آخر: بل هُوَ (مَذْهَب القَاضِي) بِعَيْنِه كَمَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: إِذْ لَا شكّ فِي حُصُول الاشتهار بعد تَجْوِيز الشَّارِع (وَقَول فَخر الْإِسْلَام) وَالْقَاضِي ابي زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ (بِأَنَّهَا) أَي الصَّلَاة (اسْم للدُّعَاء، سمي بهَا عبَادَة مَعْلُومَة) مجَازًا (لما أَنَّهَا) أَي الصَّلَاة (شرعت للذّكر) أَي لذكر الله تَعَالَى بنعوت جَلَاله وصفات كَمَاله قَالَ الله تَعَالَى - {أقِم الصَّلَاة لذكري} - أَي لتذكرني فِيهَا لاشتمالها على الْأَذْكَار الْوَارِدَة فِي أَرْكَانهَا فسميت الْعِبَادَة الْمَعْلُومَة بهَا مجَازًا من إِطْلَاق اسْم الْجُزْء على الْكل (يُرِيد) كَونهَا (مجَازًا لغويا هجرت حقائقها: أَي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّة لُغَة) فَلَيْسَ مذهبا آخر كالبديع) أَي كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام صَاحب البديع (لنا) على أَنَّهَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة بِوَضْع الشَّارِع (الْقطع بفهم الصَّحَابَة قبل حُدُوث الاصطلاحات فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ظرف لفهم الصَّحَابَة ومفعوله (ذَلِك) أَي الْمَعْنى الشَّرْعِيّ لَهَا (وَهُوَ) أَي فهمهم ذَلِك (فَرعه) أَي فرع الْوَضع لَهَا (نعم لَا بُد أَولا) أَي فِي أول خطاب الشَّارِع لمن هُوَ عَالم بِالْوَضْعِ اللّغَوِيّ دون الشَّرْعِيّ (من نصب قرينَة النَّقْل) عَن الْمَعْنى اللّغَوِيّ إِلَى الشَّرْعِيّ دفعا لتبادر اللّغَوِيّ (فمدار التَّوْجِيه) فِي مَحل الِاشْتِبَاه (على أَنه إِذا لزم تَقْدِير قرينَة غير اللّغَوِيّ) على تَقْدِير النَّقْل وَتَقْدِير قرينَة الْمجَاز على تَقْدِير عدم النَّقْل، فَإِنَّهُ لَا بُد من وجود الْقَرِينَة على الْوَجْهَيْنِ (فَهَل الأولى) فِي هَذِه الْقَرِينَة (تقديرها) واعتبارها (قرينَة تَعْرِيف النَّقْل) وتثبيته (أَو) تقديرها قرينَة تَعْرِيف (الْمجَاز) وتعيينه (وَالْأَوْجه الأول) أَي تقديرها قرينَة النَّقْل على اللّغَوِيّ إِلَى الشَّرْعِيّ كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (إِذْ علم استمراره) أَي الشَّارِع (على قَصده) أَي الشَّرْعِيّ (من اللَّفْظ أبدا إِلَّا لدَلِيل) وقرينة صارفة عَن الشَّرْعِيّ إِلَى غَيره، واستمرار الْقَصْد الْمَذْكُور أَمارَة نسخ إِرَادَة الأول: وَهُوَ معنى النَّقْل (وَالِاسْتِدْلَال) للمختار كَمَا فِي الْمُخْتَصر والبديع (بِالْقطعِ بِأَنَّهَا) فِي الشَّرْع مَوْضُوعَة (للركعات وَهُوَ) أَي الْقطع بِأَنَّهَا لَهَا فِي الشَّرْع هُوَ (الْحَقِيقَة) أَي دَلِيل الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة (لَا يُفِيد) الْمَطْلُوب (لجَوَاز) كَونهَا فِي الأَصْل مجَازًا فِيهَا، ثمَّ (طروه) أَي الْقطع بذلك (بالشهرة) أَي بشهرة التَّجَوُّز بهَا للشرعي، فَإِن الْمجَاز إِذا شاع يصير الْمَعْنى الْمجَازِي بِحَيْثُ يفهم بِلَا قرينَة فَيصير حَقِيقَة (أَو بِوَضْع أهل الشَّرْع) وهم الْفُقَهَاء إِيَّاهَا لَهَا (قَالُوا) أَي القَاضِي وموافقوه اذا أمكن عدم النَّقْل تعين وَأمكن) عدم النَّقْل هَهُنَا (باعبارها) أى الصَّلَاة مثلا بَاقِيَة (فِي اللُّغَوِيَّة والزيادات) الَّتِي جَاءَت من قبل الشَّرْع على اللُّغَوِيَّة (شُرُوط اعْتِبَار الْمَعْنى شرعا وَهَذَا) الدَّلِيل جَار (على غير مَا حررنا عَنهُ) أَي القَاضِي من أَنَّهَا مجَاز أشهر من الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة (مخترع باختراع أَنه) أَي القَاضِي (قَائِل بِأَنَّهَا) مستعملة (فِي حقائقها اللُّغَوِيَّة) وَتقدم النّظر فِيهِ وَذكر الْأَبْهَرِيّ أَن للْقَاضِي قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا مَا حَرَّره المُصَنّف، وَالْآخر هَذَا وَعَن الإِمَام أَنه(2/16)
قَالَ: وَأما القَاضِي فاستمر على لجاج ظَاهر فَقَالَ: الصَّلَاة الدُّعَاء والمسمى بهَا فِي الشَّرْع هُوَ الدُّعَاء لَكِن إِنَّمَا يعْتَبر عِنْد وُقُوع أَفعَال وأحوال، وطرد ذَلِك فِي الْأَلْفَاظ الَّتِي فِيهَا الْكَلَام (وَأجِيب باستلزامه) أَي هَذَا القَوْل (عدم السُّقُوط) للصَّلَاة الْمَفْرُوضَة عَن الْمُكَلف (بِلَا) قرينَة (دُعَاء لافتراضه) أَي الدُّعَاء (بِالذَّاتِ و) باستلزامه (السُّقُوط) بهَا عَن الذِّمَّة (بِفعل الشَّرْط) أَي بِمُجَرَّد أَن يفعل الشَّرْط من غير فعل الرُّكْن (مطردا) أَي دَائِما (فِي) حق (الْأَخْرَس الْمُنْفَرد) لصِحَّة صلَاته مَعَ انْتِفَاء الْمَشْرُوط الَّذِي هُوَ الدُّعَاء وَإِنَّمَا قيد بالمنفرد، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ إِمَام فدعاء الإِمَام دُعَاء لَهُ وَمنع السُّبْكِيّ هَذَا بِأَن الدُّعَاء هُوَ الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ وَهُوَ يُوجد من الْأَخْرَس وَفِيه نظر، إِذْ مُجَرّد الطّلب إِذا قَامَ بِنَفس شخص لم يصدر عَنهُ مَا يدل عَلَيْهِ لَا يُقَال أَنه دُعَاء (ثمَّ لَا يَتَأَتَّى) هَذَا التَّوْجِيه (فِي بَعْضهَا) أَي فِي بعض الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ لُغَة النَّمَاء وَالزِّيَادَة، وَشرعا تمْلِيك قدر مَخْصُوص من مَال مَخْصُوص لشخص مَخْصُوص، وَلَا يُمكن أَن تحمل الزَّكَاة على النَّمَاء وَيجْعَل الْمَذْكُور شرطا كَمَا لَا يخفى (قَالُوا) أَيْضا (لَو نقلهَا) أَي الشَّارِع الْأَسْمَاء عَن الْمعَانِي اللُّغَوِيَّة إِلَى الشَّرْعِيَّة (فهمها) أَي الْمعَانِي المنقولة (لَهُم) أَي الصَّحَابَة لأَنهم كلفوا بهَا، والفهم شَرط التَّكْلِيف (وَلَو وَقع) التفهيم (نقل) إِلَيْنَا لأننا مكلفون بهَا أَيْضا (وَلزِمَ تواتره) أَي النَّقْل (عَادَة) لتوفر الدَّوَاعِي عَلَيْهِ وَلم يُوجد وَإِلَّا لما وَقع الْخلاف فِي النَّقْل (وَالْجَوَاب الْقطع بفهمهم) أَي الصَّحَابَة الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة من الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة (كَمَا ذكرنَا وفهمنا) أَي وَالْقطع يفهمنا تِلْكَ الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة أَيْضا مِنْهَا (وَبعد حُصُول الْمَقْصُود) وَهُوَ الْفَهم (لَا يلْزم تعْيين طَرِيقه) أَي طَرِيق الْمَقْصُود من التفهيم قصدا بالعبارة وَنَحْوهَا (وَلَو التزمناه) أَي تعْيين طَرِيقه (جَازَ) أَن يكون ذَلِك التفهيم (بالترديد) أَي بطرِيق التّكْرَار (بالقرائن) عِنْد سَماع تِلْكَ الْأَسْمَاء لَهُم: أَي للصحابة ثمَّ لنا مِنْهُم (كالأطفال) يتعلمون اللُّغَات من غير تَصْرِيح لَهُم بِوَضْع اللَّفْظ لمسماه، بل إِذا ردد اللَّفْظ وَكرر يفهمون مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ ويحفظونه (أَو) أَن يكون (أَصله) أَي أصل التفهيم (بإخباره) أَي الشَّارِع (ثمَّ اسْتغنى عَن إخبارهم) أَي أَخْبَار الصَّحَابَة (لمن يليهم) مِمَّن تلقى عَنْهُم (أَنه) أَي الشَّارِع (أخْبرهُم) أَي الصَّحَابَة فَقَوله ثمَّ اسْتغنى على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله عَن أخبارهم قَائِم مقَام فَاعله، وَقَوله من يليهم مفعول أَولا لأخبارهم، وَقَوله أَنه أخْبرهُم مَفْعُوله الثَّانِي: يَعْنِي لَا يلْزم على الصَّحَابَة أَن يخبروا من يليهم أَنه أخبرنَا الشَّارِع بِوَضْع الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة لمعانيها الشَّرْعِيَّة، وَذَلِكَ لِأَن من يليهم فَهموا من استعمالاتهم وَضعهَا كَمَا يفهم الْأَطْفَال من غير أَن يُقَال لَهُم هَذَا مَوْضُوع لذا أَو بأخبارهم بِالْوَضْعِ(2/17)
من غير أَن يَقُولُوا أخبرنَا الشَّارِع بِهِ، وَيُمكن أَن يناقش فِيهِ بِأَن شَأْن الصَّحَابَة يَقْتَضِي أَن لَا يسكتوا عَن أَخْبَار الشَّارِع إيَّاهُم فِي مثله، وَفِي قَوْله (لحُصُول الْقَصْد) إِشَارَة إِلَى دَفعه: يَعْنِي أَن الْمَقْصد معرفَة الْوَضع سَوَاء حصلت بالأخبار أَو بالقرائن كالأطفال (قَالُوا) أَي القَاضِي وَمن تبعه ثَالِثا (لَو نقلت) الْأَسْمَاء عَن مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة إِلَى الشَّرْعِيَّة (كَانَت) الْأَسْمَاء المنقولة إِلَيْهَا (غير عَرَبِيَّة لأَنهم) أَي الْعَرَب (لم يضعوها) على ذَلِك التَّقْدِير، بل الشَّارِع (وَيلْزم أَن لَا يكون الْقُرْآن عَرَبيا) لاشْتِمَاله على غير الْعَرَبِيّ، فَإِن الْمركب من الْعَرَبِيّ وَغَيره لَيْسَ بعربي، وَقد قَالَ الله تَعَالَى - {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} - (أُجِيب بِأَنَّهَا) أَي الْأَسْمَاء المنقولة (عَرَبِيَّة إِذْ وضع الشَّارِع لَهَا ينزلها) ويصيرها (مجازات لغوية) إِذا كَانَ التخاطب بلغَة الْعَرَب فَإِن العلاقة بَين الْمَعْنى اللّغَوِيّ والشرعي مَوْجُودَة: لِأَن النَّقْل يقتضيها (وَيَكْفِي فِي الْعَرَبيَّة كَون اللَّفْظ مِنْهَا) أَي من الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة للْعَرَب (و) كَون (الِاسْتِعْمَال على شَرطهَا) أَي شَرط الْعَرَبيَّة بِأَن يكون الْمُسْتَعْمل فِيهِ إِمَّا عين الْمَوْضُوع لَهُ، أَو مَا بَينه وَبَين الْمَوْضُوع لَهُ نوع من العلاقات الْمُعْتَبرَة مَعَ وجود الْقَرِينَة الصارفة والمعينة (وَلَو سلم) أَنه لَا يَكْفِي ذَلِك فِي كَونهَا عَرَبِيَّة (لم يخل) كَونهَا غير عَرَبِيَّة (بعربيته) أَي الْقُرْآن (إِمَّا لكَون الضَّمِير) فِي قَوْله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ (لَهُ) أَي لِلْقُرْآنِ (وَهُوَ) أَي الْقُرْآن (مِمَّا يصدق الِاسْم) أَي اسْمه (على بعضه) أَي بعض الْقُرْآن (ككله) أَي كَمَا يصدق على كُله (كالعسل) فَإِنَّهُ يصدق على القلل مِنْهُ وَالْكثير حَتَّى لَو حلف لَا يقْرَأ الْقُرْآن فَقَرَأَ جُزْء مِنْهُ حنث، فَيجوز أَن يُرَاد بالضمير بعض الْقُرْآن، وَلَا ريب فِي عربيته (بِخِلَاف) نَحْو (الْمِائَة والرغيف) مِمَّا لَا يُشَارك الْجُزْء الْكل فِي الْحَقِيقَة وَالِاسْم: فَلَا تطلق الْمِائَة والرغيف على بعض مِنْهَا (أَو) لكَون الضَّمِير (للسورة) بِاعْتِبَار الْمنزل، أَو الْمَذْكُور، وَهَذَا إِنَّمَا يتم إِذا لم يكن فِي تِلْكَ السُّورَة اسْم شَرْعِي (وَاعْلَم أَن الْمُعْتَزلَة سموا قسما من) الْحَقَائِق (الشَّرْعِيَّة) حَقِيقَة (دينية وَهُوَ مَا دلّ على الصِّفَات الْمُعْتَبرَة فِي الدّين وَعَدَمه) أَي عدم الدّين (اتِّفَاقًا) أَي اعْتِبَار اتّفق عَلَيْهِ الْمذَاهب (كالإيمان، وَالْكفْر، وَالْمُؤمن) وَالْكَافِر (بِخِلَاف الْأَفْعَال) أَي مَا هِيَ من فروع الدّين كَمَا يتَعَلَّق بالجوارح فَإِن فِي اعْتِبَارهَا فِي الدّين خلافًا (كَالصَّلَاةِ والمصلى وَلَا مشاحة) فِي الِاصْطِلَاح (وَوجه الْمُنَاسبَة) فِي تَسْمِيَة مَا ذكر دينية (أَن الْإِيمَان) على قَوْلهم (الدّين لِأَنَّهُ) أَي الدّين اسْم (لمجموع التَّصْدِيق الْخَاص) بِكُل مَا علم مَجِيئه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ من عِنْد الله ضَرُورَة (مَعَ المأمورات والمنهيات لقَوْله تَعَالَى - {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} - بعد ذكر الْأَعْمَال) أَي قَوْله تَعَالَى - {ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة} - بعد قَوْله - {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين} -(2/18)
فَذَلِك إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور من الْعِبَادَات إِجْمَالا وتفصيلا، فَإِن يعبدوا فِي تَأْوِيل الْمصدر الْمُضَاف لتقدير أَن المصدرية بعد لَام كي، والمصدر الْمُضَاف إِلَى الْمعرفَة يُفِيد الْعُمُوم، ويقيموا الصَّلَاة وَمَا بعده من عطف الْخَاص على الْعَام لزِيَادَة الاهتمام فَيكون جَمِيع الْعِبَادَات الْوَاجِبَة دين الْملَّة المستقيمة، وَكَانَ يُوجب هَذَا أَن لَا يكون الدّين إِلَّا الْأَعْمَال، غير أَن الْإِجْمَاع على اعْتِبَار الْإِيمَان فِي حَقِيقَة الدّين، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والاتفاق على اعْتِبَار التَّصْدِيق فِي مُسَمَّاهُ) أَي الدّين بِخِلَاف الْأَفْعَال (فَنَاسَبَ تَمْيِيز الِاسْم الْمَوْضُوع لَهُ) أَي للتصديق الْخَاص (شرعا بالدينية وَهَذِه) الْمُنَاسبَة (على رَأْيهمْ) أَي الْمُعْتَزلَة (فِي اعْتِبَار الْأَعْمَال جُزْء مَفْهُومه) أَي الْإِيمَان (وعَلى) رَأْي (الْخَوَارِج) الْمُنَاسبَة فِي هَذِه التَّسْمِيَة (أظهر) مِنْهَا على رَأْي الْمُعْتَزلَة لجعل الْمُعْتَزلَة مرتكب الْكَبِيرَة لَيْسَ بِمُؤْمِن وَلَا كَافِر، وَجعل الْخَوَارِج مرتكبها كَافِرًا: فَكلما زَاد اعْتِبَار الْعَمَل فِي الْإِيمَان زَاد الِاحْتِيَاج إِلَى التَّمْيِيز (وَلَا يلْزم من نفي ذَلِك) أَي كَون الْأَعْمَال جزم مَفْهُوم الْإِيمَان كَمَا هُوَ قَول أَصْحَابنَا (نَفيهَا) أَي الْحَقِيقَة الدِّينِيَّة: لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي مَا يصلح مُنَاسبَة بِوَضْع الِاصْطِلَاح (إِذْ يَكْفِي) فِي وَجه التَّسْمِيَة (أَنَّهَا) أَي الدِّينِيَّة (اسْم لأصل الدّين وأساسه أَعنِي التَّصْدِيق فَظهر أَن الْكَلَام فِي ذَلِك) أَي فِي نفي كَون الْأَعْمَال من الْإِيمَان (مَعَ أَنه) أَي الْكَلَام فِي ذَلِك (يخرج) من فن الْأُصُول (إِلَى فن آخر) أَي علم الْكَلَام (وَلَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك (مَطْلُوب أصولي: بل اصطلاحي و) أَن الْكَلَام فِي ذَلِك كَلَام (فِي غَرَض سهل وَهُوَ إِثْبَات مُنَاسبَة تَسْمِيَة اصطلاحية لَا يُفِيد نَفيهَا: فعلى الْمُحَقق تَركه) . قَالَ الشَّارِح وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِابْن الْحَاجِب قلت لَو كَانَ التَّعْرِيض بِهِ بترك التَّعْرِيض لَكَانَ
تَتِمَّة
(كَمَا يقدم) الْمَعْنى (الشَّرْعِيّ فِي لِسَانه) أَي فِي خطاب أهل الشَّرْع (على مَا سلف) أَي اللّغَوِيّ (كَذَا الْعرفِيّ فِي لسانهم) أَي أهل الْعرف خَاصّا كَانَ أَو عَاما تقدم على اللّغَوِيّ (فَلَو حلف لَا يَأْكُل بيضًا كَانَ) الْمَحْمُول عَلَيْهِ (ذَا القشر) فِي الْمَبْسُوط فَهُوَ على بيض الطير من الدَّجَاج والأوز وَغَيرهمَا، وَلَا يدْخل فِيهِ بيض السّمك إِلَّا أَن ينويه: لأَنا نعلم أَنه لَا يُرَاد بِهِ بيض كل شَيْء فَإِن بيض الدُّود لَا يدْخل فِيهِ: فَيحمل على مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْبيض ويؤكل عَادَة (فَيدْخل النعام) أَي بيضه تَفْرِيع على كَون الْبيض مَحْمُولا على ذِي القشر، وَذَاكَ مُفَرع على تَقْدِيم الْعرفِيّ: فَعلم أَن المُرَاد دُخُوله فِيمَا إِذا كَانَ عرف خطاب الْحَالِف بِحَسب معتادهم فِي الاطلاقات مَا يعم بيض النعام، وَأما إِذا كَانَ الْعرف مَا هُوَ أخص من ذَلِك فَلَا يدْخل فِيهِ فيدور ذَلِك مَعَ التعارف وَلَا شكّ أَنه مِمَّا يخْتَلف فيختلف الْجَواب باختلافه (أَو) لَا يَأْكُل(2/19)
(طبيخنا فَمَا طبخ من اللَّحْم فِي المَاء ومرقه) إِذا كَانَ الْمُتَعَارف بَينهم مَا ذكر بِحَيْثُ لَا يفهم فِي إِطْلَاقهم غَيره بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْمُتَعَارف مَا هُوَ أَعم من ذَلِك فَإِنَّهُ يَحْنَث على ذَلِك التَّقْدِير بِأَكْل كل مَا يُؤْكَل عَادَة فِي الطبائخ سَوَاء كَانَ من اللَّحْم (أَو) غَيره أَو لَا يَأْكُل (رَأْسا فَمَا يكبس) فِي التنانير عرف الْحَالِف وَيُبَاع مشويا من الرُّءُوس (بقرًا وَغنما) عِنْد أبي حنيفَة آخر لِأَنَّهُمَا الْمُتَعَارف فِي زَمَنه آخر لَا غير، وإبلا أَيْضا عِنْده أَولا إِذْ كَانَ متعارفا لأهل الْكُوفَة ثمَّ تَرَكُوهُ (وَلَو تعورف الْغنم فَقَط تعين) محلا لإِطْلَاق الرَّأْس بِاعْتِبَار ذَلِك الْعرف: فَالْخِلَاف خلاف زمَان لَا برهَان (أَو) لَا يَأْكُل (شواء خص اللَّحْم) فَلَا يَحْنَث بالمشوي من الْبيض والباذنجان وَغَيرهمَا: لِأَن الْمُتَعَارف مُخْتَصّ بِهِ (وَقَول فَخر الْإِسْلَام) فِي تَوْجِيه ترك الْحَقِيقَة بِالْعرْفِ (لِأَن الْكَلَام مَوْضُوع لاستعمال النَّاس وحاجتهم فَيصير الْمجَاز باستعمالهم كالحقيقة يحمل على ذَلِك الْمحمل) قَوْله يحمل الخ خبر الْمُبْتَدَأ لما بَين أَن إِطْلَاق اللَّفْظ فِي الْإِيمَان يحمل على مَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي زمن الْحَالِف، لَا على مَا يَقْتَضِيهِ أصل وَضعه أَفَادَ أَن فَخر الْإِسْلَام أَرَادَ بِمَا ذكر هَذَا الْمَعْنى فَهُوَ مجَاز لغَوِيّ مهجور الْحَقِيقَة، فَصَارَ حَقِيقَة عرفية، وَلَا يخفى أَن مجازية مَا ذكر بِاعْتِبَار إِرَادَة بعض أَفْرَاد الْحَقِيقَة خَاصَّة بِمُوجب الْعرف.
مسئلة
(لَا شكّ أَن الْمَوْضُوع قبل الِاسْتِعْمَال لَيْسَ حَقِيقَة وَلَا مجَازًا لانْتِفَاء جنسهما) أَي جنس تعريفي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، وَهُوَ الْمُسْتَعْمل (وَلَا) شكّ أَيْضا (فِي عدم استلزام الْحَقِيقَة مجَازًا) لجَوَاز أَن لَا يسْتَعْمل اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ (وَاخْتلف فِي قلبه) أَي استلزام الْمجَاز الْحَقِيقَة (وَالأَصَح نَفْيه) أَي نفي قلبه (وَيَكْفِي فِيهِ) أَي فِي نفى استلزامه إِيَّاهَا (تَجْوِيز التَّجَوُّز بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ لما يُنَاسِبه (بعد الْوَضع قبل الِاسْتِعْمَال) لَهُ فِيمَا وضع لَهُ (لكِنهمْ استدلوا بِوُقُوعِهِ) أى الْمجَاز وَلَا حَقِيقَة (بِنَحْوِ ثَابت لمة اللَّيْل) إِذا ظهر فِيهِ تباشير الصُّبْح، فَإِن هَذَا مجَاز لَا حَقِيقَة لَهُ (وَدفع) هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام) يَعْنِي أَن الِاسْتِدْلَال فرع تحقق الْمُسْتَعْمل فِيهِ، وَبِهَذَا الدَّلِيل يُمكن نفي الْوَضع لِأَن مَا لَا تحقق لَهُ لَا يصلح لِأَن يوضع لَهُ، لِأَن الْوَضع لمصْلحَة الِاسْتِعْمَال فَلَا يُمكن إِثْبَات مجَاز بِدُونِ الْحَقِيقَة بِهَذَا الدَّلِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لاستلزامه) أَي الْمجَاز (وضعا) إِذْ الِاسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ فرع تحقق الْوَضع، وَقد عرفت أَن امْتنَاع الِاسْتِعْمَال لما ذكر يسْتَلْزم امْتنَاع الْوَضع، ثمَّ أَفَادَ أَن نَحْو مَا ذكر لَا يصلح للاستدلال بِهِ فِي مَحل النزاع بقوله (والاتفاق) على (أَن الْمركب لم يوضع)(2/20)
وضعا (شخصيا وَالْكَلَام فِيهِ) أَي فِي الْوَضع الشخصي (وَأَيْضًا إِن اعْتبر الْمجَاز فِيهِ) أَي فِي شابت لمة اللَّيْل (فِي الْمُفْرد) أَي فِي شابت بِأَن أُرِيد بالشيب حُدُوث بَيَاض الصُّبْح فِي آخر سَواد اللَّيْل، وَفِي لمة بِأَن أُرِيد بهَا سَواد آخر اللَّيْل وَهُوَ الْغَلَس (منعنَا عدم حَقِيقَة شابت أَو لمة) لاستعمالهما فِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهَا من بَيَاض الشّعْر، وَالشعر المجاور على شحمة الْأذن فِي غير هَذَا الْمركب (أَو) اعْتبر الْمجَاز فِيهِ (فِي نسبتهما) أَي النِّسْبَة الإسنادية للشيب إِلَى اللمة، وَالنِّسْبَة الإضافية للمة إِلَى اللَّيْل (فَلَيْسَ) الْمجَاز فيهمَا (النزاع) لِأَنَّهُ مجَاز عَقْلِي، والنزاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْمجَاز فِي الْمُفْرد (وَأما منع الثَّانِي) أَي الْمجَاز فِي النِّسْبَة بِأَن يُقَال: لَا مجَاز فِي النِّسْبَة (لِاتِّحَاد جِهَة الْإِسْنَاد) كَمَا سبق فِي تَنْبِيه قَول الْحَنَفِيَّة: وَالْمجَاز على غير الْمُفْرد (فَغير وَاقع لما تقدم) هُنَاكَ وأوضحناه فَليُرَاجع (وَأَيْضًا) وضع (الرَّحْمَن لمن لَهُ رقة الْقلب وَلم يُطلق) إطلاقا (صَحِيحا إِلَّا عَلَيْهِ تَعَالَى) وَالله منزه عَن الْوَصْف بهَا (فَلَزِمَ) أَن يكون إِطْلَاقه عَلَيْهِ تَعَالَى (مجَازًا بِلَا حَقِيقَة بِخِلَاف قَوْلهم) أَي بني حنفية فِي مُسَيْلمَة الْكذَّاب (رَحْمَن الْيَمَامَة) . وَقَول شَاعِرهمْ:
(وَأَنت غيث الورى لَا زلت رحمانا ... )
فَإِنَّهُ لم يُطلق عَلَيْهِ إطلاقا صَحِيحا لمُخَالفَته اللُّغَة إِذا انفق أَهلهَا أَن لَا يُطلق إِلَّا على الله سُبْحَانَهُ، أوقعهم فِيهِ لحاجهم فِي الْكفْر (وَلِأَنَّهُم لم يُرِيدُوا بِهِ) أَي بِلَفْظ رَحْمَن فِي إِطْلَاقه على مُسَيْلمَة الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ من رقة الْقلب) بل أَرَادوا أَن يثبتوا لَهُ مَا يخْتَص بالإله بعد مَا أثبتوا لَهُ مَا يخْتَص بالأنبياء وَهُوَ النُّبُوَّة وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُم لم يستعملوا الرَّحْمَن الْمُعَرّف بِاللَّامِ، وَإِنَّمَا استعملوه مُعَرفا بِالْإِضَافَة من رَحْمَن الْيَمَامَة، ومنكرا فِي لازلت رحمانا، ودعوانا فِي الْمُعَرّف بِاللَّامِ (قَالُوا) أَي الملزمون (لَو لم يسْتَلْزم) الْمجَاز الْحَقِيقَة (انْتَفَت فَائِدَة الْوَضع) وَهِي الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ (وَلَيْسَ) هَذَا (بِشَيْء) يعْتد بِهِ (لِأَن التَّجَوُّز) بِاللَّفْظِ (فَائِدَة لَا تستدعى غير الْوَضع) أَي تتَحَقَّق هَذِه الْفَائِدَة بِمُجَرَّد الْوَضع، وَلَا تتَوَقَّف على الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ: فَإِذا كَانَت هَذِه الْفَائِدَة حَاصِلَة بِمُجَرَّد الْوَضع كفى بِهِ فَائِدَة للوضع وَالله أعلم.
مسئلة
(الْمجَاز وَاقع فِي اللُّغَة وَالْقُرْآن والْحَدِيث خلافًا للاسفرايني فِي الأول) أَي اللُّغَة، وَحكى السُّبْكِيّ النَّفْي لوُقُوعه مُطلقًا عَنهُ وَعَن الْفَارِسِي، وَحكى الأسنوي عَنهُ وَعَن جمَاعَة (لِأَنَّهُ قد يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَال بغرض الْوَضع) وَهُوَ فهم الْمَعْنى: يَعْنِي وُقُوعه يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَال فِي الْجُمْلَة فِي بعض الصُّور (لخفاء الْقَرِينَة) الدَّالَّة على الْمَعْنى الْمجَازِي، وَمَا يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَال لَا وُقُوع لَهُ فِيمَا يقْصد بِهِ الإفادة(2/21)
والاستفادة (وَهُوَ) أَي خِلَافه فِي وُقُوعه (بعيد) لَا يشْتَبه وُقُوعه (على بعض المميزين) وَذكر لفظ الْبَعْض الَّذِي يعم من لَهُ أدنى تَمْيِيز مُبَالغَة، فَالْمَعْنى لَا يشْتَبه على من لَهُ أدنى تَمْيِيز وَلَا يصدر عَنهُ (فضلا عَنهُ) أَي فضلا عَن صدوره عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق، ثمَّ علل الْبعد بقوله (لِأَن الْقطع بِهِ) أَي بِوُقُوع الْمجَاز فِي اللُّغَة (أثبت من أَن يُورد لَهُ مِثَال) أَي الْقطع الْحَاصِل بِوُجُودِهِ بِدُونِ إِيرَاد الْمِثَال لَهُ أثبت من الْقطع الْحَاصِل بِوُجُودِهِ بسب إِيرَاد الْمِثَال أَو الْمَعْنى الْقطع بِهِ متجاوز عَن إيرادا لمثال لكَونه مغنيا عَنهُ، فَإِن أفعل التَّفْضِيل يلْزمه تجَاوز الْمفضل عَن الْمفضل عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لكثرته وَكَمَال ظُهُوره (وَيلْزمهُ) أَي يلْزم دَلِيل النَّافِي (نفي) وُقُوع (الْإِجْمَال مُطلقًا) فِي اللُّغَة، وَالْكتاب، وَالسّنة للإفضاء إِلَى الْإِخْلَال بفهم الْمَعْنى المُرَاد، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ (و) خلافًا (للظاهرية فِي الثَّانِي) أَي الْقُرْآن. قَالَ الشَّارِح وَكَذَا فِي الثَّالِث إِلَّا أَنهم غير مطبقين على إِنْكَار وُقُوعه فيهمَا، وَإِنَّمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ الظَّاهِرِيّ فِي طَائِفَة مِنْهُم (لِأَنَّهُ) أَي الْمجَاز (كذب لصدق نقيضه) إِذْ يَصح أَن يُقَال لمن قَالَ للبليد أَنه حمَار كذبت: إِذْ البليد لَيْسَ بِحِمَار (فيصدقان) أَي النقيضان إِذا وَقع فِي الْقُرْآن، أما صدق الْكَلَام الْمُشْتَمل على الْمجَاز فلاستحالة الْكَذِب فِي حق الله تَعَالَى، وَأما صدق نقيضه فلصدق نفي مَدْلُول اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل مجَازًا بِحَسب نفس الْأَمر (قُلْنَا جِهَة الصدْق مُخْتَلفَة) فمتعلق الْإِثْبَات الْمَعْنى الْمجَازِي ومتعلق النَّفْي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ. فزيد حمَار صَادِق من جِهَة الْمَعْنى الْمجَازِي، وَزيد لَيْسَ بِحِمَار صَادِق من جِهَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَلَا مَحْذُور فِيهِ لما ذكر أَن الْمجَاز صَادِق أَرَادَ أَن يُحَقّق منَاط صدقه فَقَالَ (وتحقيقي صدق الْمجَاز التَّشْبِيه وَنَحْوه من العلاقة) فَإِذا صدق كَون زيد شَبِيها بالأسد بِأَن يكون شبهه بِهِ متحققا فِي نفس الْأَمر بِأَن يكون شجاعا صدق قَوْلنَا زيد أَسد، وَإِذا صدق كَون زيد منعما عَلَيْك، صدق قَوْلك: لَهُ على يَد (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ منَاط صدق الْمجَاز صدق التَّشْبِيه هِيَ مبناه ومآله (وَهُوَ) أَي الْمجَاز (أبلغ) من الْحَقِيقَة لما فِيهِ من تصرف عَقْلِي لَيْسَ للْحَقِيقَة مثله (وَقَوْلهمْ) أَي الظَّاهِرِيَّة (يلْزم) على تَقْدِير وُقُوع الْمجَاز فِي كَلَامه تَعَالَى (وَصفه تَعَالَى بالمتجوز) لِأَن من قَامَ بِهِ فعل اشتق لَهُ مِنْهُ اسْم فَاعل وَاللَّازِم بَاطِل لِامْتِنَاع إِطْلَاقه عَلَيْهِ تَعَالَى اتِّفَاقًا (قُلْنَا إِن) أدرتم لُزُومه (لُغَة منعنَا بطلَان اللَّازِم) إِذْ لَا مَانع لَهُ مِنْهُ لُغَة (أَو) أردتم لُزُومه (شرعا منعنَا الْمُلَازمَة) لِأَن كَونه مَوْصُوفا بالْكلَام الْمُشْتَمل على الْمجَاز لَا يَقْتَضِي صِحَة إِطْلَاق المتجوز عَلَيْهِ شرعا، لِأَن صِحَة إِطْلَاق الِاسْم عَلَيْهِ مَشْرُوط بِأَن لَا يكون موهما لما لَا يَلِيق بِهِ، وَلَفظ المتجوز يُوهم أَنه يتسمح ويتوسع فِيمَا لَا يَنْبَغِي من الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ نقص (وَلنَا الله نور السَّمَوَات) فَإِن النُّور فِي الأَصْل: كَيْفيَّة(2/22)
تدركها الْأَبْصَار أَولا وبواسطتها سَائِر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لَهما، وَالله سُبْحَانَهُ منزه عَن ذَلِك فَهُوَ على التَّجَوُّز بِمَعْنى منور السَّمَوَات وَقد قرئَ بِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى نورها بالكواكب وَمَا يفِيض عَنْهَا من الْأَنْوَار وبالملائكة والأنبياء إِذْ عَم النُّور، أَي بِمَعْنى مدبرها، من قَوْلهم للرئيس الْفَائِق فِي التَّدْبِير: نور الْقَوْم، لأَنهم يَهْتَدُونَ بِهِ فِي الْأُمُور أَو موجدها: فَإِن النُّور ظَاهر بِذَاتِهِ مظهر لغيره، وأصل الظُّهُور: هُوَ الْوُجُود كَمَا أَن أصل الخفاء هُوَ الْعَدَم وَهُوَ تَعَالَى مَوْجُود بِذَاتِهِ موجد لما عداهُ إِلَى غير ذَلِك (ومكر الله) لِأَن الْمَكْر فِي الأَصْل يجلب بهَا مضرَّة الْغَيْر وَهُوَ منزه سُبْحَانَهُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يسند إِلَيْهِ على سَبِيل الْمُقَابلَة والازدواج (الله يستهزئ بهم) لِأَن الِاسْتِهْزَاء السخرية ينْسب إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مشاكلة، أَو اسْتِعَارَة لما ينزل إِلَيْهِم من الحقارة والهوان الَّذِي هُوَ لَازم الِاسْتِهْزَاء إِلَى غير ذَلِك (فاعتدوا عَلَيْهِ) بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم (و) جَزَاء (سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا) وَلَيْسَ جَزَاء الاعتداء اعتداء، بل هُوَ عدل، وَلَا جَزَاء السَّيئَة سَيِّئَة، فهما من إِطْلَاق اسْم أحد الضدين على الآخر بِجَامِع الْمُجَاورَة فِي التخيل (وَكثير) مِمَّا لَا يُحْصى عدده، فَلَا يَنْفَعهُمْ التَّأْوِيل فِي بعض الْأَمْثِلَة، كَأَن يُقَال: النُّور حَقِيقَة هُوَ الظَّاهِر فِي نَفسه الْمظهر لغيره، لَا الْعرض الْمَذْكُور فإطلاقه عَلَيْهِ تَعَالَى حَقِيقَة، وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ: الْمَكْر إِيصَال الْمَكْرُوه خُفْيَة، والاستهزاء إِظْهَار الْإِكْرَام وإخفاء الأهانة فَيجوز صدورهما مِنْهُ تَعَالَى، وَقَوله - {أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} - لَا يدل على أَن كل استهزاء جهل، والاعتداء إِيقَاع الْفِعْل المؤلم، أَو هتك حرمه الشَّيْء، والسيئة مَا يسوء من ينزل بِهِ، وَلَا مجَاز فِي شَيْء مِنْهَا، (وَأما واسئل الْقرْيَة فَقيل) الْقرْيَة (حَقِيقَة) وَأمر بَنو يَعْقُوب أباهم أَن يسْأَلهَا (فتجيبه) أَي الْقرْيَة بإنطاق الله إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ كَانَ زمَان النُّبُوَّة وخرق العوائد، وَضعف بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقع للنَّبِي عِنْد التحدي وَإِظْهَار المعجزة، وَفِي غير ذَلِك لَا يَقع عَادَة وَإِن أمكن (وَقد مناه) أَي بَيَان مَا يتَعَلَّق بِهِ وَأَن لفظ الْقرْيَة (حَقِيقَة مَعَ حذف الْأَهْل) وَفِي قَوْلهم كنافيها إِشْعَار بِأَن المُرَاد سُؤال الْأَهْل أَن جَمِيع الجمادات مُتَسَاوِيَة فِي الشَّهَادَة عِنْد الْإِطْلَاق خرقا للْعَادَة إِظْهَارًا لصدقهم (وَلَيْسَ كمثله شَيْء) لَيْسَ (من مَحل النزاع) وَهُوَ مجَاز العلاقة لِأَنَّهُ من مجَاز الزِّيَادَة، أَلا ترى إِلَى تَعْلِيلهم: أَي الظَّاهِرِيَّة بِأَنَّهُ كذب، إِذْ لَا كذب فِي مجَاز الزِّيَادَة (وَقد أُجِيب) أَيْضا من قبلهم بِغَيْر هَذَا، فَأُجِيب (تَارَة بِأَنَّهُ) أَي لَيْسَ كمثله شَيْء لنفي التَّشْبِيه (حَقِيقَة) فالكاف مستعملة فِي مفهومها الوضعي (والمثل يُقَال لنَفسِهِ) أَي لنَفس الشَّيْء وذاته فَيُقَال (لَا يَنْبَغِي لمثلك) كَذَا: أَي لَك، قَالَ الله تَعَالَى - {فَإِن آمنُوا} - (بِمثل مَا آمنتم بِهِ) أَي بِمَا آمنتم بِهِ: وَهُوَ الْقُرْآن وَدين الْإِسْلَام، فَالْمَعْنى لَيْسَ كذاته شَيْء (وَتَمَامه) أَي تَمام هَذَا الْجَواب (باشتراك) لفظ (مثل) بَين النَّفس والتشبيه(2/23)
إِذْ لَا ريب فِي كَونه حَقِيقَة فِي التَّشْبِيه، فَإِن كَانَ حَقِيقَة فِي النَّفس أَيْضا ثَبت الِاشْتِرَاك (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي النَّفس حَقِيقَة بل كَانَ مجَازًا (ثَبت نقيض مطلوبهم) أَي الظَّاهِرِيَّة، وَهُوَ وجود الْمجَاز فِي الْقُرْآن (وَهُوَ) أَي الِاشْتِرَاك (مَمْنُوع) أَي غير وَاقع عَدمه وَالْمجَاز أولى مِنْهُ (وَتارَة) بِأَن لَيْسَ كمثله شَيْء (حَقِيقَة) على أَن الْكَاف بِمَعْنى مثل وكل مِنْهُمَا غير زَائِد (إِمَّا لنفي مثل مثله وَيلْزمهُ) أَي وَيلْزم (نفي) مثل (مثله وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يلْزمه (تنَاقض لِأَنَّهُ) تَعَالَى (مثل مثله) تَوْضِيحه أَنه على تَقْدِير نفي مثل مثله لَو تحقق مثله لزم اجْتِمَاع النقيضين: انْتِفَاء وجود مثل الْمثل، وَوُجُود مثل الْمثل، أما الأول فَلِأَنَّهُ الْمَنْطُوق الْمَدْلُول لقَوْله - {لَيْسَ كمثله} - وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مَوْجُود وَهُوَ مثل مثله الْمَفْرُوض وجوده (وللزوم التَّنَاقُض) على تَقْدِير أَن لَا يلْزمه نفي مثله (انْتَفَى ظُهُوره) أَي ظُهُور نفي مثل مثله) (فِي إِثْبَات مثله) دفع لما قيل من أَنه يلْزم على تَقْدِير كَون الْكَاف بِمَعْنى الْمثل إِثْبَات الْمثل من حَيْثُ دلَالَة اللَّفْظ ظَاهر إِذْ لَا يَنْفِي عَادَة نَظِير الشَّيْء الا اذا كَانَ ذَلِك الشىء مَعْلُوم الْوُجُود، وَإِنَّمَا جعل دلَالَته ظَاهرا لَا نصا لجَوَاز عقلا نفى نَظِير الشىء مَعَ كَون ذَلِك الشَّيْء مَعْدُوما (وَبِه) أَي بِلُزُوم التَّنَاقُض على تَقْدِير وجود الْمثل مَعَ نفي الْمثل (ينْدَفع دَفعه) أَي دفع هَذَا الْجَواب الْقَائِل أَن الْكَاف بِمَعْنى الْمثل، وَلَيْسَ زَائِدا والدافع ابْن الْحَاجِب (باقتضائه) أَي الْجَواب الْمَذْكُور: وَهُوَ صلَة الدّفع (إِثْبَات الْمثل فِي مقَام نَفْيه) أَي نفي الْمثل (و) إِذْ قد عرفت أَن لُزُوم التَّنَاقُض صرف عَن حمل التَّرْكِيب على إِثْبَات الْمثل بِهِ ينْدَفع (ظُهُوره) أَي ظُهُور لَيْسَ كمثله على تَقْدِير كَون الْكَاف بِمَعْنى الْمثل (فِيهِ) أَي فِي إِثْبَات الْمثل (وَجعل هَذَا) الدّفع (مُرَتبا على الْجَواب الأول) كَون الْمثل بِمَعْنى الذَّات على مَا وَقع فِي حَوَاشِي الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (سَهْو) لِأَن نفي مثل ذَاته لَا يَقْتَضِي إِثْبَات الْمثل فِي مقَام نَفْيه (وَأما لنفي شبه الْمثل) مَعْطُوف على قَوْله: أما لنفي مثل مثله لَا فرق بَينهمَا بِاعْتِبَار إِرَادَة الْمثل من الْكَاف لَكِن الثَّانِي اعْتبر فِيهِ الْمَعْنى الكوني وَحَاصِله أَنه تَارَة ينْسب إِلَى مثل الشَّيْء أَمر إِذا نظرت فِيهِ وجدته أليق انتسابا إِلَى ذَلِك الشَّيْء فَيكون الحكم بِهِ على الْمثل كِنَايَة عَن الحكم بِهِ على ذَلِك الشَّيْء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فينتفى الْمثل بِأولى) أَي بطرِيق أولى (كمثلك لَا يبخل) فَإِن مثله من حَيْثُ أَنه مثله إِذا انْتَفَى عَنهُ الْبُخْل كَانَ ذَاته أولى بانتفائه، وَهَهُنَا إِذا فرض لذاته المقدسة نَظِير تَعَالَى شَأْنه كَانَ ذَلِك الْمَفْرُوض عديم النظير، فَكيف يتَصَوَّر أَن لَا يكون هُوَ تَعَالَى عديم النظير (وَلَا شكّ أَن اقْتِضَاء شبه صفته انْتِفَاء الْبُخْل) إِنَّمَا أضَاف اقْتِضَاء انْتِفَاء الْبُخْل إِلَى شبه صفته، لَا إِلَى شبهه كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر، لِأَن الْبُخْل الْمَنْفِيّ عَن شبهه إِنَّمَا هُوَ مُقْتَضى صفة كَمَال فِي ذَات الْمُشبه وَتلك الصّفة شَبيهَة صفة من قصد انْتِفَاء بخله أَصَالَة فَافْهَم (أولى) خبر أَن (مِنْهُ)(2/24)
أَي من قصد اقْتِضَاء شبه صفته انْتِفَاء الْبُخْل (اقْتِضَاء صفته) انْتِفَاء الْبُخْل، وَقَوله اقْتِضَاء فَاعل أولى، هَذَا على رَأْي بعض النُّحَاة، وَأما على رَأْي الْأَكْثَر، فَالْخَبَر الْجُمْلَة اقْتِضَاء صفته مُبْتَدأ وَأولى خَبره أَو الْعَكْس كَمَا ذهب إِلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ (لَكِن لَيْسَ مِنْهُ) أَي من بَاب مثلك لَا يبخل (مَا نَحن فِيهِ من نفي مثل الْمثل) لينتفي الْمثل، كلمة من لبَيَان الْمَوْصُول (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يكون مَا نَحن فِيهِ من ذَلِك الْبَاب (لم يَصح نفي مثل لِثَابِت) مُتَعَلق بِمثل الثَّانِي: أَي لشخص ثَابت لَهُ مثل فَاعل ثَابت وَاحِد فضلا عَن الْأَكْثَر لكنه: أَي نفي مثل لما هُوَ ثَابت (لَهُ مثل وَاحِد لكنه) أَي نفي مثل هُوَ لما ثَابت لَهُ مثل (صَحِيح فَإِذا قيل لَيْسَ مثل مثل زيد أحد) اسْم لَيْسَ قدم عَلَيْهِ خَبره (اقْتضى ثُبُوت مثل لزيد) وَلقَائِل أَن يَقُول يجوز أَن يكون لَيْسَ كمثله من قبيل مثلك لَا يبخل وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم صِحَة نفي مَا ذكره لجَوَاز أَن يسْتَعْمل لَيْسَ مثل مثله تَارَة لنفي الْمثل وَتارَة لنفي مثل الْمثل مَعَ وجود الْمثل وَيتَعَيَّن كل مِنْهُمَا بِحَسب الْقَرَائِن، فَفِي مثلك لَا يبخل الْعلم بِوُجُود الْمثل حَاصِل، والقرينة دَالَّة على أَن المُرَاد نفي الْبُخْل عَمَّن أضيف إِلَيْهِ الْمثل بطرِيق أولى، فَعِنْدَ اسْتِعْمَال لَيْسَ كمثله إِن كَانَ الْعلم بِوُجُود الْمثل حَاصِلا لم يكن المُرَاد نفي الْمثل بطرِيق أولى، وَإِن لم يعلم وجود الْمثل وَكَانَ سوق الْكَلَام لنفي الْمثل كَانَ المُرَاد نَفْيه بطرِيق أولى، نعم يتَّجه أَن يُقَال هَذَا التَّأْوِيل وَإِن جَازَ على سَبِيل التَّكْلِيف، لَكِن الْمُتَبَادر من اللَّفْظ نفي مثل الْمثل مَعَ وجود الْمثل كَمَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق الْعَرَبيَّة، وسيشير إِلَيْهِ (وَصرف) مَا حققناه من أَن مُقْتَضى لَيْسَ مثل زيد ثُبُوت مثل لزيد وَأَنه يسْتَلْزم ثُبُوت زيد أَيْضا (لُزُوم التَّنَاقُض) اللَّازِم من نفي مثل مثله على مَا بَيناهُ (إِلَى نفي مثل) آخر (غير زيد) أَي صرف مَا ذكر انصراف النَّفْي عَمَّا يسْتَلْزم التَّنَاقُض من نفي مُطلق مثل الْمثل إِلَى نفي الْمثل الْخَاص (فَلم يتحد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات) فَمحل النَّفْي مثل الْمثل الذى غير زيد، وَمحل الْإِثْبَات مثل الْمثل الَّذِي هُوَ زيد، وَيحْتَمل أَن يكون لُزُوم التَّنَاقُض فَاعل صرف، الْمَعْنى صَار لُزُوم التَّنَاقُض الْمَذْكُور قرينَة صارفة لحمل النَّفْي عَن الْإِطْلَاق إِلَى التَّخْصِيص (وَهُوَ) أَي الصّرْف الْمَذْكُور (أظهر من صرفه) أَي من صرف لُزُوم التَّنَاقُض (السَّابِق) أَي الَّذِي سبق ذكره القَوْل الْمَذْكُور، يَعْنِي لَيْسَ كمثله (عَن ظُهُوره) أَي القَوْل الْمَذْكُور (فِي إِثْبَات الْمثل) إِلَى نفي الْمثل مُطلقًا (لأسبقية هَذَا) أَي إِثْبَات الْمثل إِلَى الْفَهم (من التَّرْكِيب) الْمَذْكُور غير أَن الصّرْف السَّابِق بِهِ يفتح جَوَاب الظَّاهِرِيَّة وَهَذَا يُبطلهُ كَمَا لَا يخفى (فَالْوَجْه ذَلِك الدّفع) أَي دفع دفع ابْن الْحَاجِب كَون التَّرْكِيب لنفي مثل مثله وَيلْزمهُ نفي مثله باقتضائه إِثْبَات الْمثل فِي مقَام نَفْيه بِجعْل لُزُوم التَّنَاقُض قرينَة صارفة عَن ظُهُور التَّرْكِيب فِي إِثْبَات الْمسند.(2/25)
مسئلة
(اخْتلف فِي كَون الْمجَاز نقليا) فَقَائِل قَالَ لَيْسَ نقليا وَآخر قَالَ نقلي، ثمَّ اخْتلفُوا (فَقيل) يشْتَرط النَّقْل (فِي آحاده) فَلَا بُد فِي كل فَرد من الْمجَاز من نقل عَن الْعَرَب أَنهم استعملوه فِي خُصُوص ذَلِك الْمَعْنى الْمجَازِي (وَقيل) يشْتَرط (فِي نوع العلاقة) فَيشْتَرط فِي كل مجَاز أَن ينْقل عَن الْعَرَب اعْتِبَار نوع علاقته (وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل هُوَ (الْأَظْهر) وَمن قَالَ لَا يشْتَرط ذَلِك قَالَ يَكْفِي وجود علاقَة مصححة للانتقال عَمَّا وضع لَهُ إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي بمعاونة الْقَرِينَة (فالشارط) للنَّقْل فِي نوع العلاقة يَقُول معنى اشْتِرَاطه للعلاقة (أَن يَقُول) الْوَاضِع (مَا) أَي معنى (بَينه وَبَين) معنى (آخر) وَهُوَ مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (اتِّصَال كَذَا) كِنَايَة عَن العلاقة (إِلَى آخِره) أَي أجزت أَن يسْتَعْمل فِيهِ من غير احْتِيَاج إِلَى نقل آحاده، والشارط للنَّقْل فِي الْآحَاد يشْتَرط سَمَاعه مِنْهُم فِي عين كل صُورَة (وَالْمُطلق) للْجُوَاز من غير اشْتِرَاط نقل فِي الْآحَاد وَلَا فِي النَّوْع يَقُول (الشَّرْط) فِي صِحَة التَّجَوُّز أَن يكون (بعد وضع التَّجَوُّز) أَي بعد تعْيين الْوَاضِع اللَّفْظ للاستعمال فِي غير مَا وضع لَهُ عِنْد الْقَرِينَة الصارفة والمعينة (اتِّصَال) بَين المتجوز بِهِ والمجوز عَنهُ (فِي ظَاهر) الْأَوْصَاف المختصة بالمتجوز عَنهُ، فَحَيْثُ وجد لم يتَوَقَّف على غَيره (وعَلى النَّقْل) أَي على القَوْل بِاشْتِرَاط النَّقْل نوعا (لَا بُد من الْعلم بِوَضْع نوعها) أَي بِتَعْيِين الْوَاضِع اللَّفْظ للاستعمال فِي غير مَا وضع لَهُ مِمَّا لَهُ نوع اتِّصَال بالموضوع لَهُ من الْأَنْوَاع الْمُعْتَبرَة: وَإِلَّا لَكَانَ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي ذَلِك وضعا جَدِيدا أَو غير مُعْتَد بِهِ (وَاسْتدلَّ) للمطلق بِأَنَّهُ (على التَّقْدِيرَيْنِ) أَي تَقْدِير شَرط نقل الْآحَاد، وَتَقْدِير شَرط نقل الْأَنْوَاع (لَو شَرط) أَحدهمَا (توقف أهل الْعَرَبيَّة) فِي كل تجوز على التَّقْدِير الأول، وَفِي كل نوع من التَّجَوُّز على التَّقْدِير الثَّانِي (وَلَا يتوقفون أَي فِي) أَحْدَاث (الْآحَاد و) لَا فِي (أَحْدَاث أَنْوَاعهَا) أَي العلاقة، وَمن ثمَّة لم يدونوا المجازات تدوينهم الْحَقَائِق (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (منتهض) أَي قَائِم ثَابت (فِي الأول) أَي فِي عدم اشْتِرَاط النَّقْل فِي الْآحَاد (مَمْنُوع) بطلَان (التَّالِي) أَي لَا نسلم عدم التَّوَقُّف (فِي الثَّانِي) وَهُوَ عدم اشْتِرَاط النَّقْل فِي الْأَنْوَاع، تَقْرِيره وَلَو اشْترط النَّقْل فِي الْأَنْوَاع لتوقفوا فِيهَا، لكِنهمْ لَا يتوقفون، فاستثناء نقيض التَّالِي مَمْنُوع (وعَلى الْآحَاد) أَي وَاسْتدلَّ على عدم اشْتِرَاط النَّقْل فِي الْآحَاد بِأَنَّهُ (لَو شَرط النَّقْل فِيهَا (لم يلْزم الْبَحْث عَن العلاقة) لِأَن النَّقْل بِدُونِهَا مُسْتَقلَّة بِتَصْحِيحِهِ حِينَئِذٍ فَلَا معنى للبحث فِيهَا لكنه لَازم بإطباق أهل الْعَرَبيَّة فَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد (وَدفع أَن أُرِيد نفي التَّالِي) أَي عدم لُزُوم الْبَحْث عَن العلاقة (فِي) حق (غير الْوَاضِع منعناه) أَي نفي التَّالِي لِأَنَّهُ(2/26)
لَا يلْزم عَلَيْهِ الْبَحْث عَنْهَا (بل يَكْفِيهِ) أَي غير الْوَاضِع (نَقله) أَي نقل كل وَاحِد من الْآحَاد عِنْد اسْتِعْمَاله (وبحثه) عَن العلاقة (للكمال) وَهُوَ الِاطِّلَاع على الْحِكْمَة الباعثة لاستعمال من نقل عَنهُ اللَّفْظ فِي ذَلِك الْمعِين (أَو) أُرِيد نفي التَّالِي (فِيهِ) أَي حق الْوَاضِع (منعنَا الْمُلَازمَة) فَإِن الْوَاضِع مُحْتَاج إِلَى معرفَة الْمُنَاسبَة بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي المسوغة للتجوز (و) الْوَاضِع (غير) مَحل (النزاع) فَإِن النزاع فِي غير الْوَاضِع (قَالُوا) أَي الشارطون للنَّقْل (لَو لم يشْتَرط) النَّقْل فِيهَا (جَازَ) أَن يسْتَعْمل (نَخْلَة لطويل غير إِنْسَان) للمشابهة فِي الطول كَمَا جَازَت للْإنْسَان الطَّوِيل (وشبكة للصَّيْد) للمجاورة بَينهمَا (وَابْن لِأَبِيهِ) إطلاقا للمسبب على السَّبَب (وَقَلبه) أَي أَب لِابْنِهِ إطلاقا للسبب على الْمُسَبّب (وَهَذَا) الدَّلِيل (للْأولِ) أَي الْقَائِل بِاشْتِرَاط نقل فِي الْآحَاد (وَالْجَوَاب وجوب تَقْدِير الْمَانِع) فِي أَمْثَال هَذِه الصُّور (للْقطع بِأَنَّهُم) أَي أهل الْعَرَبيَّة (لَا يتوقفون) عَن استعمالات مجازات لم تسمع أعيانها بعد تحقق نوع عَن العلاقات الْمُعْتَبرَة وتخلف الصِّحَّة عَن الْمُقْتَضى فِي بعض الصُّور لمَانع مَخْصُوص بهَا لَا يقْدَح فِي الِاقْتِضَاء، إِذْ عدم الْمَانِع لَيْسَ جُزْءا من الْمُقْتَضى، وَقَالَ صدر الشَّرِيعَة: إِنَّمَا لم يجز نَخْلَة لطويل غير إِنْسَان لانْتِفَاء المشابهة فِيمَا لَهُ مزِيد اخْتِصَاص بالنخلة وَهُوَ الطول مَعَ فروع وأغصان فِي أعاليها وطراوة وتمايل فِيهَا، وَفِيه أَنه لَو فرض مَا يشاركها فِيمَا ذكر لَا يسْتَعْمل فِيهَا أَيْضا فَتَأمل.
المعرفات للمجاز
(يعرف الْمجَاز بتصريحهم) أَي أهل اللُّغَة (باسمه) أَي الْمجَاز كَهَذا اللَّفْظ مجَاز فِي كَذَا (أَو حَده) بِأَن يُصَرح بِحَدّ الْمجَاز كَهَذا اللَّفْظ مُسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ (أَو بعض لوازمه) كاستعماله فِي كَذَا يتَوَقَّف على العلاقة (وبصحة نفي مَا) أَي معنى (لم يعرف) معنى حَقِيقِيًّا (لَهُ) أَي للفظ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمل فِيهِ عَن الْمَعْنى الْمَعْرُوف كَونه حَقِيقِيًّا لَهُ (فِي الْوَاقِع) مُتَعَلق بِالصِّحَّةِ كَقَوْلِك: للبليد حمَار فَإِنَّهُ يَصح فِيهِ أَن يُقَال الْحمار لَيْسَ ببليد، وَغَيره جعل العلاقة صِحَة نفي الْحَقِيقِيّ عَن الْمُسْتَعْمل فِيهِ وهما متلازمان، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْوَاقِع لصِحَّة سلب الْإِنْسَان لُغَة وَعرفا عَن الفاقد بعض الصِّفَات الإنسانية المعتد بهَا، وَعَكسه بِنَاء على اعتبارات خطابية (قيل) وَالْقَائِل ابْن الْحَاجِب (وَعَكسه) وَهُوَ عدم صِحَة نفي مَا لم يعرف حَقِيقِيًّا لَهُ (دَلِيل الْحَقِيقَة) كَعَدم صِحَة نفي الإنسانية عَن البليد وَعَكسه فَإِنَّهُ دَلِيل على أَنه إِنْسَان حَقِيقَة (وَاعْترض) والمعترض الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (بِالْمُسْتَعْملِ فِي الْجُزْء وَاللَّازِم) الْمَحْمُول كاسنان(2/27)
(من قَوْلنَا عِنْد نفي خَواص الإنسانية) عَن زيد مقول القَوْل (مَا زيد بِإِنْسَان أَي كَاتب) إِن اسْتعْمل فِي اللَّازِم (أَو نَاطِق) إِن اسْتعْمل فِي الْجُزْء حَاصِل الِاعْتِرَاض أَنكُمْ قُلْتُمْ صِحَة النَّفْي دَلِيل الْحَقِيقَة وَلَفظ إِنْسَان فِي الْمِثَال الْمَذْكُور سَوَاء اسْتعْمل فِي كَاتب أَو نَاطِق مجَاز بِلَا شُبْهَة مَعَ أَنه (لَا يَصح النَّفْي) فِيهِ فقد وجد الدَّلِيل (وَلَا حَقِيقَة) فَتخلف الْمَدْلُول عَن الدَّلِيل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصح نفي الْإِنْسَان عَن الْكَاتِب وَلَا عَن النَّاطِق، لِأَن كل كَاتب إِنْسَان، وَكَذَا كل نَاطِق إِنْسَان، ورد عَلَيْهِ المُصَنّف بقوله: (وَالْحق الصِّحَّة) أَي صِحَة النَّفْي (فيهمَا) أَي فِي كَاتب وناطق فَيصح أَن يُقَال: الْكَاتِب لَيْسَ بِإِنْسَان، وَكَذَا النَّاطِق لَيْسَ بِإِنْسَان على أَن تكون الْقَضِيَّة طبيعية: إِذْ لَيْسَ مَفْهُوم الْإِنْسَان غير شَيْء مِنْهُمَا وَإِن كَانَ مَحْمُولا على أَفْرَاد كل مِنْهُمَا على أَن تكون الْقَضِيَّة متعارفة (قيل) على مَا فِي شرح العضدي (وَأَن يعرف لَهُ مَعْنيانِ) مَعْطُوف على مَدْخُول الْبَاء فِي قَوْله بتصريحهم: أَي وَيعرف الْمجَاز بِأَن يعرف للفظ مَعْنيانِ (حَقِيقِيّ ومجازي) بدل من مَعْنيانِ (ويتردد فِي المُرَاد) مِنْهُمَا فِي مورده فَكل من الْمَعْنيين بِخُصُوصِهِ مَعْلُوم، وَهَذَا حَقِيقِيّ، وَهَذَا مجازي، غير أَنه لَا يعرف المُرَاد بِخُصُوصِهِ، وَيعرف أَن أَحدهمَا مُرَاد (فصحة) نفي (الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ) عَن الْإِرَادَة فِي مثل هَذَا المورد (دَلِيله) أَي دَلِيل كَون اللَّفْظ مُسْتَعْملا فِي الْمَعْنى الْمجَازِي (وَلَيْسَ) هَذَا القَوْل (بِشَيْء) يعْتد بِهِ (لِأَن الحكم بِالصِّحَّةِ) أَي بِصِحَّة نفي الْحَقِيقِيّ عَن الْإِرَادَة فِي هَذَا المورد (يحِيل الصُّورَة) الْمَذْكُورَة أَي يحِيل كَونهَا مِمَّا يعرف بِهِ كَون اللَّفْظ مجَازًا (لِأَنَّهُ) أَي الحكم بِأَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ غير مُرَاد فِيهَا (فرع عدم التَّرَدُّد) فِي المُرَاد بِخُصُوصِهِ، وَالْعلم بِأَن الْمَعْنى الْمجَازِي مُرَاد: فالعلم بمجازية اللَّفْظ على هَذَا مقدم على الحكم بِالصِّحَّةِ، فَكيف يكون الحكم بهَا دَلِيل المجازية (وَإِن أُرِيد) بِكَوْن صِحَة نفي الْحَقِيقِيّ دَلِيلا إِثْبَات الدّلَالَة (لظُهُور الْقَرِينَة) الْمقيدَة للمجازية (بِالآخِرَة) بعد التَّرَدُّد بِسَبَب التَّأَمُّل إِسْنَادًا لوصف الشَّيْء إِلَى سَببه (فقصور) أَي فَهَذَا التَّأْوِيل قُصُور عَن فهم مَا يلْزمه من الْوُقُوع فِيمَا هُوَ أوهن (إِذْ حَاصله) أَي حَاصِل هَذَا التَّأْوِيل أَنه (إِذا دلّت الْقَرِينَة على أَن اللَّفْظ مجَاز فَهُوَ مجَاز) وَلَا طائل تَحْتَهُ: إِذْ حَاصله أَنه إِذا قَامَ دَلِيل المجازية يحكم بِمُوجبِه (وَمَعْلُوم وجوب الْعلم بِالدَّلِيلِ، و) يعرف الْمجَاز (بِأَن يتَبَادَر) من اللَّفْظ إِلَى الْفَهم (غَيره) أَي غير الْمَعْنى الْمُسْتَعْمل فِيهِ (لَوْلَا الْقَرِينَة) فَلَو كَانَ حَقِيقَة لما تبادر غَيره (وَقَلبه) أَي قلب مَا ذكر وَهُوَ لَا يتَبَادَر غير الْمُسْتَعْمل فِيهِ لَوْلَا الْقَرِينَة الدَّالَّة على المُرَاد غَيره (عَلامَة الْحَقِيقَة) فَمَا ذكره مطردَة منعكسة (وإيراد الْمُشْتَرك) نفضا على عَلامَة الْحَقِيقَة (إِذْ لَا يتَبَادَر فِيهِ الْمَعْنى (الْمعِين) الْمُسْتَعْمل فِيهِ، وَعدم تبادر غير الْمُسْتَعْمل فِيهِ يدل على كَون الْمُسْتَعْمل فِيهِ(2/28)
متبادرا عرفا (وَهُوَ) أَي الْمُشْتَرك (حَقِيقَة فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْمعِين (مَبْنِيّ على) اشْتِرَاط (انعكاس الْعَلامَة وَهُوَ) أَي اشْتِرَاط انعكاسها (مُنْتَفٍ) بل الشَّرْط اطرادها فَقَط (واصلاحه) أَي تَوْجِيه إِيرَاد الْمُشْتَرك على عَلامَة الْمجَاز، وَهُوَ أَن يُقَال الْمُشْتَرك على عَلامَة الْمجَاز، وَهُوَ أَن يُقَال الْمُشْتَرك لَيْسَ بمجاز، وعلامة الْمجَاز مَوْجُودَة فِيهِ: إِذْ الْمُتَبَادر مِنْهُ غير مَا اسْتعْمل فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (تبادر غَيره) خبر اصلاحه على الْمُسَامحَة (وَهُوَ) أَي غير الْمُسْتَعْمل فِيهِ (الْمُبْهم) يعين أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين (إِلَّا بِقَرِينَة) تعين أَحدهمَا بِعَيْنِه، اسْتثِْنَاء من أَعم الْأَحْوَال أَي تبادر غَيره فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا حَال كَونه متلبسا بِقَرِينَة (وَدفعه) أَي دفع الْإِيرَاد الْمَذْكُور (بِأَن فِي معنى التبادر) أَي تبادر الْغَيْر مَأْخُوذ (أَنه) أَي الْغَيْر (مُرَاد، وَهُوَ) أَي الْمَعْنى الْمَذْكُور (مُنْتَفٍ بالمبهم، واندفع مَا) ذكر من إِيرَاد الْمُشْتَرك (إِذا قرر) بِوَجْه آخر مشار إِلَيْهِ بقوله (بِمَا إِذا اسْتعْمل) الْمُشْتَرك (فِي) معنى (مجازي) مَا مَصْدَرِيَّة، وَإِذا زَائِدَة (فَإِنَّهُ لَا يتَبَادَر) حِينَئِذٍ (غَيره) أَي غير ذَلِك الْمجَاز لما عرفت من أَن المُرَاد تبادر الْغَيْر من حَيْثُ أَنه مُرَاد (فَبَقيت عَلامَة الْحَقِيقَة فِي الْمجَاز) ثمَّ أَفَادَ وَجه الاندفاع بقوله (بِأَن عَلامَة الْحَقِيقَة تبادر الْمَعْنى) الْمُسْتَعْمل فِيهِ (لَوْلَا الْقَرِينَة وَهُوَ المُرَاد بِعَدَمِ تبادر غَيره) أَي لَا يَكْفِي فِي الْحَقِيقَة مُجَرّد عدم تبادر غير الْمُسْتَعْمل فِيهِ: بل لَا بُد مَعَ ذَلِك من تبادر الْمُسْتَعْمل فِيهِ بِدُونِ الْقَرِينَة (فَلَا وُرُود لهَذَا) الْإِيرَاد (إِذْ لَيْسَ يتَبَادَر) الْمَعْنى (الْمجَازِي) من لفظ الْمُشْتَرك حَتَّى يكون حَقِيقَة (ثمَّ هُوَ) أَي هَذَا التَّقْرِير (يُنَاقض مناضلة الْمُقَرّر) أَي مباراته ومجادلته: يَعْنِي القَاضِي عضد الدّين (فِيمَا سلف) فِي مسئلة عُمُوم الْمُشْتَرك بتنصيصه (على أَن الْمُشْتَرك ظَاهر فِي كل معِين ضَرْبَة) أَي دفْعَة وَاحِدَة (عِنْد عدم قرينَة معِين، و) يعرف الْمجَاز أَيْضا (بِعَدَمِ اطراده) أَي اللَّفْظ (بِأَن اسْتعْمل) فِي مَحل (بِاعْتِبَار، وَامْتنع) اسْتِعْمَاله (فِي) مَحل (آخر مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الِاعْتِبَار (كاسأل الْقرْيَة دون) اسْأَل (الْبسَاط) فَإِن لفظ اسْأَل اسْتعْمل فِي سُؤال الْقرْيَة بِاعْتِبَار نسبته إِلَى أَهلهَا، وَلم يسْتَعْمل فِي سُؤال الْبسَاط بِاعْتِبَار نسبته إِلَى أَهلهَا، فَلَو كَانَ اسْتِعْمَاله بذلك الِاعْتِبَار على مَا يَقْتَضِيهِ وَضعه الْأَصْلِيّ لما اخْتلف بِاعْتِبَار الْمجَاز (وَلَا تنعكس) هَذِه الْعَلامَة: أَي لَيْسَ الاطراد دَلِيل الْحَقِيقَة فَإِن الْمجَاز قد يطرد كالأسد للشجاع (وَأورد) على هَذِه الْعَلامَة: أَعنِي عدم الاطراد (السخي والفاضل امتنعا فِيهِ تَعَالَى مَعَ) وجود (المناط) أَي منَاط إطلاقهما، وَهُوَ الْجُود وَالْعلم فِي حَقه تَعَالَى، فقد تحقق فيهمَا عدم الاطراد وَلم يتَحَقَّق الْمجَاز (والقارورة) امْتنع اسْتِعْمَاله (فِي الدن) أَي لَا يُسمى قَارُورَة مَعَ وجود المناط فقد تحقق فِيهَا عدم الاطراد(2/29)
وَهُوَ كَونه مقرا للمائع (وَأجِيب بِأَن عَدمه) أَي عدم اسْتِعْمَال هَذِه الْأَلْفَاظ فِيمَا ذكر (لُغَة عرف تقييدها) أَي الْمَذْكُورَات (بِكَوْنِهِ) أَي الْجُود (مِمَّن شَأْنه أَن يبخل و) الْعلم مِمَّن شَأْنه أَن (يجهل و) الْمقر (بالزجاجية) فَانْتفى منَاط الْإِطْلَاق فِيمَا امْتنع اسْتِعْمَالهَا فِيهِ، ثمَّ تعقب هَذَا الْجَواب بقوله (وَيَجِيء مثله) أَي مثل هَذَا الْجَواب (فِي الْكل) أَي فِي كل مَادَّة يَجْعَل فِيهَا عدم الاطراد عَلامَة للمجاز (إِذْ لَا بُد من خُصُوصِيَّة) لذَلِك الْمحل الْمُسْتَعْمل فِيهِ (فتجعل) تِلْكَ الخصوصية (جُزْءا) من المناط (و) يعرف المناط أَيْضا (بجمعه) أَي اللَّفْظ (على خلاف مَا عرف لمسماه) أَي إِذا كَانَ للاسم جمع بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَقد اسْتعْمل فِي معنى آخر لَا يعلم كَونه حَقِيقَة فِيهِ غير أَنه جمعه بِاعْتِبَار ذَلِك الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ الآخر مُخَالف لجمعه بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ كَانَ هَذَا الِاخْتِلَاف دَلِيلا على أَنه مجَاز فِي الْمَعْنى الآخر كالأمر فان جمعه بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ الصِّيغَة الْمَخْصُوصَة أوَامِر، وَبِاعْتِبَار الْفِعْل أُمُور فَدلَّ على أَنه مجَاز فِيهِ (دفعا للاشتراك) اللَّفْظِيّ لِأَنَّهُ خير مِنْهُ (وَهَذَا) الَّذِي علل بِهِ كَون الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور عَلامَة للمجاز (فِي التَّحْقِيق يُفِيد أَن لَا أثر لاخْتِلَاف الْجمع) إِذْ الْمُؤثر إِنَّمَا هُوَ الِاحْتِرَاز عَن الِاشْتِرَاك، فَإِن الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور كَمَا يتَحَقَّق بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، كَذَلِك يتَحَقَّق بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فَلَا اخْتِصَاص لَهُ بِأَحَدِهِمَا دون الآخر (وَلَا تنعكس) هَذِه الْعَلامَة، إِذْ لَيْسَ كل مجَاز يُخَالف جمعه جمع الْحَقِيقَة فَإِن الْأسد بِمَعْنى الشجاع، وَالْحمار بِمَعْنى البليد يجمعان على أَسد وحمر، وَهَذَا الْكَلَام يُؤَيّد مَا قبله. قَالَ الشَّارِح لَا حَاجَة إِلَى قَوْله (كَالَّتِي قبلهَا) لتصريحه بِهِ ثمَّة قلت لَعَلَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى وَجه إيرادها متصلين (و) يعرف الْمجَاز أَيْضا (بِالْتِزَام تَقْيِيده) أَي اللَّفْظ عِنْد اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى المتردد فِيهِ بِشَيْء من لوازمه كجناح الذل، ونار الْحَرْب، وَنور الْإِيمَان، فَإِنَّهَا فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقَة تسْتَعْمل مُطلقَة، وَفِي هَذِه بِهَذِهِ الْقُيُود، فَهَذَا الِالْتِزَام دَلِيل التَّجَوُّز: إِذْ لَو كَانَت حَقِيقَة فِيهَا لاستعملت فِيهَا مُطلقَة كَمَا تسْتَعْمل فِي مَعَانِيهَا الْمَشْهُورَة كَمَا هُوَ أصل اللُّغَة فِي الاستعمالات الْحَقِيقِيَّة، وَهَذِه الْعَلامَة قد لَا تُوجد فِي بعض المجازات اعْتِمَادًا على الْقَرَائِن، وَإِنَّمَا اعْتبر الِالْتِزَام احْتِرَازًا عَن الْمُشْتَرك، فَإِنَّهُ رُبمَا يُقيد كرأيت عينا جَارِيَة، لَكِن من غير الْتِزَام (و) يعرف الْمجَاز أَيْضا (بتوقف إِطْلَاقه) أَي اللَّفْظ للمعنى المتردد فِيهِ الَّذِي هُوَ وصف مُتَعَلق بموصوف (على) ذَلِك (مُتَعَلقَة) صلَة للتوقف حَال كَونه فِي ذَلِك الْإِطْلَاق (مُقَابلا للْحَقِيقَة) بِأَن يسْتَعْمل قبيل هَذَا الْإِطْلَاق فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ نَحْو قَوْله تَعَالَى {ومكروا ومكر الله} فَإِن إِطْلَاق الْمَكْر على الْمَعْنى اللَّائِق بجناب الْحق سُبْحَانَهُ مقرون بِذكر مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَهُوَ الذَّات الْمُقَدّس الْمُتَعَلّق(2/30)
بذلك الْمَعْنى، وَقد قَابل إِطْلَاقه لهَذَا الْمَعْنى إِطْلَاقه لمعناه الْحَقِيقِيّ الْقَائِم بِمَا عبر عَنهُ بضمير الْجمع، وَصِحَّة هَذَا التَّمْثِيل مَبْنِيّ (على أَنه) أَي الْمجَاز لفظ (مكر الْمُفْرد وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر التَّجَوُّز فِي لفظ مكر، بل فِي نِسْبَة مكر الذَّات الْمُقَدّس (فَلَيْسَ) الْمِثَال على ذَلِك التَّقْدِير (الْمَقْصُود) أَي مطابقا لما قصد من الْمجَاز اللّغَوِيّ (كالتمثيل لعدم الاطراد باسأل الْقرْيَة) فَإِنَّهُ غير مُطَابق للقصد، لِأَن الْمجَاز فِي النِّسْبَة، لَا فِي الْمُفْرد الَّذِي هُوَ الْمَقْصد، ثمَّ علل قَوْله فَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصد بقوله، (فَإِن الْكَلَام فِي) الْمجَاز (اللّغَوِيّ لَا) الْمجَاز (الْعقلِيّ) الَّذِي هُوَ الْمجَاز فِي النِّسْبَة.
مسئلة
(إِذا لزم) كَون اللَّفْظ (مُشْتَركا) بَين مُسَمَّاهُ الْمَعْرُوف، والمتردد فِيهِ لم يكن مجَازًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُشْتَركا لزم كَونه (مجَازًا) فِي المتردد فِيهِ (لزم مجَازًا) أَي لزم اعْتِبَار كَونه مجَازًا فِيهِ، وَهُوَ جَزَاء الشَّرْط وَحَاصِله أَنه إِذا دَار الْأَمر بَين الِاشْتِرَاك والتجوز تعين اخْتِيَار التَّجَوُّز (لِأَنَّهُ) أَي الْحمل على التَّجَوُّز (لَا يخل بالحكم) بِمَا هُوَ المُرَاد مِنْهُ بِعَيْنِه سَوَاء وجد قرينَة الْمجَاز أَولا (إِذْ هُوَ) أَي الحكم (عِنْد عدمهَا) أَي الْقَرِينَة (بالحقيقي) أَي بِكَوْن المُرَاد الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ للفظ (وَمَعَهَا) أَي الْقَرِينَة (بالمجازي) أَي بِكَوْنِهِ الْمَعْنى الْمجَازِي لَهُ (أما الْمُشْتَرك فَلَا) يحكم بِأَن المُرَاد بِهِ معِين من معنييه (إِلَّا مَعهَا) أَي الْقَرِينَة الْمعينَة لَهُ: كَذَا قَالُوا، ورد عَلَيْهِم المُصَنّف بقوله (وَلَا يخفى عدم الْمُطَابقَة) أَي عدم مُطَابقَة مَا ذكر من الْإِخْلَال بالحكم على تَقْدِير الِاشْتِرَاك وَعدم الْقَرِينَة للْوَاقِع لِأَنَّهُ إِن لم يُمكن اجْتِمَاعهمَا أَو لم يقل بِالْعُمُومِ الاستغراقي للمشترك يحكم بإجماله، والإجمال مِمَّا يقْصد فِي الْكَلَام فَلَا إخلال، وَإِن أمكن وَقُلْنَا بِهِ تعين المُرَاد فَلَا إخلال على التَّقْدِيرَيْنِ (وَقَوْلهمْ) أَي المرجحين للْحَمْل على الْمجَاز (يحْتَاج) الْمُشْتَرك (إِلَى قرينتين) بِاعْتِبَار معنييه كل مِنْهُمَا تعين فِي مَحل بِاعْتِبَار الاستعمالات (بِخِلَاف الْمجَاز) فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى وَاحِدَة فبعيد إِنَّمَا يتمشى على عدم تعميمه فِي مفاهيمه ظَاهره (لَيْسَ بِشَيْء) إِذْ لَا يَقْتَضِي وجود القرنيتين فِي كل اسْتِعْمَال (بل كل) من الْمُشْتَرك وَالْمجَاز (فِي الْمَادَّة) أَي فِي كل مَادَّة مَخْصُوصَة من مواد الِاسْتِعْمَال (يحْتَاج) فِي إِفَادَة المُرَاد (إِلَى قرينَة) وَاحِدَة (وتعددها) أَي الْقَرِينَة فِي الْمُشْتَرك (لتعدده) أَي فِي الْمَعْنى المُرَاد مِنْهُ (على) سَبِيل (الْبَدَل) إِذْ المُرَاد مِنْهُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَال فَرد يدل على فَرد أُرِيد مِنْهُ فِي ذَلِك الِاسْتِعْمَال: فالتعدد فِي الْقَرِينَة على هَذَا القَوْل (كتعددها) أَي الْقَرِينَة فِي الْمجَاز (لتَعَدد) الْمعَانِي (المجازيات) للفظ وَاحِد بِاعْتِبَار الاستعمالات (كَذَلِك) أَي على الْبَدَل(2/31)
فهما سيان بِاعْتِبَار وحدة الْقَرِينَة وتعددها على هَذَا الْوَجْه الْمَذْكُور، وَإِن اخْتلفَا من حَيْثُ أَن قرينَة الِاشْتِرَاك لتعيين الدّلَالَة وقرينة الْمجَاز لنَفس الدّلَالَة (وَلَعَلَّ مُرَادهم لُزُوم الِاحْتِيَاج إِلَى قرينتين (دَائِما على تَقْدِير الِاشْتِرَاك دون الْمجَاز لتعيين المُرَاد،) من الْمَعْنيين (وَنفى الآخر) يعْنى أَن القرينتين إِحْدَاهمَا لتعيين المُرَاد، وَالْأُخْرَى لنفي مَا لَيْسَ بِمُرَاد وَلَا يخفى أَن الْمعِين لأحد الْمَعْنيين لَا بُد أَن يكون نافيا للْآخر، فالتعدد بِاعْتِبَار الْحَيْثِيَّة، لَا بِاعْتِبَار الذَّات (وَهَذَا) أَي احْتِيَاج الْمُشْتَرك إِلَيْهِمَا بِنَاء (على) مَذْهَب (معممه) أَي الْمُشْتَرك فِي مفاهيمه إِنَّمَا هُوَ (فِي حَالَة عدم التَّعْمِيم) فَإِنَّهُ عِنْد قصد استغراقه لكل مَا يصلح لَهُ لَا يتَصَوَّر وجود الْقَرِينَة الْمعينَة لبَعض مفاهيمه (وَالْمجَاز كَذَلِك) أَي يلْزم كَونه مُحْتَاجا إِلَى القرينتين: إِحْدَاهمَا لتعيين المُرَاد، وَهُوَ الْمَعْنى الْمجَازِي، وَالْأُخْرَى لنفي الْحَقِيقَة بِنَاء (على الْجمع) على قَول من يُجِيز الْجمع بَين الْحَقِيقِيّ والمجازي فِي اسْتِعْمَال وَاحِد فِي حَال عدم التَّعْمِيم، فَإِنَّهُ عِنْد التَّعْمِيم يحْتَاج إِلَى قرينَة إردة الْمجَاز لَا إِلَى قرينَة نفي الْحَقِيقَة، بل هِيَ حِينَئِذٍ تفِيد خلاف مَقْصُوده: هَذَا وَقد يفرق بَينهمَا بِأَن الْمجَاز قد يسْتَعْمل فِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ فَيصير حِينَئِذٍ حَقِيقَة وَلَا يحْتَاج إِلَى قرينَة بِخِلَاف الْمُشْتَرك، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِعْمَال لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْقَرِينَة إِلَّا عِنْد المعمم حَال التَّعْمِيم، وَهُوَ قَلِيل (وأبلغ) مَعْطُوف على قَوْله لَا يخل بالحكم فَهُوَ دَلِيل آخر على اخْتِيَار الْمجَاز إِلَى الْمجَاز أبلغ من الْحَقِيقَة، لِأَن اشتماله على نكت البلاغة أَكثر، وَاعْترض عَلَيْهِ المُصَنّف بقوله (وإطلاقه) أَي إِطْلَاق كَونه أبلغ (بِلَا مُوجب) يُفِيد ذَلِك (لِأَنَّهُ) أَي قَوْلهم أبلغ إِن كَانَ (من البلاغة) فَهُوَ (مَمْنُوع) كَيفَ (و) قد (صرح بأبلغية الْحَقِيقَة) من الْمجَاز (فِي مقَام الْإِجْمَال) مُطلقًا الدَّاعِي للأبهام على السَّامع أَولا ثمَّ التَّفْصِيل ثَانِيًا فَإِن ذَلِك أوقع فِي نفس (فَإِن الْمُشْتَرك) فِي مثل هَذَا الْمقَام (هُوَ المطابق لمقْتَضى الْحَال) لاقتضائها الْإِجْمَال الْحَاصِل فِي الْمُشْتَرك (بِخِلَاف الْمجَاز) فَإِن اللَّفْظ مَعَ عدم الْقَرِينَة يحمل على الْحَقِيقَة، وَمَعَهَا على الْمجَاز فَلَا إِجْمَال (و) إِن كَانَ (بِمَعْنى تَأْكِيد إِثْبَات الْمَعْنى) أَي , وَإِن كَانَ من الْمُبَالغَة بِمَعْنى كَونه أكمل وَأقوى فِي الدّلَالَة على مَا أُرِيد بِهِ من الْحَقِيقَة على مَا أُرِيد بهَا (كَذَلِك) أَي فَهُوَ مَمْنُوع أَيْضا (للْقطع بمساواة رَأَيْت أسدا ورجلا هُوَ والأسد سَوَاء) فِي الأَسدِية، وَقَالَ الشَّارِح الشجَاعَة وَحِينَئِذٍ يرد منع الْمُسَاوَاة بِفَوَات ادِّعَاء كَونه أسدا فَتَأمل (نعم هُوَ) أَي الْمجَاز (كَذَلِك) أَي يُفِيد التَّأْكِيد (فِي) رَأَيْت أسدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَأَيْت (رجلا كالأسد) فَإِن فِي ادِّعَاء الأَسدِية تَأْكِيدًا لإِثْبَات الشجَاعَة (وَكَونه) أَي الْمجَاز، بل التَّعْبِير عَن المُرَاد بطرِيق التَّجَوُّز (كدعوى الشَّيْء بَيِّنَة) أَي متلبسا بَيِّنَة فِي كَون كل مِنْهُمَا(2/32)
أَعنِي الْمَعْنى الْمجَازِي وَالشَّيْء الْمَدْلُول عَلَيْهِ بَيِّنَة مَقْرُونا بِمَا يستلزمه ويوضحه (بِنَاء على أَن الِانْتِقَال إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي دَائِما من الْمَلْزُوم) وَهُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ إِلَى اللَّازِم كالانتقال من الْغَيْث الى النبت (ولزومه) أى لُزُوم الِانْتِقَال فِيهِ دَائِما من الْمَلْزُوم الى اللَّازِم (تكلّف) وَفِي نُسْخَة مصححة " وَإِنَّمَا يتَحَقَّق بتكلف " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرَاد باللزوم الِانْتِقَال فِي الْجُمْلَة سَوَاء كَانَ هُنَاكَ لُزُوم عَقْلِي حَقِيقِيّ، أَو عادي أَو اعتقادي أَو ادعائي (وَهُوَ) أَي التَّكَلُّف الْمَذْكُور (مُؤذن بحقية انتفائه) أَي انْتِفَاء لُزُوم الِانْتِقَال الْمَذْكُور الْمُسْتَند إِلَيْهِ الأبلغية الْمَذْكُورَة (مَعَ أَنه إِنَّمَا يلْزم) هَذَا التَّرْجِيح (فِي) اللُّزُوم (التحقيقي لَا الادعائي وَأما الأوجزية) أَي وَأما تَرْجِيح الْمجَاز على الْمُشْتَرك بِأَن الْمجَاز أوجز فِي اللَّفْظ من الْحَقِيقَة، فَإِن أسدا يقوم مقَام رجل شُجَاع (والأخفية) أَي وَبِأَن الْمجَاز أخف لفظا من الْحَقِيقَة كالحادثة والخنفقيق للداهية (والتوصل إِلَى السجع) أَي وَبِأَن الْمجَاز أخف لفظا من الْحَقِيقَة كَمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى تواطؤ الفاصلتين من النثر على الْحَرْف الآخر نَحْو الْحمار ثرثار إِذا وَقعا فِي أَوَاخِر القوافي بِخِلَاف بليد ثرثار: أَي كثير الْكَلَام (والطباق) أَي وَبِأَنَّهُ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْجمع بَين مَعْنيين مُتَقَابلين فِي الْجُمْلَة أَو مَا هُوَ مُلْحق بِهِ نَحْو:
(لَا تعجبي يَا سلم من رجل ... ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فَبكى)
فَضَحِك مجَاز عَن ظهر، وَلَو ذكره مَكَانَهُ لفات هَذَا التحسين البديعي (والجناس) أَي وَبِأَن يتَوَصَّل بِهِ إِلَى تشابه اللَّفْظَيْنِ لفظا مَعَ تغايرهما معنى (والروي) وَبِأَن يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمُحَافظَة على الْحَرْف الَّذِي تبنى عَلَيْهِ القصيدة (فمعارض بِمثلِهِ فِي الْمُشْتَرك) فقد يكون أوجز وأخف كَالْعَيْنِ للجاسوس أَو للينبوع ويتوصل بِهِ إِلَى السجع والروي نَحْو: لَيْث مَعَ غيث دون أَسد، والمطابقة نَحْو حسننا خير من خياركم والجناس نَحْو: رحبة رحبة، بِخِلَاف وَاسِعَة، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، فَالْوَجْه أَن يُعَارض بنكات أخر مُخْتَصَّة بالمشترك كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (ويترجح) الْمُشْتَرك (بالاستغناء عَن العلاقة وَمُخَالفَة الظَّاهِر وَهُوَ) أَي الظَّاهِر (الْحَقِيقَة، وَهَذَا) أَي كَون الْحَقِيقَة هُوَ الظَّاهِر (إِن عمم فِي غير الْمُنْفَرد) وَهُوَ الْمُشْتَرك (فَمَمْنُوع) لِأَن الْمُشْتَرك حَقِيقَة وَلَيْسَ بِظَاهِر فِي شَيْء من مَعَانِيه إِلَّا بِقَرِينَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعمم فِيهِ (لَا يُفِيد) لِأَن الْكَلَام فِيهِ (و) أَيْضا ترجح الْمُشْتَرك بالاستغناء (عَن ارْتِكَاب الْغَلَط) يَعْنِي أَن الْحمل على الِاشْتِرَاك مخلص عَن ارْتِكَاب احْتِمَال الْغَلَط (للتوقف) أَي لتوقف الْمُخَاطب عَن تعْيين المُرَاد مِنْهُ (لعدمها) أَي عِنْد عدم الْقَرِينَة الْمعينَة لأحد معنييه، والغلط إِنَّمَا يَقع فِي التَّعْيِين، وَهَذَا على رَأْي من لَا يعممه فِي مفاهيمه، وَأما عِنْد المعمم فَحكمه مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو للتعميم) يَعْنِي اسْتغْنَاء عَن ارْتِكَاب(2/33)
الْغَلَط لكَونه علما فِي جَمِيع مَا يصلح لَهُ فَلَا يبْقى للغلط مجَال، وَفِيه مَا سَنذكرُهُ (بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف الْحمل على الْمجَاز فَإِنَّهُ ارْتِكَاب للغلط إِذْ لَا يتَوَقَّف فِيهِ عَن تعْيين المُرَاد عِنْد عدم الْقَرِينَة بل يحكم بِإِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (و) الْحَال أَنه (قد لَا يُرَاد) من اللَّفْظ عِنْد عدمهَا الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) وَقد أقيم على إِرَادَة الْمجَازِي قرينَة خُفْيَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتخفى الْقَرِينَة) على الْمُخَاطب فَيَقَع فِي الْغَلَط بِحمْلِهِ على الْحَقِيقِيّ (وَالْوَجْه أَن جَوَاز اللَّفْظ) المتحقق (فيهمَا) أَي فِي الْمُشْتَرك وَالْمجَاز كِلَاهُمَا (بتوهمها) أَي بِسَبَب توهم الْقَرِينَة وهما فِي توهمهما سَوَاء، أما فِي الْمُشْتَرك فيتوهم قرينَة مُعينَة لأحد الْمَعْنيين وَلم يقصدها الْمُتَكَلّم فَيَقَع فِي الْغَلَط، وَأما فِي الْمجَاز فيتوهما مُعينَة للمجازي وَلم يقصدها بل قصد الْحَقِيقَة فَيَقَع أَيْضا فِي الْغَلَط (وَلَا أثر لاحتياج) أَي لاحتياج الْمجَاز (إِلَى علاقته) المسوغة للتجوز بِهِ عَن الْحَقِيقِيّ فِي حُصُول هَذَا التَّوَهُّم كَمَا يظْهر (بِقَلِيل تَأمل) قَالَ الشَّارِح لِأَن الْكَلَام فيهمَا بعد تحقق كل مِنْهُمَا وَلَا تحقق للمجاز بِدُونِ علاقته الْمَذْكُورَة انْتهى، وَفِيه أَن التَّأْثِير لَا ينْحَصر اعْتِبَاره فِي أَن يكون بعد تحققهما فَالْوَجْه أَن يُقَال أَن من أثبت لَهُ تَأْثِيرا زعم أَن الْمجَاز لكَونه مُحْتَاجا إِلَيْهَا لَا يَخْلُو عَنْهَا، ووجودها يُفْضِي إِلَى توهم الْقَرِينَة، وَيظْهر بِأَدْنَى تَأمل أَن وجود العلاقة فِي نفس الْأَمر لَا يَسْتَدْعِي تعقله ومدارا لتوهم الْمَذْكُور على التعقل لَا الْوُجُود فَتدبر، وَهَذَا مَبْنِيّ على جعل الْكَلَام من تَتِمَّة جَوَاز الْغَلَط فيهمَا، وَأما إِذا جَعَلْنَاهُ جَوَابا على تَرْجِيح الْمُشْتَرك باحتياج الْمجَاز إِلَى العلاقة وَالْمعْنَى لَا أثر لَهُ فِي التَّرْجِيح كَمَا يظْهر بِقَلِيل من التَّأَمُّل، إِذْ غَايَته قلَّة الْمُؤْنَة فِي جَانب الْمُشْتَرك وَلَا عِبْرَة بِهَذِهِ فِي مُقَابلَة مَا يحصل للْكَلَام من البلاغة فِي مُلَاحظَة العلاقة، فَهَذَا الْأَثر مَعْدُوم فِي جنب ذَلِك الْأَثر (و) أَيْضا يتَرَجَّح الْمُشْتَرك (بِأَنَّهُ يطرد) فِي كل وَاحِد من مَعَانِيه لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِيهِ، بِخِلَاف الْمجَاز فَإِن من علاماته عدم الاطراد (وَتقدم مَا فِيهِ) من أَن الْمجَاز قد يطرد كالأسد الشجاع (و) أَيْضا يتَرَجَّح الْمُشْتَرك (بالاشتقاق من مفهوميه) إِذا كَانَ مِمَّا يشتق مِنْهُ، لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي كل مِنْهُمَا وَهُوَ من خواصها (فيتسع) الْكَلَام وتكثر الْفَائِدَة، وَهَذَا على رَأْي مانعي الِاشْتِقَاق من الْمجَاز كَالْقَاضِي وَالْغَزالِيّ (وَالْحق أَن الِاشْتِقَاق يعْتَمد المصدرية) أَي مَدَاره على كَون اللَّفْظ مصدرا (حَقِيقَة كَانَ) الْمصدر (أَو مجَازًا كالحال ناطقة ونطقت الْحَال) من النُّطْق بِمَعْنى الدّلَالَة (وَقد تَتَعَدَّد) الْمعَانِي (المجازية للمنفرد) تعددا (أَكثر من) تعدد مَعَاني (مُشْتَرك) ويشتق من ذَلِك الْمُنْفَرد إِذا كَانَ مصدرا بِاعْتِبَار كل وَاحِد من تِلْكَ الْمعَانِي المجازية (فَلَا يلْزم أوسعيته) أَي الْمُشْتَرك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمجَاز (فَلَا يَنْضَبِط) الاتساع الْمُقْتَضى للترجيح (وَعَدَمه) أَي عدم الِاشْتِقَاق (من الْأَمر بِمَعْنى الشَّأْن) جَوَاب سُؤال مُقَدّر، وَهُوَ أَنه لَو كَانَ يشتق من اللَّفْظ بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمجَازِي لاشتق من(2/34)
لفظ الْأَمر بِمَعْنى الشَّأْن وَحَاصِل الْجَواب أَن عدم الِاشْتِقَاق فِيهِ (لعدمها) أَي المصدرية لَا للمجازية كَمَا زعم الْبَعْض وَعدم الِاشْتِقَاق (من) الإقبال والإدبار فِي قَوْلهم: (فَإِنَّمَا هِيَ إقبال وإدبار) مَعَ وجود الْمصدر بِأَن يُقَال هِيَ مقبلة ومدبرة (لفوت غَرَض الْمُبَالغَة) أَي غَرَض هُوَ الْمُبَالغَة الْحَاصِلَة من حمل الْمصدر على النَّاقة لِكَثْرَة مَا تقبل وتدبر، كَأَنَّهَا تجسمت من الإقبال والإدبار لَا للمجازية (وترجح أكثرية الْمجَاز للْكُلّ) أَي جَمِيع مرجحات الِاشْتِرَاك فَإِن من تتبع كَلَام الْعَرَب علم أَن الْمجَاز فِيهِ أَكثر من الْمُشْتَرك حَتَّى ظن بعض الْأَئِمَّة أَن أَكثر اللُّغَة مجَاز فيترجح الْحمل على الْأَعَمّ الْأَغْلَب.
مسئلة
(يعم الْمجَاز فِيمَا تجوز بِهِ فِيهِ فَقَوله) أَي فَلفظ الصَّاع فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تَبِيعُوا الدِّينَار بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ (وَلَا الصَّاع بالصاعين) إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم الرِّبَا " (يعم فِيمَا يُكَال بِهِ) وَهُوَ مَوْضُوع للمكيال الْخَاص مُسْتَعْمل مجَازًا فِيمَا يُكَال بِهِ مُسْتَغْرق جَمِيع أَفْرَاده (فَيجْرِي الرِّبَا فِي نَحْو الجص) مِمَّا لَيْسَ بمطعوم (ويفيد مناطه) أَي عِلّة الرِّبَا، لِأَن الحكم علق بالمكيل فَيُفِيد عَلَيْهِ مبدأ الِاشْتِقَاق (وَعَن بعض الشَّافِعِيَّة لَا) يعم، وَعَزاهُ غير وَاحِد إِلَى الشَّافِعِي (لِأَنَّهُ) أَي الْمجَاز (ضَرُورِيّ) أَي لضَرُورَة التَّوسعَة فِي الْكَلَام إِذْ الأَصْل فِيهِ الْحَقِيقَة (فَانْتفى) الرِّبَا (فِيهِ) أَي فى نَحْو الجص وَجه التَّفْرِيع أَن الثَّابِت ضَرُورَة يقْتَصر على قدر الضَّرُورَة والعموم زَائِد على قدرهَا، وَالْإِجْمَاع على أَن الطَّعَام مُرَاد، فَصَارَ المُرَاد بالصاع من أجمع عَلَيْهِ لَا غير (فَسلم عُمُوم الطَّعَام) يَعْنِي لَو ثَبت عَلَيْهِ الْكَيْل بِعُمُوم الصَّاع فِي مَعْنَاهُ الْمجَازِي بِحَيْثُ دخل تَحت عُمُومه نَحْو الجص لما سلم عُمُوم الطَّعَام، لِأَن عليته تَقْتَضِي عدم تحقق الحكم عِنْد عدم الْكَيْل، فالطعام لَا يدْخل تَحت الحكم عِنْد عدم الْكَيْل: كالطعام الَّذِي لَا يدْخل تَحت الْكَيْل، لَا يجْرِي فِيهِ الرِّبَا: فَعِنْدَ ذَلِك لم يسلم عُمُومه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لانْتِفَاء علية الْكَيْل) وَعند انْتِفَاء عليته تتَعَيَّن عَلَيْهِ الطّعْم على مَا يفهم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء ". أخرج مَعْنَاهُ الشَّافِعِي فِي مُسْنده، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَامْتنعَ) أَن تبَاع (الحفنة بالحفنتين مِنْهُ) أَي من الطَّعَام (ولزمت عليته) أَي الطّعْم عِنْدهم (قيل) على مَا يفهم من كَلَام الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (لم يعرف) نفي عُمُوم الْمجَاز (عَن أحد وَيبعد) أَن يَقُول بِهِ أحد (لِأَنَّهَا) أَي الضَّرُورَة الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ (بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلّم مَمْنُوع) يَعْنِي فَقَوْل مَانع عُمُوم الْمجَاز: أَن الْمجَازِي إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ للضَّرُورَة غير مُسلم (للْقطع بتجويز(2/35)
الْعُدُول) عَن الْحَقِيقَة (إِلَيْهِ) أَي الْمجَاز (مَعَ قدرَة الْحَقِيقَة) أَي الْقُدْرَة على جَوَازًا وقوعيا (لفوائده) أَي الْمجَاز لما فِيهِ من لطائف الاعتبارات، ومحاسن الاستعارات الْمُوجبَة أَعلَى دَرَجَة الْكَلَام فِي البلاغة على أَنه وَاقع فِي كَلَام من يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الْعَجز عَن اسْتِعْمَال الْحَقِيقِيَّة (و) بِالنِّسْبَةِ (إِلَى السَّامع: أَي لتعذر الْحَقِيقَة) تَفْسِير لموجب الضَّرُورَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّامع فَإِنَّهُ إِذا تعذر الْحمل على الْحَقِيقَة للقرينة الصارفة عَنْهَا، واضطر إِلَى الْحمل على الْمجَاز تحققت الضَّرُورَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا لَكِنَّهَا (لَا تَنْفِي الْعُمُوم) وَحَاصِل الْكَلَام أَن الضَّرُورَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلّم تستدعى نفى الْعُمُوم لما ذكر لَكِنَّهَا لَيست بموجودة، وبالنسبة إِلَى السَّامع بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور مَوْجُودَة لَكِنَّهَا لَا تستدعي نَفْيه: بل الْمُتَكَلّم لما أَرَادَ الْعُمُوم لعدم تحقق الضَّرُورَة بِالنِّسْبَةِ اليه لزم حمل السَّامع اللَّفْظ على الْعُمُوم وَهُوَ ظَاهر (وَلَا) تتَحَقَّق الضَّرُورَة الْمُوجبَة لنفي الْعُمُوم أَيْضا (بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاضِع) ثمَّ بَين كَيْفيَّة تحقق الضَّرُورَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بقوله (بِأَن اشْترط فِي اسْتِعْمَاله) أَي الْمجَاز (تعذرها) أَي الْحَقِيقَة وَلَا يخفى مَا فِيهِ من الْمُسَامحَة إِذْ لم يتَحَقَّق فِي حق الْوَاضِع إِلَّا اعْتِبَار الضَّرُورَة فِي الِاسْتِعْمَال لَا نَفسهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (لما ذكرنَا) من الْمَنْع فَإِن وُقُوع الِاشْتِرَاط مِنْهُ مَمْنُوع، وَمن أَنه لَا يَنْفِي الْعُمُوم فَإِنَّهُ على تَقْدِير وُقُوعه مِنْهُ لَا يَقْتَضِي عدم إِرَادَة الْعُمُوم إِذا اسْتعْمل بعد تعذر الْحَقِيقَة فِي الْمَعْنى الْمجَازِي (وَلِأَن الْعُمُوم للْحَقِيقَة بِاعْتِبَار شُمُول المُرَاد) بِاللَّفْظِ (بِمُوجبِه) أَي الشُّمُول بِأَسْبَاب زَائِدَة على ذَاتهَا كأداة التَّعْرِيف، ووقوعها فِي سِيَاق النَّفْي (لَا) بِاعْتِبَار (ذَاتهَا) فَإِذا وجدت تِلْكَ الْأَسْبَاب فِي الْمجَاز أَيْضا أوجبته (قيل) وقائله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (وَلَا يَتَأَتَّى نزاع لأحد فِي صِحَة قَوْلنَا جَاءَنِي الْأسود الرُّمَاة إِلَّا زيد لَكِن الْوَاجِد) للْخلاف (مقدم) على نافيه للعجز النَّافِي عَن إِقَامَة الدَّلِيل على أَنه لم يقل بِعَدَمِ صِحَة عُمُوم الْمجَاز أحد (واندرج الْوَجْه) أَي وَجه صِحَة عُمُوم الْمجَاز الْمَذْكُور فِي المسئلة الْمُتَنَازع فِيهَا بَين الْفَرِيقَيْنِ تَحت مَا ذكر على وَجه الْإِجْمَال (ولزمت الْمُعَارضَة) بَين عِلّة وصف الطّعْم وَوصف الْكَيْل، ويترجح الْأَعَمّ، وَهُوَ الْكَيْل لتعديه إِلَى مَا لَيْسَ بمطعوم، وَهُوَ الْأَحْوَط الْأَنْسَب بِبَاب الرِّبَا.
مسئلة
(الْحَنَفِيَّة وفنون الْعَرَبيَّة) أَي عَامَّة عُلَمَاء الْعَرَبيَّة والمحققون من الشَّافِعِيَّة (وَجمع من الْمُعْتَزلَة) مِنْهُم أَبُو هَاشم (لَا يسْتَعْمل) اللَّفْظ (فيهمَا) أَي فِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي حَال كَونهمَا (مقصودين بالحكم) بِأَن يُرَاد كَون كل مِنْهُمَا ظرفا للنسبة الْمُعْتَبرَة فِي الْكَلَام فِي(2/36)
إِطْلَاق وَاحِد (وَفِي الْكِنَايَة البيانية) إِنَّمَا يسْتَعْمل اللَّفْظ فيهمَا لَا لِأَن يكون كل مِنْهُمَا مَقْصُودا بالحكم بل (لينتقل) الذِّهْن (من) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ الْوَاقِع بَينه إِلَى) الْمَعْنى (الْمجَازِي) فَقَوْلهم كثير الرماد أُرِيد بِهِ كَثْرَة الرماد ليَكُون سلما لفهم الْجُود الَّذِي هُوَ منَاط صدق الْكَلَام، فَيصدق زيد كثير الرماد إِذا كَانَ لَهُ جود وَإِن لم يكن لَهُ ذرة من الرماد، فَلَيْسَ الْمَقْصد بالحكم إِلَّا الْجُود (وَأَجَازَهُ) أَي اسْتِعْمَاله فيهمَا مقصودين بالحكم فِي إِطْلَاق وَاحِد (الشَّافِعِيَّة وَالْقَاضِي وَبَعض الْمُعْتَزلَة) كَعبد الْجَبَّار وَأبي عَليّ الجبائي (مُطلقًا إِلَّا أَن لَا يُمكن الْجمع) بَينهمَا (كالفعل أمرا وتهديدا) فَإِن الْأَمر طلب الْفِعْل والتهديد يَقْتَضِي التّرْك فَلَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا (وَالْغَزالِيّ وَأَبُو الْحُسَيْن يَصح) اسْتِعْمَاله فيهمَا (عقلا لَا لُغَة، وَهُوَ الصَّحِيح إِلَّا فِي غير الْمُفْرد) أَي مَا لَيْسَ بمثنى وَلَا مَجْمُوع اسْتثِْنَاء من قَوْله لَا لُغَة (فَيصح) الِاسْتِعْمَال فيهمَا فِي غير الْفَرد (لُغَة) أَيْضا (لتَضَمّنه) أَي غير الْمُفْرد (المتعدد) من اللَّفْظ، وَفِيه أَن تضمن الْمثنى وَالْمَجْمُوع للمتعدد من الْمَعْنى مُسلم، وَأما من حَيْثُ اللَّفْظ فَلَا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد تعدده حكما، وَلذَا قَالُوا التَّثْنِيَة وَالْجمع اخْتِصَار الْعَطف (فَكل لفظ) من المتعددين مُسْتَعْمل (لِمَعْنى، وَقد ثَبت) فِي الْكَلَام لفصيح (الْقَلَم أحد اللسانين، وَالْخَال أحد الْأَبَوَيْنِ) فقد تعدد لفظ اللِّسَان، وَأُرِيد بِأَحَدِهِمَا الْقَلَم، وبالآخر الْجَارِحَة، وَكَذَلِكَ تعدد لفظ الْأَب، وَأُرِيد بِأَحَدِهِمَا الْخَال وبالآخر الْوَالِد: فَجمع بَين الْمجَازِي والحقيقي فيهمَا فِي اسْتِعْمَال وَاحِد (والتعميم فِي المجازية) أَي وَاسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي مَعَانِيه المجازية (قيل على الْخلاف كلا أَشْتَرِي) مُسْتَعْملا (بشرَاء الْوَكِيل والسوم) فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَا يشترى مُبَاشَرَته بِنَفسِهِ لحقيقة الشِّرَاء فشراء الْوَكِيل مَعْنَاهُ الْمجَازِي، وَكَذَلِكَ السّوم على الشِّرَاء فَإِنَّهُ مُبَاشرَة لأسبابه كتعيين الثّمن وَنَحْوه (و) قَالَ (الْمُحَقِّقُونَ لَا خلاف فِي مَنعه) أَي التَّعْمِيم فِي المجازية، فَيحكم بخطأ من قَالَ لَا أَشْتَرِي وَأَرَادَ شِرَاء الْوَكِيل والسوم (وَلَا) خلاف أَيْضا (فِيهِ) أَي منع تعميمه فِي الْحَقِيقِيّ والمجازي (على أَنه حَقِيقَة ومجاز) على أَن يكون اللَّفْظ الَّذِي عمم فيهمَا حَقِيقَة ومجازا بِحَسب هَذَا الِاسْتِعْمَال (وَلَا) خلاف أَيْضا (فِي جَوَازه) أَي اسْتِعْمَال اللَّفْظ (فِي) معنى (مجازي ينْدَرج فِيهِ الْحَقِيقِيّ) بِأَن يعم الْحَقِيقِيّ وَغَيره (لنا فِي الأول) أَي فِي صِحَّته عقلا (صِحَة إِرَادَة مُتَعَدد بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ (قطعا) للإمكان وَانْتِفَاء الْمَانِع (وَكَونه) أَي اللَّفْظ مَوْضُوعا (لبعضها) أَي الْمعَانِي المتعددة، وَهُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ دون الْبَعْض (لَا يمْنَع عقلا إِرَادَة غَيره) أَي غير ذَلِك الْبَعْض الَّذِي هُوَ لَهُ (مَعَه) أَي مَعَ الَّذِي هُوَ لَهُ (بعد صِحَة طَرِيقه) أَي غير الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (إِذْ حَاصله) أَي حَاصِل مَا ذكر من إِرَادَة الْمَعْنيين مَعًا بطرِيق صَحِيح عقلا (نصب مَا يُوجب الِانْتِقَال من لفظ) وَاحِد(2/37)
إِلَى الْحَقِيقِيّ والمجازي (بِوَضْع) أَي بوساطة علاقَة الْوَضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا وضع لَهُ (و) بوساطة قرينه) دَالَّة على إِرَادَة الْمجَازِي مَعَ الْحَقِيقِيّ (فَقَوْل بعض الْحَنَفِيَّة) على مَا نقل عَن كثير مِنْهُم (يَسْتَحِيل) الْجمع بَينهمَا (كَالثَّوْبِ) الْوَاحِد يَسْتَحِيل أَن يكون (ملكا وعارية فِي وَقت) وَاحِد (تهافت) أَي تساقط (إِذْ ذَاك) أَي اسْتِحَالَة كَون الشَّيْء الْوَاحِد ظرفا لجسمين مُخْتَلفين مالئا لكل مِنْهُمَا إِيَّاه إِنَّمَا يكون (فِي الظّرْف الْحَقِيقِيّ) وَاللَّفْظ لَيْسَ بظرف حَقِيقِيّ للمعنى، وَإِنَّمَا يُقَال الْمَعْنى فِي اللَّفْظ تَنْزِيلا لَهُ منزلَة الظّرْف بِضَرْب من التَّشْبِيه وإلحاق الْمَعْقُول بالمحسوس فِي حكم يتَوَقَّف على وجود عِلّة جَامِعَة، وَهِي مَقْصُودَة هَهُنَا. وَقَول الشَّارِح هَهُنَا كَالثَّوْبِ الْوَاحِد يَسْتَحِيل أَن يكون على اللابس الْوَاحِد ملكا وعارية فِي مَحَله لعدم كَون اللَّفْظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الْوَاحِد حَقِيقَة ومجازا حَتَّى يكون نظرا لما قَالَ، وَإِنَّمَا ذكر المُصَنّف الْملك وَالْعَارِية ليدل على تعدد اللابس الْمَالِك وَالْمُسْتَعِير (لَا يُقَال) الْمَعْنى (الْمجَازِي يسْتَلْزم معاند) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) فيستحيل اجْتِمَاعهمَا، فأعني بالمعاند (قرينَة عدم إِرَادَته) أَي الْحَقِيقِيّ (لِأَنَّهُ) أَي ادِّعَاء الاستلزام الْمَذْكُور (بِلَا مُوجب) لَهُ (بل ذَاك) أَي استلزامه إِيَّاه (عِنْد عدم قصد التَّعْمِيم، أما مَعَه) أَي مَعَ قصد التَّعْمِيم بِهِ (فَلَا يُمكن) وجود قرينَة عدم إِرَادَة الْحَقِيقِيّ (نعم يلْزم عقلا كَونه) أَي اللَّفْظ (حَقِيقَة ومجازا فِي اسْتِعْمَال وَاحِد وهم) أَي المصححون عقلا (ينفونه) أَي كَون اللَّفْظ حَقِيقَة ومجازا مَعًا، (لَا يُقَال بل) هُوَ (مجَاز للمجموع) فِي التَّلْوِيح، بل يَجعله مجَازًا قَطْعِيا لكَونه مُسْتَعْملا فِي الْمَجْمُوع الَّذِي هُوَ غير الْمَوْضُوع لَهُ (لِأَنَّهُ) أَي اللَّفْظ (لكل) من الْحَقِيقِيّ والمجازي (إِذْ كل) مِنْهُمَا (مُتَعَلق الحكم لَا الْمَجْمُوع) يرد عَلَيْهِ أَنه أَرَادَ بِنَفْي كَون الْمَجْمُوع مُتَعَلق الحكم عدم تعلقه بالمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع فَهُوَ لَا يسْتَلْزم عدم كَون الْمَجْمُوع مُسْتَعْملا فِيهِ إِذْ كل عَام مُسْتَغْرق لأفراده بِحَيْثُ ينشأ الحكم لكل مِنْهُمَا لَا يتَعَلَّق حكمه بِمَجْمُوع أَفْرَاده من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع مَعَ أَنه لَا شكّ فِي أَنه مُسْتَعْمل فِي الْمَجْمُوع وَإِن أَرَادَ بِهِ عدم تعلقه بِكُل فَرد من الْمَجْمُوع فَهُوَ بِخِلَاف مَا يَقُوله المعمم فَإِنَّهُ يَقُول بِثُبُوت الحكم لكل فَرد من الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي (لَكِن نفيهم) أَي الْحَنَفِيَّة جَوَاز الْجمع بَينهمَا (غير عَقْلِي) وَإِنَّمَا هُوَ لغَوِيّ إِذْ الْعقل لَا يَنْفِي ذَلِك وَإِن نَفَاهُ الِاسْتِعْمَال اللّغَوِيّ (بل يَصح عقلا) أَي يسْتَعْمل فيهمَا مَعًا (حَقِيقَة لإِرَادَة الْحَقِيقِيّ ومجازا لنحوه) أَي لنَحْو مَا ذكر: يَعْنِي لإِرَادَة الْمَعْنى الْمجَازِي (وَلنَا فِي الثَّانِي) أَي نفي صِحَّته لُغَة (تبادر) الْمَعْنى (الوضعي فَقَط) من غير أَن يُشَارِكهُ غَيره فِي التبادر عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ، هَذَا عَلامَة كَونه مُقْتَضى الْوَضع (يَنْفِي غير الْحَقِيقِيّ) وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من الْحَقِيقِيّ والمجازي(2/38)
أَن يكون اللَّفْظ فِيهِ (حَقِيقَة) لِأَن عدم تبادره دَلِيل على ذَلِك، وَوضع الظَّاهِر مَوضِع الضَّمِير لزِيَادَة التَّمَكُّن فِي ذهن السَّامع والوضعي والحقيقي وَاحِد (وَعدم العلاقة) بَين غير الْحَقِيقِيّ وَبَينه (يَنْفِيه) أَي بِنَفْي غير الْحَقِيقِيّ أَن يكون اللَّفْظ فِيهِ (مجَازًا بِمَا قدمْنَاهُ فِي الْمُشْتَرك) من أَنه لَا يجوز إِرَادَة مَجْمُوع معنييه مِنْهُ لعدم العلاقة بَينه وَبَين كل وَاحِد مِنْهُمَا وَصِحَّة إِطْلَاق لفظ الْجُزْء على الْكل مَشْرُوط بالتركيب الْحَقِيقِيّ وَكَون الْجُزْء بِحَيْثُ إِذا انْتَفَى انْتَفَى الِاسْم عَن الْكل عرفا: كالرقبة بِخِلَاف الظفر وَنَحْو الأَرْض لمجموع السَّمَوَات وَالْأَرْض (وعَلى النَّفْي) أَي نفي الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (اخْتصَّ الموَالِي بِالْوَصِيَّةِ) الْوَاقِعَة (لَهُم) أَي للموالي (دون مواليهم) أَي موَالِي الموَالِي فِيمَا إِذا أوصى من لَا ولَايَة عَلَيْهِ بِشَيْء لمواليه وَله عُتَقَاء وعتقاء عُتَقَاء، لِأَن العتقاء موَالِيه حَقِيقَة لمباشرته عتقهم وعتقاء العتقاء موَالِيه مجَازًا لتسببه فِي عتقهم بِإِعْتَاق معتقهم وَالْجمع منفي فتعينت الْحَقِيقَة (إِلَّا أَن يكون) أَي يُوجد (وَاحِد) من الموَالِي لَا غير (فَلهُ النّصْف) أَي نصف الْمُسَمّى (وَالْبَاقِي للْوَرَثَة) لِأَنَّهُ لما تعيّنت الْحَقِيقَة وَيسْتَحق الِاثْنَان مِنْهُم ذَلِك، لِأَن لَهما حكم لجمع فِي الْوَصِيَّة كَمَا فِي الْمِيرَاث صَار النّصْف للْوَاحِد ضَرُورَة وَالنّصف للْوَرَثَة لَا لعتقاء الْعَتِيق لِئَلَّا يلْزم الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز لَا يُقَال إِذا لم يكن لَهُ من العتقاء الأواحد، فَالظَّاهِر من إِطْلَاق لفظ الْجمع إِرَادَة الْوَاحِد لأَنا نقُول هَذَا إِذا لم يكن عِنْد الْوَصِيَّة وجود وَاحِد آخر منتظر (وَكَذَا لأبناء فلَان مَعَ حفدته عِنْده) أَي وَمثل حكم الموَالِي مَعَ موَالِي الموَالِي فِي الْوَصِيَّة حكم الْأَبْنَاء مَعَ أَبنَاء الْأَبْنَاء عِنْد أبي حنيفَة، لِأَن الْأَبْنَاء حَقِيقَة وَأَبْنَاء الْأَبْنَاء مجَاز وَالْجمع منفي إِلَّا ان يُوجد ابْن صلبي لَا غير فَلهُ النّصْف، وَالنّصف للْوَرَثَة (وَقَالا) أَي صَاحِبَاه (يدْخلُونَ) أَي موَالِي الموَالِي والحفدة فِي الْوَصِيَّة (مَعَ الْوَاحِد) من الموَالِي وَالْأَبْنَاء (فيهمَا) أَي فِي المسئلتين (بِعُمُوم الْمجَاز) لِأَن الموَالِي يُطلق عرفا على الْفَرِيقَيْنِ وَكَذَا الْأَبْنَاء (والاتفاق دُخُولهمْ فيهمَا إِن لم يكن أحد) من الموَالِي وَالْأَبْنَاء (لتعيين الْمجَاز حِينَئِذٍ) احْتِرَازًا عَن الإلغاء (وَأما النَّقْض) لنفي الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (بِدُخُول حفدة الْمُسْتَأْمن على بنيه) مَعَ بني بنيه فِي الْأمان (وبالحنث بِالدُّخُولِ) وَلَو دخل (رَاكِبًا) أَو منتعلا (فِي حلفه لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان) وَلَا نِيَّة كَمَا لَو دَخلهَا حافيا مَعَ أَنه حَقِيقَة فِيهِ حَتَّى لَو نَوَاه صدق ديانَة وَقَضَاء مجَاز فِي دُخُوله رَاكِبًا ومنتعلا، (وَبِه) أَي وبالبحث (بِدُخُولِهِ دَار سكناهُ) أَي فلَان (إِجَارَة) أَو إِعَارَة (فِي حلفه لَا يدْخل دَاره) وَلَا نِيَّة لَهُ كَمَا لَو دخل دَار سكناهُ الْمَمْلُوكَة مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَة فِي الْمَمْلُوكَة بِدَلِيل عدم صِحَة نَفيهَا عَنهُ مجَاز فِي الْمُسْتَأْجرَة والمستعارة بِدَلِيل صِحَة نَفيهَا عَنهُ (وبالعتق) لعَبْدِهِ (فِي إِضَافَته إِلَى يَوْم يقدم) فلَان (فَقدم لَيْلًا) وَلَا نِيَّة لَهُ مَعَ أَنه حَقِيقَة فِي النَّهَار حَتَّى لَو نَوَاه صدق(2/39)
قَضَاء وديانة مجَاز فِي اللَّيْل لصِحَّة نَفْيه (وَيجْعَل لله عَليّ صَوْم كَذَا بنية النّذر وَالْيَمِين يَمِينا ونذرا حَتَّى وَجب الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة بمخالفته) خلافًا لأبي يُوسُف مَعَ أَن الْكَلَام حَقِيقِيَّة للنذر حَتَّى لَا يتَوَقَّف على النِّيَّة مجَاز للْيَمِين حَتَّى يتَوَقَّف على نِيَّتهَا لَا على قَول أبي يُوسُف، فَإِنَّهُ يَقُول نذر فَقَط (فَأُجِيب عَن الأول) أَي النَّقْض بِدُخُول حفدته فِي الاستئمان على بنيه (بِأَن الِاحْتِيَاط فِي الحقن) أَي حفظ الدَّم وصيانته عَن السفك (أوجبه) أَي دُخُول الحفدة (تبعا لحكم) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) أَي حقن دِمَاء الْأَبْنَاء (عِنْد تحقق شبهته) أَي شُبْهَة الْحَقِيقِيّ فَإِن فِي الحفدة شُبْهَة الْبُنُوَّة (للاستعمال) أَي لِأَن لفظ الْبَنِينَ يسْتَعْمل فيهم كَمَا فِي (نَحْو بني هَاشم وَكثير) من نَظَائِره، أَلا ترى أَنه يثبت الْأمان بِمُجَرَّد صُورَة المسالمة بِأَن أَشَارَ مُسلم إِلَى كَافِر بالنزول من حصن، أَو قَالَ انْزِلْ إِن كنت رجلا وتريد الْقِتَال أَو ترى مَا أفعل بك وَظن الْكَافِر مِنْهُ الْأمان، بِخِلَاف الْوَصِيَّة فَإِنَّهَا لَا تسْتَحقّ بِصُورَة الِاسْم والشبهة (ففرعوا) على (عَدمه) أَي عدم الدُّخُول (فِي الأجداد والجدات بالاستئمان على الْآبَاء والأمهات بِنَاء على كَون الْأَصَالَة فِي الْخلق) فِي الأجداد والجدات (تمنع التّبعِيَّة فِي الدُّخُول فِي اللَّفْظ) لِأَن الصالة الخلقية لَا تناسبها التّبعِيَّة بِحَسب تنَاول اللَّفْظ (وَإِعْطَاء الْجد السُّدس لعدم الْأَب لَيْسَ بإعطائه) أَي السُّدس (الْأَبَوَيْنِ) أَي بطرِيق التّبعِيَّة فِي تنَاول لفظ الْأَب لتخالف مُقْتَضى اصالته الخلقية (بل بِغَيْرِهِ) أى بِدَلِيل آخر: وَهُوَ اقامة الشَّرْع اياه مقَام الْأَب عِنْد عَدمه كَمَا فِي بنت الابْن عِنْد عدم الْبِنْت (إِلَّا أَنه) أَي هَذَا الْجَواب (يُخَالف قَوْلهم الْأُم الأَصْل لُغَة وَقَول بَعضهم الْبَنَات الْفُرُوع لُغَة) فَإِن هَذَا يُفِيد استواءهم فِي الدُّخُول (وَأَيْضًا إِذا صرف الِاحْتِيَاط عَن الِاقْتِصَار فِي الْأَبْنَاء) على الْأَبْنَاء (عِنْد شُبْهَة الْحَقِيقَة بِالِاسْتِعْمَالِ فَعَنْهُ) أَي فَيصْرف الِاحْتِيَاط على الِاقْتِصَار فِي الْأَبْنَاء) على الْآبَاء (لذَلِك) أَي لشُبْهَة الْحَقِيقَة بِالِاسْتِعْمَالِ (كَذَلِك) أَي كَمَا فِي الْأَبْنَاء (بِعُمُوم الْمجَاز فِي الْأُصُول كَمَا هُوَ فِي الْفُرُوع إِن لم يكن حَقِيقَة فَيدْخلُونَ) أَي الأجداد والجدات فِي الْآبَاء والأمهات (ومانعية الْأَصَالَة خلقَة مَمْنُوع) لعد اقْتِضَاء عقل أَو نقل ذَلِك (هَذَا وَالْحق أَن هَذَا من مَوَاضِع جَوَاز الْجمع عندنَا) قَالَ الشَّارِح: أَي عِنْد المُصَنّف، وَلَا يخفى أَن قَوْله عندنَا مَعْنَاهُ عِنْد الْحَنَفِيَّة (لِأَن الْآبَاء وَالْأَبْنَاء جمع) وَقد جَوَّزنَا الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز عقلا ولغة فِي غير الْمُفْرد كَمَا قدمْنَاهُ (وَعَن) النَّقْض (الثَّانِي) بِالْحِنْثِ بِالدُّخُولِ رَاكِبًا فِي حلفه لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان (بهجر) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) لوضع الْقدَم، لِأَنَّهُ لَو اضْطجع خَارِجهَا وَوضع قَدَمَيْهِ فِيهَا لَا يُقَال عرفا وضع الْقدَم فِي الدَّار وَلَا يَحْنَث بذلك كَمَا فِي الْخَانِية (لفهم صرف الْحَامِل) إِلَى مَا ذكر أَي لِأَنَّهُ فهم الْمُجْتَهد أَن مَا حمل الْحَالِف على الْحلف من المنافرة صَارف عَن إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ(2/40)
إِلَى مَا ذكر من الْمَعْنى الْعرفِيّ وَهُوَ الدُّخُول الْمُطلق على أَي كَيْفيَّة كَانَ (وَالْجَوَاب عَن الثَّالِث) أَي النَّقْض بِالْحِنْثِ بِدُخُول دَار سُكْنى فلَان إِجَارَة أَو إِعَارَة فِي حلفه لَا يدْخل دَاره (بِأَن حَقِيقَة إِضَافَة الدَّار) إِنَّمَا تتَحَقَّق (بالاختصاص) الْكَامِل الْمُصَحح لِأَن يخبر عَن الْمُضَاف بِأَنَّهُ للمضاف إِلَيْهِ (بِخِلَاف نَحْو كَوْكَب الخرقاء) فِي قَوْله:
(إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرة ... سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب)
فَإِن المُرَاد بكوكب الخرقاء سُهَيْل: وَهُوَ كَوْكَب بِقرب القطب الجنوبي يطلع عِنْد ابْتِدَاء الْبرد، وإضافته إِلَى الخرقاء وَهِي الَّتِي فِي عقلهَا هوج وَبهَا حَمَاقَة مجازية لاخْتِصَاص مجازي غير كَامِل وَهُوَ كَون زمَان طلوعه وَقت ظُهُور جَسدهَا فِي تهيئة ملابس الشتَاء بتفريقها قطنها فِي قرائها ليغزل لَهَا، فَجعلت هَذِه الملابسة بِمَنْزِلَة الِاخْتِصَاص الْكَامِل (وَهُوَ) أَي اخْتِصَاصه الْكَامِل بِالدَّار يكون (بِالسُّكْنَى وَالْملك فَيحنث) بِكُل مِنْهُمَا حَتَّى يَحْنَث (بالمملوكة غير مسكونة كفاضيحان) أَي كَمَا ذكره لوُجُود الِاخْتِصَاص الْكَامِل (خلافًا للسرخسي) وَوَافَقَهُ صَاحب الْكَافِي بِنَاء على انْقِطَاع نِسْبَة السُّكْنَى إِلَيْهِ بِفعل غَيره على أَن الْبَاعِث على هَذَا الْحلف عرفا قَصده الْبعد عَن فلَان وَكَون غيظه بِحَيْثُ يحملهُ على أَن يَحْنَث عَن الدُّخُول فِيمَا ينْسب إِلَيْهِ مُطلقًا وَإِن كَانَ مُحْتملا، لَكِن الْمُتَبَادر هُوَ الأول (وَعَن) النَّقْض (الرَّابِع) بِعِتْق من أضَاف عتقه إِلَى يَوْم يقدم فلَان فَقدم لَيْلًا (بِأَنَّهُ) أَي الْيَوْم (مجَاز فِي الْوَقْت) الْمُطلق (عَام لثُبُوت الِاسْتِعْمَال) لَهُ كَذَلِك (عِنْد ظرفيته لما لَا يَمْتَد) من الْأَفْعَال وَهُوَ مَالا يقبل التأفيت نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَمن يولهم} يَوْمئِذٍ دبره فَإِن التولي عَن الزَّحْف حرَام لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا (فَيعْتَبر) الْمجَازِي الْعَام (إِلَّا لموجب) يَقْتَضِي كَون المُرَاد بَيَاض لنهار خَاصَّة (كطالق يَوْم أَصوم) فَإِن الطَّلَاق مِمَّا لَا يَمْتَد، والموجب لإِرَادَة بَيَاض النَّهَار أَن الصَّوْم إِنَّمَا يكون فِيهِ (بِخِلَاف) مَا كَانَ ظرف (مَا يَمْتَد) من الْأَفْعَال يقبل التأفيت (كالسير والتفويض) فَإِنَّهُ يكون المُرَاد بِهِ حِينَئِذٍ بَيَاض النَّهَار (لاا بِمُوجب) يَقْتَضِي كَون المُرَاد مُطلق الْوَقْت (كأحسن الظَّن يَوْم تَمُوت) فَإِن إِحْسَان الظَّن مِمَّا يَمْتَد، والموجب لإِرَادَة مُطلق الْوَقْت إِضَافَته إِلَى الْمَوْت (وَلَو لم يخْطر هَذَا) الْفرق للقائل (فقرينة) إِرَادَة (الْمجَاز) فِي مَادَّة النَّقْض (علم أَنه) أَي الْعتْق إِنَّمَا هُوَ (للسرور وَلَا يخْتَص بِالنَّهَارِ) فَاسْتعْمل فِي مجَاز عَام تندرج فِيهِ الْحَقِيقَة (وَعَن) النَّقْض (الْخَامِس) يكون لله عَليّ صَوْم كَذَا نذرا ويمينا بنيتهما (تَحْرِيم الْمُبَاح) الَّذِي هُوَ فطر الْأَيَّام الْمَنْذُور صيامها (وَهُوَ) أَي تَحْرِيمه (معنى الْيَمين) هَذَا لما عرف من أَن تَحْرِيم الْمُبَاح يَمِين بِالْكتاب وَالسّنة (يثبت مدلولا التزاميا للصيغة) أَي لله عَليّ صَوْم كَذَا، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا إِيجَاب الْمَنْذُور لما عرف من أَن الْمَنْذُور لَا بُد أَن يكون(2/41)
قبل النّذر مُبَاح الْفِعْل وَالتّرْك ليَصِح الْتِزَامه بِالنذرِ، فَيصير تَركه الَّذِي كَانَ مُبَاحا حَرَامًا بِهِ لَازِما لَهُ بِمَعْنى أَنه مَمْنُوع عَنهُ بِسَبَب لُزُوم الْفِعْل بالتزامه وَأما كَونه مدلولا التزاميا فَظَاهر، لِأَن منطوقه الْتِزَام الصَّوْم، وَيلْزم عدم جَوَاز الْفطر (ثمَّ يُرَاد بِهِ) أَي بالمدلول الالتزامي (الْيَمين) أَي مَعْنَاهُ (فَأُرِيد) معنى الْيَمين (بِلَازِم مُوجب اللَّفْظ) وَهُوَ النّذر (لَا بِهِ) أَي لَا بِنَفس اللَّفْظ، على أَنه قد علم مِمَّا سبق تَحْرِيم الْمُبَاح عين معنى الْيَمين، وَهُوَ الْمَدْلُول الالتزامي بِعَيْنِه، وَقَوله يُرَاد بِهِ الْيَمين إِلَى آخِره يدل على أَن الْمَدْلُول الالتزامي وَسِيلَة لإِرَادَة الْيَمين، وَهُوَ الْمَدْلُول الالتزامي بِعَيْنِه لَا عينه: فبينهما تدافع وَيُجَاب عَنهُ بِأَن المُرَاد بِكَوْنِهِ معنى الْيَمين أَنه يقْصد بِهِ إنشاؤه، لَا أَنه عينه كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر فَلَا تدافع تَوْضِيحه أَن وجوب الصَّوْم يسْتَلْزم حُرْمَة ضِدّه المفوت لَهُ، وَهُوَ الْفطر، وَهَذَا معنى ثُبُوته، وَلَا شكّ أَنه يتعقل حُرْمَة الْفطر عِنْد تعقل وجوب الصَّوْم، وَهَذَا معنى كَونه مدلولا التزاميا، ثمَّ إِن التَّحْرِيم الْمَذْكُور لَا يصير يَمِينا مُوجبَة لِلْكَفَّارَةِ إِلَّا بِإِرَادَة كَونه يَمِينا، وَهَذَا إنشاؤه، وَإِنَّمَا سميناه معنى الْيَمين قبل الْإِنْشَاء لما فِيهِ من الْمَنْع عَن الْفِعْل كَمَا فِي الْيَمين (وَلَا جمع) بَين الْحَقِيقَة الْمجَاز: يَعْنِي الْجمع الْمُتَنَازع فِيهِ (دون الِاسْتِعْمَال فيهمَا) أَي الْحَقِيقِيّ والمجازي، وَقد عرفت أَن الِاسْتِعْمَال فِي النّذر فَقَط وَالْيَمِين مُرَاد بالمدلول الالتزامي (وَمَا قيل لَا عِبْرَة لإِرَادَة النّذر) لِأَنَّهُ ثَابت بِنَفس الصِّيغَة من غير تَأْثِير للإرادة (فَالْمُرَاد الْيَمين فَقَط) أَي فَكَأَنَّهُ لم يرد إِلَّا الْمَعْنى الْمجَازِي (غلط إِذْ تحَققه) أَي النّذر (مَعَ الْإِرَادَة وَعدمهَا) أَي الْإِرَادَة (لَا يسْتَلْزم عدم تحققها وَإِلَّا) لَو استلزم عدم تحقق الْإِرَادَة (لم يمْتَنع الْجمع) بَين الْحَقِيقِيّ والمجازي (فِي صُورَة) من الصُّور أصلا، لِأَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ فِي كل صُورَة من الصُّور أصلا يثبت بِاللَّفْظِ من غير تَأْثِير للإرادة (وَقد فرض إرادتهما) أَي الْحَقِيقِيّ والمجازي (وَفِيه) أَي فِي الْجَواب عَن هَذَا النَّقْض (نظر، إِذْ ثُبُوت) التَّحْرِيم (الالتزامي) حَال كَونه (غير مُرَاد) وَهُوَ (خطورة عِنْد فهم ملزومه) الَّذِي هُوَ مَدْلُول اللَّفْظ حَال كَونه (مَحْكُومًا) عَلَيْهِ (بِنَفْي إِرَادَته) أَي بِنَفْي كَونه مرَادا للمتكلم (وَهُوَ) أَي الحكم بذلك أَو خطوره على الْوَجْه الْمَذْكُور (يُنَافِي إِرَادَة الْيَمين الَّتِي هِيَ إِرَادَة التَّحْرِيم (حَال كَونه ملحوظا (على وَجه) هُوَ بِاعْتِبَارِهِ (أخص مِنْهُ) أَي من نَفسه حَال كَونه (مدلولا التزاميا) يَعْنِي التَّحْرِيم من حَيْثُ أَنه مَدْلُول التزامي يحْتَمل أَن يكون ملحوظا قصدا ومرادا فالتزامي يعم الْوَجْهَيْنِ وَأحد وجهيه أخص مِنْهُ مُطلقًا، ثمَّ اسْتدلَّ على الأخصية الْمَذْكُورَة بقوله (لِأَنَّهُ) أَي التَّحْرِيم الْمُعْتَبر عِنْد إِرَادَة الْيَمين (تَحْرِيم يلْزم بخلقه) وَالْعَمَل بِخِلَاف مُوجبه (الْكَفَّارَة) وَمثل هَذَا التَّحْرِيم لَا يتَحَقَّق بِمُجَرَّد الخطور من غير قصد وَإِرَادَة فَلَا بُد فِيهِ من تحقق الْإِرَادَة، ثمَّ اسْتدلَّ على التَّنَافِي بقوله (وَعدم إِرَادَة الْأَعَمّ)(2/42)
الَّذِي هُوَ الْمَدْلُول الالتزامي على مَا بَيناهُ (يُنَافِيهِ إِرَادَة الْأَخَص) لِأَن إِرَادَة الْأَخَص تَسْتَلْزِم إِرَادَة الْأَعَمّ، وَلَو فِي ضمن الْأَخَص لَا يُقَال يجوز أَن يخْطر التَّحْرِيم غير مُرَاد فِي ضمن النّذر، ثمَّ يَجْعَل وَسِيلَة للتَّحْرِيم الملحوظ مرَادا أَو قصدا لِأَن الملحوظ بالتبع من حَيْثُ هُوَ ملحوظ بالتبع لَا يصلح لِأَن يكون وَسِيلَة للمقصد بِالذَّاتِ: إِذْ الْوَسِيلَة لَا بُد أَن تجْعَل آلَة لملاحظته، وَعند ذَلِك يلْزم الْقَصْد إِلَيْهِ فَتدبر، وَقد يُقَال: الْمَنْفِيّ الْإِرَادَة من اللَّفْظ وَهُوَ لَا يُنَافِي أصل الْإِرَادَة فَتَأمل (وَظَاهر) كَلَام (بَعضهم إِرَادَته) أَي معنى الْيَمين (بِالْمُوجبِ) أَي بِمُوجب النّذر بِفَتْح الْجِيم (بِعَيْنِه) لَا بلازمه على مَا ذكر (إِلْحَاقًا لإِيجَاب الْمُبَاح) الَّذِي هُوَ معنى النّذر (بتحرميه) أَي بِتَحْرِيم الْمُبَاح الَّذِي هُوَ معنى الْيَمين (فِي الحكم وَهُوَ) أَي الحكم (لُزُوم الْكَفَّارَة) بِالْحلف، (وَيَتَعَدَّى اسْم الْيَمين) إِلَى مَا ألحق بِهِ (ضمنه) أَي فِي ضمن هَذَا الْإِلْحَاق بالتبع (لَا لتعدية الِاسْم ابْتِدَاء) فَإِنَّهُ غير جَائِز، نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه فِيهِ نظر أَيْضا، لِأَن إِرَادَة الْإِيجَاب على أَنه يَمِين إِرَادَته على وَجه يستعقب الْكَفَّارَة بِالْحلف وإرادته على أَنه ندر إِرَادَته على وَجه لَا يستعقبها بِهِ، بل الْقَضَاء فبينهما تناف انْتهى: يَعْنِي فيكف يُرَاد معنى الْيَمين بِمُوجب النّذر، وَيجْعَل لله عَليّ صَوْم كَذَا بنية الْيَمين مَعَ النّذر يَمِينا ونذرا (وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ ذهب إِلَى أَنه (أُرِيد الْيَمين بِاللَّه) لِأَن قَوْله لله بِمَنْزِلَة بِاللَّه (و) أُرِيد (النّذر بعلي أَن أَصوم رَجَب) (وَجَوَاب الْقسم) حِينَئِذٍ (مَحْذُوف مَدْلُول عَلَيْهِ بِذكر الْمَنْذُور) أَي (كَأَنَّهُ قَالَ لله لأصومن وَعلي أَن أَصوم) رَجَب (وعَلى هَذَا لَا يرادان) النّذر وَالْيَمِين (بِنَحْوِ عَليّ أَن أَصوم) لعدم وجود مَا يُرَاد بِهِ الْيَمين فِيهِ، وعَلى مَا قبله وَهُوَ لله عَليّ أَن أَصوم يرادان لوُجُود مَا يُرَاد بِهِ الْيَمين وَهُوَ لله، وَمَا يُرَاد بِهِ النّذر، وَهُوَ عَليّ أَن أَصوم غير أَنه لَيْسَ من الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز لِأَنَّهُمَا لم يرادا بِلَفْظ وَاحِد (وَالْأَوْجه أَن يكون الْمَعْنى (وعَلى مَا قبله) من الْأَقْوَال السَّابِقَة (يرادان) بعلي أَن أَصوم ليظْهر التَّفَاوُت بَين قَوْله وَقَوْلهمْ بِاعْتِبَار المُرَاد كَمَا بَين التَّفَاوُت بَين قَوْله وَقَول الْبَعْض بِاعْتِبَار آخر بقوله (وَهَذَا) الَّذِي ذهب إِلَيْهِ السَّرخسِيّ (يُخَالف الأول) أَي أول الْأَقْوَال (باتحاد الْمَنْذُور والمحلوف) فِيهِ فَإِنَّهُ فِيهِ ناذر للصيام حَالف عَلَيْهِ (وَالْأول) لَيْسَ كَذَلِك، بل فِيهِ (الْمَحْلُوف تَحْرِيم التّرْك والمنذور الصَّوْم) قَالَ الشَّارِح فِيمَا ذكره السَّرخسِيّ نظر لِأَن اللَّام إِنَّمَا تكون للقسم إِذا كَانَت للتعجب أَيْضا كَمَا صرح بِهِ النحويون عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " دخل آدم الْجنَّة فَللَّه مَا غربت الشَّمْس حَتَّى خرج " وَمَا أُجِيب بِهِ من أَن نذر الْإِنْسَان وإيجابه على نَفسه صَالح لِأَن يتعجب مِنْهُ فَمَا يتعجب مِنْهُ انْتهى، وَلَعَلَّ المُصَنّف لم يتَعَرَّض لهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْر لَازم من حَيْثُ النَّحْو: كَيفَ وَبَاب الِاسْتِعَارَة وَاسع(2/43)
هَذَا وَعَن أبي يُوسُف أَن لله على أَن أَصوم نذر فَقَط وَإِن نوى بِهِ الْيَمين وَلم يخْطر لَهُ النّذر يكون نذرا أَو يَمِينا على قَوْلهمَا خلافًا لَهُ حَيْثُ قَالَ: هُوَ يَمِين لَا غير، وللمسئلة زِيَادَة تَفْصِيل فِي الشَّرْح
(تَنْبِيه: لما لم يشرط نقل الْآحَاد) لأنواع العلاقة فِي خصوصيات المجازات عَن الْعَرَب فِي الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة، بل اكْتفى بِنَقْل أَنْوَاعهَا فِي صِحَة التَّجَوُّز (جَازَ فِي) الْأَلْفَاظ (الشَّرْعِيَّة) بِالْقَرِينَةِ الصارفة عَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ الْمعينَة للمجازي إِذا وجدت العلاقة الْمُعْتَبرَة معنوية كَانَت أَو صورية (فالمعنوية فِيهَا) أَي فِي الشَّرْعِيَّة (أَن يشْتَرك التصرفان) الْمُسْتَعَار مِنْهُ والمستعار لَهُ (فِي الْمَقْصُود من شرعيتهما) ثمَّ بَين الْمَقْصُود بقوله (علتهما الغائبة) عطف بَيَان للمقصود (كالحوالة وَالْكَفَالَة) مِثَال للتصرفين (الْمَقْصُود مِنْهَا التَّوَثُّق فيطلق كل) أَي لفظ كل مِنْهُمَا (على الآخر (كَلَفْظِ الْكفَالَة) المقرون (بِشَرْط بَرَاءَة الْأَصِيل) يُطلق على الْحِوَالَة مجَازًا بعلاقة اشتراكهما فِي الْمَقْصُود من شرعيتهما (وَهُوَ) أَي شَرط بَرَاءَة الْأَصِيل (الْقَرِينَة فِي جعله) أَي لفظ الْكفَالَة (مجَازًا فِي الْحِوَالَة وَهِي) أَي الْحِوَالَة (بشر مُطَالبَته) أَي الْأَصِيل (كَفَالَة) والقرينة فِي هَذَا التَّجَوُّز شَرط مُطَالبَة الْأَصِيل (وَقَول مُحَمَّد) أَي وَكَقَوْلِه فِيمَا إِذا فرق الْمضَارب وَرب المَال وَلَيْسَ فِي المَال ربح وَبَعض رَأس المَال دين لَا يجْبر الْمضَارب على نَقده (وَيُقَال لَهُ) أَي للْمُضَارب (أحل رب المَال) على المدينين (أَي وَكله) بِقَبض الدُّيُون (لاشْتِرَاكهمَا) أَي الْوكَالَة وَالْحوالَة (فِي إِفَادَة ولَايَة الْمُطَالبَة) للمديون لاشْتِرَاكهمَا (لَا فِي النَّقْل الْمُشْتَرك الدَّاخِل) فِي مفهومهما فَإِنَّهُ مُشْتَرك (بَين الْحِوَالَة الَّتِي هِيَ نقل الدّين) من ذمَّة الْمُحِيل إِلَى ذمَّة الْمحَال عَلَيْهِ على مَا هُوَ الصَّحِيح (و) بَين (الْكفَالَة على أَنَّهَا نقل الْمُطَالبَة) من ذمَّة الْمَكْفُول فِي ذمَّة الْكَفِيل (و) بَين (الْوكَالَة على أَنَّهَا نقل الْولَايَة) من الْمُوكل إِلَى الْوَكِيل على مَا ذكرُوا (إِذْ الْمُشْتَرك) بَين الْحَقِيقِيّ والمجازي (الدَّاخِل) فِي مفهومهما (غير مُعْتَبر) علاقَة للتجوز (لَا يُقَال لإِنْسَان فرس وَقَلبه لَهُ) أَي وَلَا يُقَال للْفرس إِنْسَان لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُشْتَرك الدَّاخِل وَهُوَ الحيوانية (فَكيف وَلَا نقل فِي الْأَخيرينِ) أَي الْكفَالَة: إِذْ هِيَ ضم ذمَّة إِلَى ذمَّة فِي الْمُطَالبَة على الْأَصَح وَقيل فِي الدّين، وَالْوكَالَة، إِذْ هِيَ إِقَامَة الْإِنْسَان غَيره مقَام نَفسه فِي تصرف مَعْلُوم (والصورية الْعلية والسببية) إِذْ الْمُجَاورَة بَين الْعلَّة وَالْحكم وَبَين الْمُسَبّب وَالسَّبَب شَبيهَة بالاتصال الصُّورِي فِي المحسوسات (فالعلية كَون الْمَعْنى وضع شرعا لحُصُول الآخر فَهُوَ) أَي الآخر (علته الغائية كالشراء) وضع شرعا (للْملك فصح كل) من الشِّرَاء وَالْملك مجَازًا (فِي الآخر لتعاكس الافتقار) أَي افتقار الْعلَّة إِلَى حكمهَا من حَيْثُ الْغَرَض وَلذَا لم يشرع فِي مَحل لَا يقبله كَشِرَاء الْحر وافتقار الحكم إِلَى علته من حَيْثُ الثُّبُوت، فَإِنَّهُ لَا يثبت بِدُونِهَا (وَإِن كَانَ) الافتقار (فِي الْمَعْلُول) إِلَى علته (على) طَرِيق(2/44)
(الْبَدَل مِنْهُ) أَي من علته والتذكير بِاعْتِبَار عنوان مَا وضع لحصوله شرعا كالشراء (وَمن نَحْو الْهِبَة) كالصدقة مَعْطُوف على ضمير مِنْهُ، فَإِن الْملك يحصل بِكُل مِنْهُمَا فَلَا يفْتَقر إِلَى خُصُوص الشِّرَاء بل إِلَى أَحدهمَا على سَبِيل الْبَدَل (فَلَو عني بِالشِّرَاءِ الْملك فِي قَوْله: إِن اشْتَرَيْته فَهُوَ حر فَاشْترى نصفه وَبَاعه وَاشْترى) النّصْف (الآخر لَا يعْتق هَذَا النّصْف) وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا النّصْف إِذْ لَا وَجه لِلْعِتْقِ عِنْد شِرَاء النّصْف الأول لعدم تحقق ملك العَبْد الَّذِي هُوَ عبارَة عَن مَجْمُوعَة بِخِلَاف النّصْف الْأَخير، إِذْ عِنْد شِرَائِهِ يتَحَقَّق ملك الْكل وَلَو على التدريج، غير أَن النّصْف الأول خرج عَن ملكه فَلم يبْق محلا لِلْعِتْقِ (إلاقضاء) أَي لَا يعْتق هَذَا النّصْف ديانَة تَخْفِيفًا عَلَيْهِ إِلَّا أَن يكون مُرَاده ملك الْكل دفْعَة أَو تدريجا، وَإِمَّا أَنه يعْتق قَضَاء فَلِأَن الْملك للْكُلّ كَمَا يكون دفْعَة كَذَلِك يكون تدريجا فَالشَّرْط عَام والاهتمام بِالْحُرِّيَّةِ أَكثر (وَفِي قلبه) وَهُوَ أَن يَقُول إِن ملكته وَيَعْنِي بِهِ الشِّرَاء ثمَّ يَشْتَرِي النّصْف ثمَّ يَبِيعهُ ثمَّ يَشْتَرِي النّصْف الآخر يعْتق (مُطلقًا) أَي قَضَاء وديانة (لتغليظه) على نَفسه حَتَّى تجوز بِالْملكِ عَن الشِّرَاء إِذْ لَو أرد الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ كَانَ أرْفق بِهِ لما أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَإِنَّهُ) أَي العَبْد (لَا يعْتق فِيهِ) أَي فِي الْملك إِذا أُرِيد بِهِ حَقِيقَته (مَا لم يجْتَمع) جَمِيع العَبْد (فِي الْملك قَضِيَّة لعرف الِاسْتِعْمَال فيهمَا) أَي عملا بِمَا يَقْتَضِيهِ عرف الِاسْتِغْنَاء بِملكه، وَهُوَ إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا كَانَ بِصفة الِاجْتِمَاع، بِخِلَاف الشِّرَاء إِذْ لَيْسَ فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى عرفا حَتَّى لَو قَالَ إِن اشْتريت عبدا فامرأته طَالِق، ثمَّ اشْترى عبدا لغيره يَحْنَث، وَهَذَا إِذا كَانَ مُنْكرا فَإِن كَانَ معينا بِأَن قَالَ لعبد إِن اشتريتك أَو مَلكتك فَأَنت حر والمسئلة بِحَالِهَا يعْتق النّصْف الْبَاقِي فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَن الْعرف إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُنكر لَا الْمعِين إِذْ فِي الْمعِين يقْصد نفي ملكه عَن الْمحل، وَقد تحقق ملكه فِيهِ وَإِن كَانَ فِي أزمنة مُتَفَرِّقَة، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَظَاهر الْمَتْن يأباه ثمَّ هَذَا إِذا كَانَ الشِّرَاء صَحِيحا، وَأما إِذا كَانَ فَاسِدا فَلَا يعْتق قَالَ الشَّارِح: أَن القَوْل بِعِتْق النّصْف فِي هَذِه الْمسَائِل ماش على قَول أبي حنيفَة، أما عِنْدهمَا فَيَنْبَغِي أَن يعْتق كُله وَتجب السّعَايَة أَو الضَّمَان للِاخْتِلَاف الْمَعْرُوف فِي تجزؤ الْإِعْتَاق (وَالسَّبَب) الْمَحْض (لَا يقْصد) حُصُول الْمُسَبّب (بِوَضْعِهِ وَإِنَّمَا يثبت) الْمُسَبّب (عَن الْمَقْصُود) فِي السَّبَب اتِّفَاقًا (كزوال ملك الْمَنْفَعَة، بِالْعِتْقِ لم يوضع) الْعتْق (لَهُ) أَي للزوال الْمَذْكُور (بل يستتبعه) أَي بل يتبع زَوَاله (مَا هُوَ) أَي الَّذِي الْعتْق مَوْضُوع (لَهُ) وَهُوَ زَوَال ملك الرَّقَبَة فالسبب الْعتْق والمسبب زَوَال ملك الْمَنْفَعَة، وَالْعِتْق لم يوضع لحصوله وَإِنَّمَا يثبت عَن زَوَال ملك الرَّقَبَة الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود بِالْعِتْقِ وَوضع لَهُ (فيستعار) السَّبَب (للمسبب لافتقاره) أَي الْمُسَبّب (إِلَيْهِ) أَي السَّبَب (على الْبَدَل مِنْهُ) أَي من السَّبَب الَّذِي هُوَ الْعتْق (وَمن الْهِبَة وَالْبيع) وَالصَّدَََقَة إِذْ كل(2/45)
مِنْهَا سَبَب لزوَال ملك الرَّقَبَة (فصح الْعتْق) أَي فِي إِطْلَاقه مجَازًا (للطَّلَاق) حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته أَعتَقتك وَنوى الطَّلَاق بِهِ وَقع، وَإِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى النِّيَّة لتعيين الْمجَاز (وَالْبيع وَالْهِبَة) مجَازًا (للنِّكَاح) لِأَن كلا مِنْهُمَا سَبَب مفض لملك الْمُتْعَة (وَمنع الشَّافِعِي هَذَا) التَّجَوُّز بهما عَنهُ (لانْتِفَاء) العلاقة (المعنوية) بَينه وَبَينهمَا (لَا يَنْفِي غَيرهمَا) وَهُوَ السَّبَبِيَّة الْمَحْضَة الَّتِي هِيَ أحد نَوْعي العلاقة الصورية (وَلَا عكس) أَي لَا يتجوز بالمسبب عَن السَّبَب (خلافًا لَهُ) أَي للشَّافِعِيّ فَإِنَّهُ جوزه (فصح عِنْده الطَّلَاق) مجَازًا (لِلْعِتْقِ لشمُول الْإِسْقَاط) فيهمَا لِأَن فِي الْإِعْتَاق إِسْقَاط ملك الرَّقَبَة، وَفِي الطَّلَاق إِسْقَاط ملك الْمُتْعَة والاتصال الْمَعْنَوِيّ علاقَة مجوزة للمجاز (وَالْحَنَفِيَّة تَمنعهُ) أَي التَّجَوُّز بِالطَّلَاق عَن الْعتْق (والمجوز) للتجوز الْمَعْنى الْمُشْتَرك بَين المتجوز بِهِ والمتجوز عَنهُ على وَجه يكون المتجوز عَنهُ أقوى مِنْهُ فِي المتجوز، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَهُوَ غير تَعْلِيل المُصَنّف ويناسب مَا ذكر فِي الْبَيَان من إِلْحَاق النَّاقِص بالكامل، وَأما اعْتِبَاره فِي الْأُصُول فَغير مَعْلُوم، وَقد بَين المُصَنّف المجوز بقوله (الْمَشْهُور الْمُعْتَبر) أَي الثَّابِت اعْتِبَاره عَن الْوَاضِع نوعا بِاسْتِعْمَالِهِ اللَّفْظ بِاعْتِبَار جزئي من جزئياته أَو ينْقل اعْتِبَاره عَنهُ (وَلم يثبت) التَّجَوُّز (بالفرع) يَعْنِي الْمُسَبّب عَن الأَصْل وَهُوَ السَّبَب (بل) ثَبت (بِالْأَصْلِ) عَن الْفَرْع (إِذا لم يجيزوا الْمَطَر للسماء بِخِلَاف قلبه) أَي أَجَازُوا السَّمَاء للمطر فَنقل عَنْهُم " مَا زلنا نَطَأ السَّمَاء حَتَّى أَتَيْنَاكُم " أَي الْمَطَر (مَعَ اشتراكهما) أَي السَّبَب والمسبب (فِي) الِاتِّصَال (الصُّورِي فَلَا يَصح طَالِق أَو بَائِن أَو حرَام لِلْعِتْقِ) عِنْد أَصْحَابنَا (إِلَّا أَن يخْتَص) الْمُسَبّب (بِالسَّبَبِ) بِأَن لَا يُوجد بِدُونِهِ (فكالمعلفول) أَي فَيجوز التَّجَوُّز بِكُل مِنْهُمَا عَن الآخر فِي الْعلَّة والمعلول لِأَنَّهُمَا يصيران حِينَئِذٍ فِي مَعْنَاهُمَا كالنبت للغيب وَبِالْعَكْسِ.
مسئلة
(الْمجَاز خلف) عَن الْحَقِيقَة (اتِّفَاقًا) بِمَعْنى أَن الْحَقِيقَة هِيَ الأَصْل الرَّاجِح الْمُقدم فِي الِاعْتِبَار، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي جِهَة الخلفية (فَأَبُو حنيفَة) يَقُول هُوَ خلف عَنْهَا (فِي التَّكَلُّم) فِي التَّوْضِيح فبعض الشَّارِحين فسروه بِأَن لفظ هَذَا ابْني خلف عَن لفظ هَذَا حر، فَيكون التَّكَلُّم بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيد هَذَا الْمَعْنى بطرِيق الْمجَاز خلفا عَن التَّكَلُّم بِاللَّفْظِ الَّذِي يفِيدهُ بطرِيق الْحَقِيقَة، وَبَعْضهمْ فسره بِأَن لفظ هَذَا الْمَعْنى ابْني إِذا أُرِيد بِهِ الْحُرِّيَّة خلف عَن لفظ هَذَا الْمَعْنى ابْني، اذا أُرِيد بِهِ الْبُنُوَّة، وَفِيه أَيْضا أَن الْخلف مَا يقوم مقَام الأَصْل، وَأَن الأَصْل إِذا كَانَ صَحِيحا لفظا أَو حكما كَانَ الْخلف كَذَلِك، وَأَن الْوَجْه الثَّانِي أليق، لِأَن الْخلاف حِينَئِذٍ لَا يكون إِلَّا فِي وَجه(2/46)
الخلفية لَا فِي الْخلف، وَالْأَصْل بِخِلَاف الْوَجْه الأول وَلِأَن الأَصْل إِذا كَانَ هَذَا ابْني يتَحَقَّق شَرط الْمصير إِلَى الْمجَاز من صِحَة الأَصْل من حَيْثُ أَنه مُبْتَدأ وَخبر مَوْضُوع للْإِيجَاب بصيغته وَتعذر الْعَمَل بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الأَصْل هَذَا حرَام لعدم تعذر الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ حِينَئِذٍ وَحَاصِل الْخلاف هَل يشْتَرط فِي صِحَة إِرَادَة الْمَعْنى الْمجَازِي إِمْكَان الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ؟ عِنْدهمَا نعم، وَعِنْده لَا، بل يَكْفِي صِحَة اللَّفْظ من حَيْثُ الْعَرَبيَّة، وَإِذا عرفت هَذَا (فالمتكلم بِهَذَا ابْني) مجَازًا (فِي التَّحْرِير) الَّذِي هُوَ معنى مجازي لَهُ خلف (عَن التَّكَلُّم بِهِ) أَي بِهَذَا ابنى حَقِيقَة (فِي النّسَب) أَي فِي إِرَادَة الْبُنُوَّة الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ من غير نظر إِلَى ثُبُوت الخلفية فِي الحكم بِأَن يكون ثُبُوت التَّحْرِير بالمجازي فرع ثُبُوت إِمْكَان ثُبُوت النّسَب بِالْأَصْلِ (وهما) أَي صَاحِبَاه قَالَا: الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة (فِي حكمهَا فَأَنت ابنى) خطابا (لعَبْدِهِ الْأَكْبَر مِنْهُ) سنا مجَاز (على عتق على من وَقت ملكته عِنْده) أَي أبي حنيفَة اسْتِعْمَالا لاسم الْمَلْزُوم فِي لَازمه (وَقَالا لَا) يعْتق (لعدم إِمْكَان الْحَقِيقِيّ) إِذْ الْمَفْرُوض كَون العَبْد أكبر، وَشرط صِحَة الْخلف إِمْكَان الأَصْل (فلغا) قَوْله أَنْت ابنى، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكم، وَإِنَّمَا اعْتبر الخلفية فِي الحكم (لِأَن الحكم) هُوَ (الْمَقْصُود، فالخلفية بِاعْتِبَارِهِ أولى، وَقد يلْحق) عدم الْعتْق فِي هَذِه (بِعَدَمِ انْعِقَاد الْحلف) فِي قَوْله (لبشر بن مَاء الْكوز وَلَا مَاء) فِيهِ فَإِنَّهُ غير مُنْعَقد (لعدم تصَوره) أَي تصور الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، وَهُوَ شرب المَاء الْكَائِن فِي الْكوز الْمشَار إِلَيْهِ عِنْد الْحلف وَإِمْكَان الْمَحْلُوف عَلَيْهِ شَرط الِانْعِقَاد كَمَا أَن شَرط الخلفية للمعنى الْمجَازِي لقَوْله: أَنْت بَائِن إِمْكَان الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ (وَعَن هَذَا) أَي اشْتِرَاط تصور حكم الأَصْل للخلف (لَغَا قطعت يدك) خطأ (إِذا أخرجهُمَا) أَي الْمُخَاطب يَدَيْهِ (صحيحتين) بعد الْإِقْرَار بقطعهما (وَلم يَجْعَل مجَازًا عَن الْإِقْرَار بِالْمَالِ) أَي دِيَة الْيَد لعدم إِمْكَان مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، ثمَّ تعقب عَلَيْهِ بقوله (لَكِن لَا يلْزم من لُزُوم إِمْكَان مَحل حكم شَرْعِي) يُرِيد بِالْمحل مَاء الْكوز فَإِنَّهُ مَحل وجوب الْبر (لتَعلق الحكم) أَي الْخطاب مُتَعَلق بِلُزُوم (بخلفه) أَي بخلف ذَلِك الحكم الشَّرْعِيّ، وَهُوَ وجوب الْكَفَّارَة لعَجزه عَن الْبر، وفاعل لَا يلْزم (لُزُوم صدق معنى لفظ) يَعْنِي حَقِيقَة قَوْله: أَنْت ابْني (لاستعماله) أَي ذَلِك (مجَازًا) إِذْ لَا يظْهر بَينهمَا مُلَازمَة فَلَا يَصح الْإِلْحَاق بِهِ (وَالثَّانِي) أَي ولغو الْإِقْرَار بِقطع الْيَد أَي إِذا أخرجهُمَا صحيحتين لَيْسَ (لتعذر) الْحَقِيقِيّ فَقَط: بل لَهُ ولتعذر (الْمجَازِي أَيْضا فَإِن الْقطع سَبَب مَال مَخْصُوص) على الْعَاقِلَة (فِي سنتَيْن) لما عرف فِي مَحَله (وَلَيْسَ) هَذَا المَال الْمَخْصُوص هُوَ (المتجوز عَنهُ) بِالْقطعِ: إِذْ لَو تجوز بِهِ عَنهُ لما لزم فِي ذمتهم، لِأَن لُزُوم المَال عَلَيْهِم فِي سنتَيْن مَخْصُوص بِمَاذَا تحقق الْقطع وَلَا يلْزم بِمُجَرَّد قَوْله: قطعت يَده من غير تحقق الْقطع،(2/47)
ثمَّ إِنَّه لَا علاقَة بَين الْمجَازِي والحقيقي هَهُنَا إِلَّا المسببية والسببية، وَهَذِه العلاقة لَيست مَوْجُودَة بَين الْمَعْنى الْمجَازِي الَّذِي هُوَ المَال الْمُطلق وَالْقطع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْمُطلق) أَي وَالْمَال الْمُطلق الَّذِي يُمكن إثْبَاته بِالْإِقْرَارِ (لَيْسَ مسببا عَنهُ) أَي عَن الْقطع (وَله) أَي لأبي حنيفَة (أَنه) أَي التَّجَوُّز (حكم لغَوِيّ يرجع للفظ) أَي إِلَى اللَّفْظ (هُوَ) أَي الحكم (صِحَة اسْتِعْمَاله) أَي اللَّفْظ (لُغَة فِي معنى) مجازى (بِاعْتِبَار صِحَة اسْتِعْمَاله) أَي اللَّفْظ (فِي) معنى (آخر وضعي) أَي حَقِيقِيّ (لمشاكلته) مُتَعَلق بِصِحَّة الِاسْتِعْمَال: أَي لمشاكلة ذَلِك الْمَعْنى الْمجَازِي للمعنى الوضعي بِاعْتِبَار العلاقة المصححة للتجوز (ومطابقته) أَي وَكَون الوضعي مطابقا للْوَاقِع (لَيست جُزْء الشَّرْط) أَي جُزْء شَرط الِاسْتِعْمَال فِي الْمَعْنى الْمجَازِي (فَكل) من اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل حَقِيقَة، والمستعمل مجَازًا (أصل فِي إِفَادَة حكمه) وَإِن كَانَ الثَّانِي فرعا للْأولِ بِاعْتِبَار الِاسْتِعْمَال لُغَة (فَإِذا تكلم) الْمُتَكَلّم بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور (وَتعذر) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ وَجب مجازيته فِيمَا ذكر من الْإِقْرَار) أَي الْإِخْبَار بحريَّته لِأَنَّهَا لَازِمَة للبنوة 0 فَتَصِير أمه أم ولد) لِأَنَّهُ كَمَا جعل إِقْرَارا بحريَّته جعل إِقْرَارا بأمومية الْوَلَد لأمه بِاعْتِبَار مَا يلْزمهَا من اسْتِحْقَاق الْحُرِّيَّة بعد الْمَوْت (وَقيل) بل وَجب مجازيته (فِي إنشائه) التَّحْرِير وإحداثه (فَلَا تصير) أم ولد لَهُ: يَعْنِي اسْتِحْقَاق الْحُرِّيَّة لَهَا إِذا كَانَت فِي ملكه، لِأَن ذَلِك يثبت مسببا عَن الْإِقْرَار لَا الْإِنْشَاء (وَالأَصَح الأول) أَي مجازيته فِي الْإِخْبَار عَن عتقه (لقَوْله) أَي مُحَمَّد (فِي) كتاب (الْإِكْرَاه إِذا أكره على هَذَا ابْني لعَبْدِهِ لَا يعْتق) عَلَيْهِ (وَالْإِكْرَاه يمْنَع صِحَة الْإِقْرَار بِالْعِتْقِ لَا إنشاءه) أَي الْإِكْرَاه لَا يمْنَع صِحَة إنْشَاء الْعتْق: فَعلم أَنه جعل قَوْله هَذَا ابْني مجَازًا فِي الْإِخْبَار بِالْعِتْقِ، وَإِلَّا لما قَالَ بِعَدَمِ الْعتْق فِيهِ (فَإِن تحقق) الْمَعْنى الْمجَازِي من الْإِقْرَار بِثُبُوت الْحُرِّيَّة (عتق مُطلقًا) أَي قَضَاء وديانة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق بِأَن لم يكن الْإِخْبَار بِالْحُرِّيَّةِ مطابقا للْوَاقِع لعدم صُدُور التَّحْرِير مِنْهُ بعد حُدُوث الْملك (فقضاء) أَي فَعتق قَضَاء مُؤَاخذَة لَهُ بِإِقْرَارِهِ لَا ديانَة (لكذبه حَقِيقَة ومجازا) أما حَقِيقَة فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْن لَهُ، كَيفَ وَهُوَ أكبر مِنْهُ، وَأما مجَازًا فَلِأَنَّهُ لم يصدر مِنْهُ تَحْرِير وَلم يَقع مَا يُوجِبهُ (إِلَّا أَنه قد يمْنَع تعين الْمجَازِي) أَي (الْعتْق لجَوَاز) إِرَادَة (معنى الشَّفَقَة) من قَوْله: هَذَا ابْني (وَدفعه) أَي دفع منع تعْيين الْمجَازِي (بتقدم الْفَائِدَة الشَّرْعِيَّة) وَهِي الْعتْق (عِنْد إمكانها) أَي الْفَائِدَة الشَّرْعِيَّة (وَغَيرهَا) يَعْنِي أَن الْحمل على مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ التَّحْرِير مُتَعَيّن لِأَنَّهُ فَائِدَة شَرْعِيَّة، بِخِلَاف الْحمل على الشَّفَقَة، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَة شَرْعِيَّة وَإِذا تعَارض احْتِمَالَانِ فِي أجدهما فَائِدَة شَرْعِيَّة دون الآخر تعين مَا فِيهِ الْفَائِدَة لترجحه (معَارض) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي دَفعه (بِإِزَالَة الْملك الْمُحَقق) وَالْأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الْبَقَاء (مَعَ احْتِمَال عَدمه(2/48)
أَي عدم زَوَال الْملك، والمتيقن لَا يَزُول بِالِاحْتِمَالِ (وَعَدَمه) أَي ومعارض أَيْضا بِمَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة من عدم وُقُوع الْعتْق (فِي هَذَا أخي) فَإِنَّهُم (بنوه) أَي بنوا عدم تحقق وُقُوع الْعتْق بِهَذَا أخي (على اشتراكه) أَي اشْتِرَاك لفظ الْأَخ (اسْتِعْمَالا فاشيا فِي المشارك نسبا ودينا، وقبيلة، ونصيحة فتوقف) الْعَمَل بِهِ (إِلَى قرينَة) مُعينَة لأحد الْمعَانِي الْأَرْبَعَة (كمن أبي) أَي كَمَا إِذا وصل بقوله: هَذَا أخي قَوْله: من أبي وَأمي، أَو من النّسَب إِلَى غير ذَلِك (فَيعتق) لكَونه ملك ذَا رحم محرم مِنْهُ (و) بنوه (على أَن الْعتْق بعلة الولاد) بِأَن يكون الْمَمْلُوك والدا أَو مولودا بِوَاسِطَة أَو بِغَيْر وَاسِطَة (وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ) مَا يدل عَلَيْهِ الولاد ليَكُون مجَازًا عَن لَازمه فَامْتنعَ طَرِيقه (وَعَلِيهِ) أَي وعَلى أَن الْعتْق بعلة الولاد (بنى عَدمه) أَي عدم الْعتْق (فِي جدي لعَبْدِهِ الصَّغِير) فَإِن حَقِيقَة هَذَا الْكَلَام لَا وجود لَهَا إِلَّا بِوَاسِطَة الْأَب وَلَا وجود لَهُ فِي اللَّفْظ (وَيرد أَنَّهَا) أَي عِلّة عتق الْقَرِيب (الْقَرَابَة الْمُحرمَة) لَا خُصُوص الولاد (وَلذَا) أَي وَلكَون الْعلَّة فِيهِ مَا ذكر (عتق بعمى وخالى) بِلَا خلاف: ذكر فِي الْبَدَائِع وَغَيره (فترجح رِوَايَة الْحسن) عَن أبي حنيفَة الْعتْق فِي جدي وَأخي (وَعَدَمه) أَي الْعتْق (بيابني لِأَنَّهُ) أَي النداء (لإحضار الذَّات وَلم يفْتَقر هَذَا الْقدر) الَّذِي قصد بالنداء (لتحقيق الْمَعْنى) أَي لَا يحْتَاج إِفَادَة هَذَا الْمَقْصُود إِلَى أَن يتَحَقَّق لفظ الابْن يَعْنِي (فِيهَا) أَي فِي الذَّات (حَقِيقِيًّا) كَانَ ذَلِك الْمَعْنى (أَو مجَازًا) يَعْنِي الْقَصْد من هَذَا اللَّفْظ مُجَرّد إِحْضَار الذَّات، وَفِي هَذَا الْقَصْد يَكْفِي التَّلَفُّظ المستلزم مُجَرّد تصور الْمَعْنى من غير التَّصْدِيق بِثُبُوتِهِ للذات (بِخِلَاف يَا حر) حَيْثُ يعْتق بِهِ (لِأَن لَفظه صَرِيح فِي الْمَعْنى) الَّذِي هُوَ الْعتْق لكَونه مَوْضُوعا لَهُ وعلما لإِسْقَاط الرّقّ فَيقوم عينه مقَام مَعْنَاهُ (فَيثبت) الْعتْق (بِلَا قصد) حَتَّى لَو قصد التَّسْبِيح فَجرى على لِسَانه: عَبدِي حر يعْتق (وَقيل إِذا كَانَ الْوَصْف الْمعبر بِهِ عَن الذَّات) فِي مقَام النداء (يُمكن تَحْقِيقه من جِهَته) أَي الْمُتَكَلّم بِأَن يكون قَادِرًا على إنشائه (بِاللَّفْظِ حكم بتحقيقه) أَي الْوَصْف (مَعَ الاستحضار) تَصْدِيقًا لَهُ (كيا حر) فَإِن الْحُرِّيَّة مِمَّا يقدر على إنشائه فِي اللَّفْظ وَلَو كَانَ ذَلِك الْوَصْف اسْمه فناداه بِهِ لما عتق لِأَن المُرَاد حِينَئِذٍ مُجَرّد إِعْلَامه باسمه الْعلم: لِأَن الْإِعْلَام لَا يُرَاعِي فِيهَا الْمعَانِي عِنْد الِاسْتِعْمَال (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمعبر بِهِ عَن الذَّات مِمَّا يُمكن تَحْقِيقه من جِهَته (لَغَا) ذَلِك الْوَصْف (ضَرُورَة) إِذْ لَا يُمكن حِينَئِذٍ تَصْدِيقه بإنشائه فيتمحض للإعلام (كيا بني إِذا تحقق الْأَبْنِيَة غير مُمكن لَهُ بِهَذَا اللَّفْظ لِأَنَّهُ إِن تخلق من مَاء غَيره فَظَاهر، وَكَذَا مِنْهُ لِأَن النّسَب) حِينَئِذٍ (إِنَّمَا يثبت بِهِ لَا بِاللَّفْظِ وَأما إلزامهما) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد(2/49)
(المناقضة بالانعقاد) أَي بالِاتِّفَاقِ مَعَه فِي انْعِقَاد النِّكَاح (بِالْهبةِ فِي الْحرَّة وَلَا يتَصَوَّر) معنى التَّمْلِيك (الْحَقِيقِيّ) الَّذِي هُوَ (الرّقّ) فِيهَا (فَلَا يلْزمهُمَا إِذْ لم يشرطاه) أَي إِمْكَان الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (إِلَّا عقلا) وَهُوَ مُمكن عقلا، كَيفَ وَقد وَقع فِي شَرِيعَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي أول الْإِسْلَام (وَلم تذكر الشَّافِعِيَّة هَذَا الأَصْل) وَهُوَ أَن خلفية الْمجَاز فِي التَّكَلُّم أَو فِي الحكم (وموافقتهما) أَي مُوَافقَة الشَّافِعِيَّة لَهما (فِي الْفَرْع) أَي فِي قَوْله لعَبْدِهِ الْأَكْبَر سنا مِنْهُ: أَنْت ابْني (لَا يُوجِبهَا) أَي الْمُوَافقَة (فِي أَصْلهَا) كَمَا يفهم من كَلَام صَاحب الْكَشْف وَغَيره، وَصرح بَعضهم بِأَن الأَصْل فِيهِ عِنْد الشَّافِعِيَّة عدم ثُبُوت النّسَب.
مسئلة
(يتَعَيَّن) وَفِي نُسْخَة يتَفَرَّع (على الخلفية) أَي خلفية الْمجَاز عَن الْحَقِيقَة (تعينها) أَي الْحَقِيقَة (إِذا أمكنا) أَي صَحَّ إِرَادَة كل من الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (بِلَا مُرَجّح) أَي حَال كَونهمَا متلبسين بِعَدَمِ مُرَجّح خارجي لرجحانها فِي نَفسهَا عَلَيْهِ (فَتعين الْوَطْء) أَي إِرَادَته (من قَوْله) تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم} لِأَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ للنِّكَاح على مَا هُوَ الصَّحِيح وَهُوَ هَهُنَا مُمكن مَعَ الْمجَاز الَّذِي هُوَ العقد (فَحرمت مزنية الْأَب) على فروعه بِالنَّصِّ وَأما حُرْمَة الْمَعْقُود لَهُ عَلَيْهَا عقدا صَحِيحا عَلَيْهِم فبالإجماع (وَتعلق بِهِ) أَي بِالْوَطْءِ الْجَزَاء (فِي قَوْله لزوجته: إِن نكحتك) فَأَنت طَالِق (فَلَو تزَوجهَا بعد إبانة قبل الْوَطْء) ظرف لإبانة، قيد بِهِ لِأَنَّهُ لَو تزَوجهَا بعد إبانة بعد الْوَطْء لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْجَزَاء بِالْوَطْءِ بعد هَذَا التَّزْوِيج لانحلال الْيَمين قبله (طلقت بِالْوَطْءِ) لَا بِالْعقدِ كَمَا ذكرنَا (وَفِي الْأَجْنَبِيَّة) أَي وَفِي قَوْله للأجنبية: أَن نكحتك فَعَبْدي حر يتَعَلَّق الحكم (بِالْعقدِ) لِأَن وَطأهَا لما حرم عَلَيْهِ شرعا كَانَت الْحَقِيقَة مهجورة شرعا فَتعين الْمجَاز، وَفِيه أَنه مَا تمّ هجران الْحَقِيقَة لجَوَاز إِرَادَة الْوَطْء الْحَلَال لَا مَكَان أَن يعْقد عَلَيْهَا (وَأما المنعقدة) أَي إِرَادَة الْيَمين المنعقدة، وَهِي الْحلف على ان يفعل أمرا أَو يتْركهُ فِي الْمُسْتَقْبل (بعقدتم) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} - (لِأَن العقد) حَقِيقَة (لما ينْعَقد (أَي للفظ يرْبط بآخر لايجاب حكم كَمَا قَالَ (وَهُوَ مَجْمُوع اللَّفْظ المستعقب حكمه) كمجموع الْإِيجَاب وَالْقَبُول فِي النِّكَاح وَالْبيع فَإِن قلت كَانَ الْوَاجِب أَن يَقُول فَلِأَن العقد الخ لِأَن الْفَاء فِي جَوَاب أما لَازم قلت: قَالَ الْمُحَقق الرضي وَلَا يحذف الْفَاء فِي جَوَاب أما إِلَّا لضَرُورَة نَحْو قَوْله:
(فَأَما الصدود لَا صدود لديكم ... )
أَو مَعَ قَول مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ محكية كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَأَما الَّذين كفرُوا أفلم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم} -(2/50)
أَي فَيُقَال لَهُم أفلم تكن آياتي انْتهى، وَهَهُنَا كَذَلِك فَإِن تَقْدِير الْكَلَام: وَأما إِرَادَة المنعقدة بعقدتم: فَيُقَال لَهُم فِي بَيَانهَا لِأَن العقد إِلَى آخِره، فَقَوله لِأَن العقد محكية، وَيدل عَلَيْهِ (مجَاز) خبر بعد خبر لِأَن (فِي الْعَزْم) أَي الْقَصْد القلبي (السَّبَب) صفة للعزم (لَهُ) أَي لمجموع اللَّفْظ الْمَذْكُور: إِذْ لَا يعْتَبر بِدُونِهِ (فَلَا كَفَّارَة فِي الْغمُوس) وَهِي الْحلف على أَمر مَاض تعمد الْكَذِب فِيهِ (لعدم الِانْعِقَاد) الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَة فِي الْغمُوس، وَإِنَّمَا نَفينَا الِانْعِقَاد عَنهُ (لعدم استعقابها) أَي استعقاب الْيَمين الْغمُوس (وجوب الْبر) الَّذِي هُوَ حكم عقد الْيَمين (لتعذره) أَي الْبر فِيهَا: لِأَن الْبر إِنَّمَا يكون فِي أَمر استقبالي عزم عَلَيْهِ من الْفِعْل أَو التّرْك الْمُؤَكّد بالقسم، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْمَعْنى الْمجَازِي أَيْضا لَا يتَصَوَّر فِي الْغمُوس: لِأَن الْعَزْم أَيْضا إِنَّمَا يكون فِي أَمر كَذَا على أَن الْعَزْم الْمَذْكُور إِنَّمَا وصف بِكَوْنِهِ سَببا لحكم العقد وَهُوَ الْبر، وَحَيْثُ تعذر سَببه من حَيْثُ هُوَ سَببه فَالْحَاصِل أَن الْغمُوس لَا يتَصَوَّر فِيهَا حَقِيقَة العقد وَلَا مجازه، فَتعين إِرَادَة المنعقدة غير أَنه سَيَجِيءُ مَا يدل عَلَيْهِ أَن الْخصم يحملهُ على الْعَزْم، ويظن أَنه مَوْجُود فِي الْغمُوس أَيْضا. وَفِي بعض النّسخ فقد يُقَال بِالْفَاءِ، وعَلى هَذَا لَا حَاجَة إِلَى مَا ذكر فِي ترك الْفَاء (وَقد يُقَال) فَيكون مَا قبل هَذَا كَلَام غَيره تعليلا لإِرَادَة المنعقدة بعقدتم (كَونهَا) أَي المنعقدة (حَقِيقَة فِيهِ) أَي فِيمَا ينْعَقد (فِي عرف أهل الشَّرْع لَا يستلزمه) أَي لَا يسْتَلْزم كَونهَا حَقِيقَة (فِي عرف الشَّارِع وَهُوَ) أَي عرف الشَّارِع (المُرَاد) هَاهُنَا (لِأَنَّهُ) أَي الْكَلَام (فِي لَفظه) أَي الشَّارِع (وَيدْفَع هَذَا بِأَن الْوَاجِب فِي مثله) مِمَّا لَا يعرف لَهُ غير الْمَعْنى اللّغَوِيّ معنى فِي الشَّارِع (اسْتِصْحَاب) أَي إبْقَاء (مَا) كَانَ (قبله) أَي قبل هَذَا الِاسْتِعْمَال من الشَّارِع على مَا كَانَ (إِلَّا بناف) أَي بِدَلِيل يدل على أَن المُرَاد غير مَا قبله فالمرجع هَهُنَا اللُّغَة الَّتِي هِيَ مدَار الخطابات القرآنية غَالِبا. وَفِي الْقَامُوس عقد الْحَبل وَالْبيع والعهد وَذكر فِيهِ مَعَاني غير هَذَا، وَلَا يُوجد شَيْء من ذَلِك فِي الْغمُوس (وَأَيْضًا) يُقَال فِي بَيَان كَون المُرَاد هُوَ المنعقدة أَنه (إِن كَانَ) العقد الْمُسْتَعْمل فِي مَجْمُوع اللَّفْظ المستعقب حكمه حَقِيقَة فَالْأَمْر كَمَا عرفت (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن حَقِيقَة فِيهِ (فالمجاز الأول) أَي فَهُوَ الْمجَاز الأول عَن الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة الَّتِي هِيَ شدّ بعض الْحَبل بِبَعْض على مَا قيل (بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَزْم لقُرْبه) إِلَيْهَا أَكثر من الْعَزْم، وَالْمجَاز الْأَقْرَب مقدم (وَمِنْه) أَي من الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ لإمكانها وَلَا مُرَجّح قَوْله هَذَا (ابْني لممكن) أَي لعبد لَهُ يُولد مثله (لمثله مَعْرُوف النّسَب) من غَيره (لجوازه) أَي لجَوَاز كَونه (مِنْهُ) بِكَوْنِهِ من منكوحته أم أمته (مَعَ اشتهاره) أَي نسبته (من غَيره) فَيصدق الْمقر فِي حق نَفسه، لَا فِي إبِْطَال حق الْغَيْر فَحِينَئِذٍ (عتق وَأمه أَو وَلَده على ذَلِك) أَي(2/51)
على تعين الْحَقِيقَة لإمكانها وَلَا مُرَجّح للمجاز (فرع فَخر الْإِسْلَام قَول أبي حنيفَة بِعِتْق ثلث كل من الثَّلَاثَة) الْأَوْلَاد (إِذا أَتَت بهم الْأمة فِي بطُون ثَلَاثَة) بِأَن يَتَخَلَّل بَين كل اثْنَيْنِ مِنْهُم سِتَّة أشهر فَصَاعِدا (بِلَا نسب) مَعْرُوف لَهُم (فَقَالَ) الْمولى فِي صِحَّته (أحدهم ابْني وَمَات) الْمولى مجهلا) أَي قبل الْبَيَان (خلافًا لقولهما) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (بِعِتْق الْأَصْغَر وَنصف الْأَوْسَط وَثلث الْأَكْبَر نظرا إِلَى مَا يُصِيبهَا من الْأُم) فسر الشَّارِح ضمير شَأْن التَّثْنِيَة بالأوسط والأكبر للقرب، وَلَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ لَا يُصِيب الْأَكْبَر من الْأُم شَيْء كَمَا ستعرفه: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مَا يُصِيبهُ عدما، وَفِيه سماجة، فَالْوَجْه أَن يُفَسر بِالْأَصْغَرِ والأوسط فَإِنَّهُ يُصِيب كلا مِنْهُمَا من الْأُم نصيب من الْعتْق، وَذَلِكَ لِأَن الْإِقْرَار الْمَذْكُور لَهُ ثَلَاثَة احتمالات لجَوَاز أَن يكون ذَلِك الْأَحَد هُوَ الْأَكْبَر، أَو الْأَوْسَط، أَو الْأَصْغَر: فالأكبر لَا يثبت نسبه إِلَّا بالدعوة وَيثبت نسب كل من الْأَخيرينِ بِلَا دَعْوَة إِذا لم ينفه على تَقْدِير كَون الْمقر بِهِ من قبله، وَهَذَا يعين مَا يصيبهما من الْأُم: فالأصغر جزئي من جَمِيع الِاحْتِمَالَات، أما إِذا كَانَ هُوَ الْمقر بِهِ فَظَاهر: إِذْ تثبت جزئيته حِينَئِذٍ بالدعوة وَأما إِذا كَانَ من عداهُ فَيثبت من قبل ثُبُوت أمومية الْأُم وَأما الْوسط فَتثبت حُرِّيَّته فِي الِاحْتِمَالَيْنِ فِيمَا إِذا كَانَت الدعْوَة لَهُ أَو للأكبر وَلَا يثبت على احْتِمَال كَون الْمقر بِهِ الْأَصْغَر غير أَن أَحْوَال الْإِصَابَة وَإِن كثرت تعْتَبر وَاحِدَة: إِذْ الشَّيْء لَا يصاب إِلَّا من جِهَة وَاحِدَة كالملك إِذا أُصِيب بِالشِّرَاءِ لَا يصاب بِالْهبةِ فَتثبت جزئيته فِي حَال فانتصف الْعتْق فِي حَقه وَأما الْأَكْبَر فَتثبت جزئيته على احْتِمَال كَونه الْمقر بِهِ وَلَا يثبت فِي الِاحْتِمَالَيْنِ، والحرمان يجوز أَن تَتَعَدَّد جهانه: إِذْ يُقَال لم يثبت ملكه بِالشِّرَاءِ وَلَا باهلبة وَلَا بِالْإِرْثِ فَيعتق ثلثه كَذَا قَالُوا، فَقَوله نظرا تَعْلِيل لقولهما وَأما تَعْلِيل قَوْله فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لِأَنَّهُ) أَي مَا يصيبهما من الْأُم (كالمجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِقْرَاره) يَعْنِي إِقْرَاره بأبنية أحدهم حَقِيقَة فِي إِثْبَات النّسَب غير أَنه لَا يُمكن إثْبَاته بِاعْتِبَار نَفسه فِي غير الْمعِين فَأثْبت بِاعْتِبَار لَازمه: وَهُوَ الْمعِين على سَبِيل التَّوْزِيع على السوية لَهُم، وَأما الْعتْق الْحَاصِل من قبل الْأُم فكالمجاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفس الْإِقْرَار: فَكَمَا أَن الْمجَاز يثبت بِوَاسِطَة الْحَقِيقَة لعلاقة بَينهمَا كَذَلِك الْعتْق بِالْأُمِّ يثبت بِوَاسِطَة الدعْوَة الْمُتَعَلّقَة بِالْوَلَدِ الْمُتَقَدّم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (للواسطة) فَكَمَا لَا يعْتَبر الْمجَاز مَعَ إِمْكَان الْحَقِيقَة كَذَلِك لَا يعْتَبر مَا هُوَ كالمجاز مَعَ إمكانها (و) فرع (البديع) أَي صَاحبه قَول أبي حنيفَة بِعِتْق ثلث الْكل إِلَى آخِره (على) مسئلة (تَقْدِيم حكم الْمجَاز بِلَا وَاسِطَة عَلَيْهِ) أَي على الْمجَاز (بهَا) أَي بِوَاسِطَة (لقُرْبه) أَي الْمجَاز بِلَا وَاسِطَة (إِلَى الْحَقِيقَة، وَتَقْرِيره) أَي تَقْرِير كَلَام البديع هَكَذَا (تعذر) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) الَّذِي هُوَ الْإِقْرَار بِالنِّسْبَةِ لعدم إِثْبَات النّسَب بِهَذَا اللَّفْظ (لِامْتِنَاع) ثُبُوت (نسب الْمَجْهُول)(2/52)
من شخص لِأَنَّهُ لَا يثبت من الْمَجْهُول إِلَّا مَا يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ ليتعلق بخطر الْبَيَان، وَالنّسب لَا يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ (فَلَزِمَ مجازيته) أَي الْإِقْرَار الْمَذْكُور (فِي اللَّازِم) أَي لَازم الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (إِقْرَاره بحريَّته) عطف بَيَان للازم (فَيعتق) أَي فَيَقَع الْعتْق (كَذَلِك) أَي أَثلَاثًا (بِاللَّفْظِ) وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أحدهم حر، وَلَا تَرْجِيح لأحد. وَلَا يلغى إِقْرَاره فَيقسم بَينهم بِالسَّوِيَّةِ فالمجاز حِينَئِذٍ بِلَا وَاسِطَة (وقولهما) أَي وَيثبت الْعتْق على قَوْلهمَا بِعِتْق الْأَصْغَر إِلَى آخِره (بِوَاسِطَة) أَي بمجاز بِوَاسِطَة هُوَ الْمعِين من جِهَة الْأُم كَمَا فِي الِاثْنَيْنِ (مَعَه) أَي مَعَ اللَّفْظ كَمَا فِي الْأَكْبَر: إِذْ لَا يُصِيبهُ من قبل الْأُم عتق كَمَا عرفت (وَالْأول) وَهُوَ الْعتْق بِلَا وَاسِطَة وَمَا يثبت بِاللَّفْظِ (أقرب) إِلَى الْحَقِيقَة من الْعتْق بِوَاسِطَة فَتعين (مُنْتَفٍ) خبر تَقْرِيره: أَي غير مُطَابق للْوَاقِع (إِذْ لَا مُوجب حِينَئِذٍ) أَي حِين لم يرد بِاللَّفْظِ إِلَّا الْإِقْرَار بِالْحُرِّيَّةِ (للأمومة) إِذْ ثُبُوت الأمومة فرع ثُبُوت النّسَب: وَهُوَ فرع إِرَادَة الْحَقِيقَة فَلَا وجود للمجاز بالواسطة وَغَيرهَا (وَهِي) أَي وَالْحَال أَن الأمومة (ثَابِتَة) فَهَذَا التَّقْرِير غير مُسْتَقِيم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا عدم وجود الْمجَاز، وَالْكَلَام مَبْنِيّ عَلَيْهِ، الثَّانِي عدم ثُبُوت الأمومة وَهِي ثَابِتَة اتِّفَاقًا (وَأَيْضًا لَا صَارف للحقيقي) عَن الْحَقِيقَة (إِذْ الْحَقِيقِيّ مُرَاد) وَإِن لم يكن إثْبَاته من جَمِيع الْوُجُوه (فَتثبت لوازمه من الأمومة وحرية أحدهم وانتفى مَا تعذر) إثْبَاته (من النّسَب) بَيَان للموصول (فتنقسم) الْحُرِّيَّة (بِالسَّوِيَّةِ لَا بِتِلْكَ الملاحظة) الْمُعْتَبرَة عِنْدهمَا من اعْتِبَار الْعتْق بِوَاسِطَة الْأُم (لِأَنَّهَا) أَي تِلْكَ الملاحظة (مَبْنِيَّة على ثُبُوت النّسَب) وَهُوَ مُنْتَفٍ كَمَا عرفت (وَعرف) مِمَّا ذكرنَا (تَقْدِيم مجَاز على) مجَاز (آخر بِالْقربِ) إِلَى الْحَقِيقَة، وَذَلِكَ لِأَن الْحَقِيقَة هِيَ الْمَطْلُوب الأولى فَإِن لم تتيسر فَالْأَقْرَب مِنْهَا ثمَّ الْأَقْرَب كَمَا لَا يخفى (وَأما قَوْله فِي صِحَّته لِابْني ابْن عَبده) الكائنين (لبطنين) بِأَن تخَلّل بَين ولادتيهما سِتَّة أشهر فَصَاعِدا (وأبيهما) مَعْطُوف على الْمَجْرُور فِي لِابْني وَالْمرَاد بِهِ الْأَب وَالْجد بِقَرِينَة ذكرهمَا، وَبِنَاء المسئلة على إرادتهما. وَقَالَ الشَّارِح: فَبنى الْأَب على لُغَة النَّقْص فِيهِ (أحدهم ابْني وَهُوَ) أَي كَون كل مِنْهُم ابْنا لَهُ (مُمكن) بِأَن يجوز أَن يُولد مثله لمثله (وَمَات) الْمولى (مجهلا فَفِي الْكَشْف الْكَبِير الْأَصَح الْوِفَاق) للأئمة الثَّلَاثَة (على عتق ربع عَبده) لعتقه (ان عناه لَا) إِن عَنى (أحد الثَّلَاثَة) البَاقِينَ فقد عتق فِي حَال ورق فِي ثَلَاثَة أَحْوَال فَيعتق ربعه (وَثلث ابْنه) وعَلى عتق ثلث ابْن عَبده (لعتقه إِن عناه أَو أَبَاهُ) لَا بِسَبَب عتق الْأَب، لِأَن حريَّة الْأَب لَا توجب حريَّة الابْن بِخِلَاف الْأُم، بل لِأَنَّهُ يصير حِينَئِذٍ ابْن الابْن، وَالْجد إِذا ملك حافده يعْتق عَلَيْهِ (لَا) إِن عني (أحد الِابْنَيْنِ) الآخرين (وأحوال الْإِصَابَة حَالَة) وَاحِدَة لما سبق آنِفا(2/53)
فقد عتق فِي حَالَة ورق فِي حالتين لما عرفت من أَن الحرمان يجوز أَن يَتَعَدَّد جهاله فَيعتق ثلثه (و) على عتق (ثَلَاثَة أَربَاع كل مِنْهُمَا) أَي الِابْنَيْنِ (لعتق أَحدهمَا) وَهُوَ الَّذِي ولد آخرا مِنْهُمَا فِي نفس الْأَمر (فِي الْكل) أَي كل الْأَحْوَال بِيَقِين بِأَن عَنى هُوَ وَأَبوهُ أَو جده أَو أَخُوهُ ضَرُورَة ثُبُوت نسبه بِغَيْر دَعْوَة بصيرورة أمه أم ولد (و) عتق (الآخر فِي ثَلَاث) من الْأَحْوَال بِأَن عَنى هُوَ وَأَبوهُ أَو جده (لَا إِن عَنى أَخَاهُ وَلَا أَوْلَوِيَّة) أَي لَيْسَ أَحدهمَا بِعَيْنِه أولى بِأَن يَجْعَل معتقا فِي كل الْأَحْوَال، لِأَن الْمَفْرُوض عدم الْعلم بِخُصُوص الْمُتَأَخر ولادَة، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا الْقَيْد فِي تَصْوِير المسئلة وَلم يتَنَبَّه الشَّارِح لهَذَا وَلم يبين وَجه عدم الْأَوْلَوِيَّة وَلم يذكر فِي تَفْسِير كل من الْأَحْوَال احْتِمَال كَون الْمقر بِهِ أَخَاهُ، وَفِيه اعْتِبَار الْإِصَابَة من قبل الْأُم فَلَا تغفل. وَفِي بعض النّسخ المصححة وَلَا أولويته بدل وَلَا أَوْلَوِيَّة: يَعْنِي عدم الْعلم بِخُصُوص الأول ولادَة (فبينهما) أَي الْأَخَوَيْنِ (عتق) الْأَصْغَر فِي نفس الْأَمر (وَنصف) للْأَكْثَر فِي نفس الْأَمر فوزع مَجْمُوع الْعتْق وَالنّصف (وَلَو كَانَ) ابْن ابْن عَبده (فَردا أَو توءمين يعْتق كُله) لعتقه فِي كل حَال سَوَاء عني هُوَ أَو أَخُوهُ أَو أَبوهُ أَو جده، فَإِن ثُبُوت نسب وَاحِد من التوءمين يسْتَلْزم ثُبُوت نسب الآخر وَهُوَ ظَاهر (وَثلث الأول) لِأَنَّهُ عتق فِي حَاله: وَهُوَ مَا إِذا الخ (وَنصف الثَّانِي) لِأَن أَحْوَال الْإِصَابَة تجْعَل وَاحِدَة: وَهُوَ مَا إِذا عناه أَو أَبَاهُ، وَكَذَا الحرمان أَو هُوَ مَا إِذا عَنى ابْنه فيتنصف (وَجزم فِي الْكَشْف الصَّغِير بِعِتْق ربع كل) من الْأَرْبَعَة (عِنْده) أَي عِنْد أبي حنيفَة كَمَا لَو قَالَ أحدهم لآخر (وَهُوَ الأقيس بِمَا قبله: إِذْ الْكل مُضَافا إِلَى الإيحاب بِلَا وَاسِطَة) على هَذَا التَّقْدِير كَمَا هُوَ قَول أبي حنيفَة (وبواسطة) كَمَا هُوَ قَوْلهمَا، غَايَة الْأَمر أَن الْوَاسِطَة فِيمَا سبق اعْتِبَار الْأَمر، وَهَهُنَا ملك الْجَزَاء (وَلذَا) أَي لكَون عتق الْكل مُضَافا إِلَى الْإِيجَاب (لَو اسْتعْمل) قَوْله: أحدهم ابْني (مجَازًا فِي الْإِعْتَاق) أَي التَّحْرِير ابْتِدَاء (عتق فِي) المسئلة (الثَّانِيَة) أَي فِيمَا إِذا قَالَ ذَلِك لعَبْدِهِ وَابْنه وَابْن ابْنه وَاحِدًا أَو توءمين (ثلث كُله) أَي كل وَاحِد مِنْهُم كَمَا لَو قَالَ أحدهم حر (و) عتق (ربعه) أَي ربع كل من الْأَرْبَعَة (فِي الأولى) أَي فِيمَا إِذا قَالَ ذَلِك لعَبْدِهِ وَابْنه وَابْني ابْنه فِي بطنين، وَقيد بِكَوْنِهِ فِي الصِّحَّة لِأَنَّهُ لَو قَالَ فِي مَرضه وَلَا مَال لَهُ غَيرهم وَلَا تجز الْوَرَثَة عتقوا من الثُّلُث بِحِسَاب حَقهم، وَذَلِكَ فِيهِ تَفْصِيل فِي الشَّرْح: هَذَا وَفِي الزِّيَادَات اعْتِبَارا أَحْوَال الْإِصَابَة كاعتبار أَحْوَال الحرمان، وَقد عرفت أَن مَا فِي الْجَامِع الصَّغِير هُوَ الْأَصَح وَالله أعلم.
مسئلة
(يلْزم الْمجَاز لتعذر) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ كحلفه وَلَا نِيَّة) لَهُ (لَا يَأْكُل كل من هَذَا الْقدر فَلَمَّا يحله)(2/54)
أَي فَينْعَقد الْحلف لما يحل الْقدر بِتَأْوِيل: وَإِلَّا فالقدر مؤنث سَمَاعي يَعْنِي مَا يطْبخ فِيهَا لتعذر أكل عينهَا عَادَة، تجوز باسم الْمحل عَن الْحَال، بِخِلَاف مَا إِذا نوى حَقِيقَتهَا أَو غَيرهَا من الْمعَانِي المجازية فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يحمل عَلَيْهَا (ولعسره) أَي الْحَقِيقِيّ مَعْطُوف على قَوْله لتعذره (كمن الشَّجَرَة) أَي كحلفه لَا يَأْكُل من الشَّجَرَة الَّتِي لَا تُؤْكَل عَادَة (فَلَمَّا تخرج) الشَّجَرَة من الثَّمر وَغَيره حَال كَونه (مَأْكُولا بِلَا كَبِير صنع) بِخِلَاف مَا يخرج مِنْهَا بصنع كَبِير كالعصر الشَّديد وَغَيره تجوزا باسم السَّبَب عَن الْمُسَبّب (وَمِنْه) أَي مِمَّا تخرجه مَأْكُولا (الْجمار) وَهُوَ شَحم النّخل والعصير (والخل لأبي الْيُسْر) الْبزورِي أَي لقَوْله وَأبي اللَّيْث. وَفِي فتح الْقَدِير وفَاقا لكثير لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لَا يخرج كَذَلِك وَلم يذكرَا فِيهِ نقلا عَن الْمُتَقَدِّمين (لَا ناطفها) يسيل من الرطب (ونبيذها) لِأَن الْمُتَبَادر بِحَسب الْمُتَعَارف مَا يخرج مِنْهَا من غير توقف على الصنع كَمَا يُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم} - (وَلَو لم تخرج) الشَّجَرَة الْمَحْلُوف عَلَيْهَا (مَأْكُولا فلثمنها) أَي فَيحنث بِأَكْل مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ (وللهجر) أَي لكَون الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ مَهْجُورًا (عَادَة وَأَن سهل) تنَاوله (كمن الدَّقِيق) أَي كحلفه لَا يَأْكُل مِنْهُ (فلمآ لَهُ) أَي ينْعَقد لما يؤول إِلَيْهِ كالعصيدة فَيحنث بأكلها، لَا بِسَفَه لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَل هَكَذَا عَادَة خلافًا للشَّافِعِيّ (و) حلفه (لَا يشرب من الْبِئْر) وَهِي غير ملأى (فلمائه) أَي الْمَكَان الْمُسَمّى بالبئر، وَإِلَّا فَهِيَ مؤنث سَمَاعي (اغترافا اتِّفَاقًا فَلَا يَحْنَث بالكرع) أَي بتناوله بِفِيهِ من مَوْضِعه من غير أَن يشرب بكفيه أَو بِإِنَاء. وَفِي الفتاوي الظَّهِيرِيَّة تَفْسِير الكرع عِنْد أبي حنيفَة أَن يَخُوض الْإِنْسَان فِي المَاء ويتناوله بِفِيهِ من مَوْضِعه، وَلَا يكون إِلَّا بعد الْخَوْض فِي المَاء فَإِنَّهُ من الكراع وَهُوَ من الْإِنْسَان مَا دون الرّكْبَة، وَمن الدَّوَابّ مَا دون الكعب انْتهى، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف، وَيَكْفِي فِي التَّسْمِيَة أَن الدَّابَّة لَا تكَاد تشرب إِلَّا بِإِدْخَال أكارعها فِيهِ: فحين شاركها الْإِنْسَان فِي هَذَا النَّوْع من الشّرْب سمي شَرّ بِهِ بالكرع (فِي الْأَصَح) وَفِي الذَّخِيرَة فِي الصَّحِيح (وَلَو) كَانَت (ملأى فعلى الْخلاف الْمَشْهُور فِي: لَا يشرب من هَذَا النَّهر) فَعنده على الكرع، وَعِنْدَهُمَا على الاغتراف أَيْضا (وأفادوا أَن مجازي الْبِئْر الاغتراف) فقولهما مَبْنِيّ على حمل الشّرْب من الْبِئْر على الْمَعْنى الْمجَازِي وَهُوَ الِاعْتِرَاف، وَقَوله على الْحَقِيقِيّ وَهُوَ الكرع. قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَإِنَّمَا قُلْنَا أَن الكرع حَقِيقَة اللَّفْظ، لِأَن من هَهُنَا لابتداء الْغَايَة: فَالْمَعْنى ابْتِدَاء الشّرْب من نفس رجله، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بِوَضْع الْفَم عَلَيْهَا نَفسهَا، فَإِذا وضع الْفَم على يَدَيْهِ وكوز وَنَحْوه، وَفِيه مَاؤُهَا لم يصدق حَقِيقَة اللَّفْظ (وَفِيه بعد) لَا لعدم العلاقة الثَّابِتَة الِاعْتِبَار كَمَا قَالَ الشَّارِح: بل لما نقل فِي شرح الْهِدَايَة عَن أبي سُهَيْل من أَن الْبِئْر إِذا كَانَ ملآن فعندهما يَمِينه على الاغتراف(2/55)
ثمَّ قَالَ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال على مَا هُوَ أَعم من الاغتراف (وَالْأَوْجه أَن تَعْلِيق الشّرْب بهَا) أَي بالبئر (على حذف مُضَاف) أَي من مَائِهَا (فَهِيَ) أَي الْبِئْر (حَقِيقَة) والحنث بالكرع لتحَقّق الشّرْب من مَاء الْبِئْر فِيهِ، وَذكر الشَّارِح وَجها آخر، وَهُوَ التَّجَوُّز باسم الْمحل عَن الْحَال، وَجعله أوجه لأكثرية مجَاز العلاقة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مجَاز الْحَذف، ثمَّ قَالَ وأياما كَانَ يلْزم تَرْجِيح الْحِنْث بالكرع وَإِن كَانَت غير ملأى انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن مجَاز الْحَذف فِي التَّحْقِيق حَقِيقَة كَمَا تقدم، والحقيقة خير من الْمجَاز إِذا لم يكن صَارف (وَمِنْه) أَي من لُزُوم الْمجَاز للهجر عَادَة حلفه (لَا يضع قدمه) فِي دَار فلَان فَإِنَّهُ مجَاز (عَمَّا تقدم) وَهُوَ دُخُولهَا على مَا أوضحه ثمَّة (و) للهجر (شرعا) حلفه (لينكحن أَجْنَبِيَّة فَلَا يَحْنَث بِالزِّنَا إِلَّا بنيته) أَي بنية الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ الْوَطْء: إِذْ كالمهجور شرعا كالمجهور عرفا لمنع الْعقل وَالدّين مِنْهُ ظَاهرا، وَإِنَّمَا يَحْنَث بِالْعقدِ كَمَا تقدم، ثمَّ أَن الْمَوْجُود فِي نُسْخَة الشَّارِح وَغَيرهَا مِمَّا رَأَيْته لينكحن وَالظَّاهِر أَنه سَهْو من النَّاسِخ وَالصَّوَاب لَا ينكحن (وَالْخُصُومَة فِي التَّوْكِيل بهَا) أَي بِالْخُصُومَةِ، لِأَن حَقِيقَتهَا وَهِي الْمُنَازعَة مهجورة شرعا فِيمَا عرف الْخصم فِيهِ محقا لِأَنَّهَا حرَام لقَوْله تَعَالَى - {وَلَا تنازعوا} - وَغَيره فَهِيَ (للجواب) مجَازًا إطلاقا لاسم السَّبَب على الْمُسَبّب (عِنْد القَاضِي) لَا غير لِأَن إِقْرَاره إِنَّمَا يَصح بِاعْتِبَار أَنه جَوَاب الْخُصُومَة، وَالْخُصُومَة تخْتَص بِمَجْلِس الْقَضَاء كالبينة والاستحلاف وَغَيرهمَا، فَكَذَا جوابها. وَفِي بعض النّسخ على اسْم السَّبَب فِي الْمُسَبّب أَي بِنَاء على اسْتِعْمَاله (فتعم) الْخُصُومَة المستعملة فِي الْجَواب (الْإِقْرَار) كالإنكار، لِأَن الْجَواب كَلَام يستدعيه كَلَام الْغَيْر ويطابقه، مَأْخُوذ من جَانب الفلاة إِذا قطعهَا، فَإِن كَلَام الْغَيْر يقطع بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا يكون بِلَا، يكون بنعم (وَلَا يكلم الصَّبِي فَيحنث بِهِ شَيخا) أَي وَمن المهجور شرعا إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ بِالصَّبِيِّ فِي حلفه: لَا يكلم هَذَا الصَّبِي، لِأَن الصَّبِي من حَيْثُ هُوَ صبي مَأْمُور فِيهِ بالمرحمة شرعا، فَانْصَرف الْيَمين عِنْد الْإِشَارَة إِلَى ذَات الصَّبِي إِلَى خُصُوص الذَّات من غير اعْتِبَار وصف الصِّبَا فَيحنث بِكَلَامِهِ حَال كَونه شَيخا لوُجُود الذَّات (بِخِلَاف الْمُنكر) كَأَن حلف لَا يكلم صَبيا لِأَنَّهُ لم يشر إِلَى خُصُوص ذَات كَأَن الصِّبَا نَفسه مثير الْيَمين، وَإِن كَانَ على خلاف الشَّرْع كحلفه ليشربن خمرًا (وَقد يتَعَذَّر حكمهمَا) أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (فيتعذران) أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَيكون ذَلِك لَغوا (كبنتي لزوجته المنسوبة) أَي كَقَوْلِه لزوجته الثَّابِت نَسَبهَا من غَيره هَذِه بِنْتي (فَلَا تحرم) عَلَيْهِ حُرْمَة أبدية سَوَاء كَانَت أكبر مِنْهُ أَو أَصْغَر، أصر على ذَلِك أم رَجَعَ، فَقَالَ: غَلطت أَو وهمت، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِن أصر) أَي دَامَ على هَذَا الْكَلَام (فَفرق) أَي حَتَّى فرق القَاضِي بَينهمَا (منعا من الظُّلم) بترك قربانها، وَإِنَّمَا قُلْنَا تَعَذَّرَتْ(2/56)
الْحَقِيقَة هَهُنَا (للاستحالة فِي الْأَكْبَر مِنْهُ وَصِحَّة رُجُوعه) عَن كَونهَا بنته (فِي الممكنة) أَي فِي الْأَصْغَر مِنْهُ سنا (وَتَكْذيب الشَّرْع) لَهُ فِي هَذَا الْإِقْرَار لكَونه مُبْطلًا حق الْغَيْر (بدله) أَي قَائِم مقَام رُجُوعه لِأَن تَكْذِيب الشَّرْع لَا يكون أدنى من تَكْذِيب نَفسه (فَكَأَنَّهُ رَجَعَ وَالرُّجُوع عَن الْإِقْرَار بِالنّسَبِ صَحِيح) وَعند الرُّجُوع لَا يبْقى الْإِقْرَار فَلَا يثبت النّسَب مُطلقًا وَلَا فِي حق نَفسه (بِخِلَافِهِ) أَي الْإِقْرَار بِالنُّبُوَّةِ (فِي عَبده الْمُمكن) كَونه مِنْهُ من حَيْثُ السن الثَّابِت نسبه من الْغَيْر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِقْرَار على الْغَيْر لِأَنَّهُ صَار مجَازًا عَن الْحُرِّيَّة، وَالْعَبْد وَالْأَب لَا يتصوران بهَا، وَذَلِكَ بِنَاء على مَا هُوَ الأَصْل من أَن الْكَلَام إِذا كَانَ لَهُ حَقِيقَة وَلها حكم يُصَار إِلَى إِثْبَات حكم تِلْكَ الْحَقِيقَة مجَازًا عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، وَحَيْثُ لزم أَن يكون المُرَاد بِهِ دلك لَا يَصح رُجُوعه عَنهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لعدم صِحَة الرُّجُوع عَن الْإِقْرَار بِالْعِتْقِ وَلِأَن ثُبُوته) أَي التَّحْرِيم الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْمجَازِي لهَذِهِ بِنْتي (إِمَّا حكما للنسب وَهُوَ) أَي النّسَب قد ثَبت (من الْغَيْر) فَيثبت للْغَيْر، لَا لَهُ (أَو بِالِاسْتِعْمَالِ) لهَذِهِ بِنْتي (فِيهِ) أَي فِي التَّحْرِيم (وَهُوَ) أَن التَّحْرِيم الَّذِي هُوَ حكم النّسَب: أَعنِي الأبدي (منَاف لسبق الْملك) بِالنِّكَاحِ لانْتِفَاء صِحَة نِكَاح الْمُحرمَات (لَا أَنه) أَي التَّحْرِيم الْمَذْكُور (من حُقُوقه) أَي حُقُوق ملك النِّكَاح (وَالَّذِي من حُقُوقه) أَي التَّحْرِيم الَّذِي من حُقُوق ملك النِّكَاح وَهُوَ إنْشَاء التَّحْرِيم الْكَائِن بِالطَّلَاق (لَيْسَ اللَّازِم) للمعنى الْحَقِيقِيّ (ليتجوز بِهِ) أَي بِهَذِهِ بِنْتي (فِيهِ) أَي فِي التَّحْرِيم الْكَائِن بِالطَّلَاق.
مسئلة
(الْحَقِيقَة المستعملة أولى من الْمجَاز الْمُتَعَارف الأسبق) إِلَى الْفَهم (مِنْهَا) أَي من الْحَقِيقَة المستعملة (عِنْده) أَي أبي حنيفَة (وَعِنْدَهُمَا، وَالْجُمْهُور قلبه) أَي الْمجَاز الْمُتَعَارف الأسبق أولى من الْحَقِيقَة المستعملة (وَتَفْسِير التعارف بالتفاهم) كَمَا قَالَ مَشَايِخ الْعرَاق بِأَن يكون الْمَعْنى الْمجَازِي مَشْهُورا فِي إطلاقات اللَّفْظ، فالتعارف بِاعْتِبَار تفاهم النَّاس عِنْد الاستعمالات (أولى مِنْهُ) أَي من تَفْسِيره (بالتعامل) كَمَا قَالَ مَشَايِخ بَلخ: أَن يكون الْمُتَعَارف هُوَ الْعَمَل بِالْمَعْنَى الْمجَازِي لَا الْحَقِيقِيّ كَمَا سيشير إِلَيْهِ (لِأَنَّهُ) أَي التَّعَامُل (فِي غير مَحَله) أَي الْمجَاز، أَو مَحَله مواقع الِاسْتِعْمَال والتفاهم، ثمَّ بَين كَونه فِي غير مَحَله بقوله (لِأَنَّهُ) أَي التَّعَامُل هُوَ (كَون الْمَعْنى الْمجَازِي مُتَعَلق عَمَلهم) أَي أهل الْعَرَب، تَفْسِير باللازم: إِذْ حَقِيقَته مَا يَقع فِيمَا بَينهم من الْعَمَل الْمُتَعَلّق بِالْمَعْنَى الْمجَازِي (وَهَذَا) أَي عَمَلهم على هَذَا الْوَجْه (سَببه) أَي سَبَب التفاهم، لِأَن الأذهان عِنْد سَماع اللَّفْظ تنْتَقل إِلَى مَا هُوَ المتداول فِيمَا بَينهم من حَيْثُ الْعَمَل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ بِهِ) أَي بالتعامل (يصير)(2/57)
الْمجَاز (أسبق) إِلَى الْفَهم. قَالَ الشَّارِح هَهُنَا فَمحل التَّعَامُل الْمَعْنى، وَمحل الِاسْتِعْمَال والحقيقة وَالْمجَاز اللَّفْظ انْتهى: فَعلم أَنه فهم أَن المُرَاد أَوْلَوِيَّة التَّفْسِير الأول على الثَّانِي بِاعْتِبَار أَن الأول يتَعَلَّق بِاللَّفْظِ، وَالثَّانِي بِالْمَعْنَى، وَلَا يخفى ضعفه (ثمَّ هَذَا) التَّقْرِير فِي وضع المسئلة بِنَاء (على تَسْمِيَة الْمَعْنى بهما) أَي بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز، وإطلاقهما عَلَيْهِ مُسَامَحَة لإِجْمَاع أهل اللُّغَة على أَنَّهُمَا من أَوْصَاف اللَّفْظ، وَهَذَا بِنَاء على الظَّاهِر: إِذْ يبعد أَن يُرَاد بِالْحَقِيقَةِ المستعملة اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي الْمَوْضُوع لَهُ، وَالْمجَاز الْمُتَعَارف اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي الْمجَازِي الْمُتَعَارف، وَيكون الْمَعْنى: حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقِيّ الَّذِي قد يسْتَعْمل فِيهِ أولى من حمله على الْمجَازِي الْمُتَعَارف (والتحرير) أَي تَقْرِير الْمحل على وَجه التَّحْقِيق (أَنه) أَي الْمجَاز الْمُتَعَارف هُوَ (الْأَكْثَر اسْتِعْمَالا فِي الْمجَازِي مِنْهُ فِي الْحَقِيقِيّ) أَي اللَّفْظ الَّذِي اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى الْمجَازِي أَكثر من اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَمَا يُقَابله ظَاهر فمدار الْمجَاز الْمُتَعَارف على أكثرية اسْتِعْمَاله فِي الْمجَازِي، ومدار مُقَابِله على عدمهَا الْمُتَعَارف بالتفاهم والتعامل، وَبَيَان الْأَوْلَوِيَّة حِينَئِذٍ على الْوَجْه الَّذِي ذكر آنِفا لَا يتَّجه (وَمَا قيل) على مَا روى عَن مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر من قَوْلهم (الثَّانِي) وَهُوَ التَّفْسِير بالتعامل (قَوْلهمَا وَالْأول) وَهُوَ التَّفْسِير بالتفاهم (قَوْله للحنث عِنْده بِأَكْل آدَمِيّ وخنزير) إِذا حلف لَا يَأْكُل لَحْمًا لِأَن التفاهم يَقع عَلَيْهِ: إِذْ الْمُتَبَادر مِنْهُ مَا يُطلق عَلَيْهِ اللَّحْم وَعدم الْحِنْث عِنْدهمَا: لِأَن التَّعَامُل لَا يَقع عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَل عَادَة (غير لَازم: بل) الْحِنْث عِنْده فيهمَا (لاستعمال اللَّحْم فيهمَا) أَي فِي لحم الْآدَمِيّ وَالْخِنْزِير فَهُوَ يعْمل بِأَصْلِهِ، وَهُوَ الْحمل على الْحَقِيقَة عِنْد تَحْقِيق الِاسْتِعْمَال نعم لَو لم يسْتَعْمل فيهمَا وَكَانَ الْمصير إِلَى الْمجَاز لَكَانَ للتَّعْلِيل وَجه (فَيقدم) الِاعْتِبَار للْحَقِيقَة وَعدم الْحِنْث عِنْدهمَا كَمَا أَفَادَ بقوله (ولأسبقية مَا سواهُمَا) أَي مَا سوى لحم الْآدَمِيّ وَالْخِنْزِير إِلَى الأفهام عِنْد الْإِطْلَاق (عِنْدهمَا، وَيشكل عَلَيْهِ) أَي على أبي حنيفَة (مَا تقدم من التَّخْصِيص بِالْعَادَةِ بِلَا خلاف) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اقْتِصَار الْحِنْث على مَا اُعْتِيدَ أكله من اللحوم، فَإِذا كَانَ الْحَالِف مُسلما كَانَ فِي حَقه الْمُتَعَارف عدم أكلهما، ومبني الْأَيْمَان على الْعرف، فِي العتابي هُوَ الصَّحِيح، وَفِي الْكَافِي وَعَلِيهِ الْفَتْوَى (وَكَون هَذِه) المسئلة (فرع جِهَة الخلفية فرجح) أَبُو حنيفَة (التَّكَلُّم بهَا) أَي بِالْحَقِيقَةِ على التَّكَلُّم بالمجاز (ورجحا الحكم بأعميته) أَي بِسَبَب أعمية حكم الْمجَاز وشموله (لحكمهما) أَي لحكم الْحَقِيقَة وَغَيره فتكثر فَائِدَته، فَفِيهِ عمل بِالْحَقِيقَةِ من وَجه لدخولها فِيهِ وَلَا يخفى عَلَيْك أَن فرعية هَذِه المسئلة لمسئلة الخلفية لَا يُنَاسب القَوْل بترجيح أبي حنيفَة التَّكَلُّم وترجيحهما الحكم، لِأَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يعْتَبر إِذا كَانَ كل من المتخاصمين يجوز كلا من الْأَمريْنِ: اعْتِبَار التَّكَلُّم، وَاعْتِبَار الحكم وفرعيتها لجِهَة(2/58)
الخلفية ملزمة لاعْتِبَار التَّكَلُّم بِالنِّسْبَةِ إِلَى أبي حنيفَة وَاعْتِبَار الحكم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا: إِذْ كل مِنْهُمَا برهن على مَا ذهب إِلَيْهِ فِي الأَصْل، وَالْفرع يتبع الأَصْل.
وَأَنت خَبِير بِأَن مُقْتَضى ذَلِك الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ إِذا أمكن إِرَادَته لَا يُصَار إِلَى الْمجَازِي بِلَا مُرَجّح وَهَهُنَا يُمكن: إِذْ الْمَفْرُوض أَن الْحَقِيقَة مستعملة وَلَا مُرَجّح: إِذْ الأعمية مُعَارضَة بأصالة الْحَقِيقَة فَكيف تكون هَذِه فرعا لتِلْك (لَا يتم) خبر الْمُبْتَدَأ: أعنى قَوْله كَون هَذِه (إِذْ الْغَرَض يتَعَلَّق بالخصوص كضده) أَي كَمَا يتَعَلَّق بِالْعُمُومِ (والمعين) لمتعلق الْغَرَض مِنْهُمَا (الدَّلِيل) مَعَ أَن حكم الْمجَاز الْمُتَعَارف قد لَا يعم حكم الْحَقِيقَة (فالمبنى) لهَذِهِ المسئلة (صلوح غَلَبَة الِاسْتِعْمَال) فِي الْمَعْنى الْمجَازِي لِأَن يكون (دَلِيلا) على رُجْحَان إِرَادَته على الْحَقِيقِيّ (فأثبتاه) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الصلوح الْمَذْكُور (ونفاه) أَي أَبُو حنيفَة إِيَّاه محتجا (بِأَن الْعلَّة لَا ترجح بِالزِّيَادَةِ من جِنْسهَا) يَعْنِي أَن أصل الِاسْتِعْمَال الْوَاقِع على قانون الْعَرَبيَّة غَلَبَة إِرَادَة الْمَعْنى الْمجَازِي، وَغَلَبَة الِاسْتِعْمَال زِيَادَة من جنس الِاسْتِعْمَال، وَقد تقرر أَن إِحْدَى العلتين الكائنتين من جنس وَاحِد لَا ترجح على الْأُخْرَى بِالزِّيَادَةِ من ذَلِك الْجِنْس (فتكافآ) أَي فتساوي الْحَقِيقِيَّة وَالْمجَاز فِي الِاعْتِبَار (ثمَّ تترجح) الْحَقِيقَة عِنْده لرجحانها لذاتها عَلَيْهِ (لَا ذَلِك) أَي لَا أَن الرجحان بِسَبَب كَون حكم الْمجَاز أَعم كَمَا ذكر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمَبْنِيّ على مَا ذكرنَا، وَكَانَ سَبَب التَّرْجِيح الأعمية (اطرد) التَّرْجِيح بِالْعُمُومِ عِنْدهمَا (فرجحا) الْمجَاز (الْمسَاوِي) للْحَقِيقَة فِي التبادر إِلَى الْفَهم (إِذا عَم) حكم الْحَقِيقَة، وَقد يُقَال: يجوز أَن يكون مُرَاد من رجح بالأعمية أَن الْمُرَجح مَجْمُوع الْأَمريْنِ التبادر مَعَ الأعمية غير أَنه ترك ذكر التبادرلظهوره فَتَأمل (وَقَالا العقد) الْمَذْكُور فِي - {عقدتم} - (الْعَزْم لعمومه) أَي الْعَزْم (الْغمُوس) والمنعقدة. قَوْله: وَقَالا مَعْطُوف على قَوْله رجحا إِذْ هُوَ أَيْضا يتَفَرَّع على الاطراد الْمَذْكُور، وهما مَعَ أبي حنيفَة فِي الْحمل على المنعقدة، لَا الْعَزْم (ونظائره) مِمَّا يَقْتَضِيهِ الاطراد (كثير وَلَيْسَ) شَيْء مِنْهَا كَذَلِك (و) الْمجَاز (الْمسَاوِي) للْحَقِيقَة فِي التبادر (اتِّفَاق) أَي مَحل اتِّفَاق بَين الْأَئِمَّة فَإِنَّهُم أَجمعُوا على تَقْدِيم الْحَقِيقَة عَلَيْهِ (وفرعها) أَي هَذِه المسئلة حلف (لَا يشرب من الْفُرَات) بِالتَّاءِ الممدودة فِي الْخط فِي حالتي الْوَصْل، وَالْوَقْف: النَّهر الْمَعْرُوف بَين الشَّام والجزيرة، وَرُبمَا قيل بَين الشَّام وَالْعراق حلف (لَا يَأْكُل الْحِنْطَة) وَلَا نِيَّة لَهُ (انْصَرف) الْحلف (عِنْده إِلَى الكرع) فِي الشّرْب من الْفُرَات (وَإِلَى عينهَا) أَي إِلَى كل عين الْحِنْطَة (وَإِلَى مَا يتَّخذ مِنْهَا) أَي من الْحِنْطَة (ومائه) أَي الْفُرَات (عِنْدهمَا، و) يرد (على) مسئلة (الْحِنْطَة التَّخْصِيص بِالْعَادَةِ) بِلَا خلاف كَمَا مر آنِفا: فَإِن مُقْتَضَاهُ اقْتِصَار الْحِنْث على مَا يتَّخذ مِنْهَا(2/59)
عَادَة، لِأَن الْعرف الْعَمَل مُخَصص (وَأجِيب بِأَنَّهَا) . قَالَ الشَّارِح: أَي الْعَادة أَو المسئلة الخلافية (فِي) الْحِنْطَة (غير الْمعينَة) وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه على تَقْدِير إرجاع الضَّمِير إِلَى الخلافية كَمَا يشْعر بِهِ قَوْله (أما فِيهَا) أَي الْمعينَة (فَقَوله مثلهمَا) لَا يتم الْكَلَام: إِذْ الْجَواب عَن الْإِيرَاد لَا يحصل إِلَّا بِنَفْي الْعَادة الْمَحْضَة، بِأَن يُقَال: أَبُو حنيفَة إِنَّمَا خالفهما فِي غير الْمعِين، وَلَا عَادَة فِيهِ: بل فِي الْمعينَة، وَفِي الْمعينَة قَوْله كقولهما: وعَلى تَقْدِير إرجاعه إِلَى الْعَادة يرد أَن الْفرق بَين الصُّورَتَيْنِ بِإِثْبَات الْعَادة فِي إِحْدَاهمَا دون الْأُخْرَى تحكم: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مَقْصُود الْمُجيب تقليل الِاعْتِرَاض لَا دَفعه بِالْكُلِّيَّةِ، وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الخلافية: وَفِيه مَا فِيهِ، هَذَا وَقيل الْخلاف فِي الْمعينَة، وَأما فِي غير الْمعينَة فَيَنْبَغِي أَن يكون جَوَابه كجوابهما: كَذَا ذكره شيخ الْإِسْلَام وَالْمُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة (وَيُمكن ادعاؤه) أَي أبي حنيفَة (أَن الْعَادة فِيهَا) أَي فِي الْحِنْطَة (مُشْتَركَة) بَين تنَاول عينهَا وَمَا يتَّخذ مِنْهَا (وَإِن غلبت) الْعَادة (فِيمَا) يتَّخذ (مِنْهَا كالكرع) فَإِن الْعَادة فِي الشّرْب مُشْتَركَة بَينه وَبَين الشّرْب بِالْإِنَاءِ وَنَحْوه (وَتقدم بَقِيَّة الصوارف) عَن الْحَقِيقَة (فِي التَّخْصِيص) فِي مسئلة: الْعَادة للْعُرْف الْعَمَل مُخَصص فَليُرَاجع.
