بالْخبر لَا يثبت بِمثلِهِ (فَيدْفَع) مَنْصُوب على أَنه جَوَاب النَّفْي (نافي الْقيَاس) عَن منع هَذَا الْقيَاس (أَو يَنْفَعهُ) أَي نافي الْقيَاس، هَكَذَا حل الشَّارِح هَذَا الْمحل وَقَالَ: هَذَا تَعْرِيض بِدفع جَوَاب السَّائِل الْقَائِل إِذا وَافقه الْقيَاس وَلم يجب الْعَمَل بِهِ كَانَ الحكم ثَابتا بِالْقِيَاسِ فَمَا فَائِدَة جَوَاز الْعَمَل بِهِ بِأَنَّهَا جَوَاز إِضَافَة الحكم ثَابتا إِلَيْهِ فَلَا يتَمَكَّن نافي الْقيَاس من منع هَذَا الحكم لكَونه مُضَافا إِلَى الحَدِيث (وَإِنَّمَا يلْزم) الدّفع أَو النَّفْع (لَو قبله) أَي السّلف الحَدِيث فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يتَمَكَّن من منع الحكم الثَّابِت بِهِ، وَقد يَنْفَعهُ حَيْثُ يضيف الحكم إِلَيْهِ لَا إِلَى الْقيَاس لَكِن الْفَرْض عدم الْعلم بِهِ حَيْثُ لم يظْهر فيهم انْتهى.
أَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق إِذا كَانَ قَوْله فَيدْفَع جَوَاب النَّفْي لزم كَون أحد الْأَمريْنِ الدّفع والنفع لَازم المنفى: وَهُوَ وجوب الْعَمَل بِهِ غير مُتَحَقق مَعَ النَّفْي، أما دفع النَّافِي على تَقْدِير الْوُجُوب فبأن يُقَال: لَو لم يكن الْقيَاس مُعْتَبرا شرعا لما وَجب الْعَمَل بِحَدِيث راو مَجْهُول بِسَبَب مُوَافَقَته، وَأما النَّفْع على ذَلِك التَّقْدِير فبأن يُقَال لَو كَانَ الْقيَاس مُعْتَبرا لما أضيف الحكم إِلَى حَدِيث كَذَا مَعَ وجوده وَعدم تحقق أحد الْأَمريْنِ على تَقْدِير جَوَاز الْعَمَل بِهِ فَلَا يَخْلُو عَن خَفَاء لجَوَاز أَن يُقَال لَو لم يكن الْقيَاس مُعْتَبرا لما جَازَ الْعَمَل بِحَدِيث كَذَا بِسَبَب مُوَافَقَته فَإِنَّهُ لَو خَالفه لما جَازَ الْعَمَل بِهِ، أَو يُقَال: لَو كَانَ الْقيَاس مُعْتَبرا لما أضيف جَوَاز الْعَمَل إِلَى الحَدِيث الْمَذْكُور، بل كَانَ يُضَاف إِلَى الْقيَاس: غير أَن الدّفع والنفع حِينَئِذٍ لَيْسَ يُقَوي مثل الأول فَلم يعْتَبر بِهِ، وَأما تَقْرِير لُزُوم أحد الْأَمريْنِ على تَقْدِير قبُول السّلف فبأن يُقَال: لَوْلَا أَن الْقيَاس من الْأُصُول الشَّرْعِيَّة لما قبل السّلف مثل هَذَا الحَدِيث لموافقته، أَو يُقَال: لَو كَانَ مِنْهَا كَانُوا يضيفون هَذَا الحكم إِلَيْهِ لَا إِلَى مثل هَذَا الحَدِيث، وَأما ادِّعَاء كَونه تعريضا بِدفع الْجَواب الْمَذْكُور عَن السُّؤَال الْمَزْبُور فَمَا يُفْضِي إِلَيْهِ الْعجب، وطوينا الْكَلَام فِي إبِْطَال كثير مِمَّا ذكره هَهُنَا مَخَافَة الإملال عَن إكثار الشغب، هَذَا وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله لَو قبل نافي الْقيَاس وجوب الْعَمَل بِهِ أَو جَوَازه، وَأما إِذا لم يقبل فَلَا يَتَأَتَّى شَيْء من الدّفع والنفع، وَهَذَا الْوَجْه أوجه (وَرِوَايَة مثل هَذَا الْمَجْهُول فِي زَمَاننَا لَا تقبل) مَا لم يتأيد بِقبُول الْعُدُول لغَلَبَة الْفُسَّاق على أهل هَذَا الزَّمَان (قُلْنَا) لَيْسَ التَّقْسِيم الْمَذْكُور للراوي الصَّحَابِيّ (بل وضعهم) أَي الْحَنَفِيَّة التَّقْسِيم الْمَذْكُور فِيمَا هُوَ (أَعم) من الصَّحَابِيّ وَغَيره (وَهُوَ) أَي مَا وضعوه (قَوْلهم والراوي إِن عرف بالفقه إِلَى آخِره غير أَن التَّمْثِيل وَقع بالصحابة مِنْهُم وَلَيْسَ يلْزم) كَون الرَّاوِي (صحابيا) فَلَا مُخَصص لعُمُوم الرَّاوِي فِي قَوْلهم (فَصَارَ هَذَا) أَي الْمَذْكُور فِي هَذَا التَّقْسِيم (حكم غير الصَّحَابِيّ أَيْضا وَلَا جرح) للراوي وَالشَّاهِد (بترك الْعَمَل فِي رِوَايَة(3/54)
وَلَا شَهَادَة) لَهما (لجوازه) أَي ترك الْعَمَل بروايته وشهادته (بمعارض) من رِوَايَة أَو شَهَادَة أُخْرَى أَو فقد شَرط غير الْعَدَالَة. قَالَ السُّبْكِيّ: فَإِن فرض ارْتِفَاع الْمَوَانِع بأسرها وَكَانَ مَضْمُون الْخَبَر وجوبا فَتَركه حِينَئِذٍ يكون جرحا، قَالَه القَاضِي فِي التَّقْرِيب وَسَيَجِيءُ فِيهِ تَفْصِيل (وَلَا) جرح (بِحَدّ لشهادة بِالزِّنَا مَعَ عدم النّصاب) للشَّهَادَة لدلالته على فسق الشَّاهِد، وَهَذَا فِي ظَاهر الْمَذْهَب بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّوَايَة، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة ردهَا بِهِ كرد الشَّهَادَة بِلَا خلاف فِي الْمَذْهَب (وَلَا) جرح (بالأفعال الْمُجْتَهد فِيهَا) من الْمُجْتَهد الْقَائِل بإباحتها أَو مقلده كشرب النَّبِيذ مَا لم يسكر من غير لَهو، واللعب بالشطرنج بِلَا قمار (وركض الدَّابَّة) أَي حثها لتعدو: هُوَ رد لشعبة، فَإِنَّهُ قيل لَهُ: لَو تركت حَدِيث فلَان؟ قَالَ: رَأَيْته يرْكض على برذون كَيفَ وَهُوَ مَشْرُوع من عمل الْجِهَاد، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه فعل ذَلِك فِي حَضرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأَمْره (وَكَثْرَة المزاح غير المفرط) فقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمزح أَحْيَانًا وَلَا يَقُول إِلَّا حَقًا على مَا هُوَ الْمَذْكُور فِي كتب لحَدِيث فِي بَاب وضع لَهُ (وَعدم اعْتِبَار الرِّوَايَة) فَإِن من الصَّحَابَة من يمْتَنع عَن الرِّوَايَة فِي عَامَّة الْأَوْقَات، وَمِنْهُم من يشْتَغل بهَا فِي عامتها، ثمَّ لم يرجح أحد رِوَايَة من اعتادها على من لم يعتدها (وَلَا يدْخلهُ) أَي لَا يدْخل فِيمَن لم يعتدها (من لَهُ راو فَقَط) إِذْ يجوز اعْتِبَارهَا مَعَ وحد الْآخِذ (وَهُوَ) أَي من لَهُ راو فَقَط (مَجْهُول الْعين باصطلاح) الْمُحدثين (كسمعان ابْن مشاج والهزهاز بن ميزن لَيْسَ لَهما) راو (إِلَّا الشّعبِيّ وجبار الطَّائِي فِي آخَرين) وهم: عبد الله بن أغر الْهَمدَانِي والهيثم بن حَنش وَمَالك بن أغر وَسَعِيد بن ذِي حدان وَقيس بن كركم وبهر بن مَالك على مَا ذكره الشَّارِح (لَيْسَ لَهُم) راو (إِلَّا) أَبُو إِسْحَاق (السبيعِي وَفِي) لم (الحَدِيث) فِيهِ أَقْوَال (نَفْيه) أَي نفي قبُوله (للْأَكْثَر) من أهل الحَدِيث وَغَيرهم (وقبوله) مُطلقًا (قيل هُوَ) أَي هَذَا القَوْل (لمن لم يشْتَرط) فِي الرَّاوِي شرطا (غير الْإِسْلَام وَالتَّفْصِيل بَين كَون) ذَلِك الرَّاوِي (الْمُنْفَرد لَا يرْوى إِلَّا عَن عدل) كَابْن مهْدي وَيحيى بن سعيد مَعَ الِاكْتِفَاء فِي التَّعْدِيل بِوَاحِد (وَمَعْلُوم أَن الْمَقْصُود) مَا ذكر (مَعَ ضبط) فَيقبل وَإِلَّا فَلَا (وَقيل إِن زَكَّاهُ عدل) من أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل قبل، وَإِلَّا فَلَا (وَقيل أَن شهر) فِي غير الْعلم (بالزهد كمالك بن دِينَار، أَو النجدة) وَهُوَ الْقِتَال والشجاعة (كعمرو بن معدي كرب) قبل وفلا (ومرجع التَّفْصِيل) الأول (وَمَا بعده وَاحِد: وَهُوَ أَن عرف عدم كذبه) قبل، وَإِلَّا فَلَا (غير أَن لمعرفتها طرقا التَّزْكِيَة وَمَعْرِفَة أَنه لَا يرْوى إِلَّا عَن عدل وزهده والنجدة فَإِن المتصف بهَا) أَي الْجدّة (عَادَة يرْتَفع عَن الْكَذِب، وَفِيه نظر فقد تحقق خِلَافه) وَهُوَ الْكَذِب مَعَ النجدة (فِيمَا ل الْمبرد عَنهُ) أَي عَن معدي كرب من نِسْبَة الْكَذِب إِلَيْهِ (وَالْوَجْه جعل أَن زَكَّاهُ)(3/55)
عدل قبل وَإِلَّا فَلَا (مُرَاد الأول) وَهُوَ أَنه إِن كَانَ لَا يرْوى إِلَّا عَن عدل قبل وَإِلَّا فَلَا (وَلَا) جرح أَيْضا (بحداثة السن بعد اتقان مَا سمع) عِنْد التَّحَمُّل وَتحقّق الْعَدَالَة وَسَائِر شُرُوط الرِّوَايَة (واستكثار مسَائِل الْفِقْه) لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك خلل فِي الْحِفْظ كَمَا زعم بعض (وَكَثْرَة الْكَلَام كَمَا) نقل (عَن زَاذَان) قَالَ شُعْبَة: قلت للْحكم بن عتيبة لم لم ترو عَن زَاذَان؟ قَالَ كثير الْكَلَام، وَالْحق أَن مُجَرّد هَذَا غير قَادِح (وَبَوْل قَائِما كَمَا عَن سماك) قَالَ جرير: رَأَيْت سماك بن حَرْب يَبُول قَائِما فَلم أكتب عَنهُ، فَإِن مُجَرّد هَذَا غير قَادِح. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما، وَالظَّاهِر أَنه بَيَان للْجُوَاز كَمَا ذهب إِلَيْهِ بَعضهم فَهُوَ مُبَاح غير مخل بالمروة إِذا لم يرْتَد عَن البائل من غير كشف الْعَوْرَة (وَاخْتلف فِي رِوَايَة الْعدْل) عَن الْمَجْهُول على ثَلَاثَة أَقْوَال (فالتعديل) إِذْ الظَّاهِر أَنه لَا يرْوى إِلَّا عَن عدل احْتِرَازًا عَن التلبيس لما فِيهَا من الْإِيقَاع فِي الْعَمَل بِمَا لَا يجوز أَن يعْمل بِهِ (وَالْمَنْع) لَهُ، إِذْ كثيرا مَا يرْوى الْعدْل وَلَا يفكر عَمَّن يرْوى وَلَا يلتبس إِذْ لَا يجب الْعَمَل بِمُجَرَّد الرِّوَايَة، إِذْ غَايَته أَنه يَقُول سمعته كَذَا فَلَو عمل بِهِ السَّامع من غير استكشاف فالتقصير مِنْهُ، وَعزا ابْن الصّلاح هَذَا القَوْل إِلَى أَكثر الْعلمَاء من الْمُحدثين وَغَيرهم، وَذكر أَنه الصَّحِيح (وَالتَّفْصِيل بَين من علم أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل) فَهِيَ تَعْدِيل (أَولا) يعلم ذَلِك من عَادَته فَلَا يكون تعديلا لما ذكر (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّفْصِيل (الأعدل وَأما التَّدْلِيس) وَفَسرهُ بقوله (إِيهَام الرِّوَايَة عَن المعاصر الْأَعْلَى) سَمَاعا مِنْهُ سَوَاء لقِيه أَولا بِحَذْف المعاصر الْأَدْنَى سَوَاء كَانَ شَيْخه أَو شيخ شَيْخه فَصَاعِدا نَحْو قَالَ فلَان (أَو وصف شَيْخه بمتعدد) بِأَن يُسَمِّيه تَارَة ويكنيه أُخْرَى أَو ينْسبهُ إِلَى قَبيلَة أَو بلد أَو صَنْعَة أَو بِصفة بِمَا لَا يعرف بِهِ كَيْلا يعرف، وَيفْعل هَكَذَا (لإيهام الْعُلُوّ) فِي السَّنَد، أَو لصِغَر سنّ الْمَحْذُوف عَن سنّ الرَّاوِي، أَو لتأخر وَفَاته ومشاركته من دونه فِيهِ على التَّقْدِير الأول (وَالْكَثْرَة) فِي الشُّيُوخ على التَّقْدِير الثَّانِي لما فِيهِ من إِيهَام أَنه غَيره (فَغير قَادِح، أما) التَّدْلِيس (الْإِيهَام الثِّقَة) أَي كَون الْإِسْنَاد موثوقا بِهِ (بِإِسْقَاط مُخْتَلف فِي ضعفه) حَال كَون السَّاقِط وَاقعا (بَين ثقتين يوثقه) الْمسْقط بذلك (بِأَن ذكر) الثِّقَة (الأول بِمَا لَا يشْتَهر بِهِ من مُوَافق اسْم من عرف أَخذه عَن الثَّانِي) كلمة من بَيَان للموصول. وَحَاصِله أَن الثِّقَة الأول لَهُ اسمان: أَحدهمَا مَا اشْتهر بِهِ وَلم يسمه بِهِ، وَالثَّانِي مُشْتَرك بَينه وَبَين من أَخذ الحَدِيث عَن الثِّقَة الثَّانِي، وَذَلِكَ الْآخِذ ثِقَة مَعْرُوف فيعبر عَن الثِّقَة الأول بِهَذَا الِاسْم ليوهم السَّامع أَنه هُوَ (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّدْلِيس (أحد قسمي) تَدْلِيس (التَّسْوِيَة فَيرد) الحَدِيث (عِنْد مانعي) قبُول (الْمُرْسل ويتوقف) على صِيغَة الْمَجْهُول (فِي عنعنته) أَي فِيمَا رَوَاهُ هَذَا المدلس بِلَفْظ عَن من غير بَيَان(3/56)
للتحديث والإخبار وَالسَّمَاع. قَالَ الْعِرَاقِيّ: اخْتلفُوا فِي حكم الْإِسْنَاد المعنعن، فَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل، وَذهب إِلَيْهِ الجماهير من أَئِمَّة الحَدِيث وَغَيرهم أَنه من قبيل الْإِسْنَاد الْمُتَّصِل بِشَرْط سَلامَة الرَّاوِي بالعنعنة من التَّدْلِيس، وبشرط ثُبُوت ملاقاته لمن رَوَاهُ عَنهُ بالعنعنة، ثمَّ قَالَ: وَمَا ذَكرْنَاهُ من اشْتِرَاط ثُبُوت اللِّقَاء مَذْهَب الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهمَا من أَئِمَّة هَذَا الْعلم، وَأنكر مُسلم اشْتِرَاطه، وَقَالَ الْمُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل الْعلم بالأخبار قَدِيما وحديثا أَنه يَكْفِي ثُبُوت كَونهمَا فِي عصر وَاحِد. وَقَالَ ابْن الصّلاح: وَفِيمَا قَالَه مُسلم نظر (دون المجيزين) لقبُول الْمُرْسل: حكى الْخَطِيب أَن جُمْهُور من يحْتَج بالمرسل يقبل خبر المدلس (وَلَا يسْقط) المدلس الْمَذْكُور فِي الْمَذْهَب الصَّحِيح (بعد كَونه إِمَامًا) من أَئِمَّة الحَدِيث (لاجتهاده) فِي طلب صِحَة الْخَبَر (وَعدم صَرِيح الْكَذِب، وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم من التَّدْلِيس (محمل فعل الثَّوْريّ وَالْأَعْمَش وَبَقِيَّة) فِي الْقَامُوس بَقِي بن مخلد حَافظ الأندلس، وَبَقِيَّة وَبَقَاء اسمان. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من هَذَا النَّوْع كثير كقتادة والسفيانين وَعبد الرَّزَّاق والوليد بن مُسلم. قَالَ النَّوَوِيّ: وَمَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وشبههما من المدلسين بعن مَحْمُول على ثُبُوت السماع من جِهَة أُخْرَى. قَالَ الْحَافِظ عبد الْكَرِيم الْحلَبِي: قَالَ أَكثر الْعلمَاء المعنعنات الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ منزلَة بِمَنْزِلَة السماع (وَيجب) سُقُوط الرَّاوِي لتدليسه (فِي الْمُتَّفق) على ضعفه لِأَنَّهُ غير رشيد فِي الدّين. قَالَ الْهَيْثَم بن خَارِجَة للوليد بن مُسلم: أفسدت حَدِيث الْأَوْزَاعِيّ تروي عَنهُ عَن نَافِع وَعنهُ عَن الزُّهْرِيّ، وَغَيْرك يدْخل بَينه وَبَين نَافِع عبد الله بن عَامر الْأَسْلَمِيّ وَبَينه وَبَين الزُّهْرِيّ إِبْرَاهِيم بن مرّة وقرة، قَالَ لَهُ أنبل الْأَوْزَاعِيّ أَن يرْوى عَن مثل هَؤُلَاءِ. قَالَ الْهَيْثَم قلت لَهُ فَإِذا روى عَن هَؤُلَاءِ وهم ضعفاء أَحَادِيث مَنَاكِير فأسقطتهم وصيرتها من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الثِّقَات ضعف الْأَوْزَاعِيّ انْتهى، وَلذَا قَالَ شُعْبَة التَّدْلِيس أَخُو الْكَذِب، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الْقسم مِنْهُ (وتحققه) أَي هَذَا التَّدْلِيس يكون (بِالْعلمِ بمعاصرة الموصولين) بِإِسْقَاط الْوَاسِطَة بَينهمَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعلم معاصرتهما (لَا تَدْلِيس ويفضي) التَّدْلِيس لتكبير الشُّيُوخ (إِلَى تَضْييع) الشَّيْخ (الْمَوْصُول وَحَدِيثه) الْمَرْوِيّ أَيْضا قلت وَيَنْبَغِي أَن يحمل على تضييعه بِاعْتِبَار مَا يرْوى عَنهُ هَذَا الْمسْقط لَا مُطلقًا لِأَنَّهُ إِذا روى عَن الضَّعِيف مَعَ بَيَان ضعفه لَا يخل بِهِ، وَنقل عَن الشَّافِعِي وَالْبَزَّار والخطيب اشْتِرَاط اللِّقَاء فِي هَذَا التَّدْلِيس فَلم يكتفوا بِمُجَرَّد المعاصرة. قَالَ الشَّارِح: وَيعرف عدم الملاقاة بأخباره عَن نَفسه بذلك أَو بجزم إِمَام مطلع، وَلَا يَكْفِي أَن يَقع فِي بعض الطّرق زِيَادَة راو بَينهمَا.(3/57)
مسئلة
قَالَ (الْأَكْثَر) مِنْهُم الرَّازِيّ والآمدي (الْجرْح وَالتَّعْدِيل) يثبتان (بِوَاحِد فِي الرِّوَايَة وباثنين فِي الشَّهَادَة، وَقيل) بل (بِاثْنَيْنِ فيهمَا) أَي فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة (وَقيل) يثبتان (بِوَاحِد فيهمَا) أَي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة، وَهُوَ مُخْتَار القَاضِي (للْأَكْثَر لَا يزِيد شَرط على مشروطه بالاستقراء وَلَا ينقص) شَرط عَن مشروطه أَيْضا بالاستقراء، وَالْعَدَالَة شَرط لقبولهما، وَالْجرْح لعدمه، وَالرِّوَايَة لَا يشْتَرط فِيهَا الْعدَد، وَالشَّهَادَة يشْتَرط فِيهَا، وَأقله اثْنَان: فَكَذَا التَّعْدِيل وَالْجرْح فيهمَا. قَالَ (المعدد) أَي شارط الْعدَد فيهمَا: كل وَاحِد من الْجرْح وَالتَّعْدِيل (شَهَادَة) وَلذَا ترد بِمَا ترد بِهِ الشَّهَادَة (فيتعدد) كَمَا فِي سَائِر الشَّهَادَات (عورض خبر) عَن حَال الرَّاوِي (فَلَا) يشْتَرط فِيهِ الْعدَد، بل يَكْتَفِي بِالْوَاحِدِ إِذا غلب على الظَّن صدقه (قَالُوا) أَي المعددون فيهمَا اشْتِرَاط الْعدَد فِي كل مِنْهُمَا (أحوط) لزِيَادَة الثِّقَة، فَالْقَوْل بِهِ أولى (أُجِيب بالمعارضة) وَهِي أَن عدم اشْتِرَاط الْعدَد أحوط حذرا عَن تَضْييع الْأَحْكَام (الْمُفْرد) الَّذِي لَا يشْتَرط: أَي الْعدَد (فيهمَا) أَي فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح، وَالشَّهَادَة فِي الرِّوَايَة قَالَ: كل مِنْهُمَا (خبر) فَلَا يشْتَرط فِيهِ الْعدَد (فَيُقَال) لَهُ بل كل مِنْهُمَا (شَهَادَة) فَيشْتَرط فِيهِ الْعدَد (فَإِذا قَالَ) الْمُفْرد الْإِفْرَاد (أحوط عورض) بِأَن التَّعَدُّد أحوط (والأجوبة) من الطَّرفَيْنِ (كلهَا جدلية) لَا ينْكَشف بهَا الْحق، وَلَا يتَرَجَّح بهَا مَذْهَب (والمعارضة الأولى) وَهِي الْأَفْرَاد أحوط (تنْدَفع بِأَن شرع مَا لم يشرع شَرّ من ترك مَا شرع) لِأَن فِيهِ شَائِبَة شركَة فِي الربوبية تَعَالَى الله عَن ذَلِك، بِخِلَاف ترك مَا شرع (و) الْمُعَارضَة (الثَّانِيَة) وَهِي التَّعَدُّد أحوط (نقتضي التَّعَدُّد فيهمَا) . قَالَ الشَّارِح: أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَا مَحْذُور فِيهِ فَالصَّوَاب أَن يُقَال: أَي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وَالْأَكْثَر لَا يَقُول بِهِ كَمَا ذكر فِي صدر المبحث، وَهَذِه الْمُعَارضَة من قبلهم (وَقَول الْأَكْثَر لَا يزِيد) شَرط على مَشْرُوط بالاستقراء (مُنْتَفٍ بِشَاهِد الْهلَال) أَي هِلَال رَمَضَان إِذا كَانَ بالسماء عِلّة فَإِنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِ بِوَاحِد ويفتقر تعديله إِلَى اثْنَيْنِ (وَلَا ينقص) شَرط عَن مشروطه مُنْتَفٍ (بِشَهَادَة الزِّنَا) فَإِنَّهُ يلْزم كَونهم أَرْبَعَة، وَيَكْفِي فِي تعديلهم اثْنَان (وَمَا قيل لانقض) بِهَذَيْنِ (بل) زِيَادَة فِي الأَصْل فِي شَهَادَة الزِّنَا ونقصانه فِي الْهلَال إِنَّمَا يثبت (بِالنَّصِّ للِاحْتِيَاط فِي الدرء) للعقوبات (والإيجاب) لِلْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي حَاشِيَة التَّفْتَازَانِيّ (لَا يُخرجهُ) أَي هَذَا الْجَواب لَا يخرج مَا ذكر من مادتي النَّقْض (عَنْهُمَا) أَي ثُبُوت الزِّيَادَة وَثُبُوت النَّقْص المنافيين لما ادّعى من الضابطين بالاستقراء(3/58)
(وأوجهها) أَي هَذِه الْأَقْوَال (الْمُفْرد) أَي قَول الْقَائِل بِأَن الْمُفْرد كَافِي فيهمَا (فَإِذا قيل كَونه) أَي كَون كل من الْجرْح وَالتَّعْدِيل (شَهَادَة أحوط) يَعْنِي أَنه يحْتَمل أَن يكون شَهَادَة، وَأَن يكون خَبرا، وَحمله على الأول ورعاية جَانِبه تَسْتَلْزِم رِعَايَة الْجَانِب الآخر على الْوَجْه الآكد، بِخِلَاف الْعَكْس (منع محليته) . قَالَ الشَّارِح: أَي التَّعْدِيل وَالصَّوَاب، أَي كل من الْجرْح وَالتَّعْدِيل لاقْتِضَاء السِّيَاق والسباق، وَكَأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَيْهِ ظَاهر مَا سَيَأْتِي، وسيظهر لَك أَنه مُوَافق لما قُلْنَا (لَهُ) أَي للِاحْتِيَاط (إِذْ الِاحْتِيَاط عِنْد تجاذب متعارضين) أَي دَلِيلين كل مِنْهُمَا يجذب إِلَى مُوجبه مَعَ الْمُخَالفَة بَين لازميهما (فَيعْمل بأشدهما) كلفة وأوفرهما امتثالا (وَلَا تزيد التَّزْكِيَة) الَّتِي هِيَ التَّعْدِيل (على أَنَّهَا ثَنَاء عَلَيْهِ) أَي على الرَّاوِي أَو الشَّاهِد (وَهُوَ) أَي هَذَا الثَّنَاء يتَحَقَّق (بِمُجَرَّد الْخَبَر) الْخَاص من الْمُزَكي (فإثبات زِيَادَة على الْخَبَر) يَعْنِي خُصُوصِيَّة كَونه شَهَادَة يكون (بِلَا دَلِيل فَيمْتَنع) إِذْ لَا يجوز إِثْبَات حكم شَرْعِي بِغَيْر دَلِيل يُوجِبهُ فَثَبت خبريته وَلم يثبت كَونه شَهَادَة وَلَا تجاذب وَلَا تعَارض (وَلَا يتَصَوَّر الِاحْتِيَاط) لِأَنَّهُ فرع التَّعَارُض. (وَاخْتلف فِي اشْتِرَاط ذكورة الْمعدل) للشَّاهِد فِي الْحُدُود عِنْد أَصْحَابنَا فَفِي الْهِدَايَة يشْتَرط الذُّكُورَة فِي الْمُزَكي فِي الْحُدُود. وَفِي غَايَة الْبَيَان، يَعْنِي بِالْإِجْمَاع: وَكَذَا فِي الْقصاص ذكره فِي الْمُخْتَلف فِي كتاب الشَّهَادَات فِي بَاب مُحَمَّد انْتهى. وَوَافَقَهُ الزَّيْلَعِيّ، وَقيل يشْتَرط عِنْده خلافًا لَهما (وَمُقْتَضى النّظر قبُول تَزْكِيَة كل عدل ذكر أَو امْرَأَة فِيمَا يشْهد بِهِ حر أَو عبد) لِأَنَّهَا ثَنَاء وأخبار عَن حَال الشَّاهِد أَو الرَّاوِي، لَا شَهَادَة (وَلَو شرطت الملابسة فِي الْمَرْأَة) لمن تزكيه، وَهِي المخالطة على وَجه يُوجب معرفَة بَاطِن الْحَال (لسؤال بَرِيرَة) أَي سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرِيرَة مولاة عَائِشَة عَنْهَا فِي قصَّة الْإِفْك بِإِشَارَة عَليّ كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح (و) فِي (العَبْد) أَيْضا، وَذَلِكَ لظُهُور عدم مخالطتهما الرِّجَال والأحرار خلْطَة على الْوَجْه الْمَذْكُور (لم يبعد فينتفى) بِاشْتِرَاط الملابسة (ظُهُور مَبْنِيّ النَّفْي) لمعْرِفَة بَاطِن الْحَال وَهُوَ بعدهمَا عَن اطلَاع حَال الرِّجَال والأحرار، وَفِي الْمُحِيط وَيقبل تَعْدِيل الْمَرْأَة لزَوجهَا إِذا كَانَت بَرزَة تخالط النَّاس وتعاملهم فَإِن كَانَت مخدرة غير بَرزَة لَا تكون خبْرَة، فَلَا تعرف أَحْوَال النَّاس إِلَّا حَال زَوجهَا وَوَلدهَا، فَلَا يكون تعديلها مُعْتَبرا انْتهى. وَحكى مَشَايِخنَا خلافًا بَين أبي حنيفَة وصاحبيه فِي تَزْكِيَة العَبْد فَلم يقبلهَا مُحَمَّد وقبلاها. قَالَ الشَّارِح: ثمَّ التَّحْرِير فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَن تَزْكِيَة الْعَلَانِيَة أجمع أَصْحَابنَا على أَنه يشْتَرط لَهَا سَائِر أَهْلِيَّة الشَّهَادَة وَمَا اشْترط فِيهَا سوى لَفْظَة الشَّهَادَة، وَأما تَزْكِيَة السِّرّ فَفِي الْحُدُود وَالْقصاص عرفت مَا فِيهَا، ثمَّ ذكر تَفْصِيلًا يرجع إِلَيْهِ من يُريدهُ.(3/59)
مسئلة
(إِذا تعَارض الْجرْح وَالتَّعْدِيل فالمعروف مذهبان: تَقْدِيم الْجرْح مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ المعدلون أقل من الجارحين أَو مثلهم أَو أَكثر مِنْهُم: نَقله الْخَطِيب عَن جُمْهُور الْعلمَاء، وَصَححهُ الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الصّلاح وَغَيرهم (وَهُوَ الْمُخْتَار وَالتَّفْصِيل بَين تَسَاوِي المعدلين والجارحين فَكَذَلِك) أَي يقدم الْجرْح (والتفاوت) بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمِقْدَار (فيترجح الْأَكْثَر) من الْفَرِيقَيْنِ على الْأَقَل مِنْهُمَا (فَأَما وجوب التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا على الآخر بمرجح (مُطلقًا) أَي سَوَاء تَسَاويا أَو كَانَ أَحدهمَا أَكثر (كنقل ابْن الْحَاجِب فقد أنكر) كَمَا ذكره الشَّيْخ زين الدّين الْعِرَاقِيّ (بِنَاء على حِكَايَة القَاضِي أبي بكر) الباقلاني (والخطيب) الْبَغْدَادِيّ (الْإِجْمَاع على تَقْدِيم الْحَرج عِنْد التَّسَاوِي لَوْلَا تعقب الْمَازرِيّ الْإِجْمَاع) الَّذِي حكيناه وَمنعه إِيَّاه مُسْتَندا (بنقله) أَي الْمَازرِيّ (عَن) عَالم (مالكي يشهر بِابْن شعْبَان) أَنه يطْلب التَّرْجِيح فِي صُورَة التَّسَاوِي، وَلَا يقدم الْجرْح فِيهَا مُطلقًا، وَجَوَاب لَو مَحْذُوف، يَعْنِي لَوْلَا هَذَا التعقب لحكمنا بِبُطْلَان مَا نَقله ابْن الْحَاجِب قطعا (لكنه) أَي ابْن شعْبَان (غير مَشْهُور وَلَا يعرف لَهُ تَابع) وَاحِد فضلا عَن الأتباع (فَلَا يَنْفِيه) قَول ابْن شعْبَان الْإِجْمَاع، وَأورد الشَّارِح عَلَيْهِ أَن الْقَائِل بِعَدَمِ تعْيين الْعَمَل بالتعديل إِذا كَانَ الْجَارِح أقل، بل يطْلب التَّرْجِيح قَائِل بِعَدَمِ ذَلِك للترجيح فِي صُورَة التَّسَاوِي بطرِيق أولى فتنخدش دَعْوَى الْإِجْمَاع، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون كل من هذَيْن ذهب إِلَى مَا قَالَه بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع على تَقْدِيم الْجرْح على التَّعْدِيل إِذا تساوى عدداهما انْتهى: فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بقوله من هذَيْن مَا نَقله ابْن الْحَاجِب وَمَا نَقله الْمَازرِيّ لَكِن لَا يعلم مَقْصُوده من كَونهمَا بعد الْإِجْمَاع أَن أَرَادَ عدم الِاعْتِدَاد بهما فقد علم، وَإِن أَرَادَ أَن صُورَة التَّسَاوِي تستثني من الْقَوْلَيْنِ نَاقض قَوْله بطرِيق أولى، ثمَّ قَالَ وَيُجَاب بِأَن الْأَمر على هَذَا لَكِن لم يتَحَقَّق قَائِل بِطَلَب التَّرْجِيح إِذا كَانَ الْجَارِح أقل، فَكَلَامه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا (وَأما وضع شَارِحه) أَي ابْن الْحَاجِب، وَهُوَ القَاضِي عضد الدّين (مَكَان التَّرْجِيح التَّعْدِيل) فِي قَوْله وَقيل بل التَّعْدِيل مقدم (فَلَا يعرف قَائِل بِتَقْدِيم التَّعْدِيل مُطلقًا) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ بل التَّرْجِيح مقدم، وَهُوَ مُوَافق لكَلَام الشَّارِحين وَالْمُصَنّف (وَالْخلاف عِنْد إطلاقهما) أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل بِلَا تعْيين سَبَب (أَو تعْيين الْجَارِح سَببا لم ينفه الْمعدل أَو نَفَاهُ) الْمعدل (بطرِيق غير يقيني 8 لنا فِي تَقْدِيم الْجرْح عدم الإهدار) لكل من الْجرْح وَالتَّعْدِيل (فَكَانَ) تَقْدِيمه (أولى) من تَقْدِيم التَّعْدِيل،(3/60)
لِأَن فِيهِ إهدار الْجرْح (أما الْجَارِح) أَي عدم إهداره (فَظَاهر، وَأما قَول الْمعدل) أَي عدم إهداره بِحَيْثُ يلْزم تَكْذِيبه (فُلَانُهُ ظن الْعَدَالَة لما قدمْنَاهُ) من ظَاهر حَال الْمُسلم والتزام مَا يَقْتَضِيهِ الْإِسْلَام من اجْتِنَاب مَحْظُورَات دينه (وَلما يَأْتِي) من أَن الْعَدَالَة يتصنع فِي إظهارها فتظن وَلَيْسَت ثَابِتَة (ورد تَرْجِيح الْعَدَالَة بِالْكَثْرَةِ) أَي بِسَبَب كَثْرَة المعدلين (بِأَنَّهُم وَإِن كَثُرُوا لَيْسُوا مخبرين بِعَدَمِ مَا أخبر بِهِ الجارحون) وَلَو أخبروا بِهِ لكَانَتْ شَهَادَة على النَّفْي، وَهِي بَاطِلَة، ذكره الْخَطِيب (وَمعنى هَذَا أَنهم) أَي المعدلين والجارحين (لم يتواردوا فِي التَّحْقِيق) على مَحل وَاحِد فَلَا تعَارض بَين خبريهما (فَأَما إِذا عين) الْجَارِح (سَبَب الْجرْح) بِأَن قَالَ قتل فلَانا يَوْم كَذَا مثلا (ونفاه الْمعدل يَقِينا) بِأَن قَالَ رَأَيْته حَيا بعد ذَلِك الْيَوْم (فالتعديل) أَي تَقْدِيمه على الْجرْح (اتِّفَاق وَكَذَا) يقدم على الْجرْح (لَو قَالَ) الْمعدل (علمت مَا جرحه) أَي الْجَارِح الشَّاهِد أَو الرَّاوِي (بِهِ) من القوادح (وَأَنه) أَي الْمَجْرُوح (تَابَ عَنهُ) أَي عَمَّا جرح بِهِ، هَذَا وناقش الشَّارِح فِي حِكَايَة الِاتِّفَاق فِي الصُّورَتَيْنِ بِمَا فِي شرح السُّبْكِيّ من أَنَّهَا: يَعْنِي الصُّورَة الأولى من مواقع الْخلاف، والاعتماد على نقل المُصَنّف أَكثر.
مسئلة
(أَكثر الْفُقَهَاء وَمِنْهُم الْحَنَفِيَّة و) أَكثر (الْمُحدثين) وَمِنْهُم البُخَارِيّ وَمُسلم (لَا يقبل الْجرْح إِلَّا مُبينًا) سبه كَأَن يَقُول: فلَان مدمن خمرًا أَو آكل رَبًّا (لَا) كَذَلِك (التَّعْدِيل) فَيقبل من غير بَيَان (وَقيل بِقَلْبِه) أَي لَا يقبل التَّعْدِيل إِلَّا مُبينًا سَببه كَأَن يَقُول: (فلَان يجْتَنب الْكَبَائِر والإصرار على الصَّغِيرَة وخوارم الْمُرُوءَة، وَيقبل الْجرْح بِلَا ذكر سَببه (وَقيل) يقبل الْإِطْلَاق (فيهمَا) أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَإِن قلت من أَيْن يفهم مرجع ضمير قيل؟ قلت من قَوْله لَا التَّعْدِيل، فَإِن مَعْنَاهُ يقبل من غير بَيَان كَمَا مر (وَقيل لَا) يقبل الْإِطْلَاق فيهمَا فَلَا بُد من الْبَيَان فِي كل مِنْهُمَا. قَالَ (القَاضِي) أَبُو بكر قَالَ (الْجُمْهُور من أهل الْعلم إِذا جرح من لَا يعرف الْجرْح يجب الْكَشْف) عَن ذَلِك (وَلم يوجبوه) أَي الْكَشْف (على عُلَمَاء الشَّأْن. قَالَ) القَاضِي (ويقوى عندنَا تَركه) أَي الْكَشْف (إِذا كَانَ الْجَارِح عَالما كَمَا لَا يجب استفسار الْمعدل) عَمَّا صَار الْمُزَكي عِنْده عدلا بِهِ (وَهَذَا) (مَا يُخَالف مَا) نقل (عَن أَمَام الْحَرَمَيْنِ) وَهُوَ قَوْله (إِن كَانَ) كل من الْمعدل والجارح (عَالما كفى) الْإِطْلَاق (فيهمَا) أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن عَالما (لَا) يَكْفِي الْإِطْلَاق فيهمَا كَمَا اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ والرازي والخطيب (فِي الِاكْتِفَاء فِي التَّعْدِيل بِالْإِطْلَاقِ) فَإِنَّهُ على قَول(3/61)
القَاضِي لَا يجب الْبَيَان فِي التَّعْدِيل، وعَلى قَول الإِمَام يجب إِلَّا إِذا كَانَ عَالما. قَوْله فِي الِاكْتِفَاء مُتَعَلق يُخَالف، وبالإطلاق بالاكتفاء (أَو) هَذَا (مثله) أَن مَا عَن الإِمَام بِنَاء على إِرَادَة التَّقْيِيد بِالْعلمِ فِي التَّعْدِيل، بل فِي كَلَام القَاضِي وَإِن كَانَ بَعيدا (فَمَا نسب إِلَى القَاضِي من الِاكْتِفَاء بِالْإِطْلَاقِ) فيهمَا كَمَا وَقع للْإِمَام وَالْغَزالِيّ (غير ثَابت) عَن القَاضِي. قَالَ الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ: الظَّاهِر أَنه وهم مِنْهُمَا، وَالْمَعْرُوف أَنه لَا يجب ذكر سَبَب وَاحِد مِنْهُمَا إِذا كَانَ كل من الْجَارِح والمعدل ذَا بَصِيرَة كَمَا عَلَيْهِ الْغَزالِيّ وَحَكَاهُ عَنهُ الرَّازِيّ والآمدي والخطيب (وَيبعد من عَالم القَوْل بِسُقُوط رِوَايَة أَو ثُبُوتهَا بقول من لَا خبْرَة عِنْده بالقادح وَغَيره) . قَالَ السُّبْكِيّ: لَا يذهب عَاقل إِلَى قبُول ذَلِك مُطلقًا من رجل غمر جَاهِل لَا يعرف مَا يجرح بِهِ وَلَا مَا يعدل بِهِ (وَمَا أوردوه من دَلِيله) أَي القَاضِي: وَهُوَ أَنه (إِن شهد) الْجَارِح مثلا (من غير بَصِيرَة لم يكن عدلا) لِأَنَّهُ يدل على اتِّبَاعه الْهوى (وَالْكَلَام فِيهِ) أَي وَالْحَال أَن كلامنا فِي الْعدْل (فَيلْزم أَن لَا يكون) الْجَارِح (إِلَّا ذَا بَصِيرَة، فَإِن سكت) الْجَارِح عَن الْبَيَان (فِي مَحل الْخلاف) أَي الْموضع الْمُخْتَلف فِي أَنه هَل هُوَ بِسَبَب الْجرْح (فمدلس) وَهُوَ قدح فِي عَدَالَته، وَمَا أوردوه مُبْتَدأ خَبره (يُفِيد أَن لَا بُد من بَصِيرَة عِنْده) أَي القَاضِي (بالقادح وَغَيره وبالخلاف فِيمَا فِيهِ) الْخلاف من أَسبَاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل (وَكَذَا مَا أجابوا بِهِ) أَي القَاضِي (من أَنه) أَي الْجَارِح (قد يَبْنِي على اعْتِقَاده) فِيمَا يرَاهُ جرحا (أَو لَا يعرف الْخلاف) فَلَا يكون مدلسا وَمَا أجابوا مُبْتَدأ خَبره (فرع أَن لَهُ علما: غير أَنه قد لَا يعرف الْخلاف فيجرحه أَو يعد لَهُ بِمَا يَعْتَقِدهُ وَهُوَ مُخطئ فِيهِ، لَكِن دفع بِأَن كَونه لَا يعرف الْخلاف خلاف مُقْتَضى بَصَره) بالفن وَقد يدْفع هَذَا الدّفع بِأَن الْتِزَام كَونه ذَا بَصِيرَة لَا يسْتَلْزم أَن لَا يفوتهُ شَيْء من مراتبها، وَعدم معرفَة الْخلاف لَا يُوجب عدم البصيرة رَأْسا (وَالْحَاصِل أَنه لَا وجود لذَلِك القَوْل) أَي الَّذِي يَقْتَضِي سُقُوط رِوَايَة أَو ثُبُوتهَا بقول من لَا خبْرَة عِنْده بالقادح وَغَيره (فَيجب كَون الْأَقْوَال على تَقْدِير الْعلم) للمعدل أَو الْجَارِح فَتكون (أَرْبَعَة فَقَائِل) يَقُول (لَا يَكْفِي) الْإِطْلَاق من الْعَالم (فيهمَا) أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل (للِاخْتِلَاف) بَين الْعلمَاء فِي سببهما (فَفِي التَّعْدِيل جَوَاب أَحْمد بن يُونُس فِي تَعْدِيل عبد الله الْعمريّ) إِنَّمَا يُضعفهُ رَافِضِي مبغض لِآبَائِهِ لَو رَأَيْت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أَنه ثِقَة، فاستدل على ثقته بِمَا لَيْسَ بِحجَّة، لِأَن حسن الْهَيْئَة يشْتَرك فِيهِ الْعدْل والمجروح (وَفِي الْجرْح) الِاخْتِلَاف فِي سَببه (كثير كشعبة) أَي كجرحه (بالركض) وَقد سبق (وَغَيره وَالْجَوَاب) عَن هَذَا (بِأَن لَا شكّ مَعَ إِخْبَار الْعدْل) يَعْنِي بعد مَا فرض أَن الْعدْل والجارح عدل عَالم فَقَوله مثله مُوجب للظن بِمَا أخبر بِهِ إِذْ لَو لم يعرف لم يقبل فَلَا مجَال للشَّكّ فِيهِ مَدْفُوع(3/62)
بِأَن المُرَاد) بِالشَّكِّ (الشَّك الْآتِي من احْتِمَال الْغَلَط فِي الْعَدَالَة للتصنع) فِي إظهارها بالتكلف فِي الإتصاف بالفضائل والكمالات فيتسارع النَّاس إِلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُود بِهِ بقوله قادحا وَلما يَأْتِي (واعتقاد مَا لَيْسَ قادحا قادحا فِي الْجرْح وَالْعَدَالَة) الْمَذْكُور (لَا تنفيه) أَي الْغَلَط الْمَذْكُور (وَالْجَوَاب أَن قصارى) أَي غَايَة (الْمعدل الْبَاطِن) أَي الَّذِي يتفحص عَن بواطن الْأُمُور (الظَّن الْقوي بِعَدَمِ مُبَاشرَة الْمَمْنُوع) شرعا (لتعذر الْعلم) بِهِ (وَالْجهل بِمَفْهُوم الْعَدَالَة مُمْتَنع عَادَة من أهل الْفَنّ وَلَا بُد فِي إخْبَاره) أَي الْمعدل (من تطبيقه) أَي مَفْهُوم الْعَدَالَة (على حَال من عدله فأغنى) هَذَا الْمَجْمُوع (عَن الاستفسار) مِنْهُ عَن سَببهَا (وَيقطع بِأَن جَوَاب أَحْمد) بن يُونُس (استرواح) أَي أراح نَفسه عَن المجادلة (لَا تَحْقِيق إِذْ لَا شكّ أَنه لَو قيل لَهُ: ألحسن اللِّحْيَة وخضابها دخل فِي الْعَدَالَة؟ نَفَاهُ) أَي أَن يكون لَهُ دخل (وَقَائِل) يَقُول (يَكْفِي) الْإِطْلَاق (فيهمَا) أَي الْجرْح وَالتَّعْدِيل (من الْعَالم لَا من غَيره: وَهُوَ مُخْتَار الإِمَام تَنْزِيلا لعلمه منزلَة بَيَانه، وَجَوَابه فِي الْجرْح مَا تقدم) من أَن الِاخْتِلَاف فِي أَسبَاب الْجرْح كثير بِخِلَاف الْعَدَالَة (وَقَائِل) يَقُول يَكْفِي الْإِطْلَاق (فِي الْعَدَالَة فَقَط للْعلم بمفهومها اتِّفَاقًا فكسوته كبيانه بِخِلَاف الْجرْح) فَإِن أَسبَابه كَثِيرَة وَالِاخْتِلَاف فِيهِ كثير (وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (مَذْهَب الْجُمْهُور) تَأْكِيد لما صدر بِهِ المسئلة اهتماما بِشَأْنِهِ (وَهُوَ الْأَصَح، وَقَائِل) يَقُول (قلبه) أَي يَكْفِي الْإِطْلَاق فِي الْجرْح دون التَّعْدِيل، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله قَائِل مُضَافا إِلَى قلبه، وَالْمعْنَى ذهب إِلَى مَا ذهب (للتصنع فِي الْعَدَالَة) كَمَا مر فَلَا بُد فِيهَا من الْبَيَان ليعلم عدم التصنع (وَالْجرْح يظْهر) لعدم التصنع فِيهِ وَعدم خفائه (وَتقدم) ذكره مَعَ جَوَابه (ويعترض على الْأَكْثَر بِأَن عمل الْكل) من أهل الشَّأْن (فِي الْكتب) مَبْنِيّ (على إِبْهَام) سَبَب (التَّضْعِيف إِلَّا قَلِيلا) من التَّضْعِيف حَيْثُ لَا إِبْهَام فِيهِ، فَإِذا اتَّفقُوا على الحكم بِضعْف الرِّوَايَة بِمُجَرَّد تَضْعِيف مُبْهَم علم أَنهم يكتفون فِي الْجرْح بِمُجَرَّد طعن مُبْهَم (فَكَانَ) الِاكْتِفَاء بِإِطْلَاق الْجرْح (إِجْمَاعًا، وَالْجَوَاب) عَن هَذَا على مَا ذكره ابْن الصّلاح (بِأَنَّهُ) أَي عَمَلهم الْمَذْكُور (أوجب التَّوَقُّف عَن قبُوله) لَا الحكم بجرحه: أَي الرَّاوِي المضعف فموجبه لَيْسَ إِلَّا رِيبَة مُوجبَة للتوقف فَمن زَالَت عَنهُ بالبحث عَن حَاله وَجب عَلَيْهِ أَن يَثِق بعدالته وَيقبل حَدِيثه كمن احْتج بِهِ البُخَارِيّ وَمُسلم مِمَّن مَسّه مثل هَذَا الْجرْح من غَيرهمَا ثمَّ قَوْله وَالْجَوَاب مُبْتَدأ خَبره (يُوجب قبُول) الْجرْح (الْمُبْهم إِذْ الْكَلَام فِيمَن عدل وَإِلَّا فالتوقف لجَهَالَة حَاله ثَابت وَإِن لم يجرح، بل الْجَواب أَن أَصْحَاب الْكتب المعروفين عرف مِنْهُم صِحَة الرَّأْي فِي الْأَسْبَاب) الْجَارِحَة فَأوجب جرحهم الْمُبْهم التَّوَقُّف عَن الْعَمَل بالمجروح (حَتَّى لَو عرف) الْجَارِح مِنْهُم (بِخِلَافِهِ) أَي خلاف الرَّأْي الصَّحِيح فِي الْأَسْبَاب(3/63)
الْجَارِحَة (لَا يقبل) جرحه (فَلَا يتَوَقَّف) فِي قبُول ذَلِك الْمَجْرُوح حِينَئِذٍ. فَالْحَاصِل أَن الْمَعْرُوف بِصِحَّة الرَّأْي جرحه الْمُبْهم بِمَنْزِلَة الْمُبين.
مسئلة
(الْأَكْثَر على عَدَالَة الصَّحَابَة) فَلَا يبْحَث عَن عدالتهم فِي رِوَايَة وَلَا شَهَادَة (وَقيل) هم (كغيرهم) فيهم الْعُدُول وَغَيرهم (فيستعلم التَّعْدِيل) أَي يطْلب الْعلم بِعَدَالَتِهِمْ (بِمَا تقدم) من التَّزْكِيَة وَغَيرهَا إِلَّا من كَانَ مَقْطُوعًا بعدالته كالخلفاء الْأَرْبَعَة أَو ظَاهر الْعَدَالَة (وَقيل) هم (عدُول إِلَى الدُّخُول فِي الْفِتْنَة) فِي آخر عهد عُثْمَان كَمَا عَلَيْهِ كثير، وَقيل من حِين مقتل عُثْمَان. هَذِه الْعبارَة تحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه لَا يحكم بعدالة وَاحِد مِنْهُم بعد تحقق الْفِتْنَة، وَالثَّانِي أَنه لَا يحكم بعدالة الْكل بعده، بل بعدالة الْبَعْض وهم غير الداخلين، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب كَمَا يدل عَلَيْهِ التَّعْدِيل الْآتِي (فتطلب التَّزْكِيَة) لَهُم من ذَلِك الْوَقْت (فَإِن الْفَاسِق من الداخلين غير معِين) لأَنا نعلم قطعا أَن أحد الْفَرِيقَيْنِ على غير الْحق وَلَا نقدر على تَعْيِينه، هَكَذَا ذكرُوا. وَيرد عَلَيْهِ أَن عدم علمنَا بِالتَّعْيِينِ بِسَبَب كَون تِلْكَ الْحَادِثَة اجتهادية وَحِينَئِذٍ لَا يلْزم تفسيق أحد الْفَرِيقَيْنِ، فَالْحق أَن يُقَال: كل من قصد قتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَو رَضِي بِهِ فَهُوَ كَافِرَانِ اسْتحلَّ أَو فَاسق إِن لم يسْتَحل، لِأَن حُرْمَة قَتله مَقْطُوع بهَا وَلَيْسَت محلا للِاجْتِهَاد، غير أَن الرضى بِهِ وَالسَّعْي فِيهِ كَانَ أمرا مخفيا، فَلِذَا قَالَ غير معِين، وَأما الْإِشْكَال بِمثل عَليّ رَضِي الله عَنهُ لدُخُوله فِيهَا فمدفوع لِأَن الْكَلَام فِيمَن لَا يكون عَدَالَته مَقْطُوعًا بهَا أَو مظنونا ظنا غَالِبا (وَنقل بَعضهم هَذَا الْمَذْهَب بِأَنَّهُم كغيرهم إِلَى ظُهُورهَا فَلَا يقبل الداخلون مُطلقًا لجَهَالَة عَدَالَة الدَّاخِل، والخارجون) مِنْهَا (كغيرهم) فِي الشَّرْح العضدي، وَقيل هم كغيرهم إِلَى حِين ظُهُور الْفِتَن أَعنِي بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَأما بعْدهَا فَلَا يقبل الداخلون فِيهَا مُطلقًا: أَي من الطَّرفَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَن الْفَاسِق من الْفَرِيقَيْنِ غير معِين وَكِلَاهُمَا مَجْهُول الْعَدَالَة فَلَا يقبل، وَأما الخارجون عَنْهَا فكغيرهم انْتهى. وَقَالَ الْمُحَقق النفتازاني: جُمْهُور الشَّارِحين على أَنه آخر عهد عُثْمَان، وَفَسرهُ الْمُحَقق بِمَا بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة إِمَّا ميلًا إِلَى تفسيق قتلة عُثْمَان بِلَا خلاف، وَإِمَّا توقفا فِيهِ على مَا اشْتهر من السّلف أَن أول من بغى فِي الْإِسْلَام مُعَاوِيَة (إِن أَرَادَ أَنه يبْحَث عَنْهَا) أَي عدالتهم (بعد الدُّخُول وَهُوَ) أَي الْبَحْث عَنْهَا بعده (مَنْقُول) عَن بَعضهم (ففاسد التَّرْكِيب) . قَالَ الشَّارِح: إِذْ حَاصله هم كغيرهم إِلَى ظُهُورهَا فهم كغيرهم انْتهى. تَوْضِيحه أَن قَوْله كغيرهم آخرا إِذا لوحظ وَركب مَعَ قَوْله كغيرهم أَولا، وَمَعَ محصول قَوْله فَلَا يقبل الداخلون إِلَى آخِره،(3/64)
وَهُوَ كَون الداخلين كغيرهم إِذا دخلُوا فِي الْفِتْنَة علم فَسَاد محصول التَّرْكِيب، لِأَن كلمة إِلَى تفِيد انْتِهَاء حكم التَّشْبِيه عِنْد الظُّهُور، وَمَا بعْدهَا يُفِيد عدم انتهائه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَحَاصِله الْمَذْهَب الثَّانِي وَلَيْسَ) مذهبا (ثَالِثا، وَإِن أَرَادَ لَا يقبل بِوَجْه) أَي مُطلقًا (فشقه الأول) وَهُوَ مَا قبل الظُّهُور مَعْنَاهُ فهم (عدُول) إِلَى ظُهُورهَا، لَا فهم (كغيرهم) وَذَلِكَ للُزُوم كَون مَا بعد إِلَى على خلاف مَا قبله فِي الحكم، وَقد يُقَال: لم لَا يجوز أَن يكون حكم الشق الأول الْبَحْث عَن عدالتهم، وَحكم مَا سواهُ عدم الْقبُول فَتَأمل. (وَقَالَت الْمُعْتَزلَة عدُول إِلَّا من قَاتل عليا لنا) على الْمُخْتَار، وَهُوَ أَنهم عدُول على الْإِطْلَاق. قَوْله تَعَالَى - {وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} - الْآيَة مدحهم تَعَالَى وَلَا يمدح إِلَّا الْعُدُول (و) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تسبوا أَصْحَابِي) فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، وَلَا شكّ فِي وجود الْعُدُول فِي الْأمة، وَقد فضل أَصْحَابه عَلَيْهِم تَفْضِيلًا لذا (وَمَا تَوَاتر عَنْهُم من مداومة الِامْتِثَال) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي، وبذلهم الْأَمْوَال والأنفس فِي ذَلِك، وَهُوَ دَلِيل الْعَدَالَة (ودخولهم فِي الْفِتَن بِالِاجْتِهَادِ) . وَقد أَجمعُوا على أَنه يجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَفعل الْوَاجِب لَا يكون منافيا للعدالة سَوَاء قُلْنَا كل مُجْتَهد مُصِيب أَو لَا. وَحكى ابْن عبد الْبر إِجْمَاع أهل الْحق من الْمُسلمين وهم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة على أَن الصَّحَابَة من عدُول، واعتقادنا أَن الإِمَام الْحق كَانَ عُثْمَان فِي زَمَانه، وَأَنه قتل مَظْلُوما وَحمى الله الصَّحَابَة كلهم مُبَاشرَة قَتله، وَلم يتول قَتله إِلَّا شَيْطَان مُرِيد، وَلم يحفظ عَن أحد مِنْهُم الرضى بقتْله، وَأما الْمَحْفُوظ من كل مِنْهُم إِنْكَار ذَلِك، ثمَّ كَانَت مسئلة الْأَخْذ بالثأر اجتهادية، رأى عَليّ كرم الله وَجهه التَّأْخِير مصلحَة، وَرَأَتْ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا البدار مصلحَة، وكل أَخذ بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، ثمَّ كَانَ الإِمَام الْحق بعد عُثْمَان ذِي النورين عليا كرم الله وَجهه، وَكَانَ مُعَاوِيَة وَمن وَافقه متأولين. وَمِنْهُم من قعد عَن الْفَرِيقَيْنِ لما أشكل الْأَمر وهم خير الْأمة، وكل مِنْهُم أفضل من كل من بعده وَإِن رقى فِي الْعلم وَالْعَمَل خلافًا لِابْنِ عبد الْبر فِي هَذَا حَيْثُ قَالَ: قد يَأْتِي بعدهمْ من هُوَ أفضل من بَعضهم (ثمَّ الصَّحَابِيّ) أَي من يُطلق عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم (عِنْد الْمُحدثين وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ، من لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسلما وَمَات على إِسْلَامه) وَالْمرَاد باللقاء مَا يعم المجالسة والمماشاة ووصول أَحدهمَا إِلَى الآخر وَإِن لم يكلمهُ، وَيدخل فِيهِ رُؤْيَة أَحدهمَا الآخر وَلَو بِأَن يحمل صَغِيرا إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن يشْتَرط تَمْيِيز الملاقي لَهُ، وَفِيه تردد. قَالَ الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ: وَيدل على اعْتِبَار التَّمْيِيز مَعَ الرِّوَايَة مَا قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو سعيد العلائي فِي(3/65)
تَرْجَمَة عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل حنكه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعا لَهُ، وَلَا صُحْبَة لَهُ، بل وَلَا رُؤْيَة، وَذكر نَظَائِر هَذَا. وَخرج بقوله مُسلما من لقِيه كَافِرًا سَوَاء لم يسلم بعد ذَلِك أَو أسلم بعد حَيَاته. وَبِقَوْلِهِ وَمَات على إِسْلَامه من لقِيه مُسلما، ثمَّ ارْتَدَّ وَمَات على ردته كَعبد الله بن خطل إِذْ المُرَاد من يُسمى صحابيا بعد انْقِرَاض الصَّحَابَة (أَو) لقِيه (قبل النُّبُوَّة وَمَات قبلهَا على) الْملَّة (الحنيفية) يَعْنِي دين الْإِسْلَام (كزيد بن عَمْرو بن نفَيْل) فقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يبْعَث أمة وَاحِدَة ": وَذكره ابْن مَنْدَه فِي الصَّحَابَة (أَو) لقِيه مُسلما (ثمَّ ارْتَدَّ وَعَاد) إِلَى الْإِسْلَام (فِي حَيَاته) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعبد الله بن أبي سرح (وَأما) من لقِيه مُسلما ثمَّ ارْتَدَّ وَعَاد إِلَى الْإِسْلَام (بعد وَفَاته) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كقرة) بن هُبَيْرَة (والأشعث) بن قيس (فَفِيهِ نظر، وَالْأَظْهَر النَّفْي) لصحبته: لِأَن صحبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أشرف الْأَعْمَال، وَالرِّدَّة محبطة للْعَمَل عِنْد أبي حنيفَة وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم، وَذهب بعض الْحفاظ إِلَى أَن الْأَصَح أَن اسْم الصُّحْبَة بَاقٍ للراجع إِلَى الْإِسْلَام سَوَاء رَجَعَ إِلَيْهِ فِي حَيَاته أم بعده، سَوَاء لقِيه ثَانِيًا أم لَا، وَيدل على رجحانه قصَّة الْأَشْعَث ابْن قيس فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّن ارْتَدَّ وَأتي بِهِ إِلَى الصّديق أَسِيرًا فَعَاد إِلَى الْإِسْلَام فَقبل مِنْهُ ذَلِك وزوجه أُخْته وَلم يتَخَلَّف أحد عَن ذكره فِي الصَّحَابَة. قَالَ الشَّارِح: وَالْأول أوجه دَلِيلا (و) عِنْد (جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ من طَالَتْ صحبته متتبعا مُدَّة يثبت مَعهَا إِطْلَاق صَاحب فلَان) عَلَيْهِ (عرفا بِلَا تَحْدِيد) لمقدارها (فِي الْأَصَح، وَقيل) مقدارها (سِتَّة أشهر) فَصَاعِدا (وَابْن الْمسيب) مقدارها (سنة أَو غَزْو) مَعَه، لِأَن لصحبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرفا عَظِيما، فَلَا تنَال إِلَّا باجتماع طَوِيل يظْهر فِيهِ الْخلق المطبوع عَلَيْهِ الشَّخْص: كالسنة الْمُشْتَملَة على الْفُصُول الْأَرْبَعَة الَّتِي يخْتَلف فِيهَا المزاج، والغزو الْمُشْتَمل على السّفر الَّذِي هُوَ قِطْعَة من الْعَذَاب، وتسفر فِيهِ أَخْلَاق الرجل، وَيلْزم هَذَا أَن لَا يعد من الصَّحَابَة جرير بن عبد الله البَجلِيّ وَمن شَاركهُ فِي انْتِفَاء هَذَا الشَّرْط مَعَ أَنه لَا خلاف فِي كَونهم من الصَّحَابَة (لنا) على الْمُخْتَار قَول الْجُمْهُور (أَن الْمُتَبَادر من) إِطْلَاق (الصَّحَابِيّ وَصَاحب فلَان الْعَالم لَيْسَ إِلَّا ذَاك) أَي من طَالَتْ صحبته الخ (فَإِن قيل يُوجِبهُ) أَي كَون الصَّحَابِيّ من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاعَة (اللُّغَة) لاشتقاقه من الصُّحْبَة وَهِي تصدق على كل من صحب غَيره قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا (قُلْنَا) إِيجَابهَا ذَلِك (مَمْنُوع فِيمَا) أَي فِي مُشْتَقّ مِنْهَا متلبس (بياء النِّسْبَة وَلَو سلم) إِيجَاب اللُّغَة ذَلِك فقد تقرر فِي عرف اللُّغَة عدم اسْتِعْمَال هَذِه التَّسْمِيَة إِلَّا فِيمَن كثرت صحبته على مَا تقدم (فالعرف مقدم وَلذَا) أَي تقدمه على اللُّغَة (يتَبَادَر) هَذَا الْمَعْنى الْعرفِيّ من إِطْلَاقه (قَالُوا الصُّحْبَة تقبل التَّقْيِيد بِالْقَلِيلِ وَالْكثير، يُقَال صَحبه سَاعَة كَمَا يُقَال) صَحبه (عَاما فَكَانَ) وَضعهَا (للمشترك)(3/66)
بَينهمَا كالزيارة والْحَدِيث دفعا للمجاز والاشتراك اللَّفْظِيّ (قُلْنَا) هَذَا (غير مَحل النزاع) إِذْ / النزاع فِيمَا بياء النِّسْبَة. (قَالُوا: لَو حلف لَا يَصْحَبهُ حنث بلحظة قُلْنَا فِي غَيره) أَي غير مَحل النزاع أَيْضا (لَا فِيهِ) أَي مَحل النزاع (وَهُوَ الصَّحَابِيّ بِالْيَاءِ) الَّتِي للنسبة (بل تحقق فِيهِ) أَي الصَّحَابِيّ (اللُّغَة وَالْعرْف الْكَائِن فِي نَحْو أَصْحَاب الحَدِيث وَأَصْحَاب ابْن مَسْعُود وَهُوَ) أَي الْعرف (للملازم متتبعا اتِّفَاقًا، ويبتني عَلَيْهِ) أَي على الْخلاف فِي الصَّحَابِيّ (ثُبُوت عَدَالَة غير الملازم) وَعدم ثُبُوتهَا (فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّزْكِيَة) كَمَا هُوَ قَول الْمُحدثين وَبَعض الْأُصُولِيِّينَ (أَو يحْتَاج) إِلَى التَّزْكِيَة كَمَا هُوَ قَول جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ (وعَلى هَذَا الْمَذْهَب جرى الْحَنَفِيَّة كَمَا تقدم) فِي مثل معقل بن سِنَان فَجعلُوا تزكيته عمل السّلف بحَديثه (وَلَوْلَا اخْتِصَاص الصَّحَابِيّ بِحكم) شَرْعِي وَهُوَ عَدَالَته (لأمكن جعل الْخلاف فِي مُجَرّد الِاصْطِلَاح) أَي تَسْمِيَته صحابيا كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب (وَلَا مشاحة فِيهِ) أَي فِي الِاصْطِلَاح الْمَذْكُور، يُفِيد أَنه معنوي (وَأما قَول: إِن الصَّحَابِيّ من عاصره) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَقَط) وَهُوَ قَول يحيى بن عُثْمَان بن صَالح الْمصْرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ وَمِمَّنْ دفن: أَي بِمصْر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن أدْركهُ وَلم يسمع بِهِ أَبُو تَمِيم الجيشاني واسْمه عبد الله بن مَالك (وَنَحْوه) كَانَ صَغِيرا مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تبعا لأحد أَبَوَيْهِ، وَعَلِيهِ عمل ابْن عبد الْبر فِي الِاسْتِيعَاب وَابْن مَنْدَه فِي معرفَة الصَّحَابَة (فتكلف كِتَابَته كثير) لوضوح نفي صُحْبَة من بِهَذِهِ المثابة.
مسئلة
(إِذا قَالَ المعاصر) للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْعدْل: أَنا صَحَابِيّ قبل) قَوْله أَنا صَحَابِيّ بِنَاء (على الظُّهُور) إِذْ ظَاهر حَاله من حَيْثُ أَنه عدل الِامْتِنَاع عَن الْكَذِب (لَا) على (الْقطع لاحْتِمَال قصد الشّرف) بِهَذِهِ الدَّعْوَى، فباعتبار هَذَا الاتهام تطرق احْتِمَال عدم الصدْق مرجوحا (فَمَا قيل) قَوْله هَذَا (كَقَوْل غَيره) أَي غير الصَّحَابِيّ (أَنا عدل) كَمَا فِي البديع (تَشْبِيه فِي احْتِمَال الْقَصْد) للشرف (لَا تَمْثِيل) فِي حكمه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك، بل كَانَ تمثيلا فِيهِ (لقبل) قَوْله أَنا عدل فَيحكم بعدالته (أَو لم يقبل الأول) أَي قَول المعاصر الْعدْل: أَنا صَحَابِيّ، لِأَن الْمُشَاركَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِأحد الْأَمريْنِ (والفارق) بَين قَول الصَّحَابِيّ أَنا صَحَابِيّ وَقَول غَيره: أَنا عدل فِي قبُول الأول دون الثَّانِي (سبق) ثُبُوت (الْعَدَالَة للْأولِ على دَعْوَاهُ) بِخِلَاف الثَّانِي غير أَن دَعْوَاهُ الصُّحْبَة يجب أَن لَا تكون بعد مائَة سنة من وَفَاته كدعوى رتن الْهِنْدِيّ فَإِنَّهَا لَا تقبل للْحَدِيث الصَّحِيح " أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فَإِنَّهُ على رَأس مائَة سنة لَا يبْقى(3/67)
أحد مِمَّن هُوَ على وَجه الأَرْض، ذكره الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ وَغَيره.
مسئلة
(إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمل على السماع) مِنْهُ بِلَا وَاسِطَة لِأَن الْغَالِب من الصَّحَابِيّ أَنه لَا يُطلق القَوْل عَنهُ إِلَّا إِذا سَمعه مِنْهُ (وَقَالَ القَاضِي يحْتَملهُ) أَي السماع (والإرسال) لَا غير (فَلَا يضر) فِي الِاحْتِجَاج بِهِ (إِذْ لَا يُرْسل إِلَّا عَن صَحَابِيّ) الْإِرْسَال فِي الْمَشْهُور رفع التَّابِعِيّ الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ ابْن الصّلاح: لم يفد فِي أَنْوَاع الْمُرْسل وَنَحْوه مَا يُسمى فِي أصُول الْفِقْه مُرْسل الصَّحَابِيّ مثل مَا يرويهِ ابْن عَبَّاس وَغَيره من أَحْدَاث الصَّحَابَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمعوه مِنْهُ، لِأَن ذَلِك فِي حكم الْمَوْصُول الْمسند، لِأَن روايتهم عَن الصَّحَابَة، والجهالة فِي الصَّحَابِيّ غير قادحة، لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول. وَقَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ، وَفِيه نظر، وَالصَّوَاب أَن لَا يُقَال لِأَن الْغَالِب روايتهم، إِذْ قد سمع جمَاعَة من الصَّحَابَة من بعض التَّابِعين، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا يعرف فِي) رِوَايَة (الأكابر من الأصاغر) عَن (روايتهم) أَي الصَّحَابَة (عَن تَابِعِيّ إِلَّا كَعْب الْأَحْبَار فِي الْإسْرَائِيلِيات) روى عَنهُ العبادلة الْأَرْبَعَة، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأنس، وَمُعَاوِيَة: فقد ظهر بذلك الْفرق بَين اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ والمحدثين فِي الْمُرْسل فكأنهم لم يعتبروا قيد التَّابِعِيّ فِي تَعْرِيفه وَيحْتَمل كَلَامهم التَّجَوُّز على سَبِيل التَّحْدِيد (وَلَا إِشْكَال فِي قَالَ لنا وسمعته وَحدثنَا) وَأخْبرنَا وشافهنا أَنه مَحْمُول على السماع مِنْهُ يجب قبُولهَا بِلَا خلاف (مَعَ أَنه وَقع التَّأْوِيل فِي قَول الْحسن حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة، يَعْنِي) حدث أَبُو هُرَيْرَة (أهل الْمَدِينَة وَهُوَ) أَي الْحسن (بهَا) أَي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: إِذا لم يقم دَلِيل قَاطع على أَن الْحسن لم يسمع من أبي هُرَيْرَة لم يجز أَن يُصَار إِلَيْهِ. قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ: قَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم من قَالَ عَن الْحسن حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة فقد أَخطَأ انْتهى. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل أَنه لم يسمع مِنْهُ شَيْئا وَهُوَ مَنْقُول عَن كثير من الْحفاظ، بل قَالَ يُونُس بن عبيد مَا رَآهُ قطّ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: حَدثنَا لَيْسَ بِنَصّ فِي أَن قَائِلهَا يسمع. (وَفِي مُسلم قَول الَّذِي يقْتله الدَّجَّال أَنْت الدَّجَّال الَّذِي حَدثنَا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي أمته وَهُوَ مِنْهُم) . قَالَ أَبُو إِسْحَاق رَاوِي الحَدِيث يُقَال إِن هَذَا الرجل هُوَ الْخضر. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " يَأْتِي الدَّجَّال وَهُوَ محرم عَلَيْهِ أَن يدْخل نقاب الْمَدِينَة فَينزل بعض السباخ الَّتِي تلِي الْمَدِينَة فَيخرج إِلَيْهِ يَوْمئِذٍ رجل وَهُوَ خير النَّاس أَو من خِيَار النَّاس فَيَقُول: أشهد أَنَّك الدَّجَّال الَّذِي حَدثنَا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثه (فَإِن قَالَ(3/68)
سمعته أَمر أَو نهي فالأكثر) أَنه (حجَّة، وَقيل يحْتَمل أَنه اعتقده) أَي اعْتقد مَضْمُون مَا أخبر بِهِ (من صِيغَة أَو) مُشَاهدَة (فعل أمرا ونهيا وَلَيْسَ) ذَلِك المأخذ (إِيَّاه) أَي أمرا ونهيا (عِنْد غَيره) . قَالَ الشَّارِح: كَمَا إِذا اعْتقد أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده أَو أَن الْفِعْل يدل على الْأَمر انْتهى وَلَا يخفى أَنه إِذا كَانَ مأخذه صِيغَة ظن أَنَّهَا أَمر أَو نهي يَصح أَن يَقُول السَّامع: سمعته أَمر وَنهي، وَأما إِذا كَانَ مُشَاهدَة فعل فَلَا يَصح أَن يَقُول سمعته، وَذَلِكَ لمعرفتهم بالأوضاع، وَالْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَبَين غَيره. قَالَ (ورده) أَي هَذَا القَوْل (بِأَنَّهُ احْتِمَال بعيد صَحِيح) خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي قَوْله رده (أما أمرنَا) بِكَذَا كَمَا فِي الصَّحِيح عَن أم عَطِيَّة: أمرنَا بِأَن نخرج فِي الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِق وَذَوَات الْخُدُور (ونهينا) عَن كَذَا كَمَا فِي الصَّحِيح عَنْهَا أَيْضا: نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز (وَأوجب) علينا كَذَا (وَحرم) علينا كَذَا، وأبيح لنا كَذَا، وَرخّص لنا كَذَا، بِنَاء الْجَمِيع للْمَفْعُول (وَجب أَي يُقَوي الْخلاف) فِيهِ (للزِّيَادَة) للاحتمال فِيهِ لعدم ظُهُور كَونهَا مسموعة بِلَا وَاسِطَة (بانضمام احْتِمَال كَون الْآمِر بعض الْأَئِمَّة أَو) الْكتاب، أَو كَون ذَلِك (استنباطا) من قَائِله، لِأَن الْمُجْتَهد إِذا قَاس يغلب على ظَنّه أَنه مَأْمُور بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَأَنه يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمُوجبِه: وَذهب إِلَى هَذَا الْكَرْخِي، والصيرفي، والإسماعيلي (وَمَعَ ذَلِك) كُله فاحتمال كَون الْأَمر عَن الرَّسُول (خلاف الظَّاهِر، إِذْ الظَّاهِر من قَول) شخص (مُخْتَصّ) من حَيْثُ الِامْتِثَال للأوامر والنواهي (بِملك لَهُ الْأَمر) وَالنَّهْي بِالنّظرِ إِلَيْهِ (ذَلِك) أَي كَون الْآمِر ذَلِك الْملك لَا غَيره فَكَذَلِك فِيمَا نَحن فِيهِ، وَإِلَيْهِ ذهب الْأَكْثَر، وَقيل هَذَا فِي غير الصّديق. وَأما مَا قَالَه الصّديق فَهُوَ مَرْفُوع بِلَا خلاف، فَإِن غَيره تَحت أَمر أَمِير آخر (وَقَوله) أَي الصَّحَابِيّ (من السّنة) كَذَا كَقَوْل عَليّ رَضِي الله عَنهُ السّنة وضع الْكَفّ على الْكَفّ فِي الصَّلَاة تَحت السُّرَّة (ظَاهر عِنْد الْأَكْثَر فِي سنيته عَلَيْهِ السَّلَام) كَذَا فِي النّسخ الْمَوْجُودَة عندنَا، وَالظَّاهِر فِي سنته بِغَيْر الْيَاء المصدرية: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بِهِ استنابة وَلَا يخفى بعده (وَتقدم للحنفية) كالكرخي والرازي وَأبي زيد وفخر الْإِسْلَام والسرخسي والصيرفي من الشَّافِعِيَّة (أَنه) أَي هَذَا القَوْل من الرَّاوِي صحابيا كَانَ أَو غَيره (أَعم مِنْهُ) أَي من كَونه سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَمن سنة) الْخُلَفَاء (الرَّاشِدين) . وَقَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيّ: الْأَصَح أَنه من التَّابِعين مَوْقُوف، وَمن الصَّحَابِيّ ظَاهر فِي أَنه سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَمثله) أَي مثل قَول الصَّحَابِيّ من السّنة فِي الْخلاف فِي ثُبُوت الحجية (كُنَّا نَفْعل) . وَفِي نُسْخَة بعد نَفْعل (أَو نرى، وَكَانُوا) يَفْعَلُونَ كَذَا فالأكثر أَنه (ظَاهر فِي الاج ماع عِنْدهم) أَي الصَّحَابَة، الظَّاهِر أَن الضَّمِير للْجَمِيع، وَأَرَادَ عمل(3/69)
الْجَمَاعَة. وَقَوله عِنْدهم ظرف لظَاهِر، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى فِي الْإِجْمَاع المنعقد عِنْدهم (وَقيل لَيْسَ بِحجَّة. قَالُوا لَو كَانَ) إِجْمَاعًا (لم تجز الْمُخَالفَة لخرق الْإِجْمَاع) أَي للُزُوم خرقه وَاللَّازِم مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاع (وَالْجَوَاب بِأَن مُقْتَضى مَا ذكر ظُهُوره فِي نفي الْإِجْمَاع أَو لُزُوم نَفْيه) أَي الْإِجْمَاع مَعْطُوف على ظُهُوره لَا على نفي الْإِجْمَاع كَمَا زعم الشَّارِح (وَهُوَ) أَي الْمُقْتَضى الْمَذْكُور (خلاف مدعاكم) يَعْنِي قد أجمع على أَن الْمُخَالفَة لقَوْل الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا جَائِزَة، وَهِي تدل على أَنه لَا يسْتَلْزم الْإِجْمَاع وَاعْترض بِأَن مُوجب هَذَا الدَّلِيل أحد الْأَمريْنِ: ظُهُور نفي الْإِجْمَاع إِن كَانَ ظنيا لِأَن الظَّاهِر والمتبادر أَن لَا يُخَالِفهُ مُجْتَهد، ولزومه إِن كَانَ قَطْعِيا إِذْ لَا يُمكن مُخَالفَته وكل من الْأَمريْنِ لَيْسَ بمدعاكم أَيهَا النافون للحجية وَلَا يستلزمه لِأَن انْتِفَاء الْإِجْمَاع لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء الحجية فدليلكم لَا يثبت مدعاكم، ثمَّ الْجَواب مُبْتَدأ خَبره (غير لَازم) بل هُوَ مندفع، لِأَن انْتِفَاء الْإِجْمَاع يَسْتَوِي احْتِمَال الحجية وَاحْتِمَال عدمهَا، و (لَا) شكّ (أَن التَّسَاوِي) بَينهمَا (كَاف فِيهِ) أَي فِي ثُبُوت الْمُدَّعِي: وَهُوَ نفي الحجية وَاحْتِمَال عدمهَا وَلَا شكّ (بل) الْجَواب عَن استدلالهم منع الْمُلَازمَة بَين كَون ذَلِك ظَاهرا فِي الاجماع وَبَين عدم جَوَاز الْمُخَالفَة، و (هُوَ أَن ذَلِك) أَي عدم جَوَاز الْمُخَالفَة إِنَّمَا هُوَ (فِي الْإِجْمَاع الْقطعِي الثُّبُوت) فِي الشَّرْح العضدي ذَلِك فِيمَا يكون الطَّرِيق قَطْعِيا وَهَهُنَا الطَّرِيق ظَنِّي فسوغت الْمُخَالفَة كَمَا تسوغ فِي خبر الْوَاحِد أَن كَانَ الْمَنْقُول بِهِ نصا قَاطعا فَإِنَّهُ يُخَالِفهُ لظنية الطَّرِيق وَلَا يمنعهُ قطيعة الْمَرْوِيّ انْتهى. يَعْنِي بِالطَّرِيقِ هَهُنَا قَول الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل: كَذَا فَإِنَّهُ طَرِيق لنا فِي معرفَة الْآحَاد (وَأما رده) أَي دَلِيل الْأَكْثَر بِأَنَّهُ الْإِجْمَاع (بِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع (لَا إِجْمَاع فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقَول الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا أَخْبَار عَمَّا وَقع فِيهِ (فَفِي غير مَحل النزاع إِذْ الْمُدَّعِي ظُهُوره) أَي هَذَا القَوْل (فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِهَذَا) أَي بِكَوْنِهِ ظَاهرا فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة بعده (ظهر أَن قَول الصَّحَابِيّ ذَلِك) أَي كُنَّا نَفْعل الخ (وقف خَاص) أما كَونه وَقفا فَلِأَنَّهُ لَا رفع فِيهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل إِلَى الصَّحَابَة، وَأما كَونه خَاصّا فباعتبار كَونه مجمعا عَلَيْهِ (وَجعله) أَي القَوْل الْمَذْكُور (رفعا) إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَاكِم وَالْإِمَام الرَّازِيّ (ضَعِيف) إِذْ لَيْسَ فِيهِ نسبته إِلَيْهِ قولا وَلَا عملا وَلَا تقريرا (حَتَّى لم يحكه) أَي القَوْل بِرَفْعِهِ (بعض أهل النَّقْل فَأَما) قَول الصَّحَابِيّ ذَلِك (بِزِيَادَة نَحْو فِي عَهده) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر كُنَّا نعزل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ف (رفع) لِأَن الظَّاهِر كَونه باطلاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك وتقريرهم عَلَيْهِ، إِذْ الْعبارَة تشعر بِهِ، وَتَقْرِيره أحد وُجُوه الرّفْع (لَا يعرف خِلَافه إِلَّا عَن الْإِسْمَاعِيلِيّ) تعقب الشَّارِح بِأَنَّهُ ذهب أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَابْن السَّمْعَانِيّ إِلَى أَنه إِذا كَانَ مِمَّا لَا يخفى غَالِبا فمرفوع وَإِلَّا فموقوف، وَحكى الْقُرْطُبِيّ أَنه إِن كَانَ ذكره فِي معرض الِاحْتِجَاج كَانَ مَرْفُوعا وَلَا(3/70)
فوقوف انْتهى. وَلَعَلَّ مُرَاد المُصَنّف خِلَافه على الْوَجْه الْكُلِّي من غير تَفْصِيل فَلَا إِشْكَال ثمَّ أَنه قَالَ نَحْو فِي عَهده ليشْمل مَا فِي لفظ لجَابِر فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنَّا نعزل وَالْقُرْآن ينزل (و) أما قَول الصَّحَابِيّ ذَلِك (بِنَحْوِ وَهُوَ يسمع فإجماع) كَونه رفعا، وَفِي بعض النّسخ فَظَاهر كَقَوْل ابْن عمر: كُنَّا نقُول وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ أفضل هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَيسمع ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يُنكره، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير.
مسئلة
(إِذا أخبر) مخبر خَبرا) (بِحَضْرَتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يُنكر) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك عَلَيْهِ (كَانَ) الْخَبَر (ظَاهرا فِي صدقه) أَو صدق مخبره أَو صدق نَفسه (لَا قَطْعِيا لاحْتِمَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسمعهُ) أَي ذَلِك الْخَبَر لاشتغاله عَنهُ بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ (أَو لم يفهمهُ) لرداءة عبارَة الْمخبر مثلا (أَو كَانَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بَين نقيضه) أَي ذَلِك الْخَبَر قبل (أَو رأى تَأْخِير الْإِنْكَار) لمصْلحَة فِي تَأْخِيره (أَو مَا علم كذبه) لكَونه دنيويا، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" انتم أعلم بِأَمْر دنياكم " رَوَاهُ مُسلم (أَو رَآهُ) أَي ذَلِك الْخَبَر (صَغِيرَة وَلم يحكم بإصراره) أَي الْمخبر عَلَيْهَا، قَالُوا: وَلَو قدم عدم جَمِيع هَذِه الِاحْتِمَالَات فالصغيرة غير ممتنعة على الْأَنْبِيَاء.
مسئلة
(حمل الصَّحَابِيّ مرويه الْمُشْتَرك) اشتراكا لفظيا أَو معنويا (وَنَحْوه) كالمجمل والمشكل والخفي (على أحد مَا يحْتَملهُ) من الِاحْتِمَالَات (وَهُوَ) أَي حمله عَلَيْهِ (تَأْوِيله) أَي الصَّحَابِيّ لذَلِك (وَاجِب الْقبُول) عِنْد الْجُمْهُور (خلافًا لمشهوري الْحَنَفِيَّة لظُهُور أَنه) أَي حمله الْمَذْكُور (لموجب هُوَ بِهِ أعلم) إِذْ الظَّاهِر من حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا ينْطق بالمشترك للتشريع بِلَا قرينَة مُعينَة، والصحابي الرَّاوِي بِحُضُورِهِ واطلاعه على أَحْوَاله أعرف بذلك من غَيره (وَهُوَ) أَي وجوب قبُول تَأْوِيله (مثل) وجوب (تَقْلِيده) أَي الصَّحَابِيّ (فِي اللَّازِم) أَي فِيمَا يلْزم تَقْلِيده فِيهِ، وَهُوَ مَا يرويهِ من غير تَأْوِيل، وَوجه الشّبَه أَن مدَار كل مِنْهُمَا ظُهُور أَنه أَخذه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر حَاله، كَأَنَّهُ يَقُول فِي صُورَة التَّأْوِيل أَنه قَامَ عِنْدِي قرينَة مُعينَة لهَذَا المُرَاد، وَهُوَ مَا وَفِيه، وَالْوَجْه أَن يُقَال مَعْنَاهُ أَن الْحَنَفِيَّة لما قَالُوا بِوُجُوب تَقْلِيد الصَّحَابِيّ فِيمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده لزم عَلَيْهِم قبُول تَأْوِيله لاشْتِرَاكهمَا فِي اللوازم فَكل مَا يلْزم فِي وجوب التَّقْلِيد يلْزم فِي وجوب قبُول التَّأْوِيل، فالتزام أَحدهمَا دون الآخر تَأمل (أَو) حمل الصَّحَابِيّ مرويه (الظَّاهِر على غَيره) أَي غير الظَّاهِر فمرويه ظَاهر فِي غير مَا يحْتَملهُ عَلَيْهِ (فالأكثر) أَي محمل الْأَكْثَر من الْعلمَاء كالشافعي والكرخي الْمَعْنى (الظَّاهِر) دون مَا حمل عَلَيْهِ الرَّاوِي من تَأْوِيله. (وَقَالَ الشَّافِعِي كَيفَ أترك الحَدِيث لقَوْل من لَو عاصرته لحاججته)(3/71)
يَعْنِي الصَّحَابِيّ بِظَاهِر الحَدِيث، وَقيل يجب حمله على مَا عينه الرَّاوِي. وَفِي شرح البديع وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا انْتهى. وَهُوَ اخْتِيَار المُصَنّف. وَقَالَ عبد الْجَبَّار وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ إِن علم أَن الصَّحَابِيّ إِنَّمَا صَار إِلَى تَأْوِيله لعلمه بِقصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب الْعَمَل بِهِ وَإِن جهل ذَلِك وَجَاز كَونه لدَلِيل ظهر لَهُ من نَص أَو قِيَاس أَو غَيرهمَا وَجب النّظر فِي ذَلِك الدَّلِيل فَإِن اقْتضى مَا ذهب إِلَيْهِ صير إِلَيْهِ، وَإِلَّا وَجب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ (قُلْنَا) فِي جَوَاب الشَّافِعِي وَمن مَعَه (لَيْسَ يخفى عَلَيْهِ) أَي الصَّحَابِيّ الرَّاوِي (تَحْرِيم ترك الظَّاهِر إِلَّا لما يُوجِبهُ) أَي ترك الظَّاهِر (فلولا تيقنه) أَي الرَّاوِي (بِهِ) أَي بِمَا يجب تَركه (لم يتْركهُ وَلَو سلم) انْتِفَاء تيقنه بِهِ (فلولا أغلبيته) أَي الظَّن بِمَا يُوجب تَركه لم يتْركهُ (وَلَو سلم) انْتِفَاء أغلبية الظَّن لم يكن عِنْده إِلَّا مُجَرّد الظَّن (فشهوده) أَي الرَّاوِي (مَا هُنَاكَ) من قَرَائِن الْأَحْوَال عِنْد الْمقَال (يرجح ظَنّه) بالمراد على ظن غَيره (فَيجب الرَّاجِح) أَي الْعَمَل بِهِ (وَبِه) أَي بِشُهُود ذَلِك، أَو بِهَذَا التَّقْرِير (ينْدَفع تَجْوِيز خطئه بِظَنّ مَا لَيْسَ دَلِيلا دَلِيلا) لبعد ذَلِك مَعَ علمه بالموضوعات اللُّغَوِيَّة ومواضع اسْتِعْمَالهَا وَحَال الْمُتَكَلّم وعدالته المستدعية للتأمل فِي أَمر الدّين، (وَمِنْه) أَي من ترك الظَّاهِر لدَلِيل (لَا من الْعَمَل بِبَعْض المحتملات) كَمَا توهم (تَخْصِيص الْعَام) من الصَّحَابِيّ (يجب حمله) أَي التَّخْصِيص مِنْهُ (على سَماع الْمُخَصّص) وَمعنى حمله عَلَيْهِ إحالته إِلَيْهِ (كَحَدِيث ابْن عَبَّاس) مَرْفُوعا (من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ) رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره (وَأسْندَ أَبُو حنيفَة) عَن عَاصِم بن أبي النجُود عَن أبي النجُود عَن أبي رزين (عَنهُ) أَي ابْن عَبَّاس مَا مَعْنَاهُ (لَا تقتل الْمُرْتَدَّة) وَلَفظه لَا تقتل النِّسَاء إِذا هن ارتددن عَن الْإِسْلَام، لَكِن يحبسن ويدعين إِلَى الْإِسْلَام ويجبرن عَلَيْهِ (فَلَزِمَ) تَخْصِيص الْمُبدل بِكَوْنِهِ من الرِّجَال (خلافًا للشَّافِعِيّ) وَمَالك وَأحمد قَالُوا يقتل عملا بِعُمُوم الظَّاهِر (فَلَو كَانَ) الْمَرْوِيّ (مُفَسرًا وتسميه الشَّافِعِيَّة نصا على مَا سلف) فِي التَّقْسِيم الثَّانِي للفرد بِاعْتِبَار دلَالَته أَوَائِل الْكتاب (وَتَركه) أَي الصَّحَابِيّ ذَلِك الْمَرْوِيّ فَلم يعْمل بِهِ (بعد رِوَايَته لَا) يتَحَقَّق فِيهِ الحكم الْآتِي (إِن لم يعرف تَارِيخ) لتَركه وَرِوَايَته لَهُ فَلم يعلم أَن التّرْك مُتَأَخّر أَو الرِّوَايَة (تعين كَون تَركه لعلمه بالناسخ) إِذْ لَا يظنّ بِهِ أَن يُخَالف النَّص بِغَيْر دَلِيل هُوَ النَّاسِخ (فَيجب اتِّبَاعه) فِي ترك الْعَمَل بِهِ وَإِن جهل تَارِيخ الْمُخَالفَة للمروي حملت على أَنَّهَا كَانَت قبل الرِّوَايَة فَلَا يكون جرحا للْحَدِيث وَلَا للراوي لجَوَاز أَن يكون ذَلِك لعدم علمه بِهِ خلافًا للشَّافِعِيّ (وَبِه) أَي بتعين كَونه تَركه لعلمه بالناسخ (يتَبَيَّن نسخ حَدِيث السَّبع من الولوغ) وَهُوَ مَا فِي مُسلم وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ (إِذْ صَحَّ اكْتِفَاء) رِوَايَة (أبي هُرَيْرَة بِالثلَاثِ) كَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد صَحِيح (فيقوي بِهِ) أَي باكتفائه بِالثلَاثِ الضَّعِيف (حَدِيث اغسلوه ثَلَاثًا وَمِمَّنْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ) وَلَفظه يلغ فِي الْإِنَاء يغسل ثَلَاثًا أَو خمْسا(3/72)
أَو سبعا. وَقَالَ تفرد بِهِ عبد الْوَهَّاب عَن إِسْمَاعِيل وَهُوَ مَتْرُوك، وَإِنَّمَا يقوى بِهِ (لموافقته الدَّلِيل) وَقد عرفت الدَّلِيل (وَلَا خَفَاء فِي عدم اعْتِبَار الضعْف فِي نفس الْأَمر فِي مُسَمَّاهُ) أَي الضَّعِيف (بل) إِنَّمَا يعْتَبر (ظَاهرا فَإِذا اعتضد) الضَّعِيف: أَي تأيد بمؤيد (ظهر أَن مَا ظهر) من الضعْف (غير الْوَاقِع كَمَا يضعف ظَاهر الصِّحَّة) أَي الحَدِيث الَّذِي يحكم بِصِحَّتِهِ نظرا إِلَى ظَاهر حَال الرَّاوِي (بعلة باطنة) أَي خُفْيَة (وَاحْتِمَال ظن الصَّحَابِيّ مَا لَيْسَ نَاسِخا نَاسِخا لَا يخفي بعده فَوَجَبَ نَفْيه) أَي نفي هَذَا الِاحْتِمَال لظُهُور بعده (قَالُوا النَّص وَاجِب الِاتِّبَاع، قُلْنَا نعم وَهُوَ النَّاسِخ الَّذِي لأَجله ترك) المروى الْمُفَسّر لَا نفس الْمُفَسّر (وَمِنْه) أَي من ترك الصَّحَابِيّ مرويه بعد رِوَايَته (ترك ابْن عمر الرّفْع) لِلْيَدَيْنِ فيهمَا تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح من الصَّلَاة (على مَا صَحَّ عَن مُجَاهِد) من قَوْله (صَحِبت ابْن عمر سِنِين فَلم أره يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح) أخرجه ابْن أبي شيبَة بِلَفْظ " مَا رَأَيْت ابْن عمر يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي أول مَا يفْتَتح ": والطَّحَاوِي بِلَفْظ صليت خلف ابْن عمر فَلم يكن يرفع يَدَيْهِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الأولى من الصَّلَاة، مَعَ مَا أخرج السِّتَّة عَنهُ: قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْو مَنْكِبَيْه ثمَّ كبر، فَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع فعل مثل ذَلِك قَالُوا: النَّص وَاجِب الِاتِّبَاع فَلَا يتْرك مُوجبه اتبَاعا للصحابي، قُلْنَا نعم وَنحن مَا اتَّبعنَا إِلَّا النَّص: وَهُوَ النَّاسِخ الَّذِي لأَجله ترك الرَّاوِي الْمَرْوِيّ (وكتخصيصه) أَي الصَّحَابِيّ الرَّاوِي (الْعَام تَقْيِيده للمطلق) إِنَّمَا ذكر التَّخْصِيص فِي الْعَام، لِأَنَّهُ تقليل الِاشْتِرَاك وَالْعَام مُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ، فَيلْزمهُ الِاشْتِرَاك وَالتَّقْيِيد فِي الْمُطلق، لِأَن الْمَاهِيّة الْمُطلقَة لم يعْتَبر فِيهَا الِاشْتِرَاك وَعَدَمه فيناسبه التَّقْيِيد، فَيجب أَن يحمل تَقْيِيده على سَماع مَا تقيده (فَإِن لم يعلم عمله) أَي الصَّحَابِيّ الرَّاوِي لَهُ (وَعلم عمل الْأَكْثَر بِخِلَافِهِ) أَي الْخَبَر (اتبع الْخَبَر) لِأَن غير الرَّاوِي قد لَا يعلم ذَلِك بالْخبر، ثمَّ قَول الْأَكْثَر لَيْسَ بِحجَّة، فَكيف يتْرك مَا هُوَ حجَّة: وَهَذَا عِنْد غير الْحَنَفِيَّة وَأما عِنْدهم فَفِيهِ تَفْصِيل كَمَا يَجِيء (وَمن يرى حجية إِجْمَاع) أهل (الْمَدِينَة) كمالك (يستثنيه) فَيَقُول إِلَّا أَن يكون فِيهِ إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، فَالْعَمَل بإجماعهم فَهُوَ عِنْده (كإجماع الْكل) وَهُوَ مقدم على خبر الْوَاحِد (وَترك الصَّحَابَة الِاحْتِجَاج بِهِ) أَي الحَدِيث (عِنْد اخْتلَافهمْ مُخْتَلف) أَي وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْأُصُولِيِّينَ (فِي رده) أَي الحَدِيث الَّذِي تركُوا الِاحْتِجَاج بِهِ عِنْد اخْتلَافهمْ واحتياجهم إِلَيْهِ (وَهُوَ) أَي رده لذَلِك هُوَ (الْوَجْه) الأول (إِذا كَانَ) الحَدِيث (ظَاهرا فيهم) أَي الصَّحَابَة (وَأما عمل غَيره) أَي رَاوِي الحَدِيث (من الصَّحَابَة بِخِلَافِهِ) أَي الْمَرْوِيّ (فالحنفية) قَالُوا (إِن كَانَ) الحَدِيث (من جنس مَا يحْتَمل الخفاء على التارك) للْعَمَل بِهِ (كَحَدِيث القهقهة)(3/73)
الْمَرْوِيّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق مِنْهَا رِوَايَة أبي حنيفَة عَن مَنْصُور بن زَاذَان الوَاسِطِيّ عَن الْحسن عَن معبد بن أبي معبد الْخُزَاعِيّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: بَينا هُوَ فِي الصَّلَاة إِذْ أقبل أعمى يُرِيد الصَّلَاة فَوَقع فِي زبية فاستضحك الْقَوْم فقهقهوا، فَمَا انْصَرف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
" من كَانَ مِنْكُم قهقه فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة ". (عَن أبي مُوسَى) الْأَشْعَرِيّ (تَركه) أَي الْعَمَل بِهِ (لَا يضرّهُ) أَي الحَدِيث الْمَذْكُور (إِذْ لَا يسْتَلْزم) ترك غير الرَّاوِي لمثله جرحا (مثل ترك الرَّاوِي) الصَّحَابِيّ مرويه الْمُفَسّر بعد رِوَايَته لَهُ لجَوَاز عدم اطِّلَاعه عَلَيْهِ كَمَا فِي وُقُوع القهقهة فِي الصَّلَاة (لِأَنَّهُ) أَي وُقُوعه فِيهَا (من الْحَوَادِث النادرة فَجَاز خفاؤه) أَي الحَدِيث (عَنهُ) أَي أبي مُوسَى (على أَنه منع صِحَّته) أَي صِحَة تَركه (عَنهُ) أَي أبي مُوسَى (بل) روى (نقيضه) أَي نقيض ترك الْعَمَل بِهِ وَهُوَ الْعَمَل بِهِ عَنهُ: أَي أبي مُوسَى. وَفِي الْأَسْرَار قد اشْتهر عَن أبي الْعَالِيَة رِوَايَة هَذَا الحَدِيث مُرْسلا وَمُسْندًا عَن أبي مُوسَى، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ مَرْفُوعا (أَولا) يكون الحَدِيث (مِنْهُ) أَي من جنس مَا يحْتَمل الخفاء (كالتغريب) فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام ": رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، وَهُوَ إِخْرَاج الْحَاكِم الْمُحصن الْحر ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى إِلَى مَسَافَة قصر فَمَا فَوْقه، وَأول مدَّته ابْتِدَاء السّفر كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي فروع الشَّافِعِيَّة (تَركه عمر بعد لحاق من غربه مُرْتَدا) . أخرج عبد الرازق عَن ابْن الْمسيب قَالَ: غرب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ربيعَة بن أُميَّة بن خلف فِي الشَّرَاب إِلَى خَيْبَر فلحق بهرقل فَتَنَصَّرَ فَقَالَ عمر لَا أغرب بعده مُسلما (فيقدح) أَي ترك عمل غير الرَّاوِي لَهُ من الصَّحَابَة فِيهِ (لاستلزامه) أَي ترك الْعَمَل بِهِ حِينَئِذٍ (ذَلِك) أَي الْقدح فِيهِ (أَو) يُقَال فِي هَذَا الْخُصُوص (أَنه) أَي التَّغْرِيب (كَانَ زِيَادَة تَعْزِير سياسة) شَرْعِيَّة إيحاشا للزاني وَزِيَادَة فِي تنكيله فَلَا يقْدَح (إِذْ لَا يخفى) كَون التَّغْرِيب من الْحَد (عَنهُ) أَي عَن عمر (لابتناء الْحَد على الشُّهْرَة مَعَ حَاجَة الإِمَام إِلَى مَعْرفَته فيفحص عَنهُ، وكفره) أَي الْمغرب بارتداده و (لَا يحل تَركه) أَي عمر (الْحَد، وَقد قَالَ عمر للمؤلفة بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين فهم انْتِهَاء حكمهم) أَي التَّأْلِيف وَهُوَ الْعَطاء لمصْلحَة تَقْوِيَة الْإِسْلَام (وهم أهل شَوْكَة) أَي وَالْحَال أَن الْمُؤَلّفَة عِنْد الِانْتِهَاء أهل شَوْكَة ومنعة يتَوَهَّم مِنْهُم الْعِصْيَان، ومعقول القَوْل، (الْحق من ربكُم فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر ومنعهم) . روى الطَّبَرِيّ عَنهُ أَنه قَالَ ذَلِك لما أَتَاهُ عُيَيْنَة بن حصن، وأعقبه بقوله: يَعْنِي لَيْسَ الْيَوْم مؤلفة (بَقِي قسم) لم يذكر فِي تقسيمهم وَهُوَ (مُحْتَمل لَا يخفى) أَي هُوَ فِي حد ذَاته مِمَّا يحْتَمل الخفاء غير أَنه اشْتهر وارتفع عَنهُ الخفاء (وَلَيْسَ) الحكم الثَّابِت فِيهِ (من متعلقات) الصَّحَابِيّ الَّذِي لَيْسَ براويه (التارك) للْعَمَل(3/74)
بِهِ (الَّتِي تهمه) ليلزم عَلَيْهِ زِيَادَة الفحص عَنهُ (وَالْوَجْه) أَن يُقَال (لَيْسَ) ترك عمل غير الرَّاوِي (كالراوي) أَي كَتَرْكِ عمل الرَّاوِي (لزِيَادَة احْتِمَال عدم بُلُوغه) أَي الحَدِيث الَّذِي تَاركه غير رَاوِيه (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (أولى) بِهِ: أَي بِوُجُوب الْعَمَل بِالْحَدِيثِ (من الْأَكْثَر) من الْقسم الَّذِي ترك الْأَكْثَر الْعَمَل (بِهِ) قَالَ الشَّارِح: لَعَلَّهُم لم يذكروه لانْتِفَاء أَمْثَاله فِي استقرائهم وَالله أعلم.
مسئلة
(حذف بعض الْخَبَر الَّذِي لَا تعلق لَهُ بالمذكور جَائِز) عِنْد الْأَكْثَر (بِخِلَاف) مَاله تعلق بِهِ مخل بِالْمَعْنَى حذفه: مثل فعل (الشَّرْط) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ إِن زنت فاجلدوها، ثمَّ بيعوها وَلَو بضفير " يَعْنِي الْأمة غير المحصنة مُتَّفق عَلَيْهِ. (وَالِاسْتِثْنَاء) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب، وَلَا الْوَرق بالورق إِلَّا وزنا بِوَزْن مثلا بِمثل سَوَاء بِسَوَاء ": رَوَاهُ مُسلم (وَالْحَال) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" لَا يُصَلِّي أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه شَيْء ": رَوَاهُ البُخَارِيّ (والغاية) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه " مُتَّفق عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يجوز حذفه لفَوَات الْمَقْصُود (وَقيل لَا) يجوز مُطلقًا (وَقيل إِن روى مرّة على التَّمام) هُوَ أَو غَيره الْخَبَر جَازَ وَإِلَّا لم يجز (وَمَا قيل يمْنَع إِن خَافَ تُهْمَة الْغَلَط) كَمَا ذكره الْخَطِيب: يَعْنِي أَن روى مرّة على التَّمام هُوَ أَو غَيره، وَمرَّة على النُّقْصَان إِن خَافَ أَن يتهم بالغلط بِزِيَادَتِهِ مَا لم يسمعهُ وَنَحْوه (فَأمر آخر) لَا دخل لَهُ فِي أصل الْجَوَاز الَّذِي كلامنا فِيهِ (لنا إِذا انْقَطع التَّعَلُّق) بَين الْمَذْكُور والمحذوف (فكخبرين أَو أَخْبَار، وشاع من الْأَئِمَّة من غير نَكِير، وَالْأولَى الْكَمَال كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ) أَي تتساوى فِي الْقصاص والديات لأَفْضَل للشريف على وضيع (وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ) أَي بأمانهم (أَدْنَاهُم، وَيرد عَلَيْهِم أَقْصَاهُم) أَي يرد الْأَبْعَد مِنْهُم الْبَقِيَّة عَلَيْهِم: وَذَلِكَ لِأَن الْعَسْكَر إِذا دخل دَار الْحَرْب فاقتطع الإِمَام مِنْهُم سَرَايَا ووجهها للإغارة فَمَا غنمته جعل لَهَا على مَا سمي، وَيرد مَا بَقِي لأهل الْعَسْكَر: لِأَن بهم قدرت السَّرَايَا على التوغل فِي دَار الْحَرْب وَأخذ المَال كَذَا ذكره المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة، فالأبعد السّريَّة، والبقية مَا يبْقى من المَاء وَغَيره، والمردود عَلَيْهِم أهل الْعَسْكَر فَإِن السّريَّة ترد بَقِيَّة المَال عَلَيْهِم (وهم يَد على من سواهُم) أَي كالعضو الْوَاحِد فِي اتِّحَاد كلمتهم ونصرتهم وتعاونهم على جَمِيع الْملَل الْمُحَاربَة لَهُم: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه إِلَّا أَنه قَالَ مَكَان: وَيرد عَلَيْهِم أَقْصَاهُم، ويجيز عَلَيْهِم(3/75)
أَقْصَاهُم ففسر الرَّد فِي تِلْكَ الرِّوَايَة بِالْإِجَازَةِ، فَالْمَعْنى يرد الْإِجَازَة عَلَيْهِم حَتَّى يكون كلهم مجيزا، يُقَال أجزت فلَانا على فلَان: إِذا حميته مِنْهُ ومنعته.
مسئلة
(الْمُخْتَار) عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ والآمدي وَالْإِمَام الرَّازِيّ وَابْن الْحَاجِب. وَفِي رِوَايَة عَن أَحْمد وَغَيرهم (أَن خبر الْوَاحِد قد يُفِيد الْعلم بقرائن غير اللَّازِمَة لما تقدم) أَي للْخَبَر نَفسه وللمخبر أَو للمخبر عَنهُ (وَلَو كَانَ) الْمخبر (غير عدل، لَا) أَنه يفِيدهُ (مُجَردا) عَن الْقَرَائِن (وَقيل إِن كَانَ) الْمخبر (عدلا جَازَ) أَن يُفِيد الْعلم (مَعَ التجرد) عَن الْقَرَائِن، لَكِن لَا يطرد فِي كل خبر عدل، وَهُوَ عَن بعض الْمُحدثين (وَعَن أَحْمد) فِي رِوَايَة يُفِيد الْعلم مَعَ التجرد، و (يطرد) فِي كل خبر عدل (وَأول) الْعلم المفاد بِهِ مطردا (بِعلم وجوب الْعَمَل، لَكِن تَصْرِيح ابْن الصّلاح فِي مرويهما) أَي صحيحي البُخَارِيّ وَمُسلم (بِأَنَّهُ مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ) وَسَبقه إِلَى هَذَا الْمَقْدِسِي وَأَبُو نصر (يَنْفِيه) أَي هَذَا الدَّلِيل (مستدلا) حَال من ابْن الصّلاح (بِالْإِجْمَاع على قبُوله وَإِن كَانَ) الْإِجْمَاع ناشئا (عَن ظنون) يَعْنِي كل وَاحِد من أهل الْإِجْمَاع لصِحَّة مرويهما المستلزمة لقبوله (فَظن مَعْصُوم) أَي فَظن الْجَمِيع من حَيْثُ أَنه اجْتمع عَلَيْهِ الْأمة مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فَصَارَ كَالْعلمِ فِي عدم احْتِمَال الْخَطَأ، وَسَيَجِيءُ الْكَلَام عَلَيْهِ (وَالْأَكْثَر) من الْفُقَهَاء والمحدثين خبر الْوَاحِد (لَا) يُفِيد الْعلم (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ بقرائن أَولا (لنا) فِي الأول وَهُوَ إفادته للْعلم بِالْقُرْآنِ (الْقطع بِهِ) أَي بِخَبَر الْوَاحِد أَو بِحُصُول الْعلم بمضمونه (فِي نَحْو إِخْبَار ملك) من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول: أَي فِيمَا إِذا أخبر وَاحِد ملكا (بِمَوْت ولد) لَهُ كَانَ (فِي النزع مَعَ صُرَاخ وانتهاك حرم) للْملك (وَنَحْوه) كخروج الْملك وَرَاء الْجِنَازَة إِلَى غير ذَلِك. (وَفِي الثَّانِي) وَهُوَ عدم إِفَادَة الْعلم مُجَردا عَن الْقَرَائِن (لَو كَانَ) خبر الْوَاحِد مُفِيدا للْعلم مُطلقًا (فبالعادة) أَي فَكَانَ تِلْكَ الإفادة بطرِيق الْعَادة وأجرى الله عَادَته بِخلق الْعلم عِنْده، إِذْ لَا عِلّة لَهُ سواهَا (فيطرد) حُصُول الْعلم فِي كل جُزْء من غير تخلف، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ ضَرُورَة (وَاجْتمعَ النقيضان فِي الْإِخْبَار بهما) أَي بالنقيضين، وَقد وَقع ذَلِك فِي إِخْبَار الْعُدُول كثيرا، إِذْ الْمَفْرُوض أَن كل خبر عدل يُفِيد الْعلم، وكل مَا هُوَ مُتَعَلق الْعلم لَا بُد أَن يكون متحققا وَيرد عَلَيْهِ أَن الْقَائِل بِهِ يُرِيد أَنه يُفِيد الْعلم إِذا لم تكن قرينَة الْكَذِب، وكل مِنْهُمَا قرينَة كذب الآخر إِذا صَدرا مَعًا وَإِلَّا فالمتقدم لَا معَارض لَهُ فَيصير قرينَة لكذب الْمُتَأَخر فَتَأمل. (وَوَجَب التأثيم) للمخالف بِالِاجْتِهَادِ لعدم جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي مُقَابلَة الْقطعِي (وَهُوَ) أَي تأثيمه(3/76)
(مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاع. الْأَكْثَر) قَالُوا فِي دفع دَلِيل الْمُخْتَار (مفيده) أَي الْعلم (الْقَرَائِن فقد أخرجُوا الْخَبَر عَن كَونه جُزْء مُفِيد الْعلم) لَا عَن كَونه مُعَرفا عَلَيْهِ مُطلقًا: إِذْ لَا سَبِيل إِلَيْهِ (وَدفعه) أَي هَذَا القَوْل من قبيل الْمُخْتَار (بِأَنَّهُ لَوْلَا الْخَبَر لجوزنا موت) شخص (آخر) من أقَارِب الْملك كأخيه وَأَبِيهِ، فَلَا يتَعَيَّن وَلَده بِعَيْنِه (يُفِيد أَن الْمَقْصُود مُجَرّد حُصُول الْعلم مَعَ الْمَجْمُوع) من الْخَبَر والقرائن، لَا إِثْبَات كَون الْخَبَر جُزْء سَبَب الْعلم (فَإِذا عجز) الدَّافِع الْمَذْكُور (عَن إثْبَاته) أَي إِثْبَات كَون الْخَبَر (جُزْء السَّبَب) لإفادته (لزم) كَونه (شرطا) لإفادته، إِن أَرَادَ بِالشّرطِ مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ أَعم من أَن يكون جُزْءا أَو خَارِجا، إِذْ هُوَ مُقْتَضى الدَّلِيل لَا خُصُوصِيَّة كَونه خَارِجا لَا يُفِيد مَا هُوَ بصدده، وَإِن أَرَادَ مَا هُوَ الْأَخَص فالملازمة مَمْنُوعَة، إِذْ الْعَجز عَن إِثْبَات شَيْء لَا يسْتَلْزم عَدمه فَتَأمل (وَهُوَ) أَي كَونه شرطا لإفادته (عين مَذْهَب الْأَكْثَر) إِذْ لَيْسَ مقصودهم إِفَادَة الْقَرَائِن بِدُونِ الْخَبَر (فَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل من قبل الْمُخْتَار (اعْتِرَاف بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ شرطا (فأغناهم) أَي هَذَا الِاعْتِرَاف أهل الْمُخْتَار (عَمَّا نسبوه) أَي الْأَكْثَر (إِلَيْهِم) أَي أهل الْمُخْتَار (من قَوْلهم) أَي الْأَكْثَر (دليلكم) أَصْحَاب الْمُخْتَار (على نَفْيه) أَي الْعلم عَن خبر الْوَاحِد (بِلَا قرينَة يَنْفِيه) أَي الْعلم عَنهُ (بهَا) أَي بِالْقَرِينَةِ، وَمعنى الإغناء أَنه إِذا كَانَ مآل كَلَام الْمُخْتَار وَالْأَكْثَر وَاحِدًا يرْتَفع عَن الْمُخْتَار مُنَازعَة الْأَكْثَر فَلَا يَحْتَاجُونَ حِينَئِذٍ إِلَى ذكر نقض الْأَكْثَر وَذكر جَوَابه، ثمَّ بَين الدَّلِيل المنقوض بقوله (وَهُوَ) أَي دليلكم على نَفْيه (لَو كَانَ) خبر الْوَاحِد مُفِيدا للْعلم بِدُونِ الْقَرَائِن (أدّى إِلَى النقيضين) أَي تنَاقض المعلومين (إِلَى آخِره) أَي لُزُوم الاطراد وتأثيم الْمُخَالف كَأَنَّهُ زعم الناقض أَن اللوازم الْمَذْكُورَة تلْزم كَون الْخَبَر مُفِيدا للْعلم سَوَاء كَانَ مَعَ الْقَرَائِن أَولا، وبطلانه ظَاهر (و) أغناهم عَن (دَفعه بِأَنَّهُ) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور (إِنَّمَا يَقْتَضِي امْتِنَاعه) أَي كَون الْخَبَر مُفِيدا للْعلم (عِنْده) أَي عِنْد نفي الْقَرِينَة (لَا مُطلقًا) ليدْخل فِيهِ مَا مَعَ الْقَرِينَة (لِأَن لُزُوم المتناقضين إِنَّمَا هُوَ بتقديره) عدم الْقَرَائِن، لِأَن المخطوطات الثَّلَاثَة من لَوَازِم كَون خبر الْعدْل بِنَفسِهِ مُفِيدا للْعلم من غير حَاجَة إِلَى الْقَرِينَة، و (أما الْجَواب) عَن النَّقْض الْمَذْكُور بِمَنْع بطلَان التَّالِي فِي صُورَة كَونه مَعَ الْقَرَائِن (بِالْتِزَام الاطراد فِي مثله) أَي فِيمَا فِيهِ الْقَرَائِن. فِي الشَّرْح العضدي: وَالْجَوَاب أَنَّهَا لَا تتأدى فِي الْخَبَر مَعَ الْقَرَائِن، أما لُزُوم الاطراد فَلِأَنَّهُ مُلْتَزم فِي نَفسه فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَن الْعلم، وَأما تنَاقض المعلومين فَلِأَن ذَلِك إِذا حصل فِي قصَّة امْتنع أَن يحصل مثله فِي نقيضها عَادَة وَأما تخطئة الْمُخَالف قطعا فَلِأَنَّهُ مُلْتَزم وَلَو وَقع لم يجز مُخَالفَته بِالِاجْتِهَادِ إِلَّا أَنه لم يَقع فِي الشرعيات انْتهى (فبعيد للْقطع بِأَن لَيْسَ كل خبر وَاحِد) مقرون (بقرائن) مثل قَرَائِن الْمِثَال الْمَذْكُور (يُوجب الْعلم، و) الْحَال أَن (الدَّعْوَى) أَن الْخَبَر الْمَذْكُور (قد يُوجِبهُ) أَي الْعلم (لَا الْكُلية) أَي لَا أَنه(3/77)
كل خبر كَذَا يُوجِبهُ (لما نذْكر) من تَجْوِيز ثُبُوت نقيضه بِأَن يرجِعوا فيقولوا لم يمت، وَإِنَّمَا سكن وَبرد فَظن مَوته (فبايجابه) أَي الْخَبَر الْمَذْكُور الْعلم (يعلم أَنه) أَي الْخَبَر الْمُوجب (ذَلِك) الْخَبَر الْمُفِيد للْعلم بالقرائن، وَلَا يخفى أَن الْعلم بإيجابه للْعلم إِنَّمَا يتَحَقَّق بِمَجْمُوع أحد أَمريْن: أَحدهمَا عدم احْتِمَال النقيض، وَالثَّانِي مطابقته للْوَاقِع وَالْعلم بالمطابقة بالحس أَو الْبُرْهَان أَو خبر الْمخبر الصَّادِق (كَمَا فِي) الْخَبَر (الْمُتَوَاتر يعرفهُ) أَي كَونه متواترا (أَثَره) أَي ثُبُوت أَثَره: وَهُوَ (الْعلم وَحِينَئِذٍ نمْنَع إِمْكَان مثله) أَي إِيجَاب الْعلم بِخَبَر وَاحِد آخر عدل مخبر (بالنقيض الآخر) مقرون بقرائن مثل تِلْكَ الْقَرَائِن فَإِنَّهُ محَال عَادَة (إِلَّا لَو وَقع) أَي لَكَانَ لَو وَقع، وَالتَّعْبِير بلو للإشعار بِعَدَمِ وجوده (فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة) جَوَاب لَو مَحْذُوف أَي جوزناه، يدل عَلَيْهِ قَوْله (فَيجوز لعدم حَقِيقَة التَّعَارُض) فِيهَا (للُزُوم اخْتِلَاف الزَّمَان) فِيهَا (فأحدهما مَنْسُوخ) وَالْآخر نَاسخ لَهُ، وعَلى هَذَا القَوْل بِأَن النّسخ يجْرِي فِي الْأَخْبَار وَالْجُمْهُور على خِلَافه، فعلى هَذَا لَا يَصح إِلَّا على التَّأْوِيل كَأَن يكون الْمَنْسُوخ مُتَعَلق الْخَبَر لَا نَفسه (ويلتزم التأثيم) للمخالف للْخَبَر والمقرون بالقرائن بِالِاجْتِهَادِ (لَو وَقع فِيهَا بِخِلَافِهِ) أَي التأثيم (بِخَبَر الْوَاحِد) الْمُجَرّد عَن تِلْكَ الْقَرَائِن فَإِنَّهُ لَا يلْتَزم فِيهِ (للْقطع بِجَوَاز إِخْبَار اثْنَيْنِ بنقيضين، بل) الْقطع (بِوُقُوعِهِ) إِنَّمَا جمع بَين القطعين مَعَ أَن الثَّانِي يُغني عَن الأول لِأَنَّهُ يستلزمه إِشَارَة إِلَى أَنه لَا مَانع عَنهُ من حَيْثُ الْعقل وتقرره الْوَاقِع فِي الْوَاقِع (فَعلم بِهِ) أَي بإخبارهما بالنقيضين (أَنه) أَي خبر الْوَاحِد (لَا يفِيدهُ) أَي الْعلم، إِذْ لَو أَفَادَهُ لأفاد كِلَاهُمَا فَلَزِمَ تحقق معلوميهما فِي الْوَاقِع (وَمَا قيل مثله) أَي مثل مَا ذكر من جَوَاز إِخْبَار اثْنَيْنِ بنقيضين (يَقع فِيمَا ذكر من إِخْبَار الْملك) من موت ابْنه بِأَن يُخبرهُ مخبر بِمَوْتِهِ مَعَ الْقَرَائِن ثمَّ يُخبرهُ آخر بِأَنَّهُ لم يمت، وَإِنَّمَا اشْتبهَ على الْمخبر والحاضرين وَقَامَت الْقَرَائِن على ذَلِك (يرد بِأَن ذَلِك) أَن جَوَاز إِخْبَار اثْنَيْنِ بِمَا ذكر (عِنْد عدم إفادته) أَي الْخَبَر الأول الْعلم (الأول) وَهُوَ الْعلم بِالْمَوْتِ وَالْفَرْض أَنه أَفَادَ، وَذَلِكَ لِأَن الْمُطَابقَة للْوَاقِع مُعْتَبرَة فِي الْعلم فَلَا يرد النَّقْض على الْمُخْتَار فِي إِلْزَام اجْتِمَاع النقيضين بقَوْلهمْ يَقع فِيمَا ذكر إِلَى آخِره (و) قَالَ (الطارد) أَي الَّذِي يَقُول بِأَن خبر الْوَاحِد الْعدْل يُفِيد الْعلم مطردا، وَقد مر أَنه مَرْوِيّ عَن أَحْمد (فِي مرويهما) أَي الشَّيْخَيْنِ البُخَارِيّ وَمُسلم أَو صَحِيحَيْهِمَا، والإضمار من غير سبق الذّكر لسبقهما إِلَى الذِّهْن عِنْد ذكر أَخْبَار الْآحَاد الْعُدُول، ومقول القَوْل (لَو أَفَادَ) مرويهما الظَّن لَا الْعلم (لم يجمع) أَي لما وَقع الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل (بِهِ) أَي بمرويهما، لكنه أجمع عَلَيْهِ (أما الْمُلَازمَة فللنهي عَن اتِّبَاعه) أَي الظَّن تَحْرِيمًا، يدل عَلَيْهِ قَوْله (والذم عَلَيْهِ) أَي على اتِّبَاعه. قَالَ تَعَالَى - { (وَلَا تقف} مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم (إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن) } - فِي معرض الذَّم، فَدلَّ على التَّحْرِيم إِذْ لَا يذم على ترك الْمَنْدُوب. (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا أَن يُقَال (الْإِجْمَاع(3/78)
عَلَيْهِ) أَي على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل (للْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ) وَلذَلِك وَجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَالْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ يسْتَلْزم الْإِجْمَاع على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل لِأَنَّهُ يُفِيد الظَّن (لَا لإفادته) أَي مرويهما (الْعلم بمضمونه) أَي الْخَبَر (و) الدَّلِيل السمعي) أَي لَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم، وَإِن يتبعُون إِلَّا الظَّن (مَخْصُوص بالاعتقاديات) الْمَطْلُوب فِيهَا الْيَقِين بِخِلَاف الْأَحْكَام العملية الْمَطْلُوب فِيهَا مَا يعم الظَّن وَغَيره (وَذَلِكَ الْإِجْمَاع) الْقطعِي على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ (دَلِيل وجود الْمُخَصّص) لعُمُوم نهي اتِّبَاع الظَّن فالمخصص وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ وَدَلِيله الْإِجْمَاع الْمَذْكُور فَلم يبْق بعد التَّخْصِيص إِلَّا الاعتقاديات، وَهَذَا على غير قَول الْحَنَفِيَّة (أَو النَّاسِخ) للنَّهْي عَن الِاتِّبَاع فِي غير الاعتقاديات على قَوَاعِد الْحَنَفِيَّة، مَعْطُوف على وجود الْمُخَصّص (وَمَا قيل) من أَنه (لَا إِجْمَاع) على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد (للْخلاف الْآتِي لَيْسَ بِشَيْء لِاتِّفَاق هذَيْن المتناظرين على نقل إِجْمَاع الصَّحَابَة فِيهِ) أَي فِي وجوب الْعَمَل بِهِ للْخلاف الْآتِي فِي الْعَمَل بِهِ (وَقَوله) أَي الطارد (ظن مَعْصُوم) أَي ظن أهل الْإِجْمَاع على قبُول مرويهما بِصِحَّتِهِ المستلزمة للقبول مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فَتكون صِحَّته مَقْطُوعًا بهَا وَقد مر (قُلْنَا إِنَّمَا أَفَادَهُ) أَي الْإِجْمَاع على قبُول مرويهما (الْإِجْمَاع على) وجوب (الْعَمَل) بِالظَّنِّ: يَعْنِي الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ صَار سَببا للْإِجْمَاع على قبُول مرويهما، لَا الظَّن الْمَعْصُوم عَن الْخَطَأ الَّذِي جعلته كَالْعلمِ: وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْمَعْلُوم إِنَّمَا هُوَ الْمجمع عَلَيْهِ وَالصِّحَّة لَيست مجمعا عَلَيْهَا، وكل وَاحِد يجوز نقيضه، غير أَنَّهَا راجحة عِنْده وَمَعَ ذَلِك مستلزمة للقبول (وَأَيْنَ هُوَ) أَي مَا أَفَادَهُ الْإِجْمَاع الْمَذْكُور (من كَون خبر الْوَاحِد يُفِيد الْعلم فَالْحَاصِل أَن ادعيت أَن الْإِجْمَاع على الْعَمَل) بمرويهما (لإِفَادَة الْخَبَر الْعلم منعناه) أَي هَذَا الْمُدَّعِي (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمُدَّعِي (أول المسئلة) فَهُوَ مصادرة على الْمَطْلُوب (أَو) ادعيت (أَنه) أَي الْإِجْمَاع على الْعَمَل بمرويهما (أَفَادَ أَن هَذَا الْخَبَر الْمعِين الَّذِي أجمع على الْعَمَل بِهِ حق قطعا) مَعْصُوم بِمَعْنى أَنه لَا خطأ فِي مضمونه (أمكن بِتَسْلِيمِهِ) لم يقل مُسلم لبعد هَذَا المُرَاد من عبارَة الطارد وَإِطْلَاق مرويهما (وَلَا يُفِيد) الْمَطْلُوب (إِذْ الأول) أَي كَونه مُفِيدا للْعلم (هُوَ الْمُدَّعِي، لَا الثَّانِي) وَهُوَ كَون الْمَضْمُون الْخَبَر الْمعِين مَقْطُوعًا بِهِ لكَونه مجمعا عَلَيْهِ (و) حِينَئِذٍ كل خبر وَاحِد عدل مجمع على الْعَمَل بِهِ حكمه كَذَا (سَوَاء كَانَ مِنْهُمَا) أَي الصَّحِيحَيْنِ (أَو لَا يكون) مِنْهُمَا (وَقد يكون) خبر الْوَاحِد (مِنْهُمَا) أَي الصَّحِيحَيْنِ (وَلَا يجمع عَلَيْهِ) أَي على وجوب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ لتكلم بعض النقاد فِيهِ كالدارقطني، قيل وَجُمْلَة مَا استدركه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره على البُخَارِيّ مائَة وَعشرَة أَحَادِيث وَافقه مُسلم على إِخْرَاج اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ حَدِيثا مِنْهَا (فالضابط مَا أجمع على الْعَمَل بِهِ) لَا مرويهما بِخُصُوصِهِ (وَهُوَ) الضَّابِط الْمَذْكُور(3/79)
مسئلة
(إِذا أجمع على حكم يُوَافق خَبرا قطع بصدقه) أَي الْخَبَر (عِنْد الْكَرْخِي وَأبي هَاشم وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ) فِي جمَاعَة (لعملهم) أَي المجمعون (بِهِ) أَي بالْخبر الْمُوَافق لعملهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقطع بصدقه بِأَن يجوز كَونه غير مُطَابق للْوَاقِع (احْتمل الْإِجْمَاع الْخَطَأ) لِأَن احْتِمَال عدم مُطَابقَة الْخَبَر الْمَذْكُور يسْتَلْزم احْتِمَال عدم مُطَابقَة الحكم الْمجمع عَلَيْهِ لموافقتهما فِي الْمَضْمُون (فَلم يكن) الْإِجْمَاع (قَطْعِيّ الْمُوجب) وَاللَّازِم بَاطِل (وَمنعه) أَي الْقطع بِصدق الْخَبَر (غَيرهم) وَهُوَ الْجُمْهُور فَقَالُوا يدل على صدقه ظنا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَصَاحب البديع (لاحْتِمَال كَونه) أَي علمهمْ أَو عمل بَعضهم (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْخَبَر الْمَذْكُور من الْأَدِلَّة (وَلَو كَانَ) عَمَلهم (بِهِ) أَي بذلك الْخَبَر (لم يلْزم احْتِمَال الْإِجْمَاع) للخطأ مَعَ أَن الْخَطَأ الْمَذْكُور يحْتَمل أَن لَا يُطَابق (للْقطع بإصابتهم فِي الْعَمَل بالمظنون) الْمُحْتَمل لعدم الْمُطَابقَة للْوَاقِع احْتِمَالا مرجوحا، وَقد يُقَال دَلِيل الْقطع بِصدق الْخَبَر الْمَذْكُور كَون الآخر كَذَلِك وَيُجَاب بِأَن هَذَا إِنَّمَا يلْزم إِذا كَانَ موافقتهما بِأَن يَكُونَا خبرين متحدين فِي الْمَضْمُون وَلَيْسَ كَذَلِك، بل أَحدهمَا حكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة: كالوجوب وَالْحُرْمَة، وَالْآخر روايه قَول أَو فعل يلْزمه ذَلِك الْوُجُوب أَو الْحُرْمَة، وَمن الْجَائِز كَون ذَلِك حكم الله فِي نفس الْأَمر مَعَ عدم مُطَابقَة الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة لما فِي نفس الْأَمر بِأَن لم يقل الْمَرْوِيّ عِنْد ذَلِك الْمَخْصُوص أَو لم يفعل ذَلِك الْمُخَصّص، وَلذَلِك قَالَ (وتحقيقه أَنه) أَي الْإِجْمَاع الْمَذْكُور (يُفِيد الْعلم بحقية الحكم وَلَا يسْتَلْزم) كَونه حَقًا الْقطع بحقية الحكم (بِصدق الْخَبَر) بِمَعْنى (أَنه) أَي الْخَبَر الْخَاص (سَمعه فلَان مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مثلا.
مسئلة
(إِذا أخبر) مخبر خَبرا عَن محسوس على مَا صرح بِهِ الْآمِدِيّ (بِحَضْرَة خلق كثير وَعلم علمهمْ بكذبه لَو كذب وَلم يكذبوه وَلَا حَامِل على السُّكُوت) أَي وَلَيْسَ هُنَاكَ باعث على السُّكُوت وَعدم التَّكْذِيب من خوف وَغَيره فَقَوله: علم حَال عَن فَاعل أخبر بِتَقْدِير قد ومتعلق الْعلم الأول مَضْمُون الشّرطِيَّة فِي الْحَقِيقَة إِذْ لَيْسَ المُرَاد تحقق علمهمْ بكذبه وَتعلق علم السَّامع لعلمهم فمتعلق الْعلم الأول علمهمْ بكذبه على تَقْدِير كذبه، فجواب لَو مَحْذُوف اكْتِفَاء بِمَا يفِيدهُ: أَعنِي علمهمْ بكذبه فَقيل لَا يلْزم عَن سكوتهم تَصْدِيقه لجَوَاز أَن يسكتوا عَن تَكْذِيبه لَا لشَيْء، وَالْمُخْتَار مَا أَفَادَهُ بقوله (قَطعنَا بصدقه بِالْعَادَةِ) لِأَنَّهُ مَعَ اخْتِلَاف أمزجتهم ودواعيهم وعلمهم بالواقعة بِحَيْثُ لَو كذب علمُوا كذبه خُصُوصا مَعَ علمهمْ بِأَنَّهُم إِذا علمُوا كذبه فقرروه عَلَيْهِ لربما كَانَ علمهمْ(3/80)
بكذبه، وتقريرهم إِيَّاه على الْكَذِب يمْتَنع السُّكُوت عَادَة، وَذهب ابْن السَّمْعَانِيّ إِلَى اشْتِرَاط تمادي الزَّمن الطَّوِيل فِي ذَلِك.
مسئلة
(التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل) وَهُوَ أَن يُوجب الشَّارِع الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ على الْمُكَلّفين (جَائِز عقلا خلافًا لشذوذ) وهم الجبائي فِي جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين (لنا الْقطع بِأَنَّهُ) أَي التَّعَبُّد بِهِ (لَا يسْتَلْزم محالا فَكَانَ) التَّعَبُّد بِهِ (جَائِزا) إِذْ لَا نعني بِالْجَوَازِ إِلَّا هَذَا وَلَا يمْنَع احْتِمَال الْكَذِب إِذْ الصدْق رَاجِح لعدالته إِذْ لَو لم يتعبد بالرجحان ويلتزم عدم الِاحْتِمَال لامتنع الْعَمَل بِشَهَادَة الشَّاهِدين، وَقَول الْمُفْتِي للعامي لتحَقّق الِاحْتِمَال فيهمَا، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ إِجْمَاعًا (قَالُوا) التَّعَبُّد إِن لم يكن مُمْتَنعا لذاته فممتنع لغيره، لِأَنَّهُ (يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيم الْحَلَال وَقَلبه) أَي تَحْلِيل الْحَرَام، يَعْنِي لَو لزم علينا التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد، وَمن الْجَائِز أَن يكون ذَلِك الْوَاحِد مخطئا فِيمَا أخبر بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لجَوَاز خطئه) بِأَن أخبر بِحرْمَة فعل مثلا، وَفِي نفس الْأَمر هُوَ حَلَال أَو عَكسه (و) يُؤَدِّي إِلَى (اجْتِمَاع النقيضين) فِيمَا إِذا روى وَاحِد خَبرا يدل على الْحُرْمَة أَو تَسَاويا فِي الرُّتْبَة وَلم يكن هُنَاكَ رُجْحَان لأَحَدهمَا فَوَجَبَ الْعَمَل بهما، لِأَن الْمَفْرُوض وجوب التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد كالعدل وكل مِنْهُمَا خبر الْوَاحِد الْعدْل، وَالْجمع بَينهمَا محَال (فَيَنْتَفِي الحكم) وَهُوَ التَّعَبُّد بِهِ (قُلْنَا الأول) أَي تأديته إِلَى تَحْرِيم الْحَلَال وَقَلبه (مُنْتَفٍ على إِصَابَة كل مُجْتَهد) أَي بِنَاء على رَأْي المصوبة، إِذْ الْحل وَالْحُرْمَة عِنْدهم تابعان لظن الْمُجْتَهد، وَمَعَ قطع النّظر عَن ظَنّه لَا حل وَلَا حُرْمَة (وعَلى اتحاده) أَي كَون الْمُصِيب وَاحِدًا (إِنَّمَا يلْزم) كَون التَّعَبُّد مُؤديا إِلَى ذَلِك (لَو قَطعنَا بِمُوجبِه) أَي خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ كَونه مطابقا لما فِي نفس الْأَمر، وعَلى تَقْدِير الْخَطَأ يكون الْوَاقِع فِي نفس الْأَمر نقيضه، والمحظور التَّحْرِيم قطعا للْحَلَال بِحَسب نفس الْأَمر: أَي فِي حكم الله، لَا التَّحْرِيم ظنا بِحَسب مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد لما هُوَ حَلَال فِي نفس الْأَمر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَكنا) لَا نقطع، بل (نظنه، وَهُوَ) أَي ظَنّه (مَا) أَي الَّذِي (كلف) الْمُجْتَهد بِهِ: أَي بِالْعَمَلِ بِمُوجبِه (ونجوز خِلَافه) أَي خلاف ذَلِك المظنون ونقول: إِذا وَافق مظنونه مَا هُوَ حكم الله فِي نفس الْأَمر فمصيب والا فمخطئ (ونجزم بِأَن الثَّابِت فِي المتعارضين أحد الْحكمَيْنِ) وَهَذَا جَوَاب عَن الِاسْتِدْلَال الثَّانِي (فَإِن ظنناه) أَي ذَلِك الْأَخْذ بمرجح (سقط الآخر، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يظنّ أَحدهمَا (فالتكليف) حِينَئِذٍ (بِالْوَقْفِ) أَي بالتوقف(3/81)
عَن الْعَمَل بِشَيْء مِنْهُمَا إِلَى أَن يظْهر رُجْحَان أَحدهمَا فَيعْمل بِهِ كَمَا ذهب إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر وليخبر الْمُجْتَهد بِالْعَمَلِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِذا عمل بِأَحَدِهِمَا سقط الآخر، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي (وَلَا يخفى أَن الأول) أَي قَوْلهم التَّعَبُّد بِهِ مُمْتَنع لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيم الْحَلَال وَقَلبه (لَيْسَ عقليا، بل مِمَّا أَخذه الْعقل من الشَّرْع، فالمطابق) أَي فالاستدلال المطابق للْمُدَّعِي الِاسْتِدْلَال (الثَّانِي) وَهُوَ لُزُوم اجْتِمَاع النقيضين: وَهَذَا تَعْرِيض بِمَا فِي الشَّرْح العضدي. وَزعم الشَّارِح أَن كلا الدَّلِيلَيْنِ يحْتَاج فِي تَقْرِيره إِلَى فرض مخبرين بالنقيضين، وَلم يدر أَنه حِينَئِذٍ لَا يبْقى لقَوْله لجَوَاز خطئه معنى، وَيرد عَلَيْهِ مفاسد أخر (وَمَا) نقل (عَنْهُم) أَي الْمُخَالفين (من قَوْلهم لَو جَازَ) التَّعَبُّد بِهِ (جَازَ) التَّعَبُّد فِي العقائد (وَنقل الْقُرْآن وادعاه النُّبُوَّة بِلَا معجز) وَمعنى التَّعَبُّد فِي الْأَخيرينِ أَن يعْتَقد أَن الْقُرْآن والنبوة من غير احْتِيَاج إِلَى تَوَاتر وَإِظْهَار معْجزَة، وَاللَّازِم بَاطِل اتِّفَاقًا، وَخبر الْمُبْتَدَأ وَهُوَ الْمَوْصُول (سَاقِط لِأَن الْكَلَام فِي التجويز الْعقلِيّ فنمنع بطلَان التَّالِي) ونقول: بل يجوز التَّعَبُّد بِهِ فِي هَذِه الْمَذْكُورَات أَيْضا (غير أَن التَّكْلِيف وَقع بِعَدَمِ الِاكْتِفَاء) بِخَبَر الْوَاحِد (فِيهَا) قَالَ تَعَالَى - {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} - خص بِمَا عدا الْفُرُوع للأدلة الدَّالَّة على أَن الظَّن كَاف فِيهَا، وَهُوَ حَاصِل بِخَبَر الْعدْل الْوَاحِد.
مسئلة
(الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل وَاجِب فِي العمليات) وَمنعه الروافض وشذوذ، مِنْهُم ابْن دَاوُد (لنا تَوَاتر) الْعَمَل بِهِ (عَن الصَّحَابَة فِي) آحَاد (وقائع خرجت عَن الإحصاء للمستقرين يُفِيد مجموعها) أَي آحَاد الوقائع (إِجْمَاعهم) أَي الصَّحَابَة (قولا) بِأَن قَالَ كل مِنْهُم يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل (أَو كالقول على إِيجَاب الْعَمَل عَنْهَا) أَي أَخْبَار الْآحَاد بِأَن لم يقل كل وَاحِد صَرِيحًا، لَكِن علم ذَلِك من كَلَامهم (فَبَطل إِلْزَام الدّور) بِأَن يُقَال: إِثْبَات وجوب الْعَمَل بِهِ بِخَبَر الْوَاحِد مَوْقُوف على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد (و) إِلْزَام (مُخَالفَة - وَلَا تقف) مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم - بِخَبَر الْوَاحِد لأَنا إِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بالتواتر لَا بِخَبَر الْوَاحِد وَهُوَ يُفِيد الْعلم، (و) إِلْزَام (كَون الْمُسْتَفَاد) من هَذِه الوقائع (الْجَوَاز) أَي جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد، والنزاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْوُجُوب، لِأَن إيجابهم الْأَحْكَام بهَا يدل على وجوب الْعَمَل (على أَنه لَا قَائِل بِهِ) أَي بِالْجَوَازِ (دون وجوب وَمن مشهورها) أَي أَعمال الصَّحَابَة بأخبار الْآحَاد (عمل أبي بكر بِخَبَر الْمُغيرَة) بن شُعْبَة (وَمُحَمّد بن مسلمة فِي تَوْرِيث الْجدّة) السُّدس عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أخرجه مَالك وَأحمد وَأَصْحَاب السّنَن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم (و) عمل (عمر بِخَبَر عبد الرَّحْمَن(3/82)
ابْن عَوْف فِي الْمَجُوس) وَهُوَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ (وبخبر حمل) بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْمِيم المفتوحتين (ابْن مَالك فِي إِيجَاب الْغرَّة فِي الْجَنِين) قَالَ كنت بَين امْرَأتَيْنِ فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى فقتلتها وجنينها، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنِينهَا بالغرة عبد أَو أمة وَأَن تقتل بهَا كَمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن وَابْن حبَان وَالْحَاكِم (وبخبر الضَّحَّاك) بن سُفْيَان (فِي مِيرَاث الزَّوْجَة من دِيَة الزَّوْج) حَيْثُ قَالَ: كتب إِلَيّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أورث امْرَأَة أَشْيَم الضباني من دِيَة زَوجهَا. أخرجه أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن (وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح، وبخبر عَمْرو بن خرم فِي دِيَة الْأَصَابِع) عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: قضى عمر فِي الْإِبْهَام بِثَلَاث عشر، وَفِي الْخِنْصر بست حَتَّى وجد كتابا عِنْد آل عَمْرو بن خرم يذكرُونَ أَنه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ وَفِيمَا هُنَالك من الْأَصَابِع عشر، ثمَّ قَالَ الشَّارِح: هَذَا حَدِيث حسن أخرجه الشَّافِعِي وَالنَّسَائِيّ. وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان: لَا أعلم فِي جَمِيع الْكتب كتابا أصح من كتاب عَمْرو بن خرم كَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرجعُونَ إِلَيْهِ وَيدعونَ آراءهم (و) عمل (عُثْمَان وَعلي بِخَبَر فريعة) بنت مَالك بن سِنَان أُخْت أبي سعيد الْخُدْرِيّ (أَن عدَّة الْوَفَاة فِي منزل الزَّوْج) . قَالَ الشَّارِح: هُوَ كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُثْمَان كَمَا رَوَاهُ مَالك وَأَصْحَاب السّنَن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح، وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَليّ فَالله أعلم بِهِ انْتهى. والمثبت عِنْده مَا لَيْسَ عِنْد النَّافِي (وَمَا لَا يُحْصى كَثْرَة) أَي لأجل الْكَثْرَة (من الْآحَاد الَّتِي يلْزمهَا الْعلم بإجماعهم) أَي الصَّحَابَة (على عَمَلهم بهَا) أَي بأخبار الْآحَاد (لَا بغَيْرهَا) من الْقيَاس وَغَيره مِمَّا عدا النَّص وَالْإِجْمَاع (وَلَا بخصوصيات فِيهَا) أَي فِي أَخْبَار الْآحَاد ناشئة من خُصُوص الرَّاوِي أَو الْمَرْوِيّ (سوى حُصُول الظَّن فعلمناه) أَي حُصُول الظَّن (المناط عِنْدهم) أَي الصَّحَابَة (مَعَ ثُبُوت إِجْمَاعهم بالاستقلال) أَي بطرِيق الِاسْتِقْلَال من غير أَن يُوجد من الوقائع ضمنا بانعقاد إِجْمَاعهم صَرِيحًا (على خبر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ: الْأَئِمَّة من قُرَيْش) . قَالَ الشَّارِح: مَعْنَاهُ مَوْجُود فِي كتب الحَدِيث لَا بِهَذَا اللَّفْظ (وَنحن معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث) . قَالَ الشَّارِح: الْمَحْفُوظ " أَنا " كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ (والأنبياء يدفنون حَيْثُ يموتون) . قَالَ الشَّارِح: رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْوَفَاء (وَإِنَّمَا) كَانَ الصَّحَابَة (يتوقفون عِنْد رِيبَة توجب انْتِفَاء الظَّن) بِخَبَر الْوَاحِد (كإنكار عمر خبر فَاطِمَة بنت قيس فِي نفي نَفَقَة المبانة) أَي نَفَقَة عدَّة الْمُطلقَة طَلَاقا بَائِنا (و) إِنْكَار (عَائِشَة خبر ابْن عمر فِي تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء الْحَيّ) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَأَيْضًا تَوَاتر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إرْسَال الْآحَاد إِلَى النواحي لتبليغ الْأَحْكَام) مِنْهُم معَاذ. روى الْجَمَاعَة عَن ابْن عَبَّاس(3/83)
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بعث معَاذ بن جبل إِلَى الْيمن قَالَ: إِنَّك تَأتي قوما من أهل الْكتاب فادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِن هم أطاعوك لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة: الحَدِيث إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى، وَلَو لم يجب قبُول خبر لَهُم لم يكن لإرسالهم معنى (والاعتراض) على الِاسْتِدْلَال بإرسال الْآحَاد (بِأَن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي وجوب عمل الْمُجْتَهد) بِخَبَر الْوَاحِد، لَا فِي وجوب عمل بِخَبَر الْمُجْتَهد (سَاقِط لِأَن إرْسَال النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتبليغ الْأَحْكَام (إِذا أَفَادَ وجوب عمل الْمبلغ بِمَا بلغه الْوَاحِد) كَمَا أجمع عَلَيْهِ (كَانَ) إرْسَاله (دَلِيلا فِي مَحل النزاع) وَهُوَ وجوب عمل الْمُجْتَهد بِخَبَر الْوَاحِد وَغَيره: أَي غير مَحل النزاع، وَهُوَ وجوب الْعَمَل على الْمبلغ الَّذِي لَيْسَ بمجتهد، وَيلْزم مِنْهُ وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الَّذِي لَيْسَ برَسُول إِذْ الْمَذْكُور الْعَدَالَة والإخبار عَن الرَّسُول (وَاسْتدلَّ) على الْمُخْتَار لنا (بقوله تَعَالَى فلولا نفر الْآيَة) أَي - {من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} -: لِأَن الطَّائِفَة تصدق على الْوَاحِد، وَقد جعل منذرا يجب الحذر بإخباره، وَلَوْلَا وجوب قبُول خَبره لما كَانَ كَذَلِك (واستبعد) الِاسْتِدْلَال بهَا (بِأَنَّهُ) أَي التحضيض على النَّفر إِلَى التفقه والإنذار والحذر المتضمن وجوب قبُول خبر كل طَائِفَة من النافرين لإفتائهم: أَي لَا مُجَرّد إخبارهم بِقَرِينَة الْأَمر بالتفقه، فَإِن الْإِفْتَاء هُوَ المتوقف على التفقه لَا مُجَرّد الْإِخْبَار (وَيدْفَع) هَذَا الاستبعاد (بِأَنَّهُ) أَي الْإِنْذَار (أَعم مِنْهُ) أَي الْإِفْتَاء (وَمن أخبارهم) بِمَا يُوجب الْخَوْف والخشية من كَلَام رب الْعِزَّة وَكَلَام رَسُوله، وَمَا استنبط مِنْهُمَا وَلَا ينْحَصر الْإِنْذَار فِي الْإِفْتَاء، بل رب واعظ فِي كَلَامه من الخشية مَا لَا يحصل غَيره بالإفتاء، والتفقه فِي اللُّغَة لَا يسْتَلْزم الْإِفْتَاء (وَأما إِن الَّذين يكتمون) مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وَأَمْثَاله (فَغير مُسْتَلْزم) وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِنَاء على أَنه لَو لم يجب الْعَمَل بِخَبَرِهِ وَبَيَانه لما كَانَ ملعونا بِالْكِتْمَانِ إِذْ لَا فَائِدَة حِينَئِذٍ فِي إِظْهَاره حَيْثُ لم يلْزم عَلَيْهِم اتِّبَاعه (لجَوَاز نهيهم عَن الكتمان ليحصل التَّوَاتُر بأخبارهم) يَعْنِي لَيْسَ النَّهْي عَن الكتمان لاستلزامه فَوَات وجوب الْعَمَل بِخَبَر كل وَاحِد مِنْهُم بل الْمَقْصُود من النَّهْي عَنهُ أَن يخبر كل وَاحِد فَيحصل بِمَجْمُوع إخبارهم التَّوَاتُر الْمُوجب للْعلم مِنْهُم (و) الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق} الْآيَة أَي بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا من حَيْثُ أَنه أَمر بالتثبت فِي الْفَاسِق فَدلَّ على أَن الْعدْل بِخِلَافِهِ يقبل قَوْله بِلَا تفحص، وَتبين اسْتِدْلَال (بِمَفْهُوم مُخْتَلف فِيهِ) وَهُوَ مَفْهُوم الْمُخَالفَة وَهُوَ مَفْهُوم الصّفة، فالاستدلال بِهِ ضَعِيف (وَلَو صَحَّ) الِاسْتِدْلَال بِهِ كَمَا روى الشَّافِعِي وَغَيره وَمُسلم أَن الْآيَة تدل على أَن حكم الْعدْل بِخِلَاف الْفَاسِق(3/84)
فَيجب قبُول خَبره (كَانَ) النَّص الْمَذْكُور (ظَاهرا) فِي الْمَطْلُوب لَا نصا (وَلَا يثبتون بِهِ) أَي الأصوليون بِالظَّاهِرِ (أصلا دينيا وَإِن كَانَ) ذَلِك الأَصْل (وَسِيلَة عمل) أَي حكم عمل لَا عقيدة من العقائد الدِّينِيَّة، وَذَلِكَ لما قرر فِي مَحَله (قَالُوا) أَي المخالفون (توقف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لما انْصَرف من اثْنَيْنِ فِي إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء على مَا ذكره الشَّارِح (فِي خبر ذِي الْيَدَيْنِ) حَيْثُ قَالَ: أقصرت الصَّلَاة أم نسيت يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ أصدق ذُو الْيَدَيْنِ (حَتَّى أخبرهُ غَيره) بِأَن قَالَ نعم، فَقَامَ فصلى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مُتَّفق عَلَيْهِ (قُلْنَا) توقفه (للريبة) فِي خَبره (إِذْ لم يشاركوه) ابْتِدَاء (مَعَ استوائهم فِي السَّبَب) وَهُوَ الِاطِّلَاع على حَال الإِمَام، فانفراده بِهَذَا القَوْل فِي هَذَا الْحَال وظنه لسَهْوه (ثمَّ) وَقفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خَبره (لَيْسَ دَلِيلا على نفي) كَون (خبر الْوَاحِد) مُوجبا للْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مُطلقًا: إِذْ الْخَبَر الَّذِي لم تبلغ رُوَاته حد التَّوَاتُر يُقَال لَهُ خبر الْوَاحِد اصْطِلَاحا: وَغَايَة مَا يلْزم هَهُنَا أَن الشَّخْص الْوَاحِد لَا يَكْفِي بِوُجُوب الْعَمَل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل هُوَ) أَي التَّوَقُّف الْمَذْكُور دَلِيل (لموجب الِاثْنَيْنِ) أَي يَقُول بِوُجُوب اثْنَيْنِ (فِيهِ) أَي فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد كَمَا عَن أبي عَليّ الجبائي لما فِي رِوَايَة من طَرِيق أَحْمد ثمَّ أقبل على أبي بكر وَعمر وَقَالَ: مَاذَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالَا صدق يَا رَسُول الله، فَرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وثاب النَّاس فصلى بهم رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سلم فَسجدَ سَجْدَتي السَّهْو، وَتعين أَن يكون هَذَا قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة فَتَأمل (وَإِلَّا) أَي لم يكن كَذَلِك وَجعل دَلِيلا على نَفْيه (فمعهما) أَي الِاثْنَيْنِ (لَا يخرج) الْخَبَر لذى رَوَاهُ الْوَاحِد (عَن) مَفْهُوم (خبر الْوَاحِد، وَكَونه) أَي خبر ذِي الْيَدَيْنِ (لَيْسَ فِي مَحل النزاع) لِأَنَّهُ فِي وجوب عمل الْمُجْتَهد بِخَبَر الْوَاحِد عَن الرَّسُول (لَا يضر: إِذْ يستلزمه) أَي خَبره مَحل النزاع، لِأَنَّهُ خبر وَاحِد عدل عَن فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نقل إِلَى سيد الْمُجْتَهد فَلم يعْمل بِهِ غير أَنه اتّفق أَن الْمَنْقُول عَنهُ هُوَ الْمَنْقُول إِلَيْهِ وَذَلِكَ لَا أثر لَهُ، كَذَا ذكر الشَّارِح.
وَأَنت خَبِير بِأَن مَحل النزاع وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد على الْمُجْتَهد وَغَيره، وَأَن الْمخبر بِهِ فِيهِ حكم من الْأَحْكَام العملية، والمخبر بِهِ فِي خبر ذِي الْيَدَيْنِ عدم إتْمَام الصَّلَاة وَالْوَجْه أَن يُقَال: سلمنَا أَنه لَيْسَ فِي مَحل النزاع، لَكِن مورده يُشَارك مَحل النزاع فِي وجوب قبُول قَوْله لِأَن علته الْعَدَالَة مَعَ كَون الْمخبر بِهِ من الْأُمُور الدِّينِيَّة وَالله أعلم (قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى وَلَا تقف) الْآيَة: أَي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَنهى عَن اتِّبَاع الظَّن، وَأَنه يُنَافِي الْوُجُوب، وَخبر الْوَاحِد لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن (وَالْجَوَاب) أَن وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْمُفِيد للظن لَيْسَ بِهِ من حَيْثُ إفادته الظَّن فَقَط، بل (بِمَا ظهر) وَتبين غير مرّة (من أَنه) يجب الْعَمَل(3/85)
(بِمُقْتَضى الْقَاطِع) وَهُوَ الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ، فَهُوَ اتِّبَاع للْعلم الْحَاصِل بِالْإِجْمَاع (وَمِنْهُم من أثْبته) أَي وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد (بِالْعقلِ أَيْضا كَأبي الْحُسَيْن والقفال وَأحمد وَغَيرهم) كَابْن سُرَيج فِي جمَاعَة. (قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي تفاصيل مَعْلُوم الأَصْل وَاجِب) عقلا: يَعْنِي إِذا علم وجوب أَمر كلي يتَحَقَّق فِي ضمن جزئيات كَثِيرَة هِيَ تفاصيله ثمَّ ظن تحَققه فِي ضمن بَعْضهَا أوجب الْعقل الْعَمَل بِمُوجب ذَلِك الظَّن احْتِرَازًا عَن الْوُقُوع فِي مُخَالفَة ذَلِك الْوَاجِب الْكُلِّي الْمَعْلُوم الَّذِي هُوَ أصل تِلْكَ التفاصيل (كإخبار وَاحِد بمضرة طَعَام) مَسْمُوم مثلا (وَسُقُوط حَائِط يُوجب الْعقل الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ) أَي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة (للْأَصْل الْمَعْلُوم من وجوب الاحتراس) عَن المضار (فَكَذَا خبر الْوَاحِد) يجب الْعَمَل بِهِ (للْعلم بِأَن الْبعْثَة للْمصَالح وَدفع المضار) ومضمون الْخَبَر لَا يخرج عَنْهُمَا (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي هَذَا الدَّلِيل (بِنَاء على التحسين) الْعقلِيّ، وَقد أبطل، وَاقْتصر على التحسين لِأَن الْكَلَام فِي الْإِيجَاب سلمناه) أَي القَوْل بالتحسين (لكنه) أَي الْعَمَل بِالظَّنِّ فِي تفاصيل مَقْطُوع الأَصْل (أولى عقلا) للِاحْتِيَاط (لَا وَاجِب) وَيرد عَلَيْهِ أَن من يتتبع الْفُرُوع وجد فِي كثير من الْمسَائِل جعل الْفُقَهَاء الِاحْتِيَاط منَاط الْوُجُوب فَتَأمل (سلمناه) أَي أَن الْعَمَل بِهِ وَاجِب (لَكِن فِي العقليات لَا فِي الشرعيات) وَقد يُقَال: أَن قَوْله بِنَاء على التحسين دلّ على أَنه حل الْوُجُوب على الشَّرْعِيّ لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يثبت عِنْد غير الْمُعْتَزلَة بالتحسين فَلَا يتَّجه هَذَا الدّفع بعد تَسْلِيم التحسين الْعقلِيّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بالشرعيات السمعيات الْمَحْضَة الَّتِي لَيست معقولة الْمَعْنى، وبالعقليات مَا هُوَ مَعْقُول الْمَعْنى: يَعْنِي أَن كَانَ مَضْمُون خبر الْوَاحِد مَعْقُول الْمَعْنى يجب الْعَمَل بِهِ، وَإِلَّا فَلَا (سلمناه) أَي أَن الْعَمَل بِهِ وَاجِب أَيْضا فِي الشرعيات (لكنه) أَي قِيَاس الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِالْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِي التفاصيل الْمَذْكُورَة (قِيَاس تمثيلي يُفِيد الظَّن) على مَا عرف فِي كتب الْمِيزَان، وَالْكَلَام هُنَا فِي أصل ديني لَا يثبت إِلَّا بقطعي (قَالُوا) أَي الْبَاقُونَ من مثبتيه بِالْعقلِ أَولا خبر (يُمكن صدقه فَيجب الْعَمَل بِهِ احْتِيَاطًا فِي دفع الْمضرَّة قُلْنَا لم يذكرُوا أَصله) أَي الْقيَاس (فَإِن كَانَ) أَصله الْخَبَر (الْمُتَوَاتر فَلَا جَامع بَينهمَا) أَي الْمَقِيس والمقيس عَلَيْهِ (لِأَن الْوُجُوب فِيهِ) أَي الْمُتَوَاتر (للْعلم) أَي لإفادته الْعلم لَا للِاحْتِيَاط (وَإِن كَانَ) أَصله (الْفَتْوَى) من الْمُفْتى (فخاص) أَي فوجوب الْعَمَل خَاص (بمقلده) فِيمَا استفتى (وَمَا نَحن فِيهِ) من حكم خبر الْوَاحِد (عَام) فِي الْأَشْخَاص والأزمان (أَو خَاص بِغَيْر متعلقها) أَي الْفَتْوَى، فَإِن متعلقها الْمُقَلّد وَخبر الْوَاحِد خَاص بالمجتهد (فالمعدي غير حكم الأَصْل وَلَو سلم) عدم الْفرق وَصِحَّة الْقيَاس (فَقِيَاس كَالْأولِ) أَي تمثيلي يُفِيد الظَّن (قَالُوا) ثَانِيًا (لَو لم يجب) الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد (لخلت أَكثر الوقائع عَن الْأَحْكَام) لِأَن الْمُتَوَاتر(3/86)
وَالْإِجْمَاع لَا يَفِي بِالْأَحْكَامِ، دلّ عَلَيْهِ الاستقراء، وخلوها يُنَافِي حِكْمَة الْبعْثَة (وَالْجَوَاب منع الْمُلَازمَة، بل الحكم فِي كل مَا لم يُوجد فِيهِ من الْأَدِلَّة) سوى الْخَبَر الْمَذْكُور (وجوب التَّوَقُّف فَلم تخل) أَكثر الوقائع عَمَّا سوى الْوَقْف من الْأَحْكَام (فَإِن كَانَ الْمَنْفِيّ غَيره) أَي غير وجوب الْوَقْف (منعنَا بطلَان التَّالِي) أَي لَا نسلم امْتنَاع خلو أَكثر الوقائع عَمَّا سوى الْوَقْف من الْأَحْكَام (وَإِذا لزم التَّوَقُّف ثبتَتْ الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الشَّيْء الَّذِي لم يُوجد فِيهِ سوى خبر الْوَاحِد (على الْخلاف) فِيهَا وَقد سبق تَفْصِيله (وَلَا يخفى بعده) أَي بعد هَذَا الْجَواب (من) بِكَسْر الْمِيم (حض الشَّارِع) أَي حثه كل من سمع حكما شَرعه للْأمة (على نقل مقَالَته) وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا " وَلَا يخفى أَنه لم يقْصد بِهِ مَا لم يعلم بِهِ مَا يعم الْوَقْف لِأَن الْوَقْف حَاصِل بِدُونِ الْإِخْبَار كَمَا سيشير إِلَيْهِ (مَعَ علمه بِأَن الْمَنْقُول من سنته لَا يصل مِنْهَا إِلَى) حد (التَّوَاتُر شَيْء) على رَأْي من ادّعى عدم بُلُوغ شَيْء من السّنة حد التَّوَاتُر أَو إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا أَو حديثين فَيلْزم على مَا قَالُوا أَن يكون حضه على ذَلِك الْأَمر لَا يحصل فَظن حُصُوله المستمر إِلَى آخر الْعُمر يلْزم أَن يكون خطأ: وَهُوَ لَا يقر على الْخَطَأ. قَالَ الشَّارِح: لَكِن فِي كَون الْمُتَوَاتر مَعْدُوما أَو مَقْصُورا على حَدِيث أَو حديثين تَأمل، فَذكر كلَاما طَويلا لَا طائل تَحْتَهُ. ثمَّ عطف على قَوْله بعده (أَو الأخيران) أَي لُزُوم التَّوَقُّف وَالْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة: أَي لَا يخفى مَا فيهمَا على تَقْدِير عدم وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد (فَإِن عدم النَّقْل يَكْفِي فِي الْوَقْف) عَن الحكم بِشَيْء خَاص (و) فِي (ثُبُوت) الْإِبَاحَة (الْأَصْلِيَّة) فَلَا يبْقى حَاجَة إِلَى خبر الْوَاحِد (بل الْجَواب أَنه) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور (من قبيل) الدَّلِيل (النقلي الصَّحِيح لَا عَقْلِي) على مَا زَعَمُوا (وَلمن شَرط الْمثنى) فِي قبُول أَخْبَار الْآحَاد (أَنه) أَي الْخَبَر (بِهِ) أَي باشتراطه (أولى من الشَّهَادَة لاقْتِضَائه) أَي الْخَبَر (شرعا عَاما بِخِلَافِهَا) أَي الشَّهَادَة فَإِنَّهَا تَقْتَضِي أمرا خَاصّا (قُلْنَا الْفرق) بَينهمَا (وجود مَا لَيْسَ فِي الرِّوَايَة من الْحَوَامِل) عَلَيْهَا من عَدَاوَة وصداقة وجلب نفع وَدفع ضَرَر إِلَى غير ذَلِك كَمَا هُوَ الْمشَاهد بَين النَّاس مِمَّا لَا يُحْصى (أَو) اشْتِرَاط الْمثنى فِي الشَّهَادَة (بِخِلَاف الْقيَاس، وَلذَا) أَي وجود الْحَوَامِل فِي الشَّهَادَة دون الرِّوَايَة (اشْترط لفظ اشْهَدْ مَعَ ظُهُور انحطاطها) أَي الرِّوَايَة عَن الشَّهَادَة. قَوْله مَعَ مُتَعَلق بقوله وجود مَا لَيْسَ: يَعْنِي أَن الْفرق من جِهَتَيْنِ وجود الْحَامِل وَظُهُور الانحطاط (اتِّفَاقًا بِعَدَمِ اشْتِرَاط الْبَصَر و) عدم اشْتِرَاط (الْحُرِّيَّة وَعدم الولاد) فِي الرِّوَايَة واشتراطها فِي الشَّهَادَة على خلاف فِي بَعْضهَا فَلَو أخبر أعمى أَبَاهُ الْمُجْتَهد بِأَمْر ديني ولَايَته مَنْفَعَة فِي ذَلِك صَحَّ رِوَايَته وَوَجَب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ خبر الْوَاحِد لَا يجب الْعَمَل بِهِ (رد عمر خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان حَتَّى رَوَاهُ الْخُدْرِيّ) فِي الصَّحِيحَيْنِ(3/87)
أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ اسْتَأْذن على عمر بن الْخطاب ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَرجع فَفَزعَ عمر فَقَالَ: ألم أسمع صَوت عبد الله بن قيس ائذنوا لَهُ فَقَالُوا رَجَعَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالَ كُنَّا نؤمر بذلك فَقَالَ: لتَأْتِيني على هَذَا بَيِّنَة فَانْطَلق إِلَى مجْلِس الْأَنْصَار فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا لَا يشْهد لَك على ذَلِك إِلَّا أصغرنا فَانْطَلق أَبُو سعيد فَشهد لَهُ فَقَالَ عمر لمن حوله خَفِي عَليّ هَذَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألهاني الصفق بالأسواق (قُلْنَا لريبة فِي خصوصه) أَي خُصُوص خبر أبي مُوسَى. قَالَ الْخَطِيب لم يتهم عمر أَبَا مُوسَى وَإِنَّمَا كَانَ يشدد فِي الحَدِيث حفظا للرواية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا) فِي (عُمُومه) أَي خبر الْوَاحِد (وَلذَا) أَي لكَون توقفهم فِي الْبَعْض لريبة فِي خصوصه لَا بِكَوْنِهِ خبر وَاحِد (عمِلُوا) أَي الصَّحَابَة كلهم (بِحَدِيث عَائِشَة) رَضِي الله عَنْهَا (فِي التقاء الختانين) كَمَا فِي حَدِيث أبي مُوسَى فِي صَحِيح مُسلم.
مسئلة
خبر (الْوَاحِد فِي الْحَد مَقْبُول: وَهُوَ قَول أبي يُوسُف والجصاص خلافًا للكرخي والبصري) أبي عبد الله (وَأكْثر الْحَنَفِيَّة لنا عدل ضَابِط جازم فِي) حكم (عَمَلي) مَبْنِيّ على الظَّن (فَيقبل كَغَيْرِهِ) أَي كَمَا فِي غير الْحَد من العمليات (قَالُوا تحقق الْفرق) بَينه وَبَين غَيره من العمليات (بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ادرءوا) أَي ادفعوا (الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ) أخرجه أَبُو حنيفَة (وَفِيه) أَي فِي خبر الْوَاحِد (شُبْهَة) وَهِي احْتِمَال الْكَذِب فَلَا يُقَام الْحَد بِخَبَرِهِ (قُلْنَا المُرَاد) بِالشُّبْهَةِ الَّتِي تدرأ الْحُدُود مَا كَانَت (فِي نفس السَّبَب لَا) فِي (الْمُثبت) للْحكم الْمُسَبّب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يُرَاد مَا فِي الْمُثبت وَغَيره أَو فِي الْمُثبت فَقَط (انْتَفَت الشَّهَادَة) إِذْ احْتِمَال الْكَذِب فِيهَا مَوْجُودَة (و) انْتَفَى (ظَاهر الْكتاب فِيهِ) أَي الِاسْتِدْلَال فِيهِ إِذْ احْتِمَال التَّخْصِيص والإضمار وَالْمجَاز قَائِم وَاللَّازِم بَاطِل (وإلزامه) أَي هَذَا القَوْل بِأَن يَنْبَغِي أَن يثبت الْحَد (بِالْقِيَاسِ) أَيْضا لِأَن وجوب الْعَمَل بِهِ ثَابت (مُلْتَزم عِنْد غير الْحَنَفِيَّة) وَعِنْدهم غير مُلْتَزم (وَالْفرق لَهُم) بَين خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فِي هَذَا (بِأَنَّهُ) أَي الْحَد ملزوم لكمية خَاصَّة لَا يدخلهَا الرَّأْي) بِخِلَاف خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ كَلَام صَاحب الشَّرْع وَإِلَيْهِ تعْيين الكميات وَغَيرهَا.
(تَقْسِيم للحنفية) لخَبر الْوَاحِد بِاعْتِبَار مَحل وُرُوده (مَحل وُرُود خبر الْوَاحِد مشروعات لَيست حدودا كالعبادات) من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَمَا هُوَ مُلْحق بهَا مِمَّا لَيْسَ عبَادَة مَقْصُودَة كالأضحية أَو معنى الْعِبَادَة فِيهِ تَابع كالعشر أَو لَيْسَ بخالص كصدقة الْفطر وَالْكَفَّارَات (والمعاملات وَهُوَ) أَي خبر الْوَاحِد الْمَشْرُوط فِيهِ الْعقل والضبط وَالْإِسْلَام وَالْعَدَالَة من غير اشْتِرَاط عدد فِي الرَّاوِي (حجَّة فِيهَا خلافًا لشارطي المثني لما تقدم من الْجَانِبَيْنِ) فِيمَا قبل هَذِه المسئلة الَّتِي فِي(3/88)
ذيلها هَذَا التَّقْسِيم، لَكِن اشْترط فِي كَونه حجَّة عدم مُخَالفَة الْكتاب وَالسّنة الثَّابِتَة وَأَن لَا يكون شاذا وَلَا مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى كَمَا سَيَأْتِي (وحدود) عطف على مشروعات إِلَى آخِره (وفيهَا) أَي فِي الْحُدُود (مَا تقدم) فِي هَذِه المسئلة من الْخلاف وَفِي قبُول الْوَاحِد فِيهَا بِشُرُوطِهِ الْمَاضِيَة (فَإِن كَانَ) مَحل وُرُود الْخَبَر (حقوقا للعباد فِيهَا إِلْزَام مَحْض كالبيوع والأملاك الْمُرْسلَة) أَي الَّتِي لم يذكر فِيهَا سَبَب الْملك من هبة وَغَيرهَا، والأشياء الْمُتَّصِلَة بالأموال كالآجال والديون (فشرطه) أَي هَذَا الْقسم (الْعدَد وَلَفظ الشَّهَادَة مَعَ مَا تقدم) من الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْحريَّة وَالْإِسْلَام والضبط وَالْعَدَالَة وَالْبَصَر وَأَن لَا يجر بِشَهَادَتِهِ مغنما وَلَا يدْفع عَنْهَا مغرما، وَمَعَ الْمَذْكُورَة فِي وَاحِد من الْعدَد (احتيط لمحليته) أَي الْخَبَر بِهَذِهِ الْأُمُور (لدواع) إِلَى التزوير والحيل، وَهَذَا النَّوْع (لَيست فِيمَا عَن الشَّارِع) تقليلا لوُقُوع ذَلِك مِنْهَا (وَمِنْه) أَي هَذَا الْقسم (الْفطر) لانتفاع النَّاس فِيهِ، فَيشْتَرط فِي الشَّهَادَة بِهِلَال الْفطر الْعدَد وَلَفْظَة الشَّهَادَة مَعَ سَائِر شُرُوطهَا إِذا كَانَ بالسماء عِلّة، وَأورد مَا إِذا قبل الإِمَام شَهَادَة الْوَاحِد فِي هِلَال رَمَضَان وَأمر النَّاس بِالصَّوْمِ فكملوا الثَّلَاثِينَ وَلم يرَوا الْهلَال يفطرون فِي رِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد رَحمَه الله إِذْ الْفَرْض لَا يكون أَكثر من الثَّلَاثِينَ فَإِن هَذَا فطر بِشَهَادَة الْوَاحِد وَأجِيب بِأَن الْفطر لم يثبت بِشَهَادَتِهِ، بل بالحكم فشهادته أفضت إِلَيْهِ كَشَهَادَة الْقَابِلَة على النّسَب أفضت إِلَى اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث مَعَ أَنه لَا يثبت بِشَهَادَة الْقَابِلَة ابْتِدَاء: ذكره فِي الْمَبْسُوط. ثمَّ اسْتثْنى مِمَّا تضمن قَوْله مَعَ مَا تقدم من اشْتِرَاط الْإِسْلَام فِي هَذَا الْقسم قَوْله (إِلَّا أَن لم يكن الملزم بِهِ مُسلما فَلَا يشْتَرط الْإِسْلَام) . ثمَّ اسْتثْنى من قَوْله الْعدَد، وَمِمَّا تقدم قَوْله (إِلَّا مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال كالبكارة والولادة والعيوب فِي الْعَوْرَة فَلَا عدد) أَي فَلَا يشْتَرط فِيهِ الْعدَد (و) لَا (ذكورة، وَإِن) كَانَ مَحل الْخَبَر حقوقا للعباد (بِلَا إِلْزَام) للْغَيْر (كالإخبار بالولايات والوكالات والمضاربات وَالْإِذْن فِي التِّجَارَة والرسالات فِي الْهَدَايَا والشركات) والودائع والأمانات (فبلا شَرط) أَي فَيقبل الْوَاحِد فِي هَذِه الْأَشْيَاء بِلَا شَرط من الْمَذْكُورَات وَغَيرهَا إِلَّا الْعقل والتمييز كَمَا أَفَادَ بقوله (سوى التَّمْيِيز مَعَ تَصْدِيق الْقلب) فيستوي فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى، وَالْحر وَالْعَبْد، وَالْمُسلم وَالْكَافِر، وَالْعدْل، وَغَيره والبالغ وَغَيره حَتَّى إِذا أخبر أحدهم غَيره بِأَن فلَانا وَكله، وَأَن مَوْلَاهُ أذن لَهُ وَوَقع فِي قلبه صدقه جَازَ أَن يتَصَرَّف بِمُوجبِه، ثمَّ اشْتِرَاط التَّحَرِّي ذكره شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وفخر الْإِسْلَام فِي مَوضِع من كِتَابه وَلم يذكرهُ فِي مَوضِع، ثمَّ بَين دَلِيل عدم الِاشْتِرَاط بِمَا ذكر بقوله (للأجماع العملي) فَإِن الْأَسْوَاق من لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِمَة بعدول وفساق ذُكُور وأناب وأحرار وَغير أَحْرَار، مُسلمين وَغَيرهم، وَالنَّاس يشْتَرونَ من الْكل ويعتمدون خبر كل مُمَيّز(3/89)
بذلك من غير نَكِير (وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل خبر الْهَدِيَّة من الْبر والفاجر) كقبول هَدِيَّة الْيَهُودِيَّة الشَّاة المسمومة، وَمن العَبْد كقبول هَدِيَّة سلمَان إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى، وَإِنَّمَا يقبل من الْكل (دفعا للْحَرج اللَّازِم من اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الرَّسُول) إِذْ قَلما يُوجد الْمُسلم الْحر الْبَالِغ الْعدْل فِي الْأَوْقَات والأماكن ليَبْعَثهُ إِلَى وَكيله أَو غُلَامه فتتعطل الْمصَالح لَو شرطت (بِخِلَافِهِ) أَي اشْتِرَاطهَا (فِي الرِّوَايَة) فَإِنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرج لِكَثْرَة الْعدْل فِي الْمُسلمين (وَإِن) كَانَ مَحل الْخَبَر حقوقا للعباد (فِيهَا) إِلْزَام للْغَيْر (لغير) من (وَجه) دون وَجه (كعزل الْوَكِيل) إِلْزَام من حَيْثُ إبِْطَال عمله فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَيْسَ بإلزام من حَيْثُ أَن الْوَكِيل يتَصَرَّف فِي حَقه (وَحجر الْمَأْذُون) إِلْزَام للْعَبد بِاعْتِبَار خُرُوج تَصَرُّفَاته من الصِّحَّة إِلَى الْفساد بِالْحجرِ وَلَيْسَ بإلزام من أَن الْمولى يتَصَرَّف فِي حَقه (وَفسخ الشّركَة وَالْمُضَاربَة) إِلْزَام للشَّرِيك وَالْمُضَارب من حَيْثُ لُزُوم كفهما عَن التَّصَرُّف فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَيْسَ إلزاما لكَون الفاسخ متصرفا فِي حق نَفسه (فالوكيل وَالرَّسُول فِيهَا) أَي فِي هَذِه الْحُقُوق بِأَن قَالَ الْمُوكل: وَكلتك بعزل فلَان أَو حجره أَو بِفَسْخ أَحدهمَا، أَو قَالَ الْمُرْسل: أرسلتك إِلَى فلَان لتبلغه عني أحد هَذِه الْمَذْكُورَات لَا بِأَن قَالَ الْمُوكل: وَكلتك بِأَن تخبر فلَانا بِالْعَزْلِ إِلَى آخِره كَمَا توهم الشَّارِح: إِذْ لَا معنى للتوكيل بالإخبار، وَلَيْسَ هَذَا غير الْإِرْسَال (كَمَا) أَي الْقسم الَّذِي (قبله) وَهُوَ مَا كَانَ مَحل الْخَبَر حقوقا بِلَا إِلْزَام، فِي أَنه لَا يشْتَرط فِي شَيْء مِنْهُمَا سوى التَّمْيِيز مَعَ صدق الْقلب (وَكَذَا الْفُضُولِيّ) إِذا تصرف فِي ملك الْغَيْر بإنشاء عقد، فَأخْبر ذَلِك الْغَيْر بذلك لَا يشْتَرط فِيهِ شَيْء سوى التَّمْيِيز والتصديق (عِنْدهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد لكَونه من العاملات الَّتِي لَا الْتِزَام فِيهَا، فَلَا يتَوَقَّف على شُرُوط الشَّهَادَات دفعا للْحَرج (وَشرط) أَبُو حنيفَة (عَدَالَته أَو الْعدَد) بِأَن يكون الْفُضُولِيّ اثْنَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَي هَذَا الْإِخْبَار عَن الْفُضُولِيّ (لإلزام الضَّرَر) من حَيْثُ التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (كالثاني) أَي الْقسم الثَّانِي، وَهُوَ مَا فِيهِ إِلْزَام مَحْض (ولولاية من) يتَوَصَّل الْفُضُولِيّ (عَنهُ فِي ذَلِك) التَّصَرُّف حَتَّى لَا ينفذ بِدُونِ إِجَازَته (كالثالث) وَهُوَ مَا لَا إِلْزَام فِيهِ (فتوسطنا) فِيهِ بالاكتفاء بِأحد شرطي الشَّهَادَة وَهُوَ الْعدَد أَو الْعَدَالَة إعمالا (للشبهين) وَالشَّارِح جعل قَوْله لإلزام الضَّرَر تعليلا لحكم عزل الْوَكِيل وَحجر الْمَأْذُون، وَقَوله ولولاية إِلَى آخِره تَعْلِيل للفضولي، وفساده ظَاهر وَقيل اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الْفُضُولِيّ إِذا كَانَ وَاحِدًا عِنْد أبي حنيفَة مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمَشَايِخ، وَعدم اشْتِرَاطهَا إِذا كَانَ اثْنَيْنِ قَول بعض الْمَشَايِخ (وأخبار من أسلم بدار الْحَرْب) بالشرائع (قيل الِاتِّفَاق) إِضَافَة أَخْبَار للْمَفْعُول، وَخَبره مَحْذُوف: أَي فِيهِ تَفْصِيل، وَقيل الِاتِّفَاق مستأنفة لبيانه: يَعْنِي اتَّفقُوا (على اشْتِرَاط الْعَدَالَة) أَي كَون الْمخبر بهَا عدلا (فِي) لُزُوم (الْقَضَاء) لما فِيهِ من الْفَرَائِض بعد(3/90)
إِسْلَامه قبل الْإِخْبَار بهَا (لِأَنَّهُ) أَي هَذَا الْإِخْبَار إِخْبَار (عَن الشَّارِع بِالدّينِ، وَالْأَكْثَر) من الْمَشَايِخ على أَنه (على الْخلاف) الْمَذْكُور فِي الْفُضُولِيّ (وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ قَالَ (الْأَصَح) عِنْدِي أَنه يلْزمه (الْقَضَاء) اتِّفَاقًا (لِأَنَّهُ) أَي الْمخبر (رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نضر الله أمرا سمع مني مَقَالَتي فوعاها كَمَا سَمعهَا ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من لم يسْمعهَا، وَقد بَين فِي خبر الرَّسُول أَنه بِمَنْزِلَة خبر الْمُرْسل، وَلَا يعْتَبر فِي الْمُرْسل أَن يكون عدلا، وَتعقبه المُصَنّف بقوله (وَلَو صَحَّ) هَذَا (انْتَفَى اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الروَاة) لعين مَا ذكره (فَإِنَّمَا ذَاك) أَي الرَّسُول الَّذِي خَبره بِمَنْزِلَة خبر الْمُرْسل (الرَّسُول الْخَاص بِالْإِرْسَال) بِأَن يختاره الْمُرْسل من بَين النَّاس للسفارة بَينه وَبَين الْمُرْسل إِلَيْهِ، لَا كل من يبلغ كَلَام شخص إِلَى شخص بإذعان مِنْهُ (ومسوغ الرِّوَايَة التَّحَمُّل وبقاؤه) أَي التَّحَمُّل (وهما) أَي التَّحَمُّل وبقاؤه (عَزِيمَة) ورخصة (وَكَذَا الْأَدَاء) عَزِيمَة ورخصة (فالعزيمة فِي التَّحَمُّل) نَوْعَانِ (أصل) وَهُوَ (قِرَاءَة الشَّيْخ من كتاب أَو حفظ) عَلَيْك وَأَنت تسمع (وقراءتك أَو) قِرَاءَة (غَيْرك كَذَلِك) أَي من كتاب أَو حفظ على الشَّيْخ (وَهُوَ يسمع) سَوَاء كَانَ الشَّيْخ يحفظ مَا يقْرَأ عَلَيْهِ أَولا، لَكِن مُمْسك أَصله هُوَ أَو ثِقَة غَيره إِن لم يكن الْقَارئ يقْرَأ فِيهِ على هَذَا عمل كَافَّة الشُّيُوخ وَأهل الحَدِيث: كَذَا ذكره الشَّارِح (وَهِي) أَي قراءتك أَو غَيْرك على الشَّيْخ من كتاب أَو حفظ (الْعرض) لِأَن الْقَارئ يعرض على الشَّيْخ فَيَقُول أهوَ كَمَا قَرَأت عَلَيْك؟ (فيعترف) بِمثل نعم (أَو يسكت وَلَا مَانع) . قَالَ الشَّارِح من السُّكُوت، وَالصَّوَاب من ترك السُّكُوت كَأَن يكون الْقَارئ مِمَّن يخَاف من مُخَالفَته (خلافًا لبَعْضهِم) وَهُوَ بعض الظَّاهِرِيَّة فِي جمَاعَة من مَشَايِخ الْمشرق فِي أَن إِقْرَاره شَرط، وَالْأول هُوَ الصَّحِيح (لِأَن الْعرف أَنه) أَي السُّكُوت مِنْهُ بِلَا مَانع (تَقْرِير، وَلِأَنَّهُ) أَي السُّكُوت بِلَا مَانع (يُوهم الصِّحَّة فَكَانَ صَحِيحا وَإِلَّا فغش، ورجحها) أَي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ (أَبُو حنيفَة على قِرَاءَة الشَّيْخ من كتاب خلافًا للْأَكْثَر) حَيْثُ قَالُوا: قِرَاءَة الْمُحدث على الطَّالِب أرجح، لِأَنَّهَا طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا رجح (لزِيَادَة عنايته) أَي الْقَارئ (بِنَفسِهِ) تخليصا لَهَا من الزلل (فَيَزْدَاد ضبط الْمَتْن والسند) بِخِلَاف الشَّيْخ، لِأَن عناية بِغَيْرِهِ: وَأورد أَن الْقِرَاءَة على الْمُحدث لَا يُؤمن فِيهَا غفلته عَن سَماع الْقَارئ وَأجِيب بِأَنَّهَا أَهْون من الْخَطَأ فِي الْقِرَاءَة، وَحَيْثُ لم يُمكن الِاحْتِرَاز عَنْهُمَا مَعًا وَجب الِاحْتِرَاز عَن الأهم مِنْهُمَا (و) روى (عَنهُ) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله أَن الْقِرَاءَة وَالسَّمَاع مِنْهُ (يتساويان) فِي النَّوَازِل، عَن الصغاني قَالَ: سَمِعت أَبَا حنيفَة وَأَبا سُفْيَان يَقُولَانِ: الْقِرَاءَة على الْعَالم وَالسَّمَاع مِنْهُ سَوَاء، وَلِهَذَا حكى عَن مَالك وَأَصْحَابه ومعظم أَصْحَاب الْحجاز(3/91)
والكوفة وَالشَّافِعِيّ وَالْبُخَارِيّ (فَلَو حدث) الشَّيْخ (من حفظه ترجح) على قِرَاءَة الْقَارئ عَلَيْهِ (بِخِلَاف قِرَاءَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على غَيره فَإِنَّهَا راجحة على قِرَاءَة غَيره عَلَيْهِ: كَذَا ذكره الشَّارِح، وَهُوَ يحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل لِأَنَّهُ شيخ الْأمة كلهم، وَلَيْسَ لَهُ قِرَاءَة من الْكتاب فَلَا يُمكن إِخْرَاجه من حكم الشَّيْخ الْقَارئ من الْكتاب لَا من حكم الطَّالِب الْقَارئ على الشَّيْخ الْمُحدث من حفظه فَمَا معنى بِخِلَاف قِرَاءَته إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد قِرَاءَته على جِبْرِيل وَهُوَ معلمه، ثمَّ بَين كَون وَجه قِرَاءَته على خلاف قِرَاءَة غَيره بقوله (للأمن من الْقَرار على الْغَلَط) لَو وَقع مِنْهُ، وَلَا كَذَلِك غَيره (وَالْحق أَنه) أَي مَا ذكر من قِرَاءَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي غير مَحل النزاع) وَهُوَ قِرَاءَة الْقَارئ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِرَاءَة الشَّيْخ من الْكتاب. وَقيل مَحَله أَن يروي الشَّيْخ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَخلف) عطف على الأَصْل (عَنهُ) أَي الأَصْل وَهُوَ (الْكتاب) كَانَ يكْتب الشَّيْخ (يحدثني فلَان) أَنه كَذَا عَن فلَان (فَإِذا بلغك كتابي هَذَا فَحدث بِهِ عني بِهَذَا الْإِسْنَاد) وَيكْتب فِي عنوانه من فلَان بن فلَان إِلَى فلَان ابْن فلَان ثمَّ يكْتب فِي دَاخله بعد التَّسْمِيَة وَالثنَاء على الله تَعَالَى وَالصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من فلَان وَيشْهد على ذَلِك شُهُودًا ثمَّ يختمه بحضرتهم: كَذَا ذكره الشَّارِح، وَسَيَأْتِي فِي كَلَام المُصَنّف مَا يدل على خِلَافه (والرسالة) أَن يُرْسل الشَّيْخ رَسُولا إِلَى آخر، وَيَقُول للرسول (بلغه عني أَنه حَدثنِي فلَان) بن فلَان عَن فلَان بن فلَان إِلَى أَن يَأْتِي على تَمام الْإِسْنَاد، فَإِذا بلغتك رسالتي إِلَيْك (فاروه عني بِهَذَا الْإِسْنَاد) . قَالَ الشَّارِح فَشهد الشُّهُود عِنْد الْمُرْسل إِلَيْهِ على رِسَالَة الْمُرْسل حلت للمرسل إِلَيْهِ الرِّوَايَة عَنهُ (وَهَذَا) أَي قَوْله إِذا بلغك إِلَى آخِره فِي الْفَصْلَيْنِ إِنَّمَا يلْزم (على اشْتِرَاط الْإِذْن وَالْإِجَازَة فِي الرِّوَايَة عَنْهُمَا) أَي الْكتاب والرسالة (وَالْأَوْجه عَدمه) أَي عدم اشْتِرَاط الْإِجَازَة فيهمَا (كالسماع) فَإِنَّهُ جَازَ أَن يرويهِ بِلَا إِذن، بل لَو مَنعه عَن الرِّوَايَة جَازَ أَن يرْوى مَعَ مَنعه لَهُ، كَذَا نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف (وهما) أَي الْكِتَابَة والرسالة (كالخطاب شرعا لتبليغه عَلَيْهِ السَّلَام بهما) أَي الْكِتَابَة والرسالة، عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى قَيْصر يَدعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام مُتَّفق عَلَيْهِ. وَعَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى كسْرَى وَقَيْصَر وَالنَّجَاشِي وَإِلَى كل جَبَّار عنيد يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ بالنجاشي الَّذِي صلى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ مُسلم (وَعرفا) كَمَا فِي تَقْلِيد الْمُلُوك الْقَضَاء والإمارة بهما كَمَا فِي المسافهة (وَيَكْفِي) فِي جَوَاز الرِّوَايَة عَن الْكَاتِب والمرسل (معرفَة خطه) أَي الْكَاتِب (وَظن صدق الرَّسُول) كَمَا عَلَيْهِ عَامَّة أهل الحَدِيث (وضيق أَبُو حنيفَة) حَيْثُ نسب إِلَيْهِ أَنه لَا يحل فِي كل(3/92)
مِنْهُمَا إِلَّا (بِالْبَيِّنَةِ) كَمَا فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي (وَلَا يلْزم كتاب القَاضِي) أَي الْإِيرَاد بِهِ على مَا نَحن فِيهِ (للِاخْتِلَاف) بَين كتاب القَاضِي وَمَا نَحن فِيهِ (بالداعية) أَي بِسَبَب وجود الْأَغْرَاض الداعية إِلَى التزوير والتلبيس فِيهِ: أَي فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، وَمَا نَحن فِيهِ بالداعية فِيمَا يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَا خَفَاء فِي) جَوَاز (حَدثنَا وَأخْبر، وسمعته فِي الأول) أَي فِي قِرَاءَة الشَّيْخ الطَّالِب (و) لفظ (قَالَ) أَيْضا مَعَ الْحَار وَالْمَجْرُور نَحْو لي وَلنَا وَبِدُون ذَلِك، إِنَّمَا النزاع فِي كَونهَا مَحْمُولَة على السماع إِذا تجردت عَنْهُمَا، فَقَالَ ابْن الصّلاح يحمل عَلَيْهِ إِذا علم اللِّقَاء خُصُوصا إِذا علم من حَال الرَّاوِي أَنه لَا يرْوى إِلَّا مَا سَمعه (وغلبت) لَفْظَة. قَالَ (فِي المذاكرة) والمناظرة (وَفِي الثَّانِي) أَي قِرَاءَة الطَّالِب على الشَّيْخ يَقُول: (قَرَأت) عَلَيْهِ وَهُوَ يسمع إِن كَانَ هُوَ الْقَارئ (وَقُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنا أسمع) إِن كَانَ الْقَارئ غَيره (وَحدثنَا بِقِرَاءَتِي) عَلَيْهِ (وَقِرَاءَة) عَلَيْهِ (وأنبأنا ونبأنا كَذَلِك) أَي بِقِرَاءَتِي أَو قِرَاءَة عَلَيْهِ (وَالْإِطْلَاق) لحدثنا وَأخْبرنَا من غير تَقْيِيد بِقِرَاءَتِي أَو قِرَاءَة عَلَيْهِ (جَائِز على الْمُخْتَار) كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَالزهْرِيّ وَمَالك وَالْبُخَارِيّ وَيحيى بن سعيد الْقطَّان ومعظم الْكُوفِيّين والحجازيين، لَا الْمَنْع مُطلقًا كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْمُبَارك وَأحمد وَكثير من أَصْحَاب الحَدِيث. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر أَنه الصَّحِيح (وَقيل) الْإِطْلَاق جَائِز (فِي أخبرنَا فَقَط) وَهُوَ للشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَمُسلم وَجُمْهُور أهل الْمشرق (وَالْمُنْفَرد) فِي السماع يَقُول (حَدثنِي وَأَخْبرنِي وَجَاز الْجمع) أَي حَدثنَا وَأخْبرنَا كَمَا هُوَ الْعرف فِي كَلَام الْعَرَب وَقيل عِنْد الِانْفِرَاد: لَا يَقُول حَدثنَا، وَعند الِاجْتِمَاع لَا يَقُول: حَدثنِي (وَفِي الْخلف) أَي الْكِتَابَة والرسالة يَقُول (أَخْبرنِي) (وَقيل) لَا يجوز أَن يَقُول فيهمَا أَخْبرنِي (كحدثني) أَي كَمَا لَا يجوز أَن يَقُول حَدثنِي فيهمَا لِأَن الْأَخْبَار والتحديث وَاحِد (بل) يَقُول (كتب) إِلَيّ (وَأرْسل إِلَيّ لعدم المشافهة قُلْنَا قد اسْتعْمل الْأَخْبَار مَعَ عدمهَا) أَي المشافهة. وَفِي نُسْخَة الشَّارِح: قد اسْتعْمل للْأَخْبَار، فَجعل الضَّمِير كِنَايَة عَن أَخْبرنِي، وَالْأولَى أولى لقَوْله (كأخبرنا الله لَا حَدثنَا) مَعَ عدمهَا، إِذْ لَا يُقَال حَدثنَا الله، وَذهب كثير من الْمُحدثين إِلَى جَوَاز حَدثنَا وَأخْبرنَا فِي الرِّوَايَة بالمكاتبة (والرخصة) فِي التَّحَمُّل (الْإِجَازَة مَعَ مناولة الْمجَاز) بِهِ للمجاز لَهُ كَانَ يناوله شَيْئا من سَمَاعه أصلا أَو فرعا مُقَابلا (بِهِ) وَيَقُول هَذَا من سَمَاعي أَو روايتي فاروه عني (ودونها أَي وَبِدُون مناولة كَأَن يَقُول: أجزت أَن تروي هَذَا الْكتاب الَّذِي حَدثنِي بِهِ فلَان إِلَى أَن يَأْتِي على سَنَده (وَمِنْه) أَي من قسم الْإِجَازَة الْمُجَرَّدَة عَن المناولة (إجَازَة مَا صَحَّ من مسموعاتي) عنْدك: ذكر الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ: أَن نَحْو أجزت لَك مَا يَصح عنْدك من حَدِيثي لَيْسَ بِشَيْء كَمَا لَو صَحَّ عنْدك من صك(3/93)
فِيهِ إقراري فاشهد بِهِ عَليّ لم يَصح، وَلم تجز الشَّهَادَة انْتهى. وَفِيه أَنه قد سبق قَرِيبا الْفرق بَين الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة مفصلا فَارْجِع إِلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلف فِي جَوَاز الرِّوَايَة بِالْإِجَازَةِ (قيل بِالْمَنْعِ) وَهُوَ لجماعات من الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء والأصوليين وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن الشَّافِعِي. وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن وَالْمَاوَرْدِيّ: لَو جَازَت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة (وَالأَصَح الصِّحَّة للضَّرُورَة) إِذْ الْمَنْع قد يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل السّنَن وَانْقِطَاع الْأَسَانِيد: إِذْ السماع وَالْقِرَاءَة تَفْصِيلًا عَزِيز الْوُجُود (وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (إِن كَانَ) الْمجَاز لَهُ (يعلم مَا فِي الْكتاب) الْمجَاز بِهِ فَقَالَ لَهُ الْمُجِيز أَن فلَانا حَدثنَا بِمَا فِي هَذَا الْكتاب بأسانيده هَذِه وأجزت لَك أَن تحدث بِهِ (جَازَت الرِّوَايَة) بِهَذِهِ الْإِجَازَة إِن كَانَ الْمُجِيز مَأْمُونا بالضبط والفهم (كَالشَّهَادَةِ على الصَّك) فَإِن الشَّاهِد إِذا وقف على جَمِيع مَا فِيهِ أَو أخبرهُ من عَلَيْهِ الْحق أَو أجَاز لَهُ أَن يشْهد عَلَيْهِ كَانَ صَحِيحا: فَكَذَا رِوَايَة الْخَبَر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمجَاز لَهُ عَالما بِمَا فِي الْكتاب (فَإِن احْتمل) الْكتاب (التَّغْيِير) بِزِيَادَة أَو نُقْصَان (لم تصح) الْإِجَازَة وَلَا تحل الرِّوَايَة اتِّفَاقًا (وَكَذَا) لَا يَصح عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد (إِن لم يحْتَمل) الْكتاب ذَلِك (خلافًا لأبي يُوسُف ككتاب القَاضِي) أَي قِيَاسا على اخْتلَافهمْ فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي (إِذْ علم الشُّهُود بِمَا فِيهِ شَرط) عِنْدهمَا لصِحَّة الشَّهَادَة (خلافًا لَهُ) أَي لأبي يُوسُف (وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ قَالَ (عدم الصِّحَّة) لهَذِهِ الْإِجَازَة (اتِّفَاق، وتجويز أبي يُوسُف) الشَّهَادَة (فِي الْكتاب) من القَاضِي إِلَى القَاضِي وَإِن يعلم الشُّهُود مَا فِيهِ (لضَرُورَة اشتماله) أَي الْكتاب الْمَذْكُور (على الْأَسْرَار) عَادَة (وَيكرهُ المتكاتبان الانتشار) للأسرار (بِخِلَاف كتب الْأَخْبَار) لِأَن أصل الدّين مَبْنِيّ على الشُّهْرَة (وَفِيه نظر، بل ذَلِك) أَي كَرَاهَة الانتشار لضَرُورَة الاشتمال على الْأَسْرَار (فِي كتب الْعَامَّة لَا) فِي كتاب (القَاضِي) إِلَى القَاضِي (بالحكم والثبوت) مُتَعَلق بِالْكِتَابَةِ المفهومة فِي كتاب القَاضِي: يَعْنِي الْكتاب الْمَسْبُوق بالحكم والثبوت الكائنين عَادَة فِي مَلأ النَّاس وحضرة الشُّهُود الْمُنْتَهى إِلَيّ قَاض آخر فِي مَلأ كَذَلِك لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مَا ذكر من الْأَسْرَار وَكَرَاهَة الانتشار (وَهَذَا) التَّفْصِيل الَّذِي ذهب الْحَنَفِيَّة (للاتفاق على النَّفْي) لصِحَّة الرِّوَايَة (لَو قَرَأَ) الطَّالِب (فَلم يسمع الشَّيْخ أَو) قَرَأَ (الشَّيْخ) فَلم يسمع الطَّالِب (وَلم يفهم) فَفِي الْإِجَازَة الَّتِي هِيَ دون الْقِرَاءَة أولى، وَفِيه فتح بَاب التَّقْصِير والبدعة إِذْ لم ينْقل عَن السّلف مثل هَذِه الْإِجَازَة (وَقبُول) رِوَايَة (من سمع فِي صباه مُقَيّد بضبطه غير أَنه أُقِيمَت مظنته) أَي مَظَنَّة الضَّبْط وَهِي التَّمْيِيز مقَامه (وَلذَا) أَي لاشْتِرَاط ضبط السَّامع (منعت) صِحَة الرِّوَايَة (للمشغول عَن السماع بِكِتَابَة) كَمَا ذهب إِلَيْهِ الاسفرايني وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن عدي، وَذهب إِلَى الصِّحَّة مُطلقًا بَعضهم (أَو نوم أَو لَهو، وَالْحق أَن الْمدَار) لعدم جَوَاز الرِّوَايَة (عدم الضَّبْط) للمروي (وأقيمت مظنته) أَي(3/94)
عدم الضَّبْط (نَحْو الْكِتَابَة) مقَامه إِن كَانَ بِحَيْثُ يمْتَنع مَعهَا الْفَهم (لحكاية الدَّارَقُطْنِيّ) فَإِنَّهُ حضر فِي حداثته مجْلِس إِسْمَاعِيل الصفار فَجَلَسَ ينْسَخ جُزْءا كَانَ مَعَه وَإِبْرَاهِيم يملى، فَقَالَ بعض الْحَاضِرين لَا يَصح سماعك وَأَنت تنسخ فَقَالَ: فهمي للإملاء خلاف فهمك ثمَّ قَالَ تحفظ، كم أمْلى الشَّيْخ من من حَدِيث إِلَى الْآن، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: أملي ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا فعددت الْأَحَادِيث فَوجدت كَمَا قَالَ، ثمَّ قَالَ الحَدِيث الأول مِنْهَا عَن فلَان وَمَتنه كَذَا، والْحَدِيث الثَّانِي عَن فلَان وَمَتنه وَلم يزل مُرْسلا أَسَانِيد الْأَحَادِيث ومتونها على ترتيبها فِي الْإِمْلَاء حَتَّى إِلَى آخرهَا فَعجب النَّاس مِنْهُ. هَذَا وَقَالَ أَحْمد فِي الْحَرْف يدغمه الشَّيْخ يفهم وَهُوَ مَعْرُوف أَرْجُو أَن لَا تضيق رِوَايَته عَنهُ، وَفِي الْكَلِمَة تستفهم من المستفهم إِن كَانَت مجمعا عَلَيْهَا فَلَا بَأْس، وَعَن خلف بن سَالم منع ذَلِك (وتنقسم) الْإِجَازَة (لمُعين فِي معِين) كأجزت لَك أَو لكم أَو لفُلَان ويصفه بِمَا يميزه فِي الْكتاب الْفُلَانِيّ أَو مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فهرستي (وَغَيره) أَي لمُعين فِي غير معِين (كمروياتي) ومسموعاتي. قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره وَالْخلاف فِي هَذَا أقوى وَأكْثر، وَالْجُمْهُور من الْعلمَاء على تَجْوِيز الرِّوَايَة بهَا أَيْضا، وَمن المانعين لصحتها شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ، وَنقل عَن بعض الْأَئِمَّة التَّابِعين أَن سَائِلًا سَأَلَهُ الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة فتعجب وَقَالَ لأَصْحَابه: هَذَا يطْلب مني أَن أُجِيز لَهُ أَن يكذب عَليّ (ولغير معِين) نَحْو أجرت فِي الْكتاب الْفُلَانِيّ أَو مروياتي (للْمُسلمين من أدركني، وَمِنْه) أَي من الْإِجَازَة لغير معِين أجزت (من يُولد لفُلَان) فانقسم هَذَا الْقسم إِلَى مَوْجُود ومعدوم، وَفِيه تفاصيل ذكرتها فِي مُخْتَصر لشرح الألفية للشَّيْخ الْعِرَاقِيّ، وَبِالْجُمْلَةِ فالإجازة للمعدوم فِي صِحَّتهَا خلاف قوي (بِخِلَاف) الْإِجَازَة لغير الْمعِين (الْمَجْهُول فِي معِين) كأجزت لبَعض النَّاس رِوَايَة صَحِيح البُخَارِيّ (وَغَيره) أَي وَفِي غير معِين (ك) أجزت لبَعض النَّاس رِوَايَة (كتاب السّنَن) وَهُوَ يروي عدَّة من السّنَن الْمَعْرُوفَة بذلك فَإِنَّهَا غير صَحِيحَة (بِخِلَاف سنَن فلَان) كَأبي دَاوُد فَإِنَّهَا مَعْلُومَة (وَمِنْه) أَي من قبيل الْإِجَازَة فِي غير الْفَاسِدَة إجَازَة رِوَايَة (مَا سيسمعه الشَّيْخ) وَهِي بَاطِلَة على الصَّحِيح كَمَا نَص عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض وَابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ لِأَنَّهُ يُبِيح مَا لم يعلم هَل يَصح لَهُ الْإِذْن فِيهِ فَتَأمل (وَفِي التفاصيل اختلافات) ذكرت فِي محلهَا فِي علم الحَدِيث (ثمَّ الْمُسْتَحبّ) للمجاز فِي آرائه (قَوْله أجَاز لي وَيجوز أَخْبرنِي وحَدثني مُقَيّدا) بقوله: إجَازَة أَو مناولة أَو إِذْنا (ومطلقا) عَن الْقَيْد بِشَيْء من ذَلِك (للمشافهة فِي نفس الْإِجَازَة) وَعَلِيهِ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ وَالْقَاضِي أَبُو زيد وفخر الْإِسْلَام وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقيل هُوَ مَذْهَب مَالك وَأهل الْمَدِينَة (بِخِلَاف الْكتاب والرسالة) فَإِنَّهُ لَا يجوز فِيهَا أَخْبرنِي وَلَا حَدثنِي (إِذْ لَا خطاب أصلا) وَقيل يجوز أَن يَقُول فيهمَا حَدثنِي بالِاتِّفَاقِ وَإِن كَانَ الْمُخْتَار أَخْبرنِي لِأَنَّهُمَا من الْغَائِب كالخطاب من الْحَاضِر (وَقيل يمْنَع حَدثنِي لاختصاصه بِسَمَاع الْمَتْن) وَلم يُوجد فِي(3/95)
الْإِجَازَة والمنازلة وَلَا يمْنَع من أَخْبرنِي وَعَلِيهِ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ. وَقَالَ ابْن الصّلاح وَالْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ عمل الْجُمْهُور وَأهل الْوَرع الْمَنْع فِي ذَلِك من إِطْلَاق حَدثنَا وَأخْبرنَا وَنَحْوهمَا (وَالْوَجْه فِي الْكل اعْتِمَاد عرف تِلْكَ الطَّائِفَة) فَيُؤَدِّي على مَا هُوَ عرفهَا فِي ذَلِك على وَجه سَالم من التَّدْلِيس (والاكتفاء الطَّارِئ فِي هَذِه الإعصار بِكَوْن الشَّيْخ مَسْتُورا) أَي كَونه مُسلما بَالغا عَاقِلا غير متظاهر بِالْفِسْقِ وَمَا يخرم الْمُرُوءَة (وَوُجُود سَمَاعه) مثبتا (بِخَط ثِقَة) غير مُتَّهم وبروايته من أصل (مُوَافق لأصل شَيْخه) كَمَا ذكره ابْن الصّلاح، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ (لَيْسَ خلافًا لما تقدم) من اشْتِرَاط الْعَدَالَة وَغَيرهَا فِي الرَّاوِي (لِأَنَّهُ) أَي الِاكْتِفَاء الْمَذْكُور (لحفظ السلسلة) أَي ليصير الحَدِيث مسلسلا بِحَدِيث وَأخْبرنَا (عَن الِانْقِطَاع) وَتبقى هَذِه الْكَرَامَة الَّتِي خصت بهَا هَذِه الْأمة شرفا لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَذَلِكَ) أَي مَا تقدم من اشْتِرَاط الْعَدَالَة وَغَيرهَا (لَا يُجَاب الْعَمَل على الْمُجْتَهد والعزيمة فِي الْحِفْظ) عَن ظهر قلب من غير وَاسِطَة الْخط (ثمَّ دَوَامه إِلَى) وَقت (الْأَدَاء) إِذْ الْمَقْصُود بِالسَّمَاعِ الْعَمَل بالمسوغ وتبليغه إِلَى آخِره. قَالَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ: هَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة فِي الْأَخْبَار والشهادات جَمِيعًا، وَلِهَذَا قلت رِوَايَته، وَهُوَ طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَينه للنَّاس (والرخصة) فِي الْحِفْظ (تذكره) أَي الرَّاوِي الْمَرْوِيّ (بعد انْقِطَاعه) أَي الْحِفْظ (عِنْد نظر الْكِتَابَة) سَوَاء كَانَت، خطه أَو خطّ غَيره مَعْرُوف أَو مَجْهُول، إِذْ الْمَقْصُود ذكر الْوَاقِعَة وَهُوَ يحصل بِخَط الْمَجْهُول أَيْضا، وَالنِّسْيَان الْوَاقِع قبله عَفْو لعدم إِمْكَان الِاحْتِرَاز عَنهُ (فَإِن لم يتَذَكَّر) الرَّاوِي الْمَرْوِيّ بِنَظَر الْمَكْتُوب (بعد علمه أَنه خطه أَو خطّ الثِّقَة وَهُوَ فِي يَده) بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيْهِ يَد غَيره أَو مَخْتُومًا بِخَاتمِهِ أَو فِي يَد أَمِين) على هَذِه الصّفة (حرمت الرِّوَايَة وَالْعَمَل عِنْد أبي حنيفَة) بذلك (ووجبا) أَي الرِّوَايَة وَالْعَمَل بِهِ (عِنْدهمَا وَالْأَكْثَر، وعَلى هَذَا) الْخلاف (رُؤْيَة الشَّاهِد خطه) بِشَهَادَة (فِي الصَّك) أَي كتاب الشَّهَادَة (وَالْقَاضِي) خطه أَو خطّ نَائِبه بِقَضَائِهِ بِشَيْء (فِي السّجل) الَّذِي بديوانه وَلم يتَذَكَّر كل وَاحِد مِنْهُمَا ذَلِك: فروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة لَا يحل لَهُ أَن يعْتَمد على الْخط مَا لم يتَذَكَّر مَا تضمنه الْمَكْتُوب، لِأَن النّظر فِي الْكِتَابَة لمعْرِفَة الْقلب كالنظر للمرآة للرؤية بِالْعينِ وَالنَّظَر فِي الْمرْآة إِذا لم يفده إدراكا لَا يكون مُعْتَبرا، فالنظر فِي الْكتاب إِذا لم يفده تذكرا يكون هدرا لِأَن الرُّؤْيَة وَالشَّهَادَة وتنفيذ الْقَضَاء لَا يكون إِلَّا بِعلم والخط يشبه الْخط شبها لَا يُمكن التَّمْيِيز بَينهمَا إِلَّا بالتخمين فبصورة الْخط لَا يستفيدون علما من غير التَّذَكُّر (وَعَن أبي يُوسُف) فِي رِوَايَة بشر عَنهُ (الْجَوَاز فِي الرِّوَايَة) أَي فِي رِوَايَة الحَدِيث إِذا كَانَ خطا مَعْرُوفا لَا يخَاف تَغْيِيره بِأَن يكون بِيَدِهِ أَو بيد أَمِين، والتغيير فِي أُمُور الدّين غير مُتَعَارَف إِذْ لَا يعود بِهِ نفع إِلَى أحد، ودوام الْحِفْظ والتذكر مُتَعَذر (والسجل(3/96)
إِذا كَانَ فِي يَده) أَي وَجَوَاز عمل القَاضِي بِمُجَرَّد خطه أَو خطّ مَعْرُوف مُفِيد قَضَاءَهُ بقضية فِي مَكْتُوب مَحْفُوظ بِيَدِهِ لَا تصل إِلَيْهِ يَد غَيره، أَو مختوم بختمه أَو بيد أمينة الموثوق بِهِ لِأَن خطّ القَاضِي جَمِيع جزئيات الوقائع مُتَعَذر عَادَة، وَلِهَذَا كَانَ من آدَاب القَاضِي كِتَابَة الوقائع وإيداعها قطره وختمه بِخَاتمِهِ وَلَو لم يجز لَهُ الرُّجُوع إِلَيْهَا عِنْد النسْيَان لم يكن لَهُ فَائِدَة، وَقد يُقَال: فَائِدَته تظهر عِنْد تذكره وَإِن لم تظهر عِنْد عدم التَّذَكُّر (لَا الصَّك) أَي لَا يجوز عِنْد عمل الشَّاهِد بِمُجَرَّد الْخط إِذا لم يكن بِيَدِهِ، إِذْ مَبْنِيّ الشَّهَادَة على الْيَقِين بالمشهود بِهِ، والصك إِذا كَانَ بيد الْخصم لَا يحصل الْأَمْن فِيهِ من التَّغْيِير. (وَعَن مُحَمَّد) فِي رِوَايَة ابْن رستم عَنهُ يجوز الْعَمَل للمذكورين بِمُجَرَّد الْخط إِذا تيقنوا أَنه خطهم (فِي الْكل) أَي فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وَالْقَضَاء، وَلَو كَانَ الصَّك بيد الْخصم (تيسيرا) على النَّاس والخط ينْدر شبهه بالخط على وَجه يخفي التَّمْيِيز بَينهمَا والنادر لَا يَدُور عَلَيْهِ الحكم (لنا) أَي للإمامين وَالْأَكْثَر (عمل الصَّحَابَة بكتابه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِلَا رِوَايَة مَا فِيهِ) للْعَالمين (بل لمعْرِفَة الْخط وَأَنه مَنْسُوب إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ككتاب عَمْرو بن خرم) . وَقد سبق مَا يفِيدهُ فِي مسئلة: الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل وَاجِب (وَهُوَ) أَي عَمَلهم بكتابه بِمُجَرَّد معرفَة الْخط (شَاهد لما تقدم: من قبُول كتاب الشَّيْخ إِلَى الرَّاوِي) بِالتَّحْدِيثِ عَنهُ (بِلَا شَرط بَيِّنَة) على ذَلِك (وَهنا) أَي فِي الْعَمَل بِمُقْتَضى الْمَكْتُوب بِمُجَرَّد معرفَة الْخط (أولى) من عمل الرَّاوِي بِكِتَاب الشَّيْخ بِلَا بَيِّنَة، لِأَن احْتِمَال التزوير فِيهِ أبعد (وَمَا قيل النسْيَان) فِيهِ (غَالب فَلَو لزم التَّذَكُّر بَطل كثير من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة غير مُسْتَلْزم لمحل النزاع، وَإِنَّمَا يستلزمه) أَي مَحل النزاع (غَلَبَة عدم التَّذَكُّر بعد معرفَة الْخط وَهُوَ) أَي مَا ذكر من غَلَبَة عدم التَّذَكُّر بعْدهَا (مَمْنُوع والعزيمة فِي الْأَدَاء) أَن يكون (بِاللَّفْظِ) نَفسه (والرخصة) فِيهِ أَن يكون الْمُؤَدِّي (مَعْنَاهُ بِلَا نقص وَزِيَادَة للْعَالم باللغة ومواقع الْأَلْفَاظ) إِذْ كل لفظ مُفردا كَانَ أَو مركبا لَهُ موقع من الْمَعْنى يُرَاد بِهِ بِحَسب الْوَضع والاستعمال إِلَى اللّغَوِيّ والعرفي، وبحسب قَرَائِن الْأَحْوَال والمقامات، وَلَا يعرف مُرَاد الْمُتَكَلّم إِلَّا من يعرفهَا (و) قَالَ (فَخر الْإِسْلَام) رخص فِي ذَلِك بِالشّرطِ الْمَذْكُور (إِلَّا فِي نَحْو الْمُشْتَرك) من الْخَفي والمشكل (و) إِلَّا فِي الْمُجْمل والمتشابه فَإِنَّهُ لَا يجوز أصلا (بِخِلَاف الْعَام والحقيقة المحتملين للخصوص وَالْمجَاز) على تَرْتِيب اللفّ والنشر فَإِنَّهُ يجوز فِيهِ (للغوي الْفَقِيه) لَا اللّغَوِيّ فَقَط (أما الْمُحكم) أَي متضح الْمَعْنى بِحَيْثُ لَا يشْتَبه مَعْنَاهُ، وَلَا يحْتَمل وُجُوهًا مُتعَدِّدَة، كَذَا فسره فَخر الْإِسْلَام فِي هَذَا الْمقَام (مِنْهُمَا) أَي الْعَام والحقيقة (فتكفي اللُّغَة) أَي مَعْرفَتهَا فِيهِ (وَاخْتلف مجيز وَالْحَنَفِيَّة) ، الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى (فِي الْجَوَامِع) أَي جَوَامِع الْكَلم، فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي(3/97)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " بعثت بجوامع الْكَلم ". وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ
" وَبَلغنِي أَن جَوَامِع الْكَلم أَن الله عز وَجل يجمع الْأُمُور الْكَثِيرَة الَّتِي كَانَت تكْتب فِي الْكتب قبله فِي الْأَمر الْوَاحِد أَو الْأَمريْنِ أَو نَحْو ذَلِك ". وَقَالَ الْخطابِيّ إيجاز الْكَلَام فِي إشباع للمعاني يَقُول: الْكَلِمَة القليلة الْحُرُوف، فينتظم الْكثير من الْمَعْنى ويتضمن أنواعا من الْأَحْكَام (كالخراج بِالضَّمَانِ) حَدِيث حسن رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَتقدم مَعْنَاهُ (والعجماء جَبَّار) مُتَّفق عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: والعجماء الْمُتَقَدّمَة الَّتِي لَا يكون مَعهَا أحد. وَقَالَ ابْن مَاجَه: الْجَبَّار الهدر الَّذِي لَا يغرم فَقَالَ بَعضهم: يجوز للْعَالم بطرق الِاجْتِهَاد إِذا كَانَت الْجَوَامِع ظَاهِرَة الْمَعْنى، وَذهب فَخر الْإِسْلَام والسرخسي إِلَى الْمَنْع لإحاطة الْجَوَامِع بمعان قد تقصر عَنْهَا عقول ذَوي الْأَلْبَاب (فالرازي مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (وَابْن سِيرِين) فِي جمَاعَة (على الْمَنْع مُطلقًا) . قَالَ الشَّارِح: أَي سَوَاء كَانَ من الْمُحكم أَولا، كَذَا ذكره غير وَاحِد: وَفِيه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّازِيّ نظر، فَإِن لَفظه قد حكينا عَن الشّعبِيّ وَالْحسن أَنَّهُمَا كَانَا يحدثان بالمعاني، وَكَانَ غَيرهمَا يحدث بِاللَّفْظِ، والأحوط عندنَا أَدَاء اللَّفْظ وسياقته على وَجهه دون الِاقْتِصَار على الْمَعْنى سَوَاء كَانَ مِمَّا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل أَولا إِلَّا أَن يكون الرَّاوِي مثل الْحسن وَالشعْبِيّ فِي إتقانهما للمعاني وَصرف الْعبارَات إِلَى مَعْنَاهَا فقها غير فاضلة عَنْهَا وَلَا مقصرة، وَهَذَا عندنَا إِنَّمَا كَانَا يفعلانه فِي اللَّفْظ الَّذِي لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَيكون للمعنى عِبَارَات مُخْتَلفَة، فيعبران تَارَة بِعِبَارَة، وَتارَة بغَيْرهَا: فَأَما مَا يحْتَمل التَّأْوِيل من الْأَلْفَاظ فَإنَّا لَا نظن بهما أَنَّهُمَا كَانَا يغيرانه إِلَى لفظ غَيره مَعَ احْتِمَاله لِمَعْنى غير معنى لفظ الأَصْل، وَأكْثر فَسَاد أَخْبَار الْآحَاد وتناقضها واستحالتها من هَذَا الْوَجْه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد كَانَ مِنْهُم من يسمع اللَّفْظ الْمُحْتَمل للمعاني فيعبر عَنهُ بِلَفْظ غَيره، وَلَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا على أَنه هُوَ الْمَعْنى عِنْده فيفسده انْتهى وَلَا يخفى أَنه لَيْسَ بِصَرِيح فِي خلاف مَا نَقله المُصَنّف، وَيجوز أَن يكون لَهُ نقل آخر عَنهُ أصرح من هَذَا فِيمَا نقل عَنهُ (لنا) فِيمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور (الْعلم بنقلهم) أَي الصَّحَابَة (أَحَادِيث بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة فِي وقائع متحدة) كَمَا يحاط بهَا علما فِي دواوين السّنة (وَلَا مُنكر) لوُقُوع ذَلِك مِنْهُم (وَمَا عَن ابْن مَسْعُود وَغَيره قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا أَو نَحوه أَو قَرِيبا مِنْهُ) عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ: كنت لَا تفوتني عَشِيَّة خَمِيس إِلَّا آتِي عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَمَا سمعته يَقُول لشَيْء قطّ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كَانَت ذَات عَشِيَّة، فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغرورقت عَيناهُ، وَانْتَفَخَتْ أوداجه، ثمَّ قَالَ: أَو مثله أَو نَحوه أَو شَبيه بِهِ، قَالَ فَأَنا رَأَيْته وَإِزَاره محلولة مَوْقُوف صَحِيح. أخرجه أَحْمد وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا. وَعَن أبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا حدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَحوه أَو شبهه. أخرجه(3/98)
الدَّارمِيّ وَهُوَ مَوْقُوف مُنْقَطع رِجَاله ثِقَات (وَلَا مُنكر) على قَائِله (فَكَانَ) وُقُوع ذَلِك مِنْهُم من غير نَكِير من أحدهم (إِجْمَاعًا) على جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى (و) لنا أَيْضا (بَعثه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الرُّسُل) إِلَى النواحي بتبليغ الشَّرَائِع (بِلَا إِلْزَام) خُصُوص (لفظ) إِذْ لَو لم تجز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى كَانَ يلْزمه وَلَو لزم لنقل إِلَيْنَا (و) لنا أَيْضا (مَا روى الْخَطِيب) فِي كتاب الْكِفَايَة فِي معرفَة أصُول عليم الرِّوَايَة عَن يَعْقُوب بن عبد الله بن سُلَيْمَان اللَّيْثِيّ عَن أَبِيه عَن جده أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا أَنا لنسمع مِنْك وَلَا نقدر على تأديته كَمَا سمعناه مِنْك، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" إِذا لم تحلوا حَرَامًا أَو تحرموا حَلَالا وأصبتم الْمَعْنى فَلَا بَأْس " انْتهى. وَقَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ: رَوَاهُ ابْن مَنْدَه من حَدِيث عبد الله بن سُلَيْمَان قَالَ: قلت يَا رَسُول الله الحَدِيث، وَزَاد فِي آخِره فَذكر ذَلِك لِلْحسنِ، فَقَالَ لَوْلَا هَذَا مَا حَدثنَا انْتهى، وَغَايَة مَا ذكر فِيهِ أَنه يَنْتَهِي إِلَى عبد الله وَهُوَ تَابِعِيّ على الصَّحِيح لَيْسَ لَهُ صُحْبَة، والإرسال غير ضائر فِي الْإِسْنَاد من الثِّقَة بل هِيَ مِنْهُ زِيَادَة مَقْبُولَة (وَأما الِاسْتِدْلَال) لِلْجُمْهُورِ (بتفسيره) أَي بِالْإِجْمَاع على جَوَاز الحَدِيث (بالعجمية) فَإِنَّهُ إِذا جَازَ تَفْسِيره بهَا فَلِأَن يجوز بِالْعَرَبِيَّةِ أولى (فَمَعَ الْفَارِق) أَي قِيَاس مَعَ الْفَارِق (إِذْ لولاه) أَي تَفْسِيره بالعجمية (امْتنع معرفَة الْأَحْكَام للجم الْغَفِير) لِأَن العجمي لَا يفهم الْعَرَبِيّ إِلَّا بالتفسير: وَكَذَا يجوز تَفْسِير الْقُرْآن بِجَمِيعِ الألسن (و) لَا يجوز نَقله بِالْمَعْنَى بالِاتِّفَاقِ (أَيْضا) من الْأَدِلَّة (على تجويزه الْعلم بِأَن الْمَقْصُود الْمَعْنى) لِأَن الحكم يثبت بِهِ لَا بِاللَّفْظِ من حَيْثُ هُوَ (وَهُوَ) أَي الْمَعْنى (حَاصِل) فَلَا يضر اخْتِلَاف اللَّفْظ (وَأما اسْتثِْنَاء فَخر الْإِسْلَام) السَّابِق (لِأَنَّهُ) أَي النَّقْل بِالْمَعْنَى للمشترك وَنَحْوه (تَأْوِيله) أَي الرَّاوِي لهَذِهِ الرِّوَايَة الْأَقْسَام (وَلَيْسَ) تَأْوِيله (حجَّة على غَيره كقياسه) أَي كَمَا أَن قِيَاسه لَيْسَ حجَّة على غَيره (بِخِلَاف الْمُحكم) فَإِن النَّقْل فِيهِ بِالْمَعْنَى لَا يُفْضِي إِلَى الْغَلَط (والمحتمل للخصوص) أَي وَنقل الْفَقِيه الْعَالم الْمُحْتَمل للخصوص بِالْمَعْنَى على الْوَجْه الَّذِي يُسْتَفَاد مِنْهُ الْخُصُوص (مَحْمُول على سَمَاعه الْمُخَصّص كعمله) أَي الرَّاوِي فِي الْمُفَسّر (بِخِلَاف رِوَايَته) حَيْثُ يحمل عمله بِخِلَاف رِوَايَته (على النَّاسِخ) أَي على سَمَاعه النَّاسِخ لمرويه (وَيشكل) اسْتثِْنَاء فَخر الْإِسْلَام (بترجيح تَقْلِيده) أَي الصَّحَابِيّ فَإِنَّهُ يجْرِي فِيهِ الدَّلِيل الْمَذْكُور لاستثنائه بِأَن يُقَال مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيله وَلَيْسَ تَأْوِيله حجَّة على غَيره (فَإِن أُجِيب) بِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَرَجَّح تَقْلِيده (بِحمْلِهِ) أَي مَا قَلّدهُ فِيهِ (على السماع فَالْجَوَاب أَنه) أَي حمله على السماع ثَابت (مَعَ إِمْكَان قِيَاسه) أَي يُمكن أَنه قَالَه قِيَاسا واجتهادا (فَكَذَا فِي نَحْو الْمُشْتَرك) من الْخَفي والمشكل إِذا حمله على بعض وجوهه يحمل على السماع مَعَ إِمْكَان تَأْوِيله (تقدم) اجْتِهَاده (بترجيح اجْتِهَاده) لمشاهدته(3/99)
الْأُمُور الْمُوجبَة لعلمه بِأَن الْعلَّة مَا ذكر فَإِن قيل ترجح اجْتِهَاد الصَّحَابِيّ على اجْتِهَاد غَيره بَاطِل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فوعاها، فحفظها فأداها: فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ": رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَغَيرهم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَإِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ) بِاعْتِبَار أَنه يدل على أَن الْمَحْمُول إِلَيْهِ وَهُوَ التَّابِعِيّ قد يكون أفقه من الْحَامِل الصَّحَابِيّ وَلَا يقدم اجْتِهَاد غير الأفقه على الأفقه: فَالْجَوَاب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قلله بِرَبّ) أَي كَون الْمَحْمُول إِلَيْهِ أفقه (فَكَانَ الظَّاهِر بعد الِاشْتِرَاك) من الصَّحَابَة وَغَيرهم (فِي الْفِقْه أفقهيتهم) أَي الصَّحَابَة، وَهَذَا بِنَاء على حمل رب على حَقِيقَته لاعلى مجازه الْمَشْهُور وَهُوَ التكثير (إِلَّا قَلِيلا فَيحمل) حَالهم (على الْغَالِب) وَهُوَ أفقهيتهم (وَالتَّحْقِيق) أَنه (لَا يتْرك اجْتِهَاد لاجتهاد الأفقه و) ترك الِاجْتِهَاد: أَي مؤداه لاجتهاد الأفقه (فِي الصَّحَابَة) لَيْسَ بكونهم أفقه، بل (لقرب سَماع الْعلَّة) أَي لقرب احْتِمَال كَونه سمع هُنَا دَالا على علية الْعلَّة (أَو نَحوه) أَي مَا يقوم مقَام سماعهَا، ثمَّ بَينه بقوله (من مُشَاهدَة مَا يفيدها) أَي الْعلَّة من الْقَرَائِن (وعَلى هَذَا) التَّوْجِيه (نجيزه) أَي النَّقْل بِالْمَعْنَى (فِي الْمُجْمل، وَلَا يُنَافِي) هَذَا (قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (لَا يتَصَوَّر) النَّقْل بِالْمَعْنَى (فِي الْمُجْمل والمتشابه) لأَنهم إِنَّمَا نفوه لما ذَكرُوهُ من قَوْلهم (لِأَنَّهُ لَا يُوقف على مَعْنَاهُ) إِذْ الْمُجْمل لَا يُسْتَفَاد المُرَاد مِنْهُ إِلَّا بَيَان سَمْعِي، والمتشابه لَا ينَال فِي الدُّنْيَا أصلا. قَالَ الشَّارِح وَالْمُصَنّف يَقُول بذلك لكنه يَقُول: إِذا رَوَاهُ بِمَعْنى على أَنه المُرَاد أصححه حملا على السماع، فَإنَّا إِذا علمنَا بِتَرْكِهِ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ من الْمُفَسّر حكمنَا بِأَنَّهُ علم أَنه مَنْسُوخ إِذْ كَانَ يحرم عَلَيْهِ ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ فَكَذَلِك إِذا روى الْمُجْمل بِمَعْنى مُفَسّر على أَنه المُرَاد مِنْهُ حكمنَا بِأَنَّهُ سمع تَفْسِيره: إِذْ لَا يحل أَن يفسره بِرَأْيهِ فَالْحَاصِل أَن الْأَقْسَام خَمْسَة: الْمُفَسّر الَّذِي لَا يحْتَمل إِلَّا معنى وَاحِدًا فَيجوز نَقله بِالْمَعْنَى اتِّفَاقًا بعد علمه باللغة، والحقيقة وَالْعَام المحتملان للمجاز والتخصيص، فَيجوز مَعَ الْفِقْه واللغة، فَلَو انسد بَاب التَّخْصِيص كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ - {وَالله بِكُل شَيْء عليم} - وَالْمجَاز بِمَا يُوجِبهُ رَجَعَ إِلَى الْجَوَاز إِلَى الِاكْتِفَاء بِعَدَمِ اللُّغَة فَقَط لصيرورته محكما لَا يحْتَمل إِلَّا وَجها وَاحِدًا والمشترك والمشكل والخفي، فَلَا يجوز نَقله بِالْمَعْنَى أصلا عِنْدهم: لِأَن المُرَاد لَا يعرف إِلَّا بِتَأْوِيل، وتأويله لَا يكون حجَّة على غَيره، وَحكم المُصَنّف بِجَوَاز ذَلِك لِأَنَّهُ دائر بَين كَونه تَأْوِيله أَو مسموعه، وكل مِنْهُمَا من الصَّحَابِيّ مقدم على غَيره، ومجمل ومتشابه، فَقَالُوا: لَا يتَصَوَّر نَقله بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ فرع معرفَة الْمَعْنى وَلَا يُمكن فيهمَا، وَالْمُصَنّف يَقُول كَذَلِك، وَلَكِن يَقُول: إِذا عين معنى على أَنه المُرَاد حكمنَا بِأَنَّهُ سَمعه على وزان حكمنَا فِي تَركه أَنه سمع النَّاسِخ حكما ودليلا، وَمَا هُوَ من جَوَامِع الْكَلم(3/100)
فَاخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ، كَذَا أَفَادَ المُصَنّف انْتهى (قَالُوا) أَي المانعون: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نضر الله امْرأ) سمع منا شَيْئا فَبلغ كَمَا سَمعه، فَرب مبلغ أوعى من سامع. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَغَيرهم، فحرض على نقل أصل الحَدِيث على الْوَجْه الَّذِي سَمعه وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا رَوَاهُ بِلَفْظِهِ (قُلْنَا) قَوْله نضر الله الخ (حث على الأولى) فِي نَقله سَوَاء كَانَ دُعَاء: أَي جمله وزينه، أَو خَبرا عَن أَنه من أهل نَضرة النَّعيم قيل هُوَ بتَخْفِيف الضَّاد، والمحدثون يثقلونها. وَفِي الغريبين رَوَاهُ الْأَصْمَعِي بِالتَّشْدِيدِ وَأَبُو عبيد بِالتَّخْفِيفِ وَقيل مَعْنَاهُ حسن الله وَجهه فِي خلقه: أَي جاهه وَقدره. وَعَن الفضيل بن عِيَاض " مَا من أحد من أهل الحَدِيث إِلَّا وَفِي وَجهه نَضرة لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نضر الله الحَدِيث (فَأَيْنَ منع خِلَافه) أَي خلاف الأولى، وَهُوَ النَّقْل بِالْمَعْنَى. وَفِي الشَّرْح العضدي: وَيُمكن أَن يُقَال أَيْضا بِالْمُوجبِ، فَإِن من نقل الْمَعْنى أَدَّاهُ كَمَا سَمعه، وَلذَلِك يَقُول المترجم أديته كَمَا سمعته (فَإِن قيل هُوَ) أَي الْمَانِع من خِلَافه (قَوْله فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ أَفَادَ أَنه) أَي الرَّاوِي (قد يقصر لَفظه) عَن اسْتِيعَاب مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ اللَّفْظ النَّبَوِيّ من الْأَحْكَام: إِذا الأفقه يدْرك مَا لَا يُدْرِكهُ غَيره (فَيَنْتَفِي أَحْكَام يستنبطها الْفَقِيه) بِوَاسِطَة نَقله بِالْمَعْنَى وقصور لَفظه (قُلْنَا غَايَته) أَي غَايَة تصور لَفظه عَن اسْتِيعَاب ذَلِك أَنه ك (نقل بعض الْخَبَر بعد كَونه حكما تَاما) وَهُوَ جَائِز كَمَا تقدم (وَقد يفرق) بَين هَذَا وَبَين حذف بعض الْخَبَر الَّذِي لَا تعلق لَهُ بِالْبَاقِي تعلقا يُغير الْمَعْنى (بِأَن لَا بُد) للحاذق (من نقل الْبَاقِي فِي عمره كي لَا تَنْتفِي الْأَحْكَام) المستفادة مِنْهُ (بِخِلَاف من قصر) لَفظه عَنْهَا (فَإِنَّهَا) أَي الْأَحْكَام الَّتِي لَيست بمستفادة مِنْهُ (تَنْتفِي) لعدم مفيدها (بل الْجَوَاز) أَي جَوَاز النَّقْل بِالْمَعْنَى (لمن لَا يخل) بِشَيْء من مقاصده (لفقهه قَالُوا) أَي المانعون أَيْضا: النَّقْل بِالْمَعْنَى (يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَال) بمقصود الحَدِيث (بِتَكَرُّر النَّقْل كَذَلِك) أَي بِالْمَعْنَى: يَعْنِي تجوزيه ينجر إِلَى التّكْرَار، وَفِي كل مرّة يحصل تَغْيِير لاخْتِلَاف الإفهام فيؤل إِلَى تَغْيِير فَاحش مفوت للمقصود (أُجِيب بِأَن) تَقْيِيد (الْجَوَاز) للنَّقْل بِالْمَعْنَى (بِتَقْدِير عَدمه) أَي عدم الْإِخْلَال بِالْمَقْصُودِ (يَنْفِيه) . قَالَ الشَّارِح: أَي أَدَاء النَّقْل بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ خلاف الْفَرْض انْتهى، وَلَا يفهم لَهُ معنى. فِي الشَّرْح العضدي الْجَواب أَن فرض تَغْيِير مَا فِي كل مرّة مِمَّا لَا يتَصَوَّر فِي مَحل النزاع، فَإِن الْكَلَام فِيمَن نقل الْمَعْنى سَوَاء من غير تَغْيِير أصلا، وَإِلَّا لم يجز اتِّفَاقًا. وَفِيه قد اخْتلف فِي جَوَاز نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، والنزاع فِيمَن هُوَ عَارِف بمواقع الْأَلْفَاظ، وَأما غَيره فَلَا يجوز مِنْهُ اتِّفَاقًا انْتهى: فَالْمَعْنى انْتَفَى مَا ذكر من التأدية إِلَى الاخلال(3/101)
مسئلة
(الْمُرْسل قَول الإِمَام) من أَئِمَّة النَّقْل وَهُوَ من لَهُ أَهْلِيَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل (الثِّقَة قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَذَا مقول القَوْل " (مَعَ حذف من السَّنَد، وتقييده) أَي الْقَائِل أَو الإِمَام الْقَائِل (بالتابعي أَو الْكَبِير مِنْهُم) أَي التَّابِعين كَعبد الله بن عدي وَقيس بن أبي حَازِم (اصْطِلَاح) من الْمُحدثين (فَدخل) فِي التَّعْرِيف (الْمُنْقَطع) بالاصطلاح الْمَشْهُور للمحدثين: وَهُوَ مَا سقط من رُوَاته قبل الصَّحَابِيّ راو أَو اثْنَان فَصَاعِدا من مَوضِع وَاحِد (والمعضل) الْمَشْهُور عِنْدهم، وَهُوَ مَا سقط مِنْهُ اثْنَان فَصَاعِدا من مَوضِع وَاحِد (وَتَسْمِيَة قَول التَّابِعِيّ مُنْقَطِعًا) كَمَا عَن الْحَافِظ البرديجي (خلاف الِاصْطِلَاح الْمَشْهُور فِيهِ) أَي الْمُنْقَطع (وَهُوَ) أَي قَول التَّابِعِيّ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ هُوَ (الْمَقْطُوع) كَمَا ذكره الْخَطِيب وَغَيره (فَإِن كَانَ) الْمُرْسل صحابيا (فَحكى الِاتِّفَاق على قبُوله لعدم الِاعْتِدَاد بقول) أبي إِسْحَاق (الاسفرايني) لَا يحْتَج بِهِ (وَمَا عَن الشَّافِعِي من نَفْيه) أَي نفي قَوْله (إِن علم إرْسَاله) أَي الصَّحَابِيّ عَن غَيره كَمَا نقل عَنهُ فِي الْمُعْتَمد، وَلعدم الِاعْتِدَاد بِهَذَا أَيْضا فِي أصُول فَخر الْإِسْلَام بعد حِكَايَة الْإِجْمَاع على قبُول مُرْسل الصَّحَابِيّ، وَتَفْسِير ذَلِك أَن من الصَّحَابَة من كَانَ من الفتيان قلت صحبته، وَكَانَ يرْوى عَن غَيره من الصَّحَابَة فَإِذا أطلق الرِّوَايَة فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ذَلِك مِنْهُ مَقْبُولًا وَإِن احْتمل الْإِرْسَال، لِأَن من ثبتَتْ صِحَّته لم يحمل حَدِيثه الْأَعْلَى سَمَاعه بِنَفسِهِ إِلَّا أَن يُصَرح بالرواية عَن غَيره انْتهى (أَو) كَانَ الْمُرْسل (غَيره) أَي غير الصَّحَابِيّ (فالأكثر) أَي فمذهب أَكثر الْعلمَاء (مِنْهُم الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة إِطْلَاق الْقبُول، والظاهرية وَأكْثر) أهل (الحَدِيث من عهد الشَّافِعِي إِطْلَاق الْمَنْع، وَالشَّافِعِيّ) قَالَ (أَن عضد بِإِسْنَاد أَو إرْسَال مَعَ اخْتِلَاف الشُّيُوخ) من الْمُرْسلين (أَو قَول الصَّحَابِيّ أَو أَكثر الْعلمَاء أَو عرف) الْمُرْسل (أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة قبل، وَإِلَّا) أَي وَأَن لم يُوجد أحد هَذِه الْخَمْسَة (لَا) يقبل (قيل وَقَيده) أَي الشَّافِعِي قبُوله مَعَ كَونه معتضدا بِمَا ذَكرْنَاهُ أَيْضا (بِكَوْنِهِ) أَي الْمُرْسل (من كبار التَّابِعين وَلَو خَالف الْحفاظ فبالنقص) أَي بِكَوْن حَدِيثه أنقص، ذكره الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ عَن نَص الشَّافِعِي (وَابْن أبان) يقبل (فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَفِيمَا بعْدهَا إِذا كَانَ) الْمُرْسل (من أَئِمَّة النَّقْل وروى الْحفاظ مرسله كَمَا رووا مُسْنده، وَالْحق اشْتِرَاط كَونه من أَئِمَّة النَّقْل مُطلقًا) أَي فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة وَمَا بعْدهَا (لنا) فِي قبُول الْمُرْسل من أَئِمَّة الشَّأْن (جزم الْعدْل بِنِسْبَة الْمَتْن إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله قَالَ: يسْتَلْزم اعْتِقَاد ثِقَة الْمسْقط) وَإِلَّا كَانَ تلبيسا قادحا فِيهِ، وَالْفَرْض انتقاؤه (وَكَونه) أَي الْمُرْسل (من أَئِمَّة الشَّأْن قوى الظُّهُور فِي الْمُطَابقَة) أَي فِي مُطَابقَة الْخَبَر للْوَاقِع أَو فِي مُطَابقَة اعْتِقَاده ثِقَة الْمسْقط للْوَاقِع(3/102)
وَهُوَ الْأَوْجه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَقد ثِقَة الْمسْقط (لم يكن عدلا إِمَامًا) وَالْأَوْجه أَن الْمَعْنى إِن لم يعْتَقد ثقته اعتقادا مطابقا يلْزم أحد الْأَمريْنِ: عدم الْعَدَالَة إِن لم يعْتَقد وَعدم كَونه إِمَامًا إِن اعْتقد وَلم يكن مطابقا (وَلذَا) أَي لاستلزام جزمه ذَلِك (حِين سُئِلَ النَّخعِيّ الْإِسْنَاد إِلَى عبد الله) أَي لما قَالَ الْأَعْمَش لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: إِذا رويت حَدِيثا عَن عبد الله بن مَسْعُود فاسنده لي (قَالَ إِذا قلت حَدثنِي فلَان عَن عبد الله فَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ، فَإِذا قلت قَالَ عبد الله فَغير وَاحِد) أَي فقد رَوَاهُ غير وَاحِد، وَهَذَا كِنَايَة عَن كَثْرَة الروَاة (وَقَالَ الْحسن مَتى قلت لكم حَدثنِي فلَان فَهُوَ حَدِيثه) لَا غير (وَمَتى قلت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن سبعين) سمعته أَو أَكثر (فأفادوا أَن إرسالهم عِنْد الْيَقِين أَو قريب مِنْهُ فَكَانَ) الْمُرْسل (أقوى من الْمسند وَهُوَ) أَي كَونه أقوى مِنْهُ (مُقْتَضى الدَّلِيل، فَإِن قيل تحقق من الْأَئِمَّة كسفيان) الثَّوْريّ (وَبَقِيَّة تَدْلِيس التَّسْوِيَة) كَمَا سلف (وَهُوَ) أَي إرْسَال من تحقق فِيهِ هَذَا التَّدْلِيس (مشمول بدليلكم) الْمَذْكُور (قُلْنَا نلتزمه) أَي شُمُول الدَّلِيل لَهُ، ونقول بحجيته جملا على أَنه لم يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة (ووقف مَا أَوْهَمهُ إِلَى الْبَيَان) أَي جعل الِاحْتِجَاج بِمَا أوهم التَّدْلِيس من حَدِيث الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين مَوْقُوفا إِلَى أَن يبين إرْسَاله عَن ثِقَة أَولا (قَول النافين) حجَّة الْمُرْسل (أَو مَحَله) أَي الْوَقْف (الِاخْتِلَاف) أَي اخْتِلَاف حَال المدلس بِأَن علم تَارَة أَنه يحذف المضعف عِنْد الْكل، وَتارَة يحذف المضعف عِنْد غَيره إِلَى غير ذَلِك (بِخِلَاف الْمُرْسل) فَإِنَّهُ يجد الحكم فِيهِ بِأَن الْمَحْذُوف لَيْسَ مجمعا على ضعفه بل ثِقَة أَو من يَعْتَقِدهُ الإِمَام الحاذف أَنه ثِقَة (وَاسْتدلَّ) للمختار فَقيل (اشْتهر إرْسَال الْأَئِمَّة كالشعبي وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَغَيرهم و) اشْتهر (قبُوله) أَي قبُول مرسلهم (بِلَا نَكِير فَكَانَ) قبُوله بِلَا نَكِير (إِجْمَاعًا، لَا يُقَال لَو كَانَ) قبُوله إِجْمَاعًا (لم يجز خِلَافه) لكَونه خرقا للْإِجْمَاع، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ اتِّفَاقًا، لأَنا نقُول لَا نسلم (لِأَن ذَلِك) أَي عدم جَوَاز الْخلاف إِنَّمَا هُوَ (فِي) الْإِجْمَاع (الْقطعِي) وَهنا ظَنِّي لِأَنَّهُ سكوتي (لَكِن ينْقض) هَذَا الْإِجْمَاع الْحَاصِل من قبولهم بِلَا نَكِير (بقول ابْن سِيرِين لَا نَأْخُذ بمراسيل الْحسن وَأبي الْعَالِيَة فَإِنَّهُمَا لَا يباليان عَمَّن أخذا الحَدِيث) يَعْنِي يروون الحَدِيث عَن الثِّقَة وَغَيره (وَهُوَ) أَي عدم مبالاتهما الْمَذْكُور (وَإِن لم يسْتَلْزم) إرسالهما عَن غير ثِقَة (إِذْ اللَّازِم) لدَلِيل الْقَائِل بالمرسل (أَن الإِمَام الْعدْل لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة وَلَا يسْتَلْزم) كَونه لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة (أَن لَا يَأْخُذ إِلَّا عَنهُ) أَي عَن ثِقَة إِذْ فِي الْأَخْذ عَن غير الثِّقَة، وَذكر عِنْد الرِّوَايَة يكون الْعهْدَة على الْمَرْوِيّ عَنهُ بِخِلَاف الْإِرْسَال فَإِن الْعهْدَة فِيهِ على الْمُرْسل، ثمَّ قَوْله: وَهُوَ مُبْتَدأ خَبره (ناف للْإِجْمَاع) إِذْ لَا إِجْمَاع مَعَ مُخَالفَة ابْن سِيرِين (فَهُوَ) أَي نقل الْإِجْمَاع على قبُوله (خطأ) وَإِن كَانَ مخالفه خطأ لِأَنَّهُ علل بِمَا لَا يصلح(3/103)
مَانِعا، كَيفَ وَالْعدْل إِن أَخذ من غير ثِقَة فَهُوَ ثِقَة يُبينهُ إِذا روى وَلَا يُرْسل لِأَنَّهُ عثر فِي الدّين وَاحْتج (الْأَكْثَر) لقبوله (بِهَذَا) الْإِجْمَاع، وَقد عرفت مَا فِيهِ (وَبِتَقْدِير تَمَامه) أَي الْإِجْمَاع (لَا يفيدهم) أَي الْأَكْثَرين (تعميما) فِي أَئِمَّة النَّقْل وَغَيرهم، فَإِن الْمَذْكُورين من أَئِمَّة النَّقْل فَلم يجب فِي غَيرهم، وَالْمُدَّعِي قبُول إرْسَال الإِمَام الثِّقَة سَوَاء كَانَ من أَئِمَّة النَّقْل أَولا (و) أَيْضا احْتج الْأَكْثَر (بِأَن رِوَايَة الثِّقَة) الْعدْل عَمَّن أسْقطه (تَوْثِيق لمن أسْقطه) لَا أَنه الظَّاهِر من حَاله فَيقبل كَمَا لَو صرح بالتعديل (وَدفع) هَذَا (بِأَن ظُهُور مُطَابقَة ظن الْجَاهِل) بِحَال السَّاقِط فِي نفس الْأَمر (ثِقَة السَّاقِط مُنْتَفٍ) إِذْ جَهله بِحَالهِ يمْنَع اعْتِبَار توثيقه: يَعْنِي إِنَّمَا يعْتَبر تَوْثِيق الْعدْل إِذا كَانَ من أَئِمَّة النَّقْل لِأَنَّهُ تَوْثِيق من إِمَام عَالم بأحوال الروَاة، وَالظَّاهِر كَونه مطابقا لكَون السَّاقِط ثِقَة فِي الْوَاقِع، وَأما إِذا لم يكن عَالما بهَا فَلَا عِبْرَة بظنه ثِقَة فَانْتفى ظُهُور مُطَابقَة ظَنّه ذَلِك (وَلَعَلَّ التَّفْصِيل) فِي الْمُرْسل بَين كَونه من الْأَئِمَّة فَيقبل وَإِلَّا فَلَا (مُرَاد الْأَكْثَر من الْإِطْلَاق) لقبُول الْمُرْسل (بِشَهَادَة اقْتِصَار دليلهم) للقبول (على الْأَئِمَّة) أَي على ذكر إرسالهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَادهم هَذَا التَّفْصِيل (فبعيد قَوْلهم بتوثيق من لَا يعول على علمه، وَمثله) أَي مثل هَذَا الْإِطْلَاق وَإِرَادَة الْمُفِيد (من أَوَائِل الْأَئِمَّة كثير) فَلَا يكون الْأَكْثَر مذهبا غير الْمفصل (النافون) لقبوله قَالُوا أَولا الْإِرْسَال (يسْتَلْزم جَهَالَة الرَّاوِي) عينا وَصفَة (فَيلْزم) من قبُول الْمُرْسل (الْقبُول مَعَ الشَّك) فِي عَدَالَة الرَّاوِي، إِذْ لَو سُئِلَ هَل هُوَ عدل لجَاز أَن يَقُول لَا كَمَا يجوز أَن يَقُول نعم، كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَفِيه مَا فِيهِ (قُلْنَا ذَلِك) أَي الاستلزام الْمَذْكُور (فِي غير أَئِمَّة الشَّأْن) وَأما الْأَئِمَّة فَالظَّاهِر أَنهم لَا يجزمون بقول السَّاقِط إِلَّا بعد علمهمْ بِكَوْنِهِ ثِقَة (قَالُوا) ثَانِيًا فَحَيْثُ يجوز الْعَمَل بالمرسل (فَلَا فَائِدَة للإسناد) فَيلْزم اتِّفَاقهم على ذكره عينا (قُلْنَا) الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة (بل يلْزم الْإِسْنَاد فِي غير الْأَئِمَّة ليقبل) مرويه، لأَنا لَا نقبل مَرْوِيّ غَيرهم إِلَّا بِالْإِسْنَادِ فالفائدة فِي حَقهم قبُول روايتهم (و) الْفَائِدَة (فِي الْأَئِمَّة إِفَادَة مرتبته) أَي الرَّاوِي الْمَنْقُول عَنهُ (للترجيح) عِنْد التَّعَارُض بِأَن يكون أَحدهمَا أفقه وأوثق إِلَى ذَلِك، فَهَذَا فَائِدَة الْإِسْنَاد فِي الْأَئِمَّة (و) الْفَائِدَة الْأُخْرَى (رفع الْخلاف) فِي قبُول الْمُرْسل ورده إِذْ لَا خلاف فِي الْمسند (و) الْفَائِدَة الْأُخْرَى (فحص الْمُجْتَهد بِنَفسِهِ) عَن حَال الرَّاوِي (إِن لم يكن مَشْهُورا) بِالْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَة، الضَّمِير فِي لم يكن رَاجع إِلَى الرَّاوِي لَا الْمُرْسل كَمَا زعم الشَّارِح، إِذْ الْمَعْنى حِينَئِذٍ استلزم وَلم يُرْسل لعدم شهرة الْمُرْسل وَعدم شهرته يسْتَلْزم كَونه من غير الْأَئِمَّة، وَقد عرفت عدم قبُول إرْسَال غير الْأَئِمَّة فالإسناد للقبول، وَقَوله (لينال) الْمُجْتَهد (ثَوَابه) أَي الِاجْتِهَاد (ويقوى ظَنّه) بِصِحَّة الْمَرْوِيّ، فَإِن الظَّن الْحَاصِل بفحصه أقوى من الظَّن الْحَاصِل بفحص غَيره يدل على أَن الْإِسْنَاد لنيل الثَّوَاب وَقُوَّة الظَّن فيهمَا تدافع (قَالُوا) ثَالِثا (لَو تمّ) القَوْل بِقبُول الْمُرْسل (قبل(3/104)
فِي عصرنا) أَيْضا لوُجُود الْعلَّة الْمُوجبَة للقبول من السّلف فِي عدل كل عصر (قُلْنَا نلتزمه) أَي قبُول الْمُرْسل فِي كل عصر (إِذا كَانَ) الْمُرْسل (من الْعُدُول وأئمة الشَّأْن) وَلَا يقبل إِذا لم يكن كَذَلِك. قَالَ (الشَّافِعِي إِن لم يكن) ذَلِك (العاضد) وَهُوَ مَا سبق من الْأُمُور الْخَمْسَة المفاد بقوله إِن عضدنا بِإِسْنَاد أَو إرْسَال إِلَى آخِره (لم يحصل الظَّن، وَهُوَ) أَي عدم حُصُول الظَّن عِنْد انْتِفَاء ذَلِك العاضد (مَمْنُوع بل) الظَّن حَاصِل (دونه) أَي دون ذَلِك العاضد (مِمَّا ذكرنَا) من جزم الْعدْل بنسبته الخ (وَقد شوحح) أَي نُوقِشَ الشَّافِعِي بقوله باعتضاد الْمُرْسل بمرسل آخر أَو بِمُسْنَد (فَقيل ضم غير الْمسند) إِلَى الْمُرْسل (ضم) خبر (غير مَقْبُول إِلَى) خبر (مثله) فِي عدم الْقبُول فَلَا يُفِيد الظَّن لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَّهم (فَلَا يُفِيد) الظَّن فَكَذَلِك الْمَجْمُوع (وَفِي) ضم (الْمسند) إِلَى الْمُرْسل (الْعَمَل بِهِ) أَي بالمسند (حِينَئِذٍ) لَا بالمرسل فالظن إِنَّمَا يحصل بالمسند لَا بِغَيْرِهِ (وَدفع الأول) وَهُوَ أَن ضم غير مَقْبُول إِلَى مثله لَا يُفِيد (بِأَن الظَّن قد يحصل عِنْده) أَي عِنْد الضَّم والتركيب مَعَ أَنه لَا يحصل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا مُنْفَردا (كَمَا يقوى) الظَّن (بِهِ) أَي بِالضَّمِّ (لَو كَانَ حَاصِلا قبله) أَي قبل الضَّم لكَون المنضم إِلَيْهِ مُفِيدا (وَقدمنَا نَحوه فِي تعدد طرق الضَّعِيف) بِغَيْر الْفسق مَعَ الْعَدَالَة (قيل وَالثَّانِي) أَي كَون الْعَمَل بالمسند إِذا انْضَمَّ إِلَى الْمُرْسل (وَارِد) قَائِله ابْن الْحَاجِب (وَالْجَوَاب) عَن الثَّانِي ردا على قَوْله وَارِد (بِأَن الْمسند يبين صِحَة إِسْنَاد) الْمُرْسل الأول فَيحكم لَهُ) أَي للمرسل (مَعَ إرْسَاله) أَي مَعَ كَونه مُرْسلا (بِالصِّحَّةِ) صلَة الحكم، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الصِّحَّة الْمُعْتَبرَة فِي الصَّحِيح عِنْد الْمُحدثين بل الثُّبُوت والاحتجاج بِهِ اتِّفَاقًا ذكره ابْن الصّلاح (وَدفع) هَذَا الْجَواب. قَالَ الشَّارِح دافعه الشَّيْخ سراج الدّين الْهِنْدِيّ (بِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزم) تبين صِحَة الْإِسْنَاد الَّذِي فِيهِ الْإِرْسَال بالمسند (لَو كَانَ) الْإِسْنَاد فِي كليهمَا (وَاحِدًا ليَكُون الْمَذْكُور إِظْهَارًا للساقط وَلم يقصره) الشَّافِعِي: أَي أعضاد الْمُرْسل بالمسند (عَلَيْهِ) أَي على كَون الْإِسْنَاد فِي كليهمَا وَاحِدًا فَيتَنَاوَل مَا إِذا تعذر إسنادهما وَلَا يلْزم من صِحَة الحَدِيث بِإِسْنَاد صِحَّته بِإِسْنَاد آخر، (وَأجِيب أَيْضا بِأَنَّهُ يعْمل بالمرسل وَإِن لم تثبت عَدَالَة رُوَاة الْمسند أَو) يعْمل بالمرسل (بِلَا الْتِفَات إِلَى تعديلهم) أَي رُوَاة الْمسند (بِخِلَاف مَا لَو كَانَ الْعَمَل بِهِ) أَي بالمسند (ابْتِدَاء) فَإِنَّهُ إِنَّمَا يعْمل بِهِ بعد ثُبُوت عَدَالَة رُوَاته (وَاعْلَم أَن عبارَة الشَّافِعِي لم تنص على اشْتِرَاط عدالتهم) أَي رُوَاة الْمسند (وَهِي) أَي عِبَارَته (قَوْله) والمنقطع مُخْتَلف، فَمن شَاهد أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّابِعين فَحدث حَدِيثا مُنْقَطِعًا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتبر عَلَيْهِ بِأُمُور مِنْهَا أَن ينظر إِلَى مَا أرسل من الحَدِيث (فَإِن شركه الْحفاظ المأمونون فَأَسْنَدُوهُ) بِمثل معنى مَا روى (كَانَت) هَذِه (دلَالَة) على صِحَة من قيل عَنهُ وَحفظه (وَهَذِه الصّفة)(3/105)
فِي المخرجين (لَا توجب عِبَارَته ثُبُوتهَا فِي سندهم) . قَوْله وَهَذِه الصّفة الخ حَاصله الْفرق بَين المخرجين والرواة، فَإِن المخرجين مثل البُخَارِيّ وَمُسلم، والرواة الَّذين يذكرُونَ فِي السَّنَد أَنه يستنبط من قَول الشَّافِعِي أَن الموصوفين بِالْحِفْظِ وَالْأَمَانَة المخرجون، لِأَن الْإِسْنَاد يُضَاف إِلَيْهِم فِي عرف الْمُحدثين، وَكَون مخرج الحَدِيث حَافِظًا أَمينا لَا يستدعى كَون رِجَالهمْ بذكرهم فِي السَّنَد على هَذَا الْوَصْف، فغاية مَا يلْزم من عبارَة الشَّافِعِي اشْتِرَاط الصّفة الْمَذْكُورَة فِي مخرج مُسْند شَارك الْمُرْسل فِي معنى حَدِيثه لَا فِي رُوَاة حَدِيثه الْمُتَّصِل (وَكَأن الْإِيرَاد) الَّذِي قَرَّرَهُ ابْن الْحَاجِب (بِنَاء على اشْتِرَاط الصِّحَّة) أَي صِحَة السَّنَد فِي الْمسند المعاضد (وَالْجَوَاب حِينَئِذٍ) أَي حِين يشْتَرط فِيهِ الصِّحَّة أَن يُقَال (صيررتهما) أَي الْمسند والمرسل (دَلِيلين) وَإِن لم يكن أَحدهمَا حجَّة بِنَفسِهِ (قد يُفِيد فِي الْمُعَارضَة) بِأَن يرجح بهما عِنْد مُعَارضَة دَلِيل وَاحِد، فَمَعْنَى قَول الشَّافِعِي الْمُرْسل عِنْد الاعتضاد بِهِ أحد اعْتِبَاره للترجيح. وَأما تحسينه إرْسَال ابْن الْمسيب فَفِيهِ قَولَانِ لأَصْحَابه: أَحدهمَا أَن مراسليه فتشت فَوجدت مُسندَة وَالثَّانِي أَنه يرجح بهَا لكَونه من أكَابِر عُلَمَاء التَّابِعين. قَالَ الْخَطِيب: الصَّحِيح عندنَا الثَّانِي فعلى هَذَا لَا يخْتَص بِهِ، بل كل من يكون مثله يكون مرسله ترجح بِهِ (وَاعْلَم أَن من الْمُحَقِّقين) وَهُوَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (من أدرج) قَول الْمُحدث (عَن رجل فِي حكمه) أَي الْمُرْسل (من الْقبُول عِنْد قَابل الْمُرْسل، وَلَيْسَ) كَذَلِك (فَإِن تصريحه) أَي الْمُحدث (بِهِ) أَي بِمن روى عَنهُ حَال كَونه (مَجْهُولا لَيْسَ كتركه) أَي من روى عَنهُ من حَيْثُ أَنه (يسْتَلْزم توثيقه) هَكَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح. وَفِي نُسْخَة اعتمادي عَلَيْهَا ليستلزم توثيقه وَهَذَا أحسن (نعم يلْزم كَون) قَول الْمُحدث (عَن الثِّقَة تعديلا) بل كَونه فِي حكم الْمُرْسل أولى لتصريحه بالثقة فَقَوله حَدثنِي الْفَقِيه تَعْدِيل فَوق الْإِرْسَال عِنْد من يقبله (بِخِلَافِهِ) أَي قَوْله عَن الثِّقَة (عِنْد من يردهُ) أَي الْمُرْسل فَإِنَّهُ لَا يعتبره (إِلَّا إِن عرفت عَادَته أَي الْقَائِل عَن الثِّقَة (فِيهِ) أَي فِي قَوْله حَدثنِي (الثِّقَة) أَن يكون ذَلِك الشَّخْص ثِقَة فِي نفس الْأَمر فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يقبله من يرد الْمُرْسل (كمالك) أَي كَقَوْلِه حَدثنِي (الثِّقَة عَن بكير بن عبد الله بن الْأَشَج ظهر أَن المُرَاد) بالثقة (مخرمَة بن بكير) (و) قَوْله حَدثنِي (الثِّقَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب قيل) الثِّقَة (عبد الله بن وهب، وَقيل الزُّهْرِيّ) ذكره ابْن عبد الْبر (واستقرئ مثله) أَي إِطْلَاق الثِّقَة على من هُوَ ثِقَة فِي نفس الْأَمر (للشَّافِعِيّ) ذكره أَبُو الْحُسَيْن السجسْتانِي فِي كتاب فَضَائِل الشَّافِعِي سَمِعت بعض أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ يَقُول إِذا قَالَ الشَّافِعِي فِي كتبه: أخبرنَا الثِّقَة عَن ابْن أبي ذِئْب فَأَيْنَ أبي فديك؟ ، (وَلَا يخفى أَن رده) أَي عدم قبُول قَوْله حَدثنِي الثِّقَة إِذا لم يعرف عَادَته (يَلِيق بشارط الْبَيَان فِي التَّعْدِيل لَا الْجُمْهُور) الْقَائِلين بِأَن بَيَانه لَيْسَ بِشَرْط فِي حق الْعَالم بِالْجرْحِ وَالتَّعْدِيل.(3/106)
مسئلة
(إِذا أكذب الأَصْل) أَي الشَّيْخ (الْفَرْع) أَي الرَّاوِي عَنهُ (بِأَن حكم بِالنَّفْيِ) فَقَالَ مَا رويت هَذَا الحَدِيث لَك أَو كذب عَليّ (سقط ذَلِك الحَدِيث) أَي إِن لم يعلم بِهِ (للْعلم بكذب أَحدهمَا وَلَا معِين) لَهُ، وَهُوَ قَادِح فِي قبُول الحَدِيث (وَبِهَذَا) التَّعْلِيل (سقط اخْتِيَار السَّمْعَانِيّ) ثمَّ السُّبْكِيّ عدم سُقُوطه لاحْتِمَال نِسْيَان الأَصْل لَهُ بعد رِوَايَته للفرع (وَقد نقل الْإِجْمَاع لعدم اعْتِبَاره) أَي ذَلِك الحَدِيث: نَقله الشَّيْخ سراج الدّين الْهِنْدِيّ وَالشَّيْخ قوام الدّين الكاكي. قَالَ الشَّارِح: وَفِيه نظر فَإِن السَّرخسِيّ وفخر الْإِسْلَام وَصَاحب التَّقْوِيم حكوا فِي إِنْكَار الرَّاوِي رِوَايَته مُطلقًا اخْتِلَاف السّلف (وهما) أَي الأَصْل وَالْفرع (على عدالتهما إِذْ لَا يبطل الثَّابِت) أَي الْمُتَيَقن من عدالتهما (بِالشَّكِّ) فِي زَوَالهَا (وَإِن شكّ) الأَصْل (فَلم يحكم بِالنَّفْيِ) بل قَالَ لَا أعرف أَنِّي رويت هَذَا الحَدِيث وَلَا أذكرهُ (فالأكثر) من الْعلمَاء: مِنْهُم مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ على أَن الحَدِيث (حجَّة) أَي يعْمل بِهِ (وَنسب لمُحَمد خلافًا لأبي يُوسُف تخريجا من اخْتِلَافهمَا فِي قَاض تقوم الْبَيِّنَة بِحكمِهِ وَلَا يذكر) ذَلِك القَاضِي حكمه الَّذِي قَامَت الْبَيِّنَة بِهِ (ردهَا) أَي الْبَيِّنَة (أَبُو يُوسُف) فَلَا ينفذ حكمه (وَقبلهَا مُحَمَّد) فَينفذ (وَنسبَة بَعضهم الْقبُول لأبي يُوسُف غلط) لِأَن المسطور فِي الْكتب إِنَّمَا هُوَ الأول (وَلم يذكر فِيهَا) أَي فِي مسئلة القَاضِي الْمُنكر لحكمه (قَول لأبي حنيفَة فضمه مَعَ أبي يُوسُف يحْتَاج إِلَى ثَبت، وعَلى الْمَنْع الْكَرْخِي وَالْقَاضِي أَبُو زيد وفخر الْإِسْلَام وَأحمد فِي رِوَايَة الْقَابِل) للرواية مَعَ الأَصْل قَالَ (الْفَرْع عدل جازم) بالرواية عَن الأَصْل (غير مكذب) لِأَن الْفَرْض شكّ الأَصْل لَا تَكْذِيبه (فَيقبل) لوُجُود الْمُقْتَضى وَعُمُوم الْمَانِع (كموت الأَصْل وجنونه) إِذْ نسيانه لَا يزِيد عَلَيْهِمَا بل دونهمَا قطعا، كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَفِيه مَا فِيهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَيفرق) بَينهمَا وَبَينه (بِأَن حجيته) أَي الحَدِيث (بالاتصال بِهِ) . وَفِي نُسْخَة مِنْهُ (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبنفي معرفَة الْمَرْوِيّ عَنهُ لَهُ) أَي للمروي (ينتفى) الِاتِّصَال (وَهُوَ) أَي انْتِفَاء الِاتِّصَال (مُنْتَفٍ فِي الْمَوْت) وَالْجُنُون، وَقد يُقَال: لَا نسلم الانتفاء فِي النسْيَان، لِأَن أَخْبَار الْعدْل أثبت وجود الِاتِّصَال وَلَا مكذب لَهُ، وَلَا يشْتَرط فِي الِاتِّصَال دوَام استحضار الرَّاوِي إِيَّاه (وَالِاسْتِدْلَال بِأَن سهيلا بعد أَن قيل لَهُ حدث عَنْك ربيعَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين فَلم يعرفهُ صَار يَقُول: حَدثنِي ربيعَة عني) كَمَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه وَغَيره (دفع بِأَنَّهُ غير مُسْتَلْزم للمطلوب وَهُوَ وجوب الْعَمَل) بِهِ فَإِن ربيعَة لم ينْقل ذَلِك على طَريقَة إِسْنَاد الحَدِيث وَتَصْحِيح رِوَايَته وَإِنَّمَا(3/107)
كَانَ يَقُوله على طَريقَة حِكَايَة الْوَاقِعَة (وَلَو سلم) استلزامه لَهُ على رَأْيه (فَرَأى سُهَيْل كَغَيْرِهِ) أَي كرأي غَيره، فَلَا يكون رَأْيه حجَّة على غَيره (وَلَو سلم) كَون رَأْيه حجَّة على غَيره (فعلى الْجَازِم) لصِحَّة هَذَا النَّقْل عَن سُهَيْل (فَقَط) لَا عُمُوم النَّاس (قَالُوا) أَي النافون للْعَمَل بِهِ (قَالَ عمار لعمر: أَتَذكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذْ أَنا وَأَنت فِي سَرِيَّة فأجنبنا فَلم نجد المَاء فَأَما أَنْت فَلم تصل، وَأما أَنا فتمعكت وَصليت، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا يَكْفِيك ضربتان فَلم يقبله عمر) مَعْنَاهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَسنَن أبي دَاوُد، وَإِنَّمَا لم يقبله (إِذْ كَانَ نَاسِيا لَهُ) فَإِنَّهُ لَا يظنّ بِعَمَّار الْكَذِب وَلَا بعمر عدم الْقبُول (ورد بِأَنَّهُ) أَي هَذَا الْمَأْثُور عَن عمار وَعمر (فِي غير مَحل النزاع فَإِن عمارا لم يرو عَن عمر) ذَلِك، بل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ورد) هَذَا الرَّد (بِأَن عدم تذكر غير الْمَرْوِيّ عَنهُ) وَهُوَ عمر هَهُنَا (الْحَادِثَة الْمُشْتَركَة) بَينه وَبَين الرَّاوِي لَهَا (إِذا منع قبُول) الحكم (الْمَبْنِيّ عَلَيْهَا) أَي على رِوَايَة تِلْكَ الْحَادِثَة (فنسيان الْمَرْوِيّ عَنهُ) وَهُوَ الشَّيْخ (أصل رِوَايَته لَهُ أولى) أَن يمْنَع قبُول حكمه من ذَلِك، لِأَن غير الْمَرْوِيّ عَنهُ لَيْسَ أصلا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِوَايَته بِخِلَاف هَذَا (فَالْوَجْه رده) تَفْرِيع على رد الرَّاوِي، الْوَجْه أَن قَوْله فِي غير مَحل النزاع مَرْدُود لِأَنَّهُ إِذا لزم مِنْهُ مَحل النزاع بطرِيق أولى كَانَ أَدخل فِي الْقَصْد، أَو الْمَعْنى رد مثل هَذَا الحَدِيث الَّذِي أنكرهُ الأَصْل، وأرجع الشَّارِح ضمير رده إِلَى عمر، وَلَا معنى لَهُ (لَكِن لَا يلْزم الرَّاوِي) أَن لَا يعْمل بروايته لِأَن غَايَة مَا يلْزم من الْأَثر الْمَذْكُور أَن عمر لم يقبل مَا رَوَاهُ عمار بِحَسب مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَاده، وَذَلِكَ لَا يسْتَلْزم عدم كَونه مَقْبُولًا عِنْد غَيره (لدَلِيل الْقبُول) أَي لقِيَام دَلِيل قبُوله فِي حَقه حَيْثُ جزم بِصِحَّة هَذِه الْحَادِثَة وَلزِمَ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ جَوَاز التَّيَمُّم لمن ابتلى بِمثل تِلْكَ الْحَادِثَة فِيمَا نَحن فِيهِ (وَأما) قَول النافين للْعَمَل بِهِ (لم يصدقهُ) أَي الأَصْل الْفَرْع (فَلَا يعْمل بِهِ كشاهد الْفَرْع عِنْد نِسْيَان الأَصْل) بِجَامِع الفرعية وَالنِّسْيَان (فَيدْفَع بِأَنَّهَا) أَي الشَّهَادَة (أضيق) من الرِّوَايَة، وَلذَا اشْترطت بشرائط لم تشْتَرط فِي الرِّوَايَة، وَقد مر غير مرّة (و) شَهَادَة الْفَرْع (متوقفة على تحميل الأَصْل) الْفَرْع لَهَا فَتبْطل شَهَادَة الْفَرْع (بإنكاره) أَي الأَصْل الشَّهَادَة (بِخِلَاف الرِّوَايَة) فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة على السماع دون التحميل وَهَذَا إِنَّمَا يتم عِنْد من شَرط التحميل فِي شَهَادَة الْفَرْع كالحنفية وَأما من لم يَشْتَرِطه كالشافعية فَلَا يتم عِنْده.
