بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(وَبِهِ التَّوْفِيقُ، وَمِنْهُ اْلإِعَانَةُ)
سُبْحَانَ من نور الْعقل بنوره، ورتب أَحْكَام الْوُجُود قبل ظُهُوره، وَأظْهر بِحِكْمَتِهِ الْفُرُوع من الْأُصُول، وأوضح بكتابه الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول، فسر بمحكمه مَا تشابه على الْأَنَام، ونفع بِظَاهِرِهِ الْخَاص وَالْعَام، مَفْهُومه مَنْطُوق أسفار جَامِعَة، وإشارته من سوق الْعبارَة لامعة، وَبَين مجمله الرَّسُول الْأمين، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ، نَبِي أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم، فقبس مِنْهُ الْعلم كل من علم، أخْبرت الْأَنْبِيَاء عَن أَوْصَاف حَقِيقَته، وأجمعت الْعُقُول على اسْتِحْسَان شَرِيعَته، تَوَاتر فِي الْأَعْصَار حسن خصاله، فيا قبح من يخفاه صدق مقاله، عجز الْقيَاس عَن وصف كَمَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله. (أما بعد) فَيَقُول الْفَقِير إِلَى رَحْمَة الله " مُحَمَّد أَمِين " الشهير بأمير بادشاه الْحُسَيْنِي نسبا، الْحَنَفِيّ مذهبا، الْخُرَاسَانِي مولدا، البُخَارِيّ منشأ، الْمَكِّيّ موطنا: أَن الْعلم حَيَاة النَّفس وكمالها، وصفوته أَن تعرف مَا عَلَيْهَا وَمَا لَهَا، وَهِي ملكة لَا تحصل إِلَّا بأصولها، فَوَجَبَ معرفَة الْأُصُول قبل وصولها.
وَقد اشْتهر فِي الْآفَاق، بِمُوجب الِاسْتِحْقَاق، مُخْتَصر الإِمَام المدقق، والعلامة الْمُحَقق، ذِي الرَّأْي الثاقب، الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب، وَشَرحه للعلامة الْمُحَقق، والتحرير المدقق، عضد الْملَّة وَالدّين، أَعلَى الله درجتهما فِي عليين، وحاشيته للمحقق الثَّانِي، الْعَلامَة التَّفْتَازَانِيّ، أستاذ المخلصين، وخلاصة الْمُتَأَخِّرين، شكر الله بره، وَقدس سره، وَكتاب التَّنْقِيح، مَعَ شَرحه التَّوْضِيح، للْإِمَام الْمُحَقق، وَالْبَحْر المدقق، صدر الشَّرِيعَة وَالْإِسْلَام، أَعلَى الله دَرَجَته فِي دَار السَّلَام، وحاشيته الْمُسَمّى بالتلويح، ناهيك بِهِ فَإِنَّهُ غَنِي عَن المديح.
وَكنت أَقُول: إِن الْعلم انْتهى إِلَيْهِم، وَلَا يطْلب التَّحْقِيق إِلَّا لديهم، إِلَى أَن ظَفرت بمتن بسيط، وبحر مُحِيط بِمَا فِي الْكتب المزبورة، وَغَيرهَا من المؤلفات الْمَشْهُورَة، مَعَ تحقيقات خص بهَا عَن غَيره، فَللَّه در مُصَنفه، وَكَثْرَة خَيره، أبطاله التحقيقات من ذكر غير مَحْصُور، وَدفعهَا غَايَة المرام وَهُوَ غير مَقْدُور، من سلك مَعَه مَسْلَك الْإِنْصَاف، وتجنب عَن التعصب والاعتساف، علم أَن يَدُور مَعَ الْحق أَيْنَمَا دَار، ويسير مَعَ الصَّوَاب حَيْثُمَا سَار، غير أَنه أفرط(1/2)
فِيهِ من الإيجاز، فكاد أَن يُجَاوز التعمية وَيلْحق بالألغاز، مسالكه من الوعورة تقصر عَنْهَا الْخَطَأ، تهَامَة فيح يحار فِيهَا القطا، فَصَارَ بذلك محجوبا عَن الْأَبْصَار، وَإِن اشْتهر عنوانه بمعظم الْأَمْصَار، تصدى لشرحه بعض من حضر دراسته، وَلم يكن فَارس ميدان فراسته، فَبَقيت مخدراته عذارى فِي خدورها، وَلم تجل عرائسه بمنصة ظُهُورهَا، لكنه لم يقصر فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من النَّقْل، وَقد ينْقل عَن المُصَنّف مَا يقبله الْعقل، ويحكى أَنه عرض عَلَيْهِ كِتَابه، وَسمع بعد الْعرض جَوَابه.
(سَارَتْ مشرقة وسرت مغربا ... شتان بَين مشرق ومغرب)
تغمده الله بغفرانه، وَأدْخلهُ فِي جنانه، فَلَمَّا علمت أَنه مجمع الدقائق، ومعدن الْحَقَائِق، وَفِيه بغية المرتحلين هَذِه الأوطان، لطلب مزِيد الْعلم وَكَمَال الْعرْفَان، عرفت أَن شَرحه من أهم المطالب، والكشف عَنهُ من أعظم المآرب، وأنفت همتي عَن التقاعد عَنهُ تعسيرا، فَنَهَضت وشمرت عَن سَاق الْجد تشميرا، مستعينا بجوار بَيت الله الْكَرِيم زَاده الله من التشريف والتعظيم، فَدخلت بادية لم تسلكها سابلة لتقتفي آثَارهم، وَلم يرد مناهلها وَارِدَة ليتبع أخبارهم، فصرفت خِيَار عمري فِي حل مشكلاته، وبذلت كَمَال جهدي فِي فتح مغلقاته، وبالغت فِي التَّنْقِيح والتوضيح، واكتفيت فِيمَا يتَبَادَر بالتلويح، واقتصدت بَين الإيجاز والإطناب، احْتِرَازًا عَن الإملال والإسهاب، وكررت فِيهِ من التَّغْيِير والتبديل، لإِصْلَاح الْخلَل وَقصد التسهيل. فَكَانَ ذَلِك عِنْد المذاكرة والمدارسة، بِمحضر جمع من الحذاق فِي المباحثة والممارسة. فتم بِحَمْد الله مَا كَانَ منيتي بمنة رَبِّي، لَا بحولي وقوتي، فَأصْبح قريب التَّنَاوُل بعد أَن لم تَجِد إِلَيْهِ سَبِيلا، وَصَارَ كجنة أينعت ثمارها، وذللت قطوفها تذليلا، وَحَيْثُ يسر بِهَذَا الشَّرْح ذَلِك الْمَتْن العسير. دعتني هَذِه الْمُنَاسبَة أَن أُسَمِّيهِ " تيسير التَّحْرِير " وأسأل الله تَعَالَى أَن يرزقه الإقبال، ويوفق لمطالعته المستعدين من أهل الْكَمَال.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة، مُجْتَهد دهره، ومحقق عصره، شيخ الْإِسْلَام، ومفتي الْأَنَام، مُفِيد الطالبين، قطب العارفين.
(يَقُول العَبْد الْفَقِير مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن عبد الحميد، الإسكندري مولدا، السيواسي منتسبا، الشهير بِابْن همام الدّين: غفر الله ذنُوبه، وَستر عيوبه) وَالِده الْعَلامَة: كَانَ قَاضِي سيواس من بِلَاد الرّوم وَمن بَيت الْعلم وَالْقَضَاء، قدم الْقَاهِرَة وَولي خلَافَة الحكم بهَا عَن القَاضِي بدر الدّين لحنفي بهَا، ثمَّ ولي الْقَضَاء بالإسكندرية، وَتزَوج بهَا بنت القَاضِي الْمَالِكِي يَوْمئِذٍ، فَولدت لَهُ المُصَنّف، ومدحه الشَّيْخ بدر الدّين الدماميني بقصيدة بليغة يشْهد لَهُ فِيهَا بعلو الْمرتبَة فِي الْعلم،(1/3)
وَحسن السِّيرَة فِي الحكم، ثمَّ رغب عَنْهَا وَرجع إِلَى الْقَاهِرَة فَأَقَامَ بهَا مشتغلا بكليته فِي الْعلم إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى، كَذَا نَقله شَارِح هَذَا الْكتاب عَن المُصَنّف، وَهُوَ مِمَّن قَرَأَ عَلَيْهِ، " وَقَوله مولدا ومنتسبا " تَمْيِيز عَن نِسْبَة الصّفة إِلَى ضمير الْمَوْصُوف يَعْنِي مَنْسُوبا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة من حَيْثُ الْولادَة وَإِلَى السيواس من حَيْثُ الانتساب والمولد، والمنتسب بِفَتْح السِّين مصدر ميمي وانتسابه إِلَى السيواس إِمَّا بِاعْتِبَار نِسْبَة آبَائِهِ إِلَيْهِ، أَو بِاعْتِبَار أَن النَّاس كَانُوا ينسبونه إِلَيْهِ (الْحَمد لله) إِخْبَار صِيغَة إنْشَاء معنى كصيغ الْعُقُود، وَلَا مَحْذُور فِي عدم محموديته فِي الْأَزَل بِمَا أنشأه الْعباد من المحامد، وَإِنَّمَا الْمَحْذُور عدم اتصافه بِمَا يحمدونه بِهِ من الكمالات، وَهُوَ غير لَازم، وَالله اسْم للذات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد، وَالصَّحِيح أَنه عَرَبِيّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، لَا عبراني أَو سرياني كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو زيد، وَقيل أَنه صفة، وَالْجُمْهُور على أَنه علم مرتجل من غير اعْتِبَار أصل أَخذ مِنْهُ: مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَالشَّافِعِيّ رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِم والخليل والزجاج وَابْن كيسَان والحليمي وَالْغَزالِيّ والخطابي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وروى هِشَام عَن مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَنه اسْم الله الْأَعْظَم، وَبِه قَالَ الطَّحَاوِيّ وَكثير (الَّذِي أنشأ) أَي أوجد ابْتِدَاء (هَذَا الْعَالم) اسْم لكل مَا سوى الله، إِمَّا مُشْتَقّ من الْعلم فإطلاقه على غير الثقلَيْن وَالْمَلَائِكَة تَغْلِيب، وَإِمَّا من الْعَلامَة فَإِن فَاعِلا يسْتَعْمل فِي الْآلَة كثيرا كالطابع والخاتم، فَإِنَّهُ كالآلة فِي الدّلَالَة على صانعه، وَفِي كلمة هَذَا إِشَارَة إِلَى قرب مَا يسْتَدلّ بِهِ على وجود الصَّانِع من ذَوي الْأَبْصَار فَلَا تغفل عَنهُ (البديع) أَي المخترع، فَقَوله (بِلَا مِثَال سَابق) تَصْرِيح بِمَا علم ضمنا، أَو الْغَايَة فِي الْكَمَال فَهُوَ تأسيس، وَقيل الْإِنْشَاء والإبداع إِيجَاد الشَّيْء بِلَا سبق مَادَّة وزمان وَلَا وَاسِطَة آلَة، فيقابل التكوين لمسبوقيته بالمادة، والأحداث لكَونه مَسْبُوقا بِالزَّمَانِ، ورد بقوله تَعَالَى - {وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة} - و - {ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة} -، وَفِيه نظر لجَوَاز التَّجْرِيد عِنْد الْقَرِينَة (وأنار) أَي أظهر وأوضح (لأبصار الْعُقَلَاء) جمع بصر، وَهُوَ حاسة النّظر وَفِي بعض النّسخ لبصائر، وَهُوَ جمع بَصِيرَة، وَهِي للنَّفس كالبصر للبدن (طرق دلَالَته) وَلَا يخفى مَا فِيهِ من براعة الاستهلال، لِأَن الْأُصُول يبْحَث عَن طرق دلَالَة الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة (على وجوده وَتَمام قدرته) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن من لم يَتَّضِح لَهُ الطّرق لَيْسَ من الْعُقَلَاء فَإِن قلت وُجُوه الِاسْتِدْلَال لَيست مِمَّا يدْرك بالأبصار، فَمَا معنى إنارته لَهَا؟ قلت الإنارة للعقول حَقِيقَة لَكِنَّهَا لما كَانَت بِوَاسِطَة اسْتِعْمَال الْبَصَر غَالِبا نَسَبهَا إِلَيْهَا (فَهُوَ إِلَى الْعلم) أَي الله تَعَالَى أَو الْعَالم (بذلك) الْإِنْشَاء والتنوير (سائق) جعل خلق الْعَالم مَعَ إِيضَاح طرق دلَالَته بِمَنْزِلَة السُّوق تَنْبِيها على أَن الْإِنْسَان كالمضطر فِي الاهتداء إِلَى ذَلِك كالحيوان المسوق إِلَى جِهَة أُرِيد(1/4)
سوقه إِلَيْهَا، ويناسب هَذَا قَوْله (دفع) أَي ألجأ الْمَدْفُوع إِلَيْهِ (نظامه) أَي حسن تَرْتِيب الْعَالم على الْوَجْه الْمشَاهد (المستقر) أَي الثَّابِت على أتم وُجُوه الانتظام من غير اختلال وَلَا انخرام (إِلَى الْقطع) أَي الْعلم الْقطعِي مُتَعَلق بِالدفع (بوحدانيته) لِأَنَّهُ - {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} - (كَمَا أوجب توالي نعمائه تَعَالَى المستمر) أَي تتابعها الدَّائِم على عَامَّة الْخلق، والنعماء بِالْفَتْح ممدودة بِمَعْنى النِّعْمَة (الْعلم برحمانيته) لِأَن الرَّحْمَن هُوَ الْمُنعم الْحَقِيقِيّ الْبَالِغ فِي الرَّحْمَة غايتها بِأَن يسع كل شَيْء تفضلا من غير انْقِطَاع الْمعْصِيَة وَغَيرهَا، وَفِيمَا ذكر إِشَارَة إِلَى مُعظم مَقَاصِد علم أصُول الدّين الْمُقدم على علم أصُول الْفِقْه من إِثْبَات الْوَاجِب وَقدرته وإيجاده إِلَى غير ذَلِك (وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد) . قَالَ بعض الْمُحَقِّقين: أجمع الْأَقْوَال الشارحة للرسالة الإلهية أَنَّهَا سفارة بَين الْحق والخلق تنبه أولي الْأَلْبَاب على مَا تقصر عَنهُ عُقُولهمْ من صِفَات معبودهم ومعادهم، ومصالح دينهم ودنياهم، ومستحثات تهديهم، ودوافع شبه ترديهم. قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي المسايرة: وَأما على مَا ذكره الْمُحَقِّقُونَ: من أَن النَّبِي: إِنْسَان بَعثه الله لتبليغ مَا أُوحِي إِلَيْهِ، وَكَذَا الرَّسُول فَلَا فرق انْتهى، وَمِمَّا قيل فِي الْفرق: أَن الرَّسُول مَأْمُور بالإنذار، وَيَأْتِي بشرع مُسْتَأْنف، وَلَا كَذَلِك النَّبِي، وَإِن أمره بالتبليغ، وَيَأْتِي الْوَحْي الرَّسُول من جَمِيع وجوهه، وَالنَّبِيّ من بَعْضهَا، وَإِنَّمَا سمي بِمُحَمد لِأَنَّهُ مَحْمُود عِنْد الله وَعند أهل السَّمَاء وَالْأَرْض، وَهُوَ أَكثر النَّاس حمدا إِلَى غير ذَلِك.
(وشق لَهُ من اسْمه ليجله ... فذو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد)
(أفضل من عَبده من عباده) فِيهِ إِشَارَة إِلَى تَفْضِيل الْبشر على الْملك، وَمن تبعيضية لِأَن الْعباد: وهم المماليك يعم من عبد وَمن لم يعبد، وَالْعِبَادَة الطَّاعَة (وَأقوى من ألزم أوامره) بالمعجزات الباهرة والحجج الظَّاهِرَة: وَهُوَ كالدليل على أفضليته. قَالَ تَعَالَى - {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} - الْآيَة وَإِنَّمَا قدم الْوَصْف الأول لكَونه موصلا إِلَى الثَّانِي وَاكْتفى بِذكر الْأَوَامِر، لِأَن إِلْزَامه أصعب، فَإِن الْفِعْل أشق على النَّفس من التّرْك مَعَ أَنه يفهم بِقَرِينَة التقابل، وَترك الْمنْهِي عَنهُ مَأْمُور بِهِ (وَنشر) أَي فرق أَو بسط (ألوية شرائعه) جمع لِوَاء بِالْمدِّ، وَهُوَ الْعلم، أَو شَرِيعَة، وَهُوَ مَا شرع الله لِعِبَادِهِ، شبه الشَّرَائِع بالألوية لكَونهَا عَلامَة الْملك وأضافها، فَيكون التَّشْبِيه أبلغ كَمَا فِي لجين المَاء (فِي بِلَاده حَتَّى افترت) الْبِلَاد: أَي سكنت بعد حِدة، ولانت بعد شدَّة (ضاحكة) حَال من ضمير افترت (عَن جذل) بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة أَي عَن فَرح وابتهاج، شبه بِاعْتِبَار كَثْرَة أَفْرَاده بالأسنان الْبَادِيَة حَال الضحك فِي الظُّهُور عِنْد الانبساط، وَعَن مُتَعَلقَة بِضَاحِكَةٍ لتَضَمّنه معنى الْكَشْف، وَيجوز أَن يُرَاد كَون الضحك ناشئا(1/5)
عَن الْفَرح (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان) مُتَعَلق بجذل، فَإِنَّهُمَا يوجبانه (بعد طول انتحابها) أَي بكائها أَشد الْبكاء (على انبساط بهجة الْإِيمَان) أَي حسنه، الْجَار مُتَعَلق بالضحك، فَإِن بِنَاء الضحك على الانبساط وَهُوَ ضد الانقباض، أَو بالانتحاب على أَن يكون مبكيا عَلَيْهِ، شبه الْبِلَاد بِمن يَتَّصِف بالفرح تَارَة والحزن أُخْرَى تَشْبِيها مضمرا، وَأثبت لَهَا من لوازمه الضحك والبكاء تخييلا (وَلَقَد كَانَت) الْبِلَاد (كَمَا قيل:
(فَكَأَن وَجه الأَرْض خد متيم ... وصلت سجام دُمُوعه بسجام)
الخد مَعْرُوف، والمتيم العاشق، من تيمه الْحبّ إِذا ذلله، يُقَال سجم الدمع سجوما وسجاما إِذا سَالَ، وَالْمرَاد من وُصُول السجام بالسجام تواترها وتتابعها (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله الْكِرَام، وَأَصْحَابه الَّذين هم مصابيح الظلام، وَسلم تَسْلِيمًا " وَبعد " فَإِنِّي لما أَن صرفت طَائِفَة من الْعُمر للنَّظَر فِي طريقي الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة فِي الْأُصُول) لما كَانَ علم الْأُصُول يتَوَصَّل بِهِ إِلَى كَيْفيَّة استنباط الْأَحْكَام سمي طَرِيقا، وَاخْتلفت الآراء فِي قَوَاعِده فَصَارَ طرقا، وَلم يقل أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله لاشتمال الطَّرِيقَيْنِ مَا ذَهَبا إِلَيْهِ وَمَا ذهب إِلَيْهِ أصحابهما، وَيجوز أَن يُرَاد أسلوباهما فِيهِ. وظرفية الْأُصُول لَهما ظرفية الْكل للجزء، أَو الْكُلِّي للجزئي (خطر لي أَن أكتب كتابا مفصحا) أَي كاشفا يزِيل الخفاء (عَن الاصطلاحين) هُوَ اتِّفَاق طَائِفَة على وضع لفظ لِمَعْنى، والتثنية بِاعْتِبَار النَّوْعَيْنِ لَا الفردين، وَلَا يلْزم اخْتِلَافهمَا فِي كل فَرد، بل يَكْفِي بِاعْتِبَار الْمَجْمُوع وَلَا ينْحَصر الْكتاب فِي بَيَان الاصطلاحيات، لَكِنَّهَا الْعُمْدَة فِيهِ فَاكْتفى بذكرها (بِحَيْثُ يطير من أتقنه) أَي أحكم هَذَا الْكتاب الْمَذْكُور بفهمه على وَجه التَّحْقِيق يطير (إِلَيْهِمَا) أَي الاصطلاحين أَو طريقي الْفَرِيقَيْنِ (بجناحين) " قَوْله بِحَيْثُ " مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة حَال " كتابا " أَو لمصدر " مفصحا " فَإِن قلت من أتقن الْكتاب المفصح عَن الاصطلاحين فقد بلغ الْغَايَة فيهمَا فَكيف يطير بعد ذَلِك إِلَيْهِمَا قلت مَعْنَاهُ أَن المتقن تحصل لَهُ ملكة يقتدر بهَا على استحضار كل من المصطلحات عِنْد الْحَاجة بِأَدْنَى توجه، وَبِهَذَا ظهر وَجه اسْتِعَارَة الطيران لسرعة الِانْتِقَال، وَفَائِدَة ذكر الجناحين مَعَ أَن الطيران لَا يكون بدونهما إِيهَام أَن الطيران مَحْمُول على حَقِيقَته (إِذْ كَانَ من عَلمته أَفَاضَ) أَي أَفَادَ (فِي هَذَا الْمَقْصد) أَي الإفصاح عَنْهُمَا (لم يوضحهما حق الْإِيضَاح وَلم يناد مرتادهما) أَي طَالب الاصطلاحين (بَيَانه) فَاعل لم يناد (إِلَيْهِمَا) أَي الاصطلاحين (بحي على الْفَلاح) هِيَ اسْم فعل بِمَعْنى أقبل يعدى بعلي، وَقد يَجِيء حَيّ مُتَعَدِّيا بِمَعْنى ائْتِ كَقَوْلِه:
(حَيّ الحمول: فَإِن الركب قد ذَهَبا ... )
والفلاح: الْفَوْز والنجاة والبقاء فِي الْخَيْر، وَالْمَجْمُوع صَار فِي الْعرف مثلا يسْتَعْمل فِي شهار التَّبْلِيغ والإيقاظ لَهُ، والإفصاح عَن الْقَصْد، مَأْخُوذ من قَول الْمُؤَذّن (فشرعت فِي هَذَا الْغَرَض) أَي تأليف الْكتاب الْمَذْكُور (ضاما إِلَيْهِ) أَي بَيَان الاصطلاحين (مَا ينقدح(1/6)
لي) أَي يظْهر (من بحث) وَهُوَ فِي اللُّغَة التفتيش، وَفِي الِاصْطِلَاح إِثْبَات حَال الشَّيْء (وتحرير) تَحْرِير الْكتاب وَغَيره تقويمه (فَظهر لي بعد) كِتَابَة شَيْء (قَلِيل) أَو بعد قَلِيل من الزَّمَان (أَنه) أَي الْكتاب الْمَشْرُوع فِيهِ (سفر) أَي كتاب (كَبِير وَعرفت من أهل الْعَصْر انصراف هممهم) جمع همة بِالْكَسْرِ: وَهِي مَا يهم بِهِ من أَمر ليفعله، شاع فِي الْبَاعِث القلبي المنبعث من النَّفس بمطلوب كمالي ومقصود عَال (فِي غير الْفِقْه إِلَى المختصرات. وإعراضهم عَن الْكتب المطولات) عدم انصراف هممهم فِي الْفِقْه هَهُنَا، أما لكَونه ضَرُورِيًّا للْكُلّ بِاعْتِبَار حوادث جمة لَا تكَاد تُوجد إِلَّا فِيهَا، وَإِمَّا لما ترَتّب عَلَيْهِ من حطام الدُّنْيَا، والأغلب هُوَ الثَّانِي، والاختصار رد الْكثير إِلَى الْقَلِيل مَعَ بَقَاء مَعْنَاهُ: وَهُوَ أقرب إِلَى الْحِفْظ وَأنْشط للقارئ وأوقع فِي النَّفس، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أُوتيت جَوَامِع الْكَلم واختصرت لي الْحِكْمَة اختصارا " وَقَالَ الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا " خير الْكَلَام مَا قل وَدلّ وَلم يطلّ فيمل " (فعدلت إِلَى مُخْتَصر مُتَضَمّن إِن شَاءَ الله تَعَالَى الغرضين) بَيَان الاصطلاحين على الْوَجْه الْمَذْكُور وَضم مَا يظْهر لَهُ (واف بِفضل الله سُبْحَانَهُ بتحقيق مُتَعَلق العزمين) الإفصاح والاختصار، وَلَا يخفى على من أتقن هَذَا الْمُخْتَصر الْجَامِع لما فِي المختصرات والمطولات مَعَ كَمَال التدقيق وَالتَّحْقِيق، وَأما الإفصاح وَإِن تبادر إِلَى الْوَهم ضِدّه لما فِيهِ من الصعوبة الَّتِي تعجز عقول الفحول إِلَّا من خصّه الله بمزيد التَّوْفِيق: فقد وَقع على أتم الْوُجُوه الممكنة فِي مثله مِمَّا لَفظه إِلَى مَعْنَاهُ كقطرة بِالنّظرِ إِلَى بَحر عميق (غير أَنه) أَي الْمُخْتَصر (مفتقر إِلَى الْجواد الْوَهَّاب تَعَالَى أَن يقرنه بِقبُول أَفْئِدَة الْعباد) الْجواد السخي، من أَسمَاء الله تَعَالَى من صِفَات الْأَفْعَال، وَكَذَا الْوَهَّاب إِلَّا أَن فِيهِ زِيَادَة مُبَالغَة " وَأَن يقرنه " بِحَذْف الْجَار مُتَعَلق بمفتقر، والأفئدة جمع فؤاد، وَهُوَ الْقلب: أَفَادَ أَن حسن التَّأْلِيف وكماله لَا يُوجب الْقبُول، لِأَنَّهُ موهبة من الله سُبْحَانَهُ، وَلَقَد تأدب فِي سُؤَاله الْمُقَارنَة بقبولها مَعَ الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ: - {فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم} - (وَأَن يتفضل عَلَيْهِ) أَي الْمُخْتَصر: أَي على مُؤَلفه على تأليفه، وَفِيه إِيهَام أَنه بِمَنْزِلَة طَالب لِلْأجرِ، ويلائمه مَا سبق من وَصفه بالافتقار (بِثَوَاب يَوْم التناد) أَي يَوْم الْقِيَامَة، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يُنَادي فِيهِ بَعضهم بَعْضًا للاستغاثة، أَو يتنادى أَصْحَاب الْجنَّة وَأَصْحَاب النَّار، وَقيل غير ذَلِك، وَهَذَا إِذا لم تكن الدَّال مُشَدّدَة، فَإِن كَانَت فَالْمَعْنى يند بَعضهم من بعض: أَي يفر (وَالله سُبْحَانَهُ أسأله ذَلِك) أَي الْقبُول وَالثَّوَاب، وَتَقْدِيم الْمَفْعُول لإِفَادَة الْحصْر كَمَا فِي - {إياك نستعين} - (وَهُوَ حُسَيْنًا) كافينا (وَنعم الْوَكِيل) قيل بِمَعْنى موكول إِلَيْهِ تَدْبِير الْبَريَّة وَغَيره على الْحَذف والإيصال، أَو الْكَفِيل بالرزق، أَو الْمعِين، أَو الشَّاهِد، أَو الحفيظ أَو الْكَافِي، وَقدم الْمَخْصُوص بالمدح لإِفَادَة التَّخْصِيص (وسميته: بالتحرير) لتقويمه(1/7)
قَوَاعِد الْأُصُول عَن مظان العوج، ولكمالها فِي الاتصاف بِهَذَا الْوَصْف، سمي باسم جنسه مُبَالغَة وادعاء لاتحاده بِهِ، وتنزيلا لما سواهُ منزلَة الْعَدَم (بعد ترتيبه على مُقَدّمَة) لتَكون التَّسْمِيَة بعد وجود الْمُسَمّى كَمَا هُوَ الأَصْل، والمقدمة مَأْخُوذَة من مُقَدّمَة الْجَيْش من قدم بِمَعْنى تقدم، يُقَال مُقَدّمَة الْعلم لما يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِله كمعرفة حَده، وغايته، وموضوعه، ومقدمة الْكتاب لطائفة من كَلَامه قدمت أَمَام الْمَقْصُود لارتباطه بهَا، وانتفاع بهَا فِيهِ (هِيَ الْمُقدمَات) أَي الْأُمُور الَّتِي جرت عَادَة الْأُصُولِيِّينَ بجعلها مُقَدّمَة لعلم الْأُصُول من بَيَان مَفْهُوم اسْمه وموضوعه، والمقدمات المنطقية، واستمداده كَمَا سَيَجِيءُ، فَاللَّام للْعهد (وَثَلَاث مقالات) أولاها (فِي المبادئ) اللُّغَوِيَّة (و) ثَانِيهَا فِي (أَحْوَال الْمَوْضُوع) أَي مَوْضُوع علم الْأُصُول (و) ثَالِثهَا فِي مَاهِيَّة (الِاجْتِهَاد) وَمَا يُقَابله من التَّقْلِيد وَمَا يتبعهَا من الْأَحْكَام (وَهُوَ) أَي الِاجْتِهَاد وَمَا يتبعهُ (متمم) لمسائل الْأُصُول، لَا مِنْهَا (مسَائِله) أَي الِاجْتِهَاد (فقهية) أَي بَعْضهَا كوجوب الِاجْتِهَاد فِي حق نَفسه وَفِي حق غَيره إِذا خَافَ فَوت الْحَادِثَة على غير الْوَجْه وحرمته فِي مُقَابلَة قَاطع (لمثل مَا سنذكر) فِي بَيَان الْمَوْضُوع من أَن الْبَحْث عَن حجية خبر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس لَيْسَ من مسَائِل الْأُصُول، لِأَن موضوعها فعل الْمُكَلف، ومحمولها الحكم الشَّرْعِيّ، وَهُوَ الْوُجُوب وَالْحُرْمَة، فَتكون فقهية (واعتقادية) كَمَسْأَلَة لَا حكم فِي الْمَسْأَلَة الاجتهادية، وَجَوَاز خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد.