(تَتِمَّة)
(يَنْقَسِم كل من الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِاعْتِبَار تبادر المُرَاد) عِنْد إِطْلَاقه (للغلبة اسْتِعْمَالا) فِي ذَلِك المُرَاد (وَعَدَمه) أَي وَبِاعْتِبَار عدم تبادره لعدم الْعلَّة الْمَذْكُورَة (إِلَى صَرِيح يثبت حكمه الشَّرْعِيّ بِلَا نِيَّة، وكناية) لَا يثبت حكمه إِلَّا بنية أَو مَا يقوم مقَامهَا (وَمِنْه) أَي من هَذَا الْقسم الَّذِي هُوَ الْكِنَايَة (أَقسَام الخفاء) أَي الْخَفي والمشكل والمجمل وَقد مر تَفْسِيرهَا (وَالْمجَاز غير المشتهر وَيدخل الصَّرِيح الْمُشْتَرك المشتهر فِي أَحدهمَا) أَي أحد معنييه (بِحَيْثُ تبادر) ذَلِك الْأَحَد عِنْد إِطْلَاقه (و) يدْخل الصَّرِيح (الْمجَاز كَذَلِك) أَي الْمجَاز المشتهر فِي الْمَعْنى الْمجَازِي بِحَيْثُ يتَبَادَر عِنْد إِطْلَاقه (مَعَ الهجر) أَي حَال كَون مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ مَهْجُورًا لَا يسْتَعْمل فِيهِ (اتِّفَاقًا) أَي اتِّفَاق الْأَئِمَّة (وَمَعَ اسْتِعْمَال الْحَقِيقَة) هُوَ صَرِيح أَيْضا (عِنْدهمَا و) يدْخل الصَّرِيح (الظَّاهِر وَبَاقِي الْأَرْبَعَة) من أَقسَام الظُّهُور: وَهُوَ النَّص، والمفسر، والمحكم (إِن اشتهرت) فِي المُرَاد مِنْهُ بِحَيْثُ تبادر (فإخراج شَيْء مِنْهَا) أَي من الظَّاهِر وَبَاقِي الْأَرْبَعَة (مُطلقًا) من الصَّرِيح كَمَا فعله صَاحب الْكَشْف وَغَيره (لَا يتَّجه) أَي غير موجه، بل يخرج مِنْهَا مَا لَيْسَ بمشتهر (لَكِن مَا لَا يشْتَهر مِنْهَا لَا يكون كِنَايَة وَالْحَال) أَي وَحَال مَا لَا يشْتَهر مِنْهَا (تبادر) مَعْنَاهُ (الْمعِين) عِنْد إِطْلَاقه (وَإِن كَانَ) تبادره (لَا للغلبة) الاستعمالية (بل) تبادره (للْعلم بِالْوَضْعِ) أَي وضع اللَّفْظ لَهُ (وقرينة النَّص) من كَون الْكَلَام مسوقا لَهُ (وأخويه) أَي وقرينة(2/60)
الْمُفَسّر من السُّوق لَهُ وَعدم احْتِمَاله التَّخْصِيص والتأويل، وقرينة الحكم مِنْهُ وَكَونه غير قَابل للنسخ (فَيلْزم تثليث الْقِسْمَة إِلَى مَا لَيْسَ صَرِيحًا وَلَا كِنَايَة، لَكِن حكمه) أَي حكم هَذَا الْقسم (إِن اتَّحد بِالصَّرِيحِ أَو بِالْكِنَايَةِ فَلَا فَائِدَة) فِي التَّثْلِيث (فليترك مَا مَال إِلَيْهِ كثير من) ذكر (قيد الِاسْتِعْمَال ويقتصر) فِي تَعْرِيف الصَّرِيح (على مَا تبادر خُصُوص مُرَاده) سَوَاء كَانَ (لغَلَبَة أَو غَيرهَا) من سوق وتنصيص وَتَفْسِير وإحكام كَمَا مَال إِلَيْهِ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَالْقَاضِي أَبُو زيد (لَكِن أخرجُوا) من الصَّرِيح (الظَّاهِر على هَذَا) التَّعْرِيف لِأَن الظُّهُور فِيهِ لَيْسَ بتام لعدم السُّوق لَهُ (وَلَا فرق) بَين الظَّاهِر والصريح (إِلَّا بِعَدَمِ الْقَصْد الْأَصْلِيّ) فِي الظَّاهِر: إِذْ هُوَ غير الْمَقْصد الْأَصْلِيّ الَّذِي سيق الْكَلَام لَهُ بِخِلَافِهِ فِي النَّص: وَهُوَ غير مُؤثر فِي التبادر (ثمَّ من) صور (ثُبُوت حكمه) أَي الصَّرِيح (بِلَا نِيَّة جَرَيَانه) على لِسَانه كَأَنْت طَالِق وَأَنت حر (غَلطا فِي نَحْو سُبْحَانَ الله اسْقِنِي) بِأَن أَرَادَ أَن يَقُول هَذَا فَقَالَ ذَلِك فَيثبت الطَّلَاق وَالْعِتْق قَضَاء وديانة (أما قَصده) إِلَى الصَّرِيح (مَعَ صرفه) أَي الصَّرِيح الْإِضَافَة فيهمَا إِلَى الْمَفْعُول، وَفِي الأول احْتِرَاز عَن الْغَلَط، فَإِن الذِّهْن غافل عَن اللَّفْظ فِيهِ (بِالنِّيَّةِ إِلَى محتمله) أَي مُحْتَمل لفظ الصَّرِيح مِمَّا يسْتَعْمل فِيهِ فِي الْجُمْلَة (فَلهُ) أَي للناوي (ذَلِك) الْمعِين الَّذِي قَصده (ديانَة) أَي فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى (كقصد الطَّلَاق) أَي الْإِطْلَاق (من وثاق) فِي قَوْله أَنْت طَالِق (فَهِيَ زَوجته ديانَة) لاحْتِمَال اللَّفْظ لَهُ، لَا قَضَاء لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر وَفِيه تَخْفيف عَلَيْهِ (وَمُقْتَضى النّظر كَونه) أَي كَون ثُبُوت حكمه بِلَا نِيَّة (فِي الْكل) فِيمَا قصد اللَّفْظ وَلم يقْصد حكمه وَفِيمَا لم يقْصد اللَّفْظ وَلَا ثُبُوت الحكم وَفِيمَا قصد اللَّفْظ وَقصد بِهِ غير مَا هُوَ سَبَب لَهُ شرعا (قَضَاء فَقَط) لَا ديانَة، لِأَن القَاضِي يحكم بِالظَّاهِرِ، وَظَاهر الْحَال يدل على ثُبُوته الْمُتَبَادر من مُبَاشرَة الْعقل الْمُخْتَار السب الْمَوْضُوع شرعا لنَوْع من التَّصَرُّف عَالما بالسببية أَنه قصد السب وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ، فَلَا يصدق فِي عدم قصد شَيْء من السَّبَب أَو الْمُسَبّب وَقصد أَمر آخر غير السَّبَب لمَكَان التُّهْمَة، وَأما الْعَالم الْخَبِير بأسرار الْعباد فَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُم، فَلَا يؤاخذهم بِمَا لَا قصد لَهُم فِيهِ، ثمَّ اسْتدلَّ على مَا ادَّعَاهُ بقوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْأَمر كَذَلِك بِأَن يثبت الحكم فِي نفس الْأَمر: أَعنِي عِنْد الله سُبْحَانَهُ بِمُجَرَّد مُبَاشرَة السَّبَب قصد حكم أَولا (أشكل بِعْت واشتريت: إِذْ لَا يثبت حكمهمَا فِي الْوَاقِع مَعَ الْهزْل و) ثُبُوت الحكم (فِي نَحْو الطَّلَاق وَالنِّكَاح) بِمُجَرَّد الْمُبَاشرَة قصدا وَلَا على خلاف الْقيَاس (بِخُصُوصِهِ دَلِيل) وَهُوَ الحَدِيث الْآتِي (وَكَذَا فِي الْغَلَط) يثبت الحكم قَضَاء فَقَط ذكره ثَانِيًا مَعَ اندراجه فِي لفظ الْكل لمزيد الاهتمام: إِذْ ثُبُوت الحكم فِيهِ قَضَاء مَعَ أَنه مِمَّا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ مِمَّا يستبعده الْعقل (لما(2/61)
ذكرته فِي فتح الْقَدِير) وَهُوَ قريب كَمَا ذكرنَا من قَوْله وَالْحَاصِل انه إِذا قصد السَّبَب عَالما بِأَنَّهُ سَبَب رتب الشَّرْع حكمه عَلَيْهِ، أَرَادَهُ أَو لم يردهُ إِلَّا أَن أَرَادَ مَا يحْتَملهُ، وَأما أَنه إِذا لم يَقْصِدهُ أَو لم يدر مَا هُوَ فَيثبت الحكم عَلَيْهِ شرعا: وَهُوَ غير رَاض بِحكم اللَّفْظ وَلَا بِاللَّفْظِ فِيمَا ينبو عَنهُ قَوَاعِد الشَّرْع، وَقد قَالَ تَعَالَى - {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} -، وَفسّر بأمرين: أَن يحلف على أَمر يَظُنّهُ كَمَا قَالَ مَعَ أَنه قَاصد للسب عَالم بِحكمِهِ فألغاه لغلطه فِي ظن الْمَحْلُوف عَلَيْهِ، وَالْآخر أَن يجْرِي على لِسَانه بِلَا قصد إِلَى الْيَمين كلا وَالله، وبلى وَالله فَرفع حكمه الدنيوي من الْكَفَّارَة لعدم قَصده إِلَيْهِ: فَهَذَا تشريع لِعِبَادِهِ أَن لَا يرتبوا الْأَحْكَام على الْأَشْيَاء الَّتِي لم تقصد وَكَيف وَقد فرق بَينه وَبَين النَّائِم عِنْد الْعَلِيم الْخَبِير من حَيْثُ لَا قصد لَهُ إِلَى اللَّفْظ وَلَا حكمه، وَإِنَّمَا لم يصدقهُ غير الْعَلِيم: وَهُوَ القَاضِي (وَلَا يَنْفِيه) أَي هَذَا القَوْل (الحَدِيث الْحسن) الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد أَهله من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم " وَغَيرهم (ثَلَاث جدهن إِلَى آخِره) أَي جد وهزلهن لَهُنَّ جد: النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة " لِأَن الهازل رَاض بِالسَّبَبِ لَا بالحكم، والغالط غير رَاض بهما فَلَا يلْزم من ثُبُوت الحكم من حق الأول ثُبُوته فِي حق الثَّانِي، ثمَّ لَا يخفى عَلَيْك أَن مُقْتَضى النّظر عدم ثُبُوت الحكم فِي الْكل ديانَة، وَمَا فِي فتح الْقَدِير من تَرْتِيب الشَّرْع الحكم إِذا قصد السَّبَب وَإِن لم يردهُ يدل على ثُبُوته ديانَة، فبينهما تدافع، وَمَا ذكر فِي تَفْسِير الْآيَة يُؤَيّد الأول، وَقد يُجَاب بِأَن مَا فِي فتح الْقَدِير مَبْنِيّ على كَلَام الْقَوْم، والمرضي عِنْده مَا يَقْتَضِيهِ النّظر (وَمَا قيل لفظ كنايات الطَّلَاق مجَاز) يَعْنِي: يُطلق لفظ الْكِنَايَة على تِلْكَ الْأَلْفَاظ مجَازًا: إِذْ هِيَ مستعملة فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقَة (لِأَنَّهَا) أَي كنايات الطَّلَاق (عوامل بحقائقها) للْقطع بِأَن معنى بَائِن الِانْفِصَال الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ ضد الِاتِّصَال، وَكَذَا الْبَتّ والبتل للْقطع إِلَى غير ذَلِك، والتردد إِنَّمَا هُوَ فِي متعلقهما: وَهُوَ الوصلة، وَهُوَ أَعم من وصلَة النِّكَاح وَالْخَيْر وَالشَّر، فَإِذا تعين عمل بحقيقته (غلط) لِأَنَّهُ يدل على أَن المجازية لَازِمَة للكناية، وَالْكِنَايَة لَا تكون حَقِيقَة وَلَيْسَ كَذَلِك (إِذْ لَا تنَافِي الْحَقِيقَة الْكِنَايَة) لِأَن الْكِنَايَة مَا استتر المُرَاد مِنْهَا، والاستتار قد يتَحَقَّق فِي الْحَقِيقَة كَمَا فِي الْمُشْتَرك وَغَيره (وَمَا قيل) فِي وَجه أَنه مجَاز (الْكِنَايَة الْحَقِيقَة) حَال كَونهَا (مستترة المُرَاد وَهَذِه) أَي كناياته (معلومته) أَي المُرَاد (والتردد فِيمَا يُرَاد بهَا) فيتردد مثلا فِي أَن المُرَاد بهي بَائِن (أبائن من الْخَيْر وَالنِّكَاح مُنْتَفٍ) خبر مَا قيل (بِأَن الْكِنَايَة) إِنَّمَا تتَحَقَّق (بالتردد فِي المُرَاد) من اللَّفْظ سَوَاء كَانَ ذَلِك المُرَاد معنى حَقِيقِيًّا لَهُ أَو مجازيا، وَسَوَاء كَانَ نفس الْمَعْنى الْمُسْتَعْمل فِيهِ أَو مُتَعَلّقه الَّذِي أضيف إِلَيْهِ (و) الْكِنَايَات (إِنَّمَا هِيَ مَعْلُومَة) الْمَعْنى (الوضعي) لَهَا (كالمشترك) فَإِن مَا وضع لَهُ مَعْلُوم غير أَنه مُتَعَدد، نَشأ التَّرَدُّد من قبل تعدده، وَاحْتِمَال إِرَادَة(2/62)
هَذَا الْمَوْضُوع لَهُ أَو ذَلِك فمعلوميته وضعية مَا نفى التَّرَدُّد فِي المُرَاد مِنْهُ (وَالْخَاص) بالنوع الْمُسْتَعْمل (فِي فَرد معِين) فِي الْوَاقِع غير مَعْلُوم عِنْد السَّامع فَمَا وضع لَهُ وَهُوَ الْمَفْهُوم الَّذِي هُوَ وضعيه مَعْلُوم غير أَنه أُرِيد من حَيْثُ تحَققه فِي ضمن فَرد معِين: وَهُوَ غير مَعْلُوم (وَإِنَّمَا المُرَاد) بِكَوْنِهَا مجَازًا (مجازية إضافتها إِلَى الطَّلَاق فَإِن الْمَفْهُوم) من كنايات الطَّلَاق (أَنَّهَا كِنَايَة عَنهُ) أَي عَن مُجَرّد الطَّلَاق (وَلَيْسَ) كَذَلِك (وَإِلَّا) لَو كَانَت عَنهُ (وَقع الطَّلَاق) بهَا (رَجْعِيًا) مُطلقًا لِأَن الرّجْعَة لَازِمَة للطَّلَاق مَا لم يكن على مَال، وثالثا فِي حق الْحرَّة أَو ثَانِيًا فِي حق الْأمة وَلَيْسَت مُطلقًا كَذَلِك بل بَعْضهَا، وَقد يناقش فِيهِ بِأَنا لَا نسلم أَن الرّجْعَة لَازِمَة للطَّلَاق مُطلقًا بل لصريحه غير أَن إِطْلَاق قَوْله تَعَالَى - {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} - يُؤَيّد مَا ذكره المُصَنّف.
مسَائِل الْحُرُوف
(قيل) وقائله صدر الشَّرِيعَة وَغَيره (جرى فِيهَا) أَي الْحُرُوف (الِاسْتِعَارَة تبعا كالمشتق) أَي كَمَا جرى الِاسْتِعَارَة فِي المشتقات تبعا حَال كَون الْمُشْتَقّ (فعلا ووصفا بتبعية اعْتِبَار التَّشْبِيه فِي الْمصدر لاعْتِبَار التَّشْبِيه) تَعْلِيل لجَرَيَان الِاسْتِعَارَة فِي الْحُرُوف تبعا 0 أَولا فِي مُتَعَلق مَعْنَاهُ) أَي الْحَرْف (الجزئي) صفة كاشفة لمعناه: إِذْ كل حرف مَوْضُوع بِإِزَاءِ نِسْبَة جزئية غير ملحوظة قصدا بل آلَة الملاحظة غَيره (وَهُوَ) أَي مُتَعَلق مَعْنَاهُ (كليه) أَي الْمَفْهُوم الْكُلِّي الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الجزئي فِي جزئي من جزئياته، مثلا كلمة من مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ الِابْتِدَاء الْخَاص من حَيْثُ أَنه آله لملاحظة السّير مثلا، وَهُوَ جزئي للابتداء الْمُطلق الْمَوْضُوع لَهُ لفظ الِابْتِدَاء من حَيْثُ أَنه مُسْتَقل بالمفهومية غير مَقْصُود بالتبع كَمَا فِي الْمَعْنى الْحرفِي (على مَا تحقق) فِي مَوْضِعه (فيستعمل) لفظ الْحَرْف (فِي جزئي الْمُشبه) إِذْ قد عرفت أَن التَّشْبِيه وَقع ابْتِدَاء فِي الْكل: فالمشبه والمشبه بِهِ كليان لَا محَالة، والجزئي الْمُسْتَعْمل فِيهِ الْحَرْف من جزئيات الْمُشبه كَمَا شبه ترَتّب الْعَدَاوَة والبغضاء على الِالْتِقَاط بترتب الْعلَّة الغائية على الْمَعْلُول، فَاسْتعْمل اللَّام الْمَوْضُوعَة بخصوصيات الترتب الْعلي فِي جزئيات ترَتّب الْعَدَاوَة على الِالْتِقَاط، وَهُوَ خصوصيتها ترَتّب عَدَاوَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على خُصُوص الْتِقَاط آل فِرْعَوْن (وَهَذَا) الْكَلَام (لَا يُفِيد وُقُوع) الْمجَاز (الْمُرْسل فِيهَا) أَي فِي الْحُرُوف (ثمَّ لَا يُوجب) هَذَا الْكَلَام (الْبَحْث عَن خصوصيتها) أَي الْحُرُوف (فِي الْأُصُول لَكِن الْعَادة) جرت بالبحث عَن بعض أحوالها (تتميما للفائدة) للاحتياج إِلَيْهَا فِي بعض الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة، وَذكرت عقيب مبَاحث الْحَقِيقَة وَالْمجَاز لانقسامها إِلَيْهِمَا (وَهِي) أَي الْحُرُوف (أَقسَام) مِنْهَا:(2/63)
حُرُوف الْعَطف
(الْوَاو للْجمع فَقَط) أَي بِلَا شَرط تَرْتِيب وَلَا معية (فَفِي الْمُفْرد) أَي فالعطف بهَا فِي الْمُفْرد اسْما كَانَ أَو فعلا حَال كَونه (مَعْمُولا) لعامل (فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ من الفاعلية والمفعولية والحالية) إِلَى غير ذَلِك من أَحْكَام المعمولات (وعاملا) فِي حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (فِي مسنديته كضرب وَأكْرم وَفِي جمل لَهَا مَحل) من الْإِعْرَاب (كَالْأولِ) أَي كالعطف بهَا فِي الْمُفْرد (وَفِي مقابلها) أَي فِي الْجمل الَّتِي لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب (لجمع مضمونها) أَي تِلْكَ الْجمل (فِي التحقق) أَي يُفِيد الْعَطف فِي الْجمل مُشَاركَة تِلْكَ الْجمل فِي أصل تحقق الْمَضْمُون من غير تعرض للاقتران بِحَسب الزَّمَان أَو التعقيب بمهلة وَغير مهلة كَمَا فِي الْمُفْرد (و) مسئلة (هَل يجمع) الْعَطف الْمَذْكُور الْجمل (فِي متعلقاتها) بِأَن يُشَارك المعطوفة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا فِيمَا يتَعَلَّق بهَا (يَأْتِي) فِي المسئلة الَّتِي بعد هَذِه (وَقيل) الْوَاو (للتَّرْتِيب، وَنسب لأبي حنيفَة) وَالشَّافِعِيّ أَيْضا (كَمَا نسب إِلَيْهِمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَمَالك أَيْضا (الْمَعِيَّة) أَي كَونهَا للمعية، وَإِنَّمَا نسب إِلَيْهِ (لقَوْله فِي: إِن دخلت) الدَّار (فطالق وَطَالِق وَطَالِق لغير المدخولة تبين بِوَاحِدَة) مقول قَوْله (وَعِنْدَهُمَا) تبين (بِثَلَاث) فلولا أَنه جعلهَا للتَّرْتِيب لما أَبَانهَا بِالْأولَى: بل الثَّلَاث لوقوعها مَعًا عِنْد عدم التَّرْتِيب، وَفِيه أَن عدم كَونهَا للتَّرْتِيب لَا يسْتَلْزم كَونهَا للمعية لجَوَاز أَن تكن لمُطلق الْجمع، فَلَا يلْزم وُقُوعهَا مَعًا إِذا سبق تحقق الأولى عِنْد وجود الشَّرْط على طبق سبقها عِنْد التَّعْلِيق يسْتَلْزم تحقق حكمهَا، وبمجرد التَّحْقِيق تبين أَن لَا عدَّة لغير المدخولة، وَأما دلَالَة حكمهَا بالبينونة بِالثلَاثِ على كَونهَا للمعية فلأنهما لَو لم يجعلاها للمعية لما حكما بِالثلَاثِ لما ذكر وَفِيه أَيْضا نظر لما سَيظْهر وَجهه من قَوْله (وَلَيْسَ) كلا الْقَوْلَيْنِ بِنَاء على ذَلِك (بل لِأَن مُوجبه) أَي الْعَطف (عِنْده) أَي أبي حنيفَة (تعلق الْمُتَأَخر) أَي الْمَعْطُوف بِمَا تعلق بِهِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (بِوَاسِطَة الْمُتَقَدّم) أَي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (فينزلن) أَي الطلقات الثَّلَاث (كَذَلِك) أَي على طبق تَرْتِيب التَّعَلُّق مُرَتبا (فَيَسْبق) الطَّلَاق (الأول) بِمَا ذكر (فَيبْطل محليتها) أَي غير المدخولة فَلَا يكون مَا بعده محلا يتَعَلَّق بِهِ (وَقَالا بعد مَا اشتركت) المعطوفات (فِي التَّعْلِيق وَإِن) كَانَ اشتراكها (بِوَاسِطَة) أَي بِوَاسِطَة الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (تنزل) كلهَا (دفْعَة لِأَن نزُول كل) مِنْهَا (حكم الشَّرْط) وَحكم الشَّرْط لَازمه فَلَا يتَأَخَّر عَن ملزومه فِي التحقق شرعا، وَإِن تَأَخّر ذكرا، واذا كَانَ كل مِنْهُمَا حكماله، وَقد تقرر أَن حكم الشَّيْء لَا ينْفَصل عَنهُ (فتقترن أَحْكَامه) بِالضَّرُورَةِ (كَمَا فِي تعدد الشَّرْط) نَحْو إِن دخلت فَأَنت طَالِق، وَإِن دخلت فَأَنت طَالِق: فَإِن تعلق الطَّلَاق الثَّانِي بِالشّرطِ بعد تعلق(2/64)
الأول بِهِ، ثمَّ إِذا وجد الشَّرْط بِأَن دخلت مرّة يَقع ثِنْتَانِ مَعًا (وَدفع هَذَا) الْقيَاس (بِالْفرقِ) بَين الملحق والملحق بِهِ (بِانْتِفَاء الْوَاسِطَة) فِيمَا بَين الطَّلَاق وَالدُّخُول فِي تعدد الشَّرْط. إِذْ لَيْسَ تعلق الطَّلَاق بِالشّرطِ فِي الثَّانِي بِوَاسِطَة تعلقه بِهِ فِي الشَّرْط الأول وَإِن كَانَ بعده فِي الذّكر بِخِلَاف الطَّلَاق الثَّانِي فِي: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق فَإِنَّهُ لم يتَعَلَّق بِالشّرطِ إِلَّا بِوَاسِطَة الأول، وَعطفه عَلَيْهِ (لَا يضر) فِي الْمَطْلُوب خبر الْمُبْتَدَأ (إِذْ يَكْفِي) لَهما فِي إِثْبَات النُّزُول دفْعَة (مَا سواهُ) أَي هَذَا الْقيَاس من نزُول كل مِنْهُمَا حكما للشّرط وَلُزُوم اقتران أَحْكَامه (وَفِيه) أَي فِي الْجَواب لَهما عَن دَلِيله (ترديد آخر) فِي الْوَاسِطَة (ذَكرْنَاهُ فِي الْفِقْه) . قَالَ فِي شرح الْهِدَايَة وقولهما أرجح قَوْله تعلق بِوَاسِطَة تعلق الأول، إِن أُرِيد أَنه عِلّة تعلقه فَمَمْنُوع: بل علته جمع الْوَاو ياه إِلَى الشَّرْط، وَإِن أُرِيد كَونه سَابق التَّعَلُّق سلمناه، وَلَا يُفِيد كالأيمان المتعاقبة، وَلَو سلم أَن تعلق الأول عِلّة لتَعلق الثَّانِي لم يلْزم كَون نُزُوله عِلّة لنزوله: إِذْ لَا تلازم فَجَاز كَونه عِلّة لتَعَلُّقه فَيقدم فِي التَّعَلُّق وَلَيْسَ نُزُوله عِلّة لنزوله (لنا) فِي أَن الْوَاو للْجمع فَقَط (النَّقْل عَن أَئِمَّة اللُّغَة، وتكرر من سِيبَوَيْهٍ كثيرا) ذكره فِي سَبْعَة عشر موضعا من كِتَابه (وَنقل إِجْمَاع أهل البلدين عَلَيْهِ) الْبَصْرَة والكوفة، كَذَا نَقله الصَّيْرَفِي والسهيلي والفارسي إِلَّا أَنهم نوقشوا فِيهِ بِأَن جمَاعَة مِنْهُم ثَعْلَب وَغُلَامه وقطرب وَهِشَام على أَنَّهَا للتَّرْتِيب: كَذَا ذكره الشَّارِح (وَأما الِاسْتِدْلَال) للمختار (بِلُزُوم التَّنَاقُض) على تَقْدِير التَّرْتِيب (فِي تقدم السُّجُود على قَول حطة) كَمَا فِي سُورَة الْبَقَرَة (وَقَلبه) أَي تقدم حطة على السُّجُود كَمَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف (مَعَ الِاتِّحَاد) أَي اتِّحَاد الْقِصَّة لِأَن وجوب دُخُول الْبَاب سجدا مقدما على القَوْل ومؤخرا عَنهُ فِي حَادِثَة وَاحِدَة يسْتَلْزم التَّنَاقُض (وَامْتِنَاع تقَاتل زيد وَعَمْرو) أَي وَيلْزم امْتِنَاعه إِذْ لَا يتَصَوَّر فِي فعل يَقْتَضِي مَفْهُومه معية مَا بعده من الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والمعطوف التَّرْتِيب (و) يلْزم امْتنَاع (جَاءَ زيد وَعَمْرو قبله) للتناقض فَإِن الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب المستلزم لبعدية عَمْرو، وَلَفْظَة قبله عَكسه (و) بِلُزُوم (التّكْرَار) فِي (بعده) فِي جَاءَنِي زيد وَعَمْرو بعده (فمدفوع بِجَوَاز التَّجَوُّز بهَا) أَي بِالْوَاو باستعمالها (فِي الْجمع) الْمُطلق (فَصحت) للْجمع (فِي الخصوصيات) أَي فِي هَذِه الصُّور الْمَخْصُوصَة (و) الِاسْتِدْلَال للمختار (بِلُزُوم صِحَة دُخُولهَا فِي الْجَزَاء) بِأَنَّهَا لَو كَانَت للتَّرْتِيب لزم صِحَة دُخُولهَا على جَزَاء الشَّرْط الرابطة بِهِ على سَبِيل التَّرْتِيب عَلَيْهِ (كالفاء) وَلَا شكّ فِي عدم صِحَة أَن جَاءَ زيد وأكرمه وَصِحَّة فَأكْرمه فَهُوَ مَدْفُوع (بِمَنْع الْمُلَازمَة كثم) أَي لَا نسلم أَنَّهَا لَو كَانَت للتَّرْتِيب لصَحَّ دُخُولهَا على الْجَزَاء فَإِنَّهُ منقوض بثم فَإِنَّهَا للتَّرْتِيب اتِّفَاقًا، وَلَا يجوز دُخُولهَا على الْجَزَاء اتِّفَاقًا،(2/65)
وَقد يُقَال ثمَّ لَا تصلح سندا للْمَنْع لِأَنَّهَا تدل على التَّرْتِيب مَعَ المهلة، وَالْجَزَاء مُرَتّب على الشَّرْط بِلَا مهلة (و) الِاسْتِدْلَال للمختار (بِحسن الاستفسار) أَي بِأَنَّهَا لَو كَانَت للتَّرْتِيب لما حسن من السَّامع أَن يستفسر الْمُتَكَلّم (عَن الْمُتَقَدّم) والمتأخر فِي نَحْو: جَاءَ زيد وَعَمْرو لِكَوْنِهِمَا مفهومين من الْوَاو فَهُوَ مَدْفُوع (بِأَنَّهُ) أَي حسن الاستفسار (لدفع وهم التَّجَوُّز بهَا) لمُطلق الْجمع، (و) الِاسْتِدْلَال للمختار (بِأَنَّهُ) أَي مُطلق الْجمع معنى (مَقْصُود) للمتكلم (فاستدعى) لفظا (مُفِيدا) لَهُ كَيْلا يقصر الْأَلْفَاظ عَن الْمعَانِي (وَلم يسْتَعْمل فِيهِ) أَي فِي الْمَعْنى الْمَذْكُور (إِلَّا الْوَاو) فَتعين وَضعه لَهُ فَلَا يكون للتَّرْتِيب، وَإِلَّا يلْزم الِاشْتِرَاك، وَهُوَ خلاف الأَصْل، فَهُوَ مَدْفُوع (بِأَن الْمجَاز كَاف فِي ذَلِك) أَي فِي إفادته فَيَكْفِي أَن يكون الْوَاو مجَازًا فِي الْجمع الْمُطلق، وَلَا يلْزم أَن يكون مَوْضُوعا لَهُ وَلَا يخفى أَن الأولى أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع (والنقض بالترتيب للبينونة بِوَاحِدَة فِي قَوْله لغير المدخولة طَالِق وَطَالِق وط طَالِق) أَي نقض دَلِيل كَونهَا لمُطلق الْجمع بِمَا اسْتدلَّ بِهِ على كَونهَا للتَّرْتِيب بِأَن يُقَال: إِنَّهَا لَو كَانَت لمُطلق الْجمع لما بَانَتْ بِوَاحِدَة، بل بِالثلَاثِ فِيمَا إِذا قَالَ لغير المدخولة: أَنْت طَالِق إِلَى آخِره (كَمَا) تبين بِوَاحِدَة فِيمَا إِذا أَتَى (بِالْفَاءِ وَثمّ) مَكَان الْوَاو فِي الْمِثَال الْمَذْكُور (مَدْفُوع بِأَنَّهُ) أَي وُقُوع الْوَاحِدَة لَا غير لَيْسَ لكَونهَا للتَّرْتِيب بل (لفَوَات الْمَحَلِّيَّة) بِوُقُوع الأولى (قبل الثَّانِيَة: إِذْ لَا توقف) للأولى على ذكر الثَّانِيَة لعدم مُوجب التَّوَقُّف، إِذْ أَنْت طَالِق تَنْجِيز لَيْسَ فِي آخِره مَا يُغَيِّرهُ من شَرط أَو غَيره فَينزل بهَا الأولى فِي الْمحل قبل التَّلَفُّظ بِالثَّانِيَةِ وَلَا تبقى الْمَحَلِّيَّة للْبَاقِي لعدم الْعدة (بِخِلَاف مَا لَو تعلّقت بمتأخر) أَي بِشَرْط مُتَأَخّر كَأَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت فَإِنَّهُ يَقع الثَّلَاث حِينَئِذٍ اتِّفَاقًا لتوقف الْكل على آخر الْكَلَام فتعلقت دفْعَة وَنزلت دفْعَة (وَمَا عَن مُحَمَّد) فِي صُورَة التَّنْجِيز من قَوْله (إِنَّمَا يَقع) الطَّلَاق (عِنْد الْفَرَاغ من الْأَخير مَحْمُول على الْعلم بِهِ) أَي بِوُقُوع الطَّلَاق، لَا على نَفسه، وَإِنَّمَا تَأَخّر الْعلم إِلَى ذَلِك (لتجويز إِلْحَاق المغير) من شَرط أَو نَحوه بِهِ (والا) أى وان لم يحمل عَلَيْهِ، وَحمل على عدم وُقُوع الطَّلَاق الى أَن يفرغ من الْأَخير (لم تفت الْمَحَلِّيَّة) بِالْأولِ (فَيَقَع الْكل) لوُجُود الْمَحَلِّيَّة حَال التَّكَلُّم بِالْبَاقِي (وَلِأَنَّهُ) أَي تَأْخِير حكم الأول إِلَى الْفَرَاغ من الْأَخير (قَول بِلَا دَلِيل و) النَّقْض لكَونهَا لمُطلق الْجمع بِأَنَّهَا تفِيد التَّرْتِيب (بِبُطْلَان نِكَاح الثَّانِيَة) أَي بِدَلِيل بطلَان نِكَاح الْأمة الثَّانِيَة (فِي قَوْله) أَي الْمولى لأمته (هَذِه حرَّة وَهَذِه) حرَّة (عِنْد بُلُوغه تَزْوِيج فُضُولِيّ أمتيه من وَاحِد) كَمَا لَو أعتقهما بكلامين منفصلين: إِذْ لَو لم تفد التَّرْتِيب لما بَطل نِكَاح وَاحِدَة مِنْهُمَا كَمَا لَو أعتقهما مَعًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يبطل شَيْء من الْعقْدَيْنِ الموقوفين أَيْضا مَدْفُوع بِأَنَّهُ لَيْسَ بطلَان الثَّانِيَة بِكَوْنِهَا للتَّرْتِيب بل(2/66)
(بتعذر توقفه) أَي نِكَاح الثَّانِيَة (إِذْ لَا يقبل) نِكَاح الثَّانِيَة (الْإِجَازَة لِامْتِنَاع) نِكَاح الْأمة على الْحرَّة) وَهَذَا بِنَاء على أَن إِعْتَاق الْمولى عِنْد بُلُوغ تَزْوِيج الْفُضُولِيّ إجَازَة بهَا يَصح نِكَاح الْأمة إِذْ لَو لم يتم بهَا نِكَاح الأولى وتنتقل الْإِجَازَة من الْمولى إِلَيْهَا وَإِلَى وَليهَا لما بَطل نِكَاح الثَّانِيَة لجَوَاز أَن لَا تتَحَقَّق الْإِجَازَة فِي الأولى فَلَا يلْزم نِكَاح الْأمة على الْحرَّة إِن قُلْنَا بِقبُول نِكَاح الثَّانِيَة الْإِجَازَة، وَمَا ذكره الشَّارِح فِي تَعْلِيل عدم قبُوله الْإِجَازَة من أَن النِّكَاح الْمَوْقُوف مُعْتَبر بابتداء النِّكَاح وَلَيْسَت الْأمة متضمنة إِلَى الْحرَّة بِمحل الابتدائية: فَكَذَا لتوقفه فَغير موجه إِذْ لَو سلم عدم جَوَاز تَزْوِيج الْأمة مَعَ الْحرَّة كَانَ ذَلِك إِلْحَاقًا لصورة الْمعينَة بِصُورَة تَزْوِيج الْأمة بعد الْحرَّة فَصَارَ كَأَنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ حرَّة فَتزَوج بِأمة وَأما إِذْ ضم فُضُولِيّ أمة مَعَ حرَّة لوَاحِد قبل أَن يتم نِكَاح الْحرَّة لَا وَجه لبُطْلَان نِكَاح الْأمة لجَوَاز أَن لَا يتم نِكَاح الْحرَّة أَو يتم نِكَاح الْأمة قبل تَمام نِكَاح الْحرَّة (و) النَّقْض لكَونهَا لمُطلق الْجمع (بالمعية) أَي بِكَوْنِهَا لَو كَانَت لَهُ لما أفادت الْمَعِيَّة، وَقد أفادت (لبُطْلَان إنكاحه) أى الفضولى (أُخْتَيْنِ فِي عقدين من وَاحِد فَقَالَ) الزَّوْج (أجزت فُلَانَة وفلانة) أَي نِكَاح فُلَانَة وَنِكَاح فُلَانَة كَمَا لَو قَالَ أجزت نِكَاحهمَا، وَقيد بعقدين لِأَن تزويجهما فِي عقد وَاحِد لَا ينفذ بِحَال (ولعتق ثلث كل من الْأَعْبد الثَّلَاثَة إِذا قَالَ: من مَاتَ أَبوهُ عَنْهُم) أَي الْأَعْبد الثَّلَاثَة (فَقَط) أَي لم يتْرك غَيرهم شَيْئا وهم متساوون فِي الْقيمَة وَلَا وَارِث غَيره، ومقول قَوْله (أعتق) أبي (فِي مَرضه هَذَا وَهَذَا وَهَذَا مُتَّصِلا) بعضه بِبَعْض بِالْوَاو فَلَو لم يكن للمعية والمقارنة لعتق كل الأول وَنصف الثَّانِي وَثلث الثَّالِث كَمَا لَو أقرّ بِهِ مُتَفَرقًا بِأَن قَالَ: أعتق هَذَا وَسكت، ثمَّ قَالَ لآخر: أعتق هَذَا وَسكت، ثمَّ قَالَ: أعتق هَذَا لِأَنَّهُ لما أقرّ بِإِعْتَاق الأول وَهُوَ ثلث المَال عتق من غير سِعَايَة لعدم المزاحم، ثمَّ لما أقرّ بِإِعْتَاق الثَّانِي فقد زعم أَنه بَين الأول وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ فَيصدق فِي حق الثَّانِي لَا فِي حق الأول، لِأَن الْمعِين تعين بِشَرْط الْوَصْل وَلم يُوجد، ثمَّ لما أقرّ للثَّالِث فقد زعم أَنه بَينهم أَثلَاثًا فَيصدق فِي حق الثَّالِث لَا الْأَوَّلين لما ذكرنَا أَيْضا مَدْفُوع (بِأَنَّهُ) أَي كلا من بطلَان نِكَاح الثَّانِيَة وَعتق ثلث كل من إِلَّا عبد (للتوقف) لصدر الْكَلَام على آخِره (لمغيره) أَي الصَّدْر (من صِحَة إِلَى فَسَاد) يَعْنِي إِذا كَانَ فِي آخر الْكَلَام مَا يُغير حكم الأول بِسَبَب اجتماعه مَعَه بعطف أَو بِغَيْرِهِ يتَأَخَّر حكم الصَّدْر إِلَى أَن يتم، ثمَّ أَشَارَ إِلَى تعْيين منشأ التَّغْيِير بقوله (بِالضَّمِّ) أَي بِضَم إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى فِي الْإِجَازَة (فِي الأول) أَي فِي نِكَاح الْأُخْتَيْنِ (وَمن كَمَال الْعتْق إِلَى تجز) لِلْعِتْقِ (عِنْده) أَي أبي حنيفَة: إِذا الْعتْق يتَجَزَّأ عِنْده خلافًا لَهما (وَمن بَرَاءَة) لذمته (إِلَى شغل) لَهَا (عِنْد الْكل) أبي حنيفَة وصاحبيه فَإِنَّهُم(2/67)
متفقون على أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يسْعَى فِي ثُلثي قِيمَته غير أَنه رَقِيق فِي الْأَحْكَام عِنْده كَالْمكَاتبِ إِلَّا أَنه لَا يرد إِلَى الرّقّ بِالْعَجزِ، وَعِنْدَهُمَا كَالْحرِّ الْمَدْيُون (بِخِلَاف النقضين الْأَوَّلين) أَي النَّقْض بالبينونة بِوَاحِدَة فِي تَنْجِيز الطَّلَاق بطالق وَطَالِق وَطَالِق، والنقض بِبُطْلَان نِكَاح الْأمة الثَّانِيَة فِي هَذِه حرَّة وَهَذِه (لِأَن الضَّم) لما بعد الْوَاو إِلَى مَا قبله فيهمَا (لَا يُغير مَا قبله) يَعْنِي الطَّلَاق وَالْعتاق (من الْوُقُوع) التنجيزي إِلَى عَدمه فَلَا يتَوَقَّف شَيْء مِنْهُمَا على مَا بعده (وَلقَائِل أَن يَقُول: الضَّم الْمُفْسد لَهما) أَي لنكاح الْأُخْتَيْنِ هُوَ الضَّم (الدفعي كتزوجتهما وأجزتهما) أَي نِكَاحي الْأُخْتَيْنِ لِأَنَّهُ جمع بَينهمَا (لَا) الضَّم (الْمُرَتّب لفظا لِأَنَّهُ) أَي إفسادهما فِيهِ (فرع التَّوَقُّف) أَي توقف الأول على الآخر فِي إفادته الحكم (وَلَا مُوجب لَهُ) أَي لتوقفه عَلَيْهِ (فَيصح لأولى) أَي نِكَاحهَا (دون الثَّانِيَة كَمَا لَو كَانَ) الضَّم (بمفصول) أَي بِكَلَام مُتَأَخّر عَن الأول بِزَمَان اسْتدلَّ (المرتبون) بقوله تَعَالَى - {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا} فَإِنَّهُ فهم مِنْهُ تَأَخّر السُّجُود فلولا أَن الْوَاو للتَّرْتِيب لم يتَعَيَّن فَكَانَت حَقِيقَة فِيهِ لِأَن الأَصْل عدم الْمجَاز (وسؤالهم) أَي الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم (لما نزل: {إِن الصَّفَا والمروة} ، بِمَ نبدأ) ؟ عطف بَيَان لسؤالهم، وَلَوْلَا أَنَّهَا للتَّرْتِيب لما سَأَلُوهُ، وَلما قَالَ " ابدءوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ ". وَلما وَجب الِابْتِدَاء بِهِ، إِذْ لَا مُوجب لَهُ غَيره (وإنكارهم) أَي الصَّحَابَة (على ابْن عَبَّاس تَقْدِيم الْعمرَة) على الْحَج (مَعَ وَأَتمُّوا الْحَج) وَالْعمْرَة لله} ، فلولا أَنهم فَهموا التَّرْتِيب لم ينكروا عَلَيْهِ، وهم أهل اللِّسَان (وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بئس الْخَطِيب أَنْت لقَائِل: وَمن يعصهما) أَي الله وَرَسُوله فقد غوى (هلا قلت وَمن يعْص الله وَرَسُوله) فَلَو لم يكن للتَّرْتِيب لما فرق بَين العبارتين بالإنكار: إِذْ لَا فرق بَينهمَا إِلَّا بِالْوَاو الدَّالَّة على التَّرْتِيب كَمَا أَفَادَ بقوله (وَلَا فرق إِلَّا بالترتيب وَبِأَن الظَّاهِر أَن التَّرْتِيب اللَّفْظِيّ للتَّرْتِيب الوجودي وَالْجَوَاب عَن الأول) أَي ارْكَعُوا واسجدوا (بِأَنَّهُ) أَي التَّرْتِيب بَينهمَا (من) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صلوا (كَمَا رَأَيْتُمُونِي) أُصَلِّي، رَوَاهُ البُخَارِيّ، فَإِن ظَاهره وجوب جَمِيع خصوصيات صلَاته، غير أَنه خص مِنْهُ مَا دلّ على عدم وُجُوبه دَلِيل (وَعَن الثَّانِي) أَي عَن سُؤَالهمْ: بِمَ يبدءون؟ (بِالْقَلْبِ) أَي دليلكم يقلب عَلَيْكُم فيستدل بِهِ على نقيض مدعاكم: وَهُوَ أَن يُقَال (لَو) كَانَ (للتَّرْتِيب لما سَأَلُوا) ذَلِك لفهمهم إِيَّاه مِنْهُ إِذْ هم أهل اللِّسَان (فَالظَّاهِر أَنَّهَا للْجمع، وَالسُّؤَال لتجويز إِرَادَة الْبدَاءَة بِمعين) مِنْهُمَا وَعدم التَّخْيِير بَين أَن يبْدَأ من الصفاة والمروة (وَالتَّحْقِيق سُقُوطه) أَي الِاسْتِدْلَال بهَا لشَيْء من الْجَانِبَيْنِ (لِأَن الْعَطف فِيهَا) أَي فِي الْآيَة (إِنَّمَا يضم) أَي الْمَعْطُوف إِلَى الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (فِي الشعائر) فِي كَونهمَا شَعَائِر الله (وَلَا تَرْتِيب فِيهَا) أَي فِي الشعائر، وَلَو فرض كَون الْوَاو للتَّرْتِيب فَإِنَّهُ يجب فِي خُصُوص الْمقَام الْعُدُول عَن(2/68)
التَّرْتِيب وَإِرَادَة مُطلق الْجمع (فسؤالهم) إِنَّمَا هُوَ (عَمَّا) أَي عَن تَرْتِيب (لم يفد بِلَفْظِهِ) أَي لم يصلح لِأَن يفاد بِلَفْظ الْوَاو وَالْمَذْكُور فِي الْآيَة لما عرفت (بل) عَمَّا أفيد (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر لفظ الْوَاو. وَقَالَ الشَّارِح: وَهُوَ التطوف بَينهمَا وَلَا يظْهر وَجهه، إِذْ التطوف يصلح لِأَن يكون منشأ للسؤال لَا مُفِيدا للتَّرْتِيب، فَالْمُرَاد بِغَيْرِهِ مَا دلّ على التَّرْتِيب من السّنة (وَأجَاب هُوَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله (ابدءوا بِمَا بَدَأَ الله) بِهِ "، وَلم يقل بِمَا أَمر الله أَن يبْدَأ بِهِ بِمُوجب الْعَطف (وَعَن الثَّالِث) أَي عَن إنكارهم على ابْن عَبَّاس تَقْدِيم الْعمرَة (أَنه) أَي إنكارهم (لتعيينه) تَقْدِيمهَا عَلَيْهِ (وَالْوَاو للأعم مِنْهُ) أَي من الَّذِي عين وَهُوَ مُطلق الْجمع (وَعَن الرَّابِع) أَي إِنْكَاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْخَطِيب (بِأَنَّهُ ترك الْأَدَب لقلَّة مَعْرفَته) بِاللَّه تَعَالَى، أَو بِمَا يتَعَلَّق بالخطابة، لِأَن فِي الْإِفْرَاد بِالذكر تَعْظِيمًا جَلِيلًا (بِخِلَاف مثله) أَي مثل هَذَا التَّعْبِير: أَي الْجمع بَينهمَا فِي التَّعْبِير عَنْهُمَا بضمير الْمثنى (مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا " فَإِنَّهُ أعلم الْخلق بِاللَّه، وَبِمَا يتَعَلَّق بالخطابة فَلَا يكون ذَلِك مِنْهُ إخلالا بالتعظيم أَو البلاغة، بل رِعَايَة لنكتة بليغة، وَلَا ترَتّب بَين المعصيتين حَتَّى يُؤَاخذ بترك إفادته، لِأَن عصيان كل مِنْهُمَا عصيان للْآخر (وَعَن الْخَامِس) وَهُوَ أَن التَّرْتِيب اللَّفْظِيّ للتَّرْتِيب الوجودي (بِالْمَنْعِ) إِذْ لَا نسلم أَن التَّرْتِيب اللَّفْظِيّ كَذَلِك (والنقض برأيت زيدا رَأَيْت عمرا) فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي صِحَّته مَعَ تقدم رُؤْيَة عَمْرو وَقد قَالَ تَعَالَى - {يوحي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك} - (وَلَو سلم) أَن التَّرْتِيب اللَّفْظِيّ للتَّرْتِيب الوجودي (فَغير مَحل النزاع) لِأَن النزاع إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَذْكُور بعد الْوَاو بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قبلهَا بِاعْتِبَار دلَالَة الْوَاو لَا بِاعْتِبَار التَّرْتِيب اللَّفْظِيّ
مسئلة
الْوَاو (إِذا عطفت جملَة تَامَّة) أَن غير مفتقرة إِلَى مَا يتم بِهِ وسيظهر لَك فَائِدَة الْقَيْد فِي النَّاقِصَة (على) جملَة (أُخْرَى لَا مَحل لَهَا) من الْإِعْرَاب (شركت) بَينهمَا (فِي مُجَرّد الثُّبُوت) والتحقق لاستقلاها بالحكم. وَمن ثمَّة سَمَّاهَا بَعضهم وَاو الِاسْتِئْنَاف والابتداء نَحْو - {وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله} - (وَاحْتِمَال كَونه) أَي التَّشْرِيك فِي الثُّبُوت مستفادا (من جوهرهما) أَي الجملتين من غير حَاجَة إِلَى الْوَاو (يُبطلهُ ظُهُور احْتِمَال الاضراب مَعَ عدمهَا) أَي الْوَاو: يَعْنِي لَو كَانَ التَّشْرِيك مستفادا من جَوْهَر الجملتين من غير حَاجَة إِلَى الْوَاو يُبطلهُ ظُهُور احْتِمَال الِاضْطِرَاب مَعَ عدمهَا: أَي الْوَاو، يَعْنِي لَو كَانَ للتشريك لَكَانَ فِي قَامَ زيد قَامَ عَمْرو احْتِمَال الِاضْطِرَاب عَن تحقق مَضْمُون قيام زيد إِلَى تحقق قيام عَمْرو ظَاهرا، لِأَنَّهُ يلْزم على تَقْدِير إِفَادَة(2/69)
جوهرهما التَّشْرِيك مَعَ ظُهُوره المستلزم لعدم التَّشْرِيك التَّنَاقُض (و) يُبطلهُ أَيْضا (انتفاؤه) أَي انْتِفَاء احْتِمَال الإضراب (مَعهَا) أَي الْوَاو، فَإِن قَامَ زيد وَقَامَ عَمْرو لَا يحْتَمل الإضراب عَن الْإِخْبَار الأول إِلَى الْإِخْبَار الثَّانِي إِذْ بِهِ يظْهر أَن احْتِمَال الإضراب لَيْسَ من الْجَوْهَر، لِأَن مَا بِالذَّاتِ لَا يَزُول بِالْغَيْر، وَإِذا لم يكن احْتِمَال الإضراب من الْجَوْهَر لم يكن التَّشْرِيك أَيْضا مِنْهُ لتساويهما فِي الظُّهُور فَتدبر، وَلَك أَن تجْعَل الْمَجْمُوع دَلِيلا وَاحِدًا وَحَاصِله دوران التَّشْرِيك والإضراب على الْوَاو وجودا وعدما (فَلِذَا) أَي فلكون الْعَطف الْمَذْكُور يُشْرك فِي مُجَرّد الثُّبُوت (وَقعت وَاحِدَة فِي هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طَالِق) على الْمشَار إِلَيْهَا ثَانِيًا (و) إِذا عطفت جملَة تَامَّة على (مَا لَهَا) مَحل من الْأَعْرَاب (شركت المعطوفة) مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهَا (فِي موقعها إِن) كَانَ الْمَعْطُوف عَلَيْهَا (خَبرا) فِي مَوضِع (أَو جَزَاء) للشّرط فِي مَوضِع آخر (فخبر) أَي فالمعطوف خبر فِي الأول (وَجَزَاء) فِي الثَّانِي نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَن هَذَا يُفِيد أَن جملَة الْجَزَاء قد يكون لَهَا مَحل، وَبِه قَالَ طَائِفَة من الْمُحَقِّقين، وَهُوَ مَا إِذا كَانَت بعد الْفَاء وَإِذا جَوَابا لشرط جازم، ثمَّ لما بَين حكم الْجُمْلَة المعطوفة على الْجُمْلَة الَّتِي لَهَا مَحل من الْأَعْرَاب خَبرا كَانَت أَو جَزَاء أَرَادَ أَن يبين حكم جملَة عطفت على مَا لَا مَحل لَهَا من الْأَعْرَاب، لَكِن لَهَا موقع من حَيْثُ وُقُوعهَا مرتبطة بجملة أولى لِكَوْنِهِمَا شرطا وَجَزَاء فَقَالَ (وَكَذَا مَا) أَي الْجُمْلَة الَّتِي (لَهَا موقع من غير الابتدائية) بَيَان للموصول: أَي الْجُمْلَة الابتدائية لَا يكون لَهَا موقع كَذَلِك (مِمَّا لَيْسَ لَهَا مَحل) من الْأَعْرَاب بَيَان آخر لَهُ لِئَلَّا يتَوَهَّم التّكْرَار، فَعلم أَن مَا ذكر فِي صدر الْبَحْث أُرِيد بِهِ مَا لَيْسَ لَهَا موقع كَذَا، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ، وللشارح فِي حل هَذَا الْمحل كَلَام لَا يصلح إِلَّا لِأَن يطوى (كَأَن دخلت) الدَّار (فَأَنت طَالِق وعبدي حر) فَإِن لقَوْله أَنْت طَالِق موقعا بِاعْتِبَار ارتباطه بِالْجُمْلَةِ الشّرطِيَّة، وَالْوَاو شرك قَوْله عَبدِي حر مَعهَا فِي موقعها الَّذِي هُوَ الجزائية (فَيتَعَلَّق) عَبدِي حر أَيْضا بِدُخُول الدَّار (إِلَّا بصارف) اسْتثِْنَاء من قَوْله وَكَذَا: أَي شركت فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا حَال كَونهَا متلبسة بِمَا دلّ على عدم التَّشْرِيك فِي الْموقع، أَو من قَوْله فَيتَعَلَّق نَحْو أَن دخلت فَأَنت طَالِق (وضرتك طَالِق) لِأَن طَلَاق الضرة لَا يصلح لِأَن يكون باعثا لعدم الدُّخُول بل بِشَارَة لَهَا، والبشارة إِنَّمَا تتَحَقَّق بالتنجيز (فعلى الشّرطِيَّة) أَي فَهِيَ معطوفة على الْجُمْلَة الشّرطِيَّة برمتها، لَا على الْجُزْئِيَّة فَإِن قلت إِذن يلْزم عطف الْإِنْشَاء على الاخبار قلت المعطوفة أَخْبَار صُورَة على أَن الْمَعْطُوف عَلَيْهَا إنْشَاء للتعليق (فيتنجز) طَلَاق الضرة لِأَنَّهُ غير مُعَلّق (وَمِنْه) أَي مِمَّا صرفه الصَّارِف عَن كَونه مَعْطُوفًا على الجزائية مَعَ قربهَا إِلَى الشّرطِيَّة (وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ بعد وَلَا تقبلُوا بِنَاء على) الْمَذْهَب (الْأَوْجه من عدم)(2/70)
جَوَاز (عطف الْأَخْبَار على الْإِنْشَاء) فَإِنَّهُ لَازم على تَقْدِير عطف - {أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} - على لَا تقبلُوا أَو فاجلدوا (و) بِنَاء على (مُفَارقَة) الجملتين (الْأَوليين) المذكورتين إِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول: يَعْنِي أَن المعطوفة فارقتهما وبعدت عَنْهُمَا (بِعَدَمِ مُخَاطبَة الْأَئِمَّة) أَي بِسَبَب أَنَّهَا مَا خُوطِبَ بمضمونها الْحُكَّام بخلافهما إِذا خوطبوا بمضمونهما، ثمَّ لما كَانَ فِي الْآيَة احْتِمَال آخر وَهُوَ أَن يكون الْجَزَاء الأولي مِنْهُمَا فَقَط وَيكون قَوْله - {وَلَا تقبلُوا} - ابتدائية فيعطف عَلَيْهِ قَوْله - {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} - على التَّأْوِيل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَبشر الَّذين} - وَكَانَ ذَلِك مفوتا لرعاية الْأَنْسَب اللَّائِق بالحكمة جعل دَلِيل مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة مَا ذكر مَعَ رِعَايَة الْأَنْسَب فَقَالَ (مَعَ الأنسبية من إِيقَاع الْجَزَاء على الْفَاعِل، أَعنِي اللِّسَان) فَإِن رد الشَّهَادَة حد فِي اللِّسَان الصَّادِر مِنْهُ جريمة الْقَذْف (كَالْيَدِ فِي الْقطع) أَي كَمَا أوقع جَزَاء السّرقَة على الْفَاعِل: وَهُوَ الْيَد إِلَّا أَنه ضم إِلَيْهَا أَلا يلام الْحسي تكميلا للزجر، فَإِن من النَّاس من لَا ينزجر بِمُجَرَّد رد الشَّهَادَة (وَأما اعْتِبَار قيود) الْجُمْلَة (الأولى فِيهَا) أَي فِي الثَّانِيَة الْمَعْطُوف عَلَيْهَا (فَإلَى الْقَرَائِن) أَي فَهُوَ مفوض إِلَى قَرَائِن الْمقَام (لَا الْوَاو وَإِن) عطفت جملَة (نَاقِصَة وَهِي) الْجُمْلَة (المفتقرة فِي تَمامهَا إِلَى مَا تمت بِهِ الأولى) بِعَيْنِه (وَهُوَ) أَي الْعَطف الْمَذْكُور (عطف الْمُفْرد) وَهُوَ لَا يُنَافِي قَوْله وَإِن نَاقِصَة على مَا فسرنا، إِذْ نِسْبَة عطف الْمُفْرد يحصل مَضْمُون الْجُمْلَة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (انتسب) الْمُفْرد الْمَعْطُوف (إِلَى عين مَا انتسب إِلَيْهِ) الْمُفْرد (الأول) الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (بجهته) مُتَعَلق بانتسب الأول إِشَارَة إِلَى مَا اعْتبر فِي التَّابِع مُطلقًا فِي قَوْلهم: كل ثَان بأعراب سَابِقَة من جِهَة وَاحِدَة، وَضمير جِهَته رَاجع إِلَى الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، إِن كَانَت تِلْكَ الْجِهَة الفاعلية مثلا، فانتساب الْمَعْطُوف أَيْضا على الفاعلية (مَا أمكن) تَقْيِيد للانتساب إِلَى المنتسب إِلَيْهِ بِاعْتِبَار جَمِيع قيوده مهما أمكن فِيهِ اسْتثِْنَاء لبَعض الْقُيُود الَّذِي دلّ الدَّلِيل على اخْتِصَاصه بالمعطوف عَلَيْهِ (فَإِن دخلت فطالق وَطَالِق وَطَالِق تعلق) فِيهِ طَالِق الثَّانِي (بِهِ) أى بدخلت بِعَيْنِه (لَا بِمثلِهِ كقولهما) أى كَمَا قَالَ ابو يُوسُف وَمُحَمّد من أَنه تعلق بِمثل مَا تعلق بِهِ الأول، وَلَيْسَ المُرَاد بِمثلِهِ دُخُولا آخر مغايرا بِالذَّاتِ لما تعلق بِهِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بل مغايرا بِالِاعْتِبَارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فيتعدد الشَّرْط) كَمَا لَو قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق، ثمَّ بعد زمَان قَالَ: إِن دخلت فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ يَقع الْكل بِدُخُول وَاحِد اتِّفَاقًا غير أَنه لما كَانَ الْمُعَلق بِالثَّانِي غير الْمُعَلق بِالْأولِ صَار الْمُعَلق بِهِ فِي الثَّانِي مغايرا للمعلق بِهِ فِي الأول بِالِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَه كَذَلِك (وَعلمت) فِي المسئلة الَّتِي قبل هَذِه (أَن لَا ضَرَر عَلَيْهِمَا فِي الِاتِّحَاد) أَي فِي اتِّحَاد مُتَعَلق الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ من اعْتِبَار التغاير الْمَذْكُور إِذْ مقصودهما وُقُوع الْكل دفْعَة عِنْد وجود الشَّرْط وَهُوَ حَاصِل فِيهِ لِأَنَّهُمَا يجعلان إِن دخلت طَالِق فطالق وَطَالِق بِمَنْزِلَة طَالِق(2/71)
ثِنْتَيْنِ، والتفريق اللَّفْظِيّ لَا أثر لَهُ لِأَنَّهُ فِي حَال التَّكَلُّم بتعليق الطَّلَاق لَا فِي حَال التَّطْلِيق تَنْجِيز إِذْ لَا مُوجب للتوقف فِي التَّنْجِيز فَيَقَع بِمُجَرَّد التَّكَلُّم بتعليق الطَّلَاق لَا فِي حَال التَّعْلِيق بِالْأولِ قبل التَّكَلُّم بِالثَّانِي وَلم يبْق للمحل قابلية لوُقُوع الثَّانِي: إِذْ الْمَفْرُوض كَونهَا غير مدخوله، وَأما فِي التَّعْلِيق فالتعليق بِمُجَرَّد التَّكَلُّم لَا يتَصَوَّر لتوقفه على وجود الشَّرْط، والمتعلقات بِشَرْط وَاحِد على التَّعَاقُب يتْرك جملَة عِنْد وجوده كَمَا لَو حصل بأيمان يتحللها أزمنة على أَنه إِن أُرِيد بِكَوْن تعلق الأول وَاسِطَة فِي تعلق الثَّانِي أَنه عِلّة لَهُ فَمَمْنُوع: بل علته جمع الْوَاو إِيَّاه إِلَى الشَّرْط، وَإِن أُرِيد كَونه سَابق التَّعَلُّق سلمناه، وَلَا يُفِيد كالأيمان المتعاقبة، وَلَو سلم عَلَيْهِ تعلق الأول لم يلْزم كَون نُزُوله عِلّة نُزُوله: إِذْ لَا تلازم (وَمَا تقدم لَهما) فِي أول بحث الْوَاو من التَّعْلِيق الْمَذْكُور الْمُشبه بتعداد الشَّرْط فِي وُقُوع الْكل جملَة (تنظيره) أَي مُجَرّد تنظير لاشْتِرَاكهمَا فِيمَا ذكر (لَا اسْتِدْلَال) بِقِيَاس الأجزئة المتعاطفة المتعاقبة فِي الذّكر على المتعاقبة فِي تعليقات مُتعَدِّدَة ليرد أَنه قِيَاس مَعَ الْفَارِق (لاستقلا مَا سواهُ) أَي مَا سوى التَّعْلِيق الْمَذْكُور فِي إِثْبَات الْمَقْصُود: يَعْنِي بِهِ مَا ذكر من أَن الِاشْتِرَاك فِي التَّعَلُّق وَأَن بِوَاسِطَة يسْتَلْزم النُّزُول دفْعَة، لِأَن نزُول كل حكم الشَّرْط فتقترن أَحْكَامه (فتفريع) مَا إِذا قَالَ (كلما حَلَفت) بطلاقك (فطالق) أَي فَأَنت طَالِق (ثمَّ) قَالَ (إِن دخلت فطالق وَطَالِق على الِاتِّحَاد يَمِين، و) على (التَّعَدُّد يمينان) فَقَوله كلما حَلَفت الخ كَلَام مُفَرع، وَقَوله على الِاتِّحَاد إِلَى هُنَا خير ضمير رَاجع إِلَى قَوْله إِن دخلت الخ: يَعْنِي إِن قُلْنَا بِأَن الْمَعْطُوف تعلق بِعَين مَا تعلق بِهِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ لَا بِمثلِهِ كَانَ قَوْله: إِن دخلت الخ حلفا وَاحِدًا فَيَقَع طَلَاق وَاحِد وَإِن قُلْنَا بالتعدد بِجعْل مُتَعَلق الثَّانِي مثل الأول كَانَ القَوْل الْمَذْكُور يمينين (فَتطلق ثِنْتَيْنِ) كَمَا ذكر فِي شرح البديع للهندي، تَفْرِيع (على غير خلافية) لما عرفت من أَنه لَا خلاف بَينهمَا وَبَينه بِاعْتِبَار اتِّحَاد الْمُتَعَلّق وَعَدَمه لعدم توقف مقصودهما وَهُوَ وُقُوع الْكل جملَة على التَّعَدُّد (بل) المُرَاد بقول من فرع وحدة الْيَمين على الِاتِّحَاد وتعددها على التَّعَدُّد أَنه (لَو فرض) خلاف بَينه وَبَينهمَا فِي ذَلِك (كَانَ) التَّفْرِيع (كَذَا) أَي على هَذَا المنوال (والنقض) للضابطة الْمَذْكُورَة مَعَ أَن مُوجب الْوَاو فِي النَّاقِصَة انتساب الثَّانِي إِلَى عين مَا انتسب إِلَيْهِ الأول بجهته (بِهَذِهِ طَالِق ثَالِثا، وَهَذِه إِذْ طلقنا ثَالِثا لاثْنَتَيْنِ) تَعْلِيل للنقض: يَعْنِي وُقُوع الثَّلَاث على كل مِنْهُمَا خلاف مُقْتَضى تِلْكَ الضابطة لِأَنَّهَا تَقْتَضِي وُقُوع ثِنْتَيْنِ على كل وَاحِدَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بانقسام الثَّلَاث عَلَيْهِمَا) ليحصل لكل وَاحِد وَنصف، ويكمل كل نصف (دفع) خبر الْمُبْتَدَأ (بِظُهُور الْقَصْد إِلَى إِيقَاع الثَّلَاث) على كل وَاحِدَة مِنْهُمَا (والمناقشة فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْقَصْد بِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ وَهَذِه طَالِق ثَلَاثًا،(2/72)
وَلم يقل وَهَذِه لِأَنَّهُ يحْتَمل الانقسام الْمَذْكُور (احْتِمَال لَا يدْفع الظُّهُور) أَي ظُهُور الْقَصْد الْمَذْكُور (وَفِيمَا لَا يُمكن) فِيهِ الانتساب إِلَى غير مَا انتسب الأول إِلَيْهِ (يقدر الْمثل) وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله انتسب الخ بعد قَوْله وَهُوَ عطف الْمُفْرد (كجاء زيد وَعَمْرو بِنَاء على اعْتِبَار شخص الْمَجِيء) لِاسْتِحَالَة اشتراكهما فِي عرضي شخصي (وَإِن كَانَ الْعَامِل) وَهُوَ فعل الْمَجِيء (بكليه) أَي بِاعْتِبَار مَفْهُومه الْكُلِّي (ينصب) من حَيْثُ الْإِسْنَاد وَالْعَمَل (عَلَيْهِمَا) أَي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والمعطوف (مَعًا لِأَن هَذَا) أَي مَا ذكرنَا من تَقْدِير الْمثل إِنَّمَا هُوَ (تَقْدِير حَقِيقَة الْمَعْنى) أَي بَيَان مَا هُوَ المتحقق فِي نفس الْأَمر من الْكَلَام: إِذْ الْكُلِّي من حَيْثُ هُوَ كلي لَا يتَحَقَّق فِي الْخَارِج إِلَّا فِي ضَرُورَة الشخصي فالمتحقق مِنْهُ فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ شخص آخر مثله (وَعنهُ) أَي عَن اعْتِبَار تعلق الْمَعْطُوف بِعَين مَا تعلق بِهِ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الْمُفْرد لَا بِمثلِهِ قُلْنَا (فِي (قَوْله لفُلَان عَليّ ألف، وَلفُلَان انقسمت) الْألف (عَلَيْهِمَا) فَيكون لكل خَمْسمِائَة (وَنقل عَن بَعضهم أَن عطفها) أَي الْوَاو الْجُمْلَة (المستقلة) على غَيرهَا (يُشْرك فِي الحكم وَبِه) أَي بِسَبَب هَذَا التَّشْرِيك (انْتَفَت الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي كَالصَّلَاةِ) أَي كَمَا أَن الصَّلَاة منتفية عَن الصَّبِي (من) دلَالَة الْعَطف فِي (أقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة) . قَالَ الشَّارِح بِنَاء على أَنه يجب أَن يكون الْمُخَاطب بِأَحَدِهِمَا عين الْمُخَاطب بِالْآخرِ، وَلما لم يكن الصَّبِي مُخَاطبا بأقيموا الصَّلَاة لم يكن مُخَاطبا بآتوا الزَّكَاة انْتهى. وَلم يبين مُرَادهم بالحكم الَّذِي يشركهما الْعَطف فَإِن أُرِيد بِهِ جَمِيع الْأَحْكَام وَالْأَحْوَال ففساده ظَاهر، وان أُرِيد بَعْضهَا فِي الْجُمْلَة فَلَا يُفِيد، وان أُرِيد بِهِ وَاحِد من الْأَحْكَام الْخَمْسَة فالعطف لَا يَقْتَضِيهِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد فِي الْجُمْلَة الخبرية التحقق والحصول، وَفِي الإنشائية الطّلب وَلَا يخفى مَا فِيهِ (وَدفع) لُزُوم انْتِفَاء الزَّكَاة فِي مَاله لما ذكرنَا بِأَن الصَّبِي (خص من عُمُوم الأول) أَي أقِيمُوا الصَّلَاة (بِالْعقلِ) أَي بالمخصص الْعقلِيّ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ بقوله (لِأَنَّهَا) أَي الصَّلَاة عبَادَة (بدنية) وَهِي مَوْضُوعَة عَن الصَّبِي (بِخِلَاف الزَّكَاة) فَإِنَّهَا عبَادَة مَالِيَّة مَحْضَة (تتأدى بالنائب فَلَا مُوجب لتخصيصه) فِيهَا.
(تَتِمَّة)
(تستعار) الْوَاو (للْحَال) أَي لربط الْجُمْلَة الحالية بِذِي الْحَال إِذْ هِيَ لمُطلق الْجمع وَهُوَ مَوْجُود فِي الْمُسْتَعَار لَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بمصحح الْجمع) أَي يستعار للْحَال بِسَبَب العلاقة المصححة الَّتِي هِيَ وجود مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ فِيهِ حَال كَون هَذَا الْمُصَحح مُشْتَمِلًا (على مَا فِيهِ) من الْإِشْكَال إِذا أطلق الْأَعَمّ على الْأَخَص حَقِيقَة على مَا مر، وَلذَا أضْرب، فَقَالَ (بل هُوَ) أَي الْجمع بَين الْحَال وصاحبهما (مِمَّن مَا صدقاته) أَي من أَفْرَاد مُطلق الْجمع (والعطف أَكثر) أَي اسْتِعْمَالهَا(2/73)
فِي الْعَطف أَكثر (فَيلْزم) الْعَطف: أَي حملهَا عَلَيْهِ (إِلَّا بِمَا) أَي بِدَلِيل (لَا مرد لَهُ) فَعنده تحمل على غَيره (فَإِن أمكنا) أَي الْعَطف وَالْحَال بِأَن تصح إِرَادَة كل مِنْهُمَا (رده) أَي الْحَال (القَاضِي) فَلَا يصدق من يَقُول أردْت بهَا الْحَال لِأَنَّهُ يحكم بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَطف (وَصَحَّ) أَن يُرَاد بهَا الْحَال ب (نِيَّته) أَي الْحَال أَو الْمُتَكَلّم (ديانَة فأد) أَي فَقَوْل الْمولى لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا (وَأَنت حر، و) الإِمَام للحربي (انْزِلْ وَأَنت آمن تعذر) الْعَطف فِيهِ (لكَمَال الِانْقِطَاع) بَين مَا قبل الْوَاو وَمَا بعده إنْشَاء وإخبار نظرا إِلَى الأَصْل، فَلَا يرد أَن قَوْله أَنْت حر قصد بِهِ إنْشَاء الْعتْق (وللفهم) أَي لفهم الْحَال من مثله أَلْبَتَّة عرفا (فللحال على الْقلب) أَي كن حرا وَأَنت مؤد، وَكن آمنا وَأَنت نَازل: أَي أَنْت حر فِي حَالَة الْأَدَاء، وآمن فِي حَالَة النُّزُول (لِأَن الشَّرْط الْأَدَاء وَالنُّزُول) لَا الْحُرِّيَّة والأمان، إِذْ الْمُتَكَلّم يتَمَكَّن من تَعْلِيق مَا يتَمَكَّن من تنجيزه وَهُوَ لَا يتَمَكَّن من تَنْجِيز الْأَدَاء وَالنُّزُول (وَقيل) للْحَال 0 على الأَصْل) لَا على الْقلب (فَيُفِيد ثُبُوت الْحُرِّيَّة مُقَارنًا لمضمون الْعَامِل وَهُوَ) أَي مضمونه (التأدية، وَبِه) أَي بِمَا ذكر من إِفَادَة ثُبُوتهَا مُقَارنًا لَهُ (يحصل الْمَقْصُود) من كَون التَّحْرِير مَشْرُوطًا بِالْأَدَاءِ فَانْدفع مَا قيل من لُزُوم الْحُرِّيَّة، والأمان قبل الْأَدَاء أَو النُّزُول، لِأَن الْحَال قيد، والقيد مقدم على الْمُقَيد (وَمُقَابِله) أَي مُقَابل تعذر الْعَطف وَهُوَ تعذر الْحَال، وَتعين الْعَطف قَول رب المَال للضارب (خُذْهُ) أَي هَذَا النَّقْد (واعمل فِي الْبَز) وَهُوَ الثِّيَاب. وَقَالَ مُحَمَّد: هُوَ فِي عرف الْكُوفَة ثِيَاب الْكَتَّان والقطن دون الصُّوف والخز (تعين الْعَطف للإنشائية) أَي لكَون كل من الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ جملَة إنشائية، وَالْأَصْل هُوَ الْعَطف، هَذَا مَا يفهم من كَلَام الشَّارِح، وَالْوَجْه أَن يُقَال مَعْنَاهُ: أَن قَوْله اعْمَلْ إنْشَاء، والإنشاء لَا يَقع حَالا (وَلِأَن الْأَخْذ لَيْسَ حَال الْعَمَل) أَي لَا يقارنه فِي الْوُجُود: إِذْ الْعَمَل بعده فَلَا يكون للْحَال، وَإِن نوى (فَلَا تتقيد الْمُضَاربَة) الْمَذْكُورَة (بِهِ) أَي الْعَمَل فِي الْبَز: بل تكون مَشْهُورَة (وَفِي أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة أَو مصلية يحتملهما) أَي الْعَطف وَالْحَال (إِذْ لَا مَانع) فِي شَيْء مِنْهُمَا (وَلَا معِين) لوَاحِد بِخُصُوصِهِ (فتنجز) الطَّلَاق (قَضَاء) لِأَنَّهُ الظَّاهِر لأصالة الْعَطف، وَكَون حَالَة الْمَرَض وَالصَّلَاة مَظَنَّة الشَّفَقَة وَالْإِكْرَام لَا الْمُفَارقَة والإيلام، وَالْأَصْل فِي التَّصَرُّف التَّنْجِيز وَالتَّعْلِيق بِعَارِض الشَّرْط (وَتعلق) بِالْمرضِ وَالصَّلَاة (ديانَة أَن إراده) أَي التَّعْلِيق بهما لَا مَكَانَهُ، وَفِيه تَخْفيف عَلَيْهِ (وَاخْتلف فِيهَا) أَي الْوَاو (من طَلقنِي وَلَك ألف فعندهما) أَي الْإِمَامَيْنِ الْوَاو مستعارة (للْحَال) فَيجب لَهُ عَلَيْهَا الْألف إِذا طَلقهَا (للتعذر) أى لتعذر الْعَطف (بالانقطاع) لإنشائية الأولى وإخبارية الثَّانِيَة (وَفهم الْمُعَاوضَة) إِذْ مثلهَا فِي الْعرف يقْصد(2/74)
بِهِ الْخلْع وَهُوَ مُعَاوضَة من جَانبهَا، وَلذَا صَحَّ رُجُوعهَا قبل إيقاعها، فَالْمَعْنى طَلقنِي فِي حَال يكون لَك عَليّ ألف عوضا من الطَّلَاق الْمُوجب لِسَلَامَةِ نَفسِي لي، فَإِذا قَالَ طلقت وَجب عَلَيْهَا الْألف (أَو مستعارة للإلصاق) الَّذِي هُوَ معنى الْبَاء بِدلَالَة الْمُعَاوضَة لِأَنَّهُ لَا يعْطف أحد الْعِوَضَيْنِ على الآخر، وَإِنَّمَا استعيرت لَهُ (للْجمع) أَي للتناسب بَينهمَا فِي الْجمع فَإِن كلا مِنْهُمَا يدل على الْجمع (وَعِنْده) الْوَاو (للْعَطْف) وَلَا يلْزم عطف الْأَخْبَار على الْإِنْشَاء لِأَن قَوْلهَا: لَك ألف إنْشَاء الِالْتِزَام (تَقْدِيمًا للْحَقِيقَة فَلَا شَيْء لَهُ) إِذا طَلقهَا (وصارف الْمُعَاوضَة غير لَازم فِيهِ) أَي فِي الطَّلَاق (بل عَارض) لندرة عرُوض الْتِزَام المَال فِي الطَّلَاق والبضع غير مُتَقَوّم حَالَة الْخُرُوج، والعارض لَا يُعَارض الْأَصْلِيّ (وَلذَا) أَي لعروضه (لزم) الطَّلَاق مُعَلّقا (فِي جَانِبه) أَي الزَّوْج فَصَارَ يَمِينا إِذا قَالَ طَلقتك على ألف: إِذْ لَو لم يكن عروضه وَكَانَ لَازِما لَكَانَ مُعَاوضَة وَالرُّجُوع فِي الْمُعَاوضَة بعد الْإِيجَاب قبل الْقبُول جَائِز، ثمَّ فرع على اللُّزُوم فَقَالَ (فَلَا يملك) الزَّوْج (الرُّجُوع قبل قبُولهَا) الْألف (بِخِلَاف الْإِجَارَة) أَي بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ مثل: طَلقنِي وَلَك ألف فِي عقد الْإِجَارَة وَهُوَ (احمله وَلَك دِرْهَم) لِأَن الْتِزَام المَال فِيهَا أُصَلِّي، لِأَن الْإِجَارَة بيع الْمَنَافِع بعوض فَتحمل الْوَاو بِدلَالَة صَارف الْمُعَاوضَة على الْبَاء فَكَأَنَّهُ قَالَ احمله بدرهم (وَالْأَوْجه) فِي طَلقنِي وَلَك ألف (الِاسْتِئْنَاف) فِي قَوْلهَا وَلَك ألف على أَن يكون (عدَّة) مِنْهَا، والوعيد لَا يلْزم (أَو غَيره) أَي غير وعد بِأَن تُرِيدُ لَك ألف فِي بَيْتك يقدر على تَحْصِيل غَيْرِي وَنَحْو ذَلِك (للانقطاع) الْمُوجب ترك الْعَطف (فَلم يلْزم الْحَال) عِنْد عدم إِرَادَة الْعَطف (لجَوَاز) إِرَادَة معنى (مجازي آخر ترجح) لذَلِك الْمجَازِي على إِرَادَة الْحَال (بِالْأَصْلِ بَرَاءَة الذِّمَّة) عطف بَيَان للْأَصْل (وَعدم إِلْزَام المَال بِلَا معِين) لإلزامه: يَعْنِي أَن الأَصْل هُوَ الْبَرَاءَة وإلزام المَال الْمُوجب شغل الذِّمَّة خلاف الأَصْل لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل بِعَيْنِه.
مسئلة
(الْفَاء للتَّرْتِيب بِلَا مُهْملَة فَدخلت فِي الأجزئة) لتعقبها الشُّرُوط بِلَا مهلة (فَبَانَت غير الملموسة) أَي غير الْمَدْخُول بهَا (بِوَاحِدَة فِي أَنْت طَالِق فطالق) لزوَال الْمَحَلِّيَّة لما بعد الْفَاء بِسَبَب وُقُوع مَا قبلهَا (و) دخلت فِي (المعلولات) لِأَنَّهَا تتعقب عليتها بِلَا تراخ (كجاء الشتَاء فتأهب) أَي هِيَ مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِيهِ مَحْمُولا (على التَّجَوُّز بجاء عَن قرب فَإِن قربه عِلّة التأهب لَهُ) يَعْنِي أَن قرينَة السِّيَاق وَالْمقَام دلّت على أَن الْفَاء دَاخِلَة على الْمَعْلُول وَالتَّأَهُّب لَيْسَ بمعلول(2/75)
حَقِيقَة للشتاء بل قربه (وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) " لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجد مَمْلُوكا " (فيشتريه فيعقته) رَوَاهُ مُسلم (لِأَن الْعتْق مَعْلُول معلوله) أَي الشِّرَاء إِذْ الشِّرَاء عِلّة للْملك، وَالْملك عِلّة لِلْعِتْقِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله أَي فيشتريه (فَيعتق بِسَبَب شِرَائِهِ) إِنَّمَا فسره بِهِ لِئَلَّا يحمل على ظَاهره: وَهُوَ أَنه بعد مَا يَشْتَرِيهِ يعتقهُ قصدا مثل مَا يعْتق غير الْقَرِيب فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يكون الْعتْق إِلَّا بِسَبَب الْإِعْتَاق لَا الشِّرَاء، وَقد علم بذلك أَن هَذَا الْمَعْلُول بالواسطة مُغَاير بِالذَّاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعلَّة (فَلَيْسَ) هَذَا الْمِثَال (من) قبيل (اتِّحَاد الْعلَّة والمعلول فِي الْوُجُود) كَمَا زعم الْبَعْض من أَن الشِّرَاء وَالْعِتْق شَيْء وَاحِد فِي الْخَارِج وَإِن تغايرا بِحَسب الْمَفْهُوم (وَلَا) من (نَحْو: سقَاهُ فأرواه) كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة: إِذْ الإرواء يَتَرَتَّب على السَّقْي بِلَا وَاسِطَة، وَالْعِتْق إِنَّمَا يَتَرَتَّب على الشِّرَاء بِوَاسِطَة الْملك (فَلذَلِك) أَي لكَون الْفَاء لترتيب مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا (تضمن الْقبُول) للْبيع (قَوْله فَهُوَ حر) حَال كَونه (جَوَاب) من قَالَ (بعتكه بِأَلف) لِأَن تَرْتِيب الْحُرِّيَّة على هَذَا القَوْل لَا يتَصَوَّر إِلَّا بِقبُول البيع الْمُوجب للْملك الْمُصَحح للإعتاق فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: قبلت فَهُوَ حر (لَا هُوَ حر) أَي لَا يتَضَمَّن هُوَ حر الْقبُول بعد قَوْله بعتكه بِأَلف لعدم مَا يدل على مَا قبله (بل هُوَ رد للْإِيجَاب) وَهُوَ قَوْله بعتكه الخ وَمَعْنَاهُ كَيفَ تبيعه وَهُوَ حر (و) كَذَلِك (ضمن الْخياط) الثَّوْب إِذا (قَالَ لَهُ) مَالِكه (أيكفيني قَمِيصًا قَالَ) الْخياط (نعم قَالَ) مَالِكه (فاقطعه فَقَطعه فَلم يكفه) لِأَن الْفَاء دلّت على أَن الْأَمر بِالْقطعِ مُرَتّب على الْكِفَايَة مَشْرُوط بهَا لَا فِي اقطعه فَلم يكفه) أَي لَا يضمن الْخياط فِيمَا إِذا قَالَ صَاحب الثَّوْب اقطعه بدل فاقطعه والمسئلة بِحَالِهَا لعدم مَا يدل على كَون الْأَمر بِالْقطعِ مَشْرُوطًا بالكفاية (وَتدْخل) الْفَاء (الْعِلَل) حَال كَونهَا (خلاف الأَصْل) لعدم ترَتّب الْعلَّة على الْمَعْلُول وَتحقّق الْعَكْس دُخُولا (كثيرا لدوامها) أَي لكَون الْعِلَل مَوْجُودَة بعد وجود الْمَعْلُول مُدَّة مديدة (فَتَأَخر) الْعلَّة عَن الْمَعْلُول (فِي الْبَقَاء) فَبِهَذَا الِاعْتِبَار تدخل الْفَاء عَلَيْهَا (أَو بِاعْتِبَار أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (معلولة فِي الْخَارِج) أَي فِي خَارج الذِّهْن (للمعلول) وَهَذَا إِذا كَانَ مَدْخُول الْفَاء عِلّة غائية لما قبلهَا، فَإِنَّهُ بِحَسب الْوُجُود الذهْنِي مقدم على الْمَعْلُول فَإِن تعقل الرِّبْح مقدم على تحقق التِّجَارَة فِي الْخَارِج وَتحقّق الرِّبْح مُؤخر عَن تحقق التِّجَارَة فِي الْخَارِج (وَمن الأول لَا الثَّانِي أبشر فقد أَتَاك الْغَوْث) قَالَ الشَّارِح أَي من دُخُولهَا على الْعلَّة الْمُتَأَخِّرَة فِي الْبَقَاء، لَا من دُخُولهَا على الْمَعْلُول فِي الْخَارِج، فَإِن الْغَوْث بَاقٍ بعد الإبشار كَذَا قَالُوا، وَفِيه تَأمل انْتهى. إِنَّمَا جعل هَذَا الْمِثَال مِمَّا دخلت على الْعلَّة نظرا إِلَى الظَّاهِر، إِذْ إتْيَان الْغَوْث عِلّة للبشارة لَا الْعَكْس. وَقد يُقَال أَن قَوْله أبشر عِلّة للإخبار بمضمون قد أَتَاك الْغَوْث، لِأَنَّهُ يدل إِجْمَالا على مُوجب السرُور، وَبِه يحصل قلق واضطراب لَا ينْدَفع(2/76)
إِلَّا بِذكر المبشر بِهِ، فَالْمُرَاد بِالْأولِ دخلوها فِي المعلولات. وَبِالثَّانِي دُخُولهَا فِي الْعِلَل، لَا يُقَال قد دخلت فِيمَا هُوَ عِلّة فِي نفس الْأَمر، فَكيف يَنْفِي، لِأَن النَّفْي باعتبارات الْمُتَكَلّم لم يقْصد إدخالها عَلَيْهِ من حَيْثُ أَنه عِلّة، بل من حَيْثُ أَنه مَعْلُول من حَيْثُ الْإِخْبَار، لَكِن آخر الْكَلَام يمْنَع تَفْسِير الأول وَالثَّانِي بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكر على مَا سَيظْهر، ثمَّ وَجه التَّأَمُّل فِي كَلَام الشَّارِح أَن إتْيَان الْغَوْث الَّذِي هُوَ عِلّة الْبشَارَة لَا بَقَاء لَهُ بعد الْبشَارَة (وَمِنْه) أَي وَمن الأول أَيْضا (أد) إِلَيّ ألفا (فَأَنت حر) فقد دخلت الْفَاء على الْعلَّة الْمُتَأَخِّرَة فِي الْبَقَاء إِذْ الْعتْق يَمْتَد. وَوجه علية الْحُرِّيَّة للْأَدَاء أَن صِحَة الْأَدَاء مَوْقُوفَة على الْحُرِّيَّة الْحَاصِلَة عِنْد قبُول العَبْد مَا علق الْمولى عتقه عَلَيْهِ إِذْ العَبْد لَا يقدر على الْأَدَاء فِي حَال مملوكيته إِذْ مَا فِي يَده ملك للْمولى فَلَا يصلح بَدَلا عَن نَفسه (_ و) مِنْهُ أَيْضا قَول الإِمَام للحربي (انْزِلْ فَأَنت آمن) فَإِن الْأمان يَمْتَد فَأشبه المتراخي عَن النُّزُول (وَتعذر الْقلب) بِأَن يكون بِمَعْنى أَنْت حر فأد وَأَنت آمن فَانْزِل لتَكون الْفَاء دَاخِلَة على الْمَعْلُول معنى (لِأَنَّهُ) أَي الْحمل على الْقلب (بِكَوْنِهِ) أَي مَا بعد الْفَاء (جَوَاب الْأَمر) لِأَنَّهُ إِذا كَانَ جَوَابه كَانَ بِمَنْزِلَة جَزَاء الشَّرْط فَإِن أنزل تصب خيرا فِي معنى أَن تنزل تصبه، وَفِي مثله قد يحصل على الْقلب فيراد إِن تصب خيرا تنزل لكَونه لَازِما للْأَصْل: إِذْ سَبَبِيَّة النُّزُول لإصابة الْخَيْر يلْزمه أَن من تقرر فِي حَقه إِصَابَة الْخَيْر ينزل فَتدبر (وَجَوَابه يخص الْمُضَارع) لِأَن الْأَمر إِنَّمَا يسْتَحق الْجَواب بِتَقْدِير إِن المختصة بِهِ: وَهِي إِذا كَانَت مقدرَة لَا تجْعَل الْمَاضِي وَالْجُمْلَة الاسمية بِمَعْنى الْمُسْتَقْبل، هَذَا غَايَة مَا تيَسّر من التَّوْجِيه، وَفِيه مَا فِيهِ، وَهَذَا كُله بِنَاء على مَا فسر بِهِ الشَّارِح الْقلب، وَالْحق أَن المُرَاد من الْقلب عكس قَوْله من الأول لَا الثَّانِي: أَي من الثَّانِي: وَهُوَ الدُّخُول على الْعلَّة بِاعْتِبَار أَنَّهَا معلولة فِي الْخَارِج لَا الأول: وَهُوَ الدُّخُول عَلَيْهَا بِاعْتِبَار تأخرها فِي الْبَقَاء، وَذَلِكَ لِأَن تعقل الْأَمْن عِلّة النُّزُول وَهُوَ مَعْلُول النُّزُول فِي الْخَارِج، لِأَن الْمَعْنى أَن تنزل تأمن فَيصير نُزُوله سَببا للأمن، وَلذَا علل تعذره بِأَن هَذَا مَبْنِيّ على كَون فَأَنت آمن جَوَاب الْأَمر، وَلَا يَصح لِأَنَّهُ يخص الْمُضَارع وَقد بَيناهُ (فَيعتق) فِي الْحَال أدّى أَو لم يؤد، لِأَن الْمَعْنى لِأَنَّك حر (و) كَذَا (يثبت الْأمان فِي الْحَال) نزل أَو لم ينزل، فَقَوله فِي الْحَال مُتَعَلق بالفعلين جَمِيعًا (وَمن الثَّانِي) أَي دُخُولهَا على الْعلَّة المعلولة فِي الْخَارِج مَا أخرج النَّسَائِيّ فِي الشُّهَدَاء عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (زملوهم الحَدِيث) أَي بدمائهم فَإِنَّهُ لَيْسَ كلم يكلم فِي سَبِيل الله إِلَّا يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة يدمي، لَونه لون الدَّم وريحه ريح الْمسك، فَإِن الْإِتْيَان على هَذِه الْكَيْفِيَّة يَوْم الْقِيَامَة عِلّة تزميلهم فِي الذِّهْن، والتزميل: الْإخْفَاء واللف فِي الثَّوْب وَهُوَ معلوله فِي الْخَارِج (وَاخْتلفُوا فِي عطفها) أَي الْفَاء (الطلقات) حَال كَونهَا (معلقَة) على الشَّرْط فِي(2/77)
غير الْمَدْخُول بهَا كَأَن دخلت فَأَنت طَالِق فطالق (قيل) هُوَ (كالواو) أَي على الْخلاف فَعنده تبين بِوَاحِدَة وَيسْقط مَا بعْدهَا لزوَال الْمَحَلِّيَّة بِالْأولَى، وَعِنْدَهُمَا يَقع الْكل جملَة على مَا ذكر (وَالأَصَح الِاتِّفَاق على الْوحدَة للتعقيب) الْمُفِيد وُقُوع الْمَعْطُوف بعد الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَصَارَ كثم وَبعد (وتستعار الْفَاء لِمَعْنى الْوَاو فِي لَهُ عَليّ دِرْهَم فدرهم) إِذْ التَّرْتِيب فِي الْأَعْيَان لَا يتَصَوَّر، إِنَّمَا التَّرْتِيب فِي الْمعَانِي جَاءَ زيد فعمرو، وَقيل هَذَا من إِطْلَاق اسْم الْكل على الْجُزْء، لِأَن مَفْهُوم الْوَاو: وَهُوَ الْجمع الْمُطلق جُزْء مَفْهُوم الْفَاء: إِذْ هُوَ الْجمع مَعَ التَّرْتِيب، ثمَّ هَذِه الِاسْتِعَارَة مسموعة. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس
(بسقط اللوى بَين الدُّخُول فحومل ... )
فَإِنَّهُمَا اسمان لموضعين (يلْزمه اثْنَان) كَمَا فِي قَوْله لَهُ عَليّ دِرْهَم وَدِرْهَم، وَعَن الشَّافِعِي أَنه يلْزمه دِرْهَم وَاحِد بِجعْل قَوْله فدرهم جملَة مُبتَدأَة لتحَقّق الدِّرْهَم الأول، تَقْدِيره فَهُوَ دِرْهَم.
مسئلة
(ثمَّ لتراخي مدخولها عَمَّا قبله) حَال كَونهَا مدخولها (مُفردا، والاتفاق على وُقُوع الثَّلَاث على المدخولة فِي طَالِق ثمَّ طَالِق ثمَّ طَالِق فِي الْحَال بِلَا زمَان) متراخ بَينهمَا (لاستعارتها لِمَعْنى الْفَاء) إِذْ لَا فَائِدَة لاعْتِبَار التَّرَاخِي فِي المدخولة، لَا بِاعْتِبَار الحكم وَلَا بِاعْتِبَار التَّكَلُّم كَمَا لَا يحفى (وتنجيزه) أَي أبي حنيفَة (فِي غَيرهَا) أَي المدخولة (وَاحِدَة وإلغاء مَا بعْدهَا) أَي تِلْكَ الْوَاحِدَة (فِي طَالِق ثمَّ طَالِق ثمَّ طَالِق إِن دخلت و) قَوْله (فِي المدخولة تنجزا) أَي الْأَوَّلَانِ (وَتعلق الثَّالِث وَإِن تقدم الشَّرْط تعلق الأول وَوَقع مَا بعده فِي المدخولة وَفِي غَيرهَا) أَي المدخولة (تعلق الأول وتنجز الثَّانِي فَيَقَع الأول عِنْد الشَّرْط بعد التَّزَوُّج الثَّانِي) صفة التَّزَوُّج، قيد بِهِ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالثَّانِي الْمُنجز، وَذَلِكَ لِأَن زَوَال الْملك لَا يبطل الْيَمين وَهِي لم تنْحَل (ولغا الثَّالِث) لعدم الْمحل. وَقَوله تنجيزه مُبْتَدأ خَبره (لاعتباره) أَي أبي حنيفَة التَّرَاخِي الْمَدْلُول عَلَيْهِ بثم (فِي (التَّكَلُّم فَكَأَنَّهُ سكت بَين الأول وَمَا يَلِيهِ) إِنَّمَا قَالَ كَأَنَّهُ لِأَنَّهُ لم يَقع مِنْهُ سكُوت بَينهمَا غير أَنه أَفَادَ بثم أَن مَا بعْدهَا متراخ عَمَّا قبلهَا، وَحمل ذَلِك على التَّرَاخِي بِاعْتِبَار التَّكَلُّم: يَعْنِي أَن التَّكَلُّم بِالثَّانِي متراخ عَن التَّكَلُّم بِالْأولِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ سكت بَينهمَا (وَحَقِيقَة) أَي السُّكُوت (قَاطِعَة لِلْعِتْقِ) بِالشّرطِ فَكَذَا مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ (كَمَا لَو قَالَ لَهَا) أَي لغير المدخولة (بِلَا أَدَاة إِن دخلت فَأَنت طَالِق طَالِق طَالِق: ذكره الطَّحَاوِيّ) ووجهة أَن الأول تعلق بِالشّرطِ، وَالثَّانِي وَقع مُنجزا، تَقْدِيره أَنْت طَالِق ولغا الثَّالِث لإبانتها إِلَى عدَّة، فالتشبيه بِاعْتِبَار الحكم لَا الْوَجْه (وعلقاها) أَي الإمامان الثَّلَاث بِالشّرطِ (فيهمَا) أَي فِي تقدم الشَّرْط وتأخره (فَيَقَع(2/78)
عِنْد) وجود (الشَّرْط فِي غَيرهَا) أَي غير المدخولة (وَاحِدَة) وَهِي الأولى (للتَّرْتِيب) عِنْد الْوُقُوع على طبق التَّرْتِيب عِنْد التَّعْلِيق، وَيَلْغُو الْبَاقِي لانْتِفَاء الْمَحَلِّيَّة بالبينونة بِالْأولِ إِلَى عدَّة (وفيهَا) أَي المدخولة يَقع (الْكل مُرَتبا لِأَن التَّرَاخِي) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بثم (فِي ثُبُوت حكم مَا قبلهَا) أَي ثمَّ (لما بعْدهَا) كَمَا تَقْتَضِيه اللُّغَة فَإِنَّهُ لَا يفهم من جَاءَ زيد ثمَّ عَمْرو إِلَّا تراخي عَمْرو عَن زيد فِي ثُبُوت حكم الْمَجِيء بِثُبُوتِهِ لعَمْرو وَبعد زمَان، وَأما كَون التَّكَلُّم بِعَمْرو بعد التَّكَلُّم بزيد فَلَيْسَ مِمَّا يقْصد مِنْهُ لُغَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا فِي التَّكَلُّم، واعتباره) أَي أبي حنيفَة التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّم حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق و (سكت) ثمَّ قَالَ وَأَنت طَالِق اعْتِبَار (بِلَا مُوجب، وَمَا خيل دَلِيلا) على اعْتِبَار التَّرَاخِي فِيهِ (من) لُزُوم (ثُبُوت تراخي حكم الإنشاءات عَنْهَا) أَي عَن الإنشاءات على تَقْدِير اعْتِبَاره فِي الحكم من غير اعْتِبَاره فِي التَّكَلُّم (وَهِي) أَي الْأَحْكَام (لَا تتأخر) عَن الإنشاءات، فِي التَّوْضِيح إِنَّمَا جعل رَاجعا إِلَى التَّكَلُّم، لِأَن التَّرَاخِي فِي الحكم مَعَ عَدمه فِي التَّكَلُّم يمْنَع فِي الإنشاءات لِأَن الْأَحْكَام لَا تتراخى عِنْد التَّكَلُّم فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ الحكم متراخيا كَانَ التَّكَلُّم متراخيا تَقْديرا كَمَا فِي التَّعْلِيق فَإِن قَوْله إِن دخلت فَأَنت طَالِق يصير كَأَنَّهُ قَالَ عِنْد الدُّخُول أَنْت طَالِق، وَلَيْسَ هَذَا القَوْل فِي الْحَال تطليقا: أَي تكلما بِالطَّلَاق: بل يصير تطليقا عِنْد الشَّرْط (فَلَزِمَ الحكم على اللُّغَة بِهَذَا الِاعْتِبَار) أَي اعْتِبَار التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّم، تَفْرِيع على مَا علم ضمنا كَأَنَّهُ قَالَ إِن لم تعْتَبر هَكَذَا ثَبت تراخي الْأَحْكَام عَن الإنشاءات وَهِي لَا تتأخر فَلَزِمَ علينا أَن نحكم على لَفْظَة ثمَّ بِأَنَّهُ قد يُرَاد بِهِ لُغَة التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّم، وَفِيه إِشْعَار بالاعتراض، وَهِي أَن اللُّغَة تحكم وَلَا يحكم عَلَيْهَا (مَمْنُوع الْمُلَازمَة) خبر الْمَوْصُول، وَذَلِكَ لِأَن توهم لُزُوم التَّرَاخِي الحكم، وَهُوَ وُقُوع الطَّلَاق عَن الْإِنْشَاء، وَهُوَ تَنْجِيز الطَّلَاق اللَّازِم للتعليق إِنَّمَا هُوَ عِنْد وجود الشَّرْط: إِذْ الطَّلَاق الْمُعَلق عِنْد تحقق الْمُعَلق بِهِ يصير مُنجزا فَكَأَنَّهُ قَالَ عِنْد دُخُول الدَّار: أَنْت طَالِق ثمَّ طَالِق ثمَّ طَالِق. وَأَنت خَبِير بِأَن تراخيه إِنَّمَا يلْزم لَو اعْتبر وجود مَا عطف بثم مُتَّصِلا بِوُجُود الشَّرْط، وَأما إِذا اعْتبر متراخيا فَلَا تراخي لحكمه عَنهُ فَإِن قلت كَيفَ يعْتَبر الْجَزَاء متراخيا عَن الشَّرْط قُلْنَا لكَونه علق على هَذَا الْوَجْه، وَقد استبان بِهَذَا أَن تَقْرِير السُّكُوت فِي زمَان التَّعْلِيق بِحَيْثُ يمْنَع عِنْد كَون مَجْمُوع المتعاطفات مُعَلّقا بِالشّرطِ فِي صُورَتي تَقْدِيم الشَّرْط وتأخيره مَعَ أَنه لَا يتَصَوَّر هُنَاكَ تَرْتِيب الحكم مَا لَا يظْهر لَهُ وَجه فَتدبر (وَلَو اكْتفى) أَبُو حنيفَة فِي اعْتِبَار التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّم (بِاعْتِبَارِهِ) أَي التَّرَاخِي الْمَذْكُور (شرعا) أَي من حَيْثُ الشَّرْع لَا من حَيْثُ اللُّغَة (فَفِي محلّة تراخي حكمه) أَي فَلَا يعْتَبر حِينَئِذٍ إِلَّا فِي مَحل تراخي حكم الْإِنْشَاء (وَهُوَ) أَي مَحل تراخيه إِنَّمَا يتَحَقَّق(2/79)
(فِي الْإِضَافَة) كَمَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق غَدا (وَالتَّعْلِيق) كَمَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار (دون عطفه) بعض أَجزَاء الْإِنْشَاء (بثم) على الْبَعْض (لِأَنَّهُ) أَي الْعَطف (النزاع) أَي مَحل النزاع، أَو المنازع فِيهِ (على أَنا نمنعه) أَي تراخي الحكم (فيهمَا) أَي الْإِضَافَة وَالتَّعْلِيق (أَيْضا بِمَعْنى اعْتِبَار السُّكُوت، وَمَا قيل) قَالَه غير وَاحِد (هِيَ) أَي ثمَّ (للتراخي فَوَجَبَ كَمَاله) لانصراف الْمُطلق إِلَى الْكَامِل (وَهُوَ) أَي كَمَاله (بِاعْتِبَارِهِ) أَي التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّم وَالْحكم (مَمْنُوع) الْمُقدمَة (الثَّانِيَة) أَي كَمَاله بِاعْتِبَارِهِ (إِذْ الْمَفْهُوم) من التَّرَاخِي بثم (لَيْسَ غير حكم اللَّفْظ) أَي التَّرَاخِي بِاعْتِبَار حكم اللَّفْظ (فِي الْإِنْشَاء وَمَعْنَاهُ) أَي وتراخي معنى اللَّفْظ (فِي الْخَبَر، وَهَذَا) الْجَواب (يصلح) جَوَابا (عَن الأول أَيْضا) وَهُوَ مَا ظن دَلِيلا (وَكَذَا) ثمَّ للتراخي (فِي الْجمل) أَيْضا (وموهم خِلَافه) أَي خلاف كَونهَا للتراخي فِيهَا من نَحْو قَوْله تَعَالَى - {وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى} : إِذْ الاهتداء لَيْسَ بمتراخ عَن الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح، وَقَوله تَعَالَى - {فَلَا اقتحم الْعقبَة} - إِلَى قَوْله {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} إِذْ كَونه من الْمُؤمنِينَ الخ لَيْسَ بمتراخ عَمَّا ذكر قبله، إِذْ هُوَ أصل كل طَاعَة (تؤول بترتب الِاسْتِمْرَار) أَي ثمَّ اسْتمرّ على الْهدى، ثمَّ اسْتمرّ على الْإِيمَان كَمَا قيل:
(لكل إِلَى نيل العلى حركات ... وَلَكِن عَزِيز فِي الرِّجَال ثبات)
وَيجوز أَن يكون فِي نَحْوهمَا مستعار للتفاوت فِي الْمرتبَة والمنزلة، فَإِن للاهتداء الْكَامِل مرتبَة بعيدَة عَن حُدُوث أصل الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح، وَأما مرتبَة الْإِيمَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذكر قبله فَلَا تحْتَاج إِلَى الْبَيَان.
مسئلة
(تستعار) ثمَّ (لِمَعْنى الْوَاو) إِذْ كل مِنْهُمَا للْجمع بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ غير أَن الْجمع غير مَفْهُوم أَحدهمَا ولازم مَفْهُوم الآخر، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى - {وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فإلينا مرجعهم (ثمَّ الله شَهِيد} على مَا يَفْعَلُونَ} - أَي وَالله شَهِيد: إِذْ لَا يُمكن حملهَا على الْحَقِيقَة: إِذْ لَا يتَصَوَّر تراخي مَضْمُون الله شَهِيد عَمَّا قبله (إِن لم يكن) قَوْله تَعَالَى شَهِيد (مجَازًا عَن معاقب) على مَا يَفْعَلُونَ، إِذْ الْعقَاب لَازم لشهادته، وَإِلَيْهِ ينْتَقل الذِّهْن (فِي مقَام التهديد فَفِي) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا (فليأت بِالَّذِي هُوَ خير ثمَّ ليكفر) عَن يَمِينه كلمة " ثمَّ (حَقِيقَة) لِأَن التَّكْفِير متراخ عَن الْإِتْيَان بِمَا يُوجب الْكَفَّارَة (ومجاز عَن الْجمع) الَّذِي هُوَ معنى الْوَاو (فِي فليكفر ثمَّ ليأت) على مَا ورد فِي بعض الرِّوَايَات،(2/80)
وَقد يعْطف بِالْوَاو مَا هُوَ مقدم فِي الْوُجُود على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مجَازًا عَن الْجمع، وَكَانَ مَحْمُولا على الْحَقِيقَة (كَانَ الْأَمر) بالتكفير على وَجه التَّقْدِيم على الْإِتْيَان بِمَا يُوجِبهُ (للْإِبَاحَة) إِذْ لَا قَائِل بِوُجُوب التَّكْفِير قبل الْحِنْث (و) كَانَ (الْمُطلق) أَي مُطلق التَّكْفِير المفاد بقوله فليكفر (للمقيد) أَي مَا سوى الصَّوْم: أَي التَّكْفِير بِمَا سوى الصَّوْم من الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة والتحرير (فَيتَحَقَّق مجازان) كَون الْأَمر للْإِبَاحَة وَالْمُطلق للمقيد من غير ضَرُورَة (وعَلى قَوْلنَا) مجَاز (وَاحِد) هُوَ كَون ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو ضَرُورَة الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
مسئلة
(بل قيل) مَعْطُوف (مُفْرد للإضراب فَبعد الْأَمر كاضرب زيدا بل بكرا، وَالْإِثْبَات) مَعْطُوف على الْأَمر، والتقابل بِاعْتِبَار أَن الْإِثْبَات إِخْبَار نَحْو (قَامَ زيد بل بكر لإثباته) أَي مَا قبله من الْأَمر وَالْإِثْبَات (لما بعْدهَا) وَالْمرَاد بالإثبات الثَّانِي أَن يَجْعَل الْمَعْطُوف بهَا كالمعطوف عَلَيْهِ فِي كَونه مُتَعَلق الْأَمر أَو الْإِثْبَات، وَيثبت لَهُ ذَلِك النَّوْع من النِّسْبَة فبكر مَطْلُوب الضَّرْب فِي الأول مُسْند إِلَيْهِ الْقيام فِي الثَّانِي (وَجعل الأول) وَهُوَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ: أَي ولجعل الأول (كالمسكوت فَهُوَ) أَي الأول (على الِاحْتِمَال) بَين أَن يكون مَطْلُوب الضَّرْب أَو غير مَطْلُوبه فِي الْمِثَال الأول، وَبَين أَن يكون مَوْصُوفا بِالْقيامِ أَو غير مَوْصُوف بِهِ فِي الْمِثَال الثَّانِي، وَهَذَا إِذا لم يذكر مَعَ لَا (وَمَعَ لَا) نَحْو: جَاءَنِي زيد لَا بل عَمْرو (ينص) أَي ينص حَال كَونه مَعَ لَا (على نَفْيه) الْإِضَافَة لأدني مُلَابسَة: إِذْ الأول لَيْسَ بمنفي بل نفى عَنهُ تِلْكَ النِّسْبَة الَّتِي فهم حُصُولهَا لَهَا قبل ذكر بل مَعَ لَا، هَذَا إِذا كَانَ ضمير نَفْيه للمعطوف عَلَيْهِ، وَأما إِذا كَانَ لما قبله فالإضافة ظَاهِرَة (وَهُوَ) أَي بل بِغَيْر لَا أَو الإضراب (فِي كَلَام غَيره تَعَالَى تدارك) ، ثمَّ فسر كَونه تداركا بقوله (أَي كَون الْأَخْبَار الأول أولى مِنْهُ) الْأَخْبَار (الثَّانِي فَيعرض عَنهُ) أَي عَن الأول (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الثَّانِي (لَا إِبْطَاله) أَي لَا أَنه إبِْطَال الأول وَإِثْبَات الثَّانِي (كَمَا قيل، وَبعد النَّهْي) كلا تضرب زيدا بل عمروا (وَالنَّفْي) كَمَا قَامَ زيد بل عَمْرو (لإِثْبَات ضِدّه) أَي ضد مَا قبله من النَّهْي لما بعْدهَا (وَتَقْرِير الأول) لَا لجمعه كالمسكوت عَنهُ، فَفِي الأول قررت النَّهْي عَن ضرب زيد، وَأثبت الْأَمر بِضَرْب عَمْرو، وَفِي الثَّانِي قررت نفي الْقيام عَن زيد وأثبته لعَمْرو (و) قَالَ (عبد القاهر) الْجِرْجَانِيّ وَبَعض النُّحَاة بل كَذَلِك لَكِن (يحْتَمل نقل النَّهْي وَالنَّفْي) عَن الأول (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الثَّانِي. قَالَ ابْن مَالك وَهُوَ مُخَالف لاستعمال الْعَرَب(2/81)
(فَقَوْل زفر يلْزمه ثَلَاثَة فِي لَهُ عَليّ دِرْهَم بل دِرْهَمَانِ لَا يتَوَقَّف على إِفَادَة إبِْطَال الأول وَإِن قيل بِهِ) أَي بإبطاله أَو بتوقفه يَعْنِي زعم بَعضهم أَن قَول زفر مَوْقُوف على كَون بل إبطالا للْأولِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَت كَذَلِك فَفِي الاعترافات والإنشاءات يلْزم على الْمُتَكَلّم حكم مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا لعَجزه عَن إبِْطَال مَا صدر عَنهُ وَجرى على لِسَانه، وَإِن قيل بِهِ: يَعْنِي بعض النُّحَاة قَالُوا بِأَنَّهُ لإبطال الأول لَكِن زفر لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك القَوْل (بل يَكْفِي) فِي قَوْله بِلُزُوم الثَّلَاثَة (كَونه) أَي الْمقر أعرض عَن الْإِقْرَار بدرهم حَال كَونه (كالساكت عَنهُ) أَي عَن الْإِقْرَار بِهِ (بعد إِقْرَاره فِي رده) أَي فِي الإضراب عَنهُ إِلَى الْإِقْرَار بِدِرْهَمَيْنِ مُتَعَلق بِكَوْنِهِ أعرض (كالإنشاء) يَعْنِي أَن الِاعْتِرَاف الْمَذْكُور كالإنشاء إِذا عطف فِيهِ ببل فِي وُقُوع مَا بعْدهَا مَعَ مَا قبلهَا وَعدم توقفه على إفادتها إبِْطَال الأول وكفاية كَونه أعرض إِلَى آخِره نَحْو قَوْله للمدخول بهَا أَنْت (طَالِق وَاحِدَة بل ثِنْتَيْنِ يَقع ثَلَاث وَفِي غير المدخولة) تقع (وَاحِدَة لفَوَات الْمحل) بالبينونة بِتِلْكَ الْوَاحِدَة وَهَذَا الَّذِي ذكر فِي غير المدخولة من وُقُوع وَاحِدَة لَا غير لفَوَات الْمحل (بِخِلَاف تَعْلِيقه كَذَلِك فِي غير المدخولة (بقوله إِن دخلت فطالق وَاحِدَة، بل ثِنْتَيْنِ يَقع عِنْد) وجود (الشَّرْط ثَلَاث لِأَنَّهُ) أَي الإضراب ببل (كتقدير شَرط آخر) فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن دخلت فطالق وَاحِدَة إِن دخلت فَأَنت طَالِق ثِنْتَيْنِ، وَقد عرفت أَن فِي هَذَا يَقع الثَّلَاث، فَكَذَا فِيمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَن وُقُوع الْوَاحِدَة فَقَط فِي صُورَة التَّنْجِيز إِنَّمَا كَانَ لفَوَات الْمحل وَلَا فَوَات هَهُنَا (إِلَّا حَقِيقَته) أَي تَقْدِير شَرط آخر كَمَا زعم صدر الشَّرِيعَة (إِذْ لَا مُوجب) لاعتبارها (وتحميل فَخر الْإِسْلَام ذَلِك) أَي تحميل من جعله اعْتِبَار حَقِيقَة تَقْدِير شَرط آخر بِأَن عزاهُ إِلَيْهِ لقَوْله لما كَانَ بل لإبطال الأول وَإِقَامَة الثَّانِي مقَامه كَانَ من قَضيته اتِّصَاله بذلك الشَّرْط بِلَا وَاسِطَة لَكِن بِشَرْط اتِّصَال الأول، وَلَيْسَ فِي وَسعه إبِْطَال الأول، وَلَكِن فِي وَسعه إِفْرَاد الثَّانِي بِالشّرطِ ليتصل بِهِ بِغَيْر وَاسِطَة، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا بل أَنْت طَالِق ثِنْتَيْنِ إِن دخلت فَيصير كالحلف بيمينين انْتهى (غير لَازم) يَعْنِي أَنه تحميل فِي معرض السُّقُوط إِذْ لَا يلْزم من كَلَامه الْمَذْكُور اعْتِبَار حَقِيقَة شَرط آخر، كَمَا يظْهر من تَعْلِيله تَأمل (بل) قَول فَخر الاسلام (تَشْبِيه للعجز عَن إبِْطَال) الطَّلَاق (الأول فَلَا يتوسط) تَفْرِيع عَن الْإِبْطَال: يَعْنِي لَو لم يعجز عَن إبِْطَال الأول الَّذِي هُوَ مُتَّصِل بِالشّرطِ لأبطله، وَلَو أبْطلهُ لَا يتَّصل مَا بعد بل بِالشّرطِ، وَلم يَقع إِلَّا هُوَ لفرض بطلَان الأول لما عجز عَن إِبْطَاله، واتصل الأول بِالشّرطِ، ثمَّ بِهِ تَعْلِيق، ثمَّ إِنَّه لَا يلغي مَا بعد بل، وَمن الْمَعْلُوم أَنه لَيْسَ بتنجيز فَتعين إِرَادَة تَعْلِيق آخر من حَيْثُ الْمَعْنى، لَا من حَيْثُ اللَّفْظ بِأَن يقدر شَرط آخر غير أَن صَنِيعه يشبه تَقْدِير شَرط آخر، فَصَارَ التَّشْبِيه محمل قَوْله لَا التَّقْدِير (بِخِلَافِهِ) أَي الْعَطف(2/82)
(بِالْوَاو عِنْده) أَي أبي حنيفَة كَأَن دخلت فطالق وَاحِدَة وثنتين، وَهِي غير مدخولة تبين بالواحدة، لِأَن الْوَاو للْعَطْف على سَبِيل الْمُشَاركَة، فيتصل الْمَعْطُوف بِالشّرطِ، لَكِن بِوَاسِطَة الأول مُتَقَدما فجَاء التَّرْتِيب وَلزِمَ فَوَات الْمَحَلِّيَّة بِتِلْكَ الْوَاسِطَة (وَقُلْنَا) فِي جَوَاب زفر الإضراب الَّذِي معنى بل يحصل بِالْإِعْرَاضِ عَن الدِّرْهَم الْوَاحِد (إِلَى دِرْهَمَيْنِ) حاصلين (بِإِضَافَة) دِرْهَم (آخر إِلَيْهِ) أَي إِلَى الدِّرْهَم المقربة أَولا، وَلَا يلْزم اعْتِبَار دِرْهَمَيْنِ يغاير كل مِنْهُمَا (فَلم يبطل الْإِقْرَار) بِالْأولِ ليقال لَيْسَ فِي وَسعه إِبْطَاله (وَلم يلْزمه ثلَاثه، وَأما) إِذا كَانَ بل (قبل الْجُمْلَة فالإضراب عَمَّا قبله) أَي بل (بإبطاله) أَي مَا قبله لَا لجعله كالمسكوت على الِاحْتِمَال على مَا فِي الْمُفْرد، كَقَوْلِه تَعَالَى وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ (بل عباد مكرمون: أَي بل هم) عباد مكرمون، إضراب عَن اتِّخَاذ الْوَلَد وَإِبْطَال لَهُ وَإِثْبَات لكَوْنهم أَي الَّذين زَعَمُوا الاتخاذ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم عباد مكرمون، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى - {أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ} إضراب عَن الْجُنُون وَإِثْبَات للرسالة لما كَانَ مَا قبل بل فِي هذَيْن المثالين كَلَام من يَصح إبِْطَال كَلَامه أَفَادَ أَنه إِذا كَانَ كَلَام من لَا يُمكن إبِْطَال كَلَامه كَيفَ يَصح وُقُوع بل فِيهِ بقوله (أما فِي كَلَامه تَعَالَى فللإفاضة) والإفادة (فِي غَرَض آخر) أَي فِي بَيَان فَائِدَة أُخْرَى من غير إبِْطَال لما قبله فتجرد حِينَئِذٍ عَن الْإِبْطَال نَحْو قَوْله تَعَالَى - {قد أَفْلح من تزكّى وَذكر اسْم ربه فصلى بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا} - وَقَوله تَعَالَى - {ولدينا كتاب ينْطَلق بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ (بل قُلُوبهم فِي غمرة} من هَذَا} - (وادعاء حصر الْقُرْآن عَلَيْهِ) أَي على أَنَّهَا للانتقال من غَرَض إِلَى آخر كَمَا زَعمه ابْن مَالك (منع بِالْأولِ) أَي بقوله بل عباد مكرمون، بل بقوله عباد مكرمون، بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَقَوله (لَا عاطفة) عطف على قَوْله للإضراب أَي بل قبل الْجُمْلَة سَوَاء كَانَت للإضراب أَو للانتقال حرف ابْتِدَاء على مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَنَصّ ابْن هِشَام على أَنه الصَّحِيح، وَظَاهر كَلَام ابْن مَالك، وَصرح بِهِ بَعضهم بِأَنَّهَا عاطفة للجملة الَّتِي بعْدهَا على مَا قبلهَا.
مسئلة
(لَكِن للاستدراك) حَال كَونهَا (خَفِيفَة) من الثَّقِيلَة وعاطفة كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِي الإتقان لَكِن مُخَفّفَة ضَرْبَان: أَحدهمَا مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، وَهِي حَرْب ابْتِدَاء لَا يعْمل، بل لمُجَرّد الِاسْتِدْرَاك، وَلَيْسَت عاطفة، وَالثَّانِي عاطفة إِذا تَلَاهَا مُفْرد، وَهِي أَيْضا للاستدراك فَحق الْعبارَة أَن يُقَال إِمَّا مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة أَو عاطفة (وثقيلة، وَفسّر) الِاسْتِدْرَاك (بمخالفة حكم مَا بعْدهَا لما قبلهَا) أَي لحكمه (فَقَط) حَال كَونه (ضدا) لما قبلهَا، نَحْو مَا زيد(2/83)
أَبيض لَكِن أسود (أَو نقيضا) نَحْو مَا زيد سَاكِنا لَكِن متحركا (وَاخْتلف فِي الْخلاف) نَحْو (مَا زيد قَائِم) على لُغَة تَمِيم (لَكِن شَارِب، وَقيل) الِاسْتِدْرَاك مَا ذكر (بِقَيْد رفع توهم تحَققه) صفة توهم أَي توهم تثبته مَا قبل لَكِن، فِي التَّلْوِيح وَفَسرهُ الْمُحَقِّقُونَ بِرَفْع التَّوَهُّم النَّاشِئ من الْكَلَام السَّابِق، مثل مَا جَاءَنِي زيد لَكِن عمر إِذا تفهم الْمُخَاطب عدم مَجِيء عَمْرو أَيْضا بِنَاء على مُخَالطَة وملابسة بَينهَا (كليس بِشُجَاعٍ لَكِن كريم) لِأَن الشجَاعَة وَالْكَرم لَا يفترقان غَالِبا، فنفي أَحدهمَا يَوْم انْتِفَاء الآخر (وَمَا قَامَ زيد لَكِن بكر للمتلابسين، وَإِذا ولى الْخَفِيفَة جملَة) بِالرَّفْع على أَنه فَاعل ولى (فحرف ابْتِدَاء واختلفتا) أَي الجملتان مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا (كيفا وَلَو) كَانَ اخْتِلَافهمَا كيفا (معنى كسافر زيد لَكِن عَمْرو حَاضر، أَو) وَليهَا (مُفْرد فعاطفة، وَشَرطه) أَي شَرط عطفها (تقدم نفي) نَحْو مَا قَامَ زيد لَكِن عَمْرو (أَو نهي) نَحْو لَا يقم زيد لَكِن عَمْرو (وَلَو ثَبت) مَا قبلهَا فَلم يكن نفيا وَلَا نهيا (كمل مَا بعْدهَا) بِذكر مَا يتم بِهِ نسبته (كقام زيد لَكِن عَمْرو لم يقم وَلَا شكّ فِي تأكيدها) أَي تَأْكِيد لَكِن لمضمون مَا قبلهَا (فِي نَحْو لَو جَاءَ أكرمته لكنه لم يَجِيء) لدلَالَة لَو على انْتِفَاء الثَّانِي لانْتِفَاء الأول (وَلم يخصوا) أَي الأصوليون (الْمثل) أَي كلمة لَكِن فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة 0 بالعاطفة إِذْ لَا فرق) بَين العاطفة وَغَيرهَا فِي الْمَعْنى الَّذِي هُوَ الِاسْتِدْرَاك، فَلَا يعْتَرض التَّمْثِيل بِغَيْر العاطفة (وفرقهم) أَي جمَاعَة من مَشَايِخنَا (بَينهَا) أَي بَين لَكِن (وَبَين بل بِأَن بل توجب نفي الأول وَإِثْبَات الثَّانِي بِخِلَاف لَكِن) فَإِنَّهَا توجب إِثْبَات الثَّانِي، فَأَما نفي الأول فَإِنَّمَا يثبت بدليله، وَهُوَ النَّفْي الْمَوْجُود فِي صدر الْكَلَام (مَبْنِيّ على أَنه) أَي إِيجَابهَا نفي الأول وَإِثْبَات الثَّانِي هُوَ (الإضراب) كَمَا هُوَ قَول بَعضهم (لَا جعله) أَي لَا على أَن الإضراب جعل الأول (كالمسكوت) كَمَا هُوَ قَول الْمُحَقِّقين (وعَلى) قَول (الْمُحَقِّقين يفرق) بَينهمَا (بإفادتها) أَي بل (معنى السُّكُوت عَنهُ) أَي الأول (بِخِلَاف لَكِن) وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّارِح بِأَن لَكِن أَيْضا تفِيد معنى السُّكُوت عَن الأول، بل الْفرق أَن بل للإضراب عَن الأول مُطلقًا نفيا كَانَ أَو إِثْبَاتًا، فَلَا يشْتَرط اخْتِلَافهمَا بِالْإِيجَابِ وَالسَّلب بِخِلَاف لَكِن، فَإِنَّهُ يشْتَرط فِي عطف المفردين بهَا كَون الأول منفيا وَالثَّانِي مثبتا، وَفِي عطف الجملتين اخْتِلَافهمَا فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا الْفرق إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار الشَّرْط لَا بِاعْتِبَار نفس الْمَعْنى، وَمَا ذكره المُصَنّف إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار أصل الْمَعْنى، وَلَو كَانَ لَكِن أَيْضا يُفِيد معنى السُّكُوت عَن الأول لما كَانَ لتصريح الْمُحَقِّقين بِهَذَا الْمَعْنى فِي تَعْرِيف بل دون لَكِن كَمَا سَمِعت وَجه، وَكَأَنَّهُ زعم أَن وجود الْفرق الَّذِي ذَكرُوهُ يَنْفِي الْفرق الَّذِي ذكره المُصَنّف (و) قد (علمت) فِيمَا سبق (عدم اخْتِلَاف الْفُرُوع)(2/84)
الَّتِي هِيَ اختلافها فِي مسئلة بل على إِبْطَالهَا الأول كلزوم ثَلَاثَة دَرَاهِم فِي لَهُ دِرْهَم، بل دِرْهَمَانِ عِنْد زفر ودرهمين عندنَا علمت (على هَذَا التَّقْدِير) أَي تَقْدِير جعل الأول كالمسكوت (وَقَول الْمقر لَهُ بِعَين) مُتَعَلق بِالْإِقْرَارِ بِأَن يَقُول من هُوَ بِيَدِهِ هَذَا لفُلَان فَيَقُول فلَان (مَا كَانَ) لي ذَلِك الْعين (قطّ لَكِن) كَانَ (لفُلَان) حَال كَون قَوْله لَكِن لفُلَان (مَوْصُولا) بقوله مَا كَانَ لي قطّ خبر الْمُبْتَدَأ (يحْتَمل رد الْإِقْرَار) الْمَذْكُور (فَلَا يثبت) الْعين (لَهُ) أَي للْمقر إِذْ الْإِقْرَار يرْتَد برد الْمقر لَهُ فَيصير كَالْعدمِ (و) يحْتَمل (التَّحْوِيل) ثمَّ فسر التَّحْوِيل بقوله (قبُوله) أَي قبُول كَون الْعين لَهُ (ثمَّ الْإِقْرَار بِهِ) أَي بِالْعينِ لفُلَان فَلَا رد حِينَئِذٍ للإقرار، فَالْمُرَاد تَحْويل الْعين من ملكه إِلَى ملك فلَان (فَاعْتبر) هَذَا الِاحْتِمَال (صونا) لإِقْرَاره عَن الإلغاء (وَالنَّفْي) وَهُوَ قَوْله مَا كَانَ لي رد حِينَئِذٍ (مجَاز: أَي لم يسْتَمر) ملك هَذَا لي (فانتقل إِلَيْهِ) أَي إِلَى فلَان (أَو) النَّفْي الْمَذْكُور (حَقِيقَة: أَي اشْتهر) كَونه (لي وَهُوَ) فِي الْحَقِيقَة (لَهُ فَهُوَ) أَي قَوْله لَكِن لفُلَان (تَغْيِير للظَّاهِر) أَي قيد فِي الْكَلَام صَارف لَهُ عَن ظَاهره الَّذِي هُوَ الرَّد، فَكَأَنَّهُ قَالَ إقرارك صَادِق نظرا إِلَى ظَاهر الْحَال بِحَسب مَا اشْتهر بَين النَّاس، لَكِن فِي الْحَقِيقَة هُوَ ملك فلَان فَلَيْسَ برد للإقرار، وَإِذا لم يرد لزم بِمُوجب اعْتِرَاف الْمقر تَفْوِيض التَّصَرُّف فِي ذَلِك الْعين إِلَى الْمقر لَهُ فَلَا مُنَازع لَهُ فِيهِ، فَيصح إِقْرَاره لفُلَان، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فصح) قَوْله لَكِن لفُلَان قيد مغير لأوّل الْكَلَام لكَونه (مَوْصُولا) إِذْ شَرط المغير لأوّل الْكَلَام اتِّصَاله بِهِ، وَهُوَ مَوْجُود (فَيثبت النَّفْي) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله مَا كَانَ لي قطّ (مَعَ الْإِثْبَات) يَعْنِي إِثْبَات كَون الْمعِين لفُلَان بالتأويل الْمَذْكُور لعدم حمل صدر الْكَلَام على ظَاهره وَهُوَ الرَّد (للتوقف) أَي لتوقف تعْيين المُرَاد من الْكَلَام على آخِره (للمغير) أَي لوُجُود الْقَيْد المغير فِي آخِره (وَمِنْه) أَي من هَذَا الْقَبِيل (ادّعى دَارا على جَاحد) دَعْوَى مقرونة (بَيِّنَة فَقضى) لَهُ بهَا (فَقَالَ) الْمقْضِي عَلَيْهِ، وَفسّر الشَّارِح الضَّمِير بالجاحد فأفسد (مَا كَانَت) الدَّار (لي لَكِن) كَانَت (لزيد) حَال كَون قَوْله لَكِن لزيد (مَوْصُولا) بقوله مَا كَانَ لي (فَقَالَ) زيد (كَانَ) الدَّار (لَهُ) أَي للمقضي لَهُ، وَفسّر الشَّارِح هَهُنَا أَيْضا الضَّمِير بالجاحد، فَعلم أَن التَّفْسِير الأول لم يكن سَهْو الْقَلَم (فباعنيه) الْمقْضِي لَهُ (بعد الْقَضَاء فَهِيَ) الدَّار (لزيد لثُبُوته) أَي الْإِقْرَار لزيد (مُقَارنًا للنَّفْي للوصل) إِذْ الْمَفْرُوض أَنه وصل قَوْله لَكِن لزيد بِالنَّفْيِ، وَلَو كَانَ مَفْصُولًا لكَانَتْ الدَّار للمقضي عَلَيْهِ لما سَيظْهر (والتوقف) أَي وَلكَون صدر الْكَلَام وَهُوَ النَّفْي مَوْقُوفا على مَا بعده لكَونه قيدا لَهُ مغيرا صارفا إِيَّاه عَن ظَاهره وَهُوَ الِاعْتِرَاف بِكَوْن الدَّار للمقضي عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَتَكْذيب شُهُوده) أَي تَكْذِيب(2/85)
الْمقْضِي لَهُ شُهُوده (وَإِثْبَات ملك الْمقْضِي عَلَيْهِ حكمه) أَي مُوجب كَلَامه. قَالَ صدر الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ إِذا وصل فَكَأَنَّهُ تكلم بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات مَعًا، فَثَبت موجبهما وَهُوَ النَّفْي عَن نَفسه وَثُبُوت ملك زيد، ثمَّ تَكْذِيب الشُّهُود وَإِثْبَات ملك الْمقْضِي عَلَيْهِ لَازم انْتهى (فَتَأَخر) الحكم الْمَذْكُور: أَعنِي إِثْبَات ملك الْمقْضِي عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ (عَنهُ) وَتَكْذيب الشُّهُود بِسَبَب صيرورة الدَّار لزيد (فقد أتلفهَا) أَي الْمقر الدَّار (على الْمقْضِي عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ لزيد على ذَلِك الْوَجْه) أَي بِنَفْي كَونهَا لَهُ وَوصل كَونهَا لزيد بِالنَّفْيِ بعد الْقَضَاء لَهُ (فَعَلَيهِ) أَي الْمقْضِي لَهُ الْمقر لزيد (قيمتهَا) للمقضي عَلَيْهِ (وَلَو صدقه) أَي الْمقر لَهُ، وَهُوَ زيد الْمقْضِي لَهُ (فِيهِ) أَي فِي النَّفْي أَيْضا كَمَا صدقه فِي الْإِقْرَار لَهُ (ردَّتْ) الدَّار (للمقضي عَلَيْهِ لِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ) الْمقْضِي لَهُ وَالْمقر لَهُ (على بطلَان الحكم) أَي حكم القَاضِي للْمُدَّعِي الْمَذْكُور (بِبُطْلَان الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَة) أما الْمقْضِي لَهُ فَلِأَنَّهُ قَالَ مَا كَانَت الدَّار لي لَكِنَّهَا لزيد، فَعلم أَنه كَانَ دَعْوَاهُ بَاطِلا، وَكَانَ شُهُوده كاذبين، وَأما الْمقر لَهُ فَكَذَلِك إِذا صدقه فِي النَّفْي الْمَذْكُور، وَقَوله بَاعَنِي بعد الْقَضَاء بعد تَصْدِيقه فِي النَّفْي اعْتِرَاف بِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يملكهُ فِي نفس الْأَمر (وَشرط عطفها) أَي لَكِن (الاتساق) هُوَ فِي الأَصْل الانتظام، وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا مَا أوضحه بعطف بَيَانه، وَهُوَ قَوْله (عدم اتِّحَاد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات) اللَّذين يتوسط بَينهمَا لَكِن إِذْ لَو اتَّحد لم يبْق للْكَلَام انتظام وَلم يُمكن الْجمع بَينهمَا فَلم يتَحَقَّق الْعَطف (وَهُوَ) أَي الاتساق (الأَصْل فَيحمل) الْكَلَام الْمُشْتَمل عَلَيْهَا (عَلَيْهِ) أَي الاتساق إِن احْتمل اتِّحَاد محلهَا، وَإِن كَانَ ظَاهرا فِيهِ (مَا أمكن) بِخِلَاف مَا إِذا لم يُمكن، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تكون عاطفة (فَلِذَا) أَي لوُجُوب الْحمل عَلَيْهَا مَا أمكن بِخِلَاف مَا إِذا لم يُمكن (صَحَّ) قَول الْمقر لَهُ مُتَّصِلا (لَا لَكِن غصب جَوَاب) قَول الْمقر (لَهُ عَليّ مائَة قرضا لصرف النَّفْي) يَعْنِي قَوْله (للسبب) تَعْلِيل للصِّحَّة، وَالْمرَاد بِالسَّبَبِ الْقَرْض: أَي لَيْسَ سَبَب شغل ذمَّته بِالْمِائَةِ الْقَرْض، ثمَّ تدارك بِبَيَان سَبَب آخر وَهُوَ الْغَصْب فَصَارَ الْكَلَام منتظما وَصَحَّ الْعَطف بهَا وَلَا يكون ردا لإِقْرَاره، بل لخُصُوص السَّبَب (بِخِلَاف من بلغه تَزْوِيج أمته) فضولا (بِمِائَة، فَقَالَ لَا أُجِيز النِّكَاح وَلَكِن) أجيزه (بمائتين) فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمله على الاتساق، لِأَن اتساقه أَن لَا يَصح النِّكَاح الْمَوْقُوف بِمِائَة، لَكِن يَصح بمائتين، وَهُوَ غير مُمكن، لِأَن الَّذِي عقده الْفُضُولِيّ قد أبْطلهُ الْمولى بقوله لَا أُجِيز النِّكَاح فَلم يبْق نِكَاح آخر مَوْقُوف ليجيزه بقوله: وَلَكِن بمائتين، ثمَّ أَن الْإِجَازَة لَا تلْحق إِلَّا تعين الْمَوْقُوف، فَلَزِمَ اتِّحَاد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (للاتحاد) أَي اتِّحَاد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَذَلِكَ (لنفي أصل النِّكَاح) بقوله لَا أُجِيز النِّكَاح (ثمَّ ابْتِدَائه)(2/86)
أَي ابْتِدَاء النِّكَاح (بِقدر آخر) من الْمهْر (بعد الِانْفِسَاخ) أَي انْفِسَاخ عقد الْفُضُولِيّ وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا إجَازَة العقد الْمَوْقُوف على إِجَازَته لَا إنْشَاء عقد آخر بِمهْر آخر (بِخِلَاف) قَوْله (لَا أجيزه) أَي النِّكَاح (بِمِائَة لَكِن) أجيزه (بمائتين) فَإِن النَّفْي الدَّاخِل على الْمُقَيد بتوجه على الْقَيْد وَهُوَ هَهُنَا قَوْله بِمِائَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَن التَّدَارُك) بلكن (فِي قدر الْمهْر لَا أصل النِّكَاح) فَيكون متسقا.
مسئلة
(أَو قبل مُفْرد لإِفَادَة أَن حكم مَا قبلهَا ظَاهر لأحد الْمَذْكُورين) اسْمَيْنِ كَانَا أَو فعلين. قَوْله ظَاهرا قيد للإفادة بِاعْتِبَار كَون المفاد ثُبُوت الحكم لأَحَدهمَا: إِذْ بِحَسب التَّحْقِيق والمآل تَارَة يُسْتَفَاد كَونه لكل مِنْهُمَا كَمَا إِذا وَقعت فِي سِيَاق النَّفْي، ثمَّ بَين الْمَذْكُورين بقوله (مِنْهُ) أَي مِمَّا قبلهَا (وَمَا بعْدهَا وَلذَا) أَي ولكونها لإِفَادَة الحكم لأَحَدهمَا لَا على التَّعْيِين (عَم) الحكم كل وَاحِد مِنْهُمَا (فِي) سِيَاق (النَّفْي) لِأَن مَفْهُوم أَحدهمَا يصدق على كل وَاحِد مِنْهُمَا بِخُصُوصِهِ فَهُوَ أَعم من كل بِخُصُوصِهِ وَنفي الحكم عَن الْأَعَمّ يسْتَلْزم نَفْيه عَن الْأَخَص (و) كَذَا فِي (شبهه) أَي شبه النَّفْي وَهُوَ النَّهْي (على الِانْفِرَاد) مُتَعَلق بعم وعمومه على الِانْفِرَاد أَن يتَحَقَّق فِي كل مِنْهُمَا منتقلا فَقَوله تَعَالَى: و {لَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} وَكَذَا قَول الْحَالِف وَالله (لَا أكلم زيدا أَو بكرا منع) للمخاطب والحالف (من كل) أَي من إطاعة كل من الآثم والكفور فِي الأول، وَفِي تكليم كل من زيد وَبكر فِي الثَّانِي لِأَن التَّقْدِير والمآل لَا تُطِع (وَاحِدًا مِنْهُمَا) وَلَا أكلم وَاحِد مِنْهُمَا وَهُوَ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي وَالنَّهْي فتعم (لَا) أَن التَّقْدِير لَا تُطِع وَلَا أكلم (أَحدهمَا ليَكُون معرفَة) فَلَا يعم، وَذَلِكَ لعدم الْإِضَافَة على التَّقْدِير الأول ووجودها على الثَّانِي (وَحِينَئِذٍ لَا يشكل بِلَا أقرب) أَي بوالله لَا أقرب (ذى أَو ذى) إِشَارَة إِلَى زوجيته بِأَن يُقَال أَو لأحد الْأَمريْنِ، وَمُقْتَضَاهُ أَن لَا يصير موليا مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَحكم المسئلة أَنه (يصير موليا مِنْهُمَا) لِأَنَّهُ فِي معنى وَاحِدَة مِنْهُمَا وَالْمعْنَى لَا يشكل بِأَن يُقَال لَا أقرب ذى أَو ذى مثل: لَا أقرب أحدا كَمَا لِأَن أَو لأحد الْأَمريْنِ، فَلم قُلْتُمْ فِي الأول يصير موليا مِنْهُمَا؟ (فتبينان) مَعًا عِنْد انْقِضَاء مُدَّة الْإِيلَاء: وَهُوَ أَرْبَعَة أشهر من غير فَيْء (وَفِي) قَوْله لَا أقرب (أحدا كَمَا) يصير موليا (من إِحْدَاهمَا) لَا مِنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَن إِحْدَى بِسَبَب الْإِضَافَة صَارَت معرفَة فَلَا تعم فِي سِيَاق النَّفْي (بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف الْمَنْع من الْأَمريْنِ (بِالْوَاو) بدل أَو كلا أكلم زيدا وعمرا (فَإِنَّهُ) أَي الْمَنْع بِالْوَاو (من الْجمع) لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لَهُ فَيتَعَلَّق بالمجموع (لعُمُوم الِاجْتِمَاع)(2/87)
خبر بعد خبر لِأَن: أَي لَيْسَ لعُمُوم الِانْفِرَاد كَمَا فِي أَو فَتبقى صور الِاجْتِمَاع كلهَا وَلَا تبقى صور الِانْفِرَاد فيكلم أَحدهمَا دون الآخر كَمَا قَالَ (فَلَا يَحْنَث بِأَحَدِهِمَا) أَي بِكَلَام أَحدهمَا (إِلَّا بِدَلِيل) يدل على أَن المُرَاد الِامْتِنَاع من كل مِنْهُمَا فَيحنث بِأَحَدِهِمَا (كلا تزن وتشرب) الْخمر فَإِنَّهُ يَأْثَم بِكُل مِنْهُمَا للقرينة الدَّالَّة على الِامْتِنَاع من كل مِنْهَا وَهِي حُرْمَة كل مِنْهُمَا (أَو يَأْتِي بِلَا) الزَّائِدَة الْمُؤَكّدَة للنَّفْي، مَعْطُوف على قَوْله بِدَلِيل، تَقْدِيره إِلَّا بِدَلِيل أَو بِأَن يَأْتِي بِلَا مثل مَا رَأَيْت (لَا زيدا وَلَا بكرا وَنَحْوه) مِمَّا يُفِيد هَذَا (وتقييده) أَي تَقْيِيد كَون الْمَنْع بِالْوَاو من الْجمع (بِمَا إِذا كَانَ للاجتماع تَأْثِير فِي الْمَنْع) أَي فِي منع الْحَالِف مثلا من تنَاول الْأَمريْنِ كَمَا إِذا حلف لَا يتَنَاوَل السّمك وَاللَّبن لما فِي اجْتِمَاعهمَا من الضَّرَر (بَاطِل) خبر تَقْيِيده (بِنَحْوِ لَا أكلم زيدا وعمرا وَكثير) مِمَّا هُوَ للْمَنْع من الْجمع مَعَ أَنه لَا تَأْثِير للاجتماع فِي الْمَنْع (والعموم) المُرَاد (بِأَو) أَي مَا يشْتَمل عَلَيْهِ (فِي الْإِثْبَات كلا أكلم أحدا إِلَّا زيدا أَو بكرا) إِذْ النَّفْي قد انْتقض بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيحنث بِتَكْلِيم غَيرهمَا لَا بتكليمهما وَلَا بِتَكْلِيم أَحدهمَا، إِنَّمَا يفهم (من خَارج) وَهُوَ الْإِبَاحَة الْحَاصِلَة من الِاسْتِثْنَاء من الْحَظْر لِأَنَّهَا إِطْلَاق وَرفع قيد، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَالْأَظْهَر أَنه للْإِبَاحَة لِأَن الْكَلَام الْمُشْتَمل على الِاسْتِثْنَاء تكلم بِمَا بَقِي بعد الثنيا، فالمنفي إِنَّمَا هُوَ كَلَام من عداهما، وَأَيْضًا الْمُسْتَثْنى كَلَام أَحدهمَا سَوَاء كَانَ فِي ضمن الِانْفِرَاد والاجتماع وَهُوَ على سَبِيل منع الْخُلُو لَا الْجمع إِذْ علم من استثنائه أَنه لَا يكره كَلَامهمَا، وَلَيْسَ فِي الْجمع بَينهمَا مَا يُوجب كَرَاهَته (فَهِيَ) أَي أَو (للأحد فيهمَا) أَي النَّفْي وَالْإِثْبَات، غير أَنه يُسْتَفَاد الْعُمُوم تَارَة بسياق النَّفْي وَتارَة بِغَيْرِهِ كَمَا عرفت (فَمَا قيل) كَمَا ذكره فَخر الْإِسْلَام وَمن تبعه من أَن أَو (تستعار للْعُمُوم تساهل) إِذْ هِيَ لم تسْتَعْمل فِي الْعُمُوم إِذْ هُوَ يُسْتَفَاد من الْخَارِج غير أَنه لما كَانَ مُتَعَلقا فِي بعض الْموَاد محلا للْعُمُوم الْحَاصِل من غَيرهَا، قيل يستعار لَهُ مُسَامَحَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل يثبت) الْعُمُوم (مَعهَا لَا بهَا وَلَيْسَت) أَو (فِي الْخَبَر للشَّكّ أَو التشكيك) كَمَا ذكره أَبُو زيد وَأَبُو إِسْحَاق الاسفرايني وَجَمَاعَة من النُّحَاة لانْتِفَاء كَونهَا لما ذكر (لَا لِأَن الْوَضع) أَي وضع الْأَلْفَاظ (للإفهام وَهُوَ) أَي الإفهام (مُنْتَفٍ) فِي الشَّك والتشكيك (لِأَنَّهُ إِن أُرِيد) بالإفهام الْمَذْكُور (إفهام الْمعِين) الَّذِي لَا إِبْهَام فِيهِ (منعنَا الْحصْر) وَيُقَال لَا، ثمَّ أَن الْوَضع لَيْسَ إِلَّا للإفهام كَيفَ والإجمال مِمَّا وضع لَهُ وَهُوَ غير معِين (أَو) أُرِيد بِهِ الإفهام (مُطلقًا) سَوَاء كَانَ مُبْهما أَو معينا (لم يفد) التَّعْلِيل الْمَذْكُور الْمَطْلُوب، لِأَن الإفهام الْمُطلق حَاصِل فِي الشَّك والتشكيك إِذْ رَأَيْت زيدا أَو عمرا أَفَادَ تَعْلِيق الرُّؤْيَة بِوَاحِدَة مِنْهُمَا لَا على التعين، وَالشَّكّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْخُصُوص (بل) يَنْفِيه (لِأَن الْمُتَبَادر) من الْكَلَام الْمُشْتَمل عَلَيْهَا (أَولا إِفَادَة النِّسْبَة إِلَى أَحدهمَا)(2/88)
أَي المتعاطفين بأولا على التَّعْيِين، والتبادر دَلِيل الْحَقِيقَة فَهُوَ الْمَعْنى الْمُسْتَعْمل فِيهِ (ثمَّ ينْتَقل) الذِّهْن بعد ذَلِك (إِلَى كَون سَبَب الْإِبْهَام أَحدهمَا) أَي الشَّك من الْمُتَكَلّم إِن لم يكن عَالما والتشكيك إِن كَانَ عَالما بِطرف النِّسْبَة عينا وَأَرَادَ أَن يلبس على السَّامع (فَهُوَ) أَي الشَّك والتشكيك مَدْلُول (التزامي) للْكَلَام (عادي لَا عَقْلِي) لِإِمْكَان انفكاكهما بِأَن يَسْتَفِيد السَّامع نِسْبَة الْمَجِيء إِلَى أَحدهمَا مُبْهما من غير أَن ينْتَقل ذهنه إِلَى سَبَب الْإِبْهَام إِلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِإِمْكَان عدم إخطاره) كَذَا فِي نُسْخَة، وَفِي نُسْخَة أُخْرَى عدم إِحْضَاره (وَعنهُ) أَي وَعَن كَون الشَّك أَو التشكيك مدلولا التزاميا عاديا لأو (تجوز بِأَنَّهَا للشَّكّ) قَالَ الشَّارِح لعلاقة التلازم العادي فَكَأَنَّهُ لم يفرق بَين تجوز بهَا عَن الشَّك وَتجوز بِأَنَّهَا للشَّكّ.
وَأَنت خَبِير بِأَن التَّجَوُّز على الأول فِي أَو، وعَلى الثَّانِي فِي أَنَّهَا للشَّكّ: أَي فِي هَذَا الحكم إِذْ هِيَ فِي الْحَقِيقَة لما يلْزمه الشَّك عَادَة لَا لنَفس الشَّك (وَقد يعلم بِخَارِج التَّعْيِين) أَي قد يعلم طرف النِّسْبَة بِعَيْنِه من الْخَارِج فَلَيْسَ المُرَاد إِفَادَة كَون أحد الْأَمريْنِ لَا على التَّعْيِين) طرف النِّسْبَة إِذْ لَا حاجه إِلَيْهِ كَمَا أَنه لَا حَاجَة إِلَّا إِفَادَة كَون أَحدهمَا بِعَيْنِه طرفها (فَيكون) أَو حِينَئِذٍ (للإنصاف) . أَي لإِظْهَار النصفة حَتَّى أَن كل من سَمعه من موَالٍ ومخالف يَقُول لمن خُوطِبَ بِهِ قد أنصفك الْمُتَكَلّم نَحْو قَوْله تَعَالَى - (وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ الْآيَة) {لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} - قَالَ الْعَلامَة الْبَيْضَاوِيّ: أَي وَأَن أحد الْفَرِيقَيْنِ من الْمُوَحِّدين المتوحد بالرزق وَالْقُدْرَة الذاتية بِالْعبَادَة، وَالْمُشْرِكين بِهِ الجماد النَّازِل فِي أدنى الْمَرَاتِب الإمكانية لعلى أحد الْأَمريْنِ من الْهدى والضلال الْمُبين وَهُوَ بعد مَا تقدم من التَّقْرِير البليغ الدَّال على من هُوَ على الْهدى وَمن هُوَ فِي ضلال أبلغ من التَّصْرِيح لِأَنَّهُ فِي صور الْإِنْصَاف المسكت للخصم المشاغب انْتهى فَإِن قلت أَن الْإِنْصَاف إِنَّمَا يحصل بالترديد فِي جَانب الْمسند بتجويز الْهِدَايَة والضلال صُورَة فِي الموحد والمشرك فَمَا وَجه الترديد فِي جَانب الْمسند إِلَيْهِ، وَلم لم يقل إِنَّا وَإِيَّاكُم؟ وَأَيْضًا كَون أحد الْفَرِيقَيْنِ مَوْصُوفا بِأحد الْأَمريْنِ بديهي جلي فَمَا فَائِدَة الْأَخْبَار بِهِ؟ قلت فَائِدَته التَّنْبِيه على أَن الْعَامِل إِذا علم أَن أمره دَار بَين السَّعَادَة الأبدية والشقاوة السرمدية يجب عَلَيْهِ بذل الوسع جَمِيع الْعُمر فِي استكشاف طَرِيق النجَاة، والترديد فِي جَانب الْمسند إِلَيْهِ يزِيد فِي الْإِنْصَاف لما يُوهِمهُ الترديد من التَّسْوِيَة بَين شقيه بِصُورَة المعادلة بَينهمَا وَتَحْقِيق الْجَواب عَنْهُمَا أَنه قصد بِهَذَا الْكَلَام معنى لَا يحصل إِلَّا بالترديدين مَعًا، وَهُوَ أَن الْفَرِيقَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ على الْهِدَايَة وَلَا على الضَّلَالَة فَلَو قَالَ إِنَّا وَإِيَّاكُم إِلَى آخِره لَكَانَ الْمَعْنى إِنَّا لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين وَأَنْتُم كَذَلِك وَهَذَا لَا يُفِيد الْمَقْصُود لجَوَاز اجْتِمَاعهمَا على أحد شقي الترديد، بِخِلَاف وَأَنا وَإِيَّاكُم فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل(2/89)
ذَلِك، فَإِن قيل هَذَا إِذا جعل قضيتين: إِحْدَاهمَا، إِنَّا وَإِيَّاكُم لعلى هدى على سَبِيل منع الْجمع وَالْأُخْرَى إِنَّا أَو إيَّاكُمْ لفي ضلال كَذَلِك، فَحِينَئِذٍ لَا يُمكن اتِّفَاقهمَا على الْهِدَايَة وَلَا على الضَّلَالَة، وَالظَّاهِر أَنه قَضِيَّة وَاحِدَة مرددة الْمَوْضُوع والمحمول حاصلها الحكم على أحد الْفَرِيقَيْنِ بِأحد الْأَمريْنِ على سَبِيل منع الْجمع، فَلَو فرض كَونهمَا جَمِيعًا على الْهِدَايَة مثلا صدقت قُلْنَا لَا نسلم أَن ظَاهره مَا ذكرت، بل هُوَ عرفا عبارَة عَن تينك القضيتين واختصار لَهما وَالله أعلم، ثمَّ عطف على قَوْله قبل مُفْرد (وَقبل جملَة لِأَن الثَّابِت) أَي لإِفَادَة أَن الثَّابِت (أحد المضمونين وَكَذَا تجوز) أَي كَمَا تجوز بِأَن لَو للتشكيك أَو الشَّك وَهُوَ تساهل كَذَلِك تجوز (بِأَنَّهَا للتَّخْيِير أَو الْإِبَاحَة بعد الْأَمر) فَفِيهِ تساهل أَيْضا (وَإِنَّمَا هِيَ لإيصال معنى الْمَحْكُوم بِهِ) كالرؤية (إِلَى أَحدهمَا) كزيد أَو عَمْرو فِي رَأَيْت زيدا أَو عمرا (فَإِن كَانَ) الْمَحْكُوم بِهِ (أمرا) كالضرب زيدا أَو عمرا، وَالْمرَاد بِهِ الْمسند إِذْ لَا حكم فِي الْأَمريْنِ (لزم أَحدهمَا) أَي لزم إِيقَاع الْفِعْل مُتَعَلقا بِأَحَدِهِمَا (وَيتَعَيَّن) كل من الْإِبَاحَة والتخير (بِالْأَصْلِ فَإِن كَانَ) الأَصْل (الْمَنْع فتخيير) أَي فَلَا يتَعَيَّن تَخْيِير (فَلَا يجمع) الْمُخَاطب بَينهمَا (كبع عَبدِي ذَا أَو ذَا) فيبيع أَحدهمَا لِأَن بيع مَمْلُوك الْغَيْر مَمْنُوع، والمستفاد من اللَّفْظ الْإِذْن فِي بيع أَحدهمَا فَمَا زَاد عَلَيْهِ على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْمَنْع (أَو) كَانَ الأَصْل (الْإِبَاحَة فإلزام أَحدهمَا) أَي فَالْمُرَاد إِلْزَام إِيقَاع الْفِعْل مُتَعَلقا بِأَحَدِهِمَا (وَجَاز الآخر بِالْأَصْلِ) أَي بِمُوجب الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة (وَفِي) قَوْله لعبيده الثَّلَاثَة (هَذَا حر أَو هَذَا) بأوو (ذَا) بِالْوَاو (قيل لَا عتق إِلَّا بِالْبَيَانِ لهَذَا) أَي كَانَ يُشِير إِلَى وَاحِد بِعَيْنِه للْبَيَان وَبِقَوْلِهِ هَذَا حر (أَو هَذَانِ) أَي يُشِير إِلَى اثْنَيْنِ بعينهما وَيَقُول هَذَانِ حران وَهَذَا إِذا كَانَ قَوْله لهَذَا إِلَى آخِره تصويرا للْبَيَان، وَالْأَوْجه أَن يَجْعَل مقيسا عَلَيْهِ يَعْنِي حكم هَذِه المسئلة عدم الْعتْق إِلَّا بِالْبَيَانِ كَمَا أَن حكم مسئلة هَذَا حر وَهَذَانِ كَذَلِك بالِاتِّفَاقِ وَذَلِكَ لِأَن الْجمع بِالْوَاو بِمَنْزِلَة الْجمع بِأَلف التَّثْنِيَة فَيتَخَيَّر بَين الأول والآخرين، وَهَذَا قَول زفر وَالْفراء ذكره الشَّارِح (وَقيل يعْتق الْأَخير) فِي الْحَال وَيتَخَيَّر فِي الْأَوَّلين يعين أَيهمَا شَاءَ (لِأَنَّهُ) أَي القَوْل الْمَذْكُور (كأحدهما) أَي كَقَوْلِه أَحدهمَا حر (وَهَذَا) وَفِي القَوْل يعْتق الْأَخير وَيتَخَيَّر فِي الْأَوَّلين، فَكَذَا مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور (وَرجح) القَوْل الثَّانِي والمرجح صدر الشَّرْعِيَّة (باستدعاء) القَوْل (الأول تَقْدِير حران) لِأَن الْخَبَر الْمَذْكُور وَهُوَ حر لَا يصلح خَبرا لاثْنَيْنِ (وَهُوَ) أَي تَقْدِير حران (بِدلَالَة) الْخَبَر (الأول) وَذَلِكَ أَن الْعَطف للتشريك فِي الْخَبَر أَو لإِثْبَات خبر آخر مثله (وَهُوَ) أَي الأول (مُفْرد) فَيلْزم عدم الْمُنَاسبَة بَين الدَّال والمدلول (وَيُجَاب) والمجيب الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (بِأَنَّهَا) أَي صِحَة دلَالَة(2/90)
الْخَبَر على الْمُقدر (تَقْتَضِي اتِّحَاد الْمَادَّة لَا الصِّيغَة قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف)
(وَلَو سلم) اقْتِضَاء اتِّحَاد الصِّيغَة (فَإِنَّمَا يلْزم) كَون الْخَبَر مثله (لَو ثنى مَا بعد أَو) لم يثن هَاهُنَا (فالمقدر مُفْرد فِي كل مِنْهُمَا) أَي هَذَا وَذَاكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حر أَو هَذَا حر وَذَا حر، لَا يُقَال يلْزم كَثْرَة الْحَذف لِأَنَّهُ مُشْتَرك الْإِلْزَام فَتَأمل (و) رجح أَيْضا (بِأَن أَو مُغيرَة) لِمَعْنى هَذَا حر (فتوقف عَلَيْهِ) أَي على مَا بعْدهَا (الأول) أَي حكم مَا قبلهَا وَبعد ذكره يصير مَعْنَاهُ أَحدهمَا (لَا الْوَاو) أَي لَيست بمغيرة لما قبلهَا لِأَنَّهَا (للتشريك) فَيَقْتَضِي بَقَاء حكم الأول ومشاركة مَا بعْدهَا لَهُ فِي الحكم (فَلَا يتَوَقَّف) الأول على قَوْله: وَهَذَا حر فَيتم الترديد قبلهَا (فَلَيْسَ) الثَّالِث (فِي حيّز أَو فَينزل) مَا قبل الْوَاو لعدم التَّوَقُّف على مَا بعْدهَا، وَيثبت التَّخْيِير بَين الأول وَالثَّانِي فَيصير مَعْنَاهُ: أَحدهمَا حر، وَهَذَا حر (وَيمْنَع) هَذَا التَّرْجِيح (بِأَنَّهُ) أَي قَوْله وَهَذَا (عطف على مَا بعد أَو فشرك) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي مَا بعد الْوَاو (فِي حكمه) أَي مَا بعد أَو فِي (ثُبُوت مَضْمُون الْخَبَر) وَهُوَ الْحُرِّيَّة (للأحد) ثمَّ بَين الْأَحَد الْمُثبت لَهُ الْمَضْمُون بقوله (مِنْهُ) أَي مِمَّا بعد أَو (وَمِمَّا قبله) مرجع هَذَا الضَّمِير مرجع الأول، أَو كلمة أَو بِتَأْوِيل وَالْحَاصِل أَن حكم مَا بعد أَو قبل عطف الثَّالِث عَلَيْهِ كَونه أحد شقي الترديد مُسْتقِلّا بعد مَا عطف عَلَيْهِ أَن يكون مَعَ مَا عطف عَلَيْهِ أحد شقي الترديد، فلولا هَذَا التَّشْرِيك كَانَ لَهُ أَن يخْتَار الثَّانِي وَحده وَبعده لَيْسَ لَهُ ذَلِك بل يجب عَلَيْهِ اخْتِيَار الْأَخيرينِ مَعًا (فتوقف) مَا قبل الْوَاو (عَلَيْهِ) أَي على مَا بعْدهَا لكَونه مغيرا لَهُ كَمَا عرفت (وَلم يعْتق) أحدهم (إِلَّا باختيارهما) أَي الثَّانِي وَالثَّالِث، الشق الثَّانِي فِي الترديد فيعتقان (أَو) بِاخْتِيَار (الأول) من الترديد فَيعتق وَحده (فَصَارَ كحلفه لَا يكلم ذَا أَو ذَا أَو ذَا لَا يَحْنَث بِكَلَام أحد الْأَخيرينِ) وَإِنَّمَا يَحْنَث بكلامهما أَو الأول، وروى الشَّارِح عَن مُحَمَّد من طَرِيق ابْن سَمَّاعَة كَون الطَّلَاق وَالْعتاق كاليمين فِي هَذَا الحكم، وروى أَن ظَاهر الْعبارَة عتق الآخر وَطَلَاق الْأَخِيرَة وَالْخيَار فِي الْأَوليين، ثمَّ ذكر زِيَادَة تَفْصِيل لَا يحْتَاج إِلَيْهَا حل الْمَتْن، ثمَّ لما توهم بعض الْمُعْتَزلَة منع التَّكْلِيف بِوَاحِد مُبْهَم من أُمُور مُعينَة لكَونه مَجْهُولا حَتَّى ذهب إِلَى أَن الْوَاجِب الْجَمِيع، وَيسْقط بِوَاحِد وَكَانَ هَذَا من لَوَازِم التَّخْيِير أَشَارَ المُصَنّف إِلَى رده، فَقَالَ (وَمنع صِحَة التَّكْلِيف مَعَ التَّخْيِير فَحكم بِوُجُوب خِصَال الْكَفَّارَة) وَهِي الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة والتحرير (وَيسْقط) وجوبهما بِالنّصب عطفا على الْوُجُوب بِتَقْدِير أَن (بِالْبَعْضِ) منعا (بِلَا مُوجب لِأَن صِحَّته) أَي التَّكْلِيف (بِإِمْكَان الِامْتِثَال وَهُوَ) أَي إِمْكَانه (ثَابت مَعَ التَّخْيِير لِأَنَّهُ) أَي الِامْتِثَال (بِفعل إِحْدَاهمَا) أَي(2/91)
الْخِصَال، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى (والإنشاء كالأمر) فأوفيه للتَّخْيِير أَو الْإِبَاحَة (فَلِذَا) أَي لكَون أَو للتَّخْيِير أَو الْإِبَاحَة فِي الْإِنْشَاء (وَعدم الْحَاجة) أَي تحمل الْجَهَالَة (أبطل أَبُو حنيفَة التَّسْمِيَة وَحكم مهر الْمثل فِي التَّزَوُّج على كَذَا) أَي الْألف مثلا (أَو كَذَا) كألفين (لِأَنَّهُ) أَي كَون الْمهْر أمرا مَجْهُولا لكَونه أحد الْأَمريْنِ (جَهَالَة لَا حَاجَة إِلَى تحملهَا إِذْ كَانَ لَهُ) أَي لقعد النِّكَاح (مُوجب أُصَلِّي) مَعْلُوم يلْزم بِدُونِ الذّكر إِذا لم يكن الْمهْر مَعْلُوما، وَهُوَ مهر الْمثل، وَمعنى تحكيم مهر الْمثل هَهُنَا أَنه ينظر إِلَى مِقْدَار مهر الْمثل، فَإِن كَانَ ألفي دِرْهَم أَو أَكثر، فَإِن شِئْت أخذت الْألف الْحَالة أَو الْأَلفَيْنِ عِنْد حُلُول الْأَجَل لِأَنَّهَا التزمت أحد الْوَجْهَيْنِ، وَإِن كَانَ أقل من ألف دِرْهَم فَأَيّهمَا شَاءَ أَعْطَاهَا، وَإِن كَانَ بَينهمَا كَانَ لَهَا مهر الْمثل (وصححاه) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد مَا سمى على وَجه التَّخْيِير، فَيكون الْمهْر أحد الْمَذْكُورين وَالِاخْتِيَار إِلَى الزَّوْج (إِن أَفَادَ التَّخْيِير) أَي إِن كَانَ التَّخْيِير مُفِيدا لكل من الزَّوْج وَالزَّوْجَة، أَو للزَّوْج نوع تيسير وَذَلِكَ (باخْتلَاف الْمَالَيْنِ) الْمَذْكُورين بَينهَا أَو (حلولا وأجلا) نصبهما على التَّمْيِيز عَن نِسْبَة الِاخْتِلَاف إِلَى الْمَالَيْنِ: أَي من حَيْثُ الْحُلُول والتأجيل: يَعْنِي أَن الْمُصَحح هَذَا الِاخْتِلَاف وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم اخْتِلَافهمَا من وَجه أخر كعلي ألف حَالَة أَو أَلفَانِ إِلَى سنة، فَفِي الْألف يسر للزَّوْج بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَلفَيْنِ، وللزوجة بِالنِّسْبَةِ للحول، وَفِي الْأَلفَيْنِ يسري للزَّوْج من حَيْثُ التَّأْجِيل، وللزوجة من حَيْثُ التكثير (أَو) باخْتلَاف الْمَالَيْنِ (جِنْسا) كعلي ألف دِرْهَم أَو مائَة دِينَار إِذْ قد يكون تَحْصِيل أَحدهمَا على الزَّوْج أيسر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن التَّخْيِير مُفِيدا لما ذكر بِأَن يَقع بَين أَمريْن لَيْسَ فِي كل مِنْهُمَا نوع يسر بِأَن يتَعَيَّن الْيُسْر فِي أَحدهمَا كعلي ألف أَو أَلفَانِ (تعين الْأَقَل) لتعين اخْتِيَار مَا هُوَ الأرفق بِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَة ذكر الْأَقَل بِدُونِ الترديد، هَذَا وَذكر المَال فِي النِّكَاح لَيْسَ من تَمَامه وَمن ثمَّة لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْتِزَام مَال ابْتِدَاء من غير عقد، فَيجب الْقدر الْمُتَيَقن (كَالْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّة وَالْخلْع وَالْعِتْق) بِأَن أقرّ لإِنْسَان أَو وصّى لَهُ بِأَلف أَو أَلفَيْنِ أَو خَالعهَا أَو اعْتِقْ على ألف أَو أَلفَيْنِ، فَإِن الْأَقَل مُتَعَيّن فِي الْجَمِيع (وَلُزُوم الْمُوجب الْأَصْلِيّ) فِي النِّكَاح بِغَيْر مهر الْمثل إِنَّمَا هُوَ (عِنْد عدم تَسْمِيَة مُمكنَة) من مُطَالبَة مَال معِين، وَهِي هَهُنَا متحققة وَظَاهر هَذَا الْكَلَام تَرْجِيح قَوْلهمَا (وَفِي وكلت هَذَا أَو هَذَا صَحَّ) التَّوْكِيل (لِإِمْكَان الِامْتِثَال) يَعْنِي أَن التَّوْكِيل بِالْبيعِ مثلا أَمر للْوَكِيل بِأَن يَبِيع عَبده وَصِحَّته بِإِمْكَان امْتِثَال الْمَأْمُور بِأَن يفعل مَا أَمر بِهِ، ثمَّ بَين الْإِمْكَان بقوله (بِفعل أَحدهمَا) أَي بِأَن يفعل الْمَأْمُور بِهِ أحد الشخصين إِذْ الْإِذْن لأَحَدهمَا غير معِين فِي معنى قَوْله أَيهمَا بَاعَ، فَهُوَ مَأْذُون من عِنْدِي ممتثل(2/92)
لأمري (وَلَا يمْتَنع اجْتِمَاعهمَا) بِأَن يُبَاشر البيع مَعًا، فَكَانَ فعلهمَا جَمِيعًا امتثالا لأمر الْمُوكل قِيَاسا على فعل أَحدهمَا، وَذَلِكَ لِأَن التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر مَمْنُوع غير مُبَاح إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِذا أذن لأَحَدهمَا ثَبت للأحد الْإِبَاحَة فِي التَّصَرُّف، لِأَنَّهُ رَضِي بتصرفه، وَإِذا رَضِي بِتَصَرُّف كل مِنْهُمَا مُنْفَردا دلّ ذَلِك على رِضَاهُ بتصرفهما مَعًا بِالطَّرِيقِ الأول، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَهُوَ) أَي الحكم بِإِبَاحَة تصرفهما مَعًا (تَسْوِيَة) بَين تصرفهما مَعًا وَتصرف أَحدهمَا فَقَط فِي الْإِبَاحَة الْحَاصِلَة من إِذن الْمَالِك (مُلْحق) على صِيغَة الْفَاعِل والتذكير بِاعْتِبَار الْمصدر: أَي يلْحق إِبَاحَة صُورَة الِاجْتِمَاع (بِالْإِبَاحَةِ) المنصوصة فِي صُورَة الِانْفِرَاد أَو على صِيغَة الْمَفْعُول وَالْمعْنَى فَهُوَ أَي التَّخْيِير مُلْحق بِالْإِبَاحَةِ فِي جَوَاز الِاجْتِمَاع (بِخَارِج) أَي بِدَلِيل خَارج من لفظ الْمُوكل، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِك الْخَارِج بقوله (للْعلم) بِأَنَّهُ أَي الْمُوكل إِذا رضى بِرَأْي أَحدهمَا فَهُوَ (برأيهما أرْضى) لِاجْتِمَاع الرأيين (بِخِلَاف) قَوْله (بِعْ ذَا أَو ذَا) مُشِيرا إِلَى عَبْدَيْنِ مثلا (يمْتَنع الْجمع) بَينهمَا فِي البيع (لانتفائه) أَي الرِّضَا ببيعهما جَمِيعًا (وَالْقِيَاس الْبطلَان) أَي بطلَان الطَّلَاق (فِي هَذِه طَالِق أَو هَذِه لايجابه) الطَّلَاق (فِي الْمُبْهم وَلَا يتَحَقَّق) الطَّلَاق (فِيهِ) أَي الْمُبْهم (لكنه) أَي قَوْله هَذِه طَالِق، وَكَذَا هَذِه حرَّة (شرعا إنْشَاء عِنْد عدم احْتِمَال الْأَخْبَار) وَلَا يحْتَمل هَهُنَا (بِعَدَمِ قيام طَلَاق إِحْدَاهمَا) قبل التَّكَلُّم بِهَذَا الْكَلَام (وَعدم) قيام (حريتها) أَي إِحْدَاهمَا (فِي هَذِه حرَّة أَو هَذِه مُوجب) بِالرَّفْع صفة إنْشَاء توَسط بَينهمَا الظّرْف وَمَا يتَعَلَّق بِهِ (للتعيين) صلَة مُوجب، فَيجْبر الْمُطلق وَالْمُعتق أَن يعين المُرَاد من الْمُبْهم حَال كَون التَّعْيِين (إنْشَاء من وَجه لِأَن بِهِ) أَي بِالتَّعْيِينِ ينزل (الْوُقُوع) أَي وُقُوع الطَّلَاق وَالْعتاق، إِذْ قبل التَّعْيِين لَا يصلح الْمحل للوقوع لإبهامه، ثمَّ رتب على كَونه إنْشَاء من وَجه آخر قَوْله (فَلَزِمَ قيام أَهْلِيَّته) أَي الْموقع للطَّلَاق وَالْعتاق (ومحليتهما) أَي شقي الترديد (عِنْده) أَي التَّعْيِين، لِأَن الْإِنْشَاء لَا بُد لَهُ من أَهْلِيَّة المنشئ حَال الْإِنْشَاء وصلاحية الْمحل للمحلية (فَلَا يعين) الْمُطلق وَالْمُعتق إِذا مَاتَ إِحْدَى الزوجتين أَو الجاريتين (الْمَيِّت) بِأَن يَقُول كَانَ مرادي من أَحدهمَا هَذِه الْميتَة لانْتِفَاء محليتها للوقوع حِينَئِذٍ (و) لزم (اعْتِبَاره) أَي الْإِنْشَاء (فِي) صُورَة (التُّهْمَة) أَي فِيمَا كَانَ الْمُطلق مُتَّهمًا فِي جعله إِخْبَارًا لغَرَض يرجع إِلَيْهِ (فَلم يَصح تزوج أُخْت الْمعينَة من المدخولتين) اللَّتَيْنِ قَالَ فيهمَا هَذِه طَالِق أَو هَذِه، ثمَّ عين إِحْدَاهمَا وَأَرَادَ أَن يتَزَوَّج بأختها من غير مُضِيّ الْعدة بعد التَّعْيِين (أَخْبَارًا من وَجه) لِأَن الصِّيغَة صِيغَة أَخْبَار (فأجبر عَلَيْهِ) أَي على الْبَيَان إِذْ لأجبر فِي الإنشاءات بِخِلَاف الْإِقْرَار، فَإِنَّهُ لَو أقرّ بِمَجْهُول صَحَّ وأجبر على بَيَانه (وَاعْتبر) الْأَخْبَار (فِي(2/93)
غَيرهمَا) أَي المدخولتين (فصح ذَلِك) أَي تزوج أُخْت الْمعينَة: يَعْنِي إِذا طلق إِحْدَى زوجتيه بِغَيْر عينهَا وَلم يكن دخل بهَا، ثمَّ تزوج أُخْت إِحْدَاهمَا، ثمَّ بَين الطَّلَاق فِي أُخْتهَا لعدم التُّهْمَة لقدرته على إنْشَاء الطَّلَاق فِي الَّتِي عينهَا وَعدم الْعدة لَهَا لكَونهَا غير مدخولة، وَلَا يخفى أَن فرض كَونهمَا غير مدخولتين اتفاقي وَلَا يَكْفِي كَون مَحل التَّعْيِين غير مدخولة، ثمَّ لما كَانَ يشكل على كَون أَو للتَّخْيِير فِي الْإِنْشَاء آيَة الْمُحَاربَة، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَة على أَو، وَهِي إنْشَاء، وَلم يُؤَخر التَّخْيِير فِيمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الحكم، أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَترك مقتضاها) أَي وَلُزُوم ترك مُقْتَضى أَو الْوَاقِعَة فِي الْإِنْشَاء فِي آيَة الْمُحَاربَة " إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض " (للصارف) عَن الْعَمَل (لَو لم يكن أثر) مُفِيد لمُخَالفَته أَيْضا: يَعْنِي لَو فرض عدم الْأَثر يَكْفِي الصَّارِف الْمَذْكُور (وَهُوَ) أَي الصَّارِف (أَنَّهَا) أَي آيَة الْمُحَاربَة (أجزية بِمُقَابلَة جنايات لتصور الْمُحَاربَة) أَي لِأَن الْمُحَاربَة تتَصَوَّر: أَي تتَحَقَّق (بصور) شَتَّى (أَخذ) لِلْمَالِ الْمَعْصُوم فَقَط بدل بعض من صور (أَو قتل) للنَّفس المعصومة فَقَط (أوكليهما) أى أَخذ وَقتل (أَو إخافة) للطريق فَقَط (فَذكرهَا) : أَي الأجزية من حَيْثُ أَنَّهَا أجزية (مُتَضَمّن ذكرهَا) أَي الْجِنَايَات، فَكَأَنَّهَا ذكرت أَيْضا (ومقابلة مُتَعَدد بمتعدد ظَاهر فِي التَّوْزِيع، وَأَيْضًا مُقَابلَة أخف الْجِنَايَات بالأغلظ وَقَلبه) أَي مُقَابلَة أغْلظ الْجِنَايَات بالأخف (ينبو) أَي يبعد (عَن قَوَاعِد الشَّرْع) كَيفَ، وَقد قَالَ تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} فَوَجَبَ الْقَتْل بِالْقَتْلِ وَقطع الْيَد) الْيُمْنَى (وَالرجل) الْيُسْرَى (بِالْأَخْذِ) لِلْمَالِ الْمَعْصُوم إِذا أصَاب كل مِنْهُم نِصَابا، وَمَالك شَرط كَون الْمَأْخُوذ نِصَابا فَصَاعِدا أصَاب كل نِصَاب أَولا، وَإِنَّمَا قطعناهما مَعًا فِي الْأَخْذ مرّة وَاحِدَة بِخِلَاف السّرقَة، لِأَنَّهُ أغْلظ من أَخذ السّرقَة، حَيْثُ كَانَ مجاهرة ومكابرة مَعَ إشهار السِّلَاح (والصلب) حَيا، ثمَّ يعج بَطْنه بِرُمْح حَتَّى يَمُوت كَمَا عَن الْكَرْخِي وَغَيره، أَو بعد الْمَوْت كَمَا عَن الطحاوى وَهُوَ الأوضح وأيا مَا كَانَ بعد قطع يَده وَرجله من خلاف أَو لَا، وَالْقَتْل بِلَا صلب وَلَا قطع على حسب اخْتِيَار الإِمَام كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَزفر، و (بِالْجمعِ) بَين الْقَتْل وَالْأَخْذ، وَقَالا لَا بُد من الصلب (وَالنَّفْي) من الأَرْض أَي الْجِنْس (بالإخافة فَقَط، فأثر أبي يُوسُف عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وادع الخ) أَي أَبَا بردة هِلَال بن عريم الْأَسْلَمِيّ، فجَاء أنَاس يُرِيدُونَ الْإِسْلَام، فَقطع عَلَيْهِم أَصْحَاب أبي بردة الطَّرِيق، فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَدِّ: أَن من قتل وَأخذ المَال صلب، وَمن قتل وَلم يَأْخُذ المَال قتل(2/94)
وَمن أَخذ مَالا وَلم يقتل قطعت يَده وَرجله من خلاف، وَمن جَاءَ مُسلما هدم الْإِسْلَام مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشّرك وَفِي رِوَايَة عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس: وَمن أَخَاف الطَّرِيق وَلم يقتل وَلم يَأْخُذ المَال نفي (على وَفقه) أَي الصَّارِف، وَقَوله أثر أبي يُوسُف مُبْتَدأ خَيره (زِيَادَة) أَي زَائِد على الصَّارِف فِي دفع الْإِشْكَال (لَا يَضرهَا) أَي الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة (التَّضْعِيف) بِمُحَمد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ لاتهامه بِالْكَذِبِ: إِذْ الْأَثر وَإِن كَانَ ضَعِيفا يصلح لتقوية مَا هُوَ مُسْتَقل فِي إِفَادَة الْمَقْصد (فَكيف وَلَا يَنْفِي) أَي التَّضْعِيف (الصِّحَّة فِي الْوَاقِع) لجَوَاز إجَازَة التَّضْعِيف فِي خُصُوص مَرْوِيّ (فموافقة الْأُصُول) الْمُعْتَبرَة شرعا من رِعَايَة الْمُنَاسبَة بَين الْجِنَايَة وَالْجَزَاء والمماثلة بَينهمَا بِمُوجب قَوْله تَعَالَى - {وَجَزَاء سَيِّئَة} - الْآيَة وَغَيره (ظَاهر فِي صِحَّتهَا) أَي الزِّيَادَة الَّتِي هِيَ الْأَثر الْمَذْكُور، الْمشَار إِلَيْهِ بقوله لَو لم يكن أثر (وَإِذ قبلت) أَو (معنى التَّعْيِين) أَي معنى الْإِبْهَام فِيهِ، وقبولها إِيَّاه اسْتِعْمَالهَا فِي مَوضِع الْإِبْهَام فِيهِ لَا باستعمالها فِيهِ: إِذْ التَّعْيِين يَأْتِي من الْخَارِج كَمَا سيصرح بِهِ، غير أَنهم أَرَادوا بِالْقبُولِ استعمالهما فِيهِ كَمَا يدل عَلَيْهِ آخر الْكَلَام (كالآية) أَي آيَة الْمُحَاربَة (وَصُورَة الْإِنْصَاف) {كَانَا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} - (وَجب) الْمعِين أَي إِرَادَته مِنْهَا (فِي) صُورَة (تعذر) مَعْنَاهُ (الْحَقِيقِيّ) الَّذِي هُوَ أحد الْأَمريْنِ، لِأَنَّهُ أولى من إِلْغَاء الْكَلَام (فَعَنْهُ) أَي عَن وجوب الْمجَازِي عِنْد تعذر الْحَقِيقِيّ (قَالَ) أَبُو حنيفَة (فِي هَذَا حر أَو ذَا لعَبْدِهِ ودابته يعْتق) عَبده (وألغياه) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد هَذَا الْكَلَام (لعدم تصور حكم الْحَقِيقَة) وَهُوَ عتق أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمحل للْإِيجَاب: لِأَن أَحدهمَا، وَهِي الدَّابَّة لَيْسَ بِمحل لِلْعِتْقِ شرعا، وَقَالَ الشَّارِح: أَن شمس الْأَئِمَّة أَشَارَ إِلَى أَنه لَا يعْتق العَبْد عِنْدهمَا بِالنِّيَّةِ أَيْضا، لِأَن اللَّغْو لَا حكم لَهُ أصلا (كَمَا هُوَ أَصلهمَا) من أَن خَليفَة الْمجَاز للْحَقِيقَة بِاعْتِبَار الحكم، فَلَا بُد من إِمْكَان حكم الْحَقِيقَة، وَلِهَذَا لَا يرد الْحُرِّيَّة فِي هَذَا ابْني للأكبر مِنْهُ سنا (لَكِن) لَا يرد (عَلَيْهِ) أَي على قَول أبي حنيفَة (أَنهم) أَي الْحَنَفِيَّة (يمْنَعُونَ التَّجَوُّز فِي الضِّدّ) شرعا (والمعين ضد الْمُبْهم بِخِلَاف ابْني للأكبر لَا يضاد حَقِيقَة مجازيه وَهُوَ) أَي مجازيه (الْعتْق فَالْوَجْه أَنَّهَا) أَي أَو (دَائِما للأحد) أَي أحد الْأَمريْنِ (وَفهم التَّعْيِين أَحْيَانًا بِخَارِج) من اللَّفْظ (من غير أَن يسْتَعْمل) أَو (فِيهِ) أَي فِي التَّعْيِين، فَفِي قَوْله لعَبْدِهِ ودابته هَذَا حروذا بفهم التَّعْيِين من لُزُوم صون عبارَة الْعَاقِل مهما أمكن، وَقد أمكن إِذْ عرف أَن أَو يَقع فِي موقع يتَعَيَّن فِيهِ المُرَاد.(2/95)
مسئلة
(تستعار) أَو (للغاية) أَي للدلالة على أَن مَا بعْدهَا غَايَة لما قبلهَا، وَهِي مَا يَنْتَهِي أَو يَمْتَد إِلَيْهِ الشَّيْء (قبل مضارع مَنْصُوب وَلَيْسَ قبلهَا) أَي أَو (مثله) أَي مضارع مَنْصُوب بل فعل ممتد (كلألزمنك أَو تُعْطِينِي) حَقي، فَإِن المُرَاد أَن ثُبُوت اللُّزُوم ممتد إِلَى وَقت أعطاء الْحق، وَهَذَا قَول النُّحَاة: أَن أَو هَذِه بِمَعْنى إِلَى أَن، وَجه الْمُنَاسبَة أَنَّهَا لأحد الْمَذْكُورين لَا يتَعَدَّى الحكم عَنْهُمَا كَمَا أَن الْفِعْل الممتد لَا يتَعَدَّى غَايَته، وَقيل لِأَن تعْيين كل مِنْهُمَا بِاعْتِبَار الْخِيَار قَاطع لاحْتِمَال الآخر كَمَا أَن الْوُصُول إِلَى الْغَايَة قَاطع للْفِعْل (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من اسْتِعْمَال أَو للغاية قَوْله تَعَالَى {أَو يَتُوب عَلَيْهِم} كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة تبعا للفراء حَيْثُ قَالَ: أَن أَو هَاهُنَا بِمَعْنى حَتَّى لِأَنَّهُ لَو كَانَ على حَقِيقَته، فإمَّا أَن يكون مَعْطُوفًا على شَيْء أَو على لَيْسَ، وَالْأول عطف الْفِعْل على الِاسْم، وَالثَّانِي عطف الْمُضَارع على الْمَاضِي، وَهُوَ لَيْسَ بِحسن فَسقط حَقِيقَته، واستعير لما لَا يحْتَملهُ وَهُوَ الْغَايَة: أَي لَيْسَ لَك من الْأَمر فِي عَذَابهمْ أَو اصطلاحهم شَيْء حَتَّى يَقع تَوْبَتهمْ أَو تعذيبهم، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَنه يُفِيد أَن الْمَانِع عَن الْحمل على الْحَقِيقَة مُجَرّد عدم حسن الْعَطف، وَأَنت خير بِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيم الْمَعْنى: إِن حملت عَلَيْهَا 0 بل عطف على يكتبهم) كَمَا صرح بِهِ الْبَيْضَاوِيّ والنسفي وَغَيرهمَا، أَو ليقطع كَمَا صرح بِهِ أَو الْقَاسِم، وَكَلَام صَاحب الْكَشَّاف يحتملها حَيْثُ قَالَ: أَو يَتُوب عطف على مَا قبله، فَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ عطف على ليقطع أَو يكْتب (وَلَيْسَ ومعمولاها) وهما لَك شَيْء مَعَ الْحَال من شَيْء، وَهُوَ من الْأَمر (اعْتِرَاض) بَين الْمَعْطُوف الَّذِي هُوَ التَّوْبَة والتعذيب الْمُتَعَلّق بالآجل والمعطوف عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْقطع والكبت، وَهُوَ شدَّة الغيظ، أَو وَهن يَقع فِي الْقلب الْمُتَعَلّق بالعاجل، ثمَّ احْتج على قَوْله لَيْسَ مِنْهُ بقوله (لما فِي ذَلِك) أَي فِي جعلهَا للغاية (من التَّكَلُّف مَعَ إِمْكَان الْعَطف) وَتَحْقِيق معنى الْآيَة يطْلب فِي التَّفْسِير وَالله أعلم.
مسئلة
(حَتَّى جَارة وعاطفة وابتدائية) أَي مَا بعْدهَا كَلَام مُسْتَأْنف لَا يتَعَلَّق من حَيْثُ الْأَعْرَاب بِمَا قبلهَا (بعْدهَا جملَة بقسميها) من الْمَاضِي والمضارع، نَحْو فزلزلوا - {حَتَّى يَقُول الرَّسُول} - بِالرَّفْع على قِرَاءَة نَافِع - {وبدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا} - واسمية مَذْكُور خَبَرهَا نَحْو:
(فَمَا زَالَت الْقَتْلَى تمج دماءها ... بدجلة حَتَّى مَاء دجلة أشكل)(2/96)
ومحذوفة بِقَرِينَة الْكَلَام السَّابِق كَمَا سَيَأْتِي (وَصحت) الْوُجُوه الثَّلَاثَة (فِي أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا) بِالْجَرِّ، على أَنَّهَا جَارة أَو بِالنّصب على أَنَّهَا عاطفة لَهُ على السَّمَكَة، وبالرفع على أَنَّهَا مُبْتَدأ خبر مَحْذُوف أَعنِي مَأْكُول بِقَرِينَة السِّيَاق، وَقيل هَذَا على رَأْي الْكُوفِيّين، وَأما على رَأْي الْبَصرِيين فَرفع مَا بعده مَشْرُوط بِأَن يكون بعده مَا يصلح خَبرا لَهُ مثل أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا أَكلته (وَهِي) أَي حَتَّى على أَي وَجه كَانَت من الثَّلَاثَة (للغاية، وَفِي دُخُولهَا) أَي الْغَايَة الَّتِي هِيَ مدخولها فِيمَا قبلهَا حَال كَونهَا (جَارة) أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا لِابْنِ السراج وَأبي عَليّ وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين من النَّحْوِيين يدْخل مُطلقًا، ثَانِيهَا لجمهور النَّحْوِيين وفخر الْإِسْلَام وَغَيره لَا يدْخل مُطلقًا (ثَالِثهَا) للمبرد وَالْفراء والسيرافي والرماني وَعبد القاهر (إِن كَانَ) مَا جعل غَايَة (جُزْءا) مِمَّا قبله (دخل) وَإِلَّا لم يدْخل، و (رَابِعهَا لَا دلَالَة) على الدُّخُول وَلَا على عَدمه (إِلَّا للقرينة وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (أحد) الْقَوْلَيْنِ (الْأَوَّلين) إِلَّا أَن يُرَاد) بهَا (أَنَّهَا) دَالَّة (على الْخُرُوج) أَي خُرُوج مَا بعْدهَا عَمَّا قبلهَا فِي بعض الاستعمالات (كَمَا) هِيَ دَالَّة (على الدُّخُول فِيمَا قبلهَا، وَفِيه) أَي فِي كَون هَذَا مرَادا (بعد) كَمَا لَا يخفى من لُزُوم الِاشْتِرَاك بَين الضدين وَلم يعرف لَهُ قَائِل، وَأظْهر الشَّارِح فرقا بَينه وَبَين الْأَوَّلين بِأَن الْمَدْلُول فِي الأول الدُّخُول مُطلقًا من غير توقف على قرينَة فَيحكم بِالدُّخُولِ من حَيْثُ لَا قرينَة، وَفِي الثَّانِي عَدمه مُطلقًا إِلَّا بِقَرِينَة فَيحكم بِعَدَمِ الدُّخُول حَيْثُ لَا قرينَة، وَمعنى الرَّابِع هُوَ أَنه لَا دلَالَة لحتى على دُخُول وَلَا على عَدمه بل الدَّال على أَحدهمَا الْقَرِينَة فَحَيْثُ لَا قرينَة يحكم بِعَدَمِ الدُّخُول بِالْأَصْلِ لَا بِاللَّفْظِ إِذا احتجنا إِلَى الحكم، وَإِلَّا لَا يحكم بِشَيْء انْتهى فحاصل الْفرق أَنه عِنْد وجود قرينَة الدُّخُول تُضَاف الدّلَالَة إِلَى الْقَرِينَة بِخِلَاف الأول إِذْ فِيهِ يُضَاف إِلَى حَتَّى، وَعند عدمهَا يُضَاف عدم الدُّخُول إِلَى عدم الْقَرِينَة لَا إِلَى حَتَّى بِخِلَاف الثَّانِي، غَايَة الْأَمر أَنه يلْزم حِينَئِذٍ عدم قرينَة الدُّخُول لِئَلَّا يلْزم الْمُعْتَبر إِلَى خلاف الْحَقِيقَة، وَكَأن المُصَنّف أَرَادَ أَن لفظ حَتَّى إِن كَانَ بِحَيْثُ يتَبَادَر مِنْهُ الدُّخُول مُطلقًا يتَعَيَّن أَن يكون المُرَاد فِي القَوْل الثَّانِي سلب دلَالَته بِنَفسِهِ على شَيْء من الدُّخُول وَالْخُرُوج، وَيكون فهم الْخُرُوج مُطلقًا من غير اللَّفْظ وَإِن كَانَ بِحَيْثُ يتَبَادَر مِنْهُ الْخُرُوج فعكس مَا قُلْنَا إِذْ يبعد كل الْبعد أَن يدعى كل من الْفَرِيقَيْنِ تبادر نقيض مَا يَدعِيهِ الآخر، فعلى كل تَقْدِير يتحد أحد الْقَوْلَيْنِ وَالْقَوْل الرَّابِع، وَهَذَا غَايَة التَّوْجِيه، وَبعد فِيهِ مَا فِيهِ (والاتفاق على دُخُولهَا) أَي الْغَايَة فِيمَا قبلهَا (فِي الْعَطف) بحتى لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تفِيد الْجمع فِي الحكم كالواو (وَفِي الابتدائية) أَي والاتفاق على دُخُولهَا فِي حَتَّى الابتدائية حَال كَونهَا (بِمَعْنى وجود المضمونين) مَضْمُون جملَة قبلهَا ومضمون جملَة بعْدهَا (فِي(2/97)
وَقت) وَاحِد، فَفِي مرض حَتَّى لَا يرجونه تخقق الْمَرَض واليأس فِي زمَان وَاحِد (وَشرط الْعَطف البعضية) أَي كَون مَا بعْدهَا بَعْضًا مِمَّا قبلهَا كقدم الْحَاج حَتَّى المشاة (أَو نَحْوهَا) أَي البعضية بِكَوْن مَا بعْدهَا كالجزء مِمَّا قبلهَا من حَيْثُ اللُّزُوم نَحْو: قتل الْجند حَتَّى دوابهم، وَخرج الصيادون حَتَّى كلابهم، فَإِن كلا من الدَّوَابّ وَالْكلاب لَازِمَة للجند والصيادين، وَكَذَا يُقَال أعجبني الْجَارِيَة حَتَّى حَدِيثهَا: وَلَا يُقَال حَتَّى وَلَدهَا، إِذْ لَيْسَ الْوَلَد من لَوَازِم الْجَارِيَة، وَخَالف فِي هَذَا الشَّرْط فَأجَاز كَلْبِي يصيد الأرانب حَتَّى الظباء، وَهَذَا خطأ عِنْد الْبَصرِيين (فَامْتنعَ جَاءَ زيد حَتَّى بكر) لعدم البعضية (وَفِي كَونهَا) أَي العاطفة (للغاية نظر وَكَونه) أَي الْمَعْطُوف (أَعلَى مُتَعَلق للْحكم) كمات النَّاس حَتَّى الْأَنْبِيَاء (أَو أحط) مُتَعَلق لَهُ كقدم الْحَاج الخ (لَيْسَ) الْكَوْن الْمَذْكُور (مَفْهُوم الْغَايَة، إِذْ لَيْسَ) مفهومها (إِلَّا مُنْتَهى الحكم وَلَا يسْتَلْزم) كَون الْمَعْطُوف أَعلَى أَو أحط كَونه مُنْتَهى، وَفِي) أكلت السَّمَكَة (حَتَّى رَأسهَا بِالنّصب) وَقع الرَّأْس (مُنْتَهى الحكم اتفاقي لَا مدلولها) أَي لِأَن حَتَّى يدل عَلَيْهِ فَلَا يطرد (وَهُوَ) أَي عدم دلَالَة حَتَّى العاطف على انْتِهَاء الحكم (ظَاهر) قَول (الْقَائِل) وَهُوَ صَاحب البديع: حَتَّى (للغاية) تَارَة (وللعطف) أُخْرَى إِذْ لَو كَانَ مُرَاده للغاية والعطف بل للْعَطْف والغاية بِدُونِ ذكر اللَّام ثَانِيًا (وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (الْحق) لما عرفت (وتأويله) أَي تَأْوِيل كَون العاطفة للغاية بِأَن حكم مَا عطفت عَلَيْهِ يَنْقَضِي شَيْئا فَشَيْئًا حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْمَعْطُوف (فِي اعْتِبَار الْمُتَكَلّم) وملاحظته لَا بِحَسب الْوُجُود نَفسه إِذْ قد يجوز ثُبُوت الحكم أَولا للمعطوف كَمَا فِي قَوْلك مَاتَ كل أَب لي حَتَّى آدم، أَو فِي الْوسط كمات وَمَات النَّاس حَتَّى الْأَنْبِيَاء (تكلّف) وَمَعَ هَذَا (يَنْفِيه الوجدان إِذْ لَا يجد الْمُتَكَلّم اعْتِبَاره كَون الْمَوْت تعلق شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن انْتهى) وَمَعَ هَذَا يَنْفِيه (إِلَى آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَاتَ الْآبَاء حَتَّى آدم وَكثير) من الْأَمْثِلَة الَّتِي لَا يجد فِيهَا الِاعْتِبَار الْمَذْكُور لَا يُحْصى عدده، فَقَوله كثير بِالْجَرِّ عطفا على مَدْخُول فِي، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على أَن أَمْثِلَة عدم الوجدان كَثِيرَة لَا تحصى (إِلَّا أَن قَوْله) أَي الْقَائِل الْمَذْكُور (وَقد تعطف) حَتَّى (تَاما أَي جملَة) أَي مصرحة بجزئيتها، والتذكير فِي تَاما بِتَأْوِيل الْكَلَام حَال كَون الْقَائِل (ممثلا بضربت الْقَوْم حَتَّى زيد غَضْبَان خلاف الْمَعْرُوف) إِذْ الْمَعْرُوف أَنَّهَا لعطف الْمُفْرد، كَيفَ وَشَرطه الْمَذْكُور لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِيهِ، وَأَيْضًا العاطفة مَحْمُولَة على الجارة وَهِي لَا تدخل إِلَّا على الِاسْم، وَعند الْبَعْض يعْطف الْفِعْل على الْفِعْل مَاضِيا كَانَ أَو مُسْتَقْبلا إِذا كَانَ فِيهِ معنى السَّبَب نَحْو ضربت زيدا حَتَّى بَكَى أَي فَبكى ولأضربته حَتَّى يبكي: أَي فيبكي، فَهُوَ يرفع الْمُسْتَقْبل بعده وَعند الْجُمْهُور لَا يجوز فِيهِ إِلَّا النصب (وادعاؤه) أَي عطفها الْجُمْلَة (فِي حَتَّى تكل مطيهم على سريت بهم فِي قَول امْرِئ الْقَيْس:(2/98)
(سريت بهم حَتَّى تكل مطيهم ... وَحَتَّى الْجِيَاد مَا يقدن بأرسان)
أَي امْتَدَّ بهم السّير حَتَّى أعييت الْإِبِل وَالْخَيْل فطرحت حبالها على أعناقها لذهاب نشاطها فَلم تذْهب يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى سَارَتْ مَعَهم فَوضع مَا يقدن مَوضِع الكلال، وَهَذَا الادعاء زَعمه ابْن السَّيِّد على رِوَايَة رفع تكل (لَا يستلزمه) أَي جَوَازه مُطلقًا قِيَاسا لِأَنَّهُ شَاذ (لَو لزم) الْعَطف فِيهِ فَكيف (وَهُوَ) أَي اللُّزُوم (مُنْتَفٍ بل) هُوَ حَتَّى فِيهِ (ابتدائية، وَصرح فِي الابتدائية بِكَوْن الْخَبَر من جنس) الْفِعْل (الْمُتَقَدّم) وَمن المصرحين الْمُحَقق الرضي (فَامْتنعَ ركب الْقَوْم حَتَّى زيد ضَاحِك بل) إِنَّمَا يُقَال حَتَّى زيد (رَاكب، وَمِنْه) أَي من قسم الابتدائية (سرت حَتَّى كلت الْمطِي ويتجوز بالجارة دَاخِلَة على الْفِعْل عِنْد تعذر) إِرَادَة (الْغَايَة) مِنْهَا (بِأَن لَا يصلح الصَّدْر) أَي مَا قبلهَا (للامتداد وَمَا بعْدهَا للانتهاء) إِمَّا بِأَن لَا يكون الصَّدْر أمرا ذَا امتداد، أَو يكون لَكِن مَا بعْدهَا لَا يصلح لِأَن يكون انْتِهَاء لَهُ (فِي سَبَبِيَّة مَا قبلهَا لما بعْدهَا إِن صلح) مَا قبلهَا لسببية مَا بعْدهَا فمدخوله هُوَ المتجوز فِيهِ (وَالْوَجْه) أَن يُقَال يتجوز بهَا فِي سَبَبِيَّة أَحدهمَا للْآخر) أَي مَا قبلهَا لما بعْدهَا أَو بِالْعَكْسِ (ذهنا) بِأَن يكون وجود الأول فِي الذِّهْن سَببا لوُجُود الثَّانِي فِيهِ كرتبت معلوماتي حَتَّى وجدت النتيجة أَو عَكسه، نَحْو علمت النتيجة حَتَّى رتبت مباديها (أَو خَارِجا) بِكَوْن وجود الأول خَارِجا كوجود الثَّانِي خَارِجا نَحْو أسلمت حَتَّى أَدخل الْجنَّة، أَو عَكسه نَحْو ربحت حَتَّى اتجرت، أَو يكون وجود الأول ذهنا سَببا لوُجُود الثَّانِي خَارِجا، نَحْو قصدت الرِّبْح حَتَّى اتجرت، أَو عَكسه كعكس الْمِثَال: هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر الْمَتْن وتصريح الشَّارِح، لَكِن دُخُول حَتَّى على سَبَب لَيْسَ بمسبب من وَجه غير مأنوس. نعم إِذا كَانَ سَببا بِاعْتِبَار وجوده الذهْنِي سَببا بِاعْتِبَار وجوده الْخَارِجِي أَو بِالْعَكْسِ، فَوجه دُخُول حَتَّى عَلَيْهِ ظَاهر (لمساعدة الْمثل) حِينَئِذٍ إِذْ الْأَمْثِلَة وَارِدَة على طبق التَّعْمِيم الْمَذْكُور بِخِلَاف مَا إِذا اقْتصر على سَبَبِيَّة مَا قبلهَا لما بعْدهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي بعض صور تجوز الجارة (كأسلمت حَتَّى أَدخل الْجنَّة) فَإِنَّهُ تعذر فِيهِ إِرَادَة الْغَايَة إِذْ (لَيْسَ) الدُّخُول (منتهاه) أَي الْإِسْلَام بِمَعْنى إحداثه لعدم امتداده (إِلَّا أَن أُرِيد) بِالْإِسْلَامِ (بَقَاؤُهُ) أَي الْإِسْلَام (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين يُرَاد بَقَاؤُهُ يتَحَقَّق لَهُ امتداد لَكِن (لَا يصلح الآخر) وَهُوَ دُخُول الْجنَّة أَن يكون (مُنْتَهى) لبَقَائه إِذْ بَقَاؤُهُ مَوْجُود بعد الدُّخُول على الْوَجْه الأتم مؤيد (وَبِه) أَي بِعَدَمِ صلوح دُخُول الْجنَّة انْتِهَاء (رد تعْيين العلاقة) أَي علاقَة التَّجَوُّز الْمَذْكُور بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَهُوَ الْغَايَة والمجازي وَهُوَ السَّبَبِيَّة (انْتِهَاء الحكم بِمَا بعْدهَا) إِذْ الحكم الَّذِي هُوَ السَّبَب يَنْتَهِي بِوُجُود الْمُسَبّب(2/99)
كَمَا يَنْتَهِي الْفِعْل الممتد بغايته، والراد الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، والمردود قَول صَاحب الْكَشَّاف (واختير أَنَّهَا) أَي العلاقة (مقصوديته) أَي كَون مَا بعد حَتَّى مَقْصُودا (مِمَّا قبله) بِمَنْزِلَة الْغَايَة من المغيا (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمُخْتَار (أبعد) من الأول (لِأَنَّهَا) أَي الْغَايَة (لَا تستلزمه أَي كَونهَا الْمَقْصد مِمَّا قبلهَا (كرأسها) فِي أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا: إِذْ لَيْسَ الْمَقْصد من أكلهَا (وَغَيره) أَي غير رَأسهَا مِمَّا لَيْسَ بمقصد من الغايات (وَالْأول) أَي كَون العلاقة اشتراكهما فِي انْتِهَاء الحكم بِمَا بعْدهَا (أوجه) إِذْ يُمكن تَوْجِيهه بِخِلَاف الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالدُّخُول مُنْتَهى إِسْلَام الدُّنْيَا) أَي الانقياد لتحمل التكاليف (وَالصَّلَاة) أَي ومنتهى فعلهَا (فِي) أسلمت حَتَّى أَدخل الْجنَّة و (صليت حَتَّى أَدخل) الْجنَّة (وَمِنْه) أَي من كَونهَا للسَّبَبِيَّة قَوْلك (لآتينك حَتَّى تغديني) لعدم امتداد الْإِتْيَان وَعدم صَلَاحِية التغدي لِأَن يَجْعَل نِهَايَة الْإِتْيَان بل هُوَ دَاع الْإِتْيَان، ثمَّ الْإِتْيَان سَبَب للتغدي، فَالْمَعْنى: لَكِن تغديني (فيبر) الْحَالِف بوالله لآتينك حَتَّى تغديني إِذا أَتَاهُ (بِلَا تغد) عِنْده لتحَقّق الْمَحْلُوف عَلَيْهِ بِمُجَرَّد الْإِتْيَان لَهُ (بِخِلَاف مَا إِذا صلج) الصَّدْر للامتداد (فبمعنى إِلَى) نَحْو قَوْله تَعَالَى - {قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى} لِأَن اسْتِمْرَار عكوفهم صَالح للامتداد وَرُجُوع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِم صَالح لِأَن يَجْعَل انْتِهَاء لَهُ (فَإِن لم يصلح) الصَّدْر (لَهما) أَي الْغَايَة والسببية (فلعطف مُطلق التَّرْتِيب) الْأَعَمّ من كَونه بمهلة وَبلا مهلة خلافًا لِابْنِ الْحَاجِب إِذْ جعلهَا كثم، وَلمن قَالَ لَا يسْتَلْزم التَّرْتِيب أصلا بل قد يتَعَلَّق الْعَامِل بِمَا بعْدهَا قبل تعلقه بِمَا قبلهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار فِي النَّحْو كَقَوْلِهِم: مَاتَ النَّاس حَتَّى آدم، وَإِنَّمَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ إِذا ثَبت أَنه من كَلَام الْعَرَب هَذَا وَإِضَافَة عطف إِلَى مُطلق التَّرْتِيب لأدنى مُلَابسَة: إِذْ لَيْسَ مُطلق التَّرْتِيب مَعْطُوفًا بل المُرَاد أَنَّهَا تسْتَعْمل عاطفة لما بعْدهَا على مَا قبلهَا مفيدة الْمَعْطُوف مترتبا على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ ترتبا مُطلقًا (لعلاقة التَّرْتِيب) الْحَاصِل (فِي الْغَايَة) الَّتِي وضعت لَهَا الْمَوْجُود فِي الْمَعْنى الْمجَازِي الَّذِي هُوَ عطف مُطلق التَّرْتِيب (وَإِن كَانَت) الْغَايَة (بالتعقيب أنسب) مِنْهَا بالترتيب الْمُطلق الَّذِي يعم التَّرَاخِي: إِذْ الْغَايَة لَا تراخي عَن المغيا (كجئت حَتَّى أتغدى عنْدك من مَالِي) عطفت التغدي على الْمَجِيء لإِفَادَة التَّشْرِيك فِي الْحُصُول على وَجه التَّرْتِيب مُطلقًا وَلَا يصلح للصدر وَهُوَ الْمَجِيء للغاية لعدم امتداده وَلَا للسَّبَبِيَّة أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا عقلية) أَي لَا معقولية (لسببيته) أَي الْمَجِيء (لذَلِك) أَي عِنْد التغدي للمخاطب من مَال نَفسه (فَشرط الفعلان) أَي تحقق الْمَعْطُوف، والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْبر (للتشريك) أَي ليتَحَقَّق التَّشْرِيك الَّذِي هُوَ معنى الْعَطف بَينهمَا (كَكَوْنِهِ غَايَة) أَي كَمَا شَرط وجود المغيا والغاية إِذا كَانَت للغاية، وتذكير الضَّمِير(2/100)
لإرجاعه إِلَى مدلولها (كَأَن لم أضربك حَتَّى تصيح) فَكَذَا إِذا الضَّرْب بالتكرار يحْتَمل الامتداد فَلَا يحصل الْبر إِلَّا بتحقق الضَّرْب والصياح حَال كَون الْمَعْطُوف (معقبا) للمعطوف عَلَيْهِ تَارَة (ومتراخيا) عَنهُ أُخْرَى (فيبر بالتغدي فِي إتْيَان وَلَو) كَانَ التغدي (متراخيا عَنهُ) أَي الْإِتْيَان فِي أَن لم آتِك حَتَّى أتغدى عنْدك فَكَذَا (كَمَا) ذكر (فِي الزِّيَادَات) وشروخها وَإِنَّمَا يَحْنَث إِذا لم يتغد بعد الْإِتْيَان مُتَّصِلا أَو متراخيا فِي جَمِيع الْعُمر (إِلَّا أَن نوى الْفَوْر) والاتصال فَلَا يبر إِلَّا إِن تغدى بعد الْإِتْيَان من غير تراخ (وَفِي الْمُقَيد بِوَقْت يلْزم أَن لَا يُجَاوِزهُ) أَي ذَلِك الْوَقْت (التَّرَاخِي) فَاعل لَا يُجَاوِزهُ (كَأَن لم آتِك الْيَوْم الخ) أَي حَتَّى أتغدى عنْدك فَكَذَا، وَلما كَانَ هَا هُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَن مُطلق التَّرْتِيب لَيْسَ بمدلول لفظ أصلا، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف مَدْلُول اللَّفْظ التَّرْتِيب بِلَا مهلة أَو بمهلة كالفاء وَثمّ، فَكيف يتجوز بحتى عَنهُ، أَشَارَ إِلَى الجوب بقوله (وَإِذا كَانَ التَّجَوُّز بِاللَّفْظِ) عَن معنى (لَا يلْزم كَونه) أَي التَّجَوُّز (فِي مطابقي لفظ) بِأَن يكون الْمَعْنى الْمجَازِي معنى لعين اللَّفْظ (بل وَلَا) يلْزم كَونه (معنى لفظ أصلا) مطابقيا كَانَ أَو غير مطابقي (وَإِذا لم يشرط فِي الْمجَاز نقل) على مَا سبق من أَن الشَّرْط مُجَرّد وجود العلاقة الْمُعْتَبرَة بِاعْتِبَار نوعها لَا تقل أَن هَذَا اللَّفْظ اسْتعْمل فِي هَذَا الْمَعْنى مجَازًا (جَازَ هَذَا) الْمجَاز يَعْنِي كَون حَتَّى لعطف مُطلق التَّرْتِيب (وَإِن لم يسمع) اسْتِعْمَالهَا فِيهِ (وباعتباره) أَي الْجَوَاز الْمَذْكُور (جوزوا) أَي الْفُقَهَاء (جَاءَ زيد حَتَّى عَمْرو) إِذا جَاءَ عَمْرو بعد زيد (وَإِن مَنعه النُّحَاة) (ناء على مَا تقدم من اشْتِرَاط كَون مَا بعْدهَا بعض مَا قبلهَا أَو كبعضه (غير أَن الثَّابِت) من العلاقة بَين هَذَا الْمجَازِي والحقيقي (عِنْدهم) أَي المجوزين (التَّرْتِيب) على مَا مر (وَتقدم النّظر فِيهِ) أَي فِي تحقق التَّرْتِيب كَمَا بَين الْغَايَة والمغيا حَال كَونهَا (عاطفة كمات النَّاس حَتَّى الْأَنْبِيَاء وَحَتَّى آدم وَأَنه لَا غَايَة) بِمَعْنى الِانْتِهَاء (يلْزم فِيهِ) أَي فِي الْعَطف (بل ذَلِك الْغَايَة) لِأَن التَّرْتِيب الْكَائِن بَين مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا فِي العاطفة إِنَّمَا هِيَ (فِي الرّفْعَة والضعة) بَان يكون مَا بعْدهَا أقوى الْأَجْزَاء أَو أضعفها وَأَدْنَاهَا (لَا) الْغَايَة (الاصطلاحية مُنْتَهى الحكم) وَقد مر بَيَانه وَالْحَاصِل أَن هَذَا الْمجَازِي الْمُعْتَبر فِيهِ معنى الْعَطف فرع الْحَقِيقِيّ لحتى العاطفة وَالتَّرْتِيب لَيْسَ بموجود فِي أَصله، فَكيف يعْتَبر علاقَة بَينهمَا، وَجعله فرعا لغير العاطفة فِي غَايَة الْبعد (وَلم يلْزم الِاسْتِثْنَاء بهَا) أَي بحتى فِيمَا استدلوا بِهِ من قَوْله تَعَالَى - {حَتَّى يَقُولَا} - على كَونهَا فِيهِ بِمَعْنى إِلَّا على مَا ذكره ابْن مَالك وَغَيره، فَالْمَعْنى: إِلَّا أَن يَقُولَا على أَن يكون الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا، فَأَشَارَ إِلَى جوابهم بقوله (وَقَوله تَعَالَى) - {وَمَا يعلمَانِ من أحد (حَتَّى يَقُولَا صحت} حَتَّى هَهُنَا أَن تكون (غَايَة للنَّفْي) أَي لنفي عدم التَّعْلِيم (كإلى وَكَذَا لَا(2/101)
أفعل حَتَّى تفعل) أَي إِلَى أَن تفعل وَأما قَول ابْن هِشَام الْمصْرِيّ كَونهَا بِمَعْنى أَلا ظَاهر فِيمَا أنْشدهُ ابْن مَالك من قَوْله
(لَيْسَ الْعَطاء من الفضول سماحة ... )
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقَوله
(حَتَّى تجود وَمَا لديك قَلِيل ... )
وَمن قَوْله
(وَالله لَا يذهب شَيْخي بَاطِلا ... )
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقَوله: حَتَّى أبير مَالِكًا وكاهلا) فقد أجَاب عَنهُ بقوله (للسَّبَبِيَّة أَو للغاية وَالله أعلم) فَمَعْنَى الْبَيْت الأول لَيْسَ إِعْطَاء الْإِنْسَان من المَال الْفَاضِل عَن حَاجته سماحة، حَتَّى يعد بِهِ الْمُعْطِي سَمحا جوادا، فَهُوَ لَا يزَال على عدم الْجُود إِلَى أَن يجود، وَلَيْسَ عِنْده إِلَّا مَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَمعنى الْبَيْت الثَّانِي: لَا أترك أحدا أهلك أبي وَاسْتمرّ على الأبارة والإهلاك إِلَى أَن أبير هذَيْن الْحَيَّيْنِ من أَسد فَإِنَّهُمَا تعاضدا على قَتله، هَذَا على تَقْدِير الْمحل على الْغَايَة، وَأما على السَّبَبِيَّة، فالتوجيه أَن يُقَال عدم كَون الْعَطاء من الفضول سماحة سَبَب للجود من الْقَلِيل، لِأَن الاتصاف بالجود مطلب الْكِرَام فَإِذا لم يحصل بذلك، فَلَا جرم يتَمَسَّك بِمَا يحصل، وَكَذَا إِرَادَة الانتقام إِذا غلبت على النَّفس بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي عَنْهَا بِدُونِ التشفي، فَلَا جرم يفعل مَا يحصل بِهِ وَهُوَ إهلاك الْحَيَّيْنِ، وَزعم الشَّارِح أَن التَّرَدُّد بَين السَّبَبِيَّة والغاية إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَيْت الثَّانِي، وَأما الْبَيْت الأول فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْغَايَة.