مسئلة
(إِذا انْفَرد الثِّقَة) من بَين ثقاة رووا حَدِيثا (بِزِيَادَة) على ذَلِك الحَدِيث (وَعلم اتِّحَاد الْمجْلس(3/108)
بِسَمَاعِهِ وسماعهم ذَلِك الحَدِيث (وَمن مَعَه) أَي الثِّقَة الْمَذْكُور فِي ذَلِك الْمجْلس (لَا يغْفل مثلهم عَن مثلهَا) أَي تِلْكَ الزِّيَادَة (عَادَة لم تقبل) تِلْكَ الزِّيَادَة (لِأَن غلطه) أَي الْمُنْفَرد بهَا (وهم) أَي وَالْحَال أَن من مَعَه (كَذَلِك) أَي لَا يغْفل مثلهم عَن مثلهَا (أظهر الظاهرين) من غلطه وغلطهم، لِأَن احْتِمَال تطرق الْغَلَط إِلَيْهِ أولى من احْتِمَال تطرقه إِلَيْهِم، وَيحْتَمل أَنه سَمعهَا من الْمَرْوِيّ عَنهُ والتبس عَلَيْهِ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن كَانَ مثلهم يغْفل عَن مثلهَا (فالجمهور) من الْفُقَهَاء والمحدثين والمتكلمين (وَهُوَ الْمُخْتَار) تقبل تِلْكَ الزِّيَادَة، وَعَن أَحْمد فِي رِوَايَة بعض الْمُحدثين لَا (تقبل لنا) أَن راويها (ثِقَة جازم) بروايتها (فَوَجَبَ قبُوله) كَمَا لَو انْفَرد بِرِوَايَة حَدِيث، (قَالُوا) أَي نافو قبُولهَا راويها (ظَاهر الْوَهم لنفي المشاركين) لَهُ فِي السماع والمجلس (المتوجهين لما توجه لَهُ) (قُلْنَا إِن كَانُوا) أَي نافوها (من تقدم) أَي من لَا يغْفل مثلهم عَن مثلهَا عَادَة (فَمُسلم) كَونه ظَاهر الْوَهم فَلَا يقبل، وَلَكِن لَيْسَ هَذَا مَحل النزاع (وَإِلَّا) بِأَن كَانُوا غير من تقدم (فاظهر مِنْهُ) أَي من كَونه ظَاهر الْوَهم (عَدمه) أَي عدم كَونه ظَاهر الْوَهم (لِأَن سَهْو الْإِنْسَان فِي أَنه سمع وَلم يسمع) فِي نفس الْأَمر (بعيد) جدا وغفلة جمع مثلهم يغفلون لَيست بِتِلْكَ المثابة فِي الْبعد (بِخِلَاف مَا تقدم) من الشق الأول من كَونهم (إِذا كَانُوا من تبعد الْعَادة غفلتهم عَنهُ) فَإِن الْغَفْلَة من مثلهم أبعد من سَهْو ذَلِك الْمُنْفَرد فِي أَنه سمع وَلم يسمع (فقد علمت أَن حَقِيقَة الْوَجْهَيْنِ) بعد غَفلَة الْمُنْفَرد وَبعد غَفلَة من مَعَه فِي الْمجْلس فِي الشقين (ظاهران تَعَارضا فرجح) فِي الأول أَحدهمَا، وَفِي الثَّانِي الآخر لما عرفت (فَإِن تعدد الْمجْلس أَو جهل) تعدده (قبلت) الزِّيَادَة اتِّفَاقًا) لاحْتِمَال وُقُوع الزِّيَادَة فِي مجْلِس الِانْفِرَاد على التَّقْدِير (والإسناد مَعَ الْإِرْسَال زِيَادَة، وَكَذَا الرّفْع) لحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَعَ الْوَقْف) بِأَن وَقفه ثِقَة على الصَّحَابِيّ ثمَّ رَفعه آخر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالرفع أَيْضا حِينَئِذٍ يكون زِيَادَة (والوصل) لَهُ بِذكر الوسائط الَّتِي بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ثِقَة (مَعَ الْقطع) لَهُ ترك بَعْضهَا من ثِقَة أَيْضا زِيَادَة فيتأتى فِي كل مِنْهَا مَا يَتَأَتَّى فِي الزِّيَادَة من الحكم (خلافًا لمقدم الأحفظ) بِكَسْر الدَّال سَوَاء كَانَ هُوَ الْمُرْسل أَو الْمسند أَو الرافع أَو الْوَاقِف أَو الْوَاصِل أَو الْقَاطِع كَمَا هُوَ قَول بَعضهم (أَو الْأَكْثَر) كَذَلِك كَمَا هُوَ قَول بعض الْمُتَأَخِّرين (فَإِن قيل الْإِرْسَال وَالْقطع كالجرح فِي الحَدِيث) فَيَنْبَغِي أَن يقدما على الْإِسْنَاد والوصل كَمَا يقدم الْجرْح على التَّعْدِيل، (أُجِيب بِأَن تَقْدِيمه) أَي الْجرْح (لزِيَادَة الْعلم) فِي الْجرْح (لَا لذاته) أَي الْجرْح (وَذَلِكَ) أَي مزِيد الْعلم (فِي الْإِسْنَاد فَيقدم) على غَيره (وَهَذَا الْإِطْلَاق) عَن قيد عدم مُعَارضَة الأَصْل وَتعذر الْجمع لقبُول الزِّيَادَة المفاد بقوله: فالجمهور، وَقَوله فَإِن تعذر الْمجْلس (يُوجب قبُولهَا) أَي الزِّيَادَة سَوَاء كَانَت (من راو) وَاحِد (أَو أَكثر) من وَاحِد، الْمُتَبَادر من السِّيَاق أَن الْكَلَام فِي(3/109)
زِيَادَة انْفَرد بهَا الرَّاوِي من بَين الثِّقَات فَقَوله: أَو أَكثر بِاعْتِبَار اقْتِضَاء عِلّة الْقبُول التَّعْمِيم وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: من راو وَاحِد أَو أَكثر أَن يكون مَجْمُوع الأَصْل وَالزِّيَادَة من شخص وَاحِد أَو أَكثر (وَإِن عارضت) الزِّيَادَة (الأَصْل وَتعذر الْجمع) بَينهمَا بِأَن تكون تِلْكَ الزِّيَادَة مُغيرَة لما يدل عَلَيْهِ الأَصْل (وَهَذَا) معنى (مَا قيل غيرت الحكم) الثَّابِت بِالْأَصْلِ (أم لَا وَنقل فِيهِ) أَي هَذَا القَوْل (إِجْمَاع) أهل (الحَدِيث) ذكره ابْن طَاهِر (وَقيل فِي الْكتب الْمَشْهُورَة الْمَنْع) . قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَفِي الْكتب الْمَشْهُورَة أَنه إِن تعذر الْجمع بَين قبُول الزِّيَادَة وَالْأَصْل لم يقبل وَإِن لم يتَعَذَّر فَإِن تعدد الْمجْلس قبلت، وَإِن اتَّحد فَإِن كَانَت مَرَّات رِوَايَته للزِّيَادَة أقل لم يقبل إِلَّا أَن يَقُول سَهَوْت فِي تِلْكَ المرات وَإِن لم تكن أقل قبلت (وَهُوَ) أَي منع قبُول الزِّيَادَة الْمُعَارضَة مُطلقًا سَوَاء كَانَت من وَاحِد أَو أَكثر (مُقْتَضى حكم) أهل (الحَدِيث بِعَدَمِ قبُول الشاذ الْمُخَالف) لما رَوَاهُ الثِّقَات وَأَن رَاوِيه ثِقَة (بل أولى إِذْ مثلوه) أَي للشاذ الْمُخَالف (بِرِوَايَة الثِّقَة) وَهُوَ همام بن يحيى احْتج بِهِ أهل الحَدِيث (عَن ابْن جريج أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء وضع خَاتمه) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن (وَمن سواهُ) أَي الثِّقَة الْمَذْكُور إِنَّمَا روى (عَنهُ) أَي عَن جريج أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اتخذ خَاتمًا من ورق ثمَّ أَلْقَاهُ) كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد. قَالَ وَالوهم فِيهِ من همام وَلم يروه الإهمام، وَهُوَ متعقب بِأَن يحيى بن المتَوَكل الْبَصْرِيّ رَوَاهُ عَن ابْن جريج أَيْضا كَمَا أخرجه الْحَاكِم، وَلَيْسَ مَرْوِيّ الثِّقَة الْمَذْكُور بمعارض رِوَايَة غَيره. وَفِي نُسْخَة (مَعَ كَونه لم يُعَارض) لجَوَاز كَون قَوْله كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء إِلَى آخِره حِكَايَة مُدَّة كَانَت قبل الْإِلْقَاء، فَإِذا حكمُوا قبل بِعَدَمِ قبُول رِوَايَة الثِّقَة عَن ابْن جريج مَعَ كَونه غير معَارض لما رَوَاهُ الثِّقَات فَأولى أَن يرووا الزِّيَادَة الْمُعَارضَة لما رَوَاهُ الثِّقَات (وَإِن لم يتَعَذَّر) الْجمع (مَعَ جهل الِاتِّحَاد) للمجلس: أَي وَمَعَ وحدة الرَّاوِي (ومرات رِوَايَتهَا) أَي الزِّيَادَة (لَيست أقل من تَركهَا قبلت، وَإِلَّا لم تقبل إِلَّا أَن يَقُول سَهَوْت فِي مَرَّات الْحَذف، وَالْمَعْرُوف أَنه مَذْهَب فِي قبُولهَا) أَي الزِّيَادَة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَت مُخَالفَة أَولا (من) الرَّاوِي (الْوَاحِد) ذكر الشَّارِح فِي تَفْسِير ضمير أَنه: أَي هَذَا، وَلَا يفهم من هَذَا إِلَّا القَوْل الْأَخير، وَمَا يُسْتَفَاد من قَوْله وَإِن لم يتَعَذَّر إِلَى آخِره وَلَا يصلح شَيْء مِنْهُمَا: أما الأول فَظَاهر، لأم محصوله الْمَنْع لَا الْقبُول مُطلقًا، وَأما الثَّانِي فَهُوَ أحد شقي قَول لإتمامه وَلَيْسَ فِيهِ الْقبُول الْمُطلق لزِيَادَة راو وَاحِد كَمَا لَا يخفى، والتأويل الْبعيد لَا يرتضيه الطَّبْع السَّلِيم، فَالْوَجْه أَنه رَاجع إِلَى إِفَادَة بقوله، وَهَذَا الْإِطْلَاق يُوجب قبُولهَا من راو أَو أَكثر وَمَا بَينهمَا جمل مُعْتَرضَة فَذكر هُنَاكَ مقتضي الدَّلِيل وَهَهُنَا مَا هُوَ الْمَعْرُوف من اخْتِصَاص الْقبُول بِمَا إِذا كَانَ من راو وَاحِد (لَا بِقَيْد) إِطْلَاق قبُولهَا (مخالفتها) أَي الزِّيَادَة(3/110)
الأَصْل (ثمَّ مُوجب الدَّلِيل السَّابِق) وَهُوَ قَوْلنَا ثِقَة جازم (وَالْإِطْلَاق) الْمَذْكُور فِي نقل مَذْهَب الْجُمْهُور (قبُول) الزِّيَادَة (الْمُعَارضَة) مُطلقًا وَإِن تعذر الْجمع (أَي يسْلك التَّرْجِيح) تَفْسِير لما طوى ذكره لظُهُوره، يَعْنِي أَن تَقْدِيم أحد المعارضيين فِي بَاب الْمُعَارضَة بِشَيْء من المرجحات الْمَعْرُوفَة طَريقَة مسلوكة متعقبة أرادتها وَإِن لم يذكر (وَمِنْه) أَي من الْمَزِيد الْمعَارض أَو من هَذَا الْقَبِيل الزِّيَادَة (الْمُوجبَة نقصا مثل: وتربتها طهُورا) على مَا ظن بعد قَوْله وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا يدل على أَن قَوْله وَطهُورًا، فَإِن زِيَادَة تربَتهَا تنقص بِإِخْرَاج مَا عدا التُّرَاب مِمَّا يَشْمَلهُ جعلت لي الأَرْض طهُورا، وَإِنَّمَا قَالَ على مَا ظن لِأَن إِخْرَاج مَا عداهُ بِاعْتِبَار مَفْهُوم الْمُخَالفَة وَهُوَ غير مُعْتَبر عندنَا (والشاذ الْمَمْنُوع) أَي الْمَرْدُود هُوَ (الأول) أَي مَا انْفَرد بِالزِّيَادَةِ الكائنة فِي مجْلِس مُتحد لَهُ، وَيجمع فِي (مَا لَا يغْفل مثلهم) فِيهِ (عَنهُ) أَي عَن ذَلِك الْمَزِيد (وَعَلِيهِ) أَي قبُول الزِّيَادَة الْمُعَارضَة (جعل الْحَنَفِيَّة إِيَّاه) أَي مَجْمُوع الْمَزِيد وَالْأَصْل حَال كَونهمَا (من اثْنَيْنِ خبرين) مفعول ثَان للجعل (كنهيه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَن بيع الطَّعَام قبل الْقَبْض) كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا بِلَفْظ " من ابْتَاعَ طَعَاما فَلم يَبِعْهُ حَتَّى يقبضهُ ". (وَقَوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لعتاب بن أسيد) لما بَعثه إِلَى أهل مَكَّة (انههم عَن بيع مَا لم يقبضوا) رَوَاهُ أَبُو حنيفَة بِلَفْظ " مَا لم يقبض ". وَفِي سَنَده من لم يسم (أجروا) أَي الْحَنَفِيَّة (الْمُعَارضَة) بَينهمَا فَإِن قلت: فهم لَا يعتبرون مَفْهُوم الْمُخَالفَة فَلَا مُعَارضَة قلت مَعْنَاهُ: لَا يعتبرونه مدلولا للفظ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اعْتِبَاره بِالْقَرِينَةِ (ورجحوا) مَا لعتاب فان فِيهِ (زِيَادَة الْعُمُوم) لتنَاوله الطَّعَام وَغَيره لَكِن أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لم يعملا بِهِ فِي حق الْعقار لكَون النَّص معلولا بغرر الِانْفِسَاخ بِالْهَلَاكِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْعقار، لِأَن هَلَاكه نَادِر، والنادر لَا عِبْرَة بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا جَانب الْعُمُوم، وَلم يَقُولُوا: إِن المُرَاد من الْعُمُوم هَذَا الْخُصُوص (إِذْ لَا يحملون الْمُطلق على الْمُقَيد) فِي مثله على مَا مر فِي مبحثه (وَالْوَجْه فِيهِ) أَي فِي حَدِيث النَّهْي عَن بيع مَا لم يقبض، وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِيهِ (وَفِي تربَتهَا تعين الْعَام) وَهُوَ النَّهْي عَن بيع مَا لم يقبض وطهورية الأَرْض لإجراء الْمُعَارضَة ثمَّ التَّرْجِيح بِالْعُمُومِ لما سَيَأْتِي (وَيلْزم الشَّافِعِيَّة مثله) أَي تعْيين الْعَام وَعدم إِجْرَاء الْمُعَارضَة وَالتَّرْجِيح (لِأَنَّهُ) أَي مثل هَذِه الصُّورَة (من قبيل أَفْرَاد فَرد من الْعَام) كالطعام بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَرْض بِحكم الْعَام لَا بِحكم مُخَالف لحكمه (وَمن الْوَاحِد) مَعْطُوف على قَوْله اثْنَيْنِ: أَي وَجعل الْحَنَفِيَّة الزِّيَادَة وَالْأَصْل بِدُونِهَا إِذا كَانَ راويهما (وَاحِدًا) خَبرا (وَلزِمَ اعْتِبَارهَا) أَي الزِّيَادَة مُرَاده فِي الأَصْل (كَابْن مَسْعُود) كَمَا فِي رِوَايَة عَن ابْن مَسْعُود سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِذْ اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ) وَلم يكن لَهما بَيِّنَة(3/111)
(والسلعة قَائِمَة) فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو يترادان (وَفِي أُخْرَى) عَنهُ (لم تذكر) السّلْعَة، رَوَاهُمَا أَبُو حنيفَة لَكِن بِلَفْظ البيعان، والْحَدِيث فِي السّنَن غَيرهَا وَهُوَ بِمَجْمُوع طرقه حسن يحْتَج بِهِ، لَكِن فِي لَفظه اخْتِلَاف ذكره ابْن عبد الْهَادِي (فقيدوا) أَي الْحَنَفِيَّة إِطْلَاق حكم الْأُخْرَى الَّتِي لم تذكر فِيهَا من التخالف والتراد (بهَا) أَي بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَة وَهِي السّلْعَة قَائِمَة (حملا على حذفهَا فِي الْأُخْرَى نِسْيَانا بِلَا ذَلِك التَّفْصِيل) السَّابِق، وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ مَرَّات تِلْكَ الزِّيَادَة أقل من مَرَّات رِوَايَتهَا أَو مثلهَا قبلت، وَإِلَّا لَا تقبل إِلَّا أَن يَقُول: سَهَوْت فِي مَرَّات الْحَذف (وَهُوَ) أَي قَوْلهم هَذَا هُوَ (الْوَجْه) لِأَن عَدَالَته وَثِيقَة دَالَّة على كَون الْحَذف على سَبِيل السَّهْو، وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يعبر عَنهُ بِلِسَانِهِ صَرِيحًا (فَلَيْسَ) هَذَا مِنْهُم (من حمل الْمُطلق) على الْمُقَيد بل من بَاب الْحَذف نِسْيَانا.
مسئلة
(خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى: أَي يحْتَاج الْكل إِلَيْهِ حَاجَة متأكدة مَعَ كَثْرَة تكرره لَا يثبت بِهِ وجوب دون اشتهار أَو تلقي الْأمة بِالْقبُولِ) لَهُ: أَي مُقَابلَته بِالتَّسْلِيمِ وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ (عِنْد عَامَّة الْحَنَفِيَّة مِنْهُم الْكَرْخِي) كَأَنَّهُ رد لما يتَوَهَّم من كَلَام بَعضهم من اخْتِصَاص هَذَا الْجَواب بالكرخي فَلَا يتَّجه مَا ذكره الشَّارِح من أَنه لَا فَائِدَة لقَوْله مِنْهُم الْكَرْخِي لاندراجه فِي عامتهم (كَخَبَر مس الذّكر) أَي من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ: روته بسرة بنت صَفْوَان كَمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن وَصَححهُ أَحْمد وَغَيره، فَإِن نواقض الْوضُوء يحْتَاج إِلَى مَعْرفَتهَا الْخَاص وَالْعَام وَهَذَا السَّبَب كثير التّكْرَار وَلم يشْتَهر وَلم يتلقه الْأمة بِالْقبُولِ، قَالَ السَّرخسِيّ: القَوْل بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصها بتعليم هَذَا الحكم مَعَ أَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلم يعلم سَائِر الصَّحَابَة مَعَ حَاجتهم إِلَيْهِ شبه الْمحَال انْتهى، وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَنكُمْ قبلتم مثله فِي غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما فِي الْإِنَاء عِنْد الشُّرُوع فِي الْوضُوء وَفِي رفع الْيَدَيْنِ عِنْد إِرَادَة الشُّرُوع فِي الصَّلَاة مَعَ أَن كلا مِنْهُمَا مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى. قَالَ (وَلَيْسَ غسل الْيَدَيْنِ ورفعهما مِنْهُ) أَي من الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا وجوب) يَعْنِي أَنا لَا نثبت بِكُل مِنْهُمَا وجوبا بل استئنافا لذَلِك فَلَا يضر قبولنا إِيَّاه فِيهِ (كالتسمية فِي قِرَاءَة الصَّلَاة) فَإِن أثبتناها بِمَا عَن أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فِي الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة وعدها. أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم (وَالْأَكْثَر) من الْأُصُولِيِّينَ والمحدثين (يقبل) خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى إِذا صَحَّ إِسْنَاده (دونهمَا) أَي بِلَا اشْتِرَاط اشتهاره وَلَا تلقى الْأمة لَهُ بِالْقبُولِ (لنا لِأَن الْعَادة قاضية بتنقيب(3/112)
المتدينين) أَي بحثهم (عَن أَحْكَام مَا) أَي عمل (اشتدت حَاجتهم إِلَيْهِ لِكَثْرَة تكرره) لَهُم نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف قَوْله واشتداد الْحَاجة بِالْوُجُوب (و) إِن الْعَادة قاضية (بإلقائه) أَي مَا اشتدت الْحَاجة إِلَيْهِ (إِلَى الْكثير) مِنْهُم (دون تَخْصِيص الْوَاحِد والاثنين، وَيلْزمهُ) أَي الْإِلْقَاء إِلَى الْكثير (شهرة الرِّوَايَة وَالْقَبُول وَعدم الْخلاف) فِيهِ (إِذا روى فَعدم أَحدهمَا) أَي الشُّهْرَة وَالْقَبُول (دَلِيل الْخَطَأ) أَي خطأ ناقله (أَو النّسخ فَلَا يقبل) اعْترض الشَّارِح بِأَن الْوَجْه أَن يَقُول: وَيلْزمهُ شهرة الرِّوَايَة وَالْقَبُول كَمَا قَالَ دون اشتهار وتلقى الْأمة انْتهى يَعْنِي أَنه قَالَ فِي صدر المسئلة: لَا يثبت بِهِ وجوب دون اشتهار أَو تلقي الْأمة بِكَلِمَة أَو وَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَن يَقُول هَهُنَا أَيْضا كَذَلِك، وَقد غَيرهَا بِالْوَاو وَلم يدر أَن لثُبُوت الْوُجُوب بِخَبَر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى إِذا كَانَ لَهُ لَا زمَان لَا يفارقانه، فالعلم بتحقق الْمَلْزُوم يتَحَقَّق بِالْعلمِ بِأحد لازميه من غير أَن يتَعَلَّق الْعلم بهما جَمِيعًا، وَعدم الْعلم باللازم الآخر لَا يسْتَلْزم مفارفته عَن الْمَلْزُوم: وَهَذَا إِذا علم انْتِفَاء أَحدهمَا فِي نفس الْأَمر علم انْتِفَاء الْمَلْزُوم فِي نفس الْأَمر لفرض مساواتهما إِيَّاه، وَعدم الْعلم بِانْتِفَاء الآخر لَا يستلزمه فِي نفس الْأَمر، فَذكر الْوَاو فِي قَوْله وَيلْزمهُ إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى لُزُوم كل مِنْهُمَا، وَكلمَة أَو إِشَارَة إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم. (وَاسْتدلَّ) للمختار بمزيف، وَهُوَ (الْعَادة قاضية بنقله) أَي بِنَقْل مَا تعم بِهِ الْبلوى نقلا (متواترا) لتوفر الدعاوي على نَقله لذَلِك، وَلما لم يتواتر علم كذبه (ورد) هَذَا (بِالْمَنْعِ) أَي منع قَضَاء الْعَادة بتواتره (إِذْ اللَّازِم) لكَونه تعم بِهِ الْبلوى إِنَّمَا هُوَ (علمه) أَي الْخلاف الْكثير (لَا رِوَايَته) أَي الحكم لَهُم (إِلَّا عِنْد الاستفسار) عَنهُ (أَو يَكْتَفِي بِرِوَايَة الْبَعْض مَعَ تَقْرِير الآخرين قَالُوا) أَي الْأَكْثَرُونَ (قبلته) أَي خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى (الْأمة فِي تفاصيل الصَّلَاة وقبلتموه فِي مقدماتها كالفصد) أَي الْوضُوء مِنْهُ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام " الْوضُوء من كل دم سَائل ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن عدي (والقهقهة) أَي وَالْوُضُوء مِنْهَا إِذا كَانَت فِي صَلَاة مُطلقَة بِمَا تقدم فِي مسئلة عمل الصَّحَابِيّ بِرِوَايَة الْمُشْتَرك من طَرِيق أبي حنيفَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
" من قهقه مِنْكُم فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة " (وَقيل فِيهِ) أَي فِي حكم مَا تعم بِهِ الْبلوى (الْقيَاس) أَي الْعَمَل بِهِ (وَهُوَ) أَي الْقيَاس (دونه) أَي خبر الْوَاحِد كَمَا سَيَأْتِي، فخبر الْوَاحِد أولى بِالْقبُولِ (قُلْنَا التفاصيل إِن كَانَت رفع الْيَدَيْنِ وَالتَّسْمِيَة والجهر بهَا وَنَحْوه من السّنَن) كوضع الْيَمين على الشمَال تَحت السُّرَّة وإخفاء التَّأْمِين (فَلَيْسَ) إِثْبَات ذَلِك (مَحل النزاع) إِذْ النزاع فِي إِثْبَات الْوُجُوب بِهِ (أَو) كَانَت (الْأَركان الإجماعية) من الْقيام وَالْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود(3/113)
(فبقاطع) أَي فأثبتناه بِدَلِيل قَطْعِيّ من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع (أَو) كَانَت الْأَركان (الخلافية كَخَبَر الْفَاتِحَة) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب ". (فَأَما اشْتهر أَو تلقى) بِالْقبُولِ (فَقُلْنَا بِمُقْتَضَاهُ من الْوُجُوب) لَا الْفَرْض (أَو) التَّفْصِيل الصلاتي الَّذِي أثبت بِخَبَر الْوَاحِد (لَيْسَ مِنْهُ) أَي مَا تعم بِهِ الْبلوى (إِذْ هُوَ) أَي مَا تعم بِهِ الْبلوى (فعل أَو حَال يكثر تكرره للْكُلّ) حَال كَونه (سَببا للْوُجُوب) كالبول والمس وَالنَّوْم، فَإِنَّهُ يكثر تكررها، بِخِلَاف التقاء الختانين لعدم كَثْرَة وُقُوعه (فَيعلم) الْوُجُوب عَلَيْهِم (لقَضَاء الْعَادة بالاستعلام) فِي مثل ذَلِك (أَو بِلُزُوم كثرته) مَعْطُوف على الاستعلام: أَي لقَضَاء الْعَادة بِلُزُوم كَثْرَة الْإِعْلَام فِي مثله (للشَّرْع) لبَيَان مشروعيته على سَبِيل الْوُجُوب (قطعا) لشدَّة الْحَاجة إِلَيْهِ (كمطلق الْقِرَاءَة) فِي الصَّلَاة، و (حِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ الْأَمر على هَذَا التَّفْصِيل (ظهر أَن لَيْسَ مِنْهُ) أَي مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى (نَحْو الفصد) فَإِنَّهُ لَا يكثر للمتوضئين (والقهقهة) فِي الصَّلَاة فَإِنَّهَا فِي غَايَة الندرة (فَلَا يتَّجه إيجابهم) أَي الْحَنَفِيَّة (السُّورَة) مَعَ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة (مَعَ الْخلاف) فِي قبُول حَدِيثهَا وَعدم اشتهاره، بل وَفِي صِحَّته أَيْضا مَعَ أَنَّهَا مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى هَكَذَا ذكره الشَّارِح وَلم يتَقَيَّد بارتباط الْكَلَام، وَوجه تَفْرِيع عدم اتحاده إيجابهم السُّورَة على مَا قبله، وَبِأَن الحَدِيث وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام " لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِالْحَمْد وَسورَة فِي الْفَرِيضَة وَغَيرهَا إِذا كَانَ مُخْتَلفا فِي قبُوله وَصِحَّته كَيفَ يكون هَذَا الِاخْتِلَاف منشأ لعدم الِاعْتِرَاض على الْحَنَفِيَّة، وَقد أثبتوا الْوَاجِب بِخَبَر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى مَعَ كَثْرَة التّكْرَار للْكُلّ وَالصَّوَاب أَن يُقَال أَنه تَفْرِيع على اعْتِبَار تكْثر التكرر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل سَببا للْوُجُوب بِأَن يكون وجود ذَلِك التّكْرَار عِلّة لوُجُوب أَمر عَلَيْهِم كوجوب الْوضُوء فِيمَا ذكر آنِفا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تشتد الْحَاجة إِلَى الاستعلام، وَأَن المُرَاد بِالْخِلَافِ كَون وجوب السُّورَة مُخْتَلفا فِيهِ بِمُوجب الْأَدِلَّة، فتكرر السُّورَة لَيْسَ سَببا لوُجُوب أَمر حَتَّى يدْخل فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، على أَن وجوب نَفسه أَيْضا مُخْتَلف فِيهِ، فَمن لم يقل بِوُجُوبِهِ وَهُوَ الْأَكْثَر يحمل الحَدِيث على تَقْدِير صِحَّته على نفي الْكَمَال، فَلَيْسَ هُنَاكَ شدَّة احْتِيَاج تحيل الْعَادة شيوع الاستعلام، فَلَيْسَ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى وَالله أعلم. (وَلُزُوم الْقيَاس) أَي وَلُزُوم خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى علينا بِسَبَب قبُول الْأمة الْقيَاس، وَفِيه على مَا قَالَه الْأَكْثَرُونَ (مُتَوَقف على لُزُوم الْقطع بِحكم مَا تعم بِهِ) الْبلوى كَانَ إلزامكم علينا بِاعْتِبَار الْقيَاس متجها لِأَن الْخَبَر الْمَذْكُور أَعلَى رُتْبَة من الْقيَاس (و) لَكنا (لَا نقُول بِهِ) أَي بِلُزُوم الْقطع بِهِ (بل بِالظَّنِّ) أَي بل نقُول بِلُزُوم الظَّن بِحكمِهِ (وَعدم قبُول مَا لم يشْتَهر) من أَخْبَار الْآحَاد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى (أَو) لم (يقبلوه) أَي لم تتلقه الْأمة بِالْقبُولِ (لانتفائه) أَي الظَّن لما(3/114)
بَيناهُ (بِخِلَاف الْقيَاس) لِأَن الْمَانِع من إِفَادَة الظَّن فِي خبر الْوَاحِد كَون اخْتِصَاص فَرد معِين بمامسته شدَّة حَاجَة الْكل إِلَيْهِ يُوجب اتهامه فَلَا يُفِيد خَبره الظَّن، وَمثل هَذَا الْمَانِع لم يتَحَقَّق فِي الْقيَاس (وَيُمكن منع ثُبُوته) أَي حكم مَا تعم بِهِ الْبلوى (بِالْقِيَاسِ لاقْتِضَاء الدَّلِيل) وَهُوَ قَضَاء الْعَادة بالاستعلام أَو كَثْرَة إِعْلَام الشَّارِع بِهِ (سبق مَعْرفَته) أَي حكم مَا تعم بِهِ الْبلوى (على تَصْوِير الْمُجْتَهد إِيَّاه) أَي الْقيَاس فَيثبت الحكم بِتِلْكَ الْمعرفَة السَّابِقَة قبل التَّصْوِير الْمَذْكُور.
مسئلة
(إِذا انْفَرد) مخبر (بِمَا شَاركهُ) بِهِ (بالإحساس بِهِ خلق) كثير (مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله) دينيا كَانَ أَو غَيره (يقطع بكذبه خلافًا للشيعة لنا الْعَادة قاضية بِهِ) أَي بكذبه، لِأَن الطباع مجبولة على نَقله، وَالْعَادَة تحيل كِتْمَانه مَعَ توفر الدَّوَاعِي لإظهاره من مصَالح الْعباد وَصَلَاح الْبِلَاد إِلَى غير ذَلِك (قَالُوا) أَي الشِّيعَة (الْحَوَامِل على التّرْك) لنقله (كَثِيرَة) من مصلحَة بِالْجَمِيعِ فِي أُمُور الْولَايَة وَإِصْلَاح الْمَعيشَة، أَو خوف وَرَهْبَة من عَدو غَالب، أَو ملك قاهر إِلَى غير ذَلِك (وَلَا طَرِيق إِلَى علم عدمهَا) أَي الْحَوَامِل لعدم إِمْكَان ضَبطهَا (وَمَعَ احتمالها) إِي الْحَوَامِل لترك النواقل (لَيْسَ السُّكُوت) من المشاركين لَهُ (قَاطعا فِي كذبه، وَلذَا) أَي جَوَاز انْفِرَاد الْبَعْض مَعَ كِتْمَانه الْبَاقِي فِي مثله (لم ينْقل النَّصَارَى كَلَام عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد) مَعَ توفر الدَّوَاعِي على نَقله (وَنقل اشتقاق الْقَمَر، وتسبيح الْحَصَى وَالطَّعَام، وحنين الْجذع، وسعي الشَّجَرَة، وَتَسْلِيم الْحجر والغزالة) للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (آحادا) مَعَ توفر الدَّوَاعِي على نقلهَا (أُجِيب بإحالة الْعَادة وشمول حَامِل) على الكتمان (للْكُلّ) كَمَا تحيل اتِّفَاقهم فِي دَاع لأكل طَعَام وَاحِد فِي وَقت وَاحِد (وَالظَّاهِر عدم) شُمُول حَامِل على الكتمان للْكُلّ كَمَا تحيل عدم (حُضُور عِيسَى) وَقت كَلَامه فِي المهد (إِلَّا الْآحَاد) من الْأَهْل وَالَّذين أَتَت بِهِ تحمل إِلَيْهِم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن حَضَره جم غفير (وَجب الْقطع بتواتره وَإِن انْقَطع) التَّوَاتُر (لحامل المبدلين) لدينِهِ (على إخفاء مَا تكلم بِهِ) وَهُوَ قَوْله أَنِّي عبد الله فَإِنَّهُ حملهمْ على الْإخْفَاء ادعاؤهم أَنه إِلَه وَأَنه ابْن (وَهُوَ) أَي حُضُور الجم الْغَفِير إِيَّاه مَعَ عدم نَقله متواترا و (إِن جَازَ) عقلا (فخلاف الظَّاهِر) فَلَا يقْدَح فِي الْقطع العادي (وَمَا ذكر) مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على نَقله من المعجزات الْمَذْكُورَة (حَضَره الْآحَاد ولازمه) بِاعْتِبَار توفر الدَّوَاعِي (الشُّهْرَة) لِامْتِنَاع التَّوَاتُر بِاعْتِبَار أَن الطَّبَقَة الأولى آحَاد فَلم يبْق إِلَّا أَن يتواتر فِي الثَّانِيَة وَهُوَ الشُّهْرَة (وَقد تحققت، على أَنه لَو فرض عدد التَّوَاتُر) فِي بَعْضهَا (وتخلف)(3/115)
تواتره فِيمَا بعد (فلاكتفاء الْبَعْض) من الناقلين (بأعظمها) أَي المعجزات (الْقُرْآن) عطف بَيَان لأعظمها فَإِنَّهُ المعجزة المستمرة فِي مُسْتَقْبل الْأَزْمِنَة الدائرة على الْأَلْسِنَة فِي غَالب الْأَمْكِنَة. قَالَ السُّبْكِيّ: الصَّحِيح عِنْدِي فِي الْجَواب الْتِزَام أَن الانشقاق والحنين متواتران انْتهى وَالله أعلم.
مسئلة
(إِذا تعَارض خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس بِحَيْثُ لَا جمع) بَينهمَا مُمكن (قدم الْخَبَر مُطلقًا عِنْد الْأَكْثَر) مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد (وَقيل) قدم (الْقيَاس) وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى مَالك إِلَّا أَنه اسْتثْنى أَرْبَعَة أَحَادِيث، فَقَدمهَا على الْقيَاس. حَدِيث غسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب، وَحَدِيث الْمُصراة، وَحَدِيث الْعَرَايَا، وَحَدِيث الْقرعَة (وَأَبُو الْحُسَيْن) قَالَ قدم الْقيَاس (إِن / كَانَ ثُبُوت الْعلَّة بقاطع) لِأَن النَّص على الْعلَّة كالنص على حكمهَا، فَحِينَئِذٍ الْقيَاس قَطْعِيّ، وَالْخَبَر ظَنِّي، والقطعي مقدم على الظني قطعا (فَإِن لم يقطع) بِشَيْء (سوى بِالْأَصْلِ) أَي بِحكمِهِ (وَجب الِاجْتِهَاد فِي التَّرْجِيح) فَيقدم مَا ترجح من الظنيين، فَيُفَرق بَين الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بظني، وَبَين المستنبطة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق شَيْء مِنْهُمَا (فَالْخَبَر) مقدم على الْقيَاس لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الظَّن، وترجح الْخَبَر على الظَّن الدَّال على الْعلَّة بِأَنَّهُ يدل على الحكم بِدُونِ وَاسِطَة، بِخِلَاف الدَّال على الْعلَّة وَيعلم مِنْهُ المستنبطة. قَالَ السُّبْكِيّ: إِن فرض أَبُو الْحُسَيْن صُورَة يكون الْقطع مَوْجُودا فِيهَا فَهَذَا مَا لَا يُنَازع فِيهِ، إِذْ الْقطع مُرَجّح على الظَّن، وَكَذَا أرجح الظنيين، فَلَيْسَ فِي تَفْصِيله عِنْد التَّحْقِيق كَبِير أَمر (وَالْمُخْتَار) عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَالْمُصَنّف (إِن كَانَت الْعلَّة) ثَابِتَة (بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر ثبوتا) إِذا اسْتَويَا فِي الدّلَالَة (أَو دلَالَة) إِذا اسْتَويَا ثبوتا (وَقطع بهَا) أَي الْعلَّة (فِي الْفَرْع قدم الْقيَاس) . قَالَ السُّبْكِيّ: لَا يلْزم من ثُبُوت الْعلية براجح، وَالْقطع بوجودها أَن يكون ظن الحكم الْمُسْتَفَاد مِنْهَا فِي الْفَرْع أقوى من الظَّن الْمُسْتَفَاد من الْخَبَر، لِأَن الْعلَّة عنْدكُمْ لَا يلْزمهَا الاطراد بل رُبمَا تخلف الحكم عَنْهَا لمَانع فَلم قُلْتُمْ أَنه لم يتَخَلَّف عَن الْفَرْع لمَانع الْخَبَر خُصُوصا إِذا كَانَت الْعلَّة تَشْمَل فروعا كَثِيرَة وَالْخَبَر يخْتَص بِهَذَا الْفَرْع. قَالَ الشَّارِح: هَذَا ذُهُول عَن مَوضِع الْخلاف، فَإِنَّهُ إِذا تَسَاويا فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص كَمَا سيصرح بِهِ فَلْيتَأَمَّل انْتهى وَجه التَّأَمُّل أَن اعْتِبَار الْمُسَاوَاة فِيمَا سيصرح لَيْسَ بَين الْعلَّة وَالْحكم، بل بَين الْخَبَر وَالْقِيَاس، فَكَانَ الأولى طي الِاعْتِرَاض (وَإِن ظنت) الْعلَّة فِي الْفَرْع (فالوقف) مُتَعَيّن، يَعْنِي إِذا لم يكن هُنَاكَ مَا يرجح أَحدهمَا (وَإِلَّا تكن) الْعلَّة ثَابِتَة (براجح) بِأَن تكون مستنبطة أَو ثَابِتَة بِنَصّ مَرْجُوح عَن الْخَبَر أَو مسَاوٍ لَهُ (فَالْخَبَر) مقدم، وَلَا بعد فِي كَون(3/116)
هَذَا التَّفْصِيل إِظْهَار مُرَاد لَا خلافًا، إِذْ الْمَذْكُور فِي الْمُخْتَار لَا يَنْبَغِي أَن يَقع فِيهِ اخْتِلَاف. وَقَالَ / فَخر الْإِسْلَام: إِذا كَانَ الرَّاوِي من الْمُجْتَهدين كالخلفاء الرَّاشِدين قدم خَبره على الْقيَاس. وَقَالَ ابْن أبان: إِن كَانَ ضابطا غير متساهل فِيمَا يرويهِ قدم خَبره على الْقيَاس وَإِلَّا فَهُوَ مَوضِع اجْتِهَاد (للْأَكْثَر) أَنه (ترك عمر الْقيَاس فِي الْجَنِين وَهُوَ) أَي الْقيَاس (عدم الْوُجُوب) للغرة على ضرب بطن امْرَأَة فِيهِ جَنِين فأسقطته مَيتا (بِخَبَر حمل بن مَالك) كَمَا سبق فِي مسئلة الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل وَاجِب (وَقَالَ لَوْلَا هَذَا لقضينا فِيهِ برأينا) . أخرج الشَّافِعِي فِي الْأُم، فَقَالَ عمر إِن كدنا أَن نقضي فِي هَذَا برأينا، وَعند أبي دَاوُد فَقَالَ الله أكبر لَو لم أسمع بِهَذَا لقضينا بِغَيْر هَذَا (فَأفَاد) عمر (أَن تَركه) فِي الرَّأْي إِنَّمَا كَانَ (للْخَبَر، و) ترك عمر الْقيَاس (فِي دِيَة الْأَصَابِع) أَيْضا (وَهُوَ) أَي الْقيَاس (تفاوتها) أَي الدِّيَة فِيهَا (لتَفَاوت مَنَافِعهَا) إِذْ مَنْفَعَة بَعْضهَا أَكثر (وخصوصه) أَي النَّفْع (أَمر آخر) يَعْنِي فِيهَا أَمْرَانِ يوجبان التَّفَاوُت وَعدم الْمُسَاوَاة فِي الدِّيَة: أكثرية مَنْفَعَة الْبَعْض، وَأَن لبعضها نفعا خَاصّا لَا يُوجد فِي غَيره (وَكَانَ رَأْيه فِي الْخِنْصر) بِكَسْر الْخَاء وَالصَّاد. وَقَالَ الْفَارِسِي: اللُّغَة الفصيحة فتح الصَّاد، وَكَذَا فِي الْقَامُوس (سِتا) من الْإِبِل (وَالَّتِي تَلِيهَا) وَهِي البنصر (تسعا) مِنْهَا (وكل من الآخرين) التَّذْكِير بِتَأْوِيل الْعُضْو، وهما الْوُسْطَى والمسبحة (عشرا) قَوْله سِتا وَمَا بعده خبر كَانَ، وَفِي الْإِبْهَام خَمْسَة عشر من الْإِبِل. قَالَ الشَّارِح: كَذَا ذكره غير وَاحِد، وَالَّذِي فِي سنَن الْبَيْهَقِيّ أَنه كَانَ يرى فِي السبابَة اثْنَي عشر، وَفِي الْوسط عشرا، وَفِي الْإِبْهَام خَمْسَة عشر. وروى الشَّافِعِي رَحمَه الله قَضَاءَهُ فِي الْإِبْهَام بذلك أَيْضا (لخَبر عَمْرو بن حزم فِي كل أصْبع عشر) من الْإِبِل (وَفِي مِيرَاث الزَّوْجَة من دِيَة زَوجهَا وَهُوَ) أَي الْقيَاس (عَدمه) أَي عدم مِيرَاثهَا مِنْهَا (إِذْ لم يملكهَا) الزَّوْج (حَيا بل) إِنَّمَا يملكهَا الْوَرَثَة (جبرا لمصيبة الْقَرَابَة، وَيُمكن حذف الْأَخير) . قَالَ الشَّارِح: أَي كَون ملكهم إِيَّاهَا جبر الْمُصِيبَة الْقَرَابَة، ثمَّ فسر قَوْله (فَلَا يكون من النزاع) بعد كَون تَوْرِيث الْقَرَابَة دون الزَّوْجَة من تعَارض خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، وَعلله بقوله فَإِن الْقيَاس أَن يَرث الْجَمِيع، وَهَذَا مِمَّا يقْضِي مِنْهُ الْعجب، فَإِن عدم كَونه من مَحل النزاع إِن كَانَ هَذَا بِهَذَا السَّبَب فعلى تَقْدِير عدم الْحَذف أَيْضا كَذَلِك فَالصَّوَاب أَن يُقَال: المُرَاد ترك ذكر هَذِه المسئلة بكمالها، لِأَن توريثها مَعَ الْقَرَابَة قِيَاس لجَوَاز أَن يُقَال: الدِّيَة على سَائِر مختلفاته، غَايَة الْأَمر أَنه يُمكن تَرْتِيب دَلِيل آخر مُقْتَض لعدم توريثها، وَهُوَ أَن الزَّوْج لم يملكهَا حَيا إِلَى آخِره فعلى هَذَا الْوَاقِعَة من بَاب اخْتِيَار خبر الْوَاحِد الْمُوَافق للْقِيَاس على مُجَرّد الرَّأْي لذَلِك الْمَعْنى الفقهي، لَا من بَاب تعَارض الْخَبَر وَالْقِيَاس (وَلم يُنكره) أَي ترك عمر الْقيَاس للْخَبَر (أحد(3/117)
فَكَانَ) تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس (إِجْمَاعًا، وعورض بمخالفة ابْن عَبَّاس خبر أبي هُرَيْرَة) مَرْفُوعا (توضؤا مِمَّا مسته النَّار) وَلَو من أثوار أقط إِذْ قَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس يَا أَبَا هُرَيْرَة أَنَتَوَضَّأُ من الدّهن، أَنَتَوَضَّأُ من الْحَمِيم؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: يَا ابْن أخي إِذا سَمِعت حَدِيثا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا تضرب لَهُ مثلا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (وبمخالفته هُوَ) أَي ابْن عَبَّاس (وَعَائِشَة خَبره) أَي أبي هُرَيْرَة الْمُتَّفق عَلَيْهِ (فِي المستيقظ) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فليغسل يَده قبل أَن يدخلهَا فِي وضوئِهِ فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده ". (وَقَالا) أَي ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة (كَيفَ نصْنَع بالمهراس) وَهُوَ حجر منقور مستطيل عَظِيم كالحوض لَا يقدر أحد على تحريكه، ذكره ابْن عبيد عَن الْأَصْمَعِي: أَي إِذا كَانَ فِيهِ مَاء وَلم تدخل فِيهِ الْيَد فَكيف نَتَوَضَّأ مِنْهُ (وَلم يُنكر) إنكارهما (فَكَانَ) الْعَمَل بِالْقِيَاسِ عِنْد مُعَارضَة خبر الْوَاحِد لَهُ (إِجْمَاعًا قُلْنَا ذَلِك) أَي الْمُخَالفَة الْمَذْكُورَة (للاستبعاد لخصوصه) أَي الْمَرْوِيّ (لظُهُور خِلَافه) أَي الْمَرْوِيّ، روى الشَّارِح عَن بعض الْحفاظ أَن مَا روى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَابْن عَبَّاس لَا وجود لَهُ فِي شَيْء من كتب الحَدِيث. وَإِنَّمَا الَّذِي قَالَ هَذَا لأبي هُرَيْرَة رجل يُقَال لَهُ: قين الْأَشْجَعِيّ، وَقيل إِنَّه صَحَابِيّ وَعَن بعض الْحفاظ نفى صحبته، وَقيل الْقَائِل بعض أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود (وَلَيْسَ) هَذَا الْخلاف (من مَحل النزاع) أَي مُعَارضَة الْقيَاس بِخَبَر الْوَاحِد (لَا) أَنه مِنْهُ (لتَركه) أَي خبر الْوَاحِد (بِالْقِيَاسِ) إِذْ لَا قِيَاس يَقْتَضِي عدم وجوب غسل الْيَد قبل الإدخال فِي الْإِنَاء (وَلَهُم) أَي الْأَكْثَر أَيْضا (تَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا حِين أخر الْقيَاس) عَن الْكتاب وَالسّنة الَّتِي مِنْهَا أَخْبَار الْآحَاد حِين بَعثه إِلَى الْيمن قَاضِيا فَسَأَلَهُ بِمَ تحكم؟ وَقد سبق (وَأَيْضًا لَو قدم الْقيَاس لقدم الأضعف، وبطلانه إِجْمَاع: أما الْمُلَازمَة فلتعدد احتمالات الْخَطَأ بِتَعَدُّد الِاجْتِهَاد) وَضعف الظَّن بِتَعَدُّد الِاحْتِمَالَات (ومحاله) أَي الِاجْتِهَاد (فِيهِ) أَي الْقيَاس (أَكثر) من محاله فِي الْخَبَر (فالظن) فِي الْقيَاس حِينَئِذٍ (أَضْعَف) مِنْهُ فِي الْخَبَر، إِذْ محَال الِاجْتِهَاد فِي الْقيَاس سنة (حكم الأَصْل) أَي ثُبُوته (وَكَونه) أَي حكم الأَصْل (مُعَللا) بعلة مَا، وَلَيْسَ من الْأَحْكَام التعبدية (وَتَعْيِين الْوَصْف) الَّذِي هُوَ الْعلَّة (للعلية، ووجوده) أَي ذَلِك الْوَصْف (فِي الْفَرْع وَنفي الْمعَارض) للوصف من انْتِفَاء شَرط أَو وجود مَانع (فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع (وَفِي الْخَبَر) مَحل الِاجْتِهَاد (فِي الْعَدَالَة) للراوي (وَالدّلَالَة) لمتنه على الحكم (وَأما احْتِمَال كفر الرَّاوِي وَكذبه وخطئه) لعدم عصمته عَنْهَا (وَاحْتِمَال الْمَتْن الْمجَاز) وَمَا فِي حكمه من الْإِضْمَار والاشتراك والتخصيص (فَمن الْبعد) بِحَيْثُ (لَا يحْتَاج إِلَى اجْتِهَاد فِي نَفْيه وَلَو) احْتِيجَ فِي الْمَذْكُورَات إِلَى الِاجْتِهَاد(3/118)
(فَلَا) يحْتَاج إِلَيْهِ (على الْخُصُوص) أَي لَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يحصل الْكل من نفي الْكفْر وَالْكذب وَالْخَطَأ وَالْمجَاز دَلِيلا على حِدة (بل ينتظمه) أَي نفي ذَلِك كُله (الْعَدَالَة) أَي الِاجْتِهَاد فِيهَا فَإِذا ثَبت عِنْده كفته (وَلَا يخفى أَن احْتِمَال الْخَطَأ فِي حكم الأَصْل) اعْتِبَاره فِي الْقيَاس (ليجتهد) الْمُجْتَهد (فِيهِ) أَي وَفِي ثُبُوت الأَصْل لمصلحته (مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ) أَي حكم الأَصْل لمصلحته (مجمع عَلَيْهِ وَلَو) كَانَ ذَلِك الْإِجْمَاع بِاعْتِبَار اتِّفَاق (بَينهمَا) أَي المتناظرين (فِي الْمُخْتَار عِنْدهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (وَكَذَا نفي كَونه) أَي حكم الأَصْل (فرعا) لغيره مجمع عَلَيْهِ وَلَو بَينهمَا فِي الْمُخْتَار عِنْدهم (فَهِيَ) أَي محَال الِاجْتِهَاد فِي الْقيَاس (أَرْبَعَة لسقوطه) أَي الِاجْتِهَاد (فِي معَارض الأَصْل) وَهُوَ أحد الْمحَال الْمَذْكُورَة لَهُ (ضمنه) أَي فِي ضمن سُقُوط الِاجْتِهَاد فِي نفس الأَصْل (وَلَو سلم) أَنه لَا يشْتَرط الِاتِّفَاق عَلَيْهِ (فإثباته) أَي حكم الأَصْل (لَيْسَ من ضروريات الْقيَاس) بل هُوَ حكم سَمْعِي يجْتَهد فِيهِ ليعْمَل بِهِ كَسَائِر الْأَحْكَام الْمَأْخُوذَة من النُّصُوص، فَهُوَ مَقْصُود الْإِثْبَات لذاته لَا لمصْلحَة الْقيَاس، غير أَنه يقْصد بذلك اسْتِئْنَاف عمل آخر يستعلم أَن لَهُ محلا آخر، وَهُوَ الْقيَاس فَهُوَ عِنْد ذَلِك مفروغ مِنْهُ (و) لَا يخفى (أَن الِاجْتِهَاد فِي الْعَدَالَة لَا يسْتَلْزم ظن الضَّبْط فَهُوَ) أَي الضَّبْط (مَحل ثَالِث فِي الْخَبَر، و) أَن الِاجْتِهَاد (فِي الدّلَالَة أَن أفْضى إِلَى ظن كَونه) أَي الْمَدْلُول أَو اللَّفْظ (حَقِيقَة أَو مجَازًا لَا يُوجب ظن عدم النَّاسِخ) لعدم الْمُلَازمَة بَينهمَا (فرابع) أَي الْمَدْلُول أَو اللَّفْظ مَحل رَابِع بِاعْتِبَار كَونه غير مَنْسُوخ (وَلَا) يُوجب ظن عدم (الْمعَارض) لَهُ (فخامس) أَي فالتفحص لعدم الْمعَارض مَحل خَامِس للِاجْتِهَاد (ويندرج بَحثه) أَي الْمُجْتَهد (عَن الْمُخَصّص) إِذا كَانَ الْمَدْلُول عَاما فِي بَحثه على نفي الْمعَارض لِأَنَّهُ معَارض ضَرُورَة فِي بعض الْأَفْرَاد، ثمَّ لما بَين أَن الْمحَال فِي الْقيَاس الْأَرْبَعَة. وَفِي الْخَبَر خَمْسَة اتجه أَن يُقَال الأقيسة الَّتِي ثبتَتْ عَلَيْهَا بِنَصّ لَا بُد فِيهَا من الفحص عَن الدّلَالَة وَالْعَدَالَة، فَصَارَ محَال الْقيَاس حِينَئِذٍ أَكثر من محَال الْخَبَر فَأجَاب عَنهُ بقوله (وَفِي الأقيسة المنصوصة الْعلَّة بِغَيْر رَاجِح) الْجَار مُتَعَلق بالمنصوصة: أَي المنصوصة بِنَصّ غير رَاجِح على الْخَبَر الْمَذْكُور، قَيده بِهِ، لِأَنَّهُ إِن كَانَ براجح فَلَا شكّ فِي تَقْدِيم الْقيَاس حِينَئِذٍ، لِأَن النَّص على الْعلَّة كالنص على الحكم كَمَا سَيَأْتِي (إِن زَاد محلان) الْعَدَالَة وَالدّلَالَة (سقط) من محَال الِاجْتِهَاد فِيهَا (محلان) كَونه مُعَللا، وَتعين الْعلَّة (فقصر) الْقيَاس عَن الْخَبَر فِي عدد محَال الاجتهادين يرد عَلَيْهِ أَن المنصوصة الْعلَّة بِخَبَر يحْتَاج إِلَى كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْخَبَر، وَهُوَ الْخَمْسَة على مَا حققت لَا بُد مِنْهَا فِي الْقيَاس، فَلَا يُقَال هَهُنَا إِن زَاد محلان نقص محلان، بل الْوَجْه فِي مثله تَقْدِيم. ثمَّ هَذَا نظر فِي هَذَا الدَّلِيل وللمطلوب أَدِلَّة أُخْرَى، فَلَا يقْدَح فِيهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَفِيمَا تقدم) من الْأَدِلَّة (كِفَايَة) عَن هَذَا(3/119)
الدَّلِيل (وَاسْتدلَّ) للْأَكْثَر أَيْضا بقوله (بِثُبُوت أصل الْقيَاس بالْخبر) كَخَبَر معَاذ السَّابِق (فَلَا يقدم) الْقيَاس (على أَصله) أَي الْخَبَر (وَقد يمْنَع الْأَمْرَانِ) أَي ثُبُوته بالْخبر لما سَيَأْتِي فِي مسئلة تَكْلِيف الْمُجْتَهد بِطَلَب المناط فِي أَوَاخِر مبَاحث الْقيَاس، وَلُزُوم التَّقْدِيم على الأَصْل إِن قدم على الْخَبَر على تَقْدِير ثُبُوته بالْخبر، إِذْ الأَصْل حِينَئِذٍ خبر مَخْصُوص، وأصالة فَرد من أَفْرَاد الْخَبَر لَا يسْتَلْزم أَصَالَة كل فَرد مِنْهُ، وَجعل الشَّارِح الْأَمر الثَّانِي تقدميه على الْخَبَر وَسَنَد الْمَنْع أَنه مصادرة على الْمَطْلُوب وَلَا معِين لَهُ (و) اسْتدلَّ أَيْضا للْأَكْثَر (بِأَنَّهُ) أَي الْخَبَر دَلِيل (قَطْعِيّ وَلَوْلَا الطَّرِيق) الموصلة لَهُ إِلَيْنَا، لِأَن قَائِله مخبر عَن الله صَادِق، وَإِنَّمَا الشُّبْهَة فِي الْوَاسِطَة (بِخِلَاف الْقيَاس) فَإِنَّهُ ظَنِّي فِي حد ذَاته (وَيُجَاب بِأَن الْمُعْتَبر الْحَاصِل الْآن وَهُوَ) أَي الْحَاصِل الْآن مِنْهُ (مظنون) ثمَّ مضى (هَذَا، وَأما تَقْدِيم مَا ذكر من الْقيَاس) الَّذِي علته ثَابِتَة بِنَصّ رَاجِح على الْخَبَر وَقطع بهَا فِي الْفَرْع (فلرجوعه) أَي التَّقْرِير الْمَذْكُور (إِلَى الْعَمَل براجح من الْخَبَرَيْنِ تَعَارضا، إِذْ النَّص على الْعلَّة نَص على الحكم فِي محلهَا) أَي الْعلَّة وَهُوَ الْفَرْع (وَقد قطع بهَا) أَي بِالْعِلَّةِ (فِيهِ) أَي محلهَا الَّذِي هُوَ الْفَرْع (والتوقف) فِيمَا أَوجَبْنَا التَّوَقُّف فِيهِ، وَهُوَ مَا إِذا ثبتَتْ بِنَصّ رَاجِح ووجودها فِي الْفَرْع ظَنِّي (لتعارض الترجيحين خبر الْعلَّة بِالْفَرْضِ) فَإِن الْمَفْرُوض رجحانه (وَالْآخر) أَي الْخَبَر الآخر (بقلة الْمُقدمَات) لعدم انضمام الْقيَاس إِلَيْهِ (وَعلمت مَا فِيهِ) من أَن الْقيَاس أقل محَال للِاجْتِهَاد من الْخَبَر (هَذَا إِذا تَسَاويا) أَي الْقيَاس، وَالْخَبَر المتعارضان بِأَن كَانَ كل مِنْهُمَا عَاما أَو خَاصّا (فَإِن كَانَا) أَي الْخَبَر وَالْقِيَاس (عَاما) أَحدهمَا (وخاصا) الآخر (فعلى الْخلاف فِي تَخْصِيص الْعَام بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ (كَيفَ اتّفق) أَي سَوَاء خص بِغَيْرِهِ أَو لَا (وَعَدَمه) أَي عدم تَقْدِير الْكَلَام فِي مسئلة مُسْتَقلَّة.
مسئلة
(الإتفاق فِي أَفعاله الجبلية) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الصادرة بِمُقْتَضى طَبِيعَته فِي أصل خلقته كالقيام وَالْقعُود وَالنَّوْم وَالْأكل وَالشرب (الْإِبَاحَة لنا وَله، وَفِيمَا ثَبت خصوصه) أَي كَونه من خَصَائِصه كإباحة الزِّيَادَة على أَربع فِي النِّكَاح وَإِبَاحَة الْوِصَال فِي الصَّوْم (اخْتِصَاصه) بِهِ لَيْسَ لأحد من الْأمة مشاركته فِيهِ (وَفِيمَا ظهر بَيَانا بقوله " كصلوا) كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " مُتَّفق عَلَيْهِ الصَّادِر بعد صلَاته فَإِنَّهَا بَيَان لقَوْله تَعَالَى - {وَأقِيمُوا الصَّلَاة} - (وخذوا) عني مَنَاسِككُم فَإِنِّي لَا أَدْرِي لعَلي لَا أحج بعد حجتي هَذِه (فِي أثْنَاء حجه) أَي وَهُوَ يَرْمِي الْجَمْرَة على رَاحِلَته كَمَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، فَإِن بَيَانه لقَوْله تَعَالَى - {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} - وَخبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي الإتفاق(3/120)
بِاعْتِبَار هَذَا الْقسم مَحْذُوف بِقَرِينَة مَا يَأْتِي أَنه بَيَان (أَو) ظهر بَيَانا (بِقَرِينَة حَال كصدوره) أَي الْفِعْل (عِنْد الْحَاجة) أَي بَيَان مُجمل (بعد تقدم إِجْمَال) حَال كَون الْفِعْل (صَالحا لبيانه) فَيتَعَيَّن حمله عَلَيْهِ لِئَلَّا يلْزم تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة وَهُوَ غير جَائِز (كالقطع من الْكُوع وَالتَّيَمُّم إِلَى الْمرْفقين أَنه) أَي الْفِعْل المتحقق فِي الْقطع وَالتَّيَمُّم (بَيَان لآيتيهما) أَي السّرقَة وَالتَّيَمُّم إِذْ آيَة الْقطع مُجمل بِاعْتِبَار الْمحل، وَأما آيَة التَّيَمُّم فَقيل أَيْضا مُجمل بِاعْتِبَارِهِ، وَالرَّاجِح أَنه مُطلق وَالْفِعْل بَيَان لما هُوَ المُرَاد مِنْهُ، كَذَا ذكره الشَّارِح، ثمَّ إِن الْقطع لَيْسَ فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل فعله بأَمْره فَكَأَنَّهُ فعله. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن نَاسا من أهل الْبَادِيَة أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فساقه إِلَى أَن قَالَ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" عَلَيْكُم بِالْأَرْضِ ثمَّ ضرب بِيَدِهِ على الأَرْض بِوَجْهِهِ ضَرْبَة وَاحِدَة، ثمَّ ضرب ضَرْبَة أُخْرَى فَمسح بهَا على يَدَيْهِ إِلَى الْمرْفقين (بخلافهما) أَي الْمرْفقين (فِي الْغسْل) فِي الْوضُوء فَإِن غسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاهُمَا لَيْسَ بَيَانا لقَوْله تَعَالَى - {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} - (لذكر الْغَايَة وَعدم إِجْمَال أداتها) أَي الْغَايَة (وَمَا لم يظْهر فِيهِ ذَلِك) أَي الْبَيَان والخصوصية (وَعرف صفته) فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من وجوب وَنَحْوه) من ندب وَإِبَاحَة (فالجمهور) و (مِنْهُم الْجَصَّاص أمته مثله فَإِن وَجب عَلَيْهِ وَجب عَلَيْهِم: وَهَكَذَا الخ (وَقيل) وَالْقَائِل أَبُو عَليّ بن خَلاد مثله (فِي الْعِبَادَات) فَقَط (والكرخي) والأشعرية (يَخُصُّهُ) أَي الحكم الْمَعْرُوف صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِلَى) قيام (دَلِيل الْعُمُوم) لَهُم أَيْضا (وَقيل) هُوَ (كَمَا) قَالَ لَو جهل) أَي لم يعلم وَصفه (وَلَيْسَ) هَذَا القَوْل (محررا إِلَّا أَن يعرف قَوْله) أَي قَول هَذَا الْقَائِل (فِي الْمَجْهُول) وَصفه (وَلم يدر) أَي وَالْحَال أَنه لم يعلم قَول الْمَجْهُول وَصفه، فَفِي الْحِوَالَة عَلَيْهِ جَهَالَة (أَو يُرِيد) الْقَائِل الْمَذْكُور أَن (من قَالَ فِي الْمَجْهُول) مَا قَالَ (فَلهُ فِي الْمَعْلُوم مثله فَبَاطِل) أَي فَحِينَئِذٍ هَذَا القَوْل مِنْهُ بَاطِل لكَونه غير مُطَابق للْوَاقِع كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَمن سَيعْلَمُ) كَونه (قَائِلا بِالْإِبَاحَةِ) أَي بِكَوْن الْفِعْل مُبَاحا فِي الْجُمْهُور وَصفه، وهم فرق: مُبْهَم من يخص الْإِبَاحَة بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِنْهُم من يعمها فَيشْمَل الْأمة أَيْضا (قَوْلهم) قاطبة (فِي الْمَعْلُوم) وَصفه (شُمُول صفته) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأمة أَو صفة الْفِعْل من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَإِبَاحَة الْكل فَكيف يكون قَول من قَالَ فِي الْمَجْهُول مثل مَا قَالَ فِي الْمَعْلُوم؟ وَجمع الضَّمِير فِي قَوْلهم وأفرده بِاعْتِبَار أَفْرَاد لفظ الْمَوْصُول، أَعنِي من. بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ، وَجعل الشَّارِح قَوْله قَائِلا حَال من الْمُبْتَدَأ
وَأَنت خَبِير بِأَن الْعلم لَا بُد لَهُ من مفعولين، فَالْأول الضَّمِير الرَّاجِح إِلَى الْمَوْصُول وَهُوَ نَائِب الْفَاعِل، وَالثَّانِي قَائِلا، فَلَا وَجه لَهُ وَقَوْلهمْ مُبْتَدأ ثَان خَبره شُمُول صفته، فالجملة خبر الأول (لنا)(3/121)
فِي أَن الْأمة مثله فِيمَا عرف صفته (أَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ إِلَى فعله احتجاجا واقتداء أَي رُجُوع احتجاج فِي مقَام الِاقْتِدَاء فَيَقُولُونَ نَفْعل هَذَا لِأَنَّهُ فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكما شاركوه فِي أصل الْفِعْل شاركوه فِي كيفيته (كتقبيل الْحجر فَقَالَ عمر: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبلك مَا قبلتك) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَلم يُنكر) على عمر ذَلِك (وتقبيل الزَّوْجَة صَائِما) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا (وَكثير) خُصُوصا فِي الْعِبَادَات (وَأَيْضًا لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة والتأسي) للْغَيْر (فعل مثله) أَي يقبل مثل مَا فعله ذَلِك الْغَيْر (على وَجهه) بِأَن يكون مشاركا لَهُ فِي الصّفة كالوجوب وَالنَّدْب وَمَا بَينهمَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مقصد فِي ذَلِك التأسي، ثمَّ احْتَرز بقوله (لأَجله) عَمَّا هُوَ مثله لَكِن لَيْسَ فِي قصد فَاعله أَن يكون مثله تَابعا لفعل ذَلِك الْغَيْر مَبْنِيا على الِاقْتِدَاء بِهِ (وَمثله) أَي مثل قَوْله تَعَالَى - {لقد كَانَ لكم} - الْآيَة فِي الدّلَالَة على الْمَطْلُوب قَوْله تَعَالَى - {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} - فَإِن الْمُتَابَعَة للْغَيْر أَن يفعل مثل فعله على الْوَجْه الَّذِي يَفْعَله (وَأما) قَوْله تَعَالَى - {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا (زَوَّجْنَاكهَا لكيلا يكون} على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم} - (فبدلالة الْمَفْهُوم الْمُخَالف على اتِّحَاد حكمه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بهم) أَي مَعَ حكم الْأمة لِأَنَّهُ تَعَالَى علل تَزْوِيجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفْي الْحَرج الْكَائِن فِي تَحْرِيم زَوْجَات الأدعياء وَمَفْهُومه لَو لم يُزَوجهُ ثَبت الْحَرج على الْمُسلمين فِي ذَلِك، وَثُبُوت الْحَرج على ذَلِك التَّقْدِير إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد حكمهم بِحكمِهِ وَلم يتحد، كَذَا ذكره الشَّارِح، فحاصل كَلَام المُصَنّف حِينَئِذٍ عدم دلَالَة الْآيَة على الْمَطْلُوب، وَالَّذِي يفهم من كَلَامه دلَالَته عَلَيْهِ لَكِن بطرِيق الْفَهم عِنْد من يَقُول بِهِ وَلَو صَحَّ قَوْله وَلم يتحد لما صَحَّ الدَّلِيل وَهُوَ ظَاهر: بل نقُول بِاعْتِبَار الْمَفْهُوم الْمُخَالف فِي خُصُوص هَذِه الْآيَة عِنْد الْكل وإلالم يَصح التَّعْلِيل (وَمَا جهل وَصفه) بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفِيهِ مَذَاهِب (فَأَبُو الْيُسْر) قَالَ (أَن) كَانَ ذَلِك الْفِعْل (مُعَاملَة فالإباحة) بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وإلينا (إِجْمَاع وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي الْقرب فمالك) أَي فمذهبه (شُمُول الْوُجُوب) لَهُ وَلنَا (كَذَا نَقله بَعضهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (متعرضا للْفِعْل بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَوْله متعرضا حَال من فَاعل نَقله، وَفِي الْكَلَام تدافع، لِأَن قَوْله كَذَا يدل على أَن منقوله مثل مَا ذكر وَمَا ذكر شُمُول إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى الْأمة، وَقَوله متعرضا يدل على اخْتِصَاص مَا ذكر من الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للفهم إِلَّا أَن يكون مُرَاده بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى الْأمة أَيْضا (كَقَوْل الْكَرْخِي مُبَاح فِي حَقه) أَي كَمَا أَن فِي قَول الْكَرْخِي تعرضا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَالْأمة (للتيقن) أَي لتيقن الْإِبَاحَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (وَلَيْسَ لنا اتِّبَاعه) إِلَّا بِدَلِيل (وَقَول الْجَصَّاص وفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة وَالْقَاضِي أبي زيد الْإِبَاحَة فِي حَقه، وَلنَا اتِّبَاعه) مَا لم يقم دَلِيل على الْخُصُوص (وَالْقَوْلَان) للكرخي والجصاص (يعكران نقل أبي الْيُسْر)(3/122)
الْإِجْمَاع على الْإِبَاحَة فِي الْمُعَامَلَة لِأَن تَخْصِيص الْكَرْخِي الْإِبَاحَة بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مُطلق الْفِعْل مُعَاملَة كَانَ أَو قربَة، والجصاص يَقُول: يجوز الِاتِّبَاع فِي الْكل، فقد تحقق فِي حق الْمُعَامَلَة قَولَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهُوَ يُنَافِي دَعْوَى الْإِجْمَاع (وَخص الْمُحَقِّقُونَ الْخلاف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأمة فالوجوب) وَهُوَ معزو فِي الْمَحْصُول إِلَى ابْن سُرَيج وَغَيره، وَفِي القواطع إِلَى مَالك والكرخي وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي (وَالنَّدْب) وَهُوَ معزو فِي الْمَحْصُول إِلَى الشَّافِعِي، وَفِي القواطع إِلَى الْأَكْثَر من الْحَنَفِيَّة والمعتزلة والصيرفي والقفال (وَمَا ذكرنَا) أَي الْإِبَاحَة: وَهُوَ معزو فِي الْمَحْصُول إِلَى مَالك، كَذَا ذكره الشَّافِعِي، وَالْأَظْهَر أَنه إِشَارَة إِلَى مَا ذكر فِي قَول الْكَرْخِي لَيْسَ لنا اتِّبَاعه، وَفِي قَول الْجَصَّاص لنا اتِّبَاعه (وَالْوَقْف) وَهُوَ معزو فِي الْمَحْصُول إِلَى الصَّيْرَفِي وَأكْثر الْمُعْتَزلَة، وَفِي القواطع إِلَى أَكثر الأشعرية، وَفِي غَيره وَالْغَزالِيّ وَالْقَاضِي أبي الطّيب، وَاخْتَارَهُ أَبُو الطّيب، وَاخْتَارَهُ الإِمَام الرَّازِيّ (ومختار الْآمِدِيّ) وَابْن الْحَاجِب أَنه (إِن ظهر قصد الْقرْبَة فالندب وَإِلَّا فالإباحة وَيجب) أَن يكون هَذَا القَوْل (قيد القَوْل الْإِبَاحَة للْأمة) إِن لم يقل أحد بِأَن مَا هُوَ من الْقرب عمله مُبَاح من غير ندب (الْوُجُوب) أَي دَلِيله (وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ) أَي افعلوه وَفعله مِمَّا آتَاهُ وَالْأَمر للْوُجُوب (أُجِيب بِأَن المُرَاد مَا أَمركُم) بِهِ (بِقَرِينَة مُقَابِله وَمَا نهاكم) لتجاوب طرفِي النّظم: وَهُوَ اللَّائِق ببلاغة الْقُرْآن (قَالُوا) ثَانِيًا قَالَ الله تَعَالَى (فَاتَّبعُوهُ) وَالْأَمر للْوُجُوب (قُلْنَا هُوَ) أَي الِاتِّبَاع (فِي الْفِعْل فرع الْعلم بِصفتِهِ) أَي الْفِعْل (لِأَنَّهُ) أَي الِاتِّبَاع فِي الْفِعْل (فعله على وَجه فعله) المتبع (وَالْكَلَام فِي مجهولها) أَي الصّفة فَلَا يتَحَقَّق الِاتِّبَاع مَعَ عدم الْعلم بِصفة الْعلم فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَقد منع اعْتِبَار الْعلم بصلَة الْفِعْل فِي الِاتِّبَاع فِيهِ) أَي الْفِعْل، وَقيل لَا نسلم أَن الِاتِّبَاع مَوْقُوف على الْعلم بذلك بل نتبعه فِيهِ وَإِن لم يعلم صفته، (و) ذكر سَنَد هَذَا الْمَنْع (فِي عبارَة) هَكَذَا (الْإِبَاحَة) الْمُطلقَة متعينة فِي مجهولها وَهُوَ الْجَوَاز المتحقق فِي ضمن الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة الْمُقَابلَة لَهما (وَلنَا اتِّبَاعه) وَهُوَ مَعْلُوم من الدّين، فجهالة وصف الْفِعْل بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يمْنَع اتباعنا لَهُ، فَالْأَمْر بالاتباع يجْرِي فِي مَجْهُول الْوَصْف كَمَا يجْرِي فِي معلومه وَالْأَمر للْوُجُوب. ثمَّ أضْرب عَن هَذَا الْجَواب: أَعنِي كَون الِاتِّبَاع فرع الْعلم بِصفتِهِ إِلَى مَا هُوَ التَّحْقِيق فَقَالَ (بل الْجَواب) أَن يُقَال (الْقطع بِأَنَّهُ) أَي عُمُوم الْأَمر باتباعه (مَخْصُوص) غير مَحْمُول على عُمُومه بَالغا مَا بلغ (إِذْ لَا يجب قيام وقعود وتكوير عِمَامَة) أَي تدويرها (وَمَا لَا يُحْصى) من أَفعاله الجبلية وَغَيرهمَا مِمَّا لَا بجب اتِّبَاعه فِيهِ إِجْمَاعًا (وَلَا مُخَصص معِين) حَتَّى يَنْتَهِي التَّخْصِيص إِلَى حد معِين (فأخص الْخُصُوص) أَي فَتعين حلمه على أخص الْخُصُوص (من مَعْلُوم صفة الْوُجُوب) يَعْنِي أَن صفة الْفِعْل على قسمَيْنِ مَعْلُوم ومجهول، وَالْأول قسم هُوَ أخص(3/123)
الْخُصُوص نظرا إِلَى حِكْمَة مقسمة وَهُوَ هَهُنَا لُزُوم الِاتِّبَاع، إِذْ لَيْسَ لمعلول الصّفة فَرد أَحَق وَأولى بِهَذَا اللُّزُوم من الْمَوْصُوف بِالْوُجُوب وَالْحَاصِل أَنا عرفنَا أَن الِاتِّبَاع مَطْلُوب فِي الْجُمْلَة من غير تَحْدِيد من قبل الشَّارِع، وَقد علمنَا يَقِينا كَون الْوَاجِب فعله بِحَيْثُ لَا يُمكن أَن يكون خَارِجا عَن الْمَطْلُوب الْمَذْكُور وَغَيره من الْأَفْعَال قد يكون خَارِجا عَنهُ، وَفِي مثل هَذَا الطّلب الإجمالي يتَعَيَّن مَا هُوَ الْمُتَعَيّن دُخُوله فِي الحكم وَغَيره لَا يعلم دُخُوله، وَالْأَصْل عدم الدُّخُول. فمعين الْآيَة طلب اتِّبَاعه فِيمَا علم وُجُوبه وَالله أعلم (قَالُوا) ثَالِثا (لقد كَانَ) لكم (إِلَى آخرهَا) محصوله قَضِيَّة (شَرْطِيَّة مضمونها لُزُوم التأسي) وَهُوَ تَالِيهَا (للْإيمَان) وَهُوَ مقدمها، إِذْ الْمَعْنى من كَانَ يُؤمن بِاللَّه فَلهُ أُسْوَة حَسَنَة، إِذْ المُرَاد بضمير الْمُخَاطب فِي قَوْله لكم يعم كل فَرد من الْمُؤمنِينَ (ولازمها عكس نقيضها) عطف بَيَان للازمها (عدم الْإِيمَان لعدم التأسي) لِأَن نقيض الْمَلْزُوم لَازم لنقيض اللَّازِم، وَاللَّازِم اجْتِمَاع عين الْمَلْزُوم مَعَ نقيض اللَّازِم لَازِما (وَعَدَمه) أَي الْإِيمَان (حرَام، فَكَذَا) ملزومه الَّذِي هُوَ (عدم التأسي فنقيضه) أَي نقيض عدم التأسي وَهُوَ التأسي (وَاجِب وَالْجَوَاب مثله) أَي مثل جَوَاب الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور قبله (لِأَن التأسي كالاتباع) فِي الْمَعْنى وَفِيمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الْعلم بِوَصْف مَا فِيهِ الِاتِّبَاع (وَفِيه) من الْبَحْث (مثل مَا قبله) من منع اعْتِبَار الْعلم بِصفة الْفِعْل فِي الائتساء (وَمِنْه) أَي وَمِمَّا قبله من الْجَواب الْمُخْتَار يُؤْخَذ أَيْضا (الْجَواب الْمُخْتَار) هَهُنَا، وَهُوَ حمله على أخص الْخُصُوص (قَالُوا) رَابِعا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خلع نَعْلَيْه) فِي الصَّلَاة (فخلعوا) أَي أَصْحَابه نعَالهمْ، فَقَالَ مَا حملكم على أَن ألقيتم نعالكم؟ فَقَالُوا رَأَيْنَاك ألقيت فألقينا. قَالَ أَن جِبْرِيل أَتَانِي وَأَخْبرنِي أَن فيهمَا أَذَى. أخرجه أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان (فأقرهم على استدلالهم) بِفِعْلِهِ (وَبَين سَبَب اخْتِصَاصه) أَي خلع النَّعْلَيْنِ (بِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما ذكر (إِذْ ذَاك) أَي إِذْ فعل ذَاك الْفِعْل (قُلْنَا: دليلهم) على الْوُجُوب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي) أُصَلِّي (لَا فعله أَو فهمهم الْقرْبَة) من الْخلْع وَإِلَّا لحرم (أَو) كره فرأوه (مَنْدُوبًا) لَا وَاجِبا (قَالُوا) خَامِسًا (أَمرهم) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه (بِالْفَسْخِ) أَي فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة (فتوقفوا) عَن الْفَسْخ (لعدم فَسخه) فَعلم أَنهم كَانُوا يرَوْنَ اتِّبَاعه وَاجِبا (فَلم يُنكره) أَي توقفهم (وَبَين مَانِعا يَخُصُّهُ) من النّسخ (وَهُوَ) أَي الْمَانِع (سوق الْهدى كَذَا ذكره) فِي الصَّحِيحَيْنِ لَوْلَا أَن معي الْهَدْي لأحللت، ثمَّ اعْترض على قَوْلهم فَلم ينكروه بِمَا روى عَنهُ من الْغَضَب فَدفعهُ المُصَنّف بقوله (وَمن نظر السّنَن فَعلم أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (غضب من توقفهم) أخرج مُسلم وَغَيره عَن عَائِشَة قَالَت قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَرْبَع أَو خمس مضين ذِي الْحجَّة، فَدخل عَليّ وَهُوَ غَضْبَان، فَقلت من أغضبك يَا رَسُول الله؟(3/124)
قَالَ أشعرت أَنِّي أمرت النَّاس بِأَمْر فَإِذا هم يَتَرَدَّدُونَ، وَلَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي معي حَتَّى أحل كَمَا أحلُّوا (لم يلْزم) من الْإِلْزَام: أَي لم يَجْعَل الْغَضَب لَازِما للتوقف (لعدم الْفِعْل) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفْسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، يَعْنِي أَن النَّاظر للسنن لم يحكم بِأَن غَضَبه إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب توقفهم لعدم فَسخه (بل) يحكم بِأَن غَضَبه من توقفهم إِنَّمَا كَانَ (لكَونه) أَي التَّوَقُّف (بعد الْأَمر) بِالْفَسْخِ، إِذْ بعده لَا مجَال للتوقف وَإِن لم يفْسخ الْأَمر بِنَفسِهِ (ثمَّ بَين مانعه) مَعْطُوف على مَا فهم من فحوى الْكَلَام قَالَ لكَونه أَمر ثمَّ بَين، كلمة ثمَّ للتفاوت بَين بَيَان الْمَانِع وَعَدَمه، يَعْنِي أَن مُجَرّد الْأَمر كَاف فِي إِيجَاب الْغَضَب من التَّوَقُّف، ثمَّ إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ بَيَان الْمَانِع الْقَاطِع لمادة الشُّبْهَة الملقية إِلَى التَّوَقُّف زَاد فِي الْإِيجَاب (وَأحسن المخارج) للْعُذْر (لَهُم) أَي الصَّحَابَة فِي عدم المسارعة إِلَى الِامْتِثَال (ظَنّه) أَي الْأَمر بِالْفَسْخِ (أَمر إِبَاحَة) حَال كَونه (رخصَة ترفيها) لَهُم وتسهيلا (وَأظْهر مِنْهُ) أَي من هَذَا الْخَبَر فِي الدّلَالَة على أَنهم كَانُوا يرَوْنَ اتِّبَاعه فِي الْفضل وَاجِبا (أمره) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِالْحلقِ فِي الْحُدَيْبِيَة) بِضَم الْحَاء وَفتح الدَّال، ثمَّ الْبَاء الْمُوَحدَة، ثمَّ الْيَاء مُخَفّفَة ومثقلة، وَأكْثر الْمُحدثين على التثقيل، مَوضِع مَعْرُوف من جِهَة جده بَينهَا وَبَين مَكَّة عشرَة أَمْيَال، كَذَا ذكره الشَّارِح (فَلم يَفْعَلُوا حَتَّى حلق فازدحموا) فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث الْمسور بن مخرمَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: قومُوا فَانْحَرُوا ثمَّ احْلقُوا، قَالَ وَالله مَا قَامَ مِنْهُم رجل حَتَّى قَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، فَلَمَّا لم يقم مِنْهُم أحد دخل على أم سَلمَة فَذكر لَهَا مَا لَقِي من النَّاس، فَقَالَت أم سَلمَة: يَا نَبِي الله أَتُحِبُّ ذَلِك اخْرُج ثمَّ لَا تكلم أحدا مِنْهُم كلمة حَتَّى تنحر بدنك وَتَدْعُو حالقك فيحلقك، فَخرج فَلم يكلم أحدا مِنْهُم حَتَّى فعل ذَلِك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك قَامُوا ونحروا، وَجعل بَعضهم يحلق بَعْضًا حَتَّى كَاد بَعضهم يقتل بَعضهم غما انْتهى فَظهر أَن توقفهم كَانَ لعدم فعله (وَلَا يتم الْجَواب) عَن هَذَا الْخَامِس (بِأَن الْفَهم) لوُجُوب الْمُتَابَعَة إِنَّمَا نَشأ (من) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خُذُوا عني) مَنَاسِككُم، وَهُوَ لم يحل فَلم يحلوا (لِأَنَّهُ لم يكن) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَه بعد فِي الصُّورَتَيْنِ) صُورَة الْأَمر بِالْفَسْخِ، وَصُورَة الْأَمر بِالْحلقِ (بل) الْجَواب (مَا ذكرنَا) وَهُوَ ظنهم الْأَمر أَمر إِبَاحَة ورخصة ترفيها فَلم يَفْعَلُوا أخذا لما هُوَ الأشق حرصا مِنْهُم فِي زِيَادَة طلب الثَّوَاب (أَو بحلقه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عرف حتمه) وَأَنه إِيجَاب (قَالُوا) سادسا (اخْتلفت الصَّحَابَة فِي وجوب الْغسْل بالإيلاج) لقدر الْحَشَفَة فِي الْفرج من غير إِنْزَال (ثمَّ اتَّفقُوا عَلَيْهِ) أَي وجوب الْغسْل بِهِ كَمَا يفِيدهُ ظَاهر حَدِيث لِأَحْمَد فِي مُسْنده (لزواية عَائِشَة فعله) فَإِنَّهَا قَالَت فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا(3/125)
(أُجِيب بِأَن فِيهِ قولا) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا التقى) الختانان فقد وَجب الْغسْل رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن وهب (وَإِنَّمَا يُفِيد) هَذَا الْجَواب (إِذا روته) أَي عَائِشَة حَدِيث: إِذا التقى إِلَى آخِره أَو مَعْنَاهُ (لَهُم) أَي للصحابة لِأَنَّهُ قد علم أَن اتِّفَاقهم إِنَّمَا حصل بخبرها (أَو هُوَ) أَي الْفِعْل الَّذِي روته عَائِشَة (بَيَان) قَوْله (وَإِن كُنْتُم جنبا) فاطهروا، وَالْأَمر للْوُجُوب: أَي فَلم يرجِعوا إِلَى الْفِعْل من حَيْثُ هُوَ فعله، بل إِلَى أمره تَعَالَى بالاطهار للْجنب، وَقد تبين بِالْفِعْلِ أَن الْجَنَابَة ثبتَتْ بِهِ كَمَا تثبت بالإنزال فالمرجع الْكتاب (أَو تنَاوله) أَي وجوب الْغسْل بالالتقاء قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي) أُصَلِّي (إِذْ هُوَ) أَي الْغسْل (شَرطهَا) أَي الصَّلَاة وَهُوَ إِنَّمَا صلى بعد التقاء الختانين بِالْغسْلِ (أَو لفهم الْوُجُوب) أَي وجوب الْغسْل بِمُجَرَّد الالتقاء (مِنْهَا) أَي عَائِشَة لِأَنَّهَا فهمت الْوُجُوب لقرائن ظَهرت لَهَا، وأفهمتهم ذَلِك حَتَّى حصل لَهُم الْعلم بذلك (إِذْ كَانَ خلافهم فِيهِ) أَي فِي الْوُجُوب والاستحباب (قَالُوا) سابعا الْوُجُوب (أحوط) لما فِيهِ من الْأَمْن من الْإِثْم قطعا فَيجب الْحمل عَلَيْهِ (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الِاحْتِيَاط (فِيمَا لَا يحْتَمل التَّحْرِيم) على الْأمة (وَفعله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يحْتَملهُ) أَي التَّحْرِيم على الْأمة (ورد) هَذَا الْجَواب (بِوُجُوب صَوْم) يَوْم (الثَّلَاثِينَ) من رَمَضَان (إِذا غم الْهلَال) لشوال بِالِاحْتِيَاطِ مَعَ احْتِمَال كَونه حَرَامًا لكَونه يَوْم الْعِيد (بل الْجَواب أَنه) أَي الِاحْتِيَاط إِنَّمَا شرع (فِيمَا ثَبت وُجُوبه كَصَلَاة نسيت غير مُعينَة) فَيجب عَلَيْهِ الْخمس احْتِيَاطًا (أَو كَانَ) ثُبُوت الْوُجُوب (الأَصْل كَصَوْم) يَوْم (الثَّلَاثِينَ) إِذْ الأَصْل بَقَاء رَمَضَان (النّدب) أَي دَلِيله (الْوُجُوب يسْتَلْزم التَّبْلِيغ) دفعا للتكليف بِمَا لَا يُطَاق (وَهُوَ) أَي التَّبْلِيغ (مُنْتَفٍ بِالْفَرْضِ) إِذْ الْكَلَام فِيمَا وجد فِيهِ مُجَرّد الْفِعْل (وأسوة حَسَنَة تَنْفِي الْمُبَاح) إِذْ أقل مَرَاتِب الْحسن فِي التأسي أَن يكون مَنْدُوبًا (فَتعين النّدب أُجِيب بِأَن الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة (مُطلقًا) سَوَاء كَانَت وجوبا أَو ندبا أَو إِبَاحَة (تستلزمه) أَي التَّبْلِيغ، فَإِن وجوب التَّبْلِيغ يعمها (فَلَو انْتَفَى) التَّبْلِيغ (انْتَفَى النّدب أَيْضا، وَالْمَذْكُور فِي الْآيَة حسن الائتساء وَيصدق) حسنه (مَعَ الْمُبَاح) لِأَن الْمُبَاح حسن، وَلَا نسلم أَن أقل مراتبه النّدب، بل الْإِبَاحَة (قَالُوا) أَي النادبون ثَانِيًا (هُوَ) أَي النّدب (الْغَالِب من أَفعاله) فَيحكم عَلَيْهِ (أُجِيب بِالْمَنْعِ) أَي منع كَون الْغَالِب (الْإِبَاحَة) أَي دليلها (هُوَ) الْمُبَاح، وَكَونه مُبَاحا (الْمُتَيَقن) . قَالَ الشَّارِح لانْتِفَاء الْمعْصِيَة وَالْوُجُوب انْتهى، أما الأول فَظَاهر، وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لبينه وَلَا يخفى أَن تيقنه على تَقْرِير تَفْسِيره بِمَا لَيْسَ بِحرَام وَلَيْسَ بِوَاجِب وَأما إِذا فسر بِمَا هُوَ أخص من هَذَا التقابل الْمَنْدُوب وَالْمَكْرُوه أَيْضا كَمَا يَقْتَضِيهِ مَحل النزاع(3/126)
فَلَا نسلم تيقنه (فينتفى الزَّائِد) عَلَيْهَا وَهُوَ كَونه مُسْتَحبا (لنفي الدَّلِيل) لَهُ (وَهُوَ) أَي التيقن مَعَ انْتِفَاء الزَّائِد لنفي الدَّلِيل (وَجه) قَول (الْآمِدِيّ) الَّذِي سبق ذكره (إِذا لم تظهر الْقرْبَة) أَي قَصدهَا فِيهِ فالإباحة (وَإِلَّا) بِأَن ظهر قَصدهَا فِيهِ (فالندب) إِذْ لَو لم يتَمَسَّك بِمَا ذكره لم يتَعَيَّن على تَقْدِير عدم ظُهُور قصد الْقرْبَة وَالْإِبَاحَة وعَلى تَقْدِير ظُهُوره النّدب (وَيجب كَونه) أَي الِاسْتِدْلَال (كَذَا) أَي على المنوال (لمن ذكرنَا من الْحَنَفِيَّة) أَنهم قَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ ويتمسك (بِمثلِهِ) أَي التَّوْجِيه الْمَذْكُور (وَهُوَ) أَي مثله أَن يُقَال (أَنه) أَي النّدب (الْمُتَيَقن مَعهَا) أَي الْقرْبَة (إِلَّا أَن لَا يتْرك) ذَلِك الْفِعْل (مرّة) بِنَاء (على أصولهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فالوجوب) أَي فَحكمه الْوُجُوب حِينَئِذٍ فَإِن خُلَاصَة هَذَا أَيْضا الِاقْتِصَار على الْمُتَيَقن وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ بِقدر الدَّلِيل (وَالْحَاصِل أَن عِنْد عدم ظُهُور الْقرْبَة) وَفِي نُسْخَة الشَّارِح عِنْد عدم الْقَرِينَة (الْمُتَيَقن الْإِبَاحَة وَعند ظُهُورهَا) أَي الْقرْبَة أَو الْقَرِينَة للقربة (وجد دَلِيل الزِّيَادَة) على الْإِبَاحَة (وَالنَّدْب مُتَيَقن فينتفى الزَّائِد) وَهُوَ الْوُجُوب (وَعدم التّرْك مرّة دَلِيل) الزِّيَادَة (حَامِل الْوُجُوب الْكَرْخِي) أَي دَلِيل فِي أَنه مُبَاح فِي حَقه الْمُتَيَقن وَلَيْسَ لنا اتِّبَاعه على مَا سبق أَنه (جَازَت الخصوصية) أَي كَون الْفِعْل جَائِزا لَهُ دون غَيره (فَاحْتمل فعله التَّحْرِيم) على الْأمة (فَيمْنَع) فعله فِي حق غَيره حَتَّى يقوم دَلِيل يرجح أحد الْجَانِبَيْنِ من الْحُرْمَة وَالْجَوَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأمة (الْجَواب أَن) يُقَال (وضع مقَام النُّبُوَّة للاقتداء. قَالَ تَعَالَى لإِبْرَاهِيم {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} فَثَبت) جَوَاز الِاقْتِدَاء فِيهِ (مَا لم يتَحَقَّق خُصُوص) لَهُ فِيهِ (وَهُوَ) أَي الْخُصُوص (نَادِر لَا يمْنَع احْتِمَاله) الْمَرْجُوح جَوَاز الِاقْتِدَاء فِيهِ مَا لم يتَحَقَّق (الْوَاقِف) أَي دَلِيل مَذْهَب الْوَقْف (صفته) أَي الْفِعْل (غير مَعْلُومَة) على مَا هُوَ الْمَفْرُوض (والمتابعة) إِنَّمَا تكون (بعلمها) أَي صفته (فَالْحكم بِأَن الْمَجْهُول كَذَا) أَي وَاجِب أَو مَنْدُوب أَو مُبَاح (بِعَيْنِه فِي حَقه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كالكرخي) أَي كحكمه (وَمن ذكرنَا) هم (من الْحَنَفِيَّة) من الخصائص وفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة وَالْقَاضِي أبي زيد (وناقل الْوُجُوب) لم يقل وَمَالك لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده (على الْوَجْه الأول) من الْوَجْهَيْنِ: وهما شُمُول الْوُجُوب لَهُ وَلنَا واختصاصه بالأمة، ثمَّ قَوْله فَالْحكم مُبْتَدأ خَبره (تحكم بَاطِل يجب التَّوَقُّف عَنهُ) أَي عَن هَذَا التحكم فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا يجب الْوَقْف عَن خُصُوص حكم فِيهِ: أَي الْفِعْل للْأمة لكَونه تحكما بَاطِلا (وَنَصّ على إِطْلَاقهم) أَي الواقفين (الْفِعْل) للْأمة لكَونه تحكما بَاطِلا على مَا فِي التَّلْوِيح أثبتوا إِذْنا عَاما للْأمة فِي اتِّبَاعه فِي كل فعل غير مَعْلُوم الصّفة فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَا يُنَافِي) إِطْلَاقهم الْمَذْكُور (الْوَقْف) فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحقنا (لِأَنَّهُ) أَي الْإِطْلَاق الَّذِي هُوَ عبارَة عَن مُجَرّد الْإِذْن فِي الْفِعْل لَيْسَ الحكم الَّذِي هُوَ الْإِبَاحَة وَإِنَّمَا هُوَ (جُزْء الحكم) أَي الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ عبارَة عَن مَجْمُوع إِطْلَاق الْفِعْل وَإِطْلَاق التّرْك (فَلم يحكم فِي(3/127)
حَقه وَلَا فِي حق الْأمة بِحكم) وَإِن حكمُوا فِيهَا يُجزئهُ (وَهُوَ) إِطْلَاقهم الْفِعْل فِي حَقه وحقنا (مُقْتَضى الدَّلِيل لمنع شَرط الْعلم) بِحَال الْفِعْل (فِي الْمُتَابَعَة) فِي جَانب الْفِعْل (والتحكم) مَعْطُوف على شَرط الْفِعْل: أَي وَمنع التحكم فِي جَانب التّرْك فَلَا يُمكن أَن يحكم بِأَنَّهُ لَا بُد من تَركه للْأمة (وَيجب حمل الْإِبَاحَة عَلَيْهِ) أَي على إِطْلَاق الْفِعْل (لَا) على الْمَعْنى (المصطلح) لَهَا وَهُوَ جَوَاز الْفِعْل مَعَ جَوَاز التّرْك (لانْتِفَاء التيقن فِيهِ) أَي فِي الْمَعْنى المصطلح لعدم الدَّلِيل (وَمثله) أَي مثل حمل الْإِبَاحَة على غير الْمَعْنى المصطلح يحمل (النّدب) على قَول من قَالَ بِهِ على غير المصطلح (فِي) صُورَة قصد (الْقرْبَة) فَيحمل (على مُجَرّد تَرْجِيح الْفِعْل) على التّرْك لَا مَعَ تَجْوِيز التّرْك كَمَا هُوَ المصطلح فَيصدق مَعَ الْوُجُوب وَالنَّدْب المصطلح (لنفي التحكم) اللَّازِم على تَقْدِير حمله على المصطلح لعدم الدَّلِيل (وَحِينَئِذٍ) أَي حِين إِذْ كَانَ الْوَقْف مَا ذكرنَا تبين أَن الْوَقْف لَا يمْنَع الِاتِّبَاع مُطلقًا حَتَّى يرد عَلَيْهِ أَن المنصب للاقتداء إِلَى آخِره كَمَا أورد على الْكَرْخِي بل يُجِيز الْفِعْل وَحِينَئِذٍ (فدليلهم) أَي الواقفين وَهُوَ صفته غير مَعْلُومَة إِلَى آخِره (من غَيرهم) بقوله (على لسانهم وَإِنَّمَا هُوَ) أَي دليلهم قَوْلهم مَا ذكر من أَدِلَّة غَيرهم (احتمالات مُتَسَاوِيَة فَلَا يتحكم بِشَيْء مِنْهَا وَمُجَرَّد إِطْلَاق الْفِعْل ثَابت بِمَا ذكرنَا) فَيجب القَوْل بِهِ.
مسئلة
(إِذا علم النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِفعل وَإِن لم يره) أَي ذَلِك الْفِعْل (فَسكت) عَن إِنْكَار حَال كَونه (قَادِرًا على إِنْكَاره فَإِن) كَانَ الْفِعْل (مُعْتَقد كَافِر فَلَا أثر لسكوته) وَلَا دلَالَة لَهُ على الْجَوَاز اتِّفَاقًا، فَإِن عدم إِنْكَاره حِينَئِذٍ لعلمه بِأَنَّهُ لَا يَنْتَهِي وَلَيْسَ بمأمور بِخَبَرِهِ (وَإِلَّا) وَإِن لم يكن مُعْتَقد كَافِر (فَإِن سبق تَحْرِيمه بغام ف) هُوَ (نسخ) لتحريمه مِنْهُ عِنْد الْحَنَفِيَّة (أَو تَخْصِيص) لَهُ بِهِ عِنْد الشَّافِعِيَّة (على الْخلاف) بَينهم فِي أَن مثل ذَلِك نسخ أَو تَخْصِيص (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن يسْبق تَحْرِيمه بِهِ (فدليل الْجَوَاز، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن دَلِيل الْجَوَاز (كَانَ) سُكُوته مستلزما (تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة) وَهُوَ غير وَاقع كَمَا سَيَأْتِي (فَإِن استبشر) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِهِ) أَي بذلك الْفِعْل (فأوضح) أَي فَذَلِك السُّكُوت المقرون بالاستبشار أوضح دلَالَة على الْجَوَاز من السُّكُوت الْغَيْر المقرون بالاستبشار (إِلَّا أَن يدل دَلِيل على أَنه) أَي استبشاره (عِنْده) أَي الْفِعْل (لأمر آخر، لابه) أَي بذلك الْفِعْل، و (قد يخْتَلف فِي ذَلِك) أَي فِي كَون الاستبشار بِهِ (فِي الْمَوَارِد، وَمِنْه) أَي من الْمُخْتَلف فِيهِ من الْمَوَارِد (إِظْهَاره) ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْبشر) أَي السرُور (عِنْد قَول) مجزز بِضَم الْمِيم وَفتح الْجِيم وزاءين معجمتين، الأولى مُشَدّدَة مَكْسُورَة (المدلجي) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة من(3/128)
بني مُدْلِج بن مرّة لَهُ صُحْبَة، وَذكر ابْن يُونُس أَنه شهد فتح مصر لما دخل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا أُسَامَة بن زيد وَزيد بن حَارِثَة عَلَيْهِمَا قطيفة قد غطيا رؤوسهما (وبدت لَهُ أَقْدَام زيد وَأُسَامَة: أَن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض) كَمَا فِي كتب السّنة. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَكَانَ أُسَامَة أسود وَكَانَ زيد أَبيض. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن سعد: كَانَ أُسَامَة مثل اللَّيْل، وَكَانَ يزِيد أَبيض أَحْمَر أشقر (فاعتبره) أَي بشر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الشَّافِعِي بقوله) أَي المدلجي (فَأثْبت) الشَّافِعِي (النّسَب بالقيافة، ونفاه) أَي ثُبُوته بهَا (الْحَنَفِيَّة وصرفوا الْبشر إِلَى مَا يثبت عِنْده) أَي قَول المدلجي (من تَركهم الطعْن فِي نسبه وإلزامهم بخطئهم فِيهِ) أَي فِي الطعْن فِيهِ (على اعْتِقَادهم) حقية القيافة (وَدفع) هَذَا (بِأَن ترك إِنْكَاره) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الطَّرِيق) فِي إِثْبَات النّسَب على مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة، يَعْنِي القيافة (ظَاهر فِي حقيتها) أَي القيافة (فَلَا يجوز) ترك إِنْكَاره (إِلَّا مَعَه) أَي كَونهَا حَقًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يكون بشره مَعَ عدم حقية الطَّرِيق (لذكره) أَي إنكارها (وَلَا يَنْفِي) ذكره الْإِنْكَار (الْمَقْصُود من رجوعهم) أَي الطاعنين: إِذْ الْإِنْكَار لَا يردهم عَن عقيدتهم، وَفَائِدَة الْإِنْكَار رَاجِعَة إِلَى الْمُؤمنِينَ كَمَا سَيَجِيءُ (وَالْجَوَاب) عَن الدّفع الْمَذْكُور (أَن انحصار ثُبُوت النّسَب فِي الْفراش كَانَ ظَاهرا عِنْد أهل الشَّرْع، والطعن لَيْسَ مِنْهُم بل من الْمُنَافِقين وهم يَعْتَقِدُونَ بطلَان قَوْلهم) فِي الطعْن (لقَوْله) أَي المدلجي (فالسرور لذَلِك) أَي لبُطْلَان قَوْلهم (وَترك إِنْكَار السَّبَب) الَّذِي هُوَ القيافة لَا تضر (لِأَنَّهُ) أَي هَذَا التّرْك (كتركه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار (على تردد كَافِر إِلَى كَنِيسَة فَلَا يكون) سُكُوته عَن إنكارهم (تقريرا) .
مسئلة
(الْمُخْتَار أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل بعثته متعبد) أَي مُكَلّف (قيل بشرع نوح) عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ أول الرُّسُل المشرعين، وَحكى ابْن برهَان تعبده بشرع آدم لِأَنَّهُ أول الشَّرَائِع وَكَأن المُصَنّف لم يعْتد بِهَذَا القَوْل (وَقيل) بشرع (إِبْرَاهِيم) عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ صَاحب الْملَّة الْكُبْرَى (وَقيل) بشرع (مُوسَى) لِأَنَّهُ صَاحب الْكتاب الَّذِي نسخ وَلم ينْسَخ أَكثر (وَقيل) بشرع (عِيسَى) عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ بعدهمْ وَلم ينْسَخ إِلَى حِين بَعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يخفى مَا فِي هَذِه الْأَوْجه. (وَالْمُخْتَار) عِنْد المُصَنّف أَنه متعبد (بِمَا ثَبت أَنه شرع إِذْ ذَاك) فِي ذَاك الزَّمَان بطريقه لِأَنَّهُ فِي غير الْمُتَوَاتر إِنَّمَا يثبت بعدالة النقلَة المخبرين بِأَن حكم الله كَذَا(3/129)
وَلم ينْسَخ إِلَى هَذَا الْيَوْم وَكَانَ ذَلِك متعسرا فَكَانَ يَكْتَفِي بِمُجَرَّد ثُبُوت كَونه مَشْرُوعا فِي شرع نَبِي، لِأَن الأَصْل عدم النّسخ فَيعْمل بِهِ مَا لم يتَعَلَّق الْعلم بالنسخ، وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف مَا يُقَارب هَذَا (إِلَّا أَن يثبتا) أَي الشرعان أَمريْن (متضادين فبالأخيرة) أَي فَيجب حِينَئِذٍ أَن يعْمل بالشريعة الْمُتَأَخِّرَة للْعلم بِكَوْنِهَا ناسخة للأولى (فَإِن لم يعلم الْمُتَأَخر) من الشرعين (لعدم معلومية طَرِيقه) أَي الْأَخير (فبمَا ركن إِلَيْهِ) أَي فَهُوَ متعبد بِمَا اطْمَأَن قلبه إِلَيْهِ (مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا كقياسين) لَا رُجْحَان لأَحَدهمَا على الآخر وَالْحكم فِي الْقيَاس مَا ذكرُوا وَذَلِكَ (لعدم مَا بعدهمَا) أَي لعدم الْعلم بشرع ثَالِث (ونفاه) أَي تعبده قبل الْبعْثَة بشرع من قبله (الْمَالِكِيَّة) . قَالَ القَاضِي وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْمُتَكَلِّمين، ثمَّ اخْتلفُوا فمنعته الْمُعْتَزلَة عقلا. وَقَالَ القَاضِي وَغَيره من أهل الْحق وَيجوز وَلم يَقع. قَالَ المُصَنّف (والآمدي وَتوقف الْغَزالِيّ) وَنسب التَّوَقُّف السُّبْكِيّ إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ والآمدي وَابْن الْأَنْبَارِي وَغَيرهم (لنا لم يَنْقَطِع التَّكْلِيف من بعثة آدم عُمُوما) أَي بعثا عَاما إِلَى كَافَّة النَّاس (كآدم ونوح وخصوصا) كشعيب إِلَى أهل مَدين وَأهل الأيكة (وَلم يتْركُوا) أَي النَّاس (سدى) أَي مهملين غير مأمورين وَلَا منهيين فِي زمن من الْأَزْمَان (قطّ فَلَزِمَ) التَّعَبُّد (كل من تأهل) لَهُ من الْعباد (وبلغه) مَا يتعبد بِهِ (وَهَذَا) الدَّلِيل (يُوجِبهُ) أَي التَّعَبُّد (فِي غَيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَيْضا (وَهُوَ كَذَلِك، وتخصيصه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اتفاقي. وَاسْتدلَّ) للمختار (بتضافر رِوَايَات صلَاته وصومه وحجه) أَي تعاونهما واجتماعهما. قَوْله بتظافر بالظاء الْمُعْجَمَة فِي النّسخ المصححة. وَقَالَ الشَّارِح بالضاد الْمُعْجَمَة (للْعلم الضَّرُورِيّ أَنه) أَي فعلهَا (لقصد الطَّاعَة وَهِي) أَي الطَّاعَة (مُوَافقَة الْأَمر) فَلَا يتَصَوَّر من غير شرع (وَالْجَوَاب أَن الضَّرُورِيّ قصد الْقرْبَة وَهِي) أَي الْقرْبَة (أَعم من مُوَافقَة الْأَمر والتنفل فَلَا يسْتَلْزم) الْقرْبَة (معينا) مِنْهُمَا (ظَاهرا) أَي لَيْسَ لُزُوم الْمعِين ظَاهرا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقرْبَة (فضلا عَن ضروريته) أَي كَونه ضَرُورِيًّا. (وَاسْتدلَّ أَيْضا بِعُمُوم كل شَرِيعَة) جَمِيع الْمُكَلّفين فيتناوله أَيْضا (وَمنع) عُمُوم كل شَرِيعَة، وَكَيف لَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ النَّبِي يبْعَث إِلَى قومه خَاصَّة وَبعثت إِلَى النَّاس عَامَّة انْتهى قلت وَفِي قَوْله تَعَالَى - {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} - إِشَارَة إِلَيْهِ. قَالَ (النَّافِي لَو كَانَ) متعبدا بشريعة من قبله (قَضَت الْعَادة بمخالطته أَهلهَا وَوَجَبَت) مخالطته لَهُم لأخذ الشَّرْع مِنْهُم (وَلم يفعل) ذَلِك، إِذْ لَو فعل لنقل لتوفر الدَّوَاعِي على نَقله (أُجِيب الملزم) للتعبد بِمَا إِذا علم أَنه شرع (إِذْ ذَاك) أَي قبل الْبعْثَة (التَّوَاتُر) لِأَنَّهُ الْمُفِيد للْعلم (وَلَا حَاجَة(3/130)
مَعَه) أَي التَّوَاتُر (إِلَيْهَا) أَي مخالطته لَهُم (لَا) أَن الْمَلْزُوم لَهُ (الْآحَاد لِأَنَّهَا) أَي الْآحَاد (مِنْهُم) أَي أهل شرع من قبله (لَا تفِيد ظنا) لما وَقع من التحريف على مَا أخبر بِهِ التَّنْزِيل. قَالَ الشَّارِح وَالْخلاف فِي هَذَا يجب أَن يكون مَخْصُوصًا بالفروع، إِذْ النَّاس فِي الْجَاهِلِيَّة مكلفون بقواعد العقائد، وَلِهَذَا انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن موتاهم فِي النَّار يُعَذبُونَ بهَا على كفرهم وَلَوْلَا التَّكْلِيف مَا عذبُوا، فعموم إِطْلَاق الْعلمَاء مَخْصُوص بِالْإِجْمَاع. ذكره الْقَرَافِيّ، ثمَّ هَذِه المسئلة. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا: وَلَا يظْهر لَهَا ثَمَرَة فِي الْأُصُول وَلَا فِي الْفُرُوع بل تجْرِي مجْرى التواريخ وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حكم فِي الشَّرِيعَة وَفِيه تَأمل انْتهى. (وَأما) تعبده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشرع من قبله (بعد الْبَعْث فَمَا ثَبت) أَنه شرع لمن قبله فَهُوَ (شرع لَهُ ولأمته) عِنْد جُمْهُور الْحَنَفِيَّة والمالكية وَالشَّافِعِيَّة وَعَن الْأَكْثَرين الْمَنْع، فالمعتزلة مستحيلة عقلا وَغَيرهم شرعا، وَاخْتَارَهُ القَاضِي وَالْإِمَام الرَّازِيّ والآمدي و (لنا مَا اخترناه) بَين الْأَدِلَّة (من الدَّلِيل) السَّابِق، وَهُوَ أَنه لم يَنْقَطِع التَّكْلِيف إِلَى آخِره (فَيثبت) ذَلِك شرعا لَهُ (حَتَّى يظْهر النَّاسِخ وَالْإِجْمَاع) مُنْعَقد (على الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى وكتبنا عَلَيْهِم) أَي أَوجَبْنَا على بني إِسْرَائِيل أَو فَرضنَا (فِيهَا) أَي التَّوْرَاة - {أَن النَّفس بِالنَّفسِ} - على وجوب الْقصاص فِي شرعنا، وَلَوْلَا أَنا متعبدون بِهِ لما صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِوُجُوبِهِ فِي دينهم على وُجُوبه فِي ديننَا. (وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَام عَن صَلَاة) أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا (وتلا - {أقِم الصَّلَاة لذكري} وَهِي) أَي هَذِه الْآيَة (مقولة لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام) فاستدل بهَا على وجوب قَضَاء الصَّلَاة عِنْد تذكرها، وَإِلَّا لم يكن لتلاوتها فَائِدَة فِي هَذَا الْمقَام، فَعلم تعبده بِمَا فِي شَرعه (قَالُوا) أَي النافون أَولا (لم يذكر) شرع من قبلنَا (فِي حَدِيث معَاذ) السَّابِق (وَصَوَّبَهُ) أَي مَا فِيهِ من الْقَضَاء بِكِتَاب الله تَعَالَى ثمَّ بِسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ بِاجْتِهَادِهِ. وَلَو كَانَ شرع من قبلنَا شرعا لنا لذكره (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي عدم ذكره (إِمَّا لِأَن الْكتاب يتضمنه) لقَوْله تَعَالَى - {فبهداهم اقتده} - فَإِنَّهُ يعم الْأُصُول وَالْفُرُوع (أَو لقلته) أَي قلَّة وُقُوعه، وَإِنَّمَا صرنا فِي أحد التَّأْويلَيْنِ (جمعا للأدلة) دليلنا الدَّال على كَونه متعبدا بِهِ ودليلكم الدَّال على نَفْيه (قَالُوا) ثَانِيًا إِلَى أحد التَّأْويلَيْنِ (الْإِجْمَاع على أَن شريعتنا ناسخة) لجَمِيع الشَّرَائِع (قُلْنَا) ناسخة (لما خالفها) أَي شريعتنا (لَا مُطلقًا للْقطع بِعَدَمِهِ) أَي النّسخ (فِي الْإِيمَان وَالْكفْر وَغَيرهمَا) كَالْقصاصِ وحد الزِّنَا (قَالُوا) ثَالِثا (لَو كَانَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متعبدا بِهِ (وَجَبت خلطته) لأَهله (أُجِيب بِمَا تقدم) بِأَن الملزم للتعبد إِذْ ذَاك التَّوَاتُر إِلَى آخِره (وَاعْلَم أَن الْحَنَفِيَّة قيدوه) أَي كَون شرع من قبلنَا شرعا لنا (بِمَا إِذا قصّ الله وَرَسُوله) ذَلِك (وَلم يُنكره فَجعل) هَذَا مِنْهُم قولا (ثَالِثا وَالْحق أَنه)(3/131)
أَي هَذَا التَّقْيِيد (وصل بَيَان طَرِيق ثُبُوته) أَي شرع من قبلنَا (لَا يَتَأَتَّى فِيهِ خلاف، إِذْ لَا يُسْتَفَاد) شرعهم (عَنْهُم) أَي عَن أهل تِلْكَ الشَّرَائِع (آحادا وَلم يعلم متواتر) مِنْهُ (لم ينْسَخ، وَلَا بُد من ثُبُوته) شرعا لَهُم أَولا ليترتب عَلَيْهِ وجوب اتباعنا لَهُ ثَانِيًا (فَكَانَ) ثُبُوته (بذلك) بِأَن يقص الله وَرَسُوله من غير إِنْكَار (وَبَيَان رده إِلَى الْكتاب أَو السّنة يمْنَع كَونه) قسما (خَامِسًا من الِاسْتِدْلَال كَمَا سَيَأْتِي) .
مسئلة
(تَخْصِيص السّنة بِالسنةِ كالكتاب) أَي كتخصيص الْكتاب بِالْكتاب (على الْخلاف) إِمَّا فِي الْجَوَاز كَمَا بَين الْجُمْهُور وشذوذ، وَإِمَّا فِي اشْتِرَاط الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص الأول بِكَوْنِهِ مَوْصُولا بِالْعَام على مَا سبق فِي بحث التَّخْصِيص، فَأكْثر الْحَنَفِيَّة يشْتَرط وَبَعْضهمْ كالشافعية لَا يشْتَرط إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تقدم فِي بَحثه (قَالُوا) أَي الْجُمْهُور (خص) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِيمَا سقت السَّمَاء) والعيون أَو كَانَ عثريا (الْعشْر، بليس فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) مُتَّفق عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي تَخْصِيصه الأول، وَهُوَ فِيمَا سقت السَّمَاء إِلَى آخِره بِالثَّانِي، وَهُوَ لَيْسَ إِلَى آخِره (تَامّ على) قَول (الشَّافِعِيَّة) وَبَعض الْحَنَفِيَّة لعدم الْمُقَارنَة، وتقديمهم الْخَاص مُطلقًا (لَا) على قَول (أبي يُوسُف وَمُحَمّد إِذْ لم تثبت مقارنته) أَي الثَّانِي للْأولِ (وَلَا تَأْخِيره ليخص) على تَقْدِير مقارنته (وينسخ) على تَقْدِير تَأْخِيره (فتعارضا) أَي الحديثان فِي الْإِيجَاب فِيمَا دون خَمْسَة أوسق فَقدم أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الثَّانِي. قَالَ الشَّارِح بِمَا الله أعلم بِهِ، فَإِن وَجهه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَصْل المذهبي غير ظَاهر انْتهى. وَلَا يبعد أَن يُقَال بِأَن عدم الْإِيجَاب وَبَرَاءَة الذِّمَّة هُوَ الأَصْل فيصلح مرجحا، فَإِن الِاسْتِصْحَاب يصلح للدَّفْع وَإِن لم يصلح للإثبات (وَقدم) أَبُو حنيفَة (الأول) أَي الْعَام (احْتِيَاطًا) لتقدم الْمُوجب على الْمُبِيح، وَحمل كثير من الْمَشَايِخ كصاحب الْهِدَايَة وَغَيره مرويهما على زَكَاة التِّجَارَة جمعا بَين الْحَدِيثين وَقَالُوا لأَنهم يتبايعون بالأوساق وَقِيمَة الوسق كَانَت يَوْمئِذٍ أَرْبَعِينَ درهما، وَلَفظ الصَّدَقَة يُنبئ عَنْهَا.
مسئلة
(ألحق) أَبُو بكر (الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة والبردعي وفخر الْإِسْلَام وَأَتْبَاعه) والسرخسي وَأَبُو الْيُسْر والمتأخرون وَمَالك وَالشَّافِعِيّ يُمكن فِي الْقَدِيم وَأحمد فِي إِحْدَى روايتيه (قَول الصَّحَابِيّ) الْمُجْتَهد (فِيمَا يُمكن فِيهِ الرَّأْي) أَي فِي حكم يُمكن إثْبَاته بِالْقِيَاسِ (بِالسنةِ) صلَة الْإِلْحَاق بِالسنةِ وَهَذَا الْإِلْحَاق بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الصَّحَابِيّ (لَا لمثله) أَي صَحَابِيّ آخر (فَيجب) على غير الصَّحَابِيّ(3/132)
(تَقْلِيده) أَي الصَّحَابِيّ (ونفاه) أَي إِلْحَاقه بِالسنةِ (الْكَرْخِي وَجَمَاعَة) من الْحَنَفِيَّة: مِنْهُم القَاضِي أَبُو زيد (كالشافعي) فِي الْجَدِيد (وَلَا خلاف فِيمَا لَا يجْرِي فِيهِ) أَي فِي قَوْله الَّذِي لَا يجْرِي فِيهِ الرَّأْي لعدم إِمْكَانه (بَينهم) أَي الْحَنَفِيَّة ظرف للْخلاف وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كالمرفوع لِأَنَّهُ لَا يدْرك بِالرَّأْيِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي أَيْضا فِي الْجَدِيد على مَا حَكَاهُ السُّبْكِيّ (وتحريره) أَي مَحل النزاع (قَوْله) أَي الصَّحَابِيّ (فِيمَا) يدْرك بِالْقِيَاسِ لَكِن (لَا يلْزمه الشُّهْرَة) بَين الصَّحَابَة لكَونه (مِمَّا لَا تعم بِهِ الْبلوى وَلم ينْقل خلاف) فِيهِ بَين الصَّحَابَة، ثمَّ ظهر نَقله فِي التَّابِعين (وَمَا يلْزمه) الشُّهْرَة لكَونه مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى واشتهر وَلم يظْهر خلاف (فَهُوَ إِجْمَاع كالسكوتي حكما بشهرته) أَي قَوْلنَا بِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا كالإجماع السكوتي لحكمنا بِكَوْنِهِ مَشْهُور الْوُجُود مُقْتَضى الشُّهْرَة وَهُوَ عدم الْبلوى وَعدم خلافهم مَعَ شهرته بِمَنْزِلَة اطلَاع أهل الْحل وَالْعقد على أَمر ديني مَعَ سكوتهم عَن إِنْكَاره (وَفِي) صُورَة (اخْتلَافهمْ) أَي الصَّحَابَة فِيمَا يُمكن فِيهِ أَن تعم الْبلوى، أَو لَا يسْلك (التَّرْجِيح) بمرجح لأحد الْأَقْوَال (فَإِن تعذر) التَّرْجِيح (عمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ) . قَالَ الشَّارِح بعد أَن يَقع فِي أَكثر رَأْيه أَنه هُوَ الصَّوَاب. وَلَا يخفى أَن مَا يفهم من الْمَتْن أَعم من ذَلِك، وَقَالَ أَيْضا بعد أَن يعْمل بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَن يعْمل بِالْآخرِ بِلَا دَلِيل (لَا يطْلب تَارِيخ) بَين أَقْوَالهم كَمَا يفعل بَين النصين، لأَنهم لما اخْتلفُوا وَلم يتحاجوا بِالسَّمَاعِ تعين أَن تكون أَقْوَالهم عَن اجْتِهَاد لَا سَماع فَكَانَا (كالقياسين) تَعَارضا (بِلَا تَرْجِيح) لأَحَدهمَا على الآخر حَيْثُ يكون هَذَا حكمهمَا: وَذَلِكَ لِأَن الْحق لَا يعدو أَقْوَالهم حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن يَقُول بِالرَّأْيِ قولا خَارِجا عَنْهَا (وَاخْتلف عمل أئمتهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِي هَذِه المسئلة، وَهِي تَقْلِيده فِيمَا يُمكن فِيهِ للرأي، فَلم يسْتَقرّ عَنْهُم مَذْهَب فِيهَا، وَلَا يثبت فِيهَا عَنْهُم رِوَايَة ظَاهِرَة (فَلم يشترطا) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي صِحَة السّلم (إِعْلَام قدر رَأس مَال السّلم الْمشَاهد) أَي تَسْمِيَة قدره إِذا كَانَ مشارا إِلَيْهِ (قِيَاسا) على الْإِعْلَام بِالتَّسْمِيَةِ يَصح إِجْمَاعًا: فَكَذَا بِالْإِشَارَةِ وَقِيَاسًا على البيع الْمُطلق فَإِن الْبَدَل فِيهِ إِذا كَانَ مشارا إِلَيْهِ يُغني عَن التَّسْمِيَة (وَشَرطه) أَي أَبُو حنيفَة إِعْلَام قدر رَأس المَال الْمشَاهد فِي صِحَّته (وَقَالَ بلغنَا) ذَلِك (عَن ابْن عمر) كَذَا فِي الْكَشْف وَفِي غَيره عَن عمر وَابْن عمر (وضمنا) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد (الْأَجِير الْمُشْتَرك) وَهُوَ من يعْقد على عمله كالصباغ والقصار الْعين الَّتِي هِيَ مَحل الْعَمَل إِذا هَلَكت (فِيمَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ كالسرقة بِخِلَاف) مَا إِذا هَلَكت بِالسَّبَبِ (الْغَالِب) وَهُوَ مَا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ كالحرق وَالْغَرق والغارة الْعَامَّة فَإِنَّهُ لَا ضَمَان فِيهِ عَلَيْهِ آنِفا وَإِنَّمَا ضمناه فِي الأول (بقول عَليّ رَضِي الله عَنهُ) رَوَاهُ ابْن أَب شيبَة عَنهُ من طرق. وَأخرج الشَّافِعِي عَنهُ أَنه كَانَ يضمن الصّباغ والصائغ(3/133)
وَيَقُول لَا يصلح للنَّاس إِلَّا ذَلِك (ونفاه) أَي أَبُو حنيفَة تضمين الْأَجِير الْمُشْتَرك (بِقِيَاس أَنه أَمِين كَالْمُودعِ) والأجير الْوَاحِد وَهُوَ من يعْقد على مَنَافِعه، وروى الشَّارِح عَن أبي حنيفَة عَن عَليّ خلاف هَذَا وَهُوَ عدم تضمين الْقصار والصباغ، وَأَنه رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَول الاسبيجابي أَن عليا رَجَعَ عَن ذَلِك وَأَن شريحا كَانَ لَا يضمن بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ من غير نَكِير وَالله أعلم (وَاتفقَ فِيمَا لَا يدْرك رَأيا كتقدير أقل الْحيض) ثَلَاثَة أَيَّام (بِمَا) روى (عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَأنس) رَضِي الله عَنْهُم، ك 1 افي جَامع الْأَسْرَار (وَاعْترض الشَّارِح بِأَن التَّقْدِير الْمَذْكُور بالمرفوع من طرق عديدة وَإِن كَانَ فِيهَا ضعف، فَإِن تعددها يرفعها إِلَى دَرَجَة الْحسن، وَبِأَن حِكَايَة الِاتِّفَاق فِيهَا نظر، لِأَن فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة ثَلَاثَة أَيَّام والليلتان يتخللانها، وَعند أبي يُوسُف يَوْمَانِ وَأكْثر الثَّالِث وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الِاسْتِدْلَال بِمَا عَن الصَّحَابَة طَرِيق مُسْتَقل فِي إِثْبَات الْمطلب وَهُوَ لَا يُنَافِي أَن يسْتَدلّ بطرِيق آخر، وَهُوَ جمع الطّرق الضعيفة على مَا ذكر وَأَن أَبَا يُوسُف لم يُخَالف فِي تَقْدِير ثَلَاثَة أَيَّام، لِأَن الْأَكْثَر فِي حكم الْكل، وَرِوَايَة الْحسن لم تخَالف فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَإِن خَالَفت فِي اللَّيَالِي فَيجوز أَن يُقَال بِهَذَا الِاعْتِبَار أَنهم اتَّفقُوا فِي تَقْدِير الْأَقَل على أَن الْحيض بعض الرِّوَايَات لَا يعْتد بهَا، ثمَّ عطف على تَقْدِير أقل الْحيض قَوْله (وَفَسَاد بيع مَا اشْترى) بِأَقَلّ مِمَّا اشْترى (قبل نقد الثّمن بقول عَائِشَة) لأم ولد زيد بن أَرقم لما قَالَت لَهَا: إِنِّي بِعْت من زيد غُلَاما بثمانمائة دِرْهَم نَسِيئَة واشتريته بستمائة نَقْدا، بلغي زيدا أَن قد أبطلت جهادك مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَن تتوب بئس مَا اشْتريت وَبئسَ مَا شريت، رَوَاهُ أَحْمد. قَالَ ابْن عبد الْهَادِي إِسْنَاده جيد (لما تقدم) أَي لِأَنَّهُ لَا يدْرك رَأيا، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِكَوْن مَا قالته مِمَّا لَا يدْرك بِالرَّأْيِ (لِأَن الأجزية) على الْأَعْمَال كبطلان الْجِهَاد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تعلم إِلَّا (بِالسَّمْعِ) فَهُوَ فِي حكم الرّفْع. (للنافي) إِلْحَاق قَول الصَّحَابِيّ بِالسنةِ أَنه (يمْتَنع تَقْلِيد الْمُجْتَهد) غَيره (وَهُوَ) أَي الصَّحَابِيّ (كَغَيْرِهِ) من الْمُجْتَهدين فِي احْتِمَال اجْتِهَاده الْخَطَأ لانْتِفَاء الْعِصْمَة فَيمْتَنع تَقْلِيده. (الْمُوجب) أَي الْقَائِل بِوُجُوب تَقْلِيده (منع) الْمُقدمَة (الثَّانِيَة) وَهُوَ كَون الْمُجْتَهد الصَّحَابِيّ كَغَيْرِهِ فِي الِاحْتِمَال الْمَذْكُور (بل يُقَوي فِيهِ) أَي فِي قَوْله (احْتِمَال السماع) لِأَنَّهُ الْأَغْلَب فِي أَقْوَالهم (وَلَو انْتَفَى) السماع (فأصابته) الْحق (أقرب) من غَيره (لبركة الصُّحْبَة ومشاهدتهم الْأَحْوَال المستنزلة للنصوص) يَعْنِي أَسبَاب نُزُولهَا (والمحال الَّتِي لَا تَتَغَيَّر) الْأَحْكَام (باعتبارها) وبذلهم المجهود فِي طلب الْحق وقوام الدّين أَكثر (بِخِلَاف غَيره) أَي الصَّحَابِيّ، وَاحْتِمَال الْخَطَأ لَا يُوجب الْمَنْع عَن اتِّبَاع مَا يحْتَملهُ كالقياس: أَي كَمَا أَن احْتِمَال الْقيَاس الْخَطَأ لَا يمْنَع اتِّبَاع الْمُجْتَهد الْقيَاس إِيَّاه بل(3/134)
يجب عَلَيْهِ اتِّبَاعه (فَصَارَ) قَول الصَّحَابِيّ (كالدليل الرَّاجِح) فَإِنَّهُ إِن ظهر للمجتهد أَدِلَّة متعارضة وَكَانَ أَحدهَا راجحا بتعين الْعَمَل بِهِ (وَقد يفِيدهُ) أَي وجوب تَقْلِيد الصَّحَابِيّ أَو نَدبه (عُمُوم) قَوْله تَعَالَى - {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان} فَإِن مدح التَّابِعين بِاعْتِبَار الِاتِّبَاع على مَا يَقْتَضِيهِ تعلق الْمَدْح بالموصوف بِهِ يُفِيد ذَلِك، إِذْ كَمَال الِاتِّبَاع بِالرُّجُوعِ إِلَى رَأْيهمْ، لِأَن الِاتِّبَاع فِيمَا يدل على الْكتاب وَالسّنة إِنَّمَا هُوَ اتِّبَاع لَهما كَمَا لَا يخفى (وَالظَّاهِر) من الْمُجْتَهد أَي من جَوَاب مسئلة الْمُجْتَهد (فِي) التَّابِعِيّ (الْمُجْتَهد فِي عصرهم) أَي الصَّحَابَة (كَابْن الْمسيب الْمَنْع) أَي منع من بعده من الْمُجْتَهدين من تَقْلِيده (لفَوَات المناط الْمسَاوِي) للمناط فِي وجوب التَّقْلِيد للصحابي وَهُوَ ترك الصُّحْبَة ومشاهدة الْأُمُور المثيرة والمقيدة لاطلاقهما، كَذَا ذكر الشَّارِح وَلَا يخفى أَن مُرَاده أَنه لَا يُقَاس من عاصر الصَّحَابِيّ على الصَّحَابِيّ لعدم الْجَامِع، لَكِن تَقْرِيره يدل على أَنه لَا بُد فِي الْفَرْع من منَاط غير منَاط الأَصْل مسَاوٍ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك بل مناطهما وَاحِد كَمَا أَن حكمهمَا وَاحِد، وَغَايَة التَّأْوِيل أَن يُقَال لما كَانَ المناط مفهوما كليا يتَحَقَّق فِي الأَصْل فِي ضمن فَرد، وَفِي الْفُرُوع فِي ضمن فَرد آخر مماثل للْأولِ سمى كل مِنْهُمَا مناطا، أَو عبر عَن مماثلتهما بالمساواة وَالله أعلم. (و) ذكر (فِي النَّوَادِر نعم كالصحابي) وَاخْتَارَهُ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ (وَالِاسْتِدْلَال) لهَذَا (بِأَنَّهُم) أَي الصَّحَابَة (لما سوغوا لَهُ) أَي للمجتهد الْمَذْكُور الِاجْتِهَاد وزاحمهم فِي الْفَتْوَى (صَار مثلهم) فِي وجوب التَّقْلِيد أَيْضا (مَمْنُوع الْمُلَازمَة لِأَن التسويغ) لاجتهاده (لرتبة الِاجْتِهَاد) أَي لكَونه بلغ رتبته وَمن بلغَهَا لَا يجوز مَنعه (لَا يُوجب ذَلِك المناط) المثير لوُجُوب تَقْلِيد الصَّحَابِيّ، وَإِذا عرفت أَن التسويغ للِاجْتِهَاد لَا يسْتَلْزم كَونه مثل الصَّحَابِيّ (فبرد شُرَيْح) أَي فالاستدلال برد شُرَيْح (الْحسن) أَي شَهَادَته (على عَليّ) ذكر الْمَشَايِخ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ تحاكم إِلَى شُرَيْح فَخَالف عليا فِي رد شَهَادَة الْحسن لَهُ لِلْقَرَابَةِ (وَهُوَ) أَي عَليّ (يقبل الابْن) أَي كَانَ يرى جَوَاز شَهَادَة الابْن لِأَبِيهِ (وَمُخَالفَة مَسْرُوق ابْن عَبَّاس فِي إِيجَاب مائَة من الْإِبِل فِي النّذر بِذبح الْوَلَد إِلَى) إِيجَاب (شَاة) كلمة إِلَى مُتَعَلقَة بِمَا تضمنته الْمُخَالفَة من معنى الْعُدُول والانصراف قَالُوا وَرجع ابْن عَبَّاس إِلَى قَوْله (لَا يُفِيد) الْمَطْلُوب (وَجعل شمس الْأَئِمَّة الْخلاف) فِي قَوْلنَا التَّابِعِيّ (لَيْسَ) فِي شَيْء (إِلَّا فِي أَنه هَل يعْتد بِهِ) أَي بالتابعي (فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة فَلَا ينْعَقد) أَي إِجْمَاعهم (دونه) أَي دون اتفاقه مَعَهم (أَولا) يعْتد بِهِ (فعندنا نعم) يعْتد بِهِ، وَعند الشَّافِعِي لَا يعْتد بِهِ وَقَالَ لَا خلاف فِي أَن قَول التَّابِعِيّ لَيْسَ بِحجَّة على وَجه يتْرك بِهِ الْقيَاس.(3/135)
فصل فِي التَّعَارُض
(وغالبه) أَي التَّعَارُض (فِي) أَخْبَار (الْآحَاد) فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى وَجه ذكره بعْدهَا، و (هُوَ) أَي التَّعَارُض لُغَة (التمانع) بطرِيق التقابل، تَقول عرض لي كَذَا إِذا استقبلك بِمَا يمنعك مِمَّا قصدته، وَسمي السَّحَاب عارضا لمَنعه شُعَاع الشَّمْس وحرارتها (وَفِي الِاصْطِلَاح اقْتِضَاء كل من الدَّلِيلَيْنِ عدم مُقْتَضى الآخر، فعلى مَا قيل) وَالْقَائِل غير وَاحِد من الْمَشَايِخ كفخر الْإِسْلَام (لَا يتَحَقَّق) التَّعَارُض (إِلَّا مَعَ الوحدات) الثمان، وحدة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَبِه، وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَالْإِضَافَة وَالْقُوَّة، وَالْفِعْل وَالْكل والجزء، وَالشّرط، قيل ووحدة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، ومرجع الْكل إِلَى وحدة النِّسْبَة كَمَا عرف فِي الْمنطق، فالتعارض (لَا يتَحَقَّق فِي) الْأَدِلَّة (الشَّرْعِيَّة للتناقض) أَي لِأَنَّهُ يسْتَلْزم التَّنَاقُض، والشارع منزه عَنهُ لكَونه أَمارَة الْعَجز، وَقد يُقَال لَا نسلم أَن عدم تحقق التَّعَارُض بِدُونِ تحقق الوحدات فِي نفس الْأَمر يسْتَلْزم عدم تحَققه فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة، إِذْ التَّنَاقُض إِنَّمَا يلْزم لَو اعْتبر فِيمَا صدق عَلَيْهِ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ كَونه فِي نفس الْأَمر من الله سُبْحَانَهُ وَلَيْسَ كَذَلِك: إِذْ كل مَا ثَبت عِنْد الْمُجْتَهد إفادته لحكم شَرْعِي فَهُوَ دَلِيل شَرْعِي، غَايَة الْأَمر أَنه إِذا تَيَقّن تحقق الوحدات بَين دَلِيلين علم أَن أَحدهمَا لَيْسَ مِنْهُ تَعَالَى فَإِن قلت مُرَاده نفي التَّعَارُض بَين الْأَدِلَّة الَّتِي أَقَامَهَا الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر، قلت هَذَا مُسلم لكنه قَلِيل الجدوى لِأَنَّهُ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَلَا سَبِيل لنا إِلَى معرفَة خصوصياتها، نعم يقطع بِكَوْن ذَات الدَّلِيل مِنْهُ تَعَالَى كالكتاب، لَكِن كَون هَذَا الْخُصُوص دَلِيلا لخُصُوص هَذَا الحكم بِشَيْء آخر وَالْقطع بِهِ نَادِر وَلَا يسْتَشْكل على قَوْلهم (وَمَتى تَعَارضا) أَي الدليلان (فيرجح) أَحدهمَا (أَو يجمع) بَينهمَا أَو (مَعْنَاهُ) تَعَارضا (ظَاهرا) وَذَلِكَ (لجهلنا) بالمراد أَو بالمتقدم مِنْهُمَا (لَا) أَنَّهُمَا تَعَارضا (فِي نفس الْأَمر، وَهُوَ) أَي كَون المُرَاد بِهِ وَهَذَا هُوَ (الْحق فَلَا يعْتَبر) تحقق الوحدات الْمَذْكُورَة فِيهِ بِحَسب نفس الْأَمر بل بِحَسب مَا يفهمهُ ظَاهرا الْعقل، لِأَن المبوب لَهُ صُورَة الْمُعَارضَة لَا حَقِيقَتهَا (وَلَا يشْتَرط تساويهما) أَي الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين (قُوَّة وَيثبت) التَّعَارُض (فِي) دَلِيلين (قطعيين وَيلْزمهُ) أَي التَّعَارُض فِي قطعيين (محملان) لَهما إِذا لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر (أَو نسخ أَحدهمَا) بِالْآخرِ إِن علم ذَلِك (فَمَنعه) أَي التَّعَارُض (بَينهمَا) أَي القطعيين (وإجازته فِي الظنيين) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَعلله الْعَلامَة الشِّيرَازِيّ بِأَنَّهُ يلْزم الْجمع بَين النقيضين إِن عمل بهما أَو لم يعْمل بِشَيْء مِنْهُمَا أَو التحكم إِن عمل بِأَحَدِهِمَا دون الآخر، ثمَّ(3/136)
قَوْله مَنعه مُبْتَدأ خَبره (تحكم) إِذْ حَقِيقَة التَّعَارُض لَا تتَصَوَّر فِي شَيْء مِنْهُمَا وَصورته تجْرِي فيهمَا على السوية (والرجحان) لأحد المتعارضين القطعيين أَو الظنيين إِنَّمَا يكون (بتابع) أَي بِوَصْف تَابع لذَلِك الرَّاجِح كَمَا فِي خبر الْوَاحِد الَّذِي يرويهِ عدل فَقِيه مَعَ خبر الْوَاحِد الَّذِي يرويهِ عدل غير فَقِيه (مَعَ التَّمَاثُل) أَي تساويهما فِي الْقطع وَالظَّن فَلَا رُجْحَان بِغَيْر التَّابِع وَبِدُون التَّمَاثُل (وَمِنْه) أَي من قبيل المتماثلين السّنة (الْمَشْهُورَة مَعَ الْكتاب حكما) أَي من حَيْثُ وجوب تَقْيِيد مطلقه وَتَخْصِيص عُمُومه وَجَوَاز نسخه بهَا وَإِن لم يكن بَينهمَا تماثل من حَيْثُ اكفار جاحده على مَا هُوَ الْحق كَمَا سلف (فَلَا يُقَال النَّص رَاجِح على الْقيَاس) لِأَن رجحانه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار ذَاته بِكَوْنِهِ قَطْعِيا لَا بِاعْتِبَار وصف تَابع وَأَيْضًا لَا مماثلة بَينهمَا (بِخِلَاف عَارضه) أَي الْقيَاس النَّص (فَقدم) النَّص فِيهِ لِأَن المُرَاد صُورَة التَّعَارُض وَقد سبق أَنه لَا يشْتَرط تَسَاوِي المتعارضين قُوَّة (إِذْ حكمه) أَي التَّعَارُض (النّسخ إِن علم الْمُتَأَخر وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعلم الْمُتَأَخر (ف) الحكم (التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا على الآخر بطريقه إِن أمكن (ثمَّ الْجمع) بَينهمَا بِحَسب الْإِمْكَان إِذا لم يُمكن التَّرْجِيح لِأَن أَعمال كليهمَا فِي الْجُمْلَة أولى من إلغائهما مَعًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن شَيْء مِمَّا ذكر (تركا) أَي المتعارضان ويصار (إِلَى مَا دونهمَا) من الْأَدِلَّة (على التَّرْتِيب إِن كَانَ) أَي وجد مَا دونهمَا فَإِن كَانَ المتروكان من الْكتاب يُصَار إِلَى الْكتاب إِن وجد، وَإِلَّا فَإلَى السّنة وَإِلَّا لم يُوجد فَإلَى قَول الصَّحَابِيّ اتِّفَاقًا إِذا لم يكن الحكم مِمَّا يدْرك بِالرَّأْيِ وَكَذَا فِيمَا يدْرك بِهِ فِي الْمُخْتَار عِنْد المُصَنّف وَغَيره ثمَّ إِلَى الْقيَاس (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُوجد دون المتعارضين دَلِيل آخر أَو وجد وَمَعَهُ معَارض كَذَا (قررت الْأُصُول) فِي التَّلْوِيح بعد قَوْله وَإِلَّا يتْرك الْعَمَل بالدليلين، وَحِينَئِذٍ إِن أمكن الْمصير من الْكتاب إِلَى السّنة وَمِنْهَا إِلَى الْقيَاس، وَقَول الصَّحَابِيّ يُصَار إِلَيْهِ، وَألا يُقرر الحكم على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل وُرُود الدَّلِيلَيْنِ، وَهَذَا معنى تَقْرِير الْأُصُول انْتهى. (أما) التَّعَارُض (فِي القياسين) إِذا احْتِيجَ إِلَى الْعَمَل (فبأيهما شهد قلبه) أَي أَيهمَا أدّى تحري الْمُجْتَهد إِلَيْهِ يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ (إِن) ظهر أَنه (لَا تَرْجِيح) لأَحَدهمَا على الآخر وَلَا يسقطان لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْعَمَل بِلَا دَلِيل شَرْعِي إِذْ لَا دَلِيل بعد الْقيَاس يرجع إِلَيْهِ كَذَا قَالُوا، وَيعْمل بِشَهَادَة الْقلب، لِأَن لقلب الْمُؤمن نورا يدْرك مَا هُوَ بَاطِن كَمَا أُشير إِلَيْهِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ من غير تحر (وَقَول الصحابيين بعد السّنة قبل الْقيَاس كالقياسين) فِي أَنه يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ (فَلَا يصارعنهما) أَي عَن قوليهما المتعارضين (إِلَى الْقيَاس) وَهَذَا فِيمَا يُمكن فِيهِ الرَّأْي فَإِنَّهُ إِذا لم يُوجد فِيهِ مَا يرجح أحد الْقَوْلَيْنِ يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُصَار إِلَى الْقيَاس لاحْتِمَال(3/137)
كَونه بِالسَّمَاعِ وَإِن كَانَ بِالرَّأْيِ فرأيهم أقرب إِلَى الصَّوَاب كَمَا عرفت، وَأَيْضًا يكون الْحَاصِل أَنهم أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ فَلَا يجوز إِحْدَاث ثَالِث، وَأما مَا لَا يُمكن فِيهِ الرَّأْي فَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع. وَلما بَين التَّرْتِيب أَرَادَ بَيَان كَيْفيَّة الْجمع بقوله (وَالْجمع فِي العامين بِحمْل كل) مِنْهُمَا (على بعض) من أفرادهما بِحَيْثُ لَا يجْتَمع حكمان فِي مَحل وَاحِد كاقتلوا الْمُشْركين إِذا أُرِيد الحربيون وَلَا تقتلُوا الْمُشْركين إِذا أُرِيد بِهِ الذميون (أَو) يحمل على (الْقَيْد) أَي على قيد غير قيد الآخر كإذا لم يَكُونُوا ذمَّة فِي الأول، وَإِذا كَانُوا ذمَّة فِي الثَّانِي (وَكَذَا) الْجمع (فِي الخاصين) يحمل كل على قيد غير قيد الآخر (أَو يحمل أَحدهمَا على الْمجَاز) وَالْآخر على الْحَقِيقَة (و) الْجمع (فِي الْعَام وَالْخَاص) إِذا تَعَارضا (وَلَا مُرَجّح للعام) على الْخَاص (كإخراج من تَحْرِيم) تَمْثِيل لمرجح الْعَام فَإِن مُقْتَضى حكم الْعَام إِذا كَانَ خُرُوج أَفْرَاده عَن التَّحْرِيم، وَمُقْتَضى الْخَاص دُخُول أَفْرَاده المندرجة تَحت الْعَام فِي التَّحْرِيم كَانَ الْعَمَل بِالْعَام مُوَافقا لما هُوَ الأَصْل فِي الْأَفْعَال: وَهُوَ الْإِبَاحَة وبالخاص مُخَالفا لَهُ (وَلَا الْخَاص) أَي وَلَا مُرَجّح لَهُ على الْعَام (كمن اباحة) أَي إِخْرَاج من إِبَاحَة: يَعْنِي فِي جَانب الْعَام ليَكُون عكس الأول، وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله. كإخراج إِخْرَاج الْخَاص من تَحْرِيم، وَمعنى قَوْله من إِبَاحَة أَيْضا إِخْرَاجه مِنْهَا فالمنظور حِينَئِذٍ تَقْدِيم الْمحرم على الْمُبِيح (فبالخاص) يَعْنِي إِذا لم يكن مُرَجّح فِي أَحدهمَا ونسلك مَسْلَك الْجمع فَالْعَمَل بالخاص (فِي مَحَله) أَي الْخَاص وَهُوَ مَا يَشْمَلهُ الْخَاص من جملَة أَفْرَاد الْعَام (وَالْعَام) أَي وَالْعَمَل بِالْعَام (فِيمَا سواهُ) أَي سوى مَحل الْخَاص (فيتحد الْحَاصِل مِنْهُ) أَي من الْجمع بَين الْعَام وَالْخَاص على هَذَا الْوَجْه (وَمن تَخْصِيص الْعَام بِهِ) أَي بالخاص (مَعَ اخْتِلَاف الِاعْتِبَار) تسميه الشَّافِعِيَّة تخيص الْعَام بالخاص بِنَاء على قاعدتهم، وَالْحَنَفِيَّة الْجمع بَينهمَا بِالْحملِ الْمَذْكُور على أصلهم، وَأما إِذا وجد مُرَجّح فِي أحد الْجَانِبَيْنِ فيرجح ذَلِك الْجَانِب (وَقد يخال) أَي يظنّ (تقدم الْجمع) بَينهمَا على التَّرْجِيح عِنْد الْحَنَفِيَّة (لقَولهم الْأَعْمَال أولى من الإهمال وَهُوَ) أَي أعمالهما (فِي الْجمع) لَا التَّرْجِيح: إِذْ فِيهِ إبِْطَال لأَحَدهمَا (لَكِن الاستقراء خِلَافه) أَي يدل على خلاف مَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر القَوْل الْمَذْكُور أَلا ترى أَنه (قدم عَام استنزهوا) الْبَوْل (على) خَاص (شرب العرنيين أَبْوَال الْإِبِل) بِإِذْنِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد سبق فِي مبَاحث الْعَام (لمرجح التَّحْرِيم) لشربها، لَا يُقَال كَون الأَصْل الْإِبَاحَة يرجح الْخَاص الْمَذْكُور، لِأَن ذَلِك فِيمَا لم يكن فِيهِ الدَّلِيل السمعي غير مَا فِيهِ الْمُعَارضَة قَائِما فِي جَانب الْحُرْمَة (مَعَ إِمْكَان حمله) أَي عَام استنزهوا الْبَوْل (على) مَا (سوى) بَوْل (مَا يُؤْكَل) كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد وَأحمد، وللتداوي فَقَط كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف (و) قدم (عَام مَا سقت) أَي فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا الْعشْر (على خَاص الأوسق) أَي لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة(3/138)
أوسق صَدَقَة (لمرجح الْوُجُوب) للعشر فِي كل مَا سقته السَّمَاء أَو سقى سيحا أَو كثر (مَعَ إِمْكَان نَحوه) أَي نَحْو حمل الْعَام الأول بِأَن يحمل على مَا كَانَ خَمْسَة أوسق فَصَاعِدا كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا (وَكَيف) يقدم الْجمع على التَّرْجِيح (وَفِي تَقْدِيمه مُخَالفَة مَا أطبق عَلَيْهِ الْعُقُول من تَقْدِيم الْمَرْجُوح على الرَّاجِح) الْمَرْجُوح الْجمع، وَالرَّاجِح الْعَمَل بِمَا هُوَ رَاجِح بمرجح تَوْضِيحه أَن الْعَام مثلا إِذا كَانَ مرجحا على الْخَاص وَأَنت جمعت بَينهمَا وحملت الْعَام على مَا سوى الْخَاص كَانَ ذَلِك مرجوحا لمقْتَضى الْخَاص وتركا لرعاية مُوجب الْعَام وَهُوَ الِاسْتِغْرَاق المستلزم لاندراج الْخَاص تَحت حكم الْعَام (وَتَأْويل) أَخْبَار (الْآحَاد) الْمُعَارضَة ظَاهر الْكتاب (عِنْد تَقْدِيم الْكتاب) عَلَيْهَا (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من الْجمع بَين المتعارضين (بل اسْتِحْسَان حكما للتقديم) للْكتاب عَلَيْهَا مِنْهُ الِاسْتِحْسَان على مَا سَيَأْتِي يُطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا الْقيَاس الْخَفي بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاس ظَاهر، وَالثَّانِي كل دَلِيل فِي مُقَابلَة الْقيَاس الظَّاهِر نَص أَو إِجْمَاع أَو ضَرُورَة، فَالْقِيَاس الظَّاهِر أَن يتْرك الْخَبَر الْمَذْكُور رَأْسا لمعارضة الْكتاب، وَالْقِيَاس الْخَفي أَن لَا يتْرك بِالْكُلِّيَّةِ لكَونه خبر عدل وَالْأَصْل عدم إهدار مَا صدر من الشَّارِع، فَالْمَعْنى أَن التَّأْوِيل الْمَذْكُور مَبْنِيّ على الِاسْتِحْسَان حَال كَونه حكما لتقديم الْكتاب على ظَاهر السّنة لَا حكما للْجمع بَينهمَا (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي تَقْدِيم النَّص على الظَّاهِر تَعَارضا فِيمَا وَرَاء الْأَرْبَع) من النِّسَاء بِاعْتِبَار ملك النِّكَاح للأحرار (أَي) قَوْله تَعَالَى - {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} - فَإِن ظَاهر فِي حل الْأَكْثَر من الْأَرْبَع لصدق - مَا وَرَاء ذَلِكُم - عَلَيْهِ (ومثنى الخ) أَي قَوْله تَعَالَى - {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} - فَإِنَّهُ نَص على قصر الْحل على الْأَرْبَع على مَا بَين فِي مَحَله (فيرجح النَّص) على الظَّاهِر (وَيحمل الظَّاهِر عَلَيْهِ) أَي النَّص وَقَوْلهمْ مُبْتَدأ خَبره (اتِّفَاق مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (عَلَيْهِ) فيرجح أَي على تَقْدِيم التَّرْجِيح على الْجمع لعدم رِعَايَة جَانب الظَّاهِر وأعمال النَّص بقصر الْحل على الْأَرْبَع (وَلَو خالفوا) أَي الْحَنَفِيَّة هَذَا الأَصْل (كغيرهم) وَقدمُوا الْجمع على التَّرْجِيح (منعناه) أَي منعنَا قَوْلهم الْأَعْمَال أولى من الإهمال على الْإِطْلَاق، إِذْ الْأَعْمَال الَّذِي يسْتَلْزم تَقْدِيم الْمَرْجُوح على الرَّاجِح مُخَالف لما أطبق عَلَيْهِ الْعُقُول وَهُوَ غير جَائِز فضلا عَن كَونه أولى (وَمِنْه) أَي من التَّعَارُض فِي الْكتاب (مَا) أَي التَّعَارُض الَّذِي (بَين قراءتي آيَة الْوضُوء من الْجَرّ) لِابْنِ كثير وَابْن عَمْرو وَحَمْزَة (وَالنّصب) للباقين (فِي أَرْجُلكُم) فِي قَوْله تَعَالَى - {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم} - (المقتضيتين مسحهما) أَي الرجل وَهُوَ ظَاهر قِرَاءَة الْجَرّ (وغسلهما) وَهُوَ ظَاهر قِرَاءَة النصب (فيتخلص من هَذَا(3/139)
التَّعَارُض (بِأَنَّهُ تجوز بمسحهما) المفاد بعطفها على مَدْخُول امسحوا (عَن الْغسْل) مشاكلة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(قَالُوا اقترح شَيْئا نجد لَك طبخه ... قلت اطبخوا لي جُبَّة وقميصا)
لَا يُقَال يلْزم الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد أَي امسحوا لِأَن مُوجب الْعَطف تَقْدِير امسحوا فِي جَانب الْمَعْطُوف على مَا تقرر فِي مَحَله (والعطف فيهمَا) أَي عطف أَرْجُلكُم فِي الْقِرَاءَتَيْن (على رءوسكم) وَقيل فَائِدَة التَّعْبِير عَن غسلهمَا بِالْمَسْحِ الْإِشَارَة إِلَى ترك الْإِسْرَاف، لِأَن غسلهمَا مَظَنَّة لَهُ، لكَونه يصب المَاء عَلَيْهِمَا، كَأَنَّهُ قَالَ: اغسلوهما غسلا خَفِيفا شَبِيها بِالْمَسْحِ كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن كَون الْقَصْد من غسل الْأَعْضَاء تحسينها على مَا عرف، وَأَن الرجلَيْن تحسينهما يحْتَاج إِلَى زِيَادَة الْمُبَالغَة فِي الْغسْل يَأْبَى عَن التَّوْجِيه الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا لزم صرف الْعبارَة إِلَى التجويز 0 لتواتر الْغسْل) لَهما (عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِذْ قد (أطبق) على (من حكى وضوءه) من الصَّحَابَة (ويقربون من ثَلَاثِينَ عَلَيْهِ) أَي على غسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلَيْهِ، وَقد أسعف المُصَنّف بِذكر الِاثْنَيْنِ وَعشْرين فِي شرح الْهِدَايَة، وَقَالَ الشَّارِح: بلغت الْجُمْلَة أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ، وَيمْتَنع عِنْد الْعقل تواطؤ هَذَا الجم الْغَفِير من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْكَذِب فِي أَمر ديني، على أَن الْمسْح أَهْون على النَّفس (وتوارثه) أَي ولتوارث غسلهمَا (من الصَّحَابَة) أَي قد أَخذنَا عسلهما عَمَّن أدركناهم وهم كَذَلِك إِلَى الصَّحَابَة وهم عَن صَاحب الْوَحْي فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى نَص معِين (وانفصال ابْن الْحَاجِب) أَي تجاوزه (عَن) تَوْجِيه (الْمُجَاورَة) أَي جر الأرجل بالمجاورة لقَوْله برءوسكم (إِذْ لَيْسَ) الْجَرّ بهَا (فصيحا) لعدم وُقُوعه فِي الْقُرْآن، وَلَا فِي كَلَام فصيح اسْتغْنَاء عَنْهَا (بتقارب الْفِعْلَيْنِ) أَي امسحوا واغسلوا (وَفِي مثله) أَي تقاربهما (تحذف الْعَرَب) الْفِعْل (الثَّانِي وَتعطف مُتَعَلّقه على مُتَعَلق) الْفِعْل (الأول) فَيجْعَل مُتَعَلق الْفِعْل الثَّانِي (كَأَنَّهُ مُتَعَلّقه) أَي الْفِعْل الأول كَقَوْلِهِم مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا، وعلفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا، إِذْ الأَصْل ومعتقلا رمحا وسقيتها مَاء بَارِدًا، وَالْآيَة من هَذَا الْقَبِيل (غلط) خبر انْفِصَال (إِذْ لَا يُفِيد) مَا ذكر تقَارب الْفِعْلَيْنِ إِلَى آخِره (إِلَّا فِي اتِّحَاد إعرابهما) أَي إِلَّا إِذا كَانَ إِعْرَاب المتعلقين وَاحِدًا كَمَا سَيَأْتِي فِي سَيْفا ورمحا وتبنا وَمَاء (وَلَيْسَت الْآيَة مِنْهُ) أَي مِمَّا اتَّحد فِيهِ إِعْرَاب الْفِعْلَيْنِ فَلَا ينحيه من الْجوَار، وَفِي نُسْخَة (فَلَا يخرج عَن الْجوَار، وَمَا قيل) على مَا فِي التَّلْوِيح (فِي) حق (الْغسْل) من أَنه (الْمسْح) وَزِيَادَة (إِذْ لَا إسالة) وَهِي معنى الْغسْل (بِلَا إِصَابَة) وَهِي معنى الْمسْح (فينتظمه) أَي الْغسْل الْمسْح (غلط) يظْهر (بِأَدْنَى تَأمل) إِذْ الإسالة مُعْتَبرَة مَعَ الْإِصَابَة فِي الْغسْل وَعدمهَا(3/140)
مُعْتَبر فِي الْمسْح وَاللَّفْظ لَا يَنْتَظِم عدم مُسَمّى لَا ضِدّه (وَلَو جعل) الْعَطف (فيهمَا) أَي الْقِرَاءَتَيْن (على وُجُوهكُم) وَقد كَانَ من حَقه النصب (و) لَكِن (الْجَرّ) لأرجلكم (للجوار) برءوسكم (عورض بِأَنَّهُ) أَي الْعَطف (فيهمَا) أَي الْقِرَاءَتَيْن (على رءوسكم وَالنّصب) بالْعَطْف (على الْمحل) أَي مَحل رءوسكم كَمَا هُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من النُّحَاة من أَن مَحَله النصب (ويترجح) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَي الْعَطف على الْمحل (قِيَاس) مطرد فِي الفصيح من الْكَلَام مَعَ اعْتِبَار الْعَطف على الْأَقْرَب وَعدم وُقُوع الْفَصْل بالأجنبي (لَا الْجوَار) أَي لَيْسَ الْجوَار بِقِيَاس بِلَا حق شَاذ (و) مِنْهُ مَا بَين (قراءتي التَّشْدِيد فِي يطهرن) لِحَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَعَاصِم من قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} - (الْمَانِعَة) من قربانهن (إِلَى الْغسْل، التَّخْفِيف) فِيهِ للباقين الْمَانِعَة من قربانهن (إِلَى الطُّهْر فَيحل) القربان (قبله) أَي الْغسْل (بِالْحلِّ الَّذِي انْتهى مَا عَارضه من الْحُرْمَة فَتحمل تِلْكَ) أَي فيتخلص من هَذَا التَّعَارُض بِحمْل قِرَاءَة التَّشْدِيد (على مَا دون الْأَكْثَر) من مُدَّة الْحيض الَّتِي هُوَ الْعَادة لَهَا ليتأكد جَانب الِانْقِطَاع بهَا أَو بِمَا يقوم مقَامه (وَهَذِه) أَي قِرَاءَة التَّخْفِيف (عَلَيْهِ) أَي على أَكثر مُدَّة الْحيض، وَهُوَ الْعشْر عندنَا لِأَن الِانْقِطَاع عِنْده مُتَيَقن، وَحُرْمَة القربان كَانَت بِسَبَبِهَا فَلَا يجوز تَحْرِيمه بعد ذَلِك إِلَى الِاغْتِسَال وَمنع الزَّوْج من حَقه، وَقد زَالَت عِلّة الْحُرْمَة، وَهِي الْأَذَى وَقد يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى - {فَإِذا تطهرن} - بعد ذَلِك يَقْتَضِي تَأَخّر جَوَاز الْإِتْيَان عَن الْغسْل فَلَو كَانَ هَهُنَا قِرَاءَة أُخْرَى أَعنِي إِذا تطهرن كَانَ تَوْجِيه الْجمع بَين الْقِرَاءَتَيْن وَاحِدًا وَهُوَ الطُّهْر مَعَ الِاغْتِسَال، وَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وتطهرن بِمَعْنى طهرن) فَإِن تفعل يَجِيء بِمَعْنى فعل من غير أَن يدل على صنع (كتكبر) وتعظم (فِي صِفَاته تَعَالَى) إِذْ لَا يُرَاد بِهِ صفة أُخْرَى تكون بإحداث الْفِعْل (وَتبين) بِمَعْنى ظهر (مُحَافظَة على حَقِيقَة يطهرن بِالتَّخْفِيفِ) وَأورد عَلَيْهِ أَنه يلْزم على هَذَا تَعْمِيم الْمُشْتَرك إِن كَانَ يطهرن حَقِيقَة فِي الِانْقِطَاع كَمَا فِي الِاغْتِسَال وَالْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز إِن كَانَ مجَازًا فِي الِانْقِطَاع وَأجِيب بِأَن قَوْله تَعَالَى - {فَإِذا تطهرن} - إِن قرئَ مَعَ قِرَاءَة التَّشْدِيد يُرَاد بِهِ الِاغْتِسَال، وَإِن قرئَ مَعَ قِرَاءَة التَّخْفِيف يُرَاد بِهِ الِانْقِطَاع وَالْجمع بَينهمَا إِنَّمَا يمْنَع فِي إِطْلَاق وَاحِد لَا اطلاقين فَتَأمل (وَكِلَاهُمَا) أَي المجملين الْمَذْكُورين (خلاف الظَّاهِر) إِذْ فِي كل مِنْهُمَا إِرَادَة خُصُوصِيَّة لَا تفهم من ظَاهر اللَّفْظ (لكنه) أَي حمل قِرَاءَة التَّخْفِيف على مُجَرّد الِانْقِطَاع على الْأَكْثَر (أقرب) من حملهَا على الِاغْتِسَال نظرا إِلَى الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة (إِذْ لَا يُوجب) حملهَا على ذَلِك (تَأَخّر حق الزَّوْج) فِي الْوَطْء (بعد الِانْقِطَاع بارتفاع الْعَارِض الْمَانِع) من القربان، وَهُوَ الْحيض. قَوْله بارتفاع صلَة الِانْقِطَاع(3/141)
يَعْنِي الْعلم بالانقطاع قطعا لانْتِهَاء مدَّته (مَعَ قيام الْمُبِيح) وَهُوَ الْحل الثَّابِت قبل عرُوض هَذَا الْمَانِع، بِخِلَاف الْحمل على الِاغْتِسَال فَإِنَّهُ يُوجب ذَلِك (و) مِنْهُ مَا (بَين آيتي اللَّغْو) فِي الْيَمين، وَهِي عِنْد أَصْحَابنَا وَأحمد الْحلف على أَمر يظنّ أَنه كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة كل يَمِين صدرت من غير قصد فِي الْمَاضِي وَفِي الْمُسْتَقْبل، وهما قَوْله تَعَالَى - {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} - وَالْأُخْرَى مثلهَا إِلَّا أَنه ذكر فِيهَا - {بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} - بدل {بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} (تفِيد إِحْدَاهمَا) وَهِي الأولى (الْمُؤَاخَذَة بالغموس) وَهِي الْحلف على أَمر مَاض أَو حَال يتَعَمَّد الْكَذِب بِهِ (لِأَنَّهَا) أَي الْيَمين الْغمُوس (مكسوبة) لِأَن تعمد الْكَذِب من كذب الْقلب وَعَمله (وَالْأُخْرَى) وَهِي الثَّانِيَة تفِيد (عَدمه) أَي لَا يُؤَاخذ بالغموس (إِذْ لَيست) الْغمُوس (معقودة) لِأَن العقد قد يكون لَهُ حكم فِي الْمُسْتَقْبل شرعا كَالْبيع وَنَحْوه والغموس لَيست كَذَلِك (فَدخلت) الْغمُوس (فِي اللَّغْو) الْمُقَابل للمعقودة، وَإِنَّمَا سمي بِهِ (لعدم الْفَائِدَة الَّتِي تقصد الْيَمين لَهَا) شرعا وَهِي تَحْقِيق الْبر فَلَا يكون مؤاخذا بهَا (وَخرجت) أَي الْغمُوس (مِنْهُ) أَي اللَّغْو (فِي) الْآيَة (الْأُخْرَى) وَدخلت فِي المكسوبة (بشمول الْكسْب إِيَّاهَا) أَي الْغمُوس (وأفادت ضدية اللَّغْو للكسب) أَي أفادت الْآيَة ضديته للتقابل بَينهمَا (فَهُوَ) أَي اللَّغْو هَهُنَا (السَّهْو) فتعارضتا فِي الْغمُوس بِاعْتِبَار الْمُؤَاخَذَة وَعدمهَا وَبِاعْتِبَار الاندراج فِي اللَّغْو وَعَدَمه (والتخلص) بِهَذَا الِاعْتِبَار (عِنْد الْحَنَفِيَّة بِالْجمعِ) بَينهمَا (بِأَن المُرَاد بالمؤاخذة) الثَّابِتَة للغموس (فِي) الْآيَة (الأولى) الْمُؤَاخَذَة (الأخروية) وَهِي المُرَاد (و) المُرَاد بالمؤاخذة المنفية عَن الْغمُوس (فِي) الْآيَة (الثَّانِيَة) الْمُؤَاخَذَة (الدُّنْيَوِيَّة بِالْكَفَّارَةِ) فَلم يتحد مُتَعَلق المؤاخذتين فَلَا تعَارض (أَو) المُرَاد بِاللَّغْوِ فِي الْآيَتَيْنِ الْخَالِي عَن الْقَصْد وبالمؤاخذة (فيهمَا) أَي الْآيَتَيْنِ الْمُؤَاخَذَة (الأخروية) والغموس دَاخِلَة فِي المكسوبة لَا فِي المعقودة فالآية الأولى أوجبت الْمُؤَاخَذَة على الْغمُوس (و) الْآيَة (الثَّانِيَة ساكتة عَن الْغمُوس وَهِي) أَي الْغمُوس (ثَالِثَة) وَالْيَمِين منقسمة على أَقسَام ثَلَاثَة، وَالْمَذْكُور فِيهَا حكم الْقسمَيْنِ مِنْهَا، وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ كَون المُرَاد من الْمُؤَاخَذَة الأخروية لَا يُوَافق قَوْله تَعَالَى - فكفارته - إِلَى آخِره لِأَنَّهُ لَا مُؤَاخذَة دنيوية دَفعه بقوله (أَي يُؤَاخِذكُم فِي الْآخِرَة بِمَا عقدتم) عِنْد الْحِنْث (فطريق دَفعه) أَي طَرِيق دفع الْعقَاب الْحَاصِل بِهِ (وستره إطْعَام) عشرَة مَسَاكِين، نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَن وَجه الْمُؤَاخَذَة فِي هَذَا مَا يتضمنه من سوء الْأَدَب على الشَّرْع إِلَى آخر مَا ذكر وَحَاصِله الْمُؤَاخَذَة بِمُجَرَّد الْيَمين وَإِن لم يَحْنَث وَحمل الْيَمين على الْحلف على شرب الْخمر بعد تَحْرِيمهَا، وَسُوء الْأَدَب إقدامه على مثل(3/142)
هَذَا، وَلَا يخفى مَا فِيهِ وَالله أعلم بِصِحَّة هَذَا النَّقْل، وَقد يشْتَبه على بعض الطّلبَة كَلَام المدرسين (وَاحْتج) الْمُجيب (الأول) الْقَائِل بِأَن المُرَاد بالمؤاخذة فِي الأولى الأخروية، وَفِي الثَّانِيَة الدُّنْيَوِيَّة فَلَا تكون الْغمُوس وَاسِطَة بَين اللَّغْو والمنعقدة كَمَا يَقُول الْمُجيب الثَّانِي (بِأَن الْمَفْهُوم من) قَول الْقَائِل (لَا يُؤَاخذ بِكَذَا لَكِن) يُؤَاخذ (بِكَذَا عدم الْوَاسِطَة) يَعْنِي إِذا قصد الْمُتَكَلّم بَيَان حكم حَقِيقَة يتَحَقَّق فِي ضمن أَفْرَاد كَثِيرَة بِاعْتِبَار الْمُؤَاخَذَة وَعدمهَا مثلا. فَقَالَ: يُؤَاخذ بِهَذَا الْقسم مِنْهَا وَلَا يُؤَاخذ بِذَاكَ فالمتبادر من هَذَا الْبَيَان أَن لَا يبْقى شَيْء مِنْهَا خَارج من الْقسمَيْنِ، وَإِلَّا لم يكن الْبَيَان وافيا فَيلْزم كَون الْغمُوس فِي اللَّغْو أَو المعقودة وَلَيْسَت بمعقودة فَلَزِمَ دُخُولهَا فِي اللَّغْو فَلَزِمَ أَن لَا يكون المُرَاد بالمؤاخذة المنفية عَن اللَّغْو الأخروية فَيتَعَيَّن الدُّنْيَوِيَّة وَهِي الْكَفَّارَة (وَعند الشَّافِعِي) المُرَاد بالمؤاخذة (فيهمَا) أَي الْآيَتَيْنِ (الدُّنْيَوِيَّة وَهِي) أَي الْغمُوس (دَاخِلَة فِي المعقودة) عِنْده بِنَاء على حمل العقد على عقد الطّلب وعزمه كَقَوْلِه الشَّاعِر:
(عقدت على قلبِي بِأَن يكتم الْهوى ... )
(كَمَا) هِيَ دَاخِلَة (فِي المكسوبة فَلَا تعَارض) بَين الْآيَتَيْنِ لاتِّفَاقهمَا على الْمُؤَاخَذَة فِي الْغمُوس (وَدفعه) أَي دُخُولهَا فِي المعقودة (بِأَن حَقِيقَة العقد) إِنَّمَا تكون (بِغَيْر الْقلب) لِأَن العقد فِي الأَصْل ربط الشَّيْء بالشَّيْء وَذَلِكَ فِيمَا اصْطلحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء لما فِيهِ من ربط أحد الْكَلَامَيْنِ بِالْآخرِ، أَو ربط الْكَلَام بِمحل الحكم وَلَيْسَ فِي عزم الْقلب شَيْء مِنْهُمَا، وَصرف الْكَلَام عَن الْحَقِيقَة بِغَيْر ضَرُورَة لَا يجوز (قد يمْنَع) على صِيغَة الْمَجْهُول (بِأَنَّهُ) أَي العقد (أَعم) من أَن يكون فِي الْأَعْيَان أَو الْمعَانِي فَيعم المصطلح وَعقد الْقلب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (يسند إِلَى الْأَعْيَان فيراد) بِهِ (الرَّبْط) لبعضها بِبَعْض (وَإِلَى الْقلب فعزمه) أَي فيراد بِهِ عزم الْقلب (وَكثر) إِطْلَاق العقد عَلَيْهِ (فِي اللُّغَة) وَفِي التَّلْوِيح أَن إِطْلَاقه عَلَيْهِ فِي اللُّغَة أشهر من العقد المصطلح فَإِنَّهُ من مخترعات الْفُقَهَاء وَأجِيب بِأَن العقد فِيمَا لَهُ حكم فِي الْمُسْتَقْبل صَار حَقِيقَة شَرْعِيَّة قَالَ تَعَالَى - {أَوْفوا بِالْعُقُودِ} - وَالْأَمر بالإيفاء لَا يَصح إِلَّا فِيمَا لَهُ حكم فِي الْمُسْتَقْبل (بل) الأولى فِي الْجَواب أَن يُقَال (الظَّاهِر) أَن المُرَاد بالمؤاخذة (فِي) الْآيَة (الأولى الأخروية للإضافة إِلَى كسب الْقلب) إِذْ الْغَالِب فِي الْمُؤَاخَذَة على عمل الْقلب والأخروية، على أَن الْغمُوس كَبِيرَة مَحْضَة لَا تناسب الْكَفَّارَة الدائرة بَين الْعباد والعقوبة، وَأَيْضًا فالمتبادر من الْمُؤَاخَذَة إِذا أطلقت أَن تكون بِحَسب الْآخِرَة (وَهَذَا) الْجمع بَين هَاتين الْآيَتَيْنِ (جمع من قبل الحكم) إِذْ الِاخْتِلَاف بَين الْآيَتَيْنِ إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار الْمُؤَاخَذَة فِي الْغمُوس وَعدمهَا اللَّتَيْنِ كَانَا حكم الْآيَتَيْنِ فيتصرف فِي مفهومهما بتعميمه بِحَيْثُ انقسمت إِلَى الأخروية والدنيوية فَجعلت احداهما مَحل الْإِثْبَات وَالْأُخْرَى مَحل النَّفْي لِئَلَّا يتحد موردهما(3/143)
فيرتفع التَّنَاقُض والتعارض (وَمِنْه) أَي الْجمع من قبل الحكم (توزيعه) أَي الحكم بإثباته فِي بعض مَحَله بِأحد الدَّلِيلَيْنِ ونفيه فِي بعضه بِالْآخرِ (كقسمة الْمُدَّعِي بَين المثبتين) كَمَا إِذا ادّعى رجلَانِ أَن هَذِه الدَّار ملكه كملا وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا بَيِّنَة وَلَا رُجْحَان لأَحَدهمَا على الْأُخْرَى فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تنصف بَينهمَا فقد أثبت الْملك لأَحَدهمَا فِي بعض الدَّار بِبَيِّنَة وَنفى ملكه عَن الْبَعْض الآخر بيينة الرجل الآخر، وَهَذَا هُوَ التَّوْزِيع فِي الحكم الَّذِي هُوَ الْملك (وَمَا قيل) أَي قيل هَذَا الْجمع وَهُوَ الْجمع فِي قِرَاءَة التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف (من قبل الْحَال) إِذْ حمل احداهما على حَالَة وَالْأُخْرَى على حَالَة أُخْرَى، وَعبر عَنهُ صدر الشَّرِيعَة بِالْمحل (و) قد (يكون) الْجمع بَين المتعارضين (من قبل الزَّمَان) إِمَّا (صَرِيحًا بِنَقْل التَّأَخُّر) لأَحَدهمَا عَن الآخر كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} ، وَقَوله تَعَالَى - {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} - فَإِن بَينهمَا تَعَارضا فِي حق الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا، وَجمع الْجُمْهُور بَينهمَا بِأَن أولات الْأَحْمَال الْآيَة (بعد وَالَّذين يتوفون) الْآيَة كَمَا صَحَّ عَن ابْن مَسْعُود، وَتقدم فِي الْبَحْث الْخَامِس فِي التَّخْصِيص يكون من قبل الزَّمَان (أَو حكما كالمحرم) أَي كتقديمه (على الْمُبِيح) إِذا تَعَارضا (اعْتِبَارا لَهُ) أَي الْمحرم (مُتَأَخِّرًا) عَن الْمُبِيح (كي لَا يتَكَرَّر النّسخ بِنَاء على أَصَالَة الْإِبَاحَة) فَيلْزم كَون الْمحرم الْمُقدم على الْمُبِيح نَاسِخا للْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة ومنسوخا بالمبيح الْمُتَأَخر عَنهُ بِخِلَاف الْعَكْس وَهُوَ ظَاهر، وَهَذَا مُخَالف لما سَيَأْتِي من أَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيْسَ بنسخ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتجوز بِهِ عَن تغير الحكم أَعم من أَن يكون ذَلِك الحكم إِبَاحَة أَصْلِيَّة أَو غَيرهَا، وَتقدم فِي المسئلة الثَّانِيَة من مسئلتي التنزل فِي فصل الْحَاكِم مَا فِيهِ من الْبَحْث والتحرير (وَلِأَنَّهُ) أَي تَقْدِيم الْمحرم على الْمُبِيح (الِاحْتِيَاط) إِذْ احْتِمَال ترك الْعَمَل بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُبِيح أَهْون من احْتِمَال تَركه بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمحرم كَمَا فِي تَحْرِيم الضَّب بِمَا روى أَحْمد وَغَيره بِرِجَال الصَّحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنزلنا أَرضًا كَثِيرَة الضباب فأصبنا مِنْهَا فذبحنا فَبَيْنَمَا الْقُدُور تغلي بهَا خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن أمة من بني إِسْرَائِيل فقدت، وَإِنِّي أَخَاف أَن تكون هِيَ فاكفئوها فكفأناها، وَإِنَّا لجياع، وروى الْجَمَاعَة إِلَّا التِّرْمِذِيّ مَا دلّ على أَنه أكل مِنْهُ فَلم ينْدر عَنهُ وَلم يكن مَعَه معتذرا بِأَنَّهُ يعافه لعدمه بِأَرْض قومه (وَلَا يقدم الْإِثْبَات) لأمر عَارض (على النَّفْي) كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْكَرْخِي وَالشَّافِعِيَّة (إِلَّا أَن كَانَ) النَّفْي لَا يعرف بِالدَّلِيلِ بل (بِالْأَصْلِ) وَهُوَ كَون الأَصْل فِي الْعَوَارِض الْعَدَم والانتفاء فَإِن الْإِثْبَات بِالدَّلِيلِ يقدم عَلَيْهِ (كحرية) مغيث (زوج بَرِيرَة لِأَن عبديته كَانَت مَعْلُومَة فالإخبار بهَا) أَي بعبديته كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة أَن(3/144)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيرهَا وَكَانَ زَوجهَا عبدا (بِالْأَصْلِ) أَي بِنَاء على أَن رقبته لم تَتَغَيَّر فَهَذَا نفي لحريته بِنَاء على مَا كَانَت عَلَيْهِ فالإخبار بحريَّته حِين إعْتَاقهَا كَمَا فِي كتب السّير بِنَاء على مَا ثَبت عِنْد المخبرين بِمَا دلّ على حدوثها بعد العبدية إِثْبَات مقدم على النَّفْي الْمَذْكُور (فَإِن) كَانَ النَّفْي (من جنس مَا يعرف بدليله عَارضه) أَي الْإِثْبَات لتساويهما حِينَئِذٍ بِاعْتِبَار مُوجب الْعلم (وَطلب التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا بِوَجْه آخر (كالإحرام فِي حَدِيث مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا) وَهُوَ مَا فِي الْكتب السِّتَّة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، زَاد البُخَارِيّ وَبنى بهَا وَهُوَ حَلَال، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ تزوج نَبِي الله مَيْمُونَة وهما محرمان فَإِنَّهُ (نفي لأمر) عَارض وَهَذَا الْحَد الطَّارِئ (يدل عَلَيْهِ هَيْئَة محسوسة) من التجرد وَرفع الصَّلَوَات وَغَيرهمَا (فساوى رِوَايَة) مُسلم وَابْن مَاجَه عَن يزِيد بن الْأَصَم حَدَّثتنِي مَيْمُونَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال) قَالَ وَكَانَت خَالَتِي وَخَالَة ابْن عَبَّاس، وَزَاد فِيهِ أَبُو يعلى بعد أَن رَجعْنَا إِلَى مَكَّة، وَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان عَن أبي رَافع " تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال وَبنى بهَا وَهُوَ حَلَال، وَكنت الرَّسُول بَينهمَا " (وَرجح نفي ابْن عَبَّاس على) إِثْبَات (ابْن الْأَصَم وَأبي رَافع) بِقُوَّة السَّنَد وبضبط الروَاة وفقههم خُصُوصا ابْن عَبَّاس. قَالَ الزُّهْرِيّ: وَمَا يدْرِي ابْن الْأَصَم أَعْرَابِي بوال على سَاقه أنجعله مثل ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ الَّذين رووا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج بهَا وَهُوَ محرم أهل علم وَثَبت من أَصْحَاب ابْن عَبَّاس مثل سعيد بن جُبَير وَعَطَاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَجَابِر بن زيد وَهَؤُلَاء كلهم فُقَهَاء، وَالَّذين نقلوا عَنْهُم عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَعبد الله بن أبي نجيح وَهَؤُلَاء أَئِمَّة يعْتد برأيهم (هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحل اللَّاحِق) للْإِحْرَام (وَأما على إِرَادَة) الْحل (السَّابِق) على الْإِحْرَام (كَمَا فِي بعض الرِّوَايَات) فِي موطأ مَالك عَن سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا رَافع مَوْلَاهُ ورجلا من الْأَنْصَار فزوجاه مَيْمُونَة بنت الْحَارِث وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ قبل أَن يخرج، وَفِي معرفَة الصَّحَابَة للمستغفري قبل أَن يحرم (فَابْن عَبَّاس مُثبت) لِلْأَمْرِ الْعَارِض وَهُوَ الْإِحْرَام (وَيزِيد) بن الْأَصَم (ناف) لَهُ (فيترجح) حَدِيث ابْن عَبَّاس (بِذَات الْمَتْن) أَي متن الحَدِيث لِأَن الْمُثبت فِي حد ذَاته يرجع على النَّافِي لاشْتِمَاله على زِيَادَة الْعلم (وَلَو عَارضه) أَي نفي يزِيد إِثْبَات ابْن عَبَّاس لكَون نَفْيه مِمَّا يعرف بدليله لِأَن حَالَة الْحل أَيْضا تعرف بِالدَّلِيلِ أَيْضا وَهِي هَيْئَة الْحَلَال (فِيمَا قُلْنَا) أَي فيرجح حَدِيث ابْن عَبَّاس بِمَا قُلْنَا من قُوَّة السَّنَد وَفقه الرَّاوِي ومزيد ضَبطه كَذَا ذكر الشَّارِح، وَلَا يخفى(3/145)
عَلَيْك أَن المُصَنّف لم يقل هَهُنَا هَذِه المرجحات الْمَذْكُورَة اللَّهُمَّ أَن يُقَال قَوْله من جنس مَا يعرف بدليله عَارضه وَطلب التَّرْجِيح يُشِير إِلَى الْمَذْكُورَات وَغَيرهَا إِجْمَالا (وَعرف) من هَذَا (أَن النَّافِي رَاوِي الأَصْل) أَي الْحَالة الْأَصْلِيَّة فالمثبت رَاوِي خِلَافه (فَإِن أمكنا) أَي كَون النَّفْي بِنَاء على الدَّلِيل، وَكَونه بِنَاء على الْعَدَم الْأَصْلِيّ (كبحل الطَّعَام) أَي كالإخبار بِهِ (وطهارة المَاء) فَإِن كلا مِنْهُمَا (نفي يعرف بِالدَّلِيلِ) بِأَن ذبح شَاة وَذكر اسْم الله عَلَيْهَا وَغسل إِنَاء بِمَاء السَّمَاء أَو بِمَاء جَار لَيْسَ لَهُ أثر نَجَاسَة وملأه بِأَحَدِهِمَا وَلم يغب عَنهُ أصلا وَلم يُشَاهد وُقُوع نَجَاسَة فِيهِ (وَالْأَصْل) أَي يعرف بِالْأَصْلِ بِأَن يعْتَمد على أَن الأَصْل فِي المذبوحة الْحل وَلم يعلم ثُبُوت حُرْمَة فِيهَا، وَفِي المَاء الطَّهَارَة وَلم يعلم وُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ (فَلَا يُعَارض) الْإِخْبَار بهما (مَا) أَي الْإِخْبَار (بحرمته) أَي الطَّعَام (ونجاسته) أَي المَاء (وَيعْمل بهما) أَي بِالْحلِّ فِي الطَّعَام وَالطَّهَارَة فِي المَاء (إِن تعذر السُّؤَال) للمخبر عَن مُسْتَنده لِأَن الِاسْتِصْحَاب إِن لم يصلح دَلِيلا يصلح مرجحا فيرجح خبر النَّافِي بِهِ كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن اعْتِبَاره مرجحا إِنَّمَا يتم أَن تَسَاويا والتساوي هَهُنَا مَحل نظر إِذْ الْمُثبت يعْتَمد الدَّلِيل قطعا واعتمادنا فِي علية مَشْكُوك الِاحْتِمَال اعْتِمَاده على الأَصْل فَتَأمل. فَالْوَجْه أَن يُفَسر قَوْله بهما بِالْحُرْمَةِ والنجاسة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَعَذَّر السُّؤَال (سُئِلَ) الْمخبر (عَن مبناه) أَي مبْنى خَبره (فَعمل بِمُقْتَضَاهُ) فَإِن تمسك الْمخبر بِظَاهِر الْحَال، وَالْأَصْل فِي الشَّاة الْحل، وَفِي المَاء الطَّهَارَة، وَلم يعلم مَا ينافيهما فخبر الْحُرْمَة والنجاسة يعْمل بِهِ لكَونه عَن دَلِيل، وَإِن تمسك بِالدَّلِيلِ كَانَ مثل الْإِثْبَات فَيَقَع التَّعَارُض وَيجب الْعَمَل بِالْأَصْلِ (وَمثل الْحَنَفِيَّة تَقْرِير الْأُصُول) لمتعلق المتعارضين إِذا لم يكن بعدهمَا دَلِيل يُصَار إِلَيْهِ (بسؤر الْحمار) أَي الْبَقِيَّة من المَاء الَّذِي شرب مِنْهُ فِي الْإِنَاء (تعَارض فِي حل لَحْمه وحرمته المستلزمتين لطهارته) أَي سؤره (ونجاسته الْآثَار) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر " نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر " وَهُوَ يدل على تَحْرِيمهَا وَحُرْمَة الشَّيْء مَعَ صلاحيته للغذاء إِذا لم تكن للكرامة آيَة النَّجَاسَة ونجاسة اللَّحْم تَسْتَلْزِم نَجَاسَة اللعاب لِأَنَّهُ متحلب مِنْهُ وَهُوَ يخالط المَاء فَيكون نجسا، وَفِي سنَن أبي دَاوُد، وَعَن غَالب بن أبجر قَالَ أصابتنا سنة فَلم يكن لي فِي مَالِي إِلَّا شَيْء من حمر، وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت يَا رَسُول الله أصابتني السّنة وَلم يكن فِي مَالِي مَا أطْعم أَهلِي إِلَّا سمان حمر وَأَنَّك حرمت لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة. فَقَالَ: أطْعم أهلك من سمين حمرك فَإِنَّمَا حرمتهَا من أجل جوَار الْقرْيَة، وَهَذَا يدل على حلهَا وَهُوَ يسْتَلْزم طَهَارَتهَا وطهارة السؤر (فقرر حَدِيث الْمُتَوَضِّئ بِهِ) أَي بسؤره على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل التوضئ (وطهارته) أَي طَهَارَة السؤر على(3/146)
مَا كَانَ عَلَيْهِ المَاء قبل مُخَالطَة اللعاب (وَلَا يخفى أَنه) أَي اعْتِبَار الْأُصُول (حكم عدم التَّرْجِيح) بِشَيْء من الطَّهَارَة والنجاسة على الآخر من حَيْثُ الْأَثر (لَكِن رجحت الْحُرْمَة) على الْإِبَاحَة إِذا تَعَارَضَتَا لما تقدم آنِفا، على أَن حَدِيث التَّحْرِيم صَحِيح الْإِسْنَاد والمتن لَا اضْطِرَاب فِيهِ، وَحَدِيث الْإِبَاحَة مُضْطَرب الْإِسْنَاد، وَذكره الْبَيْهَقِيّ ثمَّ النَّوَوِيّ ثمَّ الْمزي ثمَّ الذَّهَبِيّ، وَأَيْضًا فِي دلَالَته على الْإِبَاحَة مُطلقًا نظر إِذْ الْقِصَّة تُشِير إِلَى اضطرارهم كَيفَ وَهُوَ مُصَرح بِتَأْخِيرِهِ عَن حَدِيث التَّحْرِيم فَلَو صَحَّ مُفِيدا للْإِبَاحَة مُطلقًا لَكَانَ نَاسِخا للتَّحْرِيم مُوجبا للطَّهَارَة (وَالْأَقْرَب) فِي تَقْرِير الْأُصُول فِي هَذَا الْمِثَال أَن يُقَال (تَعَارَضَت الْحُرْمَة الْمُقْتَضِيَة للنَّجَاسَة والضرورة الْمُقْتَضِيَة للطَّهَارَة) فِيهِ لِأَن الْحمار يرْبط فِي الدّور والأفنية وَيشْرب فِي الْأَوَانِي المستعملة وَيحْتَاج فِي الرّكُوب وَالْحمل (وَلم تترجح) الطَّهَارَة (لتردد فِيهَا) أَي الضَّرُورَة المسقطة للنَّجَاسَة (إِذْ لَيْسَ كالهرة) فِي المخالطة حَتَّى تسْقط نَجَاسَته كَمَا سَقَطت نَجَاسَة سُؤْر الْهِرَّة لِأَن الْهِرَّة تلج المضايق دونه (وَلَا الْكَلْب) فِي المجانبة الْغَالِبَة حَتَّى لَا تسْقط نَجَاسَته لِانْعِدَامِ الضَّرُورَة فِي الْكَلْب دونه (وَلَا النَّجَاسَة) أَي وَلم تترجح النَّجَاسَة لما فِيهَا من إِسْقَاط حكم الضَّرُورَة بِالْكُلِّيَّةِ فتساقطتا وَوَجَب الْمصير إِلَى الأَصْل وَهُوَ إبْقَاء مَا كَانَ من الْحَدث فِي الْمُتَوَضِّئ، وَالطَّهَارَة فِي المَاء.