(الْمُقدمَة)
(الْمُقدمَة أُمُور) هِيَ الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله هِيَ الْمُقدمَات، نكرت هَهُنَا لِأَنَّهَا ذكرت تَوْطِئَة لتفصيلها، والتنكير بمقام الْإِجْمَال أليق، وَمَا قيل من أَن الْمعرفَة إِذا أُعِيدَت نكرَة، فَهِيَ غير الأولى، فَلَيْسَ على إِطْلَاقه، على أَن ذَلِك عِنْد إِعَادَة اللَّفْظ بِعَيْنِه (الأول) من الْأُمُور الْمَذْكُورَة (مَفْهُوم اسْمه) أَي الْعلم الْمَذْكُور، وَالِاسْم أصُول الْفِقْه، لم يقل تَعْرِيفه مَعَ أَنه أخصر إِشَارَة إِلَى أَن التَّعْرِيف اسْمِي لَا حَقِيقِيّ كَمَا سَيَجِيءُ، مَعَ أَنه جرت عَادَتهم بِاعْتِبَار حَال الِاسْم فِي مقَام تَعْرِيفه (وَالْمَعْرُوف) أَي الْمَشْهُور بَين الْأُصُولِيِّينَ (كَونه) أَي الِاسْم الْمَذْكُور (علما) هُوَ مَا وضع لشَيْء بِعَيْنِه غير متناول غَيره بِوَضْع وَاحِد، وَسَيَجِيءُ بَيَانه (وَقيل) هُوَ (اسْم جنس لإدخاله اللَّام) أضيف الإدخال إِلَى الِاسْم مجَازًا لِأَنَّهُ فعل الْمُتَكَلّم تَنْزِيلا للقابل منزلَة الْفَاعِل مُبَالغَة فِي قبُوله، فَكَأَنَّهُ أدخلها بِنَفسِهِ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَو كَانَ علما لما دَخلته اللَّام، وَإِذا انْتَفَى العلمية تعْيين كَونه اسْم جنس، وَيرد عَلَيْهِ أَنَّهَا تدخل فِي كثير من الْأَعْلَام، إِمَّا لُزُوما كَمَا فِي الْأَعْلَام الْغَالِبَة، أَو بِغَيْرِهِ كَمَا فِي كثير من الْأَعْلَام المنقولة من الصّفة أَو الْمصدر، أَو مَا فِيهِ معنى الْمَدْح أَو الذَّم كالعباس(1/8)
وَالْحسن وَالنضْر والأسد وَالْكَلب فِي الْمُسَمّى بهَا، وَإِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَى التَّعْرِيف، وَذَلِكَ للمح الوصفية، ومدح الْمُسَمّى بهَا وذمه (وَلَيْسَ بِشَيْء فَإِن الْعلم) على مَا هُوَ الْمَعْرُوف إِنَّمَا هُوَ (الْمركب) الإضافي: أَي أصُول الْفِقْه (لَا الْأُصُول) الَّذِي هُوَ جُزْء مِنْهُ، فالعلم مَا دَخلته اللَّام، وَمَا دَخلته اللَّام فَلَيْسَ بِعلم بل جزؤه، وَلما عين مَدْخُول اللَّام أَرَادَ أَن يبين معنى اللَّام فِيهِ، فَقَالَ (بل الْأُصُول بعد كَونه عَاما فِي المباني) جمع مبْنى، وَهُوَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الشَّيْء (يُقَال) أَي يُطلق (خَاصّا فِي المباني الْمَعْهُودَة للفقه) وَهِي الْأَدِلَّة السمعية (فَاللَّام للْعهد) الْخَارِجِي، لِأَنَّهَا حِصَّة مُعينَة من المباني الْمُطلقَة، وَكلمَة بل اضراب عَمَّا يفهم من الْكَلَام السَّابِق من علمية لفظ الْأُصُول وَحَاصِله أَنه لَيْسَ بِعلم، بل معرف بلام الْعَهْد، وَقيل الأَصْل بعد مَا كَانَ عَاما فِي المباني نقل إِلَى الدَّلِيل، وَقَالَ صدر الشَّرِيعَة النَّقْل خلاف الأَصْل، وَلَا ضَرُورَة إِلَى الْعُدُول إِلَيْهِ، لِأَن الابتناء كَمَا يَشْمَل الْحسي كابتناء السّقف على الجدران كَذَلِك يَشْمَل الْعقلِيّ كابتناء الحكم على دَلِيله (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْمركب علم (شخصي) حَقِيقَة الْعُلُوم إِمَّا الْمسَائِل، أَو التصديقات الْمُتَعَلّقَة بهَا، أَو الملكة الْحَاصِلَة من ممارستها، وَيُؤَيّد الْأَخيرينِ تَسْمِيَتهَا بِالْعلمِ، وَالْأول قَول الْقَائِل: علمت النَّحْو وَالصرْف، وَكَلَام المُصَنّف يُشِير إِلَى الأول إِذْ التصديقات أَو الملكة الْقَائِمَة بعالم غير الْقَائِمَة بآخر، فالاسم بِهَذَيْنِ الاعتبارين اسْم جنس كَمَا حَقَّقَهُ السَّيِّد السَّنَد، بِخِلَاف مُتَعَلق علومهم، وَهِي الْمسَائِل، فَإِنَّهُ وَاحِد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا يصدق على مَسْأَلَة) يَعْنِي مثلا، فَيشْمَل كل مَا سوى مَجْمُوع الْمسَائِل، وَلم يتَعَرَّض لما سوى الْجَزَاء، لِأَن عدم صدقه على مَا هُوَ خَارج عَنْهَا فِي غَايَة الظُّهُور فَإِن قلت مسَائِل الْعُلُوم تتزايد بتلاحق الأفكار، فالموجود فِي الزَّمَان السَّابِق مُغَاير بِالذَّاتِ للموجود فِي اللَّاحِق تغاير الْجُزْء وَالْكل، وَهَذَا يسْتَلْزم تعدد الْمُسَمّى، وَهُوَ يُنَافِي كَون الِاسْم علما شخصيا قلت الْمَوْجُود فِي كل زمَان شخص معِين، ويلتزم اشْتِرَاك الِاسْم وتعدد وَضعه بِحَسب تعدد الْأَزْمِنَة، وَلَا مَحْظُور وَهَهُنَا بحث، وَهُوَ أَن مَجْمُوع الْمسَائِل إِنَّمَا هُوَ مَوْجُود ذهني لاشتمالها على النّسَب الاعتبارية، وَمن ضَرُورَة تعدد الأذهان: تعدد وجوداته، وَمن ضَرُورَة تعدد الوجودات: تعدد تشخصاته، فَلَزِمَ كَون الِاسْم للْجِنْس بِهَذَا الِاعْتِبَار أَيْضا وَالْجَوَاب أَن حَقِيقَة مَجْمُوع الْمسَائِل من حَيْثُ هِيَ مَعَ قطع النّظر عَن وجودهَا وتشخصها فِي الذِّهْن جزئي حَقِيقِيّ لعدم إِمْكَان فرض اشتراكها بَين كثيرين، والتعدد إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار صورها الْحَاصِلَة فِي الأذهان، فمتعلق تِلْكَ الصُّور وَاحِد بِالذَّاتِ، وَإِن كَانَ كثيرا بِاعْتِبَار التعلقات وَالله أعلم (وَالْعَادَة تعريفة مُضَافا وعلما) أَي عَادَة الْأُصُولِيِّينَ تَعْرِيف الِاسْم الْمَذْكُور تَارَة من حَيْثُ أَنه مركب إضافي(1/9)
نظرا إِلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ الَّذِي نقل عَنهُ إِلَى العلمي، وَتارَة من حَيْثُ أَنه مُفْرد علم نظرا إِلَى مَعْنَاهُ الشخصي الَّذِي نقل إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا عرفوه على الْوَجْهَيْنِ لمزيد الانكشاف (فعلى الأول) يحْتَاج إِلَى تَعْرِيف الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ (الْأُصُول الْأَدِلَّة) مُبْتَدأ وَخبر، والظرف مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره فتعريفه الْمَبْنِيّ على الأول هَكَذَا، وَالْمرَاد بِالدَّلِيلِ مَا يُمكن التَّوَصُّل بِالنّظرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري كَالصَّلَاةِ وَاجِبَة وَالْخمر حرَام، وَسَيَجِيءُ بَيَانه مفصلا (وَالْفِقْه التَّصْدِيق) قد يُرَاد بِهِ مَا يُقَابل التَّصَوُّر، وَهُوَ إِدْرَاك أَن النِّسْبَة وَاقعَة أَو لَيست بواقعة، وَقد يُرَاد بِهِ مَا هُوَ أخص مِنْهُ، وَهُوَ يُقَابل الظَّن، وَكِلَاهُمَا هَهُنَا جَائِز، تبع عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ فِي تَفْسِير الْفِقْه بِمَا هُوَ من مقولة الْعلم، وَإِن كَانَ الْمُخْتَار عِنْده كَونه من مقولة الْمَعْلُوم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِيمَا سبق (لأعمال الْمُكَلّفين) قيل اللَّام بِمَعْنى على كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وتله للجبين} - مُتَعَلق بالتصديق لتَضَمّنه معنى الحكم، وَفِي الْكَشَّاف فِي - {يخرون للأذقان} - فَإِن قلت: حرف الاستعلاء ظَاهر الْمَعْنى إِذا قلت خر على وَجهه، وعَلى ذقنه فَمَا معنى اللَّام؟ قلت مَعْنَاهُ جعل وَجهه وذقنه للخرور واختصه بِهِ، وَهَذَا يدل على أَن كَونهَا بِمَعْنى على لم يثبت عِنْده، فَالْأولى أَن يُقَال لتَضَمّنه الاثبات عدي بهَا ولتضمنه الحكم عدي بِالْبَاء فالمثبت لَهُ الموضوعات، وَهِي الْأَعْمَال، والمحكوم بِهِ المحمولات، وَهِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، والأعمال تعم أَفعَال الْقُلُوب أَيْضا كالنية وَغَيرهَا، وَخرج التَّصْدِيق لغير الْأَعْمَال، ولأعمال غير الْمُكَلف (الَّتِي لَا تقصد لاعتقاد) فصل ثَالِث يخرج التَّصْدِيق لأعمالهم الَّتِي تقصد لَهُ كالتصديق بِأَن الْخَيْر وَالشَّر بِقَضَاء الله وَقدرته وإرادته، والاعتقاد حكم لَا يحْتَمل النقيض عِنْد الْحَاكِم، وَلَو عرض عَلَيْهِ طرفاه يجوز أَن يحكم بَينهمَا بالنقيض لكَونه على خلاف الْوَاقِع، أَو لعدم استناده إِلَى مُوجب من حس أَو ضَرُورَة أَو عَادَة أَو دَلِيل، بل اتّفق لسَبَب تَقْلِيد أَو شُبْهَة، وَقد يُرَاد بالاعتقاد مَا يعم الْيَقِين والجزم وَالظَّن وَالْجهل الْمركب، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَالْمرَاد هَهُنَا، وَإِلَّا لم يخرج مَا قصد لاعتقاد لَا يصدق عَلَيْهِ الْمَعْنى الأول (بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة) الحكم إِسْنَاد أَمر إِلَى آخر إِيجَابا أَو سلبا، أَو خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف اقْتِضَاء أَو تخييرا، وَالْأول هَهُنَا أولى لِئَلَّا يَلْغُو التَّقْيِيد بالشرعية، وَقد يُقَال يجوز أَن يُرَاد بالشرعية مَا لَا يدْرك لَوْلَا خطاب الشَّارِع، وَمن الْأَحْكَام مَا يدْرك بِدُونِهِ كوجوب الْإِيمَان بِاللَّه وتصديق النَّبِي عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه مَا فِيهِ، وعَلى الثَّانِي يُرَاد مَا يَتَرَتَّب على الْخطاب كالوجوب وَالْحُرْمَة، لأنفسه كالإيجاب وَالتَّحْرِيم لِأَنَّهُ الْمَحْكُوم بِهِ على الْأَعْمَال، وَقيل هما متحدان بِالذَّاتِ متغايران بِالِاعْتِبَارِ، وَفِيه بحث، وَبِهَذَا الْقَيْد احْتَرز عَن مثل قَوْلنَا أَفعَال الْمُكَلّفين أَعْرَاض قَائِمَة بذواتهم منقسمة إِلَى الْجَوَارِح والقلوب (القطعية) أَي الثَّابِتَة بِدَلِيل قَطْعِيّ لَا شُبْهَة فِيهِ: أَي الشُّبْهَة الناشئة عَن الدَّلِيل.(1/10)
فَانْدفع مَا قيل: من أَنه إِن أُرِيد بِالْأَحْكَامِ جَمِيعهَا لم يُوجد الْفِقْه وَلَا الْفَقِيه، لِأَن الْحَوَادِث وَإِن كَانَت متناهية ضَرُورَة انْقِضَاء دَار التَّكْلِيف، لَكِنَّهَا لكثرتها وَعدم انقطاعها مَا دَامَت الدُّنْيَا غير دَاخِلَة تَحت ضبط الْمُجْتَهدين، وَإِن أُرِيد بَعْضهَا، فإمَّا بعض لَهُ نِسْبَة مُعينَة إِلَى الْكل كالنصف، فَيلْزم الْجَهَالَة بِجَهَالَة الْكل، وَإِمَّا مُطلق فَيلْزم كَون الْعَالم بِمَسْأَلَة فَقِيها، وَلَيْسَ كَذَلِك اصْطِلَاحا، وَجه الاندفاع أَن القطعية تدخل تَحت الضَّبْط فَيمكن الْإِحَاطَة بهَا (مَعَ ملكة الاستنباط) فَخرج التَّصْدِيق الَّذِي لَيْسَ مَعهَا، وَهِي كَيْفيَّة راسخة فِي النَّفس حَاصِلَة باستجماع المآخذ والأسباب والشروط الَّتِي يَكْفِي الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَيْهَا فِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يقتدر بهَا على اسْتِخْرَاج كل مَسْأَلَة ترد عَلَيْهِ بعد التَّأَمُّل، فَلَا يخل قَول مَالك: لَا أَدْرِي فِي سِتّ وَثَلَاثِينَ من أَرْبَعِينَ مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا فِي اجْتِهَاده، وَلَا توقف أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي مسَائِل مَعْدُودَة، لجَوَاز أَن يكون لتعارض الْأَدِلَّة، أَو وجود الْمَانِع، اَوْ مُعَارضَة الْوَهم الْعقل، أَو مشاكلة الْحق الْبَاطِل، فَإِن الخلوص عَن هَذِه الْمَوَانِع خَارج عَن الطَّاقَة، فَلَا يشْتَرط (وَدخل نَحْو الْعلم بِوُجُود النِّيَّة) لما مر من عُمُوم الْأَعْمَال، فَإِن النِّيَّة من الْأَعْمَال القلية، وَالْمرَاد دُخُول الْجُزْء فِي الْكل إِن أَرَادَ الدُّخُول فِي الْمُعَرّف، أَو الجزئي فِي الْكُلِّي إِن أَرَادَ الدُّخُول فِي مَا يعم الْكل والجزء الْمَفْهُوم ضمنا أَي التَّصْدِيق لعمل الْمُكَلف بالحكم الشَّرْعِيّ، وَالْمرَاد بِنَحْوِهِ مَا كَانَ مَوْضُوعه فعل الْقلب ومحموله حكم شَرْعِي (وَقد يخص) الْفِقْه (بظنها) أَي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة للأعمال الْمَذْكُورَة، قيل الْمُخَصّص الإِمَام الرَّازِيّ، وَذَلِكَ لِأَن الْفِقْه مُسْتَفَاد من الْأَدِلَّة السمعية، وَهِي لَا تفِيد إِلَّا الظَّن
لتوقف إفادتها الْيَقِين على نفي الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز وَنَحْوه، ونفيها لَا يثبت إِلَّا بِأَن الأَصْل عدمهَا، وَهَذَا دَلِيل ظَنِّي، وَجَوَابه منع الْحصْر (وعَلى مَا قُلْنَا) من أَنه التَّصْدِيق للأعمال بِالْأَحْكَامِ القطعية (لَيْسَ هُوَ) أَي الظَّن (شَيْئا من الْفِقْه) أَي جُزْءا من أَجْزَائِهِ، فضلا عَن أَن يكون عينه، وَذَلِكَ لِأَن التَّصْدِيق الْمُتَعَلّق بِالْأَحْكَامِ القطعية لَا يكون إِلَّا قَطْعِيا (وَلَا الْأَحْكَام المظنونة) أَي وَلَا الْأَحْكَام المظنونة شَيْئا من أَحْكَامه ومحمولاته، عطف على ضمير لَيْسَ، وَلِهَذَا أكد بالمنفصل وَلَا، بِإِعَادَة النَّفْي (إِلَّا بإصطلاح) اسْتثِْنَاء مُنْقَطع: أَي لكنه مِنْهُ إِن وَقع الِاصْطِلَاح على وضع اسْم الْفِقْه لما يصدق على الظَّن فَقَط، أَو لما يعمه وَغَيره، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، لَكِن الْأَلْيَق بِالِاعْتِبَارِ مَا ذَكرْنَاهُ لما مر (ثمَّ على هَذَا التَّقْدِير) أَي على تَقْدِير تَخْصِيصه بِالظَّنِّ (يخرج) مِنْهُ (مَا علم من الْمسَائِل بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّة) بطرِيق البداهة الْحَاصِلَة من الْخَبَر الْمُتَوَاتر الْمَشْهُور الَّذِي عرفت الْعَامَّة حَتَّى النِّسَاء وَالصبيان فِي دين الْإِسْلَام كَونه مِنْهُ بِإِخْبَار الْمخبر الصَّادِق كوجوب الصَّلَوَات الْخمس وَصَوْم رَمَضَان، لِأَن التَّصْدِيق بهَا يقيني، وَكَذَا يخرج على تَفْسِيره(1/11)
بِالْعلمِ بِالْأَحْكَامِ العملية عَن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى إِخْرَاجه كَون الْفِقْه لُغَة إِدْرَاك الْأَشْيَاء الْخفية، وَذَلِكَ فِي النظريات: يُقَال فقهت كلامك، وَلَا يُقَال فقهت السَّمَاء وَالْأَرْض وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يلْزم اعْتِبَار وَجه التَّسْمِيَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى كل جُزْء من الْمُسَمّى، على أَن مَا علم بالضررة كَانَ خفِيا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَائِل (وَأما قصره) أَي الْفِقْه (على الْيَقِين وَجعل الظَّن فِي طَرِيقه) أَي الْفِقْه أَو الْيَقِين دفعا لاعتراض القَاضِي أبي بكر على التَّعْرِيف بِأَنَّهُ من بَاب الظنون، فَلَا يجوز أَن يعْتَبر الْعلم جِنْسا فِي تَعْرِيفه تَلْخِيص الْجَواب الْتِزَام كَون الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة كلهَا يقينية، وَإِن كَانَ أَكثر أدلتها أَمَارَات ظنية، لانعقاد الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِالظَّنِّ على الْمُجْتَهد إِذا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَكل حكم كَذَا يجب الْعَمَل بِهِ قطعا تعلق بِهِ الْخطاب قطعا وَلَا نعني بالقطعي إِلَّا هَذَا فَثَبت أَنَّهَا قَطْعِيَّة، وَالظَّن فِي طريقها (فمغير لمفهومه) جَوَاب أما، بِمَعْنى قصره على الْيَقِين بالتأويل الْمَذْكُور يسْتَلْزم أَن يُرَاد بِهِ غير مُسَمَّاهُ، لِأَن مُسَمَّاهُ تصديقات، أَو مسَائِل موضوعاتها أَفعَال الْمُكَلّفين، ومحمولاتها الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كالوجوب وَالْحُرْمَة، وَهِي قد تكون ظنية نَحْو الْوتر وَاجِب، وَمَا ذكر لَا يُخرجهَا من الظَّن إِلَى الْقطع بل يُفِيد الْقطع بِوُجُوب الْعَمَل بهَا قطعا، وَهُوَ لَا يسْتَلْزم كَونهَا مُتَعَلق حكم الله قطعا لظُهُور عدم الْقطع بِكَوْن الْوتر مثلا مَطْلُوبا غير جَائِز التّرْك، وَلِهَذَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي وُجُوبه: نعم هَهُنَا تصديقات أخر موضوعاتها الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة ومحمولها مَفْهُوم وَاحِد أَعنِي وجوب الْعَمَل بهَا قطعا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويقصره على حكم) أَي يقصر الْقصر الْمَذْكُور الْفِقْه على حكم وَاحِد بِاعْتِبَار الْمَحْمُول لَا الْمَوْضُوع لما عرفت فَإِن قلت الْقطع بِوُجُوب الْعَمَل رَفعهَا عَن حضيض الظَّن لي ذرْوَة الْيَقِين فالوتر مثلا بَعْدَمَا كَانَ ظَنِّي الثُّبُوت نظرا إِلَى أمارته صَار قَطْعِيّ الثُّبُوت بِاعْتِبَار تعلق الطّلب بِالْعَمَلِ بِهِ قطعا قلت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكم خَاص فِي كل عمل، وَحكم عَام وَهُوَ وجوب الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد وَالْعلم بِالْأولِ تَارَة يكون قَطْعِيا، وَتارَة يكون ظنيا بِخِلَاف الثَّانِي، فَإِنَّهُ قَطْعِيّ دَائِما، والمجتهد مَأْمُور بمظنونه وَإِن كَانَ خلاف حكم الله بِالْمَعْنَى الأول نعم عِنْد المصوبة الْكل حكم الله، وَالتَّحْقِيق خِلَافه، وَالْمُعْتَبر فِي مَفْهُوم الْفِقْه الْقطع، وَالظَّن بِاعْتِبَار الأول لَا الثَّانِي، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله يُشِير إِلَى مَا قلت بقوله (وَمَا قيل فِي إِثْبَات قَطْعِيَّة مظنونات الْمُجْتَهد مظنونه) بدل من ضمير الْمَوْصُول (مَقْطُوع بِوُجُوب الْعَمَل بِهِ) بِالْإِجْمَاع وَالْأَخْبَار المتواترة معنى (وكل مَا قطع إِلَى آخِره) أَي وجوب الْعلم بِهِ مَقْطُوع بِهِ (فَهُوَ) أَي مظنونه (مَقْطُوع بِهِ، مَمْنُوع الْكُبْرَى) يَعْنِي كل مَا قطع إِلَى آخِره لجَوَاز وجوب الْعَمَل بِهِ من غير أَن يكون مُتَعَلق الْخطاب الْخَاص على مَا عرفت (وَالْمرَاد بالملكة) الْمَذْكُورَة فِي التَّعْرِيف (أدنى مَا تتَحَقَّق بِهِ الْأَهْلِيَّة) للاستنباط، وَفِي إِضَافَة الملكة إِلَيْهِ إِشْعَار بالمراد، لِأَن مَعْنَاهَا ملكة يقتدر(1/12)
بهَا على مَا يصدق عَلَيْهِ مُطلق الاستنباط، وَلَيْسَ المُرَاد اعْتِبَار الْأَدْنَى بِعَيْنِه وَنفي الزِّيَادَة، بل المُرَاد الْأَدْنَى سَوَاء تحقق مُنْفَردا، أَو فِي ضمن الْأَوْسَط، أَو الْأَعْلَى، وَلَا جَهَالَة فِيهِ حَتَّى يلْزم فَسَاد التَّعْرِيف، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي المُرَاد (مضبوط) انضباط الْمُطلق إِذا أُرِيد بِهِ الْإِطْلَاق من غير إِرَادَة خُصُوصِيَّة من خصوصياته، فَإِن الْإِيهَام عِنْد ذَلِك، ثمَّ المُرَاد من التَّصْدِيق مَا هُوَ الْمُتَبَادر بِقَرِينَة السِّيَاق، وَهُوَ الْحَاصِل بالاستنباط الْمُتَرَتب على الملكة فَلَا يرد علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجِبْرِيل بِالْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَة بطرِيق الضَّرُورَة الحاصلين من الْأَدِلَّة بطرِيق الحدس، وَيتَّجه حِينَئِذٍ مَا علم بِالضَّرُورَةِ الدِّينِيَّة فَتَأمل (وعَلى الثَّانِي) أَي بِاعْتِبَار علمية الِاسْم الْمَذْكُور (فَقَالَ كثير) مِمَّن عرفه، وَالْفَاء للتفصيل كَمَا فِي الأول (أما تَعْرِيفه لقبا) حَال من الضَّمِير (ليشعروا) أَي الْكثير مُتَعَلق بقال، يَعْنِي يذكر الْكثير اللقب بدل الْعلم، فَإِن اللقب مِمَّا يدل على الْمَدْح أَو الذَّم، وَهُوَ غير مُحْتَمل هَهُنَا (برفعة مُسَمَّاهُ) أَي الِاسْم لكَونه مَبْنِيّ الْفِقْه الَّذِي هُوَ أهم الْعُلُوم وأنفعها، (و) قَالَ (بَعضهم علما) مَوضِع لقبا (لِأَن التَّعْرِيف) أَي التَّعْرِيف الأسمى (إِفَادَة مُجَرّد الْمُسَمّى) فالمنظور فِيهِ بَيَان مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (لَا) إِفَادَة الْمُسَمّى (مَعَ اعْتِبَار ممدوحيته وَإِن كَانَت) الممدوحية (ثَابِتَة) فِي نفس الْأَمر (فَلَا يعْتَرض) على من قَالَ علما بدل لقبا (بثبوتها) أَي الممدوحية بِأَن يُقَال الممدوحية ثَابِتَة فِي نفس الْأَمر، وَلَفظ الْعلم لَا يدل عَلَيْهَا لكَونه أَعم من اللقب فَإِن قلت مُسَمّى الْعلم الشخصي لَا يحد لِأَن مَعْرفَته لَا تحصل إِلَّا بتعين مشخصاته بِالْإِشَارَةِ وَنَحْوهَا، والتعريف غَايَته الْحَد التَّام، وَهُوَ إِنَّمَا يشْتَمل على مقومات الْمَاهِيّة دون مشخصاتها قلت الْحق كَمَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَنه يحد بِمَا يُفِيد امتيازه عَن جَمِيع مَا عداهُ بِحَسب الْوُجُود لَا بِمَا يُفِيد تعينه وتشخصه، وَلما ذكر اخْتِلَاف الْقَوْم فِي التَّعْبِير عَن تَعْرِيفه على اعْتِبَار العلمية أَرَادَ أَن يصدر التَّعْرِيف بتوطئة مفيدة لمزيد الانكشاف لَهُ، فَقَالَ (وكل علم) من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة (كثرتا ادراكات) تصورية وتصديقية (ومتعلقاتها) أَي تِلْكَ الادراكات، وَهِي الْمسَائِل وموضوعاتها ومحمولاتها وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَفِيه مُسَامَحَة لِأَن الْعلم عبارَة عَن أَحدهمَا لَا الْمَجْمُوع الْمركب مِنْهُمَا، وَالْمرَاد وجودهما فِي كل علم، وَالْكَثْرَة بِمَعْنى الْكَثِيرَة وَإِضَافَة الكثرتين إِلَى الادراكات كإضافة حُصُول صُورَة الشَّيْء، أَي الادراكات الْكَثِيرَة والمدركات الْكَثِيرَة (وَلها) أَي لتِلْك الْكَثْرَة المتحققة فِي ناحيتي الْإِدْرَاك والمدرك (وحدة غَايَة) أَي وحدة بِاعْتِبَار الْغَايَة، وَهِي الْعلَّة الغائية الباعثة لإقدام الطَّالِب على تَحْصِيله، وَهِي معرفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة المفضية إِلَى السَّعَادَة الدِّينِيَّة والدنيوية (تستتبع) تِلْكَ الْوحدَة (وحدة موضوعها) أَي تِلْكَ الْكَثْرَة يَعْنِي أَن وحدة الْغَايَة تستدعى، وحدة الْمَوْضُوع وَالثَّانيَِة تَابِعَة للأولى، وَذَلِكَ لِأَن الطَّالِب إِذا(1/13)
كَانَ لَهُ مطلب وَاحِد علمي يعمد إِلَى أُمُور مُنَاسبَة لذَلِك الْمطلب فيبحث عَن أحوالها الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الإيصال إِلَيْهِ فَيصدق على كل وَاحِد من تِلْكَ الْأُمُور الْكَثِيرَة مَا يبْحَث عَن حَاله للإيصال إِلَى غَايَة كَذَا، وَلَا يَعْنِي بوحدة الْمَوْضُوع الأمثل هَذَا (أول الملاحظة) ظرف للاستتباع يَعْنِي الاستتباع الْمَذْكُور بِاعْتِبَار مُلَاحظَة الْغَايَة أَولا، فَإِن مدون الْعلم يُلَاحظ الْغَايَة أَولا، لِأَنَّهَا الباعثة لإقدامه على التدوين فملاحظته إِيَّاهَا من حَيْثُ يستدعى تدوين علم مَوْضُوعه كَمَا عَرفته مُتَقَدّمَة، وَأما بِاعْتِبَار تحققهما فِي الْخَارِج، فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَفِي التَّحْقِيق إِلَّا تصافى بِالْقَلْبِ 1) يَعْنِي إِذا نَظرنَا إِلَى تحقق الوحدتين من حَيْثُ أَنَّهُمَا وصفان ثابتان لموصوفيهما أَي الْغَايَة والموضوع وجدنَا وحدة الْمَوْضُوع سَابِقَة على وحدة الْغَايَة ضَرُورَة تَأَخّر وصف الْمُتَأَخر عَن وصف الْمُتَقَدّم وَتَأَخر الْعلَّة الغائية عَن معلولها بِاعْتِبَار الْوُجُود الْخَارِجِي (وَأَسْمَاء الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة مَوْضُوعَة لكل) من الكثرتين لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي كل مِنْهُمَا على السوية، وَهُوَ دَلِيل الْوَضع عِنْد عدم الِاحْتِيَاج إِلَى الْقَرِينَة وَلم يذكر الملكة مَعَ أَنهم جَعَلُوهُ من جملَة مسمياتها، لِأَن أَكثر الاستعمالات يَأْبَى عَنْهَا وَيلْزم أَن لَا يكون إِطْلَاق اسْم الْعلم على الْأَلْفَاظ والنقوش من بَاب تَسْمِيَة الدَّال باسم الْمَدْلُول (وَكَذَا الْقَاعِدَة والقضية) مَوْضُوعَة لكل من الادراكات إِدْرَاك الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، وَبِه وَالنِّسْبَة وَالْحكم ومتعلقاتها، والقضية أَعم من الْقَاعِدَة، فالقاعدة قَضِيَّة كُلية منطبقة على جزئياتها كَقَوْلِنَا: الْفَاعِل مَرْفُوع وجزئياتها كزيد مَرْفُوع فِي جَاءَ زيد، والقضية قَول يحْتَمل الصدْق وَالْكذب (فعلى) اعْتِبَار (الأول) وَهُوَ وَضعهَا للادراكات (هُوَ) أَي أصُول الْفِقْه (إِدْرَاك الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْفِقْه) وَجه التَّوَصُّل أَن الْأَدِلَّة التفصيلية تدل على الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة بِوَاسِطَة كيفيات فِيهَا متنوعة، وكل قَاعِدَة من الْأُصُول تبين نوعا من تِلْكَ الكيفيات وَعند الاستنباط كَمَا تقع الْحَاجة إِلَى معرفَة تِلْكَ الكيفيات تقع إِلَى معرفَة الْقَوَاعِد المبينة لَهَا، لِأَن معرفَة تِلْكَ الكيفيات بِدُونِ الْقَوَاعِد لَا تخلص عَن الشُّبْهَة، وَلَا يرد عَلَيْهِ قَوَاعِد الْعَرَبيَّة والمنطقية لِأَن التَّوَصُّل بهَا بعيد والمتبادر مِنْهُ الْقَرِيب (وَقَوْلهمْ) أَي الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعْرِيف (عَن الْأَدِلَّة التفصيلية) بعد قَوْلهم هُوَ الْعلم بالقواعد الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (تَصْرِيح بِلَازِم) يفهم ضمنا، لِأَن المُرَاد استنباط الْأَحْكَام تَفْصِيلًا، وَهُوَ لَا يكون إِلَّا عَن أدلتها تَفْصِيلًا فَهُوَ لمزيد الْكَشْف لَا للِاحْتِرَاز فَلَا يضر تَركه (وَإِخْرَاج) علم (الْخلاف) عَن التَّعْرِيف (بِهِ) أَي القَوْل الْمَذْكُور (غلط) لِأَنَّهُ علم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حفظ الْأَحْكَام المستنبطة الْمُخْتَلف فِيهَا أَو هدمها، لَا إِلَى الاستنباط، وَكَذَلِكَ علم الجدل فَإِنَّهُ علم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى حفظ رَأْي أَو هَدمه، أَعم من أَن يكون(1/14)
فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أَو غَيرهَا، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم كَونه يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الاستنباط لَا يخرج بالقيد الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل إِلَّا عِنْد استنباط الْأَحْكَام عَن أدلتها التفصيلية (وَعَلِيهِ) أَي على الأول (مَا تقدم من) تَعْرِيف (الْفِقْه) وَهُوَ قَوْله التَّصْدِيق الخ، فَإِنَّهُ إِدْرَاك فتعريف الْفِقْه مَبْنِيّ على الأول (وَجعل الْجِنْس) فِي تَعْرِيف الْأُصُول (الِاعْتِقَاد الْجَازِم المطابق) للْوَاقِع احْتِرَازًا عَن الظَّن وَالْجهل (مُشكل بقضية الْمُخطئ فِي الْكَلَام) يَعْنِي يلْزم اعْتِبَار الْجَزْم والمطابقة فِي جَمِيع مَا ينْدَرج تَحت الْجِنْس، وَمن جملَته علم الْأُصُول الْكَلَام فَيلْزم أَن يخرج مِنْهُ الْمُخطئ فِي الِاعْتِقَاد سَوَاء بدع كالمعتزلة أَو كفر كالمجسمة، وَقد صَرَّحُوا باندراج اعْتِقَاد الْمُخطئ تَحْتَهُ (ولأنا نمْنَع اشْتِرَاطه) أَي المجعول جِنْسا (فِي أصُول الْفِقْه) نقل سَنَد الْمَنْع عَن المُصَنّف، ومحصوله أَن الظَّن يَكْفِي فِي إِثْبَات محمولات مسَائِل الْأُصُول لموضوعاتها نَحْو الْأَمر للْوُجُوب وَالنَّهْي للْحُرْمَة، وَتَخْصِيص الْعَام يجوز والمشترك لَا يعم، وَخبر الْوَاحِد مقدم على الْقيَاس، فَإِنَّهَا غير قَطْعِيَّة لعدم قَطْعِيَّة أدلتها، وَرُبمَا لم يكن مطابقا للْوَاقِع، وَالْمرَاد من الْمَنْع النَّقْض الَّذِي يُورد فِي التعريفات (فَالْأَوْجه كَونه) أَي جنس التَّعْرِيف (أَعم) من أَن يكون جَازِمًا أم لَا، مطابقا أم لَا، أَشَارَ إِلَى أَن عدم التَّعْمِيم أَيْضا لَهُ وَجه لما مر من أَنه لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، لَكِن الأولى والأنسب هُوَ التَّعْمِيم (وعَلى) اعْتِبَار (الثَّانِي) وَهُوَ وَضعهَا للمتعلقات هُوَ (الْقَوَاعِد الَّتِي يتَوَصَّل بمعرفتها) إِلَى استنباط الْفِقْه (وَالْقَوَاعِد فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّعْرِيف (مَعْلُومَات) لَا عُلُوم وتصديقات فِيهِ أَن الْقَاعِدَة مُشْتَركَة بَين الْعلم والمعلوم، والاحتراز عَن إِيرَاد الْمُشْتَرك فِي التعريفات وَاجِب قلت لَا يضر فِي مثل هَذَا، لِأَن التَّعْرِيف صَحِيح على التَّقْدِيرَيْنِ على أَن قَوْله بمعرفتها يعين المُرَاد و (أَعنِي) بالمعلومات (المفاهيم التصديقية الْكُلية) الْفَهم هُوَ الْإِدْرَاك وَالْمَفْهُوم مُتَعَلقَة يَنْقَسِم إِلَى التصوري والتصديقي ضَرُورَة انقسام الْإِدْرَاك إِلَى التَّصَوُّر والتصديق، والكلية مَا حكم فِيهِ على كل فَرد من أَفْرَاد مَوْضُوعَة (من نَحْو الْأَمر للْوُجُوب) من بَيَانِيَّة للمفاهيم (وَلذَا) أَي لأجل أَن المُرَاد بهَا المعلومات (قُلْنَا بمعرفتها) لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَى الْمَعْلُوم لَا الْعلم (وَمَعْنَاهَا) أَي الْقَاعِدَة (كالضابط والقانون وَالْأَصْل والحرف) فَهِيَ أَلْفَاظ مترادفة اصْطِلَاحا، وَإِن كَانَت فِي الأَصْل لمعان مُخْتَلفَة، أما الأَصْل فقد مر، وَأما الْقَاعِدَة فَهُوَ اسْم فَاعل من قعد، وقواعد الهودج خشبات أَربع تَحْتَهُ ركب فِيهِنَّ، وَالضَّابِط من ضبط، والقانون، قيل سرياني اسْم مسطر الْكِتَابَة أَو الْجَدْوَل، وَفِي الْقَامُوس مقياس كل شَيْء، وَأما الْحَرْف فَلهُ معَان مِنْهَا الطّرف، وَأحد حُرُوف التهجي، والمناسبة بَين اللُّغَة والاصطلاح تظهر بِأَدْنَى تَأمل (قَضِيَّة كُلية كبرى لسهلة الْحُصُول) أَي لقضية صغرى سهلة الْحُصُول بترتيبها مَعهَا تحصل النتيجة، وَأَشَارَ إِلَى وَجه سهولتها(1/15)