حُرُوف الْجَرّ: مسئلة
(الْبَاء) بِاعْتِبَار مَا وضعت لإِقْرَاره من النّسَب الْجُزْئِيَّة وَجعل آلَة لملاحظتها عِنْد الْوَضع (مشكك) بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِضَافَة الَّتِي ستذكر وَلَيْسَ بمتواطئ، ثمَّ بَين ذَلِك بقوله (للالصاق) وَهُوَ تَعْلِيق الشَّيْء بالشَّيْء وإيصاله بِهِ (الصَّادِق فِي أَصْنَاف الِاسْتِعَانَة) بدل بعض، وَهُوَ طلب المعونة بِشَيْء على شَيْء، وَهِي الدَّاخِلَة على آلَة الْفِعْل نَحْو: كتبت بالقلم لالصاقك الْكِتَابَة بالقلم (والسببية) وَهِي الدَّاخِلَة على اسْم لَو أسْند الْفِعْل المعدي بهَا إِلَيْهِ صلح أَن يكون فَاعِلا لَهُ مجَازًا كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَأخْرج بِهِ من الثمرات} -: إِذْ يَصح أَن يُقَال أخرج المَاء الثمرات مجَازًا. وَقَالَ ابْن مَالك ينْدَرج فِيهَا بَاء الِاسْتِعَانَة: إِذْ يَصح أَن يُقَال كتبت الْقَلَم، نعم فِي مثل قَوْله تَعَالَى - {وأيده بِجُنُود} - اسْتِعْمَال السَّبَبِيَّة يجوز الِاسْتِعَانَة لِأَن الله تَعَالَى غنى عَن الْعَالمين انْتهى، وَفِيه أَن استغناءه كَمَا يَقْتَضِي عدم الِاسْتِعَانَة بِحَسب الْحَقِيقَة كَذَلِك يَقْتَضِي عدم السب بحسبها، وَأما بِحَسب الظَّاهِر فَلَا يمْنَع شَيْئا مِنْهُمَا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال لم يرد فِي الشَّرْع استعانته وَلَو تجوزا فَلْيتَأَمَّل (والظرفية) مَكَانا أَو زَمَانا وَهُوَ مَا يحسن فِي موضعهَا كلمة فِي - {وَلَقَد نصركم الله ببدر} {نجيناهم بِسحر} - (والمصاحبة) وَهِي مَا يحسن فِي موضعهَا مَعَ - {قد جَاءَكُم الرَّسُول بِالْحَقِّ} -، ثمَّ علل كَونهَا(2/102)
مشككا بقوله (فَإِنَّهُ) أَي الالصاق (فِي الظَّرْفِيَّة مثلا كقمت بِالدَّار أتم مِنْهُ) أَي الالصاق (فِي) نَحْو (مَرَرْت بزيد فتفريع بَاء الثّمن) أَيْن الدَّاخِلَة على الْأَثْمَان كبعت هَذَا بِعشْرَة أَو بِثَوْب (عَلَيْهِ) أَي على الإلصاق بِجُزْء من جزئياته (على النَّوْع) الشَّامِل للأصناف (و) مَا فرعت عَلَيْهِ (على الْخُصُوص) أَي الصِّنْف الْخَاص فَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (الالصاق الِاسْتِعَانَة) أَي الالصاق المتحقق فِي ضمن الِاسْتِعَانَة، فَقَوله فتفريع بَاء الثّمن مُبْتَدأ، وَقَوله على النَّوْع خَبره: أَي تَفْرِيع للفرد على النَّوْع، وَقَوله على الْخُصُوص مُتَعَلق بصلَة الْمَوْصُول الْمُقدر، وَقَوله الالصاق الخ خبر الْمَوْصُول، والاستعانة صفة الالصاق (الْمُتَعَلّقَة بالوسائل) صفة الِاسْتِعَانَة (دون الْمَقَاصِد الْأَصْلِيَّة) إِذْ بالوسائل يستعان على الْمَقَاصِد، والمقصد الْأَصْلِيّ من البيع: الِانْتِفَاع، وَالثَّمَر وَسِيلَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِب من النُّقُود الَّتِي لَا ينْتَفع بهَا بِالذَّاتِ (فصح الِاسْتِبْدَال بالكر) من الْحِنْطَة (قبل الْقَبْض فِي) قَوْلك (اشْتريت هَذَا العَبْد بكر حِنْطَة وَصفه) بِوَصْف يزِيل الْجَهَالَة من جودة وَغَيرهَا لِأَنَّهُ ثمن لدُخُول الْبَاء عَلَيْهِ فَكَانَ كَسَائِر الْأَثْمَان فِي صِحَة الِاسْتِبْدَال بِهِ وَالْوُجُوب فِي الذِّمَّة حَالا، لِأَن الْمكيل مِمَّا يثبت فِي الذِّمَّة حَالا وَعدم اشْتِرَاط الْقَبْض: إِذْ الْمَقْصد من الْقَبْض التَّعْيِين، وَلَا يشْتَرط التَّعْيِين فِي الْأَثْمَان بل يَكْفِي فِيهَا معرفَة الْقدر المنجية عَن الْإِفْضَاء إِلَى النزاع (دون الْقلب) أَي بِعْت كرا من الْحِنْطَة الموصوفة بِكَذَا بِهَذَا العَبْد (لِأَنَّهُ) أَي القَوْل الْمَذْكُور (حِينَئِذٍ) أَي حِين قلب، وَأدْخل الْبَاء على العَبْد فَجعل ثمنا فَصَارَ الْكر مَبِيعًا (سلم) أَي بيع سلم إِذْ الْكر الْمَبِيع دين فِي الذِّمَّة، وَالْمَبِيع الدّين لَا يكون إِلَّا سلما، وَصِحَّة السّلم مفقودة هَهُنَا إِذْ هُوَ (يُوجب الْأَجَل) الْمعِين عِنْد الْجُمْهُور مِنْهُم أَصْحَابنَا (وَغَيره) أَي وَغير الْأَجَل كقبض رَأس مَال السّلم (فَامْتنعَ الِاسْتِبْدَال بِهِ) أَي بالكر (قبله) أَي قبل الْقَبْض فَإِن قلت الْمَبِيع فِي السّلم مَعْدُوم، والمعدوم غير مُتَعَيّن، وَلَا فَائِدَة للقبض سوى التعين فَمَا معنى تَفْرِيع امْتنَاع الِاسْتِبْدَال بالكر قبل الْقَبْض على مُوجب السّلم بل هُوَ متفرع على كَون الْكر مَبِيعًا قلت لَيْسَ المُرَاد من الِاسْتِبْدَال بِهِ الِاسْتِبْدَال على وَجه السّلم من الِاسْتِبْدَال الْمُطلق وَحَاصِله أَن الِاسْتِبْدَال حِينَئِذٍ إِمَّا على وَجه السّلم وَقد عرفت أَنه لَا يَصح لِانْعِدَامِ شُرُوطه، أَو على غَيره فَلَا بُد فِيهِ من التَّعْيِين، وَغير الْمَقْبُوض لَيْسَ بمتعين فَلَا يَصح الِاسْتِبْدَال مُطلقًا (وَإِثْبَات الشَّافِعِي كَونهَا) أَي الْبَاء (للتَّبْعِيض فِي امسحوا برءوسكم هُوَ الالصاق) أَي إِثْبَات الالصاق (مَعَ تبعيض مدخولها) أَي الْبَاء: أَي ألصقوا الْمسْح بِبَعْض الرَّأْس (وَأنْكرهُ) أَي التَّبْعِيض (محققو الْعَرَبيَّة) مِنْهُم ابْن جني. قَالَ ابْن برهَان النَّحْوِيّ الأصولي: من زعم أَن الْبَاء للتَّبْعِيض فقد أَتَى أهل الْعَرَبيَّة بِمَا لَا يعرفونه (وشربت بِمَاء الدحرضين) أَي وَالْبَاء فِي قَول(2/103)
عنترة أَخْبَارًا عَن النَّاقة:
(شربت بِمَاء الدحرضين فَأَصْبَحت ... زوراء تنفر عَن حِيَاض الديلم)
(للظرفية) أى شربت النَّاقة فِي مَحل هَذَا المَاء، والدحرضان ماءان، يُقَال لأَحَدهمَا وشيع، وَللْآخر: الدحرض فغلب فِي التَّثْنِيَة، وَقيل مَاء لبني سعد، وَقيل بلد والزوراء المائلة والديلم نوع من التّرْك ضربه مثلا لأعدائه، يَقُول هَذِه النَّاقة تتخلف عَن حِيَاض أعدائه وَلَا تشرب مِنْهَا، وَقيل الديلم أَرض (و:
(شربن بِمَاء الْبَحْر) ثمَّ ترفعت ... مَتى لجج خضر لَهُنَّ نئيج)
وَمَتى بِمَعْنى من، والنئيج من نئج الثور إِذا خار، وَالْبَيْت فِي وصف السَّحَاب، وَالْبَاء فِيهِ (زَائِدَة وَهُوَ) أَي كَونهَا زَائِدَة (اسْتِعْمَال) مُحَقّق (كثير) يشْهد بِهِ التتبع (وإفادة البعضية لم تثبت بعد) معنى مُسْتقِلّا لَهَا (فالحمل عَلَيْهِ) أَي كَونهَا زَائِدَة (أولى) من الْحمل على البعضية (مَعَ أَنه لَا دَلِيل) على البعضية (إِذْ المتحقق) بِالْقَرِينَةِ (علم البعضية) أَي الْعلم بِأَن مُتَعَلق الحكم بِحَسب نفس الْأَمر بعض مدخولها (وَلَا يتَوَقَّف) عَملهَا (على الْبَاء لعقلية أَنَّهَا) أَي لِأَن الْعقل يحكم بِأَن النَّاقة (لم تشرب كل مَاء الدحرضين وَلَا استغرقن) أَي السحب (الْبَحْر) فَلَا حَاجَة إِلَى إِرَادَة البعضية من الْبَاء لاستقلال الْعقل بإفادتها، هَذَا. وَقَالَ ابْن مَالك: والأجود تضمين شربن معنى روين (وَمثله) أَي مثل هَذَا التَّبْعِيض (تبعيض الرَّأْس فَإِنَّهَا) أَي الْبَاء (إِذا دخلت عَلَيْهِ) أَي الرَّأْس (تعدى الْفِعْل) أَي الْمسْح (إِلَى الْآلَة العادية) للمسح (أَي الْيَد) يَعْنِي أَن الْمسْح لَا بُد لَهُ من آلَة وَمحله وَيذكر وَيقدر الآخر، وَحقّ الْبَاء أَن تدخل على الْآلَة وَلَا تستوعبها وتتعدى إِلَى الْمحل بِغَيْر وَاسِطَة وتستوعبه، وَفِي الْآيَة دخلت على الْمحل فَلَزِمَ عدم استيعابه وَلزِمَ تعديه إِلَى الْآلَة بِغَيْر وَاسِطَة فيستوعبها إِذْ كل مِنْهُمَا نزل منزلَة الآخر فيعطي حَقه وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فالمأمور) بهَا (استيعابها) أَي الْآلَة (وَلَا يسْتَغْرق) استيعابه مِقْدَار الْآلَة (غَالِبا سوى ربعه) أَي الرَّأْس، إِنَّمَا قَالَ غَالِبا لِأَنَّهُ قد يكون الْكَفّ كَبِيرا جدا، وَالرَّأْس صَغِيرا جدا فيستوعبه (فَتعين) الرّبع (فِي ظَاهر الْمَذْهَب وَلُزُوم التَّبْعِيض عقلا غير مُتَوَقف عَلَيْهَا) أَي الْبَاء: أَي حكم الْعقل بِكَوْن الْمَمْسُوح بعض الرَّأْس لَيْسَ مَوْقُوفا على كَون الْبَاء للتَّبْعِيض لِئَلَّا يلْزم القَوْل بِأَن الْبَاء للتَّبْعِيض وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَيْهَا لتعين الْمِقْدَار. وَقد عرف (وَلَا على حَدِيث أنس فِي) سنَن (أبي دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ) فَهُوَ حجَّة لقَوْله ذكرت فِيهِ الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ ويقاربه، وَقَوله: مَا كَانَ فِي كتابي من حَدِيث فِيهِ وَهن شَدِيد فقد بَينته وَمَا لم أذكر فِيهِ شَيْئا فَهُوَ صَالح وَبَعضهَا أصح من بعض. قَالَ ابْن الصّلاح: فعلى هَذَا مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابه مَذْكُورا مُطلقًا، وَلَيْسَ فِي وَاحِد(2/104)
من الصَّحِيحَيْنِ وَلَا نَص على صِحَّته أحد مِمَّن يُمَيّز بَين الصَّحِيح وَالْحسن عَرفْنَاهُ بِأَنَّهُ من الْحسن عِنْده، وَفِي الشَّرْح زِيَادَة بسط فِيهِ وَلَفظ حَدِيثه " رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ وَعَلِيهِ عِمَامَة قطرية فَأدْخل يَده من تَحت الْعِمَامَة فَمسح مقدم رَأسه " (بل هُوَ) أَي حَدِيث أنس (مَعَ ذَلِك الدَّلِيل) الْمَذْكُور آنِفا (قَائِم على مَالك) فِي إِيجَابه مسح جَمِيع الرَّأْس (إِذْ قَوْله) أَي أنس (فَأدْخل يَدَيْهِ) قَالَ الشَّارِح وَالَّذِي رَأَيْته فِي نُسْخَة صَحِيحَة يَده (من تَحت الْعِمَامَة فَمسح مقدم رَأسه ظَاهر فِي الِاقْتِصَار) عَلَيْهِ: وَهُوَ الرّبع الْمُسَمّى بالناصية فَلَا يُقَال أَن مسح مقدمه لَا يُنَافِي مسح الْبَاقِي، وَفِي الأَصْل تَقْدِيره بِثَلَاثَة أَصَابِع وَفِي الْمُحِيط والتحفة أَنه ظَاهر الرِّوَايَة قَالَ الشَّارِح اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال الْمَذْكُور فِيهِ قَول مُحَمَّد (وَلُزُوم تكَرر الْإِذْن) للبر (فِي أَن خرجت إِلَّا بإذني) فَأَنت طَالِق (لِأَنَّهُ) أَي الِاسْتِثْنَاء (مفرغ للمتعلق) بِفَتْح اللَّام، يَعْنِي أَن الْمُسْتَثْنى الَّذِي فرغ الْعَامِل عَن الْعَمَل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ للْعَمَل فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلق الْبَاء وَهُوَ الْخُرُوج، إِذْ التَّقْدِير (أَي) خرجت خُرُوجًا (إِلَّا خُرُوجًا مُلْصقًا بِهِ) أَي بإذني فَمَا اسْتثْنى من دَائِرَة النَّفْي الشَّامِل لكل خُرُوج كَمَا سيصرح بِهِ إِلَّا خُرُوج ملصق بِالْإِذْنِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَمَا لم يكن) أَي فالخروج الَّذِي لم يكن مُلْصقًا (بِهِ) أَي بِالْإِذْنِ (دَاخل فِي الْيَمين لعُمُوم النكرَة) المفهومة من الْفِعْل وَسِيَاق النَّفْي الْحَاصِل من الْيَمين إِذْ هِيَ للْمَنْع من الْخُرُوج فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تخرجي خُرُوجًا إِلَّا خُرُوجًا مُلْصقًا بِهِ (فَيحنث بِهِ) أَي بذلك الْخُرُوج الَّذِي لَيْسَ بِإِذْنِهِ (بِخِلَاف) إِن خرجت (إِلَّا أَن آذن) لَك فَإِنَّهُ (لَا يلْزم فِي الْبر) فِيهِ (تكرره) أَي الْإِذْن (لِأَن الْإِذْن غَايَة) لِلْخُرُوجِ (تجوز بإلا فِيهَا) أَي الْغَايَة (لتعذر اسْتثِْنَاء الْأذن من الْخُرُوج) لعدم المجانسة وَلَا يحسن فِيهِ ذَلِك التَّقْدِير لاختلال أَن خرجت خُرُوجًا إِلَّا خُرُوجًا أَن آذن لَك فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن يكون معنى إِلَّا خُرُوجًا كَائِنا فِي وَقت الْإِذْن قلت لَا يقْصد بِهَذِهِ الْعبارَة هَذَا التَّطْوِيل الممل كَمَا لَا يخفى على أَرْبَاب اللِّسَان فَلَا يحمل عَلَيْهِ مَعَ جَوَاز هَذَا التَّجَوُّز الظَّاهِر لوُجُود الْمُنَاسبَة الظَّاهِرَة بَين الْغَايَة وَالِاسْتِثْنَاء: إِذْ كل مِنْهُمَا يُفِيد انْتِهَاء شَيْء إِلَى شَيْء، أما الْغَايَة فلانتهاء المغيا إِلَيْهَا، وَأما الِاسْتِثْنَاء فلانتهاء حكم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ الى الْمُسْتَثْنى (وبالمرة) من الْإِذْن (يتَحَقَّق) الْبر (فينتهي الْمَحْلُوف عَلَيْهِ) وَهُوَ الْخُرُوج الْمَمْنُوع عَنهُ مثلا 0 وَلُزُوم تكْرَار الْإِذْن) من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي دُخُول بيوته عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ تِلْكَ الصِّيغَة) أَي إِلَّا أَن يُؤذن لكم لَيْسَ بهَا بل (بِخَارِج) عَنْهَا أَي (تَعْلِيله) تَعَالَى الدُّخُول بِغَيْر الْإِذْن (بالأذى) حَيْثُ قَالَ - {إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي} - فَإِن الاجتناب عَن الْأَذَى يتَوَقَّف على طلب الْإِذْن فِي كل دُخُول فَلَا إِشْكَال.(2/105)
(مسئلة)
(على: للاستعلاء حسا) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون} - (وَمعنى) كأوجبه عَلَيْهِ وَعَلِيهِ دين (فَهِيَ فِي الْإِيجَاب وَالدّين حَقِيقَة فَإِنَّهُ) أَي الْمَذْكُور من الْإِيجَاب وَالدّين (يَعْلُو الْمُكَلف) أما فِي الدّين فَظَاهر، وَأما فِي الْإِيجَاب فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي شغل ذمَّة الْمُكَلف بِحَق مطَالب كَدين الْعباد، وَيحْتَمل إرجاع الضَّمِير إِلَى الدّين أَعم من أَن يكون دين الْحق أَو العَبْد فَيعلم بِهِ الاستعلاء فِي الْإِيجَاب المستلزم دين الْحق (وَيُقَال رَكبه دين) لِأَنَّهُ علاهُ للزومه فِيهِ لَهُ (فَيلْزم فِي عَليّ ألف) لفُلَان لِأَن باللزوم يتَحَقَّق الاستعلاء حَيْثُ يثبت للْمقر لَهُ الْمُطَالبَة (وَالْحَبْس للْمقر، وَهَذَا (مَا لم يصله) أَي قَوْله عَليّ ألف (بمغير وَدِيعَة) أَي بِمَعْنى هُوَ لفظ وَدِيعَة بِالرَّفْع على أَن يكون صفة ألف، أَو النصب على الْحَال فَإِن وَصله بهَا حمل على وجوب الْحِفْظ (لقَرِينَة الْمجَاز) وَهِي وَدِيعَة، وَإِنَّمَا اشْترط وَصله لِأَن الْبَيَان المغير لَا يعْتَبر إِلَّا عِنْد الِاتِّصَال (و) قد مر (فِي الْمُعَاوَضَات الْمَحْضَة) أَي الخالية عَن معنى الْإِسْقَاط (كَالْإِجَارَةِ) فَإِنَّهَا مُعَاوضَة الْمَنَافِع بِالْمَالِ (وَالنِّكَاح) فَإِنَّهُ مُعَاوضَة الْبضْع بِالْمَالِ وَالْبيع فَإِنَّهُ مُعَاوضَة مَال بِمَال، وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا معنى الْإِسْقَاط (مجَاز فِي الالصاق) فِي التَّوْضِيح، وَهُوَ فِي الْمُعَاوَضَات الْمَحْضَة بِمَعْنى الْبَاء إِجْمَاعًا مجَازًا، لِأَن اللُّزُوم يُنَاسب الالصاق، وَهَذَا بَيَان علاقَة الْمجَاز، وَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ مجَازًا لِأَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَهُوَ الشَّرْط لَا يُمكن فِي الْمُعَاوَضَات الْمَحْضَة انْتهى. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ كَونهَا للشّرط بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة عِنْد الْفُقَهَاء لِأَنَّهَا فِي أصل الْوَضع للُزُوم، وَالْجَزَاء لَازم للشّرط نَحْو (احمله على دِرْهَم وَتَزَوَّجت على ألف لمناسبته) أَي الالصاق (اللُّزُوم) إِذْ اللَّازِم ملتصق بالملزوم (وَفِي الطَّلَاق للشّرط عِنْده) أَي أبي حنيفَة (فَفِي طَلقنِي ثَلَاثًا على ألف لَا شَيْء لَهُ) أَي للزَّوْج عَلَيْهَا إِذا أجباها (بِوَاحِدَة) وَإِنَّمَا يَقع عَلَيْهَا طَلْقَة رَجْعِيَّة عِنْده (لعدم انقسام على الشَّرْط الْمَشْرُوط) يَعْنِي لَو كَانَ يَنْقَسِم الْألف على الطلقات الثَّلَاث كَانَ يلْزم فِي مُقَابلَة كل طَلَاق ثلث الْألف لكنه لَيْسَ بمنقسم لِأَنَّهُ مَشْرُوط والمشروط لَا يَنْقَسِم على الشَّرْط اتِّفَاقًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك وانقسم على الطلقات فَلَزِمَ بالواحدة ثلث الْألف (تقدم بعضه) أَي بعض الْمَشْرُوط وَهُوَ ثلث الْألف (عَلَيْهِ) أَي على الشَّرْط وَهُوَ الطلقات الثَّلَاث، وَقد يُقَال إِن كَون مَجْمُوع الْألف مَشْرُوطًا بِمَجْمُوع الطلقات الثَّلَاث لَا يسْتَلْزم كَون كل جُزْء مِنْهُ مَشْرُوطًا بمجموعها، وَإِذا لم يلْزم فَلَا مَحْذُور فِي تقدم بعض الْمَشْرُوط على الشَّرْط: نعم يُقَال حِينَئِذٍ أَن لُزُوم ثلث الْألف لَا مُوجب لَهُ، لِأَنَّهُ لَا انقسام للمشروط على الشَّرْط ليَكُون فِي مُقَابلَة كل طَلَاق ثلث الْألف كَيفَ ومقصد الزَّوْجَة هُوَ الْبَيْنُونَة(2/106)
وَبِدُون حُصُول الْمَقْصد لَا ترْضى بِإِعْطَاء شَيْء من الْألف فِي مُقَابلَة شَيْء مِنْهَا (وَعِنْدَهُمَا) على هَهُنَا (للالصاق عوضا) أَي للالصاق الَّذِي يكون بَين الْعِوَضَيْنِ: إِذْ كل مِنْهُمَا لَا يُفَارق الآخر وَذَلِكَ لِأَن الطَّلَاق على مَال مُعَاوضَة من جَانبهَا، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا الرُّجُوع قبل كَلَام الزَّوْج (فتنقسم الْألف للمعية) الثَّانِيَة بَين الْعِوَضَيْنِ المستلزمة للالصاق الْمُوجبَة للمقابلة بَين أَجْزَائِهَا، لِأَن ثُبُوت الْعِوَضَيْنِ بطرِيق الْمُقَابلَة اتِّفَاقًا (وَلمن يرجحه) أَي قَوْلهمَا أَن يَقُول (أَن الأَصْل فِيمَا علمت مُقَابلَته) بِمَال (العوضية) وَهَذَا مِنْهُ فتعينت، والاتفاق على أَن الْعِوَض تَنْقَسِم أجزاؤه على أَجزَاء المعوض فَتبين مِنْهُ بِوَاحِدَة بِثلث الْألف (وَكَونه) أَي على (مجَازًا فِيهِ) أَي الالصاق (حَقِيقَة فِي الشَّرْط) كَمَا ذكره شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ فَيتَعَيَّن الْحمل على الشَّرْط (مَمْنُوع لفهم اللُّزُوم فيهمَا) أَي الشَّرْط والالصاق: يَعْنِي أَن اللُّزُوم الْمُطلق الَّذِي يتَحَقَّق فِي ضمن كل وَاحِد مِنْهُمَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن فِي كل من الاطلاقين (وَهُوَ) أَي اللُّزُوم هُوَ الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ وَكَونه) أَي على مستعملة حَقِيقَة (فِي معنى يُفِيد اللُّزُوم) فِي الْمُعَاوَضَات (لَا فِيهِ) أَي لِأَنَّهَا مستعملة فِي اللُّزُوم (ابْتِدَاء يصيره) أَي على (مُشْتَركا) بَين هَذَا الْمعِين واللزوم اشتراكا لفظيا: إِذْ كَونه حَقِيقَة فِي اللُّزُوم ثَابت لما ذكر من التبادر، وَالْأَصْل عدم الِاشْتِرَاك وَإِذا تبين كَونهَا حَقِيقَة فِي اللُّزُوم (فمجاز فيهمَا) أَي الالصاق وَالشّرط كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ.
مسئلة
(من: تقدم مسائلها) فِي بحثي من وَمَا (وَالْغَرَض) هَهُنَا (تَحْقِيق مَعْنَاهَا فكثير من الْفُقَهَاء) كفخر الْإِسْلَام وَصَاحب البديع قَالُوا هِيَ (للتَّبْعِيض) وعلامته إِمْكَان وضع لفظ بعض فِي موضعهَا وَلَيْسَ بمرادف لَهُ، إِذْ الترادف لَا يكون بَين مختلفي الْجِنْس كالاسم والحرف (وَكثير من أَئِمَّة اللُّغَة) كالمبرد وَغَيره ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا (لابتداء الْغَايَة وَرجع مَعَانِيهَا إِلَيْهِ) أَي إِلَى ابْتِدَاء الْغَايَة، وَالْمرَاد بهَا المساقة من إِطْلَاق الِاسْم الْجُزْء على الْكل، إِذْ هِيَ فِي الأَصْل بِمَعْنى النِّهَايَة وَلَيْسَ لَهَا ابْتِدَاء وانتهاء كَذَا فِي التَّلْوِيح (فَالْمَعْنى فِي أكلت من الرَّغِيف ابْتِدَاء أكلي) الرَّغِيف، وَفِي أخذت من الدَّرَاهِم ابْتِدَاء أخذى الدَّرَاهِم (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (معنى تعسفه) لمُخَالفَته الظَّاهِر هُوَ من غير مُوجب (لَا يَصح لِأَن ابْتِدَاء أكلي وأخذى لَا يفهم من التَّرْكِيب وَلَا) هُوَ (مَقْصُود الإفادة) مِنْهُ (بل) الْمَقْصُودَة بالإفادة مِنْهُ (تعلقه) أَي الْفِعْل كَالْأَكْلِ وَالْأَخْذ فيهمَا (بِبَعْض مدخولها) وَهُوَ الرَّغِيف وَالدَّرَاهِم (وَكَيف) يَصح هَذَا (وابتداؤه) أَي وَارِدَة ابْتِدَاء الْفِعْل (مُطلقًا) فِي جَمِيع مواردها غير صَحِيح لِأَنَّهَا (قد تكذب) فِي بعض الْمَوَاضِع كَمَا إِذا ابْتَدَأَ(2/107)
الْأكل من اللَّحْم ثمَّ أكل بعض الرَّغِيف ثمَّ قَالَ: أكلت من الرَّغِيف، فَإِذا أَرَادَ كَون ابْتِدَاء أكله من الرَّغِيف كَانَ المُرَاد بِهَذَا الِاعْتِبَار كذبا (وتخصيصه) أَي الْفِعْل الْمَقْصد تعْيين ابْتِدَاء بِهِ (بذلك) الْمحل (الجزئي) كالرغيف فِي: أكلت من الرَّغِيف (غير مُفِيد) أَي يُوجب كَون الْكَلَام غير مُفِيد، جَوَاب سُؤال، وَهُوَ أَنه لَا نسلم لُزُوم الْكَذِب فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة لجَوَاز أَن يُرَاد تعْيين ابْتِدَاء الْأكل الْمُتَعَلّق بالرغيف، لَا مُطلق الْأكل فِي ذَلِك الْوَقْت ليلزم الْكَذِب وَحَاصِله أَنه حِينَئِذٍ يكون الْمَعْنى ابْتِدَاء أكل الْمُتَعَلّق بالرغيف الرَّغِيف وَلَا فَائِدَة فِيهِ (واستقراء مواقعها يُفِيد أَن متعلقها أَن تعلق بمسافة) حَال كَونه (قطعا لَهَا) أَي لتِلْك الْمسَافَة: يَعْنِي كَونه لبَيَان قطعهَا (كسرت ومشيت أَولا) يكون قطعا لَهَا (كبعت) من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا الْحَائِط (وأجرت) الدَّار من شهر كَذَا إِلَى شهر كَذَا (فلابتداء الْغَايَة أَي ذِي الْغَايَة) قصد بِهِ تَفْسِير قَوْلهم لابتداء الْغَايَة، وَقد مر آنِفا (وَهُوَ) أَي ذُو الْغَايَة (ذَلِك الْفِعْل) الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ تَفْسِير قَوْلهم لابتداء الْغَايَة، وَقد مر آنِفا (وَهُوَ) أَي ذُو الْغَايَة (ذَلِك الْفِعْل) الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ (أَو مُتَعَلّقه) وَهُوَ الْمَكَان أَو الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ (الْمُبين) أَي الَّذِي بَين (منتهاه) بإلى وَنَحْوه، (وَإِن أَفَادَ) الْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ من (تناولا) أَي معِين التَّنَاوُل (كأخذت وأكلت وَأعْطيت فَلَا يصاله) أَي فَمن لَا يصال مَا يتَعَلَّق بِهِ (إِلَى بعض مدخولها فَعلمت تبادر كل من المعنين) أَي الِابْتِدَاء والتبعيض (فِي مَحَله) تبادرا حَاصِلا عَن كلمة من (أَي مَعَ خُصُوص ذَلِك الْفِعْل) على الْوَجْه الَّذِي بَين (فَلم يبْق) بعد هَذَا التبادر (إِلَّا) أحد الْأَمريْنِ: أما (إِظْهَار مُشْتَرك) معنوي بَين الِابْتِدَاء والتبعيض (يكون) من مَوْضُوعا (لَهُ) أَي لذَلِك الْمُشْتَرك (أَو) الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ) بَينهمَا (أما) أَنه (حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَاز فِي الآخر بعد استوائهما) أَي الْمَعْنيين (فِي المدلولية والتبادر فِي محليهما فتحكم وانتفى جعلهَا) مَوْضُوعا (للابتداء) فَقَط لعدم صِحَة إِرَادَته فِي كثير من المواقع لما عرفت (ورد التَّبْعِيض إِلَيْهِ) أَي الِابْتِدَاء وَلم يظْهر مُشْتَرك معنوي غَيره أَيْضا (فمشترك) أَي فَإِذن هُوَ مُشْتَرك (لَفْظِي) بَين مَعَانِيهَا، ومعين كل وَاحِد مِنْهَا الْمُتَعَلّق الْخَاص (وَيرد الْبَيَان) أَي كَونهَا للْبَيَان وعلامته صِحَة وضع الَّذِي موضعهَا أَو جعل مدخولها مَعَ ضمير مَرْفُوع قبله صلتها كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} -: إِذْ يَصح الرجس الَّذِي هُوَ الْأَوْثَان (إِلَى التَّبْعِيض بِأَنَّهُ) أَي التَّبْعِيض فِيهِ (أَعم من كَونه تبعيض مدخولها من حَيْثُ هُوَ مُتَعَلق الْفِعْل، أَو كَون مدخولها) فِي نَفسه (بَعْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلق الْفِعْل، فالأوثان بعض الرجس) وَلَا يخفى أَن كلمة من بِمَنْزِلَة لفظ الْبَعْض، وَالْمَفْهُوم من قَوْلنَا: أكلت بعض الرَّغِيف تبعيض الرَّغِيف، وعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يُرَاد من قَوْله - {من الْأَوْثَان} - تبعيض الْأَوْثَان لَا تبعيض الرجس، وَلَا يَصح تبعيضها بِاعْتِبَار تعلق(2/108)
الْفِعْل لوُجُوب الاجتناب من الْكل، وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرجس بِأَن يُقَال: بعض الْأَوْثَان رِجْس إِذْ الْكل رِجْس بِخِلَاف أَن يُقَال: الْأَوْثَان بعض الرجس، فَإِن فِي إدخالها فِي دَائِرَة الرجس مُبَالغَة فِي ذمها: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: الْمَعْنى على الْقلب.
مسئلة
(إِلَى: للغاية أَي دَالَّة على أَن مَا بعْدهَا مُنْتَهى حكم مَا قبلهَا، وَقَوله لانْتِهَاء الْغَايَة تساهل) لَا من حَيْثُ أَن الْغَايَة لَا امتداد لَهَا لما ذكر من أَنَّهَا قد تطلق على ذِي الْغَايَة وَلما سَيذكرُ (وَكَذَا) التساهل مَوْجُود وَلم يرْتَفع (بِإِرَادَة المبدأ) بالغاية تحملا بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (إِذْ تطلق) الْغَايَة (بالاشتراك عرفا بَين مَا ذكرنَا) وَهُوَ الْمُنْتَهى (وَنِهَايَة الشَّيْء من طَرفَيْهِ) بَيَان لنهايته وهما أَوله وَآخره (وَمِنْه) أَي من هَذَا الِاشْتِرَاك الْعرفِيّ نَشأ قَوْلهم (لَا تدخل الغايتان) فِي قَوْله عَليّ من دِرْهَم إِلَى عشرَة حَتَّى تلْزم ثَمَانِيَة كَمَا هُوَ قَول زفر، وَإِنَّمَا لم يحمل على التغليب لِأَنَّهُ مجَاز، ثمَّ علل التساهل بقوله (لِأَن الدّلَالَة بهَا) أَي بإلى (على انْتِهَاء حكمه) أَي حكم مَا قبلهَا (لَا) على (انتهائه) أَي مَا قبلهَا نَفسه فَفِي قَوْلك أكلت السَّمَكَة إِلَى رَأسهَا نصفهَا يظْهر مَا قُلْنَا (وَفِي دُخُوله) أَي مَا بعْدهَا فِي حكم مَا قبلهَا. أَرْبَعَة مَذَاهِب. يدْخل مُطلقًا. لَا يدْخل مُطلقًا. يدْخل أَن كَانَ من جنس مَا قبلهَا. وَلَا يدْخل إِن لم يكن. والاشتراك: أَي يدْخل حَقِيقَة وَلَا يدْخل حَقِيقَة، كَذَا ذكره صدر الشَّرِيعَة (كحتى) أَرَادَ أَن الرَّابِع فِي حَتَّى الِاشْتِرَاك فتعقبه بقوله (وَنقل مَذْهَب الِاشْتِرَاك فِي إِلَى غير مَعْرُوف، وَمذهب يدْخل) بِالْقَرِينَةِ (وَلَا يدْخل بِالْقَرِينَةِ غَيره) أَي غير مَذْهَب الِاشْتِرَاك وَسَيَجِيءُ بَيَانه، فَلَمَّا أَفَادَ أَن الِاشْتِرَاك فِي حَتَّى من حَيْثُ النَّقْل ثَابت دون إِلَى أَرَادَ أَن يبين أَن المرضي عِنْده عدم ثُبُوته فِي شَيْء مِنْهُمَا بِحَسب نفس الْأَمر ومنشأ ذَلِك النَّقْل التباس فَقَالَ (فَلَعَلَّهُ) أَي مَذْهَب يدْخل وَلَا يدْخل بِالْقَرِينَةِ (الْتبس بِهِ) أَي بِمذهب الِاشْتِرَاك فَوضع مَوْضِعه مَذْهَب الِاشْتِرَاك (فَلَا يُفِيد حَتَّى وَإِلَى سوى) شَيْء (أَن مَا بعْدهَا مُنْتَهى الحكم) أَي حكم مَا قبل كل مِنْهُمَا (ودخوله) أَي مَا بعد كل مِنْهُمَا فِي حكم مَا قبله (وَعَدَمه) أَي عدم دُخُول مَا بعد كل فِي حكم مَا قبله إِنَّمَا هُوَ (بِالدَّلِيلِ) على ذَلِك بِحَسب الْمَوَارِد (وَإِلَيْهِ) أَي وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَب (أذهب فيهمَا) أَي فِي حَتَّى وَالِي (وَلَا يُنَافِي) هَذَا الْمَذْهَب (إِلْزَام الدُّخُول فِي حَتَّى) عِنْد عدم الْقَرِينَة كَمَا هُوَ قَول أَكثر الْمُحَقِّقين (وَعَدَمه) أَي عدم الدُّخُول (فِي إِلَى) عِنْد عدم الْقَرِينَة كَمَا هُوَ قَول أَكثر الْمُحَقِّقين أَيْضا (لِأَنَّهُ) أَي إِلْزَام الدُّخُول وَعَدَمه، أَو الضَّمِير للشأن (إِيجَاب الْحمل) أَي حمل حَتَّى وَإِلَى على الدُّخُول وَعَدَمه (عِنْد(2/109)
عدم القرنية) الْمعينَة للدخول أَو عَدمه، فعلى الأول قَوْله إِيجَاب الْحمل خبر إِن، وعَلى الثَّانِي مُبْتَدأ خَبره (للأكثرية فيهمَا) يَعْنِي إِذا لم يكن حَتَّى وَإِلَى مَوْضُوعَيْنِ للدخول وَعَدَمه وَلم تكن الْقَرِينَة الْمعينَة وَالْحمل على مَا هُوَ الْأَكْثَر فِي الِاسْتِعْمَال مُتَعَيّن (حملا على) الِاحْتِمَال (الْأَغْلَب) احْتِرَازًا عَن تَرْجِيح المغلوب الْمَرْجُوح (لَا) إِيجَاب حملهَا على الدُّخُول وَعَدَمه حَال كَونهمَا (مدلولا لَهما) أَي حَتَّى وَإِلَى حَتَّى يُنَافِي الْمَذْهَب الْمُخْتَار (وَالتَّفْصِيل) بَين بِالْفرقِ بَين أَن يكون مَا بعْدهَا من جنس مَا قبلهَا فَيدْخل، وَأَن لَا يكون فَلَا يدْخل (بِلَا دَلِيل) وَأَشَارَ إِلَى نفي مَا يخال دَلِيلا عَلَيْهِ بقوله (وَلَيْسَ يلْزم الْجُزْئِيَّة) أَي كَون مَا بعْدهَا من جنس مَا قبلهَا (الدُّخُول) بِالرَّفْع فَاعِلا ليلزم: أَي لَيْسَ الدُّخُول من لَوَازِم الْجُزْئِيَّة وَلَا عدم الدُّخُول من لَوَازِم عدمهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا) يلْزم (عدمهَا) أَي الْجُزْئِيَّة (عَدمه) أَي الدُّخُول (إِلَّا أَن يثبت استقراؤه) أَي استقراء الدُّخُول وَعَدَمه فِي موارد الِاسْتِعْمَال فَوجه (كَذَلِك) أَي على التَّفْصِيل الْمَذْكُور (فَيحمل) حَتَّى وَإِلَى عَلَيْهِمَا (كَمَا قُلْنَا وَكَذَا) بِلَا دَلِيل (تَفْصِيل، فَخر الْإِسْلَام إِن كَانَت) الْغَايَة (قَائِمَة: أَي مَوْجُودَة قبل التَّكَلُّم غير مفتقرة) فِي الْوُجُود (إِلَى المغيا: أَي مُتَعَلق الْفِعْل) الَّذِي تعلّقت بِهِ من الزَّمَان وَالْمَكَان (لَا الْفِعْل لم تدخل) الْغَايَة فِي حكم المغيا (كإلى هَذَا الْحَائِط) فِي قَوْله: بعنا أَو أجرت من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا الْحَائِط (وَاللَّيْل فِي الصَّوْم) أَي فِي - {أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} - فالحائط لَا تدخل فِي حكم البيع وَالْإِجَارَة وَكَذَا اللَّيْل أَي لَا يدْخل فِي الصَّوْم (إِلَّا أَن تنَاولهَا) أَي الْغَايَة (الصَّدْر كالمرافق) فِي - {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} - لِأَن الْيَد اسْم تنَاول الْجَارِحَة من رُءُوس الْأَصَابِع إِلَى الْإِبِط، فَتدخل الْمرَافِق فِي حكم الْغسْل (فَأدْخل) فَخر الْإِسْلَام (فِي) الْغَايَة (الْقَائِمَة الْجُزْء مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ آخرا أَولا (و) كَذَا أَدخل فِيهَا (اللَّيْل) الْمَذْكُور فِي الْآيَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتثْنى من الْقَائِمَة بِنَفسِهَا مَا يتَنَاوَلهُ الصَّدْر والجزء مِمَّا يتَنَاوَلهُ آخرا كَانَ أَولا، والمستنثى دَاخل فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لَا محَالة. وَقد صرح فِي التَّمْثِيل بِدُخُول اللَّيْل فِيهَا (وَغَيره) أَي غير فَخر الْإِسْلَام كصاحب الْمنَار وَصدر الشَّرِيعَة قَالَ (إِن قَامَت) الْغَايَة (لَا) تدخل (كرأس السَّمَكَة وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تقم (فَإِن تنَاولهَا) الصَّدْر (كالمرافق دخلت) الْغَايَة فِي حكم المغيا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَتَنَاوَلهَا الصَّدْر (لَا) تدخل (كالليل) لِأَن مُطلق الصَّوْم ينْصَرف إِلَى الْإِمْسَاك سَاعَة بِدَلِيل مسئلة الْحلف (فأخرجوهما) أَي أخرج غير فَخر الْإِسْلَام الْمرَافِق، وَاللَّيْل عَن الْقَائِمَة لادخالهما فِيمَا يُقَابل الْقَائِمَة، وَلم يذكر المُصَنّف فِي تَفْصِيل فَخر الاسلام حكم مَا يُقَابل الْقَائِمَة اكْتِفَاء بِذكرِهِ فِي تَفْصِيل غَيره: إِذْ لَا خلاف بَينهم فِي أَن غير الْقَائِمَة أَن تنَاوله الصَّدْر دخل وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم فِي الْقَائِمَة، فَغير فَخر الْإِسْلَام(2/110)
حكم بِعَدَمِ دُخُول الْقَائِمَة مُطلقًا. وَهُوَ اسْتثْنى مِنْهَا مَا تنَاوله الصَّدْر (قيل مبناه) أَي مَبْنِيّ قَول غير فَخر الْإِسْلَام (على تَفْسِيره الْقَائِمَة بِكَوْنِهَا غَايَة قبل التَّكَلُّم) أَي (غَايَة بذاتها لَا يَجْعَلهَا) غَايَة (بِإِدْخَال إِلَى عِنْدهم) أَي غير فَخر الْإِسْلَام ظرف للتفسير، وَلَا شكّ فِي عدم صدق الْقَائِمَة بِهَذَا الْمَعْنى على الْمرَافِق وَاللَّيْل: إِذْ لَا يتَحَقَّق فيهمَا معنى الْغَايَة إِلَّا بجعلهما مَدْخُول إِلَى، بِخِلَاف مَا فسر بِهِ فَخر الْإِسْلَام من كَونهَا مَوْجُودا غير مفتقر إِلَى المغيا فَإِنَّهُ يصدق عَلَيْهِمَا (وَلَا يخفى أَنه) أَي تفسيرهم بِمَا ذكر (مَبْنِيّ على إِرَادَة مُنْتَهى الشَّيْء) الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْفِعْل على مَا مر (لَا) مُنْتَهى (الحكم) إِذْ مُنْتَهى الشَّيْء هُوَ الَّذِي يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: أَعنِي الْغَايَة بذاتها والغاية بالجعل، وَأما مُنْتَهى الحكم فَلَا يكون إِلَّا بالجعل (فَخرج اللَّيْل والجزء) الَّذِي هُوَ (غير الْمُنْتَهى) من الْقَائِمَة كالمرافق فَإِنَّهُ لَيْسَ بغاية مَعَ قطع النّظر عَن الْجعل كَمَا أَن اللَّيْل لَيْسَ بغاية للصَّوْم الْمُطلق الصَّادِق على إمْسَاك سَاعَة (واختص) كَونهَا قَائِمَة على تفسيرهم (بِنَحْوِ إِلَى الْحَائِط، وَرَأس السَّمَكَة) مِمَّا هُوَ غَايَة فِي حد ذَاتهَا مَعَ قطع النّظر عَن جعل الْجَاعِل (و) اخْتصَّ كَونهَا قَائِمَة (بالمجموع) أَي بِمَجْمُوع كَونهَا مَوْجُودَة قبل التَّكَلُّم غير مفتقرة إِلَى المغيا (عِنْده) أَي فَخر الْإِسْلَام (فدخلا) أَي الْمرَافِق وَاللَّيْل فِي الْقَائِمَة كَذَا قيل (وَفِيه) أى فِي اخْتِصَاص كَونهَا قَائِمَة بالمجموع (نظر لِأَنَّهُ) أى فَخر الاسلام (أَدخل الْمرَافِق) فِي الْقَائِمَة (مَعَ انْتِفَاء صدق الْمَجْمُوع عَلَيْهَا) أى الْمرَافِق فِي أَنَّهَا مفتقرة إِلَى الْيَد (وَالْحق أَن الِاعْتِبَار) فِي الدُّخُول وَعَدَمه (بالتناول) أَي بتناول صدر الْكَلَام للمغيا والغاية مَعًا (وَعَدَمه) أَي التَّنَاوُل (فَيرجع) الِاعْتِبَار الْمَذْكُور (إِلَى التَّفْصِيل النَّحْوِيّ) إِلَى أَن مَا بعْدهَا إِن كَانَ جُزْءا مِمَّا قبلهَا دخل وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا سبق من أَن التَّفْصِيل بِلَا دَلِيل، لِأَن المُرَاد ثمَّة نفي كَون إِلَى مَوْضُوعَة للدخول فِي صُورَة التَّنَاوُل وللخروج فِي غَيرهَا، وَاعْتِبَار التَّنَاوُل هَهُنَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن الدُّخُول وَالْخُرُوج يَأْتِي من قبل وَاضع وضع إِلَى بِسَبَب أَنه إِذا كَانَ متناولا فَالظَّاهِر ثُبُوت الحكم لجَمِيع مَا تنَاوله الصَّدْر وَإِلَّا فَالْأَصْل عدم الحكم فِيمَا بعد إِلَى (وَلذَا خطئَ من أَدخل الرَّأْس) من السَّمَكَة (فِي الْقَائِمَة وَحكم بِعَدَمِ دُخُول الْقَائِمَة مُطلقًا) فِي حكم المغيا، وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة (وَلم يزدْ التَّفْصِيل إِلَى الْقَائِمَة وَغَيرهَا سوى الشغب) فِي المُرَاد بالقائمة، وَمِمَّا يَقْتَضِيهِ تَفْسِير كل من الْفَرِيقَيْنِ، وَهُوَ بالتسكين تهييج الشَّرّ فِي الأَصْل، وَالْمرَاد هُنَا كَثْرَة القيل والقال (فَعدم دُخُول الْعَاشِر عِنْده) أَي أبي حنيفَة (فِي لَهُ) عَليّ (من دِرْهَم إِلَى عشرَة لعدم تنَاوله) أَي الدِّرْهَم الَّذِي هُوَ صدر الْكَلَام (إِيَّاه) أَي الْعَاشِر فَلَزِمَهُ تِسْعَة (وأدخلاه) أَي الْعَاشِر (بادعاء الضَّرُورَة: إِذْ لَا يقوم) الْعَاشِر غَايَة (بِنَفسِهَا) لعدم وجوده بِدُونِ تِسْعَة قبله فَلم يكن لَهُ(2/111)
وجود قبل هَذَا الْكَلَام (فَلَا يكون) الْعَاشِر (إِلَّا مَوْجُودَة وَهُوَ) أَي وجودهَا (بِوُجُوبِهَا) فِي الذِّمَّة فَيجب (وَصَارَ) الْعَاشِر (كالمبدأ) وَهُوَ الدِّرْهَم الأول فِي الدُّخُول ضَرُورَة فَلَزِمَهُ عشرَة. (وَقَالَ) أَبُو حنيفَة (المبدأ) أَي دُخُوله (بِالْعرْفِ وَالْإِثْبَات) للْأولِ (لمعروض الثانوية) أَي لأجل إِثْبَات الثَّالِث بِوَصْف الثالثية وهلم جرا (إِلَى العاشرية) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِثْبَات الثَّانِي مثلا من حَيْثُ هُوَ ثَان فِي الذِّمَّة إِلَّا بِإِثْبَات الأول فِيهَا أَيْضا وَإِلَّا لَكَانَ الثَّابِت فِيهَا وَاحِدًا لَا ثَانِيًا وَهُوَ ظَاهر، وَقَوله وَالْإِثْبَات مُبْتَدأ خَبره (لَا يثبت الْعَاشِر) لعدم احْتِيَاج إِثْبَات التاسعية للتاسع إِلَى العاشرية (ووجوده) أَي الْعَاشِر فِي الْعقل إِنَّمَا هُوَ (لكَونه غَايَة فِي التعقل لتحديد الثَّابِت) أَي لتحديد مَا قصد إثْبَاته فِي الذِّمَّة مِمَّا هُوَ (دونه) أَي دون الْعَاشِرَة وَهُوَ التَّاسِع (وَإِضَافَة كل مَا) أَي عدد كَائِن (قبله) أَي الْعَاشِر (من الثَّانِي إِلَى التَّاسِع يستدعى) ثُبُوت (مَا) أَي عدد كَائِن (قبلهَا) أَي قبل تِلْكَ الْإِضَافَة فالثانوية مثلا مَفْهُوم إضافي إِذا ثَبت معروضها استدعى ثُبُوت الأول، والثالثية تستدعى ثُبُوت الأول وَالثَّانِي، وعَلى هَذَا الْقيَاس (لَا) يستدعى ثُبُوت (مَا بعْدهَا كالعاشر وَلَو استدعاه) أَي لَو فرض أَن الثَّانِي مثلا يستدعى الثَّالِث (كَانَ) ذَلِك الاستدعاء (فِي الْوُجُود) بِحَسب التعقل (لَا فِي ثُبُوت حكمه) أَي حكم الْعدَد الْمُتَقَدّم كالثبوت فِي الذِّمَّة (لَهُ) أَي لما بعده بِأَن يثبت الآخر فِي الذِّمَّة (لِأَنَّهُ) أَي الحكم بِشَيْء (على معروض وصف مضايف) لوصف آخر بِأَن يكون تعقل كل مِنْهُمَا يسْتَلْزم تعقل الآخر (لَا يُوجِبهُ) أَي الحكم بذلك الشَّيْء (على معروض) الْوَصْف (الآخر وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن أوجبه (وَجب قيام الابْن للْحكم بِهِ) أَي بِالْقيامِ (على الْأَب) فَإِن الْأُبُوَّة وصف مضايق للبنوة. وَقد فرض أَن الحكم عل معروض أحد المتضايقين بِشَيْء يُوجب الحكم بِهِ على معروض الآخر، فَيجب أَن يحكم بِكَوْن الابْن قَائِما أَيْضا (وَلذَا) أَي وَلأَجل أَن الحكم على معروض أحد المتضايفين لَا يُوجب الحكم على معروض الآخر (لم يَقع بطالق ثَانِيَة غير وَاحِدَة) وَإِن كَانَت الثَّانِيَة لَا تتَحَقَّق بِدُونِ وُقُوع الأول لَكِن يُمكن الحكم على ذَات معروض أحد المتضايقين من غير اعْتِبَار اتصافه بِالْوَصْفِ بِدُونِ الحكم على معروض الآخر، وَلَا شكّ أَن الْمَقْصد هَهُنَا إِيقَاع ذَات الطَّلَاق من غير اعْتِبَار وصف الثانوية لعدم إِمْكَان اعْتِبَاره لِأَنَّهُ فرع سبق طَلَاق وَلم يسْبق مِنْهُ لفظ إِطْلَاق، قيل وَلَا يَقع الطَّلَاق إِلَّا بِاللَّفْظِ (ووقوعهما) أَي الطلقتين عِنْد أبي حنفية (فِي) أَنْت طَالِق (من وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث بِوُقُوع الأولى للْعُرْف لَا لذَلِك) أَي التضايق بَينهَا وَبَين الثَّانِيَة (وَلَا لجَرَيَان ذكرهَا) أَي الأولى (لِأَن مجرده) أَي ذكرهَا (لَا يُوجِبهُ) أَي وُقُوعهَا(2/112)
(إِذا لم تقتضه) أَي وُقُوعهَا (اللُّغَة وَبِهَذَا) الَّذِي يكون مُجَرّد ذكر الشَّيْء لَا يقتضى وُقُوعه: إِذا لم تقتضه اللُّغَة (بعد قَوْلهمَا فِي إِيقَاع الثَّالِثَة) أَي بإيقاع (وَمثله) أَي هَذَا (الْخلاف) الْخلاف (فِي دُخُول الْغَد) حَال كَونه (غَايَة للخيار وَالْيَمِين) فِي: بِعْتُك هَذَا بِكَذَا على أَنِّي بِالْخِيَارِ إِلَى غَد، وَوَاللَّه لَا أُكَلِّمك إِلَى غَد (فِي رِوَايَة الْحسن) بن زِيَاد عَن أبي حنيفَة (عِنْده) أَي أبي حنيفَة (للتناول) أَي تنَاول صدر الْكَلَام الْغَايَة (لِأَن مطلقه) أَي مُطلق كل وَاحِد من ثُبُوت الْخِيَار، وَنفي الْكَلَام بِأَن لَا يتَقَيَّد بغاية مُعينَة (يُوجب الْأَبَد) إِذا أَرَادَ بعض الْأَزْمِنَة دون بعض تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح فيستغرق أَوْقَات الْعُمر (فَهِيَ) أَي الْغَايَة فيهمَا (لإِسْقَاط مَا بعْدهَا) فَيدْخل الْغَد فِي الْخِيَار وَالْيَمِين فَإِن قلت كَونهَا للإسقاط مُسلم، لِأَن مد الحكم إِلَى مَا بعْدهَا حَاصِل بِدُونِ ذكرهَا، وَلَا يظْهر لذكرها فَائِدَة إِلَّا الْإِسْقَاط، غير أَنه لَا يسْتَلْزم دُخُول مَا بعْدهَا لجَوَاز أَن يَجْعَل دَاخِلا فِي الْإِسْقَاط قُلْنَا أصل التَّنَاوُل لَهَا كَانَ مَعْلُوما بِدُونِ ذكرهَا، فَعِنْدَ الذّكر وَقع التَّرَدُّد فِي بَقَائِهَا على مَا كَانَ وَفِي سُقُوطهَا، وَالْأَصْل هُوَ الْبَقَاء فَتدبر (وَمَا وَقع) فِي نسخ من أصُول فَخر الْإِسْلَام، وَكَذَلِكَ (فِي الْآجَال والأثمان) فِي رِوَايَة الْحسن عَنهُ (غلط لِاتِّفَاق الرِّوَايَة) وَفِي نُسْخَة الشَّارِح الروَاة بدل الرِّوَايَة وَهُوَ الْأَظْهر (على عَدمه) أَي دُخُول الْغَايَة (فِي أجل الدّين وَالثمن وَالْإِجَارَة) كاشتريت هَذَا بِأَلف إِلَى شهر كَذَا، وأجرتك هَذِه الدَّار بِمِائَة إِلَى كَذَا فَلَا يدْخل ذَلِك الشَّهْر فِي الْأَجَل (وَهُوَ) أَي عدم الدُّخُول هُوَ (الظَّاهِر فِي الْيَمين فَلَزِمَهُ) أَي أَبَا حنيفَة (الْفرق) بَين هَذِه وَبَين الْيَمين (فَقيل) فِي الْفرق بَينهمَا ذكر الْغَايَة (فِي الْأَوَّلين) أَي الدّين وَالثمن هُوَ (للترفيه) أَي التَّخْفِيف والتوسعة (وَيصدق) الترفيه (بِالْأَقَلِّ زَمَانا فَلم يَتَنَاوَلهَا) أَي الْكَلَام الْغَايَة (فَهِيَ) أَي الْغَايَة فيهمَا (للمد) أَي لمد الحكم إِلَيْهَا (وَالْإِجَارَة تمْلِيك مَنْفَعَة) بعوض مَالِي (وَيصدق) تمليكها (كَذَلِك) أَي بِالْأَقَلِّ زَمَانا (وَهُوَ) أَي تمليكها كَذَلِك (غير مُرَاد) لِأَن الْمَقْصد من شرعيتها دفع الْحَاجة وَهِي لَا تحصل بِهَذَا الْإِطْلَاق فَيجب أَن يكون المُرَاد مِقْدَارًا معينا وَهُوَ غير مَعْلُوم (فَكَانَ) المُرَاد مِنْهَا (مَجْهُولا) بِاعْتِبَار الْمدَّة (فَهِيَ) أَي الْغَايَة فِيهَا (لمده) أَي الحكم (إِلَيْهَا) أَي الْغَايَة (بَيَانا لقدر) مَجْهُول فَلم يدْخل لعدم مَا يقتضى دُخُوله تَحت الحكم (وَقَول شمس الْأَئِمَّة فِي وَجه: الظَّاهِر) فِي عدم دُخُول الْغَد فِي الْيَمين (فِي حُرْمَة الْكَلَام) وَوُجُوب الْكَفَّارَة بِهِ (فِي مَوضِع الْغَايَة شكّ) مقول قَوْله، وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل عدم الْحُرْمَة للنَّهْي عَن هجران الْمُسلم وَعدم وجوب الْكَفَّارَة بِكَلَامِهِ (وَمَا نسب إِلَيْهِمَا) أَي الصاحبين من أَن الْغَايَة (لَا تدخل) فِي المغيا(2/113)
(إِلَّا بِدَلِيل، وَلذَا) أَي وَلعدم دُخُولهَا فِيهِ (سيمت غَايَة لِأَن الحكم يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا دخلت الْمرَافِق بِالسنةِ) فعلا، على مَا روى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن جَابر قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُدِير المَاء على الْمرْفق (وَبحث القَاضِي) وَهُوَ أَنه (إِذا قرن الْكَلَام بغاية أَو اسْتثِْنَاء أَو شَرط لَا يعْتَبر بالمطلق) الْمَذْكُور فِي صدر الْكَلَام بِأَن يحمل على إِطْلَاقه أَولا (لم يخرج) من إِطْلَاقه (بالقيد) أَي الْغَايَة وَالِاسْتِثْنَاء وَالشّرط مَا يَقْتَضِي إِخْرَاجه أحد هَذِه الْمَذْكُورَات (بل) يعْتَبر الْكَلَام (بجملته) ابْتِدَاء يَعْنِي يُؤَخر الحكم إِلَى آخر الْكَلَام فيلاحظ بعد ذكر الْغَايَة وَمَا عطف عَلَيْهِ مَا يبْقى من إِطْلَاقه فَيحكم عَلَيْهِ ابْتِدَاء (فالفعل مَعَ الْغَايَة كَلَام وَاحِد) سيق (للْإِيجَاب) وَإِثْبَات الحكم للمغيا (إِلَيْهَا) أَي الْغَايَة (لَا للْإِيجَاب) أَي لإثباته للمغيا والغاية أَولا (والإسقاط) ثَانِيًا بِأَن يخرج الْغَايَة عَن الحكم بعد دُخُولهَا (فِيهِ فَإِنَّهُ مُنَاقض (وَيجب أَن لَا اعْتِبَار بذلك التَّفْصِيل) الرَّاجِع إِلَى التَّفْصِيل النَّحْوِيّ، فَقَوله وَقَول شمس الْأَئِمَّة مُبْتَدأ عطف عَلَيْهِ كل من قَوْله مَا نسب إِلَيْهَا إِلَى آخِره، وَمن قَوْله: وَبحث القَاضِي إِلَى آخِره، وَقَوله يُوجب إِلَى آخِره خَبره: إِذْ حَاصِل التَّفْصِيل إِدْخَال الْغَايَة فِي بعض الصُّور وإخراجها فِي الْبَعْض وَحَاصِل هَذِه عدم الإدخال مُطلقًا بِنَفس الْكَلَام (بل الإدخال) للغاية مُطلقًا فِي حكم المغيا (بِالدَّلِيلِ) ثمَّ بَين الدَّلِيل بقوله (من وجوب احْتِيَاط) إِذا كَانَ الِاحْتِيَاط فِي الإدخال احْتِرَاز عَن إهمال الحكم الشَّرْعِيّ وَذَلِكَ إِذا لم يكن الأَصْل فِيهِ الْحَظْر (أَو قرينَة) دَالَّة على دُخُولهَا فِي الحكم (وَهُوَ) أَي الدَّلِيل على الإدخال (فِي الْخِيَار كَونه) أَي الْخِيَار شرع (للتروي، وَقد ضرب الشَّرْع لَهُ) أَي للتروي (ثَلَاثَة) من الْأَيَّام بلياليها (حَيْثُ ثَبت) التروي (كَالْبيع) فِي الْمُسْتَدْرك عَن ابْن عمر أَنه قَالَ كَانَ حبَان بن منقذ رجلا ضَعِيفا، وَكَانَ قد أَصَابَته فِي رَأسه مأمومة فَجعل لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخِيَار إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام فِيمَا اشْتَرَاهُ، وَعنهُ غير هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْمَعْنى (وَالرِّدَّة) فِي الْمُوَطَّأ عَن عمر أَن رجلا أَتَاهُ من قبل أبي مُوسَى قَالَ رجل ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام فقلناه، فَقَالَ: هلا حبستموه فِي بَيت ثَلَاثَة أَيَّام وأطعمتموه كل يَوْم رغيفا لَعَلَّه يَتُوب، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لم أحضر وَلم آمُر وَلم أَرض (لِأَنَّهَا) أَي الثَّلَاثَة (مَظَنَّة إتقانه) أَي التروي إتقانا (تَاما، فَالظَّاهِر إِدْخَال مَا عين غَايَة) للتروي (دونهَا) أَي ثَلَاثَة أَيَّام: يَعْنِي إِذا كَانَ مَا عين غَايَة للتروي مَعَ مغياها ثَلَاثَة أَيَّام أَو أقل مِنْهَا كَانَ دَاخِلا فِي حكمه فبالضرورة يكون مَا قبل الْغَايَة حِينَئِذٍ دون الثَّلَاثَة (وعَلى هَذَا) التَّحْقِيق (انْتَفَى بِنَاء إِيجَاب) غسل (الْمرَافِق عَلَيْهِ) أَي على تنَاول الصَّدْر إِيَّاهَا: إِذْ لَا تَأْثِير لَهُ فِي الإدخال، وَإِنَّمَا التَّأْثِير للدليل على مَا تبين (وَمَا قيل) أَي وانتفى أَيْضا مَا قَالَه بعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة من ابتناء(2/114)
وجوب غسل الْمرَافِق (على اسْتِعْمَالهَا) أَي إِلَى (للمعية) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} - (بعد قَوْلهم: الْيَد) من رُءُوس الْأَصَابِع (إِلَى الْمنْكب) وَإِنَّمَا انْتَفَى (لِأَنَّهُ) أَي هَذَا القَوْل إِن صَحَّ (يُوجب الْكل) أَي غسل الْأَيْدِي إِلَى الْمنْكب حِينَئِذٍ (لِأَنَّهُ كاغسل الْقَمِيص وكمه وغايته) أَي غَايَة، ذكر الْمرَافِق حِينَئِذٍ (كأفراد فَرد من الْعَالم) بِحكم الْعَام (إِذْ هُوَ) أَي ذكر الْمرَافِق (تنصيص على بعض مُتَعَلق الحكم) وَهُوَ الْيَد (بتعليق عين ذَلِك الحكم) بذلك الْبَعْض (وَذَلِكَ) أَي وإفراد فَرد من الْعَام بِحكم الْعَام (لَا يخرج غَيره) أَي غير ذَلِك الْفَرد عَن حكم الْعَام فَكَذَا التَّنْصِيص على الْمرَافِق لَا يخرج مَا وَرَاءَهَا عَن وجوب الْغسْل الْمُتَعَلّق بِالْأَيْدِي (وَلَو أخرج) التَّنْصِيص على الْفَرد مِنْهُ غَيره عَن حكمه (كَانَ) إخراجا (بِمَفْهُوم اللقب) وَقد مر تَفْسِيره فِي أَوَائِل الْمقَالة وَهُوَ مَرْدُود فَكَذَا هُنَا (وَمَا قيل) وانتفى أَيْضا مَا ذكره صَاحب الْمُحِيط فِي تَوْجِيه افتراض غسل الْمرَافِق من أَنه (لضَرُورَة غسل الْيَد، إِذْ لَا يتم) غسلهَا (دونه) أَي دون غسل الْمرْفق (لتشابك عظمى الذِّرَاع والعضد) وَعدم إِمْكَان التَّمْيِيز بَينهمَا فَتعين لِلْخُرُوجِ من عُهْدَة افتراض غسل الذِّرَاع بتعين غسل الْمرَافِق، وَإِنَّمَا انْتَفَى (لِأَنَّهُ لم يتَعَلَّق الْأَمر بِغسْل الذِّرَاع ليجب غسل مَا لَازمه) وَهُوَ طرف عظم الْعَضُد (بل) تعلق وجوب الْغسْل (بِالْيَدِ إِلَى الْمرْفق وَمَا بعد إِلَى لما لم يدْخل) على مَا هُوَ الْمَفْرُوض (لم يدْخل جزآهما) أَي الذِّرَاع والعضد (الملتقيان) فِي الْمرْفق (وَمَا قيل) أَي وانتفى أَيْضا مَا قيل فِي تَوْجِيه افتراض غسله من أَنه افْترض لاشتباه المُرَاد بِغسْل الْيَد إِلَى الْمرَافِق (للاجمال وغسله) عَلَيْهِ السَّلَام أى الْمرْفق (فالتحق) غسله (بِهِ) أى بِالنَّصِّ الْمُجْمل الْمَذْكُور (بَيَانا) لما هُوَ المُرَاد مِنْهُ، وانما انْتَفَى (لِأَن عدم دلَالَة اللَّفْظ) يعْنى وَأَيْدِيكُمْ الى الْمرَافِق على دُخُول الْمرْفق فِي الْغسْل (لَا يُوجب الْإِجْمَال) فِيمَا هُوَ المُرَاد إِذْ وجوب غسل الْيَد إِلَى الْمرْفق مَنْطُوق والمرفق مسكوت عَنهُ وبالسكوت لَا يلْزم عدم الْوُجُوب كَمَا لَا يلْزم الْوُجُوب، فَالْمُرَاد وجوب غسل مَا فَوق الْمرْفق، وَلَا إِجْمَال فِي هَذَا المُرَاد، وَلَا سِيمَا (وَالْأَصْل الْبَرَاءَة) أَي بَرَاءَة ذمَّة الْمُكَلف عَن الْوُجُوب فَيُؤْخَذ عدم وجوب غسل الْمرَافِق بالاستصحاب (بل) الَّذِي يُوجب الْإِجْمَال (الدّلَالَة المشتبهة) بِأَن يكون الْمَدْلُول مُحْتملا لوجوه شَتَّى وَلم يتَعَيَّن أَحدهَا بِحَيْثُ لَا يدْرك إِلَّا بِبَيَان من قبل الْمُتَكَلّم وَهِي مَقْصُودَة هَهُنَا، وَإِن كَانَ الْأَمر على هَذَا (فَبَقيَ مُجَرّد فعله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (دَلِيل السّنة) أَي يدل على مسنونية غسله كَقَوْلِه زفر (وَمَا قيل) أَي وانتفى أَيْضا مَا قيل فِي تَوْجِيه افتراضه من أَن الْغَايَة (تدخل) تَارَة كَمَا فِي حفظت الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره (وَلَا) تدخل أُخْرَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فنظرة إِلَى ميسرَة} - (فَتدخل) من الإدخال بِقَرِينَة قَوْله (احْتِيَاطًا)(2/115)
هَهُنَا لِأَن الحَدِيث مُتَيَقن فَلَا يَزُول بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا انْتَفَى (لِأَن الحكم إِذا توقف على الدَّلِيل لَا يجب) أَي لَا يثبت (مَعَ عَدمه) أَي عدم الدَّلِيل لِامْتِنَاع ثُبُوت الْمَوْقُوف بِدُونِ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَمن الْمَعْلُوم توقفه والمفروض عدم الدَّلِيل هَهُنَا (وَالِاحْتِيَاط) إِنَّمَا هُوَ (الْعَمَل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ) أَي الْعَمَل بأفواهما (فرع تجاذبهما) بِأَن يتَحَقَّق دَلِيل يجذب الحكم إِلَيْهِ وَدَلِيل آخر يجذب نقيضه إِلَيْهِ جذب الْمُقْتَضى للمقتضى (وَهُوَ) أَي تجاذبهما (مُنْتَفٍ) لعدم وجودهما (وَمَا قيل) أَي وانتفى أَيْضا مَا قيل فِي تَوْجِيهه من أَن قَوْله إِلَى الْمرَافِق غَايَة (لمسقطين مُقَدّر) صفة مسقطين لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ خُصُوصِيَّة لفظ مسقطين، بل مَا يعمه وَمَا فِي مَعْنَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَاغْسِلُوا أَيْدِيكُم حَال كونكم مسقطين الْمنْكب إِلَى الْمرْفق، وَإِنَّمَا انْتَفَى (لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر بِلَا ملجئ) إِلَيْهِ، إِذْ الظَّاهِر تعلقه بِالْفِعْلِ الْمَذْكُور (وَمَا قيل) أَي وانتفى أَيْضا مَا قيل من أَن قَوْله إِلَى الْمرَافِق (مُتَعَلق باغسلوا مَعَ أَن الْمَقْصُود مِنْهُ) أَي من اغسلوا (الْإِسْقَاط) فَهُوَ غَايَة لاغسلوا، لَكِن لأجل إِسْقَاط مَا وَرَاء الْمرَافِق عِنْد حكم الْغسْل، وَإِنَّمَا انْتَفَى (لِأَنَّهُ) أَي اللَّفْظ (لَا يُوجِبهُ) أَي لَا يُوجب كَون الْمَقْصد مِنْهُ الْإِسْقَاط مَعَ تعلقه باغسلوا (وَكَونه مُتَعَلقا باغسلوا مَعَ أَن الْمَقْصُود مِنْهُ الْإِسْقَاط) على تَقْدِير تَسْلِيمه (لَا يُوجِبهُ) أَي الْإِسْقَاط (عَمَّا وَرَاء الْمرْفق بل) إِنَّمَا يُوجب الْإِسْقَاط (عَمَّا قبله) أَي الْمرْفق تَوْضِيحه أَن الْإِسْقَاط الَّذِي يتضمنه الْغسْل إِنَّمَا هُوَ إِسْقَاط الْوَاجِب فِي الذِّمَّة بأَدَاء الْمَأْمُور بِهِ وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا فِيمَا قبل الْمرْفق لَا الْإِسْقَاط بِمَعْنى عدم وجوب الْغسْل ابْتِدَاء ليتَحَقَّق فِيمَا فَوْقه (بِاللَّفْظِ مَعَ أَنه) أَي هَذَا التَّوْجِيه (بِلَا قَاعِدَة) أَي لَا ينْدَرج تَحت قَاعِدَة من قَوَاعِد الْعَرَبيَّة (وَالْأَقْرَب) من الْكل أَن يُقَال أَن الحكم بِوُجُوب غسل إِنَّمَا هُوَ (الِاحْتِيَاط لثُبُوت الدُّخُول) أَي دُخُول الْغَايَة فِي حكم المغيا (وَعَدَمه) أَي الدُّخُول (كثيرا وَلم يرو عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ تَركه) أَي غسل الْمرَافِق (فَقَامَتْ قرينَة إِرَادَته) أَي الدُّخُول (من النَّص ظنا فَأوجب) هَذَا الْمَجْمُوع: أَعنِي كَثْرَة الدُّخُول وَعَدَمه مَعَ الْقَرِينَة الْمَذْكُورَة (للِاحْتِيَاط) بِالْغسْلِ كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن كل وَاحِد من الكثرتين بِمَنْزِلَة دَلِيل، وَكَثْرَة الدُّخُول مَعَ الْقَرِينَة الْمَذْكُورَة أقوى الدَّلِيلَيْنِ فيطابق مَا سبق أَن الِاحْتِيَاط الْعَمَل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ (إِلَّا أَن مُقْتَضَاهُ) أَي هَذَا الدَّلِيل (وجوب إدخالهما) أَي الْمرْفقين فِي غسل الْيَدَيْنِ (على أصلهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَنَّهُ ثَبت بِدَلِيل ظَنِّي لَا افتراض دخولهما وَلَكِن كَلَامهم صَرِيح فِي الافتراض وَإِن أطلق بَعضهم الْوُجُوب عَلَيْهِ، وَيُؤَيّد الْوُجُوب عدم تكفيرهم الْمُخَالف فِي ذَلِك (أَو يثبت) من الْإِثْبَات على صِيغَة الْمَجْهُول أقيم مقَام فَاعله (استقراء التَّفْصِيل) بَين أَن يكون جُزْءا فَيدْخل وَبَين أَن لَا يكون فَلَا (فَتحمل) الْغَايَة (عَلَيْهِ) أَي على التَّفْصِيل (عِنْد عدم الْقَرِينَة(2/116)
فِي الْآيَة) فَتدخل افتراضا إِن كَانَ الاستقراء تَاما، وَقَوله أَو يثبت مَعْطُوف على مَا قبله بِحَسب الْمَعْنى كَأَنَّهُ قَالَ: يحكم بِوُجُوبِهِ مِمَّا ذكر أَو ثَبت الاستقراء فَيحكم بِأَقَلّ مِنْهُ.
مسئلة
(فِي للظرفية) أَي وضع للدلالة على أَن مجرورها ظرف لمتعلقها زَمَانا أَو مَكَانا (حَقِيقَة) ككون المَاء فِي الْكَوْن وَالصَّلَاة فِي يَوْم الْجُمُعَة (فلزما) أَي الظّرْف والمظروف (فِي غصبته) أَي مِنْهُ (ثوبا فِي منديل) أَو الضَّمِير كِنَايَة عَن الْمَغْصُوب وثوبا حَال عَنهُ، وَجه اللُّزُوم أَنه اقر بِغَصب مظروف فِي ظرف وَهُوَ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ غصب الظّرْف (ومجازا كَالدَّارِ فِي يَده و) هُوَ (فِي نعْمَة) جعلت يَده ظرفا للدَّار لاقتداره على التَّصَرُّف فِيهَا اقتدار الْإِنْسَان على مَا فِي يَده، وَالنعْمَة ظرفا لصَاحِبهَا لغمرها وإحاطتها إِيَّاه (وَعم متعلقها) أَي فِي (مدخولها) باستيعابه إِيَّاه حَال كَونهَا (مقدرَة لَا ملفوظة لُغَة) أَي عُمُوما تَقْتَضِيه اللُّغَة (للْفرق) بل وَعرفا (بَين صمت سنة وَفِي سنة) كَانَ الأول يُفِيد اسْتِيعَاب السّنة بِالصَّوْمِ وَهُوَ يصدق بِوُقُوعِهِ فِي بعض يَوْم مِنْهَا (فَلم يصدق قَضَاء فِي نِيَّته آخر النَّهَار فِي) أَنْت (طَالِق غَدا) وَيصدق ديانَة عِنْد الْكل (وَصدق) فِي أَنْت طَالِق (فِي غَد) قَضَاء وديانة فِي نِيَّته آخر النَّهَار عِنْده (خلافًا لَهما) فَإِنَّهُ يصدق عِنْدهمَا ديانَة لَا غير، لِأَنَّهُ وصفهَا بِالطَّلَاق فِي جَمِيع الْغَد كَالْأولِ لِأَن حذفهَا مَعَ إرادتها وإثباتها سَوَاء، فَكَانَ حذفهَا يُفِيد عُمُوم الزَّمَان كَذَلِك إِثْبَاتهَا يفِيدهُ، وَكَذَا يَقع فِي إِثْبَاتهَا عِنْد عدم النِّيَّة فِي أول جُزْء من الْغَد اتِّفَاقًا، فَأجَاب عَن هَذَا بقوله (وَإِنَّمَا يتَعَيَّن أول أَجْزَائِهِ) أَي الْغَد (مَعَ عدمهَا) أَي النِّيَّة (لعدم المزاحم) لسبقه: يَعْنِي أَن وُقُوع متعلقها فِي بعض أَجزَاء الْغَد مَدْلُول قطعا عِنْد ذكرهَا، وكل جُزْء يحْتَمل ذَلِك فاشتركت الْأَجْزَاء فِي هَذَا الِاحْتِمَال، وترجح الْجُزْء الأول لعدم الْمُزَاحمَة: إِذْ الْمُزَاحمَة فرع الْوُجُود وَلم يُوجد فِي يَدَيْهِ سوى الْجُزْء الأول فَيتَعَيَّن (وتنجز نَحْو) أَنْت (طَالِق فِي الدَّار، و) أَنْت طَالِق فِي (الشَّمْس لعدم صلاحيته) أَي كل من الدَّار وَالشَّمْس (للإضافة) أَي إِضَافَة الطَّلَاق إِلَيْهِ لِأَنَّهَا تَعْلِيق معنى، وَالتَّعْلِيق إِنَّمَا يكون بمعدوم على خطر الْوُجُود، وَالْمَكَان الْمعِين وَمَا فِي مَعْنَاهُ مَوْجُود فَيَقَع فِي الْحَال (إِلَّا أَن يُرَاد) بقوله فِي الدَّار (نَحْو دخولكها) أَي فِي دخولك الدَّار حَال كَون الدُّخُول (مُضَافا) إِلَى الدَّار محذوفا للاختصار (أَو) يرد (الْمحل) أَي اسْتِعْمَال الْمحل، وَهُوَ الدَّار، أَو الشَّمْس (فِي الْحَال) وَهُوَ الدُّخُول مجَازًا (أَو) يُرَاد (اسْتِعْمَالهَا) أَي فِي (فِي الْمُقَارنَة) أَي بمعونة مَعَ لِأَن فِي الظّرْف معنى الْمُقَارنَة للمظروف (كالتعليق) أَي فَهُوَ حِينَئِذٍ كالتعليق (توقفا) لتوقف الطَّلَاق على الْمُقَارنَة كتوقف الْمُعَلق على(2/117)
الْمُتَعَلّق بِهِ كالتعلق (لَا ترتبا) إِذْ لَا يَتَرَتَّب الطَّلَاق على الْمُقَارنَة كترتبه على الشَّرْط كَمَا زعم الْبَعْض غير أَنه لَا يَقع بِدُونِهَا (فَعَنْهُ) أَي عَن كَونه كالتعليق توقفا لَا ترتبا (لَا تطلق أَجْنَبِيَّة قَالَ لَهَا أَنْت طَالِق فِي نكاحك) ثمَّ تزَوجهَا كَمَا لَو قَالَ مَعَ نكاحك: أَي إِيجَاب الطَّلَاق الْمُقَارن للنِّكَاح لَغْو بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن تَزَوَّجتك: إِذْ حِينَئِذٍ يكون الطَّلَاق مُرَتبا على النِّكَاح، وَهَكَذَا شَأْن الطَّلَاق يكون بعد النِّكَاح لَا مَعَه، وَحذف الْمُضَاف والتجوز خلاف الظَّاهِر، وَلذَا لم يصدق فِيهِ قَضَاء، وَيصدق ديانَة لاحْتِمَال اللَّفْظ، ثمَّ إِن ظرفية الدَّار وَالشَّمْس للدخول على سَبِيل التَّجَوُّز بتنزيل الْمَعْنى منزلَة الْجِسْم المتمكن، وَمثل هَذَا التَّجَوُّز شَائِع (وَتعلق طَالِق فِي مَشِيئَة الله) أَي تعلق الطَّلَاق فِي أَنْت طَالِق فِي مَشِيئَة الله كَانَ شَاءَ الله: إِذْ الْمَشِيئَة بِاعْتِبَار تعلقهَا بِالطَّلَاق لَيست من الْأَشْيَاء الثَّابِتَة لِئَلَّا يصلح لكَونهَا فِي معنى التَّعْلِيق كَالدَّارِ وَالشَّمْس (فَلم يَقع) الطَّلَاق (لِأَنَّهُ) أَي وُقُوعه فِي مَشِيئَة الله غيب لَا سَبِيل إِلَى الِاطِّلَاع عَلَيْهِ (لاختصاصها) أَي لاخْتِصَاص الْعلم بِالْمَشِيئَةِ بِاللَّه لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ، وَالْأَصْل عدم الْوُقُوع (وتنجز) الطَّلَاق فِي أَنْت طَالِق (فِي علم الله لشُمُوله) أَي شُمُول علمه جَمِيع المعلومات لِأَنَّهُ بِكُل شَيْء عليم (فَلَا خطر) فِي التَّعْلِيق بِهِ لما مر من أَن الْخطر إِنَّمَا يكون فِي أَمر يحْتَمل الْوُجُود وَالْعلم (بل) التَّعْلِيق بِهِ (تَعْلِيق بكائن) لَا محَالة لِأَنَّهُ لَا يَصح نَفْيه عَنهُ تَعَالَى بِحَال فَكَانَ تَعْلِيقا بموجود فَكَانَ تنجيزا فَإِن قلت: علم الله على نَوْعَيْنِ على وزان الْعلم التصوري، وَهُوَ مُتَعَلق بِكُل شَيْء مُحِيط بِهِ حَتَّى الْمُمْتَنع، وَعلم على وزان الْعلم التصديقي وَهُوَ لَا يتَعَلَّق إِلَّا بِمَا هُوَ وَاقع فِي نفس الْأَمر، فَإِن أَرَادَ بقوله فِي علم الله النَّوْع الأول فَالْأَمْر كَمَا ذكرت، وَإِن أَرَادَ النَّوْع الثَّانِي فَلَا نسلم أَن التَّعْلِيق بِهِ تَعْلِيق بكائن لجَوَاز عدم تحقق الْعلم الْمُتَعَلّق بِوُقُوع الطَّلَاق: أَلا ترى إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر خير لي " وإدخاله حرف الشَّك على الْعلم الْمُتَعَلّق بالخيرية قلت لما أطلق وَلم يُقَيِّدهُ بِمَا يخصصه بِهَذَا النَّوْع من التَّعْلِيق يحمل على مُطلق الْعلم الْمُتَعَلّق بِكُل شَيْء لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر مِنْهُ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى بعض التَّعْلِيل الْمَذْكُور بقوله (وَأورد) على هَذَا الدَّلِيل بِأَنَّهُ يلْزم مثل مَا قُلْتُمْ فِي الْقُدْرَة (فَيجب الْوُقُوع) أَي وُقُوع الطَّلَاق فِي: أَنْت طَالِق (فِي قدرَة الله للشمول) أَي لشمُول الْقُدْرَة لكل شَيْء كل كَالْعلمِ فالتعليق بِهِ تَعْلِيق بكائن لَا محَالة (أُجِيب) بِبَيَان الْفرق بَين الْعلم وَالْقُدْرَة (بِكَثْرَة إِرَادَة التَّقْدِير) من قدرَة الله، وَهُوَ تعلق الْإِرَادَة بِوُقُوع شَيْء فَهُوَ غير مَعْلُوم الْوُقُوع (فكالمشيئة) أَي فَهِيَ كالمشيئة فِي أَنه لَا يعلم كينونته (وَدفع) هَذَا الْجَواب بِأَنَّهَا (تسْتَعْمل بِمَعْنى الْمَقْدُور) الشَّامِل كل مُمكن (بِكَثْرَة أَيْضا) وَفِيه أَنَّهَا حِينَئِذٍ تكون مُحْتملا للأمرين فَلَا يتَعَيَّن التَّعْلِيق بكائن وَالْحَاصِل أَن قَوْله أُجِيب إِلَى آخِره منع جَرَيَان الدَّلِيل فِي مَادَّة النَّقْض(2/118)
فَيجب على الْخصم إِثْبَات الْمُقدمَة الممنوعة، وَقَوله دفع إِلَى آخِره لَا يثبتها (وَأجِيب) عَن هَذَا الدّفع (بِأَن الْمَعْنى بِهِ) أَي بالمقدور (آثَار الْقُدْرَة) على حذف الْمُضَاف (وَلَا أثر للْعلم) حَتَّى يكون الْمَعْنى فِي علم الله آثَار علم الله، فَكيف يكون فِي قدرَة الله مثل فِي علم الله (وَدفع) هَذَا الْجَواب (باتحاد الْحَاصِل من مَقْدُور) الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ الْقُدْرَة بِكَثْرَة (و) الْحَاصِل من (آثَار الْقُدْرَة) وَإِذا كَانَ الْقُدْرَة مستعملة فِي آثَار الْقُدْرَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى الْمَقْدُور (فَلم لم يكن) فِي قدرَة الله بِمَعْنى مَقْدُور الله (كالمعلوم) فِي علم الله فَيَقَع بِهِ الطَّلَاق، ثمَّ حقق المُصَنّف الْمحل بقوله (وَالْوَجْه إِذا كَانَ الْمَعْنى) أَي معنى أَنْت طَالِق فِي قدرَة الله (على التَّعْلِيق) قَوْله وَالْوَجْه مُبْتَدأ وَالْخَبَر (أَن لَا معنى للتعليق بمقدوره) وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة مُعْتَرضَة جَوَابه مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر (إِلَّا أَن يُرَاد وجوده) أَي الْمَقْدُور: إِذْ تَعْلِيق الطَّلَاق بِذَات الْمَقْدُور غير مَعْقُول: إِذْ الْمُتَعَلّق بِهِ مَدْخُول حرف الشَّرْط من حَيْثُ الْمَعْنى، ومدخولها لَا يكون إِلَّا مَعَاني الْأَفْعَال كالوجود والثبوت (فَتطلق فِي الْحَال) لتحَقّق الْمُعَلق بِهِ (أَو) كَانَ الْمَعْنى (على أَن هَذَا الْمَعْنى) الطَّلَاق (ثَابت فِي جملَة مقدوراته فَكَذَلِك) أَي فَتطلق فِي الْحَال (كَمَا قَرَّرَهُ بَعضهم فِي علمه) أَي فِي أَنْت طَالِق فِي علم الله، فَقَالَ الْمَعْنى أَنْت طَالِق فِي مَعْلُوم الله: أَي هَذَا الْمَعْنى ثَابت فِي جملَة معلوماته فَلَو لم يَقع الطَّلَاق لم يكن فِي معلوماته وَكَذَا لم يُمكن فِي مقدوراته (وَيُجَاب) عَن هَذَا الْوَجْه (بِاخْتِيَار الثَّانِي، و) هُوَ أَي أَن هَذَا الْمَعْنى ثَابت فِي جملَة مقدوراته، ثمَّ يُقَال (بِالْفرقِ) بَينه وَبَين فِي علمه (بِأَن ثُبُوته) أَي طَلاقهَا (فِي علمه بِثُبُوتِهِ فِي الْوُجُود وَهُوَ) أَي ثُبُوته فِي الْوُجُود (بِوُقُوعِهِ بِخِلَاف ثُبُوته فِي الْقُدْرَة فَإِن مَعْنَاهُ أَنه مَقْدُور، وَلَا يلْزم من كَون الشَّيْء مَقْدُورًا كَونه مَوْجُودا تعلّقت بِهِ الْقُدْرَة) وَكَذَا يُقَال لفاسد الْحَال فِي قدرَة الله صَلَاحه مَعَ عدم تحَققه فِي الْحَال (هَذَا حَقِيقَة الْفرق، وَلَا حَاجَة إِلَى غَيره مِمَّا تقدم) من أَن الْمَعْنى بِأَن الْمَقْدُور أثار الْقُدْرَة إِلَى آخِره، ثمَّ الدّفع باتحاد الْحَاصِل إِلَى آخِره ثمَّ إِرَادَة الْوُجُود على تَقْدِير كَون الْمَعْنى على التَّعْلِيق (وَأَيْضًا الْمَبْنِيّ الْحمل على الْأَكْثَر فِيهِ اسْتِعْمَالا) أَي على الْمَعْنى الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ مثل طَالِق فِي قدرَة الله فِي الْأَغْلَب (فَلَا يُرَاد الثَّانِي) وَهُوَ أَن يُرَاد بِالْقُدْرَةِ التَّقْدِير لندرة الِاسْتِعْمَال فِيهِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ ذكر فِي الْمرتبَة الثَّانِيَة فِي هَذِه المناظرة فِي جَوَاب الْبَعْض (وَلَو تَسَاويا) أَي اسْتِعْمَاله فِي الْمَقْدُور واستعماله فِي التَّقْدِير (لَا يَقع) الطَّلَاق (بِالشَّكِّ) إِذْ على تَقْدِير إِرَادَة التَّقْدِير لَا يَقع، وعَلى تَقْدِير إِرَادَة الْمَقْدُور يَقع، وَلَا رُجْحَان لأَحَدهمَا، وَالْأَصْل عدم الطَّلَاق: هَذَا وَذكر فِي الْكَافِي أَنه لَو أَرَادَ حَقِيقَة قدرته تَعَالَى يَقع فِي الْحَال (ولبطلان الظَّرْفِيَّة لزم عشرَة فِي لَهُ) عَليّ (عشرَة فِي عشرَة) لِأَن الشَّيْء لَا يصلح ظرفا لنَفسِهِ، لَا يُقَال يَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَن يحمل على مجازه وَهُوَ معنى مَعَ أَو وَاو الْعَطف كَمَا هُوَ قَول زفر(2/119)
لتَعَدد الْمَعْنى الْمجَازِي، وَعدم تَرْجِيح بعضه على بعض على أَن الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة (إِلَّا أَن قصد بِهِ الْمَعِيَّة أَو الْعَطف) أَي معنى الْوَاو (فعشرون) أَي فَيلْزم عشرُون (لمناسبة الظَّرْفِيَّة) الَّتِي هِيَ حَقِيقَة فِي (كليهمَا) أَي الْمَعِيَّة والعطف: إِذْ بنية قصد التَّشْدِيد على نَفسه فَلَزِمَهُ (وَمثله) أَي مثل عشرَة فِي عشرَة فِي بطلَان الظَّرْفِيَّة أَنْت (طَالِق وَاحِدَة فِي وَاحِدَة) فَيَقَع وَاحِدَة مَا لم ينْو الْمَعِيَّة أَو الْعَطف، فَإِن نوى أَحدهمَا وَهِي مدخولة وَقع ثِنْتَانِ، وَإِن كَانَت غير مدخولة وَقع وَاحِدَة فِي نِيَّة الْعَطف وثنتان فِي نِيَّة الْمَعِيَّة (وَإِنَّمَا يشكل إِذا أَرَادَ عرف الْحساب) فِي مثل لَهُ عَليّ عشرَة فِي عشرَة حَيْثُ قَالُوا يلْزمه عشرَة (لِأَن مؤد اللَّفْظ حِينَئِذٍ) أَي حِين أَرَادَ عرف الْحساب (كمؤدي عشر عشرات) لِأَن عرفهم تَضْعِيف أحد العددين بِقدر الآخر، وَقد بنى كَلَامه على عرفهم فَصَارَ كَمَا لَو أوقع بلغَة أُخْرَى عَالما بهَا، وَلذَا قَالَ زفر وَبَاقِي الْأَئِمَّة: يلْزمه مائَة حَتَّى لَو ادّعى الْمقر لَهُ الْمِائَة وَأنكر الْمقر حلف أَنه مَا أَدَّاهُ.
أدوات الشَّرْط
(أَي تَعْلِيق مَضْمُون جملَة على جملَة أُخْرَى تَلِيهَا وَحَاصِله) أَي الشَّرْط بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (ربط خَاص) وَهُوَ جعل الْمُعَلق بِحَيْثُ يَتَرَتَّب على الْمُعَلق بِهِ إِذا تحقق (ونسبتها) أَي نِسْبَة الْجُمْلَة الْمُعَلق عَلَيْهَا (عَلَيْهِ) أَي الشَّرْط فِي قَوْلهم جملَة شَرْطِيَّة (لدلالتها) أَي الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة (عَلَيْهِ) أَي الشَّرْط بانضمام أدوات الشَّرْط إِلَيْهَا (وَيُقَال) لفظ الشَّرْط أَيْضا (لمضمون) الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة (الأولى) فَهُوَ بِالْمَعْنَى الأول صفة الْمُتَكَلّم، وبالمعنى الثَّانِي لَيْسَ صفته (وَمِنْه) أَي من الْمَعْنى الثَّانِي قَوْلهم (الشَّرْط) بِمَعْنى مَضْمُون الْجُمْلَة الأولى (مَعْدُوم) أَي عِنْد التَّعْلِيق: إِذْ لَو كَانَ مَوْجُودا لم يكن الْكَلَام تَعْلِيقا بل تنجيزا (على خطر الْوُجُود) أَي مترددا بَين أَن يكون وَأَن لَا يكون لَا مُسْتَحِيل وَلَا مُتَحَقق (وَإِن أَصْلهَا) أَي أدوات الشَّرْط (لتجردها لَهُ) أَي لدلالتها على مُجَرّد معنى الشَّرْط (وَغَيرهَا) أَي غير إِن من بَقِيَّة الأدوات للشّرط (مَعَ خُصُوص زمَان وَنَحْوه) من مَكَان وَغَيره، وَمَا فِي التَّحْرِير: شرح الْجَامِع الْكَبِير الأَصْل فِي أَلْفَاظ الشَّرْط كلما، وَالْبَاقِي مُلْحق بهَا غَرِيب: كَذَا ذكره الشَّارِح (وَاشْترط) لُغَة (الْخطر فِي مدخولها) أَي إِن (ومدخول الْأَسْمَاء الجازمة كمتى حَتَّى امْتنع إِن أَو مَتى طلعت الشَّمْس أفعل) كَذَا لِأَن طُلُوع الشَّمْس لَا خطر فِيهِ (إِلَّا لنكتة) من توبيخ أَو تَغْلِيب أَو غير ذَلِك مِمَّا فصل فِي علم الْمعَانِي، وَهَذَا الِامْتِنَاع وَاقع لُغَة (لَا لِأَنَّهُ) أَي الْخطر (شَرط الشَّرْط) لَا يتَحَقَّق حَقِيقَة إِلَّا بِهِ (وَحَاصِله) أَي حَاصِل الْكَلَام فِي إِن والأسماء الجازمة (أَنَّهَا إِنَّمَا وضعت لإِفَادَة التَّعْلِيق كَذَلِك) أَي على(2/120)
خطر الْوُجُود (وَلذَا) أَي وَلكَون الْخطر لَيْسَ بِشَرْط مُطلقًا (صَحَّ) الشَّرْط (مَعَ ضِدّه) أَي الْخطر (فِي إِذا جَاءَ غَد أكرمك) إِذْ مَجِيء الْغَد مُحَقّق (لوضعها) أَي إِذا (لذَلِك) أَي لإِفَادَة التَّعْلِيق على مَا هُوَ مَقْطُوع بِوُجُودِهِ إِذا كَانَت للشّرط فَلَا تسْتَعْمل فِي غير الْمَقْطُوع (إِلَّا لنكته كإذا جَاءَ زيد) فَإِنَّهُ يُقَال مَعَ عدم الْقطع (تفاؤلا) إِذا كَانَ مَجِيئه مَطْلُوبا وَهُوَ على خطر الْوُجُود وكقول عبد بن قيس:
(واستغن مَا أَغْنَاك رَبك بالغنى
(وَإِذا تصبك) خصَاصَة فَتحمل)
(تَنْزِيلا لَهُ) أَي لما هُوَ على الْخطر (محققا) أَي منزلَة الْمُحَقق (لعادة الْوُجُود) لما هُوَ مُعْتَاد فِي عَالم الْكَوْن من رد الْغَائِب وإصابة الخصاص (وتوطينا) للنَّفس على تحمل مشقة الْفقر والفاقة وَالصَّبْر عَلَيْهَا (لدفع الْجزع عِنْده) أَي عِنْد وُقُوعه (وتخصيصهم) أَي الْمَشَايِخ (تَفْرِيع) مسئلة (إِن لم أطلقك فطالق) يُرِيد بتخصيصهم التَّفْرِيع الْمَذْكُور حصرهم الْمُسْتَفَاد من قَوْلهم (لَا تطلق إِلَّا بآخر) جُزْء من (حَيَاة أَحدهمَا) أَي الزَّوْجَيْنِ إِذا لم يطلقهَا من عقيب التَّعْلِيق إِلَى الآخر الْمَذْكُور تعميما فِي الزَّوْجَيْنِ بِنَاء (على) القَوْل (الصَّحِيح فِي مَوتهَا) احْتِرَازًا عَمَّا فِي النَّوَادِر من أَنَّهَا لَا تطلق بآخر حَيَاتهَا لِأَنَّهُ قَادر على تطليقها، وَإِنَّمَا يعجز عَنهُ بموتها فَيَقَع بِمَوْتِهِ لَا بموتها، وَوجه التَّسْوِيَة أَنه إِذا بَقِي من حَيَاة أَحدهمَا مَا لَا يسع التَّطْلِيق بِلَفْظ مَا فَذَلِك الْقدر صَالح لوُقُوع الطَّلَاق، وَإِن لم يصلح للتطليق بِلَفْظ فَيَقَع لتحَقّق الشَّرْط وَهُوَ النَّفْي الْمُسْتَوْعب أَجزَاء الْعُمر المستلزم لليأس من إِيقَاع الطَّلَاق بِلَفْظ مَعَ وجود الْمحل، ثمَّ علل التَّخْصِيص الْمَذْكُور بقوله (للتّنْبِيه على أَنه) أَي شَرط وُقُوع الطَّلَاق (الْعَدَم) أَي عدم التَّطْلِيق الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله إِن لم أطلقك (مُطلقًا) أَي عدما مُسْتَغْرقا جَمِيع أَجزَاء حَيَاة أَحدهمَا سوى النقطة الْأَخِيرَة: إِذْ التَّطْلِيق الَّذِي تضمنه الْفِعْل الْمَذْكُور نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي مستغرقة جَمِيع التطليقات الممكنة فِي الْعُمر، وَقَوله تخصيصهم: مُبْتَدأ خَبره قَوْله (لدفع توهم الْوُقُوع) أَي وُقُوع الطَّلَاق الْمُعَلق، وَيحْتَمل أَن يكون الْخَبَر قَوْله للتّنْبِيه، وَقَوله لدفع توهم تعليلا لَهُ (بسكوت يَسعهُ) أَي التَّطْلِيق بعد زمَان التَّعْلِيق (كَمَا هُوَ) الحكم (فِي مَتى) لم أطلقك فَأَنت طَالِق لإضافة الطَّلَاق إِلَى زمَان خَال عَن تطليقها إِذْ هُوَ ظرف زمَان، وبمجرد سُكُوته يُوجد الزَّمَان الْمُضَاف إِلَيْهِ فَيَقَع فَالشَّرْط فِي إِن لم أطلقك الْعَدَم الْمُطلق وَهُوَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي الْجُزْء الْأَخير، وَفِي مَتى لم أطلقك وجود زمَان خَال عَن التَّطْلِيق: إِذْ هُوَ ظرف يُوجد فِيمَا ذكر فَافْتَرقَا هَكَذَا عبارَة الْمَتْن فِي نُسْخَة الشَّارِح، وَفِي نُسْخَة أُخْرَى مصححة لدفع توهم الْوُقُوع بِالسُّكُوتِ لتحَقّق الْعَدَم بِهِ وَإِلَّا كَانَ الشَّرْط عدما مُقَيّدا بِزَمَان عَدمه فَيَقَع بسكوت يَسعهُ انْتهى، وَضمير بِهِ رَاجع إِلَى السُّكُوت، وَمعنى قَوْله(2/121)
وَإِلَّا: أَي لَا يكون الشَّرْط عدما مُطلقًا، وَضمير عَدمه رَاجع إِلَى التَّطْلِيق وَلَا يخفى عَلَيْك مَا فِيهِ مَعَ أَن الأولى تفِيد مَا فِي الثَّانِيَة فِي إيجاز ووضوح (فقد تضمن) هَذَا الْكَلَام (مسئلتها) أَي مَتى (وَمِنْهَا) أَي من أَحْكَامهَا أَنه إِذا قَالَ (أَنْت طَالِق مَتى شِئْت لَا يتَقَيَّد) تَفْوِيض الْمَشِيئَة إِلَيْهَا (بِالْمَجْلِسِ فلهَا مَشِيئَة الطَّلَاق بعده) أَي الْمجْلس لِأَنَّهَا لعُمُوم أَفْرَاد مدخولها بِحَسب عُمُوم الْأَزْمِنَة بِخِلَاف إِن شِئْت.
مسئلة
(إِذا) وضعت (لزمان) حُدُوث (مَا أضيفت إِلَيْهِ) كَقَوْلِه تَعَالَى {وَاللَّيْل إِذا يغشى} أَي وَقت غشيانه بدل من اللَّيْل لَا حَال عَنهُ كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْحَاجِب، إِذْ لَيْسَ المُرَاد تَقْيِيد تعلق الْقسم بذلك الْوَقْت (وتستعمل للمجازاة) أَي للشّرط على خلاف أَصْلهَا حَال كَونهَا (دَاخِلَة على مُحَقّق) كَمَا هُوَ الأَصْل فِيهَا (وموهوم) لنكتة كَمَا سبق (وتوهم أَنه) أَي دُخُولهَا على موهوم (مَبْنِيّ حكم فَخر الْإِسْلَام أَنَّهَا حِينَئِذٍ) تدخل على موهوم (حرف) بِمَعْنى أَن (فَدفع) كَونه منشأ لحرفيتها (بِجَوَازِهِ) أَي دُخُولهَا على موهوم (لنكتة) وَهَذَا التَّوَهُّم وَالدَّفْع فِي التَّلْوِيح (وَلَيْسَ) هُوَ مبناه (وَكَلَامه) أَي وَحَاصِل كَلَامه (يجازي بهَا وَلَا) يجازي بهَا (عِنْد الْكُوفِيّين وَإِذا جوزي) بهَا (سقط عَنْهَا الْوَقْت) أَي إِفَادَة الزَّمَان الْمَذْكُور وَصَارَت (كَأَنَّهَا حرف شَرط، ثمَّ قَالَ) فَخر الْإِسْلَام (لَا يَصح طَرِيق أبي حنيفَة إِلَّا أَن يثبت أَنَّهَا قد تكون حرفا بِمَعْنى الشَّرْط) مثل إِن، وَقد ادّعى ذَلِك أهل الْكُوفَة (ثمَّ أثْبته) أَي فَخر الْإِسْلَام كَونهَا حرفا بِمَعْنى الشَّرْط (بِالْبَيْتِ وَإِذا تصبك) خصَاصَة فَتحمل (فلاح أَن الْمَبْنِيّ) أَي مبْنى فَخر الْإِسْلَام أَنَّهَا حرف (كَونهَا إِذن لمُجَرّد الشَّرْط، وَهُوَ) أَي كَونهَا كَذَلِك مَبْنِيّ (صَحِيح) لدعوى حرفيتها (لِأَن مجرده) أَي الشَّرْط (ربط خَاص) وَهُوَ تَعْلِيق مَضْمُون جملَة بِأُخْرَى (وَهُوَ) أَي الرَّبْط الْمَذْكُور (من مَعَاني الْحُرُوف، وَقد تكون الْكَلِمَة حرفا واسما) كالكاف وَقد، بل وفعلا أَيْضا كعلى وَعَن، فَلَا استبعاد فِي كَون إِذا اسْما أَو حرفا (بل الْوَارِد) على فَخر الْإِسْلَام (منع سُقُوطه) أَي الزَّمَان عَنْهَا إِذا كَانَت جازمة (والجزم لَا يستلزمه) أَي سُقُوط الزَّمَان، إِذا لَا مُنَافَاة بَين جازميتها ودلالتها على الزَّمَان (كمتى وَأَخَوَاتهَا وَهُوَ) أَي كَونهَا مجازي بهَا مَعَ دلالتها على الزَّمَان (قَوْلهمَا، وَعَلِيهِ) أَي كَونهَا للشّرط مَعَ دلالتها على الزَّمَان (تفرع الْوُقُوع) أَي وُقُوع الطَّلَاق (فِي الْحَال عِنْدهمَا فِي إِذا لم أطلقك فطالق و) هِيَ (كَانَ عِنْده) أَي أبي حنيفَة فَلَا تطلق بِمَوْت أَحدهمَا وَهَذَا إِذا لم يكن لَهُ نِيَّة، فَأَما إِذا نوى الْوَقْت أَو الشَّرْط الْمَحْض وَهُوَ(2/122)
على مَا نوى بالِاتِّفَاقِ ذكره غير وَاحِد. قَالَ الشَّارِح وَتعقبه شَيخنَا المُصَنّف بِأَنَّهُ يجب على قَوْلهمَا إِذا أَرَادَ معنى الشَّرْط أَن لَا يصدقهُ القَاضِي لظُهُوره عِنْدهمَا فِي الظّرْف فأراده الشَّرْط خلاف الظَّاهِر، وَفِيه تَخْفيف عَلَيْهِ فَلَا يصدق قَضَاء بل ديانَة فَقَط (والاتفاق على عدم خُرُوج الْأَمر عَنْهَا فِي أَنْت طَالِق إِذا شِئْت) إِذا قَامَت عَن الْمجْلس عَن غير مَشِيئَة (لشك الْخُرُوج بعد تحقق الدُّخُول عِنْده) أَي أبي حنيفَة (لجَوَاز عدم المجازاة كَقَوْلِه فِي إِذا لم أطلقك) فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ قَالَ: الأَصْل عدم وُقُوع الطَّلَاق فَلَا يَقع عقيب تَعْلِيقه بِالشَّكِّ لجَوَاز سُقُوط الْوَقْت عَنْهَا فَصَارَت كَانَ وَالْحَاصِل أَن الْأَمر صَار بِيَدِهَا بالتفويض ثمَّ على اعْتِبَار أَنَّهَا للشّرط يخرج الْأَمر من يَدهَا وعَلى اعْتِبَار أَنَّهَا للْوَقْت لَا يخرج فَلَا يخرج بِالشَّكِّ.
مسئلة
(لَو للتعليق فِي الْمَاضِي مَعَ انْتِفَاء الشَّرْط فِيهِ) أَي فِي الْمَاضِي (فَيمْتَنع لجواب الْمسَاوِي) للشّرط فَلَو كَانَت الشَّمْس طالعة كَانَ النَّهَار مَوْجُودا: يَعْنِي إِذا كَانَ مَضْمُون جَوَاب لَو مُسَاوِيا لمضمون مدخولها فِي التحقق لزم عدم تحَققه لكَون الْمُعَلق بِهِ ملزوما واستلزام انْتِفَاء الْمَلْزُوم إِذا كَانَ اللَّازِم لَا يَنْفَكّ عَن الْمَلْزُوم (فدلالته) أَي لَو (عَلَيْهِ) أَي امْتنَاع الْجَواب دلَالَة (التزامية وَلَا دلَالَة) للو على امْتنَاع الْجَواب (فِي) الْجَواب (الْأَعَمّ) من الشَّرْط (الثَّابِت مَعَه) أَي الشَّرْط (و) مَعَ (ضِدّه) أَي الشَّرْط فالثابت إِلَى آخِره صفة كاشفة للأعم، وَهَذَا تنصيص على أَن لَو لم يوضع لانْتِفَاء الثَّانِي لانْتِفَاء الأول وَإِلَّا لَكَانَ دلَالَته على كل من الانتفاءين تضمنية، وَإِنَّمَا جَاءَت دلَالَته على امْتنَاع الْجَواب فِي صُورَة الْمُسَاوَاة من قبل خُصُوصِيَّة الْمحل لَا من الْوَضع (كَلَوْ لم يخف الله لم يَعْصِهِ) فَإِن عدم مَعْصِيّة صُهَيْب جَوَاب أَعم من الشَّرْط، إِذْ هُوَ أَمر لَا يَنْفَكّ عَنهُ يدل عَلَيْهِ تحَققه مَعَ فرض عدم الْخَوْف فَإِنَّهُ إِذا لم يعْص مَعَ عدم خوف فَكيف يعْصى مَعَ وجوده فقد ثَبت تحَققه مَعَ عدم الْخَوْف وَمَعَ وجوده، وَهَذَا معنى كَونه أَعم (غير أَنَّهَا) أَي لَو (لما اسْتعْملت) شرطا فِي الْمُسْتَقْبل (كَانَ تجوزا) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وليخش الَّذين (لَو تركُوا من خَلفهم) ذُرِّيَّة ضعافا خَافُوا عَلَيْهِم الضّيَاع، فعلى هَذَا هُوَ خطاب للموصين بِأَن ينْظرُوا للْوَرَثَة فَلَا يُسْرِفُوا فِي الْوَصِيَّة، وللآية وُجُوه أخر ذكرت فِي التَّفْسِير (جعلت لَهُ) أَي الشَّرْط كَانَ (فِي قَوْله لَو دخلت عتقت فتعتق بِهِ) أَي بِالدُّخُولِ (بعده) أَي بعد قَوْله ذَلِك (فَعَن أبي يُوسُف) أَنْت طَالِق (لَو دخلت كَانَ دخلت صونا عَن اللَّغْو عِنْد الْإِمْكَان) أما الصون فَلِأَنَّهَا لَو حملت على حَقِيقَتهَا أَفَادَ الْكَلَام عدم الدُّخُول وَعدم الطَّلَاق وَلَا طائل تَحْتَهُ(2/123)
وَإِن حمل على مجازها ترَتّب عَلَيْهِ الطَّلَاق على تَقْدِير الدُّخُول فِي الْمُسْتَقْبل، وَقد أمكن حملهَا عَلَيْهِ لتحَقّق هَذَا الِاسْتِعْمَال وَلَو قَالَ لَو دخلت فَأَنت طَالِق وَقع فِي الْحَال عِنْد أبي الْحسن لِأَن جَوَاب لَوْلَا تدخل عَلَيْهِ الْفَاء، وَذكر أَبُو عَاصِم العامري أَنَّهَا لَا تطلق مَا لم تدخل، لِأَنَّهَا لما جعلت بِمَعْنى أَن جَازَ دُخُول الْفَاء فِي جوابها، وعَلى هَذَا مَشى التُّمُرْتَاشِيّ (بِخِلَاف لَوْلَا لِأَنَّهُ لِامْتِنَاع الثَّانِي لوُجُود الأول لَيْسَ غير فَلَا تطلق فِي أَنْت طَالِق لَوْلَا حسنك أَو أَبوك) أَي مَوْجُود (وَإِن زَالَ) الْحسن (وَمَات) الْأَب لِأَن وجودهما عِنْد التَّكَلُّم مَانع من وُقُوع الطَّلَاق.
مسئلة
(كَيفَ أَصْلهَا سُؤال عَن الْحَال) أَي عَن حَال الشىءوكيفيته (ثمَّ اسْتعْملت للْحَال) من غير اعْتِبَار السُّؤَال كَمَا (فِي انْظُر إِلَى كَيفَ تضع) حَكَاهُ قطرب عَن بعض الْعَرَب: أَي حَال صَنعته (وقياسها الشَّرْط جزما) أَي الْقيَاس فِي كَيفَ المتسعملة للْحَال أَن تكون للشّرط حَال كَونهَا جَازِمًا كَانَ اقترنت بِمَا أَولا (كالكوفيين) أَي كَقَوْلِهِم وقطرب لِأَنَّهَا للْحَال وَالْأَحْوَال تكون شُرُوطًا، وَالْأَصْل فِي الشَّرْط الْجَزْم، وَقيل يشْتَرط اقترانها بِمَا وَلم يجوزه سَائِر الْبَصرِيين إِذا شذوذا (وَأما) كَونهَا للشّرط (معنى فاتفاق) لإفادتها الرَّبْط وَقَالُوا إِذا كَانَت للشّرط جزما فَيجب فِيهَا اتِّفَاق فعلى الشَّرْط وَالْجَوَاب لفظا وَمعنى، نَحْو كَيفَ تصنع أصنع فَلَا يجوز كَيفَ تجْلِس أذهب، وَكَذَا لم يجْزم عِنْد الْبَصرِيين لمخالفتها أدوات الشَّرْط: إِذْ هِيَ غير مُقَيّدَة بِهَذَا الشَّرْط (وَمَا قيل لَكِنَّهَا) أَي الْحَال الَّتِي تدل عَلَيْهَا (غير اختيارية كالسقم والكهولة فَلَا يَصح التَّعْلِيق) للجواب (بهَا) أَي بِتِلْكَ الْحَال إِذْ الْمُعَلق بِهِ يكون اختياريا غَالِبا، لِأَن الْمَقْصد من التَّعْلِيق الْمَنْع والحث فِي الْأَغْلَب (إِلَّا إِذا ضمت إِلَيْهَا) كلمة (مَا) إِذْ بانضمامها تصير كلمة أُخْرَى فَلَا يلْزم حِينَئِذٍ فِي مدلولها عدم الِاخْتِيَار، خبر الْمَوْصُول مَحْذُوف: أَي لَيْسَ بِشَيْء أَو نَحوه يدل عَلَيْهِ قَوْله (لَيْسَ بِلَازِم فِي الشَّرْط ضِدّه) أَي ضد الِاخْتِيَار (وَلَا هُوَ) : أَي وَلَا غير الِاخْتِيَار بل تَارَة وَتارَة، وَالْمعْنَى لَا ضم كلمة مَا إِلَيْهَا، أَلا ترى (فِي) قَوْلهم (كَيفَ كَانَ تمريض زيد وَكَيف تجْلِس أَجْلِس) فَإِن كَيْفيَّة التمريض وَالْجُلُوس تكون اختيارية وَغير اختيارية كَمَا لَا يخفى، وَالْأول للسؤال وَالثَّانِي للشّرط وَالْحَال، وَلم تنضم كلمة مَا إِلَيْهَا (وعَلى الحالية) أَي وعَلى إِرَادَة الْحَال من كَيفَ بنى (التَّفْرِيع) الْمَذْكُور فِي قَوْله إِن دخلت (فطالق كَيفَ شِئْت) إِذْ هُوَ (تَعْلِيق للْحَال) أَي تَعْلِيق حَال الطَّلَاق وَصفته من الْبَيْنُونَة والرجعية وَنَحْوهمَا (عِنْدهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (بمشيئتها فِي الْمجْلس وَإِذ لَا انفكاك) للطَّلَاق عَن كَيْفيَّة من(2/124)
كَونه رَجْعِيًا أَو بَائِنا خَفِيفَة أَو غَلِيظَة بِمَال أَو بِلَا مَال إِلَى غير ذَلِك (تعلق الأَصْل) أَي أصل الطَّلَاق (بهَا) أَي بمشيئتها الْمَذْكُورَة فَهُوَ تَعْلِيق للطَّلَاق وكيفيته أَيْضا بِالْمَشِيئَةِ (غير مُتَوَقف) تعلق الأَصْل بمشيئتها (على امْتنَاع قيام الْعرض بِالْعرضِ كَمَا ظن) والظان صدر الشَّرِيعَة فِي التَّوْضِيح فِي أَنْت طَالِق كَيفَ شِئْت يتَعَلَّق بتعلق أصل الطَّلَاق أَيْضا بمشيئتها فعندهما مَا لَا يقبل الْإِشَارَة فحاصله وَأَصله سَوَاء أَظن هَذَا مَبْنِيا على امْتنَاع قيام الْعرض بِالْعرضِ فَإِن الْعرض الأول لَيْسَ محلا للعرض الثَّانِي بل كِلَاهُمَا حالان فِي الْجِسْم فَلَيْسَ أَحدهمَا أولى بِكَوْنِهِ أصلا ومحلا، بل هما سَوَاء لَكِن بِعَدَمِ الانفكاك إِذا تعلق أَحدهمَا بمشيئتها تعلق الآخر (لِأَنَّهُ) أَي قيام الْعرض بِالْعرضِ (بِالْمَعْنَى المُرَاد هُنَا وَهُوَ النَّعْت) أَي اخْتِصَاص الناعت بالمنعوت (غير مُمْتَنع) إِنَّمَا الْمُمْتَنع قِيَامه بِهِ بِمَعْنى حُلُوله فِيهِ على مَا عرف فَلَا يَقع شَيْء مَا لم تشأ، فَإِذا شَاءَت فالتفريع مَا سَيَأْتِي (وَعِنْده) أَي أبي حنيفَة (نقع) وَاحِدَة (رَجْعِيَّة) فِي الْمَدْخُول بهَا إِن لم تكن مسبوقة بِمَا يحصل بانضمامه الْبَيْنُونَة الْمُغَلَّظَة (وَيتَعَلَّق صيرورتها بَائِنَة وَثَلَاثًا) بمشيئتها وَالْحَاصِل أَنَّهَا إِن كَانَت غير مدخولة بَانَتْ فَلَا مَشِيئَة بعد، وَإِن كَانَت مدخولة فالكيفية مفوضة إِلَيْهَا فِي الْمجْلس، لِأَن كَيفَ إِنَّمَا تدل على تَفْوِيض الْأَحْوَال وَالصِّفَات إِلَيْهَا دون الأَصْل، فَفِي الْعتْق وَغير المدخولة لَا مَشِيئَة بعد وُقُوع الأَصْل فَيلْغُو التَّفْوِيض وَفِي المدخولة يكون التَّفْوِيض إِلَيْهَا بِأَن تجعلها بَائِنَة أَو ثَلَاثًا، وَصَحَّ هَذَا التَّفْوِيض لِأَن الطَّلَاق قد يكون رَجْعِيًا فَيصير بَائِنا بِمُضِيِّ الْمدَّة وَقد يكون وَاحِدًا فَيصير ثَلَاثًا بِضَم اثْنَيْنِ إِلَيْهِ، وَلما كَانَ مَدْلُول كَيفَ مُطلق الْحَال وَالصّفة لَا خُصُوص البينونه وَكَونه ثَلَاثًا احْتَاجَ إِلَى بَيَان مَا يخصصهما بالإرادة فَقَالَ (تَخْصِيصًا بِالْعقلِ لما لَا بُد مِنْهُ) يَعْنِي أَن التَّعْلِيق عِنْده لما كَانَ بِاعْتِبَار الْوَصْف دون الأَصْل لزم وُقُوع الأَصْل تنجيزا بِمُجَرَّد قَوْله أَنْت طَالِق قبل أَن يَقُول كَيفَ شِئْت لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَيْد يتَوَقَّف صدر الْكَلَام عَلَيْهِ وَحَيْثُ كَانَ لَا يُوجد الأَصْل إِلَّا مَعَ وصف تعين أدناه محققا لوُجُوده وَهُوَ الرّجْعَة وَأَيْضًا لَا يتَصَوَّر التَّفْوِيض باعتبارها إِذْ التَّصَرُّف الَّذِي يُفَوض إِلَى الْغَيْر مَوْقُوف على فعل الْغَيْر: وَهِي تتَحَقَّق مَعَ الأَصْل فَلَا يصلح للتفويض إِلَّا مَا لَيْسَ بِلَازِم لَهُ وَهِي الْبَيْنُونَة، فاستثنى الرّجْعَة من الْوَصْف الْمُفَوض إِلَيْهَا، وَهَذَا معنى قَوْله تَخْصِيصًا إِلَى آخِره (فَلَزِمَ فِي غير المدخولة الْبَيْنُونَة) إِذْ الرّجْعَة إِنَّمَا تكون فِي الْعدة وَلَا عدَّة لَهَا (فتتعذر الْمَشِيئَة) لِأَن الْمَشِيئَة فرع عدم حُصُول الْبَيْنُونَة بِمُجَرَّد الطَّلَاق، وَقد تحققت بِمُجَرَّدِهِ وَلَا يتَصَوَّر تفويضها اليها بعد تحققها (وَمثله) أَي مثل أَنْت طَالِق كَيفَ شِئْت (أَنْت حر كَيفَ شِئْت) فعندهما لَا يعْتق مَا لم يَشَأْ فِي الْمجْلس، وَعِنْده يعْتق فِي الْحَال وَلَا مَشِيئَة لَهُ.(2/125)
الظروف
(مسئلة: قبل وَبعد وَمَعَ متقابلات) تقَابل التضاد مَوْضُوعَات (لزمان مُتَقَدم على مَا أضيف) أَحدهَا (إِلَيْهِ ومتأخر ومقارن) معطوفان على مُتَقَدم غير أَنه يقدر لَهما عَن وَمَعَ بدل على (فهما) أَي قبل وَبعد (بإضافتهما إِلَى) اسْم (ظَاهر صفتان لما قبلهمَا، و) بإضافتهما (إِلَى ضَمِيره) أَي الِاسْم الظَّاهِر صفتان (لما بعدهمَا لِأَنَّهُمَا خبران عَنهُ) أَي عَمَّا بعدهمَا، وَالْخَبَر فِي الْمَعْنى وصف للمبتدأ (فَلَزِمَ) طَلْقَة (وَاحِدَة فِي) أَنْت (طَالِق وَاحِدَة قبل وَاحِدَة) فَإِن قيل مُضَاف إِلَى ظَاهر: أَعنِي وَاحِدَة فَيكون صفة لوَاحِدَة الأولى فَلَزِمَ كَونهَا مُتَقَدّمَة على الثَّانِيَة، وَقَوله (لغير المدخولة) حَال عَن قَوْله طَالِق وَاحِدَة الخ: أَي حَال كَونه خطابا لغير المدخولة وَذَلِكَ (لفَوَات الْمَحَلِّيَّة) فَإِن غير المدخولة بِوُقُوع الْوَاحِدَة الأولى بَانَتْ بِلَا عدَّة فَلم تبْق محلا (للمتأخرة) أَي الْمُطلقَة الْمُضَاف إِلَيْهَا قبل (وثنتان فِي) أَنْت طَالِق وَاحِدَة (قبلهَا) وَاحِدَة فَإِن وَاحِدَة الثَّانِيَة مُبْتَدأ خَبَرهَا قبلهَا فَلَزِمَ كَون الْوَاحِدَة الْمَذْكُورَة أَولا مَوْصُوفا بمسبوقيتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِيَة وَفِي مثله يلْزم الْمُقَارنَة بَينهمَا فِي الزَّمَان (لِأَن الْموقع مَاضِيا) أَي الطَّلَاق الَّذِي وَصفه الْمُطلق بِكَوْنِهِ فِي الزَّمَان الْمَاضِي وَلم يَقع بِحَسب نفس الْأَمر (يَقع حَالا) لِأَن الْوَاقِع حَالا لَا يُمكن رَفعه إِلَى الْمَاضِي: إِذْ هُوَ لَا يملك الْإِيقَاع فِيهِ وَيملك الْإِيقَاع فِي الْحَال فَيثبت مَا يملكهُ صونا لكَلَام الْعَاقِل عَن اللَّغْو (فيقترنان كمع وَاحِدَة) أَو مَعهَا وَاحِدَة، وَعَن أبي يُوسُف فِي مَعهَا وَاحِدَة تقع وَالصَّحِيح أَنه كمع وَاحِدَة (وعكسهما) أَي عكس الْحكمَيْنِ الْمَذْكُورين (فِي) صُورَتي قبل الحكم فِي أَنْت طَالِق وَاحِدَة (بعد وَاحِدَة و) أَنْت طَالِق وَاحِدَة (بعْدهَا) وَاحِدَة فَتطلق ثِنْتَيْنِ فِي الأولى لإيقاعه وَاحِدَة مَوْصُوفَة بِأَنَّهَا بعد أُخْرَى وَلَا قدرَة لَهُ على تَقْدِيم مَا لم يسْبق فيفترقان لما ذكر، وَوَاحِدَة فِي الثَّانِيَة لإيقاعه وَاحِدَة مَوْصُوفَة بتعدية أُخْرَى لَهَا فَوَقَعت الأولى وَلم تلحقها الثَّانِيَة لفَوَات الْمَحَلِّيَّة (بِخِلَاف المدخولة) أَي بِخِلَاف مَا إِذا وضعت المدخولة مَوضِع غير المدخولة فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة، وَالْبَاقِي على حَاله (و) بِخِلَاف (الْإِقْرَار) إِذا وضع مَوضِع الطَّلَاق ولوحظ إِضَافَة قبل وَبعد إِلَى الظَّاهِر أَو الْمُضمر (فثنتان) أَي فاللازم ثِنْتَانِ من الطَّلَاق فِي الأولى وَمن الدِّينَار وَنَحْوه فِي الثَّانِيَة (مُطلقًا) فِي جَمِيع الصُّور من غير تَفْصِيل، وَمنع الشَّارِع كَون الحكم فِي الْإِقْرَار هَكَذَا إِذا كَانَ مُضَافا إِلَى الظَّاهِر، وَنقل عَن الْمَبْسُوط أَنه حِينَئِذٍ يلْزم دِرْهَم وَاحِد فَإِن صَحَّ نَقله يحمل على الْخلاف وَاخْتِلَاف الرِّوَايَة وَالله أعلم.(2/126)
مسئلة
(عِنْد للحضرة) إِمَّا الحسية نَحْو - {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده} - وَأما اللُّغَوِيَّة نَحْو - {قَالَ الَّذِي عِنْده علم} - وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْمَوْصُوف بالحضور (أَعم من) نَحْو (الدّين) مِمَّا حُضُوره معنوي (و) من نَحْو (الْوَدِيعَة) مِمَّا حُضُوره حسي، وَفسّر الشَّارِح الضَّمِير بِكَوْن المَال حَاضرا عِنْد الْمقر وَلَا يخفى مَا فِيهِ (وَإِنَّمَا تثبت الْوَدِيعَة بإطلاقها) أَي إِطْلَاق عِنْد الْمَذْكُورَة فِي توصيف مَا أقرّ بِهِ من المَال مَعَ أَنَّهَا دَالَّة على مُطلق الْحُضُور الْأَعَمّ مِمَّا ذكر (كعندي) لفُلَان (ألف لأصلية الْبَرَاءَة) أَي لمرجح خَارج عَن مدلولها: وَهُوَ أَن الأَصْل بَرَاءَة ذمَّة الْمقر وَإِثْبَات الْوَدِيعَة مُوَافق لما هُوَ الأَصْل (فتوقف الدّين) أَي ثُبُوته على الْمقر (على ذكره) أَي الدّين (مَعهَا) أَي عِنْد بِأَن يَقُول لَهُ عِنْدِي ألف دِينَار وَلَا يتَوَقَّف ثُبُوت الْوَدِيعَة على ذكرهَا لِأَنَّهَا أدنى مؤدي اللَّفْظ متعينة حَيْثُ لَا معِين لغَيْرهَا.
مسئلة
(غير) اسْم متوغل فِي الْإِبْهَام (صفة) لما قبلهَا وَهُوَ الأَصْل فِيهِ (فَلَا يُفِيد حَال مَا أضيفت إِلَيْهِ) إِذْ لست بِصفة (كجاء رجل غير زيد، واستثناء) وَهُوَ عَارض عَلَيْهَا (فيفيده) أَي حَال مَا أضيفت إِلَيْهِ (وَيلْزمهُ) أَي غير إِذا كَانَ اسْتثِْنَاء (أَعْرَاب الْمُسْتَثْنى كجاءوا غير زيد) بِنصب غير (أفادت عَدمه) أَي الْمَجِيء (مِنْهُ) أَي زيد، وأعراب الْمُسْتَثْنى فِي مثله النصب لكَون الْكَلَام مُوجبا (فَلهُ) أَي فَفِي قَوْله عَليّ (دِرْهَم غير دانق) بِرَفْع غير (يلْزمه) الدِّرْهَم (تَاما) لِأَن غير حِينَئِذٍ صفة لدرهم، فَالْمَعْنى دِرْهَم مُغَاير للدانق وَهُوَ بِالْفَتْح وَالْكَسْر قيراطان كَذَا فِي الْمغرب (وَبِالنَّصبِ) يلْزمه دِرْهَم (بنقصه) أَي الدانق مِنْهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اسْتثِْنَاء فَالْمَعْنى دِرْهَم إِلَّا دانقا (وَفِي) لَهُ عَليّ (دِينَار غير عشرَة) من الدَّرَاهِم (بِالنّصب كَذَلِك) أَي بِنَقص من الدِّينَار قيمَة عشرَة دَرَاهِم، وَيلْزمهُ الْبَاقِي عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (و) يلْزمه دِينَار (تَامّ عِنْد مُحَمَّد للانقطاع) أَي لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع (لشرطه) أَي مُحَمَّد (فِي الِاتِّصَال الصُّورَة وَالْمعْنَى) أَي التجانس الصُّورِي والمعنوي بَين الْمُسْتَثْنى مِنْهُ والمستثنى وَالدِّرْهَم لَيْسَ بمجانس للدينار صُورَة (واقتصرا) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (عَلَيْهِ) أَي التجانس الصُّورِي (وَقد جَمعهمَا) أَي الدِّرْهَم وَالدِّينَار بِاعْتِبَار التجانس الْمَعْنَوِيّ (الثمينة، فَالْمَعْنى مَا قِيمَته دِينَار غير عشرَة) فَكَانَ مُتَّصِلا فَلَزِمَهُ من قيمَة الدِّينَار مَا سوى الْعشْرَة.(2/127)
الْمقَالة الثَّانِيَة: فِي أَحْوَال الْمَوْضُوع
وَقد فسر الْمَوْضُوع وَبَين المُرَاد بأحواله فِي الْمُقدمَة (وَعلمت) هُنَاكَ (إِدْخَال بَعضهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ كصدر الشَّرِيعَة (الْأَحْكَام) فِي الْمَوْضُوع (فَانْكَسَرت) أَي انقسمت انقسام الْكل إِلَى الْأَجْزَاء مُشْتَمِلَة (على خَمْسَة أَبْوَاب) .
الْبَاب الأول
(فِي الْأَحْكَام وَفِيه أَرْبَعَة فُصُول) فِي الحكم، وَالْحَاكِم، والمحكوم فِيهِ، والمحكوم عَلَيْهِ.
الْفَصْل الأول
(لفظ الحكم يُقَال للوضعي) أَي للخطاب الوضعي (قَوْله) تَعَالَى بِالْجَرِّ عطف بَيَان للوضعي (النَّفْسِيّ) صفة قَوْله احْتِرَاز عَن اللَّفْظِيّ (جعلته) أَي الشَّيْء الْفُلَانِيّ (مَانِعا) من كَذَا ككشف الْعَوْرَة الْمَانِع من صِحَة الصَّلَاة (أَو) جعلت كَذَا (عَلامَة) دَالَّة (على تعلق الطّلب) لفعل أَو ترك من الْمُكَلف، وَقَوله جعلته إِلَى آخِره مقول القَوْل (كالدلوك والتغير) فَإِن دلوك الشَّمْس، وَهُوَ زَوَالهَا، وَقيل غُرُوبهَا، وَالْأول الصَّحِيح كَمَا نطق بِهِ الْأَحَادِيث عَلامَة على طلب إِقَامَة الصَّلَاة، وتغيرها للغروب عَلامَة على عدم طلب غير الوقتية (أَو) عَلامَة على (الْملك أَو زَوَاله) كَالْبيع فَإِنَّهُ عَلامَة على ملك المُشْتَرِي الْمَبِيع وَالْبَائِع الثّمن، وعَلى زَوَال ملك البَائِع عَن الْمَبِيع، وَزَوَال ملك المُشْتَرِي عَن الثّمن، وكل مِنْهَا يشْتَمل على وضع إلهي فَظهر وَجه التَّسْمِيَة (فَفِي الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الحكم) أَي الَّذِي وضع لحكم فَكَانَ ذَلِك الحكم مَوْقُوفا عَلَيْهِ (مَعَ ظُهُور الْمُنَاسبَة) بَينهمَا (الباعثة) لشرعية الحكم عِنْد ذَلِك الْوَضع صفة الْمُنَاسبَة (وضع الْعلية) أَي الْوَضع فِيمَا ذكر وضع الْعلية، فالموضوع عِلّة كَالْقصاصِ للْقَتْل الْعمد الْعدوان، وَسَيَجِيءُ بَيَان الْمُنَاسبَة فِي مبَاحث الْقيَاس (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بَينهمَا مُنَاسبَة ظَاهِرَة (فَمَعَ الْإِفْضَاء) أَي مَعَ إفضاء الْمَوْقُوف عَلَيْهِ إِلَى الحكم (فِي الْجُمْلَة) أَي فِي بعض الصُّور كالنصاب المفضي إِلَى وجوب الزَّكَاة فِي صُورَة السَّبَب (وضع السَّبَب، و) فِي الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الحكم الْكَائِن (مَعَه) أَي مَعَ توقف الحكم عَلَيْهِ (جعله) أَي جعل الْمَوْقُوف عَلَيْهِ (دلَالَة عَلَيْهِ) أَي دَالَّة على الحكم (الْعَلامَة) أَي وضع الْعَلامَة مِنْهُ كالأوقات للصَّلَاة (وَفِي اعْتِبَاره) أَي الْمَوْقُوف عَلَيْهِ (دَاخِلا فِي الْمَفْعُول) أَي فِيمَا يَفْعَله الْمُكَلف سَوَاء كَانَ من أَفعَال الْخَارِج أَو الْقلب أَو الْمركب مِنْهُمَا (وضع(2/128)
الرُّكْن فَإِن لم ينتف حكم الْمركب) الَّذِي اعْتبر الْمَوْقُوف عَلَيْهِ دَاخِلا فِيهِ (بانتفائه شرعا) أَي انْتِفَاء شَرْعِيًّا (فالزائد) أَي فَهُوَ الرُّكْن الزَّائِد (كَالْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَان على رَأْي) لطائفة من مَشَايِخنَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن انْتَفَى حكم الْمركب بانتفائه شرعا (فَالْأَصْل) أَي فالركن الأَصْل كالقيام حَال الْقُدْرَة فِي الصَّلَاة فَإِن الْإِيمَان لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الاقرار لعذر شرعا، وَلِهَذَا تجرى عَلَيْهِ أَحْكَامه وَإِن انْتَفَى عقلا ضَرُورَة انْتِفَاء الْكل بِانْتِفَاء الْجُزْء، بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهَا تَنْتفِي بانتفائه (وَغير الدَّاخِل) أَي وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ غير الدَّاخِل فِي الْمَفْعُول (الشَّرْط) وَلما كَانَ التَّعْرِيف الْخَارِج للشّرط من التَّقْسِيم، وَهُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ غير الدَّاخِل صَادِقا على بعض أَفْرَاد السَّبَب أَشَارَ إِلَى دفع النَّقْض بقوله (وَقد يُجَامع) الشَّرْط (السَّبَب) بِأَن يكون أَمر وَاحِد يتَوَقَّف عَلَيْهِ الحكم ذَا جِهَتَيْنِ شَرط لَهُ من حيثية، وَسبب من حيثية أُخْرَى (مَعَ اخْتِلَاف النِّسْبَة كوقت الصَّلَاة) فَإِنَّهُ شَرط بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدَائِهَا سَبَب بِالنِّسْبَةِ إِلَى وجوب أمرهَا، وَهَذَا معنى اخْتِلَاف النِّسْبَة وَأَيْضًا يَكْفِي فِي التقسيمات الاعتبارية المباينة بِاعْتِبَار الْحَيْثِيَّة، فَمن حَيْثُ أَنه مفض إِلَى الحكم سَبَب، وَمن حَيْثُ أَنه يتَوَقَّف عَلَيْهِ وَهُوَ غير دَاخل شَرط، ثمَّ لما كَانَ لَهُ كَلَام مُتَعَلق بتحقيق هَذَا الِاجْتِمَاع فِي الْفَصْل الثَّالِث أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (على مَا فِيهِ مِمَّا سَيذكرُ و) يُقَال الحكم (على أثر الْعلَّة) أَيْضا (كَنَفس الْملك) وَأَنه أثر للْبيع، وَقد يعبر عَنهُ بأثر فعل الْمُكَلف (و) يُقَال أَيْضا على (معلوله) أَي أثر الْعلَّة مثل (إِبَاحَة الِانْتِفَاع) بالمملوك بِالْبيعِ فَإِنَّهَا معلولة للْملك الَّذِي هُوَ أثر البيع (و) يُقَال أَيْضا (على وصف الْفِعْل) سَوَاء كَانَ (أثرا للخطاب الَّذِي هُوَ الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم (كالوجوب وَالْحُرْمَة) فَإِنَّهُمَا صفتان لفعل الْمُكَلف أثران للْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم (أَولا) مَعْطُوف على أثرا للخطاب أَو غير أثر لَهُ (كالنافذ وَاللَّازِم) وَالْمَوْقُوف كعقد الْفُضُولِيّ الْمَوْقُوف على إجَازَة من لَهُ التَّصَرُّف (وَغير اللَّازِم كالوقف عِنْده) أَي أبي حنيفَة إِذا لم يحكم بلزومه قَاض يرى ذَلِك فَإِن كل وَاحِد من الْمَذْكُورَات وصف لتصرف الْمُكَلف وَلَيْسَ أثرا للخطاب. وَفِي التَّلْوِيح: التَّحْقِيق أَن إِطْلَاق الحكم على خطاب الشَّارِع، وعَلى أَثَره، وعَلى الْأَثر الْمُرَتّب على الْعُقُود والفسوخ إِنَّمَا هُوَ بطرِيق الِاشْتِرَاك انْتهى: أَي اللَّفْظِيّ (وَيُقَال) الحكم أَيْضا (على) الْخطاب (التكليفي خطابه تَعَالَى) بِالْجَرِّ عطف بَيَان للتكليفي (الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين) حَال كَونه (طلبا أَو تخييرا) أَفعَال الْمُكَلف تعم الجارحية والقلبية، وَاحْترز بِقَيْد الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين عَن غَيره كالمتعلق بِذَات الله وَصِفَاته وَغَيرهمَا مِمَّا يقْصد بِهِ الِاعْتِقَاد (فالتكليفي) إِطْلَاقه على مَا يعم الطلبي والتخيري (تَغْلِيب) إِذْ لَا تَكْلِيف فِي الْإِبَاحَة. قَالَ الشَّارِح: بل وَلَا فِي النّدب وَالْكَرَاهَة التنزيهية عِنْد الْجُمْهُور كَمَا سَيَأْتِي (وَلَو أُرِيد) التَّكْلِيف (بِاعْتِبَار(2/129)
الِاعْتِقَاد) لَا بِاعْتِبَار الْعَمَل بِأَن يقْصد بِالْخِطَابِ أَن يعْتَقد الْمُكَلف مَضْمُون مُتَعَلّقه، ويؤمن بِهِ على مَا ذكره بعض الْأُصُولِيِّينَ فِي تَأْوِيل إِدْخَال نَحْو الْإِبَاحَة فِي التكليفى فَإِن العَبْد قد كلف باعتقاد إِبَاحَة الْمُبَاح وَندب الْمَنْدُوب (فَلَا تَخْيِير) أَي لَا يذكر فِي التَّعْرِيف حِينَئِذٍ: إِذْ لَا تَخْيِير فِي طلب الِاعْتِقَاد (وَهُوَ) أَي ذكر الطّلب (أوجه من قَوْلهم بالاقتضاء) بدل طلبا) إِذْ كَانَ) الْخطاب (نَفسه) أَي الِاقْتِضَاء، فَيصير الْمَعْنى خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين بِالْخِطَابِ كَذَا فسره الشَّارِح، وَفِي التَّلْوِيح الْخطاب فِي اللُّغَة تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام، نقل إِلَى مَا يَقع بِهِ التخاطب، وَهُوَ هَهُنَا الْكَلَام النَّفْسِيّ الأزلي، وَفِي معنى الِاقْتِضَاء طلب الْفِعْل مِنْهُ مَعَ الْمَنْع عَن التّرْك وَهُوَ الْإِيجَاب أَو بِدُونِهِ وَهُوَ النّدب أَو طلب التّرْك مَعَ الْمَنْع عَن الْفِعْل: وَهُوَ التَّحْرِيم أَو بِدُونِهِ: وَهُوَ الْكَرَاهَة انْتهى، فَلَيْسَ الْخطاب نفس الِاقْتِضَاء بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ وَلَا بِالْمَعْنَى الْمَنْقُول إِلَيْهِ وَهُوَ ظَاهر، وَأما بِمَعْنى الْكَلَام النَّفْسِيّ فَهُوَ صفة أزلية بسيطة وحدانية، بِاعْتِبَار بعض تعلقاته اقْتِضَاء وَبَعضهَا تَخْيِير وَبَعضهَا أَخْبَار إِلَى غير ذَلِك، وَحِينَئِذٍ لَا فرق بَينه وَبَين الطّلب، وَكَأن مُرَاد المُصَنّف الأوجهية بِاعْتِبَار كلمة الْبَاء المنبئة عَن الْمُغَايرَة بِالذَّاتِ بَين الْخطاب والاقتضاء وَالله أعلم (وَالْأَوْجه دُخُول) الْخطاب (الوضعي فِي الْجِنْس) وَهُوَ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (إِذا أُرِيد الْأَعَمّ) أَي تَعْرِيف الْأَعَمّ بِحَيْثُ يَشْمَل النَّوْعَيْنِ (وَيُزَاد) فِي التَّعْرِيف على مَا سبق (أَو وضعا، لَا) يلْتَفت إِلَى (مَا قيل) من أَنه (لَا) يُزَاد وضعا لإدخاله فَإِنَّهُ دَاخل فِيهِ بِدُونِهِ (لِأَن وضع السَّبَب الِاقْتِضَاء) للْفِعْل (عِنْده) أَي السَّبَب، فَمَعْنَى كَون الدلوك سَببا أَو دَلِيلا للصَّلَاة وجوب الْإِتْيَان بهَا عِنْده وَهُوَ الِاقْتِضَاء، وَمعنى جعل النَّجَاسَة مَانِعَة من الصَّلَاة حرمتهَا مَعهَا وجوازها دونهَا وَهُوَ التَّخْيِير، وعَلى هَذَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام الرَّازِيّ وَاخْتَارَهُ السبكى وَأَشَارَ إِلَى تَوْجِيهه فِي الشَّرْح العضدي وَلم يرفضه المُصَنّف (لتقدم وَضعه) أَي السَّبَب (على هَذَا الِاقْتِضَاء) لِأَنَّهُ عِنْد تحقق الدلوك لَا عِنْد وَضعه سَببا (ولمخالفة نَحْو نفس الْملك وَوصف الْفِعْل) مِمَّا هُوَ من خطاب الْوَضع، وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء، فَإِن كَون نَحْوهمَا من خطاب الْوَضع يدل على خلاف مَا قيل، أما كَون الْملك مِنْهُ فَلِأَنَّهُ جعل أثرا للْبيع وَنَحْوه وسببا لإباحة الِانْتِفَاع، وَأما وصف الْفِعْل كالنفوذ واللزوم فَهُوَ أَيْضا بِوَضْع الشَّارِع (وإخراجه) أَي الوضعي من الْجِنْس (اصْطِلَاحا) أَي من حَيْثُ الِاصْطِلَاح بِأَن يعْتَبر فِي الْخطاب الْمَذْكُور اصْطِلَاحا قيد يخرج خطاب الْوَضع (إِن لم يقبل المشاحة) إِذْ لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح (يقبل قُصُور ملحظ وَضعه) أَي الِاصْطِلَاح، يَعْنِي يُقَال لصَاحب الِاصْطِلَاح هَب أَنَّك فِي سَعَة من وضع اللَّفْظ لما شِئْت غير أَنه لَا يَنْبَغِي مِنْك اخْتِيَار الْمَرْجُوح على الرَّاجِح من غير ضَرُورَة فِي وضعك (وَالْخطاب) مَحْمُول (على(2/130)
ظَاهره) بِنَاء (على تَفْسِيره) اصْطِلَاحا (بالْكلَام الَّذِي بِحَيْثُ يُوَجه إِلَى المتهيء لفهمه) وَهَذِه الْحَيْثِيَّة إِنَّمَا تحصل للْكَلَام إِذا تمّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلم يبْق سوى التَّوْجِيه نَحْو المستعدّ لفهمه وَإِنَّمَا حمل على ظَاهره الْمَذْكُور (لِأَن النَّفْسِيّ) الَّذِي أُرِيد بِلَفْظ الْخطاب هَهُنَا متصف (بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّة فِي الْأَزَل وَكَونه) أَي الْخطاب (تَوْجِيه الْكَلَام) نَحْو الْغَيْر للإفهام معنى (لغَوِيّ) وَلَيْسَ بِمُرَاد هُنَا (وَالْخلاف فِي خطاب الْمَعْدُوم) فِي الْأَزَل لَفْظِي، يَعْنِي أَن الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ بِحَسب اللَّفْظ لَا بِحَسب الْمَعْنى فذهاب كل مِنْهُمَا إِلَى مَا يُخَالف الآخر صُورَة (مَبْنِيّ عَلَيْهِ) أَي على تَفْسِير الْخطاب (فالمانع) كَونه تَعَالَى مُخَاطبا فِي الْأَزَل (يُرِيد) بِالْخِطَابِ الْخطاب (الشفاهي) المستلزم لحضور الْمُخَاطب عِنْده، من المشافهة (التنجيزي) صفة مُؤَكدَة للشفاهي، أَصله من نجز الْكَلَام إِذا انْقَطع فَإِن الْكَلَام الشفاهي الْمُقَارن للإفهام يَنْقَطِع، بِخِلَاف مَا يهيأ لَهُ وَلم يَقع بِهِ بعد فالمعدوم لَا يتَصَوَّر فِيهِ المشافهة والتنجيز (إِذا كَانَ مَعْنَاهُ) أَي الْخطاب عِنْده (تَوْجِيه) الْكَلَام وَهُوَ صَحِيح، إِذْ لَيْسَ موجها إِلَيْهِ فِي الْأَزَل (والمثبت) كَونه مُخَاطبا (يُرِيد الْكَلَام) المتصف (بالحيثية) الْمَذْكُورَة (وَمَعْنَاهُ) أَي حَقِيقَة هَذَا المُرَاد ومآله (قيام طلب) أَي طلب فعل أَو ترك بِذَات الطَّالِب مثلا، فَمثله كل معنى كَلَام هيء للإفهام إنشائيا كَانَ أَو خبريا وَلم يُوجد الْمُخَاطب بِهِ بعد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (مِمَّن سيوجد ويتهيأ) لفهمه، وَلَا اسْتِحَالَة فِي طلب كَذَا من الْمَعْدُوم إِذْ لم يطْلب مِنْهُ فِي حَال عَدمه، بل طلب مِنْهُ أَن يَفْعَله بعد الْوُجُود والاستعداد وَحين يُوجد ويتهيأ لفهمه يتَعَلَّق بِهِ تعلقا آخر، وَهَذَا التَّعْلِيق حَادث فَإِن قلت فَمَا فَائِدَة التَّعَلُّق الأول قلت ظُهُور الْأَثر فِي أَوَانه وَالْكَلَام كَمَال لَا يَنْفَكّ عَنهُ الذَّات فِي الْأَزَل وَهُوَ أَمر وجداني يتكثر بِاعْتِبَار تعلقاته وتنوعات اعتباراته من الخبرية والإنشائية والماضوية والاستقبالية إِلَى غير ذَلِك فَظهر أَن الْخلاف لَفْظِي إِذْ لم يتحد مورد الْإِيجَاب وَالسَّلب فَإِن قلت بل الْخلاف معنوي إِذْ لم يثبت الْخصم صفة كَذَا قلت هَذَا خلاف آخر، إِنَّمَا الْكَلَام فِي الْخلاف الَّذِي بَينا عدم توارد الْإِيجَاب وَالسَّلب فِيهِ على نِسْبَة وَاحِدَة (وَاعْتِرَاض الْمُعْتَزلَة) على التَّعْرِيف الْمَذْكُور لمُطلق الحكم (بِأَن الْخطاب قديم عنْدكُمْ وَالْحكم حَادث) كَقَوْلِنَا (حرم شربه) أَي النيء من مَاء الْعِنَب إِذا اشتدّ (بعد أَن لم يكن حَرَامًا) فالحرمة الثَّابِتَة لَهُ المسبوقة بِالْعدمِ لَا شُبْهَة فِي حُدُوثه (مَدْفُوع بِأَن المُرَاد) أَي بقولنَا حرم بعد أَن لم يكن حَرَامًا (تعلق تَحْرِيمه) الْقَدِيم فالموصوف بالحدوث التَّعَلُّق (وَهُوَ) أَي التَّعَلُّق (حَادث، والتعلق يُقَال) على سَبِيل الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ (بِهِ) أَي بِهَذَا الْمَعْنى وَهُوَ التَّعَلُّق الْحَادِث (وَيكون الْكَلَام) أَي وَبِمَعْنى كَون الْكَلَام (لَهُ معلقات) على صِيغَة الْمَفْعُول (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (أزلي) وَهَذَا الْكَوْن الأزلي إِجْمَال ينْدَرج تَحْتَهُ تعلقات كَثِيرَة(2/131)
كتحريم هَذَا، وَإِيجَاب هَذَا إِلَى غير ذَلِك وكل مِنْهُمَا قديم وَعند بروز أَثَره فِي الْوُجُود يحدث تعلق آخر (وباعتباره) أَي هَذَا الْمَعْنى (أورد وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ) على تَعْرِيف مُطلق الحكم، إِذْ لم يذكر فِيهِ بالاقتضاء أَو التَّخْيِير كَمَا فعل الْغَزالِيّ لصدقه عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ خطاب مُتَعَلق بِفعل الْمُكَلف لِأَن مِمَّا يعلمونه أفعالهم مَعَ أَنه لَيْسَ بِحكم فَلَا يكون مَانِعا، وَأما كَونه لَيْسَ بِحكم فَظَاهر (فاحترس عَنهُ) أَي فاحترز عَن مثل مَا ذكر من موادّ النَّقْض (بالاقتضاء إِلَى آخِره) إِذْ لَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء وَلَا تَخْيِير بل هُوَ إِخْبَار عَن أفعالهم (وَأجِيب أَيْضا) عَن هَذَا الْإِيرَاد (بمراعاة الْحَيْثِيَّة) فِي الْمُكَلّفين (أَي من حَيْثُ أَنهم مكلفون) وَالْخطاب لم يتَعَلَّق فِي هَذِه الْآيَة بأفعالهم من حَيْثُ أَنَّهَا أَفعَال الْمُكَلّفين، بل من حَيْثُ أَفعَال المخلوقين (وعَلى هَذَا) الْجَواب (فبالاقتضاء الخ لبَيَان وَاقع الْأَقْسَام) أَي لبَيَان مَا وجد من أَقسَام الْخطاب، لَا للِاحْتِرَاز لِأَن مَا يقْصد الِاحْتِرَاز مِنْهُ قد خرج بِقَيْد الْحَيْثِيَّة (فَيسلم حد الْغَزالِيّ الْمَتْرُوك مِنْهُ ذَلِك) أَي بالاقتضاء إِلَى آخِره عَن الْإِيرَاد الْمَذْكُور بمراعاة الْحَيْثِيَّة (وَأورد) أَيْضا عَن التَّعْرِيف الْمَذْكُور الحكم (الْمُتَعَلّق بِفعل الصَّبِي من مندوبية صلَاته وَصِحَّة بَيْعه) إِذا كَانَ مُمَيّزا مَأْذُونا، إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (وَوُجُوب الْحُقُوق الْمَالِيَّة فِي ذمَّته) أَي الصَّبِي (وَقَوْلهمْ) فِي جَوَاب هَذَا الْإِيرَاد (التَّعَلُّق) أَي تعلق الْخطاب فِي الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة لَيْسَ بِفعل الصَّبِي بل (بِفعل وليه) فَيجب على وليه أَدَاء الْحُقُوق من مَاله، وَكَذَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ وَصِحَّة بَيْعه مَنُوط بِإِذن لَهُ فِي البيع (دفع بِأَنَّهُ) أَي التَّعَلُّق بِفعل الْوَلِيّ (حكم آخر) مُرَتّب على الحكم الْمُتَعَلّق بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا فِي الْمَالِيَّة، وَأما فِي الْبَدَنِيَّة فَفِي الْأَمر بِالصَّلَاةِ فَانْدفع مَا ذكر، وَأما فِي صِحَة البيع وَالصَّلَاة وَالصَّوْم فَلَا يتَعَلَّق بِفعل الْوَلِيّ خطاب (فَيجب أَن يُقَال) مَكَان الْمُكَلّفين (الْعباد) ذكره صدر الشَّرِيعَة (وَأجِيب) أَيْضا عَن الْإِيرَاد (بِمَنْع تعلق حكم بِهِ) أَي بِفعل الصَّبِي فَلم يطْلب مِنْهُ صَلَاة وَلَا صَوْم وَلَا ندبا (وَالصِّحَّة وَالْفساد) حكمان (عقليان) لَا شرعيان (للاستقلال) أَي لاستقلال الْعقل (بفهم مُطَابقَة الْأَمر) أَي مُوَافقَة الْفِعْل أَمر الشَّارِع وَهُوَ معنى الصِّحَّة (وَعدمهَا) أَي الْمُطَابقَة (فِي الْمَفْعُول) أَي فِيمَا يَفْعَله الْعباد صَبيا كَانَ أَو غَيره والظرف مُتَعَلق بالمعطوف والمعطوف عَلَيْهِ وَعدم الْمُطَابقَة معنى الْبطلَان، وَهَذَا تفسيرهما عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَعند الْفُقَهَاء إِيقَاع الْفِعْل على وَجه ينْدَفع بِهِ الْقَضَاء وَلَا ينْدَفع (وَإِن استعقبا) أَي الصِّحَّة وَالْفساد العقليان (حكما) شَرْعِيًّا إِذا اعتبرا فِي فعل الْمُكَلف وَهُوَ الْأَجْزَاء وَإِسْقَاط مَا فِي الذِّمَّة فِي صِحَة نَحْو: الصَّلَاة وَالصَّوْم وَعدم الْأَجْزَاء فِي إفساده وترتب الْأَثر فِي الْمُعَامَلَات كَالْبيع وَالْإِجَارَة (أَو) هما حكمان (وضعيان) وضع الشَّارِع الصِّحَّة للأجزاء فِي الْعِبَادَة ولترتب الْأَثر فِي الْمُعَامَلَة(2/132)
وَالْفساد لما يقابلهما (وَكَون صلَاته) أَي الصَّبِي (مَنْدُوبَة) مَعْنَاهُ (أَمر وليه بأَمْره) أَي بِأَن يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ إِذا بلغ سبع سِنِين وَإِذا بلغ عشر سِنِين فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا " (لَا خطاب الصَّبِي بهَا ندبا) لِأَن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا بذلك الشَّيْء على مَا هُوَ الْمُخْتَار، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَلَا حَاجَة لنا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ على غير الْمُخْتَار أَيْضا يتم الْمُدَّعِي لِأَن ذَلِك الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ الْمَأْمُور بِالْأَمر الثَّانِي أَهلا للتكليف (وترتب الثَّوَاب لَهُ) أَي للصَّبِيّ على فعلهَا (ظَاهر) إِذْ الثَّوَاب لَيْسَ من لَوَازِم التَّكْلِيف، بل من فَضله تَعَالَى فَإِن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا، وَالصَّبِيّ محسن فِي عمله (وَالْحكم الثَّابِت بِمَا سوى الْكتاب) من السّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (دَاخل) فِي حكمه تَعَالَى (لِأَنَّهُ) أَي الحكم الثَّابِت بأحدها (خطابه تَعَالَى، وَالثَّلَاثَة) الْمَذْكُورَة (كاشفة) عَنهُ (وَبِهَذَا الْقدر) من الْكَشْف (قيل) هِيَ (مثبتة) للْحكم (وتركهم عد نظم الْقُرْآن مِنْهُ) أَي الكاشف (سد لطريق التحريف) أَي وَلم يقل لنظم الْكتاب أَنه كاشف مَعَ أَنه فِي الْكَشْف مثلهَا سدا لطريق التحريف وَالنَّفْي بِأَن يُقَال لَيْسَ كَلَامه بل هُوَ كاشف عَنهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن هَذَا الْمَانِع (فَهُوَ) أَي نظم الْقُرْآن (الكاشف عَن) الْخطاب (النَّفْسِيّ) الْقَائِم (بِالذَّاتِ) الْمُقَدّس، أَو هُوَ احْتِرَاز عَن النَّفْسِيّ لَا بِالذَّاتِ، وَهُوَ النّظم فَإِنَّهُ نَفسِي بِاعْتِبَار دلَالَته على النَّفْسِيّ بِالذَّاتِ (ثمَّ قيل) التَّعْرِيف (الصَّحِيح) خطابه تَعَالَى الْمُتَعَلّق (بِفعل الْمُكَلف ليدْخل خصوصيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي ليدْخل فِي التَّعْرِيف خطابه تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل أَو ترك مَخْصُوص بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه خطاب يتَعَلَّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، وَكَذَا الْخطاب الْمُتَعَلّق بِصِحَّة شَهَادَة خُزَيْمَة وَحده (وَلَا يُفِيد) الْعُدُول عَن الْمُكَلّفين إِلَى الْمُكَلف ذَلِك (لِأَنَّهُ) أَي الْمُكَلف (كالمكلفين عُمُوما) أَي مثله فِي الْعُمُوم: إِذْ لَا فرق بَين الْجمع الْمحلي بلام الِاسْتِغْرَاق والمفرد الْمحلي بهَا، لِأَن اللَّام تبطل الجمعية، ويستغرق أَفْرَاد الْجِنْس كالمفرد، ثمَّ احْتَرز عَن إِفَادَة الْعُمُوم، فَقيل مُكَلّف بِغَيْر لَام الِاسْتِغْرَاق (وَيدْفَع) أصل الِاعْتِرَاض (بِأَن صدق عُمُوم الْمُكَلّفين) فِي خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلّفين (لَا يتَوَقَّف على صُدُور كل فعل) مِمَّا تعلق بِهِ الْخطاب (من كل مُكَلّف، بل لَو انقسمت الْآحَاد) من الْأَفْعَال (على الْآحَاد) من الْمُكَلّفين لاقتضى تقَابل الْجمع بِالْجمعِ توزيع الْآحَاد على الْآحَاد (صدق) الْعُمُوم (أَيْضا) فَيصدق التَّعْرِيف على الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل مَخْصُوص بمكلف خَاص: هَذَا وَيجوز أَن يكون من قبيل: فلَان يركب الْخَيل وَإِن لم يركب إِلَّا وَاحِد مِنْهَا، فَالْمُرَاد تعلقه بِجِنْس فعل الْمُكَلف (ثمَّ الِاقْتِضَاء إِن كَانَ حتما لفعل غير كف) للنَّفس عَن فعل وَذَلِكَ بِعَدَمِ تَجْوِيز الطَّالِب ترك ذَلِك الْفِعْل، قيد الْفِعْل بِكَوْنِهِ غير كف، لِأَنَّهُ(2/133)
لَو كَانَ كفا لَكَانَ تَحْرِيمًا (فالإيجاب) أَي فِي هَذَا الِاقْتِضَاء (وَهُوَ) الْإِيجَاب، وَقد عرفت أَن الِاقْتِضَاء هُوَ نفس الْكَلَام الْمَذْكُور (هُوَ) أَي الْإِيجَاب (نفس الْأَمر النَّفْسِيّ، وَيُسمى وجوبا أَيْضا بِاعْتِبَار نسبته إِلَى الْفِعْل) يَعْنِي أَن الْإِيجَاب وَالْوُجُوب متحدان بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ، بِاعْتِبَار الْقيام بِذَاتِهِ تَعَالَى إِيجَاب، وَبِاعْتِبَار تعلقه بِفعل العَبْد وجوب (وَهُوَ) أَي الْوُجُوب بِهَذَا الْمَعْنى (غير) المُرَاد فِي (الْإِطْلَاق الْمُتَقَدّم) فَإِن الْمَذْكُور ثمَّة أَن الْوُجُوب يُقَال لأثر الْخطاب وَهُوَ صفة فعل الْمُكَلف لَا نفس الْإِيجَاب بِاعْتِبَار نسبته إِلَى الْفِعْل، وَأورد عَلَيْهِ أَنه يُقَال أوجب الْفِعْل فَوَجَبَ، فالإيجاب صفة الْمُوجب، وَالْوُجُوب مترتب عَلَيْهِ صفة لمتعلق فعله، فَلَا اتِّحَاد، وَقَرِيب من هَذَا مَا قيل: من أَن الْإِيجَاب من مقولة الْفِعْل، وَالْوُجُوب من مقولة الانفعال، وَقد يُقَال إِن القَوْل بالاتحاد على سَبِيل الْمُسَامحَة، أَو لَيْسَ المُرَاد بهما مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُمَا: بل أَمر وَاحِد لَهُ اعتباران بِالْقِيَاسِ إِلَى الْأَمر والمأمور بِهِ بِكُل اعْتِبَار لَهُ اسْم وَالله أعلم. (أَو) كَانَ (تَرْجِيحا) لفعل غير مُكَلّف (فالندب، أَو لكف حتما) صرح بحتما مَعَ أَنه كَانَ يفهم بِمُوجب الْعَطف لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بالْعَطْف مُجَرّد التَّشْرِيك فِي الطّلب (فالتحريم) أَي فَهَذَا الِاقْتِضَاء التَّحْرِيم (وَالْحُرْمَة) المتحدان بِالذَّاتِ المختلفان (بِالِاعْتِبَارِ غير مَا تقدم) أَي المُرَاد بِالْحُرْمَةِ هُنَا غير مَا تقدم أَن المُرَاد ثمَّة أثر الْخطاب صفة للكف، وَهَهُنَا نفس التَّحْرِيم (وَظهر مَا قدمنَا من فَسَاد تعريفهم الْأَمر وَالنَّهْي النفسيين بتركهم) لفظ (حتما) فِي تعريفي الْأَمر وَالنَّهْي النفسيين بِطَلَب صلَة التَّعْرِيف الخ أَي طلب فعل غير كف من غير ذكر حتما، وَمن غير استعلاء، وَيفْسد التّرْك الْمَذْكُور طردهما أَي طرد تَعْرِيف الْأَمر الإيجابي النَّفْسِيّ لصدقه على الندبي، وتعريف النَّهْي النَّفْسِيّ التحريمي لصدقه على الكرهي (وَكَذَا) ظهر مِمَّا ذكر الْفساد (بترك الاستعلاء فِي التَّقْسِيم) أَي تَقْسِيم الطّلب إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي، وَالدُّعَاء والالتماس، وَاعْتِبَار الاستعلاء إِنَّمَا هُوَ فِي الْقسم الَّذِي هُوَ مقسم الْأَوَامِر والنواهي، وَفَسَاد التَّقْسِيم بِاعْتِبَار عدم امتياز الْقسم الْمَذْكُور عَن قسميه، فَإِذا لم يعْتَبر فِي جَانب الْأَمر وَالنَّهْي الاستعلاء صدق تعريفاهما المستنبطان من التَّقْسِيم على نظيريهما من الدُّعَاء والالتماس على مَا سيشير إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ظهر هَذَا الْفساد من اعْتِبَار الحتم لكَون الاستعلاء نَظِير الحتم فِي أَن تَركه مَحل للطرد، والذهن ينْتَقل من أحد النظيرين إِلَى الآخر (لِأَنَّهُ) أَي التَّقْسِيم (يخرج التَّعْرِيف) لِأَن التَّقْسِيم عبارَة عَن ضم الْقُيُود الْمُخَالفَة إِلَى الْمقسم بِحَيْثُ يحصل بانضمام كل قيد قسم فالمجموع الْمركب من الْمقسم وَذَلِكَ الْقَيْد تَعْرِيف لذَلِك الْقسم، وَقيد الاستعلاء لَا بُد مِنْهُ فِي الْأَمر وَالنَّهْي لما عرفت (هَذَا) الَّذِي ذكرنَا فِي تَحْقِيق ماهيتي الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ (بِاعْتِبَار نفسهما) وبحسب حَالهمَا فِي حدّ ذاتهما فِي نفس الْأَمر،(2/134)
وَأما بِحَسب اطلاعنا عَلَيْهِمَا فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أما بِاعْتِبَار الِاتِّصَال) إِلَيْنَا بالألفاظ الدَّالَّة عَلَيْهِمَا (فَكَذَلِك عِنْد غير الْحَنَفِيَّة) أَي تَفْسِير الْإِيجَاب بِطَلَب الْفِعْل غير الْكَفّ من غير مُلَاحظَة حَال الدَّال، وَهَكَذَا فِي التَّحْرِيم (وَأما هم) أَي الْحَنَفِيَّة فلاحظوا ذَلِك فَقَالُوا (فَإِن ثَبت الطّلب الْجَازِم بقطعي) متْنا وَدلَالَة من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع (فالافتراض) إِن كَانَ الْمَطْلُوب غير كف (وَالتَّحْرِيم) إِن كَانَ كفا (أَو) ثَبت الطّلب الْجَازِم (بظني) دلَالَة من كتاب أَو دلَالَة، أَو ثبوتا من سنة أَو إِجْمَاع (فالإيجاب) فِي غير الْكَفّ (وَكَرَاهَة التَّحْرِيم) فِي الْكَفّ (ويشار كانهما) أَي الْإِيجَاب وَكَرَاهَة التَّحْرِيم الافتراض وَالتَّحْرِيم (فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب بِالتّرْكِ) لما هُوَ الْمَطْلُوب مِنْهُ (وَعنهُ) أَي عَن التشارك فِي الِاسْتِحْقَاق. (قَالَ مُحَمَّد كل مَكْرُوه حرَام) مرِيدا بِهِ (نوعا من التَّجَوُّز) فِي لفظ حرَام بِاعْتِبَار التشارك الْمَذْكُور (وَقَالا) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (على الْحَقِيقَة) الْمَكْرُوه (إِلَى الْحَرَام أقرب) مِنْهُ إِلَى الْمحل، وَإِنَّمَا قُلْنَا نوعا من التَّجَوُّز (للْقطع بِأَن مُحَمَّدًا لَا يكفر جَاحد الْوُجُوب وَالْمَكْرُوه) كَمَا يكفر جَاحد الْفَرْض وَالْحرَام (فَلَا اخْتِلَاف) بَينه وَبَينهمَا فِي الْمَعْنى (كَمَا يظنّ) .
مسئلة
(أَكثر الْمُتَكَلِّمين) ذَهَبُوا إِلَى أَنه (لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل) كسبي سَوَاء كَانَ فعل الْجَوَارِح أَو الْقلب (وَهُوَ) أَي الْفِعْل الْمُكَلف بِهِ (فِي النَّهْي كف النَّفس عَن الْمنْهِي) جَوَاب سُؤال وَهُوَ أَن الْمُكَلف بِهِ فِي النَّهْي عدم الْإِتْيَان بالمنهي عَنهُ وَهُوَ أَمر أُصَلِّي حَاصِل وَلَيْسَ بِفعل وَحَاصِل الْجَواب أَن الْمُكَلف بِهِ لَيْسَ الْعَدَم الْأَصْلِيّ، بل هُوَ كف النَّفس عَن ميلها إِلَى الْمنْهِي عَنهُ، والكف فعل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويستلزم) كَون الْفِعْل الْمُكَلف بِهِ فِي النَّهْي كف النَّفس (سبق الداعية) أَي دَاعِيَة النَّفس إِلَى الْمنْهِي عَنهُ (فَلَا تَكْلِيف قبلهَا) أَي الداعية (تنجيزا) إِذْ لَو طلب مِنْهُ مُنجزا كف النَّفس عَن فعل لَيْسَ لَهَا دَاعِيَة لزم التَّكَلُّف بِمَا لَا يُطَاق: إِذْ لَا يتَصَوَّر كف النَّفس عَن شَيْء لم ترده وَلم تمل إِلَيْهِ فَإِذن يكون نَحْو: لَا تقربُوا الزِّنَا تَعْلِيق الْكَفّ أَي إِذا طلبته نَفسك فكفها عَنهُ، فَظهر فَائِدَة قَوْله تنجيزا فَإِن قيل لزم حِينَئِذٍ فَوَات فَضِيلَة امْتِثَال نهي شرب الْخمر لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ لما قيل من أَنه لم تطلب نَفسه الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام قُلْنَا لَا نقض فِيهِ مَعَ وجود مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِيهِ، وَهُوَ هَذَا النَّوْع من الْعِصْمَة (وَكثير من الْمُعْتَزلَة) مِنْهُم أَبُو هَاشم قَالُوا: الْمُكَلف بِهِ فِي النَّهْي (عَدمه) أَي الْفِعْل (لنا لَا تَكْلِيف إِلَّا بمقدور) كَمَا سَيَأْتِي (والعدم غَيره) أَي غير مَقْدُور(2/135)
(إِذْ لَيْسَ) الْعَدَم (أَثَرهَا) أَي الْقُدْرَة (وَلَا استمراره) أَي وَلَا اسْتِمْرَار الْعَدَم أثر الْقُدْرَة، لِأَن الْعَدَم نفي مَحْض، وَلما نظر فِي هَذَا ابْن الْحَاجِب وَغَيره وَقرر فِي الشَّرْح العضدي بِأَنا لَا نسلم أَن اسْتِمْرَار الْعَدَم لَا يصلح أثر للقدرة إِذْ يُمكنهُ أَن لَا يفعل فيستمر، وَأَيْضًا يَكْفِي فِي طرف النَّفْي أثرا أَنه لم يَشَأْ فَلم يفعل، وَذَلِكَ لِأَن الْفَاء المتوسطة بَين عدم الْمَشِيئَة وَعدم الْفِعْل تدل على ترَتّب الثَّانِي على الأول، والمترتب على الشَّيْء أثر لَهُ، وَفِيه نظر: إِذْ الترتب إِنَّمَا يسْتَلْزم المعلولية، وكل مَعْلُول لَا يلْزم أَن يكون أثر الْعلية: أَلا ترى أَن الْمَشْرُوط مَعْلُول الشَّرْط، وَلَا يُقَال أَنه أثر لَهُ. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَحَاصِله أَنا لَا نفسر الْقَادِر بِالَّذِي إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك بل بِالَّذِي إِن شَاءَ فعل وَإِن لم يَشَأْ لم يفعل، فَدخل فِي الْمَقْدُور عدم الْفِعْل إِذْ ترَتّب على عدم الْمَشِيئَة وَكَانَ الْفِعْل مِمَّا يَصح ترتبه على الْمَشِيئَة، وَتخرج العدميات الَّتِي لَيست كَذَلِك: أَشَارَ المُصَنّف إِلَيْهِ ورده، فَقَالَ (وَتَفْسِير الْقَادِر بِمن إِن شَاءَ فعل، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَشَأْ (لم يفعل، لَا) بِمن إِن شَاءَ فعل (وَإِن شَاءَ ترك، وَكَونه لم يَشَأْ فَلم يفعل) كَمَا يَقْتَضِيهِ التَّفْسِير الأول بِإِدْخَال الْفَاء الدَّاخِلَة على ترَتّب مدخولها على مَا قبله الموهمة كَون الْعَدَم أثرا لعدم الْمَشِيئَة (لَا يُوجب اسْتِمْرَار) الْعَدَم (الْأَصْلِيّ أثر الْقُدْرَة بِهِ) أَي الْمُكَلف: أَي يُوجب كَون الِاسْتِمْرَار الْمَذْكُور أثرا لَهَا (فَيكون ممتثلا للنَّهْي) فَقَوله تَفْسِير الْقَادِر مُبْتَدأ عطف عَلَيْهِ كَونه إِلَى آخِره، وَقَوله لَا يُوجب خَبره (بل عدم مَشِيئَة الْفِعْل أصلا) بِأَن لم يتَعَلَّق بِهِ مَشِيئَة لَا وجودا وَلَا عدما (صُورَة عدم الشُّعُور بالتكلف) يَعْنِي أَنَّك بدلت إِن شَاءَ ترك فِي تَفْسِير الْقَادِر بِأَن لم يَشَأْ لم يفعل ليصير عدم الْفِعْل مَقْدُورًا للمكلف، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمت: إِذْ الْمُكَلف لَا يَخْلُو من أَن يكون لَهُ شُعُور بِالنَّهْي أَو لَا، وعَلى الثَّانِي جعل اسْتِمْرَار الْعَدَم الْأَصْلِيّ أثر الْقُدْرَة، وامتثالا للنَّهْي مِمَّا لَا يرتضيه عَاقل: إِذْ الِامْتِثَال للنَّهْي فرع الشُّعُور بِهِ، وَأثر قدرَة الْفَاعِل الْمُخْتَار يجب أَن يكون مشعورا بِهِ إِذا كَانَ مَقْصُود الْحُصُول بِهِ، وَأما على الأول فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَأما مَعَه) أَي مَعَ الشُّعُور بِالنَّهْي (فَلَيْسَ الثَّابِت) من حَيْثُ قصد الِامْتِثَال اللَّازِم للشعور بِهِ بِمُوجب الْإِيمَان (إِلَّا مَشِيئَة عدم الْفِعْل وَإِن عبر عَنهُ) أَي عَن مَشِيئَة عدم الْفِعْل، والتذكير لكَونه مصدرا (بِعَدَمِ مَشِيئَته) أَي الْفِعْل تسامحا (فَيتَحَقَّق التّرْك) حِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَة فِي الْعُدُول عَن الأول إِلَى الثَّانِي (وَهُوَ) أَي التّرْك (فعل إِذا طلبته) النَّفس (ويثاب) الْمُكَلف (على هَذَا الْعَزْم) الَّذِي هُوَ مَشِيئَة عدم الْفِعْل إِن كَانَ لله من غير طلب النَّفس إِيَّاه (لَا) يُثَاب (على امْتِثَال النَّهْي) حِينَئِذٍ (إِذْ لم يُوجد) الِامْتِثَال بِمُجَرَّد الْعَزْم بل عِنْد الطّلب والكف وَأَيْضًا لَا نسلم الْفرق بَين التفسيرين بِأَن يصير الِاسْتِمْرَار على الأول مَقْدُورًا دون الثَّانِي، إِذْ(2/136)
لم يعْتَبر فِي شَيْء مِنْهَا تحقق الْمَشِيئَة بل يَكْفِي فَرضهَا، والمكلف الَّذِي لَا شُعُور لَهُ بالمنهي عَنهُ، وبعدمه يصدق عَلَيْهِ إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِمْرَار الْمَذْكُور وَالْفِعْل وَالتّرْك ملحوظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلق الْعَدَم المستمر فَتدبر.
مسئلة
(الْقُدْرَة شَرط التَّكْلِيف بِالْعقلِ) أَي بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ (عِنْد الْحَنَفِيَّة والمعتزلة لقبح التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق) مثلا (عقلا واستحالة نِسْبَة الْقَبِيح) اللَّازِمَة للتكليف بِمَا لَا يُطَاق (إِلَيْهِ تَعَالَى) وَهَذَا الدَّلِيل يُفِيد كَونهَا شَرط جَوَاز التَّكْلِيف، وَيلْزم مِنْهُ كَونهَا شَرط وُقُوعه بِالطَّرِيقِ الأولي، (و) شَرطه (بِالشَّرْعِ) أَي بِالدَّلِيلِ السمعي عِنْد الأشاعرة، وَالدَّلِيل (للأشاعرة) قَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله} الْآيَة) أَي نفسا إِلَّا وسعهَا وَلَا يخفى أَنه يُفِيد كَونهَا شرطا للوقوع: إِذْ مَدْلُول قَوْله تَعَالَى - {لَا يُكَلف الله} - عدم وُقُوع التَّكْلِيف، لَا عدم جَوَازه، وسيشير إِلَيْهِ (فِي الْمُمكن) لذاته ظرف لاشْتِرَاط الْقُدْرَة بِالشَّرْعِ عِنْد الأشاعرة: إِذْ فِي اشْتِرَاطهَا بِالشَّرْعِ فِي غير الْمُمكن لذاته خلاف كَمَا سَيذكرُهُ (كحمل جبل) بدل من الْمُمكن، أَو مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف لَا يُكَلف بِهِ عقلا عِنْد الْأَوَّلين، وَشرعا عِنْد الأشاعرة: يَعْنِي لم يَقع التَّكْلِيف بِهِ (وَلَو كلف بِهِ حسن) عِنْد الأشاعرة (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة فرع (مسئلة التحسين والتقبيح) فَمن جَعلهمَا عقليين حكم بِعَدَمِ جَوَاز التَّكْلِيف بِمثل حمل الْجَبَل: إِذْ الْعقل يحكم بقبحه، وَمن لم يجعلهما عقليين حسن عِنْده ذَلِك لقَوْله تَعَالَى - {يفعل الله مَا يَشَاء} -، ونظائره (وَاخْتلفُوا) أَي الأشاعرة (فِي الْمحَال لذاته) كالجمع بَين النقيضين (فَقيل عدم جَوَازه) أَي التَّكْلِيف بالمحال لذاته (شَرْعِي لِلْآيَةِ) الْمَذْكُورَة (فَلَو كلف الْجمع بَين الضدين) كالحركة والسكون فِي زمَان وَاحِد لجسم وَاحِد (جَازَ) . قَالَ الشَّارِح عقلا، وَيرد عَلَيْهِ أَن الْعقل لَا يحكم بِالْجَوَازِ وَعَدَمه عِنْد الْأَشْعَرِيّ فَالظَّاهِر أَن المُرَاد شرعا، إِذْ على تَقْدِير فرض التَّكْلِيف - {لَا يسئل عَمَّا يفعل} -، وكل مَا يَفْعَله حسن شرعا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مُرَاده بِالْجَوَازِ عقلا أَن الْعقل لَا يحكم بقبحه: إِذْ لَا حكم لَهُ فِي التحسين والتقبيح (وَنسب) هَذَا القَوْل (للأشعري) أَي إِلَيْهِ (وَقيل) عدم جَوَازه (عَقْلِي لملزومية الطّلب تصور الْمَطْلُوب) يَعْنِي أَن التَّكْلِيف بِفعل طلب لَهُ، وَطلب الْفِعْل يسْتَلْزم أَن يتَصَوَّر الطَّالِب وُقُوعه لَا يُقَال لَا حجر فِي التَّصَوُّر، فَيجوز أَن يتَصَوَّر وُقُوع الْمحَال لِأَن المُرَاد تصَوره، على وَجه يجوز وُقُوعه فِي الْخَارِج لَا على سَبِيل فرض الْمحَال كَمَا سيشير إِلَيْهِ (على وَجه المطلوبية) أَي تصورا على وَجه تعلق الطّلب بِهِ على ذَلِك الْوَجْه (فيتصور) الْمَطْلُوب للطَّالِب(2/137)
(مثبتا) إِذْ هُوَ مَطْلُوبه من حَيْثُ الثُّبُوت والوقوع (وَهُوَ) أَي تصور الْمحَال مثبتا (تصور الْمَلْزُوم ملزوما لنقيض اللَّازِم) فَإِنَّهُ إِذا فرض أَرْبَعَة مَوْصُوفَة بنقيض لازمها الَّذِي هُوَ الزَّوْجِيَّة تحقق تصور الْمَلْزُوم الَّذِي هُوَ الْأَرْبَعَة مَوْصُوفا لكَونه ملزوما لنقيض اللَّازِم: أما ملزوميتها فبحسب نفس الْأَمر، وَأما ملزوميتها للنقيض فبمقتضى الْفَرْض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتصور أَرْبَعَة لَيْسَ زوجا) فِي الْمَآل (تصور أَرْبَعَة لَيست أَرْبَعَة) إِذْ الزَّوْجِيَّة لَازِمَة لَهَا، وَانْتِفَاء اللَّازِم يسْتَلْزم انْتِفَاء الْمَلْزُوم (ونوقض) هَذَا الدَّلِيل (بِلُزُوم امْتنَاع الحكم بامتناعه) أَي الْمُمْتَنع صلَة للْحكم (خَارِجا) ظرف للامتناع: يَعْنِي كَمَا أَن تصور الْمحَال مثبتا مُسْتَلْزم لما ذكرْتُمْ كَذَلِك الحكم بامتناع الْمُمْتَنع فِي الْخَارِج مُسْتَلْزم لَهُ (لِأَنَّهُ) أى الحكم بامتناع خَارِجا (فرع تصَوره) أى الْمُمْتَنع (خَارِجا) فالممتنع لَازمه عدم التحقق فِي الْخَارِج، وَإِذا تصورته مثبتا لزم تصور وُقُوعه فِيهِ، والوقوع فِيهِ نقيض اللاوقوع فِيهِ فَلَزِمَ تصور الْمَلْزُوم ملزوما لنقيض اللَّازِم (أُجِيب) عَن النَّقْض الْمَذْكُور (بِأَن اللَّازِم) للْحكم بالامتناع على الْمُمْتَنع (تصَوره) أَي تصور الْمُمْتَنع الْمَحْكُوم عَلَيْهِ مُطلقًا (لَا) تصَوره (بِقَيْد إثْبَاته) بِأَن يجوز الْعقل ثُبُوته فِي الْخَارِج ملزوما للوازمه كَمَا يلْزم عِنْد طلب الْفِعْل (وَهُوَ) أَي تصَوره بِقَيْد الْإِثْبَات (الْمُمْتَنع) لَا تصَوره مُطلقًا (فيتصور) الْحَاكِم (الْجمع بَين المختلفات) الْغَيْر المتضادة كالحلاوة وَالْبَيَاض فِي الحكم بِأَن الضدين لَا يَجْتَمِعَانِ (وبنفيه) أَي الِاجْتِمَاع (عَنْهُمَا) أَي الضدين وَالْحَاصِل أَن الَّذِي لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج، وَأَنت قصدت الحكم عَلَيْهِ بِنَفْي الْوُجُود مثلا لَا يحْتَاج إِلَى تصور مورد النَّفْي على وَجه يجوز ثُبُوته فِي الْخَارِج بل يَكْفِيك تصَوره على وَجه الْفَرْض، فَإِذا قصدت أَن تحكم على الضدين بِنَفْي الِاجْتِمَاع تتَصَوَّر لَهما اجتماعا كاجتماع المختلفات الْغَيْر المتضادة، ثمَّ تنفيه (وَهُوَ) أَي تصور الْجمع بَينهمَا على الْوَجْه الْمَذْكُور (كَاف) فِي الحكم الْمَذْكُور (بِخِلَاف مَا) أَي تصور (يستدعيه طلب إثْبَاته) أَي الْفِعْل (فِي الْخَارِج) فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من تصَوره بِقَيْد الْإِثْبَات، وَقد عرفت مَعْنَاهُ: هَذَا كَلَام الْقَوْم فِي هَذَا الْمقَام، ثمَّ أَفَادَ مَا هُوَ التَّحْقِيق عِنْده بقوله (وَالْحق أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ إِمْكَان كلفتك الْجمع بَينهمَا) أَي الضدين: يَعْنِي أَن كَلَامهم يَسْتَدْعِي عدم إِمْكَان التَّكْلِيف بالمحال لملزومية الطّلب إِلَى آخِره، وَالْعلم الضَّرُورِيّ يحكم بإمكانه فاستدلالهم هَذَا مصادم للْعلم الضَّرُورِيّ فَلَا يعْتَبر (وَهُوَ) أَي وُقُوع مُتَعَلق هَذَا الْإِمْكَان (أما فرع قَوْله) تَعَالَى (النَّفْسِيّ ذَلِك) أَي معنى كلفتك الْجمع بَينهمَا على رَأْي من يثبت الْكَلَام النَّفس لَهُ (أَو) فرع (الْعلم) بِمَعْنى هَذَا على رَأْي من لم يثنه (فَإِن استدعى) هَذَا التَّكْلِيف (قدرا من التعقل) للطَّالِب أَو للمكلف: يَعْنِي تصور الْمَطْلُوب على وَجه المطلوبية مثبتا وَإِلَّا فَأصل التحقق(2/138)
لَا شُبْهَة فِيهِ فَلَا يُنَاسب كلمة الشَّك، وَحِينَئِذٍ قَوْله (فقد تحقق) لَك الْقدر غير مُسْتَقِيم: إِذْ تَجْوِيز وُقُوع الْمحَال محَال، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن الحكم بالتحقق على تَقْدِير الاستدعاء يسْتَلْزم الحكم بِهِ مُطلقًا غير أَنه لَا يَسْتَقِيم حِينَئِذٍ قَوْله (وَلَا حَاجَة لنا إِلَى تَحْقِيقه) أَي تصَوره مثبتا بِحَيْثُ يجوز الْعقل وُقُوعه وَلَا مخلص إِلَّا بِالْتِزَام حمله كلمة الشَّك على خلاف الظَّاهِر، وَإِرَادَة قدر مَا من التعقل وَالله أعلم (وَأَيْضًا يُمكن تصور الثُّبُوت بَين الخلافين فيكلف بِهِ) أَي بالثبوت (بَين الضدين) مَعْطُوف على قَوْله وَالْحق وَحَاصِله أَي الْمَنْع توقف التَّكْلِيف بِالْجمعِ بَين الضدين على تصَوره وَاقعا، بل يَكْفِي فِيهِ تصور الِاجْتِمَاع كَمَا يَكْفِي فِي الحكم على مَا ذكر (وَحَدِيث تصور المستحيل) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله وَهُوَ تصور الْمَلْزُوم ملزوما لنقيض اللَّازِم إِلَى آخِره (بِمَا فِيهِ) أَي مَعَ مَا فِيهِ من الْبَحْث المفاد بقوله وَأجِيب إِلَى آخِره (لَا وُقُوع لَهُ بعد مَا ذكرنَا) من أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ إِمْكَان كلفتك الْجمع بَينهمَا (وَلَا خلاف فِي وُقُوع التَّكْلِيف بالمحال لغيره كَمَا) أَي كالفعل الَّذِي (علم) الله (سُبْحَانَهُ عدم كَونه) أَي تحَققه فِي الْخَارِج، وَمَعَ هَذَا كلف بِهِ، وَلما استدلوا بِهَذَا التَّكْلِيف على جَوَاز التَّكْلِيف بالمحال لذاته وَكَانَ ذَلِك غير موجه أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَالْوَجْه أَنه) أَي مَا علم الله سُبْحَانَهُ عدم كَونه (لم يَتَّصِف بالاستحالة) الَّتِي هِيَ مَحل النزاع (لذَلِك) أَي لعلمه سُبْحَانَهُ بِعَدَمِ كَونه (لِاسْتِحَالَة اجتماعه) أَي اجْتِمَاع كَونه محالا (مَعَ الْإِمْكَان) الثَّانِي الْمَوْجُود فِيهِ اتِّفَاقًا (بل هُوَ) أَي مَا علم سُبْحَانَهُ عدم كَونه (مُمكن مَقْطُوع بِعَدَمِ وُقُوعه فاستدل الْمُجِيز) لوُقُوع التَّكْلِيف بالمستحيل لذاته (بِهِ) أَي بِوُقُوع التَّكْلِيف بالممكن الْمَقْطُوع بِعَدَمِ وُقُوعه كَلَام وَقع (فِي غير مَحل النزاع، و) مَعَ كَونه كلَاما فِي غير مَحل النزاع (يَقْتَضِي وُقُوع تَكْلِيف المستحيل لنَفسِهِ اتِّفَاقًا) فَلَا وَجه لجعله دَلِيلا على جَوَاز وُقُوع التَّكْلِيف بالمحال لذاته وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا لم يفرق بَين الْمحَال لغيره والمحال لذاته ويجعله محالا لذاته، وَمَا علم سُبْحَانَهُ عدم كَونه قد كلف بِهِ اتِّفَاقًا لزم من هَذَا الِاتِّفَاق على وُقُوع التَّكْلِيف بالمستحيل لذاته (والاتفاق) بَين الأشاعرة (على نَفْيه) أَي وُقُوع التَّكْلِيف بالمستحيل لذاته كغيرهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الِاتِّفَاق مِنْهُم على نَفْيه (ناقضوا الْآيَة) أَي لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لدلالته على نفي الْوُقُوع صَرِيحًا (وَالْخلاف فِي جَوَازه) لَا غير (وَكَذَا استدلالهم) على جَوَاز التَّكْلِيف بالمحال لذاته (بِأَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل) فَقبل الْفِعْل لَا قدرَة لَهُ وصدور الْفِعْل من غير قدرَة محَال، وَقد كلف بِالْفِعْلِ قبله اتِّفَاقًا كَلَام فِي غير مَحل النزاع وَيَقْتَضِي الِاتِّفَاق على وُقُوع التَّكْلِيف بالمحال وَقَوله (وَهُوَ مَخْلُوق لَهُ تَعَالَى) لإِفَادَة أَن الْمَعِيَّة لَا تضر لكَون الْفِعْل يُوجد بتأثير قدرَة الْخَالِق من غير تَأْثِير لقدرة الْمَخْلُوق وَمن غير مدخلية لَهَا فَلَيْسَتْ من أَجزَاء الْعلَّة فليزم تقدمها غير أَنه لَو فرض مدخليتها أَيْضا لم يلْزم(2/139)
تقدمها زَمَانا، وَالْمرَاد معيتها زَمَانا، فَالْوَجْه أَن يَجْعَل دَلِيلا مُسْتقِلّا كَمَا فِي الشَّرْح العضدي، وَأما فَائِدَة إِثْبَات هَذِه الْقُدْرَة فَسَيَأْتِي بَيَانهَا (وَمِنْه) أَي وَمِمَّا ذكر من أَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل وَأَن الْفِعْل مَخْلُوق لَهُ تَعَالَى، وَمن هَذَا الِاسْتِدْلَال (ألزم الْأَشْعَرِيّ القَوْل بِهِ) أَي بتكليف الْمحَال وَإِلَّا فَهُوَ لم يُصَرح بِهِ (وَيلْزم) أَيْضا من هَذَا الِاسْتِدْلَال (كَون كل مَا كلف بِهِ محَال لذاته) قَالَ الشَّارِح: أَي فَهُوَ محَال لذاته، وَالْوَجْه الظَّاهِر محالا انْتهى وَلَا يخفى سماجة هَذَا التَّأْوِيل فَالْوَجْه أَن يُقَال سقط الْألف عَن الْقَلَم سَهوا، وَإِنَّمَا يلْزم ذَلِك لِأَن كَون الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل مُوجب للاستحالة الذاتية على رَأْيه، وَهَذَا مَوْجُود فِي كل تَكْلِيف (وَقَوْلهمْ) أَي المجيزين لوُقُوع التَّكْلِيف بالمحال لذاته (وَقع) التَّكْلِيف بِهِ إِذا (كلف أَبُو لَهب) أَي كلفه الله تَعَالَى (بالتصديق بِمَا أخبر) بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْمَاعًا (وَأخْبر) أَي أخبرهُ الله تَعَالَى وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنه) أَي أَبَا لَهب (لَا يصدقهُ) التزاما لإخباره بِأَنَّهُ من أهل النَّار بقوله - {سيصلى نَارا ذَات لَهب} - (وَهُوَ) أَي تَكْلِيفه بالتصديق بِمَا أخبر على الْعُمُوم لَا بِخُصُوص هَذَا الْأَخْبَار (تَكْلِيف بِأَن يصدقهُ فِي أَنه لَا يصدقهُ وَهُوَ) أَي تَصْدِيقه فِي أَنه لَا يصدقهُ (محَال لنَفسِهِ) لِأَن تحَققه يسْتَلْزم عدم تحَققه إِذْ مُتَعَلّقه عدم التَّصْدِيق الْمُطلق الَّذِي هُوَ من أَفْرَاده، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لاستلزام تَصْدِيقه عدم تَصْدِيقه) وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر الْإِضْمَار بِأَن يَقُول عَدمه، لَكِن لما كَانَ لُزُوم عَدمه فِي ضمن عدم التَّصْدِيق مُطلقًا أَشَارَ إِلَيْهِ بِوَضْع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر بِأَن يَقُول عَدمه
وَيرد عَلَيْهِ أَن المستلزم لعدم التَّصْدِيق وَتحقّق مَضْمُون مُتَعَلّقه فِي الْخَارِج، لَا فِي ذهن الْمُصدق والتصديق الْمَذْكُور إِنَّمَا يسْتَلْزم تحقق الْمَضْمُون فِي الذِّهْن لَا فِي الْخَارِج، فغاية الْأَمر لُزُوم كَون التَّصْدِيق لما فِي نفس الْأَمر وَيُجَاب بِأَن الْمُكَلف بِهِ التَّصْدِيق اليقيني الْمُطلق لما فِي نفس الْأَمر قطعا، وَأَيْضًا كَيفَ يصدق بِعَدَمِ تَصْدِيقه إِيَّاه مُطلقًا حَال كَونه مُصدقا إِيَّاه فِي أَنه لَا يصدقهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال يجوز أَن لَا يكون عَالما بِعِلْمِهِ (غلط) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي قَوْلهم، لم يُصَرح بِوَجْه الْغَلَط لِكَثْرَة وجوهه مَعَ الِاعْتِمَاد على مَا يفهم بطرِيق الْإِشَارَة: مِنْهَا أَنه مَبْنِيّ على أَنه تَعَالَى أخبر بِأَنَّهُ لَا يصدق وَجعل هَذَا الْخَبَر بِخُصُوصِهِ مُتَعَلق إيمَانه وَلم يثبت شَيْء مِنْهُمَا، أما الأول فَلِأَن صلية النَّار يحْتَمل أَن يكون بالارتداد بعد التَّصْدِيق فَلَا ينتهض حجَّة، وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا يجب أَن يكون كل مَا أخبر بِهِ مُطلقًا للْإيمَان تَفْصِيلًا، وَمِنْهَا أَنه لَو سلم تَكْلِيفه بالتصديق الْمَذْكُور لم يكن محالا لذاته إِذْ لَا يسْتَلْزم تحَققه عدم تحَققه إِلَّا بِشُبْهَة كَونه مطابقا للْوَاقِع، وَهَذَا الْكَوْن خَارج عَن ذَاته فَلَا يسْتَلْزم تحَققه لذاته عدم تحَققه فَلَا يكون محالا لذاته (بل هُوَ) أَي تَكْلِيف أبي لَهب بالتصديق تَكْلِيف (بِمَا علم الله عدم وُقُوعه فَهُوَ) محَال (لغيره) وَهُوَ تعلق الْعلم(2/140)
الأزلي بِعَدَمِ تَصْدِيقه فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل انقلابه جهلا سَوَاء (كلف) أَبُو لَهب (بتصديقه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قبل علمه) أَي أبي لَهب بِأَنَّهُ تعلق علم لله بِعَدَمِ صدقه (أَو) كلف (بعده) أَي بعد علمه بذلك، أما الأول فَظَاهر، وَأما الثَّانِي فَلِأَن علم أبي لَهب بِأَن تَصْدِيقه مَعْلُوم الْعَدَم عِنْد الله لَا يَجعله محالا لذاته بل لَا يَجعله مُضْطَرّا فِي عدم التَّصْدِيق كَمَا حقق فِي مَحَله (فَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل لَهُم (تشكيك بعد) النَّص (الْقَاطِع) فِي أَنه لم يَقع وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله} الْآيَة فَهُوَ) أَي التَّكْلِيف بالمحال لذاته (مَعْلُوم الْبطلَان) . قَالَ الشَّارِح عقلا غير وَاقع شرعا انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن المُصَنّف لم يثبت بُطْلَانه عقلا فَارْجِع إِلَى قَوْله وَالْحق الخ.
مسئلة
(نقل عَن الْأَشْعَرِيّ بَقَاء التَّكْلِيف) بِالْفِعْلِ أَي كَونه مَطْلُوبا من الْمُكَلف (حَال) مُبَاشرَة ذَلِك (الْفِعْل) كَمَا كَانَ قبل الْمُبَاشرَة لَهُ (واستبعد) هَذَا مِنْهُ (بِأَنَّهُ) أَي الْأَشْعَرِيّ (إِن أَرَادَ) بِبَقَائِهِ فِي هَذَا الْحَال (أَن تعلقه) أَي التَّكْلِيف (لنَفسِهِ) أَي لذاته لِأَن حَقِيقَته الطّلب الْمُضَاف إِلَى الْمَطْلُوب، وَهَذِه الْإِضَافَة والتعلق لَا يَنْفَكّ عَن حَقِيقَته. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ لَو انْقَطع التَّكْلِيف بعد الْفِعْل لزم أَن يتَعَدَّى الطّلب الْقَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى وَهُوَ محَال، لِأَن صِفَاته كَمَا هِيَ أزلية أبدية، وَجَوَابه أَن الْكَلَام فِي الْأَزَل كَسَائِر صِفَاته وَاحِد لَا تعدد فِيهِ، وَكَونه أمرا أَو نهيا من الْعَوَارِض الَّتِي تتجدد لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلّقه، فَلَا يلْزم من انْتِفَاء الطّلب انْتِفَاء كَلَامه الْقَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى (فَحق) أَي فَهَذَا الْمَعْنى حق (لَكِن يشكل عَلَيْهِ) أَي على هَذَا المُرَاد (انْقِطَاعه بعده) أَي بعد صُدُور الْفِعْل (اتِّفَاقًا) وَذَلِكَ التَّعَلُّق الَّذِي يَقْتَضِيهِ الذَّات لَا يَنْفَكّ عَنْهَا مَا دَامَت الذَّات بَاقِيَة، وَعدم انْقِطَاعه بعده خلاف الْإِجْمَاع (أَو) أَرَادَ بذلك (تَنْجِيز التَّكْلِيف) أَي إِرَادَة إِيقَاعه مُنجزا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر من عباراته (فَبَاطِل) أَي فَهَذَا المُرَاد بَاطِل (لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ) أَي التَّكْلِيف بِهَذَا الْمَعْنى حَال الْفِعْل تَكْلِيف (بإيجاد الْمَوْجُود) هَذَا كَلَامهم، وَتعقبه المُصَنّف بقوله (وَلَيْسَ) الْأَمر كَذَلِك (لِأَن ذَلِك) أَي التَّكْلِيف بإيجاد الْمَوْجُود إِنَّمَا يكون (بعده) أَي الْفِعْل (وكلامنا) فِي التَّكْلِيف بِهِ (حَال هَذَا الإيجاد، وَمَا يُقَال إِحَالَة للصورة) أَي لأجل إِحَالَة صُورَة هَذِه المسئلة، وَبَيَان كَونهَا محالا (الْفِعْل إِن كَانَ آنيا) أَي دفعي الْوُجُود لَا زمانيا تدريجيا ممتدا على طبق أَجزَاء الزَّمَان: قَوْله الْفِعْل إِلَى آخِره بدل من الْمَوْصُول أَو ضَمِيره (لم يتَصَوَّر لَهُ) أَي لذَلِك الْفِعْل (بَقَاء) إِذا الْمَفْرُوض أَن حُدُوثه ووجوده لَيْسَ إِلَّا فِي آن وَاحِد (يكون مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْبَقَاء (التَّكْلِيف، وَإِن) كَانَ (طَويلا)(2/141)
كَالصَّوْمِ (أَو ذَا أَفعَال) كَالصَّلَاةِ (فحال فعله) أَي فَفِي حَال إِيقَاعه (انْقَضى) ذَلِك الْفِعْل شَيْئا فَشَيْئًا) إِذْ هُوَ حِينَئِذٍ غير قار الذَّات لم تَجْتَمِع أجزاؤه فِي الْوُجُود لأجزاء الْحَرَكَة وَالزَّمَان (فالمنقضي سقط تَكْلِيفه) فَلَا بَقَاء لَهُ (وَمَا لم يُوجد) من أَجْزَائِهِ (بَقِي) التَّكْلِيف فِي حَقه، وَهَذَا الْبَقَاء كالبقاء قبل الشُّرُوع فِي الْفِعْل فَلَيْسَ من مَحل النزاع (لَا يُفِيد) خبر مَا يُقَال (ذَلِك) أَي إِحَالَة الصُّورَة (لِأَن الْمُمكن آنيا) كَانَ (أَو زمانيا) لَا بُد لَهُ من حَال عدم وَحَال بروز) من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود (وَإِن لم يدْرك) مِقْدَار زمَان بروزه (لسرعته وَحَال تقرر وجوده، والبقاء إِنَّمَا هُوَ مَحْكُوم بِهِ للتكليف لَا للْفِعْل) ثمَّ فسر بَقَاء التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ بقوله (أَي التَّكْلِيف السَّابِق على الْفِعْل يبْقى مَعَ الْحَالة الثَّانِيَة) من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة (وَإِن سبقت) الْحَالة الثَّانِيَة (اللحظة) فِي السرعة، واللحظة فِي الأَصْل: النظرة بمؤخر الْعين، وَالْمرَاد هَهُنَا طرفَة الْعين وَالْحَاصِل أَن التَّكْلِيف بَاقٍ بعد الْحَالة الأولى قبل الثَّانِيَة، وَلَو كَانَ مَا دون طرفَة الْعين (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّحْقِيق على هَذَا الْوَجْه (صَحِيح) مَبْنِيّ على أصُول الْأَشْعَرِيّ وَغَيره من أهل الْحق فَيكون كالمنصوص عَلَيْهِ مِنْهُم (وَيكون نصا من الْأَشْعَرِيّ) على (أَن التَّكْلِيف سبقه) أَي الْفِعْل بِاعْتِبَار تقرر وجوده (لَا) أَنه (مَعَ الْمُبَاشرَة) للْفِعْل (كَمَا نسب إِلَيْهِ لِأَنَّهُ) أَي مَا نسب إِلَيْهِ من أَن التَّكْلِيف مَعَه (بَاطِل وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْأَمر كَذَلِك، بل كَانَ مَعَ الْمُبَاشرَة (انْتَفَت الْمعْصِيَة) إِذْ الْمعْصِيَة تَقْتَضِي عدم سبق التَّكْلِيف والمكلف لَا يَخْلُو من أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا أَنه يَأْتِي بالمأمور بِهِ أَو لَا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا مَعْصِيّة: أما على الأول فَظَاهر، وَأما على الثَّانِي فَلِأَن انْتِفَاء الْمُبَاشرَة يسْتَلْزم انْتِفَاء التَّكْلِيف حِينَئِذٍ (وَنسب هَذَا الْخبط) إِلَى الْأَشْعَرِيّ نِسْبَة ناشئة (عَن) قَوْله (أَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل) فَلَا قدرَة قبل الْفِعْل وَبعده (وَلَا تَكْلِيف إِلَّا بمقدور. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ) فِي الْبُرْهَان: والذهاب إِلَّا أَن التَّكْلِيف عِنْد الْفِعْل (مَذْهَب لَا يرتضيه لنَفسِهِ عَاقل) إِذْ هُوَ خارق للاجماع، لِأَن الْقَاعِد فِي الْحَال قعوده مُكَلّف بِالْقيامِ إِلَى الصَّلَاة بِاتِّفَاق أهل الْإِسْلَام وَأَيْضًا التَّكْلِيف طلب والطلب يَسْتَدْعِي مَطْلُوبا وَعدم حُصُوله وَقت الطّلب (وينفي) هَذَا أَيْضا (تَكْلِيف الْكَافِر بِالْإِيمَان قبله) أَي الْإِيمَان وَهُوَ ظَاهر (وَالتَّحْقِيق أَن الْقُدْرَة صفة لَهَا صَلَاحِية التَّأْثِير) فِي المعدومات الممكنة بالإيجاد (و) الْقُدْرَة (الَّتِي يُقَام بهَا) الْفِعْل (جزئي حَقِيقِيّ مِنْهَا) أَي من الْقُدْرَة الْكُلية الْمَذْكُورَة فَإِن قلت الْمَذْكُورَة قَائِمَة بالشخص فِي الْخَارِج وكل مَا يقوم بِهِ جزئي حَقِيقِيّ قلت هُوَ كَذَلِك، لَكِن قطع النّظر عَن تعينها الْحَاصِل بِسَبَب خُصُوصِيَّة الْمحل وَحكم بكليتها الْمَفْهُوم الْكُلِّي الْقَائِم بِالْفِعْلِ (والمتقدم والمتأخر) بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الجزئي الْحَقِيقِيّ من الجزئيات الصادرة فِي الإيجادات المتعاقبة (الْأَمْثَال) وَلَيْسَ بَينهمَا اتِّحَاد (فَالشَّرْط)(2/142)
للتكليف (مثل سَابق) على الْمثل الْمُقَارن للْفِعْل (وَقد علمت) من قَوْلنَا الْقُدْرَة صفة لَهَا صَلَاحِية التَّأْثِير (أَن الصلاحية لَازِمَة لماهيتها) أَي الْقُدْرَة (فتلزم) الصلاحية الْمَذْكُورَة (كل فَرد) من أفرادها ضَرُورَة عدم تخلفه اللَّازِم عَن أَفْرَاد الْمَلْزُوم (وَذَلِكَ) الْمثل السَّابِق (مَدْلُول عَلَيْهِ بسلامة آلَات الْفِعْل وَصِحَّة أَسبَابه فَلِذَا فَسرهَا) أَي الْقُدْرَة الَّتِي هِيَ شَرط الْفِعْل (الْحَنَفِيَّة بِهِ) أَي بِمَا ذكر من سَلامَة الْأَسْبَاب والآلات (وَأما دَفعه) أَي قَول الْأَشْعَرِيّ من الْمُعْتَزلَة (بِأَن عِنْد الْمُبَاشرَة) للْفِعْل (مَعَ الداعية) إِلَيْهِ (وَالْقُدْرَة) عَلَيْهِ (يجب) الْفِعْل (فَلَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة) لعدم التَّمَكُّن من التّرْك وَلَا تَكْلِيف إِلَّا بمقدور، وَفِيه أَن قَوْله وَالْقُدْرَة مَعْطُوف على الداعية، فليزم مقارنتها مَعَ الْمُبَاشرَة فَمَا معنى قَوْله لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة فَتَأمل (فمدفوع بِأَنَّهُ) أَي وجوب الْفِعْل حِينَئِذٍ (وجوب) تَأْثِير (عَن اخْتِيَار سَابق فِي الْفِعْل وَعدم) للْفِعْل السَّابِق (مَعَ إِمْكَان) للْفِعْل وَالتّرْك (مصحح للتكليف حِينَئِذٍ وَلَيْسَ) هَذَا الدّفع بجيد (لِأَن الْوُجُوب لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالْفِعْلِ) على التَّمام، وَإِنَّمَا قَالَ (فِي التَّحْقِيق) إِشَارَة إِلَى مَا اشْتهر من أَن كل مُمكن محفوف بوجوبين: وجوب سَابق نظرا إِلَى علته التَّامَّة لكَون الْأَسْبَاب العادية مُؤثرَة فِي نفس الْأَمر، وجوب لَاحق للوجود أَو بعد الْوُجُود لَا يَنْفِي إِمْكَان عدم ذَلِك الْوُجُود من الأَصْل بِأَن يبْقى إِمْكَان عدم بَقَائِهِ كَلَام ظاهري (وَالْقُدْرَة) للْعَبد (لَا يُقَام بهَا الْفِعْل عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة والأشاعرة، وَمعنى الْإِقَامَة بهَا كَونهَا مُؤثرَة فِيهِ (بل تصاحبه) أَي تقارن الْقُدْرَة الْفِعْل كَمَا قارنته لسَائِر الْأَسْبَاب العادية (إِذْ لَا يُقَام) الْفِعْل (إِلَّا بقدرته تَعَالَى، وَلَا تَأْثِير أصلا لقدرة العَبْد فِيهِ) أَي الْفِعْل (فَلَيْسَ شَرط التَّكْلِيف إِلَّا مَا ذكرنَا) من سَلامَة آلَات الْفِعْل وَصِحَّة أَسبَابه (وَلَا يَسْتَدْعِي) مَا ذكر من الشَّرْط وَغَيره (الْمَعِيَّة) أَي كَون التَّكْلِيف مَعَ الْفِعْل بتأثير قدرته تَعَالَى من غير مدخلية للْعَبد يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَإِن عِنْده) أَي عِنْد مَا ذكر من سَلامَة الْآلَات وَصِحَّة الْأَسْبَاب (يخلق بقدرته) تَعَالَى (عَادَة) بِمَعْنى أَن عَادَته جرت بِأَنَّهُ يخلق أَفعَال الْعباد مَقْرُونا بذلك، فحاصل الِاشْتِرَاط التلازم لَا التَّوَقُّف (عِنْد الْعَزْم) أَي عزم العَبْد على الْفِعْل (المصمم) صفة مُؤَكدَة للعزم والظرف الثَّانِي بدل من الأول بدل الاشتمال أَو الْبَعْض، ثمَّ لما أَفَادَ عدم جودة الدّفع الْمَذْكُور بِاعْتِبَار تَأَخّر الْوُجُوب الْمَذْكُور عَن الْفِعْل أَرَادَ أَن يُفِيد أَن الِاخْتِيَار السَّابِق الَّذِي حكم بِكَوْنِهِ منشأ للْوُجُوب الْمَذْكُور إِنَّمَا يعْتَبر لِأَن يكون فعل الْمُكَلف امتثالا وَإِذا اعْتَبرهُ سَابِقًا على التَّكْلِيف لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ذَلِك الْقَصْد فَقَالَ (وَأَيْضًا سبق الِاخْتِيَار التَّكْلِيف بسبق مَا قارنه) أَي التَّكْلِيف وَهُوَ مُبَاشرَة الْفِعْل كَمَا يفِيدهُ القَوْل بِأَن التَّكْلِيف عِنْد الْمُبَاشرَة (لَا يُوجب وُقُوع) وجوب (الْفِعْل امتثالا لِأَنَّهُ) أَي الِامْتِثَال إِنَّمَا(2/143)
يتَحَقَّق (بِاخْتِيَارِهِ) أَي الْمُكَلف (بعد علمه بالتكليف) وَهُوَ مُنْتَفٍ حَيْثُ كَانَ الْفِعْل مُقَارنًا للتكليف.
(تَنْبِيه: قسم الْحَنَفِيَّة الْقُدْرَة إِلَى مُمكنَة) على صِيغَة الْفَاعِل فِي التَّلْوِيح، وَهُوَ شَرط لوُجُوب أَدَاء كل وَاجِب فضلا من الله لَا لنَفس الْوُجُوب لِأَنَّهُ قد يَنْفَكّ عَن وجوب الْأَدَاء فَلَا حَاجَة إِلَى الْقُدْرَة إِذْ هُوَ ثَابت بِالسَّبَبِ والأهلية (وَهِي السَّابِقَة) أَي الَّتِي سبق ذكرهَا أَو السَّابِقَة فِي التحقق على الْفِعْل: أَي سَلامَة آلَات الْفِعْل وَصِحَّة أَسبَابه (وميسرة) على صِيغَة الْفَاعِل أَيْضا وَهِي مَا يُوجب يسر الْأَدَاء على العَبْد بعد مَا ثَبت الْإِمْكَان بِالْقُدْرَةِ الممكنة، فِي التَّوْضِيح فالممكنة أدنى مَا يتَمَكَّن بِهِ الْمَأْمُور من أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ من غير حرج غَالِبا، وَإِنَّمَا قيدنَا بِهَذَا لأَنهم جعلُوا الزَّاد وَالرَّاحِلَة دَاخِلَة من الممكنة، وَالْمُصَنّف أَرَادَ تقسيمها فَقَالَ (وَالْأولَى) أَي الممكنة (إِن كَانَ الْفِعْل) يتَحَقَّق (مَعهَا) إِذا اتّصف الْمَأْمُور (بالعزم) على ذَلِك الْفِعْل (غَالِبا) أَي فِي غَالب الْأَوْقَات قَيده بذلك إِذْ قد يعزم مَعَ الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَا يَقع: أَي الْمَعْنى غَالِبا على الظَّن كوقت الصَّلَاة قبل التَّعْلِيق على مَا فسر بِهِ الشَّارِح (فَالْوَاجِب) عِنْد هَذَا الْقسم من الْقُدْرَة (الْأَدَاء) أَي إِيقَاع الْفِعْل فِي وقته الْمعِين لَهُ شرعا (عينا) أَي الْأَدَاء بِعَيْنِه لَا قَضَاء (فَإِن لم) يؤد (بِلَا تَقْصِير) مِنْهُ فِي ترك الْأَدَاء (حَتَّى انْقَضى وقته) أَي الْأَدَاء لم (يَأْثَم وانتقل الْوُجُوب إِلَى قَضَائِهِ) أَي ذَلِك الْفِعْل (إِن كَانَ لَهُ) أَي لذَلِك الْفِعْل (ثمَّة خلف، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن لَهُ خلف (فَلَا قَضَاء وَلَا إِثْم أَو) إِن لم يؤد (بتقصير) مِنْهُ (أَثم على الْحَالين) أَي فِيمَا لَهُ خلف وَمَا لَا خلف لَهُ كَصَلَاة الْعِيدَيْنِ (وَإِن لم يكن) الْفِعْل مَعهَا (غَالِبا) قيد للنَّفْي لَا للمنفي (وَجب الْأَدَاء لخلفه) أَي الْمَقْصد من إِيجَاب الْأَدَاء على الْمَأْمُور مَعَ عدم تحققها غَالِبا لَيْسَ إِلَّا وجوب الْقَضَاء الَّذِي هُوَ خلف الْأَدَاء (لَا لعَينه) أَي الْأَدَاء (كالأهلية) أَي كصيرورة الْمُكَلف أَهلا للْوُجُوب (فِي الْجُزْء الْأَخير من الْوَقْت) فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء لَا لعَينه لعدم سَعَة الْوَقْت إِيَّاه بِحَسب الْغَالِب الْمُعْتَاد، فَلَا يرد عَلَيْهِ إِمْكَان الامتداد والبسط فِي ذَلِك الْجُزْء كَمَا حكى عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام (خلافًا لزفَر لاعتباره إِيَّاهَا) أَي الْأَهْلِيَّة (قبله) أَي قبل الْجُزْء الْأَخير (عِنْدَمَا يَسعهُ) أَي الْأَدَاء وَالشَّافِعِيّ مَا يسع رَكْعَة فَيَقُول يجب الْقَضَاء ابْتِدَاء من غير وجوب الْأَدَاء إِذا أحدث الْأَهْلِيَّة فِي الْجُزْء الْأَخير، وَعلل الْمَذْهَب بقوله (لِأَنَّهُ لَا قطع بالأخير) أَي الْجُزْء الَّذِي يظنّ أَنه الْأَخير لَا قطع بِكَوْنِهِ أخيرا (لَا مَكَان الامتداد) وَهُوَ الْمُسَمّى يبسط الزَّمَان وعَلى تَقْدِير أَن يَمْتَد ذَلِك الْجُزْء لم يكن جُزْءا أخيرا، فَأَي جُزْء كَانَ مَعَه سَلامَة الْآلَات يجب عِنْده الْأَدَاء وَإِن كَانَ الْجُزْء الْأَخير بِنَاء على الْإِمْكَان الْمَذْكُور (وَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهَا) أَي الْقُدْرَة الممكنة (للْقَضَاء) كالأداء فَيجب(2/144)
الْقَضَاء وَإِن كَانَ فِي وَقت عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ (لِأَن اشْتِرَاطهَا) للْأَدَاء (لاتجاه التَّكْلِيف وَقد تحققت) الْقُدْرَة على الْأَدَاء عِنْد توجه الْخطاب (وَوُجُوب الْقَضَاء بَقَاء ذَلِك الْوُجُوب) وَشرط حُدُوث الشَّيْء لَا يسْتَلْزم وجوده عِنْد بَقَاء ذَلِك الشَّيْء (لِاتِّحَاد سَببهَا) أَي الْأَدَاء وَالْقَضَاء (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فَلم يتَكَرَّر) الْوُجُوب (لتكرر) الْقُدْرَة توضيحة أَن شَرط وجوب الْأَدَاء وَسَببه إِذا تحقق صَار الْفِعْل مَطْلُوبا من الْمُكَلف وجوبا على سَبِيل الْأَدَاء مَا دَامَ الْوَقْت مَوْجُودا وَبعد مضيه لَا يرْتَفع طلبه غير أَنه قبل مضيه كَانَ مَطْلُوبا على سَبِيل الْأَدَاء وَبعده على سَبِيل الْقَضَاء فَأصل الطّلب بَاقٍ على حَاله وَلَا يحدث بعده وجوب آخر، لِأَن تعدد الحكم يسْتَلْزم تعدد السَّبَب، وَحَيْثُ لم يتَكَرَّر الْوُجُوب لم تَتَكَرَّر الْقُدْرَة عِنْد حُدُوث الْوُجُوب (فوجوب الصَّلَوَات الْكَثِيرَة) قَضَاء (فِي آخر نفس) من الْحَيَاة (عين وُجُوبهَا) أَدَاء (المستكمل لشرطه) من سَلامَة الْأَسْبَاب والآلات (لكنه) أَي الَّذِي أخر إِلَى آخر نفس (قصر) حَتَّى ضَاقَ الْوَقْت عَنْهَا (وَأَيْضًا لَو لم يجب) الْقَضَاء (إِلَّا بقدرة متجددة لم يَأْثَم بترك) للْقَضَاء (بِلَا عذر) يَعْنِي لَو شَرط فِي وجوب الْقَضَاء وجود الْقُدْرَة فِي وَقت يُمكن الْقَضَاء فِيهِ لزم أَن لَا يَأْثَم بترك الْقَضَاء بِلَا عذر إِذا أدْرك ذَلِك الْوَقْت وَهُوَ غير قَادر، فَالْمُرَاد بالعذر الْمَنْفِيّ مَا عدا عدم الْقُدْرَة (وَذَلِكَ) أَي عدم الْإِثْم بِالتّرْكِ (يبطل معنى وُجُوبهَا، قَضَاء) يرد عَلَيْهِ أَن من يشْتَرط بَقَاء الْقُدْرَة فِي وجوب الْقَضَاء لَا يُبَالِي من بطلَان معنى وُجُوبهَا قَضَاء: اللَّهُمَّ أَلا أَن يُرَاد بطلَان معنى وُجُوبهَا مُطلقًا إِذا ترك الْأَدَاء بِعُذْر وَلم يقدر بعد فَالْمُرَاد بِمَعْنى الْوُجُوب لُزُوم الْإِثْم عِنْد التّرْك فَتَأمل، فعلى عدم اشْتِرَاط الْقُدْرَة فِي وجوب الْقَضَاء يلْزم تَخْصِيص النَّص الدَّال على عدم التَّكْلِيف بِغَيْر الوسع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فيخص لَا بكلف الله الْآيَة الْأَدَاء كَمَا أوجبته) أَي ذَلِك التَّخْصِيص (نُصُوص قَضَاء الصَّوْم) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَعدَّة من أَيَّام أخر} - (وَالصَّلَاة) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " (الْمُوجبَة) صفة النُّصُوص (الْإِثْم بِتَرْكِهِ) أَي الْقَضَاء بِلَا عذر (المستلزم لتَعَلُّقه) أَي الْوُجُوب بِالْقضَاءِ (فِي آخر نفس) والمعين يخص لَا يُكَلف الخ تَخْصِيصًا كَائِنا على طبق مَا اقتضته هَذِه النُّصُوص، ثمَّ اسْتدلَّ على إِيجَابهَا الْإِثْم بِالتّرْكِ الْمَذْكُور بقوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَأْثَم بِالتّرْكِ بِلَا عذر (انْتَفَى إِيجَابهَا) أَي نُصُوص الْقَضَاء (الْقَضَاء) لانْتِفَاء لَازِمَة وَهُوَ الْإِثْم بِالتّرْكِ بِلَا عذر (وَأَيْضًا الْإِجْمَاع على التأثيم) بِالتّرْكِ بِلَا عذر (إِجْمَاع عَلَيْهِ) أَي تَخْصِيص الْآيَة كَمَا ذكر استلزاما (وَمن الممكنة الزَّاد وَالرَّاحِلَة) أَي ملكهمَا ذاتا أَو مَنْفَعَة بِالْإِجَارَة بِحَيْثُ يتَوَصَّل بهما إِلَى الْحَج (لِلْحَجِّ) إِذْ لَا يتَمَكَّن مِنْهُ أَكثر النَّاس بِدُونِ الْحَرج إِلَّا بهما (وَالْمَال) أَي ملك(2/145)
نِصَاب صَدَقَة الْفطر على الْوُجُوب الْمَعْرُوف (لصدقة الْفطر فَلَا تسْقط) صَدَقَة الْفطر (بهلاكها) أَي هَذِه الْقُدْرَة بِوَاسِطَة هَلَاك المَال (الثَّانِيَة) من قسمي الْقُدْرَة (الميسرة) وَهِي مَا يُوجب الْيُسْر على العَبْد فِي أَدَاء الْوَاجِب (الزَّائِدَة على الأولى باليسر فضلا مِنْهُ تَعَالَى) على الْعباد (كَالزَّكَاةِ زَادَت) الْقُدْرَة الْمُتَعَلّق بهَا وُجُوبهَا (على أصل الْإِمْكَان) للْفِعْل (كَون الْمخْرج قَلِيلا جدا من كثير) أَي قَلِيلا على سَبِيل الْمُبَالغَة كَائِنا من مَال كثير، وَقَوله كَون الْمخْرج بَدَلا من ضمير زَادَت (وَكَونه) أَي الْمخْرج وَاقعا (مرّة بعد الْحول الْمُمكن من استنمائه فتقيد الْوُجُوب بِهِ) أَي باليسر (فَسقط) الْوُجُوب (بِالْهَلَاكِ) أَي بِهَلَاك المَال لفَوَات الْقُدْرَة الميسرة الَّتِي هِيَ وصف النَّمَاء بَقَاء، وبقاؤها كابتدائها فِي الِاشْتِرَاط، فابتداؤها شَرط ابْتِدَاء الْوُجُوب، وبقاؤها شَرط بَقَائِهِ لما سَيظْهر (وانتفى) الْوُجُوب (بِالدّينِ) المطالب من جِهَة الْعباد لمنافاته الْيُسْر والغنى لكَون المَال مَشْغُولًا بِالْحَاجةِ الْأَصْلِيَّة، وَإِنَّمَا لم يقل فَسقط بِالْهَلَاكِ وَالدّين، لِأَن السُّقُوط فرع الثُّبُوت، وبالدين لم يجب من الِابْتِدَاء كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن هَذَا إِنَّمَا يتم فِيمَا إِذا كَانَ الدّين قبل الْقُدْرَة الميسرة، وَأما إِذا حدث بعْدهَا وَبعد ثُبُوت الْوُجُوب فَلَا، على أَن الْهَلَاك أَيْضا كَذَلِك فَلَا فرق بَينهمَا وَالْحق أَن الدّين الْحَادِث لَا أثر لَهُ فِي السُّقُوط، وَالْمرَاد بِالْهَلَاكِ مَا كَانَ بعد الْوُجُوب، وَإِنَّمَا قيدناه بدين الْعباد لِأَن غَيره كالنذور وَالْكَفَّارَات لَا تنَافِي الْوُجُوب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يسْقط بِهَلَاك النّصاب وَلم ينتف بِالدّينِ (انْقَلب) الْيُسْر (عسرا) أَي يصير الْوَاجِب الْمُقَيد باليسر غير مُقَيّد بِهِ (بِخِلَاف الِاسْتِهْلَاك) أَي إِتْلَاف النّصاب قصدا بِغَيْر توفر شُرُوط الْوُجُوب فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يسْقط بِهِ (لتعديه) أَي الْمَالِك (على حق الْفُقَرَاء) بِحَيْثُ أَلْقَاهُ فِي الْبَحْر أَو أنفقهُ فِي حَاجته إِلَى غير ذَلِك، وَاشْتِرَاط الْقُدْرَة الميسرة كَانَ نظرا لَهُ، وَقد خرج بِالتَّعَدِّي عَن اسْتِحْقَاقه النّظر (وَهُوَ) أَي سُقُوط الْوُجُوب بِهَلَاك النّصاب (بِنَاء على أَنه) أَي الْوَاجِب شرعا (جُزْء من الْعين) أَي من عين النّصاب كَمَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر قَوْله تَعَالَى - {وَآتوا الزَّكَاة} -: إِذْ مُتَعَلق الإيتاء هُوَ الْجُزْء الْمعِين من المَال الْمَوْجُود فِي الْأَعْيَان لَا الْأَمر الاعتباري الْمَوْجُود فِي الذِّمَّة، وَإِذا كَانَ الْوَاجِب الْجُزْء الْعَيْنِيّ وَقد هلك عين المَال الَّذِي هُوَ النّصاب جَمِيعًا، وَمن ضَرُورَته هَلَاك كل جُزْء مِنْهُ لم يبْق للْوُجُوب مَحل فَيسْقط الْوُجُوب بِالْهَلَاكِ، وَهَذَا بِنَاء على الظَّاهِر، وَالتَّحْقِيق أَن مَحل الْوُجُوب نفس الإيتاء: إِذْ مُتَعَلق الْأَحْكَام أَفعَال الْمُكَلّفين (وَلذَا) أَي وَلكَون الزَّكَاة جُزْءا من الْعين (سَقَطت بِدفع النّصاب) أَي بالتصدق بِهِ (بِلَا نِيَّة) أصلا أَو بِلَا نِيَّة الْفَرْض بِأَن يَنْوِي النَّفْل لوصول الْجُزْء الْوَاجِب إِلَى مُسْتَحقّه وَهُوَ لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة تخصه من بَين الْأَجْزَاء بِكَوْنِهِ قربَة: إِذْ الْمَفْرُوض التَّصَدُّق(2/146)
بِكُل جُزْء، وَإِنَّمَا الْحَاجة عِنْد الْمُزَاحمَة بَينه وَبَين سَائِر الْأَجْزَاء (وَكَذَا الْكَفَّارَة) للْيَمِين وُجُوبهَا بقدرة ميسرَة (بِدَلِيل تَخْيِير الْقَادِر على الْأَعْلَى بَينه) أَي الْأَعْلَى (وَبَين الْأَدْنَى) إِذْ التَّحْرِير وَالْكِسْوَة وَالْإِطْعَام مُتَفَاوِتَة فِي الْمَالِيَّة فَإِن فِيهِ رفقا للمخير فِي الترفق بِمَا هُوَ الْأَيْسَر عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَة على الْأَعْلَى، بِخِلَاف صَدَقَة الْفطر فَإِن التَّخْيِير فِيهَا بَين المتماثلة فِي الْمَالِيَّة إِذْ نصف صَاع من الْبر مثل الصَّاع من الشّعير أَو التَّمْر فَلَا يُفِيد التَّخْيِير فِيهَا التَّيْسِير قصدا، بل التَّأْكِيد، فوجوبها بقدرة مُمكنَة، ثمَّ أيد الدَّلِيل الْمَذْكُور بِمَا يُفِيد إِرَادَة التَّيْسِير من الشَّارِع فِي الْكَفَّارَة الْمَذْكُورَة بقوله (فَلم يشْتَرط فِي أَجزَاء الصَّوْم) فِي الْكَفَّارَة (الْعَجز المستدام) إِلَى الْمَوْت عَن الْإِطْعَام وأخويه (كَمَا) شَرط (فِي الْفِدْيَة) فِي صَوْم رَمَضَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّيْخ الْعَاجِز عَنهُ (وَالْحج عَن الْغَيْر) الْحَيّ الْقَادِر على النَّفَقَة الْعَاجِز عَن الْحَج بِنَفسِهِ (فَلَو أيسر) الْمُكَفّر بالصيام لعَجزه عَن الْخِصَال الثَّلَاث (بعده) أَي الصّيام (لَا يبطل) التَّكْفِير بِهِ بِخِلَاف الشَّيْخ الْمَذْكُور فَإِنَّهُ إِذا قدر على الصّيام بعد الْفِدْيَة بطلت وَوَجَب عَلَيْهِ الْقَضَاء، بِخِلَاف المحجوج عَنهُ الْمَذْكُور فَإِنَّهُ إِذا قدر عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَجب عَلَيْهِ، وَلَو شَرط فيهمَا دوَام الْعَجز لبطل ترَتّب الصَّوْم عَلَيْهِ، لِأَن الْعلم بِهِ لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي آخر الْعُمر فَالْمُعْتَبر فيهمَا الْعَجز فِي الْحَال مَعَ احْتِمَال حُصُول الْقُدْرَة فِي الِاسْتِقْبَال (وَلَو فرط) الْمُوسر الَّذِي وَجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة بِالْمَالِ (حَتَّى هلك المَال انْتقل) وجوب التَّكْفِير بِهِ عَنهُ (إِلَى الصَّوْم) أَي إِلَى التفكير بِهِ (بِخِلَاف الْحَج) فَإِنَّهُ لَو فرط من وَجب عَلَيْهِ الْحَج حَتَّى عجز لَا يسْقط، فَإِن لم يقدر عَلَيْهِ بعد ذَلِك حَتَّى يَمُوت أوخذ بِهِ فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على الْقُدْرَة الممكنة كَمَا مر (وَإِنَّمَا سَاوَى الِاسْتِهْلَاك) لِلْمَالِ (الْهَلَاك) فِي سُقُوط الْكَفَّارَة بِالْمَالِ وَلم يساوه فِي سُقُوط الزَّكَاة مَعَ تساويهما فِي الْبناء على الْقُدْرَة الميسرة (لعدم تعين المَال) فِي الْكَفَّارَة للتكفير بِهِ فَلَا يكون الِاسْتِهْلَاك مُتَعَدِّيا (بِخِلَافِهِ) أَي المَال (فِي الزَّكَاة) فَإِن الْوَاجِب جُزْء من النّصاب اتِّفَاقًا، فَإِذا اسْتَهْلكهُ فقد اسْتهْلك الْوَاجِب فَافْتَرقَا (وَنقض) الدَّلِيل الدَّال على كَون وجوب الْكَفَّارَة مَبْنِيا على الْقُدْرَة الميسرة لَا الدَّال على كَون وجوب الزَّكَاة مَبْنِيا عَلَيْهَا على مَا توهم الشَّارِح، وَهُوَ ظَاهر من السباق والسياق وَغَيرهمَا (بِوُجُوبِهَا) أَي الْكَفَّارَة بِالْمَالِ (مَعَ الدّين بِخِلَاف الزَّكَاة) بِأَن يُقَال لَو قصد من التَّخْيِير الْمَذْكُور التَّيْسِير على الْمُكَفّر لما أوجب عَلَيْهِ المَال مَعَ الدّين كَمَا لم يُوجب الزَّكَاة عَلَيْهِ مَعَه (أُجِيب) عَن النَّقْض (بِمَنْعه مَعَه) أَي بِمَنْع وجوب الْكَفَّارَة بِالْمَالِ مَعَ الدّين (كَقَوْل بَعضهم) أَي الْمَشَايِخ فَلَا نقض (و) أُجِيب (بِالْفرقِ) بَينهمَا على قَول الْأَخيرينِ (بِأَن وجوب الزَّكَاة للإغناء) أَي إغناء الْمُحْتَاج عَن الِاحْتِيَاج (شكرا لنعمة الْغنى وَهُوَ) أَي الْغنى(2/147)
(مُنْتَفٍ بِالدّينِ) إِن استغرق الدّين النّصاب (أَو يقدر) الْغَنِيّ (بِقَدرِهِ) أَي الدّين إِن لم يسْتَغْرق (وَالْكَفَّارَة) إِنَّمَا شرعت (للزجر) للْحَالِف عَن هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى (والستر) لجنايته عَلَيْهِ لما فِيهَا من معنى الْعِبَادَة (والإغناء غير مَقْصُود بهَا) أَي الْكَفَّارَة بِالذَّاتِ (وَلذَا) أَي لما ذكر من الزّجر والستر الخ (تأدت) أَي الْكَفَّارَة (بِالْعِتْقِ وَالصَّوْم) لوُجُود الزّجر والستر فيهمَا وَالله أعلم.