مسئلة
(لَا شكّ فِي جرى التَّعَارُض بَين قَوْلَيْنِ و) لَا شكّ فِي (نَفْيه) أَي نفي جرى التَّعَارُض (بَين فعلين متضادين كَصَوْم يَوْم وَفطر فِي مثله) أَي فِي مثل ذَلِك الْيَوْم كَأَن يَصُوم فِي يَوْم السبت وَيفْطر فِي سبت آخر، وَذَلِكَ لجَوَاز أَن يكون أَحدهمَا وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا أَو مُبَاحا فِي وَقت وَلَيْسَ كَذَلِك فِي وَقت آخر مثله من غير رفع وَإِبْطَال لذَلِك الحكم إِذْ لَا عُمُوم للفعلين وَلَا لأَحَدهمَا (إِلَّا إِن دلّ على وُجُوبه) أَي ذَلِك الْفِعْل (عَلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَنَحْوه) أَي أَو على نَدبه أَو إِبَاحَته (وسببية متكرر) أَي وَدلّ مَعَ ذَلِك على سَبَبِيَّة أَمر لذَلِك الْوُجُوب أَو النّدب بِتَكَرُّر وجوده كَأَن يدل على أَن يَوْم السبت جعل سَببا لذَلِك فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يثبت التَّعَارُض بِوَاسِطَة هَذِه الدّلَالَة فَيكون فطره فِي يَوْم السبت الآخر بعد هَذِه الدّلَالَة دَلِيل عدم وجوب صَوْم كل سبت، وَذكر الشَّارِح أَن قَوْله إِلَّا إِلَى آخِره اسْتثِْنَاء من نَفْيه، وَيَنْبَغِي أَن يحمل على الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع إِذْ لَيْسَ التَّعَارُض فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة بَين ذاتي الْفِعْلَيْنِ إِلَّا أَن يعمم قَوْله بَين فعلين بِحَيْثُ يشملهما بِضَرْب من الْمُسَامحَة (وَتَقَدَّمت الدّلَالَة على أَن الْأمة مثله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا عرفت فِيهِ صفة الْفِعْل وَقد فرض أَنه دلّ هَهُنَا على صفة الْفِعْل فِي حَقه وتكرره بِتِلْكَ الصّفة.(3/147)
بِتَكَرُّر سَببه فَيثبت فِي حق الْأمة كَذَلِك (فالنافي) وَهُوَ فطره مثلا (نَاسخ عَن الْكل) أَي ينْسَخ وجوب ذَلِك الْفِعْل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأمة لِأَن فطره الْمُتَأَخر اقْتضى فطر الْأمة بِمُوجب تِلْكَ الدّلَالَة الْمُتَقَدّمَة كَمَا أَن صَوْمه اقْتضى صومهم وَقد كَانَ فِي حَقه نَاسِخا فَكَذَلِك فِي حَقهم (وَعَن الْكَرْخِي وَطَائِفَة) أَن فعله الثَّانِي ينْسَخ (عَنهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَقَط) وَزعم الشَّارِح أَنه مَبْنِيّ على أَن الْكَرْخِي لَا يُوجب فِي حق الْأمة شَيْئا بِدَلِيل الْوُجُوب عَلَيْهِ وَنَحْوه من النّدب وَالْإِبَاحَة ويخص دَلِيل التكرر بِهِ، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مُخَالفَته فِي حَقه النّسخ عَن الْأمة إِنَّمَا يشْعر بموافقته فِي مُشَاركَة الْأمة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وجوب الْفِعْل وَنَحْوه (وَأما) التَّعَارُض (بَين فعل) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عرفت صفته) من وجوب أَو ندب مثلا (فِي حَقه وَقَول) يَنْفِي ذَلِك كَأَن يَصُوم يَوْم السبت ثمَّ يَقُول صَوْمه حرَام (فعلى الْمُخْتَار من أَن أمته مثله) سَوَاء كَانَت تِلْكَ الصّفة (وجوبا أَو غَيره فَمَعَ دَلِيل سَبَبِيَّة متكرر وَالْقَوْل خَاص بِهِ) كَقَوْلِه صَوْم يَوْم السبت حرَام (نسخ) على صِيغَة الْمَعْلُوم (عَنهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمُتَأَخر مِنْهُمَا) أَي الْفِعْل أَو القَوْل الْمُتَقَدّم (وَلَا مُعَارضَة فيهم) أَي الْأمة (فيستمر مَا فيهم) أَي مَا كَانَ ثَبت عَلَيْهِم من الِاتِّبَاع على الْوَجْه الثَّالِث فِي حَقه إِذْ النَّاسِخ لم يتَعَرَّض لسواه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَإِن جهل) الْمُتَأَخر مِنْهُمَا (قيل يُؤْخَذ بِالْفِعْلِ فَيثبت) الْفِعْل (على صفته على الْكل) فيستمر مَا كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم (وَقيل) يُؤْخَذ (بالْقَوْل فيخصه النّسخ) إِذْ الْمَفْرُوض خَاص بِهِ (وَيثبت مَا فيهم) أَي يسْتَمر على مَا كَانَ (وَقيل يتَوَقَّف) فِي حَقه (وَهُوَ الْمُخْتَار دفعا للتحكم) أَي يرجح أَحدهمَا على الآخر بِلَا مُرَجّح إِذْ يحْتَمل تَأَخّر كل مِنْهُمَا (فِي حَقه وَيثبت مَا فيهم) على صفته لعدم الْمُعَارضَة فِي حَقهم (وَإِن) كَانَ القَوْل (خَاصّا بهم) أَي الْأمة بِأَن صَامَ يَوْم السبت وَقَالَ لَا يحل للْأمة صَوْمه (فَلَا تعَارض فِي حَقه فَمَا كَانَ لَهُ) ثَابت عَلَيْهِ (كَمَا كَانَ، وَفِيهِمْ) أَي فِي حق الْأمة (الْمُتَأَخر نَاسخ وَإِن جهل) الْمُتَأَخر مِنْهُمَا فِيمَا إِذا كَانَ القَوْل خَاصّا بهم فأقوال أَحدهَا يُؤْخَذ بِالْفِعْلِ فَيجب عَلَيْهِم الصَّوْم، وَثَانِيها الْوَقْف فَلَا يثبت حكم (فثالثها) وَهُوَ (الْمُخْتَار) يوخذ (بالْقَوْل) فَيحرم عَلَيْهِم الصَّوْم (لوضعه) أَي القَوْل (لبَيَان المرادات) الْقَائِمَة بِنَفس الْمُتَكَلّم (وأدليته) من الْفِعْل على خُصُوص المُرَاد (وأعميته) لِأَنَّهُ أَعم دلَالَة لِأَن أَفْرَاد مَدْلُوله أَكثر إِذْ يدل بِهِ على الْمَوْجُود والمعدوم والمعقول والمحسوس (بِخِلَاف الْفِعْل) فَإِن لَهُ محامل، وَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ ذَلِك فِي بعض الْأَحْوَال بِقَرِينَة خارجية فَيَقَع الْخَطَأ كثيرا وَيخْتَص بالموجود والمحسوس لِأَن الْمَعْدُوم والمعقول لَا يُمكن مشاهدتهما، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِنَّمَا يدل على إِطْلَاقه) نَفسه عَن قيد الممنوعية (للْفَاعِل) فَيعلم أَنه يجوز لَهُ أَن يفعل من غير أَن يعلم خُصُوص كَيْفيَّة من الْوُجُوب(3/148)
أَو النّدب أَو الْإِبَاحَة (فَإِن دلّ) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي بِدَلِيل خارجي (على الِاقْتِدَاء) أَي على اقْتِدَاء غير الْفَاعِل بِهِ (فبذلك) أَي ففهم ذَلِك بذلك الدَّال لَا بِالْفِعْلِ (وَإِنَّمَا يثبت مَعَه) أَي الْإِطْلَاق الْمَذْكُور (احتمالات) من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة للْفَاعِل وَغَيره وَلَا يتَعَيَّن شَيْء مِنْهَا للْفِعْل بل (إِن تعين بَعْضهَا فبغيره) أَي غير الْفِعْل (وَكَونه) أَي الْفِعْل (قد يَقع بَيَانا لِلْقَوْلِ) إِنَّمَا هُوَ (عِنْد إجماله) أَي القَوْل وَقد مر قَرِيبا (وكلامنا) فِي التَّرْجِيح (مَعَ عَدمه) أَي الْإِجْمَال فَإِن قلت الْكَلَام فِيمَا إِذا تعَارض الْفِعْل وَالْقَوْل الْمَذْكُور وَجَهل الْمُتَأَخر مِنْهُمَا من غير تَقْيِيد بِعَدَمِ كَون الْفِعْل بَيَانا لقَوْل مُجمل فَمَا معنى قَوْله مَعَ عَدمه قلت مَعْنَاهُ إِذا نَظرنَا إِلَى ذاتي الْفِعْل وَالْقَوْل مَعَ قطع النّظر عَن الْأُمُور الْخَارِجَة عَنْهُمَا وجدنَا الْأُمُور الثَّلَاثَة لَازِمَة لِلْقَوْلِ دون الْفِعْل، والإجمال السَّابِق من جملَة تِلْكَ الْأُمُور (وَالْفرق) بَين مَا تقدم من اخْتِيَار التَّوَقُّف عِنْد جهل الْمُتَأَخر واختصاص القَوْل بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين مَا هُنَا من الْأَخْذ بالْقَوْل عِنْد جهل الْمُتَأَخر واختصاص القَوْل بالأمة (أَنا هُنَا) أَي فِيمَا إِذا كَانَ خَاصّا بِنَا (متعبدون بالاستعلام) وَطلب الْعلم (لتعبدنا بِالْعَمَلِ) المتوقف على الْعلم فَصَارَ الْبَحْث عَن الْمُتَأَخر لتَحْصِيل الْعلم بِمَا يبْنى عَلَيْهِ الْعَمَل من الْفِعْل وَالْقَوْل عبَادَة، لِأَن تَحْصِيل مَا تتَوَقَّف عَلَيْهِ الْعِبَادَة عبَادَة (لَا هُنَاكَ) أَي لسنا مأمورين بالاستعلام عِنْد جهلنا بالمتأخر من الْفِعْل وَالْقَوْل الْخَاص بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ النَّهْي مَخْصُوص بِهِ وَالْفِعْل يقْتَدى بِهِ سَوَاء كَانَ مُتَقَدما أَو مُتَأَخِّرًا، فالبحث عَن تعْيين الْمُتَأَخر فِي نفس الْأَمر ليعلم حَاله لَيْسَ مِمَّا يتعبد بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لم نؤمر بِهِ) أَي بالاستعلام فِي تعْيين الْمُتَأَخر (فِي حَقه) ليعلم كَيْفيَّة تعبده فِي ذَلِك، وَأما فِي حَقنا فقد علمت عدم احتياجنا فِي التَّعَبُّد إِلَيْهِ ثمَّ إِنَّه لَو اجتهدنا فِي طلب الْعلم بالمتأخر ليعلم حَاله لربما اسْتَقر رَأينَا على خلاف مَا فِي علمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أدرى بِهِ) أَي بالمتأخر (أَو) كَانَ القَوْل (شَامِلًا) لَهُ وَلَهُم مَعْطُوف على قَوْله وَإِن خَاصّا بهم بِأَن صَامَ يَوْم السبت ثمَّ قَالَ حرم عَليّ وَعَلَيْكُم (فالمتأخر نَاسخ عَن الْكل) أَي عَنهُ وَعَن أمته، فَإِن كَانَ الْفِعْل ثَبت فِي حق الْكل، وَإِن كَانَ القَوْل حرم على الْكل (وَفِي الْجَهْل) بالمتأخر يعْمل (بالْقَوْل) فَيحرم الصَّوْم (لوُجُوب الاستعلام فِي حَقنا) كَمَا وَجب فِيمَا خص بِنَا للاشتراك فِي الْمُوجب، وَهُوَ التَّعَبُّد على مَا عرفت فَيجب الْبَحْث عَنهُ (وباتفاق الْحَال) أَي بِسَبَب مشاركتنا إِلَيْهِ فِي الْحَال من حَيْثُ شُمُول القَوْل (يعلم حَاله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مُقْتَضى للشمول) الْمَذْكُور إِذا لزم الْبَحْث لوُجُوب الاستعلام فِي حَقنا، فاختبر الْعَمَل بالْقَوْل لما ذكر فِي حَقنا، وَقد كَانَ الْحَال وَاحِدًا فَعلم حَاله لَا بِالْقَصْدِ بالبحث إِلَى استعلامه فِي حَقه (لَكنا لَا نحكم(3/149)
بِهِ) أَي فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لما ذكرنَا) من أَنا لم نؤمر بِهِ وَهُوَ أدرى بِهِ، ثمَّ شرع فِي قسيم قَوْله فَمَعَ دَلِيل سَبَبِيَّة متكرر، فَقَالَ (وَأما مَعَ عدم دَلِيل التّكْرَار) وَالْكَلَام فِيمَا علم صفته، فَأَما أَن يكون خَاصّا بِهِ، أَو بالأمة، أَو شَامِلًا للْكُلّ، فَالْأول أَفَادَهُ بقوله (وَالْقَوْل الْخَاص بِهِ مَعْلُوم التَّأَخُّر) بِأَن فعل شَيْئا على سَبِيل الْوُجُوب أَو النّدب أَو الْإِبَاحَة، ثمَّ علم أَنه قَالَ بعده لَا يحل لي فعله فَلَا مُعَارضَة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فقد أخذت صفة الْفِعْل) وَهِي إِحْدَى الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة (مقتضاها مِنْهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بذلك الْفِعْل الْوَاحِد، وَالْقَوْل) الصَّادِر بعد ذَلِك الْفِعْل الْوَاحِد مسئلة (شَرْعِيَّة مستأنفة فِي حَقه لَا نَاسخ، وَيثبت) الْفِعْل (فِي حَقهم) أَي الْأمة (مرّة بِصفتِهِ) من وجوب أَو غَيره (إِذْ لَا تعَارض فِي حَقهم) لفرض أَن القَوْل خَاص بِهِ (وَلَا سَبَب تكْرَار أَو) مَعْلُوم (التَّقَدُّم) كَأَن يَقُول: لَا يحل لي كَذَا ثمَّ يَفْعَله (نسخ عَنهُ الْفِعْل مُقْتَضى القَوْل: أَي دلّ) الْفِعْل (عَلَيْهِ) أَي نسخ القَوْل (وَيثبت) الْفِعْل (على الْأمة على صفته) من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَغَيره (مرّة) أَي ثبوتا مرّة وَاحِدَة (لفرض الِاتِّبَاع فِيمَا علم) لِأَن الْمَفْرُوض أَن اتِّبَاعه فِي فعله الْمَعْلُوم صفته وَاجِب (وَعدم التكرر) أَي عدم تكْرَار السَّبَب وَلم يتَكَرَّر صُدُور الْفِعْل عَنهُ، بل صدوره مرّة وَاحِدَة فالاتباع بِحَسبِهِ (وَإِن جهل) الْمُتَأَخر (فالثلاثة) الْأَقْوَال كائنة فِيهِ: تَقْدِيم الْفِعْل فَيثبت الْفِعْل فِي حَقهم، وَتَقْدِيم القَوْل فَيحرم، الْوَقْف فَلَا يثبت حكم (قيل وَالْمُخْتَار الْوَقْف، وَنظر فِيهِ) أَي فِي الشَّرْح العضدي (بِأَن لَا تعَارض مَعَ تَأَخّر القَوْل) الْخَاص بِهِ، لَا يَخْلُو نفس الْأَمر من الِاحْتِمَالَيْنِ إِمَّا تقدم القَوْل وَإِمَّا تقدم الْفِعْل، وَفِيه السَّلامَة من لُزُوم النّسخ (فَيُؤْخَذ بِهِ) أَي بالْقَوْل حكما بِأَن الْفِعْل مُتَقَدم، لِأَنَّهُ لَو أَخذ بِالْفِعْلِ لزم النّسخ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (تَرْجِيحا لرفع مُسْتَلْزم النّسخ وَعلمت اسْتِوَاء حالتي الْأمة فيهمَا) أَي تقدم القَوْل وتأخره (من ثُبُوته) آي الْفِعْل (مرّة مِنْهُم) أَي الْأمة، يَعْنِي أَن الْعلم باستواء حَالهم يُؤْخَذ من ثُبُوت الْفِعْل من الْأمة مرّة وَاحِدَة، إِذْ على تَقْدِير تقدم الْفِعْل وَتَأَخر الْمحرم فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحرم فِي حَقهم، والاتباع لَا يَسْتَدْعِي إِلَّا صُدُور الْفِعْل مرّة وَاحِدَة، وَكَذَلِكَ على تَقْدِير تَأَخّر تَارِيخه وناسخيته فِي حَقه، لِأَن الْمَفْرُوض أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا صدر مِنْهُ الْفِعْل إِلَّا مرّة وَاحِدَة، وَلَا وَجه للتوقف بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم. هَذَا وَيحْتَمل أَن تكون من فِي قَوْله من ثُبُوته بَيَانِيَّة، وَالْمعْنَى ظَاهر (وَإِن) كَانَ القَوْل (خَاصّا بهم) بِأَن فعل وَقَالَ: لَا يحل للْأمة هَذَا (فَلَا تعَارض فِي حَقه) لعدم تَعْلِيق القَوْل بِهِ علم تقدمه أَولا (وَفِيهِمْ) أَي الْأمة (الْمُتَأَخر) من القَوْل أَو الْفِعْل (نَاسخ الْمرة) على تَقْدِير تَأَخّر القَوْل، فالنسخ لما لزم عَلَيْهِم مرّة بِسَبَب الِاتِّبَاع ظَاهر، وَأما على تَقْدِير تقدمه بِأَن قَالَ: صَوْم يَوْم السبت حرَام على الْأمة ثمَّ صَامَ فالصوم حرَام(3/150)
عَلَيْهِم على مَا كَانَ وَلَا نسخ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لَا يُقَال الأسوة تَقْتَضِي اتِّبَاع الْأمة فَينْسَخ التَّحْرِيم السَّابِق، لِأَن الِاقْتِدَاء فِيمَا لم يعلم اخْتِصَاص الْفِعْل بِهِ، وَقد علم بقوله: لَا يحل للْأمة، فَإِنَّهُ دلّ على أَنه يحل لَهُ دونهم، وَمثل هَذَا الْبَحْث يدل على مَا سبق فِي أَوَائِل الْبَحْث (وَإِن جهل) الْمُتَأَخر (فالثلاثة) الْأَقْوَال فِيهِ: الْوَقْف، وَالْأَخْذ بِالْفِعْلِ، وَالْأَخْذ بالْقَوْل. (وَالْمُخْتَار القَوْل، وَإِن) كَانَ (شَامِلًا) لَهُ وَلَهُم (فعلى مَا تقدم فِيهِ وَفِيهِمْ فِي) صُورَة (علم الْمُتَأَخر) من القَوْل وَالْفِعْل، فَفِي القَوْل حَقه أَن يقدم الْفِعْل فَلَا تعَارض لعدم تكَرر الْفِعْل، وَإِن تقدم القَوْل فالفعل نَاسخ لَهُ، وَفِي حَقنا الْمُتَأَخر نَاسخ (وَإِن جهل) الْمُتَأَخر فِي حَقه وحقنا (فالثلاثة) الْأَقْوَال الْوَقْف وَالْأَخْذ بِالْفِعْلِ وَالْأَخْذ بالْقَوْل (وَالْمُخْتَار القَوْل) أَي الْأَخْذ بِهِ (فَينْسَخ عَنْهُم الْمرة لَكِن لَو قدم الْفِعْل) فِي الِاعْتِبَار (وَجَبت) الْمرة (فالاحتياط فِيهِ) أَي فِي وُجُوبه مرّة وَفِيه نظر، لِأَن قَضِيَّة الِاحْتِيَاط إِنَّمَا تسلم لَو كَانَ هُنَاكَ احْتِمَال الْوُقُوع فِي النَّهْي (ثمَّ نقُول فِي الْوَجْه الَّذِي قدم بِهِ القَوْل) على الْفِعْل وَالْوَقْف (حَيْثُ قدم) وَهُوَ أَن وضع القَوْل لبَيَان المرادات إِلَى آخر مَا سبق آنِفا (نظر وَإِنَّمَا يُفِيد) الْوَجْه الْمَذْكُور (تَقْدِيمه) أَي القَوْل (لَو كَانَ) النّظر (بِاعْتِبَار مُجَرّد مُلَاحظَة ذَات الْفِعْل مَعَه) أَي مَعَ القَوْل (لَكِن النّظر بَين فعل دلّ على خُصُوص حكمه) من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة (وعَلى ثُبُوته) أَي الْفِعْل (فِي حق الْأمة) فَكل قَول دلّ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالدَّال النُّصُوص الدَّالَّة على وجوب الِاقْتِدَاء أَو نَدبه فِي حق خُصُوص حِكْمَة النُّصُوص والقرائن (فَفِي الْحَقِيقَة النّظر) إِنَّمَا هُوَ (فِي تَقْدِيم القَوْل على مَجْمُوع أَدِلَّة مِنْهَا قَول و) مِنْهَا (فعل، وَالْقَوْل وَإِن كَانَ بِحَيْثُ يدل) على صِيغَة الْمَجْهُول (بِهِ) أَي بالْقَوْل (على هَذَا الْمَجْمُوع) أَي الْأَدِلَّة المركبة من القَوْل وَالْفِعْل أَو مَدْلُول هَذَا الْمَجْمُوع (فَإِنَّمَا عَارضه) أَي هَذَا الْمُرَجح، وفاعل عَارضه قَوْله (مَا دلّ) على صِيغَة الْمَجْهُول (بِهِ) أَي بِالْفِعْلِ (أَيْضا عَلَيْهِ) أَي على القَوْل فِيمَا إِذا وَقع الْفِعْل بَيَانا لِلْقَوْلِ، وَكلمَة مَا مَصْدَرِيَّة: أَي عَارضه كَون الْفِعْل بِحَيْثُ يدل بِهِ عَلَيْهِ، وَفسّر الشَّارِح ضمير عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَجْمُوع، وَلَا يظْهر لَهُ معنى (فاستويا) أَي الْفِعْل وَالْقَوْل (والأدلية وَنَحْوه) مِمَّا تقدم من الأعمية وَغَيرهَا (طرد) أَي أَوْصَاف مَوْجُودَة فِي الْمحل لَكِنَّهَا لَا أثر لَهَا فِيمَا نَحن بصدده (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين عرفت مَا فِي هَذَا الْوَجْه (فَالْوَجْه فِي كل مَوضِع من ذَلِك) التَّعَارُض (مُلَاحظَة أَن الِاحْتِيَاط يَقع فِيهِ) أَي أَي فِي ذَلِك الْموضع (على تَقْدِير) تَرْجِيح (القَوْل أَو الْفِعْل فَيقدم ذَلِك) الَّذِي فِيهِ الِاحْتِيَاط (كَفعل عرفت صفته) من أَنَّهَا (وجوب أَو ندب أَو حكم فِيهِ بذلك) أَي الْوُجُوب أَو النّدب بِمُوجب (يقدم) الْفِعْل (على القَوْل الْمُبِيح) احْتِيَاطًا واحترازا عَن الْوُقُوع فِي ترك الْوَاجِب(3/151)
أَو الْمَنْدُوب على احْتِمَال تَأَخّر الْفِعْل (وَقَلبه) بِأَن يكون (القَوْل) وَالْفِعْل نسخا لما تقدم فِيهِ القَوْل على الْفِعْل (وَكَذَا القَوْل) حَال كَونه (محرما مَعَ الْفِعْل) مُوجبا أَو تأدبا يقدم على الْفِعْل (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ وَاجِبا أَو مَنْدُوبًا (و) كَذَا (قَول كَرَاهَة مَعَ فعل إِبَاحَة) تقدم فِيهِ القَوْل (وَقس) على هَذِه أَمْثَالهَا (فَأَما إِذا لم تعرف صفة الْفِعْل فعلى) أَي فبناء على (الْوُجُوب عَلَيْهِ) السَّلَام (وَعَلَيْهِم) أَي الْأمة كَمَا نقل عَن مَالك، و) بِنَاء على (النّدب وَالْإِبَاحَة كَذَلِك) أَي لَهُ وَلَهُم عِنْد الْقَائِلين بالندب فِيمَا إِذا لم تعرف صفته والقائلين بِالْإِبَاحَةِ فِيهِ (وعَلى خُصُوص هَذِه بالأمة الْمُتَأَخر) من الْفِعْل وَالْقَوْل (نَاسخ عَنْهُم فعلا) كَانَ ذَلِك الْمُتَأَخر (أَو قولا شَامِلًا) لَهُ وَلَهُم (أَو خَاصّا بهم) أَي الْأمة، فسر الشَّارِح قَوْله هَذِه بِالْأَحْكَامِ من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة وَلم يبين مَعْنَاهُ على مَا هُوَ عَادَته فِي مشكلات هَذَا الْكتاب وعذره ظَاهر، وَالَّذِي يظْهر أَنه إِشَارَة إِلَى مَا سبق، من أَن الْخلاف فِي فعله الْمَجْهُول الصّفة عِنْد الْمُحَقِّقين بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأمة: فَالْمَعْنى وَبِنَاء على خُصُوص هَذِه الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة بالأمة على مَا هُوَ التَّحْقِيق الْمُتَأَخر فعلا أَو قولا شَامِلًا أَو خَاصّا، أَو على تَقْدِير شُمُول القَوْل أَيْضا لَا يفتش عَمَّا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا سبق تَفْصِيله (فَإِن جهل) الْمُتَأَخر (فالمختار مَا فِيهِ الِاحْتِيَاط كَمَا ذكرنَا، وعَلى الْوَقْف فِي الْكل) أَي فِي حَقه وحقهم أَو فِي كل الْأَحْكَام بخصوصها من الْوُجُوب وَغَيره، إِذْ الْكَلَام فِيمَا إِذا لم تعرف صفته فَلَا يعرف فِيهِ سوى الْإِطْلَاق الَّذِي هُوَ لَازم الْفِعْل على مَا مر آنِفا كَمَا أُشير إِلَيْهِ بقوله (سوى إِطْلَاق الْفِعْل) فَقَوله وعَلى الْوَقْف بَيَان لحكم مَجْهُول الصّفة على قَول من لم يقل بِالْوُجُوب وَلَا بالندب وَلَا بِالْإِبَاحَةِ، بل يَقُول بِالْإِطْلَاقِ (إِن تَأَخّر القَوْل النَّافِي لَهُ) أَي لإِطْلَاق الْفِعْل حَال كَونه (خَاصّا بِهِ) عَلَيْهِ السَّلَام كَأَن صَامَ يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ قَالَ لَا يحل لي صَوْم الْجُمُعَة (مَنعه) أَي نسخ هَذَا القَوْل إِطْلَاق الْفِعْل (فِي حَقه دونهم) فيستمر لَهُم حل صَوْمه مَعَ الْوَقْف عَمَّا زَاد على ذَلِك لما ذكر (أَو) حَال كَونه خَاصّا (بهم) كَأَن قَالَ لَا يحل لأمتي صَوْم يَوْم الْجُمُعَة (فَفِي حَقهم) أَي نسخ القَوْل إِطْلَاق الْفِعْل فِي حَقهم فَقَط وحكمنا بالاطلاق لَهُ مَعَ الْوَقْف عَمَّا زَاد عَلَيْهِ (أَو) حَال كَونه (شَامِلًا) لَهُ وَلَهُم فَلَا يحل لي وَلَا لكم (نفى الْإِطْلَاق مُطلقًا) أَي نسخ الْحل الَّذِي كَانَ لَازم الْإِطْلَاق عَن الْكل وَزَالَ الْوَقْف مُطلقًا (فَلَو كَانَ) القَوْل الْمُتَأَخر (مُوجبا للْفِعْل أَو نادبا) لَهُ، وَقد كَانَ الْفِعْل الْمُتَقَدّم مُفِيدا للإطلاق لعدم كَونه مَعْرُوف الصّفة (قَرَّرَهُ) أَي الْمُتَأَخر الْفِعْل (على مُقْتَضَاهُ) أَي القَوْل من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَلَا يخفى أَنه حِينَئِذٍ لَا يكون القَوْل مُعَارضا للْفِعْل، وَقد كَانَ بِنَاء الْبَحْث على معارضته إِيَّاه نفى بِكَوْن هَذَا استطراديا فَتَأمل (وَإِن) تَأَخّر (الْفِعْل وَالْقَوْل خَاص بِهِ) عَلَيْهِ السَّلَام كَأَن يَقُول(3/152)
وَلَا يحل لي صَوْم يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ يَصُوم (فالوقف فِيمَا سوى مُجَرّد الْإِطْلَاق فِي حق الْكل) لِأَنَّهُ ثَبت الْحل فِي حَقه وحقهم بِمُقْتَضى الْفِعْل مَعَ الْوَقْف عَمَّا سوى الْإِطْلَاق فِي حق الْكل (أَو) كَانَ القَوْل خَاصّا (بهم) كَأَن يَقُول لَا يحل للْأمة ثمَّ اسْتمرّ يَصُومهُ (أَو شَامِلًا) لَهُ وَلَهُم كلا يحل لي وَلكم ثمَّ صَامَهُ (منعُوا) أَي منع الْحل فِي حَقهم (دونه) فَيحل لَهُ (وَإِن جهل) الْمُتَأَخر (فَفِي الأول) أَي إِذا كَانَ (القَوْل) خَاصّا بِهِ (الْوَقْف فِي حَقه) لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمُتَأَخر القَوْل حرم عَلَيْهِ أَو الْفِعْل حل لَهُ ولسنا مأمورين بالبحث عَن ذَلِك فنقف عَن الحكم عَلَيْهِ بِشَيْء (والحل لَهُم) لِأَنَّهُ ثَابت لَهُم تقدم هَذَا القَوْل أَو تَأَخّر (وَفِي الثَّانِي) أَي إِذا كَانَ القَوْل خَاصّا بهم (منعُوا) مُطلقًا إِذْ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون القَوْل مقدما أَو مُؤَخرا أما على الثَّانِي فَظَاهر، وَأما على الأول فَلِأَن الْمحرم قد سبق، والمبيح فِي حَقهم لم يتَحَقَّق (وَحل لَهُ) لِأَن الْفِعْل يُوجِبهُ وَلم يُعَارضهُ القَوْل (وَفِي الثَّالِث) إِذا كَانَ شَامِلًا لَهُ وَلَهُم (الْوَقْف فِي حَقه) إِذْ على تَقْدِير تَأَخّر القَوْل حرم عَلَيْهِ وعَلى تَقْدِير تقدمه حل، وَلَا يحكم فِي حَقه بِشَيْء (وَمنعُوا) لأَنهم فِي التَّأَخُّر والتقدم كَذَلِك أما على التَّأَخُّر فَظَاهر، وَأما فِي التَّقْدِيم فالفعل لَا يَسْتَدْعِي الْإِبَاحَة فِي حَقهم بل فِي حَقه فَقَط وَالله أعلم.
(فصل الشَّافِعِيَّة}
قَالُوا (التَّرْجِيح اقتران الْإِمَارَة بِمَا تقوى الأمارة بِهِ على معارضها) فتغلبه فَيعْمل بهَا دونه (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (وَإِن كَانَ) هُوَ (الرجحان وَسبب التَّرْجِيح) لَا نَفسه، لِأَنَّهُ جعل أحد المتعادلين راجحا بِإِظْهَار فضل فِيهِ (فالترجيح) أَي هَذَا التَّرْجِيح (اصْطِلَاحا) فَهُوَ حَقِيقَة عرفية خَاصَّة فِيهِ، ومجاز لغَوِيّ من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم مسببه (والأمارة) أَي اعْتِبَار الأمارة الَّتِي هِيَ دَلِيل ظَنِّي، لِأَن الْقطعِي من الْأَدِلَّة (لِأَنَّهُ لَا تعَارض مَعَ قطع) وَالتَّرْجِيح مَا يتَخَلَّص بِهِ من التَّعَارُض (وَتقدم مَا فِيهِ) أَي فِي عدم التَّعَارُض مَعَ الْقطع فِي أول فصل التَّعَارُض: من أَن التَّحْقِيق جَرَيَانه فِي القطعيين أَيْضا كَمَا فِي الظنيين، وَأَن تَخْصِيص الظنيين بِهِ تحكم (فَيجب تَقْدِيمهَا) أَي الأمارة المقترنة بِمَا تقَوِّي بِهِ على معارضها (للْقطع عَن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ بِهِ) أَي بتقديمها (وَأورد) على الْأَكْثَرين (شَهَادَة أَرْبَعَة مَعَ) شَهَادَة (اثْنَيْنِ) إِذا تَعَارَضَتَا فَإِن الظَّن بالأربعة أقوى، وَلَا تقدم شَهَادَة الْأَرْبَعَة على شَهَادَة الِاثْنَيْنِ (فالتزم) تَقْدِيم شَهَادَة الْأَرْبَعَة كَمَا هُوَ قَول لمَالِك وَالشَّافِعِيّ (وَالْحق الْفرق) بَين الشَّهَادَة وَالدَّلِيل، إِذْ كم من وَجه ترجح بِهِ الْأَدِلَّة دون الشَّهَادَات: وَذَلِكَ لِأَن الشَّهَادَة مقدرَة فِي الشَّرْع بِعَدَد مَعْلُوم فكفينا الِاجْتِهَاد فِيهَا، بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَيْهِ (وللحنفية) فِي تَعْرِيف التَّرْجِيح بِنَاء (على أَنه) أَي التَّرْجِيح (فعل) الْمُجْتَهد (إِظْهَار الزِّيَادَة لأحد المتماثلين على الآخر بِمَا لَا يسْتَقلّ) فَخرج النَّص مَعَ الْقيَاس الْمعَارض لَهُ صُورَة، فَلَا يُقَال النَّص رَاجِح عَلَيْهِ(3/153)
لانْتِفَاء الْمُمَاثلَة الَّتِي هِيَ الِاتِّحَاد فِي النَّوْع، وَقد عرفت فَائِدَة التَّقْيِيد بِمَا لَا يسْتَقلّ من قَوْله فِي التَّعَارُض: والرجحان تَابع مَعَ التَّمَاثُل (و) لَهُم بِنَاء (على مثل مَا قبله) أَي من قبل هَذَا التَّعْرِيف، يَعْنِي إِظْهَار الزِّيَادَة إِلَى آخِره، وَهُوَ تَعْرِيف الشَّافِعِيَّة (فضل الخ) أَي لأحد المتماثلين على الآخر وَصفا، وَهُوَ قَول فَخر الْإِسْلَام وَغَيره كَمَا أَن اصْطِلَاح الشَّافِعِيَّة وضع لفظ التَّرْجِيح بِإِزَاءِ مَا هُوَ مُنَاسِب بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ كَذَلِك اصْطِلَاح بعض الْحَنَفِيَّة وضع لَهُ بِإِزَاءِ مَا هُوَ سَبَب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (وَأفَاد) تَعْرِيف الْحَنَفِيَّة (نفي التَّرْجِيح بِمَا يصلح دَلِيلا) فِي نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن الدَّلِيل الْمُوَافق لَهُ فَلَا يرجح دَلِيل مُسْتَقل وَافقه دَلِيل مُسْتَقل آخر على دَلِيل مُنْفَرد لَيْسَ لَهُ ذَلِك: وَهَكَذَا فِي الْقيَاس (فَبَطل) التَّرْجِيح لأحد الْحكمَيْنِ المتعارضين (بِكَثْرَة الْأَدِلَّة) على الآخر (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة لاستقلال كل من تِلْكَ الْأَدِلَّة فِي إِثْبَات الْمَطْلُوب فَلَا يَنْضَم إِلَى الآخر وَلَا يتحد بِهِ ليُفِيد تقويته، لِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يتقوى بِصفة تُؤْخَذ فِي ذَاته لَا بانضمام مثله إِلَيْهِ (وترجيح مَا) أَي نَص (يُوَافق الْقيَاس على مَا) أَي نَص (يُخَالِفهُ) أَي الْقيَاس (لَيْسَ بِهِ) أَي بالترجيح لِكَثْرَة الْأَدِلَّة (عِنْد قابله) أَي من يقبل التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس الْمُوَافق للنَّص (غير مُعْتَبر هُنَاكَ) لِأَنَّهُ لَا يعْتَبر فِي مُقَابلَة النَّص فَلَا يصلح دَلِيلا فِي نَفسه هُنَاكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَيْسَ) الْقيَاس ثمَّة (دَلِيلا والاستقلال (فَرعه) أَي كَونه دَلِيلا، بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْوَصْف لذَلِك النَّص (وَصَحَّ عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (نَفْيه) أَي نفي تَرْجِيح مَا يُوَافق الْقيَاس على مَا يُخَالِفهُ. وَفِي الْكَشْف وَغَيره أَن الْأَصَح (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس (دَلِيل فِي نَفسه مُسْتَقل) وَلذَا يثبت الحكم بِهِ عِنْد عدم النَّص وَالْإِجْمَاع و (لَكِن عدم شَرط اعْتِبَاره) هُنَا لما ذكرنَا (وَالْقِيَاس على مثله) أَي وترجح الْقيَاس على قِيَاس مثله معَارض لَهُ (بِكَثْرَة الْأُصُول) كَمَا سَيَأْتِي بَيَانهَا فِي محلهَا (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة (لِأَنَّهَا) أَي الْأُصُول (لَا توجب حكم الْفَرْع) بل الْمُوجب لَهُ الْفَرْع الْمَوْجُود فِيهَا المثير للْحكم فَيحدث فِيهِ قُوَّة مرجحة (وَهُوَ) أَي وجوب حكم الْفَرْع هُوَ (الْمَطْلُوب) من الْقيَاس (فَيعْتَبر فِيهِ) أَي فِي حكم الْفَرْع (التَّعَارُض) بَين القياسين، ثمَّ يرجح الْقيَاس الَّذِي هُوَ أصُول يُؤْخَذ فِيهَا جنس الْوَصْف أَو نَوعه على مَا لَيْسَ كَذَلِك (فَهُوَ) أَي التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأُصُول ترجح (بِقُوَّة الْأَثر) وَهُوَ من الطّرق المصححة فِي تَرْجِيح الأقيسة كَمَا سَيَأْتِي. ثمَّ شرع فِي بَيَان مَا بِهِ التَّرْجِيح، فَقَالَ (فَفِي الْمَتْن) أَي مَا تضمنه الْكتاب وَالسّنة من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْعَام وَالْخَاص وَنَحْوهَا يكون التَّرْجِيح (بِقُوَّة الدّلَالَة كالمحكم فِي عرف الْحَنَفِيَّة على الْمُفَسّر، وَهُوَ) أَي الْمُفَسّر عِنْدهم يرجح (على النَّص) فِي عرفهم (وَهُوَ) أَي النَّص فِي عرفهم(3/154)
(على الظَّاهِر) فِي عرفهم، وَقد سبق تَفْسِيرهَا على التَّفْصِيل فِي التَّقْسِيم الثَّانِي من الْفَصْل الثَّانِي من المبادي اللُّغَوِيَّة (وَلذَا) أَي ولترجح الْأَقْوَى دلَالَة (لزم نفي التَّشْبِيه) عَن الله تَعَالَى (فِي) قَوْله عز وَجل {على الْعَرْش اسْتَوَى} وَنَحْوه مِمَّا يُوهم الْمَكَان لَهُ (ب) قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} لِأَنَّهُ مُقْتَضى نفي الْمُمَاثلَة بَينه وَبَين شَيْء مَا مُطلقًا، وَالْمَكَان والمتمكن متماثلان من حَيْثُ الْقدر، أَو يُقَال لَو كَانَ لَهُ مَكَان لَكَانَ مثل الْأَجْسَام فِي التَّمَكُّن، وَقدم الْعَمَل بِهَذِهِ الْآيَة لكَونهَا محكمَة لَا تحْتَمل تَأْوِيلا (ويضبط مَا تقدم من الاصطلاحين) للحنفية وَالشَّافِعِيَّة فِي ألقاب أَقسَام تقسيمات الدّلَالَة للمفرد فِي الْفَصْل الثَّانِي من الْمقَالة الأولى (يجمع وَيفرق) فسر الشَّارِح الْجمع بِأَن يحكم بِوُجُود بعض الْأَقْسَام على الاصطلاحين جَمِيعًا فِي بعض الْمَوَارِد، وَالْفرق بِأَن يحكم بِوُجُود بَعْضهَا على أحد الاصطلاحين دون الآخر، ثمَّ قَالَ وينشأ من ذَلِك تَرْجِيح الْبَعْض على الْبَعْض بِحَسب التَّفَاوُت بَينهمَا فِي قُوَّة الدّلَالَة انْتهى. وَالَّذِي يظْهر لي من السِّيَاق أَنه لما ذكر أَن التَّرْجِيح فِي الْمَتْن بِقُوَّة الدّلَالَة، وَذكر أقساما من الدوال وَأفَاد كَون بَعْضهَا أقوى من الْبَعْض فِي الدّلَالَة أَرَادَ أَن يرشدك إِلَى ضابطة يسهل مَعْرفَتهَا عَلَيْك بِسَبَب ضبطك الاصطلاحين وَهِي أَن تجمع بَين مَا لم يذكر من أَقسَام الدوال وَتنظر إِلَى النِّسْبَة بَين كل قسمَيْنِ من حَيْثُ قُوَّة الدّلَالَة ومقابلها وَهُوَ الْجمع، وتحكم بِكَوْن أَحدهمَا أقوى دلَالَة وَهُوَ الْفرق (والخفي) يرجح (على الْمُشكل عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة لما عرف من أَن الخفاء فِي الْمُشكل أَكثر مِنْهُ فِي الْخَفي (وَأما الْمُجْمل مَعَ الْمُتَشَابه) باصطلاح الْحَنَفِيَّة (فَلَا يتَصَوَّر) تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر (وَلَو) قصد إِلَى التَّرْجِيح (بعد الْبَيَان) للمجمل (لِأَنَّهُ) أَي تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر (بعد فهم مَعْنَاهُمَا) والمتشابه انْقَطع رَجَاء مَعْرفَته فِي الدُّنْيَا عِنْدهم (والحقيقة) ترجح (على الْمجَاز الْمسَاوِي) فِي الِاسْتِعْمَال لَهَا (شهرة اتِّفَاقًا) لِأَنَّهَا الأَصْل فِي الْكَلَام (وَفِي) تَرْجِيح الْمجَاز (الزَّائِد) فِي الِاسْتِعْمَال من حَيْثُ الشُّهْرَة على الْحَقِيقَة (خلاف أبي حنيفَة) فَإِنَّهُ يرجحها عَلَيْهِ وَقَالَ الْجُمْهُور وَمِنْهُم الصاحبان يرجح عَلَيْهَا، وَتقدم الْكَلَام فِي ذَلِك فِي الْفَصْل الْخَامِس فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (والصريح على الْكِنَايَة، والعبارة على الْإِشَارَة وَهِي) أَي الْإِشَارَة (على الدّلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَهِي) أَي الدّلَالَة (على الْمُقْتَضى وَلم يُوجد لَهُ) أَي لترجيح الدّلَالَة عَلَيْهِ (مِثَال فِي الْأَدِلَّة وَقيل يتَحَقَّق) لَهُ مِثَال فِيهَا، وَهُوَ مَا (إِذا بَاعه) أَي عبدا (بِأَلف ثمَّ قَالَ) البَائِع وَالْمُشْتَرِي قبل نقد الثّمن (أعْتقهُ عني بِمِائَة) فَفعل، إِذْ (دلَالَة حَدِيث زيد بن أَرقم) الْمَذْكُور فِي المسئلة الَّتِي يَليهَا فصل التَّعَارُض (تَنْفِي صِحَّته) أَي بيع العَبْد الْمَذْكُور الثَّابِت اقْتِضَاء لشراء مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن (واقتضاء الصُّورَة) أَي قَول غير مَالك العَبْد لمَالِكه(3/155)
عتق عَبدك عني بِمِائَة فِي غير هَذِه الْوَاقِعَة (يُوجِبهَا) أَي صِحَة البيع الْمُقْتَضى (وَلَيْسَ) هَذَا أَمْثَالًا لترجح الدّلَالَة على الْمُقْتَضى (إِذْ ليسَا) أَي بيع زيد واقتضاء الصُّورَة صِحَة البيع (دَلِيلين) سمعيين كَمَا هُوَ ظَاهر، فَأَيْنَ تعَارض الدَّلِيلَيْنِ الَّذِي التَّرْجِيح فَرعه، هَكَذَا شرح الشَّارِح هَذَا الْمحل وَمضى.
وَأَنت خَبِير بِأَن النزاع فِي تحقق الْمِثَال بعد تَسْلِيم كَون تَرْجِيح الدّلَالَة على الْمُقْتَضى من جملَة المرجحات فِي بَاب التَّعَارُض بَين الْأَدِلَّة وَعدم كَونهمَا دَلِيلين سمعيين إِن كَانَ بِسَبَب كَون بيع زيد أَو البَائِع الْمَذْكُور، واقتضاء لَفْظَة صِحَة البيع أَمريْن جزئيين لَا يُقَال لشَيْء مِنْهُمَا دَلِيل سَمْعِي فَالْجَوَاب أَنه إِذا حررنا النّظر عَن خصوصيتهما يرجعان إِلَى أصليين كليين، وَإِن كَانَ بِسَبَب أَن هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ ليسَا دَلِيلين سمعيين، فللخصم أَن يَقُول حَدِيث زيد بن أَرقم من الْأَدِلَّة السمعية، وَالدّلَالَة على الْمُقْتَضى أَيْضا مِنْهَا، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم عدم كَونهمَا دَلِيلين لَا يَنْبَغِي أَن يُنَازع فِي تحقق الْمِثَال فِي عدم هَذَا لترجيح مِمَّا نَحن فِيهِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال فِي قَوْله لم يُوجد لَهُ مِثَال فِي الْأَدِلَّة إِشَارَة إِلَى أَنه لَو فرض لَهُ مِثَال لَا يكون ذَلِك من جملَة التَّرْجِيح الْكَائِن بَين الْأَدِلَّة وَعدم كَونهمَا ليسَا من الْأَدِلَّة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَلِأَن حَدِيث زيد إِنَّمَا نسب إِلَيْهِ) أَي إِلَى زيد (لِأَنَّهُ صَاحب الْوَاقِعَة فِي زمن عَائِشَة الرادة عَلَيْهِ) بِهِ بَيْعه وشراءه (فَلَا يكون غَيره) مِمَّن وَقع مِنْهُ مثل مَا وَقع من زيد (مثله) أَي مثل زيد (دلَالَة) يَعْنِي أَن مردودية وُقُوع مَا صدر من زيد بذلك الحَدِيث لَيست بطرِيق دلَالَة لنَصّ، وَكَذَلِكَ مردودية مثل صَنِيعه من غَيره بذلك الحَدِيث لَيست بِدلَالَة النَّص (إِذْ هُوَ) أَي الحَدِيث الْمَرْدُود بة على زيد (نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شِرَاء مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن فَيثبت) هَذَا النَّهْي (فِي غَيره) أَي غير زيد (عبارَة كَمَا) يثبت (فِيهِ) أَي فِي زيد عبارَة أَيْضا (وَكَيف) يكون هَذَا من الدّلَالَة (وَلَا أَوْلَوِيَّة) لكَونه مَنْهِيّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مورد النَّص كأولوية ضرب الْأَبَوَيْنِ بِالْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُرْمَة التأفيف على قَول من اشْترط فِي دلَالَة النَّص أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم فِي الدّلَالَة (وَلَا لُزُوم فهم المناط) للْحكم الْمَذْكُور فِي الْمَسْكُوت على مَا بَين فِي محلّة (فِي مَحل الْعبارَة) وَلَا دلَالَة بِدُونِهِ (والمقتضى) بِفَتْح الضَّاد أَي وترجح الْمُقْتَضى الَّذِي أثبت (للصدق عَلَيْهِ) أَي لكَون صدق الْكَلَام مَوْقُوفا على الْمُقْتَضى الَّذِي أثبت (لغيره) أَي لغير الصدْق وَهُوَ وُقُوعه شَرْعِيًّا لِأَن الصدْق فهم من وُقُوعه شَرْعِيًّا (وَمَفْهُوم الْمُوَافقَة على) مَفْهُوم (الْمُخَالفَة عِنْد قابله) بِالْبَاء الْمُوَحدَة كَذَا قَالَ الشَّارِح: أَي من يقبل مَفْهُوم الْمُخَالفَة لِأَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة أقوى، وَلذَا لم يَقع خلاف وَألْحق بالقطعيات، وَقيل بِخِلَافِهِ لَكِن الأول هُوَ الصَّحِيح على مَا ذكره ابْن(3/156)
الْحَاجِب (و) يرجح (الْأَقَل احْتِمَالا) على الْأَكْثَر احْتِمَالا (كالمشترك) الْمَوْضُوع (لاثْنَيْنِ على مَا) أَي الْمُشْتَرك (لأكْثر وَالْمجَاز الْأَقْرَب) إِلَى الْحَقِيقَة على مَا هُوَ أبعد مِنْهُ إِلَيْهَا (وَفِي كتب الشَّافِعِيَّة) يرجح الْمجَاز على مجَاز آخر (بأقربية الْمُصَحح) أَي العلاقة إِلَى الْحَقِيقَة مَعَ اتِّحَاد الْجِهَة (كالسبب الْأَقْرَب) فِي الْمُسَبّب (على) الْمُسَبّب (الْأَبْعَد) مِنْهُ فِي الْمُسَبّب (و) يرجح ب (قربه) أَي بِقرب الْمُصَحح إِلَى الْحَقِيقَة (دون) الْمُصَحح (الآخر) فِي الْمجَاز الآخر بِأَن يكون بَعيدا (كالسبب) أَي كإطلاق اسْم السَّبَب (على الْمُسَبّب على عَكسه) أَي إِطْلَاق اسْم الْمُسَبّب على السَّبَب كَأَن الْمُسَبّب لَا يسْتَلْزم سَببا معينا لجَوَاز ثُبُوته بِسَبَب آخر، بِخِلَاف السَّبَب فَإِنَّهُ يسْتَلْزم مسببا معينا (وَيَنْبَغِي تعارضهما) أَي مَا سمي باسم سَببه وَمَا سمي باسم مسببه (فِي) السَّبَب (المتحد) لمسبب فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يسْتَلْزم كل مِنْهُمَا الآخر بِعَيْنِه لِأَن الْمَفْرُوض أَنه لَيْسَ إِلَّا سَبَب وَاحِد (وَمَا) أَي الْمجَاز الَّذِي (جَامعه) أَي علاقته (أشهر) مترجح على مَا علاقته دون ذَلِك فِي الشُّهْرَة (و) الْمجَاز (الْأَشْهر) اسْتِعْمَالا (مُطلقًا) أَي فِي اللُّغَة أَو فِي الشَّرْع أَو فِي الْعرف على غَيره (وَالْمَفْهُوم وَالِاحْتِمَال الشرعيان) يترجحان على الْمَفْهُوم وَالِاحْتِمَال اللَّذين ليسَا بشرعيين، لم يذكر الشَّارِح للمفهوم الشَّرْعِيّ وَمُقَابِله مِثَالا وَلم يبين مَعْنَاهُ وَهَكَذَا فعل فِي الِاحْتِمَال الشَّرْعِيّ مُقَابِله، وَالَّذِي يظْهر لي أَن الحكم الْمَنْطُوق إِذا كَانَ شَرْعِيًّا كَانَ الْمَفْهُوم أَيْضا شَرْعِيًّا وَإِذا لم يكن شَرْعِيًّا كَانَ مَفْهُومه كَذَلِك، وَإِن كَانَ مفَاد مَفْهُومه حكما شَرْعِيًّا وَلَا تتَحَقَّق الْمُعَارضَة إِلَّا إِذا كَانَ مفَاد الْمَفْهُوم الشَّرْعِيّ ومفاد مُقَابِله حكما شَرْعِيًّا، وَأما مِثَال الِاحْتِمَال الشَّرْعِيّ وَمَا قابله فَمثل الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد صَلَاة فِي اللُّغَة وَأَنه كَالصَّلَاةِ فِي اشْتِرَاط الطَّهَارَة (بِخِلَاف) اللَّفْظ (الْمُسْتَعْمل) للشارع (فِي) مَعْنَاهُ (اللّغَوِيّ مَعَه) أَي اسْتِعْمَاله (فِي) الْمَعْنى (الشَّرْعِيّ) فَإِنَّهُ يقدم الْمَعْنى اللّغَوِيّ على الشَّرْعِيّ عِنْد تعارضهما ممكنين فِي اطلاق، وَمعنى اسْتِعْمَاله فيهمَا أَنه يحْتَمل أَن يكون مُسْتَعْملا فِي كل مِنْهُمَا على سَبِيل الْبَدَلِيَّة، مِثَاله النِّكَاح يسْتَعْمل لُغَة فِي الْوَطْء وَشرعا فِي العقد (وَفِيه) أَي فِي هَذَا (نظر) لِأَن اسْتِعْمَاله فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ (كأقربية الْمُصَحح وقربه وأشهريته) أَي كَمَا فِي تَرْجِيح كل من هَذِه الثَّلَاثَة على مَا يُقَابله نظر (بل وأقربية نفس الْمَعْنى الْمجَازِي) أَي بل فِي تَرْجِيح هَذَا على مجَاز لَيْسَ كَذَلِك نظر أَيْضا كَمَا سَيعْلَمُ (وأولوية) الْمجَاز الَّذِي هُوَ نفى (الصِّحَّة فِي لَا صَلَاة) لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب على الْمجَاز الَّذِي هُوَ نفي الْكَلَام فِيهِ (لذَلِك) أَي لِأَن نفى الصِّحَّة الْمجَاز الْأَقْرَب إِلَى نفى الذَّات (مَمْنُوع لِأَن النَّفْي) وَارِد (على النِّسْبَة لَا) على (طرفها) الأول (و) طرفها (الثَّانِي مَحْذُوف فَمَا قدر) أَي فَهُوَ مَا قدر خبر للطرف الأول وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا (كَانَ كل الْأَلْفَاظ) الملفوظ مِنْهَا والمقدر فِي(3/157)
التَّرْكِيب الْمَذْكُور (حقائق) لاستعمالها فِي مَعَانِيهَا الوضعية (غير أَن خصوصه) أَي الْمُقدر إِنَّمَا يتَعَيَّن (بِالدَّلِيلِ) الْمعِين لَهُ (وَوَجهه) أَي النّظر فِي تَرْجِيح مَا اشْتَمَل على أقربية الْمُصَحح إِلَى آخِره (أَن الرجحان) إِنَّمَا هُوَ (بِمَا يزِيد قُوَّة دلَالَة على المُرَاد أَو) بِمَا يزِيد قُوَّة دلَالَة على (الثُّبُوت) وَهَذِه الْمَذْكُورَات لَيْسَ فِيهَا ذَلِك (والحقيقي) أَي وَالْفَرْض أَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (لم يرد) من إِطْلَاق اللَّفْظ (فَهُوَ) أَي الْحَقِيقِيّ الَّذِي لَيْسَ بِمُرَاد مِنْهُ (كَغَيْرِهِ) من الْمعَانِي الَّتِي لَيست بمرادة مِنْهُ (وَتعين الْمجَازِي فِي كل) أَي كل اسْتِعْمَال لَهُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ (بِالدَّلِيلِ) الْمعِين لَهُ (فاستويا) أَي المجازيان (فِيهِ) أَي فِيمَا ذكر أَو فِي اللَّفْظ بِاعْتِبَار مَا ذكر وَالْحَاصِل أَنه إِذا ذكر لفظ وَصرف الدَّلِيل عَن إِرَادَة مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ إِلَى مَا يَصح أَن يتجوز فِيهِ فَلَا يتَعَيَّن المُرَاد إِلَّا بالمعين فالمدار عَلَيْهِ فكون أحد المفادين مجَازًا بِحَيْثُ يكون بَينه وَبَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ قرب فِي ذَاته أَو فِي مصححه أَو بِحَيْثُ يكون مصححه أشهر لَا أثر لَهُ، وَقد يُقَال المجازيان إِذا كَانَ لكل مِنْهُمَا قرينَة مُعينَة فاستويا فِيهِ بِاعْتِبَار ذَلِك لَكِن تكون العلاقة المصححة لأَحَدهمَا مَوْصُوفَة بِالْقَرِينَةِ مثلا كَانَ دلَالَته أوضح فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَإِن لم يكن مرَادا لكنه وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال إِلَى الْمجَازِي، وَلَا نسلم أَنه كَسَائِر الْمعَانِي الَّتِي لَيست مُرَادة فَتَأمل (نعم لَو احتملت دلَالَته) أَي دلَالَة الْمعِين لأحد المجازيين (دون الآخر) بِأَن يكون التَّعْيِين على احْتِمَال فَقَط وَأما الْمعِين للْآخر فَلَا يكون مُحْتملا بل يكون نصا فِي المُرَاد فَحِينَئِذٍ يكون هَذَا أرجح (وَذَلِكَ) أَي التَّعْيِين بِاعْتِبَار الِاحْتِمَال وَعَدَمه (شَيْء آخر) غير الْقرب من الْحَقِيقِيّ والبعد مِنْهُ (وَمَا أكدت دلَالَته) يرجح على مَا لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ أغلب على الظَّن (والمطابقة) ترجح على التضمن والالتزام لِأَنَّهَا أضبط (والنكرة فِي) سِيَاق (الشَّرْط) تترجح (عَلَيْهَا) أَي النكرَة (فِي) سِيَاق (النَّفْي وَغَيرهَا) أَي وعَلى غير النكرَة كالجمع الْمحلى والمضاف (لقُوَّة دلالتها) أَي النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط (بإفادة التَّعْلِيل) لِأَن الشَّرْط كالعلة وَالْحكم الْمُعَلل دلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ أقوى (وَالتَّقْيِيد) للنكرة الَّتِي رجحت عَلَيْهَا النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط (بِغَيْر المركبة) أَي المبنية على الْفَتْح لِأَن لَا فِيهَا لنفي الْجِنْس لكَونهَا نصا فِي الِاسْتِغْرَاق (تقدم) فِي الْبَحْث الثَّانِي من مبَاحث الْعَام (مَا يَنْفِيه) أَي التَّقْيِيد الْمَذْكُور فيستوي الْحَال بَين أَن تكون مركبة أَولا (وَكَذَا الْجمع الْمحلي والموصول) يتَرَجَّح كل مِنْهُمَا (على) اسْم الْجِنْس (الْمُعَرّف) بِاللَّامِ لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْهُود فَتَصِير دلَالَته على الْعُمُوم ضَعِيفَة، على أَن الْمَوْصُول مَعَ صلته يُفِيد التَّعْلِيل كَمَا تفيده النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط (وَالْعَام) يتَرَجَّح (على الْخَاص فِي الِاحْتِيَاط) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الِاحْتِيَاط فِي الْعَمَل كَمَا لَو كَانَ محرما وَالْخَاص مبيحا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الِاحْتِيَاط فِيهِ(3/158)
(جمع) بَينهمَا بِالْعَمَلِ بالخاص فِي مَحَله وبالعام فِيمَا سواهُ (كَمَا تقدم) فِي فصل التَّعَارُض (وَالشَّافِعِيَّة) يتَرَجَّح عِنْدهم (الْخَاص دَائِما) على الْعَام لِأَنَّهُ غير مُبْطل للعام بِخِلَاف الْعَمَل بِالْعَام فَإِنَّهُ مُبْطل للخاص وَلِأَنَّهُ أقوى دلَالَة (وَمَا) أَي الْعَام الَّذِي (لزمَه تَخْصِيص) يتَرَجَّح (على خَاص ملزوم التَّأْوِيل) لِأَن تَخْصِيص الْعَام أَكثر من تَأْوِيل الْخَاص (وَالتَّحْرِيم) يتَرَجَّح (على غَيره) من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (فِي الْمَشْهُور احْتِيَاطًا) إِذْ غَايَة مَا يلْزم من تَقْدِيمه ترك الْوَاجِب وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ فِي مُقَابلَة الْمُوجب وَإِن كَانَ للمناقشة مجَال، وَقد يسْتَدلّ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
" مَا اجْتمع الْحَرَام والحلال إِلَّا وَغلب الْحَرَام الْحَلَال " وَفِيه مقَال للحفاظ (وَإِذا ثَبت أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ يحب مَا خفف على أمته) وَالْأَخْبَار فِيهِ أَكثر من أَن تحصى، وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
" إِذا أم أحدكُم النَّاس فليخفف، فَإِن فيهم الصَّغِير وَالْكَبِير والضعيف وَالْمَرِيض وَذَا الْحَاجة " مُتَّفق عَلَيْهِ (اتجه قلبه) أَي تَرْجِيح غير التَّحْرِيم، وَتعقبه الشَّارِح بِأَن هَذَا لَا يتم فِي الْوُجُوب إِذْ لَيْسَ فِي تَرْجِيحه عَلَيْهِ تَخْفيف لِأَن الْمحرم يتَضَمَّن اسْتِحْقَاق الْعقَاب على الْفِعْل، والموجب يتضمنه على التّرْك فَتعذر الِاحْتِيَاط، فَلَا جرم أَن جزم بالتساوي بَينهمَا الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور وَقَالَ لَا يقدم أَحدهمَا على الآخر انْتهى، وَقد يُقَال أَن التَّحْرِيم منع عَن الْفِعْل، والإيجاب إِلْزَام بِهِ، والمرء حَرِيص لما منع فَهُوَ أشق على النَّفس، وَهُوَ الَّذِي أخرج آدم من الْجنَّة فَإِن الصَّبْر عَن الْمنْهِي أصعب (وَالْوُجُوب) يرجح (على مَا سوى التَّحْرِيم) من الْكَرَاهَة وَالنَّدْب للِاحْتِيَاط (وَالْكَرَاهَة) ترجح (على النّدب) لما ذكر (وَالْكل) من الْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم وَالْوُجُوب وَالنَّدْب يرجح (على الْإِبَاحَة) لما ذكر أَيْضا (فتقديم الْأَمر) على مَا سوى النَّهْي (وَالنَّهْي) على مَا سواهُ مُطلقًا أَو على الْأَمر (لَيْسَ لذاتيهما) بل لِأَن مَدْلُول الْأَمر الْوُجُوب، وَقد قدم للِاحْتِيَاط ومدلول النَّهْي التَّحْرِيم وَقد قدم كَذَلِك (وَالْخَاص من وَجه) أَي من بعض جهاته لَا من كل وَجه يرجح (على الْعَام مُطلقًا) أَي من جَمِيع جهاته لِأَن احْتِمَال تَخْصِيصه أَكثر من الْخَاص من وَجه لَا يدْخلهُ التَّخْصِيص من ذَلِك الْوَجْه (و) الْعَام (الَّذِي لم يخص) يرجح على الْعَام الَّذِي خص، نَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الْمُحَقِّقين مُعَللا بِأَن دُخُول التَّخْصِيص يضعف اللَّفْظ، والرازي بِأَن الَّذِي دخله قد أزيل عَن تَمام مُسَمَّاهُ والحقيقة ترجح على الْمجَاز (وَذكر من) تعَارض (الْأَدِلَّة) للْأَحْكَام (مَا) أَي التَّعَارُض بَين الدَّلِيلَيْنِ اللَّذين (بَينهمَا) عُمُوم (من وَجه) لَا يخفى عَلَيْك أَن التَّعَارُض إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا أَفَادَ كل مِنْهُمَا نقيض الآخر فَلَا بُد من اتِّحَاد النِّسْبَة، وَلها بِاعْتِبَار طرقه ومتعلقاتها جِهَات، وَتلك الْجِهَات تقبل الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَإِن كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ(3/159)
عَاما بِاعْتِبَار جِهَة وخاصا بِاعْتِبَار أُخْرَى، وَالْآخر على عَكسه بِأَن يكون خَاصّا بِاعْتِبَار مَا كَانَ بَينهمَا عُمُوما من وَجه (مثل لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ) وَلَفظ الصَّحِيحَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب فَإِن هَذَا (عَام فِي الْمُصَلِّين) لِأَن الْمَعْنى لَا صَلَاة لكل مصل لم يقْرَأ بهَا ضَرُورَة كَون كلمة من من صِيغ الْعُمُوم (خَاص فِي المقروء) إِذْ الْفَاتِحَة اسْم لسورة مَخْصُوصَة (وَمن كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) أخرجه ابْن منيع بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم فَإِن هَذَا (خَاص بالمقتدى) لَيْسَ المُرَاد بالخاص مَا يُقَابل الْمجَاز الاصطلاحي إِذْ لَا فرق بَين من كَانَ بِإِمَام وَبَين من لم يقْرَأ فِي الْعُمُوم الاصطلاحي، بل المُرَاد أَنه يَشْمَل المقتدى فَقَط بِخِلَاف من لم يقْرَأ، فَإِنَّهُ يعمه وَغَيره (عَام فِي المقروء) إِذْ يعم كل مَا يقْرَأ الإِمَام فَاتِحَة كَانَ أَو غَيره (فَإِن خص عُمُوم الْمُصَلِّين) فِي لَا صَلَاة (بالمقتدى) وَيُقَال أَن المُرَاد بالمصلين هُنَاكَ من عدا المقتدى (عَن وُجُوبهَا) أَي حكم وجوب الْفَاتِحَة (عَلَيْهِ) أَي على المقتدى فَلَا يجب عَلَيْهِ (وَجب أَن يخص خُصُوص المقروء) فِي الحَدِيث الأول (وَهُوَ) أَي المقروء (الْفَاتِحَة عُمُوم المقروء الْمَنْفِيّ) فِي الحَدِيث الثَّانِي (عَن المقتدى) إِذْ جعل قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ تفِيد أَن لَا يقْرَأ بِنَفسِهِ (فَتجب عَلَيْهِ الْفَاتِحَة فيتدافعان) أَي الدليلان فِي المقتدى، أوجب الأول عَلَيْهِ قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَنفى الثَّانِي وُجُوبهَا عَلَيْهِ تَوْضِيحه أَن الأول نفى صَلَاة كل مصل بِدُونِ الْفَاتِحَة فَلَزِمَ نفى صَلَاة المقتدى بِدُونِهَا ضمنا فأوجبها عَلَيْهِ، وَالثَّانِي نفى جنس الْقِرَاءَة عَنهُ فنفى وجوب الْفَاتِحَة بِخُصُوصِهِ فَعِنْدَ ذَلِك يطالبنا الْخصم بِمثل هَذِه الْمُعَامَلَة ومثبته هَذَا بِخُصُوصِهِ (فَالْوَجْه فِي هَذَا) الْمِثَال (أَن) يُقَال (لَا تعَارض) بَين الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورين (إِذْ لم ينف) الدَّلِيل الثَّانِي (قرَاءَتهَا) أَي وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة (على المقتدين بل ثَبت أَن قِرَاءَة الإِمَام جعلت شرعا قِرَاءَة لَهُ) أَي المقتدى (بِخِلَاف النَّهْي عَنْهَا) أَي الصَّلَوَات (فِي الْأَوْقَات) الثَّلَاثَة: وَقت طُلُوع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع، وَوقت استوائها حَتَّى تَزُول، وَوقت ميلها إِلَى الْغُرُوب حِين تغرب. لما فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره (مَعَ من نَام عَن صَلَاة) فليصلها إِذا ذكرهَا أخرجه بِمَعْنَاهُ مُسلم (وَفِي بعض كتب الشَّافِعِيَّة) كشرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ للأسنوي (يطْلب التَّرْجِيح فيهمَا) أَي المتعارضين اللَّذين بَينهمَا عُمُوم من وَجه (من خَارج وَكَذَا يجب للحنفية) أَي يطْلب التَّرْجِيح فيهمَا من خَارج لِأَن كلا أَخذ مُقْتَضى خصوصه فِي عُمُوم الآخر ثمَّ وَقع التَّعَارُض بَينهمَا (وَالْمحرم مُرَجّح) على غَيره، وَحَدِيث النهى محرم وَحَدِيث من نَام مُطلق فيترجح (وَمَا جرى بِحَضْرَتِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَسكت) عَنهُ يتَرَجَّح (على مَا بلغه) فَسكت عَنهُ ذكره الْآمِدِيّ (وَالْوَجْه تَقْيِيده)(3/160)
أَي مَا بلغه فَسكت عَنهُ (بِمَا إِذا ظهر عدم ثُبُوته) أَي ثُبُوت وُقُوع هَذَا الَّذِي بلغه (لَدَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَوَاز أَن يكون سُكُوته عَنهُ حِينَئِذٍ لعلمه بِعَدَمِ وُقُوعه من وَحي أَو غَيره، إِذْ عِنْد اطِّلَاعه بِمَا جرى لَا فرق بَين الْحُضُور والغيب فِي عدم جَوَاز السُّكُوت عَنهُ على تَقْدِير كَونه مُنْكرا (وَمَا) روى (بصيغته) أَي بِلَفْظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَرَجَّح (على المنفهم عَنهُ) أَي على الَّذِي انفهم عَنهُ فروى عَنهُ فالعبارة للراوي لَا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوَاء أفهمهُ من لَفظه أَو من فعله إِذْ يتَطَرَّق إِلَى هَذَا احْتِمَال الْغَلَط فِي الْفَهم، وَقيل لِأَن المحكى بِاللَّفْظِ أجمع على قبُوله بِخِلَاف المحكى بِالْمَعْنَى (ونافى مَا يلْزمه) أَي الْخَبَر الَّذِي يَنْفِي حكما شَرْعِيًّا يلْزمه (دَاعِيَة) إِلَى مَعْرفَته لكَونه مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى (فِي) خبر (الْآحَاد) يتَرَجَّح (على) مُثبت (مثله) مِمَّا يلْزمه دَاعِيَة من خبر الْآحَاد كَخَبَر مُطلق يَنْفِي وجوب الْوضُوء من مس الذّكر، وَخبر بسرة بإثباته، وَتقدم وَجهه على أصُول الْحَنَفِيَّة، وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن جُمْهُور الْعلمَاء تقدم الْمُثبت وَقيل بتسويتهما وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ النَّفْي المحصور وَالْإِثْبَات سيان (ومثبت دَرْء الْحَد) أَي رفع إِيجَابه يتَرَجَّح (على مُوجبه) أَي الْحَد لما فِي الأول من الْيُسْر وَعدم الْحَرج. قَالَ تَعَالَى - {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر. وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} - وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " ادرءوا الْحُدُود " رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ (وَمُوجب الطَّلَاق وَالْعتاق) يتَرَجَّح على نافيهما، وَذَلِكَ لِأَن الأول محرم للتَّصَرُّف فِي الزَّوْجَة وَالرَّقِيق، وَثَانِيهمَا مُبِيح والحظر مقدم على الْإِبَاحَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويندرج) موجبهما (فِي الْمحرم، وَقيل بِالْعَكْسِ) أَي يتَرَجَّح نافيهما على، مُوجبهَا لِأَنَّهُ على وفْق الدَّلِيل الْمُقْتَضى لصِحَّة النِّكَاح وَإِثْبَات ملك الْيَمين (وَالْحكم التكليفي) يتَرَجَّح (على الوضعي) قَالَ الشَّارِح لِأَن التكليفي مُحَصل للثَّواب الْمَقْصُود للشارع بِالذَّاتِ وَأكْثر الْأَحْكَام تكليفي (وَقيل بعكسه، وَمَا يُوَافق الْقيَاس) من النُّصُوص يتَرَجَّح على نَص لم يُوَافقهُ (فِي الأحق) من الْقَوْلَيْنِ، لِأَن الْقيَاس حِينَئِذٍ لَيْسَ بِدَلِيل مُسْتَقل لوُجُود النَّص فَيصير مُوَافقا على مَا مر (وَمَا لم يُنكر الأَصْل) رِوَايَة الْفَرْع فِيهِ يتَرَجَّح على مَا أنكر الأَصْل رِوَايَة الْفَرْع فِيهِ. قَالَ السُّبْكِيّ: وَهَذَا فِيمَا أنكر الأَصْل وصمم على إِنْكَاره أهـ قلت وَكَذَا إِذا أنكر ثمَّ شكّ فِيهِ، وَمَا لم يَقع فِيهِ مثل ذَلِك لَا شكّ أَنه أرجح فَتَأمل، ثمَّ إِذا عَارض الْإِجْمَاع نَص أطلق ابْن الْحَاجِب تَقْدِيم الْإِجْمَاع على النَّص، وَقَالَ المُصَنّف (وَالْإِجْمَاع الْقطعِي) يتَرَجَّح (على نَص كَذَلِك) أَي قَطْعِيّ كتابا كَانَ أَو سنة متواترة، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: يَنْبَغِي أَن يُقيد بالظنيين وَتوقف المُصَنّف فِيهِ حَيْثُ قَالَ (وَكَون) الْإِجْمَاع (الظني كَذَلِك) أَي يرجح على نَص ظَنِّي (ترددنا فِيهِ) أَي لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيم الْإِجْمَاع مُطلقًا(3/161)
على النَّص كَمَا فِي تَقْدِيم الْإِجْمَاع الْقطعِي على النَّص الْقطعِي بِعَدَمِ قبُوله النّسخ غير أَن وجود التَّعَارُض بَين القطعيين مُشكل لِأَن النَّص الْقطعِي مقدم على الْإِجْمَاع وَكَيف ينْعَقد الْإِجْمَاع فِي مُقَابلَة قَطْعِيّ، إِذْ يلْزم اجْتِمَاع الْأمة على الضَّلَالَة، وَأما الْإِجْمَاع الظني فقد يكون الظني الْمَتْن إِذا كَانَ الْمجمع عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يدل على الحكم دلَالَة قَطْعِيَّة وَقد يكون ظنية بِاعْتِبَار طَرِيق نَقله الينا فَيَنْبَغِي أَن يعْتَبر فِي تعَارض الظنيين قُوَّة الظَّن وَضَعفه وَذَلِكَ يتَفَاوَت بِاعْتِبَار الْموَاد وَلَا يحكم بِتَقْدِيم الْإِجْمَاع الظني على النَّص الظني على الْإِطْلَاق (وَمَا عمل) بِهِ الْخُلَفَاء (الراشدون) أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم يرجح على مَا لَيْسَ كَذَلِك، إِذْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بمتابعتهم والاقتداء بهم، ولكونهم أعرف بالتنزيل ومواقع الْوَحْي والتأويل: وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ بِمحضر من الصَّحَابَة وَلم يُخَالف فِيهِ أحد فَإِنَّهُ يحل مَحل الْإِجْمَاع، وَذهب أَبُو حَازِم أَن مَا اتّفقت الْأَرْبَعَة عَلَيْهِ إِجْمَاع، وَالْأَكْثَر على خِلَافه كَمَا سَيَأْتِي (أَو علل) أَي الحكم الَّذِي تعرض فِيهِ لِلْعِلَّةِ يتَرَجَّح على الَّذِي لم يتَعَرَّض فِيهِ لَهَا (لإِظْهَار الاعتناء بِهِ) لِأَن ذكر علته يدل على الاهتمام بِهِ والحث عَلَيْهِ (لَا الأقبلية) أَي لِأَن الْفَهم أقبل لَهُ لسُهُولَة فهمه لكَونه مَعْقُول الْمَعْنى كَمَا فِي الشَّرْح العضدي، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْآمِدِيّ (كَمَا) يتَرَجَّح مَا (ذكر مَعَه السَّبَب) هُوَ الْعلَّة الباعثة عَلَيْهِ ظَاهرا فدلالته قَوِيَّة (وَفِي السَّنَد) أَي وَالتَّرْجِيح للمتن بِاعْتِبَار حِكَايَة طَرِيقه (كالكتاب) أَي كترجيحه (على السّنة) وَهَذَا على إِطْلَاق قَول بَعضهم. قَالَ السُّبْكِيّ وَلَا يقدم الْكتاب على السّنة وَلَا السّنة عَلَيْهِ خلافًا لزاعميهما: أما الأول فلحديث معَاذ الْمُشْتَمل على أَنه يقْضِي بِكِتَاب الله فَإِن لم يجد فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ، وَأقرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الثَّانِي فَلقَوْله تَعَالَى - {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} -. ثمَّ قَالَ وَالأَصَح تساوى الْمُتَوَاتر من كتاب أَو سنة وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ أصُول أَصْحَابنَا على مَا قدمه المُصَنّف فِي أول فصل التَّعَارُض أَن الْقطعِي الدّلَالَة من السّنة القطعية السَّنَد يتَرَجَّح على الظنية الدّلَالَة من الْكتاب، والقطعي الدّلَالَة مِنْهُمَا إِذا لم يعلم تاريخهما لَا يرجح أَحدهمَا على الآخر بِكَوْنِهِ كتابا أَو سنة، بل بِمَا سوغ تَرْجِيحه بِهِ إِن أمكن، وَإِلَّا جمع بَينهمَا إِن أمكن، وَإِلَّا تساقطا، وَإِن علم تاريخهما نسخ الْمُتَأَخر الْمُتَقَدّم، فقطعي الدّلَالَة من الْكتاب يتَرَجَّح على الْقطعِي السَّنَد الظني الدّلَالَة من السّنة لقُوَّة دلَالَته فَلم يبْق مَا ينطبق عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من السّنة قَطْعِيّ الدّلَالَة ظَنِّي السَّنَد مَعَ مَا كَانَ من أَمر الْكتاب ظَنِّي الدّلَالَة لرجحان الْكتاب حِينَئِذٍ بِاعْتِبَار السَّنَد، هَكَذَا ذكر الشَّارِح (ومشهورها) أَي وكترجيح الْخَبَر الْمَشْهُور من السّنة (على الْآحَاد) لرجحان سَنَده (كاليمين على من أنكر) فَإِنَّهُ خبر مَشْهُور رجح (على خبر الشَّاهِد وَالْيَمِين) أَي الْقَضَاء بهما للْمُدَّعِي. أخرجه مُسلم وَغَيره، وَهُوَ من أَخْبَار الْآحَاد الَّتِي لم تبلغ حد(3/162)
الشُّهْرَة: فَلِذَا لم يَأْخُذ بِهِ أَصْحَابنَا مُطلقًا خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة فِي بعض الموراد على مَا عرف فِي الْفِقْه (و) يرجح الْخَبَر (بِفقه الرَّاوِي) وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ الِاجْتِهَاد كَمَا هُوَ عرف السّلف (وَضَبطه) وَتقدم بَيَانه (وورعه) أَي تقواه، وَهُوَ الْإِتْيَان بالواجبات والمندوبات والاجتناب عَن الْمُحرمَات والمكروهات، كَذَا ذكره الشَّارِح، لَعَلَّ الْإِتْيَان بالمندوبات والاجتناب عَن المكروهات وَلَو كَانَت تنزيهية إِنَّمَا اعْتبر فِي مَفْهُوم الْوَرع لَا التَّقْوَى، فعلى هَذَا تَفْسِيره للتقوى مَحل مناقشة (وشهرته) أَي ويرجح الْخَبَر بشهرة روايه (بهَا) أَي بالأمور الْمَذْكُورَة على خبر روايه مَوْصُوف بهَا، لكنه لم يشْتَهر بهَا (وبالرواية وَأَن لم يعلم رجحانه فِيهِ) أَي يرجح لشهرته بالرواية لِأَن الظَّن فِيهِ أقوى، وَذكر شمس الْأَئِمَّة أَن اعْتِبَار الرِّوَايَة لَيْسَ بمرجح على من لم يقيدها ثمَّ مِنْهُم من خص التَّرْجِيح بالفقه بالمروي بِالْمَعْنَى. وَفِي الْمَحْصُول وَالْحق الْإِطْلَاق لِأَن الْفَقِيه يُمَيّز بَين مَا يجوز وَمَا لَا يجوز، فَإِذا سمع مَا لَا يجوز أَن يحمل على ظَاهره بحث عَنهُ وَسَأَلَ عَن مقدماته وَسبب نُزُوله فَيطلع على مَا يَزُول بِهِ الْإِشْكَال، بِخِلَاف الْعَاميّ. قَالَ ابْن برهَان وبكون أَحدهمَا أفقه من الآخر بِقُوَّة حفظه، وَزِيَادَة ضَبطه، وَشدَّة اعتنائه: حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن إِجْمَاع أهل الحَدِيث قيل وبعلمه بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ يتحفظ عَن مواقع الزلل، وَقيل بِالْعَكْسِ لاعتماد ذَلِك على مَعْرفَته، وَالْجَاهِل يخَاف فيبالغ بِالْحِفْظِ وَلَيْسَ بِشَيْء: إِذْ الْعَدَالَة تمنع عَن الِاعْتِمَاد وَعدم المبالاة (وَفِي) كَون (علو السَّنَد) أَي قلَّة الوسائط بَين الرَّاوِي للمجتهد وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرجحا لكَونه أبعد من الْخَطَأ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّة (خلاف الْحَنَفِيَّة، وبكونها) أَي ويرجح بِكَوْن إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (عَن حفظه) أَي الروي (لَا نسخته) فَيقدم خبر الْمعول على حفظه على خبر الْمعول على كِتَابه، وَفِيه أَن احْتِمَال النسْيَان والاشتباه على الْحَافِظ لَيْسَ دون احْتِمَال الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الْكتاب المصون تَحت يَده (وخطه) أَي وترجح رِوَايَة الْمُعْتَمد على خطه (مَعَ تذكره) كَذَلِك على رِوَايَة الْمُعْتَمد فِي رِوَايَته (على مُجَرّد خطه، وَهَذَا) التَّرْجِيح (على قَول غَيره) أَي أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة عِنْده لِلْخَطِّ بِلَا تذكر فَلم يحصل التَّعَارُض، وَالتَّرْجِيح فَرعه (وبالعلم بِأَنَّهُ) أَي رَاوِيه (عمل بِمَا رَوَاهُ على قسيميه) أَي على الَّذِي لم يعلم أَنه عمل بِهِ أَولا، وَالَّذِي علم أَنه لم يعْمل بِهِ (أَو) للْعلم بِأَن رَاوِيه (لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة) على مَا رَاوِيه لَيْسَ كَذَلِك، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرْسلين، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (على) قَول (مجيز الْمُرْسل) أَي لَا على قَول من لَا يُجِيزهُ إِلَّا بديل (وَالْوَجْه نَفْيه) أَي نفى هَذَا التَّرْجِيح على قَول الْمُجِيز أَيْضا (لِأَن الْغَرَض) أَنه (فِيهِ) أَي قبُول الْمُرْسل مُطلقًا (مَا يُوجِبهُ) أَي الْعلم بِأَنَّهُ لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا عِنْده (و) يرجح مَا يكون رَاوِيه (من أكَابِر الصَّحَابَة على) مَا كَانَ روايه(3/163)
من (أصاغرهم، وَيجب لأبي حنيفَة تَقْيِيده) أَي مَا يرجح مَا رَوَاهُ أكابرهم (بِمَا إِذا رجح) مَا رَوَاهُ الأكابر (فقها) أَي بِالنّظرِ إِلَى قَوَاعِد الْفِقْه بِأَن يكون انتسب إِلَيْهَا (إِذْ قَالَ) أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف. (بِرَأْي الأصاغر فِي الْهدم) أَي هدم الزَّوْج الثَّانِي مَا دون الثَّلَاث من الطَّلَاق وهم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي الْآثَار دون الأكابر فِي عدم الْهدم كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وهم عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ المُصَنّف فِيمَا سبق وَالْحق وَعدم الْهدم. وَفِي فتح الْقَدِير القَوْل الألولي مَا قَالَه مُحَمَّد وَبَاقِي الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (فَلَا يتَرَجَّح فِي) بَاب (الرِّوَايَة) خبر الْأَكْبَر على الْأَصْغَر (بعد فقه الْأَصْغَر وَضَبطه إِلَّا بِذَاكَ) أَي برجحانه بِالنّظرِ إِلَى قَوَاعِد الْفِقْه (أَو غَيره) من المرجحات (و) يرجح (بأقر بَيته) أَي الرَّاوِي عِنْد السماع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَبِه) أَي بِالْقربِ عِنْد السماع (رجح الشَّافِعِيَّة الْإِفْرَاد) بِالْحَجِّ عَن الْعمرَة على غَيره (من رِوَايَة ابْن عمر لِأَنَّهُ كَانَ تَحت نَاقَته) . أخرج أَبُو عوَانَة أَنه قَالَ: وَإِنِّي كنت عِنْد نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسني لُعَابهَا أسمعهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وهم فِي ذَلِك تبع لإمامهم قَالَ الشَّافِعِي أخذت بِرِوَايَة جَابر لتقدم صحبته وَحسن سياقته لابتداء الحَدِيث وبرواية عَائِشَة لفضل حفظهَا، وَبِحَدِيث ابْن عمر لقُرْبه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَا يخفى عدم صِحَة إِطْلَاقه) أَي التَّرْجِيح بِالْقربِ (وَوُجُوب تَقْيِيده) أَي الْقرب الْمُرَجح (ببعد الآخر بعدا يتَطَرَّق مَعَه الِاشْتِبَاه) فِي المسموع على الْبعيد (للْقطع بِأَن لَا أثر لبعد شبر) مثلا (لقريبين) بِأَن يكون أَحدهمَا أقرب من الآخر بِقدر شبر (ثمَّ للحنفية) التَّرْجِيح بِالْقربِ أَيْضا لِلْقُرْآنِ من رِوَايَة أنس (إِذْ) روى (عَن أنس أَنه كَانَ آخِذا بزمامها حِين أهل بهما) أَي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة فَفِي الْمَبْسُوط عَنهُ كنت آخِذا بزمام نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي تَقْصَعُ بجرتها ولعابها يسيل على كَتِفي وَهُوَ يَقُول لبيْك بِحجَّة وَعمرَة: أَي تجر مَا تجتره من الْعلف وتخرجه إِلَى الْفَم وتمضغه ثمَّ تبلعه (وتعارض ماعن ابْن عمر فِي الصَّحِيح) إِذْ كَمَا عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَجِّ مُفردا فَعَنْهُ أَيْضا فيهمَا بَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأهل بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهل بِالْحَجِّ، وَلم تعَارض الرِّوَايَة عَن أنس، وَالْأَخْذ بِرِوَايَة من لم تضطرب رِوَايَته أولى إِلَى غير ذَلِك من وُجُوه تَرْجِيحه قرانه على الْإِفْرَاد والتمتع (وبكونه تحمل بَالغا) أَي ويرجح بِكَوْن رَاوِي الحَدِيث تحمله بَالغا على مَا تحمل صَبيا لكَونه أضبط وَأقرب مِنْهُ غَالِبا (وَيَنْبَغِي) أَن يعْتَبر (مثله فِيمَن تحمل مُسلما) فرجح بِدُونِهِ على خبر من تحمل كَافِرًا (لِأَنَّهُ) أَي الْكَافِر (لَا يحسن ضَبطه لعدم إِحْسَان إصغائه) وَعدم اهتمامه بشأن الْحِفْظ (وبقدم الْإِسْلَام) لزِيَادَة أصالته فِي الْإِسْلَام (وَقد يعكس) أَي يرجح خبر مُتَأَخّر الْإِسْلَام على خبر مُتَقَدّمَة، وَذكر السُّبْكِيّ أَن الَّذِي ذكره جُمْهُور(3/164)
الشَّافِعِيَّة، لَكِن شَرط فِي الْمَحْصُول أَن يعلم أَن سَمَاعه وَقع بعد إِسْلَامه (للدلالة على آخرية الشَّرْعِيَّة) يَعْنِي أَن كَون مُتَأَخّر الْإِسْلَام يدل على أَن مَا رَوَاهُ شرع آخر نَاسِخا للْأولِ: وَذكر الإِمَام الرَّازِيّ أَن الأولى إِذا علمنَا أَن الْمُتَقَدّم مَاتَ قبل إِسْلَام الْمُتَأَخر، أَو أَن رِوَايَات الْمُتَقَدّم أَكْثَرهَا مُتَقَدم على رِوَايَات الْمُتَأَخر، فَهُنَا يحكم بالرجحان، لِأَن النَّادِر مُلْحق بالغالب انْتهى. وَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور أَن جهل تاريخهما فالغالب أَن رِوَايَة مُتَأَخّر الْإِسْلَام نَاسخ وَأَن علم فِي أَحدهمَا وَجَهل فِي الآخر، فَإِن كَانَ المؤرخ فِي آخر أَيَّامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ النَّاسِخ فَينْسَخ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الإِمَام قَاعِدا فصلوا قعُودا بِصَلَاة أَصْحَابه قيَاما وَهُوَ قَاعد فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَإِن لم يعلم التَّارِيخ فيهمَا، واحتيج إِلَى نسخ أَحدهمَا بِالْآخرِ، فَقيل النَّاقِل عَن الْعَادة أولى من الْمُوَافق لَهَا كَذَا وجدنَا فِي نُسْخَة الشَّرْح وَالظَّاهِر أَنه تَصْحِيف، وَالصَّوَاب وَإِن لم يعلم كَون المؤرخ فِي آخر أَيَّامه بدل وَإِن لم يعلم التَّارِيخ فيهمَا لِئَلَّا يلْزم التّكْرَار، وَقيل الْمحرم والموجب أولى من الْمُبِيح، فَإِن كَانَ أَحدهمَا مُوجبا وَالْآخر محرما لم يقدم أَحدهمَا على الآخر إِلَّا بِدَلِيل (كَكَوْنِهِ (مدنيا) أَي كَمَا يتَرَجَّح الْخَبَر الْمدنِي على الْخَبَر الْمَكِّيّ لتأخيره عَنهُ ثمَّ المصطلح عَلَيْهِ أَن الْمَكِّيّ مَا ورد قبل الْهِجْرَة فِي مَكَّة وَغَيرهَا، وَالْمَدَنِي مَا ورد بعْدهَا فِي الْمَدِينَة أَو مَكَّة أَو غَيرهمَا (وشهرة النّسَب) أَي ويرجح أحد المتعارضين بشهرة نسب رَاوِيه، لِأَن احْتِرَاز مَشْهُور النّسَب عَمَّا يُوجب نقص مَنْزِلَته يكون أَكثر (وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وصريح السماع) أَي ويرجح أحد المتعارضين بتصريح رَاوِيه بِسَمَاعِهِ كسمعته يَقُول كَذَا (على محتمله) أَي على الآخر الرَّاوِي بِلَفْظ يحْتَمل السماع وَغَيره (كقال، وصريح الْوَصْل) أَي ويرجح أَحدهمَا بِكَوْن سَنَده مُتَّصِلا صَرِيحًا بِأَن ذكر كل من رُوَاته تحمله عَمَّن رَوَاهُ كحدثنا وَأخْبرنَا، أَو سَمِعت أَو نَحْو ذَلِك (على العنعنة) أَي على الَّذِي رَوَاهُ كل رُوَاته أَو بَعضهم بِلَفْظ عَن من غير ذكر صَرِيح اتِّصَال على مَا ذكر (وَيجب عَدمه) أَي عدم التَّرْجِيح بتصريح الْوَصْل على العنعنة (لقابل الْمُرْسل بعد عَدَالَة المعنعن وأمانته) وَكَونه غير مُدَلّس تَدْلِيس التَّسْوِيَة (وَمَا لم تنكر رِوَايَته) أَي ويرجح أحد المتعارضين الَّذِي لم يُنكر على رَاوِيه رِوَايَته على الَّذِي أنكر على رَاوِيه رِوَايَته، وَالْمُعْتَبر إِنْكَار الثِّقَات (وبدوام عقله) أَي يرجح أحد المتعارضين بسلامة عقل رَاوِيه على الَّذِي اخْتَلَّ عقل رَاوِيه فِي وَقت من الْأَوْقَات (وَالْوَجْه فِيمَا) أَي الحَدِيث الَّذِي (علم أَنه) رَوَاهُ رَاوِيه الَّذِي اخْتَلَّ عقله (قبل زَوَاله) أَي عقله (نَفْيه) أَي التَّرْجِيح بِهَذَا الْعَارِض (وَذَاكَ) التَّرْجِيح بالعارض الْمَذْكُور (إِذا لم يُمَيّز) على صِيغَة الْمَجْهُول: أَي لم يعلم هَل رَوَاهُ فِي سَلامَة عقله أم فِي اخْتِلَاطه كَمَا شَرطه فِي الْمَحْصُول (وصريح التَّزْكِيَة) أَي(3/165)
ويرجح أَحدهمَا بِكَوْن رَاوِيه مزكى بِلَفْظ صَرِيح فِي التَّزْكِيَة (على) الآخر الْمُزَكي رَاوِيه بِسَبَب (الْعَمَل بروايته) أَو الحكم بِشَهَادَتِهِ) فَإِنَّهُمَا قد يبينان على الظَّاهِر من غير تَزْكِيَة (و) يرجح (مَا) أَي الْخَبَر الَّذِي حكم (بِشَهَادَتِهِ) أَي بِشَهَادَة رَاوِيه (عَلَيْهَا) أَي على الْخَبَر الَّذِي عمل رَاوِيه بِرَأْيهِ لِأَنَّهُ يحْتَاط فِي الشَّهَادَة أَكثر (و) الْخَبَر (الْمَنْسُوب إِلَى كتاب عرف بِالصِّحَّةِ) كالصحيحين يرجح (على) الْخَبَر الْمَنْسُوب إِلَى (مَا) أَي كتاب (لم يلتزمها) أَي الصِّحَّة، وَالَّذِي يرويهِ أَي صَاحب الصِّحَّة، بل يروي الصَّحِيح وَغَيره (فَلَو أبدى) صَاحب الْكتاب الَّذِي لم يلْتَزم فِيهِ الصِّحَّة، وَالَّذِي يرْوى عَنهُ (سندا) فَذَلِك الْمَرْوِيّ (اعْتبر الْأُضْحِية) بَينهمَا طَرِيقا فَأَيّهمَا أصح يرجح (وَكَون مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ) راجحا (على مَا روى برجالهما) بِأَن يكون رجال مُسْنده رجَالًا روى عَنْهُم فِيهَا بأعيانهم (فِي غَيرهمَا) أَي فِي غير الصَّحِيحَيْنِ يتَعَلَّق بروي (أَو تحقق) مَعْطُوف على روى (فِيهِ) وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَوْصُول (شَرطهمَا) أَي الصَّحِيحَيْنِ أَي جَمِيع مَا شرطا فِي صِحَة الحَدِيث (بعد إِمَامَة الْمخْرج) كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الصّلاح وَغَيره (تحكم) وَهُوَ ظَاهر (وَيجب) التَّرْجِيح للمروي (بالذكورة) لراويه (فِيمَا يكون خَارِجا) أَي فِيمَا يَقع من الْأَفْعَال والأقوال خَارج الْبيُوت (إِذْ الذّكر فِيهِ) أَي فِيمَا يَقع من الْأَفْعَال والأقوال خَارج الْبيُوت (أقرب) من الْأُنْثَى (و) يجب التَّرْجِيح لَهُ (بالأنوثة) لراويه (فِي عمل الْبيُوت) لِأَنَّهُنَّ بِهِ أعرف (وَرجح) فِي فصل (كسوف الْهِدَايَة حَدِيث سَمُرَة) ابْن جُنْدُب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كل رَكْعَة بركوع وسجدتين كَمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح غير أَن صَاحب الْهِدَايَة عزاهُ إِلَى رِوَايَة ابْن عمر وَلم تُوجد عَنهُ (على) حَدِيث (عَائِشَة) أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كل رَكْعَة بركوعين وسجدتين كَمَا أخرجه أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة (بِأَن الْحَال أكشف لَهُم) أَي للرِّجَال لقربهم، لَكِن حَدِيث ركوعين قد رَوَاهُ ابْن عَبَّاس كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعبد الله بن عَمْرو على مَا فِي صَحِيح مُسلم (وَكَثْرَة المزكين) للراوي فِي التَّرْجِيح بهَا (ككثرة الروَاة) وَسَيَأْتِي مَا فِيهَا (و) يرجح (بفقههم) أَي المزكين بِأَن يكون أحد الْحَدِيثين مزكى رَاوِيه فَقِيه (ومداخلتهم للمزكى) أَي ويرجح مُخَالطَة قَول رَاوِيه فِي الْبَاطِن، لِأَن صدقه حِينَئِذٍ أقوى (و) يرجح (بِعَدَمِ الِاخْتِلَاف فِي رَفعه) إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على معارضه الْمُخْتَلف فِي رَفعه إِلَيْهِ وَوَقفه على رَاوِيه لزِيَادَة قُوَّة الظَّن فِي صدق الأول (وَتَركنَا) مرجحات أُخْرَى (للضعف) كَقَوْلِهِم يرجح الْمُوَافق لدَلِيل آخر، وَأحمد أهل الْمَدِينَة. قَالَ الشَّارِح وَفِي ضعف التَّرْجِيح بالموافقة لدَلِيل آخر مُطلقًا نظر، وَكَيف والأحق(3/166)
من الْقَوْلَيْنِ عِنْد المُصَنّف تَرْجِيح مَا يُوَافق الْقيَاس على مَا لَا يُوَافقهُ انْتهى، وَقد سبق فِي الْفَصْل الَّذِي قبل هَذَا نفي التَّرْجِيح بِمَا يصلح دَلِيلا عِنْد الْحَنَفِيَّة وَأَن ترجح مَا يُوَافق الْقيَاس لَيْسَ لعدم استقلاله عِنْد وجود النَّص إِلَى آخِره فَكَأَنَّهُ نَسيَه، وَذكر الشَّارِح طَائِفَة من المتروكات (والوضوح) مَعْطُوف على الضعْف فَإِن الوضوح من أَسبَاب التّرْك كَقَوْلِهِم يقدم الْإِجْمَاع الْمُتَقَدّم عِنْد تعَارض إجماعين، وَفِي تعَارض تأويلين يقدم مَا دَلِيله أرجح إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ذكره الشَّارِح (وتتعارض التراجيح) فَيحْتَاج إِلَى بَيَان المخلص (كفقه ابْن عَبَّاس وَضَبطه) فِي رِوَايَة (نِكَاح) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَيْمُونَة) وَهُوَ محرم بل وهما محرمان (بِمُبَاشَرَة أبي رَافع) الرسَالَة بَينهمَا فِي رِوَايَته لتزوجها وَهُوَ حَلَال (حَيْثُ قَالَ كنت السفير بَينهمَا وكسماع الْقَاسِم) ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر (مشافهة من عَائِشَة) . وَفِي نُسْخَة مصححة وكالسماع مشافهة فِي الْقَاسِم عَن عَائِشَة أَن (بَرِيرَة عتقت وَكَانَ زَوجهَا عبدا) فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ أَحْمد وَمُسلم وَغَيرهمَا وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهَا عمته فَلم يكن بَينهَا وَبَينه حجاب (مَعَ إِثْبَات الْأسود عَنْهَا) أَي كَانَ زوج بَرِيرَة حرا، فَلَمَّا أعتقت خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأَصْحَاب السّنَن وَإِنَّمَا جعل الْأسود مثبتا لِأَن كَونه عبدا فِي الأَصْل بالِاتِّفَاقِ فَهُوَ يثبت أمرا عارضا على الأَصْل وَهُوَ الْحُرِّيَّة، وَالقَاسِم يصغي لذَلِك، والمثبت يقدم على النَّافِي لزِيَادَة الْعلم فِيهِ، لكنه أَجْنَبِي عَن عَائِشَة وَالقَاسِم محرم لَهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِنَّهُ) أَي سَمَاعه يكون (من وَرَاء حجاب) فيعارض الْإِثْبَات والمشافهة الْمُشْتَملَة على النَّفْي (وَإِذا قطع) الْأسود (بِأَنَّهَا) أَي المخبرة من وَرَاء حجاب (هِيَ) أَي عَائِشَة، كَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح، وَفِي نُسْخَة مصححه وَإِذن لَا تردد أَنَّهَا هِيَ (فَلَا أثر لارتفاعه) أَي الْحجاب فَلَا يصلح مرجحا، فيرجح الْإِثْبَات لما ذكر (وَلَو رجح) حَدِيث أبي رَافع (بالسفارة لَكَانَ) التَّرْجِيح (لزِيَادَة الضَّبْط) لِأَن السفير يكون ضَبطه أَكثر (فِي خُصُوص الْوَاقِعَة) الَّتِي هُوَ سفير فِيهَا (فَإِذا كَانَ) الضَّبْط (صفة النَّفس) أَي نفس أبي رَافع كَمَا أَنه صفة نفس ابْن عَبَّاس، وَبهَا يغلب ظن الصدْق (اعتدلا) أَي تساوى ابْن عَبَّاس وَأَبُو رَافع (فِيهَا) أَي فِي هَذِه الصّفة (وترجح) خبر ابْن عَبَّاس (بِأَن الْإِخْبَار بِهِ) أَي بِالْإِحْرَامِ (لَا يكون إِلَّا عَن سَبَب علم هُوَ) أَي سَبَب الْعلم (هَيْئَة الْمحرم نعم مَا) روى (عَن صَاحِبَة الْوَاقِعَة) مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا (تزَوجنِي) رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَنحن حلالان) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (إِن صَحَّ قوى) خبر أبي رَافع، فَعلم أَن خبر صَاحب الْوَاقِعَة يتَرَجَّح على غَيره إِذا عَارضه، وَفِي قَوْله إِن صَحَّ إِشَارَة إِلَى أَنه مَا صَحَّ عِنْد المُصَنّف. وَقَالَ الشَّارِح وَقد صَحَّ وَلم يبين دَلِيل الصِّحَّة (فَيجب) أَن يكون قَوْلهَا تزَوجنِي (مجَازًا عَن الدُّخُول) لعلاقة السَّبَبِيَّة(3/167)
العادية (جمعا) بَين الْحَدِيثين (وَمِنْه) أَي تعَارض التَّرْجِيح (للحنفية الْوَصْف الذاتي) وَهُوَ (مَا) يعرض للشَّيْء (بِاعْتِبَار الذَّات أَو الْجُزْء) مِنْهَا، وَقَيده الشَّارِح بالغالب، وَأطْلقهُ المُصَنّف (على الْحَال) وَهُوَ (مَا) يعرض للشَّيْء (بِخَارِج) أَي بِسَبَب أَمر خَارج عَنهُ، لِأَن مَا بِالذَّاتِ أسق وجودا، وَأَعْلَى رُتْبَة (كَصَوْم) من رَمَضَان أَو من النّذر الْمعِين (لم يبيت) أَي لم ينْو من اللَّيْل بل نوى قبل نصف النَّهَار فَأدى (بعضه منوي وَبَعضه لَا) بِالضَّرُورَةِ (وَلَا تجزأ) أَي وَالْحَال أَن صَوْم يَوْم من رَمَضَان وَاحِد لَا يتَجَزَّأ صِحَة وَفَسَادًا بل إِمَّا يفْسد الْكل أَو يَصح (فتعارض) حِينَئِذٍ (مُفسد الْكل) وَهُوَ عدم النِّيَّة فِي الْبَعْض (ومصححه) أَي الْكل وَهُوَ وجود النِّيَّة فِي الْبَعْض (فترجح الأول) وَهُوَ الْإِفْسَاد للْكُلّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي (بِوَصْف الْعِبَادَة المقتضيها) أَي النِّيَّة صفة للوصف الأول (فِي الْكل) أَي كل الْأَجْزَاء فالوصف الْمَذْكُور بِسَبَب اقتضائه النِّيَّة مَعَ انتفائها يُوجب الْفساد فِي الْكل لعدم التجزئ، (و) يرجح (الثَّانِي) وَهُوَ الصِّحَّة للْكُلّ (بِكَثْرَة الْأَجْزَاء المتصفة) بِالنِّيَّةِ. وَفِي بعض النّسخ الْمُتَّصِلَة بِدُونِ المتصفة (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّرْجِيح (بالذاتي) لِأَن الْكَثْرَة ثَابِتَة الْأَجْزَاء فِي حد ذَاتهَا وَإِن كَانَ اتصافها واتصالها بِالنِّسْبَةِ بِاعْتِبَار أَمر خَارج عَن الذَّات: أَي النِّيَّة بِخِلَاف وصف الْعِبَادَة فَإِنَّهُ ثَابت للْفِعْل بِاعْتِبَار قصد الْقرْبَة الْمُنْفَصِل عَن الذَّات (وينقض) هَذَا (بِالْكَفَّارَةِ) أَي بصومها، وَكَذَا بِصَوْم النّذر الْمُطلق فَإِنَّهُم لم يجيزوهما إِلَّا مبيتين مَعَ إِمْكَان الِاعْتِبَار الْمَذْكُور (وَيدْفَع بِأَن الْغَرَض) مَعَ ذَلِك الِاعْتِبَار (توقف الْأَجْزَاء) أَي كَون تِلْكَ الامساكات الْوَاقِعَة فِي أَجزَاء الْيَوْم الْمَذْكُور مُتَوَقف حكمهَا من حَيْثُ الْبطلَان وَالصِّحَّة إِلَى أَن يظْهر لُحُوق النِّيَّة بِالْأَكْثَرِ فَيصح أَولا فَيبْطل (لما فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت من الشُّرُوع قبل النِّيَّة (وَذَلِكَ) التَّوَقُّف على مَا ذكر إِنَّمَا يتَحَقَّق (فِي الْوُجُوب) أَي وجوب الصَّوْم (فِي) الْيَوْم (الْمعِين) لأَدَاء ذَلِك الصَّوْم (بِخِلَاف نَحْو) صَوْم (الْكَفَّارَة) إِذْ (لم يتَعَيَّن يَوْمهَا للْوَاجِب) فَلم يعْتَبر من لم يبيت النِّيَّة قبل النِّيَّة شَارِعا حَتَّى يتَوَقَّف حكم تِلْكَ الامساكات على مَا ذكر فِي حق صَوْم الْكَفَّارَة (فلمشروع الْوَقْت) أَي فَيعْتَبر شَارِعا فِي مَشْرُوع الْوَقْت (وَهُوَ النَّفْل) فَإِذا لم يبيت كَانَت تِلْكَ الامساكات السَّابِقَة على النِّيَّة متوقفة لصوم النَّفْل فَلَا تصير وَاجِبَة بنية وَاجِب، بل يتَعَيَّن أحد الْأَمريْنِ النَّفْل أَو الْفطر، وَلما كَانَ الحكم بالتوقف يحْتَاج إِلَى مَا يفْسد اعْتِبَاره شرعا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَهُوَ) أَي النَّفْل (الأَصْل) فِي الِاعْتِبَار (إِذْ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينويه من النَّهَار) كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بالتوقف (وَهَذَا) التَّوْجِيه بِنَاء (على أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (صَائِم) فِي (كل الْيَوْم) فِي الْهِدَايَة وَعِنْدنَا يصير صَائِما من أول النَّهَار لِأَنَّهُ عبَادَة قهر النَّفس، وَهُوَ إِنَّمَا(3/168)
يتَحَقَّق بإمساك مُقَدّر فَيعْتَبر قرَان النِّيَّة بأكثره
مسئلة
قَالَ (أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة والرواة مَا لم يبلغ) الْمَرْوِيّ بِكَثْرَة (الشُّهْرَة) فَعلم التَّوَاتُر بطرِيق أولي (وَالْأَكْثَر) من الْعلمَاء قَوْلهم (خِلَافه) أَي خلاف قَوْلهمَا فيترجح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة والرواة إِن لم يبلغ (لَهما تقوى الشَّيْء) أَي تَرْجِيحه إِنَّمَا يكون (بتابع) لذَلِك الشَّيْء (لَا بمستقل) بالتأثير، وكل من الْأَدِلَّة والرواة مُسْتَقل بِإِيجَاب الحكم فَلَا يعْتَبر مرجحا لموافقه (بل يُعَارض) الدَّلِيل الْمُنْفَرد فِي أحد الْجَانِبَيْنِ كل دَلِيل من الْجَانِب الآخر (كَالْأولِ) أَي كَمَا يُعَارض الدَّلِيل الْمَطْلُوب تَرْجِيحه مِنْهَا إِذْ لَيست معارضته لوَاحِد مِنْهَا بِأولى من معارضته للْآخر (وَيسْقط الْكل) عِنْد عدم الْمُرَجح (كَالشَّهَادَةِ) من حَيْثُ إِنَّه لَا يرجح لإحدى الشَّهَادَتَيْنِ المتعارضتين بعد استكمال نصابها بِزِيَادَة لأحداهما فِي الْعدَد على الْأُخْرَى، وَحكى غير وَاحِد كصدر الشَّرِيعَة الْإِجْمَاع على هَذَا. قَالَ الشَّارِح: وَقد ينظر فِي مَا قدمنَا من أَن مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ فِي قَول لَهما يريان ذَلِك انْتهى إِن رَجعْنَا إِلَى هَذَا القَوْل لَا يصير بِالْإِجْمَاع (ولدلالة إِجْمَاع سوى ابْن مَسْعُود على عدم تَرْجِيح عصوبة ابْن عَم هُوَ أَخ لأم) بِأَن تزوج عَم إِنْسَان من أَبَوَيْهِ أَو لأَب أمه فَولدت لَهُ ابْنا (على ابْن عَم لَيْسَ بِهِ) أَي بِأَخ لأم فِي الْإِرْث مِنْهُ (ليحرم) ابْن الْعم الَّذِي لَيْسَ بِأَخ لأم مَعَ ابْن الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم (بل يسْتَحق) ابْن الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم (بِكُل) من السببين: بِكَوْنِهِ ابْن عَم، وَكَونه أَخا لأم (مُسْتقِلّا) نَصِيبا من الْإِرْث فَيسْتَحق السُّدس بِكَوْنِهِ أَخا لأم من حَيْثُ كَونه صَاحب فرض وَنصف الْبَاقِي بِكَوْنِهِ عصبَة إِذا لم يتْرك وَارِثا سواهُمَا، أما ابْن مَسْعُود فَذهب إِلَى أَنه يحجب ابْن الْعم الَّذِي لَيْسَ بِأَخ لأم. وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن النَّخعِيّ أَنه قضى عمر وَعلي وَزيد رَضِي الله عَنْهُم كَقَوْل الْجُمْهُور، وَقضى عبد الله أَن المَال لَهُ دون ابْن عَمه (و) لدلَالَة إِجْمَاع (للْكُلّ) على عدم التَّرْجِيح (فِيهِ) أَي فِي ابْن عَم حَال كَونه (زوجا) على ابْن عَم لَيْسَ بِزَوْج فَيكون لَهُ النّصْف بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْبَاقِي بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ فَلَو رجح بِكَثْرَة الدَّلِيل لرجح بِكَثْرَة دَلِيل الْإِرْث، وَهَذَا (بِخِلَاف كَثْرَة) يكون (بهَا هَيْئَة اجتماعية) لأجزائها (وَالْحكم وَهُوَ الرجحان مَنُوط بالمجموع) من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع لَا بِكُل وَاحِد من أَجْزَائِهَا فَإِنَّهُ يرجح بهَا على مَا لَيْسَ كَذَلِك (لحُصُول زِيَادَة الْقُوَّة لوَاحِد) فِيهِ قُوَّة زَائِدَة وَهِي الْهَيْئَة الاجتماعية (فَلِذَا) أَي لثُبُوت التَّرْجِيح بِالْكَثْرَةِ لَهَا هَيْئَة اجتماعية وَالْحكم مَنُوط بمجموعها من حَيْثُ هُوَ (رجح) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف أحد القياسين المتعارضين (بِكَثْرَة الْأُصُول)(3/169)
أَي بِشَهَادَة أصلين أَو أصُول لوصفه المنوط بِهِ الحكم على معارضه الَّذِي لَيْسَ كَذَلِك (فِي) بَاب تعَارض (الْقيَاس) لِأَن كَثْرَة الْأُصُول توجب زِيَادَة تَأْكِيد وَلُزُوم الحكم بِكَوْن ذَلِك الْوَصْف عِلّة (بِخِلَافِهِ) أَي مَا إِذا كَانَ الحكم مَنُوطًا (بِكُل) لَا بالمجموع فَإِنَّهُ لَا يرجح بِالْكَثْرَةِ الْحَاصِلَة من ضم غَيره إِلَيْهِ (وَأَجَابُوا) أَي الْأَكْثَر (بِالْفرقِ) بَين الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة بِأَن الحكم فِي الشَّهَادَة مَنُوط بِأَمْر وَاحِد وَهُوَ هَيْئَة اجتماعية فالأكثرية والأقلية فِيهَا سَوَاء، لِأَن الْمُؤثر هُوَ تملك الْهَيْئَة فَقَط، بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِن الحكم فِيهَا بِكُل وَاحِد، فَإِن كل راو بمفرده يناط بِهِ الحكم وَهُوَ وجوب الْعَمَل بروايته، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن الْهَيْئَة الاجتماعية بِاعْتِبَار أفرادها وَمَا صدقاتها مُتَقَارِبَة، إِذْ الْهَيْئَة الْحَاصِلَة من اثْنَيْنِ لَيست كالهيئة الْحَاصِلَة من عشْرين شَاهدا فَلَا تَأْثِير لإناطة الحكم بهَا (وَبِأَن الْكَثْرَة تزيد الظَّن بالحكم قُوَّة) فَإِنَّهُ يحصل بِكُل وَاحِد ظن، وَلَا شكّ أَن الظنين فَصَاعِدا أقوى من ظن وَاحِد، وَهَكَذَا، وَالْعَمَل بالأقوى وَاجِب (فيترجح، وَيدْفَع) هَذَا (بِدلَالَة الْإِجْمَاع الْمَذْكُور على عدم اعْتِبَاره) أَي هَذَا الْقدر من زِيَادَة قُوَّة الظَّن، وَقد يُقَال مُقْتَضى الْقيَاس اعْتِبَاره، وَقد ورد السّمع على عدم اعْتِبَاره فِي الشَّهَادَة وَخلاف الْقيَاس يقْتَصر على مورد النَّص على أَن عدم اعْتِبَاره فِي الشَّهَادَة لَا يسْتَلْزم عدم اعْتِبَاره فِي الرِّوَايَة لجَوَاز أَن يكون بَينهمَا فرق وَأَنه يخفى علينا (بِخِلَاف بُلُوغه) أَي الْخَبَر (الشُّهْرَة) حَيْثُ يتَرَجَّح بِهِ على معارضه، فَإِن للهيئة الاجتماعية تَأْثِيرا فِي الْقُوَّة لمنعها احْتِمَال الْكَذِب وَقبل الْبلُوغ كل وَاحِد يجوز كذبه كَذَا قيل (وَقد يُقَال) من قبل الْأَكْثَر (إِن لم تفده كَثْرَة الروَاة قُوَّة الدّلَالَة) على الصدْق (فتجويز كَونه) أَي كَون مَا رُوَاته أقل صادرا (بِحَضْرَة) جمع (كثير لَا) الْخَبَر (الآخر) الْمعَارض لَهُ وَهُوَ الَّذِي رُوَاته كثير بِأَن لم يكن صادرا بِحَضْرَة كثير (أَو) تَجْوِيز كَونهمَا (متساويين) فِي عدد الْحَاضِرين عِنْد صدورهما بِأَن يساوى من حضر سَماع هَذَا الْخَبَر فِي الْعدَد من حضر سَماع هَذَا الْخَبَر (وَاتفقَ نقل كثير) للْخَبَر الَّذِي رُوَاته كثير مَعَ كَون سامعيه مساوين لسامعي الآخر أَو أقل مِنْهُ (دونه) أَي دون الْخَبَر الَّذِي رُوَاته أقل وحاضروه أَكثر ويساوون (بل جَازَ الْأَكْثَر) أَي كَون رِوَايَة الْأَكْثَر (بِحَضْرَة الْأَقَل) أَي بِسَبَب حُضُور الْأَقَل بِأَن لَا تكون رِوَايَة بَعضهم عَن السماع بِغَيْر وَاسِطَة الْأَقَل، وَفسّر الشَّارِح الْأَكْثَر بِمَا رُوَاته أَكثر فَإِن لم يؤول بِمَا قُلْنَا لزم التّكْرَار لكَونه عين الِاحْتِمَال الأول ثمَّ قَوْله فتجويز مُبْتَدأ خَبره (لَا يَنْفِي قُوَّة الثُّبُوت) لما رُوَاته أَكثر، يَعْنِي إِن لم تفد كَثْرَة الروَاة قُوَّة الظَّن فِي مرويهم على مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور فتجويز الْخصم مَا ذكر من الِاحْتِمَالَات النافية للترجيح للكثرة لَا يَنْفِي قُوَّة ثُبُوت مرويهم (لِأَنَّهُ) أَي التجويز الْمَذْكُور (معَارض بضده) وَهُوَ أَن(3/170)
يكون الْخَبَر الَّذِي رُوَاته أَكثر صادرا بِحَضْرَة جمع كثير دون معارضه (فيسقطان) أَي التجويزان الْمَذْكُورَان (وَيبقى مُجَرّد كَثْرَة تفِيد قُوَّة الثُّبُوت) والتذكير بِاعْتِبَار كَونه رجحانا، هَذَا وليت شعري بِأَن التجويز الْمَذْكُور على تَقْدِير كَونه مُعَارضا بالضد هَل يُفِيد عدم إِفَادَة كَثْرَة الروَاة قُوَّة للدلالة، كَيفَ ومدار ظن الْمُجْتَهد بِصدق الْخَبَر نقل الْخَبَر وبلوغه إِلَيْهِ، وَأما كَون الْحَاضِرين صدوره بِكَثْرَة أَو قلَّة فِي نفس الْأَمر من غير أَن يجروا فِيهِ قسما لَا يظْهر لنا تَأْثِيره وَالله أعلم. (بِخِلَاف ثُبُوت جهتي الْعُصُوبَة وَمَا مَعهَا) من الْأُخوة لأم أَو الزَّوْجِيَّة فالمضاف إِلَيْهِ مَجْمُوع الْأَمريْنِ وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة (عَن الشَّارِع) مُتَعَلق بثبوتهما (فَإِنَّهُمَا) أَي الْجِهَتَيْنِ (سَوَاء) ظَاهر الْعبارَة التَّسْوِيَة بَين جِهَة الْعُصُوبَة وجهة كَونه صَاحب فرض، وَلَيْسَ المُرَاد هَذَا، بل المُرَاد التَّسْوِيَة بَين كَونه عصبَة وَصَاحب فرض، وَمعنى التَّسْوِيَة الْكَائِن عَن الشَّارِع عدم اعْتِبَاره مزية للثَّانِي على الأول، وَلما احتجينا بتسوية الشَّارِع بَينهمَا مَعَ اجْتِمَاع السببين للإرث فِي الثَّانِي دون الأول واجتماع السببين بِمَنْزِلَة كَثْرَة الْأَدِلَّة فِي جَانب أحد المتعارضين، أجَاب من قبل الْأَكْثَر بِأَن ذَلِك بالتنصيص من قبل الشَّارِع وَلَا مجَال للْقِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، وَلَا يخفى أَنه يفهم من كَلَام المُصَنّف ميله إِلَى جَانب الْأَكْثَر، وللشارح هَهُنَا كَلَام طَوِيل يفهم مِنْهُ عدم استنباطه مُرَاد المُصَنّف على الْوَجْه الَّذِي حررناه.
فصل
(يلْحق السمعيين) الْكتاب وَالسّنة (الْبَيَان) وَهُوَ (الْإِظْهَار لُغَة) قَالَ تَعَالَى - {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} - أَي إِظْهَار مَعَانِيه وشرائعه (وَاصْطِلَاحا إِظْهَار المُرَاد) من لفظ متلو ومرادف لَهُ (بسمعي) متلو أَو مَرْوِيّ (غير مَا) أَي اللَّفْظ الَّذِي أدّى المُرَاد (بِهِ) ابْتِدَاء فَخرجت النُّصُوص الْوَارِدَة لبَيَان الْأَحْكَام ابْتِدَاء، فعلى هَذَا هُوَ فعل الْمُبين. (وَيُقَال) إِن الْبَيَان أَيْضا (لظُهُوره) أَي المُرَاد الَّذِي هُوَ أثر الدَّلِيل، يُقَال بِأَن الْأَمر والهلال إِذا ظهر وانكشف، وَنسبه شمس الْأَئِمَّة إِلَى بعض أَصْحَابنَا وَاخْتَارَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي كَذَا ذكره الشَّارِح (و) يُقَال أَيْضا (للدال على المُرَاد بذلك) أَي بِمَا لحقه الْبَيَان. قَالَ الشَّارِح: فعلى هَذَا كل مُقَيّد من كَلَام الشَّارِع وَفعله وَتَقْرِيره وسكوته واستبشاره وتنبيهه بالفحوى على الحكم بَيَان (و) يجب (على) مَذْهَب (الْحَنَفِيَّة زِيَادَة أَو) إِظْهَار (انتهائه) أَي المُرَاد من المتلو أَو الْمَرْوِيّ (أَو رفع احْتِمَال) لإِرَادَة غَيره وتخصيصه (عَنهُ) أَي عَن المُرَاد بذلك اللَّفْظ نَحْو بجناحيه فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} - فَإِنَّهُ يُفِيد نفي التبوز بالطائر عَن سريع لحركة فِي السّير كالبريد، والتأكيد فِي قَوْله(3/171)
تَعَالَى - {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} - فَإِنَّهُ يُفِيد نفي احْتِمَال التَّخْصِيص (لأَنهم) أَي الْحَنَفِيَّة سوى القَاضِي أبي زيد (قسموه) أَي الْبَيَان (إِلَى خَمْسَة) من الْأَقْسَام، وَهُوَ إِلَى أَرْبَعَة: (بَيَان تَبْدِيل سَيَأْتِي) وَهُوَ النّسخ وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ بِبَيَان المُرَاد من اللَّفْظ بل بَيَان انْتِهَاء إِرَادَة المُرَاد مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي أسْقطه أَبُو زيد وَوَافَقَهُ شمس الْأَئِمَّة إِلَّا أَنه أثبت بدله قسما آخر كَمَا سَيَأْتِي (و) بَيَان (تَقْرِير وَهُوَ التَّأْكِيد) يُفِيد رفع احْتِمَال غير المُرَاد من الْمُبين، ثمَّ إِن بَيَان التَّقْرِير قسم من الْبَيَان الْمُطلق (وَقسم الشَّيْء مِمَّن مَا صدقاته) وَلَا يظْهر صدق الْمقسم عَلَيْهِ، إِذْ إِظْهَار المُرَاد بسمعي غير مَا بِهِ فرع عدم ظُهُوره من الْمُبين قبل هَذَا الْبَيَان وَالْمرَاد ظَاهر مِنْهُ قبله (وَتَحْصِيل الْحَاصِل مُنْتَفٍ) فَلَا يُمكن بعد ظُهُور المُرَاد إِظْهَاره (فَلَزِمَ ذَلِك) أَي زِيَادَة أَو رفع احْتِمَال عَنهُ ليعلم صدق تَعْرِيفه الْبَيَان عَلَيْهِ، وَلَا يبعد أَن يُقَال احْتِمَال خلاف المُرَاد محَال بظهوره فَلَا يظْهر ظهورا تَاما إِلَّا بعد رفع الِاحْتِمَال الْمَذْكُور، وَهَذَا الْقسم يجوز كَونه مَفْصُولًا عَن الْمُبين وموصولا بِهِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مُقَرر للظَّاهِر فَلَا يفْتَقر إِلَى التَّأْكِيد بالاتصال (و) بَيَان (تَغْيِير كالشرط وَالِاسْتِثْنَاء وتقدما) فِي بحث التَّخْصِيص (إِلَّا أَن تَغْيِير الشَّرْط من إِيجَاب الْمُعَلق فِي الْحَال) أَي من إثْبَاته الحكم الْمُتَرَتب عَلَيْهِ شرعا مُنجزا (إِلَى) زمَان (وجوده) أَي الشَّرْط فَهُوَ تَغْيِير من وصف التَّنْجِيز إِلَى وصف التَّعْلِيق فَيتَأَخَّر حكمه إِلَى أَن يُوجد الشَّرْط (و) تَغْيِير (الِاسْتِثْنَاء) من إِثْبَات الحكم الَّذِي كَانَ فِي معرض الثُّبُوت للمستثنى قبل الِاسْتِثْنَاء (إِلَى عَدمه) أَي الحكم الْمَذْكُور فَهُوَ صَارف لأوّل الْكَلَام عَن ظَاهره إِلَى خِلَافه (وَبِه) أَي بِسَبَب كَون تَغْيِير الِاسْتِثْنَاء إِلَى عدم (فرقوا) أَي الْحَنَفِيَّة (بَين تعلقه) أَي بَيَان التَّغْيِير (بمضمون الْجمل المتعقبها) الْإِضَافَة لفظية من إِضَافَة الصّفة إِلَى مفعولها أَي الْجمل الَّتِي تعقبها بَيَان التَّغْيِير (وَعَدَمه) أَي عدم تعلقه بِمَا ذكر أَي وَبَين تعلقه بِغَيْر مَضْمُون الْجمل المتعاقبة (فِي الِاسْتِثْنَاء) فَإِنَّهُ تعلق بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُم فِيهِ لم يفرقُوا بَين تعلقه بمضمون الْجمل الْمَذْكُورَة وَبَين تعلقه بغَيْرهَا، وَذَلِكَ بِأَن تذكر جمل وَيذكر بعْدهَا اسْتثِْنَاء وَأمكن أَن يَجْعَل مُتَعَلقا بِكُل وَاحِدَة مِنْهَا وَأَن يَجْعَل بالأخيرة يعْتَبر تعلقه بالأخيرة (تقليلا للأبطال مَا أمكن) أَي بِقدر الْإِمْكَان، يَعْنِي لَو اعْتبر تعلقه بِكُل وَاحِد من تِلْكَ الْجمل لزم عدم الحكم الْمَأْخُوذ فِي جَانب الْمُسْتَثْنى مِنْهُ من الْمُسْتَثْنى بِاعْتِبَار كل وَاحِدَة مِنْهَا، وَإِذا علق بالأخيرة لَا يلْزم إِلَّا إبِْطَال الحكم الَّذِي تضمنته لَا الْأَحْكَام الَّتِي تضمنها مَا قبلهَا (وَيمْتَنع تراخيهما) عَن متعلقهما يَعْنِي الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء وَلَا يَكُونَا إِلَّا موصولين (وَتقدم قَول ابْن عَبَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء) بِجَوَاز تراخيه على خلاف فِي مِقْدَاره وَوَجهه وَدفعه (وَمِنْه) أَي بَيَان التَّغْيِير (تَخْصِيص الْعَام وَتَقْيِيد الْمُطلق) إِذْ تبين أَن الأول أَي الْعَام غير جَار على عُمُومه، وَالثَّانِي أَي الْمُطلق غير جَار(3/172)
على إِطْلَاقه وَهُوَ تَغْيِير النّظر إِلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ السامعة من الْعُمُوم وَالْإِطْلَاق (وتقدما) فِي بحث الْعُمُوم والتخصيص (وَيجب مثله) أَي امْتنَاع التَّرَاخِي (فِي صرف كل ظَاهر) لِئَلَّا يلْزم الْإِيقَاع فِي خلاف الْوَاقِع (وعَلى الْجَوَاز) لتأخير بَيَان تَخْصِيص الْعَام عَنهُ كَمَا هُوَ قَول مَشَايِخ سَمَرْقَنْد، وَعَلِيهِ أَيْضا تَفْرِيع جَوَاز تَأْخِير صرف كل ظَاهر عَن ظَاهره أَن يُقَال (تَأْخِيره عَلَيْهِ السَّلَام تَبْلِيغ الحكم) الشَّرْعِيّ الْمَأْمُور بتبليغه (إِلَى) وَقت (الْحَاجة) إِلَيْهِ وَهُوَ وَقت تَنْجِيز التَّكْلِيف (أجوز) أَي أَشد جَوَازًا إِذْ لَا يلْزم فِي تبليغه شَيْء مِمَّا يلْزم فِي تَأْخِير بَيَان مَخْصُوص الْعَام إِذْ لَا تَكْلِيف قبل التَّبْلِيغ وَلم يُؤمر بالتبليغ إِلَّا عِنْد أَوَانه فَإِذا جَازَ التَّأْخِير مَعَ وجود التَّكْلِيف فَمَعَ عَدمه أولى كَذَا ذكره الشَّارِح (وعَلى الْمَنْع) لتأخير بَيَان مُخَصص الْعَام (وَهُوَ) أَي الْمَنْع لتأخيره (الْمُخْتَار للحنفية) من مَشَايِخ الْعرَاق وَالْقَاضِي أبي زيد وَمن تبعه من الْمُتَأَخِّرين يجوز تَأْخِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة أَيْضا (إِذْ لَا يلْزم) فِيهِ (مَا تقدم) وَهُوَ الْإِيقَاع فِي خلاف الْوَاقِع ومطلوبية الْجَهْل الْمركب، وَقيل لَا يجوز لقَوْله تَعَالَى - {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} - لِأَن وجوب التَّبْلِيغ مَعْلُوم بِالْعقلِ ضَرُورَة فَلَا فَائِدَة لِلْأَمْرِ بِهِ (وَكَون أَمر التَّبْلِيغ فوريا مَمْنُوع) وَالْعقل لَا يسْتَقلّ بِمَعْرِِفَة الْأَحْكَام، وَلَو سلم فَلْيَكُن لتقوية الْعقل بِالنَّقْلِ (وَلَعَلَّه) أَي التَّبْلِيغ (وَجب لمصْلحَة) لم تفت بِتَأْخِيرِهِ (وَأَيْضًا ظَاهره) أَي مَا أنزل إِلَيْك من رَبك (لِلْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم من لفظ الْمنزل. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وَظَاهر الْآيَة يُوجب تَبْلِيغ كل مَا أنزل وَلَعَلَّ المُرَاد تَبْلِيغ مَا يتَعَلَّق بِهِ مصَالح الْعباد وَقصد بإنزاله اطلاعهم عَلَيْهِ فَإِن من الْأَسْرَار الإلهية مَا يحرم إفشاؤه.
مسئلة
(وَالْأَكْثَر) مِنْهُم الإِمَام الرَّازِيّ وَابْن الْحَاجِب (يجب زِيَادَة قُوَّة الْمُبين للظَّاهِر) عَلَيْهِ: أَي السمعي الَّذِي يصرف الظَّاهِر عَن ظَاهره يجب أَن يكون لَهُ زِيَادَة قُوَّة (وَالْحَنَفِيَّة تجوز الْمُسَاوَاة) بَينهمَا فِي الْقُوَّة (وَدفع) تجويزهم ذَلِك (بِعَدَمِ أَوْلَوِيَّة الْمُبين مِنْهُمَا) أَي المتساويين، يَعْنِي أَنَّهُمَا سمعيان متساويان فِي الْقُوَّة متعارضان بِحَسب الظَّاهِر وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى بِالِاعْتِبَارِ من الآخر فَكيف يقدم أَحدهمَا وَهُوَ الْمُبين على الآخر ويصرفه عَن ظَاهره (بِخِلَاف الرَّاجِح) مَعَ / الْمَرْجُوح (لتقدمه) أَي الرَّاجِح على الْمَرْجُوح (فِي الْمُعَارضَة، وَيدْفَع) هَذَا الدّفع (بِأَن مُرَادهم) أَي الْحَنَفِيَّة الْمُسَاوَاة (فِي الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الْمَتْن (لَا الدّلَالَة) وَعدم أَوْلَوِيَّة الْمُبين إِنَّمَا هُوَ على تَقْدِير الْمُسَاوَاة فِي الدّلَالَة، وَأما إِذا كَانَا متساويين فِي الثُّبُوت لَا فِي الدّلَالَة بِأَن يكون(3/173)
أَحدهمَا نصا وَالْآخر ظَاهرا فالنص يصلح لِأَن يكون مُبينًا للظَّاهِر (وَمَعْلُوم أَن الأول) من السمعيين (مُبين) على صِيغَة الْمَفْعُول، وَهَذَا دفع لما يُقَال من أَنَّهُمَا إِذا كَانَا متساويين لَا يتَعَيَّن الْمُبين عَن الْمُبين وَأما قَول أبي الْحُسَيْن وَيجوز بالأدنى أَيْضا فَبَاطِل لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِلْغَاء الرَّاجِح بالمرجوح كَذَلِك لَا يجوز إِلْغَاء أحد المتساويين بِالْآخرِ، فَإِن قيل يجوز إِلْغَاء أحد المتساويين فِي الثُّبُوت بِالْآخرِ الْمَرْجُوح فِيهِ فَلْيتَأَمَّل. (و) بَيَان (تَفْسِير، وَهُوَ بَيَان الْمُجْمل) باصطلاح الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ مَا فِيهِ خَفَاء فَيعم باصطلاح الْحَنَفِيَّة الْخَفي والمشترك والمجمل (وَيجوز) بَيَان التَّفْسِير (بأضعف) دلَالَة أَو ثبوتا (إِذْ لَا تعَارض بَين الْمُجْمل وَالْبَيَان ليترجح) الْبَيَان عَلَيْهِ فَيلْزم إِلْغَاء الرَّاجِح بالمرجوح (و) يجوز (تراخيه) أَي بَيَان الْمُجْمل عَن وَقت الْخطاب بِهِ (إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَى الْفِعْل وَهُوَ وَقت تَعْلِيق التَّكْلِيف) بِالْفِعْلِ (مضيقا) لَا وَقت تَعْلِيقه موسعا عِنْد الْجُمْهُور مِنْهُم أَصْحَابنَا والمالكية وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ الإِمَام الرَّازِيّ وَابْن الْحَاجِب وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين (وَعَن الْحَنَابِلَة والصيرفي وَعبد الْجَبَّار والجبائي وَابْنه) وَبَعض الشَّافِعِيَّة كَأبي إِسْحَاق الْمروزِي وَالْقَاضِي أبي حَامِد (مَنعه) أَي منع تراخيه عَن وَقت الْخطاب بِهِ إِلَّا أَن الاسفرايني ذكر أَن الْأَشْعَرِيّ نزل ضيفا على الصَّيْرَفِي فناظره فِي هَذَا فَرجع إِلَى الْجَوَاز لنا لَا مَانع عقلا) من جَوَازه (وَوَقع شرعا كآيتي الصَّلَاة وَالزَّكَاة) أَي أقِيمُوا الصَّلَاة وَأتوا الزَّكَاة (ثمَّ بَين) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَفْعَال) للصَّلَاة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا (والمقادير) لِلزَّكَاةِ كَمَا فِي كتب الصَّدقَات ككتاب الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَكتاب عمر رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب أبي دَاوُد وَغَيره (أما) ترَاخى بَيَان الْمُجْمل (عَن وَقت الْحَاجة فَيجوز) عقلا (عِنْد من يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق) وهم الأشاعرة (لكنه) أَي تراخيه عَن وَقتهَا (غير وَاقع) وَمن لَا يجوزه لَا يجوز هَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِمَا لَا يُعلمهُ الْمُكَلف تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاف، ثمَّ علل جَوَازه بِالْعقلِ بِمَا يُفِيد أَن يجوزه من لَا يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق بقوله (لِأَنَّهُ) أَي الْجمل (قبل الْبَيَان لَا يُوجب شَيْئا) على الْمُكَلف بل إِنَّمَا يجب عَلَيْهِ اعْتِقَاد حقية المُرَاد مِنْهُ لَا غير حَتَّى يلْحقهُ الْبَيَان (فَلم يحكم) الشَّارِع عَلَيْهِ (بِوُجُوب مَال يعلم) الْمُكَلف وُجُوبه عَلَيْهِ (بِحَيْثُ) إِذا لم يفعل ذَلِك (يُعَاقب بِعَدَمِ الْفِعْل) فَانْتفى وَجه المانعين عَنهُ بِأَن الْمَقْصُود إِيجَاب الْعَمَل وَهُوَ مُتَوَقف على الْفَهم والفهم لَا يحصل بِدُونِ الْبَيَان، فَلَو جَازَ تَأْخِيره أدّى إِلَى تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع واليه أَشَارَ بقوله (وَبِه) أَي بالْقَوْل بِأَنَّهُ لَا يُوجب شَيْئا قبل الْبَيَان (انْدفع قَوْلهم) أَي المانعين لَهُ تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل (يودى إِلَى الْجَهْل المخل بِفعل الْوَاجِب فِي وقته) وَجه الاندفاع أَن وَقت الْأَدَاء وَقت الْبَيَان وَقبل الْبَيَان لَا تَكْلِيف بإيقاع الْفِعْل بل باعتقاد حقية المُرَاد مِنْهُ إِجْمَالا(3/174)
(وَقَوْلهمْ) أَي المانعين لَهُ أَيْضا لَو جَازَ تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل لَكَانَ الْخطاب بالمجمل (كالخطاب بالمهمل) فَيلْزم جَوَاز الْخطاب بِهِ وَاللَّازِم بَاطِل، ثمَّ قَوْلهم مُبْتَدأ خَبره (مهمل) إِذْ فِي الْمُجْمل يعلم أَن المُرَاد أحد محتملاته أَو معنى مَا، بِخِلَاف المهمل فَإِنَّهُ لَا معنى لَهُ أصلا (وَمَا قيل) على مَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب (جَوَاز تَأْخِير اسماع الْمُخَصّص) للعام الْمُكَلف بِهِ إِلَى وَقت الْحَاجة (أولى من) جَوَاز (تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل) إِلَى وَقت الْحَاجة (لِأَن عدم الإسماع) أَي اسماع الْمُكَلف الْمُخَصّص مَعَ وجوده فِي نفس الْأَمر (أسهل من الْعَدَم) أَي عدم بَيَان الْمُجْمل لانْقِطَاع الِاطِّلَاع على الْمَوْجُود لَا الْمَعْدُوم، وَهَذَا إِلْزَام من الشَّافِعِيَّة المجيزين لتأخير بَيَان الْمُجْمل للحنفية الْقَائِلين بِهِ دون تراخي التَّخْصِيص، ثمَّ مَا قيل مُبْتَدأ خَبره (غير صَحِيح لِأَن الْعَام غير مُجمل فَلَا يتَعَذَّر الْعَمَل بِهِ) قبل الِاطِّلَاع على الْمُخَصّص (فقد يعْمل بِهِ) أَي بِعُمُومِهِ بزعم أَنه مُرَاد (وَهُوَ) أَي وَالْحَال أَن عُمُومه (غير مُرَاد) فَيَقَع فِي الْمَحْذُور خُصُوصا إِذا كَانَ الأَصْل فِيهِ التَّحْرِيم (بِخِلَاف الْمُجْمل) فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِهِ قبل الْبَيَان (فَلَا يسْتَلْزم تَأْخِير بَيَانه محذورا) كالعمل بِمَا هُوَ غير مُرَاد (بِخِلَافِهِ) أَي تَأْخِير الْبَيَان (فِي الْمُخَصّص) فَإِنَّهُ يستلزمه كَمَا بَينا (ثمَّ تمنع الْأَوْلَوِيَّة) أَي كَون تَأْخِير اسماع الْمُخَصّص بِالْجَوَازِ أولى من تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل (بل كل من الْعَام والمجمل أُرِيد بِهِ معِين آخر ذكر داله فَقبل ذكره) أَي داله (هُوَ) أَي ذَلِك الْمعِين (مَعْدُوم إِلَّا فِي الْإِرَادَة) للمتكلم لعلمه بذلك الْمُتَعَيّن، وَإِنَّمَا الْإِبْهَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطب. قَالَ الشَّارِح: أَي إِلَّا فِي جَوَاز كَونه المُرَاد من اللَّفْظ وَهُوَ غير موجه كَمَا لَا يخفى (فهما) أَي الْمُجْمل وَالْعَام (فِيهَا) أَي فِي الْإِرَادَة سَوَاء.
مسئلة
(وَيكون) الْبَيَان (بِالْفِعْلِ كالقول) أَي وَيكون بالْقَوْل (إِلَّا عِنْد شذوذ لنا) فِي أَنه يكون بِالْفِعْلِ (يفهم) من الإفهام أَو الْفَهم (أَنه) أَي الْفِعْل الصَّالح لِأَن يكون مرَادا من القَوْل هُوَ (المُرَاد بالْقَوْل) الْمُجْمل (بِفِعْلِهِ عَقِيبه) أَي طَرِيق إفهامه أَنه يفعل عقيب ذَلِك القَوْل الْمُجْمل (فصلح) الْفِعْل (بَيَانا بل هُوَ) الْفِعْل (أدل) على تعْيين المُرَاد، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة) أخرجه أَحْمد وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ، فَإِن الله تَعَالَى أخبر مُوسَى بن عمرَان عَمَّا صنع قومه من بعده فَلم يلق الألواح، فَلَمَّا عاين ذَلِك ألْقى الألواح وَقد صَار هَذَا القَوْل مثلا (وَبِه) أَي بِالْفِعْلِ (بَين) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الصَّلَاة وَالْحج) لكثير من الْمُكَلّفين كَمَا تشهد بِهِ كتب السّنة (قَالُوا) أَي المانعون لم يبينها بِالْفِعْلِ (بل يصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وخذوا عني) مَنَاسِككُم (أُجِيب بِأَنَّهُمَا) أَي الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورين (دَلِيلا كَونه) أَي الْفِعْل (بَيَانا)(3/175)
لِأَنَّهُ هُوَ الْبَيَان لِأَنَّهُ لم يبين المُرَاد لكنه يُفِيد أَن فعله بَيَان (وَهَذَا) الْجَواب (يَنْفِي الدَّلِيل الأول) وَهُوَ أَن الْفِعْل بِوُقُوعِهِ عقيب الْمُجْمل يفهم أَنه المُرَاد بِهِ (إِذْ يُفِيد أَن كَونه بَيَانا) إِنَّمَا عرف (بِالشَّرْعِ) لَا بِكَوْنِهِ وَقع عَقِيبه (وَبِه) أَي بِالشَّرْعِ (كِفَايَة) فِي إِثْبَات كَون الْفِعْل بَيَانا (فَالْأولى أَن يُقَال أَنه) أَي كلا من صلوا وخذوا (لزِيَادَة الْبَيَان) إِذْ الْبَيَان حصل لَهُم بِمُبَاشَرَة تِلْكَ الْأَفْعَال بحضرتهم، فَقَوله صلوا وخذوا لزِيَادَة التَّوْضِيح والتأكيد (وَقَوْلهمْ) أَي المانعين (الْفِعْل أطول) من القَوْل زَمَانا (فَيلْزم تَأْخِيره) أَي الْبَيَان بِهِ (مَعَ إِمْكَان تَعْجِيله) بالْقَوْل وَأَنه غير جَائِز (مَمْنُوع الأطولية) إِذْ قد يطول الْبَيَان بالْقَوْل أَكثر مِمَّا يطول بِالْفِعْلِ (و) مَمْنُوع (بطلَان اللَّازِم) أَي التَّأْخِير مَعَ إِمْكَان التَّعْجِيل (بعده) أَي بعد تَسْلِيم الأطولية، وَقَالَ الشَّارِح: أَي بعد إِمْكَان تَعْجِيله وَلَا معنى لَهُ لِأَن إِمْكَان التَّعْجِيل قيد اعْتبر فِي اللَّازِم وَهُوَ يلائم مَعَ بطلَان التَّأْخِير بل يلائم بُطْلَانهَا، ومسند هَذَا الْمَنْع أَن التَّعْجِيل قبل الْحَاجة أَيْضا مُمكن وَلَا مَحْذُور فِي التَّأْخِير عِنْد ذَلِك، ثمَّ الْمَمْنُوع إِنَّمَا هُوَ التَّأْخِير المفوت لأَدَاء الْوَاجِب (فَلَو تعاقبا) أَي القَوْل وَالْفِعْل الصالحان للْبَيَان (وَعلم الْمُتَقَدّم فَهُوَ) أَي الْمُتَقَدّم الْبَيَان قولا كَانَ أَو فعلا وَالثَّانِي تَأْكِيد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعلم الْمُتَقَدّم (فأحدهما) من غير تعْيين هُوَ الْبَيَان وَهَذَا إِذا اتفقَا فِي الدّلَالَة على حكم وَاحِد (فَإِن تَعَارضا) أَي الْفِعْل وَالْقَوْل كَمَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة وَطَاف طوافين وسعى سعيين وَحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد رُوَاته ثِقَات، وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
" من أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة أَجزَأَهُ طواف وَاحِد وسعى وَاحِد مِنْهُمَا حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح غَرِيب (فالمختار) للْإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه وَابْن الْحَاجِب أَن أَن الْبَيَان هُوَ (القَوْل) لِأَنَّهُ الدَّال نَفسه وَالْفِعْل لَا يدل إِلَّا بِأَن يعلم ذَلِك بِالضَّرُورَةِ من قَصده وَأَن يَقُول هَذَا الْفِعْل بَيَان للمجمل أَو بِأَن يذكر الْمُجْمل وَقت الْحَاجة لم يفعل مَا يصلح بَيَانا لَهُ وَلَا يفعل غَيره وَلَا بَينه بالْقَوْل. قَالَ الشَّارِح: وَقد أوردت على المُصَنّف يَنْبَغِي على مَا تقدم من أَن الْفِعْل دلّ من القَوْل أَن يقدم الْفِعْل على القَوْل، فَأجَاب بِأَن معنى أدليته أَن الْفِعْل الجزئي الْمَوْجُود فِي لخارج لَا يحْتَمل غَيره لِأَنَّهُ بهيآته أدل على كَونه المُرَاد بالمجمل من دلَالَة القَوْل على المُرَاد بِهِ فَإِن الاستقراء يُفِيد أَن كثيرا من الْأَفْعَال المبينة للمجمل تشْتَمل على هيآت غير مُرَادة من الْمُجْمل من وَجه آخر والمنظور هَهُنَا هَذَا الْوَجْه (وَقَول أبي الْحُسَيْن) الْبَيَان (هُوَ الْمُتَقَدّم) قولا كَانَ أَو فعلا (يسْتَلْزم لُزُوم النّسخ) للْفِعْل (بِلَا مُلْزم لَو كَانَ) الْمُتَقَدّم (الْفِعْل) فِي الشَّرْح العضدي وَأما إِذا اخْتلفَا كَأَن طَاف طوافين وَأمر بِطواف وَاحِد فالمختار أَن القَوْل هُوَ الْبَيَان وَالْفِعْل ندب(3/176)
لَهُ أَو وَاجِب عَلَيْهِ مِمَّا اخْتصَّ بِهِ، وَلَا فرق بَين أَن يكون القَوْل مُتَقَدما أَو مُتَأَخِّرًا، وَذَلِكَ لِأَن فِيهِ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ أولى من إبِْطَال أَحدهمَا كَمَا سَنذكرُهُ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا هُوَ الْبَيَان أيا كَانَ وَهُوَ بَاطِل إِذْ يلْزمه نسخ الْفِعْل إِذا كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم مَعَ إِمْكَان الْجمع وَأَنه بَاطِل. بَيَانه إِذا تقدم الْفِعْل وَهُوَ طوافان وَجب علينا طوافان، فَإِذا أَمر بِطواف وَاحِد فقد نسخ أحد الطوافين عَنَّا انْتهى، فَإِن قيل القَوْل الْمُتَأَخر يُوجب النّسخ فَمَا معنى قَوْله بِلَا مُلْزم، قُلْنَا مَعْنَاهُ أَن النّسخ إِنَّمَا لزم بِسَبَب جعل الْفِعْل بَيَانا، لِأَن القَوْل إِذن على تَقْدِير كَون القَوْل بَيَانا لَا يلْزم النّسخ بل يحمل على أَن الْفِعْل ندب لنا وَله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو وَاجِب مُخْتَصّ بِهِ فَلَا يسْتَلْزم النّسخ فِي حَقنا وَفِي حَقه إِذْ لَيْسَ فِي القَوْل تنصيص على مُشَاركَة الْأمة (وَلَا يتَصَوَّر فِيهِ) أَي فِي الْمُجْمل (أرجحية دلَالَته على دلَالَة الْمُبين) بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل (على) الْمَعْنى (الْمعِين) من الْمُجْمل (بل يُمكن) أَن يكون دلَالَة الْمُجْمل (على مَعْنَاهُ الإجمالي وَهُوَ أحد الِاحْتِمَالَيْنِ) أرجح من دلَالَة الْمُبين على المُرَاد مِنْهُ (كثلاثة قُرُوء) فَإِنَّهُ أقوى دلَالَة (على ثَلَاثَة أَقراء من الطُّهْر أَو الْحيض وَيتَعَيَّن) المُرَاد من الْمُجْمل (بأضعف دلَالَة على الْمعِين) بِالنِّسْبَةِ إِلَى دلَالَة الْمُجْمل على مَعْنَاهُ الإجمالي (وَسلف للحنفية) فِي بحث الْمُجْمل (مَا تقصر مَعْرفَته) أَي معرفَة المُرَاد مِنْهُ (على السّمع، فَإِن ورد) سمعى بَين المُرَاد مِنْهُ بَيَانا (قَطْعِيا شافيا صَار) ذَلِك الْمُجْمل بعد لُحُوق هَذَا الْبَيَان (مُفَسرًا، أَولا) يكون شافيا (فمشكل) ذكر فِيمَا سبق أَن مَا خَفِي المُرَاد مِنْهُ لتَعَدد مَعَانِيه الاستعمالية مَعَ الْعلم بالاشتراك وَلَا معِين أَو مَعَ تجويزها مجازية أَو بَعْضهَا إِلَى التَّأَمُّل مُشكل. ثمَّ ذكر أَن مَا لحقه الْبَيَان خرج عَن الْإِجْمَال بالِاتِّفَاقِ، وسمى بَيَانا عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ شافيا بقطعي فمفسر أَو بظني فمؤول أَو غير شاف خرج عَن الاجمال إِلَى الاشكال، فَظَاهر عِبَارَته هَهُنَا أَن الْبَيَان الَّذِي لَيْسَ بقطعي إِذا لم يكن شافيا هُوَ الْمُشكل وَالَّذِي يظْهر من هُنَاكَ بِأَن الَّذِي لَيْسَ بشاف فَهُوَ مُشكل سَوَاء كَانَ قَطْعِيا أَو ظنيا (أَو ظنا فمشكل) مَعْطُوف على قَطْعِيا وَكَانَ مُقْتَضى الظَّن أَن يَقُول أَو ظنيا مَحَله، وَلَعَلَّه تَصْحِيف من النَّاسِخ فَأول (وَقبل الِاجْتِهَاد فِي استعلامه) لجَوَاز الِاجْتِهَاد فِي مُقَابلَة الظني دون الْقطعِي (وَهُوَ) أَي هَذَا الْخلاف (لَفْظِي مَبْنِيّ على الِاصْطِلَاح) فِي المُرَاد بالمجمل، وَسبق تَفْصِيله فِي مَوْضِعه (وَقَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (إِذا بَين الْمُجْمل الْقطعِي الثُّبُوت بِخَبَر وَاحِد نسب) الْمَعْنى الْمُبين (إِلَيْهِ) أَي الْمُجْمل لكَونه أقوى، لَا إِلَى خبر الْوَاحِد مَعَ كَونه دَالا عَلَيْهِ (فَيصير) الْمَعْنى الْأَعَمّ (ثَابتا بِهِ) أَي بالمجمل (فَيكون) ذَلِك الْمَعْنى(3/177)
(قَطْعِيا) بِنَاء على أَنه ثَابت بقطعي (وَمنعه صَاحب التَّحْقِيق، إِذْ لَا تظهر مُلَازمَة) بَينهمَا توجب ذَلِك وَقيل لَا فرق بَين أَن يعرف المُرَاد من الْمُشْتَرك بِالرَّأْيِ الَّذِي هُوَ ظَنِّي، وَبَين أَن يعرف بِخَبَر الْوَاحِد (وَهُوَ) أَي مَنعه (حق وَلَو انْعَقَد عَلَيْهِ) أَي على أَن المُرَاد من الْمُجْمل ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي بَينه الْخَبَر الْمَذْكُور (إِجْمَاع فشيء آخر. وَإِلَى بَيَان ضَرُورَة تقدم) فِي التَّقْسِيم الأول من الْفَصْل وَهَذَا أَيْضا لم يَجعله القَاضِي أَبُو زيد من أَقسَام الْبَيَان، وَجعله فَخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة وموافقوهما مِنْهَا، وَالْإِضَافَة فِيهِ إِلَى السَّبَب (وَأما بَيَان التبديل فَهُوَ النّسخ، وَهُوَ) أَي النّسخ لُغَة (الْإِزَالَة) حَقِيقَة كنسخت الشَّمْس الظل، والشيب الشَّبَاب، وَالرِّيح آثَار الدَّار، يسْتَعْمل (مجَازًا للنَّقْل) أَي التَّحْوِيل للشَّيْء من مَكَان إِلَى مَكَان، أَو من حَالَة إِلَى حَالَة مَعَ بَقَائِهِ فِي نَفسه كنسخت النَّحْل الْعَسَل: إِذا نقلته من خلية إِلَى خلية لما فِي النَّقْل من الْإِزَالَة عَن مَوْضِعه الأول (أَو قلبه) أَي حَقِيقَة للنَّقْل مجَاز للإزالة، وَهَذَا قَول جمَاعَة مِنْهُم الْقفال، وَالْأول قَول الْأَكْثَرين، وَرجحه الإِمَام الرَّازِيّ (أَو مُشْتَرك) لَفْظِي بَينهمَا، إِذْ الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، وَهَذَا قَول القَاضِي وَالْغَزالِيّ، أَو معنوي، وَبِه قَالَ ابْن الْمُنِير، وَالْقدر الْمُشْتَرك هُوَ الرّفْع (وتمثيل النَّقْل بنسخت مَا فِي هَذَا الْكتاب) كَمَا ذكر كثير (تساهل) لِأَنَّهُ فعل مثل مَا فِيهِ فِي غَيره لَا نقل فِيهِ عينه، ثمَّ قيل هَذَا نزاع لَفْظِي لَا يتَعَلَّق بِهِ غَرَض علمي وَقيل بل معنوي تظهر فَائِدَته فِي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَفِيه مَا فِيهِ. (وَاصْطِلَاحا رفع تعلق مُطلق) عَن تَقْيِيد بتأقيت أَو تأبيد (بِحكم شَرْعِي) الْجَار مُتَعَلق بتعلق (ابْتِدَاء) لَا يُقَال مَا ثَبت فِي الْمَاضِي من التَّعَلُّق لَا يتَصَوَّر بُطْلَانه لتحققه قطعا، وَمَا فِي الْمُسْتَقْبل لم يثبت بعد فَكيف يبطل، فَلَا رفع، لأَنا نقُول المُرَاد بِالرَّفْع زَوَال ظن الْبَقَاء فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَوْلَا النَّاسِخ لَكَانَ فِي عقولنا ظن أَنه بَاقٍ فِي الْمُسْتَقْبل فقد علم أَن الَّذِي رفع إِنَّمَا هُوَ التَّعَلُّق الْحَادِث المتجدد لَا نفس الحكم (فَانْدفع) مَا قيل من (أَن الحكم قديم لَا يرْتَفع) لِأَن كل أزلي أبدي، وَلَا يتَصَوَّر رَفعه (و) انْدفع (بِمُطلق مَا) أَي رفع تعلق الحكم (بالغاية) نَحْو - {وَأَتمُّوا الصّيام إِلَى اللَّيْل} -. (و) انْدفع أَيْضا بِمُطلق رفع تعلقه بِسَبَب (الشَّرْط) نَحْو: صل الظّهْر إِن زَالَت الشَّمْس، فَإِن طلب الظّهْر تنجيزا قد رفع بِسَبَب تَعْلِيقه بِشَرْط الزَّوَال (و) انْدفع بِهِ أَيْضا رفع تعلقه بالمستثنى فِي صدر الْكَلَام بِحَسب الظَّاهِر من حَيْثُ الْعُمُوم بِسَبَب (الِاسْتِثْنَاء) نَحْو: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا أهل الذِّمَّة، إِذْ لَيْسَ شَيْء من الْمَذْكُورَات نسخا وَاعْترض الشَّارِح بِأَن الرّفْع يَقْتَضِي سَابِقَة الثُّبُوت وَلم يرفع شَيْء مِنْهَا مَا سبق ثُبُوته قبل ذكرهَا، فَلَا يحْتَاج إِلَى الِاحْتِرَاز عَنْهَا وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الِاحْتِرَاز فِي مثل هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِحَسب مَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن دُخُوله فِي جنس التَّعْرِيف، فَإِن الرّفْع كَمَا يُطلق(3/178)
على إِزَالَة مَا ثَبت يُطلق على إِزَالَة احْتِمَال وجود شَيْء بِسَبَب وجود مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهرا كَمَا فِي الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء، فَإِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقتضى التَّنْجِيز لَوْلَا الشَّرْط وَالْأَمر بقتل الْمُشْركين يقتضى قتل أهل الذِّمَّة لَوْلَا الِاسْتِثْنَاء، وَالْحكم المغيا كَانَ ظَاهره أَن يَشْمَل مَا بعد الْغَايَة لولاها، لِأَن الأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الاستمراز، على أَن الِاحْتِرَاز قد يُرَاد بِهِ رفع توهم دُخُول مَا لَيْسَ من أَفْرَاد الْمُعَرّف، وَقيل أَنه احْتِرَاز عَن الحكم الْمُؤَقت بِوَقْت خَاص، فَإِنَّهُ لَا يَصح نُسْخَة قبل انتهائه، وَلَا يتَصَوَّر بعد انتهائه، وَعَن الحكم الْمُقَيد بالتأييد، كَذَا ذكره الشَّارِح وَلَا يخفى مَا فِيهِ وَقَالَ انْدفع بقولنَا الحكم الشَّرْعِيّ مَا كَانَ رفعا للْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة قبل وُرُود الشَّرْع عِنْد الْقَائِل بهَا، فَإِنَّهُ لَا يُسمى نسخا اتِّفَاقًا، لَا يُقَال خرج مِنْهُ مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَفْع حكم، بل لفظ لِأَنَّهُ مُتَضَمّن لرفع أَحْكَام كَثِيرَة كالتعبد بتلاوته وَمنع الْجنب إِلَى غير ذَلِك فَتَأمل (و) انْدفع (بالأخير) أَي ابْتِدَاء (مَا) أَي رفع تعلقه (بِالْمَوْتِ وَالنَّوْم) وَالْجُنُون وَنَحْوهَا، وبانعدام الْمحل كذهاب الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَي الرّفْع فِي هَذِه الْأَشْيَاء (لعَارض) من هَذِه الْعَوَارِض لَا ابْتِدَاء بخطاب شَرْعِي وَأورد بِأَن رفع تعلق الحكم بِالنَّوْمِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ ": الحَدِيث. وَقد يُجَاب بِأَن هَذَا الحَدِيث مَبْنِيّ على الْعَارِض وإخبار عَمَّا رفع لعَارض، وَالْمرَاد بقوله ابْتِدَاء مَا لَا يكون لعَارض فَتَأمل (وَيعلم التَّأَخُّر من الرّفْع) فِي الشَّرْح العضدي بعد تَعْرِيف النّسخ بِرَفْع الحكم الشَّرْعِيّ بِدَلِيل شَرْعِي مُتَأَخّر، وَقَوله مُتَأَخّر ليخرج، نَحْو: صل عِنْد كل زَوَال إِلَى آخر الشَّهْر وَإِن كَانَ يُمكن أَن يُقَال أَنه لَيْسَ يرفع التَّوَهُّم مِمَّا يقْصد فِي الْحُدُود انْتهى. وَالْمُصَنّف ترك ذكر الدَّلِيل الشَّرْعِيّ لِأَن رفع تعلق الحكم الشَّرْعِيّ لَا يُمكن بِدُونِهِ فَذكره مُسْتَلْزم لذكره وَكَون ذَلِك الدَّلِيل مُتَأَخِّرًا عَن الحكم الْمَرْفُوع تعلقه يعلم من مَفْهُوم الرّفْع لِأَنَّهُ فرع وجوده السَّابِق، وَفسّر الشَّارِح التَّأَخُّر بالتراخي وَلَيْسَ بجيد إِذْ الرّفْع لَا يدل عَلَيْهِ وَلَا يلْزمه، ثمَّ قَالَ وَإِنَّمَا فسر التَّأَخُّر بالتراخي لِأَن الْمُتَأَخر قد يكون مُخَصّصا نَاسِخا كالاستثناء والمخصص الأول انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَن الِاسْتِثْنَاء قد خرج بِمُطلق والمخصص الأول لم يرفع تعلق الحكم بل بَين أَن مَا خصص بِهِ لم يكن مُتَعَلّقه (والسمعي المستقل) بِنَفسِهِ (دَلِيله) أَي الرّفْع الَّذِي هُوَ النّسخ (وَقد يَجْعَل) النّسخ (إِيَّاه) أَي الدَّلِيل (اصْطِلَاحا) كَمَا وَقع (فِي قَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ) هُوَ (اللَّفْظ الدَّال على ظُهُور انْتِفَاء شَرط دوَام الحكم الأول) فِي الشَّرْح العضدي مَعْنَاهُ أَن الحكم كَانَ دَائِما فِي علم الله دواما مَشْرُوطًا بِشَرْط لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ، وَأجل الدَّوَام أَن يظْهر انْتِفَاء ذَلِك بِالشّرطِ الْمُكَلف فَيَنْقَطِع الحكم وَيبْطل دَوَامه، وَمَا ذَلِك إِلَّا بتوفيقه تَعَالَى إِيَّاه، فَإِذا قَالَ قولا دَالا(3/179)
عَلَيْهِ فَذَلِك هُوَ النّسخ (و) فِي قَول (الْغَزالِيّ) وفَاقا للْقَاضِي أبي بكر (الْخطاب الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ الأول على وَجه لولاه كَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ) فَخرج نَحْو: لَا تَصُومُوا بعد غرُوب الشَّمْس بعد أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل، لِأَنَّهُ وَإِن دلّ على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت لَكِن لَا على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه لِأَنَّهُ لَو اتَّصل بِهِ لَكَانَ بَيَانا لمُدَّة الحكم كالشرط وَالصّفة والغاية وَالِاسْتِثْنَاء، كَذَا ذكره الشَّارِح. (وَمَا قيل) وَعَزاهُ ابْن الْحَاجِب إِلَى الْفُقَهَاء (النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم) أَي غَايَته (مَعَ تراخيه عَن مورده) أَي زمَان وُرُود الحكم الأول احْتِرَاز عَن الْبَيَان الْمُتَّصِل بالحكم مُسْتقِلّا كَانَ أَو غير مُسْتَقل، وَهَذِه التعاريف غير مرضية (فَإِنَّهُ اعْترض عَلَيْهَا) أَي على هَذِه التعاريف (بِأَن جِنْسهَا) من اللَّفْظ وَالْخطاب وَالنَّص (دَلِيله) أَي النّسخ (لَا هُوَ) أَي النّسخ، وَقد يُقَال: النّسخ الحكم بِالْآيَةِ وَالْخَبَر (وَأجِيب بالتزامه) أَي كَون جِنْسهَا نفس النّسخ (كَمَا أَنه) أَي جِنْسهَا هُوَ (الحكم) وَهُوَ خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف إِلَى آخِره. فِي الشَّرْح العضدي، وَقد يُجَاب عَنْهَا بِأَنَّهُ قد علم أَن الحكم يَدُوم مَا وجد شَرط دَوَامه وَلَيْسَ شَرطه إِلَّا عدم قَول الله تَعَالَى الدَّال على انتفائه، فقاطع الدَّوَام هُوَ ذَلِك القَوْل، وَهُوَ النّسخ، فَكَمَا أَن الحكم لَيْسَ إِلَّا قَوْله افْعَل، فالنسخ لَيْسَ إِلَّا ذَلِك القَوْل (وَهَذَا) أَي كَون الْكَلَام نفس الحكم (إِنَّمَا يَصح) حَقِيقَة (فِي) الْكَلَام (النَّفْسِيّ والمجعول جِنْسا) فِي التعاريف الْمَذْكُورَة (اللَّفْظ) لتصريحهم بِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْجِنْس الْمَذْكُور (جعل دَالا لنا، والنفسي مَدْلُول) عَلَيْهِ بِهِ (وَأَيْضًا يدْخل قَول الْعدْل نسخ) حكم كَذَا فِي التعاريف الْمَذْكُورَة لصدقها عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بنسخ فَلَا تكون مطردَة (وَيخرج) عَنْهَا (فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقد يكون النّسخ بِهِ فَلَا تكون منعكسة (وَأجِيب بِأَن المُرَاد) بِالدَّال فِي التعاريف (الدَّال بِالذَّاتِ) أَي بِاعْتِبَار الذَّات لَا بِوَاسِطَة مَا يفهم مِنْهُ (وهما) أَي قَول الْعدْل وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (دَلِيلا ذَلِك، لَا هُوَ) أَي الدَّال بِالذَّاتِ (وَخص الْغَزالِيّ بورود اسْتِدْرَاك) قَوْله على وَجه الخ) لِأَن مَا قصد بِهِ إِخْرَاجه وَقد عَرفته آنِفا غير دَاخل فِي الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت إِلَى آخِره إِذْ لم يثبت الصَّوْم بعد الْغُرُوب وَلم يظْهر لَهُ فَائِدَة أُخْرَى (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْقَيْد الْمَذْكُور (احْتِرَاز عَن قَول الْعدْل لِأَنَّهُ) أَي قَول الْعدْل (لَيْسَ كَذَلِك) أَي لولاه لَكَانَ ثَابتا (لِأَن الِارْتفَاع) للْحكم لَيْسَ بقول الْعدْل بل (بقول الشَّارِع قَالَه هُوَ) أَي الْعدْل (أَولا) أَي أَو لم يقلهُ (والتراخي لإِخْرَاج الْمُقَيد بالغاية) وَنَحْوهَا من المخصصات الْمُتَّصِلَة (وَلَا يخفى أَن صِحَّته) أَي هَذَا الْجَواب (توجب اعْتِبَار قَول الْعدْل دَاخِلا) فِي الْخطاب الدَّال إِلَى آخِره، إِذْ لَا يحْتَرز عَمَّا لَيْسَ بداخل، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد الدَّال بِالذَّاتِ فَلَا يكون دَاخِلا(3/180)
(فَلَا ينْدَفع) النَّقْض بقوله الْعدْل (عَن) التعريفين (الآخرين) الأول وَالثَّالِث لإيجابه حمل الدَّال على أَعم مِمَّا يكون بِالذَّاتِ (وَلَو صَحَّ ذَلِك) أَي رفع الإيرادين عَنْهُمَا (بادعاء أَنه) أَي الدَّال بِالذَّاتِ هُوَ (الْمُتَبَادر من الدَّال لزم الِاسْتِدْرَاك) الْمَذْكُور على الْغَزالِيّ فدار الْأَمر بَين دُخُول قَول الْعدْل فِي صدر التعاريف الثَّلَاثَة وَيلْزمهُ الِاسْتِدْرَاك وَبَين دُخُوله وَعدم اندفاع الْبَعْض بقول الْعدْل عَن التعريفين (ويندفع قَول) الْعدْل (الرَّاوِي) نسخ كَذَا (عَن (الثَّالِث) وَهُوَ النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم مَعَ تراخيه عَن مورده (أَيْضا) أَي كَمَا ينْدَفع بِإِرَادَة الدَّال بِالذَّاتِ (بِأَنَّهُ) أَي قَوْله (لَيْسَ بِنَصّ فِي) الْمَعْنى (الْمُتَبَادر) مِنْهُ لما فِيهِ من الِاحْتِمَال، إِن أَرَادَ بِالنَّصِّ مَا يُقَابل الظَّاهِر فكونه لَيْسَ بِنَصّ فِيهِ على الْإِطْلَاق مَمْنُوع، وَإِن أَرَادَ بِهِ مَا يُقَابل الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس: وَهُوَ الْكتاب وَالسّنة، وَقَول الرَّاوِي لَيْسَ مِنْهُمَا فَقَوله فِي الْمُتَبَادر يَأْبَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مَعْنَاهُ بِاعْتِبَار مَا هُوَ الْمُتَبَادر من لفظ النَّص، وَقد يُقَال مُرَاده أَن الرَّاوِي قد يظنّ أَن الحكم مَنْسُوخا وَلَيْسَ كَذَلِك فِي الْوَاقِع (وَذكرهمْ) أَي الْفُقَهَاء (الِانْتِهَاء) فِي تَعْرِيف النّسخ (دون الرّفْع) كَمَا فِي الثَّالِث (إِن كَانَ لظُهُور فَسَاده) أَي ذَلِك الرّفْع (إِذْ لَا يرْتَفع الْقَدِيم لم يفد) ذكر الِانْتِهَاء (لِأَنَّهُ) أَي الرّفْع (لَازم الِانْتِهَاء) لِأَنَّهُ إِذا انْتهى ارْتَفع، على أَن الْقَدِيم كَمَا لَا يرْتَفع لَا يَنْتَهِي، وَإِن أُرِيد انْتِهَاء تعلقه فَكَذَلِك الرّفْع (وَإِن) كَانَ ذكرهم إِيَّاه (لِاتِّفَاق اختيارهم عبارَة أُخْرَى) لَا لقصد ذَلِك: يَعْنِي قصدُوا تعبيرا آخر فَوَقع فِيهِ ذكر الِانْتِهَاء اتِّفَاقًا (فَلَا بَأْس) إِذْ لَا حجر فِي ذَلِك.
مسئلة
(أجمع أهل الشَّرَائِع على جَوَازه) أَي النّسخ عقلا (ووقوعه) نسخا (وَخَالف غير العيسوية من الْيَهُود فِي جَوَازه ففرقة) وهم الشمعونية مِنْهُم ذَهَبُوا إِلَى امْتِنَاعه (عقلا، وَفرْقَة) هم العنانية إِلَى امْتِنَاعه (سمعا) أَي نصا لَا عقلا، واعترف بِجَوَازِهِ عقلا وسمعا العيسوية مِنْهُم وهم أَصْحَاب أبي عِيسَى الْأَصْفَهَانِي المعترفون ببعثه نَبيا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني إِسْمَاعِيل خَاصَّة وهم الْعَرَب، لَا إِلَى الْأُمَم كَافَّة (و) خَالف (أَبُو مُسلم الْأَصْفَهَانِي) المعتزلي الملقب بِالْحَافِظِ واسْمه مُحَمَّد ابْن بَحر، وَقيل ابْن عمر، وَقيل هُوَ عَمْرو بن يحيى وَهُوَ مَعْرُوف بِالْعلمِ ذُو تَأْلِيفَات كَثِيرَة مَا بَين تَفْسِير وَغَيره (فِي وُقُوعه فِي شَرِيعَة وَاحِدَة) وَحكى الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه إِنْكَاره نسخ شَيْء من الْقُرْآن لِأَنَّهُ تَعَالَى وصف كِتَابه بِأَنَّهُ - {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} - فَلَو نسخ بعضه لبطل وَأجَاب الْبَيْضَاوِيّ بِأَن الضَّمِير لمجموع الْقُرْآن، وَهُوَ لَا ينْسَخ اتِّفَاقًا، وَفِي(3/181)
الْمَحْصُول مَعْنَاهُ لم يتقدمه من الْكتب مَا يُبطلهُ وَلَا يَأْتِي بعده مَا يُبطلهُ وَأجَاب آخَرُونَ بِأَنا لَا نسلم أَن النّسخ إبِْطَال، سلمنَا أَنه إبِْطَال، لَكِن نمْنَع أَن هَذَا الْإِبْطَال بَاطِل: بل هُوَ حق - يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت -. (لنا لَا يلْزم قطعا مِنْهُ) أَي النّسخ (محَال عَقْلِي إِن لم تعْتَبر الْمصَالح) أَي رِعَايَة جلب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة فِي التكاليف (فَظَاهر) عدم لُزُومه، إِذْ على ذَلِك التَّقْدِير لَا يقْصد مِنْهَا إِلَّا الِابْتِلَاء وَالله تَعَالَى يفعل الله مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد من غير اعْتِبَار مصلحَة فِي حكمه (وَإِن) اعْتبر الْمصَالح فِيهَا (فلاختلافها) أَي الْمصَالح (بالأوقات) أَي بِحَسب اختلافها كشرب الدَّوَاء نَافِع فِي وَقت ضار فِي آخر (فيختلف حسن الشَّيْء وقبحه) باخْتلَاف الْأَوْقَاف (وَالْأَحْوَال) مَعْطُوف على الْأَوْقَات أَي وباختلاف الْأَحْوَال فاختلاف الْمصَالح تَارَة ينشأ من اخْتِلَاف الْأَوْقَات، وَأُخْرَى باخْتلَاف أَحْوَال الْمُكَلّفين، فاختلاف الْأَوْقَات لذَلِك بِدُونِ الْأَحْوَال غير ظَاهر (فَبَطل قَوْلهم) أَي مانعي جَوَازه عقلا (النَّهْي يَقْتَضِي الْقبْح وَالْوُجُوب الْحسن فَلَو صَحَّ) كَون الْفِعْل الْوَاحِد مَنْهِيّا مَأْمُورا بِهِ (حسن وقبح) وَهُوَ محَال لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع الضدين، وَوجه الْبطلَان أَن الْمحَال اجْتِمَاع الْحسن والقبح من جِهَة وَاحِدَة، وَعند اخْتِلَاف الْجِهَة لَا مَحْذُور فِيهِ كَمَا إِذا كَانَ فِي قتل شخص صَلَاح للْعَالم فَإِن قَتله قَبِيح بِالنّظرِ إِلَى ذَاته حسن بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاح الْعَالم (وَلِأَنَّهُ) أَي نسخ الحكم (إِن) كَانَ (لحكمة ظَهرت) لَهُ تَعَالَى (بعد عَدمه) أَي عدم ظُهُورهَا عِنْد شرع الحكم الأول (فبداء) بِالْمدِّ أَي ظُهُور بعد الخفاء، وَهُوَ محَال عَلَيْهِ تَعَالَى لاستلزامه الْعلم بعد الْجَهْل (أَولا) لحكمة ظَهرت لَهُ تَعَالَى (وَهُوَ) أَي مَا لَا يكون لحكمة من الْأَحْكَام (الْعَبَث) وَهُوَ فعل الشَّيْء لَا لغَرَض صَحِيح، وَهُوَ محَال على الله سُبْحَانَهُ (وَإِنَّمَا يكون) أَي يتَحَقَّق مَا ذكرُوا (لَو نسخ مَا حسن) لنَفسِهِ (وقبح لنَفسِهِ كالإيمان وَالْكفْر) وَمحل النزاع مَا حسن وقبح لغيره، ثمَّ هَذَا كُله عِنْد غير الأشاعرة (أما الأشاعرة فيمنعون وجوده) أَي وجود كل من الْحسن والقبح عقلا، فالحسن عِنْدهم مَا حسنه الشَّرْع والقبيح مَا قبحه فالمنسوخ كَانَ حسنا فِي وقته والناسخ صَار حسنا فِي وقته (وَأما الْوُقُوع فَفِي التَّوْرَاة أَمر آدم بتزويج بَنَاته من بنيه) أخرج الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس كَانَ لَا يُولد لآدَم غُلَام إِلَّا ولدت مَعَه جَارِيَة فَكَانَ يُزَوّج توءمة هَذَا للْآخر وتوءمة الآخر لهَذَا، وَقد حرم فِي شَرِيعَة من بعده من الْأَنْبِيَاء اتِّفَاقًا وَهَذَا هُوَ النّسخ (وَفِي السّفر الأول) من التَّوْرَاة (قَالَ تَعَالَى لنوح) عِنْد خُرُوجه من الْفلك (إِنِّي جعلت كل دَابَّة حَيَّة مأكلا لَك ولذريتك) وأطلقت ذَلِك أَي أبحت كنبات العشب مَا خلا الدَّم فَلَا تأكلوه (ثمَّ حرم مِنْهَا) أَي من الدَّوَابّ على من بعده (على لِسَان مُوسَى كثير) مِنْهَا كَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ السّفر الثَّالِث من التَّوْرَاة. (وَأما الِاسْتِدْلَال) عَلَيْهِم(3/182)
(بِتَحْرِيم السبت) أَي الْعَمَل الدنيوي كالاصطياد فِيهِ فِي شَرِيعَته عَلَيْهِ السَّلَام (بعد إِبَاحَته) قبل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام (وَوُجُوب الْخِتَان عِنْدهم) أَي الْيَهُود (يَوْم الْولادَة) وَقيل فِي ثامن يَوْمهَا (بعد إِبَاحَته فِي مِلَّة يَعْقُوب) أَو فِي شَرِيعَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَي وَقت أَرَادَ الْمُكَلف فِي الصغر وَالْكبر، وَإِبَاحَة الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي شَرِيعَة يَعْقُوب، وبتحريمه عِنْد الْيَهُود (فَيدْفَع بِأَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيْسَ نسخا) وَإِبَاحَة هَذِه الْأُمُور كَانَت بِالْأَصْلِ فَلَا يكون رَفعهَا نسخا (واحكم بِالْإِبَاحَةِ وَإِن كَانَ حكما بتحقق كَلمته النفسية) وَهُوَ مَضْمُون أَنه مُبَاح وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى - {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} - أَي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَهُوَ مَا فِيهِ كَلِمَاته الدَّالَّة على كَلمته النفسية (وَهِي) أَي كَلمته النفسية (الحكم) بِمَعْنى خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (لَكِن) الحكم (الشَّرْعِيّ أخص مِنْهُ) أَي من الحكم بِمَعْنى الْخطاب الْمَذْكُور، وَقَالَ الشَّارِح أَي من الحكم بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّة (وَهُوَ) أَي الحكم الشَّرْعِيّ (مَا علق بِهِ خطاب) أَي خطابه تَعَالَى (فِي شَرِيعَة) من الشَّرَائِع أَرَادَ بالحكم هَهُنَا مُتَعَلق الحكم بِمَعْنى الْخطاب، وَهُوَ كَيْفيَّة فعل الْمُكَلف من وجوب أَو حُرْمَة (وَبَعض الْحَنَفِيَّة التزموه) أَي رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة (نسخا لِأَن الْخلق لم يتْركُوا سدى) أَي مهملين غير مأمورين وَلَا منهيين (فِي وَقت) من الْأَوْقَات (فَلَا إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيم قطّ إِلَّا بشرع فَمَا يذكر من حَال الْأَشْيَاء) يَعْنِي كَيْفيَّة أَفعَال الْمُكَلّفين (قبل الشَّرْع) فَيُقَال الأَصْل فِيهَا الْإِبَاحَة مثلا (فرض) أَي أَمر ذكر على سَبِيل الْفَرْض، وَالْوَاقِع فِي نفس الْأَمر أَن الْخلق فِي كل وَقت مأمورون بأَشْيَاء ومنهيون عَن أَشْيَاء ومخيرون فِيمَا سواهُمَا (وَأما) النّسخ (فِي شَرِيعَة) وَاحِدَة (فوجوب التَّوَجُّه إِلَى الْبَيْت) أَي فمثاله وجوب الِاسْتِقْبَال إِلَى الْكَعْبَة شرفها الله تَعَالَى بقوله - {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} - الْآيَة بعد أَن كَانَ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا (وَنسخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين) الثَّابِتَة بقوله تَعَالَى - {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين} - فنسخ الله من ذَلِك - {والأقربين} -. فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ المَال للْوَلَد، وَكَانَت الْوَصِيَّة للْوَالِدين فنسخ الله من ذَلِك مَا أحب فَجعل للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجعل لِلْأَبَوَيْنِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس، وَسَيَأْتِي ذكر النَّاسِخ فِي مسئلة السّنة بِالْقُرْآنِ (وَكثير) وستقف على كثير مِنْهُ (لَا يُنكره إِلَّا مكابر أَو جَاهِل بالوقائع) . قَالَ (المانعون سمعا لَو نسخت شَرِيعَة مُوسَى لبطل قَوْله) أَي قَول مُوسَى أَو قَوْله تَعَالَى على زعمهم (هَذِه شَرِيعَة مُؤَبّدَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض أُجِيب بِمَنْع أَنه) أَي هَذَا القَوْل (قَالَه) بل هُوَ مُخْتَلف فِيهِ فضلا عَن كَونه متواترا، وَكَونه فِي التَّوْرَاة الْآن لَا ينفع لوُقُوع التَّغْيِير والتبديل فِيهَا. قيل أَن(3/183)
أول من اختلقه للْيَهُود ابْن الراوندي ليعارض بِهِ رِسَالَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَإِلَّا) لَو قَالَه (لقضت الْعَادة بمحاجتهم) أَي الْيَهُود (بِهِ) أَي بِهَذَا القَوْل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحرصهم على معارضته (وشهرته) أَي ولقضت شهرة الْحجَّاج لَو وَقع لتوفر الدَّوَاعِي على نقلهَا، ثمَّ يمْنَع كَونه متواترا مَعَ كَونه فِي التَّوْرَاة (لِأَنَّهُ لَا تَوَاتر فِي نقل التَّوْرَاة الكائنة الْآن لِاتِّفَاق أهل النَّقْل عَن إحراق بخْتنصر) فِي الْقَامُوس بخْتنصر بِالتَّشْدِيدِ أَصله بوخت وَمَعْنَاهُ ابْن وَنصر كبقم صنم، وَكَانَ وجد عِنْد الصَّنَم وَلم يعرف لَهُ أَب فنسب إِلَيْهِ. حَرْب الْقُدس (أسفارها) فِي الْقَامُوس السّفر الْكتاب الْكَبِير أَو جُزْء من أَجزَاء التَّوْرَاة (و) أَنه (لم يبْق من يحفظها، وَذكر أَحْبَارهم أَن عُزَيْرًا ألهمها فكتبها وَدفعهَا إِلَى تِلْمِيذه لِيَقْرَأهَا عَلَيْهِم) فَأَخَذُوهَا من التلميذ، وَبقول الْوَاحِد لَا يثبت التَّوَاتُر وَبَعْضهمْ زعم أَن التلميذ زَاد فِيهَا وَنقص (وَلذَلِك لم تزل نسخهَا الثَّلَاث) الَّتِي بيد العنانية وَالَّتِي بيد السامرية وَالَّتِي بيد النَّصَارَى (مُخْتَلفَة فِي أَعمار الدُّنْيَا) فَفِي نُسْخَة السامرية زِيَادَة ألف سنة وَكسر على مَا فِي نُسْخَة العنانية وَفِي الَّتِي بيد النَّصَارَى زِيَادَة ألف وثلثمائة سنة وفيهَا الْوَعْد بِخُرُوج الْمَسِيح وبخروج الْعَرَبِيّ صَاحب الْجمل وارتفاع تَحْرِيم السبت عِنْد خروجهما. قَالَ الشَّارِح كَذَا ذكر غير وَاحِد من مَشَايِخنَا. وَفِي تَتِمَّة الْمُخْتَصر فِي أَخْبَار الْبشر نسخ التَّوْرَاة ثَلَاث السامرية والعبرانية وَهِي الَّتِي بأيدي الْيَهُود إِلَى زَمَاننَا وَعَلَيْهَا اعتمادهم وكلتاهما فَاسِدَة لأنباء السامرية بِأَن من هبوط آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الطوفان ألف سنة وثلاثمائة وَسبع سِنِين وَكَانَ الطوفان لستمائة سنة خلت من عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام وعاش آدم تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ سنة بِاتِّفَاق فَيكون نوح على حكم هَذِه التَّوْرَاة أدْرك جَمِيع آبَائِهِ إِلَى آدم، وَمن عمر آدم فَوق مِائَتي سنة وَهُوَ بَاطِل بِاتِّفَاق، ولأنباء العبرانية بِأَن بَين هبوط آدم الطوفان ألفي سنة وَخَمْسمِائة وستا وَخمسين سنة، وَبَين الطوفان وولادة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِائَتي سنة واثنتين وَتِسْعين سنة وعاش نوح بعد الطوفان ثَلَاثمِائَة وَخمسين سنة بِاتِّفَاق فَيكون نوح أدْرك من عمر إِبْرَاهِيم ثَمَانِيَة وَخمسين سنة، وَهَذَا بَاطِل بالِاتِّفَاقِ لِأَن قوم هود أمة نجت بعد نوح، وَأمة صَالح نجت بعد أمة هود، وَإِبْرَاهِيم وَأمته بعد أمة صَالح بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى خَبرا عَن هود فِيمَا يعظ بِهِ قومه وهم عَاد - {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح} - وَقَوله تَعَالَى فِيمَا يعظ بِهِ صَالح قومه وهم ثَمُود - {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد} -. وَالنُّسْخَة الثَّالِثَة اليونانية وَذكر أَنَّهَا اخْتَارَهَا محققو المؤرخين، وَهِي توراة نقلهَا اثْنَان وَسَبْعُونَ حبرًا قبل ولادَة الْمَسِيح بقريب ثلثمِائة سنة لبطليموس اليوناني بعد الْإِسْكَنْدَر. قَالَ الشَّارِح، وَإِن كَانَت بِهَذِهِ المثابة فَلم يثبت تواترها، وَقَالَ الطوفي فِيهَا نُصُوص كَثِيرَة وَردت مؤيدة ثمَّ تبين أَن المُرَاد بهَا التَّوْقِيت بِمدَّة مقدرَة. (قَالُوا) أَي مانعو جَوَاز النّسخ سمعا وعقلا الحكم (الأول إِمَّا مُقَيّد بغاية) أَي(3/184)
بِوَقْت مَحْدُود معِين (فالمستقبل) أَي فَالْحكم الَّذِي ورد بِخِلَاف الأول (بعده لَيْسَ نسخا) للْأولِ (إِذْ لَيْسَ رفعا) لَهُ قطعا لِأَنَّهُ انْتهى بِنَفسِهِ بانتهاء وقته الْمعِين (أَو) مُقَيّد (بتأبيد فَلَا رفع) يتَصَوَّر فِيهِ (للتناقض) على تَقْدِير الرّفْع لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ الْإِخْبَار بتأبيد الحكم وبنفيه. فَإِن قلت التَّنَاقُض فِي الْأَخْبَار والحكمين سيان. قلت لكنهما يستلزمان اخبارين لِأَن لَازم افْعَل كَذَا كَونه مَطْلُوب الْفِعْل للشارع، ولازم الْفِعْل كَونه مَطْلُوب التّرْك لَهُ (ولتأديته) أَي جَوَاز نسخه (إِلَى تعذر الْإِخْبَار بِهِ) بالتأبيد على وَجه يُوجب الْعلم بالتأبيد فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ مَا من عبارَة تذكر إِلَّا وَتقبل النّسخ وَاللَّازِم بَاطِل اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ غير مُتَعَذر إِجْمَاعًا (و) إِلَى (نفي الوثوق) بتأبيد حكم مَا (فَلَا يجْزم بِهِ) أَي بالتأبيد (فِي نَحْو الصَّلَاة) أَي فِي فرضيتها وفرضية الصَّلَاة إِلَى غير ذَلِك بل (وشريعتكم) أَي وَلَا نجزم بتأبيدها أَيْضا لجَوَاز نسخهَا (الْجَواب إِن عني بالتأبيد إِطْلَاقه) أَي الحكم عَن التَّوْقِيت والتأبيد (فَلَا يمْتَنع) جَوَاز نسخه (إِذْ لَا دلَالَة لفظية عَلَيْهِ) أَي التَّأْبِيد المستلزم امْتنَاع جَوَاز نسخه إِذْ اللَّفْظ سَاكِت عَن التَّأْبِيد وَلَيْسَ بِلَا لَام لَا دلَالَة لفظية لِأَن الأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الْبَقَاء فَمن هَذَا الْوَجْه يفهم التَّأْبِيد (بل) يُقَال على سَبِيل الْجَزْم من غير تردد (أَنه) أَي النّسخ (مَشْرُوع) فِيمَا شَأْنه هَذَا (أَو) عني بالتأبيد (صَرِيحه) أَي التَّأْبِيد (فَكَذَلِك) أَي لِامْتِنَاع نسخه (أَن جعل) التَّأْبِيد (قيد الْفِعْل الْوَاجِب لَا وُجُوبه) قَالَ الشَّارِح إِذْ لَا تنَاقض بَين دوَام الْفِعْل وَعدم دوَام الحكم الْمُتَعَلّق بِهِ كَصَوْم رَمَضَان أبدا فَإِن التَّأْبِيد قيد للصَّوْم الَّذِي هُوَ الْفِعْل الْوَاجِب، لَا لإيجابه على الْمُكَلف لِأَن الْفِعْل مِمَّا يعْمل بمادته لَا بهيئته وَدلَالَة الْأَمر على الْوُجُوب بالهيئة لَا بالمادة فَقَوله لَا تنَاقض إِلَى آخِره صَحِيح فتجويز الْعقل أَن تدوم الْأَفْعَال وَلَا يَدُوم وُجُوبهَا والتناقض إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد مورد النَّفْي والإيجاب. وَأما قَوْله فَإِن التَّأْبِيد إِلَى آخِره فأصله فِي التَّلْوِيح حَيْثُ قَالَ لَا مُنَافَاة بَين إِيجَاب فعل مُقَيّد بِزَمَان وَأَن لَا يُوجد التَّكْلِيف فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا يُقَال صم غَدا ثمَّ ينْسَخ قبله وَذَلِكَ كَأَن يُكَلف بِصَوْم غَد ثمَّ يَمُوت قبل غَد فَلَا يُوجد التَّكْلِيف بِهِ. وتحقيقه أَن قَوْله صم أبدا يدل على أَن صَوْم كل شهر من شهور رَمَضَان إِلَى الْأَبَد وَاجِب فِي الْجُمْلَة من غير تَقْيِيد الْوُجُوب بالاستمرار إِلَى الْأَبَد انْتهى. أَقُول وَمَعَ هَذَا التَّحْقِيق الْبَالِغ مَا انْقَطع مَادَّة الْإِشْكَال بالكيلة لِأَن قَوْله صم حَقِيقَته طلب الصَّوْم الطّلب، مَدْلُول الْهَيْئَة وَالصَّوْم مَدْلُول الْمَادَّة والظرف الْمُتَعَلّق بِالْفِعْلِ ظرفيته بِالنّظرِ إِلَى النِّسْبَة الملحوظة فِي ذَلِك الْفِعْل وَالنِّسْبَة هَهُنَا طلبية والظرف لَيْسَ مظروفه حُدُوث(3/185)
ذَلِك الطّلب وصدوره عَن الطَّالِب بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مظروف النِّسْبَة الإيقاعية الَّتِي قصد الطَّالِب صدورها عَن الْمَطْلُوب فِيهِ عِنْد الِامْتِثَال فقد طلب مِنْهُ على سَبِيل الْإِيجَاب صوما مستمرا فَمَا معنى عدم تَقْيِيد الْإِيجَاب بالتأبيد، نعم يَصح أَن يُقَال طلب الِاسْتِمْرَار ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك الطِّبّ، وَلَا يلْزم مِنْهُ التَّنَاقُض غير أَن مَانع جَوَاز النّسخ يَقُول: لَا يَلِيق بِجَانِب الْحق سُبْحَانَهُ، أَن يطْلب الِاسْتِمْرَار ثمَّ يرجع، وَله أَن يَقُول طلبه الِاسْتِمْرَار يدل على أَنه مُقْتَضى الْحِكْمَة والنسخ يدل على أَنه لَيْسَ مُقْتَضى الْحِكْمَة، وَهَذَا تنَاقض وَلَا حَاجَة إِلَى الْتِزَام كَون التَّأْبِيد قيدا للْحكم الأول وَأما قَول الشَّارِح الْعَامِل هُوَ مَادَّة الْفِعْل لَا صورته فَلَا طائل تَحْتَهُ كَمَا لَا يخفى على من ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد (وَإِن لزم) كَون صَرِيح التَّأْبِيد (قيدا لَهُ) أَي للْحكم (فمختلف) فِي جَوَاز نسخه، فَمنهمْ من أجَازه أَيْضا، وَمِنْهُم من مَنعه كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه (وَلَا يُفِيد) هَذَا الترديد عدم جَوَاز النّسخ (لجوازه) أَي النّسخ (بِمَا تقدم) من الدَّال على جَوَازه ثمَّ وُقُوعه فالتشكيك فِيهِ سفسطة، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح هَهُنَا زِيَادَة وَهِي قَوْله (وَتَسْلِيم كَون الحكم الْمُقَيد) بالتأبيد (صَرِيحًا لَا يجوز نسخه لَا يفيدهم) أَي مانعي جَوَاز النّسخ (النَّفْي الْكُلِّي) لجوازه (الَّذِي هُوَ مطلوبهم مَعَ أَن الحكم الْمُقَيد بالتأبيد أقل من الْقَلِيل) انْتهى (قَالُوا) أَي مانعو جَوَازه سمعا وعقلا (أَيْضا: لَو رفع) تعلق الحكم (فإمَّا) أَن يكون رَفعه (قبل وجوده) أَي الْفِعْل امتثالا (فَلَا ارْتِفَاع، أَو) يكون رَفعه (بعده) أَي الْفِعْل (أَو) يكون (مَعَه) أَي الْفِعْل (فيستحيل) رَفعه لِاسْتِحَالَة رفع مَا وجد وانقضى، لِأَن ارْتِفَاع الْمَعْدُوم محَال كَمَا يَسْتَحِيل كَونه مرتفعا وَكَونه متحققا (وَلِأَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا عَالم باستمراره) أَي بدوام الحكم الْمَنْسُوخ (أبدا فَظَاهر) أَنه لَا نسخ، وَإِلَّا يلْزم وُقُوع خلاف علم الله وَهُوَ محَال، لِأَنَّهُ جهل (أَولا) يعلم استمراره أبدا (فَهُوَ) أَي الحكم الْمَنْسُوخ (فِي علمه مُؤَقّت فينتهي) الحكم (عِنْده) أَي عِنْد ذَلِك الْوَقْت (وَالْقَوْل الَّذِي يَنْفِيه) أَي ذَلِك الحكم بعد ذَلِك الْوَقْت (لَيْسَ رفعا) لحكم ثَابت فَلَا يكون نسخا (وَالْجَوَاب عَن الأول أَنه) أَي قَوْلكُم لَو رفع، فَأَما إِلَى آخِره (ترديد فِي الْفِعْل) الَّذِي تعلق بِهِ الحكم (لَا) فِي (الحكم) الَّذِي هُوَ مَحل النزاع، إِذْ النّسخ ارْتِفَاع الحكم لَا الْفِعْل وَبطلَان ارْتِفَاع الْفِعْل لَا يسْتَلْزم بطلَان ارْتِفَاع الحكم (وَلَو أجْرى) الترديد (فِيهِ) أَي فِي الحكم (قُلْنَا المُرَاد) بالنسخ (انْقِطَاع تعلقه) أَي الحكم، يَعْنِي كَانَ تعلقه بِفعل الْمُكَلف مستمرا إِلَى زمَان النَّاسِخ وَعِنْده انْقَطع وارتفع مَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يرْتَفع لَوْلَا النَّاسِخ (كَمَا قدمْنَاهُ فِي التَّعْرِيف ونختار علمه) أَي أَنه تَعَالَى علم اسْتِمْرَار الحكم، الْمَنْسُوخ (مؤقتا ويتضمن) علمه بِهِ مؤقتا (علمه بِالْوَقْتِ الَّذِي ينسخه فِيهِ) وَعلمه(3/186)
بارتفاعه بالنسخ لَا يمنعهُ بل يُثبتهُ ويحققه (فَكيف يُنَافِيهِ) .
