَيْهِم) . فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِلَفْظ عَنْهُم، وَفِي رِوَايَة بِلَفْظ مَا يُخَفف عَنْهُم: أَي أمته، وَذكروا عدَّة أَحَادِيث صَحِيحَة دَالَّة على هَذَا الْمَعْنى. وَمَا نقل عَن ابْن عبد الْبر: من أَنه لَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص إِجْمَاعًا، فَلَا نسلم صِحَة النَّقْل عَنهُ، وَلَو سلم فَلَا نسلم صِحَة دَعْوَى الْإِجْمَاع، كَيفَ وَفِي تفسيق المتتبع للرخص رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، وَحمل القَاضِي أَبُو يعلى الرِّوَايَة المفسقة على غير متأول وَلَا مقلد (وَقَيده) أَي جَوَاز تَقْلِيد غير مقلده (مُتَأَخّر) وَهُوَ الْعَلامَة الْقَرَافِيّ (بِأَن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ) أَي على تَقْلِيد الْغَيْر (مَا يمنعانه) بإيقاع الْفِعْل على وَجه يحكم بِبُطْلَانِهِ المجتهدان مَعًا لمُخَالفَته الأول فِيمَا قلد فِيهِ غَيره، وَالثَّانِي فِي شَيْء فِيمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة ذَلِك الْعَمَل عِنْده، فالموصول عبارَة عَن إِيقَاع الْفِعْل على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَالضَّمِير الْمَفْعُول للموصول. ثمَّ أَشَارَ إِلَى تَصْوِير هَذَا التفسيق بقوله (فَمن قلد الشَّافِعِي فِي عدم) فَرضِيَّة (الدَّلْك) للأعضاء المغسولة فِي الْوضُوء وَالْغسْل (و) قلد (مَالِكًا فِي عدم نقض اللَّمْس بِلَا شَهْوَة) للْوُضُوء (وَصلى إِن كَانَ الْوضُوء بذلك صحت) صلَاته عِنْد مَالك (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بدلك (بطلت عِنْدهمَا) أَي مَالك وَالشَّافِعِيّ وَلَا يخفى أَنه كَانَ مُقْتَضى السِّيَاق أَن تدلك بطلت عِنْدهمَا من غير الشَّرْط وَالْجَزَاء، لِأَنَّهُ قد علم من التقليدين أَن الْمُقَلّد الْمَذْكُور ترك الدَّلْك ولمس بِلَا شَهْوَة وَلم يعد الْوضُوء، لكنه أَرَادَ أَن يُقَلّد الشَّافِعِي فِي عدم فَرِيضَة الدَّلْك لَو وَقع مِنْهُ الدَّلْك مَعَ عدم اعْتِقَاد فريضته تصح صلَاته عِنْد مَالك فَإِن قلت على هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر شَرْطِيَّة أُخْرَى فِي تَقْلِيد مَالك قلت: اكْتفى بذلك لِأَنَّهُ يعلم بالمقايسة وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن بطلَان الصُّورَة الْمَذْكُورَة عِنْدهمَا غير مُسلم فَإِن مَالِكًا مثلا لم يقل(4/254)
أَن من قلد الشَّافِعِي فِي عدم الصَدَاق أَن نِكَاحه بَاطِل، وَلم يقل الشَّافِعِي أَن من قلد مَالِكًا فِي عدم الشُّهُود أَن نِكَاحه بَاطِل انْتهى وَأورد عَلَيْهِ أَن عدم قَوْلهمَا بِالْبُطْلَانِ فِي حق من قلد أَحدهمَا وراعى مذْهبه فِي جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة الْعَمَل، وَمَا نَحن فِيهِ من قلدهما وَخَالف كلا مِنْهُمَا فِي شَيْء، وَعدم القَوْل بِالْبُطْلَانِ فِي ذَلِك لَا يسْتَلْزم عدم القَوْل بِهِ فِي هَذَا، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن الْفَارِق بَينهمَا لَيْسَ إِلَّا