بقوله (لانتظامها) أَي الصُّغْرَى (عَن) أَمر (محسوس) وَهِي (كَهَذا أَمر و) هَذَا (نهي) وكل أَمر للْوُجُوب فَهَذَا للْوُجُوب، وكل نهي للتَّحْرِيم فَهَذَا للتَّحْرِيم، فقولنا الْأَمر للْوُجُوب قَضِيَّة جعلت كبرى لصغرى وَهِي كَقَوْلِنَا أقِيمُوا الصَّلَاة أَمر وسهولة حُصُولهَا ظَاهِرَة، لِأَن الْعلم بِكَوْنِهَا أمرا للْعَالم باللغة والاصطلاح بديهي لَا يحْتَاج إِلَى تَأمل، والنتيجة، وَهِي أَن أقِيمُوا الصَّلَاة للْوُجُوب من جزئيات الْأَمر للْوُجُوب فَيرجع مآل هَذَا التَّعْرِيف إِلَى مَا مر من تَعْرِيفهَا، وَمعنى انتظام الصُّغْرَى تركب أَجْزَائِهَا من الْمَوْضُوع والمحمول وَالْحكم، وَإِنَّمَا ينشأ هَذَا الانتظام عَن محسوس، وَهُوَ موضوعها، وَإِنَّمَا حكم بِكَوْن موضوعها محسوسا على الْإِطْلَاق لاندراجها تَحت مَوْضُوع الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ من مسَائِل الْأُصُول، وموضوع مسَائِل الْأُصُول على الْإِطْلَاق مندرج تَحت مَوْضُوع الْأُصُول، وَهُوَ الدَّلِيل السمعي، وَهُوَ محسوس بحاسة السّمع، وَكَيْفِيَّة الانتظام أَنَّك إِذا نظرت فِي المحسوس الَّذِي هُوَ أقِيمُوا الصَّلَاة مثلا وجدت أَنه أَمر، فتحكم أَنه أَمر ثمَّ تضم هَذِه الْقَضِيَّة الَّتِي انتظمت إِلَى الْكُلية الَّتِي تكون النتيجة من جزئياتها (وَهَذَا) التَّعْرِيف (حد أسمى) الْحَد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ مَا يُمَيّز الشَّيْء عَن غَيره، وينقسم إِلَى حَقِيقِيّ وأسمى ولفظي، فالحقيقي مَا أنبأ عَن ذاتياته الْكُلية المركبة، لِأَنَّهَا فُرَادَى لَا تفِيد الْحَقِيقَة لفقد الصُّورَة، والأسمى مَا أنبأ عَن الشَّيْء بلازمه مثل الْخمر مَائِع يقذف بالزبد، واللفظي مَا أنبأ عَن الشَّيْء بِلَفْظ أظهر مرادف، كَذَا ذكر الشَّيْخ ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَته عَلَيْهِ: الْحَد اللَّفْظِيّ عِنْد الْمُحَقِّقين هُوَ أَن يقْصد بَيَان مَا تعقله الْوَاضِع، فَوضع الِاسْم بإزائه سَوَاء كَانَ بِلَفْظ مرادف، أَو باللوازم، أَو بالذاتيات حَتَّى أَن مَا يُقَال فِي أول الهندسة أَن المثلث شكل يُحِيط بِهِ ثَلَاثَة أضلاع تَعْرِيف اسْمِي، ثمَّ بعد مَا يتَبَيَّن وجوده يصير هُوَ بِعَيْنِه حدا حَقِيقِيًّا انْتهى، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الأسمى هُنَا مَا ذكره الْمُحَقق يُشِير إِلَى قَوْله (وَلَا يُنَافِي الْحَقِيقِيّ) أَي لَا يُنَافِي كَونه الْحَد الأسمى كَونه الْحَد الْحَقِيقِيّ، وَقد عرفت لجَوَاز أَن يبين وجوده، وَتَكون الْمَذْكُورَات ذاتيات الْمُعَرّف (وَاخْتلف) بَين الْأُصُولِيِّينَ (فِيهِ) أَي الْحَد من حَيْثُ كَونه (مُقَدّمَة الشُّرُوع وَلَا خلاف) بَينهم (فِي خِلَافه) وَهُوَ الْحَد بِدُونِ الْقَيْد الْمَذْكُور: أَي لم يَخْتَلِفُوا فِي جَوَاز أَن أَن يكون للْعلم حد حَقِيقِيّ من غير أَن يَجْعَل مُقَدّمَة، فَالضَّمِير للمقيد (كَمَا قيل) من أَنه لَا خلاف فِيهِ بَينهم، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى كَمَا قيل من أَن بَينهم فِيهِ خلافًا، وَإِنَّمَا لم يَخْتَلِفُوا (لِإِمْكَان تصور) الْعقل (مَا يَتَّصِف بِهِ) الضَّمِير الْمَرْفُوع لِلْعَقْلِ المرموز إِلَيْهِ بِذكر التَّصَوُّر، وَالْمَجْرُور للموصول حَاصِل التَّعْلِيل رفع مَا يتَوَهَّم أَن يكون مَانِعا عَن التَّحْدِيد من أَنه لَا يجوز تَحْدِيد الْعلم، لِأَنَّهُ إِدْرَاك، وَالْحَد كَذَلِك فَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلَّا يلْزم إِدْرَاك الْإِدْرَاك، فَالْجَوَاب منع بطلَان الثَّانِي(1/16)
لجَوَاز أَن يتَصَوَّر الْعقل مَا قَامَ بِهِ أَي وصف كَانَ (وَلَو) كَانَ ذَلِك الْوَصْف (تصورا) من تصوراته، لَا يُقَال لَا يجوز أَن يتَصَوَّر تصَوره، وَإِلَّا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل (إِذْ الْحُصُول) أَي حُصُول التَّصَوُّر الَّذِي اتّصف بِهِ الْعقل فِي نفس الْأَمر (لَا يستلزمه) أَي لَا يسْتَلْزم تصور التَّصَوُّر، بل علمه وتصوره كَسَائِر صِفَاته الْمَوْجُودَة فِيهِ، وَلَا شكّ أَنه لَا يلْزم من اتصافه بِتِلْكَ الصِّفَات شعوره بهَا فَإِن قلت تصور التَّصَوُّر عينه، لأَنهم صَرَّحُوا بِأَن علم النَّفس بذاتها وصفاتها حضوري لَا حصولي: يَعْنِي يحضر عِنْدهَا بِذَاتِهِ لَا بصورته ومثاله قلت لَكِن لَا بُد من توجه النَّفس إِلَى مَا يَتَّصِف بِهِ لينكشف عِنْده بِذَاتِهِ لَا بصورته، والحصول لَا يسْتَلْزم ذَلِك، على أَن التَّوَهُّم الْمَذْكُور مَبْنِيّ على كَون الْمَحْدُود إِدْرَاك الْقَوَاعِد لَا نَفسهَا، ثمَّ بَين الِاخْتِلَاف بقوله (فَقيل لَا) يجوز أَن يكون الْحَد الْحَقِيقِيّ مُقَدّمَة الشُّرُوع (لِأَن الْكَثْرَة) الْمَذْكُورَة فِي الادراكات ومتعلقاتها (بِتِلْكَ الْوحدَة) الاعتبارية الْحَاصِلَة للْعلم من جِهَة الْغَايَة والموضوع (لَا تصير نوعا حَقِيقِيًّا) وَلَا بُد أَن يكون الْمَحْدُود نوعا حَقِيقِيًّا لاتحاده مَعَ الْحَد الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ مركب من الْجِنْس والفصل الَّذِي لَا يتركب مِنْهُمَا إِلَّا الماهيات الْحَقِيقِيَّة الَّتِي وحدتها حَقِيقِيَّة، لَا بِمُجَرَّد اعْتِبَار الْعقل (وَمُقْتَضى هَذَا) الدَّلِيل (نَفْيه) أَي نفي الْحَد الْحَقِيقِيّ للْعلم (مُطلقًا) سَوَاء جعل مُقَدّمَة الشُّرُوع أم لَا (فَفِيهِ) أَي فِي حكم وجود الْحَد الْحَقِيقِيّ للْعلم (الْخلاف أَيْضا) كَمَا فِي كَونه مُقَدّمَة الْعلم: يَعْنِي الْخلاف الْمَذْكُور خلاف فيهمَا جَمِيعًا بِاعْتِبَار هَذَا الدَّلِيل فَصَاحب هَذَا الدَّلِيل يَنْفِيه، وخصمه يُثبتهُ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْحَد الْحَقِيقِيّ إِنَّمَا يتَحَقَّق (بسرد الْعقل) كل الْمسَائِل) أَي بتعقلها متتابعة، لِأَن الْحَد عبارَة عَن تعقل كنه الْمَاهِيّة، وكنه مَاهِيَّة الْعلم عين مسَائِله (وَلَيْسَ) الْحَد الْحَقِيقِيّ (حِينَئِذٍ الْمُقدمَة) أَي مُقَدّمَة الشُّرُوع للْعلم، بل هُوَ نفس الْعلم وَتَمَامه مفصلا (وَقيل نعم) أَي يجوز أَن يكون الْحَد الْحَقِيقِيّ مُقَدّمَة الشُّرُوع (لِأَن الادراكات أَو متعلقاتها كالمادة) وَهِي مَا بِهِ الْمركب مَوْجُود بِالْقُوَّةِ كأجزاء السرير بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ قبل التَّرْكِيب وَبعده إِذا قطعت النّظر عَن هَيئته (ووحدتها الدَّاخِلَة) أَي وحدة الادراكات أَو متعلقاتها بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع والغاية الدَّاخِلَة فِي حَقِيقَتهَا (كالصورة) وَهِي مَا بِهِ الْمركب مَوْجُود بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا لم يقل مَادَّة وَصُورَة، لِأَنَّهُمَا لَا يتحققان إِلَّا فِي المركبات الخارجية (فينتظم) الْمركب (الْمَأْخُوذ مِنْهُمَا) أَي شبهي الْمَادَّة وَالصُّورَة (جِنْسا وفصلا) أَي يَنْتَظِم الْمركب الْمَأْخُوذ من شبهي الْمَادَّة وَالصُّورَة بِأَن يُؤْخَذ الْجِنْس مَا هُوَ كالمادة والفصل مِمَّا هُوَ كالصورة فيركب حد مِنْهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادر من الْعبارَة، وَلَا يخفى فَسَاده لِأَن الْمَادَّة وَالصُّورَة متباينان(1/17)
فَكيف يكون المأخوذان مِنْهُمَا المحمولان عَلَيْهِمَا جِنْسا وفصلا مَعَ أَن الْجِنْس مَحْمُول على الْفَصْل، وَيُمكن أَن يكون المُرَاد أَخذ كل وَاحِد من الْجِنْس والفصل من مَجْمُوع الْمَادَّة وَالصُّورَة، وَلَا يخفى مَا فِيهِ (من غير حَاجَة) للحاد (إِلَى سرد الْكل) كَمَا زعم النَّافِي، ثمَّ لما ذكر الْخلاف أَرَادَ بَيَان مَا عِنْده من تَحْقِيق الْمقَام، فَقَالَ (وَإِذا كَانَ الْعلم مُطلقًا) أَي مَفْهُوم الْعلم الَّذِي يصدق على كل وَاحِد من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة من غير تَقْيِيد (ذاتيا لما) ينْدَرج (تَحْتَهُ) كالفقه وَالْأُصُول وَالْكَلَام وَغَيرهَا دَاخِلا فِي حَقِيقَتهَا (وَالْعلم الْمَحْدُود) كالأصول (لَيْسَ إِلَّا صنفا) مِنْهُ، وَلَعَلَّه قَالَ صنفا، وَلم يقل نوعا لكَون الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة كلهَا مندرجة تَحت نوع من أَنْوَاع الْعلم الْمُطلق، وَهُوَ الْعلم الْمُتَعَلّق بالمسائل المتحدة بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع والغاية، والصنف كلي مندرج تَحت النَّوْع حَقِيقَته النَّوْع الْمُقَيد بِعَارِض غير شخص (لم يبعد) جَوَاب إِذا (كَونه) أَي الْخلاف (لفظيا) أَي فِي اللَّفْظ دون الْمَعْنى، لعدم وُرُود النَّفْي وَالْإِثْبَات على مَحل وَاحِد (مَبْنِيا على) اخْتِلَاف (الِاصْطِلَاح فِي مُسَمّى) الْحَد (الْحَقِيقِيّ أهوَ) اصْطِلَاحا (ذاتيات) الْمَاهِيّة (الْحَقِيقِيَّة) أَي الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر مَعَ قطع النّظر عَن اعْتِبَار الْعقل كَمَا هُوَ اصْطِلَاح المنطقيين (أَو) هُوَ ذاتيات الْمَاهِيّة (مُطلقًا) حَقِيقِيَّة كَانَت أَو اعتبارية، فَمن ذهب إِلَى الأول نفي، وَمن ذهب إِلَى الثَّانِي أثبت، فمورد النَّفْي الْحَد بِالْمَعْنَى الأول، وَالْإِثْبَات بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَلَا مُنَافَاة بَين نفي الْأَخَص وَإِثْبَات الْأَعَمّ.
(الثَّانِي) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَي فِي بَيَان مَوْضُوعه أَو قَوْله (مَوْضُوعه الدَّلِيل السمعي الْكُلِّي) إِلَى آخر المبحث: مَوْضُوع الْعلم مَا يبْحَث فِيهِ عَن عوارضه الذاتية، والعارض الْخَارِج الْمَحْمُول والذاتي الَّذِي منشأ عروضه الذَّات كالمدرك للْإنْسَان، أَو مَا هُوَ مسَاوٍ للذات كالضاحك الْعَارِض لَهُ بِوَاسِطَة التَّعَجُّب، أَو جزئها الْأَعَمّ كالمتحرك بِوَاسِطَة الْحَيَوَان، والبحث عَنْهَا حملهَا على نفس الْمَوْضُوع بِدَلِيل، نَحْو الدَّلِيل السمعي يُفِيد الحكم قطعا أَو ظنا، أَو على نوع مِنْهُ نَحْو الْأَمر يُفِيد الْوُجُوب، أَو على عرضه الذاتي نَحْو الْعلم يُفِيد الْقطع، أَو على نَوعه نَحْو الْعَام الَّذِي يخص مِنْهُ الْبَعْض يُفِيد الظَّن، قيد بالكلى لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد مَا صدقاته، وَقيل مَوْضُوعه الْأَدِلَّة الْأَرْبَعَة وَالْأَحْكَام لِأَن الْأَحْوَال بَعْضهَا رَاجع إِلَى الْأَدِلَّة، وَبَعضهَا إِلَى الْأَحْكَام، وَقيل هُوَ الْأَدِلَّة وَمَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ من حَيْثُ الثُّبُوت رَاجع إِلَى الْأَدِلَّة من حَيْثُ الْإِثْبَات، وَقيل هُوَ الْأَحْكَام من حَيْثُ ثُبُوتهَا بالأدلة. وَاخْتَارَ المُصَنّف رَحمَه الله مفهوما وَاحِدًا، أَفْرَاده الْأَدِلَّة نظرا إِلَى كَونه أقرب إِلَى الضَّبْط (من حَيْثُ يُوصل الْعلم بأحواله إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لأفعال الْمُكَلّفين) الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة(1/18)
قيد للموضوع عِنْد الْمُحَقِّقين: يَعْنِي موضوعيته لَهُ بِاعْتِبَار الإيصال الْمَذْكُور فَلَا يبْحَث فِيهِ إِلَّا عَن أَحْوَاله الَّتِي لَهَا مدْخل فِي الإيصال، وَقيل قد يكون جُزْءا مِنْهُ، وَذَلِكَ إِذا لم يبْحَث فِي الْعلم عَنْهَا كحيثية الْوُجُود فِي مَوْضُوع الْعلم الإلهي الباحث عَن أَحْوَال الموجودات الْمُجَرَّدَة، وَهُوَ الْمَوْجُود من حَيْثُ هُوَ مَوْجُود، إِذْ لَا يبْحَث فِيهِ عَن نفس الْوُجُود، لِأَنَّهُ لَا يبْحَث فِي الْعلم عَن نفس الْمَوْضُوع وَعَن أَجْزَائِهِ، وَقد تكون خَارِجَة عَنهُ وَلَيْسَت بِقَيْد لَهُ، بل تذكر لبَيَان الْأَعْرَاض المبحوث عَنْهَا كالصحة وَالْمَرَض فِي مَوضِع الطِّبّ وَهُوَ بدن الْإِنْسَان، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يلْزم حِينَئِذٍ تشارك العلمين الباحثين عَن أَحْوَال شَيْء وَاحِد فِي مَوْضُوع وَاحِد بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَار، لعدم تَقْيِيد الْمَوْضُوع بِقَيْد، وَقد تقرر أَن تمايز الْعُلُوم بِحَسب تمايز الموضوعات، فالتحقيق أَنَّهَا قيد لَهُ، وَإِنَّمَا اعْتبر الْقُدْرَة لَا الْإِثْبَات بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد معرفَة تفاصيل الْأَدِلَّة، وَالْمَذْكُور فِي الْأُصُول إجمالها، فَالْمُرَاد إِثْبَات الْأَحْكَام تَفْصِيلًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أخذا من شخصياته) حَال من الْأَحْكَام لكَونهَا مفعول الْإِثْبَات معنى: أَي إِثْبَاتهَا حَال كَونهَا مَأْخُوذَة من شخصيات الدَّلِيل السمعي الْكُلِّي: يَعْنِي أَفْرَاد الشخصية، وَذَلِكَ لِأَن الْأَدِلَّة التفصيلية تدل على الْأَحْكَام التفصيلية بِوَاسِطَة كيفيات متنوعة كل نوع مِنْهَا يبين مَسْأَلَة من مسَائِل الْأُصُول، فَمن عرف الْأُصُول عرف تِلْكَ الْأَنْوَاع فَحصل لَهُ قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لحُصُول الاستعداد لَهُ بمعرفتها، فَكل حكم أَرَادَ إثْبَاته بدليله وجد عِنْده مَا يبين كَيْفيَّة إثْبَاته، وَهَذَا هُوَ المُرَاد بِالْقُدْرَةِ (وبالفعل فِي الْمسَائِل أَنْوَاعه وأعراضه وأنواعها) عطف على مَحْذُوف هُوَ مُتَعَلق الْمُبْتَدَأ، وَالتَّقْدِير مَوْضُوعَة بِالْقُوَّةِ الدَّلِيل السمعي إِلَى آخِره، وبالفعل فِي الْمسَائِل أَنْوَاع الدَّلِيل السمعي، وأنواع تِلْكَ الْأَعْرَاض، أما كَون هَذِه الْأَشْيَاء مَوْضُوعَات فَظَاهر لِأَنَّك إِذا نظرت فِي مسَائِل الْأُصُول وجدت موضوعاتها هَذِه الْأَشْيَاء، وَهِي الَّتِي يبْحَث عَن عوارضها الذاتية فِي هَذَا الْعلم، وَأما الدَّلِيل السمعي الْمُطلق فَلَا يكَاد يُوجد الْبَحْث عَن عَارضه الذاتي من حَيْثُ هُوَ مَوْضُوع بِالْفِعْلِ فِي مَسْأَلَة غير أَنه لما كَانَت من مَوْضُوعَات الْمسَائِل كلهَا جزئيات إضافية لَهُ أمكن أَن يُؤْخَذ من كل طَائِفَة مستوعبة جَمِيع أَفْرَاد الْمُطلق من محمولات الْمسَائِل مَفْهُوم مردد بَين آحَاد تِلْكَ الطَّائِفَة فَيثبت للمطلق، وكما أَن كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد عرض ذاتي للجزئي الإضافي للمطلق كَذَلِك المردد الْمَأْخُوذ مِنْهَا عرض ذاتي للمطلق، فَثَبت كَونه مَوْضُوعا بِالْقُوَّةِ، وَسَيَجِيءُ فِي كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى مَا يُشِير إِلَى هَذَا (فَالْمُرَاد بالأحوال) الَّتِي يتَوَصَّل الْعلم بهَا إِلَى الْقُدْرَة الْمَذْكُورَة (مَا يرجع إِلَى الْإِثْبَات) يَعْنِي أحوالا حَاصِل الْبَحْث عَنْهَا ومآله يرجع إِلَى كَون الدَّلِيل مثبتا للْحكم، وَلِهَذَا يُفِيد الْعلم بهَا قدرَة الاثبات(1/19)
وَبِهَذَا ظهر وَجه التَّفْرِيع، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بعض الْمُحَقِّقين من أَن فَائِدَة قيد الْحَيْثِيَّة أَن جَمِيع الْعَوَارِض المبحوث عَنْهَا فِي الْعلم لَا بُد أَن يكون لَهَا مدْخل فِي الْمَعْنى الَّذِي صَار قيدا للموضوع (وَهُوَ) أَي الْإِثْبَات الَّذِي هُوَ مرجع الْأَحْوَال عرض (ذاتي للدليل) السمعي الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْعلم، فمرجع الْأَحْوَال عرض ذاتي لَهُ مبحوث عَنهُ بِالْقُوَّةِ، وَهَذَا مَا وعدناك آنِفا (وَإِن لم يحمل الْإِثْبَات بِعَيْنِه) على الدَّلِيل: أَن وصلية، وَالْمعْنَى هُوَ ذاتي لَهُ مبحوث عَنهُ بإثباته لَهُ فِي ضمن إِثْبَات مَا يرجع إِلَيْهِ بجزئياته: وَإِن لم يكن هُوَ بِعَيْنِه مَحْمُولا عَلَيْهِ، وَوضع الظَّاهِر مَوضِع الضَّمِير للتنصيص على أَن الْمَنْفِيّ عَنهُ الْحمل إِنَّمَا هُوَ نفس الْإِثْبَات لَا مَا يرجع إِلَيْهِ، وَقد عرفت (وَنَظِيره) أَي الْإِثْبَات فِي كَونه عرضا ذاتيا للموضوع غير مَحْمُول عَلَيْهِ مَا يرجع إِلَيْهِ (فِي الْمنطق) الإيصال، لِأَنَّهُ (لَا مَسْأَلَة) فِيهِ (محمولها الإيصال) كَمَا لَا مَسْأَلَة فِي الْأُصُول محمولها الْإِثْبَات وموضوع الْمنطق الْمَعْلُوم التصوري أَو التصديقي من حَيْثُ الإيصال إِلَى التَّصَوُّر، أَو التَّصْدِيق بِمَعْنى أَن جَمِيع الْأَحْوَال المبحوث عَنْهَا فِيهِ يرجع إِلَى الإيصال (وَمُقْتَضى الدَّلِيل خُرُوج عنوان الْمَوْضُوع) أَي خُرُوج الْبَحْث عَن عنوان الْمَوْضُوع عَن مبَاحث الْعلم الَّذِي هُوَ مَوْضُوعه: والبحث عَنهُ إثْبَاته لنَفس الْمَوْضُوع، وَالْمرَاد بعنوانه مَا جعل آلَة ملاحظته عِنْد تَعْيِينه فِي قَوْلهم: مَوْضُوع الْعلم كَذَا من حَيْثُ كَذَا، مَأْخُوذ من عنوان الْكتاب الدَّال على مضمونه إِجْمَالا، فالعنوان هَهُنَا الدَّلِيل السمعي من حَيْثُ يُوصل الخ، وَذَلِكَ لِأَن وَظِيفَة الْعلم بَيَان أَحْوَال الْمَوْضُوع، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بعد الْعلم بِذَاتِهِ وعنوانه الَّذِي بِهِ يعرف وَلِأَن الْمَوْضُوع إِنَّمَا وضع لِأَن يحمل عَلَيْهِ، لَا لِأَن يحمل على شَيْء، فَإِنَّهُ قلب الْمَوْضُوع (فالبحث عَن حجية الْإِجْمَاع) بِأَن يُقَال الْإِجْمَاع حجَّة (وَخبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس) بِأَن يُقَال هما حجتان (لَيْسَ مِنْهُ) أَي علم الْأُصُول لِأَن معنى " حجَّة " دَلِيل. وَهُوَ عنوان الْمَوْضُوع (بل من) مسَائِل (الْفِقْه لِأَن موضوعاتها أَفعَال الْمُكَلّفين ومحمولاتها الحكم الشَّرْعِيّ إِذْ معنى حجَّة يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ) أَي مَا ذكرنَا (فِي الْقيَاس على تَقْدِير كَونه فعل الْمُجْتَهد) بِأَن يُفَسر ببذل الْجهد فِي اسْتِخْرَاج الْحق أَو حمل الشَّيْء على غَيره بإجراء حكمه عَلَيْهِ وَنَحْوه (أما على) تَقْدِير (أَنه الْمُسَاوَاة الكائنة عَن تَسْوِيَة الله تَعَالَى بَين الأَصْل وَالْفرع فِي الْعلَّة) المشيرة للْحكم (فَلَيْسَتْ) حجيته (مَسْأَلَة) أصلا (لِأَنَّهَا) أَي حجية الْمُسَاوَاة الْمَذْكُورَة (ضَرُورِيَّة دينية) أَي بديهية فِي الدّين وضروريات الدّين لَا تكون مسَائِل، لِأَن المسأله مَا يبرهن عَلَيْهِ فِي الْفَنّ، والبديهي لَا يبرهن عَلَيْهِ، أما البداهة فَلِأَن من عرف معنى الْقيَاس على الْوَجْه الْمَذْكُور وَعرف معنى الحجية لَا يتَوَقَّف فِي الحكم بِأَنَّهُ حجَّة، وَلَا يضر فِي بداهة الحكم نظرية طَرفَيْهِ (بِخِلَاف) الْبَحْث عَن(1/20)
(عُمُوم النكرَة) الْوَاقِعَة (فِي) سِيَاق (النَّفْي) فَإِنَّهُ غير خَارج عَن مبَاحث الْأُصُول بِمُقْتَضى الدَّلِيل لعدم اندراجه تَحت عنوان الْمَوْضُوع (فَإِنَّهُ) أَي الْعُمُوم (حَال للدليل) أَي عرض ذاتي للدليل الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْأُصُول، لَا من عنوانه، وَلَيْسَ ببديهي أَيْضا، وَكَأَنَّهُ تَركه لظُهُوره (فَعَن هلية الْمَوْضُوع البسيطة أولى) يَعْنِي إِذا كَانَ الْبَحْث عَن حجية الْمَذْكُورَات خَارِجا عَن الْأُصُول، بِمُقْتَضى الدَّلِيل لاندراجها تَحت العنوان بالتأويل الْمَذْكُور، فالبحث عَن وجود الْمَوْضُوع أولى بِالْخرُوجِ عَنهُ، لِأَن الْعلم بِوُجُود الشَّيْء يقدم على الْعلم بعنوانه لِأَن عنوانه وصف ثَابت لَهُ وَثُبُوت الشَّيْء للشَّيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلِأَن الْأَحْوَال المبحوث عَنْهَا لَا بُد أَن يكون لَهَا مدْخل فِي الإيصال، والوجود لَا مدْخل لَهُ فِيهِ ثمَّ اعْلَم أَن " هَل " لطلب التَّصْدِيق، وَهِي قِسْمَانِ بسيطة، وَهِي الَّتِي يطْلب بهَا وجود الشَّيْء أَولا وجوده كَقَوْلِه: هَل الْحَرَكَة مَوْجُودَة أَو لَا مَوْجُودَة، ومركبة، وَهِي الَّتِي يطْلب بهَا وجود شَيْء لشَيْء كَقَوْلِنَا: هَل الْحَرَكَة دائمة أَو لَا دائمة؟ ، وَقد أَخذ فِي هَذِه شيآن غير الْوُجُود، فَإِن الْمَطْلُوب فِيهِ وجود الدَّوَام لَهَا أَو لَا وجوده، والوجود فِي البسيطة مَحْمُول، وَفِي المركبة رابطة، وَتَسْمِيَة وجود الشَّيْء هليته لِأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى " هَل " لِأَنَّهُ يسْأَل عَنهُ بهَا وَإِنَّمَا قيد بالبسيطة لِأَن الْبَحْث عَن المركبة من الْعلم، بل الْمَطْلُوب فِي كل مَسْأَلَة وجود شَيْء للموضوع (وَقَوْلهمْ) أَي الْقَائِلين بِأَن الْبَحْث عَن الهلية من الْفَنّ فِي إِثْبَات مدعاهم (مَا لم يثبت وجوده) أَي الْمَوْضُوع (كَيفَ يثبت لَهُ الْأَحْكَام.) فَإِن ثُبُوت شَيْء لشَيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ (يَقْتَضِي التَّوَقُّف) أَي توقف الْبَحْث عَن أَحْوَال الْمَوْضُوع على ثُبُوت وجوده (لَا) يقتضى (كَونهَا) أَي هليته (من مسَائِل الْعلم) كَيفَ وَقد صَرَّحُوا بِأَن التَّصْدِيق بموضوعيته لَيْسَ من مسَائِل الْعلم، وَهُوَ بعد الْعلم بِوُجُودِهِ، كَذَا قيل، وَلَا يخفى عدم استلزام الأول للثَّانِي غير أَن الأول أقرب مِنْهُ فِي كَونه من الْمسَائِل (وعَلى) قَول (من أَدخل الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة فِي مَوْضُوع الْأُصُول (إِذْ يبْحَث) فِيهِ (عَنْهَا) أَي عَن أَحْوَال الْأَحْكَام (من حَيْثُ تثبت) أَي الْأَحْكَام (بالأدلة لَا يبعد إِدْخَال الْمُكَلف الْكُلِّي) أَيْضا فِيهِ لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمُقْتَضى (إِذْ يبْحَث عَنهُ) أَي الْمُكَلف الْكُلِّي أَيْضا فِيهِ (من حَيْثُ تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام وَقد وَضعه الْحَنَفِيَّة) أَي عدوا الْمُكَلف الْكُلِّي من الْمَوْضُوع (معنى) أَي يُسْتَفَاد من كتبهمْ من غير تَصْرِيح مِنْهُم (وأحواله) أَي وضعُوا أَحْوَال الْمُكَلف أَيْضا (فِي تَرْجَمَة الْعَوَارِض السماوية والمكتسبة) تَرْجَمَة الْبَاب عنوانه لِأَنَّهُ يترجم عَن مضمونه إِجْمَالا من الترجمان، وَهُوَ الْمُفَسّر للسان، وَالْمرَاد بالعوارض السماوية مَا لَيْسَ للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار، والمكتسبة الَّتِي اكتسبها العَبْد (لبَيَان كَيفَ تتَعَلَّق بِهِ الْأَحْكَام) أَي وضع(1/21)
الْحَنَفِيَّة الْمُكَلف وأحواله فِي الْبَحْث الْمَذْكُور لبَيَان كَيْفيَّة تعلق الْأَحْكَام بِهِ، وَقَوله لبَيَان كَيفَ الخ كَقَوْلِهِم فِي جَوَاب مَا هُوَ: أَي فِي جَوَاب السُّؤَال بِمَا هُوَ. أَي فِي جَوَاب هَذَا اللَّفْظ فَلَا يرد أَنه لَا يجوز إِضَافَة الْبَيَان إِلَى مَا يقتضى صدر الْكَلَام (وَإِذا كَانَت الْغَايَة الْمَطْلُوبَة) من الْعلم (لَا تترتب إِلَّا على) الْبَحْث عَن أَحْوَال (أَشْيَاء كَانَت) تِلْكَ الْأَشْيَاء (الْمَوْضُوع) أَي مَوْضُوع الْعلم المغيا بِتِلْكَ الْغَايَة (كَمَا لَو ترتبت غايات على جمل من أَحْوَال) شَيْء (وَاحِد) كَانَ ذَلِك الْوَاحِد من مَوْضُوع عُلُوم فَهُوَ تَشْبِيه مركب بمركب، وهما الهيئتان الحاصلتان من الشرطيتين، وَوجه الشّبَه استتباع الْغَايَة من حَيْثُ الترتب الْمَوْضُوع من حيثية التَّعَدُّد أَو الْوحدَة فَفِي الْمُشبه استتبع ترتبها، وَهِي وَاحِدَة على الْبَحْث عَن أَحْوَال المتعدد ووحدة الْمَوْضُوع، وَفِي الْمُشبه بِهِ استتبع ترتبها، وَهِي مُتعَدِّدَة على أَحْوَال شَيْء وَاحِد تعدده، وَكلمَة مَا زَائِدَة مسوغة دُخُول الْحَرْف على الشّرطِيَّة، فَالْعِبْرَة فِي وحدة الْمَوْضُوع وكثرته بِحَال الْغَايَة ووحدتها وتعددها وترتبها (حَيْثُ يكون) الْوَاحِد الَّذِي ترتبت الغايات على جمل من أَحْوَاله (مَوْضُوع عُلُوم يخْتَلف) ذَلِك الْوَاحِد الْمَوْضُوع (فِيهَا) فِي تِلْكَ الْعُلُوم (بالحيثية) بِأَن يَجْعَل مَوْضُوع هَذَا الْعلم من حَيْثُ يُوصل الْعلم بجملة من أَحْوَاله إِلَى غَايَة كَذَا، وموضوع ذَلِك الْعلم من حَيْثُ يُوصل إِلَى جملَة أُخْرَى إِلَى غَايَة أُخْرَى وَهَكَذَا (وَمن هُنَا) أَي من أجل مَا ذكر من أَن الْعبْرَة بِحَال الْغَايَة فِي تعْيين الْمَوْضُوع (استتبعته) أَي الْغَايَة الْمَوْضُوع، إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من قَوْله وَلها وحدة غَايَة تستتبع وحدة موضوعها (وَلُزُوم التناسب) بَين الْأَشْيَاء الَّتِي ترتبت عَلَيْهَا الْغَايَة وَجعلت مَوْضُوعا أَمر (اتفاقي) لَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل عَقْلِي فَإِن قلت كَيفَ جمع بَين اللُّزُوم والاتفاق قلت لَا مُنَافَاة، لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ اللُّزُوم الْعقلِيّ بل كَونه أمرا مطردا لَا يتَخَلَّف فِي مَادَّة أصلا، فاللزوم أُرِيد بِهِ لَازمه (وَلَو اتّفق ترتبها) أَي الْغَايَة على الْأَشْيَاء (مَعَ عَدمه) أَي التناسب كَمَا اتّفق مَعَه (أهْدر) أَي التناسب وَأسْقط عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، وَاخْتَارَ كلمة لَو لِأَنَّهُ غير وَاقع (وبحسب اتِّفَاق الترتب) أَي ترَتّب الْغَايَة على مَا يُوصل الْبَحْث عَن أَحْوَاله إِلَيْهَا (كَانَت) طَائِفَة من الْعُلُوم (متباينة) غير متشاركة فِي الْمَوْضُوع لترتب غَايَة بَعْضهَا على شَيْء مباين لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ غَايَة الآخر (و) طَائِفَة أُخْرَى مِنْهَا (متداخلة) لترتب غاياتها على شَيْء وَاحِد (إِلَّا فِي لُزُوم عرُوض عَارض المباين للْآخر فِي الْبَحْث) اسْتثِْنَاء من عُمُوم اعْتِبَار التباين والتداخل بِحَسب اتِّفَاق الترتب، يَعْنِي تباينها وتداخلها إِنَّمَا يعْتَبر بِحَسبِهِ فِي جَمِيع الصُّور إِلَّا فِي صُورَة لُزُوم الْعرُوض، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يعْتَبر التَّدَاخُل بِاعْتِبَار ذَلِك اللُّزُوم بِأَن يكون علمَان غَايَة كل مِنْهُمَا يَتَرَتَّب على مَا يباين مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ غَايَة الآخر لكنهما متشاركان فِي لُزُوم عرُوض(1/22)
عَارض لموضوعيهما (فتتداخل) الْعُلُوم المتشاركة فِي لُزُوم عرُوض الْعَارِض على الْوَجْه الْمَذْكُور (مَعَ التباين) بِحَسب الْمَوْضُوع (للْعُمُوم الاعتباري) فَإِن موضوعاتها، وَإِن كَانَت متباينة بِحَسب الْحَقِيقَة لَكِنَّهَا بِسَبَب اشتراكها فِي لُزُوم الْعَارِض الْمَذْكُور صَارَت كَأَنَّهَا مَفْهُوم وَاحِد عَام يَشْمَل تِلْكَ الْعُلُوم، فالعموم الاعتباري بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِي الْمَحْمُول (كالمويسيقي) بِضَم الْمِيم وَكسر الْمُهْملَة وَالْقَاف يوناني مَعْنَاهُ تأليف الألحان، واللحن من الْأَصْوَات المصنوعة (مَوْضُوعه النغم) محركة ويسكن، الْكَلَام الْخَفي، الْوَاحِدَة بهاء، وَفِي الِاصْطِلَاح النغمة صَوت يتصاعد أَو يتنزل بِدَرَجَة من الدَّرَجَات الشَّرِيفَة ظَاهرا أومخيلا كَمَا إِذا سمع شخص صَوتا مُخْتَلفا فِي الحدة والثقل، وَاسْتقر فِي سامعته، ثمَّ بَدَأَ بِصَوْت لَا اخْتِلَاف فِيهِ فيتخيل التصاعد أَو التنزل فِيهِ بِاعْتِبَار مَا اسْتَقر فِي سامعته، والدرجات الشَّرِيفَة تعرف بِأَن يبْدَأ بِصَوْت معِين بعلامة خَاصَّة فيتصاعد دَرَجَة دَرَجَة بِأَن يكون التَّفَاضُل فِي كل دَرَجَة يسع مِقْدَار حَده المبدأ إِلَى أَن يبلغ إِلَى سبع وَعشْرين دَرَجَة، وَهَذَا نِهَايَة التصاعد بِحَسب الاستقراء فيتضاعف الأَصْل أَربع مَرَّات، وَهَذِه الدَّرَجَات تسمى بالدرجات الشَّرِيفَة (ويندرج) المويسيقى (تَحت علم الْحساب، وموضوعه الْعدَد) وَهُوَ نصف مَجْمُوع الحاشيتين، وَقيل مَا يبين بِهِ كمية الشَّيْء (مَعَ تبَاين موضوعيهما كَمَا قيل إِذْ كَانَ الْبَحْث فِي النغم عَن النّسَب العددية) تَعْلِيل لاندراجه تَحت علم الْحساب، يُرِيد أَن النّسَب العددية عوارض ذاتية للعدد الَّذِي هُوَ مَوْضُوع علم الْحساب المباين لموضوع علم المويسيقى، وَقد بحث عَنْهَا فِي المويسيقى، كَمَا سبق إِلَيْهِ إِشَارَة على سَبِيل اللُّزُوم بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهَا مَبْحَث مِنْهُ، فَصَارَ عرُوض هَذَا الْعَارِض للنغم لَازِما للبحث عَن النغم، وَهَذَا معنى لُزُوم عرُوض عَارض المباين: أَي الْعدَد الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْحساب فِي الْبَحْث عَن النغم الَّذِي هُوَ مَوْضُوع المويسيقى وَاعْلَم أَن الْمُعْتَبر فِي عَامَّة مسَائِل المويسيقى تأليف الألحان المتناسبة والتناسب بَينهَا إِنَّمَا يظْهر بِاعْتِبَار عدم الْأَجْزَاء وكيفياتها مثل الْبعد الصُّغْرَى إِنَّمَا يحصل بترتيب ثَلَاث دَرَجَات من الشَّرِيفَة، والكبرى من الْأَرْبَع، والكامل من الْخمس، وعَلى هَذَا الْقيَاس فالتناسب بَين الأبعاد لَا يظْهر إِلَّا بِالنّسَبِ العددية (وَاعْلَم أَن إيرادهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ وَغَيرهم (كلا من الْحَد والموضوع والغاية لتَحْصِيل البصيرة) للشارع فِي الْعلم (لَا يَخْلُو عَن اسْتِدْرَاك) لِأَنَّهُ فِي الْحَد يعرف الْمَوْضُوع والغاية، لِأَنَّهُ إِذا قيل: علم باحث عَن أَحْوَال كَذَا من حَيْثُ إِنَّه يُفِيد فَائِدَة كَذَا علم الْمَوْضُوع والغاية، فَإِن مَا يبْحَث عَن أَحْوَاله هُوَ الْمَوْضُوع، وَتلك الْفَائِدَة هِيَ الْغَايَة (إِلَّا من حَيْثُ التَّسْمِيَة باسم خَاص) اسْتثِْنَاء مِمَّا يدل عَلَيْهِ الِاسْتِدْرَاك، وَهُوَ نفي الْفَائِدَة، والمستثنى معرفَة اسْم خَاص للموضوع والغاية، وَفِي قَوْله لَا يَخْلُو إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ(1/23)
بمستدرك من كل وَجه (وَلم يوردوه) أَي كلا مِنْهَا (لذَلِك) أَي لبَيَان ذَلِك الِاسْم الْخَاص بل لأجل البصيرة.