مسئلة
(الِاتِّفَاق على جَوَاز النّسخ) للْحكم (بعد التَّمَكُّن) من الْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ الحكم بعد علمه بتكليفه بِهِ (بِمُضِيِّ مَا يسمع) الْفِعْل (من الْوَقْت الْمعِين لَهُ) أَي للْفِعْل (شرعا إِلَّا مَا عَن الْكَرْخِي) من أَنه لَا يجوز إِلَّا بعد حَقِيقَة الْفِعْل سَوَاء مضى من الْوَقْت مَا يسمع الْفِعْل أَولا، كَذَا ذكره الشَّارِح وَلَا يخفى مَا فِيهِ: من أَنه لَا يتَصَوَّر تحقق حَقِيقَته من غير أَن يمْضِي مَا يَسعهُ الْوَقْت: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مُرَاده أَنه إِن لم تتَحَقَّق حَقِيقَته لَا يجوز سَوَاء إِلَى آخِره (وَاخْتلف فِيهِ) أَي فِي النّسخ (قبله) أَي قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (بِكَوْنِهِ) أَي بِوُقُوعِهِ (قبل) دُخُول (الْوَقْت) الْمعِين للْفِعْل (أَو بعده) أَي بعد دُخُوله (قبل) مُضِيّ (مَا يسع) الْفِعْل مِنْهُ سَوَاء (شرع) فِي الْفِعْل (أَو لَا كصم غَدا وَرفع) وجوب صَوْمه (قبله) أَي الْغَد (أَو) رفع (فِيهِ) أَي فِي الْغَد (وَإِن شرع) فِي صَوْمه (قبل التَّمام) لصيامه (فالجمهور من الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم) كالشافعية والأشاعرة قَالُوا (نعم) يجوز نسخه (بعد التَّمَكُّن من الِاعْتِقَاد) لحقيقته (وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض الْحَنَابِلَة والكرخي) والجصاص والماتريدي والدبوسي (والصيرفي لَا) يجوز وَإِن كَانَ بعد التَّمَكُّن من الِاعْتِقَاد (لنا لَا مَانع عَقْلِي وَلَا شَرْعِي) من ذَلِك (فَجَاز) جَوَازًا عقليا شَرْعِيًّا (و) أما الْوُقُوع فقد (نسخ) الشَّارِع (خمسين) من الصَّلَوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة بِفَرْض الْخمس، وَيحْتَمل أَن يكون نسخ على صِيغَة الْمصدر مُضَافا إِلَى خمسين مَعْطُوفًا على لَا مَانع، وَالْمرَاد من نسخ الْخمسين نسخ مَا زَاد على الْخمس وَهُوَ خمس وَأَرْبَعُونَ كَمَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَمن ذهب إِلَى نسخ مَجْمُوع الْخمسين لم يَجْعَل هَذِه الْخَمْسَة جُزْءا مِنْهَا (فِي) لَيْلَة (الْإِسْرَاء وإنكار الْمُعْتَزلَة إِيَّاه) أَي نسخ الْخمسين بعد وُجُوبهَا، وَكَذَا إِنْكَار جمهورهم الْمِعْرَاج (مَرْدُود بِصِحَّة النَّقْل) كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا مَعَ عدم إِحَالَة الْعقل لَهُ فإنكاره بِدعَة وضلالة. وَأما إِنْكَار الْإِسْرَاء من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَكفر ثمَّ هَذَا يَقْتَضِي جَوَاز النّسخ، بل وُقُوعه قبل التَّمَكُّن من الِاعْتِقَاد أَيْضا لِأَن المتمكن مِنْهُ فرع الْعلم بِوُجُوب الْخمسين، وَالْأمة لم يعلموها، كَذَا قيل، وَهُوَ مَدْفُوع بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُكَلّفين وَقد علم ذَلِك وَهُوَ الأَصْل، وَالْأمة تبع لَهُ (وقلولهم) أَي المانعين (لَا فَائِدَة) فِي التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ، لِأَن الْعَمَل بِالْبدنِ هُوَ الْمَقْصُود من شرع الْأَحْكَام العملية (مُنْتَفٍ بِأَنَّهَا) أَي الْفَائِدَة فِي التَّكْلِيف حِينَئِذٍ (الِابْتِلَاء للعزم) على الْفِعْل إِذا حضر وقته وتهيأت أَسبَابه (وَوُجُوب(3/187)
الِاعْتِقَاد) لحقيته، وَلَا نسلم أَن الْعَمَل وَحده هُوَ الْمَقْصُود، وعزيمة الْقلب قد تصير قربَة بِلَا فعل كَمَا دلّ عَلَيْهِ مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من هم بحسنة فَلم يعملها كتبهَا الله عِنْده حَسَنَة كَامِلَة ": إِلَى غير ذَلِك، وَأعظم الطَّاعَات وَهُوَ الْإِيمَان من أَعمال الْقلب الَّذِي هُوَ رَئِيس الْأَعْضَاء (وَأما الحاقه) أَي النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (بِالرَّفْع) أَي رفع الحكم (للْمَوْت) قبل التَّمَكُّن من فعل مَا كلف بِهِ، فَكَمَا أَن ذَلِك لَا يعد تناقضا: فَكَذَا النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (وَمَا قيل كل رفع قبل الْفِعْل) إِشَارَة إِلَى مَا فِي الشَّرْح العضدي من رد الْمُعْتَزلَة والصيرفي حَيْثُ منعُوا جَوَاز النّسخ قبل وَقت الْفِعْل: من أَن كل مَا نسخ قبل وَقت الْفِعْل، وَقد اعترفتم بِثُبُوت الْفِعْل فيلزمكم تجويزه قبل الْفِعْل بَيَانه أَن التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ بعد وقته محَال، لِأَنَّهُ إِن فعل أطَاع، وَإِن ترك عصى فَلَا نسخ، فَكَذَلِك فِي وَقت فعله، لِأَنَّهُ فعل وأطاع بِهِ فَلَا يُمكن إِخْرَاجه عَن كَونه طَاعَة بعد تحققها (فليسا بِشَيْء لتقييد الأول) أَي الرّفْع بِالْمَوْتِ (عقلا) أَي بِالْعقلِ، إِذْ الْعقل قَاض بِأَن طلب الْفِعْل من الْمُكَلف مُقَيّد بِشَرْط الْحَيَاة: فَكَأَنَّهُ قَالَ افْعَل فِي وَقت كَذَا أَن تمت فِي ذَلِك الْوَقْت، وَاعْتِبَار مثل هَذَا التَّقْيِيد فِي الثَّانِي بِأَن يُقَال المُرَاد إِن لم ينْسَخ بعيد جدا. وَقَالَ الشَّارِح إِذْ الْعقل قَاض بِأَن لَا تَكْلِيف للْمَيت فَلم يُوجد الْجَامِع: لِأَن الرّفْع بِالْمَوْتِ بِالْعقلِ لَا بِدَلِيل شَرْعِي، وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَاقِع بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَيْسَ المُرَاد بالإلحاق أَن يَجْعَل الرّفْع بِالْمَوْتِ نسخا، بل قِيَاس النّسخ على الرّفْع بِالْمَوْتِ لكَون كل مِنْهُمَا رفعا للْحكم قبل التَّمَكُّن، فَلَا يضر كَون أَحدهمَا بِالْعقلِ وَالْآخر بِدَلِيل شَرْعِي، على أَنه لَا مُنَاسبَة بَين عبارَة الْمَتْن وَبَين شَرحه (لَا مَا قيل) يَعْنِي كَونه لَيْسَ بِشَيْء لما قُلْنَا (من منع تَكْلِيف الْمَعْلُوم مَوته قبل التَّمَكُّن) من الْفِعْل (ليدفع بِأَنَّهُ) أَي تَكْلِيفه (إِجْمَاع) وإلزام الْمُعْتَزلَة حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِهِ مُكَلّفا على مَا ذكره التَّفْتَازَانِيّ (وَالثَّانِي) أَن كل رفع قبل وَقت الْفِعْل (فِي غير) مَحل (النزاع لِأَنَّهُ) أَي الْقَائِل بِالثَّانِي (يُرِيد) بقوله كل نسخ قبل وَقت الْفِعْل (وَقت الْمُبَاشرَة) كَمَا يدل عَلَيْهِ بَيَانه فِي الشَّرْح العضدي على مَا سبق أَيْضا (والنزاع فِي وقته) أَي الْفِعْل (الَّذِي حد لَهُ) أَي قدر وَعين لَهُ شرعا. فِي الشَّرْح الْمَذْكُور مسئلة النّسخ قبل الْفِعْل وَصورتهَا أَن يَقُول حجُّوا هَذِه السّنة، ثمَّ يَقُول قبل دُخُول عَرَفَة: لَا تَحُجُّوا، وَلَا يخفى أَنه لَو أَرَادَ وقته الَّذِي حد لَهُ لما صَحَّ قَوْله كل نسخ قبله، إِذْ قد يكون فِيهِ أَبُو بعده (وَاسْتدلَّ) للمختار (بِقصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَمر) بِذبح وَلَده فَوَجَبَ عَلَيْهِ (ثمَّ ترك) إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ذبحه (فَلَو) كَانَ تَركه لَهُ مَعَ التَّمَكُّن مِنْهُ (بِلَا نسخ عصى) بِتَرْكِهِ لَكِن لم يعْص إِجْمَاعًا (وَأجِيب بِمَنْع وجوب الذّبْح) عَن أَمر لَهُ (بل)(3/188)
رَأْي (رُؤْيا فَظَنهُ) أَي الْوُجُوب ثَابتا كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} - (وَمَا تُؤمر) أَي وَقَول وَلَده لَهُ افْعَل مَا تُؤمر (يَدْفَعهُ) أَي منع وجوب الذّبْح قيل تُؤمر مضارع فَلَا يعود إِلَى مَا مضى فِي الْمَنَام. وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَار الِاسْتِمْرَار والبقاء (مَعَ) لُزُوم (الْإِقْدَام على مَا يحرم) من قصد الذّبْح وترويع الْوَلَد (لولاه) أَي الْوُجُوب الْقطعِي، فَإِن مثل هَذَا الْفِعْل مُمْتَنع شرعا وَعَادَة: وَلَا سِيمَا من الْأَنْبِيَاء، على أَن مَنَام الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِالْأَمر وَالنَّهْي وَحي مَعْمُول بِهِ (وعَلى أصلهم) أَي الْمُعْتَزلَة أَن الْأَحْكَام ثَابِتَة عقلا وَالشَّرْع كاشف عَنْهَا، وَيجب عَلَيْهِ تَعَالَى تَمْكِين الْمُكَلف من فهمها لَا بُد فِي إقدامه على الذّبْح من إِدْرَاكه لوُجُوب عقلا، وَمن تحقق شرع كاشف عَنهُ، وَمن تمكنه من فهم ذَلِك فنسبة الْإِقْدَام إِلَيْهِ بِمُجَرَّد ظن (توريط لَهُ) أَي إِيقَاع لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام (فِي الْجَهْل) فَيمْتَنع) . فِي الشَّرْح العضدي وعَلى أصلهم هُوَ توريط لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجَهْل بِمَا يظْهر أَنه أَمر وَلَيْسَ بِأَمْر وَذَلِكَ غير جَائِز انْتهى: وَهَذَا يحْتَمل وَجها آخر وَهُوَ أَن يكون التوريط من الله تَعَالَى بِأَن مَا يظْهر إِلَى آخِره (وَقَوْلهمْ) أَي الْمُعْتَزلَة (جَازَ التَّأْخِير) للذبح من غير لُزُوم عصيان (لِأَنَّهُ) أَي وُجُوبه (موسع) . فِي الشَّرْح العضدي: وَاسْتدلَّ بِقصَّة إِبْرَاهِيم، وَهِي أَنه أَمر بِذبح وَلَده وَنسخ عَنهُ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل، أما الأول فدليل قَوْله افْعَل مَا تُؤمر وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لم يفعل، فَلَو كَانَ مَعَ حُضُور الْوَقْت لَكَانَ عَاصِيا وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنا لَا نسلم أَنه لَو لم يفعل وَقد حضر الْوَقْت لَكَانَ عَاصِيا لجَوَاز أَن يكون الْوَقْت موسعا فَيحصل التَّمَكُّن وَلَا يعْصى بِالتَّأْخِيرِ ثمَّ ينْسَخ، الْجَواب أما أَولا فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ موسعا لَكَانَ الْوُجُوب مُتَعَلقا بالمستقبل لِأَن الْأَمر بَاقٍ عَلَيْهِ قطعا فَإِذا نسخ عَنهُ فقد نسخ تعلق الْوُجُوب بالمستقبل وَهُوَ الْمَانِع عِنْدهم من النّسخ فقد جَازَ مَا قَالُوا بامتناعه وَهُوَ الْمَطْلُوب انْتهى (فِيهِ) أَي فِي قَوْلهم هَذَا (الْمَطْلُوب) وَهُوَ النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل، لِأَن حَاصِل هَذَا القَوْل تَسْلِيم وجوب الذّبْح ونسخه وَعدم لُزُوم الْعِصْيَان بِالتّرْكِ مَعَ حُضُور الْوَقْت لكَونه موسعا، وَلَا شكّ أَن الْوَقْت الموسع كل جُزْء مِنْهُ مُتَعَلق الْوُجُوب مَا لم يفعل الْوَاجِب، فالجزء الَّذِي وَقع فِيهِ النّسخ مِمَّا تعلق بِهِ الْوُجُوب وَعَدَمه يُوجب النّسخ، والمحذور الَّذِي ذَكرُوهُ على تَقْدِير النّسخ قبل التَّمَكُّن هَذَا بِعَيْنِه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لتَعَلُّقه) أَي الْوُجُوب (بالمستقبل) بِالنّظرِ إِلَى مَا قبل النّسخ من الْأَجْزَاء الَّتِي مَضَت من الْمُسْتَقْبل، وَإِنَّمَا ذكر تعلقه بالمستقبل لِأَنَّهُ المستلزم للتناقض بِخِلَاف الْأَجْزَاء الْمَاضِيَة فَإِنَّهَا مُتَعَلقَة للْوُجُوب فَقَط (وَهُوَ) أَي تعلق الْوُجُوب بالمستقبل (الْمَانِع عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة من النّسخ لَا من حَيْثُ أَنه مُسْتَقْبل بل من حَيْثُ أَنه مَحل للتناقض لما عرفت، وَقَالَ الشَّارِح(3/189)
لاشتراطهم فِي تحقق النّسخ كَون الْمَنْسُوخ وَاجِبا فِي وقته وَتعلق الْوُجُوب بالمستقبل يُنَافِيهِ انْتهى، وَلَا يخفى أَنهم لَو اشترطوا ذَلِك لزم اجْتِمَاع الْوُجُوب وَعَدَمه فِي وَقت وَاحِد وَلزِمَ امْتنَاع النّسخ مُطلقًا بل بامتناعه قبل التَّمَكُّن وَأَيْضًا كَون تعلق الْوُجُوب بالمستقبل منافيا بِكَوْن الْمَنْسُوخ وَاجِبا فِي وقته لَا يظْهر جِهَة سَوَاء أُرِيد بوقته وَقت النّسخ أَو الْوَقْت الْمَحْدُود للمنسوخ، وَذكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن مانعية تعلق الْوُجُوب بالمستقبل من النّسخ تستفاد من تَقْرِير شبهتهم الْمَذْكُورَة. فِي الشَّرْح العضدي لَو كَانَ الْفِعْل وَاجِبا فِي الْوَقْت الَّذِي عدم الْوُجُوب فِيهِ لَكَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي ذَلِك غير مَأْمُور بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت فَلَا يكون نفي الْوُجُوب فِيهِ نسخا لَهُ انْتهى، وَلم يذكر الْمُحَقق وَجه الاستفادة وَلَا يبعد أَن يكون الْوَجْه مَا ذكرنَا (لَكِن نقل الْمُحَقِّقُونَ عَنْهُم) أَي الْمُعْتَزلَة (أَنه) أَي النّسخ (بَيَان مُدَّة الْعَمَل بِالْبدنِ فَلَا يتَحَقَّق) النّسخ (إِلَّا بعد التَّمَكُّن) من الْعَمَل بِالْبدنِ (الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ) من شرع الْأَحْكَام (لَا الْعَزْم) على الْعَمَل (وَمَعَهُ) أَي التَّمَكُّن من الْعَمَل (يجوز) النّسخ وَإِن لم يعْمل (لِأَن الثَّابِت) حِينَئِذٍ (تَفْرِيط الْمُكَلف) وتقصيره لِأَن الْعَجز وَعدم الْقُدْرَة (وَلَيْسَ) تفريطه (مَانِعا) من النّسخ لعدم تحقق الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ لِأَن تفريطه الْمُوجب للعقاب يقوم مقَامه عمله الْمُوجب للثَّواب فِي المقصودية من الِابْتِلَاء (وَهَذَا) التَّمَكُّن من الْعَمَل (مُتَحَقق فِي الموسع) فَيجوز فِيهِ النّسخ عِنْدهم قبل وُقُوع الْعَمَل (وَدفعه) أَي دفع منع الْمُعْتَزلَة لُزُوم الْعِصْيَان فِي الموسع (بتعلق الْوُجُوب بالمستقبل) وَهُوَ الْمَانِع عِنْدهم على مَا مر لَا يصدق (فِي الموسع إِنَّمَا يصدق فِي الْمضيق) إِذْ كل جُزْء من الْوَقْت فِيهِ مُتَعَلق وجوب الْأَدَاء وَمِنْه الْمُسْتَقْبل، وبالنسخ يصير مُتَعَلق عَدمه أَيْضا بِخِلَاف الموسع إِذا لم يتَعَيَّن فِيهِ جُزْء الْأَدَاء لَا الْجُزْء الْأَخير وَفِيه سَعَة يُمكن اعْتِبَار بعض أَجْزَائِهِ مُتَعَلق الْوُجُوب وَبَعضهَا مُتَعَلق عَدمه فَلَزِمَ الْمَحْذُور بِاعْتِبَار تعلق وجوب الْأَدَاء فَوْرًا، لَا بِاعْتِبَار أصل الْوُجُوب (وَإِلَّا فقد يثبت الْوُجُوب) أَي اصله فِي الموسع وَغَيره بِمُجَرَّد دُخُول الْوَقْت (وَلذَا) أَي لوُجُوبه (لَو فعله) أَي الْوَاجِب (سقط بِخِلَاف مَا) لَو فعل (قبل الْوُجُوب مُطلقًا) أَي فِي الْمضيق والموسع لَا يسْقط بِهِ الْوَاجِب (ثمَّ الْجَواب) عَن قَوْلهم الْمَقْصد الْأَصْلِيّ الْعَمَل بِالْبدنِ وَفِي نُسْخَة وَالْجَوَاب (أَن ذَلِك) أَي كَونه مَقْصُودا أَصْلِيًّا (لَا يُوجب الْحصْر) بِأَن لَا يكون غَيره مَقْصُود للشارع وَقد مر بَيَانه آنِفا (وَمنعه) أَي وجوب الذّبْح معينا (بِأَنَّهُ) أَي وُجُوبه (لَو كَانَ) موسعا (لأخر) إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الشُّرُوع فِي الْمَأْمُور بِهِ كَمَا يُؤَخر (عَادَة فِي مثله) أَي ذبح الْوَلَد أما رَجَاء أَن ينْسَخ عَنهُ أَو يَمُوت أَحدهمَا فَيسْقط عَنهُ لعظم الْأَمر (مُنْتَفٍ) أَي غير موجه فَهُوَ مُلْحق بالمعدوم (لِأَن حَاله عَلَيْهِ السَّلَام يَقْتَضِي الْمُبَادرَة) إِلَى الِامْتِثَال. قَالَ تَعَالَى - (إِنَّهُم(3/190)
كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} - (وَإِن كَانَ) الْمَأْمُور بِهِ أصعب (مَا كَانَ) أَي مَا دخل فِي الْوَجْه كَيفَ وَهُوَ فِي أَعلَى دَرَجَات الْخلَّة (وَقَوْلهمْ) أَي المانعين (فعل) أَي ذبح و (لَكِن) كلما قطع شَيْئا (التحم) أَي اتَّصل مَا تفرق عقيب الْقطع فقد فعل مَا هُوَ مَقْدُور لَهُ من إمرار السكين على الْحلق وَقطع الْأَوْدَاج وَلذَا قيل قد صدقت الرُّؤْيَا - (دَعْوَى مُجَرّدَة) عَن الْبَيِّنَة من حَيْثُ النَّقْل (وَكَذَا) قَوْلهم (منع) الْقطع (بصفيحة) من حَدِيث أَو نُحَاس خلقت على حلقه فَلم يحصل مُطَاوع الذّبْح مَعَ كَونه خلاف الْعَادة لم ينْقل نقلا يعْتد بِهِ وَلَو صَحَّ لنقل واشتهر فِي جملَة الْآيَات الظَّاهِرَة والمعجزة الباهرة وتصديق الرُّؤْيَا قد حصل بالعزم والشروع فِي مقدماته وبذل جهده فِي الِامْتِثَال. وَقد أخرج ابْن أبي حَاتِم بِسَنَد رِجَاله موثقون عَن السّديّ وَهُوَ تَابِعِيّ من رجال مُسلم لما أَمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح ابْنه قَالَ الْغُلَام اشْدُد عَليّ رباطي لِئَلَّا أَضْطَرِب واكفف عني ثِيَابك لِئَلَّا ينضح عَلَيْك من دمي وأسرع السكين على حلقي ليَكُون أَهْون عَليّ قَالَ فأمرّ السكين على حلقه وَهُوَ يبكي فَضرب الله على حلقه صفيحة من نُحَاس، قَالَ فقلبه على وَجهه وخر الْقَفَا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى - {وتله للجبين - فَنُوديَ - أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدّقت الرُّؤْيَا} - فَإِذا الْكَبْش فَأَخذه وذبحه وَأَقْبل على ابْنه يقبله وَيَقُول: يَا بني الْيَوْم وهبت لي، كَذَا ذكره الشَّارِح وَكَأَنَّهُ لم يثبت عِنْد المُصَنّف (مَعَ أَنه) أَي الذّبْح (حِينَئِذٍ) أَي على التَّقْدِير الثَّانِي (تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق) لعدم قدرته حِينَئِذٍ على الذّبْح، والمعتزلة لَا يجوزونه (ثمَّ هُوَ) أَي هَذَا الْمَنْع (نسخ) لإِيجَاب الذّبْح (أَيْضا قبل التَّمَكُّن) مِنْهُ إِذْ لَو فرض بعده لزم ترك الْوَاجِب مَعَ التَّمَكُّن وَهُوَ بَاطِل: يَعْنِي أَن قَول الْمَانِع دلَالَة قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على النّسخ قبل التَّمَكُّن أَن منع بصفيحة لَا يصلح سندا للْمَنْع، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم النّسخ قبل التَّمَكُّن وَهُوَ الْمَطْلُوب، لَا يُقَال النّسخ إِنَّمَا يكون بِدَلِيل شَرْعِي، وَالْمَنْع بالصفيحة لَيْسَ بِهِ، لأَنا نقُول يدل على ارْتِفَاع وجوب الذّبْح إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن يكون الذّبْح مَطْلُوبا حَال كَونه مَمْنُوعًا، وَلما كَانَ الِاسْتِدْلَال بِالْقَصْدِ الْمَذْكُور غير مرضِي للحنفية، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وللحنفية) فِي الْجَواب عَنهُ (منع النّسخ وَالتّرْك) للْمَأْمُور بِهِ (للْفِدَاء) يَعْنِي لما منعُوا النّسخ ورد عَلَيْهِم لُزُوم الْعِصْيَان لترك الْمَأْمُور الِامْتِثَال فَقَالُوا إِنَّمَا تَركه لوُجُود الْفِدَاء لقَوْله تَعَالَى - {وفديناه بِذبح عَظِيم} - (وَهُوَ) أَي الْفِدَاء (مَا يقوم مقَام الشَّيْء فِي تلقي الْمَكْرُوه) المتوجه عَلَيْهِ بِأَن يتلَقَّى ذَلِك الْمَكْرُوه بدل أَن يتلقاه ذَلِك الشَّيْء فيتحمل عَنهُ، وَمِنْه فدتك نَفسِي أَي قبلت مَا توجه عَلَيْك من الْمَكْرُوه. نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف فِي بَيَان هَذَا أَن النّسخ رفع الحكم، وَالْولد وَنَحْوه مَحل الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم فَهُوَ مَحل الحكم، وَمحل الحكم لَيْسَ دَاخِلا فِي الحكم فضلا عَن مَحل حَاله(3/191)
وَإِنَّمَا بتحقق نسخ الحكم بِرَفْعِهِ لإبدال مَحَله يدل على بَقَاء الحكم، غير أَنه جعل هَذَا عوضا عَن ذَلِك، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَو ارْتَفع) وجوب ذبح الْوَلَد (لم يفد) إِذا لم يبْق مقَام حَتَّى يقوم الآخر مقَامه (وَمَا قيل) ردا لهَذَا الْجَواب (الْأَمر بذَبْحه) أَي الْفِدَاء (بَدَلا) عَن الْوَلَد (هُوَ النّسخ) لِأَنَّهُ رفع لطلب ذبح الْوَلَد وَإِيجَاب لذبح الْفِدَاء (مَوْقُوف على ثُبُوته) أَي ثُبُوت رفع ذَلِك الْوُجُوب وَإِثْبَات وجوب آخر (وَهُوَ) أَي الثُّبُوت الْمَذْكُور (مُنْتَفٍ) إِذْ لم يثبت نقلا وَلم يلْزم من مُجَرّد إِبْدَال الْمحل على مَا عرفت، لَا يُقَال إِن لم يلْزم ذَلِك فَهُوَ ظَاهر فِيهِ لِأَنَّهُ مَمْنُوع إِذْ الْإِبْدَال كَمَا جَازَ أَن يكون مَعَ إِيجَاب آخر جَازَ أَن يكون مَعَ الْإِيجَاب الأول بل مَا لَا يُؤدى إِلَى النّسخ أرجح، وَفِي التَّلْوِيح وَلَو قيل أَن الْخلف قَامَ مقَام الأَصْل لكنه استلزم حُرْمَة الأَصْل: أَعنِي ذبح الْوَلَد وَتَحْرِيم الشَّيْء بعد وُجُوبه نسخ لَا محَالة، فَجَوَابه أَنا لَا نسلم كَونه نسخا، وَإِنَّمَا يلْزم لَو كَانَ حكما شَرْعِيًّا وَهُوَ مَمْنُوع، فَإِن حُرْمَة ذبح الْوَلَد ثَابِتَة فِي الأَصْل فَزَالَتْ بِالْوُجُوب ثمَّ عَادَتْ بِقِيَام الشَّاة مقَام الْوَلَد. قَالَ الشَّارِح وَهَذَا على منوال مَا تقدم من أَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيست نسخا كَمَا الْتَزمهُ بعض الْحَنَفِيَّة إِذْ لَا إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيم إِلَّا لشرع يكون رفع الْحُرْمَة الْأَصْلِيَّة نسخا، ثمَّ إِذا كَانَ رَفعهَا نسخا يكون ثُبُوتهَا بعد رَفعهَا نسخا أَيْضا فَيبقى الْإِيرَاد الْمَذْكُور مُحْتَاجا إِلَى الْجَواب فَلْيتَأَمَّل. ثمَّ اخْتلف فِي الذَّبِيح. قَالَ الطوفي فالمسلمون على أَنه إِسْمَاعِيل وَأهل الْكتاب على أَنه إِسْحَاق، وَعَن أَحْمد فِيهِ الْقَوْلَانِ انْتهى. وَفِي الْكَشَّاف عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمُحَمّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنه إِسْمَاعِيل، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَالْعَبَّاس وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنه إِسْحَاق، وَذكر كَونه إِسْحَاق عَن الْأَكْثَرين الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَكَونه إِسْمَاعِيل مِنْهُم النَّوَوِيّ وَصحح الْقَرَافِيّ أَنه إِسْحَاق، وَابْن كثير أَنه إِسْمَاعِيل وَزَاد: وَمن قَالَ أَنه إِسْحَاق فَإِنَّهُ تَلقاهُ مِمَّا حرفه النقلَة من بني إِسْرَائِيل، وَذكر الفاكهي أَنه اثْبتْ الْبَيْضَاوِيّ أَنه الْأَظْهر (قَالُوا) أَي الْمُعْتَزلَة (ان كَانَ) أَي الْمَنْسُوخ (وَاجِبا وَقت الرّفْع اجْتمع الْأَمْرَانِ بالنقضين) الْأَمر بِالْفِعْلِ وَالْأَمر بِتَرْكِهِ (فِي وَقت) وَاحِد وتوارد النَّفْي والاثبات على مَحل وَاحِد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن وَاجِبا وَقت الرّفْع (فَلَا نسخ) لعدم الرّفْع (أُجِيب بِاخْتِيَار الثَّانِي) وَهُوَ أَنه لم يكن وَاجِبا وَقت الرّفْع (وَالْمعْنَى رفع) أَن يُوجب. وَفِي نُسْخَة الشَّارِح رفع (إِيجَابه) أَي الْمَنْسُوخ (حكمه) الثَّابِت لَهُ (عِنْد حُضُور وقته) الْمُقدر لَهُ شرعا (لولاه) أَي النَّاسِخ فَإِن قلت: الْمَنْسُوخ هُوَ عين الحكم الأول فَمَا معنى إِيجَابه الحكم قلت الحكم الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف المتكرر سَببه الْمُؤَقت بِوَقْت قدر لَهُ شرعا لَهُ تعلقات جزئية بِاعْتِبَار تكَرر سَببه وتجدد وقته، فَكلما تجدّد سَبَب لَهُ وَقت يحدث وجوب(3/192)
جَدِيد، فَالْمُرَاد الحكم الْمَذْكُور فِي قَوْله يُوجب حكمه هَذَا الْحَادِث فَإِنَّهُ يُسمى حكما وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة تعلقا من تعلقات الْكَلَام النَّفْسِيّ الأزلي على مَا حقق فِي مَحَله (وَهُوَ) أَي رفع النَّاسِخ حكم الْمَنْسُوخ عِنْد حُضُور وَقت الْمَنْسُوخ الْمُقدر لَهُ (ممنوعكم) أَيهَا الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قُلْتُمْ: تعلق الْوُجُوب بالمستقبل مَانع من نسخه بزعم أَنه يسْتَلْزم توارد النَّفْي وَالْإِثْبَات على مَحل وَاحِد فِي وَقت: وَذَلِكَ لأنكم ظننتم أَن الحكم الأول يُوجب تعلق الْوُجُوب مُنجزا بِالْفِعْلِ فِي وَقت النّسخ وَمَا علمْتُم أَن مرادنا كَونه بِحَيْثُ يُوجِبهُ لَوْلَا النَّاسِخ فَإِن كَونه فِي معرض الْإِيجَاب نوع تعلق يرْتَفع بِسَبَب النَّاسِخ وَالله أعلم. (فَإِن أجزتموه) أَي رفع النَّاسِخ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (وَلم تسموه نسخا فلفظية) أَي فالمنازعة لفظية (وَقد وافقتم) على جَوَاز النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (وَأَيْضًا لَو صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ من قَوْلكُم إِن كَانَ وَاجِبا وَقت الرّفْع إِلَى آخِره (انْتَفَى النّسخ) مُطلقًا وَلَو بعد التَّمَكُّن بل بعد الْفِعْل لجَرَيَان الترديد الْمَذْكُور فِي جَمِيع الْمَرَاتِب. (ثمَّ استبعد) نقل هَذَا الِاسْتِدْلَال (عَنْهُم) أَي الْمُعْتَزلَة (لذَلِك الرّفْع مِنْهُم) أَي قَوْلهم فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام جَازَ التَّأْخِير لِأَنَّهُ موسع فَإِنَّهُ يُفِيد تعلق الْوُجُوب بِوَقْت الرّفْع، لِأَن حَاصِل ذَلِك الْجَواب تَسْلِيم وجوب الذّبْح، وَتَسْلِيم النّسخ، وَعدم الْعِصْيَان بِالتّرْكِ لكَون الْوُجُوب موسعا وَلَا شكّ أَن الْوُجُوب فِي الموسع بَاقٍ مَا لم يَأْتِ بِالْفِعْلِ فَيلْزم وُقُوع النّسخ فِي وَقت تعلق الْوُجُوب (وللتعارض) من عدم تجويزهم النّسخ قبل التَّمَكُّن للُزُوم اجْتِمَاع الْأَمريْنِ بالنقيضين، وتجويزهم إِيَّاه بعد التَّمَكُّن لما عرفت، من أَن عِلّة التجويز مُشْتَركَة بَين الصُّورَتَيْنِ (يجب نِسْبَة ذَلِك) الَّذِي ذكره الْمُحَقِّقُونَ عَنْهُم إِلَيْهِم لسلامته عَن التَّعَارُض حملا لكَلَام الْعُقَلَاء على مَا لَا يلْزم التَّنَاقُض مَا أمكن.
مسئلة
قَالَ (الْحَنَفِيَّة والمعتزلة لَا يجوز نسخ حكم فعل لَا يقبل حسنه وقبحه السُّقُوط) الْوَاو بِمَعْنى أَو وَيحْتَمل التَّوْزِيع لِأَن لفعل الَّذِي لَا يجوز نسخ حكمه كل بِاعْتِبَار بعض مَا صدقاته لَا يقبل حسنه السُّقُوط، وَبِاعْتِبَار بَعْضهَا لَا يقبل قبحه السُّقُوط أَو يقدر السُّقُوط قبل الْوَاو وَلَا يجوز تَأْخِيره بعْدهَا (كوجوب الْإِيمَان وَحُرْمَة الْكفْر) لِأَنَّهُ لَا يرْتَفع شَيْء مِنْهُمَا لقِيَام دَلِيله وَهُوَ الْعقل (وَالشَّافِعِيَّة يجوز) وَالْإِجْمَاع على عدم الْوُقُوع (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة (فرع التحسين والتقبيح) العقليين. قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّة والمعتزلة، وَلم يقل بِهِ الأشاعرة من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم فَقَالُوا(3/193)
بِجَوَاز نسخهما عقلا. وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي فصل الْحَاكِم (وَلَا) يجوز نسخ حكم (نَحْو الصَّوْم عَلَيْكُم وَاجِب مستمرا أبدا اتِّفَاقًا) فَعِنْدَ غير الْحَنَفِيَّة (للنصوصية) على تأبيد الحكم (وَعند الْحَنَفِيَّة لذَلِك) أَي للنصوصية (على رَأْي) فِي النَّص وَهُوَ اللَّفْظ المسوق للمراد الظَّاهِر مِنْهُ (وعَلى) رَأْي (آخر) فِيهِ وَهُوَ مَا ذكر مَعَ قيد آخر وَهُوَ أَن لَا يكون مدلولا وضعيا كالتفرقة بَين البيع والربا فِي الْحل وَالْحُرْمَة فِي أحل الله البيع وَحرم الرِّبَا (للتَّأْكِيد) فَإِن الْأَبَد هُوَ الِاسْتِمْرَار الدَّائِم فَهُوَ وَإِن سيق لَهُ لكنه مَدْلُول وضعي (على مَا سلف من تَحْقِيق الِاصْطِلَاح) فِي التَّقْسِيم الثَّانِي للدلالة (وَاخْتلف فِي) حكم (ذِي مُجَرّد تأبيد قيدا للْحكم) كيجب عَلَيْكُم أبدا صَوْم رَمَضَان (لَا الْفِعْل كصوموا أبدا) فَإِن أبدا هَهُنَا ظرف للصَّوْم لَا لإيجابه عَلَيْهِم، لِأَن الْفِعْل يعْمل بمادته لَا بهيئته، وَدلَالَة الْأَمر على الْوُجُوب بالهيئة لَا بالمادة، وَفِيه مَا فِيهِ (أَو) فِي حكم ذِي مُجَرّد (تأقيت قبل مضيه) أَي مُضِيّ ذَلِك الْوَقْت (كحرمته عَاما) حَال كَونه حرمته (إنْشَاء فالجمهور وَمِنْهُم طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة يجوز) نسخه (وَطَائِفَة كَالْقَاضِي أبي زيد وَأبي مَنْصُور وفخر الْإِسْلَام والسرخسي) والجصاص (يمْتَنع) نسخه (للُزُوم الْكَذِب) فِي الأول لِأَن الحكم الأول يدل على أَن الصَّوْم مَطْلُوب دَائِما والنسخ يدل على خِلَافه (أَو البداء) على الله تَعَالَى فِي الثَّانِي لِأَن النّسخ فِيهِ يدل على حُدُوث (وَهُوَ) أَي اللُّزُوم الْمَذْكُور (الْمَانِع) من النّسخ (فِي الْمُتَّفق) على عدم جَوَاز نسخه كَقَوْلِه الصَّوْم عَلَيْكُم وَاجِب مُسْتَمر أبدا (قَالُوا) أَي المجوزون للنسخ فِي الأول: أَن أبدا (ظَاهر فِي عُمُوم الْأَوْقَات) المستقلة (فَجَاز تَخْصِيصه) بِوَقْت فِيهَا دون وَقت كَمَا يجوز تَخْصِيص عُمُوم سَائِر الظَّوَاهِر، إِذْ التَّخْصِيص فِي الْأَزْمَان كالتخصيص فِي الْأَعْيَان (قُلْنَا نعم) يجوز تَخْصِيصه (إِذا اقْترن) الْمَخْصُوص (بدليله) أَي التَّخْصِيص (فَيحكم حِينَئِذٍ) أَي حِين اقترانه بِدَلِيل التَّخْصِيص (بِأَنَّهُ) أَي التَّأْبِيد (مُبَالغَة) أُرِيد بِهِ الزَّمن الطَّوِيل مجَازًا (أما مَعَ عَدمه) أَي دَلِيل التَّخْصِيص (وَهُوَ) أَي عَدمه (الثَّابِت) فِيمَا نَحن فِيهِ (فَذَلِك اللَّازِم) أَي فلزوم الْكَذِب هُوَ اللَّازِم لإِرَادَة التَّخْصِيص فِيمَا نَحن فِيهِ (وَحَاصِله) أَي هَذَا الْجَواب (حِينَئِذٍ يرجع إِلَى اشْتِرَاط الْمُقَارنَة فِي دَلِيل التَّخْصِيص) للعام الْمَخْصُوص (وَتقدم) فِي بحث التَّخْصِيص (وَالْحق أَن لُزُوم الْكَذِب) إِنَّمَا هُوَ (فِي) نسخ (الْأَخْبَار) الَّتِي لَا يتَغَيَّر مَعْنَاهَا كوجود الصَّانِع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كماض) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " الْجِهَاد مَاض (إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَلِذَا) أَي لُزُوم الْكَذِب (اتّفق عَلَيْهِ) أَي على عدم جَوَاز النّسخ فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة (الْحَنَفِيَّة، وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي غَيره) أَي غير نسخ الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة (مِمَّا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ كفر زيد بِخِلَاف حُدُوث الْعَالم) وَنَحْوه مِمَّا لَا يتبدل قطعا(3/194)
فَإِن الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز نسخه فِي الشَّرْح العضدي إِن كَانَ مَدْلُول الْخَبَر مِمَّا لَا يتَغَيَّر كوجود الصَّانِع وحدوث الْعَالم فَلَا يجوز نسخه اتِّفَاقًا وَإِن كَانَ مِمَّا يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد وكفره فقد اخْتلف فِيهِ، وَالْمُخْتَار أَنه مثل مَا لَا يتَغَيَّر مَدْلُوله وَعَلِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو هَاشم خلافًا لبَعض الْمُعْتَزلَة انْتهى، ثمَّ لما بَين مَحل الْخلاف بقوله فِي ذِي مُجَرّد إِلَى آخِره، وَذكر اخْتِلَاف الْحَنَفِيَّة فِيهِ وَدَلِيل المجوزين للنسخ من الظُّهُور فِي عُمُوم الْأَوْقَات وَجَوَاز التَّخْصِيص وَجَوَاب المانعين من عدم اقتران الْمُخَصّص أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ المرضى عِنْده فَقَالَ (ولازم تراخي الْمُخَصّص) فِي مَحل اتّفق الْحَنَفِيَّة على عدم جَوَازه (من التَّعْرِيض على الْوُقُوع) أَي وُقُوع الْمُكَلف بِمَا ترَاخى عَنهُ مخصوصه (فِي غير الْمَشْرُوع) بإتيانه بِمَا سيخرجه الْمُخَصّص (غير لَازم هُنَا) أَي فِيمَا نَحن فِيهِ من مَحل الْخلاف الْمَذْكُور لِأَن الْمُخَصّص إِنَّمَا هُوَ النَّاسِخ وَقبل ظُهُوره يعْمل بالحكم الأول إِذْ الْمَشْرُوع حِينَئِذٍ (بل غَايَته) أَي غَايَة مَا يلْزمه عدم الاقتران هُنَا (اعْتِقَاد أَنه) أَي الحكم الأول (لَا يرفع) لما يَقْتَضِيهِ ظَاهر التَّأْبِيد فِي نَحْو صُومُوا أبدا والتوقيت فِي مثل حرمته عَلَيْكُم عَاما (وَهُوَ) أَي الِاعْتِقَاد الْمَذْكُور (غير ضائر) وَإِذا علم أَن اللَّازِم الَّذِي كَانَ مَحْظُور التَّرَاخِي من جِهَة مُنْتَفٍ فِيمَا نَحن فِيهِ (فَالْوَجْه) فِيهِ (الْجَوَاز) أَي جَوَاز النّسخ (كصم غَدا ثمَّ نسخ قبله) أَي الْغَد (فَإِنَّهُ) أَي جَوَاز نسخه (اتِّفَاق) وَجه الشّبَه اشتراكهما فِي تعلق وجوب الْفِعْل بِزَمَان مُسْتَقْبل ثمَّ نسخه قبل انْقِضَاء ذَلِك الزَّمَان (وَمَا قيل) على مَا فِي الشَّرْح العضدي من أَنه (لَا مُنَافَاة بَين إِيجَاب فعل مُقَيّد بالأبد وَعدم أبدية التَّكْلِيف) بذلك إِذْ الْمَوْصُوف بالأبدية إِنَّمَا هُوَ نفس الْفِعْل وبعدمها الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بهَا، فَمحل الْإِثْبَات غير مَحل النَّفْي وَحَاصِله أَن الطَّالِب يطْلب فِي بعض الْأَوْقَات أمرا دَائِما ثمَّ يطْلب فِي وَقت آخر ترك ذَلِك الْأَمر (بعد مَا قرر فِي) تَقْرِير (النزاع من أَنه) أَي النزاع مَبْنِيّ (على) تَقْدِير (جعله) أَي التَّأْبِيد (قيدا للْحكم مَعْنَاهُ) أَي معنى مَا قيل (بالنسخ يظْهر خِلَافه) أَي فِي كل مَحل جعل التَّأْبِيد قيدا للْحكم يظْهر بعد النّسخ أَنه لَيْسَ بِقَيْد لَهُ بل هُوَ قيد للْفِعْل، إِذْ لَا مُنَافَاة بَين النّسخ وَبَينه بِخِلَاف الأول فان النّسخ يُنَافِيهِ وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا التَّوْجِيه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْوَجْه حِينَئِذٍ) أَي حِين يقْصد الْجَواب بِعَدَمِ الْمُنَافَاة (أَن لَا يَجْعَل النزاع على ذَلِك التَّقْدِير، بل) يَجْعَل (هُوَ مَا) أَي تَصْوِير (هُوَ ظَاهر فِي تَقْيِيد الحكم) لَا نَص فمانع النّسخ ينظر إِلَى ظَاهره، والمجيب يحملهُ على خلاف الظَّاهِر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن تَصْوِير مَحل النزاع على هَذَا المنوال (فَالْجَوَاب) بِلَا مُنَافَاة الخ (على خلاف الْمَفْرُوض) وَهُوَ كَون التَّأْبِيد قيدا للْحكم قطعا (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ التَّأْبِيد قيدا للْفِعْل(3/195)
لَا الحكم (فقد لَا يخْتَلف فِي الْجَوَاز) أَي جَوَاز النّسخ.
مسئلة
قَالَ (الْجُمْهُور لَا يجْرِي) النّسخ (فِي الْأَخْبَار) مَاضِيَة كَانَت أَو مُسْتَقْبلَة (لِأَنَّهُ) أَي النّسخ فِيهَا (الْكَذِب) أَي يستلزمه (وَقيل نعم) يجْرِي فِيهَا مُطلقًا مَاضِيَة كَانَت أَو مُسْتَقْبلَة وَعدا أَو وعيدا إِذا كَانَ مدلولها مِمَّا يتَغَيَّر، وَعَلِيهِ الإِمَام الرَّازِيّ والآمدي لقَوْله تَعَالَى ( {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت. أَن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} ) . وَقد قَالَ تَعَالَى - {فبدت لَهما سوآتهما} - (وعَلى قَوْلهم) أَي المجوزين لنسخ الْأَخْبَار (يجب إِسْقَاط) قيد (شَرْعِي من التَّعْرِيف) إِذْ لَا يصدق على نسخ الْخَبَر رفع تعلق مُطلق الحكم الشَّرْعِيّ (وَالْجَوَاب) لمانعي نسخه عَن الْآيَتَيْنِ أَن معنى يمحوا الله مَا يَشَاء (ينْسَخ بِمَا يستصوبه) ويتركه غير مَنْسُوخ. قَالَ الشَّارِح وَالْوَجْه حذف الْبَاء كَمَا فِي الْكَشَّاف ينْسَخ مَا يستصوب نسخه، وَيثبت بدله مَا تَقْتَضِي حكمته إثْبَاته انْتهى. وَالْمُصَنّف لم يذكر الْمَنْسُوخ، وَذكر مَا ينْسَخ بِهِ اختصارا مَعَ أَنه يفهم ضمنا، لِأَن فِي استصواب مَا ينْسَخ بِهِ إِشَارَة إِلَيْهِ، وَهُوَ توهم أَن المُصَنّف أَدخل الْبَاء على الْمَنْسُوخ وَحَاصِل الْجَواب أَن قَوْله مَا يَشَاء لَا يحمل على الْعُمُوم لتندرج تَحْتَهُ الْأَخْبَار على أَنه لَو حمل عَلَيْهَا أبدا لَا يلْزم نسخهَا لجَوَاز أَن لَا يتَعَلَّق بنسخها الْمُشبه (أَو) يمحو (من ديوَان الْحفظَة) . قَالَ الشَّارِح مَا لَيْسَ بحسنة وَلَا بسيئة، لأَنهم مأمورون بكتبة كل قَول وَفعل (و) يثبت (غَيره) انْتهى كَأَنَّهُ حمله على هَذَا التَّخْصِيص قَوْله تَعَالَى - {مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} -. وَفِيه نظر لجَوَاز أَن يكون ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض لَا الْكل وَغَيره من الْأَقْوَال نَحْو: يمحو سيئات التائب وَيثبت الْحَسَنَات مَكَانهَا، أَو يمحو قرنا وَيثبت آخر إِلَى غير ذَلِك. وَقَوله أَن لَك أَلا تجوع فِيهَا (وَلَا تعرى من الْقَيْد وَالْإِطْلَاق) يَعْنِي مُطلق صُورَة وتقيد حَقِيقَة بِشَرْط عدم الْمُخَالفَة لِلْأَمْرِ (لَا) من (النّسخ وَأما نسخ إِيجَاب الْأَخْبَار) عَن شَيْء (بالأخبار) أَي بِإِيجَاب الْأَخْبَار (عَن نقيضه) فالمأمور بِهِ حِينَئِذٍ أَن يخبر الْمُكَلف عَن شَيْء ثمَّ عَن نقيضه (فَمَنعه الْمُعْتَزلَة لاستلزامه) أَي هَذَا النّسخ (الْقَبِيح كذب أَحدهمَا) أَي النَّاسِخ والمنسوخ (بِنَاء على حكم الْعقل) بالتحسين والتقبيح (وَيجب) أَن يعْتَبر (للحنفية مثله) أَي الْمَنْع لما ذكر من الاستلزام لقَولهم بِاعْتِبَار الْعقل بالتحسين والتقبيح (إِلَّا أَن تغير الأول إِلَيْهِ) . قَالَ الشَّارِح عَن ذَلِك الْوَصْف الَّذِي وَقع الْإِخْبَار بِهِ أَولا إِلَى الْوَصْف الَّذِي يُكَلف بالإخبار عَنهُ ثَانِيًا لانْتِفَاء الْمَانِع حِينَئِذٍ انْتهى. وَلم يبين أَن الْخَبَر الأول كَيفَ يتَغَيَّر وَصفه الَّذِي بِهِ حسن الْأَمر بالإخبار بِهِ إِلَى(3/196)
الْوَصْف الَّذِي كلف بالإخبار ثَانِيًا، وَهل ينْتَقل وصف أحد النقيضين إِلَى الآخر فَالْوَجْه أَن يُقَال إِذا كَانَ مَضْمُون الْخَبَر مِمَّا يتَغَيَّر ويتبدل ككفر زيد، فَفِي زمَان اتصافه بالْكفْر يحسن أَن يُؤمر بِأَن يَقُول زيد لَيْسَ بِكَافِر (وَكَذَا الْمُعْتَزلَة) يَنْبَغِي أَن يكون قَوْلهم على هَذَا التَّفْصِيل.
مسئلة
(قيل) وقائله بعض الْمُعْتَزلَة والظاهرية (لَا ينْسَخ) الحكم (بِلَا بدل) عَنهُ (فَإِن أُرِيد) بِالْبَدَلِ بدل مَا (وَلَو) كَانَ ثُبُوته (بِإِبَاحَة أَصْلِيَّة فاتفاق) كَونه لَا يجوز بِلَا بدل لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يتْرك عباده هملا فِي وَقت من الْأَوْقَات، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الرسَالَة: وَلَيْسَ ينْسَخ فرض أبدا إِلَّا أثبت مَكَانَهُ فرض كَمَا نسخت قبْلَة بَيت الْمُقَدّس، فَأثْبت مَكَانهَا الْكَعْبَة انْتهى. وَقَالَ الصَّيْرَفِي فِي شرحها أَنه ينْقل من حظر إِلَى إِبَاحَة وَمن إِبَاحَة إِلَى حظر أَو تَخْيِير على حسب أَحْوَال الْفُرُوض قَالَ: وَمثل ذَلِك الْمُنَاجَاة كَأَن يُنَاجِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَا تَقْدِيم صَدَقَة، ثمَّ فرض الله تَقْدِيم الصَّدَقَة، ثمَّ أَزَال ذَلِك فردهم إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. قَالَ فَهَذَا معنى قَول الشَّافِعِي فرض مَكَان فرض فتفهمه انْتهى. (أَو) أُرِيد بِالْبَدَلِ بدل (مفَاد بِدَلِيل النّسخ فَالْحق نَفْيه) أَي نفي هَذَا السَّلب الْكُلِّي أَعنِي لَا نسخ بِلَا بدل (لِأَنَّهُ) أَي السَّلب الْمَذْكُور قَول (بِلَا مُوجب وَالْوَاقِع خِلَافه كنسخ حُرْمَة الْمُبَاشرَة) للنِّسَاء (بعد الْفطر) فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره عَن الْبَراء بن عَازِب كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ الرجل صَائِما فَحَضَرَ الْإِفْطَار فَنَامَ قبل أَن يفْطر لم يَأْكُل ليلته وَلَا يَوْمه حَتَّى يُمْسِي، وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَغَيرهَا عَن ابْن عَبَّاس، وَكَانَ النَّاس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلوا الْعَتَمَة حرم عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب، وَالنِّسَاء وصاموا إِلَى الْقَابِلَة، وَالْمَشْهُور فِي رِوَايَة ابْن عبد الْبر، أَو الْمَقْطُوع فِي رِوَايَات الْبَراء أَن ذَلِك كَانَ مُقَيّدا بِالنَّوْمِ، ويترجح بِقُوَّة سَنَده (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من النَّاسِخ لحكم بِغَيْر بدل (نَاسخ ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي) فَوق ثَلَاث لِأَنَّهُ مقرون بِبَدَل: حَيْثُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ونهيتكم عَن لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث فأمسكوا مَا بدا لكم " رَوَاهُ مُسلم فَهَذِهِ إِبَاحَة شَرْعِيَّة هِيَ بدل مفَاد بِدَلِيل النّسخ، وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِابْن الْحَاجِب فِي تمثيله لوُقُوع النّسخ بِلَا بدل (وَجَاز أَن لَا يتَعَرَّض الدَّلِيل) النَّاسِخ (لغير الرّفْع) لتَعلق حكم الْمَنْسُوخ (أَو) أُرِيد بقوله بِلَا بدل (بِلَا ثُبُوت حكم شَرْعِي) لذَلِك الْفِعْل (وَإِن لم يكن) ذَلِك الحكم ثَابتا (بِهِ) أَي بِدَلِيل النّسخ (فَكَذَلِك) أَي الْحق نَفْيه (لذَلِك) أَي لكَونه بِلَا مُوجب إِلَى آخِره (وَتَكون) الصّفة (الثَّابِتَة) للْفِعْل (الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة) فَإِنَّهَا لَيست بِحكم شَرْعِي على الْمُخْتَار، و (لَكِن لَيْسَ مِنْهُ) أَي من النّسخ بِلَا ثُبُوت حكم شَرْعِي (نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة)(3/197)
عِنْد إِرَادَة مُنَاجَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لثُبُوت الحكم الشَّرْعِيّ) وَهُوَ ندبية الصَّدَقَة (بِالْعَام النادب للصدقة) فِي الْكتاب وَالسّنة وَنسخ حُرْمَة الْمُبَاشرَة من الشق الثَّالِث الثَّابِت فِيهِ بدل الْمَنْسُوخ بِدَلِيل غير دَلِيل النّسخ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {أحل لكم} - الْآيَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِثُبُوت إِبَاحَة الْمُبَاشرَة يباشروهن) فِي قَوْله - {فَالْآن باشروهن} - وَقَوله بِثُبُوت مُتَعَلق بمقدر نَحْو إِنَّمَا قُلْنَا بِأَن بدل حُرْمَة الْمُبَاشرَة ثَبت بِغَيْر دَلِيل النّسخ، وَكَانَ مَحَله عِنْد قَوْله كنسخ حُرْمَة الْمُبَاشرَة ليبين بِهِ قَوْله وَالْوَاقِع بِخِلَافِهِ لَكِن أَخّرهُ لكَونه مِثَالا للشق الثَّالِث، وَلِأَنَّهُ ذكر فِي الشَّرْح العضدي مَعَ نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة مثالين للنسخ بِلَا بدل فقصد الِاعْتِرَاض عَلَيْهَا فيهمَا تبعا. (قَالُوا) أَي مانعو النّسخ بِلَا بدل قَالَ تَعَالَى (مَا ننسخ الْآيَة) أَي - من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا - فَفِي كل نسخ لَا بُد من الْإِتْيَان بِأحد الْأَمريْنِ، وَلَا يَعْنِي بِالْبَدَلِ إِلَّا هَذَا، وَفِي الشَّرْح العضدي: وَلَا يتَصَوَّر كَونه خيرا أَو مثلا إِلَّا فِي بدل (أُجِيب بالخيرية لفظا) أَي من حَيْثُ اللَّفْظ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَجْدِيد حكم آخر، وَهَذَا الْجَواب مَبْنِيّ (على إِرَادَة نسخ التِّلَاوَة لِأَنَّهُ) أَي كَون المُرَاد هَذَا هُوَ (الظَّاهِر) وَذَلِكَ لِأَن الْآيَة اسْم للنظم الْخَاص، فَالظَّاهِر أَن الْخَيْرِيَّة بِاعْتِبَار مَا يرجع إِلَى اللَّفْظ (وَأما ادِّعَاء أَن مِنْهُ) أَي من الْإِتْيَان بِخَير من حَيْثُ الحكم (على) تَقْدِير (التنزل) وَتَسْلِيم أَن الْخَيْرِيَّة بِاعْتِبَار الحكم، وَالْجَار مُتَعَلق بالادعاء، وَاسم أَن قَوْله (ترك الْبَدَل) . فِي الشَّرْح العضدي سلمنَا أَن المُرَاد نأتي بِحكم خير مِنْهَا، لكنه عَام يقبل التَّخْصِيص، فَلَعَلَّهُ خصص بِمَا نسخ لَا إِلَى بدل، سلمناه لَكِن إِذا أَتَى بنسخه من غير بدل وَهُوَ حكم فَلَعَلَّهُ خير للمكلف لمصْلحَة يعلمهَا الله تَعَالَى انْتهى. فَجعل ترك الْبَدَل حكما، فَقَالَ المُصَنّف (فَلَيْسَ) أَي لَيْسَ هَذَا الْجَواب فِي مَحل النزاع (إِذْ لَيْسَ) ترك الْبَدَل (حكما شَرْعِيًّا) وَهُوَ المنازع فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَصرح أَن الْخلاف فِيهِ) أَي فِي الحكم الشَّرْعِيّ، وَقد يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون هَذَا سندا آخر. يمْنَع استلزام الْآيَة مدعاهم، وَهُوَ لُزُوم حكم آخر شَرْعِي فِي كل نسخ. وَحَاصِله أَن الْخَيْرِيَّة لَيْسَ بِاعْتِبَار النّظم بل بِاعْتِبَار الحكم الشَّرْعِيّ خَاصَّة، فَلَا يلْزم الْخُرُوج من مَحل النزاع فَتَأمل (وتجويز التَّخْصِيص) لعُمُوم - نأت بِخَير مِنْهَا - الْمشَار إِلَيْهِ فِي الشَّرْح الْمَذْكُور على مَا مر آنِفا (لَا يُوجب وُقُوعه) أَي التَّخْصِيص، فَإِذا لم يثبت الْوُقُوع لَا يضر الْخصم لأَنهم لَا يمْنَعُونَ جَوَاز النّسخ بِلَا بدل عقلا كَمَا سيشير إِلَيْهِ (والتنزل) كَمَا فعله ابْن الْحَاجِب (إِلَى أَنَّهَا) أَي الْآيَة (لَا تفِيد نفي الْوُقُوع) أَي وُقُوع النّسخ بِلَا بدل (وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي الْجَوَاز تَسْلِيم لَهُم) أَي للنافين للنسخ بِلَا بدل، لِأَن مَعْنَاهُ سلمنَا أَن الْآيَة تدل على نفي الْوُقُوع لَكِن نزاعنا مَعكُمْ فِي الْجَوَاز، لأَنهم إِذا قَالُوا لَا نزاع لنا فِي الْجَواب عقلا لَا يَنْبَغِي مَعَهم نزاع(3/198)
وَقد سلمتم مَا هُوَ مطلوبهم، وَهُوَ نفي الْوُقُوع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَن الظَّاهِر إرادتهم) أَي النافين (نَفْيه) أَي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل (سمعا) . وَحَاصِله نفي الْوُقُوع (لَا عقلا) وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك (باستدلالهم) بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا لَا تكون على نفي الْوُقُوع وَمَا ثمَّة تَصْرِيح مِنْهُم بِأَن مُرَادهم نفي الْجَوَاز وَالله أعلم.
مسئلة
وَاتَّفَقُوا على جَوَاز النّسخ بالأخف والمساوى كالمباشرة والتوجه إِلَى الْكَعْبَة، وَهل يجوز بالأثقل. قَالَ (الْجُمْهُور يجوز بأثقل، ونفاه) أَي الْجَوَاز بِهِ (شذوذ) بَعضهم عقلا، وَبَعْضهمْ سمعا (لنا أَن اعْتبرت الْمصَالح) فِي التَّكْلِيف (وجوبا) كَمَا هُوَ رَأْي الْمُعْتَزلَة (أَو تفضلا) كَمَا هُوَ رَأْي غَيرهم (فلعلها) أَي الْمصلحَة للمكلف (فِيهِ) أَي فِي النّسخ بأثقل كَمَا يَنْقُلهُ من الصِّحَّة إِلَى السقم، وَمن الشَّبَاب إِلَى الْهَرم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِيهِ كَمَا يُومِئ إِلَيْهِ - يحكم مَا يَشَاء - وَيفْعل مَا يُرِيد. (فأظهر) أَي فالجواز أظهر (وَيلْزم) من عدم جَوَاز الأثقل لكَونه أثقل (نفي ابْتِدَاء التَّكْلِيف) فَإِنَّهُ نقل من سَعَة الْإِبَاحَة إِلَى مشقة التَّكْلِيف. قَالَ القَاضِي وَلَا جَوَاب لَهُم عَن ذَلِك (وَوَقع) النّسخ بِالْأَكْثَرِ (بِتَعْيِين الصَّوْم) أَي صَوْم رَمَضَان (بعد التَّخْيِير بَينه) أَي الصَّوْم (وَبَين الْفِدْيَة) عَن كل يَوْم بإطعام مِسْكين نصف صَاع بر أَو صَاع تمر أَو شعير عندنَا، ومدبر أَو غَيره من قوت الْبَلَد عِنْد الشَّافِعِيَّة، أَو مُدبر أَو مدى تمر أَو شعير عِنْد أَحْمد، فَإِن التَّعْيِين أثقل من التَّخْيِير. عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع لما نزلت - {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} - كَانَ من أَرَادَ أَن يفْطر يفتدي حَتَّى نزلت الْآيَة بعْدهَا، فنسختها. وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ نزل رَمَضَان، فشق عَلَيْهِم، من أطْعم كل يَوْم مِسْكينا ترك الصّيام مِمَّن يطيقُونَهُ، وَرخّص لَهُم ذَلِك، فنسختها - {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} - فَأمروا بالصيام لَكِن يعارضها مَا فِي الصَّحِيح أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس لَيست مَنْسُوخَة، وَهِي للشَّيْخ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يستطيعان أَن يصوما، فيطعمان مَكَان كل يَوْم مِسْكينا. هَذَا، وَاخْتَارَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة مَا عَن ابْن عَبَّاس، لِأَن مثله لَا يُقَال بِالرَّأْيِ لكَونه مُخَالفا لظَاهِر الْقُرْآن، وَيحْتَاج إِلَى تَقْدِير حرف النَّفْي كَمَا فِي تالله تفتؤ - {يبين الله لكم أَن تضلوا} - فَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع، ولكونه أفقه، وَفِي قِرَاءَة حَفْصَة - {وعَلى الَّذين لَا يطيقُونَهُ} - (وَالْوَجْه أَنه) قَالَ الشَّارِح: أَي الْوُجُوب الَّذِي هُوَ الحكم الأول، وَالْوَجْه أَن تعْيين الصَّوْم بعد التَّخْيِير كَمَا لَا يخفى (لَيْسَ بنسخ أصلا) قَالَ الشَّارِح أَي بمنسوخ بِنَاء على التَّفْسِير الأول (على وزان مَا تقدم فِي فدَاء إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام)(3/199)
من أَن الْإِبْدَال يَقْتَضِي بَقَاء وجوب الْمُبدل مِنْهُ. قَالَ الشَّارِح الَّذِي يظْهر لي أَن يَقُول على ضد وزان مَا تقدم فِي فدَاء الذَّبِيح، لِأَن الْوُجُوب هُنَا صَار بِحَيْثُ لَا يسْقط عَنهُ مُتَعَلّقه مَعَ قدرته على مُتَعَلّقه بعد أَن كَانَ بِحَيْثُ يسْقط بِكُل مِنْهُمَا مَعَ قدرته عَلَيْهِمَا وثمة صَار الْوُجُوب يسْقط عَنهُ بِبَدَل مُتَعَلّقه قطعا بِحَيْثُ لَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى مُتَعَلّقه، وَإِن كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ انْتهى، وَالَّذِي يظْهر أَن مُرَاد المُصَنّف التَّشْبِيه بِاعْتِبَار عدم منسوخية أصل الْوُجُوب، لما ذكر من قصَّة الْإِبْدَال، وَلَا يُنَافِي هَذَا منسوخية كَيْفيَّة الْوُجُوب من التَّخْيِير إِلَى التَّعْيِين (ورجم الزواني) المحصنة (وجلدهن) إِن كن غير محصنات (بعد الْحَبْس فِي الْبيُوت) عَن ابْن عَبَّاس كَانَت الْمَرْأَة إِذا زنت حبست فِي الْبَيْت حَتَّى تَمُوت إِلَى أَن نزلت - {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} - قَالَ فَإِن كَانَا محصنين رجما بِالنِّسْبَةِ فَهُوَ سبيلهن الَّذِي جعل الله، وَلَا يضر مَا فِيهِ لتضافر الرِّوَايَات الصَّحِيحَة بِهَذَا الْمَعْنى وانعقاد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَالرَّجم أثقل من الْحَبْس. (قَالُوا) أَي الشذوذ. قَالَ الله تَعَالَى ( {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} ) والنسخ إِلَى الأثقل لَيْسَ بتَخْفِيف فَلَا يُريدهُ الله تَعَالَى (أُجِيب بِأَن سياقها) أَي الْآيَة تدل على إِرَادَة التَّخْفِيف (فِي الْمَآل) أَي الْمعَاد (وَفِيه) أَي فِي الْمَآل (يكون) التَّخْفِيف (بالأثقل فِي الْحَال، وَسلم) الْعُمُوم فِي الْحَال والمآل (كَانَ) الْعُمُوم (مَخْصُوصًا بالوقوع) أَي بِقَرِينَة وُقُوع أَنْوَاع التكاليف الثَّقِيلَة المبتدأة وأنواع الِابْتِلَاء فِي الْأَبدَان وَالْأَمْوَال بالِاتِّفَاقِ (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِنَاء على مَا نفيناه) فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة من أَن النزاع لَيْسَ فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ بل فِي (الْجَوَاز السمعي الَّذِي مآله النزاع فِي الْوُقُوع قَالُوا) ثَانِيًا. قَالَ تَعَالَى ( {مَا ننسخ الْآيَة} ) فَيجب الأخف لِأَنَّهُ الْخَيْر أَو المساوى والأشق لَيْسَ بِخَير وَلَا مثل (أُجِيب بخيرية الأثقل عَاقِبَة) لكَونه أَكثر ثَوابًا. قَالَ تَعَالَى - {لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب} - الْآيَة (أَو مَا تقدم) من أَن المُرَاد الْخَيْرِيَّة لفظا
مسئلة
(يجوز نسخ الْقُرْآن بِهِ) أَي بِالْقُرْآنِ (كآية عدَّة الْحول بِآيَة الْأَشْهر) قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى - {مَتَاعا لكم إِلَى الْحول} - غير إِخْرَاج كَانَ ذَلِك أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ الْمدَّة بقوله تَعَالَى - {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} - (والمسالمة) أَي ولنسخ آيَات المسالمة للْكفَّار كَقَوْلِه - {فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ} - (بِالْقِتَالِ) أَي بآياته كَقَوْلِه تَعَالَى - {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة} - (وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر بِمثلِهِ) أَي بالْخبر الْمُتَوَاتر (و) خبر (الْآحَاد بِمثلِهِ) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزورها، وَعَن لُحُوم الْأَضَاحِي أَن تمسكوا فَوق ثَلَاثَة أَيَّام: فأمسكوا مَا بدا لكم الخ)(3/200)
ونهيتكم عَن شرب النَّبِيذ إِلَّا فِي سقاء فَاشْرَبُوا فِي الأوعية، وَلَا تشْربُوا مُسكرا (فبالمتواتر) أَي فجواز نسخ الْآحَاد بالمتواتر (أولى) من جَوَاز نسخهَا بالآحاد لِأَنَّهُ أقوى (وَأما قلبه) وَهُوَ نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد (فَمَنعه الْجُمْهُور كل مانعي تَخْصِيص الْمُتَوَاتر بالآحاد، وَأكْثر مجيزيه) أَي تَخْصِيص الْمُتَوَاتر بالآحاد حَال كَون الْأَكْثَر (فارقين بِأَن التَّخْصِيص جمع لَهما) أَي الْمُتَوَاتر والآحاد (والنسخ إبِْطَال أَحدهمَا) الَّذِي هُوَ الْمُتَوَاتر بالآحاد (وَأَجَازَهُ) أَي نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد (بَعضهم) أَي بعض المجيزين لتخصيص الْمُتَوَاتر بالآحاد لتأخير الْآحَاد (لنا لَا يقاومه) أَي الْمُتَوَاتر لِأَنَّهُ قَطْعِيّ وَخبر الْآحَاد ظَنِّي (فَلَا يُبطلهُ) أَي خبر الْآحَاد الْمُتَوَاتر لِأَن الشَّيْء لَا يبطل أقوى مِنْهُ (قَالُوا) أَي المجيزون (وَقع) نسخ الْمُتَوَاتر بِخَبَر الْآحَاد (إِذْ ثَبت التَّوَجُّه) لأهل مَسْجِد قبَاء (إِلَى الْبَيْت بعد الْقطعِي) الْمُفِيد لتوجههم إِلَى بَيت الْمُقَدّس مَا يزِيد على عَام على خلاف مِقْدَاره (الْآتِي لأهل) مَسْجِد (قبَاء) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَلم يُنكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِذْ لَو أنكر لنقل، وَيشْهد لَهُ مَا أخرج الطَّبَرَانِيّ عَن تويلة بنت مُسلم قَالَت صلينَا الظّهْر وَالْعصر فِي مَسْجِد بني حَارِثَة واستقبلنا مَسْجِد إيلياء فصلينا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جَاءَنَا من يحدثنا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتقْبل الْبَيْت الْحَرَام فتحول النِّسَاء مَكَان الرِّجَال وَالرِّجَال مَكَان النِّسَاء فصلينا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنحن مستقبلون الْبَيْت الْحَرَام فَحَدثني رجل من بني حَارِثَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أُولَئِكَ رجال آمنُوا بِالْغَيْبِ. (وَبِأَنَّهُ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ يبْعَث الْآحَاد للتبليغ) للْأَحْكَام مُطلقًا أَي مُبتَدأَة كَانَت أَو ناسخة لَا يفرق بَينهمَا، والمبعوث إِلَيْهِم متعبدون بِتِلْكَ الْأَحْكَام وَرُبمَا كَانَ فِي الْأَحْكَام مَا ينْسَخ متواترا إِذا لم ينْقل الْفرق بَين مَا نسخ متواترا وَغَيره (وَقل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ الْآيَة) نسخ مِنْهَا حل ذِي الناب (بِتَحْرِيم كل ذِي نَاب) من السبَاع بِخَبَر الْوَاحِد كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره مَرْفُوعا " كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام " و (أُجِيب بِجَوَاز اقتران خبر الْوَاحِد بِمَا يُفِيد الْقطع، وَجعله) أَي المقترن الْمُفِيد للْقطع (النداء) أَي نِدَاء الْمخبر بذلك (بِحَضْرَتِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رُءُوس الأشهاد على مَا فِي الشَّرْح العضدي (غلط أَو تساهل) بِأَن يُرَاد بِحَضْرَتِهِ وجوده فِي مَكَان قريب بِحَيْثُ لَا يخفى عَلَيْهِ كالواقع بِحُضُورِهِ (وَهُوَ) أَي التساهل (الثَّابِت) لبعد سَماع أهل قبَاء نِدَاء الْمخبر فِي مَجْلِسه (وَالثَّانِي) وَهُوَ بعثة الْآحَاد لتبليغ الْأَحْكَام إِنَّمَا يتم (إِذا ثَبت إرسالهم) أَي الْآحَاد (بنسخ) حكم (قَطْعِيّ عِنْد الْمُرْسل إِلَيْهِم، وَلَيْسَ) ذَلِك بِثَابِت وَمن ادَّعَاهُ فَعَلَيهِ الْبَيَان (وَلَا أجد الْآن تَحْرِيمًا) بِغَيْر مَا اسْتثْنى: أَي معنى الْآيَة هَذَا لِأَن لَا أجد للْحَال فإباحة غير الْمُسْتَثْنى مُؤَقَّتَة بِوَقْت الْإِخْبَار (فالثابت) عَن الْإِبَاحَة فِي ذَلِك الْوَقْت (إِبَاحَة أَصْلِيَّة ورفعها) أَي الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة(3/201)
فِي الْمُسْتَقْبل بِالتَّحْرِيمِ (لَيْسَ نسخا) لِأَن النّسخ رفع لحكم شَرْعِي وَالْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيست إِيَّاه على الْمُخْتَار وَقد مر.
مسئلة
(يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ) عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء والمتكلمين ومحققي الشَّافِعِيَّة (وَأَصَح قولي الشَّافِعِي الْمَنْع) فَإِنَّهُ قَالَ لَا ينْسَخ كتاب الله إِلَّا كتاب الله كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بفرضه فَهُوَ المزيل الْمُثبت بِمَا شَاءَ مِنْهُ جلّ جَلَاله وَلَا يكون ذَلِك لأحد من خلقه وَهَكَذَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاخْتلف أَصْحَابه فَقيل المُرَاد نفي الْجَوَاز الْعقلِيّ، وَنسب إِلَى المحاسبي وَعبد الله ابْن سعيد والقلانسي وهم من أكَابِر أهل السّنة، ويروى عَن أَحْمد وَأبي إِسْحَاق الإسفرايني وَأبي الطّيب الصعلوكي وَأبي مَنْصُور، وَقيل لم يمْنَع الْعقل والسمع لكنه لم يقل وَهُوَ قَول ابْن سُرَيج. قَالَ السُّبْكِيّ: وَنَصّ الشَّافِعِي لَا يدل على أَكثر مِنْهُ ثمَّ قَالَ حَيْثُ وَقع نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ فمعها قُرْآن عاضد لَهَا يبين توَافق الْكتاب وَالسّنة أَو نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ فمعه سنة عاضدة لَهُ تبين توافقهما (لنا لَا مَانع) عَقْلِي وَلَا شَرْعِي من ذَلِك (وَوَقع) والوقوع دَلِيل الْجَوَاز (فَإِن التَّوَجُّه إِلَى الْقُدس) أَي بَيت الْمُقَدّس (لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَنسخ) التَّوَجُّه إِلَيْهِ (بِهِ) أَي بِالْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى - {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} - (وَكَذَا حُرْمَة الْمُبَاشرَة) بقوله تَعَالَى - {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} - الْآيَة فَإِن تَحْرِيمهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآن (وتجويز كَونه) أَي نسخ كل مِنْهُمَا (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْقُرْآن (من سنة أَو) تَجْوِيز ثُبُوت حكم (الأَصْل) فِيهَا (بِتِلَاوَة) أَي بمتلوّ من الْقُرْآن (نسخت وَذَلِكَ) التجويز (على) تَقْدِير (الْمُوَافقَة) فِيهِ مَعَ الْخصم (احْتِمَال بِلَا دَلِيل) فَلَا يسمع (ثمَّ لَو صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ من التجويز الْمَذْكُور (لم يتَعَيَّن نَاسخ علم تَأَخره مَا لم يقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نَاسخ) لكذا وَنَحْوه لذَلِك الِاحْتِمَال (وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع قَالُوا أَي المانعون) أَولا قَوْله تَعَالَى - {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} - يَقْتَضِي أَن شَأْنه الْبَيَان للْأَحْكَام، والنسخ رفع لَا بَيَان (أُجِيب) بِتَسْلِيم شَأْنه وَمنع أَنه لَيْسَ بِبَيَان بقوله (والنسخ) رفع لَا بَيَان (مِنْهُ) أَي من الْبَيَان لِأَنَّهُ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم (قَالُوا) ثَانِيًا نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ (يُوجب التنفير) للنَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ يفهم أَن الله تَعَالَى لم يرض بِمَا سنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ منَاف لمقصد الْبعْثَة وَهُوَ التأسي بِهِ والاقتداء (أُجِيب) بِأَنا لَا نسلم حُصُول النفرة على تَقْدِير النّسخ (إِذا آمنا بِأَنَّهُ مبلغ) وسفير يعبر بِهِ عَن الله تَعَالَى لَا غير، وَإِذا كَانَ التَّصَرُّف كُله من الله - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} -(3/202)
حكما معينا فِي مَحل الإجتهاد يُصِيبهُ تَارَة ويخطئه أُخْرَى، وَلَيْسَ كل مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر (لَو كَانَ الحكم) أَي خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل العلد هُوَ عبن (مَا) أدّى الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ كَانَ) الْمُجْتَهد (بظنه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ (يقطع بِأَنَّهُ) أَي المظنون الَّذِي أدّى إِلَيْهِ (حكمه تَعَالَى) (مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ، لِأَن الَّذِي علم قطعا أَن مطنونه عين حكم الله تَعَالَى فِي حَقه كَيفَ يتَصَوَّر أَن يتَحَوَّل عَنهُ بِأَن يشك فِيهِ أَو يظنّ خِلَافه فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون قطعه بِكَوْن المظنون حكم الله تَعَالَى فِي حَقه مُقَيّدا بِعَدَمِ طروّ مَا ينافى ذَلِك الظَّن من شكّ أوظن بِخِلَافِهِ، وَعند طروه يتَغَيَّر حكم الله تَعَالَى فِي حَقه إِلَى بدل أَن تعلق ظَنّه بِخِلَاف مُتَعَلق الظَّن الأول أَولا إِلَى بدل أَن لم يتَعَلَّق قلت: يلْزم حِينَئِذٍ تعدد حكم الله تَعَالَى فِي حَادِثَة وَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص وَاحِد والنسخ، وسيجئ تَفْصِيله (والاجماع) مُنْعَقد (على جَوَاز تغيره) أَي الظَّن الْمَذْكُور بِأحد الْوَجْهَيْنِ (وَوُجُوب الرُّجُوع) عَن الظَّن الْمَذْكُور مَعْطُوف على مَدْخُول على الْمُتَعَلّقَة بالاجماع (وَأَنه) أَي الْمُجْتَهد (لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع) أَي لاقطع بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى. قَوْله أَنه لم يزل مَعْطُوف على بَقَاء ظَنّه، وَالْمرَاد بِاشْتِرَاط الْقطع بِكَوْنِهِ لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع للْقطع بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى فِي حَقه بهت، لِأَن الْعلم الْقطعِي لَا يتَغَيَّر: وَهَذَا أظهر من حَيْثُ الْعبارَة، لَكِن القَاضِي عضد الدّين صدر بِهِ فِي شرح الْمُخْتَصر بِالْمَعْنَى الأول (فيجتمع الْعلم) الْقطعِي بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَالظَّن) بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى (فيجتمع النقيضان: تَجْوِيز النقيض) اللَّازِم لحقيقة الظَّن الْمُتَعَلّق بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَعَدَمه) أَي عدم تَجْوِيز النقيض اللَّازِم لحقيقة الْعلم وَالْقطع بِأَنَّهُ حكمه، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْعلم وَالظَّن المتعلقان بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد ومآ لَهما وَاحِد حَاصِل الِاسْتِدْلَال أَن كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي حَقه يسْتَلْزم الْقطع المستلزم للمحظورات الثَّلَاث لُزُوم بَقَاء الظَّن والاجماع على عدم لُزُومه واستمرار الْقطع المزيل للظن وانكار بَقَاء الظَّن بهت، واجتماع الْعلم وَالظَّن المستلزم لِاجْتِمَاع النقيضين (وإلزام كَونه) أَي كَون اجْتِمَاع النقيضين (مُشْتَرك الالزام) بِأَن الاجماع مُنْعَقد على وجوب اتِّبَاع الظَّن، فَيجب الْفِعْل إِذا ظن الْوُجُوب قطعا، وَيحرم إِذا ظن الْحُرْمَة قطعا، ثمَّ شَرط الْقطع بَقَاء الظَّن بِمَا ذكرْتُمْ، فليلزم الظَّن وَالْقطع مَعًا، ويجتمع النقيضان (مُنْتَفٍ) خبر الْمُبْتَدَأ (لاخْتِلَاف مَحل الظَّن) أَي مُتَعَلّقه على الْمَذْهَب الْحق (وَهُوَ)(3/203)
ابْن عَبَّاس، وَلَيْسَ مِمَّا لَا يجْرِي فِيهِ الرَّأْي فَإِذا قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع على أَنه لَا يصلح نَاسِخا يجب الْعَمَل بِمُوجبِه فَإِن قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا يجْرِي فِيهِ الرَّأْي لَيْسَ بِحجَّة على الْمُجْتَهد (قَالُوا) أَي المانعون قَالَ تَعَالَى (مَا ننسخ الْآيَة وَالسّنة لَيست خيرا مِنْهُ) أَي من الْقُرْآن (وَلَا مثلا) لَهُ (ونأت يُفِيد أَنه) أَي الْآتِي بِالْخَيرِ والمثل (هُوَ تَعَالَى) والآتي بِالسنةِ هُوَ الرَّسُول (أُجِيب بِمَا تقدم) من أَن المُرَاد الْخَيْر والمثل من جِهَة اللَّفْظ، وَلَا يخفى أَن الِاسْتِدْلَال يُفِيد أَمريْن: أَحدهمَا أَن عدم خيرية السّنة وَعدم مثليتها يمْنَع من كَونهَا نَاسِخا لِلْقُرْآنِ، وَالثَّانِي أَن كَون الْآتِي بالناسخ لَيْسَ إِلَّا الله تَعَالَى يَأْبَى عَن كَون مَا أَتَى بِهِ الرَّسُول نَاسِخا فَمَا تقدم لَا يصلح إِلَّا جَوَابا عَن الأول ومتممه قَوْله (وَعدم تفاضله) أَي لفظ السّنة (بالخيرية أَي البلاغة) يَعْنِي من حَيْثُ البلاغة (مَمْنُوع) قَالَ الشَّارِح إِذْ فِي الْقُرْآن الفصيح والأفصح والبليغ والأبلغ انْتهى وَهَذَا غَفلَة مِنْهُ عَن الْبَحْث، إِذْ الْكَلَام فِي نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ، وَأَنت خَبِير بِأَن أبلغية السّنة من الْقُرْآن إِذا لم يكن قدر السُّورَة لَيْسَ بممتنع شرعا لَكِن ترك هَذَا الْوَجْه أوجه (وَلَو سلم) أَن المُرَاد كَونه خيرا أَو مثلا من حَيْثُ الْمَعْنى (فَالْمُرَاد بِخَير من حكمهَا) أَو بِمثل حكمهَا بِالنّظرِ إِلَى الْعباد (وَالْحكم الثَّابِت بِالسنةِ جَازَ كَونه أصلح للمكلف) مِمَّا ثَبت بِالْقُرْآنِ أَو مُسَاوِيا لَهُ. ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَوَاب الْأَمر الثَّانِي بقوله (وَهُوَ) أَي الحكم الثَّابِت بِالسنةِ (من عِنْده تَعَالَى وَالسّنة مبلغة ووحي غير متلوّ بَاطِن) أَي كَونه وَحيا (لَا من عِنْد نَفسه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَعَالَى - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} - فالآتي بهَا فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ الله تَعَالَى، وَالرَّسُول سفير.
مسئلة
نسخ جَمِيع الْقُرْآن غير جَائِز بِالْإِجْمَاع. قَالَ الإِمَام الرَّازِيّ وَغَيره لِأَنَّهُ معْجزَة مستمرة على التَّأْبِيد، وَنسخ بعضه جَائِز، وتفصيله مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (ينْسَخ الْقُرْآن تِلَاوَة وَحكما أَو أَحدهمَا) أَي تِلَاوَة لَا حكما أَو عَكسه (وَمنع بعض الْمُعْتَزلَة غير الأول) أَي تِلَاوَة وَحكما (لنا جَوَاز تِلَاوَة حكم) ، وَلذَا تحرم على الْجنب إِجْمَاعًا (وَمفَاده) من الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم وَغَيرهمَا حكم (آخر وَلَا يلْزم من نسخ حكم نسخ آخر) لَا تلازم بَينهمَا يُوجب ذَلِك، وَهَذَانِ الحكمان كَذَلِك فَيجوز نسخ أَحدهمَا دون الآخر كَسَائِر الْأَحْكَام الَّتِي لَيْسَ بَينهَا هَذَا التلازم (وَوَقع) نسخ أَحدهمَا دون الآخر (روى عَن عمر كَانَ فِيمَا أنزل الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة نكالا من الله) . قَالَ الشَّارِح: كَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَالَّذِي وقفت عَلَيْهِ مَا أخرجه الشَّافِعِي(3/204)
عَنهُ أَنه قَالَ " إيَّاكُمْ أَن تهلكوا عَن آيَة الرَّجْم أَن يَقُول قَائِل لَا نجد حَدَّيْنِ فِي كتاب الله: فَلَقَد رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله لكتبتها الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة فَإنَّا قد قرأناهما " فَإِن قلت كَيفَ يَكْتُبهَا وَهُوَ مَنْسُوخ التِّلَاوَة قلت لم يقل بكتبها فِي الْمُصحف: بل أَرَادَ كتَابَتهَا فِي صحيفَة للْعَمَل بحكمها وليعلم أَنَّهَا كَانَت فِي الْقُرْآن فنسخت تلاوتها، وللترمذي نَحوه. ثمَّ أخرجه النَّسَائِيّ وَعبد الله بن أَحْمد فِي زيادات لمُسْند وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم عَن أبي بن كَعْب قَالَ كم تَعدونَ سُورَة الْأَحْزَاب. قَالَ قلت ثِنْتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَسبعين آيَة قَالَ كَانَت توازي سُورَة الْبَقَرَة أَو أَكثر، وَكُنَّا نَقْرَأ فِيهَا الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالاً من الله، وَإِنَّمَا عبر عَنْهُمَا بهما لِأَن الْغَالِب فيهمَا الاستبعاد (وَحكمه) أَي هَذَا الْمَنْسُوخ التِّلَاوَة (ثَابت) لِأَن المُرَاد بالشيخ وَالشَّيْخَة الْمُحصن والمحصنة وهما إِذا زَنَيَا رجما إِجْمَاعًا (وَلَقَد استبعد) كَون هَذَا قُرْآنًا نسخ تِلَاوَته استبعادا ناشئا (من طلاوة الْقُرْآن) بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة أَي حسنه لما أَنه يُوجد فِيهِ ذَلِك وَلَا يلْزم على الاستبعاد إِيهَام إِنْكَار يخْشَى عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك فِيمَا ثَبت قرآنيته بالمتواتر وَثُبُوت هَذَا بأخبار الْآحَاد (وَمِنْه) أَي الْمَنْسُوخ تِلَاوَته فَقَط عِنْد أَصْحَابنَا (الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة لِابْنِ مَسْعُود) - فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام (مُتَتَابِعَات) - إِذْ لَا وَجه لقرَاءَته ذَلِك فِي الْقُرْآن إِلَّا أَن يُقَال كَانَ يُتْلَى فِيهِ ثمَّ انتسخت تِلَاوَته فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَرْف الْقلب عَن حفظه إِلَّا قلب ابْن مَسْعُود فَبَقيَ الحكم بنقله فَإِن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعَمَل بِهِ غير أَن كِتَابَته فِي الْمَصَاحِف لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا بُد فِيهَا من التَّوَاتُر، (و) مِنْهُ أَيْضا الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة ل (ابْن عَبَّاس فَأفْطر فَعدَّة) بعد قَوْله تَعَالَى - {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} - وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه كَانَ فِي الْقُرْآن " فَلَو أَن لِابْنِ آدم واديان من ذهب لابتغى أَن يكون لَهُ ثَالِث، وَلَا يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب، وَيَتُوب الله على من تَابَ " قَالَ ابْن عبد الْبر قيل إِنَّه كَانَ من صُورَة ص (وَقَلبه) أَي نسخ الحكم لَا التِّلَاوَة (آيَة الِاعْتِدَاد حولا متلوة وارتفاع مفادها) بأَرْبعَة أشهر وَعشرا (وهما) أَي نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم (مَعًا قَول عَائِشَة كَانَ فِيمَا أنزل عشر رَضعَات) مَعْلُومَات (يحرمن) رَوَاهُ مُسلم (قَالُوا) أَي مانعو نسخ أَحدهمَا بِدُونِ الآخر وَلَا (التِّلَاوَة مَعَ مفادها) من الحكم (كَالْعلمِ مَعَ العالمية والمنطوق مَعَ الْمَفْهُوم) فَكَمَا لَا يَنْفَكّ كل من العالمية وَالْمَفْهُوم عَن صَاحبه وَبِالْعَكْسِ كَذَلِك لَا يَنْفَكّ الحكم عَن التِّلَاوَة وَبِالْعَكْسِ، وَوجه الشّبَه أَن كلا مِنْهُمَا لَا يتَصَوَّر تحَققه بِدُونِ الآخر (وَالْمَقْصُود أَنه) أَي كلا مِنْهُمَا (ملزوم) للْآخر (فَلَا يضرّهُ) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (منع ثُبُوت الْأَحْوَال) رد(3/205)
لما قيل من قبل الْجُمْهُور من أَن العالمية من الْأَحْوَال أَي الصِّفَات النفسية الَّتِي لَيست بموجودة وَلَا مَعْدُومَة قَائِمَة بموجودة، وَالْحق عندنَا منع ثُبُوتهَا وَإِن قَالَ بِهِ بعض منا كَالْقَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلَا يخفى أَن الَّذِي سموهُ حَالا وَإِن كَانَ مَعْدُوما لكنه من الْأُمُور الَّتِي نفس الْأَمر نفس لظرفها وَإِن لم يكن ظرفا لوجودها كزوجية الْأَرْبَعَة بِخِلَاف زوجية الْخَمْسَة، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي تحقق الْمُلَازمَة بَينه وَبَين أَمر آخر. (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا الِاسْتِدْلَال (إِن قلت) المتلوّ أَو الحكم (ملزوم الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الْمَعْنى أَو التِّلَاوَة (ابْتِدَاء سلمناه وَلَا يُفِيد) لِأَن الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ (أَو) ملزوم الثُّبُوت (بَقَاء منعناه) إِذْ لَا يلْزم من الثُّبُوت ابْتِدَاء الثُّبُوت بَقَاء (وَالْكَلَام فِيهِ) أَي فِي ثُبُوته بَقَاء (قَالُوا) أَي المانعون ثَانِيًا (بَقَاء التِّلَاوَة دون الحكم يُوهم بَقَاءَهُ) أَي الحكم (فيوقع) بَقَاؤُهَا دونه (فِي الْجَهْل) وَهُوَ اعْتِقَاد بَقَاء الحكم وَهُوَ غير مُطَابق للْوَاقِع، وَهُوَ قَبِيح لَا يَقع من الله سُبْحَانَهُ (وَأَيْضًا فَائِدَة إنزاله) أَي الْقُرْآن (إفادته) أَي الحكم (وتنتفي) إفادته الحكم (بِبَقَائِهِ) أَي الحكم (دونهَا) أَي التِّلَاوَة هَكَذَا فِي النّسخ المصححة، وَالشَّارِح بنى عَلَيْهِ، وَالصَّوَاب ببقائها دونه اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يرجع ضمير بَقَائِهِ إِلَى الْقُرْآن وَضمير دونهَا إِلَى الحكم بِاعْتِبَار أَنه فَائِدَة لَا يخفى مَا فِيهِ. فِي الشَّرْح العضدي وَأَيْضًا فتزول فَائِدَة الْقُرْآن لانحصار فَائِدَة اللَّفْظ فِي إِفَادَة مَدْلُوله وَإِذا لم يقْصد بِهِ ذَلِك فقد بطلت فَائِدَته، وَالْكَلَام الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ يجب أَن ينزه عَنهُ الْقُرْآن (أُجِيب) بِأَن (مبناه) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (على التحسين والتقبيح) العقليين وَقد نفاهما الأشاعرة (وَلَو سلم) القَوْل بهما (فَإِنَّمَا يلْزم الْإِيقَاع) فِي الْجَهْل عِنْد نسخ الحكم لَا التِّلَاوَة (لَو لم ينصب دَلِيل عَلَيْهِ) أَي على عدم بَقَاء الحكم لكنه نصب عَلَيْهِ فالمجتهد يعْمل بِالدَّلِيلِ والمقلد بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ (وَيمْنَع حصر فَائِدَته) أَي الْقُرْآن فِي إِفَادَة الحكم (بل) إنزاله كَمَا يكون لإفادته يكون (للإعجاز ولثواب التِّلَاوَة أَيْضا وَقد حصلتا) إِذْ الإعجاز لَا ينتفى بنسخ تعلق حكم اللَّفْظ وَكَذَا الثَّوَاب (كالفائدة الَّتِي عينتموها) أَي كَمَا حصلت الإفادة الْمَذْكُورَة ابْتِدَاء وَلَا يلْزم بَقَاء الْفَائِدَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر حُصُول الْفَائِدَة ابْتِدَاء قبل النّسخ لعدم بَقَاء الحكم بعده (انْتَفَى النّسخ بعد) طلب (الْفِعْل الْوَاجِب تكرره) بِتَكَرُّر سَببه إِذْ الْمَطْلُوب فِيهِ استمراره باستمرار سَببه وَهُوَ فَائِدَة الْخطاب الْمُتَعَلّق بِهِ وبالنسخ يَزُول ذَلِك، والمستلزم للمحال مُنْتَفٍ فالنسخ مُنْتَفٍ، والقائلون بالنسخ لَا يَقُولُونَ بِانْتِفَاء هَذَا النّسخ بل أَجمعُوا على صِحَّته بل وُقُوعه، وَإِنَّمَا قيد الانتفاء بِهَذَا النّسخ لِأَن نسخ فعل لم يجب تكرره لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء الْفَائِدَة لِأَن الْمَطْلُوب فِيهِ أصل الْفِعْل وَهُوَ يحصل بِمرَّة قبل النّسخ فَلْيتَأَمَّل.(3/206)
مسئلة
(لَا ينْسَخ الْإِجْمَاع) الْقطعِي أَي لَا يرْتَفع الحكم الثَّابِت بِهِ (وَلَا ينْسَخ بِهِ) غَيره (أما الأول فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ) أَي لَو تحقق رفع حكمه (فبنص) أَي فَينْسَخ بِنَصّ (قَاطع أَو إِجْمَاع) قَاطع (وَالْأول) أَي نسخه بِنَصّ قَاطع (يسْتَلْزم خطأ قَاطع الْإِجْمَاع) أَي الْإِجْمَاع الْقَاطِع مثل جرد قطيفة (لِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع حِينَئِذٍ بِخِلَاف الْوَاقِع الَّذِي هُوَ النَّص وخلافه خطأ لتقدم ذَلِك عَلَيْهِ لما سَيَجِيءُ، وَلَا ينْعَقد الْإِجْمَاع على (خلاف الْقَاطِع، وَالثَّانِي) أَي رفع الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع يسْتَلْزم (بطلَان أَحدهمَا) أَي الاجماعين النَّاسِخ والمنسوخ وَهُوَ ظَاهر (وَلَيْسَ) هَذَا الدَّلِيل (بِشَيْء لِأَن النّسخ لَا يُوجب خطأ) لاستلزامه خطأ الحكم الْمَنْسُوخ مُطلقًا، بل إِنَّمَا ينْسَخ الْإِجْمَاع بِنَصّ مُتَأَخّر لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع (الأول، وَإِلَّا) أَي وَإِن كَانَ النّسخ مُوجبا إِيَّاه (امْتنع) النّسخ (مُطلقًا) لاستلزامه خطأ الحكم الْمَنْسُوخ مُطلقًا (بل) إِنَّمَا لَا ينْسَخ الْإِجْمَاع بِنَصّ مُتَأَخّر (لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر لِأَن حجيته) أَي الْإِجْمَاع مَشْرُوطَة (بِقَيْد بعديته) أَي بِأَن يكون انْعِقَاده بعد زَمَانه (عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يتَصَوَّر تَأَخّر النَّص عَنهُ) أَي الْإِجْمَاع (وثمرته) أَي الْخلاف فِي أَن الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِغَيْرِهِ تظهر (فِيمَا إِذا أجمع على قَوْلَيْنِ) فِي الشَّرْح العضدي. قَالَ المجيزون: اخْتلفت الْأمة على قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاع على أَن المسئلة اجتهادية يجوز الْأَخْذ بكلهما، ثمَّ يجوز إِجْمَاعهم على أحد الْقَوْلَيْنِ كَمَا مر فَإِذا أَجمعُوا بَطل الْجَوَاز الَّذِي هُوَ مُقْتَضى ذَلِك الْإِجْمَاع وَهُوَ معنى النّسخ (جَازَ بعده) أَي بعد الْإِجْمَاع على الْقَوْلَيْنِ الْإِجْمَاع (على أَحدهمَا) بِعَيْنِه (فَإِذا وَقع) الْإِجْمَاع على أَحدهمَا بِعَيْنِه (ارْتَفع جَوَاز الْأَخْذ بِالْآخرِ) لتعين الْأَخْذ بِمَا أجمع عَلَيْهِ على سَبِيل التَّعْيِين، وَبطلَان الْأَخْذ بمخالفه (فالمجيز) لجَوَاز نسخ الْإِجْمَاع وصيرورته مَنْسُوخا يَقُول ارْتِفَاع جَوَاز الْأَخْذ بِالْآخرِ بعد أَن كَانَ مجمعا عَلَيْهِ (نسخ) لذَلِك الْإِجْمَاع (وَالْجُمْهُور) يَقُولُونَ (لَا) أَي لَيْسَ بنسخ (لمنع الْإِجْمَاع على أَحدهمَا) بِعَيْنِه: يَعْنِي ثُبُوت هَذَا النّسخ مَوْقُوف على صِحَة انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أحد ذَيْنك الْقَوْلَيْنِ بِعَيْنِه وَهِي مَمْنُوعَة (لِأَنَّهُ) أَي انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أَحدهمَا بِعَيْنِه (مُخْتَلف) فِيهِ (وَلَو سلم) انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أَحدهمَا بِعَيْنِه (ف) لَيْسَ الِارْتفَاع الْمَذْكُور نسخا للْإِجْمَاع التَّام، لِأَن تَمَامه وتقرره (مَشْرُوط بِعَدَمِ قَاطع يمنعهُ) أَي يمْنَع انْعِقَاده على وَجه اللُّزُوم (وَالْإِجْمَاع على أَحدهمَا) بِعَيْنِه (مَانع) من ذَلِك، وَفِيه نظر، لِأَن الْمُخْتَار أَنه إِذا أجمع أهل الْحل وَالْعقد على حكم فِي عصر فبمجرد انْعِقَاده صَار قَطْعِيا وَيلْزم أَن يكون تَاما وَيَكْفِي عدم الْمَانِع فِي وَقت الِانْعِقَاد فَتدبر(3/207)
(وَأما الثَّانِي) وَهُوَ أَن الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِهِ غَيره (فالأكثر على مَنعه) أَي منع أَن ينْسَخ بِهِ غَيره (خلافًا لِابْنِ أبان وَبَعض الْمُعْتَزلَة لنا أَن) كَانَ الْإِجْمَاع (عَن نَص) من كتاب أَو سنة (فَهُوَ) أَي النَّص (النَّاسِخ) وَلما كَانَ مَا زعم الْمُجِيز نسخ الْإِجْمَاع لَهُ أَعم مِمَّا يجوز نسخه وَالنَّص لَا ينْسَخ إِلَّا مَا يجوز نسخه فسره بقوله (يَعْنِي لما بِحَيْثُ ينْسَخ) إِشَارَة إِلَى أَن مَا بِحَيْثُ لَا ينْسَخ فَهُوَ بمعزل عَن مَظَنَّة النّسخ مُطلقًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْإِجْمَاع عَن نَص (فَالْأول) أَي الحكم الَّذِي زعم الْمُجِيز أَنه مَنْسُوخ بِالْإِجْمَاع مُطلقًا (أَن) كَانَ (قَطْعِيا لزم خطا الثَّانِي) وَهُوَ الْإِجْمَاع الَّذِي ظن أَن كَونه نَاسِخا (لِأَنَّهُ) أَي الثَّانِي حِينَئِذٍ (على خلاف) النَّص (الْقَاطِع) وكل مَا هَذَا شَأْنه خطأ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن قَطْعِيا بل ظنيا (فالإجماع) المنعقد (على خِلَافه) أَي الظني الْمَذْكُور (أظهر أَنه لَيْسَ دَلِيلا) لِأَن شَرط الِاحْتِجَاج بالظني أَن لَا يكون على خلاف الْقطعِي (فَلَا حكم) ثَابت لَهُ (فَلَا رفع) لِأَنَّهُ فرع الثُّبُوت (و) يرد (عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الِاسْتِدْلَال (منع خطأ) حَيْثُ قَالَ أَن قَطْعِيا لزم خطأ (الثَّانِي لِأَنَّهُ) أَي الثَّانِي (قَطْعِيّ مُتَأَخّر عَن قَطْعِيّ) مُتَقَدم، والناسخ لَا يَسْتَدْعِي خطأ الْمَنْسُوخ، وَإِلَّا امْتنع النّسخ مُطلقًا، وَقد مر غير مرّة (وَإِن) كَانَ الحكم ناشئا (عَن ظَنِّي) كَمَا هُوَ التَّقْدِير الثَّانِي (فيرفعه) الثَّانِي، لِأَن الْقَاطِع يرفع مَا دونه (كالكتاب للْكتاب) أَي كنسخ قَطْعِيّ الدّلَالَة مِنْهُ وظنيتها مِنْهُ (وَإِذن فللخصم منع الْأَخير) وَهُوَ أَن الْإِجْمَاع أظهر إِلَى آخِره (بل ينْسَخ) الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاع الْقطعِي الأول (الظني، لَا أَنه) أَي الثَّانِي (يظْهر بُطْلَانه) أَي الأول (فَالْوَجْه) فِي دَلِيل منع نسخ الْإِجْمَاع (مَا للحنفية) من أَنه (لَا مدْخل للآراء فِي معرفَة انْتِهَاء الحكم فِي علمه تَعَالَى) وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك بِالْوَحْي وَلَا وَحي بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالُوا) أَي المجيزون (وَقع) نسخ الْقُرْآن بِالْإِجْمَاع (بقول عُثْمَان) لما قَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس كَيفَ تحجب الْأُم بالأخوين وَقد قَالَ تَعَالَى - {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} - والأخوان ليسَا إخْوَة (حجبها قَوْمك) يَا غُلَام. قَالَ ابْن الملقن رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وَإِبْطَال حكم الْقُرْآن بِالْإِجْمَاع نسخ (وبسقوط سهم الْمُؤَلّفَة) من الزَّكَاة عِنْد الْحَنَفِيَّة وَمن وافقهم بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فِي زمن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ روى الطَّبَرِيّ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما أَتَاهُ عُيَيْنَة بن حصن قَالَ - {الْحق من ربكُم فَمن شَاءَ فليؤمن وَمَا شَاءَ فليكفر} -: يَعْنِي الْيَوْم لَيْسَ مؤلفة من غير إِنْكَار أحد من الصَّحَابَة ذَلِك (قُلْنَا الأول) أَي الِاسْتِدْلَال بقول عُثْمَان على كَون الْإِجْمَاع نَاسِخا لِلْقُرْآنِ (يتَوَقَّف على إِفَادَة الْآيَة) أَي - {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} - (عدم حجب مَا لَيْسَ إخْوَة قطعا) للْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس، إِذْ لَو لم يفد(3/208)
جَازَ أَن يكون حجبهم لدَلِيل آخر (و) على (أَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا أخوة قطعا) إِذْ لَو جَازَ كَونهمَا فِي اللُّغَة إخْوَة كَانَ معنى قَول عُثْمَان أَن قَوْمك يجعلونهما إخْوَة من حَيْثُ اللُّغَة (لَكِن الأول) أَي إِفَادَة الْآيَة عدم حجب مَا لَيْسَ إخْوَة ثَابت (بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف (الْمُخْتَلف) فِي صِحَة كَونه حجَّة، وَهُوَ إِن لم يكن لَهُ إخْوَة لَا يكون لأمه السُّدس. (وَالثَّانِي) وَهُوَ أَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا إخْوَة قطعا (فرع أَن صِيغَة الْجمع لَا تطلق على الِاثْنَيْنِ لَا) حَقِيقَة (وَلَا مجَازًا قطعا) وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن الْإِطْلَاق عَلَيْهِمَا مجَازًا لَا يُنكر (وَلَو سلم) أَن عُثْمَان أَرَادَ حجبها بِالْإِجْمَاع، كَذَا ذكره الشَّارِح وَالْوَجْه أَن الْمَعْنى وَلَو سلم تحقق مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال مِمَّا ذكر (وَجب تَقْدِير نَص) قَطْعِيّ ثَبت عِنْدهم ليَكُون النّسخ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاع على خلاف الْقيَاس، وَهُوَ بَاطِل (وَسُقُوط الْمُؤَلّفَة من قبيل انْتِهَاء الحكم لانْتِهَاء علته المفردة) إِنَّمَا قيدها بِهِ إِذْ لَو كَانَت مُتعَدِّدَة لم يلْزم من انْتِهَاء بَعْضهَا انْتِهَاء الحكم. قَالَ الشَّارِح وَهِي الإعزاز لِلْإِسْلَامِ، وَمعنى انتهائها أَن الإعزاز كَانَ حَاصِلا فِي زمن أبي بكر دون إِعْطَاء سهمهم (وَلَيْسَ) انْتِهَاء الحكم لانْتِهَاء علته (نسخا وَلَو ادعوا) أَي المجيزون، يَعْنِي سموا (مثله) أَي كَون الْإِجْمَاع مُبينًا رفع الحكم بانتهاء مدَّته (نسخا فلفظي) أَي فَالْخِلَاف لَفْظِي (مَبْنِيّ على الِاصْطِلَاح فِي اسْتِقْلَال دَلِيله) أَي النّسخ، فَمن اشْتَرَطَهُ فِيهِ وَهُوَ الْجُمْهُور لم يَجْعَل الْإِجْمَاع نَاسِخا، فَإِن الْإِجْمَاع لَيْسَ مُسْتقِلّا بِذَاتِهِ فِي إِثْبَات الحكم، بل لَا بُد لَهُ من مُسْتَند هُوَ الدَّلِيل فِي الْحَقِيقَة، وَهُوَ كاشف عَنهُ وَإِن لم ينْقل إِلَيْنَا لَفظه، وَمن لم يشْتَرط فِيهِ جعله نَاسِخا. قَالَ شمس الْأَئِمَّة، وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع فقد جوزه بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع مُوجب علم الْيَقِين كالنص فَيجوز أَن يثبت النّسخ بِهِ وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور، وَإِذا كَانَ يجوز النّسخ بِهِ فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى، وَأَكْثَرهم على أَنه لَا يجوز ذَلِك، لِأَن الْإِجْمَاع عبارَة عَن اجْتِمَاع الآراء على شَيْء، وَلَا مجَال للرأي فِي معرفَة نِهَايَة الْحسن والقبح فِي الشَّيْء عِنْد الله تَعَالَى (وَصرح فَخر الْإِسْلَام بمنسوخيته) أَي الْإِجْمَاع (أَيْضا) . قَالَ الشَّارِح وَهَذَا يُفِيد أَنه مُصَرح بنسخ الْإِجْمَاع والنسخ بِهِ، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون قَوْله أَيْضا بِاعْتِبَار تحقق القَوْل بهما مَعًا من الْحَنَفِيَّة وَإِن لم يكن الْقَائِل بهما وَاحِدًا (قَالَ والنسخ فِي ذَلِك كُله) أَي فِي الْإِجْمَاع (بِمثلِهِ) أَي بِإِجْمَاع مثله (جَائِز حَتَّى إِذا ثَبت حكم بِإِجْمَاع فِي عصر يجوز أَن يجمع أُولَئِكَ على خِلَافه فَينْسَخ بِهِ الأول وَكَذَا فِي عصرين. وَوجه) قَول فَخر الْإِسْلَام (بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ظُهُور انْتِهَاء مُدَّة الحكم) الأول (بالهامه تَعَالَى للمجتهدين، وَإِن لم يكن للرأي دخل فِي معرفَة انْتِهَاء مُدَّة الحكم وزمان نسخ مَا ثَبت بِالْوَحْي) من(3/209)
الْأَحْكَام (وَإِن انْتهى بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِامْتِنَاع نسخ مَا ثَبت بِالْوَحْي بعده) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَكِن زمَان نسخ مَا ثَبت بِالْإِجْمَاع لم ينْتَه بِهِ) أَي بِمَوْتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لبَقَاء زمَان انْعِقَاده) أَي الْإِجْمَاع وحدوثه (فَجَاز أَن يجمع على خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ أهل الْعَصْر الأول) بِاعْتِبَار تبدل الْمصَالح (فَيظْهر بِالْإِجْمَاع الْمُتَأَخر انْتِهَاء مُدَّة حكم الْإِجْمَاع السَّابِق إِلَّا أَن شَرطه) أَي نسخ الْإِجْمَاع الاجماع (الْمُمَاثلَة) بَينهمَا فِي الْقُوَّة من غَيرهم (بعده) أَي بعد إِجْمَاعهم (بِخِلَاف مَا) أَي إِجْمَاع انْعَقَد (بعده) أَي بعد إِجْمَاع الصَّحَابَة فَإِنَّهُ ينسخه مَا بعده. (وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا) التَّوْجِيه (لَا يَتَأَتَّى إِلَّا على القَوْل بِجَوَاز الْإِجْمَاع لَا عَن مُسْتَند) وتجويز أَن يكون للْإِجْمَاع الأول مُسْتَند ظَنِّي ثمَّ يظْهر لأهل عصر الْمُتَأَخر مُسْتَند آخر أقوى من الأول سَيَأْتِي مَعَ جَوَابه (وَلَيْسَ) القَوْل بِهِ القَوْل (السديد، ثمَّ نَاقض) فَخر الْإِسْلَام فِي هَذَا التَّصْرِيح (قَوْله فِي) مَبْحَث (النّسخ، وَأما الْإِجْمَاع فَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين أَنه يجوز النّسخ بِهِ، وَالصَّحِيح أَن النّسخ بِهِ) أَي بِالْإِجْمَاع (لَا يكون) لِأَن النّسخ لَا يكون (إِلَّا فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْإِجْمَاع لَيْسَ بِحجَّة فِي حَيَاته لِأَنَّهُ لَا إِجْمَاع بِدُونِ رَأْيه) لِأَنَّهُ أول الْمُجْتَهدين، وَالْإِجْمَاع اتِّفَاق كلهم، وَإِذا تحقق رَأْيه فَهُوَ الدَّلِيل لَا الْإِجْمَاع أَشَارَ إِلَى دَلِيل آخر على عدم انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي زَمَانه بقوله (وَالرُّجُوع إِلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْحَاجة إِلَى الْبَيَان فِيمَا لم يتَبَيَّن حكمه عِنْد أهل الْعلم (فرض، وَإِذا وجد مِنْهُ الْبَيَان فالموجب للْعلم هُوَ الْبَيَان المسموع مِنْهُ) لَا غَيره (وَإِذا صَار الْإِجْمَاع وَاجِب الْعَمَل بِهِ) بعده (لم يبْق النّسخ مَشْرُوعا) إِذا لم يصر مَشْرُوعا إِلَّا بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعند ذَلِك قد انْقَضى أَوَان النّسخ كَمَا عرفت (وَجوز أَن يُرِيد) فَخر الْإِسْلَام بِعَدَمِ النّسخ بِالْإِجْمَاع أَنه لَا ينْسَخ الْكتاب وَالسّنة بِالْإِجْمَاع، وَأما نسخ الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع فَيجوز) وَالْفرق أَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد بخلافهما، وَينْعَقد بِخِلَاف الْإِجْمَاع لما عرفت من تبدل الْمصَالح (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاحْتِمَال الَّذِي جوزه (لمُجَرّد دفع المناقضة) عَن فَخر الْإِسْلَام (لَا يُقَوي اخْتِيَاره) أَي فَخر الْإِسْلَام (للضعيف) وَهُوَ أَن النّسخ يكون بِالْإِجْمَاع للْإِجْمَاع (ثمَّ هُوَ) أَي التجويز الْمَذْكُور (منَاف لقَوْله النّسخ لَا يكون إِلَّا فِي حَيَاته الخ) إِذْ الْمُتَبَادر مِنْهُ أَن مُطلق النّسخ لَا يكون إِلَّا فِيهَا (وَمَا قيل) على مَا فِي التَّلْوِيح (جَازَ وُقُوع الْإِجْمَاع الثَّانِي عَن نَص رَاجِح على مُسْتَند الْإِجْمَاع الأول وَلَا يعلم تَأَخره) أَي النَّص الرَّاجِح (عَنهُ) أَي عَن مُسْتَند الأول (كي لَا ينْسب النّسخ إِلَى) هَذَا (النَّص) الْمُتَأَخر (فَيَقَع الْإِجْمَاع الثَّانِي مُتَأَخِّرًا) عَن الْإِجْمَاع الأول (فَيكون نَاسِخا) للْأولِ. وَقَوله مَا قيل مُبْتَدأ خَبره (لم يزدْ على اشْتِرَاط تَأَخّر النَّاسِخ) وَوُجُود اشْترط (ثمَّ لَا يُفِيد)(3/210)
تَوْجِيه نسخ الْإِجْمَاع وَيكون مُسْتَنده أقوى (لِأَنَّهُ إِذا فرض تحقق الْإِجْمَاع عَن نَص امْتنع مُخَالفَته) أَي ذَلِك الْإِجْمَاع (وَلَو ظهر نَص أرجح مِنْهُ) أَي من نَص الْإِجْمَاع الأول (لصيرورة ذَلِك الحكم) الْمجمع عَلَيْهِ (قَطْعِيا بِالْإِجْمَاع فَلَا تجوز مُخَالفَته فَلَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع بِخِلَافِهِ) .
مسئلة
(إِذا رجح قِيَاس مُتَأَخّر لتأخر شَرْعِيَّة حكم أَصله عَن نَص) صلَة لتأخر (على نقيض حكمه) أَي الأَصْل مُتَعَلق بِنَصّ (فِي الْفَرْع) الَّذِي عدى الْقيَاس الْمَذْكُور فِيهِ حكم الأَصْل إِلَيْهِ فقد وَقعت الْمُعَارضَة بَين هَذَا الْقيَاس وَبَين ذَلِك النَّص لاقْتِضَاء كل مِنْهُمَا نقيض الآخر. وَفِي الْحَقِيقَة الْمُعَارضَة بَين النَّص الدَّال على حكم أصل الْقيَاس وَبَين النَّص الْمَذْكُور، ورجحان الْقيَاس يسبب رجحانه على النَّص الآخر بِشَيْء من أَسبَاب التَّرْجِيح، وَجَوَاب الشَّرْط قَوْله (وَجب نسخه) أَي الْقيَاس (إِيَّاه) أَي النَّص السَّابِق، وَهَذَا الأَصْل (لمن يُجِيز تَقْدِيمه) أَي الْقيَاس (على خبر الْوَاحِد بِشُرُوطِهِ) . قَالَ الشَّارِح: أَي النّسخ وَالظَّاهِر أَن إرجاع الضَّمِير إِلَى التَّقْدِيم (دون غَيره) أَي غير من يُجِيز تَقْدِيمه على خبر الْوَاحِد. وَلما ذكر حكم الْقيَاس الرَّاجِح بِاعْتِبَار نَص حكم أَصله على النَّص الآخر ألحق بِهِ الْقيَاس المساوى بذلك الِاعْتِبَار إِيَّاه، فَقَالَ (وَكَذَا) أَي وَمثل الْقيَاس الرَّاجِح الْقيَاس (المساوى) مِثَاله نَص الشَّارِع على عدم ربوية الذّرة، ثمَّ نَص بعده على ربوية الْقَمْح وَهُوَ أصل قِيَاس ربوية الذّرة، ثمَّ نَص بعده على ربوية الْقَمْح، وَهُوَ أصل قِيَاس ربوية الذّرة على الْقَمْح فقد اقْتضى الْقيَاس الْمُتَأَخر لتأخر شَرْعِيَّة حكم أَصله فِي الذّرة وَهُوَ الربوية عَن النَّص الدَّال على عدم ربوبيتها أَن تكون الذّرة ربوية، وَنسخ حكم ذَلِك الْمُتَقَدّم (وَمَا قيل فِي نَفْيه) أَي النّسخ (فِي الظنيين) على مَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب لِأَنَّهُ (بَين الْقيَاس) المظنون (زَوَال شَرط الْعَمَل بِهِ وَهُوَ رجحانه) . فِي الشَّرْح العضدي: اخْتلف فِي الْقيَاس هَل يكون نَاسِخا ومنسوخا. وتفصيله أَنه إِمَّا مظنون أَو مَقْطُوع الأول لَا يكون نَاسِخا وَلَا مَنْسُوخا، أما أَنه لَا يكون نَاسِخا فَلِأَن مَا قبله إِمَّا قَطْعِيّ أَو ظَنِّي، فَإِن كَانَ قَطْعِيا لم يجز نسخه بالمظنون وَإِن كَانَ ظنيا تبين زَوَال شَرط الْعَمَل بِهِ وَهُوَ رجحانه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبت مُقَيّدا لعدم ظُهُور معَارض رَاجِح أَو مسَاوٍ، و (لَيْسَ بِشَيْء بعد فرض تَأَخره) أَي الْقيَاس عَن الظني الأول (و) بعد فرض (الحكم بِصِحَّة الحكم السَّابِق) الثَّابِت بالظني الْمَذْكُور (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْقيَاس مُتَأَخِّرًا (فَلَا نسخ) إِذْ النَّاسِخ لَا يتَصَوَّر أَن يكون مُقَارنًا هَذَا على مَا فسره الشَّارِح فَلَا وَجه أَن يُقَال أَن الْمَعْنى وَإِن لم يكن الْقيَاس الْمَذْكُور نَاسِخا لما قلت لم يبْق نسخ أصلا إِذْ يُمكن مثل هَذَا الْكَلَام(3/211)
فِي كل نسخ (وَإِنَّمَا ذَاك) أَي نفي النّسخ (فِي الْمُعَارضَة الْمَحْضَة) بَين الظنيين من غير تَأَخّر أَحدهمَا (وَأما نسخه) أَي الْقيَاس (قِيَاسا آخر بنسخ حكم أَصله) أَي الآخر (مَعَ) وجود (عِلّة الرّفْع الثَّابِتَة فِي الْفَرْع على مَا قيل فَفِيهِ نظر عندنَا) تَفْسِيره مَا أَفَادَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَته على الشَّرْح العضدي بقوله، وَصُورَة ذَلِك أَن ينْسَخ حكم الأَصْل بِنَصّ مُشْتَمل على عِلّة متحققة فِي الْفَرْع فَينْسَخ حكم الْفَرْع أَيْضا بِالْقِيَاسِ على الأَصْل فَيتَحَقَّق قِيَاس نَاسخ وَآخر مَنْسُوخ: مِثَاله أَن يثبت حُرْمَة الرِّبَا فِي الذّرة بِقِيَاس على الْبر مَنْصُوص الْعلَّة ثمَّ ينْسَخ حُرْمَة الرِّبَا فِي الْبر تنصيصا على عِلّة مُشْتَركَة بَينه وَبَين الذّرة، فيقاس عَلَيْهِ وترفع حُرْمَة الرِّبَا فِيهَا فَيكون نسخا للْقِيَاس بِالْقِيَاسِ أه فعلة الرّفْع الثَّابِتَة فِي الْفَرْع عبارَة عَن الْعلَّة المنصوصة فِي الْقيَاس الثَّانِي فَإِنَّهَا مَوْجُودَة على هَذَا التَّصْوِير فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ الذّرة، ثمَّ بَين وَجه النّظر بقوله (إِذْ لَا نجيز الْقيَاس) الْمُرَتّب (لعدم حكم) وَالْقِيَاس الثَّانِي فِي التَّصْوِير الْمَذْكُور من هَذِه الْقَبِيل (كَمَا سَيعْلَمُ) فِي المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط الْعلَّة (وَلَا يُعلل) الحكم (النَّاسِخ) من حَيْثُ أَنه نَاسخ، وَألا يلْزم تَعديَة النّسخ إِلَى حكم آخر مشارك لَهُ فِي تِلْكَ الْعلَّة لحكم مماثل للمنسوخ عِنْد إِلْغَاء خُصُوصِيَّة النَّاسِخ والمنسوخ، وَلما كَانَ قَوْله مَعَ عِلّة الرّفْع الثَّابِتَة فِي الْفَرْع على مَا قيل بِظَاهِرِهِ مُخَالف هَذَا دَفعه بقوله (وَمَا فَرْضه الْقَائِل) الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَمَا قيل (لَا يكون غير بَيَان وَجه انْتِهَاء الْمصلحَة) فِي شرح حكم الأَصْل للْقِيَاس الْمَنْسُوخ فَلَا يكون تعليلا للناسخ بِأَن يبين مثلا أَن الْمصلحَة الَّتِي كَانَت منشأ حُرْمَة الرِّبَا فِي الْبر انْتَهَت وَصَارَت الْمصلحَة فِي عدم حرمته، وَالْفرق بَين الْمصلحَة وَالْعلَّة سَيَأْتِي فِي مبَاحث الْقيَاس (وَهُوَ) أَي بَيَان وَجه انْتِهَاء الْمصلحَة (مَعْلُوم فِي كل نسخ فَلَو اعْتبر ذَلِك) أَي بَيَان وَجه انتهائها وَجعل تعليلا للناسخ (كَانَ) النَّاسِخ (مُعَللا دَائِما) وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع (وَإِنَّمَا يتَصَوَّر) نسخ الْقيَاس شرعا (عندنَا بشرعية بدل) غير حكم الأَصْل (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل (يضاد) الحكم (الأول فيستلزم) شرع ذَلِك (رفع حكمه) الأول وَحِينَئِذٍ (فقد يُقَال بِمُجَرَّد رفع حكم الأَصْل أهْدر الْجَامِع) بَين الأَصْل وَالْفرع (فيرتفع حكم الْفَرْع بِالضَّرُورَةِ وَلَا أثر للْقِيَاس فِيهِ) أَي فِي ارْتِفَاع حكم الْفَرْع، وَإِنَّمَا الْأَثر بشرعية ضد حكم الأَصْل فِيهِ المستلزم رفع حكمه الأول المستدعى إهدار الْجَامِع الْمُرَتّب عَلَيْهِ ارْتِفَاع حكم الْفَرْع (وأغنى هَذَا) الْبَيَان (عَن) وضع (مسئلتها) أَي الصُّورَة الْمَذْكُورَة (وَتَمَامه) أَي هَذَا الْبَحْث (فِي) المسئلة (الَّتِي تَلِيهَا) أَي هَذِه المسئلة، وَنقل الشَّارِح عَن الْأَبْهَرِيّ أَن مِثَال نسخ الْقيَاس بِالْقِيَاسِ اتِّفَاقًا أَن ينص الشَّارِع على خلاف حكم الْفَرْع فِي مَحل يكون قِيَاس الْفَرْع عَلَيْهِ أقوى انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَن تحقق النّسخ فِي هَذَا التَّصْوِير(3/212)
مَوْقُوف على تَأَخّر هَذَا التَّنْصِيص عَن النَّص الدَّال على حكم الأَصْل، وعَلى كَون الحكم الثَّانِي مُخَالفا للْحكم الأول فبمجرد ذَلِك التَّنْصِيص نسخ الحكم الأول وأهدر علته وارتفع حكم الْفَرْع وَيلْزمهُ نسخ الْقيَاس فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى قِيَاس آخر وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْقيَاس الثَّانِي لإِثْبَات الحكم الْمُتَأَخر للفرع لَا لنسخ الْقيَاس الأول، وَقد يُقَال لَيْسَ مُرَاد الْأَبْهَرِيّ كَون النَّص الثَّانِي دَالا على خلاف الحكم الأول أَيْنَمَا وجد، بل على خِلَافه بِشَرْط أَن يُوجد فِي مَحَله، فمجرد هَذَا لَا ينْسَخ الحكم الأول لَا فِي الأَصْل وَلَا فِي الْفَرْع، نعم إِذا قيس الْفَرْع على مَحل النَّص الثَّانِي لزم نسخ حكمه الْحَاصِل بِالْقِيَاسِ الأول فيرتفع الْقيَاس الأول حِينَئِذٍ (وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْسِيم الْقيَاس إِلَى قَطْعِيّ وطني) كَمَا فعله ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَذَلِكَ لما عرفت من حُصُول الْمَقْصُود بِمَا ذَكرْنَاهُ من غير تعرض لذَلِك التَّقْسِيم (وستعلم) فِي ذيل الْكَلَام فِي أَرْكَان الْقيَاس (أَن لَا قطع) ناشىء (عَن قِيَاس وَلَو قطع بعلته) أَي بعلة حكم أَصله (ووجودها فِي الْفَرْع لجَوَاز شَرْطِيَّة الأَصْل) إِذْ عَلَيْهِ الْعلَّة لَا تنَافِي شرطيته (أَو مانعية الْفَرْع) مِنْهُ، وَلَا يبعد أَن يُقَال قد يقوم فِي بعض الْموَاد قَاطع دَال على عدم شَرْطِيَّة الأَصْل وَعدم مانعية الْفَرْع، فَحِينَئِذٍ يصير الْقيَاس قَطْعِيا اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال علم بالاستقراء عدم وجود قَاطع كَذَلِك (وَلَو تجوز بِهِ) أَي بِالْقطعِ (عَن كَونه) أَي الْقيَاس (جليا فَفرض غير المسئلة) أَي فالمفروض غير المسئلة الَّتِي نَحن بصددها (أَن عني بِهِ) أَي بالجلي (مَفْهُوم الْمُوَافقَة) كَمَا سَيَجِيءُ فِي المسئلة الَّتِي تلِي هَذِه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعن بِهِ ذَلِك، بل مَا يُقَابل الْقيَاس الْخَفي (فَمَا فرضناه) فِي وضع المسئلة (عَام) ينْدَرج فِيهِ الْجَلِيّ والخفي فَهُوَ أولى لاقْتِضَائه عدم تعلق الْمَقْصُود بِخُصُوص الْجَلِيّ والخفي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا يحْتَاج إِلَيْهِ) أَي إِلَى ذكر الْجَلِيّ. (قَالُوا) أَي مجيزو النّسخ بِالْقِيَاسِ نسخ الْقيَاس (تَخْصِيص) عُمُوم (الزَّمَان) أَي زمَان الحكم (بِإِخْرَاج بعضه) أَي الزَّمَان من أَن يكون الحكم مَشْرُوعا فِيهِ (فكتخصيص المُرَاد) مِمَّا يتَنَاوَلهُ لفظ الْعَام من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا إِخْرَاج بعض من مُتَعَدد، وَتَخْصِيص الْقيَاس للعام لَا نزاع فِيهِ، وَكَون أَحدهمَا فِي الْأَعْيَان وَالْآخر فِي الْأَزْمَان لَا يصلح فارقا إِذْ لَا أثر لَهُ. (الْجَواب منع الْمُلَازمَة) بَين التخصيصين (إِذْ لَا مجَال للرأي فِي الِانْتِهَاء) للْحكم فِي علم الله تَعَالَى، و (كَمَا تقدم) فِي الَّتِي قبل هَذِه (وَلَو علم) الحكم (مَنُوطًا بمصلحة علم ارتفاعها) أَي تِلْكَ الْمصلحَة (فكسهم الْمُؤَلّفَة) أَي فَهُوَ من قبيل انْتِهَاء الحكم لانْتِهَاء علته كسقوط سهم الْمُؤَلّفَة من الزَّكَاة وَلَيْسَ نسخا، وَفِي الشَّرْح العضدي الْجَواب أَنه منقوض بِالْإِجْمَاع وبالفعل وبخبر الْوَاحِد فَإِن ثَالِثهَا يخصص بِهَذَا وَلَا ينْسَخ بهَا.(3/213)
مسئلة
(نسخ أحد الْأَمريْنِ) أَي الْحكمَيْنِ المستنبطين (من فحوى مَنْطُوق) وَمن ذَلِك الْمَنْطُوق (وَهُوَ) أَي فحواه (الدّلَالَة) أَي مُسَمّى بهَا (للحنفية) أَي عِنْدهم، وبمفهوم الْمُوَافقَة عِنْد غَيرهم، وَفِيه أَقْوَال. فِي الشَّرْح العضدي الفحوى مَفْهُوم الْمُوَافقَة وَالْأَصْل مَاله الْمَفْهُوم ونسخهما مَعًا جَائِزا اتِّفَاقًا. وَاخْتلف فِي نسخ أَحدهمَا دون الآخر: فَمنهمْ من جوزهما وَمِنْهُم من منعهما إِلَى آخِره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ثَالِثهَا الْمُخْتَار للآمدي وَأَتْبَاعه جَوَاز) نسخ (الْمَنْطُوق) لِأَنَّهُ: أَي الْمَنْطُوق بِدُونِ الفحوى (لَا) جَوَاز (قلبه) أَي يمْتَنع نسخ الفحوى بِدُونِ الْمَنْطُوق (لِأَنَّهُ) أَي الْمَنْطُوق كتحريم التأفيف (ملزوم) لفحواه كتحريم الضَّرْب (فَلَا ينْفَرد) الْمَنْطُوق (عَن لَازمه) فَلَا يُوجد تَحْرِيم التأفيف مَعَ عدم تَحْرِيم الضَّرْب (بِخِلَاف نسخ التأفيف فَقَط) بِأَن ينتفى تَحْرِيم التأفيف مَعَ بَقَاء تَحْرِيم الضَّرْب على حَاله فَإِنَّهُ لَا يمْتَنع (لِأَنَّهُ) أَي نسخ التأفيف (رفع للملزوم) وَانْتِفَاء الْمَلْزُوم لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء اللَّازِم لجَوَاز أَن يكون اللَّازِم أَعم. قَالَ (المجيزون) لنسخ كل مِنْهُمَا بِدُونِ الآخر (مدلولان) متغايران بِالذَّاتِ: صَرِيح، وَغير صَرِيح (فَجَاز رفع كل دون الآخر أُجِيب) بِجَوَازِهِ (مَا لم يكن أَحدهمَا ملزوما للْآخر فَإِذا كَانَ) ملزوما للْآخر (فَمَا ذكرنَا) من أَن اللَّازِم كَمَا لَا ينتفى بِدُونِ انْتِفَاء الْمَلْزُوم والملزوم يَنْتَفِي بدن انْتِفَاء اللَّازِم قَالَ (المانعون) لنسخ شَيْء مِنْهُمَا بِدُونِ الآخر يمْتَنع نسخ (الفحوى دون الأَصْل لما قُلْتُمْ) من لُزُوم وجود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم (و) يمْتَنع (قلبه) أَي نسخ الأَصْل دون الفحوى (لِأَنَّهُ) أَي الفحوى (تَابع) للْأَصْل (فَلَا يثبت) الفحوى (دون الْمَتْبُوع) وَهُوَ الأَصْل (أُجِيب بِأَن التابعية) أَي تابعية الفحوى للْأَصْل إِنَّمَا هِيَ (فِي الدّلَالَة) أَي دلَالَة اللَّفْظ على الأَصْل (وَلَا ترْتَفع) الدّلَالَة إِجْمَاعًا (لَا) أَن الفحوى تَابع للْأَصْل فِي (الحكم) حدوثا وَبَقَاء حَتَّى ينتفى حكم الفحوى بِانْتِفَاء حكم الْمَنْطُوق فَإِن فهمنا تَحْرِيم الضَّرْب من فهمنا لتَحْرِيم التأفيف، لِأَن الضَّرْب إِنَّمَا يكون حَرَامًا لِأَن التأفيف حرم (وَهُوَ) أَي حكم الأَصْل هُوَ (الْمُرْتَفع) لَا دلَالَته. (وَاعْلَم أَن تَحْقِيقه أَن الفحوى) إِنَّمَا تثبت (بعلة الأَصْل متبادرة) إِلَى الْفَهم بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة (حَتَّى تسمى قِيَاسا جليا فالتفصيل) الْمَذْكُور من تَجْوِيز نسخ الْمَنْطُوق بِدُونِ الفحوى لَا الْعَكْس (حَتَّى على اشْتِرَاط الْأَوْلَوِيَّة) أَي أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم فِي الفحوى كَمَا هُوَ قَول بَعضهم (لِأَن نسخ الأَصْل بِرَفْع اعْتِبَار قدره) أَي الأَصْل: يَعْنِي أَن الْعلَّة كلي مشكك مِقْدَار مِنْهُ فِي حِصَّة متحققة فِي الأَصْل وَمِقْدَار آخر مِنْهُ زَائِد على الأول فِي حِصَّة كائنة فِي الفحوى فنسخ(3/214)
الأَصْل بِرَفْع اعْتِبَار ذَلِك الْمِقْدَار الْكَائِن فِي الأَصْل من الْعلَّة (وَجَاز) مَعَ رفع اعْتِبَار ذَلِك الْمِقْدَار مِنْهُ (بَقَاء الْمَفْهُوم بِقدر) من الْعلَّة (فَوْقهَا) أَي فَوق تِلْكَ الْحصَّة الَّتِي فِي الأَصْل من الْعلَّة وَنسخ الأضعف لَا يسْتَلْزم نسخ الأشد فَبَقيَ حكم الْمَفْهُوم لبَقَاء علته (بِخِلَاف الْقلب) أَي نسخ الفحوى دون الأَصْل فَإِنَّهُ لَا يجوز (إِذْ لَا يتَصَوَّر إهدار الأشد فِي التَّحْرِيم) كالضرب (وَاعْتِبَار مَا دونه) أَي مَا دون الأشد كالتأفيف (فِيهِ) أَي فِي التَّحْرِيم حَتَّى يجوز نسخ حُرْمَة الضَّرْب وَلَا ينْسَخ حُرْمَة التأفيف وَلَا يخفى أَن هَذَا التَّعْلِيل إِنَّمَا يجْرِي فيهمَا إِذا كَانَ حكم الْمَنْطُوق تَحْرِيم فعل قَبِيح فِي الْجُمْلَة وَحكم الفحوى تَحْرِيم فعل أقبح مِنْهُ، وَأما إِذا كَانَا إيجابين والمفروض أَن الفحوى أولى بالحكم فيفهم تَعْلِيله بالمقايسة فَيُقَال: لَا يتَصَوَّر إهدار مَا فِيهِ الْحسن على الْوَجْه الْأَكْمَل وَاعْتِبَار مَا دونه فِي الْحسن فَتدبر. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن يُقَال مَا ذكرته منقوض بِنَحْوِ اقتله وَلَا تهنه أجَاب عَنهُ بقوله (وَنَحْو اقتله وَلَا تهنه) إِنَّمَا جَازَ مَعَ أَن الْقَتْل أَشد من الإهانة (لعرف صير الإهانة فَوق الْقَتْل أَذَى، وَتقدم) فِي التَّقْسِيم الأول من الْفَصْل الثَّانِي فِي الدّلَالَة (أَن الْحَنَفِيَّة وَكَثِيرًا من الشَّافِعِيَّة أَن لَا يشْتَرط) فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة (سوى التبادر) أَي تبادر حكم الْمَذْكُور للمسكوت بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة سَوَاء (اتَّحد كمية المناط) للْحكم (فيهمَا) أَي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم بِأَن تَسَاويا فِي مِقْدَاره (أَو تفَاوت) المناط فيهمَا كمية بِكَوْنِهِ فِي الْمَسْكُوت أَشد (فيلزمهم) أَي الْحَنَفِيَّة وَمن وافقهم (التَّفْصِيل الْمَذْكُور) من جَوَاز نسخ الْمَنْطُوق فَقَط لَا عَكسه (فِي الأولى) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الْمَسْكُوت أولى من الحكم الْمَذْكُور فِي الْمَنْع (وَالْمَنْع) عَن جَوَاز نسخ أحد الْأَمريْنِ دون الآخر (فيهمَا) أَي فِي نسخ الْمَنْطُوق بِدُونِ الْمَفْهُوم وَعَكسه (فِي الْمُسَاوَاة) فِي المناط (فَلَو نسخ إِيجَاب الْكَفَّارَة للجماع لَا نتفى) إِيجَابهَا (للْأَكْل) وَفِي بعض النّسخ لَا يبْقى للْأَكْل، وَالْمعْنَى وَاحِد (ومبناه) أَي مبْنى هَذَا الْكَلَام (على) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار من أَن نسخ حكم الأَصْل لَا يبْقى مَعَه حكم الْفَرْع) لَا على الأَصْل الَّذِي هُوَ مبحثنا، إِذْ النَّص إِنَّمَا ورد فِي إِيجَاب الْكَفَّارَة للجماع، وَلَيْسَ إِيجَابهَا للْأَكْل بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة، إِذْ لَيْسَ مِمَّا يثبت بعلة الأَصْل متبادرة إِلَى الْفَهم بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة سَوَاء شرطنا فِيهِ أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت أَولا، أما على الأول فَظَاهر لِأَن إِيجَابهَا للجماع أولى، وَأما على الثَّانِي فلعدم اتِّحَاد كمية المناط فيهمَا، وَفِيه نظر، فَالْوَجْه أَن يُقَال فلعدم التبادر إِلَى الْفَهم بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة (وَكَونه) أَي عدم بَقَاء حكم الْفَرْع (يُسمى نسخا أَولا) نزاع (لَفْظِي) إِذْ حَقِيقَة النّسخ وَهُوَ الرّفْع متحققة بِلَا شُبْهَة فَمَا يبْقى النزاع إِلَّا فِي التَّسْمِيَة (أَو سَهْو الْمُخَالف) الَّذِي سَمَّاهُ نسخا إِذْ لَا نسخ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ من زَوَال الحكم لزوَال علته، مَعْطُوف على لَفْظِي، وَحَاصِله أَن أحد الْأَمريْنِ لَازم: أما سَهْو الْمُخَالف(3/215)
إِن كَانَ من قبيل سُقُوط سهم الْمُؤَلّفَة، وَأما النزاع لَفْظِي إِن لم يَجْعَل من قبيله (لنا نسخه) أَي حكم الأَصْل (بِرَفْع اعْتِبَار كل عِلّة لَهُ) أَي لحكم الأَصْل (وَبهَا) أَي وبعلة الأَصْل (ثَبت حكم الْفَرْع فينتفى) بانتفائها (فَقَوْل المبقين) أَيْضا هَذَا أَي الحكم لحكم (الْفَرْع للدلالة لَا للْحكم) أَي لحكم الأَصْل (وَلَا يلْزمه) أَي كَونه تَابعا لدلَالَة الأَصْل (انتفاؤه) أَي انْتِفَاء حكم الْفَرْع (لانتفائه) أَي حكم الأَصْل (وَقَوْلهمْ هَذَا) أَي الحكم بِأَن حكم الْفَرْع لَا يبْقى مَعَ نسخ حكم الأَصْل (حكم يرفع حكم الْفَرْع قِيَاسا على رفع حكم الأَصْل وَهُوَ) أَي هَذَا الْقيَاس (بِلَا جَامع) بَينهمَا مُوجب للرفع (بعد عَظِيم) كَمَا هُوَ ظَاهر مِمَّا تقدم.
مسئلة
مَذْهَب الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره أَنه (لَا يثبت حكم النَّاسِخ) فِي حق الْأمة (بعد تبليغه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول، فالمبلغ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام (قبل تبليغه) من الْإِضَافَة إِلَى الْفَاعِل فالمبلغ (هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وتأكيد الْمَجْرُور بالمرفوع بِاعْتِبَار كَونه فَاعِلا معنى على أَنه يجوز فِي الضمائر وضع الْمَرْفُوع مَوضِع الْمَجْرُور والمنصوب وَنَحْوه، وَقيل يثبت، وَالْخلاف فِيمَا نزل إِلَى الأَرْض، وَأما إِذا بلغ جِبْرِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّمَاء كَمَا فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج فَلَا خلاف فِيهِ (لِأَنَّهُ) أَي ثُبُوته (يُوجب تَحْرِيم شَيْء ووجوبه فِي وَقت) وَاحِد، إِذْ وجوب الْمَنْسُوخ بَاقٍ على الْمُكَلف قبل بُلُوغ النّسخ فِي صُورَة تقدم الْوُجُوب، وتحريمه بَاقٍ عَلَيْهِ فِي سُورَة التَّحْرِيم (لِأَنَّهُ لَو ترك الْمَنْسُوخ قبل تمكنه من علمه) بالناسخ (أَثم) بِالْإِجْمَاع إِنَّمَا قَالَ قبل تمكنه من الْعلم وَلم يقل قبل علمه إِشَارَة إِلَى أَنه لَو ترك قبل الْعلم بعد التَّمَكُّن مِنْهُ لأثم بالتقصير فِي تَحْصِيله (وَهُوَ) أَي الْإِثْم على تَقْدِير التّرْك (لَازم الْوُجُوب) فَكَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا (وَالْفَرْض أَنه) أَي الْعَمَل بِهِ (حرَام) بالناسخ فَكَانَ وَاجِبا حَرَامًا فِي وَقت وَاحِد (وَلِأَنَّهُ لَو علمه) أَي مُوجب النّسخ (غير مُعْتَقد شرعيته لعدم علمه) بِكَوْنِهِ نَاسِخا للْأولِ (أَثم) بِعِلْمِهِ اتِّفَاقًا (فَلم يثبت حكمه) أَي النَّاسِخ وَهَذَا التَّعْلِيل مَعْطُوف على التَّعْلِيل الأول لَا الثَّانِي، لِأَنَّهُ يثبت عدم ثُبُوت حكم النَّاسِخ لَا اجْتِمَاع التَّحْرِيم وَالْوُجُوب (وَأَيْضًا لَو ثَبت) حكمه (قبله) أَي قبل تبليغه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأمة (ثَبت) حكمه (قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لاتحادهما) أَي الصُّورَتَيْنِ (فِي وجود النَّاسِخ) فِي نفس الْأَمر (الْمُوجب لحكمه) أَي النَّاسِخ (مَعَ عدم تمكن الْمُكَلف من علمه) أَي النَّاسِخ (وَقد يُقَال) على الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين (الْإِثْم) إِنَّمَا هُوَ (لقصد الْمُخَالفَة) للمشروع عِنْده (مَعَ(3/216)
الِاعْتِقَاد) للمخالفة (فيهمَا) أَي الْوَجْهَيْنِ (لَا لنَفس الْفِعْل) كَمَا فِي من وطئ امْرَأَته يَظُنهَا أَجْنَبِيَّة فَإِنَّهُ لَا يَأْثَم بِالْوَطْءِ بل بالجراءة عَلَيْهِ (وَلَا نؤثمه) بترك الْعَمَل بالناسخ (قبل تمكن الْعلم) بالناسخ لعدم لُزُوم الِامْتِثَال قبل التَّمَكُّن: يَعْنِي لم لَا يجوز أَن يكون حكم النَّاسِخ ثَابتا فِي نفس الْأَمر وَيكون إِثْم التّرْك لما ذكر، لَا لِأَنَّهُ لَو ترك مَا هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ: أَي الْمَنْسُوخ، وإثم الْفِعْل أَيْضا لذَلِك لَا لِأَنَّهُ فعل الْمحرم، ثمَّ أَشَارَ إِلَى فَائِدَة اعْتِبَار ثُبُوت الحكم الْمَذْكُور مَعَ عدم التأثيم بِالتّرْكِ بقوله (إِنَّمَا يُوجب) بِاعْتِبَار ثُبُوت حكمه (التَّدَارُك) بِالْقضَاءِ فِيمَا يُمكن التَّدَارُك (كَمَا لَو لم يعلم بِدُخُول الْوَقْت) الَّذِي عين للموقت كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم (وَخُرُوجه) فَإِن الشَّرْع يعْتَبر الْوُجُوب بِدُخُولِهِ مَعَ عدم إِمْكَان الْأَدَاء لمصْلحَة الْقَضَاء إِذا علم فِيمَا بعد أَنه فَاتَهُ الْأَدَاء، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَوَاب النَّقْض بقوله أَيْضا الخ فَقَالَ (وَالْفرق) بَين مَا قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل وَمَا بعده (أَن مَا قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل) هِيَ حَالَة للناسخ (قبل التَّعَلُّق) أَي قبل تعلقه بِفعل الْمُكَلف (أَن شَرطه) أَي شَرط تعلقه بِفِعْلِهِ (أَن يبلغ وَاحِدًا) من الْمُكَلّفين، وَلم يُوجد إِذْ ذَاك، بِخِلَاف مَا بعد التَّبْلِيغ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ مِنْهُم، فبمجرد بُلُوغه حصل الشَّرْط، وَأَيْضًا لَا يتَمَكَّن غَيره من الْعلم إِلَّا بعد الْبلُوغ إِذْ لَا يُمكن تلقيهم من جِبْرِيل (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِثُبُوت حكم النَّاسِخ فِي حكم الْأمة إِذا بلغ النَّبِي قبل أَن يبلغ الْأمة (حكم تجدّد) تعلقه وَظهر (فَلَا يعْتَبر الْعلم بِهِ) أَي لَا يتَوَقَّف ثُبُوته فِي حق الْأمة على وَاحِد مِنْهُم (للاتفاق على عدم اعْتِبَاره) أَي الْعلم بِهِ (فِيمَن لم يُعلمهُ) من الْأمة (بعد بُلُوغه وَاحِدًا) مِنْهُم فِي ثُبُوت الحكم عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا فَثَبت فِي حق الْأمة إِذا بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يبلغهم (قُلْنَا بِبُلُوغِهِ وَاحِدًا حصل التَّمَكُّن) من الْعلم (وَلذَا) أَي ولحصول التَّمَكُّن ببلوغ الْوَاحِد (شرطناه) أَي بُلُوغ الْوَاحِد فِي تعلق الحكم فِي حق الْجَمِيع (بِخِلَاف مَا قبله) أَي قبل بُلُوغ الْعلم وَاحِد من الْأمة (فَافْتَرقَا) أَي صُورَة بُلُوغ الْعلم وَاحِدًا من الْأمة، وَصُورَة عَدمه، وَفِيه أَن الِاشْتِرَاط للتمكن من الْعلم، وَهُوَ حَاصِل ببلوغ الْعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الأَرْض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقد يُقَال النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ذَلِك) الْوَاحِد (فبه) أَي بِبُلُوغِهِ (يحصل التَّمَكُّن) لَهُم من الْعلم بِهِ، وَلما أورد على دَلِيل مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة مَا أَفَادَهُ بقوله، وَقد يُقَال إِلَى آخِره قَالَ (فَالْوَجْه) فِي الِاسْتِدْلَال لنفي ثُبُوت حكم النَّاسِخ بعد تبليغه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل تبليغه هُوَ (السّمع) وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف فِي حجَّة الْوَدَاع، فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله لم أشعر فحلقت قبل أَن أذبح قَالَ " اذْبَحْ وَلَا حرج " فساقه إِلَى أَن قَالَ فسائل يَوْمئِذٍ عَن شَيْء قدم وَلَا أخر إِلَّا قَالَ (افْعَل وَلَا حرج) بِنَاء (على) قَول (أبي حنيفَة) بِوُجُوب التَّرْتِيب بَين تِلْكَ الْمَنَاسِك حَتَّى يجب(3/217)
بالإخلال بِهِ الدَّم بِمَا عَن ابْن عَبَّاس من قدم شَيْئا فِي حجه أَو أَخّرهُ فليهرق دَمًا فَإِن ظَاهر الحَدِيث أَنه إِنَّمَا سقط الدَّم لعدم الْعلم، فَعلم أَن عدم الْعلم يسْتَلْزم عدم تعلق الْوُجُوب وَعدم ثُبُوت الحكم فِي حَقهم، وَلَكِن قَول الحنقية عذرهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْجَهْل، لِأَن الْحَال كَانَ فِي ابْتِدَاء أَمر الْحَج قبل أَن تتقرر مَنَاسِكه يدل على ثُبُوت الحكم فِي حَقهم: غير أَنهم عذروا لما ذكر فَتَأمل، وَأما وَاقعَة أهل قبَاء وإتيان خبر نسخ الْقبْلَة إيَّاهُم وهم فِي الصَّلَاة واستدارتهم إِلَى الْكَعْبَة من غير أَن يستأنفوا فتدل على عدم وجوب استقبالها فِي حَقهم قبل الْعلم. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن هَذِه المسئلة مُلْحقَة بالمجتهد: يَعْنِي لَيست بقطعية.
مسئلة
(إِذا زَاد) الشَّارِع (فِي مَشْرُوع جُزْءا أَو شرطا لَهُ) حَال كَون ذَلِك الْمَزِيد (مُتَأَخِّرًا) عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ بِزَمَان يَصح القَوْل بالنسخ فِيهِ (هُوَ) أَي الْمَزِيد (فعل) للمكلف (أَو وصف) لَهُ (كركعة فِي الْفجْر) مِثَال للْفِعْل فَرضِي إِذْ لم يشرع فِي المكتوبات رَكْعَة وَاحِدَة بل ورد فِي الْخَبَر الصَّحِيح أَنَّهَا شرعت ابْتِدَاء رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فالمفروض أَن تزاد فَتَصِير ثَلَاثَة (والتغريب فِي الْحَد) مِثَال آخر للْفِعْل، وَكِلَاهُمَا من أَمْثَال الْجُزْء (وَالطَّهَارَة فِي الطّواف) فعل وَشرط (وَوصف الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة) وَهَذِه الْجُمْلَة مُعْتَرضَة بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَهُوَ (فَهَل هُوَ) أَي الْمَزِيد (نسخ) للمزيد عَلَيْهِ أم لَا (فالشافعية والحنابلة) وَجمع من الْمُعْتَزلَة كالجبائي وَأبي هَاشم وَأكْثر الأشعرية (لَا) يكون نسخا (وَقيل إِن رفعت) الزِّيَادَة حكما شَرْعِيًّا كَانَت نسخا وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا للْقَاضِي وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام الرَّازِيّ وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ والآمدي وَابْن الْحَاجِب (بِنَاء على أَنَّهَا) أَي الزِّيَادَة (قد) ترفع حكما شَرْعِيًّا (وَقد) لَا ترفعه. وَفِي التَّلْوِيح نقلا عَن صَاحب التفتيح أَن هَذَا كَلَام خَال عَن التَّحْصِيل لِأَن كل وَاحِد يعلم ذَلِك. وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَي صُورَة تَقْتَضِي رفع حكم شَرْعِي وَأي صُورَة لَا تَقْتَضِيه. (وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (نعم) هِيَ نسخ (لِأَنَّهَا ترفع حكما شَرْعِيًّا) قَالَ السُّبْكِيّ، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا وَادّعى أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي (أما رفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة) إِضَافَة الرّفْع إِلَى الْمَفْهُوم إِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول (كفى المعلوفة) زَكَاة (بعد) قَوْلنَا فِي (السَّائِمَة) زَكَاة، فَإِن مَفْهُوم هَذَا أَن لَا يكون فِي المعلوفة زَكَاة فقولنا فِي المعلوفة زَكَاة بعد هَذَا يرفع عدم وجوب الزَّكَاة الْمُسْتَفَاد بمفهومها (فنسبته) أَي رفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة (إِلَى الْحَنَفِيَّة) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (غلط إِذْ ينفونه) أَي الْحَنَفِيَّة مَفْهُوم الْمُخَالفَة ونسخه فرع وجوده، قيل والاعتذار أَن يُقَال مَعْنَاهُ أَنه لَو قَالُوا بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة كَانَ نسخه رفعا عِنْدهم(3/218)
وَلَا يخفى مَا فِيهِ (وَإِذا لزم) الزِّيَادَة (الرّفْع) والنسخ للمزيد عَلَيْهِ (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (امْتنع) اعْتِبَار الزِّيَادَة (بِخَبَر الْوَاحِد على الْقَاطِع) أَي على مَا ثَبت بِهِ لأَنهم لَا يجوزون نسخ مَا ثَبت بالقطعي بالظني (فمنعوا) أَي الْحَنَفِيَّة (زِيَادَة الطَّهَارَة) فِي الطّواف (وَالْإِيمَان) فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين (والتغريب) فِي حد الزِّنَا بِخَبَر الْوَاحِد فِي الأول كَمَا تقدم فِي المسئلة الَّتِي يَليهَا بَاب السّنة، وَفِي الْأَخير كَمَا تقدم فِي مسئلة حمل الصَّحَابِيّ مرويه الْمُشْتَرك الخ، وبالقياس على كَفَّارَة الْقَتْل فِي الثَّانِي (على مَا سلف) أَي الطّواف والرقبة وَالْحَد (إِذْ يرفع) الظني فِي هَذِه الصُّورَة أحكاما: يَعْنِي (حُرْمَة الزِّيَادَة فِي الْحَد والأجزاء بِلَا طَهَارَة) فِي الطّواف (و) الْأَجْزَاء بِلَا (إِيمَان) فِي تَحْرِير الرَّقَبَة فِي الكفارتين (وإباحته) أَي كل من الطّواف والتحرير (كَذَلِك) أَي بِلَا طَهَارَة فِي الأول وَبلا إِيمَان فِي الثَّانِي (وَهُوَ) أَي كل من الْحُرْمَة والأجزاء وَالْإِبَاحَة (حكم شَرْعِي هُوَ مُقْتَضى إِطْلَاق النَّص) أَي - {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} - وتحرير رَقَبَة - وَآيَة الْجلد (فَهُوَ) أَي كل مِنْهَا ثَابت (بِدَلِيل شَرْعِي) هُوَ النَّص (وعمومات تَحْرِيم الْأَذَى) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا ضَرَر وَلَا ضرار " وَقد ذكر أَبُو دَاوُد أَنه من الْأَحَادِيث الَّتِي يَدُور الْفِقْه عَلَيْهَا، وَقَوله وعمومات مَعْطُوف على إِطْلَاق النَّص، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد. (وَعبد الْجَبَّار) قَالَ الزِّيَادَة (إِن غيرته) أَي الْمَزِيد عَلَيْهِ تغييرا شَرْعِيًّا (حَتَّى لَو فعل) الْمَزِيد عَلَيْهِ بعد الزِّيَادَة كَمَا كَانَ يفعل قبلهَا (وَجب استئنافه كزيادة رَكْعَة فِي الْفجْر أَو) كَانَ (تخييره) أَي الْمُكَلف (بَين) خِصَال (ثَلَاث) كأعتق أَو صم أَو أطْعم (بعده) أَي تخييره (فِي ثِنْتَيْنِ) مِنْهَا كأعتق أَو صم فَقَوله أَو تخييره بِتَقْدِير كَانَ مَعْطُوف على مَدْخُول أَن وجوابهما مَحْذُوف: أَي فَهِيَ نسخ، وَالْأول ظَاهر، وَالثَّانِي (لرفع حُرْمَة تَركهمَا) أَي الخصلتين الأولتين مَعًا مَعَ فعل الثَّالِثَة بعد أَن كَانَ تَركهمَا محرما (بِخِلَاف زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد وَعشْرين على الثَّمَانِينَ) فَإِنَّهَا لَيست نسخا عِنْده لِأَن وجود الْمَزِيد عَلَيْهِ بِدُونِ الزِّيَادَة لَيْسَ كَالْعدمِ، وَلَا يجب فِيهِ اسْتِئْنَاف الْمَزِيد عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يجب ضمهَا إِلَى الْمَزِيد عَلَيْهِ (وَغلط فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْأَخير (بَعضهم) أَي ابْن الْحَاجِب حَيْثُ جعل وجود الْمَزِيد فِيهِ بِدُونِهَا كَالْعدمِ وَأَن الزِّيَادَة فِيهِ نسخ قَالَ السُّبْكِيّ: وَمَا يُقَال شَرط الضربات أَن تكون مُتَوَالِيَة فَلَو أَتَى بِثَمَانِينَ مُنْفَصِلَة من عشْرين لم يكن ضم الْعشْرين إِلَيْهَا تكلّف مَحْض، ثمَّ إِنَّه قد يجلد فِي يَوْم ثَمَانِينَ، وَفِي الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ عشْرين وَذَلِكَ يجزى، قَالَه الْأَصْحَاب إِنَّمَا الْمُمْتَنع تَفْرِقَة لَا يحصل بهَا إيلام وتنكيل وزجر كَمَا إِذا ضربه فِي كل يَوْم سَوْطًا أَو سوطين، وَعَن الْكَرْخِي وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ أَن زِيَادَة مثل وجوب ستر شَيْء من الرّكْبَة بعد وجوب ستر الْفَخْذ لَا يكون نسخا لوُجُوب ستر كل الْفَخْذ وَهُوَ لَا يتَصَوَّر(3/219)
بِدُونِ ستر الْبَعْض بل يقرره انْتهى وَفِيه تَأمل (وَالأَصَح فِي زِيَادَة صَلَاة) على الْخمس لَو وَقعت (عَدمه) أَي النّسخ وَهُوَ قَول الْجُمْهُور (وَقيل نسخ) وَنسب إِلَى بعض مَشَايِخنَا الْعِرَاقِيّين (لوُجُوب الْمُحَافظَة على الْوُسْطَى) الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} - إِذْ الزِّيَادَة تخرجها عَن كَونهَا وسطى (وَالْجَوَاب) أَن الزِّيَادَة (لَا تبطل وجوب مَا كَانَ مُسَمّى الْوُسْطَى صَادِقا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَطل كَونهَا وسطى) لِأَن مَعْنَاهَا الْمُتَوَسّط بَين الصَّلَوَات فَلَو زيدت عَلَيْهَا صلاتان لَا تبطل الْوُسْطَى إِلَّا إِذا كَانَت اسْما لصَلَاة مَخْصُوصَة وَاعْتبر لَهَا مُبْتَدأ مَخْصُوص أما الصُّبْح أَو الْعَصْر أَو غَيرهمَا على اخْتِلَاف الْأَقْوَال (وَلَيْسَ) كَونهَا وسطى (حكما شَرْعِيًّا) بل أَمر حَقِيقِيّ فَلَا يكون رَفعه نسخا (وَأما نقص جُزْء) من الْمَشْرُوع (أَو) نقص (شَرط) (فنسخ اتِّفَاقًا لحكمه) أَي حكم ذَلِك الْجُزْء أَو الشَّرْط (ثمَّ قيل هُوَ نسخ لما) هُوَ جُزْء (مِنْهُ) أَو شَرط لَهُ. وَفِي الشَّرْح العضدي. وَأما النُّقْصَان فِيهَا وَهُوَ أَن ينقص جُزْء أَو شَرط مثل أَن يسْقط من الظّهْر رَكْعَتَانِ أَو يبطل اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِيهِ فَهُوَ نسخ للجزء وللشرط اتِّفَاقًا وَهل هُوَ نسخ لتِلْك الْعِبَادَة؟ الْمُخْتَار أَنه لَيْسَ بنسخ لَهَا، وَقيل نسخ، وَقَالَ عبد الْجَبَّار: إِن كَانَ جُزْءا فنسخ وَإِن كَانَ شرطا فَلَا انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَعبد الْجَبَّار أَن) كَانَ (جُزْءا لنا لَو كَانَ) نقص بعض الرَّكْعَات مثلا (نسخا لوُجُوب الرَّكْعَات الْبَاقِيَة افْتَقَرت) الرَّكْعَات الْبَاقِيَة (إِلَى دَلِيل آخر لَهُ) أَي للْوُجُوب، لِأَن ارْتِفَاع الحكم مسلتزم لارْتِفَاع دَلِيله وَالْإِجْمَاع على عدم افتقارها إِلَى دَلِيل ثَان وَكَذَا الْكَلَام فِي الشَّرْط (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن نُقْصَان الْجُزْء أَو الشَّرْط نسخ للمشروع (حرمت) الصَّلَاة (بِلَا شَرطهَا) الَّذِي هُوَ الطَّهَارَة مثلا (و) حرمت بِدُونِ (بَاقِيهَا) الَّذِي هُوَ جزؤها السَّاقِط (وَارْتَفَعت حرمته) أَي الْمَشْرُوع الَّذِي هُوَ الصَّلَاة مثلا (بِنَقص الشَّرْط) والجزء (وَإِذن فَلَا معنى لتفصيل عبد الْجَبَّار) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ارْتِفَاع تَحْرِيم الْمَشْرُوع بدونهما بعد أَن كَانَ محرما (أُجِيب بِأَن وجوب الْبَاقِي) بعد النَّقْص (عين وُجُوبه الأول وَلم يَتَجَدَّد وجوب بل) إِنَّمَا يَتَجَدَّد (إبِْطَال وجوب مَا نقص، فَظهر أَن حكمهم) أَي الْقَائِلين بِأَن نقص الْجُزْء وَالشّرط نسخ للمشروع (بِهِ) أَي بنسخ الْمَشْرُوع إِنَّمَا هُوَ (لرفع حُرْمَة لَهَا) أَي لتِلْك الْحُرْمَة (نِسْبَة) أَي تعلق (بِالْبَاقِي) بعد النَّقْص. وَفِي نُسْخَة للْبَاقِي: أَي إِلَيْهِ (على تَقْدِير) الْبَاقِي (الِاقْتِصَار) على مَا سوى الْجُزْء وَالشّرط المنسوخين قبل وُرُود النُّقْصَان (وَعِنْدنَا هُوَ) أَي نسخ الْمَشْرُوع النَّاقِص جزؤه أَو شَرطه إِنَّمَا يكون (بِرَفْع الْوُجُوب) أَي وجوب الْمَشْرُوع الْمَذْكُور (لِأَنَّهُ) أَي الْوُجُوب هُوَ (الحكم) الثَّابِت لذَلِك الْمَشْرُوع (الْآن) أَي فِي حَال طرُو النَّقْص من حَيْثُ الْجُزْء أَو الشَّرْط (وَذَاكَ) أَي الْحُرْمَة الْمُتَعَلّقَة بِالْبَاقِي على تَقْدِير الِاقْتِصَار(3/220)
على مَا ذكر (كالمضاف) أَي كَالْحكمِ الْمُضَاف علته إِلَى وَقت مُسْتَقْبل كَمَا إِذا قَالَ فِي رَجَب أجرت الدَّار من غرَّة رَمَضَان يثبت الحكم من غرَّة رَمَضَان فالحرمة الْمَذْكُورَة لَيست بثابتة الْآن بل على التَّقْدِير الْمَذْكُور، وَالْمُعْتَبر فِي النّسخ رفع حكم ثَابت أَن تحقق النَّاسِخ، هَذَا. وَجعل الشَّارِح ضمير هُوَ لنُقْصَان الْجُزْء وَالشّرط، وَفسّر الْوُجُوب بوجوبهما لِأَنَّهُ يرفع وجوبهما الْآن بِمَا بعد النُّقْصَان، فَالْمَعْنى حِينَئِذٍ وَعِنْدنَا نُقْصَان الْجُزْء وَالشّرط يرفع وجوبهما، لِأَن رفع وجوبهما هُوَ الحكم بعد النُّقْصَان، وَهَذَا كَمَا ترى لَا مُحَصل لَهُ وَلَا مُقَابلَة بَين هَذَا وَبَين مَضْمُون مَا ظهر من حكمهم بالنسخ لرفع الْحُرْمَة الْمَذْكُورَة، على أَن ارْتِفَاع حكم الْجُزْء وَالشّرط مِمَّا لَا نزاع فِيهِ (وَقيل) وَالْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (الْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي) نسخ (الْعِبَادَة) الَّتِي نقص جزؤها أَو شَرطهَا (وَهِي الْمَجْمُوع) من الْأَجْزَاء (لَا مُجَرّد الْبَاقِي) مِنْهَا فالنزاع فِي نسخهَا بِمَعْنى ارْتِفَاع وجوب جَمِيع أَجْزَائِهَا (وَلَا شكّ فِي ارْتِفَاع وجوب الْأَرْبَع) بارتفاع وجوب رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا (واتجه) بتحرير مَحل النزاع على هَذَا الْوَجْه (تَفْصِيل عبد الْجَبَّار) بَين الْجُزْء وَالشّرط وَلذَا قَالَ الْمُحَقق وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا مُرَاد القَاضِي عبد الْجَبَّار (وَلَا شكّ فِي صدق ذَلِك) أَي ارْتِفَاع وجوب الْأَرْبَع (بِصدق كل من نسخ وجوب أَحدهَا) أَي أحد أَجْزَائِهَا (أَو) نسخ (وجوب كل) أَي كل جُزْء (مِنْهَا وَالثَّانِي) أَي نسخ وجوب كل جُزْء مِنْهَا (مَمْنُوع وَالْأول) أَي نسخ وجوب أحد أَجْزَائِهَا (مرادنا فَفِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا نسخ وجوب) جُزْء (وَاحِد دون الْبَاقِي وَإِن كَانَ يصدق ذَلِك) أَي ارْتِفَاع وجوب الْأَرْبَع (بِهِ) أَي بنسخ وجوب جُزْء مِنْهَا (فبمَا فِي التَّحْقِيق اعتبارنا) أَي فَثَبت بِالْوَجْهِ الثَّابِت فِي التَّحْقِيق على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ بقولنَا فَفِي الْحَقِيقَة إِلَى آخِره اعتبارنا: يَعْنِي الْجُمْهُور، وَمِنْهُم الْحَنَفِيَّة (ولبعضهم هُنَا خبط) فَائِدَة هَذَا الْكَلَام الْأَشْعَار بِأَن الْمحل مزلقة الْأَقْدَام يحْتَاج إِلَى مزِيد التَّأَمُّل، قَالَ السُّبْكِيّ وَقد يُقَال إِن قُلْنَا أَن الْعِبَادَة مركبة من السّنَن والفرائض كَانَ القَوْل بِأَن نُقْصَان السّنَن نسخ لَهَا كالقول فِي نُقْصَان الْجُزْء، وصنيع الْفُقَهَاء يدل عَلَيْهِ حَيْثُ يذكرُونَ فِي وصف الصَّلَاة سننها انْتهى، وَالْأَمر فِيهِ سهل لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بنسخها نسخهَا بِاعْتِبَار تِلْكَ الصّفة فَلَا نزاع فِيهِ، وَإِن أُرِيد نسخهَا بِاعْتِبَار أَرْكَانهَا وفرائضها فَلَا وَجه لَهُ.
مسئلة
(يعرف النَّاسِخ بنصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على كَونه نَاسِخا (وَضبط تَأَخره) أَي وَيعرف بضبط تَأَخّر النَّاسِخ عَن الْمَنْسُوخ (وَمِنْه) أَي من ضبط تَأَخره مَا فِي صَحِيح مُسلم(3/221)
(كنت نَهَيْتُكُمْ) عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها: الحَدِيث فَإِن تَأَخّر زوروها مَنْصُوص فضبط بِهَذَا الطَّرِيق (وَالْإِجْمَاع على أَنه نَاسخ) مَعْطُوف على نَصه (أما) الحكم بِأَن هَذَا نَاسخ (بقول الصَّحَابِيّ هَذَا نَاسخ فَوَاجِب عِنْد الْحَنَفِيَّة لَا الشَّافِعِيَّة) قَالُوا لَا يجب (لجَوَاز اجْتِهَاده) أَي لجَوَاز أَن يكون حكمه بالنسخ عَن اجْتِهَاده وَلَا يجب على الْمُجْتَهد اتِّبَاع اجْتِهَاده (وَتقدم) فِي مسئلة حمل الصَّحَابِيّ مرويه الْمُشْتَرك وَنَحْوه على أحد مَا يحْتَملهُ (مَا يفِيدهُ) أَي وجوب قبُوله كَمَا هُوَ قَول الْحَنَفِيَّة (وَفِي تعَارض متواترين) إِذا عين الصَّحَابِيّ أَحدهمَا (فَقَالَ هَذَا نَاسخ لَهُم) أَي الشَّافِعِيَّة (احْتِمَال النَّفْي) لقبُول كَونه النَّاسِخ (لرجوعه) أَي قبُول كَونه نَاسِخا (إِلَى نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد) أَي قَول الصَّحَابِيّ (و) نسخ الْمُتَوَاتر (بِهِ) أَي بالمتواتر (والآحاد دَلِيله) أَي دَلِيل كَونه نَاسِخا، يَعْنِي أحد الْأَمريْنِ لَازم إِذْ مُجَرّد التَّعَارُض بَين المتواترين لَا يسْتَلْزم نسخ أَحدهمَا للْآخر، وَلَو سلم لم يتَعَيَّن أَحدهمَا بِعَيْنِه أَن يكون نَاسِخا إِلَّا بقوله فإمَّا ينْسب النّسخ إِلَيْهِ نظرا إِلَى إِنَّه الْوَاجِب لعلمنا بالنسخ، وَإِمَّا ينْسب إِلَى الْمُتَوَاتر لِأَنَّهُ الْمعَارض الْمُتَأَخر، وَدَلِيل تَأَخره قَوْله والآحاد كَمَا لَا يصلح نَاسِخا للمتواتر لَا يصلح دَلِيلا للنسخ لَهُ (وَالْقَبُول) مَعْطُوف على النَّفْي أَي وَلَهُم احْتِمَال الْقبُول (إِذْ مَا لَا يقبل) على صِيغَة الْمَجْهُول (ابْتِدَاء قد يقبل مَآلًا كشاهدي الاحصان) فَإِن شَهَادَة الِاثْنَيْنِ فِي حق الرَّجْم لَا تقبل ابْتِدَاء، بل لَا بُد من الْأَرْبَعَة ليشهدوا بِالزِّنَا ابْتِدَاء، ثمَّ أَن الرَّجْم مَشْرُوط بِكَوْن الزَّانِي مُحصنا، فَفِي إِثْبَات الاحصان تقبل شَهَادَتهمَا فقد قبل شَهَادَتهمَا فِي الرَّجْم مَآلًا، وَشَهَادَة النِّسَاء فِي الْولادَة مَقْبُولَة مَعَ أَنه يَتَرَتَّب عَلَيْهِ النّسَب، وَلَا تقبل فِي النّسَب إِلَى غير ذَلِك (فَوَجَبَ الْوَقْف) لتساوي احتمالي النَّفْي وَالْقَبُول وَعدم مَا يرجح أَحدهمَا (فَإِن) كَانَ الْوَقْف (عَن الحكم بالنسخ فكالأول) أَي فَلَا وَجه لَهُ إِذْ هُوَ كَالْأولِ، وَهُوَ قَوْله هَذَا نَاسخ فِي غير المتواترين، وَقد عرفت أَنه لَا وقف هُنَاكَ بل هُوَ نَاسخ عِنْد الْحَنَفِيَّة غير نَاسخ عِنْد الشَّافِعِيَّة (وَإِن) كَانَ (عَن التَّرْجِيح) لأحد المتواترين (فَلَيْسَ) التَّرْجِيح (لَازِما) للمتعارضين ليلزم من عَدمه إلغاؤهما مَعًا (بل) اللَّازِم (أحد الْأَمريْنِ مِنْهُ) أَي التَّرْجِيح (وَمن الْجمع) بَينهمَا إِذا أمكن. هَذَا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره لَو قَالَ هَذَا الحَدِيث سَابق قبل إِذْ لَا مدْخل للِاجْتِهَاد فِيهِ، وَالضَّابِط أَن لَا يكون نَاقِلا فَيُطَالب بالحجاج، وَأما إِذا كَانَ نَاقِلا فَتقبل ثمَّ هِيَ الطّرق الصَّحِيحَة فِي معرفَة النَّاسِخ (بِخِلَاف بعديته) أَي أحد النصين عَن الآخر (فِي الْمُصحف) فيستدل بهَا على بعديته فِي النُّزُول (و) بِخِلَاف (حَدَاثَة سنّ الصَّحَابِيّ) الرَّاوِي لأحد النصين (فتتأخر صحبته) أَي فيستدل بحداثة سنه على تَأَخّر صحبته (فمرويه) أَي فيستدل بحداثة سنه بتأخر صحبته على تَأَخّر مرويه (و) بِخِلَاف (تَأَخّر إِسْلَامه)(3/222)
فيستدل بِهِ على تَأَخّر مروية (لجَوَاز قلبه) أَي جَوَاز أَن يكون الْوَاقِع عكس هَذِه الصُّورَة فَإِن تَرْتِيب الْمُصحف لَيْسَ على تَرْتِيب النُّزُول، وَكم من صَحَابِيّ حَدِيث السن رِوَايَته مُتَقَدّمَة على رِوَايَة كَبِير السن، وَهَكَذَا فِي الْمُتَأَخر إِسْلَامه (وَكَذَا) لَيْسَ من الطّرق الصَّحِيحَة لتعيين النَّاسِخ (مُوَافَقَته) أَي أحد النصين (للبراءة الْأَصْلِيَّة تدل على تَأَخره) عَن الْمُخَالف لَهَا (لفائدة رفع الْمُخَالف) يَعْنِي على تَقْدِير تقدمه لَا يُفِيد إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْأَصْلِيّ وَهُوَ لَيْسَ بفائدة جَدِيدَة. وَفِي الشَّرْح العضدي وَمِنْهَا مُوَافَقَته لحكم الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة فَيدل على تَأَخره من جِهَة أَنه لَو تقدم لم يفد إِلَّا مَا علم بِالْأَصْلِ فيعرى عَن الْفَائِدَة، وَإِذا تَأَخّر أَفَادَ الآخر رفع حكم الأَصْل وَهَذَا رفع حكم الأول. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ هَهُنَا بَيَان لكيفية الِاسْتِدْلَال وَلم يبين ضعفه لظُهُوره بِنَاء على أَنه لَا يزِيد على قَول الصَّحَابِيّ واجتهاده مَعَ أَن الْعلم يكون مَا علم بِالْأَصْلِ ثَابتا عِنْد الشَّرْع حكما من أَحْكَامه فَائِدَة جليلة، وَالشَّارِح الْعَلامَة عكس فَتوهم أَن مُوَافقَة الأَصْل تجْعَل دَلِيل التَّقَدُّم والمنسوخية انْتهى، فقد علم بذلك أَنه على تَقْدِير تَأَخّر الْمُوَافق يحصل لكل من النصين فَائِدَة جليلة، وعَلى تقدمه لَا تحصل الْفَائِدَة الجديدة إِلَّا لمخالف البراة الْأَصْلِيَّة، غير أَن الْمُحَقق أَفَادَ أَنه على تقدمه أَيْضا فَائِدَة جَدِيدَة وَقد عرفت (بِخِلَاف الْقلب) بِأَن يَجْعَل الْمُوَافق مُتَقَدما على الْمُخَالف وَقد بَيناهُ بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ تعقب الْمُحَقق بقوله (فَإِن حَاصله نسخ اجتهادي كَقَوْل الصَّحَابِيّ) هَذَا نَاسخ (اجْتِهَادًا) على أَنه يُمكن أَن يُعَارض بِأَن تَأَخّر الْمُوَافق يسْتَلْزم تغييرين وتقدمه لَا يسْتَلْزم إِلَّا تغييرا وَاحِدًا وَالْأَصْل قلَّة التَّغْيِير. (وَمَا قيل مَعَ أَن الْعلم بِكَوْن مَا علم بِالْأَصْلِ ثَابتا عِنْد الشَّرْع حكما من أَحْكَامه فَائِدَة جَدِيدَة) وَهَذَا مقول القَوْل، وَخبر مَا قيل (مُتَوَقف على تَسْمِيَة الشَّارِع رَفعه) أَي رفع حكم الأَصْل (نسخا، وَهُوَ) أَي كَون رَفعه يُسمى نسخا شرعا (مُنْتَفٍ بل الثَّابِت) شرعا (حِينَئِذٍ) أَي حِين رفع الْمُخَالف للبراءة الْأَصْلِيَّة حكم الْمُوَافق لَهَا (رَفعه) أَي رفع حكم الأَصْل (وَلَا يسْتَلْزم) رَفعه (ذَلِك) أَي كَونه نسخا (كرفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة) فَإِنَّهُ لَا يُسمى نسخا وَإِن كَانَ رفعا هَذَا، وَالَّذِي يظْهر أَن الحكم الْمُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة الْمُسْتَفَاد من نَص الشَّارِع لَا شكّ فِي كَونه حكما شَرْعِيًّا وَلَو لم يكن قبل إِفَادَة النَّص إِيَّاه حكما شَرْعِيًّا عِنْد الْجُمْهُور لكَونه بِمَنْزِلَة الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة وَإِذا ثَبت كَونه شَرْعِيًّا لَا شُبْهَة فِي كَون رَفعه نسخا إِذْ لم يعْتَبر فِي مَفْهُوم النّسخ إِلَّا رفع الحكم الشَّرْعِيّ، وَالله تَعَالَى أعلم (وَمَا للحنفية فِي مثله) أَي فِي مثل مَا نَحن فِيهِ (فِي) بَاب (التَّعَارُض) بَين الْمحرم والمبيح (تَرْجِيح الْمُخَالف) أَي أحد النصين المتعارضين الَّذِي هُوَ مُخَالف لما هُوَ الأَصْل (حكما بتأخره) بَيَان لكيفية التَّرْجِيح أَي بِأَن يحكموا بِتَأْخِير الْمُخَالف حكما (كي لَا يتَكَرَّر النّسخ) إِن اعْتبر الْمُخَالف مقدما لِأَنَّهُ يلْزم(3/223)
حِينَئِذٍ كَون الْمُقدم نَاسِخا للْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة ثمَّ نسخ هَذَا النَّاسِخ، وَلما كَانَ رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيْسَ بنسخ فِي التَّحْقِيق فسر النّسخ بقوله (أَي الرّفْع أَو) النّسخ مَحْمُولا (على حَقِيقَته بِنَاء على مَا سلف عَن الطَّائِفَة) من الْحَنَفِيَّة الْقَائِلين بِأَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة نسخ (فَلَا يجب الْوَقْف) عَن الْعَمَل بِأحد النصين (غير أَنه) أَي الْمُخَالف لما هُوَ الأَصْل (مُرَجّح) على الْبناء للْمَفْعُول (لَا نَاسخ) على القَوْل الْمُخْتَار.
الْبَاب الرَّابِع فِي الْإِجْمَاع
(الْإِجْمَاع الْعَزْم والاتفاق لُغَة) على كَذَا، يَعْنِي تَارَة يُرَاد بِهِ الْعَزْم فَيُقَال فلَان أجمع على كَذَا إِذا عزم عَلَيْهِ، وَتارَة يُرَاد بِهِ الِاتِّفَاق فَيُقَال أجمع الْقَوْم على كَذَا: أَي اتَّفقُوا، وَالثَّانِي بِالْمَعْنَى الاصطلاحي أنسب. وَعَن الْغَزالِيّ أَنه مُشْتَرك لَفْظِي، وَقيل أَن الْمَعْنى الْأَصْلِيّ لَهُ الْعَزْم، والاتفاق لَازم ضَرُورِيّ إِذا وَقع من جمَاعَة. (وَاصْطِلَاحا اتِّفَاق مجتهدي عصر من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَمر شَرْعِي) إِضَافَة مجتهدي عصر استغراقية فتفيد اتِّفَاق جَمِيعهم كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور، فَلَا يصدق التَّعْرِيف على قَول مُجْتَهد مُنْفَرد فِي عصره بِأَمْر شَرْعِي، وَعلم بذلك أَن لَا عِبْرَة بمخالفة غير الْمُجْتَهد: كَمَا لَا عِبْرَة بِاتِّفَاق غير الْمُجْتَهدين. قيل عدم اعْتِبَار الْعَاميّ فِي الْإِجْمَاع بالِاتِّفَاقِ، وَقيل القَاضِي أَبُو بكر يعْتَبر اتفاقه، وَالْمرَاد الْإِجْمَاع الْخَاص الَّذِي هُوَ أحد أَدِلَّة الْأَحْكَام، وَقد يُطلق الْإِجْمَاع وَيُرَاد بِهِ مَا يعم الْكل كالإجماع على أُمَّهَات الشَّرَائِع كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَتَحْرِيم الرِّبَا وَهُوَ خَارج المبحث، وَإِنَّمَا لم يعْتَبر قَول الْعَاميّ لِأَنَّهُ بِغَيْر دَلِيل فَلَا يعْتد بِهِ مَعَ أَنه لَو اعْتبر قَول الْعَوام لَا يتَحَقَّق الْإِجْمَاع لعدم إِمْكَان ضبطهم لانتشارهم شرقا وغربا، وَأما من حصل علما مُعْتَبرا من فقه أَو أصُول فَمنهمْ من اعْتبر اتفاقه أَيْضا، وَالْجُمْهُور على عدم اعْتِبَاره، ويفيد التَّعْرِيف اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بِالْمُسْلِمين لِأَن الْإِسْلَام شَرط لاجتهادهم فَيخرج من يكفر ببدعته، وَبِقَوْلِهِ عصر أَي زمن طَال أَو قصر انْدفع توهم اعْتِبَار جَمِيع الْأَعْصَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَبِقَوْلِهِ أمة مُحَمَّد خرج إِجْمَاع الْأُمَم السالفة، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة كَمَا نَقله فِي اللمع عَن الْأَكْثَرين خلافًا للاسفرايني فِي جمَاعَة أَن إِجْمَاعهم قبل نسخ مللهم حجَّة، وَالْمرَاد بِالْأَمر الشَّرْعِيّ مَا لَا يدْرك لَوْلَا خطاب الشَّارِع سَوَاء كَانَ قولا أَو فعلا أَو اعتقادا أَو تقريرا، وَسَيَأْتِي أَنه حجَّة فِي بعض العقليات، خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ السُّبْكِيّ: وَيَنْبَغِي أَن يُزَاد فِي غير زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد فِي زَمَانه كَمَا ذكره الْأَكْثَرُونَ لِأَن قَوْلهم لَا يَصح دونه وَإِن كَانَ مَعَهم فالحجة(3/224)
فِي قَوْلهم. وَقَالَ بَعضهم: ينْعَقد وَيُؤَيِّدهُ إِسْقَاط هَذَا الْقَيْد من التَّعْرِيف الْمَذْكُور (وعَلى) قَول (من شَرط لحجيته) أَي الْإِجْمَاع (والتعريف لَهُ) أَي وَالْحَال أَن يفْرض التَّعْرِيف لَهُ فَهُوَ جملَة مُعْتَرضَة بَين الْفِعْل ومفعوله أَعنِي (انْقِرَاض عصرهم) أَي المجمعين من مجتهدي ذَلِك الْعَصْر (زِيَادَة) قيد (إِلَى انقراضهم) بعد أَمر شَرْعِي سَوَاء كَانَت فَائِدَة الِاشْتِرَاط جَوَاز الرُّجُوع لَا دُخُول من سيحدث فِي إِجْمَاعهم كَمَا هُوَ قَول أَحْمد، أَو إِدْخَال من أدْرك عصرهم من الْمُجْتَهدين كَمَا هُوَ قَول بَاقِي المشترطين (و) على قَول (من شَرط) لحجية الْإِجْمَاع (عدم سبق خلاف مُسْتَقر) وَهُوَ يرى جَوَاز حُصُول الْإِجْمَاع بعد الْخلاف المستقر وَفرض التَّعْرِيف لَهُ وَقَيده بالمستقر لِأَن غير المستقر كَالْعدمِ (زِيَادَة غير مَسْبُوق بِهِ) أَي بِخِلَاف مُسْتَقر (وَإِذن) أَي وَإِذا عرفت طَرِيق الزِّيَادَة فِي التَّعْرِيف عِنْد قصد جعله لمن يشْتَرط زِيَادَة قيد (فَمن شَرط الْعَدَالَة) فِي أهل الْإِجْمَاع كاشتراط الْإِسْلَام (و) من شَرط (عدد التَّوَاتُر) فيهم لَهُ أَن يزِيد فِي التَّعْرِيف (مثله) أَي مَا ذكر فَزَاد للْأولِ عدُول بعد مجتهدي عصر، وَللثَّانِي لَا يتَصَوَّر تواطؤهم على الْكَذِب بعد عدُول إِن اتَّحد الشارط فيهمَا والإمكان عدُول. قَالَ الشَّارِح الأول للحنفية وموافقيهم، وَالثَّانِي لبَعض الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُم إِمَام الْحَرَمَيْنِ (وَقَول الْغَزالِيّ) فِي تَعْرِيفه (اتِّفَاق أمة مُحَمَّد على أَمر ديني معترض بِلُزُوم عدم تصَوره) أَي وجوده لِأَن أمته كل الْمُسلمين من بعثته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَقبل الْقِيَامَة لَا إِجْمَاع وَبعدهَا لَا حجية (و) بِلُزُوم فَسَاد طرده) لَو أُرِيد بِهِ تنزلا اتِّفَاقهم فِي عصر مَا (أَن) اتَّفقُوا على أَمر ديني (لم يكن فيهم مُجْتَهد) فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاع والتعريف يصدق عَلَيْهِ فَلَا يكون مطردا (وَأجِيب بسبق إِرَادَة الْمُجْتَهدين فِي عصر للمتشرعة) من اتِّفَاق أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمتبادر إِلَى الأذهان كالمصرح بِهِ (كَمَا سبق) هَذَا المُرَاد (من) الْمَرْوِيّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة) كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه (و) بِفساد (عَكسه لَو اتَّفقُوا على عَقْلِي أَو عرفي) لوُجُود الْمُعَرّف وَعدم صدق التَّعْرِيف. (أُجِيب) بِأَن وجود الْمُعَرّف فِي كل مِنْهُمَا (لَا يضر) بالتعريف (إِذا كَانَ) كل مِنْهُمَا (دينيا) لصدقه عَلَيْهِمَا (وَغَيره) أَي غير الديني (خرج) وَلَا يضر خُرُوجه إِذْ لَا حجية فِي الْإِجْمَاع عَلَيْهِ (وَادّعى النظام وَبَعض الشِّيعَة استحالته) أَي الْإِجْمَاع (عَادَة) ، كَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَقَالَ السُّبْكِيّ أَن هَذَا قَول بعض أَصْحَاب النظام، وَأما رَأْيه نَفسه فَهُوَ أَنه يتَصَوَّر، لَكِن لَا حجَّة فِيهِ، كَذَا نَقله القَاضِي وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَابْن السَّمْعَانِيّ وَهِي طَريقَة الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه فِي النَّقْل عَنهُ هَكَذَا ذكره الشَّارِح وَإِنَّمَا أَحَالهُ من أَحَالهُ (لِأَن انتشارهم) أَي الْمُجْتَهدين فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وقفار الفيافى(3/225)
وسباسبها (يمْنَع من نقل الحكم إِلَيْهِم) عَادَة (وَلِأَن الِاتِّفَاق) على الحكم الشَّرْعِيّ (إِن) كَانَ (عَن) دَلِيل (قَطْعِيّ أحالت الْعَادة عدم الِاطِّلَاع عَلَيْهِ) لتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَشدَّة تفحصهم وَحِينَئِذٍ فَيطلع عَلَيْهِ (فيغني) الْقطعِي (عَنهُ) أَي عَن الْإِجْمَاع (أَو) كَانَ (عَن ظَنِّي أحالت) الْعَادة (الِاتِّفَاق) النَّاشِئ (عَنهُ لاخْتِلَاف القرائح) أَي الْقُوَّة المفكرة (والأنظار) ومواد الاستنباط، وإحالتها لهَذَا (كإحالتها اتِّفَاقهم على اشتهاء طَعَام) وَاحِد. قَالُوا (وَلَو تصور) ثُبُوته فِي نَفسه (اسْتَحَالَ ثُبُوته) عِنْد النَّاقِل (عَنْهُم) أَي المجتمعين (لقضائها) أَي الْعَادة (بِعَدَمِ معرفَة أهل الْمشرق وَالْمغْرب) بأعيانهم (فضلا عَن أَقْوَالهم مَعَ خَفَاء بَعضهم) أَي الْمُجْتَهدين عَن النَّاس لحموله) أَي لكَونه غير مَعْرُوف مُطلقًا أَو بِالِاجْتِهَادِ (وَنَحْو أسره) فِي دَار الْحَرْب فِي مطمورة أَو عزلته وانقطاعه عَن النَّاس بِحَيْثُ خَفِي أَثَره (وتجويز رُجُوعه) عَن ذَلِك الْأَمر (قبل تقرره) أَي الْإِجْمَاع عَلَيْهِ بِأَن يرجع قبل قَول الآخر بِهِ فَلَا يَجْتَمعُونَ على قَول فِي زمَان يعْتد بِهِ وَيحكم فِيهِ بتقرر اتِّفَاقهم. قَالُوا (وَلَو أمكن) ثُبُوته عَنْهُم عِنْد الناقلين (اسْتَحَالَ نَقله إِلَى من يحْتَج بِهِ، وهم) أَي المحتجون بِهِ (من بعدهمْ لذَلِك بِعَيْنِه) أَي لقَضَاء الْعَادة بإحالة ذَلِك، فَإِن طَرِيق نَقله إِمَّا التَّوَاتُر أَو الْآحَاد (و) اسْتَحَالَ (لُزُوم التَّوَاتُر فِي المبلغين) يَعْنِي أَن عدد المبلغين إِن لم يبلغ حد التَّوَاتُر لَا يُفِيد الْقطع بتحقق الْإِجْمَاع فَكَانَ التَّوَاتُر فيهم أمرا لَازِما وَالْعَادَة تحيل لُزُومه لبعد أَن يُشَاهد أهل التَّوَاتُر جَمِيع الْمُجْتَهدين شرقا وغربا ويسمعوا مِنْهُم وينقلوا عَنْهُم إِلَى أهل التَّوَاتُر فِي الْعَصْر الآخر، وَهَكَذَا طبقَة عَن طبقَة إِلَى أَن يتَّصل بِنَا وَأما الْآحَاد فَلَا ينفع (إِذْ لَا يُفِيد الْآحَاد) الْعلم بِوُقُوعِهِ، هَكَذَا فسر الشَّارِح هَذَا الْمحل، ثمَّ قَالَ وَكَانَ الأولى حذف (وَالْعَادَة تحيله) أَي لُزُوم التَّوَاتُر فِي المبلغين وَذكر عَادَة بعد المبلغين انْتهى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عطف قَوْله وَلُزُوم التَّوَاتُر على فَاعل اسْتَحَالَ، وَالْوَجْه أَن يعْطف على مَدْخُول اللَّام فِي ذَلِك، وَالْمعْنَى اسْتَحَالَ نَقله لقَضَاء الْعَادة بإحالته وللزوم الثَّوَاب فِي المبلغين فَيكون قَوْله إِذْ لَا يُفِيد إِلَى آخِره تعليلا للزومه، وتلخيصه اسْتَحَالَ نَقله على وَجه يُفِيد الْعلم لِأَنَّهُ إِمَّا بطرِيق لآحاد أَو بطرِيق التوتر، لَا سَبِيل إِلَى الأول إِذْ لَا يُفِيد الْعلم، وانتفى لُزُوم الثَّانِي وَهُوَ التَّوَاتُر وَالْعَادَة تحيله فِي المبلغين وَالْحَاصِل أَنه علل اسْتِحَالَة النَّقْل أَولا بِقَضَاء الْعَادة بإحالته إِجْمَاعًا ثمَّ عللها على وَجه التَّفْصِيل بِكَوْنِهِ منحصرا فِي الطَّرِيقَيْنِ وَإِبْطَال كل مِنْهُمَا، غَايَة الْأَمر إِنَّه يتَمَسَّك فِي إبِْطَال الطَّرِيق الثَّانِي بإحالة الْعَادة. (وَالْجَوَاب منع الْكل) أَي القَوْل بِعَدَمِ ثُبُوته فِي نَفسه وَالْقَوْل بِعَدَمِ ثُبُوته عَن المجمعين على تَقْدِير ثوبته فِي نَفسه وَالْقَوْل بِعَدَمِ إِحَالَة الْعَادة للتواتر فِي المبلغين (مَعَ ظُهُور الْفرق بَين الْفَتْوَى بِحكم و) بَين (اشتهاء طَعَام) وَاحِد وَأكله(3/226)
للْكُلّ لعدم الْجَامِع لاختلافهم فِي الدَّوَاعِي المشتهية باخْتلَاف الأمزجة بِخِلَاف الحكم الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ تَابع للدليل وَقد يكون بعض الْأَدِلَّة بِحَيْثُ تقبله الطبائع السليمة كلهَا لوضوحه (وَمَا بعد) أَي وَمَا بعد هَذَا الْقيَاس مَعَ الْفَارِق من المشبهتين الْأَخِيرَتَيْنِ (تشكيك مَعَ الضَّرُورَة) أَي فِي مُقَابلَة البديهي (إِذْ نقطع بِإِجْمَاع كل عصر) من الصَّحَابَة وهلم جرا (على تَقْدِيم الْقَاطِع على المظنون) وَمَا ذَاك إِلَّا بِثُبُوتِهِ عَنْهُم وَنَقله إِلَيْنَا وَلَا عِبْرَة بالتشكيك فِي الضروريات (وَيحمل قَول أَحْمد من ادَّعَاهُ) أَي الْإِجْمَاع (كَاذِب على استبعاد انْفِرَاد اطلَاع ناقله) عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانَ صَادِقا لنقله غَيره أَيْضا، كَيفَ وَقد أخرج الْبَيْهَقِيّ عَنهُ قَالَ: أجمع النَّاس على أَن هَذِه الْآيَة فِي الصَّلَاة: يَعْنِي إِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا، فقد نقل الْإِجْمَاع، وَذهب ابْن تَيْمِية والأصفهاني إِلَى أَنه أَرَادَ اجماع غير الصَّحَابَة، أما إِجْمَاعهم فحجة مَعْلُوم تصَوره لكَون المجمعين ثمَّة فِي قلَّة والآن فِي كَثْرَة وانتشار. قَالَ الْأَصْفَهَانِي وَالْمنصف يعلم أَنه لَا خبر لَهُ من الْإِجْمَاع إِلَّا مَا يجد مَكْتُوبًا فِي الْكتب، وَمن الْبَين أَنه لَا يحصل الِاطِّلَاع عَلَيْهِ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْهُم أَو بِنَقْل التَّوَاتُر إِلَيْنَا وَلَا سَبِيل إِلَى ذَلِك إِلَّا فِي عصر الصَّحَابَة، وَقَالَ ابْن الْحَاجِب: أَن مَا قَالَه إِنْكَار على فُقَهَاء الْمُعْتَزلَة الَّذين يدعونَ إِجْمَاع النَّاس على مَا يَقُولُونَهُ وَكَانُوا من أقل النَّاس معرفَة بأقوال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَأحمد لَا يكَاد يُوجد فِي كَلَامه احتجاج بِإِجْمَاع بعد التَّابِعين وَبعد الْقُرُون الثَّلَاثَة انْتهى. قَالَ أَبُو إِسْحَاق الاسفرايني نَحن نعلم أَن مسَائِل الْإِجْمَاع أَكثر من عشْرين ألف مسئلة (وَهُوَ) أَي الْإِجْمَاع (حجَّة قَطْعِيَّة) عِنْد الْأمة (إِلَّا) عِنْد (من لم يعْتَمد بِهِ من بعض الْخَوَارِج والشيعة لأَنهم) أَي الْخَوَارِج والشيعة (مَعَ فسقهم) إِنَّمَا وجدوا (بعد الْإِجْمَاع) النَّاشِئ (عَن عدد التَّوَاتُر من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على حجيته) أَي الْإِجْمَاع (وتقديمه على الْقَاطِع) وَهَذَا متوارث بالتواتر، الشَّك فِيهِ كالشك فِي الضروريات (وَقطع مثلهم) أَي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ اللَّازِم من تقديمهم إِيَّاه على الدَّلِيل الْقطعِي بِكَوْنِهِ حجَّة (عَادَة لَا يكون إِلَّا عَن سَمْعِي قَاطع فِي ذَلِك) لِأَن تَركهم الْقَاطِع الظني مِمَّا لَا يجوزه الْعقل السَّلِيم، فَقَوْلهم لأَنهم إِلَى آخِره تَعْلِيل لعدم الِاعْتِذَار بالمخالفين لفسقهم بِالْخرُوجِ عَن طَاعَة الإِمَام وَالْبَعْض للخلفاء وَمُخَالفَة مُوجب الدَّلِيل الْقطعِي الَّذِي علم وجوده إِجْمَاعًا لَا مُسْتَندا لِاتِّفَاق الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على حجيته، على أَنهم إِنَّمَا وجدوا بعد ذَلِك الإتفاق وَلَو كَانُوا موجودين فِي زَمَانه كَانَ يتَوَهَّم عدم انْعِقَاد الْإِجْمَاع بوجودهم لكَوْنهم مخالفين، وَقد علم بذلك أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على حجية الْإِجْمَاع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَيثبت) كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة (بِهِ) أَي بذلك السمعي الْقَاطِع فِي الْحَقِيقَة (وَذَلِكَ الإتفاق) الصَّادِر من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ (بِلَا اعْتِبَار حجيته دَلِيله) أَي السمعي الْمَذْكُور: يَعْنِي لَو كَانَ إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ دَلِيلا(3/227)
على السمعي الْمَذْكُور بِاعْتِبَار حجيته لَكَانَ يلْزم الدّور فِي إِثْبَات حجية الْإِجْمَاع مُطلقًا بذلك السمعي لِأَن توقف مُطلق حجية الْإِجْمَاع على ذَلِك السمعي يسْتَلْزم توقف هَذَا الْإِجْمَاع الْخَاص على ذَلِك السمعي، والمفروض توقف ذَلِك السمعي على حجية هَذَا الْإِجْمَاع الْخَاص لكَونه دَلِيله، وَحَيْثُ لم يكن الْإِجْمَاع الْخَاص بِاعْتِبَار حجيته دَلِيلا لم يكن السمعي الْمَذْكُور مَوْقُوفا على حجيته (فَلَا دور) . وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه لَو كَانَ الْإِجْمَاع الْمَذْكُور دَلِيلا على وجود دَلِيل قَاطع لأحال الْعقل اتِّفَاق هَذَا الجم الْغَفِير لَا عَن قَطْعِيّ للُزُوم وجود دَلِيل قَطْعِيّ فِي إِجْمَاع الفلاسفة على قدم الْعَالم دفع ذَلِك بقوله (بِخِلَاف إِجْمَاع الفلاسفة على قدم الْعَالم لِأَنَّهُ) أَي إِجْمَاع الفلاسفة نَاشِئ (عَن) دَلِيل (عَقْلِي) مَحْض غير مَأْخُوذ من لوحي الإلهي والنصوص القاطعة. وَلِأَن ذَلِك (يزاحمه) أَي الْعقل (الْوَهم) لعدم مساعدة نور الْهِدَايَة فِي أفكارهم بِسَبَب اعتمادهم على الْعقل الْمَحْض - {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} - {يهدي الله لنوره من يَشَاء} - وَقد علم من طَرِيق السّمع أَن نور الْهِدَايَة مَقْصُور على اتِّبَاع الْأَنْبِيَاء - {وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} - فالعروة الوثقى التَّمَسُّك بِحَبل الله والتتبع لآثار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام (على أَن التواريخ دلّت على) وجود (من يَقُول بحدوثه) أَي الْعَالم (مِنْهُم) الفلاسفة، وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف عِنْد قِرَاءَة هَذَا الْمحل عَلَيْهِ قصَّة بِطُولِهَا تفِيد مَا ذكر (و) بِخِلَاف (إِجْمَاع الْيَهُود على نفي نسخ شرعهم) بِنَاء على نَص نقلوه (عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، و) بِخِلَاف إِجْمَاع (النَّصَارَى على صلب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لاتباع الْآحَاد الأَصْل) أَي لاتباعهم فِي هذَيْن الافتراءين أَخْبَار الْآحَاد من أوائلهم (لعدم تحقيقهم) إِذْ لَو حققوا لم يجمعوا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا موضوعان (بِخِلَاف من ذكرنَا) من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُم محققون غير متبعين لأحد فِي ذَلِك (لأَنهم الْأُصُول) وَغَيرهم فروع لَهُم أخذُوا الْعلم عَنْهُم، لَا يُقَال هم أَيْضا يدعونَ التَّحْقِيق، لأَنا نقُول قد علم مَا يدل على عدم الِاعْتِمَاد عَلَيْهِم كالتحريف وَقتل الْأَنْبِيَاء إِلَى غير ذَلِك مِمَّا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة (وَمن) الْأَدِلَّة (السمعية آحَاد) أَي أَخْبَار آحَاد (تَوَاتر: مِنْهَا) أَي من جملَة مضمونها قدر هُوَ (مُشْتَرك) مِنْهَا (لَا تَجْتَمِع أمتِي على الْخَطَأ وَنَحْوه) مِمَّا يدل على خُلَاصَة مضمونه (كثير) ، وَقَالَ الشَّارِح بِإِضَافَة مُشْتَرك إِلَى مَا بعده وجر نَحوه بالْعَطْف على لَا تَجْتَمِع وَكثير على أَنه صفته: أَي الْقدر الْمُشْتَرك بَين هَذَا الحَدِيث وَغَيره انْتهى، وَلَا يخفى مَا فِيهِ وَالْقدر الْمُشْتَرك هُوَ عصمَة الْأمة عَن الْخَطَأ، وَمِنْهَا: إِن الله لَا يجمع أمتِي أَو قَالَ أمة مُحَمَّد على ضَلَالَة وَيَد الله مَعَ الْجَمَاعَة وَمن شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّار، وَمِنْهَا: أَن الله لَا يجمع هَذِه الْأمة على ضَلَالَة أبدا، وَأَن يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فاتبعوا السوَاد الْأَعْظَم، فَإِن من شَذَّ شَذَّ فِي النَّار، رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْحِلْية إِلَى غير(3/228)
ذَلِك مِمَّا لَا يَسعهُ الْمقَام، وَهَذَا طَرِيق الْغَزالِيّ وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْحَاجِب (وَمِنْهَا) قَوْله تَعَالَى - {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم} - (وَهُوَ) أَي غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ (أَعم من الْكفْر) فَيعم مَا يُخَالف إِجْمَاعهم (جمع بَينه) أَي اتِّبَاع غير سبيلهم (وَبَين المشاقة) للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي الْوَعيد فَيحرم) اتِّبَاع غير سبيلهم، إِذْ لَا يضم مُبَاح إِلَى حرَام فِي الْوَعيد، وَإِذا حرم اتِّبَاع غير سبيلهم يجب اتِّبَاع سبيلهم، لِأَن ترك اتِّبَاع سبيلهم اتِّبَاع لسبيل غَيرهم فَتَأمل (ويعترض) هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ إِثْبَات حجية الْإِجْمَاع بِمَا) أَي بِشَيْء (لم تثبت حجيته) أَي ذَلِك الشَّيْء (إِلَّا بِهِ) أَي بِالْإِجْمَاع (وَهُوَ) أَي ذَلِك الشَّيْء (الظَّاهِر) وَهُوَ الْآيَة الْكَرِيمَة (لعدم قَطْعِيَّة) لفظ (سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي خُصُوص الْمُدَّعِي) وَهُوَ مَا أجمع عَلَيْهِ، لجَوَاز أَن يُرَاد سبيلهم فِي مُتَابعَة الرَّسُول، أَو فِي مناصرته، أَو فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤمنين، وَإِذا قَامَ الِاحْتِمَالَات كَانَ غَايَته الظُّهُور، والتمسك بِالظَّاهِرِ إِنَّمَا ثَبت بِالْإِجْمَاع على التَّمَسُّك بالظواهر المفيدة للظن إِذْ لولاه لوَجَبَ الْعَمَل بِالدّلَالَةِ الْمَانِعَة من اتِّبَاع الظَّن نَحْو قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} - فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ إِثْبَاتًا للْإِجْمَاع بِمَا لم تثبت حجيته إِلَّا بِهِ فَيصير دورا، قَالَ الشَّارِح: وأفادنا المُصَنّف فِي الدَّرْس بِأَنَّهُ يُمكن الْجَواب عَن هَذَا على طَريقَة أَكثر الْحَنَفِيَّة بِأَن هَذَا الِاحْتِمَال لَا يقْدَح فِي قطعيته، فَإِن حكم الْعَام عِنْدهم ثُبُوت الحكم فِيمَا تنَاوله قطعا ويقينا فَيتم التَّمَسُّك بِهِ من غير احْتِيَاج إِلَى الْإِجْمَاع الْمَذْكُور انْتهى: يَعْنِي أَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ عَام يتَنَاوَل جَمِيع تِلْكَ الِاحْتِمَالَات فيعمها، وَمن جُمْلَتهَا خُصُوص الْمُدَّعِي، ثمَّ قَالَ إِلَّا أَن السُّبْكِيّ ذكر أَن الشَّافِعِي استنبط الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة على حجية الْإِجْمَاع وَأَنه لم يسْبق إِلَيْهِ. وَحكى أَنه تَلا الْقُرْآن ثَلَاث مَرَّات حَتَّى استخرجه، روى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل وَلم يدع: أَعنِي الشَّافِعِي الْقطع فِيهِ انْتهى. فَإِذا ادّعى الظَّن فَلَا إِشْكَال لَكِن الْمَطْلُوب الْقطع وَإِن ادّعى الْقطع أشكل بقوله بظنية دلَالَة الْعَام.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا لَا يضر الْحَنَفِيَّة إِذا احْتَجُّوا بِهِ لإِفَادَة الْقطع (وَالِاسْتِدْلَال) على حجية الْإِجْمَاع كَمَا ذكره إِمَام الْحَرَمَيْنِ (بِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع (يدل على) وجود دَلِيل (قَاطع فِي الحكم) الْمجمع عَلَيْهِ (عَادَة) فحجيته قطعا بذلك الْقَاطِع (مَمْنُوع) فَإِن مُسْتَند الْإِجْمَاع قد يكون ظنيا، نعم يمْتَنع عَادَة اتِّفَاقهم على مظنون دق فِيهِ النّظر، لَا فِي الْقيَاس الْجَلِيّ وَنَظِيره من أَخْبَار الْآحَاد (بِخِلَاف مَا تقدم) من إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على حجية الْإِجْمَاع (فَإِنَّهُ) أَي الْقطع بِهِ (قطع كل) أَي قطع كل وَاحِد من المجمعين بالمجمع عَلَيْهِ قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَإِن لم يقدمهُ على الْقَاطِع (وَالْقطع هُنَا) أَي فِيمَا سوى ذَلِك الْفَرد الْخَاص من سَائِر أَفْرَاد الْإِجْمَاع(3/229)
يتَحَقَّق (بعده) أَي الْإِجْمَاع. قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا من خَواص المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى (قَالُوا) أَي المخالفون. قَالَ الله تَعَالَى - {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء (فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} } فَلَا مرجع عَن الْكتاب وَالسّنة. (الْجَواب لَو تمّ) هَذَا (لانتفى الْقيَاس وَلَا ينفونه) أَي المخالفون الْقيَاس (فَإِن رجعتموه) أَي الْقيَاس (إِلَى أَحدهمَا) أَي الْكتاب وَالسّنة (لثُبُوت أَصله) أَي الْقيَاس وَهُوَ الْمَقِيس عَلَيْهِ (بِهِ) أَي بِأَحَدِهِمَا (فَكَذَا لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن مُسْتَند) وَهُوَ أَحدهمَا أَو الْقيَاس الرَّاجِع إِلَى أَحدهمَا (أَو خص) وجوب الرَّد (بِمَا) يَقع (فِيهِ) النزاع (وَهُوَ) أَي مَا فِيهِ النزاع (ضد الْمجمع عَلَيْهِ) فَإِن الْمجمع لَيْسَ مَحل الْخلاف، وَهَذَا (إِن لم يكن) وجوب الرَّد (خص بالصحابة) بِقَرِينَة الْخطاب (ثمَّ) لَو سلم عدم الِاخْتِصَاص وَهُوَ (ظَاهر لَا يُقَاوم الْقَاطِع) الَّذِي يدل على حجية الْإِجْمَاع من الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة وَغَيرهَا (وَأَيْضًا) قَالُوا (نَحْو) قَوْله تَعَالَى { (لَا تَأْكُلُوا} أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ - وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} - إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ورد نهيا عَاما للْأمة (يُفِيد جَوَاز خطئهم) أَي الْأمة إِذْ لَو لم يجز صُدُور تِلْكَ المنهيات على سَبِيل الْعُمُوم لما أَفَادَ النَّهْي الْعَام إِذْ لَا يُنْهِي عَن الْمُمْتَنع (أُجِيب بعد كَونه) أَي النَّهْي (منعا لكل) لفظ كلي إفرادي يَكْفِي فِيهِ جَوَاز الْخَطَأ من كل فَرد على سَبِيل الْبَدَل (لَا الْكل) أَي الْكل المجموعى كَمَا زَعَمُوا ورتبوا عَلَيْهِ جَوَاز صُدُور المنهيات عَن جَمِيعهم (يمْنَع استلزام النَّهْي جَوَازًا صُدُور الْمنْهِي) عَنْهُم فِي نفس الْأَمر (بل يَكْفِي فِيهِ) أَي فِي كَون الْمنْهِي صَحِيحا (الْإِمْكَان الذاتي) لوُقُوع الْمنْهِي (مَعَ الِامْتِنَاع بِالْغَيْر وَمفَاده) أَي الْمنْهِي حِينَئِذٍ (الثَّوَاب بالعزم) على ترك الْمنْهِي إِذا خطر لَهُ فعله، وَهِي فَائِدَة عَظِيمَة.
مسئلة
(انْقِرَاض المجمعين) أَي مَوْتهمْ على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ (لَيْسَ شرطا لحجيته) أَي لحجية إِجْمَاعهم (عِنْد الْمُحَقِّقين) مِنْهُم الْحَنَفِيَّة، وَنَصّ أَبُو بكر الرَّازِيّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب على أَنه الصَّحِيح وَابْن السَّمْعَانِيّ على أَنه أصح الْمذَاهب لأَصْحَاب الشَّافِعِي فَهُوَ حجَّة بِمُجَرَّد انْعِقَاده (فَيمْتَنع رُجُوع أحدهم) أَي المجمعين عَن ذَلِك الحكم لدلَالَة إِجْمَاعهم على أَنه حكم الله تَعَالَى يَقِينا (و) يمْتَنع (خلاف من حدث) من الْمُجْتَهدين بعد انْعِقَاد إِجْمَاعهم (وَشَرطه) أَي انقراضهم (أَحْمد وَابْن فورك) وسليم الرَّازِيّ والمعتزلة على مَا نَقله ابْن برهَان والأشعري على مَا ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ سَنَده قِيَاسا أَو غَيره، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (إِن كَانَ سَنَده قِيَاسا) لَا إِن كَانَ نصا قَاطعا، كَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، قَالَ السُّبْكِيّ: وَهُوَ(3/230)
وهم، فإمام الْحَرَمَيْنِ لَا يعْتَبر إِلَّا نقرض ألبته بل يفرق بَين الْمُسْتَند إِلَى قَاطع وَغَيره، فَلَا يشْتَرط فِيهِ تمادي زمَان (وَقيل) يشْتَرط الانقراض (فِي السكوتي) وَهُوَ مَا كَانَ بفتوى الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ وَهُوَ مَذْهَب أبي إِسْحَاق الأسفرايني وَبَعض الْمُعْتَزلَة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، ثمَّ من المشترطين من اشْتِرَاط انْقِرَاض جَمِيع أَهله، وَمِنْهُم من اشْترط انْقِرَاض أَكْثَرهم فَإِن بَقِي من لَا يَقع الْعلم بِصدق خَبره كواحد واثنين لم يعْتَبر بِبَقَائِهِ، ثمَّ قَالَ الْغَزالِيّ قيل يَكْتَفِي بموتهم تَحت هدم دفْعَة إِذْ الْغَرَض انْتِهَاء أعمارهم عَلَيْهِ، والمحققون لَا بُد من انْقِضَاء مُدَّة تفِيد فَائِدَة فَإِنَّهُم قد يجمعُونَ على رَأْي وَهُوَ معرض للتغيير، ثمَّ الْقَائِلُونَ بالاشتراط. مِنْهُم من شَرط فِي انْعِقَاد، وَمِنْهُم فِي كَونه حجَّة. وَاخْتلف فِي فَائِدَة هَذَا الِاشْتِرَاط، فَأَحْمَد وَمن وَافقه جَوَاز رُجُوع المجمعين أَو بَعضهم قبل الانقراض وَلَو أَجمعُوا فانقرضوا مصرين على مَا قَالُوا كَانَ إِجْمَاعًا وَإِن خالفهم الْمُجْتَهد اللَّاحِق فِي زمانهم، وَذهب الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّهَا جَوَاز الرُّجُوع وَإِدْخَال من أدْرك عصرهم من الْمُجْتَهدين فِي إِجْمَاعهم، ثمَّ لَا يشْتَرط انْقِرَاض عصر الْمدْرك الْمدْخل فِي إِجْمَاعهم وَإِلَّا لم يتم إِجْمَاع أصلا كَمَا نَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره عَنْهُم (لنا) الْأَدِلَّة (السمعية توجبها) أَي حجَّة الْإِجْمَاع (بِمُجَرَّدِهِ) أَي بِمُجَرَّد اتِّفَاق مجتهدي عصر وَلَو فِي لَحْظَة، إِذْ الحجية تترتب على نفس الْإِجْمَاع وَهُوَ عبارَة عَن الِاتِّفَاق الْمَذْكُور فالاشتراط لَا مُوجب لَهُ، بل الْأَدِلَّة توجب خِلَافه (قَالُوا) أَي المشترطون (يلْزم) عدم اشْتِرَاطه (منع الْمُجْتَهد عَن الرُّجُوع) عَن ذَلِك الحكم (عِنْد ظُهُور مُوجبه) أَي الرُّجُوع (خَبرا) كَانَ الْمُوجب (أَو غَيره) وَاللَّازِم بَاطِل أما إِذا كَانَ خَبرا فلاستلزامه ترك الْعَمَل بالْخبر الصَّحِيح وَأما إِذا كَانَ عَن اجْتِهَاد فَلِأَنَّهُ لَا حجر على الْمُجْتَهد فِي الرُّجُوع عِنْد تغير الِاجْتِهَاد اتِّفَاقًا فِي غير الْمُتَنَازع فِيهِ فَهُوَ مُلْحق بِهِ (أُجِيب) وجود الْخَبَر مَعَ غَفلَة الْكل عَنهُ (بعيد بعد فحصهم) عَنهُ، والذهول عَنهُ بعد الِاطِّلَاع الْكَائِن بعد الفحص أبعد (وَلَو سلم) وجوده بعد ذَلِك (فَكَذَا) يُقَال للمشترطين إجماعكم بعد الانقراض لَيْسَ بِحجَّة وَإِلَّا لزم إِلْغَاء الْخَبَر الصَّحِيح إِذا اطلع عَلَيْهِ من بعدهمْ (فَهُوَ) أَي هَذَا الْإِلْزَام (مُشْتَرك) بَيْننَا وَبَيْنكُم فَمَا هُوَ جوابكم فَهُوَ جَوَابنَا، وَهَذَا جَوَاب جدلي (والحل) أَي حل شبهتهم بِحَيْثُ تضمحل (يجب ذَلِك) أَي إِلْغَاء الْخَبَر الصَّحِيح الْمُخَالف للمجمع عَلَيْهِ تَقْدِيمًا للقاطع وَهُوَ الْإِجْمَاع على مَا لَيْسَ بقاطع وَهُوَ الْخَبَر، وَلَا نسلم أَنه لَيْسَ بممنوع من الرُّجُوع من اجْتِهَاده الْمجمع عَلَيْهِ (وَلذَا) أَي التَّقْدِيم الْقَاطِع. قَالَ الشَّارِح: أَي كَون الرُّجُوع عِنْد ظُهُور مُوجبه لَيْسَ مُطلقًا بباطل، بل فِيمَا إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ انْتهى، وسيظهر لَك مَا فِيهِ. (قَالَ عُبَيْدَة) بِفَتْح الْعين السَّلمَانِي (لعَلي) رَضِي الله عَنهُ (حِين رَجَعَ) عَليّ عَن عدم جَوَاز بيع أُمَّهَات(3/231)
الْأَوْلَاد (قبله) أَي قبل انْقِرَاض المجمعين عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ اجْتمع رَأْيِي ورأي عمر فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد أَن لَا يبعن، ثمَّ رَأَيْت بعد أَن يبعن وَيَقُول عُبَيْدَة (رَأْيك) ورأي عمر (فِي الْجَمَاعَة أحب) إِلَيّ (من رَأْيك وَحدك) فِي الْفرْقَة فَضَحِك عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق وَلَيْسَ هَذَا مُخَالفَة الْإِجْمَاع (وَغَايَة الْأَمر أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) كَانَ (يرى اشْتِرَاطه) أَي انْقِرَاض الْعَصْر على أَن فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه خطب على مِنْبَر الْكُوفَة فَقَالَ: اجْتمع رَأْيِي ورأي أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر أَن لَا تبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَأَنا الْآن أرى بيعهنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك فَأَطْرَقَ عَليّ رَأسه ثمَّ قَالَ اقضوا فِيهِ مَا أَنْتُم قاضون فَأَنا أكره أَن أُخَالِف أَصْحَابِي انْتهى. الظَّاهِر أَن المُرَاد بِأَصْحَابِي عُبَيْدَة وَمن مَعَه لَا عمر وَسَائِر الْأَصْحَاب، لِأَنَّهُ صرح أَولا بِقصد مخالفتهم، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون رُجُوعا عَن ذَلِك الْقَصْد (قَالُوا) أَي المشترطون (لَو لم تعْتَبر مُخَالفَة الرَّاجِع لِأَن) القَوْل (الأول) وَفِي بعض النّسخ الأولى: أَي الْحجَّة الأولى (كل الْأمة) بِتَقْدِير الْمُضَاف أَي قَوْلهم (لم تعْتَبر مُخَالفَة من مَاتَ) قبل انْقِرَاض أهل عصر (لِأَن الْبَاقِي) بعد مَوته وهم المجمعون (كل الْأمة) وَاللَّازِم بَاطِل (أُجِيب) بِمَنْع بطلَان اللَّازِم إِذْ (عدم اعْتِبَار) مُخَالفَة الأول (الْمَيِّت مُخْتَلف) فِيهِ، فَمنهمْ من قَالَ لَا يعْتَبر (وعَلى) تَقْدِير (الِاعْتِبَار الْفرق) بَين الْمُخَالف السَّابِق على الْإِجْمَاع والمخالف الْمُتَأَخر عَنهُ (تحقق الْإِجْمَاع) أَولا بموافقته (قبل الرُّجُوع فَامْتنعَ) مُخَالفَته بعد (وَلم يتَحَقَّق) الْإِجْمَاع (قبل الْمَوْت) أَي قبل موت الْمُخَالف قبل اجْتِهَاده ليمنعه عَن الْمُخَالفَة، ثمَّ القَوْل لم يمت بِمَوْت قَائِله، لِأَن اعْتِبَار القَوْل بدليله لَا لذات الْقَائِل، وَدَلِيل الْمَيِّت بَاقٍ بعد مَوته.
مسئلة
(أَكثر الْحَنَفِيَّة والمحققون من الشَّافِعِيَّة) كالمحاسبي والاصطخري والقفال الْكَبِير وَالْقَاضِي أبي الطّيب وَابْن الصّباغ وَالْإِمَام الرَّازِيّ (وَغَيرهم) كالجبائي وَابْنه قَالُوا (لَا يشْتَرط لحجيته) أَي الْإِجْمَاع (انْتِفَاء سبق خلاف مُسْتَقر) لغير المجمعين، واستقرار الْخلاف أَن يتَّخذ كل من الْمُخَالفين مَا ذهب إِلَيْهِ مذهبا لَهُ، ويفتي بِهِ، وَقيل اسْتِقْرَار الْخلاف وَهُوَ زمَان المباحثة لم يثبت مذْهبه (وَخرج عَن أبي حنيفَة اشْتِرَاطه) أَي انْتِفَاء سبق خلاف مُسْتَقر لغَيرهم. قَوْله خرج دون نقل دلّ على أَنه لم يُصَرح بذلك (و) خرج (نَفْيه) أَي نفي الِاشْتِرَاط (عَن مُحَمَّد (و) خرج (عَن أبي يُوسُف كل) من اشْتِرَاطه وَنفي اشْتِرَاطه (من الْقَضَاء) أَي من سئلة(3/232)
الْقَضَاء (بِبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد الْمُخْتَلف) فِيهِ جَوَازًا وَعدم جَوَاز (للصحابة) مُتَعَلق بالمختلف، وَهُوَ صفة بيع الْأُمَّهَات، وَذكر الشَّارِح أَن سَبَب الِاخْتِلَاف أَنه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوَرَثَة باعوا أم ولد " لَا تَبِيعُوهَا وأعتقوها فَإِذا سَمِعْتُمْ برقائق فائتوني أعوضكم مِنْهَا ". فَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَينهم بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ بَعضهم: أم الْوَلَد مَمْلُوكَة وَلَوْلَا ذَلِك لم يعوضهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: بل هِيَ حرَّة أعْتقهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أخرجه الْبَيْهَقِيّ وَالطَّبَرَانِيّ (الْمجمع للتابعين على أحد قوليهم) أَي الصَّحَابَة فِيهِ صفة أُخْرَى للْبيع الْمَذْكُور، ثمَّ بَين أحد الْقَوْلَيْنِ بقوله (من الْمَنْع) عَن بيعهَا (لَا ينفذ) الْقَضَاء لصِحَّة بيعهنَّ (عِنْد مُحَمَّد) لِأَنَّهُ قَضَاء بِخِلَاف الْإِجْمَاع لِأَن جَوَاز البيع لم يبْق اجتهاديا بِالْإِجْمَاع فِي الْعَصْر الثَّانِي، وَمحل النَّفاذ فِي الخلافية لَا بُد أَن يكون اجتهاديا. (وَعَن أبي حنيفَة) أَنه (ينفذ) لِأَن الْخلاف السَّابِق منع انْعِقَاد الْإِجْمَاع الْمُتَأَخر فَلَا ينْقض الْقَضَاء (وَلأبي يُوسُف مثلهمَا) . ذكره السَّرخسِيّ مَعَ أبي حنيفَة وَصَاحب الْمِيزَان مَعَ مُحَمَّد (وَالْأَظْهَر) من الرِّوَايَات كَمَا فِي الْفُصُول الاستروشنية وَغَيرهَا (لَا ينفذ عِنْدهم) أَي الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة جَمِيعًا، فِي التَّقْوِيم أَن مُحَمَّدًا روى عَنْهُم جَمِيعًا أَن الْقَضَاء بِبيع أم الْوَلَد لَا يجوز، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن كلامنا فِي النَّفاذ لَا الْجَوَاز، وَكم من تصرف غير جَائِز لكنه بعد الْوُقُوع ينفذ (وَفِي الْجَامِع يتَوَقَّف) نفاذه (على إِمْضَاء قَاض آخر) أَن إمضاه نفذ وَإِلَّا بَطل، وَلما كَانَ يَقْتَضِي قَوْله وَالْأَظْهَر الخ عدم النَّفاذ عِنْد الْكل مُطلقًا، وَهُوَ مُوجب عِنْدهم اشْتِرَاط انْتِفَاء سبق الْخلاف، وَمَا فِي الْجَامِع يدل على النَّفاذ على تَقْدِير إِمْضَاء قَاض آخر، وَبَينهمَا نوع تدافع أَرَادَ أَن يدْفع ذَلِك، فَقَالَ (فالتخريج لهَذَا القَوْل) كَمَا فِي الْجَامِع واستنباط الْمَعْنى الفقهي فِيهِ بِنَاء (على عَدمه) أَي اشْتِرَاط انْتِفَاء الْخلاف السَّابِق لحجية الْإِجْمَاع اللَّاحِق (أَن) الْإِجْمَاع (الْمَسْبُوق) بِخِلَاف مُسْتَقر (مُخْتَلف) فِي كَونه إِجْمَاعًا، فَعِنْدَ الْأَكْثَر إِجْمَاع، وَعند الآخرين لَيْسَ بِإِجْمَاع (فَفِيهِ) أَي فَفِي كَونه إِجْمَاعًا (شُبْهَة) عِنْد من جعله إِجْمَاعًا، وَكَذَا لَا يكفر جاحده وَلَا يضلل (فَكَذَا مُتَعَلّقه) أَي فَكَمَا أَن فِي نفس هَذَا الْإِجْمَاع شُبْهَة كَذَلِك فِي مُتَعَلّقه الَّذِي هُوَ الحكم الْمجمع عَلَيْهِ شُبْهَة (فَهُوَ) أَي فالقضاء بذلك نَافِذ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمخالف للْإِجْمَاع الْقطعِي: بل للْإِجْمَاع الْمُخْتَلف فِيهِ فَكَانَ (كقضاء فِي مُجْتَهد) فِيهِ أَي فِي حكم اخْتلف فِيهِ فَإِن قلت هُوَ من أَفْرَاد الْقَضَاء فِي الحكم الْمُخْتَلف فِيهِ فَمَا معنى قَوْله كقضاء فِي مُجْتَهد قلت الْمُشبه بِهِ قَضَاء لَا شُبْهَة فِي كَون مُتَعَلّقه مُجْتَهدا فِيهِ لعدم تعلق الْإِجْمَاع بِهِ أصلا لَا الْقطعِي وَلَا الظني فَكَانَ مُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يحْتَاج نفاذه إِلَى إِمْضَاء قَاض آخر بل يكون لَازِما لكَونه قَضَاء صَادف مَحَله، لكنه لما كَانَ حجية هَذَا الْإِجْمَاع(3/233)
كالقطعي لقُوَّة أدلتها، وَهُوَ يسْتَلْزم رُجْحَان عدم نَفاذ الْقَضَاء الْمُتَعَلّق بنقيض الحكم الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْإِجْمَاع الْمَذْكُور صَار نفاذه مرجوحا ضَعِيفا عِنْد من لم يشْتَرط انْتِفَاء سبق الْخلاف فِي الْإِجْمَاع وَمثله لَا ينفذ فنفاذه مُخْتَلف فِيهِ يحْتَاج إِلَى إِمْضَاء آخر لينفذه ويقرره بِحَيْثُ لَا يقدر على إِبْطَاله قَاض ثَالِث. ثمَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة: عدم جَوَاز بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وقضاة الزَّمَان مَا فوض إِلَيْهِم إِلَّا الحكم بِمُوجب مَذْهَب مقلدهم فحكمهم بِمَا يُخَالف مَذْهَبهم وَلَيْسَ عَن ولَايَة فَلَا ينفذ (لنا) على عدم اشْتِرَاط هَذَا الشَّرْط (الْأَدِلَّة) الْمُتَقَدّمَة (لَا تفصل) بَين مَا سبقه خلاف وَبَين مَا لم يسْبقهُ فَيعْمل بِمُقْتَضى إِطْلَاقهَا. (قَالُوا) أَي الشارطون (لَا ينتفى القَوْل بِمَوْت قَائِله حَتَّى جَازَ تَقْلِيده) أَي تَقْلِيد قَائِله (وَالْعَمَل بِهِ) أَي بقول الْمَيِّت، وَلِهَذَا يدون ويحفظ (فَكَانَ) قَوْله (مُعْتَبرا حَال اتِّفَاق اللاحقين فَلم يَكُونُوا) أَي اللاحقون (كل الْأمة) فَلَا إِجْمَاع (قُلْنَا جَوَاز ذَلِك) أَي تَقْلِيد الْمَيِّت وَالْعَمَل بقوله (مُطلقًا مَمْنُوع بل) جَوَاز ذَلِك (مَا لم يجمع على) القَوْل (الآخر) الْمُقَابل لَهُ، أما إِذا أجمع على الآخر (فينتفى اعْتِبَاره) أَي ذَلِك القَوْل السَّابِق لَا وجوده من الأَصْل كَمَا ينتفى اعْتِبَار القَوْل السَّابِق، و (لَا) ينتفى (وجوده كَمَا بالناسخ، وَبِه) أَي بِمَا ذكر من الْإِجْمَاع بِنَفْي اعْتِبَار القَوْل الْمُقَابل للْجمع عَلَيْهِ بعد الْإِجْمَاع فَلَا يَنْفِي وجوده من الأَصْل، وَلَا يَنْفِي أَيْضا اعْتِبَاره قبل الْإِجْمَاع (يبطل قَوْلهم) أَي الشارطين (يُوجب) عدم اعْتِبَار قَول الْمَيِّت الْمُخَالف (تضليل بعض الصَّحَابَة) الْقَائِل بِخِلَاف مَا أجمع عَلَيْهِ بِالآخِرَة وَجه الْبطلَان أَن الْإِجْمَاع اللَّاحِق لم يسْتَلْزم عدم اعْتِبَاره قبله بل كَانَ مُعْتَبرا مَعْمُولا بِهِ غَايَة الْأَمر أَنه ظهر بالاجماع اللَّاحِق كَونه خطأ اجتهاديا لِأَن الْمجمع عَلَيْهِ عين حكم الله تَعَالَى قطعا وَهُوَ يسْتَلْزم خطأ نقيضه وَلَا مَحْذُور فِي هَذَا فَإِن الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب، وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده يجب أَن يعْمل بِهِ، وَإِن كَانَ مخطئا فِي نفس الْأَمر وَإِنَّمَا الْمُمْتَنع خطأ كل الْأمة (وبإجماع التَّابِعين) الْمَذْكُور (بَطل مَا) نقل (عَن الْأَشْعَرِيّ وَأحمد وَالْغَزالِيّ وَشَيْخه) إِمَام الْحَرَمَيْنِ (من إِحَالَة الْعَادة إِيَّاه) أَي الْإِجْمَاع على أحد الْقَوْلَيْنِ السَّابِقين (لقضائها) أَي الْعَادة (بالإصرار على المعتقدات) أَي الثَّبَات على أَحْكَام شَرْعِيَّة اعتقدوها (و) خص هَذَا الْإِصْرَار (خُصُوصا من الِاتِّبَاع) على معتقدات متبوعهم، وَجه الْبطلَان أَن الْعَادة لَا تتَصَوَّر أَن تحيل أمرا وَاقعا فِي نفس الْأَمر وَلَا وَجه للاحتجاج بِمَا نقل عَنْهُم (على أَنه) أَي قَضَاء الْعَادة بِمَا ذكر على تَقْدِير تَسْلِيمه (إِنَّمَا يسْتَلْزم ذَلِك) أَي إِحَالَة وُقُوع الْإِجْمَاع (من الْمُخْتَلِفين) أنفسهم (لَا) إِحَالَة وُقُوعه (مِمَّن بعدهمْ) إِذْ لَا نسلم كَون من بعدهمْ على اعْتِقَادهم، والمسئلة مَفْرُوضَة فِي وُقُوعه مِمَّن بعدهمْ. وَأَنت خَبِير بِأَن الشَّخْص الْوَاحِد يُنَاقض نَفسه فِي وَقْتَيْنِ بِمُوجب اجْتِهَاده(3/234)
(و) بَطل (مَا) نقل (عَن المجوزين) لانعقاده وحجيته (من عدم الْوُقُوع) لما ثَبت بالأخبار الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة بِالْإِجْمَاع الصَّحِيح الْمَذْكُور (قَوْلهم) أَي الْقَائِلين بامتناع الْوُقُوع فِي الْوُقُوع (تعَارض الإجماعين القطعيين) الأول (على تسويغ القَوْل بِكُل) مِنْهُمَا (و) الثَّانِي (على مَنعه) أَي منع تسويغ القَوْل بِكُل مِنْهُمَا (قُلْنَا) تعارضهما غير لَازم إِذْ (التسويغ) أَي تسويغ القَوْل بِكُل مِنْهُمَا (مُقَيّد بِعَدَمِ الْإِجْمَاع على أَحدهمَا) إِجْمَاعًا (وجوبا) أَي تقييدا وَاجِبا (لأدلة الِاعْتِبَار) للْإِجْمَاع الْمَسْبُوق بِخِلَاف مُسْتَقر كَمَا ذَكرْنَاهُ (أما إِجْمَاعهم) أَي الْمُخْتَلِفين أنفسهم (بعد اخْتلَافهمْ) المستقر (على أَحدهمَا فَكَذَلِك) أَي فَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا تقدم جَوَابا واستدلالا، فَمَنعه الْآمِدِيّ مُطلقًا لِأَن اسْتِقْرَار الْخلاف بَينهم يتَضَمَّن اتِّفَاقهم على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل من شقي الْخلاف بِاجْتِهَاد أَو تَقْلِيد فَيمْتَنع اتِّفَاقهم بعد على أَحدهمَا وَجوزهُ الإِمَام الرَّازِيّ وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ (وَكَونه) أَي الْإِجْمَاع (حجَّة) فِي هَذِه الصُّورَة (أظهر) من كَونه حجَّة فِي الصُّورَة الأولى (إِذْ لَا قَول لغَيرهم مُخَالف لَهُم) فِي المسئلة (وَقَوْلهمْ) أَي الَّذين كَانُوا على خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ آخرا (بعد الرُّجُوع) إِلَى قَول البَاقِينَ (لم يبْق مُعْتَبرا فَهُوَ) أَي مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ آخرا (اتِّفَاق كل الْأمة) بِلَا شُبْهَة (بِخِلَاف مَا) أَي المسئلة الَّتِي (قبلهَا) أَي قبل هَذِه المسئلة، فَإِن المجمعين فِيهَا غير الْمُخْتَلِفين فَلم يَقع من قَائِل القَوْل الْمُخَالف للمجمع عَلَيْهِ رُجُوع من قَوْله ليزول اعْتِبَاره فَقَوْل الْمُخَالف هُنَاكَ (يعْتَبر فهم) أَي المجمعون فِي تِلْكَ المسئلة (كبعض الْأمة) على مَا ذهب إِلَيْهِ المشترطون انْتِفَاء الْخلاف السَّابِق، وَالْقَاضِي حَيْثُ قَالَ لَا يكون إِجْمَاعًا لِأَن الْمَيِّت فِي حكم الْمَوْجُود وَالْبَاقُونَ بعض الْأمة وَأَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَذكر فِي الْمُسْتَصْفى أَنه الرَّاجِح.