مسئلة
(قيل) وَالْقَائِل الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا (حُصُول الشَّرْط الشَّرْعِيّ) لفعل الْمُكَلف (لَيْسَ شرطا للتكليف بِهِ) فَيجوز التَّكْلِيف بِهِ وَإِن لم يحصل شَرطه، وَالشّرط على مَا اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب مَا استلزم نَفْيه نفي أَمر على غير جِهَة السَّبَبِيَّة، فَإِن كَانَ ذَلِك بِحكم الْعقل فعقلي، أَو الشَّرْع فشرعي، أَو اللُّغَة فلغوي، وَالْمرَاد شَرط صِحَة الْفِعْل كالإيمان للطاعات وَالطَّهَارَة للصَّلَاة (خلافًا للحنفية، وَفرض الْكَلَام فِي بعض جزئيات مَحل النزاع) يَعْنِي أَن النزاع فِي مُطلق صِحَة التَّكْلِيف بِدُونِ حُصُول الشَّرْط وتصوير المسئلة فِي بعض الصُّور الجزئيات كَمَا هُوَ دأب أهل الْعلم من فرض الْمسَائِل الْكُلية فِي بعض الصُّور الْجُزْئِيَّة تَقْرِيبًا للفهم وتسهيلا للمناظرة (وَهُوَ) أَي الْبَعْض الْمَذْكُور (تَكْلِيف الْكفَّار بالفروع) كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالْحج (وَلَا يحسن) كَون الْخلاف على هَذَا النمط من الْإِطْلَاق وَلَا يَلِيق (بعاقل) مُخَالفَة هَذَا الأَصْل الْكُلِّي على صرافته فضلا على الْأَئِمَّة الْمُحَقِّقين، أَو الْمَعْنى لَا يحسن أَن يظنّ بعاقل مثل ذَلِك، على أَن كتبهمْ الْمَشْهُورَة لَيْسَ فِيهَا ذَلِك، وعزى أَيْضا إِلَى أبي حَامِد الإسفرايني من الشَّافِعِيَّة وَبَعض أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة وَعبد الْجَبَّار وَأبي هَاشم من الْمُتَكَلِّمين (بل هِيَ) أَي مسئلة تَكْلِيف الْكفَّار بالفروع (تَمام مَحَله) أَي النزاع (وَالْخلاف) بَين الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (فِيهَا) أَي المسئلة الْمَذْكُورَة (غير مَبْنِيّ على ذَلِك) الأَصْل الْكُلِّي (المستلزم عدم جَوَاز التَّكْلِيف بِالصَّلَاةِ حَال الْحَدث) وَمَا أشبه ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يحسن أَن ينْسب إِلَى عَاقل كَمَا قَالَه المُصَنّف، لله دره (بل) الْخلاف وَاقع (ابْتِدَاء فِي جَوَاز التَّكْلِيف بِمَا شَرط فِي صِحَّته الْإِيمَان حَال عَدمه) أَي الْإِيمَان، لَا بِنَاء على عُمُوم الأَصْل الْمَذْكُور ليَكُون من فروعه هَذَا، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله ابْتِدَاء مَرْفُوعا على أَن يكون الْمَعْنى بل الْخلاف مُبْتَدأ فِيمَا ذكر (فمشايخ سَمَرْقَنْد) مِنْهُم أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة وفخر الْإِسْلَام يَقُولُونَ لَا يجوز التَّكْلِيف جَوَازًا وقوعيا بِمَا شَرط فِيهِ الْإِيمَان قبله (لخصوصية فِيهِ) أَي الْإِيمَان (لَا لجِهَة عُمُومه) أَي الْإِيمَان (وَهُوَ) أَي عُمُومه (كَونه شرطا وَهِي) أَي الخصوصية فِيهِ (أَنه أعظم(2/148)
الْعِبَادَات فَلَا يَجْعَل شرطا تَابعا فِي التَّكْلِيف) لما دونه، لما فِيهِ من قلب الْأُصُول وَعكس الْمَعْقُول، وَفِيه أَن هَذَا إِنَّمَا يتم إِن اكْتفى فِي إِيجَابه بِمَا يعلم ضمنا، وَأما إِذا أفرد بِإِيجَاب مُسْتَقل قصد بِهِ الذَّات فَلَا نسلم أَنه غير لَائِق، غَايَة الْأَمر أَن يكون لَهُ دليلان: ضمني وصريح (وَمن عداهم) أَي مَشَايِخ سَمَرْقَنْد (متفقون على تكليفهم) أَي الْكفَّار (بهَا) أَي الْفُرُوع (وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي أَنه) أَي التَّكْلِيف (فِي حق الْأَدَاء كاعتقاد) أَي طلب مِنْهُم فِي تِلْكَ الْمرتبَة أَدَاء الصَّلَاة امتثالا كَمَا طلب مِنْهُم الِاعْتِقَاد بحقيقتها ووجوبها (أَو) فِي حق (الِاعْتِقَاد، فالعراقيون) قَالُوا الْكفَّار مخاطبون (بِالْأولِ) أَي الْأَدَاء والاعتقاد (كالشافعية فيعاقبون) أَي الْكفَّار على قَوْلهم (على تَركهمَا) أَي الْأَدَاء والاعتقاد (والبخاريون) قَالُوا مخاطبون (بِالثَّانِي) أَي بالاعتقاد فَقَط (فَعَلَيهِ فَقَط) أَي فيعاقبون على ترك الِاعْتِقَاد فَقَط لَا على ترك الْأَدَاء (وَلَيْسَ) جَوَاب هَذِه المسئلة (مَحْفُوظًا عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه) نصا (بل أَخذهَا) أَي هَذِه الْمقَالة: وَهِي أَن الْكفَّار غير مخاطبين بالعبادات فِي حق الْأَدَاء (هَؤُلَاءِ) البخاريون (من قَول مُحَمَّد) فِي الْمَبْسُوط (فِيمَن نذر صَوْم شهر فَارْتَد ثمَّ أسلم لم يلْزمه) الْمَنْذُور (فَعلم أَن الْكفْر يبطل وجوب أَدَاء الْعِبَادَات) لعدم الْفرق بَين الْوَاجِب بِالنذرِ وَسَائِر الْوَاجِبَات فِي الْوُجُوب (بِخِلَاف الِاسْتِدْلَال بِسُقُوط الصَّلَاة أَيَّام الرِّدَّة) على عدم تَكْلِيف الْكَافِر بِمَا شَرط فِيهِ الْإِيمَان (لجَوَاز سُقُوطه) أَي وجوب الْقَضَاء (بِالْإِسْلَامِ) بعد الْكفْر الْعَارِض (كالإسلام) أَي كسقوطه بِالْإِسْلَامِ (بعد) الْكفْر (الْأَصْلِيّ) بقوله تَعَالَى - {إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} - وَيدل عَلَيْهِ السّنة وَالْإِجْمَاع (وَلَو قيل الرِّدَّة تبطل الْقرب) لعدم أَهْلِيَّة الْكَافِر للقربة (والتزام الْقرْبَة فِي الذِّمَّة قربَة فَيبْطل) الِالْتِزَام الْمَذْكُور وَهُوَ وجوب الْمَنْذُور، و (لم يلْزم ذَلِك) جَوَاب لَو: أَي لَو قيل مَا ذكر لقيل فِي جَوَابه لم يلْزم الِاسْتِدْلَال على الْمَطْلُوب بمسئلة النّذر لوُجُود مسَائِل أُخْرَى يسْتَدلّ بهَا وَلَا يرد عَلَيْهَا شَيْء، وَقد ذكر فِي الشَّرْح عدَّة: مِنْهَا دُخُول الْكَافِر مَكَّة ثمَّ إِسْلَامه ثمَّ إِحْرَامه فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ دم لِأَنَّهُ لم يجب عَلَيْهِ الدُّخُول محرما إِلَى غير ذَلِك، وَفِيه مَا فِيهِ (وَظَاهر) قَوْله تَعَالَى وويل للْمُشْرِكين (الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة) وَقَوله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْكفَّار قَالُوا (لم نك من الْمُصَلِّين) دَلِيل (للعراقيين) لدلالتهما على أَن ترك الصَّلَاة وَالزَّكَاة صَار سَببا لتعذيبهم، وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك إِلَّا بكونهما واجبتين عَلَيْهِم (وخلافه) أَي وَخلاف ظَاهر كل مِنْهُمَا كَأَن يكون المُرَاد بِالْأولَى عدم فعل مَا يُزكي أنفسهم: وَهُوَ الْإِيمَان وَالطَّاعَة، وبالثانية عدم كَونهم من الْمُؤمنِينَ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " نهيت عَن قتل الْمُصَلِّين " إِذْ المُرَاد بِهِ المعتقدون فَرضِيَّة الصَّلَاة (تَأْوِيل) بعيد لم يُعينهُ دَلِيل (وترتيب الدعْوَة فِي حَدِيث معَاذ) لما بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لَهُ " ادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي(2/149)
رَسُول الله فَإِن هم أطاعوك لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد افْترض خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة، فَإِن هم أطاعوك لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة فِي أَمْوَالهم تُؤْخَذ من أغنيائهم وَترد على فقرائهم " أخرجه السِّتَّة (لَا يُوجب توقف التَّكْلِيف) بأَدَاء الشَّرَائِع على الْإِجَابَة بِالْإِيمَان أَلا ترى أَنه ذكر افتراض الزَّكَاة بعد الصَّلَاة وَلَا قَائِل بالترتيب بَينهمَا، غَايَة مَا فِيهِ تَقْدِيم الأهم مَعَ رِعَايَة التَّخْفِيف فِي التَّبْلِيغ (وَأما) أَنهم مخاطبون (بالعقوبات والمعاملات فاتفاق) وَقَالُوا فِي وَجه الْعُقُوبَات لِأَنَّهَا تُقَام زاجرة عَن ارْتِكَاب أَسبَابهَا وباعتقاد حرمتهَا يتَحَقَّق ذَلِك، وَالْكفَّار أليق بِهِ من الْمُؤمنِينَ، وَفِي وَجه الْمُعَامَلَات لِأَن الْمَطْلُوب بهَا معنى دُنْيَوِيّ، وَذَلِكَ بهم أليق لأَنهم آثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَلِأَنَّهُم التزموا بِعقد الذِّمَّة مَا يرجع إِلَيْهَا.
الْفَصْل الثَّانِي
فِي الْحَاكِم (الْحَاكِم لَا خلاف فِي أَنه الله رب الْعَالمين، ثمَّ الأشعرية) قَالُوا (لَا يتَعَلَّق لَهُ تَعَالَى حكم) بِأَفْعَال الْمُكَلّفين (قبل بَعثه) لرَسُول إِلَيْهِم (وبلوغ دَعْوَة) من الله إِلَيْهِم (فَلَا يحرم كفر وَلَا يجب إِيمَان) قبلهمَا فضلا عَن سَائِر الْأَحْكَام (والمعتزلة) قَالُوا (يتَعَلَّق) لَهُ تَعَالَى حكم (بِمَا أدْرك الْعقل فِيهِ) من فعل الْمُكَلف (صفة حسن أَو قبح) وَسَيَأْتِي تفسيرهما (لذاته) وصف لأحد الْأَمريْنِ، وَالضَّمِير للموصول الْمعبر بِهِ عَن فعل الْمُكَلف كحسن الصدْق النافع وقبح الْكَذِب المضر، فَإِن الْعقل إِذا نظر فِي ذاتهما وجد فيهمَا الْحسن والقبح، وَهَذَا (عِنْد قدمائهم و) عِنْد (طَائِفَة) مِنْهُم يتَعَلَّق بِمَا أدْرك الْعقل فِيهِ صفة حسن أَو قبح (لصفة) توجب ذَلِك فِيهِ بِمَعْنى أَن لَهَا مدخلًا فِي ذَلِك لَا أَنَّهَا تستقل بِدُونِ الذَّات (والجبائية) أَي أَبُو عَليّ الجبائي وَأَتْبَاعه بِمَا أدْرك فِيهِ ذَلِك (لوُجُوده واعتبارات) مُخْتَلفَة كلطم الْيَتِيم فَإِنَّهُ بِاعْتِبَار كَونه تأديبا حسن، وَبِاعْتِبَار مُجَرّد التعذيب قَبِيح (وَقيل) وقائله أَبُو الْحُسَيْن مِنْهُم بِمَا أدْرك فِيهِ الْقبْح (لصفة فِي الْقَبِيح) فَقَط (وَعدمهَا) أَي الصّفة الْمُوجبَة للقبح (كَاف فِي) ثُبُوت (الْحسن وَمَا لم يدْرك فِيهِ) الْعقل صفة حسن أَو قبح كَصَوْم آخر يَوْم من رَمَضَان وَفطر أول يَوْم من شَوَّال إِنَّمَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم (بِالشَّرْعِ، والمدرك) من الصِّفَات (أما حسن فعل بِحَيْثُ يقبح تَركه فَوَاجِب) أَي فَذَلِك الْفِعْل وَاجِب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن حسنه بِحَيْثُ يقبح تَركه (فمندوب أَو) الْمدْرك حسن (ترك على وزانه) أَي على وزان الْمدْرك حسن فعله بِأَن يكون حسن تَركه بِحَيْثُ يقبح فعله (فَحَرَام و) إِلَّا فَهُوَ (مَكْرُوه، وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (للْفِعْل) صفة حسن وقبح (كَمَا تقدم) فِي ذيل النَّهْي وكل مِنْهُمَا (فلنفسه وَغَيره) الضميران للْفِعْل (وَبِه) أَي بِسَبَب(2/150)
مَا فِي الْفِعْل من الصّفة (يدْرك الْعقل حكمه تَعَالَى فِيهِ) أَي فِي الْفِعْل (فَلَا حكم لَهُ) أَي لِلْعَقْلِ إِن الحكم إِلَّا لله، غير أَن الْعقل (إِنَّمَا اسْتَقل بدرك بعض أَحْكَامه تَعَالَى) وَلذَا قَالَ المُصَنّف على مَا نَقله الشَّارِح: وَهَذَا عين قَول الْمُعْتَزلَة لَا كَمَا يحرفه بَعضهم (ثمَّ مِنْهُم كَأبي مَنْصُور من أثبت وجوب الْإِيمَان وَحُرْمَة الْكفْر وَنسبَة مَا هُوَ شنيع إِلَيْهِ تَعَالَى كالكذب والسفه وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَجْمُوع (وجوب شكر الْمُنعم، وَزَاد أَبُو مَنْصُور) وَكثير من مَشَايِخ الْعرَاق (إِيجَابه) أَي الْإِيمَان (على الصَّبِي الْعَاقِل) الَّذِي يناظر فِي وحدانية الله تَعَالَى (ونقلوا عَنهُ) أَي أبي حنيفَة (لَو لم يبْعَث الله للنَّاس رَسُولا لوَجَبَ عَلَيْهِم مَعْرفَته بعقولهم، والبخاريون) قَالُوا (لَا تعلق) لحكم الله بِفعل الْمُكَلف قبل بعثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتبليغه حكم الله فِي ذَلِك (كالأشاعرة وَهُوَ الْمُخْتَار وَحَاصِل مُخْتَار فَخر الْإِسْلَام وَالْقَاضِي أبي زيد) وشمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي (النَّفْي) لوُجُوب الْإِيمَان (عَن الصَّبِي) الْعَاقِل (لرِوَايَة عدم انْفِسَاخ النِّكَاح) أَي نِكَاح المراهقة وَهِي المقاربة للبلوغ إِذا كَانَت بَين أبوين مُسلمين تَحت زوج مُسلم (بِعَدَمِ وصف المراهقة الْإِسْلَام) مفعول للوصف بِأَن كَانَت عَاقِلَة فاستوصفته فَلم تقدر على وَصفه، ذكره فِي الْجَامِع الْكَبِير، إِذْ لَو كَانَت الصبية الْعَاقِلَة مكلفة بِالْإِيمَان لبانت كَمَا بلغت غير واصفة وَلَا قادرة على وَصفه، وَأما نفس الْوُجُوب فثابت كَمَا يَأْتِي فِي الْفَصْل الرَّابِع (و) حَاصِل مختارهما (فِي الْبَالِغ) النَّاشِئ على شَاهِق وَنَحْوه إِذا (لم تبلغه دَعْوَة) أَنه (لَا يُكَلف بِهِ) أَي الْإِيمَان (بِمُجَرَّد عقله مَا لم تمض مُدَّة التَّأَمُّل وقدرها) أَي الْمدَّة مفوض (إِلَيْهِ تَعَالَى) فَإِن مَضَت مُدَّة علم ربه أَنه قدر على ذَلِك وَلم يُؤمن يُعَاقِبهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا قيل من أَنَّهَا مقدرَة بِثَلَاثَة أَيَّام اعْتِبَارا بالمرتد فَإِنَّهُ يُمْهل ثَلَاثَة أَيَّام قِيَاس مَعَ الْفَارِق، والعقول مُتَفَاوِتَة فَرُبمَا عَاقل يَهْتَدِي فِي زمَان قَلِيل إِلَى مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيره فِي زمَان كثير (فَلَو مَاتَ قبلهَا) أَي تِلْكَ الْمدَّة (غير مُعْتَقد إِيمَانًا وَلَا كفرا لَا عِقَاب عَلَيْهِ، أَو) مَاتَ (مُعْتَقدًا الْكفْر) واصفا لَهُ أَو غير واصف (خلد) فِي النَّار لِأَن اعْتِقَاد الْكفْر دَلِيل خطور الصَّانِع بِبَالِهِ، وَوُقُوع الِاسْتِدْلَال مِنْهُ فَلم يبْق لَهُ عذر، (وَكَذَا) يخلد فِي النَّار (إِذا مَاتَ بعْدهَا) أَي الْمدَّة (غير مُعْتَقد) إِيمَانًا وَلَا كفرا وَإِن لم تبلغه الدعْوَة، لِأَن الْإِمْهَال وَإِدْرَاك مُدَّة التَّأَمُّل بِمَنْزِلَة دَعْوَة الرَّسُول فِي حق تَنْبِيه الْقلب من نَومه الْغَفْلَة فَلَا يعْذر (وَبِهَذَا) التَّحْرِير (يبطل الْجمع) الَّذِي ذكره الشَّيْخ أكمل الدّين بَين مَذْهَب الأشاعرة وَغَيرهم (بِأَن قَول الْوُجُوب) أَي قَول من يَقُول بِالْوُجُوب قبل الْبعْثَة (مَعْنَاهُ تَرْجِيح الْعقل الْفِعْل) وَقَول (الْحُرْمَة) مَعْنَاهُ (تَرْجِيحه) أَي الْعقل (التّرْك) فمرجع كَلَام الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَاحِد، وَإِنَّمَا بَطل الْجمع لِأَنَّك قد عرفت الْفرق بَين اعتباري الْفَرِيقَيْنِ فِي ثُبُوت الْأَحْكَام، وَمَا(2/151)
يثبت بِهِ بَين اللوازم المتخالفة المترتبة عَلَيْهِمَا فَإِن اخْتِلَاف اللوازم يسْتَلْزم اخْتِلَاف الملزومات، وَهَذَا كُله (بعد كَونه) أَي هَذَا الْجمع بتفسير الْوُجُوب وَالْحُرْمَة بِمَا ذكر (خلاف الظَّاهِر) إِذْ لَا يفهم من الْوُجُوب التَّرْجِيح الْمَذْكُور (وَمَا ذَكرْنَاهُ عَن البخاريين) من عدم تعلق الحكم قبل التَّبْلِيغ (نَقله الْمُحَقق ابْن عين الدولة عَنْهُم غير أَنه قَالَ أَئِمَّة بُخَارى الَّذين شهدناهم كَانُوا على القَوْل الأول: يَعْنِي قَول الأشاعرة، وحكموا بِأَن المُرَاد من رِوَايَة لَا عذر لأحد فِي الْجَهْل بخالقه لما يرى من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَخلق نَفسه) أَنه لَا عذر لَهُ فِيهِ (بعد الْبعْثَة) وَالرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي الْمُنْتَقى وَالْمِيزَان عَن مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن أبي حنيفَة، وَفِي غَيره كجامع الْأَسْرَار عَن أبي يُوسُف عَن مُحَمَّد وَحِينَئِذٍ (فَيجب) بِنَاء على التَّفْسِير الْمَذْكُور (حمل الْوُجُوب فِي قَوْله) أَي أبي حنيفَة (لوَجَبَ عَلَيْهِم مَعْرفَته بقَوْلهمْ على يَنْبَغِي) أَي على الانبغاء: إِذْ حمله على حَقِيقَة الْوُجُوب يُنَافِي التَّقْيِيد ببعد الْبعْثَة (وَكلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (على امْتنَاع تَعْذِيب الطائع عَلَيْهِ تَعَالَى، و) امْتنَاع (تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، فتمت ثَلَاثَة) من الْأُصُول فِي مَحل النزاع، تَفْرِيع على مَا فصل من الْمذَاهب، وَهِي (أَنْصَاف الْفِعْل) بالْحسنِ والقبح، وَهَذَا هُوَ الأول (وَمنع استلزامه) أَي الاتصاف (حكما فِي العَبْد وإثباته) أَي إِثْبَات استلزام الاتصاف حكما فِي العَبْد، وَهَذَا هُوَ الثَّانِي، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة أصلان: حكما عدلا وَاحِدًا لِكَوْنِهِمَا نفيا وإثباتا لشَيْء وَاحِد وَهُوَ الاستلزام الْمَذْكُور (واستلزامه) أَي الاتصاف (منعهما) أَي تَعْذِيب الطائع وتكليف مَا لَا يُطَاق (مِنْهُ تَعَالَى) وَهَذَا هُوَ الثَّالِث (وَلَا نزاع فِي دركه) أَي الْعقل الْحسن والقبح (للْفِعْل بِمَعْنى صفة الْكَمَال و) صفة (النَّقْص) فَإِنَّهُمَا قد يستعملان فيهمَا (كَالْعلمِ وَالْجهل) أَي كَمَا إِذا قيل: الْعلم حسن، وَالْجهل قَبِيح، فَإِنَّهُ يُرَاد بهما مَا ذكر، وَالْعقل مدركهما فيهمَا (وَلَا فيهمَا) أَي وَلَا نزاع أَيْضا فِي دَرك الْعقل إيَّاهُمَا للْفِعْل (بِمَعْنى الْمَدْح والذم) أَي بِمَعْنى أَنه يمدح فَاعله، ويذم (فِي مجاري الْعَادَات) فَإِن الْعَادة أَن يمدح الْفَاعِل فِي بعض الْأَحْوَال ويذم، وَعلم الْعقل تفاصيلهما (بل) النزاع (فيهمَا) أَي فِي إِدْرَاك الْعقل الْحسن والقبح (بِمَعْنى اسْتِحْقَاق مدحه تَعَالَى وثوابه) للْفَاعِل على ذَلِك الْفِعْل (ومقابلهما) أَي وَبِمَعْنى اسْتِحْقَاق ذمه تَعَالَى وعقابه للْفَاعِل على ذَلِك وَالْحجّة (لنا فِي الأول) أَي اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح (أَن قبح الظُّلم ومقابلة الْإِحْسَان بالإساءة مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ الْعُقَلَاء حَتَّى من لم يتدين بدين) وَلَا يَقُول بشرع كالبراهمة (مَعَ اخْتِلَاف عاداتهم وأغراضهم) يرد عَلَيْهِ أَنه سلمنَا اتِّفَاق الْعُقَلَاء على قبح مَا ذكر بِمَعْنى أَنه يذم فَاعله، لَكِن لَا نسلم اتِّفَاقهم عَلَيْهِ بِمَعْنى اسْتِحْقَاقه الذَّم عِنْد الله تَعَالَى وَالْعِقَاب، والنزاع فِيهِ (فلولا أَنه) أَي اتصاف الْفِعْل بذلك (مدرك بِالضَّرُورَةِ فِي الْفِعْل لذاته لم يكن ذَلِك) الِاتِّفَاق من ضَرُورَة(2/152)
الِاتِّفَاق على قبح مَا ذكر الِاتِّفَاق على حسن مَا يُقَابله (وَمنع الِاتِّفَاق على كَون الْحسن والقبح متعلقها) أَي الْأَحْكَام صادرة (مِنْهُ تَعَالَى) يَعْنِي سلمنَا الِاتِّفَاق على إِدْرَاك الْحسن والقبح فِي بعض أَفعَال الْعباد كَمَا ذكرْتُمْ لَكِن لَا نسلم الِاتِّفَاق على أَن مَا استحسنه الْعقل أَو استصحبه صَار مُتَعَلقا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَهَذَا الْمَنْع مَذْكُور فِي شرح الْمَقَاصِد (لَا يمسنا) أَي لَا يلحقنا مِنْهُ ضَرَر لأَنا لم نقل بِأَن مُجَرّد اتصاف الْعقل بالْحسنِ والقبح يسْتَلْزم كَونه مُتَعَلقا بِحكم، بل يُوقف هَذَا التَّعَلُّق على السّمع، فِيهِ أَنه قد سبق أَن الْمُتَنَازع فِيهِ الْقبْح بِمَعْنى اسْتِحْقَاق الذَّم عِنْد الله وَالْعِقَاب، وَإِذا كَانَ هَذَا الْمَعْنى ضَرُورِيًّا يلْزم كَونه مذموما عِنْده مُسْتَحقّا للعقاب، وَهَذَا عين التَّحْرِيم، وَقد يُجَاب عَنهُ أَنه لَيْسَ من الضروريات الَّتِي يُمكن عدم مطابقتها للْوَاقِع فَيحْتَاج إِلَى السّمع، وَلَو سلم فكونه مُسْتَحقّا لما ذكر لَا يسْتَلْزم توجه الْخطاب مِنْهُ تَعَالَى بِطَلَب تَركه وَالله أعلم (وَقَوْلهمْ) أَي الأشاعرة فِي دفع اتصافه بالْحسنِ والقبح (وَهُوَ) أَي مَا ذكرْتُمْ من قبح الظُّلم، والمقابلة الْمَذْكُورَة لَيْسَ الِاتِّفَاق عَلَيْهِ لكَونه مدْركا بِالضَّرُورَةِ، بل لكَونه (مِمَّا أبقت فِيهِ الْأَغْرَاض والعادات وَاسْتحق) على صِيغَة الْمَجْهُول (بِهِ) أَي بِسَبَبِهِ، وَالضَّمِير للموصول (الْمَدْح) مَرْفُوع لقِيَامه مقَام الْفَاعِل، وَهَذَا إِذا فعل مَا يُقَابله (والذم) إِذا فعله (فِي نظر الْعُقُول جَمِيعًا) ظرف للاستحقاق، فمنشأ الِاتِّفَاق اتِّبَاع الْأَغْرَاض والعادات على مُقْتَضى الطبيعة ومحبة الْمَدْح، وَكَرَاهَة الذَّم، لِأَن مَا ذكرْتُمْ من إِدْرَاك الْحسن والقبح على سَبِيل الضَّرُورَة (لتَعلق مصَالح الْكل بِهِ) أَي بِمَا ذكرْتُمْ، وَهُوَ تَعْلِيل للاتفاق الْمَذْكُور (لَا يُفِيد) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْلهم: أَي القَوْل الْمَذْكُور لَا يدْفع حجتنا: إِذْ هُوَ إِنْكَار للبديهي (بل هُوَ) أَي كَون الْفِعْل بِحَيْثُ يسْتَحق فَاعله الْمَدْح أَو الذَّم، وَلَو لتَعلق الْمصَالح هُوَ (المُرَاد بالذاتي) أَي بِكَوْن الْفِعْل مَوْصُوفا بالْحسنِ أَو الْقبْح لذاته، لَا لكَون الْفِعْل مقتضيا لذاته الْحسن والقبح (للْقطع بِأَن مُجَرّد حَرَكَة الْيَد قتلا) أَي حَرَكَة قتل (ظلما) صفة لقتل (لَا تزيد حَقِيقَتهَا) أَي الْحَرَكَة الْمَذْكُورَة (على حَقِيقَتهَا) أَي حركتها قتلا (عدلا، فَلَو كَانَ الذاتي) هُوَ مَا يكون (مُقْتَضى الذَّات اتَّحد لازمها) أَي الحركتين (حسنا وقبحا) يَعْنِي إِن كَانَ لَازم أَحدهمَا الْحسن كَانَ لَازم الآخر كَذَلِك، وهما منصوبان على الظَّرْفِيَّة: أَي اتَّحد اللازمان فِي الْحسن والقبح، أَو على الحالية: أَي حَال كَونهمَا حسنا، أَو حَال كَونهمَا قبحا (فَإِنَّمَا يُرَاد) بالذاتي (مَا يجْزم بِهِ الْعقل لفعل من الصّفة) الَّتِي هِيَ الْحسن والقبح بَيَان للموصول (بِمُجَرَّد تعقله) أَي الْفِعْل حَال كَون هَذَا المجزوم بِهِ (كَائِنا) أَي ناشئا (عَن صفة نفس مَا قَامَ بِهِ) ذَلِك الْفِعْل، فههنا صفتان: إِحْدَاهمَا قَائِمَة بِالنَّفسِ الناطقة كالسماحة والجود وَمَا يقابلهما، وَالْأُخْرَى ناشئة عَن الأولى أثر(2/153)
لَهَا يظْهر فِي الْخَارِج (فباعتبارها) أَي تِلْكَ الصّفة الناشئة عَن صفة نفس الْفَاعِل (يُوصف) ذَلِك الْفِعْل (بِأَنَّهُ عدل حسن، أَو ضِدّه) أَي ظلم قَبِيح (هَذَا) الْجَزْم من الْعقل وَالْوَصْف بذلك (باضطرار الدَّلِيل) أَي الْعقل مُضْطَر فِي ذَلِك بِسَبَب الدَّلِيل الْمُوجب لذَلِك (وَيُوجب) مَا ذكر من الْقطع بِأَن مُجَرّد الْحَرَكَة الخ، وَمن جزم الْعقل إِلَى آخِره (كَونه) أَي كَون اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح (مُطلقًا) أَي على الْإِطْلَاق إِنَّمَا هُوَ (لخارج) أَي لأَمره خَارج عَن ذَات الْفِعْل من الوصفين الْمَذْكُورين (وَمثله) أَي مثل اتِّفَاق الْعُقَلَاء على مَا ذكر فِي إِفَادَة الْمَطْلُوب (تَرْجِيح الصدْق) أَي تَرْجِيح الصدْق على الْكَذِب (مِمَّن اسْتَوَى فِي تَحْصِيل غَرَضه) من جلب نفع أَو دفع ضرّ (هُوَ) أَي الصدْق (وَالْكذب وَلَا علم لَهُ بشريعة) مبينَة حسن الصدْق وقبح الْكَذِب، فلولا أَنَّهُمَا معلومان بِالضَّرُورَةِ لما كَانَ الْأَمر كَذَلِك (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا من قبل الأشاعرة (بِأَن الإيثار) أَي التَّرْجِيح من الْعقل للصدق على الْكَذِب فِي فِي هَذَا (لَيْسَ لحسنه) أَي الصدْق (عِنْده تَعَالَى) بل لحسنه عندنَا (لَيْسَ يضرنا) لِأَنَّهُ لم يثبت بذلك الحكم حَتَّى يُقَال ثُبُوته مَوْقُوف على كَونه مَوْصُوفا بالْحسنِ والقبح عِنْد الله كَمَا هُوَ عندنَا، وَإِنَّمَا يضر الْمُعْتَزلَة لادعائهم استلزام الاتصاف بذلك تعلق الحكم بِهِ من غير توقف على سمع (نعم يرد عَلَيْهِ) أَي هَذَا الدَّلِيل (منع التَّرْجِيح) للصدق على الْكَذِب (على التَّقْدِير) أَي تَقْدِير مُسَاوَاة الصدْق وَالْكذب فِي حُصُول الْغَرَض: إِذْ قد يرجح الْكَذِب على ذَلِك التَّقْدِير كَمَا سيشير إِلَيْهِ (قَالُوا) أَي الأشاعرة أَولا (لَو اتّصف) الْفِعْل بالْحسنِ والقبح (كَذَلِك) أَي اتصافا ذاتيا (لم يتَخَلَّف) كل مِنْهُمَا عَمَّا اتّصف بِهِ فِي بعض الْمَوَارِد (و) قد (تخلف) قبح الْكَذِب (فِي) وَقت (تعينه) أَي الْكَذِب طَرِيقا (لعصمة نَبِي) من ظَالِم مثلا فَإِنَّهُ حسن وَاجِب (وَالْجَوَاب هُوَ) أَي الْكَذِب الْمُتَعَيّن للغرض بَاقٍ (على قبحه) وَلم يتَخَلَّف عَنهُ كإجراء كلمة الْكفْر على اللِّسَان رخصَة (و) لَكِن (حسن الإنقاذ) أَي التَّلْخِيص للنَّبِي (يَرْبُو) أَي يزِيد (قبح تَركه) أَي ترك التَّلْخِيص (عَلَيْهِ) أَي على الْكَذِب الَّذِي بِهِ الإنقاذ (وَغَايَة مَا يسْتَلْزم) هَذَا (أَنَّهُمَا) أَي الْحسن والقبح فِيهِ (لخارج لكنهما) أَي الْحسن والقبح (من جِهَتَيْنِ) فالقبح من جِهَة كَونه كذبا، وَالْحسن من جِهَة كَونه إنقاذا (ترجحت إِحْدَاهمَا) وَهِي جِهَة الْحسن على الْأُخْرَى (وَقيل هُوَ) أى تعين الْكَذِب (فرض مَا لَيْسَ بواقع: اذ لَا كذب الا وَعنهُ مندوحة التَّعْرِيض) أَي سعته: يَعْنِي كل من يكذب لَيْسَ لَهُ ضَرُورَة ملجئه إِلَى الْكَذِب: إِذْ يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بِمَالِه محمل صَادِق هُوَ يَقْصِدهُ، وَالنَّاس يفهمون مِنْهُ الْمحمل الآخر الَّذِي لَو قَصده لصار كَاذِبًا فسعته باستغنائه عَن(2/154)
الْكَذِب إِنَّمَا حصل بِسَبَب التَّعْرِيض، فالإنقاذ لَا يتَوَقَّف على الْكَذِب ليتعين فيترتب عَلَيْهِ مَا ذكر (قَالُوا) أَي الأشاعرة ثَانِيًا (لَو اتّصف) الْفِعْل بالْحسنِ والقبح لذاته (اجْتمع المتنافيان فِي لأكذبن غَدا، لِأَن صدقه) أَي لأكذبن غَدا (الَّذِي بِهِ حسنه) إِنَّمَا يتَحَقَّق (بكذب غَد فيقبح) لكَونه يسْتَلْزم كذبا فَاجْتمع الْحسن والقبح فِيهِ (وَقَلبه) أَي وَلِأَن كذبه الَّذِي بِهِ قبحه بِعَدَمِ كذب غَد فَيحسن، ولكونه ترك كذب فَاجْتمع الْحسن والقبح فِي كذبه (ومبناه) أَي هَذَا الدَّلِيل (على أَن الْمَلْزُوم لخارج حسن حسن) فَإِن لم يكن لَهُ فِي حد ذَاته حسن، والملزوم لخارج قَبِيح قَبِيح، وَإِن كَانَ لَهُ حسن فِي حد ذَاته (وَجَوَابه مَا مر من عدم التَّنَافِي) بَين كَونه حسنا وقبيحا (للجهتين) أَي لَا يُنَافِي كَون الشَّيْء حسنا من جِهَة كَونه قبيحا من جِهَة أُخْرَى (لما مر من المُرَاد بالذاتي) تَعْلِيل لِإِمْكَان اعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ الْمَفْهُوم ضمنا، كَأَنَّهُ قيل كَيفَ يُمكن ذَلِك مَعَ كَون الْحسن والقبح ذاتيين والذات جِهَة وَاحِدَة، فَالْجَوَاب أَن إِمْكَانه لِمَعْنى وَجب الْمصير إِلَيْهِ، وَذَلِكَ الْمَعْنى هُوَ الَّذِي ذكر أَنه مُرَاد بالذاتي، وَبَين مفصلا (فَلَا ينتهض) الدَّلِيل الْمَذْكُور حجَّة (على أحد، قَالُوا) أَي الأشاعرة (ثَالِثا لَو اتّصف) الْفِعْل بالْحسنِ والقبح لذاته (وهما) أَي الْحسن والقبح لذاته (عرضان قَامَ الْعرض) الَّذِي هُوَ أَحدهمَا (بِالْعرضِ) الَّذِي هُوَ الْفِعْل (لِأَن الْحسن زَائِد) على مَفْهُوم الْفِعْل (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن زَائِدا عَلَيْهِ: بل كَانَ عينه أَو جزءه (كَانَت عقلية الْفِعْل عقليته) أَي الصُّورَة الْحَاصِلَة فِي الْعقل من الْفِعْل عين الصُّورَة الْحَاصِلَة فِيهِ من الْحسن، وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ قد يعقل الْفِعْل وَلَا يعقل حسنه وَلَا قبحه (و) أَيْضا الْحسن وصف (وجودي لِأَن نقيضه) أَي نقيض حسن (لَا حسن) وَهُوَ (سلب وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن سلبا بل وجوديا (استلزم محلا مَوْجُودا) لِامْتِنَاع قيام الصّفة الثبوتية بِالْمحل الْمَعْدُوم، وَإِذا استلزم محلا مَوْجُودا (فَلم يصدق على الْمَعْدُوم) لاحسن، وَهُوَ بَاطِل بِالضَّرُورَةِ، وَإِذا كَانَ أحد النقيضين سلبيا كَانَ الآخر وجوديا ضَرُورَة امْتنَاع النقيضين. قَالَ الشَّارِح وَالْكَلَام فِي الْقبْح كَالْكَلَامِ فِي الْحسن، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْمَتْن حَيْثُ قَالَ: وهما عرضان الخ، غير أَن قَوْله: لِأَن الْحسن زَائِد لَا يظْهر فِيهِ وَجه التَّخْصِيص مَعَ أَن الْمُدَّعِي مركب، وَدَلِيل الزِّيَادَة لَا يخْتَص بالْحسنِ إِلَّا بِأَن يُقَال الوجودية مُعْتَبرَة فِي كَون الْوَصْف عرضا كَمَا يفِيدهُ قَوْله وجودي الخ، وَهُوَ الْحق فَبين أول كَلَامه وَآخره نوع تدافع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بقوله: عرضان وصفان قائمان بِالْفِعْلِ، وبالعرض فِي قَوْله: قَامَ الْعرض الْحسن، وَحِينَئِذٍ لَا يُنَافِي قَول الشَّارِح: وَالْكَلَام إِلَى آخِره، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ قَوْله (وَدفع) هَذَا الدَّلِيل (بِأَن عدمية صُورَة السَّلب) أَي مَا صدق عَلَيْهِ السَّلب على الْإِطْلَاق، عبر بهَا لكَونه(2/155)
من الصُّور العقلة، أَو لِأَن صُورَة توهم العدمية (مَوْقُوفَة على كَون مَدْخُول النَّافِي وجوديا) وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بِهِ ثَانِيًا مَا أُرِيد بِهِ أَولا وَهُوَ مجوع النَّافِي ومدخوله (وَإِثْبَات وجوديته) أَي مَدْخُول النَّافِي (بعدميتها) أَي صُورَة السَّلب (دور، و) يرد (عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الدّفع أَن يُقَال (إِنَّمَا أثْبته) أَي أثبت النَّفْي وجود مدخوله (باستلزام مَحل مَوْجُود) أَي باستلزام النَّفْي محلا مَوْجُودا لَو لم يكن عدميا يَعْنِي لَيْسَ الِاسْتِدْلَال بالعدمية الْمَأْخُوذَة مِمَّا ذكر بل الْمَأْخُوذَة من عدم استلزامه محلا وجوديا (ثمَّ ينْتَقض) الدَّلِيل (بِإِمْكَان الْفِعْل وَنَحْوه) كامتناعه بِأَن يُقَال لَو كَانَ الْإِمْكَان ذاتيا للْفِعْل لزم قيام الْعرض بِالْعرضِ، لِأَن الْإِمْكَان زَائِد على مَفْهُومه وَإِلَّا لزم أَن يتعقل بتعقله ثمَّ يلْزمه كَونه وجوديا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي سلب إِلَى آخِره وَاللَّازِم بَاطِل للاتفاق على أَن الْإِمْكَان وَنَحْوه لَيْسَ بموجود بل من الاعتبارات الْعَقْلِيَّة والعوارض الذهنية (وَلَا ينْتَقض) هَذَا الدَّلِيل (باقتضائه) أَي هَذَا الدَّلِيل (أَنه لَا يَتَّصِف فعل بِحسن شَرْعِي) للُزُوم قيام الْعرض بِالْعرضِ، وَإِنَّمَا لَا ينْتَقض (لِأَنَّهُ) أَي الْحسن الشَّرْعِيّ (لَيْسَ عرضا لِأَنَّهُ) أَي حسنه (طلبه تَعَالَى الْفِعْل) وَطَلَبه من تعلقات كَلَامه الْقَدِيم بِفعل الْمُكَلف لَا صفة لَهُ (وَالتَّحْقِيق أَن صُورَة السَّلب قد تكون وجودا) أَي مَوْجُودا (كاللامعدوم) أَي مَا لَيْسَ بمعدوم (و) قد يكون (منقسما) إِلَى مَوْجُود ومعدوم (كاللاممتنع) فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى الْوَاجِب والممكن الشَّامِل للمعدوم (وَلَو سلم) أَنه لَو اتّصف بِأَحَدِهِمَا لذاته لزم قيام الْعرض بِالْعرضِ (فقيام الْعرض) بِالْعرضِ (بِمَعْنى النَّعْت) للعرض (بِهِ) أَي بِالْعرضِ، فالقيام بَينهمَا اخْتِصَاص الناعت والمنعوت (غير مُمْتَنع) بل وَاقع كاتصاف الْحَرَكَة بالسرعة والبطء (إِذْ حَقِيقَته) أَي كَون الْعرض قَائِما بِالْعرضِ بِمَعْنى النَّعْت بِهِ (عدم الْقيام) للعرض بِالْعرضِ (خُصُوصا) أَي فِي خُصُوص الْمَادَّة وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ مَا قَامَ معنى لَا وجود لَهُ فِي الْأَعْيَان (وَحسن الْفِعْل) أَمر (معنوي إِذْ لَيْسَ المحسوس سوى الْفِعْل) وَلَو كَانَ الْحسن الْقَائِم بِهِ من الْأَعْرَاض الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج لَكَانَ محسوسا (قَالُوا) أَي الأشاعرة (رَابِعا فعل العَبْد اضطراري) لَيْسَ باختياري (واتفاقي) يصدر مِنْهُ كَيْفَمَا اتّفق: أَي يَنْقَسِم إِلَيْهِمَا (لِأَنَّهُ) أَي فعله إِن كَانَ (بِلَا مُرَجّح) لوُجُوده على عَدمه بل يصدر عَنهُ تَارَة وَلَا يصدر عَنهُ أُخْرَى بِلَا تجدّد أَمر فَهُوَ (الثَّانِي) أَي اتفاقي (وَإِن) كَانَ (بِهِ) أَي بمرجح (فإمَّا) أَن يكون بمرجح (من العَبْد وَهُوَ بَاطِل للتسلسل) إِذْ ينْقل الْكَلَام إِلَى ذَلِك الْمُرَجح وهلم جرا (أَو) بمرجح (لَا مِنْهُ) أَي العَبْد (فَإِن لم يجب الْفِعْل مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْمُرَجح (بِأَن صَحَّ تَركه) أَي الْفِعْل كَمَا صَحَّ فعله (عَاد الترديد) وَهُوَ أَنه إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمُرَجح بِلَا مُرَجّح أَو بِهِ، وَمَا كَانَ بِهِ فإمَّا من العَبْد أَو من غَيره وأياما كَانَ يلْزم الْمَحْذُور (وَإِن وَجب) الْفِعْل(2/156)
مَعَه (فاضطراري وَلَا يتصفان) أَي الاضطراري والاتفاق (بهما) أَي الْحسن والقبح اتِّفَاقًا (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (مَدْفُوع بِأَنَّهُ) أَي صُدُور الْفِعْل (بمرجح مِنْهُ) أَي العَبْد وَهُوَ الِاخْتِيَارِيّ (وَلَيْسَ الِاخْتِيَار بآخر) أَي بِاخْتِيَار آخر ليتسلسل (وصدور الْفِعْل عِنْد الْمُعْتَزلَة مَعَ الْمُرَجح على سَبِيل الصِّحَّة لَا الْوُجُوب) يَعْنِي مَعَ وجود ذَلِك الْمُرَجح يَصح صدوره فَلَا يلْزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، لَا أَنه يصير صدوره ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يمْتَنع عدم الصُّدُور (إِلَّا أَبَا الْحُسَيْن) مِنْهُم فَإِنَّهُ يَقُول بِالْوُجُوب، لِأَن الْمُرَجح إِذا رجح جَانب الْوُجُود لَا يُمكن أَن يتَحَقَّق مَا يُقَابله وَإِلَّا يلْزم تَرْجِيح الْمَرْجُوح (وَلَو سلم) أَن الْمُرَجح يُوجب الْفِعْل (فالوجوب بِالِاخْتِيَارِ لَا يُوجب الِاضْطِرَار الْمنَافِي لِلْحسنِ والقبح، وَدفع) هَذَا الدّفع بِأَنَّهُ (ثَبت لُزُوم الِانْتِهَاء) أَي انْتِهَاء تسلسل الْعلَّة (إِلَى مُرَجّح لَيْسَ من العَبْد) لما ذكر من بطلَان التسلسل (يجب مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْمُرَجح (الْفِعْل) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو لم يجب مَعَه يعود الترديد على مَا ذكر، واجملتان صفتان للمرجح (و) بذلك (يبطل اسْتِقْلَال العبدية) أَي بِالْفِعْلِ (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْفِعْل الَّذِي لَيْسَ العَبْد مُسْتقِلّا بِهِ (عِنْد الْمُعْتَزلَة لَا يحسن وَلَا يقبح وَلَا يَصح التَّكْلِيف بِهِ، وَهُوَ) أَي الدّفع لذَلِك الدّفع (رد الْمُخْتَلف الى الْمُخْتَلف) لما كَانَ الِاسْتِدْلَال من قبل الأشاعرة فِي مُقَابلَة الْقَائِلين باتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح، وهم الْمُعْتَزلَة وَالْحَنَفِيَّة بعض مقدماته غير مُسلم عِنْد الْمُعْتَزلَة وَهُوَ الْوُجُوب المستلزم للاضطرار، وَبَعضهَا غير مُسلم عِنْد الْحَنَفِيَّة وَهُوَ اقْتِضَاء الْوُجُوب مُطلقًا الِاضْطِرَار الْمنَافِي للاتصاف الْمَذْكُور، وَكَانَ حَاصِل الدّفع من الْقَائِلين بِهِ منع الْوُجُوب مُسْتَندا بِأَن صُدُور الْفِعْل عِنْد الْمُعْتَزلَة على سَبِيل الصِّحَّة وَمنع الِاقْتِضَاء الْمَذْكُور، وَكَانَ حَاصِل دفع الدّفع من قبل الأشاعرة إِثْبَات الْمُدَّعِي بتغيير الدَّلِيل إِلَى مُقَدمَات: مِنْهَا لُزُوم الِانْتِهَاء إِلَى مُرَجّح لَيْسَ من العَبْد، وَهُوَ غير مُسلم عِنْد الْمُعْتَزلَة، وَمِنْهَا بطلَان اسْتِقْلَال العَبْد وَهُوَ كَذَلِك، وَمِنْهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله وَمثله عِنْد الْمُعْتَزلَة الخ، وَيفهم مِنْهُ أَن مثله يحسن ويقبح عِنْد الْحَنَفِيَّة وَيصِح بِهِ التَّكْلِيف كَانَ كل وَاحِد من الِاسْتِدْلَال وَمَا غير إِلَيْهِ مركبا من مُقَدمَات مُخْتَلفَة كل مِنْهَا على رَأْي يؤم وكل مِنْهَا مُخْتَلف، وَالْأول مَرْدُود إِلَى الثَّانِي أَو الْعَكْس لكَونه بَدَلا مِنْهُ وَالْمرَاد من الْمُخْتَلف الأول: الأشاعرة، وَمن الثَّانِي الْمُعْتَزلَة، وَمن الرَّد تَوْجِيه إِلْزَام الأشاعرة عَن الْحَنَفِيَّة نَحْو الْمُعْتَزلَة وَالله أعلم.
وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله (وَلَا يلْزمنَا) معشر الْحَنَفِيَّة مَا لزم الْمُعْتَزلَة من الدَّلِيل الْمشَار إِلَيْهِ بقوله ثَبت إِلَى آخِره (لِأَن وجود الِاخْتِيَار) فِي الْفِعْل (عندنَا كَاف فِي الْإِنْصَاف) بالْحسنِ والقبح (وَصِحَّة التَّكْلِيف) الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ فَلَا يضر الْوُجُوب الْمَسْبُوق بِالِاخْتِيَارِ (وَهَذَا الدّفع) المفاد بقوله مَدْفُوع إِلَى آخِره (يشْتَرك بَين أهل القَوْل الَّذِي اخترناه) وَهُوَ مَا ذكره ابْن عين الدولة عَن(2/157)
شاهدهم من أَئِمَّة بخاري (وَجمع من الأشاعرة) وهم الَّذين لَيْسَ مرجع نظرهم فِي الْأَفْعَال الْجَبْر (وَلَا ينتهض) هَذَا الدّفع (مِنْهُم) أَي الأشاعرة غير الْجمع الْمَذْكُور (إِذْ مرجع نظرهم فِي الْأَفْعَال الْجَبْر، لِأَن الِاخْتِيَار أَيْضا مَدْفُوع للْعَبد) أَي إِلَيْهِ (بخلقه تَعَالَى لَا صنع لَهُ) أَي للْعَبد (فِيهِ) أَي الِاخْتِيَار، ثمَّ لما ذكر عدم انتهاض مَا ذكر من الأشاعرة الَّذين أدّى نظرهم إِلَى الْجَبْر أَرَادَ أَن يبين لَهُم انتهاضه من الْحَنَفِيَّة فَقَالَ (أما الْحَنَفِيَّة) إِن شاركوا الأشاعرة فِي إِثْبَات الْكسْب للْعَبد لم يشاركوهم فِي تَفْسِيره (فالكسب) عِنْدهم (صرف الْقُدْرَة المخلوقة إِلَى الْقَصْد المصمم إِلَى الْفِعْل) فالجار الثَّانِي مُتَعَلق بِالْقَصْدِ أَو بالمصمم لتَضَمّنه معنى التَّوَجُّه (فأثرها) أَي الْقُدْرَة المخلوقة، لَا قدرَة الله كَمَا زعم الشَّارِح وَإِلَّا يلْزم مَا لزم الأشاعرة من الْجَبْر وَهُوَ ظَاهر (فِي الْقَصْد) الْمَذْكُور (ويخلق) الله (سُبْحَانَهُ الْفِعْل عِنْده) أَي عِنْد الْقَصْد المصمم (بِالْعَادَةِ) أَي بطرِيق الْعَادة بِأَن جرت عَادَة الله أَن يخلق فعل العَبْد بعد قَصده كَمَا جرت عَادَته فِي خلق الْأَشْيَاء عِنْد الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة من غير تَأْثِير لتِلْك الْأَسْبَاب وَلَا مدخلية فِيهَا، ثمَّ أَرَادَ أَن يبين أَن تَأْثِير الْقُدْرَة المخلوقة فِي الْقَصْد الْمَذْكُور لَا يُوجب نقصا فِي الْقُدْرَة الْقَدِيمَة فَقَالَ (فَإِن كَانَ الْقَصْد) الْمَذْكُور (حَالا) أَي وَصفا (غير مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم) فِي نَفسه قَائِما بموجود (فَلَيْسَ) الْكسْب (بِخلق) إِذْ هُوَ إِخْرَاج الْمَوْجُود من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود فَلَا يلْزم إِثْبَات خَالق غير الله (وَعَلِيهِ) أَي على ثُبُوت الْحَال أَو على كَون الْقَصْد حَالا (جمع من الْمُحَقِّقين) مِنْهُم القَاضِي أَبُو بكر وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَولا وَجوزهُ صدر الشَّرِيعَة (وعَلى نَفْيه) أَي الْحَال كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور (فَكَذَلِك) أَي لَيْسَ الْكسْب بِخلق أَيْضا (على مَا قيل) وَالْقَائِل صدر الشَّرِيعَة (الْخلق أَمر إضافي يجب أَن يَقع بِهِ الْمَقْدُور لَا فِي مَحل الْقُدْرَة) أَي لَا فِيمَن قَامَت بِهِ الْقُدْرَة (وَيصِح انْفِرَاد الْقَادِر بإيجاد الْمَقْدُور بذلك الْأَمر) الإضافي (وَالْكَسْب أَمر إضافي يَقع بِهِ) الْمَقْدُور (فِي محلهَا) أَي الْقُدْرَة، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الْفرق بَينهمَا فَقَوله (وَلَا يَصح انْفِرَاده) أَي الْقَادِر (بإيجادها) أَي الْمَقْدُور لزِيَادَة التَّمْيِيز، فأثر الْخَالِق فِي فعل العَبْد إِيجَاد الْفِعْل فِي غَيره، وَأثر الكاسب التَّسَبُّب إِلَى ظُهُور ذَلِك الْفِعْل الْمَخْلُوق على جوارحه (وَلَو بطلت هَذِه التَّفْرِقَة) بَين الْخلق وَالْكَسْب (على تعذره) أَي مَعَ تعذر الْبطلَان الْمَذْكُور بِقِيَام الْبُرْهَان على وجودهَا، لنا مخلص آخر وَهُوَ أَنه (وَجب تَخْصِيص) خلق (الْقَصْد المصمم من عُمُوم الْخلق) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بالنصوص الدَّالَّة على أَنه تَعَالَى خلق كل شَيْء (بِالْعقلِ) مُتَعَلق بالتخصيص: أَي بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ لَا السّمع، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِك الدَّلِيل بقوله (لِأَنَّهُ) أَي كَون الْقَصْد المصمم مخلوقا للْعَبد (أدنى مَا يتَحَقَّق بِهِ فَائِدَة خلق الْقُدْرَة) الَّتِي من شَأْنهَا التَّمَكُّن من الْفِعْل وَالتّرْك وينتفى بِهِ الْجَبْر (وَيتَّجه بِهِ(2/158)
حسن التَّكْلِيف المستعقب الْعقَاب بِالتّرْكِ وَالثَّوَاب بالامتثال) بل لَا امْتِثَال أصلا وَلَا مَعْصِيّة يَعْنِي إِذا لم يكن لقدرة العَبْد تَأْثِير فِي نفس الْفِعْل وَفِي الْعَزْم الْمَسْبُوق بِهِ الْفِعْل لَا يبْقى لحسن التَّكْلِيف الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَجه، بل لَا يتَحَقَّق من الْمُكَلف امْتِثَال لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْفِعْل والعزم بتأثير الْقُدْرَة الْقَدِيمَة من غير مدخلية للحادثة كَانَ العَبْد مَحْجُورا فيهمَا وَالْفِعْل الاضطراري لَا يتَحَقَّق بِهِ الِامْتِثَال لِأَنَّهُ شَرط فِيهِ الْإِجْبَار وَأَيْضًا لَا مَعْصِيّة: إِذْ هِيَ ارْتِكَاب الْمحرم اخْتِيَارا (قَالُوا) أَي الأشاعرة (خَامِسًا لَو حسن) الْفِعْل (لذاته أَو لصفة أَو اعْتِبَار لم يكن الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْتَارًا فِي الحكم) وَذَلِكَ (لِأَنَّهُ) أَي الحكم حِينَئِذٍ (يتَعَيَّن كَونه) أَي الحكم (على وفْق مَا فِي الْفِعْل من الصّفة) الَّتِي هِيَ الْحسن أَو الْقبْح، لِأَن الحكم على خلاف مَا هُوَ الْمَعْقُول قَبِيح لَا يَصح مِنْهُ تَعَالَى، وَفِي التعين نفي الِاخْتِيَار (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (وَجه عَام) لرد من عدا الأشاعرة بزعمهم (و) لَكِن (لَا يلْزمنَا) معشر الْحَنَفِيَّة (لِأَنَّهُ) أَي الحكم (إِذا كَانَ قَدِيما عندنَا) لِأَنَّهُ كَلَامه النَّفْسِيّ، بِخِلَاف الْمُعْتَزلَة فَإِن الحكم عِنْدهم حَادث وَحَيْثُ تعين صَار اضطراريا (كَيفَ يكون اختياريا) إِذْ أثر الْفِعْل الْمُخْتَار يجب أَن يكون حَادِثا، فَهُوَ عندنَا فَاعل مُوجب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاته (فَهُوَ) أَي هَذَا التَّعْلِيل (إلزامي على الْمُعْتَزلَة ومدفوع عَنْهُم بِأَن غَايَته) أَي غَايَة مَا يلْزم الْمُعْتَزلَة فِي مقَام التَّأْوِيل (أَنه) تَعَالَى (مُخْتَار فِي مُوَافقَة تعلق حكمه للحكمة) صلَة الْمُوَافقَة: يَعْنِي لَيْسَ بمضطر فِي هَذِه الْمُوَافقَة، فَيصح مِنْهُ أَن يتَعَلَّق حكمه غير مُوَافق لَهَا وَلَا يخفى أَن هَذَا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُم مَعَ القَوْل بِوُجُوب الْأَصْلَح عَلَيْهِ فَإِن قيل المُرَاد بِهَذَا الْوُجُوب بِالْغَيْر وَبِذَلِك الصِّحَّة بِالنّظرِ إِلَى الذَّات قُلْنَا الْمُعْتَبر فِي الِاخْتِيَار الصِّحَّة بِحَسب نفس الْأَمر، لَا بِحَسب الذَّات فَقَط فَتَأمل (وَذَلِكَ) أَي اخْتِيَار تِلْكَ الْمُوَافقَة المستلزم تعلق إِرَادَته بِأحد الطَّرفَيْنِ (لَا يُوجب اضطراره) تَعَالَى فِي الحكم، وَإِنَّمَا يُوجِبهُ الِاضْطِرَار فِيهَا (وَلنَا فِي الثَّانِي) من الْأُمُور الثَّلَاثَة الْمشَار إِلَيْهَا بقوله فِيمَا سبق فتمت ثَلَاثَة: وَهُوَ عدم استلزام اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح حكما فِي العَبْد (لَو تعلق) الحكم بِالْفِعْلِ المتصف بالْحسنِ أَو الْقبْح فِي الْجُمْلَة، لِأَن الْمُدَّعِي سلب كلي ونقيضه إِيجَاب ضَرُورِيّ جزئي (قبل الْبعْثَة لزم التعذيب بِتَرْكِهِ) أَي بترك الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ الحكم (فِي الْجُمْلَة) بِأَن لم يتَعَلَّق بِتَرْكِهِ الْعَفو كَذَا ذكر، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يجوز الْعَفو فِي جَمِيع صور الْمُخَالفَة، وَيُجَاب بِأَن الشّرك لَا يُعْفَى وَالظَّاهِر أَن قَوْله فِي الْجُمْلَة مَبْنِيّ على مَا ذكرنَا من اعْتِبَار الْإِيجَاب الجزئي فِي جَانب الشَّرْط (وَهُوَ) أَي التعذيب بِتَرْكِهِ قبل الْبعْثَة (مُنْتَفٍ) فَإِن قلت انْتِفَاء التعذيب قبل الْبعْثَة لَا يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف قبلهَا لجَوَاز كَونه مُكَلّفا مُسْتَحقّا للعذاب بِالتّرْكِ معفوا عَنهُ قلت الْآيَة تدل على أَنه لَا يسْتَحقّهُ أَيْضا(2/159)
قبلهَا لدلالتها على ثُبُوت الْعذر لَهُم، وكونهم معذورين يُنَافِي اسْتِحْقَاق الْعَذَاب وَالله أعلم (بقوله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} قيل أَي وَلَا مثيبين فاستغنى عَن ذكر الثَّوَاب بِذكر الْعَذَاب الَّذِي هُوَ أظهر فِي تحقق معنى التَّكْلِيف (وتخصيصه) أَي الْعَذَاب بِعَذَاب الدُّنْيَا كَمَا جرى للأمم السالفة من مُكَذِّبِي الرُّسُل، أَو بِمَا عدا الْإِيمَان (بِلَا دَلِيل) وَأبْعد من هَذَا أَن يُرَاد بالرسول الْعقل (وَنفي التعذيب) الْمَذْكُور فِي الْآيَة (وَإِن لم يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف) بِالْكُلِّيَّةِ (عِنْد أبي مَنْصُور) وموافقيه لجَوَاز الْعَفو عِنْدهم عَن الْمُكَلف الَّذِي ترك مَا كلف بِهِ كَذَا ذكره الشَّارِح، وَيرد عَلَيْهِ أَن عدم استلزام نفي التعذيب نفي التَّكْلِيف لجوار الْعَفو لَا يخْتَص بِأبي مَنْصُور، فَالْوَجْه أَن يُقَال أَنه لما قَالَ يكون العَبْد مُكَلّفا قبل الْإِرْسَال بِبَعْض الْأَحْكَام دون بعض على مَا ذكر كَانَ معنى الْآيَة عِنْده: مَا كُنَّا معذبين بترك مَا يتَوَقَّف على السّمع (خلافًا للمعتزلة) قَالَ الشَّارِح فَإِنَّهُ يسْتَلْزم عِنْدهم قطعا لعدم تجويزهم الْعَفو جَريا مِنْهُ على مَا أسلف، وَأما على مَا ذَكرْنَاهُ فَمَعْنَاه خلافًا لَهُم فَإِنَّهُم يعممون التَّكْلِيف وَلَا يَقُولُونَ بِمثل مَا قَالَه أَبُو مَنْصُور غير أَنه يروج أَنهم لَا يثبتون بِالْعقلِ بعض الْأَحْكَام، فنفي التعذيب بترك تِلْكَ الْأَحْكَام لَا يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف عِنْدهم أَيْضا وَالْجَوَاب أَن مَا لَا يدْرك الْعقل فِيهِ حسنا أَو قبحا قَلِيل فالتكليف بِالْأَكْثَرِ قبل الْإِرْسَال مَوْجُود، وَتَخْصِيص الْآيَة بذلك الْقَلِيل تَأْوِيل بعيد فَتدبر (لكنه) أَي نفي التعذيب (يستلزمه) أَي نفي التَّكْلِيف عِنْد أبي مَنْصُور (فِي الْجُمْلَة) استلزام نفي التعذيب نفي التَّكْلِيف فِي الْجُمْلَة مَعْنَاهُ أَن نفي التعذيب على ترك فعل يتَوَقَّف حكمه على السّمع يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف بذلك الْفِعْل ونظائره، وَلَا يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف بِمَا لَا يتَوَقَّف حكمه عَلَيْهِ فَعلم أَن المُرَاد بِنَفْي التعذيب بالمحكوم عَلَيْهِ بِعَدَمِ الملزومية لنفي التَّكْلِيف مُطلقًا إِنَّمَا هُوَ نفي التعذيب على ترك بعض الْأَعْمَال لَا على ترك الْعَمَل مُطلقًا، لِأَن نَفْيه على تَركه مُطلقًا لَازمه نفي التَّكْلِيف مُطلقًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِنَّمَا لَا يلْزم) ترك التَّكْلِيف مُطلقًا (فِي) نفي التعذيب (معِين) بِأَن يكون مُتَعَلّقه ترك مَخْصُوص، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْعينِ مَا لَيْسَ صفة للْعُمُوم (فنفيه) أَي التعذيب (مُطلقًا لنفيه) أَي التَّكْلِيف مُطلقًا، فيستدل بالمعلول على الْعلَّة (وَأَيْضًا) يسْتَدلّ على انْتِفَاء التَّكْلِيف بِانْتِفَاء التعذيب بترك الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ الحكم عقلا بقوله تَعَالَى (وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله الْآيَة) أَي لقالوا {رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} -: وَجه الِاسْتِدْلَال أَنه تَعَالَى (لم يرد عذرهمْ) وَهُوَ أَنه على تَقْدِير عدم الْإِرْسَال لَا يسْتَحقُّونَ الْعَذَاب، بل هم معذورون لجهلهم (وَأرْسل) إِلَيْهِم رَسُولا (كي لَا يعتذروا بِهِ) وَلم يقل: هَذَا لَيْسَ بِعُذْر، لِأَن الْعقل كَاف فِي معرفَة الْأَحْكَام (وَأَيْضًا)(2/160)
يسْتَدلّ بقوله تَعَالَى {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ ثُبُوت الْحجَّة لَهُم على الله لَو عذبهم قبل الْبعْثَة، فَيُفِيد أَمنهم من الْعَذَاب، وَهُوَ يُوجب عدم الحكم قبلهَا (قَالُوا) أَي الْمُعْتَزلَة (لَو لم يثبت) حكم من الْأَحْكَام إِلَّا بِالشَّرْعِ (لزم إفحام الْأَنْبِيَاء) أَي عجزهم عَن إِثْبَات النُّبُوَّة، لِأَن النَّبِي إِذا ادّعى النُّبُوَّة وأتى بالمعجزة فَحِينَئِذٍ (إِذا قَالَ) النَّبِي للمبعوث إِلَيْهِ (انْظُر) فِي معجزتي (لتعلم) صدقي (قَالَ) الْمَبْعُوث إِلَيْهِ (لَا أنظر فِيهِ مَا لم يثبت الْوُجُوب) أَي وجوب النّظر (عَليّ) إِذْ لَهُ أَن يمْتَنع عَمَّا لم يجب عَلَيْهِ (وَلَا يثبت) الْوُجُوب عَليّ مَا لم أنظر) فِي معجزتك: إِذْ لَا وجوب إِلَّا بِالشَّرْعِ وَلم يثبت الشَّرْع بعد (أَو) قَالَ بِعِبَارَة أُخْرَى أوضح، وَهِي لَا أنظر (مَا لم يثبت الشَّرْع إِلَى آخِره) وَلَا يثبت الشَّرْع مَا لم أنظر، وَإِنِّي لَا أنظر، وَلَا سَبِيل حِينَئِذٍ للنَّبِي إِلَى دَفعه، وإفحامه بَاطِل، فَبَطل كَون وجوب النّظر فِيهِ شَرْعِيًّا فَتعين كَونه عقليا (وَالْجَوَاب أَن قَوْله: وَلَا يثبت إِلَى آخِره) أَي وَلَا يثبت الْوُجُوب عَليّ مَا لم أنظر (بَاطِل لِأَنَّهُ) أَي الْوُجُوب ثَابت (بِالشَّرْعِ) فِي نفس الْأَمر نظر فِي المعجز أَولا، غَايَة الْأَمر أَنه لَا يعلم ثُبُوته علما تصديقيا فَإِن قلت أَي فَائِدَة فِي ثُبُوته بِحَسب نفس الْأَمر إِذا لم يعلم بِهِ، وَهل يلْزم الْحجَّة عَلَيْهِ إِلَّا بعد علمه بِالطَّلَبِ، فَكَذَا إِذا عرض عَلَيْهِ النَّبِي أَن مَعَه معجزا إِن نظر فِيهِ يحصل بِهِ الْيَقِين بِكَوْنِهِ نَبيا صَادِقا فِيمَا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى من طلب الْإِيمَان وَغَيره، وَلَا يتَوَقَّف هَذَا على شَيْء سوى النّظر فِيهِ كَانَ ذَلِك أوفى حجَّة عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي إبائه متمردا ومتمتعا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَيْسَ) إِيجَاب النّظر عَلَيْهِ قبل النّظر، وَثُبُوت الشَّرْع عِنْده (تَكْلِيف غافل) بِمَا هُوَ غافل عَنهُ، وَلَا طلب فعل مِمَّا هُوَ خَالِي الذِّهْن عَن تصَوره عَن ذَلِك الْفِعْل (بعد فهم مَا خُوطِبَ بِهِ) وطولب مِنْهُ (وَمَا قيل تَصْدِيق من ثبتَتْ نبوته فِي أول إخباراته وَاجِب وَإِلَّا انْتَفَت فَائِدَة الْبعْثَة) وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصد من إرْسَال الرَّسُول تَبْلِيغ الْأَحْكَام الإلهية ليؤمنوا بهَا ويعملوا بموجبها، وَهُوَ لَا يحصل إِلَّا بالتصديق بإخباره فَيجب عَلَيْهِم التَّصْدِيق بالإخبار الأول: إِذْ عدم وُجُوبه يسْتَلْزم عدم وجوب مَا سواهُ بِالطَّرِيقِ الأولى فَيلْزم عدم وجوب تَصْدِيق شَيْء من إخباراته، وَإِذا لم يجب تَصْدِيق شَيْء مِنْهَا فَلهُ أَن لَا يصدقهُ فِي شَيْء مِنْهَا فَيصير مثل وَاحِد من آحَاد النَّاس فَلَا يبْقى للبعثة فَائِدَة، فِي التَّوْضِيح فِي تَفْسِير أَن وجوب تَصْدِيق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن توقف على الشَّرْع يلْزم الدّور أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن توقف على الشَّرْع إِذا ادّعى بِالنُّبُوَّةِ وَأظْهر المعجزة، وَعلم السَّامع أَنه نَبِي فَأخْبر بِأُمُور مثل: أَن الصَّلَاة وَاجِبَة، فَإِن لم يجب تَصْدِيق شَيْء من ذَلِك يبطل فَائِدَة النُّبُوَّة، وَإِن وَجب فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون وجوب تَصْدِيق إخباراته عقليا(2/161)
أَو لَا بل يكون وجوب تَصْدِيق كلهَا شَرْعِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ على تَقْدِيره كَانَ وجوب الْكل بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَزِمَ أَنه قَالَ تَصْدِيق الْإِخْبَار الأول وَاجِب فيتكلم فِي هَذَا القَوْل فَإِن لم يجب تَصْدِيقه لزم عدم وجوب تَصْدِيق الْإِخْبَار، وَإِن وَجب فإمَّا أَن يجب بالإخبار الأول فَيلْزم الدّور أَو بقول آخر فيتكلم فِيهِ فَيلْزم التسلسل، فَتعين كَون وجوب شَيْء من إخباراته عقليا انْتهى وَلَا يخفى أَن فَائِدَة انْتِفَاء الْبعْثَة لَازم للسلب الْكُلِّي، وَانْتِفَاء السَّلب الْكُلِّي يتَحَقَّق بِالْإِيجَابِ الجزئي، وَقَوله وَإِن وَجب إِلَى آخر الْمُقدمَات مَبْنِيّ على الْإِيجَاب الْكُلِّي، فَيبقى بَينهمَا وَاسِطَة لم يذكر حكمهَا فَاخْتَارَ التَّقْرِير الْمَذْكُور لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ ذَلِك مَعَ أَنه أخصر، ثمَّ لما أثبت وجوب التَّصْدِيق الْإِخْبَار الأول ردد فِيهِ، فَقَالَ (فَأَما) أَي فثبوت وُجُوبه إِمَّا (بِالشَّرْعِ) أَو بِالْعقلِ. وَالثَّانِي عين الْمَطْلُوب كَمَا سَيَأْتِي، وعنى الأول (فبنص وجوب تَصْدِيق) أَي فثبوته الشَّرْعِيّ إِنَّمَا يكون بِنَصّ دَال على وجوب تَصْدِيق النَّبِي فَهُوَ إِخْبَار ثَان عَن الله، فيتكلم فِيهِ على سَبِيل الترديد فَيَقُول (الثَّانِي) ثُبُوته (لَا يكون بِنَفسِهِ) وَإِلَّا يلْزم توقف الشَّيْء على نَفسه، فَيلْزم أَن يكون بِغَيْرِهِ (فإمَّا) أَن يكون ثُبُوته (بِالْأولِ) فَيكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ الْإِخْبَار الأول (فيدور) أَي فَيلْزم الدّور، لِأَن الْمَفْرُوض توقف ثُبُوت وجوب تَصْدِيق الأول عَلَيْهِ (أَو) يكون ثُبُوته (بثالث) أَي بأخبار ثَالِث (فيتسلسل فَهُوَ) أَي وجوب تَصْدِيقه فِي أول إخباراته (بِالْعقلِ، وَكَذَا) أَي لوُجُوب تَصْدِيق الْإِخْبَار الأول (وجوب امْتِثَال أوامره) أَي الشَّارِع فِي أَن وجوب ثُبُوتهَا بِالْعقلِ، فَيُقَال (لَو) كَانَ ثُبُوته (بِالشَّرْعِ توقف) أَي وُجُوبه (على الْأَمر بالامتثال) وَهُوَ من ثَان (فوجوب امْتِثَال الْأَمر بالامتثال) صلَة الْأَمر (إِن كَانَ بِالْأولِ دَار، وَإِلَّا) بِأَن كَانَ بثالث، وَالثَّالِث برابع، وهلم جرا (تسلسل) فَمَا قيل مُبْتَدأ خَبره (فَجَوَابه أَن اللَّازِم) من هَذَا الدَّلِيل (جزم الْعقل بصدقه) أَي النَّبِي فِي أول إخباراته، وَيُوجب ذَلِك امْتِثَال أوامره (استنباطا من دليلها) أَي من دَلِيل صدق إخباراته ووجوبات امْتِثَال أوامره وَهُوَ ظُهُور المعجزة على يَدَيْهِ ليثبت صدقه فِيمَا يخبر عَن الله تَعَالَى، وامتثال مَا يَأْمر بِهِ (فَأَيْنَ الْوُجُوب عقلا بِمَعْنى اسْتِحْقَاق الْعقَاب) فِي الآجل (بِالتّرْكِ، بل يتَوَقَّف) الْوُجُوب عقلا بِهَذَا الْمَعْنى (على نَص) فَإِن قلت: إِذا ثَبت صدقه وَعلم أَن مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الله تَعَالَى مَطْلُوب من العَبْد يثبت أَنه إِذا عَصَاهُ يسْتَحق الْعقَاب فِي الْآخِرَة قُلْنَا لَا نسلم لِأَنَّهُ يرجع إِلَيْهِ ضَرَر من عصيانهم وَلَا يتأثر بِهِ، فَيجوز أَن لَا يغْضب على العَاصِي، والاستحقاق الْمَذْكُور فرع ذَلِك فَلَا بُد من نَص دَال عَلَيْهِ (قَالُوا) أَي الْمُعْتَزلَة (ثَانِيًا نقطع بِأَنَّهُ يقبح عِنْد الله من الْعَارِف بِذَاتِهِ المنزهة وَصِفَاته الْكَرِيمَة أَن ينْسب إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيق من صِفَات النَّقْص) سَوَاء (ورد شرع)(2/162)
أَفَادَ ذَلِك (أَولا فَيحرم عقلا) أَن ينْسب إِلَيْهِ (أُجِيب بِأَن الْقطع) بالقبح الْمَذْكُور بِمَعْنى اسْتِحْقَاق الْعَذَاب للتنازع فِيهِ (لما ركز فِي النُّفُوس من الشَّرَائِع الَّتِي لم تَنْقَطِع مُنْذُ بعثة آدم) عَلَيْهِ السَّلَام (فَتوهم) بِهَذَا السَّبَب (أَنه) أَي الْقطع الْمَذْكُور (بِمُجَرَّد حكم الْعقل) ثمَّ لما كَانَ الْمُخْتَار عِنْد المُصَنّف أَن الْفِعْل يَتَّصِف بالْحسنِ والقبح بِخَارِج، وَلَا تَكْلِيف قبل الْبعْثَة قَالَ (وعَلى أصلنَا ثُبُوت الْقبْح) لِلْعَقْلِ (فِي الْعقل) أَي عِنْد الْعقل (وَعِنْده تَعَالَى لَا يسْتَلْزم عقلا) أَي استلزاما عقليا (تَكْلِيفه) بِحكم يمنعهُ من الْفِعْل، ثمَّ بَين وَجه الاستلزام بقوله (بِمَعْنى أَنه يقبح مِنْهُ تَعَالَى تَركه) أَي ترك تَكْلِيفه بكف النَّفس عَن ذَلِك الْقَبِيح (وللحنفية والمعتزلة فِي الثَّالِث) أَن استلزام اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح امْتنَاع تَعْذِيب الطائع وتكليف مَا لَا يُطَاق أَنه (ثَبت بالقاطع اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح فِي نفس الْأَمر، فَيمْتَنع اتصافه) أَي اتصاف فعله تَعَالَى (بِهِ) أَي بالقبيح (تَعَالَى) الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا (وَأَيْضًا فالاتفاق على اسْتِقْلَال الْعقل بدركهما) أَي الْحسن والقبح (بِمَعْنى صفة الْكَمَال و) صفة (النَّقْص كَالْعلمِ وَالْجهل على مَا مر، فبالضرورة يَسْتَحِيل عَلَيْهِ تَعَالَى مَا أدْرك فِيهِ نقص وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ مستحيلا عَلَيْهِ مَا أدْرك فِيهِ نقص (ظهر الْقطع باستحالة اتصافه تَعَالَى بِالْكَذِبِ وَنَحْوه، تَعَالَى عَن ذَلِك وَأَيْضًا) لَو لم يمْتَنع اتصاف فعله بالقبح (يرْتَفع الْأمان عَن صدق وعده، و) صدق (خبر غَيره) أَي غير الْوَعْد (و) يرْتَفع الْأمان عَن صدق (النُّبُوَّة) أَي لم يجْزم بصدقها أصلا لَا عقلا، لِأَن صدقهَا مَوْقُوف على امْتنَاع اتصاف فعله بالقبح الَّذِي من جملَته الشَّهَادَة الكاذبة على أَنَّهَا دَعْوَى النَّفس، وَلَا شرعا، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمكن إثْبَاته بِالسَّمْعِ لِأَن حجيته فرع صدقه تَعَالَى، وَاكْتفى بِذكر الْوَعْد عَن ذكر الْوَعيد، وَمَا قَالَ الأشاعرة من جَوَاز الْخلف فِي الْوَعيد كغيرهم، لِأَنَّهُ لَا يعد نقصا، بل هُوَ من بَاب الْكَرم (وَعند الْأَشْعَرِيّ كَسَائِر الْخلق) كَمَا عِنْد سَابق الْخلق (الْقطع بِعَدَمِ اتصافه تَعَالَى) بِشَيْء من القبائح (دون الاستحالة الْعَقْلِيَّة) إِذْ الْقبْح لَيْسَ بعقل عِنْده، فَكيف يَسْتَحِيل عِنْده عقلا الاتصاف بِمَا لَا يحكم الْعقل بقبحه، فسائر الْخلق مَعَه فِي الْقطع بِعَدَمِ الاتصاف بِمَا ذكر، لَا فِي نفي الاستحالة الْعَقْلِيَّة، ثمَّ هَذَا الحكم القطعى (كَسَائِر الْعُلُوم الَّتِي يقطع فِيهَا بِأَن الْوَاقِع) فِي نفس الْأَمر (أحد النقيضين مَعَ اسْتِحَالَة الآخر لَو قدر) أَنه الْوَاقِع، وَذَلِكَ (كالقطع بِمَكَّة) أَي بوجودها (وبغداد) فَإِنَّهُ لَا يحِيل الْعقل عدمهَا (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ الْقطع بِعَدَمِ اتصافه تَعَالَى بالقبيح كالقطع بِكَوْن الْجَبَل حجرا مَعَ إِمْكَان انقلابه ذَهَبا، ونظائره من الْعُلُوم العادية (لَا يلْزم ارْتِفَاع الْأمان) عِنْد صدق الْوَعْد وَغَيره، لِأَنَّهُ وَإِن لم يكن خَلفه محالا عقليا لَكنا نقطع بِعَدَمِهِ كَمَا نقطع بِعَدَمِ الْجَبَل(2/163)
ذَهَبا (وَالْخلاف) الْجَارِي فِي اسْتِحَالَة اتصافه بِالْكَذِبِ وَنَحْوه على مَا ذكر (جَار) نَظِيره (فِي كل نقيصة) ثمَّ صور كيفيته بقوله (أقدرته) تَعَالَى (عَلَيْهَا) أَي على تِلْكَ النقيصة (مسلوبة أم هِيَ) أَي النقيصة (بهَا) أَي بقدرته (مشمولة) فالجملتان الإنشائيتان فِي مَحل الرّفْع على الخبرية بِتَقْدِير الْكَلَام تَصْوِير الْخلاف بِاعْتِبَار السُّؤَال الَّذِي يَقع جَوَاب كل من المتخالفين عَنهُ، بِأَن يُقَال: أقدرته إِلَى آخِره (وَالْقطع بِأَنَّهُ لَا يفعل) أَي وَالْحَال الْقطع بِعَدَمِ فعل تِلْكَ النقيصة (وَالْحَنَفِيَّة والمعتزلة على الأول) أَي على أَن قدرته عَلَيْهَا مسلوبة لِاسْتِحَالَة تعلق قدرته بالمحال (وَعَلِيهِ فرعوا) أَي على أَن قدرته (امْتنَاع تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، و) امْتنَاع (تَعْذِيب الطائع) . قَالَ المُصَنّف فِي المسايرة: وَاعْلَم أَن الْحَنَفِيَّة لما استحالوا عَلَيْهِ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، فهم لتعذيب المحسن الَّذِي استغرق عمره فِي الطَّاعَة مُخَالفا لهوى نَفسه فِي رضَا مَوْلَاهُ أمنع بِمَعْنى أَنه يتعالى عَن ذَلِك فَهُوَ من بَاب التنزيهات: إِذْ التَّسْوِيَة بَين الْمُسِيء والمحسن غير لَائِق بالحكمة فِي نظر سَائِر الْعُقُول، وَقد نَص تَعَالَى على قبحه حَيْثُ قَالَ - {أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون} - فَجعله سَيِّئًا، هَذَا فِي التجويز عَلَيْهِ وَعَدَمه، أما الْوُقُوع فمقطوع بِعَدَمِهِ غير أَنه عِنْد الأشاعرة للوعد بِخِلَافِهِ وَعند الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم لذَلِك، ولقبح خِلَافه انْتهى (وَذكرنَا فِي المسايرة) بطرِيق الْإِشَارَة (أَن الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهَا بهَا مشمولة، وَالْقطع بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلهَا اخْتِيَارا (أَدخل فِي التَّنْزِيه) . قَالَ فِي المسايرة، ثمَّ قَالَ: يَعْنِي صَاحب الْعُمْدَة من مَشَايِخنَا، وَلَا يُوصف تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على الظُّلم والسفه وَالْكذب، لِأَن الْمحَال لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة وَعند الْمُعْتَزلَة يقدر وَلَا يفعل انْتهى وَلَا شكّ أَن سلب الْقُدْرَة عَمَّا ذكر هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة، وَأما ثُبُوتهَا ثمَّ الِامْتِنَاع عَن متعلقها فمذهب الأشاعرة أليق وَلَا شكّ أَن الِامْتِنَاع عَنْهَا من بَاب التنزيهات فيسبر الْعقل فِي أَن أَي الْفَصْلَيْنِ أبلغ فِي التَّنْزِيه عَن الْفَحْشَاء أهوَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ مَعَ الِامْتِنَاع عَنهُ مُخْتَارًا فِي الشق الأول، أَو الِامْتِنَاع لعدم الْقُدْرَة فَيجب القَوْل بِإِدْخَال الْقَوْلَيْنِ فِي التَّنْزِيه انْتهى. فَفِي قَوْله مَعَ الِامْتِنَاع مُخْتَارًا فِي الشق الأول، وَقَوله أَو الِامْتِنَاع لعدم الْقُدْرَة مَعَ مَا سبق من قَوْله: وَلَا شكّ أَن الِامْتِنَاع عَنْهَا من بَاب التنزيهات إِشْعَار بِأَن الأول أَدخل فِي التَّنْزِيه: إِذْ التَّنْزِيه فِيمَا لَيْسَ باختياري غير ظَاهر، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا تَقْدِيم ذَلِك الشق فِي الذّكر، وَالْأول فِي المسايرة ثَان فِي هَذَا الْكتاب، خُذ (هَذَا وَلَو شَاءَ الله قَالَ قَائِل) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن مَا سَنذكرُهُ لم يقل بِهِ أحد قبله (هُوَ) أَي النزاع بَين الْفرق الثَّلَاثَة (لَفْظِي، فَقَوْل الأشاعرة هُوَ أَنه) أَي الشَّأْن (لَا يحِيل الْعقل) أَي يجوز مَعَ قطع النّظر عَن الْأَدِلَّة الخارجية (كَون من اتّصف بالألوهية)(2/164)
أَي الْعُبُودِيَّة بِالْحَقِّ (وَالْملك) أَي الْمَالِكِيَّة (لكل شَيْء متصفا بالجور) أَي بِمَا هُوَ خلاف الْعدْل إِذا صدر من شخص يَقُول: هَذَا جور وظلم (وَمَا لَا يَنْبَغِي: إِذْ حَاصله) أَي الاتصاف بِمَا ذكر (أَنه مَالك جَائِر، وَلَا يحِيل الْعقل وجود مَالك كَذَلِك) أَي جَائِر على مماليكه (وَلَا يسع الْحَنَفِيَّة والمعتزلة إِنْكَاره) أَي عدم إِحَالَة الْعقل ذَلِك (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة والمعتزلة (يَسْتَحِيل) كَونه متصفا بالجور، وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي إِنَّمَا هُوَ (بِالنّظرِ إِلَى مَا قطع بِهِ من ثُبُوت اتصاف هَذَا الْعَزِيز الَّذِي ثَبت أَنه الْإِلَه) لَا غَيره، وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ (بأقصى كمالات الصِّفَات من الْعدْل وَالْإِحْسَان وَالْحكمَة: إِذْ يَسْتَحِيل اجْتِمَاع النقيضين فلحظهم) أَي ملحوظ الْحَنَفِيَّة والمعتزلة (إِثْبَات الضَّرُورَة بِشَرْط الْمَحْمُول فِي المتصف الْخَارِجِي) المُرَاد بالمتصف الْخَارِجِي: الشَّخْص الْمَوْجُود فِي الْخَارِج الثَّابِت ألوهيته المتصف بأقصى الكمالات، وبالمحمول الْوَصْف الَّذِي حمل عَلَيْهِ من كَونه متصفا بأقصى الكمالات وَلَا شكّ فِي أَنه إِذا شَرط مَعَ ذَاته الْوَصْف الْمَذْكُور بِأَن يعْتَبر من حَيْثُ أَنه مَوْصُوف بِهِ، وينسب إِلَيْهِ الْجور الَّذِي هُوَ نقيض مَا شَرط فِيهِ بِحكم الْعقل باستحالته بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا معنى إِثْبَات الضَّرُورَة الخ (والأشعرية) يجوزون ذَلِك (بِالنّظرِ إِلَى مُجَرّد مَفْهُوم إِلَه وَمَالك كل شَيْء) مَعَ قطع النّظر عَن كَون مَا صدق عَلَيْهِ هَذَا الْمَفْهُوم متصفا بأقصى الكمالات (وَاسْتمرّ الأشعرية أَن تنزلوا) فِي مَبْحَث التحسين والتقبيح العقليين (إِلَى اتصاف الْفِعْل) أَي باحوا بطرِيق التنزل، وَتَسْلِيم أَن الْفِعْل يَتَّصِف بالْحسنِ والقبح المستدعي تعلق الحكم بِهِ (ويبطلوا مسئلتين) متعلقتين باتصافه بهما (على التنزل) أَي مَعَ تنزلهم إِلَى ذَلِك (وَنحن وَإِن ساعدناهم) أَي الأشاعرة (على نفي التَّعَلُّق) أَي تعلق الحكم بِالْفِعْلِ (قبل الْبعْثَة لَكنا نورد كَلَامهم لما فِيهِ) أَي فِي كَلَامهم مِمَّا لَا نرتضيه لقصد التَّحْقِيق وَإِظْهَار الصَّوَاب.
المسئلة (الأولى: شكر الْمُنعم) أَي اسْتِعْمَال جَمِيع مَا أنعم الله تَعَالَى على العَبْد فِيمَا خلق لأَجله كصرف النّظر إِلَى مُشَاهدَة مصنوعاته ليستدل بهَا على صانعها، والسمع إِلَى تلقي أوامره وإنذاراته، وَاللِّسَان إِلَى التحدث بِالنعَم وَالثنَاء الْجَمِيل على الْمُنعم قيل هَذَا معنى الشُّكْر حَيْثُ ورد فِي الْكتاب الْعَزِيز، وَلذَا قَالَ تَعَالَى - {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} - (لَيْسَ بِوَاجِب عقلا لِأَنَّهُ) أَي الشُّكْر (لَو وَجب) عقلا (فلفائدة) أَي فإيجابه لَا يكون إِلَّا لفائدة. وَذَلِكَ (لبُطْلَان الْعَبَث) وَهُوَ أَن يفعل الْفَاعِل اخْتِيَارا مَا لَا فَائِدَة فِيهِ (فإمَّا لله تَعَالَى) أَي وَإِذا كَانَ لفائدة فإمَّا أَن يكون لفائدة رَاجِعَة إِلَى الله (أَو للْعَبد) أَي أَو لفائدة رَاجِعَة إِلَى العَبْد، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن يكون حُصُولهَا لَهُ (فِي الدُّنْيَا أَو) فِي (الْآخِرَة، وَهِي) أَي هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة (بَاطِلَة) . ثمَّ بَين بُطْلَانهَا على تَرْتِيب اللف والنشر، فَقَالَ (لتعاليه) تَعَالَى عَن أَن يكون(2/165)
فعله لفائدة رَاجِعَة إِلَيْهِ، أَو عَن رُجُوع فَائِدَة إِلَيْهِ (و) لحُصُول (الْمَشَقَّة) من الشُّكْر الَّذِي هُوَ فعل الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات، وَنَحْوهمَا (فِي الدُّنْيَا) بِغَيْر حَقِيقَة تَعب لَا حَظّ للنَّفس فِيهِ، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حَظّ لَهَا فَلَيْسَ للْعَبد فِيهِ فَائِدَة دنيوية (وَعدم اسْتِقْلَال الْعقل بِأُمُور الْآخِرَة) فَلَيْسَ لِلْعَقْلِ أَن يُوجب الشُّكْر لفائدة رَاجِعَة إِلَى العَبْد فِي الْآخِرَة، لِأَن ذَلِك فرع استقلاله بِمَا يحصل للْعَبد من الْفَوَائِد الأخروية فِي مُقَابلَة الشُّكْر، وَلَا اسْتِقْلَال لَهُ فِيهَا لِأَنَّهَا من الْعَبَث الَّذِي لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهِ (وانفصل الْمُعْتَزلَة) عَن هَذَا الْإِلْزَام بِأَنَّهُ لفائدة (ثمَّ بِأَنَّهَا) للْعَبد (فِي الدُّنْيَا وَهِي) أَي تِلْكَ الْفَائِدَة الدُّنْيَوِيَّة (دفع ضَرَر خوف الْعقَاب) ثمَّ اسْتدلَّ على وجود الْخَوْف الْمَذْكُور بقوله (للُزُوم خطور مُطَالبَة الْملك الْمُنعم بالشكر) والأمن من الْعقَاب من أعظم الْفَوَائِد، وَكَذَلِكَ دفع خَوفه واندفاع الْخَوْف فَائِدَة دنيوية، وَالْمَشَقَّة الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا دفع الضَّرَر لَا تنَافِي وجود الْفَائِدَة (وَمنع الأشعرية لُزُوم الْخطر) الْمُوجب للخوف فَلَا يتَعَيَّن وجوده، وَالدَّفْع الْمَذْكُور فرع وجوده وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ وَإِن لم يتَعَيَّن وجوده لكنه على خطر الْوُجُود، وبالشكر ينْدَفع احْتِمَال وجوده: وَهُوَ فَائِدَة جليلة، وَفِيه مَا فِيهِ، على أَن مَنعهم غير موجه لِأَن الظَّاهِر أَن مَا ذكره الْمُعْتَزلَة منع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بِالْمَنْعِ أَن سَنَد الْمُعْتَزلَة لَا يصلح للسندية وَفِيه مَا فِيهِ (وعَلى) تَقْدِير (التَّسْلِيم) للُزُوم الخطور الْمَذْكُور (فمعارض بِأَنَّهُ) أَي الشُّكْر (تصرف فِي ملك الْغَيْر) بالاتعاب بالأفعال والتروك الشاقة بِدُونِ إِذن الْمَالِك، وَمَا يتَصَرَّف فِيهِ من نَفسه وَغَيره ملك الله تَعَالَى، وَهَذَا يُفِيد عدم وُجُوبه (وَبِأَنَّهُ) أَي شكر النِّعْمَة (يشبه الِاسْتِهْزَاء) من وَجْهَيْن أما أَحدهمَا أَنه لَيْسَ للنعمة قدر يعْتد بِهِ بِالنّظرِ إِلَى مملكة الْمُنعم وَعظم شَأْنه، والمقابلة بالشكر تؤذن بالاعتداد بهَا عِنْد الْمُنعم، وَثَانِيهمَا أَن النعم لَا تعد وَلَا تحصى وَالشُّكْر فِي مقابلتها كإهداء فَقير للْملك حَبَّة شعير فِي مُقَابلَة مَا أنعم عَلَيْهِ من ملك الْبِلَاد شرقا وغربا (وَلَقَد طَال رواج هَذِه الْجُمْلَة) من الِاسْتِدْلَال والاعتراض وَالْجَوَاب فِيمَا بَينهم (على تهافتها) أَي تساقطها وَعدم أهليتها لِأَن يلْتَفت إِلَيْهَا، ثمَّ بَين التهافت بقوله (فَإِن الحكم بتعلق الحكم) يَعْنِي حكم الْمُعْتَزلَة بتعلق الْوُجُوب وَالْحُرْمَة مثلا بِالْفِعْلِ قبل الْبعْثَة (تَابع لعقلية مَا فِي الْفِعْل) أَي تَابع لكَون مَا فِي الْفِعْل من الْحسن والقبح عقليا (فَإِذا عقل فِيهِ) أَي فِي الْفِعْل (حسن يلْزم بترك مَا هُوَ) أَي الْحسن (فِيهِ الْقبْح كحسن شكر الْمُنعم المستلزم تَركه) أَي الشُّكْر (قبح الكفران) أَي الْقبْح الَّذِي هُوَ الكفران، فالإضافة بَيَانِيَّة (بِالضَّرُورَةِ) مُتَعَلق بالاستلزام أَو الكفران (فقد أدْرك) الْعقل (حكم الله الَّذِي هُوَ وجوب الشُّكْر قطعا) أَي أدْركهُ بِلَا شُبْهَة (وَإِذا ثَبت الْوُجُوب) أَي وجوب الشُّكْر (بِلَا مرد لم يبْق لنا حَاجَة فِي تعْيين فَائِدَة بل نقطع بثبوتها) اي(2/166)
الْفَائِدَة (فِي نفس الْأَمر علم عينهَا أَولا) يَعْنِي بعد الْقطع بثبوتها لَا نورث تقسيمكم الْمَذْكُور للفائدة وَنفي أقسامها شُبْهَة إِذْ هُوَ لَيْسَ بحاظر وَلَا مَا يُفِيد النَّفْي بقاطع فَلَيْسَ لكم مخلص إِلَّا منع الْعَقْلِيَّة، والبحث إِنَّمَا هُوَ بطرِيق التنزل وَتَسْلِيم الْعَقْلِيَّة (وَلَو منعُوا) أَي الأشاعرة (اتصاف الشُّكْر) بالْحسنِ (و) اتصاف (الكفران) بالقبح (لم تصر المسئلة على التنزل) وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض (وَكَذَا انْفِصَال الْمُعْتَزلَة) بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا الخ تَابع لعقلية مَا فِي الْفِعْل (فَإِن دفع ضَرَر) خوف (الْعقَاب) الَّذِي هُوَ سَنَد منع انْتِفَاء الْفَائِدَة الدُّنْيَوِيَّة (إِنَّمَا يَصح) حَال كَونه (حَامِلا) للشاكر (على الْعَمَل) الَّذِي بِهِ يتَحَقَّق بِهِ الشُّكْر (وَهُوَ) أَي الْخَوْف أَو الْعَمَل الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ (بعد الْعلم بِالْوُجُوب) أَي وجوب الشُّكْر عقلا (بطريقه) أَي بطرِيق الْموصل إِلَى الْعلم بِالْوُجُوب حسن الشُّكْر الْمُقْتَضى تَركه الْقبْح (وَهُوَ) أَي طَرِيقه (الَّذِي فِيهِ الْكَلَام) أَي النزاع، فَدلَّ هَذَا الِانْفِصَال أَن الْبَحْث بطرِيق التنزل وَتَسْلِيم الْعَقْلِيَّة لما فِي الْفِعْل (وَتَسْلِيم لُزُوم الخطور) أَي خطور خوف الْعقَاب (ومعارضتهم) أَي الأشاعرة للمعتزلة (بِالتَّصَرُّفِ فِي ملك الْغَيْر) على مَا ذكر (إلزامي إِذْ اعْتَرَفُوا) أَي الأشاعرة (فِي المسئلة الثَّانِيَة) على مَا سَيَأْتِي (بِأَن حرمته) أَي التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (لَيست عقلية) فالتحريم الَّذِي ادَّعَاهُ الأشاعرة فِي التَّصَرُّف الْمَذْكُور عِنْد الْمُعَارضَة على زعم الْمُعْتَزلَة فالبحث إلزامي، (وَأما) معارضتهم (بِأَنَّهُ) أَي شكر النِّعْمَة مجازاة (يشبه الِاسْتِهْزَاء فَيَقْضِي مِنْهُ) أَي من صنعهم (الْعجب) لغرابته وسخافته، كَيفَ وَيلْزم مِنْهُ انسداد بَاب الشُّكْر قبل الْبعْثَة وَبعدهَا على أَن مَا ذكر فِي وَجه شبه الِاسْتِهْزَاء كَلِمَات واهية (وَالْوَجْه فِيهِ) أَي فِي انْتِفَاء تعلق الحكم بِالْفِعْلِ قبل الْبعْثَة أَن يُقَال (لَا طَرِيق لِلْعَقْلِ إِلَى الحكم بحدوث مَا لم يكن إِلَّا بِالسَّمْعِ) أَي إِلَّا طَرِيق السّمع (أَو الْبَصَر وَالْفَرْض) أَي الْمَفْرُوض (انتفاؤهما) أَي السّمع وَالْبَصَر، إِذْ الْكَلَام فِيمَا قبل الْبعْثَة، وَلَا سمع إِذْ ذَاك (فِي) حق (تعلق حكمه) تَعَالَى بِالْفِعْلِ (ودرك مَا فِي الْفِعْل) من حسن وقبح (غير مُسْتَلْزم) تَكْلِيفه بِفعل أَو ترك (إِلَّا لَو كَانَ ترك تَكْلِيفه تَعَالَى يُوجب نَقصه تَعَالَى وَهُوَ) أَي إِيجَاب ترك التَّكْلِيف النَّقْص (مَمْنُوع)
المسئلة (الثَّانِيَة: أَفعَال الْعباد الاختيارية مِمَّا لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْبَقَاء) تَقْيِيد للأفعال الاختيارية ويقابلها الاضطرارية وَهِي مَا لَا يُمكن الْبَقَاء بِدُونِهَا: كالتنفس فِي الْهَوَاء حَال كَونهَا وَاقعَة (قبل الْبعْثَة أَن أدْرك فِيهَا جِهَة محسنة أَو مقبحة فعلى مَا تقدم من التَّقْسِيم عِنْد الْمُعْتَزلَة) من أَن الْمدْرك إِمَّا حسن فعل بِحَيْثُ يقبح تَركه فَوَاجِب وَإِلَّا فمندوب أَو ترك على وزانه فَحَرَام ومكروه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يدْرك فِيهَا جِهَة محسنة وَلَا مقبحة (فَلهم) أَي للمعتزلة (فِيهَا) أَي الْأَفْعَال الاختيارية(2/167)
ثَلَاثَة مَذَاهِب (الْإِبَاحَة) أَي عدم الْحَرج هُوَ قَول معتزلة الْبَصْرَة وَكثير من الشَّافِعِيَّة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة قَالُوا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّد فِيمَن هدد بِالْقَتْلِ على أكل الْميتَة أَو شرب الْخمر فَلم يفعل حَتَّى قتل بقوله خفت أَن يكون إِثْمًا، لِأَن أكل الْميتَة وَشرب الْخمر لم يحرما إِلَّا بِالنَّهْي عَنْهُمَا فَجعل الْإِبَاحَة أصلا وَالْحُرْمَة بِعَارِض النَّهْي (والحظر) أَي الْحُرْمَة: وَهُوَ قَول معتزلة بَغْدَاد وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (وَالْوَقْف) وَهُوَ قَول بعض الْحَنَفِيَّة مِنْهُم أَبُو مَنْصُور الماتريدي وَصَاحب الْهِدَايَة وَعَامة أهل الحَدِيث وَنقل عَن الأشعرية (و) يُقَال (على الْأَوَّلين) الْإِبَاحَة والحظر (إِن الحكم بتعلق) حكم (معِين) بِفعل عقلا (فرع معرفَة حَال الْفِعْل) ليعلم أَنه هَل فِيهِ جِهَة محسنة أَو مقبحة على مَا تقدم من التَّقْسِيم أَولا، فَإِذا علم أَنه لَيْسَ فِيهِ شَيْء من ذَلِك حكم بعد ذَلِك الْمُبِيح بِالْإِبَاحَةِ والحاظر بالحظر (فَإِذا قَالَ الْمُبِيح بِنَاء على منع الْحصْر) يَعْنِي إِذا قَالَ لَيْسَ فِيهِ شَيْء من تِلْكَ الْجِهَات فَهُوَ مُبَاح فَمنع الْخصم الْحصْر فِي تِلْكَ الْجِهَات فالإباحة لجَوَاز الْحَظْر، قَالَ الْمُبِيح بِنَاء على هَذَا الْمَنْع (خلق) الله (العَبْد و) خلق (مَا يَنْفَعهُ) من الْأَفْعَال (فَمَنعه) من هَذَا الْفِعْل (و) الْحَال أَنه (لَا ضَرَر) فِي هَذَا الْفِعْل: إِذْ الْمَفْرُوض أَنه لَيْسَ فِيهِ جِهَة مقبحة (إخلال بفائدته) أَي خلقهما (وَهُوَ) أَي الْإِخْلَال (الْعَبَث) أَي ملزوم الْعَبَث وَهُوَ الْخلق بِلَا فَائِدَة (فمراده) أَي الْمُبِيح (وَهُوَ) أَي والعبث (نقيصة تمْتَنع عَلَيْهِ تَعَالَى) يَعْنِي هَذِه الْمُقدمَة مطوية منوية فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال (والحاظر) يَعْنِي إِذا قَالَ الحاظر بِنَاء على منع الْحصْر فِي تِلْكَ الْجِهَات والحظر لجَوَاز الْإِبَاحَة لَا سَبِيل إِلَيْهَا لِأَنَّهُ (تصرف فِي ملك الْغَيْر فمراده) أَي الحاظر أَن التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (يحْتَمل الْمَنْع) وَإِن لم يتَعَيَّن (فالاحتياط الْعقلِيّ مَنعه) أَي العَبْد، إِذْ على تَقْدِير عدم التَّصَرُّف لَا يلْزم مَحْذُور، وعَلى تَقْدِير التَّصَرُّف يحْتَمل لُزُومه، وَالْعقل يحكم بترك مَا يحْتَمل الْمَحْذُور إِلَى مَا لَا يحْتَملهُ (فَانْدفع) بِهَذَا التَّقْرِير (مَا قيل على) دَلِيل (الْحَظْر) من منع بطلَان التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر مُسْتَندا (بِأَن من ملك بحرا لَا ينفذ واتصف بغاية الْجُود، كَيفَ يدْرك الْعقل عُقُوبَته عَبده بِأخذ قدر سمسمة مِنْهُ) أَي الْبَحْر (لِأَنَّهُ) أَي الحاظر (لم يبن الْحَظْر على دَرك) الْعقل (ذَلِك) الْمَنْع (بل على احْتِمَاله) أَي مَنعه بِاعْتِبَار (أَنه تصرف فِي ملك الْملك بِلَا إِذْنه فيحتاط بِمَنْعه، و) انْدفع أَيْضا (منع أَن حُرْمَة التَّصَرُّف عَقْلِي بل سَمْعِي، وَلَو سلم) أَنه عَقْلِي (فَفِي حق من يتَضَرَّر) بذلك، وَالله سُبْحَانَهُ منزه عَن ذَلِك (وَلَو سلم) أَن التَّصَرُّف فِي حق كل مَالك مَمْنُوع عقلا (فمعارض بِمَا فِي الْمَنْع من الضَّرَر الناجز، وَدفعه) أَي الضَّرَر الناجز (عَن النَّفس وَاجِب عقلا وَلَيْسَ تَركه) أَي الْفِعْل (لدفع ضَرَر خوف الْعقَاب) الْحَاصِل من التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (أولى من الْفِعْل) المستلزم لدفع الضَّرَر الناجز بل بِاعْتِبَار العاجل أولى (مَعَ(2/168)
مَا فِي هَذَا الْجَواب من كَونه) أَي الْمَذْكُور (غير مَحل النزاع فَإِنَّهُ) أَي النزاع إِنَّمَا هُوَ (فِي نَحْو أكل الْفَاكِهَة مِمَّا لَا ضَرَر فِي تَركه) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي أول المسئلة بقوله: مِمَّا لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْبَقَاء (وَمَا على الْإِبَاحَة) واندفع أَيْضا مَا ورد عَلَيْهَا (من أَنه أَن أُرِيد) بهَا أَنه (لَا حرج عقلا فِي الْفِعْل وَالتّرْك فَمُسلم) لَكِن لَا يثبت بِهِ حكم الله بِرَفْع الْحَرج (أَو) أُرِيد بهَا (خطاب الشَّارِع بِهِ) أَي بِأَنَّهُ لَا حرج فِي الْفِعْل وَالتّرْك (فَلَا شرع حِينَئِذٍ) إِذْ الْمَفْرُوض أَنه لَيْسَ هَهُنَا جِهَة محسنة وَلَا مقبحة وَلَا سمع (أَو) أُرِيد بهَا (حكم الْعقل بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ مُبَاحا (فالفرض أَنه) أَي الْعقل (لَا حكم) فِيهِ (لَهُ بِحسن وَلَا قبح) وَإِنَّمَا انْدفع مَا ذكر على الْإِبَاحَة (إِذْ يختارون) أَي المبيحون (هَذَا) الشق الْأَخير (بملجئ) أَي بِسَبَب مَا يلجئهم إِلَى اخْتِيَاره وَهُوَ (لُزُوم الْعَبَث) على تَقْدِير الْمَنْع، وَعدم الْإِبَاحَة على مَا سبق (وَأما دَفعه) أَي دَلِيل الْمُبِيح الْمَذْكُور (بِمَنْع قبح فعل لَا فَائِدَة لَهُ) أَي لذَلِك الْفِعْل (بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى فيخرجه) أَي هَذَا الْكَلَام (عَن التنزل) أَي كَونه بحثا بطرِيق التنزل وَتَسْلِيم كَون الْحسن والقبح عقليا والمفروض خِلَافه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ) أَي التنزل (دَفعه) أَي يدْفع الحضم كَلَام الْمُعْتَزلَة (على تَسْلِيم قَاعِدَة الْحسن والقبح، نعم يدْفع) دَلِيل الْمُبِيح (بِمَنْع الْإِخْلَال) لفائدة الْخلق على تَقْدِير الْمَنْع مِنْهُ (إِذْ أرَاهُ) أَي العَبْد (قدرته) تَعَالَى (على إيجاده مُحَققَة) قَيده بقوله مُحَققَة لِأَنَّهُ تَعَالَى قد أرَاهُ قدرته مُمكنَة بِخلق أَمْثَاله (مَعَ احْتِمَال غَيره) أَي غير مَا ذكر من فَوَائِد أُخْرَى (مِمَّا) قد (يقصر) الْعقل (عَن دركه) فَلَا يحكم بالإخلال على تَقْدِير الْمَنْع (و) أَيْضا يدْفع (الحاظر) أَي دَلِيله بِأَنَّهُ (لَا يثبت حكم الحكم الأخروي) الحكم الأخروي خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف المستتبع الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الْآخِرَة، وَالْحكم الْمُضَاف إِلَيْهِ أَن يحكم الْعقل (بِثُبُوتِهِ فِي نفس الْأَمر) يَعْنِي ثُبُوت الْخطاب الْمَذْكُور فِي نفس الْأَمر لَا يكون سَببا لِأَن يحكم الْعقل بِثُبُوتِهِ. هَذَا، وَيحْتَمل أَن تكون الْبَاء فِي بِثُبُوتِهِ صلَة الحكم الأول: يَعْنِي لَا يثبت حكم الْعقل على الْخطاب الْمَذْكُور بِثُبُوتِهِ فِي نفس الْأَمر (قبل إِظْهَاره للمكلفين) ظرف لَا يثبت: أَي قبل إِظْهَار الله إِيَّاه لَهُم بطرِيق السّمع ووساطة الرَّسُول (فَكيف يثبت (باحتماله) أَي بِمُجَرَّد احْتِمَال ثُبُوته فِي نفس الْأَمر (و) الْحَال أَنه (لَا خوف) على العَبْد (ليحتاط) إِذْ الْخَوْف بعد الْعلم بِالْوُجُوب أَو الْحُرْمَة، وَلَيْسَ هَهُنَا علم بِجِهَة حسن أَو قبح حَتَّى يعلم أَحدهمَا (وَأما الْوَقْف) الَّذِي هُوَ الْمَذْهَب الثَّالِث (ففسر بِعَدَمِ الحكم) أَي بِعَدَمِ حكم الله بِشَيْء من الْأَحْكَام لعدم إِدْرَاك الْعقل شَيْئا من الْجِهَات الْمَذْكُورَة وَهُوَ مَنْقُول عَن طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة (وَلَيْسَ) هَذَا (بِهِ) أَي بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ قطع بِعَدَمِ الحكم لَا وقف عَنهُ (و) فسر أَيْضا (بِعَدَمِ الْعلم بِخُصُوصِهِ) أَي الحكم (فيقل عَن كَانَ) عدم الْعلم بِخُصُوصِهِ(2/169)
(للتعارض) بَين الْأَدِلَّة الدَّالَّة على ثُبُوت الْأَحْكَام قبل الْبعْثَة والأدلة الدَّالَّة على عدم ثُبُوتهَا قبلهَا (ففاسد لأَنا بَينا بُطْلَانهَا) أَي بطلَان الْأَدِلَّة الدَّالَّة على ثُبُوتهَا قبلهَا، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يلْزم حِينَئِذٍ التَّوَقُّف عَن الحكم مُطلقًا لَا عَن الحكم الْخَاص، فَالْوَجْه أَن يُقَال المُرَاد التَّعَارُض بَين دَلِيل الْمُبِيح والحاظر، فَإِن المُصَنّف قد بَين بطلَان كل مِنْهُمَا (أَو لعدم الشَّرْع) حِينَئِذٍ، وَالْفَرْض أَن الْعقل لَا يسْتَقلّ بإدراكه كَمَا ذكره بعض أَصْحَابنَا (فَمُسلم) وَهُوَ مَذْهَبنَا (والحصر) الْمُسْتَفَاد من ذكر التَّعَارُض دون غَيره (فِي) الشق (الأول) من شقي الترديد، وَهُوَ عدم الْعلم بِخُصُوص الحكم لَا لعدم الشَّرْع (مَمْنُوع بل) قد يكون (لعدم الدَّلِيل على خُصُوص الحكم) فَعدم الْعلم بِخُصُوص الحكم لعدم الدَّلِيل عَلَيْهِ، فالتوقف لأَجله، لَا للتعارض (فَإِن قلت هَذِه الْمذَاهب) الْمَذْكُورَة (توجب) حَال كَونهَا (من الْمُعْتَزلَة كَون الحكم لَيْسَ من قبيل الْكَلَام اللَّفْظِيّ إِذْ لَا تحقق لَهُ) أَي الْكَلَام اللَّفْظِيّ (إِلَّا بعد الْبعْثَة، وَلَا نَفسِي) فِي الْكَلَام (عِنْدهم) وَلَا يخفى أَن الْمَفْهُوم من قَوْله هَذِه الْمذَاهب الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة مَذْهَب الْإِبَاحَة والحظر والتوقف، والإيجاب الْمَذْكُور إِنَّمَا يَتَرَتَّب على إِثْبَات الحكم قبل الْبعْثَة سَوَاء كَانَت هَذِه الْمذَاهب أَو لم تكن، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال بَيَان الْمذَاهب الثَّلَاثَة من غير ذكر مَذْهَب رَابِع يدل على الْأَمريْنِ أَحدهمَا انحصار الْمُعْتَزلَة فِي أَصْحَاب هَذِه الْمذَاهب، وَالثَّانِي اسْتِيعَاب الْعقل الْأَحْكَام كلهَا فَيلْزم إِثْبَات الْكَلَام النَّفْسِيّ على جَمِيع الْمُعْتَزلَة بِاعْتِبَار جَمِيع الْأَحْكَام فَالْجَوَاب منع توقفه) أَي الْكَلَام اللَّفْظِيّ (عَلَيْهَا) أَي الْبعْثَة (لجَوَاز تقدمه) أَي الْكَلَام اللَّفْظِيّ (عَلَيْهَا) أَي الْبعْثَة (كخطاباته للْمَلَائكَة وآدَم) فَإِن قلت هَذَا يدل على وجود الْكَلَام اللَّفْظِيّ فِي الْجُمْلَة قبل الْبعْثَة، لَا على وجود الْكَلَام اللَّفْظِيّ الْوَاقِع حكما قلت الْمَقْصد من هَذَا منع مقدّمته الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الدَّلِيل وَهُوَ قَوْله إِذْ لَا تحقق لَهُ فَتَأمل هَذَا (وَنقل عَن الْأَشْعَرِيّ الْوَقْف أَيْضا على الْخلاف فِي تَفْسِيره) أَي الْوَقْف كَمَا تقدم (وَالصَّوَاب) أَن المُرَاد بِهِ التَّفْسِير (الثَّانِي) أَي عدم الْعلم بِخُصُوص الحكم (لعدم الحكم عِنْده) أَي الْأَشْعَرِيّ (أَي فِيهَا) أَي فِي الْأَفْعَال (حكم لَا يدْرِي مَا هُوَ) أَي ذَلِك الحكم (إِلَّا فِي) زمَان (الْبعْثَة) فَإِنَّهُ يدْرِي حِينَئِذٍ بِالشَّرْعِ (لِأَنَّهُ) أَي الحكم حِينَئِذٍ (يتَعَلَّق) بالأفعال (فيعلمه) حِينَئِذٍ الْمُكَلف (و) لَا يخفى أَن (مَحل وقف الْأَشْعَرِيّ غَيره) أَي غير وقف الْمُعْتَزلَة (لِأَنَّهُ) أَي الْوَقْف (عِنْدهم) على التَّفْسِير الثَّانِي (حِينَئِذٍ عَن الحكم الْمُتَعَلّق) بالأفعال (وَلَا يتَصَوَّر) وجود تعلق الحكم (عِنْده) أى الأشعرى (قبل الْبعْثَة فحاصلة) أَي كَلَام الْأَشْعَرِيّ (إِثْبَات قدم الْكَلَام) المندرج تَحْتَهُ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (والتوقف فِيمَا) أَي فِي الْخطاب الَّذِي (سَيظْهر تعلقه) التنجيزي بِالْفِعْلِ (وَهَذَا) الْمَذْكُور من قدم الْكَلَام والتوقف فِيمَا ذكر (مَعْلُوم من كل ناف للتعلق) التنجيزي (قبل الْبعْثَة)(2/170)
بِخِلَاف من أثبت قدمه وَلم ينف تعلقه قبلهَا (فَلَا وَجه لتخصيصه) أَي هَذَا التَّوَقُّف (بِهِ) أَي بالأشعري (كَمَا لَا وَجه لإثباتهم) أَي الْمُعْتَزلَة (تعلقه) أَي الحكم بالأفعال قبل الْبعْثَة (مَعَ فرض عدم علمه) أَي الْمُكَلف بِهِ (مَعَ أَنه) أَي الحكم (حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون مُتَعَلقا بِهِ وَلَا يُعلمهُ المكلفون (لَا يثبت) الحكم (فِي حق الْمُكَلّفين) إِذْ ثُبُوته فِي حَقهم حِينَئِذٍ تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَأَيْضًا يلْزمه التعذيب، وَقَالَ - {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} - (بل الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم فِي حَقهم (مَعَ التَّعَلُّق) أَي مَعَ تعلق الحكم بِأَفْعَال الْمُكَلّفين لَا يُفَارق أَحدهمَا الآخر، فَلَا وَجه لإِثْبَات التَّعَلُّق بِدُونِ الثُّبُوت فِي حَقهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يثبت التَّعَلُّق بِدُونِ الثُّبُوت فِي حَقهم (فَلَا فَائِدَة للتعلق) لانحصار فَائِدَته فِي الثُّبُوت فِي حَقهم (وَلَو قَالُوهُ) أَي الْمُعْتَزلَة لوقف (كالأشعري) أَي كوقف الْأَشْعَرِيّ بإثباتهم خطابا لفظيا مَوْقُوفا تعلقه على الْبعْثَة والسمع (كَانَ) مِنْهُم على أصولهم قولا (بِلَا دَلِيل إِذْ لَا دَلِيل على ثُبُوت لفظ فِيهِ) أَي فِي الحكم قبل الْبعْثَة (أصلا بِخِلَاف الْأَشْعَرِيّ) فَإِنَّهُ قَائِل بِأَنَّهُ (وَجب ثُبُوت) الْكَلَام (النَّفْسِيّ أَولا) لما قَامَ عَلَيْهِ من الدَّلِيل على قدم الْكَلَام، وَكَونه لَيْسَ من قبيل الْحَرْف وَالصَّوْت إِلَى غير ذَلِك ثمَّ ترَتّب عَلَيْهِ التَّوَقُّف الْمَذْكُور (وَأما الْخلاف الْمَنْقُول بَين أهل السّنة) وَالْجَمَاعَة، وَهُوَ (أَن الأَصْل فِي الْأَفْعَال الْإِبَاحَة أَو الْحَظْر فَقيل) اثباتهما (بعد الشَّرْع بالأدلة السمعية: أى دلّت) الْأَدِلَّة السمعية (على ذَلِك) الْخلاف بِأَن دلّ بَعْضهَا على الْإِبَاحَة وَبَعضهَا على الْحَظْر، فَكل من الْفَرِيقَيْنِ تمسك بِمَا ترجح لَهُ (وَالْحق أَن ثُبُوت هَذَا الْخلاف مُشكل، لِأَن السمعي لَو دلّ على ثُبُوت الْإِبَاحَة أَو التَّحْرِيم قبل الْبعْثَة) ظرف للثبوت لَا للدلالة لِأَنَّهَا فرع وجود السمعي الْمُتَأَخر عَن الْبعْثَة، فالمسمعي الْحَادِث بعد الْبعْثَة يدل على كَونهمَا ثابتين قبلهَا (بَطل قَوْلهم لَا حكم قبلهَا) إِذْ السّمع دلّ على ثُبُوت الْإِبَاحَة والحظر اللَّذين هما حكمان، وَقد يُقَال حَاصِل هَذَا التَّعْلِيل بطلَان دلَالَة السمعي على ثبوتهما قبل الْبعْثَة، لَا بطلَان دلَالَته على ثبوتهما بعْدهَا، وَإِثْبَات إِشْكَال الْخلاف مَوْقُوف على البطلانين جَمِيعًا فَتَأمل (فَإِن أمكن فِي الْإِبَاحَة تَأْوِيله) أَي قَوْلهم لَا حكم قبلهَا (بِأَن لَا مُؤَاخذَة بِالْفِعْلِ وَالتّرْك فمعلوم) أَي فَعدم الْمُؤَاخَذَة مَعْلُوم (من عدم التَّعَلُّق) أَي تعلق الحكم بِالْفِعْلِ فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره (ثمَّ لَا يَتَأَتَّى) التَّأْوِيل الْمَذْكُور (فِي قَول الْحَظْر) للمؤاخذة فِيهِ على التّرْك (وَلَو أَرَادوا) بالحكم الْمُثبت قبل الْبعْثَة (حكما) أَي خطابا نفسيا (بِلَا تعلق) بِفعل الْمُكَلف (بِمَعْنى قدم الْكَلَام) أَي الْكَلَام الْقَدِيم كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (لم يتَّجه) أَي فَهُوَ غير موجه (إِذْ بالتعلق ظهر أَن لَيْسَ كل) الْأَفْعَال مُبَاحَة وَلَا محظورة فِي كَلَام النَّفس) فَإِن التَّعَلُّق الْحَادِث بعد الْبعْثَة إِنَّمَا يظْهر لنا مَا كَانَ(2/171)
مندرجا إِجْمَالا لافي الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَدِيم (لِأَن) الْكَلَام (اللَّفْظِيّ) الَّذِي مَعَه التَّعَلُّق الْمَذْكُور (دَلِيله) أَي النَّفْسِيّ فَكيف تكون الْأَفْعَال كلهَا قبل الْبعْثَة مُبَاحَة أَو محظورة (وَمَا يشْعر بِهِ قَول بَعضهم أَن هَذَا) أَي القَوْل بِالْإِبَاحَةِ أَو الْحَظْر قبل الْبعْثَة مَبْنِيّ (على التنزل من الأشاعرة) مَعَ الْخصم: أَعنِي الْمُعْتَزلَة بِمَعْنى أَنه لَو فرض أَن لِلْعَقْلِ أَن يثبت حكما قبل الْبعْثَة كَانَ ذَلِك إِبَاحَة أَو حظرا (جيد) خبر الْمَوْصُول مُقَيّدا بقوله (لَو لم يظْهر من كَلَامهم أَنه) أَي مَا ذكر فِي هَذِه الخلافية (أَقْوَال مقررة) فِيمَا بَينهم لِأَنَّهَا أبحاث على طَرِيق التنزل (وَالْمُخْتَار أَن الأَصْل الْإِبَاحَة عِنْد جُمْهُور الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، وَلَقَد استبعده) أَي كَون الأَصْل الْإِبَاحَة بِمَعْنى عدم الْمُؤَاخَذَة بِالْفِعْلِ وَالتّرْك (فَخر الْإِسْلَام قَالَ: لَا نقُول بِهَذَا لِأَن النَّاس لم يتْركُوا سدى) أَي مهملين غير مكلفين (فِي شَيْء من الزَّمَان) لقَوْله تَعَالَى - {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} - (وَإِنَّمَا هَذَا) أَي كَون الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (بِنَاء على زمَان الفترة لاخْتِلَاف الشَّرَائِع) الْمُوجب تَفْرِقَة البال وصعوبة الضَّبْط (وَوُقُوع التحريفات) فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالعقيدة وَالْعَمَل (فَلم يبْق الِاعْتِقَاد) للاختلال فِي الضَّبْط والتحريف (و) لم يبْق (الوثوق) أَي الِاعْتِمَاد (على شَيْء من الشَّرَائِع) اعتقادا كَانَ أَو عملا (فظهرت الْإِبَاحَة بِمَعْنى عدم الْعقَاب على الْإِتْيَان بِمَا) أَي بِفعل (لم يُوجد لَهُ محرم وَلَا مُبِيح) مَعْلُوم للمكلفين فَإِن قلت على هَذَا لزم ترك النَّاس فِي بعض الْأَزْمِنَة وَهُوَ مُخَالف لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة قلت الْآيَة تدل على عدم خلو الْأُمَم من النذير، وزمان الفترة لَا يطول بِحَيْثُ تنقرض تِلْكَ الْأمة، بل يدركهم النذير قبل الانقراض بَعْدَمَا يمْضِي عَلَيْهِم بُرْهَة من الزَّمَان المندرس فِيهَا آثَار النُّبُوَّة كَمَا يدل عَلَيْهِ حِكَايَة سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ أدْرك أشخاصا بِدِمَشْق ونصيبين وَغَيرهمَا كَانُوا على الْحق حَتَّى انقرض آخِرهم، وَقد أخبرهُ بِأَن النَّبِي الْمَوْعُود بَعثه فِي آخر الزَّمَان قرب وقته جدا فَتوجه إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة بإشارته فَأدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مكثه بهَا قَلِيلا، فزمان الفترة مُسْتَثْنى من عُمُوم قَول فَخر الْإِسْلَام لم يتْركُوا فِي شَيْء من الزَّمَان، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَحَاصِله) أَي مَا قَالَه فَخر الْإِسْلَام (تَقْيِيده) أَي فَخر الْإِسْلَام (ذَلِك) أَي بِكَوْن الأَصْل الْإِبَاحَة (بِزَمَان عدم الوثوق) هَذَا وَنقل الْبَيْضَاوِيّ أَن من يَقُول الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة يَعْنِي فِي الْمَنَافِع، وَأما فِي المضار فَالْأَصْل فِيهَا التَّحْرِيم، وَقَالَ الأسنوي: هَذَا بعد وُرُود الشَّرْع بِمُقْتَضى أدلته، وَأما قبله فالمختار الْوَقْف، وَفِي أصُول الْبَزْدَوِيّ بعد وُرُود الشَّرْع الْأَمْوَال على الْإِبَاحَة بِالْإِجْمَاع مَا لم يظْهر دَلِيل الْحُرْمَة لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَهَا بقوله - {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} -.
(تَنْبِيه: بعد إِثْبَات الْحَنَفِيَّة اتصاف الْأَفْعَال) بالْحسنِ والقبح (لذاتها) بِالْمَعْنَى الَّذِي سبق(2/172)
ذكره سَوَاء كَانَ لعينها أَو لجزئها (وَغَيرهَا) أَي لِمَعْنى ثَبت فِي غير ذَاتهَا (ضبطوا متعلقات أوَامِر الشَّارِع مِنْهَا) أَي الْأَفْعَال فِي الْأَرْبَعَة أَقسَام (بالاستقراء) مُتَعَلق بالضبط منحصرا (فِيمَا) أَي فِي فعل مُتَعَلق أَمر (حسن لنَفسِهِ حسنا لَا يقبل) ذَلِك الْحسن (السُّقُوط) فَلَا يسْقط حكمه الَّذِي هُوَ الْوُجُوب (كالإيمان) أَي التَّصْدِيق على مَا عرف فِي مَحَله فَإِن حسنه كَذَلِك (فَلم يسْقط) بِسَبَب من الْأَسْبَاب غير الْإِكْرَاه (وَلَا بِالْإِكْرَاهِ) أَو هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام تَأْكِيدًا للْعُمُوم لكَون الْخَاص بِحَيْثُ يلْزم من حكمه حكم مَا سواهُ بِالطَّرِيقِ الأولي (أَو) حسنا (يقبله) أَي السُّقُوط. قَالَ الشَّارِح: وَالْأَحْسَن ويقبله انْتهى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَال الْحصْر فِي هَذَا وَهَذَا، لَا فِي هَذَا أَو هَذَا قلت وَقد يُقَال فِي هَذَا وَهَذَا ليفاد بِأَو التريدية المستعملة فِي التقسيمات التَّنْصِيص على كَون الْقِسْمَة حاصرة، وَيصِح أَن يُقَال هَذَا منحصر فِي أحد هَذِه الْأُمُور: يَعْنِي لَا يتَجَاوَز عَنهُ (كَالصَّلَاةِ) فَإِنَّهَا حسنت لنَفسهَا لكَونهَا مُشْتَمِلَة على طَهَارَة الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَجمع الهمة وإخلاء السِّرّ عَمَّا سوى الله كَمَا يشار إِلَيْهِ بِرَفْع الْيَدَيْنِ بنبذ مَا سواهُ وَرَاء ظَهره وَالتَّكْبِير الْبَالِغ فِي التَّعْظِيم وَالثنَاء الْغَيْر المشوب بِذكر مَا سواهُ ثمَّ الْمقَام فِي مقَام الْعُبُودِيَّة ثمَّ الرُّكُوع الدَّال على الخضوع، ثمَّ السُّجُود بِوَضْع أشرف الْأَعْضَاء على أذلّ العناصر: وَهُوَ التُّرَاب إِظْهَارًا لغاية التَّعْظِيم الْفعْلِيّ، وَمَا فِيهَا من تِلَاوَة الْقُرْآن وَالتَّكْبِير وَالتَّسْبِيح إِلَى غير ذَلِك إِلَّا أَنَّهَا (منعت فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة) عِنْد طُلُوع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع واستوائها وغروبها على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْفِقْه لما دلّ عَلَيْهِ من السّنة وَالْإِجْمَاع، وَسَقَطت أَيْضا بِالْحيضِ وَالنّفاس إِجْمَاعًا (وَالْوَجْه) أَن يُقَال إِن كَانَ حسن الْأَفْعَال (لذاتها لَا يتَخَلَّف) عَنْهَا أصلا لِأَن مَا بِالذَّاتِ لَا يَزُول بِالْغَيْر (فحرمتها) أَي الْأَفْعَال الْحَسَنَة لذاتها حَيْثُ تكون إِنَّمَا تكون (لعروض قبح بِخَارِج) عَن ذَاتهَا عَلَيْهَا، فَحسن الصَّلَاة لَا يفارقها وَلَا فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَإِنَّمَا منعت فِيهَا لعروض شبه فاعلها بالكفار عَبدة الشَّمْس فِي تِلْكَ الْأَوْقَات، وَفِي قَوْله فحرمتها الخ إِشَارَة إِلَى أَنه يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: إِذْ من الْمَعْلُوم أَن الْعَارِض الْمَذْكُور إِنَّمَا يعرض فِي بعض أَفْرَاده (وَمَا هُوَ مُلْحق بِهِ) أَي بالْحسنِ لذاته (مَا) أَي فعل حسن (لغيره) أَي لغير ذَات الْفِعْل حَال كَون ذَلِك الْغَيْر (بخلقه تَعَالَى لَا اخْتِيَار للْعَبد فِيهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج) فَإِن حسنها (لسد الْخلَّة) أَي دفع حَاجَة الْفَقِير إِلَى الزَّكَاة (وقهر عدوه تَعَالَى) وَهُوَ النَّفس الأمارة بالسوء بكفها عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي الصَّوْم (وَشرف الْمَكَان) أَي الْبَيْت الشريف بزيارته وتعظيمه فَإِن شرفه بتشريف الله تَعَالَى إِيَّاه لَا اخْتِيَار للْعَبد فِيهِ وَلَا يخفى أَن إِخْرَاج المَال الَّذِي هُوَ قوام الْمَعيشَة وَقطع الْمسَافَة الْبَعِيدَة وزيارة أمكنة مُعينَة وَترك الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع لَا حسن لَهَا فِي(2/173)
حد ذَاتهَا، بل حسنها لأمور مُغَايرَة للذات: وَهِي السد والقهر والسرف وَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا بِاخْتِيَار العَبْد، وَلَوْلَا دفع الله الْحَاجة مَا اندفعت، وَلَوْلَا جعله النَّفس مغلوبة مَا انقهرت وَلَوْلَا تشريفه الْبَيْت مَا تشرف، فَلم يحصل الْحسن فِي الْمَذْكُورَات، إِلَّا بِأُمُور خلقهَا الله تَعَالَى من غير اخْتِيَار للْعَبد فِيهَا وَإِنَّمَا ألحق هَذَا الْقسم بالْحسنِ لذاته لكَون الوسائط فِيهِ مُضَافَة إِلَى الله تَعَالَى سَاقِطَة الِاعْتِبَار بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد فِي منشأ حسنه، بِخِلَاف الْقسم الرَّابِع فَإِن الوسائط فه لَيست كَذَلِك، بل بِاخْتِيَار العَبْد كَمَا سَيَجِيءُ (وَمَا) حسن (لغيره) أَي لغير ذَات الْفِعْل حَال كَونه (غير مُلْحق) بِمَا حسن لذاته (كالجهاد، وَالْحَد، وَصَلَاة الْجِنَازَة) فَإِن حسن الْجِهَاد (بِوَاسِطَة الْكفْر) وإعلاء كلمة الله، فلولا كفر الْكَافِر وَمَا يتبعهُ من الإعلاء مَا حسن الْقِتَال (و) حسن الْحَد بِوَاسِطَة (الزّجر) للجاني عَن الْمعاصِي (و) حسن صَلَاة الْجِنَازَة بِوَاسِطَة (الْمَيِّت الْمُسلم غير الْبَاغِي) ويندرج فِيهِ قَاطع الطَّرِيق، وَلَو لم يكن الْمَيِّت مُسلما غير بَاغ مَا حسن الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَهُوَ بَين يَدَيْهِ وَإِنَّمَا (اعْتبرت الوسائط) فِي هَذَا الْقسم مُضَافَة إِلَى العَبْد غير مُضَافَة إِلَى الله تَعَالَى ليلحق بالْحسنِ لذاته (لِأَنَّهَا) أَي الوسائط (بِاخْتِيَارِهِ) أَي العَبْد المتصف بهَا، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الوسائط لم تعْتَبر فِي الْقسم الثَّالِث، وَجعل حسنها كَأَنَّهُ ذاتي كَمَا يدل عَلَيْهِ الْإِلْحَاق بالْحسنِ لذاته، وَإِنَّمَا اخْتَار الْوَجْه الْمَذْكُور فِي التَّقْسِيم على الأول لكَونه موهما لكَون الْحسن لذاته قَابلا لسُقُوط حسنه وتخلفه عَنهُ وَإِن حسن الصَّلَاة يفارقها فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَلَيْسَ كَذَلِك ولكونه قاصرا على التَّفْصِيل الْمَذْكُور فِي هَذَا الْوَجْه (وَتَقَدَّمت أَقسَام) الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ (متعلقات النَّهْي) عَنهُ مَا بَين حسي وشرعي وَبَيَان المتصف مِنْهَا بالقبح لذاته أَو لغيره (وَكلهَا) أَي متعلقات أوَامِر الشَّرْع ونواهيه (يلْزمه حسن اشْتِرَاط الْقُدْرَة) لِأَن تَكْلِيف الْعَاجِز قَبِيح وَتقدم أَقسَام الْقُدْرَة إِلَى مُمكنَة وميسره عِنْد مَشَايِخنَا (وقسموا) أَي الْحَنَفِيَّة (متعلقات الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَت عبادات أَو عقوبات أَو غَيرهمَا (إِلَى حَقه تَعَالَى على الخلوص) قَالُوا وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِهِ النَّفْع الْعَام من غير اخْتِصَاص بِأحد، نسب إِلَى الله تَعَالَى لعظم خطره وشمول نَفعه كَحُرْمَةِ الْبَيْت، وَحُرْمَة الزِّنَا (و) إِلَى حق (العَبْد كَذَلِك) أَي على الخلوص، وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِهِ مصلحَة خَاصَّة كَحُرْمَةِ مَال الْغَيْر، وَلذَا يُبَاح إِبَاحَة مَالِكه، وَلَا يُبَاح الزِّنَا بِإِبَاحَة الْمَرْأَة وَلَا بِإِبَاحَة أَهلهَا قيل وَيرد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج، وَالْحق أَن يُقَال يَعْنِي بِحَق الله مَا يكون الْمُسْتَحق هُوَ الله، وبحق العَبْد مَا يكون الْمُسْتَحق هُوَ العَبْد، وَيرد حُرْمَة مَال الْغَيْر مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ النَّفْع الْعَام، وَهُوَ صِيَانة أَمْوَال النَّاس، وَأجِيب بِأَنَّهَا لم تشرع لصيانة أَمْوَال النَّاس أجمع (وَمَا اجْتمعَا) أَي الحقان فِيهِ (وَحقه) تَعَالَى (غَالب وَقَلبه) أَي وَمَا اجْتمعَا فِيهِ وَحقّ العَبْد غَالب(2/174)
(وَلم يُوجد الاستقراء متساويين) أَي مَا اجْتمعَا فِيهِ وهما سَوَاء لَيْسَ أَحدهمَا غَالِبا على الآخر، وَقَوله وَلم يُوجد إِمَّا على صِيغَة الْمَعْلُوم والاستقراء فَاعله، ومتساويين بَين مَفْعُوله، والإسناد الْمجَازِي: إِذْ الاستقراء سَبَب للْعلم بالمساواة، أَو على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمرَاد بالاستقراء: أَي المستقر لم يُوجد الحقان اللَّذَان تعلق بهما الاستقراء حَال كَونهمَا متساويين فِي مُتَعَلق الحكم (فَالْأول) أَي مَا هُوَ حق الله تَعَالَى على الخلوص (أَقسَام) ثَمَانِيَة بالاستقراء (عبادات مَحْضَة كالإيمان والأركان) الْأَرْبَعَة لِلْإِسْلَامِ وَهِي الصَّلَاة، ثمَّ الزَّكَاة، ثمَّ الصّيام، ثمَّ الْحَج (ثمَّ الْعمرَة، وَالْجهَاد، وَالِاعْتِكَاف وترتيبها) أَي هَذِه الْعِبَادَات (فِي الأشرفية هَكَذَا) أَي على طبق التَّرْتِيب الَّذِي ذكر هَهُنَا أما أشرفية الْإِيمَان مُطلقًا فَلِأَنَّهُ الأَصْل، وَلَا صِحَة لشَيْء مِنْهَا بِدُونِهِ، ثمَّ الصَّلَاة حَيْثُ سَمَّاهَا الله إِيمَانًا فِي قَوْله - {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} -، وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " بَين الرجل وَبَين الشّرك وَالْكفْر ترك الصَّلَاة ". وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود " قلت يَا رَسُول الله أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ الصَّلَاة على ميقاتها إِلَى غير ذَلِك، وَفِي إِظْهَار شكر نعْمَة الْبدن، ثمَّ الزَّكَاة لِأَنَّهَا تالية الصَّلَاة فِي الْكتاب وَالسّنة، وفيهَا إِظْهَار شكر نعْمَة المَال الَّذِي هُوَ شَقِيق الرّوح، ثمَّ الصَّوْم لِأَنَّهُ لقهر النَّفس ورياضتها، وَلَا يصلح للْخدمَة إِلَّا بهما، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " كل عمل ابْن آدم لَهُ الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف ". قَالَ الله عز وَجل " إِلَّا الصّيام فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ ". وَمن هُنَا ذهب بَعضهم إِلَى أَنه أفضل عبادات الْبدن غير أَنه يجوز أَن يخْتَص الْمَفْضُول بِمَا لَيْسَ للفاضل كفرار الشَّيْطَان من الْأَذَان وَالْإِقَامَة دون الصَّلَاة ثمَّ الْحَج. قَالُوا لِأَنَّهُ عبَادَة هِجْرَة وسفر لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِأَفْعَال يقوم بهَا ببقاع معظمة، وَكَأَنَّهُ وَسِيلَة إِلَى مَا قصد بِالصَّوْمِ من قطع مُرَاد الشَّهَوَات، وقهر النَّفس، وَذهب القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة إِلَى أَنه أفضل عبَادَة الْبدن وَفِي الْكَشَّاف أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يفاضل بَين الْعِبَادَات قبل أَن يحجّ، فَلَمَّا حج فضل الْحَج على الْعِبَادَات كلهَا لما شَاهد من تِلْكَ الخصائص (قَالُوا وقدمت الْعمرَة وَهِي سنة على الْجِهَاد) وَإِن كَانَ فِي الأَصْل فرض عين ثمَّ صَار فرض كِفَايَة، لِأَن الْمَقْصد وَهُوَ كسر شَوْكَة الْمُشْركين وَدفع أذاهم عَن الْمُسلمين يحصل بِالْبَعْضِ (لِأَنَّهَا من تَوَابِع الْحَج) وأفعالها من جنس أَفعاله (وَلَا يخفى مَا فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّوْجِيه من أَن كَونهَا من توابعه لَا يَقْتَضِي تَقْدِيمهَا على الْجِهَاد. وَقد صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن الله تَعَالَى " مَا تقرّب إليّ عَبدِي بِشَيْء أحبّ إليّ مِمَّا افترضته عَلَيْهِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " أفضل الْأَعْمَال إِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله، ثمَّ جِهَاد فِي سَبِيل الله، ثمَّ حج مبرور ". وَقد صحّ أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله فأيّ الْإِسْلَام أفضل؟ قَالَ الْإِيمَان، ثمَّ قَالَ فَأَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ الْهِجْرَة. قَالَ وَمَا الْهِجْرَة؟ قَالَ أَن تهجر السوء.(2/175)
قَالَ فَأَي الْهِجْرَة أفضل، قَالَ الْجِهَاد قَالَ فَأَي الْجِهَاد أفضل؟ قَالَ من عقر جَوَاده وَأُهْرِيقَ دَمه ". قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " ثمَّ عملان هما أفضل الْأَعْمَال إِلَّا من عمل بمثلهما: حجَّة مبرورة أَو عمْرَة مبرورة ". وَمن هُنَا ذهب بَعضهم إِلَى أَن الْجِهَاد أفضل عبادات الْبدن، وَقد يُجَاب عَمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَن فرض الْحَج تَأَخّر إِلَى السّنة التَّاسِعَة، وَكَانَ الْجِهَاد فرض عين فِي أول الْإِسْلَام فَلَعَلَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك قبل فرض الْحَج. قَالَ أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء إِن الْجِهَاد أفضل الْأَعْمَال بعد الْفَرَائِض. وَقَالَ مَالك: الْحَج أفضل من الْغَزْو، لِأَن الْغَزْو فرض كِفَايَة، وَالْحج فرض عين، وَكَانَ ابْن عمر يكثر الْحَج وَلَا يكثر الْغَزْو، وَلَكِن يشكل بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " حجَّة لمن لم يحجّ خير من عشر غزوات، وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج ".
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: ذكر الشَّارِح هَذِه الْجُمْلَة فِي مسَائِل غَيرهَا من هَذَا الْجِنْس (وَعبادَة فِيهَا معنى الْمُؤْنَة) هِيَ فعولة على الْأَصَح من مأنت الْقَوْم: إِذا احتملت ثقلهم، وَقيل مفعلة من الأون وَهُوَ أحد جَانِبي الخرج لِأَنَّهُ ثقل، أَو من الأين وَهُوَ التَّعَب والشدة، وَهَذِه الْعِبَادَة (صَدَقَة الْفطر) وَكَونهَا فِيهَا معنى الْمُؤْنَة (إِذْ وَجَبت) على الْمُكَلف (بِسَبَب غَيره) كَمَا وَجب مُؤْنَته روى الْبَيْهَقِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عمر قَالَ " أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة الْفطر عَن الصَّغِير وَالْكَبِير وَالْحر وَالْعَبْد مِمَّن يمونون، فَإِن الْعِبَادَة الْمَحْضَة لَا تجب على الْغَيْر بِسَبَب الْغَيْر (فَلم يشْتَرط لَهَا كَمَال الْأَهْلِيَّة) كَمَا شَرط للعبادات الْخَالِصَة لقُصُور معنى الْعِبَادَة (فَوَجَبت فِي مَال الصَّغِير وَالْمَجْنُون خلافًا لمُحَمد وَزفر) يتَوَلَّى أداءها الْأَب، ثمَّ وَصِيّه، ثمَّ الْجد، ثمَّ وَصِيّه، ثمَّ وَصِيّ نَصبه القَاضِي عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أوجباه عَلَيْهِمَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَفَقَة ذِي الرَّحِم الْمحرم مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تجب فِي مَالهمَا، إِذا كَانَا غَنِيَّيْنِ باتفاقهم. قَالَ صَاحب الْكَشَّاف ثمَّ تِلْمِيذه قوام الدّين الكاكي قَول مُحَمَّد وَزفر أوضح (وَمؤنَة فِيهَا معنى الْقرْبَة كالعشر: إِذْ الْمُؤْنَة مَا بِهِ بَقَاء الشَّيْء وَبَقَاء الأَرْض فِي أَيْدِينَا بِهِ) أَي بالعشر، لِأَن الله تَعَالَى حكم بِبَقَاء الْعَالم إِلَى الْوَقْت الْمَوْعُود، وَهُوَ بِبَقَاء الأَرْض، وَمَا يخرج من الْقُوت وَغَيره لمن عَلَيْهَا: فَوَجَبت عمارتها وَالنَّفقَة عَلَيْهَا كَمَا أوجب على الْملاك نَفَقَة عبيدهم ودوابهم وبقاؤها إِنَّمَا هُوَ بِجَمَاعَة الْمُسلمين لأَنهم الحافظون لَهَا، أما من حَيْثُ الدُّعَاء وَهُوَ من الضُّعَفَاء المحتاجين فَإِن بهم النَّصْر على الْأَعْدَاء وبهم يمطرون، وَأما من حَيْثُ الذب بِالشَّوْكَةِ عَن الدَّار وغوائل الْكفَّار وهم الْمُقَاتلَة فَوَجَبَ فِي بَعْضهَا الْعشْر نَفَقَة للأولين وَفِي بَعْضهَا الْخراج للآخرين، وَجعلت النَّفَقَة عَلَيْهَا تَقْديرا (وَالْعِبَادَة) فِيهِ (لتَعَلُّقه) أَي الْعشْر (بالنماء) الْحَقِيقِيّ لَهَا، وَهُوَ الْخَارِج مِنْهَا كتعلق الزَّكَاة بِهِ أَو لِأَن مصرفه الْفَقِير كمصرف الزَّكَاة (وَإِذا كَانَت الأَرْض الأَصْل) والنماء وَصفا تَابعا لَهَا (كَانَت الْمُؤْنَة غالبة) فِيهِ (وللعبادة)(2/176)
فِيهِ (لَا يبتدأ الْكَافِر بِهِ) أَي بالعشر لِأَن الْكفْر منافي الْعِبَادَة من كل وَجه، وَلِأَن فِي الْعشْر ضرب كَرَامَة، وَالْكفْر مَانع مِنْهُ مَعَ إِمْكَان الْخَارِج (وَلَا يبْقى) الْعشْر (عَلَيْهِ) أَي الْكَافِر إِذا اشْترى أَرضًا عشرِيَّة عِنْد أبي حنيفَة (خلافًا لمُحَمد فِي الْبَقَاء) للعشر عَلَيْهِ (إِلْحَاقًا) للعشر (بالخراج) فَإِنَّهُ يبْقى عَلَيْهِ إِذا اشْترى أَرضًا خَرَاجِيَّة بِالْإِجْمَاع (بِجَامِع الْمُؤْنَة) فَإِن كلا مِنْهُمَا من مُؤَن الأَرْض، وَالْكَافِر أهل للمؤنة (وَالْعِبَادَة) فِي الْعشْر (تَابِعَة) للمؤنة فَيسْقط فِي حَقه لعدم أَهْلِيَّته لَهَا (فَلَا يُثَاب) الْكَافِر (بِهِ) أَي بالعشر (وَأجِيب) من قبله عَنهُ (بِأَنَّهُ) أَي معنى الْعِبَادَة (وَإِن تبع) الْمُؤْنَة (فَهُوَ ثَابت) فِي الْعشْر فَإِن كلا من تعلقه بالنماء وَصَرفه إِلَى مصارف الْفُقَرَاء مُسْتَمر (فَيمْنَع) ثُبُوته فِيهِ من الْغَايَة فِي حق الْكَافِر إِلَّا بطرِيق التَّضْعِيف، فَالْقَوْل بِوُجُوبِهِ بِدُونِ التَّضْعِيف عَلَيْهِ خرق للْإِجْمَاع (فَتَصِير) الأَرْض العشرية (خَرَاجِيَّة بِشِرَائِهِ) أَي الْكَافِر إِيَّاهَا عِنْد أبي حنيفَة، وَإِنَّمَا اخْتلفت الرِّوَايَة فِي وَقت صيرورتها خَرَاجِيَّة، فَفِي السّير كَمَا اشْترى، وَفِي رِوَايَة تبقى عشرِيَّة مَا لم يوضع عَلَيْهَا الْخراج، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ إِذْ بقيت مُدَّة يُمكنهُ أَن يزرع فِيهَا، زرع أَولا (وَلأبي يُوسُف) أَي وَخِلَافًا لَهُ فِي أَنه (يضعف عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا بُد من تَغْيِيره، لِأَن الْكفْر يُنَافِيهِ، والتضعيف تَغْيِير للوصف فَقَط، فَيكون أسهل من إبِْطَال الْعشْر وَوضع الْخراج، لِأَن فِيهِ تَغْيِير الأَصْل وَالْوَصْف جَمِيعًا، والتضعيف فِي حق الْكَافِر مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة (كبني تغلب) وَلَا يُقَال فِيهِ تَضْعِيف للقربة، وَالْكفْر ينافيها، لأَنا نقُول بعد التَّضْعِيف صَار فِي حكم الْخراج الَّذِي هُوَ من خَواص الْكفَّار، وخلا عَن وصف الْقرْبَة (وَيُجَاب بِأَنَّهَا) أَي الصَّدَقَة الْمَأْخُوذَة من بني تغلب هِيَ فِي الْمَعْنى (أجزية سميت بذلك) أَي بِكَوْنِهَا صَدَقَة مضاعفة (بِالتَّرَاضِي لخُصُوص عَارض) فَإِن بني تغلب بِكَسْر اللَّام عرب نَصَارَى. قَالَ الْقَائِم بن سَلام فِي كتاب الْأَمْوَال: همّ: يَعْنِي عمر أَن يَأْخُذ مِنْهُم الْجِزْيَة، فتفرّقوا فِي الْبِلَاد، فَقَالَ النُّعْمَان بن زرْعَة أَو زرْعَة بن النُّعْمَان لعمر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الْجِزْيَة، وَلَيْسَ لَهُم أَمْوَال إِنَّمَا هم أَصْحَاب حروث ومواش، وَلَهُم مكانة فِي العدوّ فَلَا تعن عددّك عَلَيْك بهم: فَصَالحهُمْ عمر رَضِي الله عَنهُ على أَن يضع عَلَيْهِم الصَّدَقَة وَاشْترط عَلَيْهِم أَن لَا ينصرُوا أَوْلَادهم، وَفِي رِوَايَة عَن هَذِه جِزْيَة سَموهَا مَا شِئْتُم، وَإِنَّمَا اخْتلف الْفُقَهَاء فِي أَنَّهَا هَل هِيَ جِزْيَة على التَّحْقِيق من كل وَجه؟ فَقيل نعم حَتَّى لَو كَانَ للْمَرْأَة أَو الصَّبِي نقود أَو مَاشِيَة لَا يُؤْخَذ مِنْهُم شَيْء، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَرِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَقيل لَا، بل وَاجِبَة بِشَرْط الزَّكَاة وأسبابها، وَهُوَ ظَاهر الرِّوَايَة، لِأَن الصُّلْح وَقع على ذَلِك، وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَبُو حنيفَة من أَنَّهَا تصير خَرَاجِيَّة كَمَا ذكره فَخر الْإِسْلَام وَغَيره، وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّالِث (وَمؤنَة فِيهَا معنى الْعقُوبَة) وَهِي (الْخراج أما الْمُؤْنَة فلتعلق بَقَائِهَا) أَي الأَرْض(2/177)
لأهل الْإِسْلَام (بالمقاتلة المصارف) لَهُ كَمَا بَيناهُ آنِفا (والعقوبة للانقطاع بالزراعة عَن الْجِهَاد) لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالْأَرْضِ لصفة التَّمَكُّن من الزِّرَاعَة والاشتغال بهَا عمَارَة للدنيا وإعراض عَن الْجِهَاد، وَهُوَ سَبَب الذل شرعا (فَكَانَ) الْخراج (فِي الأَصْل صغَارًا) فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن أَبَا أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: وَرَأى سكَّة وشيئا من آلَة الْحَرْث سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول " لَا يدْخل هَذَا بَيت قوم إِلَّا دخله الذَّال " (وَبَقِي) الْخراج للْأَرْض الخراجية وَظِيفَة مستمرة (لَو اشْتَرَاهَا مُسلم) أَو ورثهَا أَو وَهبهَا أَو أسلم مَالِكهَا (لِأَن ذَلِك) الصغار (فِي ابْتِدَاء التوظيف) لَا فِي بَقَائِهِ نظرا إِلَى مَا فِيهِ من رُجْحَان معنى الْمُؤْنَة الَّتِي الْمُؤمن من أَهلهَا، وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع (وَحقّ قَائِم بِنَفسِهِ: أَي لم يتَعَلَّق بِسَبَب مبَاشر) فسر الْقيام بِالنَّفسِ بِكَوْن الْحق بِحَيْثُ لم يتَعَلَّق وُجُوبه بِمَا جعله الشَّارِع سَببا لَهُ إِذْ بَاشرهُ العَبْد، بل يكون ثُبُوته بِحكم مَالك الْأَشْيَاء كلهَا وَهُوَ (خمس الْغَنَائِم) أَي الْأَمْوَال الْمَأْخُوذَة من الْكفَّار قهرا لإعلاء كلمة الله فالمصاب كُله حق الله تَعَالَى، وَالْعَبْد يعْمل لمَوْلَاهُ لَا يسْتَحق عَلَيْهِ شَيْئا إِلَّا أَنه سُبْحَانَهُ جعل أَرْبَعَة أخماسه للغانمين امتنانا مِنْهُ عَلَيْهِم، واستبقى الْخمس حَقًا لَهُ، وَأمر بصرفه إِلَى من سماهم فِي كِتَابه الْعَزِيز: فَتَوَلّى السُّلْطَان أَخذه وقسمته بَينهم لكَونه نَائِب الشَّرْع فِي إِقَامَة حُقُوقه (وَمِنْه) أَي الْحق الْقَائِم بِنَفسِهِ (الْمَعْدن) بِكَسْر الدَّال وَهُوَ فِي الأَصْل الْمَكَان بِقَيْد الِاسْتِقْرَار فِيهِ، من عدن بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، ثمَّ اشْتهر فِي نفس الْأَجْزَاء المستقرة الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي الأَرْض يَوْم خلقهَا (والكنز) وَهُوَ الْمُثبت فِيهَا من الْأَمْوَال بِفعل الْإِنْسَان، والركاز يعمهما لِأَنَّهُ من الركز المُرَاد بِهِ المركوز أَعم من أَن يكون راكزه الْخَالِق أَو الْمَخْلُوق، فَهُوَ مُشْتَرك معنوي بَينهمَا، ثمَّ المُرَاد بالمعدن هُنَا عِنْد أَصْحَابنَا. الجامد الَّذِي يذوب وَيَنْقَطِع كالنقدين وَالْحَدِيد والرصاص والنحاس، وبالكنز مَا لَا عَلامَة للْمُسلمين فِيهِ حَتَّى كَانَ جاهليا: فَإِن هذَيْن لَا حق لأحد فيهمَا، جعل أَرْبَعَة أَخْمَاس كل مِنْهُمَا للواجد، واستبقى الْخمس لَهُ تَعَالَى ليصرف إِلَى من سماهم (فَلم يلْزم أَدَاؤُهُ) أَي الْخمس من هَذِه الْأَمْوَال (طَاعَة) ليشترط لَهُ النِّيَّة ليَقَع قربَة (إِذْ لم يقْصد الْفِعْل) الَّذِي هُوَ الدّفع (بل) قصد (مُتَعَلّقه) أَي الْفِعْل وَهُوَ المَال الْمَدْفُوع (بل هُوَ) أَي الْخمس (حق لَهُ تَعَالَى فَلم يحرم على بني هَاشم إِذْ لم يتسخ إِذْ لم تقم بِهِ قربَة وَاجِبَة) . قَالَ الشَّارِح: قلت وَالْأولَى الِاقْتِصَار على قربَة بِنَاء على حُرْمَة الصَّدَقَة الناقلة عَلَيْهِم كالمفروضة لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن الصَّدَقَة لَا تنبغي لآل مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس "، رَوَاهُ مُسلم إِلَى غير ذَلِك، فَوَجَبَ اعْتِبَاره كَمَا قَالَه المُصَنّف فِي فتح الْقَدِير انْتهى. وَالْعجب أَن المُصَنّف فِي الْكتاب الْمَذْكُور بعد مَا نَقله بِخَمْسَة أسطر قَالَ: وَلَا يخفى أَن هَذِه العمومات تنتظم الصَّدقَات الناقلة(2/178)
والواجبة فجروا على مُوجب ذَلِك فِي الْوَاجِبَة فَقَالُوا: لَا يجوز صرف كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار وَالْقَتْل وَجَزَاء الصَّيْد وَعشر الأَرْض، وغلة الْوَقْف إِلَيْهِم إِلَّا إِذا كَانَ الْوَقْف عَلَيْهِم لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَنْزِلَة الْوَقْف على الْأَغْنِيَاء، فَإِن كَانَ على الْفُقَرَاء وَلم يسمّ بني هَاشم لَا يجوز الصّرْف إِلَيْهِم، وَأما صَدَقَة النَّفْل فَقَالَ فِي النِّهَايَة: يجوز النَّفْل بِالْإِجْمَاع، وَكَذَا يجوز النَّفْل للغني: كَذَا فِي فَتَاوَى العتابي وصرّح فِي الْكَافِي بِدفع صَدَقَة الْوَقْف إِلَيْهِم على أَنه بَيَان الْمَذْهَب من غير نفل خلاف، فَقَالَ: وَأما التطوّع وَالْوَقْف فَيجوز الصّرْف إِلَيْهِم، لِأَن المؤدّي فِي الْوَاجِب يظْهر نَفسه بِإِسْقَاط الْفَرْض فيتدنس المؤدّي كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل، وَفِي النَّفْل تبرّع بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يتدنس المؤدّي كمن تبرّد بِالْمَاءِ، إِلَى هُنَا كَلَام المُصَنّف. وَهَذَا هُوَ الْقسم الْخَامِس (وعقوبات كَامِلَة) أَي مَحْضَة لَا يشوبها معنى آخر فَهِيَ كَامِلَة فِي كَونهَا عُقُوبَة وَهِي (الْحُدُود) أَي حدّ الزِّنَا وحدّ السّرقَة وحدّ الشّرْب فَإِنَّهَا شرعت لصيانة الْأَنْسَاب وَالْأَمْوَال والعقول، وموجبها جنايات لَا يشوبها معنى الْإِبَاحَة فَيَقْتَضِي أَن يكون لكلّ مِنْهَا عُقُوبَة كَامِلَة زاجرة عَن ارتكابه حَقًا لله تَعَالَى على الخلوص، وَعَن الْمبرد سميت الْعقُوبَة عُقُوبَة لِأَنَّهَا تتلو الذُّنُوب، من عقبه يعقبه: إِذا اتبعهُ، وَهَذَا هُوَ الْقسم السَّادِس (و) عُقُوبَة (قَاصِرَة) وَهِي (حرمَان الْقَاتِل) إِرْث الْمَقْتُول لقَتله عمدا أَو غَيره على مَا فصل فِي الْفِقْه ثمَّ (كَونه) أَي حرمَان الْقَاتِل (حَقًا لَهُ تَعَالَى لِأَن مَا يجب لغيره) تَعَالَى (بالتعدّي عَلَيْهِ) أَي الْغَيْر يكون (فِيهِ نفع لَهُ) أَي للْغَيْر، والغير هُنَا: الْمَقْتُول (وَلَيْسَ فِي الحرمان نفع للمقتول) فَتعين كَونه لله تَعَالَى زاجرا عَن ارْتِكَاب مثل هَذَا الْعَمَل كالحدّ لِأَن مَا لَا يجب لغيره تَعَالَى يجب لَهُ ضَرُورَة (ومجرّد الْمَنْع) من الْإِرْث (قَاصِر) فِي معنى الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ لم يلْحقهُ ألم فِي بدنه وَلَا نُقْصَان فِي مَاله: بل هُوَ مجرّد منع لثُبُوت ملكه فِي التَّرِكَة، وَقيل لَيْسَ لهَذَا الْقسم مِثَال غير هَذَا: وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع (وَحُقُوق هما) أَي الْعِبَادَة والعقوبة مجتمعان (فِيهَا كالكفارات) للْيَمِين وَالْقَتْل وَالظِّهَار وَالْفطر الْعمد فِي نَهَار رَمَضَان، وَكَفَّارَة قتل الصَّيْد للْمحرمِ، وصيد الْحرم، أما أَن فِيهَا معنى الْعِبَادَات فَلِأَنَّهَا تؤدّى بِمَا هُوَ عبَادَة مَحْضَة من عتق أَو صَدَقَة أَو صِيَام، وَيشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، وَيُؤمر من هِيَ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفسِهِ بطرِيق الْفَتْوَى، وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ جبرا، وَالشَّرْع لم يفوّض إِلَى الْمُكَلف إِقَامَة شَيْء من الْعُقُوبَات على نَفسه بل هِيَ مفوّضة إِلَى الْأَئِمَّة، وتستوفي جبرا، وَأما أَن فِيهَا معنى الْعقُوبَة فَإِنَّهَا لم تجب إِلَّا أجزية على أَفعَال من الْعباد لَا مُبتَدأَة، وَلِهَذَا سميت كَفَّارَات لِأَنَّهَا ستارة للذنوب (وجهة الْعِبَادَة غالبة فِيهَا) بِدَلِيل وُجُوبهَا على أَصْحَاب الْأَعْذَار مثل الخاطئ والناسى وَالْمكْره، وَالْمحرم المضطرّ إِلَى قتل الصَّيْد لمخمصة وَلَو كَانَت جِهَة الْعقُوبَة فِيهَا(2/179)
غالبة لامتنع وُجُوبهَا بِسَبَب الْعذر: لِأَن الْمَعْذُور لَا يسْتَحق الْعقُوبَة، وَكَذَا لَو كَانَت مُسَاوِيَة لِأَن جِهَة الْعِبَادَة إِن لم تمنع الْوُجُوب على هَؤُلَاءِ المعذورين فجهة الْعقُوبَة تَمنعهُ، وَالْأَصْل عَدمه، فَلَا يثبت إِلَّا بِالشَّكِّ (إِلَّا الْفطر) أَلا كَفَّارَته فَإِن جِهَة الْعقُوبَة فِيهَا غالبة (وألحقها) أَي كَفَّارَة الْفطر (الشَّافِعِي بهَا) أَي بِسَائِر الْكَفَّارَات فِي تَغْلِيب معنى الْعِبَادَة فِيهَا على الْعقُوبَة حَيْثُ لم يُسْقِطهَا بِالشُّبْهَةِ كَمَا سَيَأْتِي (وَالْحَنَفِيَّة) إِنَّمَا قَالُوا بتغليب معنى الْعقُوبَة فِيهَا على الْعِبَادَة (لتقيدها) أَي وجوب كَفَّارَة الْفطر (بالعمد) أَي بِالْفطرِ الْعمد (ليصير) الْفطر الْعمد (حَرَامًا وَهُوَ) أَي كَونه حَرَامًا (المثير للعقوبة والتصور) أَي ولقصور الْعقُوبَة فِيهَا حَيْثُ لم تكن كَامِلَة (لكَون الصَّوْم) الَّذِي تعمد الْفطر فِي أَثْنَائِهِ (لم يصر حَقًا تَاما مُسلما لصَاحب الْحق) وَهُوَ الله عزّ وجلّ لَكِن (وَقعت الْجِنَايَة عَلَيْهِ) أَي على الصَّوْم (فَلِذَا) أَي فلأجل أَن الْجِنَايَة وَقعت عَلَيْهِ (تأدّى) هَذَا الْحق الْوَاجِب الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَة (بِالصَّوْمِ وَالصَّدَََقَة) الَّتِي هِيَ الْإِطْعَام، فلولا أَن فِي هَذِه الْكَفَّارَة معنى الْعِبَادَة، وَإِن كَانَ مَغْلُوبًا مَا تأدّت بِمَا هُوَ من جنس الْعِبَادَة (وشرطت النِّيَّة) فِيهَا إِذْ الْعِبَادَة لَا تصح إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعْطُوف على تأدّى (فتفرع) على غَلَبَة معنى الْعقُوبَة (درؤها) أَي سُقُوط وجوب الْكَفَّارَة (بِالشُّبْهَةِ) أَي شُبْهَة الْإِبَاحَة كَمَا يدْرَأ الحدّ، وَمن ثمَّة لم يجب إِجْمَاعًا على من جَامع ظَانّا أَن الْفجْر لم يطلع، أَو أَن الشَّمْس غَابَتْ ثمَّ تبين خِلَافه (فَوَجَبَ) الْحق الْمَذْكُور (مرّة بمرار) أَي بفطر متعدّد فِي أَيَّام (قبل التَّكْفِير من رَمَضَان) وَاحِد عندنَا كَمَا يحدّ مرّة بزناة مرّة بعد أُخْرَى إِذا لم يحد بِكُل مرّة. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجب بِكُل فطر يَوْم كَفَّارَة (وَمن اثْنَيْنِ) أَي وَيجب كَفَّارَة وَاحِدَة بفطر متعدّد قبل التَّكْفِير من رمضانين (عِنْد الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْمَشَايِخ. وَفِي الْكَافِي فِي الصَّحِيح (خلافًا لما يرْوى عَنهُ) أَي عَن أبي حنيفَة من أَنه يجب التعدّد فِي الْكَفَّارَة بتعدّد فطر الْأَيَّام، وَإِنَّمَا قُلْنَا بالتداخل حَيْثُ قُلْنَا بِهِ (لِأَن التَّدَاخُل دَرْء) يَعْنِي أَنه لما كَانَ عَلَيْهِ الْعقُوبَة فِي الْكَفَّارَات ألحقها بالحدود الَّتِي تندرئ بِالشُّبُهَاتِ حصل عِنْد تكرّر مُوجبهَا قبل التَّكْفِير شُبْهَة الِاكْتِفَاء بكفارة وَاحِدَة عَن الْجِنَايَات المتعدّدة نظرا إِلَى حُصُول الْمَقْصد، وَهُوَ الانزجار بِوَاحِدَة، فاندرأ تعدّد الْوُجُوب بِهَذِهِ الشُّبْهَة (وَلَو كفر) عَن فطر يَوْم (ثمَّ أفطر) فِي آخر (فأخرى) أَي فَيجب كَفَّارَة أُخْرَى (لتبين عدم انزجاره بِالْأولَى) أَي الْكَفَّارَة الأولى (فتفيد الثَّانِيَة) الانزجار (وَالثَّانِي حُقُوق الْعباد كضمان الْمُتْلفَات وَملك الْمَبِيع وَالزَّوْجَة وَكثير) (و) الثَّالِث (مَا اجْتمعَا) أَي حق الله وَحقّ العَبْد فِيهِ (وَحقه تَعَالَى غَالب) وَهُوَ (حدّ الْقَذْف) لِأَنَّهُ من حَيْثُ أَنه يَقع نَفعه عَاما بإخلاء الْعَالم عَن الْفساد حق الله، وَمن حَيْثُ أَنه صِيَانة الْعرض وَدفع الْعَار عَن الْمَقْذُوف حق العَبْد: إِذْ هُوَ(2/180)
ينْتَفع بِهِ على الْخُصُوص، ثمَّ فِي هَذَا حق الله تَعَالَى أَيْضا لما فِيهِ من حق الاستعباد فَكَانَ الْغَالِب حق الله (فَلَيْسَ للمقذوف إِسْقَاطه) أَي الحدّ: لِأَن حق الله لَا يسْقط بِإِسْقَاط العَبْد وَإِن كَانَ غير متمحض لَهُ كَمَا يشْهد بِهِ دلَالَة الْإِجْمَاع على عدم سُقُوط العدّة بِإِسْقَاط الزَّوْج إِيَّاهَا، وَإِن كَانَ الْمَقْصد مِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن اخْتِلَاط مَاء الْغَيْر بمائه الْمُوجب الِاشْتِبَاه فِي نسب وَلَده، وَذَلِكَ لما فِيهَا من حق الله عزّ وجلّ (وَلذَا) أَي وَلكَون الْغَالِب فِي هَذَا الحدّ حق الله تَعَالَى (وَلم يفوّض إِلَيْهِ) أَي الْمَقْذُوف ليقيمه على قَاذفه (لِأَن حُقُوقه تَعَالَى لَا يستوفيها إِلَّا الإِمَام) لاستنابة الله إِيَّاه فِي استيفائها (وَلِأَنَّهُ) أَي حدّ الْقَذْف (لتهمته) أَي الْقَاذِف الْمَقْذُوف (بِالزِّنَا وَأثر الشَّيْء من بَابه) أَي بَاب ذَلِك الشَّيْء واتباعه، وحدّ الزِّنَا حق الله اتِّفَاقًا (فدار) حدّ الْقَذْف (بَين كَونه لله تَعَالَى خَالِصا) كحدّ الزِّنَا (أَو) كَونه (لَهُ) أَي لله تَعَالَى (وَلِلْعَبْدِ) فَلَا أقلّ من أَن يُقَال (فتغلب) حق الله (بِهِ) . قَالَ الشَّارِح: أَي بحدّ الْقَذْف انْتهى، وَلَا وَجه لَهُ إِلَّا أَن تكون الْبَاء بِمَعْنى فِي، وَالْأَوْجه إرجاع الضَّمِير إِلَى مَا ذكر مِمَّا يدلّ على كَون حَقه تَعَالَى غَالِبا، وَذهب صدر الْإِسْلَام إِلَى أَن الْغَالِب فِيهِ حق العَبْد، وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (و) الرَّابِع (مَا اجْتمعَا) أَي حق الله وَحقّ العَبْد فِيهِ (وَالْغَالِب حق العَبْد) وَهُوَ (الْقصاص بالِاتِّفَاقِ) فَإِن لله تَعَالَى فِي نفس العَبْد حق الاستعباد، وَلِلْعَبْدِ حق الِاسْتِمْتَاع، ثمَّ إِن الْقصاص من حَيْثُ أَنه يُنبئ عَن الْمُمَاثلَة يدلّ على أَن رِعَايَة جَانب العَبْد أَكثر والأفرعاية إخلاء الْعَالم عَن الْفساد الَّذِي هُوَ النَّفْع الْعَام الرَّاجِع إِلَى حق الله تَعَالَى كَانَ يَقْتَضِي زِيَادَة الزّجر بِضَم أَخذ المَال وَنَحْوه مَعَه، (وينقسم) مُتَعَلق الحكم الشَّرْعِيّ مُطلقًا (أَيْضا بِاعْتِبَار آخر أصل وَخلف) أَي يَنْقَسِم إِلَى أصل وَخلف: فَعلم أَن الِاعْتِبَار الآخر الْأَصَالَة والخلفية (لَا يثبت) كَونه خلفا (إِلَّا بِالسَّمْعِ) نصا أَو دلَالَة أَو إِشَارَة أَو اقْتِضَاء (صَرِيحًا أَو غَيره) أى غير صَرِيح (فَالْأَصْل كالتصديق فِي الْإِيمَان) فَإِنَّهُ أصل مُحكم لَا يحْتَمل السُّقُوط بِعُذْر مَا، وَلَا يبْقى مَعَ التبديل بِحَال (وَالْخلف عَنهُ) أَي عَن التَّصْدِيق (الْإِقْرَار) بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ معبر عَمَّا فِي الْقلب (إِذْ لم يعلم الأَصْل يَقِينا) لِأَنَّهُ غيب لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الله تَعَالَى تَعْلِيل لاعْتِبَار الْخلف: أَي لَا بدّ مِنْهُ، إِذْ لَا يُمكن إدارة الْأَحْكَام على حَقِيقَته لعدم الْعلم بهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أدير) الحكم (عَلَيْهِ) أَي على الْخلف (فَلَو أكره) الْكَافِر على الْإِسْلَام (فأقرّ بِهِ حكم بِإِسْلَامِهِ) لوُجُوده ظَاهرا، وَإِن لم يُوجد الأَصْل فِي نفس الْأَمر (فرجوعه) عَن الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر بِحَسب اللِّسَان (ردّة لَكِن لَا توجب الْقَتْل) لِأَن الْإِكْرَاه شُبْهَة لإسقاطه (بل) توجب (الْحَبْس وَالضَّرْب حَتَّى يعود) إِلَى الْإِسْلَام لَا يُقَال ينيغى أَن لَا يقبل بِدُونِ الْإِكْرَاه أَيْضا لوُجُود الشُّبْهَة بِاعْتِبَار عدم الْعلم بِحَقِيقَة الْأَيْمَان(2/181)
يَقِينا، لأَنا نقُول: لَا عِبْرَة بِالشُّبْهَةِ مَا لم تكن ناشئة عَن دَلِيل مثل الْإِكْرَاه (وَدفن) من أكره على الْإِسْلَام حَتَّى أقرّبه، ثمَّ لم يظْهر مِنْهُ خِلَافه إِلَى أَن مَاتَ (فِي مَقَابِر الْمُسلمين بِهِ) أَي بِإِقْرَارِهِ بِالْإِسْلَامِ مكْرها (و) يثبت أَيْضا (بَاقِي أَحْكَام الخلفية فِي الدُّنْيَا) من إِسْقَاط الْجِزْيَة عَنهُ وَجَوَاز الصَّلَاة خَلفه وَعَلِيهِ إِلَى غير ذَلِك (فَأَما الْآخِرَة فَالْمَذْهَب للحنفية) وَهُوَ نصّ أبي حنيفَة (أَنه) أَي الْإِقْرَار (أصل) فِي أَحْكَامهَا أَيْضا (فَلَو صدّق) بِقَلْبِه (وَلم يقرّ) بِلِسَانِهِ (بِلَا مَانع) لَهُ من الْإِقْرَار واستمرّ (حَتَّى مَاتَ كَانَ فِي النَّار، وَكثير من الْمُتَكَلِّمين) وَرِوَايَة عَن أبي حنيفَة، وَأَصَح الرِّوَايَتَيْنِ عَن الْأَشْعَرِيّ الأَصْل فِي أَحْكَام الْآخِرَة (التَّصْدِيق وَحده وَالْإِقْرَار) شَرط (ل) إِجْرَاء (أَحْكَام الدُّنْيَا) عَلَيْهِ (كَقَوْل بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة: مِنْهُم أَبُو مَنْصُور الماتريدي وَفِي شرح الْمَقَاصِد الْإِقْرَار لهَذَا الْغَرَض لَا بدّ أَن يكون على وَجه الإعلان على الإِمَام وَغَيره من أهل الْإِسْلَام، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لإتمام الْإِيمَان فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مجرّد التَّكَلُّم وَإِن لم يظْهر على غَيره، ثمَّ الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ قَادِرًا وَترك التَّكَلُّم بِهِ لَا على وَجه الإباء، إِذْ الْعَاجِز كالأخرس مُؤمن اتِّفَاقًا، والمصرّ على عدم الْإِقْرَار مَعَ الْمُطَالبَة بِهِ كَافِر اتِّفَاقًا لكَون ذَلِك من أَمَارَات عدم التَّصْدِيق (ثمَّ صَار أَدَاء الْأَبَوَيْنِ فِي الصَّغِير وَالْمَجْنُون خلفا عَن أدائهما) أَي الصَّغِير وَالْمَجْنُون لعجزهما عَن ذَلِك (فَحكم بإسلامهما تبعا لأَحَدهمَا) أَي الْأَبَوَيْنِ إِذا كَانَ الْمَتْبُوع وَالتَّابِع حِين الْإِسْلَام فِي دَار وَاحِدَة، أَو الْمَتْبُوع فِي دَار الْحَرْب، وَالتَّابِع فِي دَار الْإِسْلَام، لَا بِالْعَكْسِ كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي الْيَنَابِيع وَغَيره (ثمَّ تَبَعِيَّة الدَّار) صَارَت خلفا عَن أَدَاء الصَّغِير بِنَفسِهِ فِي إِثْبَات الْإِسْلَام لَهُ عِنْد عدم إِسْلَام أحد الْأَبَوَيْنِ على الْوَجْه الْمَذْكُور (فَلَو سبى فَأخْرج إِلَى دَار الْإِسْلَام وَحده حكم بِإِسْلَامِهِ، وَكَذَا تَبَعِيَّة الْغَانِمين) أَي تبعيته للْمُسلمين الْغَانِمين إِذا لم يكن مَعَه أَبَوَاهُ وَلَا أَحدهمَا، واختص بِهِ أحدهم فِي دَار الْحَرْب بِشِرَائِهِ من الإِمَام، أَو قسْمَة الإِمَام الْغَنِيمَة ثمَّة صَارَت خلفا عَن أَدَاء الصَّغِير كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَلَو قسم فِي دَار الْحَرْب فَوَقع فِي سهم أحدهم) أَي الْمُسلمين (حكم بِإِسْلَامِهِ، وَالْمرَاد أَن كلا من هَذِه خلف عَن أَدَاء الصَّغِير) بِنَفسِهِ على التَّرْتِيب الْمَذْكُور (لَا أَنه يخلف بَعْضهَا بَعْضًا) لِأَن الْخلف لَا خلف لَهُ كَذَا قَالُوا، ثمَّ كَون هَذِه التبعيات مرتبَة هَكَذَا: هُوَ الْمَذْكُور فِي أصُول فَخر الْإِسْلَام وموافقيه. وَفِي الْمُحِيط أَن تَبَعِيَّة صَاحب الْيَد مقدّمة على تَبَعِيَّة الدَّار، فَقيل يحْتَمل أَن يكون فِي المسئلة رِوَايَتَانِ بَقِي أَن الخلفية لَا تتثبت إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَالظَّاهِر إِنَّه فِيمَا كَانَ بَين مُسلم أُصَلِّي وذمية الْإِجْمَاع، وَقد يُقَال مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة، فَأَبَوَاهُ يهوّدانه، أَو ينصرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ يصلح سندا للْإِجْمَاع فَجعل اتِّفَاقهمَا عِلّة ناقلة للْوَلَد عَن أصل الْفطْرَة،(2/182)
فَيثبت فِيمَا اتفقَا عَلَيْهِ وَيبقى على أصل الْفطْرَة فِيمَا اخْتلفَا فِيهِ، وَأما فِيمَا بَين مُسلم عَارض إِسْلَامه وذمية، وَبَين مسلمة عَارض إسلامهما وذميّ فَظَاهر كَلَامهم أَنه الحَدِيث الْمَذْكُور لِأَنَّهُ يُفِيد ثُبُوت الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة للْوَلَد إِذا كَانَ أَبَوَاهُ على ذَلِك الْوَصْف، فَإِذا زَالَ الْوَصْف عَن أَحدهمَا انْتَفَت الْعلَّة، فينتفى الْمَعْلُول، فيترجح الْوَصْف المفطور عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِسْلَام، لَكِن يرد عَلَيْهِ أَن يُقَال: فليزم بِعَين هَذَا صيرورة الصَّغِير مُسلما بِمَوْت أَحدهمَا كَمَا هُوَ قَول الإِمَام أَحْمد، وَهُوَ خلاف مَا عَلَيْهِ بَاقِي الْأَئِمَّة. وَهَذِه الْجُمْلَة ذكرهَا الشَّارِح فِي تفاصيل أخر، و (هَذَا) كُله (إِذا لم يكن) الصَّغِير (عَاقِلا وَإِلَّا) أَي وَإِن كَانَ عَاقِلا (استقلّ بِإِسْلَامِهِ) فَإِن أسلم صَحَّ وَحِينَئِذٍ (فَلَا يرتدّ بردة من أسلم مِنْهُمَا) أَي أَبَوَيْهِ (على مَا سَيعْلَمُ) فِي فصل الْأَهْلِيَّة، لَكِن ذكر فَخر الْإِسْلَام فِي شرح الْجَامِع الصَّغِير وَيَسْتَوِي فِيمَا قُلْنَا أَن يعقل وَأَن لَا يعقل، وَذكر قَاضِي خَان فِي شَرحه عَلَيْهِ لَو أسلم أحد أَبَوَيْهِ يَجْعَل مُسلما تبعا سَوَاء كَانَ الصَّغِير عَاقِلا أَو لم يكن، لِأَن الْوَلَد يتبع خير الْأَبَوَيْنِ دينا (وَمِنْه) قَالَ الشَّارِح: أَي من الْخلف عَن الأَصْل (والصعيد) وَلَا يخفى أَنه حِينَئِذٍ لَا وَجه لذكر الْوَاو: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون الْمَعْنى وَمِنْه قَوْلهم والصعيد الخ على الْمُسَامحَة، وَقد يُقَال أَن قَوْله مِنْهُ مُتَعَلق بقوله سَيعْلَمُ، وَالضَّمِير للموصول والجارّ وَالْمَجْرُور فِي موقع الْفَاعِل فَإِنَّهُ (خلف عَن المَاء، فَيثبت بِهِ) أَي بالصعيد (مَا ثَبت بِهِ) أَي بِالْمَاءِ من الطَّهَارَة الْحكمِيَّة إِلَى وجود الناقض على مَا هُوَ مُقْتَضى الخلفية، فالأصالة والخلفية بَين الآلتين، فَيجوز إِمَامَة الْمُتَيَمم لوُجُود شَرط الصَّلَاة، وَهِي الطَّهَارَة فِي حق كلّ مِنْهُمَا، فَيجوز بِنَاء أَحدهمَا على الآخر كالغاسل على الماسح مَعَ أَن الْخُف بدل من الرجل فِي قبُول الْحَدث وَرَفعه، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (ولمحمد) وَزفر أَيْضا أَن الْأَصَالَة والخلفية (بَين الْفِعْلَيْنِ) أَي التَّيَمُّم وَالْوُضُوء أَو الْغسْل (فَلَا يلْزم ذَلِك) أَي أَن يثبت بالصعيد مَا يثبت بِالْمَاءِ، إِذْ الْمَفْرُوض أَن الْخَلِيفَة لَيست بَينهمَا (وَلَا يُصَلِّي الْمُتَوَضِّئ خلف الْمُتَيَمم لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمر) الْمُحدث (بِالْفِعْلِ) أَي الْوَصْف، فَقَالَ إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة (فَاغْسِلُوا) الْآيَة، وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا (ثمَّ نقل) الْأَمر عَن الْوضُوء (إِلَى الْفِعْل) الآخر. وَهُوَ التَّيَمُّم عِنْد عدم الْقُدْرَة على المَاء، فَقَالَ - {وَإِن كُنْتُم مرضى} - إِلَى قَوْله - {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} - الْآيَة، وَإِذا لم يكن الصَّعِيد خلفا للْمَاء لم يثبت بِهِ طَهَارَة مُطلقَة كَمَا يثبت بِالْمَاءِ ليعتبر ذَلِك فِي حقّ المقتدى الْمُتَوَضِّئ (وَلَهُمَا) أَي أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (أَنه) تَعَالَى (نقل) الطّلب عَن المَاء إِلَى الصَّعِيد (عِنْد عدم المَاء) حَيْثُ قَالَ (فَلم تَجدوا مَاء فَكَانَ) المَاء هُوَ (الأَصْل) وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُؤمن وَلَو إِلَى عشر سِنِين. وَقد يُقَال كَمَا أَن الخلفية إِذا اعْتبرت بَين(2/183)
الآلتين اقْتَضَت ثُبُوت مَا ثَبت بِالْمَاءِ فِي الصَّعِيد، كَذَلِك إِذا اعْتبرت بَين الْفِعْلَيْنِ اقْتَضَت أَن يرتب على التيميم مَا كَانَ يَتَرَتَّب على الْوضُوء من الطَّهَارَة الْحكمِيَّة إِلَى وجود الناقض بِمُقْتَضى الخلفية فَمَا الْفرق بَين الاعتبارين، وَالْجَوَاب أَنَّهَا إِذا اعْتبرت بَين الْفِعْلَيْنِ ثَبت ضَرُورَة الْحَاجة إِلَى إِسْقَاط الْفَرْض عَن الذِّمَّة مَعَ قيام الْحَدث كطهارة الْمُسْتَحَاضَة، وَيلْزمهُ عدم جَوَاز تَقْدِيمه على الْوَقْت وَعدم جَوَاز مَا شَاءَ من الْفَرَائِض والنوافل بِخِلَاف مَا إِذا اعْتبرت بَين الآلتين، فَإِنَّهَا تثبت حِينَئِذٍ مُطلقَة يرْتَفع بِهِ الْحَدث وَيلْزمهُ جَوَاز مَا ذكر فَإِن قلت مَا السرّ فِي ثُبُوتهَا على وَجه الضَّرُورَة إِذا اعْتبرت بَين الْفِعْلَيْنِ دون الآلتين مَعَ اشْتِرَاك مَا يَقْتَضِي اعْتِبَار الضَّرُورَة، وَهُوَ قَوْله - {فَلم تَجدوا مَاء} - فِي الْوَجْهَيْنِ (قلت الضَّرُورَة الَّتِي اقتضاها القَوْل الْمَذْكُور اعتبرناها فيهمَا والضرورة الَّتِي هِيَ مَحل النزاع لَا يقتضيها القَوْل الْمَذْكُور، بل يقتضيها خُصُوصِيَّة الأَصْل وَاعْتِبَار الخلفية بَين الْفِعْلَيْنِ، بَيَان ذَلِك أَن التُّرَاب فِي حدّ ذَاته مغبر مَحْض لَا يحصل حِكْمَة الْأَمر بالتطهير وَهُوَ تَحْسِين الْأَعْضَاء فاللائق بِشَأْنِهِ أَن يكون الْحَاصِل بِهِ مجرّد إِبَاحَة الصَّلَاة كطهارة من بهَا الِاسْتِحَاضَة غير أَن للشارع ولَايَة أَن يَجْعَل طَهَارَته كَامِلَة مثل المَاء على خلاف قِيَاس الْعقل، فالشأن فِي معرفَة اعْتِبَار الشَّارِع، وَذَلِكَ بِقَرِينَة اعْتِبَار الخلفية، فَإِن اعتبرها بَين المَاء وَالتُّرَاب كَانَ ذَلِك عَلامَة إِعْطَائِهِ الطَّهَارَة الْكَامِلَة لكَون أَصله مَعْرُوفا بالطهورية شرعا وعقلا، وَأَن اعتبرها بَين الْفِعْلَيْنِ كَانَ ذَلِك قرينَة إِعْطَائِهِ إِيَّاه مجرّد الْإِبَاحَة للصَّلَاة لعدم مَا هُوَ صَارف عَن اعْتِبَار مَا يَلِيق بِشَأْنِهِ من كَون الأَصْل مَعْرُوفا بِمَا ذكر حِينَئِذٍ (وَلَا بدّ فِي تَحْقِيق الخلفية من عدم الأَصْل) حَال انْتِقَال الحكم عَن الأَصْل إِلَى الْخلف إِذْ لَا معنى إِلَى الْمصير إِلَى الْخلف مَعَ وجود الأَصْل (و) من (إِمْكَانه) أَي الأَصْل لينعقد السَّبَب، ثمَّ بِالْعَجزِ عَنهُ يتحوّل الحكم عَنهُ إِلَى الْخلف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الأَصْل مُمكنا لأمر مَا (فَلَا أصل) أَي فَلَا يُوصف ذَلِك الْأَمر بِالْأَصَالَةِ لغيره، وَإِذ لَا أصل لَهُ (فَلَا خلف) أَي فَلَا يُوصف ذَلِك الْغَيْر بالخلفية عَنهُ، وَمن هُنَا لزم التَّكْفِير من حلف ليمسنّ السَّمَاء لِأَنَّهَا انْعَقَدت مُوجبَة للبرّ لَا مَكَان مسّ السَّمَاء فِي الْجُمْلَة، لِأَن الْمَلَائِكَة يصعدون إِلَيْهَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صعد إِلَيْهَا لَيْلَة الْمِعْرَاج إِلَّا أَنه مَعْدُوم عرفا وَعَادَة، فانتقل الحكم مِنْهُ إِلَى الْخلف الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَة، وَلم يلْزم من حلف على نفي مَا كَانَ، أَو ثُبُوت مَا لم يكن فِي الْمَاضِي لعدم إِمْكَان الأَصْل.
الْفَصْل الثَّالِث
فِي (الْمَحْكُوم فِيهِ) الْمَحْكُوم فِيهِ مُبْتَدأ وَقَوله (وَهُوَ) أَي الْمَحْكُوم فِيهِ (أقرب من الْمَحْكُوم(2/184)
بِهِ) مُعْتَرضَة وَخَبره (فعل الْمُكَلف) يُرِيد أَن التَّعْبِير عَن فعل الْمُكَلف بالمحكوم فِيهِ أقرب من حَيْثُ الْمُنَاسبَة، وَأولى من التَّعْبِير عَنهُ بالمحكوم بِهِ كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة والبيضاوي وَغَيرهمَا نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: إِذا لم يحكم الشَّارِع بِهِ على الْمُكَلف، بل حكم فِي الْفِعْل بِالْوُجُوب، بِالْمَنْعِ، بِالْإِطْلَاقِ، وَالظَّاهِر أَن لَيْسَ مَنعه حكم بِهِ على الْمُكَلف وَلَا فِي إِطْلَاقه وَالْإِذْن فِيهِ، وَإِنَّمَا يخال ذَلِك فِي إِيجَابه، وَعند التَّحْقِيق يظْهر أَن لَيْسَ إِيجَابه: أَي إِيجَاب الشَّارِع فعله حكما بِنَفس الْفِعْل، وَلَو سلم كَانَ بِاعْتِبَار قسم يُخَالِفهُ أَقسَام (مُتَعَلق الْإِيجَاب) حَال من الْخَبَر (و) الْعَامِل معنوي (هُوَ الْوَاجِب) أَي يُسمى الْوَاجِب (لم يشتقوا لَهُ) أَي لفعله الْمَذْكُور (بِاعْتِبَار أَثَره) أَي الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بِهِ اسْما (إِلَّا اسْم الْفَاعِل) وَأما الْبَاقِي (فمتعلق النّدب وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة مفعول) اشتق لمتعلقها بِاعْتِبَار أَثَرهَا اسْم مفعول، وَهُوَ (مَنْدُوب مُبَاح مَكْرُوه و) اشتقوا (كلا) من اسْمِي الْفَاعِل وَالْمَفْعُول (لمتعلق التَّحْرِيم) فَقَالُوا هُوَ (حرَام محرّم تَخْصِيصًا بالاصطلاح فِي الأول) أَي وَقع تَخْصِيص فِي مُتَعَلق الْإِيجَاب بالاقتصار على اسْم الْفَاعِل (و) فِي (الْأَخير) يَعْنِي مُتَعَلق التَّحْرِيم بِأَن وَسعوا لَهُ فِي الِاشْتِقَاق لَا لغيره، وكل ذَلِك بمجرّد الِاصْطِلَاح، لَا لموجب اقْتضى ذَلِك (ورسم الْوَاجِب بِمَا) أَي فعل (يُعَاقب تَاركه) على تَركه، قَوْله رسم الْوَاجِب مُبْتَدأ خَبره (مَرْدُود بِجَوَاز الْعَفو) عَنهُ: أَي سَبَب الرّد أَنه لَيْسَ الْعقَاب من لوازمه لجَوَاز أَن يعفي عَنهُ فَلَا يُعَاقب (و) رسمه (بِمَا أوعد) بالعقاب (على تَركه، إِن أُرِيد) بِالتّرْكِ التّرْك (الأعمّ من ترك) مُكَلّف (وَاحِد أَو) ترك (الكلّ) أَي كلّ الْمُكَلّفين فِي تِلْكَ النَّاحِيَة (ليدْخل الْكِفَايَة) أَي الْوَاجِب كِفَايَة فِي التَّعْرِيف (لزم التوعد بترك وَاحِد فِي الْكِفَايَة) مَعَ فعل غَيره (أَو) أُرِيد بِهِ (ترك الكلّ خرج مَتْرُوك الْوَاحِد) فِي الْوَاجِب عينا أَن لم يبين حكمه (أَو) أُرِيد بِهِ تَركه (الْوَاحِد خرج الْكِفَايَة، وَأما ردّه) أَي التَّعْرِيف الْمَذْكُور (بِصدق إيعاده كوعده فيستلزم الْعقَاب) يَعْنِي أَن الْعُدُول عَن المعاقبة إِلَى الإيعاد الْمعبر عَنهُ بأوعد لَا يصحح التَّعْرِيف للُزُوم وُقُوع مُتَعَلق الإيعاد، فَلَا فرق فِي الْمَآل بَين قَوْلكُم يُعَاقب وقولكم أوعده الله بالعقاب على التّرْك، فَكَمَا أَن ذَلِك مَرْدُود بِجَوَاز الْعَفو كَذَلِك هَذَا (فيناقض تجويزهم الْعَفو) إِذا أوعد تَارِك الْوَاجِب مُطلقًا بالعقاب، وقلتم إيعاده يسْتَلْزم الْعقَاب، فَلم يبْق لجَوَاز الْعَفو مجَال (وَهُوَ) أَي هَذَا الردّ (بالمعتزلة أليق) لِاسْتِحَالَة الْخلف فِي وعيده تَعَالَى عِنْدهم، بِخِلَاف أهل السّنة، ثمَّ إِن التَّنَاقُض يلْزم من ظنّ كَون الإيعاد الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف مستلزما للعقاب فِي جَمِيع الْأَوْقَات (إِلَّا) وَقت (أَن يُرَاد) بالإيعاد الْمَذْكُور (إيعاد ترك وَاجِب الْإِيمَان) فَإِن الْخلف فِيهِ غير جَائِز قطعا لقَوْله تَعَالَى - (إِن الله لَا يغْفر أَن(2/185)
يُشْرك بِهِ} - وَأما الإيعاد على ترك وَاجِب غَيره فَيجوز الْخلف فِيهِ لقَوْله تَعَالَى - {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} -، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَا يجوز أَن يُرَاد هَذَا الإيعاد الْخَاص من التَّعْرِيف إِذْ لَا دلَالَة للعام على الْخَاص بِوَجْه (فَلَا يبطل التَّعْرِيف إِلَّا بِفساد عَكسه بِخُرُوج مَا سواهُ) أَي مَا سوى وَاجِب الْإِيمَان، لَا بِخُرُوج كلّ وَاجِب، وَقَالَ الشَّارِح: إِن ظَاهر المواقف والمقاصد أَن الأشاعرة على جَوَاز الْخلف فِي الْوَعيد، لِأَنَّهُ يعدّ جودا وكرما لَا نقصا، وَإِن فِي غَيرهمَا الْمَنْع مِنْهُ معزوّا إِلَى الْمُحَقِّقين، فَإِن الشَّيْخ حَافظ الدّين نصّ على أَنه الصَّحِيح، وَأَن الْأَشْبَه أَن يُقَال بِجَوَازِهِ فِي حق الْمُسلمين خَاصَّة جمعا بَين الْأَدِلَّة انْتهى.
قلت والحقّ أَن من الْوَعيد مَا فِيهِ تفاصيل كَثِيرَة كتخاصم أهل النَّار وحكاية أسئلتهم وأجوبتهم وتقريعات الْمَلَائِكَة وَغَيرهم عَلَيْهِم وتأسفاتهم على مَا فاتهم من طلب الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا، فَعدم تحقق مثله مِمَّا يحيله الْعقل عَادَة إِذْ لَا يَلِيق بجنابه الْإِخْبَار عَن الْمُسْتَقْبل بِتِلْكَ التفاصيل من غير أَن يكون لَهُ مصداق، وَيُشبه أَن يكون تَجْوِيز مثل هَذَا الِاحْتِمَال من بَاب الْغرُور، وَإِنَّمَا يجوز الْخلف فِي مثل قَول الْملك لأَقْتُلَنك، وشتان بَينهمَا (وَأما) ردّ هَذَا التَّعْرِيف (بِأَن مِنْهُ) أَي الْوَاجِب (مَا لم يتوعد عَلَيْهِ) أَي على تَركه فَلَا يصدق عَلَيْهِ مَا أوعد على تَركه (فمندفع بِثُبُوتِهِ) أَي الإيعاد على التّرْك (لكلها) أَي الْوَاجِبَات (بالعمومات) أَي بالنصوص الْعَامَّة كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعدّ حُدُوده يدْخلهُ نَارا} {} (وَمن يعْمل مِثْقَال ذرّة شرّا يره} - (ورسم) الْوَاجِب أَيْضا (بِمَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ، وأفسد طرده) أَي كَون هَذَا التَّعْرِيف مَانِعا (بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب) أَي لم يثبت وُجُوبه شرعا (وَشك فِي وُجُوبه) فَإِن الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه يخَاف على تَركه لاحْتِمَال كَونه وَاجِبا فِي نفس الْأَمر فَيصدق عَلَيْهِ الحدّ دون الْمَحْدُود، لِأَن الْمُعَرّف مَا ثَبت وُجُوبه شرعا (وَيدْفَع) هَذَا الْإِفْسَاد (بِأَن مَفْهُومه) أَي مَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ (مَا) أَي فعل (بِحَيْثُ) يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ: يَعْنِي أَن هَذِه الْحَيْثِيَّة لَازِمَة لَهُ (فَلَا يختصّ) ذَلِك الْفِعْل (بخوف وَاحِد دون آخر) بِأَن يخَاف بعض النَّاس الْعقَاب بِتَرْكِهِ وَلَا يخَاف بعض آخر، بل يعمّ الْخَوْف كلّ أحد (وَلَا خوف للمجتهد فِي ترك مَا شكّ فِيهِ) بعد الِاجْتِهَاد، وَذَلِكَ ليأسه عَمَّا يُفِيد زَوَال الشَّك بعد بذل الوسع فَلَا يصدق التَّعْرِيف على الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه لما عرفت من اعْتِبَار عُمُوم الْخَوْف فِيهِ (و) أفسد (عَكسه) أَي جامعية التَّعْرِيف الْمَذْكُور (بِوَاجِب) أَي بِمَا ثَبت وُجُوبه شرعا غير أَنه (شكّ فِي عدم وُجُوبه) فَإِن قلت الشَّك عبارَة عَن تَسَاوِي الطَّرفَيْنِ، فالشك فِي عدم الْوُجُوب شكّ فِي الْوُجُوب قلت الشَّك كَمَا قلت غير أَن الشُّبْهَة طارئة فِي الأول على أَمر ثَبت وُجُوبه بدليله، وَفِي الثَّانِي على أَمر ثَبت عدم وُجُوبه. فَعبر عَن كلّ مِنْهُمَا بِمَا يَلِيق بِهِ(2/186)
(أَو) مَا (ظنّ) عدم وُجُوبه بِأَن ظنّ الْمُجْتَهد الَّذِي ادّعى اجْتِهَاده إِلَى وُجُوبه ابْتِدَاء عدم الْوُجُوب أَو ظنّ غَيره (فَإِنَّهُ) أَي الشَّأْن أَو الْوَاجِب الْمَذْكُور (لَا يخَاف) الْعقَاب بِتَرْكِهِ فَلَا يصدق التَّعْرِيف على هَذَا الْفَرد من الْمُعَرّف، إِذْ لَيْسَ مثله مِمَّا يخَاف على تَركه خوفًا لَا يختصّ بِوَاحِد دون وَاحِد، أما إِذا كَانَ هُوَ الظانّ فالشارح ذكر أَنه لَا يخَاف بترك مَا ظنّ عدم وُجُوبه ابْتِدَاء عَادَة، وَفِيه نظر (وَهُوَ) أَي إِفْسَاد عَكسه بِهَذَا (حقّ، ومنبع دفع الأوّل) أَي منشأ دفع الْإِشْكَال على طرده من غير حَاجَة إِلَى تَفْسِيره بِمَا بحث بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور، إِذْ عدم الْخَوْف مُشْتَرك بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب وَشك فِي وُجُوبه وَبَين مَا هُوَ وَاجِب وَشك فِي عدم وُجُوبه، وَذَلِكَ مَعْلُوم بِحَسب الْعَادة (وللقاضي أبي بكر) رسم آخر، وَهُوَ (مَا يذمّ شرعا تَاركه بِوَجْه مّا، يُرِيد) بقوله بِوَجْه مّا أحد الْوُجُوه الْمشَار إِلَيْهَا بِهَذَا التَّفْصِيل تَركه (فِي جَمِيع وقته) الَّذِي وَقت بِهِ، فاحترز بِهِ عَن تَركه فِي بعض ذَلِك الْوَقْت (بِلَا عذر نِسْيَان ونوم وسفر) فَلَا يذمّ إِذا ترك بِأحد هَذِه الْأَعْذَار، وَهَذَا فِي الْوَاجِب عينا. وَأما فِي الْوَاجِب كِفَايَة فَتعْتَبر هَذِه الْقُيُود مَعَ قيد آخر (و) هُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (مَعَ عدم فعل غَيره) بِأَن يتْركهُ الْجَمِيع (أَن) كَانَ الْوَاجِب (كِفَايَة و) ترك (الْكل) من الْأُمُور الْمُخَير فِيهَا (فِي) الْوَاجِب (الْمُخَير) فِيهِ بَين الْأُمُور (وَلَو أَرَادَ) القَاضِي (عدم الْوُجُوب مَعهَا) أَي الْأَعْذَار الْمَذْكُورَة على مَا صرّح بِهِ فِي التَّقْرِيب من أَنه لَا وجوب على النَّائِم وَالنَّاسِي وَنَحْوهمَا حَتَّى السَّكْرَان، وَأَن الْمُسَافِر يجب عَلَيْهِ صَوْم أحد الشَّهْرَيْنِ (فَلَا يذمّ) الْمُكَلف (مَعهَا) أَي الْأَعْذَار الْمَذْكُورَة وَلَو هَاهُنَا بِمَعْنى أَن بِدَلِيل دُخُول الْفَاء فِي جوابها (بِالتّرْكِ إِلَى آخر الْوَقْت) إِذْ لَا وجوب مَعهَا (وَبعد زَوَالهَا) أَي الْأَعْذَار (توجه وجوب الْقَضَاء عِنْده) أَي القَاضِي (فيذم) الْمُكَلف (بِتَرْكِهِ) أَي الْقَضَاء (بِوَجْه مَا وَهُوَ) : أَي ترك الْقَضَاء بِوَجْه مّا (مَا) : أَي التّرْك الَّذِي يكون (فِي جَمِيع الْعُمر) مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ (ولبعضهم اعْتِرَاض) عَلَيْهِ (جدير بِالْإِعْرَاضِ) ثمَّ عِنْده وجوب الْقَضَاء لَيْسَ فرع وجوب الْأَدَاء (أما على) اصْطِلَاح (الْحَنَفِيَّة فالوجوب يَنْفَكّ عَن وجوب الْأَدَاء وَهُوَ) أَي وجوب الْأَدَاء فِي هَذِه الْحَالَات هُوَ (السَّاقِط) لَا أصل الْوُجُوب.
(تَقْسِيم)
للْوَاجِب بِاعْتِبَار تقيده بِوَقْت يفوت بفواته، وَعدم تقيده بذلك
(الْوَاجِب) قِسْمَانِ وَاجِب (مُطلق) وَهُوَ الَّذِي (لم يُقيد طلب إِيقَاعه بِوَقْت من الْعُمر كالنذور الْمُطلقَة وَالْكَفَّارَات) وَقَضَاء رَمَضَان كَمَا ذكره القَاضِي أَبُو زيد وَصدر الْإِسْلَام وَصَاحب الْمِيزَان، وَذكر فَخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ أَنه موقت، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا فِي النَّهَار، وَأَجَابُوا عَنْهُمَا(2/187)
بِأَن كَونهمَا فِي النَّهَار دَاخل فِي مَفْهُومه لَا قيد لَهُ (وَالزَّكَاة) كَمَا هُوَ قَول الشَّيْخ أبي بكر الرَّازِيّ، وَالْوَجْه الْمُخْتَار أَن الْأَمر بِالصرْفِ إِلَى الْفَقِير مَعَه قرينَة الْفَوْر، وَهِي أَنه لدفع حَاجته، وَهِي مُعجلَة، فَلَزِمَ بِالتَّأْخِيرِ من غير ضَرُورَة إِثْم. نعم بِالنّظرِ إِلَى دَلِيل الافتراض لَا تجب الْفَوْرِيَّة كَمَا صرّح بِهِ الْحَاكِم الشَّهِيد والكرخي: وَذكر الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر عَن أبي حنيفَة أَنه يكره التَّأْخِير من غير عذر، فَيحمل على كَرَاهَة التَّحْرِيم، وعنهما مَا يُفِيد ذَلِك، وَبِه قَالَت الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (وَالْعشر وَالْخَرَاج، وأدرج الْحَنَفِيَّة صَدَقَة الْفطر) فِي هَذَا الْقسم (نظرا إِلَى أَن وُجُوبهَا طهرة للصَّائِم) عَن اللَّغْو والرفث فَلَا يتَقَيَّد بِوَقْت (وَالظَّاهِر تقييدها بيومه) أَي يَوْم الْفطر (من) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " (أغنوهم الخ) أَي عَن المسئلة فِي هَذَا الْيَوْم ". قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة: روى الْحَاكِم فِي عُلُوم الحَدِيث عَن ابْن عمر قَالَ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نخرج صَدَقَة الْفطر قبل الصَّلَاة وَيَقُول: أغنوهم عَن الطّواف فِي هَذَا الْيَوْم (فبعده) أَي فإخراجها فِيمَا بعد يَوْم الْفطر (قَضَاء ووجوبه) أَي الْوَاجِب الْمُطلق (على التَّرَاخِي: أَي جَوَاز التَّأْخِير) عَن الْوَقْت الَّذِي وَجب فِيهِ إِنَّمَا فسر بقوله ووجوبه بِهِ على التَّرَاخِي لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن التَّرَاخِي وَاجِب فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهر اللَّفْظ: فَالْمَعْنى وُجُوبه كَائِن على وَجه يجوز فِيهِ التَّرَاخِي (مَا لم يغلب على ظَنّه فَوَاته) إِن لم يَفْعَله فقد وسع لَهُ فِي مدّة عمْرَة بِشَرْط أَن لَا يخليها مِنْهُ (عِنْد جَمَاهِير الْفرق) من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والمتكلمين (خلافًا للكرخي وَبَعض الشَّافِعِيَّة) والمالكية والحنابلة على مَا ذكره الشَّارِح فَإِنَّهُم قَالُوا بِوُجُوبِهِ فَوْرًا (ومبناه) أَي هَذَا الْخلاف (أَن الْأَمر) الْمُطلق (للفور أَو لَا) وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ مفصلا (و) وَاجِب (مُقَيّد بِهِ) أَي بِوَقْت مَحْدُود (يفوت) الْوَاجِب (بِهِ) أَي بِفَوَات ذَلِك الْوَقْت (وَهُوَ) أَي الْوَاجِب الْمُقَيد بِهِ (بالاستقراء) أَقسَام (أَرْبَعَة: الأوّل أَن يفضل الْوَقْت عَن الْأَدَاء، وَيُسمى) ذَلِك الْوَقْت (عِنْد الْحَنَفِيَّة ظرفا اصْطِلَاحا) يَعْنِي أَن تَخْصِيصه بِهِ مجرّد اصْطِلَاح مِنْهُم: إِذْ هُوَ فِي اللُّغَة مَا يحلّ بِهِ الشَّيْء، وَهَذَا الْمَعْنى مُتَحَقق فِي كل وَقت سَوَاء فضل عَن الْأَدَاء أَو لَا. وَقد يُقَال لما كَانَ غَالب الظروف المحسوسة أعظم مِقْدَارًا من المظروف شبه هَذَا الظّرْف بهَا فَسُمي باسمها (وموسعا عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَبِه) أَي الموسع (سَمَّاهُ فِي الْكَشْف الصَّغِير) أَي كشف الْأَسْرَار: شرح الْمنَار لمؤلفه كَذَا فسره الشَّارِح، وَقَالَ لم أَقف عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وقفت عَلَيْهِ فِي الْكَشْف الْكَبِير من كَلَام الْغَزالِيّ انْتهى. وَعدم وُقُوفه لَا يسْتَلْزم عَدمه فِيهِ، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن يكون اسْم كتاب آخر (كوقت الصَّلَاة) الْمَكْتُوبَة فَإِنَّهُ (سَبَب مَحْض عَلامَة) دَالَّة (على الْوُجُوب) أَي وُجُوبهَا فِيهِ (وَالنعَم) المتتابعة على الْعَاد (فِيهِ) أَي الْوَقْت هما (الْعلَّة) المثيرة للْوُجُوب فِيهِ (بِالْحَقِيقَةِ) لِأَنَّهَا صَالِحَة للعلية، بِخِلَاف(2/188)
نفس الْوَقْت فَإِنَّهُ لَا مُنَاسبَة بَينه وَبَينهَا، وَإِنَّمَا جعل سَببا مجَازًا لِأَنَّهُ محلّ لحدوث النعم فأقيم مقَامهَا تيسيرا (وَشرط صِحَة مُتَعَلقَة) أَي الْوُجُوب مَعْطُوف على قَوْله سَبَب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تصحّ للصَّلَاة فِي غير الْوَقْت أَدَاء، ومتعلقه هُوَ المؤدّى (من حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) أَي هُوَ شَرط صِحَة المؤدّى من حَيْثُ هُوَ مُتَعَلق الْوُجُوب: أَي من حَيْثُ هُوَ مؤدّى، إِذْ هُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَار صَار مُتَعَلق الْوُجُوب (وَمَا قيل) وَالْقَائِل جمّ غفير من أَن وَقت الصَّلَاة (ظرفيته للمؤدّي وَهُوَ) أَي المؤدّي (الْفِعْل) يَعْنِي الْأَركان الْمَخْصُوصَة (وشرطيته للْأَدَاء وَهُوَ) أَي الْأَدَاء (غَيره) أَي الْفِعْل فَلَا يتحد المظروف والمشروط (غلط) خبر الْمَوْصُول (لِأَن الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول) أَي الَّذِي يفعل (فِي الْوَقْت) وَكَذَا قَالُوا الْمَفْعُول حَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ (هُوَ المُرَاد بِالْأَدَاءِ، لَا أَدَاء الْفِعْل الَّذِي هُوَ فعل الْفِعْل) قَوْله الَّذِي صفة أَدَاء الْفِعْل، وَالْمرَاد بِفعل الْفِعْل هُوَ الْوَصْف الْقَائِم بالفاعل: أَعنِي كَونه مؤدّيا لما فِي ذمّته (لِأَنَّهُ) أَي فعل الْفِعْل أَمر (اعتباري لَا وجود لَهُ) وَمَا لَا وجود لَهُ لَا يصلح للمشروطية، وَفِيه أَن الْأَمر الاعتباري إِذا كَانَ لَهُ ثبوب بِحَسب نفس الْأَمر كزوجية الْأَرْبَعَة لم لَا يجوز أَن يَقع مَشْرُوطًا بِشَرْط فَتَأمل (وَفِيه) أَي هَذَا الْقسم (مسئلة) تذكر فِي مباحثه لَا أَنَّهَا من أَفْرَاده.
(السَّبَب) للصَّلَاة الْمَكْتُوبَة هُوَ (الْجُزْء الأول من الْوَقْت عينا) أَي من حَيْثُ عينه فَهُوَ مَنْصُوب على التَّمْيِيز (للسبق والصلاحية بِلَا مَانع) يَعْنِي بعد مَا تعين أَن يكون الْوَقْت هُوَ السَّبَب لوُجُوبهَا وَلَا يُمكن جعله مَجْمُوع أَجْزَائِهِ لاستلزامه وُقُوع الصَّلَاة بعد الْوَقْت لزم أَن يكون بعض أَجْزَائِهِ، وكل جُزْء يصلح لذَلِك، والجزء الأول أسبق فِي الْوُجُود والاستحقاق وَلَا معَارض لَهُ فَتعين للسَّبَبِيَّة (وَعَامة الْحَنَفِيَّة) على أَن السَّبَب (هُوَ) الْجُزْء الأول من الْوَقْت إِذا اتَّصل بِهِ الْأَدَاء (فَإِن لم يتَّصل بِهِ الْأَدَاء انْتَقَلت) السَّبَبِيَّة مِنْهُ إِلَى مَا يَلِيهِ (كَذَلِك) ينْتَقل من كل جُزْء إِلَى مَا يَلِيهِ إِلَى أَن يصل (إِلَى مَا) أَي جُزْء (يتَّصل بِهِ) أَي بِالْأَدَاءِ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم ينْتَه إِلَى جُزْء مُتَّصِل بِالْأَدَاءِ تعين الْجُزْء (الْأَخير) للسَّبَبِيَّة، يرد عَلَيْهِ أَن الْجُزْء الْأَخير إِن اتَّصل بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاة كَانَ دَاخِلا فِيمَا يتَّصل بِالْأَدَاءِ لما سَيَأْتِي من أَن التَّحْرِيمَة إِذا وَقعت فِي الْوَقْت تسمى أَدَاء، وَإِن لم يتَّصل فِينَا فِي مَا بعده، وَهُوَ قَوْله وَبعد خُرُوجه جملَته اتِّفَاقًا، وَالْجَوَاب أَنا نَخْتَار الشق الأول ونقول: اتِّصَاله بِالشُّرُوعِ يتَحَقَّق فِيمَا إِذا بَقِي من الْوَقْت مَا لَا يسع التَّحْرِيمَة فَحِينَئِذٍ لَا يتَحَقَّق الِاتِّصَال بِالْأَدَاءِ فَتدبر فَإِن قلت انْتِقَال السَّبَبِيَّة فرع تحققها وَلَا تحقق لَهَا بِدُونِ الِاتِّصَال بِالْأَدَاءِ قلت المُرَاد بهَا السَّبَبِيَّة بالقوّة الْقَرِيبَة من الْفِعْل (ولزفر) أَي وَالسَّبَب عِنْد زفر (مَا) أَي جُزْء (يسع) الْمَجْمُوع لتركب الْمُبْتَدَأ (مِنْهُ إِلَى آخر الْوَقْت الْأَدَاء) بِالنّصب(2/189)
مفعول يسع، وَيجب أَن يشْتَرط وُقُوع الشُّرُوع فِي الصَّلَاة فِيمَا بَين الْجُزْء الْمَذْكُور وَآخر الْوَقْت: إِذْ لَو لم يَقع كَانَ السَّبَب جملَة الْوَقْت اتِّفَاقًا (وَبعد خُرُوجه) أَي الْوَقْت السَّبَب (جملَته) أَي مَجْمُوع الْوَقْت (اتِّفَاقًا) نقل الشَّارِح عَن أبي الْيُسْر أَن السَّبَب هُوَ الْجُزْء الْأَخير بعد مضيه أَيْضا وَكَأَنَّهُ لم يثبت عِنْد المُصَنّف (فتأدّى عصر يَوْمه فِي) الْوَقْت (النَّاقِص) وَهُوَ وَقت تغير الشَّمْس لِأَنَّهُ وَجب نَاقِصا، لِأَن نُقْصَان السَّبَب مُؤثر فِي نُقْصَان الْمُسَبّب، فتأدّى كَمَا وَجب تَفْرِيع على مَا سبق من أَن السَّبَب الْجُزْء الْمُتَّصِل بِالْأَدَاءِ فَإِن المقترن بالتغير نَاقص، فَيجب بِهِ على وصف النُّقْصَان بِالِابْتِدَاءِ فِي الْوَقْت النَّاقِص (لَا) عصر (أمسه لِأَنَّهُ) أَي سَبَب عصر أمسه (نَاقص من وَجه) لِأَن عصر يَوْم حَيْثُ لم يؤدّ فِي جُزْء من الْوَقْت كَانَ سَبَب وُجُوبه جملَة الْوَقْت، وَهِي تشْتَمل على النَّاقِص وَغَيره فَهُوَ نَاقص من وَجه دون وَجه (فَلَا يتَأَدَّى بالناقص) أى فِي الْوَقْت النَّاقِص (من كل وَجه) لعدم اشتماله على غير النَّاقِص (وَاعْترض بِلُزُوم صِحَّته) أَي عصر أمسه (إِذا وَقع بعضه) أَي بعض عصر أمسه (فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت النَّاقِص وَبَعضه فِي الْوَقْت الْكَامِل الَّذِي هُوَ مَا قبل التَّغَيُّر لكِنهمْ نصوا على عدم الصِّحَّة (فَعدل) عَن الْجَواب الْمَذْكُور إِلَى الْجَواب بِأَن الْوَقْت الْكَامِل لما كَانَ أَكثر من النَّاقِص تعين وجوب الْقَضَاء كَامِلا ذَهَابًا (إِلَى تَغْلِيب الصَّحِيح) الَّذِي هُوَ أَكثر أَجزَاء سَبَب عصر أمسه على غير الصَّحِيح الَّذِي هُوَ الأقلّ الْفَاسِد (للغلبة) للْأَكْثَر لِأَن للْأَكْثَر حكم الكلّ فِي كثير من الْمَوَاضِع فَكَأَن سَببه كَامِل من غير نقص فَلَا يتأدّى فِي الْوَقْت النَّاقِص (فورد) حِينَئِذٍ (من أسلم وَنَحْوه) كمن بلغ وَمن طهرت من حيض (فِي) الْوَقْت (النَّاقِص) فَلم يصلّ فِيهِ حَتَّى مضى (لَا يصحّ مِنْهُ) قَضَاء تِلْكَ الصَّلَاة (فِي نَاقص غَيره) من الْأَوْقَات (مَعَ تعذّر الْإِضَافَة) للسبب (فِي حَقه) أَي من أسلم وَنَحْوه (إِلَى الكلّ) أَي كل الْوَقْت لعدم أهليتهم للْوُجُوب فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ، فَيَنْبَغِي أَن يجوز لِأَن الْقَضَاء حِينَئِذٍ يكون بِالصّفةِ الَّتِي وَجب بهَا الْأَدَاء، وَقد تقرّر الْجُزْء الْأَخير للسَّبَبِيَّة فِي حَقه (فَأُجِيب بِأَن لَا رِوَايَة) فِي هَذَا عَن الْمُتَقَدِّمين (فيلتزم الصِّحَّة) أَي صِحَة قَضَاء من ذكر فِي الْوَقْت النَّاقِص كَمَا هُوَ قَول بعض الْمَشَايِخ، وَعَزاهُ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة إِلَى فَخر الْإِسْلَام (وَالصَّحِيح أَن النُّقْصَان لَازم الْأَدَاء فِي ذَلِك الْجُزْء) الْأَخير لما فِيهِ من التَّشْبِيه بعبدة الشَّمْس فِي ذَلِك الْوَقْت (لَا) لَازم نفس (الْجُزْء) لانْتِفَاء هَذَا الْمَعْنى فِيهِ (فَيحمل) النُّقْصَان فِي الْأَدَاء فِيهِ (لوُجُوب الْأَدَاء فِيهِ) بِسَبَب شرف الْوَقْت وورود السّنة بِهِ (فَإِذا لم يؤدّ) فِي ذَلِك الْوَقْت (و) الْحَال أَنه (لَا نقص) فِي الْوَقْت أصلا (وَجب الْكَامِل) أَي وَجب الْقَضَاء على وَجه الْكَمَال بإيقاعه فِي وَقت لَا نقص لما يَقع فِيهِ (قَالُوا) أَي عَامَّة الْحَنَفِيَّة (كَونه) أَي(2/190)
السَّبَب الْجُزْء (الأول يُوجب كَون الْأَدَاء بعده) أَي الْجُزْء الأول من الْوَقْت إِذا لم يتَّصل بِهِ الْأَدَاء (قَضَاء، و) كَونه (الْكل) أَي كل الْوَقْت (يُوجِبهُ) أَي الْأَدَاء (بعده) أَي الْوَقْت ضَرُورَة لزم تقدم السَّبَب على الْمُسَبّب (وهما) أَي كَون الْأَدَاء بعد الْجُزْء الأول فِي الْوَقْت ضَرُورَة وَقَضَاء وَإِيجَاب الْفِعْل بعد الْوَقْت أَدَاء (منتفيان) أما الأول فَلِأَنَّهُ لَا وَجه لِلْقَوْلِ بالتفويت مَعَ وجود الْوَقْت، وَأما الثَّانِي فبالإجماع (قُلْنَا) يخْتَار الأول ثمَّ (الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة، وَإِنَّمَا يلْزم) كَون الْأَدَاء بعده قَضَاء (لَو لم يكن) الْجُزْء الأول (سَببا للْوُجُوب الموسع بِمَعْنى أَنه) أَي الْجُزْء الأول (عَلامَة) دَالَّة (على تعلق وجوب الْفِعْل) أَي تعلق الْوُجُوب بِالْفِعْلِ (مُخَيّرا فِي أَجزَاء زمَان مُقَدّر) أَي مَحْدُود أَو مَفْرُوض وُقُوع أَجْزَائِهِ ظرفا للْفِعْل (يَقع) الْفِعْل (أَدَاء فِي كل مِنْهَا) أَي فِي كل وَاحِد من أَجزَاء ذَلِك الزَّمَان (كالتخيير فِي الْمَفْعُول من) خِصَال (الْكَفَّارَة فجميعه) أَي جَمِيع أَجزَاء ذَلِك الزَّمَان (وَقت الْأَدَاء وَالسَّبَب الْجُزْء السَّابِق) وَلَا يجب اتِّصَال أَدَاء الْوَاجِب بِسَبَب وُجُوبه (وَلَا تنعكس الْفُرُوع) نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ أَنا وَإِن قُلْنَا السَّبَب هُوَ الْجُزْء الأول عينا لَا تنعكس الْفُرُوع المذهبية: بل يستمرّ قَوْلنَا أَن من أسلم وَبلغ إِلَى آخِره فِي الْوَقْت الَّذِي يلْزم الْأَدَاء فِيهِ نُقْصَان المؤدّى لَا يَصح أَدَاء عصره فِي مثله من يَوْم غَيره، لِأَن مَا يجب دَائِما كَامِل: إِذْ لَا نقص فِي الْوَقْت كَمَا حقق فَلَا يتأدّى بِمَا يثبت فِيهِ نقص إِلَّا عصر يَوْمه (وَمَا نقل عَن بعض الشَّافِعِيَّة) من (أَنه) أَي الْمَفْعُول الَّذِي هُوَ الصَّلَاة (قَضَاء بعده) أَي بعد الْجُزْء السَّابِق وَإِن كَانَ فِي الْوَقْت. وَفِي الْكَشْف الْكَبِير، وَهُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيّين (و) عَن (بعض الْحَنَفِيَّة أَنه) أَي السَّبَب الْجُزْء (الْأَخير فَفِي مَا قبله) أَي فالفعل الْوَاقِع فِيمَا قبل الْجُزْء الْأَخير (نفل يسْقط بِهِ الْفَرْض لَيْسَ) شَيْء مِنْهُمَا (مَعْرُوفا عِنْدهم) أَي أهل المذهبين. هَذَا، وَنقل عَن بعض أَصْحَابنَا أَن مَا فعله فِي أول الْوَقْت مراعى، فَإِن لحق آخِره، وَهُوَ من أهل الْخطاب بهَا كَانَ مَا أدّاه فرضا، وَإِن لم يكن من أهل الْخطاب كَانَ نفلا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِنَّمَا عَن الْكَرْخِي إِذا لم يبْق) الْمُكَلف (بِصفة التَّكْلِيف بعده) أَي الْجُزْء السَّابِق (بِأَن يَمُوت أَو يجنّ كَانَ) ذَلِك الْمَفْعُول (نفلا، وَالْكل) من هَذِه الْأَقْوَال قَول (بِلَا مُوجب) وَاحْتج كل من يعلق الْوُجُوب بأوّل الْوَقْت لَا غير بِأَن الْوَاجِب الْمُؤَقت لَا ينْتَظر لوُجُوبه بعد وجود شَرَائِطه سوى دُخُول الْوَقْت فَعلم أَنه مُتَعَلق بِهِ، وَإِذا ثَبت الْوُجُوب بأوّل الْوَقْت لَا يتَعَلَّق بِمَا بعده لِامْتِنَاع التَّوَسُّع فِي الْوُجُوب، وَمن يعلقه بآخر الْوَقْت يحْتَج بِأَنَّهُ لما جَازَ التَّأْخِير إِلَى التَّضْيِيق وَامْتنع التَّوَسُّع كَانَ مُتَعَلقا بِآخِرهِ، وَمَا قبله لَا تعلق لَهُ بِالْإِيجَابِ، ثمَّ المؤدّى إِنَّمَا يكون نفلا كَمَا قَالَ الْبَعْض لِأَنَّهُ يتَمَكَّن من التّرْك فِي أوّله لَا إِلَى بدل(2/191)
وإثم، وَهَذَا حدّ الْفِعْل إِلَّا أَن بِأَدَائِهِ يحصل الْمَطْلُوب وَهُوَ إِظْهَار فضل الْوَقْت فَيمْنَع لُزُوم الْفَرْض كمحدث تَوَضَّأ قبل الْوَقْت يَقع نفلا، وَمَعَ هَذَا يمْنَع لُزُوم فرض الْوَقْت بعد دُخُوله أَو مَوْقُوفا كَمَا قَالَ الْبَعْض الآخر كَالزَّكَاةِ المعجلة قبل الْحول للمصدّق كشاة من أَرْبَعِينَ شَاة فَإِنَّهُ إِن تمّ الْحول وَعِنْده تسع وَثَلَاثُونَ أَجزَأَهُ، وَإِن كَانَ أقلّ كَانَ لَهُ أَن يَأْخُذهَا من يَد المصدّق وَإِن كَانَت قَائِمَة كَذَا ذكره الشَّارِح فِي مسَائِل أُخْرَى من هَذَا الْبَاب: ثمَّ الاجماع على وُجُوبهَا على من بلغ أَو أسلم فِي وسط الْوَقْت أَو آخِره إِن كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ يَسعهَا، وَلَو كَانَ الْوُجُوب مُتَعَلقا بأوّله لَا غير لما وَجب عَلَيْهِم (وَإِنَّمَا يلْزم) كَونه قَضَاء بعد الْجُزْء الأوّل فِي الْوَقْت (لَو كَانَ) الْجُزْء (الأوّل سَبَب) الْوُجُوب (الْمضيق) وَلَيْسَ كَذَلِك (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (تتقررّ السَّبَبِيَّة على مَا) أَي جُزْء (يَلِيهِ الشُّرُوع) فِي الْوَاجِب (فِيهِ) أَي فِي قَوْلهم (مَا سنذكر) فِي المسئلة الَّتِي تلِي هَذِه.