(الثَّالِث) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب (الْمُقدمَات المنطقية) سميت بهَا لكَونهَا من مسَائِل الْمنطق (مبَاحث النّظر) عطف بَيَان للمقدمات (وَتَسْمِيَة جمع) من الْأُصُولِيِّينَ كالآمدي وَمن تبعه (لَهَا) أَي للمقدمات المنطقية، أَو مبَاحث النّظر (مبادي كلامية بعيد) لِأَنَّهَا لَيست من الْكَلَام وَلَا كَونهَا مبادي يقْتَصر عَلَيْهِ (بل الْكَلَام فِيهَا كَغَيْرِهِ) من الْعُلُوم (لِاسْتِوَاء نسبتها إِلَى كل الْعُلُوم وَهُوَ) أَي وَجه الاسْتوَاء (أَنه) أَي الشَّأْن (لما كَانَ الْبَحْث ذاتيا للعلوم) أَي دَاخِلا فِي حَقِيقَتهَا (وَهُوَ) أَي الْبَحْث (الْحمل) أَي إِثْبَات شَيْء لشَيْء (بِالدَّلِيلِ) لِأَن حَقِيقَتهَا التصديقات المدللة وَالْإِثْبَات جُزْء مِنْهَا (وَصِحَّته) أَي الدَّلِيل (بِصِحَّة النّظر وفساده بِهِ) أَي بِفساد النّظر، والجمل مُعْتَرضَة بَين لما وجوابها: أَعنِي قَوْله (وَجب التَّمْيِيز) بَين صَحِيحه وفاسده بِبَيَان شَرَائِط صِحَّته من حَيْثُ الْمَادَّة وَالصُّورَة بالقوانين الْمَوْضُوعَة لذَلِك كَمَا سَيَجِيءُ (ليعلم) بالتمييز بَينهمَا (خطأ المطالب) الْمَقْصُودَة من الْأَدِلَّة الْقَائِمَة على الأبحاث الْمَذْكُورَة فِي الْعُلُوم (وصوابها) الْخَطَأ وَالصَّوَاب إِنَّمَا يستعملان فِي الْأَحْكَام العملية كَمَا أَن الْحق وَالْبَاطِل يستعملان فِي العقائد، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُمَا هَهُنَا مَا هُوَ أَعم (وَلَيْسَ فِي الْأُصُول من) مسَائِل (الْكَلَام إِلَّا مَسْأَلَة الْحَاكِم) وَهِي أَن الْحَاكِم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة كلهَا هُوَ الله سُبْحَانَهُ بِلَا خلاف، لَكِن هَل يتَعَلَّق لَهُ تَعَالَى حكم قبل الْبعْثَة وبلوغ الدعْوَة أم لَا، الأشعرية لَا، فَلَا يحرم كفر، وَلَا يجب إِيمَان قبلهَا، والمعتزلة نعم فِيمَا أدْرك الْعقل فِيهَا حسنا أَو قبحا (وَمَا يتَعَلَّق بهَا) بِمَسْأَلَة الْحَاكِم (من) مَسْأَلَة (الْحسن والقبح) هَل هما عقليان أم لَا (وَنَحْوه) أَي الْمَذْكُور، قيل كَمَسْأَلَة الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب، وَمَسْأَلَة خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد (وَهَذِه) أَي الْمَذْكُورَات (من الْمُقدمَات) لهَذَا الْعلم لَا من مسَائِله (يتَوَقَّف عَلَيْهَا زِيَادَة بَصِيرَة) فِي معرفَة بعض مقاصده وَلَيْسَت بمقدمة الشُّرُوع لعدم مدخليتها فِي أَكثر الْمَقَاصِد، وَلِهَذَا لم يوردوها قبل الشُّرُوع (وَتَصِح) أَن تكون (مبادي على) اصْطِلَاح (الْأُصُولِيِّينَ) قَالَ الْآمِدِيّ فِي الْأَحْكَام: اعْلَم أَن مبادي كل علم هِيَ التصورات والتصديقات الْمسلمَة فِي ذَلِك الْعلم، وَهِي غير مبرهنة فِيهِ لبِنَاء مسَائِل ذَلِك الْعلم عَلَيْهَا سَوَاء كَانَت مسلمة فِي نَفسهَا كمبادي الْعلم الْأَعْلَى، أَو غير مسلمة فِي نَفسهَا، بل مَقْبُولَة على سَبِيل المصادرة أَو الْوَضع على أَن تبرهن فِي علم أَعلَى من ذَلِك الْعلم انْتهى، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمسَائِل الْمَذْكُورَة مبرهنة فِي الْأُصُول فَلَا تكون من المبادي على مَا ذكره الْآمِدِيّ، نعم ذكر غَيره أَنَّهَا قد تطلق على مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشُّرُوع والبحث عَن مسَائِله بوسط أَو بِغَيْرِهِ وَلم يشْتَرط فِيهَا أَلا تكون(1/24)
مبرهنة فِي الْعلم الَّذِي يتَوَقَّف الْبَحْث عَن مسَائِله عَلَيْهَا، وَقد يُقَال كَونهَا مبرهنة فِي كتب الْأُصُول لَا يستدعى كَونهَا جُزْءا من الْعلم لجَوَاز كَونهَا استطرادية (وَلما انقسم) النّظر (إِلَى مَا يُفِيد علما) (و) إِلَى مَا يُفِيد (ظنا ميزا) أَي الْعلم وَالظَّن بِأَن عرف كل مِنْهُمَا (لِأَن تمييزهما) يسْتَلْزم التَّمْيِيز بَين مفيديهما (وَتَمَامه) أَي تَمام تمييزهما (بالمقابلات) أَي تَمْيِيز مقابلاتهما من الْوَهم وَالشَّكّ وَالْجهل والتقليد، وَهَذَا مَا قيل من أَن الْأَشْيَاء تتبين بأضدادها، قَالَ حجَّة الْإِسْلَام: رُبمَا يعسر تَحْدِيد الْعلم بِالْجِنْسِ والفصل، لِأَن ذَلِك متعسر فِي أَكثر المدركات كرائحة الْمسك، فَكيف فِي الادراكات؟ لَكِن يقدر على شرح مَعْنَاهُ بتقسيم وَمِثَال، أما التَّقْسِيم فَهُوَ أَن تميزه عَمَّا يلتبس بِهِ من الظَّن وَالشَّكّ بِالْجَزْمِ، وَعَن الْجَهْل بالمطابقة وَعَن اعْتِقَاد الْمُقَلّد بِأَنَّهُ يبْقى مَعَ تغير المعتقد وَيصير جهلا، وَأما الْمِثَال فَهُوَ أَن إِدْرَاك البصيرة شَبيه إِدْرَاك الباصرة كانطباع الصُّورَة فِي الْمرْآة، كَذَلِك الْعلم عبارَة عَن انطباع صُورَة المعقولات فِي الْعقل، وَالنَّفس بِمَنْزِلَة حَدِيدَة الْمرْآة وغريزتها الَّتِي بهَا تتهيأ لقبُول الصُّور: أَعنِي الْعقل بِمَنْزِلَة صقالة الْمرْآة واستنارتها وَحُصُول الصُّور فِي مرْآة الْعقل هُوَ الْعلم، فالتقسيم يقطعهُ عَن مظان الِاشْتِبَاه، وَهَذَا الْمِثَال يفهمك حَقِيقَته، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله اقْتصر على الأول فَقَالَ (فالعلم) عِنْد الْأُصُولِيِّينَ (حكم) أَي إِدْرَاك وُقُوع النِّسْبَة أَو لَا وُقُوعهَا (لَا يحْتَمل طرفاه) أَي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَبِه (نقيضه) أَي الحكم، فَإِن كَانَ إِدْرَاك الْوُقُوع فنقيضه إِدْرَاك اللاوقوع، وَإِلَّا فبالعكس (عِنْد من قَامَ) الحكم (بِهِ) وَهُوَ الْحَاكِم (لموجب) مُتَعَلق لَا يحْتَمل. وَسَيَجِيءُ بَيَان الْمُوجب، وَالْمرَاد باحتمالهما النقيض عِنْد الْحَاكِم كَونهمَا بِحَيْثُ لَو فرض بَينهمَا نقيض لَا يعده الْحَاكِم محالا، بل يجوزه تجويزا مَا، فالعلم حكم لَا يكون طرفاه مَوْصُوفا بِهَذَا الْكَوْن وَنقض التَّعْرِيف بِالْعلمِ بالأمور العادية كَالْحكمِ بِكَوْن الْجَبَل الْغَائِب عَن النّظر حجرا لاتصاف طَرفَيْهِ بالكون الْمَذْكُور لجَوَاز انقلابه ذَهَبا لتجانس الْجَوَاهِر واستوائها فِي قبُول الصِّفَات مَعَ ثُبُوت الْقَادِر الْمُخْتَار وَأجِيب بِأَنَّهُ إِذا علم كَونه حجرا فِي وَقت اسْتَحَالَ كَونه ذَهَبا فِي ذَلِك الْوَقْت، فَإِذا علم كَونه حجرا دَائِما اسْتَحَالَ كَونه ذَهَبا فِي وَقت من الْأَوْقَات، وَلَا يخفى ضعفه وَالْجَوَاب مَا ذكره المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى بقوله (فَدخل العادي لِأَن إِمْكَان كَون الْجَبَل ذَهَبا لَا يمْنَع الْجَزْم بنقيضه عَن مُوجبه) وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ إِن أُرِيد بِالْجَزْمِ مَا لَا يُنَافِي تَجْوِيز النقيض فَهُوَ خَارج عَن المبحث، وَإِلَّا فالإمكان يمنعهُ، وَلذَا قَالَ (وَالْحق أَن إِمْكَان خرق الْعَادة الْآن) أَي آن الحكم بِكَوْنِهِ حجرا (وَهُوَ) أَي الْإِمْكَان (ثَابت) فِي نفس الْأَمر (يسْتَلْزم تَجْوِيز النقيض الْآن) أَي آن الحكم الْمَذْكُور (إِذا لوحظ النقيض) لِأَن عدم احْتِمَاله لخلو الذِّهْن عَنهُ خَارج عَن دَائِرَة الِاعْتِبَار، لِأَن الْعبْرَة بالتجويز وَعَدَمه عِنْد(1/25)
الِالْتِفَات إِلَى النقيض، كَيفَ وَإِلَّا فطرفا الظَّن أَيْضا لَا يحْتَملهُ من حَيْثُ خلو ذهن الظَّان عَنهُ (فَالْحق أَن الْعلم كَذَلِك) أَي الْعلم الْمَوْصُوف بِكَوْن طَرفَيْهِ غير مُحْتَمل إِيَّاه (هُوَ مَا) أَي حكم (لَا يحْتَمل مُوجبَة التبدل) أَي الَّذِي أَفَادَهُ يكون بِحَيْثُ يَسْتَحِيل عِنْد الْعقل تخلف مفاده لما فِيهِ مِمَّا يَقْتَضِي ذَلِك (كالعقلي) أَي كالبرهان الْعقلِيّ الَّذِي مقدماته يقينية، وإنتاجه كَذَلِك (وَالْخَبَر الصَّادِق) الَّذِي يَسْتَحِيل عِنْد الْعقل كذبه وَحَاصِل هَذَا الْكَلَام إِن جَعَلْنَاهُ جَوَابا عَن الأشكال الْتِزَام خُرُوجه عَن التَّعْرِيف، وَمنع دُخُوله فِي الْمُعَرّف (وَالظَّن حكم يحْتَملهُ) أَي يحْتَمل طرفاه نقيضه عَن الظَّان إِن عرض عَلَيْهِ (مرجوحا) حَال مُؤَكدَة عَن الْمَفْعُول لكَون المرجوحية لَازِمَة لنقيضه، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على المصدرية كَمَا لَا يخفى (وَهُوَ) الْمُحْتَمل الْمَرْجُوح (الْوَهم وَلَا حكم فِيهِ) أَي الْوَهم (لاستحالته) أَي الحكم (بالنقيصين) وَذَلِكَ لِأَن النقيض الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الظَّن قد حكم بِهِ، فَإِن كَانَ فِي نقيضه أَعنِي مُتَعَلق الْوَهم حكم أَيْضا لزم الحكم بهما جَمِيعًا (وَالشَّكّ عدم الحكم بِشَيْء) من وُقُوع النِّسْبَة وَلَا وُقُوعهَا (بعد الشُّعُور) بهما، لِأَنَّهُ على تَقْدِير عدم الشُّعُور بِشَيْء مِنْهُمَا عدم الحكم ثَابت فِي مثل الْوَاحِد نصف الِاثْنَيْنِ (للتساوي) أَي تَسَاوِي الْوُقُوع، واللاوقوع فِي نظر الْعقل، فَإِن حكم بِشَيْء مِنْهُمَا لزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، وَإِن حكم بهما جَمِيعًا لزم الحكم بالنقيضين، وَقد عرفت، وَلَا يخفى مَا فِي قَوْله: الشَّك عدم الحكم من الْمُسَامحَة، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة نوع من الْإِدْرَاك يلْزمه عدم الحكم، فَهُوَ تَفْسِير باللازم (فَيخرج أحد قسمي الْجَهْل الْبَسِيط) الْجَهْل وَهُوَ عدم الحكم المطابق عَمَّا من شَأْنه الْعلم قِسْمَانِ: أَحدهمَا مَا لم يقارن الحكم بنقيض مُتَعَلّقه، إِمَّا مَعَ عدم الشُّعُور بالمتعلق، وَقد خرج عَن تَعْرِيف الشَّك، وَإِمَّا مَعَه وَلم يخرج عَنهُ، وَثَانِيهمَا مَا يقارنه، فَالْأول أقل أَجزَاء، وَلذَا سمي بالبسيط، وَبِهَذَا ظهر وَجه تَسْمِيَة الْمركب، وَالْجهل الْمركب الحكم غير المطابق، فَلم يدْخل فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُور (وَلم نشترط جرما) فِي الْجَهْل الْمركب بل يعمه بِحَيْثُ يَشْمَل الظَّن، وَلذَا قَالَ (لِأَن الظَّن غير المطابق لَيْسَ سواهُ) أَي لَيْسَ خَارِجا عَنهُ بل هُوَ دَاخل فِيهِ كَمَا أَن الْجَزْم الْغَيْر المطابق دَاخل فِيهِ فَإِن قلت هَذَا يُخَالف مَا فِي المواقف والمقاصد من أَنه عبارَة عَن اعْتِقَاد جازم غير مُطَابق قلت لَعَلَّه ظفر بِنَقْل مفصل لم يظفرا بِهِ، أَو هُوَ من تفَاوت اصطلاحي العلمين، وَفِي التَّلْوِيح مَا يُوَافق المُصَنّف رَحمَه الله (وَأما التَّقْلِيد) وَهُوَ الْعَمَل بقول الْغَيْر من غير حجَّة كأخذ الْعَاميّ والمجتهد بقول مثله، فالرجوع إِلَى الرَّسُول وَالْإِجْمَاع، وَرُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي إِلَى الشُّهُود لَيْسَ تقليدا لقِيَام الْحجَّة فِيهَا كَمَا بَين فِي مَحَله، وَإِن سمى بعض ذَلِك تقليدا فِي الْعرف فَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح، كَذَا أَفَادَهُ الْعَلامَة الْمُحَقق القَاضِي عضد الدّين (فَلَيْسَ(1/26)
من حَقِيقَته ظن) أَي لَيْسَ من لَوَازِم حَقِيقَة التَّقْلِيد أَن يحصل للمقلد ظن بمضمون مَا قلد فِيهِ، وَذَلِكَ لما عرفت من أَنه عبارَة عَن الْعَمَل الْمَذْكُور بِغَيْر حجَّة، وَالَّذِي يعْمل بقول مثله من غير دَلِيل يجوز خلوه عَن التَّصْدِيق بمضمون ذَلِك القَوْل، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي اعْتِبَاره، وَالْأَصْل عدم الحكم وَإِن اتّفق ذَلِك، فَهُوَ أَمر لَا تَقْتَضِيه حَقِيقَته (فضلا عَن الْجَزْم كَمَا قيل) من أَن التَّقْلِيد لَا يَقْتَضِي التَّصْدِيق بمضمون مَا قلد فِيهِ فَإِن قلت الظَّن رُجْحَان أحد طرفِي النِّسْبَة مَعَ تَجْوِيز الآخر، فَيجوز أَلا يكون هَذَا الْقَيْد من حَقِيقَة التَّقْلِيد، بِاعْتِبَار الْقَيْد، وَهَذَا الْقَيْد مُنْتَفٍ فِي الْجَزْم، فَيجوز أَن يكون من حَقِيقَته قلت أَرَادَ بِالظَّنِّ الْمَنْفِيّ كَونه من حَقِيقَة التَّقْلِيد الرجحان الْمَذْكُور، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ من حَقِيقَته رُجْحَان مَا قلد فِيهِ على نقيضه فضلا عَن الْجَزْم الَّذِي فِيهِ ذَلِك الرجحان مَعَ زِيَادَة عدم احْتِمَال عدم النقيض فَإِن قلت المُصَنّف رَحمَه الله قد صرح فِي مَبْحَث التَّقْلِيد أَن إِيمَان الْمُقَلّد صَحِيح، لكنه آثم بترك النّظر، وَكَيف يَصح وتقليده لَا يسْتَلْزم التَّصْدِيق، وَهُوَ جُزْء من الْإِيمَان قلت معنى الْكَلَام أَن التَّصْدِيق لَيْسَ من لَوَازِم التَّقْلِيد مُطلقًا، فَيجوز أَن يكون لَازِما إِذا قيد بِقَيْد يَقْتَضِيهِ ككون مَا قلد فِيهِ من مقولة التَّصْدِيق، فَإِن الْعَمَل بِهِ لَا يتَصَوَّر بِدُونِهِ، على أَنه يجوز أَن يكون مَبْنِيّ هَذَا الْكَلَام على مَا ذهب إِلَيْهِ القَاضِي على مَا مر، فَإِن إِيمَان الْمُقَلّد بعد وجود الْمُجْتَهدين رُجُوع إِلَيْهِم، فَهُوَ من بَاب رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي، وَهُوَ لَيْسَ بتقليد بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ عمل بقوله مَعَ حجَّة، وَهِي الْإِجْمَاع على وجوب اتِّبَاعه إِيَّاه، وَمَا ذكره فِي آخر الْكتاب على تَحْقِيقه من أَن التَّقْلِيد هُوَ الْعَمَل بقول من لَيْسَ قَوْله إِحْدَى الْحجَج بِلَا حجَّة مِنْهَا، فَمِنْهُ رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي (بل قد يقدر عَلَيْهِ) أَي على ظن مَا قلد فِيهِ (إِذا كَانَ الْمُقَلّد) فَاعل يقدر وَكَانَ، على سَبِيل التَّنَازُع (قَرِيبا) من الِاجْتِهَاد بِأَن يكون عَالما بِطرف صَالح من عُلُوم الِاجْتِهَاد بدليله لَا يُقَال عِنْد حُصُول الظَّن عَن الدَّلِيل يخرج عَن التَّقْلِيد لِأَن من لم يبلغ دَرَجَة الِاجْتِهَاد لَا عِبْرَة بظنه، وَلذَا لَا يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع ظَنّه (وَقد لَا) يقدر عَلَيْهِ إِمَّا لبعده عَنهُ، أَو لمَانع آخر كتعارض الأمارات من غير قُوَّة التَّرْجِيح (وغايته) أَي الْمُقَلّد (إِذن) أَي إِذا لم يقدر على ظن مَا قلد فِيهِ (حسن ظَنّه بمقلده) فَيحصل لَهُ بذلك ظن بِمَا قلد فِيهِ لَكِن لَا عَن دَلِيله، بل بِأَنَّهُ حكم أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد عَالم عَظِيم الشَّأْن، فَالظَّاهِر أَن يكون صَوَابا (وَقد يكون) أَي يُوجد التَّقْلِيد (وَلَا ظن) للمقلد بِأحد الْوَجْهَيْنِ (مَعَ علمه) أَي الْمُقَلّد (أَنه) أَي الْمُقَلّد بِفَتْح اللَّام (مفضول) فِيمَا قلد فِيهِ أَو مُطلقًا، لِأَن الْجُمْهُور على جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْفَاضِل كَمَا سَيَأْتِي (وَخرج التَّصَوُّر عَن الْعلم وَالظَّن على) قَول (الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ (اصْطِلَاحا) على وضع لفظ الْعلم بِإِزَاءِ مَا لَا يصدق على التَّصَوُّر(1/27)
(لَا لاعْتِبَار الْمُوجب) أَي لَا لأجل أَنهم اعتبروا فِي حد الْعلم أَن يكون عدم احْتِمَال النقيض فِيهِ لموجب وَلَا مُوجب لعدم احْتِمَاله فِي التَّصَوُّر، كَيفَ وَهُوَ غير مندرج فِي جنس التَّعْرِيف؟ .
(وَقد يُقَال) فِي تَعْرِيف الْعلم (صفة) أَي أَمر قَائِم بِغَيْرِهِ (توجب تمييزا) أَي توجب كَون محلهَا، وَهُوَ النَّفس مُمَيزَة لما تعلّقت بِهِ الصّفة، فَإِن الْعلم صفة ذَات تعلق، والمميز هُوَ الْعَالم لَا الْعلم، فَخرج مَا عدا الادراكات من الصِّفَات النفسية كالشجاعة وَغَيرهَا كالسواد، فَإِنَّهَا وَإِن أوجبت لمحالها تمييزا ضَرُورَة تَمْيِيز الشجاع بشجاعته عَن الجبان، وَالْأسود بسواده عَن الْأَبْيَض لَكِنَّهَا لَا توجب لَهَا تمييزا، بِأَن تميز بِسَبَب اتصافها بهَا شَيْئا عَن شَيْء، كَمَا إِذا حصلت فِي النَّفس صُورَة زيد واتصفت بهَا ميزت بذلك الاتصاف زيدا عَن غَيره (لَا يحْتَمل) نقيض مُتَعَلّقه، أَي مَعَ حُصُول ذَلِك التَّمْيِيز لَا يجوز الْعقل تحقق النقيض فِي نفس الْأَمر، فَإِن كَانَ التَّمْيِيز الْمَذْكُور إِدْرَاك وُقُوع النِّسْبَة على سَبِيل الْجَزْم لم يجوز عدم وُقُوعهَا فِيهِ، وَإِن كَانَ إِدْرَاك اللاوقوع فبالعكس، وَإِن كَانَ تصورا ساذجا لَا يجوز كَون مُتَعَلّقه خلاف مَا تميز وانكشف بِهِ وَلذَا قَالَ (فَيدْخل) أَي التَّصَوُّر فِي هَذَا التَّعْرِيف لصدقه عَلَيْهِ بِخِلَاف التَّعْرِيف الأول، وَخرج بقوله لَا يحْتَمل الظَّن لاحْتِمَال النقيض، وَكَذَا الْجَهْل الْمركب لاحْتِمَال أَن يطلع صَاحبه على مَا فِي الْوَاقِع فيزول عَنهُ مَا حكم بِهِ من الْإِيجَاب وَالسَّلب إِلَى نقيضه، وَكَذَا التَّقْلِيد لاحْتِمَال زَوَاله بالتشكيك (وَعدم الْمُطَابقَة فِي تصور الْإِنْسَان صها لَا للْحكم الْمُقَارن، أما الصُّورَة فَلَا تحْتَمل غَيرهَا) جَوَاب سُؤال، وَهُوَ أَن التَّصَوُّر لَو لم يحْتَمل نقيض مُتَعَلّقه، لَكَانَ كل تصور مطابقا لمتعلقه لَا محَالة، كَمَا أَن كل تَصْدِيق لَا يحْتَملهُ كَذَلِك، وَاللَّازِم بَاطِل، فَإِن تصور الْإِنْسَان بِصُورَة الصاهلية مثلا تصور غير مُطَابق لمتعلقه، وَهِي الْحَقِيقَة الإنسانية، وَالْجَوَاب أَنه لَيْسَ مُتَعَلق ذَلِك التَّصَوُّر حَقِيقَة الْإِنْسَان بل حَقِيقَة الْفرس، غَايَة الْأَمر أَن المتصور أَخطَأ فِي الحكم بِأَن مُتَعَلّقه الْإِنْسَان فَعدم الْمُطَابقَة إِنَّمَا هُوَ فِي هَذَا الحكم، وَأما الصُّورَة الْمَذْكُورَة فَلَا تحْتَمل غير متعلقها الَّذِي هُوَ الْفرس فِي نفس الْأَمر، وَذَلِكَ لِأَن مُتَعَلق كل صُورَة مَا هِيَ ظلّ لَهُ وانعكست عَنهُ وَصَارَت هِيَ سبّ انكشافه، وَلَا شكّ أَن صور الصهال سَبَب انكشاف حَقِيقَة الْعَكْس عَنْهَا تِلْكَ الصُّورَة، وَهِي حَقِيقَة الْفرس، وتسميتها إنْسَانا خطأ نَشأ من التَّوَهُّم، فَهِيَ لَا تحْتَمل غَيرهَا.