مسئلة
مُعظم الْعلمَاء على مَا ذكره ابْن برهَان ذَهَبُوا إِلَى أَنه (لَا يشْتَرط فِي حجيته) أَي الْإِجْمَاع (عدد التَّوَاتُر لِأَن) الدَّلِيل (السمعي) لحجيته (لَا يُوجِبهُ) أَي عدد التَّوَاتُر بل يتَنَاوَل الْأَقَل مِنْهُم لكَوْنهم كل الْأمة (و) الدَّلِيل (الْعقلِيّ) لحجيته (وَهُوَ أَنه) أَي الْإِجْمَاع (لَو لم يكن عَن دَلِيل قَاطع لم يحصل) أَي الْإِجْمَاع لِأَن الْعَادة تحكم بِأَن الْكثير من الْعلمَاء الْمُحَقِّقين لَا يَجْتَمعُونَ على الْقطع فِي شَرْعِي بِغَيْر نَص قَاطع بَلغهُمْ فِيهِ بِوَجْه (لم يَصح) مثبتا لاشْتِرَاط عدد التَّوَاتُر فِي حجيته. قَالَ القَاضِي، وَأما من اسْتدلَّ بِالْعقلِ، وَهُوَ أَنه لَو لم يكن الْإِجْمَاع عَن قَاطع لما حصل فَلَا بُد من القَوْل بِعَدَد التَّوَاتُر انْتِفَاء حكم الْعَادة فِي غَيره ظَاهر(3/235)
انْتهى وَهُوَ فِي حيّز الْمَنْع. قَالَ الشَّارِح: فِي سَنَد هَذَا الْمَنْع لِأَن اشْتِرَاط عدد التَّوَاتُر فِي انتهاض الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة دون انتهاضه حجَّة ظنية (وَإِذن) أَي وَإِذ لم يشْتَرط فِي المجمعين عدد التَّوَاتُر (لَا إِشْكَال فِي تحَققه) أَي الْإِجْمَاع (لَو لم يكن) ذَلِك الْإِجْمَاع (لَا) اتِّفَاق (اثْنَيْنِ) لصدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ، وَقيل أَن أقل مَا ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع ثَلَاثَة لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْجَمَاعَة، وَأَقل الْجمع ثَلَاثَة، وَفِي كَلَام شمس الْأَئِمَّة إِشَارَة إِلَيْهِ (فَلَو اتَّحد) الْمُجْتَهد وانحصر فِي وَاحِد فِي عصر (فَقيل) قَوْله (حجَّة) جزم بِهِ ابْن سُرَيج (لتضمن) الدَّلِيل (السمعي) السَّابِق فِي بَيَان حجية الْإِجْمَاع (عدم خُرُوج الْحق عَن الْأمة) فَلَو انحصر مُجْتَهد الْأمة فِي الْوَاحِد وَلم يكن قَوْله حَقًا لزم خلوهم عَنهُ وَهَذَا إِنَّمَا يلْزم لولم يَتَمَسَّكُوا بقول من سبق زَمَانه من الْمُجْتَهدين بِأَن لَا يكون لَهُم قَول فِي المسئلة (وَقيل لَا) يكون قَوْله حجَّة (لِأَن الْمَنْفِيّ عَنهُ الْخَطَأ الِاجْتِمَاع) الْمُسْتَفَاد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" سَأَلت رَبِّي أَن لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة " إِلَى غير ذَلِك (وسبيل الْمُؤمنِينَ) المُرَاد بِهِ الْإِجْمَاع فِي الْآيَة الْكَرِيمَة، مَعْطُوف على الِاجْتِمَاع (وَهُوَ) أَي كل مِنْهُمَا (مُنْتَفٍ) فِي الْوَاحِد إِذْ لَيْسَ لَهُ اجْتِمَاع وَلَيْسَ هُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِطْلَاق الْأمة على إِبْرَاهِيم مجَازًا إِذْ كَونهَا حَقِيقَة فِي الْجَمَاعَة لَا شُبْهَة فِيهِ، فَلَو كَانَ حَقِيقَة فِي الْوَاحِد أَيْضا لزم الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْأَصْل عَدمه، وَكَونه للقدر الْمُشْتَرك خلاف الظَّاهِر، وَقيل هِيَ فعلة بِمَعْنى مفعول كالنخبة والرحلة، من أمه إِذا قَصده واقتدى بِهِ، فَالْمَعْنى كَانَ مقتدى.
مسئلة
(وَلَا) يشْتَرط (فِي حجيته) أَي الْإِجْمَاع (مَعَ الْأَكْثَر) أَي مَعَ كَون المجمعين أَكثر مجتهدي عصر (عَدمه) أَي عدم عدد التَّوَاتُر (فِي الْأَقَل) أَي الَّذين لم يوافقوا الْأَكْثَر بِحَيْثُ لَو لم يكن عَدمه فِي الْأَقَل بِأَن لم يبلغ عدد التَّوَاتُر لَا يكون اتِّفَاق الْأَكْثَر حجَّة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق الْعَدَم الْمَذْكُور (فَلَا) حجية لإِجْمَاع الْأَكْثَر فَهُوَ من تَتِمَّة المنفى وَهُوَ الِاشْتِرَاط (ومطلقا) أَي وَلَا يشْتَرط فِي حجية إِجْمَاع الْأَكْثَر كَون الْأَقَل عددا مَخْصُوصًا كعدد التَّوَاتُر وَغَيره، بل إِجْمَاع الْأَكْثَر حجَّة مُطلقًا كَمَا عزى (لِابْنِ جرير وَبَعض الْمُعْتَزلَة) أبي الْحسن الْخياط أستاذ الكعبي ذكره فِي كشف الْبَزْدَوِيّ (وَنقل عَن أَحْمد) أَيْضا هَكَذَا فسر الشَّارِح قَوْله مُطلقًا إِلَى آخِره، وَالْوَجْه أَن يُفَسر الْإِطْلَاق بِمَا يُقَابل التَّقْيِيد الْمُسْتَفَاد من التَّفْصِيل المفاد بقوله وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ إِلَى آخِره فَيكون قَوْله مُطلقًا إِلَى آخِره مَعَ قَوْله وَقَالَ إِلَى آخِره كالتقسيم لعدم اشْتِرَاط عدم عدد التَّوَاتُر فِي الْأَقَل عِنْد إِجْمَاع الْأَكْثَر، إِذْ الْإِطْلَاق بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكره الشَّارِح مَوْجُود فِيمَا قبله، فَالْمَعْنى وَلَا يشْتَرط فِي حجية إِجْمَاع الْأَكْثَر شرطا مُطلقًا (وَقَالَ) أَبُو عبد الله (الْجِرْجَانِيّ)(3/236)
(و) أَبُو بكر (الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة أَن سوغ الْأَكْثَر اجْتِهَاد الْأَقَل كخلاف أبي بكر فِي مانعي الزَّكَاة) أَي فِي قِتَالهمْ (فَلَا) ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ خِلَافه (بِخِلَاف) مَا إِذا لم يسوغ الْأَكْثَر اجْتِهَاد الْأَقَل فَإِنَّهُ ينْعَقد إِجْمَاع الْأَكْثَر مَعَ خِلَافه وَلَكِن يكون حجَّة ظنية كخلاف (أبي مُوسَى) الْأَشْعَرِيّ (فِي نقض النّوم) حَيْثُ لَا ينْقض عِنْده وينقض عِنْد غَيره. قَالَ الشَّارِح وَنقل عَن غَيره من الصَّحَابَة أَيْضا، وَصَحَّ عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم ابْن الْمسيب. قَالَ وَاخْتَارَهُ شمس الْأَئِمَّة، لَيْسَ هَذَا فِي نُسْخَة الشَّرْح لكنه قَالَ. قَالَ السَّرخسِيّ وَالأَصَح عِنْدِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو بكر الرَّازِيّ أَن الْوَاحِد إِذا خَالف الْجَمَاعَة فَإِن سوغوا لَهُ ذَلِك الِاجْتِهَاد لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع بِمَنْزِلَة خلاف ابْن عَبَّاس الصَّحَابَة: فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين أَن للْأُم ثلث جَمِيع المَال وَأَن لم يسوغوا لَهُ الِاجْتِهَاد، وأنكروا عَلَيْهِ قَوْله فَإِنَّهُ يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله كَقَوْل ابْن عَبَّاس فِي حل التَّفَاضُل فِي أَمْوَال الرِّبَا فَإِن الصَّحَابَة لم يسوغوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَاد حَتَّى روى أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْلهم فَكَانَ الْإِجْمَاع ثَابتا بِدُونِ قَوْله. وَقَالَ مُحَمَّد فِي الْإِمْلَاء: لَو قضى القَاضِي بِجَوَاز بيع الدِّرْهَم بالدهمين لم ينفذ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالف للْإِجْمَاع فَجعل المسئلة مَوْضُوعَة فِي خلاف الْوَاحِد لَا غير وَلَا يخفى عَلَيْك أَن خلاف الْوَاحِد مندرج فِي خلاف الْأَقَل وَحكمه فِي بَيَان المُصَنّف (وَالْمُخْتَار) أَنه (لَيْسَ) إِجْمَاع الْأَكْثَر (إِجْمَاعًا) أصلا فَلَا يكون حجَّة ظنية وَلَا قَطْعِيَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكِتَاب وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع وَلَا قِيَاس وَلَا من الْأَدِلَّة الْمُعْتَبرَة عِنْد الْأمة (و) الْمُخْتَار (لبَعْضهِم) أَنه (لَيْسَ إِجْمَاعًا لَكِن حجَّة لِأَن الظَّاهِر إصابتهم) أَي الْأَكْثَر، لَا الْأَقَل (خُصُوصا) إِذا انْضَمَّ هَذَا الظَّاهِر (مَعَ) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم) فَإِن الْأَكْثَر سَواد أعظم (وَأما الأول) أَي أما دَلِيل الأول وَهُوَ أَن اتِّفَاق الْأَكْثَر لَيْسَ إِجْمَاعًا (فانفراد ابْن عَبَّاس فِي) مسئلة (الْعَوْل) من بَين الصَّحَابَة (و) انْفِرَاد (أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر فِي جَوَاز أَدَاء الصَّوْم) يَعْنِي انفرادهما بإنكار صِحَة أَدَاء صَوْم رَمَضَان (فِي السّفر) كَمَا ذكره أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة عَن أبي هُرَيْرَة وَبَعض أَصْحَابنَا عَن ابْن عمر كَذَا ذكره الشَّارِح، وَنقل عَن شَيْخه الْحَافِظ أَنه حكى عَن عمر وَابْنه وَأبي هُرَيْرَة قَالَ ابْن الْمُنْذر روينَا عَن ابْن عمر أَنه قَالَ إِن صَامَ فِي السّفر فَكَأَنَّهُ أفطر فِي الْحَضَر، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف مثله، وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لَا يجْزِيه (عدوه) أَي الصَّحَابَة مَا وَقع فِيمَا بَينهم (خلافًا لَا إِجْمَاعًا) وَمُخَالفَة للْإِجْمَاع (وَأَيْضًا فالأدلة إِنَّمَا توجبه) أَي الْإِجْمَاع (فِي الْأمة) أَي توجب حجيته فيهم حَال كَون الْأمة (غير مَعْقُول لُزُوم إصابتهم) وَمَا ثَبت غير مَعْقُول الْمَعْنى يجب رِعَايَة جَمِيع أَوْصَاف النَّص فِيهِ، وَالنَّص يتَنَاوَل كل أهل الأجماع فَالْحَاصِل إِنَّمَا عرفنَا بِالنَّصِّ أَن الْحق لَا يتجاوزهم، فَإِن خرج وَاحِد مِنْهُم عَن الِاتِّفَاق(3/237)
جَازَ أَن يكون الْحق مَعَه، وَصَحَّ أَن الْحق لم يتعداهم (أَو إِكْرَاما لَهُم) مَعْطُوف على غير مَعْقُول يَعْنِي أَو مَعْقُول لُزُوم إصابتهم لكَونه إِكْرَاما للْكُلّ، وَالْأَكْثَر لَيْسَ بِكُل، (واستدلال المكتفي بِالْأَكْثَرِ) فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة، فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار مفاده منع الرُّجُوع بعد الْمُوَافقَة) أَي الْمُخَالفَة، لِأَنَّهُ مَأْخُوذ (من شَذَّ الْبَعِير) وند إِذا توحش بعد مَا كَانَ أهليا، فالشاذ من خَالف بعد الْمُوَافقَة، لَا من لَا يُوَافق ابْتِدَاء، وَإِذا عرفت أَنه لَيْسَ المُرَاد بِمن شَذَّ الْأَقَل فِي مُقَابلَة الْأَكْثَر ليَكُون المُرَاد من الْجَمَاعَة الْأَكْثَر (فالجماعة) الْمَذْكُورَة فِي قَوْله يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة (الْكل وَكَذَا السوَاد الْأَعْظَم) الْمَذْكُور فِي عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم الْكل إِذْ هُوَ أعظم مِمَّا دونه، وَإِنَّمَا وَجب الْحمل عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَين الْأَدِلَّة (و) اسْتِدْلَال المكتفى بِالْأَكْثَرِ (باعتماد الْأمة عَلَيْهِ) أَي على إِجْمَاع الْأَكْثَر (فِي خلَافَة أبي بكر مَعَ خلاف على، و) سعد (بن عبَادَة وسلمان فَلم يعتدوهم) أَي لم يعْتد الصَّحَابَة بِخِلَاف هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ (مَدْفُوع بِأَنَّهُ) أَي عدم اعْتِدَاد الصَّحَابَة بِخِلَاف هَؤُلَاءِ فِي الْإِجْمَاع على خِلَافَته إِنَّمَا هُوَ (بعد رجوعهم) أَي هَؤُلَاءِ إِلَى مَا اتّفق عَلَيْهِ الْعَامَّة لِأَن برجوعهم تقرر الْإِجْمَاع على خِلَافَته (وَقَبله) أَي قبل رجوعهم خِلَافَته (صَحِيحَة بِالْإِجْمَاع على الِاكْتِفَاء فِي الِانْعِقَاد) أَي انْعِقَاد الْإِمَامَة (ببيعة الْأَكْثَر) إِذْ هِيَ كَافِيَة فِي انْعِقَادهَا بل هِيَ تَنْعَقِد بِمحضر عَدْلَيْنِ (لَا) أَن خِلَافَته قبل رجوعهم (مجمع عَلَيْهَا) ليستدل بِهِ على أَن اتِّفَاق الْأَكْثَر إِجْمَاع وَلَا يلْزم عدم انْعِقَاد خِلَافَته قبل رجوعهم كَمَا زعم بَعضهم.
مسئلة
(وَلَا) يشْتَرط فِي حجية الْإِجْمَاع (عَدَالَة الْمُجْتَهد فِي) القَوْل (الْمُخْتَار للآمدي) وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ فَيتَوَقَّف الْإِجْمَاع على مُوَافقَة الْمُجْتَهد غير الْعدْل كَمَا يتَوَقَّف على الْعدْل (لِأَن الْأَدِلَّة) المفيدة لحجية الْإِجْمَاع (لَا توقفه) أَي الْإِجْمَاع (عَلَيْهَا) أَي على عَدَالَته (وَالْحَنَفِيَّة تشْتَرط) عَدَالَة الْمُجْتَهد فَلَا يتَوَقَّف الْإِجْمَاع على مُوَافقَة الْمُجْتَهد غير الْعدْل: نَص الْجَصَّاص على أَنه الصَّحِيح عندنَا، وَعَزاهُ السَّرخسِيّ إِلَى الْعِرَاقِيّين، وَابْن برهَان إِلَى كَافَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين، والسبكي إِلَى الْجُمْهُور (لِأَن الدَّلِيل) الدَّال على حجية الْإِجْمَاع (يتضمنها) أَي الْعَدَالَة (إِذْ الحجية) لإِجْمَاع الْأمة إِنَّمَا هِيَ (للتكريم) لَهُم، وَمن لَيْسَ بِعدْل لَيْسَ من أهل التكريم، وَهَذَا بِنَاء على القَوْل بثبوتها لَهُم بِمَعْنى مَعْقُول (ولوجوب التَّوَقُّف فِي إخْبَاره) بِأَن رَأْيه كَذَا قَالَ تَعَالَى - {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} - الْآيَة، وَقَالَ السَّرخسِيّ(3/238)
وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِن كَانَ مُعْلنا بِفِسْقِهِ فَلَا يعْتد بقوله، وَإِلَّا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع وَإِن علم بِفِسْقِهِ حَتَّى ترد شَهَادَته إِذْ يقطع لمن يَمُوت مُؤمنا مصرا على فسقه أَنه لَا يخلد فِي النَّار، فَهُوَ أهل للكرامة بِالْجنَّةِ فَكَذَلِك فِي الدُّنْيَا بِاعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع (وَقيل) وقائله إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ (يعْتَبر قَوْله) أَي غير الْعدْل (فِي حق نَفسه فَقَط كإقراره) أَي كَمَا يقبل إِقْرَاره فِي حق نَفسه بِالْمَالِ والجنايات إِلَى غير ذَلِك (وَيدْفَع) هَذَا الْقيَاس (بِأَنَّهُ) أَي إِقْرَاره مُعْتَبر (فِيمَا) أَي فِي حق يجب (عَلَيْهِ، وَهَذَا) أَي اعْتِبَار قَوْله فِيمَا نَحن فِيهِ (لَهُ) لَا عَلَيْهِ (إِذْ يَنْتَفِي حجيته) أَي الِاجْتِمَاع بإظهاره وَعدم الْمُوَافقَة فَيحصل لَهُ شرف الِاعْتِدَاد بِهِ وَالِاعْتِبَار بمقاله وَلَا يَصح الْقيَاس على إِقْرَاره، وَذهب بعض الشَّافِعِيَّة إِلَى أَنه إِذا خَالف يسْأَل عَن مأخذه لجَوَاز أَن يحملهُ فسقه على الْفتيا من غير دَلِيل، فَإِن ذكر مَا يصلح مأخذا لَهُ اعْتبر وَإِلَّا فَلَا، وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ (وَعَلِيهِ) أَي على اشْتِرَاط عَدَالَة الْمُجْتَهد (يَنْبَنِي شَرط عدم الْبِدْعَة إِذا لم يكفر بهَا) أَي بالبدعة (كالخوارج) إِلَّا الغلاة مِنْهُم فَإِنَّهُم من أَصْحَاب الْبدع الجلية كَمَا مر فِي مبَاحث الْخَبَر وَلم يكفروا ببدعتهم (وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا يشْتَرط فِيهِ عدم الْبِدْعَة (إِذا دَعَا) صَاحب الْبِدْعَة النَّاس (إِلَيْهَا) أَي إِلَى بدعته (لِأَنَّهُ) أَي كَونه دَاعيا إِلَى بدعته (يُوجب تعصبا) فِي ذَلِك المبتدع وَهُوَ عدم قبُول الْحق عِنْد ظُهُور الدَّلِيل بِنَاء إِلَى الْميل إِلَى جَانب الْهوى (يُوجب) ذَلِك التعصب (خفَّة سفه) أَي خفَّة عقل يكون للسفهاء (فيتهم) فِي أَمر دينه، فَإِن لم يدع إِلَيْهَا يكون قَوْله فِي غير بدعته مُعْتَبرا فَيعْتَبر فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ من أهل الشَّهَادَة وَلَا يعْتَبر فِي بدعته لِأَنَّهُ يضلل فِيهَا لمُخَالفَته نصا مُوجبا للْعلم. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ: الصَّحِيح عندنَا لَا اعْتِبَار بموافقة أهل الضَّلَالَة لأهل الْحق فِي صِحَة الْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة عِنْد الله تَعَالَى إِجْمَاع أهل الْحق الَّذين لم يثبت فسقهم وَلَا ضلالتهم، وَوَافَقَهُ صَاحب الْمِيزَان وَالْمُصَنّف حَيْثُ قَالَ (وَالْحق إِطْلَاق منع الْبِدْعَة المفسقة لَهُم) أَي لأصحابها، يَعْنِي أَن الْبِدْعَة الْمَذْكُورَة تمنع اعْتِبَار قَول صَاحبهَا فِي الْإِجْمَاع على الْإِطْلَاق. قَالَ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ: قَالَ أهل السّنة لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع وفَاق الْقَدَرِيَّة والخوارج وَالرَّوَافِض، وَلَا اعْتِبَار بِخِلَاف هَؤُلَاءِ المبتدعة فِي الْفِقْه، وَإِن اعْتبر فِي الْكَلَام، هَكَذَا روى أَشهب عَن مَالك وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو سُلَيْمَان الْجوزجَاني عَن مُحَمَّد بن الْحسن، وَذكر أَبُو ثَوْر أَنه قَول أَئِمَّة الحَدِيث. وَقَالَ ابْن الْقطَّان الْإِجْمَاع عندنَا إِجْمَاع أهل الْعلم، وَأما من كَانَ من أهل الْأَهْوَاء فَلَا مدْخل لَهُ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو يعلى واستقراره من كَلَام أَحْمد (وَلذَا) أَي وَلكَون الْبِدْعَة المفسقة مَانِعَة من اعْتِبَار قَول صَاحبهَا (لم يعْتَبر خلاف الروافض فِي الْإِجْمَاع على خلَافَة الشُّيُوخ) أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله(3/239)
تَعَالَى عَنْهُم، لِأَن أدنى حَال الرافضة أَنهم فسقة فَإِن قلت كَانَ مُوجب هَذَا أَن لَا تقبل شَهَادَتهم قلت فسقهم مَبْنِيّ على شُبْهَة أوقعتهم فِي مثل ذَلِك، وَمثل هَذَا الْفسق الْمَبْنِيّ على الضلال يمْنَع عَن اعتبارهم فِي الْإِجْمَاع الْمنَافِي للضلال كَرَامَة لأَهله، لَا عَن قبُول الشَّهَادَة الْمَبْنِيّ على الِاحْتِرَاز عَن تعمد الْكَذِب: أَلا ترى أَن الْفَاسِق إِذا لم يجْهر بِفِسْقِهِ تقبل شَهَادَته (وَقد يُقَال ذَلِك) أَي عدم اعْتِبَار خلاف الروافض فِي الْإِجْمَاع الْمَذْكُور (لتقرره) أَي الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة وَغَيرهم على خلافتهم (قبلهم) أَي قبل وجود الروافض (فعصوا) أَي الروافض (بِهِ) أَي بخلافهم لَهُ (وَخلاف الْخَوَارِج فِي خلَافَة عَليّ) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (خلاف الْحجَّة) الظنية على اسْتِحْقَاقه الْخلَافَة على سَبِيل التَّعْيِين (لَا) خلاف (إِجْمَاع الصَّحَابَة) الْمُفِيد للْقطع بِنَاء على أَنه كَانَ فِي الْمُخَالفين من الصَّحَابَة مُجْتَهد (إِلَّا إِن لم يكن فِي الْمُخَالفين كمعاوية وَابْن الْعَاصِ) تَمْثِيل للمخالفين (مُجْتَهد) فَإِنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير يلْزم أَن يكون خلاف الْخَوَارِج خلاف الْإِجْمَاع، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن كَونهمَا مجتهدين لَيْسَ بِمَعْلُوم فَالْقَوْل بِأَن النزاع بَين الْفَرِيقَيْنِ بِنَاء على أَن اجْتِهَاد كل مِنْهُمَا أدّى إِلَى نقيض مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر لَيْسَ على سَبِيل الْقطع بل على سَبِيل الِاحْتِمَال (وَإِنَّمَا هُوَ) أَي مَا ذكر من أَن خلاف الروافض بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع على خلَافَة الشُّيُوخ، وَخلاف الْخَوَارِج خلاف الْحجَّة فَلَا يسْتَدلّ بِخِلَاف الْفَرِيقَيْنِ على اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِيمَن يعْتَبر قَوْله فِي الْإِجْمَاع (إبِْطَال دَلِيل معِين) على اعْتِبَار الْعَدَالَة فِي الْإِجْمَاع (وَالْمَطْلُوب) وَهُوَ اعْتِبَاره (ثَابت بِالْأولِ) وَهُوَ أَن الدَّلِيل الدَّال على حجية الْإِجْمَاع يتَضَمَّن الْعَدَالَة، إِذْ الحجية للتكريم، وَمن لَيْسَ بِعدْل لَيْسَ بِأَهْل للتكريم.
مسئلة
(إِذْ وَلَا) يشْتَرط فِي حجيته القطيعة (كَونهم) أَي المجمعين (الصَّحَابَة خلافًا للظاهرية) حَيْثُ قَالُوا إِجْمَاع من بعدهمْ لَيْسَ بِحجَّة. قَالَ الشَّارِح وَهُوَ ظَاهر كَلَام ابْن حبَان فِي صَحِيحه (وَلأَحْمَد قَولَانِ) أَحدهمَا كالظاهرية وأوضحهما عِنْد أَصْحَابه كالجمهور (لعُمُوم الْأَدِلَّة) المفيدة لحجية الْإِجْمَاع حجية إِجْمَاع (من سواهُم) أَي الصَّحَابَة فَلَا وَجه لتخصيصهما بإجماعهم (قَالُوا) أَي الظَّاهِرِيَّة أَولا انْعَقَد (إِجْمَاع الصَّحَابَة) قبل مَجِيء من بعدهمْ (على أَن مَا لَا قَاطع فِيهِ) من الْأَحْكَام (جَازَ) الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَجَاز (مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد) من أحد طَرفَيْهِ أَن يُؤْخَذ بِهِ (فَلَو صَحَّ إِجْمَاع من بعدهمْ) أَي الصَّحَابَة (على بَعْضهَا) أَي بعض الْأَحْكَام الَّتِي لَا قَاطع فِيهَا (لم يجز) الِاجْتِهَاد (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْبَعْض إِجْمَاعًا، وَلم يجز الْأَخْذ بالجانب الْمُخَالف لما أجمع عَلَيْهِ أَن أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد (فيتعارض الإجماعان) إِجْمَاع الصَّحَابَة على مَا ذكر وَالْإِجْمَاع الْمَفْرُوض(3/240)
(وَالْجَوَاب) أَن الصَّحَابَة (أَجمعُوا على مَشْرُوطَة) عَامَّة (أَي) كل مَا لَا قَاطع فِيهِ جَائِز الِاجْتِهَاد (مَا دَامَ لَا قَاطع فِيهِ) فجواز الِاجْتِهَاد فِي غير زمَان وجود الْقَاطِع فِيهِ وَعدم جَوَازه فِي زَمَانه فَلَا تنَاقض، وَعند انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أحد طرفِي مَا لم يكن فِيهِ قَاطع يتَحَقَّق فِيهِ قَاطع (قَالُوا) أَي الظَّاهِرِيَّة ثَانِيًا (لَو اعْتبر) إِجْمَاع غير الصَّحَابَة (اعْتبر مَعَ مُخَالفَة بعض الصَّحَابَة فِيمَا إِذا سبق خلاف) مُسْتَقر، لِأَن مُخَالفَة بَعضهم لَا تمنع إِجْمَاع غَيرهم (الْجَواب إِنَّمَا يلْزم) بطلَان هَذَا (من شَرط عدم سبق الْخلاف المتقرر وَلَو من وَاحِد) فِي انْعِقَاد الِاجْتِمَاع الْقطعِي (لَا) يلْزم (من لم يشرط) عدم سبق الْخلاف (أَو جعل الْوَاحِد) أَي خِلَافه مَعْطُوف على شَرط (مَانِعا) من انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِمن سواهُ، فَإِن من لم يَجْعَل خلاف الْوَاحِد الْمَوْجُود فِي زمَان الْإِجْمَاع صحابيا كَانَ أَو غَيره مَانِعا عَن انْعِقَاده كَيفَ يَجْعَل خِلَافه وَهُوَ مَعْدُوم فِي زَمَانه مَانِعا عَنهُ (وَيعْتَبر التَّابِعِيّ الْمُجْتَهد فيهم) أَي فِي زمَان الصَّحَابَة مُوَافقَة عِنْد انْعِقَاد الِاجْتِمَاع فَلَا ينْعَقد مَعَ مُخَالفَته كَمَا هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَرِوَايَة عَن أَحْمد وَقَول أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَهُوَ الصَّحِيح (وَأما من بلغ) من التَّابِعين (دَرَجَته) أَي الِاجْتِهَاد (بعد الِانْعِقَاد اجماعهم فاعتباره وَعَدَمه) أَي عدم اعْتِبَاره فيهم مَبْنِيّ (على اشْتِرَاط انْقِرَاض الْعَصْر) فِي حجية الْإِجْمَاع (وَعَدَمه) أَي عدم اشْتِرَاطه، فَمن اشْترط اعْتَبرهُ، وَمن لم يشْتَرط لم يعتبره. قَالَ الشَّارِح إِلَّا أَن هَذَا إِنَّمَا يتم على رَأْي من يَقُول فَائِدَة الِاشْتِرَاط جَوَاز رُجُوع بعض المجمعين، وَدخُول مُجْتَهد يحدث قبل انقراضهم، أما من قَالَ فَائِدَته جَوَاز الرُّجُوع لَا غير يَنْبَغِي أَن لَا يعتبره أَيْضا انْتهى. وَكَأن المُصَنّف لم يلْتَفت إِلَى هَذَا التَّفْصِيل، لِأَنَّهُ إِذا شَرط الانقراض فِي الِانْعِقَاد، فَقبل الِانْعِقَاد إِذا دخل بَينهم مُجْتَهد آخر لَا وَجه لعدم اعْتِبَاره فَتَأمل (وَقيل) وقائله أَحْمد فِي رِوَايَة وَبَعض الْمُتَكَلِّمين (لَا يعْتَبر) التَّابِعِيّ فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ مُجْتَهدا قبل انْعِقَاد إِجْمَاعهم أَو بعده (لنا) على اعْتِبَار التَّابِعِيّ الْمُجْتَهد فيهم (لَيْسُوا) أَي الصَّحَابَة (كل الْأمة دونه) أَي التَّابِعِيّ، لِأَنَّهُ مثلهم فِي الِاجْتِهَاد غير أَنه لَا رِوَايَة لَهُ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ لَا يُوجب كَون الْحق مَعَهم دونه، والعصمة إِنَّمَا هِيَ للْكُلّ (وَاسْتدلَّ لهَذَا) الْمُخْتَار (بِأَن الصَّحَابَة سوغوا لَهُم) أَي للتابعين الِاجْتِهَاد (مَعَ وجودهم) فقد مَلأ شُرَيْح الْكُوفَة وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَا يُنكر عَلَيْهِ، وَابْن الْمسيب بِالْمَدِينَةِ فَتَاوَى وَهِي مشحونة بأصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا عَطاء بِمَكَّة وَجَابِر بن زيد بِالْبَصْرَةِ، وَلَوْلَا اعْتِبَار قَوْلهم لما سوغوا لَهُم (قُلْنَا إِنَّمَا يتم) الِاسْتِدْلَال بِهَذَا على اعْتِبَار قَوْلهم بِحَيْثُ لَا ينْعَقد إِجْمَاعهم مَعَ مخالفتهم أَو بِدُونِ موافقتهم (لَو نقل تسويغ خلافهم)(3/241)
أَي التَّابِعين (مَعَ إِجْمَاعهم) أَي الصَّحَابَة (وَلم يثبت) تسويغ خلافهم إِلَّا مَعَ اخْتلَافهمْ (كالمنقول من قَول أبي سَلمَة) بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي صَحِيح مُسلم (تذاكرت مَعَ ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة فِي عدَّة الْحَامِل لوفاة زَوجهَا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس بأبعد الْأَجَليْنِ، وَقلت أَنا بِوَضْع الْحمل، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة أَنا مَعَ ابْن أخي، يَعْنِي أَبَا سَلمَة) وَلَيْسَ هَذَا مَحل النزاع.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد الْإِجْمَاع (بِأَهْل الْبَيْت النَّبَوِيّ وحدهم) مَعَ مُخَالفَة غَيرهم لَهُم، وهم عَليّ وَفَاطِمَة، والحسنان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم لما روى التِّرْمِذِيّ عَن عمر بن أبي سَلمَة أَنه لما نزل - {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} - لف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم كسَاء وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي وخاصتي، اللَّهُمَّ أذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا، إِذْ لَا يخفى أَن هَذَا لَا يدل على أَن غَيرهم لَيْسَ من أهل الْبَيْت، وَإِنَّمَا خصهم بِهَذَا اللف وَالدُّعَاء لمزيد التكريم لَهُم، ولدفع توهم أَنهم لَيْسُوا من أهل الْبَيْت لكَوْنهم ساكنين فِي غير بَيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خلافًا للشيعة) وَاقْتصر فِي الْمَحْصُول وَغَيره على الزيدية والإمامية، فَإِن إِجْمَاعهم عِنْدهم حجَّة لِلْآيَةِ، فَإِن الْخَطَأ رِجْس فَيكون منفيا عَنْهُم، فَيكون إِجْمَاعهم حجَّة وَأجِيب بِمَنْع كَون الْخَطَأ رجسا، وَإِنَّمَا الرجس هُوَ الْعَذَاب، أَو الْإِثْم أَو كل مستقذر ومستنكر، وَلَيْسَ الْخَطَأ مِنْهَا، على أَن المُرَاد أهل الْبَيْت هم مَعَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن مَا قبلهَا - {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} - إِلَى آخِره، وَمَا بعْدهَا وَهُوَ - {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُمْ} - الْآيَة يدل عَلَيْهِ.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد (بالأربعة) الْخُلَفَاء رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم مَعَ مُخَالفَة غَيرهم، أَو توقفهم أَو عدم سماعهم الحكم (عِنْد الْأَكْثَر خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة) وَأحمد فِي رِوَايَة (حَتَّى رد) مِنْهُم القَاضِي (أَبُو حَازِم) بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: عبد الحميد بن عبد الْعَزِيز (على ذَوي الْأَرْحَام أَمْوَالًا) فِي خلَافَة المعتضد بِاللَّه لكَون الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة على ذَلِك (بعد الْقَضَاء بهَا) أَي بِتِلْكَ الْأَمْوَال (لبيت المَال) مُبْطلًا (لنفاذه) أَي الْقَضَاء لبيت المَال، وَقبل المعتضد قَضَاءَهُ بذلك وَكتب بِهِ إِلَى الْآفَاق، وَكَانَ ثِقَة دينا ورعا عَالما بِمذهب أهل الْعرَاق والفرائض والحساب، أَصله من الْبَصْرَة وَسكن بَغْدَاد، وَأخذ عَن هِلَال الرَّازِيّ، وَأخذ عَنهُ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَأَبُو طَاهِر الدباس وَغَيرهمَا، وَولي الشَّام والكوفة والكرخ من بَغْدَاد، وَتُوفِّي فِي جُمَادَى الأولى(3/242)
سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد (بالشيخين) أبي بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إِلَى آخر مَا ذكر آنِفا خلافًا لبَعْضهِم (لِأَن الْأَدِلَّة) المفيدة لحجية الْإِجْمَاع (توجب وَقفه) أَي تحقق الْإِجْمَاع (على غَيرهم) أَي غير أهل الْبَيْت فِي الصُّورَة الأولى وَغير الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة فِي الصُّورَة الثَّانِيَة، وَغير الشَّيْخَيْنِ فِي الثَّالِثَة. (وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر) رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه، وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم اسْتدلَّ بِهِ لِأَنَّهُ أَمر بالاقتداء بهما فَانْتفى عَنْهُمَا الْخَطَأ، وَلما لم يجب الِاقْتِدَاء بهما حَال اخْتِلَافهمَا وَجب حَال اتِّفَاقهمَا، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين) المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ. رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره، وَأَنَّهُمْ: أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَبَين دَلِيله. وَلما ألزمهم بالتمسك بسنتهم علم أَن الْخَطَأ مُنْتَفٍ عَنْهُمَا (أُجِيب) عَنهُ بِأَن الْحَدِيثين (يفيدان) (أَهْلِيَّة الِاقْتِدَاء) أَي أَهْلِيَّة الشَّيْخَيْنِ وَالْأَرْبَعَة لاتباع المقلدين لَهُم (لَا منع الِاجْتِهَاد) لغَيرهم من الْمُجْتَهدين ليَكُون قَوْلهم حجَّة عَلَيْهِم فَلَا يقدروا على مخالفتهم. (و) يرد (عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الْجَواب (أَن ذَلِك) أَي أَهْلِيَّة الِاقْتِدَاء بهم (مَعَ إِيجَابه) أَي الِاقْتِدَاء يُفِيد منع الِاجْتِهَاد لغَيرهم وَلُزُوم اقتدائه بهم فَيكون قَوْلهم حجَّة على غَيرهم، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوب (إِلَّا أَن يدْفع بِأَنَّهُ) أَي كلا مِنْهُمَا (آحَاد) أَي أَخْبَار آحَاد لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن فَلَا يثبت بِهِ الْقطع بِكَوْن إجماعهما أَو إِجْمَاعهم حجَّة قَطْعِيَّة. (و) أُجِيب أَيْضا (بمعارضته بِأَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ، وخذوا شطر دينكُمْ عَن الْحُمَيْرَاء) أَي عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَإِن هذَيْن الْحَدِيثين يدلان على جَوَاز لأخذ بقول كل صَحَابِيّ وَقَول عَائِشَة وَإِن خَالف قَول الشَّيْخَيْنِ أَو الْأَرْبَعَة (إِلَّا أَن الأول) أَي أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ: الحَدِيث (لم يعرف) لما قَالَه ابْن حزم فِي رسَالَته الْكُبْرَى مَكْذُوب مَوْضُوع بَاطِل وَإِلَّا فَلهُ طرق من رِوَايَة عمر وَابْنه وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَأنس بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، أقربها إِلَى اللَّفْظ الْمَذْكُور مَا أخرج ابْن عدي فِي الْكَامِل وَابْن عبد الْبر فِي كتاب الْعلم عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " مثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم يهتدى بهَا فَبِأَيِّهِمْ أَخَذْتُم بقوله اهْتَدَيْتُمْ ". نعم لم يَصح مِنْهَا شَيْء: قَالَه أَحْمد وَالْبَزَّار، والْحَدِيث الصَّحِيح يُؤَدِّي بعض مَعْنَاهُ، وَهُوَ حَدِيث أبي مُوسَى الْمَرْفُوع " النُّجُوم أَمَنَة السَّمَاء، فَإِذا ذهبت النُّجُوم أَتَى أهل السَّمَاء مَا يوعدون، وَأَنا أَمَنَة لِأَصْحَابِي، فَإِذا ذهبت أَتَى أَصْحَابِي مَا يوعدون، وأصحابي أَمَنَة لأمتي، فَإِذا ذهبت أَصْحَابِي أَتَى(3/243)
أمتِي مَا يوعدون ". رَوَاهُ مُسلم، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَذكر فِي الحَدِيث الثَّانِي أَن الْحَافِظ عماد الدّين بن كثير سَأَلَ الحافظين: الْمزي والذهبي عَنهُ فَلم يعرفاه، وَنقل عَن كثير من الْحفاظ مثله. وَقَالَ الذَّهَبِيّ هُوَ من الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة الَّتِي لَا يعرف لَهَا إِسْنَاد. وَقَالَ السُّبْكِيّ والحافظ: أَبُو الْحجَّاج الْمزي كل حَدِيث فِيهِ لفظ الْحُمَيْرَاء لَا أصل لَهُ إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا فِي النَّسَائِيّ. (وَالثَّانِي) أَي خُذُوا شطر دينكُمْ الحَدِيث مَعْنَاهُ (أَنكُمْ ستأخذون) فَلَا يعارضان الْأَوَّلين (وَالْحق أَن مُقْتَضَاهُ) أَي مُقْتَضى دَلِيل كل من القَوْل بحجية إِجْمَاع الْأَرْبَعَة والشيخين (الحجية الظنية) أما الحجية فللطلب الْجَازِم لِلِاتِّبَاعِ لَهُم وَلَهُمَا، وَأما الظنية فَلِأَنَّهُ خبر وَاحِد (ورد أبي حَازِم) على ذَوي الْأَرْحَام أَمْوَالًا تَركهَا أقرباؤهم بعد الْقَضَاء بهَا لبيت المَال لم يُوَافقهُ عَلَيْهِ كَافَّة معاصريه من الْحَنَفِيَّة، فقد (رده أَبُو سعيد) أَحْمد بن الْحُسَيْن البرذعي من كبارهم وَقَالَ هَذَا فِيهِ خلاف بَين الصَّحَابَة، لَكِن نقل الْجَصَّاص عَن أبي حَازِم أَنه قَالَ فِي جَوَابه لَا أعد زيدا خلافًا على الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَإِذا لم أعده خلافًا وَقد حكمت برد هَذَا المَال إِلَى ذَوي الْأَرْحَام فقد نفذ قضائي بِهِ، وَلَا يجوز لأحد أَن يتعقبه بالنسخ: وَمن هُنَا قيل يحْتَمل أَن يكون أَبُو حَازِم بناه على أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع. وَفِي شرح البديع أَنه وَافقه عُلَمَاء الْمَذْهَب فِي زَمَانه.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد (بِأَهْل الْمَدِينَة) طيبَة (وحدهم خلافًا لمَالِك) أنكر كَونه مذْهبه ابْن بكير وَأَبُو يَعْقُوب الرَّازِيّ وَأَبُو بكر بن منيات وَالطَّيَالِسِي وَالْقَاضِي أَبُو الْفرج وَالْقَاضِي أَبُو بكر (قيل مُرَاده) أَي مَالك (أَن روايتهم مُقَدّمَة) على رِوَايَة غَيرهم، وَنقل ابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيره أَن للشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم مَا يدل على هَذَا (وَقيل) مَحْمُول (على المنقولات المستمرة) أَي المتكررة الْوُجُود من غير انْقِطَاع (كالأذان وَالْإِقَامَة والصاع) وَالْمدّ دون غَيرهَا (وَقيل بل) هُوَ حجَّة (على الْعُمُوم) فِي المستمرة وَغَيرهَا وَهُوَ رَأْي أَكثر المغاربة من الصَّحَابَة، وَذكر ابْن الْحَاجِب أَنه الصَّحِيح قَالُوا وَفِي رِسَالَة مَالك إِلَى اللَّيْث بن سعد مَا يدل عَلَيْهِ، وَقيل أَرَادَ بِهِ فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم، وَعَلِيهِ ابْن الْحَاجِب (لنا الْأَدِلَّة) المفيدة حجية الْإِجْمَاع (توقفه) أَي تحقق الْإِجْمَاع (على غَيرهم) أَي غير أهل الْمَدِينَة، لِأَن أَهلهَا لَيْسُوا كل الْأمة (واستدلالهم) أَي الْمَالِكِيَّة (بِأَن الْعَادة قاضية بِأَن مثل هَذَا الْجمع المنحصر) أَرَادَ بِهِ انحصارهم فِي الْمَدِينَة واجتماعهم فِيهَا، وَقلة غيبتهم عَنْهَا حَتَّى لَو اتّفق عدتهمْ أَو أَكثر مُتَفَرّقين فِي الْبِلَاد لم تقض الْعَادة بذلك مَعَ اجتهادهم (يتشاورون ويتناظرون) فِي الْوَاقِعَة الَّتِي لَا نَص فِيهَا وَإِذا أَجمعُوا على(3/244)
حكم (لَا يجمعُونَ إِلَّا عَن) مُسْتَند (رَاجِح) فَيَكْفِي بإجماعهم (منع قَضَائهَا) أَي الْعَادة (بِهِ) أَي بإجماعهم عَن رَاجِح دون سَائِر عُلَمَاء الْأَمْصَار، إِذْ لَا دَلِيل يُفِيد الْفرق بَينهمَا بِحَيْثُ يكون إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة وحدهم مُفِيد للْقطع، وَإِجْمَاع بلد آخر لَا يكون مُفِيدا لَهُ. فِي الشَّرْح العضدي: فَإِن قيل لَا نسلم الْعَادة فِي اتِّفَاق مثلهم عَن رَاجِح لأَنهم بعض الْأمة فَيجوز أَن يكون متمسك غَيرهم أرجح، فَرب رَاجِح لم يطلع عَلَيْهِ الْبَعْض قُلْنَا لَا نقُول الْعَادة قاضية باطلاع الْكل، فيراد ذَلِك، بل اطلَاع الْأَكْثَر، وَالْأَكْثَر كَاف فِي تتميم دليلنا بِأَن يُقَال إِذا وَجب اطلَاع الْأَكْثَر امْتنع أَن لَا يطلع عَلَيْهِ من أهل الْمَدِينَة أحد، وَيكون ذَلِك الْأَكْثَر غَيرهم مَا فِيهَا أحد مِنْهُم والاحتمالات الْبَعِيدَة لَا تَنْفِي الظُّهُور انْتهى. وَإِلَى هَذِه الْجُمْلَة أَشَارَ بقوله. (وَدفع) الْمَنْع (بِأَن المُرَاد) من أَن الْعَادة قاضية إِلَى آخِره أَنَّهَا (قاضية باطلاع الْأَكْثَر) زعم الشَّارِح أَن مَعْنَاهُ قاضية فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع أَنه لَا ينْعَقد على حكم إِلَّا باطلاع الْأَكْثَر من الْمُجْتَهدين على دَلِيله انْتهى، فَلَزِمَ من كَلَامه أَن اطلَاع الْأَكْثَر على دَلِيل الحكم إِنَّمَا هُوَ على تَقْدِير انْعِقَاد الْإِجْمَاع فَيُقَال لَهُ مرادك إِمَّا إِجْمَاع الْأمة أَو إِجْمَاع مثل هَذَا الْجمع المنحصر، وَالْأول خُرُوج عَن الْبَحْث، لِأَن الْمَفْرُوض إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة لَا إِجْمَاع الْأمة، أَو اجماع مثل هَذَا الْجمع المنحصر حَتَّى يلْزم إطلاع الْأَكْثَر وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ (فَامْتنعَ أَن لَا يطلع عَلَيْهِ من أهل الْمَدِينَة أحد بِأَن لَا يكون فِي الْأَكْثَر أحد مِنْهُم) إِذْ امْتنَاع عدم اطلَاع أحد من أَهلهَا لِامْتِنَاع أَن لَا يكون أحد مِنْهُم من جمَاعَة الْأَكْثَر على تَقْدِير اطلَاع الْأَكْثَر، واطلاع الْأَكْثَر على تَقْدِير إِجْمَاع الْأمة وَهُوَ غير مَعْلُوم، وَالثَّانِي وَهُوَ لُزُوم اطلَاع الْأَكْثَر عِنْد إِجْمَاع مثل هَذَا الْجمع لَا وَجه لَهُ: إِذْ لَا مُلَازمَة عَادَة بَين اتِّفَاق مثل هَذَا الْجمع وَبَين اطلَاع أَكثر الْأمة على دَلِيل الحكم، فَالْحق أَن الْمَعْنى أَن كل حكم لَا بُد لَهُ من دَلِيل رَاجِح فِي نفس الْأَمر، وَقد جرت الْعَادة أَن أَكثر الْمُجْتَهدين فِي الْمَدِينَة احْتِمَال فِي غَايَة الْبعد، وعَلى تَقْدِير وجود وَاحِد مِنْهُم فِيهَا وَهُوَ عَالم بالراجح مخبر بِهِ سَائِر أَهلهَا، لِأَن الْمَفْرُوض اجتهادهم وتشاورهم وتناظرهم كَمَا عرفت وَالله تَعَالَى أعلم (وَالِاحْتِمَال) الْبعيد (لَا يَنْفِي الظُّهُور، وَهَذَا) الْجَواب (انحطاط) لإِجْمَاع أهل الْمَدِينَة عَن كَونه حجَّة قَطْعِيَّة (إِلَى كَونه حجَّة ظنية، لَا) أَنه يَجْعَلهَا (إِجْمَاعًا) قَطْعِيا. وَنقل السُّبْكِيّ عَن أَكثر المغاربة أَنه لَيْسَ بقطعي بل ظَنِّي يقدم على خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، وَعَن الْقُرْطُبِيّ أَن تَقْدِيم الْخَبَر أولى (فَإِن قيل يلْزم مثله) من انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِمثل هَذَا الْجمع إِلَى آخِره (فِي أهل) بَلْدَة (أُخْرَى) كمكة والكوفة (لذَلِك) أَي انْعِقَادهَا: أَي لقَضَاء الْعَادة باطلاع الْأَكْثَر الخ (الْتزم) مُوجبه (وَصَارَ الْحَاصِل أَن اتِّفَاق مثلهم حجَّة يحْتَج بِهِ عِنْد عدم الْمعَارض من خلاف مثلهم) .(3/245)
مسئلة
(إِذا أفتى بَعضهم) أَي الْمُجْتَهدين بمسئلة اجتهادية (أَو قضى) بَعضهم واشتهر بَين أهل عصره وَعرف الْبَاقُونَ: أَي جَمِيع من سواهُ من الْمُجْتَهدين (وَلم يُخَالف) فِي الْفتيا فِي الصُّورَة الأولى، وَفِي الْقَضَاء فِي الصُّورَة الثَّانِيَة (قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب) فِي تِلْكَ الْحَادِثَة وَاسْتمرّ الْحَال على هَذَا (إِلَى مُضِيّ مُدَّة التَّأَمُّل) وَهِي على مَا ذكره القَاضِي أَبُو زيد حِين تبين للساكت الْوَجْه فِيهِ، وَفِي الْمِيزَان وَأَدْنَاهُ إِلَى آخر الْمجْلس: أَي مجْلِس بُلُوغ الْخَبَر، وَقيل يقدر بِثَلَاثَة أَيَّام بعد بُلُوغ الْخَبَر، قيل وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو بكر الرَّازِيّ حَيْثُ قَالَ فَإِذا استمرت الْأَيَّام عَلَيْهِ وَلم يظْهر السَّاكِت خلافًا مَعَ الْعِنَايَة مِنْهُم بِأَمْر الدّين وحراسة الْأَحْكَام علمنَا أَنهم إِنَّمَا لم يظهروا الْخلاف لأَنهم موافقون لَهُ، وَعنهُ أَنه إِنَّمَا يكون دلَالَة على الْمُوَافقَة إِذا انْتَشَر القَوْل وَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْقَات يعلم فِي مجْرى الْعَادة أَن لَو كَانَ هُنَاكَ مُخَالف لأظهر الْخلاف، وعَلى هَذَا الِاعْتِمَاد (وَلَا تقية) أَي خوف يمْنَع السَّاكِت من الْمُخَالفَة (فَأكْثر الْحَنَفِيَّة) وَأحمد وَبَعض الشَّافِعِيَّة كَأبي إِسْحَاق الاسفراينى أَن هَذَا (إِجْمَاع قَطْعِيّ، وَابْن أبي هُرَيْرَة) من الشَّافِعِيَّة هُوَ فِي الْفتيا (كَذَلِك) أَي إِجْمَاع قَطْعِيّ (لَا فِي الْقَضَاء) . قَالَ الشَّارِح ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهم، وَالَّذِي فِي الْمَحْصُول عَنْهُم إِن كَانَ الْقَائِل حَاكما لم يكن إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة، وَإِلَّا فَنعم، وَالْفرق بَين النقلين وَاضح، إِذْ لَا يلْزم من صدوره عَن الْحَاكِم أَن يكون على وَجه الحكم، فقد يُفْتى الْحَاكِم تَارَة وَيقْضى أُخْرَى أهـ. وَلم يظْهر لي فرق بَينهمَا إِذْ الْمُتَبَادر من كَون الْقَائِل أَن يكون حَاكما فِي قَوْله وَالَّذِي يظْهر لي أَن سكوتهم لَا يدل على موافقتهم إِيَّاه لجَوَاز الْقَضَاء بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَإِن كَانَ مُخَالفا لرأي غَيره فقضاؤه صَحِيح وَلَيْسَ عَلَيْهِم إِنْكَاره لِأَنَّهُ تَأَكد رَأْيه بِالْقضَاءِ بِخِلَاف الْفتيا فَإِنَّهَا لم تتأكد بِهِ، وَفِيه مَا فِيهِ (وَعَن الشَّافِعِي لَيْسَ بِحجَّة) فضلا عَن أَن يكون إِجْمَاعًا (وَبِه قَالَ ابْن أبان والباقلاني وَدَاوُد وَبَعض الْمُعْتَزلَة) وَالْغَزالِيّ بل ذكر الإِمَام الرَّازِيّ والآمدي أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي والسبكي الْأَكْثَرُونَ من الْأُصُولِيِّينَ نقلوا أَن الشَّافِعِي يَقُول أَن السكوتي لَيْسَ بِإِجْمَاع وَاخْتَارَهُ القَاضِي، وَذكر أَنه آخر أَقْوَاله. قَالَ الْبَاجِيّ وَهُوَ قَول أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَقَالَ ابْن برهَان: إِلَيْهِ ذهب كَافَّة الْعلمَاء: مِنْهُم الْكَرْخِي وَنَصره ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو زيد الدبوسي والرافعي أَنه الْمَشْهُور عِنْد الْأَصْحَاب، وَالنَّوَوِيّ أَنه الصَّوَاب (و) قَالَ (الجبائي إِجْمَاع بِشَرْط الانقراض) للعصر وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد وَنَقله ابْن فورك عَن أَكثر أَصْحَاب مذْهبه، والرافعي أَنه أصح الْأَوْجه (ومختار الْآمِدِيّ)(3/246)
والكرخي والصيرفي وَبَعض الْمُعْتَزلَة كَأبي هَاشم (إِجْمَاع ظَنِّي أَو حجَّة ظنية) وَقيل إِن كَانَ الساكتون أقل كَانَ إِجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ مُخْتَار الْجَصَّاص، وَقيل إِن وَقع فِي شَيْء مفوت استدراكه من اراقة دم واستباحة فرج فإجماع وَإِلَّا فحجة، وَذهب الرَّوْيَانِيّ إِلَى هَذَا التَّفْصِيل فِيمَا إِذا كَانَ فِي عصر الصَّحَابَة وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ التَّابِعين بالصحابة فِي ذَلِك، وَذكر النَّوَوِيّ أَنه الصَّحِيح. قَالَ (الْحَنَفِيَّة لَو شَرط سَماع قَول كل) من المجمعين (انْتَفَى) الْإِجْمَاع (لتعذره) أَي سَماع قَول كل (عَادَة) قَالَ السَّرخسِيّ: إِذْ لَيْسَ فِي وسع عُلَمَاء الْعَصْر السماع من الَّذين كَانُوا قبلهم بقرون فَهُوَ سَاقِط عِنْدهم، لِأَن المتعذر كالممتنع، وَكَذَا يتَعَذَّر السماع عَن جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر وَالْوُقُوف على قَول كل فريق مِنْهُم فِي حكم حَادِثَة حَقِيقَة لما فِيهِ من الْحَرج الْبَين، لَكِن الْإِجْمَاع غير مُنْتَفٍ فَالشَّرْط الْمَذْكُور مُنْتَفٍ انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَن الْفرق بَين السماع من الَّذين قبلهم بقرون وَبَين السماع من جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر فِي غَايَة الوضوح فَكيف يُقَاس هَذَا عَلَيْهِ، الأول كالمحال، وَالثَّانِي فِيهِ بعض حرج، وَالْفرق بَين السكوتي والقولي حِينَئِذٍ بالتتبع لكيفية وُقُوعه. (وَأَيْضًا الْعَادة فِي كل عصر إِفْتَاء الأكابر وسكوت الأصاغر تَسْلِيمًا، وللإجماع على أَنه) أَي السكوتي (إِجْمَاع فِي الْأُمُور الاعتقادية فَكَذَا) الْأَحْكَام (الفرعية) بل يثبت هَهُنَا بطرِيق أولى. قَالَ (النافون) لحجيته (مُطلقًا) أَي قطعا وظنا (السُّكُوت يحْتَمل غير الْمُوَافقَة من خوف أَو تفكر أَو عدم اجْتِهَاد أَو تَعْظِيم) للقائل فَلَا يكون إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة مَعَ قيام هَذِه الِاحْتِمَالَات. (أجَاب الظني) أَي الْقَائِل بِأَنَّهُ إِجْمَاع ظَنِّي (بِأَنَّهُ) أَي السُّكُوت (ظَاهر فِي الْمُوَافقَة) للمفتي وَالْقَاضِي (وَفِي غَيرهَا) أَي وَالسُّكُوت فِي غير الْمُوَافقَة مِمَّا ذكر (احتمالات) غير ظَاهِرَة وَهِي (لَا تَنْفِي الظُّهُور. و) أجَاب (الْحَنَفِيَّة) بِأَنَّهُ (انْتَفَى الأول) وَهُوَ السُّكُوت للخوف (بِالْعرضِ) حَيْثُ قُلْنَا وَلَا تقية (و) انْتَفَى (مَا بعده) وَهُوَ السُّكُوت للتفكر (بِمُضِيِّ مُدَّة التَّأَمُّل فِيهِ عَادَة، و) السُّكُوت (للتعظيم بِلَا تقية فسق) لترك الْوَاجِب الَّذِي هُوَ الرَّد لِأَن الْفَتْوَى أَو الْقَضَاء إِذا كَانَ غير حق يكون مُنْكرا وَاجِب الرَّد فَلَا ينْسب إِلَى المتدين، وَلَا سِيمَا أَئِمَّة الدّين. (وَمَا) روى (عَن ابْن عَبَّاس فِي سُكُوته عَن عمر فِي القَوْل) من قَوْله (كَانَ مهيبا نفوا) أَي الْحَنَفِيَّة كفخر الْإِسْلَام وَالْقَاضِي أبي زيد (صِحَّته) عَنهُ نقلا (وَلِأَنَّهُ) أَي عمر رَضِي الله عَنهُ (كَانَ يقدمهُ) أَي ابْن عَبَّاس (على كثير من الأكابر) ويسأله عَن مسَائِل (ويستحسن قَوْله) فَعَنْهُ كَانَ عمر يدخلني مَعَ أَشْيَاخ بدر فَكَانَ بَعضهم وجد فِي نَفسه فَقَالَ: لم يدْخل هَذَا مَعنا وَلنَا أَبنَاء مثله؟ فَقَالَ عمر: أَنه من حَيْثُ علمْتُم فَدَعَا ذَات يَوْم فَأَدْخلنِي مَعَهم فَمَا رَأَيْت أَنه دَعَاني يَوْمئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ مَا تَقولُونَ(3/247)
فِي قَول الله - {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} - فَقَالَ بَعضهم: أمرنَا أَن نحمد الله وَنَسْتَغْفِرهُ إِذا نصرنَا وَفتح علينا، فَسكت بَعضهم فَلم يقل شَيْئا، فَقَالَ لي أكذاك تَقول يَا ابْن عَبَّاس؟ فَقلت لَا، قَالَ فَمَا نقُول؟ قلت هُوَ أجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلمهُ لَهُ قَالَ {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} وَذَلِكَ عَلامَة أَجلك {فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} ، فَقَالَ عمر مَا أعلم مِنْهَا إِلَّا مَا تَقول: رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَعنهُ قَالَ دَعَا عمر الْأَشْيَاخ من أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم فَقَالَ لَهُم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي لَيْلَة الْقدر " التمسوها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر وترا فَفِي أَي التوتر ترونها؟ فَقَالَ رجل بِرَأْيهِ إِنَّهَا تاسعة سابعة خَامِسَة ثَالِثَة، فَقَالَ يَا ابْن عَبَّاس تكلم، قلت أَقُول برأيي. قَالَ عَن رَأْيك أَسأَلك، قلت إِنِّي سَمِعت الله أَكثر من ذكر السَّبع فَذكر الحَدِيث وَفِي آخِره. قَالَ عمر أعجزتم أَن تَقولُوا مثل مَا قَالَ هَذَا الْغُلَام الَّذِي لم تستو شؤون رَأسه. أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُسْند عمر وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد إِلَى غير ذَلِك (وَكَانَ) عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (أَلين للحق) وَأَشد انقيادا لَهُ من غَيره (وَعنهُ) رَضِي الله عَنهُ (لَا خير فِيكُم إِن لم تَقولُوا) يَعْنِي كلمة الْحق (وَلَا خير فِي ان لم أسمع) ذكره فِي التَّقْوِيم وَغَيره (وقصته مَعَ الْمَرْأَة فِي نَهْيه عَن مغالاة الْمهْر شهيرة) رَوَاهُ غير وَاحِد مِنْهُم أَبُو يعلى الْموصِلِي بِسَنَد قوي عَن مَسْرُوق قَالَ: ركب عمر ابْن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس مَا إكْثَاركُمْ فِي صدَاق النِّسَاء وَقد كَانَ الصَّدقَات فِيمَا بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين أَصْحَابه أَرْبَعمِائَة دِرْهَم فَمَا دون ذَلِك وَلَو كَانَ الْإِكْثَار فِي ذَلِك تقوى عِنْد الله أَو مكرمَة لم تَسْبِقُوهُمْ إِلَيْهَا فَلَا أَعرفن مَا زَاد رجل فِي صدَاق امْرَأَة على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، قَالَ ثمَّ نزل فَاعْتَرَضتهُ امْرَأَة من قُرَيْش فَقَالَت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نهيت النَّاس أَن يزِيدُوا النِّسَاء فِي صداقهن على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، قَالَ نعم قَالَت: أما سَمِعت الله يَقُول - {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} - فَقَالَ عمر اللَّهُمَّ عفوا كل أحد أفقه من عمر، قَالَ ثمَّ رَجَعَ فَركب الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي كُنْتُم نَهَيْتُكُمْ أَن تَزِيدُوا النِّسَاء فِي صداقهن على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم فَمن شَاءَ أَن يُعْطي من مَاله مَا أحب. قَالَ الشَّارِح لَكِن فِي نفي صِحَة اعتذار ابْن عَبَّاس عَن ترك مُرَاجعَة عمر بالهيبة نظر، فقد روى الطَّحَاوِيّ وَإِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق وَالْقَاضِي فِي الْأَحْكَام عَن عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة قَالَ: دخلت أَنا وَزفر بن الْحدثَان على ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا بعد مَا ذهب بَصَره فتذاكرنا فَرَائض الْمَوَارِيث فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَتَرَوْنَ من أحصى رمل عالج عددا لم يخص فِي مَال نصفا وَنصفا وَثلثا إِذا ذهب نصف وَنصف فَأَيْنَ الثُّلُث، فساق الحَدِيث، ورأيه فِي ذَلِك وَفِي آخِره، فَقَالَ لَهُ زفر مَا مَنعك أَن تُشِير عَلَيْهِ بِهَذَا الرَّأْي، قَالَ هَيْبَة وَالله. قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ مَوْقُوف حسن انْتهى، فَإِن قلت كَيفَ تمنع المهابة(3/248)
عَن إِظْهَار الْحق قُلْنَا لعلمه بِأَنَّهُ علم الآراء فِيهِ، وَاخْتَارَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور وَاسْتَحْسنهُ وَلم يرجع عَن ذَلِك، وَلَا فَائِدَة فِي المناظرة والمحاجة مَعَه، والاحتشام والإجلال مَنعه عَن أَمر علم فَائِدَته وَلم يبْق إِلَّا احْتِمَال مَرْجُوح وَهُوَ أَن يرجع بمناظرته، وَقيل يُمكن أَنه لم يكن إِذْ ذَاك فِي دَرَجَة الِاجْتِهَاد (وَقد يُقَال السُّكُوت عَن) إِنْكَار (الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة) عَلَيْهِ (فسق، وَقَول الْمُجْتَهد لَيْسَ إِيَّاه) أَي مُنْكرا (فَلَا يجب) على الْمُجْتَهد السَّاكِت (إِظْهَار خِلَافه) أَي خلاف الْمُجْتَهد الْمُفْتِي أَو القَاضِي (ليَكُون السُّكُوت) عَن إِنْكَاره (فسقا، بل هُوَ) أَي الْمُجْتَهد السَّاكِت (مُخَيّر) بَين السُّكُوت وَإِظْهَار الْخلاف، وَهَذَا (بِخِلَاف الاعتقادي فَإِنَّهُ) أَي الْمُجْتَهد فِيهِ (مُكَلّف) فِيهِ (بِإِصَابَة الْحق فَغَيره) أَي غير الْحق إِذا أَتَى بِهِ (عَن اجْتِهَاد مُنكر فَامْتنعَ السُّكُوت) فِيهِ كَيْلا يكون ساكتا عَن مُنكر فيضيق (إِلَّا أَن يُقَال يجب) على السَّاكِت إِظْهَار خلاف قَول الْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي الْفُرُوع أَيْضا (لتجويزه) أَي الْمُجْتَهد السَّاكِت (رُجُوع الْمُفْتى) أَو القَاضِي (إِلَيْهِ) أَي إِلَى قَوْله (لحقيته) أَي حقية قَول السَّاكِت فِي اعْتِقَاده ورجاء أَن يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُفْتِي أَو القَاضِي فَيرجع إِلَيْهِ، وَقد يُقَال أَن هَذَا التجويز لَا يقتضى وجوب إِظْهَار الْخلاف، كَيفَ وَهُوَ يعلم أَن كلا من الافتاء وَالْقَضَاء صَحِيح وَاجِب الْعَمَل فِي حق الْمُفْتِي وَالْقَاضِي وَإِن كَانَ خطأ فِي نفس الْأَمر وسيشير إِلَيْهِ. قَالَ الشَّارِح على أَنا سنذكر من الْمِيزَان أَن العملى والاعتقادي فِي الْجَواب سَوَاء على قَول أهل السّنة وَالْقَائِل بِأَن الْمُجْتَهد قد يُخطئ ويصيب (واذن) أَي وَإِذا كَانَ الْإِظْهَار وَاجِبا للتجويز الْمَذْكُور (فَقَوْل معَاذ فِي جلد الْحَامِل) الَّتِي زنت لما هم عمر بجلدها أَن جعل الله لَك على ظهرهَا سَبِيلا (مَا جعل الله لَك على مَا فِي بَطنهَا سَبِيلا) فَقَالَ لَوْلَا معَاذ لهلك عمر (للْوُجُوب) أَي بِسَبَب وجوب إِظْهَار الْمُخَالفَة على الْمُجْتَهد (فَيبْطل) بِهِ (تَفْصِيل ابْن أبي هُرَيْرَة) الْمشَار إِلَيْهِ بقوله وَابْن أبي هُرَيْرَة كَذَلِك لَا فِي الْقَضَاء (لكنه) أَي وجوب إِظْهَار الْمُخَالفَة إِذا جوز رُجُوعه إِلَيْهِ (مَمْنُوع) لِأَن التجويز غير مُلْزم، وَلَيْسَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُجْتَهد الأول مَعْلُوم الْبطلَان وَإِن كَانَ خطأ فَالْعَمَل بِهِ صَحِيح بظنه، وَلَا نسلم أَن قَول معَاذ يدل على الْوُجُوب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقَول معَاذ اخْتِيَار لأحد الجائزين) من السُّكُوت وَإِظْهَار الْمُخَالفَة (أَو) إِظْهَار الْمُخَالفَة وَاجِب (فِي خُصُوص) هَذِه (الْمَادَّة) لما فِيهِ من صِيَانة نفس مُحْتَرمَة عَن تعرضها للهلاك (وَقَوله) أَي ابْن أبي هُرَيْرَة (الْعَادة أَن لَا يُنكر الحكم بِخِلَاف الْفَتْوَى) فَإِنَّهَا تنكر فَلَا يكون السُّكُوت فِي الْقَضَاء دَلِيل الْمُوَافقَة وَيكون فِي الْفَتْوَى دليلها، وَقَوله مُبْتَدأ حبره (يعد اسْتِقْرَار الْمذَاهب) لَا قبله والنزاع إِنَّمَا هُوَ فِيمَا قبله، مفَاد هَذِه الْعبارَة أَن الْفرق بَينهمَا بالإنكار وَعَدَمه بعد الِاسْتِقْرَار مُسلم، وَأما قبله فكلاهما يُنكر، وَلَا يخفى أَن استقرارها(3/249)
إِنَّمَا يكون سَببا لعدم الْإِنْكَار فِي الحكم، لِأَن الْمذَاهب إِذا تقررت وَعرف أهل كل مَذْهَب لَا وَجه للإنكار على صَاحب مَذْهَب فِي الْعَمَل على مُوجبه، وَهَذِه الْعلَّة مُشْتَركَة بَين الحكم وَالْفَتْوَى فَلَا وَجه للْفرق بَين الِاسْتِقْرَار أَيْضا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال ارتباط الظّرْف بالْقَوْل بِاعْتِبَار عدم إِنْكَار الحكم فَقَط، لَا بِاعْتِبَار التَّفْرِقَة بَينهمَا فَتَأمل (وَقَول الجبائي) فِي اعْتِبَاره الْإِجْمَاع السكوتي بِشَرْط الانقراض (الِاحْتِمَالَات) الْمَذْكُورَة من الْخَوْف والتفكر وَغَيرهمَا (تضعف بعد الانقراض) لبعد اسْتِمْرَار هَذِه الْمَوَانِع إِلَى انْقِرَاض عصرهم (لَا قبله) أَي الانقراض (مَمْنُوع بل الضعْف) لَهَا (يتَحَقَّق بعد مُضِيّ مُدَّة التَّأَمُّل فِي مثله) أَي فِي مثل ذَلِك القَوْل (عَادَة وَمن الْمُحَقِّقين) إِشَارَة إِلَى مَا فِي الشَّرْح العضدي (من قيد قطعيته) أَي الْإِجْمَاع السكوتي (بِمَا إِذا كثر) وُقُوع تِلْكَ الْحَادِثَة (وتكرر) تكررا يكون (فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى) وَهُوَ: أَي هَذَا التَّقْيِيد أوجه، هَكَذَا فِي نُسْخَة اعْتمد عَلَيْهَا، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح (وَحِينَئِذٍ يحْتَمل) أَن يكون مُفِيدا للْقطع بمضمونه على مَا فسره، وَقَالَ السُّبْكِيّ تكَرر الْفتيا مَعَ طول الْمدَّة وَعدم الْمُخَالفَة يفضى إِلَى الْقطع وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
مسئلة
(إِذا أجمع على قَوْلَيْنِ فِي مسئلة) فِي عصر (لم يجز إِحْدَاث) قَول (ثَالِث) فِيهَا (عِنْد الْأَكْثَر) مِنْهُم الإِمَام الرَّازِيّ فِي المعالم، وَنَصّ عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن وَالشَّافِعِيّ فِي رسَالَته (وَخَصه) أَي عدم جَوَاز إِحْدَاث ثَالِث (بعض الْحَنَفِيَّة بالصحابة) أما إِذا كَانَ الْإِجْمَاع على قَوْلَيْنِ مِنْهُم فَلم يجوزوا لمن بعدهمْ أَحْدَاث ثَالِث فِيهَا (ومختار الْآمِدِيّ) وَابْن الْحَاجِب يجوز إِن لم يرفع شَيْئا مِمَّا أجمع عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ، وَلَا يجوز (إِن رفع مجمعا عَلَيْهِ كرد الْمُشْتَرَاة بكرا بعد الْوَطْء لعيب قبل الْوَطْء) كَانَ بهَا عِنْد البَائِع على المُشْتَرِي بعد الْوَطْء (قيل لَا) يردهَا (وَقيل) يردهَا (مَعَ الْأَرْش) أَي أرش الْبكارَة. (لَا يُقَال) يردهَا (مجَّانا) أَي بِغَيْر أرش الْبكارَة لِأَنَّهُ قَول ثَالِث رَافع لمجمع عَلَيْهِ. نقل الأول عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، وَالثَّانِي عَن عمر وَزيد بن ثَابت، وأنهما قَالَا يرد مَعهَا عشر قيمتهَا إِن كَانَت بكرا، وَنصف عشر قيمتهَا إِن كَانَت ثَيِّبًا، فقد اتَّفقُوا على عدم ردهَا مجَّانا. قَالَ الشَّارِح: وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ، وَفِي هَذَا الْمِثَال نظر. فَإِن الَّذِي يرْوى عَنْهُم ذَلِك من الصَّحَابَة لم يثبت عَنْهُم، وَأما التابعون فَصحت عَنْهُم الْأَقْوَال الثَّلَاثَة: الأول عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَالثَّانِي عَن سعيد بن الْمسيب وَشُرَيْح وَمُحَمّد ابْن سِيرِين وَكثير، وَالثَّالِث عَن الْحَارِث العكلي وَهُوَ من فُقَهَاء الْكُوفَة من أَقْرَان إِبْرَاهِيم(3/250)
النَّخعِيّ (ومقاسمة الْجد) الصَّحِيح، وَهُوَ الَّذِي لَا يدْخل فِي نسبته إِلَى الْمَيِّت أُنْثَى (الْأُخوة) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب (وحجبه الْأُخوة فَلَا يُقَال بحرمانه) أَي بحرمان الْجد بهم لِأَنَّهُ قَول ثَالِث رَافع الْمجمع عَلَيْهِ لِاتِّفَاق الْقَوْلَيْنِ على أَن للْجدّ حظا من الْمِيرَاث، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي قدره. وَنقل الشَّارِح عَن شَيْخه الْمَذْكُور فِي هَذَا الْمِثَال أَيْضا أقوالا ثَلَاثَة مَشْهُورَة عَن الصَّحَابَة: حجبه لَهُم عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَغَيرهم، وَأَنه رَجَعَ بَعضهم إِلَى الْمُقَاسَمَة، وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، وَجَاء حرمانه عَن زيد بن ثَابت وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الرَّحْمَن ابْن غنم، ثمَّ رَجَعَ زيد وَعلي إِلَى الْمُقَاسَمَة. ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يثبت إِجْمَاع من بعدهمْ على بطلَان الثَّالِث الَّذِي هُوَ الحرمان فَلَا يسمع بعد ذَلِك بِنَاء على أَن الْإِجْمَاع اللَّاحِق يرفع الْخلاف السَّابِق (وعدة الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا) زَوجهَا (بِالْوَضْعِ) لحملها كَمَا عَلَيْهِ عَامَّة أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَغَيرهم (أَو أبعد الْأَجَليْنِ) من الْوَضع ومضي أَرْبَعَة أشهر وَعشر كَمَا روى عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس. (لَا يُقَال) تنقضى عدتهَا (بِالْأَشْهرِ فَقَط) لِأَنَّهُ قَول ثَابت رَافع لمجمع عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا مضى الشَّهْر الأول وَلم تضع الْحمل اتّفق الْفَرِيقَانِ على عدم مُضِيّ الْعدة. أما على القَوْل بِالْوَضْعِ فَظَاهر، وَأما على القَوْل بالأبعد فَإِن الْأَبْعَد يتَحَقَّق (بِخِلَاف الْفَسْخ) للنِّكَاح (بالعيوب) من الْجُنُون والجذام والبرص والجب والعنة والقرن والرتق وَعدم الْفَسْخ بهَا (وَزَوْجَة وأبوين أَو زوج) وأبوين (للْأُم ثلث الْكل أَو ثلث مَا بَقِي) بعد فرض الزَّوْجَيْنِ (يجوز) فيهمَا قَول ثَالِث وَهُوَ (التَّفْصِيل فِي الْعُيُوب) . قَالَ الشَّارِح: الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِيهَا مَشْهُورَة عَن الصَّحَابَة (وَبَين الزَّوْج وَالزَّوْجَة) فَإِن التَّفْصِيل فِي كل من هذَيْن لَا يرفع مجمعا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَافق فِي كل صُورَة قولا. (وَطَائِفَة) كالظاهرية وَبَعض الْحَنَفِيَّة قَالُوا (يجوز) إِحْدَاث ثَالِث (مُطلقًا) سَوَاء كَانَ المجمعون على قَوْلَيْنِ الصَّحَابَة أَو غَيرهم، وَسَوَاء رفع الثَّالِث مجمعا عَلَيْهِ أَو لم يرفع. قَالَ (الْآمِدِيّ) إِنَّمَا يجوز الْأَحْدَاث إِذا لم يرفع مجمعا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ (لم يُخَالف مجمعا) عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي خلاف الْمجمع عَلَيْهِ (الْمَانِع) من الْأَحْدَاث لِأَنَّهُ خرق للْإِجْمَاع وَلم يُوجد (بل) الثَّالِث حِينَئِذٍ (وَافق كلا) من الْقَوْلَيْنِ (فِي شَيْء) إِذْ حَاصِل التَّفْصِيل كَون الْمفصل مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ فِي صُورَة، وَمَعَ الآخر فِي غير تِلْكَ الصُّورَة. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن الطَّائِفَتَيْنِ أجمعتا على عدم التَّفْصِيل. فالتفصل خلاف الْإِجْمَاع قَالَ (وَكَون عدم التَّفْصِيل مجمعا مَمْنُوع بل هُوَ) أَي الْإِجْمَاع على عدم التَّفْصِيل (القَوْل بِهِ) أَي بِعَدَمِ التَّفْصِيل، وَالْفَرْض أَنهم سكتوا عَنهُ، بل يجوز عدم خطوره ببالهم فَكيف يكون مجمعا عَلَيْهِ لَهُم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْأَمر كَذَلِك بِأَن يكون السُّكُوت عَن الشَّيْء قولا بِعَدَمِهِ (امْتنع القَوْل فِيمَا يحدث) أَي فِي(3/251)
مسئلة لم يَقع ذكرهَا بَين الْعلمَاء، وَفِي الزَّمَان السَّابِق وَلَيْسَ لأحد مِنْهُم قَول فِيهَا (إِذْ) لَو (كَانَ عدم القَوْل قولا بِالْعدمِ) أَي بِعَدَمِ القَوْل على ذَلِك التَّقْدِير، فَذَلِك بَاطِل إِجْمَاعًا فَإِن قلت فرق بَين أَن لم يكن للمسئلة ذكر أصلا، وَبَين أَن يَقع الِاجْتِهَاد فِي طلب الثَّوَاب فِيهَا. ثمَّ ينْحَصر مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي الْقَوْلَيْنِ قلت مَعَ ذَلِك لَا يلْزم أَن يخْطر التَّفْصِيل ببالهم فَلم يرتضوا بِهِ ليَكُون قولا بِعَدَمِهِ. (وَلنَا) على الْمُخْتَار وَهُوَ عدم جَوَاز إِحْدَاث الثَّالِث مُطلقًا (لَو جَازَ التَّفْصِيل كَانَ) جَوَازه (مَعَ الْعلم بخطئه) أَي التَّفْصِيل (لِأَنَّهُ) أَي التَّفْصِيل لَا عَن دَلِيل مُمْتَنع فَهُوَ (عَن دَلِيل) وَحِينَئِذٍ (فَإِن اطلعوا) أَي المطلقون (عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الدَّلِيل (وتركوه أَو لم يطلعوا) عَلَيْهِ (حَتَّى تقرر إِجْمَاعهم على خِلَافه) وَهُوَ الاطلاق وَعدم التَّفْصِيل (لزم خَطؤُهُ) أَي ذَلِك الدَّلِيل (إِذْ لَو كَانَ) أَي ذَلِك الدَّلِيل (صَوَابا) لزم أَن المطلقين وهم جَمِيع مجتهدي الْعَصْر السَّابِق (أخطؤا) بترك الْعَمَل بِهِ علموه أَو جهلوه (والتالي) أَي خطؤهم (مُنْتَفٍ) وَإِلَّا يلْزم اجْتِمَاع الْأمة فِي ذَلِك الْعَصْر على الضَّلَالَة (فَلَيْسَ) دَلِيل التَّفْصِيل (صَوَابا) وَإِذا كَانَ دَلِيل التَّفْصِيل خطأ فدليل من يحدث ثَالِثا بِلَا تَفْصِيل كَانَ أولى بالْخَطَأ إِذْ فِي التَّفْصِيل مُوَافقَة لكل من الْقَوْلَيْنِ فِي شَيْء وَقد عرفت (وَالْمَانِع) من أَحْدَاث القَوْل الثَّالِث (لم ينْحَصر فِي الْمُخَالفَة) لما أجمع عَلَيْهِ. لجَوَاز أَن يكون مانعه الْعلم بِأَنَّهُ لَو صَحَّ لزم خطأ الْكل لما عرفت (مَعَ أَنا نعلم أَن الْمُطلق) من الْفَرِيقَيْنِ (يَنْفِي التَّفْصِيل) لِأَنَّهُ يَقُول: الْحق مَا ذهبت إِلَيْهِ لَا غير (فتضمنه) أَي نفي التَّفْصِيل (إِطْلَاقه) أَي الْمُطلق فَيكون بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص على نفي التَّفْصِيل من الْكل. (وَأما قَوْلهم) أَي الْأَكْثَرين بِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّفْصِيل (يلْزم تخطئة كل فريق) لكَوْنهم لم يفصلوا (فَيلْزم تخطئتهم) أَي الْأمة كلهَا، وَهُوَ غير جَائِز للنَّص على أَنَّهَا لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة، فالتفصيل غير جَائِز (فَدفع بِأَن المنتفى) فِي النَّص (تخطئة الْكل فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، لَا تخطئة كل) أَي كل فريق من الْكل (فِي غير مَا خطئَ فِيهِ) وَفِي بعض النّسخ فِي غيرما أَخطَأ فِيهِ (الآخر) ولازم التَّفْصِيل من هَذَا الْقَبِيل قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وَفِيه نظر وَلم يُبينهُ، وَوَجهه الأسنوى وَغَيره بِأَن الْأَدِلَّة المتضمنة لعصمة الْأمة عَن الْخَطَأ شَامِلَة للصورتين. وَقَالَ السُّبْكِيّ: وَهَذَا النّظر لَهُ أصل مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ أَنه هَل يجوز انقسام الْأمة إِلَى شطرين كل شطر مُخطئ فِي مسئلة الْأَكْثَر أَنه لَا يجوز، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب خِلَافه وَهُوَ مُتَّجه ظَاهر فَإِن الْمَحْذُور حُصُول الْإِجْمَاع مِنْهَا على الْخَطَأ إِذْ لَيْسَ كل فَرد من الْأمة بمعصوم فَإِذا انْفَرد كل وَاحِد بخطأ غير خطأ صَاحبه فَلَا إِجْمَاع انْتهى قلت يرجع هَذَا الْكَلَام إِلَى أَن المُرَاد من الضَّلَالَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة " الشخصية إِذْ(3/252)
لَو حمل على مُطلق الضَّلَالَة لزم كَونهَا شَامِلَة للصورتين وَالله تَعَالَى أعلم. قَالَ (المجوز مُطلقًا اخْتلَافهمْ) أَي المجمعين على قَوْلَيْنِ (دَلِيل تسويغ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد) فِيهَا لدلالته على كَونهَا اجتهادية والتسويغ الْمَذْكُور من لوازمه (فَلَا يكون) إِجْمَاعهم على قَوْلَيْنِ المتضمن ذَلِك التسويغ (مَانِعا) من إِحْدَاث ثَالِث فِيهَا بل مسوغا لَهُ (أُجِيب) بِأَن اخْتلَافهمْ دَلِيل تسويغ ذَلِك (بِشَرْط عدم حُدُوث إِجْمَاع مَانع) من الِاجْتِهَاد، وَهَهُنَا قد حدث ضمنا لِأَن كلا من الْفَرِيقَيْنِ يَنْفِي قَول الآخر، وكل قَول سوى قَوْله فاختلفا فِي الْقَوْلَيْنِ واتفقا فِيمَا سواهُمَا نفيا، وَالْقَوْل الثَّالِث مِمَّا سواهُمَا (كَمَا لَو اخْتلفُوا) فِي حكم حَادِثَة (ثمَّ أَجمعُوا هم) بِأَنْفسِهِم على قَول وَاحِد فِيهِ. وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَوْلَا أَن هَذَا الْكَلَام ذكر فِي مقَام الْمَنْع كَانَ يُقَال لَا يُقَاس الْإِجْمَاع الضمني الْمَشْكُوك فِيهِ على الْإِجْمَاع الصَّرِيح الْمَقْطُوع بِهِ، كَيفَ والمتبادر من الْإِجْمَاع الْمَذْكُور فِي لَا تَجْتَمِع أمتِي إِنَّمَا هُوَ الصَّرِيح. (قَالُوا) أَي المجوزون مُطلقًا أَيْضا (لَو لم يجز) إِحْدَاث قَول ثَالِث (لأنكر إِذْ وَقع) لكنه وَقع (وَلم يُنكر. قَالَ الصَّحَابَة للْأُم ثلث مَا بَقِي) بعد فرض الزَّوْجَيْنِ (فيهمَا) أَي فِي مسئلة زوج وأبوين، وَزَوْجَة وأبوين (و) قَالَ (ابْن عَبَّاس) لَهَا (ثلث الْكل) فيهمَا، روى الدَّارمِيّ عَنهُ وَعَن عَليّ أَيْضا (وأحدث ابْن سِيرِين وَغَيره) وَهُوَ جَابر وَابْن زيد أَبُو الشعْثَاء كَمَا ذكر الْجَصَّاص (أَن) اللَّازِم (فِي مسئلة الزَّوْج) وأبوين (كَابْن عَبَّاس) أَي كَمَا عين لَهَا (و) للْأُم فِي مسئلة (الزَّوْجَة) مَعَ الْأَبَوَيْنِ (كالصحابة وَعكس تَابِعِيّ آخر) وَهُوَ القَاضِي شُرَيْح. كَذَا فِي الْكَافِي، فَفِي مسئلة الزَّوْج كالصحابة، وَفِي مسئلة الزَّوْجَة كَابْن عَبَّاس (وَلم يُنكر) إِحْدَاث كل من هذَيْن الْقَوْلَيْنِ (وَإِلَّا) لَو أنكر (نقل) وَلم ينْقل (أجَاب الْمفصل بِأَنَّهُ) أَي هَذَا التَّفْصِيل (من قسم الْجَائِز) إحداثه إِذْ لم يرفع مجمعا عَلَيْهِ (و) أجَاب (مطلقو الْمَنْع بِمَنْع) كل من (انْتِفَاء الْإِنْكَار وَلُزُوم النَّقْل لَو أنكر، و) لُزُوم (الشُّهْرَة لَو نقل) بل يجوز أَن يكون أنكر وَلم ينْقل الْإِنْكَار، وَيجوز أَن يكون نقل وَلم يشْتَهر فَإِن مثل هَذَا لَيْسَ مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على حِكَايَة إِنْكَاره، وَفِيه تَأمل.
مسئلة
قَالَ (الْجُمْهُور إِذا أَجمعُوا) أَي أهل عصر (على دَلِيل) لحكم (أَو تَأْوِيل جَازَ إِحْدَاث غَيرهمَا) . فِي الشَّرْح العضدي. إِذا اسْتدلَّ أهل الْعَصْر بِدَلِيل، أَو أولُوا تَأْوِيلا فَهَل لمن بعدهمْ إِحْدَاث دَلِيل أَو تَأْوِيل آخر لم يَقُولُوا بِهِ، الْأَكْثَرُونَ على أَنه جَائِز وَهُوَ الْمُخْتَار، وَمنعه الأقلون هَذَا إِذا لم ينصوا على بُطْلَانه، وَأما إِذا نصوا فَلَا يجوز اتِّفَاقًا انْتهى، وَهَذَا الْقَيْد لم يُصَرح بِهِ(3/253)
المُصَنّف لظُهُوره، إِذْ يسْتَلْزم أَحْدَاث غَيرهمَا على تَقْدِير التَّنْصِيص خلاف الْإِجْمَاع (وَهُوَ الْمُخْتَار، وَقيل لَا) يجوز (لنا) أَن كلا من الدَّلِيل والتأويل (قَول) عَن اجْتِهَاد (لم يُخَالف إِجْمَاعًا لِأَن عدم القَوْل) بذلك الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل (لَيْسَ قولا بِالْعدمِ) أَي بِعَدَمِ حقيته، فَجَاز لوُجُود الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع (بِخِلَاف عدم التَّفْصِيل فِي مسئلة وَاحِدَة) الْمَذْكُور فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة (لِأَنَّهُ) أَي أحد المطلقين (يَقُول لَا يجوز التَّفْصِيل لبُطْلَان دَلِيله) أَي التَّفْصِيل، وَهَذَا القَوْل لَيْسَ بتصريح مِنْهُ، بل (بِمَا ذكرنَا) من أَنه لَو جَازَ التَّفْصِيل كَانَ مَعَ الْعلم بخطئه إِلَى آخِره وَيرد عَلَيْهِ أَن الْمُطلق صَاحب أحد الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة كَابْن عَبَّاس فِيمَا سبق وَكَيف يتَصَوَّر فِيهِ أَن يَقُول بِلِسَان الْحَال لَو جَازَ التَّفْصِيل كَانَ مَعَ الْعلم بخطئه. وَأَقُول يتَصَوَّر لِأَنَّهُ يعلم أَن التَّفْصِيل بَاطِل إِجْمَاعًا فَهُوَ مَعْلُوم الْخَطَأ عِنْده فَهُوَ يَقُول لَو فرض جَوَازه كَانَ مَعَ الْعلم بخطئه وَالْأَظْهَر أَن يُقَال قَوْله مَا ذكرنَا إِشَارَة إِلَى قَوْله مَعَ أَنا نعلم أَن الْمُطلق يَنْفِي التَّفْصِيل إِلَى آخِره، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُول: الْحق مَا ذهبت إِلَيْهِ لَا غير فَافْهَم (وَكَذَا) الْمُطلق (الآخر) يَقُول مثل ذَلِك القَوْل بذلك التَّأْوِيل (فَيلْزم) من الْأَحْدَاث لَهُ (خطؤهم) أَي الْأمة. (وَأَيْضًا لولم يجز) أَحْدَاث كل من الدَّلِيل والتأويل (لأنكر) أحداثه (حِين وَقع) لكَونه مُنْكرا، وهم لَا يسكتون عَنهُ (لَكِن) لم يُنكر، بل (كل عصر بِهِ) أَي بأحداث كل مِنْهُمَا (يتمدحون) ويعدون ذَلِك فضلا. قَالَ مانعو جَوَازه هُوَ اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ إِذْ سبيلهم الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل السَّابِق فَرد عَلَيْهِم بقوله (وَاتِّبَاع غير سبيلهم اتِّبَاع خلاف مَا قَالُوهُ) مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر من الْمُغَايرَة (لَا مَا لم يقولوه) كَمَا نَحن فِيهِ، ثمَّ أَن الْمُحدث لَهُ لم يتْرك دَلِيل الْأَوَّلين وَلَا تأويلهم وَإِنَّمَا ضم دَلِيلا وتأويلا إِلَى دليلهم وتأويلهم كَذَا ذكره الشَّارِح، وَلَا يخفى أَنه لَا يَسْتَقِيم إِلَّا إِذا كَانَ مَا أحدثه مستلزما لبُطْلَان مَا قَالُوهُ. (قَالُوا) أَي مانعو جَوَازه قَالَ الله تَعَالَى - {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} - أَي بِكُل مَعْرُوف للاستغراق (فَلَو كَانَ) الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل (مَعْرُوفا أمروا) أَي الْأَولونَ (بِهِ) أَي بذلك الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل لَكِن لم يأمروا بِهِ فَلم يكن مَعْرُوفا فَلم يجز الْمصير إِلَيْهِ (عورض) الدَّلِيل الْمَذْكُور بِأَنَّهُ (لَو كَانَ) الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل (مُنْكرا لنهوا عَنهُ) لقَوْله تَعَالَى - {وتنهون عَن الْمُنكر} -
مسئلة
(لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن مُسْتَند) أَي لدَلِيل قَطْعِيّ أَو ظَنِّي إِذْ رُتْبَة الِاسْتِدْلَال بِإِثْبَات الْأَحْكَام لَيست للبشر كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه نظر لِأَنَّهُ على تَقْدِير إِجْمَاعهم على حكم يصير ذَلِك حَقًا بالأدلة(3/254)
الدَّالَّة على نفي ضَلَالَة الْأمة فَلَا يلْزم الِاسْتِدْلَال فَافْهَم (وَإِلَّا) لَو تحقق الْإِجْمَاع صَوَابا لَا عَن مُسْتَند (انقلبت الأباطيل) وَهُوَ مَجْمُوع أَقْوَال أهل الْإِجْمَاع (صَوَابا أَو أجمع على خطأ) إِن لم يكن صَوَابا، ثمَّ بَين وَجه الانقلاب بقوله (لِأَنَّهُ) أَي مَا أجمع عَلَيْهِ بِلَا مُسْتَند (قَول كل) أَي قَول كل الْأمة (وَقَول كل) فَرد مِنْهُم (بِلَا دَلِيل محرم) فَثَبت بِهَذِهِ الْمُقدمَة كَون مَجْمُوع الْأَقْوَال أباطيل، وبالمقدمة الأولى انقلابها صَوَابا لعدم اجْتِمَاعهم على الضَّلَالَة، وَقد يُقَال لَا نسلم امْتنَاع انقلاب الأباطيل صَوَابا. أَلا ترى أَن صَاحب التَّرْتِيب إِذا فَاتَتْهُ صَلَاة وَلم يقضها وَصلى بعْدهَا خمس صلوَات وقتية حكمنَا بِفساد الْكل. ثمَّ إِذا ضم السَّادِسَة إِلَيْهَا انقلبت صَحِيحَة، وَله نَظَائِر غير هَذَا فَتَأمل (وَاسْتدلَّ) لهَذَا القَوْل الْمُخْتَار بِأَنَّهُ (يَسْتَحِيل) الْإِجْمَاع (عَادَة من الْكل لَا لداع) يَدْعُو إِلَى الحكم من دَلِيل أَو أَمارَة (كالاجتماع) أَي كاستحالة اجْتِمَاعهم (على اشتهاء طَعَام) وَاحِد. (وَيدْفَع) هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِمَاع لَا يلْزم أَن يكون بِسَبَب دَلِيل. بل يجوز أَن يكون (بِخلق) الْعلم (الضَّرُورِيّ) بِكَوْن ذَلِك حكم الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم جَمِيعًا (وَيصْلح) هَذَا الدّفع أَن يكون (جَوَاب) الدَّلِيل (الأول) وَهُوَ لُزُوم انقلاب الأباطيل صَوَابا (أَيْضا إِذْ) الْعلم (الضَّرُورِيّ حق) فَلَا يصدق على قَول وَاحِد مِنْهُم أَنه محرم إِذْ حرمته على تَقْدِير عدم الدَّلِيل وَعدم الْعلم الضَّرُورِيّ فَلَيْسَ الْجَواب أَن الدَّلِيل الثَّانِي أَن انْتَفَى. فَالْأول كَاف فِي إِثْبَات الْمَطْلُوب (بل الْجَواب أَنه) أَي احْتِمَال خلق الضَّرُورِيّ (فرض غير وَاقع) بِإِضَافَة فرض إِلَى غير وَاقع أَو بتوصيفه بِهِ، وَالْمرَاد بِهِ مَفْرُوض غير مُحْتَمل للوقوع، وَإِلَّا فمجرد عدم الْوُقُوع لَا يُفِيد عدم جَوَاز الْإِجْمَاع بِلَا مُسْتَند إِلَّا أَن يكون الْمطلب عدم الْوُقُوع لَا عدم الْجَوَاز (لِأَن كَونه تَعَالَى خَاطب بِكَذَا) لَا بُد مِنْهُ فِي الحكم الشَّرْعِيّ بل هُوَ هُوَ لِأَنَّهُ خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد وَهُوَ (لَا يثبت) شرعا (ضَرُورَة عقلية) أَي ثبوتا بطرِيق البداهة من غير مَأْخَذ سَمْعِي (بل) يثبت (بِالسَّمْعِ) أَي بِالدَّلِيلِ السمعي وَالْفَرْض انتفاؤه، لَا يُقَال هَذَا أول الْبَحْث، لِأَن مَأْخَذ الْأَحْكَام مضبوطة محصورة إِجْمَاعًا والضرورة لَيست مِنْهَا وَالْكَلَام فِي ثُبُوته عِنْد كل وَاحِد من المجمعين قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع (وَلَو ألْقى فِي الروع) بِضَم الرَّاء الْقلب (فالهام) فِي الْقَامُوس ألهمه لله خيرا لقنه الله إِيَّاه، وَلَا يظْهر الْفرق بَين هَذَا الْإِلْقَاء وَبَين ذَلِك الْعلم الضَّرُورِيّ الْحَاصِل بِغَيْر سَبَب من الْأَسْبَاب، وَهل هُوَ إِلَّا إِلْقَاء من الله فِي الْقلب دون الإلهام بطرِيق الْفَيْض بِخِلَاف ذَلِك غير ظَاهر، والإلهام (لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا عَن نَبِي. قَالُوا) أَي المجوزون (لَو كَانَ) الْإِجْمَاع عَن سَنَد (لم يفد الْإِجْمَاع) للاستغناء بالسند عَنهُ (أُجِيب بِأَن فَائِدَته) أَي الْإِجْمَاع حِينَئِذٍ (التَّحَوُّل) من الْأَحْكَام الظنية(3/255)
(إِلَى الْأَحْكَام القطعية) وَهَذَا إِذا كَانَ السَّنَد ظنيا، وَأما إِذا كَانَ قَطْعِيا فالفائدة تَأْكِيد الْقطع وَإِثْبَات الحكم بِكُل مِنْهُمَا وَسُقُوط الْبَحْث عَن ذَلِك الدَّلِيل وَكَيْفِيَّة دلَالَته، وسنشير إِلَى بَعْضهَا (على أَنه) أَي نفي فَائِدَة لإِجْمَاع على دَلِيل (يسْتَلْزم لُزُوم نفي الْمُسْتَند) لإيجابه كَونه عَن غير دَلِيل، وَلَا قَائِل بِهِ لأَنهم يَقُولُونَ لَا يجب الْمُسْتَند، لَا أَنه يجب عَدمه (ثمَّ يجوز كَونه) أَي الْمُسْتَند (قِيَاسا خلافًا للظاهرية) وَابْن جرير الطَّبَرِيّ، أما الظَّاهِرِيَّة فَلَا يستغرب مِنْهُم لأَنهم لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَأما ابْن جرير فَهُوَ قَائِل بِالْقِيَاسِ (وَبَعْضهمْ) أَي الْأُصُولِيِّينَ (يجوزه) أَي كَونه عَن قِيَاس عقلا (و) يَقُول (لم يَقع لنا لَا مَانع يقدر) أَي لَا يُوجد شَيْء يفْرض مَانِعا عَن كَون الْقيَاس سَنَد الاجماع (الا الظنية) أَي كَونه دَلِيلا ظنياً بِأَن يُقَال كَيفَ يكون الظني سَبَب انْعِقَاد قَطْعِيّ (وَلَيْسَت) الظنية (مَانِعَة) عَن ذَلِك (كالآحاد) فَإِنَّهُ ظَنِّي، فِي البديع لَا خلاف فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَن خبر الْآحَاد (وَوَقع قِيَاس الْإِمَامَة) الْكُبْرَى للصديق (على إِمَامَة الصَّلَاة) مُسْتَند إِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لإمامة الصَّلَاة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: لما قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت الْأَنْصَار منا أَمِير ومنكم أَمِير فَأَتَاهُم عمر فَقَالَ: ألستم تعلمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَبَا بكر أَن يصلى بِالنَّاسِ فَأَيكُمْ تطيب نَفسه أَن يتَقَدَّم أَبَا بكر، فَقَالُوا نَعُوذ بِاللَّه أَن نتقدم أَبَا بكر حَدِيث حسن أخرجه أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن النزال بن سُبْرَة، وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قيل لَهُ حَدثنَا عَن أبي بكر قَالَ: ذَاك رجل سَمَّاهُ الله تَعَالَى الصّديق على لِسَان جِبْرِيل خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّلَاة رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا (وَفِيه) أَي كَون مُسْتَند هَذَا الْإِجْمَاع الْقيَاس (نظر لأَنهم) أَي الصَّحَابَة (أثبتوه) أَي كَونه خَليفَة (بِأولى وَهِي) أَي طَريقَة إفادته (الدّلَالَة) فِي اصْطِلَاح الْحَنَفِيَّة (وَمَفْهُوم الْمُوَافقَة) فِي اصْطِلَاح الشَّافِعِيَّة، وَقد مر تَفْسِيره غير مرّة، ومرجعه النَّص لَا الْقيَاس (لَكِن مَأْخَذ وُقُوع الْإِجْمَاع مُسْتَندا إِلَى الْقيَاس (حد الشّرْب) للخمر فَإِنَّهُ ثَمَانُون بِإِجْمَاع الصَّحَابَة قِيَاسا (على) حد (الْقَذْف) وأصل هَذَا الْقيَاس (لعَلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) فِي الْمُوَطَّأ وَغَيره أَن عمر اسْتَشَارَ فِي الْخمر يشْربهَا الرجل، فَقَالَ لَهُ عَليّ بن أبي طَالب: نرى أَن يجلد ثَمَانِينَ فَإِنَّهُ إِذا شرب سكر وَإِذا سكر هذى وَإِذا هذى افترى وعَلى المفتري ثَمَانُون انْتهى، فالجامع بَينهمَا الافتراء (ويمنعه) أَي ثُبُوت الْحَد بِالْقِيَاسِ (بعض الْحَنَفِيَّة) بِنَاء على أَنه لَا يثبت الْحَد عِنْدهم بِخَبَر الْوَاحِد، وَإِذا منع هَذَا (فالشيرج النَّجس على السّمن فِي الإراقة) أَي الْإِجْمَاع على إِرَاقَة الشيرج النَّجس الْمَائِع الْمُسْتَفَاد مِمَّا فِي سنَن أبي دَاوُد وصحيح ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/256)
عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن فَقَالَ إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وكلوه، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه وَقد أعل بتفرد معمر عَن الزُّهْرِيّ، وبالاضطراب فِي إِسْنَاده وَمَتنه على أَنه مَتْرُوك الظَّاهِر عِنْد عَامَّة السّلف لتجويزهم الاستصباح بِهِ، وَكثير مِنْهُم يجوز بَيْعه. وَقَوله فالشيرج خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَعنِي أولى بِالْمَنْعِ: أَي فمثاله، وَيحْتَمل أَن يكون مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَعنِي أولى بِالْمَنْعِ، لِأَن أصل الْقيَاس مطعون وَالْإِجْمَاع غير ثَابت، إِذْ لَو ثَبت لما جوز السّلف وَالْخلف مَا ذكر (وَصرح مُتَأَخّر من الْحَنَفِيَّة أَيْضا بِنَفْي قَطْعِيَّة الْمُسْتَند) للْإِجْمَاع (فِي الشرعيات، بل الْإِجْمَاع يفيدها) أَي القطعية (كَأَنَّهُ) أَي التَّصْرِيح بِمَا ذكر (لنفي الْفَائِدَة) للْإِجْمَاع على تَقْدِير كَون الْمُسْتَند قَطْعِيا لثُبُوت الْقطع بالحكم بِنَفس الْمُسْتَند، وَقد عرفت مَا فِيهِ، ولعامة الْعلمَاء أَن الدَّلَائِل الْمُوجبَة لكَون الْإِجْمَاع حجَّة لَا تفصل بَينهمَا (وَإِذا قيل) الْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَى قَطْعِيّ (يفيدها) أَي القطعية (بِأولى) أَي بطرِيق أولى لما فِيهِ من زِيَادَة التَّأْكِيد واطمئنان الْقلب (انْتَفَى) مَا ذكر من نفي الْفَائِدَة، ثمَّ (هَذَا) بِنَاء (على عدم تفَاوت الْقطعِي قُوَّة كَمَا أسلفناه) وَأما على تفاوته فَالْأَمْر ظَاهر. وَفِي التَّلْوِيح: وَاعْلَم أَنه لَا معنى للنزاع فِي كَون السَّنَد قَطْعِيا لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بِهِ أَنه لَا يَقع اتِّفَاق مجتهدي عصر على حكم ثَابت بِدَلِيل قَطْعِيّ فَظَاهر الْبطلَان، وَكَذَا إِن أُرِيد بِهِ أَنه لَا يُسمى إِجْمَاعًا، لِأَن الْحَد صَادِق عَلَيْهِ، وَإِن أُرِيد أَنه لَا يثبت الحكم فَلَا يتَصَوَّر النزاع فِيهِ لِأَن إِثْبَات الثَّابِت محَال انْتهى. وَمُوجب هَذَا أَن لَا يصلح قَوْلنَا هَذَا الحكم ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة فَلْيتَأَمَّل.
مسئلة
(لَا يجوز أَن يعلمُوا) أَي مجتهدو عصر (دَلِيلا راجحا) أَي سالما عَن الْمعَارض المكافئ لَهُ، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَلَا يخفى أَن هَذَا تَفْسِير باللازم وَمَفْهُوم الرجحان بَين، والمحتاج إِلَى الْبَيَان تعْيين الْمَدْلُول: وَهُوَ خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم: كَمَا يفِيدهُ قَوْله (عمِلُوا بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف مُوجبه. تَوْضِيحه أَنه لَا يُمكن أَن يكون لخلاف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيل رَاجِح على دَلِيل مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وهم لَا يعلمُونَ ذَلِك الدَّلِيل (وَاخْتلفُوا فِيمَا) أَي فِي عدم الْعلم بِدَلِيل رَاجِح (عمِلُوا على وَفقه) بِأَن يكون عَمَلهم مَبْنِيا على دَلِيل مَرْجُوح لعدم علمهمْ بالمرجح فهم حِينَئِذٍ مصيبون فِي الحكم مخطئون فِي الدَّلِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (مصيبين) أَي فِي الحكم لَكِن بِدَلِيل مَرْجُوح (فَقيل كَذَلِك) أَي لَا يجوز (لِأَن الرَّاجِح سبيلهم) أَي الْمُؤمنِينَ (وَعمِلُوا بِغَيْرِهِ) حَيْثُ بنوا مَذْهَبهم(3/257)
على الْمَرْجُوح (والمجوز) لعدم علمهمْ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِح الَّذِي عمِلُوا على وَفقه يَقُول: (لَيْسَ) عدم الْعلم بالراجح (بِإِجْمَاع على عَدمه) أَي الرَّاجِح (ليَكُون خطأ) واجتماعا على الضَّلَالَة كَمَا إِذا لم يحكموا بِحكم هُوَ صَوَاب لَا يكون ذَلِك قولا بِعَدَمِهِ (وسبيلهم) أَي الْمُؤمنِينَ (مَا عمِلُوا بِهِ، لَا مَا لم يخْطر لَهُم) بالبال (بل هُوَ) أَي الَّذِي لم يخْطر لَهُم (حِينَئِذٍ) أَي حِين لم يخْطر لَهُم (من شَأْنه) أَن يكون سبيلهم، لَا أَنه سبيلهم بِالْفِعْلِ.
مسئلة
(الْمُخْتَار امْتنَاع ارتداد أمة عصر سمعا وَإِن جَازَ) ارتدادهم (عقلا) إِذْ لَا مَانع مِنْهُ (وَقيل يجوز) شرعا كَمَا يجوز عقلا (لنا أَنه) أَي ارتدادهم (إِجْمَاع على الضَّلَالَة والسمعية) من الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة على حجية الْإِجْمَاع (تنفيه) أَي الْإِجْمَاع على الضَّلَالَة (وَاعْترض بِأَن الرِّدَّة تخرجهم) أَي الَّذين كَانُوا أمة قبل الرِّدَّة (عَن تنَاولهَا) أَي الْأَدِلَّة: أَي السمعية إيَّاهُم حَال الرِّدَّة (إِذْ لَيْسُوا أمته) حِينَئِذٍ (وَالْجَوَاب يصدق) إِذا ارْتَدُّوا أَنه (ارْتَدَّت أمته قطعا) أَو رد عَلَيْهِ أَن صدقه بطرِيق الْحَقِيقَة غير مُسلم، وَإِنَّمَا هُوَ مجَاز بِاعْتِبَار مَا كَانَ وَأجِيب بِأَن ذَلِك إِذا أطلق بعد وُقُوع الرِّدَّة، أما فِي حَالهَا فَالظَّاهِر أَنه حَقِيقَة. قَالَ السُّبْكِيّ الارتداد عِلّة الْخُرُوج فَإِن كَانَت الْعلَّة سَابِقَة فَهِيَ حَقِيقَة، وَإِلَّا فَلَا انْتهى.
مسئلة
(ظن أَن قَول الشَّافِعِي: دِيَة الْيَهُودِيّ الثُّلُث) من دِيَة الْمُسلم (يتَمَسَّك فِيهِ بِالْإِجْمَاع لقَوْل الْكل بِالثُّلثِ، إِذْ قيل بِهِ) أَي بِالثُّلثِ (وبالنصف و) ب (الْكل، وَلَيْسَ) كَذَلِك (لِأَن نفي الزَّائِد) على الثُّلُث (جُزْء قَوْله) أَي الشَّافِعِي لِأَنَّهُ يَقُول بِوُجُوب الثُّلُث فَقَط (وَلم يجمع عَلَيْهِ) أَي على نفي الزَّائِد، وَقد يُقَال أحد الجزءين وَهُوَ وجوب الثُّلُث ثَابت بِالْإِجْمَاع، وَوُجُوب مَا زَاد عَلَيْهِ مَشْكُوك فِيهِ لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ فَلَا يثبت مَعَ وجود الشَّك، وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة، وَهَذَا معنى التَّمَسُّك فِيهِ بِالْإِجْمَاع فَتَأمل.
مسئلة
(إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الْقطعِي يكفر) متعاطيه وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَعْلُوم بِأَن يَجْعَل سَبَب التَّكْفِير مكفرا (عِنْد الْحَنَفِيَّة وَطَائِفَة) لما ذكر من أَن إِجْمَاع مثل هَذَا الْجمع الْعَظِيم لَا يكون إِلَّا بِسَنَد قَاطع، فإنكاره إِنْكَار لذَلِك الْقَاطِع، وإنكاره كفر لاستلزامه تَكْذِيب الرَّسُول(3/258)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الشَّارِح: أَن نسبته إِلَى الْحَنَفِيَّة لَيْسَ على الْعُمُوم، إِذْ فِي الْمِيزَان فَأَما إِنْكَار مَا هُوَ ثَابت قطعا من الشرعيات بِأَن علم بِالْإِجْمَاع وَالْخَبَر الْمَشْهُور فَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه لَا يكفر انْتهى، وَفِي التَّقْوِيم نفي تَكْفِير الروافض والخوارج فِي إنكارهم إِمَامَة أبي بكر وَعمر لكَونه عَن شُبْهَة وَإِن كَانَت فَاسِدَة. (و) قَالَت (طَائِفَة لَا) يكفر وَهُوَ معزو إِلَى بعض الْمُتَكَلِّمين بِنَاء على أَن الْإِجْمَاع حجَّة ظنية لِأَن دَلِيل حجيته لَيْسَ بقطعي، وَقد عرفت قطعيته فِي أول الْبَاب (وَيُعْطِي) أَي يُفِيد (الْأَحْكَام) للآمدي (وَغَيره) كمختصر ابْن الْحَاجِب أَن فِي هَذِه المسئلة (ثَلَاثَة) من الْأَقْوَال (هذَيْن وَالتَّفْصِيل) وَهُوَ (مَا) كَانَ (من ضروريات الدّين) أَي دين الْإِسْلَام: وَهُوَ مَا يعرفهُ الْخَواص والعوام من غير قبُول للتشكيك كالتوحيد والرسالة وَوُجُوب الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج (يكفر) منكره (وَإِلَّا فَلَا) يكفر (وَهُوَ) أَي هَذَا الَّذِي أَفَادَهُ الْأَحْكَام من كَون الْأَقْوَال ثَلَاثَة (غير وَاقع) لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ عدم إكفار مُنكر نَحْو الصَّلَاة عِنْد الْبَعْض، وَهَذَا لَا يتَصَوَّر (إِذْ لَا مُسلم يَنْفِي كفر مُنكر نَحْو الصَّلَاة) فَلَيْسَ فِي الْوَاقِع إِلَّا قَولَانِ: أَحدهمَا التَّكْفِير مُطلقًا، وَهُوَ الَّذِي مَشى عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ لَكِن قَالَ: فَشَا فِي لِسَان الْفُقَهَاء أَن خارق الْإِجْمَاع يكفر، وَهُوَ بَاطِل قطعا، فَإِن من يُنكر أصل الْإِجْمَاع لَا يكفر، نعم من اعْترف بِالْإِجْمَاع وَأقر بِصدق المجمعين فِي النَّقْل، ثمَّ أنكر مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ كَانَ تَكْذِيبًا للشارع وَهُوَ كفر، وَثَانِيهمَا التَّفْصِيل الْمَذْكُور، وَقد يُقَال: إِن مُرَاد الْآمِدِيّ أَن مِنْهُم من قَالَ إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الْقطعِي كفر مُطلقًا، وَمِنْهُم من قَالَ لَيْسَ بِكفْر مُطلقًا بِمَعْنى أَنه لَيْسَ بِكفْر من حَيْثُ أَنه مُنكر للْإِجْمَاع، غَايَة الْأَمر أَنه يلْزم عَلَيْهِ عدم تَكْفِير مُنكر الصَّلَاة من حَيْثُ الْإِجْمَاع، وَهَذَا لَا يُنَافِي تكفيره من حَيْثُ الضَّرُورَة الدِّينِيَّة، وَصَاحب القَوْل الثَّالِث يَجْعَل الضَّرُورَة رَاجِعَة إِلَى الْإِجْمَاع فَتَأمل (وَإِذا حمل حكم الْإِجْمَاع) المبحوث عَن تَكْفِير منكره الْمَذْكُور فِي الْأَحْكَام (على الْخُصُوص) وَهُوَ مَا لَيْسَ من ضروريات الدّين دفعا للإيراد الْمَذْكُور لَا يَصح أَيْضا إِذْ (لم يتَنَاوَلهُ) أَي الْإِجْمَاع على مَا هُوَ من ضروريات الدّين بل يباينه، هَكَذَا فسر الشَّارِح هَذَا الْمحل ولارتباط قَول المُصَنّف (لِأَن حكمه حِينَئِذٍ مَا لَيْسَ إِلَّا عَنهُ) قدر قبل التَّعْلِيل قَوْله وَلَيْسَ كَون الشَّيْء ملزما بِالضَّرُورَةِ عَن الدّين حكم الْإِجْمَاع، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَالْأَوْجه أَن يُقَال أَن حكم الشَّيْء أَثَره الْمُتَرَتب عَلَيْهِ، وَإِذا حمل حكم الْإِجْمَاع على مَا يَتَرَتَّب على خُصُوص كَونه إِجْمَاعًا: أَي على حكم الْإِجْمَاع من حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع لَا بِالنّظرِ إِلَى الْمجمع لم يتَنَاوَل الحكم بِهَذَا الْمَعْنى حكم الْإِجْمَاع وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَالْأَوْجه أَن يُقَال أَن حكم الشَّيْء أَثَره الْمُتَرَتب عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَعْنى حكم الْإِجْمَاع المنضم إِلَيْهِ الضَّرُورَة الدِّينِيَّة، فنحو تَكْفِير مُنكر الصَّلَاة أثر يَتَرَتَّب على خُصُوصِيَّة الْمجمع عَلَيْهِ(3/259)
بِاعْتِبَار كَونه من ضروريات الدّين، وَمعنى قَوْله لِأَن حكمه الخ: أَي حكم الْإِجْمَاع حِينَئِذٍ: أَي حِين حمل الحكم على الْخُصُوص بِالْمَعْنَى الَّذِي عَرفته: أَي حكم لَيْسَ إِلَّا ناشئا عَن الْإِجْمَاع من حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع وَالله تَعَالَى أعلم، وَإِنَّمَا قيد الْإِجْمَاع بالقطعي لِأَن الظني لَا يكفر جاحده وفَاقا (و) قيد (فَخر الْإِسْلَام) الْإِجْمَاع الَّذِي يكفر جاحده (بالقطعي) الَّذِي (من إِجْمَاع الصَّحَابَة نصا) أَي إِجْمَاعًا على سَبِيل التَّنْصِيص من الْبَعْض (كعلي) أَي كالإجماع على (خلَافَة أبي بكر و) كالإجماع على (قتال مانعي الزَّكَاة وَمَعَ سكُوت بَعضهم) أَي الصَّحَابَة. قَالَ الشَّارِح بعد مَا نقل من كَلَام فَخر الْإِسْلَام مَا يدل على أَن الْإِجْمَاع بِاعْتِبَار الْعلَّة أَصله كالكتاب وَالسّنة المتواترة فيكفر جاحده، وَأَن التَّقْيِيد بِالْأَصْلِ لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يُوجب لعَارض كَمَا إِذا ثَبت بِنَصّ بعض وسكوت آخَرين إِلَى غير ذَلِك، فَظهر أَن كَون فَخر الْإِسْلَام قَائِلا بإكفار مُنكر الْإِجْمَاع السكوتي من الصَّحَابَة غير ظَاهر انْتهى. وَالْمُصَنّف لَو لم يثبت عِنْده مَا نَقله عَنهُ مَا كَانَ يَنْقُلهُ فَكَأَنَّهُ يفرق بَين سكُوت الصَّحَابَة وسكوت غَيرهم (وَأما) مُنكر إِجْمَاع (من بعدهمْ) أَي الصَّحَابَة (بِلَا سبق خلاف فيضلل) ويخطأ من غير اكفار (كالخبر الْمَشْهُور) أَي كمكره (و) الْإِجْمَاع (الْمَسْبُوق بِهِ) أَي بِخِلَاف مُسْتَقر (ظَنِّي مقدم على الْقيَاس كالمنقول) أَي كالإجماع الْمَنْقُول (آحادا) بِأَن روى ثِقَة أَن الصَّحَابَة أَجمعُوا على كَذَا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة السّنة المنقولة بالآحاد فَيُوجب الْعَمَل لَا الْعلم عِنْد الْعلمَاء. (وَوجه التَّرْتِيب) فِي هَذِه الاجماعات (قَطْعِيَّة) إِجْمَاع (الصَّحَابِيّ) (إِذْ لم يعْتَبر خلاف منكره) أَي إِجْمَاعهم (وَضعف الْخلاف) أَي خلاف مُنكر الْإِجْمَاع (فِيمَن سواهُم فَنزل) إِجْمَاع من سواهُم (عَن القطعية إِلَى قربهَا) أَي القطعية (من الطُّمَأْنِينَة، وَمثله) أَي مثل إِجْمَاع من سواهُم فِي النُّزُول إِلَى الطُّمَأْنِينَة (يجب) أَن يتَحَقَّق (فِي) الْإِجْمَاع (السكوتي على) الراي (الْأَوْجه فضلل) مُنكر حكمه (وقوى) الْخلاف (فِي) الْإِجْمَاع (الْمَسْبُوق) بِخِلَاف مُسْتَقر (و) الْإِجْمَاع (الْمَنْقُول آحادا) أَي حَال كَون ناقله آحادا (فحجة ظنية تقدم على الْقيَاس فَيجوز فيهمَا) أَي فِي حكمي الْمَسْبُوق وَالْمَنْقُول آحادا (الِاجْتِهَاد) لمجتهد من غير المجمعين، كَذَا قَيده الشَّارِح، وَلَا يظْهر وَجه التَّقْيِيد فِي الْمَسْبُوق فَإِنَّهُ يجوز أَن يجْتَهد بَعضهم أَيْضا (بِخِلَافِهِ) بعد اتفاقه مَعَهم عِنْد الِانْعِقَاد، ويسوغ لَهُ الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده مُخَالفا لرأيه الأول، وأو فِي الْمَنْقُول فَلَا يتَصَوَّر مثل هَذَا إِلَّا إِذا أخبر بعض المجمعين بِاتِّفَاق من سواهُ من أهل عصره بأخبار الْآحَاد فَتَأمل، وَيدل على مَا قُلْنَاهُ قَوْله (فرجوع بَعضهم) أَي المجمعين عَنهُ إِلَى غَيره اجْتِهَادًا يجوز بطرِيق (أولى) إِذْ فِي مُخَالفَة غَيرهم الْإِجْمَاع مَوْجُود عِنْد من يشْتَرط انْقِرَاض عصر المجمعين، وَعند غَيره رُجُوع الْبَعْض فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْعَدِم(3/260)
(ثمَّ لَيْسَ) هَذَا الْإِجْمَاع (نسخا) للْأولِ هَكَذَا فسر الشَّارِح ضمير لَيْسَ بِتَأْوِيل أَن قَوْله فَيجوز فيهمَا الِاجْتِهَاد بِاعْتِبَار إِطْلَاقه مُفِيد جَوَاز أَن يَنْتَهِي تضافر الاجتهادات فِي جَانب الْخلاف إِلَى دَرَجَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فَيصير مجمعا عَلَيْهِ، بِخِلَاف مَا أجمع عَلَيْهِ، وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا تكلّف مُسْتَغْنى عَنهُ، إِذْ الظَّاهِر أَن يرجع الضَّمِير إِلَى الْمَذْكُور من جَوَاز الِاجْتِهَاد بِخِلَاف مَا أجمع أَو جَوَاز رُجُوع الْبَعْض فَإِنَّهُ يُوهم نسخ الْإِجْمَاع السَّابِق، وَمَعَ عدم منسوخيته لَا مجَال للْخلاف (بل) الِاجْتِهَاد بِخِلَافِهِ (معَارض) لذَلِك الْإِجْمَاع الظني لجَوَاز التَّعَارُض بَين ظنيين (رجح) الِاجْتِهَاد بِخِلَافِهِ على ذَلِك الْإِجْمَاع بمرجح من المرجحات بِحَسب مَا ظهر لأَجله، وَإِذا كَانَ كَذَلِك (فَلَا يقطع بخطأ الأول وَلَا صَوَابه) فِي الْوَاقِع (بل هُوَ) أَي قَول كل بخطأ مخالفه وإصابة نَفسه بِنَاء (على ظن الْمُجْتَهد) ذَلِك، وَهُوَ قد يكون مطابقا للْوَاقِع، وَقد لَا (فدليل القطعية) للْإِجْمَاع الْمُسْتَفَاد (من إِجْمَاع الصَّحَابَة على تَقْدِيمه) أَي الْإِجْمَاع (على الْقَاطِع) إِنَّمَا يتم (فِي) حق (إِجْمَاعهم) لما أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله فِي أَوَائِل الْبَاب من أَن قطع مثلهم عَادَة لَا يكون إِلَّا عَن سَمْعِي قَاطع فِي ذَلِك (وَمنع الْغَزالِيّ وَبَعض الْحَنَفِيَّة حجية الآحادي) أَي الْإِجْمَاع الَّذِي نقل إِلَيْنَا بأخبار الْآحَاد (إِذْ لَيْسَ) الْآحَاد (نصا) وَهُوَ ظَاهر (وَلَا إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع دَلِيل (قَطْعِيّ) والآحادي لَيْسَ بقطعي (وحجية غير الْقَاطِع) إِنَّمَا تثبت (بقاطع كَخَبَر الْوَاحِد) أَي كَمَا تثبت حجية خبر الْوَاحِد بقطعي على مَا مر (وَلَا قَاطع فِيهِ) أَي فِي الآحادي (وَالْجَوَاب بل فِيهِ) أَي كَون الآحادي حجَّة قَاطع (وَهُوَ) أَي الْقَاطِع فِيهِ (أولويته) أَي الْإِجْمَاع الآحادي (بهَا) أَي بالحجية (من خبر الْوَاحِد الظني الدّلَالَة، لِأَن الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِهِ) أَي بِخَبَر الْوَاحِد الظني الدّلَالَة الَّذِي تخللت الْوَاسِطَة بَين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين من بلغه (إِجْمَاع عَلَيْهِ) أَي على وجوب الْعَمَل (فِي) الْإِجْمَاع (الْقطعِي الْمَنْقُول آحادا) إِذْ كل مِنْهُمَا يُفِيد الْقطع بِاعْتِبَار أَصله، وَنقل إِلَيْنَا بِوَاسِطَة الْآحَاد فاستويا من حَيْثُ الشُّبْهَة الناشئة عَن الْوَاسِطَة، وترجح الْإِجْمَاع الآحادي بِاعْتِبَار قَطْعِيَّة دلَالَته، بِخِلَاف الْخَبَر الْمَذْكُور (وَقد فرق) بَين خبر الْوَاحِد وَالْإِجْمَاع الآحادي (بإفادة نقل الْوَاحِد الظَّن فِي الْخَبَر دون الْإِجْمَاع لبعد انْفِرَاده) أَي الْوَاحِد (بالاطلاع) على إِجْمَاع أهل عصر، وَعدم بعد انْفِرَاده بالاطلاع على الْخَبَر (وَيدْفَع) هَذَا (الاستبعاد بعدالة النَّاقِل) إِذْ صُدُور الْكَذِب من الْعدْل فِي أصل ديني أبعد من الِانْفِرَاد، خُصُوصا إِذا كَانَ خبر الْآحَاد متحققا فِي جمع كثير فَإِن عدد المخبرين إِذا كَانَ دون عدد التَّوَاتُر يُقَال لَهُ خبر الْوَاحِد (وَلَا يسْتَلْزم) نقل الْوَاحِد (الِانْفِرَاد) فِي الْعلم بتحقق ذَلِك الْإِجْمَاع فِي نفس الْأَمر (بل) يسْتَلْزم (مُجَرّد علمه أَي النَّاقِل مَعَ تَجْوِيز أَن يكون لَهُ شَرِيكا فِي الْعلم بِهِ (فَجَاز علم من لم يَنْقُلهُ أَيْضا، مِثَاله) أَي الْإِجْمَاع(3/261)
الآحادي (قَول عُبَيْدَة) السَّلمَانِي (مَا اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على شَيْء كاجتماعهم على مُحَافظَة الْأَرْبَع قبل الظّهْر، والأسفار بِالْفَجْرِ، وَتَحْرِيم نِكَاح الْأُخْت فِي عدَّة الْأُخْت) . قَالَ الشَّارِح: كَذَا توارده الْمَشَايِخ رَحِمهم الله تَعَالَى وَالله أعلم بِهِ. أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن معمر ابْن مَيْمُون قَالَ: لم يكن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتركون أَربع رَكْعَات قبل الظّهْر وَرَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر على حَال. وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مَا أجمع أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على شَيْء مَا أَجمعُوا على التَّنْوِير بِالْفَجْرِ. هَذَا وَفِي التَّقْوِيم حكى مَشَايِخنَا عَن مُحَمَّد بن الْحسن نصا أَن إِجْمَاع كل عصر حجَّة إِلَّا أَنه على مَرَاتِب أَرْبَعَة، فالأقوى إِجْمَاع الصَّحَابَة نصا لِأَنَّهُ لَا خلاف فِيهِ بَين الْأمة، لِأَن الْعشْرَة وَأهل الْمَدِينَة يكونُونَ فيهم، ثمَّ الَّذِي ثَبت بِنَصّ الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ، ثمَّ إِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة على حكم لم يظْهر فِيهِ قَول من سبقهمْ. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " خير النَّاس رهطي الَّذِي أَنا فيهم، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ يفشو الْكَذِب "، ثمَّ إِجْمَاعهم على حكم سبقهمْ فِيهِ مُخَالف لِأَن هَذَا فصل اخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ انْتهى فَإِن قلت كَيفَ يَصح قَوْله لَا خلاف فِيهِ بَين الْأمة، وَقد سبق خلاف النظام وَبَعض المبتدعة قلت خلافهم فِي أصل انْعِقَاده لَا فِي حجيته بعد الِانْعِقَاد مستجمعا للشروط، على أَنه لَو فرض خلاف فِيهِ لَا يعْتد بِهِ.
مسئلة
(يحْتَج بِهِ) أَي بِالْإِجْمَاع (فِيمَا لَا يتَوَقَّف حجيته) أَي الْإِجْمَاع (عَلَيْهِ من الْأُمُور الدِّينِيَّة) بَيَان للموصول سَوَاء كَانَ ذَلِك (عقليا كالرؤية) أَي رُؤْيَة الله تَعَالَى فِي دَار الْآخِرَة. رزقنا الله تَعَالَى إِيَّاهَا (لَا فِي جِهَة) أَي حَال كَون المرئي لَيْسَ فِي جِهَة من الْجِهَات السِّت لتعاليه عَن ذَلِك (وَنفي الشَّرِيك) لَهُ تَعَالَى. (ولبعض الْحَنَفِيَّة) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة (فِي الْعقلِيّ) أَي فِي الِاحْتِجَاج بِالْإِجْمَاع فِيمَا يدْرك بِالْعقلِ خلاف بقول (مفيده) أَي مُفِيد مَا يدْرك بِالْعقلِ (الْعقل لَا الْإِجْمَاع) لاستقلال الْعقل بإفادة الْيَقِين فِيهِ، وَمَشى عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي برهانه، وَلَا أثر للْإِجْمَاع فِي العقليات فَإِن الْمُمْتَنع فِيهَا الْأَدِلَّة القاطعة، فَإِذا انتصبت لم يعارضها شقَاق وَلم يعضدها وفَاق (أَولا) أَي أَو غير عَقْلِي (كالعبادات) أَي كوجوبها من الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج (وَفِي الدُّنْيَوِيَّة كترتيب أُمُور الرّعية والعمارات) لمصَالح الْمُسلمين (وتدبير الجيوش قَولَانِ لعبد الْجَبَّار) أَحدهَا، وَعَلِيهِ جمَاعَة أَنه لَيْسَ بِحجَّة فِي القواطع هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ من قَول الرَّسُول، وَقد ثَبت أَن قَوْله إِنَّمَا هُوَ حجَّة فِي أَحْكَام الشَّرْع دون مصَالح الدُّنْيَا. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم وَأَنا أعلم بِأُمُور دينكُمْ ". وَكَانَ إِذا رأى رَأيا فِي الْحَرْب يُرَاجِعهُ(3/262)
الصَّحَابَة فِي ذَلِك، وَرُبمَا ترك رَأْيه برأيهم كَمَا وَقع فِي حَرْب بدر وَالْخَنْدَق، ثَانِيهمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الإِمَام الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب مَا أَفَادَهُ المُصَنّف بقوله. (وَالْمُخْتَار) أَنه (حجَّة إِن كَانَ اتِّفَاق أهل الِاجْتِهَاد وَالْعَدَالَة) لِأَن الْأَدِلَّة السمعية على حجيته لَا تفصل. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر الْحَرْب وَغَيره إِن كَانَ عَن وَحي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ عَن رَأْي وَكَانَ خطأ فَهُوَ لَا يقر عَلَيْهِ. وَفِي الْمِيزَان ثمَّ على قَول من جعله إِجْمَاعًا هَل يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْعَصْر الثَّانِي كَمَا فِي الْإِجْمَاع فِي أُمُور الدّين أم لَا؟ إِن لم يتَغَيَّر الْحَال يجب وَإِن تغير لَا يجب (بِخِلَافِهِ) أَي الْإِجْمَاع (على المستقبلات من أَشْرَاط السَّاعَة) وقيدها الشَّارِح بالحسيات (وَأُمُور الْآخِرَة لَا يعْتَبر إِجْمَاعهم عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع) لأَنهم لَا يعلمُونَ الْغَيْب (بل) يعْتَبر (من حَيْثُ هُوَ مَنْقُول) عَمَّن أعلم بِالْغَيْبِ (كَذَا للحنفية) . وَفِي التَّلْوِيح أَن الِاسْتِقْبَال قد لَا يكون مِمَّا لم يُصَرح بِهِ الْمخبر الصَّادِق، بل استنبطه الْمُجْتَهد من نصوصه فَيُفِيد الْإِجْمَاع قطعيته، وَدفع بِأَن الْحسي الاستقبالي لَا مدْخل للِاجْتِهَاد فِيهِ. فَإِن ورد بِهِ نَص فَهُوَ ثَابت بِهِ وَلَا اجتياج إِلَى الاجماع، وَإِن لم يرد فَلَا مساغ للِاجْتِهَاد فِيهِ: هَذَا وَلَا يتَمَسَّك بِالْإِجْمَاع فِيمَا تتَوَقَّف صِحَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ كوجود البارئ تَعَالَى، وَصِحَّة الرسَالَة، وَدلَالَة المعجزة على صدق الرَّسُول للُزُوم الدّور، لِأَن صِحَة الْإِجْمَاع متوقفة على النَّص الدَّال على عصمَة الْأمة عَن الْخَطَأ الْمَوْقُوف على ثُبُوت صدق الرَّسُول الْمَوْقُوف على دلَالَة المعجزة على صدقه الْمَوْقُوف على وجود البارئ وإرساله، فَلَو توقفت صِحَة هَذِه الْأَشْيَاء على صِحَة الْإِجْمَاع لزم الدّور وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
الْبَاب الْخَامِس
من الْأَبْوَاب الْخَمْسَة من الْمقَالة الثَّانِيَة فِي أَحْوَال الْمَوْضُوع
(الْقيَاس) خبر لمبتدأ مَحْذُوف الْمُضَاف: أَي أَحْوَال الْقيَاس من قبيل حمل الْمَدْلُول على الدَّال مجَازًا، فَإِن الْبَاب عبارَة عَن جُزْء من الْكتاب (قيل هُوَ) أَي الْقيَاس (لُغَة التَّقْدِير) وَهُوَ أَن يقْصد معرفَة قدر أحد الْأَمريْنِ بِالْآخرِ كَمَا يُقَال قسمت الثَّوْب بالذراع: أَي قدرته بِهِ (والمساواة) يُقَال فلَان لَا يُقَاس بفلان: أَي لَا يساوى بِهِ (وَالْمَجْمُوع) أَي مَجْمُوع التَّقْدِير والمساواة فَلهُ ثَلَاثَة معَان، التَّقْدِير، والمساواة فَقَط، وَالْمَجْمُوع، وَفَسرهُ بقوله (أَي يُقَال: إِذا قصدت الدّلَالَة على مَجْمُوع ثُبُوت الْمُسَاوَاة عقيب التَّقْدِير قست النَّعْل بالنعل) أَي قدرته بِهِ فساواه (وَلم يزدْ الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ كفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ والنسفي(3/263)
(على التَّقْدِير، واستعلام الْقدر) أَي طلب معرفَة مِقْدَار الشَّيْء نَحْو (قست الثَّوْب بالذراع والتسوية) بَين أَمريْن (فِي مِقْدَار) سَوَاء كَانَت حسية نَحْو (قست النَّعْل بالنعل) أَو معنوية، وَإِلَى هَذَا التَّعْمِيم أَشَارَ بقوله وَلَو معنويا (وَلَو) كَانَت أمرا (معنويا) آتى بلو الوصلية إِشَارَة إِلَى أَن إِطْلَاق التَّسْوِيَة على الحسية أولى، ثمَّ لما ذكر الْمَعْنَوِيّ أَرَادَ أَن يعرفهُ تعريفا بالمثال، فَقَالَ (أَي) يُقَال (فلَان لَا يُقَاس بفلان) بِمَعْنى (لَا يقدر) بفلان (أَي لَا يساوى) لما ذكر أَن الْأَكْثَر لم يزِيدُوا فِي تَفْسِير الْقيَاس لُغَة على مُجَرّد التَّقْدِير أَرَادَ إدراج الْمعَانِي الَّتِي تفهم من موارد اسْتِعْمَال لفظ الْقيَاس فِي اللُّغَة الْمشَار إِلَيْهَا بالتقدير والمساواة وَالْمَجْمُوع فِيمَا سبق تَحت مَفْهُومه الْكُلِّي، ففسر الْقيَاس فِي الْمِثَال بالتقدير، ثمَّ فسر التَّقْدِير بالمساواة تَنْبِيها على الِاتِّحَاد بَينهمَا وَلم يُفَسر بِمثلِهِ فِي الْمِثَال الَّذِي قبله للظهور، ثمَّ زَاد فِي التَّصْرِيح بقوله (فَردا مَفْهُومه) أَي مَفْهُوم التَّقْدِير خبر للمبتدأ، أَعنِي قَوْله استعلام الْقدر وَمَا عطف عَلَيْهِ وَهُوَ التَّسْوِيَة (فَهُوَ) أَي الْقيَاس إِذن (مُشْتَرك معنوي) فِي اللُّغَة، يَعْنِي مَوْضُوع بِإِزَاءِ معنى كلي يعم كل وَاحِد من تِلْكَ الْمعَانِي الْمَذْكُورَة، وَهُوَ الَّذِي عبر عَنهُ بالتقدير. وَمُلَخَّصه مُلَاحظَة الْمُسَاوَاة بَين شَيْئَيْنِ سَوَاء كَانَ بطرِيق الاستعلام أَو لَا (لَا) مُشْتَرك (لَفْظِي) فيهمَا فَقَط أَو فِي الْمَجْمُوع أَيْضا (وَلَا) حَقِيقَة فِي التَّقْدِير (مجَاز فِي الْمُسَاوَاة كَمَا قيل) فِي البديع التَّقْدِير يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ يُضَاف أَحدهمَا إِلَى الآخر بالمساواة فيستلزمهما، وَاسْتِعْمَال لفظ الْمَلْزُوم فِي لَازمه شَائِع: لِأَن التواطؤ مقدم على الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز إِذا أمكن وَالْحَاصِل أَن الْمَفْهُوم فِي الشَّرْح العضدي اشْترك بَين الْمعَانِي الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، ومختار المُصَنّف أَنه مُشْتَرك معنوي بَينهمَا كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام بَعضهم. (وَفِي الِاصْطِلَاح) على قَول الْجُمْهُور (مُسَاوَاة مَحل) من محَال الحكم (لآخر) أَي لمحل آخر (فِي عِلّة حكم لَهُ) أَي لذَلِك الْمحل الآخر (شَرْعِي) صفة لحكم، احْتِرَاز عَمَّا لَيْسَ بشرعي كالعلة الْعَقْلِيَّة (لَا تدْرك) تِلْكَ الْعلَّة (من نَصه) أَي ذَلِك الْمحل الآخر (بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة) بِأَن تفهم تِلْكَ الْعلَّة من النَّص كل من يفهم مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ بل يحْتَاج فهمها إِلَى تَأمل واجتهاد (فَلَا يُقَاس فِي اللُّغَة) كَأَن يعدى اسْم الْخمر إِلَى النَّبِيذ بِأَن يخال كَون المخامرة الْمُشْتَركَة بَينهمَا عِلّة فِي تَسْمِيَتهَا (وَإِطْلَاق حكمه) أَي الأَصْل بِأَن لَا يُقيد بِقَيْد شَرْعِي (يدْخلهُ) أَي الْقيَاس فِي اللُّغَة كَمَا يدْخل الْقيَاس فِي الْعقلِيّ الصّرْف لصدق مَا عداهُ من أَجزَاء التَّعْرِيف عَلَيْهِ والاقتصار على مُسَاوَاة فرع لأصل فِي عِلّة حكمه) أَي الأَصْل كَمَا فِي مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب والبديع (يفْسد طرده) أَي مانعية التَّعْرِيف لانتقاضه (بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة) كدلالة النَّهْي عَن التأفيف على النَّهْي عَن الضَّرْب، لِأَن فِيهِ مُسَاوَاة فرع هُوَ الضَّرْب لأصل هُوَ التأفيف فِي عِلّة حكم التأفيف، وَهُوَ الْحُرْمَة المعللة بالأذى (وَاسم الْقيَاس) أَي إِطْلَاقه (من(3/264)
بَعضهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (عَلَيْهِ) أَي على مَفْهُوم الْمُوَافقَة (مجَاز للُزُوم التَّقْيِيد بالجلي) أَي التزموا فِي إِطْلَاق الْقيَاس عَلَيْهِ أَن يقيدوه بالجلي فيقولوا الْقيَاس الْجَلِيّ وَهَذَا التَّقْيِيد على سَبِيل اللُّزُوم عَلامَة الْمجَاز على مَا عرف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مجَازًا (فعلي) تَقْدِير إِطْلَاقه على مَا نَحن فِيهِ وعَلى مَفْهُوم الْمُوَافقَة على سَبِيل (النواطؤ) بِأَن يكون للْقِيَاس فِي الِاصْطِلَاح مَفْهُوم عَام يشملهما (بَطل اشتراطهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (عدم كَون دَلِيل حكم الأَصْل شَامِلًا لحكم الْفَرْع) لِأَنَّهُ على تَقْدِير التواطؤ ينْدَرج فِي الْقيَاس، وَدَلِيل حكم الأَصْل فِيهِ شَامِل لحكم الْفَرْع وَلَا شكّ أَن اشْتِرَاط مَا يخرج من بعض أَفْرَاد الْمُعَرّف فِي التَّعْرِيف بَاطِل (و) بَطل (إطباقهم على تَقْسِيم دلَالَة اللَّفْظ إِلَى مَنْطُوق وَمَفْهُوم) أَي اتَّفقُوا على أَن مَدْلُول اللَّفْظ يَنْقَسِم اليهما وَلم يَخْتَلِفُوا فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وغن اخْتلفُوا فِي مَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَكَون مَفْهُوم الْمُوَافقَة من مَدْلُول اللَّفْظ منَاف لكَونه من الْقيَاس لِأَنَّهُ مُقَابل للْكتاب وَالسّنة والاجماع الَّتِي مَدْلُول اللَّفْظ شرعا عبارَة عَن مدلولها (وَلَو) كَانَ لفظ الْقيَاس مُشْتَركا (لفظيا) بَين مَا هُوَ قِيَاس اتِّفَاقًا، وَبَين مَفْهُوم الْمُوَافقَة (فالتعريف) الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ (لخُصُوص أحد المفهومين) يَعْنِي مَا يُقَابل الْمَفْهُوم وَكلمَة لَو إِشَارَة إِلَى أَن اشتراكه لَيْسَ بِمُسلم (وَأورد عَلَيْهِ) أَي على هَذَا التَّعْرِيف (الدّور) أَي استلزامه الدّور (فَإِن تعقل الأَصْل وَالْفرع فرع تعقله) أَي الْقيَاس، فَيكون تعقلهما مَوْقُوفا على تعقله، وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل هُوَ الْمَقِيس عَلَيْهِ، وَالْفرع هُوَ الْمَقِيس، وَإِذا كَانَا جزءين من تَعْرِيفه لزم أَن يتَوَقَّف تعقله على تعقلهما فَيلْزم الدّور (وَأجِيب بِأَن المُرَاد) بِالْأَصْلِ وَالْفرع (مَا صدق عَلَيْهِ) مفهومهما الْكُلِّي من أَفْرَاده. وَفِي بعض النّسخ مَا صدقا عَلَيْهِ وحاصلهما وَاحِد (وَهُوَ) أَي مَا صدق مفهومهما عَلَيْهِ (مَحل) مَنْصُوص على حكمه، وَمحل غير مَنْصُوص على حكمه، وَإِنَّمَا فسر مَا صدق عَلَيْهِ بقوله مَحل لِئَلَّا يرد أَن تَفْسِير الأَصْل بِمَا صدق عَلَيْهِ الأَصْل، وَالْفرع بِمَا صدق عَلَيْهِ الْفَرْع لَا يدْفع الدّور، لِأَن تعقل فَرد الشَّيْء من حَيْثُ هُوَ فَرده مُسْتَلْزم لتعقله، وَأما تعقله لَا من حَيْثُ أَنه فَرده، بل يعنون آخر كالمحلية مثلا لَا يستلزمه (وَهُوَ) أَي هَذَا المُرَاد (خلاف) مُقْتَضى (اللَّفْظ) لِأَن الْمُتَبَادر من إِطْلَاق الْوَصْف إِرَادَة الذَّات من حَيْثُ أَنَّهَا متصفة بِهِ، فإرادتها مُجَرّدَة عَنهُ ملحوظة بعنوان آخر خلاف مُقْتَضَاهُ (وَقُلْنَا) فِي الْجَواب عَن الدّور إِن كل وَاحِد من الأَصْل وَالْفرع (ركن) فِي الْقيَاس وركن الشَّيْء يذكر فِي تَعْرِيفه، وَلَا يتَوَقَّف تعقل الرُّكْن على تعقله، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ. وَلَا نسلم أَن يُلَاحظ الأَصْل وَالْفرع فِي التَّعْرِيف بعنوان الْمَقِيس عَلَيْهِ والمقيس وَإِن كَانَا فِي نفس الْأَمر مصداقين لَهما. وَفِي بعض النّسخ فليذكره بعد قَوْله ركن: أَي فليذكر صَاحب التَّعْرِيف الرُّكْن(3/265)
ويكفيه أَن يُلَاحظ الأَصْل بِاعْتِبَار أصالته من حَيْثُ ثُبُوت الحكم نصا، وَالْفرع بِاعْتِبَار كَونه مُلْحقًا بذلك الأَصْل من حَيْثُ الحكم (ويستغنى) بِمَا قُلْنَا (عَن الدُّف) الْمَذْكُور (المنظور) فِيهِ بِمَا ذكر من خلاف اللَّفْظ (ثمَّ إِن عمم) التَّعْرِيف تعميما يحققه (فِي) الْقيَاس (الْفَاسِد) كتحققه فِي الصَّحِيح (زيد) لتَحْصِيل هَذَا التَّعْمِيم (فِي نظر الْمُجْتَهد) الْجَار وَالْمَجْرُور فِي مَحل الرّفْع بقوله زيد: أَي زيد هَذَا اللَّفْظ (لتبادر) الْمُسَاوَاة (الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر من) لفظ (الْمُسَاوَاة) إِن لم يزدْ، لِأَن الْمُتَبَادر من النّسَب إِذا أطلقت أَن تكون بِحَسب نفس الْأَمر وَكَونهَا بِحَسب نظر الْعقل خلاف الْمُتَبَادر (وَعنهُ) أَي عَن تبادرها عِنْد الْإِطْلَاق (لزم المصوبة) أَي الْقَائِلين بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب (زيادتها) أَي زِيَادَة الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة أُرِيد بالمضاف الْمَعْنى المصدري، وبالمضاف إِلَيْهِ معنى الْمَفْعُول (لِأَنَّهَا) أَي الْمُسَاوَاة عِنْدهم (لما لم تكن إِلَّا) الْمُسَاوَاة (فِي نظره) أَي الْمُجْتَهد، إِذْ كل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَهُوَ عين حكم الله تَعَالَى عِنْدهم وَلَيْسَ لله تَعَالَى فِي كل حَادِثَة حكم معِين فِي نفس الْأَمر تَارَة يُوَافقهُ مَا فِي نظر الْمُجْتَهد، وَتارَة لَا يُوَافقهُ (كَانَ الْإِطْلَاق) للمساواة عَن الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة (كقيد مخرج للأفراد) أَي أَفْرَاد الْمُعَرّف كلهَا (إِذْ يُفِيد) الْإِطْلَاق (التَّقْيِيد) أَي تَقْيِيد الْمُسَاوَاة (بِنَفس الْأَمر وَافق نظره) أَي نظر الْمُجْتَهد (أَولا) يُوَافق وَلَا شَيْء من أَفْرَاد الْقيَاس بِحَيْثُ يصدق عَلَيْهِ أَنه مُسَاوَاة فِي نفس الْأَمر مَعَ قطع النّظر عَن نظر الْمُجْتَهد لما عرفت، وَإِنَّمَا قَالَ كقيد لِأَنَّهُ فِي نفس الْأَمر لَيْسَ بمخرج بل يتَوَهَّم أَن يكون مخرجا لِأَن نفس الْأَمر فِي الْمسَائِل الاجتهادية عِنْدهم عبارَة عَمَّا هُوَ فِي نظر الْمُجْتَهد فَيصدق على كل فَرد أَنه فِي نفس الْأَمر مُسَاوَاة (وَمن نفي كَونه) أَي الْقيَاس (فعل مُجْتَهد بِاخْتِيَار الْمُسَاوَاة) فِي تَعْرِيفه فَإِنَّهَا صفة إضافية قَائِمَة بالمنتسبين الْفَرْع وَالْأَصْل (فَأبْطل التَّعْرِيف ببذل الْجهد الخ) مُتَعَلق بأبطل: أَي فِي اسْتِخْرَاج الْحق على مَا نقل عَن بَعضهم (بِأَنَّهُ) أَي بذل الْمُجْتَهد (حَال القائس) لَا الْقيَاس (مَعَ أعميته) فَإِنَّهُ مُتَحَقق فِي استنباط كل حكم من الْأَحْكَام سَوَاء كَانَ بطرِيق الْقيَاس أَو بِدلَالَة النُّصُوص إِلَى غير ذَلِك، والتعريف بالأعم لَا يُفِيد الْعلم بالمعرف. (ثمَّ اخْتَار فِي) مقَام (قصد التَّعْمِيم) فِي التَّعْرِيف على وَجه يعم الصَّحِيح وَالْفَاسِد قَوْله (تَشْبِيه) فرع بِأَصْل بدل الْمُسَاوَاة، فَقَالَ هُوَ تَشْبِيه فرع بِالْأَصْلِ فِي عِلّة حكمه، لِأَنَّهُ قد يكون مطابقا لحُصُول الشّبَه، وَقد لَا يكون لعدمه، وَقد يكون الْمُشبه يرى ذَلِك وَقد لَا يرَاهُ على مَا ذكر فِي الشَّرْح العضدي (نَاقض) نَفسه، فَإِن التَّشْبِيه أَيْضا فعل الْمُجْتَهد كَمَا أَن بذل الْمُجْتَهد فعله (وَدفعه) أَي التَّنَاقُض (بِأَن المُرَاد تَشْبِيه الشَّارِع) لَا تَشْبِيه الْمُجْتَهد حَتَّى يكون فعله وَهُوَ ببذل جهده لمعْرِفَة تَشْبِيه الشَّارِع فَإِن وَافق أصَاب وَإِلَّا أَخطَأ (قد يدْفع) هَذَا(3/266)
الدّفع (بِأَن شَرعه تَعَالَى) الحكم (فِي كل الْمحَال) وَاقع (ابْتِدَاء) فَيلْزم أَن يكون دفْعَة وَاحِدَة، وَإِلَّا لم يكن الِابْتِدَاء فِي الْكل فَلم يبْق احْتِمَال تقدم الأَصْل على الْفَرْع ثمَّ إِلْحَاقه بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا بِنَاء على التَّشْبِيه) بِأَن أثبت الحكم فِي مَحل ابْتِدَاء ثمَّ أثبت فِي مَحل آخر لشبهه بِالْأولِ فِي المناط (وَإِن وَقع) التشريع الدفعي فِي حق الْمحل الأول مَقْرُونا (بذلك الشّبَه) فِي نفس الْأَمر لكنه لَا مدْخل لَهُ فِي تشريع الحكم فِي الْفَرْع، لِأَن الْكل ابتدائي (وَأكْثر عباراتهم تفِيد) كَون الْقيَاس (فعله) أَي فعل الْمُجْتَهد (فَمَا أمكن رده) من تِلْكَ الْعبارَات بِضَرْب من التَّأْوِيل (إِلَى فعله) تَعَالَى على وَجه يسوغ مثله فِي الاستعمالات (فَهُوَ) أَي فَذَلِك الرَّد (مخلص) لذَلِك التَّعْرِيف من عدم الصِّحَّة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى كَمَا فِي بعض تِلْكَ الْعبارَات (لم يَصح) ذَلِك التَّعْرِيف الَّذِي لم يُمكن فِيهِ الرَّد الْمَذْكُور (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس (دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا كالنص) أَي كَمَا أَن النَّص من الْكتاب وَالسّنة دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا لَا، وَمَا كَانَ وجوده أمرا مفروغا عَنهُ بِنصب الشَّارِع بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِيهِ وجود الْمُجْتَهد وَعَدَمه لم يكن فعلا للمجتهد وَهُوَ ظَاهر. فقد استبان لَك مِمَّا ذكرنَا أَن مَا قيل من أَنه لَا يلْزم من مُجَرّد هَذَا أَن لَا يكون فعلا للمجتهد وَهُوَ ظَاهر بِدَلِيل أَن الْإِجْمَاع دَلِيل نَصبه الشَّارِع مَعَ أَنه فعل الْمُجْتَهدين لجَوَاز أَن يَجْعَل الشَّارِع فعل الْمُكَلف مناطا لحكم شَرْعِي كَلَام سَاقِط، على أَن كَون الْإِجْمَاع فعل الْمُجْتَهدين غير مُسلم، إِذْ الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة إِنَّمَا هُوَ تِلْكَ الْهَيْئَة الاجتماعية الْحَاصِلَة من آرائهم، وَكَون كل وَاحِد من تِلْكَ الآراء فعل الْمُكَلف مَحل بحث لكَونه من مقولة الكيف، وَإِن كَانَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ وَهُوَ الِاجْتِهَاد فعله كَمَا سَيَأْتِي فضلا عَن تِلْكَ الْهَيْئَة اللَّازِمَة لِاجْتِمَاعِهِمْ على وَجه الِاسْتِيعَاب (فَمن الثَّانِي) أَي مِمَّا لَا يُمكن رده إِلَى كَونه فعل الله تَعَالَى (تَعديَة الحكم من الأَصْل الخ) أَي إِلَى الْفَرْع بعلة متحدة لَا تدْرك بِمُجَرَّد اللُّغَة (لصدر الشَّرِيعَة) فَإِنَّهُ لَا يُوصف بِكَوْنِهِ معديا حكم أصل إِلَى فرع فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن يكون عبارَة عَن جعله تَعَالَى حكم الأَصْل مَقْرُونا بعلة تصلح لِأَن تكون سَببا تقدمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد قُلْنَا يأباه مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله. (ثمَّ فَسرهَا) أَي صدر الشَّرِيعَة مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره عرفه بهَا. ثمَّ فَسرهَا (بِإِثْبَات حكم مثل) حكم (الأَصْل) فِي الْفَرْع فَإِنَّهُ تَصْرِيح بحدوث حكم الْفَرْع بعد حكم الأَصْل بطرِيق التَّعْدِيَة والإلحاق، (وَأورد) على هَذَا التَّعْرِيف (مَا سَنذكرُهُ) قَرِيبا فِي حكم الْقيَاس (فَأفَاد أَنَّهَا) أَي التَّعْدِيَة (فعل مُجْتَهد وَلَيْسَت) التَّعْدِيَة (بِهِ) أَي بِفعل الْمُجْتَهد، وَهَذِه الْعبارَة تدل على وجود التَّعْدِيَة غير أَنَّهَا لَيست بِفِعْلِهِ بل هِيَ فعل الشَّارِع إِذْ لَا ثَالِث يكون فعلا لَهُ، وَقد عرفت شرع الحكم فِي كل الْمحَال ابْتِدَاء. فاحتيج إِلَى تَأْوِيل، وَمَا ذكرنَا(3/267)
آنِفا يصلح لِأَن يكون تَأْوِيله، وسيشير إِلَى تَأْوِيل، ثمَّ بَين عدم كَونهَا فعل الْمُجْتَهد بقوله (إِذْ لَا فعل لَهُ) أَي للمجتهد فِي ذَلِك (سوى النّظر فِي دَلِيل الْعلَّة) بِعَدَمِ مُلَاحظَة كَون الأَصْل مُعَللا (و) سوى النّظر فِي (وجودهَا) أَي الْعلَّة فِي الْفَرْع (ثمَّ يلْزمه) أَي النّظر فِي دَلِيل الْعلَّة ووجودها فِي الْفَرْع إِذا أدّى إِلَيْهَا وَإِلَى وجودهَا (ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع بخلقه تَعَالَى) إِيَّاه مُتَعَلق باللزوم (عَادَة) أَي لُزُوما عاديا لَا عقليا بِحَيْثُ يَسْتَحِيل عدم حُصُوله (فَلَيْسَتْ التَّعْدِيَة سواهُ) أَي سوى ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع، وَالظَّن كَيفَ، وَلَيْسَ بِفعل (وَهُوَ) أَي الظَّن الْمَذْكُور (ثَمَرَة الْقيَاس لَا نفس الْقيَاس) وَهَذَا يدل على أَن الْقيَاس هُوَ النّظر الْمَذْكُور، وَقد صرح فِيمَا قبل أَن الْقيَاس دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا، فبينهما تدافع، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن النّظر الْمُؤَدِّي إِلَى تعْيين الْعلَّة ووجودها فِي الْفَرْع نتيجة نصب الشَّارِع، وَالظَّن الْمَذْكُور نتيجة النّظر الْمَذْكُور ونتيجة نتيجة الشَّيْء نتيجة لذَلِك الشَّيْء فَتَأمل (وَمثله) أَي مثل تَعْرِيف صدر الشَّرِيعَة فِي عدم إِمْكَان الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى (قَول القَاضِي أبي بكر: حمل مَعْلُوم على مَعْلُوم فِي إِثْبَات حكم لَهما الخ) أَي أَو نَفْيه عَنْهُمَا بِأَمْر جَامع بَينهمَا من إِثْبَات حكم أَو صفة أَو نفيهما، إِنَّمَا قَالَ مَعْلُوم على مَعْلُوم دون شَيْء على شَيْء ليشْمل الْمَعْدُوم والمستحيل أَيْضا، وعمم الحكم ليتناول الوجودي نَحْو قتل عمد عدوان، فَيجب الْقصاص كَمَا فِي الْمَحْدُود، والعدمي نَحْو قَتِيل تمكن فِيهِ الشُّبْهَة فَلَا يُوجب الْقصاص كالعصا الصَّغِيرَة، وَفصل فِي الْجَامِع ليعم الحكم الشَّرْعِيّ نَحْو العدوانية، وَالْوَصْف الْعقل نَحْو العمدية، ونفيهما كَمَا يُقَال فِي الْخَطَأ لَيْسَ بعمد وَلَا عدوان: فَلَا يجب الْقصاص كَمَا فِي الصَّبِي، (وَفِيه زِيَادَة إِشْعَار بِأَن حكم الأَصْل) أَيْضا (بِالْقِيَاسِ) يَعْنِي شَارك صدر الشَّرِيعَة فِي عدم إِمْكَان الرَّد لِأَن الْحمل الْمَذْكُور هُوَ التَّعْدِيَة الْمَذْكُورَة فِي الْمَآل، وَزَاد عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِشْعَار (وَأجِيب بِأَن الْمَعْنى) أَي معنى إِثْبَات حكم لَهما أَنه (كَانَ حكم الأَصْل) قبل الْقيَاس هُوَ (الظَّاهِر فَظهر) أَن الْقيَاس (فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع جَمِيعًا وَالْحَاصِل أَن ثُبُوت الحكم فيهمَا بِحَسب نفس الْأَمر مُتَحَقق قبل الْقيَاس، وَأما ظُهُوره عِنْد الْمُكَلّفين فَفِي الأَصْل مُتَحَقق قبل الْقيَاس، أَعنِي النّظر وَالِاجْتِهَاد، وَفِي الْفَرْع يتَحَقَّق بعده، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِإِظْهَار الْقيَاس إِيَّاه) أَي حكم الأَصْل (فِي الْفَرْع) وَإِضَافَة الْإِظْهَار إِلَى الْقيَاس مجازية من قبيل إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى السَّبَب. (وَمن الأول) أَي مِمَّا يُمكن رده إِلَى فعله تَعَالَى (تَقْدِير الْفَرْع بِالْأَصْلِ فِي الحكم وَالْعلَّة فَإنَّك علمت أَن التَّقْدِير يُقَال) أَي يُطلق لُغَة (على التَّسْوِيَة فَرجع) التَّقْدِير الْمَذْكُور (إِلَى تسويته تَعَالَى محلا بآخر) أَي بِمحل آخر (على مَا ذكر) آنِفا من (أَنَّهُمَا) أَي المحلين (المُرَاد بهما) أَي بالفرع وَالْأَصْل (وَيقرب مِنْهُ) أَي من هَذَا التَّعْرِيف(3/268)
فِي إِمْكَان الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى (قَول أبي مَنْصُور) الماتريدي (إبانة مثل حكم أحد الْمَذْكُورين بِمثل علته فِي الآخر) فَالْمُرَاد بالمذكورين الأَصْل وَالْفرع، ومذكورية الأَصْل ظَاهر لكَونه مَنْصُوصا عَلَيْهِ من حَيْثُ الحكم، وَأما مذكورية الْفَرْع فباعتبار أَن ذكر الأَصْل مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِحكم مُعَلل بعلة مَوْجُودَة فِي الْفَرْع يسْتَلْزم ذكر الْفَرْع ضمنا بِأحد الْمَذْكُورين الأَصْل وَالْآخر الْفَرْع. وَإِنَّمَا قَالَ بِمثل علته لِأَن الْعلَّة الْمَوْجُودَة فِي الْفَرْع لَيست عين الْعلَّة الْمَوْجُودَة فِي الأَصْل لكَون كل مِنْهُمَا عرضا شخصيا قَائِما بمحله الشخصي كَمَا أَن حكم كل وَاحِد مِنْهُمَا كَذَلِك (فتصحيحه) أَي التَّعْرِيف الْمَذْكُور (بإبانة الشَّارِع) أَي بِحمْل الْإِبَانَة على إبانة الشَّارِع لَا على إبانة الْمُجْتَهد، وَهَذَا التَّوْجِيه وَقع (بِخِلَاف قَوْلهم) أَي جمع من الْحَنَفِيَّة (أَنه) أَي اخْتِيَار الْإِبَانَة (لإِفَادَة أَن الْقيَاس مظهر للْحكم لَا مُثبت) لَهُ (بل الْمُثبت هُوَ الله سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى ثمَّ أَشَارَ إِلَى رد مَا قَالُوا بقوله (لِأَن) الْأَدِلَّة (السمعية) من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع (حِينَئِذٍ) أَي حِين لوحظ هَذَا الْمَعْنى (كلهَا كَذَلِك) أَي مظهرة للْحكم فِي الْحَقِيقَة لَا مثبتة لَهُ لأئها (إِنَّمَا تظهر الثَّابِت من حكمه) تَعَالَى (وَهُوَ) أَي حكمه أَو الثَّابِت من حكمه الْخطاب (النَّفْسِيّ) لكَونه مندرجا فِي كَلَامه النَّفْسِيّ. (ثمَّ) يرد (عَلَيْهِ) أَي على تَعْرِيف الماتريدي (أَن إبانته) أَي الْمُجْتَهد على مَا هُوَ الظَّاهِر، أَو الشَّارِع على التَّصْحِيح (الحكم) مفعول إبانته (لَيْسَ نفس الدَّلِيل) الَّذِي هُوَ الْقيَاس، وَلَا بُد من صِحَة الْحمل بَين الْمُعَرّف والمعرف (بل) ذَلِك أَمر (مُرَتّب على النّظر الصَّحِيح فِيهِ) أَي فِي الدَّلِيل عَادَة، وكلامنا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْرِيف نفس الدَّلِيل الَّذِي هُوَ الْقيَاس (وَيجب حذف مثل فِي) قَوْله (مثل حكم) أحد الْمَذْكُورين (لِأَن حكم الْفَرْع هُوَ حكم الأَصْل) فَإِن حكم الْخمر والنبيذ مثلا شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْحُرْمَة، وخصوصية الْمحل غير مَنْظُور فِي كَونهَا حكما (غير أَنه نَص عَلَيْهِ فِي مَحل) وَهُوَ الأَصْل (وَالْقِيَاس يُفِيد أَنه) أَي الحكم ثَابت (فِي غَيره) أَي فِي غير ذَلِك الْمحل وَهُوَ الْفَرْع (أَيْضا) نقل عَن المُصَنّف هَهُنَا، يَعْنِي أَن حكم كل من الأَصْل وَالْفرع وَاحِد لَهُ إضافتان إِلَى الأَصْل بِاعْتِبَار تعلقه بِهِ، وَإِلَى الْفَرْع كَذَلِك فَلَا يَتَعَدَّد فِي ذَاته بِتَعَدُّد الْمحل، بل هُوَ وَاحِد لَهُ تعلق بكثيرين كَمَا أَن الْقُدْرَة شَيْء وَاحِد مُتَعَلق بالمقدورات (وَكَذَا) يجب حذف (مثل فِي بِمثل علته) فَإِن الْعلَّة المثيرة للْحكم فِي الأَصْل بِعَينهَا المثيرة لَهُ فِي الْفَرْع (ومبنى هَذَا الْوَهم) وَهُوَ أَنه لَا بُد من ذكر مثل فِي كلا هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ على كثير (حَتَّى قَالَ مُحَقّق) وَهُوَ القَاضِي شَارِح الْمُخْتَصر (لَا بُد أَن يعلم عِلّة الحكم فِي الأَصْل، وَثُبُوت مثلهَا فِي الْفَرْع، إِذْ ثُبُوت عينهَا) فِي الْفَرْع (لَا يتَصَوَّر لِأَن الْمَعْنى) المتحقق (الشخصي لَا يقوم بمحلين، وَبِذَلِك) أَي بِالْعلمِ بعلة الحكم فِي الأَصْل(3/269)
وَثُبُوت مثلهَا فِي الْفَرْع (يحصل ظن مثل الحكم فِي الْفَرْع، وَبَيَان وهمهم أَن الحكم وَهُوَ الْخطاب النَّفْسِيّ جزئي حَقِيقِيّ لِأَنَّهُ) أَي الْخطاب النَّفْسِيّ (وصف مُتَحَقق فِي الْخَارِج قَائِم بِهِ تَعَالَى فَهُوَ وَاحِد لَهُ متعلقات كَثِيرَة) شارة إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ أهل الْحق من أَنه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام قديم وَاحِد بالشخص قَائِم بِذَاتِهِ لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت هُوَ بِهِ طَالب بِهِ مخبر، فَالْكَلَام النَّفْسِيّ من حَيْثُ إِضَافَته إِلَى فعل العَبْد من حَيْثُ الطّلب اقْتِضَاء، أَو تَخْيِير، وَمن حَيْثُ أَنه حكم بتعلق شَيْء بِشَيْء كالسببية والشرطية إِلَى غير ذَلِك يُسمى خطابا نفسيا، وَهَذِه إِضَافَة على وَجه الْعُمُوم ينْدَرج تَحْتَهُ أَنْوَاع وأصناف وأشخاص من الْإِضَافَة، فالتعلقات الْكَثِيرَة عبارَة عَن تِلْكَ الإضافات (وَمَا ذكر) من أَن الْمَعْنى الشخصي لَا يقوم بمحلين (إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَة قيام الْعرض الشخصي بِالْمحل كالبياض الشخصي الْقَائِم بِالثَّوْبِ الشخصي يمْتَنع أَن يقوم) هَذَا الْبيَاض الشخصي الْمَذْكُور حَال كَونه متلبسا (بِعَيْنِه) أَي بتعينه الشخصي (بِغَيْرِهِ) صلَة للْقِيَام، أَي بِغَيْر ذَلِك الثَّوْب الشخصي الْمَذْكُور، وصفات الله تَعَالَى لَيست من مقولة الْعرض وَلَا يُقَاس بهَا، على أَنه لَو سلم كَونهَا مثل الْأَعْرَاض فِي اسْتِحَالَة قِيَامهَا بمحلين لَا ينفع الواهم الْمَذْكُور، لِأَن الْخطاب الْمَذْكُور لَا يقوم إِلَّا بِذَاتِهِ المقدسة، غَايَة الْأَمر أَن لَهُ تعلقات وإضافات بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهَا لَا أَنه قَائِم بِالْغَيْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والكائن هُنَا) أَي فِي الْخطاب النَّفْسِيّ الْمُتَعَلّق بالمحال المتعددة إِنَّمَا هُوَ (مُجَرّد إضافات مُتعَدِّدَة لوَاحِد شخصي) هُوَ الْخطاب النَّفْسِيّ (وَكَذَلِكَ لَا يمنعهُ الشخصية) أَي مثل هَذَا الْقدر وَهُوَ أَن يكون بِاعْتِبَار الإضافات لَا يمنعهُ شخصية الْمَعْنى الْقَائِم بالشخص (فالتحريم الْمُضَاف إِلَى الْخمر بِعَيْنِه لَهُ إِضَافَة أُخْرَى إِلَى النَّبِيذ وَمثله مِمَّا لَا يُحْصى) من الْمعَانِي الشخصية المتكثرة بِاعْتِبَار التعلقات (كالقدرة الْوَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المقدورات لَيست) الْقُدْرَة (قَائِمَة بهَا) أَي بالمقدورات (بل) قَائِمَة (بِهِ تَعَالَى، وَلها إِلَى كل مَقْدُور إِضَافَة يَعْتَبِرهَا الْعقل، وَكَذَا الْوَصْف) الَّذِي هُوَ عِلّة الحكم فِي الأَصْل وَالْفرع وَاحِد وَلَا يلْزم مِنْهُ قيام شخص بمحلين (إِذْ لَيْسَ) الْوَصْف (المنوط بِهِ) الحكم (الْوَصْف الجزئي، بل) هُوَ الْوَصْف (الْكُلِّي، وَهُوَ) أَي ذَلِك الْكُلِّي (بِعَيْنِه ثَابت فِي الْمحَال) الأَصْل وَالْفرع بِاعْتِبَار أَفْرَاد كل مِنْهُمَا، فَإِن الْخمر مثلا مَفْهُوم تحتهَا جزئيات لَا تحصى، وَكَذَا النَّبِيذ (فمناط حُرْمَة الْخمر الْإِسْكَار مُطلقًا لَا إسكار الْخمر، وَلِأَنَّهُ) أَي إسكار الْخمر مَعْطُوف على الْمَعْنى: أَي لما ذكرنَا أَن المنوط بِهِ كلي ثَابت بِعَيْنِه فِي الْمحَال، وَلِأَنَّهُ (قَاصِر عَلَيْهِ) أَي على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْخمر (فتمتنع التَّعْدِيَة) لكَونه قاصرا على الأَصْل كَمَا سَيَأْتِي (وَهَذَا) أَي كَون المناط فِي حُرْمَة الْخمر كليا (لِأَنَّهُ) أَي المناط إِنَّمَا هُوَ الْأَمر (الْمُشْتَمل على الْمَفَاسِد واشتماله) عَلَيْهَا (لَيْسَ بِقَيْد كَونه إسكار كَذَا)(3/270)
أَي الْخمر مثلا (بل) بِاعْتِبَار أَنه (إسكار) مُطلق (وَهُوَ) أَي الْإِسْكَار الْمُطلق (بِعَيْنِه ثَابت فِي الْمحَال) كلهَا (وعَلى هَذَا كَلَام النَّاس) فِيهِ تَعْرِيض بِأَن مَا ابتدعه هَؤُلَاءِ خلاف كَلَام النَّاس (وَإِنَّمَا يحصل من العلمين) أَي الْعلم بعلة الحكم فِي الأَصْل وَالْعلم بثبوتها فِي الْفَرْع (ظن) للْحكم فِي الْفَرْع لَا قطع (لجَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا) للْحكم فِيهِ (و) كَون خُصُوص (الْفَرْع مَانِعا) مِنْهُ، وَلَا يخفى أَن هذَيْن الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يُنَافِي وَاحِد مِنْهُمَا الْعلم بعلية الْوَصْف، إِذْ لَيْسَ المُرَاد من الْعلم بعليته الْقطع بِكَوْنِهِ عِلّة تَامَّة بِحَيْثُ لَا يحْتَاج فِي إِثْبَات الحكم إِلَى شَرط. وَدفع مَانع، على أَن الظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْعلمِ مُطلق التَّصْدِيق فَيشْمَل الظَّن (وَأورد على عكس التَّعْرِيف) الْمَذْكُور وَهُوَ مُسَاوَاة مَحل لآخر فِي عِلّة حكم شَرْعِي إِلَى آخِره (أَمْرَانِ: الأول قِيَاس الْعَكْس) وَهُوَ إِثْبَات نقيض حكم الشَّيْء فِي شَيْء آخر بنقيض علته فَإِنَّهُ قِيَاس، وَلَا يصدق عَلَيْهِ التَّعْرِيف لعدم الْمُسَاوَاة فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع فِي الحكم وَالْعلَّة وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِنَّهُ) أَي قِيَاس الْعَكْس (مُثبت لنقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع كَقَوْل حَنَفِيّ) لإِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب كَمَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة، أَو فِي مطلقه كَمَا فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة (لما وَجب الصَّوْم شرطا للاعتكاف بنذره) أَي الصَّوْم مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول مثلا: نذرت الِاعْتِكَاف صَائِما (وَجب) الصَّوْم للاعتكاف (بِلَا) شَرط (نذر) للصَّوْم مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف من غير ذكر الصَّوْم إِن كَانَ الْمُدعى إِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب، أَو بِأَن يعْتَكف من غير نذر إِن كَانَ الْمُدعى إِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي مطلقه (كَالصَّلَاةِ لما لم تجب شرطا لَهُ) أَي الِاعْتِكَاف (بِالنذرِ) أَي بِنذر الصَّلَاة مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف مُصَليا من غير ذكر الصَّلَاة أَو يعْتَكف من غير نذر (لم تجب بِغَيْر نذر) للصَّلَاة مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف، ثمَّ أَرَادَ أَن يبين الأَصْل وَالْفرع وَالْعلَّة وَالْحكم فِي الْقيَاس الْمَذْكُور، فَقَالَ (ومضمون الشَّرْط) يَعْنِي وجوب الصَّوْم شرطا للاعتكاف بنذره على مَا سبق وَعدم وجوب الصَّلَاة شرطا للاعتكاف بِالنذرِ (فِي الأَصْل الصَّلَاة) عطف بَيَان للْأَصْل (وَالْفرع) عطف على الأَصْل: أَي ومضمون الشَّرْط فِي الْفَرْع (الصَّوْم) عطف بَيَان وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مَضْمُون الشَّرْط عبارَة عَن المضمونين المتخالفين مُتَحَقق فِي كل من الأَصْل وَالْفرع وَاحِد مِنْهُمَا (عِلّة) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي مَضْمُون الشَّرْط (لمضمون الْجَزَاء) يَعْنِي وجوب الصَّوْم بِلَا نذر، وَعدم وجوب الصَّلَاة بِغَيْر نذر والتوزيع هَهُنَا كالتوزيع فِي مَضْمُون الشَّرْط (فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع، فقد عرفت أَن حكم الأَصْل يُخَالف حكم الْفَرْع وَأَن عِلّة الحكم فِي الأَصْل تخَالف عِلّة الحكم فِي الْفَرْع، وَعرفت أَن قَول المُصَنّف مُثبت لنقيض حكم(3/271)
الأَصْل فِيهِ مُسَامَحَة لِأَن وجوب الصَّوْم بِلَا نذر لَيْسَ بنقيض عدم وجوب الصَّلَاة بِلَا نذر لعدم اتِّحَاد النِّسْبَة (أُجِيب بِأَن الِاسْم) أَي اسْم الْقيَاس (فِيهِ) أَي فِي قِيَاس الْعَكْس (مجَاز وَلذَا) أَي ولكونه مجَازًا (لزم تَقْيِيده) أَي تَقْيِيد الِاسْم الْمَذْكُور عِنْد إِطْلَاق علته بِقَيْد الْعَكْس: فَيُقَال قِيَاس الْعَكْس، وَلَا يُطلق الْقيَاس وَيُرَاد بِهِ، وَهَذَا عَلامَة كَونه مجَازًا فِيهِ (أَو) الِاسْم فِيهِ (حَقِيقَة و) لَا نسلم عدم صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ لانْتِفَاء (الْمُسَاوَاة) بل الْمُسَاوَاة فِيهِ (حَاصِلَة ضمنا) وَبَيَان ذَلِك من وَجْهَيْن. أَحدهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لِأَن المُرَاد) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور مثلا (مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف بِلَا نذر الصَّوْم) وَهُوَ الْفَرْع (لَهُ) أَي للاعتكاف المتلبس (بنذره) أَي الصَّوْم وَهُوَ فِي الأَصْل (فِي حكم هُوَ) أَي فِي ذَلِك الحكم (اشْتِرَاط الصَّوْم) فعلى هَذَا التَّقْدِير الْفَرْع وَالْأَصْل وَالْحكم وَالْعلَّة غير مَا ذكر أَولا من أَن الْفَرْع هُوَ الصَّوْم، وَالْأَصْل هُوَ الصَّلَاة، وَالشّرط وَالْعلَّة هُوَ مَضْمُون الشَّرْط، وَالْحكم مَضْمُون الْجَزَاء، وَسَيَجِيءُ أَن الْعلَّة فِي هَذَا التَّقْدِير الِاعْتِكَاف (بِمَعْنى) أَنه (لَا فَارق) بَين الاعتكافين فرقا يَقْتَضِي اخْتِلَافهمَا فِي حكم اشْتِرَاط الصَّوْم الْجَارِي فِي قَوْله بِمَعْنى إِمَّا مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة لمصدر مَنْصُوب بِلَفْظ المُرَاد أَي إِرَادَة متلبسة بِهَذَا الْمَعْنى أَو بمساواة، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة فَإِنَّهُ سَبَب للْحكم بعلية الِاعْتِكَاف الْمُوجبَة للمساواة وَحَاصِله إِلْغَاء الْفَارِق وَهُوَ النّذر لِاسْتِوَاء وجوده وَعَدَمه كَمَا فِي الصَّلَاة فَمَا يبْقى مَا يصلح للعلية فِي الأَصْل سوى الِاعْتِكَاف، وَهَذَا يُسمى تَنْقِيح المناط كَمَا سَيَأْتِي (أَو بالسبر) بِالْمُوَحَّدَةِ عطف على قَوْله بِمَعْنى، وَهُوَ على مَا سَيَأْتِي حصر الْأَوْصَاف ثمَّ حذف بَعْضهَا فَيتَعَيَّن الْبَاقِي، وَيَكْفِي عِنْد مَنعه بحثت فَلم أجد غَيرهَا، وَالْأَصْل الْعَدَم (عِنْد قَائِله) أَي الَّذِي يقبل إِثْبَات الْعلَّة بمسلك السبر ظرف للإرادة الْمَذْكُورَة بِاعْتِبَار تلبسها بالسبر أَو للمساواة (مِنْهُم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (أَي) تَفْسِير للسبر فِي الْمِثَال الْمَذْكُور (هِيَ) أَي الْعلَّة لوُجُوب الصَّوْم هِيَ صُورَة النّذر، و (أما الِاعْتِكَاف، أَو هُوَ) أَي الِاعْتِكَاف (بِنذر الصَّوْم أَو غَيرهمَا) أَي غير الِاعْتِكَاف الْمُجَرّد والمقترن بِالنذرِ (وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم غَيرهمَا، وَلَا يعدل عَن الأَصْل بِغَيْر مُوجب (وَالنّذر ملغي) من حَيْثُ كَونه (فارقا) بَين الاعتكافين فِي وجوب الصَّوْم وَعَدَمه (أَو وَصفا للسبر) مَعْطُوف على قَوْله فارقا لما ذكر فِي إِثْبَات وجوب الصَّوْم بعلة الِاعْتِكَاف مسلكين: أَحدهمَا تَحْقِيق المناط الْمشَار إِلَيْهِ بقوله لَا فَارق، وَالثَّانِي السبر الْمُفَسّر بِمَا ذكرُوا احْتَاجَ فِي كل مِنْهُمَا إِلَى إِلْغَاء خُصُوصِيَّة النّذر ذكر على سَبِيل اللف والنشر والالغاء من حَيْثُ كَونه وَصفا للسبر، وَمعنى إِلْغَاء النّذر وَصفا للسبر أَنه لَا يصلح لِأَن يكون وَصفا مؤثرا فِي علته مَا يبْقى من أَوْصَاف السبر بعد حذف مَا سواهُ (بِالصَّلَاةِ) مُتَعَلق بملغي: أَي بِسَبَب عدم(3/272)
وجوب الصَّلَاة بنذرها مَعَ الِاعْتِكَاف فَلَو كَانَ للنذر تَأْثِير فِي وجوب مَا اقْترن بالاعتكاف عِنْد انْعِقَاده لَوَجَبَتْ الصَّلَاة المقترنة بالاعتكاف مُصَليا (فَهِيَ) أَي الْعلَّة (الِاعْتِكَاف) فَقَط، فَعلم أَن الصَّلَاة لم تذكر للْقِيَاس عَلَيْهَا بل لبَيَان إِلْغَاء مَا يتَوَهَّم كَونه فارقا وَالْوَجْه الثَّانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو الصَّوْم) بالْخبر عطفا على الِاعْتِكَاف فِي قَوْله مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف: أَي وَلِأَن المُرَاد مُسَاوَاة الصَّوْم (مَعَ نَذره) أَي مَعَ نذر الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف فَهُوَ الْفَرْع (بِالصَّلَاةِ) المتلبسة أَو (بِالنذرِ) فِي الِاعْتِكَاف، فَهِيَ الأَصْل (فِي حكم هُوَ عدم إِيجَاب النّذر) قرن بالاعتكاف من الصَّوْم أَو الصَّلَاة فَإِنَّهُمَا متساويان فِي عدم إِيجَاب النّذر إِيَّاه وَإِن اخْتلفَا فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، وَلم يذكر الْعلَّة لعدم إِيجَابه فِي الصَّلَاة ولعلها كَونهَا عبَادَة مَقْصُودَة لذاتها فَلَا تجب شرطا لما هُوَ مثلهَا بل دونهَا (وَهُوَ) أَي الحكم المفاد للْقِيَاس على هَذَا التَّقْدِير (ملزوم الْمَطْلُوب) لَا عينه (وَهُوَ) أَي الْمَطْلُوب (أَن وُجُوبه) أَي الصَّوْم (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر النّذر وَغَيره مِمَّا يصلح عِلّة لوُجُوب الصَّوْم منحصر فِي الِاعْتِكَاف لما عرفت وَالِاعْتِكَاف مَوْجُود فِي اعْتِكَاف لم ينذر فِيهِ الصَّوْم فَيجب الصَّوْم فِيهِ لوُجُود الْعلَّة، فقد علم بذلك أَن الْقيَاس تَارَة لَا ينْتج غير الْمَطْلُوب بل ملزوم لملزوم الْمَطْلُوب فَتدبر (وَالْأَوْجه كَونه) أَي قِيَاس الْعَكْس (مُلَازمَة وَقِيَاسًا) لبيانها أَي حَقِيقَة مركبة من شَرْطِيَّة وَقِيَاس مَذْكُور لبيانها، فالشرطية نَحْو (لَو لم يشرط الصَّوْم للاعتكاف) الْمُطلق (لم يشرط) الصَّوْم لَهُ (بِالنذرِ) وَالْقِيَاس مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (كَالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَن الصَّوْم كَالصَّلَاةِ فِي كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا بِحَيْثُ يتَفَرَّع على عدم اشْتِرَاطه للاعتكاف الْمُطلق عدم اشْتِرَاطه للاعتكاف الْمُقَيد بِالنذرِ، وَهَذِه قَضِيَّة حملية إِحْدَى مقدمتي الْقيَاس الْمَذْكُور لبَيَان الْمُلَازمَة. وَالْأُخْرَى مَا أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله (لم تشرط فَلم تشرط بِهِ) أَي حَيْثُ لم تشْتَرط الصَّلَاة للاعتكاف الْمُطلق لم تشْتَرط للاعتكاف الْمُقَيد بِالنذرِ، وَهَذِه قَضِيَّة حملية إِحْدَى مقدمتي الْقيَاس الْمَذْكُور الْمُطلق أَمر مُقَرر فَألْحق بهَا الصَّوْم فِي هَذَا الْمَعْنى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي معنى الْقرْبَة الْمُوجبَة للاعتكاف زِيَادَة الثَّوَاب من غير فَارق، لَكِن يبْقى هَهُنَا مناقشة وَهُوَ أَن انْتِفَاء الاشتراطين فِي الصَّلَاة مُسلم لَكِن تفرع أَحدهمَا على الآخر غير مُسلم، وَالِاسْتِدْلَال مَبْنِيّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّوْجِيه أوجه (لعمومه) أَي هَذَا التَّوْجِيه مَا ذكر من قَول الْحَنَفِيّ وَغَيره فَيعم (قَول شَافِعِيّ فِي تَزْوِيجهَا) أَي الْحرَّة الْعَاقِلَة الْبَالِغَة (نَفسهَا يثبت الِاعْتِرَاض) للأولياء (عَلَيْهَا) فَادّعى أَولا عدم لُزُوم صِحَة تَزْوِيج الْمَرْأَة نَفسهَا لثُبُوت اعْتِرَاض الْوَلِيّ عَلَيْهَا. ثمَّ بَين الْمُلَازمَة بقوله كَالرّجلِ إِلَى آخِره، وتلخيص الْبَيَان نَحن وجدنَا صِحَة تَزْوِيج النَّفس فِي الرجل مَعَ عدم ثُبُوت(3/273)
الِاعْتِرَاض فَعرفنَا أَن الصِّحَّة لَا تفارق عدم ثُبُوته، فَحَيْثُ انْتَفَى عدم ثُبُوته حكمنَا بِعَدَمِ الصِّحَّة. وَلَا يخفى ضعفه، لِأَن اجْتِمَاع الصِّحَّة مَعَ عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض لَا يُفْضِي أَن لَا تُفَارِقهُ الصِّحَّة لجَوَاز أَن يجْتَمع مَعَ نقيضه أَيْضا (فَلَا يَصح مِنْهَا كَالرّجلِ لما صَحَّ مِنْهُ) تَزْوِيج نَفسه (لم يثبت) الِاعْتِرَاض لَهُم (عَلَيْهِ فمضمون الْجَزَاء) وَهُوَ عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض (فِي الأَصْل وَهُوَ) فِي الأَصْل (الرجل عِلّة للْحكم مَضْمُون الشَّرْط) بِالْجَرِّ على الْبَدَل من الحكم، أَو عطف بَيَان وَهُوَ صِحَة تَزْوِيج النَّفس حَال كَون مَضْمُون الشَّرْط (قلب الأَصْل) أَي عكس مَا هُوَ الأَصْل فِي بَيَان الْمُلَازمَة (وَالْوَجْه) الْوَجِيه (قلبه) أَي قلب الْقلب بِأَن يُقَال لما لم يثبت الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ صَحَّ مِنْهُ، فَيُقَال حِينَئِذٍ فمضمون الشَّرْط فِي الأَصْل عَلَيْهِ لمضمون الْجَزَاء على طبق مَا مر أَولا فِي تَقْرِيره، وَلما كَانَ الْمَقْصُود من هَذِه التوجيهات تَحْصِيل الْمُسَاوَاة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عِلّة الحكم، وَكَانَ الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الصُّورَة الأولى الِاعْتِكَاف بِلَا نذر الصَّوْم وَالِاعْتِكَاف بنذره وهما متساويان فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ الِاعْتِكَاف. وَفِي الثَّانِيَة الْمَرْأَة وَالرجل، وَالْعلَّة فِي الأَصْل عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض، وَهُوَ غير مُتَحَقق فِي الْفَرْع أَرَادَ أَن يبين وَجه مساواتهما، فَقَالَ (والمساواة فِي هَذَا) الْقلب من قِيَاس الْعَكْس حَاصِلَة (على تَقْدِير مَضْمُون الْجَزَاء) يَعْنِي عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض (الْمَقِيس عَلَيْهِ) صفة لمضمون الْجَزَاء على سَبِيل التَّجَوُّز لِأَن الْمَقِيس عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ الرجل غير انه ملحوظ ومعتبر فِي جَانِبه كَأَنَّهُ متمم لَهُ وَتَقْدِيره عبارَة عَن وُقُوعه جَزَاء لشرط مَفْرُوض كَمَا يُشِير إِلَيْهِ بقوله (وَتَقْدِيره) أَي مَضْمُون الْجَزَاء (فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (لَو صَحَّ) مِنْهَا تَزْوِيج النَّفس (لما ثَبت الِاعْتِرَاض) عَلَيْهَا كَالرّجلِ لما لم يثبت الِاعْتِرَاض صَحَّ مِنْهُ تَزْوِيج النَّفس (فَعدم الِاعْتِرَاض تساوى) الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ الْفَرْع (بِهِ) أَي بِسَبَب عدم الِاعْتِرَاض (الرجل) بِالنّصب على أَنه مفعول تساوى بِنَاء (على التَّقْدِير) وَالْفَرْض لصِحَّة نِكَاحهَا فَعدم الِاعْتِرَاض ملحوظ فِي جَانب الْفَرْع، أَعنِي الْمَرْأَة، وَفِي جَانب الأَصْل وَهُوَ الرجل، وَإِن كَانَ فِي الأول بِحَسب الْفَرْض، وَفِي الثَّانِي بِحَسب نفس الْأَمر فَصَارَ عدم الِاعْتِرَاض عِلّة لصِحَّة التَّزْوِيج وَعدم صِحَّته فِي الأَصْل وَالْفرع وجودا وعدما (والمساواة) الْمَذْكُورَة (فِي التَّعْرِيف وَإِن تبادر مِنْهُ) أَي من إِطْلَاقهَا (مَا) أَي الْمُسَاوَاة الكائنة (فِي نفس الْأَمر كَمَا تقدم) آنِفا، لَكِن بِحَسب أصل الْوَضع (هِيَ) أَي الْمُسَاوَاة (أَعم مِمَّا) أَي من الْمُسَاوَاة الكائنة بِنَاء (على التَّقْدِير) وَالْفَرْض، وَمِمَّا فِي نفس الْأَمر فليحمل مَا فِي التَّعْرِيف على مَا يَقْتَضِيهِ أصل الْوَضع، وَالْمَقْصُود من هَذَا الإطناب إِدْخَال قِيَاس الْعَكْس فِي تَعْرِيف الْقيَاس الْمُطلق وَلَو بِضَرْب من التَّكْلِيف، لَا تَصْحِيح قِيَاس الْعَكْس، فَلَا نطول الْكَلَام بِبَيَان وُجُوه ضعفه، وَجَوَاب الْحَنَفِيَّة(3/274)
عَن هَذِه الْمُلَازمَة عدم تَسْلِيم عِلّة ثُبُوت الِاعْتِرَاض لعدم صِحَة تَزْوِيج النَّفس لجَوَاز أَن يكون تَزْوِيجهَا صَحِيحا، وَيكون ثُبُوت الِاعْتِرَاض لدفع ضَرَر الْعَار عَن الْوَلِيّ وَأَيْضًا الشَّافِعِي يَقُول بِعَدَمِ صِحَة تَزْوِيجهَا نَفسهَا مُطلقًا، وَثُبُوت الِاعْتِرَاض لَيْسَ إِلَّا فِي غير الْكُفْء فَلَا تفِيد هَذِه الْعلَّة مدعاه مُطلقًا.
(الثَّانِي) من الْأَمريْنِ الموردين على عكس التَّعْرِيف (قِيَاس الدّلَالَة) وَهُوَ (مَا) أَي الْقيَاس الَّذِي (لم تذكر) الْعلَّة (فِيهِ بل) ذكر فِيهِ (مَا يدل عَلَيْهَا) من وصف ملازم لَهَا (كَقَوْل الشَّافِعِي فِي الْمَسْرُوق يجب) على السَّارِق (رده) حَال كَونه (قَائِما) وَإِن انْقَطَعت الْيَد فِيهِ (فَيجب ضَمَانه) عَلَيْهِ حَال كَونه (هَالكا) وَإِن قطعت الْيَد فِيهِ (كالمغصوب) فَإِنَّهُ يجب رده قَائِما وضمانه هَالكا، فَإِن الْعلَّة فِيهِ الْيَد العادية، وَفِي الْحَقِيقَة قصد الشَّارِع حفظ مَال الْغَيْر وَهِي مُشْتَركَة بَينهمَا (وَأجِيب بِأَن الِاسْم فِيهِ) أَي لفظ قِيَاس الدّلَالَة (مجَاز) وَلِهَذَا لم يُطلق عَلَيْهِ إِلَّا مُقَيّدا بِقَيْد الدّلَالَة، وإفادة علاقَة الْمجَاز بقوله (لاستلزام الْمَذْكُور فِيهِ) من الْوَصْف الملازم كَمَا ذكر (الْعلَّة) . وَالْمُعْتَبر فِي حَقِيقَة الْقيَاس ذكر الْعلَّة بِعَينهَا (وَمِنْهُم من رده) أَي قِيَاس الدّلَالَة (إِلَى مُسَمَّاهُ) أَي قِيَاس الْعلَّة، وَجعله من أَفْرَاده كردهم قِيَاس الْعَكْس إِلَيْهِ (بِأَنَّهُ) أَي قِيَاس الدّلَالَة (يتَضَمَّن الْمُسَاوَاة فِيهَا) أَي الْعلَّة، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي حَقِيقَة الْقيَاس وتضمنه بِاعْتِبَار مَا ذكر فِيهِ مِمَّا يدل على الْعلَّة على وَجه يفهم مِنْهُ مُسَاوَاة الْفَرْع الأَصْل فِي الْعلَّة (فَقِيَاس النَّبِيذ) فِي وجوب الْحَد لشربه (على الْخمر برائحة المشتد) الَّتِي تدل على الْعلَّة: أَي الْإِسْكَار، فَإِن الرَّائِحَة تدل على مشاركتها فِي الاشتداد الَّذِي يلازم الْإِسْكَار (يتَضَمَّن ثُبُوت الْمُسَاوَاة) بَينهمَا (فِي الْإِسْكَار. وَلَا يخفى أَن الْقيَاس حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَت الْعلَّة متضمنة (غير الْمَذْكُور) وَهَذَا إِذا شَرط فِي الْقيَاس أَن تكون الْمُسَاوَاة فِيهِ مدلولا صَرِيحًا.
(وأركانه) أَي أَجزَاء الْقيَاس (لِلْجُمْهُورِ) أَي لقَوْل الْجُمْهُور أَرْبَعَة: الأول الْوَصْف (الْجَامِع. و) الثَّانِي (الأَصْل) وَهُوَ إِمَّا (مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ) وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من الْفُقَهَاء والنظار (أَو حكمه) أَي حكم الْمحل الْمَذْكُور، وَعَلِيهِ طَائِفَة (أَو دَلِيله) أَي دَلِيل حكم الْمحل الْمَذْكُور، وَعَلِيهِ المتكلمون (ومبناه) أَي مبْنى الْخلاف الْمَذْكُور فِي تَفْسِير الأَصْل (على أَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره) وكل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة يصلح لهَذَا الْمَعْنى (و) بِنَاء (عَلَيْهِ) أَي على أَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره (قيل) وَالْقَائِل: الإِمَام الرَّازِيّ (الْجَامِع فرع حكم الأَصْل) لِأَنَّهُ لَوْلَا حكم الأَصْل لما فتش عَن الْعلَّة المثيرة لَهُ وَتَحْصِيل الْجَامِع بِوَاسِطَة التفتيش والفحص عَنهُ (أصل حكم الْفَرْع) خبر بعد خبر لقَوْله الْجَامِع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْلَا وجود الْجَامِع فِي الْفَرْع لم يكن لحكم الْفَرْع وجود، فالجامع فرع من وَجه وأصل من وَجه(3/275)
آخر (إِلَّا أَنه) أَي كَون الْجَامِع بِهَذِهِ الصّفة (يخص) الْعِلَل (المستنبطة) من حكم الأَصْل لَا المنصوصة، لَكِن الْأَغْلَب غير المنصوصة، وَلَا يبعد أَن يُقَال: المنصوصية أَيْضا لَهَا نوع فرعية لِأَنَّهُ لَو لم يكن حكم الأَصْل لما نَص الشَّارِع على عليته. (و) الثَّالِث (حكم الأَصْل) . (و) الرَّابِع (الْفَرْع) وَهُوَ (الْمحل الْمُشبه) على القَوْل بِأَن الأَصْل هُوَ الْمُشبه بِهِ (أَو حكمه) أَي حكم الْمُشبه على القَوْل بِأَن الأَصْل هُوَ حكم الْمُشبه بِهِ، ثمَّ أَخذ يبين قَول غير الْجُمْهُور، فَقَالَ (وَظَاهر قَول فَخر الْإِسْلَام: وركنه مَا جعل علما على حكم النَّص) مِمَّا اشْتَمَل عَلَيْهِ النَّص (وَجعل الْفَرْع نظيرا لَهُ فِي حكمه بِوُجُودِهِ فِيهِ) إِلَى هُنَا مقول قَوْله وَجعل الْفَرْع، الضَّمِير فِي لَهُ وَحكمه للنَّص، وَفِي بِوُجُودِهِ لما، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة، وَفِي فِيهِ للفرع: يَعْنِي ركن الْقيَاس وَهُوَ الْوَصْف الَّذِي جعل عَلامَة وأمارة على حكم يدل عَلَيْهِ النَّص بِحَيْثُ يَدُور عَلَيْهِ الحكم وجودا وعدما، وَجعل الْفَرْع مماثلا للنَّص الَّذِي هُوَ مَحل الحكم فِي الحكم بِسَبَب وجود ذَلِك الْوَصْف فِي الْفَرْع، وَإِنَّمَا قَالَ علما لِأَن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى والعلل أَمَارَات، وَوَافَقَهُ القَاضِي أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَالْجُمْهُور على أَن الحكم مُضَاف إِلَى الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع، ومشايخ الْعرَاق وَأَبُو زيد والسرخسي وفخر الْإِسْلَام على أَنه فِي الْمَنْصُوص مُضَاف إِلَى النَّص. وَفِي الْفَرْع إِلَى الْعلَّة. وَفِي قَوْله مِمَّا اشْتَمَل إِشَارَة إِلَى أَنه يشْتَرط أَن يكون ذَلِك الْوَصْف من الْأَوْصَاف الَّتِي اشْتَمَل عَلَيْهَا النَّص، (أَنه) أَي ركن الْقيَاس (الْعلَّة الثَّابِتَة فِي المحلين) الأَصْل وَالْفرع، فَقَوله: أَنه إِلَى آخِره خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي ظَاهر قَول فَخر الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا قَالَ ظَاهر قَوْله نظرا إِلَى الْمُتَبَادر من إِضَافَة الرُّكْن إِلَى الضَّمِير للاستغراق مَعَ احْتِمَال أَن لَا يكون ركن سواهُ، وَالْمرَاد بالركن مَا لَيْسَ بِخَارِج عَنهُ لَا الْجُزْء فَلَا يرد أَنه لَا يتَصَوَّر أَن يكون للماهية جُزْء وَاحِد للتنافي بَين العينية والجزئية، وَبِمَا ذكرنَا انْدفع أَن كَلَام فَخر الْإِسْلَام صَرِيح فِي الْمَقْصُود لَا ظَاهر، لَكِن بَقِي شَيْء أَن مَا ذكره أَفَادَ ركنية الأَصْل وَالْفرع وَلم يدل على عدم ركنية حكم الأَصْل، وَقد يُقَال كَمَا أَن طرفِي الْمُسَاوَاة خارجان عَنْهَا كَذَلِك مَا فِيهِ الْمُسَاوَاة خَارج عَنْهَا (وَالْمرَاد ثُبُوتهَا) وَالْمرَاد بِالْعِلَّةِ فِي قَوْله أَنه الْعلَّة الثَّابِتَة ثُبُوتهَا فيهمَا لأنفسهما، إِذْ لَا وَجه لجعل الْقيَاس عبارَة عَن الْوَصْف الْجَامِع إِذْ هُوَ مَعَ قطع النّظر عَن ثُبُوته فِي الأَصْل وَالْفرع لَيْسَ من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة فَإِن قلت الدَّلِيل الشَّرْعِيّ مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الحكم، وَالْوَصْف هَكَذَا قلت مَا ذكرت موصل بعيد، وَمَا ذكرنَا موصل قريب، وترجيح الْبعيد على الْقَرِيب لَيْسَ من دأب أهل الْعلم، وَلذَلِك اخْتَار الْمُحَقِّقُونَ الْمُسَاوَاة فِي تَعْرِيف الْقيَاس، وَأَرَادَ المُصَنّف إرجاع كَلَام فَخر الْإِسْلَام إِلَى مَا اختاروه، فَقَالَ (وَهُوَ) أَي ثُبُوتهَا فيهمَا (الْمُسَاوَاة) يَعْنِي الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الْعلَّة وَالْحكم على سَبِيل الْمُسَامحَة من قبيل تَفْسِير الْمَلْزُوم(3/276)
باللازم، إِذْ ثُبُوتهَا فيهمَا يسْتَلْزم (الْجُزْئِيَّة) المحققة فِي خصوصيات الأقيسة (لَا) الْمُسَاوَاة (الْكُلية) الَّتِي تعم الأقيسة كلهَا (لِأَنَّهَا) أَي الْمُسَاوَاة الْكُلية (مَفْهُوم الْقيَاس الْكُلِّي الْمَحْدُود والركن) الَّذِي نَحن بصدد تَعْيِينه هُوَ (جزؤه) أَي الْقيَاس المتحقق فِي حَقِيقَته حِين يدْخل (فِي الْوُجُود) الْخَارِجِي فِي ضمن الْفَرد وَإِذا لم يكن للْقِيَاس ركن غير الْمُسَاوَاة كَانَ جزئيته بِاعْتِبَار حَقِيقَته الخارجية المركبة فِي الْمَاهِيّة والتشخص (وَقد يخال) أَي يظنّ أَن قَول فَخر الْإِسْلَام أوجه فِي تعْيين الرُّكْن من قَول الْجُمْهُور بعد اخْتِيَار الْمُسَاوَاة (لظُهُور أَن الطَّرفَيْنِ) أَي طرفِي كل نِسْبَة (شَرط) تِلْكَ (النِّسْبَة) وَذَلِكَ (كالأصل وَالْفرع) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَاوَاة الْمَشْرُوطَة بهما (هُنَا) أَي فِيمَا نَحن فِيهِ (لَا أَرْكَانهَا) مَعْطُوف على شَرط، يَعْنِي أَن الطَّرفَيْنِ شَرط النِّسْبَة لَا أَرْكَان النِّسْبَة (فهما) أَي الأَصْل وَالْفرع (خارجان عَن ذَات) هَذِه (النِّسْبَة المتحققة خَارِجا) يَعْنِي الْمُسَاوَاة الْمَذْكُورَة (والركنية بِهَذَا الِاعْتِبَار) أَي ركنية الشَّيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاهِيّة إِنَّمَا تكون بِاعْتِبَار وجودهَا فِي الْخَارِج فِي ضمن الْفَرد، وَإِذا نَظرنَا إِلَى الْمُسَاوَاة الْجُزْئِيَّة الَّتِي هِيَ فَرد الْمُسَاوَاة الْمُطلقَة وجدنَا الأَصْل وَالْفرع خَارِجين عَنْهَا شرطين لَهَا، نعم إِن نَظرنَا إِلَى مَفْهُوم الْمُسَاوَاة الْمُطلقَة وجدناهما داخلين فِي الْمَفْهُوم من حَيْثُ التَّصَوُّر، لَكِن الركنية لَيست بِهَذَا الِاعْتِبَار (ثمَّ اسْتمرّ تمثيلهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (مَحل الحكم الأَصْل) بِالنّصب عطف بَيَان لمحل الحكم (بِنَحْوِ الْبر وَالْخمر) فِي قِيَاس الذّرة والنبيذ عَلَيْهِمَا فِي حكمهمَا (تساهلا) وتسامحا (تعورف) صفة التساهل: أَي صَار متعارفا بَينهم (وَإِلَّا) وَإِن لم يكن تمثيلهم بنحوهما بطرِيق التساهل وقصدوا الْحَقِيقَة (فَلَيْسَ) مَحَله أَي الحكم (فِي) نفس الْأَمر على (التَّحْقِيق إِلَّا فعل الْمُكَلف لَا الْأَعْيَان) الْمَذْكُورَة (فَفِي نَحْو النَّبِيذ الْخَاص) أَي المشتد الْمُسكر (محرم كَالْخمرِ: الأَصْل شرب الْخمر وَالْفرع شرب النَّبِيذ وَالْحكم الْحُرْمَة) وَفِي قِيَاس الذّرة الأَصْل بيع الْبر ببر أَكثر مِنْهُ، وَالْفرع بيع الذّرة كَذَلِك وَهَكَذَا. (وَحكمه) أَي الْقيَاس (وَهُوَ الْأَثر الثَّابِت بِهِ) أَي (الْقيَاس ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع أَيْضا) أَي آض ثُبُوت الحكم وَعَاد عودا، فَلَيْسَ قَوْله أَيْضا بِاعْتِبَار الظَّن لِأَنَّهُ قد يكون حكم الأَصْل قَطْعِيا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الحكم مُطلقًا الظَّن لجَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا فِيهِ وَالْفرع مَانِعا (وَهُوَ) أَي ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (معنى التَّعْدِيَة وَالْإِثْبَات وَالْحمل) الْمَذْكُور فِي عِبَارَات الْقَوْم فِي تَعْرِيف الْقيَاس، وَقد سبق نقل التَّعْدِيَة عَن الشَّرِيعَة، ثمَّ تَفْسِيره إِيَّاهَا بِإِثْبَات حكم مثل الأَصْل، وَحمل مَعْلُوم على مَعْلُوم عَن القَاضِي أبي بكر (فتسميته) أَي ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (تَعديَة اصْطِلَاح) مِمَّن سموا (فَلَا يُبَالِي بإشعاره) أَي الِاسْم الْمَذْكُور، وَهُوَ لفظ التَّعْدِيَة (لُغَة) أَي من حَيْثُ مَعْنَاهُ(3/277)
اللّغَوِيّ (بانتفائه) أَي الحكم (من الأَصْل) لِأَن الَّذِي يتَعَدَّى عَن مَحل ينتفى عَنهُ بانتقاله إِلَى مَحل آخر (وَمَا قيل) الْقَائِل صدر الشَّرِيعَة فِي الْجَواب عَن الْأَشْعَار (بل يشْعر بِبَقَائِهِ) أَي الحكم (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل (كَقَوْلِنَا) أَي كإشعار قَوْلنَا (للْفِعْل مُتَعَدٍّ إِلَى الْمَفْعُول مَعَ أَنه) أَي الْفِعْل (ثَابت فِي الْفَاعِل) فِي نفس الْأَمر بِبَقَائِهِ فِي الْفَاعِل (إِثْبَات اللُّغَة بالاصطلاح) أَي إِثْبَات معنى فِي اللُّغَة للفظ بِنَاء على أَنه قصد ذَلِك بِهِ فِي الِاصْطِلَاح وَهُوَ غير جَائِز، فَقَوله إِثْبَات اللُّغَة خبر قَوْله مَا قيل (مَعَ أَنه) أَي بَقَاء الْفِعْل فِي الْفَاعِل (مِمَّا لَا يشْعر بِهِ) لفظ التَّعَدِّي فِي القَوْل الْمَذْكُور (بل) إِنَّمَا يشْعر (بانتقاله) أَي انْتِقَال الْفِعْل عَن الْفَاعِل وَلَو كَانَ فِي نفس الْأَمر ثَابتا فِيهِ (إِذْ تعدى الشَّيْء) من مَحل (إِلَى) مَحل (آخر انْتِقَاله) أَي انْتِقَال ذَلِك الشَّيْء (إِلَيْهِ) إِلَى الآخر (برمتِهِ) أَي جملَته بِحَسب اللُّغَة (لَوْلَا الِاصْطِلَاح) فِي التَّعْدِيَة الْمَذْكُورَة فِي الْفِعْل على خلاف مَا تَقْتَضِيه اللُّغَة لَكنا نفهم مِنْهَا الِانْتِقَال لَكِن الْعلم بِالْوَضْعِ الاصطلاحي صرفنَا عَنهُ. (وتقسيم الْمَحْصُول) اسْم كتاب (الْقيَاس إِلَى قَطْعِيّ وظني لَا يُخَالِفهُ) أَي قَوْلنَا حكم الْقيَاس ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (إِذْ قطعيته) أَي الْقيَاس (بقطعية الْعلَّة ووجودها) أَي الْعلَّة (فِي الْفَرْع، وَلَا يسْتَلْزم) مَجْمُوع الْأَمريْنِ (قَطْعِيَّة) ثُبُوت (حكمه) أَي الْفَرْع (لما تقدم) من جَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا وخصوص الْفَرْع مَانِعا فَيجوز أَن يكون الْقيَاس قَطْعِيا بِاعْتِبَار قَطْعِيَّة الْعلَّة ووجودها، وَيكون الحكم ظنيا لما ذكر، فَعلم أَن المُرَاد بالعلية الْمَقْطُوع بهَا غير الْعلَّة التَّامَّة، إِذْ لَو كَانَت عِلّة تَامَّة للْحكم لاستحال تخلفه عَنْهَا أَيْنَمَا وجدت، وَكَانَ يلْزم حِينَئِذٍ الْقطع بالحكم فِي الْفَرْع فتمام الْكَلَام مَوْقُوف على عدم تحقق عِلّة كَذَا (غير أَن تمثيله) أَي الْمَحْصُول الْقيَاس الْقطعِي (بِمَا هُوَ مَدْلُول النَّص، أَعنِي الفحوى) أَي فحوى الْخطاب كقياس تَحْرِيم الضَّرْب على تَحْرِيم التأفيف يكون قِيَاسا قَطْعِيا، لأَنا نعلم أَن الْعلَّة هِيَ الْأَذَى ونعلم وجودهَا فِي الضَّرْب (مناقضة) لِأَن الْقيَاس إِلْحَاق مسكوت عَنهُ بملفوظ.