مسئلة
(الْوَاجِب بِالسَّبَبِ الْفِعْل عينا مُخَيّرا) فِي أَجزَاء زَمَانه الْمَحْدُود لَهُ (كَمَا قُلْنَا) آنِفا فِي السَّابِقَة (و) قَالَ (القَاضِي أَبُو بكر الْوَاجِب فِي كل جُزْء) من أَجزَاء الْوَقْت مَا لم يتضيق (أحد الْأَمريْنِ مِنْهُ) أَي الْفِعْل (وَمن الْعَزْم عَلَيْهِ) أَي الْفِعْل (فِيمَا بعده) أَي ذَلِك الْجُزْء الْخَالِي هُوَ وَمَا قبله من الْفِعْل، فَإِذا لم يبْق مِنْهُ إِلَّا مَا يسع الْفِعْل تعين الْفِعْل (فَإِن لم يفعل وَلم يعزم) على الْفِعْل حَتَّى مضى الْوَقْت (عصى، وَعند زفر عصى بِالتَّأْخِيرِ عَن قدر مَا يسع) الْأَدَاء من أَجزَاء الْوَقْت، وَكَذَا عندنَا فِي الْفجْر (وَدفع) قَول القَاضِي (بِأَن الْمُصَلِّي فِي الْجُزْء) الَّذِي لَيْسَ بالأخير (ممتثل لكَونه مُصَليا لَا) لكَونه (آتِيَا بِأحد الْأَمريْنِ) الْفِعْل والعزم مُبْهما وَلَو كَانَ هُنَا تَخْيِير بَين الصَّلَاة والعزم لَكَانَ الِامْتِثَال بهَا من حَيْثُ أَنَّهَا أحد الْأَمريْنِ (وَله) أَي للْقَاضِي (دَفعه) أَي دفع هَذَا الدّفع (بِأَن لَا مُنَافَاة) بَين كَونه ممتثلا لكَونه مُصَليا، وَكَونه آتِيَا بِأحد الْأَمريْنِ (فَلْيَكُن) امتثاله لكَونه مُصَليا (لكَون الصَّلَاة أَحدهمَا) أَي لأجل أَن الصَّلَاة أحد الْأَمريْنِ، إِذْ لَا شكّ أَن الْإِتْيَان بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِه إتْيَان بِأَحَدِهِمَا لَا على التَّعْيِين، وَالْحق أَنه ورد التَّنْصِيص من الشَّارِع بِأَن الْمُصَلِّي فِي الْجُزْء الْمَذْكُور ممتثل لكَونه مُصَليا، فَالظَّاهِر من هَذِه الْعبارَة كَون الْمَأْمُور بِهِ الصَّلَاة عينا لَا مَا هُوَ أَعم مِنْهَا، وَإِلَّا لَكَانَ حق الْأَدَاء أَن يُقَال ممتثل لكَونه آتِيَا بالمأمور بِهِ ويعبر عَنهُ بِنَفس الْمَأْمُور بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مسَاوٍ لَهُ لَا بِمَا هُوَ أخص مِنْهُ لاستلزامه الْأَعَمّ لَكِن وُرُوده من الشَّارِع غير ثَابت فَلَا يحْتَج بِهِ (وَدَعوى التعين) أَي(2/192)
كَون الْوَاجِب أَحدهمَا بِعَيْنِه (مَحل النزاع) فَلَا يثبت إِلَّا بدليله وَمَا ذكر لَا يصلح دَلِيلا (إِنَّمَا ذَاك) أَي وجوب أَحدهمَا بِعَيْنِه فِي الْمصلى (عِنْد التَّضْيِيق) فِي الْوَقْت بِحَيْثُ لم يبْق مِنْهُ إِلَّا مَا يَسعهَا وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ (وَفِي البديع) فِي جَوَاب القَاضِي (لَو كَانَ الْعَزْم بَدَلا) عَن الصَّلَاة (سقط بِهِ) أَي الْعَزْم (الْمُبدل) وَهُوَ الصَّلَاة (كَسَائِر الأبدال) كالمسح وَغَيره وَلَيْسَ كَذَلِك (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا (منع الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم سُقُوط الْمُبدل مُطلقًا بالإتيان بِالْبَدَلِ مُطلقًا لجَوَاز أَن يكون الْبَدَل بَدَلا من كل وَجه، فَلَا نقُول أَن الْعَزْم بدل عَن الصَّلَاة من كل وَجه فَلَا يلْزم سُقُوطهَا مُطلقًا (بل اللَّازِم سُقُوط وُجُوبهَا فِي ذَلِك الْوَقْت والبدلية لَيست إِلَّا فِي هَذَا الْقدر) أَي فِي سُقُوط الْوُجُوب فِي ذَلِك الْوَقْت فَيسْقط الْوُجُوب فِيهِ بالعزم فِيهِ على الْفِعْل فِي ثَانِي الْحَال كَمَا يسْقط بالإتيان بِالصَّلَاةِ فِيهِ، قيل وَأَيْضًا هُوَ لم يَجْعَل الْعَزْم وَحده بَدَلا بل الْعَزْم مَعَ الْفِعْل فِي ثَانِي الْحَال، فمجرد الْعَزْم لَا يُوجب السُّقُوط (بل الْجَواب) عَن القَاضِي (أَن الْكَلَام فِي الْوَاجِب بِالْوَقْتِ وَلَا تعلق لوُجُوب الْعَزْم بِهِ) أَي بِالْوَقْتِ (بل وجوب الْعَزْم على فعل كل وَاجِب) موسعا كَانَ أَو مضيقا إِجْمَالا عِنْد الِالْتِفَات إِلَيْهِ إِجْمَالا وتفصيلا عَن التَّفْصِيل حكم (من أَحْكَام الْإِيمَان) يثبت مَعَ ثُبُوت الْإِيمَان سَوَاء دخل الْوَقْت الْوَاجِب أَو لَا، فَهُوَ وَاجِب مُسْتَمر قبل وُجُوبه وَمَعَهُ بِحَسب الِالْتِفَات إِلَيْهِ ليتَحَقَّق التَّصْدِيق الَّذِي هُوَ الإذعان وَالْقَبُول غير مُخْتَصّ بِالصَّلَاةِ وَلَا بدلية عَنْهَا (هَذَا، وَلَا يبعد أَن مَذْهَب القَاضِي أَن الْوَاجِب بأوّل الْوَقْت الصَّلَاة أَو الْعَزْم على فعلهَا) أَي الصَّلَاة (بعده) أَي أوّل الْوَقْت (فِيهِ) أَي الْوَقْت (كَمَا هُوَ الْمَنْقُول عَن الْمُتَكَلِّمين) فِي برهَان إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالَّذِي أرَاهُ أَنهم لَا يوجبون تَجْدِيد الْعَزْم فِي الْجُزْء الثَّانِي، بل يحكم بِأَن الْعَزْم الأوّل ينسحب على جَمِيع الْأَزْمِنَة الْمُسْتَقْبلَة: كانسحاب النِّيَّة على الْعِبَادَة الطَّوِيلَة (إِلَّا أَن كل جُزْء يلْزم فِيهِ الْفِعْل أَو الْعَزْم المستلزم لاستصحاب الْعَزْم من أول الْوَقْت إِلَى آخِره لِأَنَّهُ بعيد) قَالَ الشَّارِح: لِأَن أحد لَا يَقُول بِأَن الْعَزْم فِي الْجُزْء الْأَخير كَاف، ثمَّ نقل عَن القَاضِي أَن هَذَا التَّخْيِير عِنْده فِي غير الْجُزْء الْأَخير، أما فِي الْجُزْء الْأَخير فَيتَعَيَّن الْفِعْل قطعا انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن سَبَب الْبعد مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله لَا أَن كل جُزْء إِلَى قَوْله المستلزم إِلَى آخِره وَهُوَ ظَاهر.
مسئلة
(تثبت السَّبَبِيَّة لوُجُوب الْأَدَاء) فِي الْوَاجِب البدني (بأوّل الْوَقْت موسعا كَمَا ذكرنَا) إِشَارَة إِلَى مَا سبق فِي تَفْسِير سببيته للْوُجُوب الموسع من قَوْله بِمَعْنى أَنه عَلامَة على تعلق وجوب الْفِعْل مُخَيّرا فِي أَجزَاء زمَان مُقَدّر يَقع أَدَاء فِي كل مِنْهَا (عِنْد الشَّافِعِيَّة بِخِلَاف الماليّ ليثبت بالنصاب)(2/193)
أَي بِملكه (وَالرَّأْس) الَّذِي يمونه ويلي عَلَيْهِ على قَول (أَو الْفطر) أَي غرُوب الشَّمْس آخر يَوْم من رَمَضَان على الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة (وَالدّين) الْمُؤَجل إِلَى وَقت معِين (أصل الْوُجُوب) لِلزَّكَاةِ وَصدقَة الْفطر وتفريغ الذِّمَّة (وَتَأَخر وجوب الْأَدَاء) إِلَى تَمام الْحول وطلوع فجر أول يَوْم من شَوَّال وحلول الْأَجَل (بِدَلِيل السُّقُوط) لهَذِهِ الْأَشْيَاء عَن الْمُكَلف (بالتعجيل) لَهَا (وَهُوَ) أَي سُقُوطهَا (فرع سبق الْوُجُوب) لَهَا (و) فرع (تَأَخّر وجوب الْأَدَاء عِنْد الْحَنَفِيَّة كَذَلِك) أَي قَائِلُونَ بانفصال الْوُجُوب عَن وجوب الْأَدَاء (فِي البدني أَيْضا) كَمَا فِي المالي (فَثَبت بِالْأولِ) من أَجزَاء الْوَقْت (أصل الْوُجُوب فَيعْتَبر حَال الْمُكَلف فِي) الْجُزْء (الْأَخير) من الْوَقْت (من الْحيض) بَيَان لحاله (وَالْبُلُوغ) يرد عَلَيْهِ أَن قَوْله فَيثبت بِالْأولِ أصل الْوُجُوب إِن أَرَادَ بِهِ ثُبُوته بِشَرْط أَن يكون أَهلا لَهُ لزم وجود الْبَالِغ فِي الْجُزْء الأول بِلَا معنى لاعْتِبَار حَاله فِي الْجُزْء الْأَخير من حَيْثُ الْبلُوغ، وَإِن لم يكن أَهلا لزم إِثْبَات الحكم بِدُونِ الْأَهْلِيَّة، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَقُول بأهلية الصَّبِي الْمُمَيز لوُجُوب الصَّلَاة كَمَا قيل فِي حق وجوب أصل الْإِيمَان، وَفِيه تَأمل (وَالسّفر وأضدادها) أَي الطَّهَارَة وَالصبَا وَالْإِقَامَة (فَلَو كَانَت طَاهِرَة أول الْوَقْت فَلم تصل حَتَّى حَاضَت آخِره لَا قَضَاء) عَلَيْهَا سَوَاء كَانَ الْبَاقِي مَا يسع الصَّلَاة أَو تحريهما فَقَط. وَقَالَ زفر: إِن بَقِي مَا يَسعهَا لَا قَضَاء وَإِلَّا فعلَيْهَا الْقَضَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي إِن أدْرك من عرض لَهُ أحد هَذِه الْعَوَارِض يَعْنِي الْحيض وَالنّفاس وَالْجُنُون وَنَحْوهَا قبل عروضها أخف مَا يُمكنهُ فعله وَجب وَإِلَّا فَلَا (وَفِي قلبه) أَي فِيمَا إِذا كَانَت حَائِضًا أول الْوَقْت ثمَّ طهرت آخِره (قلبه) أَي قلب نفي الْقَضَاء وَهُوَ الْقَضَاء. قَالَ الشَّارِح لَو كَانَ الْبَاقِي من الْوَقْت قدر مَا يسع التَّحْرِيمَة عِنْد عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة إِذا كَانَ حَيْضهَا عشرَة أَيَّام فَإِن كَانَ أقل وَالْبَاقِي قدر الْغسْل مَعَ مقدماته كالاستقاء وخلع الثَّوْب والستر عَن الْأَعْين والتحريمة فعلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا انْتهى. وَقَالَ زفر لَا يثبت الْوُجُوب مَا لم يدْرك مَا يسع جَمِيع الْوَاجِب وعَلى هَذَا الْخلاف إِذا زَالَ الْكفْر وَالْجُنُون وَقد بَقِي من الْوَقْت قدر التَّحْرِيمَة يجب عِنْد الثَّلَاثَة وَلَا يجب عِنْد زفر. وَقَالَ الشَّافِعِي يجب إِذا زَالَت هَذِه الْعَوَارِض وَقد بَقِي من الْوَقْت قدر تَكْبِيرَة (وَلَا يُنكرُونَ) أَي الْحَنَفِيَّة (إِمْكَان ادِّعَاء الشَّافِعِيَّة) أَي أَن مَا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيَّة من أَن الْوَقْت سَبَب لوُجُوب الْأَدَاء موسعا بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور أَمر مُمكن يصلح للاعتبار، و (لَكِن ادعوهُ) أَي لَكِن الْحَنَفِيَّة يدعونَ كَونه (غير وَاقع بِدَلِيل وجوب الْقَضَاء على نَائِم) استغرق نَومه (كل الْوَقْت) من الْجُزْء الأول إِلَى الْجُزْء الْأَخير (وَهُوَ) أَي وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ (فرع وجود) أصل (الْوُجُوب) عَلَيْهِ إِذْ وجوب الْقَضَاء فرع كَون الأَصْل وَاجِبا، أَلا ترى أَن من حدث لَهُ أَهْلِيَّة بعد مُضِيّ الْوَقْت بِإِسْلَام أَو بُلُوغ لَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء إِجْمَاعًا، وَقد يفرق بَينهمَا مَعَ قطع النّظر عِنْد(2/194)
وجود الْوُجُوب بِوُجُوب الْأَهْلِيَّة فِي النَّائِم دونهمَا وَلَا سَبِيل إِلَى القَوْل بِوُجُوب الْأَدَاء على النَّائِم الْمَذْكُور اتِّفَاقًا، إِذْ النَّائِم لَا يصلح للخطاب فَكيف يطْلب مِنْهُ أَدَاء الْفِعْل مُنجزا أورد عَلَيْهِ أَن وجوب الْقَضَاء بِالنَّصِّ ابْتِدَاء لما صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَإِذا نسى أحدكُم صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " وَأجِيب بِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَا مَا روى فِيهِ شَرَائِط الْقَضَاء كنية الْقَضَاء وَغَيرهَا وَدفع بِأَن عِنْد الحضم لَا فرق بَين الْأَدَاء وَالْقَضَاء فِي النِّيَّة لَا فِي الصَّلَاة وَلَا فِي الصَّوْم بل يحْتَاج إِلَى أَن يَنْوِي مَا عَلَيْهِ فيهمَا (وَلَا اعْتِبَار بقول من جعله) أَي الْقَضَاء الْمَذْكُور (أَدَاء مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة. قَالَ فَخر الْإِسْلَام: النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ إِذا مر عَلَيْهِمَا جَمِيع وَقت الصَّلَاة وَجب الأَصْل وتراخى وجوب الْأَدَاء وَالْخطاب انْتهى، فَإِذا لم يجب الْأَدَاء فِي الْوَقْت لَا يتَحَقَّق بعده الْقَضَاء إِذْ هُوَ فرع وجوب الْأَدَاء فِيهِ (والاتفاق على انْتِفَاء وجوب الْأَدَاء عَلَيْهِ) أَي النَّائِم الْمَذْكُور، وَفِي الْكَشْف الْأَدَاء نَوْعَانِ: أَحدهمَا مَا يكون الْمَطْلُوب فِيهِ نفس الْفِعْل فيأثم بِتَرْكِهِ وَلَا بُد فِيهِ من سَلامَة الْآلَات والأسباب، وَالثَّانِي مَا يكون الْمَطْلُوب فِيهِ خَلفه لَا نَفسه، وَهُوَ الْقَضَاء مَبْنِيّ على وجوب الْأَدَاء بِالْمَعْنَى الثَّانِي والمتفق على انتفائه وُجُوبه بِالْمَعْنَى الأول وَلَا يخفى عَلَيْك أَن أصل الْوُجُوب غير هَذَا: إِذْ لَيْسَ فِيهِ تعرض للْأَدَاء بِأحد النَّوْعَيْنِ فَتَأمل. وَفِي التَّلْوِيح لقَائِل أَن يمْنَع عدم الْخطاب، وَإِنَّمَا يلْزم اللَّغْو لَو كَانَ مُخَاطبا بِأَن يفعل فِي حَالَة النّوم مثلا وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ مُخَاطب بِأَن يفعل بعد الانتباه، وَالْعجب أَنهم جوزوا خطاب الْمَعْدُوم بِنَاء على أَن الْمَطْلُوب صُدُور الْفِعْل حَالَة الْوُجُوب. وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة من شَرط وجوب الْأَدَاء الْقُدْرَة الممكنة إِلَّا أَنه لَا يشْتَرط وجودهَا عِنْد الْأَمر: بل عِنْد الْأَدَاء فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة، وَصَحَّ أمره فِي حق من وجد بعده ويلزمهم الْأَدَاء بِشَرْط أَن يبلغهم ويتمكنوا من الْأَدَاء انْتهى. وَهَذَا لَا يُنَافِي الِاتِّفَاق الْمَذْكُور، لِأَن المُرَاد مِنْهُ انْتِفَاء وجوب الْأَدَاء تنجيزا، وجوازه إِنَّمَا هُوَ وُجُوبه تَعْلِيقا فَإِن قلت الْمَعْدُوم والنائم مَعَ قطع النّظر عَن عدم قابليتهما بالإتيان بالمأمور بِهِ لَا يفهمان الْخطاب، فَلَا يخاطبان بِالْخِطَابِ التعليقي أَيْضا قلت يفهمان فِيمَا بعد، وَإِن لم يفهما فِي زمن الْخطاب فَتَأمل، وَفِي الْخُلَاصَة وَالْمُخْتَار أَن النَّائِم الْمَذْكُور عَلَيْهِ الْقَضَاء وَنَقله عَن أبي حنيفَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن قَول من جعله أَدَاء غير مُعْتَبر بِأَن يَجْعَل وُجُوبه ابْتِدَاء (كَانَ الْوُجُوب مُطلقًا لَا موقتا) وَقد قَالَ تَعَالَى - {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} -، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى وَإِن لم ينتف وجوب الْأَدَاء بِأَن يجب الْأَدَاء فِي أول الْوَقْت كَانَ ذَلِك الْوُجُوب غير موقت، لِأَن الْمَفْرُوض استغراق النّوم الْوَقْت، وَكَانَ مُقْتَضَاهُ وجوب الْأَدَاء فِي وَقت مَا فَتدبر (وَكَذَا صِحَة صَوْم الْمُسَافِر عَن الْعرض) أَي فرض رَمَضَان(2/195)
(فرع الْوُجُوب عَلَيْهِ) أَي على الْمُسَافِر لعدم وُقُوع مَا لَيْسَ بِفَرْض عَن الْفَرْض، وعَلى تقدري عدم الْوُجُوب يلْزم عدم فرضيته (وَعدم إثمه) أَي الْمُسَافِر (لَو مَاتَ بِلَا أَدَاء) الصَّوْم (فِي سَفَره) الَّذِي أفطر فِيهِ، وَقَوله عدم إثمه مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَعنِي دَلِيل عدم وجوب الْأَدَاء عَلَيْهِ والقرينة قَوْله وَكَذَا، تَوْضِيحه انه ذكر فِيمَا سبق أَمريْن: أَحدهمَا دَلِيل سبق الْوُجُوب وَهُوَ وجوب الْقَضَاء على النَّائِم الْمَذْكُور، وَالثَّانِي دَلِيل انْتِفَاء وجوب الْأَدَاء وَهُوَ الِاتِّفَاق، أَو كَونه موقتا على مَا ذكر، وَهَهُنَا ذكر أَمريْن: أَحدهمَا دَلِيل سبق الْوُجُوب وَهُوَ صِحَة صَوْمه عَن الْفَرْض، وَالثَّانِي دَلِيل عدم وجوب الْأَدَاء، وَهُوَ عدم الْإِثْم فالمشبه والمشبه بِهِ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله، وَكَذَا مَجْمُوع الْأَمريْنِ (وصرحوا) أَي الْحَنَفِيَّة (بِأَن لَا طلب فِي اصل الْوُجُوب، بل هُوَ) أَي أصل الْوُجُوب (مُجَرّد اعْتِبَار من الشَّارِع أَن فِي ذمَّته) أَي الْمُكَلف (جبرا الْفِعْل) فَقَوله الْفِعْل اسْم أَن، وَفِي ذمَّة خَبَرهَا وَهِي مَعَ اسْمهَا وخبرها مفعول اعْتِبَار، وجبرا نصب على الْمصدر: أَي جبر الْمُكَلف على شغل الذِّمَّة جبرا (كالشغل بِالدّينِ) أَي شغل ذمَّته كشغلها بدين النَّاس فِي أَن كلا مِنْهُمَا اعْتِبَار شَرْعِي (وَهُوَ) أَي الدّين (فعل عِنْد أبي حنيفَة) هُوَ تمْلِيك المَال أَو تَسْلِيمه: إِذْ يُوصف بِالْوُجُوب وَهُوَ صفة الْأَفْعَال، وَمعنى أَو فِي الدّين، أَتَى بِهَذَا الْفِعْل: أَي تمْلِيك المَال أَو تَسْلِيمه، وَمعنى قَوْله عَليّ ألف وَاجِبَة وَاجِب أَدَاؤُهَا (وَقد يشكل المذهبان) مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (بِأَن الْفِعْل) أَي فعل الْمُكَلف لقصد أَدَاء مَا فِي الذِّمَّة بعد أصل الْوُجُوب قبل وجوب الْأَدَاء (بِلَا) سبق (طلب كَيفَ يسْقط الْوَاجِب وَهُوَ) أَي الْوَاجِب إِنَّمَا يكون وَاجِبا (بِالطَّلَبِ والسقوط) إِنَّمَا يكون (بتقدمه) أَي الطّلب أَيْضا (وَقصد الِامْتِثَال) وَهُوَ إِنَّمَا يكون (بِالْعلمِ بِهِ) أَي بِالطَّلَبِ، فإسقاط الْوَاجِب يستدعى سبق الطّلب من الْوُجُوه الثَّلَاثَة فَكيف تثبته الْحَنَفِيَّة بِمُجَرَّد سبق الْوُجُوب الْخَالِي عَن الطّلب 0 وَالشَّافِعِيَّة إِن أرادوه) أَي أَرَادوا نفس الْوُجُوب فِي مَحل أثبتوه مَا أَرَادَ الْحَنَفِيَّة بِهِ (فَكَذَلِك) أَي ورد عَلَيْهِم مَا ورد على الْحَنَفِيَّة من أَنه إِسْقَاط قبل الطّلب (وَإِن دخله) أَي أصل الْوُجُوب (طلب) لأصل الْفِعْل، وَالْجُمْلَة معطوفة على قَوْله وصرحوا بِهِ إِلَى آخِره: فَهَذَا فرض لما يُقَابل مَا صَرَّحُوا بِهِ، وَمَا بَينهَا مُتَعَلق بالشق الأول (قُلْنَا لَا يعقل طلب فعل بِلَا طلب) أَدَائِهِ (و) بِلَا طلب (قَضَائِهِ لِأَنَّهُ) أَي الْفِعْل (إِمَّا مُطلق عَن الْوَقْت وَهُوَ) أَي الْمُطلق عَنهُ (مَطْلُوب الْأَدَاء فِي الْعُمر، أَو مُقَيّد بِهِ) أَي الْوَقْت (فَهُوَ مَطْلُوب الْأَدَاء فِيهِ) أى فى وقته الْمَحْدُود لَهُ (مُخَيّرا فِي الْأَجْزَاء) أى فِي ايقاعه فِي أى جُزْء من أَجزَاء ذَلِك الْوَقْت (وَهُوَ) أَي الْوَاجِب (الموسع) فِيهِ وَهَذَا التَّوَسُّع قبل أَن يتضيق الْوَقْت (ثمَّ) يجب (مضيقا) بِغَيْر تَخْيِير مُوجب للسلعة وَذَلِكَ عِنْد ضيق الْوَقْت (وَقَول(2/196)
الْحَنَفِيَّة يتضيق) الْوُجُوب (عِنْد الشُّرُوع) فِي الْفِعْل (وتقرر السَّبَبِيَّة للَّذي يَلِيهِ) الشُّرُوع (يلْزمه) أَي القَوْل الْمَذْكُور (كَون الْمُسَبّب هُوَ الْمُعَرّف للسبب، وَهُوَ) أَي كَون الْمُسَبّب هُوَ الْمُعَرّف للسبب (عكس) فِي (وَضعه) أَي الْمُسَبّب لِأَن شَأْنه أَن يكون مُعَرفا لَا مُعَرفا (و) عكس (وضع الْعَلامَة) لِأَن الْعَلامَة هِيَ الْمعرفَة لما هِيَ عَلامَة لَهُ كَمَا أَن السَّبَب هُوَ مَا يعرف للمسبب. وَفِي بعض النّسخ (ومفوتا لمقصودها) وَهِي مَا عَلَيْهِ الشَّارِح، وَقَالَ الظَّاهِر ومفوت وَلَيْسَ فِي النُّسْخَة الَّتِي اعتمادي عَلَيْهَا هَذِه الزِّيَادَة، وَهُوَ أولى إِذْ لَيْسَ فِي تِلْكَ النُّسْخَة زِيَادَة فَائِدَة، أَو فسر مقصد الْعَلامَة بالتعريف لما هِيَ عَلامَة لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنى يفهم بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَة (وَبِه) أَي بِكَوْن الْمُسَبّب هُنَا هُوَ الْمُعَرّف للسبب (يصير) هَذَا القَوْل (أبعد من الْمَذْهَب المرذول) رذل ككرم وَعلم بِمَعْنى ذل، ورذله غَيره وأرذله عدَّة رذلة وَهُوَ (أَن التَّكْلِيف مَعَ الْفِعْل) لَا قبله (لقَولهم) أَي الْحَنَفِيَّة تَعْلِيل لبَيَان وجوب الْمَذْهَب المرذول (أَن الطّلب) الَّذِي هُوَ التَّكْلِيف (لم يسْبقهُ) أَي الْفِعْل (إِذْ لَا طلب فِي أصل الْوُجُوب كَمَا ذكرنَا) على مَا مر فِي قَوْله وصرحوا الخ (فَهُوَ) أَي أصل الْوُجُوب (السَّابِق) على الْفِعْل لَا طلبه إِذْ هُوَ مَعَ الْمُبَاشرَة، وَإِنَّمَا كَانَ أبعد لتَضَمّنه كَون التَّكْلِيف مَعَ الْفِعْل لُزُوم عكس وضع السَّبَب والعلامة (وَالْوَجْه أَن مَا أمكن فِيهِ اعْتِبَار وجوب الْأَدَاء بِالسَّبَبِ موسعا اعْتبر) وجوب أَدَائِهِ بذلك السَّبَب على الْوَجْه الْمَذْكُور (كَالدّين الْمُؤَجل يثبت بِالشغلِ) أَي شغل ذمَّة الْمَدْيُون بذلك الدّين (وجوب الْأَدَاء موسعا: أَي مُخَيّرا) فِي أَدَاء الدّين فِي أَي جُزْء شَاءَ من الْمدَّة المحدودة (إِلَى الْحُلُول) أَي حُلُول الْأَجَل (أَو) إِلَى (الطّلب بعده) أَي الْحُلُول (فيتضيق) فَإِن قلت أَن وجوب الْأَدَاء قد انْتقل عَن التَّوَسُّع إِلَى التَّضْيِيق بِمُجَرَّد حُلُول الْأَجَل فَمَا معنى حُدُوث التَّضْيِيق بعده الْمُسْتَفَاد من عطف الطّلب على الْحُلُول قلت هَذَا على تَقْدِير رضَا الدَّائِن بِالتَّأْخِيرِ عَن الْأَجَل (وكالثوب المطار) أَي الَّذِي أطارته الرّيح (إِلَى إِنْسَان يجب) أَدَاؤُهُ بِمَعْنى تَسْلِيمه للْمَالِك (كَذَلِك) أَي وجوبا موسعا (إِلَى طلب مَالِكه) فيتضيق حِينَئِذٍ (ومالا) يُمكن فِيهِ اعْتِبَار وجوب الْأَدَاء بِالسَّبَبِ موسعا (كَالزَّكَاةِ عِنْد الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُ لَو وَجب الْأَدَاء بِملك النّصاب موسعا، فَأَما إِلَى الْحول فيتضيق، وَأما إِلَى آخر الْعُمر، وَالْأول) أَي وجوب الْأَدَاء بِملك النّصاب موسعا إِلَى الْحُلُول (فيتضيق مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ) أَي وجوب الْأَدَاء (بعد الْحول على التَّرَاخِي على مَا اختاروه، وَكَذَا الثَّانِي) أَي وجوب الْأَدَاء بِملك النّصاب موسعا إِلَى آخر الْعُمر (لِأَن حَاصِلَة) أَنه (وَاجِب موسع من حِين الْملك إِلَى آخر الْعُمر فيضيع معنى اشْتِرَاط الْحول، نعم يتم) كَون الزِّيَادَة وَاجِبَة الْأَدَاء بِملك النّصاب موسعا إِلَى الْحول (على) قَول (الْمضيق) للْوُجُوب (بالحول والمصرف) ثمَّ قَوْله(2/197)
وَمَا لَا مُبْتَدأ أَو مَعْطُوف على مَا أمكن، خَبره (فَيجب أَن يعْتَبر فِيهِ) أَي فِي هَذَا (إِقَامَة السَّبَب مقَام الْوُجُوب شرعا فِي حق التَّعْجِيل فَلَو لم يعجل لَا يتَحَقَّق هَذَا الِاعْتِبَار) وَهُوَ أَن السَّبَب أقيم مقَام الْوُجُوب شرعا (أَو) يعْتَبر فِيهِ (أَنه بالمبادرة الْمَأْذُون فِيهَا شرعا إِلَى سد خلة أَخِيه) الْفَقِير (دفع عَنهُ) أَي الْمُعَجل (الطّلب أَن يتَعَلَّق بِهِ) أَي بِفِعْلِهِ وَهُوَ أَدَاء الزَّكَاة (شرعا) وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَنَّهُ (ألزم) علينا اعْتِبَار هَذَا التَّأْوِيل (ذَلِك الدَّلِيل) الْمَذْكُور (وَكَذَا) أقيم السَّبَب مقَام وجوب الْأَدَاء (فِي مُسْتَغْرق الْوَقْت يَوْمًا) أَي فِي حق من استغرق أَوْقَات صلواته مَا أخرجه عَن صَلَاحِية طلب الْفِعْل مِنْهُ كنوم أَو إِغْمَاء وَنَحْوهمَا ليظْهر أَثَره فِي ثُبُوت وجوب الْقَضَاء (وَلَو أَرَادَ الْحَنَفِيَّة هَذَا) الَّذِي ذكرنَا بِمَا أجمله المتقدمون مِنْهُم فِي هَذَا الْمقَام (لم يَفْتَقِرُوا إِلَى اعْتِبَار شَيْء يُسمى بِالْوُجُوب وَلَا طلب فِيهِ وَلَا تكلّف كَلَام زَائِد) لم يحْتَج إِلَيْهِ فِي تَوْجِيه مَا تكلفوا لَهُ من الْمسَائِل (وَلَا يَسْتَقِيم مَا ذكرُوا إِلَّا على ذَلِك) لما عرفت مِمَّا أوردنا عَلَيْهِ.
مسئلة
(الْأَدَاء فعل الْوَاجِب) بِفَتْح الْفَاء وَهُوَ إِيقَاعه (فِي وقته الْمُقَيد) أَي الَّذِي هُوَ قيد الْوَاجِب (بِهِ شرعا) أَي فِي الشَّرْع فَهُوَ ظرف للتَّقْيِيد، وَالْمرَاد بتقييده بِهِ شرعا جعله ظرفا لإيقاعه لَا تَخْصِيصه بِوَقْت معِين من بَين الْأَوْقَات فَإِنَّهُ يخرج مَا جعل الْعُمر وقتا لَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (الْعُمر) فَهُوَ بدل الْبَعْض من وقته الْمُقَيد بِهِ (وَغَيره) أَي الْعُمر من الْأَوْقَات المحدودة فاندرج فِيهِ الْوَاجِب الْمُطلق والموقت فِي الِاصْطِلَاح الْمَشْهُور، وَفِي الشَّرْح العضدي الْأَدَاء مَا فعل فِي وقته الْمُقدر لَهُ شرعا، وَإِلَّا فَخرج مَا لم يقدر لَهُ وَقت كالنوافل أَو قدر لَا شرعا كَالزَّكَاةِ يعين لَهُ الإِمَام شرعا، وَمَا وَقع فِي وقته الْمُقدر لَهُ ثَانِيًا كالناسي إِذا ذكر الصَّلَاة بعد خُرُوج وَقتهَا فَإِن وَقت التَّذْكِرَة قدر لَهَا شرعا لَكِن الْوَاقِع فِيهِ قَضَاء (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار اشْتِرَاط إِيقَاع الْفِعْل فِي الْوَقْت الْمَذْكُور على وَجه يُوهم اشْتِرَاط استغراق الْوَقْت جَمِيع أَجزَاء الْفِعْل (تساهل) فِي الْعبارَة إِذا استغراقه كَذَلِك لَيْسَ بِشَرْط (بل) الشَّرْط أَن يَقع (ابتداؤه) أَي الْفِعْل (فِي غير الْعُمر) أَي فِيمَا عدا الْعُمر من الْأَوْقَات المحدودة لأَدَاء الْوَاجِبَات، ثمَّ مثل ذَلِك الِابْتِدَاء الْوَاجِب إِيقَاعه فِي الْوَقْت بقوله (كالتحريمة) ثمَّ التَّقْدِير فِي ابْتِدَاء الصَّلَاة بهَا والاكتفاء بِوُقُوع هَذَا الْقدر مِنْهَا فِي الْوَقْت إِنَّمَا هُوَ (للحنفية) فِي غير صَلَاة الْفجْر فَإِن بإدراكها فِي الْوَقْت يكون مدْركا للصَّلَاة وَإِن وَقع مَا سواهُ خَارجه وَهُوَ وَجه عِنْد الشَّافِعِيَّة تبعا لما فِي الْوَقْت (وركعة للشَّافِعِيَّة) وَهُوَ أصح الْأَوْجه عِنْدهم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من أدْرك رَكْعَة من الصَّلَاة فقد أدْرك الصَّلَاة " مُتَّفق عَلَيْهِ، وَفِي الْمُحِيط الصَّلَاة الْوَاحِدَة يجوز أَن يكون بَعْضهَا أَدَاء وَبَعضهَا قَضَاء كَمَا إِذا غربت الشَّمْس فِي(2/198)
خلال صَلَاة الْعَصْر وَسَبقه إِلَى هَذَا الناطفي، وَقيل هُوَ قَول عَامَّة الشَّافِعِيَّة اعْتِبَار الْكل جُزْء بِزَمَانِهِ (والإعادة فعل مثله) أَي الْوَاجِب (فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت، فَخرج بِهِ الْقَضَاء لِأَنَّهُ فعل الْمثل فِي غير وقته فَإِن قلت مَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا غير الأول فَمَا معنى الْإِعَادَة قلت بتنزيل الثَّانِي منزلَة عين الأول لمماثلته (لخلل غير الْفساد) كَتَرْكِ ركن (و) غير (عدم صِحَة الشُّرُوع) لفقد شَرط مُقَدّر من طَهَارَة أَو غَيرهَا، إِذْ الأول فِي الصُّورَتَيْنِ لَا وجود لَهُ فالخلل مَا يُؤثر نقصا فِي الصَّلَاة. قَالَ الشَّارِح: وَحِينَئِذٍ فَهَل تكون الْإِعَادَة وَاجِبَة فَصرحَ غير وَاحِد من شرَّاح أصُول فَخر الْإِسْلَام بِأَنَّهَا لَيست بواجبة، وَإِن كَانَ بِالْأولِ يخرج عَن الْعهْدَة وَإِن كَانَ على وَجه الْكَرَاهَة على الْأَصَح، وَأَن الثَّانِي بِمَنْزِلَة الْجَبْر كالجبر بسجود السَّهْو، وَالْأَوْجه الْوُجُوب كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْهِدَايَة، وَصرح بِهِ بَعضهم، وَيُوَافِقهُ مَا عَنى السَّرخسِيّ وَأَبُو الْيُسْر من ترك الِاعْتِدَال يلْزمه الْإِعَادَة زَاد أَبُو الْيُسْر وَيكون الْفَرْض هُوَ الثَّانِي، ثمَّ نقل عَن المُصَنّف أَنه لَا إِشْكَال فِي وجوب الْإِعَادَة إِذْ هُوَ الحكم فِي كل صَلَاة أدّيت مَعَ كَرَاهَة التَّحْرِيم وَيكون جَابِرا للْأولِ لِأَن الْفَرْض لَا يتَكَرَّر، وَجعله الثَّانِي يَقْتَضِي عدم سُقُوطه بِالْأولِ وَهُوَ لَازم ترك الرُّكْن لَا الْوَاجِب، إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد أَن ذَلِك امتنان من الله تَعَالَى إِذْ يحْتَسب الْكَامِل وَإِن تَأَخّر عَن الْفَرْض لما علم سُبْحَانَهُ أَنه سيوفقه انْتهى، ثمَّ أَنه أطنب الْكَلَام فِي أَن الْإِعَادَة هَل هِيَ أَدَاء أَو قَضَاء أَو غَيرهمَا، وَكَلَام المُصَنّف ظَاهر فِي الثَّالِث لجعلها مُقَابلا للأولين، وَلما نقل عَنهُ من أَن الْفَرْض هُوَ الأول فَلَا يكون الثَّانِي فعل الْوَاجِب فِي الْوَقْت غير أَن قَوْله إِلَّا أَن يُقَال إِلَى آخِره تَجْوِيز لكَونه أَدَاء وَالصَّلَاة المفعولة جمَاعَة بعد فعلهَا على الِانْفِرَاد إِعَادَة إِن عَمها الْخلَل بِحَيْثُ يعم مَا لَيْسَ وَاقعا على الْوَجْه الْأَكْمَل (وَالْقَضَاء) تَعْرِيفه بِنَاء (على أَنه) وَاجِب (بِسَبَبِهِ) أَي الأول إِذْ لَو كَانَ وُجُوبه بِسَبَب آخر لَا يصدق عَلَيْهِ التَّعْرِيف لِأَن الْوَاجِب بِسَبَب آخر لَا يكون غير الأول (فعله) أَي الْوَاجِب (بعده) أَي الْوَقْت (فَفعل مثله) أَي الْوَاجِب (بعده) أَي الْوَقْت لخلل وَقع فِي أَدَائِهِ (خَارج) عَن تَعْرِيف الْقَضَاء لِأَنَّهُ فعل عين الْوَاجِب لَا مثله، وَفسّر الشَّارِح بِأَنَّهُ خَارج عَن الْأَقْسَام الثَّلَاثَة وَكَأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَيْهِ قَوْله (كَفعل غير الْمُقَيد) بِوَقْت (من السّنَن) إِذْ خُرُوجه لَا يخص تَعْرِيف الْقَضَاء، وَأَنت خَبِير بِأَن مَا فسرنا بِهِ مُقْتَضى السِّيَاق والتفريع، وَلَا بعد فِي قَوْلنَا هَذَا خَارج عَن هَذَا الْقسم كَمَا أَن ذَلِك خَارج عَن الْأَقْسَام، على أَن خُرُوجه من الْقَضَاء مُسْتَلْزم لِخُرُوجِهِ عَنْهَا، إِذْ من الْمَعْلُوم أَنه لَيْسَ بِالْأَدَاءِ وَلَا إِعَادَة (والمقيد) مِنْهَا بِوَقْت (كَصَلَاة الْكُسُوف) والخسوف بوقتيهما وَالْمعْنَى على مَا ذكرنَا فعل مثل الْوَاجِب بعد الْوَقْت خَارج عَن تَعْرِيف الْقَضَاء كَمَا أَن فعل غير الْمُقَيد إِلَى آخِره خَارج عَن تَعْرِيف كل مِنْهُمَا، وَبَعْضهمْ جعل الْأَدَاء نَوْعَيْنِ(2/199)
وَاجِب وَنفل وَلم يَأْخُذ فِيهِ قيد للْوُجُوب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَمن يُحَقّق الْقَضَاء فِي غير الْوَاجِب) مثل سنة الْفجْر كَمَا ذكر أَصْحَابنَا وَغَيرهم (يُبدل الْوَاجِب بِالْعبَادَة) فَيَقُول فعل الْعِبَادَة بعد وَقتهَا (فتسمية الْحَج) الصَّحِيح (بعد) الْحَج (الْفَاسِد قَضَاء) كَمَا وَقع فِي عبارَة مَشَايِخنَا وَغَيرهم (مجَاز) لِأَنَّهُ فِي وقته وَهُوَ الْعُمر (وتضييقه) أَي وَقت الْحَج (بِالشُّرُوعِ) فَلَا يجوز لَهُ الْخُرُوج مِنْهُ وتأخيره إِلَى عَام آخر (لَا يُوجِبهُ) أَي كَونه قَضَاء بعد الْإِفْسَاد لفَوَات وَقت الْإِحْرَام كَمَا زَعَمُوا (كَالصَّلَاةِ فِي الْوَقْت) ثَانِيًا (بعد إفسادها، والتزام بعض الشَّافِعِيَّة) قَالَ الشَّارِح: أَي القَاضِي حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ وَالرُّويَانِيّ (أَنَّهَا) أَي الصَّلَاة الْمَذْكُورَة (قَضَاء) لِأَنَّهُ يتضيق عَلَيْهِ وَقتهَا بِدُخُولِهِ ففات وَقت إِحْرَامه بهَا (بعيد إِذْ لَا يَنْوِي) الْقَضَاء بهَا اتِّفَاقًا وَلَو كَانَت قَضَاء لَوَجَبَتْ نِيَّته، وَمَا قيل أَنه لَا يشْتَرط نِيَّة الْقَضَاء فِي الْقَضَاء خلال لِلْجُمْهُورِ، نعم صححوا نِيَّة جَاهِل الْوَقْت لغيم أَو نَحوه وَمن ظن خُرُوج الْوَقْت أَو بَقَاءَهُ حَتَّى تبين خلاف ظَنّه، وَأما الْعَالم بِالْحَال فَلَا تَنْعَقِد صلَاته إِلَّا بنية الْأَدَاء أَو الْقَضَاء، ثمَّ المتضيق بِالشُّرُوعِ بِفِعْلِهِ لَا بِأَمْر الشَّرْع وَالنَّظَر فِي الْأَدَاء وَالْقَضَاء إِلَى أَمر الشَّارِع (وَبَعْضهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة قَالَ: هِيَ (إِعَادَة) فَلَا يعْتَبر فِي تَعْرِيفهَا كَونهَا لخلل غير الْفساد (واستبعاد قَول القَاضِي) أبي بكر من ابْن الْحَاجِب وَغَيره (فِيمَن) أدْرك وَقت الْفِعْل ثمَّ (أخر) الْفِعْل (عَن جُزْء مِنْهُ مَعَ ظن مَوته قبله) أَي الْفِعْل (حَتَّى أَثم) بِالتَّأْخِيرِ (اتِّفَاقًا) ومقول قَوْله (أَنه) أَي فعله بعد ذَلِك الْوَقْت (قَضَاء) خلافًا لِلْجُمْهُورِ فِي كَونه أَدَاء (إِن أَرَادَ) بِهِ مَا يسْتَلْزم صِحَّته (نِيَّة الْقَضَاء) فَهُوَ فِي موقعه، فالشرطية خبر استبعاد، حذف الْجَزَاء للْعلم بِهِ، وَقد عرفت وَجه الْبعد بقوله آنِفا إِذْ لَا يَنْوِي (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد بِهِ ذَلِك وَلم يشْتَرط فِيهِ نِيَّة الْقَضَاء (فلفظي) أَي فالنزاع لَفْظِي يرجع إِلَى التَّسْمِيَة بِلَفْظ الْقَضَاء لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُوَافق الْجُمْهُور فِي أَنه فعل وَقع فِي وَقت كَانَ مُقَدرا لَهُ أَولا، وهم يوافقونه فِي وُقُوعه خَارج مَا تعين لَهُ من الْوَقْت ثَانِيًا بِحَسب ظَنّه فَلَا نزاع فِي الْمَعْنى (وتعريفه) أَي الْقَضَاء (بِفعل مثله) أَي الْوَاجِب كَمَا ذكره الْحَنَفِيَّة (إِنَّمَا يتَّجه على أَنه) أَي الْقَضَاء وُجُوبه (بآخر) أَي بِسَبَب آخر غير سَبَب الْأَدَاء فَلَا وَجه لاعتباره مثل الْوَاجِب الأول، بل هُوَ عينه غير أَنه أوقع فِي غير وقته الْمُقدر لَهُ ابْتِدَاء (وَاخْتلف فِيهِ) أَي فِي الْقَضَاء (بِمثل مَعْقُول) أَي مَعْلُوم لِلْعَقْلِ مماثلته للفائت كَالصَّلَاةِ للصَّلَاة، وَالصَّوْم للصَّوْم هَل يجب بِمَا يجب بِهِ الْأَدَاء أَو بِأَمْر آخر (فَأكْثر (بِأَمْر آخر، وَالْمُخْتَار للحنفية) كَالْقَاضِي أبي زيد وشمس الْأَئِمَّة وفخر الْإِسْلَام أَنه يجب (بِهِ) أَي بِمَا يجب بِهِ الْأَدَاء، وَبِه قَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة والحنابلة وَعَامة أهل الحَدِيث، وَإِنَّمَا قيد الْمثل(2/200)
بالمعقول لِأَنَّهُ بِمثل غير مدرك لِلْعَقْلِ مماثلته للفائت لعَجزه كالفدية للصَّوْم لَا يجب إِلَّا بِأَمْر آخر بالِاتِّفَاقِ (للْأَكْثَر الْقطع بِعَدَمِ اقْتِضَاء صم يَوْم الْخَمِيس صم) يَوْم (الْجُمُعَة) فِي الشَّرْح العضدي لَو وَجب الْقَضَاء بِالْأَمر الأول لَكَانَ مقتضيا للْقَضَاء وَاللَّازِم مُنْتَفٍ، أما الْمُلَازمَة فَبَيِّنَة إِذْ الْوُجُوب أخص من الِاقْتِضَاء وَثُبُوت الْأَخَص يسْتَلْزم ثُبُوت الْأَعَمّ، وَأما انْتِفَاء اللَّازِم فلأنا قاطعون بِأَن قَول الْقَائِل صم يَوْم الْخَمِيس لَا يَقْتَضِي صَوْم يَوْم الْجُمُعَة بِوَجْه من وُجُوه الِاقْتِضَاء وَأَيْضًا لَو اقْتَضَاهُ لَكَانَ أَدَاء وَكَانَ بِمَثَابَة صم إِمَّا يَوْم الْخَمِيس وَإِمَّا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ تَخْيِير بَينهمَا. وَالثَّانِي أَدَاء بِرَأْسِهِ لَا قَضَاء للْأولِ وَأَيْضًا يلْزم أَن يَكُونَا سَوَاء فَلَا يقْضِي بِالتَّأْخِيرِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بل اقْتَضَاهُ (كَانَ) أَي صَوْم يَوْم الْخَمِيس وَصَوْم يَوْم الْجُمُعَة (سَوَاء) فِي كَونهمَا أَدَاء بِمَنْزِلَة صم إِمَّا يَوْم الْجُمُعَة وَإِمَّا يَوْم الْخَمِيس (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يُقَال (مُقْتَضَاهُ) أَي صَوْم يَوْم الْخَمِيس (أَمْرَانِ) : أَحدهمَا (إِلْزَام) أصل (الصَّوْم. و) الثَّانِي (كَونه) أَي الصَّوْم (فِيهِ) أَي يَوْم الْخَمِيس (فَإِذا عجز عَن الثَّانِي) وَهُوَ كَونه فِيهِ الَّذِي بِهِ كَمَال الْمَأْمُور بِهِ (لفواته بَقِي قَضَاؤُهُ الصَّوْم لَا فِي) خُصُوص (الْجُمُعَة وَلَا) فِي خُصُوص (غَيرهَا وَإِنَّمَا يلْزم مَا ذكر) من الْمُسَاوَاة (لَو اقْتِضَاء) أَي صَوْم يَوْم الْخَمِيس الصَّوْم (فِي) يَوْم (معِين) غَيره كَيَوْم الْجُمُعَة وَلَيْسَ كَذَلِك (نعم لَو اقْتضى فَوَاته) أَي الْأَدَاء (ظُهُور بطلَان مصلحَة الْوَاجِب ومفسدته) إِمَّا بِالنّصب عطفا على ظُهُور وَإِمَّا بِالْجَرِّ عطفا على بطلَان (سقط) الْوَاجِب بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق بِلَا مصلحَة مَعَ ظُهُور فَسَاده (للمعارض الرَّاجِح) وَهُوَ ظُهُور بطلَان الْمصلحَة والمفسدة (وَهُوَ) أَي اقْتِضَاء فَوَاته ذَلِك (بعيد، إِذْ عقلية حسن الصَّلَاة ومصلحتها بعد الْوَقْت كقبله) أَي كعقلية حسنها ومصلحتها قبل الْوَقْت: إِذْ الْمَقْصُود بهَا تَعْظِيم الله لفظا وَمُخَالفَة الْهوى وَذَلِكَ لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات، وَإِنَّمَا امْتنع التَّقْدِيم على الْوَقْت لِامْتِنَاع تَقْدِيم الحكم على السَّبَب كَمَا سَيَجِيءُ (وَغَايَة تَقْيِيده) أَي الْوَاجِب (بِهِ) أَي بِالْوَقْتِ أَنه (لزِيَادَة الْمصلحَة فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت لشرفه، وكل من الْفَوات والتفويت غير مسْقط لَهُ (وَقَوْلهمْ) أَي الْقَائِلين بِأَنَّهُ لَا يجب بِمَا يجب بِهِ الْأَدَاء (لَو لم يكن) الْوَقْت (قيدا فِيهِ) أَي فعل الْوَاجِب (دَاخِلا فِي الْمَأْمُور بِهِ جَازَ تَقْدِيمه) أَي الْمَأْمُور بِهِ على الْوَقْت الْمُقَيد بِهِ (مندفع بِأَن الْكَلَام فِي الْوَاجِب وَلَا وَاجِب قبل التَّعَلُّق) أَي قبل تعلق الْوُجُوب بِهِ وَلَا يتَعَلَّق الْوُجُوب إِلَّا عِنْد دُخُول الْوَقْت فِي الْوَاجِب الْمُؤَقت (ثمَّ قيل ثَمَرَته) أَي الْخلاف تظهر (فِي الصّيام الْمَنْذُور الْمعِين) إِذا فَاتَ وقته (يجب قَضَاؤُهُ على) القَوْل (الثَّانِي) وَهُوَ أَنه يجب بِمَا يجب بِهِ الْأَدَاء (وَلَا) يجب (على الأول) وَهُوَ أَنه يجب بِأَمْر آخر لعدم وُرُود مَا يدل عَلَيْهِ (وَقيل الْقَضَاء) فِيهِ (اتِّفَاق فَلَا ثَمَرَة)(2/201)
لهَذَا الْخلاف (ويطالبون) أَي الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يجب بِالْأَمر الآخر (بِالْأَمر الْجَدِيد) غير النّذر فِي هَذِه الصُّورَة الدَّال على وجوب قَضَاء الصَّوْم الْمَذْكُور والإتيان بِهِ مُتَعَذر فِيمَا يظْهر (وَلَو قيل) بدل بِأَمْر جَدِيد (بِسَبَب آخر) كَمَا هُوَ عبارَة السَّرخسِيّ وَغَيره (شَمل الْقيَاس فَيمكن) أَن يجيبوا بِأَن السَّبَب الآخر هُوَ الْقيَاس (على الصَّلَاة) الْمَفْرُوضَة فِي الصَّلَاة الْمَنْذُورَة، وعَلى الصَّوْم الْمَفْرُوض فِي الصَّوْم الْمَنْذُور فَإِنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَإِذا نسى أحدكُم صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فليصلها إِذا ذكرهَا ". وَقَالَ تَعَالَى - {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} - اعْتِبَارا بِمَا هُوَ وَاجِب بِإِيجَاب العَبْد بِمَا هُوَ وَاجِب بِإِيجَاب الله تَعَالَى ابْتِدَاء (ونوقض) الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة وَهُوَ أَنه يجب بِمَا يجب بِهِ الْأَدَاء (بِنذر اعْتِكَاف رَمَضَان إِذا لم يعتكفه) أَي رَمَضَان حَيْثُ (يجب) فِي ظَاهر الرِّوَايَة قَضَاؤُهُ (بِصَوْم جَدِيد وَلم يُوجِبهُ) أَي نذر اعْتِكَافه صَوْمه لوُجُوبه بِدُونِ النّذر (فَكَانَ) وجوب الْقَضَاء (بِغَيْرِهِ) أَي غير مَا يحب بِهِ الْأَدَاء (وَيبْطل) النّذر بعد انْتِفَاء الِاعْتِكَاف: أَي لَا يبْقى لَهُ مُوجب (كَأبي يُوسُف وَالْحسن) أَي كَمَا قَالَا، إِذْ لَا يُمكن إِيجَاب الْقَضَاء بِدُونِ الصَّوْم لِأَنَّهُ لَا اعْتِكَاف إِلَّا بِالصَّوْمِ، وَلَا إِيجَابه بِالصَّوْمِ وَإِلَّا يلْزم إِلْزَام الزِّيَادَة على مَا الْتَزمهُ، وَفِيه أَن هَذَا كُله فرع كَون الصَّوْم الْجَدِيد قَضَاء، وَهُوَ غير لَازم لكَون الِاعْتِكَاف قَضَاء لجَوَاز كَون الصَّوْم أَدَاء تَابعا للاعتكاف من حَيْثُ التحقق لَا من حَيْثُ كَونه قَضَاء (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي نذر الِاعْتِكَاف (مُوجب) للصَّوْم، لِأَنَّهُ شَرط صِحَة الِاعْتِكَاف وَشرط الشَّيْء يجب بتبعية وُجُوبه إِلَّا أَنه (امْتنع) إِيجَابا لَهُ (فِي خُصُوص ذَلِك) أَي نذر اعْتِكَافه رَمَضَان لمَانع هُوَ وُجُوبه قبل النّذر فَإِن إِضَافَته إِلَى رَمَضَان وَشرف الْوَقْت مَعَ حُصُول الْمَقْصد بِصَوْم الشَّهْر، لِأَن الشَّرْط من حَيْثُ هُوَ شَرط يعْتَبر وجوده تبعا يمْنَع إِيجَاب اعْتِكَاف بِصَوْم فِي غير رَمَضَان عِنْد الْأَدَاء (فَعِنْدَ عَدمه) أَي الْمَانِع، وَهُوَ رَمَضَان إِذا لم يعتكفه وَلزِمَ الْقَضَاء (ظهر أَثَره) أَي نذر الِاعْتِكَاف فِي إِيجَاب الصَّوْم كمظهر نذر أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُصليهَا بِتِلْكَ الطَّهَارَة، وَإِذا انْقَضتْ لَزِمته لأدائها بذلك النّذر لَا بِسَبَب آخر (وَلزِمَ أَن لَا يقْضِي فِي رَمَضَان آخر، وَلَا وَاجِب) آخر لِأَن الصَّوْم وَإِن كَانَ شرطا لكنه مِمَّا يلْزم بِالنذرِ لكَونه عبَادَة مَقْصُودَة فِي نَفسه، فَإِذا ظهر أثر النّذر فِي إِيجَابه لَا يتَأَدَّى بِوَاجِب آخر كَمَا لَو نَذره مُطلقًا أَو مُضَافا إِلَى غير رَمَضَان (سوى قَضَاء) رَمَضَان (الأول) فَإِنَّهُ يجوز فِيهِ (للخلفية) أَي لخلفية صَوْم الشَّهْر الْمقْضِي عَن صَوْم الْمَنْذُور: إِذْ الْخلف فِي حكم الأَصْل وَقد اكْتفى بِالصَّوْمِ الْوَاجِب أَصَالَة لَا من قبل النّذر بتبعية الِاعْتِكَاف فِي الأَصْل فَكَذَلِك فِي الْخلف.(2/202)
تذنيب
مُتَعَلق بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاء يشْتَمل على أَقسَام لَهما باعتبارات مُخْتَلفَة (قسم الْحَنَفِيَّة الْأَدَاء) حَال كَونهم (معممين) التَّقْسِيم لَهُ (فِي الْمُعَامَلَات) كَمَا فِي الْعِبَادَات إِلَى مَا لَيْسَ فِي معنى الْقَضَاء، وَهُوَ يَنْقَسِم (إِلَى كَامِل) مستجمع لجَمِيع الْأَوْصَاف المشروعية فِيهِ (كَالصَّلَاةِ) الْمَشْرُوع فِيهَا الْجَمَاعَة كالمكتوبة والعيد وَالْوتر فِي رَمَضَان والتراويح (بِجَمَاعَة، وقاصر) غير مستجمع لما ذكر (كالمكتوبة) إِذْ صلاهَا (مُنْفَردا) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين ضعفا ". (و) إِلَى (مَا) أَي أَدَاء (فِي معنى الْقَضَاء كَفعل اللَّاحِق) وَهُوَ من فَاتَهُ بعد مَا دخل مَعَ الإِمَام بعض صَلَاة الإِمَام لنوم أَو سبق حدث فَمَا فَاتَهُ من صَلَاة الإِمَام (بعد فرَاغ الإِمَام) فَهُوَ أَدَاء بِاعْتِبَار كَونه فِي الْوَقْت قَضَاء بِاعْتِبَار فَوَاته مَعَ الإِمَام، ثمَّ لما كَانَ أَدَاء بِاعْتِبَار الأَصْل قَضَاء بِاعْتِبَار الْوَصْف جعل أَدَاء شَبِيها بِالْقضَاءِ لَا الْعَكْس (وَلذَا) أَي كَونه فِي معنى الْقَضَاء (لَا يقْرَأ فِيهِ وَلَا يسْجد لسَهْوه وَلَا يتَغَيَّر فَرْضه) من الثنائية إِلَى الرّبَاعِيّة لَو كَانَ مُسَافِرًا (بنية الْإِقَامَة) فِيهِ فِي مَوضِع صَالح لَهَا وَالْوَقْت بَاقٍ لِأَن الْقَضَاء لَا يتَغَيَّر بِالْغَيْر لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على الأَصْل وَهُوَ لم يتَغَيَّر لانقضائه، فَكَذَا مَا فِي معنى الْقَضَاء خلافًا لزفَر فِي هَذَا، هَذَا كُله فِي حق الله تَعَالَى (و) أما (فِي حُقُوق الْعباد) فالكامل مِثَاله (رد عين الْمَغْصُوب سالما) أَي على الْوَجْه الَّذِي غصبه (و) الْقَاصِر مِثَاله (رده) أَي عين الْمَغْصُوب (مَشْغُولًا بِجِنَايَة) لَزِمت فِي يَد الْغَاصِب يسْتَحق بهَا رقبته أَو طرفه أَو بدين استهلاكه مَال إِنْسَان فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَقع الرَّد على الْوَجْه الَّذِي غصبه، ولكونه أَدَاء لَو هلك فِي يَد الْمَالِك قبل الدّفع إِلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ أَو البيع فِي الدّين برِئ الْغَاصِب، ولقصوره إِذا دفع أَو قتل بذلك السَّبَب أَو بيع فِي ذَلِك الدّين رَجَعَ الْمَالِك على الْغَاصِب بِالْقيمَةِ كَأَن الرَّد لم يُوجد (و) مَا فِي معنى الْقَضَاء مِثَاله (تَسْلِيم عب د غَيره الْمُسَمّى مهْرا بعد شِرَائِهِ) لزوجته الَّتِي سَمَّاهُ لَهَا مهْرا: فكونه أَدَاء لكَونه عين الْمُسَمّى مهْرا (فتجبر) الزَّوْجَة (عَلَيْهِ) أَي على قبُوله كَمَا لَو كَانَ فِي ملك عِنْد العقد وَلَا يملك الزَّوْج منعهَا مِنْهُ (وَيُشبه الْقَضَاء لِأَنَّهُ) أَي الزَّوْج (بعد الشِّرَاء ملكه حَتَّى نفذ عتقه) وَبيعه وَغَيرهمَا من التَّصَرُّفَات فِيهِ (مِنْهُ) أَي الزَّوْج (لَا مِنْهَا) أَي الزَّوْجَة، لِأَن تبدل الْملك بِمَنْزِلَة تبدل الْعين شرعا فَإِنَّهُ صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أكل من لحم تصدق بِهِ على بَرِيرَة، وَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة وَمِنْهَا لنا هَدِيَّة (و) قسموا (الْقَضَاء إِلَى مَا) أَي قَضَاء (بِمثل مَعْقُول، و) بِمثل (غير مَعْقُول كَالصَّوْمِ للصَّوْم والفدية لَهُ) أَي للصَّوْم، وَهِي الصَّدَقَة بِنصْف صَاع من بر أَو صَاع من شعير أَو تمر بَدَلا عَنهُ عِنْد(2/203)
الْعَجز المستدام مِنْهُ: فَالْأول مِثَال الْمَعْقُول، وَالثَّانِي مِثَال غير الْمَعْقُول (وَمَا) أَي وَإِلَى قَضَاء (يشبه الْأَدَاء كقضاء تَكْبِيرَات الْعِيد فِي الرُّكُوع) عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد إِذا أدْرك الإِمَام وَخَافَ أَن يرفع رَأسه مِنْهُ لَو اشْتغل بهَا فَكبر للافتتاح ثمَّ للرُّكُوع ثمَّ أَتَى فِيهِ بهَا (خلافًا لأبي يُوسُف) حَيْثُ قَالَ: لَا يَأْتِي بهَا فِيهِ لفواتها عِنْد محلهَا، وَهُوَ الْقيام وَعدم قدرته على مثل من عِنْده قربَة فِي الرُّكُوع كَمَا لَو نسي الْفَاتِحَة أَو السُّورَة أَو الْقُنُوت ثمَّ ركع، وَوجه ظَاهر الرِّوَايَة أَن الرُّكُوع لما أشبه الْقيام حَقِيقَة من حَيْثُ بَقَاء الانتصاب والاستواء فِي النّصْف الْأَسْفَل من الْبدن وَحكما لِأَن الْمدْرك المشارك للْإِمَام فِي الرُّكُوع مدرك لتِلْك الرَّكْعَة لم يتَحَقَّق الْفَوات لبَقَاء مَحل الْأَدَاء من وَجه، وَقد شرع مَا هُوَ من جِنْسهَا وَهُوَ تَكْبِيرَة الرُّكُوع فِيمَا لَهُ شبه الْقيام فَإِن الْأَصَح أَن الْإِتْيَان بهَا فِي حَالَة الانحطاط وَهِي محتسبة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من تكبيراتها، وَالتَّكْبِير عبَادَة، وَهِي تثبت بِالشُّبْهَةِ فَكَانَ الِاحْتِيَاط فِي فعلهَا لبَقَاء جِهَة الْأَدَاء بِبَقَاء الْمحل من وَجه بِخِلَاف الْقِرَاءَة والقنوت فَإِن كلا مِنْهُمَا لم يشرع فِيمَا لَهُ شبه الْقيام بِوَجْه ثمَّ لَا يرفع يَدَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ وَوضع الْكَفّ سنتَانِ إِلَّا أَن الرّفْع فَاتَ عَن مَحَله فِي الْجُمْلَة والوضع لم يفت فَكَانَ أولى، هَذَا فِي حق الله تَعَالَى (وَفِي حُقُوق الْعباد ضَمَان الْمَغْصُوب) المثلى من مَكِيل أَو مَوْزُون أَو مَعْدُود مُتَقَارب (بِالْمثلِ صُورَة) ويتبعها الْمَعْنى ضَرُورَة كالحنطة بِالْحِنْطَةِ وَالزَّيْت بالزيت والبيضة بالبيضة قَضَاء كَامِل بِمثل مَعْقُول (ثمَّ) ضَمَانه بِالْمثلِ (معنى بِالْقيمَةِ) بدل من قَوْله بِالْمثلِ معنى (للعجز) عَن الْمثل صُورَة وَمعنى تَعْلِيل للاكتفاء بِالْمثلِ معنى بِالضَّمَانِ، وَذَلِكَ عِنْد انْقِطَاعه بِأَن لَا يُوجد فِي الْأَسْوَاق قَضَاء قَاصِر بِمثل مَعْقُول أما كَونه قَضَاء فَظَاهر، وَأما كَونه قاصرا فلانتفاء الصُّورَة، وَأما كَونه بِمثل مَعْقُول فللمساواة فِي الْمَالِيَّة (وَبِغير مَعْقُول) أَي وَالْقَضَاء بِمثل قَاصِر غير مَعْقُول (ضَمَان النَّفس والأطراف بِالْمَالِ فِي) الْقَتْل وَالْقطع (الْخَطَأ) إِذْ لَا مماثلة بَين شَيْء مِنْهُمَا وَالْمَال صُورَة وَهُوَ ظَاهر، وَلَا معنى لِأَن الْآدَمِيّ مَالك غير مبتذل، وَالْمَال مَمْلُوك متبذل وللقصور لم يشرع إِلَّا عِنْد تعذر الْمثل الْكَامِل الْمَعْقُول وَهُوَ الْقصاص، وَذَلِكَ لعدم قَصده (وَإِعْطَاء قيمَة عبد سَمَّاهُ مهْرا بِغَيْر عينه) قَضَاء يشبه الْأَدَاء (حَتَّى أجبرت) الزَّوْجَة (عَلَيْهَا) أَي على قبُول قيمَة عبد وسط إِذا أَتَاهَا بهَا كَمَا يجْبر على قبُول عبد وسط إِذا أَتَاهَا بِهِ لكَونه عين الْوَاجِب (وَإِن كَانَت) الْقيمَة (قَضَاء لشبهه) أَي هَذَا الْقَضَاء (بِالْأَدَاءِ لمزاحمتها) أَي الْقيمَة (الْمُسَمّى، إِذْ لَا يعرف) هَذَا الْمُسَمّى لجهالته وَصفا (إِلَّا بهَا) أَي بِالْقيمَةِ: إِذْ لَا يُمكن تَعْيِينه بِدُونِهَا ثمَّ هِيَ لَا تتَعَيَّن إِلَّا بالتقويم فَصَارَت الْقيمَة أصلا من هَذَا الْوَجْه مزاحما للمسمى فَأَيّهمَا أَتَى بِهِ يجْبر بِهِ على الْقبُول بِخِلَاف الْمعِين فَإِنَّهُ مَعْلُوم بِدُونِ التَّقْوِيم فَكَانَت قِيمَته قَضَاء مَحْضا فَلم يجْبر عَلَيْهَا عِنْد الْقُدْرَة عَلَيْهِ (وَفِيه)(2/204)
أَي فِي حكم هَذِه المسئلة بِاعْتِبَار تعليلها الْمَذْكُور (نظر) لِأَن الْمُسَمّى مَعْلُوم الْجِنْس مَجْهُول الْوَصْف وَفِي نَظَائِره يعْتَبر الْوسط نظرا إِلَى الْجَانِبَيْنِ، وَبِه ترْتَفع الْجَهَالَة فَيلْزمهُ تَسْلِيم عبد وسط فَلَا نسلم الْمُزَاحمَة الْمَذْكُورَة (وَعَن سبق المماثل صُورَة) وَمعنى فِي التَّضْمِين من حَيْثُ الِاعْتِبَار شرعا على المماثل معنى فَقَط (قَالَ أَبُو حنيفَة فِيمَن قطع) يَد إِنْسَان عمدا (ثمَّ قتل) الْقَاطِع الْمَقْطُوع أَيْضا (عمدا قبل الْبُرْء) أَي برْء الْقطع (للْوَلِيّ كَذَلِك) أَي أَن يقطع يَده ثمَّ يقْتله كَمَا لَهُ أَن يقْتله من غير قطع، إِذْ الأول مثل كَامِل بِاعْتِبَار الصُّورَة وَالْمعْنَى، وَهُوَ إزهاق الرّوح بِخِلَاف الثَّانِي فَإِنَّهُ قَاصِر لفَوَات الصُّورَة فِيهِ والكامل سَابق فِي الِاعْتِبَار غير أَنه لَهُ الِاقْتِصَار لِأَنَّهُ حَقه كَمَا أَن لَهُ الْعَفو، وَقيل هَذَا يَقْتَضِي أَن هَذَا لَو كَانَ بَين صَغِير وكبير هُوَ وليه لم يتَمَكَّن الْكَبِير من الِاقْتِصَار على الْقَتْل عِنْده، لِأَن حق الصَّغِير فِي الْكَامِل وَهُوَ مُمكن (خلافًا لَهما) حَيْثُ قَالَا لَيْسَ لَهُ سوى الْقَتْل (بِنَاء على أَنَّهَا) أَي هَذِه الْأَفْعَال جِنَايَة (وَاحِدَة) معنى عِنْدهمَا وَهِي الْقَتْل (لِأَن بِالْقَتْلِ ظهر أَنه) أَي الْجَانِي (قَصده) أَي بِالْقَتْلِ (بِالْقطعِ) فَصَارَ كَمَا لَو قَتله بضربات يحْتَمل آخرهَا أَن يكون ماحيا لأثر الأول فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر أَن يحكم بِالسّرَايَةِ بعد فَوت الْمحل بِهِ فيضاف الحكم إِلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى - {وَمَا أكل السَّبع إِذا مَا ذكيتم} - جعل التذكية ماحيا أثر جراحه من السَّبع، كَذَا ذكره الشَّارِح وَفِيه مَا فِيهِ (وجنايتان عِنْده) أَي أبي حنفية وهما الْقطع وَالْقَتْل (وَمَا ذكرا) أَي صَاحِبَاه من ظُهُور أَنه قصد الْقَتْل بِالْقطعِ (لَيْسَ بِلَازِم) لجَوَاز حُدُوث دَاعِيَة الْقَتْل بعد الْقطع، بِخِلَاف مَا لَو تخَلّل الْبُرْء بَينهمَا فَإِن الِاتِّفَاق على أَن لَهُ أَن يقطع ثمَّ يقتل لِأَن الأولى قد انْتَهَت وَاسْتقر حكمهَا بالبرء (وَعنهُ) أَي سبق المماثل صُورَة وَمعنى على الْقَاصِر فِي الِاعْتِبَار أَيْضا (قَالَ) أَبُو حنيفَة (لَا يضمن) الْغَاصِب الْمَغْصُوب (الْمثْلِيّ بِالْقيمَةِ إِذا انْقَطع الْمثل) من أَيدي النَّاس (إِلَّا يَوْم الْخُصُومَة) وَالْقَضَاء بهَا (لِأَن التضيق) لوُجُوب أَدَائِهِ الْمثل الْكَامِل الْوَاجِب فِي ذمَّته (بِالْقضَاءِ) بِهِ عَلَيْهِ (فَعنده) أَي الْقَضَاء بِهِ عَلَيْهِ (بتحقق الْعَجز) عَنهُ فيتحول إِلَى الْقَاصِر (بِخِلَاف) الْمَغْصُوب (القيمي) حَيْثُ تجب قِيمَته يَوْم الْغَصْب اتِّفَاقًا (لِأَن وجوب قِيمَته) أَي القيمى (بِأَصْل السَّبَب) الَّذِي هُوَ الْغَصْب (فَيعْتَبر) الْوُجُوب (يَوْم الْغَصْب، وَلأبي يُوسُف) أَنه يجب قيمَة المثلى (يَوْم الْغَصْب لِأَنَّهُ لما الْتحق) المثلى (بِمَا لَا مثل لَهُ بالانقطاع وَجب الْخلف) وَهُوَ الْقيمَة (ووجوبه) أَي الْخلف (بسب الأَصْل) أَي الْمثل صُورَة، وَمعنى (وَهُوَ) أَي سَبَب الأَصْل (الْغَصْب، وَمُحَمّد) قَالَ (الْقيمَة للعجز) عَن الْمثل صُورَة وَمعنى (وَهُوَ) أَي الْعَجز (بالانقطاع فَيعْتَبر يَوْمه) أَي الِانْقِطَاع وَفِي التُّحْفَة الصَّحِيح قَول أبي حنيفَة (وَاتَّفَقُوا) أَي أَصْحَابنَا على (أَن بِإِتْلَاف الْمَنَافِع) للأعيان كاستخدام(2/205)
العَبْد وركوب الدَّابَّة وسكنى الدَّار (لَا ضَمَان لعدم الْمثل الْقَاصِر) لِأَن الْمَنْفَعَة لَا تماثل الْعين صُورَة وَهُوَ ظَاهر، وَلَا معنى لِأَن الْعين مَال مُتَقَوّم، بِخِلَاف الْمَنْفَعَة، لِأَن المَال مَا يصان ويدخر لوقت الضَّرُورَة وَالْحَاجة، وَالْمَنَافِع لَا تبقى بل كَمَا تُوجد تتلاشى، والتقوم الَّذِي هُوَ شَرط الضَّمَان لَا يثبت بِدُونِ الْوُجُود والبقاء (والاتفاق) وَاقع (على نفي الْقَضَاء بالكامل) أَي على أَن الْمَنَافِع لَا تضمن بِمِثْلِهَا فِي الْمَنَافِع، هَذَا على تَقْدِير رفع الِاتِّفَاق، وَأما على تَقْدِير جَرّه فالتقدير والاتفاق الْوَاقِع الخ (لَو وَقع) أَي لَو وجد الْمثل الْكَامِل (كالحجر على كميات مُتَسَاوِيَة) الْحجر كصرد جمع الْحُجْرَة للغرفة: يَعْنِي كإتلاف مَنْفَعَة حجرَة من الْحجر الكائنة على كميات مُتَسَاوِيَة الْمُمَاثلَة مَنَافِعهَا صُورَة وَمعنى فَإِنَّهَا لَا تضمن بِمَنْفَعَة حجرَة أُخْرَى مِنْهَا فَلِأَن لَا تضمن بالأعيان مَعَ أَنه لَا مماثلة بَينهمَا صُورَة وَمعنى أولى، وَلما ذهب الشَّافِعِي إِلَى ضَمَانهَا بِنَاء على أَنَّهَا مَال متقوّم كَالْعَيْنِ بِدَلِيل وُرُود العقد عَلَيْهَا فَأَشَارَ إِلَى دَفعه بقوله (وورود العقد عَلَيْهَا لتحَقّق الْحَاجة) أَي يثبت تقومّها فِي العقد على خلاف الْقيَاس بِقِيَام الْعين مقَامهَا لضَرُورَة حَاجَة النَّاس إِلَى عقد الْإِجَارَة وَخلاف الْقيَاس مقتصر على قدر الضَّرُورَة فَإِن قيل الْحَاجة ماسة إِلَى ضَمَانهَا أَيْضا لِأَن فِي القَوْل بِعَدَمِ وُجُوبه انفتاح بَاب الظُّلم قُلْنَا نهى الشَّارِع يَدْفَعهُ (وَلم ينْحَصر دَفعهَا) أَي حَاجَة دفع الْعدوان (فِي التَّضْمِين بل الضَّرْب وَالْحَبْس أدفَع) للعدوان من التَّضْمِين وَنحن أوجبناهما أَو أَحدهمَا على المتعدّي، وَفِي الْمُجْتَبى وأصحابنا الْمُتَأَخّرُونَ يفتون بقول الشَّافِعِي فِي المسبلات والأوقاف وأموال الْيَتَامَى ويوجبون أجر مَنَافِعهَا على الغصبة، وَفِي الْفَتَاوَى وَغَيرهَا مَنَافِع الْعقار الْمَوْقُوفَة مَضْمُونَة سَوَاء كَانَ معدّا للِاسْتِغْلَال أَو لَا بِكُل حَال، وَحكى بَعضهم الْإِجْمَاع على هَذَا وَسَيذكر فِي كَلَام المُصَنّف مَا يُؤَيّد هَذَا (و) لَا يضمن (الْقصاص بقتل الْمُسْتَحق عَلَيْهِ) الْقصاص بقصاص ولادية (وَلَا) يضمن أَيْضا (ملك النِّكَاح بِشَهَادَة الطَّلَاق بعد الدُّخُول إِذا رجعُوا) أَي الشُّهُود بِالطَّلَاق بِشَيْء (خلافًا للشَّافِعِيّ فيهمَا) أَي فِي هَاتين المسئلتين إِذْ عِنْده الْقَاتِل يضمن الدِّيَة لِأَن الْقصاص ملك متقوّم للوليّ. وَقد أتلف ذَلِك عَلَيْهِ بقتْله فَيضمن، وَالشُّهُود يضمنُون للزَّوْج مهر الْمثل، لِأَن ملك النِّكَاح متقوّم على الزَّوْج ثبوتا فَيكون متقوّما عَلَيْهِ زوالا، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يضمن الْقصاص بِالدِّيَةِ وَملك النِّكَاح بعد الدُّخُول بِالْمهْرِ (لِأَن الدِّيَة وَمهر الْمثل لَا يماثلانهما) أَي الْقصاص وَملك النِّكَاح صُورَة وَهُوَ ظَاهر، وَلَا معنى لِأَن الْمَقْصُود من الْقصاص الانتقام والتشفي بإعدام الْحَيَاة، وَمن ملك النِّكَاح السكن والازدواج وإبقاء النَّسْل فَلَيْسَ بِمَال متقوّم (والتقوّم) بِالْمَالِ فِي بَاب الْقَتْل وَملك النِّكَاح (شَرْعِي للزجر) كَمَا فِي قتل الْأَب ابْنه عمدا (أَو الْجَبْر) كَمَا فِي قتل الْخَطَأ (وللخطر) أَي لشرف الْمحل فيهمَا أَيْضا صِيَانة للدم عَن الهدر(2/206)
ولشرف بضع الْمَرْأَة حَالَة ثُبُوته تَعْظِيمًا لَهُ احْتِرَازًا عَن ملكه مجَّانا للنسل (لَا للتقوّم المالي) وَفِي تَهْذِيب الْبَغَوِيّ الْقَاتِل لَا يضمن الدِّيَة كمذهبنا.
الْقسم الثَّانِي
(كَون الْوَقْت سَببا للْوُجُوب مُسَاوِيا للْوَاجِب) بِأَن يُوجد بِإِزَاءِ كل جُزْء من الْوَقْت جُزْء من الْوَاجِب (وكل مُؤَقّت فالوقت شَرط أَدَائِهِ) إِذْ لَا يتَحَقَّق بِدُونِهِ وَهُوَ غير مُؤثر فِي وجوده. وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يذكر هَذَا عِنْد تَقْسِيم الْوَاجِب إِلَى الموقت وَغَيره، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بَيَان كَون هَذَا الْقسم جَامعا للأوصاف الثَّلَاثَة (ويسمونه) أَي الْحَنَفِيَّة هَذَا الْوَقْت (معيارا) لتقديره الْوَاجِب إِذْ يزْدَاد بِزِيَادَتِهِ وَينْقص بنقصه فَيعلم بِهِ مِقْدَاره كَمَا يعرف مقادير الموزونات بالمعيار (وَهُوَ رَمَضَان عين شرعا لفرض الصَّوْم، فَانْتفى شَرْعِيَّة غَيره من الصّيام فِيهِ فَلم يشرطوا) أَي الْحَنَفِيَّة (نِيَّة التَّعْيِين) أَي تعْيين كَونه الصَّوْم الْفَرْض عِنْد الْعَزْم على أَدَائِهِ (فأصيب) صَوْم رَمَضَان (بنية مباينة) لنِيَّة صَوْم رَمَضَان ومباينتها بِاعْتِبَار متعلقها وَهُوَ المنويّ (كالنذر وَالْكَفَّارَة بِنَاء على لَغْو الْجِهَة) الَّتِي عينهَا الناوي لِأَن تعْيين الشَّارِع الْوَقْت لرمضان لَا يخلي لما عينه العَبْد اعْتِبَارا فَيلْغُو (فيقى) الصَّوْم (الْمُطلق) بعد طرح خُصُوصِيَّة النفلية وَالْكَفَّارَة (وَبِه) أَي بالمطلق (يصاب) الصَّوْم الْفَرْض الرمضاني أَدَاء (كالأخص) مثل (زيد يصاب بالأعم) مثل (إِنْسَان) وَمعنى مصابية زيد بالإنسان أَنه إِذا قَالَ الْمُتَكَلّم رَأَيْت إنْسَانا مثلا وَفِي نفس الْأَمر نِيَّة زيد يكون مصداق هَذَا الحكم وَمحله خُصُوصِيَّة زيد. وَإِن كَانَ آلَة مُلَاحظَة مُتَعَلق الرُّؤْيَة ذَلِك الْمَفْهُوم الْكُلِّي، وَلَا شكّ أَن الْكُلِّي من حَيْثُ هُوَ كلي لَا يصلح لِأَن يصير طرفا لنسبة خارجية فالمتكلم والمخاطب يعلمَانِ إِجْمَالا أَن طرفها فِي نفس الْأَمر فَرد مِنْهُ. وَإِذا انحصر تحَققه بِاعْتِبَار تِلْكَ النِّسْبَة فِي خُصُوص فَرد يصير ذَلِك الْكُلِّي فِي نفس الْأَمر عبارَة عَنهُ ضَرُورَة، وَلذَلِك تحكم بِأَنَّهُ رَأْي زيدا إِذا لم يكن هُنَاكَ غَيره (وَالْجُمْهُور على نَفْيه) أَي نفي وُقُوعه عَن رَمَضَان بِهَذِهِ النِّيَّة (وَهُوَ) أَي نفي وُقُوعه عَنهُ (الْحق، لِأَن نفي شَرْعِيَّة غَيره) أَي غير صَوْم رَمَضَان (إِنَّمَا يُوجب نفي صِحَّته) أَي الْغَيْر (إِذا نَوَاه وَنفى صِحَة مَا نَوَاه من الْغَيْر لَا يُوجب وجود نِيَّة مَا يَصح) أَن يَنْوِي، يَعْنِي فرض رَمَضَان (وَهُوَ) أَي وَالْحَال أَن الناوي (يُنَادي) وَيَقُول (لم أرده) لِأَن تعين غَيره فِي النِّيَّة تنصيص على نفي إِرَادَته (بل لَو ثَبت) وُقُوعه عَن فرض رَمَضَان بِهَذِهِ النِّيَّة (كَانَ) وُقُوعه (جبرا) وَهُوَ يُنَافِي الصِّحَّة إِذْ لَا بدّ من أَدَاء الْفَرْض من الِاخْتِيَار. وَلَيْسَ إِصَابَة الْأَخَص بالأعم بمجرّد إِرَادَة الْأَعَمّ، لِأَن الْمَطْلُوب(2/207)
إِصَابَة الْأَخَص من حَيْثُ هُوَ أخص بِاعْتِبَار النِّيَّة وَالْقَصْد وَلم يحصل. وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وإصابة الْأَخَص بالأعم) إِنَّمَا يكون (بإرادته) أَي الْأَخَص (بِهِ) أَي بالأعم (ونقول لَو أَرَادَ نِيَّة صَوْم الْفَرْض للصَّوْم) أَي لَو قصد نِيَّة الصَّوْم الْمُطلق فِي الذّكر نِيَّة صَوْم الْفَرْض (صَحَّ) صَوْمه عَن رَمَضَان (لِأَنَّهُ) أَي الناوي (أَرَادَهُ) أَي نَوَاه لِأَن الْمُعْتَبر فِي النِّيَّة قصد الْقلب. وَقد تحقق (وارتفع الْخلاف، وَأما كَون التَّعْيِين) أَي تعْيين الْوَقْت الَّذِي هُوَ رَمَضَان لصومه شرعا (يُوجب الْإِصَابَة) أَي إِصَابَة فرض رَمَضَان بالإمساك (بِلَا نِيَّة) أَي بِلَا إِرَادَة صَوْم (كَرِوَايَة عَن زفر) أَي كَمَا روى عَنهُ. قَالَ الشَّارِح وَذكره النَّوَوِيّ عَن عَطاء وَمُجاهد أَيْضا (فَعجب) لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يتَّجه لَو لم يكن الِاخْتِيَار شرطا لصِحَّة الْفِعْل الْمَطْلُوب من الْمُكَلف شرعا، لكنه شَرط بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع، وَأنكر الْكَرْخِي حِكَايَة هَذَا عَن زفر. وَقَالَ: إِنَّمَا قَالَ زفر أَنه يجوز بنية وَاحِدَة (وَاسْتثنى أَبُو حنيفَة) من وُقُوع نِيَّة غير رَمَضَان عَن رَمَضَان (نِيَّة الْمُسَافِر غَيره) أَي غير رَمَضَان فِي رَمَضَان بِأَن يَنْوِي وَاجِبا آخر من نذر أَو كَفَّارَة أَو قَضَاء فَقَالَ (يَقع) ذَلِك المنويّ (عَن الْغَيْر) بانفاق الرِّوَايَات عَنهُ ذكره فِي الْأَجْنَاس (لإِثْبَات الشَّارِع التَّرَخُّص لَهُ) أَي الْمُسَافِر بترك الصَّوْم فِي وقته الْمعِين لَهُ تَخْفِيفًا لمَشَقَّة السّفر (وَهُوَ) أَي التَّرَخُّص إِنَّمَا يتَحَقَّق (فِي الْميل إِلَى الأخف) عِنْده من مَشْرُوع الْوَقْت وَغَيره من الْوَاجِبَات، وَمن الْفطر (وَهُوَ) أَي الأخف (صَوْم الْوَاجِب المغاير) لمشروع الْوَقْت فَإِنَّهُ إِذا اخْتَارَهُ بِنَاء على أَن إِسْقَاطه من ذمَّته أهمّ عِنْده لِأَنَّهُ لَو لم يدْرك عدّة من أَيَّام أخر لم يُؤَاخذ بِفَرْض الْوَقْت ويؤاخذ بذلك الْوَاجِب، ومصلحة الدّين أهم من مصلحَة الْبدن: يَعْنِي كَونه أخف (وعَلى هَذَا) التَّوْجِيه (يَقع) المنويّ (بنية النَّفْل عَن رَمَضَان) إِذْ لَا ترخص لَهُ فِيهِ، لِأَن الْفَائِدَة الْمَطْلُوبَة وَهُوَ الثَّوَاب فِي الْفَرْض أَكثر فَكَانَ هَذَا ميلًا إِلَى الأثقل فَيلْغُو وصف النفلية وَيبقى مُطلق الصَّوْم فَيَقَع عَن فرض الْوَقْت (وَهُوَ رِوَايَة) لِابْنِ سَمَّاعَة (عَنهُ) أَي أبي حنيفَة. وَفِي الْكَشْف وَغَيره وَهُوَ الْأَصَح، وَفِي نَوَادِر أبي يُوسُف رِوَايَة عَن ابْن سَمَّاعَة يكون عَن التطوّع. وَكَذَا فِي مُخْتَصر الْكَرْخِي (وَلِأَن انْتِفَاء غَيره) أَي غير فرض الْوَقْت لَيْسَ حكم الْوُجُوب، فَإِن الْوُجُوب مَوْجُود فِي الْوَاجِب الموسع بل هُوَ (حكم التَّعْيِين) أَي تعْيين هَذَا الزَّمَان لأَدَاء الْفَرْض (وَلَا تعْيين عَلَيْهِ) أَي الْمُسَافِر فَصَارَ هَذَا الْوَقْت فِي حَقه (كشعبان فَيصح نفله) كَمَا يَصح وَاجِب آخر عَلَيْهِ كَمَا فِي شعْبَان، وَقَوله وَلِأَن إِلَى آخِره مَعْطُوف على قَوْله لإِثْبَات الشَّارِع فَهُوَ تَعْلِيل آخر لوُقُوع مَا نَوَاه الْمُسَافِر من غير رَمَضَان، وَإِن اخْتلفَا بِاعْتِبَار مَا يتَفَرَّع عَلَيْهِمَا من وُقُوع مَا نَوَاه بِوَصْف النفلية عَن رَمَضَان أَو النَّفْل (وَهُوَ رِوَايَة) لِلْحسنِ عَن أبي حنيفَة أَيْضا (وَهُوَ(2/208)
أَي هَذَا التَّوْجِيه (مغلطة لِأَن التَّعْيِين عَلَيْهِ) أَي الْمُكَلف: يَعْنِي التَّعْيِين الَّذِي نَفَاهُ عَن الْمُسَافِر بقوله وَلَا تعْيين عَلَيْهِ كشعبان (لَيْسَ تعْيين الْوَقْت) على مَا سنفسره (ليندرج) تعْيين الْوَقْت (فِيهِ) أَي فِي نفي مَا نفيناه: يَعْنِي لَو كَانَ تعْيين الْوَقْت مِمَّا نفيناه لَكَانَ يَشْمَلهُ النَّفْي (وينتفي بانتفائه) لكنه لَيْسَ مِنْهُ، ثمَّ فسرهما على وَجه يُمَيّز أَحدهمَا عَن الآخر بقوله (بل مَعْنَاهُ) أَي التَّعْيِين الَّذِي أَثْبَتْنَاهُ (فِي حَقه) أَي الْمُكَلف إِن لم يكن مُسَافِرًا، ونفيناه عَنهُ إِن كَانَ مُسَافِرًا (إِلْزَامه صَوْم الْوَقْت) على وَجه لَا مخلص لَهُ عَنهُ إِن لم يكن مُسَافِرًا أَو مَرِيضا (وَعَدَمه) أَي عدم إِلْزَامه إِيَّاه الَّذِي شرع فِي حَقه عِنْد السّفر (يصدق بتجويز الْفطر) يَعْنِي عدم الْإِلْزَام الْمَذْكُور يتَحَقَّق بِمُجَرَّد تجويزنا لَهُ الْفطر من غير أَن نجوز لَهُ صوما آخر (وَتَعْيِين الْوَقْت) أَي نَفينَا عَن التَّعْيِين الْمَذْكُور مَعْنَاهُ (أَن لَا يَصح فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت (صَوْم آخر) وَلَا شكّ أَن إِلْزَام صَوْم الْوَقْت مُسْتَلْزم عدم صِحَة صَوْم آخر من غير عكس: إِذْ يجوز أَن لَا يجوز فِي الْوَقْت صَوْم آخر وَيجوز الْفطر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَجَاز اجْتِمَاع عدم التَّعْيِين) بِمَعْنى الْإِلْزَام الْمَذْكُور (عَلَيْهِ بتجويز الْفطر مَعَ) وجود (تعْيين الْوَقْت بِأَن لَا يَصح فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت (صَوْم غَيره) أَي غير فرض الْوَقْت (لَو صَامَهُ) أَي لَو نوى صِيَام ذَلِك الْغَيْر (فَلم يلْزم من نفي التَّعْيِين عَلَيْهِ) بِمَعْنى الْإِلْزَام (نفي تعْيين الْوَقْت) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (وحقق فِي الْمَرِيض تَفْصِيل بَين أَن يضرّه) الصَّوْم ككون مَرضه حمى مطبقة، أَو وجع الرَّأْس، أَو الْعين: كَذَا ذكره الشَّارِح (فَتعلق الرُّخْصَة) بتجويز الْفطر فِي حَقه (بخوف الزِّيَادَة) للمرض (فكالمسافر) فَهَذَا الْمَرِيض كالمسافر فِي تعلق الرُّخْصَة فِي حَقه بعجز مُقَدّر لَا بِحَقِيقَة الْعَجز، وَفِي قوع صَوْمه عَمَّا نَوَاه. قَالَ الشَّارِح: وعَلى هَذَا يحمل مَا مَشى عَلَيْهِ صَاحب الْهِدَايَة وَأكْثر مَشَايِخ بُخَارى من أَن الْمَرِيض إِذا نوى وَاجِبا آخر أَو النَّفْل يَقع عَمَّا نَوَاه كَمَا هُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة (و) بَين (أَن لَا) يضرّهُ الصَّوْم (كفساد الهضم) والأمراض الرطوبية (فبحقيقتها) أَي فَتعلق الرُّخْصَة بِحَقِيقَة الْمَشَقَّة الَّتِي هِيَ الْعَجز (فَيَقَع) مَا نَوَاه هَذَا الْمَرِيض من الْغَيْر (عَن فرض الْوَقْت) إِذْ لم يهْلك بِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يظْهر أَنه لم يكن عَاجِزا فَلم يثبت لَهُ التَّرَخُّص فَكَانَ كَالصَّحِيحِ، هَذَا وَنقل الشَّارِح إِجْمَاع من يعتدّ بإجماعه على أَن الْمَرَض الْمُبِيح للفطر مَا يضر بِسَبَبِهِ الصَّوْم على اخْتِلَاف فِيهِ، وَأَدْنَاهُ الازدياد والامتداد، وَأَعلاهُ الْهَلَاك، فَالَّذِي لَا يضرّ بِسَبَبِهِ الصَّوْم لَا يُبِيح الْفطر إِجْمَاعًا.(2/209)
الْقسم الثَّالِث
من أَقسَام الْوَاجِب الْمُقَيد بِالْوَقْتِ وَاجِب، وَفِيه (معيار لَا سَبَب كالنذر الْمعِين) أَي نذر صَوْم يَوْم معِين فَإِن السَّبَب فِيهِ النّذر لَا الْوَقْت (فإدراج) النّذر (الْمُطلق وَالْكَفَّارَة وَالْقَضَاء فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْقسم كَمَا فعل الْبَزْدَوِيّ والسرخسي (غير صَحِيح، لِأَن الْأَمر فِيهَا مُطلق لَا مُقَيّد بِالْوَقْتِ فَلَا يشْتَرط نِيَّة التَّعْيِين) لَهُ فالخروج عَن عُهْدَة النّذر (للتعين) أَي لتعيين الْوَقْت لَهُ (شرعا) فيتأدّى بِمُطلق النِّيَّة، وَنِيَّة النَّفْل إِلَّا فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله على مَا فِي الْمُحِيط وَلَا يتأدّى بنية وَاجِب آخر، بل يَقع فِيهِ عَمَّا نوى بِلَا خلاف، بِخِلَاف رَمَضَان لِأَن ولَايَة العَبْد قَاصِرَة فَلهُ إبِْطَال مَاله وَهُوَ صلاحيته للنفل، وَلَيْسَ لَهُ إبِْطَال مَا عَلَيْهِ وَهُوَ صلاحيته للواجبات وَللَّه تَعَالَى الْولَايَة الْكَامِلَة فَلهُ إبِْطَال مَا للْعَبد وَمَا عَلَيْهِ، فَأبْطل صلاحيته لغير فرض رَمَضَان نفلا وواجبا. وَفِي الشَّرْح هَهُنَا مناقشات وأجوبة طويناها (بِخِلَاف مَا أدرجوه) من النّذر الْمُطلق وَالْكَفَّارَة وَالْقَضَاء فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من التَّعْيِين لَيْلًا قبل طُلُوع الْفجْر لعدم تعين الزَّمَان.
الْقسم الرَّابِع
من أَقسَام الْوَاجِب الْمَذْكُور وَاجِب وقته (ذُو شبهين) شبه (بالمعيار والظرف) أَي وَشبه بالظرف، وَهُوَ (وَقت الْحَج لَا يسع فِي عَام سوى) حج (وَاحِد) فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة يشبه المعيار كالنهار للصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يسع إِلَّا صوما وَاحِدًا (وَلَا يسْتَغْرق فعله) أَي الْحَج (وقته) أَي جَمِيع أَجزَاء وقته كاستغراق الصَّوْم النَّهَار، وَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة يشبه الظّرْف (وَالْخلاف فِي تَعْيِينه) أَي تعْيين وجوب أَدَائِهِ (من أول سني الْإِمْكَان) أَي إِمْكَان أَدَائِهِ بِحُصُول شَرَائِط وجوب أَدَائِهِ من الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَغَيرهمَا (عِنْد أبي يُوسُف) فَيجب على الْفَوْر عِنْده، وَكَذَا عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله، كَذَا ذكره الشَّارِح. وَكَأن المُصَنّف رَحمَه الله لم يجد نقلا صَرِيحًا عَنهُ فَلهَذَا لم يعز إِلَيْهِ (خلافًا لمُحَمد) رَحمَه الله حَيْثُ قَالَ: يجب على التَّرَاخِي إِلَّا إِذا غلب على ظَنّه الْفَوات إِذا أخر، فَحِينَئِذٍ لَا يحل لَهُ التَّأْخِير وَيصير مضيقا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْخلاف مَبْنِيا على اخْتِلَافهمَا وَأَن الْأَمر الْمُطلق عَن الْوَقْت يُوجب الْفَوْر عِنْد أبي يُوسُف فَأوجب الْحَج مضيقا وَلَا يُوجِبهُ عِنْد مُحَمَّد فأوجبه موسعا كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض الْمَشَايِخ كالكرخي فَإِن الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة الْمَشَايِخ اتِّفَاقهمَا على أَن الْأَمر الْمُطلق لَا يُوجب الْفَوْر، بل الْخلاف بَينهمَا فِي الْحَج (ابتدائي) فَأَبُو يُوسُف قَالَ على الْفَوْر (للِاحْتِيَاط عِنْده) لِأَن الْعَام الأول مَوْجُود يَقِينا، وَالْعَام الثَّانِي وجوده مَشْكُوك فِيهِ فالتأخير يَجعله فِي معرض الْفَوات، وَهُوَ غير جَائِز، ثمَّ أكد هَذَا(2/210)
الشَّك بقوله (لِأَن الْمَوْت فِي سنة غير نَادِر) والمشكوك لَا يزاحم الْمُتَيَقن فَيتَعَيَّن الْعَام الأول للْأَدَاء تَحَرُّزًا عَن الْفَوات (فيأثم) بِالتَّأْخِيرِ عَنهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن للِاحْتِيَاط (فموجبه) أَي الْحَج أَمر (مُطلق) عَن خُصُوصِيَّة الْوَقْت فَلَا مُوجب للفور (وَلذَا) أَي الِاحْتِيَاط (عِنْده اتفقَا) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد (على أَنه لَو فعل) الْحَج (بعده) أَي أول سني الْإِمْكَان (وَقع أَدَاء) وَإِنَّمَا قُلْنَا لتعيينه للْأَدَاء بِلَا شكّ فِي إِدْرَاك الْعَام الثَّانِي لَا لِأَنَّهُ خَارج عَن وقته فَإِذا أدْرك زَالَ الشَّك وَحصل الْيَقِين بِكَوْنِهِ من عمره وَوَقع الْأَمْن من الْفَوات وَتعين الثَّانِي للْأَدَاء، وَكَذَا الحكم فِي كل عَام (وتأدى فَرْضه) أَي الْحَج (بِإِطْلَاق النِّيَّة) لِلْحَجِّ (لظَاهِر الْحَال) أَي حَال من يجب عَلَيْهِ الْحَج: إِذْ الظَّاهِر مِنْهُ أَنه لَا يتَحَمَّل المشاق الْكَثِيرَة لغيره مَعَ شغل ذمَّته بِالْفَرْضِ الرُّكْن فِي الْإِسْلَام، وَكَثْرَة ثَوَاب أَدَاء الْفَرْض، وَبَرَاءَة الذِّمَّة، وَلَيْسَ التأدى الْمَذْكُور لتعين الْوَقْت كَمَا فِي رَمَضَان (لَا من حكم الأشكال) إِمَّا جمع شكل بِمَعْنى الْمثل والشبيه، وَإِمَّا مصدر، يُقَال أشكل الْأَمر: أَي الْتبس، وَالْمعْنَى لِأَن تأديه بِمُطلق النِّيَّة من حكم كَون الْوَقْت شَبِيها بالظرف وبالمعيار، فباعتبار شبهه بالمعيار تأدى بالمطلق (وَلذَا) أَي وَلكَون التأدى بِهِ لظَاهِر الْحَال (يَقع) حجه (عَن النَّفْل إِذا نَوَاه) أَي النَّفْل (لانْتِفَاء الظَّاهِر) بالتصريح بِخِلَافِهِ، (وَقد يبنيان) أَي تأدى فَرْضه بِمُطلق النِّيَّة، ووقوعه عَن النَّفْل إِذا نَوَاه (على الشبهين) شبه المعيار، وَشبه الظّرْف (فَالْأول) أَي التأدي الْمَذْكُور (لشبه المعيار) كَمَا أَن فرض الصَّوْم يتَأَدَّى بالمطلق (وَالنَّفْل) أَي ووقوعه عَن النَّفْل (للظرف) أَي لشبه الظّرْف كوقوع الْمَنوِي عَن الصَّلَاة النَّافِلَة إِذا نَوَاهَا فِي وَقت الصَّلَاة (وَلَا يخفى عدم وُرُود الدَّلِيل، وَهُوَ ظَاهر الْحَال على الدَّعْوَى) وَهِي (تأديه بنية الْمُطلق) بِإِسْقَاط الْفَرْض عَن ذمَّته (وَإِنَّمَا يسْتَلْزم) الدَّلِيل الْمَذْكُور (حكم الْخَارِج) أَي غير الناوي لِخُرُوجِهِ عَن دَائِرَة الِاطِّلَاع على مَا فِي ضَمِيره (عَلَيْهِ) أَي الْخَارِج الناوي مُطلقًا مُتَعَلق بالحكم (بِأَنَّهُ) أَي الْخَارِج (نوى الْفَرْض لَا) أَنه يسْتَلْزم (سُقُوطه) أَي الْفَرْض (عَنهُ) أَي الْخَارِج (عِنْد الله إِذا نوى الْحَج مُطلقًا فِي الْوَاقِع) وَلَيْسَ الْكَلَام إِلَّا فِي هَذَا.
مَبْحَث الْوَاجِب الْمُخَير
(مسئلة: الْأَمر بِوَاحِد) أَي إِيجَاب وَاحِد مُبْهَم (من أُمُور مَعْلُومَة صَحِيح) عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء والأشاعرة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَيعرف بِالْوَاجِبِ الْمُخَير (كخصال الْكَفَّارَة) أَي كَفَّارَة الْيَمين فَإِن قَوْله تَعَالَى - {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - فِي قُوَّة الْأَمر بِالْإِطْعَامِ(2/211)
وَقد عطف عَلَيْهِ الْكسْوَة والتحرير فَكل وَاحِد مِنْهَا وَاجِب على الْبَدَل لَا الْجمع على مَا يَقْتَضِيهِ كلمة أَو (وَقيل) وَالْقَائِل بعض الْمُعْتَزلَة هُوَ (أَمر بِالْجَمِيعِ وَيسْقط) وجوب الْجَمِيع (بِفعل الْبَعْض، وَقيل) وَالْقَائِل مِنْهُم أَيْضا أَمر (بِوَاحِد معِين عِنْده تَعَالَى) دون الْمُكَلّفين (وَهُوَ) أَي الْوَاحِد الْمعِين (مَا يَفْعَله كل) من الْمُكَلّفين بِهِ (فيختلف) الْمَأْمُور بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم ضَرُورَة أَن الْوَاجِب فِي حق كل وَاحِد مَا يختاره وَهُوَ يخْتَلف (وَقيل لَا يخْتَلف) الْمَأْمُور بِهِ باخْتلَاف الْمَفْعُول لَهُم (وَيسْقط) ذَلِك الْوَاجِب الْمعِين (بِهِ) أَي بالإتيان بالمأمور بِهِ (و) بالإتيان (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا، وَيُسمى هَذَا قَول التزاحم، لِأَن الأشاعرة ترويه عَن الْمُعْتَزلَة والمعتزلة عَن الأشاعرة، فاتفق الْفَرِيقَانِ على فَسَاده، وَعَن السُّبْكِيّ أَنه لَا يسوغ نَقله عَن أَحدهمَا. وَقَالَ وَالِده لم يقل بِهِ قَائِل (وَنقل) وجوب (الْجَمِيع على الْبَدَل لَا يعرف وَلَا معنى لَهُ إِلَّا أَن يكون) مَعْنَاهُ هُوَ الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) بِنَاء على اعترافهم بِأَن تاركها جَمِيعًا لَا يَأْثَم إِثْم من ترك وَاجِبَات ومقيمها جَمِيعًا لم يثب ثَوَاب وَاجِبَات (لنا الْقطع بِصِحَّة أوجبت أحد هَذِه) الْأُمُور (فَإِنَّهُ) أَي قَوْله هَذَا (لَا يُوجب جَهَالَة مَانِعَة من الِامْتِثَال لحُصُول التَّعْيِين بِالْفِعْلِ) يَعْنِي إِذا اخْتَار وَاحِدًا مِنْهَا بِعَيْنِه فَفعله تعين كَونه الْوَاجِب لتحَقّق الْوَاحِد الْمُبْهم فِي ضمنه، وَعدم احْتِمَال تحَققه بعد ذَلِك فِي ضمن معِين آخر، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَمَا يَفْعَله العَبْد مُتَعَيّن قبل أَن يفعل، ثمَّ أجَاب عَن القَوْل بِأَنَّهُ أَمر بِوَاحِد معِين عِنْده تَعَالَى إِلَى آخِره فَقَالَ (وَتعلق علمه تَعَالَى بِمَا يفعل كل) من الْمُكَلّفين (لَا يُوجِبهُ) أَي مفعول كل (عبنا على فَاعله، بل) يُوجب تعين (مَا يسْقط) بِهِ الْوُجُوب من مفعول كل من الْأُمُور الْمُخَير فِيهَا، على أَن تعلق الْعلم بِمَا ذكر مَخْصُوص بِصُورَة تحقق الْفِعْل امتثالا، وَأما إِذا لم يتَحَقَّق فَمَا الَّذِي يُوجب تعين ذَلِك الْمُبْهم؟ فالدليل لَا يَفِي بِتمَام الْمُدَّعِي، وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه خير فِيهِ الْمُكَلف بَين الْفِعْل وَالتّرْك، وَلَا يتَحَقَّق لأحد هَذِه الْأُمُور إِلَّا فِي ضمن وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه، فَيلْزم أَن يكون الْوَاجِب وَهُوَ أحد هَذِه الْأُمُور خير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك، وَهَذَا يُنَافِي الْوُجُوب أجَاب عَنهُ بقوله (وَلَا يلْزم اتِّحَاد الْوَاجِب والمخير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك، لِأَن الْوَاجِب) إِنَّمَا هُوَ الْوَاحِد (الْمُبْهم) والمخير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك إِنَّمَا هُوَ كل وَاحِد بِعَيْنِه، والمبهم وَإِن لم يكن لَهُ تحقق إِلَّا فِي الْوَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه: لَكِن التَّخْيِير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك لَا يكون تخييرا فِي الْمُبْهم، إِذْ ترك الْوَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه لَا يسْتَلْزم ترك الْكل بِخِلَاف ترك الْمُبْهم فَإِنَّهُ يسْتَلْزم: إِذْ نفي الْأَعَمّ يسْتَلْزم نفي الْأَخَص، ثمَّ لما كَانَ قَوْله الْوَاجِب الْمُبْهم يُوهم أَن يكون بِشَرْط الْإِبْهَام دفع ذَلِك بقوله (لَا على معنى) أَنه الْمُبْهم مأخوذا (بِشَرْط الْإِبْهَام) بل بِمَعْنى أَنه (لَا يُعينهُ الْمُوجب) تَعَالَى بِأَن يطْلب من الْمُكَلف إِيقَاع ذَلِك الْوَاحِد فِي ضمن وَاحِد(2/212)
بِعَيْنِه كَيفَ وَلَو كَانَ مأخوذا بِشَرْط الْإِبْهَام لما كَانَ لَهُ تحقق فِي الْخَارِج لما علم من أَن الْمَاهِيّة بِشَرْط عدم التَّعْيِين لَا يُمكن تحققها، بل الْمُعْتَبر إِنَّمَا هِيَ الْمَاهِيّة لَا بِشَرْط شَيْء (فَلِذَا) أَي لكَون الْمُعْتَبر الْمَاهِيّة الْمُطلقَة لَا بِشَرْط الْإِبْهَام (سقط) الْوَاجِب عَن ذمَّة الْمُكَلف (بالمعين) بالإتيان بِوَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه: إِذْ الْمُطلق فِي ضمن الْفَرد الْخَاص (لتَضَمّنه) أَي الْمعِين (مَفْهُوم الْوَاحِد) الْمُبْهم، ثمَّ على قَول الْجُمْهُور إِذا كَانَ فِي الْكل مَا هُوَ أَعلَى ثَوابًا وَفعل الْكل فَقيل المثاب عَلَيْهِ الْأَعْلَى سَوَاء فعله مُرَتبا أَو مَعًا، وَإِن ترك الْكل عُوقِبَ على أدناها، وَقيل غير ذَلِك أطنب فِيهِ الشَّرْح، وطويناه لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ فِي الْبَحْث.
مسئلة
(الْوَاجِب على) سَبِيل (الْكِفَايَة) وَهُوَ مُهِمّ متحتم قصد حُصُوله من غير نظر إِلَى فَاعله: أما ديني كَصَلَاة الْجِنَازَة، وَأما دُنْيَوِيّ كالصنائع الْمُحْتَاج إِلَيْهَا، فَخرج الْمسنون لِأَنَّهُ غير متحتم، وَفرض الْعين لِأَن فَاعله مَنْظُور أما خُصُوص شخصه كالمفروض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون أمته أَو كل وَاحِد وَاحِد من الْمُكَلّفين (على الْكل، وَيسْقط) الْوُجُوب عَنْهُم (بِفعل الْبَعْض) وَهَذَا قَول الْجُمْهُور، وَالْمرَاد الْكل الإفرادي، وَقيل المجموعي: إِذْ لَو تعين على كل وَاحِد كَانَ سُقُوطه عَن البَاقِينَ بعد تحَققه نسخا، وَلَا نسخ اتِّفَاقًا، بِخِلَاف الْإِيجَاب على الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم الْإِيجَاب على وَاحِد، وَيكون التأثيم على الْجَمِيع بِالذَّاتِ، وعَلى كل وَاحِد بِالْعرضِ وَأجِيب بِمَنْع لُزُوم النّسخ، إِذْ قد يسْقط بعد التحقق بِانْتِفَاء عِلّة الْوُجُوب، فحصول الْمَقْصُود هَهُنَا على أَنه يلْزم النّسخ على هَذَا الْقَائِل أَيْضا، لِأَن فعل الْبَعْض لَيْسَ فعل الْمَجْمُوع قطعا، وَقد سقط عَن الْمَجْمُوع من غير أَن يَقع مِنْهُم الْفِعْل: هَذَا وَنحن لَا نفهم طلب الْفِعْل من الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ إِلَّا فِي مثل حمل جسم عَظِيم لَا يقدر الْبَعْض على حمله، وَمَعَ ذَلِك يلْزم على كل وَاحِد الْمُشَاركَة فِي الْحمل لَا الِاسْتِقْلَال (وَقيل) وَاجِب (على الْبَعْض) وَهُوَ قَول الإِمَام الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيّ ثمَّ الْمُخْتَار على هَذَا أَي بعض كَانَ، إِذْ لَا معِين، فَمن قَامَ بِهِ سقط الْوُجُوب بِفِعْلِهِ وبفعل غَيره كَمَا يسْقط الدّين بأَدَاء غَيره عَنهُ (لنا) على الْمُخْتَار (إِثْم الْكل بِتَرْكِهِ) اتِّفَاقًا، وَلَو لم يجب على كل وَاحِد لما أَثم (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ على الْبَعْض (سقط) الْوُجُوب (بِفعل الْبَعْض) وَلَو كَانَ على الْكل لما سقط: إِذْ لَا يسْقط عَن شخص بِفعل غَيره (قُلْنَا) لَا يستبعد هَذَا (لِأَن الْمَقْصُود وجود الْفِعْل لَا ابتلاء كل مُكَلّف) كَمَا فِي فرض الْعين، وَقد وجد (كسقوط مَا على زيد) من الدّين (بِفعل عَمْرو) لحُصُول الْغَرَض بِهِ، وَقيد الشَّارِح بِمَا إِذا كَانَ زيد ضَامِنا عَنهُ عَمْرو فِيهِ(2/213)
لِأَن فِيهِ أَدَاء مَا فِي ذمَّة الْمُؤَدِّي، وَإِسْقَاط مَا فِي ذمَّة غَيره كَمَا فِي مَحل النزاع.
وَأَنت خَبِير بِأَن الاستبعاد، إِنَّمَا جَاءَ من قبل إِسْقَاط مَا فِي ذمَّة شخص بِفعل غَيره، فَمَا ذكره المُصَنّف كَاف فِي الْمَقْصُود من غير هَذَا الْقَيْد (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ المذكورون لإِثْبَات صِحَة (أَمر وَاحِد مُبْهَم كبواحد مُبْهَم) أَي كالأمر بِوَاحِد مُبْهَم من الْخِصَال الْمَذْكُورَة فَكَمَا جَازَ ذَلِك جَازَ هَذَا (أُجِيب بِأَن الْفرق بِأَن إِثْم) مُكَلّف (مُبْهَم غير مَعْقُول) بِخِلَاف إِثْم الْمُكَلف بترك أحد أُمُور مُعينَة مُبْهما فَإِنَّهُ مَعْقُول: إِذْ ترك الْمُبْهم بترك جَمِيع مَا يتَحَقَّق فِيهِ من الْأُمُور الْمعينَة (قيل) وَالْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَهَذَا إِنَّمَا يَصح لَو لم يكن (مَذْهَبهم) أَي الْقَائِلين بِالْوُجُوب على الْبَعْض أَن مُوجب عدم قيام بعض (إِثْم الْكل) بِسَبَب ترك الْبَعْض (لَكِن قَول قَائِله) أَي الْوُجُوب على الْبَعْض (أَنه) أَي الْإِثْم (يتَعَلَّق بِمن غلب على ظَنّه أَنه) أَي الْوَاجِب (لن يَفْعَله غَيره فَإِن ظَنّه) أَي عدم الْفِعْل (الْكل عمهم) الْإِثْم (وَإِن خص) ظن عدم الْفِعْل الْبَعْض (خصّه) أَي ذَلِك الْبَعْض الظَّان (الْإِثْم) على تَقْدِير التّرْك، وَحِينَئِذٍ (فَالْمَعْنى) الْمُكَلف بِالْوُجُوب بعض (غير معِين وَقت الْخطاب لِأَنَّهُ) أَي الْمُكَلف (لَا يتَعَيَّن) للْوُجُوب عَلَيْهِ (إِلَّا بذلك الظَّن) وَهُوَ ظن أَن لن يَفْعَله غَيره (وَلَو لم يظنّ) هَذَا الظَّن أحد (لَا يَأْثَم أحد، وَيشكل) هَذَا حِينَئِذٍ (بِبُطْلَان معنى الْوُجُوب) فَإِن لَازمه الْإِثْم على تَقْدِير التّرْك، فَإِذا انْتَفَى انْتَفَى الْمَلْزُوم (وَقد يُقَال) فِي الْجَواب عَن هَذَا (إِنَّمَا يبطل) الْوُجُوب (لَو كلف) الْمُكَلف بِالْوَاجِبِ الْمَذْكُور (مُطلقًا) أَي سَوَاء ظن أَن لَا يَفْعَله غَيره أَو لَا (أما) لَو كلف (الظَّان) أَن لن يَفْعَله غَيره فَقَط (فَلَا) يبطل معنى الْوُجُوب: إِذْ لَا تَكْلِيف حِينَئِذٍ فَلَا وجوب (وَالْحق أَنه) أَي القَوْل بِوُجُوبِهِ على الْبَعْض (عدُول عَن مُقْتَضى الدَّلِيل) الدَّال على وُجُوبه على الْكل (كقاتلوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ وَنَحْوه) لعُمُوم الْخطاب على من يَتَأَتَّى مِنْهُ الْقِتَال (بِلَا ملجئ) للعدول عَنهُ (لما حققناه) من أَنه مَا يتَوَهَّم كَونه صارفا من السُّقُوط بِفعل الْبَعْض لَيْسَ بصارف: إِذْ لَا مَحْذُور فِيهِ (قَالُوا) ثَالِثا (قَالَ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} فَإِن تَحْصِيل الْعُلُوم الدِّينِيَّة فَوق مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل أحد مِمَّا يتَعَلَّق بِالْعَمَلِ الْوَاجِب عَلَيْهِ عينا وَاجِب على الْكِفَايَة، وَقد صرح بِوُجُوبِهِ على طَائِفَة غير مُعينَة من كل فرقة من الْمُسلمين بلولا الدَّاخِلَة على الْمَاضِي الدَّالَّة على التنديم واللوم الَّذِي لَا يكون إِلَّا عِنْد ترك الْوَاجِب (قُلْنَا) هَذَا مؤول (بالسقوط بِفِعْلِهَا) أَي الطَّائِفَة من الْفرْقَة: يَعْنِي لما كَانَ قيام الْبَعْض بذلك مسْقطًا عَن الْكل نسب اللوم إِلَى الْبَعْض نظرا إِلَى ذَلِك وَإِن كَانَ الْكل مُسْتَحقّا لَهُ، وَفِي الْعرف يسْتَعْمل فِي توبيخ أهل الْبَلَد جَمِيعًا لم يقم بَعْضكُم بِهَذَا الْأَمر وَيفهم مِنْهُ عرفا لوم الْكل، وَإِنَّمَا صرنا إِلَى التَّأْوِيل (جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ) . وَفِي نُسْخَة جمعا للدليلين: يَعْنِي(2/214)
هَذِه الْآيَة بِاعْتِبَار ظَاهرهَا، وَدَلِيلنَا الدَّال على الْوُجُوب على الْجَمِيع فَإِن هَذِه تحْتَمل التَّأْوِيل بِخِلَاف ذَلِك، فَلَو حملناها على ظَاهرهَا لزم إِلْغَاء ذَلِك وَهُوَ أقوى. (وَاعْلَم أَنه إِذا قيل صَلَاة الْجِنَازَة وَاجِبَة) أَي فرض (على الْكِفَايَة) كَمَا صرح بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وحكوا الْإِجْمَاع عَلَيْهِ (فقد يسْتَشْكل) بسقوطها (بِفعل الصَّبِي) الْمُمَيز كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا الْإِشْكَال (بِمَا تقدم) من أَن الْمَقْصُود الْفِعْل، وَقد وجد (لَا يدْفع الْوَارِد من لفظ الْوُجُوب) يَعْنِي لَو لم يُوصف الْفِعْل بِالْوُجُوب كَذَا نقُول قد تحقق الْفِعْل، وَإِن لم يكن مَوْصُوفا بِالْوُجُوب لكنه ورد فِي الشَّرْع أَن الْمَطْلُوب فعل مَوْصُوف بِهِ، وَفعل الصَّبِي لَيْسَ كَذَلِك فَلم يتَحَقَّق الْمَطْلُوب.
مسئلة
(لَا يجب شَرط التَّكْلِيف) أَي تَحْصِيله (اتِّفَاقًا كتحصيل النّصاب) للتكليف بِوُجُوب الزَّكَاة (والزاد) أَي تَحْصِيله لوُجُوب الْحَج (وَأما مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب) حَال كَونه (سَببا) لَهُ إِمَّا (عقلا) أَي من حَيْثُ الْعقل (كالنظر) أَي تَرْتِيب الْمَعْلُومَة للتأدي إِلَى مَجْهُول فَإِنَّهُ سَبَب (للْعلم) وَالْمرَاد بِهِ الْعلم الْوَاجِب كالتصديق الإيماني (وَفِيه) أَي فِي كَون النّظر سَببا عقليا للْعلم (نظر) إِذْ هُوَ سَبَب عادي لَهُ، فَإِن استعقاب النّظر الْعلم بخلقه تَعَالَى إِجْرَاء الْعَادة عِنْد الْحَنَفِيَّة والأشاعرة (أَو شرعا) استعقاب (كالتلفظ) بِمَا يُفِيد الْعتْق فَإِنَّهُ سَبَب شرعا (لِلْعِتْقِ) الْوَاجِب بِنذر أَو كَفَّارَة أَو غَيرهمَا (أَو عَادَة كَالْأولِ) أَي النّظر للْعلم. وَقد عرفت (وخر الْعُنُق) للْقَتْل الْوَاجِب (أَو) حَال كَونه (شرطا) للْوَاجِب (عقلا كَتَرْكِ الضِّدّ) للْوَاجِب (أَو عَادَة كَغسْل جُزْء من الرَّأْس) لغسل الْوَجْه إِذْ لَا يتَحَقَّق غسل الْوَجْه عَادَة إِلَّا مَعَ غسل جُزْء من الرَّأْس (أَو شرعا) كَالْوضُوءِ للصَّلَاة (فالحنفية وَالْأَكْثَرُونَ) على أَن كل وَاحِد مِمَّا ذكر (وَاجِب بِهِ) أَي بِسَبَب وجوب ذَلِك الْوَاجِب المتوقف عَلَيْهِ (وَقيل) الْوُجُوب فِيمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب مُسلم (فِي الشَّرْط الشَّرْعِيّ فَقَط) لَا فِي غَيره وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب فِيمَا هُوَ مَقْدُور الْمُكَلف (وَقيل) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب لَا يجب بِوُجُوبِهِ سَوَاء كَانَ مَقْدُورًا للمكلف أَولا (لَا فِي الشَّرْط و) لَا فِي (غَيره فيخطآن) أَي هَذَانِ الْقَوْلَانِ (للاتفاق على الْأَسْبَاب) أَي على أَن إِيجَاب الْمُسَبّب إِيجَاب لتَحْصِيل سَببه (إِلَّا أَن يُقَال التَّعَلُّق) للْإِيجَاب إِنَّمَا هُوَ (بهَا) أَي بالأسباب ابْتِدَاء (فَالْأَمْر بِالْقَتْلِ وَالْعِتْق يتَعَلَّق بالحز) للعنق (والتلفظ) بِصِيغَة الْعتْق (ابْتِدَاء) لَا بِنَفْي الْحَيَاة وَلَا بِإِزَالَة الرّقّ (إِذْ لَا تعلق بِغَيْر الْمَقْدُور) إِذْ التَّكْلِيف لَا يكون إِلَّا بِهِ، والمسببات قد لَا تكون مقدورة لنا كهذه بِخِلَاف مُبَاشرَة الْأَسْبَاب فَإِنَّهَا فِي وسع العَبْد ظَاهرا، فالمتعلق للْإِيجَاب حَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ السَّبَب وَإِن كَانَ وَسِيلَة للمسبب، فَهَذَا التَّأْوِيل(2/215)
مخلص عَن التخطئة (وَلَا بُد) فِي قَوْلهم مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وَاجِب (من قيد بِهِ) أَي من اعْتِبَار قيد هُوَ لفظ بِهِ فَالضَّمِير للْوَاجِب: أَي مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وُجُوبه بِسَبَب وجوب ذَلِك الْوَاجِب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر هَذَا الْقَيْد (لزم الْكفْر) قَالَ الشَّارِح لِأَن الْمُتَبَادر من إِطْلَاقه الْوَاجِب لذاته وَهُوَ لَيْسَ إِلَّا رب الْعَالمين مَعَ أَنه لَيْسَ المُرَاد من هَذَا الْإِطْلَاق قطعا انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالْوُجُوب هَهُنَا مَا يُقَابل الْإِمْكَان، بل أحد الْأَحْكَام الْخَمْسَة غير أَنه لَا يظْهر لكَلَام المُصَنّف وَجه آخر (للْأَكْثَر لَو لم يجب) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (بَقِي جَوَاز التّرْك) أَي ترك مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (دَائِما ولازمه) أَي لَازم جَوَاز تَركه دَائِما (جَوَاز ترك مَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ) أَي مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (وَهُوَ) أَي جَوَاز ترك مَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ (منَاف لوُجُوبه) أَي وجوب الْوَاجِب (فِي وَقت مَا) ظرف لوُجُوبه (أَو) لَازمه (جَوَاز فعله) أَي الْوَاجِب الَّذِي هُوَ الْمَشْرُوط (دونه) أَي الشَّرْط (فَمَا فرض شرطا لَيْسَ شرطا) لتحَقّق الْوَاجِب بِدُونِهِ (وَلَا يخفى منع الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم أَنه لَو لم يجب بِهِ نفي جَوَاز التّرْك للشّرط لجَوَاز وُجُوبه بِغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِنَّمَا يجوز التّرْك لَو لم يجب) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (مُطلقًا) وَحِينَئِذٍ لَا يبْقى لَهُ وجوب: لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَيلْزم جَوَاز تَركه دَائِما (واستدلالهم) أَي الْأَكْثَرين (بِالْإِجْمَاع على) وجوب (التَّوَصُّل) إِلَى الْوَاجِب وَلَو لم يجب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ لما وَجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب إِذْ لَا معنى للتوصل إِلَى الْإِتْيَان بِجَمِيعِ مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (فِي غير) مَحل (النزاع لِأَن الْمُوجب حِينَئِذٍ) أَي حِين اسْتدلَّ بِالْإِجْمَاع على أَن الْموصل إِلَى الْوَاجِب وَاجِب (غير مُوجب الأَصْل) الَّذِي هُوَ الْوَاجِب الْأَصْلِيّ فَإِن مُوجبه الْأَمر، وَمُوجب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْإِجْمَاع (وَإِذن لَا حَاجَة للنافي) لوُجُوب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب بإيجابه فِي غير الشَّرْط كَابْن الْحَاجِب وَصَاحب البديع (إِلَى الْجَواب بتخصيص الدَّعْوَى بِغَيْر الْأَسْبَاب) كَمَا فعلاه (واستدلاله) أَي النَّافِي بِأَنَّهُ (لَو وَجب امْتنع التَّصْرِيح بِنَفْي وُجُوبه) للتناقض بَينهمَا، لكنه غير مُمْتَنع للْقطع بِوُجُوب غسل الْوَجْه وَعدم وجوب غسل غَيره من أَجزَاء الرَّأْس (إِن أَرَادَ) بِنَفْي وُجُوبه الَّذِي لَا يمْتَنع التَّصْرِيح بِهِ (نفى وُجُوبه بِهِ) أَي بِإِيجَاب الْوَاجِب (فنفى التَّالِي) وَهُوَ امْتنَاع التَّصْرِيح بِنَفْي وُجُوبه (عين) مَحل (النزاع أَو) نفي وُجُوبه (مُطلقًا نَفينَا الْمُلَازمَة) لجَوَاز وُجُوبه بِشَيْء آخر غير إِيجَاب الْوَاجِب (وَكَذَا قَوْله) أَي النَّافِي (وَصَحَّ قَول الكعبي فِي نفي الْمُبَاح) عطفا على قَوْله امْتنع التَّصْرِيح إِلَى آخِره، وَذَلِكَ لِأَن فعل الْوَاجِب: وَهُوَ ترك الْحَرَام لَا يتم إِلَّا بالمباح فَيجب الْمُبَاح وَهُوَ بَاطِل، وَفِيه أَن قَول الكعبي نفي كل مُبَاح، وَالَّذِي يلْزم هُنَا على تَقْدِير التنزل نفي بعض الْمُبَاح وَهُوَ الَّذِي لَا يتم ترك الْمُبَاح إِلَّا بِهِ عَلَيْهِ منع الْمُلَازمَة، وَكَذَا قَول النَّافِي (وَوَجَب نِيَّة الْمُقدمَة) وَهِي(2/216)
مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب لِأَنَّهَا عبَادَة وَاجِبَة (وَمَعْنَاهُ) أَي وجوب نِيَّة الْمُقدمَة أَنَّهَا تجب فِيهَا (كَمَا لَو وَجب) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (بِغَيْرِهِ) أَي غير إِيجَاب الْوَاجِب (وَإِنَّمَا يلزمان) أَي نفي الْمُبَاح وَوُجُوب نِيَّة الْمُقدمَة (لَو تعين) الْمُبَاح للامتثال (أَو شرع) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (عبَادَة لكنه) أَي الِامْتِثَال (يُمكن بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْمُبَاح كالواجب (ونلتزمه) أَي وجوب النِّيَّة (فِي مُقَدّمَة هِيَ عبَادَة) لَا مُطلقًا (وَكَذَا قَوْله) أَي النَّافِي (لَو كَانَ) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وَاجِبا (لزم تعقله) أَي مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (للْآمِر) لِامْتِنَاع طلب الشَّيْء بِدُونِ تعقله (وَالْقطع) حَاصِل (بنفيه) أَي نفي لُزُوم تعقله، لِأَن الْآمِر بالشَّيْء رُبمَا يذهل عَمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ ذَلِك الشَّيْء عِنْد الْأَمر بِهِ (مَمْنُوع الْمُلَازمَة لِأَنَّهُ) أَي لُزُوم تعقل الْآمِر إِنَّمَا هُوَ (فِي الْوَاجِب أَصَالَة) أما فِي إِيجَاب الشَّيْء بتبعية غَيره فَلَا، وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال: وَهُوَ أَنه لَو وَجب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب بِإِيجَاب الْوَاجِب من غير أَن يتعقله الْآمِر للَزِمَ وُجُوبه بِلَا تعلق الْخطاب أجَاب عَنهُ بقوله (وَلُزُوم الْوُجُوب بِلَا تعلق) الْخطاب بِهِ (مَمْنُوع لما نذْكر) قَرِيبا (فَإِن دفع) منع تعقل الْأَمر (بِأَن المُرَاد) بقوله لَو كَانَ لزم تعقله لَهُ (إِذْ لَو دلّ) دَلِيله عَلَيْهِ (لعقل) وَذَلِكَ لِأَن المُرَاد بقوله لَو كَانَ لوَجَبَ بِهِ ووجوبه بِهِ حَاصله كَونهمَا مفادين بِإِيجَاب وَاحِد فَيلْزم تعقلهما مَعًا من ذَلِك الْإِيجَاب (وَإِذا لم يعقل لم يدل فَلَا إِيجَاب بِهِ) أَي بِدَلِيل الْوَاجِب (ووجوبه) أَي وجوب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر دَلِيل الْوَاجِب (لَيْسَ الْكَلَام فِيهِ) فَقَوله وَلُزُوم الْوَاجِب إِلَى آخِره إبِْطَال للسند الْمسَاوِي للْمَنْع إِذْ لَا يخلص من لُزُوم تعقل الْآمِر إِلَّا بِهِ فَهُوَ إثباب للمقدمة الممنوعة، وَلذَا أورد عَلَيْهِ الْمَنْع وَقَوله فَإِن دفع جَوَاب بتحرير الدَّلِيل على وَجه لَا يرد عَلَيْهِ الْمَنْع فَقَوله (قُلْنَا) إِلَى آخِره إبِْطَال لما حرر بِهِ على وَجه يصير دَلِيلا للْأَكْثَر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (و) مقولنا هَذَا (هُوَ الدَّلِيل الْحق للْأَكْثَر أَن الدّلَالَة على) رَأْي (الْأُصُولِيِّينَ لَا تخْتَص باللوازم الْبَيِّنَة بالأخص) أَي لَا يلْزم فِيهَا أَن يكون الْمَدْلُول لَازِما بَينا بِالْمَعْنَى الْأَخَص وَهُوَ أَن تَحْصِيل اللَّازِم فِي الذِّهْن كلما يحصل الْمَلْزُوم فِيهِ بل يكفى فِيهَا أَن يكون لَازِما بَينا بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَهُوَ أَن يكون تصور الْمَلْزُوم وَاللَّازِم كَافِيا فِي الْجَزْم باللزوم بَينهمَا، وَلَا شكّ فِي دلَالَة دَلِيل الْوُجُوب عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْع من الْوَاجِب الدّلَالَة (وَتقدم فِي) بحث (مَفْهُوم الْمُوَافقَة) كفهم حُرْمَة الضَّرْب من حُرْمَة التأفيف (أَن دلَالَته) أَي مفهومها (قد تكون نظرية وَيجْرِي فِيهَا) أَي فِي دلالتها (الْخلاف) بِأَن يُؤَدِّي نظر مُجْتَهد إِلَى إِثْبَاتهَا وَنظر آخر إِلَى نَفيهَا فَلَا يبعد وُقُوع الْخلاف فِي دلَالَة دَلِيل الْوُجُوب عَلَيْهِ (فعلى مَا علم مُقَدّمَة) أَي فدلالة دَلِيل الْوَاجِب على مَا علم كَونه مُقَدّمَة (من) ملزوم (مَا هِيَ) أَي الْمُقدمَة (لَهُ) لتوقفه عَلَيْهَا (أظهر) خبر الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف الْمَذْكُور: أَعنِي دلَالَته، والملزوم هُوَ الشَّارِع، وَالْمعْنَى إِذا اعْتبر دلَالَة اللَّفْظ(2/217)
فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة مَعَ نظريتها فدلالته على مَا علم كَونه مَوْقُوفا عَلَيْهِ شرعا من قبل الْمَلْزُوم الَّذِي أوجب مَدْلُوله الصَّرِيح أظهر من دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة الَّذِي لم يعلم من الشَّارِع توقف مَدْلُوله الصَّرِيح عَلَيْهِ أَن طلب الْمُتَكَلّم من الْمَأْمُور فعلا جعل صِحَّته مَوْقُوفَة على فعل آخر وَعلم مِنْهُ ذَلِك طلب لَهما جَمِيعًا وَهُوَ ظَاهر. هَذَا، وَفسّر الشَّارِح الْمَلْزُوم بِاللَّفْظِ وَلَا يخفى مَا فِيهِ (وَفرع عَلَيْهِ) أَي على وجوب الْمُقدمَة بِوُجُوب مَا هِيَ مُقَدّمَة لَهُ (تَحْرِيم) الزَّوْجَة (إِذا اشتبهت بالأجنبية) لِأَن الْكَفّ عَن الْأَجْنَبِيَّة وَاجِب، وَلَا يحصل الْعلم بِهِ إِلَّا بالكف عَن الزَّوْجَة فَيجب الْكَفّ عَنْهَا لتيقن الْكَفّ عَن الْأَجْنَبِيَّة، كَذَا ذكره الشَّارِح.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا إِنَّمَا يتم إِذا كَانَ التيقن بِالْخرُوجِ عَن عُهْدَة الْوَاجِب وَاجِبا، أما إِذا كَانَ الظَّن بِالْخرُوجِ الْمَذْكُور كَافِيا وَغلب على ظَنّه أَنَّهَا زَوجته فَلَا تحرم فَتَأمل.
مسئلة
(يجوز تَحْرِيم أحد أَشْيَاء) مُعينَة (كإيجابه) أَي أحد الْأَشْيَاء إِلَّا أَن التَّخْيِير هُنَا فِي التروك وَهُنَاكَ فِي الْأَفْعَال (فَلهُ) أَي الْمُكَلف (فعلهَا) أَي الْأَشْيَاء (إِلَّا وَاحِدًا لَا جمعهَا فعلا) بِأَن يفعل جميل تِلْكَ الْأَشْيَاء لِئَلَّا يكون فَاعِلا للْمحرمِ كَمَا أَنه هُنَاكَ لَيْسَ لَهُ تَركهَا جَمِيعًا لِئَلَّا يكون تَارِكًا للْوَاجِب، وَله أَن يَتْرُكهَا جَمِيع كَمَا أَن لَهُ أَن يَفْعَلهَا جَمِيعًا هُنَاكَ (وفيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة من الْأَقْوَال مثل (مَا تقدم) فِي الْوَاجِب الْمُخَير، فَقيل الْمحرم وَاحِد مِنْهَا لَا بِعَيْنِه، وَقيل يحرم جَمِيعهَا فيعاقب بِفِعْلِهَا عِقَاب فعل الْمُحرمَات ويثاب بِتَرْكِهَا ثَوَاب ترك الْمُحرمَات وَيسْقط تَركهَا الْوَاجِب بترك وَاحِد مِنْهَا، وَقيل الْمحرم مَا يختاره الْمُكَلف للترك مِنْهَا فيختلف باخْتلَاف الِاخْتِيَار، وَفِي الشَّرْح زِيَادَة تَفْصِيل فِيهَا، هَذَا وَزعم بعض الْمُعْتَزلَة أَنه لم يرد فِي اللُّغَة النَّهْي عَن وَاحِد من أَشْيَاء مُعينَة، ورد بِالْمَنْعِ حَتَّى أَنه لَوْلَا الْإِجْمَاع عَن النَّهْي عَن طَاعَة الْجَمِيع فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} - لم تحمل الْآيَة على ذَلِك (فتفريع تَحْرِيم الْكل) أَي زَوْجَاته (فِي قَوْله لزوجاته إحداكن طَالِق) على هَذَا الأَصْل (مناقضة لهَذَا الأَصْل) إِذْ من حكمه أَن لَهُ فعلهَا إِلَّا وَاحِدًا فتحريم الْكل منَاف لَهُ (بِخِلَاف) تَحْرِيم الزَّوْجَة فِي (الِاشْتِبَاه) بأجنبية فَإِنَّهُ لَا مناقضة فِيهِ لهَذَا الأَصْل، إِذْ لَيْسَ تَحْرِيم الزَّوْجَة مَعَ الْأَجْنَبِيَّة بِسَبَب تَحْرِيم أَحدهمَا، وَإِنَّمَا (حرمت الزَّوْجَة لاحتمالها) أَي الزَّوْجَة (الْمُحرمَة احْتِيَاطًا وَلَا احْتِمَال فِي الْوَاحِدَة الْمَوْطُوءَة هُنَا لِأَن مُوجبه) أَي إحداكن طَالِق (ترك وَاحِدَة) لَا على التَّعْيِين (وَقد فعل) إِذا وطئهن إِلَّا وَاحِدَة (إِلَّا أَن يعين) إِحْدَاهُنَّ للطَّلَاق (وينسى) الْمعينَة (فكالاشتباه) أَي فيحرمن احْتِيَاطًا لاحْتِمَال أَن يكون كل(2/218)
مِنْهُنَّ الْمُحرمَة كَمَا فِي مسئلة الِاشْتِبَاه، فِي الْمَحْصُول إِذا قَالَ أحدا كَمَا طَالِق يحْتَمل أَن يُقَال بِبَقَاء حل وطئهما لِأَن الطَّلَاق شَيْء معِين فَلَا يحصل إِلَّا فِي مَحل معِين، فَإِذا لم يعين لَا يَقع بل الْوَاقِع أَمر لَهُ صَلَاحِية التَّأْثِير فِي الطَّلَاق عِنْد التَّعْيِين، وَمِنْهُم من قَالَ حرمنا جَمِيعًا إِلَى وَقت الْبَيَان تَغْلِيبًا لجَانب الْحُرْمَة، وَجزم الْبَيْضَاوِيّ بِهَذَا تَفْرِيعا على وجوب الْمُقدمَة الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْعلم بالإتيان بِالْوَاجِبِ.
مسئلة
(لَا يجوز فِي) الْفِعْل (الْوَاحِد بالشخص والجهة وُجُوبه وحرمته بإطباق مانعي تَكْلِيف الْمحَال وَبَعض المجيزين) لَهُ (لتَضَمّنه) أَي جَوَاز اجْتِمَاعهمَا فِيهِ (الحكم بِجَوَاز التّرْك) إِذْ الْحَرَام يجب تَركه، وَفِي ضمن الْوُجُوب يتَحَقَّق الْجَوَاز الْمُطلق بِمَعْنى الْإِذْن (وَعَدَمه) أَي عدم جَوَاز التّرْك إِذْ الْوَاجِب لَا يجوز تَركه (وَيجوز) اجْتِمَاعهمَا (فِي) الْوَاحِد الشخصي (ذِي الْجِهَتَيْنِ) الْغَيْر المتلازمتين فَيجب بأحداهما وَيحرم بِالْأُخْرَى (كَالصَّلَاةِ فِي) الأَرْض (الْمَغْصُوبَة عِنْد الْجُمْهُور) فَتجب لكَونهَا صَلَاة وَتحرم لكَونهَا غصبا (خلافًا لِأَحْمَد وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين والجبائي فَلَا تصح) أَي فأنهم قَالُوا لَا تصح الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة (فَلَا يسْقط الطّلب) بِفِعْلِهَا فِيهَا (و) خلافًا (للْقَاضِي أبي بكر) فَإِنَّهُ قَالَ (لَا تصح) الصَّلَاة (وَيسْقط) الطّلب بِفِعْلِهَا (لنا الْقطع فِيمَن أَمر بخياطة) وَأمر بِأَنَّهُ (لَا) يَفْعَلهَا (فِي مَكَان كَذَا فخاطه) أَي الثَّوْب (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْمَكَان (أَنه) أَي بِأَنَّهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بِالْقطعِ (مُطِيع عَاص للجهتين) لِأَنَّهُ ممتثل لأمر الْخياطَة غير ممتثل للنَّهْي عَن ذَلِك الْمَكَان، فَكَذَا فِيمَا نَحن فِيهِ مُطِيع من جِهَة أَنه غصب (وَلِأَنَّهُ) أَي اجْتِمَاع الْوُجُوب وَالْحُرْمَة (لَو امْتنع فلاتحاد الْمُتَعَلّق) أَي فَإِنَّمَا يمْتَنع لِاتِّحَاد متعلقهما (وَالْقطع بالتعدد) هُنَا (فَإِن مُتَعَلق الْأَمر) بِالصَّلَاةِ (الصَّلَاة و) مُتَعَلق (النَّهْي) عَن إيقاعها فِي الْمَغْصُوبَة (الْغَصْب) فَفِيهِ مُسَامَحَة، إِذْ الْمنْهِي الْإِيقَاع فِي الْمَغْصُوبَة لَا للغصب (جَمعهمَا) أَي المتعلقين الْمُكَلف بامتثاله الْأَمر وَترك امتثاله النَّهْي (مَعَ إِمْكَان الانفكاك) بِأَن يفعل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا يفعل الْمنْهِي عَنهُ فَيصَلي فِي غير الْمَغْصُوبَة (وَأَيْضًا لَو امْتنع) الْجمع بَين الْوُجُوب وَالْحُرْمَة فِي الْوَاحِد (امْتنع صِحَة صَوْم مَكْرُوه وَصَلَاة) مَكْرُوهَة، لِأَن الْوُجُوب كَمَا يضاد التَّحْرِيم يضاد الْكَرَاهَة إِذْ لَا مَانع إِلَّا التضاد وَاللَّازِم بَاطِل لثُبُوت كَرَاهَة كثير من الصَّلَاة وَالصَّوْم (وَدفعه) أَي هَذَا الدَّلِيل كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره (باتحاد مُتَعَلق الْأَمر وَالنَّهْي هُنَا) أَي فِي الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة (وَهُوَ) أَي متعلقهما (الْكَوْن فِي الحيز) وَهُوَ حُصُول الْجَوْهَر فِي حيزه لِأَن حُصُول الْمصلى فِي ذَلِك الْمَكَان جُزْء(2/219)
من الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا وَنَفس الْغَصْب الْمنْهِي عَنهُ (بِخِلَاف الْمَكْرُوه) من الصَّوْم وَالصَّلَاة لعدم اتِّحَاد مُتَعَلق الْوُجُوب وَالْكَرَاهَة فِيهِ (فَإِن فرض) الْمَكْرُوه (كَذَلِك) أَي أَن مُتَعَلق الْأَمر وَالنَّهْي مُتحد (منع صِحَّته) أَي الْمَكْرُوه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفْرض كَذَلِك (لم يفد) صِحَة الْمَطْلُوب لِأَن الْكَلَام فِيمَا إِذا اتَّحد متعلقهما (يُنَاقض جوابهما الْآتِي) قَرِيبا كَمَا سَيظْهر من تَجْوِيز اجْتِمَاعهمَا مَعَ اتِّحَاد الْمُتَعَلّق باخْتلَاف الْجِهَة وَهُوَ خبر قَوْله وَدفعه إِلَى آخِره (بل لَيْسَ فِيهَا) أَي فِي الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَفِي الصَّلَاة الْمَكْرُوهَة وَفِي الصَّوْم الْمَكْرُوه (تحتم منع) أَي لَيْسَ فِيهَا نهي مَقْطُوع بِهِ، وَإِلَّا لما كَانَ للِاجْتِهَاد مساغ فَمن حَيْثُ أَنه فعل وَاحِد مُتَضَمّن لأمر مَنْهِيّ يظنّ كَونه مَنْهِيّا مُطلقًا وَمن حَيْثُ أَنه امْتِثَال لأمر إيجابي وَالنَّهْي بِاعْتِبَار بعض جهاته يظنّ أَنه لَيْسَ بمنهي مُطلقًا، وَإِذا لم يقطع بِالْمَنْعِ (فَلَا يُنَافِي) كَونه مَمْنُوعًا من وَجه (الصِّحَّة) بِاعْتِبَار الْجِهَة الَّتِي يُؤَدِّي بهَا الْوَاجِب (فالمانع) من الصِّحَّة فِي الْوَاحِد الشخصي الْمَذْكُور (خُصُوص تضَاد) وَهُوَ فِيمَا إِذا لم يكن فِيهِ اخْتِلَاف الْجِهَة، وَقَالَ الشَّارِح: فالمانع من الْجمع بَينهمَا فِي وَاحِد شخصي ذِي جِهَتَيْنِ خُصُوص تضَاد وَهُوَ الْمَنْع المتحتم الْقطعِي عَن الشَّيْء وَالْأَمر بِهِ وَلَا يخفى مَا فِيهِ (لَا مطلقه) أَي التضاد سَوَاء اخْتلفت الْجِهَة أَو اتّحدت (وَالِاسْتِدْلَال) للمختار بِأَنَّهُ (لَو لم تصح) الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة (لم يسْقط) التَّكْلِيف بهَا (وَهُوَ) أَي عدم سُقُوطه (مُنْتَفٍ) قَالَ القَاضِي (للْإِجْمَاع السَّابِق) على ظُهُور الْمُخَالف وَهُوَ أَحْمد وَمن وَافقه على سُقُوطه فَالصَّلَاة صَحِيحَة، ثمَّ الِاسْتِدْلَال مُبْتَدأ خَبره (دفع بِمَنْع صِحَة نَقله) أَي الْإِجْمَاع كَمَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ لَو كَانَ إِجْمَاع لعرفه أَحْمد لِأَنَّهُ أعرف بِهِ من القَاضِي لِأَنَّهُ أقرب زَمَانا من السّلف، وَلَو عرفه لما خَالفه فَانْدفع قَول الْغَزالِيّ الْإِجْمَاع حجَّة على أَحْمد (قَالُوا) أَي القَاضِي والمتكلمون (لَو صحت) الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة (كَانَ) كَونهَا صَحِيحَة (مَعَ اتِّحَاد الْمُتَعَلّق) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي (لِأَن الصَّلَاة حركات وسكنات وهما) أَي الحركات والسكنات (شغل حيّز) فهما مَأْمُور بهما (وشغله) أَي الحيز ظلما هُوَ (الْغَصْب) وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي متعلقهما وَاحِد لَكِن (بجهتين فَيُؤْمَر بِهِ بِاعْتِبَار أَنه صَلَاة وَينْهى عَنهُ لِأَنَّهُ غصب) وَهَذَا هُوَ الْجَواب الَّذِي ذكره المُصَنّف أَن مَا تقدم من الدّفع يناقضه (وألزم) على القَوْل بِصِحَّة الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة بِنَاء على تعدد الْجِهَة (صِحَة صَوْم) يَوْم (الْعِيد) لكَونه مَأْمُورا بِهِ حَيْثُ أَنه صَوْم، مَنْهِيّا عَنهُ من حَيْثُ أَنه فِي يَوْم الْعِيد (وَالْجَوَاب بتخصيص الدَّعْوَى) وَهُوَ جَوَاز اجْتِمَاعهمَا فِي الْوَاحِد الشخصي فِي ذى الْجِهَتَيْنِ (بِمَا يُمكن فِيهِ انفكاكهما أَي الْجِهَتَيْنِ بِأَن لَا يتلازم جِهَة الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم كَمَا هُوَ فِي الخلافية إِذْ كل من جِهَة الصلاتية والغصبية لَا يسْتَلْزم الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يتَحَقَّق الصَّلَاة بِلَا غصب بِخِلَاف صَوْم يَوْم(2/220)
الْعِيد فَإِنَّهُ كَونه صوما وَهُوَ المجوز لَا يَنْفَكّ عَن كَونه فِي يَوْم الْعِيد وَهُوَ الْمحرم فَإِن قلت خُصُوصِيَّة كَونه فِي الْعِيد اعْتبرت فِي جِهَة الصَّوْم فَقلت بِعَدَمِ الانفكاك فَلَو لم تعْتَبر خُصُوصِيَّة مَكَان الصَّلَاة فِي جِهَة الصَّلَاة فِي الخلافية فَيلْزم عدم الانفكاك وَإِن قطعت النّظر عَن خُصُوصِيَّة الْمَكَان فِي الخلافية لم يقطع النّظر عَن خُصُوصِيَّة الزَّمَان فِي الصَّوْم الْمَذْكُور فَإِنَّهُ يتَحَقَّق حِينَئِذٍ صَوْم بِلَا جِهَة مُحرمَة قلت المُرَاد تحقق الْجِهَتَيْنِ مَعًا، وَفِي الصَّوْم الْمَذْكُور لَا يُمكن تحقق جِهَة الصَّوْم الشخصي بِلَا محرم مَعَ جِهَة كَونه فِي يَوْم الْعِيد مثلا لكَون الزَّمَان جُزْءا من حَقِيقَة الصَّوْم وَعدم كَون الْمَكَان جُزْءا بل حَقِيقَة الصَّوْم وَعدم كَون الْمَكَان جُزْءا من حَقِيقَة الصَّلَاة فَتَأمل (و) أُجِيب (بِأَن نهي التَّحْرِيم ينْصَرف) قبحه (إِلَى الْعين) أَي عين الْمنْهِي عَنهُ والقبيح لعَينه لَا يكون لَهُ صِحَة فَيجب القَوْل بِهِ (إِلَّا لدَلِيل) يُفِيد خِلَافه (وَقد وجدت إطلاقات) مفيدة للصِّحَّة (فِي) حق (الصَّلَاة) فبعمومها يَشْمَل صِحَة الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة (أوجبته لخارج) أَي لوصف خَارج عَن ذَات الْمنْهِي عَنهُ: إِذْ لَو كَانَ لعَينه لاقتضت عدم الصِّحَّة، ولزمت المدافعة بَين تِلْكَ الإطلاقات وَالنَّهْي الْمَذْكُور (وَإِجْمَاع غير أَحْمد) على صِحَة الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة (لَا فِي الصَّوْم) أَي بِخِلَاف الصَّوْم فِي يَوْم الْعِيد فَإِنَّهُ لم يقم دَلِيل صَارف عَن ظَاهر بُطْلَانه، بل وَقع الِاتِّفَاق على ذَلِك: كَذَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (وَلَا يخفى مَا فِيهِ) أَي فِي الْفرق الْمَذْكُور فَإِنَّهُ وجد فِي الصَّوْم إطلاقات أَيْضا إِلَّا أَن يفرق بِاعْتِبَار إِجْمَاع غير أَحْمد على أَن الْحَنَفِيَّة يصححون نَذره وَأَنه لَو صَامَهُ خرج عَن عُهْدَة النّذر وَإِن أوجبوا عَلَيْهِ الْإِفْطَار ثمَّ الْقَضَاء، ثمَّ أَشَارَ إِلَى فرق آخر بقوله (وَلِأَن منشأ الْمصلحَة والمفسدة) فِي الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة وَهُوَ كَونه مُطيعًا من جِهَة أَنه غصب (مُتَعَدد، بِخِلَاف صَوْم الْعِيد) فَإِن الْجِهَة الَّتِي يتَوَهَّم فِيهَا الإطاعة هُوَ الصَّوْم الْخَاص هِيَ بِعَينهَا مَنْهِيّ عَنْهَا (وَقد يمْنَع) هَذَا (بل الشّغل) للحيز الَّذِي هُوَ الحركات والسكنات الْمَذْكُورَة، وَعين الْغَصْب (منشؤهما) أَي الْمصلحَة والمفسدة وَهُوَ مُتحد كَمَا سبق (هَذَا فَأَما الْخُرُوج) من الأَرْض الْمَغْصُوبَة (بعد توسطها ففقهي) أَي فالبحث عَن حكمه بحث فرعي (لَا أُصَلِّي) لِأَن الأصولي يبْحَث عَن أَحْوَال الْأَدِلَّة للْأَحْكَام، لَا عَن أَحْوَال أَفعَال الْمُكَلّفين فَإِنَّهُ وَظِيفَة الْفَقِيه (وَهُوَ) أَي الحكم الفرعي لَهُ (وُجُوبه) أَي الْخُرُوج مِنْهَا على قصد التَّوْبَة، وَنفي الْمعْصِيَة عَن نَفسه (فَقَط) أَي لَا وحرمته كَمَا هُوَ قَول أبي هَاشم أَنه مَأْمُور بِهِ، لِأَنَّهُ انْفِصَال عَن الْمكْث ومنهي عَنهُ لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر (واستبعد اسْتِصْحَاب الْمعْصِيَة للْإِمَام) فِي الشَّرْح العضدي: من توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة فحط الأصولي فِيهِ بَيَان امْتنَاع تعلق الْأَمر وَالنَّهْي مَعًا بِالْخرُوجِ، وَبَيَان خطأ أبي هَاشم فِي قَوْله بتعلقهما مَعًا بِالْخرُوجِ، فَإِذا تعين الْخُرُوج لِلْأَمْرِ دون(2/221)
النَّهْي بِدَلِيل يدل عَلَيْهِ، فالقطع يَنْفِي الْمعْصِيَة عَنهُ إِذا خرج بِمَا هُوَ شَرطه فِي الْخُرُوج من السرعة والسلوك لأَقْرَب الطّرق وأقلها ضَرَرا: إِذْ لَا مَعْصِيّة بإيقاع الْمَأْمُور بِهِ الَّذِي لَا نهي عَنهُ. قَالَ الإِمَام باستصحاب حكم الْمعْصِيَة عَلَيْهِ مَعَ إِيجَاب الْخُرُوج وَهُوَ بعيد: إِذْ لَا مَعْصِيّة إِلَّا بِفعل مَنْهِيّ أَو ترك مَأْمُور بِهِ، وَقد سلم انْتِفَاء تعلق النَّهْي بِهِ فانتهض الدَّلِيل عَلَيْهِ فَإِن قيل فِيهِ الجهتان، فَيتَعَلَّق الْأَمر بإفراغ ملك الْغَيْر، وَالنَّهْي بِالْغَصْبِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة سَوَاء قُلْنَا غلط، لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِامْتِثَال فَيلْزم تَكْلِيف الْمحَال، بِخِلَاف صَلَاة الْغَصْب فَإِنَّهُ يُمكن الِامْتِثَال، وَإِنَّمَا جَاءَ الِاتِّحَاد بِاخْتِيَار الْمُكَلف انْتهى، فالمستبعد ابْن الْحَاجِب وَغَيره، والمستصحب إِمَام الْحَرَمَيْنِ، واستصحاب الْمعْصِيَة عبارَة عَن إبْقَاء حكمهَا عَلَيْهِ مَعَ إِيجَاب الْخُرُوج بِنَاء على أَن الِاسْتِيلَاء على ملك الْغَيْر بِالدُّخُولِ لم يزل مَا لم يتم الْخُرُوج، وَوجه الاستبعاد مَا أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا نهي عَنهُ) أَي عَن الْخُرُوج بتوبة وَلَا مَعْصِيّة إِلَّا بِفعل نهي أوترك مَأْمُور بِهِ، وَقد اعْترف بِانْتِفَاء تعلق النَّهْي بِالْخرُوجِ (وثبوتها) أَي الْمعْصِيَة (بِلَا نهي) أَي فعل مَنْهِيّ عَنهُ أَو ترك مَأْمُور بِهِ (كَقَوْلِه) أَي إِمَام الْحَرَمَيْنِ (مَمْنُوع) قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَإِنَّمَا حكمُوا بالاستبعاد دون الاستحالة، لِأَن الإِمَام لَا يسلم أَن دوَام الْمعْصِيَة لَا يكون إِلَّا بِفعل مَنْهِيّ عَنهُ أَو ترك مَأْمُور بِهِ: بل ذَاك فِي ابتدائها خَاصَّة. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: وَإِذا عصى الْمُكَلف بِفعل شخص آخر هُوَ مسبب عَن فعله على مَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا " لم يستبعد مَعْصِيَته لفعل لَهُ غير مُكَلّف بِهِ هُوَ مسبب عَن فعله الِاخْتِيَارِيّ، وَأَشَارَ إِلَى وَجه قَول أبي هَاشم، ورده بقوله (وادعاء جهتي التَّفْرِيع) لملك الْغَيْر بِالْخرُوجِ (وَالْغَصْب) بمروره فِي ملك الْغَيْر (فيتعلقان) أَي الْأَمر وَالنَّهْي (بِهِ) أَي بِالْخرُوجِ، وَقَوله فيتعلقان مَعْطُوف على ادِّعَاء إِمَّا بِتَأْوِيل فِي جَانب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ مُخْتَلف الْجِهَتَيْنِ فيتعلقان، أَو فِي جَانب الْمَعْطُوف: أَي فتعلقهما بِهِ، وَخبر الْمُبْتَدَأ (يلْزمه) أَي الادعاء المستعقب للتعلق (عدم إِمْكَان الِامْتِثَال) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي، لِأَن جِهَة التَّفْرِيع لَا تنفك عَن جِهَة الْغَصْب، وَحِينَئِذٍ (فتكليف بالمحال) إِذْ مَعْنَاهُ طلب الْخُرُوج وَعَدَمه (بِخِلَاف صَلَاة الْغَصْب فَإِنَّهُ يُمكن) الِامْتِثَال لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي فِيهَا لِإِمْكَان انفكاك جهتيهما فِيهَا كَمَا تقدم.
مسئلة
(اخْتلف فِي لفظ الْمَأْمُور بِهِ فِي الْمَنْدُوب) أَي فِي أَن تَسْمِيَته بِهِ حَقِيقَة أَو مجَاز (قيل) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي نقلا (عَن الْمُحَقِّقين) أَن تَسْمِيَته بِهِ (حَقِيقَة، و) قَالَ (الْحَنَفِيَّة وَجمع من الشَّافِعِيَّة مجَاز، وَيجب كَون مُرَاد الْمُثبت) للْحَقِيقَة (أَن الصِّيغَة) أَي صِيغَة الْأَمر (فِي النّدب يُطلق(2/222)
عَلَيْهَا لفظ أَمر حَقِيقَة بِنَاء على عرف النُّحَاة فِي أَن الْأَمر) يَعْنِي أَمر اسْم (للصيغة الْمُقَابلَة لصيغة الْمَاضِي وأخيه) أَي وَصِيغَة الْمُضَارع حَال كَون الصِّيغَة الْمَذْكُورَة صفة لمتعلقه (مستعملة فِي الْإِيجَاب أَو غَيره) كالندب وَالْإِبَاحَة (فتعلقه) أَي مُتَعَلق الْأَمر الَّذِي هُوَ إِبَاحَة عَن الصِّيغَة الْمَذْكُورَة (الْمَنْدُوب) صفة لمتعلقه وَخَبره (مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة) إِذْ قد عرفت أَن مبدأ الِاشْتِقَاق وَهُوَ الْأَمر حَقِيقَة فِي الصِّيغَة المستعملة فِي النّدب، فالندب أَمر وَمن ضَرُورَته كَون الْفِعْل الْمَنْدُوب مَأْمُورا بِهِ حَقِيقَة فَإِن قلت لَا نسلم أَنه يلْزم من كَون صِيغَة النّدب مُسَمّى بِلَفْظ أَمر كَون مُتَعَلق مَدْلُول الصِّيغَة مَأْمُورا بِهِ فَالْجَوَاب أَن المُرَاد بالمأمور بِهِ مَا تعلق بِهِ مَدْلُول الْأَمر بِهِ بِحَسب الِاصْطِلَاح (والنافي) للحنفية بنى نَفْيه (على مَا ثَبت) من (أَن الْأَمر خَاص فِي الْوُجُوب وَالْمرَاد بِهِ) أَي بِالْأَمر الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَاص (فِي الصِّيغَة) كافعل ونظائره فَإِن قلت إِذا لَا خلاف إِذا مُرَاد الْمُثبت أَن لفظ الْأَمر حَقِيقَة فِي النّدب وَغَيره على عرف النُّحَاة، وَمُرَاد النَّافِي أَن صِيغَة افْعَل كصم وصل حَقِيقَة فِي الْوُجُوب مجَاز فِي النّدب لَا أَن لفظ الْأَمر مجَاز فِي صِيغَة النّدب، وَقَوله (وَهُوَ) أَي نفي الْحَنَفِيَّة (أوجه) يدل على الْخلاف كَمَا أَن قَوْله اخْتلف الخ صَرِيح فِيهِ قلت الَّذِي يَقُول أَن صِيغَة افْعَل خَاص فِي الْوُجُوب يَقُول أَن لفظ أَمر أَيْضا مَخْصُوص بالصيغة الْمَخْصُوصَة بِالْوُجُوب وَلَا يُطلق عِنْده لفظ الْأَمر على الصِّيغَة المستعملة فِي النّدب حَقِيقَة فَلَيْسَ الْمَنْدُوب عِنْده مَأْمُورا بِهِ ثمَّ بَين كَونه أوجبه بقوله (لابتنائه) أَي النَّفْي على الأَصْل (الثَّابِت لُغَة) وَهُوَ أَن لفظ الْأَمر خَاص بالصيغة المستعملة فِي الْوُجُوب، ومدار الْأَحْكَام المستنبطة من الْكتاب وَالسّنة على اللُّغَة (وابتناء الأول) وَهُوَ أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة (على الِاصْطِلَاح) للنحاة وَهُوَ أَن الصِّيغَة لما هُوَ أَعم من الْوُجُوب (واستدلال الْمُثبت بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة على انقسام الْأَمر إِلَى أَمر إِيجَاب وَأمر ندب) لَا يَصح على إِرَادَة ظَاهره (إِنَّمَا يَصح على إِرَادَة أهل الِاصْطِلَاح من النُّحَاة) لأهل اللُّغَة لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة (لِأَن مَا ثَبت من أَن الْأَمر خَاص فِي الْوُجُوب) على مَا مر من قبل النَّافِي (حكم اللُّغَة) فَكيف يتَصَوَّر إِجْمَاع أَهلهَا على خِلَافه، ثمَّ استدلالهم الْمَذْكُور بِاعْتِبَار ابتنائه على الِاصْطِلَاح (كاستدلالهم بِأَن فعله) أَي الْمَنْدُوب (طَاعَة وَهِي) أَي الطَّاعَة (فعل الْمَأْمُور بِهِ) وَفسّر الطَّاعَة فِي الْمَأْمُور بِهِ بقوله (أَي) فعل (مَا يُطلق عَلَيْهِ الْمَأْمُور) بِهِ (فِي الِاصْطِلَاح) النَّحْوِيّ فَقَوله فعل مصدر مَبْنِيّ للْفَاعِل وَمَا يُطلق عَلَيْهِ عبارَة عَن الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ كَسَائِر أَفعَال الْمُكَلّفين مِمَّا يَفْعَلُونَهُ لقصد الْقرْبَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَادهم ذَلِك بل مَا يُطلق عَلَيْهِ فِي للغة (فعين النزاع) أى فَالْمُرَاد حِينَئِذٍ عين المنازع، إِذْ الْخصم لَا يسْتَلْزم أَن كل طَاعَة يُطلق عَلَيْهَا لفظ الْمَأْمُور بِهِ حَقِيقَة بل يُطلق على الْوَاجِبَة فَقَط (مَعَ أَنه) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال إِنَّمَا يتمشى (على تَقْدِير(2/223)
اصْطِلَاح فِي الطَّاعَة) وَهُوَ أَن الطَّاعَة فعل الْمَأْمُور بِهِ مُطلقًا (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاصْطِلَاح فِيهَا (مُنْتَفٍ للْقطع بِعَدَمِ تَسْمِيَة فعل المهدد عَلَيْهِ طَاعَة لأحد) أَي لَا يُقَال للْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ افْعَل على سَبِيل التهديد أَنه طَاعَة إِذا فعله المهدد عَلَيْهِ بل وَلَا يُقَال أَنه مَأْمُور بِهِ وَلَا أَنه أَمر بذلك الْفِعْل مَعَ صدق الْأَمر اصْطِلَاحا نحويا على صيغته وَاللَّازِم بَاطِل، وَقَوله لأحد إِمَّا صلَة طَاعَة وَإِمَّا مُتَعَلق بِتَسْمِيَة (وَإِلَّا) رُجُوع إِلَى أول الْبَحْث، وَالْمعْنَى وَإِن لم يكن مُرَاد الْمُثبت أَن الصِّيغَة فِي النّدب يُطلق عَلَيْهَا لفظ أَمر حَقِيقَة بِنَاء على عرف النُّحَاة بل على اللُّغَة (فَإِنَّمَا يَصح) كَونه مَأْمُورا بِهِ حَقِيقَة بِحَسب اللُّغَة بِنَاء (على أَن الصِّيغَة) الَّتِي هِيَ مُسَمّى لفظ أَمر (حَقِيقَة فِي النّدب مُشْتَركا) بَينه وَبَين الْإِيجَاب (أَو خَاصّا) للنَّدْب كَمَا هُوَ قَول الْبَعْض (وهم) أَي المثبتون (ينفونه) أَي كَونهَا مُشْتَركَة أَو خَاصَّة فِيهِ ويجعلونها حَقِيقَة فِي الْوُجُوب خَاصَّة فَلَا يكون الْمَنْدُوب مَأْمُورا بِهِ حَقِيقَة، وَحِينَئِذٍ (فاستدلال النَّافِي بِأَنَّهُ) أَي الْمَنْدُوب (لَو كَانَ مَأْمُورا) بِهِ (أَي حَقِيقَة لَكَانَ تَركه مَعْصِيّة) لما ثَبت أَن تَارِك الْمَأْمُور بِهِ عَاص (وَلما صَحَّ) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ) عِنْد كل وضوء " كَمَا فِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة أَو عِنْد كل صَلَاة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ندبهم إِلَى السِّوَاك، ثمَّ قَوْله اسْتِدْلَال النَّافِي مُبْتَدأ خبر (زِيَادَة) مِنْهُ غَيره مُحْتَاج إِلَيْهَا لتَمام الْمَطْلُوب بِمَا تقدم (وتأويله) لفظ الْأَمر فِي الحَدِيث وَمَا قبله (بِحمْلِهِ) أَي الْأَمر (على قسم خَاص هُوَ أَمر الْإِيجَاب) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره مُخَالفَة للظَّاهِر (بِلَا دَلِيل، وَقَوْلهمْ) أَي المثبتين أَنه يُصَار إِلَى التَّأْوِيل الْمَذْكُور (لدليلنا) مَدْفُوع لِأَنَّهُ (ظهر أَنه) أَي دليلهم (لم يتم) حِينَئِذٍ فأخف الْأَمريْنِ على المثلين جعل الْخلاف لفظيا فالمثبت: يَعْنِي الِاصْطِلَاح النَّحْوِيّ وَلَا يُنكره النَّافِي، والنافي: يَعْنِي اللُّغَة وَلَا يَنْفِيه الْمُثبت، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَمثل هَذِه) الخلافية (فِي اللفظية) أَي فِي كَونهَا لفظية (الْخلاف فِي أَن الْمَنْدُوب مُكَلّف بِهِ، وَالصَّحِيح) الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور (عَدمه) أَي عدم كَونه مُكَلّفا بِهِ (خلافًا للأستاذ) أبي إِسْحَاق الاسفرايني وَالْقَاضِي، وَإِنَّمَا جعلنَا الْخلاف لفظيا (لدفع بعده) أَي بعد جعله معنويا: إِذْ يبعد من الْأُسْتَاذ وَغَيره اعْتِبَار التَّكْلِيف فِيهِ: إِذْ التَّكْلِيف إِلْزَام مَا فِيهِ مشقة وكلفة فيؤول كَلَامه (بِأَن المُرَاد) بقوله النّدب تَكْلِيف (إِيجَاب اعْتِقَاده) أَي اعْتِقَاد كَونه مَنْدُوبًا، وَإِن كَانَ التَّأْوِيل أَيْضا بَعيدا، لِأَن النّدب حكم وَوُجُوب الِاعْتِقَاد حكم آخر لكنه أخف من الأول، وَقيل كَون الْخلاف لفظيا بِاعْتِبَار تَفْسِير التَّكْلِيف، فَمن فسره بالإلزام الْمَذْكُور نَفَاهُ عَن الْمَنْدُوب، وَمن فسره بِطَلَب مَا فِيهِ كلفه أثْبته لَهُ وَالْمُصَنّف ذهب إِلَى الأول فَلَزِمَهُ كَون الْمُبَاح أَيْضا مُكَلّفا بِهِ من حَيْثُ الِاعْتِقَاد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِلَّا أَن الْمُبَاح حِينَئِذٍ) أَي حِين يُرَاد بِكَوْنِهِ تكليفا إِيجَاب اعْتِقَاد ندبيته (تَكْلِيف) أَيْضا(2/224)
لوُجُوب اعْتِقَاد إِبَاحَته (وَبِه) أَي بِكَوْن الْإِبَاحَة تكليفا (قَالَ) الْأُسْتَاذ (أَيْضا) وَمن سواهُ على أَنه لَيْسَ بتكليف (وَمثلهمَا) أَي الْمَنْدُوب والمباح من حَيْثُ الْخلاف فِي تعلق الْأَمر حَقِيقَة أَو مجَازًا وَفِي التَّكْلِيف، وَفِي كَون الْخلاف لفظيا (الْمَكْرُوه) فَهُوَ (مَنْهِيّ) عَنهُ (أَي اصْطِلَاحا) نحويا (وَحَقِيقَة مجَازًا لُغَة) لِأَن النَّهْي فِي الِاصْطِلَاح يُقَال على لَا تفعل استعلاء سَوَاء كَانَ على سَبِيل الحتم أَولا أما فِي اللُّغَة فَلَا يُقَال حَقِيقَة نهي عَن كَذَا إِلَّا إِذا منع عَنهُ، فالقائل حَقِيقَة يُرِيد الِاصْطِلَاح، وَالْقَائِل مجَاز يُرِيد اللُّغَة (وَأَنه) أَي الْمَكْرُوه (لَيْسَ تكليفا) عِنْد الْجُمْهُور لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلْزَام مَا فِيهِ كلفة وتكليف عِنْد الْأُسْتَاذ (وَفِيهِمَا) أَي فِي مسئلتي الْمَكْرُوه هَاتين (مَا فيهمَا) أَي فِي مسئلتي الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ وَالْمَنْدُوب والمباح يُكَلف بهما (وَالْمرَاد) بالمكروه الْمَكْرُوه (تَنْزِيها) لِأَن الْمَكْرُوه تَحْرِيمًا لَا خلاف فِي أَنه تَكْلِيف (وَيُطلق) الْمَكْرُوه (على الْحَرَام و) على (خلاف الأولى مِمَّا لَا صِيغَة) نهى (فِيهِ) كَتَرْكِ الضُّحَى، وَهَذَا إِذا فرق بَين التنزيهية وَخلاف الأولى (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفرق بَينهمَا نظر إِلَى الْمَآل (فالتنزيهية مرجعها إِلَيْهِ) أَي إِلَى خلاف الأولى، إِذْ حاصلها مَا تَركه أولى، والتفرقة مُجَرّد اصْطِلَاح (وَكَذَا يُطلق الْمُبَاح على مُتَعَلق) الْإِبَاحَة (الْأَصْلِيَّة) الَّتِي هِيَ عدم الْمُؤَاخَذَة بِالْفِعْلِ وَالتّرْك لما هُوَ من الْمَنَافِع لعدم ظُهُور تعلق الْخطاب (كَمَا) يُطلق الْمُبَاح أَيْضا (على مُتَعَلق خطاب الشَّارِع تخييرا، وَكِلَاهُمَا) أَي المتعلقين إِنَّمَا يعرفان (بعد الشَّرْع على مَا تقدم) فِي آخر المسئلة الثَّانِيَة من مسئلتي التنزل (أما الْمُعْتَزلَة فأعم من ذَلِك) أَي فالمباح عِنْدهم يُطلق على مَا هُوَ أَعم من مُتَعَلق الْأَصْلِيَّة والشرعية (والعقلية) إِذْ متعلقها عِنْدهم الْأَفْعَال الاخيتارية الَّتِي يدْرك الْعقل عدم اشتمالها على الْمصلحَة والمفسدة وَلم يتَعَلَّق بهَا خطاب لحكم الْعقل بِعَدَمِ الْحَرج فِي فعلهَا وَتركهَا (وَأما من جعله) أَي جَوَاز إِطْلَاق الْمُبَاح شرعا على مُتَعَلق غير الشَّرْعِيَّة وَهُوَ انْتِفَاء الْحَرج فِي الْفِعْل وَالتّرْك وَعدم جَوَاز ذَلِك (خلافًا فِي أَن لفظ الْمُبَاح هَل يُطلق فِي لِسَان الشَّرْع على غير ذَلِك) أَي غير مُتَعَلق خطاب الشَّارِع تخييرا. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: الْكَلَام فِي أَن الْمُبَاح عِنْد بعض الْمُعْتَزلَة مَا انْتَفَى الْحَرج فِي فعله وَتَركه، وَعِنْدنَا مَا تعلق خطاب الشَّارِع بذلك بِهِ (فَلَا حَاصِل لَهُ لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الشَّارِع فَلَا يعرف لَهُ) أَي الشَّارِع (اصْطِلَاح فِي الْمُبَاح أَو) أَرَادَ (أهل الِاصْطِلَاح الفقهي فَلَا خلاف برهانيا) بل هُوَ حِينَئِذٍ لَفْظِي مَبْنِيّ على الاصلاحى (ويرادف الْمُبَاح الْجَائِز وَيزِيد) عَلَيْهِ فِي الْإِطْلَاق (بِإِطْلَاقِهِ) أَي الْجَائِز (على مَا لَا يمْتَنع شرعا وَلَو) كَانَ ذَلِك (وَاجِبا ومكروها) أَي أَو مَكْرُوها فيطلق على الْمَنْدُوب والمباح بطرِيق أولى (و) على مَا لَا يمْتَنع (عقلا) وَهُوَ الْمُمكن الْعَام سَوَاء كَانَ (وَاجِبا أَو راجحا أَو قسيميه) أَي الرَّاجِح وهما الْمَرْجُوح(2/225)
والمساوي، وَهَذَا أَعم من الأول مُطلقًا وَمن الثَّانِي من وَجه (كَمَا يُقَال الْمَشْكُوك على الموهوم)
مسئلة
(نفي الكعبي الْمُبَاح خلافًا لِلْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ) أَي الْمُبَاح (ترك حرَام) فَإِن السُّكُوت ترك للقذف، وَالسُّكُوت ترك للْقَتْل (وَتَركه) أَي الْحَرَام (وَاجِب وَلَو) كَانَ (وَاجِبا مُخَيّرا) فِيهِ بَين أَن يَأْتِي بِوَاجِب وَغير وَاجِب كالمندوب وَالْمَكْرُوه تَنْزِيها، فَإِذا اخْتَار أَي وَاحِد مِنْهَا كَانَ وَاجِبا لكَونه ترك حرَام (فَانْدفع) بقوله وَلَو مُخَيّرا (منع تعين الْمُبَاح) على رَأْي الْجُمْهُور (للترك) لِلْحَرَامِ (لجوازه) أَي ترك الْحَرَام (بِوَاجِب) وَلَا يضر كَون الْوَاجِب الْمُخَير مُبْهما لما عرفت من خِصَال الْكَفَّارَة (ويورد) على الكعبي أَنه (لَيْسَ تَركه) أَي الْحَرَام (عين فعل الْمُبَاح) غَايَته أَنه لَا يحصل إِلَّا بِهِ كَمَا قَالَ الشَّارِح (وَأجَاب) الكعبي (بِأَن) هَذَا لَا يضر فَإِن (مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب) وَيرد عَلَيْهِ أَنه لَا نسلم أَنه لَا يتم الْوَاجِب الَّذِي هُوَ ترك الْحَرَام إِلَّا بِهِ لجَوَاز أَن يتَحَقَّق فِي ضمن وَاجِب أَو مَكْرُوه فَتَأمل (وَأورد) على هَذَا الدَّلِيل (أَنه مصادمة الْإِجْمَاع على انقسام الْفِعْل إِلَيْهِ) أَي الْمُبَاح (وباقيها) أَي أقسامها من الْوَاجِب وَالْحرَام وَالْمَكْرُوه وَالْمَنْدُوب فَلَا يسمع (فَأجَاب) الكعبي (بِوُجُوب تَأْوِيله) أَي الْإِجْمَاع على انقسام الْفِعْل فَإِنَّهُ منقسم إِلَيْهَا (بِاعْتِبَارِهِ) أَي انفعل (فِي ذَاته) أَي مَعَ قطع النّظر عَمَّا يستلزمه من كَونه يحصل بِهِ ترك حرَام (لَا بملاحظة مَا يلْزمه) أَي الْفِعْل من كَونه يحصل بِهِ ترك حرَام، وَإِنَّمَا أوّلناه (لقطعية دليلنا) الْمَذْكُور جمعا بَينه وَبَين الدَّلِيل الْقطعِي بِقدر الْإِمْكَان إِذْ الأَصْل فِي الْأَدِلَّة الْأَعْمَال لَا الإهمال (وَيتَعَيَّن كَونه) أَي هَذَا التَّأْوِيل (مُرَاد الْقَائِلين بِوُجُوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ) قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله: فَإِن قَوْلهم يَقْتَضِي وجوب مباحثات كَثِيرَة فَهُوَ يجر إِلَى مثل قَول الكعبي، فمرادهم أَن تِلْكَ الْمُقدمَات مُبَاحَة فِي ذَاتهَا وَلَكِن لَزِمَهَا الْوُجُوب لعَارض التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب بهَا (فَإِن لُزُوم وجوب الْمعْصِيَة مُخَيّرا) مَا ذكره الكعبي إِسْنَاده إِلَى نقض إجمالي تَقْرِيره لَو صَحَّ مَا ذكره الكعبي لزم كَون الْمحرم إِذا ترك بِهِ محرما آخر: كاللواطة إِذا ترك بهَا الزِّنَا وَاجِبا. لِأَن هَذَا الْمحرم يتَحَقَّق بِهِ ترك الْحَرَام (فقد ذكر جَوَابه) وَهُوَ مَا ذكره فِي إِلْزَام حرق الْإِجْمَاع وَحَاصِله الْتِزَام كَونه حَرَامًا فِي نَفسه وَاجِبا لكَونه تركا للْمحرمِ (وَجَوَاب الْأَخيرينِ) أَي قَول الكعبي إِنَّمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب فِي جَوَاب قَول الْجُمْهُور لَيْسَ تَركه عين فعل الْمُبَاح وتأويله فِي مُقَابلَة إيرادهم عَلَيْهِ مصادمة الْإِجْمَاع (منع أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ) فَهُوَ (وَاجِب) أما كَونه جَوَابا عَن الأول فَظَاهر، وَأما عَن التَّأْوِيل فَلِأَن المحوج إِلَيْهِ وجوب مَا لَا يتم(2/226)
الْوَاجِب إِلَّا بِهِ (واقتصارهم) أَي الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين مِنْهُم على هَذَا الْمَنْع متجاوزين فِي الِاقْتِصَار (عَن آخِرهم) وَهَذَا على سَبِيل الْمُبَالغَة إِذْ لَا يُمكن التجاوز عَن الآخر، أَو الْمَعْنى عَن آخِرهم إِلَى أَوَّلهمْ بِجعْل الآخر ابْتِدَاء السلسلة من حَيْثُ التصاعد (يُنَادي بِانْتِفَاء دَفعه) أَي دفع قَول الكعبي (إِلَّا للنافي) كَون مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِبا (وَلَيْسَ) هَذَا النَّفْي هُوَ (الْمَذْهَب الْحق) للفقهاء والمحدثين وَغَيرهم (وَلَا مخلص لأَهله) أَي الْحق عَن الكعبي فيلزمهم نفي الْمُبَاح رَأْسا (وَهُوَ) أَي الدّفع لقَوْل الكعبي (أقرب إِلَيْك مِنْك) هَذَا كِنَايَة عَن كَمَال الظُّهُور، إِذْ لَا يُمكن أَن يكون غير نفي الشَّيْء أقرب مِنْهُ إِلَيْهِ (لانكشاف منع أَن كل مُبَاح ترك حرَام، بل لَا شَيْء مِنْهُ) أَي من الْمُبَاح (إِيَّاه) أَي ترك حرَام (وَلَا يستلزمه) أَي الْمُبَاح ترك الْحَرَام (للْقطع بِأَن التّرْك: وَهُوَ كف النَّفس عَن الْفِعْل فرع خطوره) أَي الْفِعْل (و) فرع (دَاعِيَة النَّفس لَهُ) أَي للْفِعْل (و) نَحن (نقطع بِإِسْكَان سَائِر الْجَوَارِح) أَي جَمِيعهَا (وفعلها) أَي الْجَوَارِح مَعْطُوف على إسكان حَال كَون كل من الإسكان وَالْفِعْل (لَا عَن دَاعِيَة فعل مَعْصِيّة تركا لَهَا) أَي للمعصية حَال متداخلة من الضَّمِير المستكن فِي الْحَال الأول رَاجع إِلَى الإسكان وَالْفِعْل (بذلك) مُتَعَلق بتقطع: أَي بخطور الْفِعْل وداعية النَّفس لَهُ تَوْضِيحه أَن التّرْك الَّذِي هُوَ كف النَّفس عَن فعل الْمعْصِيَة تَارَة يتَحَقَّق بِفعل الْجَوَارِح بِأَن يشغلها بِفعل آخر عَنْهَا، والمباح أَيْضا تَارَة يتَحَقَّق بإسكانها وَتارَة بتحريكها وفعلها فيوهم أَن الْمُبَاح هُوَ التّرْك الْمَذْكُور، وَإِذا وجد شَيْء من إسكانها وفعلها وَلم يكن صدوره مسببا عَن دَاعِيَة فعل الْمعْصِيَة بِأَن يكون الْمَقْصُود مِنْهُ تَركهَا دلنا إِلَى الْقطع بصدوره لَا عَن تِلْكَ الداعية لعدم سبق خطور فعل الْمعْصِيَة وداعية النَّفس لَهَا، فكم من مُبَاح يتَحَقَّق وَلَيْسَ هُنَاكَ التّرْك الْمَذْكُور قطعا فَلَا يستلزمه (وَعند تحققها) أَي دَاعِيَة الْمعْصِيَة (فالكف) للنَّفس عَن فعلهَا (وَاجِب ابْتِدَاء) لَا ثَانِيًا بِحَسب تَحْرِيم الْمحرم الَّذِي هُوَ الْكَفّ تركا (يُثبتهُ) أَي وجوب هَذَا الْوَاجِب ابْتِدَاء فَاعله الدَّلِيل فِي قَوْله (بِمَا قَامَ بأطلاقه الدَّلِيل) الْجَار الأول مُتَعَلق بالإثبات، وَالثَّانِي بِالْقيامِ: يَعْنِي إثْبَاته الْوُجُوب بِسَبَب معنى قَائِم بِإِطْلَاقِهِ وَهُوَ عُمُومه وشموله لُزُوم الْكَفّ عَن كل دَاعِيَة مَعْصِيّة، وَيجوز أَن يكون ضمير الْمَوْصُول محذوفا وَالتَّقْدِير بِمَا قَامَ بِهِ وَيكون قَوْله بِإِطْلَاقِهِ بَدَلا عَن قَوْله بِمَا قَامَ بِهِ.
مسئلة
(قيل الْمُبَاح جنس الْوَاجِب) إِذْ الْمُبَاح مَا أذن فِي فعله، وَالْإِذْن جُزْء حَقِيقَة الْوَاجِب لاخْتِصَاص الْوَاجِب بِقَيْد زَائِد لِأَنَّهُ مَا أذن فِي فعله لَا فِي تَركه (وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (غلط، بل) الْمُبَاح(2/227)
(قسيمة) أَي الْوَاجِب (مندرج مَعَه) أَي مَعَ الْوَاجِب (تَحت رجنسهما إِطْلَاق الْفِعْل) عطف بَيَان لجنسهما، وَهُوَ إِذن فِي الْفِعْل غير مُقَيّد بِالْإِذْنِ فِي التّرْك وَعَدَمه (لمبيانته) أَي الْمُبَاح للْوَاجِب (بفصله) أَي الْمُبَاح (إِطْلَاق التّرْك) فِيهِ كإطلاق الْفِعْل، إِذْ الْوَاجِب غير مُطلق التّرْك (وَتقدم) فِي مسئلة لاشك فِي تبادر كَون الصِّيغَة فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب مجَازًا (فِي) بحث (الْأَمر مَا يرشد إِلَيْهِ) أَي إِلَى كَونه مباينا لما قُلْنَا فَليرْجع إِلَيْهَا.
مَبْحَث الرُّخْصَة والعزيمة
(تَقْسِيم للحنفية: الحكم إِمَّا رخصَة وَهُوَ) أَي الرُّخْصَة (مَا) أَي حكم (شرع تَخْفِيفًا لحكم) آخر (مَعَ اعْتِبَار دَلِيله) أَي الحكم الآخر (قَائِم الحكم) لبَقَاء الْعَمَل بِهِ (لعذر خوف) فَوَات (النَّفس أَو الْعُضْو) وَلَو أُنْمُلَة، فَخرجت الْعَزِيمَة لِأَنَّهَا لم تشرع تَخْفِيفًا لحكم، بل شرعت ابْتِدَاء لَا بِعَارِض، وَمِنْهَا خِصَال الْكَفَّارَة الْمرتبَة وَالتَّيَمُّم عِنْد فقد المَاء (كإجراء الْمُكْره بذلك) مُتَعَلق بالمكره أَي بِمَا يحصل بِهِ خَوفه على نَفسه أَو عضوه (كلمة الْكفْر) على لِسَانه وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان، مفعول إِجْرَاء، (وجنايته) أَي الْمحرم الْمُكْره بذلك (على إِحْرَامه) سَوَاء كَانَت الْجِنَايَة الْإِفْسَاد أَو بِمَا يُوجب الدَّم كَمَا هُوَ الظَّاهِر من إِطْلَاقه (ورمضان) أَي وَجِنَايَة الصَّائِم فِي رَمَضَان صَحِيحا مُقيما مكْرها بذلك بالإفساد (وَترك الْخَائِف على نَفسه الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَالصَّلَاة) الْمَفْرُوضَة مَعْطُوف على الْأَمر (وَتَنَاول الْمُضْطَر مَال الْغَيْر) مَعْطُوف على إِجْرَاء (وَهُوَ) أَي هَذَا النَّوْع من الرُّخْصَة (أَحَق نوعيها) أَي أولاهما حَقِيقَة باسم الرُّخْصَة لقِيَام دَلِيل الْعَزِيمَة فِيهِ، وَقيام حكمه من غير دَلِيل دَال على تراخيه عَنهُ، وَكلما قوي جَانب الْعَزِيمَة قوي فِي جَانب خِلَافه معنى الرُّخْصَة المثبتة عَن كَونه معدولا إِلَيْهِ عَن الأَصْل للضَّرُورَة، وَحِينَئِذٍ (فالعزيمة) أَي الْعَمَل بالعزيمة (أولى) لما ذكر من قيام دليلها، وَبَقَاء حكمهَا من غير مُوجب للتراخي (وَلَو مَاتَ بِسَبَبِهَا) أَي الْعَزِيمَة فإمَّا قيام دَلِيل وجوب الْإِيمَان إِلَى آخِره فَلِأَنَّهُ قَطْعِيّ لَا يتَصَوَّر تراخي حكمه عَنهُ عقلا وَلَا شرعا فيدوم بدوامه، وَإِنَّمَا رخص فِي إِجْرَاء تِلْكَ الْكَلِمَة فِي تِلْكَ الْحَالة لِئَلَّا يفوت حَقه صُورَة وَمعنى بتخريب الْبدن، وزهوق الرّوح مَعَ أَن حق الله لَا يفوت معنى لاطمئنان الْقلب بِالْإِيمَان غير أَن الْعَزِيمَة أولى لما فِيهِ من رِعَايَة تَعْظِيم الله تَعَالَى صُورَة وَمعنى، وَحُصُول الشَّهَادَة، والْآثَار فِي هَذَا كَثِيرَة شهيرة، وعَلى هَذَا الْقيَاس قيام دَلِيل النَّافِي وَبَقَاء حكمه من غير تراخ، وأولوية الْعَزِيمَة فِيهِ على مَا تبين فِي مَحَله وَقَالُوا فِي حُرْمَة أكل الْميتَة وَلحم الْخِنْزِير، وَشرب الْخمر إِمَّا فِي حَالَة الِاخْتِيَار، وَإِمَّا فِي حَالَة الِاضْطِرَار فَهِيَ(2/228)
على الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة حَتَّى قيل أَنه لَو لم يَأْكُل حَتَّى يَمُوت كَانَ آثِما (أَو) مَا شرع تَخْفِيفًا لحكم آخر مَعَ اعْتِبَار دَلِيله (متراخيا) حكمه (عَن محلهَا) أَي الرُّخْصَة (كفطر الْمُسَافِر) أَي كرخصة فطره وَالْمَرِيض فِي رَمَضَان، فَإِن دَلِيل وجوب صَوْمه، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} - قَائِم، لَكِن تراخي حكمه عَن مَحل الرُّخْصَة، وَهُوَ السّفر وَالْمَرَض لقَوْله تَعَالَى - {فَعدَّة من أَيَّام أخر} -: وَقد يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى " فليصمه " لَا يعم الْمُسَافِر بِقَرِينَة آخر الْكَلَام فَلَا يتَحَقَّق بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دَلِيل مُتَأَخّر الحكم، وَيُجَاب بِأَنَّهُ يدل على أَنه لَوْلَا وجود عذره لَكَانَ مثل غَيره فِي طلب الصَّوْم، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار جعل دَلِيلا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضا غير أَنه متراخ الحكم (والعزيمة) فِي هَذَا النَّوْع (أولى مَا لم يستضر) بهَا نظرا إِلَى قيام السَّبَب، وَأما إِذا استضر فَلَا أَوْلَوِيَّة للعزيمة، وَقد روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " هِيَ رخصَة من الله فَمن أَخذ بهَا فَحسن، وَمن أحب أَن يَصُوم فَلَا جنَاح عَلَيْهِ ". وَصَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السّفر أَيْضا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (فَإِن مَاتَ بهَا) أَي بالعزيمة (أَثم) لقَتله نَفسه بِلَا مُبِيح، فَمَا فِي صَحِيح مُسلم من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج عَام الْفَتْح إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان حَتَّى بلغ كرَاع الغميم، ثمَّ دَعَا بقدح من مَاء فَشرب بِهِ، فَقيل لَهُ إِن بعض النَّاس قد صَامَ، فَقَالَ أُولَئِكَ العصاة مَحْمُول على أَنهم استضروا بِهِ بِدَلِيل مَا فِي لفظ لَهُ، فَقيل أَن النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصَّوْم (والعزيمة ذَلِك الحكم) الْمعبر عَنهُ بقوله تَخْفِيفًا لحكم وَلَا يخفى أَن الْأَنْسَب ذكره قبل قَوْله، فالعزيمة أولى لكنه أَخّرهُ لما ذكر بعده مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ (فتقيد) الْعَزِيمَة (بِمُقَابلَة رخصَة، وَقد لَا تقيد) بمقابلتها (فَيُقَال) الْعَزِيمَة (مَا شرع ابْتِدَاء غير مُتَعَلق بالعوارض) فتعم مَا كَانَ فِي مُقَابلَة رخصَة وَمَا لم يكن (وتعرف الرُّخْصَة بِمَا تغير من عسر إِلَى يسر من الْأَحْكَام وَقسم كل) من الْعَزِيمَة الرُّخْصَة بِهَذَيْنِ الْمَعْنيين (أَرْبَعَة) من الْأَقْسَام فقسم (الْعَزِيمَة إِلَى فرض) وَهُوَ (مَا) أَي حكم (قطع بلزومه) مَأْخُوذ (من فرض) بِمَعْنى قطع (وواجب بِمَا) أَي حكم (ظن) لُزُومه، سمي وَاجِبا (لسُقُوط لُزُومه) أَي وُقُوعه (على الْمُكَلف بِلَا علم) لَهُ بِثُبُوتِهِ علما قَطْعِيا فَهُوَ مَأْخُوذ (من وَجب) بِمَعْنى (سقط) قَالَ تَعَالَى فِي الْهدى بعد النَّحْر - {فَإِذا وَجَبت جنوبها} -: أَي سَقَطت، وَيحْتَمل أَن تكون التَّسْمِيَة بِاعْتِبَار دَرَجَته عَن مرتبَة الْعلم غير أَنه لَا يلائم إِلَّا الْحَنَفِيَّة (و) قَالَ (الشَّافِعِيَّة) بل الْجُمْهُور الْفَرْض وَالْوَاجِب اسمان (مُتَرَادِفَانِ) لفعل مَطْلُوب جزما (وَلَا يُنكرُونَ) أَي الشَّافِعِيَّة (انقسام مَا لزم) فعله (إِلَى قَطْعِيّ) أَي ثَابت بِدَلِيل قَطْعِيّ دلَالَة وسندا (وظني) أَي ثَابت بِدَلِيل ظَنِّي دلَالَة وسندا (وَلَا) يُنكرُونَ (اخْتِلَاف حَالهمَا) أَي الْقطعِي والظني من حَيْثُ إِلَّا كفار لمنكره وَعَدَمه وَغير ذَلِك، وَإِنَّمَا النزاع فِي أَن الاسمين هَل هما لِمَعْنى وَاحِد يتَفَاوَت فِي بعض الْأَحْكَام بِالنّظرِ إِلَى طَرِيق(2/229)
ثُبُوته أَو كل مِنْهُمَا لقسم مِنْهُ مُغَاير للْآخر بِاعْتِبَار طَريقَة (فَهُوَ) نزاع (لَفْظِي غير أَن إِفْرَاد كل قسم باسم أَنْفَع عِنْد الْوَضع) لموضوع المسئلة (للْحكم) عَلَيْهِ فَإنَّك حِينَئِذٍ تضع الْفَرْض مَوْضُوع مسئلة لتَحكم عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبه وتضع الْوَاجِب كَذَلِك، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَا مترادفين فَإنَّك حِينَئِذٍ تحْتَاج إِلَى نصب قرينَة بِحَسب الْمَوَاضِع (وَإِلَى سنة) أَي (الطَّرِيقَة الدِّينِيَّة) المأثورة (مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو) الْخُلَفَاء (الرَّاشِدين) كلهم (أَو بَعضهم) الَّتِي يُطَالب الْمُكَلف بإقامتها من غير افتراض وَلَا وجوب، وَلم يذكر هَذَا الْقَيْد لظُهُوره بِقَرِينَة التقابل. وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ": حسنه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ. وَأخرجه ابْن مَاجَه وَأحمد وَأَبُو دَاوُد، وهم: أَبُو بكر، وَعمر وَعُثْمَان، وَعلي رَضِي الله عَنْهُم كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ وَغَيره لما صَححهُ أَحْمد وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث سُفْيَان " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة، ثمَّ تكون ملكا ". وَاحْتج بِهِ أَحْمد وَغَيره على خلافتهم فقد كَانَت مدتهم هَذِه إِلَّا سِتَّة أشهر مُدَّة الْحسن ابْن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا (وينقسم مُطلقهَا) أَي السّنة (إِلَى سنة هدى) وَهُوَ مَا يكون إِقَامَتهَا تكميلا للدّين، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَيرد عَلَيْهِ أَن مَا سَيَأْتِي من السّنَن الزَّوَائِد كثير مِنْهَا مَا يصدق عَلَيْهِ هَذَا التَّعْرِيف إِذا قصد بِهِ اتِّبَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المنظور قَصده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ لم يقْصد بالزوائد ذَلِك (تاركها) بِلَا عذر (مضلل ملوم كالأذان) للمكتوبات على مَا ذهب إِلَيْهِ كثير من الْمَشَايِخ، وَذهب صَاحب الْبَدَائِع إِلَى وُجُوبه، وَمَال إِلَيْهِ المُصَنّف لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ من غير ترك (وَالْجَمَاعَة) عَن ابْن مَسْعُود " من سره أَن يلقى الله غَدا فليحافظ على هَؤُلَاءِ الصَّلَوَات حَيْثُ يُنَادي بِهن، فَإِن الله تَعَالَى شرع لنبيكم سنَن الْهدى وانهن من سنَن الْهدى، وَلَو أَنكُمْ صليتم فِي بُيُوتكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا المتخلف فِي بَيته لتركتم سنة نَبِيكُم، وَلَو تركْتُم سنة نَبِيكُم لَضَلَلْتُمْ ". وَفِي رِوَايَة " أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمنَا سنَن الْهدى، وَأَن من سنَن الْهدى الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الَّذِي يُؤذن فِيهِ ". رَوَاهُ مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن (وَإِنَّمَا يُقَاتل المجمعون على تَركهَا) أَي سنة الْهدى كَمَا قَالَ مُحَمَّد فِي أهل بَلْدَة تركُوا الْأَذَان وَالْإِقَامَة أمروا بهما فَإِن أَبَوا قوتلوا بِالسِّلَاحِ (للاستخفاف) لِأَن مَا كَانَ من إِعْلَام الدّين فالإصرار على تَركه استخفاف بِالدّينِ، فيقاتلون على ذَلِك، ذكره فِي الْمَبْسُوط، فَهَذَا الْقِتَال يدل على وجوب الْأَذَان كَمَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم، وَيشكل على هَذَا قَوْله وَلَو تَركه وَاحِد ضَربته وحبسته. وَفِي شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي عَنهُ أَنه قَالَ " لَو ترك أهل كورة سنة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلتهم عَلَيْهَا، وَلَو ترك رجل وَاحِد ضَربته وحبسته " لِأَن السّنة لَا يضْرب وَلَا يحبس عَلَيْهَا إِلَّا أَن يحمل على مَا إِذا كَانَ مصرا على التّرْك من غير عذر فَإِنَّهُ استخفاف كَمَا فِي الْجَمَاعَة المصرين(2/230)
عَلَيْهِ من غير عذر، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَنه يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى الْفرق بَين إِصْرَار الْكل وإصرار الْبَعْض حَيْثُ يُقَاتل فِي الأول، وَيضْرب وَيحبس فِي الثَّانِي فَلْيتَأَمَّل (وَقَول الشَّافِعِي مُطلقهَا) أَي السّنة إِذا أطلقها الصَّحَابِيّ أَو الْمُتَكَلّم بِلِسَان الشَّرْع (منصرف إِلَيْهِ) أَي إِلَى مسنونه (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحِيح فِي عرف الْآن، وَالْكَلَام فِي عرف السّلف ليعْمَل بِهِ فِي نَحْو قَول الرَّاوِي) صحابيا كَانَ أَو غَيره (السّنة أَو من السّنة. وَكَانُوا) أَي السّلف (يطلقونها) أَي السّنة على (مَا ذكرنَا) أَي سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، فَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة جلد الْوَلِيد بن عقبَة من شرب الْخمر " لما أَمر الجلاد بالإمساك على الْأَرْبَعين " جلد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بكر أَرْبَعِينَ، وَعمر ثَمَانِينَ، وكل سنة: وَهَذَا أحب إِلَيّ ". وَقَالَ مَالك: قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز " سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وولاة الْأَمر من بعده سننا الْأَخْذ بهَا اعتصام بِكِتَاب الله تَعَالَى، وَقُوَّة على دين الله تَعَالَى ". وَنقل عَن ابْن شهَاب عَن سَالم وَغَيره مَا يُوَافق الشَّافِعِي، ذكر الشَّارِح تَفْصِيله (وَإِلَى) سنَن (زَائِدَة كَمَا فِي أكله وقعوده ولبسه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا أَخذهَا حسن وَتركهَا لَا بَأْس بِهِ: أَي لَا يتَعَلَّق بِهِ كَرَاهَة وَلَا إساءة (وَإِلَى نفل) مَعْطُوف على قَوْله إِلَى فرض، وَهُوَ الْمَشْرُوع زِيَادَة على الْفَرَائِض والواجبات وَالسّنَن لنا لَا علينا (يُثَاب على فعله) لِأَنَّهُ عبَادَة (فَقَط) وَلَا يُعَاقب على تَركه (وَمِنْه) أَي النَّفْل الركعتان (الأخريان) من الرّبَاعِيّة (للْمُسَافِر) إِذْ يُثَاب على فعلهمَا غير أَنه يصير مسيئا بِتَأْخِير السَّلَام وَلَا يُعَاقب على تَركهمَا (فَلم ينوبا عَن سنة الظّهْر) على الصَّحِيح، لِأَن السّنة بالمواظبة، والمواظبة عَلَيْهَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتحريمة مُبتَدأَة وَإِن لم يحْتَج إِلَى نِيَّة السّنة فِي وُقُوعهَا سنة على مَا هُوَ الْمُخْتَار، ثمَّ عطف على الأخريان (وَمَا تعلق بِهِ دَلِيل ندب يَخُصُّهُ، وَهُوَ الْمُسْتَحبّ وَالْمَنْدُوب) كالركعتين أَو الْأَرْبَع قبل الْعَصْر وَالسّنة بعد الْمغرب: كَذَا ذكره الشَّارِح. وَقَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة: اخْتلف فِي الْأَفْضَل بعد رَكْعَتي الْفجْر. قَالَ الْحلْوانِي: رَكعَتَا الْمغرب، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدعهما سفرا وَلَا حضرا، ثمَّ الَّتِي بعد الظّهْر لِأَنَّهَا سنة مُتَّفق عَلَيْهَا، وَقيل الَّتِي قبل الْعشَاء، وَالَّتِي قبل الظّهْر وَبعده وَبعد الْمغرب كلهَا سَوَاء (وَثُبُوت التَّخْيِير) شرعا (فِي ابْتِدَاء الْفِعْل) للنفل بَين التَّلَبُّس بِهِ، وَعدم التَّلَبُّس (لَا يسْتَلْزم عقلا وَلَا شرعا استمراره) أَي التَّخْيِير (بعده) أَي بعد الِابْتِدَاء والشروع فِيهِ (كَمَا قَالَ الشَّافِعِي) وَإِذا لم يستلزمه (فَجَاز الِاخْتِلَاف) بَين حالتيه: مَا قبل الشُّرُوع وَمَا بعده بِاعْتِبَار التَّخْيِير وَلُزُوم الْإِتْمَام (غير أَنه) أَي الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك (يتَوَقَّف على الدَّلِيل وَهُوَ) أَي الدَّلِيل (النَّهْي عَن إبِْطَال الْعَمَل) الثَّابِت بِنَصّ الْقُرْآن، وَالْقِيَاس على الْحَج النَّفْل (فَوَجَبَ الْإِتْمَام فَلَزِمَ الْقَضَاء بالإفساد، و) قسمت (الرُّخْصَة(2/231)
إِلَى مَا ذكر) فِي أول التَّقْسِيم من الْقسمَيْنِ وَوصف أَولهمَا بِأَنَّهُ أَحَق نوعيها (و) إِلَى (مَا وضع عَنَّا من إصر) أَي حكم مغلظ شاق (كَانَ على من قبلنَا) من الْأُمَم (فَلم يشرع عندنَا) أَي فِي ملتنا أصلا تكريما لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَحْمَة لنا (كقرض مَوضِع النَّجَاسَة) من الثَّوْب وَالْجَلد (وَأَدَاء الرّبع فِي الزَّكَاة) لتَعلق الْوُجُوب بِربع المَال، وَاشْتِرَاط قتل النَّفس فِي صِحَة التَّوْبَة، وَبت الْقَضَاء بِالْقصاصِ عمدا كَانَ الْقَتْل أَو خطأ، وإحراق الْغَنَائِم، وَتَحْرِيم الْعُرُوق فِي اللَّحْم، وَتَحْرِيم السبت وَتَحْرِيم الطَّيِّبَات بِسَبَب الذُّنُوب، وَأَن لَا يطهر من الْجَنَابَة وَالْحَدَث غير المَاء، وَكَون الْوَاجِب من الصَّلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة خمسين، وَعدم جَوَازهَا فِي غير الْمَسْجِد، وَحُرْمَة الْجِمَاع بعد الْعَتَمَة فِي الصَّوْم وَالْأكل بعد النّوم فِيهِ. قَالَ الشَّارِح: وَكِتَابَة ذَنْب المذنب لَيْلًا على بَاب دَاره صباحا وَلَا يخفى أَنه مِمَّا نَحن فِيهِ (و) إِلَى (مَا) أَي حكم (سقط: أَي لم يجب مَعَ الْعذر مَعَ شرعيته فِي الْجُمْلَة) وَتسَمى رخصَة إِسْقَاط (وَهَذَانِ) يَعْنِي مَا وضع عَنَّا وَمَا سقط مَعَ الْعذر إِلَى آخِره جعلا قسمَيْنِ مِنْهَا (بِاعْتِبَار مَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الرُّخْصَة) فَقَط سَوَاء كَانَ بطرِيق الْحَقِيقَة أَو الْمجَاز من غير اعْتِبَار حَقِيقَتهَا، وَهُوَ أَن يشرع تَخْفِيفًا لحكم مَعَ اعْتِبَار دَلِيله قَائِم الحكم لعذر، أَو متراخيا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا حَقِيقَتهَا كالقصر) للصَّلَاة الرّبَاعِيّة للْمُسَافِر، وَإِنَّمَا حكمنَا بِكَوْن الْقصر لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَة الرُّخْصَة (لإِيجَاب السَّبَب الْأَرْبَع فِي غير الْمُسَافِر) فالسبب الْمُوجب للأربع، وَهُوَ النَّص الدَّال على وجوب الْأَرْبَع لَيْسَ فِي مَحل الْقصر (و) إِيجَاب السَّبَب (رَكْعَتَيْنِ فِيهِ) أَي فِي الْمُسَافِر، وَذَلِكَ (بِحَدِيث عَائِشَة) رَضِي الله عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر وزيدت فِي الْحَضَر (وَسُقُوط حُرْمَة الْخمر وَالْميتَة للْمُضْطَر) إِلَى شرب الْخمر وَأكل الْميتَة مَخَافَة الْهَلَاك على نَفسه من الْعَطش والجوع فَإِن دَلِيل الْحُرْمَة لم يقم فِي مَحل الرُّخْصَة، وَهُوَ الِاضْطِرَار (وَالْمكْره) على شرب الْخمر وَأكل الْميتَة بِالْقَتْلِ، وَقطع الْعُضْو فحرمتهما سَاقِطَة مَعَ عذر الِاضْطِرَار وَالْإِكْرَاه ثَابِتَة عِنْد عدمهما على مَا هُوَ ظَاهر الرِّوَايَة (للاستثناء) فِي قَوْله تَعَالَى - {إِلَّا مَا اضطررتم} - بعد قَوْله تَعَالَى - {وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم} - إِذْ الِاسْتِثْنَاء من الْحَظْر إِبَاحَة (فَتجب الرُّخْصَة) هَهُنَا كَمَا يجب شرب الْخمر وَأكل الْخِنْزِير لدفع الْهَلَاك (وَلَو مَاتَ للعزيمة) هَهُنَا بِأَن يمْتَنع عَن شرب الْخمر وَأكل الْميتَة عِنْد الِاضْطِرَار وَالْإِكْرَاه (أَثم) بإلقائه بِنَفسِهِ إِلَى التَّهْلُكَة من غير ملجئ، لَكِن هَذَا إِذا علم بِالْإِبَاحَةِ فِي حق هَذِه الْحَالة لخفاء انكشاف الْحُرْمَة، فيعذر بِالْجَهْلِ، وَلَا يَحْنَث بأكلها مُضْطَرّا إِذا حلف لَا يَأْكُل الْحَرَام، وَذهب كثير مِنْهُم أَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة إِلَى أَن الْحُرْمَة لَا ترْتَفع، بل إثمها يرْتَفع كَمَا فِي الْإِكْرَاه على الْكفْر فَلَا يَأْثَم بالامتناع، وَيحنث فِي الْحلف الْمَذْكُور، فعلى هَذَا يكون من الْقسم الأول لقَوْله(2/232)
تَعَالَى - {فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم} - وَالْمَغْفِرَة إِنَّمَا تكون بعد الْإِثْم وَالْجَوَاب أَن الْمَغْفِرَة بِاعْتِبَار التَّنَاوُل الْمُقدر الزَّائِد على مَا لَا بُد مِنْهُ فِي بَقَاء المهجة: إِذْ يعسر على الْمُضْطَر رِعَايَة ذَلِك (وَمِنْه) أَي من هَذَا الْقسم الْأَخير من الرُّخْصَة (سُقُوط غسل الرجل مَعَ الْخُف) فِي مُدَّة الْمسْح، لِأَن استتار الْقدَم بالخف منع سرَايَة الْحَدث إِلَيْهَا، فوجوب الْغسْل الَّذِي هُوَ الْعَزِيمَة لَيْسَ فِي مَحل الرُّخْصَة، فَغسل الرجلَيْن فِي هَذِه الْحَالة سَاقِط وَالْمسح شرع ابْتَدَأَ تيسيرا، لِأَن الْغسْل يتَأَدَّى بِالْمَسْحِ (وَقَوْلهمْ) أَي جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة فِي هَذِه المسئلة (الْأَخْذ بالعزيمة) وَهُوَ غسل الرجلَيْن (أولى) من الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ، وَهُوَ الْمسْح (مَعْنَاهُ إمَاطَة) أَي إِزَالَة (سَبَب الرُّخْصَة بالنزع للخف ليغسلهما أولى من عدمهَا وَالْمسح على الْخُف، هَذَا وَذكر الزَّيْلَعِيّ أَن كَون الْمسْح على الْخُف من هَذَا النَّوْع سَهْو، لِأَن من شَأْن هَذَا النَّوْع عدم بَقَاء مَشْرُوعِيَّة الْعَزِيمَة مَعَه، لَكِن الْغسْل مَشْرُوع وَإِن لم ينْزع الْخُف: وَلذَا يبطل مَسحه إِذا خَاضَ فِي المَاء وَدخل فِي الْخُف حَتَّى انغسل أَكثر رجلَيْهِ، وَكَذَا لَو تكلّف وَغسل رجلَيْهِ من غير نزع الْخُف أَجزَأَهُ عَن الْغسْل حَتَّى لَا يبطل بِانْقِضَاء الْمدَّة انْتهى قَوْله أَجزَأَهُ عَن الْغسْل أَي عَن الْغسْل بعد النزع، وَقَوله حَتَّى لَا يبطل إِلَى آخِره يرد عَلَيْهِ أَن الْغسْل لَا معنى لبطلانه أَيْضا لِأَنَّهُ اضمحل مَعَ وجود هَذَا الْغسْل: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَوَهَّم لهَذَا الْغسْل مُدَّة كَمَا للمسح لَا يخفى مَا فِيهِ. وَقَالَ الشَّارِح، وَتعقبه المُصَنّف: بِأَن مبناه على صِحَة هَذَا الْفَرْع، وَهُوَ مَنْقُول فِي الفتاوي الظَّهِيرِيَّة، لَكِن فِي صِحَّته نظر فَإِن كلمتهم متفقة على أَن الْخُف اعْتبر شرعا مَانِعا سرَايَة الْحَدث إِلَى الْقدَم فَتبقى الْقدَم على طَهَارَتهَا، وَيحل الْحَدث بالخف فيزال بِالْمَسْحِ، وبنوا عَلَيْهِ منع الْمسْح للمقيم والمعذورين بعد الْوَقْت وَغير ذَلِك من الخلافيات، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن غسل الرجل فِي الْخُف وَعَدَمه سَوَاء إِذا لم يبتل بِهِ ظَاهر الْخُف فِي أَنه لم يزل بِهِ الْحَدث، لِأَنَّهُ غير مَحَله إِلَى قَوْله وَالْأَوْجه كَون الْأَجْزَاء إِذا خَاضَ النَّهر لابتلال الْخُف ثمَّ إِذا انْقَضتْ الْمدَّة إِنَّمَا لم يتَقَيَّد بهَا لحُصُول الْغسْل بالخوض، والنزع إِنَّمَا وَجب للْغسْل وَقد حصل انْتهى. ثمَّ ذكر رِوَايَات من الْكتب الْمُعْتَبرَة تفِيد مَا ذكره المُصَنّف: مِنْهَا مَا فِي فتاوي الإِمَام مُحَمَّد بن الْفضل لَا ينْتَقض مَسحه على كل حَال، لِأَن استتار الْقدَم بالخف يمْنَع سرَايَة الْحَدث إِلَى الرجل فَلَا يَقع هَذَا غسلا مُعْتَبرا فَلَا يُوجب بطلَان الْمسْح، وَمَا فِي المجتبي من أَنه لَا ينْتَقض وَإِن بلغ المَاء الرّكْبَة، ثمَّ ذكر أَن الَّذِي يظْهر لَهُ أَنه يجب عَلَيْهِ غسل رجلَيْهِ ثَانِيًا إِذا نزعهما وَانْقَضَت الْمدَّة وَهُوَ غير مُحدث، لِأَن عِنْد النزع أَو انْقِضَاء الْمدَّة يعْمل ذَلِك الْحَدث السَّابِق عمله فيسرى إِلَى الرجلَيْن فَيحْتَاج إِلَى مزيل لَهُ عَنْهُمَا حِينَئِذٍ للْإِجْمَاع على أَن المزيل لَا يظْهر عمله فِي حدث طَارِئ بعده، ثمَّ قَالَ فَلْيتَأَمَّل،(2/233)
وَلَعَلَّ وَجه التَّأَمُّل أَن السَّرَايَة وَإِن تَأَخَّرت عَن الْغسْل الْمَذْكُور، لَكِن سَبَب السَّرَايَة سبقه، (و) من هَذَا الْقسم (السّلم) وَهُوَ بيع آجل بعاجل (سقط اشْتِرَاط ملك الْمَبِيع) فِيهِ مَعَ اشْتِرَاطه فِيمَا عداهُ من الْبياعَات إِجْمَاعًا. وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " وَلَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك ". وَقدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين، فَقَالَ: " من أسلف فِي تمر فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم " تيسيرا وتخفيفا لِأَنَّهُ بيع المفاليس، فَكَانَ رخصَة مجَازًا لَا حَقِيقَة، لِأَن السَّبَب الْمحرم قد انْعَدم فِي حَقه شرعا (فَلَو لم يبع سلما وَتلف جوعا أَثم) لإلقائه بِنَفسِهِ إِلَى التَّهْلُكَة من غير ملجئ (وَاكْتفى) فِي صِحَة السّلم (بِالْعَجزِ التقديري عَن الْمَبِيع) بِأَن يكون الْمُسلم فِيهِ فِي ملكه وَلكنه مُسْتَحقّ الصّرْف إِلَى حَاجته، وَدَلِيل الْحَاجة إقدامه عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يرضى بأرخص الثمنين إِلَّا لحَاجَة (فَلم يشْتَرط عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ) أَي لم يشْتَرط الْعَجز الْحَقِيقِيّ، وَهُوَ أَن لَا يكون فِي ملكه حَقِيقَة (وَاقْتصر الشَّافِعِيَّة) فِي تَفْسِير الرُّخْصَة (على أَن مَا شرع من الْأَحْكَام لعذر مَعَ قيام الْمحرم لَوْلَا الْعذر رخصَة) أَي اكتفوا فِي تحقق حَقِيقَة الرُّخْصَة مُطلقًا بِمُجَرَّد وجود الْعذر الذى لولاه لتحَقّق قيام الْمحرم، فَلم يشترطوا قيام الْمحرم بِالْفِعْلِ فِي شَيْء من أَقسَام الرُّخْصَة وَقَالُوا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الحكم الْمَشْرُوع على الْوَجْه الْمَذْكُور (فعزيمة، وَمُقْتَضَاهُ) أَي هَذَا الِاقْتِصَار (انْتِفَاء التَّعَلُّق) أَي تعلق التَّحْرِيم (بقائم الْعذر) أَي بِالْفِعْلِ الَّذِي قَامَ عذره، لأَنهم اكتفوا بِمُجَرَّد كَونه بِحَيْثُ لَوْلَا عذره لَكَانَ حَرَامًا يَقْتَضِي القوانين الشَّرْعِيَّة، وَكَلمه لَوْلَا تدل على عدم الْحُرْمَة مَعَ وجود الْعذر (وَيَقْتَضِي) انْتِفَاء تعلق التَّحْرِيم بِمحل الرُّخْصَة (امْتنَاع صَبر الْمُكْره على الْكَلِمَة) أَي على إِجْرَاء كلمة الْكفْر على لِسَانه بِالْقَتْلِ أَو قطع الْعُضْو حَتَّى الْقَتْل أَو الْقطع بِأَن يمْتَنع عَن إجرائها حَتَّى يقتل أَو يقطع، فَقَوله حَتَّى غَايَة للصبر: وَذَلِكَ (لحُرْمَة) الْقطع بِهِ و (قتل النَّفس) أَي الرِّضَا بقتلها والتسبب لَهُ (بِلَا مُبِيح) إِذْ الْمَفْرُوض عدم تعلق الْحُرْمَة بإجرائها بِنَاء على اقتصارهم. وَفِي الشَّرْح العضدي دَلِيل الْحُرْمَة إِذا بَقِي مَعْمُولا بِهِ، وَكَانَ التَّخَلُّف عَنهُ لمَانع طَارِئ فِي حق الْمُكَلف لولاه لثبتت الْحُرْمَة فِي حَقه فَهُوَ الرُّخْصَة انْتهى. واستنبط الْأَبْهَرِيّ من هَذَا أَنه إِن لم يبْق مُكَلّفا عِنْد طرد الْعذر لَا رخصَة فِي حَقه، لِأَنَّهَا من الْأَحْكَام الَّتِي شَرط فِيهَا التَّكْلِيف: فَعدم تَحْرِيم مثل إِجْرَاء الْمُكْره كلمة الشّرك على لِسَانه، وإفطاره فِي رَمَضَان، وإتلافه مَال الْغَيْر لَيْسَ رخصَة، لِأَن الْإِكْرَاه الملجئ يمْنَع التَّكْلِيف.