(وَالْوَجْه) فِي تَعْرِيف الْعلم على وَجه يعم التَّصَوُّر أَن يُقَال (أَنه تَمْيِيز، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقل كَذَا، بل يُقَال صفة كَمَا ذكر لم يكن التَّعْرِيف مَانِعا (فَإِنَّمَا يصدق على القوه الْعَاقِلَة) وَهِي كَيْفيَّة للنَّفس بهَا تدْرك الْأَشْيَاء، لِأَنَّهَا صفة توجب التَّمْيِيز، لِأَن المُرَاد بإيجابها استعقابها بِخلق الله التَّمْيِيز عَادَة فَإِن قلت إِيجَابهَا التَّمْيِيز بِوَاسِطَة الْعلم، وَإِيجَاب الْعلم إِيَّاه بِغَيْر وَاسِطَة، والمتبادر(1/28)
هُوَ الْإِيجَاب بِغَيْر وَاسِطَة، فَيحمل عَلَيْهِ فَلَا نقض حِينَئِذٍ قلت مُرَاده الْوَجْه الْأَحْسَن أَنه تَمْيِيز لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج إِلَى التَّأْوِيل وَاعْلَم أَن ابْن الْحَاجِب عرف الْعلم بِمَا يعم التَّصَوُّر وَذكر مباحثه وَالْمُصَنّف رَحمَه الله اقْتصر على مَا هُوَ الأهم فِي الْأُصُول وَتركهَا لقلَّة الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان طرق الِاسْتِدْلَال بالأدلة الشَّرْعِيَّة على الْأَحْكَام، لَا طرق التَّعْرِيف بالمعرفات وَلما وَقع التَّعَرُّض للتصور، وَمِنْه الْحَد، وَقد ذكرُوا أَنه لَا يكْتَسب بالبرهان وَلَا يُعَارض وَلَا يمْنَع أَشَارَ إِلَى مَا يُفِيد هَذِه الْأَحْكَام، فَقَالَ (وَلَا دَلِيل) يُقَام (إِلَّا على نِسْبَة) إيجابية أَو سلبية، وَلَا نِسْبَة فِي تعقل حَقِيقَة الْحَد، فَلَا يُقَام عَلَيْهِ وَلَا يكْتَسب بِهِ (وَكَذَا الْمُعَارضَة) لِأَنَّهَا إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم، وَكَذَا الْمَنْع، لِأَنَّهُ طلب الدَّلِيل على مُقَدّمَة الدَّلِيل (وَذَلِكَ) أَي إِقَامَة الدَّلِيل والمعارضة إِنَّمَا تكون (عِنْد ادعائها) أَي الصُّور التصورية (صُورَة كَذَا) ثَانِي مفعولي الادعاء (كصور الْحُدُود) أَي كادعاء صور الْحُدُود صور محدوداتها كَمَا إِذا ادعيت أَن الصُّورَة الْحَاصِلَة فِي الْعقل من الْحَيَوَان النَّاطِق صُورَة الْإِنْسَان (وَحِينَئِذٍ) أَي حِين يدعى ذَلِك فِي الْحُدُود (تقبل) صور الْحُدُود بِسَبَب انضمام الحكم الْمَذْكُور إِلَيْهَا (الْمَنْع) إِمَّا حَقِيقَة إِن أقيم عَلَيْهِ دَلِيل، وَإِمَّا مجَازًا إِن لم يقم (وَيدْفَع) الْمَنْع (فِي) الْحَد (الأسمى) وَهُوَ على مَا مر بَيَانه مَا وضع الِاسْم بإزائه، وَمنعه مَعْنَاهُ لَا نسلم كَون هَذَا مَا وضع بإزائه الِاسْم (بِالنَّقْلِ) مُتَعَلق بيدفع، فَإِن كَانَ لغويا ينْقل عَن أهل اللُّغَة، وَإِن كَانَ شَرْعِيًّا عَن أهل الشَّرْع، وعَلى هَذَا الْقيَاس (وَفِي) منع الْحَد (الْحَقِيقِيّ) بِأَن يُقَال لَا نسلم أَن هَذَا مَجْمُوع ذاتيات هَذَا الْمَحْدُود (الْعَجز) أَي عجز الحاد عَن دفع هَذَا الْمَنْع (لَازم) لِأَن معرفَة ذاتيات الماهيات الْحَقِيقِيَّة متعذرة، وَالْمرَاد تعذره بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَة، فَلَا يُنَافِي حُصُوله بالكشف الإلهي (لَا لما قيل) من أَنه (لَا يكْتَسب الْحَد بالبرهان للاستغناء عَنهُ) من جملَة الْمَقُول، وَكَذَا قَوْله (إِذْ ثُبُوت أَجزَاء الشَّيْء لَهُ لَا يتَوَقَّف إِلَّا على تصَوره) بَيَانه أَن الْحَد مَجْمُوع أَجزَاء الْمَحْدُود، وَلَا فرق بَينهمَا إِلَّا بالإجمال وَالتَّفْصِيل فتغايرهما اعتباري، وكما أَن ثُبُوت الشَّيْء لنَفسِهِ من غير اعْتِبَار تغاير بَينهمَا ضَرُورِيّ مستغن عَن الْبَيَان كَذَلِك مَعَ التغاير الاعتباري غَايَة الْأَمر فِيهِ تَفْصِيل الْأَجْزَاء بِثُبُوت أَجزَاء الشَّيْء لَهُ لَا يتَوَقَّف إِلَّا على تصور ذَلِك الشَّيْء تَفْصِيلًا، وَهُوَ حَاصِل فِي نفس الْحَد، ثمَّ علل النَّفْي بقوله (لِأَن الْفَرْض) أَي الْمَفْرُوض (جَهَالَة كَونهَا) أَي أَجزَاء الشَّيْء الَّتِي هِيَ الْحَد (أَجزَاء الصُّورَة الإجمالية) الَّتِي هِيَ الْمَحْدُود (ونسبتها) أَي تِلْكَ الْأَجْزَاء (إِلَيْهَا) أَي الصُّورَة الإجمالية (بالجزئية مُجَرّد دَعْوَى فَلَا يُوجِبهُ) أَي ثُبُوت كَونهَا أَجزَاء للصورة الإجمالية (إِلَّا دَلِيل) والمفروض عَدمه (أَو للدور) عطف على قَوْله للاستغناء أَي لَا يكْتَسب الْحَد بالبرهان للُزُوم(1/29)
الدّور على تَقْدِير اكتسابه، لِأَن الِاسْتِدْلَال على ثُبُوت شَيْء لشَيْء يتَوَقَّف على تعقلهما فَلَزِمَ توقف الِاسْتِدْلَال على ثُبُوت الْحَد للمحدود على تعقل الْمَحْدُود، فَكَانَ تعقله مقدما بِالذَّاتِ على الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور، فَلَو اكْتسب الْحَد الْمُقدم بِالذَّاتِ على تعقل الْمَحْدُود بالبرهان لزم تقدم الْبُرْهَان على مَا هُوَ مقدم عَلَيْهِ: أَعنِي تعقل الْمَحْدُود، وَهَذَا هُوَ الدّور، ثمَّ علل نفي الْعَجز بِسَبَب الدّور بقوله (لِأَن توقف الدَّلِيل) إِنَّمَا هُوَ (على تعقل الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِوَجْه) مَا، وَمُوجب هَذَا تقدم تعقل الْمَحْدُود على الْبُرْهَان بِاعْتِبَار وَجه من وجوهه لَا على التَّعْيِين (وَهُوَ) أَي تعقل الْمَحْكُوم عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَحْدُود إِنَّمَا يتَوَقَّف (عَلَيْهِ) أَي الدَّلِيل (بِوَاسِطَة توقفه) أَي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (على الْحَد بحقيقته) وَمُوجب هَذَا تقدم الدَّلِيل على تعقل الْمَحْدُود بحقيقته وكنهه وَلَا مَحْذُور فِي أَن يكون تعقله لَا من حَيْثُ حَقِيقَته مقدما على الدَّلِيل، وَمن حَيْثُ حَقِيقَته مُؤَخرا عَنهُ (أَو لِأَنَّهُ) أَي الْبُرْهَان (إِنَّمَا يُوجب أمرا) وَهُوَ الْمَحْكُوم بِهِ (فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ) لِأَن حَقِيقَته وسط يسْتَلْزم ذَلِك، وَقَوله أَو عطف على قَوْله للاستغناء أَو للدور (وبتقديره) أَي على تَقْدِير اكْتِسَاب الْحَد بالبرهان (يسْتَلْزم) الْبُرْهَان (عينه) أَي عين الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَحْدُود وَلَا يُوجب أمرا آخر فِيهِ، وَهَذَا خلاف مُوجب الْبُرْهَان، ثمَّ بَين نفي كَون الْعَجز مُعَللا بِهَذَا بقوله (لِأَنَّهُ) أَي استلزام الْبُرْهَان عينه: أَي عين الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَحْدُود (غير ضائر) لِأَن إِثْبَات عين الشَّيْء لَهُ من غير اعْتِبَار مُغَايرَة أصلا محَال أَو تَحْصِيل للحاصل.، وَأما إِذا تغايرا بِوَجْه مَا كالإجمال وَالتَّفْصِيل فَلَا يضر الِاتِّحَاد الذاتي لجَوَاز عدم الْعلم بالاتحاد والاحتياج فِيهِ إِلَى دَلِيل (فَإِن قَالَ) الْمُعَلل بِهَذَا الْإِثْبَات بطلَان اللَّازِم كَيفَ لَا يضر استلزام الْبُرْهَان عين الْمَحْدُود بِسَبَب اكْتِسَاب الْحَد بِهِ فَإِنَّهُمَا متحدان مَعَ أَنه يسْتَلْزم تعقل الْمَحْدُود قبل الْحَد ضَرُورَة تعقل الْمَطْلُوب قبل الدَّلِيل (وتعقلها) أَي عين الْمَحْدُود (إِنَّمَا يحصل بِالْحَدِّ) أَي بتعقله لكَونه أجزاءه فَيلْزم تقدم الشَّيْء على مَا هُوَ مقدم عَلَيْهِ (فكالأول) أَي فَالْجَوَاب عَن هَذَا التَّعْلِيل كالجواب عَن التَّعْلِيل الأول، وَهُوَ الِاسْتِغْنَاء عَن الْبُرْهَان إِذْ ثُبُوت أَجزَاء الشَّيْء إِلَى آخِره وَتَقْرِيره أَن قَوْلكُم وتعقل عين الْمَحْدُود يحصل بِالْحَدِّ غير مُسلم، لِأَن الْحَاصِل بِهِ المكتسب بالبرهان إِنَّمَا هُوَ تعقلها من حَيْثُ كَون الْحَد أَجزَاء لصورته الإجمالية وتعقلها الْمُتَقَدّم تصورها بِوَجْه مَا، وَلَا يخفى أَنه بِهَذَا التَّقْرِير أشبه بِالْجَوَابِ عَن التَّعْلِيل الثَّانِي، فَالْوَجْه أَن الْمَعْنى إِذا كَانَ الْبُرْهَان يسْتَلْزم عين الْمَحْدُود كَانَ نتيجة تعقلها، وَهُوَ حَاصِل بتعقل أَجزَاء الْحَد، فَلَا حَاجَة إِلَى الْبُرْهَان فَصَارَ مثل الأول بل عينه وَجَوَابه جَوَابه (بل لعدمه) أَي بل الْعَجز لَازم لعدم مَا يدْفع الْمَنْع الْوَارِد فِي الْحَد الْحَقِيقِيّ من برهَان يدل على كَون الْحَد ذاتيات الْمَحْدُود لتعذر معرفَة ذاتيات الماهيات الْحَقِيقِيَّة كَمَا مر غير(1/30)
مرّة (فَإِن قيل) كَيفَ يحكم بِعَدَمِ الْبُرْهَان الْمَذْكُور و (المتعجب) مثلا وسط (يفِيدهُ) أَي إِثْبَات الْحَد للمحدود: أَي الْحَيَوَان النَّاطِق للْإنْسَان (كناطق) أَي كَأَن يُقَال الْإِنْسَان حَيَوَان نَاطِق (لِأَنَّهُ) أَي الْإِنْسَان (متعجب وكل متعجب) حَيَوَان نَاطِق، فالإنسان حَيَوَان نَاطِق (قُلْنَا) هَذَا الدَّلِيل (يُفِيد مُجَرّد ثُبُوته) أَي الْحَد الْمَذْكُور للمحدود للمساواة بَين النَّاطِق والمتعجب (وَالْمَطْلُوب) من الْبُرْهَان الْمَذْكُور مَا هُوَ (أخص مِنْهُ) أَي من مُجَرّد ثُبُوت الْحَد للمحدود وَهُوَ (كَونه) أَي كَون ثُبُوته (على وَجه الْجُزْئِيَّة) فَقَوله كَونه بدل من قَوْله أخص (فَالْحق حكم الإشراقيين) وهم قوم من الفلاسفة يؤثرون طَريقَة أفلاطون من الْكَشْف والعيان على طَريقَة أرسطو من الْبَحْث والبرهان (لَا يكْسب الْحَقِيقَة إِلَّا الْكَشْف) وَهُوَ علم ضَرُورِيّ تدْرك بِهِ حقائق الْأَشْيَاء يحصل بالرياضة غير مَقْدُور للمخلوق تَحْصِيله، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي كَونهَا مكسوب الْكَشْف (معنى الضَّرُورَة) فِي قَول من قَالَ: لَا يكْتَسب بالبرهان، لكَونه ضَرُورِيًّا (وَكَذَا منع التَّمام) أَي وَكَذَا الْعَجز لَازم إِذا منع كَون الْحَد جَمِيع ذاتيات الْمَحْدُود لِأَن إِثْبَات الْمُقدمَة الممنوعة مَوْقُوف على معرفَة الْحَقِيقَة، وَقد عرفت منع تعذرها (فَلَو قَالَ) الحاد فِي دفع الْمَنْع الْمَذْكُور (لَو كَانَ) هَذَا الْحَد غير تَامّ (لم نعقلها) أَي حَقِيقَة الْمَحْدُود بالكنه لتعذره بِدُونِ تعقل جَمِيع الذاتيات لَكنا عقلناها بالكنه (منع نفي التَّالِي) بِأَن يَقُول لَا نسلم أَنَّك عقلتها بالكنه (فالاعتراض) على الْحَد (بِبُطْلَان الطَّرْد) وَهُوَ كَونه مَانِعا بِأَن يُقَال هَذَا الْحَد غير مَانع لصدقه على غير الْمَحْدُود، وَهُوَ كَذَا (وَالْعَكْس) وَهُوَ كَونه جَامعا بِأَن يُقَال غير جَامع لعدم صدقه على كَذَا لفرد من أَفْرَاد الْمَحْدُود (بِنَاء على الِاعْتِبَار فِي الْمَفْهُوم وَعَدَمه) أَي بِنَاء على اعْتِبَار الْمُعْتَرض فِي مَفْهُوم الْمَحْدُود مَا لم يعتبره الحاد فَصدق الْحَد بِسَبَب ذَلِك على غير الْمَحْدُود، أَو على عدم اعْتِبَاره فِيهِ مَا اعْتَبرهُ الحاد، فَخرج بِسَبَب ذَلِك فَرد من الْمَحْدُود (فَإِنَّمَا يُورد) الِاعْتِرَاض بِكُل مِنْهُمَا (عَلَيْهِ) أَي الْحَد (من حَيْثُ هُوَ) أَي الْحَد (اسمى) وَهُوَ كَمَا مر مَا وضع الِاسْم بإزائه لَا من حَيْثُ هُوَ حَقِيقِيّ (وَالنَّظَر حَرَكَة النَّفس من المطالب) التصورية أَو التصديقية (أَي فِي الكيف) لما فسر النّظر بالحركة، وَلَا بُد لَهَا من متحرك، ومبدأ ومنتهى، وَمَا تقع فِيهِ من الأين، أَو الْوَضع، أَو الْكمّ، أَو الكيف عين الأول بِأَنَّهُ النَّفس الناطقة، وَالثَّانِي بِأَنَّهُ المطالب، وَالثَّالِث بِأَنَّهُ الكيف، وَالرَّابِع بِأَنَّهُ المبادي بقوله (طالبة للمبادي) وَهِي المعلومات التصورية أَو التصديقية الْمُنَاسبَة للمطالب الْمَذْكُورَة المفضية إِلَى الْعلم بهَا، ثمَّ بَين كَيْفيَّة حركتها بَين المطالب والمبادي فِي الكيف بقوله (باستعراض الصُّور: أَي(1/31)
تكيفها بِصُورَة صُورَة) تَصْرِيح بِأَن الْعلم من الكيفيات النفسانية، وكما أَن الْجِسْم يَتَحَرَّك فِي الكيفيات المحسوسة كالعنب يصفر، ثمَّ يحمر، ثمَّ يسود كَذَلِك النَّفس تتكيف بِصُورَة بعد صُورَة من حِين تتَوَجَّه من الْمَطْلُوب نَحْو المبادي إِلَى أَن تحصل الْمُنَاسب وترتبه، وَعبر عَن التكيف الْمَذْكُور باستعراض الصُّور، لِأَن النَّفس عِنْد ذَلِك كَأَنَّهَا طالبة لعروض تِلْكَ الصُّور لَهَا (لتجد الْمُنَاسب) كَمَا أَن الإبصار يتَوَقَّف على مُوَاجهَة المبصر وتقليب الحدقة نَحوه وَإِزَالَة الغشاوة كَذَلِك إِدْرَاك البصيرة يتَوَقَّف على التَّوَجُّه نَحْو الْمَطْلُوب وتحديقها نَحْو طلبا لإدراكه وَتَجْرِيد الْعقل عَن الْغَفْلَة، وَلَا شُبْهَة فِي أَن كل مَجْهُول لَا يُمكن اكتسابه من أَي مَعْلُوم اتّفق، بل لَا بُد لَهُ من مَعْلُومَات مُنَاسبَة، وَمن تَرْتِيب معِين بَينهَا، وَمن حيثية مَخْصُوصَة (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب فِي النّظر الْوَاقِع للمطلوب التصديقي (الْوسط) سمي بِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاسِطَة للْحكم فِي ثُبُوت الْمَحْكُوم بِهِ للمحكوم عَلَيْهِ (فترتبه مَعَ طرفِي الْمَطْلُوب) يَعْنِي مَوْضُوعه ومحموله بِأَن يحمل عَلَيْهِمَا، أَو يحملا عَلَيْهِ، أَو يحمل على مَوْضُوعه، وَيحمل محموله عَلَيْهِ، أَو الْعَكْس (على وَجه مُسْتَلْزم) للمطلوب بِأَن يكون مستجمعا شَرَائِط الإنتاج على مَا سَيَجِيءُ، وَهُوَ شَامِل للنَّظَر الصَّحِيح وَالْفَاسِد، لِأَن التَّرْتِيب على وَجه مُسْتَلْزم لَا يسْتَلْزم صِحَة النّظر، لِأَن الْفساد قد يكون من حَيْثُ الْمَادَّة على أَنه لَو أُرِيد بِالْوَجْهِ المستلزم مَا هُوَ بِحَسب ظن النَّاظر يجوز أَن يكون الْفساد من حَيْثُ الصُّورَة أَيْضا، فَالْمُرَاد بالمناسب مَا هُوَ مُنَاسِب بِحَسب اعْتِقَاده، وَالْأَظْهَر أَن الْمُعَرّف هَهُنَا النّظر التصديقي كَمَا لَا يخفى على النَّاظر فِي التَّعْرِيف، فَإِن قلت التَّخْصِيص مَا ذكرت لَهُ وجهة نظر إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُود فِي الْأُصُول فَمَا وَجه التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ الاقتراني؟ قلت الاستثنائي يرجع إِلَيْهِ مَآلًا يرشدك إِلَيْهِ مَا فِي الشَّرْح العضدي، من أَنه لَا بُد فِي الدَّلِيل من مُسْتَلْزم للمطلوب حَاصِل للمحكوم عَلَيْهِ ليلزم من ثُبُوته لَهُ ثُبُوت لَازمه لَهُ، فَيكون الْحَاصِل جزئيا، وَلذَا وَجَبت فِيهِ المقدمتان لتنبئ إِحْدَاهمَا عَن اللُّزُوم، وَهِي الْكُبْرَى وَالْأُخْرَى عَن ثُبُوت اللُّزُوم، وَهِي الصُّغْرَى فَإِن قلت هَذَا مُخْتَصّ بِبَعْض الدَّلَائِل، وَإِلَّا فَمَا تَقْرِيره فِي نَحْو لَا شَيْء من الْملح بمقتات وكل رِبَوِيّ مقتات، وَفِي نَحْو لَو كَانَ الْملح ربويا لَكَانَ مقتاتا وَلَيْسَ فَلَيْسَ، قُلْنَا مهما جعلنَا الْمَطْلُوب وَالْوسط هما النَّفْي أَو الْإِثْبَات يَزُول هَذَا الْوَهم، وَتَقْرِيره فِي المثالين أَن نفي الاقتيات حَاصِل لَهُ، ويستلزم نفي الربوية، وَفِي الثَّانِي كَذَلِك انْتهى، فَيصير الْقيَاس هَكَذَا الْملح مُنْتَفٍ عَنهُ الاقتيات، وكل مَا انْتَفَى عَنهُ الاقتيات مُنْتَفٍ عَنهُ الربوية ينْتج أَن الْملح مُنْتَفٍ عَنهُ الربوية، قَوْله مهما جعلنَا إِلَى آخِره، يَعْنِي أَن منشأ الْوَهم توهم أَن المُرَاد بالمطلوب هُوَ النتيجة، وبالوسط الْحَد الْأَوْسَط، وبحصوله للمحكوم(1/32)
عَلَيْهِ أَن يحمل عَلَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَلَيْسَ كَذَلِك، بل المُرَاد بالمطلوب النَّفْي، أَو الْإِثْبَات بَين الْأَكْبَر والأصغر، وبالمستلزم الْإِثْبَات أَو النَّفْي بَين الْأَوْسَط والأصغر، وَلَا يخفى أَن الحدس وَمَا يتوارد على النَّفس من الْمعَانِي بِلَا قصد خَارج عَن الْحَد (وَالدَّلِيل) ذكر القَاضِي عضد الدّين أَنه فِي اللُّغَة يَأْتِي لثَلَاثَة معَان: أَحدهَا المرشد، وَعبر عَنهُ الْآمِدِيّ: بالناصب للدليل وَالْمُصَنّف بقوله (الْموصل بِنَفسِهِ) وَالثَّانِي: الذاكر لَهُ، وَعبر عَنهُ بقوله (والذاكر لما فِيهِ إرشاد، و) الثَّالِث (مَا بِهِ الْإِرْشَاد) كالأحجار المنصوبة فِي الطّرق، فَيُقَال الدَّلِيل على الصَّانِع: هُوَ الصَّانِع، أَو الْعَالم أَو الْعَالم، لِأَن الصَّانِع نصب الْعَالم دَلِيلا عَلَيْهِ، والعالم بِكَسْر اللَّام يذكر للمستدلين كَون الْعَالم دَلِيلا على الصَّانِع، والعالم بِالْفَتْح: هُوَ الَّذِي بِهِ الْإِرْشَاد، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ رَحمَه الله: هُوَ فعيل بِمَعْنى فَاعل من الدّلَالَة: وَهِي أَعم من الْإِرْشَاد وَالْهِدَايَة انْتهى. وَإِنَّمَا اخْتَار المُصَنّف رَحمَه الله الْموصل بِنَفسِهِ على المرشد والناصب، لِأَن الأول يُطلق على مَا بِهِ الْإِرْشَاد وَلَو مجَازًا، وَالثَّانِي يُطلق على من ينصب عَلامَة فِي الطَّرِيق وَغَيره من النَّاس، وَلَا يُطلق الدَّلِيل على شَيْء مِنْهُمَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى الأول، وَإِنَّمَا يُطلق بِاعْتِبَارِهِ على ناصب الْعَالم دَلِيلا: وَهُوَ الصَّانِع جلّ ذكره وَلَا يصدق الْموصل بِنَفسِهِ إِلَى الْمَقْصُود على غَيره، لِأَن كل من هُوَ غَيره يُوصل بِوَاسِطَة (وَفِي الِاصْطِلَاح) للأصوليين (مَا يُمكن التَّوَصُّل بذلك النّظر) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر تَعْرِيفه (فِيهِ) الضَّمِير عَائِد على الْمَوْصُول (إِلَى مَطْلُوب خبري) الْجَار مُتَعَلق بالتوصل، وَكلمَة مَا بِمَعْنى الشَّيْء جنس وَمَا عداهُ فصل، وَفِي اعْتِبَار الْإِمْكَان إِشَارَة إِلَى أَن وُقُوع النّظر والتوصل بِالْفِعْلِ غير لَازم، بل يَكْفِي إِمْكَانه، وَقيد ابْن الْحَاجِب النّظر فِي هَذَا التَّعْرِيف بِالصَّحِيحِ، وَعلله الشَّارِح بِأَن الْفَاسِد لَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب وَإِن كَانَ قد يفضى إِلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه على هَذَا يُغني قيد التَّوَصُّل عَن ذَلِك التَّقْيِيد، وَلذَا اكْتفى بِهِ المُصَنّف رَحمَه الله، وَصِحَّة النّظر أَن يكون فِيهِ وَجه الدّلَالَة أَعنِي مَا بِهِ ينْتَقل الذِّهْن كالحدوث للْعَالم، وفساده بِخِلَافِهِ كَمَا فِي قَوْلنَا الْعَالم بسيط وكل بسيط لَهُ صانع، إِذْ لَيست البساطة مِمَّا ينْتَقل مِنْهُ إِلَى ثُبُوت الصَّانِع، وَإِن أفْضى إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَة، وَهَذَا فَسَاد من حَيْثُ الْمَادَّة، وَأما من حَيْثُ الصُّورَة فكانتفاء شَرط من شُرُوط الإنتاج فِي الأشكال وَقَالَ السَّيِّد السَّنَد: أَن الحكم بِكَوْن الْإِفْضَاء فِي الْفَاسِد اتفاقيا إِنَّمَا يَصح إِذا لم يكن بَين الكواذب ارتباط عَقْلِي يصير بِهِ بَعْضهَا وَسِيلَة إِلَى الْبَعْض، أَو يخص بِفساد الصُّورَة؟ أَو بِوَضْع مَا لَيْسَ بِدَلِيل مَكَانَهُ انْتهى، قَالَ بعض الشَّارِحين رَحِمهم الله، وَأُرِيد بِالنّظرِ فِيهِ مَا يتَنَاوَل النّظر فِيهِ نَفسه وَفِي صِفَاته وأحواله، فَيشْمَل الْمُقدمَات الَّتِي هِيَ بِحَيْثُ إِذا رتبت أدَّت إِلَى الْمَطْلُوب(1/33)
الخبري، والمفرد الَّذِي من شَأْنه أَنه إِذا نظر فِي أَحْوَاله أوصل إِلَيْهِ كالعالم، وَأما إِذا أخذت الْمُقدمَات مَعَ التَّرْتِيب فَلَا معنى للنَّظَر، وحركة النَّفس فِي الْأُمُور الْحَاضِرَة الْمرتبَة، وَقَوله خبري احْتِرَازًا عَمَّا يُمكن التَّوَصُّل بِهِ إِلَى مَطْلُوب تصوري ويشمل مَا كَانَ بطرِيق الْعلم وَالظَّن (فَهُوَ) أَي الدَّلِيل (مُفْرد) يَعْنِي مَا يُقَابل الْجُمْلَة، ومبني هَذَا التَّفْرِيع على أَن المُرَاد بِمَا يُمكن هُوَ الْمَوْجُود الْعَيْنِيّ الَّذِي بِهِ التَّوَصُّل كالعالم، لَا القضايا والتصديقات، وَمَا سبق من التَّعْمِيم: إِنَّمَا هُوَ مُقْتَضى ظَاهر التَّعْرِيف (قد يكون) ذَلِك الْمُفْرد (الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوب) الخبري (كالعالم) فِي قَوْلنَا: الْعَالم حَادث، فَإِنَّهُ يتَوَصَّل بِالنّظرِ فِي حَاله: وَهُوَ الْمُتَغَيّر بِأَن نحمله عَلَيْهِ مثلا، ثمَّ نجعله مَوْضُوعا للحادث فينتج (أَو الْوسط) عطف على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ كالمتغير فِي الْمِثَال الْمَذْكُور فَإِنَّهُ يتَوَصَّل بِالنّظرِ فِيهِ بجعله مَحْمُولا فِي الصُّغْرَى وموضوعا فِي الْكُبْرَى إِلَى الْمَطْلُوب الْمَذْكُور 0 (وَلَو كَانَ) كَونه مَحْكُومًا عَلَيْهِ أَو حدا أَوسط (معنى) أَي من جِهَة الْمَعْنى والمآل، لَا بِحَسب ظَاهر الْحَال (فِي السمعيات) ظرف لكَونه معنى، وَالْمرَاد بهَا الْأَدِلَّة السمعية، فَإِنَّهَا بِحَيْثُ إِذا فصلت وأبرزت فِي صُورَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة يظْهر عِنْد ذَلِك أَن مَا هُوَ منَاط الِاسْتِدْلَال مَحْكُوم عَلَيْهِ أَو حد أَوسط (وَمِنْه) أَي من الدَّلِيل الْمُفْرد (نَحْو أقِيمُوا الصَّلَاة) وَإِن كَانَ جملَة صُورَة، لِأَن الْجُمْلَة إِذا أُرِيد بهَا لَفظهَا كَانَت مُفردا، فَهُوَ دَلِيل مُفْرد يتَوَصَّل بِالنّظرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوب خبري نَفسه مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِيهِ، وَصفته حد أَوسط فِيهِ، تَقْرِيره أقِيمُوا الصَّلَاة أَمر بإقامتها. وَالْأَمر بإقامتها يُفِيد الْوُجُوب، فأقيموا الصَّلَاة يفِيدهُ (ذكر كل) من هذَيْن يَعْنِي الْعَالم، وَأقِيمُوا الصَّلَاة إِنَّه دَلِيل اصْطِلَاحا (إِلَّا أَن من أفرد) أَي قَالَ بِأَن الدَّلِيل مُفْرد (وَأدْخل الِاسْتِدْلَال فِي مُسَمّى الدَّلِيل) كالآمدي وَابْن الْحَاجِب فَإِنَّهُمَا ذكرا أَن من أَقسَام الدَّلِيل السمعي الِاسْتِدْلَال زِيَادَة على الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (فَهُوَ ذاهل) عَن اعْتِبَاره الْإِفْرَاد فِي مُسَمَّاهُ، وَإِلَّا لما أَدخل فِيهِ مَا لَيْسَ بمفرد، فَإِن الِاسْتِدْلَال ثَلَاثَة: التلازم، وَشَرَائِع من قبلنَا، والاستصحاب، وَقيل: وَالِاسْتِحْسَان، وَقيل بل الْمصَالح الْمُرْسلَة، وَسَيَجِيءُ بَيَانه، والتركيب لَازم فِي التلازم (وَعند المنطقيين) الدَّلِيل (مَجْمُوع الْمَادَّة) وَهِي المعلومات التصديقية الَّتِي ترتبت (وَالنَّظَر: فَهُوَ الْأَقْوَال) وَالْقَوْل الْمركب التَّام الْمُحْتَمل للصدق وَالْكذب، وَالْمرَاد بِالْجمعِ مَا فَوق الْوَاحِد (المستلزمة) قولا آخر، حذفه لشهرته (وَلَا تخرج) عَن التَّعْرِيف (الأمارة) كَقَوْلِك إِن كَانَت بغلة القَاضِي على بَابه فَهُوَ فِي الْمنزل لَكِنَّهَا على بَابه (وَلَو يُزَاد لنَفسهَا) بعد المستلزمة لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم لذاتها استلزاما ظنيا كَون القَاضِي فِي الْمنزل (بل) يُرَاد (ليخرج قِيَاس الْمُسَاوَاة) وَهُوَ مَا ركب من قضيتين مُتَعَلق مَحْمُول أولاهما مَوْضُوع الْأُخْرَى كأمساو لب وب مسَاوٍ لج، ينْتج أمساولج، لَكِن لَا لذاته، بل بِوَاسِطَة مُقَدّمَة أَجْنَبِيَّة كَمَا أَشَارَ(1/34)