فصل فِي الشُّرُوط
أَي فِي بَيَان شُرُوط صِحَة الْقيَاس (مِنْهَا لحكم الأَصْل أَن لَا يكون معدولا عَن سنَن الْقيَاس) قَوْله أَن لَا يكون إِلَى آخِره مُبْتَدأ خَبره قَوْله مِنْهَا، وَضمير لَا يكون رَاجع إِلَى حكم الأَصْل: يَعْنِي عدم كَون الحكم معدولا بِهِ عَن طَريقَة الْقيَاس من جملَة الشُّرُوط وَقَوله لحكم الأَصْل مُتَعَلق بِمَحْذُوف: أَي شَرط هَذَا لحكم الأَصْل فَهِيَ مُعْتَرضَة، وَيجوز أَن يكون حَالا من(3/278)
الضَّمِير المستكن فِي الْخَبَر، وَيحْتَمل أَن يكون الْعُدُول بِمَعْنى الصّرْف فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير الْبَاء وحذفها: أَي لَا يكون مصروفا عَنهُ، ثمَّ بَين سنَن الْقيَاس بقوله (أَن يعقل مَعْنَاهُ) أَي معنى حكم الأَصْل، وَالْمرَاد بمعقولية مَعْنَاهُ أَن تدْرك علته وحكمته الَّتِي شرع لَهَا (وَيُوجد) مَعْنَاهُ (فِي) مَحل (آخر فَمَا لم يعقل) مَعْنَاهُ من الْأَحْكَام (كأعداد الرَّكْعَات والأطوفة) فَإِن كَون رَكْعَات الْفجْر ثِنْتَيْنِ وَالظّهْر أَرْبعا وَالْمغْرب ثَلَاثًا وَكَون اشْتِرَاط الطّواف سبعا أَحْكَام لَا نَعْرِف علتها (ومقادير الزَّكَاة) من ربع الْعشْر فِي النَّقْدَيْنِ وَنَحْوهمَا وَغَيره على أنحاء مُخْتَلفَة (و) حكم (بعض مَا) أَي مَحل (خص) ذَلِك الْمحل (بِحكمِهِ كالأعرابي) الْمَعْهُود فَإِنَّهُ مَحل خص (بإطعام كَفَّارَته) عَن وُقُوعه على أَهله فِي نَهَار رَمَضَان، وقصته مَشْهُورَة (أَهله) مفعول إطْعَام، وَالْحكم الَّذِي اخْتصَّ بِهِ هُوَ الْإِطْعَام الْمَذْكُور فَإِنَّهُ لَا يُوجد فِي مَحل آخر غَيره (أَو عقل) مَعْنَاهُ (وَلم يَتَعَدَّ) حكمه إِلَى غَيره وَإِن كَانَ غَيره أعلا رُتْبَة مِنْهُ فِي ذَلِك الْمَعْنى (كَشَهَادَة خُزَيْمَة) بن ثَابت، روى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْترى فرسا من سَوَاء بن الْحَارِث الْمحَاربي فجحده فَشهد لَهُ فَقَالَ مَا حملك على هَذَا وَلم تكن حَاضرا مَعنا، فَقَالَ صدقتك بِمَا جِئْت بِهِ وَعلمت أَنَّك لَا تَقول إِلَّا حَقًا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من شهد لَهُ خُزَيْمَة أَو شهد عَلَيْهِ فحسبه " (نَص على الِاكْتِفَاء بهَا) أَي بِشَهَادَتِهِ فَلَا حَاجَة إِلَى شَاهد آخر مَعَه (وَلَيْسَ) النَّص على الِاكْتِفَاء بهَا (مُفِيد الِاخْتِصَاص) أَي اخْتِصَاصه بالخصوصية (بل) مفيده (الْمَجْمُوع) الْمركب (مِنْهُ) أَي النَّص على الِاكْتِفَاء بهَا (وَمن دَلِيل منع تَعْلِيله) أَي النَّص على الِاكْتِفَاء (وَهُوَ) أَي دَلِيل منع تَعْلِيله (تكريمه) أَي خُزَيْمَة (لاختصاصه بفهم جلّ الشَّهَادَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) شَهَادَة ناشئة عَن إخْبَاره لَا عَن مُعَاينَة الْمخبر بِهِ من بَين الْحَاضِرين لإِفَادَة إخْبَاره الْعلم بِمَنْزِلَة العيان (فَلَا يبطل) اخْتِصَاصه (بِالتَّعْلِيلِ) المستلزم وجود الِاكْتِفَاء بِشَهَادَة غَيره عِنْد وجود الْعلَّة فِيهِ (فَقَوْل فَخر الْإِسْلَام) أَن الله شَرط الْعدَد فِي عَامَّة الشَّهَادَات وَثَبت بِالنَّصِّ قبُول شَهَادَة خُزَيْمَة وَحده لكنه (ثَبت كَرَامَة فَلَا يبطل بِالتَّعْلِيلِ فِي غير مَوْضِعه) قَوْله فِي غير مَوْضِعه خبر قَوْله، فَقَوْل فَخر الْإِسْلَام: وَإِنَّمَا اكْتفى بِالنَّقْلِ فِي الْمَنْقُول بِمُجَرَّد قَوْله ثَبت كَرَامَة فَلَا يبطل بِالتَّعْلِيلِ إِشَارَة إِلَى أَن عدم إِفَادَة مَا قبله للمقصود ظَاهر، نقل عَن المُصَنّف فِي بَيَان هَذَا الْمحل أَنه قَالَ: لِأَن التَّعْلِيل لَا يبطل كَونه كَرَامَة حَتَّى يمْتَنع بل تعديها إِلَى غَيره فَإِنَّمَا يبطل اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الْكَرَامَة، فَالْوَجْه أَن يُقَال ثَبت كَرَامَة خص بهَا فَلَا يبطل بِالتَّعْلِيلِ، وَدَلِيل اخْتِصَاصه بهَا كَونهَا وَقعت فِي مُقَابلَة اخْتِصَاصه بالفهم فَإِن قلت اشْتِرَاط الْعدَد(3/279)
فِي عَامَّة الشَّهَادَات من غير اسْتثِْنَاء لما سوى شَهَادَته دَلِيل الِاخْتِصَاص قلت لَا يدل عَلَيْهِ لجَوَاز أَن يكون حكم الْمُسْتَثْنى مُعَللا بعلة تُوجد فِي غَيره، غَايَة الْأَمر أَن غَيره لَا يكون مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي الِاسْتِثْنَاء وَهُوَ لَا يسْتَلْزم الِاخْتِصَاص. وسيشير المُصَنّف إِلَى هَذَا الْجَواب (وَالنِّسْبَة) أَي نِسْبَة الِاخْتِصَاص (إِلَى الْمَجْمُوع) من دَلِيل الِاكْتِفَاء، وَدَلِيل منع التَّعْلِيل على مَا ذكر (لِأَنَّهُ) أَي الِاخْتِصَاص (بالإثبات) أَي إِثْبَات الِاكْتِفَاء بِشَهَادَتِهِ (وَهُوَ) أَي إثْبَاته (نَص الِاكْتِفَاء بِهِ) شَاهدا بِحَذْف الْمُضَاف فِي جَانب الْمُبْتَدَأ: أَي دَلِيل الْإِثْبَات، أَو الْخَبَر: أَي مَدْلُول نَص الِاكْتِفَاء (وَالنَّفْي) أَي وبنفي الِاكْتِفَاء (عَن غَيره وَهُوَ) أَي النَّفْي عَن غَيره (بمانع الْإِلْحَاق) لغيره بِهِ، وَهُوَ اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الْكَرَامَة لاختصاصه بالفهم الْمَذْكُور (فمجرد خُرُوجه) أَي خُرُوج هَذَا الحكم الْمَخْصُوص بِهِ خُزَيْمَة (عَن قَاعِدَة) عَامَّة هِيَ اشْتِرَاط الْعدَد فِي الشَّهَادَات مُطلقًا (لَا يُوجِبهُ) أَي الِاخْتِصَاص (كَمَا ظن) وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب إِلَّا أَنَّهُمَا جعلاه من قبيل مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ، وَقد عرفت أَنه لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا لَا يُوجِبهُ (لجَوَاز الْإِلْحَاق بالمخصص) على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول: يَعْنِي إِذا خصص حكم من عُمُومه حكم كل وَكَانَ ذَلِك الْمُخَصّص مَعْقُول الْمَعْنى مُعَللا بعلة وجدت فِي مَحل آخر جَازَ إِلْحَاق ذَلِك الآخر بذلك الْمُخَصّص وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِجَوَاز تَعْلِيل دَلِيل التَّخْصِيص) أَي يجوز أَن يُعلل النَّص الَّذِي يدل على خُرُوج الْمُخْتَص عَن الْقَاعِدَة الْعَامَّة وَيتَفَرَّع على جَوَاز الْإِلْحَاق لما مر (وَمثله) أَي مثل الِاكْتِفَاء بِشَهَادَة خُزَيْمَة فِي كَونه عقل وَلم يَتَعَدَّ إِلَى غَيره (قصر الْمُسَافِر) الرّبَاعِيّة من الْمَكْتُوبَة فَإِنَّهُ (امْتنع تَعْلِيله) أَي تَعْلِيل قصره (بِمَا) أَي بِمَعْنى (يعديه) أَي يعدى الْقصر إِلَى غير الْمُسَافِر (لِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة للقصر (فِي الْحَقِيقَة الْمَشَقَّة) لِأَنَّهَا الْمَعْنى الْمُنَاسب للرخصة بِالْقصرِ وَأَمْثَاله (وَامْتنع اعْتِبَارهَا) أَي اعْتِبَار الْمَشَقَّة نَفسهَا (لتفاوتها) أَي الْمَشَقَّة (وَعدم ضبط مرتبَة) مِنْهَا (تعْتَبر) تِلْكَ الْمرتبَة (مناطا) لحكم الْقصر (فتعينت) الْمَشَقَّة أَي مشقة السّفر: أَي تعْيين إِطْلَاقهَا فِي ضمن هَذِه الخصوصية بقوله (مشقة السّفر) مفعول تعيّنت لتَضَمّنه معنى الضَّرُورَة: يَعْنِي لَا بُد أَن يكون المناط وَصفا منضبطا، وَلَا انضباط لمُطلق الْمَشَقَّة للتفاوت الْفَاحِش بَين أفرادها مَعَ الْعلم بِعَدَمِ الِاعْتِدَاد بِبَعْض أفرادها، وَكَانَ هَذَا الْقدر: أَي كَونهَا مشقة السّفر مَعْلُوما فاعتبرت ضَرُورَة وَكَانَ مشقة السّفر أَيْضا غير منضبط (فَجعلت) الْعلَّة (السّفر) لكَونه مظنتها مَعَ الانضباط (فَامْتنعَ) الْقصر (فِي غَيره) أَي السّفر (وَالسّلم) أَي وَمثل الِاكْتِفَاء الْمَذْكُور فِيمَا ذكر السّلم، وَهُوَ (بيع مَا لَيْسَ فِي الْملك) أَي ملك البَائِع الْمَشْرُوع (لمصْلحَة المفاليس) وَلذَا سمي بيع المفاليس (يَنْتَفِعُونَ) أَي البائعون بذلك البيع (بِالثّمن)(3/280)
عَاجلا ويحصلون الْبَدَل) أَي الْمَبِيع الْمَعْدُوم (آجلا) عِنْد حُلُول الْأَجَل الْمُسَمّى فِي البيع وَالْقَاعِدَة الشَّرْعِيَّة فِي البيع تَقْتَضِي محلا مَمْلُوكا للْبَائِع حَال البيع، وَقد أخرج السّلم عَن عمومها النَّص الدَّال على جَوَازه لعِلَّة أُشير إِلَيْهَا وَهِي مصلحَة المفاليس لما ذكر، وَفِيه إِشَارَة لما أَن الْعلَّة فِيهِ مَا ذكرنَا لَا مَا سَيذكرُهُ الشَّافِعِي (على مَا تشهد بِهِ الْآثَار) مُتَعَلق بِمَحْذُوف، تَقْدِير الْكَلَام شرع للْمصْلحَة الْمَذْكُورَة بِنَاء على مَا تشهد بِهِ الْآثَار فِي مَوْضِعه، وَلَا خلاف فِي جَوَاز السّلم آجلا (غير أَنه اخْتلف فِي جَوَازه حَالا فَلَمَّا كَانَ حَاصله) أَي السّلم (تَخْصِيصًا) لعُمُوم النَّهْي عَن بيع مَا لَيْسَ ملك الْإِنْسَان (عِنْد الشَّافِعِي علله) أَي الشَّافِعِي التَّخْصِيص أَو النَّص الدَّال عَلَيْهِ (بِدفع الْحَرج بإحضار السّلْعَة مَحل البيع وَنَحْوه) أَي نَحْو مَحَله أَو نَحْو إِحْضَار السّلْعَة بِمَا يُوجب الْحَرج لِأَن دَلِيل التَّخْصِيص يُعلل كَمَا ذكر، وَهَذِه الْعلَّة تَشْمَل الْحَال والمؤجل (وَوَقع للحنفية أَنه) أَي هَذَا التَّعْلِيل وَاقع (فِي مُقَابلَة النَّص الْقَائِل: من أسلف فِي شَيْء فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم) وَوصف النَّص بالْقَوْل مجَاز، أَو المُرَاد بِهِ اللَّفْظ، وَأَرَادَ بِمن أسلف إِلَى آخِره الْمَعْنى فَلَا يلْزم اتِّحَاد الْقَائِل وَالْمقول فقد (أوجب فِيهِ) أَي فِي السّلم (الْأَجَل فالتعليل لتجويزه) أَي الْحَال (مُبْطل لَهُ) أَي للنَّص الْمُوجب للتأجيل، وَالتَّعْلِيل الْمُبْطل للنَّص بَاطِل، فَقَالَ الْحَنَفِيَّة وَمَالك وَأحمد لَا يجوز حَالا (وَمِنْه) أَي من الحكم الْمُخْتَص بِمحل كَرَامَة بِالنَّصِّ فَلَا يجوز إِبْطَاله بِالتَّعْلِيلِ بِنَاء (على ظن الشَّافِعِيَّة النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة) أَي صِحَة النِّكَاح بلفظها (خص) النَّبِي (بِهِ) أَي بالحكم الْمَذْكُور (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخالصة لَك) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} ) - خَالِصَة مصدر مُؤَكد: أَي خلص إحلالها: أَي إحلال مَا أَحللنَا لَك على الْقُيُود الْمَذْكُورَة خلوصا لَك (فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (غَيره) فِي انْعِقَاد نِكَاحه بِهِ لما فِيهِ من إبِْطَال الخصوصية الثَّابِتَة لَهُ كَرَامَة (وَالْحَنَفِيَّة) يَقُولُونَ الِاخْتِصَاص للمفهوم من قَوْله تَعَالَى - {خَالِصَة لَك} - (يرجع إِلَى نفي الْمهْر) أَي صِحَة النِّكَاح بِدُونِ الْمهْر خَالِصَة لَك لَيست لغيرك (وَمن تَأمل) فِي قَوْله تَعَالَى قبل هَذِه الْآيَة - {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا (أحلننا لَك أَزوَاجك اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ وَامْرَأَة} مُؤمنَة إِن (وهبت نَفسهَا لَك} ) أَي للنَّبِي (حَتَّى فهم الطباق) بَين الْقسمَيْنِ، حَتَّى غَايَة للتأمل، والطباق فِي علم البديع عبارَة عَن الْجمع بَين مَعْنيين مُتَقَابلين (فهم) من السِّيَاق، والسياق أَن مَدْلُول الْكَلَام أَنا (أَحللنَا لَك بِمهْر وَبلا مهر) خَالِصَة هَذِه الْخصْلَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ (وتعليل الِاخْتِصَاص بِنَفْي الْحَرج) فِي قَوْله تَعَالَى - {لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} - بعد قَوْله خَالِصَة لَك (يُنَادي بِهِ) أَي بِرُجُوعِهِ إِلَى نفي الْمهْر (زِيَادَة) حَال من ضمير يُنَادي: أَي التَّعْلِيل الْمَذْكُور يُنَادي بِمَا ذكره حَال كَونه زَائِدا فِي إِفَادَة المُرَاد على مَا يدل عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ(3/281)
الْمَذْكُور (إِذْ هُوَ) أَي الْحَرج (فِي لُزُوم المَال لَا فِي ترك لفظ) يَعْنِي الْهِبَة قصدا (إِلَى) لفظ (آخر) لَا على سَبِيل التَّعْيِين (بِالنِّسْبَةِ إِلَى أقدر الْخلق على التَّعْبِير) عَن مُرَاده لِأَنَّهُ أفْصح الْعَرَب والعجم فَإِن لم يُوسع عَلَيْهِ بتجويز لفظ الْهِبَة فِي تزَوجه فَعنده وسعة من الْأَلْفَاظ الْأُخَر فَلَا يلْزم حرج عَلَيْهِ (وَمِنْه) وَمن الحكم الْمُخْتَص بمحله الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِمَا يمْنَع عَن تَعْلِيله (مَا عقل مَعْنَاهُ) حَال كَونه وَاقعا (على خلاف مُقْتَضى) على صِيغَة الْمَفْعُول (مُقْتَض شَرْعِي كبقاء صَوْم) الصَّائِم (النَّاسِي) الْآكِل أَو الشَّارِب (مَعَ عدم الرُّكْن) وَهُوَ الْكَفّ عَن المفطرات، إِذْ بَقَاؤُهُ مَعَ عدم رُكْنه (معدول) أَي مَصْرُوف (عَن مُقْتَضى عدم الرُّكْن) إِذْ مُقْتَضَاهُ بطلَان الصَّوْم لِأَن الشَّيْء لَا يبْقى مَعَ عدم رُكْنه كَمَا أَن من نسي فَترك ركنا من الصَّلَاة تفْسد صلَاته كَمَا لَو تَركه عَامِدًا غير أَن النَّص سلم بِبَقَائِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وسيشير إِلَى وَجه معقولية مَعْنَاهُ وَأَنه لَا يجوز تَعْلِيله بِسَبَب ذَلِك الْمُقْتَضى. (فَإِن قيل لما علل دَلِيل التَّخْصِيص) أَي لما جَازَ تَعْلِيل النَّص الدَّال على تَخْصِيص عُمُوم انْتِفَاء الشَّيْء بِانْتِفَاء رُكْنه وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تمّ على صومك فَإِنَّمَا أطعمك الله " الحَدِيث بِمَا عدا صُورَة النسْيَان بِنَاء على رَأْي من يجوز تَعْلِيل دَلِيل التَّخْصِيص (لزم مجيزي تَخْصِيص الْعلَّة من الْحَنَفِيَّة تَعْلِيله) أَي تَعْلِيل دَلِيل التَّخْصِيص الْمَذْكُور (لإلحاق الْمُخطئ) كمن تمضمض فسبقه المَاء إِلَى جَوْفه (وَالْمكْره والمصبوب فِي حلقه) المَاء وَهُوَ صَائِم بِعَدَمِ قصد الْجِنَايَة صلَة التَّعْلِيل، قد اخْتلف فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة فَمن جوزه من الْحَنَفِيَّة لزمَه تَعْلِيل النَّص الْمَذْكُور، وَمِنْهُم من جوزه فالمجوز إِن علل النَّص الْمَذْكُور (ب) عِلّة (عدم قصد الْجِنَايَة) فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْمَحْذُور بِأَن يُقَال هَذِه الْعلَّة منقوضة بِكَذَا وَكَذَا كَتَرْكِ ركن الصَّلَاة نَاسِيا لِأَنَّهُ يخصصها على وَجه لَا ينْتَقض بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَزِمَهُم لأَنهم مِمَّن يجوز تَعْلِيل دَلِيل التَّخْصِيص والضرورة وَهِي إِلْحَاق مَا ذكر دعت إِلَى التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة، وَالْمَانِع وَهُوَ النَّقْض مَدْفُوع بتخصيص الْعلَّة، وَعند وجود الْمُقْتَضى وَدفع الْمَانِع يلْزم أَن يعْمل بالمقتضى وَالله أعلم (كالشافعي) مُتَعَلق بقوله تَعْلِيله أَي تعليلا كتعليله (لكِنهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (اتَّفقُوا على نَفْيه) أَي التَّعْلِيل الْمَذْكُور للإلحاق (فَالْجَوَاب أَن ظنهم) أَي الْحَنَفِيَّة (أَنه) أَي التَّخْصِيص للناسي ثَابت (بعلة منصوصة هِيَ قطع نِسْبَة الْفِعْل) الْمُفطر (عَن الْمُكَلف) صلَة الْقطع (مَعَ النسْيَان وَعدم الْمُذكر) لَهُ بِالصَّوْمِ إِذْ لَا هَيْئَة لَهُ مُخَالفَة للهيئة القادمة وَقَوله مَعَ النسْيَان إِلَى آخِره حَال من الْفِعْل مشْعر بِمَا يُنَاسب الْمَقْصُود من الْقطع عَنهُ (إِلَيْهِ تَعَالَى بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَعَلق بمنصوصه (تمّ على صومك فَإِنَّمَا أطعمك الله وسقاك) هَذَا لفظ الْهِدَايَة، وَفِي صَحِيح ابْن حبَان وَسنَن الدَّارَقُطْنِيّ " أتم صومك فَإِن الله أطعمك وسقاك " وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ " وَلَا قَضَاء عَلَيْك " (لِأَنَّهُ) أَي قطع نِسْبَة الْفِعْل(3/282)
إِلَيْهِ تَعَالَى (فَائِدَته) أَي قَوْله تَعْلِيل لكَونه نصا فِيمَا ذكر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْقطع الْمَذْكُور مَقْصُودا بِهِ (فمعلوم أَنه الْمطعم) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ (مُطلقًا) أَي فَلَا يبْقى للْكَلَام فَائِدَة لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه الْمطعم فِي كل أكل سَهوا كَانَ أَو عمدا (وقطعه) أَي الشَّارِع نِسْبَة للْفِعْل (مَعَه) أَي النسْيَان الْمَذْكُور (وَهُوَ) أَي النسْيَان (جبلي لَا يُسْتَطَاع الاحتراس عَنهُ بِلَا مُذَكّر) الْجَار مُتَعَلق بقوله لَا يُسْتَطَاع، وَهُوَ صفة قَوْله جبلي، وَالْجُمْلَة الاسمية حَال عَن ضمير النسْيَان فِي مَعَه وَقَوله بِلَا مُذَكّر يُشِير إِلَى أَنه تَعَالَى الْمُذكر فَإِن قلت الْأَمر الْجبلي لَا يَدْفَعهُ شَيْء قلت لَيْسَ كَونه جبليا بِمَعْنى أَن الطبيعة تَقْتَضِيه ضَرُورَة بل كَونه بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع الْإِنْسَان أَن يحترس عَنهُ بِلَا مُذَكّر، وَمَعَ الْمُذكر وُقُوعه نَادِر فَهُوَ عِنْد ذَلِك ينْسب إِلَى التَّقْصِير فَلَا يستأصل لِأَن قطع نِسْبَة الْفِعْل عَنهُ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَخبر قَوْله وقطعه قَوْله (لَا يستلزمه) أَي الْقطع عَنهُ إِلَيْهِ تَعَالَى (فِيمَا هُوَ دونه) أَي فِيمَا دون جبلي لَا يُسْتَطَاع الاحتراس عَنهُ بِلَا مُذَكّر، وَإِنَّمَا وصف النسْيَان الْمَذْكُور بذلك إشعارا بِمَا هُوَ مُوجب لقطع النِّسْبَة عَن الْمُكَلف إِلَيْهِ تَعَالَى ليَكُون كالدليل على عدم الاستلزام الْمَذْكُور. ثمَّ لما بَين أَن عِلّة الْقطع مَجْمُوع الْأَوْصَاف الجبلية وَعدم إِمْكَان الاحتراس وَعدم الْمُذكر لزم أَن ينتفى الْمَعْلُول بِانْتِفَاء كل وَاحِد مِنْهَا فَأخذ بَين ذَلِك وَبَدَأَ بِانْتِفَاء الْأَخير. فَقَالَ (مَعَ مُذَكّر) حَال عَن الْمَوْصُول أَي لم يقطع مَا دونه حَال كَونه مَعَ مُذَكّر من حَيْثُ النِّسْبَة، مِثَال الْمُذكر (كَالصَّلَاةِ) أَي كَهَيئَةِ الصَّلَاة (ففسدت) الصَّلَاة (فعله مُفسد) فَلَعَلَّهُ الْمُصَلِّي (سَاهِيا) ثمَّ بَين مَا انْتَفَى فِيهِ الثَّانِي بقوله (وَمَا يُمكن الاحتراس) عَنهُ، مِثَاله (كالخطأ، وَلذَا) أَي كَون الْخَطَأ مِمَّا يُمكن الاحتراس عَنهُ (ثَبت عدم اعْتِبَاره) فِي الشَّرْع مسْقطًا للمجازاة بِالْكُلِّيَّةِ (فِي خطأ الْقَتْل فَأوجب) الشَّارِع بِهِ (الدِّيَة) بدل الْمحل (حَقًا للْعَبد) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن مُوجب تَعْلِيل الشَّافِعِي بَقَاء الصَّوْم بعلة قصد الْجِنَايَة بطلَان حق العَبْد فِي قتل الْخَطَأ لعدم قصد الْجِنَايَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (مَعَ تحقق مَا عينه) الشَّافِعِي فِي مقَام التَّعْلِيل فِيمَا نَحن (فِيهِ) أَي فِي الْقَتْل الْخَطَأ طرف الْحجَّة لتحَقّق مَا عينه فَلَزِمَ الدِّيَة إِجْمَاعًا فِي الْقَتْل الْخَطَأ يرد عَلَيْهِ فِي تعْيين مَا عينه (و) أوجب (الْكَفَّارَة) تأهبا (لتَقْصِيره) أَي الْقَاتِل خطأ فِي التحفظ فِيمَا يُسْتَطَاع الاحتراس عَنهُ فَلم يسْقط فِيهِ إِلَّا الْإِثْم بِمُوجب " رفع عَن أمتِي " الحَدِيث ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا يَنْفِي الأول بقوله (وَالْمكْره أمكنه الالتجاء) إِلَى من يخلصه من الْمُكْره (والهرب) مِنْهُ (وَلَو عجز) عَن الالتجاء والهرب (وانقطعت النِّسْبَة) أَي نِسْبَة الْفِعْل عَنهُ بِسَبَب الْعَجز (صَارَت) النِّسْبَة (إِلَى غَيره تَعَالَى أَعنِي الْمُكْره كَفعل الصب) أَي كانقطاع نِسْبَة فعل الصب عَن المصبوب فِي عِلّة (نسب) فعل الصب (إِلَى العَبْد لَا إِلَيْهِ تَعَالَى حَتَّى أثمه) أَي أَثم الله(3/283)
تَعَالَى الصاب أَو أَثم الصاب إِلَيْهِ (فانتفت الْعلَّة) الْمُعَلل بهَا دَلِيل التَّخْصِيص وَهُوَ قطع نِسْبَة الْفِعْل عَن الْمُكَلف مَعَ النسْيَان وَعدم الْمُذكر إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الصُّور الْمَذْكُورَة فَلَا يحوز إلحاقها بالناسي فِي بَقَاء الصَّوْم (وَمِنْه) أَي وَمن الحكم الْمُخْتَص بمحله الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِمَا يمْنَع من التَّعْلِيل (تقوم الْمَنَافِع فِي الْإِجَارَة) ثَبت بِالنَّصِّ واختص بمحله لما سَيَأْتِي (يمنعهُ) أَي تقومها فِي الْإِجَارَة (الْقيَاس على الْحَشِيش وَالصَّيْد) وَصُورَة الْقيَاس (هَكَذَا لم تحرز) للمنافع كَمَا أَنه لم يحرز الْحَشِيش وَالصَّيْد (فَلَا مَالِيَّة) لَهَا لِأَن الْمَالِيَّة بالإحراز وَالدُّخُول تَحت الْيَد (فَلَا تقوم) إِذْ لَا قيمَة إِلَّا لِلْمَالِ (كالصيد قبل) الِاصْطِيَاد، والحشيش قبل الاحتشاش فِي عدم (الْإِحْرَاز) والمالية والتقوم (أما الأول) أَي أَنَّهَا لم تحرز (فَلِأَنَّهَا) أَي الْمَنَافِع (أَعْرَاض متصرمة) أَي متلاشية مضمحلة بِمُجَرَّد الْوُجُود (فَلَو قُلْنَا بِبَقَاء شخص الْعرض) فِي الْجُمْلَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ غير الْأَشْعَرِيّ فِيمَا نَحن فِيهِ (لم يكن مِنْهُ) أَي مِمَّا نقُول بِبَقَائِهِ، بل مِمَّا لَا بَقَاء لَهُ بِإِجْمَاع الْعُقَلَاء (ثمَّ الْمَالِيَّة بالإحراز والتقوم بالمالية فَلَا يلْحق بِهِ) أَي بتقويم الْمَنَافِع فِي الْإِجَارَة (غصبهَا) أَي غصب الْمَنَافِع بإتلافها وتعطيلها (إِذْ لَا جَامع مُعْتَبر) بَينهمَا فِي ذَلِك شرعا (لتَفَاوت الْحَاجة) الَّتِي كَانَت الْمَنَافِع بِسَبَبِهَا مُتَقَومَة (وَعدم ضبط مرتبَة) مُعينَة مِنْهَا يناط التَّقْوِيم بهَا (كمشقة السّفر) فَإِنَّهُ لما لم تكن الْمَشَقَّة فِيهِ منضبطة للتفاوت بَين مراتبها نيط حكم الْقصر بِمَشَقَّة السّفر، وَكَانَ مشقة السّفر أَيْضا غير منضبطة نيط بِأَصْل السّفر (فنيط) تقوم الْمَنَافِع (بِعقد الْإِجَارَة) لِأَنَّهُ مظنتها كالسفر. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَن عدم تقوم مَنَافِع الْغَصْب فتح لباب الْعدوان أَشَارَ إِلَى دَفعه بقوله (وَالْحَاجة لدفع الْعدوان تدفع بالتعزيز) على ارْتِكَاب الْمحرم، وَهُوَ الْغَصْب (وإحرازها) أَي الْمَنَافِع (بِالْمحل) وَهُوَ الْمَغْصُوب إِحْرَاز (ضمني) ثَبت بتبعية إِحْرَاز الْمحل والضمني (غير مضمن كالحشيش النَّابِت فِي أرضه) فَإِنَّهُ مُحرز تبعا لإحراز الأَرْض، وَلَا ضَمَان على متلفه اتِّفَاقًا (وَلَو سلم) أَن الْإِحْرَاز المضمني كالقصدي فِي التَّضْمِين (ففحش تفَاوت الْمَالِيَّة) بَين الْمَنَافِع الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاض وَبَين الْأَعْيَان الَّتِي تلْزم الْغَاصِب عِنْد إِتْلَاف الْمَنَافِع على تَقْدِير التقوم والتضمين (يمْنَع) أَي فحش التَّفَاوُت (ضَمَان الْعدوان الْمَبْنِيّ) صفة الضَّمَان (على) اشْتِرَاط (الْمُمَاثلَة) بَين قطعه بِالتَّعَدِّي، وَمَا وَجب عَلَيْهِ فِي مُقَابلَته مجازاة بقوله - {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} - {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} - ومدار الْمُمَاثلَة على الْمُسَاوَاة فِي الْمَالِيَّة، وَقد عرفت انتفاءها بَين الْمَنَافِع والأعيان (بِخِلَاف الْفَاكِهَة مَعَ النَّقْد) جَوَاب سُؤال وَهُوَ أَنكُمْ ضمنتم متْلف الْفَاكِهَة بِالنَّقْدِ مَعَ عدم الْمُمَاثلَة لكَون الْفَاكِهَة مِمَّا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد بِخِلَاف النَّقْد، وَالْمعْنَى أَن اشْتِرَاط الْمُمَاثلَة يمْنَع ضَمَان الْعدوان بِخِلَافِهَا فَإِنَّهُ لَا يمْنَع(3/284)
الضَّمَان فيهمَا لوُجُود الْمُمَاثلَة بَينهمَا فِي الْجُمْلَة (لاتصافهما) أَي الْفَاكِهَة والنقد (بالاستقلال بالوجود والبقاء) فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا يُوجد مُسْتقِلّا من غير أَن يكون تَابعا لوُجُود شَيْء آخر كتبعية الْمَنَافِع للمحال، وَلذَلِك يسْتَقلّ بِالْبَقَاءِ وَإِن اخْتلفَا فِي زمَان الْبَقَاء بِخِلَاف الْمَنَافِع فَإِنَّهُ لَا اسْتِقْلَال لَهَا بالوجود وَلَا بَقَاء لَهَا أصلا (والتفاوت) بَينهمَا (فِي قدره) أَي فِي مِقْدَار زمَان الْبَقَاء (لَا يعْتَبر) لِأَن قدره غير مضبوط فأدير الحكم على نفس الْبَقَاء دفعا للْحَرج (وسره) أَي سر عدم اعْتِبَار الْمُسَاوَاة فِي الْبَقَاء (أَن اعْتِبَار الْمُسَاوَاة لَا يُجَاب الْبَدَل إِنَّمَا هُوَ حَال الْوُجُوب) أَي وجوب الْبَدَل (لِأَنَّهُ) أَي حَال الْوُجُوب (حَال إِقَامَة أَحدهمَا مقَام الآخر والتساوي) بَين الْبَدَلَيْنِ الْفَاكِهَة والنقد (فِيهِ) أَي فِي الِاسْتِقْلَال بالوجود والبقاء (إِذْ ذَاك) أَي حَال الْوُجُوب (ثَابت) فَلَا يضر التَّفَاوُت فِي الْبَقَاء بعد ذَلِك. (وَمِنْه) أَي من الحكم الْمُخْتَص بمحله الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِمَا يمْنَع من التَّعْلِيل (حل مَتْرُوك التَّسْمِيَة) تركا (نَاسِيا) أَي ذَا نِسْيَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَإِن نسي أَن يُسَمِّي حِين يذبح فليسم وليذكر الله ثمَّ ليَأْكُل " رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ إِلَى غير ذَلِك (على خلاف الْقيَاس) مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال من ضمير الْمُبْتَدَأ أَعنِي حل المستكن فِي الظّرْف (على ترك شَرط الصَّلَاة) قَوْله على صلَة الْقيَاس وَذَلِكَ أَنه إِذا ترك شَرط الصَّلَاة من الطَّهَارَة أَو غَيرهَا (نَاسِيا لَا تصح) الصَّلَاة عِنْد ذَلِك (حَتَّى وَجَبت) إِعَادَتهَا (إِذا ذكر) مَا تَركه، وَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن لَا يحل مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا لفَوَات شَرط حلّه، وَهُوَ التَّسْمِيَة. قَالَ الله تَعَالَى - {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} - وَإِذا كَانَ على خلاف الْقيَاس (فَلَا يلْحق بِهِ) أَي بمتروك التَّسْمِيَة نَاسِيا (الْعمد) أَي مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا، سمي بالعمد مُبَالغَة، أَو الْمَعْنى لَا يلْحق بِالنِّسْيَانِ الْعمد على الْمُسَامحَة لِأَن خلاف الْقيَاس مقتصر على مورد النَّص، وَلَيْسَ الْعمد فِي مَعْنَاهُ لَو فرض كَونه مَعْقُول الْمَعْنى (لعدم) الْجَامِع (الْمُشْتَرك) بَينهمَا لِأَن النَّاسِي مَعْذُور غير معرض عَن ذكر الله تَعَالَى، والعامد جَان معرض عَنهُ (وَلِأَنَّهُ) لَو ألحق الْعَامِد بِهِ (لم يبْق تَحت الْعَام شَيْء) من أَفْرَاده يَعْنِي قَوْله {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} لِأَن مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ لَا يَخْلُو من أحد الْأَمريْنِ إِمَّا مَتْرُوك التَّسْمِيَة نِسْيَانا وَإِمَّا متروكها عمدا (فَينْسَخ) الْكتاب (بِالْقِيَاسِ) أَي بِقِيَاس الْعمد على النسْيَان وَهُوَ غير جَائِز (وَفِيه) أَي فِي هَذَا الدَّلِيل (نظر يَأْتِي) فِي الْكَلَام فِي فَسَاد الِاعْتِبَار. (وَمِنْهَا) أَي الشُّرُوط لحكم الأَصْل (أَن يكون) حكم الأَصْل حكما (شَرْعِيًّا فَلَا قِيَاس فِي اللُّغَة) بِأَن يُقَاس معنى على معنى فِي التَّسْمِيَة باسم لِكَوْنِهِمَا مشتركين فِيمَا يُنبئ عَنهُ الِاسْم (وَتقدم) هَذَا الشَّرْط فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة (وَلَا فِي العقليات) كقياس الْغَائِب على الشَّاهِد كَمَا يُقَال العالمية فِي(3/285)
الشَّاهِد: أَي الْمَخْلُوق معللة بِالْعلمِ، فَكَذَا فِي الْغَائِب عَن الْحس: أَي الْخَالِق (خلافًا لأكْثر الْمُتَكَلِّمين) فَإِنَّهُم جوزوه فِيهَا إِذا تحقق جَامع عَقْلِي كالعلة، أَو الْحَد، أَو الشَّرْط، أَو الدَّلِيل، وَإِنَّمَا لَا يكون الْقيَاس فِي العقليات (لعدم إِمْكَان إِثْبَات المناط) أَي منَاط الحكم فِي الأَصْل (فَلَو أثبت حرارة حُلْو قِيَاسا) مفعول لَهُ للإثبات (على الْعَسَل لَا تثبت عَلَيْهِ الْحَلَاوَة) للحرارة (إِلَّا أَن استقرئ) أَي بِأَن استقرئ: أَي تتبع كل حُلْو فَوجدَ حارا، وَيحْتَمل أَن تكسر الْهمزَة بِمَعْنى إِذا (فَتثبت) حِينَئِذٍ عَلَيْهِ الْحَلَاوَة للحرارة (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الحلو (بِهِ) أَي بالاستقراء كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَالصَّوَاب فَتثبت حِينَئِذٍ الْحَرَارَة فِي ذَلِك الحلو بالاستقراء لِأَن الثَّابِت بِالْقِيَاسِ حكم الْفَرْع، لَا علية الْعلَّة وَهُوَ ظَاهر (لَا بِالْقِيَاسِ فَلَا أصل وَلَا فرع) لِأَنَّهُمَا فرع الْقيَاس، وَهُوَ مَعْدُوم حِينَئِذٍ فَإِن قلت لَا نسلم أَن الْعلية فِيهَا لَا تثبت إِلَّا بالاستقراء قلت: لَو ثَبت عليتها بِدَلِيل آخر صَحَّ أَيْضا قَوْلنَا فَتثبت بِهِ لَا بِالْقِيَاسِ من غير تفَاوت، لِأَن مَدْلُول ذَلِك الدَّلِيل علية الْحَلَاوَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَرَارَة مَعَ قطع النّظر عَن محلهَا الْمَخْصُوص كالعسل، بِخِلَاف الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فَإِن النَّص أَو الاستنباط يُفِيد عليتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الحكم الْمُضَاف إِلَى الْمحل الْخَاص وَهُوَ الأَصْل ابْتِدَاء، ثمَّ يجرد الحكم عَن خُصُوصِيَّة الْمحل فَيجْعَل الْمَعْلُوم نفس الحكم وَيقطع النّظر عَن خُصُوصِيَّة الْمحل (وَعنهُ) أَي عَن لُزُوم حكم الْفَرْع بِالْقِيَاسِ (اشْترط عدم شُمُول دَلِيل حكم الأَصْل الْفَرْع) خلافًا لمشايخ سَمَرْقَنْد، إِذْ لَو شَمله ابْتِدَاء كَانَ نِسْبَة ذَلِك الدَّلِيل إِلَى حكم الْفَرْع كنسبته إِلَى حكم الأَصْل فَلَا يبْقى لأصالته وَجه (وَبِهَذَا) أَي مَا اشْترط من عدم الشُّمُول (بَطل قياسهم) أَي الْمُتَكَلِّمين (الْغَائِب على الشَّاهِد فِي أَنه) أَي الشَّاهِد (عَالم بِعلم) هُوَ صفة زَائِدَة على الذَّات ردا على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ زَعَمُوا أَن علمه تَعَالَى عين ذَاته كَسَائِر صِفَاته (مَعَ فحش الْعبارَة) حَيْثُ أطْلقُوا عَلَيْهِ الْغَائِب وَإِن أَرَادوا الْغَيْبَة عَن الْحس، فَإِن الْفَاحِش من الْكَلَام مَا يستهجن ذكره، {وَالله لَا يعزب عَنهُ شَيْء - وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم} - وَإِنَّمَا بَطل قياسهم (لِأَن ثُبُوته) أَي الْعلم (فيهمَا) أَي الْخَالِق والمخلوق (بِاللَّفْظِ لُغَة) أَي بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ من حَيْثُ اللُّغَة (وَهُوَ) أَي مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ لُغَة (أَن الْعَالم من قَامَ بِهِ) الْعلم فِي لُغَة الْعَرَب، وَإِثْبَات صِفَات الْحق بِمَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ من حَيْثُ الْوَضع مَعَ أَن الْمجَاز فِي الْكتاب وَالسّنة أَكثر من أَن يُحْصى رجم بِالْغَيْبِ (وثمرته) أَي كَون حكم الأَصْل شَرْعِيًّا تظهر (فِي قِيَاس النَّفْي) وَهُوَ قِيَاس يكون حكم الأَصْل فِيهِ نفيا سَوَاء كَانَ حكم الْفَرْع فِيهِ أَيْضا نفيا أَو وجود مَا (لَو كَانَ) النَّفْي (أَصْلِيًّا) بِأَن لَا يكون حَادِثا (فِي الأَصْل امْتنع) الْقيَاس عَلَيْهِ (لعدم مناطه) أَي النَّفْي الْأَصْلِيّ، لِأَن المناط وصف اعْتَبرهُ الشَّارِع وَجعله إجَازَة لحكم شَرْعِي، والعدم الْأَصْلِيّ لَيْسَ بِحكم شَرْعِي لِأَنَّهُ(3/286)
لَا يصلح لِأَن يكون مَطْلُوبا من العَبْد لِاسْتِحَالَة طلب حُصُول الْحَاصِل (بِخِلَافِهِ) أَي النَّفْي إِذا كَانَ (شَرْعِيًّا) بِأَن لَا يكون أَصْلِيًّا بل عدما حَادِثا مَطْلُوبا من العَبْد كَعَدم الْإِتْيَان بالمحرم بِمَعْنى كف النَّفس عَنهُ، وكالعدم الطَّارِئ على الْوُجُود (يَصح) الْقيَاس عَلَيْهِ (بِوُجُودِهِ) أَي بِسَبَب وجود مناطه فِيهِ (وَهُوَ) أَي المناط (عَلامَة شَرْعِيَّة) نصبها الشَّارِع على حكم شَرْعِي وَالنَّفْي إِذا كَانَ حكما شَرْعِيًّا يصلح لِأَن ينصب لَهُ، فَلَا يُقَال: إِن الْعَدَم الْأَصْلِيّ أَيْضا لَهُ عِلّة لِأَنَّهُ إِن كَانَ عدما مُطلقًا فعلته عدم عِلّة الْوُجُود الْمُطلق، وَإِن كَانَ عدما مُضَافا فعلته عدم عِلّة وجود مَا أضيف إِلَيْهِ، لِأَن الْكَلَام فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة المنصوبة على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كَمَا عرفت لَا فِي الْعِلَل الْحكمِيَّة، وَسَيَأْتِي لَك بَيَان لهَذَا الْمَعْنى. (وَمِنْهَا) أَي شُرُوط حكم الأَصْل (أَن لَا يكون) حكم الأَصْل (مَنْسُوخا للْعلم بِعَدَمِ اعْتِبَار) الْوَصْف (الْجَامِع) فِيهِ للشارع لزوَال الحكم مَعَ ثُبُوت الْوَصْف فِيهِ فَلَا يتَعَدَّى الحكم بِهِ إِذا لم يبْق الاستلزام الَّذِي كَانَ دَلِيلا للثبوت. (وَمِنْهَا) أَي أَي من شُرُوط حكم الأَصْل (أَن لَا يثبت) حكم الأَصْل (بِالْقِيَاسِ بل بِنَصّ أَو إِجْمَاع) كَمَا هُوَ معزو إِلَى الْكَرْخِي وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، وَفِي البديع هُوَ الْمُخْتَار (وَهَذَا) معنى (مَا يُقَال أَن لَا يكون) حكم الأَصْل (فرعا) أَي حكم فرع (لاستلزامه) أَي كَون حكم الأَصْل فرعا تحقق (قياسين) أَحدهمَا مقدم وَهُوَ الَّذِي فَرعه صَار أصلا فِي الْقيَاس الثَّانِي (فالجامع إِن اتَّحد فيهمَا كالذرة) أَي كقياس الذّرة (على السمسم بعلة الْكَيْل، ثمَّ هُوَ) أَي السمسم بل قِيَاسه (على الْبر) بعلة الْكَيْل (فَلَا فَائِدَة فِي الْوسط) الَّذِي هُوَ السمسم (لَا مَكَانَهُ) أَي قِيَاس الذّرة (على الْبر، وَإِنَّمَا هِيَ) أَي هَذِه المناقشة (مشاحة لفظية) لِأَن الْمُعْتَرض معترف بِصِحَّة قِيَاس الذّرة على السمسم، غير أَنه يَقُول: تَطْوِيل للمسافة بِغَيْر فَائِدَة وَقد يُجَاب عَن التَّطْوِيل بِأَنَّهُ قد ينسى أصل الْقيَاس الأول ويتذكر أصل الْقيَاس التَّالِي، والتطويل إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد تذكرهما مَعًا (أَو اخْتلف) مَعْطُوف على اتَّحد أَي أَو اخْتلف الْجَامِع فيهمَا (كقياس الجذام على الرتق) وَهُوَ التحام مَحل الْجِمَاع بِاللَّحْمِ (فِي أَنه) أَي الرتق (يفْسخ بِهِ النِّكَاح) بِأَن يُقَال يفْسخ النِّكَاح بالجذام كَمَا يفْسخ بالرتق (بِجَامِع أَنه) أَي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا (عيب يفْسخ فِيهِ البيع) وَإِذا اشْتَركَا فِي الْجَامِع الْمَذْكُور فَكَمَا أَنه يفْسخ بالرتق النِّكَاح كَذَلِك يفْسخ بالجذام (فَيمْنَع) الْخصم (فسخ النِّكَاح بالرتق) الَّذِي هُوَ الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ (فيعلله) أَي الْمُسْتَدلّ فسخ النِّكَاح بالرتق (بِأَنَّهُ) أَي الرتق (مفوت للاستمتاع) الَّذِي شرع النِّكَاح لَهُ (كالجب) أَي كَمَا أَن الْجب قطع الذّكر مفوت للاستمتاع الْمَذْكُور وَقد ثَبت فسخ النِّكَاح بالجب مَنْصُوصا عَلَيْهِ فَيلْحق بِهِ الرتق لاشْتِرَاكهمَا فِي الْجَامِع الْمَذْكُور: أَعنِي تَفْوِيت الِاسْتِمْتَاع(3/287)
(وَهَذِه) الْعلَّة بِمَعْنى تَفْوِيت الِاسْتِمْتَاع (لَيست) مَوْجُودَة (فِي الْفَرْع الْمَقْصُود بالإثبات) أَي الَّذِي قصد إِثْبَات فسخ النِّكَاح فِيهِ، يَعْنِي الجذام لِأَنَّهُ غير مفوت للاستمتاع. (وَمَا نقل عَن الْحَنَابِلَة وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ من تجويزه) أَي تَجْوِيز الْقيَاس على فرع قِيَاس آخر مَعَ اخْتِلَاف الْجَامِع (لتجويز أَن يثبت) الحكم (فِي الْفَرْع بِمَا لم يثبت فِي الأَصْل) أَي بعلة وَوصف لم يثبت بِهِ الحكم فِي الأَصْل (كالنص وَالْإِجْمَاع) يَعْنِي كَمَا أَنه يثبت الحكم فِي الأَصْل بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع وَالْفرع بِغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الْقيَاس كَذَلِك يثبت فِي الأَصْل بعلة وَفِي الْفَرْع بِأُخْرَى فَقَوله كالنص وَالْإِجْمَاع لَيْسَ تمثيلا للموصول فِي قَوْله بِمَا لم يثبت فِي الأَصْل، إِذْ لَا معنى لَهُ بل لتشبيه مَا لم يثبت بِهِ فِي الأَصْل بهما فِي الِاخْتِصَاص بِأحد الْحكمَيْنِ وَعدم التحقق فِي الآخر (يبعد صدوره) أَي صُدُور مَا نقل عَنْهُم (مِمَّن عقل الْقيَاس) وَفهم مَعْنَاهُ (فَإِن ذَاك) أَي ثُبُوت حكم الأَصْل بِدَلِيل غير مَا ثَبت بِهِ حكم الْفَرْع (فِي أصل لَيْسَ فرع قِيَاس) وَلَا مَحْذُور فِي ذَلِك، لِأَن حَاصله يرجع إِلَى أَن الشَّارِع نصب لحكم الأَصْل دَلِيلا ظَاهرا، وَهُوَ النَّص أَو الْإِجْمَاع وأمارة خُفْيَة، وَهُوَ الْعلَّة المثيرة لَهُ وَلم ينصب لحكم الْفَرْع إِلَّا أَمارَة خُفْيَة هِيَ بِعَينهَا تِلْكَ الْعلَّة المثيرة وَحَاصِل الْقيَاس إِظْهَار مُسَاوَاة الْحكمَيْنِ فِي الأمارة الْمَذْكُورَة، فَلَا بُد فِي الْقيَاس من الْمُسَاوَاة بَينهمَا بعلة وَاحِدَة مثيرة للْحكم فيهمَا، وَإِذا فرض كَون مثير حكم الأَصْل الَّذِي هُوَ فرع فِي الْقيَاس الْمُقدم غير مثير حكم الْفَرْع فِي الثَّانِي لزم عدم تحقق معنى الْقيَاس، وَهُوَ ظَاهر فَإِن قلت: مدَار الْجَواب وجود تِلْكَ الأمارة وَعدمهَا، لَا نفي الفرعية ووجودها قلت: الفرعية المعللة بِوَصْف لَا يُوجد فِي الْفَرْع الثَّانِي يسْتَلْزم عدم وجودهَا، فنفي الفرعية كِنَايَة عَن عدم مَا يسْتَلْزم ذَلِك، مَعَ أَن وجودهَا فِيمَا اسْتشْهدُوا بِهِ ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى الذّكر (هَذَا) الْمَذْكُور (إِذا كَانَ الأَصْل) فِي الْقيَاس الْمُتَأَخر (فرعا يُوَافقهُ الْمُسْتَدلّ) لكَون حكمه على وفْق مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (لَا الْمُعْتَرض) لكَونه على خلاف ذَلِك (فَلَو) كَانَ الأَصْل (قلبه) أَي عكس مَا ذكر بِأَن كَانَ فرعا لَا يُوَافقهُ الْمُسْتَدلّ وَيُوَافِقهُ الْمُعْتَرض (فَلَا يعلم فِيهِ) أَي فِي قلبه قَول (الإعدام الْجَوَاز) مِثَاله (كشافعي) أَي كَقَوْلِه (فِي نفي قتل الْمُسلم بالذمي) أَي بقتْله الذِّمِّيّ قصاصا قتل الْمُسلم لَهُ قتل (تمكنت فِيهِ شُبْهَة) وَهِي عدم التكافؤ فِي الشّرف المنشئ عَنهُ الْقصاص (فَلَا يقتل) الْمُسلم (بِهِ) أَي بالذمي (كَمَا) لَا يقتل الْقَاتِل (بالمثقل) لتمكن شُبْهَة العمدية والشبهة دارئة للحد، وَإِنَّمَا لم يجز (لاعْتِرَافه) أَي الْمُسْتَدلّ (بِبُطْلَان دَلِيله بِبُطْلَان مقدمته) أَي مُقَدّمَة ضَرُورَة بطلَان الْكل بِبُطْلَان الْجُزْء، لِأَن الْمُسْتَدلّ يثبت الْقصاص عِنْده بالمثقل (وَلَو) كَانَ هَذَا (فِي مناظرة) لم يقْصد بهَا الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الْمطلب (فَأَرَادَ) بهَا (الْإِلْزَام) للمعترض الْحَنَفِيّ(3/288)
مثلا (لم يلْزم) تَسْلِيمه الْمُعْتَرض (لجَوَاز قَوْله) أَي الْمُعْتَرض (هِيَ) أَي الْعلَّة فِي الأَصْل وَهُوَ الْقَتْل بالمثقل (عِنْدِي غير مَا ذكرت) من تمكن شُبْهَة العمدية وَلَا يجب عَليّ بَيَانهَا فِي عرف المناظرة وَفِيه مَا فِيهِ (أَو اعْترف بخطئي فِي الأَصْل) وَهُوَ الْقَتْل بالمثقل فَلَا يضرني ذَلِك الْفَرْع الَّذِي قسته عَلَيْهِ، وَهُوَ قتل الْمُسلم بالذمي. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط حكم الأَصْل (فِي كتب الشَّافِعِيَّة) مُعْتَرضَة: أَي ذكر فِيهَا، وَقَوله (أَن لَا يكون) حكم الأَصْل (ذَا قِيَاس مركب) مُبْتَدأ خَبره الظّرْف الْمُقدم، وَمعنى كَونه ذَا قِيَاس مركب ثُبُوته (وَهُوَ) أَن الْقيَاس الْمركب (أَي يسْتَغْنى) الْمُسْتَدلّ (عَن إِثْبَات حكم الأَصْل) للْأَصْل بِالدَّلِيلِ (بموافقة الْخصم) مَعَه (عَلَيْهِ) أَي على ثُبُوته للْأَصْل من غير أَن يكون مَنْصُوصا أَو مجمعا عَلَيْهِ. ثمَّ الْقيَاس الْمركب قِسْمَانِ: أَحدهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (مَانِعا علية وصف الْمُسْتَدلّ) حَال من الْخصم لكَونه فَاعِلا للموافقة بِحَسب الْمَعْنى، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْخصم أَيْضا يُعلل حكم الأَصْل لَكِن بِوَصْف آخر كَمَا صرح بِهِ بقوله (معينا) عِلّة (أُخْرَى على أَنَّهَا) أَي الْعلَّة الَّتِي عينهَا (إِن لم تصح منع) أَي الْخصم (حكم الأَصْل) يَعْنِي تَعْيِينه الْعلَّة الْأُخْرَى وَاقع على هَذَا الْوَجْه، وَهُوَ أَنه إِن لم تصح عَلَيْهِ مَا عينه منع حكم الأَصْل، وَلَا يسلم ثُبُوته فِي الأَصْل، فَقَوله على أَنَّهَا حَال عَن الْعلَّة الْأُخْرَى أَي كائنة على أَنَّهَا الخ، أَو عَن ضمير معينا أَي عَازِمًا على أَنَّهَا الخ. وَلما كَانَ محصول هَذَا الْقيَاس إِلْحَاق فرع بِأَصْل حكمه مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسْتَدلّ وخصمه، والخصم يمْنَع كَون ذَلِك الحكم مُعَللا بعلة الْمُسْتَدلّ إِمَّا بِمَنْعه لعليتها أَو لوجودها فِي الأَصْل انقسم إِلَى قسمَيْنِ، فعين المُصَنّف الْقسم الأول بقوله (وَهَذَا) الَّذِي منع فِيهِ الْعلية (مركب الأَصْل لِأَن الْخلاف فِي عِلّة حكم الأَصْل يُوجب اجْتِمَاع قياسيهما) الْمُسْتَدلّ وخصمه (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت حكمه بِقِيَاس آخر، وَذَلِكَ لِأَن حكمه لم يثبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع كَمَا سَيَأْتِي بل ثَبت بِالْقِيَاسِ، وَعند اخْتِلَافهمَا فِي تعْيين الْعلَّة لزم اخْتِلَاف الْقيَاس فَلَزِمَ اجْتِمَاع قياسهما فِي الأَصْل (فَكَانَ) الْقيَاس بِاعْتِبَار المتخاصمين (مركبا وَهُوَ) أَي اجْتِمَاع القياسين فِي الأَصْل (بِنَاء) أَي مَبْنِيّ (على لُزُوم فرعية الأَصْل) وَقد بَيناهُ آنِفا، (وَلذَا) أَي وَلأَجل لُزُوم فرعيته (صَحَّ مَنعه) أَي الْخصم (حكم الأَصْل بِتَقْدِير عدم صِحَّتهَا) أَي علته على مَا مر (فَلَو) كَانَ حكم الأَصْل ثَابتا (بِنَصّ أَو إِجْمَاع عِنْده) أَي الْخصم (انْتَفَى) مَنعه حكم الأَصْل على تَقْدِير عدم صِحَة مَا ادَّعَاهُ وَصفا مَنُوطًا بِهِ الحكم الْمَذْكُور وَأَشَارَ إِلَى الْقسم الثَّانِي بقوله (أَو) حَال كَون الْخصم مَانِعا (وجودهَا) أَي الْعلَّة نَفسهَا فِي الأَصْل معينا عِلّة أُخْرَى (وَهُوَ) أَو وجودهَا (وصفهَا فمركب الْوَصْف) وبأدنى تَمْيِيز يفرق(3/289)
بَينهمَا بِاعْتِبَار الْأَصَالَة والوصفية بالتأويل الْمَذْكُور (أَو بِأَدْنَى تَمْيِيز) بَينهمَا، وَفِيه مَا فِيهِ (فَإِن قلت كَيفَ يَصح قَوْله) أَي الْخصم (إِن لم تصح) الْعلَّة الَّتِي عينهَا (منعت حكم الأَصْل وَظُهُور عدم الصِّحَّة) لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة (فرع الشُّرُوع فِي الْإِثْبَات) أَشَارَ إِلَى أَن كل وَاحِد من وَجْهي التَّسْمِيَة مَوْجُود فِي كل من الْقسمَيْنِ، إِذْ اجْتِمَاع القياسين فِي الأَصْل على تَقْدِير منع وجودهَا فِيهِ أَيْضا حَاصِل: كَمَا أَن مورد الْمَنْع فِي الأول أَيْضا وصف: أَعنِي عَلَيْهِ الْعلَّة غير أَن مُلَاحظَة عليتها يكون قبل مُلَاحظَة وجودهَا، فَبِهَذَا الِاعْتِبَار يحسن اعْتِبَار الْأَصَالَة فِي الأول، وَالْوَصْف فِي الثَّانِي، وَهُوَ التَّمْيِيز الْأَدْنَى، وَفِيه مَا فِيهِ (بِدُونِ الْمُطَالبَة بِهِ) أَي الْإِثْبَات (فيعجز) الْمُعْتَرض عَنهُ (وَفِيه) أَي فِي تَصْحِيح هَذَا (قلب الْوَضع) لِأَنَّهُ يَنْقَلِب الْمُسْتَدلّ مُعْتَرضًا، والمعترض مستدلا. أما الأول فَلِأَن الْمُعْتَرض لم يقل إِن لم تصح علتي الخ إِلَّا بعد طعن الْمُسْتَدلّ فِيهَا والاعتراض عَلَيْهَا بِإِظْهَار عدم صِحَّتهَا. وَأما الثَّانِي فَلِأَن قَوْله إِن لم تصح منعت استدلالي. حَاصله أَن أحد الْأَمريْنِ لَازم: إِمَّا صِحَة علته المستلزمة ثُبُوت مدعاه، وَأما منع حكم الأَصْل الْمُوجب لهدم مدعي الْمُسْتَدلّ فَإِن قلت سلمنَا أَن ظُهُور عدم الصِّحَّة فرع الشُّرُوع إِلَى آخِره، لَكِن قَوْله إِن لم تصح إِلَى آخِره لَا يَسْتَدْعِي ظُهُوره، بل يَكْفِيهِ فَرْضه إِجْمَالا قلت إِذا كَانَ الْمَنْع مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الصِّحَّة بِحَسب نفس الْأَمر وَإِن لم يعلم بِعَيْنِه، وَذَلِكَ غير مَعْلُوم يلْزم عدم الْعلم بِوُجُود الْمَنْع، وَقد يُقَال أَن مُرَاده أَن أحد الْأَمريْنِ لَازم بِحَسب نفس الْأَمر وَإِن لم يعلم بِعَيْنِه (قلت) يَصح قَوْله الْمَذْكُور (لِأَن الصُّورَة الْمَذْكُورَة للْقِيَاس الْمركب) فِي الْقسمَيْنِ (من صور الْمُعَارضَة فِي حكم الأَصْل) لِأَن كل وَاحِد من المتخاصمين يدعى كَون حكم الأَصْل مُعَللا بعلة خلاف عِلّة الآخر، وَيُقِيم الدَّلِيل على مَا ادَّعَاهُ بِخِلَاف الصُّورَة الْأُخْرَى من الْقيَاس الْمركب، وَهُوَ الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهَا لَيست من صور الْمُعَارضَة فِي حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لم يدع كل مِنْهُمَا فِيهَا كَون حكم الأَصْل مُعَللا بعلة أُخْرَى، بل الْمُسْتَدلّ يلْحق فرعا بِأَصْل فِي حكم زعم وجوده فِي الأَصْل لعِلَّة زعم اشتراكهما فِيهَا وَحَاصِل اعْتِرَاض الْمُعْتَرض أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا منع وجود تِلْكَ الْعلَّة، وَإِمَّا منع وجود ذَلِك الحكم فِي الأَصْل (وَفِيه) أَي وَفِيمَا ذكر يَعْنِي صور الْمُعَارضَة يكون (ذَلِك) الانقلاب (فَإِن جوابها) أَي الْمُعَارضَة (منع الْمُسْتَدلّ لما عينه) الْمعَارض من الْعلَّة الَّتِي بهَا يثبت الحكم الَّذِي يَدعِيهِ (فَلَزِمَهُ) أَي الْمعَارض (الْإِثْبَات) لعلية مَا عينه (وَإِذا صَار) الْمعَارض (مَانع) أَي منع مَا عينه الْمُسْتَدلّ من الْعلَّة (لزم الْمُسْتَدلّ إِثْبَاتهَا) أَي إِثْبَات عِلّة مَا عينه (ووجودها) أَي وجود تِلْكَ الْعلَّة وكما أَنه يلْزم الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الْعلية والوجود كَذَلِك يلْزم الْمعَارض غير أَنه اكْتفى بالتفصيل هَهُنَا وَالْحَاصِل أَن كلا من المتخاصمين فِي الْمُعَارضَة مستدل بِالنّظرِ إِلَى مَا يَدعِيهِ، ومانع بِالنّظرِ إِلَى مَا يَدعِيهِ خَصمه (وينتهض)(3/290)
دَلِيل الْمُسْتَدلّ على الْمعَارض بِإِثْبَات الْوُجُود كَمَا أَنه ينتهض دَلِيل الْمعَارض على الْمُسْتَدلّ بِهِ (إِذْ لَيْسَ ثُبُوته) أَي ثُبُوت حكم الأَصْل (إِلَّا بهَا) أَي بِالْعِلَّةِ (للفرعية) أَي للُزُوم فرعية الأَصْل فِيمَا نَحن فِيهِ (بِخِلَاف مَا إِذا أثبت) الْمُسْتَدلّ (الْوُجُود) أَي وجود الْعلَّة (فِي مركب الْوَصْف) إِذْ لَا ينْتَقض دَلِيله حِينَئِذٍ بِإِثْبَات الْوُجُود (فَإِنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (مَعَه) أَي مَعَ إِثْبَات الْمُسْتَدلّ الْوُجُود فِيهِ (يمْنَع حكم الأَصْل، وَهُوَ) أَي مَنعه حكم الأَصْل (دَلِيل أَنه) أَي الْمُعْتَرض (مَانع صِحَة مَا عينه الْمُسْتَدلّ فيهمَا) أَي مركبي الأَصْل وَالْوَصْف (وَإِذن) أَي وَإِذا كَانَ وجود الْعلَّة فِي الأَصْل تَارَة يجْتَمع مَعَ منع الحكم فِيهِ (فَقَوْلهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (للمستدل) فِي مركب الْوَصْف (أَن يثبت وجودهَا) أَي الْعلَّة فِي الأَصْل (بدليله) أَي بِدَلِيل الثُّبُوت (من حس أَو عقل أَو شرع أَو لُغَة) بِأَن يكون وجودهَا فِيهِ محسوسا أَو ثَابتا بِدَلِيل عَقْلِي أَو شَرْعِي أَو بِمُقْتَضى اللُّغَة (فينتهض) جَوَاب الشَّرْط: أَي يقوم الدَّلِيل (عَلَيْهِ) أَي على الْمُعْتَرض (لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (معترف بِصِحَّة الْمُوجب) بِكَسْر الْجِيم، وَهُوَ عَلَيْهِ عِلّة الحكم (ووجوده) أَي الْمُوجب فِي الأَصْل (إِذْ قد ثَبت بِالدَّلِيلِ) فَلَزِمَهُ القَوْل بِمُقْتَضَاهُ (فِيهِ نظر) هَذِه الْجُمْلَة خبر للمبتدأ أَعنِي قَوْلهم، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى مَنْظُور فِيهِ على أَن يكون الظّرْف لَغوا قدم لكَون الْمصدر بِمَعْنى الْمَفْعُول، أَو توسعة فِي الظروف (بل) ينتهض (إِذا أثبتهما) أَي صِحَة مَا عينه الْمُسْتَدلّ ووجوده فِي الأَصْل (كَالْأولِ) أَي مركب الأَصْل حَاصِل الْكَلَام أَن قَوْلهم الْمَذْكُور يُفِيد أَنه يَكْفِي الْمُسْتَدلّ فِي مركب الْوَصْف إِثْبَات الْوُجُود، وَإِذ قد عرفت أَن منع حكم الأَصْل منع لصِحَّة مَا عينه الْمُسْتَدلّ علمت أَنه لَا بُد فِيهِ أَيْضا من إِثْبَات الْأَمريْنِ غير أَنه يتَّجه على عِبَارَته مَا قصرت الطَّاقَة عَن تَوْجِيهه بِحَيْثُ ترْتَفع الْعبارَة وَالله تَعَالَى أعلم. (فَالْأول) أَي مِثَال الأول: يَعْنِي مركب الأَصْل (قَول الشَّافِعِي) فِي أَن الْحر لَا يقتل بِعَبْد قَتله الْمَقْتُول (عبد فَلَا يقتل بِهِ الْحر كَالْمكَاتبِ الْمَقْتُول) ذَاهِبًا (عَمَّا بَقِي) من المَال (بكتابته) أَي ببدلها (و) عَن (وَارِث غير سَيّده) لَا يقتل قَاتله الْحر بِهِ، وَإِن اجْتمع السَّيِّد وَالْوَارِث على طلب الْقصاص فَيلْحق العَبْد بِهِ بِجَامِع الرّقّ (والحنفي يُوَافقهُ) أَي الشَّافِعِي (فِيهِ) أَي فِي فِي حكم الأَصْل، وَهُوَ عدم قتل الْحر بالمكاتب الْمَذْكُور وَيُخَالِفهُ فِي الْعلَّة (فَيَقُول الْعلَّة جَهَالَة الْمُسْتَحق) للْقصَاص (من السَّيِّد وَالْوَرَثَة لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي عبديته) نظرا إِلَى عدم أَدَائِهِ بدل الْكِتَابَة (وحريته) نظرا إِلَى مَا ينزل منزلَة الْأَدَاء. أخرج الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ كَانَ زيد بن ثَابت يَقُول الْمكَاتب عبد مَا بقى عَلَيْهِ دِرْهَم لَا يَرث وَلَا يُورث، وَكَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يَقُول إِذا مَاتَ الْمكَاتب وَترك مَالا قسم مَا ترك على مَا أدّى وعَلى مَا بقى، فَمَا أصَاب مَا أدّى فللورثة وَمَا أصَاب مَا بَقِي فللمسلمين، وَكَانَ عبد الله يَقُول(3/291)
يُؤَدِّي إِلَى موَالِيه مَا بَقِي من مُكَاتبَته ولورثته مَا بَقِي، وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ مثل هَذَا، وَاخْتِلَافهمْ يُوجب اشْتِبَاه الْوَلِيّ، وَالْقصاص يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ (فَإِن صحت) علتي (بَطل إلحاقك) العَبْد بالمكاتب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تصح علتي بل صحت علتك، وَهِي العبدية (منعت حكم الأَصْل فَيقْتل الْحر بِهِ) أَي بالمكاتب فَلم يَنْفَكّ الْحَنَفِيّ عَن عدم الْعلَّة فِي الْفَرْع على تَقْدِير كَونهَا الْجَهَالَة، أَو منع الحكم على تَقْدِير أَنَّهَا الرّقّ فَلَا يتم الْقيَاس على التَّقْدِيرَيْنِ (وَلَا يَتَأَتَّى) أَي لَا يَصح منع حكم الأَصْل فِي الصُّورَتَيْنِ (إِلَّا من مُجْتَهد) إِذْ لَيْسَ للمقلد مُخَالفَة إِمَامه (أَو من علم عَنهُ) أَي الْمُجْتَهد (مساواتها) أَي الْعلَّة الَّتِي أبداها فِي مقَام الِاعْتِرَاض لحكم الأَصْل فينتفى الحكم بانتفائها وَالْمرَاد مساواتها بِحَسب التحقق، وَذَلِكَ لِأَن منع حكم الأَصْل من الْمعَارض عِنْد عدم صِحَة علته مَبْنِيّ على علمه بالتلازم بَينهمَا، وَالْعلم بِهِ إِمَّا بِالِاجْتِهَادِ أَو بالتقليد للمجتهد (وَالثَّانِي) أَي مِثَال مركب الْوَصْف قَول شَافِعِيّ فِي عدم صِحَة تَعْلِيق الطَّلَاق قبل النِّكَاح بِمَا هُوَ سَبَب الْملك (فِي أَن تزوجت زَيْنَب) وَفِي بعض النّسخ فُلَانَة (فطالق) هَذَا (تَعْلِيق للطَّلَاق قبل النِّكَاح فَلَا يَصح كَقَوْلِه) أَي الْقَائِل فُلَانَة (الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق) حَيْثُ لَا يَصح حَتَّى إِذا تزَوجهَا لَا تطلق (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ (كَونه) القَوْل الْمَذْكُور (تَعْلِيقا مُنْتَفٍ فِي الأَصْل) أَي فُلَانَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا (بل تنجيزا) للطَّلَاق (فَإِن صَحَّ) كَونه تنجيزا (بَطل إلحاقك) الْفَرْع الْمَذْكُور بِالْأَصْلِ الْمَذْكُور (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَصح كَونه تنجيزا بل كَانَ تَعْلِيقا (منعت حكم الأَصْل) وَهُوَ عدم وُقُوع الطَّلَاق (فَتطلق) فُلَانَة فِي قَوْله فُلَانَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق إِذا تزَوجهَا فَلَا يتم الْقيَاس على التَّقْدِيرَيْنِ، فقد علم بذلك أَن الصُّورَتَيْنِ اشتركتا فِي أَن الأَصْل فيهمَا فرع، وَفِي أَن كل وَاحِد من المتخاصمين يعين عِلّة أُخْرَى لحكم الأَصْل، وَفِي أَن الْخصم فِي كل مِنْهُمَا يمْنَع أَولا عِلّة الْمُسْتَدلّ ويعين عِلّة أُخْرَى، ثمَّ يَقُول إِن لم تصح علتي منعت حكم الأَصْل غير أَنه يمْنَع فِي الصُّورَة الأولى علية الْمُسْتَدلّ، وَفِي الثَّانِيَة وجودهَا، ومنشأ اخْتِلَافهمَا فِي كَيْفيَّة الْمَنْع أَن الْمَذْكُور للتَّعْلِيل فِي الثَّانِيَة ذُو وَجْهَيْن بِاعْتِبَار أَحدهمَا يصلح للعلية عِنْد الْخصم كتعليق الطَّلَاق قبل النِّكَاح إِن كَانَ بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْملك يَقْتَضِي عدم وُقُوعه، وَإِن كَانَ مَعَه يَقْتَضِي وُقُوعه فيحمله الْخصم أَولا على الْوَجْه الأول وَيمْنَع وجوده فِي فُلَانَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق لِأَنَّهُ تَنْجِيز كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ، ثمَّ نقُول وَإِن لم ترض بذلك أَيهَا الْمُسْتَدلّ وَتقول أَنه تَعْلِيق أمنع الحكم فِي الأَصْل وَأَقُول تطلق لِأَنَّهُ مَعَ الْإِضَافَة وَلَيْسَ مثل هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي الصُّورَة الأولى فَافْتَرقَا، وَالله تَعَالَى أعلم (وَهَذَا) القَوْل الْمَذْكُور فِي الْجَواب عَن الْقيَاس الْمَذْكُور حَاصِل (مَا ذكرنَا من مَنعه) أَي الْمُعْتَرض (الْأَمريْنِ) : وجود الْعلَّة فِي الأَصْل، وَحكمه (وَلَو كَانَ اخْتِلَافهمَا)(3/292)
أَي الْمُسْتَدلّ والمعترض (ظَاهرا من الأول) أَي قبل الشُّرُوع فِي الِاسْتِدْلَال (فِيهِ) أَي فِي حكم الأَصْل (وَلَيْسَ) حكم الأَصْل (مجمعا) عَلَيْهِ مُطلقًا وَلِأَنَّهُمَا تَأْكِيد للْكَلَام السَّابِق (فحاول) الْمُسْتَدلّ (إثْبَاته) أَي حكم الأَصْل بِنَصّ (ثمَّ) إِثْبَات (علته) أَي عِلّة ذَلِك الحكم بمسلك من مسالك الْعلَّة (قيل لَا يقبل) هَذَا الأسلوب لِئَلَّا يلْزم الِانْتِقَال من مَطْلُوب إِلَى آخر، وانتشار كَلَام يُوجب تسلسل الْبَحْث الْمَانِع من حُصُول الْمَقْصُود (وَالأَصَح يقبل) أَي قَوْله (لِأَن إِثْبَات حكم الأَصْل) حِينَئِذٍ مُقَدّمَة (من مُقَدمَات دَلِيله) أَي القائس (على إِثْبَات حكم الْفَرْع) لِأَن ثُبُوت الحكم للفرع فرع ثُبُوته للْأَصْل (فَلَو لم يقبل) إِثْبَات حكم الأَصْل وَهُوَ من مُقَدمَات دَلِيله (لم يقبل) مَنعه أَي أَن يُؤْخَذ فِي الِاسْتِدْلَال (مُقَدّمَة تقبل الْمَنْع) مُطلقًا لِأَن أَخذهَا فِيهِ يسْتَلْزم إِثْبَاتهَا فَلَزِمَ الْمَحْذُور الْمَذْكُور، وَجه الاستلزام أَنَّهَا تمنع فَيجب على الْمُسْتَدلّ إِثْبَاتهَا (وَكَونه) أَي حكم الأَصْل (يَسْتَدْعِي) من الْأَدِلَّة والشرائط (كالآخر) أَي حكم الْفَرْع لكَونه حكما شَرْعِيًّا مثله فيكثر الْجِدَال، بِخِلَاف مُقَدمَات تقبل الْمَنْع فِي المناظرة فِي إِثْبَات حكم وَاحِد (لَا أثر لَهُ) أَي للكون الْمَذْكُور فِي الْفرق بعد مَا تبين أَن حكم الأَصْل صَار من مُقَدمَات دَلِيل القائس على حكم الْفَرْع، إِذْ قد تكْثر مُقَدمَات دَلِيل الْمُدَّعِي أَكثر من ذَلِك، وَفِيه تَعْرِيض لما فِي الشَّرْح العضدي (وَمَا قيل) من أَن (هَذِه اصْطِلَاحَات لَا يشاح فِيهَا) يَعْنِي أَن أَمْثَال عدم قبُول المجادلة لإِثْبَات حكم الأَصْل فِي أثْنَاء إِثْبَات حكم الْفَرْع أُمُور قد اصْطلحَ عَلَيْهَا الأصوليون فِي آدَاب المناظرة، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح على مَا ذكر فِي الشَّرْح الْمَذْكُور (غير لَازم) خبر الْمَوْصُول إِذْ لَا يلْزم اتِّبَاع مُوجبه (لمن لم يلتزمه) أَي الِاصْطِلَاح الْمَذْكُور فَلهُ أَن يعْمل بِخِلَاف ذَلِك الِاصْطِلَاح فِي مناظرته (وَلم يذكر الْحَنَفِيَّة هَذَا) الشَّرْط، وَهُوَ أَن لَا يكون حكم الأَصْل ذَا قِيَاس مركب (لبُطْلَان كَونه شرطا لحكم الأَصْل، بل) انتفاؤه شَرط (للانتهاض) وَقيام الْحجَّة للمناظرة (على المناظر) فِي المناظرة (بِهَذَا الطَّرِيق من الجدل) يَعْنِي لَيْسَ بِشَرْط فِي إِثْبَات حكم الأَصْل، بل فِي إِلْزَام الْخصم فِي إِلْحَاق الْفَرْع الْمَذْكُور فَإِن قلت فِيهِ تنَاقض لِأَن المناظرة بِهَذَا الطَّرِيق تستدعي تحقق الْقيَاس الْمركب، وَشرط الانتهاض على المناظر بِهِ يَسْتَدْعِي انتفاءه قُلْنَا المُرَاد الَّذِي هُوَ من شَأْنه أَن يناظر بِهِ، فَإِنَّهُ إِذا انْتَفَى لزم عدم قابلية الْمحل للمعارضة بِهَذَا الطَّرِيق فيعجز الَّذِي من شَأْنه عَنْهَا فَتدبر فَهِيَ مسئلة جدلية لَا أصولية (وأفادوه) أَي الْحَنَفِيَّة اشْتِرَاطه (بِاخْتِصَار) فَقَالُوا (لَا يُعلل بِوَصْف مُخْتَلف) فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا (كَقَوْل شَافِعِيّ فِي إبِْطَال الْكِتَابَة الْحَالة) كَقَوْلِك كاتبتك على ألف من غير ذكر أجل (عقد) مقول القَوْل خبر مَحْذُوف (يَصح مَعَه التَّكْفِير بِهِ) أَي بالمكاتب بِهَذَا العقد، وَالْجُمْلَة صفة عقد، وَلَو كَانَ هَذَا العقد صَحِيحا لما جَازَ أَن يكفر بِهِ عَن ظِهَار أَو غَيره مِمَّا يُوجب الْكَفَّارَة(3/293)
لِأَنَّهُ لَا يجوز التَّكْفِير إِلَّا بِمَا هُوَ عقد حَقِيقِيّ وَالْمكَاتب لَيْسَ كَعبد يدا وَإِن كَانَ عبدا رَقَبَة (فَكَانَ بَاطِلا كالكتابة على الْخمر) إِذا كَانَ الْمكَاتب وَالْمكَاتب مُسلمين أَو أَحدهمَا مُسلما (فَحكم الأَصْل) وَهُوَ بطلَان الْكِتَابَة على الْخمر (مُتَّفق) عَلَيْهِ (لَكِن علته عِنْد الْحَنَفِيَّة كَون المَال) الَّذِي جعل بدل لكتابة وَهُوَ الْخمر (غير مُتَقَوّم، لَا مَا ذكر من صِحَة التَّكْفِير بِهِ) أَي الْمكَاتب (وَله) أَي للمستدل (إثْبَاته) أَي إِثْبَات الْوَصْف الْمُخْتَلف فِيهِ من حَيْثُ أَنه عِلّة (على مَا تقدم) من جَوَاز إِثْبَات مُقَدمَات الدَّلِيل، أَن كل مُقَدّمَة تقبل الْمَنْع مِنْهَا فإثباتها مَقْبُول. (ولبعضهم) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة أَنه (لَا يجوز التَّعْلِيل بعلة اخْتلف فِي وجودهَا فِي الْفَرْع أَو) فِي (الأَصْل كَقَوْل شَافِعِيّ فِي الْأَخ) هُوَ (شخص يَصح التَّكْفِير بإعتاقه فَلَا يعْتق إِذا ملكه كَابْن الْعم فَإِن أَرَادَ) الشَّافِعِي بإعتاقه (عتقه) أَي الْأَخ (إِذا ملكه) بشرَاء قصد بِهِ الْكَفَّارَة. فِي الْهِدَايَة أَن اشْترى أَبَاهُ أَو ابْنه يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَة جَازَ عَنْهَا، فِي شرح المُصَنّف عَلَيْهَا الْحَاصِل أَنه إِذا دخل فِي ملكه بضع مِنْهُ أَن نوى عِنْد صنعه أَن يكون عتقه عَن الْكَفَّارَة أَجزَأَهُ انْتهى، فقد علم أَنه يتَحَقَّق الْملك ويعقبه الْعتْق، وَالنِّيَّة السَّابِقَة تُؤثر فِي وُقُوع الْعتْق عَن الْكَفَّارَة فقد تحقق هَاهُنَا عتق بِمُوجب الْقَرَابَة من غير إِعْتَاق بعد الْملك، فَإِن كَانَ مُرَاده هَذَا الْعتْق (فَغير مَوْجُود فِي ابْن الْعم) فَلم يتَحَقَّق بِالْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ صِحَة التَّكْفِير بِالْإِعْتَاقِ فِي الأَصْل فَإِنَّهُ إِذا اشْتَرَاهُ بنية الْكَفَّارَة لَا يجوز عَنْهَا اتِّفَاقًا (أَو) أَرَادَ (إِعْتَاقه بعده) بِأَن يصير ملكه ثمَّ يعتقهُ قصدا (فَمَمْنُوع فِي الْأَخ) أَي لَا نسلم وجود هَذَا الْوَصْف فِيهِ، إِذْ هُوَ يعْتق بِمُجَرَّد الْملك (وَذكر) الْبَعْض الْمَذْكُور (الصُّورَتَيْنِ) المذكورتين: أَن تزوجت فُلَانَة، وَعبد فَلَا يقتل بِهِ الْحر إِلَى آخرهما (ثمَّ على مَا ذكرنَا) من أَن الْأَصَح قبُول إِثْبَات حكم الأَصْل مِمَّن هُوَ بصدد إِثْبَات حكم الْفَرْع (لَهُ) أَي للمستدل هُنَا (إِثْبَاتهَا) أَي الْعلَّة الَّتِي اخْتلف فِي وجودهَا فِي الْفَرْع أَو الأَصْل، لِأَن إِثْبَاتهَا من مُقَدمَات دَلِيله على حكم الْفَرْع (وَلَيْسَ من الشُّرُوط) لحكم الأَصْل (كَونه) أَي كَون حكم الأَصْل (قَطْعِيا بل يَكْفِي ظَنّه فِيمَا) أَي فِي قِيَاس (يقْصد بِهِ) أَي بذلك الْقيَاس (الْعَمَل) فَإِن مَا يقْصد بِهِ الِاعْتِقَاد لَا يَكْفِي فِيهِ الظَّن، وَفِيه نظر لأَنهم ذكرُوا فِي العقائد مَا لَا مطمع فِيهِ للْقطع فَتدبر (وَكَون الظَّن يضعف بِكَثْرَة الْمُقدمَات) الظنية، فَإِن كل مُقَدّمَة مُشْتَمِلَة على احْتِمَال خلاف الْمُدَّعِي (لَا يسْتَلْزم الاضمحلال) أَي بطلَان الظَّن رَأْسا فَلَا يبْقى للْقِيَاس فَائِدَة غَايَة الْأَمر لُزُوم ضعفه (بل هُوَ) أَي اجْتِمَاع الظنون (انضمام مُوجب) أَي أَمر يُفِيد الظَّن بِثُبُوت الحكم (إِلَى مُوجب فِي الشَّرْع) إِشَارَة إِلَى أَن الْمُوجب الْعقلِيّ لَا يُفَارق الْمُوجب، وانضمام الْمُوجب إِلَى الْمُوجب يُوجب قُوَّة فِي الْمُوجب. (وَالْخلاف فِي كَونه) أَي حكم الأَصْل (ثَابتا بِالْعِلَّةِ عِنْد(3/294)
الشَّافِعِيَّة) وَالْحَنَفِيَّة السمرقنديين (وبالنص عِنْد الْحَنَفِيَّة) الْعِرَاقِيّين والدبوسي والبزدوي والسرخسي وَغَيرهم (لَفْظِي) عِنْد تَحْقِيق مُرَادهم يرجع إِلَى أَمر يُوهِمهُ ظَاهر لَفظهمْ، وَلَا نزاع بَينهم بِحَسب الْمَعْنى والحقيقة (فمراد الشَّافِعِيَّة) من علية الْوَصْف (أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (الباعثة عَلَيْهِ) أَي على شرع الحكم فِي الأَصْل، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون عِلّة غائية فَيلْزم استكمال الشَّارِع بهَا بل هِيَ الْحِكْمَة الْمُقْتَضِيَة للتشريع (و) مُرَاد (الْحَنَفِيَّة) من ثُبُوت الحكم بِالنَّصِّ (أَنه) أَي النَّص إِنَّمَا هُوَ (الْمُعَرّف) لِلْعِلَّةِ الباعثة لِأَنَّهَا تستنبط مِنْهُ (وَلَا يتَأَكَّد فِي ذَلِك) أَي مرادي الْفَرِيقَيْنِ (وَكَيف) يَصح إِرَادَة أَنَّهَا تثبت الحكم (وَقد تكون) الْعلَّة (ظنية) بِاعْتِبَار عليتها لَهُ لعدم مَا يُفِيد الْقطع بهَا، أَو بِاعْتِبَار وجودهَا فِيهِ (وَحكم الأَصْل قَطْعِيّ) لثُبُوته بِنَصّ أَو إِجْمَاع قَطْعِيّ، والظني لَا يُوجب الْقطع، وَعَن السُّبْكِيّ إِنْكَار تَفْسِير الْعلَّة بالباعث، وتفسيرها بالمعرف بِمَعْنى كَونهَا أَمارَة مَنْصُوبَة يسْتَدلّ بهَا الْمُجْتَهد على وجود الحكم إِذا لم يكن عَارِفًا بِهِ، وَيجوز أَن يتَخَلَّف فِي حق الْعَارِف كالغيم الرطب أَمارَة للمطر وَقد يتَخَلَّف، الاسكار مثلا عِلّة للتَّحْرِيم فَهُوَ حَيْثُ وجده قضى بِالتَّحْرِيمِ مَعَ أَنه يعرف تَحْرِيمهَا بِالنَّصِّ، كَذَا ذكره الشَّارِح فِي إطناب غير منقح، وَكَانَ مُرَاد السُّبْكِيّ أَن تَحْرِيم الْخمر على وَجه الْإِطْلَاق يعرفهُ بِالنَّصِّ، ووجوده فِي الخصوصات يعرفهُ بالإسكار، فَعلمه بِأَن تَحْرِيم الْخمر بِسَبَب الْإِسْكَار وَقد يعرفهُ فِي بعض الخصوصات بِدُونِ الْإِسْكَار لاطلاعه على النَّص الدَّال على تَحْرِيم الْخمر وَعلمه بِأَنَّهَا خمر، فالتخلف هَاهُنَا من جَانب الأمارة على عكس الْغَيْم الرطب، فَإِن التَّخَلُّف فِيهِ من جَانب ذِي الأمارة وَبِالْجُمْلَةِ لم يعْتَبر فِي الْمُعَرّف الطَّرْد وَالْعَكْس كَمَا قَالَ بعض المنطقيين من أَنه يجوز التَّعْرِيف بالأعم والأخص.
وَأَنت خَبِير بِأَن مَا ذكره المُصَنّف أقرب إِلَى التَّحْقِيق (وَمن شُرُوط الْفَرْع) أَي من شُرُوط الْقيَاس الْمُعْتَبر وجودهَا فِي جَانب الْفَرْع الْمُعَرّف (لبَعض الْمُحَقِّقين) كَابْن الْحَاجِب (أَن يُسَاوِي) الْفَرْع (الأَصْل فِيمَا علل بِهِ حكمه) أَي الأَصْل (من عين) بَيَان للموصول: أَي يُسَاوِي الْفَرْع الأَصْل فِي عين الْعلَّة بِأَن تُوجد بِعَينهَا فِي الْفَرْع كَمَا وجدت فِي الأَصْل (كالنبيذ) أَي كمساواة النَّبِيذ (للخمر فِي الشدَّة المطربة) اللَّازِمَة للإسكار، وَلذَا يُفَسر بهَا (وَهِي) أَي الشدَّة المطربة (بِعَينهَا مَوْجُودَة فِي النَّبِيذ، أَو جنس) لِلْعِلَّةِ مَعْطُوف على عين وَعند ذَلِك مَا يقْصد مُسَاوَاة الْفَرْع للْأَصْل فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْجِنْس كَمَا أَنه الْعين فِي الأول (كالأطراف) وَهِي الْفَرْع (على الْقَتْل) وَهُوَ الأَصْل (فِي الْقصاص بِالْجِنَايَةِ) وَالْمرَاد إِتْلَاف الْأَطْرَاف قِيَاسا (على إِتْلَاف النَّفس) بِجَامِع الْجِنَايَة الْمُشْتَركَة بَينهمَا فَإِنَّهَا جنس للجناية المحققة فِي إِتْلَاف النَّفس والأطراف، وهما مُخْتَلِفَانِ بِالْحَقِيقَةِ (وَفِيمَا يقْصد) مَعْطُوف على الْمَوْصُول: أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع أَن يُسَاوِي الأَصْل فِيمَا يقْصد الْمُسَاوَاة(3/295)
بَين الْفَرْع وَالْأَصْل (من عين الحكم) بَيَان لما يقْصد (كَالْقَتْلِ بالمثقل) الْمَقِيس (عَلَيْهِ) أَي على الْقَتْل بالمحدد فِي الْقصاص فَإِن الْقَتْل الْكَائِن فِي الْفَرْع بِعَيْنِه هُوَ الْكَائِن فِي الأَصْل، وَفِي إِطْلَاق عين الحكم على الْقصاص مُسَامَحَة، لِأَن الحكم فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ وجوب الْقصاص (أَو جنسه) أَي جنس الحكم (كالولاية) أَي كثبوت الْولَايَة (على الصَّغِيرَة فِي انكاحها) مُتَعَلق بِالْولَايَةِ المقيسة (على) ثُبُوت الْولَايَة عَلَيْهَا فِي (مَالهَا) فَإِن ولَايَة الانكاح من جنس ولَايَة المَال لَا عينهَا، كَذَا قَالُوا. (و) قَالَ المُصَنّف (لَا معنى للتقسيم) فِي كل من هذَيْن الشَّرْطَيْنِ (أما فِي الْعلَّة فَلَا نعني بِالْعينِ) أَي بِعَين الْعلَّة (إِلَّا مَا علل بِهِ) فِي الْقيَاس (حكم الأَصْل) وَلَا شكّ أَنما علل بِهِ نفس الْجِنْس لَا نَوعه، وَإِلَّا فَلَا يَصح الْقيَاس، لِأَنَّهُ لَا بُد من مُشَاركَة الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عين الْعلَّة (وَكَونه) أَي كَون مَا علل بِهِ (جِنْسا لشَيْء) مُتَحَقق فِي الأَصْل، وَشَيْء آخر مُتَحَقق فِي الْفَرْع (لَا يُوجب أَن الْعلَّة جنس الْوَصْف) لِأَن الْوَصْف وَالْعلَّة شَيْء وَاحِد لَا مُغَايرَة بَينهمَا (فالجناية على الذَّات) احْتِرَاز عَن الْجِنَايَة على المَال والذات تعم الْكل والجزء (عين مَا علل بِهِ) حكم الأَصْل (لَا جنس مَا علل بِهِ) كَمَا عرفت (وَإِن كَانَ هُوَ) أَي الْجِنَايَة الْمَذْكُورَة، ذكر الضَّمِير بِاعْتِبَار الْخَبَر (جنس جِنَايَة الْقَتْل. وَأما الحكم فَلَيْسَ المعدى قطّ) من الأَصْل إِلَى الْفَرْع، وَهُوَ (جنس حكم الأَصْل بل عينه) وَقد سبق مَا يُغْنِيك عَن زِيَادَة الْبَيَان (فَالْمَال الأَصْل، وَالنَّفس الْفَرْع، وَحكم الأَصْل ثيوت الْولَايَة) الْمُطلقَة عَن قيد النَّفس وَالْمَال (فيعدى) أَي ثُبُوت الْولَايَة بِعَيْنيهِ من المَال (إِلَى النَّفس، وَقَوله) أَي بعض الْمُحَقِّقين هَا هُنَا (وَهِي بِعَينهَا الخ) حَال كَونه (يُنَاقض مَا قدمه) فِي أول بحث الْقيَاس (من الْمثل) أَي الثَّابِت فِي الْفَرْع مثل عِلّة الأَصْل لَا عينهَا لِأَن الْمَعْنى الشخصي لَا يقوم بمحلين (رَجَعَ إِلَى الصَّوَاب) خبر المتبدأ، فِيهِ تَعْرِيض بِأَن قَوْله رَجَعَ إِلَى الصَّوَاب لَا نَفسه، هَذَا، وَلَا يخفى عَلَيْك سَعَة ميدان التَّوْجِيه إِن حصلت الْعِنَايَة (وَأَن لَا يتَغَيَّر فِيهِ) أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع أَن لَا يتَغَيَّر فِي الْفَرْع، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله أَن يُسَاوِي (حكم نَص أَو إِجْمَاع على حكم الأَصْل) الْجَار مُتَعَلق من حَيْثُ الْمَعْنى بِالْإِجْمَاع وَالنَّص على سَبِيل التَّنَازُع أعمل الثَّانِي، وَقدر فِي الأول: أَي نَص دَال على حكم الأَصْل، يَعْنِي إِذا كَانَ هُنَاكَ نَص دَال أَو إِجْمَاع على حكم الأَصْل على وَجه وَكَيْفِيَّة من الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَغير ذَلِك، وَقد تحقق فِي الأَصْل فَلَا بُد أَن يتَحَقَّق ذَلِك فِي الْفَرْع على ذَلِك الْوَجْه أَيْضا (كظهار الذِّمِّيّ) الْمَقِيس (على) ظِهَار (الْمُسلم فِي الْحُرْمَة) على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْفِقْه (فَإِن المعدى) من الأَصْل وَهُوَ ظِهَار الْمُسلم إِلَى الْفَرْع وَهُوَ ظِهَار الذِّمِّيّ (غير حكم الأَصْل وَهِي) أَي حكم الأَصْل، أنثه بِاعْتِبَار الْخَبَر (الْحُرْمَة المتناهية بِالْكَفَّارَةِ) المتضمنة لِلْعِبَادَةِ (إِذْ لَا عبَادَة) تصح (مِنْهُ) أَي الذِّمِّيّ لعدم الْإِيمَان، تَعْلِيل للتغير الْمَذْكُور(3/296)
(فالحرمة فِي الْفَرْع مُؤَبّدَة) لعدم انتهائها بِالْكَفَّارَةِ لما ذكر فَإِن قيل فَلَا يُقَاس ظِهَار العَبْد على ظِهَار الْحر أَيْضا، لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام كَمَا فِي الْحر فقد تغير فِي الْفَرْع حكم النَّص الدَّال على حكم الأَصْل لما فِيهِ من تَرْتِيب خِصَال الْكَفَّارَة فَالْجَوَاب مَا أَفَادَهُ المُصَنّف بقوله (بِخِلَاف العَبْد) فَإِنَّهُ (أهل) لِلْكَفَّارَةِ إِلَّا أَنه (عَاجز) عَن التَّكْفِير بِالْمَالِ لانْتِفَاء الْملك (كالفقير) أَي الْحر الْعَاجِز عَن ذَلِك، فَكَمَا صَحَّ ظِهَار الْفَقِير صَحَّ ظِهَار العَبْد الْمُسلم حَتَّى لَو عتق وَأصَاب مَالا كَانَت كَفَّارَته بِالْمَالِ فَإِن قلت فَكَذَلِك الذِّمِّيّ أَن أسلم صَار أَهلا وَالْحَاصِل أَنكُمْ إِن اعتبرتم الْأَهْلِيَّة بِالْفِعْلِ فَقَط فَهِيَ مفقودة فيهمَا مَعًا، وَإِن عممتم فَلَا فرق بَينهمَا أَيْضا قلت بل بَينهمَا فرق، لِأَن الذِّمِّيّ لَا أَهْلِيَّة لَهُ لِلْكَفَّارَةِ مُطلقًا، بِخِلَاف العَبْد فَإِن لَهُ أَهْلِيَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى بعض أَنْوَاعهَا، على أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على عدم الْفرق بَين الْمُسلم الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي صِحَة الظِّهَار بِخِلَاف الذِّمِّيّ (أَو على غَيره) عطف على حكم الأَصْل: أَي وَأَن لَا يتَغَيَّر فِي الْفَرْع حكم نَص أَو إِجْمَاع على غير حكم الأَصْل لِئَلَّا يلْزم إبِْطَال النَّص أَو الْإِجْمَاع بِالْقِيَاسِ (فَبَطل قِيَاس تمْلِيك الطَّعَام على) تمْلِيك (الْكسْوَة) فِي وُجُوبه عينا (فِي الْكَفَّارَة) لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يتَغَيَّر فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ تمْلِيك الطَّعَام حكم النَّص الَّذِي يدل على حكم هُوَ وجوب الطَّعَام مَعَ عدم التَّعْيِين، وَلَا شكّ أَنه غير حكم الأَصْل (فَإِنَّهُ فِي الْفَرْع) أَي فَإِن حكم النَّص فِي الْإِطْعَام (أَعم من الْإِبَاحَة وَالتَّمْلِيك) لِأَن الْإِطْعَام الْمَنْصُوص أَعم مِنْهُمَا بِحَسب اللُّغَة إِذْ هُوَ جعل الْغَيْر طاعما، لِأَنَّهُ فعل مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ، لَازمه ومطاوعه طعم، وَذَلِكَ يحصل بالتمكين من الطَّعَام على أَي وَجه كَانَ، فالتغيير بِغَيْر (وَالسّلم الْحَال) أَي وَبَطل قِيَاس السّلم الْغَيْر الْمُؤَجل فِي الْحَال (بالمؤجل) أَي عَلَيْهِ (لِأَن حكم الأَصْل، وَهُوَ السّلم الْمُؤَجل اشْتَمَل على جعل الْأَجَل خلفا عَن ملك الْمُسلم فِيهِ) للْمُسلمِ إِلَيْهِ (وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ) أَي الْمُسلم فِيهِ لِأَن من شُرُوط جَوَاز البيع كَون الْمَبِيع مَوْجُودا مَمْلُوكا للْبَائِع أَو مُوكله، فَلَمَّا رخص الشَّارِع فِي السّلم بِصِيغَة الْأَجَل الْمَعْلُوم علمنَا أَنه أَقَامَ الْأَجَل الَّذِي هُوَ سَبَب الْقُدْرَة الْحَقِيقِيَّة عَلَيْهِ مقَامهَا، وفوات الشَّيْء إِلَى خلف كلا فَوَات (وَإِن) كَانَ الْمُسلم فِيهِ (عِنْده) أَي الْمُسلم إِلَيْهِ (بِنَاء على كَونه) أَي الْمُسلم فِيهِ (مُسْتَحقّا لحَاجَة أُخْرَى) فَيكون بِمَنْزِلَة الْعَدَم كَالْمَاءِ الْمُسْتَحق للشُّرْب فِي جَوَاز التَّيَمُّم (والإقدام) على الْإِسْلَام (دَلِيله) أَي كَونه مُسْتَحقّا لَهَا، وَإِلَّا لباعه فِي الْحَال بأوفر ثمن (بِدَلِيل النَّص على الْأَجَل) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أجل مَعْلُوم الْجَار مُتَعَلق بقوله اشْتَمَل، كَأَنَّهُ قيل من أَيْن لكم أَن حكم الأَصْل مُشْتَمل على جعل الْأَجَل خلفا عَن الْملك وَالْقُدْرَة، فَأجَاب بِهِ فَإِن قلت: النَّص دلّ على اعْتِبَار الْأَجَل لَا مَا ذكرت من الخلفية قلت: لما كَانَ اشْترط الْملك وَالْقُدْرَة أَمر مقررا فِي البيع مُطلقًا وَوجدنَا(3/297)
فِي النَّص مَا يصلح لِأَن يكون بَدَلا عَنْهُمَا عرفنَا أَن الْمَقْصُود من اشْتِرَاطه ذَلِك (وَهُوَ) أَي جعل الْأَجَل خلفا الخ (مُنْتَفٍ من) السّلم (الْحَال) قيل: يلْزم من هَذَا تَغْيِير حكم الأَصْل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْفَرْع، لَا تَغْيِير حكم نَص على غير حكم الأَصْل وَأجِيب بِأَنَّهُ فِيهِ تَغْيِير حكم نَص آخر أَيْضا، وَهُوَ نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان فَهُوَ يصلح مِثَالا لكل من الْقسمَيْنِ (وَلَا يخفى أَنه) أَي الشَّرْط الْمَذْكُور (بِالذَّاتِ شَرط التَّعْلِيل، لَا) شَرط (حكم الْفَرْع، ويستلزم) انتفاؤه (التَّغَيُّر فِي الْفَرْع) فَإِن قيل جوزتم دفع قيمَة الْوَاجِب فِي الزَّكَاة قِيَاسا على الْعين، وَصرف الزَّكَاة إِلَى صنف وَاحِد قِيَاسا على صرفهَا إِلَى الْكل بعلة دفع الْحَاجة، وَفِيه تَغْيِير لحكم النَّص الدَّال على وجوب عين الشَّاة، وَالدَّال على كَونهَا جَمِيع الْأَصْنَاف قُلْنَا: تَغْيِير النصين مَمْنُوع كَمَا سبق فِي أَوَاخِر التَّقْسِيم الثَّانِي للمفرد بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَتقدم دفع النَّقْض بِدفع الْقيم) وَكَذَا تقدم دَفعه فِي جَوَاز دفع الزَّكَاة لصنف وَأورد أَيْضا بِأَنَّهُ ثَبت وجوب اسْتِعْمَال المَاء فِي تَطْهِير الثَّوْب من النَّجَاسَة بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقد جوزتم إِزَالَتهَا بِكُل مَائِع طَاهِر قالع سوى المَاء فَفِيهِ تَغْيِير النَّص، فَأجَاب بقوله (وإلحاق غير المَاء بِهِ) أَي بِالْمَاءِ فِي إِزَالَة النَّجَاسَة الْحَقِيقِيَّة إِنَّمَا هُوَ (للْعلم بِأَن الْمَقْصُود) للشارع من الْأَمر بِغسْل الثَّوْب (الْإِزَالَة) للنَّجَاسَة (لَا الِاسْتِعْمَال) للْمَاء من حَيْثُ هُوَ (وَإِن نَص على المَاء فِي قَوْله: واغسليه بِالْمَاءِ للاكتفاء بِقطع محلهَا (أَي النَّجَاسَة تَعْلِيل للْعلم بِالْمَقْصُودِ: أَي للْإِجْمَاع على الِاكْتِفَاء عَن اسْتِعْمَال المَاء بِقطع محلهَا فِي إِسْقَاط الْوَاجِب، وَلَو كَانَ اسْتِعْمَاله وَاجِبا لعَينه لم يسْقط بذلك (فيتعدى) هَذَا الحكم وَهُوَ طَهَارَة الثَّوْب (إِلَى كل مزيل) الخ، وَإِنَّمَا نَص على المَاء، لِأَنَّهُ الْغَالِب فِي الِاسْتِعْمَال مَعَ مَا فِيهِ من الْيُسْر (بِخِلَاف) إِزَالَة (الْحَدث) بالمائع الْمَذْكُور، وَجَوَاب سُؤال، وَهُوَ أَنه: جوزتم إِزَالَة النَّجَاسَة عَن الثَّوْب بالمائع الْمَذْكُور لكَون مَقْصُود الشَّارِع إِزَالَة النَّجَاسَة وَهِي حَاصِلَة بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يجوز إِزَالَة الْحَدث بِهِ أَيْضا، لِأَن مَقْصُوده إِزَالَة تِلْكَ النَّجَاسَة الْحكمِيَّة. فَأجَاب بِمَا حَاصله أَن إِزَالَة الْحَدث غير مَعْقُول الْمَعْنى كإزالة النَّجَاسَة عَن الثَّوْب إِذْ (لَيْسَ) الْحَدث (أمرا محققا) مَوْجُودا فِي الْخَارِج مَعَ قطع النّظر عَن اعْتِبَار الشَّرْع (يزَال) بِالْمَاءِ كالنجاسة على الثَّوْب وَالْبدن (بل) هُوَ (اعْتِبَار) شَرْعِي اعْتَبرهُ قَائِما بالأعضاء ثمَّ (وضع المَاء لقطعه) فَهُوَ أَمر تعبدي، وَإِلَّا فالماء إِنَّمَا يزِيل الأجرام الحسية لَا الْأُمُور المعنوية (فاقتصر حكمه) أَي حكم الْقطع الْمَذْكُور (على مَا علم قطع الشَّارِع اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار الْحَدث (عِنْده) وَهُوَ اسْتِعْمَال المَاء، وَلَا يُقَاس الْمَائِع الآخر عَلَيْهِ فِي هَذَا، فَإِن الطَّهَارَة على خلاف الْقيَاس لما ذكر، وَقيل الْقيَاس أَن يَتَنَجَّس المَاء بِمُجَرَّد ملاقاة النَّجَاسَة فَتخلف النَّجَاسَة البلة النَّجِسَة، وَكَذَا فِي الْمرة الثَّانِيَة وهلم جرا. وَأجِيب بِأَن الشَّارِع أسقط(3/298)
هَذَا لتتحقق إِزَالَة النَّجَاسَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِذ سقط التنجس بالملاقاة فِيهِ) أَي فِي المَاء (لتحَقّق الْإِزَالَة سقط) التنجس بالملاقاة (فِي غَيره) أَي غير المَاء من الْمَائِعَات (لذَلِك) أَي لتحَقّق الْإِزَالَة، والاشتراك فِي الْعلَّة يُوجب الِاشْتِرَاك فِي الحكم. (وَمَا يُقَال) من أَن (فِي المَاء) سقط مُقْتَضى الْقيَاس الْمَذْكُور وَهُوَ التنجس بالملاقاة (للضَّرُورَة) بِخِلَاف غَيره لعدم الضَّرُورَة (أَن أُرِيد ضَرُورَة الْإِزَالَة فَكَذَا فِي غَيره) سقط مُقْتَضَاهُ فِي غَيره من سَائِر الْمَائِعَات لتِلْك الضَّرُورَة، وَفِيه أَن حَقِيقَة الضَّرُورَة اسْتِحَالَة الْإِزَالَة عِنْد عدم السُّقُوط، وَهِي لَا تُوجد فِي غير المَاء لاندفاع الضَّرُورَة بِهِ فَتدبر (أَو) أُرِيد (أَنه لَا يزِيل سواهُ) أَي المَاء حسا (فَلَيْسَ) هَذَا المُرَاد (وَاقعا) وَهُوَ ظَاهر (أَو لَا يزِيل) النَّجَاسَة غَيره: أَي غير المَاء (شرعا فَمحل النزاع) فَعلم أَنه لَا وَجه لما يُقَال، وَقد يُقَال أَن الْخصم إِن كَانَ مستدلا فَجعله الشَّارِع فِيهِ عِلّة الحكم غير صَحِيح، وَأما إِذا كَانَ مَانِعا فَيجوز أَن يَجْعَل سندا لمنع وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع، وَحَاصِله لم لَا يجوز أَن تكون الْعلَّة هَكَذَا وَلَا يضرّهُ عدم تَسْلِيم الْخصم إِيَّاه (وَأَن لَا يتَقَدَّم) حكم الْفَرْع بالشرعية (على حكم الأَصْل) أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع هَذَا (كَالْوضُوءِ) إِذا قيس (فِي وجوب النِّيَّة) فِيهِ (على التَّيَمُّم) بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا تَطْهِير حكمي، لِأَن شَرْعِيَّة الْوضُوء قبل شَرْعِيَّة التَّيَمُّم، إِذْ شرع الْوضُوء قبل الْهِجْرَة، وَالتَّيَمُّم بعْدهَا (لثُبُوته) أَي حكم الْفَرْع: أَي الْوضُوء من (قبل علته) أَي قبل ثُبُوت علته لِأَنَّهَا مستنبطة من حكم الأَصْل الْمُتَأَخر (إِلَّا) أَن يكون (إلزاما بِمَعْنى لَا فَارق) الِاسْتِثْنَاء إِمَّا مُنْقَطع، وَالْمعْنَى قِيَاس الْوضُوء على التَّيَمُّم لَا يَصح لما ذكر لَكِن إِن لم يكن الِاسْتِدْلَال بطرِيق الْإِلْزَام على الْخصم يَصح، تَقْرِيره أَن النِّيَّة فِي التَّيَمُّم وَاجِبَة إِجْمَاعًا، وَقد اعترفتم بِعَدَمِ الْفرق بَين الْوضُوء وَالتَّيَمُّم كل مِنْهُمَا طَهَارَة حكمِيَّة وَلم يخْتَص كل شَيْء مِنْهُمَا بخصوصية لَا تُوجد فِي الآخر، فَلَزِمَ عَلَيْكُم الِاعْتِرَاف بِوُجُوب النِّيَّة فِي الْوضُوء أَيْضا وَإِلَّا لاختص التَّيَمُّم بخصوصية لم تُوجد فِي الْوضُوء، وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض، وَإِمَّا مُتَّصِل، وَالْمعْنَى لَا يسْتَدلّ بِوُجُوب النِّيَّة فِي التَّيَمُّم على وُجُوبهَا فِي الْوضُوء بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَّا بطرِيق الْإِلْزَام (وأبدل متأخرو الْحَنَفِيَّة هَذَا) الشَّرْط (بِأَن يكون) الْفَرْع (نَظِيره) أَي مثل الأَصْل فِي الْوَصْف الَّذِي تعلق بِهِ الحكم فِي الأَصْل بِأَن يُوجد مثل ذَلِك فِي الْفَرْع من غير تفَاوت (وَلَيْسَ الْوضُوء نَظِيره) أَي التَّيَمُّم (لِأَنَّهُ) أَي الْوضُوء (مطهر فِي نَفسه: أَي منظف) فسره لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد من الطَّهَارَة الْمَعْنى الْمُتَنَازع، فتلزم المصادرة على الْمَطْلُوب، بل المُرَاد التَّنْظِيف من الأخباث والأوساخ (وَالتَّيَمُّم ملوث، اعْتبر مطهرا شرعا عِنْد قصد أَدَاء الصَّلَاة، وَهُوَ) أَي قصد أَدَائِهَا (النِّيَّة) الْوَاجِبَة فِيهِ (فَلَا يلْزم فِيمَا هُوَ مطهر فِي نَفسه منظف قصر طَهَارَته شرعا على(3/299)
ذَلِك الْقَصْد) أَي قصد أَدَاء الصَّلَاة حَتَّى لَا تستباح بِهِ إِلَّا مَعهَا (وَحَاصِله) أَي حَاصِل هَذَا الْمَنْع (فرق) بَين الْمَقِيس والمقيس عَلَيْهِ (من جِهَة الْآلَة الَّتِي يُقَام بهَا الفعلان) الْوضُوء وَالتَّيَمُّم وَهِي المَاء، الْمُطلق والصعيد الطَّاهِر (وَتجوز بِالْوضُوءِ فِي المَاء) وبالتيمم فِي التُّرَاب، يَعْنِي ذكر الْوضُوء فِي قَوْلهم الْوضُوء مطهر وَالتَّيَمُّم ملوث (كَمَا يفِيدهُ التَّعْلِيل) فَإِنَّهُ صرح فِيهِ بقوله من جِهَة الْآلَة إِلَى آخِره، بعد ذكر التَّنْظِيف والتلويث. وَلما نفى الْمُعْتَرض كَون الْوضُوء نَظِير التَّيَمُّم فِيمَا علل بِهِ وجوب النِّيَّة فِيهِ. وَهُوَ كَونه ملوثا فَإِنَّهُ منظف فِي نَفسه أجَاب المُصَنّف عَن الْمُسْتَدلّ بِبَيَان عدم كَونه ملوثا فِي وُجُوبهَا لكَونه فِي ذَلِك اعْتِبَارا شَرْعِيًّا يَسْتَوِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تنظيف الْآلَة وتلويثها فَقَالَ (وَأَنت تعلم أَن التَّعْدِيَة) هُنَا (لحكم شَرْعِي هُوَ اشْتِرَاط النِّيَّة لثُبُوت التَّطْهِير بِالتُّرَابِ) . ثمَّ فسر التَّطْهِير بقوله (أَي رفع المانعية الشَّرْعِيَّة) من قرْبَان الصَّلَاة وَنَحْوهَا الْقَائِمَة بالأعضاء (لَا) أَن التَّعْدِيَة (لوصف طبيعي) للمقيس عَلَيْهِ: أَي لَا لثُبُوت وصف طبعي المَاء وَالتُّرَاب من حَيْثُ الْإِفْضَاء إِلَى ذَلِك الثُّبُوت (وَالْمَاء كالتراب فِي ذَلِك) أَي فِي رفع المانعية الشَّرْعِيَّة فَكَمَا أَن الرّفْع الْمَذْكُور بِسَبَب اسْتِعْمَال التُّرَاب لَيْسَ مَعْقُول الْمَعْنى، فَكَذَلِك سَبَب اسْتِعْمَال المَاء لَيْسَ مَعْقُول الْمَعْنى (وَقد شَرط الشَّرْع فِي ذَلِك) أَي الرّفْع الْمَذْكُور (النِّيَّة) فِي اسْتِعْمَال التُّرَاب (فَكَذَا المَاء، وَكَونه) أَي المَاء (لَهُ وصف اخْتصَّ بِهِ طبيعي هُوَ إِزَالَة القذر والتنظيف لَا دخل لَهُ فِي الحكم) الْمَذْكُور: أَي اشْتِرَاط النِّيَّة لرفع المانعية (وَلَا الْجَامِع) بَين الْمَقِيس والمقيس عَلَيْهِ: وَهُوَ الطَّهَارَة الْحكمِيَّة مَعْطُوف على الحكم (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (عِنْد قصد الصَّلَاة تجوز) بِالصَّلَاةِ (عَن قربَة مَقْصُودَة لذاتها) أَي مَشْرُوعَة ابْتِدَاء يعقل فِيهَا معنى الْعِبَادَة (لَا تصح إِلَّا بِالطَّهَارَةِ) فَدخل التَّيَمُّم لسجدة التِّلَاوَة كَمَا هُوَ الصَّحِيح، وَخرج التَّيَمُّم لمس الْمُصحف لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعبَادة مَقْصُودَة لذاتها، وَالتَّيَمُّم لِلْإِسْلَامِ وَالسَّلَام، لِأَن كلا مِنْهُمَا وَإِن كَانَ عبَادَة مَقْصُودَة لذاتها لكنه يَصح بِدُونِ الطَّهَارَة (وَيُمكن دَفعه) أَي دفع هَذَا الْبَحْث الْمَذْكُور بقوله: وَأَنت تعلم إِلَى آخِره (بِمَنْع المثلية) بَين المَاء وَالتُّرَاب: بِأَن يُقَال (بل جعل) المَاء (مزيلا بِنَفسِهِ) أَي بطبعه (شرعا) للمانعية (كالخبث) أَي كإزالته الحسية للخبث عملا (باطلاق - ليطهركم بِهِ) سَوَاء قرن تَطْهِيره بِالنِّيَّةِ أَولا، بِخِلَاف التُّرَاب فَإِنَّهُ لم يَجعله رَافعا لتِلْك المانعية شرعا إِلَّا بِالْقَصْدِ، إِذْ طبعه ملوث ومغير فَلَا مثلية (وَإِذن يبطل) قَول الْخصم (لَا فَارق) بَين التَّيَمُّم وَالْوُضُوء للْفرق بَينهمَا بِاعْتِبَار الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد (وَأَن لَا ينص على حكمه مُوَافقا) أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع أَن لَا يكون حكمه مَنْصُوصا عَلَيْهِ حَال كَون ذَلِك الحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ مُوَافقا لما يَقْتَضِيهِ الْقيَاس (إِذْ لَا حَاجَة) حِينَئِذٍ إِلَى الْقيَاس لثُبُوت حكم الْفَرْع مِمَّا هُوَ أقوى: نقل هَذَا الشَّرْط عَامَّة أَصْحَابنَا(3/300)
كالجصاص وَأبي زيد وفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة، وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ والآمدي (وَاعْترض على هَذَا الشَّرْط (بِأَن وجوده) أَي النَّص الْمَذْكُور (لَا يُنَافِي صِحَّته) أَي صِحَة الْقيَاس (وَلذَا) أَي لعدم الْمُنَافَاة (لم يشرطه) أَي الشَّرْط الْمَذْكُور (مَشَايِخ سَمَرْقَنْد) بل شرطُوا أَن لَا يثبت الْقيَاس زِيَادَة على النَّص، وَقيل هَذَا القَوْل أشبه فَإِن فِيهِ تَأْكِيد النَّص، وَلَا مَانع شرعا وعقلا من تعاضد الْأَدِلَّة وتأكيد بَعْضهَا بِبَعْض (وَكثير) بل نَقله الرَّازِيّ عَن الْأَكْثَرين. وَنقل عَن الشَّافِعِي جَوَازه سَوَاء لم يثبت زِيَادَة لم يتَعَرَّض لَهَا النَّص أَو أثبت لاحْتِمَال النَّص الْبَيَان، ورد بِأَن إِثْبَات زِيَادَة كَذَا بِمَنْزِلَة النّسخ، فَإِن مُوجب النَّص أَن الْعَمَل بِمُجَرَّد مَا تنَاوله النَّص كَاف فِي بَرَاءَة الذِّمَّة سَوَاء كَانَ مَقْرُونا مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَة أَولا، وَالْقِيَاس يبطل إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنه لَا ينص على حكم الْفَرْع مُخَالفا فَهُوَ إجماعي، وَمن شُرُوط حكم الْفَرْع أَيْضا مَا أَفَادَهُ بقوله (وَعدم الْمعَارض الرَّاجِح أَو المساوى فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع يُوجب غير ذَلِك الحكم، فِيهِ ظرف للوجود الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعَدَم، وَيجوز أَن يكون ظرفا للعدم (لعِلَّة الأَصْل) مُتَعَلق بالمعارض فَهِيَ الْمعَارض بزنة اسْم الْمَفْعُول. ثمَّ بَين الْمُعَارضَة بقوله (بِثُبُوت وصف فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (يُوجب غير ذَلِك الحكم فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (إِلْحَاقًا بِأَصْل آخر، وَإِلَّا) وَإِن لم يشْتَرط ذَلِك (ثَبت حكم الْمَرْجُوح فِي مُقَابلَة الرَّاجِح) فِيمَا إِذا كَانَ فِي الْفَرْع معَارض رَاجِح (أَو) ثَبت (التحكم فِيمَا إِذا كَانَ فِيهِ معَارض مسَاوٍ (وَحَقِيقَته) أَي هَذَا الشَّرْط (أَنه شَرط إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ، لَا شَرط تحققها عِلّة لِأَن وجوده) أَي الْمعَارض (لَا يبطل شهادتها) أَي الْعلَّة، إِذْ الْمُنَاسبَة لَا تَزُول بالمعارضة كَالشَّهَادَةِ إِذا عورضت بِأُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا يبطل إِحْدَاهمَا حَتَّى إِذا ترجحت بمرجح لم يحْتَج إِلَى الْإِعَادَة. (وَمِنْهَا) مَا عزى (لأبي هَاشم كَون حكمه) أَي الْفَرْع (ثَابتا بِالنَّصِّ جملَة وَالْقِيَاس) احْتِيجَ إِلَيْهِ (لتفصيله) أَي ذَلِك الْمُجْمل (كثبوت حد الْخمر) من غير تَقْدِير بِعَدَد معِين عَن الشَّارِع كَمَا يفِيدهُ الصحيحان وَغَيرهمَا (فَيتَعَيَّن عدده) ثَمَانِينَ (بِالْقِيَاسِ على حد الْقَذْف) كَمَا تقدم تَخْرِيجه عَن عَليّ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنْهُمَا فِي مسئلة: لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن مُسْتَند، وَيَأْتِي الْجَواب عَنهُ كَمَا فِي مسئلة الْحَنَفِيَّة لَا يثبت بِهِ الْحُدُود (ورد) اشْتِرَاط هَذَا (بِأَنَّهُم قاسوا) قَوْله لزوجته (أَنْت عَليّ حرَام تَارَة على الطَّلَاق فَيَقَع، وَتارَة على الظِّهَار فالكفارة) أَي فَحكمه الْكَفَّارَة حِينَئِذٍ (وعَلى الْيَمين فإيلاء) أَي فَالْقَوْل الْمَذْكُورَة إِيلَاء وعَلى هَذَا التَّقْدِير (فَيثبت حكمه) أَي الْإِيلَاء (وَلَا نَص فِي الْفَرْع أصلا) لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا، ذكر ابْن الْحَاجِب فِي الْمُخْتَصر الْكَبِير أَن المُرَاد بالقائسين الْأَئِمَّة، وَالزَّرْكَشِيّ أَنهم الصَّحَابَة، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه يَمِين، وَعَن ابْن الْمُنْذر قَالَت طَائِفَة أَنه طَلَاق ثَابت، مِنْهُم عَليّ وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر، وَبِه قَالَ الْحسن وَالْحكم وَمَالك وَابْن(3/301)
فِي الْمُسْتَقْبل بِالتَّحْرِيمِ (لَيْسَ نسخا) لِأَن النّسخ رفع لحكم شَرْعِي وَالْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيست إِيَّاه على الْمُخْتَار وَقد مر.
مسئلة
(يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ) عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء والمتكلمين ومحققي الشَّافِعِيَّة (وَأَصَح قولي الشَّافِعِي الْمَنْع) فَإِنَّهُ قَالَ لَا ينْسَخ كتاب الله إِلَّا كتاب الله كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بفرضه فَهُوَ المزيل الْمُثبت بِمَا شَاءَ مِنْهُ جلّ جَلَاله وَلَا يكون ذَلِك لأحد من خلقه، وَهَكَذَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاخْتلف أَصْحَابه فَقيل المُرَاد نفي الْجَوَاز الْعقلِيّ، وَنسب إِلَى المحاسبي وَعبد الله ابْن سعيد والقلانسي وهم من أكَابِر أهل السّنة، ويروى عَن أَحْمد وَأبي إِسْحَاق الاسفراينى وَأبي الطّيب الصعلوكي وَأبي مَنْصُور، وَقيل لم يمْنَع الْعقل والسمع لكنه لم يقل وَهُوَ قَول ابْن سُرَيج. قَالَ السُّبْكِيّ: وَنَصّ الشَّافِعِي لَا يدل على أَكثر مِنْهُ ثمَّ قَالَ حَيْثُ وَقع نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ فمعها قُرْآن عاضد لَهَا يبين توَافق الْكتاب وَالسّنة أَو نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ فمعه سنة عاضدة لَهُ تبين توافقهما (لنا لَا مَانع) عَقْلِي وَلَا شَرْعِي من ذَلِك (وَوَقع) والوقوع دَلِيل الْجَوَاز (فَإِن التَّوَجُّه إِلَى الْقُدس) أَي بَيت الْمُقَدّس (لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَنسخ) التَّوَجُّه إِلَيْهِ (بِهِ) أَي بِالْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى - {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} - (وَكَذَا حُرْمَة الْمُبَاشرَة) بقوله تَعَالَى - {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} - الْآيَة فَإِن تَحْرِيمهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآن (وتجويز كَونه) أَي نسخ كل مِنْهُمَا (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْقُرْآن (من سنة أَو) تَجْوِيز ثُبُوت حكم (الأَصْل) فِيهَا (بِتِلَاوَة) أَي بمتلو من الْقُرْآن (نسخت وَذَلِكَ) التجويز (على) تَقْدِير (الْمُوَافقَة) فِيهِ مَعَ الْخصم (احْتِمَال بِلَا دَلِيل) فَلَا يسمع (ثمَّ لَو صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ من التجويز الْمَذْكُور (لم يتَعَيَّن نَاسخ علم تَأَخره مَا لم يقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نَاسخ) لكذا وَنَحْوه لذَلِك الِاحْتِمَال (وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع قَالُوا أَي المانعون) أَولا قَوْله تَعَالَى - {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} - يقتضى أَن شَأْنه الْبَيَان للْأَحْكَام، والنسخ رفع لَا بَيَان (أُجِيب) بِتَسْلِيم شَأْنه وَمنع أَنه لَيْسَ بِبَيَان بقوله (والنسخ) رفع لَا بَيَان (مِنْهُ) أَي من الْبَيَان لِأَنَّهُ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم (قَالُوا) ثَانِيًا نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ (يُوجب التنفير) للنَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ يفهم أَن الله تَعَالَى لم يرض بِمَا سنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ منَاف لمقصد الْبعْثَة وَهُوَ التأسي بِهِ والاقتداء (أُجِيب) بِأَنا لَا نسلم حُصُول النفرة على تَقْدِير النّسخ (إِذا آمنا بِأَنَّهُ مبلغ) وسفير يعبر بِهِ عَن الله تَعَالَى لَا غير، وَإِذا كَانَ التَّصَرُّف كُله من الله - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} -(3/302)
الْمَذْكُورَة (وَهَذَا) أَي كَون مَا شرع الحكم عِنْده لحُصُول الْحِكْمَة مَظَنَّة الْحِكْمَة إِلَى آخِره (معنى اشتماله) أَي الْوَصْف (على حِكْمَة مَقْصُودَة للشارع من شرع الحكم) والإ فَنَفْس الْوَصْف غير مُشْتَمل لذَلِك، إِذْ الاسكار الَّذِي هُوَ عِلّة حُرْمَة الْخمر مثلا لَا يشْتَمل على الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة وَهِي حفظ الْعُقُول من شرع الحكم الَّذِي هُوَ التَّحْرِيم بل على ذهَاب الْعقل (فحقيقة الْعلَّة) فِي الْعُقُود (الرِّضَا) لِأَنَّهُ مَظَنَّة أَمر هُوَ الْحَاجة، وَتَحْصِيل الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ دفع الْحَاجة من شرع الحكم الْخَاص، وَهُوَ ملك الْبَدَل وحله مَعَه وَلكنه خَفِي لِأَنَّهُ أَمر قلبِي لَا اطلَاع للنَّاس عَلَيْهِ (وَإِذ خفى) الرضى (علق الحكم) وَهُوَ ملك الْبَدَل وحله (بالصيغة فَهِيَ) أَي الصِّيغَة (الْعلَّة اصْطِلَاحا وَهِي) أَي الصِّيغَة (دَلِيل مَظَنَّة مَظَنَّة مَا تحصل الْحِكْمَة مَعَه بالحكم) إِذْ هِيَ مَظَنَّة الرضى الَّذِي هُوَ مَظَنَّة الْحَاجة الَّتِي شرع الحكم الَّذِي هُوَ ملك الْبَدَل مِنْهُ لدفع الْحَاجة الَّتِي هِيَ الْمصلحَة (فَظهر أَن الرضى لَيْسَ الْحِكْمَة) فِي التِّجَارَة (كَمَا قيل) قَالَه عضد الدّين، وَهَذَا مِثَال الثَّالِث (وَالْقَتْل الْعمد الْعدوان مَظَنَّة انتشاره) أَي الْعدوان (إِن لم يشرع الْقصاص فَوَجَبَ) الْقصاص (دفعا لَهُ) أَي لانتشار الْعدوان وَهَذَا مِثَال الثَّانِي فاللف والنشر مشوش (وَكَون الْوَصْف كَذَلِك) أَي بِحَيْثُ يكون مَظَنَّة الْحِكْمَة إِلَى آخِره وَجعل الشَّارِح الْإِشَارَة إِلَى كَونه بِحَيْثُ شرع الحكم عِنْده لحُصُول الْحِكْمَة لِأَنَّهَا مظنتها، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه حِينَئِذٍ لَا يُنَاسب قَوْله (فَهُوَ) (مَا قَالَ أَبُو زيد) الخ لِأَنَّهُ محصول مَا قُلْنَا، وَشرع الحكم عِنْده أَمر زَائِد عَلَيْهِ لَا يسلتزمه، نعم ذكر صدر الشَّرِيعَة أَن أَصْحَابنَا اعتبروا فِي الْمُنَاسبَة اعْتِبَار الشَّارِع عين الْوَصْف أَو جنسه فِي نوع الحكم أَو جنسه لذَلِك، وَقد عرفت تَفْسِيره، وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْوَصْف (وَهُوَ) أَي الْوَصْف (مناسبته) خبر الْمُبْتَدَأ (كَذَلِك الْمُنَاسب فَهُوَ) أَي مَا ذكرنَا فِي تَفْسِير الْمُنَاسب بِحُصُول مَا قَالَ أَبُو زيد (مَا لَو عرض على الْعُقُول) كَونه عِلّة الحكم (تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ وَكَون الشَّارِع قضى بالحكم عِنْده) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور (للحكمة اعْتِبَاره) أَي الشَّارِع لذَلِك الْوَصْف أَو الْوَصْف، وَهَذَا أَيْضا يُؤَيّد مَا ذكرنَا فِي تَفْسِير الْمُنَاسبَة (ومعرفته) أَي معرفَة اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه (مسالك الْعلَّة) وطرقها (وَشَرطهَا) أَي اشْتِرَاط الْعلَّة فِي كل حكم بِحَسب نفس الْأَمر (تفضل) من الله تَعَالَى على الْعباد (لَا وجوب) كَمَا زعمت الْمُعْتَزلَة، تَعَالَى عَن ذَلِك، نعم لَو فسروا الْوُجُوب بِأَنَّهُ أَمر لَا بُد مِنْهُ لَا يتَخَلَّف أَلْبَتَّة فَلَا نزاع، وَلَكِن إِن نفوا قدرته على خلاف ذَلِك فالتنزيه عَنهُ وَاجِب (وَهَذَا) أَي القَوْل بالاشتراط حَاصِل معنى (مَا يُقَال: الْأَحْكَام مَبْنِيَّة على مصَالح الْعباد دنيوية كَمَا ذكر) من الرُّخْصَة للْمُسَافِر وَدفع الْحَاجة وَدفع انتشار الْفساد (وأخروية للعبادات) أَي موعودة للعبادات (وَهُوَ) أَي كَونهَا مَبْنِيَّة على مصالحهم (وفَاق) أَي مَحل اتِّفَاق (بَين النافين للطرد) أَي(3/303)
الْقَائِلين بِأَن الْعلَّة لَا تصح إِلَّا بالمناسبة (وَإِن اخْتلف اسْمه) أَي التَّعْبِير عَن هَذَا، إِذْ مِنْهُم من قَالَ أَحْكَام الشَّارِع مَبْنِيَّة على مصَالح الْعباد، وَمِنْهُم من قَالَ أَفعَال البارئ سُبْحَانَهُ معللة بمصالح الْعباد، أَو معللة بالأغراض كالمعتزلة، نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: فَلَو قيل النزاع لَفْظِي جَازَ (وَمنع أَكثر الْمُتَكَلِّمين) الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور مُبْتَدأ (لظنهم لُزُوم استكماله فِي ذَاته كَمَا لَا لم يكن) أَي ظنُّوا لِأَنَّهُ لَو اشْترط لزم أَن يكون الْحق سُبْحَانَهُ طَالبا بِوُقُوع تِلْكَ الْأَفْعَال حُصُول كَمَال فِي ذَاته لم يكن لَهُ قبل ذَلِك، وَهَذَا نقص فِي حَقه سُبْحَانَهُ (ذُهُول) خبر للمبتدأ: يَعْنِي أَنهم ذهلوا عَن أَمر ظَاهر كَانُوا يعلمونه بل صَرَّحُوا بِهِ مرَارًا (بل) إِنَّمَا يلْزم (ذَلِك) الاستكمال (لَو رجعت) الْمصَالح (إِلَيْهِ) تَعَالَى (أما) إِذا رجعت (إِلَى غَيره) من الْعباد (فَمَمْنُوع) لُزُوم ذَلِك. قَالَ الشَّارِح أَنه قَالَ المُصَنّف قَوْله مَمْنُوع يُشِير إِلَى أَنه على تَقْدِير رُجُوعهَا إِلَى الْعباد أَيْضا ألزموا مثل ذَلِك؟ وَهُوَ أَن رُجُوعهَا إِلَى الْعباد يسْتَلْزم كمالا لَهُ فَأجَاب بِمَنْع ذَلِك (بل هُوَ) أَي رُجُوع الْمصَالح إِلَى الْفُقَرَاء (أثر كَمَاله الْقَدِيم) وَهُوَ كَونه فِي الْأَزَل مفيضا معطيا جوادا بِالْإِطْلَاقِ الْعَام فَإِن صدق الْمُطلقَة دائمي فَإِن قلت فرق بَين أَن تكون الْإِفَاضَة فِي عَالم الْإِمْكَان وَبَين أَن تخرج من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل، فَإِن مَا بِالْفِعْلِ لَهُ مزية على مَا بالقوه، وَلِهَذَا يُسَمِّيه الحكم كمالا فَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَلَا يخفى أَن اللَّازِم فِي المتجدد) أَي الْمَحْذُور الَّذِي ادعيتم أَن لُزُومه فِيمَا يَتَجَدَّد وَيحدث من مصَالح الْعباد على تَقْدِير الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور (بتعلق الْأَحْكَام) أَي بِسَبَب تعلقهَا بهم (لَازم فِي فواضله) أَي يلْزم بِعَيْنِه فِي انعاماته (المتجددة) الذوات والاقتضاء المستمرة (فِي ممر الْأَيَّام على الْأَنَام) قَالَ الشَّارِح: أَنه قَالَ المُصَنّف هَذَا إِلْزَام على قَوْلهم يلْزم كَمَال لَهُ لم يكن أَي لَو صَحَّ مَا ذكرْتُمْ لزم مثله فِي الْمصَالح الْوَاصِلَة إِلَى الْعباد ابْتِدَاء لَا بِوَاسِطَة شرع من إِنْزَال الْمَطَر وإنبات الشّجر والأقوات إِلَى غير ذَلِك (فَمَا هُوَ جوابهم) أَي المانعين (فِيهِ) أَي فِي الْإِلْزَام الْمَذْكُور فَهُوَ (جَوَابنَا) عَن كَون الْأَحْكَام مَبْنِيَّة على مصَالح الْعباد (وَلَقَد كثرت لَوَازِم بَاطِلَة لكلامهم) كَمَا عرف فِي فن الْكَلَام فَلَا يعول عَلَيْهَا. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَالْحق أَن تَعْلِيل بعض الْأَفْعَال سِيمَا شَرْعِيَّة الْأَحْكَام بالحكم والمصالح ظَاهر كإيجاب الْحُدُود وَالْكَفَّارَات وَتَحْرِيم المسكرات وَمَا أشبه ذَلِك، والنصوص أَيْضا شاهدة بذلك كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} . من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل. فَلَمَّا قضى زيد - إِلَى قَوْله تَعَالَى - {لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} - وَلِهَذَا كَانَ الْقيَاس حجَّة إِلَّا عِنْد شرذمة لَا يعْتد بهم، وَأما تَعْمِيم ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فعل من أَفعاله من غَرَض فَمحل بحث (وَالْأَقْرَب) إِلَى التَّحْقِيق (أَنه) أَي الْخلاف (لَفْظِي مَبْنِيّ على معنى الْغَرَض) فَمن فسره بِالْمَنْفَعَةِ العائدة إِلَى الْفَاعِل قَالَ لَا تعلل وَلَا يَنْبَغِي أَن(3/304)
يُنَازع فِي هَذَا، وَمن فسره بالعائدة إِلَى الْعباد قَالَ تعلل وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَن يُنَازع فِيهِ (أَو) أَنه (غلط) وَقع (من اشْتِبَاه الحكم بِالْفِعْلِ فاذكر مَا قدمْنَاهُ) فِي فصل الحكم (من أَنه) عز وَجل (غير مُخْتَار فِيهِ) أَي فِي الحكم لِأَنَّهُ قديم، وَأثر الْفَاعِل الْمُخْتَار لَا يكون إِلَّا حَادِثا، وَهُوَ فِي حق صِفَاته الْقَدِيمَة فَاعل مُوجب وَفِي حق غَيرهَا مُخْتَار (بِخِلَاف الْفِعْل) فَإِنَّهُ مُخْتَار فِيهِ تَعَالَى فَمن لم يُعلل الْفِعْل اشْتبهَ عَلَيْهِ بالحكم (غير أَن اتصافه) تَعَالَى (بأقصى مَا يُمكن من الكمالات مُوجب لموافقة حكمه للحكمة بِمَعْنى أَنه لَا يَقع إِلَّا كَذَلِك) أَي على الْوَجْه الْمُوَافق للحكمة (وَإِذ لزم فِيهَا الْمُنَاسبَة بطلت الطردية) أَي الْوَصْف الَّذِي لم يتَحَقَّق فِيهِ الْمُنَاسبَة (لِأَن عَلَيْهِ الْوَصْف) أَي الحكم بِأَن هَذَا الْوَصْف عِلّة لهَذَا الحكم (حكم نَظَرِي بتعلق حكمه) تَعَالَى (عِنْده) أَي ذَلِك الْوَصْف الْبَاء صلَة الحكم: يَعْنِي مَضْمُون ذَلِك أَن حكم الله تَعَالَى مُتَعَلق بِهَذَا الْمحل عِنْد هَذَا الْوَصْف، وَقد عرفت كَيْفيَّة التَّعَلُّق (وَهِي) أَي الطردية اباطة الحكم بهَا قَول (بِلَا دَلِيل فبطلت، وَمَا قيل) قَائِله ابْن الْحَاجِب من أَن بطلَان الطردية (للدور لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ) أَي حِين كَونهَا طردية (أَمارَة مُجَرّدَة لَا فَائِدَة لَهَا إِلَّا تَعْرِيف الحكم) للْأَصْل (فتوقف) الحكم عَلَيْهَا (وَكَونهَا مستنبطة مِنْهُ) أَي الحكم (يُوجب توقفها عَلَيْهِ) أَي الحكم (مَدْفُوع) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي مَا قيل (بِأَن الْمُعَرّف لحكم الأَصْل النَّص، وَهِي) الطردية معرفَة (أَفْرَاد الأَصْل فَيعرف حكمهَا) أَي أَفْرَاد الأَصْل (بِوَاسِطَة ذَلِك) أَي عرفان أَفْرَاد الأَصْل (مثلا معرف حُرْمَة الْخمر النَّص والإسكار يعرف) الجزئي (الْمشَاهد أَنه مِنْهَا) أَي من أَفْرَاد الأَصْل (فتعرف حرمته) أَي الأَصْل (فِيهِ) أَي فِي الْمشَاهد (فَلَا دور، ثمَّ لَيْسَ) تَعْرِيف الْعلَّة لأفراد الأَصْل أمرا (كليا بل) إِنَّمَا هُوَ (فِيمَا) أَي وصف (لَهُ لَازم ظَاهر خَاص كرائحة الْمُسكر إِن لم يشركها) أَي الْخمر (فِيهَا) أَي الرَّائِحَة (غَيرهَا) أَي الْخمر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن لَهُ لَازم كَذَا أَو شاركها غَيرهَا (فتعريف الْإِسْكَار بِنَفسِهِ) أَي معرفَة الْإِسْكَار فِي حد ذَاته لمن يُرِيد الحكم بِحرْمَة الْمشَاهد (لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِشرب) الْفَرد (الْمشَاهد) لعدم اللَّازِم الْمَذْكُور فالشرب طَرِيق مَعْرفَته فتتوقف الحكم بِحرْمَة الْمشَاهد على شربه (وَهُوَ) أَي توقفها عَلَيْهِ (بَاطِل) بِالْإِجْمَاع (وَكَون الْإِسْكَار طردا) إِنَّمَا هُوَ (على) قَول (الْحَنَفِيَّة) لِأَن حُرْمَة الْخمر عِنْدهم لعينها (وعَلى) قَول (غَيرهم هُوَ) أَي الْإِسْكَار (مِثَال) لِلْعِلَّةِ.
(وَالْكَلَام فِي تقسيمها) أَي الْعلَّة (وشروطها وطرق مَعْرفَتهَا) الدَّالَّة على اعْتِبَار الشَّارِع عليتها (فِي مراصد) ثَلَاثَة.(3/305)
المرصد الأول: فِي تقسيمها
(تَنْقَسِم) الْعلَّة (بِحَسب الْمَقَاصِد، و) بِحَسب (الْإِفْضَاء إِلَيْهَا) أَي إِلَى الْمَقَاصِد (و) بِحَسب (اعْتِبَار الشَّارِع) لَهَا عِلّة.
(فَالْأول) أَي انقسامها بِحَسب الْمَقَاصِد (وَهُوَ) أَي هَذَا الانقسام (بِالذَّاتِ للمقاصد ويستتبعه) أَي يستتبع انقسام الْمَقَاصِد انقسام الْعلَّة (وَهِي) أَي الْمَقَاصِد الَّتِي تدل على اعْتِبَار الْوَصْف (ضَرُورِيَّة) وَهِي مَا انْتَهَت الْحَاجة إِلَيْهَا إِلَى حد الضَّرُورَة، وَلِهَذَا (لم تهدر فِي مِلَّة) من الْملَل السالفة، بل روعيت لما يتَوَقَّف عَلَيْهَا نظام الْعَالم وَأَنه لَا يبْقى النَّوْع مُسْتَقِيم الْحَال إِلَّا بهَا وَهِي خَمْسَة (حفظ الدّين بِوُجُوب الْجِهَاد وعقوبة الدَّاعِي إِلَى الْبدع، وَقد يُوَجه للحنفية أَنه) أَي وجوب الْجِهَاد (لكَوْنهم) أَي الْكفَّار (حَربًا علينا لَا) ل (كفرهم وَلذَا) لَا تقتل الْمَرْأَة) لعدم كَونهَا أَهلا للحرب غَالِبا (والرهبان) أَي المعتزلون عَن النَّاس لِلْعِبَادَةِ إِذا لم يزِيدُوا على الْكفْر بسلطنة أَو قتال أَو رَأْي أَو حث عَلَيْهِ بِمَال أَو مُطلقًا فَإِن مثلهم لَا يَتَأَتَّى مِنْهُم الْحَرْب غَالِبا (وَقبلت الْجِزْيَة) مِمَّن هُوَ أهل لَهَا لعدم الْحِرَابَة وتقوى الْمُسلمين بهَا (ولزمت المهادنة) أَي الْمُصَالحَة إِذا احْتِيجَ إِلَيْهَا لانْتِفَاء حربهم مَعَ وجود كفرهم (وَلَا يُنَافِيهِ) أَي وجوب الْجِهَاد لكَوْنهم حَربًا علينا وُجُوبه لحفظ الدّين، فَإِنَّهُ لَا يتم مَعَ خرابتهم فَإِنَّهَا مفضية إِلَى قتل الْمُسلم أَو تفتنه عَن دين الْإِسْلَام، ويؤيدهم الْإِجْمَاع على عدم قتل الذِّمِّيّ والمستأمن وَالصَّبِيّ وَالْمَرْأَة إِلَى غير ذَلِك (و) حفظ (النَّفس بِالْقصاصِ، و) حفظ (الْعقل بِكُل من حُرْمَة) السكر (وَحده) أَي الْمُسكر (و) حفظ (النّسَب بِكُل من حُرْمَة الزِّنَا وَحده، و) حفظ (المَال بعقوبة السَّارِق والمحارب) وَزَاد السُّبْكِيّ وَغَيره حفظ الْعرض بِحَدّ الْقَذْف (وَيلْحق بِهِ) أَي بالضروري (مكملة من حُرْمَة قَلِيل الْخمر الْمُسكر وَحده) أَي حد قليلها مَعَ أَنه لَا يزِيل الْعقل (إِذْ كَانَ) قليلها (يَدْعُو إِلَى كثير) مِنْهَا بِمَا يُورث النَّفس من الطَّرب الْمَطْلُوب زِيَادَته، وَالشَّارِح قَرَأَهَا بِالْهَاءِ وَاعْتذر عَن التَّذْكِير بِأَنَّهُ بِتَأْوِيل الْمُسكر، وَفِيه مَا فِيهِ (فيزيل) كثيرها (الْعقل فتحريم كل) فعل (دَاعِيَة) إِلَى محرم (مُقْتَضى) هَذَا (الدَّلِيل) بِمَعْنى تَحْرِيم الْقَلِيل لكَونه يَدْعُو إِلَى التكثير، ثمَّ أَنه (ثَبت الشَّرْع على وَفقه) أَي مُقْتَضَاهُ (فِي الِاعْتِكَاف وَالْحج) فَحرمت دواعي الْجِمَاع فِيهِ كَمَا حرم الْجِمَاع (و) ثَبت (على خِلَافه فِي الصَّوْم) فَلم تحرم دواعي الْجِمَاع فِيهِ كَمَا حرم الْجِمَاع، وَإِنَّمَا يكره إِذا لم يَأْمَن على نَفسه (وَلم يثبت) الشَّرْع على خِلَافه (فِي الظِّهَار فتحريم) الْجِمَاع (الْحَنَفِيَّة إِيَّاهَا) أَي الدَّوَاعِي (فِيهِ) أَي الظِّهَار (على وَفقه وَهَذَا) الْمَقْصُود الضَّرُورِيّ والمكمل لَهُ هُوَ (الْمُنَاسب الْحَقِيقِيّ، ودونها) أَي الضرورية مَقَاصِد(3/306)
(حاجية) لم تَنْتَهِ إِلَى حد الضَّرُورَة (شرع) إِلَى دونهَا (لَهَا) أَي للْحَاجة إِلَيْهَا (نَحْو البيع) لملك الْعين بعوض (وَالْإِجَارَة) لملك الْمَنْفَعَة كَذَلِك (والقراض) للمشتركين فِي الرِّبْح بِمَال من وَاحِد وَعمل من الآخر (وَالْمُسَاقَاة) كدفع الشّجر إِلَى من يعْمل فِيهِ بِجُزْء من ثَمَرَة (فَإِنَّهَا) أَي هَذِه المشروعات (لَو لم تشرع لم يلْزم فَوَات شَيْء من الضروريات) الْخمس (إِلَّا قَلِيلا كالاستئجار لإرضاع من لَا مُرْضِعَة لَهُ وتربيته وَشِرَاء المطعوم والملبوس للعجز عَن الِاسْتِقْلَال بالتسبب فِي وجودهَا) أَي الْمَذْكُورَات فاحتيج (إِلَى دفع حَاجته) أَي الْمُحْتَاج إِلَيْهَا (بهَا) أَي إِطْلَاق الحاجي هَذِه الْعُقُود، فَهَذِهِ المستثنيات من قبيل الضَّرُورِيّ لحفظ النَّفس لِأَن الْهَلَاك قد يحصل بِتَرْكِهَا (فالتسمية) أَي إِطْلَاق الحاجي على الْمَذْكُورَات (بِاعْتِبَار الْأَغْلَب) فَإِن أَكثر الشراآت والإجارات مُحْتَاج إِلَيْهِ، لَا ضَرُورِيّ (ومكملها) أَي مكمل الحاجية أَيْضا دون الضرورية بل هُوَ أولى بذلك (كوجوب رِعَايَة الْكَفَاءَة وَمهر الْمثل على الْوَلِيّ فِي) تَزْوِيج (الصَّغِيرَة) فَإِن أصل الْمَقْصُود من شرع النِّكَاح وَإِن كَانَ حَاصِلا بِدُونِهَا لَكِنَّهَا إفضاء إِلَى دَوَامه وإتمام مقاصده من الألفة وَغَيرهَا فَوَجَبَ رعايتها احْتِرَازًا عَن الاختلال (إِلَّا لدلَالَة عِنْد أبي حنيفَة وَحده على حُصُول الْمَقْصُود دونهَا) أَي دون رعايتها، اسْتثِْنَاء من وجوب رعايتها على مَذْهَب أبي حنيفَة وَحده من غير مُشَاركَة أَصْحَابه مَعَه: أَي وَجب رعايتها عِنْد الْكل فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا عِنْده إِذا دلّ الدَّلِيل على حُصُول الْمَقْصُود الَّذِي هُوَ مَبْنِيّ وجوب الرِّعَايَة بِدُونِ الرِّعَايَة وسيظهر لَك كَيْفيَّة الدّلَالَة (كتزويج أَبِيهَا) أَي الصَّغِيرَة أوجدها الصَّحِيح أبي أَبِيهَا (من عبد وبأقل) من مهر مثلهَا، وكل مِنْهَا غير مَعْرُوف بِسوء الِاخْتِيَار وَلَا بالمجانة وَالْفِسْق، فَإِن عِنْد ذَلِك لَا تتَحَقَّق الدّلَالَة على حُصُول الْمَقْصُود لعدم كَمَال الرَّأْي ووفورا لشفقة فَإِن الْأَب بِاعْتِبَار كَمَال قربه مَظَنَّة وفور الشَّفَقَة فَلَا يتْرك رعايتها إِلَّا لمصْلحَة تربو عَلَيْهَا. فاتضح كَيْفيَّة الدّلَالَة، بِخِلَاف غَيرهمَا من الْعصبَة لوفور الشَّفَقَة وَالأُم لنُقْصَان الرَّأْي (وَهَذَا) الْقسم الْمُشْتَمل على الحاجي ومكمله (الْمُنَاسب المصلحي، وَغير الحاجي) المصلحي (تحسيني) أَي من قبيل رِعَايَة أحسن المناهج فِي محَاسِن الْعَادَات (كَحُرْمَةِ القاذورات حثا على مَكَارِم الْأَخْلَاق والتزام الْمُرُوءَة) قَالَ تَعَالَى فِي وصف نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - {يحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} - وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق " (وكسلب العَبْد) وَإِن كَانَ ذَا رَأْي يظنّ صدقه (أَهْلِيَّة الْولَايَة من الشَّهَادَة وَالْقَضَاء وَغَيرهمَا) كالإمامة الْكُبْرَى لانحطاط رتبته عَن الْحر لكَونه مستسخرا للْمَالِك مَشْغُولًا بخدمته فَلَا تلِيق بِهِ المناصب الشَّرِيفَة إِجْرَاء للنَّاس على مَا ألفوه من الْعَادَات المستحسنة.(3/307)
(الثَّانِي) انقسامها بِحَسب الْإِفْضَاء، وأقسامه (خَمْسَة: لِأَن حُصُول الْمَقْصُود) من شرع الحكم عِنْد الْوَصْف لجلب الْمَنْفَعَة للْعَبد أَو دفع الْمفْسدَة أَو لكليهما فِي الدُّنْيَا أَو الْآخِرَة (إِمَّا) أَن يكون (يَقِينا كَالْبيع للْحلّ) أَي لثُبُوت الْملك فِي الْبَدَلَيْنِ حَلَالا (أَو ظنا كَالْقصاصِ للإنزجار) عَن الْقَتْل الْعمد الْعدوان فَإِن صِيَانة النَّفس تحصل بِهِ ظنا (لأكثرية الممتنعين عَنهُ) أَي عَن الْقَتْل الْعمد الْعدوان بِالنِّسْبَةِ إِلَى المقدمين عَلَيْهِ (والاتفاق) ثَابت (عَلَيْهِمَا) أَي على هذَيْن الْقسمَيْنِ (أَو شكا أَو وهما) وَفِيه خلاف (وَالْمُخْتَار فيهمَا الِاعْتِبَار) ثمَّ مَا تساوى فِيهِ حُصُوله ونفيه لَا مِثَال لَهُ فِي الشَّرْع على التَّحْقِيق بل على التَّقْرِيب (كَحَد الْخمر) فَإِنَّهُ شرع (للزجر) عَن شربهَا لحفظ الْعقل (وَقد ثَبت) حَدهَا (مَعَ الشَّك فِيهِ) أَي الإنزجار عَن شربهَا لِأَن استدعاء الطباع شربهَا يُقَاوم خوف عِقَاب الْحَد، وَلَا يظْهر عَادَة غَلَبَة أَحدهمَا، وَاعْترض بِأَن ذَلِك للمسامحة فِي إِقَامَة الْحُدُود وَالْكَلَام مَبْنِيّ على فرض الْإِقَامَة وَأجِيب بِأَنَّهُ على ذَلِك التَّقْدِير أَيْضا لَا شكّ أَن الانزجار بِحَدّ الشّرْب دون الانزجار بِالْقصاصِ، وَهُنَاكَ ظَنِّي فَيكون هَهُنَا مشكوكا، وَفِيه مَا فِيهِ فَإِن قلت إِن أُرِيد بظنية حُصُول الْحِكْمَة ظن ترتبها على الحكم بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل من خُوطِبَ بِهِ فَهُوَ غير صَحِيح للْقطع بترتبها فِي الْبَعْض وَلعدم ترتبها فِي الآخر، وَإِن أُرِيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض فَهُوَ حَاصِل فِي جَمِيع الْأَحْكَام قطعا قُلْنَا نَخْتَار الأول وَالظَّن حَاصِل فِي كل شخص إِذا نظر الْفِعْل إِلَى نفس الحكم وَالْحكمَة وَمن خُوطِبَ بِهِ مَعَ قطع النّظر عَن الِاطِّلَاع على حَاله فِي الْخَارِج من حَيْثُ حُصُوله الْحِكْمَة فِي حَقه وَعدمهَا غير أَن ظَاهر قَوْله لأكثرية الممتنعين إِلَى آخِره يَأْبَى عَنهُ، فلك أَن تحمله على التَّنْوِير والتأييد لَا على الِاسْتِدْلَال، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَا قَوْلهم لِأَن استدعاء الخ فَإِنَّهُ يُشِير إِلَى أَن استدعاء الطباع الانتقام لَا يُقَاوم خوف الْقصاص، أَلا ترى أَن الممتنعين عَنهُ أَكثر، فقد يخْتَلف فِي بعض الْأَحْكَام حَال أَفْرَاد من خُوطِبَ بِهِ نظرا إِلَى أَحْوَالهم كالملك المرفه وَالْفَقِير الضَّعِيف فِي رخصَة السّفر والمشرقي المتزوج بالمغربية والمصاحب امْرَأَته فِي إِلْحَاق الْوَلَد إِلَى العقد لنفي التُّهْمَة (ورخصة السّفر) شرعت (للْمَشَقَّة وَالنِّكَاح وللنسل) وَقد (ثبتا مَعَ ظن الْعَدَم) أَي عدم الْمَشَقَّة والنسل (فِي) سفر (ملك مرفه) يسير فِي كل يَوْم مِقْدَارًا لَا يتعبه (و) نِكَاح (آيسة، فَعلم أَن الْمُعْتَبر) فِي إفضاء الْوَصْف للْحكم (الْحُصُول فِي جنس الْوَصْف لَا فِي كل جزئي) من جزئياته (وَلَا) فِي (أَكْثَرهَا) أَي الجزئيات (أَو) يكون يَقِين الْعَدَم كإلحاق ولد مغربية بمشرقي) تزوج بهَا وَقد (علم عدم تلاقيهما جعلا للْعقد مَظَنَّة حُصُول النُّطْفَة فِي الرَّحِم وَوُجُوب الِاسْتِبْرَاء) المجعول مَظَنَّة لبراءة الرَّحِم من الْوَلَد (على من اشْتَرَاهَا) أَي أمة (فِي مجْلِس رَبِيعه) إِيَّاهَا لآخر فِيهِ وَلم يغيبا عَنهُ، وَهَذَا مُخْتَلف فِيهِ أَيْضا(3/308)
(وَالْجُمْهُور على مَنعه) أَي اعْتِبَار هَذَا الطَّرِيق (لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة بالمظنة) وَمحل ظن وجود الْحِكْمَة (مَعَ الْعلم بِانْتِفَاء المئنة) أَي نفس الْحِكْمَة (وَنسب) فِي بعض شُرُوح البديع (إِلَى الْحَنَفِيَّة اعْتِبَاره) أَي هَذَا الطَّرِيق (وَلَا شكّ فِي الثَّانِي) أَي فِي انْتِفَاء المئنة فِي الْأمة الْمَذْكُورَة للْقطع بِعَدَمِ الْجِمَاع (بِخِلَاف الأول) أَي ولد المغربية الْمَذْكُورَة (لتعذر الْقطع بِعَدَمِ الملاقاة) بَينهمَا لجَوَاز أَن يكون صَاحب كَرَامَة أَو صَاحب جني (ومجيزه) أَي هَذَا الطَّرِيق (أَبُو حنيفَة لَا هما) أَي صَاحِبَاه، وَإِنَّمَا أجَازه (نظرا إِلَى ظَاهر الْعلَّة) يَعْنِي العقد (لَا إِلَى مَا تضمنته) الْعلَّة (من الْحِكْمَة) أَي النّسَب كَمَا قَالَه الْجُمْهُور (أما لَو لم تخل) الْعلَّة (مصلحَة الْوَصْف) أَي مصلحَة يتضمنها الْوَصْف بِأَن كَانَت مَوْجُودَة فِيهَا (لَكِن استلزم شرع الحكم لَهَا) أَي لتِلْك الْمصلحَة (مفْسدَة تساويها) أَي تِلْكَ الْمصلحَة (أَو ترجحها فَقيل لَا تنخرم الْمُنَاسبَة) الْمُعْتَبرَة فِي الْعلَّة (الْمُوجبَة للاعتبار) نعم ينتفى الحكم بِوُجُود الْمَنَافِع، وَهَذَا اخْتِيَار الرَّازِيّ (ومختار الْآمِدِيّ وَأَتْبَاعه الانخرام لِأَنَّهُ لَا مصلحَة مَعَ مُعَارضَة مفْسدَة مثلهَا) فِي الرُّتْبَة، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَت حقيرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمصلحَة فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تمنع اعْتِبَار الحكم (وَمن قَالَ بِعْهُ بِرِبْح مثل مَا تخسر) يَعْنِي بِعْ متاعك بِرِبْح نظرا إِلَى مشتراك وَخذ فِي مُقَابلَته مَتَاعا فِيهَا خسارة مِقْدَار ذَلِك الرِّبْح (عد) هَذَا البيع (خَارِجا عَن تصرف الْعُقَلَاء قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الانخرام (لَا ترجح مصلحَة) صِحَة (الصَّلَاة فِي) الأَرْض (الْمَغْصُوبَة) على مفْسدَة حرمتهَا فِيهَا، بل هِيَ إِمَّا مُسَاوِيَة أَو دونهَا وَقد جَازَت فهيا فَعلم عدم اشْتِرَاط رُجْحَان الْمصلحَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تكن مصلحتها مُسَاوِيَة للمفسدة وَلَا مرجوحة، بل تكون راجحة على الْمفْسدَة (أجمع على الْحل) أَي على حل الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة للاتفاق على عدم اعْتِبَار الْمفْسدَة المرجوحة (أُجِيب) عَن الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور بِأَن كلامنا فِيمَا إِذا نَشأ الْمصلحَة والمفسدة من شَيْء وَاحِد، وَهُوَ الْوَصْف، وَفِي الصَّلَاة الْمَذْكُورَة (لم ينشأ من) شَيْء (وَاحِد كَالصَّلَاةِ) فَإِن الْمفْسدَة لم تنشأ مِنْهَا بل من الْغَصْب، وَلذَا لَو شغلها بِغَيْر الصَّلَاة كَانَت الْحُرْمَة ثَابِتَة والمصلحة من الصَّلَاة وَلَو نشآ مَعًا من الصَّلَاة لما صحت قطعا (وَإِذا لزم) فِي عدم انحزام الْمُنَاسبَة (رُجْحَانهَا) أَي الْمصلحَة على الْمفْسدَة (فَلهُ) أَي للمرجح (فِي تَرْجِيح إِحْدَاهمَا) الْمصلحَة والمفسدة (عِنْد تعارضهما طرق تفصيلية فِي خصوصيات المسالك تنشأ) تِلْكَ الطّرق (مِنْهَا) أَي من تِلْكَ الخصوصيات (و) طَرِيق (إجمالي شَامِل) لجَمِيع الْمسَائِل (يسْتَعْمل فِي مَحل النزاع) وَهُوَ مَا أَفَادَهُ بقوله (لَو لم يقدر رُجْحَانهَا) أَي الْمصلحَة على الْمفْسدَة (هُنَا) أَي فِي مَحل النزاع (لزم التَّعَبُّد الْبَاطِل) أَي ثُبُوت الحكم لَا لمصْلحَة وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا إِنَّمَا هُوَ فِي أَحْكَام لم يقصر الْعقل عَن دَرك حكمهَا والمصالح فِيهَا (بِخِلَاف مَا قصر(3/309)
عَن دركه) فَإِن التَّعَبُّد فِيهِ لَيْسَ بباطل، لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُقَال فِيهِ أَن الحكم ثَبت لَا لمصْلحَة لقُصُور عقولنا عَن دركه، ثمَّ بَين السَّبَب فِي أَنهم اتَّفقُوا على اعْتِبَار الْوَصْف عِنْد رُجْحَان الْمصلحَة وَلم يتفقوا على الْغَايَة عِنْد رُجْحَان الْمفْسدَة بقوله: (قيل وَوُقُوع الِاتِّفَاق على الِاعْتِبَار عِنْد رُجْحَان الْمصلحَة دون الإلغاء لرجحان الْمفْسدَة لشدَّة اهتمام الشَّارِع برعاية الْمصَالح وابتناء الْأَحْكَام عَلَيْهَا فَلم تهمل) الْمصلحَة (مرجوحة على الِاتِّفَاق) بل كَانَت على الْخلاف.
(وَأما الثَّالِث) أَي انقسام الْعلَّة بِسَبَب اعْتِبَار الشَّارِع الْوَصْف عِلّة (فَإِذا كَانَ الْقَصْد إصْلَاح المذهبين) للحنفية وَالشَّافِعِيَّة، وَفِي بعض النّسخ اصْطِلَاح المذهبين، وعَلى هَذَا يقدر الْمُضَاف: أَي بَيَان اصطلاحهما وعَلى الأول لَا يلْزم عدم اصطلاحهما فِي حد ذاتيهما قبله: بل بِاعْتِبَار النُّقْصَان فِي بَيَان ناقليهما (فَاخْتلف طرق الشَّافِعِيَّة من الْغَزالِيّ وَشَيْخه) إِمَام الْحَرَمَيْنِ (والرازي والآمدي اقتصرنا على) الطَّرِيق (الشهيرة) يَعْنِي قصدت اسْتِيفَاء مصلحاتهما فَوجدت كَثْرَة الِاخْتِلَاف على وَجه يطول الْكَلَام جدا بِاسْتِيفَاء الْأَقْوَال فاقتصرت على الشهيرة (المثبتة) المتقنة المحكمة وَترك الْأَقْوَال الضعيفة (وَالْمُنَاسِب بذلك) الْمحل (الِاعْتِبَار) أَي اعْتِبَار الشَّارِع ذَلِك الْوَصْف عِلّة أَرْبَعَة (مُؤثر وملائم وغريب ومرسل، فالمؤثر مَا) أَي وصف (اعْتبر عينه فِي عين الحكم بِنَصّ) من كتاب أَو سنة (كالحدث بالمس) أَي بِمَسّ الذّكر، فَإِن عين الْمس اعْتبر فِي عين الْحَدث فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ " وَهَذَا الْمِثَال على قَول الشَّافِعِيَّة (وعَلى) قَول (الْحَنَفِيَّة سُقُوط نَجَاسَة الْهِرَّة بالطوف) فَإِن عين الطوف اعْتبر فِي عين السُّقُوط بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أَنَّهَا لَيست بنجسة إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات " (فتعدى) بسقوطها (إِلَى الْفَأْرَة) بِعَين الطّواف (والأوضح) فِي التَّمْثِيل (السكر فِي الْحُرْمَة) فَإِن عين السكر اعْتبر فِي عين التَّحْرِيم بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " كل مُسكر حرَام " وَجه الأوضحية أَن عين الْوَصْف وَعين الحكم منصوصان فِي هَذَا النَّص بِخِلَاف الْأَوَّلين فَإِن الْحَدث نَفسه غير مَنْصُوص وَكَذَا السُّقُوط فِي الْمِثَال الثَّانِي (أَو إِجْمَاع) مَعْطُوف على نَص (كولاية المَال بالصغر) أَو ولَايَة التَّصَرُّف للْوَلِيّ فِي مَال الصَّغِير، فَإِن عين الصغر اعْتبر فِي عين الولايتين بِالْإِجْمَاع (وَقد يُقَال) مَا اعْتبر (نَوعه) فِي نوع الحكم بدل عَنهُ فِي عينه كَمَا قَالَ صدر الشَّرِيعَة (نفيا لتوهم اعْتِبَاره) أَي الْوَصْف (مُضَافا لمحل) كالسكر الْمَخْصُوص بِالْخمرِ وَالْحُرْمَة الْمَخْصُوصَة بهَا فَيكون للخصوصية مدْخل فِي الْعلية وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا سمى بالمؤثر لظُهُور تَأْثِيره فِي الحكم أَو الْإِجْمَاع وَالْمرَاد ثُبُوته بالِاتِّفَاقِ لذكر الْمُرْسل فِي مُقَابِله وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ فَلَا اتِّفَاق إِلَّا فِيهِ وَلم يعْتَبر الثُّبُوت بِالْقِيَاسِ. هَاهُنَا، لِأَن الْقيَاس فِي الْأَسْبَاب غير مُعْتَبر (والملائم مَا) أَي وصف (ثَبت) عينه(3/310)
(مَعَه) أَي مَعَ عين الحكم (فِي الأَصْل مَعَ ثُبُوت اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قلبه) أَي مَا ثَبت مَعَه فِي الأَصْل مَعَ اعْتِبَار جنسه فِي عين الحكم، سمى بِهِ لكَونه مُوَافقا لما اعْتَبرهُ الشَّرْع (أَو جنسه) مَعْطُوف على مَا عطف عَلَيْهِ قلبه (فِي جنسه) أَي الحكم (فَالْأول) أَي الْعين مَعَ الْعين فِي الأَصْل بِمُجَرَّد تَرْتِيب الحكم على وَفقه مَعَ ثُبُوت اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم (كالصغر فِي حمل انكاحها) أَي الصَّغِيرَة (على مَا لَهَا فِي ولَايَة الْأَب) فَإِنَّهُ وصف ملائم لترتيب ثُبُوت ولَايَة الْأَب لانكاحها غليه كَمَا فِي تَرْتِيب ثُبُوتهَا على مَا لَهَا (فَإِن عين الصغر (مُعْتَبر فِي جنس الْولَايَة بِالْإِجْمَاع لاعتباره) أَي الصغر (فِي ولَايَة المَال) بِالْإِجْمَاع. وَلما كَانَ فِي هَذَا الْمِثَال نظر لِأَنَّهُ لم يعْتَبر فِيهِ أَولا عين الْوَصْف مَعَ عين الحكم بل ابْتِدَاء جعل عين الْوَصْف مؤثرا فِي جنس الحكم، قَالَ (وصواب الْمِثَال للحنفية الثّيّب الصَّغِيرَة على الْبكر الصَّغِيرَة فِي ولَايَة الانكاح بالصغر) أَي ثُبُوت إنكاح الْأَب الثّيّب قِيَاسا على ثُبُوت ولَايَة إنكاحه الصَّغِيرَة الْبكر بِجَامِع الصغر (وعينه) أَي الصغر اعْتبر (فِي جِنْسهَا) أَي الْولَايَة (لاعتباره) أَي الصغر (الخ) أَي فِي جنس الْولَايَة بِاعْتِبَارِهِ فِي ولَايَة المَال لثبوتها بِالْإِجْمَاع (لِأَن إِثْبَات اعْتِبَاره) أَي الْوَصْف عِلّة (بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِي الْجِنْس) إِنَّمَا هُوَ (بإظهاره) أَي بِاعْتِبَارِهِ (فِي) مَحل (آخر) من جنس الأَصْل (لَا فِي عين حكم الأَصْل لِأَن ذَلِك) أَي الَّذِي اعْتبر فِي عين حكم الأَصْل إِنَّمَا هُوَ (الْمُؤثر) لَا الملائم. (وَالثَّانِي) وَهُوَ قلب الأول اعْتِبَار جنس الْوَصْف فِي عين الحكم (فِي حمل الْحَضَر حَالَة الْمَطَر على السّفر فِي) جَوَاز (الْجمع) بَين المكتوبتين (بِعُذْر الْمَطَر، وجنسه) أَي جنس عذر الْمَطَر (الْحَرج) أَي الضّيق مُؤثر (فِي عين رخصَة الْجمع بِالنَّصِّ على اعْتِبَاره) أَي الْجِنْس الْمَذْكُور (فِي عين الْجمع) فِي السّفر إِذْ الْحَرج جنس يَشْمَل الضّيق الْحَاصِل من خوف الضلال والانقطاع، وَمِنْه الْمَطَر، ونه التأذي بِهِ، عَن أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا عجل بِهِ السّير يُؤَخر الظّهْر إِلَى وَقت الْعَصْر فَيجمع بَينهمَا وَيُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء حَتَّى يغيب الشَّفق إِلَى غير ذَلِك فَإِن قلت النَّص إِنَّمَا دلّ على جَوَاز الْجمع فِي السّفر لَا على علية الْحَرج لَهُ قُلْنَا من الْمَعْلُوم كَونه من فروع - {مَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} - (أما حرج لسفر فبالثبوت مَعَه فَقَط) أَي إِنَّمَا اعْتبر عين حرج السّفر فِي الحكم الَّذِي هُوَ الْجمع بِمُجَرَّد ترَتّب الحكم على وَفقه إِذْ لَا نَص وَلَا إِجْمَاع على علية نفس حرج السّفر (وَالْحق أَن الْمُضَاف هُوَ مَحل النَّص) أَي أَن الْمُعْتَبر فِي حكم الأَصْل هُوَ الْمُضَاف إِلَى السّفر، يَعْنِي حرج السّفر (فَلَا يتَعَدَّى) حكم الأَصْل إِلَى غَيره ضَرُورَة أَن الْمحل جُزْء من الْمُعْتَبر فِي حكمه (لَا) أَن مَحل النَّص هُوَ الْحَرج (الْمُطلق) عَن الْإِضَافَة (وَإِلَّا تعدى) حكم(3/311)
رخصَة الْجمع (إِلَى ذِي الصِّنَاعَة الشاقة) لوُجُود الْحَرج فِيهِ (وَلم يحْتَج إِلَى الإناطة بِالسَّفرِ) بل كَانَ يُضَاف إِلَى الْحَرج مُطلقًا (إِذْ لَا خَفَاء فِي الْمُطلق) أَي مَا يُطلق عَلَيْهِ الْحَرج عرفا (كالإسكار فِي الْخمر) والإناطة فِي السّفر لَيْسَ إِلَّا لعدم انضباط مَا هُوَ الْعلَّة بِالْحَقِيقَةِ فَإِنَّهَا حرج خَاص بِمَعْرِِفَة الْإِضَافَة، فَلَيْسَ مِثَالا للملائم الَّذِي اعْتبر فِيهِ جنس الْوَصْف فِي عين الحكم (وَأَيْضًا فَذَلِك) أَي دلَالَة ثُبُوت الْجِنْس فِي الْعين على صِحَة اعْتِبَار الْعين إِنَّمَا يكون (بعد ثُبُوت الْعين فِي المحلين) الأَصْل وَالْفرع كالصغر فِي الْمِثَال السَّابِق (وَلَيْسَ الْمَطَر) الَّذِي هُوَ الْعين هَهُنَا (هُوَ الأَصْل) الَّذِي هُوَ السّفر، وَإِنَّمَا هُوَ الْفَرْع فَقَط وَهُوَ الْحَضَر. قَالَ الشَّارِح هَذَا مِثَال تقديري على قَول من جوز الْجمع بَينهمَا بِلَا عذر فِي الْحَضَر بِشَرْط أَن لَا يتَّخذ عَادَة، وَمِمَّنْ نقل عَنهُ ابْن سِيرِين وَرَبِيعَة وَأَشْهَب وَابْن الْمُنْذر خلافًا لعامة الْعلمَاء تمسكا بِمَا عَن ابْن عَبَّاس
" جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمَدِينَةِ من غير خوف وَلَا مطر. قَالَ سعيد بن جُبَير فَقلت لِابْنِ عَبَّاس لم فعل ذَلِك؟ قَالَ أَرَادَ أَن لَا يحرج أمته " رَوَاهُ مُسلم (ولبعض الْحَنَفِيَّة) لصَاحب البديع وَصدر الشَّرِيعَة فِي تَمْثِيل الثَّانِي (كاعتبار جنس الْمَضْمَضَة المومى إِلَيْهَا فِي عدم إفسادها الصَّوْم) فِي حَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حَيْثُ قَالَ
" هششت فَقبلت وَأَنا صَائِم فَقلت يَا رَسُول الله صنعت الْيَوْم أمرا عَظِيما فَقبلت وَأَنا صَائِم قَالَ: أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِالْمَاءِ وَأَنت صَائِم؟ قلت لَا بَأْس قَالَ فَمه " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط مُسلم، وَقَالَ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَمعنى فَمه: أَي فَمَا الْفرق بَينهمَا فَإِن جنس الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْمَضْمَضَة اعْتبر فِي عين الحكم وَهُوَ عدم الْإِفْسَاد (وَهُوَ) أَي جنسه (عدم دُخُول شَيْء إِلَى الْجوف وَلَيْسَ) هَذَا (مِمَّا نَحن فِيهِ، وَهُوَ) أَي مَا نَحن فِيهِ (الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث بل الانتفاء) للإفساد (لانْتِفَاء ضد الرُّكْن) للصَّوْم: يَعْنِي دُخُول شَيْء إِلَى الْجوف (مَعَ أَنه من الْعين) أَي اعْتِبَار عين الْوَصْف هُوَ عدم دُخُول شَيْء فِي الْجوف (فِي الْعين) أَي عين الحكم وَهُوَ عدم إِفْسَاد الصَّوْم فَهُوَ من الْمُؤثر. (وَالثَّالِث) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور مَعَ ثُبُوت جنسه فِي جنس الحكم (كَالْقَتْلِ بالمثقل) أَي كقياسه (عَلَيْهِ) أَي على الْقَتْل (بالمحدد) فِي الحكم الَّذِي هُوَ الْقَتْل (بِالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان) أَي بِهَذَا الْجَامِع كَمَا عَلَيْهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم (وجنسه) أَي الْقَتْل الْعمد الْعدوان (الْجِنَايَة على البنية) للْإنْسَان، وَقد يعْتَبر (فِي جنس الْقصاص وَلَيْسَ) من هَذَا الْقَتِيل (فَإِنَّهُ من الْمُؤثر) لِأَن الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْقَتْل الْعمد الْعدوان فِي حكم الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقَتْل بِهِ ثَابت بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع (فَقيل) وقائله التَّفْتَازَانِيّ (لَا نَص وَلَا إِجْمَاع على أَن الْعلَّة) فِي الأَصْل (الْقَتْل وَحده أَو) الْقَتْل (مَعَ قيد كَونه بالمحدد، وَلَو صَحَّ) مَا قيل (لزم انْتِفَاء الْمُؤثر لتأتيه) أَي مثل مَا قَالَ (فِي كل(3/312)
وصف مَنْصُوص بِالنِّسْبَةِ إِلَى قيد يفْرض فَإِن قيل إِنَّمَا قُلْنَا) ذَلِك (إِذا قَالَ بالقيد مُجْتَهد وَلَيْسَ) هَذَا (فِي الْكل) أَي كل أَمْثِلَة الْمُؤثر (قُلْنَا إِن سلم) أَن إبداء قيد يفْرض إِنَّمَا يسمع إِذا قَالَ بِهِ مُجْتَهد، وَفِيه إِشَارَة إِلَى منع اعْتِبَار قَول الْمُجْتَهد فِي إبداء قيد يفْرض بل يرد على ذَلِك الْمُجْتَهد فَإِن إبداء قيد مَا لم يقل بِهِ مُجْتَهد فَتَأمل (فمنتف) جَوَاب الشَّرْط: أَي قَول الْمُجْتَهد مُنْتَفٍ (فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (فَإِن أَبَا حنيفَة لم يعْتَبر فِي الْعلَّة سواهُ) أَي غير الْقَتْل الْعمد الْعدوان (غير أَنه يَقُول انْتَفَت الْعلَّة بِانْتِفَاء دَلِيل العمدية) وَهُوَ الْقَتْل بِمَا لَا يثبت لتفريقه الْأَجْزَاء فَإِنَّهَا أَمر مبطن، وَهَذَا يظهرها فأقيم مقَام الْوُقُوف على حَقِيقَة الْقَصْد (ولبعض الْحَنَفِيَّة) كصدر الشَّرِيعَة فِي التَّمْثِيل الثَّالِث (الطوف فِي طَهَارَة سُؤْر الْهِرَّة) اعْتبر جنسه (وجنسه الضَّرُورَة: أَي الْحَرج فِي جنسه) أَي الحكم (التَّخْفِيف وَهُوَ) أَي مَا قَالَه إِنَّمَا يتم (على تَقْدِير عدم النَّص عَلَيْهِ) أَي على عين الْوَصْف: أَي الطوف وَلَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ (كَالَّذي قبله) من قبيل الْمُؤثر. (والغريب مَا) أَي وصف (لم يثبت) فِيهِ (سوى) اعْتِبَار (الْعين) أَي عين ذَلِك الْوَصْف (مَعَ الْعين) أَي عين الحكم بترتب الحكم عَلَيْهِ فَقَط (فِي الْمحل كالفعل الْمحرم لغَرَض فَاسد فِي حرمَان الْقَاتِل) الْإِرْث من الْمَقْتُول، فَإِن هَذَا الْوَصْف: أَي الْفِعْل الْمحرم (يثبت) الحرمان (مَعَه فِي الأَصْل) أَي قتل الْوَارِث مُوَرِثه (وَلَا نَص وَلَا إِجْمَاع على اعْتِبَار عينه) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور (فِي جنسه) أَي الحكم (أَو) على اعْتِبَار (جنسه) أَي الْوَصْف (فِي أَحدهمَا) عين الحكم أَو جنسه (ليلحق بِهِ) أَي الْفَاعِل فعلا محرما لغَرَض فَاسد (الفار) من تَوْرِيث زَوجته بِطَلَاقِهَا فِي مرض مَوته إِذا مَاتَ وَهِي فِي الْعدة (وبالثبوت) أَي بِثُبُوت الْوَصْف مَعَ الحكم (بعد مَا قيل إِنَّمَا هُوَ مِثَال لغريب الْمُرْسل) الَّذِي لم يظْهر إلغاؤه وَلَا اعْتِبَاره، كَذَا وجدنَا فِي النّسخ المصححة. وَكَانَ فِي نُسْخَة الشَّارِح قبل قَوْله وبالثبوت زِيَادَة، فَقَالَ الشَّارِح: كَانَ فِي النُّسْخَة مَكَان يثبت مَعَه فِي الأَصْل ثَبت مَعَه فِي الْجُمْلَة فَقَالَ قِيَاسا على ذَلِك (وَقَوْلنَا فِي الْجُمْلَة لِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْفِعْل الْمحرم (قد ثَبت مَعَ عَدمه) أَي عدم الحكم، وَهُوَ الحرمان (فِيمَا لم يقْصد المَال) أَي أَخذه بذلك الْفِعْل وَهُوَ مَا إِذا كَانَ أَجْنَبِيّا وَلَيْسَ بِزَوْج وَلَا زَوْجَة، فَإِن حرمَان الْإِرْث فرع مَا إِذا كَانَ بِحَيْثُ يَرث مِنْهُ أهـ (وَاعْلَم أَنه يُمكن فِي الأَصْل اعتباران: الْقَتْل) فِي الْوَصْف (والحرمان) فِي الحكم (فَيكون) الْوَصْف مناسبا (مؤثرا) فِي الحكم لاعْتِبَار عين الْوَصْف فِي عين الحكم بِنَصّ، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا يَرث الْقَاتِل شَيْئا من قَاتله " (أَو) الْفِعْل (الْمحرم) فِي الْوَصْف (ونقيض قَصده) أَي الْفَاعِل فِي الحكم (وَيتَعَيَّن) هَذَا الِاعْتِبَار (فِي الْمِثَال، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر هَكَذَا (اخْتلف الحكم فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع (إِذْ هُوَ) أَي الحكم (فِي الأَصْل عدم الْمِيرَاث وَالْفرع الْمِيرَاث(3/313)
فَإِن لم يثبت) الْوَصْف مَعَ الحكم (أصلا فالمرسل) أَي فَهُوَ الْمُرْسل. (وينقسم) الْمُرْسل (إِلَى مَا علم إلغاؤه كَصَوْم الْملك عَن كَفَّارَته لمشقته) أَي الصَّوْم (بِخِلَاف إِعْتَاقه) فَإِنَّهُ سهل عَلَيْهِ وَالصِّيَام مَعَ الْقُدْرَة على الْإِعْتَاق مُخَالف للنَّص، فَهَذَا الْقسم مَعْلُوم الإلغاء (وَمَا لم يعلم) إلغاؤه (وَلم يعلم اعْتِبَار جنسه) أَي الْوَصْف (فِي جنسه) أَي الحكم (أَو) لم يعلم اعْتِبَار (عينه) أَي الْوَصْف (فِي جنسه) أَي الحكم (أَو) لم يعلم اعْتِبَار (قلبه) أَي الْجِنْس فِي الْعين (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم الثَّانِي (الْغَرِيب الْمُرْسل وهما) أَي القسمان الْمَذْكُورَان (مردودان اتِّفَاقًا، وَأنكر على يحيى بن يحيى) تلميذ الإِمَام مَالك (إفتاؤه) بعض مُلُوك الغرب فِي كَفَّارَة (بِالْأولِ) أَي بِحكم مَا علم إلغاؤه، وَهُوَ الصَّوْم (بِخِلَاف الْحَنَفِيّ) أَي إِفْتَاء من أفتى من الْحَنَفِيَّة عِيسَى بن ماهان وَإِلَى خُرَاسَان فِي كَفَّارَة يَمِين بِالصَّوْمِ (مُعَللا) تعين الصَّوْم عَلَيْهِ (بفقره لتبعاته) فَإِن مَا عَلَيْهِ من التَّبعَات فَوق مَاله من الْأَمْوَال، فَعَلَيهِ كَفَّارَة من لَا يملك شَيْئا (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّعْلِيل (ثَانِي تعليلي يحيى بن يحيى: حَكَاهُمَا بعض الْمَالِكِيَّة) الْمُتَأَخِّرين، وَهُوَ ابْن عَرَفَة (عَنهُ) أَي عَن يحيى بن يحيى فَإِنَّهُ تَعْلِيل مُتَّجه لَيْسَ من قبيل مَعْلُوم الإلغاء فَلْيَكُن الْمعول عَلَيْهِ، وَالْأول علاوته (وَمَا علم اعْتِبَار أَحدهَا) أَي جنسه فِي جنسه أَو عينه فِي جنسه أَو جنسه فِي عينه (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (الْمُرْسل الملائم. وَعَن الشَّافِعِي وَمَالك قبُوله) : وَذكر الْأَبْهَرِيّ أَنه لم يثبت عَنْهُمَا والسبكي أَن الَّذِي صَحَّ عَن مَالك اعْتِبَار جنس الْمصَالح قطعا، وَإِنَّمَا يسوغ الشَّافِعِي تَعْلِيق الْأَحْكَام بالمصالح الشبيه بالمصالح الْمُعْتَبرَة وفَاقا، وبالمصالح المستندة إِلَى أَحْكَام ثَابِتَة الْأُصُول وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ يخْتَار نَحْو ذَلِك (وَشرط الْغَزالِيّ) فِي قبُوله ثَلَاثَة شُرُوط (كَون مصْلحَته ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة: أَي ظنا يقرب مِنْهُ كُلية) كَمَا لَو تترس الْكفَّار بأسرى الْمُسلمين فِي حربهم، وَعلمنَا أَنه لَو لم نرم الترس استأصلوا الْمُسلمين المتترس بهم وَغَيرهم بِالْقَتْلِ وَإِن رميناهم سلم أَكثر الْمُسلمين، فَيجوز رميهم وَإِن قتل فيهم مُسلم بِلَا ذَنْب لحفظ بَاقِي الْأمة لِأَنَّهُ أقرب إِلَى مَقْصُود الشَّارِع، فَعلم الْمصلحَة الْمَقْصُودَة للشارع بِالضَّرُورَةِ بأدلة كَثِيرَة، وَكَونهَا قريبَة من الْقطع لجَوَاز دفعهم عَن الْمُسلمين بِغَيْر رميهم، وَكَونهَا كُلية لتعلقها ببيضة الْإِسْلَام إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّة بِبَعْض مِنْهُم، وَدَلِيل كَون هَذَا من الملائم أَنه لم يُوجد الْمعِين وَثَبت اعْتِبَار الْجِنْس فِي الْجِنْس وَلم يعْتَبر الشَّارِع الْجِنْس الْقَرِيب لهَذَا الْوَصْف فِي الْجِنْس الْقَرِيب لهَذَا الحكم، لَكِن اعْتبر جنسه فِي جنس الحكم كَمَا فِي الرُّخْصَة فِي اسْتِبَاحَة الْمُحرمَات وَاعْترض بِأَن هَذَا فِي جنسه الْأَبْعَد، أَعنِي الْأَعَمّ من ضَرُورَة حفظ النَّفس، وَهُوَ مُطلق الضَّرُورَة، والأبعد غير كَاف فِي الملاءمة، وَفِي التَّلْوِيح: الأولى أَن يُقَال اعْتبر الشَّرْع حُصُول النَّفْع الْكثير فِي تحمل الضَّرَر الْيَسِير، وَتَحْقِيق هَذِه الشُّرُوط فِي غَايَة الندرة(3/314)
فَلَا يجوز بِنَاء الحكم عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَدُور على وصف ظَاهر منضبط، وَإِلَى مَا ذكرنَا أَشَارَ بقوله (فَلَا يَرْمِي المتترسون بِالْمُسْلِمين لفتح حصن) لِأَن فَتحه لَيْسَ بضروري (وَلَا) يَرْمِي المتترسون بِالْمُسْلِمين (لظن استئصال الْمُسلمين) ظنا بَعيدا من الْقطع (وَلَا يَرْمِي بعض أهل السَّفِينَة لنجاة بعض) لأَنهم لَيْسُوا كل الْأمة، على أَنه تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (الْمُسَمّى بالمصالح الْمُرْسلَة) لإطلاقها عَمَّا يدل على اعْتِبَارهَا أَو إلغائها (وَالْمُخْتَار) عِنْد أَكثر الْعلمَاء (رده) مُطلقًا (إِذْ لَا دَلِيل على الِاعْتِبَار) أَي اعْتِبَار الشَّرْع (وَهُوَ دَلِيل شَرْعِي) فَلَا يَصح بِدُونِ اعْتِبَار الشَّارِع (فَوَجَبَ رده) لعدم الِاعْتِبَار (قَالُوا فتخلوا وقائع) كَثِيرَة مِمَّا يبتلى بِهِ الْمُكَلف فَيحْتَاج إِلَى معرفَة حكم الله تَعَالَى فِيهَا للْعَمَل (قُلْنَا نمْنَع الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم أَنه يلْزم من عدم اعْتِبَار مَا ذكر أَن تَخْلُو الوقائع من الحكم (لِأَن العمومات) من الْكتاب وَالسّنة (والأقسية شَامِلَة) لجَمِيع الوقائع (وَبِتَقْدِير عَدمه) أَي عدم الشُّمُول (فنفى كل مدرك خَاص حكمه الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة) يَعْنِي إِذا انْتَفَى فِي حَادِثَة وجود مَأْخَذ من الْأَدِلَّة الْأَرْبَعَة فَعمل بِمُوجب أصل كلي مُقَرر فِي الشَّرْع اتِّفَاقًا، وَهِي الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة فَإِنَّهُ الأَصْل فِي الْأَشْيَاء على مَا عرف فِي مَحَله (فَلم تخل عَن حكم الشَّرْع) وَاقعَة (وَهُوَ الْمُبْطل) أَي الْخُلُو عَن الحكم هُوَ الْمُبْطل للرَّدّ الْمَذْكُور (فَظهر اشْتِرَاط لفظ الْغَرِيب والملائم بَين مَا ذكر من الْأَقْسَام الأول للمناسب، والثواني للمرسل، وَسَيذكر أَنه يجب من الْحَنَفِيَّة قبُول الْقسم الْأَخير من الْمُرْسل، فاتفاقهم) إِنَّمَا هُوَ (فِي نفي الْأَوَّلين، وَجعل الْآمِدِيّ الْخَارِجِي) أَي الْمُحَقق فِي الْخَارِج (من الملائم) قسما (وَاحِدًا) وَهُوَ مَا اعْتبر فِيهِ خُصُوص الْوَصْف فِي خُصُوص الحكم وعمومه فِي عُمُومه (قَالَ الْمُنَاسب أَن) كَانَ (مُعْتَبرا بِنَصّ أَو إِجْمَاع فالمؤثر وَإِلَّا فَإِن) كَانَ مُعْتَبرا (بترتيب الحكم على وَفقه فتسعة، لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يعْتَبر خُصُوص الْوَصْف أَو عُمُومه أَو خصوصه وعمومه) مَعًا (فِي عين الحكم) مِمَّا لَا يكون بِنَصّ أَو إِجْمَاع لِأَن ذَلِك من الْمُؤثر، بل اعْتِبَار ناشي مِنْهُ اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم (أَو جنسه أَو عينه) أَي الحكم (وجنسه) فَإِن قلت فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على هَذِه الاعتبارات الثَّلَاثَة قلت فرق بَين أَن يكون للوصف صَلَاحِية اعْتِبَار الْعين فِي الْعين بِسَبَب أَحدهمَا وَبَين أَن يعْتَبر أهل الشَّرْع ذَلِك، فَإِنَّهُ تتأكد تِلْكَ الصلاحية، وَقد يعْتَبر مُجَرّد ثُبُوت الْعين مَعَ الْعين من غير أحد الْأُمُور الثَّلَاثَة: كَذَا فِي الْغَرِيب (ثمَّ غير الْمُعْتَبر) بِأَن لَا يَتَرَتَّب الحكم على وَقفه فِي الأَصْل (إِمَّا أَن يظْهر إلغاؤه أَو لَا) فَهَذِهِ جملَة الْأَقْسَام (وَالْوَاقِع مِنْهَا فِي الشَّرْع لَا يزِيد على خَمْسَة: مَا اعْتبر خُصُوص الْوَصْف فِي خُصُوص الحكم وعمومه) أَي الْوَصْف (فِي عُمُومه) أَي الحكم فِي مَحل آخر (وَيُسمى الملائم كَقَتل المثقل إِلَى الخ) فَإِنَّهُ ظهر تَأْثِير عينه، فِي عين الحكم وَهُوَ وجوب الْقَتْل فِي المحدد لَكِن لم يثبت بِالنَّصِّ(3/315)
أَو الْإِجْمَاع عَلَيْهِ مُجَرّد الْقَتْل عُدْوانًا لجَوَاز مدخلية المحدد فِي الْعلية كَيفَ وَإِلَّا لَكَانَ من الْمُؤثر وتأثير جنسه وَهُوَ الْجِنَايَة على الْمحل الْمَعْصُوم بالقود فِي جنس الْقَتْل من حَيْثُ الْقصاص فِي الْأَيْدِي فَهَذَا هُوَ الأول اتّفق القائسون على قبُوله، وَمَا عداهُ فمختلف فِيهِ (وَمَا اعْتبر الْخُصُوص) فِي الْخُصُوص (فَقَط) لَكِن (لَا بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَهُوَ الْمُنَاسب الْغَرِيب كالإسكار فِي تَحْرِيم الْخمر لَو لم ينص) أَي على تَقْدِير عدم النَّص (إِنَّمَا على عينه) أَي الْإِسْكَار (فِي عينه) أَي التَّحْرِيم (إِذْ لم يظْهر اعْتِبَار عينه) أَي الْوَصْف فِي جنس الحكم (وَلَا جنسه) أَي الْإِسْكَار (فِي جنسه) أَي التَّحْرِيم (أَو عينه) أَي التَّحْرِيم (وَمَا اعْتبر جنسه) أَي الْوَصْف (فِي جنسه) أَي أَي الحكم (فَقَط وَلَا نَص وَلَا إِجْمَاع، وَهَذَا من جنس الْمُنَاسب الْغَرِيب إِلَّا أَنه) أَي هَذَا الْقسم (دون مَا سبق) وَكَذَا قَالَ فِي الأول وَهُوَ الْمُنَاسب الْغَرِيب (وَذَلِكَ كاعتبار جنس الْمَشَقَّة الْمُشْتَركَة بَين الْحَائِض وَالْمُسَافر فِي جنس التَّخْفِيف المتناول لإِسْقَاط الصَّلَاة) رَأْسا (و) إِسْقَاط (الرَّكْعَتَيْنِ) من الرّبَاعِيّة فَهَذَا هُوَ الثَّالِث (وَمَا لم يثبت) اعْتِبَاره وَلَا إلغاؤه (كالتترس) كَمَا سبق وَهُوَ الْمُنَاسب الْمُرْسل فَهَذَا هُوَ الرَّابِع (أَو) الْمُنَاسب الَّذِي (ثَبت إلغاؤه) وَلم يثبت اعْتِبَاره كَمَا فِي إِيجَاب الصَّوْم فِي كَفَّارَة الْملك فِي فطر رَمَضَان، فَهَذَا هُوَ الْخَامِس (ثمَّ جنس كل) من الحكم وَالْوَصْف ثَلَاث مَرَّات (قريب) أَو سافل (وبعيد) تَحْتَهُ جنس لَا فَوْقه (ومتوسط) بَينهمَا (فالعالي) من الحكم (الحكم ثمَّ الْوُجُوب وَأحد مقابلاته) من التَّحْرِيم وَالنَّدْب وَالْكَرَاهَة وَالْإِبَاحَة (ثمَّ الْعِبَادَة أَو الْمُعَامَلَة ثمَّ الصَّلَاة أَو البيع ثمَّ الْمَكْتُوبَة أَو النَّافِلَة أَو البيع بِشَرْطِهِ على تساهل لَا يخفى لِأَنَّهَا) أَي الْعِبَادَة وَمَا بعْدهَا (أَفعَال لَا أَحْكَام، وَالْوَصْف) العالي جنسه (كَونه وَصفا يناط بِهِ الْأَحْكَام، ثمَّ الْمُنَاسب، ثمَّ الْمصلحَة الضرورية، ثمَّ حفظ النَّفس، أَو مقابلاته) أَو حفظ الدّين وَحفظ الْعقل وَحفظ المَال، وَهَذَا جنس سافل (وَمثل الْوَصْف أَيْضا بعجز الصَّبِي غير الْعَاقِل وَعجز الْمَجْنُون نَوْعَانِ) من الْعَجز (جنسهما الْعَجز لعدم الْعقل وفوقه الْعَجز لضعف القوى أَعم من الظَّاهِرَة والباطنة على مَا يَشْمَل الْمَرِيض) وفوقه الْجِنْس الَّذِي هُوَ الْعَجز النَّاشِئ عَن الْفَاعِل بِدُونِ اخْتِيَاره على مَا يَشْمَل الْمَحْبُوس وفوقه الْجِنْس الَّذِي هُوَ الْعَجز النَّاشِئ عَن الْفَاعِل وَعَن مَحل الْفِعْل وَعَن الْخَارِج، كَذَا فِي التَّلْوِيح فَهَذَا هُوَ الْجِنْس العالي (وَلَا يشكل أَن الظَّن بِاعْتِبَار الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب أقوى لِكَثْرَة مَا بِهِ الِاشْتِرَاك) فِي الْأَقْرَب بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَبْعَد، مثلا مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ النَّاس اشْتَمَل عَلَيْهِ الحساس مَعَ زِيَادَة وَهَكَذَا (وَشرط بَعضهم) أَي الشَّافِعِيَّة فِي وجوب الْعَمَل بالملائم (شَهَادَة الْأُصُول) بعد مُطَابقَة الْوَصْف قوانين الشَّرْع، وَالْمرَاد بالأصول مَا يتَعَلَّق بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع بالحكم الْمُعَلل بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي المُرَاد بِشَهَادَة الأَصْل(3/316)
أَن يكون للْحكم الْمُعَلل أصل معِين من نَوعه يُوجد فِيهِ جنس الْوَصْف أَو نَوعه (سَلَامَته) أَي الْوَصْف إِمَّا بِالرَّفْع خبر الضَّمِير الرَّاجِح إِلَى شَهَادَة الْأُصُول، وَإِمَّا بِالنّصب عطف بَيَان لَهَا من قبيل التَّفْسِير باللازم (من إِبْطَاله بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو تخلف) للْحكم المنوط بِهِ (عَنهُ) فِي بعض صور وجوده (أَو وجود وصف يَقْتَضِي ضد مُوجبه كلا زَكَاة فِي ذُكُور الْخَيل فَلَا) زَكَاة (فِي إناثها بِشَهَادَة الْأُصُول بالتسوية) بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي سَائِر السوائم فِي الزَّكَاة وجوبا وسقوطا. ثمَّ قيل لَا بُد من الْعرض على كل الْأُصُول لينقطع احْتِمَال النَّقْض والمعارضة، وَقيل أدنى مَا يجب عَلَيْهِ خرق الْعرض أصلان، لِأَن الْعرض على الْكل مُتَعَذر أَو متعسر فَوَجَبَ الِاقْتِصَار على أصلين كَمَا فِي الِاقْتِصَار فِي تَزْكِيَة الشَّاهِد. قَالَ شمس الْأَئِمَّة وَمن شَرط الْعرض على الْوَصْف بالتأثير وَالْعرض ظُهُوره، وَالْعرض على الأَصْل كل لم يجد بدا على الْعَمَل، فَإِنَّهُ يَقُول خَصمه وَرَاء هَذَا أصل آخر معَارض أَو نَاقض. وَقَالَ مَشَايِخنَا إِنَّمَا تثبت عَدَالَة الْوَصْف بالتأثير وَالْفَرْض ظُهُوره، وَالْعرض على الْأُصُول لَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل، وَالْأُصُول شُهُود للْحكم (وَاعْلَم أَن الْحَنَفِيَّة) قَائِلُونَ (التَّعْلِيل بِكُل من الْأَرْبَعَة) الْعين فِي الْعين، وَفِي الْجِنْس كالجنس فِي الْجِنْس وَفِي الْعين (مَقْبُول، فَإِن) كَانَ التَّعْلِيل (بِمَا عينه أَو جنسه) مُؤثر (فِي عين الحكم فَقِيَاس إنفاقا للُزُوم أصل الْقيَاس) فِي كل من هذَيْن، وَيُقَال لما تَأْثِير عينه فِي عين الحكم أَنه فِي معنى الأَصْل وَهُوَ الْمَقْطُوع بِهِ الَّذِي رُبمَا يقر بِهِ مُنكر الْقيَاس، إِذْ لَا فرق إِلَّا بتعذر الْمحل (وَإِلَّا) فَإِن كَانَ عينه فِي جنس الحكم أَو جنسه فِي جنسه (فقد) يكون قِيَاسا اتِّفَاقًا (بِأَن يكون) مَا عينه فِي جنس الحكم من قبيل مَا يكون (الْعين فِي الْعين أَيْضا) فيستدعي أصلا مقيسا عَلَيْهِ (فَيكون مركبا) وَكَذَا مَا جنسه فِي جنسه قد يكون مَعَ ذَلِك فِي عينه، فَيكون لَهُ أصل فَيكون قِيَاسا وَقد لَا، وَيجب قبُولهَا للحنفية، إِذْ كل من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة من أَقسَام الْمُؤثر عِنْدهم (وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ قَالَ الْأَصَح عِنْدِي (الْكل قِيَاس دَائِما لِأَن مثله) أَي هَذَا الْوَصْف (لَا بُد لَهُ) فِي الشَّرْع (من أصل قِيَاس) فِي الشَّرْع لَا محَالة (إِلَّا أَنه قد يتْرك لظُهُوره) كَمَا قُلْنَا فِي إِيدَاع الصَّبِي لَا يضمن لِأَنَّهُ سلطه على ذَلِك فَإِنَّهُ بِهَذَا الْوَصْف يكون مقيسا على أصل وَاضح، وَهُوَ أَن من بَاعَ الصَّبِي طَعَاما فتناوله لم يضمن لَهُ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاحَةِ مسلط على تنَاوله، وَرُبمَا لَا يَقع الِاسْتِغْنَاء عَنهُ، فيذكر كَمَا قُلْنَا فِي طول الْحرَّة أَنه لَا يمْنَع نِكَاح الْأمة إِن كل نِكَاح يَصح من العَبْد بِإِذن الْمولى هُوَ صَحِيح من الْحر كَنِكَاح الْحرَّة، هَذَا إِشَارَة إِلَى معنى مُؤثر، وَهُوَ أَن الرّقّ ينصف الْحل الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عقد النِّكَاح وَلَا يبد لَهُ غَيره بِحل آخر، فَيكون الرَّقِيق فِي النّصْف الْبَاقِي بِمَنْزِلَة الْحر فِي الْكل، كَذَا ذكر الشَّارِح الْمَذْكُور.(3/317)
فِي التَّلْوِيح من كَلَام شمس الْأَئِمَّة مَا فِي الْمَتْن فَقَط وَلَا يخفى أَن الْمِثَال الثَّانِي حَاصله جَوَاز نِكَاح ذِي الطول الْأمة مُعَللا بِالْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَة الْمَأْخُوذَة، من أَن الرّقّ منصف لما ذكر مبدل، وَهِي على تَقْدِير تَسْلِيمهَا اسْتِدْلَال غير الْقيَاس، وَنِكَاح الْحرَّة لَا يصلح مقيسا عَلَيْهِ للفرع الْمَذْكُور سَوَاء فسرناه بِنِكَاح الْحر الْحرَّة، أَو العَبْد الْحرَّة لعدم كَونه مُعَللا بِالْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَة (وعَلى هَذَا) الَّذِي ذهب إِلَيْهِ شمس الْأَئِمَّة (لَا بُد فِي التَّعْلِيل مُطلقًا من الْعين فِي الْعين أَو الْجِنْس فِيهِ) أَي الْعين (فَإِن أصل الْقيَاس لَا يتَحَقَّق إِلَّا بذلك) أَي بتأثير الْعين فِي الْعين أَو الْجِنْس فِي الْعين (فَلَا يُعلل بِالْجِنْسِ فِي الْجِنْس أَو الْعين فِي الْجِنْس تعليلا بسيطا أصلا وَيحْتَاج إِلَى استقراء يفِيدهُ) أَي هَذَا الْمَطْلُوب (ثمَّ قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بِكُل من الْأَرْبَعَة يَشْمَل الْعين فِي الْعين فَقَط) كَمَا يَشْمَل الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الْأُخَر: جنسه فِي عينه فَقَط، وجنسه فِي جنسه فَقَط (ومرادهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِذا ثَبت) التَّأْثِير الْمَذْكُور (بِنَصّ أَو إِجْمَاع وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يثبت بِأَحَدِهِمَا بل بِالْقِيَاسِ (لزمَه) أَي الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ (التَّرْكِيب) من القياسين وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْبَسِيط (وسمى بَعضهم) أَي صدر الشَّرِيعَة تبعا للرازي (مَا يُوجد) فِيهِ (من أصل الْقيَاس) أَي مَا يكون لحكمه أصل معِين من نَوعه يُوجد فِيهِ جنس الْوَصْف أَو نَوعه سَوَاء اعْتبر الشَّارِع علته أَولا (شَهَادَة الأَصْل فشهادة الاصل أَعم من كل من الاعتبارين) اعْتِبَار النَّوْع فِي النَّوْع وَالْجِنْس فِي النَّوْع (مُطلقًا. أَي يصدق) شَهَادَة الأَصْل (عِنْده) أَي مَا يُوجد من أصل الْقيَاس، لِأَنَّهُ كلما وجد اعْتِبَار نوع الْوَصْف أَو جنسه فِي نوع الحكم فقد وجد للْحكم أصل معِين من نوع يُوجد فِيهِ جنس الْوَصْف أَو نَوعه، لَكِن لَا يلْزم أَنه كلما وجد لَهُ أصل معِين فَوجدَ فِيهِ جنس الْوَصْف أَو نَوعه وجد فِيهِ بِاعْتِبَار نوع الْوَصْف أَو جنسه فِي نوع الحكم لجَوَاز عدم اعْتِبَار الشَّارِع لَهُ مَعَ وجوده (وَمن الآخرين) أَي وَشَهَادَة الأَصْل أَعم من اعْتِبَار الْجِنْس فِي الْجِنْس، واعتباره النَّوْع فِي الْجِنْس (من وَجه) فتوجد شَهَادَة الأَصْل بِدُونِ كل مِنْهُمَا وَيُوجد كل مِنْهُمَا بِدُونِ شَهَادَة الأَصْل، وَقد يوجدان مَعًا، كَذَا ذكره صدر الشَّرِيعَة وَيلْزم مِنْهُ إِثْبَات شَهَادَة بِدُونِ التَّأْثِير، وَتعقبه فِي التَّلْوِيح (وَالْمَشْهُور من معنى شَهَادَة الأَصْل مَا ذكرنَا. ثمَّ لَا يخفى أَن لُزُوم الْقيَاس مِمَّا جنسه) أَي جنس الْوَصْف الثَّابِت اعْتِبَاره فِي الأَصْل بِنَصّ أَو إِجْمَاع (فِي الْعين) أَي عين الحكم فِي الأَصْل (لَيْسَ إِلَّا بِجعْل الْعين) أَي عين الْوَصْف (عِلّة) لذَلِك الحكم (بِاعْتِبَار تضمنها) أَي عين الْوَصْف (الْعلَّة) لذَلِك الحكم (جنسه) بدل من الْعلَّة (فَيرجع إِلَى اعْتِبَار الْعين فِي الْعين) يُرِيد بَيَان كَيْفيَّة لُزُوم الْقيَاس مِمَّا ذكر على وَجه يسْتَلْزم كَون عين الْوَصْف عِلّة للْحكم الْمَطْلُوب فِي الْقيَاس الْمَذْكُور. تلخيصه أَنا إِذا(3/318)
وجدنَا أَن الشَّارِع اعْتبر جنس الْوَصْف عِلّة لعين الحكم فِي مَحل، وأردنا أَن نجْعَل عين الْوَصْف عِلّة لَهُ فِي مَحل آخر قُلْنَا: إِن عين بِالْوَصْفِ عِلّة لَهُ فِي ذَلِك الْمحل الآخر، لِأَن عينه يتَضَمَّن لجنسه، وَقد علم اعْتِبَار الشَّارِع علية ذَلِك الْجِنْس لعين هَذَا الحكم فِي الْمحل الأول، فنعتبره عِلّة لَهُ فِي هَذَا الْمحل أَيْضا لوُجُود الْمُنَاسبَة مَعَ الِاعْتِبَار الْمَذْكُور، فَتكون علية الْعين فِي الْحَقِيقَة بِاعْتِبَار جِنْسهَا. نقل عَن المُصَنّف فِي تَمْثِيل هَذَا تَعْلِيل عتق الْأَخ عِنْد شِرَاء أَخِيه إِيَّاه بِأَنَّهُ ملكه أَخُوهُ بِاعْتِبَار الشَّارِع تَأْثِير جنسه، أَعنِي ملك ذِي الرَّحِم الْمحرم فِي عين الحكم وَهُوَ الْعتْق، فالمؤثر فِي الْحَقِيقَة لَيْسَ إِلَّا ملك ذِي الرَّحِم الْمحرم، فثبوت الْعتْق مَعَ ملك الْأَخ لَيْسَ من حَيْثُ أَنه ملك الْأَخ، بل من حَيْثُ أَنه ملك ذِي الرَّحِم الْمحرم (والبسائط أَربع) حَاصِلَة (من) ضرب (الْعين وَالْجِنْس فِي الْعين وَالْجِنْس) عين الْوَصْف فِي عين الحكم، وجنسه فِي جنسه، وَعين الْوَصْف فِي جنس الحكم، وَقَلبه (هِيَ) أَن هَذِه الْأَرْبَع هِيَ (الْمُؤثر، وَثَلَاثَة ملائم الْمُرْسل) الْمَذْكُورَة (أما الملائم) الَّذِي هُوَ من مُقَابل الْمُرْسل (فَيلْزمهُ التَّرْكِيب لِأَنَّهُ لَا بُد من ثُبُوت عينه) أَي الْوَصْف (فِي عينه) أَي الحكم (بترتب الحكم مَعَه فِي الْمحل، ثمَّ ثُبُوت اعْتِبَار عينه) أَي الْوَصْف (فِي جنس الحكم أَو) ثُبُوت اعْتِبَار (قلبه) أَي جنسه فِي عين الحكم (أَو) ثُبُوت اعْتِبَار (جنسه فِي جنسه، فَأَقل مَا يلْزم فِي الملائم تركيبه من اثْنَيْنِ) وَقد يكون من أَكثر. (والمركب إِمَّا) مركب (من الْأَرْبَعَة قيل) كَمَا فِي التَّلْوِيح (كالسكر) الْمُؤثر عينه (فِي) عين (الْحُرْمَة، وجنسه) أَي السكر هُوَ (إِيقَاع الْعَدَاوَة والبغضاء) مُؤثر (فِيهَا) أَي عين الْحُرْمَة وَهُوَ ثَان، فَإِن الْإِيقَاع الْمَذْكُور كَمَا يكون بالسكر يكون بِغَيْرِهِ (ثمَّ) السكر مُؤثر (فِي وجوب الزاجر أَعم من الأخروي كالحرق والدنيوي كالحد) وَهَذَا جنس الحكم (وجنسه) أَي السكر (الْإِيقَاع) فِي الْعَدَاوَة مُؤثر فِي وجوب الزاجر (فِي الْحَد فِي الْقَذْف) وَهُوَ جنس الحكم (وَلَا يخفى أَن وجوب الحرق) فِي الْآخِرَة (يعد أَنه اعتزال) لجوار عَدمه عِنْد أهل السّنة (غير الحكم الَّذِي نَحن فِيهِ) وَهُوَ التكليفي (وَأَن تَأْثِيره) أَي السكر (فِي وجوب الزاجر لَيْسَ) تَأْثِيرا (فِي جنس حُرْمَة الشّرْب) لكَون من تَأْثِير الْعين فِي الْجِنْس، وَذَلِكَ لِأَن جنس حُرْمَة شرب الْخمر الْحُرْمَة الْمُطلقَة، وَمَا هُوَ أَعم مِنْهُ كَالْحكمِ الْمُطلق، وَمَا هُوَ أخص مِنْهُ كَحُرْمَةِ الشّرْب ونظائره لَا غير، وَلبس وجوب الزاجر مِنْهُ (وَإِنَّمَا يَصح) كَونه مؤثرا فِي جنس حُرْمَة الشّرْب (لتأثير السكر فِي حُرْمَة الْإِيقَاع) فِي الْعَدَاوَة والبغضاء، لِأَنَّهُ عِلّة للإيقاع الْمَذْكُور، وَالْعلَّة مُؤثرَة فِي الْمَعْلُول فقد تحقق بَينهمَا مُنَاسبَة يحسن بهَا مَشْرُوعِيَّة حُرْمَة الْإِيقَاع عِنْد السكر، وَهَذَا من تَأْثِير الْعين فِي الْجِنْس، وَمَا بعده من تَأْثِير الْجِنْس فِي الْجِنْس، وَمَا بعده من تَأْثِير الْجِنْس فِي الْعين(3/319)
وَإِنَّمَا لم يذكر الرَّابِع وَهُوَ تَأْثِير الْعين فِي الْعين، أَعنِي السكر فِي حُرْمَة الشّرْب لظُهُوره وشهرته (و) تَأْثِير (الْإِيقَاع فِي حُرْمَة الْقَذْف) فَإِنَّهُ كالعلة الغائية لحُرْمَة الْقَذْف. وَالْقَذْف من نَظَائِر الشّرْب، فَتكون حرمته من جنس حُرْمَة الشّرْب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كَمَا أثر) الْإِيقَاع (فِي الشّرْب) يَعْنِي أثر فِي جنسه كَمَا أثر فِي عينه، وَإِنَّمَا قُلْنَا تَأْثِيره فِي وجوب الزاجر إِلَى آخِره (للتصريح) : أَي تَصْرِيح الْأُصُولِيِّينَ (بِأَن المُرَاد بجنسهما) أَي الْوَصْف وَالْحكم (مَا هُوَ أَعم من كل) من الْوَصْف وَالْحكم، وَوُجُوب الزاجر لَيْسَ أَعم من حُرْمَة الشّرْب، بل هُوَ مباين لَهُ مَا كَمَا لَا يخفى، وَالْحُرْمَة الشاملة للشُّرْب وَالْقَذْف أَعم من حُرْمَة الشّرْب (فليزم التصادق) بَين كل من الْوَصْف وَالْحكم وَبَين جنسه، وَقد عرفت تَفْصِيله. (لَا يُقَال مَجِيء مثله) من الْإِيرَاد بِاعْتِبَار عدم التصادق (فِي الْإِيقَاع مَعَ السكر) وَقد جعلت الْإِيقَاع جنس السكر وَالْقَذْف فيحرمهما، وَذَلِكَ بِأَن يُقَال لَا تصادق بَينهمَا (لِأَن المُرَاد بِهِ) أَي الْإِيقَاع (موقع الْعَدَاوَة، وَهُوَ) أَي موقع الْعَدَاوَة، (أَعم من السكر وَالْقَذْف فيحرمهما) أَي يحرم الْإِيقَاع، بل الْموقع السكر والإيقاع وَالْقَذْف (وَإِمَّا) مركب (من ثَلَاثَة فَأَرْبَعَة) أَي فَهُوَ أَرْبَعَة أَقسَام. ثمَّ عين أَمْثِلَة تِلْكَ الْأَرْبَعَة بقوله (فَمَا سوى الْعين فِي الْعين) الخ (التَّيَمُّم عِنْد خوف فَوت صَلَاة الْعِيد، فالجنس) للوصف (الْعَجز بِحَسب الْمحل) عَمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ شرعا مُؤثر (فِي الْجِنْس) أَي جنس التَّيَمُّم: أَي (سُقُوط مَا يحْتَاج) إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة (و) مُؤثر (فِي الْعين) وَهُوَ (التَّيَمُّم، وَالْعين) للوصف (الْعَجز عَن المَاء) مُؤثر (فِي الْجِنْس) أَي (سُقُوط) وجوب (اسْتِعْمَاله فَإِنَّهُ) أَي اسْتِعْمَاله (أَعم من اسْتِعْمَاله للْحَدَث والخبث لَكِن الْعين) للوصف وَهُوَ (خوف الْفَوْت لم يُؤثر فِي الْعين) للْحكم: أَي (التَّيَمُّم من حَيْثُ هُوَ تيَمّم بِنَصّ أَو إِجْمَاع) فِيهِ أَنكُمْ جعلتم الْعَجز عَن المَاء عين الْوَصْف آنِفا، وَقد اعْتَبرهُ الشَّرْع فِي التَّيَمُّم فَتدبر (فقد جعلت) الْعين للوصف (مرّة خوف الْفَوْت وَمرَّة الْعَجز عَن المَاء لِأَنَّهُمَا) أَي الْخَوْف وَالْعجز (وَاحِد) معنى (لِأَن الْعَجز مخيف فَإِن قلت خوف الْفَوْت هُوَ الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ فِي التَّنَازُع فِيهِ وَهُوَ الْفَرْع) أَي صَلَاة الْعِيد (وَالْمرَاد من الْوَصْف المنظور فِي أَن جنسه أثر فِي جنس الحكم أَو عينه) أَي الحكم (مَا فِي الأَصْل ليدل بِهِ) أَي بتأثير جنسه فِي جنس الحكم أَو عينه (على اعْتِبَاره) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور (عِلّة فِي نظر الشَّارِع قلت ذَلِك) أَي كَون المُرَاد بِالْوَصْفِ مَا فِي الأَصْل إِنَّمَا هُوَ (فِي غير الْمُرْسل وَالتَّعْلِيل بِهِ) أَي بِغَيْر الْمُرْسل (قِيَاس وَلَيْسَ هَذَا الْقسم) أَي الْمركب من ثَلَاثَة لَيْسَ مِنْهَا الْعين فِي الْعين (إِلَّا مُرْسلا فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ قِيَاس وَإِلَّا استدعى أصلا فَلَزِمَهُ) حِينَئِذٍ (الْعين مَعَ الْعين فِي الأَصْل، والمرسل مَأْخُوذ فِيهِ عَدمه) أَي عدم الْعين(3/320)
مَعَ الْعين فِي الْعين فِي الْمحل الأَصْل (فالتعليل بالمرسل) تَعْلِيل (بمصالح خَاصَّة ابْتِدَاء اعْتبرت فِي جنس الحكم الَّذِي يُرَاد إثْبَاته أَو جِنْسهَا) أَي الْمصَالح (فِي عينه) أَي الحكم (أَو جنسه لَكِن تشْتَرط الضرورية والكلية) فِيهَا (على مَا تقدم عِنْد قَائِله) وَهُوَ الْغَزالِيّ (فَإِن قلت الْمِثَال حَنَفِيّ وَهُوَ) أَي الْحَنَفِيّ (بِمَنْع الْمُرْسل) فَكيف يتم قَوْله (قُلْنَا سبق أَنه يجب القَوْل بعملهم بِبَعْض مَا يُسمى مُرْسلا عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَيدخل) ذَلِك (فِي الْمُؤثر عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (كَمَا سَيظْهر، والمركب مِمَّا سوى الْجِنْس فِي الْعين الْعَجز عَن غير مَاء الشّرْب) أَي الْعَجز الْحَقِيقِيّ عَمَّا يتَوَضَّأ أَو يغْتَسل بِهِ بِأَن لَا يُوجد عِنْده مَا يَكْفِي لأَحَدهمَا أصلا (فِي التَّيَمُّم) أَي أَي جَوَازه (وَهُوَ الْعين فِي الْعين فِي مَحل النَّص) أَي قَوْله تَعَالَى (فَلم تَجدوا) الْآيَة (وجنسه) أَي عين الْوَصْف الْمَنْصُوص عَلَيْهِ (الْعَجز الْحكمِي) عَن المَاء بِأَن يكون عَجزه عَن غير مَاء الشّرْب فَقَط، فَالَّذِي للشُّرْب لما كَانَ مُسْتَحقّا بِالْحَاجةِ الْأَصْلِيَّة صَار صَاحبه كَأَنَّهُ غير وَاجِد للْمَاء مُطلقًا، وَفِيه مُسَامَحَة، لِأَن الْجِنْس مَا يعم الْحَقِيقِيّ والحكمي، غير أَنه اكْتفى بِذكر مَا يتَحَقَّق بِهِ الأعمية مُؤثر (فِي جنسه) أَي الْحكمِي، يَعْنِي (سُقُوط اسْتِعْمَاله) أَي مَاء الشّرْب، فَإِنَّهُ أَعم من اسْتِعْمَاله فِي الْحَدث والخبث (وعينه) أَي الْوَصْف (عدم وجدانه) أَي المَاء الْكَافِي لوجدانه مُؤثر (فِي جنسه) أَي الحكم الْمَذْكُور: أَي (السُّقُوط دفعا للهلاك) فَإِن قلت: عين الْوَصْف على مَا سبق عدم وجدان مَا يَكْفِي لرفع الْحَدث لَا يسْتَلْزم عدم الْوُجُود مُطلقًا وتأثيره فِي الْجِنْس بِاعْتِبَار عدم وجوب اسْتِعْمَاله لرفع الْخبث دفعا للهلاك فَافْهَم (وَالْجِنْس غير مُؤثر فِيهِ) أَي الْعين (لِأَن الْعَجز الْمَذْكُور) وَهُوَ الْعَجز الْحكمِي مُطلقًا (غير مُؤثر فِي) جَوَاز أَو وجوب (التَّيَمُّم من حَيْثُ هُوَ تيَمّم) بل إِنَّمَا أثر فِي سُقُوط اسْتِعْمَال المَاء مُطلقًا من حدث أَو خبث كَمَا ذكر آنِفا (و) الْمركب (من غير الْعين فِي الْجِنْس كالحيض فِي حُرْمَة القربان) وَهُوَ (الْعين فِي الْعين وجنسه) أَي الْحيض (الْأَذَى) مُؤثر (فِيهِ) أَي فِي تَحْرِيم القربان (أَيْضا و) مُؤثر (فِي الْجِنْس) لحُرْمَة القربان: أَي (حُرْمَة الْجِمَاع مُطلقًا) . قَالَ الشَّارِح فَتدخل فِيهِ حُرْمَة اللواطة، وَغير خَافَ أَن هَذَا أولى مِمَّا فِي التَّلْوِيح أَنه وجوب الاعتزال (و) الْمركب (من غير الْجِنْس فِي الْجِنْس كالحيض عِلّة لحُرْمَة الصَّلَاة، وَهُوَ الْعين فِي الْعين وجنسه) أَي عين الحكم مَعْطُوف على حُرْمَة الصَّلَاة، و (حُرْمَة الْقِرَاءَة) عطف بَيَان لجنسه (أَعم مِمَّا فِي الصَّلَاة و) خَارِجهَا على (جنسه) أَي الْحيض (الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ) مُؤثر (فِي حُرْمَة الصَّلَاة لَا الْجِنْس) مَعْطُوف على حُرْمَة الصَّلَاة: أَي غير مُؤثر فِي جنس الحكم (حُرْمَة الْقِرَاءَة مُطلقًا) عطف بَيَان للْجِنْس (والمركب من اثْنَيْنِ الْعين فِي الْعين مَعَ الْجِنْس فِيهِ) أَي الْعين (الطوف) فَإِنَّهُ عِلّة (فِي(3/321)
طَهَارَة سُؤْر الْهِرَّة وجنسه) أَي الطوف (مُخَالطَة نَجَاسَة يشق الِاحْتِرَاز عَنْهَا) عِلّة الطَّهَارَة كآبار الفلوات (و) الْمركب (من الْعين فِي الْعين وَفِي الْجِنْس الْمَرَض) فَإِنَّهُ مُؤثر (فِي الْفطر و) مُؤثر (فِي جنسه) أَي الْفطر (التَّخْفِيف فِي الْعِبَادَة بِثُبُوت الْقعُود) فِي الْمَكْتُوبَة (و) الْمركب (من الْعين فِي الْعين مَعَ الْجِنْس فِي الْجِنْس كالجنون المطبق) فَإِنَّهُ مُؤثر (فِي ولَايَة النِّكَاح) فَهَذَا من الْعين فِي الْعين (وجنسه) أَي الْجُنُون (الْعَجز بِعَدَمِ الْعقل لشُمُوله) أَي الْعَجز (الصغر) مُؤثر (فِي جِنْسهَا) أَي ولَايَة الانكاح، وَهُوَ ولَايَة مُطلقَة (لثبوتها) أَي الْولَايَة (فِي المَال، و) الْمركب (من الْجِنْس فِي الْعين فالجنس كجنس الصغر الْعَجز لعدم الْعقل) مُؤثر (فِي ولَايَة المَال) للْحَاجة إِلَى بَقَاء النَّفس (و) فِي (مُطلقهَا) أَي الْولَايَة (فثبتت) أَي الْولَايَة (فِي كل مِنْهُمَا) أَي المَال وَالنَّفس (و) الْمركب (من الْجِنْس فِي الْعين وَقَلبه) أَي من الْعين فِي الْجِنْس (خُرُوج النَّجَاسَة) لِأَنَّهَا أَعم من كَونهَا من السَّبِيلَيْنِ أَو غَيرهمَا وَهُوَ مُؤثر (فِي وجوب الْوضُوء ثمَّ خُرُوجهَا من غير السَّبِيلَيْنِ) مُؤثر (فِي وجوب إِزَالَتهَا) وَهُوَ أَعم من الْوضُوء، لِأَنَّهُ إِزَالَة النَّجَاسَة الْحكمِيَّة، وَإِزَالَة النَّجَاسَة تعم الْحكمِيَّة والحقيقة، فَكَانَ جنس الْوضُوء (وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم لانْتِفَاء تَأْثِير خُرُوج النَّجَاسَة إِلَّا فِي الْحَدث، ثمَّ بِوُجُوب مَا شَرط لَهُ) إِزَالَتهَا (تجب) إِزَالَتهَا (و) الْمركب (من الْعين وَالْجِنْس فِي الْجِنْس الْجُنُون وَالصبَا) فَإِن كلا مِنْهُمَا مُؤثر (فِي سُقُوط الْعِبَادَة) للاحتياج إِلَى النِّيَّة (وجنسه) أَي كل مِنْهُمَا (الْعَجز لخلل القوى) فَإِنَّهُ مُؤثر (فِيهِ) أَي فِي سُقُوط الْعِبَادَة (وَظهر أَن سِتَّة) الْمركب (الثنائي ثَلَاثَة) مِنْهَا (قِيَاس) وَهِي الأول (وَثَلَاثَة مُرْسل) لَيست بِقِيَاس لوُجُود الْعين مَعَ الْعين فِي الأول وَعَدَمه فِي الآخر (وَثَلَاثَة من أَرْبَعَة) الْمركب (الثلاثي قِيَاس) وَهِي الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة مِنْهَا (وَوَاحِد لَا) أَي لَيْسَ بِقِيَاس وَهُوَ الأول (هَذَا، وَالْأَكْثَر تركيبا يقدم عِنْد تعارضها) أَي المركبات (والمركب) يقدم (على الْبَسِيط) عِنْد تعارضهما، لِأَن قُوَّة الْوَصْف بِحَسب التَّأْثِير، والتأثير بِحَسب اعْتِبَار الشَّرْع، فَكلما كثر قوى الْأَثر كَمَا قَالَ فِي التَّلْوِيح.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيم فِيمَا سوى اعْتِبَار النَّوْع فِي النَّوْع فَإِنَّهُ أقوى الْكل لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة النَّص حَتَّى كَاد يقر بِهِ منكرو الْقيَاس، إِذْ لَا فرق إِلَّا بِتَعَدُّد الْمحل فالمركب فِي غَيره لَا يكون أقوى مِنْهُ (وَأما الْحَنَفِيَّة فطائفة مِنْهُم فَخر الْإِسْلَام) والسرخسي وَأَبُو زيد (لَا بُد قبل التَّعْلِيل فِي المناظرة من الدّلَالَة على معلولية هَذَا الأَصْل) الْمَقِيس عَلَيْهِ. قَالَ السَّرخسِيّ وَالْأَشْبَه بِمذهب الشَّافِعِي أَن الْأُصُول معلولة فِي الأَصْل إِلَّا أَنه لَا بُد لجَوَاز التَّعْلِيل فِي كل أصل من دَلِيل مُمَيّز، وَالْمذهب عِنْد عُلَمَائِنَا أَنه لَا بُد مَعَ هَذَا من قيام دَلِيل يدل على كَونه معلولا فِي الْحَال انْتهى (وَلَا يَكْفِي) قَول الْمُعَلل (الأَصْل) فِي النُّصُوص التَّعْلِيل عزاهُ فِي الْمِيزَان إِلَى عَامَّة مثبتي الْقيَاس وَالشَّافِعِيّ وَبَعض عُلَمَائِنَا(3/322)
(لِأَنَّهُ) أَي الأَصْل (مستصحب يَكْفِي للدَّفْع) أَي لدفع ثُبُوت مَا لم يعلم ثُبُوته (لَا الْإِثْبَات) على الْخصم (كَمَا سَيعْلَمُ) فِي بحث الِاسْتِصْحَاب آخر هَذِه الْمقَالة وَهَذَا (بِخِلَاف الْإِثْبَات لنَفسِهِ) فَإِنَّهُ لَا يلْزم قبل التَّعْلِيل لنَفسِهِ الدّلَالَة على معلولية ذَلِك الأَصْل الَّذِي هُوَ بصدد الْقيَاس عَلَيْهِ (كنقض الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ يسْتَدلّ) بِهِ (على معلوليته) أَي كَون الْخَارِج النَّجس عِلّة للنقض (بِالْإِجْمَاع على ثُبُوته) أَي النَّقْض بالخارج النَّجس (فِي مثقوب السُّرَّة) إِذا خرج مِنْهَا قِيَاسا على النَّقْض بالخارج من السَّبِيلَيْنِ (فَعلم) بِدلَالَة الْإِجْمَاع (تعديه) أَي النَّقْض (عَن مَحل النَّص) أَي السَّبِيلَيْنِ إِلَى مَا سواهُ من الْبدن إِذْ لَو كَانَ خُصُوص الْمحل معينا فِي النَّقْض لما جَازَ قيام غَيره مَكَانَهُ بِالرَّأْيِ، لِأَن الأبدال لَا تنصب بِالرَّأْيِ (فصح تَعْلِيله) أَي النَّقْض بالخارج من السَّبِيلَيْنِ (بِنَجَاسَة الْخَارِج) لِأَن الضِّدّ هُوَ الْمُؤثر فِي رفع ضِدّه، وَصفَة النَّجَاسَة هِيَ الرافعة للطَّهَارَة وَالْعين الْخَارِجَة معروضها (ليثبت النَّقْض بِهِ) أَي بالخارج النَّجس (من سَائِر الْبدن وَطَائِفَة لَا) تشْتَرط الدّلَالَة على مَعْلُول الأَصْل قبل التَّعْلِيل فِي المناظرة (إِذْ لم يعرف) ذَلِك (فِي مناظرة قطّ للصحابة وَالتَّابِعِينَ) وَكفى بهم قدوة (وَلِأَن إِقَامَة الدَّلِيل على علية الْوَصْف وَلَا بُد مِنْهُ) أَي من الدَّلِيل عَلَيْهِ فِي إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ. قَوْله وَلَا بُد مِنْهُ مُعْتَرضَة وَخبر أَن قَوْله (يتضمنه) أَي كَون الأَصْل معلولا (فأغنى) الدَّلِيل عَلَيْهَا عَن الِاسْتِدْلَال على كَون الأَصْل معلولا لِأَن ثُبُوت عليته مُسْتَلْزم لمعلولية الأَصْل (وَهَذَا) القَوْل (أوجه، ثمَّ دَلِيل اعْتِبَاره) أَي الْوَصْف الْمُدَّعِي عليته فِي الحكم الْمعِين (النَّص وَالْإِجْمَاع وسيأتيان والتأثير ظُهُور أَثَره) أَي الْوَصْف (شرعا) أَي ظهورا شَرْعِيًّا وَسَيَأْتِي تَفْسِيره (ويسمونه) أَي التَّأْثِير أَو ظُهُور أَثَره (عَدَالَته) أَي الْوَصْف (ويستلزم) التَّأْثِير و (مناسبته) أَي الْوَصْف للْحكم بِأَن يَصح إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ (ويسمونها ملاءمته) بِالْهَمْزَةِ أَي مُوَافَقَته للْحكم (وتستلزم) مناسبته (كَونه) أَي الْوَصْف عَن (غير نَاب) أَي بعيد (عَن الحكم) وَهَذَا الَّذِي يعبر عَنهُ بصلاح الْوَصْف للْحكم (كتعليل) وُقُوع (الْفرْقَة) بَين الزَّوْجَيْنِ الْكَافرين إِذا أسلمت وأبى (بالأباء) فَإِنَّهُ يُنَاسِبه (بِخِلَافِهَا) أَي الْفرْقَة: يَعْنِي تعليلها (بِإِسْلَام الزَّوْجَة) فَإِنَّهُ نَاب عَنهُ فَإِن الْإِسْلَام عرف عَاصِمًا للحقوق والإملاك، لَا قَاطعا لَهَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: فافعلوا ذَلِك يَعْنِي الشَّهَادَتَيْنِ عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ الحَدِيث، والمحظور يصلح سَببا للعقوبة، والفرقة عُقُوبَة، وإباء الْإِسْلَام رَأس الْمَحْظُورَات (كَمَا سَيَأْتِي) ذكره فِي فَسَاد الْوَضع (وَفسّر) التَّأْثِير (بِأَن يكون لجنسه) أَي الْوَصْف (تَأْثِير فِي عين الحكم كإسقاط الصَّلَوَات الْكَثِيرَة) بِأَن تزيد على خمس (بالإغماء) إِذْ (بِجِنْسِهِ) أَي جنس الْإِغْمَاء وَهُوَ الْعَجز عَن الْأَدَاء تَأْثِير (فِيهِ) أَي فِي الحكم: أَي إِسْقَاط الصَّلَاة، وَمَا يُقَال إِن جنسه الْحَرج حَتَّى لَا يجب الْقَضَاء إِذا ذهب الْعَجز فَهُوَ عِلّة الْعلَّة (أَو) لجنسه تَأْثِير (فِي جنسه) أَي الحكم(3/323)
(كالإسقاط) للصَّلَاة عَن الْحَائِض (بمشقته) أَي بِمَشَقَّة فعلهَا لكثرتها (وجنسه) أَي هَذَا الْوَصْف (الْمَشَقَّة المتحققة فِي مشقة السّفر) يُؤثر (فِي جنسه) أَي الحكم (السُّقُوط الْكَائِن فِي الرَّكْعَتَيْنِ) من الرّبَاعِيّة (وَعَن بَعضهم نَفْيه) أَي كَون تَأْثِير الْجِنْس فِي الْجِنْس من التَّأْثِير (وَمن الْحَنَفِيَّة من يقْتَصر عَلَيْهِ) أَي على أَن التَّأْثِير هُوَ اعْتِبَار الْجِنْس فِي الْجِنْس فِي مَوضِع آخر نصا أَو إِجْمَاعًا، عزاهُ صَاحب الْكَشْف إِلَى فَخر الْإِسْلَام (وَالْوَجْه سُقُوط الْجِنْس فِي الْعين) من التَّأْثِير (بِمَا قدمنَا) هـ من أَن لُزُوم الْقيَاس مِمَّا جنسه فِي الْعين لَيْسَ إِلَّا بِجعْل الْعين عِلّة بِاعْتِبَار تضمنها لعِلَّة جنسه فَيرجع إِلَى اعْتِبَار الْعين فِي الْعين (دون) سُقُوط (قلبه) أَي الْعين فِي الْجِنْس من التَّأْثِير يظْهر ذَلِك (بتأمل يسير) لِأَن علية الْحَاجة بِاعْتِبَار مَا فِي ضمنه من الْعَام مَعْقُول بِخِلَاف معلولية الْعَام بِاعْتِبَار تضمنه للخاص فَإِنَّهُ لَا معنى لَهُ فَلَا يتَصَوَّر أَن يكون من قبيل الْعين فِي الْعين (أَو) يكون (لعَينه) أَي لوصف تَأْثِير فِي جنس الحكم (كالأخوة لأَب وَأم فِي التَّقَدُّم) على الْأَخ لأَب (فِي ولَايَة الْإِنْكَاح) للصَّغِير وَالصَّغِيرَة، وَهِي عين الحكم الْمُؤثر فِيهِ، فَإِن عين الْوَصْف الْمَذْكُور مُؤثر (فِي جنسه) أَي الحكم الْمَذْكُور (التَّقَدُّم) الصَّادِق على كل من التَّقَدُّم (فِي الْمِيرَاث) والإنكاح (أَو) يكون لعَينه تَأْثِير (فِي عينه ذكره) أَي التَّفْسِير الْمَذْكُور (فِي الْكَشْف الصَّغِير) ثمَّ صدر الشَّرِيعَة (وَيلْزمهُ) أَي التَّأْثِير على هَذَا التَّفْسِير (كَونه) أَي التَّأْثِير (بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع كالسكر فِي الْحُرْمَة) إِذْ السكر عِلّة للْحُرْمَة بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع (وَهُوَ) أَي كَونه بهما أَو بِأَحَدِهِمَا (مخرج لَهُ عَن دلَالَة التَّأْثِير على الِاعْتِبَار) أَي يخرج الْوَصْف عَن كَونه بِحَيْثُ يدل تَأْثِيره ومناسبته على اعْتِبَار الشَّرْع إِيَّاه (إِلَى المنصوصة) : إِذْ دلّ على اعْتِبَاره النَّص وَالْإِجْمَاع لَا التَّأْثِير والمناسبة، ثمَّ علل الْإِخْرَاج الْمَذْكُور بقوله (إِذْ لم يبْق) دَلِيل على الِاعْتِبَار بعد (مَعَ ظُهُور الْمُنَاسبَة) بعد النَّص وَالْإِجْمَاع (إِلَّا الإخالة) وَهُوَ إبداء الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْأَصْل بملاحظتهما على مَا سَيَأْتِي قَرِيبا: يَعْنِي أَن دلَالَة التَّأْثِير على الِاعْتِبَار إِنَّمَا تكون مَعَ ظُهُور الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم، وَمَعَ ظُهُورهَا إِن وجد أحد الْأَمريْنِ فالدلالة وَإِن لم يُوجد لم يكن هُنَاكَ إِلَّا الإخالة وهم ينفونها فَلَا يتَحَقَّق للتأثير دلَالَة، غير أَن لُزُوم أَحدهمَا التَّأْثِير يُغني عَن هَذَا التَّعْلِيل (وينفون) أَي الْحَنَفِيَّة (إِيجَابهَا) أَي الإخالة الحكم (مجوزي الْعَمَل قبله بهَا) أَي حَال كَونهم يجوزون الْعَمَل قبل ظُهُور التَّأْثِير بموجبها (كالقضاء بالمستورين ينفذ وَلَا يجب) الظَّاهِر أَنه تنظير لَا تَمْثِيل، وَوجه الشّبَه أَنه كَمَا يجوز الْقَضَاء بِشَاهِدين مستوري الْعَدَالَة وَلَا يجب لذَلِك تجوز الْعَمَل بالإخالة وَلَا يجب، وَأما كَون الْقَضَاء الْمَذْكُور ثَابتا بِوَصْف ظهر بَينه وَبَين أَصله الْمُنَاسبَة بملاحظتهما فَهُوَ غير ظَاهر (وَظهر أَن الْمُؤثر عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (أَعم مِنْهُ) أَي الْمُؤثر عِنْد الشَّافِعِيَّة وَهُوَ مَا ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي عين الحكم وَعند الْحَنَفِيَّة(3/324)
يصدق على هَذَا وعَلى الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة مَعَه فِي التَّفْسِير الْمَذْكُور (وَمن الملائم الأول) الَّذِي هُوَ من أَقسَام الْمُنَاسب عِنْد الشَّافِعِيَّة بأقسامه الثَّلَاثَة مَا ثَبت اعْتِبَار عينه فِي عينه بِمُجَرَّد ثُبُوته مَعَ الحكم فِي الْمحل مَعَ اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم بِنَصّ أَو اجماع اعْتِبَار عينه أَو جنسه فِي عينه أَو فِي جنسه (وَمَا من الْمُرْسل) أَي وَثَلَاثَة أَقسَام الملائم الْمُرْسل وَهِي مَا لم يثبت الْعين مَعَ الْعين فِي الْمحل لَكِن ثَبت بِنَصّ أَو إِجْمَاع اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم أَو جنسه فِي عينه أَو جنسه (فَشَمَلَ) الْمُؤثر الْحَنَفِيّ (سَبْعَة أَقسَام فِي عرف الشَّافِعِيَّة إِذْ لم يقيدوا) أَي الْحَنَفِيَّة (الثَّلَاثَة) الَّتِي هِيَ تَأْثِير الْجِنْس فِي عين الحكم أَو فِي جنسه وتأثير الْعين فِي جنس الحكم (بِوُجُود الْعين مَعَ الْعين فِي الْمحل: أَي الأَصْل وَكَذَا) يُقيد أعمية الْمُؤثر عِنْدهم (تصريحهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِيمَا تقدم بِأَن التَّعْلِيل بِمَا اعْتبر جنسه الخ) أَي فِي عين الحكم أَو جنسه وَمَا اعْتبر عينه فِي عين الحكم أَو جنسه (مَقْبُول، وَقد لَا يكون) التَّعْلِيل بِأَحَدِهِمَا (قِيَاسا بِأَن لم يتركب مَعَ أحد الْأَمريْنِ) أَي الْعين أَو الْجِنْس مَعَ الْعين (وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْيِيده) أَي المقبول (بِغَيْر مَا جنسه أبعد) أَي مَا اعْتبر الشَّارِع جنسه الْأَبْعَد (كتضمن مُطلق مصلحَة) أَي كَون الْوَصْف متضمنا لمصْلحَة مَا فِي إِثْبَات الحكم (بِخِلَاف) جنسه (الْبعيد) الَّذِي هُوَ أقرب من ذَلِك الْأَبْعَد فَإِنَّهُ اعْتَبرهُ الشَّارِع إِذا كَانَت الْمصلحَة ضَرُورِيَّة قَطْعِيَّة كُلية (كالرمي) أَي كجوازه (إِلَى الترس الْمُسلم إِذا غلب ظن نجاتهم) أَي أهل الْإِسْلَام بِالرَّمْي إِلَيْهِ (إِذْ لَا سَبِيل إِلَى الْقطع) بالنجاة فَإِنَّهُ يقبل عِنْد بعض الْعلمَاء (كالغزالي) أَو التَّقْدِير كَقَوْل الْغَزالِيّ (بِخِلَاف) نجاة (بَعضهم) أَي بعض أهل الْإِسْلَام كَمَا (فِي السَّفِينَة) أَي رمي بعض من فِي السَّفِينَة من الْمُسلمين بِمَا إِذا علمت نجاة الْبَعْض الآخرين فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز، لِأَن الْمصلحَة غير كُلية كَمَا سبق (إِذْ دَلِيل الِاعْتِبَار بِالنَّصِّ أَو بِالْإِجْمَاع لم يتَحَقَّق فِي مُطلقهَا) أَي مُطلق الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة، وَالْكَلَام فِيمَا يثبت اعْتِبَاره بِالنَّصِّ أَو بِالْإِجْمَاع: فَهَذَا تَعْلِيل لقَوْله لَا حَاجَة إِلَى تَقْيِيده (والإخالة إبداء الْمُنَاسبَة بَين) حكم (الأَصْل وَالْوَصْف بملاحظتهما) أَي الْوَصْف وَالْحكم، سمي بهَا، لِأَن بالمناسبة يخال ويظن علية الْوَصْف للْحكم (فينتهض) إبداء مُنَاسبَة ذَلِك الْوَصْف لذَلِك الحكم (على الْخصم الْمُنكر للمناسبة) بَينهمَا لَا الْمُنكر للْحكم، لِأَن مُجَرّد الْمُنَاسبَة لَا توجب عِلّة الْوَصْف عِنْد الْحَنَفِيَّة لما عرف بكلامهم فِي الإخالة (وَهُوَ) أَي الْوَصْف الْمُنَاسب (مَا عَن القَاضِي أبي زيد مَا لَو عرض على الْعُقُول تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ) فِي نُسْخَة الشَّارِح تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، وَقَالَ وَلَفظه فِي التَّقْوِيم بِدُونِ ذكر الْأمة كَمَا كَانَت عَلَيْهِ النُّسْخَة أَولا، وَلَعَلَّه إِنَّمَا زَادهَا إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد عَامَّة الْعُقُول.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهَا لَا تناسب أول الْكَلَام واستغراق لَام الْعُقُول يُفِيد الْإِشَارَة الْمَذْكُورَة فَالظَّاهِر أَنه من تصرف الْكَاتِب (فَإِن الْمُنكر) للمناسبة (حِينَئِذٍ مكابر) أَي معاند فَلَا يقبل المكاره (وَقيل أَرَادَ) القَاضِي بِهَذَا التَّفْسِير (حجيته) أَي الْوَصْف الْمُنَاسب (فِي حق نَفسه) أَي(3/325)
القائس (فَقَط) لَا فِي حَقه وَحقّ الْخصم، إِذْ رُبمَا يَقُول لَا يتلقاه عَقْلِي بِالْقبُولِ وَلَيْسَ الِاحْتِجَاج بقول الْغَيْر على أولى من شَهَادَة قلبِي، وَمن ثمَّة منع أَبُو زيد التَّمَسُّك بالمناسبة فِي إِثْبَات علية الْوَصْف فِي مقَام المناظرة بل شَرط ضم الْعَدَالَة إِلَيْهَا بِإِقَامَة الدَّلِيل على كَونه مؤثرا (وَقَوْلهمْ) أَي الحنفنة (فِي نَفْيه) أَي هَذَا الطَّرِيق الْمُسَمّى بالاخالة لِأَنَّهُ (لَا يَنْفَكّ عَن الْمُعَارضَة إِذْ يُقَال) أَي بقول المناظر (لم يقبله عَقْلِي) عِنْد قَوْله هَذَا مُنَاسِب تتلقاه الْعُقُول بِالْقبُولِ (يفِيدهُ) أَي أَن مُرَاد أبي زيد حجيته فِي حق نَفسه (وَإِلَّا لم يسمع) أَي وَإِن لم يكن مُرَاده فِي حق نَفسه فَقَط، بل فِي حق الْخصم أَيْضا لم يسمع حِينَئِذٍ قَول الْمُسْتَدلّ الْعُقُول تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ، لِأَنَّهُ يَقُول الْخصم لَا يتلقاه بِالْقبُولِ عَقْلِي، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى لم يسمع قَول أبي زيد (وَالْحق أَن المُرَاد بإبداء الْمُنَاسبَة تفصيلها) أَي الْمُنَاسبَة (للمخاطب كَقَوْلِه الْإِسْكَار إِزَالَة الْعقل، وَهُوَ) أَي الْإِزَالَة (مفْسدَة يُنَاسب حُرْمَة مَا تحصل) الْإِزَالَة (بِهِ) وَهُوَ شرب الْمُسكر (والزجر عَنهُ) مَعْطُوف على حُرْمَة وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَوْصُول (وَتلك الْمُعَارضَة) الْمَذْكُورَة فِي قَوْلهم لَا يَنْفَكّ عَن الْمُعَارضَة إِنَّمَا تكون (فِي الإجمالي) لِأَنَّهُ قد يخفى على الْخصم تَفْصِيله، وَأما إِذا فصل وَبَين وَجه الْمُنَاسبَة فالإنكار بعد ذَلِك عناد خَارج عَن قانون المناظرة. ثمَّ بَين كَيْفيَّة الْإِجْمَال بقوله (كقبله) أَي الْوَصْف الْمَذْكُور فِي قِيَاسه (عَقْلِي أَو ناسب) الْوَصْف الْمَذْكُور الحكم (عِنْدِي) فِي ظَنِّي فَانْتفى نفيهم صِحَة اعْتِبَار الإخالة بِأَنَّهَا لَا تنفك عَن الْمُعَارضَة (نعم ينتهض) فِي دفع الإخالة وَعدم ثُبُوت علية الْوَصْف للْحكم (أَنَّهَا) أَي الْمُنَاسبَة (لَيست ملزومة لوضع الشَّارِع علية مَا قَامَت) الْمُنَاسبَة (بِهِ) أَي الْوَصْف الْمُنَاسب، يَعْنِي أَن كل مَا قَامَت بِهِ الْمُنَاسبَة من الْأَوْصَاف لَا يلْزمه أَن يُعينهُ الشَّارِع للعلية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الحكم الَّذِي يُنَاسِبه (للتخلف) أَي لتخلف الْوَضع الْمَذْكُور (فِي) وصف (مَعْلُوم الإلغاء من الْمُرْسل وَغَيره) كَمَا تقدم، فَإِن الْمُنَاسبَة فِيهِ مَوْجُودَة والشارع ألغاه وَلم يَضَعهُ للعلية (فَإِن قيل الظَّن حَاصِل) أَي الظَّن بِكَوْنِهِ عِلّة حَاصِل فَيجب الْعَمَل بِالظَّنِّ للمجتهد (قُلْنَا أَن عني ظن الْمُنَاسبَة للْحكم فَمُسلم، وَلَا يسْتَلْزم وضع الشَّارِع إِيَّاه) أَي الْوَصْف عِلّة للْحكم (لما ذكرنَا) من التَّخَلُّف (وَاعْلَم أَن مُقْتَضى هَذَا) الْوَجْه الْمَذْكُور لبَيَان إبِْطَال الإخالة (وَمَا زادوه) أَي الْحَنَفِيَّة (من أوجه الْإِبْطَال عدم جَوَاز الْعَمَل بِهِ) أَي بِالْوَصْفِ المخال (قبل ظُهُور الْأَثر، وَلَيْسَ الْقيَاس) لجَوَاز الْعَمَل بهَا قبل ظُهُور التَّأْثِير (على) جَوَاز (الْقَضَاء بمستورين) كَمَا قَالُوا (صَحِيحا، لِأَنَّهُ إِن فرض فِيهِ) أَي فِي جَوَاز الْقَضَاء بهما (دَلِيل على خلاف الأَصْل) أَي الْقيَاس، إِذْ الْقيَاس أَن لَا يجوز الحكم بِشَهَادَة الشَّاهِدين مَا لم تعلم عدالتهما (فَهُوَ) أَي الدَّلِيل الْمَفْرُوض (مُنْتَفٍ فِي جَوَاز الْعَمَل) بالإخالة. وَفِي قَوْله أَن فرض إِشَارَة إِلَى انتفائه فِي نفس الْأَمر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم ينتف، بل كَانَ دَلِيل جَوَاز الْعَمَل بِهِ مَوْجُودا (وَجب على الْمُجْتَهد) الْعَمَل بِهِ (لِأَنَّهُ) أَي دَلِيل جَوَاز الْعَمَل بِهِ (يُفِيد اعْتِبَار الشَّارِع)(3/326)
(وَهُوَ) أَي اعْتِبَار الشَّارِع إِنَّمَا يتَحَقَّق (تَرْتِيب الحكم) عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يجب على الْمُجْتَهد إِثْبَات الحكم بِهِ، لَا أَنه يجوز أَن يحكم وَأَن لَا يحكم: وَهَذَا مَا تقدم الْوَعْد بالتنبيه عَلَيْهِ (وَاعْلَم أَن الْمُنَاسبَة لَو) كَانَت (بِحِفْظ أحد الضروريات) الْخمس (لزم) الْعَمَل بهَا (على) قَول (الْكل) من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (وَلَيْسَ) هَذَا الطَّرِيق (إخالة، بل من الْمجمع على اعْتِبَاره) فَلَا تذهل عَنهُ.