(تَتِمَّة)
لهَذَا الْفَصْل (الصِّحَّة ترَتّب الْمَقْصُود من الْفِعْل عَلَيْهِ) أَي على الْفِعْل (فَفِي الْمُعَامَلَات)(2/234)
الْمَقْصُود مِنْهُ (الْحل وَالْملك، وَفِي الْعِبَادَات المتكلمون) قَالُوا هِيَ (مُوَافقَة الْأَمر) أَي أَمر الشَّارِع، وَهُوَ أَن يكون (فعله مستجمعا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ) من الشُّرُوط وَغَيرهَا (وَهُوَ) أَي فعله مستجمعا إِيَّاه (معنى الاجزاء، وَالْفُقَهَاء) قَالُوا (هما) أَي الصِّحَّة والاجزاء فِي الْعِبَادَات (اندفاع وجوب الْقَضَاء) تَفْسِير باللازم إِذْ الاندفاع وصف وجوب الْقَضَاء لَا الْفِعْل الْمَوْصُوف بِالصِّحَّةِ (فَفِيهِ) أَي الحكم الَّذِي هُوَ الصِّحَّة عِنْد الْفُقَهَاء (زِيَادَة قيد) عَلَيْهِ عِنْد الْمُتَكَلِّمين إِذْ حَاصله أَنه مُوَافقَة الْأَمر على وَجه ينْدَفع بِهِ الْقَضَاء، وَهَذَا التَّعْبِير أحسن من قَول بَعضهم كَون الْفِعْل مسْقطًا للْقَضَاء لِأَن الْقَضَاء فرع وجوب الْقَضَاء وَلم يجب (فَصَلَاة ظان الطَّهَارَة مَعَ عدمهَا) أَي الطَّهَارَة فِي نفس الْأَمر (صَحِيحَة ومجزئة على الأول) أَي قَول الْمُتَكَلِّمين أَن الْمُعْتَبر فِي الْمُوَافقَة لِلْأَمْرِ شرعا حُصُول الظَّن بهَا لِأَنَّهُ الَّذِي فِي الوسع (لَا الثَّانِي) أَي قَول الْفُقَهَاء لعدم اندفاع الْقَضَاء لِأَنَّهُ فِي معرض اللُّزُوم لاحْتِمَال ظُهُور بطلَان الظَّن، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والاتفاق على الْقَضَاء) أَي على وُجُوبه (عِنْد ظُهُوره) أَي عدم الطَّهَارَة (أَي أَن الاجزاء لَا يُوصف بِهِ وبعدمه إِلَّا محتملهما) أَي الاجزاء وَعَدَمه (من الْعِبَادَات) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج (بِخِلَاف الْمعرفَة) لله تَعَالَى لِأَنَّهَا لَا تحتملهما إِذْ لَيْسَ فيهمَا مَا يُطلق عَلَيْهِ الْمعرفَة وَهُوَ غير مجزئ لِأَنَّهُ إِذا وَصفه بِمَا لَا يَلِيق بِهِ يُسمى جهلا لَا معرفَة غير مجزية (وَقيل يُوصف بهما) أَي بالأجزاء وَعَدَمه مَا لَيْسَ بِعبَادة أَيْضا وَهُوَ (رد الْوَدِيعَة) مثلا (على الْمَالِك) حَال كَونه (مَحْجُورا) لسفه أَو جُنُون فيوصف بِعَدَمِ الْأَجْزَاء (و) حَال كَونه (غير مَحْجُور) فيوصف بالاجزاء (وَدفع) قَالَ الشَّارِح: الدَّافِع الاسنوي (بِأَنَّهُ) أَي ردهَا (لَيْسَ إِلَّا تَسْلِيمًا لمستحق التَّسْلِيم) يَعْنِي لَيْسَ رد الْوَدِيعَة مِمَّا يَقع على وَجْهَيْن مجزئ وَغير مجزئ، بل مِمَّا لَا يَقع إِلَّا على جِهَة وَاحِدَة وَهُوَ التَّسْلِيم لمستحق التَّسْلِيم فَإِن ردَّتْ إِلَى غَيره لَا يُقَال أَنه رد غير مجزئ، وَفِيه نظر (ثمَّ قيل مُقْتَضى) كَلَام (الْفُقَهَاء) أَن الاجزاء (لَا يخْتَص بِالْوَاجِبِ فَفِي حَدِيث الْأُضْحِية) عَن أبي بردة أَنه ذبح شَاة قبل الصَّلَاة فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ " لَا تجزى عَنْك " قَالَ عِنْدِي جزعة من الْمعز فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تجزى إِلَى آخِره) أَي عَنْك وَلَا تجزى عَن أحد بعْدك، رَوَاهُ أَبُو حنيفَة وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، ثمَّ هَذَا بِنَاء على أَن الْأُضْحِية سنة كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (وَنظر فِيهِ) أَي فِي كَون ذَلِك مرضيا للفقهاء باستدلالهم: أَي الْفُقَهَاء (بِرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ) مَرْفُوعا بِإِسْنَاد صَحِيح (لَا تجزى صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن على وُجُوبهَا) أَي أم الْقُرْآن فِي الصَّلَاة فَإِن الِاسْتِدْلَال بهَا على الْوُجُوب دَلِيل على أَن الاجزاء خَاص بِهِ: يَعْنِي لَو لم يكن الاجزاء مُخْتَصًّا بِالْوَاجِبِ لجَاز كَون عدم الاجزاء لفَوَات السّنة، وَلَك أَن تَقول الِاسْتِدْلَال بِاعْتِبَار عدم اجزاء الصَّلَاة، فَإِن مَعْنَاهَا لَا يجزى(2/235)
عَمَّا يجب فِي ذمَّة الْمُكَلف، لَا بِاعْتِبَار نفس الاجزاء فَافْهَم (وَقَالُوا هُوَ) أَي هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ فِي الدّلَالَة على وُجُوبهَا (أدل من الصَّحِيحَيْنِ) أَي من لَفْظهمَا على وُجُوبهَا وَهُوَ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِأم الْكتاب لجَوَاز أَن يكون تَقْدِيره لَا صَلَاة كَامِلَة كَمَا يجوز أَن يكون التَّقْدِير لَا صَلَاة صَحِيحَة (و) باستدلالهم بِمَا (فِي حَدِيث الِاسْتِنْجَاء) عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَرْفُوعا " إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار فليستطب بهَا (فَإِنَّهَا تجزى عَنهُ) على وجوب الِاسْتِنْجَاء (وَهَذَا) النّظر (يحول الدَّلِيل) الْمَذْكُور على أَن الاجزاء يُوصف بِهِ غير الْوَاجِب (اعتراضا عَلَيْهِم) أَي على الْفُقَهَاء، تَقْرِيره أَنكُمْ جعلتم الاجزاء دَلِيل الْوُجُوب وقلتم لَا وجوب للأضحية وَقدره من الشَّارِع اسْتِعْمَال الاجزاء فِيهَا (وَالصِّحَّة عمتهما) أَي الْعِبَادَات والمعاملات (كالفساد) فِي عُمُومه لَهما (وَهُوَ) أَي الْفساد (الْبطلَان) عِنْد الشَّافِعِيَّة (والحنيفة كَذَلِك) أَي يَقُولُونَ بِأَن الْفساد هُوَ الْبطلَان (فِي الْعِبَادَات) يتَحَقَّق (بِفَوَات ركن أَو شَرط) فالعبادة الْفَاسِدَة والباطلة بِمَا فَاتَ فِيهَا ركن أَو شَرط (وَقدمنَا مَا اخترناه من الزِّيَادَة فِي) مَبْحَث (النَّهْي) وَحَاصِله أَن كل فعل هُوَ من جنس الْعِبَادَات إِذا أَتَى بِهِ الْمُكَلف على وَجه مَنْهِيّ عَنهُ نهي تَحْرِيم فَهُوَ بَاطِل لِأَن بطلَان الْفِعْل عبارَة عَن كَونه بِحَيْثُ لَا يَتَرَتَّب الْمَقْصُود مِنْهُ، وَلما كَانَ الْمَقْصُود من الْعِبَادَة الثَّوَاب واندفاع الْعقَاب لَا غير كَانَ الْمنْهِي عَنهُ تَحْرِيمًا بَاطِلا لعدم ترَتّب الْمَقْصُود بِخِلَاف غير الْعِبَادَة، إِذْ لَا يسْتَلْزم عدم ترَتّب الثَّوَاب فِيهِ عدم ترَتّب مَقْصُود آخر كالملك وَالِانْتِفَاع، ومبني هَذَا الْكَلَام أَن الْمنْهِي تَحْرِيمًا لَا ثَوَاب لَهُ وَمَا ينْدَفع بِهِ الْعقَاب أما إِذا جَازَ ترَتّب الثَّوَاب عَلَيْهِ بِدُونِ الِانْتِفَاع الْمَذْكُور أَو عَكسه فَلَا يلْزم الْخُلُو عَن الْفَائِدَة، ثمَّ مُقْتَضى هَذَا بطلَان صَوْم يَوْم الْعِيد وَعدم وجوب الْقَضَاء بعد الشُّرُوع فِيهِ والإبطال، وَالْحَنَفِيَّة لَا يَقُولُونَ بِبُطْلَانِهِ وَإِن ألزموه بالإبطال وَالْقَضَاء بل يَقُولُونَ بِصِحَّتِهِ لَو صَامَهُ، وَقد علم بذلك أَن الْبَاطِل من الْعِبَادَة لَا يخص فَائت الرُّكْن وَالشّرط، بل كل مَا نهى عَنهُ تَحْرِيمًا بَاطِلا (وَفِي الْمُعَامَلَة) عِنْد الْحَنَفِيَّة (كَونهَا) أَي الْمُعَامَلَة (مترتب أَثَرهَا) مُبْتَدأ خَبره مترتب، وَالْجُمْلَة خبر الْكَوْن: أَي كَون الْمُعَامَلَة بِحَيْثُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَا هُوَ الْمَطْلُوب مِنْهَا شرعا حَال كَونهَا (مَطْلُوبَة التفاسح شرعا الْفساد وَغير مَطْلُوبه) التفاسخ شرعا (الصِّحَّة، وَعَدَمه) أَي عدم ترَتّب أَثَرهَا عَلَيْهَا (الْبطلَان) وَإِنَّمَا قَالُوا هَكَذَا (لثُبُوت الترتب) أَي ترَتّب أثر الْمُعَامَلَة عَلَيْهَا حَال كَونهَا (كَذَلِك) أَي مَطْلُوبَة التفاسخ (فِي الشَّرْع بِمَا قدمْنَاهُ) (فِي) مَبْحَث (النَّهْي) كَالْبيع الْفَاسِد إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض (فَفرق) بَين الْمُعَامَلَات (بالأسماء) الْمَذْكُورَة فَمَا كَانَ مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ وَوَصفه سمي صَحِيحا لكَونه موصلا إِلَى تَمام الْمَقْصُود مَعَ سَلامَة الدّين وَمَا كَانَ مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ دون وَصفه سمي فَاسِدا كَمَا يُقَال: لؤلؤة فَاسِدَة: إِذا بَقِي أَصْلهَا وَذهب(2/236)
بياضها ولمعانها، وَلحم فَاسد: إِذا نَتن وَلَكِن بَقِي صَالحا للغذاء، وَمَا لم يكن مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ لَا بوصفه سمى بَاطِلا كَمَا يُقَال لحم بَاطِل: إِذا صَار بِحَيْثُ لَا يبْقى لَهُ صَلَاحِية الْغذَاء (واستدلال مانعي اتصاف الْمَنْدُوب بالاجزاء) من الْفُقَهَاء (بِمَا فِي الِاسْتِنْجَاء) من الحَدِيث الْمَذْكُور إبْقَاء على وُجُوبه بِاعْتِبَار لفظ الاجزاء (قد يمْنَع) كَون المُرَاد بالاجزاء الْمَذْكُور فِيهِ الاجزاء عَن الْوَاجِب (عِنْدهم) أَي الْفُقَهَاء (فَإِنَّهُ) أَي الِاسْتِنْجَاء (مَنْدُوب) عِنْد الْحَنَفِيَّة إِذا لم يبلغ الْخَارِج قدر الدِّرْهَم (كاستدلال المعممين) أَي كَمَا يمْنَع اسْتِدْلَال الْقَائِلين بِأَنَّهُ يُوصف بِهِ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب (بِمَا فِي الْأُضْحِية) من الحَدِيث السَّابِق ذكره (لِأَنَّهَا) أَي الْأُضْحِية (وَاجِبَة) عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ (وَلَا يضرهم) أَي مانعي اتصاف الْمَنْدُوب بالاجزاء (مَا فِي الْفَاتِحَة) من الحَدِيث الْمَذْكُور (لقَولهم بِوُجُوبِهَا) أَي الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة (وَمُقْتَضى الدَّلِيل التَّعْمِيم) أَي تَقْسِيم اتصاف الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب بِهِ عِنْدهم (لحَدِيث الِاسْتِنْجَاء، ثمَّ قد يظنّ أَن الصِّحَّة وَالْفساد فِي الْعِبَادَات من أَحْكَام الشَّرْع الوضعية وَقد أنكر ذَلِك، إِذْ كَون الْمَفْعُول) أَي مَا فعله الْمُكَلف امتثالا (مُوَافقا لِلْأَمْرِ الطَّالِب لَهُ) أَي لذَلِك الْمَفْعُول كَمَا هُوَ معنى الصِّحَّة عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وتوصيف الْأَمر بالطالب على سَبِيل الْمجَاز: إِذْ الطَّالِب إِنَّمَا هُوَ الْآمِر (أَو) كَونه (مُخَالفا) لِلْأَمْرِ الطَّالِب لَهُ كَمَا هُوَ معنى الْفساد عِنْدهم (وَكَونه) أَي الْمَفْعُول (تَمام مَا طلب حَتَّى يكون مسْقطًا: أَي رَافعا لوُجُوب قَضَائِهِ) كَمَا هُوَ معنى الصِّحَّة عِنْد الْفُقَهَاء (وَعَدَمه) أَي عدم كَون الْمَفْعُول تَمام الْمَطْلُوب كَمَا هُوَ معنى عدم الصِّحَّة عِنْدهم، وَكَون الْمَفْعُول مُبْتَدأ خَبره (يَكْفِي فِي مَعْرفَته الْعقل) حَال كَونه (غير مُحْتَاج إِلَى تَوْقِيف الشَّرْع) أَي اطِّلَاعه على ذَلِك (كَكَوْنِهِ) أَي كَمَا يعرف كَونه (مُؤديا للصَّلَاة وتاركا) لَهَا بِالْعقلِ (فحكمنا بِهِ) أَي بِكُل من الصِّحَّة وَالْفساد (عَقْلِي صرف) أَي خَالص، وَلما قيل أَنه لَا شكّ فِي أَنَّهُمَا من أَحْكَام الْوَضع فِي الْمُعَامَلَات، إِذْ لَا يستراب فِي أَن كَون الْمُعَامَلَات مستتبعة لثمراتها الْمَطْلُوبَة مِنْهَا متوقفة على تَوْقِيف من الشَّارِع تعقبه المُصَنّف، فَقَالَ (وَلَا يخفى أَن ترَتّب الْأَثر) على الْفِعْل كَالصَّلَاةِ وَالْبيع (وضعي) إِذْ لَيْسَ من قَضِيَّة الْعقل أَن يَتَرَتَّب على تِلْكَ الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة ذَلِك الثَّوَاب، وَأَن يَتَرَتَّب على الْإِيجَاب وَالْقَبُول الْملك، بل بِمُوجب تعْيين الشَّارِع أَن يكون لكل وَاحِد أثر كَذَا (وَكَون الحكم بِهِ) أَي بترتب الْأَثر على الْفِعْل (بعد مَعْرفَته) أَي الترتب حَاصِلا (بِالْعقلِ شَيْء آخر) غير أصل الترتب، وَيحْتَمل أَن يكون بِالْعقلِ مُتَعَلقا بالمبتدأ، وَهُوَ الْكَوْن بِمَعْنى، وَخَبره شَيْء آخر وَالْحَاصِل أَن أصل ترَتّب الْأَثر الْخَاص على الْفِعْل الْخَاص لَيْسَ بعقلي، بل بِوَضْع الشَّارِع لَكِن حكمنَا بِكَوْن الْفِعْل الْوَاقِع المستجمع لشرائطه الْمُعْتَبرَة شرعا بِحَيْثُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَثَره أَمر عَقْلِي،(2/237)
لِأَنَّهُ إِذا نظر فِيهِ فَوَجَدَهُ مستجمعا لما ذكر حكم بِكَوْنِهِ مترتب الْأَثر (وَاعْلَم أَن نقل الْحَنَفِيَّة عَن الْفُقَهَاء والمتكلمين فِي الأَصْل) الْمَذْكُور فِي تَفْسِير الصِّحَّة وَمَا يقابلها، ونقلهم (وُقُوع الظَّان مخطئا على عكس) نقل (الشَّافِعِيَّة) أما الأول فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِصَرِيح قَوْله (وَهِي المسئلة القائلة) على سَبِيل التَّجَوُّز، ومقول القَوْل (هَل تثبت صفة الْجَوَاز) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة. وَقد يعبر عَنهُ بالاجزاء (للْمَأْمُور بِهِ) مُتَعَلق بتثبت (إِذا أَتَى) الْمَأْمُور (بِهِ) أَي بالمأمور بِهِ (إِلَى آخرهَا) وَهُوَ قَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا إِلَّا بِدَلِيل وَرَاء الْأَمر، وَالصَّحِيح عِنْد الْفُقَهَاء أَنه يثبت بِهِ صفة الْجَوَاز، كَذَا فِي الْمنَار، وَإِنَّمَا كَانَ عكس مَا نقلوا، لِأَن حَاصله أَن الصِّحَّة والاجزاء مُوَافقَة الْأَمر عِنْد الْمُتَكَلِّمين واندفاع وجوب الْقَضَاء عِنْد الْفُقَهَاء وَحَاصِل هَذِه المسئلة أَن الْمُوَافقَة لَيست بموجبة للاجزاء عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَعند الْفُقَهَاء مُوجبَة لَهُ، وَأما الثَّانِي فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِمَا تضمنه قَوْله الْمَذْكُور: وَهُوَ أَن الصَّلَاة الْمَذْكُورَة صَحِيحَة ومجزية عِنْد الْفُقَهَاء وَغير مجزية وَلَا صَحِيحَة عِنْد الْمُتَكَلِّمين. قَالَ فِي البديع: قَالَ عبد الْجَبَّار لَا يكون الِامْتِثَال دَلِيل الاجزاء بِمَعْنى سُقُوط الْقَضَاء وَإِلَّا فَلَو كَانَ الِامْتِثَال مستلزما للاجزاء بِمَعْنى سُقُوط الْقَضَاء يلْزم أَن لَا يُعِيد الصَّلَاة أَو يَأْثَم إِذا علم الْحَدث بَعْدَمَا صلى بِظَنّ الطَّهَارَة، وَاللَّازِم بَاطِل لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْإِعَادَةِ وَغير آثم، وَإِنَّمَا تثبت هَذِه الْمُلَازمَة، لِأَن الْمُصَلِّي إِمَّا مَأْمُور أَن يُصَلِّي بِظَنّ الطَّهَارَة أَو بيقينها، فَإِن كَانَ الأول فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لإتيانه بالمأمور بِهِ على وَجهه، وَإِن كَانَ الثَّانِي لزم الْإِثْم إِذْ لم يَأْتِ بالمأمور بِهِ على وَجهه قُلْنَا الْمُكَلف مَأْمُور بِأَمْر ثَان يتَوَجَّه بِالْأَدَاءِ حَال الْعلم بِفساد الْأَدَاء على حسب حَاله من الْعلم وَالظَّن حَتَّى لَو مَاتَ عِنْد الْعلم أَجْزَأته تِلْكَ الصَّلَاة وَسَقَطت الْإِعَادَة، وَحِينَئِذٍ لَا يَأْثَم إِذا صلى بِظَنّ الطَّهَارَة، لِأَن التَّكْلِيف بِحَسب الوسع، هَذَا عِنْد من يَقُول: الْقَضَاء بِأَمْر جَدِيد، وَلمن يُوجب الْقَضَاء بِالْأَمر الأول أَن يَجْعَل الاجزاء بالامتثال مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْعلم أَو الظَّن بِالْفَسَادِ، وَأما مَعَه فَلَيْسَ الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ دَلِيل الاجزاء انْتهى. قَوْله قُلْنَا إِلَى آخِره يرد عَلَيْهِ أَن عبد الْجَبَّار لم يرتب لُزُوم عدم الْإِعَادَة على مُجَرّد وُقُوع الِامْتِثَال بل عَلَيْهِ، وَكَونه مسْقطًا للْقَضَاء فَلَا إِشْكَال عَلَيْهِ، هَذَا وَلَا يظْهر وَجه قَوْله من الْعلم وَالظَّن، لِأَن أَدَاء الظَّان إِنَّمَا هُوَ بِحَسب الظَّن، إِذْ لَو كَانَ بِحَسب الْعلم لما تبين خِلَافه وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
الْفَصْل الرَّابِع فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ
(الْمَحْكُوم عَلَيْهِ الْمُكَلف مسئلة: تَكْلِيف الْمَعْدُوم مَعْنَاهُ قيام الطّلب) للْفِعْل أَو التّرْك بِالذَّاتِ الْقَدِيم تَعَالَى وتقدس (بِمن سيوجد) مَوْصُوفا (بِصفة التَّكْلِيف) بِأَن يكون بَالغا(2/238)
عَاقِلا. ومرجعه قيام صفة الْكَلَام النفسى وَهُوَ صفة وَاحِدَة بالشخص متكثرة بالاعتبارات، وَمن جملَة اعتباراته الطّلب النَّفْسِيّ (فالتعلق) للطلب بِفعل الْمَعْدُوم فِي الْأَزَل (بِهَذَا الْمَعْنى) الَّذِي حَاصله انْتِفَاء أَنه إِذا وجد وكلف فَلْيفْعَل كَذَا (هُوَ الْمُعْتَبر فِي التَّكْلِيف الأزلي وَلَيْسَ) تَكْلِيف الْمَعْدُوم بِهَذَا الْمَعْنى (مُمْتَنع) وَذهب إِلَيْهِ الأشاعرة (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بامتناع تَكْلِيف الْمَعْدُوم (يلْزم) من تَكْلِيف الْمَعْدُوم (أَمر وَنهي وَخبر) إِذْ الْمُكَلف بِهِ إِمَّا فعل وَترك أَو اعْتِقَاد بمضمون خبري (بِلَا مَأْمُور) ومنهي تَركه اكْتِفَاء بِمَا يُقَابله وَأَرَادَ بِهِ الْمَطْلُوب مِنْهُ فعل أَو ترك (و) بِلَا (مخبر وَهُوَ) أَي اللَّازِم (مُمْتَنع) فَيمْتَنع الْمَلْزُوم (قُلْنَا) يلْزم مَا قُلْتُمْ (فِي) الْخطاب (اللَّفْظِيّ ذِي التَّعَلُّق التنجيزي وَالْخطاب الشفاهي فِي الْخَبَر، أما) الطّلب (النَّفْسِيّ فتعلقه بذلك الْمَعْنى) الْمَذْكُور الْمَعْدُوم (وَاقع تَجدهُ فِي طلب) ك فِي نَفسك (صَلَاح ولد) ترجو أَنه (سيوجد أَو) تَقول (إِن وجد) أبغي صَلَاحه (وتجد معنى الْخَبَر فِي نَفسك مترددا للاعتبار وَغَيره) أَي تَجِد الْمَضْمُون الخبري يتَرَدَّد مرّة بعد أُخْرَى ويتكرر لمصْلحَة الِاعْتِبَار والاتعاظ وَغَيره من الْمصَالح، فَعلم أَن حُصُول الْمَضْمُون النَّفْسِيّ لَا يسْتَلْزم وجود مخبر وَوُقُوع أَخْبَار و (أما حَقِيقَة الأمرية) والنهيية (والخبرية الممتنعة بِلَا مُخَاطب مَوْجُود فبعروض التَّعَلُّق التنجيزي للنفسي) أَي الْخطاب النَّفْسِيّ أَشَارَ إِلَى أَن التَّعَلُّق الأزلي لَيْسَ بتنجيزي، وَفِي الشَّرْح العضدي اخْتصَّ أَصْحَابنَا بِأَن الْأَمر يتَعَلَّق بالمعدوم حَتَّى صَرَّحُوا بِأَن الْمَعْدُوم مُكَلّف وَقد شدد سَائِر الطوائف النكير عَلَيْهِ قَالُوا: إِذا امْتنع فِي النَّائِم والغافل فَفِي الْمَعْدُوم أَجْدَر، وَإِنَّمَا يرد ذَلِك لَو أُرِيد بِهِ تَنْجِيز الْمُكَلف فِي حَال الْعَدَم بِأَن يطْلب مِنْهُ الْفِعْل فِي حَال الْفِعْل بِأَن يكون الْفَهم أَو الْفِعْل فِي حَال الْعَدَم وَلم يرد ذَلِك، بل أُرِيد التَّعَلُّق الْعقلِيّ: وَهُوَ أَن الْمَعْدُوم الَّذِي علم الله أَنه يُوجد بشرائط التَّكْلِيف توجه إِلَيْهِ حكم فِي الْأَزَل بِمَا يفهمهُ ويفعله فِيمَا لَا يزَال انْتهى. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: بل المُرَاد التَّعَلُّق الْمَعْنَوِيّ للطلب الْقَدِيم الْقَائِم بِذَات الله جلّ وَعلا بِالْفِعْلِ من الْمَعْدُوم حَال وجود الْمَأْمُور وتهيئه للفهم، فَإِذا وجد وتهيأ للتكليف صَار مُكَلّفا بذلك الطّلب الْقَدِيم من غير تجدّد طلب انْتهى، وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى اعْتِبَار هَذَا التَّعَلُّق فِي الْأَزَل إِذْ الْأَمر أزلي والتعلق بِالْغَيْر جُزْء من حَقِيقَته، وَفِي هَذَا التَّعَلُّق يكفى وجود الْمَعْدُوم فِي علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أزلا، وَقيل الْكَلَام الَّذِي هُوَ مُشْتَرك بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر قديم وَكَونه أمرا أَو نهيا أَو خَبرا حَادث جمعا بَين المصلحتين: قدم الْكَلَام وحدوث الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر، ورد بِأَنَّهَا أَنْوَاع الْكَلَام وَلَا وجود للْجِنْس بِدُونِ نوع والمعتزلة قَالُوا: لَو كَانَ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر قَدِيما لزم تعدد كَلَام الله تَعَالَى فِي الْأَزَل ضَرُورَة كَونهَا أنواعا لَهُ، وَالْجُمْهُور على أَن كَلَامه تَعَالَى وَاحِد فِي الْأَزَل لَا تعدد فِيهِ وَإِن تنَاول جَمِيع مَعَاني الْكتب(2/239)
الإلهية، أجِيبُوا بِأَن التَّعَدُّد الَّذِي يكون فِي الْكَلَام بِاعْتِبَار المتعلقات لَا التَّعَدُّد الوجودي فَقَوله فبعروض التَّعَلُّق إِلَى آخِره خبر الْمُبْتَدَأ (فَحَيْثُ نفوا عَنهُ) أَي عَن الْكَلَام الأزلي (التَّعَلُّق فَهُوَ) أَي فنفيه عَنهُ (بِهَذَا) الْمَعْنى (وَإِذا أثبت) لَهُ التَّعَلُّق (فبذلك) أَي فَأثْبت بذلك الْمَعْنى، فالنفي وَالْإِثْبَات لَا يتواردان على مَحل وَاحِد فالنزاع لَفْظِي، ثمَّ إِن هَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى على القَوْل بالْكلَام النَّفْسِيّ كَمَا هُوَ الْحق.
مسئلة
(يَصح) عَن الْجُمْهُور (تَكْلِيفه تَعَالَى بِمَا علم انْتِفَاء شَرط وجوده) الَّذِي لَيْسَ بمقدور للمكلف (فِي الْوَقْت) أَي وَقت الْفِعْل كَمَا لَو أَمر بصيام غَد من علم مَوته قبل الْغَد (خلافًا للْإِمَام والمعتزلة والاتفاق) على صِحَة التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ (فِيمَن لَا يعلم) انْتِفَاء شَرط وجوده الَّذِي لَيْسَ بمقدور للمكلف وَقت فعله وَهُوَ منحصر فِي غَيره تَعَالَى كَقَوْل السَّيِّد لعَبْدِهِ صم غَدا غير عَالم بِبَقَاء حَاله إِلَى غَد (لنا لَو شَرط) لصِحَّة التَّكْلِيف (الْعلم) للمكلف بِكَسْر اللَّام (بالوجود) أَي بِوُجُود الشَّرْط الْمَذْكُور (لم يعْص مُكَلّف بِالتّرْكِ) فَإِن قلت بطلَان هَذَا لَا يسْتَلْزم الْمَطْلُوب وَهُوَ صِحَة التَّكْلِيف بِمَا علم انْتِفَاء شَرط الْوُجُود لجَوَاز انْتِفَاء الْعلم بالانتفاء وَالْعلم بالوجود مَعًا قُلْنَا إِنَّمَا يتَصَوَّر فِي حق غَيره تَعَالَى، وَأما فِي حَقه تَعَالَى فَلَا بُد من أحد العلمين، فانتفاء كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَلْزم ثُبُوت الآخر، ثمَّ بَين الْمُلَازمَة بقوله (لاستلزامه) أَي ترك الْمَأْمُور بِهِ (انْتِفَاء إِرَادَة الْفِعْل) لِأَن فعل الْمُكَلف مَشْرُوط إِرَادَة الله تَعَالَى إِيَّاه (وَهُوَ) انْتِفَاء الْإِرَادَة الَّتِي هِيَ شَرط وجود الْفِعْل (مَعْلُوم لَهُ تَعَالَى) والمفروض أَن شَرط التَّكْلِيف الْعلم بالوجود وَهُوَ مُنْتَفٍ (فَلَا تَكْلِيف) بِهِ (فَلَا مَعْصِيّة) إِذْ هِيَ فرع التَّكْلِيف وَاللَّازِم بَاطِل بِالضَّرُورَةِ من الدّين (وَيلْزم) أَيْضا (فِي غَيره تَعَالَى انْتِفَاء الْعلم بالتكليف أبدا) فَيلْزم عدم علم الْمُكَلّفين بأسرهم بالتكليف (لتجويز الانتفاء) إِذْ يجوز كل أحد انْتِفَاء شَرط الْوُجُود المستلزم انْتِفَاء التَّكْلِيف (فِي الْوَقْت وأجزائه لَو) كَانَ الْوَقْت (موسعا لغيبه) أَي لكَون وجود الشَّرْط غَائِبا عَمَّا أحَاط بِهِ علمهمْ لتجويزهم الْمَوْت قبل الْفِعْل (فَيمْتَنع الِامْتِثَال) إِذْ هُوَ فرع الْعلم بالتكليف، يرد عَلَيْهِ أَن لُزُوم انْتِفَاء الْفِعْل بِالْكُلِّيَّةِ غير مُسلم لجَوَاز حُصُول الْعلم بإعلام الله تبَارك وَتَعَالَى وَلَعَلَّه أَرَادَ انْتِفَاء الْعلم بِهِ لغير إِعْلَامه تَعَالَى وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع لوُجُود علم الْمُكَلف بالتكليف بِغَيْر الْإِعْلَام (وَيلْزمهُ) أَي انْتِفَاء الْعلم بالتكليف (عدم إقدام الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على الذّبْح) لوَلَده. قَالَ الشَّارِح: لانْتِفَاء شَرط حلّه عِنْد وقته: وَهُوَ عدم النّسخ وَاللَّازِم بَاطِل لِأَنَّهُ أقدم عَلَيْهِ قطعا انْتهى.(2/240)
وَأَنت خَبِير بِأَن مَا ينساق إِلَيْهِ الذِّهْن من السِّيَاق أَن وَجه اللُّزُوم مَا لزم من اشْتِرَاط الْعلم بالوجود انْتِفَاء الْعلم بالتكليف، لِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ عدم علمه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بتكليفه بِالذبْحِ لغيب وجود الشَّرْط عَنهُ مَعَ أَنه لَا يحْتَمل أَن يكون علمه بإعلام الله تَعَالَى إِيَّاه، كَيفَ وَقد علم سُبْحَانَهُ انْتِفَاء شَرط وجود الذّبْح من خرّ الرَّقَبَة وَغَيره، غير انه سَيَأْتِي فِي آخر الْكَلَام مَا يُؤَيّد الشَّارِح (وَالْإِجْمَاع على الْقطع) للمكلف (بتحقق الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم) اللَّذين هما قسما التَّكْلِيف (قبل الْمعْصِيَة) بالمخالفة (و) قبل (التَّمَكُّن) من الْفِعْل، أَقَامَ إِلَى مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور ثَلَاثَة أَدِلَّة: لُزُوم انْتِفَاء الْمعْصِيَة، وَلُزُوم انْتِفَاء الْعلم بالتكليف، وَلُزُوم إقدامه عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ أَفَادَ بطلَان الثَّالِث للأوّلين بِالْإِجْمَاع الْمَذْكُور، لِأَن علم الْمُكَلف قطعا بالتكليف قبل الْمعْصِيَة يسْتَلْزم تحققها، وَذكر التَّمَكُّن لِأَن الْقطع بالتكليف بعد التَّمَكُّن من الْفِعْل يصلح عذرا عَن الْمعْصِيَة بمخالفة الْأَمر (فَانْتفى) بِهَذَا الْإِجْمَاع (مَا يخال) أَي مَا اعْترض بِهِ على الثَّالِث بِأَنا لَا نسلم لُزُوم عدم إقدام الْخَلِيل وَغَيره بِسَبَب انْتِفَاء علمه بِشَرْط التَّكْلِيف، وَهُوَ عدم النّسخ لتجويزه وُقُوعه قبل الْوَقْت لِأَنَّهُ يحْتَمل (أَن الْإِقْدَام مِنْهُ) عَلَيْهِ السَّلَام على ذبح الْوَلَد (وَمن غَيره) عَلَيْهِ السَّلَام من الْمُكَلّفين على الْإِتْيَان بِالْوَاجِبِ (لظن التَّكْلِيف بِظَنّ عدم النَّاسِخ) بِنَاء على أَن الأَصْل عَدمه (وَهُوَ) أَي ظن التَّكْلِيف (كَاف فِي لُزُوم الْعَمَل كوجوب الشُّرُوع) فِي الْفَرْض (بنية الْفَرْض) إِجْمَاعًا وَهَذَا دَلِيل على أَن تَجْوِيز النّسخ احْتِمَال لَا عِبْرَة بِهِ، وَيرد عَلَيْهِ أَنه لَا كَلَام فِي عدم اعْتِبَاره غير أَنه يلْزم على تَقْدِير اشْتِرَاط الْعلم بِوُجُود الشَّرْط الْعلم فَتدبر وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه يصلح مِثَالا لما يدل قطعا على الْإِجْمَاع على الْقطع بتحقق الْوُجُوب قبل الْمعْصِيَة والتمكن لِأَن نِيَّة الْفَرْض قبل الشُّرُوع فِيهِ وَهِي لَا تتأتى بِدُونِ الْعلم بِالْوُجُوب والتكليف، وَيرد عَلَيْهِ أَيْضا أَن ظن الْمُكَلف بالتكليف إِنَّمَا ينفع إِذا لم يكن فِي مُقَابلَة الدَّلِيل الْقطعِي، وَتَحْرِيم الذّبْح، وَلَا سِيمَا ذبح الْوَلَد ثَابت بالقطعي، وَإِنَّمَا قَالَ انْتَفَى الخ لِأَنَّهُ علم أَن الْقطع بتحقق التَّكْلِيف ثَابت بِالْإِجْمَاع فَلَا عِبْرَة بِاحْتِمَال النّسخ فَلَا وَجه لجعل إقدام الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَبْنِيا على الظَّن مَعَ كَون إقدام غَيره مَبْنِيا على الْقطع (قَالُوا) أَي المخالفون (لَو لم يشْتَرط) فِي صِحَة التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ عدم الْعلم بِانْتِفَاء شَرطه فِي وقته بِأَن يَصح التَّكْلِيف مَعَ الْعلم بِانْتِفَاء الشَّرْط (لم يشْتَرط إِمْكَان الْفِعْل لِأَن مَا عدم شَرطه غير مُمكن، وَمر فِي تَكْلِيف الْمحَال نَفْيه) أَي نفي التَّكْلِيف بِغَيْر الْمُمكن (وَالْجَوَاب النَّقْض) الاجمالى (بتكليف من لم يعلم الانتفاء) اى بالتكليف بِالْفِعْلِ الذى لم يعلم الْآمِر انْتِفَاء شَرط وجوده كالسيد يَأْمر غُلَامه بِفعل مَشْرُوط بِشَرْط وَهُوَ لَا يعلم انتفاءه(2/241)
فَيحْتَمل أَن يكون منتفيا ويستحيل حِينَئِذٍ وجود ذَلِك الْفِعْل وَمَعَ هَذَا الْإِجْمَال لَا يتَحَقَّق إِمْكَان الْفِعْل، وَلَا شكّ فِي وُقُوع مثل هَذَا الْأَمر فِي الشَّاهِد، فَلَو كَانَ دليلكم مُوجبا لاشْتِرَاط عدم الْعلم بِانْتِفَاء الشَّرْط بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاجِب تَعَالَى لأوجب اشْتِرَاط الْعلم بِوُجُود الشَّرْط بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره تَعَالَى لاشتراك الْعلَّة، وَقد يُوَجه بِالْفرقِ بَين تَكْلِيف من يعلم الانتفاء وَمن لم يُعلمهُ، فَإِن هَذَا يسْتَلْزم عدم اشْتِرَاط إِمْكَان الْفِعْل بِخِلَاف ذَلِك، فَإِن الْجَاهِل بالانتفاء يجوز وجود الشَّرْط وَهَذَا التجويز يحملهُ على التَّكْلِيف فَتَأمل (و) أُجِيب (بِالْحلِّ) وَتَعْيِين مَحل الْحل فِي استدلالهم (بِأَن) الْإِمْكَان (الْمَشْرُوط) فِي التَّكْلِيف (كَون الْفِعْل يَتَأَتَّى) أَي كَونه مُمكن الْحُصُول (عِنْد) وجود (وقته وشرائطه، لَا) أَن الْمَشْرُوط (وجودهَا) أَي شَرَائِطه (بِالْفِعْلِ) بِالْإِطْلَاقِ الْعَام: يَعْنِي بِحَيْثُ أَنه يَتَأَتَّى أَن تحققت شَرَائِطه، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وجودهَا فِي وَقت من الْأَوْقَات، غَايَة الْأَمر أَنه لَا بدّ من إِمْكَان الشَّرَائِط (لِأَن عدمهَا) أَي الشَّرَائِط (لَا يُنَافِي) الْإِمْكَان (الذاتي) للْفِعْل، وَالشّرط فِي التَّكْلِيف إِنَّمَا هُوَ إمكانة الذاتي لَا غير، وَإِلَّا لم يَصح تَكْلِيف كل من مَاتَ على كفره ومعصيته لِأَن علمه تَعَالَى مُتَعَلق بِعَدَمِ وُقُوع مَا أمروا بِهِ وَعدم تحقق شُرُوطه من إِرَادَة الْفِعْل وَغَيرهَا (قَالُوا) ثَانِيًا (لَو صَحَّ) التَّكَلُّف (مَعَ علم الْآمِر بالانتفاء) لشرطه (صَحَّ) التَّكْلِيف (مَعَ علم الْمَأْمُور) بانتفائه (إِذْ الْمَانِع) من الصِّحَّة إِنَّمَا هُوَ (عدم إِمْكَانه) أَي الْفِعْل (دونه) أَي الشَّرْط لِأَن شَرط التَّكْلِيف الْإِمْكَان (وَهُوَ) أَي عدم الْإِمْكَان (مُشْتَرك) بَين علم الْآمِر بالانتفاء وَعلم الْمَأْمُور بِهِ (الْجَواب منع مانعية مَا ذكر) عَن الصِّحَّة (بل) الْمَانِع عَنْهَا (انْتِفَاء فَائِدَة التَّكْلِيف وَهُوَ) أَي انتفاؤها إِنَّمَا يكون إِذا انْتَفَى الشَّرْط (فِي علم الْمَأْمُور لَا) فِي علم (الْآمِر فَإِنَّهَا) أَي فَائِدَة التَّكْلِيف (فِيهِ) أَي فِي صُورَة انْتِفَاء الشَّرْط فِي علم الْآمِر (الِابْتِلَاء) للْمَأْمُور (ليظْهر عزمه) أَي الْمَأْمُور على الْفِعْل (وبشره) بِهِ (وضدهما) أَي الْعَزْم والبشر وَهُوَ التّرْك وَالْكَرَاهَة لَهُ (وَبِذَلِك) أَي بِظُهُور الْعَزْم والبشر وضدهما (تتَحَقَّق الطَّاعَة والعصيان وَاعْلَم أَن هَذِه) الْمَسْأَلَة (ذكرت فِي أصُول ابْن الْحَاجِب وَلَيْسَت) الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة (سوى جَوَاز التَّكْلِيف بِمَا علم تَعَالَى عدم وُقُوعه) من الْمُكَلف بِهِ، إِذْ كل مَا علم عدم وُقُوعه علم انْتِفَاء شَرط وجوده فِي الْجُمْلَة كالإرادة من الْمُكَلف وَإِرَادَة الله تَعَالَى إِيَّاهَا لقَوْله تَعَالَى - {وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} - وَقَوله وَلَيْسَت سوى إِلَى آخِره على سَبِيل الْمُبَالغَة للاتحاد بِاعْتِبَار الْمَآل (وهم ذكرُوا فِي مسئلة شَرط الْمَطْلُوب الْإِمْكَان الْإِجْمَاع على وُقُوع التَّكْلِيف بِهِ) أَي بِمَا علم تَعَالَى عدم وُقُوعه (فحكاية الْخلاف مناقضة) كَمَا صرح بِهِ غير وَاحِد من شارحي كَلَامه على مَا ذكره السُّبْكِيّ (ثمَّ على بعده) أَي الْخلاف (يَكْفِي) ويغني (عَن الْإِكْثَار) والإطناب أَن يُقَال: (لنا الْقطع ب) وُقُوع (تَكْلِيف(2/242)
كل من مَاتَ على كفر أَو مَعْصِيّة بِالْإِيمَان وَالْإِسْلَام) المتضمن التَّكْلِيف بِمَا هُوَ ضد للمعاصي (وَإِذ منكره) أَي مُنكر جَوَاز التَّكْلِيف بل وُقُوعه بِالنِّسْبَةِ إِلَى من مَاتَ على كفر أَو مَعْصِيّة (يكفر بإنكار) حكم (ضَرُورِيّ ديني) لأَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ من الدّين أَن الْكفَّار والعصاة مأمورون بترك الْكفْر وَالْمَعْصِيَة إِلَى الْإِيمَان وَالطَّاعَة، فإنكار إِيجَاب الْإِيمَان كفر إِجْمَاعًا (استبعدنا الْخلاف خُصُوصا الإِمَام) أَي من الإِمَام، نقل الشَّارِح عَن السُّبْكِيّ أَن مَا لوُقُوعه شَرط إِن علم الْآمِر الشَّرْط وَاقعا فَلَا إِشْكَال، وَأَن جَهله ويفرض فِي أَمر السَّيِّد عَبده فَكَذَلِك، وَنقل المُصَنّف الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَإِن علم انتفاءه فعلى قسمَيْنِ: أَحدهمَا مَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن فهمه حِين إِطْلَاق التَّكْلِيف كالحياة والتمييز. فَإِن السَّامع مَتى سمع التَّكْلِيف يتَبَادَر ذهنه إِلَى أَنه يستدعى حَيا مُمَيّزا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي خَالف فِيهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالثَّانِي خِلَافه وَهُوَ تعلق علم الله تَعَالَى بِأَن زيدا لَا يُؤمن، فَإِن انْتِفَاء التَّعَلُّق شَرط فِي وجود إيمَانه لَكِن السَّامع يقْضِي بِإِمْكَان إِيمَان زيد غير نَاظر إِلَى هَذَا الشَّرْط، وَهَذَا لَا يُخَالف فِيهِ الإِمَام وَلَا غَيره، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
مسئلة
(مانعو تَكْلِيف الْمحَال) مجمعون (على أَن شَرط التَّكْلِيف فهمه) أَي تصور التَّكْلِيف بِأَن يفهم الْمُكَلف الْخطاب قدر مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِامْتِثَال، لَا بِأَن يصدق بِأَنَّهُ مُكَلّف، وَإِلَّا لزم الدّور وَعدم تَكْلِيف الْكفَّار (وَبَعض من جوزه) أَي تَكْلِيف الْمحَال أَيْضا على أَن شَرط التَّكْلِيف فهمه (لِأَنَّهُ) أَي التَّكْلِيف (للابتداء وَهُوَ) أَي الِابْتِلَاء، وَهُوَ الاختبار (مُنْتَفٍ هَهُنَا) لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْفَهم (وَاسْتدلَّ) كَمَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب وَغَيره للمختار (لَو صَحَّ) تَكْلِيف من لَا يفهم التَّكْلِيف (كَانَ) تَكْلِيفه (طلب) حُصُول (الْفِعْل) مِنْهُ متلبسا (بِقصد الِامْتِثَال) لِأَنَّهُ مُعْتَبر فِي معنى التَّكْلِيف (وَهُوَ) أَي طلبه بِهَذَا الْقَصْد (مُمْتَنع مِمَّن لَا يشْعر بِالْأَمر، وَقد يدْفع) هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَن المستحيل) فِي تَكْلِيف من لَا يفهم التَّكْلِيف (الِامْتِثَال وَلَا يُوجب) اسْتِحَالَة الِامْتِثَال فِيهِ (اسْتِحَالَة التَّكْلِيف، إِذْ غَايَته) أَي غَايَة تَكْلِيف من لَا يفهم (تَكْلِيف بمستحيل، وَبلا فَائِدَة الِابْتِلَاء وَيجب) تَجْوِيز مثل (ذَلِك) فِي أَنه خلاف مَا تَقْتَضِيه الْحِكْمَة بِحَسب ظَاهر الْعقل (مِمَّن يُجِيز عَلَيْهِ) أَي على الله تَعَالَى (تَعْذِيب الطائع، تَعَالَى عَنهُ، بل) جَوَاز هَذَا (أولى) من جَوَاز تَعْذِيب الطائع (وَأَيْضًا لَو صَحَّ) تَكْلِيف من لَا يفهم التَّكْلِيف (صَحَّ تَكْلِيف الْبَهَائِم، إِذْ لَا مَانع فِيهَا) أَي الْبَهَائِم من التَّكْلِيف (سوى عدم الْفَهم وقلتم لَا يمْنَع) عدم الْفَهم التَّكْلِيف (وَلَا يتَوَقَّف مجيز تَكْلِيف الْمحَال عَن الْتِزَامه) أَي جَوَاز تَكْلِيف الْبَهَائِم (غَايَته) أَنه جَائِز (لم يَقع وَلَيْسَ(2/243)
عدم الْمَانِع من التَّكْلِيف عِلّة لثُبُوته) أَي التَّكْلِيف (ليلزم الْوُقُوع بل هِيَ) أَي عِلّة ثُبُوت التَّكْلِيف (الاختبار) أَي اختبار الله تَعَالَى وَلم يثبت (وَلَو جعل هَذَا) الْخلاف (وَنَحْوه) خلافًا (لفظيا فالمانع) من تَكْلِيف من لَا يفهم التَّكْلِيف يَقُول: تَكْلِيف من لَا يفهم مُمْتَنع (لاتفاقنا على أَن الْوَاقِع) أَي الْمُحَقق فِي نفس الْأَمر (نقيضه) وَهُوَ عدم تَكْلِيف من لَا يفهم التَّكْلِيف (فَيمْتَنع) التَّكْلِيف (بِلَا فهم) للتكليف فِي نفس الْأَمر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يمْتَنع كَانَ مُمكنا فِي نفس الْأَمر فيفرض تحَققه فِي نفس الْأَمر، وَإِذا فرض (اجْتمع النقيضان) عل ذَلِك التَّقْدِير: التَّكْلِيف وَعَدَمه، وَفِيه أَن مثل هَذَا لَا يُقَال فِي عدم كل مُمكن (والمجيز) لتكليفه يَقُول: جَائِز مَعَ قطع النّظر عَن أَن الْوَاقِع نقيضه مَوْجُود فَلَا طائل تَحْتَهُ، وَالْمَطْلُوب فِي دَعْوَى امْتنَاع الشَّيْء امْتِنَاعه مَعَ قطع النّظر عَن تحقق نقيضه (بِالنّظرِ إِلَى مَفْهُوم تَكْلِيف) كَائِن (بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَهُ الْقُدْرَة عَلَيْهِ) أَي على الْفِعْل، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لَا قدرَة لَهُ عَلَيْهِ كَالْبَهَائِمِ (على نَحْو مَا قدمْنَاهُ فِي) فصل (الْحَاكِم) من أَنه يُمكن أَن يَقُول قَائِل: إِن الْخلاف فِي جَوَاز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وتعذيب الطائع لَفْظِي (أمكن) جَوَاب لَو جعل (قَالُوا) أَي المخالفون (لَو لم يَصح) تَكْلِيف من لَا يفهم التَّكْلِيف (لم يَقع) لكنه وَقع، كَيفَ لَا (وَقد كلف السَّكْرَان حَيْثُ اعْتبر طَلَاقه وإتلافه أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي اعتبارهما مِنْهُ (من ربط المسببات بأسبابها وضعا) شَرْعِيًّا كربط وجوب الصَّوْم بالشهر، لَا من التَّكْلِيف (قَالُوا) أَيْضا (قَالَ تَعَالَى: لَا تقربُوا الصَّلَاة الْآيَة فَخُوطِبُوا) أَي السكارى (حَال السكر أَلا يصلوا) وَهُوَ تَكْلِيف لمن لَا يفهم التَّكْلِيف (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الِاسْتِدْلَال بهَا (مُعَارضَة قَاطع) وَهُوَ الدَّلِيل الدَّال على امْتنَاع تَكْلِيف من لَا يفهم (بِظَاهِر) وَهُوَ الْآيَة (فَوَجَبَ تَأْوِيله) أَي الظَّاهِر لِأَنَّهُ يؤول عِنْد مُعَارضَة الْقَاطِع (أما بِأَنَّهُ نهي عَن السكر عِنْد قصد الصَّلَاة) لِأَن النهى إِذا ورد على وَاجِب شرعا مُقَيّد بِغَيْر الْوَاجِب انْصَرف إِلَى الْغَيْر، فَالْوَاجِب الصَّلَاة، والمقيد السكر، فالمنهي عَنهُ فِي الْحَقِيقَة السكر كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} - فَإِن الْمنْهِي عَنهُ فِيهِ عدم الْإِسْلَام إِلَّا الْمَوْت (أَو) بِأَنَّهُ (نهى الثمل) بِفَتْح الْمُثَلَّثَة وَكسر الْمِيم، قيل هُوَ من بَدَت بِهِ أَوَائِل الطَّرب وَلم يزل عقله دون الطافح (لعدم التثبت) فِيمَا يَنْبَغِي أَن يَأْتِي بِهِ فِي الصَّلَاة (كالغصب) تَمْثِيل لما لَا يَنْبَغِي أَن يَأْتِي بِهِ فِيهَا، ويلائمه قَوْله - {حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} - وناقش الشَّارِح فِي كَون الثمل أَوَائِل الطَّرب لما ورد فِي الحَدِيث فِي حق حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ فِي شربه قبل التَّحْرِيم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعليّ: وَهل أَنْتُم إِلَّا عبيد أبي، فَعرف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ثمل: أَي سَكرَان شَدِيد السكر، وَلَا يخفى دَفعه (وَلَا يخفى أَنه) أَي الدَّلِيل الدَّال على امْتنَاع تَكْلِيف مَا لَا يفهم (إِنَّمَا يكون قَاطعا بِلُزُوم) اجْتِمَاع (النقيضين) على تَقْدِير تَكْلِيفه (كَمَا ذكرنَا(2/244)
فِي الْجمع) بَين قولي الْمَانِع والمجيز (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن قطعيته بذلك (فَمَمْنُوع) كَونه قَاطعا (عِنْدهم) أَي المجزين (كَيفَ وَقد ادّعوا الْوُقُوع) قَالَ الشَّارِح: ثمَّ لقَائِل أَن يَقُول: إِن كَانَ النَّهْي خطابا حَال سكره فنصّ، وَإِن كَانَ قبل سكره كَمَا هُوَ التَّأْوِيل الأول استلزم أَن يكون مُخَاطبا فِي حَال سكره أَيْضا، إِذْ لَا يُقَال للعاقل: إِذا جننت فَلَا تفعل كَذَا، لِأَنَّهُ إِضَافَة الْخطاب إِلَى وَقت بطلَان أَهْلِيَّته، وَأَيْضًا كَمَا أَفَادَهُ المُصَنّف رَحمَه الله أَنه لَو لم ينسحب هَذَا الْخطاب بِالتّرْكِ عَلَيْهِ حَال سكره لم يفد لَهُ، وَإِن كَانَ تَوْجِيه الْخطاب فِي حَال صحوه لَكِن الْمَطْلُوب التّرْك فِي حَال سكره، وَهَذَا معنى كَونه مُخَاطبا حَال سكره انْتهى.
وَلَا يخفى أَن التَّوْجِيه الأول حَاصله لَا تشرب الْمُسكر وَلَا معنى لاستلزامه كَونه مُخَاطبا بترك الصَّلَاة حَال السكر فَالْتبسَ عَلَيْهِ فَتوهم أَنه عين مَا أولُوا بِهِ من أَن خطاب ترك الصَّلَاة حَال السكر إِنَّمَا توجه إِلَيْهِم قبل السكر، فأورد عَلَيْهِ مَا أوردهُ على ذَلِك، وَمَا أَفَادَهُ المُصَنّف من أَن الانسحاب الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّأْوِيل الأول، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ السُّبْكِيّ تعقبا للتأويل الأول: وَلقَائِل أَن يَقُول هَذَا صَرِيح فِي تَحْرِيم الصَّلَاة على المنتشي مَعَ حُضُور عقله بِمُجَرَّد عدم التثبيت، وَلَا يعْمل من قَالَ بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَالْحق الَّذِي نرتضيه مذهبا أَن من لَا يفهم أَن كَانَ لَا قابلية لَهُ كَالْبَهَائِمِ فامتناع تَكْلِيفه مجمع عَلَيْهِ سَوَاء خطاب التَّكْلِيف وخطاب الْوَضع، فَإِن كَانَت لَهُ قابلية فإمَّا أَن يكون مَعْذُورًا فِي امْتنَاع فهمه كالطفل والنائم وَمن أكره على شرب مَا أسكره فَلَا تَكْلِيف إِلَّا بِالْوَضْعِ، وَإِمَّا أَن يكون غير مَعْذُور كالعاصي يسكره فيكلف تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَقد نَص الشَّافِعِي رَحمَه الله على هَذَا، وَيشْهد لتفرقتنا بَين من لَهُ قابلية وَمن لَا قابلية لَهُ إِيجَاب الضَّمَان على الْأَطْفَال دون الْمَيِّت، فَإِن أَصْحَابنَا قَالُوا: لَو انتفخ ميت وتكسرت قَارُورَة بِسَبَب انتفاخه لم يجب ضَمَانهَا انْتهى، وَقَوله تعقبا للتأويل الدَّال أَيْضا مَبْنِيّ على الالتباس وَكَانَ وَقع فِي كَلَام الْقَوْم أَيْضا تَأْوِيلَانِ: أَولهمَا مَا الْتبس عَلَيْهِ أَولا، وَثَانِيهمَا عين الثَّانِي فِي هَذَا الْكتاب، وَهَذَا الَّذِي تعقبه السُّبْكِيّ. (هَذَا، واستلزم) القَوْل بِأَن الْفَهم شَرط التَّكْلِيف (اشْتِرَاط الْعقل الَّذِي بِهِ الْأَهْلِيَّة) للتكليف (فالحنفية) قَالُوا: الْعقل (نور) يضيء بِهِ طَرِيق (يبتدأ بِهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْجَار وَالْمَجْرُور فِي مَحل الرّفْع (من مُنْتَهى دَرك الْحَواس) قَالَ صدر الشَّرِيعَة فابتداء دَرك الْحَواس ارتسام المحسوس فِي الحاسة الظَّاهِرَة، ونهايته ارتسامه فِي الْحَواس الْبَاطِنَة فَحِينَئِذٍ بداية تصرف الْقلب فِيهِ بِوَاسِطَة الْعقل بِأَن يدْرك الْغَائِب من الشَّاهِد وتنتزع الكليات من تِلْكَ الجزئيات المحسوسة إِلَى غير ذَلِك من تمثيلات وَبَيَان مَرَاتِب للنَّفس الناطقة فَأفَاد المُصَنّف رَحمَه الله جَمِيع ذَلِك وَزَاد عَلَيْهِ فَقَالَ (فيبدو) أَي يظْهر (بِهِ) أَي بذلك النُّور (الْمدْرك) بِصِيغَة الْمَفْعُول (للقلب) ثمَّ فسر الْقلب بقوله (أَي الرّوح(2/245)
وَالنَّفس الناطقة فيدركه) أَي الْقلب (بخلقه تَعَالَى) الْإِدْرَاك فِيهِ من غير تَأْثِير لذَلِك النُّور، (فالنور آلَة إِدْرَاكهَا) أَي النَّفس الناطقة (وَشَرطه) أَي إِدْرَاكهَا (كالضوء لِلْبَصَرِ) أَي كَمَا أَن الضَّوْء شَرط عادي (فِي إيصاله) أَي الْبَصَر المبصرات إِلَى النَّفس الناطقة (وَمُقْتَضى مَا ذكرنَا) من هَذَا التَّعْرِيف (أَن لدرك الْحَواس) جمع حاسة بِمَعْنى الْقُوَّة الحساسة (مبدأ، قيل) وَقد عرفت الْقَائِل (هُوَ) أَي المبدأ (ارتسام المحسوسات) أَي انطباعها (أَي صورها) بِحَذْف الْمُضَاف، لِأَن أَنْفسهَا موجودات خارجية لَا يُمكن ارتسامها (فِيهَا) أَي فِي الْحَواس (ونهايته) أَي نِهَايَة دَرك الْحَواس (فِي الْحَواس الْبَاطِنَة) الْخمس (وَهِي الْحس الْمُشْتَرك فِي مقدم الدِّمَاغ) ينطبع فِيهِ صور المحسوسات كلهَا عِنْد غيبتها عَن الْحَواس الظَّاهِرَة، ومقدمة الْبَطن الأول مِنْهُ الَّذِي هُوَ مبدأ عصب الْحَواس (فيودعها) أَي الْحس الْمُشْتَرك (خزانته الخيال) عطف بَيَان لخزانتها لتحفظها، وَهِي قُوَّة مرتبَة فِي مُؤخر الْبَطن الأول من الدِّمَاغ (ثمَّ المفكرة) وَهِي قُوَّة مرتبَة فِي الْجُزْء الأول من الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ بهَا يَقع التَّرْكِيب وَالتَّفْصِيل بَين الصُّور المحسوسة الْمَأْخُوذَة من الْحس الْمُشْتَرك والمعاني المدركة بالوهم كإنسان لَهُ رأسان، أَو عديم الرَّأْس، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (تأخذها) أَي المفكرة صور المحسوسات (مِنْهُ) أَي من الْحس الْمُشْتَرك (للتركيب كَمَا تَأْخُذ من خزانَة الْوَهم) أَي الْقُوَّة (الحافظة فِي الْمُؤخر) أَي مُؤخر الدِّمَاغ (مستودعاته) مفعول تَأْخُذ (من الْمعَانِي الْجُزْئِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالمحسوس) فالوهم قُوَّة مرتبَة فِي آخر الْبَطن الْأَوْسَط من الدِّمَاغ يدْرك بهَا الْمعَانِي الْجُزْئِيَّة الْمَذْكُورَة (كصداقة زيد) وعداوة عَمْرو، والحافظة قُوَّة مرتبَة فِي الْبَطن الْأَخير مِنْهُ (وَهَذَا الْأَخْذ) الْمعبر عَنهُ بقوله: ثمَّ المفكرة تأخذها مِنْهُ للتركي (ابْتِدَاء عمل الْعقل، وَلما احْتَاجَ) ثُبُوت (هَذِه) الْأُمُور من الْعقل الَّذِي هُوَ الْجَوْهَر المجرّد الْمُتَعَلّق بِالْقَلْبِ والحواس الْبَاطِنَة (إِلَى سمع) أَي دَلِيل سَمْعِي يثبتها (عِنْد كثير من أهل الشَّرْع وَلم يكتف) فِي الِاسْتِدْلَال على وجودهَا (بِكَوْن فَسَاد هَذِه الْبُطُون) الَّتِي هِيَ محالها (يُوجب فَسَاد ذَلِك الْأَثر) الْمَذْكُور من ارتسام صور المحسوسات والتركيب والمعاني الْجُزْئِيَّة (وَكَانَ الْمُحَقق) الَّذِي لَا شُبْهَة فِي وجوده (هُوَ الْإِدْرَاك، وَهُوَ) أَي الْإِدْرَاك (بخلقه تَعَالَى) أَي مخلوقه عِنْد وجود السَّبَب العادي (لم يزدْ القَاضِي الباقلاني على أَن الْعقل بعض الْعُلُوم الضرورية) إِذْ لَو كَانَ كلهَا لزم عدم وجود الْعقل لفاقد الْبَعْض لفقد شَرط من الْتِفَات أَو تجربة أَو تَوَاتر وَنَحْو ذَلِك، والاتفاق على أَنه عَاقل، وَلَو كَانَ الْعلم بالنظريات للَزِمَ مثل ذَلِك (وَالْأَكْثَر) على أَن الْعقل (قُوَّة بهَا إِدْرَاك الكليات للنَّفس) وَقَالَ الإِمَام غريزة يتبعهَا الْعلم بالضروريات عِنْد سَلامَة الْآلَات. وَقَالَ بَعضهم: قُوَّة بهَا يُمَيّز بَين الْأُمُور المستحسنة(2/246)
والقبيحة (ومحلها) أَي الْقُوَّة الَّتِي هِيَ الْعقل (الدِّمَاغ) وَهَذَا الرَّأْي (للفلاسفة) قَالَ الشَّارِح وخصوصا الْأَطِبَّاء وَأحمد فِي رِوَايَة وَأبي الْمعِين النَّسَفِيّ، وَعَزاهُ صدر الْإِسْلَام إِلَى أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، فَقَالَ: وَهُوَ جسم لطيف مضيء مَحَله الرَّأْس عِنْد عَامَّة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وأثره يَقع على الْقلب فَيصير الْقلب مدْركا بِنور الْعقل الْأَشْيَاء كَالْعَيْنِ تصير مدركة بِنور الشَّمْس الْأَشْيَاء. وَاحْتَجُّوا بِأَن الرجل يضْرب فِي رَأسه فيزول عقله وَلَا يَزُول بِضَرْب عُضْو آخر (وَالْقلب) عطف على الدِّمَاغ (اللَّحْم) الصنوبري الشكل الْمُودع فِي الْجَانِب الْأَيْسَر من الصَّدْر، عطف بَيَان للقلب (للأصوليين) كَالْقَاضِي أبي زيد، وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة لقَوْله تَعَالَى - {فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا} {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب} -: أَي عقل من ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال وَأجِيب عَن حجَّة الْأَوَّلين بِأَنَّهُ لَا يمْنَع زَوَال الْعقل وَهُوَ فِي الْقلب بِفساد الدِّمَاغ لما بَينهمَا من الارتباط كَمَا لَا يمْنَع عدم نَبَات شعر اللِّحْيَة بِقطع الاثنيين، وَقيل التَّحْقِيق: أَن أَصله ومادته من الْقلب وَيَنْتَهِي إِلَى الدِّمَاغ (وَهِي) أَي الْقُوَّة الْمُفَسّر بهَا الْعقل (المُرَاد بذلك النُّور وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (من مُنْتَهى دَرك الْحَواس إِشَارَة إِلَى أَن عمل الْعقل لَيْسَ فِيهَا) أَي فِي مدركات الْحَواس (فَإِنَّهَا مدركات الصّبيان والبهائم) والمجانين، فَعلم أَن مُجَرّد الْحَواس كَاف فِي ذَلِك من غير حَاجَة إِلَى الْعقل (بل) عمل الْعقل (فِيمَا يَنْزعهُ مِنْهَا) أَي المدركات الحسية (وَهُوَ) أَي عمله (عِنْد انْتِهَاء دَرك الْحَواس، وَعَمله التَّرْتِيب السالف) أَي النّظر الْمَذْكُور فِي أول الْكتاب (فيخلق الله عَقِيبه) أَي التَّرْتِيب الْمَذْكُور (علم الْمَطْلُوب بِالْعَادَةِ) من غير وجوب على مَا هُوَ الْحق، وَلَيْسَ المُرَاد من قَوْلهم عِنْد انْتِهَاء دركها أَنه لَا يصدر مِنْهُ عمل إِلَّا عِنْد ذَلِك، بل المُرَاد أَنه لَا عمل لَهُ قبل ذَلِك (وَأما جعل النُّور الْعقل الأول) الثَّابِت (عِنْد الفلاسفة الْجَوْهَر) الْفَرد (الْمُجَرّد عَن الْمَادَّة فِي نَفسه وَفعله) عطف بَيَان لِلْعَقْلِ الأول وَزَعَمُوا أَنه أول الْمَخْلُوقَات، فَالْمُرَاد بِالنورِ الْمنور أَو المضيء بِذَاتِهِ كنور الشَّمْس، فَإِن مَا سوى الشَّمْس مضيء بِغَيْرِهِ وَهُوَ الشَّمْس، وَالشَّمْس مضيء بوصفها وَهُوَ نورها، ونورها مضيء بِذَاتِهِ والجاعل صدر الشَّرِيعَة، لَكِن على سَبِيل الِاحْتِمَال الْمُمكن (فبعيد عَن الصَّوَاب) فَإِن الْأُصُولِيِّينَ جعلُوا الْعقل من صِفَات الْمُكَلف وفسروه بِهَذَا التَّفْسِير، فَكيف يتَصَوَّر أَن يُرَاد بِالنورِ الْمَذْكُور فِي تفسيرهم ذَلِك! (وَكَذَا) بعيد عَن الصَّوَاب (جعله) أَي النُّور الْمَذْكُور (إشراقه) أَي الْأَثر الفائض من هَذَا الْجَوْهَر على نفس الْإِنْسَان كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة احْتِمَالا آخر مُمكنا، لِأَنَّهُ لَيْسَ من صِفَات الْمُكَلف: بل هُوَ من تَوَابِع ذَلِك الْجَوْهَر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتجوز فِيهِ مُسَامَحَة، وَلَا يخفى بعده والاستغناء عَنهُ (مَعَ أَن مَا يحصل بإشراقه) وإفاضة نوره (على النَّفس(2/247)
والمدرك) عطف تفسيري لَهَا (الْإِدْرَاك) فَاعل يحصل (عِنْدهم) أَي الفلاسفة خبر إِن (الْعقل الْعَاشِر الْمُتَعَلّق بفلك الْقَمَر، وَإِلَيْهِ ينسبون الْحَوَادِث اليومية على مَا هُوَ كفرهم) : يَعْنِي مَذْهَبهم الْمُشْتَمل على أَنْوَاع من الْكفْر (لَا) الْعقل (الأول، وَكَذَا) بعيد عَن الصَّوَاب (جعله) أَي النُّور الْمَذْكُور (الْمرتبَة الثَّانِيَة من مَرَاتِب النَّفس) الناطقة بِحَسب مَالهَا من التعقل، وَهِي أَرْبَعَة: الأولى استعداد بعيد نَحْو الْكَمَال بِمُجَرَّد قابليتها لإدراك المعقولات مَعَ خلوّها عَن إِدْرَاكهَا بِالْفِعْلِ كَمَا للأطفال وَهِي لَيست لسَائِر الْحَيَوَانَات، وَيُسمى عقلا هيولانيا تَشْبِيها بالهيولي الخيالية فِي نَفسهَا عَن جَمِيع الصُّور الْمُقَابلَة لَهَا الثَّانِيَة استعداد متوسط لتَحْصِيل النظريات بعد حُصُول الضروريات، وَتسَمى عقلا بالملكة كَمَا سَيَجِيءُ لما حصل بهَا من ملكة الِانْتِقَال إِلَى النظريات وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِيهَا جدا الثَّالِثَة الإقدار على استحصال النظريات مَتى شَاءَت من غير احْتِيَاج إِلَى كسب جَدِيد لكَونهَا مكتسبة مخزونة تحضر بِمُجَرَّد الِالْتِفَات، وَيُسمى عقلا بِالْفِعْلِ لقربها من الْفِعْل الرَّابِعَة حُصُول النظريات مُشَاهدَة، وَيُسمى عقلا مستفادا لاستفادتها من الْعقل الفعال (أَعنِي) بالمرتبة الثَّانِيَة (الْعقل بالملكة) وَإِنَّمَا كَانَ بَعيدا (لِأَنَّهُ) أَي النُّور الْمَذْكُور (آلَة لَهَا) أَي لهَذِهِ الْمرتبَة لَا نَفسهَا (والمسمى) بِالْعقلِ بالملكة (هِيَ) أَي النَّفس (فِي هَذِه الْمرتبَة أَو الْمرتبَة) الَّتِي فِيهَا النَّفس (وكل هَذِه) الِاحْتِمَالَات (فضلات الفلاسفة لَا يَلِيق بالشرعي) كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: أَي بِالَّذِي لَهُ نِسْبَة إِلَى الشَّرْع ليرتبط بِهِ قَوْله (الْبناء عَلَيْهَا) أَي على الاعتبارات الْمَذْكُورَة الموهومة (لعدم الِاعْتِدَاد بهَا شرعا، ثمَّ يتَفَاوَت) الْعقل بِحَسب الْفطْرَة بِالْإِجْمَاع وَشَهَادَة الْآثَار، فَرب صبي أَعقل من بَالغ (وَلَا يناط) التَّكْلِيف (بِكُل قدر) بِأَن يُكَلف كل من لَهُ مِقْدَار من الْعقل قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا لقُصُور بعض مراتبه عَن فهم الْخطاب وتدبير الْعَمَل لكَونه خَارِجا عَن وَسعه، وَلَا تَكْلِيف إِلَّا على قدر الوسع فاحتيج إِلَى ضَابِط بِكَوْن منَاط التَّكْلِيف (فأنيط بِالْبُلُوغِ) حَال كَونه (عَاقِلا، وَيعرف) كَونه عَاقِلا (بالصدر عَنهُ) من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، فَإِن كَانَ على سنَن وَاحِد كَانَ معتدل الْعقل، وَهَذَا الِاعْتِدَال إِنَّمَا يحصل غَالِبا عِنْد الْبلُوغ، فأدير التَّكْلِيف عَلَيْهِ تيسير للعباد، فَإِذا بلغ وَمَا يصدر عَنهُ على نمط وَاحِد على الْوَجْه الْمَعْرُوف بَين النَّاس حكم بِكَوْنِهِ مُكَلّفا (وَأما قبله) أَي الْبلُوغ هَل يتَحَقَّق التَّكْلِيف (فِي صبي عَاقل فَعَن أبي مَنْصُور) الماتريدي وَكثير من مَشَايِخ الْعرَاق كَمَا سبق فِي الْفَصْل الثَّانِي فِي الحكم (والمعتزلة إناطة وجوب الْإِيمَان بِهِ) أَي بعقله (وعقابه) أَي الصَّبِي الْعَاقِل (بِتَرْكِهِ) أَي الْإِيمَان لمساواته البالع فِي كَمَال الْعقل، وَإِنَّمَا عذر فِي عمل الْجَوَارِح لضعف الْبَيِّنَة بِخِلَاف عمل الْقلب، غير أَن عِنْد هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كَمَال الْعقل معرف للْوُجُوب كالخطاب، والموجب(2/248)
هُوَ الله تبَارك وَتَعَالَى، بِخِلَاف الْمُعْتَزلَة فَإِن الْعقل عِنْدهم يُوجب بِذَاتِهِ كَمَا أَن العَبْد موجد لأفعاله. كَذَا ذكره الشَّارِح (ونفاه) أَي وجوب الْإِيمَان (بَاقِي الْحَنَفِيَّة دارية) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصبيّ حَتَّى يَحْتَلِم، وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل ". قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله: مَعْنَاهُ امْتنَاع التَّكْلِيف، لَا أَنه رفع بعد وَضعه انْتهى، لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ رَحمَه الله: الْأَحْكَام إِنَّمَا تعلّقت بِالْبُلُوغِ بعد الْهِجْرَة، وَقبلهَا إِلَى عَام الخَنْدَق كَانَت تتَعَلَّق بالتمييز: فعلى هَذَا يكون الرّفْع بعد الْوَضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُمَيز، كَذَا ذكره الشَّارِح (وَرِوَايَة لعدم انْفِسَاخ نِكَاح المراهقة بِعَدَمِ وَصفه) أَي الْإِيمَان كَمَا مر فِي الْفَصْل الثَّانِي فِي الْحَاكِم. (وَاتفقَ غير الطَّائِفَة من البخاريين) من الْحَنَفِيَّة (على وُجُوبه) أَي الْإِيمَان (على بَالغ) عَاقل (لم تبلغه دَعْوَة على التَّفْصِيل) السَّابِق فِي الْفَصْل الْمَذْكُور: وَالله أعلم بِالصَّوَابِ. (وَهَذَا فصل اخْتصَّ الْحَنَفِيَّة بعقده فِي الْأَهْلِيَّة) أَهْلِيَّة الْإِنْسَان للشَّيْء صلاحيته لصدوره وَطَلَبه مِنْهُ وقبوله إِيَّاه (وَهِي ضَرْبَان: أَهْلِيَّة الْوُجُوب) للحقوق الْمَشْرُوعَة لَهُ وَعَلِيهِ (وأهلية الْأَدَاء كَونه مُعْتَبرا فعله شرعا، وَالْأول بِالذِّمةِ وصف شَرْعِي) أَي ثَابت بِاعْتِبَار الشَّرْع تثبت (بِهِ الْأَهْلِيَّة لوُجُوب مَاله و) مَا (عَلَيْهِ) من الْحُقُوق الْمَشْرُوعَة: إِذْ الْوُجُوب شغل الذِّمَّة، وَأورد عَلَيْهِ أَنه يصدق على الْفِعْل بالتفسير الأول، وَأَن الْأَدِلَّة لَا تدل على ثُبُوت مُغَاير لِلْعَقْلِ وَأجِيب بِمَنْع الصدْق عَلَيْهِ وَلَا يظْهر وَجه الْمَنْع، نعم قد يُقَال: إِن الدَّلِيل يدل على ثُبُوت مُغَاير لِلْعَقْلِ، إِذْ الْمَجْنُون لَهُ أَهْلِيَّة مَاله وَعَلِيهِ فِي الْجُمْلَة (و) قَالَ (فَخر الْإِسْلَام) الذِّمَّة (نفس ورقبة لَهَا) أَي للنَّفس (عهد) والعطف تفسيري (وَالْمرَاد أَنَّهَا) أَي الذِّمَّة (الْعَهْد) الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى - {وَإِذا أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} -: الْآيَة. وَعَن أبيّ بن كَعْب فِي تَفْسِيرهَا جمعهم لَهُ يَوْمئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فجعلهم أَزْوَاجًا ثمَّ صورهم فاستنطقهم فتكلموا، وَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم؟ قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة أَنا كُنَّا عَن هَذَا غافلين، فَلَا تكفرُوا بِي فَإِنِّي أرسل إِلَيْكُم رسلًا يذكرونكم عهدي وميثاقي، والْحَدِيث فَإِن قيل كَيفَ قَامَت عَلَيْهِم الْحجَّة الْآن بذلك الْإِقْرَار وهم لَا يذكرُونَ ذَلِك الْعَهْد، فَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ المُرَاد إِلَّا قيام الْحجَّة يَوْم الْقِيَامَة وهم يذكرُونَ عِنْد ذَلِك إِمَّا بِخلق الذّكر فيهم، أَو بِإِزَالَة الْمُوجب للنسيان، أَو لِأَن الصَّادِق أخْبرهُم بِوُقُوع ذَلِك فلزمهم تَصْدِيقه (فَفِي ذمَّته) أَي فَقَوْل الْقَائِل فِي ذمَّته كَذَا يُرَاد بِهِ (فِي نَفسه بِاعْتِبَار عهدهما من) إِطْلَاق اسْم (الحالّ) وَهُوَ الذمّة (فِي الْمحل) وَهُوَ النَّفس (جعلت) النَّفس (كظرف) يسْتَقرّ فِيهِ الْوُجُوب (لقُوَّة التَّعَلُّق) أَي تعلق الْعَهْد الَّذِي هُوَ منشأ الْوُجُوب بِالنَّفسِ(2/249)
(فَقبل الْولادَة ثمَّ نفس مُنْفَصِل من وَجه) لاستقلاله بِنَفسِهِ من جِهَة التفرد بِالْحَيَاةِ وَإِن كَانَ جُزْءا من أمه من وَجه لقراره وانتقاله بقرارها، وانتقالها كيدها ورجلها، وتبعيته لَهَا فِي الْعتْق وَالرّق ودخوله فِي بيعهَا (فَهِيَ) أَي الذِّمَّة ثَابِتَة لَهُ (من وَجه من الْوُجُوب لَهُ من وَصِيَّة وميراث وَنسب وَعتق على الِانْفِرَاد) أَي دون الْأُم إِذا كَانَ مُحَقّق الْوُجُود وَقت تعلق وُجُوبهَا لَهُ على مَا عرف فِي مَحَله (لَا عَلَيْهِ) أَي غير ثَابِتَة فِيمَا يجب عَلَيْهِ (فَلَا يجب فِي مَاله ثمن مَا اشْترى الْوَلِيّ لَهُ، وَبعد الْولادَة تمت لَهُ) الذِّمَّة من كل وَجه (فاستعقبته) أَي الذِّمَّة الْوُجُوب (لَهُ وَعَلِيهِ إِلَّا مَا) أَي إِلَّا وجوب فعل (يعجز عَن أَدَائِهِ لانْتِفَاء فَائِدَته) أَي ذَلِك الْوُجُوب. ثمَّ بَين الْمُسْتَثْنى بقوله (مِمَّا لَيْسَ الْمَقْصُود مِنْهُ مُجَرّد المَال) كالعبادة الْمَحْضَة، فَإِن فَائِدَة وُجُوبهَا الْأَدَاء على سَبِيل التَّعْظِيم عَن اخْتِيَار وَقصد صَحِيح، وَالصَّبِيّ الَّذِي لَا يعقل لَا يتَصَوَّر مِنْهُ مَا ذكر وَالَّذِي يعقل عَن أَدَائِهِ وَلَا يَنُوب عَنهُ وليه فِي ذَلِك، لِأَن ثُبُوت الْولَايَة جبري لَا اختياريّ: فَلَا يصلح طَاعَة (وَذَلِكَ) أَي مَا بَقِي بعد الثنيا: أَي مَا يجب على الصَّبِي الْمَذْكُور مِمَّا الْمَقْصُود مِنْهُ مُجَرّد المَال (كَمَال الْغرم) أَي الغرامات الْمَالِيَّة الَّتِي هِيَ من حُقُوق الْعباد كَمَا لَو انْقَلب على مَال إِنْسَان فأتلفه عَلَيْهِ الضَّمَان (والعوض) فِي الْمُعَاوَضَات الْمَالِيَّة من البيع وَالشِّرَاء وَنَحْوهمَا لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُمَا المَال جبرا لفائت، وَأَدَاء لحق الْمُعَارضَة لَا الطَّاعَة، فَيحصل بأَدَاء وليه (والمؤنة) أَي مُؤنَة مَا فِي ملكه من الأَرْض وَغَيرهَا (كالعشر وَالْخَرَاج وصلَة كالمؤنة) أَي وَمثل تَشْبِيه صلَة الْمُؤْنَة (كَنَفَقَة الْقَرِيب) فَإِنَّهَا تشبه الْمُؤْنَة من جِهَة أَنَّهَا تجب على الْغَنِيّ كِفَايَة لما يحْتَاج إِلَيْهِ أَقَاربه، وَكَذَا لَا يجب على غير الْمُوسر، وَالْمَقْصُود مِنْهَا سد خلة الْقَرِيب بوصول كِفَايَته، وَذَلِكَ بِالْمَالِ (وكالعوض) أَي وَمثل صلَة تشبه الْعِوَض (كَنَفَقَة الزَّوْجَة) فَإِنَّهَا تشبهه من جِهَة وُجُوبهَا جُزْء للاحتباس الْوَاجِب عَلَيْهَا، وَمَا جعلت عوضا مَحْضا لِأَنَّهُمَا لم تجب بِعقد الْمُعَاوضَة، ولكونها صلَة تسْقط بمضيّ الْمدَّة إِذا لم يُوجد الْتِزَام كَنَفَقَة الْقَرِيب، ولشبهما بالأعواض تعْتَبر دينا بالالتزام (لَا) مَا يكون من الصِّلَة (كالأجزية) فَإِنَّهَا لَا تجب فِي مَاله (كالعقل) أَي كتحمل شَيْء من الدِّيَة مَعَ الْعَاقِلَة فَإِنَّهُ صلَة، لَكِن فِيهِ معنى الْجَزَاء على ترك حفظ السَّفِيه وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم، وَلذَا اخْتصَّ بِهِ رجال الْعَشِيرَة دون الصَّبِي وَالنِّسَاء لأَنهم لَيْسُوا من أهل الْحِفْظ مَعَ أَنه عُقُوبَة وَالصَّبِيّ لَيْسَ من أَهلهَا، وَهَذَا (بِخِلَاف الْعِبَادَات كَالصَّلَاةِ) فَإِنَّهَا لم تجب عَلَيْهِ (للْحَرج) وَذهب بعض الْمَشَايِخ كَالْقَاضِي أبي زيد إِلَى وجوب حُقُوق الله تَعَالَى جَمِيعًا على الصَّبِي، لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على صِحَة الْأَسْبَاب وَقيام الذِّمَّة وَقد تحققا فِيهِ، لَا على الْقُدْرَة والتمييز لِأَنَّهُمَا قد يعتبران فِي حق وجوب الْأَدَاء، وَهُوَ غير أصل الْوُجُوب، ورده الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم بِأَنَّهُ(2/250)
إخلاء لَا يُجَاب الشَّرْع من الْفَائِدَة فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة، وَهِي الْجَزَاء إِلَى غير ذَلِك مِمَّا بَين فِي الشَّرْح (وَلذَا) أَي للُزُوم الْحَرج (لَا يقْضِي) أَي لَا يجب عَلَيْهِ قَضَاء (مَا مضى من الشَّهْر) أَي شهر رَمَضَان (إِذا بلغ فِي أَثْنَائِهِ) أَي الشَّهْر (بِخِلَاف الْمَجْنُون والمغمى عَلَيْهِ إِذا لم يستوعباه) أَي الْجُنُون وَالْإِغْمَاء الشَّهْر فَإِنَّهُ يجب قَضَاء مَا فاتهما مِنْهُ لثُبُوت أصل الْوُجُوب فِي حَقّهمَا ليظْهر فِي الْقَضَاء، لِأَن صَوْم مَا دون الشَّهْر من سنة لَا يُوجب الْحَرج (بِخِلَاف الْمُسْتَوْعب من الْجُنُون) للشهر فَإِنَّهُ لَا يجب فِي حَقه الْقَضَاء، لِأَن امتداد الْجُنُون كثير فَيلْزم الْحَرج، بِخِلَاف الْإِغْمَاء فَإِنَّهُ يثبت الْوُجُوب مَعَه إِذا استوعب الشَّهْر ليظْهر حكمه فِي الْقَضَاء، لِأَنَّهُ نَادِر وَلَا حرج فِي النَّادِر (والممتد مِنْهُمَا) أَي وَبِخِلَاف الممتد من الْجُنُون وَالْإِغْمَاء (يَوْمًا وَلَيْلَة فِي حق الصَّلَاة) قَالَ الشَّارِح رَحمَه الله: وَهَذَا سَهْو، وَالصَّوَاب مَا نذكرهُ فِي بحث الْجُنُون أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة فَإِن الممتد مِنْهُمَا يَوْمًا وَلَيْلَة فِي حق الصَّلَاة لَا يمْنَع ثُبُوت الْوُجُوب مَعَه ليظْهر فِي حق الْقَضَاء لعدم الْحَرج بِانْتِفَاء ثُبُوت الْكَثْرَة لعدم الدُّخُول فِي حد التّكْرَار انْتهى، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن المُرَاد بِقَرِينَة مَا سَيَأْتِي المتجاوز مِنْهُمَا يَوْمًا وَلَيْلَة لما فِي الامتداد من معنى التجاوز وَلَا يخفى مَا فِي عباراته من ترك الْأَدَب مَعَ الْأُسْتَاذ (بِخِلَاف النّوم فيهمَا) أَي الْيَوْم وَاللَّيْلَة استيعابا لَهما فَإِنَّهُ لَا يمْنَع ثُبُوت الْوُجُوب مَعَه لمصْلحَة الْقَضَاء (إِذْ لَا حرج لعدم الامتداد عَادَة) لِأَنَّهُ نَادِر (وَالزَّكَاة وَإِن تأدت بالنائب لَكِن إِيجَابهَا للابتلاء بِالْأَدَاءِ بِالِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَ) الصَّبِي (من أهلهما) أَي الْأَدَاء وَالِاخْتِيَار (وَلذَا) أَي وَلكَون الْإِيجَاب لما ذكر (أسقط مُحَمَّد الْفطْرَة) أَي وُجُوبهَا عَلَيْهِ (تَرْجِيحا لِمَعْنى الْعِبَادَة، واكتفيا) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله (فِيهِ بالقاصرة) أَي بالأهلية القاصرة فِيهَا فأوجباها عَلَيْهِ (تَرْجِيحا للمؤنة) فِيهَا وَقد سبق أَن قَول مُحَمَّد أوضح (وَبِخِلَاف الْعُقُوبَات كَالْقصاصِ والأجزية كحرمان الْإِرْث بقتْله) لمورثه فَإِنَّهَا لَا تجب عَلَيْهِ لعدم أَهْلِيَّته للعقوبات وَالْجَزَاء لِأَنَّهُمَا للتقصير، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (لِأَنَّهُ) أَي الصَّبِي (لَا يُوصف بالتقصير، وَاسْتثنى فَخر الْإِسْلَام) وَالْقَاضِي أَبُو زيد والحلواني (من الْعِبَادَات الْإِيمَان فَأثْبت) فَخر الْإِسْلَام وَمن وَافقه أصل (وُجُوبه) أَي الْإِيمَان (فِي الصَّبِي الْعَاقِل لسببية حُدُوث الْعَالم) لما فِيهِ من الْآيَات الدَّالَّة على وجود الْمُحدث تبَارك وَتَعَالَى لنَفس وُجُوبه وَقيام الذِّمَّة لَهُ (لَا الْأَدَاء) أَي لم يثبت وجوب الْأَدَاء لِأَنَّهُ بِالْخِطَابِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْل للخطاب لعدم كَمَال الْعقل واعتداله (فَإِذا أسلم) الصَّبِي (عَاقِلا وَقع) إِسْلَامه (فرضا) لِأَن صِحَّته لَا تتَوَقَّف على وجوب الْأَدَاء بل على مشروعيته كَصَوْم الْمُسَافِر، ثمَّ هُوَ فِي نَفسه غير متنوع إِلَى فرض وَنفل فَتعين كَونه فرضا (فَلَا يجب تجديده) أَي الْإِسْلَام حَال كَونه (بَالغا كتعجيل الزَّكَاة بعد السَّبَب) لوُجُوبهَا إِذْ كل مِنْهُمَا وَقع بعد(2/251)
تحقق أصل الْوُجُوب قبل الْأَدَاء فَكَمَا صَحَّ ذَلِك عَن الْفَرْض صَحَّ هَذَا عَنهُ (فَإِن قيل مثله) أَي جَوَاز الحكم بعد تحقق سَبَب وُجُوبه قبل تحقق سَبَب وجوب أَدَائِهِ (يتَوَقَّف على السّمع) لِأَن سُقُوط مَا يسْتَحبّ أَدَاؤُهُ بِفِعْلِهِ قبل أَن يجب على خلاف الْقيَاس (قُلْنَا) نعم، وَقد وجد وَهُوَ (إِسْلَام عليّ رَضِي الله عَنهُ) أخرج الإِمَام البُخَارِيّ فِي تَارِيخه عَن عُرْوَة رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين. وَأخرج الْحَاكِم من طَرِيق إِسْحَاق أَنه رَضِي الله عَنهُ أسلم وَهُوَ ابْن عشر سِنِين، وَعَن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: دفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرَّايَة إِلَى عليّ رَضِي الله عَنهُ يَوْم بدر وَهُوَ ابْن عشْرين سنة، وَقَالَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ الذَّهَبِيّ رَحمَه الله: هَذَا نَص على أَنه أسلم وَله أقل من عشر سِنِين، بل نَص على أَنه أسلم وَهُوَ ابْن سبع أَو ثَمَان سِنِين، وَقَالَ بعض الْمُحدثين فعلى هَذَا يكون عمره حِين أسلم خمس سِنِين لِأَن إِسْلَامه رَضِي الله عَنهُ كَانَ فِي أول المبعث، وَمن المبعث إِلَى بدر خمس عشرَة سنة فَلَعَلَّ فِيهِ تجوزا بإلغاء الْكسر الَّذِي فَوق الْعشْرين، وَكَأن تَصْحِيح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِسْلَامه مَأْخُوذ من تَقْرِيره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَهُ على ذَلِك، وَقَالَ عفيف عَن الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي أول المبعث لم يُوَافق مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على دينه إِلَّا امْرَأَته خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَهَذَا الْغُلَام عليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. قَالَ عفيف: فرأيتهم يصلونَ فوددت أَنِّي أسلمت حِينَئِذٍ فَأَكُون ربع الْإِسْلَام، وَعَن المُصَنّف رَحمَه الله أَنه إِن أُرِيد تَصْحِيحه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَحْكَام الْآخِرَة فَمُسلم، وكلامنا فِي أَحْكَام الدُّنْيَا وَالْآخِرَة حَتَّى لَا يَرث أَقَاربه الْكفَّار وَنَحْو ذَلِك وَلم ينْقل تَصْحِيحه إِلَّا فِي الْعِبَادَات فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَه وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصحح صلَاته، وَصِحَّة الصَّلَاة فرع صِحَة الْإِيمَان انْتهى. وَلَا يخفى أَن الظَّاهِر مِنْهُ تَصْحِيحه فِي حق كل مَا يترفع عَلَيْهِ وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم، ثمَّ قَالَ صَاحب الْكَشْف وكلامنا فِي صبي عَاقل يناظر فِي وحدانية الله تَعَالَى وَصِحَّة رِسَالَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه لَا يبْقى فِي مَعْرفَته شُبْهَة (وعَلى مَا قدمنَا) هـ من الْبَحْث الَّذِي ينتفى بِهِ تحقق أصل الْوُجُوب فِي مسئلة ثُبُوت السَّبَبِيَّة لوُجُوب الْأَدَاء بِأول الْوَقْت موسعا فِي الْفَصْل الثَّالِث (يَكْفِي السّمع) أَي الْأَدِلَّة السمعية معينا (عَن) اعْتِبَار (أصل الْوُجُوب) تَوْضِيحه أَن الدَّاعِي لاعْتِبَار وُقُوع بعض الْأَفْعَال عَن الْوَاجِب قبل وجوب الْأَدَاء بعد تحقق سَببه فَلَو لم يعْتَبر هُنَاكَ أصل الْوُجُوب لم يبْق لوُقُوعه عَنهُ وَجه، وَلَا حَاجَة لاعْتِبَار أصل الْوُجُوب (ونفاه) أَي أصل الْوُجُوب للْإيمَان عَن الصَّبِي الْعَاقِل (شمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ رَحمَه الله (لعدم حكمه) أَي الْوُجُوب وَهُوَ لُزُوم الْأَدَاء وَهُوَ لَا يجب بِدُونِهِ وَإِن وجد السَّبَب وَالْمحل (وَلَو أدّى) الصبيّ الْمَذْكُور أَي آمن (وَقع) ذَلِك المؤدّي (فرضا لِأَن عدم الْوُجُوب كَانَ لعدم حكمه) أَي كَانَ لعَجزه المفضي إِلَيّ(2/252)
عدم تحقق الْأَدَاء نظرا إِلَى ظَاهر حَاله (فَإِذا وجد) الحكم الَّذِي هُوَ الْأَدَاء (وجد) الْوُجُوب كَمَا مر فِي صَوْم الْمُسَافِر، وكأداء صَلَاة الْجُمُعَة فِي حق من لَا يجب عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يصير بِهِ مُؤديا للْفَرض وَإِن لم يكن وجوبا ثَابتا فِي حَقه قبل الْأَدَاء (وَالْأول) أَي قَول فَخر الْإِسْلَام وَمن وَافقه (أوجه) إِذْ الْمُسَافِر وَمن لَا تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة إتيانهما بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة مَسْبُوق بِالْوُجُوب فِي الْجُمْلَة فوقوعهما عَن الْفَرْض موجه، بِخِلَاف فعل الصَّبِي على طَريقَة شمس الْأَئِمَّة، وَأَيْضًا لَا نسلم أَن حكم الْوُجُوب هُوَ وجوب الْأَدَاء إِنَّمَا ذَلِك حكم الْخطاب بل حكمه صِحَة الْأَدَاء وَهِي متحققة. هَذَا وَقد أَجمعُوا على عدم وجوب نِيَّة فرض الْإِيمَان على الْبَالِغ الْمَحْكُوم بِصِحَّة إِسْلَامه صَبيا تبعا لِأَبَوَيْهِ الْمُسلمين (وَلعدم حكمه) أَي الْوُجُوب (من الْأَدَاء لم تجب الصَّلَاة على الْحَائِض لانْتِفَاء الْأَدَاء شرعا) فِي حَالَة الْحيض (وَالْقَضَاء) بعد الطَّهَارَة مِنْهُ (للْحَرج والتكليف) أَي وَالْحَال أَن تَكْلِيف الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ مَا هُوَ فِي قدرتهم إِنَّمَا هُوَ (لِرَحْمَتِهِ) تَعَالَى لَهُم لِأَنَّهُ طَرِيق حُصُول الثَّوَاب فِي السّنة الإلهية (والحرج طَرِيق التّرْك) الْمُوجب للعقاب (فَلم يتَعَلَّق) التَّكْلِيف (ابْتِدَاء بِمَا فِيهِ) الْحَرج (فضلا) من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِخِلَاف الصَّوْم) فَإِنَّهُ لَا حرج فِي قَضَائهَا إِيَّاه لوُقُوعه فِي السّنة مرّة (فَثَبت) أصل الْوُجُوب عَلَيْهَا (لفائدة الْقَضَاء وَعدم الْحَرج وأهلية الْأَدَاء نَوْعَانِ) أحداهما (قَاصِرَة لقُصُور الْعقل وَالْبدن كَالصَّبِيِّ الْعَاقِل) أَي كأهليته (وَالْمَعْتُوه الْبَالِغ) وَإِن كَانَ قوي الْبدن، فِي الْقَامُوس عَنهُ كغني عتها وعتاها فَهُوَ معتوه: نقص عقله (وَالثَّابِت مَعهَا) أى القاصرة (صِحَة الْأَدَاء) لَا وُجُوبه اذ فِيهَا نفعة بِلَا شَائِبَة ضَرَر (و) الْأُخْرَى (كَامِلَة بكمالهما) أَي الْعقل وَالْبدن (ويلزمها) أَي الْكَامِلَة (وُجُوبه) أَي الْأَدَاء، وَقد يكون كَامِل الْعقل ضَعِيف الْبدن كالمفلوج فَيسْقط عَنهُ أَدَاء مَا يتَعَلَّق بِقُوَّة الْبدن وسلامته (فَمَا) يكون (مَعَ القاصرة) سنة لِأَنَّهُ (إِمَّا حق لله) تبَارك وَتَعَالَى (لَا يحْتَمل حسنه الْقبْح) بِأَن يُبدل بالقبح فِي بعض الْأَحْوَال لبَعض الْعَوَارِض الْمُقْتَضِيَة لذَلِك (أَو قَبِيح لَا يحْتَمل الْحسن) بعكس مَا ذكرنَا (أَو مُتَرَدّد) بَين الْحسن والقبح (أَو غَيره) أَي غير حق الله تَعَالَى وَهُوَ حق العَبْد وَحِينَئِذٍ (فإمَّا) يكون مِمَّا (فِيهِ نفع أَو ضَرَر محضان) بِأَن لَا يكون أَحدهمَا مشوبا بِالْآخرِ (أَو مُتَرَدّد) بَين النَّفْع وَالضَّرَر (فَالْأول) أَي مَا هُوَ حق الله تَعَالَى وَلَا يحْتَمل حسنه الْقبْح (الْإِيمَان لَا يسْقط حسنه وَفِيه نفع مَحْض) إِنَّمَا ذكر هَذَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِيهِ شَائِبَة ضَرَر لَكَانَ يتَوَهَّم سُقُوط حسنه فِي بعض الْأَحْوَال، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد من الْإِيمَان التَّصْدِيق إِذْ الْإِقْرَار فِي بعض الْأَحْوَال يضر وَذَلِكَ عِنْد غَلَبَة الْكفَّار عَلَيْهِ (وتخلف الْوُجُود الْحكمِي عَن) الْوُجُود (الْحَقِيقِيّ) إِنَّمَا يكون (لحجر الشَّرْع) عَن الْحكمِي (وَلم يُوجد) حجره عَنهُ، وَالْمرَاد بالوجود الْحَقِيقِيّ حسن الْفِعْل لذاته بِحَسب نفس الْأَمر(2/253)
فَإِن الْحَنَفِيَّة أثبتوا للْفِعْل حسنا وقبحا لذاته وَإِن لم يثبتوا الْوُجُوب وَالْحُرْمَة بِمُجَرَّد ذَلِك بِدُونِ السّمع كَمَا أثبت الْمُعْتَزلَة، وبالوجود الْحكمِي بحسنه وَالْعَمَل بِمُوجبِه، وَحجر الشَّرْع مَنعه عَن الْعَمَل بِمُوجبِه لمصْلحَة أهمّ من ذَلِك وَلم يُوجد مَنعه من الْعَمَل بِمُوجب حسن الْإِيمَان وَهُوَ الْإِتْيَان بِهِ (وَلَا يَلِيق) الْحجر عَنهُ بالشارع لعدم احْتِمَال حسنه الْقبْح بِوَجْه مَا، وَلَو صَار مَحْجُورا عَنهُ لأمر لَكَانَ قبيحا من تِلْكَ الْجِهَة. وَقد مر أَن نَفعه لَا يشوبه ضَرَر ثمَّ لما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه قد يكون فِيهِ ضَرَر فِي أَحْكَام الدُّنْيَا كحرمانه عَن مُوَرِثه الْكَافِر، والفرقة بَينه وَبَين زَوجته الْمَجُوسِيَّة أجَاب بقوله (وضرر حرمَان الْمِيرَاث وَفرْقَة النِّكَاح) أَي زَوَاله: أَي بينونة الْمَنْكُوحَة (مضافان إِلَى كفر الْقَرِيب و) كفر (الزَّوْجَة) لَا إِلَى إِيمَان الْقَرِيب وَالزَّوْج (وَلَو سلم) لُزُوم ذَلِك لَهُ (فَحكم الشَّيْء الْمُوجب) بِالرَّفْع صفة الحكم وفاعله (ثُبُوته) ومفعوله (صِحَّته) الضَّمِير الأول عَائِد إِلَى الحكم، وَالثَّانِي إِلَى الشي لَا الْعَكْس، وجر الْمُوجب صفة للشَّيْء كَمَا قَالَ الشَّارِح إِذْ يسْتَدلّ بِثُبُوت حكم الشَّيْء على صِحَة ذَلِك الشَّيْء لِأَنَّهُ لَو لم يكن صَحِيحا لما ثَبت حكمه. فَإِن غير الصَّحِيح لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم فَإِن قلت كَذَلِك يسْتَدلّ بِثُبُوت الشَّيْء على صِحَة حكمه قلت حكم الشَّيْء ذَلِك الشَّيْء والتوصيف بِالصِّحَّةِ وضدها إِنَّمَا يَلِيق بِالْأَصْلِ دون الْفَرْع، يُقَال: البيع صَحِيح أَو فَاسد، وَلَا يُقَال: الْملك صَحِيح أَو فَاسد، ثمَّ حكم الشَّيْء مُبْتَدأ خَبره (مَا) أَي الحكم الَّذِي (وضع) الشَّيْء (لَهُ) أَي لذَلِك الحكم (وَوَضعه) أَي الْإِيمَان (لَيْسَ لذَلِك) أَي لحرمان الْإِرْث والفرقة بَين الزَّوْجَة وَبَينه (وَإِن لزم) ذَلِك (عِنْده) أَي الْإِيمَان لَازِما من لوازمه التابعة لوُجُوده، يَعْنِي لَو كَانَ الحرمان والفرقة حكما للْإيمَان بِأَن يكون الْإِيمَان مَوْضُوعا لَهُ فَيُوجب ثُبُوته صِحَة الْإِيمَان لَكَانَ يخل بِكَوْن الْإِيمَان نفعا مَحْضا، أما كَون بعض تَوَابِع وجوده ضَرَرا فَغير مخل بِهِ إِذْ لَا عِبْرَة بِهِ فِي جنب مَنَافِعه الْخَارِجَة عَن الْحَد وَالْعد (بل) وضع (لسعادة الدَّاريْنِ) فَهِيَ حِكْمَة الْمُوجب ثُبُوته صِحَة الْإِيمَان (مَعَ أَنه) أَي الْإِسْلَام (مُوجب إِرْثه من الْمُسلم فَلم يكن) لَازمه (محصورا فِي الأول) أَي حرمَان الْإِرْث وَيعود ملك نِكَاحه إِذا كَانَت أسلمت قبله فيتعارضان النَّفْع وَالضَّرَر ويتساقطان فَيبقى الْإِسْلَام فِي نَفسه نفعا مَحْضا، وَصَارَ هَذَا (كقبول هبة الْقَرِيب) من إِضَافَة الْمصدر إِلَى مَفْعُوله، والقابل الوليّ (من الصَّبِي) صلَة للقريب (يَصح) الْقبُول (مَعَ ترَتّب عتقه) أَي الْقَرِيب الْمَوْهُوب على الْقبُول (وَهُوَ) أَي عتقه (ضَرَر لِأَن الحكم الْأَصْلِيّ) للهبة إِنَّمَا هُوَ (الْملك بِلَا عوض) لَا الْعتْق الْمُرَتّب عَلَيْهَا فِي هَذِه الصُّورَة (وَعرض الْإِسْلَام عَلَيْهِ) أَي على الصَّبِي الَّذِي لَهُ زَوْجَة (لإسلام زَوجته) لِئَلَّا تبين عَنهُ (لصِحَّته) أَي الْإِسْلَام (مِنْهُ) أَي الصَّبِي (لَا لوُجُوبه) عَلَيْهِ (وضربه) أَي الصَّبِي(2/254)
(لعشر) أَي عِنْد بُلُوغ سنه عشرا (على الصَّلَاة) أَي لأَجلهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ إِذا بلغ سبع سِنِين. وَإِذا بلغ عشر سِنِين فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا " قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح إِنَّمَا شرع (تأديبا) أَي ليتخلق بأخلاق الْمُسلمين ويعتاد الصَّلَاة فِي الْمُسْتَقْبل (كالبهيمة) أَي كضربها على بعض الْأَفْعَال فَعَنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تضرب الدَّابَّة على النفار وَلَا تضرب على العثار وَفِيه مقَال (لَا للتكليف وَالثَّانِي) أَي مَا هُوَ حق الله تَعَالَى وَلَا يحْتَمل قبحه الْحسن (الْكفْر) فَإِنَّهُ قَبِيح فِي كل حَال، وَهُوَ (يَصح مِنْهُ) أَي من الصَّبِي الْمُمَيز أَيْضا وَإِن لم يكن مُكَلّفا بالكف عَنهُ لعدم توجه الْخطاب إِلَيْهِ فَهُوَ إِذا اخْتَار الْكفْر اعْتبر كفره (فِي) حق (أَحْكَام الْآخِرَة) كالخلود فِي النَّار (اتِّفَاقًا) إِذْ الْعَفو وَدخُول الْجنَّة مَعَ الْكفْر مِمَّن يعْتَبر أَدَاؤُهُ لعقله وَصِحَّة دركه لم يرد بِهِ شرع وَلَا يحكم بِهِ عقل، كَذَا قَالُوا. وَقد يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى - {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} - دلّ على أَن الْعَذَاب للمبعوث إِلَيْهِ، والمبعوث إِلَيْهِ: إِنَّمَا هُوَ الْمُكَلف، وَالصَّبِيّ لَيْسَ بمكلف، وَقد يُجَاب بِأَن عدم تَكْلِيفه مَعَ عُمُوم الخطابات إِنَّمَا هُوَ رَحْمَة لَهُ لضعف عقله أَو بنيته وَحَيْثُ اخْتَار الْكفْر مَعَ التَّمْيِيز بَين الْكفْر وَالْإِيمَان لم يبْق محلا للرحمة، وكلف بِالْإِيمَان فَتَأمل (وَكَذَا) يَصح (فِي) أَحْكَام (الدُّنْيَا خلافًا لأبي يُوسُف) آخرا وَالشَّافِعِيّ وَفِي الْمَبْسُوط وَفِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَهُوَ الْقيَاس، لِأَنَّهُ ضَرَر مَحْض كإعتاق عَبده، وَإِذا لم يَصح مِنْهُ مَا هُوَ مُتَرَدّد بَين النَّفْع وَالضَّرَر، فَمَا كَانَ ضَرَرا مَحْضا أولى، وَجه الِاسْتِحْسَان أَن الْكفْر مَحْظُور مُطلقًا فَلَا يسْقط بِعُذْر فيستوي فِيهِ الْبَالِغ وَغَيره (فَتبين امْرَأَته الْمسلمَة وَيحرم الْمِيرَاث) من مُوَرِثه الْمُسلم بِالرّدَّةِ تبعا للْحكم بِصِحَّتِهَا، لَا قصدا لضرره كَمَا إِذا ثَبت الارتداد تبعا لِأَبَوَيْهِ بِأَن ارتدا أَو لَحقا بدار الْحَرْب (وَإِنَّمَا لم يقتل) حِينَئِذٍ (لِأَنَّهُ) أَي الْقَتْل لَيْسَ لمُجَرّد الارتداد (بل) قتل الْكَافِر إِنَّمَا هُوَ (بالحرابة) لأهل الْإِسْلَام (وَلَيْسَ) الصَّبِي (من أَهلهَا، وَلَا) يقتل الصَّبِي الْمُرْتَد (بعد الْبلُوغ) ظرف للْقَتْل سَوَاء ارتداده قبل الْبلُوغ أَو بعده إِذا لم يجدد إيمَانه بعد الْبلُوغ (لِأَن فِي صِحَة إِسْلَامه صَبيا خلافًا) بَين الْعلمَاء فَلَا يتَحَقَّق الارتداد على قَول من لم يصحح إيمَانه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أورث شُبْهَة فِيهِ) أَي فِي الْقَتْل (وَالثَّالِث) أَي مَا هُوَ حق لله تَعَالَى مُتَرَدّد بَين الْحسن والقبح (كَالصَّلَاةِ وَأَخَوَاتهَا) من الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة كَالصَّوْمِ وَالْحج، فَإِن مشروعيتها وحسنها فِي وَقت دون وَقت كوقت طُلُوع الشَّمْس واستوائها وغروبها فِي حق الصَّلَاة ويومي الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فِي حكم الصَّوْم، وَحكم هَذِه الْعِبَادَة أَنَّهَا (تصح) من الصَّبِي (لمصْلحَة ثَوَابهَا) فِي الْآخِرَة واعتياد أَدَائِهَا بعد الْبلُوغ بِحَيْثُ لَا يشق عَلَيْهِ (بِلَا عُهْدَة فَلَا يلْزم بِالشُّرُوعِ) فَيجب الْمُضِيّ فِيهَا (وَلَا بالإفساد) فَيجب قَضَاؤُهَا، وَلَا يلْزم جَزَاء مَحْظُور إِحْرَامه: أَي الصَّبِي كَمَا لَو شرع الْبَالِغ(2/255)
فِي عبَادَة يظنّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ثمَّ تبين أَنَّهَا لَيست عَلَيْهِ يَصح مِنْهُ الْإِتْمَام مَعَ فَوَات صفة اللُّزُوم حَتَّى لَو فسد لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ ماليا كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا يصحّ مِنْهُ لكَونه ضَرَرا فِي العاجل بِنُقْصَان مَاله (وَالرَّابِع) أَي مَا هُوَ حق العَبْد، وَهُوَ نفع مَحْض (كقبول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة تصح مُبَاشَرَته مِنْهُ بِلَا إِذن وليه لِأَنَّهُ نفع مَحْض، وَلذَا) أَي لصِحَّة مُبَاشَرَته مِمَّا فِيهِ نفع مَحْض (وَجَبت أجرته) أَي الصَّبِي الْمَحْجُور بِغَيْر إِذن وليه (إِذا آجر نَفسه وَعمل مَعَ بطلَان العقد لِأَنَّهُ) أَي بطلَان عقده بِغَيْر إِذن وليه (لحقه) أَي الصَّبِي وَهُوَ (أَن يلْحقهُ ضَرَر) لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة مُتَرَدّد بَين الضَّرَر والنفع فَلَا يملكهُ بِدُونِ إِذن وليه (فَإِن عمل بَقِي الْأجر نفعا مَحْضا) وَهُوَ غير مَحْجُور فِيهِ (فَتجب) الْأُجْرَة (بِلَا اشْتِرَاط سَلَامَته) أَي الصَّبِي من الْعَمَل حَتَّى لَو هلك فِي الْعَمَل لَهُ الْأجر بِقدر مَا أَقَامَ من الْعَمَل (بِخِلَاف العَبْد) الْمَحْجُور (آجر نَفسه) بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ (تجب) أجرته (بشرطها) أَي السَّلامَة من الْعَمَل (فَلَو هلك ضمن) الْمُسْتَأْجر (قِيمَته من يَوْم الْغَصْب) وَهُوَ اسْتِعْمَاله إِيَّاه (فَيملكهُ) أَي الْمُسْتَأْجر العَبْد ملكا استناديا بعد تقرر ضَمَان الْقيمَة (فَلَا تجب أجرته) إِذْ لَا يجب على الْمَالِك أُجْرَة مَمْلُوكه (وَصحت وكالتهما) أَي قبُول الصَّبِي وَالْعَبْد تَوْكِيل غَيرهمَا لَهما بِغَيْر إِذن وليهما (بِلَا عُهْدَة) ترجع إِلَيْهِمَا من لُزُوم الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْعقدِ كتسليم الْمَبِيع وَالثمن وَالْخُصُومَة فِي الْعَيْب (لِأَنَّهُ) أَي قبولهما الْوكَالَة بِلَا عُهْدَة (نفع) مَحْض لَهما (إِذْ يكْتَسب بذلك) الْقبُول (إِحْسَان التَّصَرُّف وجهة الضَّرَر وَهِي لُزُوم الْعهْدَة منتفية فتمحض نفعا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: {وابتلوا الْيَتَامَى} أَي اختبروا عُقُولهمْ وتعرفوا أَحْوَالهم بِالتَّصَرُّفِ قبل الْبلُوغ حَتَّى إِذا تبينتم مِنْهُم هِدَايَة دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم بِلَا تَأْخِير عَن حد الْبلُوغ (وَلذَا) أَي لصِحَّة مباشرتهما مَا فِيهِ نفع مَحْض (استحقا الرضخ) أَي مَا دون السهْم من الْغَنِيمَة (إِذا قَاتلا بِلَا إِذن) من الْوَلِيّ وَالْمولى، وَالْقِيَاس أَنه لَا شَيْء لَهما لِأَنَّهُمَا ليسَا من أهل الْقِتَال وَإِنَّمَا يصيران من أَهله بِالْإِذْنِ كالحربي الْمُسْتَأْمن، وَجه الِاسْتِحْسَان أَنَّهُمَا غير محجورين عَن النَّفْع الْمَحْض وَاسْتِحْقَاق الرضخ بعد الْقِتَال كَذَلِك، (وَقيل هُوَ) أَي اسْتِحْقَاق الرضخ (قَول مُحَمَّد) لِأَن عِنْده أمانهما صَحِيح وَهُوَ لَا يَصح إِلَّا مِمَّن لَهُ ولَايَة الْقِتَال، وَأما عِنْدهمَا فَلَا يَصح أمانهما فَلم يكن لَهما ولَايَة الْقِتَال فَلَا يرْضخ لَهما، وَلِهَذَا لَا يحل لَهما شُهُود الْقِتَال إِلَّا بِالْإِذْنِ إِجْمَاعًا وَالأَصَح أَن هَذَا جَوَاب الْكل لما ذكر (وَإِنَّمَا لَا تصح وَصيته) بِثلث مَاله فَمَا دونه (مَعَ حُصُول نفع الثَّوَاب وَعدم الضَّرَر إِذْ لَا يخرج عَن ملكه حَيا) لِأَن الْوَصِيَّة تمْلِيك مُضَاف إِلَى مَا بعد الْمَوْت (لإبطالها) أَي الْوَصِيَّة (نفع الْإِرْث عَنهُ) لأقاربه (وَهُوَ) أَي نفع إرثهم لَهُ (أَنْفَع) لَهُ من نفع الْوَصِيَّة للأجانب (لِأَن نقل(2/256)
الْملك إِلَى الْأَقَارِب أفضل شرعا للصدقة والصلة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " الصَّدَقَة على الْمُسلمين صَدَقَة، وعَلى ذِي الرَّحِم ثِنْتَانِ صَدَقَة وصلَة ": حسنه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسعد: " إِنَّك أَن تدع وَرثتك أَغْنِيَاء خير من أَن تَدعهُمْ عَالَة يَتَكَفَّفُونَ النَّاس " مُتَّفق عَلَيْهِ (وَالْخَامِس) أَي مَا هُوَ حق للْعَبد وَهُوَ ضَرَر مَحْض (كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالصَّدَََقَة) وَالْهِبَة، وَحكم هَذَا أَنه (لَا يملكهُ وَلَو) وَقع (بِإِذن وليه) لِأَن ولَايَته نظرية وَلَا نظر فِيهِ، لِأَن ضَرَر مَحْض (كَمَا لَا يملكهُ عَلَيْهِ غَيره) من ولي ووصي وقاض كَمَا ذكرنَا. قَالَ صَاحب الْكَشْف المُرَاد عدم شَرْعِيَّة الطَّلَاق فِي حَقه بِدُونِ الْحَاجة، وَأما عِنْدهَا فمشروع. قَالَ شمس الْأَئِمَّة الدّين السَّرخسِيّ: زعم مَشَايِخنَا أَن هَذَا الحكم غير مَشْرُوع أصلا فِي حق الصَّبِي حَتَّى أَن امْرَأَته لَا تكون محلا للطَّلَاق، وَهَذَا وهم عِنْدِي، فَإِذا تحققت الْحَاجة إِلَى صِحَة إِيقَاع الطلاع من جِهَته لدفع الضَّرَر كَانَ صَحِيحا حَتَّى إِذا أسلمت امْرَأَته وَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَأبى فرق بَينهمَا، وَكَانَ ذَلِك طَلَاقا فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد، وَإِذا ارْتَدَّ وَقعت الْبَيْنُونَة وَكَانَ طَلَاقا عِنْد مُحَمَّد، وَإِذا وجدته مجبوبا فرق بَينهمَا وَكَانَ طَلَاقا عِنْد بعض الْمَشَايِخ (إِلَّا إقراض القَاضِي فَقَط من الملي) مَاله فَإِنَّهُ يملكهُ (لِأَنَّهُ) أَي إقراضه (حفظ) لَهُ (مَعَ قدرَة الِاقْتِضَاء عَلَيْهِ) من غير حَاجَة إِلَى دَعْوَى وَبَيِّنَة: فاعتبار هَذَا يكون نظرا من القَاضِي ونفعا (بِخِلَاف الْأَب) لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الِاقْتِضَاء بِنَفسِهِ كالوصي: فَلَا يملكهُ (إِلَّا فِي رِوَايَة) لِأَنَّهُ يملك التَّصَرُّف فِي المَال وَالنَّفس (كاقتراضه) أَي كَمَا يجوز للْأَب أَن يقترض مَال الصَّبِي، وَلَا يجوز للْوَصِيّ عِنْد أبي حنيفَة. وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله: لَا بَأْس إِذا كَانَ مَلِيًّا قَادِرًا على الْوَفَاء وَلَيْسَ للْقَاضِي ذَلِك، ذكره فِي الْمُنْتَقى. (وَالسَّادِس) أَي مَا هُوَ حق للْعَبد مُتَرَدّد بَين النَّفْع وَالضَّرَر (كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَالنِّكَاح فِيهِ احْتِمَال الرِّبْح والخسران، وتعليل النَّفْع بِدُخُول الْبَدَل فِي ملكه، وَالضَّرَر بِخُرُوج الآخر) كَمَا ذكر صدر الشَّرِيعَة (يُوجب أَنه لَو بَاعَ بأضعاف قِيمَته) كَانَ ضَرَرا ونفعا، وَيلْزمهُ أَنه (لَا ينْدَفع الضَّرَر قطّ) لِأَنَّهُ لَازم الْخُرُوج الْمَذْكُور وَهُوَ مَوْجُود (وَذكر) الْمُعَلل (أَنه ينْدَفع احْتِمَال الضَّرَر بانضمام رَأْي الْوَلِيّ فَيملكهُ) أَي الصَّبِي هَذَا الْقسم (مَعَه) أَي من رَأْي الْوَلِيّ فبينهما تدافع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال اندفاع الِاحْتِمَال الْمَذْكُور مَعْنَاهُ صَيْرُورَته بِحَيْثُ لَا يعْتد بِهِ عِنْد وجود رَأْيه و (لِأَنَّهُ) أَي الصَّبِي (أهل لحكمه) أَي حكم هَذَا التَّصَرُّف (إِذْ يملك الْبَدَل)
الثّمن أَو الْعين فِي البيع أَو الشِّرَاء، وَالْأُجْرَة فِي الْإِجَارَة (إِذا بَاشرهُ الْوَلِيّ وَأهل لَهُ) أَي لهَذَا التَّصَرُّف (إِذا صحت وكَالَته بِهِ) أَي بِالتَّصَرُّفِ الْمَذْكُور بِأَن يكون وَكيلا للْغَيْر فِيهِ (وَفِيه)(2/257)
أَي فِي جَوَاز هَذَا التَّصَرُّف لَهُ (نفع توسعة طَرِيق تَحْصِيل الْمَقْصُود) الْإِضَافَة الأولى بَيَانِيَّة، وَذَلِكَ لحصوله تَارَة بالولي وَتارَة بِنَفسِهِ مَعَ تَصْحِيح عِبَارَته، وَزِيَادَة دربته (ثمَّ عِنْده) أَي أبي حنيفَة (لما انجبر الْقُصُور بِالْإِذْنِ كَانَ كَالْبَالِغِ فَيملكهُ) أَي هَذَا التَّصَرُّف (بِغَبن فَاحش) وَهُوَ مَا لَا يدْخل تَحت تقوم المقومين (مَعَ الْأَجَانِب وَالْوَلِيّ فِي رِوَايَة) أَي سَوَاء كَانَ مُقَابلَة فِي التَّصَرُّف الْأَجَانِب أَو الْوَلِيّ فِي هَذِه الرِّوَايَة (وَفِي) رِوَايَة (أُخْرَى لَا) يملكهُ مَعَ الْوَلِيّ (لِأَنَّهُ) أَي الصَّبِي الْمَأْذُون (إِذا كَانَ أصيلا فِي الْملك) لكَونه مَالِكًا حَقِيقَة فتصرفه تصرف الْملاك من هَذَا الْوَجْه (فَفِي الرَّأْي) أصيل (من وَجه) لَا مُطلقًا إِذْ فِي رَأْيه خلل فِي حد ذَاته، وَإِلَّا لم يحْتَج إِلَى الانجبار بِرَأْي الْوَلِيّ، فَيُشبه تصرفه تصرف الوكلاء من هَذَا الْوَجْه (فَفِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّصَرُّف (شُبْهَة النِّيَابَة عَن الْوَلِيّ فَكَأَن الْوَلِيّ بَاعه من نَفسه، فَلَا يجوز) بَيْعه مِنْهُ (بِغَبن) فَاحش كَمَا لَا يَبِيع الْوَلِيّ مَاله من نَفسه بِغَبن فَاحش (وَأَيْضًا إِذا كَانَ) فِي الرَّأْي أصيلا (من وَجه صَحَّ) التَّصَرُّف (لَا فِي مَحل التُّهْمَة) وَهُوَ مَا إِذا بَاعَ من الْأَجْنَبِيّ وَمَعَ الْوَلِيّ بِمثل الْقيمَة أَو بِمَا لَا يتَغَابَن النَّاس فِيهِ، وَالْبيع من الْوَلِيّ بِالْغبنِ الْفَاحِش فِي مَحل يُمكن فِيهِ التُّهْمَة، وَهُوَ أَن الْوَلِيّ إِنَّمَا أذن لَهُ لتَحْصِيل مَقْصُوده لَا للنَّظَر للصَّبِيّ (وَعِنْدَهُمَا لَا يجوز) بِالْغبنِ الْفَاحِش (مُطلقًا) أَي لَا من الْوَلِيّ وَلَا من غَيره (لِأَنَّهُ لما شَرط الْإِذْن) من الوليّ (كَانَ) الصَّبِي (آلَة تصرف الْوَلِيّ بِنَفسِهِ) وَهُوَ لَا يجوز مِنْهُ بِالْغبنِ الْفَاحِش ,
(وَهَذَا فصل آخر اختصوا) أَي الْحَنَفِيَّة (بِهِ فِي بَيَان أَحْكَام عوارض الْأَهْلِيَّة: أَي أُمُور لَيست ذاتية لَهَا) أَي للأهلية (طرأت أَولا) أَي خِصَال أَو آفَات مُغيرَة للْأَحْكَام كالسفر، أَو مزيلة لَهَا لمنعها أَهْلِيَّة الْوُجُوب أَو الْأَدَاء عَن الثُّبُوت كالموت وَالنَّوْم وَالْإِغْمَاء (فَدخل الصغر) فِي الْعَوَارِض الْمَذْكُورَة لعدم الطروّ والحدوث بعد الْعَدَم، وَكَونه لَيْسَ من الْأُمُور الذاتية للْإنْسَان، وملخصها أَحْوَال مُنَافِيَة لأهليته فِي الْجُمْلَة غير لَازمه لَهُ (وَهِي) أَي الْعَوَارِض (نَوْعَانِ سَمَاوِيَّة: أَي لَيْسَ للْعَبد فِيهَا اخْتِيَار) فنسبت إِلَى السَّمَاء لنزولها مِنْهَا، وَهِي (الصغر، وَالْجُنُون، والعته، وَالنِّسْيَان، وَالنَّوْم، وَالْإِغْمَاء، والرّق، وَالْمَرَض، وَالْحيض، وَالنّفاس، وَالْمَوْت) قَالُوا: وَإِنَّمَا لم يذكر الْحمل والأوضاع والشيخوخة الْقَرِيبَة إِلَى الفناء الَّتِي يتَغَيَّر بهَا بعض الْأَحْكَام لدخولها فِي الْمَرَض، وَأورد أَن الْإِغْمَاء وَالْجُنُون أَيْضا من الْمَرَض وَأجِيب بِأَنَّهُمَا أفردا بِالذكر لاختصاصهما بِأَحْكَام كَثِيرَة يحْتَاج إِلَى بَيَانهَا (ومكتسبة: أَي اكسبها العَبْد، أَو ترك إِزَالَتهَا) وَهِي سَبْعَة: السَّفه، وَالسكر، وَالْجهل، والهزل، وَالْخَطَأ، وَالسّفر، والاكراه(2/258)
(النَّوْع الأول السماوية: أما الصغر فَقبل أَن يعقل) الصَّغِير (كَالْمَجْنُونِ الممتدّ) لانْتِفَاء الْعقل والتمييز: بل فِي أول الْحَال الصَّغِير أدنى من الْمَجْنُون، إِذْ قد يكون للمجنون تَمْيِيز لَا عقل، وَهُوَ عديمهما فَلَيْسَ بِأَهْل للتكليف (فَإِذا عقل تأهل للْأَدَاء) أَهْلِيَّة قَاصِرَة، فَإِذا أدّى شَيْئا مِمَّا لم يجب عَلَيْهِ صَحَّ أَدَاؤُهُ (دون الْوُجُوب) أَي لم يتأهل للْوُجُوب بِمُجَرَّد الْعقل (إِلَّا الْإِيمَان) أَي لم يتأهل لوُجُوب شَيْء من الْوَاجِبَات إِلَّا الْإِيمَان (على مَا تقدم) قَرِيبا من الْخلاف فِيهِ، وَمن قَوْله: وَعَن أبي مَنْصُور الماتريدي والمعتزلة إناطة وجوب الْإِيمَان بِهِ: أَي بِالْعقلِ (وَتقدم وضع الأجزية عَنهُ) كحرمان الْإِرْث بقتْله (وبينونة زَوجته) الْمسلمَة (بِكُفْرِهِ) أَي ردته وإبائه عَن الْإِسْلَام بعد إسْلَامهَا (لَيْسَ جَزَاء، بل لانْتِفَاء أَهْلِيَّته لاستفراش الْمسلمَة) لقَوْله تَعَالَى - {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} - (كحرمانه الْإِرْث بِهِ) أَي بِكُفْرِهِ (لذَلِك) أَي لانْتِفَاء أَهْلِيَّته للإرث مِنْهُ (لعدم الْولَايَة) الَّتِي هِيَ شَرط لسببية الْإِرْث. قَالَ تَعَالَى - {فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي} - وَلَا ولَايَة للْكَافِرِ على الْمُسلم. قَالَ تَعَالَى - {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} - (كالرقيق) أَي كَمَا يحرم المرقوق الْإِرْث وافرا كَانَ الرقّ فِيهِ أَو نَاقِصا لعدم الْولَايَة الَّتِي هِيَ شَرط سَبَبِيَّة اتِّصَال الشَّخْص بِالْمَيتِ بِقرَابَة أَو زوجية، وَإِلَّا فَلَا يكون انْتِفَاء الْإِرْث فيهمَا جَزَاء على فعلهمَا (وَأما الْجُنُون) وَهُوَ اختلال الْعقل بِحَيْثُ يمْنَع جَرَيَان الْأَفْعَال والأقوال على نهجه إِلَّا نَادرا إِمَّا لنُقْصَان جبل عَلَيْهِ دماغه، فَلَا يصلح لقبُول مَا أعدّ لَهُ كعين الأكمه، ولسان الْأَخْرَس: وَهَذَا لَا يرجي زَوَاله، وَإِمَّا لخُرُوج مزاج الدِّمَاغ من الِاعْتِدَال بِسَبَب خلط أَو رُطُوبَة أَو يوسة متناهية، وَهَذَا يعالج، وَإِمَّا باستيلاء الشَّيْطَان وإلقاء الخيالات الْفَاسِدَة إِلَيْهِ. وَقد ينجع فِيهِ الْأَدْوِيَة الإلهية (فينافي شَرط الْعِبَادَات النِّيَّة) لسلبه الِاخْتِيَار (فَلَا تجب) الْعِبَادَات مُطلقًا (مَعَ الممتدّ مِنْهُ مُطلقًا) أَي الْأَصْلِيّ الْمُتَّصِل بِزَمَان الصِّبَا بِأَن جن صَغِيرا فَبلغ مَجْنُونا، والعارضي بِأَن بلغ عَاقِلا ثمَّ جن: أما وجوب الْأَدَاء فلعدم الْقُدْرَة عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا بعقل وَقصد صَحِيح، وَأما الأَصْل فلعدم حكمه وَهُوَ الْأَدَاء وَالْقَضَاء (وَمَا لَا يمتدّ مِنْهُ) حَال كَونه (طارئا) عَلَيْهِ (جعل كالنوم من حَيْثُ أَنه) أَي كلا مِنْهُمَا (عَارض يمْنَع فهم الْخطاب زَالَ قبل الامتداد) الْمُوجب للْحَرج عِنْد إِيجَاب الْقَضَاء (وَلِأَنَّهُ) أَي الْجُنُون (لَا يَنْفِي أصل الْوُجُوب: إِذْ هُوَ) أَي أصل الْوُجُوب مُتَعَلق (بِالذِّمةِ، وَهِي) أَي الذِّمَّة مَوْجُودَة (لَهُ) أَي للمجنون (حَتَّى ورث) من بَينه وَبَينه سَبَب من أَسبَاب الْإِرْث (وَملك) بِمَا هُوَ سَبَب الْملك من مَال أَو حق مَالِي، وَالْملك من بَاب الْولَايَة وَلَا ولَايَة بِدُونِ الذِّمَّة (وَكَانَ أَهلا للثَّواب) لبَقَاء إِسْلَامه بعد الْجُنُون، وَالْمُسلم قد يُثَاب(2/259)
وَإِن جنّ (كَأَن نوى صَوْم الْغَد فجنّ فِيهِ) أَي فِي الْغَد قبل الْفجْر وَهُوَ على نِيَّته حَال كَونه (ممسكا كُله) أَي كل الْغَد (صحّ) صَوْم الْغَد عَن الْفَرْض (فَلَا يقْضِي) ذَلِك الْيَوْم (لَو أَفَاق بعده) أَي بعد الْغَد، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الشَّارِع ألحق الْعَارِض من النّوم وَالْإِغْمَاء بِالْعدمِ فِي حق الْأَدَاء حَيْثُ حكم بِصِحَّة الْفِعْل الْوَاقِع فيهمَا، وعلماؤنا الثَّلَاثَة ألْحقُوا الْعَارِض من الْجُنُون بِالْعدمِ بعد زَوَاله فِي حق الْوُجُوب وَجعلُوا السَّبَب الْمَوْجُود فِيهِ مُعْتَبرا فِي حق إِيجَاب الْقَضَاء بعد زَوَال الْعَارِض (وَصَحَّ إِسْلَامه تبعا) لِأَبَوَيْهِ أَو أَحدهمَا كَالصَّبِيِّ (وَإِنَّمَا يعرض الْإِسْلَام لإسلام زَوجته) أى الْمَجْنُون (على أَبِيه أَو أمّه لصيرورته مُسلما بِإِسْلَامِهِ) أَي إِسْلَام أَحدهمَا، فَإِن أسلم أقرّ على النِّكَاح، وَإِن أَبى فرّق بَينهمَا دفعا للضَّرَر عَن الْمسلمَة (بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف إِسْلَام الْمَجْنُون (أَصَالَة) فَإِنَّهُ لَا يَصح مِنْهُ (لعدم رُكْنه) أَي الْإِسْلَام (الِاعْتِقَاد) عطف بَيَان لركنه، وَالْمرَاد من الرُّكْن مَا هُوَ أَعم من الْعين والجزء، وَذَلِكَ لِأَن عقد الْقلب على التَّصْدِيق إِنَّمَا يكون بِالْعقلِ (لَا حجرا) يَعْنِي شرع عدم صِحَة إِسْلَامه لعدم الرُّكْن، لَا لِأَنَّهُ مَحْجُور عَن الْإِيمَان إِذْ هُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ نفع مَحْض (بِخِلَاف) الْإِسْلَام (التبع) أَي التَّابِع لإسلام الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ (لَيْسَ) الِاعْتِقَاد فِيهِ (ركنا وَلَا شرطا لَهُ) أَي لِلْإِسْلَامِ التبع (وَإِنَّمَا عرض) على وليه إِذا أسلمت الزَّوْجَة (دفعا للضَّرَر عَنْهَا: إِذْ لَيْسَ لَهُ) أَي للجنون (نِهَايَة مَعْلُومَة) تنْتَظر، فَفِي التَّأْخِير ضَرَر بهَا، مَعَ مَا فِيهِ من الْفساد لقدرة الْمَجْنُون على الْوَطْء وَقَالَ شمس الْأَئِمَّة: لَيْسَ عرض الْإِسْلَام على وَالِديهِ بطرِيق الْإِلْزَام، بل يعرض لاحْتِمَال أَن تحمله الشَّفَقَة على الْوَلَد على الْإِسْلَام لِئَلَّا يَقع التَّفْرِيق بَينه وَبَين زَوجته (بِخِلَاف الصَّبِي غير الْعَاقِل) إِذا (أسلمت زَوجته لَا يعرض) الْإِسْلَام (على وليه، لِأَن لعقله حدا مَعْلُوما) ينْتَظر وَهُوَ الْبلُوغ: فَإِذا بلغ عرض عَلَيْهِ (وَلَا ينْتَظر بُلُوغه) أَي الصَّبِي الْمَجْنُون لما ذكر (وَيصير) الْمَجْنُون (مُرْتَدا تبعا بارتداد أَبَوَيْهِ (ولحاقهما بِهِ) أَي بالمجنون بدار الْحَرْب (إِذا بلغ مَجْنُونا وهما مسلمان) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يثبت إِسْلَامه تبعا لَهما، فيزول بِزَوَال مَا يتبعهُ. قَالَ الشَّارِح: ثمَّ كَون أَبَوَيْهِ مُسلمين لَيْسَ بِقَيْد، لِأَن إِسْلَام أَحدهمَا وارتداده ولحوقه مَعَه بدار الْحَرْب كَاف فِي ارتداده انْتهى. وَفِيه بحث، فَإِن مفَاد كَلَامه أَمْرَانِ: أَحدهمَا أَن إِسْلَام أَحدهمَا كَاف عِنْد بُلُوغه مَجْنُونا وَهَذَا مُسلم. وَالثَّانِي أَن ارتداد أَحدهمَا أَيْضا كَاف بِشَرْط اللحوق بِهِ وَهُوَ غير مُسلم: إِذْ يجوز إِسْلَام أَحدهمَا عِنْد الْبلُوغ وَإِسْلَام الآخر بعده، فَحِينَئِذٍ إِذا ارتدّ أَحدهمَا وَلحق بِهِ دون الآخر لَا نسلم أَن يحكم بصيرورة الْمَجْنُون مُرْتَدا. هَذَا، ويفيد تَقْيِيد بُلُوغه مَجْنُونا بكونهما مُسلمين حِينَئِذٍ أَنَّهُمَا لَو كَانَا كَافِرين وَقت بُلُوغه بِكفْر أُصَلِّي أَو عارضيّ لم يصر مرتدّا بارتداد أَحدهمَا نظرا إِلَى اعْتِبَار مَفْهُوم(2/260)
الْمُخَالفَة فِي الرِّوَايَات وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه إِذا كَانَ أَبَوَاهُ على الْكفْر الْأَصْلِيّ حَال بُلُوغه ثمَّ أسلما يصير مُسلما تبعا ثمَّ ارتدّا ولحقا بِهِ يصير مرتدّا أَيْضا تبعا، إِذْ لَا أثر لكَون إسلامهما حَال الْبلُوغ أَو بعده، وَأما إِذا كَانَا على الْكفْر العارضي حَال بُلُوغه فَالْقِيَاس أَنه يحكم بِإِسْلَامِهِ من حَيْثُ الدَّار، لِأَن الحكم بِكُفْرِهِ تبعا من حَيْثُ الْجُنُون مَشْرُوط باللحوق بِهِ، ثمَّ إِذا أسلما ثمَّ ارتدّا ولحقا بِهِ يصير مرتدّا تبعا لتحَقّق الشَّرْط الْمَذْكُور حِينَئِذٍ، فَيَنْبَغِي أَن لَا يعْتَبر مَفْهُوم الْمُخَالفَة فِي قَوْله (بِخِلَاف مَا إِذا تركاه فِي دَار الْإِسْلَام) لكَونه مُسلما حِينَئِذٍ لظُهُور تَبَعِيَّة الدَّار بِزَوَال تَبَعِيَّة الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهَا كالخلف عَنْهَا (أَو بلغ مُسلما ثمَّ جن) مَعْطُوف على قَوْله تركاه (أَو أسلم عَاقِلا فجن) قبل الْبلُوغ (فارتدّا ولحقا بِهِ) بدار الْحَرْب، لِأَنَّهُ صَار أصلا فِي الْإِيمَان بتقرر رُكْنه فَلَا يتَقَدَّم بالتبعية أَو عرُوض الْجُنُون، ثمَّ وصل بقوله: وَلِأَنَّهُ لَا يَنْفِي أصل الْوُجُوب قَوْله (إِلَّا أَنه إِذا انْتَفَى الْأَدَاء أَي الْفِعْل) فسره لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بِهِ مَا يُقَابل الْقَضَاء (تَحْقِيقا) أَي انْتَفَى بِاعْتِبَار نَفسه حَقِيقَة لعدم إِمْكَانه (وتقديرا) أَي بِاعْتِبَار بدله (بِلُزُوم الْحَرج فِي الْقَضَاء وَتقدم وَجهه) حَيْثُ قَالَ: والتكليف رَحْمَة، والحرج طَرِيق التّرْك فَلم يتَعَلَّق ابْتِدَاء بِمَا فِيهِ حرج فضلا من الله تَعَالَى (انْتَفَى) أصل الْوُجُوب (لانْتِفَاء فَائِدَته) من الْأَدَاء وَالْقَضَاء (وَكَذَا) الْجُنُون (الْأَصْلِيّ عَن مُحَمَّد) رَحمَه الله حكمه حكم الممتدّ من الْجُنُون الطَّارِئ فَلم يفرق فِي الْأَصْلِيّ بَين الممتدّ وَغَيره فِي الْإِسْقَاط كَمَا فرّق فِي الطَّارِئ بَينهمَا بالإسقاط وَعَدَمه (إناطة للإسقاط بِكُل من الامتداد والأصالة) فِي الْهِدَايَة، وَهَذَا مُخْتَار بعض الْمُتَأَخِّرين. وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة: مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو عبد الله الْجِرْجَانِيّ والزاهد الصفار وَالْإِمَام الرستغفنى (وَخَصه) أَي الْإِسْقَاط (أَبُو يُوسُف بالامتداد) فأسقط بالممتدّ مِنْهُمَا دون غَيره، وَقيل هُوَ ظَاهر الرِّوَايَة، ثمَّ الْخلاف على هَذَا الْوَجْه فِي الْمَبْسُوط وَغَيره (وَقيل الْخلاف على الْقلب) وَهُوَ الْمَذْكُور فِي أصُول فَخر الْإِسْلَام وكشف الْمنَار، وَمَشى عَلَيْهِ المُصَنّف فِي فتح الْقَدِير، نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَن وَجه التَّسْمِيَة بَين الْأَصْلِيّ والعارضي أَن الأَصْل فِي الْجُنُون الْحُدُوث: إِذْ السَّلامَة عَن الْآفَات هِيَ الأَصْل فِي الجبلة فَتكون أَصَالَة الْجُنُون أمرا عارضا، فَيلْحق بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْجُنُون الطَّارِئ، وَأَن زَوَال الْجُنُون بعد الْبلُوغ دلّ على أَن حُصُوله كَانَ لعَارض على أصل الْخلقَة، لَا لنُقْصَان جبل عَلَيْهِ دماغه فَكَانَ مثل الطَّارِئ، وَوجه التَّفْرِقَة أَن الطريان بعد الْبلُوغ رجح الْعرُوض فَجعل عفوا عِنْد عدم الامتداد إِلْحَاقًا بِسَائِر الْعَوَارِض، بِخِلَاف مَا إِذا بلغ مَجْنُونا فَزَالَ فَإِن حكمه حكم الصَّغِير فَلَا يُوجب قَضَاء مَا مضى، وَأَن الْأَصْلِيّ يكون لآفة فِي الدّماغ مَانِعَة من قبُول الْكَمَال، فَيكون أمرا أَصْلِيًّا لَا يقبل اللحاق بِالْعدمِ، والطارئ قد اعْترض على مَحل كَامِل للحوق آفَة فَيلْحق(2/261)
بِالْعدمِ، وَفِي الْمَبْسُوط وَلَيْسَ فِيمَا إِذا كَانَ جُنُونه أَصْلِيًّا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة. وَاخْتلف فِيهِ الْمُتَأَخّرُونَ على قِيَاس مذْهبه، وَالأَصَح أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء مَا مضى (وَإِذا كَانَ الْمسْقط) لوُجُوب الْعِبَادَات فِي التَّحْقِيق (الْحَرج لزم اخْتِلَاف الامتداد الْمسْقط) بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْنَاف الْعِبَادَات (فَقدر) الامتداد الْمسْقط (فِي الصَّلَاة بِزِيَادَتِهِ على يَوْم وَلَيْلَة عِنْدهمَا) أَي أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف بِزَمَان يسير (وَعند مُحَمَّد بصيرورة الصَّلَوَات) الْفَوَائِت (سِتا) بِخُرُوج وَقت السَّادِسَة (وَهُوَ أَقيس) لِأَن الْحَرج إِنَّمَا ينشأ من الْوُجُوب عِنْد كثرتها، وَكَثْرَتهَا بِدُخُولِهَا فِي حق التّكْرَار وَهُوَ إِنَّمَا يكون بِخُرُوج وَقت السَّادِسَة (لكنهما) أَي أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف (أَقَامَا الْوَقْت مقَام الْوَاجِب) أَي الصَّلَاة (كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَة) وَسَائِر أَصْحَاب الْأَعْذَار تيسيرا على الْعباد، وَقد يُقَال أَن الْمُنَاسب أَن يُقَام الْوَقْت الَّذِي يكون سَببا لوُجُوب الصَّلَاة مقَام الْوَاجِب بِالزِّيَادَةِ على الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَلَا يلْزم حُصُول وَقت هُوَ سَبَب لوُجُوبه، وَجعل الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر هَذَا القَوْل رِوَايَة عَن أبي حنيفَة (و) قدر (فِي الصَّوْم) امتداد الْجُنُون الْمسْقط لوُجُوبه (باستغراق الشَّهْر ليله ونهاره) بِهِ حَتَّى لَو أَفَاق فِي جُزْء مِنْهُ يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء. قَالَ صَاحب الْكَشَّاف: وَهُوَ ظَاهر الرِّوَايَة. وَعَن الْحلْوانِي: لَو كَانَ مفيقا فِي أوّل لَيْلَة مِنْهُ فَأصْبح مَجْنُونا واستوعب بَاقِي الشَّهْر لَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَهُوَ صَحِيح، لِأَن اللَّيْل لَا يصام فِيهِ، فالجنون والإفاقة فِيهِ سَوَاء، وَكَذَا لَو أَفَاق فِي لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ أصبح مَجْنُونا وَلَو أَفَاق فِي يَوْم مِنْهُ فِي وَقت النِّيَّة لزمَه الْقَضَاء، وَلَو أَفَاق بعده اخْتلفُوا فِيهِ، وَالصَّحِيح أَنه لَا يلْزمه لِأَن الصَّوْم لَا يفْسخ فِيهِ انْتهى (و) قدر (فِي الزَّكَاة) امتداده الْمسْقط (باستغراق الْحول) بِهِ كَمَا هُوَ رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة والأمالي عَن أبي يُوسُف وَابْن رستم عَن مُحَمَّد. قَالَ صدر الْإِسْلَام: وَهُوَ الْأَصَح، لِأَن الزَّكَاة تدخل فِي حدّ التّكْرَار بِدُخُول السّنة الثَّانِيَة قَالَ الشَّارِح. قَالَ المُصَنّف وَفِيه نظر، فَإِن التّكْرَار بخروجها لَا بِدُخُولِهَا لِأَن شَرط الْوُجُوب أَن يتم الْحول، فَالْأولى اعْتِبَار الْحول لِأَنَّهُ كثير فِي نَفسه (وَأَبُو يُوسُف) فِي رِوَايَة هِشَام عَنهُ قَالَ (أَكْثَره) أَي الْحول إِذا استوعبه الْجُنُون (ككله) إِقَامَة للْأَكْثَر مقَام الْكل تيسيرا وتخفيفا فِي سُقُوط الْوُجُوب، وَالنّصف مُلْحق بِالْأَقَلِّ (فَلَو بلغ مَجْنُونا مَالِكًا) ثمَّ أَفَاق (فابتداء الْحول من الْإِفَاقَة) عِنْد أبي يُوسُف بِنَاء على أَن الأَصْل مُلْحق بالصبا عِنْده (خلافًا لمُحَمد) فَإِن ابْتِدَاء الْحول من الْبلُوغ عِنْده بِنَاء على أَن الْأَصْلِيّ والعارضي سَوَاء عِنْده فِي أَن الْمسْقط فيهمَا الامتداد وَلم يُوجد (وَلَو أَفَاق بعد سِتَّة أشهر مثلا وتمّ الْحول وَجَبت عِنْد مُحَمَّد) و (لَا) تجب عِنْد (أبي يُوسُف مَا لم يتمّ) الْحول من الْإِفَاقَة وَلَو كَانَ هَذَا فِي العارضي وَجَبت اتِّفَاقًا من غير توقف على تَمام الْحول من وَقت الْإِفَاقَة (وَأما العته) وَهُوَ (اخْتِلَاط الْكَلَام مرّة و) عدم(2/262)
اخْتِلَاطه (مرّة) وَهَذَا حَاصِل مَا قيل: هُوَ اختلال الْعقل بِحَيْثُ يخْتَلط كَلَامه فَيُشبه مرّة كَلَام المجانين وَمرَّة كَلَام الْعُقَلَاء (فكالصبي الْعَاقِل) أَي فالمعتوه مثله (فِي صِحَة فعله وتوكيله) يَعْنِي قبُول الْوكَالَة من غَيره فِي بيع مَال الْغَيْر وَالشِّرَاء لَهُ (بِلَا عُهْدَة) حَتَّى لَا يُطَالب فِي الْوكَالَة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء بِنَقْد الثّمن وَتَسْلِيم الْمَبِيع، وَلَا يردّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ وَلَا يُؤمر بِالْخُصُومَةِ فِيهِ (و) فِي صِحَة (قَوْله) الَّذِي هُوَ نفع مَحْض وَهُوَ أهل لاعتباره مِنْهُ لوُجُود أصل العقد (كإسلامه) أَي كصحة إِسْلَامه بِخِلَاف مَا هُوَ ضَرَر مَحْض كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق فَإِنَّهُ لَا يَصح مِنْهُ إِلَّا بِإِذن وليه، لَا بِدُونِ إِذْنه (وَلَا تجب الْعِبَادَات عَلَيْهِ) كَمَا لَا تجب على الصَّبِي الْعَاقِل كَمَا هُوَ اخْتِيَار عَامَّة الْمُتَأَخِّرين (و) لَا تجب (الْعُقُوبَات) كَمَا لَا تجب على الصَّبِي الْعَاقِل لتمكن خلل فِي الْعقل فيهمَا دفعا للْحَرج (وَضَمان متلفاته لَيْسَ عُهْدَة) لِأَن الْعهْدَة إِنَّمَا تكون مَعَ التَّصَرُّف الشَّرْعِيّ والإتلاف لَيْسَ بِتَصَرُّف شَرْعِي وَلِأَن الْمَنْفِيّ عُهْدَة تحْتَمل الْعَفو فِي الشَّرْع، وَضَمان الْمُتْلف لَا يحْتَملهُ لِأَنَّهُ حق العَبْد شرع جبرا لما اسْتهْلك من الْمحل الْمَعْصُوم، وَلِهَذَا قدر بِالْمثلِ لَا جَزَاء للْفِعْل، وَكَون الْمُسْتَهْلك غير كَامِل الْعقل لَا يُنَافِي عصمَة الْمحل (وَتوقف نَحْو بَيْعه) وشرائه وإجازته على إِذن وليه وَإِثْبَات الْولَايَة عَلَيْهِ من بَاب النّظر والشفقة عَلَيْهِ لنُقْصَان عقله الْمُوجب لعَجزه (وَلَا يَلِي على غَيره) لِأَنَّهُ عَاجز عَن التَّصَرُّف فِي حق نَفسه فَمن أَيْن لَهُ قدرَة التَّصَرُّف على غَيره (وَلَا يُؤَخر الْعرض) لِلْإِسْلَامِ (عَلَيْهِ عِنْد إِسْلَام امْرَأَته) إِذا لم يكن مُسلما (لما قُلْنَا) فِي الصَّبِي الْعَاقِل وَهُوَ صِحَّته مِنْهُ لوُجُود أصل الْعقل بِخِلَاف الْمَجْنُون (وَفِي التَّقْوِيم تجب عَلَيْهِ الْعِبَادَات احْتِيَاطًا) فِي وَقت الْخطاب وَهُوَ الْبلُوغ، وَذَلِكَ لوُجُود الْعقل فِيهِ فِي الْجُمْلَة فَيحْتَمل كَونه مُكَلّفا بِهَذَا الِاعْتِبَار، وَالْحمل عَلَيْهِ يُوجب الْعَمَل المنجي عَن احْتِمَال الْعقَاب، بِخِلَاف الْحمل على عدم كَونه مُكَلّفا، وَفِي عبارَة المُصَنّف إِشْعَار بِأَن التَّحْقِيق فِيهِ القَوْل السَّابِق فَافْهَم (وَأما النسْيَان) وَهُوَ (عدم الاستحضار) للشَّيْء (فِي وَقت حَاجته) أَي الْحَاجة إِلَى استحضاره (فَشَمَلَ) هَذَا التَّعْرِيف (النسْيَان عِنْد الْحُكَمَاء والسهو) هَكَذَا وجدنَا عبارَة الْمَتْن فِي نُسْخَة الشَّارِح وَالنُّسْخَة الَّتِي اعتمادنا عَلَيْهَا غَالِبا، غير أَنه كَانَت فِيهَا الْوَاو قبل السَّهْو أَولا فمحيت وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا لِأَن السَّهْو على تَقْدِير عدم وَاو الْعَطف شَامِل للنسيان عِنْد الْحُكَمَاء وَهُوَ غير صَحِيح لِأَن النسْيَان عِنْدهم زَوَال الصُّورَة عَن المدركة والحافظة فَيحْتَاج فِي حُصُولهَا إِلَى سَبَب جَدِيد والسهو عِنْدهم زَوَالهَا عَن المدركة مَعَ بَقَائِهَا فِي الحافظة، وَقيل النسْيَان عدم ذكر مَا كَانَ مَذْكُورا والسهو غَفلَة عَمَّا كَانَ مَذْكُورا وَمَا لم يكن مَذْكُورا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون ذكر السَّهْو بعد النسْيَان على سَبِيل التعداد وَلَا يخفى مَا فِيهِ (لِأَن اللُّغَة لَا تفرق) بَين النسْيَان والسهو: يَعْنِي أَن النسْيَان المبحوث عَنهُ فِي هَذَا الْمقَام الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَحْكَام الْآتِيَة هُوَ الْمَذْكُور فِي السّنة، وَقد اسْتعْمل(2/263)
هُنَاكَ فِي الْمَعْنى اللّغَوِيّ واللغة لَا تفرق بَينهمَا (فَلَا يُنَافِي الْوُجُوب) وَلَا وجوب الْأَدَاء لِأَن عدم الاستحضار لَا يُوجب عدم أَهْلِيَّته، إِذْ هِيَ بِالْعقلِ وَالْبُلُوغ وَلَا نُقْصَان فيهمَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لكَمَال الْعقل وَلَيْسَ) النسْيَان (عذرا فِي حُقُوق الْعباد) كَمَا أَنه عذر فِي حُقُوق الله تَعَالَى بِاعْتِبَار دفع الْإِثْم، فَإِن أتلف مَال إِنْسَان بنسيانه يجب عَلَيْهِ الضَّمَان، لِأَنَّهُ حق مُحْتَرم لِحَاجَتِهِ لَا للابتلاء، وبالنسيان لَا يَنْتَفِي هَذَا الاحترام (وَفِي حُقُوقه تَعَالَى) هُوَ (عذر فِي سُقُوط الْإِثْم) وَهُوَ المُرَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " رفع الله تَعَالَى عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ " رَوَاهُ الإِمَام ابْن حبَان وَصَححهُ الْحَاكِم وَقَالَ على شَرط الشَّيْخَيْنِ (أما الحكم) الدنيوي للْفِعْل الْوَاقِع نِسْيَانا (فَإِن كَانَ) النسْيَان مَقْرُونا (مَعَ مُذَكّر) لَهُ بِمَا هُوَ بصدده (وَلَا دَاع) قَالَ الشَّارِح وَالْأَحْسَن وَلَا دَاعِي كَأَنَّهُ أَرَادَ الْبناء على الْفَتْح تنصيصا على نفي الْجِنْس بِخِلَاف لَا المشبهة بليس لنُقْصَان نصوصيته عَلَيْهِ، وَكَأن المُصَنّف رَحمَه الله أَشَارَ إِلَى أَن الْمَعْنى بمعونة الْمقَام على أَنه وَلَا علم لَهُ بِالْفِعْلِ المنسي وَلَا دَاعِي لَهُ (إِلَيْهِ) أَي إِلَى مَا فعله نَاسِيا (كَأَكْل الْمُصَلِّي) أَي كمذكره عِنْد الْأكل نَاسِيا فِي أثْنَاء الصَّلَاة وَهُوَ هَيئته الْمَخْصُوصَة وَلَا دَاعِي لَهُ إِلَى الْأكل لقصر مدَّتهَا (لم يسْقط حكمه) أَي ذَلِك الْفِعْل الصَّادِر نِسْيَانا فتفسد الصَّلَاة الْمَذْكُورَة (لتَقْصِيره بِخِلَاف سَلَامه فِي الْعقْدَة) الأولى نِسْيَانا على ظن أَنَّهَا الْأَخِيرَة فَإِنَّهُ يسْقط حكمه فَلَا يُفْسِدهَا لانْتِفَاء الْمُذكر لِأَنَّهُ لَيْسَ للْمُصَلِّي هَيْئَة مذكرة أَنَّهَا الأولى، وَكَثْرَة تَسْلِيمه فِي الْقعدَة دَاعِيَة إِلَيْهِ (أَو) كَانَ (لَا مَعَه) أَي لَا مَعَ مُذَكّر وَلَكِن (مَعَ دَاع) إِلَى ذَلِك الْفِعْل (كَأَكْل الصَّائِم) فِي النَّهَار نَاسِيا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّوْم هَيْئَة مذكرة بِهِ والطبع دَاع إِلَيْهِ لطول مدَّته فَيسْقط حكمه (أَو) كَانَ (لَا) مَعَ مُذَكّر (وَلَا) مَعَ دَاع إِلَيْهِ (فَأولى) أَن يكون حكمه السُّقُوط أولى من كَون حكمه عدم السُّقُوط لِأَنَّهُ لما تعَارض مَا يَقْتَضِي السُّقُوط وَهُوَ عدم الْمُذكر، وَمَا يَقْتَضِي عدم الدَّاعِي رجح جَانب السُّقُوط تيسيرا (كَتَرْكِ الذَّابِح التَّسْمِيَة) فَإِن قيل هَيْئَة اضجاع الْحَيَوَان وَبِيَدِهِ المدية لقصد إزهاق روحه مذكرة لَهُ بِالتَّسْمِيَةِ قُلْنَا الدهشة والهيئة الْحَاصِلَة عِنْد قتل الْحَيَوَان تمحو ظُهُور أثر تذكرة فَلَا مُذَكّر فِي الْحَقِيقَة.
(وَأما النّوم ففترة تعرض مَعَ) وجود (الْعقل توجب الْعَجز عَن إِدْرَاك المحسوسات وَالْأَفْعَال الاختيارية و) عَن (اسْتِعْمَال الْعقل، فالفترة هِيَ معنى قَوْلهم: انحباس الرّوح من الظَّاهِر إِلَى الْبَاطِن، وَهَذِه الرّوح بِوَاسِطَة الْعُرُوق الضوارب تَنْتَشِر إِلَى ظَاهر الْبدن وَقد تنحجر) أَي تنحبس (فِي الْبَاطِن بِأَسْبَاب مثل طلب الاسْتِرَاحَة من كَثْرَة الْحَرَكَة والاشتغال بتأثير فِي الْبَاطِن كنضج الْغذَاء) وَكَذَا تغلب النّوم عِنْد امتلاء الْمعدة (وَنَحْوه) كَأَن يكون الرّوح قَلِيلا لَا يَفِي بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِن جَمِيعًا ولنقصانه ولزيادته أَسبَاب طبيعية، وَحَقِيقَة الإعياء نُقْصَان الرّوح بالتحلل بِسَبَب الْحَرَكَة. قَالَ(2/264)
الشَّارِح، وَكَانَ الأولى تَقْيِيد الفترة بالطبيعية ليخرج الْإِغْمَاء قلت: وَفِي قَوْله تعرض بِصِيغَة الْمُضَارع المفيدة الِاسْتِمْرَار التجدّدي إغنا عَنهُ، على أَن مَفْهُوم النّوم بديهي يعرفهُ كل أحد، وَالْمَقْصُود بِصُورَة التَّعْرِيف بَيَان حكمته، وَقيد الْأَفْعَال بالاختيارية لِأَن الطبيعية كالنفس بَاقِيَة على حَالهَا، وَقيل: النّوم ريح يَأْتِي الْحَيَوَان إِذا شمها ذهب حواسه كَمَا تذْهب الْخمر بعقل شاربها، وَقيل: انعكاس الحواسّ الظَّاهِرَة إِلَى الْبَاطِنَة (فَأوجب تَأْخِير خطاب الْأَدَاء) إِلَى زَوَاله لِامْتِنَاع الْوَهم وإنجاز الْفِعْل حَالَة النّوم (لَا) تَأْخِير (أصل الْوُجُوب) وَلَا إِسْقَاطه حِينَئِذٍ لعدم إخلاله بِالذِّمةِ وَالْإِسْلَام، وَلَا مَكَان الْأَدَاء حَقِيقَة بالانتباه أَو خلفا بِالْقضَاءِ (وَلذَا) أَي لوُجُود أصل الْوُجُوب حَالَة النّوم (وَجب الْقَضَاء) للصَّلَاة الَّتِي دخل وَقتهَا وَهُوَ نَائِم (إِذا زَالَ) النّوم (بعد الْوَقْت) لِأَنَّهُ فرع وجود الْوُجُوب فِي حَالَة النّوم (و) أوجب (إبِْطَال عباراته من الْإِسْلَام والردّة وَالطَّلَاق) وَالْعتاق وَالْبيع وَالشِّرَاء إِلَى غير ذَلِك، وَالْمرَاد بقوله من الْإِسْلَام الخ الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على الْمَذْكُورَات (وَلم تُوصَف) عباراته (بِخَبَر وإنشاء وَصدق وَكذب كالألحان) أَي كَمَا لَا يُوصف بهَا أصوات الطُّيُور لانْتِفَاء الْإِرَادَة وَالِاخْتِيَار (فَلِذَا اخْتَار فَخر الْإِسْلَام) وَصَاحب الْهِدَايَة فِي جمَاعَة (أَن قِرَاءَته لَا تسْقط الْفَرْض) ونصّ فِي الْمُحِيط على أَنه الأصحّ، لِأَن الِاخْتِيَار شَرط الْعِبَادَة وَلم يُوجد (وَفِي النَّوَادِر تنوب) وَاخْتَارَهُ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث، لِأَن الشَّرْع جعل النَّائِم كالمستيقظ فِي حق الصَّلَاة تَعْظِيمًا لأمر الْمُصَلِّي، وَالْقِرَاءَة ركن زَائِد يسْقط فِي بعض الْأَحْوَال، فَجَاز أَن يعتدّ بهَا مَعَ النّوم. نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ أَنه الْأَوْجه، وَالِاخْتِيَار الْمَشْرُوط قد وجد فِي ابْتِدَاء الصَّلَاة، وَهُوَ كَاف: أَلا ترى أَنه لَو ركع وَسجد ذاهلا غافلا عَن فعله كل الذهول أَنه يُجزئهُ انْتهى. وَفِي الْمُنْتَقى ركع وَهُوَ نَائِم لَا يجوز إِجْمَاعًا. وَقد يفرق بَينهمَا بِأَن الرُّكُوع ركن أصليّ لَا يسْقط بِخِلَاف الْقِرَاءَة، والغفلة لَيست مثل النّوم لِأَنَّهَا تَزُول بِأَدْنَى توجه، ثمَّ عطف على أَن قِرَاءَته (وَأَن لَا تفْسد قهقهته) أَي النَّائِم (الْوضُوء وَلَا الصَّلَاة، وَإِن قيل أَن أَكثر الْمُتَأَخِّرين) على أَن قهقهته (تفسدهما) أَي الْوضُوء وَالصَّلَاة: أما الْوضُوء فلكونها حَدثا فِي صَلَاة ذَات رُكُوع وَسُجُود بِالنَّصِّ، وَقد وجدت، وَلَا فرق فِي الْأَحْدَاث بَين النّوم واليقظة، وَأما الصَّلَاة فَلِأَن فِي القهقهة معنى الْكَلَام، وَالنَّوْم كاليقظة فِيهِ عِنْد الْأَكْثَر، وَوجه مُخْتَار فَخر الْإِسْلَام وَهُوَ الْأَصَح على مَا صرح بِهِ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة زَوَال منع الْجِنَايَة بِالنَّوْمِ (وتفريع النَّوَازِل الْفساد بِكَلَام النَّائِم عَلَيْهِ) أَي على قَول أَكثر الْمُتَأَخِّرين (لعدم فرق النصّ) وَهُوَ مَا فِي صَحِيح مُسلم " أَن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس ". (بَين المستيقظ والنائم، وإنزال) الْمُصَلِّي (النَّائِم كالمستيقظ) شرعا لما روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ " إِذا نَام العَبْد فِي سُجُوده باهى الله بِهِ(2/265)
الْمَلَائِكَة فَيَقُول: انْظُرُوا لعبدي روحه عِنْدِي، وَجَسَده بَين يديّ ": رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ لَيْسَ بِالْقَوِيّ، كَذَا قَالَ الشَّارِح (وَعَن أبي حنيفَة رَحمَه الله تفْسد الْوضُوء لَا الصَّلَاة) وَتقدم وَجه كل (فيتوضأ) الْمصلى المقهقه فِي صلَاته نَائِما (وَيَبْنِي) مَا بَقِي من صلَاته على مَا أدّاه قبله، (وَقيل عَكسه) أَي تفْسد صلَاته لَا وضوؤه وَهُوَ الْمَذْكُور فِي عَامَّة الْفَتَاوَى: وَفِي الْخُلَاصَة هُوَ الْمُخْتَار وَوَافَقَهُ المُصَنّف بقوله (وَهُوَ أقرب عِنْدِي لِأَن جعلهَا) أَي القهقهة (حَدثا للجناية وَلَا جِنَايَة من النَّائِم) لعدم الْقَصْد (فبقى) القهقهة، التَّذْكِير بِاعْتِبَار الضحك وَالْفِعْل (كلَاما) حَقِيقَة أَن تبين فِيهَا حُرُوف، أَو حكما إِن لم يتَبَيَّن (بِلَا قصد فتفسد) الصَّلَاة بِهِ (كالساهي) أَي كَصَلَاة الساهي (بِهِ) أَي بالْكلَام.
(وَأما الْإِغْمَاء فآفة فِي الْقلب أَو الدِّمَاغ) على سَبِيل منع الخلوّ (تعطل القوى المدركة والمحركة عَن أفعالها مَعَ بَقَاء الْعقل مَغْلُوبًا) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ينبعث عَن الْقلب بخار لطيف يتكون من ألطف أَجزَاء الأغذية يُسمى روحا حيوانيا، وَقد أفيضت عَلَيْهِ قُوَّة تسري بسريانه فِي الأعصاب السارية وأعضاء الْإِنْسَان، فتثير فِي كل عُضْو قُوَّة تلِيق بِهِ وَيتم بهَا مَنَافِعه، وَهِي تَنْقَسِم إِلَى مدركة: وَهِي الْحَواس الظَّاهِرَة والباطنة، ومحركة وَهِي تحرّك الْأَعْضَاء بتمديد الأعصاب وإرخائها لتنبسط إِلَى الْمَطْلُوب أَو تنقبض عَن الْمنَافِي، فَمِنْهَا مَا هِيَ مبدأ الْحَرَكَة إِلَى جلب الْمَنَافِع وَتسَمى قُوَّة شهوانية، وَمِنْهَا مَا هِيَ مبدأ الْحَرَكَة إِلَى دفع المضارّ وَتسَمى قُوَّة عصبية، وَأكْثر تعلق المدركة بالدماغ والمحركة بِالْقَلْبِ، فَإِذا وَقعت فِي الدِّمَاغ أَو الْقلب آفَة بِحَيْثُ تتعطل تِلْكَ القوى عَن أفعالها وَإِظْهَار آثارها كَانَ ذَلِك إِغْمَاء (وَإِلَّا) أَي وَلَو لم يكن الْعقل بَاقِيا مَغْلُوبًا فِي الْإِغْمَاء (عصم مِنْهُ الْأَنْبِيَاء) كَمَا عصموا من الْجُنُون، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاع (وَهُوَ) أَي الْإِغْمَاء (فَوق النّوم) فِي سلب الِاخْتِيَار وتعطل القوى: وَلذَا يمْتَنع فِيهِ التَّنْبِيه، بِخِلَاف النّوم لغلظ مواد الْإِغْمَاء ولطف الأبخرة المتصاعدة إِلَى الدِّمَاغ الْمُوجبَة للنوم وَسُرْعَة تحللها، فَلهُ أَن يُنَبه بِأَدْنَى تَنْبِيه (فَلَزِمَهُ) أَي الْإِغْمَاء (مَا لزمَه) أَي النّوم من تَأْخِير الْخطاب وَإِبْطَال الْعِبَادَات بطرِيق أولى (وَزِيَادَة كَونه) أَي الْإِغْمَاء عطف على الْمَوْصُول (حَدثا وَلَو) حدث (فِي جَمِيع حالات الصَّلَاة) من قيام وركوع وَسُجُود واضطجاع لزوَال المسكة على وَجه الْكَمَال على كل حَال (وَمنع الْبناء) أَي بِنَاء مَا بَقِي من الصَّلَاة بعد الْإِفَاقَة على مَا قبله إِذا وَقع فِي خلالها (بِخِلَاف النّوم فِي الصَّلَاة مُضْطَجعا) بِأَن غَلبه فاضطجع وَهُوَ نَائِم (لَهُ الْبناء) إِذا تَوَضَّأ، بِمَنْزِلَة مَا لَو سبقه الْحَدث، وَذَلِكَ لكَون الْإِغْمَاء نَادرا، بِخِلَاف النّوم فَإِنَّهُ كثير الْوُقُوع، وَالنَّص الْوَارِد فِي جَوَاز الْبناء إِنَّمَا ورد فِي الحَدِيث الْغَالِب الْوُقُوع، وَقيد بالاضطجاع لِأَن نوم الْمُصَلِّي غير مُضْطَجع لَا ينْقض الْوضُوء. هَذَا وَالْإِغْمَاء إِذا زَاد على يَوْم وَلَيْلَة بِاعْتِبَار الْأَوْقَات عِنْد أبي حنيفَة(2/266)
وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله، وَبِاعْتِبَار الصَّلَوَات عِنْد مُحَمَّد يسْقط بِهِ الصَّلَوَات اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي الْجُنُون. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا استوعب وَقت الصَّلَاة سقط، بِخِلَاف النّوم. وَفِي الْمُحِيط: لَو شرب حَتَّى ذهب عقله أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة لَا يسْقط عَنهُ الْقَضَاء مَتى كثر، لِأَنَّهُ حصل بِمَا هُوَ مَعْصِيّة، فَلَا يُوجب التَّخْفِيف والترفيه انْتهى. وَفِيه: لَو شرب البنج والدواء حَتَّى أُغمي عَلَيْهِ، قَالَ مُحَمَّد: هُوَ يسْقط عَنهُ الْقَضَاء مَتى كثر لِأَنَّهُ حصل بِمَا هُوَ مُبَاح فَصَارَ كَمَا لَو أُغمي عَلَيْهِ بِمَرَض، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله: يلْزمه الْقَضَاء لِأَن النَّص ورد فِي إِغْمَاء حصل بِآفَة سَمَاوِيَّة وَهَذَا بصنع العَبْد، وَلَو أُغمي عَلَيْهِ لفزع من سبع أَو آدَمِيّ أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة لَا يلْزمه الْقَضَاء بِالْإِجْمَاع، ثمَّ هَذَا إِذا لم يفق الْمغمى عَلَيْهِ أصلا فِي هَذِه الْمدَّة، فَإِن كَانَ يفِيق سَاعَة ثمَّ يعاوده لم يذكرهُ مُحَمَّد، وَهُوَ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا إِن كَانَ لإفاقته وَقت مَعْلُوم فَهِيَ إفاقة مُعْتَبرَة تبطل حكم مَا قبلهَا من الْإِغْمَاء، وَثَانِيهمَا أَن لَا يكون لَهَا وَقت مَعْلُوم بل يفِيق بَغْتَة فيتكلم بِكَلَام الأصحاء، ثمَّ يغمى عَلَيْهِ بَغْتَة فَهِيَ غير مُعْتَبرَة، كَذَا فِي الذَّخِيرَة.
(وَأما الرّق) فَهُوَ لُغَة الضعْف، وَمِنْه صَوت رَقِيق، وَأما فِي الشَّرْع (فعجز حكمي عَن الْولَايَة وَالشَّهَادَة وَالْقَضَاء ومالكية المَال) والتزوج وَغَيرهَا (كَائِن عَن جعله) أَي الرَّقِيق (شرعا عرضة) أَي محلا مَنْصُوبًا متهيئا (للتَّمَلُّك والابتذال) أَي الامتهان، وَإِنَّمَا قَالَ حكمي لعدم الْعَجز الْحَقِيقِيّ، بل الرَّقِيق فِي الْغَالِب أقوى من الْحر فِي القوى الحسية، ثمَّ هُوَ حق الله ابْتِدَاء يثبت جَزَاء للكفر، إِذْ الْكفَّار باستنكافهم عَن عبَادَة الله ألْحقُوا بالبهائم فِي عدم النّظر فِي الْآيَات الدَّالَّة على التَّوْحِيد فَجعلُوا عبيد عبيده، وَلِهَذَا لَا يثبت على الْمُسلم ابْتِدَاء ثمَّ صَار حَقًا للْعَبد من غير نظر إِلَى معنى الْجَزَاء وجهة الْعقُوبَة فَلَا يرْتَفع الرّقّ وَإِن أسلم (فَلَا يتَجَزَّأ الرّقّ) تَفْرِيع على كَونه عَجزا كَمَا ذكر إِذْ التجزئة تَقْتَضِي أَن لَا يكون الْبَعْض مِنْهُ عَاجِزا فَيحصل لَهُ تِلْكَ الولايات كَمَا سيشير إِلَيْهِ، ثمَّ أَنه قَالَ غير وَاحِد من الْمُتَأَخِّرين، بِاتِّفَاق أَصْحَابنَا: وَيشكل بقول مُحَمَّد بن سَلمَة يحْتَمل التجزي ثبوتا حَتَّى لَو فتح الإِمَام بَلْدَة وَرَأى الصَّوَاب فِي استرقاق أَنْصَافهمْ نفذ ذَلِك، وَالأَصَح الأول (لِاسْتِحَالَة قُوَّة الْبَعْض الشَّائِع) من الْمحل الْحَاصِل على تَقْدِير التجزئة بِمَعْنى عدم عَجزه عَمَّا ذكرنَا (باتصافه) أَي الْبَعْض الشَّائِع (بِالْولَايَةِ والمالكية، فَكَذَا ضِدّه) أَي الرّقّ (وَهُوَ الْعتْق) لَا يتَجَزَّأ أَيْضا اتِّفَاقًا (وَإِلَّا) لَو تجزأ الْعتْق (تجزأ) الرّقّ، لِأَنَّهُ إِذا ثَبت الْعتْق فِي بعض الْمحل فالبعض الآخر أَن عتق فَلَا تجزأ وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض وَإِن لم يعْتق لزم الْمحَال الْمَذْكُور (وَكَذَا الْإِعْتَاق عِنْدهمَا) لَا يتَجَزَّأ فَإِذا أعتق نصف عَبده عتق كُله (وَإِلَّا) لَو تجزأ بِأَن يتَحَقَّق إِعْتَاق النّصْف بِدُونِ النّصْف الآخر، وَالْمُعتق لَا يتَجَزَّأ اتِّفَاقًا (ثَبت المطاوع) بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ إِعْتَاق الْبَعْض (بِلَا مُطَاوع)(2/267)
بِكَسْر الْوَاو وَهُوَ الْعتْق (إِن لم ينزل) أَي لم يعْتق مِنْهُ (شَيْء) أما المطاوعة فَلِأَنَّهُ يُقَال أَعتَقته فَعتق ككسرته فانكسر، والمطاوعة حُصُول الْأَثر عَن تعلق الْفِعْل الْمُتَعَدِّي بمفعوله، وَأثر الشَّيْء لَازم لَهُ (وَقَلبه) أَي وَيثبت المطاوع بِكَسْر الْوَاو بِلَا مُطَاوع بِفَتْحِهَا (إِن نزل) أَي عتق (كُله) إِن تحقق عتق الْبَعْض الَّذِي لم يتَعَلَّق بِهِ الْإِعْتَاق كتحقق عتق الْكل بِدُونِ إِعْتَاقه (وتجزأ) الْإِعْتَاق (عِنْده) أَي عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله (لِأَنَّهُ) أَي الْإِعْتَاق (إِزَالَة الْملك المتجزئ) اتِّفَاقًا (حَتَّى صَحَّ شِرَاء بعضه وَبيعه) أَي بيع بعضه (وَإِن تعلق بِتَمَامِهِ) أَي الْإِعْتَاق (مَا لَا يتَجَزَّأ) وَهُوَ الْعتْق، فَإِن وصلية: يَعْنِي كَون الْعتْق بِحَيْثُ لَا يَتَرَتَّب إِلَّا على إِعْتَاق التَّمام، وَهُوَ إِعْتَاق الْكل لَا يَسْتَدْعِي عدم تُجزئ الْإِعْتَاق لجَوَاز تُجزئ الْمَاهِيّة مَعَ عدم تُجزئ أثر قسم مِنْهَا وَإِن كَانَ ذَلِك الْأَثر مطاوعا لذَلِك الْقسم (كَالْوضُوءِ تعلق بِتَمَامِهِ إِبَاحَة الصَّلَاة وَهُوَ) أَي الْوضُوء (متجزئ دونهَا) أَي إِبَاحَة الصَّلَاة فَإِن قلت مدَار استدلالهما على استلزام تُجزئ كل من المطاوع والمطاوع تجزأ الآخر، لَا على استلزام تُجزئ الْمُتَعَلّق تجزأ الْمُتَعَلّق، وَالْوُضُوء من الثَّانِي دون الأول فَلَا ينفع هَذَا النّظر قلت المُرَاد نفي كَون الْإِعْتَاق مُطلقًا مطاوعا لِلْعِتْقِ وَبعد نَفْيه لَا يبْقى إِلَّا كَونه بِحَيْثُ يتَعَلَّق بِتَمَامِهِ دون نقصانه، وَحِينَئِذٍ لَا يصير مثل الْوضُوء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والمطاوعة فِي أعْتقهُ فَعتق) إِنَّمَا هِيَ (عِنْد إِضَافَته) أَي الْإِعْتَاق (إِلَى كُله) أَي كل العَبْد (كَمَا هُوَ اللَّفْظ) أَي مفاده: يَعْنِي لفظ أعْتقهُ، فَإِن الْمُتَبَادر مِنْهُ إِعْتَاق الْكل فَإِنَّهُ الْحَقِيقَة (فَلَا يثبت بِإِعْتَاق الْبَعْض شَيْء من الْعتْق وَلَا زَوَال شَيْء من الرّقّ عِنْده) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله. وَفِي قَوْله وَلَا زَوَال إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى أَن الْعتْق قُوَّة شَرْعِيَّة تحصل فِي الْمحل، والزوال الْمَذْكُور لَازمه، وَإِنَّمَا ذكره للتَّأْكِيد، وَذَلِكَ لِأَن ملزوم الْعتْق ومطاوعته إِنَّمَا هُوَ إِعْتَاق الْكل وَلم يتَحَقَّق وإعتاق الْبَعْض لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء من الْعتْق وَإِلَّا لزم عتق الْكل لعدم تُجزئ الْعتْق اتِّفَاقًا فَيلْزم عَلَيْهِ الْعتْق جبرا (بل هُوَ) أَي مُعتق الْبَعْض (كَالْمكَاتبِ) فِي أَنه لَا يَصح مِنْهُ أَحْكَام الْحُرِّيَّة (إِلَّا أَنه) أَي مُعتق الْبَعْض (لَا يرد) إِلَى الرّقّ الْخَالِص، لِأَن سَببه إِزَالَة الْملك، لَا إِلَى أحد وَهِي لَا تحْتَمل الْفَسْخ بِخِلَاف الْمكَاتب فَإِنَّهُ يرد إِلَيْهِ إِذا عجز عَن المَال لِأَن السَّبَب فِيهِ عقد يحْتَمل الْفَسْخ (فأثره) أَي إِعْتَاق الْبَعْض (حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَ إِزَالَة بعض الْملك من غير حُصُول الْعتْق (فِي فَسَاد الْملك) فِي الْبَاقِي حَتَّى لَا يملك الْمولى بيع مُعتق الْبَعْض وَلَا إبقاءه فِي ملكه، وَيصير هُوَ أَحَق بمكاسبه وَيخرج إِلَى الْحُرِّيَّة بالسعاية (وَهَذَا) أَي كَونه مؤثرا فِي فَسَاد الْملك الَّذِي هُوَ حق للْعَبد، لَا فِي الرّقّ الَّذِي هُوَ حق لله تَعَالَى إِنَّمَا كَانَ (لوُجُوب قصر ملاقاة التَّصَرُّف) فِي (حق الْمُتَصَرف) أَي على حَقه لَا يتجاوزه إِلَى حق غَيره: يَعْنِي أَن تَصَرُّفَات الْإِنْسَان إِنَّمَا(2/268)
تقتصر ملاقاتها وتأثيرها على حق نَفسه وَلَا تلاقي فِي حق غَيره (إِلَّا ضمنا) وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ تَصرفا قصديا مستلزما تحَققه تحقق الضمني، وَحَيْثُ انْتَفَى المطاوعة فِي إِعْتَاق الْبَعْض انْتَفَى الاستلزام (كَمَا فِي إِعْتَاق الْكل) تَمْثِيل للمستثنى فَإِن فِيهِ إِزَالَة حق العَبْد قصدا وأصالة وَثَبت فِي ضمنه زَوَال حق الله تَعَالَى، وَكم من شَيْء ثَبت ضمنا وَلَا يثبت قصدا (وَالرّق حق الله تَعَالَى) ابْتِدَاء يثبت أثرا للكفر (وَالْملك حَقه) أَي العَبْد يثبت ثَانِيًا (وَأَنه) أَي الرّقّ (يُنَافِي ملك المَال لِأَنَّهُ) أَي الرَّقِيق (مَمْلُوك) حَال كَونه (مَالا فاستلزم) كَونه مَمْلُوكا مَالا (الْعَجز والابتذال) لكَونه مقهورا تَحت يَد مَالِكه (والمالكية تَسْتَلْزِم ضدهما) أَي كَونه مَمْلُوكا مَالا: أَي العجزه والابتذال وضدهما الْقُدْرَة والكرامة (وتنافي اللوازم يُوجب تنَافِي الملزومات فَلَا يجْتَمع إِلَى مملوكيته) حَال كَونه مكَاتبا (مَالا مالكيته لِلْمَالِ فَلَا يتسري) الرَّقِيق الْأمة (وَلَو ملكهَا) بِصِيغَة الْمَجْهُول بِأَن جعله السَّيِّد مَالِكهَا حَال كَونه (مكَاتبا) مَعَ أَن الْمكَاتب مَالك لما فِي يَده (بِخِلَاف غَيره) أَي غير المَال (من النِّكَاح لِأَنَّهُ) أَي النِّكَاح (من خَواص الْآدَمِيَّة) فَإِنَّهُ جعل فِيهِ بِمَنْزِلَة المبقي على أصل الْحُرِّيَّة (حَتَّى انْعَقَد) إنكاحه نَفسه مَوْقُوفا على إجَازَة الْمولى إِذا كَانَ (بِلَا إِذن) من الْمولى (وَشرط الشَّهَادَة عِنْده) أَي العقد (لَا عِنْد الْإِجَازَة، وَإِنَّمَا وقف إِلَى إِذْنه لِأَنَّهُ) أَي العقد (لم يشرع إِلَّا بِالْمَالِ) لقَوْله تَعَالَى - {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} - إِلَى غير ذَلِك (فَيضر) العقد (بِهِ) أَي الْمولى، لِأَنَّهُ لما فِيهِ من نُقْصَان مَالِيَّة العَبْد الَّتِي هِيَ حق الْمولى لِأَن الْمهْر يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ إِذا لم يُوجد لَهُ مَال آخر يتَعَلَّق بِهِ (فَيتَوَقَّف) نَفاذ العقد (على الْتِزَامه) أَي الْمولى بِالْإِذْنِ السَّابِق أَو الْإِمْضَاء اللَّاحِق (و) من (الدَّم لملكه الْحَيَاة) كَونه بِالْحَيَاةِ مَمْلُوكا لَهُ أَنَّهَا لَيست مِمَّا يتَصَرَّف فِيهِ الْمولى وَأَنه باعتبارها كالحرّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَا يملك الْمولى إِتْلَافه) أَي العَبْد بِإِزَالَة حَيَاته: إِذْ لَا ملك لَهُ فِيهَا (وَقتل الحربة) أَي بِالْعَبدِ، فلولا أَنه فِي حق الدَّم كَالْحرِّ مَا قتل بِهِ قصاصا فِي الْعمد: إِذْ الْقصاص يُنبئ عَن الْمُسَاوَاة (وودى) أَي فدى بِالدِّيَةِ على تَفْصِيل فِيهَا بالْخَطَأ (وَصَحَّ إِقْرَاره) أَي العَبْد على نَفسه مَأْذُونا كَانَ أَو مَحْجُورا (بالحدود وَالْقصاص) أَي بِمَا يوجبهما، لِأَنَّهُ فِي حق نَفسه وَلَا يمْنَع صِحَّته لُزُوم إِتْلَاف مَالِيَّته الَّتِي هِيَ حق الْمولى لكَونه ضمنيا فَانْدفع مَا قَالَ زفر رَحمَه الله من أَنه لَا يَصح إِقْرَاره لَهما لكَونه واردا على نَفسه وطرفه وَكِلَاهُمَا مَال الْمولى، وَالْإِقْرَار على الْغَيْر لَا يقبل (وَالسَّرِقَة المستهلكة) أَي وَصَحَّ إِقْرَاره بِسَرِقَة مَال غير قَائِم بِيَدِهِ سَوَاء كَانَ مَأْذُونا أَو مَحْجُورا (والقائمة) أَي وبسرقة مَال قَائِم بِيَدِهِ (فِي الْمَأْذُون اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَحْجُور وَالْمَال قَائِم كَذَلِك) أَي صَحَّ إِقْرَاره بهَا (إِن صدقه الْمولى) فِي ذَلِك (فَيقطع) فِي هَذِه الصُّور عِنْد عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة، لِأَن وجوب الحدّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَار(2/269)
أَنه آدميّ مُكَلّف بِاعْتِبَار أَنه مَال مَمْلُوك (وَيرد) المَال إِذا كَانَ قَائِما لسُقُوط حق الْمولى بِالْإِذْنِ والتصديق (وَلَا ضَمَان فِي الهالكة) صدّقه الْمولى أَو كذبه، لِأَن الْقطع وَالضَّمان لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْد أَصْحَابنَا. وَقد بَين فِي مَحَله (وَإِن قَالَ) الْمولى (المَال لي) فِيمَا إِذا كَانَ العَبْد مَحْجُورا وَالْمَال قَائِم (فلأبي يُوسُف) رَحمَه الله (يقطع) لِأَن إِقْرَاره حجَّة فِي الْقطع لِأَنَّهُ مَالك دم نَفسه (وَالْمَال للْمولى لِأَنَّهُ) أَي كَون المَال للْمولى هُوَ (الظَّاهِر) تبعا لرقبته (وَقد) ينْفَصل أحد الْحكمَيْنِ عَن الآخر: إِذْ قد (يقطع بِلَا وجوب مَال كَمَا لَو اسْتَهْلكهُ) أَي المَال الْمَسْرُوق (وَعَكسه) أَي وَقد يجب المَال وَلَا يقطع كَمَا (إِذا شهد بِالسَّرقَةِ رجل وَامْرَأَتَانِ) لما عرف من أَن شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرجل تقبل فِي الْأَمْوَال دون الْحُدُود (ولمحمد) رَحمَه الله (لَا) يقطع (وَلَا يرد) المَال (لما ذكر أَبُو يُوسُف) رَحمَه الله من أَن كَون المَال للْمولى هُوَ الظَّاهِر وَإِقْرَاره على الْمولى بَاطِل (وَلَا قطع) على العَبْد (بِمَال السَّيِّد) أَي بسرقته (وَلأبي حنيفَة) رَحمَه (يقطع ويردّ) المَال إِلَى الْمَسْرُوق مِنْهُ (الْقطع لصِحَّة إِقْرَاره بالحدود ويستحيل) الْقطع (بمملوك) أَي بِمَال مَمْلُوك (للسَّيِّد فقد كذبه) أَي الْمولى (الشَّرْع والمقطوع) أَي الَّذِي قطع بِهِ شرعا (انحطاطه) أَي الرَّقِيق (بِالْحجرِ) من قبل الشَّرْع (فِي أُمُور إجماعية مِمَّا ذكرنَا) من الْولَايَة وَالْقَضَاء وَالشَّهَادَة ومالكية المَال (فَمَا استلزم مِنْهَا) أَي من الْأُمُور الأجماعية (غَيره) الضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَوْصُول (كَعَدم مالكية المَال) فَإِنَّهُ مُسْتَلْزم عدم صِحَة تصرف يتَوَقَّف صِحَّته على الْمَالِكِيَّة: فعلى هَذَا يكون مستلزما مِنْهَا، وَيحْتَمل أَن يكون مِثَالا للْغَيْر الَّذِي ألزمهُ أَمر إجماعيّ، وَهُوَ كَون الرَّقِيق عرضة للتَّمْلِيك والابتذال فَإِن قلت قَوْله: مِمَّا ذكرنَا يأبي هَذَا الِاحْتِمَال، لِأَن عدم الْمَالِكِيَّة مِمَّا ذكره قلت هَذَا إِذا كَانَ من هِيَ مِمَّا ذكرنَا بَيَانِيَّة، وَأما إِذا كَانَت تبعيضية فَيجوز أَن يكون عدم الْمَالِكِيَّة مِمَّا يستلزمه الْأَمر الإجماعي فَافْهَم (أَو قَامَ بِهِ) أَي بإثباته مَعْطُوف على صلَة الْمَوْصُول، وَالضَّمِير الْمَجْرُور رَاجع إِلَيْهِ وَالْفَاعِل (سمع) أَي دَلِيل سَمْعِي (حكم بِهِ) أَي بِمُوجب مَا ذكر من أحد الْأَمريْنِ (فَمن الْمَعْلُوم انحطاط ذمَّته) أَي الرَّقِيق عَن تحمل الدّين لِضعْفِهَا، لِأَنَّهُ من حَيْثُ أَنه مَال رَقِيق لَا ذمَّة لَهُ، وَمن حَيْثُ أَنه مُكَلّف لَهُ ذمَّة فَيثبت لَهُ ذمَّة ضَعِيفَة، فَلَا بُد لتقويتها لتحمله بانضمام مَالِيَّة الرَّقَبَة أَو الْكسْب إِلَيْهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (حَتَّى ضم إِلَيْهَا) أَي ذمَّته غَايَة للانحطاط (مَالِيَّة رقبته أَو كَسبه) فَلَا يُطَالب بِدُونِ انضمام أَحدهمَا إِلَيْهَا، فَإِن الِاحْتِمَال عبارَة عَن صِحَة الْمُطَالبَة، وَإِنَّمَا يَنْضَم إِلَيْهَا الْمَالِيَّة إِذا تعلق الْحق بهَا شرعا بِمُوجب كالإذن بِالتِّجَارَة صِيَانة لأموال النَّاس، وَكَذَلِكَ مَا اكْتَسبهُ الْمَأْذُون بهَا، وَمعنى تعلقه بهما حق الِاسْتِيفَاء مِنْهُمَا (فَبيع فِيمَا يلْزم) من الدُّيُون (فِي حق الْمولى إِن لم يفده وَلَا كسب أَو لم يَفِ) كَسبه بذلك إِن كَانَ لَهُ كسب(2/270)
إِلَّا أَن يُمكن بَيْعه كالمدبر وَالْمكَاتب ومعتق الْبَعْض عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله، فَحِينَئِذٍ يستسعى، وَالدّين الَّذِي يظْهر فِي حق الْمولى (كمهر وَدين تِجَارَة عَن إِذن) لرضا الْمولى بِالْعقدِ وَالتِّجَارَة (أَو تبين اسْتِهْلَاك) أَي باستهلاك علم يَقِينا لانْتِفَاء التُّهْمَة (لَا إِقْرَاره) أَي لَا بِإِقْرَارِهِ بالاستهلاك حَال كَونه (مَحْجُورا) لوُجُود التُّهْمَة وَعدم رضَا الْمولى بذلك فَلَا يظْهر فِي حَقه، فَلَا يُبَاع وَلَا يُؤْخَذ من كَسبه لَكِن يُؤَخر إِلَى عتقه (وحله) أَي وانحطاط الْحل الثَّابِت لَهُ بِالنِّكَاحِ عَن الْحل الثَّابِت للحرية (فاقتصر) حلّه (على ثِنْتَيْنِ نسَاء) لَهُ حرتين كَانَتَا، أَو أمتين كَمَا هُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله وَأحمد. وَقَالَ مَالك: يتَزَوَّج أَرْبعا، لِأَن الرّقّ لَا يُؤثر فِي مالكية النِّكَاح، لِأَنَّهُ من خَصَائِص الْآدَمِيَّة وَأجِيب بِأَن لَهُ أثرا فِي تنصيف المتعدّد كإقراء الْعدة، وَعدد الطَّلَاق، وجلدات الْحُدُود، لِأَن اسْتِحْقَاق النعم بآثار الإنسانية، وَقد أثر الرقّ فِي إنسانها حَتَّى لحق بالبهائم يُبَاع بالأسواق: لِأَنَّهُ أثر الْكفْر الذى هُوَ موت حكمي كَمَا أثر فِي الْعقُوبَة. قَالَ تَعَالَى - {فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} -. وَقَالَ جمع من الصَّحَابَة: إِن العَبْد لَا ينْكح أَكثر من اثْنَتَيْنِ. وَأخرج الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى عَن عمر مثله (وَاقْتصر) الْحل (فِيهَا) أَي الْأمة على تَقْدِير الْجمع بَينهَا وَبَين الْحرَّة (على تقدمها على الْحرَّة لَا) تحل (مُقَارنَة) لَهَا فِي العقد (ومتأخرة) عَنْهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " ويتزوج الْحرَّة على الْأمة، وَلَا يتَزَوَّج الْأمة على الْحرَّة ": رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِيه ظَاهر بن أسلم ضَعِيف: لَكِن أخرجه الطَّبَرِيّ وَعبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة مُرْسلا وَعبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد صَحِيح عَن جَابر مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَأما نفي حل مقارنتها فَلِأَن هَذِه الْحَالة لَا تحْتَمل التجزي فتغلب بِالْحُرْمَةِ على الْحل (و) اقْتصر طَلاقهَا على (طَلْقَتَيْنِ) حرا كَانَ زَوجهَا أَو عبدا خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة فِيمَا إِذا كَانَ حرا، وَاقْتصر تربصها لتعظيم ملك النِّكَاح وَالْعلم بِبَرَاءَة الرَّحِم (و) عدّتها على وجود (حيضتين عدَّة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " طَلَاق الْأمة ثِنْتَانِ، وعدتها حيضتان ": صَححهُ الْحَاكِم، وَإِنَّمَا كَانَ طَلاقهَا ثِنْتَيْنِ وعدتها حيضتين (تنصيفا) للثابت مِنْهَا للْحرَّة غير أَن التنصيف للثلاث يَقْتَضِي تَكْمِيل نصف الطَّلَاق وَالْحيض تَرْجِيحا لجَانب الْوُجُود على الْعَدَم (وَكَذَا فِي الْقسم) اقْتصر على النّصْف مِمَّا للْحرَّة هُوَ قَول أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة أُخْرَى إِلَى التَّسْوِيَة بَينهمَا، وَالْحجّة للْأولِ مَا عَن عليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " إِذا نكحت الْحرَّة على الْأمة، فلهذه الثُّلُثَانِ، ولهذه الثُّلُث ". وَفِي مَعْنَاهُ مَا عَن سُلَيْمَان بن يَاسر: " للْحرَّة ليلتان، وللأمة لَيْلَة ": أخرجهُمَا الْبَيْهَقِيّ (وَعَن تنصف النِّعْمَة) فِي حق الرَّقِيق (تنصف حِدة) لقَوْله تَعَالَى - {فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} -: إِلَّا فِيمَا لَا يُمكن تنصيفه كالقطع فِي السّرقَة، فَإِن الْحر وَالْعَبْد فِيهِ سَوَاء (وَإِنَّمَا نقصت دِيَته إِذا ساوت(2/271)
قِيمَته دِيَة الْحر) كَمَا فِي قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله وَمُحَمّد (لِأَنَّهُ) أَي المؤدّى (ضَمَان النَّفس وَهُوَ) أَي ضَمَان النَّفس وَاجِب (بخطرها) أَي بِسَبَب شرفها (وَهُوَ) أَي خطرها (بالمالكية لِلْمَالِ ولملك النِّكَاح، وَهَذَا) أَي ملك النِّكَاح (مُنْتَفٍ فِي الْمَرْأَة) الْحرَّة: إِذْ هِيَ مَمْلُوكَة فِيهِ لَا مالكة (فتنصفت دِيَتهَا) عَن دِيَة الذّكر الحرّ (وثابت للْعَبد مَعَ نقص) مَا (فِي) مالكية (المَال لتحققه) أَي ملك المَال (يدا) أَي تَصرفا (فَقَط) أَي لَا رَقَبَة، فَلَزِمَ بِسَبَب نُقْصَان ملك الْيَد نُقْصَان شَيْء من دِيَته الَّتِي جعلت دِيَته (وَلكَون مالكية الْيَد فَوق مالكية الرَّقَبَة لِأَنَّهُ) أَي ملك الْيَد هُوَ (الْمَقْصُود مِنْهُ) أَي من ملك الرَّقَبَة، لِأَنَّهُ شرع وَسِيلَة إِلَى التَّصَرُّف الَّذِي بِهِ قَضَاء الْحَوَائِج (لم يتَقَدَّر نقص دِيَته بِالربعِ) يَعْنِي لما كَانَ الْخطر بِمَجْمُوع الْملكَيْنِ وَكَانَ أَحدهمَا حَاصِلا للْعَبد كَامِلا، وَكَانَ الآخر منقسما إِلَى قسمَيْنِ وَأَحَدهمَا حَاصِل لَهُ كَانَ مُقْتَضى ذَلِك كَون النُّقْصَان فِي الْخَبَر قدر الرّبع، لَكِن لما كَانَ الْقسم الْحَاصِل من الْقسمَيْنِ فَوق الَّذِي لم يحصل لَهُ لزم أَن لَا يقدّر بِالربعِ، بل بِمَا هُوَ أقل مِنْهُ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بل لزم أَن ينقص بِمَالِه خطر فِي الشَّرْع وَهُوَ الْعشْرَة) إِذْ بهَا يملك الْبضْع الْمُحْتَرَم، وتقطع الْيَد المحترمة وَلَا معِين سواهُ (وَاعْترض) والمعترض صدر الشَّرِيعَة، لِأَنَّهُ (لَو صَحَّ) مَا ذكر من الْعلَّة لنُقْصَان دِيَة العَبْد (لم تتنصف أَحْكَامه) أَي العَبْد (إِذْ) مُقْتَضَاهُ أَنه (لم يتَمَكَّن فِي كَمَاله إِلَّا نُقْصَان أقلّ من الرّبع) وَيجب أَن يكون نقصانه فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق وَغَيرهمَا على طبقه، وَاللَّازِم بَاطِل إِجْمَاعًا (وَأَيْضًا لَو كَانَت مالكية النِّكَاح) ثَابِتَة (لَهُ كملا) أَي كَامِلَة (لم ينتقص) العَبْد (فِيمَا يتَعَلَّق بالازدواج كعدد الزَّوْجَات، والعدّة، وَالْقسم، وَالطَّلَاق لِأَنَّهَا) أَي الْأُمُور الْمَذْكُورَة (مَبْنِيَّة عَلَيْهَا) أَي على مالكية النِّكَاح (وَهِي) أَي مالكية النِّكَاح (كَامِلَة) فِيهِ، وَاللَّازِم بَاطِل (بل) إِنَّمَا نقصت دِيَته عَن دِيَة الْحر إِذا ساوت (لِأَن الْمُعْتَبر فِيهِ) أَي فِي تعْيين دِيَة العَبْد (الْمَالِيَّة) فَيتَعَيَّن دِيَة بحسبها، وَكَانَ مُقْتَضى ذَلِك فِي صُورَة مساواتها وزياداتها أَن تتعيين بحسبها (غير أَن فِي الْإِكْمَال) عِنْد الْمُسَاوَاة بِأَن يَجْعَل الدِّيَة مِقْدَار كَمَال الْقيمَة (شُبْهَة الْمُسَاوَاة ب) بَين (الحرّ) وَالْعَبْد فِي الْخطر (فنقص بِمَا) أَي بِقدر لَهُ (خطر) شرعا وَلَا يخفى عَلَيْك أَن عِلّة النَّقْص إِنَّمَا هِيَ شبه الْمُسَاوَاة، لِأَن الْمُعْتَبر فِيهِ الْمَالِيَّة: بل اعْتِبَار الْمَالِيَّة تربي جَانب الْإِكْمَال، وَإِنَّمَا ذكره دفعا لما فهم من التَّعْلِيل الأول من أَن المنظور من دِيَة العَبْد مجرّد الْخطر، وَكَون خطره أنقص بِالْقدرِ الْمَذْكُور لَا مَالِيَّته (وَأجِيب) عَن الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور كَمَا فِي التَّلْوِيح (بِأَن نُقْصَان الزَّوْجَات لَيْسَ لنُقْصَان خطر النَّفس الَّذِي هُوَ الْمَالِكِيَّة ليلزم) كَون ذَلِك النُّقْصَان (بِأَقَلّ من النّصْف) كَمَا فِي الدِّيَة (بل لنُقْصَان الْحل الْمَبْنِيّ على الْكَرَامَة وَتَقْدِير النَّقْص) الْكَائِن (بِهِ) أَي(2/272)
بِنُقْصَان الْحل مفوض (إِلَى الشَّرْع، فقدره) الشَّرْع (بِالنِّصْفِ إِجْمَاعًا بِخِلَاف الدِّيَة فَإِنَّهَا) تثبت (بِاعْتِبَار خطر النَّفس الَّذِي هُوَ) ثَابت (بالمالكية ونقصان الرَّقِيق فِيهِ) أَي الْملك (أقل من الرّبع وَكَمَال مالكية النِّكَاح إِن لم يُوجب نُقْصَان عددهنّ) أَي الزَّوْجَات (لَا يَنْفِي أَن يُوجِبهُ) أَمر (آخر هُوَ نُقْصَان الْحل وَلَا تستقيم الْمُلَازمَة بَين كَمَال ملك النِّكَاح وَعدم تنصيف مَا يتَعَلَّق بالازدواج، فَإِن أَكْثَره) أَي مَا يتَعَلَّق بالازدواج (كَالطَّلَاقِ والعدّة وَالْقسم إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالزَّوْجَةِ، وَلَا تملك) الْأمة (النِّكَاح أصلا) فضلا عَن كَمَال الْمَالِكِيَّة، فَانْدفع الْوَجْه الثَّانِي من الِاعْتِرَاض أَيْضا (وَإِنَّمَا قَالَ شُبْهَة الْمُسَاوَاة، لِأَن قيمَة العَبْد لَو وَجَبت وَكَانَت ضعف دِيَة الْحر لَا مُسَاوَاة لِأَنَّهَا) أَي الْقيمَة (تجب فِي العَبْد بِاعْتِبَار المملوكية) والابتذال (وَفِي الْحر بِاعْتِبَار الْمَالِكِيَّة والكرامة) فالضعف الَّذِي لزم لوصف دنيء لَا يُسَاوِي نصفه الَّذِي لزم لوصف شرِيف (وَكَون مُسْتَحقّه) أَي الضَّمَان (السَّيِّد لَا يسْتَلْزم أَنه) أَي الضَّمَان (بِاعْتِبَار الْمَالِيَّة) كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله (أَلا ترى أَنه) أَي السَّيِّد (الْمُسْتَحق للْقصَاص بقتل عبد إِيَّاه) أَي عَبده (وَهُوَ) أَي الْقصاص (بدل الدَّم) لَا مَالِيَّة العَبْد (إِجْمَاعًا فَالْحق أَن مُسْتَحقّه) أَي الضَّمَان (العَبْد وَلِهَذَا يقْضِي مِنْهُ) أَي من الضَّمَان (دينه) أَي دين العَبْد، وَهَذَا إِنَّمَا يدل على كَون العَبْد مُسْتَحقّا إِذا لم يكن من الدُّيُون الَّتِي يجب على السَّيِّد أَدَاؤُهَا من رَقَبَة العَبْد (غير أَنه) أَي العَبْد (لما لم يصلح شرعا لملك المَال خَلفه الْمولى) فِيهِ (لِأَنَّهُ أَحَق النَّاس بِهِ كالوارث وَاخْتلف فِي أَهْلِيَّته) أَي العَبْد (للتَّصَرُّف وَملك الْيَد، فَقُلْنَا نعم) أهل لَهما (خلافًا للشَّافِعِيّ، لِأَنَّهُمَا) أَي التَّصَرُّف وَملك الْيَد (بأهلية التَّكَلُّم والذمة، وَهِي) أَي الذِّمَّة (مخلصة عَن المملوكية، وَالْأولَى) أَي أَهْلِيَّة التَّكَلُّم (بِالْعقلِ) وَالرّق لَا يخلّ بِهِ (وَلذَا) أَي وَلكَون أَهْلِيَّة التَّكَلُّم بِالْعقلِ (كَانَت رواياته) أَي العَبْد (ملزمة الْعَمَل لِلْخلقِ وَقبلت) رواياته (فِي الْهَدَايَا) فَإِن قَالَ هَذَا الطَّعَام هَدِيَّة لَك من فلَان يجوز أكله (وَغَيرهَا) من الدِّيات. (وَالثَّانيَِة) أَي أَهْلِيَّته للذمة (بأهلية الْإِيجَاب) عَلَيْهِ (والاستيجاب) لَهُ (وَلذَا) أَي ولتاهله للْإِيجَاب والاستيجاب (خُوطِبَ بحقوقه تَعَالَى) وَيصِح إِقْرَاره بالحدود وَالْقصاص (وَلم يَصح شِرَاء الْمولى على أَن الثّمن فِي ذمَّته) أَي العَبْد كَمَا لَو شَرطه على أجنبيّ، لِأَن ذمَّته غير مَمْلُوكَة للْمولى (وَلَا يملك) الْمولى (أَن يسْتَردّ مَا استودع عِنْد العَبْد) قَالَ الشَّارِح: وَالْمُنَاسِب كَمَا فِي غير مَوضِع أَن يسْتَردّ مَا أودعهُ العَبْد غَيره انْتهى. وَذَلِكَ أَن إِطْلَاق الِاسْتِرْدَاد على أَخذ المَال وَدِيعَة النَّاس من يَد العَبْد غير ظَاهر وَلَا يخفى أَن الْأَمر فِيهِ هَين على أَن فِيهِ إِفَادَة مَسْأَلَة غير مَا ذكرُوا(2/273)
(وَصِحَّة إِقْرَاره) أَي الْمولى (عَلَيْهِ) أَي العَبْد بدين (لملك مَالِيَّته) أَي العَبْد (كإقرار الْوَارِث) على مُوَرِثه بِالدّينِ (فَهُوَ) أَي إِقْرَار الْمولى على عَبده (إِقْرَار على نَفسه بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا حجر) العَبْد (عَنهُ) أَي عَن التَّصَرُّف مَعَ قيام الْأَهْلِيَّة (لحق الْمولى) لِأَن الدّين إِذا وَجب فِي الذِّمَّة يتَعَلَّق بمالية العَبْد وَالْكَسْب فيستوفي مِنْهُمَا، وهما ملك الْمولى، فَلَا يتَحَقَّق بِدُونِ رِضَاهُ، فَإِذا أذن رَضِي بِسُقُوط حَقه (فإذنه فك الْحجر وَرفع الْمَانِع) من التَّصَرُّف لَا إِثْبَات أَهْلِيَّة التَّصَرُّف لَهُ (كَالنِّكَاحِ) تَمْثِيل لأهلية التَّصَرُّف، فَينْعَقد أصل العقد إِذا تزوج مَوْقُوفا على إِذن الْمولى فَامْتنعَ نفاذه لحق الْمولى (فيتصرف) بعد الْإِذْن (بأهليته لَا إنابة) عَن الْمولى حَتَّى تكون يَده فِي أكسابه يَد نِيَابَة كَالْمُودعِ (كالشافعي) أَي كَمَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَو كَانَ أَهلا للتصرّف لَكَانَ أَهلا للْملك، لِأَن التصرّف وَسِيلَة إِلَيْهِ وَسبب لَهُ، والمسبب لم يشرع إِلَّا لحكمه، وَاللَّازِم بَاطِل إِجْمَاعًا، وَإِذا لم يكن أَهلا للتصرّف لم يكن أَهلا لاسْتِحْقَاق الْيَد: كَذَا ذكره الشَّارِح، وَكَلَام المُصَنّف كَمَا سَيَأْتِي يدلّ على أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله يَقُول: إِن ملك التَّصَرُّف لَا يُسْتَفَاد إِلَّا من ملك الرَّقَبَة. وَقد يُقَال لَا مُنَافَاة بَينهمَا لجَوَاز تَأَخّر صِحَة التَّصَرُّف عَن ملك مَعَ تقدمه على ملك آخر: أَلا ترى أَنَّك لَا تملك البيع إِلَّا بعد ملك الْمَبِيع، ثمَّ إِن البيع سَبَب ملك الْبَدَل غير أَنه يرد عَلَيْهِ أَنه لَا تَنْحَصِر فَائِدَة التَّصَرُّف فِي كَونه وَسِيلَة للْملك حَتَّى يلْزم من اعْتِبَاره الخلوّ من الْفَائِدَة ثمَّ أَفَادَ ثَمَرَة الِاخْتِلَاف بقوله (فَلَو أذن) الْمولى (فِي نوع) من التِّجَارَة (كَانَ لَهُ التَّصَرُّف مُطلقًا) أَي فِي كل أَنْوَاعهَا (وَتثبت يَده) أَي العَبْد (على كَسبه كَالْمكَاتبِ وَإِنَّمَا ملك) الْمولى (حجره) أَي الْمَأْذُون لَا الْمكَاتب (لِأَنَّهُ) أَي فك الْحجر فِي الْمَأْذُون (بِلَا عوض) فَلَا يكون لَازِما كَالْهِبَةِ (بِخِلَاف الْكِتَابَة) فَإِنَّهَا بعوض فَتكون لَازِمَة كَالْبيع: وَهَذَا عِنْد عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة لرفع الْمَانِع من التَّصَرُّف، وَهُوَ الْحجر مَعَ أَهْلِيَّته للتصرّف، وَالتَّقْيِيد بِنَوْع من التِّجَارَة حِينَئِذٍ لَغْو، وَلقَائِل أَن يَقُول: سلمنَا أَن الْمَانِع من التصرّف الْحجر لَا غير، لَكِن لَا نسلم ارْتِفَاع الْحجر مُطلقًا بِالْإِذْنِ فِي نوع مِنْهَا لجَوَاز أَن يعلم الْمولى عدم صلاحيته لسَائِر الْأَنْوَاع وَلَا يرضى بِرَفْع الْحجر عَنهُ فِيهَا. وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله: يخْتَص بِمَا أذن فِيهِ، لِأَن تصرفه لما كَانَ بطرِيق النِّيَابَة عَنهُ اقْتصر على مَا أذن فِيهِ كَالْوَكِيلِ، ثمَّ للمشايخ فِي ثُبُوت ملك الرَّقَبَة فِي أكسابه للْمولى طَرِيقَانِ: أَحدهمَا أَن تصرفه يُفِيد ثُبُوت ملك الْيَد لَهُ وَثُبُوت ملك الرَّقَبَة لمَوْلَاهُ ابْتِدَاء ثَانِيهمَا أَنه يُفِيد ثُبُوت كليهمَا لَهُ، ثمَّ يسْتَحق الْمولى ملك الرَّقَبَة خلَافَة عَن العَبْد لعدم أَهْلِيَّته لَهَا، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَزعم أَن المُصَنّف مَشى على الثَّانِي بقوله (وَثُبُوت الْملك للْمولى فِيمَا يَشْتَرِيهِ) العَبْد (ويصطاده ويتهبه لخلافته) أَي الْمولى (عَنهُ) أَي العَبْد (لعدم أَهْلِيَّته) لملك الرَّقَبَة.(2/274)
وَأَنت خَبِير بِأَن كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله سَاكِت عَن ثُبُوت كليهمَا لَهُ، ثمَّ يسْتَحق الْمولى ملك الرَّقَبَة ابْتِدَاء، ثمَّ اسْتِحْقَاق الْمولى بخلافة: بل الْمُتَبَادر مِنْهُ ثُبُوت ملك الرَّقَبَة للْمولى ابْتِدَاء، لَكِن على سَبِيل الْخلَافَة عَنهُ لما ذكر، وَكَيف يتَصَوَّر سُقُوط ثُبُوت ملك الرَّقَبَة لَهُ ابْتِدَاء مَعَ عدم أَهْلِيَّته لَهُ، وَعدم الْأَهْلِيَّة كَمَا يُنَافِي مالكيته بَقَاء كَذَلِك ينافيها ابْتِدَاء وَهُوَ ظَاهر (كالوارث) مَعَ الْمُورث، فَإِن ثُبُوت الْملك بطرِيق الْخلَافَة (وَكَون ملك التصرّف لَا يُسْتَفَاد إِلَّا من ملك الرَّقَبَة مَمْنُوع، نعم هُوَ) أَي ملك الرَّقَبَة (وَسِيلَة إِلَيْهِ) أَي إِلَى ملك التَّصَرُّف فِي الْجُمْلَة (وَلَا يلْزم من عدم ملكهَا) أَي الرَّقَبَة (عدم الْمَقْصُود) من الْوَسِيلَة (لجَوَاز تعدد الْأَسْبَاب) للمقصود، وَهُوَ ملك التَّصَرُّف (وَإِذ كَانَت لَهُ) أَي للْعَبد (ذمَّة وَعبارَة) وَلم يكن مَحْجُورا عَن التَّصَرُّف (صَحَّ الْتِزَامه فِيهَا) أَي فِي الذِّمَّة (وَوَجَب لَهُ) أَي للْعَبد، أَو الْتِزَامه (طَرِيق قَضَاء) لما الْتَزمهُ (دفعا للْحَرج اللَّازِم من أَهْلِيَّة الْإِيجَاب فِي الذِّمَّة بِلَا أَهْلِيَّة الْقَضَاء، وَأَدْنَاهُ) أَي طَرِيق الْقَضَاء (ملك الْيَد) فَلَزِمَ ثُبُوته للْعَبد وَهُوَ الْمَطْلُوب (وَلذَا) أَي ثُبُوت ملك الْيَد لَهُ (قَالَ أَبُو حنيفَة دينه) أَي العَبْد الْمَأْذُون (يمْنَع ملك الْمولى كَسبه) لِأَن ملك يَده للْمصْلحَة قَضَاء مَا الْتَزمهُ من كَسبه، فَهُوَ مَشْغُول بحاجته الْمُتَقَدّمَة على ملك الْمولى. (وَاخْتلف فِي قتل الْحر بِهِ) أَي بِالْعَبدِ (فَعنده) أَي الشَّافِعِي (لَا) يقتل بِهِ قصاصا (لابتنائه) أَي الْقَتْل قصاصا (على الْمُسَاوَاة فِي الكرامات) وَهِي منتفية بَينهمَا: إِذْ الْحر نفس من كل وَجه، وَالْعَبْد نفس من وَجه (قُلْنَا) لَا نسلم ابتناءه على الْمُسَاوَاة فِي الكرامات (بل) المناط فِيهِ الْمُسَاوَاة (فِي عصمَة الدَّم فَقَط للاتفاق على إهداره) أَي التَّسَاوِي بَين الْقَاتِل والمقتول (فِي الْعلم، وَالْجمال، وَمَكَارِم الْأَخْلَاق والشرف، وهما) أَي الحرّ وَالْعَبْد (مستويان فِيهَا) أَي عصمَة الدَّم (وينافي) الرّقّ (مالكية مَنَافِع الْبدن) إِجْمَاعًا (إِلَّا مَا اسْتثْنى من الصَّلَاة وَالصَّوْم إِلَّا نَحْو الْجُمُعَة) كَصَلَاة الْعِيد (بِخِلَاف الْحَج) فَإِنَّهُ لم يسْتَثْن نظرا للْمولى، علم هَذَا (بِالنَّصِّ) وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " وَأَيّمَا عبد حج ثمَّ أعتق فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى ". صَححهُ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَاشْترط فِيهِ الِاسْتِطَاعَة فِي الْكتاب، وَهِي مفسرة بالزاد وَالرَّاحِلَة، وَالْعَبْد لَا مَال لَهُ، وَأَيْضًا اشْترط فِيهِ الْحُرِّيَّة بِالْإِجْمَاع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِلْمَالِ) تَعْلِيل للنَّص: أَي لم يُوجب عَلَيْهِ الشَّارِع الْحَج لاحتياجه إِلَى المَال (و) بِخِلَاف (الْجِهَاد) أَيْضا (فَلَيْسَ لَهُ الْقِتَال إِلَّا بِإِذن مَوْلَاهُ أَو) إِذن (الشَّرْع فِي عُمُوم النفير) عِنْد هجوم العدّو على بلد، فَإِنَّهُ يجب على جَمِيع النَّاس الدّفع بِخُرُوج الْمَرْأَة بِغَيْر إِذن زَوجهَا، وَالْعَبْد بِغَيْر إِذن الْمولى لِأَنَّهُ صَار فرض عين، وَملك الْيَمين، ورق النِّكَاح لَا يظْهر فِي حق فروض الْأَعْيَان كَمَا فِي الصَّلَاة وَالصَّوْم (وَلَا يسْتَحق) العَبْد إِذا قَاتل (سَهْما لِأَنَّهُ) أَي اسْتِحْقَاق السهْم (للكرامة) وَهُوَ نَاقص فِيهَا (بل) يسْتَحق (رضخا لَا يبلغهُ)(2/275)
أَي السهْم، فَعَن عُمَيْر مولى آبي اللَّحْم: شهِدت خَيْبَر مَعَ سادتي، فَأمر لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء من خرثى الْمَتَاع: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ (بِخِلَاف) اسْتِحْقَاق (السَّلب بِالْقَتْلِ يَقُول الإِمَام) من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه، فَإِنَّهُ لعُمُوم شُمُول الْحر وَالْعَبْد، وَالْعلَّة فِيهِ الْقَتْل، يدل عَلَيْهِ تَرْتِيب الحكم عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بقول الإِمَام مَعَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِشَارَة إِلَى أَن الإِمَام لَو لم يقل ذَلِك لم يلْزم كَون السَّلب للْقَاتِل، لِأَنَّهُ لَيْسَ شرعا عَاما لَازِما على مَا حَقَّقَهُ المُصَنّف رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة، وَأمر الْقِتَال وَالْغنيمَة مفوض إِلَيْهِ، فَقَوله مُوجب الِاسْتِحْقَاق (فساوى) العَبْد (فِيهِ) أَي فِي هَذَا الِاسْتِحْقَاق (الحرّ، والولايات) أَي وينافي الرّقّ الولايات المتعدية كولاية الْقَضَاء وَالشَّهَادَة وَالتَّزْوِيج وَغَيرهَا، لِأَنَّهَا منبئة عَن الْقُدْرَة الْحكمِيَّة فَإِنَّهَا تَنْفِيذ القَوْل على الْغَيْر شَاءَ أَو أَبى، وَالرّق عجز حكمي: إِذْ لَا ولَايَة لَهُ على نَفسه فضلا عَن الْولَايَة على غَيره (وَصِحَّة أَمَان) العَبْد (الْمَأْذُون فِي الْقِتَال) الْكَافِر الْحَرْبِيّ (لاسْتِحْقَاق الرضخ) فِي الْغَنِيمَة بِإِذن مَوْلَاهُ إِلَّا أَن مَوْلَاهُ يخلفه عَن ملكه كَسَائِر أكسابه (فأمانه إبِْطَال حَقه أَولا) فِي الرضخ: إِذْ بالأمان يخرج الْكَافِر الْمُسْتَأْمن عَن الْغَنِيمَة بِاعْتِبَار نَفسه وَمَاله، فَيبْطل حِصَّة العَبْد الْمَذْكُور أَولا (ثمَّ يتَعَدَّى) الْإِبْطَال (إِلَى) حق (الْكل) أَي كل الغازين، وَذَلِكَ لِأَن الْغَنِيمَة لَا تتجزأ فِي حق الثُّبُوت والسقوط (كشهادته بِرُؤْيَة الْهلَال) يجب على النَّاس الصَّوْم بقوله لإيجابه ذَلِك على نَفسه أَولا، ثمَّ يتَعَدَّى إِلَى سَائِرهمْ: وَكَذَا رِوَايَته لأحاديث الشَّارِع، فهذان أصلان لأمانه (لَا) أَن أَمَانَة (ولَايَة عَلَيْهِم) لما عرف من أَن حكم الشَّيْء مَا وضع الشَّيْء لَهُ، وَحكم أَمَانه أَولا وبالذات إِنَّمَا هُوَ مَا ذكرنَا (بِخِلَاف) العَبْد (الْمَحْجُور) عَن الْقِتَال فَإِنَّهُ لَا أَمَان لَهُ عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله وَأبي يُوسُف رَحمَه الله فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنهُ وَمَالك رَحمَه الله فِي رِوَايَة سَحْنُون عَنهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ (لَا اسْتِحْقَاق لَهُ) وَقت الْأمان، لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الشّركَة فِي الْغَنِيمَة (فَلَو صَحَّ) أَمَانه (كَانَ إِسْقَاطًا لحقهم) أَي الغازين فِي الْكفَّار وَأَمْوَالهمْ (ابْتِدَاء) فَإِن قيل يَنْبَغِي أَن يَصح أَمَانه كَمَا هُوَ قَول أبي يُوسُف فِي رِوَايَة وَمُحَمّد وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة لاستحقاقه الرضخ إِذا قَاتل أُجِيب بِالْمَنْعِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (واستحقاقه) الرضخ (إِذا افتات بِالْقِتَالِ) أَي قَاتل بِغَيْر إِذن سَيّده (وَسلم لتمحضه) أَي الْقِتَال (مصلحَة للْمولى بعده) أَي الْقِتَال لِأَنَّهُ غير مَحْجُور عَمَّا يتمحض مصلحَة وَمَنْفَعَة، فَيكون كالمأذون فِيهِ من الْمولى دلَالَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا عجز عَنهُ لدفع الضَّرَر عَن الْمولى لانْتِفَاء اشْتِغَاله بخدمته وَقت الْقِتَال، وَرُبمَا يقتل، كَذَا ذكره الشَّارِح (فَلَا شركَة لَهُ) فِي الْغَنِيمَة (حَال الْأمان) فَلَا يكون كالمأذون فِيهِ. فِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق عَن عمر رَضِي الله عَنهُ " العَبْد الْمُسلم من الْمُسلمين، وَأَمَانَة أمانهم " وَهَذَا يُفِيد إِطْلَاق صِحَة أَمَانَة كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (فَلَا يضمن) الرَّقِيق (بدل مَا لَيْسَ(2/276)
بِمَال لِأَنَّهُ) أَي بدله (صلَة) لما أَمر الله أَن يُوصل، فَقطع بِالْجِنَايَةِ، وَالرَّقِيق لَا يملك الصلات لِأَنَّهَا من بَاب الْكَرَامَة وَهُوَ عرضة للتَّمَلُّك والابتذال (فَلم يجب عَلَيْهِ دِيَة فِي جِنَايَته خطأ) لِأَنَّهَا بدل الدَّم وَهُوَ لَيْسَ بِمَال، وَإِنَّمَا يجب صلَة فِي حق الْجَانِي حَتَّى كَأَنَّهُ يَهبهُ ابْتِدَاء، وَلذَا لَا يملك إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَا تجب فِيهِ الزَّكَاة إِلَّا بحول بعده، وَلَا تصح الْكفَالَة بِهِ وَلَا عَاقِلَة لَهُ ليجب ب عَلَيْهِم (لَكِن لما لم يهدر الدَّم صَارَت رقبته جَزَاء) قَائِمَة مقَام الْأَرْش، فَلَا يكون الِاسْتِحْقَاق على العَبْد (إِلَّا أَن يخْتَار الْمولى فدَاء فَيلْزمهُ) أَي الْفِدَاء الْمولى (دينا) فِي ذمَّته (فَلَا يبطل) اخْتِيَاره الْفِدَاء (بالإفلاس) حَتَّى أَنه لَا يعود تعلق حق ولي الْجَنَابَة فِي رَقَبَة العَبْد إِذا لم يكن للْمولى مَا يُؤَدِّيه (عِنْده) أَي عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله (فَلَا يجب) على الْمولى بِسَبَب الافلاس (الدّفع) للْعَبد إِلَى ولي الْجِنَايَة (وَعِنْدَهُمَا اخْتِيَاره) أَي الْمولى الْفِدَاء (كالحوالة كَأَنَّهُ) أَي العَبْد (أحَال على مَوْلَاهُ) بِالْأَرْشِ: إِذْ الأَصْل أَن يصرف إِلَى جِنَايَته كالعمد فاختيار الْفِدَاء نقل من الأَصْل إِلَى الْعَارِض كَمَا فِي الْحِوَالَة (فَإِذا لم يسلم) الْأَرْش إِلَى وليّ الْجِنَايَة (عَاد حَقه فِي الدّفع) الَّذِي هُوَ الأَصْل وَأجِيب بِمَنْع كَونه الأَصْل، بل الأَصْل هُوَ الْأَرْش الثَّابِت فِيهَا بقوله تَعَالَى - {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة} - الْآيَة: وصير إِلَى الدّفع ضَرُورَة، فَإِن العَبْد لَيْسَ بِأَهْل للصلات. وَقد ارْتَفَعت الضَّرُورَة بِاخْتِيَار الْمولى الْفِدَاء، وَلَا يُقَال قد يجب على العَبْد ضَمَان مَا لَيْسَ بِمَال: إِذْ الْمهْر يجب فِي ذمَّته بِمُقَابلَة ملك النِّكَاح أَو مَنْفَعَة الْبضْع، فَالْجَوَاب مَا أَفَادَ بقوله (وَوُجُوب الْمهْر لَيْسَ ضمانا) إِذْ لَا تلف وَلَا صلَة (بل) يجب (عوضا عَمَّا اسْتَوْفَاهُ من الْملك أَو الْمَنْفَعَة. وَأما الْمَرَض) وَهُوَ مَا يعرض الْبدن فيخرجه عَن الِاعْتِدَال الْخَاص، وَقد يُقَال: هِيَ حَالَة غير طبيعية فِي بدن الْإِنْسَان تكون بِسَبَبِهَا الْأَفْعَال الطبيعية والنفسانية والحيوانية غير مسلمة (فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الحكم) سَوَاء كَانَ من حُقُوق الله أَو الْعباد (و) أَهْلِيَّة (الْعبارَة) أَي التَّصَرُّفَات الْمُتَعَلّقَة بالحكم (إِذْ لَا خلل فِي الذِّمَّة وَالْعقل) اللَّذين هما منَاط الْأَحْكَام (و) لَا فِي (النُّطْق) الَّذِي يَصح بِهِ مَا يتَعَلَّق بالعبارة بعد الْعقل والذمة كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاق، وَالْبيع، وَالشِّرَاء وَغَيرهمَا (لكنه) أَي الْمَرَض (لما فِيهِ من الْعَجز شرعت الْعِبَادَات فِيهِ على) قدر (المكنة) حَتَّى شرع لَهُ الصَّلَاة (قَاعِدا) إِذا عجز عَن الْقيام: إِمَّا بِانْتِفَاء الْقُوَّة أَو بازدياد الْمَرَض (ومضطجعا) إِذا عجز عَنْهُمَا (وَلما كَانَ الْمَوْت عِلّة الْخلَافَة) للْوَارِث والغريم فِي مَال الْمَيِّت، لِأَن أَهْلِيَّة الْملك لَا تبطل بِالْمَوْتِ فيخلفه أقرب النَّاس إِلَيْهِ، والذمة تخرت بِهِ فَيصير المَال الَّذِي هُوَ مَحل قَضَاء الدّين مَشْغُولًا بِالدّينِ فيخلفه الْغَرِيم فِي المَال (وَهُوَ) أَي الْمَرَض (سَببه) أَي الْمَوْت لما فِيهِ من ترادف الآلام، وَضعف القوى فيفضي إِلَى مُفَارقَة الرّوح الْجَسَد (كَانَ) الْمَرَض (سَبَب تعلق حق الْوَارِث(2/277)
والغريم بِمَالِه) فِي الْحَال (فَكَانَ) الْمَرَض (سَببا للحجر فِي الْكل) أَي كل المَال (للْغَرِيم) إِن كَانَ الدّين مُسْتَغْرقا (و) الْحجر فِي (الثُّلثَيْنِ فِي) حق (الْوَرَثَة إِذا اتَّصل) ظرف لتَعلق الْحَقَّيْنِ (بِهِ) أَي بِالْمرضِ (الْمَوْت) حَال كَون الْحجر (مُسْتَندا إِلَى أَوله) أَي الْمَرَض: إِذْ الحكم يسْتَند إِلَى أول السَّبَب فَلَا يرد أَن الِاتِّصَال بِالْمَوْتِ إِنَّمَا يظْهر عِنْد الْمَوْت، وَلَا اتِّصَال قبله، فَلَا تعلق لحقهما لِأَن الحكم الثَّابِت بطرِيق الِاسْتِنَاد لظُهُوره فِي الآخر غير أَنه يعْتَبر ثَانِيًا من أول زمَان وجود السَّبَب صِيَانة للحقوق، ثمَّ إِنَّه كل مَا تعلق بِهِ أحد الْحَقَّيْنِ من مَاله فَهُوَ مَحْجُور عَنهُ (بِخِلَاف مَا) أَي قدر من المَال (لم يتعلقا) أَي حق الْغَرِيم وَحقّ الْوَارِث (بِهِ) فَإِنَّهُ غير مَحْجُور عَنهُ (كَالنِّكَاحِ بِمهْر الْمثل) أَي كالمهر اللَّازِم بِسَبَب النِّكَاح الْمَذْكُور الْوَاقِع فِي حَال الْمَرَض، وَأما الْوَاقِع قبله فكونه مثل سَائِر الدُّيُون ظَاهر. ثمَّ أَنه لما ذكر عدم تعلق الْحَقَّيْنِ بِالْقدرِ الْمَذْكُور توهم كَونه مقدما على الدُّيُون فَدفع ذَلِك بقوله (فتحاصص) الزَّوْجَة (المستغرقين) الَّذين استغرقت دُيُونهم التَّرِكَة بِقدر مهر مثلهَا فَيقسم المَال عَلَيْهَا وَعَلَيْهِم على قدر حصصهم وكالنفقة وَأُجْرَة الطَّبِيب وَنَحْوهمَا كَمَا يتَعَلَّق بِهِ حَاجَة الْمَيِّت، وَكَذَلِكَ مَا زَاد على الدّين فِي حق الْغَرِيم عِنْد عدم الِاسْتِغْرَاق، وعَلى ثُلثي مَا بَقِي بعد وَفَاء الدّين إِن كَانَ، وعَلى ثُلثي الْجَمِيع إِن لم يكن. ثمَّ لما لم يعلم كَونه سَببا للحجر قبل اتِّصَاله بِالْمَوْتِ، وَكَانَ الأَصْل هُوَ الْإِطْلَاق لم يثبت الْحجر بِهِ بِالشَّكِّ (فَكل تصرف) وَاقع من الْمَرِيض (يحْتَمل الْفَسْخ) كَالْهِبَةِ وَالْبيع بالمحاباة (يَصح فِي الْحَال) لصدوره من أَهله مُضَافا إِلَى مَحَله عَن ولَايَة شَرْعِيَّة وَانْتِفَاء الْعلم بالمانع لعدم الْعلم باتصال الْمَوْت بِهِ (ثمَّ يفْسخ) ذَلِك التَّصَرُّف (إِن احْتِيجَ إِلَى ذَلِك) أَي فَسخه لما مر من أَن الْحجر يسْتَند إِلَى أول الْمَرَض إِذا اتَّصل بِهِ الْمَوْت، فَيظْهر أَن تصرفه تصرف مَحْجُور (وَمَا لَا يحْتَملهُ) أَي وكل تصرف وَاقع من الْمَرِيض لَا يحْتَمل الْفَسْخ (كالإعتاق الْوَاقِع على حق غَرِيم بِأَن يعْتق الْمَرِيض الْمُسْتَغْرق) دينه تركته عبدا مِنْهَا (أَو) الْوَاقِع (على حق وَارِث كإعتاق عبد تزيد قِيمَته على الثُّلُث يصير) الْعتْق (كالمعلق بِالْمَوْتِ) حَتَّى كَانَ عبدا فِي شَهَادَته وَسَائِر أَحْكَامه مَا دَامَ مَوْلَاهُ مَرِيضا وَإِذا مَاتَ (فَلَا ينْقض وَيسْعَى) العَبْد للْغَرِيم (فِي كُله) أَي مِقْدَار قِيمَته إِن كَانَ الدّين مُسْتَغْرقا (أَو) يسْعَى (فِي ثُلثَيْهِ) للْوَارِث إِن لم يكن عَلَيْهِ دين وَلَا مَال لَهُ سواهُ وَلم يجزه الْوَارِث (أَو أقل) مِنْهُمَا (كالسدس إِذا سَاوَى) العَبْد (النّصْف) أَي نصف التَّرِكَة وَلم يجزه الْوَارِث، فَإِن ثُلثي السِّتَّة أَرْبَعَة وثلثها ثِنْتَانِ وَالنّصف ثَلَاثَة (بِخِلَاف إِعْتَاق الرَّاهِن) العَبْد الرَّهْن (ينفذ) عتقه للْحَال مَعَ تعلق حق الْمُرْتَهن بِهِ (لِأَن حق الْمُرْتَهن فِي) ملك (الْيَد لَا) فِي ملك (الرَّقَبَة فَلَا يلاقيه) أَي الْعتْق حَقه (قصدا) فَإِن الَّذِي يلاقيه قصدا إِنَّمَا هُوَ ملك الرَّقَبَة، ثمَّ يلاقي ملك الْيَد ضمنا وتبعا، وَكم من شَيْء يثبت ضمنا وَلَا يثبت قصدا، وَحقّ الْغَرِيم وَالْوَارِث(2/278)
ملك الرَّقَبَة وَالْإِعْتَاق يلاقيه قصدا، إِذْ الْإِعْتَاق يَبْنِي عَلَيْهِ لَا على ملك الْيَد، وَلذَا صَحَّ إِعْتَاق الْآبِق مَعَ زَوَال الْيَد عَنهُ (فَإِن كَانَ) الرَّاهِن (غَنِيا فَلَا سِعَايَة) على العَبْد لعدم تعذر أَخذ الْحق مِنْهُ وَهُوَ الْأَدَاء إِن كَانَ حَالا وَقِيمَة الرَّهْن إِن كَانَ مُؤَجّلا فَيُوضَع عِنْد الْمُرْتَهن بِهِ لَا عَن العَبْد، (وَإِن) كَانَ (فَقِيرا سعى) العَبْد للْمُرْتَهن (فِي الْأَقَل من قِيمَته وَمن الدّين) لتعذر أَخذ الْحق من الرَّاهِن فَيَأْخُذ مِمَّن حصلت لَهُ فَائِدَة الْعتْق، لِأَن الْخراج بِالضَّمَانِ، كَذَا قَالَ الشَّارِح وَالظَّاهِر الْغرم بالغنم ثمَّ إِنَّمَا سعى فِي الْأَقَل، لِأَن الدّين إِن كَانَ أقل اندفعت الْحَاجة بِهِ وَإِن كَانَت الْقيمَة أقل فَإِنَّمَا حصل للْعَبد هَذَا الْقدر (وَيرجع) العَبْد (على مَوْلَاهُ عِنْد غناهُ) بِمَا أَدَّاهُ لِأَنَّهُ اضْطر إِلَى قَضَاء دينه بِحكم الشَّرْع (فَعتق الرَّاهِن حر مديون فَتقبل شَهَادَته قبل السّعَايَة، ومعتق الْمَرِيض الْمُسْتَغْرق) دينه للتركة (كَالْمكَاتبِ فَلَا تقبل) شَهَادَته قبل السّعَايَة (وَقد أدمجوا) أَي أدرج الْحَنَفِيَّة فِي الْكَلَام فِي أَحْكَام الْمَرَض (فرعا مَحْضا) لَيْسَ من مسَائِل الْأُصُول وَهُوَ أَنه (لما بطلت الْوَصِيَّة للْوَارِث) بِالنِّسْبَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي النّسخ (بطلت صُورَة) أَي من حَيْثُ الصُّورَة وَإِن لم تكن وَصِيَّة من حَيْثُ الْمَعْنى لعدم حُصُول المَال كَذَلِك الْوَارِث عَنهُ (عِنْد أبي حنيفَة) رَحمَه الله (حَتَّى لَو بَاعَ الْمَرِيض عينا بِمثل قِيمَته) فَصَاعِدا (مِنْهُ) أَي الْوَارِث فَمن حَيْثُ أَنه ملكه الْعين وَلَو بعوض كَأَنَّهُ وصّى لَهُ، وَإِنَّمَا (لَا يجوز لتَعلق حق كلهم) أَي الْوَرَثَة (بالصورة كَمَا) أَي كتعلق حَقهم (بِالْمَعْنَى) حَيْثُ لَا يجوز لبَعْضهِم أَن يَجْعَل شَيْئا من التَّرِكَة لنَفسِهِ بِنَصِيبِهِ من الْمِيرَاث وَلَا أَن يَأْخُذ التَّرِكَة وَيُعْطِي البَاقِينَ الْقيمَة، إِذْ النَّاس يتنازعون ويتناقشون فِي صور الْأَشْيَاء مَعَ قطع النّظر عَن ماليتها (خلافًا لَهما) فَإِنَّهُمَا يجوزان ذَلِك (بِخِلَاف بَيْعه من أَجْنَبِي) حَيْثُ يجوز اتِّفَاقًا (و) بطلت (معنى) أَي من حَيْثُ الْمَعْنى وَإِن لم تكن فِي صُورَة الْوَصِيَّة (بِأَن يقر لأَحَدهم بِمَال) فَإِنَّهُ يسلم لَهُ المَال بِلَا عوض، وَانْتِفَاء الصُّورَة ظَاهر (وشبهة) أَي وَبَطلَت من حَيْثُ الشُّبْهَة وَإِن لم يكن هُنَاكَ وَصِيَّة (بِأَن بَاعَ) من الْوَارِث (الْجيد من الْأَمْوَال الربوية برديء مِنْهَا) مجانس للْمَبِيع: كالذهب الْجيد بِالذَّهَب الرَّدِيء، وَالْفرق بَين البيعين من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنه لم يحصل للْوَارِث فِي الأول زِيَادَة فِي الْمَالِيَّة وَهنا يحصل، وَالثَّانِي أَن المعرض لَا يتَعَلَّق بالصور فِي الربويات على أَن الْبَدَلَيْنِ مقلان فِي الصُّورَة (لتقوم الْجَوْدَة فِي التُّهْمَة) جَوَاب لسؤال مُقَدّر وَهُوَ أَن وصف الْجَوْدَة لَا يعْتَبر فِي التَّفَاضُل، وَلذَا يجوز بيع الْجيد بالرديء مَعَ التجانس والتساوي فِي الْوَزْن والكيل. وَحَاصِل الْجَواب أَن التَّفَاوُت بِاعْتِبَار الْقيمَة وَإِن كَانَ ملغي عِنْد عدم التُّهْمَة لكنه مُعْتَبر عِنْد وجودهَا (كَمَا فِي بيع الْوَلِيّ مَال الصَّبِي كَذَلِك) أَي الْجيد مِنْهَا بالرديء المجانس (من نَفسه) فَكَانَ فِيهِ شُبْهَة الْوَصِيَّة بالجودة، أَلا ترى أَن الْمَرِيض لَو بَاعَ الْجيد بالرديء من الْأَجْنَبِيّ يعْتَبر جودته(2/279)
من الثُّلُث (وَلذَا) أَي لبُطْلَان الْوَصِيَّة شُبْهَة (لم يَصح إِقْرَاره) أَي الْمَرِيض (بِاسْتِيفَاء دينه من الْوَارِث وَإِن لزمَه) أَي دين الْوَارِث (فِي صِحَّته وَهِي) أَي صِحَّته (حَال عدم التُّهْمَة فَكيف بِهِ) أَي بِالْإِقْرَارِ باستيفائه (إِذا ثَبت) لُزُومه للْوَارِث (فِي الْمَرَض) وَهُوَ حَال التُّهْمَة، فالإقرار بِالِاسْتِيفَاءِ فِي الْمَرَض كَالْإِقْرَارِ بِالدّينِ لِأَنَّهُ يُصَادف محلا مَشْغُولًا بِحَق الْوَرَثَة، وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله إِذا أقرّ بِاسْتِيفَاء دين كَانَ لَهُ على الْوَارِث حَال الصِّحَّة يجوز لِأَن الْوَارِث لما عَامله فِي الصِّحَّة اسْتحق بَرَاءَة ذمَّته عِنْد إِقْرَاره باستيفائه مِنْهُ فَلَا يتَعَيَّن ذَلِك الِاسْتِحْقَاق بمرضه، أَلا ترى أَنه لَو كَانَ على الْأَجْنَبِيّ فَأقر باستيفائه فِي مَرضه كَانَ صَحِيحا فِي حق الْغُرَمَاء الصِّحَّة وَأجِيب بِأَن الْمَنْع لحق غُرَمَاء الصِّحَّة، وَهُوَ عِنْد الْمَرَض لَا يتَعَلَّق بِالدّينِ، بل بِمَا يُمكن اسْتِيفَاء دينهم مِنْهُ فَلم يُصَادف إِقْرَاره محلا تعلق حَقهم بِهِ، وَفِيه مَا فِيهِ (وَأما الْحيض) وَهُوَ مانعية شَرْعِيَّة بِسَبَب دم من الرَّحِم لَا بِوِلَادَة عَمَّا اشْترط فِيهِ الطَّهَارَة وَعَن الصَّوْم وَدخُول الْمَسْجِد والقربان إِن كَانَ مُسَمَّاهُ حَدثا وَنَفس الدَّم الْمَذْكُور إِن كَانَ مُسَمَّاهُ خبثا (وَالنّفاس) وَهُوَ مانعية شَرْعِيَّة بِسَبَب الدَّم من الرَّحِم عَن الْولادَة عَمَّا ذكر، أَو الدَّم الْمَذْكُور (فَلَا يسقطان أَهْلِيَّة الْوُجُوب وَلَا الْأَدَاء) لعدم إخلالهما بِالذِّمةِ وَالْعقل وقدرة الْبدن (إِلَّا أَنه ثَبت أَن الطَّهَارَة عَنْهُمَا شَرط) أَدَاء (الصَّلَاة) بِالسنةِ كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " قَالَ للنِّسَاء أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل؟ قُلْنَ بلَى، قَالَ فَذَلِك من نُقْصَان عقلهَا، أَلَيْسَ إِذا حَاضَت لم تصلّ وَلم تصم؟ قُلْنَ بلَى، قَالَ فَذَلِك من نُقْصَان دينهَا، وبالإجماع (على وفْق الْقيَاس) لِكَوْنِهِمَا من الأنجاس أَو الْأَحْدَاث وَالطَّهَارَة مِنْهُمَا شَرط لَهَا (و) شَرط أَدَاء (الصَّوْم على خِلَافه) أَي الْقيَاس لتأديه مَعَ النَّجَاسَة وَالْحَدَث الْأَصْغَر والأكبر بِلَا خلاف بَين الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة (ثمَّ انْتَفَى وجوب قَضَاء الصَّلَاة) عَلَيْهِمَا (للْحَرج) لدخولها فِي حد الْكَثْرَة، لِأَن أقل مُدَّة الْحيض عِنْد أَصْحَابنَا ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها أَو يَوْمَانِ وَأكْثر الثَّالِث كَمَا عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله، وَمُدَّة النّفاس فِي الْعَادة أَكثر من مُدَّة الْحيض، وَأَكْثَره عشرَة أَيَّام، وَأَقل مُدَّة الطُّهْر خَمْسَة عشر يَوْمًا فقد يَقع فِي الشَّهْر مرَّتَيْنِ فيستوفي نصفه، وَالصَّلَاة تجب فِي جَمِيع السّنة (دون الصَّوْم) أَي لم ينتف وجوب قَضَائِهِ عَلَيْهَا لعدم الْحَرج لِأَن الْحيض لَا يستوعب الشَّهْر، وَالنّفاس ينْدر فِيهِ (كَمَا مر) فِي الْفَصْل الَّذِي قبل هَذَا من قَوْله وَلعدم حكم الْوُجُوب من الْأَدَاء لم تجب الصَّلَاة على الْحَائِض لانْتِفَاء الْأَدَاء شرعا وَالْقَضَاء للْحَرج والتكليف للرحمة، والحرج طَرِيق التّرْك، بِخِلَاف الصَّوْم فَيثبت لفائدة الْقَضَاء وَعدم الْحَرج، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: كَانَ يصيبنا ذَلِك، تَعْنِي الْحيض فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة، وَعَلَيْهِمَا إِجْمَاع الْأمة، ثمَّ بَقِي أَن يُقَال (فَانْتفى) وجوب أَدَاء(2/280)
الصَّوْم عَلَيْهِمَا فِي الْحَالَتَيْنِ (أَولا) فِيهِ (خلاف) بَين الشَّافِعِيَّة فَقيل يجب، نَقله السُّبْكِيّ رَحمَه الله عَن أَكثر الْفُقَهَاء لتحَقّق الْأَهْلِيَّة وَالسَّبَب وَهُوَ شُهُود الشَّهْر وَلِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِمَا الْقَضَاء بِقدر مَا فَاتَ فَكَانَ المأتيّ بِهِ بَدَلا عَن الْفَائِت، وَقيل لَا يجب، وَذكر مُتَأَخّر أَنه الْأَصَح عِنْد الْجُمْهُور لانْتِفَاء شَرطه وَهُوَ الطَّهَارَة، وشهود الشَّهْر مُوجب عِنْد انْتِفَاء الْعذر لَا مُطلقًا وَوُجُوب الْقَضَاء يتَوَقَّف على سَبَب الْوُجُوب وَهُوَ شُهُود الشَّهْر، لَا على وجوب الْأَدَاء: وَإِلَّا لما وَجب قَضَاء الصَّلَاة على من نَام جَمِيع وَقتهَا، وَأما على أَنه سَبَب جَدِيد فأظهر إِذْ لَا يَسْتَدْعِي وجوبا سَابِقًا فَلَا يتَوَقَّف وُجُوبه على وجوب الْأَدَاء وَأورد عَلَيْهِ أَنه يلْزم أَن لَا يُسمى قَضَاء لعدم اسْتِدْرَاك مَا فَاتَ من الْوُجُوب وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا ينْحَصر وَجه التَّسْمِيَة فِيمَا ذكر، بل يَكْفِي فِيهِ اسْتِدْرَاك مصلحَة مَا انْعَقَد بِسَبَب وُجُوبه وَلم يجب لمَانع، وَلذَا قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله (والانتفاء أَقيس) لِأَن الْأَدَاء حَالَة الْحيض حرَام منهيّ عَنهُ فَلَا يكون وَاجِبا مَأْمُورا بِهِ للتنافي بَينهمَا (وَأما الْمَوْت) عزى إِلَى أهل السّنة أَنه صفة وجودية مضادة للحياة كَمَا هُوَ ظَاهر قَوْله تَعَالَى - {خلق الْمَوْت والحياة} - وَإِلَى الْمُعْتَزلَة أَنه عدم الْحَيَاة عَمَّا من شَأْنه، وَأَن الْخلق فِي الْآيَة بِمَعْنى التَّقْدِير، ثمَّ هُوَ لَيْسَ بِعَدَمِ مَحْض، وَلَا فنَاء صرف، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِطَاع تعلق الرّوح بِالْبدنِ ومفارقته وتبدل حَال وانتقال من دَار إِلَى دَار (فَيسْقط بِهِ) عَن الْمَيِّت (الْأَحْكَام الأخروية) . قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا سَهْو وَالصَّوَاب كَمَا فِي عَامَّة الْكتب الدُّنْيَوِيَّة انْتهى، حكم بالسهو وَالْخَطَأ من غير أَن يحوم حول مُرَاده وَلم يدر أَن مَا وصفوه بالدنيوية هُوَ بِعَيْنِه مَا وَصفه المُصَنّف بالأخروية، غير ان هَذَا التَّعْبِير أولى، وَذَلِكَ لِأَن الْأَحْكَام تعم الْأَوَامِر والنواهي وَمَا يجب لَهُ على الْغَيْر وَعَكسه من الْحُقُوق الْمَالِيَّة والمظالم إِلَى غير ذَلِك، فَمِنْهَا مَا الْمَقْصُود مِنْهُ الْعَمَل لقصد الْقرْبَة وَلَا شكّ فِي سُقُوطه للعجز الْكُلِّي وَسَماهُ الْمَشَايِخ رَحِمهم الله دنيويا نظرا إِلَى أَن الْإِتْيَان بِهِ فِي دَار الدُّنْيَا، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله أخرويا نظرا إِلَى أَن فَائِدَته تظهر فِي دَار الْآخِرَة وَالنَّظَر إِلَى الْعَاقِبَة أولى، فَالَّذِي يفهم بطرِيق الْمُقَابلَة إِنَّمَا هُوَ كَون الْحُقُوق الْمَالِيَّة وَنَحْوهَا دنيوية وَهُوَ فِي غَايَة الْحسن وَالله سُبْحَانَهُ أعلم (التكليفية) يَعْنِي بالخطابات الْمُتَعَلّقَة بِفعل الْمُكَلف اقْتِضَاء بِخِلَاف الأخروية الَّتِي هِيَ غَيرهَا كاستحقاق الثَّوَاب وَالْعِقَاب فَإِنَّهَا لَا تسْقط (كَالزَّكَاةِ وَغَيرهَا) من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج إِلَى غير ذَلِك لِأَن التَّكْلِيف فرع الْقُدْرَة، وَلَا عجز فَوق الْعَجز بِالْمَوْتِ (إِلَّا) فِي حق (الْإِثْم) بالتقصير فِي فعلهَا حَال حَيَاته، فَإِن الحكم الأخروي بِهَذَا الِاعْتِبَار لَا يسْقط عَنهُ (وَمَا شرع عَلَيْهِ) أَي الْمَيِّت (لحَاجَة غَيره فَإِنَّهُ) كَانَ ذَلِك الشُّرُوع (حَقًا مُتَعَلقا بِعَين) من تركته (بَقِي) ذَلِك الْحق فِي تِلْكَ الْعين (ببقائها كالأمانات والودائع والغصوب لِأَن الْمَقْصُود) من شرع هَذَا النَّوْع من الْحق (حُصُوله) أَي ذَلِك الشَّيْء الْمعِين (لصحابه لَا الْفِعْل)(2/281)
أَي فعل الْمَيِّت حَتَّى يُقَال: لَا وَجه لبَقَائه (وَلذَا) أَي وَلكَون الْمَقْصُود ذَلِك (لَو ظفر بِهِ) أَي بذلك الشَّيْء الْمعِين صَاحبه كَانَ (لَهُ أَخذه) لحُصُول الْمَقْصُود: وَهُوَ حُصُول الْحق إِلَى الْمُسْتَحق لَا التَّسْلِيم الَّذِي هُوَ فعل المؤتمن وَالْمُودع وَالْغَاصِب (بِخِلَاف الْعِبَادَات) فَإِن الْمَقْصُود مِنْهَا حُصُول الْفِعْل من الْمُكَلف اخْتِيَارا وَقد فَاتَ (وَلذَا) أَي وَلكَون الْمَقْصُود من الْعِبَادَات فعل الْمُكَلف (لَو ظفر الْفَقِير بِمَال الزَّكَاة لَيْسَ لَهُ أَخذه) وَلَو عين صَاحب المَال جَزَاء معينا لِلزَّكَاةِ (وَلَا تسْقط) الزَّكَاة عَن مَالِكه (بِهِ) أَي بِأَخْذِهِ إِيَّاه لانْتِفَاء الْمَقْصُود (وَإِن) كَانَ ذَلِك الْمَشْرُوع (دينا لم يبْق) وُجُوبه على الْمَيِّت (بِمُجَرَّد الذِّمَّة) الَّتِي اعتبرها الشَّرْع للْمَيت لبَعض الْمصَالح (لِضعْفِهَا) أَي الذِّمَّة (بِالْمَوْتِ فَوْقه) أَي فَوق ضعفها (بِالرّقِّ) وَقد يُرْجَى زَوَاله بِالْعِتْقِ: وَالْمَوْت لَا يزجى زَوَاله عَادَة (بل) إِنَّمَا يبْقى (إِذا قويت) ذمَّته، و (بِمَال) تَركه (أَو كَفِيل) كفل بِهِ (قبل الْمَوْت لِأَن المَال مَحل الِاسْتِيفَاء) الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود من الْوُجُوب (وَذمَّة الْكَفِيل تقَوِّي ذمَّة الْمَيِّت) لِأَن الْكفَالَة ضم ذمَّة إِلَى ذمَّة فِي الْمُطَالبَة (فَإِن لم يكن مَال) بِأَن مَاتَ مُفلسًا وَلَا كَفِيل بِهِ قبل الْمَوْت (لم تصح الْكفَالَة بِهِ) أَي بِمَا على الْمَيِّت (لانتقاله) أَي مَا على الْمَيِّت بطرِيق السُّقُوط لضعف الذِّمَّة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِهِ) أَي بِالْمَوْتِ (عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَنَّهَا) أَي الْكفَالَة (الْتِزَام الْمُطَالبَة) بِمَا يُطَالب بِهِ الْأَصِيل (لَا تَحْويل الدّين) عَن الْأَصِيل إِلَى الْكَفِيل (وَلَا مُطَالبَة) للأصيل والتزام الْمُطَالبَة فرع وجودهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَصِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَا الْتِزَام بِخِلَاف العَبْد الْمَحْجُور) الَّذِي يقر (بِالدّينِ) فَإِنَّهُ (نصح) الْكفَالَة (بِهِ) أَي بذلك الدّين الَّذِي أقرّ بِهِ (لِأَن ذمَّته قَائِمَة) لكَونه حَيا مُكَلّفا، والمطالبة مُحْتَملَة، إِذْ يُمكن أَن يصدقهُ الْمولى فِي الْحَال فَيُطَالب فِي الْحَال أَو يعتقهُ فيطالبه بعده، فباعتبار هَذَا الْمَعْنى صحت الْكفَالَة، وَإِن كَانَ الْأَصِيل غير مطَالب فِي الْحَال وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَن ضم مَالِيَّة رقبته إِلَى ذمَّته يَقْتَضِي كَونهَا غير كَامِلَة: أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَإِنَّمَا انْضَمَّ إِلَيْهَا) أَي إِلَى ذمَّته (مَالِيَّة الرَّقَبَة فِيمَا ظهر) أَي فِي ظُهُور الدّين (فِي حق الْمولى ليباع نظرا للْغُرَمَاء) لِأَن تعلق حَقهم بمالية العَبْد يصون حَقهم عَن التلاف إِذْ يُبَاع حِينَئِذٍ أَن لم يقر الْمولى وَلَا يصرف إِلَّا فِي اسْتِيفَاء حَقهم إِلَّا أَن يفضل الثّمن عَنهُ فَلَيْسَ الانضمام لعدم كَمَال الذِّمَّة: بل للْمصْلحَة الْمَذْكُورَة (وَتَصِح) الْكفَالَة الْمَذْكُورَة (عِنْدهمَا) وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وعزى إِلَى أَكثر أهل الْعلم (لِأَن بِالْمَوْتِ لَا يبرأ) لِأَنَّهُ لم يشرع مبرئا للحقوق ومبطلا لَهَا (وَلذَا) أَي لعدم كَونه مبرئا (يُطَالب بهَا فِي الْآخِرَة إِجْمَاعًا، وَفِي الدُّنْيَا إِذا ظهر) لَهُ (مَال، وَلَو تبرع أحد عَن الْمَيِّت) بأَدَاء الدّين (حل أَخذه، وَلَو بَرِئت) ذمَّته مِنْهُ بِالْمَوْتِ (لم يحل) أَخذه (وَالْعجز عَن الْمُطَالبَة) للْمَيت (لعدم قدرَة الْمَيِّت لَا يمْنَع صِحَّتهَا) أَي الْكفَالَة عَنهُ بِهِ (كَكَوْنِهِ) أَي(2/282)
الْأَصِيل (مُفلسًا) أَي عدم قدرَة الْمَيِّت على الْمُطَالبَة كإفلاسه فَإِنَّهُ بعد ثُبُوت الإفلاس يعجز صَاحب الدّين عَن الْمُطَالبَة شرعا لقَوْله تَعَالَى - {فنظرة إِلَى ميسرَة} - (وَيدل عَلَيْهِ) أَي على عدم بَرَاءَة ذمَّة الْمَيِّت أَو عدم سُقُوط الدّين بل على كَون الْكفَالَة عِنْد صَحِيحه (حَدِيث) جَابر " كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُصَلِّي على رجل مَاتَ وَعَلِيهِ دين: فَأتي بميت فَقَالَ: أعليه دين؟ قَالُوا نعم: دِينَارَانِ، قَالَ صلوا على صَاحبكُم فَقَالَ أَبُو قَتَادَة الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ (هما عليّ) يَا رَسُول الله (فصلى عَلَيْهِ) رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ (وَالْجَوَاب عَنهُ) أَي الحَدِيث (باحتماله) أَي قَوْله هما عليّ (الْعدة) بوفائهما لَا الْتِزَام الْكفَالَة (وَهُوَ) أَي كَونه للعدة (الظَّاهِر إِذْ لَا تصح الْكفَالَة للْمَجْهُول) بِلَا خلاف، وَالظَّاهِر أَن صَاحب الدّين كَانَ مَجْهُولا، وَلَا لذكر، قَالَ الشَّارِح وَهُوَ مُشكل بِمَا فِي لفظ عَن جَابر، وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: هِيَ عَلَيْك وَفِي مَالك، وَالْمَيِّت مِنْهَا بَرِيء قَالَ نعم: فصلى عَلَيْهِ، وعَلى هَذَا فَيحمل على أَن أَبَا قَتَادَة علم صَاحب الدينارين حِين كفلها أه وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه قد يُقَال لمن يعد مثل هَذَا الْكَلَام للتَّأْكِيد والتقرير عَلَيْهِ كَمَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " الْعدة دين " فَلَا إِشْكَال وَأجَاب فِي الْمَبْسُوط بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن قَوْله هما عليّ كَانَ إِقْرَار بكفالة سَابِقَة، وَلَا يخفى بعده، وبأنها وَاقعَة حَال لَا عُمُوم لَهَا فَلَا يسْتَدلّ بهَا فِي خُصُوص مَحل النزاع قلت يُقَاس المنازع فِيهِ على مورد النَّص لاشتراك الْعلَّة هَذَا فِي حَدِيث ابْن حبَان فَقَالَ أَبُو قَتَادَة أَنا أكفل بِهِ قَالَ بِالْوَفَاءِ: قلا بِالْوَفَاءِ فصلى عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا يقوّي قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله لَا يشْتَرط قبُول الْمَكْفُول لَهُ فِي الْمجْلس، وَبِه أفتى بعض الْمَشَايِخ (والمطالبة فِي الْآخِرَة رَاجِعَة إِلَى الْإِثْم وَلَا يفْتَقر إِلَى بَقَاء الذِّمَّة فضلا عَن قوتها، وبظهور المَال تقوت) ذكر لصِحَّة الْكفَالَة وَجْهَيْن: الأول عدم بَرَاءَة الْمَيِّت، وَالثَّانِي الحَدِيث فَأجَاب عَنهُ بقوله وَالْجَوَاب عَنهُ إِلَى آخِره، وَعلل الأول بالمطالبة فِي الْآخِرَة، فَأجَاب عَنهُ بقوله والمطالبة فِي الدُّنْيَا عَنهُ وَظُهُور المَال فَأجَاب عَنهُ بِأَن ظُهُوره يقوّي الذِّمَّة فَيُطَالب، وبالتبرع إِلَى آخِره عَن الْمَيِّت، وسيجيب عَنهُ وترقى الْجَواب الآخر فَقَالَ (بل ظُهُور قوتها) يَعْنِي كَانَت مَوْجُودَة فِي نفس الْأَمر: لَكِنَّهَا خفيت فَلَمَّا ظهر ظَهرت (وَهُوَ) أَي فِي تقويها (الشَّرْط) لصِحَّة الْكفَالَة (حَتَّى لَو تفوت بلحوق دين بعد الْمَوْت صحت الْكفَالَة بِهِ) أَي بِالدّينِ اللَّاحِق (بِأَن حفر بِئْرا على الطَّرِيق فَتلف بِهِ) أَي بالمحفور والحفر (حَيَوَان بعد مَوته) أَي الْحَافِر (فَإِنَّهُ يثبت الدّين) فِي هَذَا الْمُتْلف (مُسْتَندا إِلَى وَقت السَّبَب) أَي الْحفر (الثَّابِت حَال قيام الذِّمَّة) الصَّالِحَة للْوُجُوب يَعْنِي حَال الْحَيَاة (والمستند يثبت أَولا فِي الْحَال) ثمَّ يسْتَند (وَيلْزمهُ) أَي ثُبُوته فِي الْحَال (اعْتِبَار قوتها حِينَئِذٍ بِهِ) أَي بِالدّينِ اللَّاحِق، وَجَوَاب الشَّرْط مَا أَفَادَهُ بقوله (وَصِحَّة التَّبَرُّع لبَقَاء الدّين من(2/283)
جِهَة من لَهُ) الدّين (وَإِن كَانَ سَاقِطا فِي حق من عَلَيْهِ) الدّين (والسقوط بِالْمَوْتِ لضَرُورَة فَوت الْمحل فيتقدر) السُّقُوط (بِقَدرِهِ) أَي فَوت الْمحل (فَيظْهر) السُّقُوط (فِي حق من عَلَيْهِ لَا) فِي حق (من لَهُ وَإِن كَانَ) التَّبَرُّع عَلَيْهِ مَشْرُوعا (بطرِيق الصِّلَة للْغَيْر كَنَفَقَة الْمَحَارِم وَالزَّكَاة وَصدقَة الْفطر سَقَطت) هَذِه الصلات بِالْمَوْتِ (لِأَن الْمَوْت فَوق الرّقّ) فِي ضعف الذِّمَّة (وَلَا صلَة وَاجِبَة مَعَه) أَي مَعَ الرّقّ فَكَذَا بعد الْمَوْت بِالطَّرِيقِ الأولى (إِلَّا أَن يُوصي بِهِ) أَي بالمشروع صلَة (فَيعْتَبر كَغَيْرِهِ) أَي غير هَذَا الْمَشْرُوع من المشروعات: كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَالْوَجْه أَن يُقَال أَي غير هَذَا الْإِيصَاء من الْوَصَايَا (من الثُّلُث) لتصحيح الشَّارِع ذَلِك مِنْهُ نظرا لَهُ (وَأما مَا شرع لَهُ) أَي للْمَيت (فَيبقى مِمَّا لَهُ) أَي للْمَيت (إِلَيْهِ حَاجَة قدر مَا تنْدَفع) الْحَاجة (بِهِ) الضَّمِير للموصول، وَقَوله قدر إِلَى آخِره بدل مِمَّا لَهُ وَمن فِي مِمَّا بَيَان للموصول الأول، وَالضَّمِير فِي يبْقى رَاجع إِلَيْهِ: وَيحْتَمل أَن يكون قدر إِلَى آخِره فَاعل يبْقى، وَمن فِي مِمَّا تبعيضية، وَيقدر مِنْهُ ليرتبط بِهِ مَا بعد الْفَاء بِمَا قبله (على ملكه) أَي الْمَيِّت مُتَعَلق بيبقى، وَقَوله (من التَّرِكَة) بَيَان لقَوْله مِمَّا لَهُ إِلَيْهِ حَال كَون ذَلِك الْمُحْتَاج إِلَيْهِ (دينا وَوَصِيَّة وجهازا) لَهُ مِمَّا يَلِيق بِهِ بِالْمَعْرُوفِ (وَيقدم) الجهاز على الدّين وَالْوَصِيَّة إِجْمَاعًا: لكَونه آكِد، وَهَذَا التَّقْدِيم فِي حق كل دين (إِلَّا فِي دين عَلَيْهِ) أَي الْمَيِّت (تعلق بِعَين) فَإِنَّهُ لَا يقدم الجهاز عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْعين (كالمرهون وَالْمُشْتَرِي قبل الْقَبْض، وَالْعَبْد الْجَانِي، فَفِي هَذِه) الصُّور وأمثالها (صَاحب الْحق أَحَق بِالْعينِ) من تَجْهِيزه، ويتقدم الدّين على الْوَصِيَّة بِالْإِجْمَاع، (وَلذَا أَي ولبقاء مَاله إِلَيْهِ حَاجَة (بقيت الْكِتَابَة بعد موت الْمولى لِحَاجَتِهِ) أَي الْمولى (إِلَى ثَوَاب الْعتْق) فِي الصِّحَاح السِّتَّة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أَيّمَا امْرِئ مُسلم أعتق امْرأ مُسلما استنقذ الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ فِي النَّار " وَالْمكَاتب بعد أَدَاء الْكِتَابَة مُعتق (وَحُصُول الْوَلَاء) الْمُرَتّب على الْإِعْتَاق لوَرثَته (و) بقيت الْكِتَابَة (بعد موت الْمكَاتب عَن وَفَاء) للكتابة (لِحَاجَتِهِ) أَي الْمكَاتب (إِلَى الْمَالِكِيَّة الَّتِي عقد لَهَا) عقد الْكِتَابَة (وحرية أَوْلَاده الْمَوْجُودين فِي لَهَا) أَي الْكِتَابَة ولدُوا فِيهَا أَو اشتراهم فِيهَا، وَزَوَال الرّقّ الَّذِي هُوَ أثر الْكفْر عَنهُ، وَعَن أَوْلَاده (فَيعتق) الْمكَاتب (فِي آخر جُزْء من حَيَاته) لِأَن الْإِرْث يثبت من وَقت الْمَوْت: فَلَا بُد من استناد الْملك وَالْعِتْق الْمُقَرّر لَهَا إِلَى ذَلِك الْوَقْت، وَلَا شكّ فِي أَن حُدُوث الْمَوْت مُتَّصِل بآخر جُزْء من الْحَيَاة فَاعْتبر ذَلِك الْجُزْء لِأَن وَقت الْمَوْت لَا يصلح لاعْتِبَار الْعتْق (دون المملوكية) مُتَّصِل بقوله لِحَاجَتِهِ إِلَى الْمَالِكِيَّة (إِذْ لَا حَاجَة) لَهُ إِلَى الْكِتَابَة (إِلَّا ضَرُورَة بَقَاء ملك الْيَد) ومحليته التَّصَرُّف إِلَى وَقت الْأَدَاء (ليمكن الْأَدَاء فبقاؤها) أَي الْكِتَابَة (كَون سَلامَة الإكساب قَائِمَة) أَي بَاقِيَة كَمَا كَانَ قبل الْوَقْت بِمُوجب عقد الْكِتَابَة (وَثُبُوت حريَّة الْأَوْلَاد عِنْد دفع ورثته) أَي الْمكَاتب مَال(2/284)
الْكِتَابَة إِلَى الْمولى (وَثُبُوت عتقه) أَي الْمكَاتب فِي آخر جُزْء حَيَاته حَال كَونه (شَرط ذَلِك) : أَي حريَّة الْأَوْلَاد الَّتِي تتفرع عَلَيْهَا وراثتهم، وَصِحَّة دفعهم مَال الْكِتَابَة (ضمني فَلَا يشْتَرط لَهُ) أَي لثُبُوت عتقه (الْأَهْلِيَّة) أَي أَهْلِيَّة الْمكَاتب، فَلَا يُقَال كَيفَ يثبت الْعتْق للْمَيت فترتب على هَذَا الثُّبُوت ثُبُوته فِي آخر حَيَاته مُسْتَندا فَإِن اشْتِرَاط الْأَهْلِيَّة لَهُ فِيمَا إِذا كَانَ غير ضمني فَقَوله دون المملوكية إِشَارَة إِلَى جَوَاب سُؤال مُقَدّر، وَهُوَ أَن بَقَاء الْكِتَابَة يحْتَاج إِلَى وجود المملوكية إِذْ لَا تصح كِتَابَته وَحَاصِل الْجَواب أَن حَاجَة هَذَا الْمبيت إِلَى بَقَاء الْكِنَايَة لَيْسَ إِلَّا لمصْلحَة بَقَاء ملك لَهُ، وَهَذِه الْمصلحَة حَاصِلَة إِذا اعْتبر عتقه من آخر جُزْء حَيَاته: فَالْمُرَاد بِبَقَاء الْكِتَابَة بَقَاء مَا هُوَ الْمَقْصد مِنْهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله فبقاؤها كَون سَلامَة الإكساب إِلَى آخِره (لملك الْمَغْصُوب) لما ثَبت شرطا لملك الْبَدَل وَكَانَ ثُبُوته ضمنيا ثَبت (عِنْد) أَدَاء (الْبَدَل) مُسْتَندا إِلَى وَقت الْغَصْب وَإِن كَانَ الْمَغْصُوب حَال الْأَدَاء هَالكا والهالك لَا أَهْلِيَّة لَهُ للمملوكية وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن بَقَاء الْكِتَابَة المستلزمة لاعْتِبَار الرّقّ رَقَبَة تنَافِي ثُبُوت الْإِرْث مِنْهُ قَالَ (وَمَعَ بَقَائِهَا) أَي الْكِتَابَة (يثبت الْإِرْث) لوَارِثه مِنْهُ (نظرا لَهُ) أَي للْمَيت (إِذْ هُوَ) أَي الْإِرْث (خلَافَة لِقَرَابَتِهِ وَزَوجته وَأهل دينه) فِيمَا يتْركهُ إِقَامَة من الشَّارِع لَهُم فِي ذَلِك مقَامه لينتفعوا كانتفاعه فَلَو لم يثبت الْإِرْث لَهُم لزم عدم رِعَايَة مصلحَة الْمَيِّت الْمَذْكُور، وَهُوَ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ نظر الشَّارِع فِي حَقه (ولكونه) أَي الْمَيِّت (سَبَب الْخلَافَة خَالف التَّعْلِيق) للْمُعْتق وَغَيره (بِهِ) أَي بِالْمَوْتِ (على) الْمَعْنى (الْأَعَمّ) للتعليق (من الْإِضَافَة) كَقَوْلِه أَنْت حر غَدا، وَالتَّعْلِيق بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَهُوَ تَعْلِيق الحكم على مَا هُوَ على خطر الْوُقُوع، وَالْمعْنَى الْأَعَمّ لَهُ تَأْخِير الحكم عَن زمَان الْإِيجَاب لمَانع مِنْهُ حِينَئِذٍ مقترن بِهِ لفظا وَمعنى (غَيره) أَي غير التَّعْلِيق بِالْمَوْتِ، وَالتَّعْلِيق بِغَيْر الْمَوْت مَعْقُول خَالف علية كَونه سَببا للخلافة لمُخَالفَة التَّعْلِيق بِهِ التَّعْلِيق بِغَيْرِهِ: إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَار أَنه يسْتَلْزم تحقق الْمُعَلق بِهِ فِي زمَان قيام الْخَلِيفَة مقَام من صدر مِنْهُ التَّعْلِيق، فيراعى فِي هَذَا التَّعْلِيق جَانب الْخَلِيفَة، وباعتباره تخْتَلف الْأَحْكَام (فصح تَعْلِيق التَّمْلِيك بِهِ) بِالْمَوْتِ (وَهُوَ) أَي تَعْلِيق التَّمْلِيك (معنى الْوَصِيَّة) لِأَنَّهَا تمْلِيك مُضَاف لما بعد الْمَوْت، وَجه التَّفْرِيع أَنه لَو لم يكن الْمَوْت سَببا للخلافة لما صَحَّ تَعْلِيق التَّمْلِيك بِهِ لِأَن الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ عِنْد وجود الشَّرْط تَنْجِيز من الْمُعَلق، وَهُوَ عِنْد ذَلِك ميت لَيْسَ بِأَهْل للتَّمْلِيك: لَكِن لما كَانَ خَليفَة قَائِما مقَامه صَار كَأَنَّهُ مَوْجُود عِنْد ذَلِك (وَلزِمَ تَعْلِيق الْعتْق بِهِ) أَي بِالْمَوْتِ (وَهُوَ) قَالَ الشَّارِح أَي لُزُومه، وَالْوَجْه أَن يُقَال أَي تَعْلِيق الْعتْق بِالْمَوْتِ (معنى التَّدْبِير الْمُطلق) وإطلاقه أَن لَا يُقيد الْمَوْت بِقَيْد كَأَن يَقُول: إِن مت فِي مرضِي هَذَا، وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: إِنَّمَا قَالَ فصح تَعْلِيق التَّمْلِيك وَلزِمَ تَعْلِيق الْعتْق للْفرق بَين الْوَصِيَّة بِالْمَالِ وبالعتق لِأَن الْعتْق(2/285)
لَا يحْتَمل الْفَسْخ: فَلَا يجوز رُجُوعه عَن تَعْلِيق الْعتْق بِهِ للزومه، وَصَحَّ فِي الْوَصِيَّة بِالْمَالِ لِأَن التَّعْلِيق يحْتَمل الْفَسْخ (فَلم يجز بَيْعه) أَي الْمُدبر الْمُطلق عِنْد الْحَنَفِيَّة والمالكية: بل قَالَ القَاضِي عِيَاض هُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء وَالسَّلَف من الْحِجَازِيِّينَ والكوفيين والشاميين (خلافًا لِأَحْمَد وَالشَّافِعِيّ لِأَنَّهُ) أَي التَّدْبِير الْمُطلق (وَصِيَّة وَالْبيع رُجُوع) عَنْهَا وَالرُّجُوع عَن الْوَصِيَّة جَائِز (وَالْحَنَفِيَّة فرقوا بَينه) أَي التَّدْبِير الْمُطلق (وَبَين سَائِر التعليقات بِالْمَوْتِ بِأَنَّهُ) أَي التَّدْبِير (للتَّمْلِيك) أَي لتمليك العَبْد رقبته بعد الْمَوْت (وَالْإِضَافَة) للتَّمْلِيك إِي لتمليك (إِلَى زمَان زَوَال مالكيته لَا تصح وَصحت) سَائِر التعليقات بِالْمَوْتِ، وَمِنْهَا التَّدْبِير (فَعلم اعْتِبَاره) أَي التَّعَلُّق بِالْمَوْتِ (سَببا للْحَال شرعا) لِأَن اعْتِبَار سببيته فِي زمَان الْمُعَلق بِهِ، وَهُوَ الْمَوْت لَا يُمكن لِأَن زمَان زَوَال الْمَالِكِيَّة زَالَ وَلَا يعْمل السَّبَب بِدُونِ أَهْلِيَّة من لَهُ التَّصَرُّفَات فَإِن قلت هَذَا منَاف لما ذكرت من قيام الوراث مقَامه قلت ذَلِك فِي اعْتِبَار سببيته تنجيزا لحقيقة الْعتْق وَالتَّمْلِيك، والسببية الْمُعْتَبرَة حَال التَّعْلِيق لحق الْعتْق وَحقّ التَّمْلِيك (وَإِذ كَانَ أَنْت حر) فِي غير صُورَة التَّعْلِيق (سَببا لِلْعِتْقِ للْحَال وَهُوَ) أَي الْعتْق (تصرف لَا يقبل الْفَسْخ ثَبت بِهِ) أَي بأنت حر عَنهُ كَونه مُعَلّقا بِالْمَوْتِ (حق الْعتْق) للسَّبَبِيَّة الْقَائِمَة للْحَال على الْوَجْه الْمَذْكُور (وَهُوَ) أى حق الْعتْق (كالحقيقة) أى الْعتْق (كَأُمّ الْوَلَد) فانها اسْتحقَّت بِسَبَب الِاسْتِيلَاد حق الْعتْق للْحَال بالِاتِّفَاقِ (إِلَّا فِي سُقُوط التقوم) يَعْنِي أَن الْمُدبر كَأُمّ الْوَلَد فِي الْأَحْكَام إِلَّا فِي سُقُوط التقوم (فَإِنَّهَا) أَي أم الْوَلَد غير مُتَقَومَة عِنْد أبي حنيفَة (لَا تضمن بِالْغَضَبِ وَلَا بِإِعْتَاق أحد الشَّرِيكَيْنِ نصِيبه مِنْهَا) لِأَن الضَّمَان فرع الْمُتَقَوم بِخِلَاف الْمُدبر (لما عرف) فِي مَوْضِعه من أَن التقوم بإحراز الْمَالِيَّة، وَهُوَ أصل فِي الْأمة والتمتع بهَا تبع، وَلم يُوجد فِي الْمُدبر مَا يُوجب بطلَان هَذَا الأَصْل بِخِلَاف أم الْوَلَد فَإِنَّهَا لما استفرشت واستولدت صَارَت محرزة للمتعة، وَصَارَت الْمَالِيَّة تبعا فَسقط تقومها، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَومَة كالمدبر إِلَّا أَن الْمُدبر يسْعَى للْغُرَمَاء وَالْوَرَثَة، وَأم الْوَلَد لَا تسْعَى لِأَنَّهَا مصروفة إِلَى الْحَاجة الْأَصْلِيَّة، وَهِي مُقَدّمَة عَلَيْهِم، وَالتَّدْبِير لَيْسَ من أصُول حَوَائِجه: فَيعْتَبر من الثُّلُث (وَلذَا) أَي بَقَاء الْمَالِكِيَّة بِقدر مَا تَنْقَضِي بِهِ حَاجَة الْمَيِّت (قُلْنَا الْمَرْأَة تغسل زَوجهَا لملكه إِيَّاهَا فِي الْعدة) لِأَن النِّكَاح فِي حكم الْقَائِم مَا لم تنقض (وَحَاجته) إِلَيْهَا فِي ذَلِك، فَإِن الْغسْل من الْخدمَة وَهِي فِي الْجُمْلَة من لوازمها، وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا غسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا نساؤه " رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَقَالَ على شَرط مُسلم (وَأما مَا لَا يصلح لِحَاجَتِهِ) أَي الْمَيِّت (فالقصاص) فَإِنَّهُ شرع (لدرك الثأر) والنشفي، والثأر الدَّم (و) الدَّم (الْمُحْتَاج إِلَيْهِ الْوَرَثَة لَا الْمَيِّت. ثمَّ الْجِنَايَة) بقتْله (وَقعت على حَقهم لانتفاعهم بحياته) بالاستئناس بِهِ والانتصار بِهِ على(2/286)
الْأَعْدَاء وَغير ذَلِك (وَحقه) أَي الْمَيِّت أَيْضا (بل هُوَ أولى) لِأَن انتفاعه بحياته أَكثر إِلَّا أَنه خرج عِنْد ثُبُوت الْحق عَن أَهْلِيَّة الْوُجُوب فَثَبت ابْتِدَاء للْوَرَثَة القائمين مقَامه: فالسبب انْعَقَد فِي حق الْمُورث وَالْحق وَجب للْوَرَثَة (فصح عَفوه) رِعَايَة لجَانب السَّبَب (وعفوهم قبل الْمَوْت) رِعَايَة لجَانب الْوَاجِب وَالسَّبَب مَعَ أَن الْعَفو مَنْدُوب إِلَيْهِ فَيجب تَصْحِيحه بِحَسب الْإِمْكَان، وَهَذَا اسْتِحْسَان. وَالْقِيَاس أَن لَا يَصح لما فِيهِ من إِسْقَاط الْحق قبل ثُبُوته (فَكَانَ) الْقصاص (ثَابتا ابْتِدَاء للْكُلّ) أَي لكل الْوَرَثَة (وَعنهُ) أَي عَن كَون الْقصاص ثَابتا للْوَرَثَة ابْتِدَاء (قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يُورث الْقصاص) لِأَن الْإِرْث مَوْقُوف على الثُّبُوت للمورث ثمَّ النَّقْل عَنهُ إِلَى الْوَرَثَة (فَلَا ينْتَصب بعض الْوَرَثَة خصما عَن الْبَقِيَّة) فِي طلب الْقصاص (حَتَّى تُعَاد بَيِّنَة الْحَاضِر) يَعْنِي لَو كَانَ الْقصاص يُورث لانتصب بعض وَرَثَة المقنول عَن الْبَعْض فِي الطّلب كَسَائِر الْمَوَارِيث: لِأَن الْحق حِينَئِذٍ للمورث أَصَالَة، ويكفى لمصْلحَة الْخلَافَة وَاحِد مِنْهُم: لَكِن لما كَانَ الْحق لَهُم أَصَالَة كَانَ كل وَاحِد مِنْهُم مُنْفَردا بِدَعْوَاهُ: فَإِذا كَانَ بعض الْوَرَثَة حَاضرا دون بعض فَأَقَامَ الْحَاضِر بَيِّنَة لَا يكون منتصبا عَن الْغَائِب: ثمَّ إِذا حضر الْغَائِب وَأقَام بَيِّنَة تُعَاد بَيِّنَة الْحَاضِر (عِنْد حُضُور الْغَائِب، وَعِنْدَهُمَا يُورث) الْقصاص (لِأَن خَلفه) أَي الْقصاص من المَال (موروث إِجْمَاعًا وَلَا يُخَالف) بالخلف (الأَصْل، وَالْجَوَاب أَن ثُبُوته) أَي الْقصاص (حَقًا لَهُم لعدم صلاحيته) أَي الْقصاص (لِحَاجَتِهِ) أَي الْمَيِّت (فَإِذا صَار) الْقصاص (مَالا) بإن بدل بِهِ بِالصُّلْحِ أَو عَفْو الْبَعْض (وَهُوَ) أَي المَال (يصلح لحوائجه) أَي من التَّجْهِيز وَقَضَاء الدّين وتنفيذ الْوَصِيَّة (رَجَعَ) المَال الَّذِي هُوَ خَلفه (إِلَيْهِ) أَي الْمَيِّت (وَصَارَ كَأَنَّهُ الأَصْل) بِهَذَا الأَصْل كالدية فِي الْخَطَأ لِأَن الْخلف يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي يجب بِهِ الأَصْل (فَيثبت لوَرثَته الْفَاضِل عَنْهَا) أَي حَوَائِجه خلَافَة لَا أَصَالَة، وَالْخلف قد يُفَارق الأَصْل فِي بعض الْأَحْكَام كالتيمم وَالْوُضُوء فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فَهَذِهِ تفاصيل أَحْكَام الدُّنْيَا (وَأَحْكَام الْآخِرَة) وَهِي أَرْبَعَة: مَا يجب لَهُ على الْغَيْر من حق رَاجع إِلَى النَّفس أَو الْعرض أَو المَال، وَمَا يجب للْغَيْر عَلَيْهِ من حق كَذَلِك، وَمَا يلقاه من عِقَاب، وَمَا يلقاه من ثَوَاب (كلهَا ثَابِتَة فِي حَقه) أَي الْمَيِّت.