إِلَيْهِ بقوله (لِأَنَّهُ) (أَي الاستلزام للأجنبية) وَهِي أَن كل مسَاوٍ لمساوي الشَّيْء مسَاوٍ لذَلِك الشَّيْء، وَلذَا لَا ينْتج أمباين لب وب مباين لج لعدم صدق الْأَجْنَبِيَّة هُنَا (وَلَا حَاجَة) إِلَى هَذِه الزِّيَادَة لإخراجه (لأعميته) أَي الدَّلِيل مَا هُوَ مُسْتَلْزم بِنَفسِهِ وَمَا هُوَ بِوَاسِطَة (فَيدْخل) قِيَاس الْمُسَاوَاة فِي الدَّلِيل وَلَا مَحْظُور، غَايَة الْأَمر يسْتَلْزم كَون الدَّلِيل أَعم من الْقيَاس، ثمَّ إِنَّه وَقع فِي عبارَة كَثِيرَة: مَتى سلمت لزم عَنْهَا فَقَالَ (وَلَا) حَاجَة (لقيد التَّسْلِيم) اللَّام بِمَعْنى إِلَى (لِأَنَّهُ) أَي قيد التَّسْلِيم (لدفع الْمَنْع) الَّذِي يتَوَهَّم وُرُوده على أَفْرَاد الْقيَاس (لَا) لِأَنَّهُ شَرط (للاستلزام) أَي استلزام الْأَقْوَال (لِأَنَّهُ) لَازم (للصورة) أَي لصورتها الْحَاصِلَة من ترتيبها، وَإِذا كَانَ لَازِما لَهَا (فتستلزم) الْأَقْوَال مَا تستلزمه الصُّورَة، لَكِن الصُّورَة لَازِمَة لتِلْك الْأَقْوَال (دَائِما على نَحْوهَا) أَي الْأَقْوَال، فَإِن كَانَت قَطْعِيَّة استلزمت قَطْعِيا، وَإِن كَانَت ظنية استلزمت ظنيا، وَإِن كَانَت صَادِقَة أنتجت صَادِقا وَإِلَّا كَاذِبًا، وَلَك إرجاع ضمير فتستلزم إِلَى الصُّورَة وَالْمعْنَى ظَاهر، فَعلم أَن معنى قَوْلهم: مَتى سلمت حَاصِل وَإِن لم يذكر (وَلزِمَ) من الْعلم بِحَقِيقَة النّظر (سبق الشُّعُور بالمطلوب) على النّظر وَالدَّلِيل، لِأَن حَرَكَة النَّفس مِنْهُ نَحْو مباديه، ثمَّ مِنْهَا إِلَيْهِ فرع تصَوره كَمَا هُوَ شَأْن الْعلَّة الغائية، فَإِن طلب الْمَجْهُول محَال (كطرفي الْقَضِيَّة وكيفيتي الحكم) : أَي كلزوم سبق الشُّعُور بالمحكوم عَلَيْهِ وَبِه الشُّعُور بكيفيتي النِّسْبَة الْوُقُوع واللاوقوع: يَعْنِي تصورهما بِلَا إذعان على الْقَضِيَّة لِأَنَّهَا عبارَة عَن المعلومات الْأَرْبَعَة وتحققها فِي الذِّهْن بِدُونِ الشُّعُور بهَا محَال، وَاكْتفى بِذكر كيفيتي النِّسْبَة عَنْهَا لِأَنَّهُمَا لَا يتصوران بِدُونِهَا، وكما أَن سبق الشُّعُور بِمَا ذكر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضِيَّة لَازم كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يتركب مِنْهَا: وَهُوَ الدَّلِيل (والتردد) أَي وَلُزُوم تردد النَّاظر والمستدل قبل التَّوَصُّل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب (فِي) أَن (ثُبُوت أَحدهمَا) وَهُوَ الْمَحْكُوم بِهِ للْآخر وَهُوَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (على أَي كيفيتيه) من الْوُقُوع أَو اللاوقوع ضَرُورَة الْعلم بتحقق أَحدهمَا، لَا على التَّعْيِين، وَإِلَّا يلْزم ارْتِفَاع النقيضين، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِلُزُوم التَّرَدُّد لِئَلَّا يلْزم الِاسْتِغْنَاء عَن الدَّلِيل، فَلم يلْزم طلب مَا لَا شُعُور بِهِ وَلَا طلب مَا هُوَ حَاصِل وَلَا عدم معرفَة أَنه الْمَطْلُوب إِذا حصل، وَلما ذكر الرَّازِيّ امْتنَاع اكْتِسَاب الْمَطْلُوب التصوري، لِأَنَّهُ إِمَّا مشعور بِهِ فَيلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، وَأما لَيْسَ بمشعور بِهِ فَيلْزم طلب الْمَجْهُول الْمُطلق، أَرَادَ أَن يدْفع ذَلِك فَقَالَ (والمحدود مَعْلُوم) للحاد (من حَيْثُ هُوَ مُسَمّى) للفظ معِين عِنْده مَجْهُول من حَيْثُ الْحَقِيقَة (فيطلب أَنه) أَي الْمَحْدُود (أَي مَادَّة مركبة) من الْموَاد المركبة: يَعْنِي أَن الحاد بعد علمه بالمحدود من حَيْثُ أَنه مُسَمّى بِهَذَا اللَّفْظ يطْلب حَقِيقَته المركبة من ذاتياته فَيتَوَجَّه نَحْو الْموَاد المركبة من ذاتيات الماهيات ليتعين عِنْده مِنْهَا مَا هُوَ حَقِيقَة فِي نفس الْأَمر بأمارات تدل على ذَلِك، وَهَذَا مَبْنِيّ على أَن الْبَسِيط لَا يكْتَسب(1/35)
بِالْحَدِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتجويز الِانْتِقَال) عَن الْمَطْلُوب الْمَعْلُوم بِوَجْه عِنْد حَرَكَة النَّفس نَحْو المبادي (إِلَى) مبدأ (بسيط) مُنَاسِب للمطلوب (يلْزمه الْمَطْلُوب لَيْسَ) شَيْئا يعْتد (بِهِ وَلَو كَانَ) الِانْتِقَال الْمَذْكُور مَسْبُوقا (بِالْقَصْدِ) فَلَا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بالانتقال الْمَذْكُور مَا لم يكن مَسْبُوقا بِقصد تَحْصِيل الْمَطْلُوب: وَهُوَ الْمُوجب لعدم الِاعْتِدَاد بِهِ لفَوَات شَرط النّظر (إِذْ لَيْسَ النّظر الْحَرَكَة الأولى) أَي حَرَكَة النَّفس من الْمَطْلُوب إِلَى المبادي، بل هِيَ وَالْحَرَكَة الثَّانِيَة وَهِي حركتها من المبادي إِلَى الْمَطْلُوب، أَشَارَ إِلَى أَن الِانْتِقَال الْمَذْكُور لَيْسَ شَيْئا غير الْحَرَكَة الأولى، وَالنَّظَر لَا يتَحَقَّق بمجرها، وَذَلِكَ أَن الِانْتِقَال من الْمَطْلُوب إِلَى بسيط يلْزمه الْمَطْلُوب حَرَكَة وَاحِدَة، لِأَن الْمَلْزُوم وَاللَّازِم متحدان بِالزَّمَانِ فَلَا يُمكن اعْتِبَار حَرَكَة ثَانِيَة من ذَلِك الْبَسِيط إِلَى الْمَطْلُوب، وَلما كَانَ الْمَفْهُوم من بعض عِبَارَات الْقَوْم أَن الْحَرَكَة الأولى تَسْتَلْزِم الثَّانِيَة، وَكَانَ يتَّجه على ذَلِك أَن يُقَال سلمنَا أَن النّظر مَجْمُوع الحركتين، لَكِن الأولى تَسْتَلْزِم الثَّانِيَة، وَعند تحقق الْمَلْزُوم يتَحَقَّق اللَّازِم لَا محَالة، وَحِينَئِذٍ يتَحَقَّق النّظر، أَشَارَ إِلَى دفع ذَلِك بقوله (إِذْ لَا تَسْتَلْزِم) الْحَرَكَة الأولى الْحَرَكَة (الثَّانِيَة بِخِلَاف الثَّانِيَة) فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِم الأولى (وَلذَا) أَي وَلكَون الثَّانِيَة تَسْتَلْزِم الأولى (وَقع التَّعْرِيف) أَي تَعْرِيف النّظر (بهَا) أَي بالحركة الثَّانِيَة من غير ذكر الأولى مَعهَا كترتيب أُمُور الخ: أَي مَعْلُومَة للتأدي إِلَى مَجْهُول، أَو على وَجه يُؤَدِّي إِلَى استلزام مَا لَيْسَ بِمَعْلُوم، بَيَان ذَلِك أَن النَّفس إِذا تَوَجَّهت من الْمَطْلُوب نَحْو المبادي وتحركت فِي الكيف بِأَن تكيفت بِوَاحِد بعد وَاحِد من الْمعَانِي المخزونة عِنْدهَا إِلَى أَن ظَفرت بمباديه الْمُنَاسبَة انْتهى عِنْد ذَلِك حركتها الأولى، وَعند ذَلِك تبدأ بحركتها الثَّانِيَة فترتب تِلْكَ المبادي بحملها الْأَوْسَط على الْأَصْغَر والأكبر على الْأَوْسَط، وَغير ذَلِك حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى الْمَطْلُوب، وَهَذِه حركتها الثَّانِيَة، وَقد اعْتبر فِيهَا أَن يكون مبدؤها من حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْحَرَكَة الأولى، فَلذَلِك استلزمتها، وَالْأولَى بِمَنْزِلَة الْمَادَّة للفكر، وَالثَّانيَِة بِمَنْزِلَة الصُّورَة لَهُ. وَقد علم بذلك أَنه لَا بُد فِي النّظر من مَجْمُوع الحركتين وَمن التَّرْتِيب الْمَذْكُور، ثمَّ الْكَلَام فِي أَن هَذَا التَّرْتِيب هَل هُوَ عين الْحَرَكَة الثَّانِيَة المستلزمة للأولى، أَو هما متلازمان وَأَن النّظر هَل هُوَ عين الحركتين أَو التَّرْتِيب، فَإِنَّمَا هُوَ نزاع فِي إِطْلَاق اللَّفْظ على مَا حَقَّقَهُ السَّيِّد السَّنَد، وَقد فسر بِكُل مِنْهُمَا وَبِكُل من الحركتين أَيْضا بطرِيق الِاكْتِفَاء بِذكر أحد جزئي الشَّيْء عَنهُ وَالله أعلم (وَقد ظهر) من تَعْرِيف النّظر وَالدَّلِيل (أَن فَسَاد النّظر) بأمرين (بِعَدَمِ الْمُنَاسبَة) بَين المبادي وَالْمَطْلُوب بِحَيْثُ لَا يُفْضِي الْعلم بهَا إِلَى الْعلم بِهِ (وَهُوَ) أَي عدم الْمُنَاسبَة (فَسَاد الْمَادَّة) كَمَا إِذا جعلت مَادَّة حُدُوث الْعَالم بساطته (وَعدم ذَلِك الْوَجْه) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر فِي تَعْرِيف النّظر من قَوْله على وَجه يسْتَلْزم(1/36)
فَإِنَّهُ عبارَة عَن الصُّور كَمَا أَفَادَ بقوله (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْوَجْه (جعل الْمَادَّة) مرتبَة (على حد معِين) من وُجُوه التَّرْتِيب (فِي انتساب بَعْضهَا) أَي الْمَادَّة (إِلَى بعض) كَمَا صورناه فِي تركيب الْحَد الْأَوْسَط مَعَ طرفِي الْمَطْلُوب إِجْمَالا، وتفصيله مَا أَفَادَهُ بقوله (وَذَلِكَ) الْحَد الْمعِين (طرق) أَرْبَعَة (الأول مُلَازمَة بَين مفهومين، ثمَّ نفي اللَّازِم لينتفي الْمَلْزُوم، أَو إِثْبَات الْمَلْزُوم ليثبت اللَّازِم) أَي الأول، خلاصته مُلَازمَة بَين مفهومين هما مَضْمُونا قضيتين الْمُقدم والتالي، ثمَّ نفي اللَّازِم الَّذِي هُوَ التَّالِي لينتج نفي الْمَلْزُوم، أَو إِثْبَات الْمَلْزُوم الَّذِي هُوَ الْمُقدم لينتج ثُبُوت اللَّازِم، فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ مقدمتان شَرْطِيَّة مُتَّصِلَة مُوجبَة لزومية واستثنائية حملية هِيَ عين مقدم الشّرطِيَّة الْمَذْكُورَة، أَو نقيض تَالِيهَا، وَيُقَال لَهُ الْقيَاس الاستثنائي لما فِيهِ من اسْتثِْنَاء عين الْمُقدم أَو نقيض التَّالِي كَمَا عَلَيْهِ الْمُقدم والتالي ونقيضهما فِي صدر الْكَلَام من كَونهَا مَشْكُوك الْوُجُود والعدم وَكَون الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِيهِ مصدرة بأداة الِاسْتِثْنَاء: أَعنِي كلمة لَكِن (أَو نفي الْمَلْزُوم لنفي اللَّازِم فِي الْمُسَاوَاة) يَعْنِي فِيمَا إِذا كَانَ الْمُقدم والتالي متساويين فِي التحقق بِأَن يكون كل مِنْهُمَا لَازِما للْآخر ينْتج نفي الْمُقدم نفي التَّالِي، لِأَن نفي اللَّازِم يسْتَلْزم نفي الْمَلْزُوم، وَكَذَا ينْتج ثُبُوت التَّالِي ثُبُوت الْمُقدم، لِأَن ثُبُوت الْمَلْزُوم يسْتَلْزم ثُبُوت اللَّازِم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو ثُبُوت اللَّازِم لثُبُوت الْمَلْزُوم فِيهِ) أَي التَّسَاوِي (أَيْضا) غير أَن شَارِح الْمُخْتَصر قَالَ: وَلَا يلْزم من اسْتثِْنَاء نقيض الْمُقدم نقيض التَّالِي وَلَا من اسْتثِْنَاء عين التَّالِي عين الْمُقدم لجَوَاز أَن يكون اللَّازِم أَعم، نعم لَو قدر التَّسَاوِي لزم ذَلِك، وَلَكِن لخُصُوص الْمَادَّة لَا لنَفس صُورَة الدَّلِيل، وَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ لملاحظة لُزُوم الْمُقدم للتالي وَهُوَ مُتَّصِل آخر، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله نظر إِلَى أصل الإنتاج وَقطع النّظر عَن نفس صورته كَمَا هُوَ اللَّائِق باعتبارات الْأُصُولِيِّينَ، أَلا ترى أَنه أَدخل قِيَاس الْمُسَاوَاة فِي الدَّلِيل، والمنطقيون أَخْرجُوهُ مِنْهُ (كَانَ) كَانَ هَذَا الْفِعْل وَاجِبا (أَو كلما) كَانَ هَذَا الْفِعْل وَاجِبا (أَو لَو كَانَ) هَذَا الْفِعْل (وَاجِبا فتاركه يسْتَحق الْعقَاب) فَهَذِهِ شَرْطِيَّة كَمَا ذكر (لَكِن لَا يسْتَحق) تَارِك هَذَا الْفِعْل الْعقَاب، فَهَذِهِ الحملية الْمَذْكُورَة مضمونها نفي التَّالِي ينْتج نفي الْمُقدم، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَلَيْسَ) هَذَا الْفِعْل وَاجِبا (أَو وَاجِب) عطف على قَوْله لَا يسْتَحق: أَي لَكِن هَذَا الْفِعْل وَاجِب ينْتج إِثْبَات اللَّازِم أَعنِي (فَيسْتَحق) تَاركه الْعقَاب، وَلما كَانَ الْمِثَال الْمَذْكُور من صور الْمُسَاوَاة، لِأَن كل وَاجِب يستحن تَاركه الْعقَاب، وكل مَا يسْتَحق تَاركه الْعقَاب وَاجِب صور الْوُجُوه الْأَرْبَعَة فِيهِ فَقَالَ (أَو لَيْسَ وَاجِبا) مِثَال لنفي الْمَلْزُوم ينْتج نفي اللَّازِم أَعنِي (فَلَا يسْتَحق تَاركه) غَايَة الْأَمر أَنه لم يُصَرح بِذكر الرَّابِع اعْتِمَادًا على فهم الْمُخَاطب واكتفاء بِالْإِشَارَةِ، وَهُوَ: أَي يسْتَحق فَهُوَ وَاجِب (الطَّرِيق الثَّانِي) الْقيَاس الاستثنائي الْمُنْفَصِل، وَهُوَ أَيْضا(1/37)
مقدمتان أولاهما شَرْطِيَّة مُنْفَصِلَة حَقِيقِيَّة مُوجبَة حاصلها (عناد بَينهمَا) أَي بَين مفهومين على مَا تقدم (فِي الْوُجُود والعدم) مَعًا فهما قضيتان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان، وإحداهما حملية هِيَ عين الْمُقدم أَو التَّالِي فينتج نقيض الآخر أَو نقيض أَحدهمَا فينتج عين الآخر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَفِي وجود أَحدهمَا عدم الآخر وَفِي عَدمه) أَي أَحدهمَا (وجوده) أَي الآخر، لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان (أَو) شَرْطِيَّة مُنْفَصِلَة مَانِعَة الْجمع مُوجبَة حاصلها عناد بَينهمَا (فِي الْوُجُود فَقَط) عطف على قَوْله فِي الْوُجُود والعدم، فهما قضيتان لَا يَجْتَمِعَانِ، ولكنهما قد يرتفعان (فَمَعَ وجود كل) مِنْهُمَا من الجزءين (عدم الآخر) ضَرُورَة عدم اجْتِمَاعهمَا (وَعَدَمه) أَي عدم كل مِنْهُمَا (عقيم) أَي غير منتج لوُجُود الآخر لجَوَاز ارتفاعهما مَعًا، مِثَال العناد فِي الْوُجُود فَقَط (الْوتر إِمَّا وَاجِب أَو مَنْدُوب، لكنه وَاجِب لِلْأَمْرِ الْمُجَرّد) عَن الْقَرَائِن الصارفة عَن الْوُجُوب (بِهِ) أَي بالوتر (فَلَيْسَ مَنْدُوبًا) وَلَو قيل لكنه مَنْدُوب أنتج فَلَيْسَ وَاجِبا، لكنه لَو قيل: لكنه لَيْسَ بِوَاجِب، أَو لَيْسَ بمندوب لم ينْتج لجَوَاز أَن لَا يكون وَاجِبا وَلَا مَنْدُوبًا (أَو) مُنْفَصِلَة حاصلها عناد بَينهمَا (فِي الْعَدَم) فَقَط فالمنفصلة حِينَئِذٍ مَانِعَة الْخُلُو (فَقلب الْمِثَال وَحكمه) أَي فمثاله قلب الْمِثَال الْمَذْكُور وقلب حكمه: يَعْنِي الْوتر إِمَّا لَا وَاجِب وَإِمَّا لَا مَنْدُوب، لِأَنَّهُ لَا يُمكن ارتفاعهما، إِذْ ارْتِفَاع لَا مَنْدُوب يَقْتَضِي وجود مَنْدُوب، فَلَو ارْتَفع مَعَ ذَلِك لَا وَاجِب لزم تحقق وَاجِب فَيلْزم أَن يكون ذَلِك الشَّيْء وَاجِبا ومندوبا، وَهَذَا خلف، وَإِذا ثَبت أَنَّهُمَا لَا يرتفعان مَعًا فمهما فرض ارْتِفَاع أَحدهمَا لزم وجود الآخر، وَإِلَّا يلْزم ارتفاعهما مَعًا (الطَّرِيق الثَّالِث) الْقيَاس الاقتراني وَهُوَ (انتساب الْمُنَاسب) للمطلوب (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب (الْوسط) أَي الْحَد الْأَوْسَط (لكل) اللَّام صلَة للانتساب: أَي لكل وَاحِد (من طرفِي الْمَطْلُوب) الْمَوْضُوع والمحمول (بِالْوَضْعِ والحل) بَيَان للانتساب أَي بِأَن يكون مَوْضُوعا لكل مِنْهُمَا، أَو مَحْمُولا لكل مِنْهُمَا أَو مَوْضُوعا لأَحَدهمَا مَحْمُولا للْآخر على مَا سنبين، وَذَلِكَ لِأَن النِّسْبَة بَين طَرفَيْهِ لما كَانَت مَجْهُولَة نظرية احْتِيجَ إِلَى أَمر ثَالِث مَعْلُوم النِّسْبَة إِلَى كل مِنْهُمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْعلم بهَا (فَيلْزم) فِي تحقق انتسابه لَهما (جملتان خبريتان) تشْتَمل إِحْدَاهمَا على مَوْضُوع الْمَطْلُوب وَالْوسط، وَالْأُخْرَى على محموله مَعَه، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وهما) أَي الجملتان (المقدمتان) اللَّتَان هما جزآ الْقيَاس المركبان فِي الْحَقِيقَة (من) حُدُود (ثَلَاثَة) طرفِي الْمَطْلُوب، وَالْحَد الْأَوْسَط ينْفَرد كل مِنْهُمَا بِأحد طَرفَيْهِ، ويشتركان فِي الْأَوْسَط، وَإِنَّمَا لم يعْتَبر الْأَوْسَط اثْنَيْنِ مَعَ أَنه فِي الصُّورَة كَذَلِك (لتكرر الْوسط) والمكرر شَيْء وَاحِد فِي الْمَعْنى (وَيُسمى الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوب) حدا (أَصْغَر) لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَب أخص من الْمَحْمُول، والأخص أقل أفرادا، فَيكون(1/38)
أَصْغَر (وَبِه فِيهِ) أَي وَيُسمى الْمَحْكُوم بِهِ فِي الْمَطْلُوب حدا (أكبر) لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَب أَعم (والمشترك) المكرر بَين الْأَصْغَر والأكبر حدا (أَوسط) لتوسطه بَينهمَا (وباعتبارهما) أَي الْأَصْغَر والأكبر يُسمى (المقدمتان) صغرى وكبرى لاشتمالهما عَلَيْهِمَا (وَيتَصَوَّر) على صِيغَة الْمَجْهُول الانتساب الْمَذْكُور (بِأَرْبَع صور لِأَن المتكرر) أما (مَحْمُول فِي الصُّغْرَى مَوْضُوع فِي الْكُبْرَى، أَو عَكسه، أَو مَوْضُوع فيهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى (أَو مَحْمُول) فيهمَا (وكل صُورَة) من الصُّور الْأَرْبَع (تسمى شكلا) فَالْأولى تسمى الشكل الأول، وَالثَّانيَِة الشكل الرَّابِع، وَالثَّالِثَة الشكل الثَّالِث، وَالرَّابِعَة الشكل الثَّانِي، كَمَا سنبين (وقطعية اللَّازِم) أَي لَازم الأشكال يَعْنِي: النتيجة (بقطعيتهما) أَي الصُّغْرَى والكبرى، لِأَن لَازم الْقطعِي قَطْعِيّ إِذا كَانَ الاستلزام قَطْعِيا، كَمَا فِي الأشكال الْأَرْبَعَة (وَهُوَ) أَي الْقيَاس الْقطعِي اللَّازِم لقطعيتهما (الْبُرْهَان) وَإِنَّمَا سمي بِهِ لوضوح دلَالَته، أخذا من برهَان الشَّمْس، وَهُوَ الشعاع الَّذِي يَلِي وَجههَا (وظنيته) أَي اللَّازِم (بظنية إِحْدَاهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى (وَهُوَ) أَي الْقيَاس الظني اللَّازِم (الأمارة) غير أَن الإنتاج قَطْعِيّ سَوَاء كَانَ اللَّازِم والملزوم قطعيين أَو ظنيين (الشكل الأول) يتَحَقَّق (بِحمْلِهِ) أَي الْوسط (فِي الصُّغْرَى وَوَضعه فِي الْكُبْرَى شَرط استلزامه) أَي هَذَا الشكل للمطلوب من حَيْثُ الكيف (إِيجَاب صغراه) ليندرج الْأَصْغَر تَحت الْأَوْسَط ليثبت لَهُ الْأَكْبَر أَو يَنْفِي عَنهُ فِي الْكُبْرَى عِنْد إثْبَاته للأوسط أَو نَفْيه عَنهُ، وَهَذَا الشَّرْط مُعْتَبر فِي جَمِيع صوره (إِلَّا فِي) صُورَة (مُسَاوَاة طرفِي الْكُبْرَى) موضوعها، وَهُوَ الْأَوْسَط ومحمولها وَهُوَ الْأَكْبَر فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ ينْتج، وَإِن كَانَت صغراه سالبة، لَكِن بِشَرْط أَن تكون الْكُبْرَى مُوجبَة، وَذَلِكَ لِأَن أحد المتساويين إِذا سلب عَن شَيْء سلبا كليا أَو جزئيا لزم سلب الآخر كَذَلِك، وَإِلَّا لزم تحقق أَحدهمَا بِدُونِ الآخر، وَلم يذكر الشَّرْط اكْتِفَاء بِمَا سَيَأْتِي من قَوْله وَقَلبه فِي التَّسَاوِي، وَظُهُور عدم إنتاج السالبتين نَحْو لَا شَيْء من الْإِنْسَان بفرس وَلَا شَيْء من الْفرس بناطق (و) شَرطه من حَيْثُ الْكمّ (كُلية الْكُبْرَى) ليعلم اندراج الْأَصْغَر تَحت حكمهَا تَحْقِيقا، فَإِن قَوْلنَا الْإِنْسَان حَيَوَان، وَبَعض الْحَيَوَان فرس غير منتج (فَيحصل) بِاشْتِرَاط الْأَمريْنِ (ضروب) أَرْبَعَة فِي غير صُورَة الْمُسَاوَاة، وَبهَا سِتَّة، الأول (كليتان موجبتان) فينتج مُوجبَة كُلية نَحْو (كل جص مَكِيل، وكل مَكِيل رِبَوِيّ، فَكل جص رِبَوِيّ و) الثَّانِي مَا كَانَ (بكيفيته) أَي الضَّرْب الأول، وهما إِيجَاب الصُّغْرَى والكبرى (وَالصُّغْرَى جزئية) نَحْو (بعض الْوضُوء منوي، وكل منوي عبَادَة، فبعض الْوضُوء عبَادَة، و) الثَّالِث (كليتان الأولى مُوجبَة) وَالثَّانيَِة سالبة والنتيجة سالبة كُلية نَحْو (كل وضوء(1/39)
مَقْصُود لغيره) وَهُوَ فعل مَا لَا يَصح بِدُونِهِ (وَلَا مَقْصُود لغيره يشْتَرط فِيهِ نِيَّة فَلَا وضوء يشْتَرط فِيهِ نِيَّة و) الْخَامِس وَالسَّادِس (قلبه) أَي الثَّالِث من حَيْثُ الكيف بِأَن تكون الصُّغْرَى سالبة كُلية أَو جزئية كَمَا عرفت، والكبرى مُوجبَة (فِي التَّسَاوِي فَقَط) نَحْو (لَا شَيْء من الْإِنْسَان بصهال، وكل صهال فرس) فَلَا شَيْء من الْإِنْسَان بفرس (وَلَو قلت بدل فرس (حَيَوَان لم يَصح) لعدم الإنتاج لجَوَاز أَن يكون الأخض مسلوبا عَن شَيْء مَعَ ثُبُوت الْأَعَمّ لَهُ (و) الرَّابِع مَا كَانَ (بكيفيتي مَا قبله) أَي قبل الْقلب، وهما إِيجَاب الصُّغْرَى وسلب الْكُبْرَى (وَالْأولَى جزئية) فتركيبه من مُوجبَة جزئية وسالبة كُلية، والنتيجة سالبة جزئية نَحْو بعض الْأَبْيَض حَيَوَان، وَلَا شَيْء من الْحَيَوَان بِحجر فبعض الْأَبْيَض لَيْسَ بِحجر (وإنتاج) الضروب المنتجة فِي (هَذَا) الشكل (ضَرُورِيّ) بَين بِنَفسِهِ لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل (وباقيها) أَي وإنتاج بَاقِي الْإِشْكَال الْأَرْبَعَة (نَظَرِي) يحْتَاج إِلَيْهِ (فَيرد) أَي الْبَاقِي عِنْد بَيَان إنتاجه (إِلَى الضَّرُورِيّ) أَي إِلَى الشكل الأول الضَّرُورِيّ إنتاجه، وَاللَّام للْعهد، وَسَيَأْتِي كَيْفيَّة الرَّد، وَفِيه إِشَارَة إِلَى انحصار الضَّرُورِيّ فِيهِ (الشكل الثَّانِي) يحصل (بِحمْلِهِ) أَي الْوسط (فيهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى على الْأَصْغَر والأكبر (شَرطه) أَي شَرط استلزامه الْمَطْلُوب بِحَسب الكيف (اخْتِلَافهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى (كيفا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الِاخْتِلَاف إِلَيْهِمَا كَأَن تكون إِحْدَاهمَا مُوجبَة وَالْأُخْرَى سالبة (و) بِحَسب الْكمّ (كُلية كبراه فَلَا ينْتج) هَذَا الشكل (إِلَّا سلبا والنتيجة تَتَضَمَّن أبدا) أَي دَائِما (مَا فيهمَا) أَي المقدمتين (من خسة) بَيَان للموصول (سلب وجزئية) بدل من الخسة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَشْرَف الْإِيجَاب الْكُلِّي (ضروبه) المنتجة بِحَسب الشَّرْطَيْنِ أَرْبَعَة، الأول (كليتان الأولى مُوجبَة) وَالثَّانيَِة سالبة فينتج سالبة كُلية نَحْو (السّلم) أَي بيع السّلم (رخصَة للمفاليس وَلَا حَال) أَي بيع الْحَال الَّذِي يجب تَسْلِيمه فِي الْحَال (بِرُخْصَة للمفاليس فَلَا سلم حَال، رده) أَي رد هَذَا الضَّرْب إِلَى الشكل الأول (بعكس الثَّانِيَة) أَي الْكُبْرَى عكسا مستويا بِأَن يُقَال وَلَا رخصَة لَهُم بِحَال (والسالبة تنعكس) إِلَى سالبة كميتها (ككميتها) فالسالبة الْكُلية إِلَى السالبة الْكُلية والجزئية إِلَى الْجُزْئِيَّة (بالاستقامة) أَي بالاستواء أَو من غير تخلف، فَإِن الضَّابِط إِذا تخلف خرج عَن الاسْتقَامَة (والموجبة الْكُلية) تنعكس مستويا مُوجبَة (جزئية إِلَّا فِي) صُورَة (مُسَاوَاة طرفيها) فَإِنَّهَا تنعكس حِينَئِذٍ كُلية فَكل إِنْسَان حَيَوَان ينعكس إِلَى بعض الْحَيَوَان إِنْسَان، وكل إِنْسَان نَاطِق ينعكس إِلَى كل نَاطِق إِنْسَان وَالِاسْتِثْنَاء هَهُنَا، وَفِيمَا تقدم من زَوَائِد المُصَنّف على المنطقيين (و) الضَّرْب الثَّانِي (قلبه) أَي الضَّرْب الأول كليتان سالبة صغرى وموجبة كبرى(1/40)
فينتج سالبة كُلية نَحْو لَا شَيْء من الْحَال بِرُخْصَة، وكل سلم رخصَة فَلَا شَيْء من الْحَال بسلم (ورده) إِلَى الشكل الأول (بعكس الصُّغْرَى) وَهُوَ لَا شَيْء من الرُّخْصَة بِحَال (وَجعلهَا) أَي الصُّغْرَى (كبرى) والكبرى صغرى، فَيصير كل سلم رخصَة، وَلَا شَيْء من الرُّخْصَة بِحَال فينتج لَا شَيْء من السّلم بِحَال (ثمَّ عكس النتيجة) وَهُوَ عين الْمَطْلُوب (و) الضَّرْب الثَّالِث (كَالْأولِ إِلَّا أَن الأولى جزئية) نَحْو (بعض الْوضُوء غير منوي، وَلَا عبَادَة غير منوي فبعض الْوضُوء لَيْسَ عبَادَة) ، و (رده) إِلَى الشكل الأول (كَالْأولِ) أَي كرد الضَّرْب الأول من هَذَا الشكل فَهُوَ بعكس الْكُبْرَى، فَتَقول بعض الْوضُوء غير منوي وَلَا غير منوي بِعبَادة فينتج الْمَذْكُور (و) الضَّرْب الرَّابِع (كالثاني) أَي كالضرب الثَّانِي من هَذَا الشكل (إِلَّا أَن أولاه) أَي أولى هَذَا (جزئية) وَأولى الثَّانِي كُلية، فَهُوَ صغرى سالبة جزئية وكبرى مُوجبَة كُلية ينْتج سالبة جزئية نَحْو (بعض الْغَائِب لَيْسَ بِمَعْلُوم وكل مَا يَصح بَيْعه مَعْلُوم، فبعض الْغَائِب لَا يَصح بَيْعه، رده بعكس الثَّانِيَة بعكس النقيض) وَهُوَ عِنْد قدماء المنطقيين جعل نقيض الْجُزْء الثَّانِي أَولا، ونقيض الأول ثَانِيًا مَعَ بَقَاء الكيف والصدق بحالهما، وَعند متأخريهم، وَعين الْجُزْء الأول ثَانِيًا مَعَ الْمُخَالفَة فِي الكيف، فعلى الأول تَقول كل مَا لَيْسَ بِمَعْلُوم مَا لَا يَصح بَيْعه، وعَلى الثَّانِي لَا شَيْء مِمَّا لَيْسَ بِمَعْلُوم يَصح بَيْعه (وبالخلف) أَي بِالْقِيَاسِ الْخلف عطف على قَوْله بعكس الثَّانِيَة (فِي كل ضروبه جعل نقيض الْمَطْلُوب) تَفْسِير للخلف وَبدل مِنْهُ (وَهُوَ) أَي نقيض الْمَطْلُوب (الْمُوجبَة الْكُلية هُنَا) أَي فِي هَذَا الضَّرْب الرَّابِع من الشكل الثَّانِي، لِأَن الْمَطْلُوب فِيهِ سالبة جزئية (صغرى) الشكل (الأول وتضم الْكُبْرَى) من ضروبه مَعَ الصُّغْرَى (إِلَيْهَا يسْتَلْزم) هَذَا الصَّنِيع (بِالآخِرَة كذب نقيض الْمَطْلُوب، فالمطلوب حق) تَصْوِيره فِي الْمِثَال الْمَذْكُور كل غَائِب يَصح بَيْعه، وكل مَا يَصح بَيْعه مَعْلُوم، ينْتج كل غَائِب مَعْلُوم، وَهَذَا يُنَاقض مَا هُوَ صَادِق: أَعنِي صغرى الضَّرْب الْمَذْكُور، وَهُوَ بعض الْغَائِب لَيْسَ بِمَعْلُوم، ونقيض الصَّادِق لَا يكون صَادِقا، فقد علمت أَن الصَّنِيع الْمَذْكُور يسْتَلْزم نقيض الصُّغْرَى الصادقة، وعندك مُقَدّمَة مقررة، وَهِي أَن مَا يسْتَلْزم نقيض الصادقة كَاذِب فيتهيأ لَك بِضَم هَذِه مَعَ تِلْكَ برهَان على كذب نقيض الْمَطْلُوب، وَلِهَذَا قَالَ يسْتَلْزم بِالآخِرَة وَقس عَلَيْهِ الضروب الْمَاضِيَة، وَإِنَّمَا سمي خلفا لاستلزامه بَاطِلا كَمَا عرفت، وَقيل لِأَنَّهُ يَأْتِي الْمَطْلُوب لَا على سَبِيل الاسْتقَامَة بل من خَلفه (الشكل الثَّالِث) يحصل (بِوَضْعِهِ) أَي بِوَضْع الْوسط (فيهمَا) أَي فِي صغراه وكبراه (شَرطه) بِحَسب الكيف (إِيجَاب صغراه و) بِحَسب الْكمّ (كُلية إِحْدَاهمَا) الصُّغْرَى أَو الْكُبْرَى (ضروبه) المنتجة سِتَّة: الأول (كليتان موجبتان) والنتيجة(1/41)