تَتِمَّة
(قسم الْحَنَفِيَّة مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْعلَّة بالاشتراك) اللَّفْظِيّ (أَو الْمجَاز لَا حَقِيقَتهَا) مَعْطُوف على مفعول قسم، يَعْنِي الْمقسم للأقسام السَّبْعَة إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنى الْمجَازِي للفظ الْعلَّة الَّذِي يعم جَمِيع مَا يسْتَعْمل فِيهِ، لَا الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، ثمَّ علله بقوله (إِذْ لَيست) حَقِيقَة الْعلَّة، يَعْنِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ الَّذِي لَا شُبْهَة فِي كَونه حَقِيقَة لَهَا فِي عرف الشَّرْع، فَلَا يُنَافِي مَا ذكره من احْتِمَال الِاشْتِرَاك (إِلَّا الْخَارِج) عَن الْمَعْلُول (الْمُؤثر) فِيهِ. وَمن الْمَعْلُوم أَن الْخَارِج الْمَذْكُور لَا يَنْقَسِم (إِلَى سَبْعَة) من الْأَقْسَام (ثَلَاثَة) مِنْهَا (بسائط) غير مركبة من الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة الَّتِي ستذكر، وَأَرْبَعَة مِنْهَا مركبة من تِلْكَ الْأَوْصَاف (إِلَى عِلّة) بدل من قَوْله إِلَى سَبْعَة وَمَا بَينهمَا اعْتِرَاض (اسْما) تَمْيِيز عَن نِسْبَة عِلّة إِلَى مَوْصُوف مُقَدّر: أَي إِلَى خَارج عليته من حَيْثُ الِاسْم فَقَط لَا الْمَعْنى وَالْحكم، ثمَّ فَسرهَا بقوله (وَهِي الْمَوْضُوعَة) شرعا (لموجبها) أَي معلولها الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من غير تَأْثِير وَعدم تراخ (أَو الْمُضَاف إِلَيْهَا) على سَبِيل منع الْخُلُو: أَي الْعلَّة الَّتِي يُضَاف الحكم إِلَيْهَا إِضَافَة نحوية كَمَا يُقَال كَفَّارَة الْيَمين، أَو لغوية كَمَا يُقَال: قتل بِالرَّمْي، وَعتق بِالشِّرَاءِ وَهلك بِالْجرْحِ (بِلَا وَاسِطَة) عِنْد الْإِضَافَة، وَإِن كَانَت الْوَاسِطَة ثَابِتَة فِي الْوَاقِع (وَمعنى بِاعْتِبَارِهِ تأثيرها) أَي عِلّة تأثيرها فِي إِثْبَات الحكم (وَحكما بِأَن يتَّصل بهَا) الحكم (بِلَا تراخ وَهِي) أَي الْعلَّة اسْما وَمعنى وَحكما (الْحَقِيقَة وَمَا سواهُ) أَي مَا سوى هَذَا الْقسم (مجَاز أَو حَقِيقَة قَاصِرَة) كَمَا هُوَ مُخْتَار فَخر الْإِسْلَام، وَلَا يخفى أَن الْحَقِيقَة القاصرة حَيْثُ لم يحتو جَمِيع أَجزَاء الْحَقِيقَة لَا بُد أَن يكون مجَازًا غير أَنَّهَا خصت بِهَذَا الِاسْم لقربها من الْحَقِيقَة (وَالْحق أَن تِلْكَ) أَي الْعلَّة اسْما وَمعنى وَحكما (التَّامَّة تلازمها) وَهُوَ الحكم الْمُتَّصِل بهَا (وَمَا سواهَا قد يكون) عِلّة (حَقِيقِيَّة لدورانها) أَي الْحَقِيقَة (مَعَ الْعلَّة معنى) فَيلْزم أَن تكون الْعلَّة معنى أَيْضا حَقِيقَة (فَتثبت) الْحَقِيقَة (فِي أَرْبَعَة) تُوجد فِيهَا الْعلَّة معنى التَّامَّة (كَالْبيع) الصَّحِيح (الْمُطلق) على شَرط الْخِيَار فَإِنَّهُ عِلّة (للْملك وَالنِّكَاح) فَإِنَّهُ عِلّة (للْحلّ وَالْقَتْل) الْعمد الْعدوان فَإِنَّهُ عِلّة (للْقصَاص وَالْإِعْتَاق لزوَال الرّقّ) فَإِن كلا مِنْهَا عِلّة اسْما وَمعنى وَحكما (وَيجب كَونه) أَي الْإِعْتَاق لزوَال الرّقّ (على قَوْلهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد بِنَاء على أَن الْإِعْتَاق لَا يتَجَزَّأ عِنْدهمَا (أما على قَوْله) أَي أبي حنيفَة (فلإزالة الْملك) فَإِنَّهُ يتَجَزَّأ عِنْده على مَا عرف (وَإِلَى الْعلَّة اسْما فَقَط(3/327)
كالإيجاب الْمُعَلق) بِشَرْط من طَلَاق وَغَيره قبل وجود الْمُعَلق عَلَيْهِ، وَمن ثمَّة يثبت بِهِ ويضاف إِلَيْهِ بعد وجود الْمُعَلق عَلَيْهِ وَلَا تَأْثِير لَهُ فِي حكمه، ويتراخى حكمه إِلَى زمَان وجود الْمُعَلق عَلَيْهِ (قيل وَالْيَمِين قبل الْحِنْث للإضافة) للْحكم إِلَيْهَا (يُقَال كَفَّارَة الْيَمين، لَكِن لَا يُؤثر) الْيَمين (فِيهِ) أَي الحكم قبل الْحِنْث (وَلَا يثبت الحكم للْحَال، وَهُوَ) أَي كَون الْيَمين عِلّة اسْما إِنَّمَا هُوَ (على) الشق (الثَّانِي) من تَعْرِيف الْعلَّة اسْما، وَهُوَ الْمُضَاف إِلَيْهِ الْمَذْكُور (لِأَنَّهَا) أَي الْيَمين (لَيست بموضوعة إِلَّا للبر وَإِلَى الْعلَّة اسْما وَمعنى فَقَط كَالْبيع بِشَرْط الْخِيَار) للْبَائِع أَو الْمُشْتَرى أَولهمَا (و) البيع (الْمَوْقُوف) كَبيع الْإِنْسَان مَال غَيره بِلَا ولَايَة وَلَا وكَالَة، وَيُسمى بيع الفضول (لوضعه) أَي البيع شرعا للْملك (وتأثيره فِي) إِثْبَات (الحكم) وَإِن كَانَ ظهروه عِنْد زَوَال الْمَانِع (وَإِنَّمَا تراخي) الحكم عَنهُ (لمَانع) وَهُوَ اقترانه بِالشّرطِ فِي بيع الْخِيَار وَعدم الشَّرْط، وَعدم إِذن الْمَالِك وَهُوَ من يقوم مقَامه فِي بيع الفضول (حَتَّى يثبت) الحكم (عِنْد زَوَاله) أَي الْمَانِع (من وَقت الْإِيجَاب) أَي العقد مُتَعَلق بيثبت (فَيملك) المُشْتَرِي (الْمَبِيع بولده الَّذِي حدث قبل زَوَاله) أَي الْمَانِع، وَكَذَا سَائِر الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة والمتصلة (بعد الْإِيجَاب) وَهَذَا عَلامَة كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة لَا سَببا، لِأَن السَّبَب يثبت مَقْصُورا لَا مُسْتَندا إِلَى وَقت وجود السَّبَب. نعم فرق بَين البيعين، وَهُوَ أَن الأَصْل الْملك فِي بيع الْخِيَار، وَلما تعلق بِالشّرطِ لم يُوجد قبله فَلَا يتَوَقَّف إِعْتَاق المُشْتَرِي فِي هَذِه الْحَالة، وَفِي الْمَوْقُوف يثبت بِصفة التَّوَقُّف فَيتَوَقَّف إِعْتَاقه قبل الْإِجَازَة عَلَيْهَا: قيل القَوْل بتراخي الحكم إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَول مجوزي تَخْصِيص الْعلَّة كَالْقَاضِي أبي زيد وَأما على قَول منكره كفخر الْإِسْلَام فَلَا، وَالْجَوَاب مَا فِي التَّلْوِيح من أَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَوْصَاف المؤثرة يَعْنِي عقلا فِي الحكم لَا فِي الْعِلَل الَّتِي هِيَ أَحْكَام شَرْعِيَّة كالعقود والفسوخ (والإيجاب الْمُضَاف إِلَى وَقت) كلله عَليّ أَن أَتصدق بدرهم غَدا لوضعه شرعا لحكمه وَإِضَافَة حكمه إِلَيْهِ وتأثيره فِيهِ (وَلذَا) أَي وَلكَون الْمُضَاف عِلّة اسْما وَمعنى لَا حكما (أسقط التَّصَدُّق الْيَوْم مَا أوجبه قَوْله: عَليّ التَّصَدُّق بدرهم غَدا) فَاعل أسقط التَّصَدُّق ومفعوله مَا أوجبه الخ، وَالْيَوْم ظرف للتصدق، يَعْنِي إِذا تصدق بالدرهم الْيَوْم أسقط هَذَا التَّصَدُّق مُوجب هَذَا الْإِيجَاب الْمُضَاف إِلَى الْغَد، وَذَلِكَ لوُقُوعه بعد انْعِقَاد علته اسْما وَمعنى و (لم يلْزمه) التَّصَدُّق (فِي الْحَال) لتراخيه عَنهُ إِلَى الزَّمَان الْمُضَاف إِلَيْهِ فَيثبت الحكم عَنهُ عِنْد مَجِيء الْوَقْت مُقْتَصرا عَلَيْهِ لَا مُسْتَندا إِلَى زمَان الْإِيجَاب كَذَا ذكره الشَّارِح وَلَا يظْهر وَجهه (وَمِنْه) أَي من هَذَا الْقسم (النّصاب) لوُجُوب الزَّكَاة فِي أول الْحول فَإِنَّهُ علته اسْما لوضعه لَهُ شرعا وإضافته إِلَيْهِ، وَمعنى لتأثيره فِي وجوبة مَا من حَيْثُ الْمُوَاسَاة من الْغَنِيّ للْفَقِير، وَلَا حكما لتراخيه إِلَى زمَان تحقق النَّمَاء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أَلا أَن لهَذَا) النّصاب (شبها بِالسَّبَبِ لتراخي حكمه إِلَى مَا يشبه الْعلَّة) من جِهَة ترَتّب الحكم عَلَيْهِ (وَهُوَ) مَا يشبه الْعلَّة (النَّمَاء الَّذِي أقيم الْحول الْمُمكن مِنْهُ) أَي من النَّمَاء (مقَامه) لقَوْله(3/328)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول " والنماء فضل على الْغَنِيّ يُوجب الْإِحْسَان كأصل الْغنى، وَفِيه الْيُسْر فِي الْوَاجِب (لَا) إِلَى (الْعلَّة وَإِلَّا) لَو كَانَ عِلّة (تمحض) النّصاب (سَببا) لوُجُوبهَا، لِأَن السَّبَب الْحَقِيقِيّ مَا يتوسط بَينه وَبَين الحكم عِلّة مُسْتَقلَّة، والنماء لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ وصف غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فِي الْوُجُود، وَأَيْضًا شبه النّصاب بِالْعِلَّةِ أغلب على شبهه بِالسَّبَبِ لِأَن شبهه بهَا حَاصِل من جِهَة نَفسه لِأَنَّهُ أصل لوضعه، وَشبهه بِالسَّبَبِ من جِهَة توقف حكمه على النَّمَاء الَّذِي هُوَ وَصفه. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ قبل الْحول عِلّة تَامَّة لَيْسَ فِيهِ شبه السَّبَب، والحول بِمَنْزِلَة الأَصْل لتأخير الْمُطَالبَة تيسيرا كالسفر فِي حق الصَّوْم، وَلذَا صَحَّ تَعْجِيله قبله وَلَو كَانَ وصف الحولية من الْعلية لما صَحَّ قُلْنَا لَو كَانَ عِلّة تَامَّة قبل الْحول لَوَجَبَتْ باستهلاكه فِي الْحول كَمَا فِيمَا بعده، وَإِنَّمَا صَحَّ التَّعْجِيل لشبهه بِالْعِلَّةِ والنماء عِنْد وجوده يسْتَند إِلَى أصل النّصاب فَيصير كَأَنَّهُ من أول الْحول جعلى، ويستند الحكم أَيْضا إِلَى أَوله، وَكَذَا التَّعْجِيل، وَبِه يحصل الْجَواب عَن مَالك حَيْثُ قَالَ لَيْسَ لَهُ قبل الْحول حكم الْعلَّة لِأَن وصف النَّمَاء كالجزء الْأَخير من عِلّة ذَات وصفين، فَلَا يَصح التَّعْجِيل قبل الْحول، كَمَا لَا تصح الصَّلَاة قبل الْوَقْت. نعم هَذَا الْمُعَجل إِنَّمَا يصير زَكَاة إِذا انْقَضى الْحول وَلَيْسَ الْحول كالأجل لِأَنَّهُ يسْقط بِمَوْت الْمَدْيُون، وَيصير حَالا، وَلَو مَاتَ المزكى فِي أثْنَاء الْحول سقط الْوَاجِب (وَعقد الْإِجَارَة) عِلّة لملك الْمَنْفَعَة، اسْما لوضعه لَهُ وَالْحكم يُضَاف إِلَيْهِ، وَمعنى لِأَنَّهُ الْمُؤثر فِي إِثْبَات ملكهَا، (وَلذَا) أَي ولكونه اسْما وَمعنى (صَحَّ تَعْجِيل الْأُجْرَة) قبل الْوُجُوب وَاشْتِرَاط تَعْجِيلهَا (وَلَيْسَ عِلّة حكما) لملك الْمَنَافِع (لعدم الْمَنَافِع) الَّتِي تُوجد فِي مُدَّة الْإِجَارَة وَقت العقد (و) عدم (ثُبُوت الْملك فِيهَا) أَي الْمَنَافِع (فِي الْحَال) لانعدامها (وَكَذَا) لَيْسَ بعلة حكما (فِي الْأُجْرَة) لِأَنَّهَا بدل الْمَنْفَعَة فَلَمَّا لم يملكهَا فِي الْحَال لم يملك بدلهَا تَحْقِيقا لِمَعْنى الْمُسَاوَاة (مَعَ أَنه) أَي عقد الْإِجَارَة (وضع لملكهما) أَي الْمَنَافِع وَالْأُجْرَة (و) هُوَ (الْمُؤثر فيهمَا، وَيُشبه السَّبَب لما فِيهِ من معنى الْإِضَافَة فِي حق ملك الْمَنْفَعَة إِلَى مقارنته) أَي انْعِقَادهَا (الِاسْتِيفَاء) للمنفعة (إِذْ لَا بَقَاء لَهَا) أَي للمنفعة، فَالْإِجَارَة وَإِن صحت فِي الْحَال بِإِقَامَة الْعين مقَام الْمَنْفَعَة إِلَّا أَنَّهَا فِي حق الْمَنْفَعَة مُضَافَة إِلَى زمَان وجود الْمَنْفَعَة كَأَنَّهَا تَنْعَقِد حِين وجود الْمَنْفَعَة آنا فآنا ليقترن الِانْعِقَاد بِالِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا معنى قَوْلهم: الْإِجَارَة عُقُود مُتَفَرِّقَة يَتَجَدَّد انْعِقَادهَا بِحَسب مَا يحدث من الْمَنْفَعَة (وَمِمَّا يشبه السَّبَب) أَي من الْعِلَل اسْما وَمعنى لَا حكما الشبيهة بِالسَّبَبِ (مرض الْمَوْت عِلّة الْحجر عَن التَّبَرُّع) بِالْهبةِ وَالصَّدَََقَة والمحاباة وَنَحْوهَا (لحق الْوَارِث) أَي لما يتَعَلَّق بِهِ حق الْوَارِث (مَا زَاد على الثُّلُث) لِأَنَّهُ وضع شرعا للتغيير من الْإِطْلَاق إِلَى الْحجر وَالْحجر مُضَاف إِلَيْهِ، وَهُوَ مُؤثر فِيهِ كَمَا فِي حَدِيث سعد حَيْثُ قَالَ: " أفأوصى بِمَالي كُله، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا، قَالَ: فبالنصف.(3/329)
قَالَ لَا، قَالَ فبالثلث؟ قَالَ الثُّلُث، وَالثلث كثير: إِنَّك إِن تدع وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تَدعهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس " مُتَّفق عَلَيْهِ (وَيُشبه) مرض الْمَوْت (السَّبَب لِأَن الحكم) الَّذِي هُوَ الْحجر (يثبت بِهِ إِذا اتَّصل بِهِ الْمَوْت لِأَن الْعلَّة مرض مميت، وَلما كَانَ) الْمُؤمن (منعدما فِي الْحَال لم يثبت الْحجر فَصَارَ الْمُتَبَرّع بِهِ ملكا) للمتبرع لَهُ (للْحَال) لِانْعِدَامِ الْمَانِع حِينَئِذٍ (فَلَا يحْتَاج إِلَى تمْلِيك) جَدِيد (لَو برأَ) لاستمرار الْمَانِع على الْعَدَم (وَإِذا مَاتَ صَار كَأَنَّهُ تصرف بعد الْحجر) لاتصاف الْمَرَض بِكَوْنِهِ مميتا من أول وجوده لِأَن الْمَوْت يحدث بالألم وعوارض مزيلة لقوى الْحَيَاة من ابْتِدَاء الْمَرَض فيضاف إِلَيْهِ كُله، وَإِذا اسْتندَ الْوَصْف إِلَى أول الْمَرَض اسْتندَ بِحكمِهِ (فتوقف) نفاذه (على إجازتهم) أَي الْوَرَثَة لتَعلق حَقهم بِهِ (وَكَذَا التَّزْكِيَة) أَي تَعْدِيل شُهُود الزِّنَا (عِلّة وجوب الحكم بِالرَّجمِ) للزاني الْمُحصن (لَكِن بِمَعْنى عِلّة الْعلَّة عِنْده) أَي أبي حنيفَة (فَإِن الشَّهَادَة لَا توجب الرَّجْم دونهَا) أَي التَّزْكِيَة بل تفِيد ظُهُوره، وَعلة الْعلَّة بِمَنْزِلَة الْعلَّة فِي إِضَافَة الحكم كَمَا ستقام فَيكون مُضَافا إِلَى التَّزْكِيَة (فَلَو رَجَعَ المزكون) وَقَالُوا تعمدنا الْكَذِب (ضمنُوا الدِّيَة عِنْده) أَي أبي حنيفَة (غير أَنه إِذا كَانَ) التَّزْكِيَة، تذكير الضَّمِير بِاعْتِبَار أَنه تَعْدِيل (صفة للشَّهَادَة أضيف الحكم إِلَيْهَا) أَي إِلَى الشَّهَادَة أَيْضا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ رَجَعَ ضمن (وَعِنْدَهُمَا لَا) يضمن المزكون إِذا رجعُوا لأَنهم أثنوا على الشُّهُود خيرا فَهُوَ كَمَا لَو أثنوا على الْمَشْهُود عَلَيْهِ خيرا بِأَن قَالُوا هُوَ مُحصن، وَالضَّمان يُضَاف إِلَى سَبَب هُوَ تعد، لَا إِلَى مَا هُوَ حسن وَخير، أَلا ترى أَن الشُّهُود والمزكين إِذْ رجعُوا جَمِيعًا لم يضمن المزكون شَيْئا، وَالْجَوَاب أَن المزكين لَيْسُوا كشهود الْإِحْصَان فَإِنَّهُم لم يجْعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجب مُوجبا إِذْ الشَّهَادَة بِالزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَان مُوجب للعقوبة، وَالشَّهَادَة لَا توجب شَيْئا بِدُونِ التَّزْكِيَة، فالمزكون أعملوا سَبَب التّلف بطرِيق التَّعَدِّي فضمنوا، وَأما إِذا رَجَعَ الشُّهُود مَعَهم فقد انقلبت الشَّهَادَة تَعَديا وَأمكن الْإِضَافَة إِلَيْهَا على الْقُصُور لِأَنَّهَا تعد لم يحدث بالتزكية لاختيارهم فِي الْأَدَاء فَلم يضف إِلَى عِلّة الْعلَّة كَذَا فِي الْأَسْرَار (وكل عِلّة عِلّة) هِيَ (عِلّة شَبيهَة بِالسَّبَبِ كَشِرَاء الْقَرِيب وَهُوَ) أَي عِلّة الْعلَّة الشبيهة بِالسَّبَبِ (السَّبَب فِي معنى الْعلَّة، أما عِلّة فَلِأَن الْعلَّة لما كَانَت مُضَافَة إِلَى عِلّة أُخْرَى) هِيَ الأولى (كَانَ الحكم مُضَافا إِلَيْهَا) أَي للأولى (بِوَاسِطَة الثَّانِيَة فَهِيَ) أَي الأولى (كعلة توجب) الحكم (بِوَصْف لَهَا فيضاف) الحكم (إِلَيْهَا) أَي الأولى (دون الصّفة) بِهَذَا الِاعْتِبَار، فَلَا يرد أَنه لَا بُد فِي الْعلَّة من الْإِضَافَة أَو الْوَضع، والوضع مُنْتَفٍ هَاهُنَا لِأَن الْملك غير مَوْضُوع للعين (وَأما الشّبَه) بِالسَّبَبِ (فَلِأَنَّهَا) أَي الأولى (لَا توجب) الحكم (إِلَّا بِوَاسِطَة) هِيَ الثَّانِيَة كَمَا أَن السَّبَب كَذَلِك (وَحَقِيقَة هَذَا نفي الْعلَّة) لِأَن الْعلَّة الْحَقِيقِيَّة لَا تتَوَقَّف على وَاسِطَة بَينهَا وَبَين الْمَعْلُول (مِثَال ذَلِك شِرَاء الْقَرِيب فَإِنَّمَا هُوَ عِلّة لذَلِك للْملك الْعلَّة لِلْعِتْقِ(3/330)
فَهُوَ) أَي شِرَاؤُهُ (عِلّة الْعلَّة) لِلْعِتْقِ (فَبين الْعلَّة اسْما وَمعنى لَا حكما، وَالْعلَّة الَّتِي تشبه الْأَسْبَاب عُمُوم من وَجه لصدقهما فِيمَا قبله) أَي قبل هَذَا الْقسم وَهُوَ عِلّة الْعلَّة من النّصاب وَمَا بعده (وانفراد) قسم الْعلَّة (الْمُشبه) بِالسَّبَبِ (فِي شِرَاء الْقَرِيب) فَإِنَّهُ لَا يتَحَقَّق فِيهِ التَّرَاخِي (و) انْفِرَاد (الْعلَّة اسْما وَمعنى لَا حكما فِي البيع بِشَرْط) الْخِيَار (وَالْمَوْقُوف وَإِلَى عِلّة معنى وَحكما كآخر) أَجزَاء الْعلَّة (المركبة) من وصفين مؤثرين مترتبين فِي الْوُجُود لوُجُود التَّأْثِير والاتصال (لَا اسْما إِذْ لم يضف) الحكم (إِلَيْهِ) أَي إِلَى هَذَا الْجُزْء الْأَخير (فَقَط) بل يُضَاف إِلَى الْمَجْمُوع قَالَ الشَّارِح: هَذَا قَول فَخر الْإِسْلَام، وَذهب غير وَاحِد إِلَى أَن مَا عدا الْأَخير بِمَنْزِلَة الْعَدَم فِي ثُبُوت الحكم وَهُوَ مُضَاف إِلَى الْجُزْء الْأَخير كَمَا فِي أثقال السَّفِينَة والقدح الْأَخير فِي السكر انْتهى. قيل يلْزم على هَذَا أَن يُضَاف الحكم إِلَى الشَّاهِد الْأَخير وَيضمن كل الْمُتْلف إِذا رَجَعَ وَأجِيب بِأَن الشَّهَادَة إِنَّمَا تعْمل بِقَضَاء القَاضِي، وَالْقَضَاء يَقع بالمجموع فالراجع يضمن النّصْف أيا كَانَ (وَإِلَى عِلّة اسْما وَحكما) وَهِي كل مَظَنَّة للمعنى الْمُؤثر وَهِي (كل مَظَنَّة أُقِيمَت مقَام حَقِيقَة الْمُؤثر) لخفائه دفعا للْحَرج أَو احْتِيَاطًا (كالسفر وَالْمَرَض للترخص) فَالْحكم الَّذِي هُوَ رخصَة يُضَاف إِلَيْهَا فَيُقَال: رخصَة السّفر ورخصة الْمَرَض وَيثبت عِنْد وجودهما (لَا معنى لِأَن الْمُؤثر) فِي حكم الرُّخْصَة إِنَّمَا هُوَ (الْمَشَقَّة) لَا نفس السّفر وَالْمَرَض لَكِن أقيما مقَامهَا لخفائها ولكونهما سَببهَا دفعا للْحَرج (وكالنوم للْحَدَث إِذْ الْمُعْتَبر) فِي تحَققه (خُرُوج النَّجس) من أحد السَّبِيلَيْنِ أَو من الْبدن إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير على الِاخْتِلَاف بَين الْأمة (إِلَّا أَنه) أَي النّوم (عِلّة سَببه) أَي خُرُوج النَّجس (الاسترخاء) بِالْجَرِّ بَدَلا من السَّبَب فَإِن النّوم عِلّة استرخاء المفاصل الْمُوجب لزوَال المسكة (فأقيم) النّوم (مقَامه) أَي الْخُرُوج إِقَامَة لعِلَّة السَّبَب للشَّيْء مقَام ذَلِك الشَّيْء احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَات (فَكَانَ) النّوم (عِلّة اسْما) للْحَدَث (لإضافة الْحَدث) إِلَيْهِ، يُقَال حدث النّوم، وَحكما لِأَنَّهُ يثبت عِنْد النّوم لَا معنى لعدم التَّأْثِير لما عرفت (وَإِلَى عِلّة معنى فَقَط وَهُوَ بعض أَجزَاء) الْعلَّة (المركبة غير) الْجُزْء (الْأَخير) مِنْهَا، فَإِن ذَلِك الْبَعْض مُؤثر فِي الْجُمْلَة وَلَا يُضَاف الحكم إِلَيْهِ بل إِلَى الْمَجْمُوع وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ (وَلَيْسَ) هَذَا الْبَعْض (سَببا) للْحكم (لَو تقدم) على الْبَعْض الآخر لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْط بطرِيق مَوْضُوع لثُبُوت الحكم (خلافًا لأبي زيد وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ، فَإِنَّهُ سَبَب عِنْدهمَا إِذا تقدم لَا يثبت مَا لم تتمّ الْعلَّة فَكَانَ المبدأ مُعْتَبرا لتَمام الْعلَّة، وكالطريق إِلَى الْمَقْصُود وَلَا تَأْثِير لَهُ مَا لم يَنْضَم إِلَيْهِ الْبَاقِي وَقد تخَلّل بَينه وَبَين الحكم وجود غَيره وَهُوَ غير مُضَاف إِلَيْهِ فَكَانَ سَببا، وَإِنَّمَا ذهب فَخر الْإِسْلَام إِلَى أَنه لَيْسَ بِسَبَب بل لَهُ شبه الْعلية (وَإِن لم يجب) الحكم (عِنْده لفرض عقلية دخله فِي التَّأْثِير)(3/331)
فِي الحكم، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يكون سَببا مَحْضا (وَلذَا) أَي فرض عقلية دخله فِي التَّأْثِير (جعلُوا) أَي أَصْحَابنَا (كلا من الْقدر وَالْجِنْس محرما للنسيئة لشُبْهَة الْعلَّة بالجزئية) فَإِن جُزْء الْعلَّة لَهُ شبه بهَا بِاعْتِبَار توقف الحكم ودخله فِي التَّأْثِير، وَفِي النَّسِيئَة شُبْهَة الْفضل لمزية النَّقْد على النَّقْد على النَّسِيئَة عرفا وَكَذَا يكون الثّمن فِي النَّسِيئَة أَكثر مِنْهُ فِي النَّقْد (فَامْتنعَ إِسْلَام حِنْطَة فِي شعير) فَإِن الْمُسلم وَهُوَ الْحِنْطَة نقد، وَالْمُسلم فِيهِ وَهُوَ الشّعير نَسِيئَة وجزء الْعلَّة وَهُوَ الْقدر مَوْجُود، وَإِسْلَام ثوب (قوهي فِي) ثوب (قوهي) وَهُوَ نِسْبَة إِلَى قوهستان كورة من كور فَارس لشُبْهَة الْعلَّة (والشبهة مَانِعَة هُنَا) فِي بَاب الرِّبَا (للنَّهْي عَن الرِّبَا والريبة) أَي الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض، وشبهته فِي الْمغرب أَنه إِشَارَة إِلَى حَدِيث " دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك " فَإِن الْكَذِب رِيبَة وَإِن الصدْق طمأنينة. الرِّيبَة فِي الأَصْل قلق النَّفس واضطرابها فَهِيَ إِذن بِكَسْر الرَّاء، ثمَّ الْيَاء آخر الْحُرُوف الساكنة ثمَّ الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة، وَمن روى رِيبَة على أَنَّهَا تَصْغِير الرِّبَا فقد أَخطَأ لفظا وَمعنى، قيل وعَلى هَذَا فَفِي ثُبُوت الْمَطْلُوب بِهِ نظر (وَخرج الْعلَّة حكما فَقَط على الشَّرْط) . قَالَ الشَّارِح الْمخْرج لِلْعِلَّةِ حكما فَقَط على هذَيْن: يَعْنِي الشَّرْط وَمَا ذكر بعده. صدر الشَّرِيعَة: وَمعنى تخريجها عَلَيْهِمَا استنباطها منطبقا أَو صَادِقا عَلَيْهِمَا، أما الشَّرْط فَهُوَ كدخول الدَّار (فِي تَعْلِيق الْإِيجَاب) كَأَنْت طَالِق (لثُبُوت الحكم) كَالطَّلَاقِ (عِنْده) أَي عِنْد وجود الشَّرْط وَهُوَ دُخُول الدَّار مثلا (مَعَ انْتِفَاء الْوَضع) أَي وضع دُخُول الدَّار لوُقُوع الطَّلَاق وَانْتِفَاء إِضَافَته إِلَيْهِ (و) انْتِفَاء (التَّأْثِير) لَهُ فِيهِ (وَكَذَا الْجُزْء الْأَخير من السَّبَب الدَّاعِي) إِلَى الحكم (الْمقَام) بِضَم الْمِيم مقَام الْمُسَبّب الَّذِي هُوَ الحكم (إِذا كَانَ) السَّبَب الدَّاعِي) (مركبا) عَلَيْهِ حكما فَقَط لوُجُود الِاتِّصَال من غير وضع لَهُ وَلَا إِضَافَة إِلَيْهِ وَلَا تَأْثِير لَهُ فِيهِ، لِأَن السَّبَب الدَّاعِي لَا تَأْثِير لَهُ فَكيف بجزئه (وَمَا أقيم من دَلِيل مقَام مَدْلُوله كالإخبار عَن الْمحبَّة) فِي أَن كنت تحبيني فَأَنت طَالِق لوُجُود الطَّلَاق عِنْد إخبارها عَن حبها مَعَ انْتِفَاء وَصفه لَهُ وتأثيره فِيهِ: وَإِنَّمَا أقيم للعجز عَن الْوُقُوف على حَقِيقَته. فِي كشف الْبَزْدَوِيّ لكنه يقْتَصر على الْمجْلس حَتَّى لَو أخْبرت عَنْهَا خَارج الْمجْلس لَا يَقع الطَّلَاق لِأَنَّهُ يشبه التَّخْيِير من حَيْثُ أَنه جعل الْأَمر إِلَى إخبارها والتخيير مقتصر عَلَيْهِ، وَلَو كَانَت كَاذِبَة يَقع فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، لِأَن حَقِيقَة الْمحبَّة لَا يُوقف عَلَيْهَا من جِهَة غَيرهَا وَلَا من جِهَتهَا، لِأَن الْقلب لَا يسْتَقرّ على شَيْء: فَصَارَ الشَّرْط الْإِخْبَار عَن الْمحبَّة وَقد وجد. قَالَ الشَّارِح: لَعَلَّ هَذَا من تَخْرِيج المُصَنّف.
(تمّ الْجُزْء الثَّالِث: ويليه الْجُزْء الرَّابِع، وأوله: المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط الْعلَّة)(3/332)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
المرصد الثَّانِي فِي شُرُوطهَا
أَي الْعلَّة (استلزم مَا تقدم من تَعْرِيفهَا اشْتِرَاط الظُّهُور والانضباط ومظنية الْحِكْمَة) وَهِي الَّتِي شرع الحكم لأَجلهَا (أَولا أَو بِوَاسِطَة مَظَنَّة أُخْرَى فلزمت الْمُنَاسبَة) بَينهَا وَبَين الحكم الَّذِي هُوَ معلولها (وَعدم الطَّرْد) أَي مُجَرّد وجود الحكم لأَجلهَا الَّذِي هُوَ معلولها عِنْد وجودهَا كَمَا مر بَيَانه. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا يكون عدما لوجودي) وَهَذَا الشَّرْط (لطائفة من الشَّافِعِيَّة) مِنْهُم الْآمِدِيّ (وَغَيرهم) كَابْن الْحَاجِب وَصَاحب البديع وَغَيرهمَا (وَالْأَكْثَر) مِنْهُم الْبَيْضَاوِيّ مَذْهَبهم (الْجَوَاز) أَي جَوَاز كَونهَا عدما لوجودي (قيل وَجَوَاز) تَعْلِيل (العدمي بِهِ) أَي بالعدمي كَعَدم نَفاذ التَّصَرُّف بِعَدَمِ الْعقل (اتِّفَاق) كَمَا ذكره القَاضِي عضد الدّين وَغَيره. قَالَ (النَّافِي) جَوَاز تَعْلِيل الوجودي بالعدمي: (الْعلَّة) هِيَ الْأَمر (الْمُنَاسب) لمشروعية الحكم (أَو مظنته) أَي مَظَنَّة الْمُنَاسب فَإِن الْعلَّة باعث والباعث منحصر فِي الْمُنَاسبَة ومظنته (والعدم الْمُطلق ظَاهر) أَنه لَيْسَ مناسبا وَلَا مظنته، بل نسبته إِلَى جَمِيع الْمحَال وَالْأَحْكَام سَوَاء (و) الْعَدَم (الْمُضَاف إِمَّا) مُضَاف (إِلَى مَا فِي الشَّرْعِيَّة) أَي مَشْرُوعِيَّة الحكم (مَعَه مصلحَة) لذَلِك الحكم (فَهُوَ) أَي الْعَدَم الْمُضَاف (مَانع) من الحكم، لِأَن الْفَرْض أَن الْمصلحَة مَعَ وجوديه الَّذِي هُوَ مُضَاف إِلَيْهِ وَعدم الْمصلحَة مَانع مِنْهُ فَلَا يكون الْعَدَم الْمَذْكُور مناسبا للْحكم وَلَا مَظَنَّة لَهُ (أَو) مُضَاف إِلَى مَا فِي الشَّرْعِيَّة مَعَه (مفْسدَة) لذَلِك الحكم (فَهُوَ) أَي الْعَدَم الْمُضَاف حِينَئِذٍ (عَدمه) أَي عدم الْمَانِع وَهُوَ لَا يكون عِلّة لِأَن الْعلَّة مُقْتَض وَعدم الْمَانِع لَيْسَ بمقتض. وَاعْترض بِأَنَّهُ لم لَا يجوز أَن يكون منشأ لمصْلحَة ودافعا لمفسدة فَيكون مقتضيا من الْحَيْثِيَّة وعدما للمانع فَيصح التَّعْلِيل بِهِ (أَو) إِلَى (منَاف مُنَاسِب) للْحكم (حَتَّى جَازَ أَن يسْتَلْزم) الْعَدَم الْمُضَاف إِلَى منَاف مُنَاسِب (الْمُنَاسب) فَيحصل بِهِ الْحِكْمَة لاشْتِمَاله عَلَيْهِ من حَيْثُ الاستلزام (فَيكون) الْعَدَم الْمَذْكُور (مظنته) أَي الْمُنَاسب بِهَذَا الِاعْتِبَار(4/2)
(ثمَّ) نقُول بعد ذَلِك (لَا يصلح) لِأَن تكون مَظَنَّة لَهُ (لِأَن مَا) أَي الْمُنَاسب الَّذِي (هُوَ) أَي الْعَدَم الْمَذْكُور (مَظَنَّة لَهُ ان كَانَ) وَصفا (ظَاهرا) صَالحا لترتب الحكم عَلَيْهِ (أُغني) بِنَفسِهِ عَن المظنة الَّتِي هِيَ الْعَدَم فَكَانَ هُوَ الْعلَّة (أَو) كَانَ (خفِيا فنقيضه) أَي نقيض ذَلِك الْمُنَاسب الْخَفي (وَهُوَ) أَي نقيضه (مَا) أَي الَّذِي (عَدمه مَظَنَّة) للمناسب (خَفِي) أَيْضا، وَإِطْلَاق النقيض على كل وَاحِد من المنافيين شَائِع (لِاسْتِوَاء النقيضين جلاء وخفاء) . وَفِيه أَنه قد يخْتَلف النقيضان جلاء وخفاء لتكرار وإلف وَغير ذَلِك من الْأَسْبَاب، كَيفَ والملكات أجلى من الأعدام، هَذَا وَإِذا كَانَ منافي الْمُنَاسب خفِيا كَانَ عَدمه أَيْضا خفِيا لِاسْتِوَاء النقيضين إِلَى آخِره فَلَا يصلح الْعَدَم الْمَذْكُور عِلّة للْحكم لخفائه (أَو) مُضَاف إِلَى (غير منَاف) للمناسب (فوجوده) أَي غير الْمنَافِي (وَعَدَمه سَوَاء) فِي تحصل الْمصلحَة (فَلَيْسَ عَدمه بِخُصُوصِهِ عِلّة) أَي لَيْسَ كَون عَدمه عِلّة (بِأولى من عَكسه) بِأَن يكون وجوده عِلّة فَلَا يصلح عِلّة (كَمَا لَو قيل يقتل الْمُرْتَد لعدم إِسْلَامه فَلَو كَانَ فِي قَتله مَعَ إِسْلَامه مصلحَة فَاتَت) تِلْكَ الْمصلحَة فِي عَدمه فَيكون مَانِعا من الْقَتْل وَالتَّعْلِيل بِمَا يمْنَع من الحكم بَاطِل (أَو) كَانَ فِي قَتله مَعَ إِسْلَامه (مفْسدَة فَعدم مَانع) أَي الْعَدَم الْمُضَاف حِينَئِذٍ عدم مَانع (أَو يُنَافِي) الْإِسْلَام الَّذِي أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم (مناسبا للْقَتْل) الَّذِي هُوَ الحكم فَهَذَا من عطف الْمُضَارع على الْمَاضِي (ظَاهرا) صفة لقَوْله مناسبا (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب الظَّاهِر للْقَتْل (الْكفْر، فَهُوَ) أَي الْكفْر (الْعلَّة) للْقَتْل لِأَنَّهُ أغْنى بِنَفسِهِ عَن المظنية (أَو) يُنَافِي الْإِسْلَام مناسبا (خفِيا) بِأَن يفْرض الْكفْر خفِيا (ف) إِن (الْإِسْلَام كَذَلِك) أَي خَفِي لتماثل النقيضين على مَا مر (فعدمه) أَي الْإِسْلَام (كَذَلِك) أَي خَفِي (أَولا) يُنَافِي الْإِسْلَام مناسبا أصلا ظَاهرا وَلَا خفِيا: بِأَن يفْرض عدم مُنَاسبَة الْكفْر للْقَتْل كَمَا قَالَ مَالك يقتل وَإِن رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام (فَالْمُنَاسِب) شَيْء (آخر يُجَامع كلا من الْإِسْلَام وَعَدَمه) فهما سيان فِي تَحْصِيل الْمصلحَة فَلَا يكون عَدمه مُتَعَيّنا فِيهِ (وَدفع) الدَّلِيل الْمَذْكُور (من) قبل (الْأَكْثَر بِاخْتِيَار أَنه) أَي مَا أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم (يُنَافِيهِ) أَي الْمُنَاسب وَهُوَ الشق الثَّالِث من الترديد (وَجَاز كَونه) أَي الْمُنَاسب الَّذِي يُنَافِيهِ مَا أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم (الْعَدَم) الْمُضَاف (نَفسه، لَا) كَون الْعَدَم الْمَذْكُور (مظنته) أَي الْمُنَاسب فَلَا يتَّجه قَوْله: ثمَّ لَا يصلح إِلَى آخِره، ثمَّ علل الْجَوَاز بقوله (لاشْتِمَاله) أَي الْعَدَم (على الْمصلحَة كَعَدم الْإِسْلَام) فَإِنَّهُ مُشْتَمل (على مصلحَة الْتِزَامه) إِضَافَة الْمصلحَة بَيَانِيَّة، وَالضَّمِير لِلْإِسْلَامِ (بِالْقَتْلِ) أَي بِسَبَب خَوفه من الْقَتْل يلْتَزم الْإِسْلَام بِأَن لَا يرْتَد أَو يرجع إِلَيْهِ بعد الارتداد ثمَّ يلازمه إِذا علم أَن عدم الْإِسْلَام عِلّة للْقَتْل. (وَالْحَنَفِيَّة يمْنَعُونَ الْعَدَم الْمُطلق) أَي لَا يجوزون التَّعْلِيل بِالْعدمِ مُطلقًا كَانَ مُضَاف(4/3)
وجوديا كَانَ الحكم أَو عدميا (فَلم يَصح النَّقْل السَّابِق) أَي نقل الِاتِّفَاق على جَوَاز العدمي بالعدمي (وَالدَّلِيل الْمَذْكُور) للنافي للوجودي خَاصَّة (يصلح لَهُم) أَي للحنفية فِي نفيهم مُطلقًا (لِأَنَّهُ) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور (يبطل الْعَدَم مُطلقًا) أَي كَونه عِلّة لوجودي أَو عدمي، لانْتِفَاء الْمُنَاسبَة ومظنتها فِيهِ، وَعدم الحكم لَا يحْتَاج إِلَى عِلّة لِأَنَّهُ ثَابت بِالْعدمِ الْأَصْلِيّ فَلَا يصلح عِلّة لَا للعدم وَلَا للوجود، كَذَا قيل، وَفِيه أَنه لم لَا يجوز أَن يكون عدم الحكم عدما طارئا (وَيرد) الدَّلِيل الْمَذْكُور لعدم جَوَاز تَعْلِيل الوجودي بِالْعدمِ (نقضا من) قبل (الْأَكْثَر على) دَلِيل (الطَّائِفَة) الْقَائِلين بِعَدَمِ جَوَاز تَعْلِيل الوجودي وَجَوَاز تَعْلِيل العدمي بِهِ بِأَن يُقَال: إِن صَحَّ مَا ذكرْتُمْ فِي منع تَعْلِيل الوجودي بِهِ لزم أَن لَا يجوز تَعْلِيل العدمي بِهِ أَيْضا بِعَين مَا ذكرْتُمْ (وَكَون الْعَدَم نَفسه الْمُنَاسب لم يتَحَقَّق) أورد النَّقْض على الدَّلِيل أَولا، ثمَّ أبطل مَا ذكر سَنَد للْمَنْع على مقدمته وَإِبْطَال السَّنَد إِذا كَانَ مُسَاوِيا للْمَنْع يسْتَلْزم إِثْبَات الْمُقدمَة الممنوعة، ثمَّ بَين عدم التحقق بقوله (وَالْمُنَاسِب فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (الْكفْر، وَهُوَ) أَي الْكفْر (اعْتِقَاد قَائِم) بِذَات الْكَافِر (وجودي ضد الْإِسْلَام، ويستلزم) الْكفْر أَو الِاعْتِقَاد الْمَذْكُور (عَدمه) أَي عدم الْإِسْلَام (كَمَا هُوَ شَأْن الضدين فِي استلزام كل) مِنْهُمَا (عدم الآخر فالإضافة للْقَتْل (فِيهِ) أَي الْمِثَال الْمَذْكُور (إِلَى الْعَدَم) حَيْثُ قيل يقتل لعدم إِسْلَامه إِنَّمَا يكون (لفظا) أَي بِحَسب ظَاهر اللَّفْظ وَفِي الْمَعْنى والحقيقة إِلَى أَمر وجودي وَهُوَ الْكفْر فِي الْمِثَال، وعَلى هَذَا الْقيَاس سَائِر الْأَمْثِلَة، ثمَّ لما ذكر أَن الْحَنَفِيَّة يمْنَعُونَ الْعَدَم مُطلقًا وَأَن الدَّلِيل الْمَذْكُور يصلح لَهُم وَجعل إِضَافَة الحكم إِلَى الْعَدَم لفظا اتجه أَن الْحَنَفِيَّة فِي كثير من الْأَحْكَام عللوا بِالْعدمِ وَأَرَادَ الْجَواب عَن ذَلِك فَقَالَ: (ويطرد) تَعْلِيل الْعَدَم بِالْعدمِ (فِي عدم عِلّة ثَبت اتحادها) يَعْنِي لَيْسَ لحكمها عِلّة غَيرهَا (لعدم حكمهَا) مِثَاله (كَقَوْل مُحَمَّد) أَي كالتعليل فِي قَوْله (فِي ولد الْمَغْصُوب) أَي ولد الْحَيَوَان الْمَغْصُوب الَّذِي لم يكن وَقت الْغَصْب مَوْجُودا (لَا يضمن) بِصِيغَة الْمَجْهُول وَالضَّمِير للْوَلَد، وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَعْلُوم: أَي لَا يضمن الْغَاصِب إِيَّاه (لِأَنَّهُ) أَي الْوَلَد (لم يغصب) لعدم وجوده وَقت الْغَصْب، فَإِن الْغَضَب سَبَب معِين للضَّمَان لَا سَبَب سواهُ فعدمه يسْتَلْزم عدم الضَّمَان (و) كَقَوْل (أبي حنيفَة فِي نفي) وجوب (خمس العنبر لم يوجف عَلَيْهِ) لِأَن سَببه وَاحِد إِجْمَاعًا، وَهُوَ الإيجاف بِالْخَيْلِ والركاب، وَهُوَ إسراعها فِي السّير، من الوجف، وَهُوَ سرعَة السّير، فَإِن الْخمس إِنَّمَا يجب فِيمَا أَخذ من أَيدي الْكفَّار بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والمستخرج من الْبَحْر لَيْسَ فِي أَيْديهم، فَإِن قهر المَاء يمْنَع قهر غَيره عَلَيْهِ فَلم يكن غنيمَة (وَالْوَجْه) فيهمَا (مَا قُلْنَا) من (أَنه) أَي التَّعْلِيل بِالْعدمِ وَإِضَافَة الحكم إِلَيْهِ (لَيْسَ حَقِيقِيًّا وإضافتهما) . قَالَ الشَّارِح(4/4)
أَي إِضَافَة أبي حنيفَة عدم الْخمس وَمُحَمّد عدم الضَّمَان. وَلَا يخفى مَا فِيهِ، فَالْأولى أَن يُقَال: أَي إِضَافَة الْحكمَيْنِ الْمَذْكُورين فِي كَلَامهمَا، وَقَوله: اضافتهما بِالنّصب عطفا على اسْم إِن واضافتهما لَيست حَقِيقِيَّة بل بِحَسب اللَّفْظ على مَا مر، أَو نقُول تَقْدِير الْكَلَام وَحَقِيقَة إضافتهما (إِنَّمَا هُوَ عدم الحكم لعدم الدَّلِيل) على سَبِيل التَّوَسُّع فِي الْكَلَام (وَلَيْسَ) مَا علل بِهِ من عدم الدَّلِيل (مَا نَحن فِيهِ من الْعلَّة) بِمَعْنى الْبَاعِث وَهُوَ ظَاهر (قَالُوا) أَي الْأَكْثَرُونَ (علل الضَّرْب بِعَدَمِ الِامْتِثَال) وَهُوَ عدمي (وَالضَّرْب ثبوتي أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي التَّعْلِيل (بالكف) أَي كف العَبْد نَفسه عَن الِامْتِثَال وَهُوَ ثبوتي (قَالُوا) أَي الْأَكْثَرُونَ أَيْضا (معرفَة المعجز) أَي كَون المعجز معجزا أَمر (ثبوتي مُعَلل بالتحدي) بالمعجزة (مَعَ انْتِفَاء الْمعَارض) أَي الَّذِي يَأْتِي بِمِثْلِهَا (وَهُوَ) أَي انْتِفَاء الْمعَارض (جُزْء الْعلَّة) لِأَنَّهَا الْإِتْيَان بخارق الْعَادة وَطلب الْإِتْيَان بِمثلِهِ عِنْد دَعْوَى النُّبُوَّة مَعَ انْتِفَاء الْمعَارض، والانتفاء عدم، وَمَا جزؤه عدم فَهُوَ عدم و (كَذَا معرفَة كَون الْمدَار) وَهُوَ مَا أدير عَلَيْهِ الحكم وجودا أَو عدما (عِلّة) للدائر وَهُوَ الحكم (بالدوران) وَكَونه علته وجودي (وجزؤه) أَي الدوران (عدم) وَهُوَ مركب من الطَّرْد، وَالْعَكْس عدمي إِذْ هُوَ عبارَة عَن الْوُجُود مَعَ الْوُجُود والعدم مَعَ الْعَدَم (أُجِيب بِكَوْنِهِ) أَي الْعَدَم (فيهمَا) فِي العلتين (شرطا) خَارِجا عَن حقيقتهما لَا جُزْءا حَتَّى يلْزم عدم العلتين (وَلَو سلم كَون التحدي لَا يسْتَقلّ) عِلّة لمعْرِفَة الْعَجز بل يحْتَاج إِلَى شَيْء آخر مَعَه فِي الْعلية (فمعرف) أَي فَهُوَ معرف للمعجزة (وَالْكَلَام فِي الْعلَّة بِمَعْنى الْمُشْتَمل على مَا ذكرنَا) من الْمُنَاسبَة الباعثة على الحكم، لَا بِمَعْنى الْمُعَرّف. قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي الْجَواب: لَا يخفى أَن نفس التحدي لَا يسْتَقلّ بتعريف المعجز يَعْنِي أَن قَوْلهم مُعَلل بالتحدي يدل على استقلاله بتعريف المعجز وَهُوَ غير صَحِيح، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو اسْتَقل تحصل الْمعرفَة لكل من حَضَره: وَالْمُصَنّف يُشِير إِلَى أَن عدم استقلاله مَمْنُوع فَإِنَّهُ إِذا تَأمل فِيهِ حق التَّأَمُّل حصل الْعلم بِأَن مَا يتحدى بِهِ معجز، وَلَو سلم فَلَا يحْتَاج فِي ردهم عدم الِاسْتِقْلَال، لأَنا نقُول لَيْسَ من بَاب الْعلَّة الَّتِي كلامنا فِيهِ. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط صِحَة الْعلَّة (على مَا) عزى (لجمع من الْحَنَفِيَّة) الْكَرْخِي من الْمُتَقَدِّمين وَأبي زيد من الْمُتَأَخِّرين، وَحكى عَن مَشَايِخ الْعرَاق وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَهُوَ (أَن لَا تكون) الْعلَّة (قَاصِرَة) على الأَصْل مستنبطة، وَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء مِنْهُم مَشَايِخنَا السمرقنديون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم إِلَى صِحَة التَّعْلِيل بهَا، وَاخْتَارَهُ صَاحب الْمِيزَان وَالْمُصَنّف فَقَالَ: (لنا) فِي صِحَة التَّعْلِيل بهَا (ظن كَون الحكم لأَجلهَا) أَي القاصرة (لَا ينْدَفع) عَن النَّاظر فِي حكم الأَصْل (وَهُوَ) أَي هَذَا الظَّن (التَّعْلِيل) والمجتهد يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع ظَنّه (والاتفاق على) صِحَة الْعلَّة القاصرة (المنصوصة)(4/5)
أَي الثَّابِتَة بِالنَّصِّ وعَلى الْمجمع عَلَيْهَا، مِثَال القاصرة (كجوهرية النَّقْدَيْنِ) أَي كَون الذَّهَب وَالْفِضَّة جوهرين متعينين لثمنية الْأَشْيَاء فِي تَعْلِيل حُرْمَة الرِّبَا فيهمَا فَإِنَّهُ وصف قَاصِر عَلَيْهِمَا (وَأما الِاسْتِدْلَال) للمختار بِأَنَّهُ (لَو توقف صِحَّتهَا) أَي الْعلَّة (على تعديها لزم الدّور) لتوقف تعديها على صِحَّتهَا إِجْمَاعًا (فدور معية) أَي فَغير تَامّ لِأَنَّهُ دور معية حَاصله التلازم لَا تقدم كل مِنْهُمَا على الآخر بِالذَّاتِ كتوقف كل من المتضايفين على الآخر، وَمَعْنَاهُ الْعلَّة لَا تكون إِلَّا متعدية، والمتعدية لَا تكون إِلَّا عِلّة (قَالُوا) أَي مانعو صِحَة التَّعْلِيل بهَا (لَا فَائِدَة) فِيهَا لانحصار فَائِدَة الْعلَّة فِي إِثْبَات الحكم بهَا فِي الْفَرْع وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لَا يَصح شرعا وَلَا عقلا (أُجِيب بِمَنْع حصرها) أَي الْفَائِدَة (فِي التَّعْدِيَة، بل معرفَة كَون الشَّرْعِيَّة) للْحكم (لَهَا) أَي لِلْعِلَّةِ فَائِدَة (أَيْضا لِأَنَّهُ) أَي كَون الشَّرْعِيَّة لَهَا لِأَنَّهُ (شرح للصدر بالحكم للاطلاع) على الْمُنَاسب الْبَاعِث لَهُ فَإِن الْقُلُوب إِلَى قبُول الْأَحْكَام المعقولة أميل مِنْهَا إِلَى قهر التَّعَبُّد (وَلَا شكّ أَنه) أَي الْخلاف (لَفْظِي فَقيل لِأَن التَّعْلِيل هُوَ الْقيَاس باصطلاح) للحنفية وَهُوَ أَعم من الْقيَاس باصطلاح الشَّافِعِيَّة فالنفي للأخص وَالْإِثْبَات للأعم فَلَا نزاع بِحَسب الْحَقِيقَة (وَلِأَن الْكَلَام فِي عِلّة الْقيَاس لِأَن الْكَلَام فِي شُرُوطه) أَي الْقيَاس (وأركانه) وَلَا شكّ أَن النَّافِي فِي هَذَا السِّيَاق لَا يزِيد إِلَّا عِلّة الْقيَاس وَلَا نزاع بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا، فالمثبت لَا يزِيد إِثْبَات الْعلَّة القاصرة للْقِيَاس إِذْ لَا معنى لَهُ فَلَا يتوارد النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي مَحل كل وَاحِد، وَلم يرد الْمُثبت مُخَالفَة النَّافِي بل بَيَان أصل التَّعْلِيل، بل يَصح بالقاصرة، والمولعون بِنَقْل الْخلاف نظرُوا إِلَى مَا توهمه ظَاهر كَلَامهم وَحَمَلُوهُ على الْخلاف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَاد النَّافِي عِلّة الْقيَاس (فَلهم) أَي النافين من الْحَنَفِيَّة مَعَ غَيرهم (كثير مثله) من إِثْبَات الْعلَّة القاصرة (فِي الْحَج وَغَيره) كَمَا فِي الرمل فِي الأشواط الأول، وَكَانَ سَببه إِظْهَار الْجلد للْمُشْرِكين حَيْثُ قَالُوا: أضناهم حمى يثرب، ثمَّ بَقِي الحكم بعد زَوَال السَّبَب فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعده، وكما فِي وجوب الِاسْتِبْرَاء فِيمَا إِذا حدث لَهُ ملك الرَّقَبَة بتعرف بَرَاءَة الرَّحِم قَاصِر عَن الصَّغِيرَة والآيسة، كَذَا ذكره الشَّارِح.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا الْأَخير قُصُور آخر غير مَا نَحن فِيهِ فَتدبر (لَكِن رُبمَا سموهُ) أَي الْحَنَفِيَّة التَّعْلِيل بالقاصرة (إبداء حِكْمَة لَا تعليلا) تمييزا بَين القاصرة والمتعدية (وَجعله) أَي الْخلاف (حَقِيقِيًّا مَبْنِيا على اشْتِرَاط التَّأْثِير) فِي التَّعْلِيل (أَو الِاكْتِفَاء بالاخالة) فِيهِ من غير اشْتِرَاط التَّأْثِير كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة (فعلى الأول) وَهُوَ اشْتِرَاط التَّأْثِير كَمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّة (تلْزم التَّعْدِيَة) على الثَّانِي، وَهُوَ الِاكْتِفَاء بالاخالة (غلط، إِذْ لَا يلْزم فِيهِ) أَي فِي التَّأْثِير (وجود عين) الْمُدعى (عِلّة) أَي وجود عين الْوَصْف الَّذِي ادّعى(4/6)
كَونه عِلّة (لحكم الأَصْل فِي) مَحل (آخر يكون فرعا للاكتفاء بِجِنْسِهِ) أَي بِوُجُود حد جنس الْمُدعى عِلّة (فِي) مَحل (آخر لما صرح بِهِ من صِحَة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس) وَالتَّصْرِيح بِصِحَّتِهِ بِلَا قِيَاس دَلِيل على الِاكْتِفَاء بِوُجُود الْجِنْس فِي مَحل آخر، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد فِي التَّأْثِير عندنَا من اعْتِبَار الشَّارِع الْعين فِي الْعين، وَهُوَ أَعلَى الْمَرَاتِب، أَو فِي الْجِنْس، أَو الْجِنْس فِي الْعين أَو فِي الْجِنْس، وَالْأول يسْتَلْزم وجود عين الْوَصْف فِي عين الحكم فِي مَحل آخر. لَا يُقَال سلمنَا أَنه يسْتَلْزم وجوده فِي عين الحكم فِي مَحل آخر. لأَنا نقُول: كلامنا فِي بَيَان شَرط الْعلَّة المستنبطة وَصِحَّة التَّعْلِيل بهَا، فَلَو كَانَ اعْتِبَار الشَّارِع لعين الْوَصْف فِي عين الحكم فِي الأَصْل لَا فِي مَحل آخر كَانَت الْعلَّة منصوصة لَا مستنبطة، فَلم يحْتَج فِي التَّعْلِيل بهَا إِلَى بَيَان التَّأْثِير، وَإِذا وجد اعْتِبَار الْوَصْف فِي مَحل آخر غير الأَصْل صَحَّ، قِيَاس حكم الأَصْل، وَصِحَّة الْقيَاس لَا تنَافِي كَونه مَنْصُوصا على مَا مر، فَحِينَئِذٍ يكون صِحَة التَّعْلِيل مَعَ الْقيَاس، وَحَيْثُ صَرَّحُوا بِصِحَّة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس كَانَ ذَلِك عِنْد عدم وجود الْعين فِي الْعين فِي مَحل آخر، فَلَزِمَ وجود الْجِنْس فِي مَحل آخر، وَإِلَّا لانتفى التَّأْثِير. وَفِيه أَن صِحَة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس لَا يسْتَلْزم الِاكْتِفَاء بِجِنْسِهِ لانْتِفَاء الْقيَاس فِيمَا إِذا اعْتبر عينه فِي جنس الحكم وَامْتنع اجْتِمَاع الْحكمَيْنِ فِي مَحل وَاحِد من غير تحقق جنسه فِي مَحل آخر، غير أَن تَعْلِيل الِاكْتِفَاء بِمَا ذكر الْتِزَام مِنْهُ لما لَا يلْزم عَلَيْهِ، لِأَن الِاكْتِفَاء بِالْجِنْسِ مُصَرح بِهِ، ثمَّ الِاكْتِفَاء بِهِ يتَحَقَّق فِي صُورَة الْجِنْس فِي الْجِنْس وَفِي الْعين فِي مَحل آخر (وَبِذَلِك) أَي بِوُجُود الْجِنْس فِي مَحل آخر (إِنَّمَا تعدد مَحل الْجِنْس) أَي مَحل جنس الْوَصْف لَا مَحل عينه لتحَقّق الْجِنْس فِي ضمن فَرد آخر غير عين الْوَصْف، والتعدية لَا تحصل إِلَّا بِتَعَدُّد مَحل عين الْوَصْف (وَلَيْسَ) الْجِنْس هُوَ (الْمُعَلل بِهِ وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن كَانَ الْجِنْس هُوَ الْمُعَلل بِهِ (لَكَانَ الْأَخَص) الَّذِي هُوَ الْمُعَلل بِهِ فِي نفس الْأَمر (عين الْأَعَمّ) الَّذِي هُوَ جنسه (و) على هَذَا التَّقْدِير (كَانَت الْعلَّة جنسه لَا هُوَ) أَي الْوَصْف نَفسه وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّطْوِيل دفع توهم الِاتِّحَاد بَين الْوَصْف وجنسه الْمَحْمُول عَلَيْهِ لِئَلَّا يُقَال أَن تعدد مَحل الْجِنْس تعدد لمحله (وَهُوَ) أَي كَون الْمُعَلل بِهِ الْجِنْس لَا الْعين (غير الْفَرْض) لِأَن لِأَن الْمَفْرُوض كَون الْمُعَلل بِهِ الْعين لَا جنسه (فَلَا يسْتَلْزم التَّأْثِير تعدِي مَا علل بِهِ) لما عرفت من الِاكْتِفَاء وَصِحَّة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس (وَجعل ثَمَرَته) مُبْتَدأ مُضَاف إِلَى مَفْعُوله الأول، وَالضَّمِير للْخلاف الْمَذْكُور (منع تَعديَة) مفعول ثَان للجعل مُضَاف إِلَى مَفْعُوله: أَي إِلَى (حكم أصل فِيهِ) صفة مَا أضيف إِلَيْهِ الحكم (مُتَعَدٍّ وقاصر) فَاعل الظّرْف وَتَابعه (للمجيز) مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال عَن منع التَّعْدِيَة (لَا الْمَانِع) مَعْطُوف على الْمُجِيز، يَعْنِي أَن من أجَاز التَّعْلِيل بالقاصرة(4/7)
يمْنَع تَعديَة الحكم بالمتعدية، وَمن منع التَّعْلِيل بهَا لَا يمْنَعهَا. قَالَ صدر الشَّرِيعَة: وَثَمَرَة الْخلاف أَنه إِذا وجد فِي مورد النَّص وصفان: قَاصِر، ومتعد، وَغلب على ظن الْمُجْتَهد أَن الْقَاصِر عِلّة هَل يمْتَنع التَّعْلِيل بالمتعدي أم لَا، فَعنده يمْتَنع، وَعِنْدنَا لَا يمْتَنع، فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَار لغَلَبَة الظَّن لعلية القاصرة فَإِنَّهَا مُجَرّد وهم، فَلَا يُعَارض غَلَبَة الظَّن بعلية الْمُتَعَدِّي الْمُؤثر انْتهى (كَذَلِك) خبر الْمُبْتَدَأ: أَي جعل ثَمَرَته مَا ذكر غلط أَيْضا كَمَا أَن بِنَاء الْخلاف على اشْتِرَاط التَّأْثِير غلط لما ذكر، ثمَّ بَين وَجه الْغَلَط بقوله (بل الْوَجْه) فِيمَا إِذا كَانَ فِي الأَصْل وصفان على مَا ذكر (إِن ظهر اسْتِقْلَال) الْوَصْف (الْمُتَعَدِّي) فِي الْعلية (لَا يمْنَع اتِّفَاقًا) من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم لِأَن الْمُجِيز يمْنَع، وَالْمَانِع لَا يمْنَع (أَو) ظهر (التَّرْكِيب) لِلْعِلَّةِ من الْمُتَعَدِّي والقاصر (منع اتِّفَاقًا) . وَلَا يخفى أَن الْمَفْهُوم من كَلَام صدر الشَّرِيعَة تحقق غَلَبَة الظَّن فِي كل وَاحِد من الوصفين، وَلَا يتَصَوَّر بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص وَاحِد أَن يظنّ علية كل وَاحِد مِنْهُمَا اسْتِقْلَالا فِي وَقت وَاحِد بِنَاء على عدم تَجْوِيز تعدد الْعِلَل المستقلة، وَسَيَأْتِي بَيَانه، وبالنسبة إِلَى شَخْصَيْنِ لَا تعَارض، لِأَنَّهُ يجب على كل مُجْتَهد الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَعدم الِالْتِفَات إِلَى مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر بِاعْتِبَار الْوَقْتَيْنِ كَذَلِك لتعين الظَّن الآخر، وَإِن أُرِيد مدخلية كل من الوصفين فِي الْجُمْلَة من غير اسْتِقْلَال، فالعلة التَّامَّة هِيَ الْمَجْمُوع وَهُوَ قَاصِر فَيتَعَيَّن الْمَنْع اتِّفَاقًا كَمَا قَالَ المُصَنّف: نعم لَو لم يعْتَبر غَلَبَة الظَّن بل تَسَاويا فِي الِاحْتِمَال فَهُوَ كَمَا ذكر السُّبْكِيّ عَن الشَّافِعِيَّة أَنهم اخْتلفُوا، وَالْجُمْهُور يرجح المتعدية، وَقيل يرجح القاصرة، وَقيل بِالْوَقْفِ (وَمَا أورد على الْحَنَفِيَّة) حَيْثُ قَالُوا بِعَدَمِ صِحَة القاصرة (من التَّعْلِيل بالثمنية لِلزَّكَاةِ) فِي الْمَضْرُوب (على ظن الْخلاف) الْمَعْنَوِيّ وَقد عرفت أَنه لَفْظِي (وَهُوَ) أَي الثمنية وصف (قَاصِر منع) وُرُوده خبر الْمَوْصُول (بتعديه) أَي بِسَبَب تعدِي وصف الثمنية (إِلَى الْحلِيّ) فَلَا يكون قاصرا (وَلَقَد كَانَ الْأَوْجه جعل الْخلاف) الْمَذْكُور (على عَكسه) أَي على عكس مَا ذكر من عدم صِحَة التَّعْلِيل بالقاصرة عِنْد جمع من الْحَنَفِيَّة، وَصِحَّته عِنْد الشَّافِعِيَّة وَجُمْهُور الْفُقَهَاء. ثمَّ بَين الْعَكْس بقوله (من التَّعْلِيل) أَي من جَوَاز التَّعْلِيل (بعلة يثبت بهَا) أَي بِتِلْكَ الْعلَّة (حكم مَحل غير مَنْصُوص لما تقدم من قبولهم) أَي الْحَنَفِيَّة (التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس) فَلَا تكون الْعلَّة فِي ذَلِك التَّعْلِيل متعدية إِلَى فرع، وَإِلَّا لَكَانَ بِقِيَاس (بِمَا ثَبت لجنسها الخ) أَي بعلة ثَبت لجنسها أَو لعينها اعْتِبَار فِي جنس الحكم، أَو هُوَ من جِنْسهَا فِي الحكم فِي مَحل آخر لجنسها نَفسه وَإِلَّا لصَحَّ قِيَاس الْمحل الثَّانِي على الأول لما مر (وَهُوَ) أَي التَّعْلِيل بعلة يثبت لَهَا حكم مَحل بِلَا قِيَاس تَعْلِيل (بقاصرة، إِذْ لم تُوجد) تِلْكَ الْعلَّة (بِعَينهَا فِي محلين) وَإِذا كَانَ التَّعْلِيل بِمَا ذكر أمرا مقررا عِنْد الْحَنَفِيَّة (فالحنفية)(4/8)
قَوْلهم (نعم) يجوز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة (إِذا ثَبت الِاعْتِبَار) لَهَا (بِمَا ذكرنَا فِي الْأَقْسَام الثَّلَاثَة) للتأثير اعْتِبَار جِنْسهَا فِي عين الحكم أَو جنسه أَو عينهَا فِي جنسه من النَّص أَو الْإِجْمَاع (وَالشَّافِعِيَّة) قَوْلهم (لَا) يجوز التَّعْلِيل بهَا (لِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف الَّذِي هَذَا شَأْنه (من الْمُرْسل) الملائم. وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي عدم قبُوله (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط صِحَة الْعلَّة (على) قَول (من قدم قَول الصَّحَابِيّ) على الْقيَاس (أَن لَا تكون) الْعلَّة (معدية إِلَى الْفَرْع حكما يُخَالف قَول الصَّحَابِيّ فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (بِشَرْطِهِ) أَي حَال كَون قَوْله فِيهِ مَقْرُونا تَقْدِيمه على الْقيَاس (السَّابِق) أَي الَّذِي سبق ذكره فِي مسئلة قبيل: فصل فِي التَّعَارُض (فِي وجوب تَقْلِيده) مُتَعَلق بِشَرْطِهِ (وتجويز كَونه) أَي قَول الصَّحَابِيّ فِي الْفَرْع ناشئا (عَن) عِلّة (مستنبطة) من أصل آخر ليَكُون اجْتِهَاده بطرِيق الْقيَاس لَا بِسَمَاعِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والمجتهد لَا يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد مُجْتَهد آخر بل يجب اتِّبَاع ظَنّه على مَا يَقُوله من لم يقدم قَوْله على الْقيَاس (عِنْد هَؤُلَاءِ) الْقَائِلين بالتقديم ظرف لقَوْله (احْتِمَال) هُوَ خبر تَجْوِيز (مُقَابل) صفة احْتِمَال (لظُهُور كَونه) أَي قَول الصَّحَابِيّ وَاقعا (عَن نَص) سَمعه من الشَّارِع، وَاللَّام صلَة مُقَابل، وَلَا عِبْرَة بِالِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوح فِي مُقَابلَة الظَّاهِر الرَّاجِح (كَمَا سبق) فِي مَحَله الْمَذْكُور فيطلب تَفْصِيله هُنَاكَ. (وَمِنْهَا) أَي شُرُوط صِحَة الْعلَّة (عدم نقض) الْعلَّة (المستنبطة) ، والمنصوصة سَيَجِيءُ حكمهَا (تخلف الحكم عَنْهَا فِي مَحل) تحققت فِيهِ الْعلَّة وَلَو بمانع أَو عدم شَرط، وَإِنَّمَا يعرف التَّخَلُّف بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس رَاجِح علته على هَذِه المستنبطة بنصوصية أَو غَيرهَا. وَقَوله تخلف الحكم بِالْجَرِّ عطف بَيَان. لنقض المستنبطة (لمشايخ مَا وَرَاء النَّهر من الْحَنَفِيَّة) كَأبي مَنْصُور الماتريدي وفخر الْإِسْلَام وَالشَّافِعِيّ فِي أظهر قوليه، وَقَوله لمشايخ مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال عَن ضمير الْمُبْتَدَأ (وَأبي الْحُسَيْن) الْبَصْرِيّ (إِلَّا أَبَا زيد) من الْمَشَايِخ الْمَذْكُورين فَإِنَّهُ ومالكا وَأحمد وَعَامة الْمُعْتَزلَة على أَنه لَيْسَ بِشَرْط (وَاخْتلفُوا) أَي الْحَنَفِيَّة الشارطون (فِي المنصوصة فمانع أَيْضا) مِنْهُم يمْنَع صِحَة المنصوصة، وَبِه قَالَ الاسفرايني وَعبد القاهر الْبَغْدَادِيّ وَنقل عَن الشَّافِعِي (و) مِنْهُم (مجوز، وَالْأَكْثَر وَمِنْهُم عراقيو الْحَنَفِيَّة كالكرخي والرازي) وَأبي عبد الله الْجِرْجَانِيّ وَأكْثر الشَّافِعِيَّة على مَا فِي البديع (يجوز) التَّخَلُّف فِي مَحل (بمانع أَو عدم شَرط فيهمَا) المستنبطة والمنصوصة، وَقيل يقْدَح مُطلقًا، نسبه السُّبْكِيّ إِلَى الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَقَالَ بعده أَصْحَابنَا فِي مرجحات مَذْهَب الشَّافِعِي بسلامة علله عَن الانتقاض جَارِيَة على مقتضاها. ثمَّ قَالَ وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْمُحَقِّقين (وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ) كَابْن الْحَاجِب (الْجَوَاز) للتخلف (فِي المستنبطة إِذا تعين الْمَانِع) وَلَو عدم شَرط وَكَذَا (وَفِي المنصوصة بِنَصّ عَام) يدل بِعُمُومِهِ على الْعلية (لَكِن إِن لم يتَعَيَّن)(4/9)
الْمَانِع فِي المنصوصة فِي مَحل التَّخَلُّف (قدر) وجوده فِيهِ، مِثَاله أَن خُرُوج النَّجس نَاقض وَثَبت أَن الفصد لَيْسَ بناقض كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، فَيقدر فِي الفصد مَانع من النَّقْض (أما) إِذا كَانَت منصوصة (بقاطع فِي مَحل النَّقْض فَيلْزم الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم (فِيهِ) أَي فِي مَحل النَّقْض لعدم إِمْكَان تخلف مَدْلُول الْقطعِي عَنهُ فَلَا نقض، وَهَذَا إِذا كَانَ دَلِيل التَّخَلُّف ظنيا ظَاهر، وَأما كَونه قَطْعِيا فَالظَّاهِر أَنه لَا تحقق لَهُ (أَو فِي غَيره) أَي غير مَحل النَّقْض (فَقَط) فالقاطع إِنَّمَا يدل على عليتها فِي غير مَحل النَّقْض، وَلَا دَلِيل سوى الْقَاطِع على عليتها فِي مَحل النَّقْض (فَلَا تعَارض) وَلَا نقض (قيل وَلَا فَائِدَة فِي قيد) هَذَا (الْقَاطِع لِأَن الظني) أَيْضا (كَذَلِك) كَمَا أَفَادَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بقوله لَو ثَبت الْعلية فِي غير مَحل النَّقْض خَاصَّة بظني فَلَا تعَارض أَيْضا (وَهَذَا) التَّفْصِيل فِي كَلَام الْمُحَقِّقين (مُرَاد الْأَكْثَر) الْقَائِلين يجوز بمانع أَو عدم شَرط فيهمَا لِأَنَّهُ مُقْتَضى الدَّلِيل فَلَا يخالفونه (وَلَيْسَ) هَذَا الَّذِي نسب إِلَى الْمُحَقِّقين مذهبا (آخر) كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام ابْن الْحَاجِب (وَنقل الْجَوَاز) أَي جَوَاز النَّقْض (فيهمَا) أَي فِي المستنبطة والمنصوصة (بِلَا مَانع) قَالَ الشَّارِح: أَي بِلَا قدح عِنْد أَكثر أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد انْتهى. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالمانع هُنَا مَا أُرِيد بِهِ فِي قَوْله يجوز بمانع فِي قَول الْأَكْثَر (و) فِي المستنبطة (كَذَلِك) فَقَط أَي وَنقل الْجَوَاز (فِي المستنبطة فَقَط) بِلَا مَانع. (وَالْحق نقل بَعضهم) وَهُوَ الشَّيْخ قوام الدّين الكاكي (الِاتِّفَاق على الْمَنْع) من التَّعْلِيل بعلة منقوضة (بِلَا مَانع) من تَأْثِير الْعلَّة (وَمعنى قَوْلهم) يجوز فيهمَا أَو فِي المستنبطة بِلَا مَانع (الحكم بِهِ) أَي بالمانع، فالمنفي الحكم بِتَعْيِين الْمَانِع، وَهُوَ مُجْتَمع مَعَ الظَّن بِوُجُودِهِ إِجْمَالا، وَلذَا قَالَ (إِن لم يتَعَيَّن) الْمَانِع، وَإِنَّمَا قُلْنَا معنى قَوْلهم كَذَا (لدليلهم) أَي المجوزين فِي المستنبطة بِلَا مَانع (الْقَائِل) صفة لدليلهم على التَّجَوُّز، ومقول القَوْل (المستنبطة عِلّة بِمَا) أَي بِدَلِيل (يُوجب الظَّن) بعليتها (والتخلف) أَي تخلف الحكم فِي بعض الْموَاد (مشكك) أَي يُوجب الشَّك (فِي عدمهَا) أَي الْعلية (فَلَا يُوجب ظن عدمهَا فَإِنَّهُ) أَي التَّخَلُّف (إِن) كَانَ (لَا لمَانع) . وَفِي بعض النخس بِلَا مَانع (فَلَا عِلّة) لاستناد التَّخَلُّف على هَذَا التَّقْدِير إِلَى عدم الْمُقْتَضى (و) إِن كَانَ (مَعَه) أَي الْمَانِع فالعلة (ثَابِتَة وجوازهما) أَي الِاحْتِمَالَيْنِ وجود الْمَانِع، وَعَدَمه (على السوَاء) . قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف وَوجه دلَالَة دليلهم على اشْتِرَاط تَقْدِيره أَن قَوْلهم أَن بِلَا عِلّة وَمَعَهُ الْعلية ثَابِتَة فَلم يعلم الْوَاقِع من الْأَمريْنِ وَدَلِيل الْعلية الْقَائِم أوجب ظَنّهَا، فلزوم اعْتِبَار عليتها يُوجب تَقْدِيره (وَأجِيب) عَن هَذَا الدَّلِيل بِأَن التَّخَلُّف (إِن) كَانَ (أوجب الشَّك فِي عدمهَا) أَي الْعلية (أوجب فِي نقيضها) أَي الْعلية، لِأَن الشَّك فِي أحد النقيضين شكّ فِي الآخر (فناقض قَوْلكُم) الْعلَّة (مظنونة) قَوْلكُم الْعلَّة(4/10)
(مشكوكة) لعدم إِمْكَان اجْتِمَاع الظَّن وَالشَّكّ فِي مَحل وَاحِد. (وَقَول الْفُقَهَاء لَا يرفع الظَّن بِالشَّكِّ: أَي حكمه السَّابِق لَا يرفع شرعا لطرو الشَّك فِيهِ) أَي فِي مَحل الظَّن (المستلزم لارتفاعه) أَي الظَّن (عَن الْبَقَاء) بَعْدَمَا كَانَ مَوْجُودا، فجوز الشَّرْع بَقَاء حكم الزائل فَإِنَّهُ جوز الصَّلَاة مَعَ زَوَال الظَّن الطَّهَارَة بِالشَّكِّ فِي الْحَدث فَلَيْسَ مَعْنَاهُ وجود نفس الظَّن مَعَ طرُو الشَّك فِي مُتَعَلّقه (وَلَا يُمكن مثله) أَي مثل مَا قَالَه الْفُقَهَاء (هُنَا، لِأَنَّهُ) أَي الْكَلَام (فِي ظن الْعلية لَا حكمهَا) فَإِذا زَالَ بِالشَّكِّ حكمنَا بِعَدَمِ اعْتِبَارهَا، لِأَنَّهُ لم يثبت من الشَّارِع جَوَاز الْقيَاس مَعَ زَوَال ظن الْعلية بِالشَّكِّ. ثمَّ لما حكم بِأَن الْحق نقل الِاتِّفَاق على الْمَنْع، وَأول قَول المجوزين لدليلهم الْمَذْكُور، ثمَّ رد ذَلِك الدَّلِيل بِكَوْنِهِ مستلزما للتناقض أَرَادَ تَقْرِير الدَّلِيل على وَجه يسلم عَن التَّنَاقُض، فَقَالَ (وَإِذا لزم من كَلَامهم) أَي المجوزين (تَقْدِير الْمَانِع) على مَا نقل من الِاتِّفَاق وَبَين معنى قَول المجوزين (كفاهم) فِي مُعَارضَة المانعين أَن يَقُولُوا (التَّخَلُّف) أَي تخلف الحكم عَن الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض لَا (لمَانع يُوجب نفي ظَنّهَا) أَي الْعلية (وَالدَّلِيل) الدَّال عَلَيْهَا (أوجبه) أَي ظَنّهَا (وَأمكن الْجمع) بَين القَوْل بَان التَّخَلُّف بِلَا مَانع يُوجب نفي الظَّن، وَالدَّلِيل الدَّال على عليتها، أَو بَين دَلِيل الْعلية وَدَلِيل الإهدار، وَهُوَ التَّخَلُّف، فَعمل بِمُوجب الأول فِي غير صُورَة النَّقْض، وَبِالثَّانِي فِي صورته (بتقديره) أَي الْمَانِع، فَيُقَال: نعم التَّخَلُّف بِلَا مَانع يُوجب نَفْيه، لَكِن لَا تخلف هَهُنَا، لأَنا نقدر الْمَانِع، وَالْمَانِع مَوْجُود تَقْديرا احْتِرَازًا عَن إهدار الدَّلِيل بِحَسب الْإِمْكَان (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي المستنبطة ثَانِيًا (لَو توقف الثُّبُوت) للْحكم (بهَا) أَي بالعلية (فِي غير مَحل التَّخَلُّف عَلَيْهِ) أَي على ثُبُوت الحكم (بهَا) أَي بالعلية (فِيهِ) أَي فِي مَحل التَّخَلُّف كَمَا زعمتم أَيهَا الشارطون عدم النَّقْض فِي ثُبُوت الحكم بهَا (انعكس) أَي توقف ثُبُوت الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف عَلَيْهِ بهَا فِي غير مَحل التَّخَلُّف (فدار) وَهُوَ ظَاهر (أَولا) ينعكس (فتحكم) أَي فَعدم انعكاسه تحكم، لِأَن ثُبُوت الحكم بهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ على السوية فِي التَّوَقُّف وَعدم التَّوَقُّف، فإثبات توقف أَحدهمَا دون الآخر تحكم (أُجِيب) بِاخْتِيَار الأول، وَهُوَ التَّوَقُّف من الْجَانِبَيْنِ وَمنع بطلَان اللَّازِم، إِذْ هُوَ (دور معية) لَا دور تقدم (وَهَذَا) الْجَواب (صَحِيح إِذا أُرِيد توقف اعْتِبَار الشَّارِع) كَونهَا عِلّة فِي غير مَحل التَّخَلُّف على اعْتِبَار كَونهَا عِلّة فِي مَحل التَّخَلُّف (لَكِن الْكَلَام فِي الدّلَالَة عَلَيْهَا) أَي على الْعلية، يَعْنِي لَيْسَ الْكَلَام فِي توقف الثُّبُوت على الثُّبُوت بِحَسب التحقق، بل بِحَسب الْعلم وَمَا يفِيدهُ وَيدل عَلَيْهِ وَالْحَاصِل أَن قَوْلهم لَو توقف الثُّبُوت بهَا إِلَى آخِره يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا توقف ثُبُوت الحكم بهَا عِنْد الشَّارِع بِاعْتِبَارِهِ عليتها للْحكم فِي غير مَحل النَّقْض على(4/11)
ثُبُوت الحكم بهَا كَذَلِك فِي مَحل النَّقْض، وَحِينَئِذٍ يكون التَّوَقُّف من الْجَانِبَيْنِ بِمَعْنى التلازم وَلَا مَحْذُور فِيهِ، وَالثَّانِي توقف الْعلم بعليتها فِي غير مَحل النَّقْض على الْعلم بعليتها لَهُ فِي مَحل النَّقْض وَهَذَا معنى قَوْله (أَي لَو توقف الْعلم بالثبوت بهَا: أَي بعليتها الخ) . قَوْله: أَي بعليتها تَفْسِير للثبوت بهَا من قبيل التَّفْسِير باللازم، فَإِن ثُبُوت الحكم بهَا يلْزمه عليتها (وَإِذن) أَي وَإِذا توقف الْعلم بعليتها فِي غير مَحل النَّقْض على الْعلم بعليتها فِي مَحَله وانعكس (فترتب) أَي فالدور دور تَرْتِيب وَتقدم من الْجَانِبَيْنِ لَا دور معية (لأَنا لَا نعلمها) أَي الْعلية (إِلَّا بالثبوت) أَي بِالْعلمِ بِثُبُوت الحكم (فِي الْكل) فِي جَمِيع صور وجودهَا (فَلَو علم بهَا) أَي بالعلية (الثُّبُوت تقدم كل) مِنْهُمَا على الآخر وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُدعى إِثْبَات الترتب والتقدم لكل من الْعلم بعليتها فِي غير مَحل النَّقْض، وَالْعلم بعليتها فِي مَحَله، وَالدَّلِيل يُفِيد إثْبَاته لكل من الْعلم بالعلية وَالْعلم بِثُبُوت الحكم بهَا فِي جَمِيع صور وجودهَا، فالدليل لَا يُطَابق الْمُدعى.
وَاعْلَم أَن هَذَا نَظِير مَا فِي الشَّرْح العضدي من قَوْله لَو توقف كَونهَا أَمارَة، وَهُوَ ثُبُوت الحكم بهَا فِي غير صُورَة التَّخَلُّف على ثُبُوت الحكم بهَا فِي صُورَة التَّخَلُّف لانعكس فتوقف ثُبُوته فِيهَا على ثُبُوته فِي غَيرهَا وَيلْزم الدّور، ثمَّ ذكر أَنه دور معية ثمَّ رده وَقَالَ هَذَا لَيْسَ بِحَق، إِذْ لَا يعلم عليتها إِلَّا بِثُبُوت الحكم بهَا فِي جَمِيع صور وجودهَا، فَلَو علم ثُبُوت الحكم بهَا لزم دور تقدم قطعا، إِذْ مَا بِهِ يعلم الشَّيْء قبل الْعلم بالشَّيْء فالمصنف ترك كَونهَا أَمارَة وَاكْتفى بتفسيره، فالإيراد مُشْتَرك بَينهمَا. وَالْجَوَاب أَن قَوْلهم فِي الِاسْتِدْلَال ثُبُوت الحكم بهَا أُرِيد بِهِ علية الْعلَّة فِي جَانب الْمَوْقُوف فِي التَّوَقُّف الأول لكَونه مَعْنَاهُ وَأُرِيد بِهِ حَقِيقَته، وَهُوَ تحقق الحكم بِسَبَب الْعلَّة فِي جَانب الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فِي ذَلِك التَّوَقُّف، فَالْمَوْقُوفُ حِينَئِذٍ الْعلم بعليتها، وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ الْعلم بتحقق الحكم بِسَبَبِهَا، وَفِي التَّوَقُّف الثَّانِي عكس ذَلِك: فَالْمَوْقُوفُ فِيهِ الْعلم بتحقق الحكم بِسَبَبِهَا، وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ الْعلم بعليتها، فانطبق الدَّلِيل على الْمُدعى، غير أَنه لم يذكر المحلين فِي هَذَا التَّقْدِير تسهيلا للفهم مَعَ الِاسْتِغْنَاء عَنهُ فَهُوَ جَوَاب بتفسير يسير للدليل (لِأَن مَا بِهِ الْعلم قبله) تَعْلِيل لتقدم كل من الْعلم بالعلية وَالْعلم بالثبوت، يَعْنِي مَا يحصل بِهِ الْعلم بالشَّيْء الْعلم بِهِ قبل الْعلم بذلك الشَّيْء (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين قرر الِاسْتِدْلَال على هَذَا الْوَجْه (الْجَواب) عَن الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (منع لُزُوم الانعكاس و) منع لُزُوم (التحكم) على تَقْدِير عدم الانعكاس (إِذْ ابْتِدَاء ظن الْعلية) إِنَّمَا يكون (بِأحد المسالك) لِلْعِلَّةِ من الْمُنَاسبَة وَغَيرهَا على مَا بَين فِي مَوْضِعه فبذلك يحصل الظَّن بهَا، غير أَنه يبْقى احْتِمَال ظُهُور مَا يُنَافِيهِ (فَإِذا استقرئت الْمحَال) لِلْعِلَّةِ (لاستعلام معارضه) أَي لطلب الْعلم بِوُجُود مَا يُعَارض ذَلِك الْمُوجب للظن (من التَّخَلُّف) بِأَن تُوجد الْعلَّة فِي مَحل وَلَا يُوجد(4/12)
فِيهِ الحكم (لَا لمَانع) مُتَعَلق بالتخلف، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لمَانع لَا يضر بعليتها (فَلم يُوجد) التَّخَلُّف مَعْطُوف على استقرئت (اسْتمرّ) الظَّن الْحَاصِل بِأحد المسالك (فاستمراره) أَي الظَّن الْمَذْكُور هُوَ (الْمَوْقُوف على الثُّبُوت) أَي على الْعلم بِثُبُوت الحكم فِي جَمِيع الْمحَال (أَو) على (عَدمه) أَي عدم الثُّبُوت فِي بعض الْمحَال (مَعَ الْمَانِع، وَالْحكم بالثبوت) أَي بِثُبُوت الحكم (بِهِ) أَي بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْعلَّة يتَوَقَّف (على ابْتِدَاء ظَنّهَا) أَي علية الْوَصْف الْمَذْكُور (فِي الْجُمْلَة) لما بَين عدم توقف الْعلم بالعلية على الثُّبُوت انْدفع بذلك الدّور، ثمَّ أَرَادَ أَن يبين التَّوَقُّف من جَانب الثُّبُوت بهَا فَقَالَ وَالْحكم الخ: يَعْنِي الْعلم بِأَن الحكم ثَابت بِالْعِلَّةِ يتَوَقَّف على ابْتِدَاء ظَنّهَا الْحَاصِل بِأحد المسالك فِي بعض الْموَاد، وَالْمرَاد نفي الْعلَّة أصل الظَّن من غير قيد الِاسْتِمْرَار فقد علم بذلك أَن توقف الْعلم بالعلية على الثُّبُوت فِي الْكل إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار اسْتِمْرَار الظَّن بهَا، لَا بِاعْتِبَار أصل الظَّن، وَتوقف الْعلم بالثبوت إِنَّمَا هُوَ على ابْتِدَاء الظَّن، فالاستمرار الَّذِي هُوَ الْمَوْقُوف فِي التَّوَقُّف الأول لم يصر مَوْقُوفا عَلَيْهِ فِي التَّوَقُّف الثَّانِي حَتَّى يلْزم الانعكاس بل الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فِي التَّوَقُّف الثَّانِي إِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاء الظَّن الْحَاصِل بِأحد المسالك. (وَاسْتشْكل) الْجَواب الْمَذْكُور (بِمَا إِذا قَارن) ظن الْعلية (الْعلم بالتخلف) أَي تخلف الحكم عَن الْعلَّة (كَمَا لَو سَأَلَهُ فقيران) : غير فَاسق، وفاسق (فَأعْطى أَحدهمَا) وَهُوَ غير الْفَاسِق (وَمنع الْفَاسِق) فالمشاهد لصنيعه يشك بِسَبَب ذَلِك الْمَنْع فِي أَن عِلّة الْإِعْطَاء هَل هُوَ الْفقر أَو غَيره فَلَا يحصل لَهُ الْعلم بعليته، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِن الْعلم بعلية الْفقر يتَوَقَّف على الْعلم بمانعية الْفسق) من تحقق الحكم وَهُوَ الْإِعْطَاء فَإِن ظهر أَن بِالْفِسْقِ منع علم أَن الْفقر هُوَ الْعلَّة وَإِنَّمَا تخلف الحكم عَنهُ فِي الْمَمْنُوع بِسَبَب الْفسق الْمَانِع من تَأْثِيره، والاعلم أَنه لَيْسَ بعلة وَإِلَّا يلْزم تخلف الْمَعْلُول عَن الْعلَّة (وَبِالْعَكْسِ) أَي ويتوقف الْعلم بمانعية الْفسق على الْعلم بعلية الْفقر لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلَّة أمرا آخر مفقودا فِي الْمَمْنُوع كَانَ عدم الْإِعْطَاء لعدم الْمُقْتَضى لَا لوُجُود الْمَانِع، فَحِينَئِذٍ توقف الْعلم بِثُبُوت الحكم بِهِ على الْعلم بالعلية فِي حق من أعْطى فَلَزِمَ الدّور، وَإِذا علم أَن الْجَواب الْمَذْكُور لَا يدْفع الدّور فِي صُورَة الْمُقَارنَة (فَالصَّوَاب) فِي الْجَواب مَا يدْفع الدّور فِي جَمِيع الصُّور وَهُوَ (أَن المتوقف على الْعلم بالعلية الْعلم بالمانعية بِالْفِعْلِ) لَا المانعية بِالْقُوَّةِ لِأَنَّهُ قد يعلم كَون الشَّيْء بِحَيْثُ إِذا جَامع وَصفا منع مُقْتَضَاهُ مَعَ أَن ذَلِك الْوَصْف لم تعلم عليته بِالنِّسْبَةِ إِلَى حكم بِخِلَاف الْعلم بتحقق المانعية فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر بِدُونِ الْعلم بعلية الْوَصْف للْحكم للْعلم بتخلفه عَنهُ فِي بعض الْموَاد بِسَبَب الْمَانِع (والمتوقف عَلَيْهِ الْعلية هُوَ المانعية بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ) أَي المانعية بِالْقُوَّةِ، والتذكير بِاعْتِبَار الْخَبَر (كَون الشَّيْء بِحَيْثُ إِذا جَامع باعثا مَنعه) أَي الْبَاعِث (مُقْتَضَاهُ) فَفِي الْمِثَال الْمَذْكُور علمنَا بِأَن الْفسق منع عَن(4/13)
الْإِعْطَاء مَوْقُوف على الْعلم بِكَوْن الْفقر عِلّة لَهُ وَلَكِن علمنَا بِأَن الْفقر عِلّة لَهُ لَا يتَوَقَّف على علمنَا بِأَن الْفسق قد يمْنَع بل يَكْفِي فِيهِ أَن الْفسق من شَأْنه أَن يمْنَع فَظن الْعلية المقرون بتخلف الْإِعْطَاء لَا يحْتَاج إِلَى الْعلم بِأَن الْفسق قد منع بل يَكْفِيهِ كَون الْفسق بِحَيْثُ إِذا جَامع الْفقر يمنعهُ مُقْتَضَاهُ (وَهَذَا) الدَّلِيل مَعَ جَوَابه (مُشْتَرك) صَالح (للقولين) اللَّذين أَحدهمَا جَوَاز النَّقْض فِي المنصوصة والمستنبطة، وَالْآخر جَوَازه فِي المستنبطة فَقَط (وَيزِيد الْمَانِع فِي المنصوصة) فِي تَعْلِيل الْمَنْع قَوْله (باستلزامه) أَي النَّقْض فِيهَا، فتقرير الْكَلَام لَا يجوز فِي المنصوصة بِسَبَب استلزامه (بطلَان النَّص لمقْتَضى الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم (فِي مَحل التَّخَلُّف) لتناول النَّص الْمَذْكُور إِيَّاه (بِخِلَاف المستنبطة) فَإِن دليلها يَسْتَدْعِي ترَتّب الحكم عَلَيْهَا عِنْد خلوها عَن الْمَانِع فَلَا تخلف للْحكم عَن هَذَا الدَّلِيل عِنْد وجود الْمَانِع (أُجِيب) عَن هَذِه الزِّيَادَة بِأَنَّهُ (إِن) كَانَ النَّص (قَطْعِيا) يقطع (بالثبوت) أَي ثُبُوت الحكم (فِي مَحل التَّخَلُّف لم يقبل) عُمُوم ذَلِك النَّص الدَّال على علية المنصوصة الثَّابِت مَعهَا الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف قطعا (التَّخْصِيص) بِمَا عدا مَحل التَّخَلُّف، لِأَن ثُبُوت الحكم فِيهِ قَطْعِيّ فَلَا تخلف حِينَئِذٍ (أَو) كَانَ النَّص الْمَذْكُور (ظنيا) فَكَانَ ثُبُوت الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف بِمُقْتَضى ذَلِك النَّص ظنيا (وَجب قبُوله) أَي قبُول عُمُوم ذَلِك النَّص الظني التَّخْصِيص (و) وَجب (تَقْدِير الْمَانِع جمعا) بَين الدَّلِيلَيْنِ أَحدهمَا مَا يُفِيد ظن الْعلية، وَالْآخر مَا يُفِيد إهدارها، وَهُوَ التَّخَلُّف (وَأَنت علمت مَا يكفيهم) فِي الْجَواب عَن هَذَا من أَن التَّخَلُّف لَا لمَانع يُوجب نفي ظَنّهَا، وَالدَّلِيل أوجبه وَأمكن الْجمع بتقديره فَوَجَبَ (فَإِنَّمَا هَذَا) أَي التَّطْوِيل فِي الْبَيَان مَعَ الِاسْتِغْنَاء بِمَا يَكْفِي فِي أَدَاء المُرَاد وَدفع الْإِيرَاد (من تَصَرُّفَات المولعين بِنَقْل الْخلاف دون تَحْرِير) منقح عَن الإطناب المخل (وللعاكس) للْجُوَاز فِي المستنبطة لَا المنصوصة بتجويره فِي المنصوصة لَا المستنبطة (نَحوه) أَي نَحْو هَذَا الدَّلِيل الْمَذْكُور للْجُوَاز فِي المستنبطة، وَهُوَ قَوْلهم (لَو صحت المستنبطة مَعَ نقضهَا كَانَ) كَونهَا صَحِيحَة (للمانع) أَي لوُجُود الْمَانِع فِي مَحل النَّقْض (فتوقفت صِحَّتهَا) حَال كَونهَا (منقوضة عَلَيْهِ) أَي الْمَانِع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ وَجَاز التَّخَلُّف بِلَا مَانع (فَلَا اقْتِضَاء) لتِلْك الْعلَّة (وتحققه) أَي الْمَانِع (فرع صِحَة عليتها) إِذْ لَو لم تصح الْعلية لَكَانَ عدم الحكم لعدم الْعلَّة لَا لوُجُود الْمَانِع فتوقف الصِّحَّة على الْمَانِع وَالْمَانِع على الصِّحَّة (فدار أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي هَذَا الدّور (معية) أَي دور معية كَمَا مر فِي جَوَاب الِاسْتِدْلَال السَّابِق. (وَدفع) هَذَا الْجَواب (بِأَن حَقِيقَة المُرَاد) من الْمَوْقُوف وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ (الْعلم بِالصِّحَّةِ) أَي صِحَة الْعلية (والمانعية) أَي وَالْعلم بالمانعية، وَإِضَافَة الْحَقِيقَة إِلَى المُرَاد من قبيل إِضَافَة حُصُول الصُّورَة: أَي المُرَاد الْحق وَفِي(4/14)
ذكر الْحَقِيقَة مَوضِع الْحق مُبَالغَة، وَإِذا كَانَ الْعلم بِالصِّحَّةِ مَوْقُوفا على الْعلم بالمانعية وَبِالْعَكْسِ كَانَ الدّور دور ترَتّب، إِذْ مَا بِهِ الْعلم بالشَّيْء قبل الْعلم بذلك الشَّيْء بِالذَّاتِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي توقف كل مِنْهُمَا على الآخر (ترَتّب) أَي دور تقدم (بل الْجَواب أَنا نظن صِحَّتهَا) أَي الْعلية (أَولا بِمُوجبِه) أَي الظَّن (ثمَّ نستقرئ الخ) أَي الْمحَال لاستعلام معارضه من التَّخَلُّف، لَا لمَانع فَإِن لم نجد اسْتمرّ الظَّن بِصِحَّتِهَا إِلَى آخر مَا ذكر قَرِيبا فَارْجِع إِلَيْهِ (وَيجْرِي فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْجَواب مَا جرى فِي الْجَواب السَّابِق، وَهُوَ (إِشْكَال الْمُقَارنَة) أَي إِذا كَانَ الْعلم بالتخلف مُقَارنًا للْعلم بِالصِّحَّةِ لَا يَتَأَتَّى الْجَواب، فَإِن الْمَوْقُوف على الْعلم بالمانعية إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِمْرَار (وَدفعه) أَي وَيجْرِي أَيْضا دفع الْإِشْكَال الْمَذْكُور بِأَن يُقَال مَا يتَوَقَّف على الْعلم بِالصِّحَّةِ وَهُوَ الْعلم بالمانعية بِالْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِمْرَار، وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْعلم بِالصِّحَّةِ هُوَ الْعلم بالمانعية بِالْقُوَّةِ على مَا مر (وَجه) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) من أَن عدم النَّقْض فِي كل من المنصوصة لَيْسَ بِشَرْط فِي صِحَّتهَا (أَنه) أَي التَّخَلُّف وَعدم ثُبُوت الحكم فِي مَحل النَّقْض (تَخْصِيص لعُمُوم دَلِيل حكم) وَهُوَ مَا يدل عَلَيْهِ الْوَصْف من نَص فِي المنصوصة وَأحد المسالك فِي المستنبطة، وَالْحكم كَون الْوَصْف عِلّة، وعمومه شُمُوله جَمِيع صور وجود الْعلَّة بِاعْتِبَار ثُبُوت الحكم، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِدَلِيل الحكم الْعلَّة وبالحكم مَا هُوَ الْمُتَعَارف (فَوَجَبَ قبُوله) أَي قبُول تَخْصِيص عُمُومه (كاللفظ) أَي كَمَا يجب قبُول تَخْصِيص عُمُوم اللَّفْظ عِنْد وجود مَا يَقْتَضِيهِ. (وَمَا قيل) مَا مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير، وَقَوْلهمْ (الْخلاف مَبْنِيّ على الْخلاف فِي قبُول الْمعَانِي الْعُمُوم) أَو مَوْصُولَة، وَالتَّقْدِير: أَعنِي الْخلاف إِلَى آخِره، أَو الْمحل بدل من الْمَوْصُول: يَعْنِي الْخلاف الْمَذْكُور فِي هَذَا الْمقَام مَبْنِيّ على الْخلاف الْوَاقِع فِي قبُول الْمعَانِي الْعُمُوم (فالمانع) ثمَّ أَن لَهَا عُمُوما (إِذْ) الْمَعْنى وَاحِد (لَا تعدد إِلَّا فِي محاله) بِخِلَاف الْأَلْفَاظ لشمولها المتعدد بِذَاتِهِ (مَانع هُنَا) من تَخْصِيص الْعلَّة لِأَنَّهَا معنى، وَالْمعْنَى لَا يقبل الْعُمُوم، والتخصيص فرع الْعُمُوم (غير لَازم) خبر لقَوْله مَا قيل، وَقَول الشَّارِح الْخلاف مُبْتَدأ وَخَبره غير لَازم غير مُسْتَقِيم وَهُوَ ظَاهر (لوُقُوع الِاتِّفَاق حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَت حجَّة الْمَانِع هَذَا (على تعدد محاله) أَي الْمَعْنى (وَالْكَلَام هُنَا) أَي فِي تَخْصِيص الْعلَّة (لَيْسَ إِلَّا باعتبارها) أَي محالها، والمناقشة بِأَن التَّخْصِيص فرع الْعُمُوم، وَالْمعْنَى لَا يُوصف بِالْعُمُومِ غير موجه (إِذْ حَاصله) أَي حَاصِل تَخْصِيص الْعلَّة (أَنه) أَي الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة (يُوجب الحكم فِي محاله) أَي فِي محَال ذَلِك الْوَصْف (إِلَّا مَحل الْمَانِع) وَإِذا صَحَّ حَاصِل الْمَعْنى المُرَاد فالمضايقة فِي التَّعْبِير بِلَفْظ التَّخْصِيص لَيْسَ من دأب المحصلين (وَالْمَانِع هُوَ دَلِيل التَّخْصِيص. وَبِه) أَي بِمَا ذكر من معنى تَخْصِيص الْعلَّة المستلزم عِنْد اعْتِبَارهَا لُزُوم الحكم لمُطلق الْعلَّة فِي جَمِيع الصُّور لكَون المخصصة من جملَة أفرادها(4/15)
(انْدفع قَول المانعين) من تَخْصِيص الْعلَّة (أَنه) أَي تخصيصها (تنَاقض لَا تَخْصِيص، لِأَن دَلِيل الْعلية يُوجب قَوْله) أَي الشَّارِع لَا الْمُعَلل كَمَا زعم الشَّارِح (هَذَا الْوَصْف مُؤثر فِي الحكم كَقَوْلِه جعلته أَمارَة عَلَيْهِ) أَي كَمَا أَنه يُوجب قَوْله جعلته أَمارَة على الحكم (أَيْنَمَا وجد) الْوَصْف الْمَذْكُور، فَقَوله أَيْنَمَا مُتَعَلق بِكُل من التَّأْثِير، والجعل على سَبِيل التَّنَازُع، وَإِنَّمَا انْدفع قَوْلهم لِأَن دَلِيل الْعلية لَا يُوجب جعله أَمارَة عَلَيْهِ أَيْنَمَا وجد (بل فِي غير مَحل التَّخَلُّف) فَإِن قلت دليلها لَا يخْتَص بِغَيْر مَحل التَّخَلُّف، فَإِن نسبته إِلَى جَمِيع الْمحَال على السوية قلت نعم وَلَكِن فِي مَحل التَّخَلُّف يَقع مُعَارضَة بَينه وَبَين دَلِيل التَّخْصِيص فَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ فِي غير مَحل التَّخَلُّف. وبمقضتى دَلِيل التَّخْصِيص فِي مَحَله احْتِرَاز عَن إهدار أحد الدَّلِيلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي مَحل التَّخَلُّف مَانع عَن إِيجَاب مُقْتَضَاهُ صَحَّ قَوْلنَا لَا يُوجب جعله أَمارَة فِي مَحل التَّخَلُّف بل فِي غَيره (غير أَنا إِذا قَطعنَا بِانْتِفَاء الحكم فِي بعض محاله) أَي الْوَصْف (مَعَ النَّص على الْعلَّة، وَلم يظْهر مَا يَصح إِضَافَة التَّخَلُّف إِلَيْهِ) من أَمر معِين مَانع عَن تَأْثِير الْعلَّة فِي مَحل الانتفاء (قَدرنَا مَانِعا) على سَبِيل الْإِجْمَال فِي ذَلِك الْمحل (جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ) دَلِيل الْعلية وَدَلِيل الإهدار على مَا مر (وَهُوَ) أَي الْجمع بالتقدير أَو التَّقْدِير للْجمع (أولى من إبِْطَال دَلِيل الْعلَّة) يرد عَلَيْهِ أَن الْأَوْلَوِيَّة تَقْتَضِي جَوَاز إِبْطَاله مرجوحا وَالْمَفْهُوم مِمَّا سبق عدم جَوَازه، وَذَلِكَ أَن تَقول إِذا ثَبت أَوْلَوِيَّة الْجمع وَجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِهِ لِئَلَّا يلْزم تَرْجِيح الْمَرْجُوح وَإِذا وَجب لم يجز الْإِبْطَال. (وَمَا قيل) على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صدر الشَّرِيعَة وَقرر فِي التَّلْوِيح من أَن (التَّخْصِيص ملزوم للمجاز) أَي يلْزمه اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ، وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ الْمَوْضُوع بِإِزَاءِ مَجْمُوع إِذا أخرج مِنْهُ الْبَعْض وَاسْتعْمل فِيهِ كَانَ بِالضَّرُورَةِ مُسْتَعْملا فِي غير مَا وضع لَهُ (الْمَلْزُوم للفظ) وَإِنَّمَا وصف الْمجَاز بالملزومية بِاللَّفْظِ لَا باللزوم لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِم للفظ، على أَن اللَّازِم قد يتَحَقَّق بِدُونِ الْمَلْزُوم، وَأَن الْمَقْصُود أَن غير اللَّفْظ لَا يُوصف بِهِ (منع) خبر للموصول (بِأَن الْمَلْزُوم للمجاز مِنْهُ) أَي من التَّخْصِيص (تَخْصِيص اللَّفْظ لَا) التَّخْصِيص حَال كَونه (مُطلقًا، بل هُوَ) أَي التَّخْصِيص مُطلقًا (أَعم) من أَن يكون ملزوما للمجاز أَولا، فَالْمَعْنى الْأَعَمّ لَهُ مثل أَن يُقَال هُوَ بَيَان إِرَادَة الْبَعْض من مُتَعَدد حكم عَلَيْهِ بِحكم يَشْمَل الْمَجْمُوع لَو لم يبين المُرَاد سَوَاء كَانَ مدلولا لفظا أَولا، والمتعدد هَهُنَا موارد الْعلَّة الْمَحْكُوم عَلَيْهَا بِثُبُوت الحكم فِيهَا وَالْبَعْض المُرَاد مَا لم يكن فِيهِ مَانع من ثُبُوت حكمه (قَالُوا) أَي المانعون الْمَوْجُود الْعلَّة فِي غير مَحل التَّخَلُّف (إِذْ لَا بُد فِي صِحَّتهَا من الْمَانِع) أَي من عدم الْمَانِع. قَالَ الشَّارِح سقط لفظ عدم من الْقَلَم (وَوُجُود الشَّرْط فعدمه) أَي الْمَانِع (ووجوده) أَي الشَّرْط (جُزْء الْعلَّة لِأَن الْمَجْمُوع) مِنْهُمَا وَمن الْوَصْف هُوَ (المستلزم) للْحكم وَقد وجد الْمَانِع أَو فقد الشَّرْط فِي مَحل التَّخَلُّف فَلم يُوجد(4/16)
تَمام الْعلَّة (قُلْنَا فَرجع) حِينَئِذٍ (لفظيا مَبْنِيا على تَفْسِيرهَا: أَهِي الْبَاعِث) على الحكم فَلَا يلْزم من عدم الحكم عدمهَا، لِأَن الْعلَّة الباعثة قد يتَخَلَّف عَنْهَا الْمَعْلُول لمَانع أَو فَوَات شَرط (أَو) هِيَ (جملَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ) الحكم فَلَا يُمكن أَن يتَخَلَّف عَنْهَا فَحَيْثُ لم يُوجد الحكم يحكم لعدمها (لَكِن الْحق خطؤكم) فِي جعلكُمْ الْعلَّة هَهُنَا جملَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (لتفسيركم) الْعلَّة (بالمؤثر) كَمَا نفسرها بِهِ (وَالشّرط وَعدم الْمَانِع لَا دخل لَهما فِي التَّأْثِير بموافقتكم) مَعنا فِي هَذَا، فالمجموع الْمركب من الْمُؤثر وَغَيره لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه مُؤثر (وَأما إِلْزَام تصويب كل مُجْتَهد) على القَوْل بِجَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة فَإِن كل مُجْتَهد إِذا ورد عَلَيْهِ النَّقْض فِي عليته لَهُ أَن يَقُول خصت بِمَا عدا تِلْكَ الْمَادَّة، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَا ينْحَصر إبِْطَال دَلِيله فِي النَّقْض حَتَّى يتَخَلَّص فِي كل بحث بِهَذَا الْجَواب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فمنتف لِأَن ادعاءه علية الْوَصْف لَا يقبل مِنْهُ أَولا إِلَّا بِدَلِيل) وَيتَّجه عَلَيْهِ أَنْوَاع من الْإِبْطَال (وَمَعَ التَّخَلُّف لَا يقبل مِنْهُ) أَنه امْتنع الحكم فِي مَحل كَذَا لمَانع (إِلَّا أَن يبين مَانِعا، وَإِنَّمَا ذَلِك) أَي قبُول مَا ذكر (لَازم مَعَ إِجَازَته) أَي الْبَعْض (بِلَا تَعْيِينه كَمَا حررناه) وَعرفت من أَن الْحق أَنه لَا بُد من بَيَان مَانع صَالح للتخصيص (أَو) إِجَازَته (بِلَا مَانع كَمَا قيل أَو دَلِيل) مَعْطُوف على إِجَازَته: أَي لَا يقبل مِنْهُ ادِّعَاء الْعلية مَعَ التَّخَلُّف إِلَّا مَعَ دَلِيل يدل على اعْتِبَار عليته مَعَ التَّخَلُّف. (وَقَوْلهمْ: صِحَة الْعلية تَسْتَلْزِم ثُبُوت الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف لَيْسَ بِشَيْء بَعْدَمَا ذَكرْنَاهُ) من وجوب الْجمع بَين دليلي الْعلَّة والتخلف. (وَقَوْلهمْ تعَارض دَلِيل الِاعْتِبَار) لِلْعِلَّةِ (و) دَلِيل (الإهدار فَلَا اعْتِبَار) بِشَيْء مِنْهَا للتساقط فَلَا علية (مَمْنُوع لِأَن التَّخَلُّف لَيْسَ دَلِيل الإهدار إِلَّا بِلَا مَانع) فِي الشَّرْح العضدي اخْتلف فِي جَوَاز النَّقْض على مَذَاهِب: أَولهَا يجوز مُطلقًا، ثَانِيهَا لَا يجوز مُطلقًا، ثَالِثهَا يجوز فِي المنصوصة دون المستنبطة، رَابِعهَا يجوز فِي المستنبطة لمَانع أَو عدم شَرط دون المنصوصة، خَامِسهَا يجوز فِي المستنبطة وَلَو بِلَا مَانع أَو عدم شَرط دون المنصوصة. ثمَّ ذكر مذهبا مُخْتَارًا حَاصله أَنه لَا بُد من مَانع أَو عدم شَرط، لَكِن فِي المستنبطة يجب الْعلم بِعَيْنِه، وَفِي المنصوصة يَكْفِي التَّقْدِير، وَمَا ذكره المُصَنّف من الْمذَاهب خَمْسَة: أَولهَا لَا يجوز فِي المستنبطة والمنصوصة، ثَانِيهَا لَا يجوز فِي المستنبطة وَيجوز فِي المنصوصة، ثَالِثهَا يجوز بمانع أَو عدم شَرط فيهمَا، ورد إِلَى هَذَا مُخْتَار الْمُحَقِّقين من الْجَوَاز فِي المستنبطة إِذا تعين الْمَانِع، وَفِي المنصوصة بِنَصّ عَام: لَكِن إِن لم يتَعَيَّن قدر، رَابِعهَا الْجَوَاز فيهمَا، خَامِسهَا يجوز فِي المستنبطة بِلَا مَانع دون المنصوصة. فَأول مَا فِي الْعَضُد رَابِع المُصَنّف، وثانيه أَوله، وثالثه ثَانِيه، وخامسه خامسه، وَأما رابعه وَهُوَ الْجَوَاز فِي المستنبطة لمَانع أَو عدم شَرط دون المنصوصة فَلَيْسَ فِي أَقسَام المُصَنّف: كَمَا أَن ثَالِث المُصَنّف، وَهُوَ الْجَوَاز فِي المستنبطة(4/17)
لمَانع أَو عدم شَرط لَيْسَ فِي أقسامه، وَالْمُصَنّف من أَئِمَّة النَّقْل وَهُوَ مُخْتَار مُتَحَقق.
(تَنْبِيه: قسم المصححون) لتخصيص الْعلَّة (مَعَ الْمَانِع من الْحَنَفِيَّة الْمَوَانِع إِلَى خَمْسَة) الأول (مَا يمْنَع انْعِقَاد الْعلَّة كَبيع الْحر) فَإِن الْحُرِّيَّة المستلزمة لعدم الْمَحَلِّيَّة للْبيع تمنع انْعِقَاد البيع فَإِنَّهُ عبارَة عَن مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ، وَالْحر لَيْسَ بِمَال، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْمَانِع من انْعِقَادهَا هَهُنَا (انْتِفَاء محلهَا) أَي مَحل الْعلَّة الَّتِي هِيَ البيع (وَلَا عِلّة فِي غير مَحل. و) الثَّانِي مَا يمْنَع (تَمامهَا) أَي الْعلَّة (فِي حق غير الْعَاقِد كَبيع عبد الْغَيْر) من غير ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ فَإِن بَيْعه عِلّة (تَامَّة فِي حق الْعَاقِد) حَتَّى لَا يبْقى لَهُ ولَايَة إِبْطَاله (لَا) فِي حق (الْمَالِك) وَكَذَا يبطل بِمَوْتِهِ وَلَا يتَوَقَّف على إجَازَة وَارثه (فَجَاز) البيع (بإجازته) أَي الْمَالِك (وَبَطل بإبطاله. و) الثَّالِث (مَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم كَخِيَار الشَّرْط للْبَائِع يمْنَع الْملك) ابْتِدَاء (للْمُشْتَرِي) وَإِن انْعَقَد البيع تَاما، فالمنع بِاعْتِبَار ترَتّب الحكم ابْتِدَاء على الْعلَّة. (و) الرَّابِع مَا يمْنَع (تَمَامه) أَي تَمام الحكم وَلَا يمْنَع أَصله (كَخِيَار الرُّؤْيَة لَا يمْنَع ثُبُوته) أَي الحكم وَهُوَ الْملك (لَكِن لَا يتم) الحكم (بِالْقَبْضِ مَعَه) أَي مَعَ خِيَار الرُّؤْيَة (ويتمكن من لَهُ الْخِيَار من الْفَسْخ بِلَا قَضَاء و) لَا (رضَا) للمتعاقد الآخر، وَكَانَ غير لَازم. (و) الْخَامِس مَا يمْنَع (لُزُومه) أَي الحكم (كَخِيَار الْعَيْب يثبت) الحكم (مَعَه تَاما) حَتَّى لَا يكون لَهُ ولَايَة التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع (وَلَا يتَمَكَّن من الْفَسْخ بعد الْقَبْض إِلَّا بتراض) من الْمُتَعَاقدين (أَو قَضَاء) وَإِنَّمَا اخْتلفت مَرَاتِب الخيارات بِكَوْن الأول مَا خلا على الحكم فَهُوَ مَعَه، وَتمّ قبل وجوده، وَفِي الثَّانِي صدر البيع مُطلقًا عَن الشَّرْط فَأوجب الحكم لَكِن غير تَامّ لاحْتِمَال زَوَال الرِّضَا عِنْد الرُّؤْيَة، وَفِي الثَّالِث ثمَّ السَّبَب وَالرِّضَا لوُجُود الرُّؤْيَة، لَكِن قُلْنَا بِعَدَمِ اللُّزُوم لاحْتِمَال تضرر المُشْتَرِي بِظُهُور الْعَيْب وَلذَا يتَمَكَّن من رد بعض الْمَبِيع بعد الْقَبْض، لِأَنَّهُ تَفْرِيق للصفقة بعد التَّمام وَإنَّهُ جَائِز، وَلَا يتَمَكَّن مِنْهُ فِي خِيَار الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ تَفْرِيق قبل التَّمام وَهُوَ غير جَائِز. ثمَّ الْمَوَانِع خَمْسَة عِنْد جمَاعَة كفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة وَغَيرهمَا، والحصر استقرائي، وَعند القَاضِي أبي زيد وَبَعض (7) أَرْبَعَة يَجْعَل خِيَار الرُّؤْيَة وَالْعَيْب مِمَّا يمْنَع من لُزُوم الحكم (وَخرج بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة (على الْخلاف) فِي تَخْصِيص الْعلَّة (فرعا على مَذْهَبهم) وَهُوَ الصَّائِم (النَّائِم إِذا صب حلقه مَاء فسد) صَوْمه (عِنْدهم لفَوَات رُكْنه) وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْمُفطر (فَهُوَ) أَي فَوَات الرُّكْن (عِلّة الْفساد) أَي (تخلف) الحكم (عَنْهَا) أَي عَن الْعلَّة الْمَذْكُورَة (فِي النَّاسِي) أَي فِي الصَّائِم الَّذِي أكل وَشرب نَاسِيا فَإِن الْعلَّة وَهِي فَوَات الرُّكْن أعنى الْإِمْسَاك مَوْجُود فِيهِ، وَالْحكم وَهُوَ الْفساد غير مَوْجُود فِيهِ (فالمجيز) تَخْصِيص الْعلَّة يَقُول: تخلف الحكم(4/18)
(لمَانع هُوَ الحَدِيث) الدَّال على عدم فَسَاد صَوْم النَّاسِي كَونه صَائِما بِفَوَات رُكْنه (مَعَ وجود الْعلَّة وَالْمَانِع) تَخْصِيص الْعلَّة، يَقُول: تخلف الحكم (لعدمها) أَي الْعلَّة الْمَذْكُورَة (حكما) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْعَدَم إِلَى الضَّمِير، يَعْنِي أَن فَوَات الرُّكْن وَإِن كَانَ مَوْجُودا صُورَة لكنه مَعْدُوم حكما: أَي فِي حكم الْمَعْدُوم (لِأَن فعل النَّاسِي) وَهُوَ الْأكل وَالشرب (نسب إِلَى مُسْتَحقّ الصَّوْم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فِي جَوَاب من استفتاه عَن أكله وشربه نَاسِيا (إِنَّمَا أطعمك الله وسقاك) والمستحق هُوَ الله سُبْحَانَهُ، لِأَن الصَّوْم عبَادَة وَلَا يسْتَحق الْعِبَادَة إِلَّا هُوَ، وَإِنَّمَا قَالَ فعل النَّاسِي نسب إِلَيْهِ، مَعَ أَن فعله الطّعْم وَالشرب، والمنسوب إِلَيْهِ الْإِطْعَام، والسقي لِأَن مَدْلُول الحَدِيث بِحَسب سِيَاق كَلَام السَّائِل الظَّان فَسَاد الصَّوْم بِالْفِعْلِ الْمُضَاف إِلَى الصَّائِم المفوت ركن الصَّوْم سلب إِضَافَته إِلَى العَبْد، لِأَنَّهُ لَو لم يرد ذَلِك لم يَصح إِيرَاد هَذَا الْكَلَام فِي معرض التَّعْلِيل على عدم الْفساد فَإِن قلت كَيفَ يَصح سلب إِضَافَته إِلَيْهِ مَعَ أَنه صدر عَنهُ بِالْحَقِيقَةِ قلت هَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى - {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} - (فَكَانَ أكله كلا أكل) لإِسْقَاط إِضَافَته إِلَيْهِ ونسبته إِلَى من لَهُ الصَّوْم (فَبَقيَ الرُّكْن) وَهُوَ الْإِمْسَاك (حكما) وَإِن انْتَفَى صُورَة لعدم الِاعْتِدَاد بِمَا يُنَافِيهِ لما ذكر (والمصبوب فِي فِيهِ) المَاء (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أَي فِي معنى النَّاسِي (إِذْ لَيْسَ) الصاب (مُضَافا إِلَى الْمُسْتَحق) للصَّوْم ليَكُون صبه بِمَنْزِلَة إطعامه سُبْحَانَهُ وَيصير شربه كلا شرب بِنِسْبَة فعل الشَّارِب إِلَيْهِ (فَلم يسْقط اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار الْمُفطر أَو فَوَات الرُّكْن فِي تَأْثِيره فِي فَسَاد الصَّوْم (بِخِلَاف) الصَّائِم (السَّاقِط فِي حلقه نَائِما مطر) فَإِنَّهُ لَا يفْسد صَوْمه (كَمَا هُوَ مُقْتَضى النّظر) فَإِن إِسْقَاط الْمَطَر سقى من الله تَعَالَى وَالنَّوْم أَدخل فِي الْمَقْصُود من النسْيَان، لِأَن النَّاسِي يُبَاشر الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَاف النَّائِم، فإسقاط إِضَافَة الْفِعْل إِلَيْهِ ونسبته إِلَى الله تَعَالَى بِالطَّرِيقِ الأولى (وَلَا خَفَاء أَنه) أَي الْفَرْع الْمَذْكُور (غير مَا نَحن فِيهِ) من الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث الَّتِي شرع الحكم عِنْدهَا لحُصُول الْحِكْمَة على مَا مر تَفْصِيله فَإِن عدم الرُّكْن لَيْسَ من ذَلِك (فَظهر أَن حَقِيقَة الْمَانِع الْإِضَافَة إِلَى الْمُسْتَحق) وَقَوْلهمْ لمَانع هُوَ الحَدِيث مَبْنِيّ على الظَّاهِر، وَكَونه متضمنا للإضافة إِلَيْهِ فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الْمَانِع فِي الْحَقِيقَة نفس الحَدِيث لدلالته على عدم فَسَاد الصَّوْم المستلزم لعدم تَأْثِير الْعلَّة قلت قد علل فِي الحَدِيث عدم الْفساد بِالْإِضَافَة الْمَذْكُورَة فينسب الْمَنْع إِلَيْهِ (وَأما نقض الْحِكْمَة) الَّتِي شرع الحكم لحصولها (فَقَط بِأَن تُوجد الْحِكْمَة) لَعَلَّ وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، لِأَن لفظ نقض الْحِكْمَة صَار فِي عرف الْأُصُول بِمَنْزِلَة كلمة وَاحِدَة مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ نوع من النَّقْض كنقض الْعلَّة، وَلَا يجوز إرجاع الضَّمِير إِلَى أَجزَاء الْكَلِمَة، فَلَا يَنْبَغِي إرجاعه إِلَى مَا هُوَ كجزئها(4/19)
(دون الْعلَّة فِي مَحل وَلم يُوجد الحكم، وَيُسمى) نقض الْحِكْمَة (كسرا) لما يحصل بِهِ من نوع انكسار فِي علية الْعلَّة، إِذْ الحكم إِنَّمَا شرع عِنْدهَا لحُصُول تِلْكَ الْحِكْمَة وَلَو لم تُوجد بِدُونِ تِلْكَ الْعلَّة لَكَانَ أَدخل فِي عليتها (باصطلاح) لطائفة من الْأُصُولِيِّينَ (فَشرط عَدمه) أَي عدم نقض الْحِكْمَة عِنْد بعض (لصِحَّة الْعلَّة. وَالْمُخْتَار نَفْيه) أَي نفي اشْتِرَاط عدم نقض الْحِكْمَة (فَلَو قَالَ) قَائِل (لَا تصح علية السّفر) لرخصه الْقصر والإفطار (لانتقاض حكمتها الْمَشَقَّة) عطف بَيَان لحكمتها (بصنعة شاقة فِي الْحَضَر) لوُجُود الْمَشَقَّة الَّتِي هِيَ الْحِكْمَة مَعَ عدم السّفر وَالْحكم. وَالْفَاء فِي قَوْله فَلَو قَالَ لَيْسَ للتفريع على عدم الِاشْتِرَاط، بل لتفصيل بعض مَا يتَعَلَّق بالْمقَام، يدل عَلَيْهِ الْجَواب وَمَا بعده (لم يقبل) قَوْله جَوَاب للشرطية (لِأَنَّهَا) أَي الْمَشَقَّة بالصنعة الشاقة (غَيرهَا) أَي غير الْمَشَقَّة الَّتِي هِيَ حِكْمَة علية السّفر، وَهِي مشقة السّفر، فَعدم وجود الحكم مَعهَا لَا يسْتَلْزم انْتِقَاض الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة بِالسَّفرِ (وَكَونهَا) أَي كَون الْمَشَقَّة مَعَ قطع النّظر عَمَّا أضيفت إِلَيْهِ (الْمَقْصُودَة) من اعْتِبَار الْعلية وَشرع الحكم (فَيبْطل ببطلانها مَا لم يعْتَبر إِلَّا لَهَا) أَي فَيبْطل الَّذِي لم يعْتَبر شرعا إِلَّا لَهَا بِمَعْنى علية الْعلَّة بِسَبَب بُطْلَانهَا بالانتقاض بِمَشَقَّة الصَّنْعَة الشاقة، وَقَوله كَونهَا مُبْتَدأ خَبره قَوْله (إِنَّمَا يلْزم) الْكَوْن المتفرع عَلَيْهِ مَا ذكر (لَو اعْتبر) فِي الْعلية (مُطلقهَا) يَعْنِي علية الْعلَّة: أَي الْمَشَقَّة (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار مُطلقهَا (مُنْتَفٍ بالصنعة) أَي بِسَبَب عدم رخصَة السّفر بِمَشَقَّة الصَّنْعَة، وَلَو كَانَ الْمُعْتَبر فِي السّفر مُطلق الْمَشَقَّة لرخص بهَا لوُجُود الْمُطلق فِي ضمنهَا، وَحَيْثُ لم يرخص علم عدم اعْتِبَار الْمُطلق (فالحكمة الَّتِي هِيَ الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة مشقة السّفر) لَا الْمَشَقَّة الْمُطلقَة حَتَّى يرد النَّقْض بِمَا ذكر، وَالْحكم بالاتحاد بَين الْحِكْمَة وَالْعلَّة بِحَسب الْحَقِيقَة بِاعْتِبَار أَن الْعلَّة عبارَة عَن الْبَاعِث على شرع الحكم، والباعث الْحَقِيقِيّ إِنَّمَا هُوَ حُصُول الْحِكْمَة، وَإِنَّمَا جعلت الْعلَّة عِلّة لاشتمالها على الْحِكْمَة (وَلم يعلم مساواتها المنقوضة) أَي مُسَاوَاة مشقة السّفر للْمَشَقَّة المنقوضة بهَا، وَهِي مشقة الصَّنْعَة، وَإِنَّمَا نفي الْعلم بالمساواة لِئَلَّا يرد أَنه سلمنَا الْمُغَايرَة بَينهمَا لكنهما متساويتان فِي المقصودية والمصلحة فَيجب مساواتهما فِي علية الرُّخْصَة أَيْضا (وَلَو فرض الْعلم برجحان) الْحِكْمَة (المنقوضة) بهَا فِي الْمَعْنى الَّذِي صَارَت الْحِكْمَة بِاعْتِبَارِهِ باعثا لعلية الْعلَّة وَشرع الحكم على المنقوضة (فِي مَوضِع) غير الْموضع الْمَذْكُور فَإِنَّهُ نفي فِيهِ الْعلم بالمساواة فضلا عَن الرجحان أَن يذكر (يلْزم بطلَان الْعلَّة) فِي ذَلِك الْموضع، لِأَنَّهُ لَو كَانَ منشأ اعْتِبَار عليتها اشتمالها على الْحِكْمَة المتضمنة للمعنى الْمَذْكُور لاعتبر عليتها فِي مَحل النَّقْض بِالطَّرِيقِ الأولى، وَيرد عَلَيْهِ أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر صُورَة مُسَاوَاة المنقوضة بهَا للمنقوضة أَيْضا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال يعلم حكمهَا ضمنا لاشْتِرَاكهمَا فِيمَا هُوَ(4/20)
سَبَب الْبطلَان.
وَأَنت خَبِير بِأَن الأولى حِينَئِذٍ ذكر الْمُسَاوَاة ليعلم مِنْهُ الرجحان بِالطَّرِيقِ الأولى، ثمَّ اسْتثْنى من جملَة لمواضع الَّتِي علم فِيهَا رُجْحَان المنقوضة فِيهَا بقوله (إِلَّا أَن شرع) فِي ذَلِك الْموضع (حكم أليق بهَا) أَي بِتِلْكَ الْحِكْمَة (كالقطع بِالْقطعِ) كَقطع الْيَد بِقطع الْيَد (لحكمة الزّجر) عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ (تخلف) الْقطع الَّذِي هُوَ الحكم عَن الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ الزّجر (فِي الْقَتْل) الْعمد مَعَ أَن الْحِكْمَة فِيهِ أرجح (لشرع مَا هُوَ أنسب بِهِ) أَي بِالْقَتْلِ الْعمد (وَهُوَ) أَي مَا هُوَ أنسب (الْقَتْل) قصاصا (وَأَنت إِذْ علمت أَن الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة) عِنْد الشَّارِع (ضبطت شرعا) بمظنة خَاصَّة وَهُوَ الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط، وَذَلِكَ لعسر ضبط نفس الْحِكْمَة وَتعذر تعْيين قدرهَا (لم تكد تقف على الْجَزْم) أَي تجزم أَلْبَتَّة (بِأَن التَّخَلُّف) أَي تخلف الحكم (عَن مثلهَا) أَي عَن مثل حكمته (أَو) عَن أَمر (أكبر) من حكمته لرجحانه عَلَيْهَا فِي الْمَعْنى الَّذِي صَارَت بِاعْتِبَارِهِ باعثا لشرع الحكم (مِمَّا لم يدْخل تَحت ضابطها) بَيَان لكل وَاحِد من الْمثل والأكبر المتخلف عَنهُ الحكم، وَالْمرَاد بضابط الْحِكْمَة الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط الَّذِي أَقَامَهُ الشَّرْع مقَامهَا لظُهُوره وانضباطه دونهَا لما مر، وَلَو كَانَ ذَلِك التَّخَلُّف (بِلَا مَانع) عَن ترَتّب الحكم عَلَيْهِ لَا ينْقض التَّخَلُّف الْمَذْكُور عليتها: أَي الْحِكْمَة، قَوْله لَا ينْقض خبر أَن فِي قَوْله بِأَن التَّخَلُّف خُصُوصا إِذا (كَانَت) الْحِكْمَة (مومى إِلَيْهَا) فِي الْكتاب أَو السّنة: مثل إِيمَاء قَوْله تَعَالَى فِي رخصَة الْإِفْطَار فِي السّفر - {أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} - بعد قَوْله - {كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أَيَّامًا معدودات فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} - فَإِنَّهُ يُومِئ إِلَى علية وصف السّفر لرخصة الْإِفْطَار وَقَضَاء الصَّوْم فِي أَيَّام أخر (لِأَن الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة شرعا مثلا مشقة السّفر بِخُصُوصِهِ) تَعْلِيل لعدم نقض عليتها وَحَاصِله أَن الشَّرْع لم يعْتَبر إِلَّا علية مشقة السّفر بِخُصُوصِهِ، وَلم يعْتَبر مُطلق الْمَشَقَّة، وَلَا يتَوَجَّه النَّقْض إِلَّا عِنْد تخلف الحكم عَن الْعلَّة الْمُعْتَبرَة شرعا فَقَوله وَأَنت إِذا علمت الخ تَحْقِيق للمقام من المُصَنّف وَقَوله وَلَو فرض الخ كَلَام الْقَوْم (أَلا ترى أَن الْبكارَة عِلّة الِاكْتِفَاء فِي الْإِذْن بِالسُّكُوتِ) فِي النِّكَاح، الظرفان الْأَوَّلَانِ متعلقان بالاكتفاء وَالثَّالِث بِالْإِذْنِ، وَيجوز أَن يتَعَلَّق بالاكتفاء (لحكمة الْحيَاء) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قلت أَن الْبكر تَسْتَحي فتسكت قَالَ سكُوتهَا إِذْنهَا (وَلَو فرض ثيب أوفر حَيَاء من الْبكر (أَو سَبَب اقْتَضَاهُ) مَعْطُوف على ثيب، وَالْمعْنَى وَلَو فرض سَبَب فِي الثّيّب اقْتضى حَيَاء) أوفر من حَيَاء الْبكر (كزنا اشْتهر) فِي ثيب فَتَسْتَأْذِن فِي نِكَاح من اشْتهر بزناها (لم يكتف بسكوتها) أَي بسكوت الثّيّب فِي الصُّورَتَيْنِ (إِجْمَاعًا فَتخلف) حكم الِاكْتِفَاء بِالسُّكُوتِ(4/21)
عَمَّا هُوَ أكبر من حكمته (وَلم تبطل علية الْبكارَة) إِجْمَاعًا (وَمَا ذَاك) أَي عدم بُطْلَانهَا وأمثالها (إِلَّا لِأَن الْحِكْمَة حَيْثُ ضبطت بالبكارة) لانضباطها وَعدم انضباط الْحيَاء من حَيْثُ الْقدر (كَانَت الْعلَّة بِالْحَقِيقَةِ حَيَاء الْبكر فَلم يلْزم فِي حَيَاء فَوْقه) أَي فَوق حَيَاء الْبكر (ثُبُوت الحكم) وَهُوَ الِاكْتِفَاء الْمَذْكُور (مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْحيَاء الَّذِي هُوَ فَوق حَيَاء الْبكر (لعدم دَلِيله) أَي دَلِيل اعْتِبَار ذَلِك الْحيَاء الأوفر شرعا (بِخُصُوصِهِ فَلَا تنْتَقض الْعلَّة) وَهِي الْبكارَة (بنقضه) أَي بِنَقْض حَيَاء الْبكر، لِأَنَّهُ لم ينْتَقض لعدم تحَققه فِي مَادَّة النَّقْض وَإِن سمينا توهم النَّقْض نقضا فَالْمَعْنى لَا تنْتَقض الْعلَّة بِهَذَا النَّقْض الموهوم (لِأَنَّهُ) أَي ذَلِك الْحيَاء الأوفر (غير) الْحيَاء (الْمُعْتَبر) شرعا فِي الحكم الْمَذْكُور (وَأما النَّقْض المكسور وَهُوَ نقض بعض) الْعلَّة (المركبة على اعْتِبَار استقلاله) أَي الْبَعْض المنقوض (بالحكمة) لاشْتِمَاله كاشتمال الْكل عَلَيْهَا (كَمَا لَو قَالَ) الشَّافِعِي (فِي منع بيع الْغَائِب) هُوَ بيع فِيهِ مَبِيع (مَجْهُول الصّفة فَلَا يَصح كَبيع عبد بِلَا تعْيين فنقض المجهولية) الَّتِي هِيَ بعض من الْعلية، وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من المبيعية والمجهولية على اعْتِبَار استقلالها بالحكمة الَّتِي هِيَ الْإِفْضَاء إِلَى الْمُنَازعَة (بتزوج من لم يرهَا) لتحَقّق المجهولية فِي هَذَا العقد (مَعَ الصِّحَّة) فقد تحقق جُزْء الْعلَّة المستقل بالحكمة، وتخلف عَنهُ الحكم وَهُوَ عدم الصِّحَّة (وَحذف) على صِيغَة الْمَاضِي الْمَجْهُول مَعْطُوف على نَظِيره، وَهُوَ قَوْله نقض، ونائب الْفَاعِل قَوْله (الْمَبِيع) أَي نقض بعض أَجزَاء الْعلَّة وَهُوَ قَوْله مَجْهُول الصِّيغَة وَحذف بَعْضهَا: وَهُوَ قَوْله مَبِيع (وَالْمُخْتَار لَا يمْنَع) أَي اخْتلف فِي منع النَّقْض الْمَذْكُور صِحَة الْعلَّة، قيل يمْنَع، وَالْمُخْتَار أَنه لَا يمْنَع صِحَّتهَا وَهَذَا عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَالْمُصَنّف وَغَيرهم (لِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة (الْمَجْمُوع) الْمركب (وَلم ينْقض) الْمَجْمُوع (فَلَو أضَاف) الْقَائِل بِالْمَنْعِ أَو الناقض (إِلَيْهِ) أَي إِلَى نقض الْبَعْض (إِلْغَاء الْمَتْرُوك) أَي الْمَحْذُوف وَقَالَ لَا دخل فِي الْعلية كَمَا أَشَارَ بقوله (بِأَن قَالَ الْجَهَالَة) الْمَذْكُورَة فِي الْعلَّة (مُسْتَقلَّة بالمناسبة) الْمُوجبَة للعلية (وَلَا دخل لكَونه) أَي الْمَعْقُود عَلَيْهِ (مَبِيعًا صَحَّ) جَوَاب لَو: أَي صَحَّ النَّقْض الْمَذْكُور لوروده على مَا هُوَ الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة إِذْ لَا دخل للملغي فِي الْعلية، وَإِذا صَحَّ النَّقْض بَطل الْعلية (وَحَاصِله) أَي حَاصِل النَّقْض بعد مَا أضَاف إِلَيْهِ أَنه (إِن عنيت) أَيهَا الْمُسْتَدلّ بِمَا جعلته عِلّة فِي قياسك (الْمَجْمُوع لم يَصح) مَا عنيت (لإلغاء الملغي، أَو) عنيت بهَا (مَا سواهُ) أَي مَا سوى الملغى (فَكَذَا) لَا يَصح مَا عنيت (للنقض) أَي لوُرُود النَّقْض على مَا جعلته عِلّة، وَهُوَ مَا سوى الملغي. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط الْعلَّة (انعكاسها) أَي الْعلَّة (عِنْد قوم وَهُوَ) أَي انعكاسها (انْتِفَاء الحكم لانتفائها) أَي الْعلَّة، وَإِنَّمَا يلْزم: أَي انْتِفَاء الحكم لانْتِفَاء الْعلَّة (لمنع تعدد) الْعلَّة (المستقلة فينتفى) الحكم الَّذِي هُوَ مدلولها علته المستقلة الْمَخْصُوصَة (لانْتِفَاء خُصُوص هَذَا الدَّلِيل(4/22)
وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (الْعلَّة إِذْ لَا يكون الحكم بِلَا باعث) وَلم يكن لَهُ باعث سوى الْمَفْرُوض انتفاؤه وَعدم كَونه بِلَا باعث إِمَّا أَن يكون (تفضلا) من الله سُبْحَانَهُ ليهتدوا بذلك الْبَاعِث إِلَى الحكم، أَو يكون وجوبا كَمَا قَالَه الْمُعْتَزلَة بِنَاء على مسئلة وجوب الْأَصْلَح عَلَيْهِ، تَعَالَى شَأْنه عَن ذَلِك، وَلَيْسَ المُرَاد من كلمة أَو التَّسْوِيَة بَينهمَا، بل تَقْسِيم مَا ذهب إِلَيْهِ الأصولي (وَالْمُخْتَار جَوَاز التَّعَدُّد) فِي الْعلَّة الباعثة (مُطلقًا) منصوصة كَانَت أَو مستنبطة (والوقوع) مَعْطُوف على الْجَوَاز (فَلَا يشْتَرط انعكاسها) أَي الْعلَّة كَيفَ وَانْتِفَاء عِلّة بِعَينهَا لَا يسْتَلْزم انتفاءها مُطلقًا فَيجوز أَن يتَحَقَّق بغَيْرهَا من الْعِلَل فَلَا يلْزم أَنه كلما انْتَفَى الْعلَّة الْمعينَة يَنْتَفِي الحكم. جوز (القَاضِي) أَبُو بكر تعددها (فِي المنصوصة لَا المستنبطة، وَقيل عَكسه) أَي يجوز فِي المستنبطة لَا المنصوصة. قَالَ (الإِمَام) يَعْنِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ (يجوز) التَّعَدُّد (وَلم يَقع لنا) على الْمُخْتَار جَوَاز التَّعَدُّد ووقوعه (أَن الْبَوْل والمذى والرعاف) وَهِي أُمُور مُخْتَلفَة الْحَقِيقَة (ثمَّ كل) مِنْهَا (يُوجب الْحَدث) إِذا تحققت مَعًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِسْنَاد الْإِيجَاب إِلَى أَحدهَا دون الآخر تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، بِخِلَاف مَا إِذا تحققت متعاقبة فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُضَاف إِلَى الأول لَا الثَّانِي، وَألا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل فَتَأمل (وَهُوَ) أَي إِيجَاب الْحَدث (الِاسْتِقْلَال) فالعلية فَكل مِنْهَا عِلّة مُسْتَقلَّة للْحَدَث، وَهُوَ حكم وَاحِد (وَكَذَا الْقَتْل) عُدْوانًا (وَالرِّدَّة تحله) أَي الْقَتْل فَكل مِنْهُمَا عِلّة مُسْتَقلَّة لَهُ (فَإِن منع اتِّحَاد الحكم) وَيُقَال (بل وجوب الْقَتْل قصاصا) بعلة الْقَتْل عُدْوانًا (غَيره) أَي غير وُجُوبه (بِالرّدَّةِ وَلذَا) أَي وللمغايرة بَينهمَا (انْتَفَى) كل مِنْهُمَا (ب) مسْقط ك (الْعَفو) من الْمولى فِي الْقَتْل قصاصا (أَو الْإِسْلَام) فِي قتل الرِّدَّة (وَبَقِي) الْقَتْل ل (لآخر) يَعْنِي انْتَفَى الْقَتْل الْقصاص وَبَقِي الْقَتْل للردة، وَبِالْعَكْسِ (عورض) كل مِنْهُمَا جَوَاب الشَّرْط: أَي عورض دَلِيل الْمَانِع اتِّحَاد الحكم بِأَنَّهُ (لَو تعدّدت) الْأَحْكَام فِي أَمْثَال ذَلِك (كَانَ) تعددها (بالإضافات) إِلَى أدلتها (إِذْ لَيْسَ مَا بِهِ الِاخْتِلَاف) فِيهَا (سواهُ) أَي سوى مَا ذكر من الإضافات (وَاللَّازِم بَاطِل لِأَن الإضافات لَا توجب تعددا فِي ذَات الْمُضَاف وَإِلَّا لوَجَبَ لكل حدث وضوء) لكَون الْحَدث الْحَاصِل بِسَبَب الْبَوْل مثلا حِينَئِذٍ غير الْحَاصِل بالرعاف، فبارتفاع الأول لَا يرْتَفع الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَكَانَ) اسْمه ضمير الشَّأْن وَخَبره (يرْتَفع أَحدهَا وَيبقى الآخر، ثمَّ الْجَواب) عَن لُزُوم الْوضُوء لكل حدث (أَن ذَلِك) أَي بِأَن ارْتِفَاع أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر وَعَدَمه مفوض (إِلَى الشَّرْع فَجَاز أَن يعْتَبر التلازم بَين مسببات فِي الأرتفاع) فيستلزم ارْتِفَاع حدث الْبَوْل مثلا ارْتِفَاع حدث الرعاف (وَلَا يعْتَبر) التلازم (فِي) مسببات (أُخْرَى) فَلَا يسْتَلْزم ارْتِفَاع الْقَتْل بِسَبَب الْقَتْل مثلا ارتفاعه بِسَبَب الرِّدَّة (كَلَام على السَّنَد) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي قَوْله وَالْجَوَاب، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن قَول عورهض إِلَى آخِره منع(4/23)
وَسَنَد، وَإِطْلَاق الْمُعَارضَة على سَبِيل الِاسْتِعَارَة تَشْبِيها لَهَا بالمعارضة الْحَقِيقِيَّة بِاعْتِبَار دلَالَة السَّنَد على خلاف مَا يدل عَلَيْهِ دَلِيل الْمُسْتَدلّ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم وَيلْزمهُ قَوْله: فَإِن منع على الْمُعَارضَة فِي الْمُقدمَة فَإِن قلت للخصم أَن يَقُول مرادي الْمَنْع لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ الْمَنْع قلت لَا يَنْفَعهُ، لِأَن سَنَده مسَاوٍ للْمَنْع فإبطاله إِثْبَات للمقدمة الممنوعة فتتم حجَّة الْمُسْتَدلّ الأول فَافْهَم (وَالْمَطْلُوب وَهُوَ الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة) عدم التَّعَدُّد فِي ذَات الْمُضَاف بالإضافات (ثَابت دونه) أَي بِدُونِ السَّنَد الْمَذْكُور، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى كَونه سندا أخص، فَإِن إبِْطَال السَّنَد الْأَخَص غير موجه فِي الإضافات بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مُسَاوِيا للْمَنْع فَإِنَّهُ موجه لاستلزام إِبْطَاله بطلَان الْمَنْع فَتثبت الْمُقدمَة الممنوعة (للْقطع بِأَن تعدد الْإِضَافَة لَا يُوجِبهُ) أَي التَّعَدُّد (فِي ذَاته) أَي الْمُضَاف (وَثُبُوت ارْتِفَاع بَعْضهَا) أَي بعض المسببات (دون بعض فِي صُورَة) دون أُخْرَى كارتفاع الْقَتْل بِسَبَب الرِّدَّة مثلا مَعَ بَقَاء الْقَتْل بِسَبَب الْقَتْل (إِنَّمَا يَكْفِي دَلِيلا على التَّعَدُّد) أَي تعدد الْمُضَاف (فِيهَا) أَي فِي صُورَة ارْتَفع فِيهَا الْبَعْض دون الْبَعْض (لَا فِي غَيرهَا) أَي لَا يَكْفِي دَلِيلا على التَّعَدُّد فِي صُورَة أُخْرَى غير تِلْكَ الصُّورَة (كَمَا فِي الْقَتْل) تَمْثِيل للصورة الأولى (لِأَن أَحدهمَا) أَي أحد المسببين وَهُوَ الْقَتْل بِسَبَب الرِّدَّة (حق الله تَعَالَى، وَالْآخر) وَهُوَ الْقَتْل بِسَبَب الْقَتْل (حق العَبْد) وَلَا وَجه لارْتِفَاع حق العَبْد بِسَبَب ارْتِفَاع حق الله تَعَالَى (وَمَا) روى (عَن أبي حنيفَة) من أَنه إِذا (حلف لَا يتَوَضَّأ من الرعاف فَبَال، ثمَّ رعف ثمَّ تَوَضَّأ حنث لَا يشكل مَعَ قَوْله باتحاد الحكم) جَوَاب سُؤال، وَهُوَ أَن أَبَا حنيفَة يَقُول باتحاد الحكم عِنْد تعدد الْأَسْبَاب وَمُقْتَضَاهُ أَن لَا يَحْنَث فِي الْحلف الْمَذْكُور لِأَن الْحَدث الْحَاصِل بالرعاف عين الْحَاصِل بالبول، فَالظَّاهِر أَنه يُقَال فِي حَقه أَنه تَوَضَّأ من الْبَوْل لسبقه بِالِاسْتِحْقَاقِ للإضافة أَو تَوَضَّأ عَنْهُمَا جَمِيعًا لاشْتِرَاكهمَا فِي السبقية، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه تَوَضَّأ من الرعاف، فَأجَاب بِأَن الْحِنْث إِنَّمَا هُوَ (للْعُرْف فِي مثله) فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ عرفا (تَوَضَّأ من الرعاف) إِذا توَسط الرعاف بَين الْوضُوء وَالسَّبَب الآخر (وَغَيره) من أَسبَاب الْحَدث: أَي يُقَال عرفا تَوَضَّأ من الْبَوْل مثلا إِذا توَسط بَين الْوضُوء وَالسَّبَب الآخر، والأيمان مَبْنِيَّة على الْعرف فَإِن قلت لَا نسلم كَون الْعرف مَا ذكرت، بل الظَّاهِر أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ قلت: قد اشْتهر فِيمَا بَين النَّاس أَن الْحَدث فِي مثل هَذِه الصُّورَة مُضَاف إِلَى السَّبَب الآخر. هَذَا وَلم يظْهر لي كَون الثَّانِي سَببا للْحَدَث، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحدث بِالسَّبَبِ إِذا كَانَ الْمحل مَوْصُوفا بِالطَّهَارَةِ، وَلَا شكّ أَنه لَيْسَ بموصوف بهَا فِي تحقق الثَّانِي، فِي الشَّرْح العضدي اتَّفقُوا على أَنَّهَا إِذا ترتبت حصل الحكم بِالْأولَى، وَأما إِذا اجْتمعت مَعًا دفْعَة كمن مس ولمس وبال مَعًا فقد اخْتلفُوا، وَالْمُخْتَار أَن كل وَاحِد عِلّة مُسْتَقلَّة (قيل وَالْخلاف فِي الْوَاحِد بالشخص)(4/24)
كَمَا نَقله التَّفْتَازَانِيّ عَن الْآمِدِيّ (والمخالف يمنعهُ) أَي يمْنَع كَون الحكم وَاحِد بالشخص (فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة) يَعْنِي الْحَدث المتعدد علته كالبول والرعاف والمذى (وَالظَّاهِر بعده) أَي بعد مثل هَذَا التدقيق الفلسفي (من الشَّرْع) فَإِن قلت لزم فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة اجْتِمَاع الْعِلَل على الحكم الْوَاحِد بالشخص شرعا فَمَا معنى بعده قلت هَذَا حكم اقتضته العمومات وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي اعْتِبَار الْوحدَة الشخصية فِي مَحل النزاع، وَهُوَ أَن الحكم الْوَاحِد هَل يكون لَهُ علل أم لَا وَالْحَاصِل أَن الْبعد فِي اعْتِبَار الْعِلَل للْحكم الشخصي ابْتِدَاء لَا فِي لُزُومهَا للشخصي بعد اعْتِبَارهَا عُمُوما (وشخصية مُتَعَلّقه) أَي الحكم كَمَا عز مثلا فَإِنَّهُ شخص معِين ثَبت حكم الزِّنَا فِي حَقه ابْتِدَاء (لَا توجبه) أَي لَا توجب تشخص الحكم، لِأَن ثُبُوته فِي ذَلِك الشَّخْص لَيْسَ بِاعْتِبَار خصوصيته (بل) من حَيْثُ أَنه فَرد من أَفْرَاد مَحل الْعلَّة كَالزِّنَا، وَإِلَّا لاختص حكم الزِّنَا بِمَا عز، بل يُوجب تشخص الحكم (مَا) أَي دَلِيل يَقْتَضِيهِ (كَشَهَادَة خُزَيْمَة) أَي كتشخص حكم شَهَادَته، وَهُوَ الِاكْتِفَاء بهَا وَحدهَا لدليله، وَهُوَ كَونه مُنْفَردا بَين الصَّحَابَة، يفهم أَن جَوَاز الشَّهَادَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمُجَرَّد إخْبَاره من غَيره حُضُور فِي تِلْكَ الْبيعَة، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْفِرَاده فِي الِاكْتِفَاء إِكْرَاما لَهُ (وَلَا يَتَعَدَّد فِي مثله) أَي فِي مثل مَا ذكر من شَهَادَة خُزَيْمَة (علل) لِأَن عِلّة الحكم فِيهِ أَمر شخصي لَا تعدد فِيهِ أصلا (وَأما الِاسْتِدْلَال) بِأَنَّهُ (لَو امْتنع) تعدد الْعلَّة (امْتنع تعدد الْأَدِلَّة فقد منعت الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم أَن امْتنَاع تعدد الْعلَّة يسْتَلْزم امْتنَاع الْأَدِلَّة منعا مُسْتَندا (بِأَن الْأَدِلَّة الباعثة) وَهُوَ الْعِلَل (أخص) من الْأَدِلَّة الْمُطلقَة، وَلَا يلْزم من امْتنَاع الْأَخَص امْتنَاع الْأَعَمّ. (المانعون) تعدد الْعلَّة قَالُوا (لَو تعدّدت) الْعِلَل (لزم التَّنَاقُض، وَهُوَ) أَي التَّنَاقُض (الِاسْتِقْلَال) بالعلية (وَعَدَمه) أَي عدم الِاسْتِقْلَال بهَا (للثبوت) أَي لثُبُوت الحكم (بِكُل) من ذَلِك المتعدد (بِلَا حَاجَة إِلَى غَيره وَهُوَ) أَي ثُبُوت الحكم بِهِ من غير حَاجَة إِلَى الْغَيْر (الِاسْتِقْلَال وَعَدَمه) أَي عدم الثُّبُوت (لاستقلال غَيره بِهِ) تَعْلِيل لعدم استقلاله، لَكِن على وَجه يلْزم مِنْهُ عدم مدخليته فِي الحكم بِالْكُلِّيَّةِ فضلا عَن الِاسْتِقْلَال بِهِ، وَهَذَا تنَاقض فِي جَانب الْعلَّة (واستغناء الْمحل) أَي مَحل الحكم (فِي ثُبُوت الحكم لَهُ عَن كل) من الْعِلَل (بِالْآخرِ) أَي بِالْعِلَّةِ الْأُخْرَى لاستقلاله فِي حُصُول الحكم للمحل، والتذكير بِاعْتِبَار كَونه وَصفا (وَعَدَمه) أَي عدم اسْتغْنَاء الْمحل فِي ثُبُوت الحكم لَهُ عَن كل ضَرُورَة احْتِيَاج الْمَعْلُول إِلَى علته التَّامَّة، وَهَذَا تنَاقض فِي جَانب الْمحل (مُطلقًا) مُتَعَلق بِكُل من الِاسْتِقْلَال والاستغناء وَعَدَمه (والثبوت بهما) أَي العلتين لكَون كل مِنْهُمَا عِلّة تَامَّة والثبوت (لَا بهما) بِاعْتِبَار أَن كلا مِنْهُمَا اسْتغنى عَنهُ بِاعْتِبَار مُلَاحظَة الْأُخْرَى(4/25)
وَهَذَا تنَاقض فِي جَانب الحكم (فِي الْمَعِيَّة) على تَقْدِير اجْتِمَاع العلتين بِحَسب الزَّمَان فِي التَّأْثِير (وَتَحْصِيل الْحَاصِل فِي) صُورَة (التَّرْتِيب) وَعدم اجْتِمَاعهمَا فِي الزَّمَان، فَإِن الحكم يتَحَقَّق على هَذَا التَّقْدِير بِالْأولَى، وتحققه بِالثَّانِيَةِ تَحْصِيل الْحَاصِل (وَالْجَوَاب) منع لُزُوم التَّنَاقُض الَّذِي هُوَ اجْتِمَاع النقيضين فِي الْوُجُود بِحَسب نفس الْأَمر و (الِاسْتِقْلَال) الَّذِي يلْزم على تَقْدِير تعدد الْعلَّة إِنَّمَا هُوَ (كَونهَا) أَي الْعلَّة (بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت ثَبت) الحكم (بهَا: أَي عِنْدهَا) لِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَا تَأْثِير لَهَا فِي وجود الْمَعْلُول فِي الْحَقِيقَة، وَمعنى عليتها مَا ذكر (و) هَذِه (الْحَيْثِيَّة) الْمعبر عَنْهَا بالكون الْمَذْكُور ثَابِتَة (لَهَا فِي) صُورَة (الْمَعِيَّة و) فِي صُورَة (التَّرْتِيب) ونقيض هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَهُوَ كَونهَا بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت لَا يثبت بهَا الحكم غير ثَابِتَة فَلَا تنَاقض، فقد عرفت أَن الِاسْتِقْلَال بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (لَا بِمَعْنى إفادتها) أَي الْعِلَل (الْوُجُود) أَي وجود الْمَعْلُول فِي الْخَارِج (كالعقلية) أَي كإفادة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة للوجود (عِنْد الْقَائِل بِهِ) أَي بِمَا ذكر من إفادتها الْوُجُود، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن الْوُجُود عِنْد أهل الْحق لَا يفِيدهُ إِلَّا الْفَاعِل الْمُخْتَار جلّ ذكره (فَانْتفى الْكل) أَي جَمِيع مَا ذكر من التَّنَاقُض وَتَحْصِيل الْحَاصِل على التَّفْصِيل الَّذِي عَرفته (قَالُوا) أَي المانعون تعدد الْعلَّة (أَيْضا أَجمعُوا) أَي الْأَئِمَّة (على التَّرْجِيح فِي عِلّة الرِّبَا) أَهِي (الْقدر وَالْجِنْس أَو الطّعْم أَو الأقتيات، وَهُوَ) أَي التَّرْجِيح (فرع صِحَة اسْتِقْلَال كل) من الْأُمُور الْمَذْكُورَة، إِذْ لَو لم يَصح اسْتِقْلَال كل وَاحِد مِنْهَا بالعلية لَا معنى لترجيحه، بل يجب حِينَئِذٍ أَن يضم إِلَيْهِ أَمر آخر وَيجْعَل الْمَجْمُوع عِلّة (و) أَيْضا فرع (لُزُوم انْتِفَاء التَّعَدُّد) إِذْ لَو جَازَ التَّعَدُّد لقالوا بِهِ وَلم يتعلقوا بالترجيح لتعيين وَاحِد نفي مَا سواهُ (وَالْجَوَاب أَنه) أَي التَّرْجِيح الْمجمع عَلَيْهِ (للْإِجْمَاع على أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (هُنَا) أَي فِي الرِّبَا (إِحْدَاهَا) أَي إِحْدَى الْعِلَل الْمَذْكُورَة فَقَط (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْإِجْمَاع على هَذَا الْوَجْه (جعلوها) أَي الْعلَّة (الْكل) أَي الْمَجْمُوع، لِأَن الْمَفْرُوض أَنهم يُرِيدُونَ صَلَاحِية كل للعلية، وَلَا دَلِيل على إِلْغَاء وَاحِد مِنْهَا فَوَجَبَ اعْتِبَارهَا، وَذَلِكَ بالْقَوْل بالجزئية، سِيمَا عِنْد عدم ظُهُور وَجه التَّرْجِيح. لَا يُقَال إِذا كَانَ الْمُخْتَار عنْدكُمْ جَوَاز تعدد الْعلَّة فاجعلوا كل وَاحِدَة مِنْهَا عِلّة مُسْتَقلَّة. لأَنا نقُول: مرادنا من التَّعَدُّد مَا ذكر من كَون كل وَاحِدَة بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت ثَبت بهَا لاجتماعها فِي إِفَادَة الحكم بِأَن يكون كل وَاحِدَة مُسْتَقلَّة فِي الإفادة فَإِنَّهُ محَال. قَالَ (القَاضِي) فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز التَّعَدُّد فِي المنصوصة دون المستنبطة (إِذا نَص على اسْتِقْلَال كل) أَي كل وَاحِد (من مُتَعَدد) بالعلية (فِي مَحل و) الْحَال أَنه (لَا مَانع مِنْهُ) إِذْ لَا مَانع من أَن يعين الله سُبْحَانَهُ للْحكم أمارتين (ارْتَفع احْتِمَال التَّرْكِيب) أَي كَون الْعلَّة مَجْمُوع ذَلِك المتعدد (و) كَون كل وَاحِد(4/26)
مِنْهُ جُزْءا مِنْهَا (مَا لم ينص مَعَ الصلاحية بِأحد الْأَمريْنِ من الْجُزْئِيَّة والاستقلال) أَي وَمَا دَامَ لم ينص فِي المتعدد بِأحد الْأَمريْنِ وهما جزئية كل وَاحِد مِنْهُ واستقلاله فِي الْعلية مَعَ صَلَاحِية كل وَاحِد للعلية، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى وكل مُتَعَدد لم ينص فِيهِ إِلَى آخر مَا ذكرنَا (فتعيين أَحدهمَا) أَي الْجُزْئِيَّة والاستقلال دون الآخر (تحكم) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاحْتِمَال (فَظهر أَن اعْتِقَاده) أَي القَاضِي (جَوَاز التَّعَدُّد فيهمَا) أَي المنصوصة والمستنبطة (غير أَنه لَا يقدر على الحكم بِهِ فِي المستنبطة للاحتمال) أَي لاحْتِمَال جزئية كل وَاحِد كَمَا يحْتَمل الِاسْتِقْلَال (فَإِذا اجْتمعت) تِلْكَ الْأُمُور الصَّالِحَة للعلية (يثبت الحكم على كل تَقْدِير) لِأَنَّهُ على تَقْدِير الْجُزْئِيَّة إِذا اجْتمع جَمِيع أَجزَاء الْعلَّة فقد تحققت بِلَا شُبْهَة، وَأما على تَقْدِير الِاسْتِقْلَال فَالْأَمْر ظَاهر (وَالْجَوَاب مَنعه) أَي منع لُزُوم التحكم على تَقْدِير التَّعْيِين لجَوَاز استنباط الِاسْتِقْلَال عقلا (بِالْعلمِ بالحكم مَعَ أَحدهَا) أَي الْأُمُور الصَّالِحَة للعلية (فِي مَحل كَمَا) أَي كَالْعلمِ بالحكم (مَعَ أُخْرَى) من تِلْكَ الْعِلَل (فِي) مَحل (آخر) فلولا اسْتِقْلَال كل وَاحِدَة مِنْهَا بالعلية لما ثَبت الحكم مَعهَا وَحدهَا (فَيحكم بِهِ) أَي بالاستقلال (لكل فِي مَحل الِاجْتِمَاع) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور آنِفا الْمعبر عَنهُ بالحيثية الْمَذْكُورَة. (وعاكسه) أَي الَّذِي يَقُول بعكس مَذْهَب القَاضِي من جَوَاز التَّعَدُّد فِي المستنبطة دون المنصوصة، يَقُول (يقطع فِي المنصوصة بِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة المنصوصة (الْبَاعِث) لشروع الحكم (فَانْتفى احْتِمَال غَيرهَا) أَي احْتِمَال كَون الْعلَّة غير المنصوصة (كلا وجزءا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْغَيْر إِلَى الضَّمِير: أَي انْتَفَى احْتِمَال الْغَيْر مُطلقًا سَوَاء كَانَ مُغَايرَة ذَلِك الْغَيْر إِيَّاهَا بِاعْتِبَار جَمِيع الْأَجْزَاء أَو بِاعْتِبَار بَعْضهَا (والمستنبطة وهمية) أَي عليتها ظنية غير مَقْطُوعَة (لَا ينتفى فِيهَا) أَي فِي المستنبطة (ذَلِك) الِاحْتِمَال، فَيجوز أَن يكون فِي نفس الْأَمر غَيرهَا كلا وجزءا (وَالْجَوَاب منع الْكل) أَي لَا نسلم الْقطع فِي المنصوصة لاحْتِمَال أَن يكون النَّص ظَنِّي الْمَتْن: أَي وَالدّلَالَة، وَأَيْضًا لَا نسلم وهميته المستنبطة لجَوَاز أَن يتَحَقَّق هُنَاكَ أَمَارَات كَثِيرَة تفِيد الْقطع بعليتها. قَالَ (الإِمَام) فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز التَّعَدُّد دون وُقُوعه (لَو لم يمْتَنع) التَّعَدُّد (شرعا) قيد بِهِ دفعا للتناقض. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: ظَاهره مُخَالف لِلْقَوْلِ بِالْجَوَازِ، ثمَّ بَين أَن المُرَاد جَوَازه عقلا وامتناعه شرعا (وَقع عَادَة وَلَو نَادرا) . فِي الشَّرْح العضدي أَن الإِمَام زعم أَن هَذَا الدَّلِيل الْغَايَة القصوى فِي الْقُوَّة، وفلق الصُّبْح فِي الوضوح، ثمَّ ذكر فِيهِ: أما الْمُلَازمَة فَلِأَن إِمْكَانه وَاضح، وَمَا خَفِي إِمْكَانه، يُمكن أَن يتَوَهَّم امْتِنَاعه فَلَا يَقع، لَكِن مَا كَانَ إِمْكَانه وَاضحا مَعْلُوما لكل أحد مَعَ التكثر والتكرر لموارده مِمَّا تقضى الْعَادة بامتناعه لَا يَقع أصلا، وَأما انْتِفَاء اللَّازِم، فَلِأَنَّهُ لَو وَقع لعلم عَادَة، وَلما لم يعلم علم أَنه لم يَقع انْتهى. (وَالثَّابِت بِأَسْبَاب الْحَدث(4/27)
مُتَعَدد كَمَا تقدم) دفع لما يرد عَلَيْهِ، من أَنه كَيفَ يقطع بِعَدَمِ الْوُقُوع مَعَ تعدد أَسبَاب الْحَدث وَالْقَتْل وَحَاصِل الْجَواب أَن مَحل النزاع تعدد علل حكم وَاحِد، وَالْحكم فِيمَا ذكرْتُمْ مُتَعَدد، فالحدث الْحَاصِل بالبول غير الْحَاصِل بالرعاف، وَلذَا قيل إِذا نوى رفع أحد أحداثه لم يرْتَفع الآخر وَإِنَّمَا خص الْحَدث لِأَنَّهُ مَحل الْإِلْزَام على مَا سبق، لِأَن المتعدد فِي الْقَتْل وَاحِد: إِذْ لَا نزاع فِي ارْتِفَاع أَحدهمَا دون الآخر فِيهِ (أُجِيب بِمَنْع عدم الْوُقُوع، بل مَا ذكر) أَي بل هُوَ وَاقع فِي الْحَدث وَالْقَتْل على مَا سبق (وَكَون الثَّابِت بِكُل) من أَسبَاب الْحَدث وَالْقَتْل (غَيره) أَي غير الثَّابِت (بِالْآخرِ) من تِلْكَ الْأَسْبَاب (أَن أثْبته) أَي أثبت الْخصم الْكَوْن الْمَذْكُور (بالانفكاك نفيا) أَي لانْتِفَاء أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر (فَتقدم اقْتِصَاره) أَي اقْتِصَار الانفكاك على حكم الْقَتْل لتَعَدد الْمُسْتَحق (وانتفاؤه) أَي انْتِفَاء الانفكاك (فِي الْحَدث ظَاهر، وتجويزه) أَي تَجْوِيز تعدد الْحَدث بِتَعَدُّد الْأَسْبَاب (لَا يَكْفِيهِ) أَي الإِمَام (لِأَنَّهُ مستدل) على دَعْوَى عدم الْوُقُوع فَيلْزم عَلَيْهِ الحكم بِتَعَدُّد الْحَدث المنازع فِيهِ قطعا ليتم استدلاله. (ثمَّ اتّفق المعددون) أَي الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّد الْعلَّة (أَنه) أَي الحكم يثبت (بِالْأولِ) من الْأَوْصَاف الصَّالِحَة للعلية (فِي) صُورَة (التَّرْتِيب) وَعدم اجْتِمَاعهمَا مَعًا (وَفِي) صُورَة (الْمَعِيَّة، قيل) الحكم يثبت (بالمجموع فَكل) أَي من تِلْكَ الْأَوْصَاف (جُزْء) من الْعلَّة وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا يصلح للعلية اسْتِقْلَالا، وَذَلِكَ لِئَلَّا يلْزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح (وَقيل وَاحِدَة) مِنْهَا (لَا بِعَينهَا) فِي نَظرنَا (وَالْمُخْتَار) أَن الحكم يثبت (بِكُل) أَي بِكُل وَاحِد من تِلْكَ الْأَوْصَاف اسْتِقْلَالا (لِأَنَّهُ لَو امْتنع) ثُبُوته بِكُل اسْتِقْلَالا، والمفروض أَنه يصلح للاستقلال (كَانَ) ذَلِك الِامْتِنَاع (لِاجْتِمَاع الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة على مَدْلُول) وَاحِد يَعْنِي لَا مُوجب لامتناعه إِلَّا لُزُوم اجتماعها عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي الِاجْتِمَاع الْمَذْكُور (حق اتِّفَاقًا) يَعْنِي أَن الْعِلَل لَيست فِي الْحَقِيقَة إِلَّا أَدِلَّة وأمارات تدل على ثُبُوت الحكم فِي مَحل كَسَائِر الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة، وَكم من حكم لَهُ أَدِلَّة مِنْهُمَا يسْتَقلّ كل وَاحِد مِنْهَا فِي الدّلَالَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فكم من مطلب أقيم عَلَيْهِ عدَّة من الْبَرَاهِين بِخِلَاف الْعِلَل الْعَقْلِيَّة المؤثرة فِي وجود الْمَعْلُول فَإِنَّهَا لَا يُمكن فِيهَا ذَلِك على الْخلاف الَّذِي وَقع فِيهَا أَيْضا على مَا عرف فِي الْكَلَام. قَالَ الذَّاهِب إِلَى أَن الْعلَّة (الْمَجْمُوع) الْمركب من تِلْكَ الْأَوْصَاف (لَو اسْتَقل) كل وَاحِد مِنْهَا (فِي) صُورَة (الْمَعِيَّة) فِي الزَّمَان (لزم التَّنَاقُض) كَمَا مر (بِلُزُوم الثُّبُوت) أَي بِثُبُوت الحكم (بِكُل) لاستقلاله بِهِ (وَعَدَمه) أَي الثُّبُوت بِكُل لثُبُوته بِغَيْرِهِ اسْتِقْلَالا (وَمر جَوَابه) من قَوْله وَالْجَوَاب الِاسْتِقْلَال كَونهَا بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت ثَبت بهَا أَي عِنْدهَا والحيثية لَهَا فِي الْمَعِيَّة وَالتَّرْتِيب لَا معنى إفادتها الْوُجُود كالعقلية عِنْد الْقَائِل(4/28)
بِهِ انْتهى، وَقد مر تَفْسِيره (والتحكم) مَعْطُوف على التَّنَازُع: أَي وَلزِمَ التحكم أَيْضا فَإِن القَوْل بعلية كل وَاحِد بِعَيْنِه مَعَ عدم رجحانه على الآخر تحكم (قُلْنَا) إِنَّمَا يلْزم التحكم (لَو لم يثبت) الحكم (بِكُل) أَي بِكُل وَاحِد وَقد عرفت مَعْنَاهُ فِي الْجَواب عَن التَّنَاقُض (كالمشاهد) أَي كالثبوت بِكُل الْمشَاهد (فِي) الْأَدِلَّة (السمعية) الدَّالَّة (على حكم) وَاحِد. قَالَ الذَّاهِب إِلَى أَن مَا يثبت بِهِ الحكم مِنْهَا (غير الْمعِين: لولاه) أَي لَوْلَا أَن ثُبُوته بِغَيْر الْمعِين (لزم التحكم فِي التَّعْيِين) وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يثبت بِوَاحِد مِنْهَا معِين (و) لزم (خلاف الْوَاقِع فِي الْجُزْئِيَّة) وَالْقَوْل بِأَن الْعلَّة إِنَّمَا هُوَ الْمَجْمُوع وكل وَاحِد مِنْهَا جُزْء الْعلَّة (لثُبُوت الِاسْتِقْلَال) أَي الِاسْتِقْلَال (لكل) وَاحِد مِنْهَا بالعلية فِي الْوَاقِع (الْجَواب) عَن دَلِيل هَذَا الْقَائِل (اخْتِيَار) شقّ (ثَالِث) وَهُوَ القَوْل بِأَن كل وَاحِد مِنْهَا عِلّة اسْتِقْلَالا (كَمَا ذكرنَا وَلنَا فِي) جَوَاز (عكس مَا تقدم) فِي الشَّرْح العضدي لَا خلاف فِي جَوَاز ثُبُوت الْحكمَيْنِ بعلة وَاحِدَة بِمَعْنى الأمارة، وَإِمَّا بِمَعْنى الْبَاعِث فقد اخْتلف فِيهِ وَالْمُخْتَار جَوَازه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (تعدد حكم عِلّة) قَوْله تعدد بِالْجَرِّ عطف بَيَان لعكس مَا تقدم (بِمَعْنى الأمارة الْمُجَرَّدَة) عَن الباعثية للْحكم (كالغروب) أَي كغروب الشَّمْس (لجَوَاز الْإِفْطَار وَوُجُوب) صَلَاة (الْمغرب بِلَا خلاف وَتَسْمِيَة هَذَا) أَي الأمارة الْمُجَرَّدَة (عِلّة اصْطِلَاح) أَي مُجَرّد اصْطِلَاح من الْأُصُولِيِّينَ من غير رِعَايَة الْمَعْنى الْأَصْلِيّ لِلْعِلَّةِ بِخِلَاف تَسْمِيَة الْوَصْف المثير للْحكم، فَإِنَّهُ روعي فِيهِ ذَلِك لِأَنَّهُ كالعلة الغائية كَمَا يفهم من قَوْله (وَبِمَعْنى الْبَاعِث فِي) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار لَا بعد فِي مُنَاسبَة وصف) وَاحِد من أَوْصَاف الْعلَّة (لحكمين) تَقْدِير الْكَلَام لنا قَوْلنَا لَا بعد الخ مُبْتَدأ وَخَبره (كَالزِّنَا) فَإِنَّهُ وصف وَاحِد عِلّة (للْحُرْمَة وَوُجُوب الْحَد) وهما حكمان مُخْتَلِفَانِ بِالذَّاتِ (قَوْلهم) أَي المانعين جَوَازه (فِيهِ) أَي فِي كَون الْوَصْف الْوَاحِد عِلّة لِلْحكمَيْنِ أَو فِي كَونه مناسبا لَهما (تَحْصِيل الْحَاصِل لحُصُول الْمصلحَة بِأحد الْحكمَيْنِ) يَعْنِي أَن مناسبته للْحكم أَن مصْلحَته حَاصِلَة عِنْد الحكم وَالْحكم الْوَاحِد تحصل الْمصلحَة الْمَقْصُودَة مِنْهُ، فَإِذا حصل الحكم الثَّانِي حصلها مرّة أُخْرَى، وَأَنه تَحْصِيل الْحَاصِل (إِنَّمَا يلْزم) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْلهم (لَو لم يحصل بِالْوَصْفِ مصلحتان) فَإِنَّهُ إِذا جَازَ حُصُول المصلحتين بِالْوَصْفِ فَالْحَاصِل بِكُل حكم مصلحَة أُخْرَى فَلَا تَحْصِيل للحاصل (أَو لَا تحصل) الْمصلحَة (الْمَقْصُودَة) من الْوَصْف (إِلَّا بهما) قَوْله لَا تحصل مَعْطُوف على لم يحصل وَلَا يخفى أَن مَضْمُون قَوْله لَا تحصل الخ انحصار حُصُول الْمَقْصُودَة فِي تحقق الْحكمَيْنِ وَإِذا دخل كلمة لَو عَلَيْهِ أفادت نفي الْمَضْمُون الْمَذْكُور، فَالْمَعْنى حِينَئِذٍ أَن تَحْصِيل الْحَاصِل لَا يلْزم عِنْد انْتِفَاء الْأَمريْنِ جَمِيعًا عدم حُصُول تحقق مصلحتين بِالْوَصْفِ، والانحصار الْمَذْكُور، فَإِذا لم ينتف(4/29)
أَحدهمَا لَا يلْزم، أما الأول فقد بَيناهُ، وَأما الثَّانِي فَغير ظَاهر: لِأَنَّهُ إِذا لم تَنْحَصِر الْمَقْصُودَة فِي تحقق الْحكمَيْنِ مَعًا لزم حُصُولهَا بِدُونِ تحققهما مَعًا، وَكَون حُصُول الْمَقْصُودَة بدونهما مخلصا عَن تَحْصِيل الْحَاصِل غير موجه، وَمَا فِي الشَّرْح العضدي من قَوْله الْجَواب منع لُزُوم تَحْصِيل الْحَاصِل لجَوَاز أَن يحصل الحكم الآخر مصلحَة أُخْرَى، أَو أَن الْمصلحَة الْمَقْصُودَة لَا تحصل إِلَّا بهما وَاضح فَإِن الْمصلحَة الْمَقْصُودَة إِذا لم تحصل إِلَّا بِمَجْمُوع الْحكمَيْنِ كَيفَ يلْزم بِالثَّانِي تَحْصِيل الْحَاصِل فَالْوَجْه أَن يحمل كَلَام المُصَنّف على مَا يُوَافق الشَّرْح الْمَذْكُور بِأَن يقدر فِي كَلَامه لفظ يكن ويعطف مَدْخُول أَو على مَدْخُول لم فالتقدير لَو لم يكن لَا يحصل إِلَى آخِره: أَي لَو لم يكن مضمونه وَهُوَ الانحصار الْمَذْكُور (وَمِنْهَا) أَي وَمن شُرُوط عِلّة حكم الأَصْل (أَن لَا تتأخر) الْعلَّة (عَن حكم الأَصْل) ثبوتا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يشْتَرط عدم تأخرها وَيجوز ثُبُوتهَا بعده (ثَبت) حكم الأَصْل (بِلَا باعث، وَأَيْضًا يثبت بذلك) التَّأَخُّر (أَنه لم يشرع) الحكم (لَهَا) أَي لأجل تِلْكَ الْعلَّة الْمُتَأَخِّرَة (وَمثل) تَأَخّر الْعلَّة (بتعليل نَجَاسَة مصاب عرق الْخِنْزِير) أَي الْمحل الَّذِي أَصَابَهُ عرق الْخِنْزِير (بِأَنَّهُ) أَي عرقه (مستقذر، وَهُوَ) أَي التَّعْلِيل بالاستقذار فِي الأَصْل (تَعْلِيل نَجَاسَة اللعاب) أَي فرع تَعْلِيل نَجَاسَة اللعاب (بِهِ) أَي بالاستقذار (لِأَنَّهُ) أَي الْعرق من حَيْثُ النَّجَاسَة (قِيَاس) أَي مقيس (عَلَيْهِ) أَي على اللعاب، أَو الْمَعْنى لِأَن التَّعْلِيل بالاستقذار مآله قِيَاس مصاب الْعرق على مصاب اللعاب فَيجب اعْتِبَار النَّجَاسَة فِي اللعاب ليَصِح قِيَاس مصاب الْعرق عَلَيْهِ بِجَامِع الاستقذار (وَهُوَ) أَي وصف الاستقذار (مُتَأَخّر عَنْهَا) أَو نَجَاسَة اللعاب (وَهُوَ) أَي الْمُتَأَخر الَّذِي ادّعى (غير لَازم لجَوَاز الْمُقَارنَة) أَي لجَوَاز أَن يكون وصف الاستقذار مُقَارنًا لنجاسة اللعاب فِي الثُّبُوت. الْحَاصِل أَن الممثل يُوهم عدم ثُبُوت الاستقذار عِنْد ثُبُوت حكم الأَصْل: وَهُوَ نَجَاسَة اللعاب أَو مصابه، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذكر عِنْد إِلْحَاق الْمُصَاب الْعرق بِهِ وَلم يعرف أَن تَأَخّر الذّكر لَا يسْتَلْزم تَأَخّر الثُّبُوت، ثمَّ الشَّرْط مُقَارنَة الْوَصْف للْحكم بِحَسب اعْتِبَاره فِي الْمحل شرعا لَا بِحَسب ثُبُوت الْمحل فِي الْخَارِج (و) الْمِثَال (الْمُتَّفق عَلَيْهِ) كَونه من الممثل (تَعْلِيل ولَايَة الْأَب على الصَّغِير الَّذِي عرض لَهُ الْجُنُون بالجنون لِأَن ولَايَته قبله) فَإِن ولَايَته مُقَدّمَة على عرُوض الْجُنُون للصَّغِير (وَأما سلبها بعروضه للْوَلِيّ) أَي أما التَّمْثِيل بتعليل سلب الْولَايَة عَن الصَّغِير بالجنون الْعَارِض للْوَلِيّ كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (فعكس المُرَاد) لِأَن الْعلَّة: وَهِي الْجُنُون الْعَارِض للْوَلِيّ مقدم على الحكم الَّذِي هُوَ سَبَب ولَايَته. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ غَايَة مَا أدّى إِلَيْهِ نظر الناظرين: أَي فِي تَوْجِيه كَلَامه أَنه من وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، وَالْمعْنَى سلب الْولَايَة عَن الصَّغِير بالجنون الْعَارِض لَهُ انْتهى. كَأَنَّهُمْ أَرَادوا بالصغير فِي قَوْله عَن الصَّغِير الْوَلِيّ الصَّغِير فَإِن سلب الْولَايَة حَاصِل(4/30)
بِسَبَب مقدم: وَهُوَ الصغر وَالْجُنُون الْعَارِض مُتَأَخّر عَن السَّبَب الْمَذْكُور وَإِلَّا لَا يتم توجيههم (وَأما مَنعه) أَي منع تَأَخّر وصف الْعلَّة عَن الحكم (إِذا قدر) الْوَصْف الْمَذْكُور (أَمارَة) مُجَرّدَة عَن الباعثية (لِأَنَّهُ تَعْرِيف الْمُعَرّف) تَعْلِيل للْمَنْع: يَعْنِي أَن الأمارة إِنَّمَا تكون معرفَة لما هُوَ أَمارَة لَهُ فَإِذا فرض ثُبُوت الحكم قبله لزم مَعْرفَته أَيْضا قبله فَيلْزم تَعْرِيف الْمُعَرّف (فَلَا) جَوَاب أما: أَي فَلَا يَصح (لِاجْتِمَاع الأمارات) أَي لجَوَاز أَن يجْتَمع لشَيْء وَاحِد أَمَارَات لكَونهَا بِمَنْزِلَة الدَّلِيل وتعدد الْأَدِلَّة أَكثر من أَن تحصى (وَلَيْسَ تعاقبها) أَي الأمارات (مَانِعا) عَن كَون الثَّانِي أَمارَة ومعرفا لِئَلَّا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، لِأَن الثَّانِي يعرفهُ بِوَجْه آخر (و) من شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا يعود) التَّعْلِيل بهَا (على أَصله بالإبطال) أَي لَا يلْزم مِنْهُ بطلَان الحكم الْمُعَلل بهَا لِأَن ذَلِك الحكم أَصله، إِذْ التَّعْلِيل فرع الثُّبُوت وَبطلَان الأَصْل يسْتَلْزم بطلَان الْفَرْع فصحبته تَسْتَلْزِم بُطْلَانه، فَلَو صَحَّ لصَحَّ وَبَطل فيجتمع النقيضان، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَتبْطل هِيَ: مِثَاله) الْوَاقِع (للشَّافِعِيَّة تَعْلِيل الْحَنَفِيَّة) الحكم الْمُسْتَفَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا مثلا بِمثل سَوَاء بِسَوَاء) وَهُوَ (يعم مَا لَا يُكَال قلَّة) أَي لَا يُكَال عَادَة لقلته (بِالْكَيْلِ) مُتَعَلق بتعليل الْحَنَفِيَّة (فَخرج) مَا لَا يُكَال من دَائِرَة عُمُومه بِسَبَب اعْتِبَار هَذِه الْعلَّة لِأَن عِلّة حكم النَّهْي لَا بُد أَن تتَحَقَّق فِي كل مَا يتَحَقَّق فِيهِ فموجب عمومها يبطل عُمُوم مُوجب الأَصْل بِحَسب مَنْطُوق النَّص (و) تَعْلِيلهم فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة بسد خلة الْمُحْتَاج) أَي حَاجته (فَانْتفى وُجُوبهَا) أَي وجوب عين الشَّاة منتقلا عَن خصوصيتها (إِلَى التَّخْيِير بَينهَا وَبَين قيمتهَا، وَتقدم دَفعه) أَي دفع لُزُوم إبِْطَال تَعْلِيلهم بسد الْخلَّة حكم الأَصْل (فِي التأويلات) بِالْمَعْنَى وَالنَّص فَارْجِع إِلَيْهِ (و) تقدم دفع (الأول) وَهُوَ لُزُوم إبِْطَال تَعْلِيلهم بِالْكَيْلِ حكم أَصله (فِي) بحث (الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ المُرَاد عدم الْكَيْل) فِي تَعْلِيلهم لجَوَاز بيع مَا لَا يدْخل تَحت الْكَيْل مُتَفَاضلا، فَإِن هَذَا الْجَوَاز بِسَبَب عدم تحقق الْكَيْل الَّذِي هُوَ سَبَب منع التَّفَاضُل يعرف كَونه مرَادا (بِأَدْنَى تَأمل) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُتَبَادر من قَوْله ثمَّ المُرَاد إِلَى آخِره بَيَان المُرَاد بِالتَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَاد بقوله تَعْلِيل الْحَنَفِيَّة إِلَى قَوْله بِالْكَيْلِ وَهُوَ غير صَحِيح لِأَن الْعلَّة فِي ذَلِك التَّعْلِيل لَا الْكَيْل على مَا بَيناهُ لكنه لما لم يظْهر إبِْطَال ذَلِك التَّعْلِيل حكم بِالْأَصْلِ إِلَّا فِي مسئلة جَوَاز بيع مَا لَا يُكَال إِلَّا مثلا بِمثل مُتَفَاضلا وَيحْتَاج هَذَا الْجَوَاز إِلَى عِلّة تبين مُرَادهم فِي هَذَا التَّعْلِيل فَإِن قلت الْعلَّة فِي التَّعْلِيل الأول الْقدر وَالْجِنْس لَا الْكَيْل فَقَط قلت مُرَاده من الْكَيْل الْقدر وَإِنَّمَا اكْتفى بِذكرِهِ لِأَن مدَار الْإِبْطَال عَلَيْهِ (و) مِثَاله (للحنفية تَعْلِيل) حكم (نَص السّلم) يَعْنِي تَعْلِيل الشَّافِعِيَّة إِيَّاه (يخرج إِحْضَار السّلْعَة) مجْلِس البيع فَإِنَّهُ قد يكون لَهَا مُؤنَة وَثقل (الْمُبْطل) صفة لتعليل(4/31)
بِمَا ذكر (لأجل مَعْلُوم) وَقد دلّ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم " على اشْتِرَاطه فِي السّلم، وَأما الْإِبْطَال فَلِأَن منَاط جَوَاز السّلم إِذا كَانَ خرج إحضارها، فَفِي كل مَبِيع تحقق الْخُرُوج الْمَذْكُور تحقق الْجَوَاز وَإِن كَانَ على سَبِيل الْحُلُول من غير أجل (وَأما الِافْتِتَاح) أَي جَوَاز افْتِتَاح الصَّلَاة (بِنَحْوِ الله أعظم) أَو أجل كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى (فبالنص) أَي فثبوته بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى - {وَرَبك فَكبر} -: لَا بِالْقِيَاسِ حَتَّى يرد عَلَيْهِ أَنه يبطل مُوجب النَّص (إِذْ التَّكْبِير) الْمَأْمُور بِهِ فِي الِافْتِتَاح إِنَّمَا هُوَ (التَّعْظِيم) وَهُوَ ذكر يدل على عَظمته سُبْحَانَهُ، فَيعم الله أعظم وَنَحْوه (وَتقدم) . قَالَ الشَّارِح سَهْو، فَإِنَّهُ لم يتَقَدَّم وَإِنِّي لم أحط بِالنَّفْيِ، وَيجوز تَقْدِيم تَفْسِير التَّكْبِير صَرِيحًا أَو ضمنا. (وَمِنْهَا) أَي شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا تخَالف نصا) بِأَن تفِيد فِي الْفَرْع حكما يُخَالف نصا. ثمَّ أَشَارَ إِلَى مِثَاله بقوله (تقدم اشْتِرَاط التَّمْلِيك فِي طَعَام الْكَفَّارَة) الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - (كالكسوة) أَي كاشتراطه فِي الْكسْوَة الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {وكسوتهم} - فَإِنَّهُ لَا يُقَال كَسَاه إِلَّا إِذا ملكه، بِخِلَاف أطْعمهُ فَإِنَّهُ يُقَال إِذا أَبَاحَ، وَإِثْبَات الِاشْتِرَاط فِي الْفَرْع الَّذِي بنوا عَلَيْهِ الْإِطْعَام قِيَاسا على الْكسْوَة كَمَا سيشير إِلَيْهِ مُخَالف لعُمُوم كَيَوْم (7) الْإِطْعَام نَقله كَونهمَا كَفَّارَة (و) تقدم (شَرط الْإِيمَان) فِي الرَّقَبَة المحررة كَفَّارَة (فِي الْيَمين) مُتَعَلق بالاشتراط وَالشّرط على سَبِيل التَّنَازُع (كَالْقَتْلِ) أَي قِيَاسا على اشْتِرَاطه فِي الرَّقَبَة المحررة كَفَّارَة فِي الْقَتْل (يبطل) الِاشْتِرَاط وَالشّرط وَفِي بعض النّسخ يبطلان (إِطْلَاق نَص الْإِطْعَام) كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ (و) إِطْلَاق نَص (الرَّقَبَة) فِي قَوْله تَعَالَى - {أَو تَحْرِير رَقَبَة} - فَإِنَّهَا تعم الرَّقَبَة المؤمنة والكافرة (أَو إِجْمَاعًا) مَعْطُوف على قَوْله نصا، فَالْمَعْنى لَا يُخَالف شَيْئا مِنْهُمَا، ومثاله (مَا مر من مَعْلُوم الإلغاء) أَي التَّعْلِيل الَّذِي علم إلغاؤه وَعدم اعْتِبَاره إِجْمَاعًا، فَلَا تقاس صَلَاة الْمُسَافِر على صَوْمه فِي عدم وجوب الْأَدَاء فِي السّفر بِجَامِع السّفر، لِأَن الْإِجْمَاع على وجوب أَدَائِهَا فِيهِ (و) من شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا تكون) الْعلَّة (المستنبطة) مُعَارضَة (بمعارض) مَوْجُود (فِي الأَصْل: أَي وصف) فِيهِ (يَصح) للعلية حَال كَونه (غير ثَابت فِي الْفَرْع) وَهَذَا الِاشْتِرَاط مَبْنِيّ (على عدم تعدد) الْعلَّة (المستقلة) بمعارض مَوْجُود فِي الأَصْل: أَي وصف فِيهِ يَصح للعلية، لِأَنَّهُ لَو جَازَ تعددها وَثَبت بَعْضهَا فِي الْفَرْع لم يضر عدم ثُبُوت الْبَعْض الآخر فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا) يشْتَرط عدم الْمعَارض الْمَذْكُور (مَعَ جَوَازه) أَي تعددها، بل يجوز وجود الْمعَارض الْمَذْكُور مَعَه (إِلَّا مَعَ عدم تَرْجِيحه) أَي التَّعَدُّد (على التَّرْكِيب فِيهِ) أَي فِي الأَصْل الَّذِي هُوَ مَحل اجتماعها بِأَن تكون تِلْكَ الْأَوْصَاف بِحَيْثُ تصلح للعلية، مُنْفَرِدَة ومجتمعة، وَلم يتَرَجَّح الِاحْتِمَال الأول على الثَّانِي،(4/32)
فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يجوز وجوده، لِأَنَّهُ يلْزم على احْتِمَال التَّرْكِيب عدم وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع، يرد عَلَيْهِ أَنه على تَقْدِير الْبناء على عدم جَوَاز التَّعَدُّد لَا فرق بَين أَن يكون ذَلِك الْمعَارض مَوْجُودا فِي الْفَرْع، وَأَن لَا يكون مَوْجُودا فِيهِ فَلَا وَجه لتقييده بِعَدَمِ الثُّبُوت فِيهِ، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ على تَقْدِير ثُبُوته فِيهِ يُمكن أَن يَجْعَل الْمَجْمُوع عِلّة، وعَلى تَقْدِير عَدمه فِيهِ لَا يُمكن ذَلِك فَافْتَرقَا فَتَأمل (وَمَا قيل و) من شُرُوط الْعلَّة أَن (لَا) تكون المستنبطة مُعَارضَة بمعارض مَوْجُود (فِي الْفَرْع تقدم) ذكره فِي شُرُوط الْفَرْع. (و) من شُرُوطهَا (أَن لَا توجب) المستنبطة (زِيَادَة فِي حكم الأَصْل كتعليل) حُرْمَة بيع الطَّعَام بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا المستفادة من (حَدِيث الطَّعَام) أَي لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء (بِأَنَّهُ) أَي بَيْعه مُتَفَاضلا (رَبًّا) فِيمَا يُوزن كالنقدين (فَيلْزم التَّقَابُض) فِي الْمجْلس فِيهِ كَمَا فِي الأَصْل، وَهُوَ النقدان (وَلَيْسَ) لُزُوم التَّقَابُض مَذْكُورا (فِي نَص الأَصْل) الَّذِي استنبطت مِنْهُ الْعلَّة، وَهُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور، فَعلم أَن المُرَاد بِالْأَصْلِ هَهُنَا أصل الْعلَّة، لَا أصل الْفَرْع الْمَقِيس (وَقيل إِن كَانَت) الزِّيَادَة (مُنَافِيَة لَهُ) أَي لحكم الأَصْل اشْترط عدم إِيجَاب الْعلَّة لَهَا (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّقْيِيد (الْوَجْه) أَي الْوَجْه المرضي، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيّ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يلْزم النّسخ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ غير جَائِز (وَيرجع) مآل هَذِه الْعلَّة (إِلَى مَا يبطل أَصله، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن هَذَا التَّقْيِيد (لَا يُوجب) اشْتِرَاط عدم إِيجَاب الْعلَّة إِيَّاهَا (و) من شُرُوطهَا (أَن لَا يكون دليلها) أَي الدَّلِيل الدَّال على علية الْعلَّة بِعُمُومِهِ أَو بِخُصُوصِهِ (متناولا حكم الْفَرْع) لِأَنَّهُ يُمكن إِثْبَات حكم الْفَرْع بِالنَّصِّ من غير احْتِيَاج إِلَى الْقيَاس المستلزم ادِّعَاء اشْتِرَاك الأَصْل فِي الْفَرْع فِي الْعلَّة ووجودها فيهمَا فَإِنَّهُ تَطْوِيل من غير حَاجَة، وَقد يمْنَع تَأْثِير الْعلَّة أَو وجودهَا فيهمَا (وَالْوَجْه نَفْيه) أَي هَذَا الشَّرْط (لجَوَاز تعدد الْأَدِلَّة) فَلْيَكُن كل وَاحِد من الْقيَاس وَالدَّلِيل الْمَذْكُور دَلِيلا على الحكم، وَلما كَانَ هَذَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ للْحكم طَرِيقَانِ، فَكَانَ أَحدهمَا مُسْتقِلّا وَالْآخر متوقفا عَلَيْهِ تعين الأول ولغى الثَّانِي، فَيلْزم الرُّجُوع عَنهُ: أجَاب عَنهُ بقوله (وَلَا يسْتَلْزم) تنَاول الْمَدْلُول حكم الْفَرْع (الرُّجُوع عَن الْقيَاس، بل) يسْتَلْزم (الإفادة) للْحكم (بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ حَال كَونه (غير ملاحظ غَيره) أَي غير الْقيَاس (و) الإفادة (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْقيَاس، وَهُوَ الدَّلِيل الْمَذْكُور فَإِن قلت: كَيفَ يفاد بِالْقِيَاسِ بِدُونِ مُلَاحظَة الْغَيْر ومدار الْقيَاس على دَلِيل علته قلت: إِثْبَات الْعلَّة مطلب آخر مُفَرع عَنهُ عِنْد إِثْبَات الحكم لَا يُلَاحظ (أما لَو تنوزع فِي دلَالَته) أَي دلَالَة الدَّلِيل الْمَذْكُور (على حكم الْفَرْع) من غير نزاع فِي دلَالَته على علية الْعلَّة بِأَن يكون النَّص مُخَصّصا(4/33)
مثلا، فالمستدل: أَي الْمُعْتَرض لَا يرَاهُ حجَّة إِلَّا فِي أقل الْجمع، فَلَو أَرَادَ إدراج الْفَرْع فِيهِ تعسر فثبتت فِيهِ بِهِ الْعلية فِي الْجُمْلَة، ثمَّ يعمم بِهِ الحكم فِي جَمِيع موارد وجود الْعلَّة، كَذَا فِي الشَّرْح العضدي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فجوازه اتِّفَاق لِأَنَّهُ يثبت بِهِ الْعلية، ثمَّ يعمم بهَا) . وَفِي الشَّرْح الْمَذْكُور، وَأَيْضًا فقد تكون دلَالَته على الْعلية أوضح من دلَالَته على الْعُمُوم كَمَا تَقول: حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام للطعم، فَإِن الْعلية فِي غَايَة الوضوح والعموم فِي الْمُفْرد الْمُعَرّف مَحل خلاف ظَاهر. ثمَّ لَا يخفى عَلَيْك أَن مُقْتَضى قَوْله لَا يرَاهُ حجَّة الخ، إِذْ لَا يحْتَج بِهِ للعلية أَيْضا إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد نفي حجيته فِي حق الْأَفْرَاد الَّتِي تندرج تَحت عُمُومه، وَعليَّة الْعلَّة لَيست مِنْهَا، بل يثبت مِنْهُ بطرِيق الِاقْتِضَاء واللزوم إِلَى غير ذَلِك. (وَالْمُخْتَار جَوَاز كَونهَا) أَي الْعلَّة (حكما شَرْعِيًّا، مِثَاله للحنفية) مَا ورد عَن الخثعمية أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله: إِن فَرِيضَة الْحَج أدْركْت أبي وَهُوَ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة أفأحج عَنهُ؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين) فقضيته أما كَانَ ذَلِك يقبل مِنْك؟ قَالَت نعم: قَالَ فدين الله أَحَق (قَاس) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْزَاء الْحَج عَنهُ بإجزاء قَضَاء الدّين عَنهُ (بعلة كَونه) أَي الْمقْضِي (دينا، وَهُوَ) أَي الدّين (حكم شَرْعِي هُوَ) أَي ذَلِك الحكم الشَّرْعِيّ (لُزُوم أَمر فِي الذِّمَّة) فَإِن هَذَا اللُّزُوم اعْتِبَار من اعتبارات الشَّرْع مترتب على خطابه تَعَالَى الْمُتَعَلّق بأَدَاء الْحق. (و) أَيْضا مِثَاله (قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي) عدم صِحَة بيع (الْمُدبر: مَمْلُوك تعلق عتقه بِمُطلق موت الْمولى) قيد الْإِطْلَاق احْتِرَاز عَن الْمُدبر الْمُقَيد كَأَن مت فِي هَذَا الْمَرَض فَأَنت حر (فَلَا يُبَاع كَأُمّ الْوَلَد) فَالْأَصْل أم الْوَلَد، وَالْفرع الْمُدبر، وَالْعلَّة كَونهمَا مملوكين تعلق عتقهما بِمُطلق موت الْمولى (وَقيل لَا) يجوز أَن تكون تِلْكَ الْعلَّة حكما شَرْعِيًّا (للُزُوم النَّقْض) أَي تخلف الْمَعْلُول عَمَّا فرض عِلّة (فِي التَّقَدُّم) أَي فِي صُورَة تقدمها بِالزَّمَانِ على الحكم (و) لُزُوم (ثُبُوت الحكم بِلَا باعث فِي) صُورَة (التَّأَخُّر) أَي تَأَخّر مَا فرض عِلّة عَن الْمَعْلُول (و) لُزُوم (التحكم فِي) صُورَة (الْمُقَارنَة) إِذْ لَيْسَ أَحدهمَا حِينَئِذٍ أولى بالعلية من الآخر لكَون كل مِنْهُمَا حكما شَرْعِيًّا (وَمنع الْأَخير) أَي لُزُوم التحكم فِي الْمُقَارنَة (لتمييز الْمُنَاسبَة) الْمُعْتَبرَة فِي الْعلية بَينهمَا تمييزا يُفِيد تعين أَحدهمَا بالعلية دون الآخر (وَغَيرهَا) أَي غير الْمُنَاسبَة من الْأُمُور الدَّالَّة على الْعلية الْمَذْكُورَة فِي مسالك الْعلَّة (وَتقدم) فِي جَوَاب المانعين تعدد الْعلَّة (مَا) يُجَاب بِهِ (فِيمَا قبله) أَي مَا قبل الْأَخير وَهُوَ لُزُوم كَون الحكم بِلَا باعث والنقض فِي التَّقَدُّم من أَن تَأْثِير الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَيْسَ بِمَعْنى إفادتها الْوُجُود كالعقلية حَتَّى يمْتَنع فِيهَا التَّقَدُّم أَو التَّخَلُّف (ثمَّ اختير) اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (تعين كَونهَا) أَي كَون حكم الْعلَّة الَّتِي هِيَ الحكم الشَّرْعِيّ (لجلب مصلحَة)(4/34)
يقتضيها حكم الأَصْل لكَونه مَشْرُوعا لحصولها (كبطلان بيع الْخمر) أَي كتعليل بُطْلَانه (بِالنَّجَاسَةِ) الَّتِي هِيَ حكم شَرْعِي لمناسبتها بُطْلَانه لكَونهَا تمنع عَن الملابسة، وَفِي شرع بطلَان بيعهَا بِسَبَب النَّجَاسَة جلب مصلحَة هِيَ تَكْمِيل الْمَقْصُود من الْبطلَان وَهُوَ عدم الِانْتِفَاع (لَا لدفع مفْسدَة) يقتضيها حكم الأَصْل (لِأَن) الحكم (الشَّرْعِيّ لَا يشْتَمل عَلَيْهَا) أَي على مفْسدَة مَطْلُوبَة الدّفع (وحقق) فِي الشَّرْح العضدي (جَوَازهَا) أَي جَوَاز كَون حكمهَا لدفع تِلْكَ الْمفْسدَة (لجَوَاز اشتماله) أَي الحكم الشَّرْعِيّ (على مصلحَة راجحة ومفسدة تدفع بِحكم آخر كوجوب حد الزِّنَا لحفظ النّسَب على الإِمَام ثقيل يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة إِتْلَاف النُّفُوس فعلل بِوُجُوب شَهَادَة الْأَرْبَع) قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ مَا مَعْنَاهُ أَن حد الزِّنَا حكم شَرْعِي مُشْتَمل على مصلحَة راجحة هِيَ حفظ النّسَب وَهُوَ حد ثقيل لكَونه دائرا بَين رجم كَمَا فِي الْمُحصن، وَبَين جلد وتغريب عَام كَمَا فِي غَيره، وَفِي كَثْرَة وُقُوعه مفْسدَة مَا: من إِتْلَاف النُّفُوس وإيلامها فشرع الْمُبَالغَة وَالِاحْتِيَاط فِي طَرِيق ثُبُوته: أَعنِي الشَّهَادَة دفعا للمفسدة القليلة، وَهَذَا معنى كَون ذَلِك عِلّة لَهُ باعثة عَلَيْهِ فوجوب الْحَد المفضي إِلَى كَثْرَة الْإِتْلَاف، والإيلام حكم شَرْعِي مُعَلل بِوُجُوب الْأَرْبَع دفعا للمفسدة الْكَثِيرَة لتبقى مصلحَة حفظ النّسَب خَالِصَة انْتهى. فَالْحَاصِل أَنه لَوْلَا هَذَا الدَّافِع للمفسدة الْمَذْكُورَة لما شرع وجوب الْحَد المفضي إِلَيْهَا فوجوب الْأَرْبَع مصحح لمشروعية الْحَد الْمَذْكُور باعث لَهُ. وَلَا يخفى أَن توقف صِحَة مَشْرُوعِيَّة الْحَد على وجوب الْأَرْبَع لَا يَسْتَدْعِي كَونه باعثا لَهَا وَالْكَلَام فِي الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث، وَالْحق أَن الاشتمال على الْمفْسدَة الْمَطْلُوب دَفعهَا بشرع الحكم إِنَّمَا هُوَ شَأْن الْعلَّة كالسكر وَالْقَتْل الْمُشْتَمل على الْبغضَاء والإضافات لعِلَّة وجوب الْحَد لاشْتِمَاله عَلَيْهَا، والدافع لَهَا وجوب الْأَرْبَع كَمَا يفِيدهُ أول كَلَام الْمُحَقق، لَا عَكسه كَمَا يفِيدهُ آخر كَلَامه، وَالْمُصَنّف وَافق الآخر حَيْثُ قَالَ فعلل بِوُجُوب شَهَادَة الْأَرْبَع بِهِ، فَكَأَنَّهُ وَقع سَهْو الْقَلَم بَينهمَا، وَالصَّوَاب مُعَلل بِهِ وجوب الْأَرْبَع، وَعلل بِهِ وجوب شَهَادَة الْأَرْبَع وَالله تَعَالَى أعلم (وَالْمُخْتَار) كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (جَوَاز كَونهَا) أَي الْعلَّة (مَجْمُوع صِفَات، وَهِي) أَي الْعلَّة الَّتِي يُقَال لَهَا (المركبة إِذْ لَا مَانع مِنْهُ) أَي من جَوَازه (فِي الْعقل وَوَقع) كَونهَا لذَلِك مَعْطُوف على قَوْله لَا مَانع فَهُوَ دَلِيل آخر على الْجَوَاز يفِيدهُ على الْوَجْه الآكد (كَالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان) الْمركب من الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة لحكم الْقصاص. (وَقَوْلهمْ) أَي الشارطين فِي الْعلَّة كَونهَا وَصفا وَاحِدًا المانعين تركبها (لَو كَانَ) أَي لَو تحقق كَونهَا مَجْمُوع صِفَات (والعلية صفة زَائِدَة) أَي وَالْحَال أَنَّهَا صفة زَائِدَة على ذَات الْعلَّة الَّتِي هِيَ مَجْمُوع الصِّفَات (فقيامها) أَي الْعلَّة (إِن) كَانَ (بِجُزْء) وَاحِد مِنْهَا (أَو بِكُل جُزْء) مِنْهَا على حِدة (فَهُوَ) أَي الْجُزْء الْوَاحِد على الأول أَو كل جُزْء على الثَّانِي (الْعلَّة) والمفروض(4/35)
خِلَافه، وَهُوَ أَنَّهَا الْمَجْمُوع لَا الْوَاحِد بِعَيْنِه أَو لَا بِعَيْنِه وَلَا كل وحد (أَو بالمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع) وَهَذَا هُوَ الشق الثَّالِث للترديد وَالِاحْتِمَال منحصر فِيهَا (فَلَا بُد من جِهَة وحدة) بهَا يكون الْمَجْمُوع شَيْئا وَاحِدًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن لَهُ جِهَة وحدة (لم تقم) الْعلية (بِهِ) أَي بالمجموع من حَيْثُ هُوَ لعدم أَمر آخر سوى الْأَوْصَاف المتعددة، فالعلية إِمَّا قَائِمَة بِبَعْض مِنْهَا أَو بِكُل وَاحِد على مَا مر (وَيعود مَعهَا) أَو مَعَ جِهَة الْوحدَة للمجموع (الْكَلَام) فِي جِهَة الْوحدَة (بقيامها) أَي بِاعْتِبَار قيام تِلْكَ الْوحدَة بِأَن يُقَال بِمَ تقوم؟ إِذْ لَا بُد لَهَا من مَحل فَهِيَ (إِمَّا) قَائِمَة (بِكُل إِلَى آخِره) أَي بِكُل جُزْء أَو بِجُزْء وَاحِد، وكل وَاحِد مِنْهُمَا خلاف الْمَفْرُوض فَهِيَ قَائِمَة بالمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع فَلَا بُد لَهُ من جِهَة وحدة أُخْرَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فتتحقق وحدة أُخْرَى ويتسلسل قُلْنَا) قَوْلهم الْمَذْكُور فِي إبِْطَال تركب الْعلَّة (تشكيك فِي) جَوَاز أَمر (ضَرُورِيّ) أَي بديهي جَوَازه بل وُقُوعه، وَذَلِكَ لِأَن خُلَاصَة دَلِيله جَارِيَة فِي كل وصف قَائِم بِمَجْمُوع أُمُور مُتعَدِّدَة، ووقوعه أظهر من أَن يخفى، وَأكْثر من أَن يُحْصى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (للْقطع بِنَحْوِ خبرية الْكَلَام) من كَونه استفهاما أَو تَعَجبا إِلَى غير ذَلِك (وَهُوَ) أَي الْكَلَام (مُتَعَدد) لِأَنَّهُ مركب من الْحُرُوف المتعددة، والخبرية وَنَحْوهَا صفة زَائِدَة عَلَيْهِ فَإِن قَامَت بِكُل حرف كَانَ كل حرف كلَاما أَو بِحرف وَاحِد إِلَى آخر مَا تقدم (وَإِنَّمَا هِيَ) أَي هَذِه الشُّبْهَة لمانعي تركيب الْعلَّة بقوله (مغلطة يطردها) أَي يوردها على سَبِيل الاطراد الإِمَام (الرَّازِيّ للشَّافِعِيّ) أَي لإِثْبَات مذْهبه (فِي نفي التَّرْكِيب) فِي كثير من الْمَوَاضِع، ثمَّ الحكم أَن النَّقْض الْمَذْكُور دلّ على بطلَان دليلهم إِجْمَالا (والحل) أَي حل شبهتهم تَفْصِيلًا بِتَعْيِين مَحل الْخلَل فِي دليلهم (أَنَّهَا) أَي الْعلية قَائِمَة (بالمجموع بِاعْتِبَار جِهَة وحدته الْمعينَة هَيئته) عطف بَيَان لجِهَة وحدته: يَعْنِي هَيئته الْحَاصِلَة بالتركيب الْقَائِمَة بِذَات الْمَجْمُوع من غير اعْتِبَار جِهَة وحدة أُخْرَى قبلهَا: يَعْنِي قيام الْعلية بِهِ بِاعْتِبَار قِيَامهَا بِذَات الْمَجْمُوع الْمُغَايرَة لكل جُزْء من حَيْثُ اتصافها بالوحدة الاعتبارية الْحَاصِلَة بالتركيب، لَا من حَيْثُ تعددها بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء وَإِذا قُلْنَا الْعلية قَائِمَة بالمجموع تعين مَحل قِيَامهَا (فَلَا يتَصَوَّر) بعد ذَلِك (الترديد) فِي مَحل الْقيام بِأَن كل جُزْء أَو جُزْء وَاحِد إِلَى غير ذَلِك. (ثَانِيًا) بعد الترديد الأول فَلَا يتَصَوَّر (وَلَا وحدة أُخْرَى مَعَ أَنَّهَا) أَي الْعلية كالوحدة صفة (اعتبارية) فالوحدة تَنْقَطِع بِانْقِطَاع اعْتِبَار الْعقل فَلَا تسلسل ثمَّ بَين حَقِيقَة الْعلية بقوله (كَون الشَّارِع قضى بالحكم عِنْدهَا) أَي الْعلَّة فِيهِ مُسَامَحَة، وَالْمرَاد كَونهَا بِحَيْثُ قضى الشَّارِع بالحكم عِنْدهَا فِيهِ لما سَيَجِيءُ (والمستدعي) الَّذِي يَسْتَدْعِي (محلا) مَوْجُودا يقوم بِهِ إِنَّمَا هُوَ الصّفة (الْحَقِيقِيَّة) الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْعلية(4/36)
اعتبارية (بطلت علية) الْوَصْف (الْوَاحِد) أَيْضا (بِلُزُوم قيام الْعرض بِالْعرضِ) فَإِن الْعلَّة أَيْضا عرض، وَإِذا كَانَت الْعلية صفة حَقِيقِيَّة كَانَت عرضا فَلَزِمَ قيام الْعرض بِالْعرضِ (وَجعلهَا) أَي الْعلية (صفة لَهُ) أَي للشارع (تَعَالَى بِاعْتِبَار جعله) أَي الشَّارِع ذَلِك الْوَصْف عِلّة (يضعف) خبر لجعلها (بِأَنَّهَا) أَي الْعلية (كَون الْوَصْف كَذَلِك) مجعولا علته (لَا) أَن الْعلية (جعله) أَي عين جعل الشَّارِع ذَلِك عِلّة. (وَقَوْلهمْ) أَي مانعي كَونهَا مَجْمُوع الْأَوْصَاف (نفي كل جُزْء عِلّة انتفائها) أَي لَو كَانَت الْعلَّة أوصافا مُتعَدِّدَة لَكَانَ عدم كل جُزْء عِلّة لانْتِفَاء صفة الْعلية لِأَن تحققها مَوْقُوف على تحقق جَمِيع الْأَوْصَاف فَيلْزم انتفاؤها، لَا انْتِفَاء كل وصف (وَيلْزم النَّقْض) من جملَة مقول القَوْل أَن مُقْتَضى ترك الْعلَّة علية نفي كل جُزْء لانتفائها وَيلْزم النَّقْض لهَذِهِ الْعلية (بِانْتِفَاء جُزْء آخر) من أَجزَاء الْعلَّة (بعد انْتِفَاء جُزْء أول) مِنْهَا لِأَن بِانْتِفَاء الآخر لَا يتَحَقَّق انْتِفَاء الْعلَّة (لِاسْتِحَالَة إعدام الْمَعْدُوم) وَأَنَّهَا قد عدمت بِانْتِفَاء الْجُزْء الأول مِنْهَا فَانْتقضَ الْكُلية الْمَذْكُورَة: أَعنِي أَن انْتِفَاء كل جُزْء مِنْهَا عِلّة لانتفائها لتخلفها فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة وَلزِمَ تخلف الْمَعْلُول من علته (إِنَّمَا يَجِيء فِي) الْعِلَل (الْعَقْلِيَّة، لَا) الْعِلَل (الْمَوْضُوعَة) من الشَّارِع (عَلامَة عِنْد اشتمالها) ظرف للوضع إِشَارَة إِلَى منشئة ومناسبتها إِلَى مَا جعلت عَلامَة لَهُ أَعنِي الحكم الْمُعَلل بهَا (على الْمصلحَة) مُتَعَلق باشتمالها (على الانتفاء) مُتَعَلق بعلامة وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا الْمُتَعَلّق يدل على أَن المُرَاد بالموضوعة انتفاءات الْأَجْزَاء لِلْعِلَّةِ المركبة، وَقَوله عِنْد اشتمالها على الْمصلحَة يُفِيد أَن المُرَاد بهَا نفس الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لِأَنَّهَا الْمُشْتَملَة على الْمصلحَة لَا الانتفاءات الْمَذْكُورَة، فبينهما تدافع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يلْتَزم أَن الانتفاءات الْأَجْزَاء على تَقْدِير علتها لانْتِفَاء الْعلَّة المركبة علل شَرْعِيَّة مُشْتَمِلَة على الْمصلحَة، وَأَن معلولها وَهُوَ الانتفاء الْمَذْكُور حكم شَرْعِي، وَفِيه مَا فِيهِ، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن المُرَاد بهَا الانتفاءات الْمَوْضُوعَة عَلامَة على الانتفاء غير أَن وَضعهَا لذَلِك عِنْد اشْتِمَال تِلْكَ الْعلية المركبة على الْمصلحَة فَتَأمل (إِذْ حَاصله) أَي حَاصِل كَون انْتِفَاء كل جُزْء عِلّة لانْتِفَاء الْكل وَوُقُوع تِلْكَ الانتفاءات مجتمعة أَو متعاقبة (تعدد أَمَارَات) على الْعَدَم، وَلَا مَحْذُور فِيهِ.