أَن كل وَاحِد من الْمُجْتَهدين لَا يجد فِي صُورَة التلفيق جَمِيع مَا شَرط فِي صِحَّتهَا، بل يجد فِي بَعْضهَا دون بعض، وَهَذَا الْفَارِق لَا نسلم أَن يكون مُوجبا للْحكم بِالْبُطْلَانِ وَكَيف نسلم والمخالفة فِي بعض الشُّرُوط أَهْون من الْمُخَالفَة فِي الْجَمِيع فَيلْزم الحكم بِالصِّحَّةِ فِي الأهون بِالطَّرِيقِ الأولى، وَمن يدعى وجود فَارق أَو وجود دَلِيل آخر على بطلَان صُورَة التلفيق على خلاف الصُّورَة الأولى فَعَلَيهِ بالبرهان فَإِن قلت لَا نسلم كَون الْمُخَالفَة فِي الْبَعْض أَهْون من الْمُخَالفَة فِي الْكل، لِأَن الْمُخَالفَة فِي الْكل تتبع مُجْتَهدا وَاحِدًا فِي جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة الْعَمَل، وَهَهُنَا لم يتبع وَاحِدًا قلت هَذَا إِنَّمَا يتم لَك إِذا كَانَ مَعَك دَلِيل من نَص أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس قوي يدل على أَن الْعَمَل إِذا كَانَ لَهُ شُرُوط يجب على الْمُقَلّد اتِّبَاع مُجْتَهد وَاحِد فِي جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ ذَلِك فَائت بِهِ إِن كنت من الصَّادِقين وَالله تَعَالَى أعلم. وَرجح الإِمَام العلائي القَوْل بالانتقال فِي صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا إِذا كَانَ مَذْهَب غير إِمَامه أحوط كَمَا إِذا حلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث على فعل شَيْء ثمَّ فعله نَاسِيا أَو جَاهِلا وَكَانَ مَذْهَب إِمَامه عدم الْحِنْث فَأَقَامَ مَعَ زَوجته عَاملا بِهِ ثمَّ تخرج مِنْهُ بقول من يرى فِيهِ وُقُوع الْحِنْث فَإِنَّهُ يسْتَحبّ لَهُ الْأَخْذ بالأحوط والتزام الْحِنْث، وَالثَّانيَِة إِذا رأى لِلْقَوْلِ الْمُخَالف لمَذْهَب إِمَامه دَلِيلا قَوِيا راجحا إِذا الْمُكَلف مَأْمُور بِاتِّبَاع نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مُوَافق لما روى عَن الإِمَام أَحْمد والقدوري، وَعَلِيهِ مَشى طَائِفَة من الْعلمَاء مِنْهُم ابْن الصّلاح وَابْن حمدَان.
تَكْمِلَة
(نقل الإِمَام) فِي الْبُرْهَان (إِجْمَاع الْمُحَقِّقين على منع الْعَوام من تَقْلِيد أَعْيَان الصَّحَابَة، بل من بعدهمْ) كلمة بل لعطف من بعدهمْ على أَعْيَان الصَّحَابَة اضرابا عَن حكم النَّفْي الْمُسْتَفَاد من الْمَنْع وإثباتا لضده، وَهُوَ إلزامهم بتقليد من بعد الصَّحَابَة من الْأَئِمَّة (الَّذين سبروا) استئنافا وبيانا كَأَنَّهُ لما ذكر من بعدهمْ قيل من هم؟ فَأجَاب بِهِ، والسبر عِنْد الْأُصُولِيِّينَ: حصر الْأَوْصَاف الصَّالِحَة للعلية فِي عدد ثمَّ إبِْطَال بَعْضهَا وَهُوَ مَا سوى الْعلَّة فِي ظَنّه فَإِن أَرَادَ هَذَا كَانَ إِشَارَة إِلَى كمالهم فِي بَاب الْقيَاس وَالْأَظْهَر أَن يُرَاد مَا هُوَ أَعم من ذَلِك من التعمق وَالتَّحْقِيق، فَإِن أَصله(4/255)