مُوجبَة جزئية نَحْو (كل بر مَكِيل وكل بر رِبَوِيّ فبعض الْمكيل رِبَوِيّ) وَإِنَّمَا ينْتج بَريَّة (لِأَن رده بعكس الأولى) عكسا مستويا، والموجبة الْكُلية تنعكس إِلَى الْجُزْئِيَّة والنتيجة تتبع أخس المقدمتين (فَلَو كَانَت) الأولى من هَذَا الضَّرْب (مُتَسَاوِيَة الجزءين أنتج كليا) لِأَن عكس الْمُوجبَة الْكُلية مُوجبَة كُلية كَمَا مر (و) الضَّرْب الثَّانِي مِنْهُ (مثله) أَي مثل الضَّرْب الأول مِنْهُ فِي الكيف والكم (إِلَّا أَن الأولى جزئية) فَهُوَ مُوجبَة جزئية صغرى وموجبة كُلية كبرى (ينْتج مثله) أَي مثل الضَّرْب الأول مُوجبَة جزئية نَحْو بعض الْمكيل بر وكل مَكِيل رِبَوِيّ، فبعض الْبر رِبَوِيّ (وَيرد) إِلَى الشكل الأول (بعكس الصُّغْرَى) وَهُوَ ظَاهر (و) الضَّرْب الثَّالِث مِنْهُ (عكس) الضَّرْب (الثَّانِي) مِنْهُ، فَهُوَ مُوجبَة كُلية صغرى وموجبة جزئية كبرى (ينْتج كَالْأولِ) أَي كالضرب الأول مِنْهُ مُوجبَة جزئية (ورده) إِلَى الشكل الأول (بِجعْل عكس الْكُبْرَى صغرى) لعدم صلاحيتها لِأَن تكون كبرى الشكل الأول لجزئيتها وَتجْعَل عين الصُّغْرَى كبرى تَقول فِيمَا إِذا كَانَ الْمُدَّعِي بعض الْمكيل رِبَوِيّ بعض الرِّبَوِيّ بر وكل بر مَكِيل، فبعض الرِّبَوِيّ مَكِيل (وَعكس النتيجة) اللَّازِمَة ليصير بعض الْمكيل رِبَوِيّ (فَلَو) كَانَت (الصُّغْرَى مُتَسَاوِيَة) أَي مُتَسَاوِيَة الجزءين (عكست) فَإِن الْمُوجبَة الْكُلية تنعكس حِينَئِذٍ كنفسها كَمَا مر غير مرّة (وَعكس النتيجة) ذكر بعض من قَرَأَ الْكتاب على المُصَنّف رَحمَه الله فِي شَرحه عَلَيْهِ أَن المُصَنّف رَحمَه الله زَاد قَوْله فَلَو الصُّغْرَى إِلَى آخِره بِالآخِرَة، وَفَسرهُ بِمَا حَاصله أَن عدم عكس الصُّغْرَى هَهُنَا لِأَنَّهَا تنعكس جزئية وَلَا يصلح الشكل الأول من الجزئيتين وَالصُّغْرَى المتساوية الجزءين تنعكس كُلية، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَة إِلَى عكس النتيجة انْتهى، ثمَّ ذكر أَن هَذِه الزِّيَادَة غير مُسْتَقِيمَة عِنْده وَحملهَا على الذهول والغفلة إِذْ لَا يحصل الشكل الأول بعكس الصُّغْرَى هُنَا أصلا، لِأَنَّهَا إِن جعلت صغرى كَأَصْلِهَا فَاتَ كُلية الْكُبْرَى. وَإِن جعلت كبرى فإمَّا أَن يَجْعَل عين الْكُبْرَى صغرى أَو عكسها، فعلى الأول كَانَ الْأَوْسَط مَوْضُوعا فِي الصُّغْرَى مَحْمُولا فِي الْكُبْرَى، وعَلى الثَّانِي مَحْمُولا فيهمَا، هَذَا ملخص كَلَامه وَاعْلَم هداك الله لفهم الإشارات الْخفية فِي الْعبارَات الْعلية أَن مُسَاوَاة طرفِي صغرى الشكل الأول تسْقط اشْتِرَاط الْكُلية فِي كبراه كَمَا أَن مُسَاوَاة طرفِي كبراه تسْقط اشْتِرَاط الْإِيجَاب فِي صغراه، فَكَمَا أَن نفي أحد المتساويين وَهُوَ الْأَوْسَط عَن الْأَصْغَر يسْتَلْزم نفي الآخر، وَهُوَ الْأَكْبَر عَنهُ، وَإِلَّا لم يبْق بَينهمَا مُسَاوَاة، فَكَذَلِك إِثْبَات أحد المتساويين وَهُوَ الْأَوْسَط لشَيْء، وَهُوَ الْأَصْغَر هُنَا يسْتَلْزم إِثْبَات الآخر وَهُوَ الْأَكْبَر لَهُ، وَإِلَّا لزم وجود أحد المتساويين بِدُونِ الآخر، وكما أَن الإنتاج فِي صُورَة الْمُسَاوَاة مَعَ عدم كُلية الْكُبْرَى(1/42)
لَيْسَ لصورة الشكل، بل لخصوصية الْمَادَّة وَوُجُود الْمُسَاوَاة كَذَلِك فِيهَا مَعَ عدم إِيجَاب الصُّغْرَى غير أَن المُصَنّف رَحمَه الله صرح فِي صُورَة مُسَاوَاة طرفِي الْكُبْرَى بِعَدَمِ اشْتِرَاط إِيجَاب الصُّغْرَى وَاكْتفى هُنَا بِالْإِشَارَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ شَأْن هَذَا الْكتاب ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله وَعكس النتيجة هَهُنَا غير مَحْمُول على مَا حمل عَلَيْهِ أَولا، بل المُرَاد بِهِ أَن النتيجة الْحَاصِلَة حِينَئِذٍ على عكس النتيجة الْحَاصِلَة على تَقْدِير جعل عكس الْكُبْرَى صغرى وَعين الصُّغْرَى كبرى، فَلَا حَاجَة إِلَى أَن تعكس، وَفَائِدَة عكس الصُّغْرَى كُلية صيرورة الْوسط مَحْمُولا فِيهَا وَظُهُور الْمُسَاوَاة بَين طرفيها بملاحظة الأَصْل وَالْعَكْس (و) الضَّرْب الرَّابِع مِنْهُ (كليتان الثَّانِيَة سالبة) وَالْأولَى مُوجبَة نَحْو (كل بر مَكِيل وكل بر لَا يجوز بَيْعه بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا فبعض الْمكيل لَا يجوز بَيْعه بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، ينْتج) هَذَا الضَّرْب (كَالْأولِ) أَي كالضرب الأول مِنْهُ (فِي) صُورَة (الْمُسَاوَاة) أَي مُسَاوَاة جزئي الصُّغْرَى، فالنتيجة هَهُنَا سالبة كُلية، نَحْو كل فرس صهال، وَلَا شَيْء من الْفرس بانسان فَلَا شَيْء من الصهال بانسان (و) فِي صُورَة (الأعمية) أَي فِيمَا إِذا كَانَ مَحْمُول الصُّغْرَى أَعم من موضوعها، فالنتيجة حِينَئِذٍ سالبة جزئية (وَيرد) إِلَى الشكل الأول (بعكس الصُّغْرَى) كَمَا فِي الضَّرْب الأول (و) الضَّرْب الْخَامِس مِنْهُ (كالرابع إِلَّا أَن أولاه جزئية) فَهُوَ جزئية مُوجبَة صغرى وكلية سالبة كبرى (ينْتج سلبا جزئيا) نَحْو بعض الْمَوْزُون رِبَوِيّ وَلَا شَيْء من الْمَوْزُون يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، فبعض الرِّبَوِيّ لَا يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا (وَيرد) إِلَى الشكل الأول بعكس الصُّغْرَى (مثله) أَي الرَّابِع فِي صُورَة الأعمية، فَيُقَال فِي الْمِثَال الْمَذْكُور بعض الرِّبَوِيّ مَوْزُون الخ (و) الضَّرْب السَّادِس (قلبه) أَي الضَّرْب الْخَامِس (كمية) لَا كَيْفيَّة فَهُوَ مُوجبَة كُلية صغرى وسالبة جزئية كبرى (ينْتج مثله) أَي الْخَامِس سلبا جزئيا نَحْو (كل بر مَكِيل وَبَعض الْبر لَا يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا، فبعض الْمكيل لَا يُبَاع إِلَى آخِره) أَي بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا (ورده بِاعْتِبَار الْكُبْرَى مُوجبَة سالبة الْمَحْمُول) أَي رده إِلَى الشكل الأول بِأَن يعْتَبر كبراه السالبة الْجُزْئِيَّة مُوجبَة سالبة الْمَحْمُول بِجعْل السَّلب الْوَارِد على النِّسْبَة الإيجابية جُزْءا للمحمول، ثمَّ إِثْبَات ذَلِك السَّلب للموضوع (وَهِي) أَي الْمُوجبَة الْمَذْكُورَة (لَازِمَة للسالبة) البسيطة كَمَا أَن السالبة البسيطة لَازِمَة لَهَا، وَمن ثمَّ لَا تَقْتَضِي وجود الْمَوْضُوع، بِخِلَاف المعدولة، فَإِنَّهَا تَقْتَضِيه كَمَا بَين فِي مَوْضِعه، ولصيرورتها مُوجبَة تنعكس مَعَ كَونهَا جزئية (وبجعل عكسها صغرى) للشكل الأول، فَهُوَ إِذن مُوجبَة سالبة الْمَوْضُوع صغرى، وموجبة كُلية كبرى كَانَت فِي الأَصْل صغرى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لكل بر مَكِيل فينتج مَا ينعكس إِلَى الْمَطْلُوب) وَهُوَ مَا لَا يُبَاع بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا مَكِيل ينعكس إِلَى بعض الْمكيل لَا يُبَاع إِلَى آخِره (وَيبين هَذَا) الضَّرْب(1/43)
(وَمَا قبله) من الضروب الْخَمْسَة (بالخلف) أَيْضا، وَقد مر بَيَانه فِي الشكل الثَّانِي (إِلَّا أَنَّك تجْعَل نقيض الْمَطْلُوب كبرى) لصغرى الشكل الأول هُنَا، وَقد جعلته صغرى لكبراه هُنَاكَ فَتَقول لَو لم يصدق بعض الْمكيل لَا يُبَاع إِلَى آخِره لصدق كل مَكِيل يُبَاع إِلَى آخِره فَيجْعَل كبرى للصغرى الْمَذْكُورَة، وَهِي كل بر مَكِيل، فَيصير كل بر مَكِيل وكل مَكِيل يُبَاع إِلَى آخِره فينتج كل بر يُبَاع إِلَى آخِره، وَهَذَا يُنَاقض كبرى الأَصْل الْمَفْرُوض صدقهَا: أَي بعض الْبر لَا يُبَاع إِلَى آخِره فَيتَعَيَّن كذب نقيض الْمَطْلُوب فَيثبت (الشكل الرَّابِع خَالف) الشكل (الأول فيهمَا) أَي الصُّغْرَى والكبرى، فالأسوط مَوْضُوع فِي الصُّغْرَى مَحْمُول فِي الْكُبْرَى (فَرده) إِلَى الأول (بعكسهما) أَي الصُّغْرَى والكبرى مستويا ويبقيان على حَالهمَا من التَّرْتِيب (أَو قلبهما) بِتَقْدِيم الْكُبْرَى على الصُّغْرَى (فَإِذا كَانَت صغراه) أَي الرَّابِع (مُوجبَة كُلية أنتج مَعَ السالبة الْكُلية) الَّتِي هِيَ كبراه سالبة جزئية، لِأَن صغراه تنعكس إِلَى مُوجبَة جزئية، والنتيجة تتبع الأخس من الْجُزْئِيَّة وَالسَّلب كَمَا عرفت (برده) إِلَى الشكل الأول (بعكس المقدمتين فَقَط) أَي لَا مَعَ الْقلب أَيْضا (لعدم السَّلب فِي صغرى) الشكل (الأول) وَهُوَ لَازم للقلب (و) أنتج صغراه الْمُوجبَة الْكُلية (مَعَ الموجبتين) الْكُلية والجزئية كبريين مُوجبَة جزئية برده (بقلبهما) أَي المقدمتين (ثمَّ عكس النتيجة لَا بعكسهما لبُطْلَان) تركيب الْقيَاس من (الجزئيتين فَسَقَطت السالبة الْجُزْئِيَّة) فِي هَذَا الشكل لعدم صلاحيتها أَن تكون صغرى أَو كبرى (لانْتِفَاء) الإنتاج بِأحد (الطَّرِيقَيْنِ) الْعَكْس وَالْقلب (مَعهَا) أَي السالبة الْجُزْئِيَّة فِي هَذَا الشكل إِن كَانَت إِحْدَى مقدمتيه فَإِنَّهَا إِن كَانَت صغرى لَا تنعكس وَلَا تصلح لِأَن تكون كبرى لجزئيتها فَامْتنعَ الْقلب أَيْضا، وَإِن كَانَت كبرى لَا يَصح إبقاؤها لما ذكر، وَلَا جعلهَا صغرى لكَونهَا سالبة (وَلَو تَسَاويا) أَي الطرفان (فِي الْكُبْرَى الْمُوجبَة الْكُلية صَحَّ) رد هَذَا الضَّرْب إِلَى الشكل الأول (بعكسهما) أَي الصُّغْرَى والكبرى لانْتِفَاء الْمَانِع، وَهُوَ جزئية الْكُبْرَى، فَإِن الْمُوجبَة الْكُلية عِنْد مُسَاوَاة طرفيها تنعكس كُلية، فالنتيجة حِينَئِذٍ كُلية إِن تَسَاويا فِي الصُّغْرَى أَيْضا وَإِلَّا فموجبة جزئيه (وَإِذا كَانَت الصُّغْرَى) فِي هَذَا الشكل (مُوجبَة جزئية فَيجب كَون الْأُخْرَى السالبة الْكُلية) لسُقُوط السالبة الْجُزْئِيَّة لما مر، وانعكاس الموجبتين جزئية فَلَا يصلحان لِأَن يَكُونَا كبريين بعد الْعَكْس، وَلَو جعلا صغريين بطرِيق الْقلب لزم حِينَئِذٍ أَن يَجْعَل الْمُوجبَة الْجُزْئِيَّة كبرى (وعَلى التَّسَاوِي) أَي تَسَاوِي طرفِي الْكُبْرَى (تجوزا الْمُوجبَة الْكُلية) أَن تكون كبرى لانْتِفَاء الْمَانِع بانعكاسها كُلية (أَو) كَانَت الصُّغْرَى فِي هَذَا الشكل (السالبة الْكُلية فَيجب) حِينَئِذٍ(1/44)
أَن تكون (الْكُبْرَى كُلية مُوجبَة لِامْتِنَاع خلاف ذَلِك) أما الْمُوجبَة الْجُزْئِيَّة فَلِأَنَّهَا لَو عكست وعكست الأولى لزم كَون الْكُبْرَى جزئية فِي الشكل الأول وَلَو قلبت لم يكن بُد من قلب النتيجة، والسالبة الْجُزْئِيَّة لَا تنعكس، وَأما السالبة الْكُلية أَو الْجُزْئِيَّة فَلِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ تركب الْقيَاس من سابتين وهما غير منتجان كَمَا مر، فَحِينَئِذٍ (ضروبه) المنتجة خَمْسَة الأول (كليتان موجبتان) تنْتج مُوجبَة جزئية نَحْو (كل مَا يلْزم عبَادَة مفتقر إِلَى النِّيَّة وكل تيَمّم يلْزم عبَادَة لَازمه كل تيَمّم مفتقر إِلَى النِّيَّة بقلب المقدمتين) فَتَقول كل تيَمّم يلْزم عبَادَة وكل مَا يلْزم عبَادَة مفتقر إِلَى النِّيَّة فينتج اللَّازِم الْمَذْكُور ثمَّ يعكس إِلَى الْمَطْلُوب) جزئيا (وَهُوَ بعض المفتقر) إِلَى النِّيَّة (تيَمّم فَإِن قلت مَا السَّبَب) فِي اعْتِبَار هَذِه الْجُزْئِيَّة مَطْلُوبا للضرب الْمَذْكُور دون الْكُلية الَّتِي ينعكس إِلَيْهَا (وكل) وَاحِد (من لُزُوم الْكُلية) الْمَذْكُورَة للضرب الْمَذْكُور لُزُوما بَينا (و) من (مَعْنَاهَا) أَي الْكُلية الْمَذْكُورَة من حَيْثُ كليتها (صَحِيح) وَالْأول يدل على صِحَة الْقيَاس من حَيْثُ الصُّورَة. وَالثَّانِي على صِحَّته من حَيْثُ الْمَادَّة (قيل) فِي الْجَواب إِنَّمَا اعْتبرت دون الْكُلية (لفرض كَون الصُّغْرَى مُطلقًا) : أَي لِأَن الْمَفْرُوض فِي الْقيَاس الاقتراني كَون الصُّغْرَى مُطلقًا فِي أَي شكل كَانَت (مَا اشْتَمَل) أَي قَضِيَّة اشْتَمَلت (على مَوْضُوع الْمَطْلُوب والكبرى) مُطلقًا مَا اشْتَمَل على (محموله فَإِذا زعمت أَن الِاسْتِدْلَال) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور مثلا على أَن بعض المفتقر إِلَى النِّيَّة تيَمّم (بالرابع) أَي بالشكل الرَّابِع (كَانَ المفتقر مَوْضُوعه) أَي الْمَطْلُوب (وَالتَّيَمُّم محموله) حَتَّى إِذا قلبنا أنتج بالشكل الأول مَا ينعكس إِلَى الْمَطْلُوب على مَا بَين فِي بَيَان رده إِلَى الأول، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْحَاصِل) من الشكل الرَّابِع بعد الصَّنِيع الْمَذْكُور (عِنْد) قصد (الرَّد) إِلَى الشكل الأول (عَكسه) أَي الْمَطْلُوب (فينعكس) الْحَاصِل من الضَّرْب الْمَذْكُور (جزئيا) لِأَنَّهُ مُوجبَة كُلية، وَقد عرفت أَنَّهَا تنعكس مُوجبَة جزئية (وَلَو تَسَاويا) أَي الطرفان فِي الْحَاصِل الْمَذْكُور (كَانَ) عَكسه (كليا) كَمَا مر غير مرّة، الضَّرْب (الثَّانِي مثله) أَي الضَّرْب الأول (إِلَّا أَن) الْمُقدمَة (الثَّانِيَة جزئية) نَحْو (كل عبَادَة بنية وَبَعض الْوضُوء عبَادَة) فبعض مَا هُوَ بنية وضوء (وَالرَّدّ وَاللَّازِم كَالْأولِ) غير أَن الْحَاصِل هَهُنَا مُوجبَة جزئية، تَقول بعض الْوضُوء عبَادَة، وكل عبَادَة بنية، فبعض الْوضُوء بنية وينعكس إِلَى بعض مَا هُوَ بنية وضوء، الضَّرْب (الثَّالِث كليتان، الأولى سالبة) وَالثَّانيَِة مُوجبَة نَحْو (كل عبَادَة لَا تستغنى عَن النِّيَّة، وكل مَنْدُوب عبَادَة ينْتج سالبة كُلية لَا مُسْتَغْنى) عَن النِّيَّة بمندوب (بِالْقَلْبِ وَالْعَكْس) أَي بقلب المقدمتين ليرد إِلَى الشكل الأول، ثمَّ عكس النتيجة إِلَى الْمَطْلُوب، الضَّرْب (الرَّابِع كليتان الثَّانِيَة سالبة) وَالْأولَى مُوجبَة (ينْتج جزئية سالبة) نَحْو (كل مُبَاح مستغن) عَن(1/45)
النِّيَّة (وكل وضوء لَيْسَ بمباح، فبعض المستغنى عَن النِّيَّة لَيْسَ بِوضُوء، يرد) إِلَى الشكل الأول (بعكس المقدمتين) الأولى إِلَى مُوجبَة جزئية وَهِي بعض المستغنى عَن النِّيَّة مُبَاح، وَالثَّانيَِة إِلَى سالبة كُلية هِيَ كل مُبَاح لَيْسَ بِوضُوء فينتج بعض المستغنى لَيْسَ بِوضُوء (وَلَو كَانَ فِي الْمُوجبَة تساو) بَين طرفيها (كَانَت) النتيجة سالبة (كُلية) لكلية كلتا المتقدمتين عينا وعكسا الضَّرْب (الْخَامِس جزئية مُوجبَة وسالبة كُلية كالرابع لَازِما وردا) أَي لَازِمَة الْمَطْلُوب كلازمة الضَّرْب الرَّابِع فَهُوَ سلب جزئي، وَيرد إِلَى الشكل الأول مثله أَيْضا بعكس المقدمتين (وَيبين الْكل) أَي الضروب الْخَمْسَة (بالخلف) بِضَم نقيض النتيجة إِلَى إِحْدَى المقدمتين ينْتج مَا ينعكس إِلَى نقيض الْأُخْرَى فَفِي الضربين الْأَوَّلين المضموم إِلَيْهَا هُوَ الصُّغْرَى وَمَا ينعكس إِلَى نقيضه النتيجة هُوَ الْكُبْرَى، وَفِي الْبَاقِي هُوَ الْكُبْرَى وَمَا ينعكس إِلَى نقيضه هُوَ الصُّغْرَى، تَقول لَو لم يصدق بعض المفتقر إِلَى النِّيَّة تيَمّم لصدق لَا شَيْء من المفتقر إِلَيْهَا بِتَيَمُّم، وَيضم إِلَيْهَا كل مَا يلْزم عبَادَة مفتقر إِلَى النِّيَّة، فالصغرى هَذِه الْمُوجبَة الْكُلية، والكبرى تِلْكَ السالبة الْكُلية والنتيجة لَا شَيْء مِمَّا يلْزم عبَادَة بِتَيَمُّم وتنعكس إِلَى لَا شَيْء من التَّيَمُّم يلْزم عبَادَة وَهَذَا يُنَاقض كبرى الْمَرْدُود وَتقول لَو لم يصدق لَا مُسْتَغْنى عَن النِّيَّة بمندوب لصدق بعض المستغنى عَنْهَا مَنْدُوب وكل مَنْدُوب عبَادَة ينْتج بعض المستغنى عَنْهَا عبَادَة وتنعكس إِلَى بعض الْعِبَادَة مستغن، وَهُوَ يُنَاقض كل عبَادَة لَا تستغنى (الطَّرِيق الرَّابِع الاستقراء تتبع الجزئيات) أَي استقصاء جزئية كلي كلهَا، أَو أَكْثَرهَا ليعرف ثُبُوت حكم لَهَا على سَبِيل الْعُمُوم أَو ضِدّه (فيستدل) بعد تتبعها (على الحكم الْكُلِّي) الشَّامِل لكل فَرد من أَفْرَاد الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (بِثُبُوتِهِ) : أَي ذَلِك الحكم (فِيهَا) : أَي الجزئيات الْمَذْكُورَة، فَهُوَ اسْتِدْلَال بِحَال الجزئي على حَال الْكُلِّي (وَهُوَ) أَي الاستقراء قِسْمَانِ (تَامّ إِن استغرقت) الجزئيات بالتتبع (يُفِيد الْقطع) كالعدد إِمَّا زوج وَإِمَّا فَرد، وكل مِنْهُمَا بعده الْوَاحِد، فَكل عدد بعده الْوَاحِد، وَيُسمى قِيَاسا مقسمًا (وناقص خِلَافه) بِأَن لم تستغرق جزئياته بل أَكْثَرهَا، فَلَا يُفِيد الْقطع، بل الظَّن لجَوَاز أَن يكون مَا لم يستقرأ مِنْهَا على خلاف مَا استقرئ كتحرك الفك الْأَسْفَل عِنْد المضغ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكثر أَفْرَاد الْحَيَوَان بِخِلَاف التمساح، فَإِنَّهُ يُحَرك فكه الْأَعْلَى (فَأَما التَّمْثِيل وَهُوَ الْقيَاس الفقهي الْآتِي فَمن مَقَاصِد الْفَنّ) فَلَا يجوز عده من الْمُقدمَات بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (الرَّابِع) من الْأُمُور الَّتِي هِيَ مُقَدّمَة الْكتاب (استمداده) أَي مَا يستمد الْأُصُول مِنْهُ من قبيل إِطْلَاق اسْم أحد المتلازمين على الآخر (أَحْكَام) كُلية لغوية (استنبطوها) أَي استخرجها أهل هَذَا الْعلم من اللُّغَة الْعَرَبيَّة (لأقسام من) الْأَلْفَاظ (الْعَرَبيَّة) كالعام وَالْخَاص والمشترك والمرادف والحقيقة وَالْمجَاز(1/46)
وَالظَّاهِر وَالنَّص إِلَى غير ذَلِك، وَالْجَار فِي قَوْله لأقسام مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة أَحْكَام: أَعنِي مثبتة (جعلوها) أَي تِلْكَ الْأَحْكَام (مَادَّة لَهُ) أَي لهَذَا الْعلم وأجزاء لَهُ (لَيست) تِلْكَ الْأَحْكَام (مدونة قبله) أَي قبل تدوين هَذَا الْعلم وَإِن ذكرت فِي أثْنَاء استدلالاتهم فِي الْفُرُوع وأكثرها (فَكَانَت) الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة بَعْضًا (مِنْهُ) أَي هَذَا الْعلم وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن يُقَال بعض مَقَاصِد هَذَا الْعلم يتَوَقَّف على معرفَة بعض هَذِه الْأَحْكَام وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ مسَائِل الْعلم خَارج عَنهُ، أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَتوقف إِثْبَات بعض مطالبه) أَي هَذَا الْعلم (عَلَيْهَا) أَي الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (لَا يُنَافِي الاصالة لجَوَاز) كَون (مَسْأَلَة) من الْعلم (مبدأ لمسألة) أُخْرَى مِنْهُ، غَايَة الْأَمر كَونهَا خَارِجَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا (وَهَذَا) أَي كَون هَذَا الْعلم يستمد من هَذِه الْأَحْكَام (لِأَن الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة مِنْهَا) أَي من تِلْكَ الْأَقْسَام (وَحمل حكم الْعَام مثلا) وَحمل حكم الْمُطلق على الْعَام (وَالْمُطلق لَيْسَ بِقَيْد كَونه) أَي الْعَام أَو الْمُطلق الْمَحْمُول عَلَيْهِ (عَام الْأَدِلَّة) الْمَذْكُورَة أَو مُطلقهَا (بل) على مُطلق الْعَام وَالْمُطلق غَايَة الْأَمر أَن الحكم الْمَحْمُول (ينطبق عَلَيْهَا) أَي عَام الْكتاب وَالسّنة ومطلقه انطباق حكم الْكُلِّي على جزئياته الإضافية، فَانْدفع مَا قيل من أَن الْأَحْكَام الكائنة لأقسام من الْعَرَبيَّة إِنَّمَا هِيَ مثبتة فِي هَذَا الْعلم على موضوعاتها من حَيْثُ إِنَّهَا من الْكتاب وَالسّنة لَا مُطلقًا، فَلَا يكون الْعلم مستمدا من الْأَحْكَام على الْوَجْه الَّذِي ذكرْتُمْ (وَقد يجْرِي فِيهَا) أَي فِي الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (خلاف) كَمَا سَيَأْتِي (وأجزاء مُسْتَقلَّة) مَعْطُوف على قَوْله أَحْكَام، وَتلك الْأَجْزَاء (تصورات الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة الْخَمْسَة الْوُجُوب وَالْحُرْمَة وَالنَّدْب وَالْكَرَاهَة وَالْإِبَاحَة، يُرِيد أَن وَجه استمداد الْأُصُول من الْأَحْكَام إِنَّمَا هُوَ من جِهَة مباديه التصورية إِذْ لَا بُد فِيهِ من تصورها ليمكن إِثْبَاتهَا أَو نَفيهَا كَمَا إِذا قُلْنَا الْأَمر للْوُجُوب لَا النّدب، وَإِنَّمَا صرح بِكَوْنِهَا أَجزَاء مُسْتَقلَّة دفعا لما ذكر فِي بعض الْحَوَاشِي من أَنَّهَا جعلت فِي الْفِقْه مبادئ اسْتِقْلَالا، وَفِي الْأُصُول استمدادا لكَونهَا محمولات لمسائل الْفِقْه وأعراضا ذاتية لموضوعه ومتعلقات لمحمولات مسَائِل الْأُصُول، وَبَين ذَلِك بقوله (كالفقه) أَي كَمَا أَن الْفِقْه يستمد من هَذِه الْأَجْزَاء (يجمعهما) أَي الْأُصُول وَالْفِقْه فِي الاستمداد مِنْهَا (الِاحْتِيَاج) الْكَائِن لكل مِنْهُمَا (إِلَى تصور محمولات الْمسَائِل) أَي مسائلهما، وَذَلِكَ لما عرفت من أَن مَوْضُوعَات مسَائِل الْأُصُول الْأَدِلَّة السمعية ومحمولاتها مَا يرجع إِلَى كَونهَا مثبتا للْحكم الشَّرْعِيّ، وموضوعات مسَائِل الْفِقْه أَفعَال الْمُكَلّفين ومحمولاتها الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (على أَن الظَّاهِر) أَن يكون (استمداد الْفِقْه إِيَّاهَا) أَي تصورات الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (مِنْهُ) أَي من علم الْأُصُول (لسبقه) أَي الْأُصُول الْفِقْه لكَونه فرعا(1/47)
عَلَيْهِ (وَإِن لم يدون) الْأُصُول قبل الْفِقْه، فَإِن أول من دون الْفِقْه ورتب كتبه وأبوابه الإِمَام أَبُو حنيفَة رَحمَه الله. قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ من أَرَادَ الْفِقْه فَهُوَ عِيَال على أبي حنيفَة نَقله الفيروزابادي الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي طَبَقَات الْفُقَهَاء وَغَيره، وَقَالَ المطرزي فِي الْإِيضَاح ذكر الإِمَام السَّرخسِيّ فِي كِتَابه أَن ابْن سُرَيج وَكَانَ مقدما فِي أَصْحَاب الشَّافِعِي بلغه أَن رجلا يَقع فِي أبي حنيفَة رَحمَه الله، فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا هَذَا أتقع فِي رجل يسلم لَهُ النَّاس ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم وَهُوَ لَا يسلم لَهُم الرّبع، فَقَالَ: وَكَيف ذَلِك؟ فَقَالَ الْفِقْه: سُؤال وَجَوَاب، وَهُوَ الَّذِي تفرد بِوَضْع السُّؤَال فَسلم لَهُ نصف، ثمَّ أجَاب عَن السُّؤَال، وخصومه لَا يَقُولُونَ أَنه أَخطَأ فِي الْكل، فَإِذا جعلت مَا وافقوه فِيهِ مُقَابلا لما خالفوه فِيهِ سلم ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم لَهُ وَبَقِي بَينه وَبَين جَمِيع النَّاس ربع الْعلم فَتَابَ الرجل، وَيُقَال أَن أول من دون فِي أصُول الْفِقْه اسْتِقْلَالا الإِمَام الشَّافِعِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ صنف فِيهِ كتاب الرسَالَة بالتماس ابْن الْمهْدي (وَيزِيد) الْأُصُول على الْفِقْه استمدادا (بهَا) أَي بتصورات الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة لكَونهَا (مَوْضُوعَات) لمسائله (فِي مثل الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ أَولا، وَالْوَاجِب إِمَّا مُقَيّد بِالْوَقْتِ أَولا) وَلَيْسَ مثله فِي الْفِقْه فَلِذَا كَانَ أَكثر احتياجا (وَعنهُ) أَي عَن كَونهَا مَوْضُوعَات (عدت) الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة (من الْمَوْضُوع) أَي من مَوْضُوع الْأُصُول، ثمَّ مُرَاد المُصَنّف رَحمَه الله بِمَا مِنْهُ الاستمداد مَا بِحَيْثُ يكون مَادَّة وجزءا لهَذَا الْعلم، وَلِهَذَا لم يَجْعَل الاستمداد من ثَلَاثَة هذَيْن، وَالْكَلَام كَمَا جعله الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب مِنْهَا، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح والشأن فِي اخْتِيَار مَا هُوَ أولى بِالِاعْتِبَارِ (وَمَا قيل) من أَن علم الْأُصُول لَيْسَ علما بِرَأْسِهِ، بل هُوَ (كُله أَجزَاء عُلُوم) وأبعاضها جمعت من الْكَلَام وَالْفِقْه واللغة والْحَدِيث والجدل (بَاطِل) قَالَ شَارِح هَذَا الْكتاب أَن الْقَائِل هُوَ السُّبْكِيّ (وَمَا يخال) أَي يظنّ (من علم الحَدِيث) من الْأَحْوَال الراجعة إِلَى مَتنه أَو طَرِيقه كالعبرة بِعُمُوم اللَّفْظ لَا بِخُصُوص السَّبَب وبعمل الصَّحَابِيّ لَا بروايته أَو بِالْعَكْسِ، وعدالة الرَّاوِي وجرحه أَن الْأُصُول يستمد مِنْهُ (لَيْسَ) الْبَحْث عَنهُ (استمدادا) لِلْأُصُولِ (بل تدَاخل موضوعي علمين) يَتَرَتَّب غايتهما على الْبَحْث عَن أَحْوَال شَيْء وَاحِد فيشتركان فِي الْمَوْضُوع أَو ينْدَرج مَوْضُوع أَحدهمَا تَحت مَوْضُوع الآخر على مَا مر (يُوجب مثله) أَي الِاشْتِرَاك فِي بعض الْأَحْكَام (و) الدَّلِيل (السمعي) الَّذِي هُوَ مَوْضُوع الْأُصُول (من حَيْثُ يُوصل) الْعلم بأحواله إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام لأفعال الْمُكَلّفين (ينْدَرج فِيهِ) أَي السمعي (السمعي النَّبَوِيّ) الَّذِي هُوَ مَوْضُوع علم الحَدِيث اندراج الجزئي الإضافي تَحت الْكُلِّي، وَالْمرَاد بِهِ أَدِلَّة السّنة كَمَا ينْدَرج فِيهِ أَدِلَّة الْكتاب (من حَيْثُ كَيْفيَّة الثُّبُوت) وَكَون الْأُصُول باحثا من حَيْثُ(1/48)
الإيصال لَا يُنَافِي بحثها من حَيْثُ كَيْفيَّة الثُّبُوت، بل الْبَحْث عَن الإيصال السمعي بعد معرفَة كَيْفيَّة ثُبُوته من صِحَة وَحسن وَغَيرهمَا، وَمن ثمَّة تخْتَلف صِفَات إِثْبَات الْأَحْكَام باخْتلَاف كَيْفيَّة ثُبُوت أدلتها قُوَّة وضعفا فالبحث من الْحَيْثِيَّة الثَّانِيَة رَاجع إِلَى الأولى، فَظهر أَن مبَاحث السّنة من مبَاحث الْأُصُول أَصَالَة (ومباحث الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس والنسخ ظَاهر) كَونهَا من مسَائِل الْأُصُول المختصة بِهِ، وَلَا يعلم علم من الْعُلُوم الْمُدَوَّنَة كَفِيل بهَا سواهُ.