مسئلة
(لَا يشْتَرط فِي تَعْلِيل انْتِفَاء حكم بِوُجُود مَانع) من ثُبُوته كَعَدم وجوب الْقصاص للِابْن على الْأَب لمَانع الْأُبُوَّة (أَو) بِسَبَب (انْتِفَاء شَرط) لَهُ كَعَدم وجوب رجم الزَّانِي لانْتِفَاء احصانه الَّذِي هُوَ شَرط وجوب رجمه (وجود مقتضيه) أَي وجود مُقْتَضى ذَلِك الحكم كَمَا هُوَ مُخْتَار(4/37)
ابْن الْحَاجِب والرازي وَأَتْبَاعه (خلافًا للْبَعْض) كالآمدي وَغَيره وَعَزاهُ السُّبْكِيّ إِلَى الْجُمْهُور (لِأَن كلا مِنْهُمَا) أَي وجود الْمَانِع وَانْتِفَاء الشَّرْط (وَعدم الْمُقْتَضى) باستقلاله (عِلّة عَدمه) أَي الحكم (فَجَاز إِسْنَاده) أَي إِسْنَاد عدم الحكم (إِلَى كل) من الثَّلَاثَة، أما استناد عَدمه إِلَى وجود الْمَانِع عِنْد وجود الْمُقْتَضى فَظَاهر، وَأما عِنْد عَدمه فَمَا أَفَادَهُ بقوله (بِمَعْنى لَو كَانَ لَهُ) أَي للْحكم (مقنض مَنعه) أَي الْمَانِع الحكم، وَأما استناده إِلَى انْتِفَاء الشَّرْط فَلَا يخْتَلف فِيهِ الْحَال بِاعْتِبَار وجود الْمُقْتَضى وَعَدَمه كَمَا لَا يخفى (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمَانِع الَّذِي أسْند عدم الحكم إِلَيْهِ عِنْد عدم الْمُقْتَضى بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (فحقيقة المانعية) لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالْمَنْعِ (بِالْفِعْلِ وَهُوَ) أَي الْمَنْع بِالْفِعْلِ (فرع) وجود (الْمُقْتَضى) لِأَنَّهُ إِذا لم يتَحَقَّق مَا يقتضى وجود الشَّيْء لَا يكون ذَلِك الشَّيْء فِي معرض البروز من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل حَتَّى يتَصَوَّر هُنَاكَ منع عَن البروز والوجود، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِذا لم يُوجد) الحكم (لعدم وجوده) أَي الْمُقْتَضى (فَيمْنَع) الْمَانِع (مَاذَا) أَي فَإِن قُلْنَا بمانعيته عِنْد ذَلِك يُقَال يمْنَع أَي شَيْء؟ وَالْحكم لَيْسَ بصدد الْوُجُود (وَاذْكُر مَا تقدم فِي فك الدّور) وَدفعه (لَهُم) أَي للقائل بِجَوَاز نقض الْعلَّة (فِي مسئلة النَّقْض) لَهَا من بَيَان الْفرق بَين المانعية بِالْفِعْلِ والمانعية بِالْقُوَّةِ، وتفصيل ذكر هُنَاكَ فَارْجِع إِلَيْهِ، وَفِي الْمَحْصُول انْتِفَاء الحكم لانْتِفَاء الْمُقْتَضى أظهر فِي الْعقل من انتفائه بِحُضُور الْمَانِع وَهَذَا يُفِيد أَن إِسْنَاد عدم الحكم إِلَى الْمَانِع فِي صُورَة عدم الْمُقْتَضى بِمَا يجوزه الْعقل أَيْضا فَافْهَم وفقك الله تَعَالَى للتوفيق بَين أَقْوَال الْمَشَايِخ.
المرصد الثَّالِث
فِي معرفَة الطّرق الموصلة إِلَى الظَّن بعلية الْعلَّة فَإِنَّهُ نَظَرِي، وَبَيَان المسالك الصَّحِيحَة، وَمَا يتَوَهَّم صِحَّته (طرق إِثْبَاتهَا) أَي إِثْبَات علية الْوَصْف الْمعِين للْحكم. وَقَوله طرق إِثْبَاتهَا خبر لقَوْله المرصد الثَّالِث (مسالك الْعلَّة) جمع مَسْلَك، وَهُوَ الطَّرِيق الَّذِي يسلكه الْمُجْتَهد فِي إِثْبَات الْعلية: وَهِي إِمَّا (متفقة) بَين الْفَرِيقَيْنِ على صِحَّتهَا، وَإِمَّا مُخْتَلف فِيهَا، وَلم يذكر هَذَا صَرِيحًا اكْتِفَاء بِبَيَان الْخلاف فِي كل قسم مِنْهُ (تقدم مِنْهَا) أَي من المتفقة (الْمُنَاسبَة) المعبرة (على الاصطلاحين) للشَّافِعِيَّة بِأَنَّهَا عِنْدهم التَّأْثِير على اخْتِلَاف فِي تَعْبِيره، فعندهم كَون الْوَصْف ثَبت اعْتِبَار عينه فِي عين الحكم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو اعْتِبَار جنسه إِلَى آخر الْأَقْسَام، وَعند الشَّافِعِيَّة الأول فَقَط، فَكل من الْفَرِيقَيْنِ يَقُول بِصِحَّتِهَا على تَعْبِير الْحَنَفِيَّة، وَأما على تَعْبِير الشَّافِعِيَّة فَفِيهَا خلاف كَمَا صرح بقوله (وَالْخلاف فِي الإخالة) بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي كَونهَا طَرِيقا مثبتا لاعْتِبَار الشَّرْع الْوَصْف عِلّة للْحكم(4/38)
(و) المسلك (الثَّانِي) من المتفقة (الْإِجْمَاع) على كَون الْوَصْف عِلّة (فَلَا يخْتَلف) فِي هذَيْن المسلكين (فِي الْفَرْع إِلَّا أَن كَانَ ثُبُوتهَا) أَي الْمُنَاسبَة (أَو طَرِيقه) أَي طَرِيق نقل الْإِجْمَاع (ظنيا) كَالثَّابِتِ بالآحاد (أَو ذَاته) أَي الْإِجْمَاع ظنيا (كالسكوتي) أَي كالإجماع السكوتي وَقد مر تَفْسِيره فِي مبَاحث الْإِجْمَاع بِنَاء (على الْخلاف) الْوَاقِع فِي أَنه ظَنِّي أَو قَطْعِيّ مُطلقًا أَو إِذا كثر وتكرر فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى كَمَا مر (أَو يدعى فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (معَارض) بإقامتها الدَّلِيل على اخْتِصَاص عليته بِالْأَصْلِ، أَو يكون الْخصم مِمَّن يجوز تَخْصِيص الْعلَّة بِبَعْض الْمحَال ويدعى تخصيصها بِمَا سوى الْفَرْع لمَانع فِيهِ والخصم يمْنَع وجود الْمَانِع. ثمَّ مثل مَا هُوَ عِلّة بِالْإِجْمَاع بقوله (كالصغر فِي ولَايَة المَال) فَإِنَّهُ عِلّة لَهَا بِالْإِجْمَاع ثمَّ يُقَاس عَلَيْهَا ولَايَة النِّكَاح. قَالَ الشَّارِح: وَلَا خَفَاء فِي أَنه من علل الْولَايَة فِي النِّكَاح بِلَا خلاف انْتهى قُلْنَا مَقْصُود المُصَنّف مُجَرّد التَّمْثِيل لما هُوَ عِلّة بِالْإِجْمَاع. (و) المسلك (الثَّالِث النَّص) وَهُوَ (صَرِيح) من الْكتاب وَالسّنة يدل على الْعلية (للوضع) أَي لأجل كَونه مَوْضُوعا للعلية وَلَا يلْزمه لُزُوما بَينا أَو مُحْتَاجا إِلَى النّظر وَهُوَ (مَرَاتِب كعلة) كَذَا أَو بِسَبَب كَذَا (أَو لأجل كَذَا) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان لأجل الْبَصَر، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل النّظر " (أَو كي) مُجَرّدَة عَن حرف النَّفْي كَقَوْلِه تَعَالَى - {كي تقر عينهَا} - أَو بهَا - {كَيْلا يكون دولة} - (أَو إِذن) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِذن تَكْفِي همك وَيغْفر لَك ذَنْبك " بعد قَول الصَّحَابِيّ أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا (ودونه) أَي دون هَذَا الْقسم فِي قُوَّة الدّلَالَة (مَا) يكون (بِحرف ظَاهر فِيهِ) أَي فِي التَّعْلِيل مَعَ كَونه مُحْتملا لغيره احْتِمَالا مرجوحا (كلكذا) نَحْو قَوْله - {لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات} - (أَو بِهِ) أَي بِكَذَا - {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} - (أَو أَن) حَال كَونهَا (شرطا أَو) أَن (الناصبة) - {أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين} - بِكَسْر الْهمزَة فِي قِرَاءَة نَافِع وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَبِفَتْحِهَا فِي قِرَاءَة البَاقِينَ (أَو) أَن (الْمَكْسُورَة الْمُشَدّدَة بعد جملَة والمفتوحة) نَحْو، ان عَذَاب رَبك بالكفار مُلْحق وان الْحَمد وَالنعْمَة لَك، فَإِن فِي أَن فيهمَا الْوَجْهَيْنِ إِذْ هَذِه الْحُرُوف قد تَجِيء لغير الْعلية فَاللَّام للعاقبة، وَالْبَاء للحاجية، وَأَن لمُجَرّد اللُّزُوم من غير سَبَبِيَّة، وَأَن لمُجَرّد نصب الْمُضَارع، وأنّ وأنّ لمُجَرّد التَّأْكِيد، وَأنكر السُّبْكِيّ كَون أَن بِالْكَسْرِ للتَّعْلِيل: قَالَ وَإِنَّمَا ترد للشّرط وَالنَّفْي وَالزِّيَادَة، وَأَن فهم التَّعْلِيل فِي الشّرطِيَّة فَهُوَ من تَعْلِيل الحكم على الْوَصْف (ودونه) أَي هَذَا الْقسم (الْفَاء فِي الْوَصْف) الصَّالح لعلية الحكم الْمُتَقَدّم على الْوَصْف كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَتْلَى أحد: زملوهم بكلومهم وَدِمَائِهِمْ (فَإِنَّهُم يحشرون) يَوْم الْقِيَامَة وأوداجهم تشخب دَمًا (أَو) فِي (الحكم) الْوَاقِع بعد مَا صلح لعلية كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَالسَّارِق والسارقة} -(4/39)
(فَاقْطَعُوا) أَيْدِيهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا دون مَا قبله (لِأَنَّهَا) أَي الْفَاء بِحَسب الْوَضع (للتعقيب) وَالتَّرْتِيب (والباعث مقدم عقلا) على الحكم (مُتَأَخّر خَارِجا) عَنهُ تَارَة فِي الْجُمْلَة، فسوغ مُلَاحظَة الْأَمريْنِ دُخُول الْفَاء على كل مِنْهُمَا، فالعلية إِنَّمَا تفهم بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال، فَإِذا دخلت على الحكم الْوَاقِع بعد الْوَصْف الصَّالح للعلية ظهر بِالتَّأَمُّلِ أَن ترتبه على الْوَصْف بِاعْتِبَار باعثية الْوَصْف وتقدمه العقلى عَلَيْهِ، وفيا لعكس ظهر بِالتَّأَمُّلِ أَن تَأَخّر الْوَصْف بِاعْتِبَار تَأَخره الْخَارِجِي فالعلية بِحَسب الذِّهْن، وَالْخَارِج إِنَّمَا يفهم بطرِيق الِاسْتِدْلَال لَا بِوَضْع الْفَاء لَهَا، وَإِلَى مَا قُلْنَا أَشَارَ بقوله (فلوحظا) أَي التَّقَدُّم الْعقلِيّ والتأخر الْخَارِجِي (فِيهَا) أَي فِي الْفَاء عِنْد دُخُولهَا على الْعلَّة وَالْحكم (واذن) أَي وَإِذ كَانَ فهم الْعلية بملاحظة التَّقَدُّم والتأخر الْمَذْكُورين والتأمل فِي معنى الْكَلَام (فَلَا دلَالَة لَهَا) أَي للفاء وضعا (على علية مَا بعْدهَا) لما قبلهَا (أَو) على (حكميته) أَي على كَون مَا بعْدهَا حكما شرع لعلية مَا قبلهَا (بل) إِنَّمَا تدل على أَحدهمَا (بِخَارِج) عَمَّا وضع لَهُ الْفَاء، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (ودونه) أَي هَذَا الْقسم (ذَلِك) أَي دُخُول الْفَاء على الحكم (فِي لفظ الرَّاوِي سَهَا فَسجدَ) . عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلّى بهم فَسَهَا فِي صلَاته فَسجدَ سَجْدَتي السَّهْو (وزنى مَاعِز فرجم) دلَالَته على الْعلية بِاعْتِبَار تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُسْتَفَاد من وضع الْفَاء، فَكَانَ هَذَا دون مَا قبله (لاحْتِمَال الْغَلَط) من الرَّاوِي فِي فهم السَّبَبِيَّة (وَلَا ينفى) احْتِمَال الْغَلَط (الظُّهُور) لعدم الْغَلَط الْمُفِيد للظن لكَون الِاحْتِمَال مرجوحا (وَقيل هَذَا) إِيمَاء وَلَيْسَ بِصَرِيح، وَالْقَائِل الْآمِدِيّ والبيضاوي (كَمَا قيل فِي) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّهَا يَعْنِي الْهِرَّة لَيست بنجسة (إِنَّهَا من الطوافين) عَلَيْكُم والطوافات، وذكرهما بِصِيغَة التمريض يدل على أَن الْمُخْتَار دخولهما فِي الصَّرِيح على مَا فعله المُصَنّف (وإيماء) مَعْطُوف على قَوْله صَرِيح (وتنبيه) لقب آخر لهَذَا الْقسم، وَهُوَ (ترتيبه) أَي الحكم (على الْوَصْف) الصَّالح لعليته (فيفهم لُغَة) لَا وَصفا، بِمَعْنى أَن من يعرف اللُّغَة يفهم (أَنه) أَي الْوَصْف (عِلّة لَهُ) أَي للْحكم من التَّرْتِيب الْمَذْكُور (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ذَلِك الْوَصْف عِلّة لذَلِك الحكم (كَانَ) ذَلِك التَّرْتِيب (مستبعدا) من الْعَارِف بمواقع التَّرْكِيب (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (إِيمَاء اللَّفْظ) من قبيل الْمَنْطُوق، وَقد مر فِي بَيَان اصْطِلَاح الشَّافِعِيَّة فِي الْفُصُول الْمُتَعَلّقَة بالمفرد (وَلَا يخص) هَذَا الْإِيمَاء (الشَّارِع إِلَّا أَنه) أَي عدم كَون الْوَصْف عِلّة (فِيهِ) أَي فِي الشَّارِع (أبعد) لكَون فَصَاحَته فِي الدرجَة الْعليا، وَقد ألف مِنْهُ اعْتِبَاره للمناسبات، فيغلب من الْمُقَارنَة مَعَ الْمُنَاسبَة ظن الِاعْتِبَار وَجعله عِلّة (وَلذَا) أَي ولكونه أبعد من الشَّارِع (يجب فِيهِ) أَي فِي الْوَصْف(4/40)
الَّذِي هُوَ عِلّة (الْمُنَاسبَة) لذَلِك الحكم، وَقد مر تَفْسِيرهَا (من الشَّارِع) أَي حَال كَونه صادرا مِنْهُ (للْقطع بِحِكْمَتِهِ) المستلزمة لرعاية الْمُنَاسبَة بَينهمَا، لِأَنَّهَا عبارَة عَن فعل الشَّيْء كَمَا يَنْبَغِي، عَن السُّبْكِيّ: أَن الْفُقَهَاء على أَنه لَا يجب على الله تَعَالَى رِعَايَة الْمصَالح، وَلَكِن لَا يَقع حكم إِلَّا بحكمة، والمتكلمون من أهل السّنة يَقُولُونَ: قد يَقع بحكمة، وَقد يَقع وَلَا حِكْمَة: قَالَ وَهُوَ الْحق انْتهى. وَاخْتَارَ المُصَنّف قَول الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْمقَام، لِأَنَّهُ الْأَوْجه وَعدم بُلُوغ فهم الْبشر إِلَى الْحِكْمَة لَا يسْتَلْزم عدمهَا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مُرَادهم من نفي الْحِكْمَة الَّتِي تفهمها الْعُقُول على أَنه لَو فرض ترك رِعَايَة الْحِكْمَة فِي بعض الْأَحْكَام كَانَ ذَلِك تَنْبِيها على أَنه لَا يجب عَلَيْهِ تَعَالَى رعايتها، وَلَك أَن تَقول: هَذَا أَيْضا حِكْمَة فَتدبر (دون غَيره) أَي لَا تجب الْمُنَاسبَة فِي الْوَصْف الَّذِي صدر من غير الشَّارِع لعدم الْقطع بِحِكْمَتِهِ (كأكرم الْجَاهِل) إِذا صدر من غير الشَّارِع (وَإِن قضى بحمقه) أَي بحمق قَائِله، وَكَانَ هَذَا بِاعْتِبَار الزَّمَان السَّابِق (وَمِنْه) أَي الْإِيمَاء قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقْضى القَاضِي) بَين اثْنَيْنِ (وَهُوَ غَضْبَان) إِذْ فِيهِ تَنْبِيه على أَن الْغَضَب عِلّة عدم جَوَاز الحكم، لِأَنَّهُ يشوش الْفِكر وَيُوجب الِاضْطِرَاب ثمَّ إِن وجود الْإِيمَاء عِنْد ذكر الْوَصْف وَالْحكم مَعًا مُتَّفق عَلَيْهِ (فَإِن ذكر الْوَصْف فَقَط كأحل الله البيع) فَإِن الْوَصْف، وَهُوَ حل البيع مَذْكُور، وَالْحكم وَهُوَ الصِّحَّة غير مَذْكُور، بل مستنبط من الْحل لِأَنَّهُ لَو لم يَصح لم يكن مُفِيدا لغايته فَكَانَ قبيحا، والقبيح حرَام (أَو) ذكر (الحكم) فَقَط (كأكثر) الْعِلَل (المستنبطة) نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " حرمت الْخمر ": الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو حنيفَة وَغَيره، فَإِن الحكم فِيهِ مَذْكُور وَهُوَ التَّحْرِيم، وَالْوَصْف وَهُوَ الشدَّة المطربة مستنبطة مِنْهُ (فَفِي كَونهَا) أَي كَون الْعلَّة (إِيمَاء) أَي مومى إِلَيْهِ عِنْد ذكر أَحدهمَا فَقَط (تقدم) على صِيغَة الْمَجْهُول صفة كاشفة لإيماء (على غَيرهَا) من المستنبطة بِلَا إِيمَاء، وَقَوله فَفِي كَونهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف بِقَرِينَة مَا بعده، أَعنِي ثَلَاثَة (مَذَاهِب) الأول (نعم) إِيمَاء بِنَاء (على أَن الْإِيمَاء اقتران) الْوَصْف بالحكم (مَعَ ذكرهمَا) أَي الْوَصْف وَالْحكم، وَفِي الْكَلَام مُسَامَحَة، لِأَن الْإِيمَاء لَيْسَ نفس الاقتران، بل مفاده (أَو) مَعَ ذكر (أَحدهمَا) وَتَقْدِير الآخر سَوَاء كَانَ الْمَذْكُور الْوَصْف أَو الحكم (و) الثَّانِي (لَا) يكون إِيمَاء (على أَنه) أَي الْإِيمَاء إِنَّمَا يكون (مَعَ ذكرهمَا) أَي الحكم وَالْوَصْف، وَإِذا لم يذكر فَلَا اقتران، والإيماء عِنْد الاقتران. (و) الثَّالِث (التَّفْصِيل فَمَعَ ذكر الْوَصْف) إِيمَاء (لَا) مَعَ ذكر (الحكم لِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف هُوَ (المستلزم) للْحكم (فَذكره) أَي الْوَصْف (ذكره) أَي الحكم (فَيدل الحكم على الصِّحَّة) لما مر، فَإِن الْإِيمَاء بالاقتران، والاقتران ذكرهمَا مَعًا، وَذكر الْوَصْف مُسْتَلْزم(4/41)
لذكر الحكم، وَأما ذكر الحكم وَحده فَلَا يسْتَلْزم ذكر الْوَصْف (مِثَال الْمُتَّفق) عَلَيْهِ أَنه إِيمَاء قَول الْأَعرَابِي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (واقعت أَهلِي، فَقَالَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كفر) ، وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ يَا رَسُول الله هَلَكت: فَقَالَ وَيحك، قَالَ وَقعت على أَهلِي فِي رَمَضَان، قَالَ أعتق رَقَبَة، قَالَ مَا أجد: قَالَ فَصم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ لَا أَسْتَطِيع، قَالَ فأطعم سِتِّينَ مِسْكينا، قَالَ مَا أجد: الحَدِيث. قَالَ الشَّارِح هَذَا الَّذِي ذكره المُصَنّف رِوَايَة بِالْمَعْنَى قلت: لَعَلَّه جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات (والمستبعد فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْكَلَام (إخلاء السُّؤَال عَن جَوَابه) وَذَلِكَ لِأَن غَرَض الْأَعرَابِي واقعت عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لبَيَان حكمهَا، فَلَو لم يكن قَوْله كفر ذكرا للْحكم جَوَابا لَهُ للَزِمَ إخلاء السُّؤَال عَن الْجَواب فَيكون السُّؤَال مُقَدرا فِي الْجَواب كَأَنَّهُ قَالَ واقعت فَكفر (وَمنع تَأْخِير الْبَيَان عَن وقته) أَي وَقت الْبَيَان الْمُحْتَاج إِلَيْهِ (شَرْعِي) خبر لقَوْله منع إِلَى آخِره: أَي الْمَنْع الْمَذْكُور حكم شَرْعِي، وَلَا يَقع من الشَّارِع مَا هُوَ مَمْنُوع شرعا (وَالظَّاهِر علية عين الوقاع) للاعتاق وأخويه (وَكَونه) أَي كَون الحكم من الاعتاق وَغَيره (لما تضمنه) الوقاع من هتك حُرْمَة الصَّوْم مثلا كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة (احْتِمَال) غير ظَاهر (وَحذف بعض الصِّفَات) الَّذِي لَا مدْخل لَهُ فِي الْعلية (فِي مثله) أَي فِي مثل هَذَا النَّوْع من الْإِيمَاء (وَاسْتِيفَاء الْبَاقِي يُسمى تَنْقِيح المناط) أَي تَلْخِيص مَا ربط الشَّارِع الحكم بِهِ عَن الزَّوَائِد (فِي اصْطِلَاح غير الْحَنَفِيَّة كحذف أعرابيته) أَي السَّائِل فِي الْخَبَر الْمَذْكُور (والأهل) أَي وكحذف كَون المواقع أَهلا، إِذْ لَا فرق فِي الْأَحْكَام بَين كَون الْمُكَلف أَعْرَابِيًا أَو غَيره، وَبَين كَون كل مَحل الوقاع أَهلا لَهُ وَبَين أَن لَا يكون أَهلا، فَإِن الزِّنَا بِإِيجَاب الْكَفَّارَة أَجْدَر (وتزيد الْحَنَفِيَّة) على الْحَذف الْمَذْكُور (كَونه) أَي حذف كَون الْفِعْل الْمُفطر (وقاعا) إِذْ لَا مدْخل لخصوصه فِي الْعلَّة لمساواته لغيره فِي تَفْوِيت ركن الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك الْخَاص (فَيبقى) بعد حذف الزَّوَائِد (كَونه) أَي كَون هَذَا الْفِعْل، أَعنِي الوقاع (إفسادا عمدا بمشتهى) فَيكون المناط لوُجُوب الْكَفَّارَة، فَيجب بعمد أكل أَو شرب لمشتهي كَمَا يجب بالعمد من الْجِمَاع (و) يُسمى (النّظر فِي معرفَة وجودهَا) أَي الْعلَّة على التَّفْصِيل (فِي آحَاد الصُّور) أَي فِي أَفْرَاد مواد تحقق الْعلَّة (بعد تعرفها) أَي مَعْرفَتهَا إِجْمَالا فِي نَفسهَا (بِنَصّ) كَمَا فِي جِهَة الْقبْلَة فَإِنَّهَا منَاط وجوب استقبالها، وَهِي مَعْرُوفَة بقوله تَعَالَى - {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} - وَكَون هَذِه الْجِهَة جِهَة الْقبْلَة مظنون (أَو إِجْمَاع) كالعدالة فَإِنَّهَا منَاط وجوب قبُول الشَّهَادَة وَهِي مَعْلُومَة بِالْإِجْمَاع، وَأما عَدَالَة شخص معِين فمظنونة تعرف بِالِاجْتِهَادِ (تَحْقِيق المناط) مفعول ثَان للتسمية (وَلَا يخْتَلف فِيهِ) أَي فِي تَحْقِيق المناط، وَكَونه(4/42)
مسلكا صَحِيحا لمعْرِفَة وجود الْعلَّة فَإِن النَّص أَو الْإِجْمَاع أَفَادَ تعرفها إِجْمَالا، وَلَيْسَ سوى النّظر سَبِيل إِلَى معرفَة وجودهَا فِي الْآحَاد (ككون هَذَا) الشَّاهِد (عدلا فَيقبل) قَوْله فِي الشَّهَادَة وَهَذَا لَا يُنَافِي الْخلاف فِي وجود الْعَدَالَة فِي هَذَا الْمعِين، وَإِنَّمَا الْمُتَّفق عَلَيْهِ أَن طَرِيق معرفَة وجودهَا فِي الْآحَاد النّظر المستجمع شَرَائِط الصِّحَّة (وَالْأَكْثَر على الأول) أَي القَوْل بتنقيح المناط، وَغير الْأَكْثَر لَا يَقُول بإلغاء مَا لَا قطع لعدم مدخلية بل يظنّ لكنه دون تَحْقِيق المناط كَمَا نقل عَن الْغَزالِيّ وَغَيره (و) يُسمى النّظر (فِي تعرفها) أَي إِثْبَات الْعلَّة (لحكم نَص عَلَيْهِ) أَو أجمع (فَقَط) أَي لم ينص على علته وَلم يجمع، بل إِنَّمَا عرفت باستخراج الْمُجْتَهد لَهَا بِرَأْيهِ واجتهاده (تَخْرِيج المناط) كالنظر فِي إِثْبَات كَون الشدَّة المطربة عِلّة لتَحْرِيم الْخمر، وَهَذَا دون الْأَوَّلين وَقد أنكرهُ كثير من النَّاس (وَهُوَ) أَي تَخْرِيج المناط (أَعم من الأخالة) لِأَنَّهُ يصدق على مَا يثبت بالسبر (وَفِي كَلَام بعض) كَابْن الْحَاجِب (إِفَادَة مساواتها) أَي الإخالة لتخريج المناط، فَإِنَّهُ قَالَ الْمُنَاسبَة الإخالة وَيُسمى تَخْرِيج المناط تعْيين الْعلَّة بِمُجَرَّد إبداء الْمُنَاسبَة من ذَاته لَا بِنَصّ وَغَيره (وَعنهُ) أَي عَن تساويهما (نسب للحنفية) أَي إِلَيْهِم (نَفْيه) أَي نفي القَوْل بتخريج المناط كَمَا فِي البديع من أَنهم ينفون الإخالة لِأَن علية الْوَصْف لحكم شَرْعِي أَمر شَرْعِي لَا بُد من اعْتِبَار الشَّرْع لَهُ بِنَصّ أَو إِجْمَاع (وَاعْتذر بعض الْحَنَفِيَّة عَن عدم ذكرهم) أَي الْحَنَفِيَّة (تَنْقِيح المناط بِأَن مرجعه إِلَى النَّص) أَو الْإِجْمَاع والمناسبة فَذكرهَا يُغني عَن ذكره، وأيد المُصَنّف ذَلِك الِاعْتِذَار بقوله (وَلَا شكّ أَن) قبُول (معنى تَنْقِيح المناط وَاجِب على كل مُجْتَهد حَنَفِيّ وَغَيره وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقبل مَعْنَاهُ (منع الحكم فِي مَوضِع وجود الْعلَّة) فَيمْنَع وجوب الْكَفَّارَة على غير الْأَعرَابِي وعَلى من جَامع فِي رَمَضَان غير أَهله لعدم حذف الزَّوَائِد من الصِّفَات الَّتِي لَا مدْخل لَهَا فِي الْعلَّة (غير أَن الْحَنَفِيَّة لم يضعوا لَهُ) أَي لِمَعْنى تَنْقِيح المناط (اسْما اصطلاحيا كَمَا لم يضعوا الْمُفْرد) لما وضع لِمَعْنى وَاحِد فَقَط كَمَا وضعُوا الْمُشْتَرك لما وضع لمعان (و) لم يضعوا (تَخْرِيج المناط وتحقيقه) أَي وَلم يضعوا تَحْقِيق المناط (مَعَ الْعَمَل بهَا فِي الْكل، وَكَون مرجع الِاسْتِدْلَال إِذا نقح النَّص المناط) أَي كَون مرجعه النَّص عِنْد التَّنْقِيح فَإِن حذف الزَّوَائِد عَن المناط الْمَنْصُوص رُجُوع إِلَى خُلَاصَة النَّص (لَا يصلح عِلّة لعدم الْوَضع) كَمَا يفِيدهُ اعتذار صدر الشَّرِيعَة وَذَلِكَ لِأَن التَّنْقِيح تصرف مَخْصُوص بِهِ يتَبَيَّن حَقِيقَة المناط الْمَنْصُوص ليستحق أَن يوضع لَهُ اسْم خَاص (بل ذَلِك) أَي عدم الْوَضع (رَاجع إِلَى الِاخْتِيَار) لذَلِك فَإِن الْإِنْسَان مُخَيّر فِي مثل ذَلِك لَا يجب عَلَيْهِ الْوَضع ومرجح الِاخْتِيَار الِاحْتِرَاز عَن تَكْثِير الِاصْطِلَاح مَعَ الْعلم بِالْمُسَمّى بِمُوجب الْعَمَل بِهِ (وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة الْإِيمَاء (اقتران) لحكم (بِوَصْف لَو لم يكن هُوَ) أَي ذَلِك الْوَصْف (أَو نَظِيره)(4/43)
أَي الْوَصْف (عِلّة) لذَلِك الحكم (كَانَ) ذَلِك الاقتران (بَعيدا، ثمَّ تَمْثِيل الثَّانِي) أَي النظير (بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (و) قد (سَأَلته) الخثعمية (عَن وَفَاة أَبِيهَا وَعَلِيهِ الْحَج أفيجزيه حَجهَا عَنهُ) ومقوله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته الخ غير مُطَابق لِأَن النظير دين الْعباد، وَلَيْسَ) دين الْعباد (الْعلَّة) لِأَنَّهُ نفس الأَصْل، وَدين الله تَعَالَى الْفَرْع (بل) الْعلَّة للْحكم الَّذِي هُوَ سُقُوط مَا فِي الذِّمَّة بِفعل الْمُتَبَرّع (كَونه) أَي الْمقْضِي (دينا، وَذكره) أَي الشَّارِع دين الْعباد (ليظْهر أَن الْمُشْتَرك) بَينهمَا وَهُوَ الدّين الْمُطلق (الْعلَّة، وَتقدم التَّمْثِيل بِهِ) أَي بِهَذَا الحَدِيث (للحنفية لِلْعِلَّةِ الْوَاقِعَة حكما شَرْعِيًّا، وَلذَلِك) أَي وَلِأَن ذكر الشَّارِع إِيَّاه لظُهُور كَون الْمُشْتَرك عِلّة (يُسمى مثله تَنْبِيها على أصل الْقيَاس) وَهُوَ الدّين الْمُشْتَرك بَينهمَا (وَبِقَوْلِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَجْرُور فِي قَوْله وَتقدم التَّمْثِيل بِهِ، وَعطفه الشَّارِح على بقوله وَسَأَلته فَيكون التَّقْدِير، ثمَّ تَمْثِيل الثَّانِي بقوله لعمر فَاحْتَاجَ إِلَى الْخَبَر، لِأَن مَا هُوَ خبر فِي جَانب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَهُوَ غير مُطَابق لَا يصلح للخبرية هُنَا، وَهُوَ ظَاهر، وَمَا ذكرنَا مَعَ قربه غير محوج إِلَى الْخَبَر، وَكَأَنَّهُ عدل عَنهُ لعدم اشتراكهما فِي قَوْله للحنفية الخ.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يضر فِي الْعَطف لجَوَاز أَن يخْتَص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِبَعْض الْقُيُود عِنْد وجود الْقَرِينَة (لعمر) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (و) قد (سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم) بِأَنَّهَا (هَل تفْسد) الصَّوْم، ومقول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ يفْسد) فَإِن قلت قد ذكر تقدم التَّمْثِيل بِحَدِيث الخثعمية بتقريب تَمْثِيل الشَّافِعِيَّة نَظِير الْوَصْف بِهِ، فَمَا تقريب ذكر تقدم التَّمْثِيل بِحَدِيث عمر قلت بِقَرِينَة كَونه من التَّنْبِيه على أصل الْقيَاس، وَإِنَّمَا تقدم التَّمْثِيل بِهِ فِي بحث اعْتِبَار الشَّارِع الْعلَّة (وَقيل لَيْسَ) هَذَا الْمِثَال (مِنْهُ) أَي من التَّنْبِيه على أصل الْقيَاس (إِذْ لَا يُنَاسب كَونه) أَي التمضمض بِالْمَاءِ (مُقَدّمَة) لإفساد الصَّوْم لِأَنَّهُ مُقَدّمَة الشّرْب وَالشرب من مفسداته (غير مفضية) إِلَى الْإِفْسَاد لعدم فَسَاده بالمضمضة (عدم الْفساد) مَنْصُوب بقوله لَا يُنَاسب: يَعْنِي أَن الْمَضْمَضَة لَا مُنَاسبَة بَينهَا وَبَين عدم الْفساد بِسَبَب كَونهَا من مُقَدمَات الْفساد وَإِن لم تكن مفضية إِلَيْهِ، وَالْعلَّة يجب أَن تكون مُنَاسبَة للْحكم (بل) إِنَّمَا يُنَاسب عدم الْإِفْسَاد مُنَاسبَة مسوغة للعلية (وجود مَا يمْنَع مِنْهُ) أَي من الْإِفْسَاد، والتمضمض لَيْسَ كَذَلِك لِأَن نسبته إِلَى الْإِفْسَاد وَعَدَمه على السوية، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَوُجُود مَا يتَّفق مَعَه) أَي الْفساد تَارَة (وَلَا يتَّفق) مَعَه أُخْرَى (لَا يلْزم عِلّة) أَي وجود أَمر كَذَلِك لَا يلْزم عِلّة الْفساد (فَإِنَّمَا هُوَ) النّظر الْمَذْكُور (نقض توهمه) أَي توهم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عليته(4/44)
للإفساد (وَمِنْه) أَي الْإِيمَاء (أَن يفرق بَين الْحكمَيْنِ بِذكر وصفين كللراجل سهم وللفارس سَهْمَان) فَإِن الْفرق بَين الْحكمَيْنِ من حَيْثُ الْعدَد فِي مثل هَذَا الْمقَام: أَعنِي عِنْد وجود مَا يَقْتَضِي عدم الْفرق بَين الْحكمَيْنِ ككون الراجل والفارس متساويين فِي أصل الْجِهَاد بِذكر وصفين هما الراجلية والفارسية مشيرين إِلَى وَجه الْفرق بَين الموصوفين فِي الحكم إِيمَاء إِلَى أَن عِلّة الْحكمَيْنِ الوصفان الْمَذْكُورَان (أَو) يذكر (أَحدهمَا) أَي أحد الوصفين فَقَط (كلا يَرث الْقَاتِل) فَإِنَّهُ لم يذكر الْوَصْف الآخر وَهُوَ غير الْقَاتِل لكنه يفهم بِقَرِينَة الْمُقَابلَة، فتخصص الْقَاتِل بِالْمَنْعِ من الْإِرْث (بعد ثُبُوت عُمُومه) أَي الْإِرْث لَهُ وَلغيره يشْعر بِأَن عِلّة الْمَنْع الْقَتْل، فالتفريق بَين منع الْإِرْث وَالْإِرْث بِوَصْف الْقَتْل الْمَذْكُور مَعَ منع الْإِرْث لَو لم يكن لعلية الْقَتْل لمنع الْإِرْث لَكَانَ بَعيدا (أَو) يفرق بَينهمَا (فِي ضمن غَايَة) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا تقربهن (حَتَّى يطهرهن} } فَإِنَّهُ فرق بَين منع القربان وإباحته المفهومة من ذكر الْغَايَة الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله تَعَالَى - {فَإِذا تطهرن فأتوهن} - بِذكر الْغَايَة وَهُوَ الطُّهْر، فَلَو لم يكن لعلية الطُّهْر للْجُوَاز لَكَانَ بَعيدا (أَو) فِي ضمن (اسْتثِْنَاء) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} أَي الزَّوْجَات عَن ذَلِك النّصْف فَلَا شَيْء لَهُنَّ فتفريقه بَين لُزُوم النّصْف وَعَدَمه فِي ضمن الِاسْتِثْنَاء لَو لم يكن لعلية الْعَفو للانتفاء لَكَانَ بَعيدا (أَو) فِي ضمن (شَرط) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم) وَفِي لفظ مُسلم، فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَجْنَاس، فبيعوا كَيفَ شِئْتُم لَعَلَّه جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظ أَيْضا، وَإِلَّا فَهُوَ نقل بِالْمَعْنَى، فالتفريق بَين منع بيع الْجِنْس بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا وَبَين جَوَازه بِغَيْر جنسه لَو لم يكن لعلية الِاخْتِلَاف للْجُوَاز لَكَانَ بَعيدا، ثمَّ هَذَا الْمِثَال مِمَّا نَحن فِيهِ (لَو لم تكن) أَي لم تُوجد (الْفَاء) دَاخِلَة على الحكم لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ من قبيل الصَّرِيح كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} - (على مَا قيل) وَهُوَ مُتَّجه (وَذكر فِي اشْتِرَاط الْمُنَاسبَة فِي) صِحَة (علل الْإِيمَاء) ثَلَاثَة مَذَاهِب: الأول (نعم) يشْتَرط لإِجْمَاع الْفُقَهَاء على لُزُوم الحكم فِي الْأَحْكَام، وَلِأَن الْغَالِب فِي الْأَحْكَام التَّعْلِيل بالعلل الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهُ أقرب إِلَى الانقياد من التَّعَبُّد الْمَحْض فَيلْحق بالأعم الْأَغْلَب. (و) الثَّانِي (لَا) يشْتَرط لِأَن الْعلية تفهم بِدُونِهَا (و) الثَّالِث (الْمُخْتَار) لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره أَنه (إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة) كَمَا فِي لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان (اشْترطت) معنى الِاشْتِرَاط حِينَئِذٍ اللُّزُوم وَعدم التحقق بِدُونِ الْمُنَاسبَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة بل بغَيْرهَا من الطّرق (فَلَا) يشْتَرط، لِأَن التَّعْلِيل يفهم من غَيرهَا فَلَا حَاجَة إِلَيْهَا. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَلَا يخفى ضعف هَذَا فَإِن وجود مَا يفهم مِنْهُ الْعلية لَا يَقْتَضِي عدم اشْتِرَاط أَمر آخر لصِحَّة الْعلية واعتبارها فِي بَاب الْقيَاس (قيل وَإِنَّمَا يَصح)(4/45)
عدم الِاشْتِرَاط (إِذا أُرِيد بالمناسبة ظُهُورهَا) عِنْد النظار (وَإِلَّا فَلَا بُد مِنْهَا) أَي الْمُنَاسبَة (فِي الْعلَّة الباعثة) الَّتِي لَا يتَحَقَّق بِدُونِهَا (بِخِلَاف الأمارة الْمُجَرَّدَة) عَن الباعثية. قَالَ المُصَنّف: (وَأَنت تعلم أَن الْفَرْض أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (علمت من إِيمَاء النَّص، فَكيف يفصل إِلَى أَن تعلم) الْعلَّة (بالمناسبة: يَعْنِي فَقَط فتشترط) الْمُنَاسبَة (أَو) تعلم (لَا بهَا) أَي الْمُنَاسبَة (فَلَا) تشْتَرط. (و) المسلك (الرَّابِع السبر التَّقْسِيم) وَهُوَ (حصر الْأَوْصَاف) الْمَوْجُودَة فِي الأَصْل الصَّالِحَة للعلية ظَاهرا فِي عدد (وَيَكْفِي) الْمُسْتَدلّ المناظر (عِنْد مَنعه) أَي منع حُصُولهَا أَن يَقُول (بحثت فَلم أجد) مَا يصلح للعلية غَيرهَا لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لَو كَانَت لما خفيت على الْمُجْتَهد الباحث (أَو) يَقُول (الأَصْل) فِي الْأَشْيَاء (الْعَدَم) فَالْأَصْل عدم غير الْأَوْصَاف الَّتِي وَجدتهَا فَلَا يعدل عَنهُ إِلَّا عِنْد قيام دَلِيل الْوُجُود، وَلَا دَلِيل (ثمَّ حذف بَعْضهَا) أَي الْأَوْصَاف المحصورة، وَهُوَ مَا سوى الَّذِي ظن عليته (فَيتَعَيَّن الْبَاقِي) بعد الْحَذف للعلية، فَظهر أَن السبر اخْتِيَار الْوَصْف هَل يصلح للعلية أَولا، والتقسيم هُوَ أَن الْعلَّة إِمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا، نقل عَن المُصَنّف أَنه كَانَ الْمُنَاسب تَقْدِيم التَّقْسِيم فِي اللَّفْظ لتقدمه فِي الْخَارِج إِلَّا أَن اللقب وَقع هَكَذَا (وَلَو أبدى) الْمُعْتَرض وَصفا (آخر فالمختار لَا يَنْقَطِع) الْمُسْتَدلّ، بل عَلَيْهِ دَفعه بِإِبْطَال التَّعْلِيل بِهِ (إِلَّا أَن لم يُبطلهُ) أَي الْمُسْتَدلّ كَون المبدي عِلّة وصلاحية لَهَا فَإِنَّهُ يلْزم الِانْقِطَاع حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا لَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّد منع الْحصْر مصروفا بِسَنَدِهِ (لِأَنَّهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (لم يدع الْحصْر قطعا) فمجرد احْتِمَال وَصرف آخر لَا يضرّهُ (ويكفيه) أَي الْمُسْتَدلّ عِنْد الْمَنْع الْمَذْكُور (عَلمته وَلم أدخلهُ) فِي الْحصْر (لعدم صلاحيته) لكذا. وَقيل يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بِمُجَرَّد إبداء الْمُعْتَرض وَصفا زَائِدا لِأَنَّهُ ظهر بطلَان حصره. وَقد عرفت جَوَابه (وطرق الْحَذف بَيَان إلغائه) أَي الْمَحْذُوف ثمَّ بَين كَيْفيَّة إلغائه بقوله (بِثُبُوت الحكم بِالْبَاقِي) بعد الْحَذف من الْأَوْصَاف المحصورة (فَقَط فِي مَحل) بِأَن يُوجد الحكم فِي مَحل لَا يُوجد فِيهِ سوى الْبَاقِي من تِلْكَ الْأَوْصَاف (فَلَزِمَ) من ثُبُوته بِالْبَاقِي فَقَط فِي ذَلِك الْمحل (استقلاله) أَي اسْتِقْلَال الْبَاقِي فِي الْعلية، وَإِلَّا لم يثبت الحكم مَعَه (وَعدم جزئية الملغي) فِي الْعلية: أَي عدم مدخليته (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بَيَان الإلغاء ثُبُوت الحكم بِالْبَاقِي فَقَط، بل بِأَن يُقَال لَو كَانَ الْمَحْذُوف عِلّة لانتفى الحكم عِنْد انتفائه، وَحَيْثُ لم ينتف عِنْد انتفائه لم يكن عِلّة (فَهُوَ) أَي مرجع بَيَان الإلغاء الْمُبين بِهَذَا الطَّرِيق (الْعَكْس) الْمُفَسّر فِيمَا سبق بِانْتِفَاء الحكم لانْتِفَاء الْوَصْف وَقد عرفت بِأَنَّهُ مَبْنِيّ على منع تعدد الْعلَّة المستقلة كَمَا ذهب إِلَيْهِ قوم، وَالْمُخْتَار جَوَاز التَّعَدُّد فَلَا يشْتَرط الانعكاس فِي الْعلَّة (غير أَنه) أَي الْمحل الَّذِي ثَبت فِيهِ الحكم بِالْبَاقِي فَقَط (أصل آخر) لإلحاق الْفَرْع غير الأَصْل الَّذِي فِيهِ الْبَاقِي مَعَ غَيره من غَيره من تِلْكَ الْأَوْصَاف (فَالْقِيَاس(4/46)
عَلَيْهِ) أَي على الأَصْل الآخر مُتَعَيّن لِأَنَّهُ (يسْقط) من الْإِسْقَاط (مُؤنَة الْحَذف) أَي إِلْغَاء مَا سوى الْوَصْف الَّذِي ادّعى عليته لِأَنَّهُ لم يُوجد فِي هَذَا الأَصْل غَيره خلاف الأَصْل الَّذِي هُوَ فِيهِ مَعَ غَيره فَلَا بُد من إِلْغَاء الْغَيْر فِيهِ كَمَا إِذا اسْتدلَّ على ربوية الذّرة قِيَاسا على الْبر الَّذِي فِيهِ الطّعْم والقوت والكيل فَلَا يتَعَيَّن أَحدهَا للعلية إِلَّا بإلغاء مَا عداهُ، بِخِلَاف مَا إِذا قيس بالملح الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سوى الْكَيْل فَإِنَّهُ مُتَعَيّن، فَلَيْسَ فِيهِ مُؤنَة الْحَذف والالغاء (وَبعد أَنَّهَا) أَي الْمُعَارضَة بابداء أصل آخر وادعاء تعين ذَلِك للأصالة سُقُوط مُؤنَة الْحَذف (مشاحة) أَي مضايقة ومناقشة (لفظية) لثُبُوت الحكم لكل من الْأَصْلَيْنِ بِلَا تفَاوت (قد تكون أَوْصَافه) أَي أَوْصَاف الأَصْل الآخر كالملح (أَكثر) من الأَصْل الأول كالبر فَيلْزم أَن تكونة مُؤنَة الْحَذف أَكثر (وَكَونه) بِالْجَرِّ عطفا على الْمَجْرُور فِي قَوْله ثُبُوت الحكم: أَي وَيكون الْمَحْذُوف (مِمَّا علم إلغاؤه) فِي الشَّرْع (مُطلقًا) أَي فِي جَمِيع الْأَحْكَام كالاختلاف فِي الطول وَالْقصر والسواد وَالْبَيَاض إِلَى غير ذَلِك (أَو) لكَونه مِمَّا علم إلغاؤه (فِي ذَلِك) الحكم المبحوث عَنهُ وَإِن اعْتبر فِي غَيره (كالذكورة وَالْأُنُوثَة فِي أَحْكَام الْعتْق) فَإِنَّهُ قد اعْتبر الِاخْتِلَاف فيهمَا فِي الشَّهَادَة وَالْقَضَاء والإمامة الصُّغْرَى والكبرى وَالْإِرْث (وَأَن لَا يظْهر لَهُ) أَي للمستدل مَعْطُوف أَيْضا على الْمَجْرُور الْمَذْكُور، وَالْبَاء مقدرَة، يَعْنِي بَيَان الإلغاء بِأَن لَا يظْهر لَهُ (مُنَاسبَة) بَين الْمَحْذُوف وَبَين الحكم بعد الْبَحْث عَنْهَا (وَيَكْفِي) لَهُ أَن يَقُول (بحثت) عَن الْمُنَاسبَة (فَلم أَجدهَا) فلكونه مُجْتَهدا يعْتَمد على بَحثه. فَعدم وجدانه دَلِيل الْعَدَم، ولعدالته يصدق، وَلَا سَبِيل إِلَى معرفَة وجدانه إِلَّا بإخباره (فَإِن قَالَ) الْمُعْتَرض (الْبَاقِي كَذَلِك) أَي غير مُنَاسِب لَا فِي بحثت فَلم أجد لَهُ مُنَاسبَة (تَعَارضا) أَي وصف الْمُسْتَدلّ، وَوصف الْمُعْتَرض، لِأَنَّهُ أَيْضا مُجْتَهد عدل (وَوَجَب) على الْمُسْتَدلّ (التَّرْجِيح) لوصفه الْحَاصِل من سبره على الْوَصْف الْحَاصِل من سبر الْمُعْتَرض، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مقَام المناظرة، وَإِلَّا فالمجتهد يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بظنه وَإِن كَانَ ظن غَيره أرجح فِي نفس الْأَمر، وَإِنَّمَا لم يجب على الْمُعَلل بَيَان الْمُنَاسبَة (إِذْ لَو أَوجَبْنَا بَيَانهَا على الْمُعَلل انْتقل) عَن طَرِيق السبر (إِلَى الإخالة) إِذْ هِيَ تعْيين الْعلَّة بإبداء الْمُنَاسبَة، وَهِي انْقِطَاع (وَقد يُقَال لما اخْتلف حَاله) أَي الْمُعَلل (بِحَقِيقَة الْمُعَارضَة) من الْمُعْتَرض (فَكَأَنَّهُ) أَي التَّعْلِيل (ابْتِدَاء) غير التَّعْلِيل الأول، فَلَا يضر ذَلِك الِانْتِقَال (مَعَ أَنَّهَا) أَي هَذِه الطَّرِيقَة، يَعْنِي عدم الِانْتِقَال من مَسْلَك إِلَى مَسْلَك آخر طَريقَة (تحسينية) غير ضَرُورِيَّة، فَإِن انْتقل من السبر إِلَى الإخالة فَلهُ ذَلِك، وَلَا يعد ذَلِك انْقِطَاعًا كَمَا سَيذكرُهُ المُصَنّف فِي فصل الأسولة (وَله) أَي للمعلل أَن يرجح وَصفه الْحَاصِل من سبره (بِالتَّعَدِّي) إِذا كَانَ وصف الْمُعْتَرض قاصرا على الأَصْل، والمتعدي مجمع عَلَيْهِ، والقاصر مُخْتَلف فِيهِ، أَو يُقَال:(4/47)
الْمُتَعَدِّي أَكثر فَائِدَة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَكَثْرَة الْفَائِدَة) فَهَذَا مكمل للترجيح الْمَذْكُور. وَيُمكن أَن يكون إِشَارَة إِلَى مُرَجّح آخر، وَذَلِكَ بِأَن يكون متحققا فِي محَال مُتعَدِّدَة من الْأُصُول وَالْفُرُوع فيستنبط مِنْهُ أقيسة مُتعَدِّدَة وَأَحْكَام كَثِيرَة (فَإِن قلت علم بِمَا ذكر) من عد عدم ظُهُور الْمُنَاسبَة من طرق الْحَذف حَتَّى لَو قَالَ الْمُعْتَرض: أَن المستبقى كَذَلِك بتحقق الْمُعَارضَة فَيخرج الْمُعَلل إِلَى التَّرْجِيح (اشْتِرَاط مناسبته) أَي الْوَصْف المستبقى (فَلم لم تتفق الْحَنَفِيَّة) مَعَ الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم (على قبُوله) أَي قبُول هَذَا الطَّرِيق بعد اشْتِرَاط الْمُنَاسبَة فِيهِ (قُلْنَا يجب على أصولهم) أَي الْحَنَفِيَّة (نَفْيه) أَي نفي قبُوله (وَإِن رضية الْجَصَّاص والمرغيناني) مِنْهُم، دفع لما يَأْتِي: من أَنه كَيفَ يجب على أصولهم نَفْيه مَعَ اخْتِيَار الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين إِيَّاه مَعَ كَمَال معرفتهما أصولهم وَحَاصِله أَن الْبُرْهَان إِذا قَامَ على وجوب نَفْيه على أصولهم يحكم بِمُوجب الْبُرْهَان وَإِن كَانَ مرضيهما خِلَافه فلعلهما خالفاهم فِي تِلْكَ الْأُصُول، أَو غفلا عَن موجبهما إِلَى غير ذَلِك (لِأَن الْبَاقِي بعد نفي غَيره) أَي بعد حذف غير الْبَاقِي من الْأَوْصَاف (لم يثبت اعْتِبَاره) شرعا (بِظُهُور التَّأْثِير) وَهُوَ ظُهُور أثر الْوَصْف شرعا، أَعنِي اعْتِبَاره علية جنسه أَو عينه فِي جنس الحكم أَو عينه كَأَنَّهُ أَرَادَ بالتأثير أثر الْوَصْف إِلَى آخِره، وَإِلَّا يلْزم التّكْرَار (والملاءمة) تَصْرِيح بِمَا علم ضمنا لما مر: من أَن التَّأْثِير يسْتَلْزم الْمُنَاسبَة ويسمونها ملاءمة فَالْحَاصِل أَن الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يشترطون التَّأْثِير بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور فِي الْعلَّة، وَالْحَاصِل بالسبر وَإِن اعْتبر فِيهِ الْمُنَاسبَة من أَيْن لَهُ التَّأْثِير الْمَذْكُور، وَمُجَرَّد الْمُنَاسبَة لَا تزيد عَن الإخالة وَهِي غير مُعْتَبرَة عِنْدهم (فَلِذَا) أَي فَلَمَّا ذكرنَا من لُزُوم التَّأْثِير (رده) أَي رَجَعَ الْحَاصِل بالسبر (من قبله من متأخريهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلَى النَّص أَو الْإِجْمَاع. قَالَ) الْمُتَأَخر الْمَذْكُور (أَو الْمُنَاسبَة) . قَالَ الشَّيْخ شمس الدّين التَّفْتَازَانِيّ فِي فُصُول الْبَدَائِع: إِنَّمَا لم يذكرهُ مَشَايِخنَا مَعَ صِحَّته طَرِيقا واستعمالهم إِيَّاه كثيرا، لِأَن مآله فِي التَّحْقِيق إِلَى أَخذ الْبَاقِيَة من النَّص وَالْإِجْمَاع أَو الْمُنَاسبَة والتأثير انْتهى. (وَفِيه نظر) لِأَن كَلَامه يدل على أَن رده إِلَى كل وَاحِد من الثَّلَاثَة يستدعى قبُوله وَلَيْسَ كَذَلِك (إِذْ تبين أَنَّهَا) أَي الْمُنَاسبَة الْحَاصِلَة فِي المستبقى من أَوْصَاف السبر (لَا تَسْتَلْزِم التَّأْثِير) فَإِن أَرَادَ الْمُنَاسبَة مَعَ التَّأْثِير كَمَا يفهم من عبارَة الشَّيْخ الْمَذْكُور يمْنَع الرَّد إِلَيْهَا، وَإِن أَرَادَ مَا هُوَ أَعم لَا يُفِيد الْقبُول عِنْد الْحَنَفِيَّة لاعتبارهم التَّأْثِير كَمَا مر غير مرّة (وَشَرطه) أَي الْمُتَأَخر الْمَذْكُور (فِي بَيَان الْحصْر) أَي حصر مَا يُمكن أَن يكون عِلّة من أَوْصَاف السبر فِي المستبقى (أَن يثبت عدم علية غير المستبقى بِالْإِجْمَاع أَو النَّص) قَوْله أَن يثبت إِلَى آخِره مفعول شَرطه وَخَبره قَوْله (لَا يُوجب كَونهَا) أَي كَون علية المستبقى (ثَابِتَة بِالْإِجْمَاع) أَو النَّص (إِلَّا مَعَ)(4/48)
ضميمة أُخْرَى من (الْقطع بالحذف والحصر) أَي مُجَرّد عدم ثُبُوت علية غير المستبقى لَا يسْتَلْزم عليته لجَوَاز أَن لَا يكون المستبقى أَيْضا عِلّة: نعم إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِجْمَاع على أَن الصَّالح للعلية مُطلقًا منحصر فِي هَذِه الْأَوْصَاف، وَأجْمع أَيْضا على أَن مَا عدا المستبقى مَحْذُوف ملغي، فَحِينَئِذٍ يثبت إِجْمَاعًا علية المستبقى، لِأَن الحكم لَا يكون بِلَا عِلّة كَمَا مر (وَلَيْسَ) الْقطع الْمَذْكُور (بِلَازِم للشَّافِعِيَّة) أَي عِنْد الشَّافِعِيَّة الْقَائِلين بحجيته، وَكَذَا عِنْد من وافقهم فِيهِ (بل رتبته) أَي ثُبُوت الْعلية للمستبقى، وَفِي بعض النّسخ مرتبته (الإخالة) أَي رتبته الإخالة (فَالْخِلَاف فِيهِ ثَابت، و) المسلك (الْخَامِس الدوران) وَيُسمى الطَّرْد وَالْعَكْس، اخْتلفُوا فِيهِ هَل هُوَ مَسْلَك صَحِيح أم لَا؟ (نَفَاهُ) أَي نفى كَونه مسلكا صَحِيحا للعلية (الْحَنَفِيَّة ومحققو الأشاعرة) كَابْن السَّمْعَانِيّ وَالْغَزالِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب (وَالْأَكْثَر) قَالُوا (نعم) هُوَ مَسْلَك صَحِيح. (ثمَّ) اخْتلف الْقَائِلُونَ بِصِحَّتِهِ هَل يُفِيد الْقطع أَو الظَّن (قيل يُفِيد ظنا) بالعلية، قَالَه الإِمَام الرَّازِيّ وعراقيو الشَّافِعِيَّة، وَعَلِيهِ جُمْهُور الجدليين (وَقيل) يُفِيد (قطعا) وَهُوَ معزو إِلَى بعض الْمُعْتَزلَة (وَشرط بَعضهم لاعتباره) أَي الدوران (قيام النَّص) الدَّال على الحكم (فِي حَالي وجود الْوَصْف وَعَدَمه) وَالْحكم لَا يُضَاف إِلَى النَّص، بل إِلَى الْوَصْف (كَالْوضُوءِ وَجب للْقِيَام) إِلَى الصَّلَاة حَال كَون الْقَائِم (مُحدثا، وَلم يجب لَهُ) أَي للْقِيَام (دونه) أَي دون الْحَدث، فوجوب الْوضُوء مُعَلل بِالْحَدَثِ دائر مَعَه وجودا وعدما، وَالنَّص وَهُوَ الْقيام إِلَى الصَّلَاة قَائِم: أَي مَوْجُود فِي حَال وجود الْحَدث وَعَدَمه من غير أَن يُضَاف الحكم إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذا قَامَ إِلَيْهَا مُحدثا يجب الْوضُوء للْحَدَث لَا للْقِيَام إِلَيْهَا، وَإِذا قَامَ إِلَيْهَا غير مُحدث لَا يجب (وَمُقْتَضى النَّص) أَي قَوْله تَعَالَى - {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} - الْآيَة (الْوُجُوب) أَي وجوب الْوضُوء على الْقَائِم إِلَيْهَا مَعَ عدم الْحَدث (كَمَا) مُقْتَضَاهُ وُجُوبه على الْقَائِم إِلَيْهَا (مَعَه) أَي مَعَ الْحَدث، وَذَلِكَ لِأَن الْجَزَاء وَهُوَ الْأَمر بِالْغسْلِ لَازم للشّرط وَهُوَ الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَإِنَّمَا شَرط هَذَا لاعْتِبَار الدوران، لِأَنَّهُ عِنْد كَون الحكم دائرا مَعَ الْوَصْف وجودا وعدما، وَعدم كَونه مُضَافا إِلَى النَّص حَال وجود الْوَصْف، وَعدم دلَالَة ظَاهِرَة على علية الْوَصْف (وَالْقَضَاء) حَال كَون القَاضِي (غَضْبَان بِلَا شغل بَال جَائِز، وَالنَّص) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقْضِي) القَاضِي بَين اثْنَيْنِ (وَهُوَ غَضْبَان) الْمُفِيد حُرْمَة الْقَضَاء فِي حَال الْغَضَب (قَائِم) فِي حَالي وجود الْوَصْف: أَي شغل البال وَعَدَمه، وَالْحكم دائر مَعَ عدم شغل البال وجودا وعدما، فَإِذا كَانَ غَضْبَان غير مَشْغُول البال يجوز قَضَاؤُهُ، وَإِذا كَانَ مَشْغُول البال بِغَيْر غضب بل بِنَحْوِ جوع وعطش مفرطين، أَو وجع شَدِيد(4/49)
أَو مدافعة الأخبثين لَا يجوز قَضَاؤُهُ، فَعلم أَن الحكم لَا يُضَاف إِلَى النَّص لِأَن مُقْتَضَاهُ أَن لَا يقْضى فِي الْغَضَب، وَيقْضى فِي غير الْغَضَب: إِمَّا بطرِيق الْمَفْهُوم عِنْد الْقَائِل بِهِ وَإِمَّا بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّة، أَو بِإِطْلَاق النُّصُوص عِنْد غَيره (وَلَا دَلِيل لَهُ) أَي لهَذَا الشارط على اعْتِبَار هَذَا الشَّرْط (غير الْوُجُود) أَي وجود مَا شَرطه فِي هذَيْن النصين، وَأَنت تعلم أَن الْوُجُود لَا يسْتَلْزم الِاشْتِرَاط (و) قد (منع) وجود الشَّرْط الْمَذْكُور فيهمَا (بِأَن مُرَاده) تَعَالَى وَهُوَ أعلم بمراده إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة (وَأَنْتُم محدثون) كَمَا هُوَ مأثور عَن ابْن عَبَّاس ومنصوص فِي التَّيَمُّم، وَهُوَ بدله، وَالْبدل لَا يُفَارق الأَصْل فِي مثله، وَإِلَّا لم يكن بَدَلا بل كَانَ وَاجِبا ابْتِدَاء على مَا قَالُوا (و) بِأَن (الشّغل) للقلب (لَازم) للغضب فَلَا يُوجد الْغَضَب بِدُونِهِ، فَلم يُوجد جَوَاز الْقَضَاء مَعَ قيام النَّص (فالنص) مَحْمُول (على ظَاهره) . وَلَا نسلم أَن من حكم هَذَا النَّص حل الْقَضَاء عِنْد عدم الْغَضَب: أما عندنَا فلعدم الْمَفْهُوم، وَأما عِنْد الْقَائِل بِهِ فَيشْتَرط عدم التَّسَاوِي بَين الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم، وَعند شغل الْقلب بِغَيْر الْغَضَب مِمَّا ذكر من الْأَسْبَاب، فالتساوي بَينهمَا مَوْجُود. (النافون) لكَون الدوران مسلكا صَحِيحا (قَالُوا تحقق انتفاؤها) أَي الْعلية (مَعَ وجوده) أَي الدوران (فِي المتضايفين) كالأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية: فَإِنَّهُ كلما تحقق أَحدهمَا تحقق الآخر، وَكلما انْتَفَى انْتَفَى، وَلَا علية وَلَا معلولية بَينهمَا اتِّفَاقًا (و) فِي (غَيرهمَا) أَي المتضايفين (كالحرمة مَعَ رَائِحَة الْمُسكر) الْمَخْصُوصَة بِهِ، فَإِنَّهَا تَدور مَعهَا وجودا وعدما (وَلَيْسَت) الرَّائِحَة (الْعلَّة) للْحُرْمَة (وَلَو الْتفت إِلَى نفي غَيره) أَي غير الْمدَار من الْأَوْصَاف الَّتِي لَا يَدُور مَعهَا الحكم (بِالْأَصْلِ) بِأَن يُقَال وَالْأَصْل عدم علية الْغَيْر (أَو السبر) بِأَن يحصل الْأَوْصَاف وينفي مَا عدا الْمدَار (خرج) كَون الْمدَار عِلّة (عَنهُ) أَي عَن ثُبُوته بالدوران. (وَيدْفَع) هَذَا الدَّلِيل (بِأَنَّهُ) أَي انْتِفَاء الْعلية (فِيمَا ذكر) من المتضايفين وَغَيرهمَا (لمَانع) من الْعلية (كَمَا تبين) قَرِيبا، والتخلف لمَانع غير قَادِح (فَلَا يَنْفِي) انتفاؤها لمَانع (ظَنّهَا) أَي الْعلية (إِذا تجرد) الْمدَار (عَنهُ) أَي عَن الْمَانِع (وَالْكَلَام فِيهِ) أَي فِيمَا تجرد عَن الْمَانِع. قَالَ (الْغَزالِيّ) من النافين: الدوران عبارَة عَن اطراد الْوَصْف وانعكاسه، وَلَا يُفِيد شَيْء مِنْهُمَا الْعلية، إِذْ (الاطراد) حَاصله (عدم النَّقْض) وَأَن لَا يُوجد الْوَصْف فِي صُورَة بِدُونِ الحكم، والنقض من جملَة مفسدات الْعلَّة، وَانْتِفَاء المفسدات كلهَا لَا يَكْفِي فِي صِحَة الْعلية فضلا عَن انْتِفَاء وَاحِد مِنْهَا، إِذْ عدم الْمَانِع وَحده لَا يصلح عِلّة مقتضية (فَأَيْنَ الْمُقْتَضى للعلية أَولا) كَمَا يُقَال: اثْبتْ الْعَرْش ثمَّ انقش، فَلَا بُد أَولا من بَيَان وجود الْمُقْتَضى ثمَّ بَيَان عدم الْمَانِع. (وَأما الانعكاس فَلَيْسَ شرطا لَهَا) أَي لِلْعِلَّةِ (وَلَا لَازِما) لَهَا. فِي الشَّرْح العضدي: شَرط فِي الْعلَّة الانعكاس، وَهُوَ أَنه كلما عدم الْوَصْف عدم الحكم(4/50)
وَلم يَشْتَرِطه آخَرُونَ؛ وَالْحق أَنه مَبْنِيّ على جَوَاز تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين مختلفتين، لِأَنَّهُ إِذا جَازَ ذَلِك صَحَّ أَن يَنْتَفِي الحكم بِوُجُود الْوَصْف الآخر (أُجِيب) عَن احتجاج الْغَزالِيّ بِأَن (الْمُدَّعِي) إِثْبَات الْعلية (بالمجموع) الْمركب من الاطراد والانعكاس (لَا بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا) وَقد يكون للهيئة الاجتماعية أثر لَيْسَ لكل وَاحِد. (القاطعون) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن الدوران يُفِيد الْعلية قطعا قَالُوا (إِذا وَقع الدوران) أَي تحقق (وَعلم انْتِفَاء مَانع الْمَعِيَّة فِي التضايف) أَي الْمَانِع الَّذِي هُوَ الْمَعِيَّة المنافية لتقدم أَحدهمَا على الآخر فَإِنَّهُمَا يوجدان مَعًا ذهنا وخارجا، وَفِيه أَن الْمَعِيَّة الزمانية لَا تنَافِي التَّقَدُّم الذاتي (و) علم انْتِفَاء مَانع (عدم التَّأْثِير كالشرط الْمسَاوِي) فَإِن الشَّرْط عبارَة عَن عِلّة لَا تَأْثِير لَهَا، وَقيد بالتساوي ليتَحَقَّق الطَّرْد، أَعنِي الدوران وجودا: إِذْ مَعَ الْأَعَمّ لَا يلْزم وجود الْمَشْرُوط (و) علم انتقا مَانع (التَّأَخُّر) الْكَائِن (فِي المعلولية) فَإِن وصف التَّأَخُّر لَازم للمعلولية مَانع عَن كَونه عِلّة (قطع بهَا) أَي بالعلية جَوَاب للشّرط الْمُتَقَدّم (للْعَادَة المستمرة فِيمَن تكَرر دوران غَضَبه عَن اسْم حَتَّى علمه من لَا أَهْلِيَّة فِيهِ للنَّظَر كالصبيان) يَعْنِي إِذا دعى شخص باسم مغضب فَغَضب ثمَّ ترك فَلم يغْضب وتكرر ذَلِك علم بِالضَّرُورَةِ أَن ذَلِك سَبَب الْغَضَب حَتَّى أَن من لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النّظر كالأطفال يعلمُونَ ذَلِك ويتبعونه فِي الدروب ويقصدون إغضابه فيدعونه بِهِ، وَلَوْلَا أَنه ضَرُورِيّ لما علموه، فَهَذِهِ الْعَادة المستمرة تُفْضِي بإفادة الدوران الْعلم بسببية الْمدَار لما يَدُور مَعَه قطعا، فَإِنَّهُ لَا مُوجب فِيهَا لحُصُول الْعلم الْمَذْكُور سوى الدوران (أُجِيب بِأَن النزاع) إِنَّمَا هُوَ (فِي حُصُول الْعلم بِمُجَرَّدِهِ) أَي الدوران) (وَالظَّن) بالعلية إِنَّمَا يحصل فِي الْمِثَال الْمَذْكُور (عِنْده) أَي عِنْد الدوران حَال كَونه مُنْضَمًّا (مَعَ غَيره) أَي الدوران (من التكرر) بَيَان للْغَيْر (لَا) مَعَ (عَدمه) أَي عدم غير الْمدَار (بِعَدَمِ وجدانه) أَي الْغَيْر (مَعَ) وُقُوع (الْبَحْث) والتفتيش (عَنهُ) أَي عَن الْغَيْر كَمَا ذكره فِي الشَّرْح العضدي فِي تَقْرِير الْجَواب من قَوْله: الْجَواب مَحل النزاع لَيْسَ هُوَ حُصُول الْعلم بِهِ، بل حُصُوله بِمُجَرَّدِهِ: وَذَلِكَ فِيمَا ذكرْتُمْ من الْمِثَال مَمْنُوع، إِذْ لَوْلَا انْتِفَاء غير ذَلِك إِمَّا بِأَنَّهُ بحث عَنهُ فَلم يُوجد، وَإِمَّا أَن الأَصْل عَدمه لما ظن انْتهى. فَعلم أَن الظَّن إِنَّمَا يحصل بمساعدة الْغَيْر لَا بِمُجَرَّدِهِ (فضلا عَن) حُصُول (الْعلم) بِمُجَرَّدِهِ، وَإِنَّمَا جعل التكرر غير الدوران، لِأَنَّهُ عبارَة عَن الْوُجُود مَعَ الْوُجُود والعدم مَعَ الْعَدَم. وَلَا شكّ أَن تكَرر الْوُجُود مَعَ الْوُجُود أَمر زَائِد على أصل الْوُجُود مَعَ الْوُجُود. وَلَا شكّ أَن انضمام أَمر وجودي إِلَيْهِ فِي الدّلَالَة على الْعلية أَدخل فِي نفي الِاسْتِقْلَال فِيهَا من انضمام أَمر عدمي إِلَيْهِ (وَدفع) هَذَا الْجَواب (بِأَنَّهُ) أَي إِنْكَار حُصُول الْعلم بالدوران فِي مثل مَا ذكر (إِنْكَار للضروريات) أَي البديهيات (وقدح فِي التجريبيات، فَإِن الْأَطْفَال(4/51)
يقطعون بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ مُفِيدا للعلية (بِلَا أَهْلِيَّة اسْتِدْلَال) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُجيب لَا يُنكر أصل حُصُول الْعلم بالعلية، بل يُنكر حُصُوله بِمُجَرَّد الدوران، فَلَا يلْزم عَلَيْهِ إِنْكَار الضروريات فَتدبر (وَيُجَاب) عَن هَذَا الدّفع (بِأَن مثله) أَي الدوران (يصلح لإِثْبَات الْعلية لغير الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة المبنية على الْمصَالح) وَهُوَ العقليات، فَإِنَّهَا لَا تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان (أما هِيَ) أَي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (فَلَا بُد فِي بَيَان عللها من مُنَاسبَة أَو اعْتِبَار من الشَّارِع) . وَقد سبق أَن الْمُنَاسبَة عندنَا تَسْتَلْزِم التَّأْثِير: وَحَاصِله اعْتِبَار جنس الْوَصْف أَو نَوعه فِي جنس الحكم أَو نَوعه، وَالِاعْتِبَار من الشَّارِع عبارَة عَمَّا ذكر، وَكلمَة أَو للتنويع فِي التَّعْبِير (إِذْ فِي القَوْل) بِإِثْبَات الْعلَّة (بالطرد فتح بَاب الْجَهْل) اكْتفى بِذكر الطَّرْد، لِأَن الْعُمْدَة فِي الدوران أَو لِأَن الْعَكْس لَا يعْتَبر فِي الْعلَّة لما مر من جَوَاز تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين، وَأما كَونه فتح بَاب الْجَهْل فَلِأَن الْعلم عبارَة عَمَّا يُوجد من الشَّارِع، أَو من الْعقل بالبرهان الْقطعِي وَلَا يتَحَقَّق شَيْء مِنْهَا فِي الطَّرْد، وَيجوز فِيهِ وجود الْمعَارض والمناقض، وَبِالْجُمْلَةِ يحْتَمل أَن لَا يعْتَبر علية الْمدَار الشَّرْع احْتِمَالا قَوِيا (و) فتح بَاب (التَّصَرُّف فِي الشَّرْع) وَهُوَ نوع استهزاء بقواعد الدّين، وتطريق لكل قَائِل أَن يَقُول مَا أَرَادَ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَى غير ذَلِك، (وَهَذَا) الْجَواب (دفع) لحجة القاطعين (من) قبل (الْحَنَفِيّ) فَإِنَّهُ يعْتَبر فِي الْعلَّة الْمُنَاسب وَالِاعْتِبَار من الشَّارِع (وَقَوله) أَي الْمُجيب (من مُنَاسبَة) أُرِيد بهَا الْمُنَاسبَة الْمَخْصُوصَة (أَي الْمُنَاسب المقبول إِجْمَاعًا) أَي مُنَاسبَة الْمُنَاسب الَّذِي قبل إِجْمَاعًا (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب المقبول إِجْمَاعًا (الضَّرُورِيّ) أَي الْوَصْف الْمُشْتَمل على مصلحَة ضَرُورِيَّة لم تهدر فِي مِلَّة كحفظ النَّفس (أَو المصلحي) أَي الْمُشْتَمل على مصلحَة حاجية دون الأول كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَقد مر بيانهما (لَا) من قبل (الشَّافِعِي لِأَنَّهُ) أَي الشَّافِعِي (لَا يمْتَنع أَن يثبت طَرِيقا للعلية) أَي لإثباتها (لَا يجب فِيهَا) أَي فِي تِلْكَ الطَّرِيق (ظُهُور الْمُنَاسبَة كالسبر والدوران) وَإِنَّمَا قَالَ لَا يجب فِيهَا ظُهُورهَا لِأَنَّهُ قد يظْهر فِيهَا لكنه غير لَازم (وَأَن شَرطهَا) أَي الشَّافِعِي الْمُنَاسبَة (فِي نفس الْأَمر) يَعْنِي لم يُصَرح بالاشتراط، لكنه لزم عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر (على معنى أَنه) أَي تَعْلِيله فِي موارده (يدل على ثُبُوتهَا) أَي الْمُنَاسبَة بَينهمَا (فِي نفس الْأَمر، وَقد يخْتَلف) أَي يَقع الِاخْتِلَاف (فِيهِ) أَي فِي ثُبُوتهَا (كَمَا فِي الدوران، وَقيل منشأ الْخلاف فِيهِ) أَي فِي إِفَادَة الدوران الْعلية (عدم أَخذ قيد صَلَاحِية الْوَصْف) للعلية (أما مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْقَيْد (وَهُوَ) أَي الْقَيْد الْمَذْكُور (مُرَاد) للقائل بإفادة الدوران الْعلية (فَلَا خَفَاء فِي حُصُول ظن عليته) أَي الْوَصْف الْمدَار بعد تحقق الْقَيْد الْمَذْكُور (بالدوران، بِخِلَاف مَا) إِذا (لم يظْهر لَهُ فِيهِ) أَي فِي(4/52)
الْمدَار (مُنَاسبَة كالرائحة) أَي رَائِحَة الْمُسكر وَظن عليتها (للتَّحْرِيم) فَإِنَّهُ غير موجه لعدم ظُهُور الْمُنَاسبَة بَينهَا وَبَين التَّحْرِيم على وَجه يقتضى عليتها لَهُ (وَأما الشّبَه) الْمَعْدُود من المسالك لِلْعِلَّةِ (عِنْد الشَّافِعِيَّة فَلَيْسَ من المسالك) فِي نفس الْأَمر (لِأَنَّهَا) أَي المسالك إِنَّمَا هِيَ (المثبتة لعلية الْوَصْف) للْحكم (والشبه تثبت عليته بهَا) أَي بالمسالك.
وَقد اخْتلفت عباراتهم فِي تَفْسِيره، وَاخْتَارَ المُصَنّف مَا لخص فِي الشَّرْح العضدي فَقَالَ (وَالْمرَاد) بِهِ هَهُنَا (مَا) أَي الْوَصْف الَّذِي (مناسبته) للْحكم (لَيست بِذَاتِهِ) أَي بِالنّظرِ إِلَى ذَات ذَلِك الْوَصْف (بل) مناسبته لَهُ (بشبهه) الْوَصْف الْمُنَاسب بِذَاتِهِ شبها يَقْتَضِي الظَّن بعليته للْحكم (فَيحْتَاج) فِي إِثْبَات عليته (إِلَى الْمُثبت) لَهَا، وَكَذَا قيل فِيهِ: وصف لم يثبت مناسبته إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل عَنهُ (فَلَا يَصح إِنْكَاره) أَي إِنْكَار علية الشّبَه (بعد إثْبَاته) أَي إِثْبَات كَونه عِلّة بِالدَّلِيلِ (غير أَنه لَا يثبت) كَونه عِلّة (بالإخالة) بل بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع أَو السبر عِنْد الْقَائِل بِهِ (وَإِلَّا) لَو ثَبت بالإخالة أَيْضا (كَانَ) الشّبَه (الْمُنَاسب الْمَشْهُور) وَهُوَ الْمُنَاسب بِذَاتِهِ، وَلَيْسَ إِيَّاه، بل بَينهمَا تقَابل، ثمَّ بَين مِثَاله بقوله (كطهارة) بِالرَّفْع على الْحِكَايَة: أَي كَأَن يُقَال فِي إِلْحَاق إِزَالَة الْخبث بِإِزَالَة الْحَدث فِي تعين المَاء، إِن إِزَالَة الْخبث طَهَارَة (ترَاد للصَّلَاة فَلَا يجزى فِيهَا غير المَاء كَالْوضُوءِ) فَإِنَّهُ طَهَارَة يُرَاد للصَّلَاة لَا يَجْزِي فِيهِ غير المَاء، فالشبه كَونهَا طَهَارَة ترَاد للصَّلَاة لِأَن الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين تعين المَاء لَيست بِذَاتِهِ بل بشبهه: وَهُوَ الْوضُوء الَّذِي هُوَ لإِزَالَة الْحَدث فَإِن الشَّارِع قد اعْتبر فِيهِ خُصُوصِيَّة المَاء فِي الصَّلَاة وَمَسّ الْمُصحف وَالطّواف، وَإِطْلَاق الشّبَه على الْوضُوء لكَونه مشتبها بِهِ، إِذْ إِزَالَة الْخبث وَهُوَ الْوضُوء يشبه بِهِ والكون الْمَذْكُور مُشْتَرك بَينهمَا وَإِضَافَة الشّبَه بِمَعْنى المشتبه إِلَيْهِ لأدنى مُلَابسَة، وَإِذا عرفت أَن الْمُنَاسبَة بَينهمَا لَيست لذاته بل لشبهه فَلَا بُد من إِثْبَات كَون الْوَصْف الْمَذْكُور عِلّة للْحكم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِن ثَبت بِأحد المسالك أَن كَون الطَّهَارَة ترَاد للصَّلَاة يَصح عِلّة تعين المَاء لزم) فَقَوله أَن مَعَ اسْمهَا وخبرها فَاعل ثَبت وَاسْمهَا كَون، وَقد أضيف إِلَى اسْمه، وَقَوله ترَاد للصَّلَاة خبر كَون، وَقَوله يَصح خبر أَن، وَقَوله عِلّة تعين المَاء تَمْيِيز عَن نِسْبَة يَصح إِلَى ضَمِيره: أَي يَصح الْكَوْن الْمَذْكُور من حَيْثُ عليته للتعيين، وَقَوله لزم جَزَاء الشَّرْط: أَي لزم على ذَلِك التَّقْدِير اعْتِبَار علية كَون الْمَذْكُور (وَإِلَّا) وَإِن لم يثبت بِأحد المسالك مَا ذكر (لَا يُوجِبهُ) أَي تعين المَاء (مُجَرّد اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار الشَّارِع تعين المَاء (فِي) إِزَالَة (الْحَدث) أَي فِي الْوضُوء، فَإِن غَايَته اعْتِبَار خُصُوص المَاء فِيهِ، وَهَذَا لَا يسْتَلْزم أَن يكون عِلّة ذَلِك الِاعْتِبَار الْكَوْن الْمَذْكُور (وعَلى هَذَا أَي على اشْتِرَاط ثُبُوت ذَلِك بِأحد المسالك (فمرجعه) أَي الشّبَه (إِلَى إِثْبَات علية وصف بِأحد(4/53)
المسالك وَلَيْسَ شَيْئا آخر) فَانْتفى مَا صرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره من أَنه من مسالك الْعلَّة، وَنقل الشَّارِح تصريحهم بِأَن الْمُثبت لمناسبة الْوَصْف الشبهي للْحكم اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه فِي بعض الصُّور بِإِثْبَات الحكم فِي مَحل وجود ذَلِك الْوَصْف الموهم كَونه مناسبا لَا يلْتَفت إِلَيْهِ بعد هَذَا الْبَيَان الْوَاضِح لظُهُور أَن ثُبُوت الحكم فِي مَحل وجود الْوَصْف لَا يسْتَلْزم عليته قَالُوا وَظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه قبُوله وَلم يقبله آخَرُونَ مِنْهُم الباقلاني والصيرفي وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ كأصحابنا (وَيُقَال) الشّبَه (أَيْضا لأشبهية) أحد (وصفين) كائنين (فِي فرع تردد) ذَلِك الْفَرْع (بهما) أَي بِسَبَب ذَيْنك الوصفين (بَين أصلين) بِحَيْثُ يُمكن إِلْحَاق ذَلِك الْفَرْع لكل مِنْهُمَا (كالآدمية والمالية) فَإِنَّهُمَا وصفان كائنان (فِي العَبْد الْمَقْتُول) وَقد (تردد) العَبْد الْمَقْتُول (بهما) أَي بالآدمية والمالية (بَين الْأَصْلَيْنِ الْإِنْسَان وَالْفرس) فَإِن نَظرنَا إِلَى آدميته ألحقناه بالإنسان الْحر وأوجبنا على قَاتله الدِّيَة، غير أَن الدِّيَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد قِيمَته لَا تزاد على عشرَة آلَاف دِرْهَم إِلَّا عشرَة، وان نَظرنَا إِلَى مَالِيَّته ألحقناه بالفرس فأوجبنا عَلَيْهِ الْقيمَة بَالِغَة مَا بلغت كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، لَكِن العَبْد أشبه بِالْحرِّ، لِأَن مشاركته مَعَ الْحر فِي الْأَوْصَاف وَالْأَحْكَام أَكثر، لكَونه ناطقا قَابلا للصناعات إِلَى غير ذَلِك، فالأشبهية فِي الْحَقِيقَة للموصوف بالوصفين، لكنه أضيف إِلَيْهِمَا لِأَن أَحدهمَا سَبَب لأشبهيته (وَاعْلَم أَن الْحَنَفِيَّة ينسبون الدوران لأهل الطَّرْد وَكَذَا السبر) ينسبونه إِلَيْهِم (إِذْ يُرِيدُونَ) أَي الْحَنَفِيَّة بِأَهْل الطَّرْد (من لَا يشْتَرط ظُهُور التَّأْثِير) فِي الْوَصْف الَّذِي يَدعِي عليته (وَعلمت) فِي المرصد الأول (أَنه) أَي التَّأْثِير عِنْد الْحَنَفِيَّة (يُسَاوِي الملاءمة عِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة، فِيهِ أَن التَّأْثِير عِنْد الْحَنَفِيَّة أَعم من الملاءمة لصدقه على مُؤثر الشَّافِعِيَّة أَيْضا على مَا مر، فَكَأَنَّهُ لدورانه لَا يتَجَاوَز الملاءمة بعد الْمُؤثر (وعَلى هَذَا) أَي على التَّسَاوِي الْمَذْكُور (فَمن الطَّرْد) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (الإخالة) لِأَنَّهَا إبداء الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم من غير اعْتِبَار ظُهُور التَّأْثِير (وَيُؤَيِّدهُ) أَي كَون المُرَاد من الطَّرْد عِنْدهم مَا ذكر (تصريحهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بِأَن عَامَّة أهل النّظر مالوا إِلَى الِاحْتِجَاج بِهِ) أَي بالطرد (وَمَعْلُوم تصريحهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بِأَن علل الشَّرْع لَا بُد فِيهَا من الْمُنَاسبَة) فَلَا يحْتَمل أَن يُرِيدُوا بالطرد مَالا مُنَاسبَة فِيهِ أصلا، لِأَنَّهُ خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ من لُزُوم الْمُنَاسبَة فِي الْجُمْلَة (فَلَيْسَ أَهله) أَي الطَّرْد (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلَّا من ذكرنَا) أَي من لَا يشْتَرط ظُهُور التَّأْثِير الَّذِي شَرطه الْحَنَفِيَّة (فَلَا أحد يضيف حكم الشَّرْع إِلَى مَالا مُنَاسبَة لَهُ أصلا) أَي إِلَى وصف لَا مُنَاسبَة بَينه وَبَين الحكم بجعله عِلّة لَهُ (كالطول وَالْقصر) فَإِنَّهُمَا فِي عدم الْمُنَاسبَة بِحَيْثُ لَا يضيف إِلَيْهِمَا أحد حكما من الْأَحْكَام، وَلِهَذَا لَا يجد التَّعْلِيل بِأَحَدِهِمَا فِي(4/54)
التَّعْلِيل بأمثالهما فِي الشَّرْع فِي مَذْهَب من الْمذَاهب أصلا، بِخِلَاف الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة فَإِنَّهُ قد يُعلل بهما (فالطرد مَا) أَي وصف (لَا مُنَاسبَة لَهُ) مُنَاسبَة (يثبت اعْتِبَارهَا اتِّفَاقًا) أَي لَو ثَبت اعْتِبَارهَا مُنَاسبَة بالِاتِّفَاقِ، بل اخْتلف فِي اعْتِبَارهَا مِنْهُم من اعتبرها، وَمِنْهُم من لَا يَعْتَبِرهَا (وَالْخلاف فِيمَا بِهِ الِاعْتِبَار (فالحنفية) يَقُولُونَ (لَيْسَ) مَا بِهِ الِاعْتِبَار (إِلَّا التَّأْثِير الَّذِي هُوَ الملاءمة) الْمُعْتَبرَة (للشَّافِعِيَّة) بِمَا مر (وَالشَّافِعِيَّة) تعْتَبر الْمُنَاسبَة (بغَيْرهَا) أَي الملاءمة (أَيْضا، وَلَا يخْتَلف) بِصِيغَة الْمَجْهُول (فِي أَن الشَّارِع إِذا وضع أمرا) لِأَن يكون (عَلامَة) دَالَّة (على حكم كالدلوك) أَي كوضعه زَوَال الشَّمْس أَو غُرُوبهَا عَلامَة (على الْوُجُوب) أَي وجوب الصَّلَاة بقوله تَعَالَى - {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} - (أضيف) ذَلِك الحكم (إِلَيْهِ) أَي إِلَى مَا جعل عَلامَة عَلَيْهِ من غير توقف على بَيَان مُنَاسبَة أَو ملاءمة (لكنه) أَي ذَلِك الْأَمر (لَيْسَ عِلّة) لذَلِك الحكم (إِلَّا مجَازًا) لمشاركته إِيَّاهَا فِي كَونه عَلامَة للْحكم، وَالْعلَّة لَهُ حَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ الْخطاب، وَاصْطِلَاحا مَا شرع الحكم عِنْده لحُصُول مصلحَة. (وَاعْلَم أَن الأمارة فِي اصْطِلَاح الْحَنَفِيَّة لَيست بشهرة الْعَلامَة) أَي لَيست بمشهورة بشهرة كشهرة الْعَلامَة، بل الْعَلامَة عِنْدهم أشهر (وتقسيمهم) أَي الْحَنَفِيَّة (الْخَارِج) عَن الحكم (الْمُتَعَلّق بالحكم إِلَى مُؤثر فِيهِ) أَي فِي الحكم (ومفض إِلَيْهِ) أَي موصل إِلَى الحكم (بِلَا تَأْثِير) هما (الْعلَّة وَالسَّبَب، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَارِج مؤثرا وَلَا مفضيا إِلَيْهِ (فَإِن توقف عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الْخَارِج (الْوُجُود) أَي وجود الحكم (فَالشَّرْط وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَارِج مؤثرا وَلَا مفضيا إِلَيْهِ، فَإِن توقف عَلَيْهِ: أَي على هَذَا الْخَارِج الْوُجُود: أَي وجود الحكم فَالشَّرْط، وَإِن لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوُجُود (فَإِن دلّ) ذَلِك الْخَارِج (عَلَيْهِ) أَي على الحكم بِأَن يكون الْعلم بتحققه مستلزما للْعلم بِوُجُود الحكم (فالعلامة) . قَوْله تقسيمهم مُبْتَدأ، وَمَا بعده مُتَعَلق بِهِ، وَخَبره مَحْذُوف بِقَرِينَة السِّيَاق والسباق، يَعْنِي يُفِيد مَا قُلْنَا من أَن الْعَلامَة لَيست بعلة حَقِيقِيَّة، ثمَّ ذكر تقسيمهم هَهُنَا تَوْطِئَة لتفصيل كل وَاحِد مِنْهُم من هَذِه الْأَقْسَام وتقسيمه إِلَى أَقسَام سوى الْعلَّة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فالعلة) الْحَقِيقِيَّة وَمَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْعلَّة بالاشتراك أَو بالمجاز (تقدّمت بأقسامها) فِي تَتِمَّة من المرصد الأول (وَهَذَا) الَّذِي نشرع فِيهِ (تقسيمهم مَا سواهَا) أَي الْعلَّة (فالسبب تجب) أَن تكون (الْعلَّة بَينه) أَي بَين السَّبَب (وَبَين الحكم) لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من عِلّة مُؤثرَة فِيهِ أَو مَوْضُوعَة لَهُ، وَالسَّبَب طَرِيق مفض إِلَيْهِ من غير تَأْثِير فِيهِ وَوضع لَهُ (فَلَمَّا تُضَاف) الْعلَّة (إِلَيْهِ) أَي إِلَى السَّبَب (كالسوق) للدابة (الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعلَّة وَطْؤُهَا) عطف بَيَان لِلْعِلَّةِ: أَي وَطْء الدَّابَّة نفسا أَو مَالا، فالسوق سَبَب التّلف، وَلَيْسَ بعلة لَهُ لِأَنَّهُ (لم يوضع للتلف) بل لسير الدَّابَّة لما يُرَاد بِهِ (وَلم يُؤثر فِيهِ) أَي فِي التّلف (بل(4/55)
طَرِيق) مفض (إِلَيْهِ) وَالْعلَّة المؤثرة وَطْء الدَّابَّة بقوائمها (فالسبب فِي معنى الْعلَّة) أَي إِذا كَانَ السَّبَب بِحَيْثُ تُضَاف إِلَيْهِ الْعلَّة فَهُوَ فِي معنى الْعلَّة لحدوث الْعلَّة بِهِ فَإِن السُّوق يحمل الدَّابَّة على ذَلِك كرها (فَلهُ) أَي لهَذَا السَّبَب (حكمهَا) أَي الْعلَّة (فِيمَا يرجع إِلَى بدل الْمحل) أَي مَحل الحكم وَهُوَ الْإِتْلَاف هُنَا: يَعْنِي الضَّمَان (لَا) فِيمَا يرجع إِلَى (جَزَاء الْمُبَاشرَة، فَعَلَيهِ) أَي على السَّائِق (الدِّيَة) إِذا وطِئت إنْسَانا فَقتلته لِأَنَّهَا بدل الْمحل، والسوق وَإِن جَازَ للْحَاجة إِلَيْهِ لَكِن بِشَرْط السَّلامَة، وَالْقَصْد لَيْسَ بِشَرْط الضَّمَان فِي حُقُوق الْعباد، والعجماء إِنَّمَا يكون فعلهَا جبارا إِذا لم يكن لَهَا قَائِد وَلَا سائق (لَا) علية (حرمَان الْإِرْث وَنَحْوه) من الْكَفَّارَات لَا الْقصاص لِأَنَّهَا جَزَاء الْمُبَاشرَة (وَالشَّهَادَة) بِالْجَرِّ عطفا على السُّوق، مِثَال آخر للسبب الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعلَّة (للْقصَاص) أَي لوُجُوبه فَإِن الشَّهَادَة (لم تُوضَع لَهُ) أَي للْقصَاص (وَلم تُؤثر فِيهِ بل) هِيَ (طَرِيقه) أَي الْقصاص (وعلته) أَي الْقصاص (الْمُتَوَسّط) أَي مَا توَسط بَين الشَّهَادَة وَوُجُوب الْقصاص (من فعل) الْفَاعِل (الْمُخْتَار الْمُبَاشر للْقَتْل: لَكِن فِيهِ) أَي السَّبَب الَّذِي هُوَ الشَّهَادَة (معنى الْعلَّة لِأَنَّهَا) أَي الشَّهَادَة مؤدية إِلَى الْقَتْل بِوَاسِطَة إِيجَابهَا الْقَضَاء) على القَاضِي فَيحكم بِوُجُوبِهِ (و) بِوَاسِطَة (اخْتِيَار الْوَلِيّ) أَي ولي الْمَقْتُول (إِيَّاه) أَي الْقَتْل (على الْعَفو) فَإِن الِاخْتِيَار فرع الْقُدْرَة الْحَاصِلَة بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا سلطته عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِم) أَي الشُّهُود (برجوعهم) عَن الشَّهَادَة (الدِّيَة) لِأَنَّهَا بدل الْمحل (لَا الْقصاص لِأَنَّهُ) أَي الْقصاص (جَزَاء الْمُبَاشرَة) للْقَتْل فَإِن الْجَزَاء يجب أَن يكون مماثلا للْفِعْل الْمُوجب لَهُ (وَعند الشَّافِعِي يقْتَصّ) من الشُّهُود الراجعين (إِذا قَالُوا تعمدنا الْكَذِب وَعلم من حَالهم أَنه لم يخف عَلَيْهِم قبولهم) أَي قبُول شَهَادَتهم، وَإِن كَانُوا مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ مثله لقرب عَهدهم بِالْإِسْلَامِ حلفوا عَلَيْهِ، وَلَا يجب الْقصاص وعزروا، وَتجب دِيَة مُغَلّظَة فِي أَمْوَالهم إِلَّا أَن تصدقهم الْعَاقِلَة فَيكون عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا يقْتَصّ مِنْهُم عِنْد ذَلِك (جعلا للسبب) الْقوي (الْمُؤَكّد بِالْقَصْدِ الْكَامِل كالمباشرة) فِي إِيجَاب الْقصاص (وَدفع) قَوْله (بِأَن الْقصاص بالمماثلة وَلَيْسَت) الْمُمَاثلَة ثَابِتَة (بَين الْمُبَاشرَة والتسبب وَإِن قوي) السَّبَب وتأكد، وَفِي الْكَشْف وَالتَّحْقِيق وَقَالَ القَاضِي الإِمَام أَبُو زيد لهَذَا السَّبَب حكم الْعلَّة من كل وَجه لِأَن عِلّة الحكم لما حدثت بِالْأولَى صَارَت الْعلَّة الْأَخِيرَة حكما للأولى مَعَ حكمهَا، لِأَن حكم الثَّانِيَة مُضَاف إِلَيْهَا، وَهِي مُضَافَة إِلَى الأولى فَصَارَت الأولى بِمَنْزِلَة عِلّة لَهَا حكمان انْتهى، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن شُبْهَة، وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ فَتَأمل. (وَمِنْه) أَي السَّبَب فِي معنى الْعلَّة (وضع الْحجر) فِي الطَّرِيق (وإشراع الْجنَاح) فِيهِ، الْجنَاح رُءُوس الأخشاب الَّتِي تخرج من فَوق الْبَيْت. بِمِقْدَار ذِرَاع أَو أَكثر حَتَّى يَبْنِي عَلَيْهِ بعض بَيت الْعُلُوّ، وإشراعه إِظْهَاره وإخراجه (والحائط المائل(4/56)
بعد التَّقَدُّم) أَي ترك هَدمه بعد أَن مَال إِلَى الطَّرِيق، أَو إِلَى دَار جَاره بعد مُطَالبَة بعض النَّاس أَو الْجَار نقضه (فَالْوَجْه أَنه) أَي كلا من هَذِه (مثله) أَي مثل السَّبَب فِي معنى الْعلَّة (لتعديه فِي إبْقَاء الْفِعْل) الْمُسَبّب للتلف، لَا أَنه من (السَّبَب) فِي معنى الْعلَّة لِأَن الْعلَّة لَا تُضَاف إِلَيْهِ لِأَن سَبَبِيَّة ترك هدم الْحَائِط مثلا لَيست فِي رُتْبَة سَبَبِيَّة السُّوق للتلاف (وَإِمَّا لَا تُضَاف) الْعلَّة (إِلَيْهِ) أَي السَّبَب (لكَونهَا) أَي الْعلَّة (فعلا اختياريا كدلالة السَّارِق) أَي كدلالة شخص سَارِق على مَال آخر ليسرقه (الْمُتَوَسّط سَرقته) الَّتِي هِيَ فعل اخْتِيَاري يباشره السَّارِق (فالحقيقي) أَي فَهَذَا السَّبَب يُقَال لَهُ السَّبَب الْحَقِيقِيّ لتمحضه فِي السَّبَبِيَّة من غير كَونه فِي معنى الْعلَّة لعدم إضافتها إِلَيْهِ لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ بَينه وَبَين الحكم (فَلَا يُضَاف الحكم إِلَيْهِ) أَي إِلَى السَّبَب كَمَا لَا تُضَاف الْعلَّة إِلَيْهِ (فَلَا يضمن دَال السَّارِق) الْمَسْرُوق، لِأَن الْإِتْلَاف مُضَاف إِلَى فعل السَّارِق، لَا إِلَى الدَّال كَمَا سيشير إِلَيْهِ (وَلَا يُشْرك فِي الْغَنِيمَة الدَّال) للمجاهدين (على حصن فِي دَار الْحَرْب) بِوَصْف طَرِيقه (لقطع نِسْبَة الْفِعْل) وَهُوَ الْإِتْلَاف فِي الأول، والاغتنام فِي الثَّانِي (إِلَيْهِ) أَي إِلَى السَّبَب وَهُوَ الدّلَالَة لتخلل اخْتِيَار الْمُبَاشر بَينه وَبَين الحكم فدلالته سَبَب مَحْض. قَالَ الشَّارِح: نعم لَو ذهب مَعَهم فدلهم على الْحصن شركهم فِي الْغَنِيمَة فِيهِ لِأَن فعله حِينَئِذٍ سَبَب فِيهِ معنى الْعلَّة (وَلَا) يضمن (دَافع السكين لصبي) ليمسكها للدافع (فَقتل) الصَّبِي بهَا (نَفسه) لِأَن ضربه نَفسه صَار بِاخْتِيَارِهِ غير مُضَاف إِلَى الدَّافِع. قَالَ الشَّارِح فِي تَعْلِيله لِأَنَّهُ أمره بالإمساك، لَا بِالِاسْتِعْمَالِ انْتهى وَلَا يخفى أَن هَذَا يُفِيد أَنه لَو أمره بِالِاسْتِعْمَالِ يضمن، وتعليلهم لعدم الضَّمَان بتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ بَين هَذَا السَّبَب وَقَتله نَفسه يدل على عدم ضَمَانه، وَأَن أمره بِالِاسْتِعْمَالِ لتخلل الْفِعْل الْمَذْكُور بَين الْأَمر والتلاف: نعم عدم الضَّمَان عِنْد الْأَمر بالإمساك دون الِاسْتِعْمَال أظهر (بِخِلَاف سُقُوطهَا) أَي بِخِلَاف مَا إِذا دَفعهَا ليمسكها فَسَقَطت بِلَا قصد (مِنْهُ) أَي من الصَّبِي على وَجه أهلكته فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يضمن الدَّافِع لعدم تخَلّل فعل اخْتِيَاري من الصَّبِي متوسط بَين الدّفع والهلاك، فالدفع حِينَئِذٍ سَبَب فِي معنى الْعلَّة الَّتِي هِيَ السُّقُوط لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَيْهِ وَلم يتوسط بَينهمَا إِلَّا الْإِمْسَاك الَّذِي هُوَ حكم الدّفع (وَلَا) يضمن (الْقَائِل) لغيره (تزَوجهَا) أَي هَذِه الْمَرْأَة (فَإِنَّهَا حرَّة) فَتَزَوجهَا واستولدها ثمَّ ظهر أَنَّهَا أمة شخص (لقيمة الْوَلَد) الَّذِي أَدَّاهَا إِلَى ذَلِك الشَّخْص لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ وَهُوَ العقد بَين الْإِخْبَار وَالِاسْتِيلَاد (بِخِلَاف تَزْوِيج الْوَلِيّ أَو الْوَكِيل) أَي وَليهَا أَو وكيلها (بِالشّرطِ) أَي بِشَرْط أَنَّهَا حرَّة (الْمَغْرُور) مفعول التَّزْوِيج، يَعْنِي الْمُقدم إِلَى الزواج بِنَاء على الشَّرْط الَّذِي ظهر خِلَافه آخرا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يرجع الزَّوْج بِقِيمَة الْوَلَد على الْوَلِيّ أَو الْوَكِيل فَإِن الشَّرْط(4/57)
من الْوَلِيّ وَالْوَكِيل بِمَنْزِلَة قَوْله أَنا ضَامِن بِمَا يلحقك بِسَبَب هَذَا التَّزَوُّج، وَقيل لِأَن الِاسْتِيلَاد حكم التَّزْوِيج لكَونه مَوْضُوعا لطلب النَّسْل، وَفِيه مَا فِيهِ (وَلَا يلْزم) على هَذِه الْمسَائِل بطرِيق النَّقْض أَن يُقَال (الْمُودع وَالْمحرم) إِذا دلّ سَارِقا وصائدا (على الْوَدِيعَة وَالصَّيْد) فَسرق وصاد (يضمنَانِ) أَي الْمُودع وَالْمحرم الْمَسْرُوق جَزَاء الصَّيْد (وهما مسببان) على صِيغَة الْفَاعِل يَعْنِي فعلهمَا سَبَب مَحْض لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ بَينه وَبَين الحكم، ثمَّ علل عدم اللُّزُوم بقوله (لِأَن ضَمَان الْمُودع بترك الْحِفْظ) الْمُلْتَزم بِعقد الْوَدِيعَة، وَهُوَ مبَاشر مَا يُخَالف الْتِزَامه بِدلَالَة السَّارِق (و) ضَمَان (الْمحرم بِإِزَالَة الْأَمْن) عَن الصَّيْد وَقد الْتَزمهُ بِالْإِحْرَامِ (المتقررة) صفة الْإِزَالَة (بِالْقَتْلِ) فقد بَاشر الْإِزَالَة بِدلَالَة الْقَاتِل عَلَيْهِ، وَلذَا قَالَ (فَهُوَ) أَي كل وَاحِد مِنْهُمَا (مبَاشر) للجناية على الْوَدِيعَة وَالصَّيْد، فضمانه بِالْمُبَاشرَةِ لَا بالتسبب (بِخِلَافِهَا) أَي بِخِلَاف الدّلَالَة (على صيد الْحرم) وَالدَّال غير محرم فَإِنَّهُ إِذا قَتله الْمَدْلُول لَا يضمن الدَّال (لِأَن أَمنه) أَي صيد الْحرم (بِالْمَكَانِ) وَهُوَ الْحرم الْأَمْن إِلَى آخر الدُّنْيَا (وَلم يزل) مِنْهُ (بِالدّلَالَةِ) فَكَانَ سَببا مَحْضا (بِخِلَاف غَيره) أَي غير صيد الْحرم من صيود الْمحرم (فَإِنَّهُ) أَي أَمن غَيره (بتواريه) وتستره ببعده عَن أعين النَّاس (فالدلالة عَلَيْهِ) أَي على غير صيد الْحرم (إِزَالَة أَمنه وَهُوَ) أَي هَذَا السَّبَب الَّذِي هُوَ إِزَالَة الْأَمْن (الْجِنَايَة على إِحْرَامه) يَعْنِي أَن إِزَالَة الْأَمْن فِي غير صيد الْحرم إِنَّمَا وَجب لكَونه جِنَايَة على الْإِحْرَام لَا لذاتها، وَإِلَّا لزم إِيجَاب الضَّمَان فِي حق غير الْمحرم أَيْضا، ثمَّ حَقِيقَة الدّلَالَة احداث الْعلم فِي الْغَيْر فَلَزِمَ عدم كَون الْمَدْلُول عَالما بمَكَان الصَّيْد قبل الدّلَالَة وَأَن لَا يكذب الدَّال فَلَو كَانَ عَالما أَو كذب لَا يضمن الدَّال، وَيجب أَيْضا أَن يتَّصل الْقَتْل بِالدّلَالَةِ حَتَّى لَو أَخذه بدلالته ثمَّ انفلت ثمَّ أَخذه فَقتله لم يضمن الدَّال لانْتِهَاء دلَالَته بالانقلاب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله فِيمَا سبق المتقررة (وفتوى الْمُتَأَخِّرين بِالضَّمَانِ بالسعاية) أَي بِأَن يسْعَى فِي حق غَيره بِغَيْر حق إِلَى حَاكم ظَالِم فيغرمه المَال ظلما (بِخِلَاف الْقيَاس) لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ من الظَّالِم، وَهُوَ الْأَخْذ ظلما بَين السّعَايَة واتلاف المَال، وَإِنَّمَا أفتوا (اسْتِحْسَانًا لغَلَبَة السعاة) بِغَيْر الْحق إِلَى الظلمَة فِي زَمَاننَا، وَبِه يُفْتى سدا لهَذَا الْبَاب (وَيَنْبَغِي مثله) أَي الافتاء بِالضَّمَانِ، بِخِلَاف الْقيَاس اسْتِحْسَانًا (لَو غلب غصب الْمَنَافِع) فَإِنَّهُ على خلاف الْقيَاس لعدم كَونهَا محرزا لتجددها، وَالْغَصْب إِثْبَات الْيَد المبطلة، وَإِبْطَال الْيَد المحقة، وَذَلِكَ فرع فِي الْإِحْرَاز، وَإِنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي إِلَى آخِره زجرا للغصبة عَن ذَلِك (وَيُقَال لفظ السَّبَب مجَازًا على الْمُعَلق من تطليق وإعتاق وَنذر بِمَا) أَي بِشَرْط مُتَعَلق بالمعلق (لَا يُرِيد) الْمُعَلق (كَونه) أَي وجوده: كَانَ دخلت فَأَنت طَالِق أَو فُلَانَة حرَّة أَو فعلي لله صِيَام سنة قبل وجود الشَّرْط(4/58)
وَالتَّقْيِيد بِقَيْد لَا يُرِيد كَونه مُوَافق لما قَالَ بعض الشُّرَّاح من أَن التَّعْلِيق بِشَرْط يُريدهُ مفض إِلَى وجود الشَّرْط المفضي إِلَى الحكم (وعَلى الْيَمين) بِاللَّه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث (إِذْ لَيست) الْمَذْكُورَات (مفضية إِلَى الْوُقُوع) فِي المعلقات (و) إِلَى (الخنث) فِي الْيَمين أما الأول فَلِأَنَّهُ أَرَادَ بهَا منع نَفسه من الشَّرْط احْتِرَازًا عَن الْوُقُوع، وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهَا شرعت للبر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل) هِيَ (مَانِعَة) من الْوُقُوع والحنث (وَإِنَّمَا) يكون (لَهَا) أَي لهَذِهِ الْمَذْكُورَات (نوع إفضاء) إِلَى الحكم (فِي الْجُمْلَة وَلَو) كَانَ ذَلِك الْإِفْضَاء (بعد حِين) عِنْد تحقق الشَّرْط والحنث، وَإِنَّمَا قَالَ نوع إفضاء لِأَنَّهُ لَو لم يكن التَّعْلِيق وَالْيَمِين لما وَقع شَيْء مِمَّا ترَتّب على الشَّرْط والحنث وَإِن قيل، وَلِأَن الْمَرْء حَرِيص لما منع فَلَا يَخْلُو عَن وَجه (فَهِيَ) أَي هَذِه التعليقات وَالْيَمِين سَبَب (مجَاز) أَي مجازي بِتِلْكَ الرَّائِحَة من الْإِفْضَاء الْمَذْكُور (وَإِذا صدر الشَّرْط الْمُعَلق صَار) الْمُعَلق بِهِ (عِلّة حَقِيقِيَّة) للوقوع لتأثيره فِيهِ مَعَ الْإِضَافَة إِلَيْهِ واتصاله بِهِ كَالْبيع للْملك (بِخِلَاف السَّبَب فِي معنى الْعلَّة لِأَنَّهُ لم يُؤثر فِي الْمُسَبّب) وَهُوَ الحكم (وَأَن اثر فِي علته) أَي عِلّة الحكم على مَا عرفت فِي سوق الدَّابَّة إِذا وطِئت إنْسَانا فَقتلته (فَلم تنتف حَقِيقَة السَّبَبِيَّة) فِي السَّبَب بِمَعْنى الْعلَّة (بِوُجُود التَّأْثِير) وَلَو أثرت فِي نفس الحكم لانتفت (ثمَّ للمعلق الْمجَاز) أَي الَّذِي هُوَ سَبَب مجَازًا (شبه الْعلَّة الْحَقِيقِيَّة) من حَيْثُ الحكم (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (خلافًا لزفَر) فَإِنَّهُ لَا يَقُول بشبهه (وثمرته) أَي الْخلاف تظهر (فِي تَنْجِيز الثَّلَاث) بعد تَعْلِيق بَعْضهَا أَو جَمِيعهَا على شَرط لم يُوجد بعد (يبطل) تنجيزها (التَّعْلِيق عِنْدهم، خلافًا لَهُ) حَتَّى لَو عَادَتْ إِلَيْهِ بعد زوج آخر وَوجد الْمُعَلق عَلَيْهِ لَا يَقع الْمُعَلق عِنْدهم، وَيَقَع عِنْده (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة (طَوِيلَة فِي فقههم، والمبنى) فِي الْإِبْطَال وَعَدَمه (الِاحْتِيَاج) أَي احْتِيَاج الْمُعَلق فِي الْبَقَاء (إِلَى بَقَاء الْمحل للشُّبْهَة) بِالْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّة (وَعَدَمه) أَي وَعدم احْتِيَاج الْمُعَلق فِي الْبَقَاء إِلَى بَقَاء الْمحل (لعدمها) أَي عدم شُبْهَة الْعلَّة الْحَقِيقِيَّة للمعلق، وَإِنَّمَا قُلْنَا بشبه الْعلية فِيهِ لِأَنَّهُ كاليمين بِاللَّه شرع لتأكيد الْبر الْمَضْمُون بالجزاء، أَو هُوَ كَونه بِحَيْثُ إِن فَاتَ لزم الْجَزَاء أَو الْكَفَّارَة فالبر الْمُؤَكّد أَمر ثَابت بِسَبَب هُوَ التَّعْلِيق وَالْيَمِين، وَهَذَا الثَّابِت مَضْمُون باللازم الْمَذْكُور على الْوَجْه الَّذِي ذكر، وكل شَيْء يكون الثَّابِت بِسَبَبِهِ مَضْمُونا بِهِ لشُبْهَة الثُّبُوت فاللازم الْمَذْكُور لَهُ شُبْهَة الثُّبُوت، وَمن ضروريته تحقق شُبْهَة الثُّبُوت بِسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ التَّعْلِيق وَالْيَمِين، أَلا ترى أَن وجوب رد الْعين ثَبت بِسَبَب الْغَصْب مَضْمُونا بِالْقيمَةِ عِنْد فَوَاته، وَيصِح الْإِبْرَاء عَن الْقيمَة حَال قيام الْعين، وَكَذَا الْكفَالَة بهَا وَالرَّهْن، فلولا أَن للقيمة شُبْهَة الثُّبُوت لما صَحَّ ذَلِك، وشبهة الشَّيْء مُعْتَبرَة بحقيقته فَلَا يسْتَغْنى عَن الْمحل بحقيقته. وَقَالَ زفر لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ فرض للتطليق(4/59)
مثلا وَفرض الشَّيْء غَيره فَلَا يستدعى محلا، وَلذَا صَحَّ تَعْلِيق طَلَاق الْمُطلقَة ثَلَاثًا بتزوجها فَيَقَع لَو تزَوجهَا بعد التَّحْلِيل فَلم يستدع ابتداؤه الْمحل، فبقاؤه وَهُوَ أسهل أولى، وَاشْتِرَاط الْملك عِنْد ابْتِدَاء التَّعْلِيق ليَكُون الْجُزْء الْمَوْقُوف على الْملك غَالب الْوُجُود بالاستصحاب فَيجْعَل تَأْكِيد الْبر الْمَقْصُود من الْيَمين، وَلَا حَاجَة للتعليق بِالْملكِ إِلَى ذَلِك لتيقن وجوده عِنْد فَوَات الْبر بِالتَّزْوِيجِ مثلا وَمَعَ هَذَا لَا يشْتَرط عِنْد بَقَائِهِ فَلَا يبطل التَّعْلِيق بِزَوَال الْملك بِأَن يطلقهَا دون الثَّلَاث، فَكَذَا بِزَوَال الْحل بِأَن يطلقهَا ثَلَاثًا قُلْنَا شُبْهَة الثُّبُوت للمعلق بِالنِّكَاحِ مُحَققَة لِأَن ملك النِّكَاح عِلّة ملك الطَّلَاق وَصِحَّته، وَلَيْسَ للشَّيْء قبل عِلّة صِحَّته حَقِيقَة الثُّبُوت فَكَذَا شبهته فَلم يشْتَرط للمعلق بِالنِّكَاحِ قيام الْمحل بِخِلَاف الْمُعَلق بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا ملك الطَّلَاق مُسْتَفَاد من ملك النِّكَاح، وَلما استدعى صِحَة ملك النِّكَاح الْحل، لَا الْملك استدعى ملك الطَّلَاق إِيَّاه أَيْضا، فالمنافي لَهَا زَوَال الْحل لَا الْملك كَذَا فِي مرْآة الْأُصُول، وَلَا يخفى أَن الْمُدعى شُبْهَة الْعلَّة للمعلق، وَالدَّلِيل يُفِيد شُبْهَة الثُّبُوت فِيهِ، وَبَيَان تحقق شبهته فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ التَّعْلِيق زَائِد على الْمَقْصُود: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون إِشَارَة إِلَى دَلِيل آخر على الِاحْتِيَاج إِلَى بَقَاء الْمحل، ثمَّ المُرَاد بِنَفْي شُبْهَة الْحَقِيقَة فِي قَول زفر شُبْهَة الْمُعَلق بالمنجز الَّذِي هُوَ عِلّة للطَّلَاق مثلا، وَقَوله إِلَى آخِره لَا حَاجَة لزفَر إِلَيْهِ، وَقَوله وَمَعَ هَذَا أَي مَعَ اشْتِرَاط ابْتِدَاء التَّعْلِيق فِي المنازع فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ إطناب من غير تَنْقِيح (وَجَرت عَادَتهم) أَي الْحَنَفِيَّة (أَن يعينوا) أَي بِأَن يعينوا (أَسبَاب المشروعات) لَا خلاف فِي أَن الشَّارِع هُوَ الله الْمُنْفَرد بِإِيجَاب الْأَحْكَام غير أَن جلها مُضَافَة إِلَى مَا هُوَ سَبَب فِي الظَّاهِر ليتوصلوا بِهِ إِلَى مَعْرفَتهَا تيسيرا على الْعباد (قَالُوا: السَّبَب لوُجُوب الْإِيمَان أَي التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار) بِوُجُودِهِ تَعَالَى ووحدانيته وَسَائِر صِفَاته على مَا عرف فِي الْكَلَام (حُدُوث الْعَالم) أَي كَونه مَسْبُوقا بِالْعدمِ وافتقاره إِلَى مُؤثر وَاجِب لذاته قطعا للتَّعْلِيل، وَلذَا يُسمى عَالما فَإِنَّهُ يحصل الْعلم بِوُجُود الصَّانِع وَهُوَ (كل مَا سواهُ تَعَالَى مِمَّا فِي الْآفَاق والأنفس) وَيجوز أَن يكون كل بِالْجَرِّ على الْبَدَل من الْعَالم. قَالَ الله تَعَالَى: - {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم} - الْآيَة (أَي أصل الْوُجُوب) فِي الذِّمَّة، لَا وجوب الْأَدَاء (فَلِذَا) أَي لأجل كَون السَّبَب حُدُوثه (صَحَّ إِيمَان الصَّبِي الْعَاقِل) لتحَقّق سَبَب الْوُجُوب، وَأَدَاء الْوَاجِب بعد تحقق سَبَب وُجُوبه صَحِيح، ثمَّ تحقق رُكْنه وَهُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار الصَّادِر عَن نظر وَتَأمل عَن أَهله (وَقد ثَبت الحكم بِهِ) أَي بِالْإِيمَان (عَلَيْهِ) أَي على الصَّبِي (شرعا اتِّفَاقًا تبعا) لِأَبَوَيْهِ (فَيصح) إيمَانه (مَعَ إِقْرَاره اخْتِيَارا) صادرا (عَن اعْتِقَاد صَحِيح) بطرِيق (أولى) لِأَنَّهُ إِذا حكم بِصِحَّة الْإِيمَان من غير إِقْرَار وَلَا اخْتِيَار من غير أَهْلِيَّة بِمُجَرَّد التّبعِيَّة فإيمان من استجمع ذَلِك أولى بالحكم بِالصِّحَّةِ (وَتقدم(4/60)
مَا فِيهِ) أَي فِي تحقق أصل الْوُجُوب فِي الصَّبِي الْعَاقِل من خلاف شمس الْأَئِمَّة فِي الْفَصْل الرَّابِع فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَمَا يتَعَلَّق بِهِ (فَأَما وجوب الْأَدَاء) للْإيمَان (فَأَبُو الْيُسْر) أَي فَقَالَ أَبُو الْيُسْر هُوَ (بِالْخِطَابِ) أَي ببلوغ الْخطاب التكليفي بعد الْبلُوغ (عِنْد عَامَّة الْمَشَايِخ فعذر من بلغ بشاهق) فِي الْقَامُوس: الشاهق الْمُرْتَفع من الْجبَال والأبنية وَغَيرهَا (وَلم يبلغهُ) الْخطاب الْمُتَعَلّق بِالْإِيمَان إِذا مَاتَ من غير إِيمَان وَإِن أدْرك مُدَّة أمكن فِيهَا التَّأَمُّل وَالنَّظَر فِي الْآيَات (و) عِنْد (الآخرين) مِنْهُم القَاضِي أَبُو بكر وفخر الْإِسْلَام هُوَ (بِالْأولِ) أَي بحدوث الْعَالم فَلَا يعْذر من ذكر بَعْدَمَا أدْرك الْمدَّة الْمَذْكُورَة (وَشرط الْخطاب) أَي بُلُوغه فِي أَوَان التَّكْلِيف عِنْد الآخرين (فِيمَا) أَي فِي حكم (يحْتَمل النّسخ) من الْأَحْكَام العملية (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاخْتِلَاف (بِنَاء على اسْتِقْلَال الْعقل يدْرك إِيجَابه) تَعَالَى للْإيمَان (و) على (عَدمه) أَي عدم استقلاله بذلك كَمَا هُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء (و) هُوَ الْمُخْتَار (تقدم) الْكَلَام فِي هَذَا فِي الْفَصْل الثَّانِي فِي الحكم (و) السَّبَب (لوُجُوب الصَّلَاة الْوَقْت) أَي وَقتهَا الْمَشْرُوعَة هِيَ فِيهِ، لإضافتها إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى - {وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} - لِأَنَّهَا تفِيد الِاخْتِصَاص وكماله فِي السَّبَبِيَّة، ولتكرر وُجُوبهَا بتكرره، وَلعدم صِحَّتهَا قبله كَمَا قَالُوا (وَالْوَجْه) الْوَجِيه (قَول الْمُتَقَدِّمين) مِنْهُم وَهُوَ (أَنه) أَي سَبَب الْوُجُوب (لكل) من (الْعِبَادَات توالي النعم المفضية فِي) نظر (الْعقل إِلَى وجوب الشُّكْر فللإيمان) أَي فالسبب لوُجُوبه (شكر نعْمَة الْوُجُود وَكَمَال الْعقل، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن السَّبَب مَا قُلْنَا وَكَانَ مَا ذكر أَولا (فالعالم دَلِيل وجوده تَعَالَى دون إِيجَابه) أَي فَيُقَال فِي رده الْعَالم دَلِيل وجود مبدأ الْوَاجِب لبُطْلَان التسلسل والدور واحتياجه إِلَى الْمُؤثر، فَإِن جعل الدَّلِيل سَببا للمدلول كَانَ الْعَالم من حَيْثُ النّظر فِيهِ سَببا للْعلم بِالْوُجُوب، دون نفس الْوُجُوب لِأَنَّهُ مُتَقَدم بِالذَّاتِ على الْعَالم، وَلَيْسَ دَلِيلا على إِيجَابه على الْعُقَلَاء شَيْئا كَمَا تقدم أَنه الْمُخْتَار، وَلَو كَانَ دَلِيلا على الْإِيجَاب لأمكن اعْتِبَار سببيته لوُجُوب الْإِيمَان (و) سَبَب الْوُجُوب (للصَّلَاة شكر نعْمَة الْأَعْضَاء السليمة) فَإِنَّهُ لما كَانَت الْأَعْضَاء كلهَا تسْتَعْمل فِي الصَّلَاة ناسب أَن تجْعَل شكرا لسلامتها (و) سَبَب الْوُجُوب (للصَّوْم شكر نعْمَة اقْتِضَاء الشَّهَوَات و) سَبَب الْوُجُوب (لِلزَّكَاةِ شكر نعْمَة المَال) الْفَاضِل عَن الْحَاجة الْأَصْلِيَّة (و) سَبَب الْوُجُوب (لِلْحَجِّ شكر نعْمَة الْبَيْت المجعول هدى للْعَالمين ومثابة للنَّاس) وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّارِح بِأَن السَّبَب نفس النعم الْمَذْكُورَة وَالشُّكْر سَببا لَهَا، فَالْوَجْه إِمَّا حذف الْجَار من قَوْله للْإيمَان وَمَا عطف عَلَيْهِ، وَإِمَّا حذف شكر ليَكُون التَّقْدِير الْإِيمَان شكر نعْمَة الْوُجُود أَو السَّبَب لَهُ نعْمَة(4/61)
الْوُجُود، وَالْجَوَاب أَن المُصَنّف أَشَارَ إِلَى أَنهم جعلُوا النعم الْمَذْكُورَة سَببا بِاعْتِبَار شكرها، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْبَاعِث لاقدام الْفَاعِل على الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فَهُوَ المفضي إِلَيْهَا، وَتلك النعم من حَيْثُ ذَاتهَا منشؤه وَلَا يُفْضِي إِلَيْهَا غَالِبا (غير أَنه قدر مَا اعْتبر مِنْهَا سَببا بوقته) فِي بعض تِلْكَ الْأَفْعَال (كَالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَن نعْمَة الْأَعْضَاء أَمر مُسْتَمر، لَكِن الشَّارِع جعله قطعا وَاعْتبر كل قِطْعَة مِنْهُ سَببا لصَلَاة، وَقدر تِلْكَ الْقطعَة بِقِيَاس هُوَ وقته، وَإِضَافَة الْوَقْت لأدنى مُلَابسَة، لِأَن الْمُتَبَادر مِنْهَا أَن يكون الْوَقْت مُسْتَغْرقا لتِلْك الْقطعَة، وَالْوَقْت الَّذِي جعل سَببا للصَّلَاة لَيْسَ كَذَلِك، بل جُزْء من أَجزَاء وَقت مَا هُوَ سَبَب لَهَا (أَو قدره) مَعْطُوفًا على وقته يَعْنِي بوقته تَارَة وبقدره أُخْرَى كالنصاب فِي الزَّكَاة (أما الْوَقْت) الْمُقدر بِهِ (فجدير بِهِ) أَي بِالْوَقْتِ (الْعَلامَة) أَي يَلِيق بِهِ أَن يَجْعَل عَلامَة كَمَا سَيَأْتِي، وَقد مر تَفْسِيرهَا وَعدم اعْتِبَار التَّأْثِير والإفضاء والتوقف فِيهَا (و) جعل مَا قدر بِهِ السَّبَب (لِلزَّكَاةِ النّصاب) الشَّرْعِيّ الْمُوجب للغني (لعقلية الْغَنِيّ) أَي لمعقولية كَون الْغَنِيّ (سَببا) لِأَنَّهُ يتَمَكَّن من مواساة الْفَقِير، وَلذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى ". (وَشرط النَّمَاء) فِي النّصاب لوُجُوب الْأَدَاء (تيسيرا) للْأَدَاء وتخفيفا للغني لِأَنَّهُ إِذا لم يكن ناميا تفنيه الْحَوَائِج المتجددة على الِاسْتِمْرَار قَرِيبا (وأقيم الْحول مقَامه) أَي مقَام النَّمَاء (لِأَنَّهُ) أَي الْحول (طَرِيقه) الْموصل إِلَيْهِ لاشْتِمَاله على الْفُصُول المؤثرة فِي النَّمَاء بالدر والنسل وَزِيَادَة الْقيمَة بتفاوت الْحَاجَات الْمُتَعَلّقَة باخْتلَاف تِلْكَ الْفُصُول، فَصَارَ الْحول شرطا بتكرره بِتَكَرُّر السَّبَب، لِأَن المَال بِاعْتِبَار كل نَمَاء غَيره بالنماء الآخر (و) جعل مَا قدر بِهِ السَّبَب (للصَّوْم الْجُزْء الأول من الْيَوْم) الَّذِي لَا يتَجَزَّأ (لِأَن إِيجَاب الْعِبَادَة) الَّتِي هِيَ صَوْم رَمَضَان إِنَّمَا يَبْغِي أَن يَقع (فِي وَقت شرِيف) عين (لَهُ) أَي للصَّوْم (وَلَا دخل لِليْل فِيهِ) أَي فِي الصَّوْم، ثمَّ صَوْم كل يَوْم عبَادَة على حِدة مُخْتَصّ بشرائط وجوده مُنْفَرد الانتقاض بنواقضه مُتَعَلق بِسَبَب على حِدة، وَذهب شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَمن وَافقه إِلَى اتِّحَاد السَّبَب للشهر، وَهُوَ مُطلق شُهُود الشَّهْر، وَهُوَ اسْم لمجموع اللَّيَالِي وَالْأَيَّام إِلَى أَن السَّبَب هُوَ الْجُزْء الأول مِنْهُ لِئَلَّا يلْزم تقدم الشَّيْء على سَببه: وَلذَا جَازَ نيه الْفَرْض فِي اللَّيْلَة الأولى مَعَ عدم جَوَاز النِّيَّة قبل سَبَب الْوُجُوب، كَمَا إِذا نوى قبل غرُوب الشَّمْس، وَلزِمَ قَضَاء الشَّهْر لمن كَانَ أَهلا لوُجُوب الصَّوْم فِي أول لَيْلَة مِنْهُ ثمَّ جن وَاسْتمرّ حَتَّى مضى الشَّهْر فأفاق، ولمجنون أَفَاق فِي لَيْلَة مِنْهُ ثمَّ جن قبل أَن يصبح وَاسْتمرّ حَتَّى مضى الشَّهْر فأفاق، فسببية الْجُزْء الأول فِي حَقه مُنْعَقد مَوْقُوفا أَن أَفَاق الْعقل وَإِلَّا فَلَا، وَلَو لم يَتَقَرَّر السَّبَب فِي حَقه لم يلْزمه الْقَضَاء. فَأجَاب المُصَنّف عَمَّا ذكر بقوله: (وَأما جَوَاز النِّيَّة من اللَّيْل وَوُجُوب الْقَضَاء على من أَفَاق) من جُنُونه(4/62)
(فِي لَيْلَة من رَمَضَان فَلِأَن اللَّيْل تَابع) للنهار (فِي الشّرف) أَي الشّرف الَّذِي هُوَ بِاعْتِبَار الظَّرْفِيَّة للصَّوْم فَلَا يُنَافِي استقلاله فِي الشّرف من حَيْثُ الْقيام للتهجد وَغَيره، فَإِن السَّبَبِيَّة بِاعْتِبَار ذَلِك الشّرف لَا مُطلق الشّرف (وتحققت ضَرُورَة فِي ذَلِك) أَي فِي جعل اللَّيْل تَابعا للنهار فِي جَوَاز النِّيَّة من اللَّيْل دفعا للْحَرج اللَّازِم لاشْتِرَاط قرَان النِّيَّة بِأول جُزْء من النَّهَار، وَلَا ضَرُورَة فِيمَا نَحن فِيهِ، وَلما كَانَ الْجَواب الْمَذْكُور متضمنا وجوب الصَّوْم على الْمَجْنُون اتجه أَن يُقَال إِن الْمَجْنُون لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّة الْخطاب فَكيف يجب عَلَيْهِ، وَالْقَضَاء فرع وجوب الأَصْل أجَاب عَنهُ بقوله (وَالْجُنُون لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الْوُجُوب بِالسَّبَبِ) يَعْنِي أَن الْوُجُوب على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا شغل الذِّمَّة بِالدّينِ من غير مُطَالبَة الْأَدَاء فِي الْحَال كشغل ذمَّة المُشْتَرِي بِالثّمن الْمُؤَجل قبل حُلُول الْأَجَل: وَهَذَا يَتَرَتَّب على السَّبَب كَالْبيع من غير خطاب الطّلب. وَالثَّانِي وجوب الأول، وَالْجُنُون لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الأول (بل) يُنَافِي أَهْلِيَّة الْوُجُوب (بِالْخِطَابِ) بِالسَّبَبِ شرعا فِي الْمَجْنُون وَمَا أشبهه (ليظْهر) أَثَره (فِي الْحَال فِي) الْوَاجِب (المالي غير الزَّكَاة) من نَفَقَة الزَّوْجِيَّة وَالْأَوْلَاد وَالْخَرَاج وَالْعشر وَضَمان الْمُتْلفَات، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ المَال ووصوله إِلَى الْمُسْتَحق وَهُوَ لَا يتَعَذَّر مَعَ الْجُنُون فَإِنَّهُ مِمَّا يحصل بالنائب، بِخِلَاف الْعِبَادَة الْمَحْضَة كَالزَّكَاةِ فَإِن الْمَقْصُود من إِيجَابهَا أَصَالَة نفس الْفِعْل ابتلاء ليظْهر الْمُطِيع من العَاصِي، وَهُوَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا عَن اخْتِيَار الْعقل (و) ليظْهر (فِي المَال) أَي بعد الْإِفَاقَة (فَائِدَة الْقَضَاء) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة (بِلَا حرج) تَقْيِيد للْقَضَاء، احْتِرَاز عَمَّا إِذا لزم الْحَرج من إِيجَاب الْقَضَاء (وَهُوَ فِيهِ) أَي الْحَرج فِي الْقَضَاء (بِالْكَثْرَةِ اسْتِيعَاب الشَّهْر) عطف بَيَان للكثرة (جنونا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الِاسْتِيعَاب: أَي اسْتِيعَاب الشَّهْر جنونا، فالمستوعب هُوَ الْجُنُون (وَفِيه) أَي فِي تَقْدِير الْكَثْرَة بالاستيعاب (تَأمل) إِذْ يلْزم من الْحَرج فِي قَضَاء الشَّهْر فِيمَا إِذا أَفَاق فِي سَاعَة من ليل أَو نَهَار، وَمَا يلْزم مِنْهُ فِي قَضَائِهِ لَو استوعبه لَا يبعد أَن يُقَال إِنَّمَا بنى الحكم على الِاسْتِيعَاب وَعَدَمه لمصْلحَة الضَّبْط، وَالْتزم الْحَرج الْوَاقِع فِي نقض الصُّور على سَبِيل الندرة، ثمَّ قد أيد قَول السَّرخسِيّ بِأَن كَون الْيَوْم معيارا للصَّوْم يُنَافِي كَون الْجُزْء الأول مِنْهُ سَببا، لِأَن سَبَب الْوُجُوب خَارج عَن مَحل الْأَدَاء لتقدم السَّبَب على الْمُسَبّب وَأجِيب بِأَن السَّبَب الشَّرْعِيّ قد يقارن الْمُسَبّب كالعلل الْعَقْلِيَّة كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل، وَفِيه تَفْصِيل ذكره فِي مَحَله، على أَن خُرُوج جُزْء لَا يتَجَزَّأ من الْيَوْم لَا يضر بمعياريته عرفا (و) إِنَّمَا قُلْنَا سَبَب الْوُجُوب (لِلْحَجِّ الْبَيْت للإضافة) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} - وَالْإِضَافَة من دَلَائِل السَّبَبِيَّة على مَا عرف (وَلذَا) أَي ولكونه سَببا للْوُجُوب (لم يتَكَرَّر) وجوب الْحَج لعدم تكَرر سَببه، وَأما الْوَقْت فَشرط جَوَاز أَدَائِهِ، والاستطاعة شَرط وُجُوبه (فاتفقوا)(4/63)
أَي الْمُتَأَخّرُونَ والمتقدمون فِي هَذِه الْأَسْبَاب (فِيمَا سوى) سَبَب (الصَّلَاة) كَذَا فسره الشَّارِح. وَفِيه أَنه سبق مَا يدل على الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ من قَوْله: وَالْوَجْه قَول الْمُتَقَدِّمين إِلَى آخِره، وَبَين الْمُتَأَخِّرين فِي سَبَب الصَّوْم هَل هُوَ شُهُود الشَّهْر، أَو أول جُزْء من الْيَوْم؟ غير أَنه قَالَ: وَالَّذِي يظْهر فِيمَا سوى سَبَب الْأَيْمَان، لِأَن الْقَائِلين بِأَن سَبَب وجوب الصَّلَاة الْوَقْت مُرَادهم نعم الله تَعَالَى على الْعباد فِيهِ، وَأَنَّهَا قدرت بِالْوَقْتِ، فقد اتَّفقُوا على أَن السَّبَب لوُجُوبهَا النعم إِلَّا أَن مِنْهُم من خصصها بِنِعْمَة الْأَعْضَاء انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَو حمل قَول المُصَنّف على أَنهم اتَّفقُوا فِيمَا سوى الصَّلَاة من الْفُرُوع الْمَذْكُورَة لَا يرد اعتراضه بِاعْتِبَار سَبَب الْإِيمَان. وَأما قَضِيَّة الِاتِّفَاق على سَبَب الصَّلَاة فَإِنَّمَا يتم إِذا كَانَ سببيته النعم عِنْد الْمُتَأَخِّرين، وَالَّذِي يفهم من الْمَتْن أَنه قَول الْمُتَقَدِّمين، وَتَأْويل التَّقْدِير إِنَّمَا هُوَ من المُصَنّف وَأَمْثَاله، لَكِن يرد عَلَيْهِ أَن الصَّلَاة كَغَيْرِهَا اتِّفَاقًا واختلافا على التَّوْفِيق بَين الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَمه، فَالْوَجْه أَن يعرض عَن التوجيهات الرَّكِيكَة وَيحمل على سَهْو الْقَلَم فِي وضع الصَّلَاة مَوضِع الْإِيمَان، فَإِنَّهُ اخْتلف فِي سَببه هَل هُوَ حُدُوث الْعَالم أَو نعْمَة الْوُجُود إِلَى آخِره، وَمَا سواهُ مُتَّفق عَلَيْهِ بالتأويل الْمَذْكُور وَالله تَعَالَى أعلم. (و) سَبَب الْوُجُوب (لصدقة الْفطر الرَّأْس الَّذِي يمونه) أَي يقوم بكفايته وَيحمل ثقله (ويلي عَلَيْهِ) . وَالْولَايَة نَفاذ القَوْل على الْغَيْر شَاءَ أَو أَبى، فَلَا يكون الرَّأْس سَببا إِلَّا بِهَذَيْنِ الوصفين، فَخرج الصَّغِير الَّذِي لَهُ مَال تجب نَفَقَته فِيهِ لَيست مُؤْنَته على الْغَيْر حَتَّى الْأَب عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (وَالْإِضَافَة إِلَى الْفطر) فِي عرف أهل الشَّرْع فِي قَوْلهم: صَدَقَة الْفطر (الشَّرْط) لوُجُوبهَا صفة الْفطر، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تجب عِنْد أَصْحَابنَا بِطُلُوع فجر يَوْم الْفطر (مجَاز) أَي فِي النِّسْبَة الإضافية، لِأَن حَقِيقَتهَا إِنَّمَا تتَحَقَّق بَين الحكم وَسَببه، وَإِنَّمَا حكم بمجازاتيها وَسَببه الرَّأْس (بِدَلِيل التَّعَدُّد) لوُجُوبهَا (بِتَعَدُّد الرَّأْس) فسر الشَّارِح التَّعَدُّد بالتقديرين وَقَالَ: لِأَن الرَّأْس لما صَار سَببا بِوَصْف الْمُؤْنَة، وَهِي تتجدد فِي كل وَقت بتجدد الْحَاجة، كَأَن الرَّأْس بتجددها متجدد تَقْديرا انْتهى، وَيرد على هَذَا أَن تعدد الْفطر حَقِيقِيّ لَا يحْتَاج إِلَى التَّقْدِير فَهُوَ أولى بالسببية بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى، وَلَك أَن تحمل التَّعَدُّد بِتَعَدُّد الرَّأْس على تعدد الْوُجُوب بِاعْتِبَار مُتَعَلّقه وَهُوَ الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ يجب فِي الرَّأْس الْوَاحِد صَدَقَة وَاحِدَة وَفِي الِاثْنَيْنِ صدقتان وَهَكَذَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر غير أَن تعدد الْوَاجِب فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة بِاعْتِبَار تعدد السَّبَب على وَجه يُنَاسب مَا فسر بِهِ، وَقد عرفت مَا فِيهِ (وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدّوا) يَعْنِي صَدَقَة الْفطر (عَمَّن تمونون أَفَادَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا، وَأفَاد قَوْله (تعلقهَا) أَي تعلق وجوب صَدَقَة الْفطر (بالمؤن) جمع مُؤنَة، وَالْجمع إِمَّا بِاعْتِبَار من تجب عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَار من تجب عَنهُ، وَالْمرَاد تعلق(4/64)
الْمُسَبّب بِالسَّبَبِ، وَذَلِكَ لِأَن من الانتزاعية دخلت على من يمونه وَلَا يحْتَمل هُنَا الأوجهين: أَحدهمَا أَن يكون سَببا لِلْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب، وَالثَّانِي أَن يكون محلا للْوُجُوب فِي الأَصْل ثمَّ يسري عَنهُ إِلَى الْمَأْمُور كسراية الدِّيَة عَن الْقَاتِل إِلَى الْعَاقِلَة، لَا سَبِيل إِلَيْهِ، لِأَن العَبْد الْمُسلم لَا مَال لَهُ فَلَا يُكَلف بِوُجُوب مَالِي، وَالْكَافِر لَيْسَ من أهل الْقرْبَة. وَلَا يُقَال: لم لَا يجوز أَن يجب على العَبْد ثمَّ يَنُوب الْمولى عَنهُ؟ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَار مملوكيته الْتحق بالبهيمة فِي حق الْوُجُوب المالي، وَأورد عَلَيْهِ أَن الْجد إِذا كَانَت نوافله صغَارًا فِي عِيَاله لَا يجب عَلَيْهِ الْإِخْرَاج عَنْهُم فِي ظَاهر الرِّوَايَة مَعَ أَنه يمونهم لَكِن فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يجب إخْرَاجهَا عَنْهُم (و) سَبَب الْوُجُوب (للعشر الأَرْض النامية بالحقيقي) أَي بالنماء الْحَقِيقِيّ بِأَن يُؤْخَذ محصولها (لِأَنَّهُ) أَي الْعشْر أَمر (إضافي) لِأَنَّهُ عبارَة عَن الْوَاحِد من الْعشْرَة، فَمَا لم يتَحَقَّق خَارج لَا يتَحَقَّق عشره، وَهُوَ (عبَادَة) أَي مُؤنَة فِيهَا معنى الْعِبَادَة، وَقد مر بَيَانه (بِخِلَاف الْخراج) الموظف، فَإِن سَبَب وُجُوبه الأَرْض النامية (بالتقديري) أَي بالنماء التقديري (وَهُوَ) أَي التقديري (بالتمكن من الزِّرَاعَة) وَالِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ، إِذْ هُوَ مُقَدّر بِمَا عين من الدَّرَاهِم، وَغَيره فِي بَدْء الْفَتْح غير مُتَعَلق بالخارج (فَكَانَ) الْخراج الموظف (عُقُوبَة) لما فِي الِاشْتِغَال بتحصيله بالزراعة من عمَارَة الدُّنْيَا والاعراض عَن الْجِهَاد، وَهُوَ سَبَب المذلة (مُؤنَة لَهَا) أَي الأَرْض لِأَنَّهُ سَبَب لبقائها فِي أَيدي أَرْبَابهَا، وَذَلِكَ لِأَن الْمُقَاتلَة يَذبُّونَ عَن الدَّار ويصونونها عَن الْكفَّار فَوَجَبَ الْخراج لَهُم ليتمكنوا من ذَلِك (فلزما) أَي الْعشْر وَالْخَرَاج (فِي مَمْلُوكَة الصَّبِي) أَي فِي أَرض هِيَ مَمْلُوكَة للصَّبِيّ، وَالْأَرْض الْمَوْقُوفَة، فَيجب فيهمَا الْعشْر إِن كَانَتَا عشريتين، وَالْخَرَاج إِن كَانَتَا خراجيتين (وَلم يجتمعا) أَي الْعشْر وَالْخَرَاج (فِي أَرض وَاحِدَة) عندنَا خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة لِأَنَّهُمَا حقان مُخْتَلِفَانِ ذاتا لما عرفت من معنى الْعِبَادَة فِي الْعشْر والعقوبة فِي الْخراج، ومحلا لِأَن الْعشْر فِي الْخَارِج وَالْخَرَاج فِي الذِّمَّة، وسببا لما عرفت من أَن سَبَب الْعشْر الأَرْض النامية بالنماء الْحَقِيقِيّ، وَسبب الْخراج بالنماء التقديري، ومصرفا فَإِن مصرف الْعشْر، الْفُقَرَاء ومصرف الْخراج الْمُقَاتلَة، وَلَا مُنَافَاة بَين حقين مُخْتَلفين بسببين مُخْتَلفين تحققا فِي كل وَاحِد، وَحجَّتنَا أَن اخْتِلَافهمَا ذاتا على الْوَجْه الْمَذْكُور يمْنَع اجْتِمَاعهمَا، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلَا نسلم اخْتِلَافهمَا سَببا بل هُوَ الأَرْض النامية إِلَّا أَنه يعْتَبر فِي الْعشْر تَحْقِيقا، وَفِي الْخراج تَقْديرا، واتحاد السَّبَب يُوجب اتِّحَاد الحكم، فالسبب أَحدهمَا من غير جمع بَينهمَا كالدية وَالْقصاص (وَقد يُقَال جَازَ) أَن يكون السَّبَب (الْوَاحِد سَببا لمتعدد) الْأَحْكَام (كالعلة الْوَاحِدَة) أَي كَمَا جَازَ أَن تكون الْعلَّة الْوَاحِدَة عِلّة لمتعدد مِنْهَا كَالزِّنَا(4/65)
عِلّة للتَّحْرِيم وَوُجُوب الْجد كَمَا تقدم (وَيُجَاب بِأَن جهتيهما) أَي جهتي الْعشْر وَالْخَرَاج (متنافية) أَي مُنَافِيَة كل وَاحِدَة مِنْهُمَا الْأُخْرَى: يَعْنِي أَن تعدد الحكم عِنْد اتِّحَاد السَّبَب أَو الْعلَّة يسْتَلْزم تحقق الْجِهَتَيْنِ، مَعًا، لِأَن الشَّيْء من جِهَة وَاحِدَة يَسْتَحِيل أَن يكون مُبْتَدأ لأمرين مُخْتَلفين، وَإِذا كَانَت الجهتان متنافيتين لَا يُمكن تحققهما مَعًا فِي مَحل وَاحِد. ثمَّ بَين التَّنَافِي بقوله (لِأَنَّهَا) أَي الْجِهَة (فِي إِحْدَاهمَا) أَي أرضي الْعشْر وَالْخَرَاج (أما) كَونهَا أَرضًا تسقى (بِمَاء خَاص) وَهُوَ الْأَنْهَار الَّتِي سقتها الْأَعَاجِم: كنهر يزدجرد وَغَيره مِمَّا يدْخل تَحت الْأَيْدِي وَمَاء الْعُيُون والآبار الَّتِي كَانَت بدار الْحَرْب ثمَّ ملكناها قهرا والمستنبطة من بَيت المَال (أَو) كَونهَا أَرضًا صَارَت للْمُسلمين من (فتح عنْوَة) أَي قهرا (الخ) أَي إِلَى آخر مَا ذكره الْفُقَهَاء وَأقر أَهلهَا عَلَيْهَا وَوضع عَلَيْهِم الْجِزْيَة وَعَلَيْهَا الْخراج، أَو صَالحهمْ من جماجمهم وأراضيهم على وَظِيفَة مَعْلُومَة، وَكَذَا إِذا فتحت صلحا وَأقر أَهلهَا عَلَيْهَا لِأَن فِي ابْتِدَاء التوظيف على الْكَافِر الْخراج مُتَعَيّن، وَهَذِه الْأَرَاضِي كلهَا خَرَاجِيَّة (و) الْجِهَة (فِي) الأَرْض (الْأُخْرَى) وَهِي العشرية كَونهَا أَرضًا مَوْقُوفَة (بخلافهما) أَي السَّقْي بِمَا ذكر وَالْفَتْح الْمَذْكُور بِأَن يسقى بِمَاء السَّمَاء أَو الْبحار أَو الْأَنْهَار الْعِظَام الَّتِي لَا تدخل تَحت الْأَيْدِي، وَبِأَن فتحت عنْوَة وَقسمت بَين الْغَانِمين (فَلَا يَجْتَمِعَانِ) أَي الْعشْر وَالْخَرَاج (فِي) مَحل (وَاحِد) لتنافي لازميهما: أَي الْجِهَتَيْنِ المذكورتين وَتعقبه الشَّارِح بِأَن بعض صور الْخراج يكون مَعَ الْفَتْح عنْوَة، وَهُوَ فِيمَا إِذا أقرّ عَلَيْهَا أَهلهَا وَكَذَا بعض صور الْعشْر: وَهُوَ فِيمَا إِذا قسمهَا بَين الْغَانِمين، كَمَا أَن بعض صور الْخراج لَا يكون مَعَ العنوة، بل مَعَ الصُّلْح، أَو بِأَن أَحْيَاهَا وسقاها بِمَاء الْأَنْهَار الصغار وَكَانَت قريبَة من أَرض الْخراج على الْخلاف، فَلَا يلْزم عدم تصور اجْتِمَاعهمَا مُطلقًا وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه غير مُتَّجه، إِذْ المُصَنّف جعل مدَار التَّنَافِي بَينهمَا التَّنَافِي بَين لازميهما، وَجعل لَازم الْخراج أحد الْأَمريْنِ: السَّقْي بِمَا ذكر، وصور الْأَحْيَاء الْمَذْكُورَة أَولا مندرجة تَحْتَهُ والقرب من الشَّيْء فِي حكمه وَالْفَتْح عنْوَة، وَقَالَ إِلَى آخِره: فقد أَشَارَ إِلَى الْقَيْد الْمُمَيز للخراجي عَن العشري فلازم الْخراج الْفَتْح مَعَ ذَلِك قيدا وصلحا على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَلم يَجْعَل الْفَتْح عنْوَة مدَار التَّنَافِي فَلَا يرد عَلَيْهِ شَيْء، وَأَيْضًا لم ينْقل عَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين الْجمع بَين الْحَقَّيْنِ وَلَو وَقع لنقل، ثمَّ إِن إِخْرَاج الْمُقَاسَمَة بِمَنْزِلَة الْعشْر فِي كَون الْوَاجِب مِنْهُمَا شَيْئا من الْخَارِج، ويفارقه فِي الْمصرف وَالْقدر وَغَيره (و) سَبَب الْوُجُوب (للطَّهَارَة إِرَادَة الصَّلَاة) لقَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا} الْآيَة (وَالْإِجْمَاع على عدم اعْتِبَار حَقِيقَة الْقيام بل) الْإِجْمَاع على اعْتِبَار (الْإِرَادَة) للصَّلَاة (وَالْحَدَث) وَيحْتَمل أَن يكون عطف الْإِرَادَة وَالْحَدَث على قَوْله إِرَادَة الصَّلَاة، وَالْمعْنَى بل السَّبَب لوُجُوبهَا مَجْمُوع الْإِرَادَة وَالْحَدَث، وَأورد أَن سَبَب(4/66)
الشَّيْء مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَالْحَدَث يزِيل الطَّهَارَة وينافيها وَأجِيب بِأَن الْمُسَبّب وجوب الطَّهَارَة لَا نَفسهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ (ثمَّ إِن نقضهَا) أَي نقض الْمدَّة للطَّهَارَة السَّابِقَة عَلَيْهِ (لم يمْتَنع) كَونه (سَببا لوُجُوب) طَهَارَة (أُخْرَى) دفع لما يتَوَهَّم من أَن سَبَبِيَّة الْحَدث للطَّهَارَة مُنَافِيَة لسببيته لنقضها (لَكِن) عدم الِامْتِنَاع يُفِيد صلاحيته لذَلِك، و (مَعَ) وجود (الصلاحية يحْتَاج إِلَى دَلِيل الِاعْتِبَار) أَي اعْتِبَار الشَّارِع كَونه سَببا لَهَا لِأَن السَّبَبِيَّة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِهِ وَهُوَ مَفْقُود (فَالْأَوْجه) أَن يُقَال: سَبَب وجوب الطَّهَارَة (وجوب مشروطها) أَي الْمَشْرُوط صِحَّته بِالطَّهَارَةِ هُوَ الصَّلَاة لما تقرر من أَن وجوب الشَّيْء يسْتَلْزم وجوب شَرطه (وَأَسْبَاب الْعُقُوبَات الْمَحْضَة) أَي الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ عقوبات مَحْضَة لَيْسَ فِيهَا معنى الْعِبَادَة (كالحدود مَحْظُورَات مَحْضَة) كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْقَذْف وَغَيره (و) أَسبَاب (مَا فِيهِ معنى الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة من الْكَفَّارَات) بَيَان لما، ثمَّ علل كَون الْكَفَّارَات فِيهَا معنى الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة بقوله (إِذْ لم تجب) الْكَفَّارَة (ابْتِدَاء تَعْظِيمًا) لله تَعَالَى كَسَائِر الْعِبَادَات، بل جَزَاء لفعل العَبْد، وفيهَا معنى الْحَظْر والزجر، وَهَذَا معنى الْعقُوبَة. ثمَّ بَين كَونهَا فِيهَا معنى الْعِبَادَة بقوله (وَشرع فِيهَا) أَي فِي الْكَفَّارَات (نَحْو الصَّوْم) من الصَّدَقَة وَالْإِعْتَاق (ولزمت النِّيَّة) فِيهَا: أَي فِي أَدَاء الْكَفَّارَات، ثمَّ أَسبَاب مَا فِيهِ إِلَى آخِره مُبْتَدأ وَخَبره (مَا يتَرَدَّد بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة) ليلائم السَّبَب الْمُسَبّب ويقابل الْحَظْر الْعقُوبَة، وَالْإِبَاحَة الْعِبَادَة، وَلذَا لَا يصلح الْمَحْظُور الْمَحْض كَالْقَتْلِ الْعمد وَالْيَمِين الْغمُوس سَببا لَهَا كَمَا لَا يصلح الْمُبَاح الْمَحْض كَالْقَتْلِ بِحَق وَالْيَمِين المنعقدة قبل الْحِنْث سَببا لَهَا (كالإفطار) الْعمد فِي نَهَار رَمَضَان لِأَنَّهُ مُبَاح من حَيْثُ أَنه يلاقي فعل نَفسه الَّذِي هُوَ مَمْلُوك لَهُ ومحظور من حَيْثُ أَنه جِنَايَة على مُبَاح الصَّوْم، وَأورد عَلَيْهِ الْإِفْطَار بِالزِّنَا أَو شرب الْخمر فَإِنَّهُ تجب بِهِ الْكَفَّارَة، وَهُوَ حرَام من كل وَجه وَأجِيب بِأَنَّهُ مُبَاح من وَجه، لِأَن الْإِفْطَار يلاقي الْإِمْسَاك والإمساك حَقه والإفطار بِاعْتِبَار كَونه جِنَايَة على الصَّوْم يكون مَحْظُورًا، وَالزِّنَا وَشرب الْخمر ليسَا بسببين لِلْكَفَّارَةِ، أَلا ترى أَنه لَو كَانَ نَاسِيا لَا تجب الْكَفَّارَة بهما، وَدفع بِأَنَّهُ ينْتَقض بِالْقَتْلِ الْعمد لِأَنَّهُ يلاقي فعل الْقَاتِل فَلَا يكون مَحْظُورًا مَحْضا، وَالَّذِي يظْهر أَن الْتِزَام كَون سَبَب الْكَفَّارَة فِي مثل الْإِفْطَار بِالزِّنَا مَحْظُورًا مَحْضا، وَعدم تَحْصِيل تِلْكَ الملائمة بَين السَّبَب والمسبب خير من التَّأْوِيل الْمَذْكُور كَمَا لَا يخفى على الْمنصف (وَالظِّهَار) وَهُوَ تَشْبِيه الزَّوْجَة أَو جُزْء مِنْهَا شَائِع أَو معِين يعبر بِهِ عَن الْكل بِمَا لَا يحل النّظر إِلَيْهِ من الْمُحرمَة على التَّأْبِيد فَإِنَّهُ من حَيْثُ كَونه طَلَاقا مُبَاح، وَمن حَيْثُ أَنه مُنكر من القَوْل وزور مَحْظُور، وَالْعود شَرط، وَقيل السَّبَب مَجْمُوع الظِّهَار وَالْعود، لِأَن الظِّهَار كَبِيرَة لَا يصلح وَحده سَببا لِلْكَفَّارَةِ وَيصْلح مَعَ الْعود لِأَنَّهُ(4/67)
مُبَاح وَلَا يخفى عَلَيْك تَحْصِيل وَجه إِبَاحَة مثل مَا ذكر فِي الْإِفْطَار بِالزِّنَا، وَقيل السَّبَب الْعَزْم على الْوَطْء، وَالظِّهَار شَرطه عِنْد الشَّافِعِي سُكُوته بعد ظِهَاره قدر مَا يُمكنهُ طَلاقهَا (وَالْقَتْل الْخَطَأ) إِمَّا فِي الْقَصْد بِأَن يَرْمِي مُسلما ظَنّه صيدا أَو حَرْبِيّا، أَو فِي الْفِعْل بِأَن يَرْمِي غَرضا فَيُصِيب آدَمِيًّا، فَهُوَ مُبَاح بِاعْتِبَار الْقَصْد، مَحْظُور بِاعْتِبَار إِصَابَة مَعْصُوم الدَّم (وَفِي تحريره) أَي تَحْرِير هَذَا الْقسم من السَّبَب (نوع طول) لَا يَلِيق بالمتون فَمن أَرَادَ التَّفْصِيل فَليرْجع إِلَى المطولات (و) السَّبَب (لشرعية الْمُعَامَلَات) كَالْبيع وَالنِّكَاح وَغَيرهمَا (الْبَقَاء) للْعَالم (على النظام) وَهُوَ فِي الأَصْل كل خيط ينظم بِهِ اللُّؤْلُؤ وَنَحْوه يُرَاد بِهِ مَا يَنْتَظِم أُمُور الْعَالم من تَدْبِير الصَّانِع تَعَالَى (الْأَكْمَل) قيد بِهِ لِأَنَّهُ قد يبْقى بِدُونِ شَرْعِيَّة الْمُعَامَلَات كَمَا فِي الْجَاهِلِيَّة، لَكِن لَا على الْوَجْه الْأَكْمَل، وَالْمرَاد النظام المنوط بِنَوْع الْإِنْسَان (إِلَى الْوَقْت الْمُقدر) بَقَاؤُهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَن اعْتِدَال مزاجه بِأُمُور صناعية فِي الْغذَاء واللباس والمسكن وَنَحْوهَا لَا يسْتَقلّ بهَا كل فَرد فَيحْتَاج إِلَى بني نَوعه، ثمَّ التوالد والتناسل لَا يحصل إِلَّا بالازدواج فَيَقَع بَينهم معاملات لَا تَخْلُو عَادَة عَن الْجور المخل بالنظام فَلَا بُد من أصُول كُلية قَاطِعَة للنزاع مبينَة لكيفية الْمُعَامَلَة (وَمَا تقدم) فِي المرصد الأول فِي تَقْسِيم الْعلَّة (من حفظ الضروريات والحاجيات تَفْصِيل هَذَا، و) السَّبَب (للاختصاصات) الشَّرْعِيَّة (كالملك) فَإِنَّهُ الْمُطلق الحاجز: أَعنِي يُطلق تصرف الْمَالِك ويحجز عَن تصرف الْغَيْر، وَكَذَلِكَ الْحُرْمَة وَإِزَالَة الْملك لَا إِلَى أحد (التَّصَرُّفَات) القولية والفعلية (المجعولة أسبابا شرعا) لَهَا (كَالْبيع وَالطَّلَاق وَالْعتاق، فقد أطْلقُوا لفظ السَّبَب على مَا تقدم) فِي فصل الْعلَّة إِطْلَاقهم عَلَيْهِ (عِلّة) فَاحْتَاجَ إِلَى بَيَان يدْفع الالتباس ويميز كلا مِنْهُمَا عَن الآخر (فَقيل) وقائله صدر الشَّرِيعَة (مَا ترَتّب عَلَيْهِ الحكم وَلم يعقل تَأْثِيره) فِيهِ (وَلَيْسَ صنع الْمُكَلف خص باسم السَّبَب) لِأَنَّهُ مفض إِلَيْهِ من غير تَأْثِير فِيهِ (وَإِن) كَانَ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَلم يعقل تَأْثِيره ثَابتا (بصنعه) أَي الْمُكَلف (وَذَلِكَ الحكم هُوَ الْغَرَض من وَضعه) أَي وضع ذَلِك الْمُتَرَتب عَلَيْهِ الحكم (فعلة) أَي فَذَلِك الْمُتَرَتب عَلَيْهِ الحكم عِلّة (وَيُطلق عَلَيْهِ سَبَب) أَي لفظ سَبَب (مجَازًا كَالْبيع للْملك) مجَازًا (وَإِن لم يكن) ذَلِك الحكم (الْغَرَض من وَضعه: كالشراء لملك الْمُتْعَة لَا يعقل تَأْثِيره) فِي ملك الْمُتْعَة (وَلَيْسَ) ملك الْمُتْعَة (الْغَرَض مِنْهُ) أَي الشِّرَاء (بل) الْغَرَض مِنْهُ (ملك الرَّقَبَة فسببه) أَي فَذَلِك سَبَب الحكم (وَإِن عقل تَأْثِيره خص) ذَلِك الْمُرَتّب عَلَيْهِ الحكم (باسم الْعلَّة) ثمَّ أَفَادَ مَا حَقَّقَهُ بقوله (والاصطلاح الظَّاهِر) للحنفية (أَن مَا لم يعقل تَأْثِيره: أَي مناسبته بِنَفسِهِ بل بِمَا هُوَ مظنته) أَي بِاعْتِبَار أَمر هُوَ مَظَنَّة لذَلِك الْأَمر بِأَن يكون بَين ذَلِك الْأَمر وَالْحكم مُنَاسبَة فَمن حَيْثُ أَنه مَظَنَّة للمناسب يحصل لَهُ مُنَاسبَة بالواسطة (على(4/68)
مَا قدمْنَاهُ) فِي فصل الْعلَّة (وَثَبت) شرعا (اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار مَا لم يعقل مناسبته بِنَفسِهِ بل بِمَا هُوَ مظنته، وَقد مر تَفْسِير الِاعْتِبَار (عِلّة) خبر أَن، فَعلم أَن مدَار الْعلية على مُنَاسبَة مَا ترَتّب عَلَيْهِ الحكم: أما بِنَفسِهِ أَو بِوَاسِطَة مَا ذكر وَثُبُوت اعْتِبَاره، فَإِن لم يتَحَقَّق فِيهِ أحد الْأَمريْنِ مَعَ ثُبُوت الِاعْتِبَار فَلَيْسَ بعلة وَإِن كَانَ بصنع الْمُكَلف مَعَ كَون الحكم هُوَ الْغَرَض من وَضعه، فَبين مَا ذكره المُصَنّف وَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة عُمُوم من وَجه بِحَسب الْمَفْهُوم (وَمَا هُوَ مفض) إِلَى الحكم (بِلَا تَأْثِير) فِيهِ (سَبَب) وَإِن تحقق الصنع وَالْغَرَض الْمَذْكُورَان، وَقد عرفت معنى التَّأْثِير (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن المُرَاد مَا قُلْنَا، بل بِمَا قَالَه الْقَائِل الْمَذْكُور (خص اسْم الْعلَّة الْحِكْمَة) بِحَذْف الْبَاء: أَي بالحكمة، وَذَلِكَ لِأَن مَا بنى عَلَيْهِ الْعلية إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْحِكْمَة لَيْسَ إِلَّا (والاصطلاح نَاطِق بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف التَّخْصِيص الْمَذْكُور، وَقد مر مَا يفِيدهُ من تَفْسِير كل من الْحِكْمَة وَالْعلَّة على وَجه يُفَارق الآخر (وَيُطلق كل) من الْعلَّة وَالسَّبَب (على الآخر مجَازًا) وَمن هَذَا الْقَبِيل إِطْلَاق الْعلَّة على البيع وَنَحْوه (وَأما الشَّرْط فَمَا يُطلق عَلَيْهِ) أَي مَا يُطلق اسْمه عَلَيْهِ، فالمحكوم عَلَيْهِ الشَّرْط الاصطلاحي، وَالْحكم بَيَان حَاله بِاعْتِبَار معَان تقصد باسمه لُغَة أَو شرعا حَقِيقَة أَو مجَازًا: أما (حَقِيقِيّ) وَهُوَ مَا (يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشَّيْء فِي الْوَاقِع) كالحياة للْعلم فَإِنَّهُ لما كَانَ التَّوَقُّف فِيهِ بِحَسب نفس الْأَمر كَانَ حَقِيقا بِأَن يُسمى شرطا (و) أما (جعلى) أما (للشارع فَيتَوَقَّف) وجود الْمَشْرُوط عَلَيْهِ (شرعا) أَي توقفا شَرْعِيًّا كَمَا أَن وجود الْمَشْرُوط وجود شَرْعِي (كالشهود للنِّكَاح وَالطَّهَارَة للصَّلَاة) فَإِن وجودهما الشَّرْعِيّ مَوْقُوف على الشُّهُود وَالطَّهَارَة توقفا شَرْعِيًّا (وَالْعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات على من أسلم فِي دَار الْحَرْب) وَلم يُهَاجر إِلَى دَار الْإِسْلَام، فَإِن وُجُوبهَا عَلَيْهِ مَوْقُوف على الْعلم بِهِ حَتَّى لَو لم يعلم بِهِ حَتَّى مضى عَلَيْهِ زمَان لَا يلْزم عَلَيْهِ قَضَاء شَيْء مِنْهَا قيل الْمَوْقُوف على الْعلم وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بِالْخِطَابِ دون نفس الْوُجُوب الثَّابِت بِالسَّبَبِ، وَإِلَّا لما وَجَبت الصَّلَاة على النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ إِذا لم يَمْتَد الْإِغْمَاء، وَلما وَجب الصَّوْم على الْمَجْنُون الَّذِي لم يسْتَغْرق جُنُونه الشَّهْر لعدم الْعلم وَأجِيب بِأَنا لَا نسلم عدم حُصُول الْعلم فِي حَقهم لثُبُوته تَقْديرا لشيوع الْخطاب، وبلوغه إِلَى سَائِر الْمُكَلّفين بِمَنْزِلَة بُلُوغه إِلَيْهِم، كَذَا قَالُوا: وَفِيه نظر (أَو للمكلف) مَعْطُوف على قَوْله للشارع، ثمَّ بَين كَيْفيَّة التَّوَقُّف يَجْعَل الْمُكَلف بقوله (بتعليق تصرفه عَلَيْهِ) أَي على الْمُعَلق بِهِ بأداة الشَّرْط (مَعَ إجَازَة الشَّارِع) لَهُ ذَلِك (كَأَن دخلت) الدَّار فَأَنت طَالِق، فَإِنَّهُ جعل وُقُوع الطَّلَاق مَوْقُوفا على الدُّخُول، وَقد أَبَاحَ لَهُ الشَّارِع التَّعَلُّق (أَو مَعْنَاهُ) مَعْطُوف على مَدْخُول الْبَاء، يَعْنِي أَو بِمَا هُوَ فِي معنى التَّعْلِيق بهَا (كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَزَوَّجهَا) أَي كَمَا إِذا قَالَ: الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، فَإِن التَّعْلِيق بهَا يُفِيد(4/69)
ارتباط شَيْء بِشَيْء على خطر الْوُجُود متوقعا نزُول المرتبط على المرتبط بِهِ وَقد وجد فِيهِ، ثمَّ إِن الْوَصْف: أَعنِي التَّزَوُّج لما كَانَ لامْرَأَة غير مُعينَة اعْتبر لحُصُول التعين الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي وُقُوع الطَّلَاق، لِأَن إِضَافَته إِلَى مَجْهُول غير صَحِيحَة، وَإِذا اعْتبر صَار بِمَعْنى الشَّرْط فِي ترَتّب الحكم عَلَيْهِ (بِخِلَاف) مَا لَو دخل الْوَصْف على معِين بِأَن أَشَارَ إِلَى أَجْنَبِيَّة أَو ذكرهَا باسمها الْعلم، فَقَالَ (هَذِه) الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق (وَزَيْنَب الخ) أَي الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق فَإِنَّهُ لَا يصلح دلَالَة على الشَّرْط: لِأَن الْوَصْف فِي الْمعِين لَغْو (فَيلْغُو) الْوَصْف الْمَذْكُور فَتبقى هَذِه الْمَرْأَة طَالِق وَزَيْنَب فَيلْغُو لعدم الْمَحَلِّيَّة وَعدم مَا يَجعله فِي معنى التَّعْلِيق بِصِيغَة الشَّرْط، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ التَّعْلِيق بصيغته فَإِنَّهُ يَصح فِي الْمعينَة وَغَيرهَا، كَأَن تزوجت امْرَأَة وَهَذِه الْمَرْأَة فَهِيَ طَالِق، فَإِن الطَّلَاق يتَعَلَّق بِالشّرطِ فيهمَا (وَيُسمى) هَذَا النَّوْع مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الشَّرْط (شرطا مَحْضا) لَيْسَ فِيهِ معنى الْعلية (لِامْتِنَاع) تحقق (الْعلَّة بِالتَّعْلِيقِ) أَي بِسَبَب التَّعْلِيق لِأَن مَا يتَحَقَّق بِهِ الْعلية لَا يحصل بِسَبَب تَعْلِيق شَيْء بِهِ وَهُوَ ظَاهر بَعْدَمَا عرفت معنى الْعلَّة. لَا يُقَال قَوْله لِامْتِنَاع الخ إِشَارَة إِلَى مَا تقرر عِنْد الْحَنَفِيَّة، من أَن التَّعْلِيق يمْنَع تحقق الْعلَّة، فَإِن قَوْله أَنْت طَالِق عِلّة للطَّلَاق لَوْلَا التَّعْلِيق، فَإِن هَذَا الْمَنْع لَا دخل لَهُ فِي كَون الْمُعَلق بِهِ شرطا مَحْضا فَتدبر (وَلما شابه) الشَّرْط (الْعلَّة للتوقف) أَي لتوقف الحكم عَلَيْهِ، كَمَا أَن الْعلَّة يتَوَقَّف الحكم عَلَيْهَا (والوضع) أَي ولكونه وضع أَمارَة على الحكم شرعا كالعلة، وَقَوله (أضافوا إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط (الحكم أَحْيَانًا) جَوَاب لما، ثمَّ بَين أَن تِلْكَ الأحيان إِنَّمَا هِيَ (فِي) ضَمَان (التَّعَدِّي: وَذَلِكَ عِنْد عدم عِلّة صَالِحَة للإضافة) أَي إِضَافَة الحكم إِلَيْهَا، لِأَن شَبيه الشَّيْء قد يخلفه، وَزَاد بَعضهم عدم سَبَب كَذَلِك على مَا ذكر لِأَنَّهُ إِذا لم تصلح الْعلَّة وَصلح السَّبَب يُضَاف الحكم إِلَيْهِ (وسموه) أَي الشَّرْط الْمُضَاف إِلَيْهِ الحكم مَعْطُوف على الْجَواب (شرطا فِيهِ معنى الْعلَّة) بِاعْتِبَار تِلْكَ الْإِضَافَة (كشق الزق) الَّذِي فِيهِ مَائِع تَعَديا فَسَالَ مِنْهُ وَتلف (وحفر الْبِئْر فِي الطَّرِيق) تَعَديا، فَإِن كلا مِنْهُمَا شَرط أضيف إِلَيْهِ الحكم فَيضمن الشاق والحافر (لِأَن الْعلَّة) أَعنِي (السيلان لَا تصلح لإضافة الحكم) أَي (الضَّمَان) للعدوان إِلَيْهِ (إِذْ لَا تعدِي فِيهِ) أَي السيلان لِأَنَّهُ أَمر طبيعي للمائع ثَابت بِخلق الله تَعَالَى (والشق شَرطه) إِذْ يتَوَقَّف عَلَيْهِ السيلان وَحكمه (و) هُوَ (إِزَالَة الْمَانِع) من السيلان وَهُوَ الزق (تَعَديا) على مَالِكه (فيضاف) الضَّمَان (إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط وَعلة السُّقُوط فِي الْبِئْر ثقل السَّاقِط، وَهُوَ أَيْضا طبيعي لَا تعدِي فِيهِ فَلَا يصلح لإضافة الضَّمَان إِلَيْهِ وَإِزَالَة الْمَانِع من السُّقُوط وَهُوَ الأَرْض بِالْحفرِ وَقع تَعَديا فأضيف إِلَيْهِ الحكم، لَا يُقَال الشَّيْء سَبَب وَهُوَ أقرب إِلَى الْعلَّة فيضاف إِلَيْهِ إِذْ لَا تعدِي فِيهِ لِأَنَّهُ مُبَاح مَحْض، وَلَا بُد فِيمَا يُضَاف إِلَيْهِ من صفة(4/70)
التَّعَدِّي وَلَو تعمد الْمُرُور على الْبِئْر فَوَقع فِيهَا وَهلك يُضَاف التّلف إِلَيْهِ لتحَقّق التَّعَدِّي حِينَئِذٍ (وكشهود وجود الشَّرْط) كدخول الدَّار بعد تَعْلِيق الطَّلَاق بِهِ على رجل لم يدْخل بِزَوْجَتِهِ (فَإِذا رجعُوا) أَي شُهُود الشَّرْط وحدهم (بعد الْقَضَاء) بِالطَّلَاق وَلزِمَ نصف الْمهْر (ضمنُوا) نصف الْمهْر للزَّوْج، بِخِلَاف مَا إِذا دخل بهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ قد استوفى بدل الْمهْر مِنْهَا، فالشهود لم يتلفوا عَلَيْهِ شَيْئا: وَهَذَا التَّخْرِيج فِي تضمين الشُّهُود (لفخر الْإِسْلَام وَالَّذِي فِي الْجَامِع الْكَبِير لَا) يضمنُون (وَعَلِيهِ) شمس الْأَئِمَّة (السَّرخسِيّ وَأَبُو الْيُسْر، وَفِي الطَّرِيقَة البرعزية: هُوَ) أَي ضَمَان شُهُود الشَّرْط (قَول زفر، وَالثَّلَاثَة) أَبُو حنيفَة وصاحباه قَالُوا (لَا تضمين قيل) فِي تَعْلِيل عدم الضَّمَان وقائله صَاحب الْكَشْف (لِأَن الْعلَّة وَإِن لم تكن صَالِحَة لإيجابه) أَي الضَّمَان لخلوها عَن صفة التَّعَدِّي (صَالِحَة لقطعه) أَي الحكم (عَن) الْإِضَافَة إِلَى (الشَّرْط إِذْ كَانَت) الْعلَّة (فعل مُخْتَار) فبينه المُصَنّف بقوله (أَي الْقَضَاء فَإِنَّهُ لَا يصلح) عِلّة لإِيجَاب الضَّمَان (وَإِلَّا) لَو صلح لَهُ (ضمن القَاضِي) مَعَ أَنه فعل بِمَا أوجبه الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَيفْسد بَاب الْقَضَاء (وَبِه) أَي بِهَذَا التَّقْرِير (ينتفى مَا قيل) وقائله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (أَنه) أَي هَذَا الْمِثَال (مِثَال مَا لَا عِلّة فِيهِ أصلا، وَمِمَّا فِيهِ) أَي وَمن الشَّرْط الَّذِي فِيهِ معنى الْعلَّة (وَلَا تصلح) الْعلَّة لإضافة الحكم إِلَيْهَا (شَهَادَة شَرط الْيَمين الأول) صفة شَرط الْيَمين (فِي قَوْله) لعَبْدِهِ (إِن كَانَ قَيده عشرَة) من الأرطال (فَهُوَ حر، وَإِن حل فَهُوَ حر فشهدا بِعشْرَة) أَي بِأَنَّهُ عشرَة أَرْطَال (فَقضى بِعِتْقِهِ ثمَّ) حل و (وزن فَبلغ ثَمَانِيَة) فَظهر كذبهما (ضمنا) قيمَة العَبْد لمَوْلَاهُ (عِنْده) أَي أبي حنيفَة (لنفاذه) أَي الْقَضَاء بِالْعِتْقِ (بَاطِنا) أَي فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى كنفاذه ظَاهرا بِالْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا نفذ مَا قُلْنَا (لابتنائه) أَي الْقَضَاء (على مُوجب شَرْعِي) للْقَضَاء يَعْنِي الشَّهَادَة فَلَا بُد من صيانته قدر الْإِمْكَان على وَجه لَا يتَضَرَّر الْمولى، وَذَلِكَ بِالْعِتْقِ والتضمين ومسئلة النَّفاذ بَاطِنا عِنْده مَشْهُورَة مفصلة فِي محلهَا، وَيرد عَلَيْهِ أَنه مِمَّا يُمكنهُ الْوُقُوف عَلَيْهِ، وَفِي مثله لَا ينفذ بَاطِنا، فَأَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (بِخِلَاف مَا إِذا ظَهَرُوا) أَي الشُّهُود (عبيدا أَو كفَّارًا) لنُقْصَان الْمُوجب الشَّرْعِيّ لتقصير القَاضِي فِي تعرف حَالهم (لِإِمْكَان الْوُقُوف عَلَيْهِ) أَي على كل من رقهم وكفرهم فَلم ينفذ قَضَاؤُهُ بَاطِنا (وَفِيمَا نَحن فِيهِ سقط) عَن القَاضِي (معرفَة وَزنه) لتحَقّق صدقهم (لِأَنَّهُ) أَي عرفان وَزنه (بحله) أَي الْقَيْد ليوزن (وَبِه) أَي بحله (يعْتق) فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فَينفذ بِدُونِ الْحل (وَإِذا نفذ) بَاطِنا (عتق قبل الْحل فَامْتنعَ إِضَافَته) أَي الْعتْق (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الْحل لتقدم الْعتْق عَلَيْهِ (وَالْعلَّة وَهِي الْيَمين) على التسامح من الْفُقَهَاء، وَكَذَا فَسرهَا بقوله (أَي الْجَزَاء) وَهُوَ قَوْله فَهُوَ حر (فِيهِ) أَي فِي التَّعْلِيق الْمَذْكُور (غير صَالح(4/71)
لإضافة الضَّمَان إِلَيْهِ) أَي الْعلَّة، والتذكير بِاعْتِبَار الْجَزَاء (لِأَنَّهُ تصرف الْمَالِك) فِي ملكه (لَا تعد) مِنْهُ فِيهِ (فَتعين) أَن يُضَاف الحكم (إِلَى الشَّرْط وَهُوَ) أَي الشَّرْط (كَونه) أَي الْقَيْد (عشرَة وَقد كذب بِهِ الشُّهُود تَعَديا فيضمنونه، وَعِنْدَهُمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (لَا) يضمنُون قِيمَته لمَوْلَاهُ (إِذْ لَا ينفذ) الْقَضَاء عِنْدهمَا (بَاطِنا) لِأَن صِحَّته بِالْحجَّةِ وَقد ظهر بُطْلَانهَا وَالْعَدَالَة الظَّاهِرَة دَلِيل الصدْق ظَاهرا، فَلَا نَفاذ إِلَّا فِي الظَّاهِر (فَهُوَ رَقِيق بَاطِنا بعد الْقَضَاء ثمَّ عتق بِالْحلِّ) لَا بِالشَّهَادَةِ فَلَا يضمنُون (وَمَا فِيهِ) أَي وَمِثَال مَا فِيهِ عِلّة (صَالِحَة) لإضافة الحكم إِلَيْهَا مَعَ الشَّرْط (شهادتا الْيَمين وَالشّرط فيضاف) الحكم (إِلَيْهَا) أَي الْيَمين يَعْنِي إِلَى شَهَادَتهمَا (فَيضمن شُهُود الْيَمين إِذا رَجَعَ الْكل) أَي شُهُود الْيَمين وشهود وجود الشَّرْط، لِأَن شُهُود الْيَمين شُهُود الْعلَّة، وَهُوَ قَوْله فَأَنت طَالِق مثلا على تَقْدِير: إِمَّا بِاعْتِبَار تَعْمِيم الْعلَّة بِحَيْثُ يَشْمَل مَا فِيهِ معنى السَّبَبِيَّة، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَنه يحصل للمعلق بعد شَهَادَة الْفَرِيقَيْنِ وَالْقَضَاء اتِّصَال بالحكم وَأورد عَلَيْهِ أَن شُهُود التَّعْلِيق إِنَّمَا شهدُوا بِالْعِلَّةِ. وَهُوَ قَوْله فَأَنت طَالِق مثلا على تَقْدِير وجود الشَّرْط لَا مُطلقًا فتحقق الْعلية مَوْقُوف على وجود الشَّرْط، فشهوده أولى بِالضَّمَانِ وَأجِيب بِمَنْع كَون شَهَادَتهم بهَا على ذَلِك التَّقْدِير، بل شهدُوا بِسَمَاع التَّعْلِيق مُطلقًا، وَحَاصِله بَيَان أَن المُرَاد بِالْعِلَّةِ الْمَشْهُود بهَا التَّعْلِيق الْمُطلق، لَا الْمُطلق الْقَيْد وَهُوَ عِلّة لَوْلَا الْمَانِع، وَإِنَّمَا قيل هُوَ عِلّة لاشْتِمَاله على الْعلَّة وَهِي قَوْله فَأَنت حر مثلا، وَالْمَانِع إِنَّمَا هُوَ انْتِفَاء الشَّرْط، وَلَا تعلق بِشَهَادَة شُهُود الشَّرْط بتحقق الْعلَّة غير أَنهم يشْهدُونَ بِشَيْء يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْعلَّة، لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ عِنْد وجود الشَّرْط كالمنجز، وَفِيه نظر، لِأَن الشَّهَادَة بِسَمَاع مَا هُوَ عِلّة لَوْلَا وجود الْمَانِع لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء بِدُونِ مَا يدل على ارْتِفَاع الْمَانِع وَهُوَ شُهُود الشَّرْط فَكل مِنْهُمَا عِلّة نَاقِصَة وَالْمَجْمُوع عِلّة تَامَّة، وَمُقْتَضَاهُ تضمين الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا غير أَنه نوروا إِلَى الْجَواب بقَوْلهمْ: أَلا ترى أَنهم لَو شهدُوا بِالتَّعْلِيقِ لم يتَحَقَّق الشَّرْط من غير شَهَادَتهم، ثمَّ رجعُوا بعد الحكم يضمنُون وَلَو تحقق التَّعْلِيق من غير شَهَادَة بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ ثمَّ شهدُوا بِوُجُود الشَّرْط ثمَّ رجعُوا لم يضمنوا، فَعرفنَا أَن تحقق الْعلَّة وتأثيرها غير مُضَاف إِلَى شَهَادَة الشَّرْط بِوَجْه انْتهى وَلَا يخفى أَن فَائِدَة ذكر الضَّمَان فِي الصُّورَة الأولى أَن شُهُود التَّعْلِيق عِنْد الِانْفِرَاد يضمنُون، بِخِلَاف شُهُود الشَّرْط فَإِنَّهُم عِنْد الِانْفِرَاد لَا يضمنُون على مَا صرح بِهِ فِي الصُّورَة الثَّانِيَة المفيدة للمقصود بِدُونِ الصُّورَة الأولى، لِأَنَّهُ لَو ضمن شُهُود الشَّرْط عِنْد الِاجْتِمَاع لضمنوا عِنْد تحقق التَّعْلِيق بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ لِأَن خُصُوصِيَّة الِاجْتِمَاع لَا دخل لَهَا فِي التَّضْمِين (و) سموا (مَا لم يضف) أَي الشَّرْط الَّذِي لم يضف الحكم (إِلَيْهِ أصلا كأول المفعولين من شرطين علق عَلَيْهِمَا) طَلَاق أَو غَيره (كَأَن دخلت هَذِه) الدَّار (وَهَذِه) الدَّار فَأَنت طَالِق (شرطا مجَازًا اصْطِلَاحا) لتخلف حكم الشَّرْط(4/72)
الاصطلاحي عَنهُ، وَهُوَ وجود الحكم عِنْد وجوده، لِأَن الحكم يَتَرَتَّب على الْمَجْمُوع فهما شَرط وَاحِد فِي الْحَقِيقَة، وعلاقة الْمجَاز توقف الحكم عَلَيْهِ كالحقيقي (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمُسَمّى (جدير بحقيقته) أَي الشَّرْط لتوقف وجود الحكم عَلَيْهِ من غير تَأْثِير وَلَا إفضاء، وَقد علم مِمَّا سبق أَن هَذَا معنى الشَّرْط وَلَا يلْزمه الْوُجُود عِنْد الْوُجُود (وَيُقَال) لهَذَا أَيْضا (شَرط اسْما لَا حكما) أما اسْما فَلَمَّا ذكر من علاقَة الْمجَاز: وَأما عدم الحكم فَلَمَّا عرفت من التَّخَلُّف، وَقد عرفت مَا فِيهِ. وَمن هَذَا الْقسم الطَّهَارَة وَستر الْعَوْرَة وَالنِّيَّة (و) سموا (مَا) أَي الشَّرْط الَّذِي (اعْترض بعده) أَي توَسط بَينه وَبَين التلاف (فعل) فَاعل (مُخْتَار) فِي فعله سَوَاء كَانَ إنْسَانا أَو غَيره مِمَّا يَتَحَرَّك بالإرادة (لم يتَّصل) هَذَا الْفِعْل (بِهِ) أَي بذلك الشَّرْط بِأَن يتَحَقَّق بعد تحَققه بِغَيْر فَاعله حَال كَون هَذَا الْفِعْل (غير مَنْسُوب إِلَى الشَّرْط) وَسَيَجِيءُ مِثَال الْمَنْسُوب إِلَيْهِ (كحل قيد العَبْد) فَإِنَّهُ شَرط لتوقف التلاف عَلَيْهِ وَاعْترض بعده اباق العَبْد وَهُوَ فعل اخْتِيَاري (شرطا فِيهِ معنى السَّبَب) مفعول ثَان للتسمية: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مفض إِلَى الحكم بِلَا تَأْثِير (فَلَا ضَمَان) على من صدر مِنْهُ الشَّرْط الْمَذْكُور (بِهِ) أَي بِسَبَب صدوره مِنْهُ لاعتراض مَا يصلح لإضافة الحكم إِلَيْهِ بعده، وَهُوَ اباق الْآبِق (فَلَا يضمن) الْحَال (قِيمَته) أَي العَبْد (أَن أبق) لِأَن الْحل إِزَالَة الْمَانِع وَالْعلَّة الآباق، بِخِلَاف مَا إِذا اعْترض على الشَّرْط فعل غير مُخْتَار، بل طبيعي كَمَا إِذا شقّ زق الْغَيْر فَسَالَ الْمَائِع مِنْهُ فَتلف، وَمَا إِذا أَمر عبد الْغَيْر بالاباق فأبق فَإِنَّهُ وَإِن اعْترض عَلَيْهِ فعل مُخْتَار، فَأمر الِاسْتِعْمَال للْعَبد مُتَّصِل بالاباق فَيصير الْآمِر غَاصبا للْعَبد، فعمله على وفْق اسْتِعْمَاله كالآلة للْآمِر فَكَأَنَّهُ غير اخْتِيَاري (وَكَذَا فِي فتح القفص و) فتح بَاب (الاصطبل لَا يضمنهما) أَي الفاتح قيمَة الطير وَالدَّابَّة وَإِن ذَهَبا مِنْهُمَا فَوْرًا، لِأَن الْفَتْح شَرط اعْترض بعده فعل اخْتِيَاري من الطير وَالدَّابَّة (خلافًا لمُحَمد) فَإِنَّهُ قَالَ يضمنهما إِذا ذَهَبا على الْفَوْر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي (جعله) أَي مُحَمَّد الْفَتْح (كَشَرط فِيهِ معنى الْعلَّة إِذْ طبعهما) أَي الطير وَالدَّابَّة (الِانْتِقَال) أَي الْخُرُوج عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يصبران عَنهُ عَادَة (عِنْد عدم الْمَانِع) مِنْهُ، وَالْعَادَة إِذا تأكدت صَارَت طبيعية لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنْهَا (فَهُوَ) أَي انتقالهما (كسيلان) الْمَائِع من (الزق عِنْد الشق، وَلِأَن فعلهمَا) أَي الطير وَالدَّابَّة (هدر) سَاقِط الِاعْتِبَار شرعا لفساد اختيارهما كَمَا إِذا صَاح فَذَهَبت صَار ضَامِنا فَلَا يصلح لإضافة التّلف إِلَيْهِ (فيضاف التّلف إِلَى الشَّرْط) وَهُوَ الْفَتْح (وهما) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (منعا الْإِلْحَاق) أَي إِلْحَاق فعل الطير وَالدَّابَّة بالسيلان الْمَذْكُور (بعد تحقق الِاخْتِيَار) لَهما فَإِن الْحَيَوَان يَتَحَرَّك بالإرادة (وَكَونه) أَي فعلهمَا (هدرا) لَا يصلح لإِيجَاب حكم بِهِ لِأَن الْوُجُوب مَحَله الذِّمَّة وَلَا ذمَّة لَهما (لَا يمْنَع قطع(4/73)
الحكم عَن الشَّرْط كالمرسل) من ذَوَات الأنياب (إِلَى صيد فَمَال) مَعْطُوف على فعل مَفْهُوم من صلَة اللَّام: أَي الَّذِي أرسل فَمَال (عَنهُ) أَي الصَّيْد (ثمَّ رَجَعَ) الْمُرْسل (إِلَيْهِ) أَي الصَّيْد بعد مَا مَال عَنهُ (فَأَخذه ميله هدر) فِي إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ لكَونه بَهِيمَة (و) مَعَ هَذَا (قطع) ميله (النِّسْبَة) أَي نِسْبَة إرسالهِ (إِلَى الْمُرْسل) وَلِهَذَا لَا يحل أكل مَا صَاده فَقتله (أما لَو نسب) خروجهما (إِلَيْهِ) أَي الفاتح (كفتحه على وَجه نفره) أَي كلا من الطير وَالدَّابَّة (فَفِي معنى الْعلَّة) أَي ففتحه لَيْسَ فِي معنى السَّبَب، بل فِي معنى الْعلَّة (فَيضمن) الفاتح. وَالْمُخْتَار للْفَتْوَى قَول مُحَمَّد صِيَانة لأموال النَّاس وَهُوَ اسْتِحْسَان، وَالْقِيَاس قَوْلهمَا: وَأما إِذا لم يخرجَا فِي فَور الْفَتْح بل بعده فَكَانَ ذَلِك دَلِيلا على ترك الْعَادة الْمُؤَكّدَة وَكَانَ ذَلِك بِحكم الِاخْتِيَار كحل الْقَيْد (وَأما الْعَلامَة) الَّتِي سبق أَنَّهَا لمُجَرّد الدّلَالَة على الحكم (فكالأوقات للصَّلَاة وَالصَّوْم) فَإِنَّهَا دَالَّة على تحقق وجوبهما من غير إفضاء وَلَا تَأْثِير (وعد الْإِحْصَان) لإِيجَاب الرَّجْم (مِنْهَا) أَي الْعَلامَة، وَهُوَ كَون الْإِنْسَان حرا عَاقِلا بَالغا مُسلما قد تزوج امْرَأَة نِكَاحا صَحِيحا وَدخل بهَا، وهما على صفة الْإِحْصَان حَتَّى لَو تزوج الْحر الْمُسلم الْبَالِغ الْعَاقِل أمة، أَو وصبية، أَو مَجْنُونَة، أَو كِتَابِيَّة وَدخل بهَا لَا يصير بِهَذَا الدُّخُول مُحصنا، وَكَذَا لَو تزوجت الموصوفة بِمَا ذكر من عبد أَو مَجْنُون أَو صبي وَدخل بهَا لَا تصير مُحصنَة (لثُبُوته) أَي الْإِحْصَان (بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال) أَي بِشَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وجمعهما إِمَّا بِاعْتِبَار المُرَاد، وَإِمَّا بِاعْتِبَار إِرَادَة الْجِنْس خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة وَزفر، وَلَو كَانَ عِلّة، أَو سَببا أَو شرطا لم يثبت بشهادتهن مَعَ الرِّجَال لوُجُود الشُّبْهَة فِي هَذِه الشَّهَادَة، وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ، ثمَّ قَوْله عد الْإِحْصَان مُبْتَدأ خَبره (مُشكل، بل هُوَ) أَي الْإِحْصَان (شَرط لوُجُوب الْحَد كَمَا ذكره الْأَكْثَر) مِنْهُم متقدمو مَشَايِخنَا وَعَامة الْمُتَأَخِّرين (لتوقفه) أَي وجوب الْحَد (عَلَيْهِ) أَي الْإِحْصَان (بِلَا عقلية تَأْثِير) لَهُ فِي الحكم (وَلَا إفضاء) إِلَيْهِ وَهَذَا شَأْن الشَّرْط (لَا) أَنه عَلامَة (لتوقف مُجَرّد الْعلم بِهِ) أَي لوُجُوب الْحَد عَلَيْهِ كَمَا هُوَ شَأْن الْعَلامَة. وَلما اتجه على هَذَا تضمين شُهُوده إِذا رجعُوا بعد الرَّجْم. أجَاب بقوله (وَعدم الضَّمَان بِرُجُوع شُهُود الشَّرْط هُوَ الْمُخْتَار) وَقد سبق وَجهه (وَإِنَّمَا تكلفه) أَي تكلّف فِي جعل الْإِحْصَان (عَلامَة المضمن) بِشُهُود الشَّرْط ليندفع عَنهُ إِلْزَام تضمين شُهُود الْإِحْصَان على تَقْدِير كَونه شرطا (وَهُوَ) أَي تكلفه عَلامَة (غلط لِأَنَّهُ لَو) كَانَ الْإِحْصَان (شرطا لم تضمن) شُهُوده (بِهِ) أَي الرُّجُوع، وإيراد كلمة لَو مكالمة بِلِسَان التَّكَلُّف، وَإِلَّا فالتحقيق عِنْده أَنه شَرط كَمَا ذكره (إِذْ شَرطه) أَي شَرط ضَمَان شُهُود الشَّرْط (عدم) الْعلَّة (الصَّالِحَة) لإضافة الحكم إِلَيْهَا (وَالزِّنَا عِلّة صَالِحَة لإضافة الْحَد) إِلَيْهِ فَلَا يُضَاف إِلَى الْإِحْصَان لَو كَانَ شرطا. وَلما اتجه على كَون الْإِحْصَان شرطا، إِذْ الشَّرْط مَا يمْنَع ثُبُوت الْعلَّة(4/74)
حَقِيقَة بعد وجودهَا صُورَة إِلَى حِين وجوده كَمَا فِي تَعْلِيق الْعتاق بِالدُّخُولِ وَالزِّنَا إِذا تحقق لَا يتَوَقَّف انْعِقَاده عِلّة للرجم على إِحْصَان يحدث بعده. أجَاب بقوله (وتقدمه) أَي الْإِحْصَان (على الْعلَّة) وَهِي (الزِّنَا غير قَادِح) فِي كَونه شرطا (إِذْ تَأَخره) أَي الشَّرْط (عَنْهَا) أَي الْعلَّة (غير لَازم) إِذْ يتَقَدَّم (كَشَرط الصَّلَاة) من إِزَالَة الْحَدث والخبث، وَستر الْعَوْرَة وَغَيرهَا فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا من حَيْثُ الْوُجُوب عَن علتها: أَي الْخطاب بهَا أَو تضيق الْوَقْت لِأَنَّهُ قد يتَقَدَّم من حَيْثُ الْوُجُود وكالعقل فَإِنَّهُ شَرط لصِحَّة التَّصَرُّف مقدم عَلَيْهِ (إِلَّا فِي) الشَّرْط (التعليقي) اسْتثِْنَاء من عدم لُزُوم تَأَخّر الشَّرْط فَإِن تَأَخره عَن صُورَة الْعلَّة لَازم (بل قيل) وقائله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (وَلَا فِيهِ) أَي وَلَا يلْزم تَأَخّر التَّعْلِيق أَيْضا (فقد يتَقَدَّم) التعليقي (وَيكون الْمُتَأَخر الْعلم بِهِ) أَي التَّعْلِيق (كالتعليقي) أَي كالشرط التعليقي فِي التَّعْلِيق (بِكَوْن قَيده عشرَة) بِأَن قَالَ: إِن كَانَ زنة قيد عَبدِي عشرَة أَرْطَال فَهُوَ حر، فَإِن كَونه عشرَة مُتَقَدم بِحَسب الْوُجُود على عِلّة الْحُرِّيَّة، وَهُوَ الْجَزَاء، وَهُوَ قَوْله: فَهُوَ حر، وَإِن كَانَ الْعلم بالكون الْمَذْكُور مُتَأَخِّرًا عَن هَذِه الْعلَّة. ثمَّ أَفَادَ أَن الْمُعَلق عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر لَيْسَ نفس الْكَوْن الْمَذْكُور، بل ظُهُوره بقوله: (وَالظَّاهِر أَن التَّعْلِيق فِي مثله) يكون (على الظُّهُور وَإِن لم يذكر) أَي وَإِن لم يقل إِن ظهر أَن وَزنه كَذَا (لِأَن حَقِيقَته) أَي حَقِيقَة التَّعْلِيق تَعْلِيق أَمر (على مَعْدُوم) كَائِن (على خطر الْوُجُود فعلى كَائِن) أَي إِذا اعْتبر فِي حَقِيقَة التَّعْلِيق كَون الْمُعَلق عَلَيْهِ مَعْدُوما على خطر الْوُجُود، فَإِن التَّعْلِيق الصُّورِي على أَمر مَوْجُود (تَنْجِيز) معنى، وَالْعبْرَة للمعنى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا فرق بَين إنْشَاء الطَّلَاق مثلا بِلَا تَعْلِيق، وَبَين تَعْلِيقه بِأَمْر مَوْجُود حَال التَّعْلِيق فِي تحقق الْإِيقَاع، وَإِنَّمَا قَالَ الظَّاهِر وَلم يجْزم لاحْتِمَال أَن لَا يكون تَعْلِيقا على الظُّهُور (فكونه) أَي الْإِحْصَان (عَلامَة) لوُجُوب الرَّجْم (مجَاز) لتوقف وجوب الرَّجْم على وجوده شرعا من غير تَأْثِير وَلَا إفضاء كَمَا هُوَ شَأْن الشَّرْط وَاعْتِبَار عدم التَّوَقُّف فِي الْعَلامَة كَمَا سبق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا تتقدم الْعَلامَة على مَا هِيَ) عَلامَة (لَهُ كالدخان) عَلامَة للنار وَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهَا وجودا (وَمِنْه) أَي وَمن هَذَا الْقسم الْمُسَمّى بالعلامة (ولادَة المبتوتة) أَي الْمُطلقَة طَلَاقا بَائِنا (والمتوفى عَنْهَا) زَوجهَا فَإِنَّهَا (عَلامَة الْعلُوق السَّابِق) على الطَّلَاق وَالْمَوْت إِذا كَانَت فِي مُدَّة تحتمله (وَلَو) كَانَت تِلْكَ الْولادَة (بِلَا) تقدم (حَبل ظَاهر وَلَا اعْتِرَاف) من الزَّوْج بالحبل (عِنْدهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (فَقبلا شَهَادَة الْقَابِلَة عَلَيْهَا) أَي الْولادَة كَمَا روى عَن الزُّهْرِيّ من أَنه مَضَت السّنة أَن كَون شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ من ولادات النِّسَاء وعيوبهن، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهِي) أَي شَهَادَة الْمَرْأَة (مَقْبُولَة فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال) وبشهادتها يثبت أصل الْولادَة (ثمَّ ثُبُوت نسبه) أَي(4/75)