(وَالنَّوْع الثَّانِي) من عوارض الْأَهْلِيَّة الْعَوَارِض (المكتسبة) الناشئة (من نَفسه و) من (غَيره فَمن الأولى) أَي المكتسبة من نَفسه (السكر) وَسَيَأْتِي حَده (وَهُوَ) بِاعْتِبَار مُبَاشرَة سَببه (محرم إِجْمَاعًا فَإِن كَانَ طَرِيقه مُبَاحا كسكر الْمُضْطَر إِلَى شرب الْخمر) وَهِي النئ من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد عِنْد أبي حنفية، وَلم يشْتَرط قذفه بالزبد، والاضطرار قد يكون لإساغة اللُّقْمَة وَدفع عَطش، وَقد يكون بإكراه على شربهَا بتهديد أَو بِقطع عُضْو (وَالْحَاصِل من(2/287)
الْأَدْوِيَة) كالبنج والدواء مَا فِيهِ كَيْفيَّة خَارِجَة عَن الِاعْتِدَال بهَا تنفعل الطبيعة وتعجز عَن التَّصَرُّف فِيهِ (و) الْحَاصِل من (الأغذية المتخذة من غير الْعِنَب) والغذاء مَا ينفعل عَن الطبيعة فيتصرف فِيهِ، ويحيله إِلَى مشابهة المتغذى فَيصير جُزْءا مِنْهُ، بَدَلا عَمَّا يتَحَلَّل (والمثلث) وَهُوَ النيئ من مَاء الْعِنَب إِذا طبخ حَتَّى ذهب ثُلُثَاهُ ثمَّ رقق بِالْمَاءِ وَترك حَتَّى اشْتَدَّ: إِذا شرب مِنْهُ مَا دون السكر وَنَحْوه: أَي مَا ذكر (لَا بِقصد السكر) وَلَا للهو والطرب (بل) بِقصد (الاستمراء، وَالتَّقوى) على قيام اللَّيْل وَصِيَام النَّهَار إِلَى غير ذَلِك من الْعِبَادَات. فِي الْقَامُوس مرأ الطَّعَام مثلث الرَّاء. فَهُوَ مريء، هنيء حميد المغبة: أَي الْعَاقِبَة كَمَا هُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف فِيهِ، وَنَحْوه كالتداوي. ثمَّ قَوْله (فكالإغماء) لِأَنَّهُ لَيْسَ من جنس اللَّهْو: بل يعد من الْأَمْرَاض (لَا يَصح مَعَه تصرف) كَالْبيع وَالشِّرَاء (وَلَا طَلَاق وَلَا عتاق، وَإِن روى عَنهُ) أَي عَن أبي حنيفَة، والراوي عَنهُ عبد الْعَزِيز التِّرْمِذِيّ (أَنه إِن علم البنح وَعَمله) أَي تَأْثِيره فِي الْعقل ثمَّ أقدم على أكله (صَحَّ) كل من طَلَاقه وعتاقه (وَإِن) كَانَ طَرِيقه (محرما كمن) أَي كالحاصل من تنَاول (محرم) أَو مثلث، وَمن الْمحرم شرب المثلث على قصد السكر أَو اللَّهْو أَو الطَّرب: كَذَا ذكره الشَّارِح، الْمُتَبَادر من الْعبارَة بِاعْتِبَار الْمُقَابلَة عدم دُخُول المثلث فِي الْمحرم، وَأَن يُرَاد بِهِ مَا لم يقْصد بِهِ السكر وَاللَّهْو غير أَنه حِينَئِذٍ يُنَافِي مَا سبق من قَوْله: (المثلث كَمَا لَا يخفى، فَلَزِمَ حمله على مَا ذكر: فَيكون من التَّخْصِيص بعد التَّعْمِيم لمزيد الاهتمام بِهِ (فَلَا يبطل التَّكْلِيف فَيلْزمهُ الْأَحْكَام، وَتَصِح عباراته من الطَّلَاق وَالْعتاق وَالْبيع وَالْإِقْرَار وتزويج الصغار والتزوج والإقراض، والاستقراض: لِأَن الْعقل قَائِم، وَإِنَّمَا عرض فَوَات فهم الْخطاب بمعصيته فَبَقيَ) التَّكْلِيف (فِي حق الْإِثْم وَالْقَضَاء) للعبادات الْمَشْرُوع لَهَا إِذا فَاتَتْهُ فِي حَال السكر، وَإِن كَانَ لَا يَصح أَدَاؤُهَا فِي تِلْكَ الْحَال، وَجعل الْفَهم كالموجود زجرا لَهُ (إِلَّا أَنه تجب الْكَفَاءَة مُطلقًا) أَي أَبَا كَانَ المزوج أوغيره (فِي تَزْوِيج الصغار) فِي هَذِه الْحَالة، وَمهر الْمثل على هَذَا أَيْضا (لِأَن إضراره بِنَفسِهِ لَا يُوجب) جَوَاز (إضرارها) يَعْنِي فِي التَّزْوِيج من غير الْكُفْء ضرران: على نَفسه، وَعَلَيْهَا فَإِن جوز إضراره بِنَفسِهِ لَا يجوز فِي حق غَيره، وَلَا يسْتَلْزم جَوَاز الأول جَوَاز الثَّانِي (وَيصِح إِسْلَامه) لوُجُود أصل العقد (كالمكره) أَي كَمَا صَحَّ إِسْلَام الْمُكْره لِأَن " الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ ": كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر مَرْفُوعا (لَا ردته لعدم الْقَصْد) لذكر كلمة الْكفْر بِدَلِيل أَنه لَا يذكرهَا بعد الصحو فَلم يُوجد ركنها وَهُوَ تبدل المَال، وَصَارَت كَمَا لَو جرت على لِسَان الصاحي خطأ (وبالهزل) أَي وَيكفر إِذا تكلم بالْكفْر هزلا مَعَ عدم تبدل اعْتِقَاده (للاستخفاف) أَي لِأَنَّهُ صدر(2/288)
عَن قصد اسْتِخْفَافًا بِالدّينِ، وَلَا استخفاف من السَّكْرَان لعدم الْقَصْد، وَعدم اعْتِبَار الشَّارِع إِدْرَاكه قَائِما بِهِ، عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: صنع لنا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف طَعَاما وَسَقَانَا من الْخمر فَأخذت الْخمْرَة منا وَحَضَرت الصَّلَاة فقدموني فَقَرَأت - قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ وَنحن نعْبد مَا تَعْبدُونَ - فَأنْزل الله تَعَالَى - {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} - قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح غَرِيب، ثمَّ هَذَا اسْتِحْسَان قدم على الْقيَاس، وَهُوَ صِحَة ردته لكَونه مُخَاطبا كالصاحي كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف. وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَن عدم صِحَة إِرَادَته فِي الحكم، أما بَينه وَبَين الله تَعَالَى، فَإِن كَانَ فِي الْوَاقِع قصد أَن يتَكَلَّم بِهِ ذَاكِرًا مَعْنَاهُ كفر، وَإِلَّا فَلَا (وَلَو أقرّ بِمَا يحْتَمل الرُّجُوع كَالزِّنَا) وَشرب الْخمر وَالسَّرِقَة الصُّغْرَى والكبرى (لَا يحد، لِأَن حَالَة رُجُوعه يُوجب رُجُوعه) لعدم ثباته على شَيْء وَلَا سِيمَا على شَيْء يلْزم الْحَد مَعَ زِيَادَة شُبْهَة أَنه يكذب على نَفسه فيندرئ عَنهُ لِأَن مبْنى حق الله تَعَالَى على الْمُسَامحَة، نعم يضمن الْمَسْرُوق لِأَنَّهُ حق العَبْد وَلَا يبطل بِالرُّجُوعِ (و) لَو أقرّ (بِمَا لَا يحْتَملهُ) أَي الرُّجُوع (كَالْقصاصِ وَالْقَذْف وَغَيرهمَا أَو بَاشر سَبَب الْحَد) من زنا أَو سَرقَة أَو قذف مَعْطُوف على أقرّ (مُعَاينَة حد إِذا صَحا) إِذْ فِي حَال السكر لَا يحصل الانزجار الْمَقْصُود من الْحَد، وَاعْترض الشَّارِح بِأَنَّهُ يفهم من الْعبارَة أَن الْجَزَاء فِي جَمِيع ذَلِك حد وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ مَا هُوَ حق العَبْد كَالْقصاصِ لَيْسَ بِحَدّ، ثمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ المُرَاد حد إِذا صَحا وَأخذ بِمُوجب الْبَاقِي انْتهى وَالْأَمر فِيهِ هَين إِذْ يجوز إِطْلَاق الْحَد على الْكل تَغْلِيبًا. (وَحده) أَي السكر (اخْتِلَاط الْكَلَام والهذيان) على قَوْلهمَا وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف وَالْمرَاد أَن يكون غَالب كَلَامه هذيانا، فَإِن كَانَ نصفه مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بسكران، وَإِلَيْهِ مَال أَكثر الْمَشَايِخ واختاروه للْفَتْوَى، وَيُؤَيّد هَذَا التَّحْدِيد قَول عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَإِذا سكر هذى، رَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله (وَزَاد أَبُو حنفية فِي) حد (السكر الْمُوجب للحد أَن لَا يُمَيّز بَين الْأَشْيَاء وَلَا يعرف الأَرْض من السَّمَاء) وَإِنَّمَا اعْتبرت السَّمَاء مبدأ معرفَة الأَرْض، لِأَن الْأَشْيَاء تتبين بأضدادها وهما بِمَنْزِلَة الضدين (إِذْ لَو ميز) بَينهمَا (فَفِيهِ) أَي فِي سكره (نُقْصَان وَهُوَ) أَي نقصانه (شُبْهَة الْعَدَم) أَي السكر وَهُوَ الصحو (فيندرئ) الْحَد (بِهِ) أَي بِهَذَا النُّقْصَان (وَأما) حد السكر (فِي غير وجوب الْحَد من الْأَحْكَام فَالْمُعْتَبر عِنْده أَيْضا اخْتِلَاط الْكَلَام حَتَّى لَا يترد بِكَلِمَة الْكفْر مَعَه) أَي مَعَ اخْتِلَاط الْكَلَام (وَلَا يلْزمه الْحَد بِالْإِقْرَارِ بِمَا يُوجب) الْحَد عِنْده. قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله: وَإِنَّمَا اخْتَارُوا للْفَتْوَى قَوْلهمَا لضعف وَجه قَوْله وَذَلِكَ أَنه حَيْثُ قَالَ يُؤْخَذ فِي أَسبَاب(2/289)
الْحُدُود بأقصاها فقد سلم أَن السكر يتَحَقَّق قبل الْحَالة الَّتِي عينهَا، وَأَنه تَتَفَاوَت مراتبه وكل مرتبَة هِيَ سكر وَالْحَد إِنَّمَا أنيط فِي الدَّلِيل الَّذِي أثبت حد السكر بِمَا يُسمى سكرا إِلَّا بالمرتبة الْأَخِيرَة مِنْهُ، على أَن الْحَالة الَّتِي ذكر قَلما يصل إِلَيْهَا سَكرَان فَيُؤَدِّي إِلَى عدم الْحَد بالسكر انْتهى. وَقيل اخْتِلَاط الْكَلَام أَو عدم التَّمْيِيز بَين الْأَشْيَاء لَيْسَ نفس السكر، وَإِنَّمَا هُوَ عَلامَة، فَقيل هُوَ معنى يزِيل الْعقل عِنْد مُبَاشرَة سَببه، وَقيل غَفلَة تعرض لغَلَبَة السرُور على الْعقل بِمُبَاشَرَة مُوجبهَا، فَتخرج الْغَفْلَة الَّتِي لَيست لغلبته كَالَّتِي من شرب الأفيون والبنج، فَإِنَّهَا من قبيل الْجُنُون لَا من السكر لَكِن ألحقت بِهِ شرغا للاشتراك فِي الحكم، وَفِيه مَا فِيهِ (وَمِنْهَا) أَي أَي من المكتسب من نَفسه (الْهزْل) وَهُوَ اللّعب لُغَة، وَاصْطِلَاحا (أَن لَا يُرَاد بِاللَّفْظِ ودلالته الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَلَا الْمجَازِي) بِأَن لَا يُرَاد بِهِ شَيْء، أَو يُرَاد بِهِ مَا لَا يَصح إِرَادَته مِنْهُ (ضِدّه الْجد: أَن يُرَاد بِاللَّفْظِ أَحدهمَا) أَي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي (وَمَا يَقع) الْهزْل (فِيهِ) من الْأَقْسَام (إنشاءات فرضاه) أَي الهازل (بِالْمُبَاشرَةِ) أَي التَّكَلُّم بألفاظها (لَا بحكمها) أَي لَا بِثُبُوت الْأَثر الْمُتَرَتب عَلَيْهَا على تَقْدِير إِرَادَة مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيّ أَو الْمجَازِي (أَو إخبارات أَو اعتقادات) لِأَن مَعَ يَقع فِيهِ الْهزْل إِن كَانَ إِحْدَاث حكم شَرْعِي فإنشاء، وَإِلَّا فَإِن كَانَ الْقَصْد مِنْهُ بَيَان الْوَاقِع فإخبار، وَإِلَّا فاعتقاد كَمَا سيشير إِلَيْهِ بقوله (وَالْأول) أَي الْإِنْشَاء (إِحْدَاث الحكم الشَّرْعِيّ أَي) إِحْدَاث (تعلقه) إِذْ نفس الحكم الشَّرْعِيّ قديم كَمَا مر غير مرّة (فَأَما) الْهزْل (فِيمَا يحْتَمل النَّقْض) أَي الْفَسْخ وَإِلَّا قَالَه (كَالْبيع وَالْإِجَارَة فإمَّا أَن يتواضعا فِي أَصله) أَي تجْرِي الْمُوَاضَعَة بَين الْعَاقِدين قبل العقد (على التَّكَلُّم بِهِ) أَي بِلَفْظ العقد (غير مريدين حكمه) أَي العقد (أَو) يتواضعا (على قدر الْعِوَض أَو) الثّمن أَو الْمَبِيع مثلا أَو يتواضعا على (جنسه) أَي الْعِوَض (فَفِي الأول) أَي فِيمَا تواضعا على أَصله (إِن اتفقَا بعده) أَي العقد (على الْإِعْرَاض عِنْده) أَي العقد (إِلَى الْجد) بِأَن فإلا بعد البيع: قد أعرضنا وَقت البيع عَن الْهزْل وبعنا بطرِيق الْجد (لزم البيع) وَبَطل الْهزْل، لِأَن العقد الصَّحِيح يقبل الْإِقَالَة: فَهَذَا أولى (أَو) اتفقَا (على الْبناء) للْعقد (عَلَيْهِ) أَي التَّوَاضُع (فكشرط الْخِيَار) أَي صَار العقد الْمُشْتَمل على شَرط الْخِيَار (لَهما) أَي الْعَاقِدين مُتَعَلق بِالْخِيَارِ (مُؤَبَّدًا إِذْ رَضِيا) فِي هَذَا كالعقد (بِالْمُبَاشرَةِ فَقَط) أَي بالحكم الَّذِي هُوَ الْملك أَيْضا كَمَا فِي الْخِيَار المؤبد (فَيفْسد) العقد فِيهِ كَمَا فِي الْخِيَار المؤبد (وَلَا يملك) الْمَبِيع فِيهِ (بِالْقَبْضِ لعدم الرِّضَا بالحكم) كَذَا قَالَ صدر الشَّرِيعَة وَغَيره. وَفِي التَّلْوِيح لَو قَالَ لعدم اخْتِيَار الحكم لَكَانَ أولى، لِأَنَّهُ الْمَانِع من الْملك، لَا عدم الرِّضَا كالمشتري من الْمُكْره فَإِنَّهُ يملك بِالْقَبْضِ لوُجُود الِاخْتِيَار وَلم يُوجد الرِّضَا، إِذْ الِاخْتِيَار الْقَصْد إِلَى الشَّيْء وإرادته،(2/290)
وَالرِّضَا إيثاره واستحسانه، وَالْمكْره على الشَّيْء يختاره وَلَا يرضاه. وَمن هُنَا قَالُوا: الْمعاصِي والقبائح بِإِرَادَة الله تَعَالَى، لَا بِرِضَاهُ انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَن فِيمَا نَحن فِيهِ كِلَاهُمَا معدومان، فَيحمل الرِّضَا على مَا يعمهما. ثمَّ هَذَا بِخِلَاف البيع الْفَاسِد من وَجه حَيْثُ يثبت الْملك بِالْقَبْضِ لوُجُود الرِّضَا بالحكم هُنَاكَ (فَإِن نقضه) أَي العقد الَّذِي اتفقَا على أَنه مَبْنِيّ على الْمُوَاضَعَة (أَحدهمَا) أَي الْعَاقِدين (انْتقض) لِأَن لكل مِنْهُمَا النَّقْض فينفرد بِهِ (لَا إِن أجَازه) أَي أَحدهمَا العقد دون الآخر لتوقفه على إجازتهما جَمِيعًا لِأَنَّهُ كَخِيَار الشَّرْط لَهما (وَإِن أجازاه) أَي العاقدان العقد (جَازَ بِقَيْد الثَّلَاثَة) أَي بِشَرْط أَن تكون إجازتهما فِي ثَلَاثَة أَيَّام من وَقت العقد (عِنْده) أَي أبي حنيفَة كَمَا فِي الْخِيَار المؤبد عِنْده: أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله لارْتِفَاع الْمُفْسد لَا فِيمَا بعْدهَا لتقرر الْفساد بمضيها (ومطلقا) عِنْدهمَا: أَي وَجَاز إِذا أجازاه أَي وَقت أَرَادَا مَا لم يتَحَقَّق النَّقْض عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد كَمَا فِي الْخِيَار المؤبد عِنْدهمَا: فَهَذِهِ ثَانِيَة صور الِاتِّفَاق (أَو) اتفقَا على (إِن لم يحضرهما) أَي لم يَقع بخاطرهما وَقت العقد (شَيْء) أَي لَا الْبناء على الْمُوَاضَعَة وَلَا الْإِعْرَاض عَنْهَا، وَلَيْسَ معنى الِاتِّفَاق هَهُنَا قصدهما عدم خطور شَيْء من الْأَمريْنِ وَقت العقد، فَإِن هَذَا لقصد يسْتَلْزم الخطور، بل المُرَاد أَنَّهُمَا أخبرا بالِاتِّفَاقِ بخطور عَنْهُمَا وَقت العقد، وَهَذِه ثَالِثَة صور الِاتِّفَاق (أَو اخْتلفَا فِي الْإِعْرَاض) عَن الْمُوَاضَعَة (وَالْبناء) عَلَيْهَا فَقَالَ أَحدهمَا بنيت العقد على الْمُوَاضَعَة، وَقَالَ الآخر: أَعرَضت عَنْهَا بالجد (صَحَّ العقد عِنْده) أَي أبي حنيفَة فيهمَا (عملا بِمَا هُوَ الأَصْل فِي العقد) الشَّرْعِيّ، وَهُوَ الصِّحَّة واللزوم، لِأَنَّهُ شرع للْملك وَالْجد هُوَ الظَّاهِر فِيهِ (وَهُوَ) أَي الْعَمَل بِالْأَصْلِ فِيهِ (أولى من اعْتِبَار الْمُوَاضَعَة) لِأَنَّهَا عَارض لم تنور دَعْوَى مدعيها بِالْبَيَانِ فلايكون القَوْل قَوْله كَمَا فِي خِيَار الشَّرْط (وَلم يَصح) العقد فيهمَا (عِنْدهمَا لعادة الْبناء) أَي لِأَن الْمُعْتَاد فِي مثله الْبناء على الْمُوَاضَعَة السَّابِقَة (وَكيلا تلغوا الْمُوَاضَعَة السَّابِقَة) فَيكون الِاشْتِغَال بهَا عَبَثا (و) لَا يفوت (الْمَقْصُود وَهُوَ صون المَال عَن المتغلب) مثلا (فَهُوَ) أَي الْبناء على الْمُوَاضَعَة (الظَّاهِر، وَدفع بِأَن) الْقَيْد (الآخر) الْخَالِي عَن أَن يحضرهما شَيْء (نَاسخ) للمواضع السَّابِقَة: مَعَ أَن الْأَلْيَق بِحَال أهل الدّيانَة الرُّجُوع عَن الْمُوَاضَعَة، وَرجح المُصَنّف قَوْلهمَا بقوله (وَقد يُقَال هُوَ) أَي كَون الآخر نَاسِخا لَهَا (فرع الرِّضَا) بِهِ إِذْ مدَار الْعُقُود والفسوخ على المراضاة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ مُجَرّد صُورَة العقد لَا يستلزمه) أَي الْفَسْخ وَفسخ مَا اتفقَا عَلَيْهِ (إِلَّا بِاعْتِبَارِهِ) أَي الرِّضَا بِهِ وَقد (فرض عدم إِرَادَة شَيْء) فِي الصُّورَة الثَّالِثَة (فَيصْرف) العقد (إِلَى مُوَافقَة) العقد (الأول) أَي الْمُوَافقَة السَّابِقَة (وَكَون أَحدهمَا أعرض) فِي الصُّور الرَّابِعَة (لَا يُوجب صِحَّته) أَي العقد (إِذْ لَا يقوم العقد إِلَّا برضاهما، وَلَو قَالَ أَحدهمَا أَعرَضت) عِنْد العقد عَن الْمُوَاضَعَة السَّابِقَة (و) قَالَ (الآخر(2/291)
لم يحضرني شَيْء) وَهَذِه صُورَة خَامِسَة (أَو بني أَحدهمَا) أَي قَالَ أَحدهمَا إِنِّي بنيت العقد على الْمُوَاضَعَة (وَقَالَ الآخر لم يحضرني) شَيْء، وَهَذِه صُورَة سادسة (فعلى أَصله) أَي أبي حنيفَة يجب أَن يكون (عدم الْحُضُور كالإعراض) فِي صِحَة العقد عملا بِمَا هُوَ الأَصْل فِي العقد فكأنهما أعرضا مَعًا فِي الصُّورَة الأولى، وَفِي الصُّورَة الثَّانِيَة بإعراض أَحدهمَا تَنْتفِي الْمُوَاضَعَة فَيصح العقد (وهما) يجعلان عدم الْحُضُور على أَصلهمَا (كالبناء) على الْمُوَاضَعَة تَرْجِيحا للمواضعة على الْإِعْرَاض بِالْعَادَةِ وأليق فَلَا يَصح العقد فِي شَيْء مِنْهُمَا. وَفِي التَّلْوِيح هَذَا مَأْخُوذ من صُورَة اتِّفَاقهمَا على أَنه لم يحضرهما شَيْء فَإِنَّهُ عِنْد أبي حنيفَة بِمَنْزِلَة الْإِعْرَاض، وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَة الْبناء، وَأورد عَلَيْهِ أَنه لم تظهر جِهَة الصِّحَّة على قَول أبي حنيفَة فِيمَا إِذا بنى أَحدهمَا، وَقَالَ الآخر: لم يحضرني شَيْء فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن لَا يَصح على أَصله لِاجْتِمَاع الْمُصَحح والمفسد وَالتَّرْجِيح للمفسد، وَكَذَا ذكره الشَّارِح وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُصَحح إِنَّمَا هُوَ الأَصْل فِي العقد وَهُوَ الصِّحَّة، وَلَا مُفسد هُنَا سوى الْمُوَاضَعَة فَلَا تتَحَقَّق الْمُوَاضَعَة إِلَّا ببنائهما مَعًا، وَقد عرفت أَن عدم الْحُضُور كالإعراض عَن الْمُوَاضَعَة عِنْده، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم هَذِه الْمُقدمَة لَا يرد شَيْء على مَا فِي التَّلْوِيح لِأَنَّهُ لَا يضر بِكَوْنِهِ مأخوذا من صُورَة الِاتِّفَاق كَون تقدمتها مدخولة (وَلَا يخفى أَن تمسكه) أَي أبي حنيفَة (بِأَن الأَصْل فِي العقد الصِّحَّة وهما) أَي تمسكهما (بِأَن الْعَادة تَحْقِيق الْمُوَاضَعَة السَّابِقَة هُوَ) أَي كل من التمسكين (فِيمَا إِذا اخْتلفَا فِي دَعْوَى الْإِعْرَاض أَو الْبناء) بِأَن يدعى أَحدهمَا أَنه كَانَ هُنَاكَ إِعْرَاض من الْجَانِبَيْنِ أَو من جَانب، وَيَدعِي الآخر خِلَافه: وَكَذَا فِي الْبناء (وَأما إِذا اتفقَا على الِاخْتِلَاف بِأَن يقرا بإعراض أَحدهمَا وَبِنَاء الآخر فَلَا قَائِل بِالصِّحَّةِ) بل عدم الصِّحَّة حِينَئِذٍ بالِاتِّفَاقِ وَهُوَ ظَاهر (ومجموع صور الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف ثَمَانِيَة وَسَبْعُونَ، فالاتفاق على إعراضهما أَو بنائهما أَو ذهولهما أَو بِنَاء أَحدهمَا وإعراض الآخر أَو) بِنَاء أَحدهمَا (وذهوله) أَي الآخر (أَو إِعْرَاض أَحدهمَا وَذُهُول الآخر سِتَّة، وَالِاخْتِلَاف) أَي صوره وَهِي (دَعْوَى أَحدهمَا إعراضهما و) دعواهما (بناءهما و) دَعْوَاهُ (ذهولهما و) دَعْوَاهُ (بناءه) أَي أَحدهمَا الْمُدَّعِي (مَعَ إِعْرَاض الآخر أَو) دَعْوَاهُ بناءه مَعَ (ذُهُوله) أَي الآخر (و) دَعْوَاهُ (إعراضه مَعَ بِنَاء الآخر أَو) دَعْوَاهُ إعراضه (مَعَ ذُهُوله) أَي الآخر (و) دَعْوَاهُ (ذُهُوله مَعَ بِنَاء الآخر أَو) دَعْوَاهُ ذُهُوله مَعَ (إعراضه) أَي الآخر وَقَوله وَالِاخْتِلَاف مُبْتَدأ خَبره (تِسْعَة، وكل) من الصُّور التِّسْعَة يركب (مَعَ دَعْوَى) الْعَاقِد (الآخر) وَهُوَ (إِحْدَى الثَّمَانِية الْبَاقِيَة) وَإِنَّمَا نقص عدم المضموم إِلَيْهِ بِوَاحِدَة وَهِي مُوَافقَة لما ضم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي بَيَان صور الِاخْتِلَاف، فَإِذا ضربت التِّسْعَة فِي الثَّمَانِية (تمت) صور الِاخْتِلَاف الْحَاصِلَة من الضَّرْب (ثِنْتَيْنِ وَسبعين و) ضم إِلَيْهَا (سِتَّة الِاتِّفَاق) على مَا آنِفا، فمجموع صور الِاتِّفَاق(2/292)
وَالِاخْتِلَاف ثَمَانِيَة وَسَبْعُونَ. قَالَ الشَّارِح: قيل وَالْحق أَن يَجْعَل صور الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف سِتا وَثَلَاثِينَ إِن أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا غير معِين، وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ إِن أَرَادَ معينا، فَحِينَئِذٍ صور الِاتِّفَاق تسع وصور الِاخْتِلَاف اثْنَان وَسَبْعُونَ انْتهى، هَكَذَا نقل، وَقد تبين مُرَاد هَذَا الْقَائِل مَعَ كَمَال حَاجته إِلَى الْبَيَان، وَلَعَلَّه أَرَادَ بِأَحَدِهِمَا الَّذِي جوز فِيهِ التَّعْيِين وَعدم التَّخْيِير أحد الْعَاقِدين وَأَنه إِذا لم يعين بِحَيْثُ يعم كلا مِنْهُمَا على سَبِيل الْبَدَل لم يتَحَقَّق فِي الِاخْتِلَاف تسع صور بل ينْحَصر فِي فِي سِتّ: دَعْوَاهُ إعراضهما أَو بناءهما أَو ذهولهما أَو إِعْرَاض أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين مَعَ بِنَاء الآخر أَو ذُهُوله وَلم يبْق إِلَّا دَعْوَاهُ بِنَاء أَحدهمَا مَعَ ذُهُول الآخر، وَلَا يُمكن أَن يُقَال حِينَئِذٍ أَو مَعَ إعراضه لاندراجه فِيمَا سبق بِسَبَب تَعْمِيم أَحدهمَا، بِخِلَاف مَا إِذا ادّعى إِعْرَاض زيد مَعَ بِنَاء عَمْرو أَو ذُهُوله أَو ادّعى بِنَاء زيد مَعَ إِعْرَاض عَمْرو أَو ذُهُوله أَو ادّعى ذُهُول زيد مَعَ إِعْرَاض عَمْرو أَو بنائِهِ فَهَذِهِ سِتَّة بعد تِلْكَ الثَّلَاثَة الأول وَلَا يخفى أَن مَجْمُوع صور الِاخْتِلَاف إِذا كَانَت سِتَّة وَضربت فِي الْخَمْسَة يحصل ثَلَاثُونَ، وَإِذا كَانَت تِسْعَة وَضربت فِي الثَّمَانِية يحصل مَا ذكره المُصَنّف، وعَلى هَذَا الِاتِّفَاق عدم التَّعْيِين لعدم النزاع الْمخْرج إِلَى ذكر تِلْكَ التفاصيل (وَأما) أَن يتواضعا (فِي قدر الْعِوَض بِأَن تواضعا) على البيع بِأَلفَيْنِ وَالثمن بِأَلف) أَي وعَلى أَن الثّمن ألف (فهما) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد (يعملان) فِي جَمِيع صور الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف (بالمواضعة) فيحكمان بِمَا تواضعا عَلَيْهِ (إِلَّا فِي إعراضهما) عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا يعملان بِالْإِعْرَاضِ فَيصح العقد على أَلفَيْنِ وَهُوَ رِوَايَة مُحَمَّد فِي الْإِمْلَاء عَن أبي حنيفَة (وَهُوَ) أَي أَبُو حنيفَة فِي الْأَصَح عَنهُ يعْمل (بِالْعقدِ) فَنَقُول بِصِحَّتِهِ بِأَلفَيْنِ (فِي الْكل، وَالْفرق لَهُ) أَي لأبي حنيفَة (بَين الْبناء هُنَا وثمة) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الْمُوَاضَعَة فِي الحكم يحكم بِمُوجب الْمُوَاضَعَة بِسَبَب (أَن الْعَمَل بالمواضعة) هُنَا (يَجْعَل قبُول أحد الْأَلفَيْنِ شرطا لقبُول البيع بِالْألف) الآخر لعدم دُخُول الآخر فِي العقد فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْتُك بِأَلفَيْنِ على أَن لَا يجب أحد الْأَلفَيْنِ وَهَذَا شَرط فَاسد لِأَنَّهُ خلاف مُقْتَضى العقد وَفِيه نفع لأَحَدهمَا (فَيفْسد) البيع لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع وَشرط، رَوَاهُ أَبُو حنيفَة (فَالْحَاصِل التَّنَافِي بَين تَصْحِيحه) أَي تَصْحِيح أصل العقد الَّذِي لَا مواضعة فِيهِ (وَاعْتِبَار الْمُوَاضَعَة) المستلزم وجود الشَّرْط الْفَاسِد وَلزِمَ اعْتِبَار أَحدهمَا صونا لتصرف الْعَاقِل عَن الإهدار بِحَسب الْإِمْكَان، وَقد ثَبت تَصْحِيح العقد (تَرْجِيحا للْأَصْل) وَهُوَ العقد الْمُحَقق بالِاتِّفَاقِ على خلاف الأَصْل (فينتفى الثَّانِي) وَهُوَ اعْتِبَار الْمُوَاضَعَة، فَإِن الأَصْل فِي الْعُقُود الْجد لَا الْهزْل، فرعاية جَانب العقد بِحمْلِهِ على الْجد أولى من رِعَايَة جَانب الْمُوَاضَعَة الَّتِي كالهزل، وللشارح هَهُنَا كَلَام غير مستحسن يفهم مِنْهُ أَنه حمل الأَصْل على الْمَبِيع، وَالْمعْنَى تَرْجِيحا للْمَبِيع الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي الْوَصْف الَّذِي هُوَ الثّمن وَعلله بقوله(2/293)
إِذْ هُوَ وَسِيلَة إِلَى الْمَبِيع لَا مَقْصُود وَإِلَّا لزم إهدار الأَصْل لاعْتِبَار وَهُوَ بَاطِل انْتهى وَلَا يخفى أَنه يَصح هَذَا على تَقْدِير أَن يكون الْعَمَل بالمواضعة مستلزما تَرْجِيح الثّمن على الْمَبِيع وَهُوَ غير ظَاهر، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: اعْتِبَار الزِّيَادَة فِي الثّمن رِعَايَة للْمَبِيع لكنه لَا يبْقى حِينَئِذٍ ارتباط تَامّ بَين الْحَاصِل وَمَا قبله فَتدبر (وَإِمَّا) أَن يتواضعا (فِي جنسه) أَي الثّمن بِأَن يتَّفقَا على إِظْهَار العقد بِمِائَة دِينَار مثلا وَيكون الثّمن فِي الْوَاقِع ألف دِرْهَم (فَالْعَمَل بِالْعقدِ اتِّفَاقًا فِي الْكل) أَي فِي جَمِيع صور الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف فِيمَا سبق (وَالْفرق لَهما) بَين الْهزْل فِي الْقدر وَالْجِنْس حَيْثُ قَالَا فِي الْقدر يعْمل بالمواضعة فِي الْبناء، وَفِي الْجِنْس يعْمل بِالْعقدِ فِيهِ (أَن الْعَمَل بالمواضعة مَعَ الصِّحَّة غير مُمكن هُنَا، لِأَن البيع يعْدم لعدم تَسْمِيَة بدل) فِيهِ، إِذْ هِيَ رُكْنه (وَبِاعْتِبَار الْمُوَاضَعَة يكون) الْبَدَل (ألفا وَلَيْسَ الْألف مَذْكُورا فِي العقد بل) الْمَذْكُور فِيهِ (مائَة دِينَار وَهِي غير الثّمن) فَلَا يُمكن تَصْحِيح العقد، فَإِن قيل فَلْيَكُن الْعَمَل بالمواضعة يَنْفِي تَصْحِيح العقد فَالْجَوَاب أَن الْعَمَل بهَا لَيْسَ التَّحْقِيق غرضهما مِنْهَا: وَهِي صِحَة العقد مَعَ الْبَدَل المتواضع عَلَيْهِ وَهُوَ غير مُمكن لما ذكر (بِخِلَافِهَا) أَي الْمُوَاضَعَة (فِي الْقدر) فَإِنَّهُ (يُمكن التَّصْحِيح) للْعقد المتواضع عَلَيْهِ (مَعَ اعتبارهما) أَي الْمُوَاضَعَة (فَإِنَّهُ ينْعَقد) البيع (بِالْألف الكائنة فِي ضمن الْأَلفَيْنِ) ثمَّ أَرَادَ أَن يبين جوابهما عَن قَول أبي حنيفَة أَنه يفْسد البيع بِالشّرطِ الْمَذْكُور فَقَالَ (والهزل بِالْألف الْأُخْرَى شَرط لَا طَالب لَهُ من الْعباد لَا تفاقهما على عدم ثمنيته) فوجوده كَعَدَمِهِ (وَلَا يفْسد) العقد بِهِ اذ كل شَرط لَا طَالب لَهُ من الْعباد غير مُفسد لعدم إفضائه إِلَى الْمُنَازعَة (كَشَرط أَن لَا يعلف الدَّابَّة) تعقب عَلَيْهِ صدر الشَّرِيعَة بِأَن الشَّرْط فِيمَا نَحن فِيهِ لأحد الْمُتَعَاقدين، لَكِن لَا يُطَالب للمواضعة وَهُوَ لَا يُفِيد الصِّحَّة كالرضا بالربا انْتهى، وَقد يُنَاقض أَيْضا بِأَنَّهُ رُبمَا تنَازع أَحدهمَا رُجُوعا مِنْهُ عَن الْمُوَاضَعَة فَلْيتَأَمَّل (وَأما فِيمَا لَا يحْتَملهُ) أَي النَّقْص لكَونه مِمَّا لَا يجْرِي فِيهِ الْفَسْخ وَالْإِقَالَة (مِمَّا لَا مَال فِيهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْق) مجَازًا فيهمَا (وَالْعَفو) عَن الْقصاص (وَالْيَمِين وَالنّذر فَيصح) كل من هَذَا النَّوْع (وَيبْطل الْهزْل للرضا بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ ملزوم للْحكم شرعا) فَلَا يمْنَع الْهزْل من العقد فَينْعَقد. ثمَّ بَين المُرَاد من السَّبَب بقوله (أَي الْعلَّة) وَسَنذكر مَا يُؤَيّدهُ من السّنة (وَلذَا) أَي لكَونه ملزوما للْحكم (لَا يحْتَمل شَرط الْخِيَار) لِأَنَّهُ يُفِيد التَّرَاخِي فِي الحكم، وَمن حكم هَذِه الْأَسْبَاب عدم التَّرَاخِي فِيهِ (بِخِلَاف قَوْلنَا الطَّلَاق الْمُضَاف) كَأَنْت طَالِق غَدا (سَبَب للْحَال فَإِنَّهُ) أَي السَّبَب (يَعْنِي بِهِ المفضي) إِلَى الْوُقُوع، لَا الْعلَّة وَلذَا لَا يسْتَند إِلَى وَقت الْإِيجَاب، وَجَاز تَأَخّر الحكم عَنهُ، وَلَو كَانَ عِلّة لاستند كَمَا فِي البيع بِخِلَاف الشَّرْط وَالْحَاصِل أَن الطَّلَاق الْمُنجز عِلّة ملزومة الحكم، فَإِذا أضيف صَار سَببا فَقَط، وَحَقِيقَة السَّبَب مَا يُفْضِي إِلَى الحكم إفضاء لَا يسْتَلْزم فِي الْحَال (وَمَا فِيهِ) المَال تبعا(2/294)
(كَالنِّكَاحِ) فَإِن الْمَقْصد الْأَصْلِيّ فِيهِ من الْجَانِبَيْنِ الجل للتوالد، وَالْمَال شرع فِيهِ لإِظْهَار خطر الْمحل، وَكَذَا يَصح بِدُونِ ذكر الْمهْر ويتحمل فِي الْمهْر من الْجَهَالَة مَا لَا يتَحَمَّل فِي غَيره، وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَن كَون النِّكَاح لَا يحْتَمل الْفَسْخ مَحل نظر فَإِن التَّفْرِيق بَين الزَّوْجَيْنِ بِعَدَمِ الْكَفَاءَة ونقصان الْمهْر وَخيَار الْبلُوغ وبردتها فسخ (فَإِن) تواضعا (فِي أَصله) أَي النِّكَاح بِأَن قَالَ: إِنِّي أُرِيد أَن أتزوجك بِأَلف هازلا عِنْد النَّاس، وَلَا يكون بَيْننَا فِي الْوَاقِع نِكَاح، ووافقته على ذَلِك وَحضر الشُّهُود عِنْد العقد (لزم) النِّكَاح وانعقد صَحِيحا قَضَاء وديانة سَوَاء اتفقَا على الْإِعْرَاض أَو الْبناء أَو أَنه لم يحضرهما شَيْء وَاخْتلفَا على مَا مر لعدم تَأْثِير الْهزْل فِيهِ لكَونه غير مُحْتَمل الْفَسْخ، وَفِيه مَا مر، فَالْأولى أَن يسْتَدلّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " ثَلَاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة " رَوَاهُ أَحْمد، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حسن غَرِيب وَصَححهُ الْحَاكِم (أَو) تواضعا (فِي قدر الْمهْر) أَي على أَلفَيْنِ وَيكون فِي الْوَاقِع ألفا (فَإِن اتفقَا على الْإِعْرَاض فألفان) أَي فالمهر أَلفَانِ لبالاتفاق بطلَان الْمُوَاضَعَة بإعراضهما عَنْهُمَا (أَو) اتفقَا على (الْبناء فألف) الْمهْر بالِاتِّفَاقِ: لِأَن الْمهْر الآخر ذكر هزلا وَلَا مَانع من اعْتِبَار الْهزْل فِيهِ: إِذْ المَال لَا يجب مَعَ الْهزْل (وَالْفرق لَهُ) أَي لأبي حنيفَة (بَينه) أَي الْهزْل بِقدر الْمهْر (وَبَين) الْهزْل فِي قدر الثّمن فِي (الْمَبِيع) حَيْثُ اعْتبر التَّسْمِيَة فِي الِاتِّفَاق على الْبناء فِي الْمُوَاضَعَة على قدر الْبَدَل فِيهِ، وَاعْتبر الْمُوَاضَعَة هَهُنَا ل (أَنه) أَي البيع (يفْسد بِالشّرطِ) الْفَاسِد، وَقد مرّ وَجه فَسَاده وَقد قصدا صِحَّته (لَا النِّكَاح) أَي بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا يفْسد بِهِ فَأمكن اعْتِبَار الْمُوَاضَعَة فِيهِ من غير لُزُوم فَسَاد (وَإِن اتفقَا أَنه لم يحضرهما شَيْء، أَو اخْتلفَا) بِوَجْه من وُجُوه الِاخْتِلَاف وَقد عرفتها (جَازَ) النِّكَاح (بِأَلف فِي رِوَايَة مُحَمَّد عَنهُ) أَي أبي حنيفَة (بِخِلَاف البيع، لِأَن الْمهْر تَابع) فِي عقد النِّكَاح (حَتَّى صَحَّ العقد بِدُونِهِ فَيعْمل بِالْهَزْلِ بِخِلَاف البيع) فَإِن الثّمن وَإِن كَانَ فِيهِ وَصفا غير مَقْصُود بِالذَّاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَبِيع إِلَّا أَنه مَقْصُود بِالْإِيجَابِ لكَونه ركنا (حَتَّى فسد) البيع (لِمَعْنى فِي الثّمن) كجهالته (فضلا عَن عَدمه) أَي الثّمن (فَهُوَ) أَي الثّمن (كَالْمَبِيعِ وَالْعَمَل بِالْهَزْلِ يَجعله شرطا فَاسِدا) كَمَا عرفت (فَيلْزم مَا تقدم) من التَّنَافِي بَين تَصْحِيح العقد وَاعْتِبَار الْمُوَاضَعَة وَثُبُوت التَّصْحِيح تَرْجِيحا للْأَصْل (وَفِي رِوَايَة) عَن (أبي يُوسُف) عَن أَبى حنيفَة (وَهِي الْأَصَح) كَمَا ذكر فَخر الْإِسْلَام وَغَيره يلْزمه (أَلفَانِ كَالْبيع لِأَن كلا) من الْمهْر وَالثمن (لَا يثبت إِلَّا قصدا ونصا، وَالْعقل يمْنَع من الثَّبَات على الْهزْل فَيجْعَل) عِنْدهمَا بِأَلفَيْنِ عقدا (مُبْتَدأ عِنْد اخْتِلَافهمَا) لَا بِنَاء على الْمُوَاضَعَة كَذَا فِي كشف الْمنَار. وَفِي كشف الْكَبِير وَغَيره لِأَن نفي الْفساد إهدار لجَانب الْفساد، وَاعْتِبَار للْجدّ الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي الْكَلَام (أَو) تواضعا (فِي الْجِنْس) أَي جنس الْمهْر بِأَن يذكرَا عِنْد العقد مائَة دِينَار، وَالْمهْر فِي الْوَاقِع(2/295)
ألف دِرْهَم (فَإِن اتفقَا على الْإِعْرَاض فالمسمى) أَي فَالْوَاجِب مَا سمياه عِنْد العقد، وَهُوَ مائَة دِينَار لبُطْلَان الْمُوَاضَعَة بِالْإِعْرَاضِ (أَو) توافقا على (الْبناء فمهر الْمثل إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ تزوج بِلَا مهر: إِذْ الْمُسَمّى هزل وَلَا يثبت المَال بِهِ) أَي بِالْهَزْلِ (والمتواضع عَلَيْهِ لم يذكر فِي العقد) والتزوج بِلَا ذكر مهر يُوجب مهر الْمثل (بِخِلَافِهَا) أَي الْمُوَاضَعَة (فِي الْقدر، لِأَنَّهُ) أَي الْقدر المتواضع عَلَيْهِ كالألف (مَذْكُور ضمن الْمَذْكُور) فِي العقد كالألفين (أَو) توافقا (على أَن لم يحضرهما) شَيْء (أَو اخْتلفَا فِي الْإِعْرَاض وَالْبناء، فَفِي رِوَايَة مُحَمَّد) عَن أبي حنيفَة الْوَاجِب (مهر الْمثل: لِأَن الأَصْل بطلَان الْمُسَمّى كَيْلا يصير الْمهْر مَقْصُودا بِالصِّحَّةِ كَالْبيع) يَعْنِي لما وَقع الثَّانِي بَين صِحَة العقد بِاعْتِبَار الْمُسَمّى وَبَين مُوجب الْمُوَاضَعَة تعين الْمصير إِلَى بطلَان الْمُسَمّى، لِأَنَّهُ لَو لم يحكم بِبُطْلَانِهِ، بل يصحح للَزِمَ صيرورة الْمهْر مثل الثّمن فِي البيع فِي كَونهمَا مقصودين بِالصِّحَّةِ، وَقد سبق أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَار، فَإِن الثّمن ركن وَالْمهْر تَابع، وَقد بَين ذَلِك (فَيلْزم مهر الْمثل) عِنْد بطلَان الْمُسَمّى (وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف) عَن أبي حنيفَة الْوَاجِب (الْمُسَمّى) والمواضعة بَاطِلَة (كَالْبيع) أَي مثل الثّمن، لِأَن كلا من الْمهْر وَالثمن لَا يثبت إِلَّا قصدا ونصا إِلَى آخر مَا ذكر آنِفا (وَعِنْدَهُمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجب (مهر الْمثل لترجيحهما الْمُوَاضَعَة بِالْعَادَةِ فَلَا مهر) مُسَمّى (لعدم الذّكر فِي العقد) لبُطْلَان الْمُسَمّى بتسميته فترجح الْمُوَاضَعَة (و) عدم (ثُبُوت المَال بِالْهَزْلِ وَمَا) يثبت (فِيهِ) المَال (مَقْصُودا بِأَن لَا يثبت بِلَا ذكره) أَي المَال (كالخلع وَالْعِتْق على مَال، وَالصُّلْح عَن دم الْعمد فهزلها) أَي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة (فِي الأَصْل) أَي فِي أصل هَذِه الْعُقُود بِأَن تواضعا أَن يطلقهَا بِمَال، أَو يعتقهُ على مَال، أَو يصالحه عَن دم الْعمد على مَال على وَجه الْهزْل، وَلم يكن هُنَاكَ فِي الْوَاقِع طَلَاق وَلَا عتاق وَلَا صلح (أَو الْقدر) بِأَن طَلقهَا على أَلفَيْنِ، أَو أعْتقهُ عَلَيْهِمَا، أَو صَالحه عَن الدَّم كَذَلِك مَعَ الْمُوَاضَعَة بِأَن المَال ألف (أَو الْجِنْس) بِأَن يُطلق أَو يعْتق، أَو يُصَالح على مائَة دِينَار مَعَ الْمُوَاضَعَة على أَن الْوَاجِب ألف دِرْهَم (يلْزم) من الْإِلْزَام، وَالضَّمِير للموصول: أَعنِي مَا فِيهِ (الطَّلَاق) مفعول يلْزم (وَالْمَال) كِلَاهُمَا فِي الأولى (فِي) صُورَة الِاتِّفَاق على (الْإِعْرَاض و) فِي صُورَة الإتفاق على (عدم الْحُضُور) بِأَن يتَّفقَا على أَنه لم يحضرهما حَال العقد شَيْء من الْإِعْرَاض وَالْبناء (و) فِي صُورَة (الِاخْتِلَاف فِي الْإِعْرَاض وَالْبناء اتِّفَاقًا) أَي بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة مَعَ اخْتِلَاف فِي التَّرْجِيح (فَفِي الْأَخيرينِ) أَي عدم الْحُضُور بِأَن يتَّفقَا على أَنه لم يحضرهما، وَالِاخْتِلَاف فِي الْإِعْرَاض (عِنْده) أَي عِنْد أبي حنيفَة (لترجيح العقد على الْمُوَاضَعَة وَذَلِكَ) أَي تَرْجِيحه عَلَيْهَا (فِي الِاخْتِلَاف يَجْعَل القَوْل لمُدعِي الْإِعْرَاض) لِأَن الأَصْل فِي الْعُقُود الشَّرْعِيَّة الصِّحَّة واللزوم مَا لم يُوجد معَارض وَلم يُوجد: إِذْ وجود الْمُعَارضَة صَار(2/296)
مشكوكا بِسَبَب الِاخْتِلَاف، وَأما تعين العقد فِي الصُّورَة الأولى فَظَاهر لبُطْلَان الْمُوَاضَعَة باتفاقهما فَلهَذَا لم يذكرهُ (وَلعدم تَأْثِير الْهزْل عِنْدهمَا فِي صورها) أَي الْمُوَاضَعَة (حَتَّى لزما) أَي الطَّلَاق وَالْمَال (فِي) صُورَة (الْبناء) على الْمُوَاضَعَة (أَيْضا عِنْدهمَا، لِأَن المَال وَإِن لم يثبت بِالْهَزْلِ لكنه تبع للطَّلَاق لاستغنائه) أَي الطَّلَاق (عَنهُ) أَي المَال (لَوْلَا الْقَصْد إِلَى ذكره) أَي لَو لم يقْصد ذكر المَال فِي بَاب الطَّلَاق كَأَن ثَبت من غير أَن يثبت المَال، بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ يثبت فِيهِ، وَإِن لم يقْصد ذكره فَعِنْدَ ذكر المَال فِي الطَّلَاق كَانَ المَال تبعا وضمنيا (فَإِذا ثَبت المتضمن) على صِيغَة الْفَاعِل، وَهُوَ الطَّلَاق (ثَبت) المتضمن على صِيغَة الْمَفْعُول وَهُوَ المَال. وَلما كَانَ الْمَفْهُوم من قَوْله وَمَا فِيهِ مقصد إِلَى آخِره كَون المَال فِي الْعُقُود الْمَذْكُورَة مَقْصُودا، وَمن قَوْله لكنه تبع كَونه غير مقصد، وَبَينهمَا تدافع بِحَسب الظَّاهِر دَفعه بقوله (والتبعية) أَي تَبَعِيَّة المَال للطَّلَاق (بِهَذَا الْمَعْنى) أَي بِاعْتِبَار كَون ثُبُوته فِي الضمني حَتَّى صَحَّ مَعَ الْهزْل، وَفسّر الشَّارِح هَذَا الْمَعْنى بِكَوْنِهِ تَابعا لَهُ فِي الثُّبُوت لكَونه بِمَنْزِلَة الشَّرْط فِيهِ، والشروط أَتبَاع لما عرف وَلَا يخفى عَلَيْك أَن قَوْله لهَذَا الْمَعْنى إِشَارَة إِلَى مَا فهم مِمَّا قبله وَهُوَ مَا ذكرنَا، لِأَن مَا ذكر (لَا تنَافِي المقصودية بِالنّظرِ إِلَى الْعَاقِد) بِمَعْنى إِذا نَظرنَا إِلَى نفس العقد وجدنَا الطَّلَاق أصلا، وَالْمَال تبعا وضمنيا لما ذكر من الِاسْتِغْنَاء، وَإِذا نَظرنَا فِي الْعَاقِد وجدنَا المَال مَقْصُودا لَهُ، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا لاخْتِلَاف الْجِهَتَيْنِ (بِخِلَاف تبعيته) أَي المَال (فِي النِّكَاح فبمعنى أَنه) أَي المَال (غير الْمَقْصُود) للعاقدين، لِأَن قصدهما الْحل (وَهَذَا) الْمَعْنى (لَا يُنَافِي الْأَصَالَة) لِلْمَالِ (من حَيْثُ ثُبُوته) أَي المَال (عِنْد ثُبُوته) أَي النِّكَاح بِلَا ذكره، بل وَمَعَ نَفْيه إِظْهَارًا لخطر الْبضْع وَالْحَاصِل أَنه لَيْسَ بمقصود مِنْهُ، لكنه مَقْصُود فِيهِ لما ذكر، وَإِنَّمَا يُؤثر فِيهِ الْهزْل كَمَا فِي سَائِر الْأَمْوَال وَإِن لم يُؤثر فِي النِّكَاح. وَعَن شمس الْأَئِمَّة أَنه جعل الْمُوَاضَعَة فِي الطَّلَاق على مَال مثلهَا فِي النِّكَاح إِذا كَانَ الْهزْل فِي قدر الْبَدَل (وَعِنْده) أَي أبي حنيفَة فِي الْبناء الْأَوْجه الثَّلَاثَة: الْمُوَاضَعَة فِي أصل التَّصَرُّف، وَفِي قدر الْبَدَل، وَفِي جنسه (يتَوَقَّف الطَّلَاق على مشيئتها) أَي اخْتِيَار الْمَرْأَة الطَّلَاق بِالْمُسَمّى على طَرِيق الْجد، وَإِسْقَاط الْهزْل كَمَا يتَوَقَّف وُقُوعه فِي خِيَار الشَّرْط فِي الْخلْع من جَانبهَا على اخْتِيَارهَا، لِأَن الْهزْل بِمَنْزِلَة خِيَار الشَّرْط عِنْده لكنه فِي الْخلْع غير مُقَدّر بِالثلَاثِ، بِخِلَاف البيع: لِأَن الشَّرْط فِي الْخلْع على وفْق الْقيَاس، وتقييده بِالثلَاثِ فِي البيع لكَونه على خلاف الْقيَاس فَيقْتَصر على مورد النَّص، وَذَلِكَ لِأَن الْخلْع إِسْقَاط، وَالْبيع إِثْبَات، وَتَعْلِيق إِثْبَات المَال بالخطر فِي معنى الْقمَار، وَإِنَّمَا ذهب إِلَى التَّوَقُّف، لِأَن الأَصْل أَن يُرَاعى جَانب العقد وجانب الْمُوَاضَعَة بِحَسب الْإِمْكَان. وَفِي القَوْل بالتوقف رِعَايَة الْجَانِبَيْنِ كَمَا(2/297)
أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لِإِمْكَان الْعَمَل بالمواضعة) مَعَ تَصْحِيح العقد (بِنَاء على أَن الْخلْع لَا يفْسد بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة وَهُوَ) أَي الشَّرْط الْفَاسِد هَاهُنَا (أَن يتَعَلَّق) الطَّلَاق (بِجَمِيعِ الْبَدَل) الْمَذْكُور فِي الْمُسَمّى (وَلَا يَقع) الطَّلَاق (فِي الْحَال، بل يتَوَقَّف على اخْتِيَارهَا) وَإِذا قُلْنَا بِعَدَمِ فَسَاد الْخلْع صححنا العقد وَحَيْثُ حكمنَا بالتوقف علمنَا بالمواضعة: إِذْ حاصلها جعل الطَّلَاق مُتَعَلقا بِجَمِيعِ الْبَدَل مَعَ قبُولهَا على سَبِيل الْهزْل، فَلَمَّا لم يلْزم الْمُبَادلَة فِي الْحَال روعي جَانب الْهزْل، وَحَيْثُ توقف وُقُوع الطَّلَاق على اخْتِيَارهَا جَمِيع الْبَدَل صحّح عقد الْخلْع بِالْمُسَمّى وَلَو على سَبِيل التَّعْلِيق لَا التَّنْجِيز وَقيل يَنْبَغِي أَن يتَوَقَّف على إجازتهما مَعًا لما أَجمعُوا عَلَيْهِ من الْهزْل كَشَرط الْخِيَار لَهما، وَلذَا إِذا بنى أَحدهمَا فِي البيع وَأعْرض الآخر لَا يَصح العقد وَأجِيب بِأَن ذَلِك فِي غير الْخلْع وَنَحْوه مِمَّا يحْتَمل كل من الْبَدَلَيْنِ فِيهِ شَرط الْخِيَار. وَفِي الْخلْع وَنَحْوه من الطَّلَاق وَالْعتاق وَالصُّلْح لَا يحْتَملهُ، إِذْ لَيست فِي معنى مَا شرع فِيهِ الْخِيَار.
وَلما كَانَ تَقْرِير الدَّلِيل على المذهبين فِي الطَّلَاق سَوَاء كَانَ فِي الْخلْع أَو فِي الطَّلَاق على مَال وَكَانَ الْعتْق على مَال، وَالصُّلْح عَن دم الْعمد يشاركانه فِي الحكم ألحقهما بِهِ بقوله (وكل من الْعتْق وَالصُّلْح) عَن دم الْعمد (فِيهِ) أَي فِي كل مِنْهُمَا (مثل مَا فِي الطَّلَاق) من الحكم والتفريع. (وَأما تَسْلِيم الشُّفْعَة هزلا فَقيل طلب المواثبة) وَهُوَ طلبَهَا كَمَا علم بِالْبيعِ هُوَ (كالسكوت) مُخْتَارًا (يُبْطِلهَا) أَي الشُّفْعَة: إِذْ اشْتِغَاله بِالتَّسْلِيمِ هازلا سكُوت عَن طلبَهَا فَوْرًا بعد الْعلم بِالْبيعِ (وَبعده) أَي طلب المواثبة سَوَاء كَانَ بعد طلب التَّقْرِير وَالْإِشْهَاد، وَهُوَ أَن ينْهض بعد طلب المواثبة فَيشْهد على البَائِع إِن كَانَ الْمَبِيع بِيَدِهِ، أَو على المُشْتَرِي، أَو عِنْد الْعقار على طلبَهَا أَو قبله (يبطل التَّسْلِيم فَتبقى الشُّفْعَة لِأَنَّهُ) أَي تَسْلِيمهَا (من جنس مَا يبطل بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ) أَي التَّسْلِيم (فِي معنى التِّجَارَة لكَونه) أَي التَّسْلِيم (اسْتِيفَاء أحد الْعِوَضَيْنِ) وَهُوَ هَهُنَا الدَّار الْمُشْتَركَة (على ملكه) أَي أحد المعاوضين، وَهُوَ هَهُنَا مشتريها: وَمن ثمَّة يملك الْأَب وَالْوَصِيّ تَسْلِيم شُفْعَة الصَّبِي عِنْد أبي حنيفَة كَمَا يملكَانِ البيع وَالشِّرَاء لَهُ، وَاسْتِيفَاء أحد الْعِوَضَيْنِ مَعَ اسْتِحْقَاق الاستخراج من ملكه يحْتَاج إِلَى إِسْقَاط الِاسْتِحْقَاق (فَيتَوَقَّف) التَّسْلِيم الَّذِي هُوَ الِاسْتِيفَاء (على الرِّضَا) مِمَّن يترقب مِنْهُ التَّسْلِيم (بالحكم) وَهُوَ الْملك الَّذِي أُرِيد إبقاؤه (والهزل يَنْفِيه) أَي الرِّضَا بالحكم (وَكَذَا يبطل بِهِ) أَي بِالْهَزْلِ (إِبْرَاء الْمَدْيُون وَالْكَفِيل، لِأَن فِيهِ) أَي فِي كل مِنْهُمَا (معنى التَّمْلِيك) أما الْمَدْيُون فَلِأَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ يملك مَا فِي ذمَّته من الدّين، وَأما فِي الْكَفِيل فَلِأَنَّهُ يملك رقبته بَعْدَمَا كَانَت مَشْغُولَة بمطالبته (ويرتد) الْإِبْرَاء فيهمَا (بِالرَّدِّ) كَمَا إِذا سلم الشُّفْعَة بعد طلب المواثبة، فَلم يقبل الْمُدَّعِي عَلَيْهِ تَسْلِيمه يرجع إِلَيْهِ حق الشُّفْعَة مَعْطُوف(2/298)
على قَوْله فِيهِ معنى التَّمْلِيك (فيوثر فِيهِ) أَي الْإِبْرَاء كالتسليم (الْهزْل) تَفْرِيع على كَونه بِحَيْثُ يرْتَد بِالرَّدِّ مَعَ أَنه فِيهِ معنى التَّمْلِيك (وَكَذَا الإخبارات وَهُوَ الثَّانِي) من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة لما يَقع فِيهِ من الْهزْل (سَوَاء كَانَت) إِخْبَارًا (عَمَّا يحْتَمل الْفَسْخ كَالْبيع وَالنِّكَاح) كَمَا هُوَ الْأَصَح، (أَو) كَانَت إِخْبَارًا عَمَّا (لَا) يحْتَمل الْفَسْخ (كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق) وَسَوَاء كَانَت إِخْبَارًا (شرعا ولغة كَمَا إِذا تواضعا على أَن يقرا بِأَن بَينهمَا نِكَاحا أَو بيعا فِي هَذَا بِكَذَا) فكونهما إخبارين لُغَة ظَاهر وَأما شرعا فَلِأَن الشَّرْع لَا يحكم بإنشاء عقد بَينهمَا بِهَذَا الْإِقْرَار، بل لَو كَانَ صدقا لهَذَا الْإِخْبَار فالإنشاء قد تحقق هُنَاكَ، وَإِلَّا فكذب مَحْض لَا مصداق لَهُ، وَلَا يثبت بِهِ عقد بَينهمَا (أَو) إِخْبَارًا (لُغَة فَقَط) وَالشَّرْع يَجعله إنْشَاء (مقررة) حَال من ضمير الإخبارات فِي كَانَت بِاعْتِبَار نِسْبَة مَا عطف على خَبَرهَا الثَّانِي: أَعنِي لُغَة فَقَط (شرعا) أَي فِي الشَّرْع. وَمعنى تقريرها كَونهَا إنْشَاء للإقرار (كَالْإِقْرَارِ بِأَن لزيد عَلَيْهِ كَذَا) فَإِن قَوْله لَهُ عَليّ كَذَا وَإِن كَانَ بِحَسب اللُّغَات احْتِمَالا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، لَكِن بِحَسب الشَّرْع إنشائية يجب فِي ذمَّته بالمبلغ الْمُسَمّى من غير الْتِفَات إِلَى أَنه هَل كَانَ عَلَيْهِ قبل هَذَا الْكَلَام (لَا يثبت) شَيْء مِنْهَا هزلا (لِأَنَّهُ) أَي الْخَبَر شرعا ولغة أَو لُغَة فَقَط (يعْتَمد صِحَة الْمخبر بِهِ) أَي تحقق الحكم الَّذِي صَار الْخَبَر عَنهُ عبارَة وإعلاما بِثُبُوتِهِ أَو نَفْيه، وتحققه إِنَّمَا يكون بالجد وَالرِّضَا بِهِ والهزل يُنَافِيهِ (أَلا ترى أَن الْإِقْرَار بِالطَّلَاق وَالْعِتْق مكْرها بَاطِل) لِانْعِدَامِ الرِّضَا (فَكَذَا هازلا) لِأَن الْهزْل دَلِيل عدم الصِّحَّة حَتَّى لَو أجَاز بعد ذَلِك لم يجز، لِأَن الْإِجَازَة إِنَّمَا تلْحق منعقدا وَلَا انْعِقَاد مَعَ الْهزْل، بِخِلَاف مَا لَو طلق إِنْسَان زَوْجَة غَيره أَو أعتق عبد غَيره فَإِنَّهُ أَمر حقق، فَإِذا أجَاز الزَّوْج وَالسَّيِّد طلقت وَعتق (وَكَذَا) الْهزْل (فِي الاعتقادات وَهُوَ الثَّالِث) من الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة (وَأما ثُبُوت الرِّدَّة بِالْهَزْلِ) أَي يتَكَلَّم الْمُسلم بالْكفْر هزلا (فبه) أَي بِسَبَب الْهزْل نَفسه (للاستخفاف) لِأَن الهازل رَاض بأجراء كلمة الْكفْر على لِسَانه، وَهُوَ استخفاف وَكفر بِالنَّصِّ. قَالَ تَعَالَى - {وَلَئِن سَأَلتهمْ ليَقُولن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزئون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} -، وبالإجماع (لَا بِمَا هزل بِهِ) وَهُوَ اعْتِقَاد معنى كلمة الْكفْر الَّتِي تكلم بهَا هازلا (إِذْ لم يتبدل اعْتِقَاده، وَيلْزم الْإِسْلَام) أَي يحكم بِإِسْلَام الْكَافِر فِي أَحْكَام الدُّنْيَا (بِالْهَزْلِ بِهِ) أَي إِذا تكلم بِكَلِمَة الْإِسْلَام وتبرأ من دينه هازلا (تَرْجِيحا) لجَانب الْإِيمَان: إِذْ الأَصْل فِي الْإِنْسَان التَّصْدِيق والاعتقاد (كالإكراه عَلَيْهِ) أَي الْإِسْلَام، فَإِن الْمُكْره إِذا أسلم يحكم بِإِسْلَامِهِ (عندنَا) لوُجُود رُكْنه مِنْهُ، بل الهازل أولى بذلك لرضاه بالتكلم بِخِلَاف الْمُكْره: ووافقنا الشَّافِعِي على ذَلِك فِي الْحَرْبِيّ لَا الذِّمِّيّ كَمَا ستعرف فِي الْإِكْرَاه، كَذَا ذكره الشَّارِح. وَفِيه أَن الْهزْل(2/299)
إِذا علم يقطع بِعَدَمِ الرِّضَا فِي زمَان التَّكَلُّم بِالْإِيمَان، بِخِلَاف الْمُكْره فَإِنَّهُ رُبمَا يتبدل اعْتِقَاده فِي أَن التَّكَلُّم بِهِ وَأَيْضًا لَيْسَ عِنْد الهازل سوى اللَّفْظ الدَّال على الْإِسْلَام لَوْلَا الْقَرِينَة الصارفة عَن إِرَادَة مَدْلُوله، فيكف ترجح على حَقِيقَة الْكفْر فَلْيتَأَمَّل (وَمِنْهَا) أَي المكتسبة من نَفسه (السَّفه) فِي اللُّغَة الخفة، وَعند الْفُقَهَاء (خفَّة تبْعَث الْإِنْسَان على الْعَمَل فِي مَاله بِخِلَاف مُقْتَضى الْعقل) وَلم يقل وَالشَّرْع كَمَا قَالَ بَعضهم، لِأَن مُقْتَضى الْعقل أَن لَا يُخَالف الشَّرْع لوُجُوب اتِّبَاعه عقلا (مَعَ عدم اختلاله) أَي الْعقل، فَخرج الْجُنُون والعته، (وَلَا يُنَافِي) السَّفه أَهْلِيَّة الْخطاب وَلَا الْوُجُوب لوُجُود مناطهما، وَهُوَ الْعقل وَالْقَوِي لظاهرة والباطنة فَهُوَ مُخَاطب بِجَمِيعِ الْأَوَامِر والنواهي فَلَا يُنَافِي (شَيْئا من الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة من حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق الْعباد (وَأَجْمعُوا على منع مَاله) أَي السَّفِيه مِنْهُ (أول بُلُوغه) سَفِيها لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} الَّتِي جعل الله لكم قيَاما: نهى الْأَوْلِيَاء عَن أَن يؤتوا الَّذين لَا رشد لَهُم أَمْوَالهم فيضيعوها، وأضاف الْأَمْوَال إِلَى الْأَوْلِيَاء على أَنَّهَا من جنس مَا يُقِيمُونَ بِهِ مَعَايشهمْ كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} -: أَو لأَنهم المتصرفون فِيهَا القوامون عَلَيْهَا (وعلقه) أَي إيتَاء الْأَمْوَال إيَّاهُم (بإيناس الرشد) حَيْثُ قَالَ - {فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا} -: أَي إِن عرفتهم ورأيتم فيهم صلاحا فِي الْفِعْل، وحفظا لِلْمَالِ - {فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} - (فَاعْتبر أَبُو حنيفَة مظنته) أَي الرشد (بُلُوغ سنّ الجدية) أَي كَونه جدا لغيره. ثمَّ بَينه بقوله (خمْسا وَعشْرين سنة) إِذْ أدنى مُدَّة الْبلُوغ اثْنَتَا عشرَة سنة. ثمَّ يُولد لَهُ ولد فِي سِتَّة أشهر فَإِنَّهَا أقل مُدَّة الْحمل، ثمَّ يبلغ اثْنَتَيْ عشر سنة ويولد لَهُ ولد فِي سِتَّة أشهر، وَإِنَّمَا كَانَت هَذِه الْمدَّة مَظَنَّة بُلُوغ الرشد (لِأَنَّهُ لَا بُد من حُصُول رشد مَا نظرا إِلَيْهِ دَلِيله) أَي حُصُول الرشد لَهُ. ثمَّ بَين الدَّلِيل بقوله (من مُضِيّ زمَان التجربة) إِذْ التجارب لقاح الْعُقُول (وَهُوَ) أَي حُصُول رشد مَا (الشَّرْط لتنكيره) أَي لفظ رشدا فِي الْإِثْبَات، فَيتَحَقَّق بِأَدْنَى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم كَمَا فِي الشُّرُوط الْمُنكرَة، وَإِذا تعين المظنة مدارا للْحكم وَجب تَسْلِيم المَال عِنْد بُلُوغ هَذَا السن أونس مِنْهُ الرشد أَولا (ووقفاه) أَي صَاحِبَاه إيتَاء المَال (على حَقِيقَته) أَي الرشد (وَفهم تخلقه) أَي السَّفِيه بأخلاق الرشد (وَاخْتلفُوا فِي حجره) أَي السَّفِيه (بِأَن يمْنَع نَفاذ تَصَرُّفَاته القولية المحتملة للهزل) أَي الَّتِي يُبْطِلهَا الْهزْل وَهِي مَا يحْتَمل الْفَسْخ كَالْبيع وَالْإِجَارَة، أما الفعلية والقولية الَّتِي لَا يُبْطِلهَا الْهزْل، وَهِي مَا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق فالسفه لَا يمْنَع نفاذها بالِاتِّفَاقِ (فأثبتاه) أَي أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد حجر السَّفِيه عَنْهَا (نظرا لَهُ) لما فِيهِ من صِيَانة مَاله (لوُجُوبه) أَي النّظر (للْمُسلمِ) لإسلامه، وَإِن كَانَ فَاسِقًا ونظرا للْمُسلمين أَيْضا لِأَنَّهُ بإتلافه يصير دينا، وَيجب نَفَقَته من بَيت المَال فَيصير على نَفسه وعَلى الْمُسلمين وبالا(2/300)
وعَلى بَيت مَا لَهُم عيالا (ونفاه) أَي أَبُو حنيفَة حجر السَّفه (لِأَنَّهُ) أَي السَّفه (لما كَانَ مُكَابَرَة) لِلْعَقْلِ لعمله بِخِلَاف مُقْتَضَاهُ لغَلَبَة الْهوى مَعَ الْعلم بقبحه (وتركا للْوَاجِب) وَهُوَ الاجتناب عَن الْإِسْفَار والتبذير عَن علم (لم يسْتَوْجب) وَلم يستاهل السَّفِيه (النّظر. ثمَّ إِنَّمَا يحسن) الْحجر عَلَيْهِ (إِذا لم يسْتَلْزم) الْحجر عَلَيْهِ (ضَرَرا فَوْقه) أَي الضَّرَر لكنه يسْتَلْزم ذَلِك لما فِيهِ (من إهدار أَهْلِيَّته وإلحاقه بالجمادات) وبهذه الْأَهْلِيَّة يتَمَيَّز عَن سَائِر الْحَيَوَانَات وَملك الْيَد نعْمَة زَائِدَة على ملك الرَّقَبَة (ولدلالة الْإِجْمَاع على اعْتِبَار إِقْرَاره بِأَسْبَاب الْحَد) قَوْله على صلَة الْإِجْمَاع وَحذف الْمَدْلُول عَلَيْهِ، وَهُوَ اعْتِبَار أَقْوَاله الْمَذْكُورَة اكْتِفَاء بِمَا يفهم من قَوْله (فَلَو لزم شرعا الْحجر عَلَيْهِ) أَي السَّفِيه (فِي أَقْوَاله المتلفة لِلْمَالِ للَزِمَ) الْحجر عَلَيْهِ (بطرِيق أولي فِي) أَقْوَاله (المتلفة لنَفسِهِ) وَهِي إقراراته بِسَبَب الْحُدُود: إِذْ النَّفس أولى بِالنّظرِ من المَال الَّذِي خلق وقاية لَهَا (وَمَعَ هَذَا) الْبَيَان الْبَالِغ (الأحب) يَعْنِي إِلَيْهِ رَحْمَة الله (قَوْلهمَا) وَبِه قَالَت الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (لِأَن النَّص) أَي التَّنْصِيص (على منع المَال مِنْهُ) أَي السَّفِيه فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء} - الْآيَة (كَيْلا يتلفه) أَي لأجل أَن لَا يتْلف مَاله (قطعا) أَي بِلَا شُبْهَة فَهُوَ تَأْكِيد لكَون الْمَقْصُود من النَّص عدم الْإِتْلَاف (وَإِذا لم يحْجر) عَلَيْهِ (أتْلفه بقوله فَلَا يُفِيد) منع المَال مِنْهُ وَأَيْضًا يحْجر (دفعا للضَّرَر الْعَام، لِأَنَّهُ قد يلبس) على الْمُسلمين أَنه غنى بالتزيي بزِي الْأَغْنِيَاء (فيقرضه الْمُسلمُونَ أَمْوَالهم فيتلفها وَغير ذَلِك) من الضَّرَر الْعَام بهم كَمَا مر (وَهُوَ) أَي دفع الضَّرَر الْعَام (وَاجِب بِإِثْبَات) الضَّرَر (الْخَاص فَصَارَ كالحجر على المكارى الْمُفلس) وَهُوَ الَّذِي يتَقَبَّل الْكِرَاء ويؤجر الدَّوَابّ، وَلَيْسَ لَهُ ظهر يحمل عَلَيْهِ، وَلَا مَال يَشْتَرِي بِهِ الدَّوَابّ (والطبيب الْجَاهِل والمفتي الماجن) وَهُوَ الَّذِي يعلم النَّاس الْحِيَل. قَالَ الشَّارِح كَذَا فِي طَريقَة عَلَاء الدّين الْعَالم، وَلَفظ خُوَاهَر زَاده، والمفتي الْجَاهِل لعدم الضَّرَر من الأول فِي الْأَمْوَال، وَمن الثَّانِي فِي الْأَبدَان، وَمن الثَّالِث فِي الْأَدْيَان، وَفِي الْبَدَائِع لَيْسَ المُرَاد من الْحجر على هَؤُلَاءِ حَقِيقَة الْحجر الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الشَّرْعِيّ الَّذِي يمْنَع نُفُوذ التَّصَرُّف: أَلا ترى أَن الْمُفْتِي إِذا أفتى بعد الْحجر وَأصَاب فِي الْفَتْوَى جَازَ، وَلَو أجَاب قبله وَأَخْطَأ لَا يجور: وَكَذَا الطَّبِيب لَو بَاعَ الْأَدْوِيَة بعد الْحجر نفذ بَيْعه: بل المُرَاد الْمَنْع الْحسي، فَهُوَ من بَاب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر (وَإِذا كَانَ الْحجر) على السَّفِيه (للنَّظَر لَهُ لزم أَن يلْحق) السَّفِيه (فِي كل صُورَة) من أَنْوَاع التَّصَرُّفَات الصادرة عَنهُ (بالأنظر) أَي مِمَّن يكن إِلْحَاقه بِهِ أنظر فِي حَقه، فَإِذا كَانَ بَينه وَبَين شبهين لَهُ مُنَاسبَة مصححة لإلحاقه لكل مِنْهُمَا يتَعَيَّن إِلْحَاقه بِمن إِلْحَاقه بِهِ أنظر وَأدْخل فِي مصْلحَته (فَفِي الِاسْتِيلَاد يَجْعَل كَالْمَرِيضِ فَيثبت نسب ولد أمته(2/301)
إِذا ادَّعَاهُ) حَتَّى لَو كَانَ الْوَلَد حرا وَكَانَت الْأمة أم وَلَده، وَإِذا مَاتَت كَانَت حرَّة (وَلَا يسْعَى) فَإِن توفير النّظر بإلحاقه بالمريض فِي حكم الِاسْتِيلَاد لِحَاجَتِهِ إِلَى بَقَاء نَسْله وصيانة مائَة فَيلْحق فِي هَذَا الحكم بالمريض الْمَدْيُون إِذا ادّعى نسب ولد جَارِيَته فَإِنَّهُ يكون كَالصَّحِيحِ حَتَّى تعْتق من جَمِيع مَاله وَلَا تسْعَى وَلَا وَلَدهَا، لِأَن حَاجَتهَا مُقَدّمَة على حَاجَة غُرَمَائه (وَفِي شِرَاء ابْنه) وَهُوَ مَعْرُوف (كالمكره) أَي بِمَنْزِلَة الْمُكْره فِي شِرَائِهِ فَيثبت شِرَاؤُهُ (فَيثبت لَهُ) أَي للسفيه الْملك (بِالْقَبْضِ) وَيعتق عَلَيْهِ حِين قَبضه (وَلَا يلْزم) السَّفِيه (الثّمن أَو الْقيمَة فِي مَاله جعلا لَهُ) أَي للسفيه فِي هَذَا الحكم (كَالصَّبِيِّ) لِأَن الأنظر لَهُ أَن يلْحق بِهِ لما فِيهِ من دفع الضَّرَر عَنهُ (وَإِذ لم يلْزمه) أَي السَّفِيه الثّمن أَو الْقيمَة وَأَن ملكه بِالْقَبْضِ، لِأَن الْتِزَامه أَحدهمَا بِالْقَبْضِ غير صَحِيح لما ذكر: بل يسْعَى الابْن فِي قِيمَته (لم يسلم لَهُ) أَي للسفيه (شَيْء من السّعَايَة، بل تكون) السّعَايَة (كلهَا للْبَائِع لِأَن الْغنم بالغرم كَعَكْسِهِ) أَي كَمَا أَن الْغرم بالغنم. وَلما كَانَت الغرامة على البَائِع كَانَت الْقيمَة لَهُ (وَالْحجر للنَّظَر عِنْدهمَا أَنْوَاع) يكون (للسفه بِنَفسِهِ) أَي بِسَبَب نفس السَّفه سَوَاء كَانَ أَصْلِيًّا بِأَن يبلغ سَفِيها، أَو عارضا بِأَن حدث بعد الْبلُوغ (بِلَا) توقف على (قَضَاء) عَلَيْهِ بِالْحجرِ (كالصبا وَالْجُنُون عِنْد مُحَمَّد، وَبِه) أَي وبالقضاء (عِنْد أبي يُوسُف لتردده) أَي السَّفِيه (بَين النّظر بإبقاء ملكه) أَي السَّفِيه (و) بَين (الضَّرَر بإهدار عِبَارَته) وَقد ذهب إِلَى تَرْجِيح كل من الْجِهَتَيْنِ مُجْتَهد فَلَا يرجح أَحدهمَا إِلَّا بِالْقضَاءِ (وللدين) أَي وَقد يكون الْحجر على الْعَاقِل الْبَالِغ بِسَبَب كَونه مديونا، وَإِن كَانَ رشيدا (خوف التلجئة) أَي الْمُوَاضَعَة لدفع الْغُرَمَاء، فَيجْعَل مَاله لغيره صُورَة ليحكم لَهُ بالإفلاس فَيسلم لَهُ، والتلجئة قد تكون (بيعا) والمواضعة فِيهِ إِمَّا فِي أصل العقد، أَو فِي قدر الْبَدَل، أَو فِي جنسه. (و) قد يكون (إِقْرَار فبالقضاء) أَي يتَوَقَّف هَذَا الْحجر على الْقَضَاء بِهِ (اتِّفَاقًا بَينهَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (لِأَنَّهُ) أَي الْحجر عَلَيْهِ (نظر للْغُرَمَاء، فتوقف على طَلَبهمْ (بِخِلَاف الْحجر على السَّفِيه فَإِنَّهُ للنَّظَر، فَلَا يتَوَقَّف على طلب أحد: بل يَكْفِي طلبه بِلِسَان حَاله (فَلَا يتَصَرَّف) الْمَدْيُون الْمَحْجُور (فِي مَاله إِلَّا مَعَهم) أَي الْغُرَمَاء باتفاقهم (فِيمَا فِي يَده وَقت الْحجر) من المَال احْتِرَاز عَمَّا يحدث فِي يَده بعد الْحجر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أما فِي كَسبه) وَحده (بعده) أَي الْحجر من المَال (فعموم) أَي فَحكم هَذَا المكتسب عُمُوم نَفاذ تصرفه فِيهِ، فَلَا يتَقَيَّد بِرِضا الْغُرَمَاء لعدم تعلق حق الْغُرَمَاء بِهِ (و) قد يكون (لِامْتِنَاع الْمَدْيُون عَن صرف مَاله إِلَى دينه) الْمُسْتَغْرق لَهُ، (فيبيعه القَاضِي وَلَو) كَانَ مَاله (عقارا كَبَيْعِهِ) أَي القَاضِي (عبد الذِّمِّيّ إِذا أَبى) الذِّمِّيّ (بَيْعه بعد إِسْلَامه) أَي العَبْد الْمَذْكُور، فَإِن الأَصْل أَن من امْتنع من إبْقَاء حق مُسْتَحقّ عَلَيْهِ(2/302)
وَهُوَ مِمَّا يجْرِي فِيهِ النِّيَابَة نَاب القَاضِي مَنَابه فِيهِ خلافًا لأبي حنيفَة، وَالْفَتْوَى على قَوْلهمَا (وَمِنْهَا) أَي من المكتبة من نَفسه (السّفر) وَهُوَ لُغَة قطع المسافات، وَشرعا خُرُوج عَن مَحل الْإِقَامَة بِقصد مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام بسير وسط، وَهُوَ (لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الْأَحْكَام) وجوبا وَأَدَاء من الْعِبَادَات وَغَيرهَا (بل جعل سَببا للتَّخْفِيف) لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْمَشَقَّة (فشرعت رباعيته) أَي مكتوباته الَّتِي هِيَ أَربع رَكْعَات فِي الْحَضَر (رَكْعَتَيْنِ ابْتِدَاء) لِأَنَّهَا كَانَت أَرْبعا ابْتِدَاء فأسقط مِنْهَا رَكْعَتَانِ كَمَا تقدم وَجهه فِي الرُّخْصَة (وَلما كَانَ) السّفر (اختياريا دون الْمَرَض) وَهُوَ أَيْضا من أَسبَاب التَّخْفِيف (فَارقه) أَي السّفر الْمَرَض فِي بعض الْأَحْكَام (فالمرخص إِذا كَانَ) مَوْجُودا (أول الْيَوْم) من أَيَّام رَمَضَان (فَترك) من وجد فِي حَقه المرخص (الصَّوْم) ذَلِك الْيَوْم (فَلهُ) التّرْك وَلَا يَأْثَم بِهِ (أَو صَامَ) صَحَّ صَوْمه، فَإِن أَرَادَ الْفطر بعد الشُّرُوع فِيهِ (فَإِن كَانَ) المرخص (الْمَرَض حل الْفطر أَو) كَانَ (السّفر فَلَا) يحل لَهُ الْفطر، لِأَن الضَّرَر فِي الْمَرَض مِمَّا لَا مدفع لَهُ، فَرُبمَا يتَوَهَّم قبل الشُّرُوع أَنه لَا يلْحقهُ الْمَرَض وَبعده يعلم لُحُوقه من حَيْثُ لَا مدفع لَهُ، بِخِلَاف الْمُسَافِر فَإِنَّهُ يتَمَكَّن من دفع الضَّرَر الدَّاعِي إِلَى الْإِفْطَار بِأَن لَا يُسَافر، كَذَا قَالَ الشَّارِح وَالصَّوَاب أَن يُقَال بِأَن يتْرك فِي مَكَان ترك، لِأَن الْمَفْرُوض أَن المرخص قد كَانَ مَوْجُودا فِي أول الْيَوْم، فقد تحقق السّفر قبل إِرَادَة الْفطر: وَمَعَ ذَلِك يسْتَشْكل إِن كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ النُّزُول لمَانع من خوف وَغَيره (إِلَّا أَنه لَا كَفَّارَة) على الْمُسَافِر (لَو أفطر) لتمكن الشُّبْهَة فِي وُجُوبهَا باقتران السّفر بِالْفطرِ (وَإِن وجد) المرخص (فِي أَثْنَائِهِ) أَي الْيَوْم (وَقد شرع) فِي صَوْمه (فَإِن طَرَأَ الْعذر ثمَّ الْفطر فَفِي الْمَرَض حل الْفطر لَا) فِي (السّفر) إِذْ تبين بعروض الْمَرَض أَن الصَّوْم لم يكن وَاجِبا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْم، بِخِلَاف عرُوض السّفر فَإِنَّهُ أَمر اخْتِيَاري وَالْمَرَض ضَرُورِيّ. وَقد يُقَال كَذَلِك يتَبَيَّن بعروض السّفر أَن الصَّوْم لم يكن وَاجِبا فِي علم الله لعلمه أَنه يُسَافر فِي هَذَا الْيَوْم، وَلَا تَأْثِير لكَون الْعَارِض المرخص مَرضا فَتَأمل (وَفِي قلبه) وَهُوَ أَن يفْطر ثمَّ يطْرَأ الْعذر (لَا يحل) الْإِفْطَار لعدم الْعذر عِنْده (لَكِن لَا كَفَّارَة إِذا كَانَ الطَّارِئ الْمَرَض لِأَنَّهُ) أَي الْمَرَض (سماوي تبين بِهِ عدم الْوُجُوب) وَالْكَلَام فِيهِ قد سبق (وَتجب) الْكَفَّارَة (فِي السّفر، لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ وتقررت) الْكَفَّارَة (قبله) أَي السّفر بإفطار يَوْم وَاجِب من غير اقتران شُبْهَة حَتَّى لَو كَانَ السّفر خَارِجا عَن اخْتِيَاره بِأَن أكرهه السُّلْطَان على السّفر فِيهِ سَقَطت عَنهُ أَيْضا فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة كَذَا فِي الْخَانِية (وَيخْتَص ثُبُوت رخصه) أَي السّفر من قصر الرّبَاعِيّة وَفطر رَمَضَان وَغَيرهمَا (بِالشُّرُوعِ فِيهِ) أَي فِي السّفر (قبل تحَققه لِأَنَّهُ) أَي تحَققه (بامتداده) أَي السّفر (ثَلَاثَة(2/303)
أَيَّام بلياليها، وَإِن كَانَ الْقيَاس أَن لَا يثبت قبلهَا إِلَّا بعد مضيها: لِأَن حكم الْعلَّة لَا يثبت قبلهَا. يرد عَلَيْهِ أَن حَقِيقَة السّفر على مَا ذكر فِي تَعْرِيفه إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوج عَن مَحل الْإِقَامَة بِقصد السّير الْمَذْكُور، وَهُوَ يتَحَقَّق قبل الامتداد الْمَذْكُور. وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن الْفُقَهَاء قصدُوا بِهِ تَعْرِيف مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام السّفر، لَا بَيَان حَقِيقَته، وَحَقِيقَته إِنَّمَا هِيَ الْقطع للمسافة الْمَذْكُورَة مَعَ الْقَصْد الْمَذْكُور وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكر من أَنه فِي اللُّغَة قطع الْمسَافَة (غير أَنه) أَي الْمُسَافِر (لَو أَقَامَ) أَي نوى الْإِقَامَة (قبلهَا) أَي قبل ثَلَاثَة أَيَّام (صَحَّ) مقَامه (ولزمت أَحْكَام الْإِقَامَة وَلَو) كَانَ (فِي الْمَفَازَة لِأَنَّهُ) أَي الْمقَام قبلهَا (دفع لَهُ) أَي للسَّفر قبل تحَققه فتعود الْإِقَامَة قبلهَا (وَبعدهَا) أَي بعد ثَلَاثَة أَيَّام (لَا) يَصح مقَامه (إِلَّا فِيمَا يَصح فِيهِ) الْمقَام من مصر أَو قَرْيَة (لِأَنَّهُ) أَي الْمقَام بعْدهَا (رفع بعد تحَققه) أَي السّفر، فنية الْإِقَامَة حِينَئِذٍ ابْتِدَاء إِيجَاب: فَلَا تصح فِي غير مَحَله، وَهَذَا مَا قيل: من أَن الدّفع أسهل من الرّفْع (وَلَا يمْنَع سفر الْمعْصِيَة) من قطع طَرِيق أَو غَيره: أَي لَا يمْنَع كَونه مَعْصِيّة (الرُّخْصَة) عِنْد أَصْحَابنَا. وَقَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة يمْنَع لِأَن الرُّخْصَة نعْمَة فَلَا تنَال بالمعصية، فَيجْعَل السّفر مَعْدُوما فِي حَقّهَا كالسكر فِي حق الرُّخْصَة الْمُتَعَلّقَة بِزَوَال الْعقل لِأَنَّهُ مَعْصِيّة، وَلقَوْله تَعَالَى - {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} - أناط رخصَة أكل الْميتَة بالاضطرار بِشَرْط كَونه غير بَاغ: أَي خَارج على الإِمَام، وَلَا عَاد: أَي ظَالِم للْمُسلمين بِقطع الطَّرِيق، فَيبقى فِي غير هَذِه الْحَالة على أصل الْحُرْمَة: فَكَذَا فِي سَائِر الرُّخص بِالْقِيَاسِ أَو بِدلَالَة النَّص، أَو بِالْإِجْمَاع على عدم الْفَصْل ولأصحابنا إِطْلَاق نُصُوص الرُّخص لقَوْله تَعَالَى - {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} -. وَمَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا " فرض الله الصَّلَاة على لِسَان نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ ": إِلَى غير ذَلِك، وَلَا نسلم أَن فِيهِ جعل الْمعْصِيَة سَببا للرخصة (لِأَنَّهَا) أَي الْمعْصِيَة (لَيست إِيَّاه) أَي السّفر، بل هُوَ مُنْفَصِل عَنْهَا: إِذْ كل مِنْهُمَا يُوجد بِدُونِ الآخر، وَالسّفر هُوَ السَّبَب: نعم هِيَ مجاورة لَهُ، وَذَلِكَ غير مَانع من اعْتِبَاره شرعا كَالصَّلَاةِ فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَالْمسح على خف مَغْصُوب (بِخِلَاف السَّبَب الْمعْصِيَة كالسكر بِشرب الْمُسكر) الْمحرم فَإِنَّهُ حدث عَن مَعْصِيّة فَلَا يناط بِهِ الرُّخْصَة، لِأَن سَبَب الرُّخْصَة لَا بُد أَن يكون مُبَاحا، وَنَفس السّفر مُبَاح وَإِن جاوره مَعْصِيّة (وَقَوله تَعَالَى {غير بَاغ وَلَا عَاد} : أَي فِي الْأكل) لِأَن الْإِثْم وَعَدَمه لَا يتَعَلَّق بِنَفس الأضطرار بل بِالْأَكْلِ، فَلَا بُد من تَقْدِير فعل عَامل: أَي فَمن اضْطر وَأكل حَال كَونه غير بَاغ وَلَا عَاد فِي الْأكل الَّتِي سيقت الْآيَة لتحريمه وحله: أَي غير متجاوز فِي الْأكل قدر الْحَاجة على أَن عَاد للتَّأْكِيد، أَو الْمَعْنى غير طَالب الْمحرم وَهُوَ يجد غَيره، وَلَا مجاوز قدر مَا يسد الرمق وَيدْفَع الْهَلَاك أَو غير متلذذ، وَلَا مُتَرَدّد، أَو غير بَاغ على مُضْطَر آخر بالاستئثار عَلَيْهِ وَلَا مجاوز(2/304)
سد الجوعة (وَقِيَاس السّفر) فِي كَونه مرخصا (عَلَيْهِ) أَي على أكل الْميتَة المنوط بالاضطرار فِي اشْترط نفي عصيان الْمُسَافِر كَمَا فِي الْأكل على سَبِيل التنزل (يُعَارض إِطْلَاق نَص إناطته) أَي ثُبُوت الرُّخص (بِهِ) أَي بِالسَّفرِ من غير تَقْيِيد بذلك، فَاتَ مُوجب إِطْلَاق النَّص ثُبُوت تِلْكَ الرُّخص بِمُجَرَّد السّفر وَإِن تحقق فِي ضمن الْمعْصِيَة، وَمُوجب الْقيَاس الْمَذْكُور عدم ثُبُوتهَا فِي سفر الْمعْصِيَة فيتعارضان، وَلَا يَصح قِيَاس تعَارض مَعَ النَّص (وَيمْنَع) على صِيغَة الْمَجْهُول (تَخْصِيصه ابْتِدَاء بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ. وَقد مر فِي أَوَاخِر مَبْحَث التَّخْصِيص (وَلِأَنَّهُ) أَي الترخيص للْمُضْطَر (لم ينط بِالسَّفرِ) إِجْمَاعًا، بل يُبَاح للمقيم الموثم (فيأكل) الْمُضْطَر (مُقيما عَاصِيا) فَانْتفى الْوَجْه الثَّانِي: يَعْنِي لَو كَانَ رخصَة الْأكل مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْمعْصِيَة مُطلقًا كَمَا تَقول كَذَلِك رخص الْمُسَافِر لكنه لَيْسَ بمشروط، لِأَن العَاصِي الْمُضْطَر يأكلها غير أَنه لَا يظْهر مدخلية عدم إناطة رخصَة الْأكل بِالسَّفرِ حِينَئِذٍ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال الْمَقْصُود بعد تفسيرهم الْآيَة بذلك: لِأَن الِاضْطِرَار إِذا لم يكن مَخْصُوصًا بِالسَّفرِ لَا وَجه لاشْتِرَاط نفي خُصُوص المعصيتين، بل يَنْبَغِي نفي مُطلق الْمعْصِيَة وَالله أعلم (وَمِنْهَا) أَي المكتسبة من نَفسه (الْخَطَأ: أَن يقْصد بِالْفِعْلِ غير الْمحل الَّذِي يقْصد بِهِ الْجِنَايَة) مَرْفُوع بيقصد، وَضمير بِهِ رَاجع إِلَى الْمحل، لما كَانَ كل وَاحِد من الْفِعْل وَالْمحل مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي الْقَصْد، وَلَا يتم بِدُونِهِ صَحَّ تَنْزِيله منزلَة الْآلَة وَإِدْخَال الْبَاء عَلَيْهِ (كالمضمضة تسري إِلَى الْحلق) الْمحل الَّذِي يقْصد بِهِ الْجِنَايَة على الصَّوْم إِنَّمَا هُوَ الْحلق، وَلم يقْصد بالمضمضة، بل قصد بهَا الْفَم وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُسْتَفَاد من الْعبارَة كَون الْخَطَأ عَن قصد غسل الْفَم بالمضمضة، وَهُوَ بِدُونِ السريان إِلَى الْحلق، وَهُوَ غير مُسْتَقِيم فَالْكَلَام مَبْنِيّ على الْمُسَامحَة اعْتِمَادًا على فهم السَّامع، وَالْمرَاد أَنه قصد غير مَحل الْجِنَايَة بِالْفِعْلِ مَعَ إِصَابَته محلهَا (وَالرَّمْي إِلَى صيد فَأصَاب آدَمِيًّا) فَإِن مَحل الْجِنَايَة هُوَ الْآدَمِيّ، وَلم يقْصد بِالرَّمْي، بل قصد غَيره وَهُوَ الصَّيْد (والمؤاخذة بِهِ) أَي بالْخَطَأ (جَائِزَة) عقلا عِنْد أهل السّنة (خلافًا للمعتزلة لِأَنَّهَا) أَي الْمُؤَاخَذَة (بِالْجِنَايَةِ) وَهِي لَا تتَحَقَّق بِدُونِ الْقَصْد (قُلْنَا هِيَ) أَي الْجِنَايَة (عدم التثبت) وَالِاحْتِيَاط، والذنُوب كالسموم تنَاولهَا يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك وَلَو بِلَا قصد (وَلذَا) أَي لجَوَاز الْمُؤَاخَذَة عقلا (سُئِلَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (عدم الْمُؤَاخَذَة بِهِ) أَي بالْخَطَأ. قَالَ تَعَالَى - {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} -: إِذْ الْمُمْتَنع عقلا لَا يسئل عَدمه، فَإِن امْتِنَاعه يُغني عَن السُّؤَال (وَعنهُ) أَي عَن كَون الْخَطَأ جِنَايَة بِاعْتِبَار عدم التثبت (كَانَ) الْخَطَأ (من) الْعَوَارِض (المكتسبة) من نَفسه (غير أَنه تَعَالَى جعله) أَي الْخَطَأ (عذرا فِي إِسْقَاط حَقه)(2/305)
تَعَالَى (إِذا اجْتهد) الْمُجْتَهد، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ " إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حكم فاجتهد ثمَّ أَخطَأ فَلهُ أجر وَاحِد ". (و) جعله (شُبْهَة) دارئة (فِي الْعُقُوبَات فَلَا يُؤَاخذ بِحَدّ) فِيمَا لَو زفت إِلَيْهِ غير امْرَأَته فَوَطِئَهَا على ظن أَنَّهَا امْرَأَته (وَلَا قصاص) فِيمَا لَو رمى إِلَى إِنْسَان على ظن أَنه صيد فَقتله (دون حُقُوق الْعباد فَوَجَبَ ضَمَان الْمُتْلفَات خطأ) كَمَا لَو رمى إِلَى شَاة إِنْسَان على ظن أَنَّهَا صيد، أَو أكل مَاله على ظن أَنه ملك نَفسه لِأَنَّهُ ضَمَان مَال لَا جَزَاء فعل، فيعتمد عصمَة الْمحل، وَكَونه خاطئا لَا ينافيها (وَصلح) الْخَطَأ (سَببا للتَّخْفِيف فِي الْقَتْل) أَي فِيمَا إِذا قتل خطأ (فَوَجَبت الدِّيَة) على الْعَاقِلَة فِي ثَلَاث سِنِين، فالتخفيف من حَيْثُ وجود الدِّيَة بدل الْقصاص، وَمن حَيْثُ تحميلها على الْعَاقِلَة، وَمن حَيْثُ الْمهل فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة (ولكونه) أَي الْخَطَأ لَا يَنْفَكّ (عَن تَقْصِير) فِي التثبت (وَجب بِهِ مَا تردد بَين الْعِبَادَة والعقوبة من الْكَفَّارَة) بَيَان للموصول: أَي فِي الْقَتْل الْخَطَأ لكَونهَا جَزَاء قاصرا صَالحا للتردد بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة، إِذْ أصل الْفِعْل كالرمي مُبَاح، وَترك التثبت مَحْظُور، فَكَانَ قاصرا فِي معنى الْجِنَايَة (وَيَقَع طَلَاقه) أَي الْمُخطئ بِأَن أَرَادَ أَن يَقُول اسقيني، فَجرى على لِسَانه أَنْت طَالِق (خلافًا للشَّافِعِيّ) فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَقع، إِذْ لَا اعْتِبَار للْكَلَام بِدُونِ الْقَصْد الصَّحِيح فَهُوَ كالنائم (لِأَن الْغَفْلَة عَن معنى اللَّفْظ خَفِي) وَفِي الْوُقُوف على قَصده حرج، لِأَنَّهُ أَمر بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر، وَهُوَ الْعقل وَالْبُلُوغ (فأقيم) مقَام (تَمْيِيز الْبلُوغ) أَي التَّمْيِيز الَّذِي يكون للبالغ الْعَاقِل، فَإِنَّهُ أكمل من التَّمْيِيز الَّذِي يكون للصَّبِيّ الْعَاقِل (مقَامه) أَي مقَام الْقَصْد نفيا للْحَرج كَمَا فِي السّفر مَعَ الْمَشَقَّة (بِخِلَاف النّوم فَإِنَّهُ) أَي عدم الْقَصْد فِيهِ (ظَاهر) لِأَنَّهُ يمْنَع اسْتِعْمَال الْعقل اخْتِيَارا (فَلَا يُقَام) فِي النَّائِم تَمْيِيز (الْبلُوغ مقَامه) أَي الْقَصْد لعدم الْحَرج (فَفَارَقَ عبارَة النَّائِم عبارَة الْمُخطئ. وَذكرنَا فِي فتح الْقَدِير) شرح الْهِدَايَة (أَن الْوُقُوع) لطلاق الْمُخطئ إِنَّمَا هُوَ (فِي الحكم، وَقد يكون) وُقُوع الطَّلَاق فِي الحكم (مُقْتَضى هَذَا الْوَجْه) المفاد بقوله، لِأَن الْغَفْلَة إِلَى آخِره (أما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَهِيَ امْرَأَته) . وَفِي النَّسَفِيّ: وَلَو كَانَ بالعتاق يدين وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: لَا يجوز الْغَلَط فيهمَا. وَفِي فتح الْقَدِير وَالَّذِي يظْهر من الشَّرْع أَن لَا يَقع بِلَا قصد لفظ الطَّلَاق عِنْد الله تَعَالَى، بِخِلَاف الهازل لِأَنَّهُ مكابر بِاللَّفْظِ، فَيسْتَحق التَّغْلِيظ فَالْحَاصِل أَنه إِذا قصد السَّبَب عَالما بِأَنَّهُ سَبَب رتب الشَّرْع حكمه عَلَيْهِ أَرَادَهُ أَو لم يردهُ إِلَّا أَنه مَا لَا يحْتَملهُ. وَأما إِذا لم يَقْصِدهُ، أَو لم يدر مَا هُوَ فَيثبت الحكم عَلَيْهِ شرعا وَهُوَ غير رَاض فمما ينبوعنه قَوَاعِد الشَّرْع. وَقد قَالَ تَعَالَى - {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} -: وَفسّر بأمرين: بِأَن يحلف على أَمر يَظُنّهُ كَمَا قَالَ، مَعَ أَنه قَاصد(2/306)
للسبب عَالم بِحكمِهِ، فألغاه لغلطه فِي ظن الْمَحْلُوف فِيهِ. وَالْآخر أَن يجْرِي على لِسَانه بِلَا قصد للْيَمِين كلا وَالله بلَى وَالله، فَرفع حكمه الدنيوي من الْكَفَّارَة لعدم قَصده إِلَيْهِ، فَهَذَا تشريع لِعِبَادِهِ أَن لَا يرتبوا الْأَحْكَام على الْأَشْيَاء الَّتِي لم تقصد، وَكَيف وَلَا فرق بَينه وَبَين النَّائِم عِنْد الْعَلِيم الْخَبِير من حَيْثُ لَا قصد لَهُ إِلَى اللَّفْظ وَلَا حكمه، وَإِنَّمَا لَا يصدقهُ بِهِ غير الْعَلِيم الْخَبِير، وَهُوَ القَاضِي. وَفِي الْحَاوِي: من أَرَادَ أَن يَقُول زَيْنَب طَالِق فَجرى على لِسَانه عمْرَة، فِي الْقَضَاء تطلق الَّتِي سمي، وَفِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى لَا تطلق وَاحِدَة مِنْهُمَا، أما الَّتِي سمي فَلِأَنَّهُ لم يردهَا، وَأما غَيرهَا فَلِأَنَّهَا لَو طلقت طلقت بِالنِّيَّةِ (وَكَذَا قَالُوا ينْعَقد بَيْعه) أَي الْمُخطئ بِأَن أَرَادَ أَن يَقُول سُبْحَانَ الله، فَجرى على لِسَانه بِعْت هَذَا مِنْك بِأَلف، وَقبل الآخر، وَصدقه فِي أَن البيع خطأ (فَاسِدا وَلَا رِوَايَة فِيهِ) عَن أَصْحَابنَا، وَلَكِن يجب هَذَا (للاختيار فِي أَصله) أَي فِي أصل هَذَا الْكَلَام وَإِن لم يتَعَلَّق اخْتِيَاره بِمَعْنَاهُ (وَعدم الرِّضَا) بِمَعْنَاهُ فَينْعَقد لاختياره فِي الأَصْل، وَيفْسد لعدم الرِّضَا كَبيع الْمُكْره، فَيملك الْبَدَل بِالْقَبْضِ (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْمُخطئ (فَوق الهازل) فِيمَا يَقْتَضِي عدم لُزُوم العقد (إِذْ لَا قصد) للمخطئ (فِي خُصُوص اللَّفْظ وَلَا) فِي (حكمه) والهازل مُخْتَار رَاض بِخُصُوص اللَّفْظ غير رَاض بِحكمِهِ، فَأَقل الْأَمر أَن يكون كالهازل، فَلَا يملك الْمَبِيع بِالْقَبْضِ (وَأما مَا) هُوَ مكتسب (من غَيره فالإكراه) وَهُوَ (حمل الْغَيْر على مَا لَا يرضاه) من قَول أَو فعل (وَهُوَ) أَي الْمُكْره بِكَسْر الرَّاء (ملجئ) للمكره بِفَتْحِهَا بإيعاد (بِمَا) أَي بمؤلم (يفوت النَّفس أَو الْعُضْو) وَلَو أُنْمُلَة (بِغَلَبَة ظَنّه) مُتَعَلق بملجئ: إِذْ الالجاء لَا يحصل بِدُونِ الظَّن الْغَالِب للمكره، إِذْ حَقِيقَته اضطرار الْفَاعِل إِلَى مُبَاشرَة الْمُكْره عَلَيْهِ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يغلب على ظَنّه تَفْوِيت أَحدهمَا (لَا) يكون إِكْرَاها، وَيكون مُجَرّد تهديد وتخويف من غير تَحْقِيق (فَيفْسد الِاخْتِيَار) وَلَا يعدمه بِالْكُلِّيَّةِ، إِذْ حَقِيقَته الْقَصْد إِلَى مَقْدُور مُتَرَدّد بَين الْوُجُود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر، فَإِن اسْتَقل الْفَاعِل فِي قَصده فَصَحِيح، وَإِلَّا ففاسد (ويعدم الرِّضَا، وَغَيره) أَي وَغير ملجئ لكَون الْحمل على الْمُكْره عَلَيْهِ (بِضَرْب لَا يُفْضِي إِلَى تلف عُضْو وَحبس فَإِنَّمَا يعْدم الرِّضَا) خَاصَّة (لتمكنه) أَي الْمُكْره (من الصَّبْر) على الْمُكْره بِهِ (فَلَا يُفْسِدهُ) أَي لَا يفْسد هَذَا الْقسم من الْإِكْرَاه الِاخْتِيَار (وَأما) تهديده (بِحَبْس نَحْو ابْنه) وَأَبِيهِ، وَأمه، وَزَوجته، وكل ذِي رحم محرم كأخته وأخيه، فَإِن الْقَرَابَة المتأبدة بِالْحُرْمَةِ بِمَنْزِلَة الولاد (فَقِيَاس واستحسان فِي أَنه إِكْرَاه) الْقيَاس أَنه لَيْسَ بإكراه لِئَلَّا يلْحقهُ ضَرَر بذلك، وَالِاسْتِحْسَان أَنه إِكْرَاه، لِأَنَّهُ يلْحقهُ بحسبهم من الْحزن والهم مَا يلْحق بِحَبْس نَفسه أَو أَكثر، (وَهُوَ) أَي الْإِكْرَاه (مُطلقًا) ملجئا كَانَ أَو غير ملجئ (لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الْوُجُوب) على الْمُكْره (للذمة)(2/307)
أَي لقِيَام الذِّمَّة (وَالْعقل) وَالْبُلُوغ (وَلِأَن مَا أكره عَلَيْهِ قد يفترض) فعله (كالإكراه بِالْقَتْلِ على الشّرْب) للمسكر وَلَو خمرًا (فيأثم بِتَرْكِهِ) أَي بترك شربه عَالما بِسُقُوط حرمته كَمَا سَيَأْتِي لإباحته فِي حَقه بقوله تَعَالَى - {إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ} - وَتَنَاول الْمُبَاح عِنْد الْإِكْرَاه فرض (و) قد (يحرم كعلي) أَي كَالْقَتْلِ وَالْإِكْرَاه على (قتل مُسلم ظلما فيؤجر على التّرْك) أَي على ترك قَتله (كعلي إِجْرَاء كلمة الْكفْر) أَي كَمَا يُؤجر على ترك إجرائها على لِسَانه عِنْد الْإِكْرَاه عَلَيْهِ (بِخِلَاف الْمُبَاح كالإفطارل) لصائم (الْمُسَافِر) فِي رَمَضَان، فَإِنَّهُ لَا يُؤجر على التّرْك بل يَأْثَم لصيرورته فرضا بِالْإِكْرَاهِ كَمَا سبق، فَمَا أكره عَلَيْهِ فرض، ومباح، ورخصة، وَحرَام: ويؤجر على التّرْك فِي الْحُرْمَة والرخصة، وَيَأْثَم فِي الْفَرْض والمباح. وَالْمرَاد بِالْإِبَاحَةِ جَوَاز الْفِعْل، وَلَو تَركه وصبر حَتَّى قتل لم يَأْثَم وَلم يُؤجر، وبالرخصة جَوَاز الْفِعْل، وَلَو تَركه وصبر حَتَّى قتل يُؤجر لعمله بالعزيمة، فَلم يرد أَنه ان أُرِيد بالاباحة جَوَاز الْفِعْل وَعدم الاثم بِالْقَتْلِ على تَقْدِير التّرْك وَالصَّبْر فَهُوَ معنى الرُّخْصَة، وَأَن أُرِيد أَنه يَأْثَم على ذَلِك التَّقْدِير فَهُوَ معنى الْفَرْض (وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَار) لِأَنَّهُ حمل للْفَاعِل على أَن يخْتَار مَا لَا يرضاه (بل الْفِعْل عَنهُ) أَي الْإِكْرَاه (اخْتِيَار أخف المكروهين) عِنْد الْفَاعِل من الْمُكْره بِهِ وَالْمكْره عَلَيْهِ (ثمَّ أصل الشَّافِعِي) أَي مَا يبْنى عَلَيْهِ الْأَحْكَام فِي بَاب الْإِكْرَاه (أَنه) أَي الْإِكْرَاه الحكم مَا كَانَ مِنْهُ (بِغَيْر حق إِن كَانَ) الْإِكْرَاه فِيهِ (عذرا شرعا بِأَن يَجْعَل الشَّارِع للْفَاعِل الْإِقْدَام) على الْفِعْل (قطع) الْإِكْرَاه (الحكم) أَي حكم الْمُكْره عَلَيْهِ (عَن فعل الْفَاعِل قَول أَو عمل) عطف بَيَان لفعله لدفع توهم اخْتِصَاص الْفِعْل بِالْعَمَلِ، إِذْ القَوْل فعل اللِّسَان (لِأَن صِحَة القَوْل) يكون (بِقصد الْمَعْنى و) صِحَة (الْعَمَل بِاخْتِيَارِهِ) أَي الْعَمَل (وَهُوَ) أَي الْإِكْرَاه (يفسدهما) أَي الْقَصْد وَالِاخْتِيَار، وَالْإِكْرَاه دَلِيل على أَن الْمُكْره إِنَّمَا فعل لدفع الضَّرَر عَن نَفسه، لَا لِأَنَّهُ يَقْصِدهُ أَو يختاره (وَأَيْضًا نِسْبَة الْفِعْل إِلَيْهِ) أَي الْفَاعِل (بِلَا رِضَاهُ إِلْحَاق الضَّرَر بِهِ) وَهُوَ غير جَائِز، لِأَنَّهُ مَعْصُوم مُحْتَرم الْحُقُوق (وعصمته) أى الْفَاعِل (تَدْفَعهُ) أى الضَّرَر عَنهُ بِدُونِ رِضَاهُ لِئَلَّا يفوت حَقه بِغَيْر اخْتِيَاره. ثمَّ اذا قطع الْفِعْل عَن الْفَاعِل (إِن أمكن نسبته) أَي الْفَاعِل (إِلَى الْحَامِل) وَهُوَ الْمُكْره، وَإِنَّمَا يُمكن نسبته إِلَيْهِ إِذا أمكن أَن يباشره بِنَفسِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَفْعَال، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كعلى إِتْلَاف المَال) أَي كَمَا إِذا حمله على إِتْلَافه فَإِنَّهُ يُمكن أَن يُبَاشر الْحَامِل بِنَفسِهِ الْإِتْلَاف (نسب) الْفِعْل (إِلَيْهِ) أَي الْحَامِل، فَيُؤْخَذ بِهِ وَيجْعَل الْفَاعِل آلَة للحامل (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن نسبته إِلَى الْحَامِل لعدم إِمْكَان مُبَاشَرَته بِنَفسِهِ (بَطل) الْفِعْل بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يُؤَاخذ بِهِ أحد (كعلى الْأَقْوَال) أَي كَمَا إِذا حمله على قَول من الْأَقْوَال من (إِقْرَار وَبيع وَغَيرهمَا) كَمَا سيتضح (وَإِن لم يكن)(2/308)
الْإِكْرَاه على أَحدهمَا (عذرا بِأَن لَا يحل) للْفَاعِل الْإِقْدَام على الْفِعْل (كعلى الْقَتْل وَالزِّنَا) أَي كَمَا إِذا كَانَ الْإِكْرَاه على أَحدهمَا (لَا يقطعهُ) أَي الْإِكْرَاه الحكم (عَنهُ) أَي الْفَاعِل (فيقتص من الْمُكْره) الْمُبَاشر للْقَتْل بِالْقَتْلِ (وَيحد) الْمُكْره الَّذِي زنا. لَا يُقَال مُقْتَضَاهُ أَن لَا يقْتَصّ من الْحَامِل. لأَنا نقُول (وَإِنَّمَا يقْتَصّ من الْحَامِل أَيْضا عِنْده) أَي الشَّافِعِي (بالتسبيب) فِي قَتله بإكراهه، وَهُوَ كالمباشرة فِي إِيجَاب الْقصاص، إِذْ الْمَقْصُود من شرع الْقصاص الْإِحْيَاء وَهُوَ لَا يحصل إِلَّا بسد بَاب الْإِكْرَاه على الْقَتْل (وَمَا) كَانَ من الْإِكْرَاه (بِحَق لَا يقطع) نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل أَيْضا كَمَا لَا يقطع فِيمَا ذكر قبيل هَذَا (فصح إِسْلَام الْحَرْبِيّ وَبيع الْمَدْيُون الْقَادِر) على وَفَاء دين (مَاله للإيفاء وَطَلَاق الْمولى) على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من زَوجته (بعد الْمدَّة) أَي بعد مُضِيّ مُدَّة الْإِيلَاء حَال كَون هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين (مكرهين) على الْإِسْلَام وَالْبيع وَالطَّلَاق، لِأَن إِكْرَاه الْحَرْبِيّ على الْإِسْلَام جَائِز فعد اخْتِيَاره قَائِما فِي حَقه إعلاء لِلْإِسْلَامِ كَمَا عد قَائِما فِي حق السَّكْرَان زجرا لَهُ، ولصحة إِكْرَاه كل من الْمَدْيُون وَالْمولى على الْإِيفَاء وَالطَّلَاق بعد الْمدَّة لكَونه ظَالِما بالامتناع عَن الْقيام بِمَا هُوَ حق عَلَيْهِ، بِخِلَاف الْإِكْرَاه على الطَّلَاق قبل مضيها فَإِنَّهُ بَاطِل، فَلَا يَقع الطَّلَاق (بِخِلَاف إِسْلَام الذِّمِّيّ) بِالْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن إكراهه غير جَائِز، لأَنا أمرنَا أَن نتركهم وَمَا يدينون، فَلَا يُمكن عد اخْتِيَاره قَائِما فَلَا يعْتد بِهِ (وَالْإِكْرَاه بِحَبْس مخلد وَضرب مبرح) أَي شَدِيد (وَقتل سَوَاء عِنْده) أَي الشَّافِعِي، لِأَن فِي الْحَبْس ضَرَرا كَالْقَتْلِ، والعصمة تَقْتَضِي دفع الضَّرَر (بِخِلَاف نَحْو إِتْلَاف المَال وإذهاب الْجمال) فَإِنَّهُ لَا يكون إِكْرَاها (وأصل الْحَنَفِيَّة) الَّذِي تتفرع عَلَيْهِ الْأَحْكَام فِي بَاب الْإِكْرَاه (أَن الْمُكْره عَلَيْهِ إِمَّا قَول لَا يَنْفَسِخ) كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق (فَينفذ كَمَا) ينفذ (فِي الْهزْل) . قَالَ الشَّارِح: بل أولى لِأَنَّهُ منَاف للاختيار، وَالْإِكْرَاه مُفسد لَهُ لَا منَاف انْتهى. وَفِيه أَن منافاته إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَار عدم الرِّضَا بِحكمِهِ، وإفساد هَذَا بِاعْتِبَار الاضرار. وَقد سبق أَنه لَا يسلب الِاخْتِيَار، لَكِن الرِّضَا بالتلف بِسَبَب الحكم وعلته فِي جَانب الْهزْل يعادل النُّقْصَان الَّذِي يسببه الْإِكْرَاه وَلم يبلغ دَرَجَة الْمُنَافَاة للاختيار، فَقَوله بل أولى مَحل بحث (مَعَ اقْتِصَاره) أَي النَّفاذ (على الْمُكْره) أَي الْفَاعِل، لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل آلَة للحامل فِيهِ، فَلَا يلْزم على الْحَامِل شَيْء (إِلَّا مَا أتلف) من الْإِكْرَاه مَالا (كَالْعِتْقِ) أَي كالإكراه عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَول لَا يَنْفَسِخ وَقد أتلف بِهِ على الْمُكْره قيمَة الْمَمْلُوك (فَيجْعَل) الْفَاعِل فِيهِ (آلَة) فِي إِتْلَاف مَالِيَّة الْعَتِيق، لِأَن الْإِتْلَاف يحْتَمل ذَلِك (فَيضمن) الْحَامِل للْفَاعِل قيمَة العَبْد مُوسِرًا كَانَ أَو مُعسرا، لِأَن هَذَا ضَمَان إِتْلَاف فَلَا يخْتَلف باليسار والإعسار، وَيثبت الْوَلَاء للْفَاعِل قيمَة العَبْد مُوسِرًا، لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَهُوَ(2/309)
مقتصر على الْفَاعِل، وَلَا يمْتَنع ثُبُوته لغير من عَلَيْهِ الضَّمَان كَمَا فِي الرُّجُوع عَن الشَّهَادَة على الْعتْق فَإِنَّهُ يجب الضَّمَان على الشُّهُود، وَالْوَلَاء للْمَشْهُود عَلَيْهِ، لِأَن الْوَلَاء كالنسب، وَلَا سِعَايَة على العَبْد، لِأَن الْعتْق نفذ فِيهِ من جِهَة مَالِكه (بِخِلَاف مَا لم يتْلف) عَلَيْهِ مَا لَا (كعلى) أَي الْإِكْرَاه على (قبُولهَا) أَي على قبُول الزَّوْجَة (المَال فِي الْخلْع) وَهِي مدخوله (إِذْ يَقع) الطَّلَاق إِذا قبلت (وَلَا يلْزمهَا) المَال، لِأَن الْإِكْرَاه قاصرا كَانَ أَو كَامِلا يعْدم الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحكم جَمِيعًا، وَالطَّلَاق غير مفتقر إِلَى الرِّضَا، والتزام المَال مفتقر إِلَيْهِ. وَقد انْعَدم (بِخِلَافِهِ) أَي الْإِكْرَاه (فِي الزَّوْج) بِأَن يكرههُ على أَن يخلعها على مَال فَقبلت غير مُكْرَهَة فَإِنَّهُ (يَقع الْخلْع) لِأَنَّهُ من جَانِبه طَلَاق، وَالْإِكْرَاه لَا يمْنَع وُقُوعه (ويلزمها) المَال لِأَنَّهَا التزمته طَائِعَة بِإِزَاءِ مَا سلم لَهَا من الْبَيْنُونَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن قولا لَا يَنْفَسِخ (فسد) ذَلِك القَوْل، فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم (كَالْبيع) وَالْإِجَارَة فَإِنَّهُ ينْعَقد فَاسِدا، لِأَنَّهُ لَا يمْنَع انْعِقَاده لصدوره من أَهله فِي مَحَله، وَيمْنَع نفاذه لِانْعِدَامِ شَرط النَّفاذ وَهُوَ الرِّضَا، فَلَو أجَازه بعد زَوَال الْإِكْرَاه صَرِيحًا أَو دلَالَة صَحَّ كَمَا فِي البيع بِشَرْط أجل فَاسد أَو خِيَار فَاسد، فَإِنَّهُ إِذا سقط قبل تَقْرِيره صَحَّ (والأقارير) بِمَا لَا يحْتَمل الْفَسْخ، وَمَا لَا يحْتَملهُ من الماليات وَغَيرهَا، لِأَن صِحَّتهَا تعتمد على قيام الْمخبر بِهِ وثبوته سَابِقًا على الْإِقْرَار، وَإِذا لم يكن فِيهِ تُهْمَة ترجح صدقه فَيحكم بِهِ وَإِلَّا لم يرجح فَلم يعْتَبر، وَالْإِكْرَاه قَامَ قرينَة لعدم صدقه، ودلالته على عدم الصدْق راجحة على دلَالَة حَال الْمُؤمن على الصدْق كَمَا لَا يخفى (مَعَ اقتصارها) أَي الأقارير (عَلَيْهِ) أَي الْمقر أَيْضا لعدم صلاحيته لكَونه آلَة للمكره (أَو فعل لَا يحْتَمل كَون الْفَاعِل آلَة) للحامل عَلَيْهِ (كَالزِّنَا وَأكل رَمَضَان، وَشرب الْخمر) بملجئ، إِذْ لَا يتَصَوَّر كَون الشَّخْص واطئا بِآلَة غَيره أَو آكلا أَو شاربا بِفَم غَيره، وَمَا كَانَ كَذَلِك (اقْتصر) حكمه (عَلَيْهِ) أَي الْفِعْل (وَلَزِمَه حكمه) فَلَو أكره صَائِم صَائِما على الْأكل فسد صَوْم الْآكِل لَا غير (إِلَّا الْحَد) فَإِنَّهُ لَا يجب على الْفَاعِل أَيْضا، فَلَو أكرهه صَائِم على الزِّنَا لَا يجب بِهِ الْحَد على أَحدهمَا (وَأما من حَيْثُ هما) أى الْأكل وَالشرب (إِتْلَاف فاختلفت الرِّوَايَات فِي لُزُومه الْفَاعِل أَو الْحَامِل) . ففى الْخُلَاصَة وَغَيرهَا أكره على مَال الْغَيْر، فَالضَّمَان على الْمَحْمُول لَا الْحَامِل وان صلح آله لَهُ من حَيْثُ الْإِتْلَاف كَمَا فِي الْإِكْرَاه على الْإِعْتَاق، لِأَن مَنْفَعَة الْأكل حصلت للمحمول، فَكَانَ كالإكراه على الزِّنَا يجب الْعقر عَلَيْهِ بانتفاعه بِالْوَطْءِ، بِخِلَاف الْإِكْرَاه على الْإِعْتَاق حَيْثُ وَجب الضَّمَان على الْحَامِل لِأَن الْمَالِيَّة تلفت بِلَا مَنْفَعَة للمحمول. وَفِي الْمُحِيط أكره على أكل طَعَام غَيره يجب الضَّمَان على الْحَامِل وَإِن كَانَ الْمَحْمُول جائعا وحصلت لَهُ منفعَته، لِأَن الْمَحْمُول أكل طَعَام الْحَامِل بِإِذْنِهِ: لِأَن الْإِكْرَاه على الْأكل(2/310)
إِكْرَاه على الْقَبْض: إِذْ لَا يُمكنهُ الْأكل بِدُونِهِ غَالِبا فَصَارَ غَاصبا، ثمَّ مَالِكًا للطعام بِالضَّمَانِ ثمَّ آذنا لَهُ بِالْأَكْلِ. وَفِيه أَنه بِمُجَرَّد الْقَبْض لَا يصير الْمَغْصُوب ملكا للْغَاصِب، بل لَا بُد من تغير يَزُول بِهِ اسْمه، وَأعظم مَنَافِعه، أَو مَا أشبه ذَلِك على مَا عرف فِي مَحَله (إِلَّا مَال) الْمَحْمُول: أَي إِلَّا إِذا أكره (الْفَاعِل) على أكل مَال نَفسه وَأكله حَال كَونه (جائعا فَلَا رُجُوع) لَهُ على الْحَامِل لِأَن الْمَنْفَعَة حصلت لَهُ (أَو شبعان فعلى الْحَامِل قِيمَته) أَي الطَّعَام الَّذِي أكله كرها (لعدم انتفاعه) أَي الْفَاعِل (بِهِ) أَي الطَّعَام، ذكره فِي الْمُحِيط أَيْضا، بل تضرر بِهِ لكَونه على الشِّبَع (والعقر على الْفَاعِل بِلَا رُجُوع) على الْحَامِل (أما لَو أتلفهَا) أَي الْمَوْطُوءَة بِالْوَطْءِ (يَنْبَغِي الضَّمَان على الْحَامِل وَكَذَا) اقْتصر حكم الْمُكْره عَلَيْهِ على الْفَاعِل (إِن احْتمل) كَون الْفَاعِل آلَة للحامل فِيهِ (و) لَكِن (لزم آليته) أَي الْفَاعِل للحامل، وآليته مفعول لزم، وفاعله (تبدل مَحل الْجِنَايَة) وَهُوَ الْمحل الَّذِي يَقع فِيهِ الْفِعْل الْجِنَايَة، وتبدله أَن يعْتَبر وُقُوعهَا فِي مَحل آخر (المستلزم) صفة التبدل (لمُخَالفَة الْمُكْره) على صِيغَة الْفَاعِل، لِأَنَّهُ قصد بإكراهه وُقُوع الْجِنَايَة فِي الْمحل الأول (المستلزمة) صفة الْمُخَالفَة (بطلَان الْإِكْرَاه) مفعول المستلزمة، وَذَلِكَ لِأَن الْإِكْرَاه إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا كَانَ الْمُكْره عَلَيْهِ مُرَاد الْمُكْره بِخِلَاف مُرَاد الْمُكْره يضْطَر إِلَى إِيقَاعه، وَمَعَ تبدل الْمحل لَا يُوجد هَذَا الْمَعْنى كَمَا سَيظْهر فِي الْمِثَال (كإكراه الْمحرم) محرما آخر (على قتل الصَّيْد لِأَنَّهُ) أَي الْإِكْرَاه الْمَذْكُور إِكْرَاه (على الْجِنَايَة على إِحْرَام نَفسه) أَي الْفَاعِل (فَلَو جعل) الْفَاعِل (آلَة) للحامل (صَار) قتل الصَّيْد جِنَايَة (على إِحْرَام الْحَامِل) فَلَا يكون إِثْبَاتًا بِمَا أكرهه عَلَيْهِ، فَيبْطل الْإِكْرَاه وَلقَائِل أَن يَقُول حَقِيقَة الْإِكْرَاه إلجاء الْمَحْمُول على الْفِعْل وإفساد اخْتِيَاره وَقد تحقق، فَلَو جعل الْمَحْمُول آلَة وَنسب الْفِعْل إِلَى الْحَامِل لَا يلْزم مِنْهُ بطلَان الْإِكْرَاه، غَايَة الْأَمر أَن الْحَامِل قد وَقع الْجِنَايَة على إِحْرَام الْمَحْمُول، وَالشَّرْع مَا صحّح قَصده فقلبه عَلَيْهِ فَتدبر وَقيل الِاقْتِصَار على الْفَاعِل يَنْبَغِي أَن يكون فِي حق الْإِثْم فَقَط، إِذْ الْجَزَاء فِي هَذِه الصُّورَة على كل من الْفَاعِل وَالْحَامِل وَأجِيب بِأَن الْفِعْل هَهُنَا قتل الصَّيْد بِالْيَدِ، فَجَزَاؤُهُ الْمُتَرَتب عَلَيْهِ مقتصر على الْفَاعِل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلُزُوم الْجَزَاء عَلَيْهِ) أَي الْحَامِل (مَعَه) أَي الْفَاعِل (لِأَنَّهُ) أَي إِكْرَاه الْحَامِل على قتل الصَّيْد (يفوق الدّلَالَة) أَي دلَالَته من يقتل على الصَّيْد، وفيهَا يجب الْجَزَاء، فَفِيهِ أولى، فَكل مِنْهُمَا جَان على إِحْرَام نَفسه: أَحدهمَا بِالْقَتْلِ، وَالْآخر بِمَا هُوَ فَوق الدّلَالَة (و) كالإكراه للْغَيْر (على البيع وَالتَّسْلِيم) لملكه الْمَبِيع (اقْتصر التَّسْلِيم على الْفَاعِل وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقْتَصر عَلَيْهِ وَجعل آلَة للحامل (تبدل مَحل التَّسْلِيم عَن البيعية إِلَى المغصوبية) فَعلم أَن مَحل تبدل الْجِنَايَة تَارَة يكون بِاعْتِبَار(2/311)
ذَاته، وَتارَة بِاعْتِبَار وَصفه، وَذَلِكَ لِأَن التَّسْلِيم من جِهَة الْحَامِل يكون تَصرفا فِي ملك الْغَيْر على سَبِيل الِاسْتِيلَاء فَيصير البيع وَالتَّسْلِيم غصبا (بِخِلَاف نسبته) أَي التَّسْلِيم (إِلَى البَائِع فَإِنَّهُ متمم للْعقد فَيملكهُ) أَي المُشْتَرِي الْمَبِيع (ملكا فَاسِدا) لانعقاد بَيْعه وَعدم نفاذه لفساد فِي الِاخْتِيَار بِسَبَب الْإِكْرَاه (وَإِن) احْتمل كَون الْفَاعِل آلَة للحامل فِي الْفِعْل الْمُكْره عَلَيْهِ (لم تلْزم) آليته تبدل مَحل الْجِنَايَة (كعلى إِتْلَاف المَال وَالنَّفس، فَفِي) الْإِكْرَاه (الملجئ) . وَقد عَرفته (نسب) الْفِعْل (إِلَى الْحَامِل ابْتِدَاء) لَا نقلا من الْفَاعِل إِلَيْهِ كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض الْمَشَايِخ (فَلَزِمَهُ) أَي الْحَامِل (ضَمَان المَال) فِي إكراهه الْغَيْر على إِتْلَاف المَال، وَالْقصاص فِي إكراهه على الْقَتْل كَمَا هُوَ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد. وَقَالَ زفر: الْقصاص على الْفَاعِل، لِأَنَّهُ قَتله لَا حَيَاء نَفسه عمدا. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَا قصاص على أحد، بل الْوَاجِب الدِّيَة على الْحَامِل فِي مَاله ثَلَاث سِنِين، لِأَن الْقصاص إِنَّمَا هُوَ بِمُبَاشَرَة جَنَابَة تَامَّة، وَقد عدمت فِي حق كل من الْفَاعِل وَالْحَامِل، وَلَهُمَا أَن الْإِنْسَان مجبول على حب الْحَيَاة، فَقدم على مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى إبْقَاء الْحَيَاة بقضية الطَّبْع بِمَنْزِلَة آلَة لَا اخْتِيَار لَهَا كالسيف فِي يَد الْقَاتِل، فيضاف الْفِعْل إِلَى الْحَامِل (و) يلْزمه (الْكَفَّارَة وَالدية فِي إكراهه على رمي صيد فَأصَاب إنْسَانا على عَاقِلَة الْحَامِل) وَإِنَّمَا كَانَ الْفَاعِل آلَة للحامل فِي هَذِه الْحَالة (لِأَنَّهُ عَارض اخْتِيَاره) أَي الْفَاعِل (اخْتِيَار صَحِيح) وَهُوَ اخْتِيَار الْحَامِل وَالْفَاسِد فِي مُقَابلَة الصَّحِيح كَالْمَعْدُومِ (وَكَذَا حرمَان الْإِرْث) ينْسب إِلَى الْحَامِل، لِأَن الْفَاعِل يصلح آلَة للحامل بِاعْتِبَار تَفْوِيت الْمحل (أما الْإِثْم) فالفاعل لَا يصلح آلَة للحامل فِي حَقه إِذْ لَا يُمكن لأحد أَن يجني على دين غَيره، ويكتسب الْإِثْم لغيره لِأَنَّهُ قصد الْقلب، وَلَا يتَصَوَّر الْقَصْد بقلب الْغَيْر كَمَا لَا يتَصَوَّر التَّكَلُّم بِلِسَان الْغَيْر وَأَيْضًا على تَقْدِير كَونه آلَة يلْزم تبدل مَحل الْجِنَايَة، كَذَا قَالَ الشَّارِح وَلَا يخفى أَن عدم إِمْكَان اكْتِسَاب الْإِثْم لغيره إِذا لم يكن ذَلِك الْغَيْر مكْرها لَهُ مُسلم. وَأما إِذا كَانَ مكْرها فَغير مُسلم، وَقصد قلبه للإكراه كَاف، وَلَا عِبْرَة لقصد الْفَاعِل لفساد اخْتِيَاره، فَكَأَن قصد الْقَتْل إِنَّمَا وَقع من الْحَامِل لَا الْفَاعِل، وَلَيْسَ هَهُنَا تبدل مَحل الْجِنَايَة على الْوَجْه الْمَذْكُور آنِفا (فعلَيْهِمَا) أَي الْحَامِل وَالْفَاعِل الْإِثْم (لحمله) الْفَاعِل على الْقَتْل (وإيثار الآخر) وَهُوَ الْفَاعِل (حَيَاته) على من هُوَ مثله، وَهَذَا (فِي الْعمد وَفِي الْخَطَأ لعدم تثبتهما) أَي الْحَامِل وَالْفَاعِل (و) فِيمَا (فِي غَيره) أَي غير الْإِكْرَاه الملجئ (اقْتصر) حكم الْفِعْل (على الْفَاعِل) لعدم مَا يفْسد الِاخْتِيَار، وَهُوَ الْمُوجب لجعل الْفَاعِل آلَة للحامل وَنسبَة الْفِعْل إِلَيْهِ دون الْفَاعِل (فَيضمن) الْفَاعِل مَا أتْلفه من مَال غَيره (ويقتص) مِنْهُ بقتل غَيره عمدا عُدْوانًا (وكل الْأَقْوَال) الصَّادِر ذكرهَا (لَا تحْتَمل آلية قَائِلهَا) للحامل عَلَيْهَا (لعدم قدرَة الْحَامِل على تطليق(2/312)
زَوْجَة غَيره وإعتاق عَبده) أَي غَيره، وعَلى هَذَا الْقيَاس فِي جَمِيع التصورات الْعَقْلِيَّة ومبناه امْتنَاع التَّكَلُّم بِلِسَان الْغَيْر، وَمَا يُقَال من أَن كَلَام الرَّسُول كَلَام الْمُرْسل بمجاز إِذْ الْعبْرَة بالتبليغ، وَهُوَ قد يكون مشافهة وَقد يكون بِوَاسِطَة وَيحمل كَلَام الْوَكِيل فِي الطَّلَاق وَالْعتاق على كَلَام الْمُوكل تَقْديرا، وَلَا يَجْعَل الْوَكِيل آلَة للْمُوكل (بِخِلَاف الْأَفْعَال) فَإِن مِنْهَا مَا يحْتَمل وَمِنْهَا مَا لَا يحْتَمل و (هَذَا تَقْسِيم الْمُكْره عَلَيْهِ بِاعْتِبَار نسبته) أَي الْمُكْره عَلَيْهِ (إِلَى الْحَامِل والمحمول، وَأما) تقسيمه (بِاعْتِبَار حل إقدام الْمُكْره) أَي الْفَاعِل (وَعَدَمه) أَي عدم حل إقدامه (فالحرمات) أَي فَهُوَ أَن يُقَال الْمُحرمَات (أما بِحَيْثُ لَا تسْقط وَلَا يرخص فِيهَا كَالْقَتْلِ وجرح الْغَيْر) لِأَن خوف تلف النَّفس أَو الْعُضْو لَا يكون سَببا لرخصة قتل الْغَيْر أَو قطع عضوه وَإِن كَانَ عَبده لاستحقاقهما الصيانة واستوائهما فِي الِاسْتِحْقَاق فَلَا تسْقط إِحْدَى الحرمتين لِلْأُخْرَى، أَلا ترى أَن الْمُضْطَر لَا يحل لَهُ أَن يقطع طرف الْغَيْر ويأكله، بِخِلَاف مَا إِذا أكره على قطع طرف نَفسه بِالْقَتْلِ، فَإِن قيل لَهُ لأَقْتُلَنك أَو تقطع أَنْت يدك حل لَهُ قطع يَده لِأَن حُرْمَة نَفسه فَوق حُرْمَة يَده عِنْد التَّعَارُض لِأَن أَطْرَافه وقاية نَفسه كأمواله فَجَاز لَهُ اخْتِيَار أدنى الضَّرَر لدفع الْأَعْلَى، وَأما حُرْمَة نَفسه فَلَيْسَتْ فَوق حُرْمَة يَد غَيره لما أجمع عَلَيْهِ من عدم حل أكل طرف الْغَيْر للْمُضْطَر (وزنا الرجل لِأَنَّهُ) أَي زِنَاهُ (قتل معنى) لوَلَده، إِمَّا لانْقِطَاع نسبه عَنهُ إِذْ من لَا نسب لَهُ كالميت، وَأما لِأَنَّهُ لَا يجب نَفَقَته عَلَيْهِ وَلَا على الْمَرْأَة لعجزها فتهلك، كَذَا قَالُوا، وَفِيه أَن قَوْله تَعَالَى - {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} - يَدْفَعهُ، وَأَيْضًا لَو سلم فَفِي غير الْمُزَوجَة، أما فِيهَا فَلَا، لنسبته إِلَى صَاحب الْفراش وَوُجُوب نَفَقَته عَلَيْهِ، وَدفع هَذَا بِأَن حِكْمَة الحكم تراعى فِي الْجِنْس لَا فِي كل فَرد، وَفِي الشَّرْح مناقشات أُخْرَى طويناها، وَأورد أَن حُصُول الْوَلَد غير مَعْلُوم، وعَلى تَقْدِيره فالهلاك موهوم لقدرة الْأُم على كسب يُنَاسِبهَا وهلاك الْمُكْره مُتَيَقن فَلَا يُعَارضهُ ونوقش فِي تيقنه لاحْتِمَال أَن يمْتَنع الْمُكْره من قبله، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلِهَذَا أجمل المُصَنّف (فَلَا يحلهَا) أَي الْمُحرمَات الْمَذْكُورَة (الْإِكْرَاه الملجئ أَو) بِحَيْثُ (تسْقط كَحُرْمَةِ الْميتَة وَالْخمر وَالْخِنْزِير فيبيحها) أَي الْإِكْرَاه الملجئ هَذِه الْأَشْيَاء (للاستثناء) أَي لِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتثْنى من تَحْرِيم الْميتَة وَنَحْوهَا حَالَة الِاضْطِرَار فَلَا تثبت الْحُرْمَة فِيهَا حِينَئِذٍ فَتبقى على الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة ضَرُورَة (والملجئ) أَي حَالَة الْمُكْره عِنْد الْإِكْرَاه الملجئ (نوع من الِاضْطِرَار أَو تثبت) الْإِبَاحَة فِي الْإِكْرَاه الملجئ (بدلالته) أَي بِدلَالَة النَّص الْمَذْكُور فِي الِاضْطِرَار كَمَا تثبت حُرْمَة الضَّرْب بِالنَّصِّ الدَّال على حُرْمَة التأفيف بطرِيق أولى على مَا سبق (إِن اخْتصَّ) الِاضْطِرَار (بالمخمصة فيأثم) الْمُكْره (لَو أوقع) الْقَتْل أَو قطع الْعُضْو (بِهِ لامتناعه) من تنَاول ذَلِك (إِن) كَانَ (عَالما بسقوطها) أَي الْحُرْمَة كَمَا لَو امْتنع(2/313)
عَن أكل لحم الشاه وَشرب المَاء فِي هَذِه الْحَالة وَإِن لم يعلم فيرجى أَن لَا يكون آثِما لخفاء دَلِيل زَوَال الْحُرْمَة عِنْد الضَّرُورَة فيعذر بِالْجَهْلِ كَمَا فِي الْخطاب قبل الشُّهْرَة كَالصَّلَاةِ فِي حق من أسلم فِي دَار الْحَرْب وَلم يعلم بِوُجُوبِهَا ذكره فِي الْمَبْسُوط (وَلَا يبيحها) أَي الْمُحرمَات الَّتِي بِحَيْثُ تسْقط (غير الملجئ بل يُورث) غير الملجئ (شُبْهَة فَلَا حد بالشرب مَعَه) أَي مَعَ غير الملجئ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يحد إِذْ لَا تَأْثِير فَلَا إِكْرَاه بِالْحَبْسِ وَنَحْوه فِي الْأَفْعَال فوجوده كَعَدَمِهِ، وَجه الِاسْتِحْسَان أَنه يُورث شُبْهَة كالملك فِي الْجُزْء من الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة يصير شُبْهَة فِي إِسْقَاط الْحَد عَن الشَّرِيك بِوَطْئِهَا (أَو) بِحَيْثُ (لَا تسْقط) حرمته (لَكِن رخصت) أَي رخص تنَاول متعلقها عِنْد الضَّرُورَة مَعَ بَقَاء الْحُرْمَة وَحِينَئِذٍ (فإمَّا مُتَعَلقَة بِحقِّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يحْتَمل السُّقُوط) بِحَال (كَحُرْمَةِ التَّكَلُّم بِكفْر) إِذْ الْكفْر حرَام صُورَة وَمعنى حُرْمَة مُؤَبّدَة، وَأما إِجْرَاء كلمة الْكفْر فَهُوَ كفر صُورَة لِأَن الْأَحْكَام مُتَعَلقَة بِالظَّاهِرِ، إِلَّا أَن الشَّارِع رخص فِيهِ بِشَرْط اطمئنان الْقلب بالايمان بقوله - {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} - فَعلم أَنه لَيْسَ بِكفْر معنى (أَو) مُتَعَلقَة بِحقِّهِ (الَّذِي يحْتَملهُ) أَي السُّقُوط (وكترك الصَّلَاة وَأَخَوَاتهَا) من الزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج فَإِنَّهَا مُحْتَملَة للسقوط فِي الْجُمْلَة بالأعذار (فيرخص) تَركهَا (بالملجئ) لِأَن حَقه فِي نَفسه يفوت بِالْكُلِّيَّةِ وَحقّ الشَّرْع يفوت إِلَى خلف (فَلَو صَبر) وَلم يفعل مَا أكره عَلَيْهِ حَتَّى قتل (فَهُوَ شَهِيد) بذل نَفسه فِي طَاعَة رب الْعَالمين لِأَن حَقه تَعَالَى لَا يسْقط بِالْإِكْرَاهِ (وَمِنْه) أَي هَذَا الْقسم (زنَاهَا) أَي إِذا أكرهت على الزِّنَا فتمكينها من الزِّنَا حرَام (لَا يسْقط حرمته الَّتِي هِيَ حَقه تَعَالَى الْمُحْتَمل للرخصة) مَعَ بَقَاء الْحُرْمَة فِي الْإِكْرَاه الملجئ (لعدم الْقطع) لنسب وَلَدهَا من الزِّنَا عَنْهَا بِحَال فَلم يكن فِيهِ معنى الْقَتْل الَّذِي هُوَ الْمَانِع من الرُّخص فِي جَانب الرجل. وَأورد أَنَّهَا إِن كَانَت غير مُزَوّجَة لم يتَمَكَّن من التربية وَإِن كَانَت متزوجة يَنْفِيه فيفضي إِلَى الْهَلَاك أَيْضا وَأجِيب بِأَن الْهَلَاك يُضَاف إِلَى الَّذِي ألْقى بذره فِي غير ملكه، لَا إِلَى محلهَا لِأَنَّهَا مَحل لَا فَاعل (بِخِلَاف) الْإِكْرَاه (غير الملجئ فِيهِ) أَي فِي زنَاهَا فَإِنَّهَا غير مرخص لَهَا فِي ذَلِك (لَكِن لَا تحد الْمَرْأَة) بالتمكين فِيهِ (وَيحد هُوَ) أَي الرجل (مَعَه) أَي الْإِكْرَاه غير الملجئ لِأَن الملجئ لَيْسَ سَبَب رخصَة فِي حَقه كَمَا فِي حَقّهَا حَتَّى يكون غير الملجئ شُبْهَة رخصَة، و (لَا) يحد الرجل (مَعَ الملجئ) اسْتِحْسَانًا كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَقَالا بِهِ وَالْقِيَاس أَنه يحد مَعَ الملجئ أَيْضا. قَالَه أَبُو حنيفَة أَولا وَزفر لِأَن الْوَطْء لَا يتَصَوَّر من الرجل إِلَّا بانتشار آلَته وَهُوَ دَلِيل الطواعية لِأَنَّهُ لَا يحصل مَعَ الْخَوْف، بِخِلَاف الْمَرْأَة فَإِن بتمكينها يتَحَقَّق يتَحَقَّق مَعَ خوفها، وَالصَّحِيح الأول (لِأَنَّهُ) أَي زِنَاهُ (مَعَ) الملجئ لَهُ لدفع (قطع الْعُضْو) إِن كَانَ التخويف بِهِ أَو الْقَتْل، وَاكْتفى بِذكر الْأَدْنَى عَن الْأَعْلَى لاستلزام إِسْقَاطه بِالطَّرِيقِ الأولى (لَا(2/314)
للشهوة) ليزجر بِالْحَدِّ لِأَنَّهُ كَانَ مزجرا حَتَّى أكره فَكَانَ شُبْهَة فِي إِسْقَاطه وانتشار الْآلَة قد يكون طبعا بالفحولية المركبة فِي الرِّجَال، أَلا ترى أَن النَّائِم قد تَنْتَشِر آلَته مَعَ أَنه لَا قصد لَهُ وَلَا اخْتِيَار (وَإِمَّا) مُتَعَلقَة (بِحُقُوق الْعباد كَحُرْمَةِ إِتْلَاف مَال الْمُسلم) فَهِيَ (لَا تسْقط) بِحَال (لِأَنَّهَا) أَي حُرْمَة مَاله (حَقه) أَي العَبْد وَحقه لَا يسْقط، وَإِلَّا يلْزم عدم تأبيد عصمَة تثبت من حَيْثُ الْإِسْلَام، ثمَّ أَن الْإِتْلَاف ظلم وَحُرْمَة الظُّلم مُؤَبّدَة غير أَنَّهَا حَقه (الْمُحْتَمل للرخصة بالملجئ) حَتَّى لَو أكره على إِتْلَافه ملجئا رخص لَهُ فِيهِ (لِأَن حُرْمَة النَّفس فَوق حُرْمَة المَال) لِأَنَّهُ مهان مبتذل، لِأَنَّهُ رُبمَا يَجعله صَاحبه صِيَانة لنَفس الْغَيْر أَو طرفه (وَلَا تَزُول الْعِصْمَة) لِلْمَالِ فِي حق صَاحبه بِالْإِكْرَاهِ (لِأَنَّهَا) أَي عصمته (لحَاجَة مَالِكه وَلَا تَزُول) الْحَاجة (بإكراه الآخر) فإتلافه وَإِن رخص فِيهِ بَاقٍ على الْحُرْمَة (وَلَو صَبر على الْقَتْل كَانَ شَهِيدا) لبذل نَفسه لدفع الظُّلم كَمَا إِذْ امْتنع عَن ترك الْفَرَائِض حَتَّى قتل إِلَّا أَنه لما لم يكن فِي معنى الْعِبَادَات من كل وَجه قيدوا الحكم بِالِاسْتِثْنَاءِ فَقَالُوا إِن كَانَ شَهِيدا (إِن شَاءَ الله وَبَقِي من المكتسب الْجَهْل نذكرهُ فِي الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله رب الْعَالمين) .
تمّ الْجُزْء الثَّانِي ويليه الْجُزْء الثَّالِث: وأوله الْبَاب الثَّانِي من الْمقَالة الثَّانِيَة فِي أَحْوَال الْمَوْضُوع(2/315)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْبَاب الثَّانِي من الْمقَالة الثَّانِيَة
فِي أَحْكَام الْمَوْضُوع فِي أَدِلَّة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (أَدِلَّة الْأَحْكَام الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس) بِحكم الاستقراء، وَجه الضَّبْط الدَّلِيل الشَّرْعِيّ: إِمَّا وَحي أَو غَيره، وَالْوَحي إِمَّا متلوّ فَهُوَ الْكتاب، أَو غير متلوّ فَهُوَ السّنة، وَغير الْوَحْي إِمَّا قَول كل الْأمة من عصر فَهُوَ الْإِجْمَاع، وَإِلَّا فَالْقِيَاس، ويندرج فِي السّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفعله وَتَقْرِيره (وَمنع الْحصْر) أَي إِبْطَاله (بقول الصَّحَابِيّ على قَول الْحَنَفِيَّة) فَإِنَّهُم يقدمُونَ قِيَاس الصَّحَابِيّ على قياسهم لما عرف فِي مَحَله، وَهُوَ لَيْسَ من الْأَرْبَعَة. (وَشرع من قبلنَا) من الْأَنْبِيَاء (وَالِاحْتِيَاط والاستصحاب والتعامل مَرْدُود) خير الْمُبْتَدَأ (بردهَا) أَي برد هَذِه الْمَذْكُورَات ثَانِيًا (إِلَى أَحدهَا) أَي الْمَذْكُورَات هُوَ أَولا حَال كَون ذَلِك الْأَحَد الْمَرْدُود إِلَيْهِ (معينا) فَمَا سوى الِاحْتِيَاط والاستصحاب كَقَوْل الصَّحَابِيّ فَإِنَّهُ مَرْدُود إِلَى السّنة، وَشرع من قبلنَا فَإِنَّهُ مَرْدُود إِلَى الْكتاب إِذا قصه الله تَعَالَى من غير إِنْكَار، وَإِلَى السّنة إِذا قصه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك، وَهُوَ أَيْضا فِي الْحَقِيقَة رَاجع إِلَى الْكتاب لقَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} - فَتَأمل. والتعامل فَإِنَّهُ مَرْدُود إِلَى الْإِجْمَاع (ومختلفا فِي الِاحْتِيَاط والاستصحاب) فَإِن مرجع كل مِنْهُمَا غير مُتَعَيّن، بل تَارَة من الْكتاب، وَتارَة من السّنة، وَتارَة من غَيرهمَا، هَذَا هُوَ الظَّاهِر فِي تَفْسِير التعين وَالِاخْتِلَاف، وَالْمَفْهُوم من كَلَام الشَّارِح غير أَنه لَا يظْهر تأثيرهما بالاختلاف مَعَ أَن شرع من قبلنَا أَيْضا كَذَلِك فَتَأمل وَسَيَأْتِي تفصيلها فِي خَاتِمَة هَذِه الْمقَالة (وَمعنى الْإِضَافَة) فِي أَدِلَّة الْأَحْكَام (أَن الْأَحْكَام النّسَب الْخَاصَّة النفسية) إِذْ هِيَ تعلقات الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَدِيم الْقَائِم بِالذَّاتِ المقدسة بِأَفْعَال الْمُكَلّفين: اقْتِضَاء، أَو تخييرا، أَو وضعا (وَالْأَرْبَعَة) أَي الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (أدلتها) أَي النّسَب الْمَذْكُورَة (وَبِذَلِك) أَي بِسَبَب كَونهَا أَدِلَّة (سميت) الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة (أصولا) لِأَن الأَصْل مَا يبْنى عَلَيْهِ غَيره، والمدلول مَبْنِيّ على الدَّال (وَجعل بَعضهم)(3/2)
أَي الْحَنَفِيَّة (الْقيَاس أصلا من وَجه) لَا يثبت الحكم عَلَيْهِ ظَاهرا (فرعا من وَجه) آخر (لثُبُوت حجيته بِالْكتاب وَالسّنة) . قَالَ الشَّارِح وَإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَلَعَلَّه لم يذكرهُ لعدم الْجَزْم بإجماعهم، وَإِنَّمَا قُلْنَا لابتنائه عَلَيْهِ ظاهرأ لِأَن الْقيَاس مظهر لَا مُثبت. ثمَّ إِن قَوْله وَجعل مُبْتَدأ خَبره (يُوجب مثله) أَي الْكَوْن أصلا من وَجه فرعا من آخر (فِي السّنة) لثُبُوت حجيتها بِالْكتاب كَقَوْلِه - {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} -: إِلَى غير ذَلِك (وَالْإِجْمَاع) لثُبُوت حجيته بِالْكتاب وَالسّنة، فَلَا مُوجب للاقتصار على الْقيَاس. وَقيل إفرد بِالذكر لِأَنَّهُ أصل فِي الْفِقْه فَقَط، وَهِي أصل لَهُ ولعلم الْكَلَام (وَالْأَقْرَب) أَي إِفْرَاده بِالذكر (لاحتياجه فِي كل حَادِثَة إِلَى أَحدهَا) إِذْ لَا بُد لَهُ من عِلّة مستنبطة من أَحدهَا، وَعدم احتياجها إِلَيْهِ على هَذَا الْوَجْه (وَلَا يرد الْإِجْمَاع) نقضا على التَّعْلِيل الْمَذْكُور بِنَاء (على عدم لُزُوم الْمُسْتَند) لَهُ: يَعْنِي لَا يُقَال أَن الْإِجْمَاع أَيْضا مُحْتَاج إِلَى أَحدهَا إِذا قُلْنَا أَنه لَا يلْزم أَن يكون لَهُ مُسْتَند كَمَا ذهب إِلَيْهِ قوم وَقَالُوا: يجوز أَن يخلق فيهم علما ضَرُورِيًّا، ويوفقهم جَمِيعًا لاختيار الصَّوَاب، وَهَذَا ظَاهر (وَلَا) يرد أَيْضا (على لُزُومه) أَي على القَوْل بِلُزُوم الْمُسْتَند فِي الْإِجْمَاع كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (لِأَن الْمُحْتَاج إِلَيْهِ) أَي الْمُسْتَند (قَول كل) أَي كل وَاحِد وَاحِد (وَلَيْسَ) قَول كل وَاحِد (إِجْمَاعًا، بل هُوَ) أَي الْإِجْمَاع (كلهَا) أَي مَجْمُوع الْأَقْوَال (المتوقف على) قَول (كل وَاحِد، وَلَا يحْتَاج) الْمَجْمُوع إِلَى مُسْتَند (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يحْتَاج الْمَجْمُوع إِلَى مُسْتَند (كَانَ الثَّابِت لَهُ) أَي بِالْإِجْمَاع (بمرتبة الْمُسْتَند) أَي فِي رتبته، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الثَّابِت بِهِ قَطْعِيَّة الحكم، وَالثَّابِت بالمستند ظنيته، وَأَيْنَ الْقطع من الظَّن؟ . وَقد يُقَال: سلمنَا أَنه لَا يحْتَاج إِلَيْهِ بِنَفسِهِ، لكنه يحْتَاج بِوَاسِطَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَبِه ثَبت الفرعية من وَجه وَيصير كالقياس. وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن حجية الْإِجْمَاع، وإفادته الْقطع يسْتَند إِلَى عصمَة الْكل عَن الْخَطَأ استنادا يضمحل بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ اعْتِبَار مدخلية السَّنَد الْمَذْكُور فِي أصل انْعِقَاده بِحَسب مَا يَجْعَل مُحْتَاجا إِلَيْهِ فِي حجيته، وَهَذَا أولى مِمَّا قيل: أَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْمُسْتَند فِي تحَققه لَا فِي نفس الدّلَالَة على الحكم، فَإِن الْمُسْتَدلّ بِهِ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ بِخِلَاف الْقيَاس فَإِن الِاسْتِدْلَال بِهِ لَا يُمكن بِدُونِ مُلَاحظَة الثَّلَاثَة فَتدبر.
(الْكتاب) هُوَ (الْقُرْآن) تعريفا (لفظيا) فَإِنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ عرفا، غير أَن الْقُرْآن أشهر (وَهُوَ) أَي الْقُرْآن (اللَّفْظ الْعَرَبِيّ الْمنزل للتدبر والتذكر الْمُتَوَاتر) فاللفظ جنس يعم الْكتب السماوية وَغَيرهَا، والعربي يخرج غير الْعَرَبِيّ من الْكتب السماوية وَغَيرهَا، والمنزل بِلِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج مَا لَيْسَ بمنزل من الْعَرَبِيّ. وَقَوله للتدبر والتذكر لزِيَادَة التَّوْضِيح، والتدبر: التفهم(3/3)
للاطلاع على مَا يتبع ظَاهره من التأويلات الصَّحِيحَة، والمعاني المستنبطة من الْأَحْكَام الْأَصْلِيَّة والفرعية، وَالْحكم الإلهية إِلَى غير ذَلِك، والتذكر الاتعاظ بقصصه، وَأَمْثَاله، ودلائله الدَّالَّة على وجود الصَّانِع الْخَبِير، ووحدانيته، وَكَمَال قدرته، وَلُزُوم التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور، والتهيئ لدار السرُور، وَنَحْو ذَلِك وَقيل: التدبر لما لَا يعلم إِلَّا من الشَّرْع، والتذكر لما لَا يسْتَقلّ بِهِ الْعقل، وَبِقَوْلِهِ الْمُتَوَاتر خرج مَا لَيْسَ بمتواتر كَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود - فَاقْطَعُوا أيمانهما وأمثالهما - وَبَعض الْأَحَادِيث الإلهية الَّتِي أسندها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الله تَعَالَى على لِسَان جِبْرِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَخرجت الْأَحَادِيث القدسية) أَي الإلهية (والإعجاز) وَهُوَ ارتقاؤه إِلَى حد خَارج عَن طوق الْبشر حَيْثُ أعجزهم عَن معارضته (تَابع لَازم لأبعاض خَاصَّة مِنْهُ لَا) يتَقَيَّد (بِقَيْد سُورَة) كَمَا قَالَ بعض الْأُصُولِيِّينَ، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة (وَلَا) هُوَ لَازم (كل بعض نَحْو {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} الْآيَة، فَإِنَّهَا جمل لَا إعجاز فِيهَا (وَهُوَ) أَي لفظ الْقُرْآن (مَعَ جزئية اللَّام) فِيهِ: أَي مَأْخُوذ مَعَ اللَّام الْمشَار بهَا إِلَى الْمَفْهُوم الْخَارِجِي، فِي الأَصْل صَار مَوْضُوعا (للمجموع) من الْفَاتِحَة إِلَى آخر سُورَة النَّاس فِي عرف الشَّرْع فَلَا يصدق على مَا دونه من آيَة وَلَا سُورَة (وَلَا مَعهَا) أَي اللَّفْظ الْمَذْكُور بِدُونِ اقترانه بهَا: تَعْرِيفه (لفظ إِلَى آخِره) أَي عَرَبِيّ منزل للتدبر والتذكر متواتر (فَيصدق على الْآيَة) وعَلى كل بعض يصدق عَلَيْهِ مَا ذكر فِي التَّعْرِيف (وَهَذَا) التَّعْرِيف (للحجة الْقَائِمَة) أَي مُنَاسِب لِلْقُرْآنِ من حَيْثُ أَنه حجَّة من الله قَائِمَة على الْعباد، إِذْ ثَبت بإعجازه نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَين الْأَحْكَام أصولا وفروعا، وبتواتره سد طَرِيق إنكارهم بُلُوغهَا إِلَيْهِم (و) تَعْرِيفه (بِلَا هَذَا الِاعْتِبَار) أَي كَونه حجَّة (كَلَامه تَعَالَى الْعَرَبِيّ الْكَائِن للإنزال) أَي الثَّابِت فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أثْبته الله تَعَالَى هُنَاكَ لمصْلحَة الْإِنْزَال بِلِسَان جِبْرِيل على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا ينْقض بِالْحَدِيثِ الْقُدسِي وَالْقِرَاءَة الشاذة لكَونهَا فِي اللَّوْح لقَوْله تَعَالَى - {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} - لأننا لَا نسلم أَنَّهَا أَثْبَتَت هُنَاكَ للإنزال فليتدبر (وللعربي) أَي ولاعتبار قيد الْعَرَبِيّ فِي ماهيته (رَجَعَ أَبُو حنيفَة) بَعْدَمَا تحقق عِنْده اعْتِبَار فِيهِ (عَن الصِّحَّة) أَي صِحَة الصَّلَاة (للقادر) على الْعَرَبِيّ إِذا عبر عَن الْمَضْمُون القرآني (بِالْفَارِسِيَّةِ) أَي بِالْفَارِسِيَّةِ مثلا، فَيدْخل مَا عدا الْعَرَبِيّ، وَذَلِكَ (لِأَن الْمَأْمُور) بِهِ فِي قَوْله - {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} - (وَقِرَاءَة مُسَمّى الْقُرْآن) وَقد عرفت أَن قيد الْعَرَبِيّ مُعْتَبر فِي مَفْهُوم مُسَمَّاهُ، وَلم يسم بِهَذَا الِاسْم إِلَّا الْمَوْجُود فِي الْخَارِج الْعَرَبِيّ على مَا رَوَاهُ عَنهُ نوح بن مَرْيَم وَعلي بن الْجَعْد، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى حَتَّى قَالَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْفضل: لَو تعمد ذَلِك فَهُوَ مَجْنُون فيداوى، أَو زنديق(3/4)
فَيقْتل (وَقَوْلهمْ) أَي بعض الْحَنَفِيَّة فِي التَّعْلِيل الْمَذْكُور لرجوعه توجيها لما ذهب إِلَيْهِ أَولا: أَن النّظم الْعَرَبِيّ (ركن زَائِد) لِلْقُرْآنِ بِمَعْنى كَونه يحْتَمل السُّقُوط، فَلَا يتَوَقَّف على جَوَاز الصَّلَاة لِأَنَّهُ مَقْصُود للإعجاز، وَالْمَقْصُود من الْقُرْآن فِي الصَّلَاة الْمُنَاجَاة لَا الإعجاز، فَلَا يكون النّظم لَازِما فِيهَا (لَا يُفِيد) دفع الِاعْتِرَاض عَنهُ، وَهُوَ كَونه مُخَالفا للنَّص الْمَذْكُور (بعد دُخُوله) أَي الرُّكْن الْمَذْكُور فِي مُسَمَّاهُ، فَإِن النَّص يطْلب الْعَرَبِيّ وَلَا يُجِيز غَيره، وَالتَّعْلِيل يُجِيزهُ، ولخصوصية الإعجازية مزية مَقْصُودَة للشارع فَلَا وَجه لإلغائه بِمثل هَذَا التَّعْلِيل، كَيفَ وَلَا يجوز معارضته النَّص بِالْمَعْنَى (وَدفعه) أَي هَذَا التعقيب (ب) أَن (إرادتهم الزِّيَادَة على مَا يتَعَلَّق بِهِ الْجَوَاز) للصَّلَاة من الْقُرْآن (مَعَ دُخُوله) أَي النّظم الْعَرَبِيّ (فِي الْمَاهِيّة) القرآنية، إِذْ لَا مُنَافَاة بَين كَونه ركنا لماهيته، وزائدا على مَا يتَعَلَّق بِهِ جَوَاز الصَّلَاة مِنْهُ (دفع) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي دَفعه يَعْنِي (بِعَين) مَادَّة (الْإِشْكَال لِأَن دُخُوله) أَي النّظم الْعَرَبِيّ فِي مَاهِيَّة الْقُرْآن هُوَ (الْمُوجب لتَعلق الْجَوَاز بِهِ) أَي بالنظم الْمَذْكُور، لِأَن الْمَأْمُور بِهِ قِرَاءَة الْقُرْآن، وَلَا يتَحَقَّق مُسَمَّاهُ إِلَّا بِهِ فَلَا جَوَاز بِدُونِهِ (على أَن معنى الرُّكْن الزَّائِد عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (مَا قد يسْقط شرعا) كَمَا فِي الْإِقْرَار بِالنِّسْبَةِ إِلَّا الْأَيْمَان، فَإِنَّهُ يسْقط بعد الْإِكْرَاه الملجئ فِي حق من لم يجد وقتا يتَمَكَّن فِيهِ من الادعاء (فادعاؤه) أَي السُّقُوط شرعا (فِي النّظم) الْعَرَبِيّ (عين النزاع، وَالْوَجْه فِي الْعَاجِز) عَن النّظم الْعَرَبِيّ (أَنه) أَي الْعَاجِز عَنهُ (كالأمي) لِأَن قدرته على غير الْعَرَبِيّ كلا قدرَة، فَكَانَ أُمِّيا كَمَا هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فِيهِ فِي الْمُجْتَبى.
وَاخْتلف فِيمَن لم يحسن الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ وَيحسن بغَيْرهَا الأولى أَن يُصَلِّي بِلَا قِرَاءَة أَو بغَيْرهَا أهـ، وعَلى أَنه يُصَلِّي بِلَا قِرَاءَة الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، بل يسبح ويهلل (فَلَو أدّى) الْعَاجِز (بِهِ) أَي بالفارسي (قصَّة) من الْقَصَص الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن، أَو أمرا، أَو نهيا (فَسدتْ) الصَّلَاة لِأَنَّهُ تكلم بِكَلَام غير قُرْآن (لَا) تفْسد أَن أدّى الْعَاجِز بالفارسي (ذكرا) أَو تَنْزِيها: وَكَذَا غير الْعَاجِز إِلَّا إِذا اقْتصر على ذَلِك لإخلاء الصَّلَاة عَن الْقِرَاءَة حِينَئِذٍ قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا اخْتِيَار المُصَنّف، وَإِلَّا فَلفظ الْجَامِع الصَّغِير مُحَمَّد عَن يَعْقُوب عَن أبي حنيفَة فِي الرجل يفْتَتح للصَّلَاة بِالْفَارِسِيَّةِ، أَو يقْرَأ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَو يذبح ويسمي بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يحسن الْعَرَبيَّة قَالَ يُجزئهُ فِي ذَلِك كُله. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يُجزئهُ فِي ذَلِك كُله إِلَّا فِي الذَّبِيحَة، وَإِن كَانَ لَا يحسن الْعَرَبيَّة أَجزَأَهُ. قَالَ الصَّدْر الشَّهِيد فِي شَرحه: وَهَذَا تنصيص على أَن من يقْرَأ الْقُرْآن بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تفْسد الصَّلَاة بِالْإِجْمَاع، وَمَشى عَلَيْهِ صَاحب الْهِدَايَة. وَأطلق نجم الدّين النَّسَفِيّ وقاضيخان نقلا عَن شمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي الْفساد بهَا عِنْدهمَا (وَعنهُ) أَي عَن التَّعْرِيف(3/5)
الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن حَيْثُ أَخذ فِيهِ التَّوَاتُر (يبطل إِطْلَاق عدم الْفساد) للصَّلَاة (بِالْقِرَاءَةِ الشاذة) فِيهَا، إِذْ هِيَ غير متواترة، فَلَا يصدق عَلَيْهِ أَنه قُرْآن، فَيلْزم الإخلاء عَن الْقِرَاءَة فتفسد.
وَاخْتلف فِي المُرَاد بالشاذة، فَقيل: لغير أَئِمَّة الْقِرَاءَة فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا أَنَّهَا مَا عدا الْقرَاءَات لأبي عَمْرو وَنَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَابْن كثير وَالْكسَائِيّ وَابْن عَامر. وَثَانِيهمَا مَا وَرَاء الْقرَاءَات الْعشْر للمذكورين وَيَعْقُوب وَأبي جَعْفَر وَخلف. وَقَالَ ابْن حبَان: لَا نعلم أحدا من من الْمُسلمين حظر الْقرَاءَات بِالثلَاثِ الزَّائِدَة على السَّبع. وَقَالَ غَيره: قد اتّفق المتفقون سلفا وخلفا على أَن الْقرَاءَات الثَّلَاث المنسوبة إِلَى الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة متواترة قرئَ بهَا فِي جَمِيع الْأَمْصَار والأعصار من غير نَكِير فِي وَقت من الْأَوْقَات. قَالَ السُّبْكِيّ: الْمُعْتَمد عِنْد أَئِمَّة الْقِرَاءَة أَن المُرَاد بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي لَيست بشاذة كل قِرَاءَة يساعدها خطّ مصحف الإِمَام مَعَ صِحَة النَّقْل ومجيئها على الفصيح من لُغَة الْعَرَب. قَالَ أَبُو شامة: مَتى اخْتَلَّ أحد هَذِه الْأَركان الثَّلَاثَة أطلق على تِلْكَ الْقِرَاءَة شَاذَّة. فِي الدارية لَو قَرَأَ بِقِرَاءَة لَيست فِي مصحف الْعَامَّة كَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَأبي تفْسد صلَاته عِنْد أبي يُوسُف وَالأَصَح أَنَّهَا لَا تفْسد، وَلكنه لَا يعْتد بِهِ من الْقِرَاءَة. وَفِي الْمُحِيط تَأْوِيل مَا روى عَن عُلَمَائِنَا أَنه تفْسد صلَاته إِذا قَرَأَ هَذَا وَلم يقْرَأ شَيْئا آخر، لِأَن الْقِرَاءَة الشاذة لَا تفْسد الصَّلَاة فَإِن قيل: كَيفَ لَا تجوز الصَّلَاة بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رغبنا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن بقرَاءَته قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز بِمَا كَانَ فِي مصحفه الأول، لِأَن ذَلِك قد انتسخ، وَابْن مَسْعُود أَخذ بِقِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر عمره، وَأهل الْكُوفَة أخذُوا بقرَاءَته الثَّانِيَة، وَهِي قِرَاءَة عَاصِم فَإِنَّمَا رغبنا فِي تِلْكَ الْقِرَاءَة، كَذَا ذكره الطَّحَاوِيّ وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: تجوز الْقِرَاءَة بالشاذة إِن لم يكن فِيهَا تَغْيِير معنى وَلَا زِيَادَة حرف وَلَا نقصانه (وَلزِمَ فِيمَا لم يتواتر) من الْقرَاءَات (نفي القرآنية) عَنهُ (قطعا غير أَن إِنْكَار الْقطعِي إِنَّمَا يكفر) بِهِ الْمُنكر (إِذا كَانَ) ذَلِك الْقطعِي (ضَرُورِيًّا) من ضروريات الدّين على مَا هُوَ التَّحْقِيق (وَمن لم يشرطه أَي كَون الْقطعِي الَّذِي يكفر منكره ضَرُورِيًّا كالحنفية يكفر منكره (إِذا لم يثبت فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْقطعِي (شُبْهَة قَوِيَّة) لقُوَّة مَا يُورثهَا، وَاحْتَاجَ دَفعهَا إِلَى مُقَدمَات كَثِيرَة كَمَا يظْهر فِي الْمِثَال كإنكار ركن من أَرْكَان الْإِسْلَام مثلا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة (فَلِذَا) أَي لاشْتِرَاط انْتِفَاء الشُّبْهَة الْمَذْكُورَة فِي التَّكْفِير (لم يتكافروا) أَي لم يكفر كل من الْمُخَالفين (فِي التَّسْمِيَة) الآخر لوُجُود الشُّبْهَة القوية فِي كل طرف لقُوَّة دَلِيله، لِأَن الْمُنكر حِينَئِذٍ غير مكابر للحق، وَلَا قَاصد إِنْكَار مَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت كل من النَّفْي وَالْإِثْبَات يحْتَاج إِلَى دَلِيل قَطْعِيّ، إِذْ لَا يجوز نفي قرآنيتها وَلَا إِثْبَاتهَا إِلَّا بِهِ(3/6)
وَهل يتَصَوَّر وجود دَلِيل كَذَا فِي الْجَانِبَيْنِ قلت كَون كل مِنْهُمَا قَطْعِيا بِحَسب ظن صَاحبه لَا بِحَسب نفس الْأَمر، إِذْ قُوَّة الشُّبْهَة تخرجه عَن الْقطع بِحَسبِهِ، فَيرجع كل مِنْهُمَا إِلَى ظن قوي، فَمنع قُوَّة الشُّبْهَة التَّكْفِير فِي الْجَانِبَيْنِ مَعَ أَنهم أَجمعُوا على تَكْفِير من يُنكر شَيْئا من الْقُرْآن، وعَلى تَكْفِير من يلْحق بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. ثمَّ لما جعل الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور سَببا لعدم تَكْفِير كل من الْفَرِيقَيْنِ الآخر اتجه أَن يُقَال لَا يصلح سَببا لَهُ: إِذْ لَا يَخْلُو هَذَا الِاخْتِلَاف من أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا إِنْكَار جُزْء من الْقُرْآن، وَإِمَّا إِلْحَاق مَا لَيْسَ مِنْهُ بِهِ أجَاب عَنهُ بقوله: (لعدم تَوَاتر كَونهَا فِي الْأَوَائِل) أَي فِي أَوَائِل السُّور (قُرْآنًا) يَعْنِي أَن تَكْفِير الْمُنكر عِنْد كَون القرآنية متواترا وَلم يُوجد فِي التَّسْمِيَة، وَكَذَا تَكْفِير من يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ عِنْد الْقطع بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون تَقْدِير الْكَلَام: وَذهب إِلَى نفي قرآنيتها فِي غير النَّمْل من ذهب كمالك لعدم إِلَى آخِره، يُؤَيّدهُ مَا سَيَأْتِي من قَوْله: وَالْآخر.
وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه كَيفَ يُنكر قرآنيتها فِي أَوَائِل السُّور مَعَ شدَّة اهتمام السّلف بتجريد الْمَصَاحِف أجَاب عَنهُ بقوله (وكتابتها) فِي أَوَائِل السُّور (لشهرة الاستنان بالافتتاح) أَي بِالتَّسْمِيَةِ لكل سُورَة سوى بَرَاءَة، فالاستنان سَبَب الْكِتَابَة، والشهرة دافعة لتوهم كَونه قُرْآنًا (بهَا فِي الشَّرْع) بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع ": رَوَاهُ ابْن حبَان وَحسنه ابْن الصّلاح (وَالْآخر) أَي الْمُثبت لقرآنيتها فِي الْأَوَائِل يَقُوله: (إِجْمَاعهم) أَي الصَّحَابَة (على كتَابَتهَا) أَي التَّسْمِيَة بِخَط الْمُصحف فِي الْأَوَائِل (مَعَ أَمرهم بتجريد الْمَصَاحِف) عَمَّا سواهُ حَتَّى لم يثبتوا آمين فقد قَالَ ابْن مَسْعُود: جردوا الْقُرْآن وَلَا تخلطوه بِشَيْء: يَعْنِي فِي كِتَابَته. قَالَ الشَّارِح: قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ حَدِيث حسن مَوْقُوف أخرجه ابْن أبي دَاوُد يُوجِبهُ: أَي كَونهَا من الْقُرْآن (والاستنان) لَهَا فِي أَوَائِل السُّور (لَا يسوغه) أَي الْإِجْمَاع على كتَابَتهَا بِخَط الْمَصَاحِف فِيهَا (لتحققه) أَي الاستنان (فِي الِاسْتِعَاذَة وَلم تكْتب) فِي الْمُصحف (والأحق أَنَّهَا) أَي التَّسْمِيَة فِي محالها (مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (لتواترها فِيهِ) أَي فِي الْمُصحف (وَهُوَ) أَي تواترها فِيهِ (دَلِيل) تَوَاتر (كَونهَا قُرْآنًا) . ثمَّ لما أَقَامَ دَلِيلا على تواترا أَنَّهَا قُرْآن، وَهُوَ تواترها فِي الْمُصحف أَفَادَ أَنه لَا يلْزم إِثْبَات قرآنيتها تَوَاتر الْأَخْبَار بِكَوْنِهَا قُرْآنًا، فَقَالَ (على أَنا نمْنَع لُزُوم تَوَاتر كَونهَا قُرْآنًا فِي القرآنية) أَي فِي إِثْبَات قرآنيته فِي الْأَوَائِل (بل التَّوَاتُر فِي مَحَله فَقَط) كَاف فِي إِثْبَات قرآنيته، يَعْنِي لَا يلْزم أَن ينْقل إِلَيْنَا خبر متواتر أَنَّهَا فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع قُرْآن، بل يَكْفِي فِي ثُبُوت قرآنيتها نقل الْقُرْآن الثَّابِت فِي التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل سُورَة على سَبِيل التَّوَاتُر (وَإِن لم يتواتر كَونه) أَي مَا هُوَ قُرْآن(3/7)
(فِيهِ) أَي فِي مَحَله (مِنْهُ) أَي من الْقُرْآن إِذْ يَكْفِي ثُبُوته فِيهِ، وَهَذَا مَوْجُود فِي التَّسْمِيَة (وَعنهُ) أَي عَن كَون الشَّرْط مُجَرّد التَّوَاتُر فِي مَحَله (لزم قرآنية المكررات) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} - (وتعددها قُرْآنًا) مَعْطُوف على قرآنيتها: أَي وَلُزُوم تعددها من حَيْثُ أَنَّهَا قُرْآن، فَكل وَاحِد من ذَلِك المتعدد قُرْآن على حِدة (وَعَدَمه) أَي عدم التَّعَدُّد (فِيمَا تَوَاتر فِي مَحل وَاحِد فَامْتنعَ جعله) أَي مَا تَوَاتر فِي مَحل وَاحِد (مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (فِي غَيره) أَي غير ذَلِك الْمحل (ثمَّ الْحَنَفِيَّة) الْمُتَأَخّرُونَ على أَن التَّسْمِيَة (آيَة وَاحِدَة منزلَة يفْتَتح بهَا السُّور) عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يعرف فصل السُّور حَتَّى ينزل عَلَيْهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم إِلَّا أَنه قَالَ: لَا يعرف انْقِضَاء السُّورَة، وَقَالَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ مَعَ مَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله عز وَجل " قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي ": الحَدِيث. وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مبدأ الْوَحْي أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ - {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم} -. فَقَالَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ أَنَّهَا نزلت للفصل لَا فِي أول السُّورَة وَلَا فِي آخرهَا، فَيكون الْقُرْآن مائَة وَأَرْبع عشرَة سُورَة، وَآيَة وَاحِدَة لَا مَحل لَهَا بخصوصها (وَالشَّافِعِيَّة) على أَنَّهَا (آيَات فِي السُّور) أَي آيَة كَامِلَة من أول كل سُورَة على الْأَصَح عِنْدهم فِيمَا عدا الْفَاتِحَة وَبَرَاءَة، فَإِنَّهَا آيَة كَامِلَة من أول الْفَاتِحَة بِلَا خلاف وَلَيْسَت بِآيَة من بَرَاءَة بِلَا خلاف (وَترك نصف الْقُرَّاء) أَي ابْن عَامر وَنَافِع وَأَبُو عمر وَلها فِي أَوَائِل السُّور مُطلقًا وَحَمْزَة فِي غير الْفَاتِحَة، وَترك مُبْتَدأ خَبره (تَوَاتر) لأجل (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَركهَا) أَي ترك قرَاءَتهَا فِي أَوَائِل السُّور عِنْد قصد قرَاءَتهَا (وَلَا معنى) أَي وَلَا وَجه (عِنْد قصد قِرَاءَة سُورَة أَن يتْرك أَولهَا) أَي لِأَن تَركه (لَو لم يحث) على قِرَاءَة السُّورَة من أَولهَا، على أَن الْمَعْرُوف من الْحَث (على أَن يقْرَأ) الْقَارئ (السُّورَة على نَحْوهَا) أَي طبق ثُبُوتهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَإِن هَذَا التَّرْتِيب الْمَوْجُود فِي الْمَصَاحِف على طبق ذَلِك (وتواتر قرَاءَتهَا) أَي التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل السُّور (عَنهُ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِقِرَاءَة الآخرين) من الْقُرَّاء فِي أَوَائِل السُّور (لَا يستلزمها) أَي لَا يسْتَلْزم كَون التَّسْمِيَة (مِنْهَا) أَي السُّورَة (لتجويزه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (للافتتاح) بهَا فَإِن قلت هَب أَن قِرَاءَة الآخرين لَا يسْتَلْزم جزئيتها من السُّور كَيفَ التَّوْفِيق بَين التواترين، تَوَاتر تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قرَاءَتهَا فِي الْأَوَائِل، وتواتر قرَاءَتهَا فِيهَا، قلت يجوز ذَلِك بِاعْتِبَار الْأَوْقَات تَعْلِيما للْجُوَاز وَعدم الْجُزْئِيَّة. وَعَن شمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي وَغَيره أَن أَكثر مَشَايِخنَا على أَنَّهَا آيَة من الْفَاتِحَة، وَبهَا تصير سبع آيَات. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ(3/8)
لَيْسَ عَن أَصْحَابنَا رِوَايَة منصوصة على أَنَّهَا من الْفَاتِحَة، أَو لَيست آيَة مِنْهَا إِلَّا أَن شَيخنَا أَبَا الْحسن الكرحي حكى مَذْهَبهم فِي ترك الْجَهْر بهَا فَدلَّ على أَنَّهَا لَيست آيَة مِنْهَا عِنْدهم، وَإِلَّا لجهر بهَا كَمَا يجْهر بِسَائِر آي السُّور، وَقطع بِهِ البُخَارِيّ فِي شرح مَعَاني الْآثَار (وَمَا عَن ابْن مَسْعُود من إِنْكَار) كَون (المعوذتين) من الْقُرْآن (لم يَصح) عَنهُ كَمَا ذكره الطرطوسي وَغَيره (وَإِن ثَبت خلو مصحفه) مِنْهُمَا (لم يلْزم) كَون خلوه (لإنكاره) أَي ابْن مَسْعُود قرآنيتهما (لجوازه) أَي كَون خلوه (لغاية ظهورهما) . وَفِيه أَن ظُهُور الْإِخْلَاص مثلا أَكثر مِنْهُمَا فَتَأمل (أَو لِأَن السّنة عِنْده) أَي ابْن مَسْعُود (أَن لَا يكْتب مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (إِلَّا مَا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكتبه وَلم يسمعهُ) أَي أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَقُول وَلَو قيل أَنه كَانَ يعلم أَنَّهَا كَلَام الله تَعَالَى بِلَا شُبْهَة، لَكِن اشتبهت جزئيته من الْقُرْآن، وَإِنَّمَا ارْتَفَعت هَذِه الشُّبْهَة بعد كِتَابَته ذَلِك الْمُصحف بِالْإِجْمَاع. ثمَّ تَوَاتر بعد ذَلِك إِمَّا بعد زَمَانه، أَو فِي زَمَانه، وَلم يتَّفق لَهُ إدخالهما فِيهِ وَلم يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَحْذُور وَالله أعلم.
مسئلة
(الْقِرَاءَة الشاذة حجَّة ظنية خلافًا للشَّافِعِيّ لنا) أَنَّهَا (مَنْقُول عدل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَيجب قبُوله كَسَائِر منقولاته (قَالُوا) أَي الشَّافِعِيَّة: أَنَّهَا (مُتَيَقن الْخَطَأ، قُلْنَا) الْخَطَأ (فِي قرآنيته لَا) فِي (خبريته مُطلقًا) لعدم الْخَطَأ فِي أصل مضمونه (وَانْتِفَاء الْأَخَص) وَهُوَ كَونه خَبرا قرآنيا (لَا يَنْفِي الْأَعَمّ) وَهُوَ كَونه خَبرا صَحِيحا مَنْقُولًا (فَكَمَا لأخبار الأحاد) مِمَّا لم ينْسب إِلَى الْقُرْآن وَلم يبلغ حد التَّوَاتُر والشهرة، ثمَّ المفاد من كَلَام الْفَرِيقَيْنِ الْجَزْم بالْخَطَأ فِي قرآنيتها وَعدم التَّوَاتُر لَا يسْتَلْزم الْقطع بِالنَّفْيِ، غَايَة الْأَمر النَّفْي بِالْقطعِ بقرآنيتها فَمن أَيْن يحكم بالْخَطَأ فِيهَا؟ وَقد بَقِي فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّا نخن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} - يُفِيد حفظه عَن وُقُوع الشُّبْهَة فِيهِ فَتَأمل (ومنعهم) أَي مانعي حجيتها (الْحصْر) الَّذِي ادَّعَاهُ مثبتوها فِي كَونه قُرْآنًا أَو خَبرا ورد بَيَانا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَظن قُرْآنًا فَألْحق بِهِ، وعَلى هَذَا التَّقْدِيرَيْنِ يجب الْعَمَل بِهِ (بتجويز ذكره) أَي الصَّحَابِيّ ذَلِك (مَعَ التِّلَاوَة) حَال كَون هَذَا الْمَذْكُور الَّذِي أدرجه فِي أثْنَاء تِلَاوَته الْقُرْآن (مذهبا) لَهُ غير أَن يسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل لما أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَذكره فِي معرض الْبَيَان (بعيد جدا لِأَن نظم مذْهبه مَعَه) أَي الْقُرْآن (إِيهَام) ظن (أَن مِنْهُ) أَي الْقُرْآن (مَا لَيْسَ مِنْهُ) أَي الْقُرْآن وَهَذَا نوع تلبيس لَا يَلِيق بشأن الصَّحَابِيّ (لَا جرم أَن) القَوْل (الْمُحَرر) أَي الْمُسْتَقيم الْمَرْوِيّ (عَنهُ) أَي الشَّافِعِي (كَقَوْلِنَا بِصَرِيح لَفظه) قَالَ: ذكر الله الْأَخَوَات(3/9)
من الرَّضَاع بِلَا تَوْقِيت، ثمَّ وقتت عَائِشَة الْخمس وأخبرت أَنه مِمَّا نزل من الْقُرْآن فَهُوَ وَإِن لم يكن قُرْآنًا يقْرَأ فَأَقل حالاته أَن يكون عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْقُرْآن لَا يَأْتِي بِهِ غَيره، فَهَذَا عين قَوْلنَا وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابنَا كَمَا نَقله الأسنوي وَغَيره حَتَّى احْتَجُّوا بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود - فَاقْطَعُوا أيمانهما - على قطع الْيُمْنَى (ومنشأ الْغَلَط) فِي أَن مذْهبه عدم حجيته كَمَا نسبه إِلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ (عدم إِيجَابه) أَي الشَّافِعِي (التَّتَابُع) فِي صَوْم الْكَفَّارَة (مَعَ قِرَاءَة ابْن مَسْعُود) فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات. نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: وَهَذَا عَجِيب لجَوَاز كَون ذَلِك لعدم ثُبُوته عِنْده أَو لقِيَام معَارض انْتهى، وعَلى هَذَا مَشى السُّبْكِيّ فَقَالَ: لَعَلَّه لمعارضة ذَلِك مَا قالته عَائِشَة نزلت - فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات - فَسَقَطت مُتَتَابِعَات أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ إِسْنَاد صَحِيح.
مسئلة
(لَا يشْتَمل) الْقُرْآن (على مَا لَا معنى لَهُ خلافًا لمن لَا يعْتد بِهِ من الحشوية) قيل بِإِسْكَان الشين، لِأَن مِنْهُم المجسمة، والجسم محشو، وَالْمَشْهُور فتحهَا، لأَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ أَيَّام الْحسن الْبَصْرِيّ فِي حلقته فَوجدَ كَلَامهم رديئاً فَقَالَ: ردوا هَؤُلَاءِ إِلَى حَشا الْحلقَة: أَي جَانبهَا (تمسكوا بالحروف الْمُقطعَة) فِيهِ أَي الْقُرْآن فِي أَوَائِل السُّور (وَنَحْو إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد (ونفخة وَاحِدَة قُلْنَا التَّأْكِيد كثير وإبداء فَائِدَته قريب) فِي الْكَشَّاف الِاسْم الْحَامِل لِمَعْنى الْإِفْرَاد والتثنية دَال على شَيْئَيْنِ: الجنسية وَالْعدَد الْمَخْصُوص، فَإِذا أريدت الدّلَالَة على أَن الْمَعْنى بِهِ مِنْهُمَا وَالَّذِي سَاق لَهُ الحَدِيث هُوَ الْعدَد شفع بِمَا يؤكده، فَدلَّ بِهِ على الْقَصْد إِلَيْهِ والعناية بِهِ، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَلم تؤكده بِوَاحِد لم يحسن، وخيل أَنَّك تثبت الإلهية انْتهى، ثمَّ فَائِدَة التَّأْكِيد تَحْقِيق مَفْهُوم الْمُؤَكّد بِحَيْثُ لَا يظنّ بِهِ غَيره، وَدفع توهم التَّجَوُّز والسهو وَعدم الشُّمُول إِلَى غير ذَلِك (وَأما الْحُرُوف) الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور (فَمن الْمُتَشَابه وأسلفنا فِيهِ) أَي الْمُتَشَابه (خلافًا) فِي (أَن مَعْنَاهُ يعلم أَولا) وَظهر ثمَّة أَنه عِنْد الْجُمْهُور لَا يعلم فِي الدُّنْيَا وَأَنه الْأَوْجه (فاللازم) للمتشابه عِنْدهم (عدم الْعلم بِهِ) أَي بِمَعْنَاهُ (لَا عَدمه) أَي الْمَعْنى (وَقيل مُرَادهم) أَي الحشوية بقَوْلهمْ يشْتَمل على مَالا معنى لَهُ (لَا يُوقف على مَعْنَاهُ) كَمَا هُوَ ظَاهر صَنِيع عبد الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ من جَوَاز اشْتِمَال الْقُرْآن على مَالا يفهم المكلفون مَعْنَاهُ (فكقول النَّافِي) أَي فَقَوْل الحشوية حِينَئِذٍ كَقَوْلِنَا فِي إِدْرَاك الْمَعْنى (فِي الْمُتَشَابه فَلَا خلاف) بَين الْجُمْهُور وَبينهمْ، وَقَالَ ابْن برهَان: يجوز أَن يشْتَمل على مَالا يفهم(3/10)
مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يتَعَلَّق بِهِ تَكْلِيف وَإِلَّا كَانَ تكليفا بِمَا لَا يُطَاق، وَفِي شرح البديع للشَّيْخ سراج الدّين أَن الْمُخْتَار عِنْد أَكثر الْعلمَاء أَنَّهَا أَسمَاء للسور فلهَا معَان.
مسئلة
(قِرَاءَة السَّبْعَة مَا) كَانَ (من قبيل الْأَدَاء) بِأَن كَانَ هَيْئَة اللَّفْظ يتَحَقَّق بِدُونِهَا وَلَا يخْتَلف خطوط الْمَصَاحِف بِهِ (كالحركات والإدغام) فِي المثلين أَو المتقاربين: وَهُوَ إدراج الأول مِنْهُمَا سَاكِنا فِي الثَّانِي، هَكَذَا ذكره الشَّارِح، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بهيئة اللَّفْظ كَيْفيَّة تحصل من تركيب الْحُرُوف والتقديم وَالتَّأْخِير بَينهَا مَعَ قطع النّظر عَن خصوصيات الحركات والسكنات، وَنَظِير ذَلِك فِي صُورَة الْخط، وَإِلَّا فَلَا شكّ فِي التَّغَيُّر فِيهَا بتبدل الحركات والإدغام (والإشمام) وَهُوَ الْإِشَارَة بالشفتين إِلَى الْحَرَكَة بعيد الإسكان من غير تصويت فيدركه الْبَصِير لَا غير (وَالروم) وَهُوَ إخفاء الصَّوْت بالحركة (والتفخيم والإمالة) وَهُوَ الذّهاب بالفتحة إِلَى الكسرة (وَالْقصر وَتَحْقِيق الْهمزَة وأضدادها) أَي الْمَذْكُورَات من الفك وَعدم الإشمام وَالروم والترقيق وَعدم الإمالة وَالْمدّ وَتَخْفِيف الْهمزَة (لَا يجب تواترها، وخلافه) أَي خلاف مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء (مِمَّا اخْتلف بالحروف كملك) فِي قِرَاءَة من عدا الْكسَائي وعاصما (وَمَالك) فِي قرائتهما (متواتر وَقيل مَشْهُور) أَي آحَاد الأَصْل متواتر الْفُرُوع (وَالتَّقْيِيد) لما هُوَ خلاف مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء مِنْهَا (باستقامة وَجههَا فِي الْعَرَبيَّة) كَمَا فِي شرح البديع (غير مُفِيد لِأَنَّهُ إِن أُرِيد) باستقامة وَجههَا فِي الْعَرَبيَّة (الجادة) وَهِي فِي اللُّغَة مُعظم الطَّرِيق، وفسرها الشَّارِح بالظاهرة فِي التَّرْكِيب، وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ قرآنيتها الْمَشْهُورَة الَّتِي أَكثر الِاسْتِعْمَال عَلَيْهَا (لزم عدم القرآنية فِي قتل أَوْلَادهم شركائهم) بِرَفْع قتل وَنصب أَوْلَادهم وجر شركائهم على أَن قتل مُضَاف إِلَى شركائهم وَفصل بَينهمَا بالمفعول الَّذِي هُوَ أَوْلَادهم، هَذَا يدل على أَنه حمل الحركات على غير الإعرابية وَإِلَّا فَهُوَ من الْقسم الأول (لِابْنِ عَامر) لِأَن الجادة فِي سَعَة الْكَلَام أَنه لَا يفصل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ بِغَيْر الظّرْف، وَالْجَار وَالْمَجْرُور (أَو) أُرِيد بهَا الاسْتقَامَة وَلَو (بتكلف شذوذ وَخُرُوج عَن الْأُصُول) أَي قوانين الْعَرَبيَّة (فممكن) أَي فَهَذَا التَّكْلِيف متيسر (فِي كل شَيْء) إِذْ لَا يَقع بِهِ الِاحْتِرَاز عَن شَيْء فَلَا فَائِدَة فِي التَّقْيِيد (وَقد نظر فِي التَّفْصِيل) الْمَذْكُور فِي مَحل التَّوَاتُر والناظر الْعَلامَة الشِّيرَازِيّ. وَجه النّظر أَن الْقُرْآن بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ متواتر فَلَا يخص التَّوَاتُر، بِخِلَاف مَا هُوَ من قبيل الْأَدَاء (لِأَن الحركات وَمَا مَعهَا) من الْمَذْكُورَات (أَيْضا قُرْآن) وَالْقُرْآن بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ متواتر، ثمَّ اسْتَزَادَ المُصَنّف فِي النّظر فَقَالَ (وَلَا يخفى أَن الْقصر وَالْمدّ من قبيل(3/11)
الثَّانِي) أَي خلاف مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء (فَفِي عدهما من) قبيل (الأول) أَي مَا كَانَ من قبيل الْأَدَاء (نظر، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجعلا من قبيل الثَّانِي بل من الأول (لزم مثله) وَهُوَ أَن يَجْعَل من الأول (فِي مَالك وَملك) إِذْ لَا يزِيد مَالك عَن ملك إِلَّا بالمدة الَّتِي هِيَ الْألف (لنا) فِي أَن مَا هُوَ من قبيل الثَّانِي متواتر أَنه (قُرْآن فَوَجَبَ تواتره) وَالْقُرْآن كُله متواتر إِجْمَاعًا (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن مَا كَانَ من الْقسم الثَّانِي من قِرَاءَة السَّبْعَة مَشْهُور آحَاد الأَصْل (الْمَنْسُوب إِلَيْهِم) أَي الَّذين نسب إِلَيْهِم قِرَاءَة السَّبْعَة: وهم السَّبْعَة (آحَاد) لأَنهم سَبْعَة نفر والتواتر لَا يحصل بِهَذَا الْعدَد فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فضلا عَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ (أُجِيب بِأَن نسبتها) أَي القراآت السَّبع إِلَيْهِم (لاختصاصهم) أَي الْقُرَّاء السَّبْعَة (بالتصدي) للاشتغال بهَا وَتَعْلِيمهَا واشتهارهم بذلك (لَا لأَنهم النقلَة) خَاصَّة بِأَن تكون رِوَايَتهَا مَقْصُورَة عَلَيْهِم (بل عدد التَّوَاتُر) كَانَ مَوْجُودا (مَعَهم) فِي كل طبقَة إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلِأَن الْمدَار) لحُصُول التَّوَاتُر (الْعلم) أَي حُصُول الْعلم عِنْد الْعدَد (لَا الْعدَد) الْخَاص (وَهُوَ) أَي الْعلم (ثَابت) وَثُبُوت مدَار الشَّيْء مُسْتَلْزم لحصوله.
مسئلة
(بعد اشْتِرَاط الْحَنَفِيَّة الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص) الأول للعام (لَا يجوز) عِنْدهم (تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد) لما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَنه كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا بعد لُزُوم الْمُقَارنَة، فَإِن خبر الْوَاحِد إِنَّمَا يتَحَقَّق بعد زمَان الشَّارِع ونزول الْكتاب فِي زَمَانه قَالَ (لَو فرض نقل الرَّاوِي) للمخبر الْمَذْكُور (قرَان الشَّارِع) مفعول النَّقْل وإضافته لفظية لِأَن الشَّارِع قَارن وَالْقرَان مُتَعَدٍّ مَفْعُوله (الْمخْرج بالتلاوة) صلَة الْقُرْآن بِأَن يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قرن كلَاما دَالا على خُرُوج بعض أَفْرَاد الْكَلَام بتلاوته حَال كَون ذَلِك الْمخْرج (تقييدا) لإِطْلَاق عُمُوم المتلو (مفَاد الغيرية) أَي حَال كَون ذَلِك الْمخْرج بِحَيْثُ أفيد غيريته للمتلو قُرْآنًا سَوَاء كَانَت هَذِه الإفادة بِلَفْظ أَو بِقَرِينَة، وَتقدم أَن الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور قَول أَكثر الْحَنَفِيَّة وَبَعْضهمْ كالشافعية على عدم اشْتِرَاطهَا فِي التَّخْصِيص مُطلقًا، لَكِن لم يعلم بَينهم الْخلاف فِي عدم تَجْوِيز تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، وَفَائِدَة ذكره هَهُنَا بَيَان أَن الْمَنْع لَيْسَ لعدم قُصُور الشَّرْط: أَي الْمُقَارنَة بالغرض الْمَذْكُور (وَكَذَا) لَا يجوز (تَقْيِيد مطلقه) أَي الْكتاب (وَهُوَ) أَي تَقْيِيد مُطلقَة (الْمُسَمّى بِالزِّيَادَةِ على النَّص) بِخَبَر الْوَاحِد (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (و) لَا يجوز أَيْضا (حمله) أَي الْكتاب (على الْمجَاز لمعارضته) أَي خبر الْوَاحِد للْكتاب لأجل الْجمع بَينهمَا،(3/12)
وَهَذَا عِنْد الْقَائِلين من الْحَنَفِيَّة بِأَن الْعلم قَطْعِيّ كالقراءتين ظَاهر (وَكَذَا الْقَائِل بظنية الْعَام مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة كَأبي مَنْصُور لَا يجوز ذَلِك عِنْده (على الْأَصَح) كَمَا ذكره صَاحب الْكَشْف وَغَيره (لِأَن الِاحْتِمَال) ثَابت (فِي ثُبُوت) نفس (الْخَبَر) يَعْنِي يحْتَمل أَن لَا يكون ثَابتا فِي نفس الْأَمر (وَالدّلَالَة) أَي ودلالته على المُرَاد مِنْهُ (فَرعه) أَي فرع ثُبُوت الْخَبَر (فاحتماله) أَي احْتِمَال ثُبُوت الْخَبَر احْتِمَال (عدمهَا) أَي الدّلَالَة لِأَنَّهُ على تَقْدِير عدم ثُبُوت الْخَبَر تنعدم الدّلَالَة بالطريقة الأولى (فَزَاد) خبر الْوَاحِد احْتِمَالا على احْتِمَال الْكتاب (بِهِ) أَي بِسَبَب الِاحْتِمَال فِي ثُبُوته. (لنا) فِي أَنه لَا يجوز تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد أَن خبر الْوَاحِد (لم يثبت ثُبُوته) أَي مثل ثُبُوت الْكتاب لِأَن ثُبُوته قَطْعِيّ وَثُبُوت خبر الْوَاحِد ظَنِّي (فَلَا يسْقط) خبر الْوَاحِد (حكمه) أَي الْكتاب (عَن تِلْكَ الْأَفْرَاد) الَّتِي يُخرجهَا خبر الْوَاحِد من عُمُوم الْكتاب على تَقْدِير أَن يخصصه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يسْقط الْكتاب عَنْهَا (قدم الظني) أَي لزم تَقْدِيم الدَّلِيل الظني (على) الدَّلِيل (الْقَاطِع) وَهُوَ بَاطِل (بِخِلَاف مَا لَو ثَبت) الْخَبَر (تواترا أَو شهرة) فَإِنَّهُ يجوز تَخْصِيص الْكتاب بِهِ (للمقاومة) بَين الْكتاب وَبَينهمَا، أما بَينه وَبَين الْمُتَوَاتر فبالاتفاق، وَأما بَينه وَبَين الْمَشْهُور على رَأْي الْجَصَّاص وَمن وَافقه فَإِنَّهُ يُفِيد علم الْيَقِين فَظَاهر، وَأما على رَأْي ابْن أبان وَمن وَافقه فِي أَنه علم طمأنينة فَلِأَنَّهُ قريب من الْيَقِين، وَالْعَام لَيْسَ بِحَيْثُ يكفر جاحده فَهُوَ قريب من الظَّن، وَقد انْعَقَد الْإِجْمَاع على تَخْصِيص عمومات الْكتاب بالْخبر الْمَشْهُور كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا يَرث الْقَاتِل شَيْئا " وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا خَالَتهَا " وَغير ذَلِك (فَثَبت) كل من الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور (تَخْصِيصًا وَزِيَادَة) أَي من حَيْثُ التَّخْصِيص بِعُمُوم الْكتاب وَمن حَيْثُ الزِّيَادَة على مطلقه حَال كَونه (مُقَارنًا) لَهُ إِذا كَانَ هُوَ الْمُخَصّص الأول (و) ثَبت كل مِنْهُمَا (نسخا) أَي من حَيْثُ الناسخية حَال كَونه (متراخيا) عَمَّا يُعَارضهُ (وَعنهُ) أَي اشْتِرَاط الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص (حكمُوا بِأَن تَقْيِيد الْبَقَرَة) فِي قَوْله تَعَالَى - {اذبحوا بقرة} - بالمقيدات الْمَذْكُورَة فِي الْأَجْوِبَة عَن أسئلتهم (نسخ) لإطلاقها لتأخر المقيدات عَن طلب ذبح مُطلقهَا، فنسخ حكم بقرات غير مَوْصُوفَة بِتِلْكَ الْقُيُود: وَهُوَ الْأَجْزَاء عَمَّا هُوَ الْوَاجِب (كالآيات الْمُتَقَدّمَة فِي بحث التَّخْصِيص) {كأولات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} بِالنِّسْبَةِ إِلَى - {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} - الْآيَة - وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} - بِالنِّسْبَةِ إِلَى - {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} - (وَعَن لُزُوم الزِّيَادَة بالآحاد) أَي كأخبار الأحاد (منعُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلْحَاق الْفَاتِحَة وَالتَّعْدِيل) للأركان (وَالطَّهَارَة) من الْحَدث والخبث (بنصوص الْقِرَاءَة)(3/13)
أَي قَوْله تَعَالَى: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} - (والأركان) أَي ارْكَعُوا واسجدوا (وَالطّواف) أَي وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق حَال كَون الملحقات (فَرَائض) لما ألحقت بهَا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ الْفَاتِحَة، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل الْمَسْجِد فَدخل رجل فصلى ثمَّ جَاءَ فَسلم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل فساقه إِلَى أَن قَالَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا مَا أحسن غير هَذَا فعلمني فَقَالَ:
إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة فَكبر ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر مَعَك من الْقُرْآن ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا من ارْفَعْ حَتَّى تطمئِن قَائِما ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا ثمَّ اجْلِسْ حَتَّى تطمئِن جَالِسا ثمَّ افْعَل ذَلِك فِي صَلَاتك كلهَا " وَبِمَا روى ابْن حبَان وَالْحَاكِم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" الطوف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن الله قد أحل فِيهِ الْمنطق فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير (بل) ألحقوها حَال كَونهَا (وَاجِبَات) للصَّلَاة وَالطّواف مكملات لَهما لَا يحكم ببطلانهما بِدُونِهَا (إِذْ لم يرد) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِمَا تيَسّر) من الْقُرْآن (الْعُمُوم الاستغراقي) وَهُوَ جَمِيع مَا تيَسّر (بل) المُرَاد (هُوَ) أَي مَا تيَسّر (من أَي مَكَان) تيَسّر من الْقُرْآن سَوَاء كَانَ (فَاتِحَة أَو غَيرهَا) فَلَو قيل لَا يحوز بِدُونِ الْفَاتِحَة وَالتَّعْدِيل وَالطَّهَارَة الصَّلَاة وَالطّواف بِهَذِهِ الْأَخْبَار لَكَانَ نسخا لهَذِهِ الاطلاقات بهَا وَهُوَ لَا يجوز لما عرفت، ثمَّ كَون التَّعْدِيل وَاجِبا قَول الْكَرْخِي وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ سنة (وَتَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المسئ) صلَاته بعد أول رَكْعَة حَتَّى أتم (يرجح تَرْجِيح الْجِرْجَانِيّ الاستنان) إِذْ يبعد تَقْرِيره على مَكْرُوه تَحْرِيمًا، وَقَالَ فِي شرح اهداية الأول أولى، لِأَن الْمجَاز حِينَئِذٍ يكون أقرب إِلَى الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا فِي الصِّحَّة، وَالْمَكْرُوه التحريمي أقرب إِلَيْهَا من التنزيهي، وللمواظبة، وَقد سُئِلَ مُحَمَّد عَن تَركهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن لَا يجوز، وَفِي الْبَدَائِع عَن أبي حنيفَة مثله، ثمَّ شبه منع إلحاقهم المكملات الْمَذْكُورَة لضعف دَلِيله بِمَنْع إلحاقهم الْمَذْكُورَات بعد قَوْله (كَقَوْلِهِم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي تَرْتِيب الْوضُوء وولائه وَنِيَّته) أَنَّهَا سنة (لضعف دلَالَة مقيدها) لما عرف فِي مَحَله (بِخِلَاف وجوب الْفَاتِحَة) إِذْ (نفي الْكَمَال) أَي إِرَادَته (فِي خَبَرهَا) أَي الْفَاتِحَة: وَهُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور (بعيد عَن معنى اللَّفْظ) لِأَن مُتَعَلق الْجَار وَالْمَجْرُور الْوَاقِع خَبرا إِنَّمَا هُوَ الثُّبُوت والكون الْعَام، وَالْمعْنَى لَا صَلَاة كائنة وَعدم الكينونة شرعا هُوَ عدم الصِّحَّة وَبَين عدم الصِّحَّة وَعدم الْكَمَال بون بعيد، فمدلوله عدم الصِّحَّة غير أَنه لما كَانَ خبر الْآحَاد نزل عَن دَرَجَة الْقطع إِلَى دَرَجَة الظَّن صَارَت وَاجِبَة (وبظني الثُّبُوت وَالدّلَالَة) كأخبار الْآحَاد الَّتِي مدلولاتها ظنية يثبت (النّدب وَالْإِبَاحَة وَالْوُجُوب) يثبت (بقطعيها) أَي الدّلَالَة (مَعَ ظنية الثُّبُوت) كأخبار الْآحَاد الَّتِي مفهوماتها قَطْعِيَّة (وَقَلبه) أَي وبظنيها مَعَ قَطْعِيَّة الثُّبُوت: كالآيات المؤولة (وَالْفَرْض) يثبت (بقطعيهما) أَي الثُّبُوت وَالدّلَالَة(3/14)
كالنصوص المفسرة والمحكمة وَالسّنة المتواترة الَّتِي مفهوماتها قَطْعِيَّة (وَيشكل) على أَن بظنيتهما يثبت النّدب وَالسّنة (استدلالهم) أَي الْحَنَفِيَّة لوُجُوب الطَّهَارَة فِي الطّواف كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْدهم (بِالطّوافِ) مَرْفُوع على الْحِكَايَة: أَي بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّواف (بِالْبَيْتِ صَلَاة لصدق التَّشْبِيه) أَي تَشْبِيه الطّواف بِالصَّلَاةِ (بالثواب) أَي بِاعْتِبَارِهِ بِأَن يكون وَجه الشّبَه هُوَ الثَّوَاب، قَوْله لصدق التَّشْبِيه يَعْنِي لَو حمل الْكَلَام على الْحَقِيقَة لزم عدم الصدْق وَلَو حمل على التَّشْبِيه صدق فَيتَعَيَّن التَّشْبِيه والتشبيه ثَابت بِمُجَرَّد اشتراكهما فِي الثَّوَاب وَلَا يلْزم من صدقه اشتراكهما فِي جَمِيع الْأَحْكَام كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور بعده كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَقَوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد قَوْله " الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة " (إِلَّا أَن الله أَبَاحَ فِيهِ الْمنطق) : أَي النُّطْق (لَيْسَ) مَحْمُولا (على ظَاهره) وَهُوَ كَون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا وَأَن الْمَعْنى الطّواف كَالصَّلَاةِ فِي جَمِيع الْأَحْكَام، إِلَّا أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمنطق ليَكُون (مُوجبا مَا سواهُ) أَي النُّطْق (من أَحْكَام الصَّلَاة فِي الطّواف) حَتَّى يدْخل فِيهِ وجوب الطَّهَارَة، وَوجه الْإِشْكَال أَن الحَدِيث ظَنِّي لكَونه خبر آحَاد ودلالته على اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي الطّواف أَيْضا ظَنِّي بل ضَعِيف (لجَوَاز نَحْو الشّرْب) فِيهِ تَعْلِيل لكَونه غير مَحْمُول على الظَّاهِر، فَالظَّاهِر أَنه كَمَا لَا يشْتَرط فِيهِ ترك نَحْو الشّرْب لَا يشْتَرط فِيهِ الْوضُوء، وَكَذَا قَالَ ابْن شُجَاع: هِيَ سنة (فَالْوَجْه) الِاسْتِدْلَال لَهُ (بِحَدِيث عَائِشَة حِين حَاضَت مُحرمَة) فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" اقضي مَا يقْضِي الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ " مُتَّفق عَلَيْهِ رتب منع الطّواف على انْتِفَاء الطَّهَارَة (وَادعوا) أَي الْحَنَفِيَّة (للْعَمَل بالخاص لفظ جَزَاء) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا} - وَقَوله لفظ جَزَاء عطف بَيَان للخاص، ومفعول ادعوا (انْتِفَاء عصمَة الْمَسْرُوق حَقًا للْعَبد) أَي انْتَفَى عصمته من حَيْثُ أَنه حق للْعَبد (لاستخلاصها) أَي عصمته حَقًا لله تَعَالَى (عِنْد الْقطع) لما يَأْتِي قَرِيبا (فَإِن قطع) السَّارِق (تقرر) خلوصها لله تَعَالَى قبيل فعل السّرقَة الْقبلية الَّتِي علم الله تَعَالَى أَنَّهَا تتصل بهَا السّرقَة كَانَ الْقطع مُبينًا لنا ذَلِك (فَلَا يضمن) الْمَسْرُوق (باستهلاكه لِأَنَّهُ) أَي الْجَزَاء الْمُطلق (فِي الْعُقُوبَات) يكون (على حَقه تَعَالَى خَالِصا بالاستقراء) لِأَنَّهُ الْمجَازِي على الْإِطْلَاق، وَلذَا سميت الْآخِرَة دَار الْجَزَاء، وَلَا تراعى فِيهِ الْمُمَاثلَة كَمَا روعيت فِي حق العَبْد مَالا كَانَ أَو عُقُوبَة وَلَا يَسْتَوْفِيه إِلَّا حَاكم الشَّرْع وَلَا يسْقط بِعَفْو الْمَالِك، وَإِذا كَانَ حَقه تَعَالَى كَانَت الْجِنَايَة وَاقعَة على حَقه فَيسْتَحق العَبْد جَزَاء من الله تَعَالَى فِي مُقَابلَة مَا فَاتَ من مَاله وَمن ضَرُورَة تحول الْعِصْمَة الَّتِي هِيَ مَحل الْجِنَايَة من العَبْد إِلَى الله تَعَالَى عِنْد فعل السّرقَة حَتَّى تقع جِنَايَة فِي حَقه تَعَالَى أَن يصير المَال فِي حق العَبْد مُلْحقًا بِمَا لَا قيمَة لَهُ كعصير الْمُسلم إِذا تخمر(3/15)
فَإِنَّهُ لَا يضمن من سَرقه، وَقد استوفى بِالْقطعِ مَا وَجب بالهتك فَلم يجب عَلَيْهِ شَيْء آخر، وروى الْحسن عَنهُ أَنه يجب الضَّمَان، لِأَن الِاسْتِهْلَاك فعل آخر غير السّرقَة وَأجِيب بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ فعلا آخر فَهُوَ اتمام الْمَقْصُود بهَا، وَهُوَ الِانْتِفَاع بالمسروق فَكَانَ معدودا مِنْهَا، وَأَيْضًا الْمَسْرُوق سَاقِط الْعِصْمَة لما قُلْنَا وَمَا يُؤْخَذ من السَّارِق غير ساقطها فَلَا مماثلة، وَالضَّمان يعْتَمد عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، ثمَّ هَذَا فِي الْقَضَاء، وَأما ديانَة فَفِي الْإِيضَاح قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحل للسارق الِانْتِفَاع بِهِ بِوَجْه من الْوُجُوه وَفِي الْمَبْسُوط عِنْد مُحَمَّد يُفْتى بِالضَّمَانِ للحوق الخسران للْمَالِك من جِهَة السَّارِق. قَالَ أَبُو اللَّيْث، وَهَذَا القَوْل أحسن (وَلَا يخفى أَنه) أَي لفظ جَزَاء (حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون خَاصّا بالعقوبة على الْجِنَايَة على حَقه تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ (بعادة الِاسْتِعْمَال، وَالْخَاص) إِنَّمَا يكون (بِالْوَضْعِ) لَا بعادة الِاسْتِعْمَال. ثمَّ عطف على قَوْله لاستخلاصها قَوْله (أَو لِأَنَّهُ) أَي الْجَزَاء (الْكَافِي فَلَو وَجب) الضَّمَان مَعَ الْقطع (لم يكف) الْقطع، وَالْفَرْض أَنه كَاف (وَفِيه نظر، إِذْ لَيْسَ الْكَافِي جَزَاء الْمصدر الْمَمْدُود بل) الْكَافِي (المجزئ من الْأَجْزَاء أَو الجازئ من الْجُزْء وَهُوَ الْكِفَايَة) كَمَا هُوَ الْمَذْكُور فِي كتب اللُّغَة الْمَشْهُورَة (فَهُوَ) أَي سُقُوط الضَّمَان عَن السَّارِق بعد الْقطع (بالمروى) عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ على مَا ذكره الْمَشَايِخ (لَا غرم على السَّارِق بعد مَا قطعت يَمِينه على مَا فِيهِ) من أَنه لَا يعرف بِهَذَا اللَّفْظ، وَأقرب لفظ إِلَيْهِ لفظ الدَّارَقُطْنِيّ " لَا غرم على السَّارِق بعد قطع يَمِينه " ثمَّ أَن رَاوِيه الْمسور بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن جده مَقْبُول، فإرساله غير قَادِح (وَالْحق أَنه) أَي عدم وجوب الضَّمَان مَعَ الْقطع (لَيْسَ من الزِّيَادَة) بِخَبَر الْوَاحِد على النَّص الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْقطع (لِأَن الْقطع لَا يصدق على نفي الضَّمَان وإثباته فيكونا) أَي نفي الضَّمَان وإثباته (من مَا صدقَات الْمُطلق) يَعْنِي لَو كَانَ الْقطع كالطواف الصَّادِق على طواف لَا طَهَارَة فِيهِ وَطواف فِيهِ طَهَارَة صَادِقا على نفي الضَّمَان وإثباته بِحَيْثُ يكونَانِ فردين لَهُ لَكَانَ يلْزم الزِّيَادَة بالْخبر الْمَذْكُور، لكنه لَيْسَ كَذَلِك (بل هُوَ) أَي نفي الضَّمَان (حكم آخر) غير مندرج تَحت الْقطع (أثبت بِتِلْكَ الدّلَالَة) الاستقرائية لجزاء (أَو بِالْحَدِيثِ) الْمَذْكُور، وَقد يُقَال وَكَذَلِكَ اشْتِرَاط الطَّهَارَة حكم آخر لَا يصدق عَلَيْهِ الطّواف فَإِن قلت مَا صدق عَلَيْهِ الطّواف إِنَّمَا هُوَ طواف لَيْسَ فِيهِ طَهَارَة قُلْنَا كَذَلِك هَهُنَا مَا صدق عَلَيْهِ الْقطع إِنَّمَا هُوَ قطع لَا تضمين فِيهِ، فَكَمَا أَن مُوجب إِطْلَاق الطّواف حُصُول الِامْتِثَال بإيقاع طواف بِلَا طَهَارَة وَمُوجب الْخَبَر عدم حُصُوله فبينهما تدافع، كَذَلِك مُوجب إِطْلَاق الْقطع حُصُول الِامْتِثَال بِقطع مَعَه ضَمَان وَمُوجب الْخَبَر عدم حُصُوله. فَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم عدم حُصُول الِامْتِثَال بِالْقطعِ مَعَ التَّضْمِين بِمُوجب الْخَبَر الْمَذْكُور لِأَن الِامْتِثَال لأمر فَاقْطَعُوا يحصل بِالْقطعِ على أَي وَجه كَانَ، غَايَة الْأَمر أَنه لَا يحصل الِامْتِثَال.(3/16)
للنَّهْي عَن تغريم السَّارِق، بِخِلَاف الحَدِيث الدَّال على اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي الطّواف فَإِن مُقْتَضَاهُ عدم حُصُول الِامْتِثَال لأمر - وليطوفوا - بِلَا طَهَارَة، وَهُوَ مُبين للمراد من الطّواف الْمَأْمُور بِهِ فَافْهَم (بِخِلَاف قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (وَجب لَهُ) أَي لأجل الْعَمَل بالخاص (مهر الْمثل بِالْعقدِ فِي المفوضة) بِكَسْر الْوَاو الْمُشَدّدَة، من زوجت نَفسهَا أَو زَوجهَا غَيرهَا بِإِذْنِهَا بِلَا تَسْمِيَة مهر، أَو على أَن لَا مهر لَهَا، ويروى بِفَتْحِهَا وَهِي من زَوجهَا وَليهَا بِلَا مهر بِغَيْر إِذْنهَا (فَيُؤْخَذ) مهر الْمثل (بعد الْمَوْت بِلَا دُخُول عملا بِالْبَاء) الَّذِي هُوَ لفظ خَاص فِي الإلصاق حَقِيقَة فِي قَوْله تَعَالَى - {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} - (لإلصاقها) أَي الْبَاء (الابتغاء وَهُوَ العقد) الصَّحِيح (بِالْمَالِ، وَحَدِيث بروع) وَهُوَ مَا عَن ابْن مَسْعُود فِي رجل تزوج امْرَأَة فَمَاتَ عَنْهَا وَلم يدْخل بهَا وَلم يفْرض لَهَا الصَدَاق. قَالَ لَهَا الصَدَاق كَامِلا، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث، فَقَالَ معقل بن سِنَان: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُفْتِي بِهِ بروع بنت واشق: أخرجه أَصْحَاب السّنَن وَاللَّفْظ لأبي دَاوُد، وَالْمرَاد صدَاق مثلهَا كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة لَهُ وَلغيره، وَسَيَأْتِي فِي الْكَلَام فِي جَهَالَة الرَّاوِي. فِي التَّلْوِيح بروع بِفَتْح الْبَاء وَأَصْحَاب الحَدِيث يكسرونها. وَفِي الْغَايَة بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا وَالْكَسْر أشهر، وَفِي الْمغرب بِفَتْح الْبَاء وَالْكَسْر خطأ (مؤيد) لِمَعْنى الْبَاء على صِيغَة الْفَاعِل، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله (فَإِنَّهُ) أَي الحَدِيث الْمَذْكُور (مُقَرر لَهُ) . قَوْله بِخِلَاف قَوْلهم إِلَى آخِره مربوط بقوله أَو بِالْحَدِيثِ مَعَ مَا قبله، فَإِن مدَار نفي الضَّمَان هُنَاكَ على ذَلِك الحَدِيث، لَا على الْعَمَل بالخاص، وَهَهُنَا وجوب الْمهْر بِالْعَمَلِ بِهِ، والْحَدِيث مُقَرر لَهُ (بِخِلَاف ادِّعَاء تَقْرِير أَقَله) أَي الْمهْر (شرعا) أَي فِي الشَّرْع، أَو تَقْديرا شَرْعِيًّا (عملا بقوله تَعَالَى قد علمنَا مَا فَرضنَا) عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم، لِأَن الْفَرْض لفظ خَاص وضع لِمَعْنى خَاص، وَهُوَ التَّقْدِير، وَالضَّمِير الْمُتَّصِل بِهِ لفظ خَاص يُرَاد بِهِ ذَات الْمُتَكَلّم، فَدلَّ على أَن الشَّارِع قدره إِلَّا أَنه فِي تعْيين الْمِقْدَار مُجمل (فالتحق) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا مهر أقل من عشرَة) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن أبي حَاتِم وَسَنَد ابْن أبي حَاتِم حسن (بيانابه) فَصَارَت عشرَة دَرَاهِم من الْفضة تَقْديرا لَازِما، لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن (إِذْ يدْفع) كَون المُرَاد من الْآيَة، هَذَا تَعْلِيل لما يفهم من قَوْله بِخِلَاف إِلَى آخِره مُتَعَلق بقوله مُقَرر: أَي لَا يُقرر ادِّعَاء تَقْدِير الْأَقَل حَدِيث لَا مهر إِلَى آخِره: إِذْ كَونه مقررا لَهُ فرع كَون الْفَرْض بِمَعْنى التَّقْدِير وَهُوَ غير مُسلم (بِجَوَاز كَونه) أَي الْمَفْرُوض الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِمَا فَرضنَا (النَّفَقَة وَالْكِسْوَة وَالْمهْر بِلَا كمية خَاصَّة فِيهِ) أَي فِي الْمهْر (لَا تنقص) تِلْكَ الكمية (شرعا) . قَوْله لَا تنقص صفة كمية (كَمَا فيهمَا) أَي كالمفروض فِي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فِي عدم الكمية الْخَاصَّة (وَتعلق(3/17)
الْعلم) بالمفروض فِي قَوْله - {قد علمنَا مَا فَرضنَا} -. (لَا يستلزمه) أَي التَّعْيِين فِي الْمَفْرُوض (لتَعَلُّقه) أَي الْعلم (بضده) وَهُوَ غير الْمعِين أَيْضا (وَأما قصر المُرَاد) بالمفروض (عَلَيْهِمَا) أَي النَّفَقَة وَالْكِسْوَة (لعطف مَا ملكت أَيْمَانهم) على أَزوَاجهم فِي قَوْله تَعَالَى - {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم وَمَا ملكت أَيْمَانهم} - للْعلم بِعَدَمِ مُشَاركَة المملوكات فِي الْمهْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا مهر لَهُنَّ) على ساداتهن (فَغير لَازم) لجَوَاز أَن يكون الْمَفْرُوض بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأزْوَاج الْأُمُور الثَّلَاثَة، وبالنسبة إِلَى الْإِمَاء الْأَوَّلين (فَإِنَّمَا هُوَ) أَي تَقْدِير الْمهْر شرعا ثَابت (بالْخبر) الْمَذْكُور حَال كَونه (مُقَيّدا لإِطْلَاق المَال فِي أَن تَبْتَغُوا) بأموالكم، لَا بِالْعَمَلِ الْخَاص الَّذِي هُوَ لفظ فَرضنَا، غير أَنه يلْزم حِينَئِذٍ الزِّيَادَة على الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد كَمَا ذكره المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة (وَكَذَا ادِّعَاء وُقُوع الطَّلَاق فِي عدَّة الْبَائِن للْعَمَل بِهِ) أَي بالخاص (وَهُوَ الْفَاء لإفادتها) أَي الْفَاء (تعقيب) الطَّلَاق فِي قَوْله تَعَالَى (فَإِن طَلقهَا الافتداء) غير مُسلم (بل) هِيَ (لتعقيب) مَدْخُول الطلقتين المدلولتين بقوله (الطَّلَاق مَرَّتَانِ لِأَنَّهَا) أَي آيَة فَإِن طَلقهَا (بَيَان الثَّالِثَة: أَي الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِن طَلقهَا) بعد ذَلِك طَلْقَة (ثَالِثَة فَلَا تحل حَتَّى تنْكح، وَاعْترض) بَينهمَا إِفَادَة (جَوَازه) أَي الطَّلَاق مُطلقًا (بِمَال) . ثمَّ بَين الْإِطْلَاق بقوله (أولى) أَي طَلْقَة أولى (كَانَت أَو ثَانِيَة أَو ثَالِثَة) دلَالَة على أَن الطَّلَاق يَقع مجَّانا تَارَة، وبعوض أُخْرَى (وَلذَا) أَي لأجل أَن الْفَاء لتعقيب مَا بعْدهَا لما ذكر لَا للافتداء (لم يلْزم فِي شَرْعِيَّة الثَّالِثَة تقدم خلع) يرد عَلَيْهِ أَنه يدل على أَنه لَو أفادت تعقيب الثَّالِثَة للافتداء للَزِمَ مشروعيته تقدم الْخلْع وَفِيه نظر، لِأَنَّهَا لَا تفِيد حِينَئِذٍ إِلَّا مَشْرُوعِيَّة الثَّالِثَة بعد الْخلْع، وَأما الْحصْر فَلَا تفيده: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يَدعِي عدم دَلِيل آخر على مشروعيتها بِدُونِ تقدم الْخلْع، وإثباته مُشكل (وَأما إِيرَاد أثبتم التَّحْلِيل) للزَّوْج الثَّانِي (بلعن الْمُحَلّل) فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ ": رَوَاهُ ابْن مَاجَه، فَإِن الْمُحَلّل من يثبت الْحل كالمحرم من يثبت الْحُرْمَة (أَو بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزوجة رِفَاعَة الْقرظِيّ لما أَتَتْهُ فَقَالَت: كنت عِنْد رِفَاعَة الْقرظِيّ فطلقني، فَأَبت طَلَاقي، فَتزوّجت عبد الرَّحْمَن بن الزبير، وَإِن مَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب (أَتُرِيدِينَ) أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة (لَا، حَتَّى تَذُوقِي) عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك، رَوَاهُ الْجَمَاعَة إِلَّا أَبَا دَاوُد (زِيَادَة على الْخَاص لفظ حَتَّى فِي حَتَّى تنْكح) زوجا غَيره لِأَنَّهُ وضع لِمَعْنى خَاص وَهُوَ الْغَايَة، فنكاح الثَّانِي غَايَة للْحُرْمَة الثَّابِتَة بِالثلَاثِ لَا غير، فَلَا يثبت الْحل الْجَدِيد بِهِ، فإثباته بِأحد الْخَبَرَيْنِ زِيَادَة على الْخَاص مبطلة لَهُ، وَهَذَا الْإِيرَاد من فَخر الْإِسْلَام وَغَيره من قبل مُحَمَّد وَزفر وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة فِي مسئلة الْهدم: وَهِي الْمُطلقَة وَاحِدَة أَو ثِنْتَيْنِ إِذا انْقَضتْ(3/18)
عدتهَا وَتَزَوَّجت بآخر وَدخل بهَا ثمَّ طَلقهَا ثمَّ رجعت إِلَى الأول حَيْثُ قَالُوا: ترجع إِلَيْهِ بِمَا بَقِي من طَلاقهَا، وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف قَالَا: ترجع إِلَيْهِ بِثَلَاث قِيَاسا على الْمُطلقَة الثَّلَاث عملا بِكُل من الْخَبَرَيْنِ (فَلَا وَجه لَهُ إِذْ لَيْسَ عدم تَحْلِيله) أَي الزَّوْج الثَّانِي الزَّوْجَة للْأولِ (و) عدم (الْعود) أَي عودهَا (إِلَى الْحَالة الأولى) وَهِي ملك الأول الثَّلَاث عَلَيْهَا (من مَا صدقَات مدلولها) أَي حَتَّى فِي الْآيَة (ليلزم إِبْطَاله) أَي مدلولها (بِالْخَيرِ) فَهُوَ: أَي إِثْبَات التَّحْلِيل بِالثَّانِي (إِثْبَات مسكوت الْكتاب بالْخبر، أَو بِمَفْهُوم حَتَّى على أَنه) أَي مفهومها: يَعْنِي الْعَمَل بِهِ (اتِّفَاق) أَي مُتَّفق عَلَيْهِ، أما عِنْد غير الْحَنَفِيَّة فَظَاهر، وَأما عِنْدهم فَلِأَنَّهُ من قبيل الْإِشَارَة على مَا ذكر فِي البديع وَغَيره (أَو بِالْأَصْلِ) الْكَائِن فِيهَا قبل ذَلِك (وعَلى تَقْدِيره) أَي كَونه إِثْبَات مسكوت الْكتاب بِأحد هَذِه الْمَذْكُورَات (يرد) أَن يُقَال (الْعود) إِلَى الْحَالة الأولى (والتحليل إِنَّمَا جعل) كل مِنْهُمَا (فِي حرمتهَا بِالثلَاثِ وَلَا حُرْمَة قبلهَا) أَي لَا يتَحَقَّق حُرْمَة الثَّلَاث قبل الثَّلَاث (فَلَا يتصوران) أَي الْعود والتحليل، إِذْ لم تحرم فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة تِلْكَ الْحُرْمَة حَتَّى تعود، فَلَو أثبت حل بِهَذَا التَّزْوِيج كَانَ تحصيلا للحاصل (فَلَا يحصل مقصودهما) أَي أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَهُوَ (هدم الزَّوْج) الثَّانِي (مَا دون الثَّلَاث خلافًا لمُحَمد) . (وَلَا يخفى تضاؤل) أَي تصاغر (أَنه) أَي مَا دون الثَّلَاث (أولى بِهِ) أَي بِالْحلِّ الْجَدِيد من الثَّلَاث (أَو) أَنه ثَابت (بِالْقِيَاسِ) عَلَيْهَا، أما الأول فَلِأَنَّهُ لما أثبت الزَّوْج الثَّانِي حلا جَدِيدا فَلحقه الطلقات الثَّلَاث فِي الأغلظ كَانَ أَن يُثبتهُ فِي الأخف أولى، وَأما الثَّانِي فيجامع أَنه نِكَاح زوج ثَان بالغاء كَونه فِي حُرْمَة غَلِيظَة، ثمَّ أَن التضاؤل إِنَّمَا هُوَ بِسَبَب أَن مورد النَّص الدَّال على تَحْلِيل الزَّوْج الثَّانِي بِزَوْج كَائِن بعد اسْتِيفَاء الطلقات، وَلَا دَلِيل على إِلْغَاء هَذِه الخصوصية فَلَا مجَال للْقِيَاس فضلا عَن الْإِثْبَات بِالطَّرِيقِ الأولى، يُؤَيّد أَنه هُنَاكَ احتجنا إِلَى إِثْبَات حل جَدِيد وترتب عَلَيْهِ أَن يملك الثَّلَاث، وَهَهُنَا لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك لِأَنَّهُ حَاصِل كَمَا مر، وَلذَلِك (فَالْحق هدم الْهدم) الْمَبْنِيّ على الْوَجْهَيْنِ الضعيفين.
الْبَاب الثَّالِث
(السّنة) فِي اللُّغَة (الطَّرِيقَة الْمُعْتَادَة) حَسَنَة كَانَت أَو سَيِّئَة، فِي الحَدِيث " من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وأجرمن عمل بهَا إِلَى أَن قَالَ: وَمن سنّ سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا ". (وَفِي) اصْطِلَاح (الْأُصُول قَوْله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَفعله وَتَقْرِيره) مِمَّا(3/19)
لَيْسَ من الْأُمُور الطبيعية، لم يذكر هَذَا الْقَيْد للْعلم بِأَنَّهَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة، والأمور الْمَذْكُورَة لَيست مِنْهَا (وَفِي فقه الْحَنَفِيَّة: مَا واظب) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (على فعله مَعَ ترك مَا بِلَا عذر) لم يقل مَعَ تَركه أَحْيَانًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْدهم لدلَالَة الْمُوَاظبَة على ندرة التّرْك، وَذكر بِلَا عذر لِأَن التّرْك مَعَ الْعذر مُتَحَقق فِي الْوَاجِب أَيْضا (ليلزم كَونه) أَي الْمَفْعُول المواظب عَلَيْهِ (بِلَا وجوب) لَهُ. قَوْله ليلزم مُتَعَلق بترك مَا الخ (وَمَا لم يواظبه) أَي فعله بِحَذْف على وَقد قصد بِهِ الْقرْبَة (مَنْدُوب ومستحب، وَإِن لم يَفْعَله بعد مَا رغب فِيهِ) . قَوْله وَأَن وصلية (وَعَادَة غَيرهم) أَي الْحَنَفِيَّة (ذكر مسئلة الْعِصْمَة) حَال كَونهَا (مُقَدّمَة كلامية) إِذْ لَيست من مسَائِل الْأُصُول بل من الْكَلَام، من جملَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْأُصُول (لتوقف حجية مَا قَامَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من القَوْل وَالْفِعْل والتقرير (عَلَيْهَا) أَي الْعِصْمَة: إِذْ بثبوتها يثبت حَقِيقَة (وَهِي) أَي الْعِصْمَة (عدم قدرَة الْمعْصِيَة) فعلى هَذَا مفهومها عدمي، وَقيل وجودي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أَو خلق مَانع) من الْمعْصِيَة (غير ملجئ) إِلَى تَركهَا، وَإِلَّا يلْزم الِاضْطِرَار الْمنَافِي للابتلاء وَالِاخْتِيَار (ومدركها) أَي الْعِصْمَة عِنْد الْمُحَقِّقين من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيّ وَالْقَاضِي أبي بكر (السّمع، وَعند الْمُعْتَزلَة) السّمع و (الْعقل أَيْضا) . ثمَّ اخْتلف فِي تفصيلها (الْحق أَن لَا يمْتَنع قبل الْبعْثَة كَبِيرَة وَلَو) كَانَت (كفرا عقلا) أَي امتناعا عقليا كَمَا هُوَ قَول القَاضِي وَأكْثر الْمُحَقِّقين (خلافًا لَهُم) أَي أَي الْمُعْتَزلَة (ومنعت الشِّيعَة الصَّغِيرَة أَيْضا) أَي وُقُوعهَا وجوازها. (وَأما الْوَاقِع) فِي نفس الْأَمر (فالمتوارث) أَي الْخَبَر المتوارث (أَنه لم يبْعَث نَبِي قطّ أشرك بِاللَّه طرفَة عين، وَلَا من نَشأ فحاشا) أَي متكلما بِمَا يستقبح ذكره عِنْد أهل الْمُرُوءَة فضلا عَن أَن يَفْعَله (سَفِيها) فِي أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهُوَ ضد الرشد (لنا) فِي عدم امْتنَاع مَا ذكر عقلا (لَا مَانع فِي) نظر (الْعقل من) حُصُول (الْكَمَال) التَّام (بعد النَّقْص) التَّام (و) بعد (رفع الْمَانِع) من حُصُوله (قَوْلهم) أَي الْمُعْتَزلَة والشيعة (بل فِيهِ) أَي فِي الْعقل مَانع من ذَلِك (وَهُوَ) أَي الْمَانِع (إفضاؤه) أَي صُدُور الْمعْصِيَة (إِلَى التنفير عَنْهُم واحتقارهم) بعد الْبعْثَة (فنافى) صدورها عَنْهُم (حِكْمَة الْإِرْسَال) ويه اهتداء الْخلق بهم (مَبْنِيّ على التحسين والتقبيح الفعليين) أذ لَو لم يَقُولُوا: إِن إرْسَال من ينفر عَنهُ الْمُرْسل إِلَيْهِ قَبِيح لم يتم دليلهم (فَإِن بَطل) القَوْل بهما (كدعوى الأشعرية) من أَن القَوْل بهما بَاطِل (بَطل) قَوْلهم الْمَبْنِيّ عَلَيْهِمَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يبطل القَوْل بهما مُطلقًا (منعت الْمُلَازمَة) بَين صُدُور الْمعْصِيَة والإفضاء إِلَى التنفير عَنْهُم بعد الْبعْثَة واحتقارهم (كالحنفية) أَي كدعوى الْحَنَفِيَّة، من أَن القَوْل بهما لَيْسَ بَاطِلا مُطلقًا، وَأَن الْمُلَازمَة الْمَذْكُورَة مَمْنُوعَة (بل بعد صفاء السريرة) أَي الْبَاطِن(3/20)
(وَحسن السِّيرَة) أَي الْأَخْلَاق (ينعكس حَالهم) أَي الَّذين صدر عَنْهُم الْمعْصِيَة فِي الْبِدَايَة (فِي الْقُلُوب) من تِلْكَ الْحَال إِلَى التَّعْظِيم والإجلال (ويؤكده) أَي انعكاس حَالهم حِينَئِذٍ (دلَالَة المعجزة) على صدقه وحقية مَا أَتَى بِهِ، فَإِن كثيرا من الْأَوْلِيَاء كَانُوا أَرْبَاب مَعْصِيّة فِي بَدْء حَالهم أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قدم التوابين على المتطهرين فِي كِتَابه الْمجِيد عِنْد ذكر الْمحبَّة - {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} - (والمشاهدة وَاقعَة بِهِ) أَي بالانعكاس الْمَذْكُور (فِي آحَاد انْقَادَ الْخلق) النَّقْد تَمْيِيز الْجيد من الدَّرَاهِم وَغَيرهَا عَن الرَّدِيء، وَالْمرَاد: الممتازون من الصلحاء بِأَنَّهُم كَانُوا فِي الْبِدَايَة موصوفين بضد الصّلاح محقرين عِنْد الْخلق ثمَّ انعكس حَالهم (إِلَى إجلالهم بعد الْعلم بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ) من أَحْوَال تنَافِي ذَلِك، بل رُبمَا يكونُونَ أعز لمزيد ظُهُور عناية الْحق سُبْحَانَهُ فِي حَقهم (فَلَا معنى لإنكاره، وَبعد الْبعْثَة الِاتِّفَاق) من أهل الشَّرَائِع كَافَّة (على عصمته) أَي النَّبِي (عَن تعمد مَا يخل بِمَا يرجع إِلَى التَّبْلِيغ) من الله إِلَى الْخلق كالكذب فِي الْأَحْكَام، وَإِلَّا لَأَدَّى إِلَى إبِْطَال دلَالَة المعجزة وَهُوَ محَال (وَكَذَا) الِاتِّفَاق على عصمته مِمَّا يخل بِمَا ذكر (غَلطا) ونسيانا (عِنْد الْجُمْهُور خلافًا للْقَاضِي أبي بكر، لِأَن دلَالَة المعجزة) على عدم كذبه إِنَّمَا هِيَ (على عدم الْكَذِب قصدا) وَذَلِكَ لَا يُنَافِي صدوره غَلطا، وَمَا هُوَ من فلتات اللِّسَان (و) على (عدم تَقْرِيره على السَّهْو) إِذْ لَا بُد من بَيَانه والتنبيه عَلَيْهِ فَإِن لم يَقع يخل بمصلحة التَّبْلِيغ (فَلم يرْتَفع الْأمان عَمَّا يخبر بِهِ عَنهُ تَعَالَى) فَانْدفع مَا قيل من أَنه يلْزم مِنْهُ عدم الوثوق بتبليغه لاحْتِمَال السَّهْو والغلط على تَقْدِير عدم عصمته عَنْهُمَا (وَأما غَيره) أَي غير مَا يخل بِمَا يرجع إِلَى التَّبْلِيغ (من الْكَبَائِر والصغائر الخسية) وَهِي مَا يلْحق صَاحبهَا بالأرذال والسفل وينسب إِلَى دناءة الهمة، وَسُقُوط الْمُرُوءَة كسرقة كسرة والتطفيف بِحَبَّة (فالإجماع على عصمتهم عَن تعمدها سوى الحشوية وَبَعض الْخَوَارِج) وهم الْأزَارِقَة حَتَّى جوزوا عَلَيْهِ الْكفْر فَقَالُوا: يجوز أَن يبْعَث الله نَبيا علم أَنه يكفر بعد نبوته. ثمَّ الْأَكْثَر على أَن امْتِنَاعه مُسْتَفَاد من السّمع وَإِجْمَاع الْأمة قبل ظُهُور الْمُخَالفين فِيهِ، والمعتزلة على أَنه مُسْتَفَاد من الْعقل على أصولهم (و) على (تجويزها) أَي الْكَبَائِر والصغائر الخسية (غَلطا وبتأويل خطأ) بِنَاء على تَجْوِيز اجْتِهَاد النَّبِي وخطئه فِيهِ، وَقَوله وتجويزها مَعْطُوف على عصمتهم، فَالْمَعْنى وَأَجْمعُوا أَيْضا على التجوير الْمَذْكُور (إِلَّا الشِّيعَة فيهمَا) فِي الْغَلَط وَالْخَطَأ الْمَذْكُورين، هَذَا على مَا فِي البديع وَغَيره، وَفِي المواقف وَأما سَهوا فجوزه الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ السَّيِّد السَّنَد وَالْمُخْتَار خِلَافه (وَجَاز تعمد غَيرهَا) أَي الْكَبَائِر والصغائر الْمَذْكُورَة كنظرة وَكلمَة سفه نادرة فِي غضب (بِلَا إِصْرَار عِنْد) أَكثر (الشَّافِعِيَّة والمعتزلة وَمنعه) أَي تعمد غَيرهَا (الْحَنَفِيَّة وجوزوا الزلة فيهمَا) أَي الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة (بِأَن(3/21)
يكون الْقَصْد إِلَى مُبَاح فَيلْزمهُ مَعْصِيّة) لذَلِك لَا أَنه قصد عينهَا (كوكز مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام) أَي كدفعه بأطراف أَصَابِعه، وَقيل بِجمع الْكَفّ القبطي واسْمه فانون (وتقترن) الزلة (بالتنبيه) على أَنَّهَا زلَّة، أما من الْفَاعِل كَقَوْلِه: هَذَا من عمل الشَّيْطَان: أَي هيج غَضَبي حَتَّى ضَربته فَوَقع قَتِيلا، أَو من الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى - {وَعصى آدم ربه فغوى} - أَي أَخطَأ بِأَكْل الشَّجَرَة الَّتِي نهى عَن أكلهَا وَطلب الْملك والخلد بذلك (وَكَأَنَّهُ) أَي هَذَا النَّوْع خطأ من حَيْثُ أَنه لم يقْصد مَا آل إِلَيْهِ (شبه عمد) من حَيْثُ الصُّورَة لقصده إِلَى أصل الْفِعْل (فَلم يسموه خطأ) نظرا إِلَى قصد أصل الْفِعْل (وَلَو أَطْلقُوهُ) أَي الْخَطَأ عَلَيْهِ كَمَا أطلقهُ غَيرهم (لم يمْتَنع وَكَانَ أنسب من الِاسْم المستكره) أَي الزلة، وَقد قَالُوا: لَو رمى غَرضا فَأصَاب آدَمِيًّا كَانَ خطأ مَعَ قصد الرَّمْي غير أَن قَوْله تَعَالَى - {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا} - رُبمَا يؤيدهم، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يفرق بَين أَن يكون الْإِطْلَاق من الله تَعَالَى فِي حق نبيه، وَأَن يكون من الْعباد فِي حَقه.
(فصل: حجية السّنة)
سَوَاء كَانَت مفيدة للْفَرض أَو الْوَاجِب أَو غَيرهمَا (ضَرُورَة دينية) كل من لَهُ عقل وتمييز حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان يعرف أَن من ثَبت نبوته صَادِق فِيمَا يخبر عَن الله تَعَالَى وَيجب اتِّبَاعه (ويتوقف الْعلم بتحققها) أَي السّنة بِمَعْنى كَونهَا صادرة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ مرجع الضَّمِير حجيتها كَمَا زعم الشَّارِح (وَهِي) أَي السّنة (الْمَتْن) أَي تسمى عِنْد الْأُصُولِيِّينَ والمحدثين بِالْمَتْنِ، جملَة مُعْتَرضَة بَين الْفِعْل وصلته: أَعنِي قَوْله (على طَرِيقه) أَي الْمَتْن، ثمَّ فسر طَرِيقه بقوله (السَّنَد) إِذْ بِهِ يعرف ثُبُوته، ثمَّ فسره بقوله (الْأَخْبَار عَنهُ) أَي عَن الْمَتْن (بِأَنَّهُ حدث بِهِ) أَي بِالْمَتْنِ، (فلَان) وَفُلَان فَصَاعِدا مَا لم يصل حد التَّوَاتُر (أَو خلق) يحِيل الْعقل تواطأهم على الْكَذِب، وَأَشَارَ فِي أثْنَاء التَّعْرِيف إِلَى عدَّة من الْأَلْفَاظ الاصطلاحية فَلَا يرد أَنه يَكْفِي بَعْضهَا، وَقيل السَّنَد مَأْخُوذ من السَّنَد: مَا ارْتَفع وَعلا عَن سفح الْجَبَل: أَي أَسْفَله لِأَن الْمسند يرفعهُ إِلَى قَائِله، وَمن قَوْلهم: فلَان سَنَد: أَي مُعْتَمد لاعتماد الْمُحدث عَلَيْهِ فِي صِحَّته وَضَعفه (وَهُوَ) أَي الْمَتْن (خبر وإنشاء) وَجه الْحصْر ذكر فِي الْمقَالة الأولى (فَالْخَبَر قيل لَا يحد لعسره) أَي لعسر تحديده على وَجه جَامع للْجِنْس والفصل لتعسر معرفَة الذاتيات كَمَا قيل مثله فِي الْعلم (وَقيل لِأَن علمه) أَي الْخَبَر (ضَرُورِيّ) والتعريف إِنَّمَا يكون للنظريات وَهَذَا اخْتِيَار الإِمَام الرَّازِيّ والسكاكي (لعلم كل) أحد سَوَاء كَانَ من أهل النّظر أَولا (بِخَبَر خَاص ضَرُورَة، وَهُوَ) أَي الْخَبَر الْخَاص (أَنه مَوْجُود، وتمييزه) أَي ولتمييز الْخَبَر (عَن قسيمه) الَّذِي هُوَ الْإِنْشَاء (ضَرُورَة) من غير احْتِيَاج إِلَى نظر وفكر، فَلَو كَانَ تصَوره نظريا لما كَانَ تَمْيِيزه عَنهُ ضَرُورِيًّا لاحتياجه إِلَى تصَوره، وَإِذا كَانَ الْخَبَر الْمُقَيد الَّذِي هُوَ الْخَاص ضَرُورِيًّا(3/22)
(فالمطلق) أَي الْخَبَر الْمُطلق الَّذِي هُوَ جزءه (كَذَلِك) أَي كَانَ ضَرُورِيًّا بالاستلزام ضَرُورَة توقف تصور الْكل على تصور الْجُزْء (وَأورد) على هَذَا القَوْل (الضَّرُورَة) أَي كَون الْعلم بالْخبر ضَرُورِيًّا (تنافى الِاسْتِدْلَال) على كَونه ضَرُورِيًّا، لِأَن الِاسْتِدْلَال إِنَّمَا يكون فِي النظري، (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي كَون الضَّرُورَة مُنَافِيَة للاستدلال إِنَّمَا هُوَ (عِنْد اتِّحَاد الْمحل) أَي مَحل الضَّرُورَة وَالِاسْتِدْلَال (وَلَيْسَ) مَحلهمَا هُنَا متحدا (فالضروري) هُنَا (حُصُول الْعلم) بِمَفْهُوم الْخَبَر (بِلَا نظر) أَي علمه الْحَاصِل بِغَيْر نظر وفكر (وَكَونه) أَي الْعلم (حَاصِلا كَذَلِك) أَي على وَجه الضَّرُورَة (غَيره) أَي غير حُصُوله بِلَا نظر (وَلَو أورد كَذَا الْحَاصِل ضَرُورَة يلْزمه ضَرُورِيَّة الْعلم بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا إِذْ بعد حُصُوله) أَي حُصُول الْعلم فِي الْعقل كَذَلِك: أَي على وَجه الضَّرُورَة (لَا يتَوَقَّف الْعلم الثَّانِي) وَهُوَ الْعلم بِكَوْن الْعلم الْحَاصِل ضَرُورِيًّا (بعد تَجْرِيد مَفْهُوم الضَّرُورِيّ) الْمَوْصُوف بِهِ الْحَاصِل ضَرُورَة على شَيْء (سوى) أَي إِلَّا (على الِالْتِفَات) وتوجيه الذِّهْن نَحوه: يَعْنِي أَن مَادَّة الْعلم الثَّانِي الَّذِي هُوَ التَّصْدِيق يكون ذَلِك الْحَاصِل ضَرُورِيًّا مَوْجُودَة بَين يَدي الْعقل قريبَة المأخذ، فَإِذا قَصده يحصل لَهُ بِمُجَرَّد الِالْتِفَات إِلَيْهِ، وَتَجْرِيد مَفْهُوم الضَّرُورِيّ الَّذِي يُرِيد أَن يحكم بِهِ على الْحَاصِل الْمَذْكُور عبارَة عَن ملاحظته على الْوَجْه الْكُلِّي مُجَرّدَة عَن خصوصيات أَفْرَاده كتصوره بعنوان مَا يحصل بِلَا نظر (وتطبيق) هَذَا (الْمَفْهُوم) على الْعلم الْحَاصِل بِلَا نظر فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك تَجدهُ مطابقا فتعلم أَنه ضَرُورِيّ، وَهُوَ الْعلم الثَّانِي بِعَيْنِه (وَلَيْسَ) مَا ذكر من التَّجْرِيد والالتفات والتطبيق (النّظر) وَهُوَ ظَاهر (كَانَ) هَذَا الْإِيرَاد (لَازِما) لَا وَجه لإنكاره، وَهَذَا جَوَاب لَو أورد (فَالْحق أَنه) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور (تَنْبِيه) على خفائه، لما دفع إِيرَاد الْمُنَافَاة بَين دَعْوَى الضَّرُورَة، وَالِاسْتِدْلَال، يَقُول الْخَبَر لَا يحد، لِأَن علمه ضَرُورِيّ الخ بِبَيَان عدم اتِّحَاد الْمحل. ثمَّ ذكر الْإِيرَاد على وَجه لَا مدفع لَهُ، وَتبين أَن كَون الْخَبَر ضَرُورِيًّا لَا يحْتَاج إِلَى الدَّلِيل يُوهم أَن مَا ذكره الْقَائِل الْمَذْكُور فِي معرض الِاسْتِدْلَال غير موجه، فَذكر أَنه تَنْبِيه فِي صُورَة الِاسْتِدْلَال، وَمثله شَائِع فِي البديهيات الْخفية (وَالْجَوَاب) عَن المنبه الْمَذْكُور (أَن تعلق الْعلم بِهِ) أَي الْخَبَر (بِوَجْه) مَا بِغَيْر نظر (لَا يسْتَلْزم تصور حَقِيقَته) أَي الْخَبَر (ضَرُورَة) وتصور حَقِيقَته هُوَ المُرَاد بالتعريف. ثمَّ ذكر مَا يسْتَلْزم تصور الْحَقِيقَة بِوَجْه مسَاوٍ بقوله (وَالظَّاهِر أَن إِعْطَاء اللوازم) أَي إِعْطَاء لَوَازِم الْخَبَر للْخَبَر، ولوازم الْإِنْشَاء للإنشاء. ثمَّ بَين الْإِعْطَاء الْمَذْكُور بقوله (من وضع كل) مِنْهُمَا (مَوْضِعه) فَلَا يضع أحد قُمْت مَكَان قُم وَلَا عَكسه: وَمن تَجْوِيز الصدْق وَالْكذب وَعَدَمه (وَنفى مَا يمْتَنع) على كل مِنْهُمَا (عَنهُ) أَي عَن كل مِنْهُمَا، فَلَا تَقول قُم يحْتَمل الصدْق وَالْكذب إِلَى غير ذَلِك (فرع تصور(3/23)
الْحَقِيقَة، إِذْ هِيَ) أَي حَقِيقَة معنى الْخَبَر، والإنشاء هِيَ (المستلزمة) لذَلِك الْإِعْطَاء (نعم لَا يتصورهما) أَي المتصور بِاعْتِبَار هَذَا التَّصَوُّر اللَّازِم لذَلِك الْإِعْطَاء الحقيقيين (من حَيْثُ هما مسميا) لَفْظِي (الْخَبَر والإنشاء) أَو غَيرهمَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي تصور نفيهما (فيعرفان اسْما) أَي تعريفا اسميا لإِفَادَة أَن مُسَمّى لفظ الْخَبَر كَذَا، فالمقصد من هَذَا التَّعْرِيف بَيَان مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (وَإِن كَانَ قد يَقع حَقِيقِيًّا) بِأَن كَانَت أجزاؤه ذاتيات الْحَقِيقَة فِي نفس الْأَمر، وَهِي مَوْجُودَة فِي الْخَارِج (فَالْخَبَر) مُسَمَّاهُ (مركب يحْتَمل الصدْق وَالْكذب بِلَا نظر إِلَى خُصُوص مُتَكَلم) فَلَا يشكل بِخَبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذْ هُوَ مَعَ قطع النّظر عَن قَائِله يحتملهما، وَلَا بِخَبَر من يخبر بِمَا يحكم الْعقل بنقيضه ضَرُورَة، لِأَنَّهُ إِذا قطع النّظر عَن حكمه بالنقيض، وَينظر إِلَى نفس الْأَمر يحتملهما، فَالْمُرَاد قطع النّظر عَن جَمِيع مَا سوى نفس الْخَبَر (وَنَحْوه) أَي نَحْو مَا ذكركما يُفِيد هَذَا الْمَعْنى أَو مَا يُسَاوِيه (وَأورد) على هَذَا التَّعْرِيف (الدّور لتوقف) كل من (الصدْق) وَالْكذب (عَلَيْهِ) أَي على معنى الْخَبَر (لِأَنَّهُ) أَي الصدْق (مُطَابقَة الْخَبَر) للْوَاقِع وَالْكذب عدم مطابقته لَهُ، فقد توقف الْخَبَر على كل مِنْهُمَا لِكَوْنِهِمَا جزئي مَفْهُومه، وَتوقف كل مِنْهُمَا على الْخَبَر لكَونه جُزْء مفهوميهما (وبمرتبة) أَي وَأورد لُزُوم الدّور أَيْضا بمرتبة (لَو قيل التَّصْدِيق والتكذيب) مَكَان الصدْق وَالْكذب، إِذْ التَّصْدِيق أَن ينْسب الْخَبَر إِلَى مطابقته للْوَاقِع، والتكذيب أَن ينْسب إِلَى خلاف ذَلِك: فالدور على الأول بِلَا وَاسِطَة، وَهَهُنَا بِوَاسِطَة: إِذْ التَّصْدِيق يتَوَقَّف على الصدْق، وَهُوَ على الْخَبَر، و (إِنَّمَا يلْزم) الدّور (لَو لزم) ذكر الْخَبَر (فِي تَعْرِيفه) أَي الصدْق وَكَذَا فِي الْكَذِب (وَلَيْسَ) ذكره لَازِما، بل يعرفان بِحَيْثُ لَا يتَوَقَّف على معرفَة الْخَبَر (إِذْ يُقَال فيهمَا) أَي الصدْق وَالْكذب (مَا) أَي صفة كَلَام (طابق نفسيه) أَي نسبته النفسية الَّتِي هِيَ جُزْء مَدْلُوله (لما) أَي للنسبة الَّتِي بَين طَرفَيْهِ (فِي نفس الْأَمر) بِأَن يَكُونَا ثبوتيين أَو سلبيين (أَولا) تطابق لما ذكر فِي تَعْرِيف الْكَذِب، أَو الْمَعْنى لَو لزم ذكر الصدْق وَالْكذب فِي تَعْرِيف الْخَبَر، إِذْ يُقَال فيهمَا: أَي فِي الْخَبَر والإنشاء مَا طابق الخ، فعلى هَذَا يكون تَعْرِيف الْإِنْشَاء مطويا اعْتِمَادًا على الْمُقَابلَة، وَالثَّانِي أولى. (وَقَول أبي الْحُسَيْن) وتعريف الْخَبَر (كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ نِسْبَة) يرد (عَلَيْهِ أَن نَحْو قَائِم) من المشتقات (عِنْده) أَي أبي الْحُسَيْن (كَلَام) لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُعْتَمد: الْحق أَن يُقَال الْكَلَام هُوَ مَا انتظم فِي الْحُرُوف المسموعة المتميزة المتواضع على اسْتِعْمَالهَا فِي الْمعَانِي (ويفيدها) أَي قَائِم النِّسْبَة (بِنَفسِهِ) لِأَنَّهَا جُزْء من مُسَمَّاهُ (وَلَيْسَ) نَحْو قَائِم (خَبرا) بالِاتِّفَاقِ، وَلما جعل ابْن الْحَاجِب قيد بِنَفسِهِ لإِخْرَاج نَحوه لإفادتها النِّسْبَة بل مَعَ الْمَوْضُوع الَّذِي هُوَ زيد مثلا أَشَارَ المُصَنّف إِلَيْهِ بقوله (وَمَا قيل مَعَ الْمَوْضُوع مَمْنُوع)(3/24)
بل قَائِم بِنَفسِهِ يفيدها، (إِذْ الْمُشْتَقّ دَال على ذَات مَوْصُوفَة) أَي لِأَن كل مُشْتَقّ من الصِّفَات وضع لذات مَا بِاعْتِبَار اتصافها بمبدأ الِاشْتِقَاق، وَأما مَعَ الْمَوْضُوع فَيُفِيد النِّسْبَة إِلَى معِين، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فالموضوع لمُجَرّد تعْيين الْمَنْسُوب إِلَيْهِ، وَأما إِيرَاد نَحْو قُم عَلَيْهِ) أَي على أبي الْحُسَيْن بِأَنَّهُ صَادِق عَلَيْهِ (لإفادته نِسْبَة الْقيام) إِلَى الْمُخَاطب، لِأَن الْمَطْلُوب هُوَ الْقيام الْمَنْسُوب إِلَيْهِ، وإفادته الطّلب (فَلَيْسَ) بوارد عَلَيْهِ (إِذْ لم يوضع) نَحْو قُم لشَيْء (سوى) أَي إِلَّا (لطلب الْقيام) أَي طلب الْقيام من الْمُخَاطب، كَذَا فسر الشَّارِح وَلَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ يُوهم أَن نِسْبَة الطّلب وَالْقِيَام إِلَى الْمُتَكَلّم والمخاطب مَأْخُوذَة فِي مَفْهُومه، وَلَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ مَوْضُوع لطلب الْقيام مُطلقًا (وَفهم النِّسْبَة) أَي نِسْبَة وُقُوع الْقيام من الْمُخَاطب (بِالْعقلِ والمشاهدة) إِذْ الْعقل يحكم بِأَن الشَّخْص لَا يطْلب مِنْهُ الْفِعْل الصَّادِر عَن غَيره، ونشاهد أَن الْمَأْمُور يصدر مِنْهُ الْمَطْلُوب دَائِما عِنْد الِامْتِثَال، لَا من غَيره (لَا يسْتَلْزم الْوَضع) أَي وضع نَحْو قُم (لَهَا) أَي للنسبة الْمَذْكُورَة فَإِن قلت: قُم يدل على الطّلب، وَهُوَ نِسْبَة بَين الطَّالِب وَالْمَطْلُوب قلت المُرَاد من النِّسْبَة مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهَا، وَهُوَ الْإِسْنَاد الْمُعْتَبر بَين ركني السَّنَد والمسند إِلَيْهِ، والطالب لَيْسَ بِشَيْء مِنْهُمَا، وَقد يُقَال: قُم فعل وفاعل فَلَا بُد من نِسْبَة بَينهمَا، وَلَا وَجه لجعلها مِنْهَا وَهِي منتفية فِيهِ (فَلَيْسَ) فهم النِّسْبَة (بِنَفسِهِ) أَي بِنَفس لفظ قُم مثلا (وَمَا قيل) وَالْقَائِل ابْن الْحَاجِب وَغَيره من أَن (الأولى) فِي تَعْرِيفه (كَلَام مَحْكُوم فِيهِ بِنِسْبَة لَهَا خَارج) هِيَ حِكَايَة عَنهُ (فطلبت الْقيام مِنْهُ) أَي من الْخَبَر، لِأَنَّهُ حكم فِيهِ بِنِسْبَة طلب الْقيام إِلَى الْمُتَكَلّم، وَلها خَارج قد يطابقه فَيكون صدقا، وَقد لَا يطابقه فَيكون كذبا (لاقم) أَي لَيْسَ مِنْهُ قُم. قَالَ الشَّارِح فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ كلَاما مَحْكُومًا فِيهِ بِنِسْبَة الْقيام إِلَى الْمَأْمُور وَنسبَة الطّلب إِلَى الْآمِر، لَكِن هَذِه النِّسْبَة لَيْسَ لَهَا خَارج تطابقه أَو لَا تطابقه، لِأَنَّهَا لَيست إِلَّا مُجَرّد الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ انْتهى.
أثبت فِي الْأَمر نسبتين: إِحْدَاهمَا بَين مبدأ الِاشْتِقَاق والمأمور. وَالثَّانيَِة بَين الطّلب والآمر، فَإِن أَرَادَ بِهِ دخولهما فِيمَا وضع لَهُ، فَهَذَا يُنَافِي مَا مر آنِفا أَنه لم يوضع إِلَّا لطلب الْقيام، وَإِن أَرَادَ كَونهمَا لازمين لَهُ فِي التحقق فَهُوَ خَارج المبحث، لِأَن الْكَلَام فِي نِسْبَة تكون فِيهِ. ثمَّ قَوْله لَكِن هَذِه النِّسْبَة الخ غير موجه، لِأَنَّهُ مهد نسبتين وَلم يعلم مُرَاد أَيهمَا فَإِن قلت رُبمَا أرادهما جَمِيعًا بِضَرْب من التَّأْوِيل قلت على جَمِيع التقادير لَا معنى لقَوْله، لِأَنَّهَا لَيست إِلَّا مُجَرّد الطّلب، إِذْ قد ذكر أَن النِّسْبَة الأولى بَين الْقيام والمأمور بِهِ، فَهِيَ لَيست عين الطّلب الْقَائِم بِنَفس الْأَمر، وَكَذَا الثَّانِيَة فَإِنَّهَا بَين الطّلب والآمر وَأَيْضًا قَوْله مَحْكُومًا فِيهِ الخ ظَاهره(3/25)
غير صَحِيح، إِذْ لَا حكم فِي الْإِنْشَاء، وتأويله غير ظَاهر، فَكَأَنَّهُ حرر هَذَا الْمحل من عِنْد نَفسه. وَالْوَجْه أَن يُقَال: إِنَّمَا خرج نَحْو قُم بقوله مَحْكُوم فِيهِ بِنِسْبَة، وَقَوله لَهَا خَارج لزِيَادَة التَّوْضِيح وَإِشَارَة إِلَى أَنه مُشْتَمل على نِسْبَة لَيست على طرز نِسْبَة الْخَبَر بِأَن يكون لَهَا خَارج هِيَ حاكية عَنهُ ليتصور فِيهَا الْمُطَابقَة وَعدمهَا وَالله أعلم. وَمَا قيل مُبْتَدأ خَبره (فعلى إِرَادَة مَا يحسن عَلَيْهِ السُّكُوت بالْكلَام) الْمَذْكُور فِي صدر التَّعْرِيف (فَلَا يرد) نَحْو (الْغُلَام الَّذِي لزيد) إِذْ لَا يحسن السُّكُوت عَلَيْهِ فَهُوَ غير دَاخل فِي التَّعْرِيف فَلَا يضر صدق مَا بعد الْجِنْس عَلَيْهِ لَو اعْتبر فِيهِ الحكم وَالنِّسْبَة الْمَذْكُورَة بِاعْتِبَار أَن الْأَوْصَاف قبل الْعلم بهَا أَخْبَار، والمركب التوصيفي يبْنى عَلَيْهِ (وَلَا حَاجَة إِلَى مَحْكُوم) حِينَئِذٍ لإِخْرَاج نَحْو الْغُلَام الَّذِي لزيد: إِذْ لم يدْخل فِي الْجِنْس حَتَّى يخرج (بل قد يُوهم) ذكره (أَن مَدْلُول الْخَبَر الحكم) بِوُقُوع النِّسْبَة (وَحَاصِله) أَي الحكم (علم) لِأَنَّهُ إِدْرَاك أَن النِّسْبَة وَاقعَة أَو لَيست بواقعة، فَهُوَ قسم من الْعلم إِن فسرنا الْعلم بِمَا يعم التَّصَوُّر والتصديق، أَو نفس الْعلم إِن فسرناه بالتصديق (ونقطع بِأَنَّهُ) أَي الْخَبَر (لم يوضع لعلم الْمُتَكَلّم بل) إِنَّمَا وضع (لما عِنْده) أَي الْمُتَكَلّم من وُقُوع النِّسْبَة أَولا وُقُوعهَا وَالْحَاصِل أَنه مَوْضُوع للمعلوم لَا الْعلم (فَالْأَحْسَن) فِي تَعْرِيفه (كَلَام لنسبته خَارج) لِئَلَّا يرد شَيْء مِمَّا ذكر، فيحوج إِلَى تكلّف لَا يَلِيق بالتعريف.
(وَاعْلَم أَنه) أَي الْخَبَر (يدل على مطابقته) للْوَاقِع، وَلذَا قيل: مَدْلُول الْخَبَر الصدْق، وَالْكذب احْتِمَال (فَإِنَّهُ يدل على نِسْبَة) تَامَّة ذهنية (وَاقعَة) فِي الْإِثْبَات (أَو غير وَاقعَة) فِي السَّلب مشعرة بِحُصُول نِسْبَة أُخْرَى فِي الْوَاقِع، لكَونهَا حاكية عَنْهَا مُوَافقَة لَهَا فِي الْكَيْفِيَّة فالثانية مدلولة بتوسط الأولى وَهِي الْمَقْصُودَة بالإفادة، فَإِن كَانَ مَا فِي نفس الْأَمر على طبق مَا فِي الذِّهْن على الْوَجْه الَّذِي أشعرت بِهِ فَهُوَ صَادِق، وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِب، وَلذَا قيل: صدق الْخَبَر بِثُبُوت مَدْلُوله مَعَه، وَكذبه تخلف مَدْلُوله عَنهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ومدلول اللَّفْظ لَا يلْزم كَونه ثَابتا فِي الْوَاقِع فجَاء احْتِمَال الْكَذِب بِالنّظرِ إِلَى أَن الْمَدْلُول) الْمَذْكُور هُوَ (كَذَلِك فِي نفس الْأَمر أَولا، وَمَا) أَي الْكَلَام الَّذِي (لَيْسَ بِخَبَر إنْشَاء وَمِنْه) أَي من الْإِنْشَاء (الْأَمر وَالنَّهْي والاستفهام وَالتَّمَنِّي، والترجي، وَالْقسم، والنداء: وَيُسمى الأخيران) أَي الْقسم والنداء (تَنْبِيها أَيْضا) بل المنطقيون يسمون الْأَرْبَعَة الْأَخِيرَة تَنْبِيها، وَزَاد بَعضهم الِاسْتِفْهَام وَابْن الْحَاجِب على أَن مَا لَيْسَ بِخَبَر يُسمى إنْشَاء وتنبيها، كَذَا ذكره الشَّارِح.
(وَاخْتلف فِي صِيغ الْعُقُود والإسقاطات كبعت وأعتقت إِذا أُرِيد حُدُوث الْمَعْنى بهَا) أَي بِتِلْكَ الصِّيَغ (فَقيل: إخبارات عَمَّا فِي النَّفس من ذَلِك) أَي من خصوصيات تِلْكَ الْعُقُود(3/26)
والاسقاطات، فيقرر ذَلِك فِي نَفسه ثمَّ يخبر عَنهُ بهَا: وَهَذَا قَول الْجُمْهُور (فيندفع الِاسْتِدْلَال على إنشائيته) أَي مَا ذكر من الصِّيَغ (بِصدق تَعْرِيفه) أَي الْإِنْشَاء عَلَيْهِ، وَهُوَ كَلَام لَيْسَ لنسبته خَارج، وَالْجَار وَالْمَجْرُور صلَة الِاسْتِدْلَال (وَانْتِفَاء لَازم الْأَخْبَار) مَعْطُوف على الْمَجْرُور. ثمَّ بَين لَازمه بقوله (من احْتِمَال الصدْق وَالْكذب) عَنهُ لِأَن بِعْت لَيْسَ بأخبار عَن بيع سَابق ليحتملهما، وَإِنَّمَا انْدفع (لِأَن ذَلِك) الِاسْتِدْلَال إِنَّمَا يتم (لَو لم يكن) مَا ذكر من الصِّيَغ (إِخْبَارًا عَمَّا فِي النَّفس) أما إِذا كَانَ إِخْبَارًا عَنهُ فَلَا، إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ تَعْرِيف الْإِنْشَاء حِينَئِذٍ، وَلَا ينتفى عَنهُ لَازم الْأَخْبَار (وَغَايَة مَا يلْزم) هَذَا القَوْل (أَنه) أَي مَا ذكر من الصِّيَغ (إِخْبَار يعلم صدقه بِخَارِج) عَن نَفسه. ثمَّ صور ذَلِك الْخَارِج فِي الْمِثَال، فَقَالَ (كأخباره بِأَن فِي ذهنه كَذَا) يَعْنِي لما كَانَت النِّسْبَة الخارجية الَّتِي هِيَ مصداق صدق هَذَا الْإِخْبَار أمرا حَاصِلا فِي ذهن الْمخبر أمكن لَهُ الْعلم بمطابقة النِّسْبَة الذهنية الْمَدْلُول عَلَيْهَا بِهِ إِيَّاهَا، والإعلام بهَا لغيره: وَهَذَا لَا يُنَافِي كَونه مُحْتملا للصدق وَالْكذب فِي ذَاته، وَزعم الشَّارِح أَن المُرَاد بِخَارِج هُوَ نفس اللَّفْظ كَقَوْلِه: بِعْت فَإِنَّهُ يُفِيد أَن مَعْنَاهُ قَائِم بِنَفسِهِ فَيعلم صدقه هَذَا كَلَامه، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن بِعْت نفس الْخَبَر الْمَذْكُور فَمَا معنى خُرُوجه، ثمَّ أَنه إِن أَرَادَ بإفادته أَن مَعْنَاهُ قَائِم بِنَفسِهِ دلَالَته عَلَيْهِ فَلَا يعلم بِهِ صدقه لاحْتِمَال الْمُوَاضَعَة والهزل وَغَيرهمَا، وَكَذَا إِن أَرَادَ بهَا استلزامه إِيَّاه بِحَسب التَّحْقِيق، لِأَن الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة لاحتمالهما فَإِن قلت: الشَّرْع يحكم عَلَيْهِ بِمُوجب البيع بِمُجَرَّد قَوْله بِعْت، فَلَو كَانَ مُحْتملا للصدق وَالْكذب لما ألزمهُ بِهِ قلت هَذَا اعْتِبَار لفظ شَرْعِي لصيانة حُقُوق النَّاس، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَونه مُحْتملا لَهما فِي حد ذَاته فَتدبر (وَمَا اسْتدلَّ) أَي اسْتدلَّ بِهِ الإنشائيون من أَنه (لَو كَانَ خَبرا لَكَانَ مَاضِيا) لوضع لَفظه لذَلِك، وَعدم صَارف (وَامْتنع التَّعْلِيق) أَي تَعْلِيقه بِالشّرطِ، لِأَن التَّعْلِيق تَوْقِيف دُخُول أَمر فِي الْوُجُود على دُخُول غَيره فِيهِ، والماضي قد دخل فِيهِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِك (مَدْفُوع بِأَنَّهُ مَاض: إِذْ ثَبت فِي ذهن الْقَائِل البيع وَالتَّعْلِيق وَاللَّفْظ) الْمُشْتَمل على تَعْلِيق البيع (إِخْبَار عَنْهُمَا) أَي عَن التَّعْلِيق وَالْبيع الثابتين قبل التَّكَلُّم بِهِ (وألزم امْتنَاع الصدْق) أَي ادّعى أَن صدق هَذَا الْخَبَر مُمْتَنع (لِأَنَّهُ) أَي الصدْق لَا يتَحَقَّق إِلَّا (بالمطابقة) بل هُوَ عين مُطَابقَة مَدْلُول الْخَبَر الْوَاقِع (وَهِي) أَي الْمُطَابقَة لَا تتَصَوَّر إِلَّا (بالتعدد) أَي تعدد طرفِي الْمُطَابقَة: أَحدهمَا النَّفْسِيّ الَّذِي هُوَ مَدْلُول الْكَلَام، وَالْآخر مَا فِي الْوَاقِع (وَلَيْسَ) فِي الْوَاقِع هُنَا شَيْء (إِلَّا مَا فِي النَّفس، وَهُوَ الْمَدْلُول) بِعَيْنِه (فَلَا خَارج) عَن الْمَدْلُول لتغير الْمُطَابقَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلَا مُطَابقَة فَلَا صدق (وَأجِيب بِثُبُوتِهِ) أَي التَّعَدُّد اعْتِبَارا، وَإِن لم يكن ذاتا (فَمَا فِي النَّفس من حَيْثُ هُوَ مَدْلُول اللَّفْظ غَيره)(3/27)
أَي غير مَا فِي النَّفس (من حَيْثُ هُوَ فِيهَا) أَي فِي النَّفس (فتطابق المتعدد) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن التَّعَدُّد اللَّازِم للمطابقة لَو لم يكن بِالذَّاتِ لم يكن احْتِمَال الصدْق وَالْكذب اللَّازِم لماهية الْخَبَر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال يَكْفِي احتمالهما فِي بادئ النّظر نظرا إِلَى التَّعَدُّد الاعتباري فَتَأمل (ومبني هَذَا التَّكَلُّف على أَنه) أَي مَا ذكر من الصِّيَغ (إِخْبَار عَمَّا فِي النَّفس) كَمَا نقل فِي الشَّرْح العضدي وَغَيره (لَكِن الوجدان شَاهد بِأَن الْكَائِن فِيهَا) أَي النَّفس (مَا لم ينْطق لَيْسَ) شَيْئا (غير إِرَادَة البيع لَا يعلم قَوْلهَا) أَي النَّفس: يَعْنِي القَوْل النَّفْسِيّ لَا اللَّفْظِيّ (بِعْتُك) مقول القَوْل الْمَذْكُور (قبله) أَي النُّطْق بِهِ، بل من الْمَعْلُوم عَدمه حِينَئِذٍ (إِنَّمَا ينْطق) النَّفس بِهِ (مَعَه أَي مَعَ بِعْتُك (فَهِيَ) أَي صِيغ الْعُقُود والاسقاطات (إنشاآت) لَفظهَا عِلّة لإيجاد مَعْنَاهَا (ثمَّ ينْحَصر) الْخَبَر (فِي صدق إِن طابق) حكمه (الْوَاقِع) أَي الْخَارِج الْمَذْكُور (وَكذب إِن لَا) يُطَابق، فَلَا وَاسِطَة بَينهمَا، وحصره عَمْرو بن بَحر (الجاحظ فِي ثَلَاثَة) : الصَّادِق. والكاذب (الثَّالِث مَالا) أَي لَيْسَ بصادق (وَلَا) كَاذِب (لِأَنَّهُ) أَي الْخَبَر (إِمَّا مُطَابق) للْوَاقِع (مَعَ الِاعْتِقَاد) للمطابقة (أَو) مُطَابق للْوَاقِع مَعَ (عَدمه) أَي عدم الِاعْتِقَاد للمطابقة، وَهَذَا على قسمَيْنِ: أَحدهمَا أَن لَا يعْتَقد الْمُطَابقَة وَلَا عدمهَا، وَالثَّانِي أَن لَا يعْتَقد الْمُطَابقَة ويعتقد عدمهَا (أَو غير مُطَابق) للْوَاقِع (كَذَلِك) أَي مَعَ عدم اعْتِقَاد الْمُطَابقَة، أَو مَعَ عدم اعْتِقَاد عدمهَا. وَقد عرفت أَن الْعَدَم على قسمَيْنِ، فِي المطول تَحْقِيق كَلَامه أَن الْخَبَر إِمَّا مُطَابق للْوَاقِع أَولا، وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ اعْتِقَاد أَنه مُطَابق، أَو اعْتِقَاد أَنه غير مُطَابق، أَو بِدُونِ الِاعْتِقَاد: فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام: وَاحِد مِنْهَا صَادِق، وَهُوَ المطابق للْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد أَنه مُطَابق، وَوَاحِد كَاذِب وَهُوَ غير المطابق مَعَ اعْتِقَاد أَنه غير مُطَابق، وَالْبَاقِي لَيْسَ بصادق وَلَا كَاذِب انْتهى (الثَّانِي مِنْهُمَا) أَي من الْقسمَيْنِ، وَهُوَ من الأول المطابق مَعَ عدم اعْتِقَاد الْمُطَابقَة، وَقد عرفت وَجْهي الْعَدَم، وَمن الثَّانِي غير المطابق مَعَ عدم اعْتِقَاد عدم الْمُطَابقَة (لَيْسَ كذبا وَلَا صدقا لقَوْله تَعَالَى حِكَايَة) عَن الْكفَّار {أفترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة} أَي جُنُون (حصروا) أَي الْكفَّار (قَوْله) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - {إِذا مزقتم كل ممزق إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد} - (فِي الْكَذِب وَالْجنَّة فَلَا كذب مَعهَا) أَي الْجنَّة، لأَنهم جَعَلُوهُ قسيم الْكَذِب (وَلم يعتقدوا صدقه) وَهُوَ ظَاهر، ثمَّ هم عقلاء عارفون باللغة، فَيجب أَن يكون من الْخَبَر مَا لَيْسَ صَادِقا وَلَا كَاذِبًا حَتَّى لَا يعابوا فِيمَا بَينهم وَبَين غَيرهم (وَالْجَوَاب حصروه) أَي خَبره (فِي الافتراء تعمد الْكَذِب) عطف بَيَان للافتراء (وَالْجنَّة الَّتِي لَا عمد مَعهَا فَهُوَ) أَي حصرهم (فِي كذب عمد و) كذب (غير عمد) أَي نوعيه المتباينين (أَو) حصروا مَا تلفظ بِهِ (فِي تَعَمّده) أَي الْكَذِب (وَعدم(3/28)
الْخَبَر) لخلوة عَن الْقَصْد والشعور المعتد بِهِ على مَا هُوَ حَال الْمَجْنُون، والخالي عَنهُ لَيْسَ بِكَلَام فضلا عَن كَونه خَبرا (وَقَول عَائِشَة فِي ابْن عمر من رِوَايَة البُخَارِيّ) حَيْثُ روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ ". (مَا كذب وَلكنه وهم) إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجل مَاتَ يَهُودِيّا " أَن الْمَيِّت ليعذب وَأَن أَهله ليبكون عَلَيْهِ " حسن صَحِيح (تُرِيدُ) عَائِشَة بِهِ لم يكذب (عمدا، وَقيل) وَالْقَائِل النظام (الصدْق مُطَابقَة الِاعْتِقَاد) وَإِن كَانَ الِاعْتِقَاد غير مُطَابق للْوَاقِع (وَالْكذب عدمهَا) أَي عدم مُطَابقَة الِاعْتِقَاد وَإِن كَانَ مطابقا للْوَاقِع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فالمطابق) للْوَاقِع (كذب إِذا اعْتقد عدمهَا) أَي الْمُطَابقَة وَلَا وَاسِطَة بَين الصدْق وَالْكذب (لقَوْله تَعَالَى: {وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلهم} : نشْهد أَنَّك لرَسُول الله) فَإِنَّهُ مُطَابق للْوَاقِع دون اعْتِقَادهم (أُجِيب) بِأَن التَّكْذِيب إِنَّمَا هُوَ (فِي) الحكم الْمَفْهُوم من لفظ (الشَّهَادَة) الدَّال على مُوَافقَة اللِّسَان الْقلب (لعدم المواطأة) أَي مُوَافقَة اللِّسَان الْقلب (أَو فِيمَا تضمنته) الشَّهَادَة (من الْعلم) لكَونه إِخْبَارًا عَن مُعَاينَة يلْزمهَا الْعلم، فَقَوله: أشهد بِكَذَا تضمن أَنِّي أقوله عَن علم، أَو المُرَاد أَنهم قوم شَأْنهمْ الْكَذِب وَإِن صدقُوا فِي هَذِه الشَّهَادَة (والموجب لهَذَا) التَّأْوِيل (وَمَا قبله) من تَأْوِيل قَول عَائِشَة (الْقطع من اللُّغَة) أَي الْقطع الْحَاصِل من تتبعها (بالحكم) صلَة الْقطع (بِصدق) صلَة الحكم (قَول الْكَافِر كلمة الْحق) مقول القَوْل، وَالْمرَاد بهَا الْكَلَام كَقَوْلِه: الْإِسْلَام حق لكَونه مطابقا للْوَاقِع مَعَ أَنه لَا يُطَابق اعْتِقَاده، وَمَا ذكره الْفَرِيقَانِ من الظنون، والقطعي لَا يتْرك بهَا: بل الْأَمر بِالْعَكْسِ (وينقسم) الْخَبَر (بِاعْتِبَار آخر) أَي بِاعْتِبَار إفادته الْقطع بصدقه وَعَدَمه (إِلَى مَا يعلم صدقه ضَرُورَة) أَي علما ضَرُورِيًّا إِمَّا بِنَفسِهِ من غير انضمام غَيره إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُتَوَاتر فَإِنَّهُ بِنَفسِهِ يُفِيد الْعلم الضَّرُورِيّ بمضمونه، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ بِأَن يكون مُتَعَلّقه مَعْلُوما لكل أحد من غير نظر، نَحْو الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ (أَو نظرا) أَي علما نظريا (كَخَبَر الله وَرَسُوله) وَأهل الْإِجْمَاع وَخبر من ثَبت بِأَحَدِهِمَا صدقه: بِأَن أخبر الله، أَو رَسُوله، أَو أهل الْإِجْمَاع بصدقه، وَخبر من دلّ الْعقل بالبرهان على صدقه، فَإِن هَذِه كلهَا علم وُقُوع مضمونها بِالنّظرِ، وَالِاسْتِدْلَال: وَهُوَ الْأَدِلَّة القاطعة على صدق الله وَرَسُوله، وعصمة الْأمة عَن الْكَذِب، وَيَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْبَاقِي أَو) مَا يعلم (كذبه بمخالفة ذَلِك) أَي مَا علم صدقه ضَرُورَة أَو نظرا أ (وَمَا يظنّ) فِيهِ (أَحدهمَا) أَي صدقه أَو كذبه (كَخَبَر الْعدْل) لرجحان صدقه على كذبه (والكذوب) أَي الَّذِي اعْتَادَ الْكَذِب لرجحان كذبه على صدقه (أَو) مَا (يتساويان) أَي الاحتمالان فِيهِ (كالمجهول) أَي كَخَبَر مَجْهُول الْحَال بِأَن لم يعلم حَاله فِي الْعَدَالَة وَعدمهَا (وَمَا قيل مَا لم يعلم صدقه(3/29)
يعلم كذبه) وَإِلَّا لنصب على صدقه دَلِيل (كَخَبَر مدعي الرسَالَة) إِذْ لَو كَانَ صَادِقا دلّ عَلَيْهِ بالمعجزة، وَهَذَا مَذْهَب بعض الظَّاهِرِيَّة (بَاطِل للُزُوم ارْتِفَاع النقيضين فِي أَخْبَار مستورين بنقيضين) من غير دَلِيل على صدق أَحدهمَا للُزُوم كذبهما بِمُوجب مَا قيل ويستلزم اجْتِمَاعهمَا، لِأَن كذب كل نقيض يسْتَلْزم صدق الآخر (وَلُزُوم الحكم بِكفْر كثير من الْمُسلمين) الَّذين حَالهم مَسْتُور من حَيْثُ الْعَدَالَة. وَفِي الشَّرْح العضدي، وَأَيْضًا يلْزم الْعلم بكذب كل شَاهد إِذْ لَا يعلم صدقه وَالْعلم بِكفْر كل مُسلم فِي دَعْوَى إِسْلَامه: إِذْ لَا دَلِيل على مَا فِي بَاطِنه، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع والضرورة (بِخِلَاف أهل ظُهُور الْعَدَالَة) من الْمُسلمين: وهم الَّذين ظَاهر حَالهم الْعَدَالَة فَإِنَّهُ لَا يلْزم الحكم بكفرهم إِذْ ادعوا الْإِسْلَام (لِأَنَّهَا) أَي عدالتهم (دَلِيل) يدل على صدقهم فقد نصب عَلَيْهِ دَلِيل وَهَذَا مَبْنِيّ (على أَن يُرَاد بِالْعلمِ الأول) الْمَذْكُور فِي قَوْله مَالا يعلم صدقه يعلم كذبه (الظَّن) لِأَن ظُهُور الْعَدَالَة دَلِيل يُفِيد الْعلم الظني، وَإِذا تحقق الْعلم الظني لم يتَحَقَّق مَضْمُون مَا لم يعلم فَلَا يتَحَقَّق الْعلم بِالْكَذِبِ وَلَا بُد أَن يحمل قَوْلهم على هَذَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد بِهِ الظَّن بل الْقطع (بَطل خبر الْوَاحِد) لِأَنَّهُ يُفِيد الظَّن، لَا الْقطع فَيدْخل تَحت قَوْلهم: مَا لم يعلم صدقه فَيلْزم كذبه (وَلَا يَقُوله) أَي بطلَان خبر الْوَاحِد المستلزم بطلَان الْعَمَل بِهِ (ظاهري فَلَا يتم إِلْزَام كفر كل مُسلم) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب لوُجُود الْعلم الظني بصدقه عِنْد ظُهُور عَدَالَته (وَالْحكم بكذب الْمُدَّعِي) الرسَالَة بِلَا معْجزَة (بدليله) أَي دَلِيل التَّكْذِيب لِأَن الرسَالَة عَن الله تَعَالَى على خلاف الْعَادة وَهِي تقضي بكذب من يَدعِي مَا يُخَالِفهَا بِلَا دَلِيل يدل على صدقه، بِخِلَاف الْأَخْبَار عَن الْأُمُور الْمُعْتَادَة، فَإِن الْعَادة لَا تقضي بكذب من يدعيها بِلَا دَلِيل فَالْقِيَاس فَاسد، ثمَّ الحكم بكذب من يَدعِي الرسَالَة بِلَا دَلِيل قَطْعِيّ، وَالصَّحِيح على مَا ذكره السُّبْكِيّ، وَقيل لَا يقطع بكذبه لتجويز الْعقل صدقه، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغير خَافَ أَن المُرَاد مدعيها قبل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (و) يَنْقَسِم الْخَبَر (بِاعْتِبَار آخر) أَي السَّنَد (إِلَى متواتر وآحاد فالمتواتر) لُغَة المتتابع على التَّرَاخِي، وَاصْطِلَاحا (خبر جمَاعَة يُفِيد الْعلم، لَا بالقرائن الْمُنْفَصِلَة) عَنهُ فبقيد جمَاعَة خرج خبر الْفَرد، وبإفادة الْعلم خبر آحَاد هِيَ جمَاعَة غير أَنه لَا يُفِيد الْعلم، وبنفي الْقَرَائِن الْمُنْفَصِلَة خرج مَا يُفِيد الْعلم من خبر جمَاعَة بِسَبَب دلَالَة الْعقل كإخبارهم بِأَن النَّفْي وَالْإِثْبَات لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان، أَو بِسَبَب مُوَافَقَته لخَبر الله أَو خبر رَسُوله، أَو بِدلَالَة الْحس من مُشَاهدَة حَالهم كَمَا إِذا أخبروا عَن عطشهم وَعَن جوعهم، وآثار ذَلِك مُعَاينَة فيهم، أَو أخبروا عَن موت أَبِيهِم مثلا مَعَ شقّ الْجُيُوب، وَضرب الخدود، والتفجع عَلَيْهِ، وَهَذِه الْقَرَائِن الَّتِي احترزوا عَنْهَا (بِخِلَاف مَا يلْزم) من الْقَرَائِن (نَفسه) أَي نفس الْخَبَر مثل الهيئات الْمُقَارنَة لَهُ، الْمُوجبَة لتحَقّق مضمونه (أَو الْمخبر) مثل كَونه موسوما(3/30)
بِالصّدقِ مباشرا لِلْأَمْرِ الَّذِي أخبر بِهِ، كَذَا ذكره الشَّارِح. وَفِيه أَن عدم الْمُبَاشرَة من غير الْقَرَائِن الْمُنْفَصِلَة، ومعاينة آثَار الْجُوع والعطش من الْمُنْفَصِلَة لحكم (أَو الْمخبر عَنهُ) أَي الْوَاقِعَة الَّتِي أخبروا عَن وُقُوعهَا ككونها أمرا مترقبا قريب الْوُقُوع، فَإِن حُصُول الْعلم بِمَعْرِِفَة مثل هَذِه الْقَرَائِن لَا يقْدَح فِي التوتر، وَفِي الشَّرْح العضدي أَو الْمخبر بِفَتْح الْبَاء، وَفَسرهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بالسامع الَّذِي ألقِي إِلَيْهِ الْخَبَر وَلم يذكرهُ المُصَنّف، وَلَا يبعد أَنه عده من الْمُنْفَصِلَة (وَعنهُ) أَي عَمَّا ذكر من هَذَا النَّوْع من الْقَرَائِن (يتَفَاوَت عدده) أَي الْمُتَوَاتر كَمَا إِذا كَانَ المخبرون موسومين بِالصّدقِ وَالْعدْل يحصل الْعلم بِإِخْبَار عدد أقل من عدد الموسومين، بِخِلَاف ذَلِك (ومنعت السمنية) بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم: فرقة من عَبدة الْأَصْنَام، ذكره الْجَوْهَرِي. وَفِي شرح البديع، وهم طَائِفَة منسوبة إِلَى سومنان بلد مَشْهُور بِالْهِنْدِ، والبراهمة وهم طَائِفَة لَا يجوزون على الله بعثة الرُّسُل (إفادته) أَي الْخَبَر (الْعلم، وَهُوَ) أَي مَنعهم (مُكَابَرَة لأَنا نقطع بِوُجُود نَحْو مَكَّة والأنبياء وَالْخُلَفَاء) بالأخبار المتواترة كَمَا يقطع بالمحسوسات بالإحساس (وتشكيكهم) أَي السمنية فَمَا هُوَ مَبْنِيّ إفادته الْعلم من اتِّفَاق الجم الْغَفِير على خبر وَاحِد (بِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِمَاع الْمَذْكُور كاشتهاء الْكل طَعَاما وَاحِدًا. وَفِي بعض النّسخ (كَأَكْل الْكل طَعَاما) وَهُوَ مُمْتَنع (وَأَن الْجَمِيع) أَي وَبِأَن الْجَمِيع مركب (من الْآحَاد، وكل) مِنْهُم (لَا يعلم خَبره) أَي لَا يُفِيد الْعلم (فَكَذَا الْكل) وَإِلَّا يلْزم انقلاب الْمَاهِيّة (وبلزوم تنَاقض المعلومين) المتناقضين (إِذا أخبر جمعان) بلغ كل مِنْهُمَا عدد التَّوَاتُر (كَذَلِك) بِأَن يُفِيد خبر كل مِنْهُمَا الْعلم بِنَفسِهِ (بهما) صلَة أخبر: أَي بذينك المعلومين المتناقضين كَمَا إِذا أخْبرك أَحدهمَا بِمَوْت زيد فِي وَقت معِين وَالْآخر بحياته فِي ذَلِك الْوَقْت (و) يلْزم (صدق الْيَهُود فِي) نقلهم عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام (لَا نَبِي بعدِي) . وَقد ثَبت خِلَافه بالأدلة القطعية (و) بِلُزُوم (عدم الْخلاف) فِي إفادته الْعلم بِنَاء على دَعْوَى الضَّرُورَة فِي الْعلم الَّذِي يفِيدهُ (وبأنا نفرق بَينه) أَي بَين الْعلم الَّذِي يفِيدهُ الْمُتَوَاتر (و) بَين (غَيره من الضروريات ضَرُورَة) أَي فرقا بديهيا حَتَّى لَو عرضنَا على أَنْفُسنَا وجود جالينوس، وَكَون الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ وجدنَا الثَّانِي أقرب من الأول بِالضَّرُورَةِ، وَلَو كَانَ الْحَاصِل بالتواتر علما ضَرُورِيًّا لما اخْتلفَا فِي الْجَزْم، لِأَن الِاخْتِلَاف فِيهِ لتطرق احْتِمَال النقيض وَهُوَ غير مُمكن فِيهَا. ثمَّ قَوْله تشكيكهم بِكَذَا وَكَذَا مُبْتَدأ خَبره (تشكيك فِي ضَرُورَة) أَي فِي أَمر بديهي، فَلَا يسْتَحق الْجَواب (وأبعدها) أَي التشكيكات (الأول) وَهُوَ التَّشْبِيه بالِاتِّفَاقِ على أكل طَعَام وَاحِد، إِذْ سَبَب الِاخْتِلَاف فِيهِ اخْتِلَاف الأمزجة والشهوات، وَلم يتَحَقَّق مَا يُوجب الِاخْتِلَاف فِي بعض الْأَخْبَار (وَإِنَّمَا خيل) ذَلِك (فِي الْإِجْمَاع عَن) دَلِيل (ظَنِّي)(3/31)
كَمَا سَيَأْتِي مَعَ جَوَابه فِي بَاب الْإِجْمَاع (وَاخْتِلَاف حَال الْجُزْء وَالْكل ضَرُورِيّ) أَلا ترى مَا فِي مَجْمُوع طاقات الْحَبل من الْقُوَّة وَمَا فِي طَاقَة أَو طاقتين من الضعْف إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى، وَلَا يلْزم الانقلاب بِسَبَب كَون كل من الْآحَاد غير مُفِيد للْعلم، وَكَون الْكل مُفِيدا لعدم اتِّحَاد مُتَعَلق النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَلم يقل وَالثَّانِي لظُهُوره، وَلقَوْله (وَالثَّالِث) أَي تَوَاتر الْخَبَرَيْنِ المتناقضين (مُمْتَنع) عَادَة وَإِن كَانَ مُمكنا ذاتا (وأخبار الْيَهُود آحَاد الأَصْل) يَكْفِي للمانع احْتِمَال كَونه آحَاد الأَصْل، على أَنه ثَبت بِالنَّقْلِ أَن بخْتنصر قَتلهمْ بِحَيْثُ قلوا وَلم يبْق فيهم عدد التَّوَاتُر. وَقد شَرط فِي التَّوَاتُر اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ وَالْوسط فِي الْكَثْرَة الَّتِي يحصل بهَا التَّوَاتُر، وَهَذَا هُوَ الرَّابِع (وَقد يُخَالف فِي الضَّرُورِيّ مكابر كالسوفسطائية) فَإِن مِنْهُم من يُنكر ثُبُوت حقائق الْأَشْيَاء وَيَقُول أَنَّهَا خيالات بَاطِلَة، وهم العنادية، وَمِنْهُم من يزْعم أَنَّهَا تَابِعَة للاعتقادات لَو اعْتقد المعتقد الْعرض جوهرا وَبِالْعَكْسِ، فَالْأَمْر كَمَا اعْتقد، وهم العندية، وَمِنْهُم من يُنكر الْعلم بِثُبُوت شَيْء وَلَا ثُبُوته وَيَزْعُم أَنه شَاك وشاك فِي أَنه شَاك، وهلم جرا وهم اللاأدرية وَالْحق أَنهم لَا يسْتَحقُّونَ الْجَواب، بل يقتلُون ويضربون، وَيُقَال لَهُم لَا تجزعوا فَإِنَّهُ لَا ثُبُوت لشَيْء، وسوفسطا: اسْم للحكمة المموهة وَالْعلم المزخرف، وَيُقَال سفسط فِي الْكَلَام إِذْ هذى، وَهَذَا الْخَامِس (وَالْفرق) بَين الْعلم الْحَاصِل بالتواتر وَغَيره من الضروريات إِنَّمَا هُوَ (فِي السرعة للِاخْتِلَاف فِي الْجلاء والخفاء) للتفاوت فِي الْألف، وَالْعَادَة، والممارسة، والأخطار بالبال، وتصورات أَطْرَاف الْأَحْكَام (لَا) لاخْتِلَاف (فِي الْقطع) بِوَاسِطَة احْتِمَال النقيض، فَانْتفى التشكيك السَّادِس أَيْضا. (ثمَّ الْجُمْهُور) من الْفُقَهَاء والمتكلمين (على أَن ذَلِك الْعلم ضَرُورِيّ، والكعبي وَأَبُو الْحُسَيْن) قَالَا هُوَ (نَظَرِي وَتوقف الْآمِدِيّ قَالُوا) أَي النظريون (يحْتَاج) الْعلم الْحَاصِل بِهِ (إِلَى المقدمتين) هما (الْمخبر عَنهُ محسوس فَلَا يشْتَبه) بِخِلَاف الْعقلِيّ فَإِنَّهُ قد يشْتَبه كحدوث الْعَالم على الفلاسفة (وَلَا دَاعِي لَهُم) أَي للمخبرين (إِلَى الْكَذِب) من جلب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة (وكل مَا هُوَ كَذَلِك) أَي محسوس لَا دَاعِي لمخبر بِهِ إِلَى الْكَذِب (صدق) فَهَذَا الْمخبر صدق (قُلْنَا احْتِيَاجه) أَي الْعلم الْحَاصِل بِهِ (إِلَى سبق الْعلم بذلك) أَي المقدمتين وترتيبهما (مَمْنُوع فَإنَّا نعلم علمنَا بِوُجُود بَغْدَاد من غير خطور شَيْء من ذَلِك) بالبال (فَكَانَ) الْعلم الْحَاصِل بِهِ (مخلوقا عِنْده) أَي الْخَبَر الْمُتَوَاتر لسامعه (بِالْعَادَةِ وَإِمْكَان صُورَة التَّرْتِيب) للمقدمتين فِيهِ (لَا يُوجب النظرية لإمكانه) أَي ترتيبهما (فِي أجلى البديهيات كالكل أعظم من جزئه) بِأَن يُقَال للْكُلّ جُزْء آخر، والمركب من الشَّيْء وَغَيره أعظم من ذَلِك الشَّيْء (ومرجع) كَلَام (الْغَزالِيّ) حَيْثُ قَالَ فِي المستقصى الْعلم الْحَاصِل بالتواتر ضَرُورِيّ بِمَعْنى أَنه لَا يحْتَاج إِلَى(3/32)
الشُّعُور بتوسط وَاسِطَة مفضية إِلَيْهِ مَعَ أَن الْوَاسِطَة حَاضِرَة فِي الذِّهْن وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنى أَنه حَاصِل من غير وَاسِطَة كَقَوْلِنَا الْمَوْجُود لَا يكون مَعْدُوما فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من حُصُول مقدمتين إِحْدَاهمَا أَن هَؤُلَاءِ مَعَ كثرتهم وَاخْتِلَاف أَحْوَالهم لَا يجمعهُمْ على الْكَذِب جَامع. وَالثَّانيَِة أَنهم قد اتَّفقُوا على الْأَخْبَار عَن الْوَاقِعَة، لكنه لَا يفْتَقر إِلَى تَرْتِيب المقدمتين بِلَفْظ منظوم، وَلَا إِلَى الشُّعُور بتوسطهما أَو إفضائهما إِلَيْهِ (إِلَى أَنه) أَي الْخَبَر الْمُتَوَاتر (من قبيل القضايا الَّتِي قياساتها مَعهَا) كالعشرة نصف الْعشْرين (وَظهر) من قَوْلنَا نعلم علمنَا بِوُجُود بَغْدَاد إِلَى آخِره (عَدمه) أَي عدم كَونه من ذَلِك الْقَبِيل (قَالُوا) أَي المنكرون لضرورته (لَو كَانَ ضَرُورِيًّا علم ضروريته بِالضَّرُورَةِ) إِذْ الْعلم ببداهة الْعلم الْحَاصِل بِلَا نظر لَازم (فَلم يخْتَلف فِيهِ) لَكِن اخْتلف فِيهِ فَلَيْسَ ضَرُورِيًّا (قُلْنَا) معَارض بِأَنَّهُ (لَو كَانَ نظريا علم نظريته بِالضَّرُورَةِ) لمثل مَا ذكر (والحل) لمادة الشُّبْهَة (لَا يلْزم من حُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ الشُّعُور بِصفتِهِ) الَّتِي هِيَ الضَّرُورَة، لِأَن تصور الْمَوْصُوف لَا يسْتَلْزم تصور الصّفة وَلَا التَّصْدِيق وجود التَّصْدِيق بثبوتها لَهُ (وَلَا يخفى أَنهم) أَي المنكرين للضَّرُورَة (لم يلزموا) المثبتين لَهَا (من الشُّعُور بِهِ) أَي بِالْعلمِ (الشُّعُور بِصفتِهِ) أَي بِصفة الْعلم (بل ألزموا كَون الْعلم بهَا) أَي بِصفتِهِ (ضَرُورِيًّا وَلَا يلْزم من كَونه) أَي الْعلم بهَا (ضَرُورِيًّا الشُّعُور بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا (بل الضَّرُورَة) أَي كَون الشَّيْء ضَرُورِيًّا (لَا تَسْتَلْزِم الْحُصُول) أَي حُصُول ذَلِك الشَّيْء فِي الْعقل وتصوره (بِوَجْه) مَا، لِأَن معنى كَونه ضَرُورِيًّا كَونه بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى نظر (إِذْ يتَوَقَّف) الشُّعُور بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا (على توجه النَّفس وتطبيق مَفْهُوم الضَّرُورِيّ الْمَشْهُور) أَي كَونه لَا يتَوَقَّف على نظر وَكسب (وَلَيْسَ المتوقف على ذَلِك) أَي التَّوَجُّه والتطبيق الْمَذْكُورين (نظريا) وَهُوَ ظَاهر (بل الْجَواب منع انْتِفَاء التَّالِي) فِي قَوْلهم: لَو كَانَ ضَرُورِيًّا علم ضروريته بِالضَّرُورَةِ والتالي: أَي لَكنا لَا نعلم كَونه ضَرُورِيًّا بِالضَّرُورَةِ مُنْتَفٍ فحاصل الْمَنْع أَنا لَا نسلم أَنه لَا نعلم ذَلِك بل هُوَ ضَرُورِيّ، ونعلم ضروريته على تَقْدِير التَّوَجُّه والتطبيق فَلم يخْتَلف (وَقد مر مثله) حَيْثُ قَالَ فِي فصل حجية السّنة ضَرُورِيَّة دينية، وَلَو أورد كَذَا الْحَاصِل ضَرُورَة يلْزمه إِلَى آخِره (وَالْحق أَن الضَّرُورَة لَا توجب عدم الِاخْتِلَاف فقد ينشأ) الِاخْتِلَاف لموجب (لَا من جهل الْمَفْهُوم) جهلا محوجا إِلَى النّظر. وَفِي بعض النّسخ لَا من جِهَة الْمَفْهُوم (بل من الْغَلَط بِظَنّ كل مُتَوَقف) علمه على الْعلم بِشَيْء آخر نظريا، وَهَذَا الظَّن غلط (وَقد انتظم الْجَواب) وَهُوَ قَوْله قَلما احْتِيَاجه إِلَى سبق الْعلم بذلك مَمْنُوع (دَلِيل الْمُخْتَار) وَهُوَ أَنه ضَرُورِيّ: يَعْنِي أَنه لم يذكر(3/33)
للمختار دَلِيلا على حِدة، لَكِن الْجَواب الْمَذْكُور للرَّدّ على المنكرين صَار دَلِيلا لَهُ، فَقَوله دَلِيل الْمُخْتَار حَال من فَاعل انتظم (وشروط الْمُتَوَاتر) الصَّحِيحَة فِي المخبرين ثَلَاثَة: أَحدهَا (تعدد النقلَة بِحَيْثُ يمْنَع التواطأ عَادَة) على الْكَذِب (و) ثَانِيهَا (الِاسْتِنَاد) فِي إخبارهم (إِلَى الْحس) أَي إِحْدَى الْحَواس الْخمس لَا إِلَى الْعقل لما سبق (وَلَا يشْتَرط) الِاسْتِنَاد إِلَى الْحس (فِي كل وَاحِد) . وَفِي الشَّرْح العضدي لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون بعض المخبرين مُقَلدًا فِيهِ أَو ظَانّا أَو مجازفا. وَقَالَ السُّبْكِيّ: وَعِنْدِي هُنَا وَقْفَة (و) ثَالِثهَا (اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ وَالْوسط فِي ذَلِك) التَّعَدُّد والاستناد، لِأَن أهل كل طبقَة بعد الطَّبَقَة الأولى كالأولى فِيمَا يشْتَرط لإِفَادَة الْعلم (وَالْعلم بهَا) أَي بِهَذِهِ الشُّرُوط (شَرط الْعلم) الْحَاصِل (بِهِ) أَي بالْخبر الْمُتَوَاتر (عِنْد من جعله) أَي الْعلم الْمَذْكُور (نظريا) لِأَنَّهُ الطَّرِيق إِلَيْهِ (وَعِنْدنَا) الْعلم بِالشُّرُوطِ (بعده) أَي بعد الْعلم الْحَاصِل بِهِ (عَادَة) يَعْنِي جرت الْعَادة بِأَن هَذَا الْعلم يحصل بعده غَالِبا من غير أَن يكون لَهُ مُوجب عَقْلِي (وَقد لَا يلْتَفت إِلَيْهَا) أَي الشُّرُوط لذهوله عَنْهَا (وَلَا يتَعَيَّن عدد) مَخْصُوص يتَوَقَّف عَلَيْهِ حُصُول التَّوَاتُر (وَقيل) يتَعَيَّن (أقلهم خَمْسَة) لِأَن الْأَرْبَعَة بَيِّنَة شَرْعِيَّة فِي الزِّنَا يجب تزكيتهم لإِفَادَة خبرهم الظَّن بِالْإِجْمَاع، إِذْ لَو أفادت الْعلم لما احْتَاجَت إِلَى التَّزْكِيَة (و) قيل أقلهم (اثْنَا عشر) كعدد نقباء بني إِسْرَائِيل المبعوثين طَلِيعَة إِلَى الْجَبَابِرَة والكنعانيين بِالشَّام، وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِيَار هَذَا الْعدَد لإِفَادَة الْعلم (و) قيل (وَعِشْرُونَ) لقَوْله تَعَالَى - {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ} - الْآيَة (و) قيل (أَرْبَعُونَ) لقَوْله تَعَالَى - {حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} - وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رجلا كَلمهمْ عمر رَضِي الله عَنهُ وَلَا يخفى مَا فِي الِاسْتِدْلَال بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ (و) قيل (سَبْعُونَ) لقَوْله تَعَالَى - {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} - أَي للاعتذار إِلَيْهِ من عبَادَة الْعجل وسماعهم كَلَامه من أَمر وَنهي ليخبروا قَومهمْ بِمَا يسمعونه، وَكَانَ اخْتِيَار هَذَا الْعدَد لإِفَادَة الْعلم، وَذكر الشَّارِح أقوالا أخر تَركهَا المُصَنّف، وَقد أحسن فِيهِ فتركناه (و) قيل (مَا لَا يُحْصى وَمَا لَا يحصرهم بلد) فَيمْتَنع تواطؤهم على الْكَذِب، وَالْكل غير صَحِيح (وَالْحق عَدمه) أَي عدم تعْيين عدد مَخْصُوص (لقطعنا بقطعنا بمضمونه) أَي الْخَبَر الْمُتَوَاتر (بِلَا علم مُتَقَدم بِعَدَد) مَخْصُوص، وَإِنَّمَا قيد الْعلم الْمَنْفِيّ بِوَصْف التَّقَدُّم بِنَاء (على النظرية) أَي على قَول الْقَائِلين بِأَنَّهُ يُفِيد علما نظريا، فَإِنَّهُم يعتبرون فِي طَرِيق ذَلِك الْعلم بِالْعدَدِ الْمَخْصُوص، هَكَذَا هَذَا خبر أخبرهُ عدد كَذَا، وكل مَا يكون كَذَلِك صدقا لِامْتِنَاع تواطؤ هَذَا الْعدَد على الْكَذِب (وَلَا) علم (مُتَأَخّر) بِعَدَد مَخْصُوص بِنَاء (على) قَول (الضرورية) أَي الْقَائِلين بِأَنَّهُ يُفِيد علما ضَرُورِيًّا، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ أَن الْعلم بِعَدَد المخبرين(3/34)
بِحَيْثُ يمْنَع التواطؤ عَادَة كَمَا مر آنِفا يحصل عَادَة بعد حُصُول الْعلم بمضمون الْخَبَر، وَيرد عَلَيْهِ أَن حَاصِل هَذَا التَّعْلِيل عدم لُزُوم الْعلم بِعَدَد مَخْصُوص مُتَقَدما ومتأخراً لَا عدم تعين عدد مَخْصُوص فِي نفس الْأَمر، وَقَوله وَالْحق عَدمه يدل على هَذَا وَالْجَوَاب أَن الْعلم بِالْعدَدِ الْمَخْصُوص إِذا لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ إِفَادَة الْخَبَر الْمُتَوَاتر الْعلم، وَلَا يلْزم حُصُوله بهَا بعْدهَا، فَمن أَيْن يعلم توقفها على نفس ذَلِك الْعدَد، على أَنه يدل على نفي توقفها عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر قَوْله (وللعلم باختلافه) أَي اخْتِلَاف حَال الْخَبَر الْمُتَوَاتر بِاعْتِبَار الْعدَد (بِحُصُول الْعلم مَعَ عدد) خَاص (فِي مَادَّة وَعَدَمه) أَي عدم حُصُوله (فِي) مَادَّة (أُخْرَى مَعَ) عدد (مثله) أَي مثل ذَلِك الْعدَد الْخَاص، فَلَو كَانَ الْمدَار خُصُوص الْعدَد كَانَ يحصل الْعلم فِي الْمَادَّة الْأُخْرَى أَيْضا، وَقد يُقَال تعين الْعدَد الْخَاص لَيْسَ بِمَعْنى كَونه مناطا للعدم بل بِمَعْنى كَونه شرطا لَهُ فَيجوز أَن يكون عدم حُصُول الْعلم فِي الْمَادَّة الْأُخْرَى لفَوَات شَرط آخر فَتَأمل (فَبَطل) بِهَذَا (قَول أبي الْحُسَيْن وَالْقَاضِي: كل خبر عدد أَفَادَ علما) بمضمونه لشخص (فَمثله) أَي فَمثل ذَلِك الْخَبَر بِاعْتِبَار عدده (يفِيدهُ) أَي علما بمضمونه (فِي غَيره) أَي غير ذَلِك الشَّخْص، لزعمهما أَن منَاط إِفَادَة الأول للْعلم إِنَّمَا هُوَ الْعدَد الْخَاص، والاشتراك فِي المناط يسْتَلْزم الِاشْتِرَاك فِي الحكم، ثمَّ بَين منشأ اخْتِلَاف حَاله بقوله (للِاخْتِلَاف فِي لَوَازِم مَضْمُون الْخَبَر من قربه) أَي قرب الْخَبَر من وَقت وُقُوع الْمَضْمُون (وَبعده) عَنهُ (وأطرافه) أَي الْخَبَر أَو الْمَضْمُون: يَعْنِي الْأُمُور الْمُتَعَلّقَة والقرائن الدَّالَّة على الْوُقُوع، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد الْمخبر عَنهُ وَبِه (وَمن ممارسة المخبرين) يُقَال مارسه: أَي عالجه وزاوله، وَالْمرَاد كَمَال اطلاعهم (بمضمونه وَالْعلم) أَي علم السَّامع (بأمانتهم وضبطهم وَحسن إِدْرَاك المستمعين) وَقد عرفت مِمَّا سبق أَن هَذِه الْأُمُور مِمَّا يلْزم نفس الْخَبَر أَو الْمخبر أَو الْمخبر عَنهُ وَلَيْسَت من الْقَرَائِن الْمُنْفَصِلَة الَّتِي احْتَرز عَنْهَا فِي تَعْرِيف الْمُتَوَاتر (إِلَّا أَن يُرَاد مَعَ التَّسَاوِي) اسْتثِْنَاء من عُمُوم قَول أبي الْحُسَيْن وَالْقَاضِي بِاعْتِبَار حكم الْبطلَان: يَعْنِي أَن حكمهمَا بِكَوْن الْمثل مشاركا لما هُوَ مثل لَهُ فِي الإفادة للْعلم على الْإِطْلَاق بَاطِل إِلَّا أَن يُرَاد كَون الْخَبَرَيْنِ مماثلين فِي الْعدَد منع التَّسَاوِي بَينهمَا فِي ذاتيتهما ومخبريهما من كل وَجه، فَإِن كَانَ المُرَاد هَذَا (فَصَحِيح) حِينَئِذٍ قَوْلهمَا، لَكِن التَّسَاوِي من كل الْوُجُوه (بعيد) جدا لعدم مثل هَذَا التَّسَاوِي عَادَة (وَفِي الْوُقُوع) مَعْطُوف على قَوْله فِي لَوَازِم، يَعْنِي أَن الِاخْتِلَاف كَمَا هُوَ ثَابت بِاعْتِبَار اللوازم، وَذَلِكَ يُفِيد معقولية الِاخْتِلَاف فِي إِفَادَة الْعلم كَذَلِك ثَابت بِاعْتِبَار الْوُقُوع كَمَا أَفَادَهُ بقوله بِحُصُول الْعلم مَعَ عدد فِي مَادَّة وَعَدَمه فِي أُخْرَى مَعَ عدد مثله وَذَلِكَ يُفِيد إِجْمَالا أَن لَهُ مُوجبا فِي نفس الْأَمر (وَأما شُرُوط الْعَدَالَة وَالْإِسْلَام كَيْلا يلْزم تَوَاتر) خبر (النَّصَارَى بقتل الْمَسِيح) وَهُوَ بَاطِل بقوله تَعَالَى - {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه} -(3/35)
وَإِجْمَاع الْمُسلمين (فساقط كشروط الْيَهُود أهل الذلة) أَي وجود أهل الذلة والمسكنة فِي المخبرين (لخوفهم المواطأة) على الْكَذِب إِذا لم يكن فيهم هَؤُلَاءِ بِأَن كَانَ الْكل من الأكابر لعدم خوفهم من الْمُؤَاخَذَة على الْكَذِب لعزتهم وجاههم، وَقد يُقَال وجود الأذلة بَين المخبرين يُورث وَهنا فِي الْخَبَر لاحْتِمَال أَن يكون إخبارهم لتبعية الأكابر كَمَا هُوَ الْمُعْتَاد من حَالهم، أما سُقُوط الأول فلعدم تحقق الشَّرْط الْمُتَّفق عَلَيْهِ: وَهُوَ اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ وَالْوسط فِي الْعدَد (وخبرهم آحَاد الأَصْل) لأَنهم كَانُوا قليلين فِي ابْتِدَاء أَمرهم جدا، وَقد يُقَال سُقُوطه لِأَن الْمَسِيح شبه لَهُم فَقَتَلُوهُ بِنَاء على اعْتِقَادهم أَنه هُوَ كَمَا قَالَ - {وَلَكِن شبه لَهُم} - وَأما سُقُوط الثَّانِي فَلَمَّا ذكرنَا، ولحصول الْعلم بِإِخْبَار العظماء إِذا كَانَ عَددهمْ بِحَيْثُ يَسْتَحِيل تواطؤهم على الْكَذِب عَادَة فَلَا يضر بعد ذَلِك عدم وجود الأذلة (وينقسم) الْمُتَوَاتر (إِلَى مَا يُفِيد الْعلم بموضوع) صلَة الْعلم: أَي بِمَعْنى مَدْلُول عَلَيْهِ بِوَاسِطَة الْوَضع مُطَابقَة أَو تضمنا أَو التزاما (فِي أَخْبَار الْآحَاد) وَفِي بعض النّسخ الْعدَد بدل الْآحَاد، وَمثل الشَّارِح الْمَوْضُوع بالأمكنة النائية والأمم الخالية، وَلَا يظْهر وَجه التَّسْمِيَة بموضوع وَلَا يُنَاسِبه قَوْله (وَغير مَوْضُوع فِي شَيْء مِنْهَا) أَي أَخْبَار الْآحَاد (بل يعلم) هَذَا الَّذِي هُوَ غير مَوْضُوع فِي شَيْء مِنْهَا للسامع (عِنْدهَا) أَي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة (بِالْعَادَةِ كأخبار عَليّ) رَضِي الله عَنهُ فِي الحروب (وَعبد الله بن جَعْفَر) فِي الْعَطاء (يحصل عِنْدهَا) أَي أخبارهما (يدل على السجية) أَي الملكة النفسية: يَعْنِي الشجَاعَة والسخاء (ضمنا إِذْ لَيْسَ الْجُود جُزْء مَفْهُوم إِعْطَاء آلَاف، وَلَا الشجَاعَة جُزْء مَفْهُوم قتل آحَاد مخصوصين) لِأَن الشجَاعَة ملكة نفسانية تَقْتَضِي اعْتِدَال الْقُوَّة الغضبية (وَلَا) يدل على السجية (التزاما إِلَّا بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ) للالتزام (لجَوَاز تعقل قَائِل ألفا بِلَا خطور معنى الشجَاعَة) تَعْلِيل لنفي دلَالَة الِالْتِزَام بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَهُوَ كَون الدَّال بِحَيْثُ يلْزم من تعقله تعقل الْمَدْلُول، وَأما وجود دلَالَة الِالْتِزَام بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ فَلِأَنَّهُ إِذا تصور مُقَابلَة الْألف وَمَفْهُوم الشجَاعَة وَطلب الْمُلَازمَة بَينهمَا حكم بهَا، فِي الشَّرْح العضدي إِذا كثرت الْأَخْبَار فِي الوقائع وَاخْتلفت فِيهَا لَكِن كل وَاحِد مِنْهَا يشْتَمل على معنى مُشْتَرك بَينهَا بِجِهَة التضمن أَو الِالْتِزَام حصل الْعلم بِالْقدرِ الْمُشْتَرك وَيُسمى الْمُتَوَاتر من جِهَة الْمَعْنى، وَذَلِكَ كوقائع حَاتِم فِيمَا يحْكى من عطاياه من فرس وابل وَعين وثوب فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن جوده فَيعلم، وَإِن لم يعلم شَيْء من تِلْكَ القضايا بِعَيْنِه، وكوقائع عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي حروبه أَنه هدم فِي خَيْبَر كَذَا وَفعل فِي أحد كَذَا إِلَى غير ذَلِك، فَإِنَّهُ يدل بالالتزام على شجاعته وَقد تَوَاتر مِنْهُ ذَلِك وَأَن كَانَ شَيْء من تِلْكَ الوقائع لم يبلغ دَرَجَة الْقطع انْتهى. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ قَوْله فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن جوده يُشِير إِلَى أَن الأول مِثَال للتضمن،(3/36)
وَالثَّانِي للالتزام، أما الِالْتِزَام فَظَاهر، وَأما التضمن فَلِأَن الْجُود لما كَانَ إِفَادَة مَا يَنْبَغِي لَا لعوض كَانَ جُزْءا من كل إِعْطَاء مَخْصُوص، وَهَذَا بِالنّظرِ إِلَى الظَّاهِر، وَإِلَّا فالجود صفة فِي النَّفس هِيَ مبدأ تِلْكَ الإفادة انْتهى (فَمَا قيل) وَالْقَائِل ابْن الْحَاجِب إِذا اخْتلف الْمُتَوَاتر فِي الوقائع (الْمَعْلُوم مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ بتضمن أَو الْتِزَام تساهل) إِذْ قد عرفت أَنه لَيْسَ فِي الْقسم الثَّانِي تضمن وَلَا الْتِزَام، وَفِي الْقسم الأول تتَحَقَّق الدلالات الثَّلَاث، لَكِن قد يُرَاد بالالتزام الْمَعْنى الْأَعَمّ (وَأما الْآحَاد فخبر لَا يُفِيد بِنَفسِهِ الْعلم) سَوَاء لم يفد أصلا أَو يفِيدهُ بالقرائن الْمُنْفَصِلَة، فَلَا وَاسِطَة بَين الْمُتَوَاتر وَخبر الْآحَاد، وَهَذَا التَّعْرِيف لَا يتم على قَول أَحْمد: خبر الْوَاحِد يُفِيد الْعلم بِنَفسِهِ مطردا، وعَلى قَول بَعضهم يُفِيد غير مطرد وَسَيَأْتِي (وَقيل مَا يُفِيد الظَّن، وَاعْترض بِمَا لم يفده، وَدفع بِأَنَّهُ) أَي الْخَبَر الَّذِي لم يفده (لَا يُرَاد) دُخُوله فِي التَّعْرِيف لِأَنَّهُ غير دَاخل فِي الْمَحْدُود (إِذْ لَا يثبت بِهِ) أَي بِمَا لم يفده (حكم) وَالْمرَاد مَا يُفِيد الحكم وَهل هَذَا يثبت الْوَاسِطَة (وَلَيْسَ) هَذَا الدّفع بِشَيْء (إِذْ ثَبت بالضعيف) أَي بِالْحَدِيثِ الَّذِي ضعفه (بِغَيْر وضع) أَي كذب (الْفَضَائِل وَهُوَ النّدب) وَهُوَ حكم شَرْعِي، وَقد يُقَال: إِذا ثَبت النّدب لزمَه إِفَادَة الظَّن، وَالْكَلَام فِيمَا لَا يفِيدهُ فَلْيَكُن مَادَّة النَّقْض الْخَبَر الْمَوْضُوع، وَحَاصِل الدّفع تَقْيِيد الْمَحْدُود بِمَا يثبت الحكم، وَقد يُقَال ثُبُوت الْفَضَائِل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف لَا يسْتَلْزم إفادته الظَّن، كَيفَ وإفادة الظَّن وَظِيفَة الصَّحِيح وَالْحسن، بل ثُبُوت مندوبية الْعَمَل بالضعيف: أَي بمضمونه إِنَّمَا هُوَ لرعاية الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح أَو الْمسَاوِي رَغْبَة فِي الطَّاعَة وَعدم الْمَانِع عَن الْعَمَل بِهِ لإباحته الْأَصْلِيَّة (وَمِنْه) أَي خبر الْآحَاد (قسم يُسمى المستفيض) وَهُوَ (مَا رَوَاهُ ثَلَاثَة فَصَاعِدا أَو مَا زَاد عَلَيْهَا) أَي الثَّلَاثَة، وَالْمرَاد مَا لم ينْتَه إِلَى التَّوَاتُر، تَركه لظُهُوره بِقَرِينَة التقابل وَغَيره. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ: أقل مَا يثبت بِهِ الاستفاضة اثْنَان. وَقَالَ السُّبْكِيّ وَالْمُخْتَار عندنَا أَن المستفيض مَا يعده النَّاس شَائِعا وَقد صدر عَن أصل (وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (الْخَبَر متواتر وآحاد ومشهور وَهُوَ) أَي الْمَشْهُور (مَا كَانَ آحَاد الأَصْل متواترا فِي الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث فبينه) أَي الْمَشْهُور (وَبَين المستفيض عُمُوم من وَجه) لصدقهما على مَا رَوَاهُ الثَّلَاثَة فَصَاعِدا مَا لم يتواتر فِي الْقرن الأول ثمَّ تَوَاتر فِي أحد القرنين وانفراد المستفيض إِذا لم ينْتَه فِي أَحدهمَا إِلَى التَّوَاتُر وانفراد الْمَشْهُور فِيمَا رَوَاهُ وَاحِد أَو اثْنَان فِي الأَصْل ثمَّ تَوَاتر فِي الثَّانِي أَو الثَّالِث (وَهُوَ) أَي الْمَشْهُور (قسم من الْمُتَوَاتر عِنْد الْجَصَّاص) فِي جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة (وعامتهم) أَي الْحَنَفِيَّة على أَن الْمَشْهُور (قسيم) للمتواتر (فالآحاد مَا لَيْسَ أَحدهمَا) أَي الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور (والمتواتر عِنْده) أَي الْجَصَّاص (مَا أَفَادَ الْعلم بمضمون الْخَبَر ضَرُورَة أَو نظرا وَهُوَ) أَي مُفِيد الْعلم بمضمونه نظرا (الْمَشْهُور وعَلى هَذَا)(3/37)
أَي أَن الْمَشْهُور يُفِيد الْعلم نظرا (قيل) الْجَصَّاص (يكفر) جاحده (بجحده) ، وعامتهم لَا يكفرونه، وَالْقَائِل صدر الشَّرِيعَة (وَالْحق الِاتِّفَاق على عَدمه) أَي الإكفار كَمَا نَص السَّرخسِيّ (لآحادية أَصله فَلم يكن) جَحده (تَكْذِيبًا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام، بل ضَلَالَة لتخطئة الْمُجْتَهدين) فِي الْقبُول وَاتِّبَاع مُوجبه (وَلِأَن الإفادة) للْعلم (إِذا كَانَت نظرية توقفت عَلَيْهِ) أَي النّظر (وَقد يعجز عَنهُ) النّظر (أَو يذهل عَنهُ، وَحَاصِل ذَلِك النّظر) فِي الْعلم المفاد بالمشهور على قَوْله ثُبُوت (الْإِجْمَاع الْمُتَأَخر) على (أَنه) أَي الْمَشْهُور (صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيلْزم الْقطع بِهِ) أَي الْمَشْهُور (قُلْنَا اللَّازِم) من تلقيهم بِالْقبُولِ (الْقطع بِصِحَّة الرِّوَايَة) لَهُ (بِمَعْنى اجْتِمَاع شَرَائِط الْقبُول لَا الْقطع بِأَنَّهُ) أَي الْمَشْهُور (قَالَه) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَو كَانَ) الْإِجْمَاع الْمُتَأَخر (على) وجوب (الْعَمَل بِهِ) أَي الْمَشْهُور (فَكَذَلِك) أَي لَا يكفر جاحده (لما ذكرنَا من معنى الخفاء) الْمُوجب للعجز أَو الذهول فِي الْبَعْض بِخِلَاف الْمُتَوَاتر فَإِنَّهُ كالمسموع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتكذيبه كفر (ثمَّ يُوجب) الْمَشْهُور عِنْد عَامَّة الْحَنَفِيَّة (ظنا فَوق) ظن الْخَبَر (الْآحَاد قَرِيبا من الْيَقِين) وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْقَوْم علم طمأنينة لاطمئنان النَّفس وتوطينها وتسكيها عَن مزاجة احْتِمَال النقيض (لمقولية الظَّن) على أَفْرَاده (بالتشكيك) فبعضها أقوى من الْبَعْض (فَوَجَبَ تَقْيِيد مُطلق الْكتاب بِهِ) أَي الْمَشْهُور (كتقييد) مُطلق (آيَة جلد الزَّانِي) الشَّامِل للمحصن وَغَيره (بِكَوْنِهِ) أَي الزَّانِي (غير مُحصن برجم مَاعِز) أَي بِدَلِيل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم ماعزا من غير جلد كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا (وَقَوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
" الثّيّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة " (ورجم بِالْحِجَارَةِ) ذكر المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة أَن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ وَلَا يجمع بَين الْجلد وَالرَّجم، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَرِوَايَة عَن أَحْمد وَيجمع فِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ، وَأهل الظَّاهِر كَذَلِك، ثمَّ إِن النّسخ إِنَّمَا هُوَ للْجمع بَينهمَا، وأصل الرَّجْم لَيْسَ بمنسوخ فيصلح مُقَيّدا (و) تَقْيِيد مُطلق (صَوْم كَفَّارَة الْيَمين) الشَّامِل للتتابع وَغَيره (بالتتابع بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود) فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات كَمَا مر (لشهرتها) أَي قِرَاءَته (فِي الصَّدْر الأول، وَهُوَ) أَي الشُّهْرَة فِيهِ (الشَّرْط) فِي وجوب تَقْيِيد الْكتاب بِهِ (و) تَقْيِيد (آيَة غسل الرجل) فِي الْوضُوء (بِعَدَمِ التخفف) أَي لبس الْخُف (بِحَدِيث الْمسْح) على الْخُف الْمخْرج فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد وَغَيرهَا (إِن لم يكن متواترا) قَالَ أَبُو حنيفَة: من أنكر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ يخَاف عَلَيْهِ الْكفْر، فَإِنَّهُ ورد فِيهِ من الْأَخْبَار مَا يشبه الْمُتَوَاتر. وَقَالَ أَبُو يُوسُف خبر الْمسْح يجوز نسخ الْكتاب بِهِ لشهرته، وَقد نَص ابْن عبد الْبر على أَنه متواتر، وَفِي شرح الطَّحَاوِيّ. قَالَ الْكَرْخِي أثبتنا الْكفْر على من لَا يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.(3/38)
(فصل: فِي شَرَائِط الرَّاوِي. مِنْهَا كَونه بَالغا حِين الْأَدَاء)
وَإِن لم يكن بَالغا وَقت التَّحَمُّل (لإنفاقهم) أَي الصَّحَابَة وَغَيرهم (على) قبُول رِوَايَة (ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير والنعمان ابْن بشير وَأنس بِلَا استسفار) عَن الْوَقْت الَّذِي تحملوا فِيهِ مَا يَرْوُونَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. جَاءَ فِي صَحِيح البُخَارِيّ مَا يدل على أَن ابْن عَبَّاس أدْرك فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير أَنه تحمل صَغِيرا وَأدّى كَبِيرا، فقد قيل لَهُ أشهدت الْعِيد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ نعم، وَلَوْلَا مَكَاني مِنْهُ مَا شهدته من الصغر، رَوَاهُ البُخَارِيّ، توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسن ابْن الزبير والنعمان دون الْعشْر، وَاتفقَ أهل السبر وَالْأَخْبَار وَمن صنف أَن ابْن الزبير أول مَوْلُود فِي الْإِسْلَام فِي الْمَدِينَة من قُرَيْش، ولد فِي السّنة الثَّانِيَة، والنعمان من أقرانه، وَهُوَ أول مَوْلُود فِي الْأَنْصَار بعد الْهِجْرَة، وَأما أنس فَكَانَ ابْن عشر سِنِين لما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وعرضته أمه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخدمته فَقبله، وَتُوفِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن عشْرين سنة. وَقد روى لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألفا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا (فَبَطل الْمَنْع) أَي منع قبُوله لكَون الصغر مَظَنَّة عدم الضَّبْط والتحرير. (وَأما إسماعهم الصّبيان) للْحَدِيث كَمَا جرت بِهِ عَادَة السّلف وَالْخلف (فَغير مُسْتَلْزم) قبُول رِوَايَته بعد الْبلُوغ أَلْبَتَّة، لجَوَاز أَن يكون ذَلِك للتبرك (وَقبل الْمُرَاهق شذوذ مَعَ تحكيم الرَّأْي) فَإِذا وَقع فِي ظن السَّامع صدقه قبل رِوَايَته فِي الْمُعَامَلَات والديانات (قُلْنَا: الْمُعْتَمد الصَّحَابَة وَلم يرجِعوا إِلَيْهِ) أَي الصَّحَابَة إِلَى الْمُرَاهق (واعتماد أهل قبَاء على أنس أَو ابْن عمر لسن الْبلُوغ) هَذَا جَوَاب شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ عَن الْقَائِلين بِقبُول رِوَايَة الصَّبِي فِي بَاب الدّين بِحَدِيث أهل قبَاء حَيْثُ قَالُوا أَن عبد الله بن عمر أَتَاهُم وَأخْبرهمْ بتحويل الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة وهم كَانُوا فِي الصَّلَاة فاستداروا كَهَيْئَتِهِمْ، وَكَانَ يَوْمئِذٍ صَغِيرا لِأَنَّهُ عرض عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة، وتحويل الْقبْلَة كَانَ قبل بدر بشهرين، فقد اعتمدوا خَبره فِيمَا لَا يجوز الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِعلم، وَهُوَ الصَّلَاة وَلم يُنكر عَلَيْهِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: وَلَكنَّا نقُول أَن الَّذِي أَتَاهُم أنس بن مَالك، وَقد روى أَنه عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ فَإنَّا نحمل على أَنَّهُمَا جَاءَ أَحدهمَا بعد الآخر وأخبرا بذلك، فَإِنَّمَا تحولوا معتمدين على رِوَايَة الْبَالِغ وَهُوَ أنس، أَو ابْن عمر كَانَ بَالغا يَوْمئِذٍ، وَإِنَّمَا رده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لضعف بنيته، لَا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا انْتهى. وَقَالَ الْأَتْقَانِيّ: أَن الْمخبر لم يكن ابْن عمر، وَإِنَّمَا هُوَ رَاوِي أخباره، وَأَنه عرض يَوْم أحد وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة، وَلم يجزه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعرض يَوْم الخَنْدَق وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة فَأَجَازَهُ: ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه، وَأَن تَحْويل الْقبْلَة كَانَ بعد الْهِجْرَة لسِتَّة(3/39)
عشر شهرا أَو سَبْعَة عشر، وأنسا كَانَ ابْن عشر سِنِين فَكيف كَانَ بَالغا، وَأحد كَانَت فِي شَوَّال سنة ثَلَاث، فعمره ثَلَاث عشرَة سنة، وَابْن عمر كَانَ يَوْمئِذٍ ابْن أَربع عشرَة سنة فَهُوَ أكبر من أنس بِسنة، لَا بِالْعَكْسِ (و) ذكر (المحدثون) أَن الَّذِي أَتَاهُم (عباد بن نهيك بن إساف) الشَّاعِر (وَهُوَ شيخ) كَبِير وضع عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَزْو، وَهُوَ الَّذِي صلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر رَكْعَتَيْنِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَرَكْعَتَيْنِ إِلَى الْكَعْبَة، ثمَّ أَتَى قومه بني حَارِثَة وهم رُكُوع فِي صَلَاة الْعَصْر فَأخْبرهُم بتحويل الْقبْلَة فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة. قَالَ الشَّارِح: حَكَاهُ المُصَنّف، وَقيل عباد بن بشر بن قيظي الأشْهَلِي: ذكره الفاكهي فِي أَخْبَار مَكَّة. قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ الْعَسْقَلَانِي: وَهَذَا أرجح، رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة وَغَيره انْتهى.
وَالَّذِي فِي صَحِيح البُخَارِيّ من رِوَايَة الْبَراء بن عَازِب أَن الرجل الْمُبْهم صلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر فَمر على أهل الْمَسْجِد وهم رَاكِعُونَ، وَفِي الشَّرْح فِيهِ زِيَادَة تَفْصِيل، وَحكى النَّوَوِيّ عَن الْجُمْهُور قبُول إِخْبَار الصَّبِي الْمُمَيز فِيمَا طَرِيقه الْمُشَاهدَة، بِخِلَاف مَا طَرِيقه النَّقْل كالإفتاء وَرِوَايَة الْأَخْبَار وَنَحْوه (وَالْمَعْتُوه كَالصَّبِيِّ) فِي حكمه لاشْتِرَاكهمَا فِي نُقْصَان الْعقل، وَرُبمَا يكون الصَّبِي أَعقل من الْبَالِغ، بِخِلَاف الْمَعْتُوه (ثمَّ قيل سنّ التَّحَمُّل خمس) . قَالَ ابْن الصّلاح: هُوَ الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ عمل أهل الحَدِيث الْمُتَأَخِّرين (لعقلية مَحْمُود المجة) حَال كَونه (ابْن خمس) والْحَدِيث (فِي البُخَارِيّ) روى عَن مَحْمُود بن الرّبيع قَالَ: عقلت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجة مجها فِي وَجْهي وَأَنا ابْن خمس سِنِين (أَو) ابْن (أَربع) . والمجة الْوَاحِدَة من المج: وَهُوَ إرْسَال المَاء من الْفَم مَعَ النفخ، وَقيل: لَا يكون مجا حَتَّى يتباعد بِهِ. (وَقيل) أقل سنّ التَّحَمُّل (أَربع لذَلِك) أَي لكَون سنّ مَحْمُود الْمَذْكُور أَرْبعا (ولتسمع ابْن اللبان) أَي تسميع أبي بكر الْمقري للْقَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن اللبان الْأَصْفَهَانِي وَهُوَ ابْن أَربع سِنِين. قَالَ ابْن الصّلاح: بلغنَا عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ: رَأَيْت صَبيا ابْن أَربع سِنِين وَقد حمل إِلَى الْمَأْمُون قد قَرَأَ الْقُرْآن وَنظر فِي الرَّأْي غير أَنه إِذا جَاع يبكي. وَقَالَ الْحَافِظ زين الدّين الْعِرَاقِيّ فروينا عَن الْخَطِيب قَالَ سمعته يَقُول: حفظت الْقُرْآن ولي خمس سِنِين، وأحضرت عِنْد أبي بكر بن الْمقري ولي أَربع سِنِين، فأرادوا أَن يسمعوا لي فِيمَا حضرت قِرَاءَته فَقَالَ بَعضهم أَنه يصغر عَن السماع، فَقَالَ لي ابْن الْمقري: اقْرَأ سُورَة الْكَافِرُونَ فقرأتها: فَقَالَ: اقْرَأ سُورَة التكوير فقرأتها، فَقَالَ لي غَيره: اقْرَأ سُورَة المرسلات فقرأتها، فَقَالَ ابْن الْمقري: سمعُوا لَهُ والعهدة عَليّ (وَصحح عدم التَّقْدِير، بل) المناط فِي الصِّحَّة (الْفَهم، وَالْجَوَاب) فَإِذا فهم الْخطاب ورد الْجَواب كَانَ سَمَاعه صَحِيحا، وَإِن كَانَ ابْن أقل من خمس وَإِلَّا لم يَصح، وَأَن(3/40)
زَاد عَلَيْهَا وَمَا ذَاك إِلَّا (للِاخْتِلَاف) أَي اخْتِلَاف الصّبيان، بل النَّاس فِي فهم الْخطاب ورد الْجَواب، فَلَا يتَقَيَّد بسن (وَحفظ المجة، وَإِدْرَاك ابْن اللبان لَا يطرد) بِأَن يحصل كل من الْحِفْظ والإدراك لكل من أدْرك ذَلِك السن (وَهَذَا) أَي كَون الصَّحِيح عدم التَّقْدِير بسن خَاص (يُوقف الحكم بِقبُول من علم سَمَاعه صَبيا على معرفَة حَاله فِي صباه) فَإِن علم أَنه كَانَ بِحَيْثُ يفهم الْخطاب وَيرد الْجَواب تقبل رِوَايَته، وَإِلَّا فَلَا (أما مَعَ عدمهَا) أَي معرفَة حَاله (فَيجب اعْتِبَار) السن (الْغَالِب) فِي (التَّمْيِيز) أَي لذِي يحصل فِيهِ التَّمْيِيز غَالِبا (سبع) عطف بَيَان للْغَالِب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ إِذا بلغ سبع سِنِين فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يَأْكُل وَحده وَيشْرب وَحده، ويستنجي وَحده ". (وأفرط مُعْتَبر خَمْسَة عشر) حَتَّى قَالَ أَحْمد فِيهِ: بئس القَوْل. حكى ذَلِك عَن ابْن معِين، وَقيل هُوَ عَجِيب من هَذَا الْعَالم المكين، وَقيل مَتى فرق بَين الْبَقَرَة وَالْحمار، وَهُوَ مَنْقُول عَن عِيسَى بن هَارُون الْحمال (وَالْإِسْلَام كَذَلِك) أَي وَمِنْهَا كَون الرَّاوِي مُسلما حِين الْأَدَاء، لَا التَّحَمُّل (لقبُول) رِوَايَة (جُبَير فِي قِرَاءَته) أَي أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ (فِي الْمغرب بِالطورِ) والْحَدِيث (فِي الصَّحِيحَيْنِ) مَعَ أَن سَمَاعه إِيَّاهَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانَ قبل أَن يسلم لما جَاءَ فِي فدَاء أُسَارَى بدر (وَلعدم الاستفسار) عَن مَرْوِيّ الصَّحَابِيّ وَغَيره هَل تحمله فِي حَالَة الْكفْر أَو الْإِسْلَام؟ وَلَو كَانَ التَّحَمُّل فِي حَالَة الْإِسْلَام شَرط قبُول الرِّوَايَة لاستفسر، وَلَو استفسر لنقل (بِخِلَافِهِ) أَي أَدَائِهِ (فِي الْكفْر) فَإِنَّهُ لَا يقبل لقَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق} الْآيَة (وَهُوَ) أَي الْفَاسِق (الْكَافِر بعرفهم) أَي السّلف (وَهُوَ) أَي الْكَافِر (مِنْهُ) أَي مِمَّا صدق عَلَيْهِ الْفَاسِق، لِأَنَّهُ اسْم للْخَارِج عَن طَاعَة الله (وللتهمة) أَي تُهْمَة الْعَدَاوَة الدِّينِيَّة، لِأَن الْكَلَام فِيمَا يثبت بِهِ الْأَحْكَام، فَرُبمَا تحمله الْعَدَاوَة الدِّينِيَّة على السَّعْي فِيمَا يخل بِالدّينِ (والمبتدع بِمَا) أَي ببدعة (هُوَ كفر) كغلاة
الروافض والخوارج (مثله) أَي الْكَافِر الْأَصْلِيّ (عِنْد الْمُكَفّر) وَهُوَ الْأَكْثَرُونَ على مَا قَالَه الْآمِدِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب بِجَامِع الْفسق وَالْكفْر (وَالْوَجْه خِلَافه) أَي خلاف هَذَا القَوْل وَهُوَ أَنه إِن اعْتقد حُرْمَة الْكَذِب قبلنَا رِوَايَته، وَإِلَّا فَلَا كَمَا اخْتَارَهُ الإِمَام الرَّازِيّ والبيضاوي وَغَيرهمَا (لِأَنَّهُ) أَي ابتداعه بِمَا هُوَ سَبَب لتكفيره مقرون (بِتَأْوِيل) كَلَام (الشَّرْع) فَكيف يكون كالمنكر لدين الْإِسْلَام على أَن اعْتِقَاده حُرْمَة الْكَذِب يمنعهُ من الْإِقْدَام عَلَيْهِ، فيغلب على الظَّن صدقه: فَالْمُعْتَمَد عِنْد الْمُحَقِّقين أَن الَّذِي ترد رِوَايَته من أنكر أمرا متواترا من الشَّرْع مَعْلُوما من الدّين بِالضَّرُورَةِ، وَكَذَا من اعْتقد عَكسه كَذَا نقل الشَّارِح عَن الْحَافِظ الْعَسْقَلَانِي، وَمن لم يكن بِهَذِهِ الصّفة وَكَانَ ضابطا لما يرويهِ مَعَ ورعه وتقواه فَلَا مَانع من قبُوله (وَغَيره)(3/41)
أَي غير المبتدع بِمَا هُوَ كفر (كالبدع الجلية) أَي كالمبتدع بالبدع الجلبة (كفسق الْخَوَارِج) وهم سبع فرق: لَهُم ضلالات فاضحة، وأباطيل وَاضِحَة تعرف فِي كتب الْكَلَام. وَالْمرَاد بفسقهم بمذهبهم الْبَاطِل المستلزم خُرُوجهمْ عَن طَاعَة الله سُبْحَانَهُ (وفيهَا) أَي الْبدع الجلية مذهبان (الرَّد) للشَّهَادَة وَالرِّوَايَة لقَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، وَالْأَمر بالتبين دَلِيل الرَّد وَهُوَ فَاسق (وَالْأَكْثَر الْقبُول) لما اشْتهر بَين الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاء عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله (أمرت أَن أحكم بِالظَّاهِرِ) وَالله يتَوَلَّى السرائر، وَقَول صَاحب الْبِدْعَة ظَاهِرَة الصدْق. وَقَالَ الذَّهَبِيّ وَغَيره: لَا أصل لَهُ، وَنقل عَن بعض الْمُحدثين أَنه رَآهُ فِي كتاب يُسمى: " إدارة الْأَحْكَام ". وَقَالَ بعض الْحفاظ: لم أَقف على هَذَا الْكتاب. وَقَالَ ابْن كثير: يُؤْخَذ من حَدِيث أم سَلمَة فِي الصَّحِيحَيْنِ " إِنَّمَا أَنا بشر وَإِنَّكُمْ تختصمون إِلَيّ فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضي لَهُ على نَحْو مَا أسمع، فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار ". (وَلَا يُعَارض) هَذَا الْمَرْوِيّ (الْآيَة لنأولها بالكافر أَو) بِأَن المُرَاد الْفَاسِق (بِلَا تَأْوِيل أَنه) أَي فسقه (من الدّين) وَهَذَا المبتدع يعد فسقه من الدّين (بِخِلَاف استدلالهم) أَي الْأَكْثَرين بِأَن السّلف (أَجمعُوا على قبُول) رِوَايَة (قتلة عُثْمَان) رَضِي الله عَنهُ (وَهِي) أَي بِدعَة قَتله (جلية) عِنْد أهل الْحق فَإِنَّهُ (رد بِمَنْع إِجْمَاع الْقبُول) لروايتهم. قَالَ السُّبْكِيّ: بل الْإِجْمَاع قَائِم على رد روايتهم لعدم الريب فِي كفرهم لاستحلالهم قَتله، وَالْكَافِر مَرْدُود إِجْمَاعًا وَأَن لم يستحلوه فَلَا ريب فِي فسقهم. وَقَالَ بعض الْحفاظ أَن دَعْوَى الْإِجْمَاع مجازفة، لِأَنَّهُ أَرَادَ من بَاشر قَتله فَلَيْسَ لأحد مِنْهُم رِوَايَة، وَإِن أَرَادَ من حاصره أَو رَضِي بقتْله، فَأهل الشَّام قاطبة مَعَ من كَانَ فيهم من الصَّحَابَة وكبار التَّابِعين، إِمَّا مكفر لأولئك وَإِمَّا مفسق. وَأما غير أهل الشَّام فَكَانُوا ثَلَاث فرق: فرقة على هَذَا الرَّأْي، وَفرْقَة سَاكِنة، وَفرْقَة على رَأْي أُولَئِكَ فَأَيْنَ الْإِجْمَاع؟ (وَلَو سلم) قبُول رِوَايَة قتلته (فَلَيْسَ) قتل عُثْمَان (مِنْهَا) أَي الْبدع الجلية (لِأَن بَعضهم يرَاهُ) أَي قَتله حَقًا (اجتهاديا فَلَا يفسقهم وَنقل) هَذَا (عَن عمار وعدي بن حَاتِم) من الصَّحَابَة (وَالْأَشْتَر) فِي جمَاعَة (وَأما غير) الْبدع (الجلية كنفي زِيَادَة الصِّفَات) الثبوتية من الْحَيَاة وَالْقُدْرَة وَالْعلم وَغَيرهَا لله تَعَالَى كَمَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزلَة وَقَالَ هُوَ حَيّ عَالم قَادر بِنَفسِهِ من غير حَاجَة إِلَى صفة زَائِدَة على الذَّات (فَقيل يقبل) خَبره (اتِّفَاقًا، وَإِن ادّعى كل) من المتخالفين (الْقطع بخطأ الآخر لقُوَّة شبهته عِنْده وَإِطْلَاق فَخر الْإِسْلَام رد) رِوَايَة (من دَعَا إِلَى بدعته) وشهادته (وَقبُول غَيره) أَي غير الدَّاعِي إِلَى بدعته من المبتدعة، لِأَن ذَلِك قد يحمل على تَحْرِيف الرِّوَايَات إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ مذْهبه، وعزى(3/42)
إِلَى مَالك وَأحمد والمحدثين أَن الصدوق المتقن إِذا كَانَ فِيهِ بِدعَة وَلم يكن يَدْعُو إِلَيْهَا يحْتَج بإخباره، وَإِذا دَعَا إِلَيْهَا سقط الِاحْتِجَاج. قَالَ ابْن الصّلاح وَغَيره: هُوَ أعدل الْأَقْوَال وأقواها (يخصصه) أَي إِطْلَاق عدم قبُول ذِي الْبِدْعَة الجلية اتِّفَاقًا، كَذَا قَالَ الشَّارِح. وَالْمَذْكُور فِيمَا سبق أَن فِي الْبِدْعَة الجلية مذهبين، وَالْأَكْثَر الْقبُول فَالْحق أَن الْمَعْنى تَخْصِيص إِطْلَاق قبُول ذِي الْبِدْعَة الَّتِي لَيست بالجلية الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله، فَقيل: يقبل اتِّفَاقًا إِلَى آخِره كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله (لاقْتِضَائه) أَي إِطْلَاق فَخر الْإِسْلَام (رد الدَّاعِي من نفاة الزِّيَادَة) لِأَن قَوْله من دعى إِلَى بدعته يعم صَاحب الجلية وَغَيرهَا (وتعليله) أَي تَعْلِيل فَخر الْإِسْلَام (بِأَن الدعْوَة دَاع إِلَى التقول) أَي الْكَذِب (يخصصه) أَي الرَّد، كَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح، وَفِي النُّسْخَة الَّتِي يعْتَمد عَلَيْهَا يُقيد النَّفْي (بِرِوَايَة وفْق مذْهبه) أَي بِرِوَايَة الدَّاعِي مَا هُوَ على وفْق مذْهبه، لِأَن دَعوته إِلَى مذْهبه لَا تستدعي الْكَذِب فِيمَا لَا تعلق لَهُ بترويج مذْهبه وَهُوَ ظَاهر (لَا مُطلقًا) بِأَن لَا تقبل رِوَايَته فِيمَا لَا تعلق لَهُ بمذهبه أَيْضا كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام بعض الْمُحدثين (وتعليله) أَي فَخر الْإِسْلَام (قبُول شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء) جمع هوى مَقْصُور: وَهُوَ الْميل إِلَى الشَّهَوَات والمستلذات من غير دَاعِيَة الشَّرْع، وَالْمرَاد المبتدعون المائلون إِلَى مَا يهوونه من أَمر الدّين (إِلَّا الخطابية) من الرافضة المنسوبين إِلَى أبي الْخطاب مُحَمَّد بن أبي وهب، وَقيل ابْن أبي زَيْنَب الْأَسدي الأجدع كَانَ يزْعم أَن عليا الْإِلَه الْأَكْبَر وجعفرا الصَّادِق الْإِلَه الْأَصْغَر، وَفِي المواقف قَالُوا: الْأَئِمَّة أَنْبيَاء وَأَبُو الْخطاب نَبِي ففرضوا طَاعَته، بل زادوا على ذَلِك الْأَئِمَّة آلِهَة والحسنان ابْنا الله، وجعفر إِلَه، لَكِن أَبُو الْخطاب أفضل مِنْهُ وَمن عَليّ، فقبحهم الله تَعَالَى مَا أَشد غباوتهم (المتدينين بِالْكَذِبِ لموافقتهم) أَي الَّذين اتَّخذُوا جَوَاز شَهَادَة الْكَذِب لمن وافقهم فِي الْمَذْهَب دينا لَهُم (أَو للْحَالِف) لَهُم على صدقه (بِأَن) صلَة التَّعْلِيل (صَاحب الْهوى وَقع فِيهِ) أَي فِي الْهوى (لتعمقه) فِي الْخَوْض فِي الدّين (وَذَلِكَ) أَي تعمقه فِيهِ (يصده) أَي يمنعهُ (عَن الْكَذِب أَو يرَاهُ) أَي الْكَذِب (حَرَامًا) لِأَن حرمته بِاتِّفَاق جَمِيع الْمذَاهب سوى الخطابية، ثمَّ قَوْله: وتعليله إِلَى آخِره مُبْتَدأ خَبره (يُوجب قبُول) رِوَايَة (الْخَوَارِج كالأكثر) أَي كَقَوْلِهِم لِأَن التعمق الصَّادِر عَن الْكَذِب مَوْجُود فيهم (وَأما شرب النَّبِيذ) من التَّمْر أَو الزَّبِيب إِذا طبخ أدنى طبخة وَإِن اشْتَدَّ مَا لم يسكر من غير لَهو (واللعب بالشطرنج) بالشين مُعْجمَة ومهملة مَفْتُوحَة ومكسورة وَالْفَتْح أشهر بِلَا قمار (وَأكل مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا من مُجْتَهد ومقلده) أَي الْمُجْتَهد (فَلَيْسَ بفسق) قَوْله من مُجْتَهد مُتَعَلق بِكُل وَاحِد من الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة وَذَلِكَ لِأَن تفسيقهم مُخَالف لما أجمع عَلَيْهِ من أَن للمجتهد أَن يعْمل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وللمقلد(3/43)
اتِّبَاع الْمُقَلّد (وَمِنْهَا) أَي وَمن الشَّرَائِط (رُجْحَان ضَبطه) أَي الرَّاوِي (على غفلته ليحصل الظَّن) بِثُبُوتِهِ من الشَّارِع (وَيعرف) رُجْحَان ضَبطه (بالشهرة وبموافقة الْمَشْهُورين بِهِ) أَي الضَّبْط فِي رواياته فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى (أَو غلبتها) أَي الْمُوَافقَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعرف رُجْحَان ضَبطه بذلك (فغفلة) أَي فَظَاهر حَاله غَفلَة فَلَا يحْتَج بروايته وَمَا ذكره من الشُّهْرَة والموافقة الخ عَلامَة خَارِجَة عَن حَقِيقَة الضَّبْط (وَأما) تَعْرِيفه بِمَا هُوَ (فِي نَفسه فللحنفية) فِيهِ قَول واف وَهُوَ (توجهه) أَي السَّامع (بكليته) بِأَن لَا يكون لَهُ الْتِفَات إِلَى غير الْمَرْوِيّ (إِلَى كُله) أَي إِلَى مَجْمُوع كَلَام الْمُحدث من أَوله إِلَى آخِره (عِنْد سَمَاعه ثمَّ حفظه) أَي محافظته للمروي فِي الْقلب أَو فِي الْكتاب (بتكريره) لفظا وَمعنى على الأول، وبصون الْكتاب على الثَّانِي (ثمَّ الثَّبَات) عَلَيْهِ بمذاكرته (إِلَى أَدَائِهِ وَمِنْهَا الْعَدَالَة حَال الْأَدَاء وَإِن تحمل فَاسِقًا إِلَّا بفسق) تعمد (الْكَذِب عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أَحْمد وَطَائِفَة) كَأبي بكر الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ والصيرفي، يُؤْخَذ هَذَا من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" إِن كذبا عَليّ لَيْسَ ككذب على أحد من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " فَإِنَّهُ متواتر على مَا ذكره ابْن الصّلاح، وَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء أَن الْكَذِب عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفر، غير أَن أَمْثَاله تحمل على الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ من غير تَوْبَة (وَالْوَجْه الْجَوَاز) لروايته وشهادته (بعد ثُبُوت الْعَدَالَة) لِأَن الْمُخْتَار كَمَا ذكره النَّوَوِيّ الْقطع بِصِحَّة تَوْبَته من ذَلِك وَقبُول رِوَايَته بعد صِحَة تَوْبَته، وَقد أَجمعُوا على قبُول رِوَايَة من كَانَ كَافِرًا وَقت التَّحَمُّل ثمَّ أسلم وَكَذَا شَهَادَته (وَهِي) أَي الْعَدَالَة (ملكة) أَي كَيْفيَّة راسخة فِي النَّفس (تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى) وَهُوَ اجْتِنَاب الْكَبَائِر، إِذا الصَّغَائِر مكفرة باجتنابها لقَوْله تَعَالَى - {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سيآتكم} {والمروءة} بِالْهَمْز وَيجوز تَركه وَتَشْديد الرَّاء: وَهِي صِيَانة النَّفس عَن الأدناس، وَمَا يشينها عِنْد النَّاس، وَقيل أَن لَا يَأْتِي مَا يعْتَذر مِنْهُ مِمَّا يبخسه من مرتبته عِنْد الْعُقَلَاء، وَقيل السمت الْحسن وَحفظ اللِّسَان والاجتناب من السخف: أَي الِارْتفَاع عَن كل خلق دنيء (وَالشّرط) لقبُول الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة (أدناها) أَي أدنى مَرَاتِب الْعَدَالَة وَهُوَ (ترك الْكَبَائِر والإصرار على صَغِيرَة) لِأَن الصَّغَائِر قل من سلم مِنْهَا، والإصرار أَن تكَرر فِيهِ الصَّغِيرَة تَكْرَارا يشْعر بقلة مبالاته بِدِينِهِ كَمَا يشْعر بِهِ ارْتِكَاب الْكَبِيرَة، وَلذَا قيل لَا حَاجَة إِلَى ذكر ترك الْإِصْرَار على صَغِيرَة لدُخُوله فِي ترك الْكَبَائِر، لِأَن الْإِصْرَار على الصَّغِيرَة كَبِيرَة، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" لَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار وَلَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار ". قَالَ الشَّارِح: وَلَو اجْتمعت الصَّغَائِر مُخْتَلفَة النَّوْع يكون حكمهَا حكم الْإِصْرَار على الْوَاحِدَة إِذا كَانَت بِحَيْثُ يشْعر مجموعها بِمَا يشْعر بِهِ الْإِصْرَار على أَصْغَر الصَّغَائِر. قَالَه ابْن عبد السَّلَام (و) ترك الْإِصْرَار على(3/44)
(مَا يخل بالمروءة) من الْمُبَاحَات.
(وَأما الْكَبَائِر فروى ابْن عمر) رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تفصيلها (الشّرك) بِاللَّه (وَالْقَتْل وَقذف المحصنة وَالزِّنَا والفرار من الزَّحْف وَالسحر وَأكل مَال الْيَتِيم وعقوق الْوَالِدين الْمُسلمين والإلحاد فِي الْحرم: أَي الظُّلم وَفِي بَعْضهَا) أَي الطّرق (الْيَمين الْغمُوس) وَفِي الشَّرْح تَفْصِيل فِي بَيَان رَفعه وَوَقفه وكنهه روى مجموعا أَو مفرقا، وَأَنه يصحف الرِّبَا بِالزِّنَا وَأَن الْوَقْف أصح إِسْنَادًا، فَمن أَرَادَ التَّفْصِيل فَليرْجع إِلَيْهِ (وَزَاد أَبُو هُرَيْرَة أكل الرِّبَا، وَعَن عَليّ إِضَافَة السّرقَة وَشرب الْخمر) إِلَى الْكَبَائِر الْمَذْكُورَة. وَقَالَ السُّبْكِيّ: وَالسَّرِقَة لَا نَعْرِف لَهَا إِسْنَادًا عَنهُ كرم الله وَجهه، وَالْخمر: روى عَنهُ أَن مدمنه كعابد وثن انْتهى (وَفِي) الحَدِيث (الصَّحِيح) الْمُتَّفق عَلَيْهِ (قَول الزُّور وَشَهَادَة الزُّور) من الْكَبَائِر، وَمن أكبر الْكَبَائِر أَيْضا، وَهل يتَقَيَّد الْمَشْهُود بِهِ بِقدر نِصَاب السّرقَة تردد فِيهِ ابْن عبد السَّلَام، وَجزم الْقَرَافِيّ بِعَدَمِ التَّقْيِيد بِهِ (وَمِمَّا عد) من الْكَبَائِر أَيْضا نقلا عَن الْعلمَاء (الْقمَار والسرف وَسَب السّلف الصَّالح) من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ (والطعن فِي الصَّحَابَة) من عطف الْخَاص على الْعَام (وَالسَّعْي فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ فِي المَال وَالدّين وعدول الْحَاكِم عَن الْحق وَالْجمع بَين صَلَاتَيْنِ بِلَا عذر) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" من جمع بَين صَلَاتَيْنِ بِلَا عذر فقد أَتَى بَابا من أَبْوَاب الْكَبَائِر " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (وَقيل الْكَبِيرَة مَا توعد عَلَيْهِ) أَي توعد الشَّارِع عَلَيْهِ (بِخُصُوصِهِ) قَالَ الشَّارِح وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ: وَهَذَا القَوْل جَاءَ عَن جمَاعَة من السّلف وَأَعْلَاهُمْ ابْن عَبَّاس (قيل وكل مَا مفسدته كأقل مَا روى) كَونه كَبِيرَة (مفْسدَة فَأكْثر) أَي فَصَاعِدا (فدلالة الْكفَّار على الْمُسلمين للِاسْتِئْصَال أَكثر من الْفِرَار) من الزَّحْف الْمَعْدُود من الْكَبَائِر (وإمساك المحصنة ليزنى بهَا أَكثر من قَذفهَا، وَمن جعل الْمعول) أَي الضَّابِط للكبيرة (أَن يدل الْفِعْل على الاستخفاف بِأَمْر دينه ظَنّه) أَي الضَّابِط (غَيره) أَي غير مَا قبله (معنى) تَعْرِيض لما فِي الشَّرْح العضدي وَإِشَارَة إِلَى أَن مآلهما وَاحِد (وَمَا يخل بالمروءة صغائر دَالَّة على خسة) فِي النَّفس (كسرقة لقْمَة وَاشْتِرَاط) أَخذ الْأُجْرَة (على) سَماع (الحَدِيث) كَذَا فِي شرح البديع، وَذهب أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ إِلَى أَنه لَا تقبل رِوَايَة من أَخذ على التحديث أجرا، وَرخّص آخَرُونَ فِيهِ: كالفضل ابْن دُكَيْن شيخ البُخَارِيّ وَعلي بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ. قَالَ ابْن الصّلاح: وَذَلِكَ شَبيه بِأخذ الْأُجْرَة لتعليم الْقُرْآن، غير أَن فِي هَذَا من حَيْثُ الْعرف خرما للمروءة إِن لم يقْتَرن ذَلِك بِعُذْر يَنْفِي ذَلِك عَنهُ كَمَا لَو كَانَ فَقِيرا معيلا وَكَأن الِاشْتِغَال بِالتَّحْدِيثِ يمنعهُ من الِاكْتِسَاب لِعِيَالِهِ (وَبَعض مباحات كَالْأَكْلِ فِي السُّوق) فَفِي مُعْجم الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد لين أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
" الْأكل فِي(3/45)
السُّوق دناءة " وَفِي فروع الشَّافِعِيَّة المُرَاد بِهِ أَن تنصب مائدة وتأكل وَعَادَة مثله خِلَافه، فَلَو كَانَ مِمَّن عَادَته ذَلِك كَأَهل الصَّنَائِع والسماسرة أَو كَانَ فِي اللَّيْل فَلَا، وكالأكل فِي السُّوق الشّرْب من سقايات الْأَسْوَاق إِلَّا أَن يكون سوقيا أَو غَلبه الْعَطش (وَالْبَوْل فِي الطَّرِيق) . قَالَ الشَّارِح كَذَا فِي شرح البديع، وَفِي إِبَاحَته نظر لما روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" من سل سخيمته فِي طَرِيق من طرق الْمُسلمين فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " وَرِجَاله ثِقَات إِلَّا مُحَمَّد بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ وَثَّقَهُ ابْن حبَان، وَضَعفه غَيره (والإفراط فِي المزح المفضى إِلَى الاستخفاف بِهِ وصحبة الأراذل وَالِاسْتِخْفَاف بِالنَّاسِ وَفِي إِبَاحَة هَذَا) أَي الاستخفاف بِالنَّاسِ (نظر) وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر " فَقَالَ رجل: أَن الرجل يحب أَن يكون ثَوْبه حسنا وَنَعله حسنه قَالَ " إِن الله جميل وَيُحب الْجمال، الْكبر بطر الْحق وغمط النَّاس " رَوَاهُ مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ، وغمط النَّاس: احتقارهم وازدراؤهم (وتعاطى الْحَرْف الدنيئة) بِالْهَمْز من الدناءة: وَهِي السقاطة الْمُبَاحَة (كالحياكة والصياغة) والحجامة والدباغة وَغَيرهَا مِمَّا لَا يَلِيق بأرباب المروآت وَأهل الديانَات فعلهَا وَلَا ضَرَر عَلَيْهِم فِي تَركهَا، وَفِي بعض فروع الشَّافِعِيَّة، فَإِن اعتادها وَكَانَت حِرْفَة أَبِيه فَلَا فِي الْأَصَح، وَفِي الرَّوْضَة يَنْبَغِي أَن لَا يُقيد بصنعة آبَائِهِ، بل ينظر هَل يَلِيق بِهِ هُوَ أم لَا (وَلبس الْفَقِيه قبَاء وَنَحْوه) كالقلنسوة التركية فِي بلد لم يعتادوه (وَلعب الْحمام) إِذا لم يكن قمارا، لِأَن الْغَالِب فِيهِ الِاجْتِمَاع مَعَ الأراذل: وَهُوَ فعل يستخف بِهِ، وَذَلِكَ لِأَن من لم يجْتَنب هَذِه الْأُمُور لَا يجْتَنب الْكَذِب فِي الْكَذِب فَلَا يوثق بقوله (وَأما الْحُرِّيَّة وَالْبَصَر وَعدم الْحَد فِي قذف و) عدم (الْوَلَاء) أَي الْقَرَابَة من النّسَب أَو النِّكَاح على مَا بَين فِي الْفُرُوع (و) عدم (الْعَدَاوَة) الدُّنْيَوِيَّة (فتختص بِالشَّهَادَةِ) أَي يشْتَرط فِيهَا لَا فِي الرِّوَايَة فَلَا تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى لِأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى التَّمْيِيز بِالْإِشَارَةِ بَين الْمَشْهُود لَهُ وَعَلِيهِ وَإِلَى الْإِشَارَة إِلَى الْمَشْهُود بِهِ فِيمَا يجب إِحْضَاره مجْلِس الحكم، وَفِي التَّمْيِيز بالنغمة شُبْهَة يُمكن التَّحَرُّز عَنْهَا بِجِنْس الشُّهُود، وَهَذَا الِاحْتِيَاج مُنْتَفٍ فِي الرِّوَايَة، وَقد ابتلى جمَاعَة من الصَّحَابَة بكف الْبَصَر: كَابْن عَبَّاس وَلم يخْتَلف أحد فِي قبُول روايتهم من غير فحص أَنَّهَا كَانَت قبل الْعَمى أَو بعده، وَلَا شَهَادَة للْعَبد فِي غير هِلَال رَمَضَان لتوقفها على كَمَال ولَايَة الشَّاهِد: إِذْ هِيَ تَنْفِيذ القَوْل على الْغَيْر شَاءَ أَو أَبى، وَهَذَا غير مَوْجُود فِي العَبْد لِأَنَّهَا تعدم بِالرّقِّ وَالرِّوَايَة لَا تعتمد الْولَايَة لِأَن وجوب الْعَمَل بالمروي لَيْسَ بإلزام الرَّاوِي، بل الْتِزَامه طَاعَة الشَّارِع، فَإِذا ترجح صدق الرَّاوِي يلْزمه الْعَمَل بِمُوجب ذَلِك، وَقد يُقَال: إِن الشَّارِع أمره بالانقياد لحكم القَاضِي عِنْد إِقَامَة الْبَيِّنَة وَقد الْتزم طَاعَته فَلَا فرق فَتَأمل (وَعَن أبي حنيفَة) فِي رِوَايَة الْحسن (نفى) قبُول (رِوَايَته) أَي الْمَحْدُود لِأَنَّهُ مَحْكُوم بِفِسْقِهِ لقَوْله تَعَالَى(3/46)
- {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} - (وَالظَّاهِر) من الْمَذْهَب (خِلَافه) أَي خلاف نفى رِوَايَته (لقبُول) الصَّحَابَة وَغَيرهم رِوَايَة (أبي بكرَة) من غير تفحص عَن التَّارِيخ فِي خَبره أَنه رَوَاهُ بعد مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَد أم قبله فَعدم الْحَد مُخْتَصّ بِالشَّهَادَةِ (وَظهر) مِمَّا ذكر من اشْتِرَاط الْعَدَالَة (أَن شَرط الْعَدَالَة يُغني عَن ذكر كثير من الْحَنَفِيَّة شَرط الْإِسْلَام) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة، والمضاف مفعول ذكر ثمَّ بَين الشَّرْط بقوله (بِالْبَيَانِ إِجْمَالا) أَي بِأَن يبين الرَّاوِي إِسْلَامه بِأَن يَقُول: آمَنت بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر، والبعث بعد الْمَوْت، وَالْقدر خَيره وشره، لِأَن فِي اعْتِبَاره تَفْصِيلًا حرجا (أَو مَا يقوم مقَامه) أَي مقَام بَيَان الْإِسْلَام إِجْمَالا (من الصَّلَاة) فِي جمَاعَة الْمُسلمين (ولزكاة وَأكل ذبيحتنا) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" من صلى صَلَاتنَا، واستقبل قبلتنا، وَأكل ذبيحتنا فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله فَلَا تخفروا الله فِي ذمَّته " رَوَاهُ البُخَارِيّ (دون النشأة فِي الدَّار) أَي لَا يقوم مقَامه أَنه نَشأ فِي دَار الْإِسْلَام (بَين أبوين مُسلمين) فَإِنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِهَذَا الْإِسْلَام الْحكمِي شرطا فِي صِحَة الرِّوَايَة. (ثمَّ الْحَنَفِيَّة قَالُوا هَذَا) كُله (فِي الرِّوَايَة وَفِي غَيرهَا) أَي غير الرِّوَايَة (لَا يقبل الْكَافِر) أَي إخْبَاره (مُطلقًا فِي الديانَات كنجاسة المَاء وطهارته وَإِن وَقع عِنْده) أَي السَّامع (صدقه) أَي الْكَافِر، لِأَنَّهُ لَا يستأهل لِأَن يَبْنِي عَلَيْهِ حكم شَرْعِي (إِلَّا أَن فِي النَّجَاسَة) أَي فِيمَا إِذا أخبر بِنَجَاسَة المَاء، وَلم يكن هُنَاكَ مَاء آخر للْوُضُوء (تسْتَحب إراقته) أَي المَاء (للتيمم دفعا للوسوسة العادية) فَإِن الْكفْر لَا يُنَافِي الصدْق، وعَلى تَقْدِيره لَا تحصل الطَّهَارَة بالتوضؤ بِهِ وبتجنس الْأَعْضَاء: فالاحتياط فِي الإراقة وَالتَّيَمُّم لتحصل الطَّهَارَة، والاحتراز عَن النَّجَاسَة بِيَقِين (وَلَا تجوز) الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ (قبلهَا) أَي إراقته لوُجُود المَاء الطَّاهِر ظَاهرا (بِخِلَاف خبر الْفَاسِق بِهِ) أَي بِكُل من النَّجَاسَة وَالطَّهَارَة (وبحل الطَّعَام وحرمته يحكم) السَّامع (رَأْيه فَيعْمل بِالنَّجَاسَةِ وَالْحُرْمَة إِن وَافقه) أَي رَأْيه كلا مِنْهُمَا (وَالْأولَى إِرَاقَة المَاء) وَإِن وَافق رَأْيه فِي الْأَخْبَار بِنَجَاسَتِهِ لاحْتِمَال كذبه (ليتيمم) تيمما صَحِيحا بِيَقِين (وَتجوز) صلَاته (بِهِ) أَي بِالتَّيَمُّمِ (إِن لم يرقه) وَإِنَّمَا كَانَ خبر الْفَاسِق بِهِ بِخِلَاف خبر الْكَافِر بِهِ (لِأَن الْأَخْبَار بِهِ) أَي بِمَا ذكر من الطَّهَارَة والنجاسة إِنَّمَا (يتعرف مِنْهُ) أَي من الْفَاسِق غَالِبا (لَا من غَيره) أَي الْفَاسِق (لِأَنَّهُ أَمر خَاص) لَا يقف عَلَيْهِ الْجمع الْكثير مثل رِوَايَة الحَدِيث حَتَّى يُمكن تلقيه من الْعُدُول، لِأَن ذَلِك يكون غَالِبا فِي الفيافي والأسواق: فالغالب فيهمَا الْفُسَّاق، فَقيل مَعَ التَّحَرِّي ضَرُورَة (لَكِنَّهَا) أَي النَّجَاسَة (غير لَازِمَة) للْمَاء بل عارضة عَلَيْهِ (فضم التَّحَرِّي) إِلَى أخباره (كَيْلا يهدر فسقه بِلَا ملجئ، وَالطَّهَارَة) تثبت (بِالْأَصْلِ) إِذْ هِيَ الأَصْل فِيهِ،(3/47)
فَيعْمل بِهِ عِنْد تعَارض جهني الصدْق وَالْكذب فِي خَبره (بِخِلَاف الحَدِيث، لِأَن فِي عدُول الروَاة كَثْرَة بهم غنية بِخِلَافِهِ) أَي خبر الْفَاسِق (فِي الْهَدِيَّة وَالْوكَالَة وَمَا لَا إِلْزَام فِيهِ من الْمُعَامَلَات للزومها) أَي الضَّرُورَة (للكثرة) لوُجُوبهَا (وَلَا دَلِيل) عَلَيْهَا متيسر عَادَة (سواهُ) أَي خبر الْفَاسِق: إِذْ لَا يَتَيَسَّر لكل مهد ومرسل بِخَبَر وَنَحْوهمَا عدل يقوم بِهِ، وَقد جرت السّنة والتوارث بإرسال الْهَدَايَا على يَد العبيد والجواري مُسلمين كَانُوا أَولا، وَقبُول ذَلِك من غير النفات إِلَى حَال الْوَاصِل بهما فَكَانَ ذَلِك إِجْمَاعًا على الْقبُول فَاعْتبر مُطلقًا (وَمثله) أَي الْفَاسِق (المستور) وَهُوَ من لم تعرف عَدَالَته وَلَا فسقه (فِي الصَّحِيح) فخبره لَيْسَ بِحجَّة حَتَّى تظهر عَدَالَته، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة كالعدل فِي الْإِخْبَار بِنَجَاسَة المَاء وطهارته وَرِوَايَة الْإِخْبَار (وَأما الْمَعْتُوه وَالصَّبِيّ فِي نَحْو النَّجَاسَة) أَي الْإِخْبَار بِنَجَاسَة المَاء وطهارته، وَفِي رِوَايَة الحَدِيث وَغَيرهَا من الديانَات، (فكالكافر) فِي عدم قبُول إخْبَاره لعدم ولايتهما على نفسهما فعلى غَيرهمَا أولى وَالصَّبِيّ مَرْفُوع الْقَلَم فَلَا يُبَالِي عَن الْكَذِب (وَكَذَا الْمُغَفَّل) أَي الشَّديد الْغَفْلَة، وَهُوَ الَّذِي غلب على طبعه الْغَفْلَة وَالنِّسْيَان فِي سَائِر الْأَحْوَال (والمجازف) وَهُوَ الَّذِي يتَكَلَّم من غير احْتِيَاط، وَلَا يشْتَغل بالتدارك بعد الْعلم كالكافر فِي عدم قبُول إخْبَاره فالسهو والغلط فِي روايتهما يتَرَجَّح كَمَا يتَرَجَّح الْكَذِب فِي الْكَافِر وَالْفَاسِق.
مسئلة
(مَجْهُول الْحَال وَهُوَ المستور غير مَقْبُول، وَعَن أبي حنيفَة فِي غير الظَّاهِر) من الرِّوَايَة عَنهُ (قبُول مَا لم يردهُ السّلف، وَجههَا) أَي هَذِه الرِّوَايَة (ظُهُور الْعَدَالَة بالتزامه الْإِسْلَام، ولأمرت أَن أحكم بِالظَّاهِرِ) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ قَرِيبا (وَدفع) وَجههَا (بِأَن الْغَالِب أظهر وَهُوَ) أَي الْغَالِب (الْفسق) فِي هَذِه الْأَزْمِنَة (فَيرد) خَبره (بِهِ) أَي بِهَذَا الْغَالِب (مَا لم تثبت الْعَدَالَة بِغَيْرِهِ) أَي غير الْتِزَامه الْإِسْلَام (وَقد ينْفَصل) الْقَائِل بِهَذِهِ الرِّوَايَة (بِأَن الْغَلَبَة) للفسق (فِي غير رُوَاة الحَدِيث) لَا فِي الروَاة وَلَا سِيمَا الماضين (وَيدْفَع) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَي كَون الْغَلَبَة فِي غير رُوَاة الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ (فِي المعروفين) مِنْهُم (لَا فِي المجهولين مِنْهُم، وَالِاسْتِدْلَال) لظَاهِر الرِّوَايَة (بِأَن الْفسق سَبَب التثبت) قَالَ تَعَالَى - {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} - (فَإِذا انْتَفَى) الْفسق (انْتَفَى) وجوب التثبت (وانتفاؤه) أَي الْفسق لَا يتَحَقَّق إِلَّا (بالتزكية) وَمَا لم ينتف الْفسق تبقى شبهته وَهِي مُلْحقَة بأصلها، وَجعل الشَّارِح الِاسْتِدْلَال لغير ظَاهر الرِّوَايَة وَلَا معنى لَهُ كَمَا لَا يخفى، ثمَّ قَوْله الِاسْتِدْلَال مُبْتَدأ خَبره (مَوْقُوف على) صِحَة (هَذَا الدّفع) الْمَدْلُول عَلَيْهِ(3/48)
بقوله بِأَنَّهُ فِي المعرفين إِلَى آخِره (إِذْ يُورد عَلَيْهِ) أَي على الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور بِاعْتِبَار مَا تضمنه من الْحصْر الْمشَار إِلَيْهِ بقوله بالتزكية (منع الْحصْر) أَي لَا نسلم أَن انتفاءه لَا يَصح إِلَّا بالتزكية بل يحصل (بِالْإِسْلَامِ) أَيْضا (وَيدْفَع) بِمَا ذكر (وَأما ظَاهر الْعَدَالَة) وَهُوَ على مَا نَقله الشَّارِح عَن المُصَنّف من الْتزم أوَامِر الله ونواهيه وَلم يظْهر فِيهِ خلاف ذَلِك، وباطن أمره غير مَعْلُوم (فَعدل وَاجِب الْقبُول، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مَسْتُورا بعض) من الشَّافِعِيَّة كالبغوي. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: لَا يحْتَج بِأَحَادِيث المجهولين مَعَ أَن قَول الشَّافِعِي لَا يجوز أَن يتْرك الحكم بِشَهَادَتِهِمَا إِذا كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِر صَرِيح فِي قبُوله، وَأَنه لَيْسَ بداخل فِي الْمَجْهُول.
مسئلة
(عرف أَن الشُّهْرَة) للراوي بِالْعَدَالَةِ والضبط بَين أَئِمَّة النَّقْل (معرف الْعَدَالَة والضبط كمالك) وَشعْبَة (والسفيانين) الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة (وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهم) كوكيع وَأحمد وَابْن معِين وَابْن الْمَدِينِيّ وأمثالهم فِي نباهة الذّكر واستقامة الْأَمر (للْقطع بِأَن الْحَاصِل بهَا) أَي بالشهرة (من الظَّن فَوق التَّزْكِيَة، وَأنكر أَحْمد على من سَأَلَهُ عَن إِسْحَاق) بن رَاهَوَيْه، فَقَالَ: مثل إِسْحَاق يسْأَل عَنهُ (و) أنكر (ابْن معِين) على من سَأَلَهُ (عَن أبي عبيد وَقَالَ أَبُو عبيد يسْأَل عَن النَّاس) لَا يسْأَل النَّاس عَنهُ (و) وَثبتت الْعَدَالَة أَيْضا (بالتزكية وأرفعها) أَي أرفع مَرَاتِب التَّزْكِيَة (قَول الْعدْل نَحْو حجَّة ثِقَة بتكرير لفظا) كثقة ثِقَة، أَو حجَّة حجَّة (أَو معنى) كثبت حجَّة ثَبت حَافظ ثَبت ثِقَة وَنَحْوهَا (ثمَّ) يَليهَا (الْأَفْرَاد) كحجة أوثقه أَو متقن، وَجعل الْخَطِيب هَذَا أرفع الْعبارَات (وحافظ ضَابِط تَوْثِيق للعدل يصيره كَالْأولِ) أَي تَكْرِير التوثيق (ثمَّ) يَليهَا (مَأْمُون صَدُوق وَلَا بَأْس وَهُوَ) أَي لَا بَأْس (عِنْد ابْن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم كثقة على نظر فِي عبارَة ابْن معِين) على مَا ذكر ابْن أبي خَيْثَمَة حَيْثُ قَالَ: قلت ليحيى بن معِين إِنَّك تَقول: فلَان لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَفُلَان ضَعِيف، قَالَ: إِذا قلت لَك لَيْسَ بِهِ بَأْس فَهُوَ ثِقَة، وَإِذا قلت هُوَ ضَعِيف فَهُوَ لَيْسَ بِثِقَة لَا يكْتب حَدِيثه. قَالَ الْحَافِظ الْعِرَاقِيّ: لم يقل ابْن معِين قولي لَيْسَ بِهِ بَأْس كَقَوْلي ثِقَة ليلزم التَّسَاوِي بَين اللَّفْظَيْنِ، يَعْنِي التَّفَاوُت بَينهمَا فِي التَّعْبِير، وَإِلَّا فَقَوله فَهُوَ ثِقَة قريب من ذَلِك (وَخيَار تَعْدِيل فَقَط لقَوْل بَعضهم كَانَ من خِيَار النَّاس إِلَّا أَنه يكذب وَلَا يشْعر، ثمَّ) يَليهَا (صَالح شيخ، وَهُوَ) أَي صَالح شيخ (أرفع من شيخ وسط، ثمَّ حسن الحَدِيث وصويلح) . قَالَ ابْن أبي حَاتِم: من قيل فِيهِ صَالح(3/49)
الحَدِيث يكْتب حَدِيثه للاعتبار (والمرجع الِاصْطِلَاح، وَقد يخْتَلف فِيهِ وَفِي الْجرْح) أَسْوَأ مراتبه كأكذب النَّاس، إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي الْوَضع، ثمَّ (كَذَّاب وَضاع دجال يكذب هَالك) يضع الحَدِيث، أَو وضع حَدِيثا ثمَّ (سَاقِط) . وَذكر الْخَطِيب أَن أدون الْعبارَات كَذَّاب سَاقِط (مُتَّهم بِالْكَذِبِ والوضع) وَالْوَاو بِمَعْنى أَو (ذَاهِب) أَو ذَاهِب الحَدِيث (ومتروك) أَو مَتْرُوك الحَدِيث، ومتفق على تَركه أَو تَرَكُوهُ) (وَمِنْه للْبُخَارِيّ فِيهِ نظر وسكتوا عَنهُ لَا يعْتَبر بِهِ) لَا يعْتَبر بحَديثه (لَيْسَ بِثِقَة) لَيْسَ بالثقة غير ثِقَة غير (مَأْمُون، ثمَّ ردوا حَدِيثه) مَرْدُود الحَدِيث (ضَعِيف جدا، واه بِمرَّة طرحوا حَدِيثه مطرح، ارْمِ بِهِ لَيْسَ بِشَيْء لَا يُسَاوِي شَيْئا، فَفِي هَذِه) الْمَرَاتِب (لَا حجية وَلَا استشهاد وَلَا اعْتِبَار، ثمَّ ضَعِيف مُنكر الحَدِيث مُضْطَر بِهِ واه ضَعَّفُوهُ) طعنوا فِيهِ. وَذكر فِي الْمِيزَان ضَعَّفُوهُ فِيمَا قبل هَذِه الْمرتبَة (لَا يحْتَج بِهِ، ثمَّ فِيهِ مقَال) اخْتلف فِيهِ (ضعف ضعف) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَا (تعرف وتنكر لَيْسَ بِذَاكَ) الْقوي لَيْسَ (بِالْقَوِيّ) لَيْسَ (بِحجَّة) لَيْسَ (بعمدة) لَيْسَ (بالمرضي سيئ الْحِفْظ لين) الحَدِيث فِيهِ لين تكلمُوا فِيهِ (وَيخرج) الحَدِيث (فِي هَؤُلَاءِ) الْمَذْكُورين فِي هَاتين المرتبتين (للاعتبار والمتابعات) الِاعْتِبَار أَن تَأتي إِلَى حَدِيث لبَعض الروَاة فتعتبره بروايات غَيره باختبارك طرقه لتعرف هَل شَاركهُ راو آخر فَرَوَاهُ عَن شَيْخه أم لَا؟ وَحِينَئِذٍ إِن وجد من تَابعه أَو تَابع شَيْخه أَو شيخ شَيْخه فَصَاعِدا فَرَوَاهُ مثل مَا رَوَاهُ يُسمى مُتَابعَة (إِلَّا ابْن معِين فِي ضَعِيف وَيثبت التَّعْدِيل) للشَّاهِد والراوي (بِحكم القَاضِي الْعدْل) بِشَهَادَة الشَّاهِد (وَعمل الْمُجْتَهد) الْعدْل بِرِوَايَة الرَّاوِي (الشارطين) للعدالة فِي قبُول الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة، ثمَّ إِنَّمَا يكون الْعَمَل بروايته تعديلا بِشَرْطَيْنِ: أَن يعلم أَن لَا مُسْتَند لَهُ فِي الْعَمَل سوى رِوَايَته، وَأَن يعلم أَن عمله لَيْسَ من الِاحْتِيَاط فِي الدّين كَمَا يُشِير إِلَيْهِ بقوله (لَا إِن لم يعلم) شَيْء (سوى كَونه) أَي عمل الْمُجْتَهد (على وَفقه) أَي مَا رَوَاهُ الرَّاوِي الْمَذْكُور وَهل رِوَايَة الْعدْل الحَدِيث عَن الرَّاوِي تَعْدِيل لَهُ؟ قيل نعم مُطلقًا، وَقيل لَا مُطلقًا: وَنسبه ابْن الصّلاح إِلَى أَكثر الْعلمَاء من أهل الحَدِيث وَغَيرهم، وَقَالَ أَنه الصَّحِيح، وَالْمُخْتَار عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا إِن علم من عَادَته أَنه لَا يرْوى إِلَّا عَن عدل فتعديل وَإِلَّا فَلَا.
(تَنْبِيه: حَدِيث) الرَّاوِي (الضَّعِيف للفسق لَا يرتقى بِتَعَدُّد الطّرق) بِأَن يكون الْفَاسِق مَوْجُودا فِي كل مِنْهَا شخصا معينا أَو كَانَ فِي كل مِنْهَا شخص آخر (إِلَى الحجية، و) حَدِيث الضَّعِيف (لغيره) أَي الْفسق كسوء الضَّبْط مَعَ الْعَدَالَة (يرتقى) بِتَعَدُّد الطّرق إِلَى الحجية (وَهَذَا التَّفْصِيل أصح مِنْهُ) أَي من التَّفْصِيل الْقَاسِم للْحَدِيث (إِلَى الْمَوْضُوع) وَغَيره بِأَن(3/50)
يُقَال إِن كَانَ مَوْضُوعا (فَلَا) يرتقى بِتَعَدُّد الطّرق إِلَى الحجية (أَو) كَأَن على (خِلَافه) أَي الْمَوْضُوع (فَنعم) أَي يرتقى بِتَعَدُّد الطّرق إِلَى الحجية وَذَلِكَ (لوُجُوب الرَّد) للشَّهَادَة وَالرِّوَايَة (للفسق وبالتعدد) لطرقه (لَا يرْتَفع) هَذَا الْمُوجب للرَّدّ (بِخِلَافِهِ) أَي الرَّد (لسوء الْحِفْظ لِأَنَّهُ) أَي هَذَا الرَّد (لوهم الْغَلَط والتعدد يرجح أَنه) أَي الرَّاوِي السَّيئ الْحِفْظ (أَجَاد فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْمَرْوِيّ (فيرتفع الْمَانِع) وَهُوَ وهم الْغَلَط (وَأما) الطعْن فِي الحَدِيث (بالجهالة) لرِوَايَة بِأَن لم يعرف فِي رِوَايَة الحَدِيث إِلَّا بِحَدِيث أَو حديثين (فبعمل السّلف) أَي فيرتفع بعملهم، لِأَن عَمَلهم إِمَّا لعلمهم بعدالته وَحسن ضَبطه، أَو لموافقته سماعهم ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من سامع مِنْهُ (وسكوتهم) أَي السّلف (عِنْد اشتهار رِوَايَته) أَي الحَدِيث. قَوْله سكوتهم مُبْتَدأ خَبره (كعملهم) بِهِ (إِذْ لَا يسكتون عَن مُنكر) يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَاره، وَالْأَصْل ثُبُوت الِاسْتِطَاعَة (فَإِن قبله) أَي الحَدِيث (بعض) مِنْهُم (ورده آخر) مِنْهُم (فكثير) من أهل الحَدِيث وَغَيرهم (على الرَّد، وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (يقبل، وَلَيْسَ) قبُوله (من تَقْدِيم التَّعْدِيل على الْجرْح، لِأَن ترك الْعَمَل) بِالْحَدِيثِ (لَيْسَ جرحا) فِي رِوَايَة (كَمَا سَيذكرُ فَهُوَ) أَي قبُوله الْبَعْض لَهُ (تَوْثِيق) للراوي (بِلَا معَارض ومثلوه) أَي الْحَنَفِيَّة مَا قبله بَعضهم ورده بَعضهم (بِحَدِيث معقل بن سِنَان أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى لبروع بنت واشق بِمهْر مثل نسائها حِين مَاتَ عَنْهَا هِلَال بن مرّة) قبل التَّسْمِيَة (قبله ابْن مَسْعُود، ورده عَليّ) . أخرج التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَنه سُئِلَ عَن رجل تزوج امْرَأَة وَلم يفْرض لَهَا صَدَاقا وَلم يدْخل بهَا حَتَّى مَاتَ عَنْهَا، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: لَهَا مثل صدَاق نسائها وَلَا وكس وَلَا شطط وَلها الْمِيرَاث، فَقَامَ معقل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ، فَقَالَ قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بروع بنت واشق امْرَأَة منا مثل مَا قضيت ففرح بهَا ابْن مَسْعُود. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث ابْن مَسْعُود حَدِيث حسن صَحِيح وَبِه يَقُول الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم عَليّ ابْن أبي طَالب وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر لَهَا الْمِيرَاث وَلَا صدَاق لَهَا وَعَلَيْهَا الْعدة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وروى عَنهُ أَنه رَجَعَ بِمصْر من هَذَا القَوْل، وَقَالَ بِحَدِيث بروع قلت وَقد صَحَّ عَنهُ أَنه قَالَ إِذا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث فَهُوَ مذهبي، غير أَنه قَالَ ابْن الْمُنْذر ثَبت مثل قَول ابْن عَبَّاس عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه نقُول (وَلَا يخفى أَن عمله) أَي ابْن مَسْعُود (كَانَ بِالرَّأْيِ غير أَنه سر بِرِوَايَة الْمُوَافق لرأيه من إِلْحَاق الْمَوْت بِالدُّخُولِ بِدَلِيل إِيجَاب الْعدة بِهِ) أَي بِالْمَوْتِ (كالدخول) أَي كَمَا يجب بِالدُّخُولِ (وَهُوَ) أَي الْعَمَل بِهِ (أَعم من الْقبُول لجَوَاز اعْتِبَاره) أَي الْمَرْوِيّ الْمَذْكُور بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَأْيه الْمَذْكُور (كالمتابعات) فِي بَاب الرِّوَايَات لإِفَادَة(3/51)
التقوية (إِلَّا أَن ينْقل) عَن ابْن مَسْعُود (أَنه بعد) أَي بعد تِلْكَ الْوَاقِعَة (اسْتدلَّ بِهِ) أَي بالمروي الْمَذْكُور (وَهَذَا) إِلَّا يرد الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله وَلَا يخفى الخ (نظر فِي الْمِثَال غير قَادِح فِي الأَصْل فَإِن قيل إِنَّمَا ذَكرُوهُ) أَي الْحَنَفِيَّة قبُول مَا قبله بعض السّلف ورده بَعضهم (فِي تَقْسِيم الرَّاوِي الصَّحَابِيّ إِلَى مُجْتَهد كالأربعة) أبي بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي (والعبادلة) جمع عبدل، لِأَن من الْعَرَب من يَقُول فِي زيد: بدل، أَو عبد وضعا كالنساء للْمَرْأَة، وهم عِنْد الْفُقَهَاء: عبد الله بن عَبَّاس، وَعبد الله بن عمر، وَعبد الله بن عَمْرو، وَعبد الله بن مَسْعُود. وَعند الْمُحدثين مقَام ابْن مَسْعُود عبد الله بن الزبير (فَيقدم) خَبره (على الْقيَاس مُطلقًا) أَي سَوَاء وَافقه أَو خَالفه (و) إِلَى (عدل ضَابِط) غير مُجْتَهد (كَأبي هُرَيْرَة وَأنس وسلمان وبلال، فَيقدم) خَبره (إِلَّا أَن خَالف كل الأقيسة على قَول عِيسَى) بن أبان (وَالْقَاضِي أبي زيد) وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين (كَحَدِيث الْمُصراة) وَهُوَ مَا روى أَبُو هُرَيْرَة عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ:
" لَا تصروا الْإِبِل وَالْغنم، فَمن ابتاعها بعد ذَلِك فَهُوَ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها، فَإِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها ردهَا وصاعا من تمر ": مُتَّفق عَلَيْهِ، والتصرية ربط أحلاف النَّاقة أَو الشَّاة وَترك حلبها يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة ليجتمع لَبنهَا فَيرى كثيرا فيزيد فِي الثّمن، ثمَّ إِذا حلبها الحلبة أَو الحلبتين عرف أَن ذَلِك لَيْسَ بلبنها وَهَذَا غرور: فَذهب إِلَى ظَاهر هَذَا الحَدِيث الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَأَبُو يُوسُف على مَا فِي شرح الطَّحَاوِيّ للاسبيجابي، وَذكر عَنهُ الْخطابِيّ وَابْن قدامَة أَنه يردهَا مَعَ قيمَة اللَّبن وَلم يَأْخُذ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بِهِ لِأَنَّهُ خبر مُخَالف لِلْأُصُولِ (فَإِن اللَّبن مثلي وضمانه بِالْمثلِ) بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع كَمَا يَأْتِي (وَلَو) كَانَ اللَّبن (قيميا فبالقيمة) أَي فضمانه بهَا من التَّقْدِير بِالْإِجْمَاع (لَا كمية) أَي لَا بِضَمَان كمية، يَعْنِي الْكَيْل الْمعِين وَهُوَ الصَّاع (تمر خَاصَّة) بِجِنْس خَاص وَهُوَ التَّمْر، وَهَذَا الْعَطف كَمَا فِي قَوْلهم الصابح فالعاتم للتفاوت بَين التقييدين (ولتقويم الْقَلِيل وَالْكثير بِقدر وَاحِد) عطف على مَا فهم من فحوى الْكَلَام كَأَنَّهُ قَالَ: خَالف الأقيسة لكَون اللَّبن مثلِيا إِلَى آخِره، وللزوم تَقْوِيم الْقَلِيل وَالْكثير بِاعْتِبَار التَّفَاوُت بَين لبن الْإِبِل وَالْغنم وَبَين أَفْرَاد كل مِنْهُمَا، وَالْأَصْل تَقْدِير الضَّمَان بِقدر التَّالِف (وَرب شَاة) تكون مُقَابلا فِي الْقيمَة (بِصَاع) من التَّمْر خُصُوصا فِي غلائه: وَهَذَا وَجه ثَالِث للْخلاف (فَيجب) حِينَئِذٍ (ردهَا) أَي الشَّاة (مَعَ ثمنهَا) وَهُوَ فِي معنى الرِّبَا (وَعند الْكَرْخِي وَالْأَكْثَر) من الْعلمَاء خبر الْعدْل الضَّابِط (كَالْأولِ) أَي كَخَبَر الْمُجْتَهد (وَيَأْتِي الْوَجْه) لكَونه كَذَلِك (وَتَركه) أَي حَدِيث الْمُصراة (لمُخَالفَة الْكتاب) وَهُوَ قَوْله - {فاعتدوا عَلَيْهِ} - (بِمثل مَا اعْتدى، و) مُخَالفَة السّنة (الْمَشْهُورَة) وَهُوَ مَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (من أعتق شِقْصا)(3/52)
أَي نَصِيبا لَهُ من مَمْلُوك (قوم عَلَيْهِ نصيب شَرِيكه) أَن كَانَ مُوسِرًا كَمَا روى مَعْنَاهُ الْجَمَاعَة (وَالْخَرَاج بِالضَّمَانِ) . أخرجه أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن وَعَلِيهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم، وَمَعْنَاهُ أَن الرجل يَشْتَرِي الْمَمْلُوك فيستغله ثمَّ يجد بِهِ عَيْبا كَانَ عِنْد البَائِع فَيَقْضِي برد العَبْد على البَائِع وَيرجع بِالثّمن وَيَأْخُذهُ وَتَكون لَهُ الْغلَّة طيبَة وَهُوَ الْخراج، وَإِنَّمَا طابت لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنا للْعَبد حَتَّى لَو مَاتَ مَاتَ من مَال المُشْتَرِي لِأَنَّهُ فِي يَده (و) مُخَالفَته (الْإِجْمَاع على التَّضْمِين بِالْمثلِ) فِي المثلى الَّذِي لَيْسَ بمنقطع (أَو الْقيمَة) فِي الْقَائِم الْفَائِت عينه أَو المثلى الْمُنْقَطع مَعَ أَنه مُضْطَرب الْمَتْن، فَمرَّة يَجْعَل الْوَاجِب صَاعا من تمر، وَمرَّة صَاعا من طَعَام غير بر، وَمرَّة مثل أَو مثلى لَبنهَا قمحا، وَمرَّة ذكر الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام، وَمرَّة لم يذكر، وَقيل هُوَ مَنْسُوخ (وَأَبُو هُرَيْرَة فَقِيه) لم يعْدم شَيْئا من أَسبَاب الِاجْتِهَاد، وَقد أفتى فِي زمن الصَّحَابَة وَلم يكن يُفْتِي فِي زمنهم إِلَّا مُجْتَهد: وروى عَنهُ أَكثر من ثَمَانمِائَة رجل مَا بَين صَحَابِيّ وتابعي: مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح (ومجهول الْعين وَالْحَال كوابصة) بن معبد. قَالَ الشَّارِح والتمثيل بِهِ مُشكل، فَإِن الْمَجْهُول الْمَذْكُور عِنْدهم من لم يعرف إِلَّا بِرِوَايَة حَدِيث أَو حديثين، وَلم يعرف عَدَالَته وَلَا فسقه وَلَا طول صحبته، وَقد عرفت عَدَالَة الصَّحَابَة بالنصوص، وسرد لَهُ خَمْسَة أَحَادِيث أخرجهَا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ وَحَاصِله المناقشة فِي الْمِثَال (فَإِن قبله السّلف أَو سكتوا إِذْ بَلغهُمْ أَو اخْتلفُوا قبل) وَقدم على الْقيَاس (كَحَدِيث معقل) فِي بروع وَقد عرفت اخْتِلَاف السّلف فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا قبله بعض السّلف صَار كَأَنَّهُ رَوَاهُ بِنَفسِهِ، وَإِذا كَانَ الْمُخْتَلف فِيهِ بِهَذِهِ المثابة فَمَا لم يَقع الِاخْتِلَاف فِيهِ، بل قبله الْكل أَو سكتوا كَانَ أولى بِالْقبُولِ (أَو ردُّوهُ) أَي السّلف حَدِيث الْمَجْهُول (لَا يجوز) الْعَمَل بِهِ (إِذا خَالفه) الْقيَاس، لأَنهم لَا يتهمون برد الحَدِيث الصَّحِيح، فاتفاقهم على الرَّد حِينَئِذٍ دَلِيل على اتهامه فِي الرِّوَايَة (وسموه مُنْكرا كَحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس) أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لم يَجْعَل لَهَا سُكْنى وَلَا نَفَقَة) كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره (رده عمر) فَقَالَ لَا نَتْرُك كتاب رَبنَا، وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حفظت أَو نسيت: رَوَاهُ مُسلم أَيْضا. (وَقَالَ مَرْوَان) كَمَا (فِي صَحِيح مُسلم حِين أخبر) بحديثها الْمَذْكُور (لم يسمع هَذَا الْأَمر إِلَّا) من (امْرَأَة سنأخذ بالعصمة الَّتِي وجدنَا النَّاس عَلَيْهَا وهم) أَي النَّاس يَوْمئِذٍ (الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، فَدلَّ أَنه مستنكر، وَإِن لم يظْهر) حَدِيث الْمَجْهُول (فِي السّلف، بل) ظهر (بعدهمْ فَلم يعلم ردهم وَعَدَمه) أَي عدم ردهم (جَازَ) الْعَمَل بِهِ (إِذا لم يُخَالف) الْقيَاس لترجح جَانب الصدْق لثُبُوت عَدَالَته ظَاهرا لِأَنَّهَا الْغَالِب فِي ذَلِك الزَّمَان (وَلم يجب) الْعَمَل بِهِ لِأَن وجوب الْعَمَل(3/53)