امتحان غور الْحَرج (وَوَضَعُوا) أَبْوَاب الْفِقْه وأصوله وفصولها ومسائلها تَفْصِيلًا (ودونوا) كتبهَا فَإِنَّهُم أوضحُوا وهذبوا، بِخِلَاف مجتهدي الصَّحَابَة فَإِنَّهُم لم يعتنوا بذلك لما أَرَادَ الله من ظُهُور ذَلِك فِي خَلفهم زِيَادَة فِي كمالهم، فَإِن كَون الْخلف إِمَامًا لِلْمُتقين شرف للسلف، وَأَيْضًا مسَائِل الْعُلُوم تتزايد يَوْمًا فيوما بتلاحق الأفكار (و) بنى (على هَذَا) الَّذِي ذكر من إِجْمَاع الْمُحَقِّقين (مَا ذكر بعض الْمُتَأَخِّرين) وَهُوَ ابْن الصّلاح (منع تَقْلِيد غير) الْأَئِمَّة (الْأَرْبَعَة) أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد رَحِمهم الله تَعَالَى (لانضباط مذاهبهم وَتَقْيِيد) مُطلق (مسائلهم وَتَخْصِيص عمومها) أَي مسائلهم (وَلم يدر مثله) أَي مثل هَذَا الصَّنِيع (فِي غَيرهم) من الْمُجْتَهدين (الْآن لانقراض أتباعهم) أَي أَتبَاع غَيرهم من الْمُجْتَهدين، وبانقراض الأتباع تعذر ثُبُوت نقل حَقِيقَة مذاهبهم، وَمن ثمَّة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام: لَا خلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَة، بل إِن تحقق ثُبُوت مَذْهَب عَن وَاحِد مِنْهُم جَازَ تَقْلِيده وفَاقا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ ابْن الْمُنِير يتَطَرَّق إِلَى مَذَاهِب الصَّحَابَة احتمالات لَا يتَمَكَّن الْعَاميّ مَعهَا من التَّقْلِيد، ثمَّ قد يكون الْإِسْنَاد إِلَى الصَّحَابِيّ لاعلى شُرُوط الصِّحَّة، وَقد يكون الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد ذَلِك القَوْل على قَول آخر (وَهُوَ) أَي الْمَذْكُور (صَحِيح) قَالَ الْقَرَافِيّ انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن من أسلم فَلهُ أَن يُقَلّد من شَاءَ من الْعلمَاء من غير حجر وَأجْمع الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَن من استفتى أَبَا بكر وَعمر وقلدهما فَلهُ أَن يستفتى أَبَا هُرَيْرَة وَغَيره وَيعْمل بقوله من غير نَكِير فَمن ادّعى خلاف هذَيْن الاجماعين فَعَلَيهِ الدَّلِيل. وَالله أعلم.
صحّح هَذَا الْكتاب الْجَلِيل. على: نُسْخَة خطية من مكتبة: - مُحَرر الْمَذْهَب النعماني وَأبي حنيفَة الثَّانِي فَضِيلَة الْأُسْتَاذ الْكَبِير وَعلم الْفضل الشهير الشَّيْخ: - مُحَمَّد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سَابِقًا. أَطَالَ الله بَقَاءَهُ وأعز بِهِ الدّين ونفع بِعُلُومِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين آمين
وَهِي الَّتِي تمت كتَابَتهَا بقلم الشَّيْخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد الباجوري فِي 7 محرم سنة 1313 هجرية لفضيلة عَلامَة زَمَانه وفخر أدباء أَوَانه الشَّيْخ " حسن الطَّوِيل " رَحمَه الله آمين مُقَابلَة على نسخ أُخْرَى من الكتبخانة الخديوية المصرية بدرب الجماميز - " دَار الْكتب الملكية " الْآن بميدان بَاب الْخلق
الْقَائِل
تمّ الْكتاب وانقضى وَفعلنَا الَّذِي وَجب
فغفر الله لمن قَرَأَ ودعا للَّذي كتب(4/256)
يَقُول الْفَقِير إِلَى ربه تَعَالَى [أَحْمد سعد عَليّ] أحد عُلَمَاء الْأَزْهَر، وَرَئِيس لجنة التَّصْحِيح، بمطبعة: - شركَة مكتبة ومطبعة (مصطفى البابي الْحلَبِي وَأَوْلَاده) بِمصْر. . .(4/257)