(الْمقَالة الأولى) من المقالات الثَّلَاث (فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة) جمع مبدأ، هُوَ فِي الأَصْل مَكَان الْبدَاءَة فِي الشَّيْء أَو زَمَانه، وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا على مَا سبق، تصورات وتصديقات يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْبَحْث عَن مسَائِل الْفَنّ بوسط أَو بِغَيْرِهِ كبيان معنى اللُّغَة، وَسبب وَضعهَا، والواضع، وَلُزُوم الْمُنَاسبَة بَين اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، وَعدم لُزُومهَا، وَمَا وضع لَهُ اللَّفْظ ذهني أَو خارجي أَو أَعم مِنْهُمَا، وَطَرِيق معرفَة الْوَضع وَهل يجْرِي الْقيَاس إِلَى غير ذَلِك؟ وَوجه التَّسْمِيَة أَن الْمَوْقُوف عَلَيْهِ مبدأ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَوْقُوف، وَتَقْدِيم هَذِه الْمقَالة لاحتياج الْكل إِلَيْهَا (اللُّغَات الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة) للمعاني أَشَارَ بِلَفْظ الْجمع إِلَى عدم اخْتِصَاص التَّعْرِيف بلغَة الْعَرَب، والمتبادر من الْوَضع تعْيين اللَّفْظ للدلالة بِنَفسِهِ، فعلى هَذَا لَا يكون الْمجَاز لُغَة حَقِيقَة بل مجَازًا، وَيُمكن أَن يُرَاد بِهِ مَا يعم الْوَضع الْمجَازِي فَيكون لُغَة حَقِيقَة (ثمَّ تُضَاف كل لُغَة إِلَى أَهلهَا) وَهُوَ من تنْسب إِلَيْهِ لَا واضعها، يُقَال لُغَة الْعَرَب ولغة الْعَجم (وَمن لطفه) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَي إفَاضَة إحسانه برفقه على عباده، والإضمار فِي مَحل الْإِظْهَار للإشعار بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَاضر فِي الأذهان بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى سبق الذّكر (الظَّاهِر تَعَالَى) أَشَارَ بِهَذَا الْوَصْف إِلَى أَن لطفه على قسمَيْنِ الظَّاهِر والخفي (وَقدرته) وَهِي صفة أزلية مُؤثرَة فِي المقدورات عِنْد تعلقهَا بهَا (الباهرة) أَي الْغَالِبَة الْعَالِيَة عَن الْعَجز عَن إِيجَاد مَا تعلّقت إِرَادَته من المقدورات (الاقدار) وَهِي إعطا الْقُدْرَة (عَلَيْهَا) أَي على الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة بالنطق بهَا مَتى شَاءُوا إعلاما بِمَا فِي ضمائرهم (وَالْهِدَايَة) عطف على الْمُبْتَدَأ: أَعنِي الاقدار وَالْخَبَر هُوَ قَوْله من لطفه، وَهِي الدّلَالَة على مَا يُوصل إِلَى البغية، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَهُنَا نشرا على غير تَرْتِيب اللف، فَإِن الْهِدَايَة مُتَعَلقَة باللطف والاقدار بِالْقُدْرَةِ (للدلالة بهَا) اللَّام صلَة الْهِدَايَة فَإِنَّهَا تتعدى بِاللَّامِ وَإِلَى وبنفسه، وَالْهِدَايَة صفة الْحق سُبْحَانَهُ، وَالدّلَالَة وَهِي الْإِرْشَاد إِلَى مَا فِي الضَّمِير بِوَاسِطَة اللَّفْظ صفة الْمُتَكَلّم بهَا (فَخفت الْمُؤْنَة) بِهَذَا الطَّرِيق فِي الإفادة والاستفادة ليسره وسهولته (وعمت الْفَائِدَة) لتناول إفادتها الْمَوْجُود والمعدوم والمحسوس والمعقول. ووجودها مَعَ الْحَاجة وانقضائها مَعَ انْقِضَائِهَا بِخِلَاف الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة والمثال وَهُوَ الجرم الْمَوْضُوع على شكل مَا فِي الضَّمِير (والواضع للأجناس) أَي الْمعَانِي الْكُلية الْمُسَمَّاة باسم(1/49)
كالإنسان وَالْحَيَوَان وَالْأكل وَالشرب، فالمفعول مَحْذُوف أَو الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة بِإِزَاءِ الْمعَانِي الْكُلية، فَاللَّام لتقوية الْعَمَل والموضوع لَهُ مَحْذُوف (أَولا الله سُبْحَانَهُ) وَيجوز أَن يتوارد على بَعْضهَا وضعان لله أَولا، وللعباد ثَانِيًا (قَول الْأَشْعَرِيّ) أَي القَوْل بِأَن الْوَاضِع لَهَا أَولا الله سُبْحَانَهُ قَوْله (وَلَا شكّ فِي أوضاع أخر لِلْخلقِ علمية شخصية) على مَا يشْهد بِهِ الْوَاقِع، وَإِنَّمَا جعل مَحل الْخلاف الْأَجْنَاس، لِأَن الْأَشْخَاص بَعْضهَا بِوَضْع الله تَعَالَى بِغَيْر خلاف كأسماء الله تَعَالَى المتلقاة من السّمع وَأَسْمَاء الْمَلَائِكَة وَبَعض أَسمَاء الْأَنْبِيَاء، وَبَعضهَا بِوَضْع الْبشر بِلَا ريب، وَإِنَّمَا قيد بالشخصية لانْتِفَاء الْقطع فِي العلمية الجنسية كانتفائه فِي أَسمَاء الْأَجْنَاس (وَغَيرهَا) أَي غير أوضاع الْأَعْلَام الشخصية الَّتِي هِيَ لِلْخلقِ بِلَا شكّ مَا لَا يقطع بِكَوْنِهِ للحق دون الْخلق (جَائِز) وجوده، فَإِن كَانَ مَا وضع لَهُ فِيهِ عين مَا وضع وَمَا ضع لَهُ بِوَضْع الْحق فَهُوَ مُجَرّد توارد، وَإِلَّا فَيلْزم ترادف إِن كَانَت الْمُغَايرَة فِي الأول دون الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَيَقَع الترادف) أَو اشْتِرَاك إِن كَانَت فِي الثَّانِي فَقَط، أَو انْفِرَاد فِي الْوَضع كَمَا ذكر من وضع الْعلم الشخصي إِن كَانَت فيهمَا، وَكَأَنَّهُ ذكر الترادف مثلا وَترك غَيره بالمقايسة (لقَوْله تَعَالَى {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} تَعْلِيل للأشعري، وَالْمرَاد بالأسماء المسميات والعلامات، لَا مصطلح النُّحَاة فَيعم الْأَفْعَال والحروف أَيْضا على أَنه لَو أُرِيد لثبت الْمَطْلُوب أَيْضا لعدم الْقَائِل بِالْفَصْلِ، وَلِأَن التَّعْلِيم بِمُجَرَّد الْأَسْمَاء دونهمَا متعسر. وَالظَّاهِر أَن التَّعْلِيم بإلقائها عَلَيْهِ مُبينًا لَهُ مَعَانِيهَا إِمَّا بِخلق علم ضَرُورِيّ لَيْسَ بإعمال شَيْء من أَسبَاب الْعلم اخْتِيَارا أَو إِلْقَاء فِي روعه، وَهُوَ يجْتَمع مَعَ التَّوَجُّه وأعمال السَّبَب أَو غير ذَلِك وأياما كَانَ فَهُوَ غير مفتقر إِلَى سَابِقَة اصْطِلَاح ليتسلسل، بل إِلَى وضع، وَالْأَصْل يَنْفِي أَن يكون ذَلِك الْوَضع مِمَّن كَانَ قبل آدم وَمِمَّنْ مَعَه فِي الزَّمَان من الْمَخْلُوقَات، فَيكون من الله وَهُوَ الْمَطْلُوب (وَأَصْحَاب أبي هَاشم) المعتزلي الْمَشْهُور، وَيُقَال لَهُم الدهشمية قَالُوا الْوَاضِع (الْبشر آدم وَغَيره) وضع الْأَوَائِل، ثمَّ عرف الْبَاقُونَ بتكرار الْأَلْفَاظ مَعَ قرينَة الْإِشَارَة وَغَيرهَا (لقَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} أَي بلغتهم مجَاز من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم سَببه (أَفَادَ) النَّص (نسبتها) أَي اللُّغَة (إِلَيْهِم) أَي الْقَوْم (وَهِي) أَي النِّسْبَة الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تكون (بِالْوَضْعِ) أَي بوضعهم إِيَّاهَا بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا، لِأَن الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحمل على الْكَامِل مِمَّا يحْتَملهُ اللَّفْظ (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّقْرِير (تَامّ) فِي الِاسْتِدْلَال (على الْمَطْلُوب) يَعْنِي على تَقْدِير تَسْلِيم مقدماته يستلزمه فَلَا يُنَافِي وُرُود منع على بعض مقدماته (وَأما تَقْرِيره) أَي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا النَّص (دورا) مفعول التَّقْرِير لتَضَمّنه معنى التصيير: أَي جعله مُفِيدا للدور (كَذَا) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر بعده(1/50)
من التَّقْرِير: وَهُوَ حَال عَن ضمير تَقْرِيره، وَلَيْسَ المُرَاد بِمثل هَذَا حَقِيقَة التَّشْبِيه، بل كَون مَا قصد بَيَانه بِحَيْثُ يعبر عَنهُ بِهَذِهِ الْعبارَة وَنَحْوهَا وَمَا بعده بدل عَنهُ وَهُوَ قَوْله (دلّ) أَي النَّص الْمَذْكُور (على سبق اللُّغَات الْإِرْسَال) لدلالته على مُلَابسَة الرُّسُل اللُّغَة المنسوبة إِلَى الْقَوْم قبل الْإِرْسَال، لِأَن تخاطبهم بِتِلْكَ اللُّغَة يسبب كَون الرَّسُول متلبسا بهَا حَال الْإِرْسَال ليبين لَهُم مَا أمروا بِهِ فيفهموا بِيَسِير (وَلَو كَانَ) حُصُول اللُّغَات لَهُم (بالتوقيف) من الله تَعَالَى (وَلَا يتَصَوَّر) التَّوْقِيف (إِلَّا بِالْإِرْسَال) لِأَنَّهُ الطَّرِيق الْمُعْتَاد فِي تَعْلِيم الله سُبْحَانَهُ للعباد (سبق الْإِرْسَال اللُّغَات فيدور) وَهُوَ دور تقدم بِمَعْنى مسبوقية الشَّيْء بِمَا هُوَ مَسْبُوق بذلك الشَّيْء، وَهُوَ محَال وَإِن كَانَ سبقا زمانيا لَا ذاتيا، فَإِن سبق الشَّيْء على نَفسه زَمَانا ظَاهر الاستحالة (فغلط) جَوَاب أما (لظُهُور أَن كَون التَّوْقِيف لَيْسَ إِلَّا بِالْإِرْسَال إِنَّمَا يُوجب سبق الْإِرْسَال على التَّوْقِيف لَا) سبق الْإِرْسَال على (اللُّغَات) حَتَّى يلْزم الدّور، وَلَك أَن تَقول سبق الْإِرْسَال على التَّوْقِيف لعدم حُصُوله بِلَا إرْسَال رَسُول، وَلَا شكّ أَنه لَا يحصل إِلَّا برَسُول عَالم باللغات ليعلم قومه إِيَّاهَا، وَالْحَاصِل أَن النَّص يدل على تقدم اللُّغَات من حَيْثُ أَنَّهَا مَعْلُومَة للْقَوْم على الْإِرْسَال والتوقيف يدل على أَنَّهَا من تِلْكَ الْحَيْثِيَّة مُتَأَخِّرَة عَن الْإِرْسَال فَسبق الْإِرْسَال على التَّوْقِيف يسْتَلْزم سبقه على اللُّغَات من حَيْثُ كَونهَا مَعْلُومَة لَهُم وَإِن لم يسْتَلْزم سبقه عَلَيْهَا من حَيْثُ ذواتها، وَذَلِكَ كَاف فِي إِثْبَات الدّور، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ يجوز أَن يتَعَلَّق باللغات نَوْعَانِ من الْعلم، أَحدهمَا بطرِيق التَّوْقِيف، وَالْآخر بطرِيق آخر: كالضرورة مثلا، وَتَكون اللُّغَات من حَيْثُ معلوميتها بالنوع الأول مُتَأَخِّرًا عَن الْإِرْسَال، وَمن حَيْثُ معلوميتها بِالثَّانِي مُتَقَدما عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ معنى قَوْله لَا على اللُّغَات لَا عَلَيْهَا من حَيْثُ معلوميتها بِغَيْر طَرِيق التَّوْقِيف أَولا عَلَيْهَا من جَمِيع الحيثيات، فالآية لَا تدل على أَن الْوَاضِع إِنَّمَا هُوَ الْبشر، وَإِن سلم دلالتها على سبق اللُّغَات على الْإِرْسَال، وَكَون التَّوْقِيف لَيْسَ إِلَّا بِالْإِرْسَال (بل يُفِيد سبقها) أَي كَون التَّوْقِيف كَمَا ذكر لَا يُوجب سبق الْإِرْسَال على اللُّغَات بل يُفِيد سبق اللُّغَات على الْإِرْسَال، لِأَن الْإِرْسَال لتعليمها إِنَّمَا يكون بعد وجودهَا مَعْلُومَة للرسول عَادَة ليترتب فَائِدَة الْإِرْسَال عَلَيْهِ بِلَا تَأَخّر (فَالْجَوَاب) من قبل التوقيفية عَن الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (بِأَن آدم علمهَا) بِلَفْظ الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول بتعليم الله، وَالضَّمِير للأسماء (وَعلمهَا) بِلَفْظ الْمَبْنِيّ للْفَاعِل آدم غَيره (فَلَا دور) إِذْ تَعْلِيمه بِالْوَحْي يستدعى تقدم الْوَحْي على اللُّغَات، لَا تقدم الْإِرْسَال وَلَا يتَصَوَّر الْإِرْسَال عِنْد ذَلِك لعدم الْقَوْم وَبعد أَن وجدوا وتعلموا اللُّغَات مِنْهُ أرسل إِلَيْهِم وَحَاصِل الْجَواب منع كَون التَّوْقِيف لَيْسَ إِلَّا بِالْإِرْسَال فَقَوله (وبمنع حصر التَّوْقِيف على الْإِرْسَال) يغاير الْجَواب الأول بِاعْتِبَار السَّنَد، فَإِن سَنَد هَذَا تَجْوِيز، وَسَنَد(1/51)
ذَلِك أَمر نقلي، وَالْأَوْجه أَن يُقَال الأول مُعَارضَة، وَالْمُدَّعِي أَن الْبشر لَيْسَ بواضع، لِأَن آدم علمه الله تَعَالَى: وَغَيره علمه آدم، فَلم يكن أحد وَاضِعا، غَايَة الْأَمر أَنه أُشير فِي ضمنه إِلَى بطلَان دليلهم بِأَنَّهُ لَو كَانَ التوفيف يسْتَلْزم الدّور لما وَقع لكنه وَقع (لجوازه) أَي التَّوْقِيف من الله (بالإلهام) أَي بإلقاء الله تَعَالَى فِي روع الْعَاقِل من غير كسب مِنْهُ أَن هَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ هَذِه الْمعَانِي (ثمَّ دَفعه) أَي هَذَا التجويز (بِخِلَاف الْمُعْتَاد) أَي بِأَن التَّوْقِيف بِغَيْر الْإِرْسَال من الإلهام وَنَحْوه خلاف مَا جرت بِهِ الْعَادة الألهية، فَإِن لم يقطع بِعَدَمِهِ فَلَا أقل من أَن يكون خلاف الظَّاهِر فَلَا يُصَار إِلَيْهِ بِمُجَرَّد التجويز (ضائع) خبر قَوْله فَالْجَوَاب إِلَى آخِره وَذَلِكَ لكَونه مَبْنِيا على الدّور، وَقد عرفت أَنه غلط مُسْتَغْنى عَنهُ (بل الْجَواب) الْمُعْتَمد الْمَبْنِيّ على تَقْرِير استدلالهم بِالْآيَةِ على الْوَجْه التَّام (أَنَّهَا) أَي الْإِضَافَة فِي قَوْله تَعَالَى بِلِسَان قومه (للاختصاص) أَي اخْتِصَاص اللِّسَان بهم من بَين النَّاس لتخاطبهم بهَا من سَائِر اللُّغَات (وَلَا يسْتَلْزم) الِاخْتِصَاص (وضعهم) إِيَّاهَا (بل يثبت) الِاخْتِصَاص (مَعَ تَعْلِيم آدم بنيه إِيَّاهَا) أَي اللُّغَات (وتوارث الأقوام) من السّلف وَالْخلف بالتعليم والتعلم (فاختص كل) أَي كل قوم (بلغَة) دلّت الْفَاء التعقيبية على أَن اخْتِصَاص كل قوم بلغَة إِنَّمَا حدث بعد التَّوَارُث، فعلى هَذَا لَا يلْزم أَن الْأَوَائِل لم يَكُونُوا كَذَلِك، بل كَانُوا يخاطبون بِكُل لُغَة (وَأما تَجْوِيز كَون علم) أَي كَون المُرَاد بِعلم آدم الْأَسْمَاء (ألهمه الْوَضع) بِأَن بعث داعيته وَألقى فِي روعه كيفيته حَتَّى فعل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وعلمناه صَنْعَة لبوس} - (أَو مَا سبق وَضعه مِمَّن تقدم) أَي أَو ألهمه الْأَسْمَاء السَّابِق وَضعهَا مِمَّن تقدم آدم، فقد ذكر غير وَاحِد من الْمُفَسّرين أَن الله تَعَالَى خلق جانا قبله وأسكنهم الأَرْض، ثمَّ أهلكهم بِذُنُوبِهِمْ (فخلاف الظَّاهِر) لِأَن الأَصْل عدم الْوَضع السَّابِق، والمتبادر من التَّعْلِيم أَن يكون بطرِيق الْخطاب لَا الإلهام (و) هَذِه (الْمَسْأَلَة ظنية) فَلَا يتَّجه أَن دليلها لَا يُفِيد الْقطع فَلَا يعْتَبر وَهِي (من الْمُقدمَات) لِلْأُصُولِ، وَمَا يذكر قبل الشُّرُوع فِيهِ لمزيد بَصِيرَة، لَا من مقاصده وَلَا من مباديه الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا مسَائِله (و) إِطْلَاق (المبادي فِيهَا) أَي الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة (تَغْلِيب) فَلَا يتَّجه أَنه كَيفَ ذكرت فِي المبادي اللُّغَوِيَّة (كَالَّتِي تَلِيهَا) أَي كَمَا فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي تلِي هَذِه الْمَسْأَلَة من أَن الْمُنَاسبَة بَين اللَّفْظ، وَالْمعْنَى مُعْتَبرَة أم لَا، فَإِنَّهَا أَيْضا ظنية من الْمُقدمَات، ثمَّ أَشَارَ إِلَى دفع مَا دفع بِهِ احتجاج التوقيفية بِالْآيَةِ بقوله (وَكَون المُرَاد بالأسماء) الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة (المسميات) وَهِي الْحَقَائِق الْمَوْضُوعَة بإزائها الْأَسْمَاء (بعرضهم) أَي بِدلَالَة قَوْله تَعَالَى عرضهمْ فِي قَوْله - {ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ} - لِأَن الْعرض للسؤال عَن أَسمَاء المعروضات، فَلَا يكون المعروض الَّذِي هُوَ مرجع(1/52)
الضَّمِير الْمَنْصُوب نفس الْأَلْفَاظ، وَلِأَن عرض الْأَلْفَاظ إِنَّمَا يكون بالتلفظ بهَا ويأباه الْأَمر التعجيزي وَلِأَن ضمير جمع الْمُذكر الْعَاقِل إِنَّمَا يَصح إِذا أُرِيد بِهِ الْحَقَائِق مَعَ تَغْلِيب الْعُقَلَاء (مندفع) خبر الْكَوْن (بالتعجيز بأنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ) يَعْنِي الْقَصْد من طلب الإنباء بالأسماء تعجيز الْمَلَائِكَة عَنهُ ليظْهر فضل آدم عَلَيْهِم بِسَبَب إنبائه بهَا وَكَونه عَالما بهَا دونهم وَتَعْلِيم آدم الْأَسْمَاء لهَذِهِ الْمصلحَة فَلَو كَانَ معنى قَوْله تَعَالَى - {علم آدم الْأَسْمَاء} - علم المسميات لزم ترك ذكر مَا لَا بُد مِنْهُ، وَذكر مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ مَعَ حُصُول مطلب التوقيفية أَن فرض تعليمها مَعَ تَعْلِيم أسمائها أَو عدم استقامة معنى الْكَلَام أَن فرض بِدُونِهِ لِأَنَّهُ يُخَالف حِينَئِذٍ قَوْله تَعَالَى - {فَلَمَّا أنبأهم} - وَالْوَجْه أَن يُقَال المُرَاد بالأسماء أَولا وَثَانِيا مَعْنَاهَا الْمُتَبَادر، وبالضمير الرَّاجِع إِلَيْهَا فِي عرضهمْ المسميات بطرِيق الِاسْتِخْدَام (وَبعد) كَون المُرَاد بِعلم الْأَسْمَاء (علم المسميات) عطف على التَّعْجِيز، وَذَلِكَ لِأَن إِرَادَة المسميات بِلَفْظ الْأَسْمَاء بعيد عَن الْفَهم، وَقيل لِأَن الْمَفْعُول الثَّانِي للتعليم من قبيل الصِّفَات والأعراض لَهُ الْأَشْخَاص والذوات، وَأَنت خَبِير بِأَن نفس الْأَلْفَاظ أَيْضا لَا تصلح إِلَّا بِاعْتِبَار وَضعهَا، وَمثل هَذَا الِاعْتِبَار يُمكن من جَانب المسميات أَيْضا بِأَن يُقَال علمهَا بِاعْتِبَار أَحْكَامهَا غير أَن التَّأْوِيل فِي الأول أظهر لشيوع تعلم اللُّغَة وَعلمهَا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْمَذْهَب الثَّالِث بقوله (وَتوقف القَاضِي) أبي بكر الباقلاني عَن تعْيين الْوَاضِع (لعدم) دَلِيل (الْقطع) بذلك (لَا يَنْفِي الظَّن) بذلك (والمتبادر من قَوْله) أَي القَاضِي (كل) من الْمذَاهب فِيهَا (مُمكن عَدمه) أَي الظَّن، لِأَن مثل هَذَا الْإِطْلَاق يُفِيد بِظَاهِرِهِ الْمُسَاوَاة فِي الِاحْتِمَال (وَهُوَ) أَي عدم الظَّن بأحدها (مَمْنُوع) لوُجُود مَا يفِيدهُ كَمَا مر من دَلِيل الْأَشْعَرِيّ (وَلَفظ كلهَا) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} - (يَنْفِي اقْتِصَار الحكم على كَون مَا وَضعه سُبْحَانَهُ الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي تَعْرِيف الِاصْطِلَاح) كلمة على صلَة الِاقْتِصَار لَا الحكم، لِأَن الْكَوْن لَيْسَ بموضوع الْقَضِيَّة، بل هُوَ عبارَة عَن نِسْبَة الْمَحْمُول، وَهُوَ الْقدر إِلَى الْمَوْضُوع، وَالْحكم الَّذِي هُوَ إِيقَاع النِّسْبَة هَهُنَا مَقْصُور على نِسْبَة هَذَا الْمَحْمُول إِلَيْهِ دون غَيره، وَهُوَ الزَّائِد على الْقدر الْمَذْكُور، احْتج الْأُسْتَاذ بِأَنَّهُ إِن لم يكن الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاصْطِلَاح: أَي فِي بَيَان أَن هَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ هَذِه الْمعَانِي ليستفيد غير الْوَاضِع الْعلم بِالْوَضْعِ من الْوَاضِع بالتوقيف من الله لزم الدّور لتوقف الِاصْطِلَاح على سبق معرفَة ذَلِك الْقدر، والمفروض أَنه يعرف بالاصطلاح (إِذْ يُوجب) لفظ كلهَا (الْعُمُوم) أَي عُمُوم التَّعْلِيم جَمِيع الْأَسْمَاء الْقدر الْمَذْكُور وَغَيره على أَن اللَّام ظَاهِرَة فِي الِاسْتِغْرَاق غَايَة الْأَمر أَنه تخصص مِنْهُ مَا تقدم لقِيَام الدَّلِيل عَلَيْهِ (فَانْتفى) بِهَذَا (توقف الْأُسْتَاذ فِي غَيره) أَي فِي غير مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي بَيَان الِاصْطِلَاح (كَمَا نقل عَنهُ) الْأُسْتَاذ(1/53)
نقل عَنهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَنقل الرَّازِيّ والبيضاوي عَنهُ أَن الْبَاقِي اصطلاحي فِيهِ أَن معلم الْكل لَا يلْزم أَن يكون وَاضعه بل التَّعْلِيم إِنَّمَا يكون بعد الْوَضع: وَهُوَ يحْتَمل أَن يكون من الله أَو غَيره كالجن فَإِن قلت الأَصْل عدم الْوَضع من غَيره قلت المتمسك بالاستصحاب لَا يعْتَبر فِي مثل هَذَا الْمطلب، غَايَة الْأَمر أَن كَون الْقدر الْمَذْكُور بِوَضْع الله أَفَادَهُ الدَّلِيل فَقَالَ بِهِ وَتوقف فِي غَيره لعدم الدَّلِيل (وإلزام الدّور أَو التسلسل) على اخْتِلَاف الْقَوْم فِي تَقْرِير الْإِلْزَام: الْآمِدِيّ يسْتَلْزم التسلسل لتوقفه على اصْطِلَاح سَابق وَهُوَ على آخر وَهَكَذَا، وَاقْتصر ابْن الْحَاجِب على الدّور كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَذكر التَّفْتَازَانِيّ فِي وَجه اقْتِصَار الْآمِدِيّ على التسلسل أَن الدّور أَيْضا نوع من التسلسل بِنَاء على عدم تناهي التوقفات، وَفِيه مَا فِيهِ، وَفِي وَجه اقْتِصَار ابْن الْحَاجِب أَنه لَا بُد بِالآخِرَة من الْعود إِلَى الِاصْطِلَاح الأول ضَرُورَة تناهي الاصطلاحات (لَو لم يكن تَوْقِيف الْبَعْض) أَي الْقدر الْمَذْكُور (مُنْتَفٍ) خير الْمُبْتَدَأ يعين إِلْزَام أحد الْأَمريْنِ على تَقْدِير عدم تَوْقِيف الْبَعْض غير وَارِد، لِأَن طَرِيق معرفَة الْقدر الْمَذْكُور لَا ينْحَصر فِي الِاصْطِلَاح (بل الترديد) أَي اسْتِعْمَال اللُّغَات فِي مَعَانِيهَا مرّة بعد أُخْرَى (مَعَ الْقَرِينَة) الدَّالَّة على أَن المُرَاد من هَذَا اللَّفْظ هَذَا الْمَعْنى من الْإِشَارَة وَنَحْوهَا (كَاف فِي الْكل) أَي كل اللُّغَات فضلا عَن الْقدر الْمَذْكُور (وَتدْخل الْأَفْعَال والحروف) فِي عُمُوم الْأَسْمَاء (لِأَنَّهَا أَسمَاء لُغَة) لِأَن اسْم الشَّيْء هُوَ اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ، والتخصيص بِمَا يُقَابل الْفِعْل والحرف اصْطِلَاح النُّحَاة، وَقيل فَائِدَة الِاخْتِلَاف أَن من قَالَ بالتوقيف جعل التَّكْلِيف مُقَارنًا لكَمَال الْعقل، وَمن قَالَ بالاصطلاح أَخّرهُ عَن مُدَّة يُمكن فِيهَا من معرفَة الِاصْطِلَاح (وَهَذَا) أَي معنى هَذَا أَو هَذَا كَمَا ذكر (وَأما اعْتِبَار الْمُنَاسبَة) بَين اللَّفْظ وَالْمعْنَى الداعية لتعيين خُصُوص هَذَا اللَّفْظ لهَذَا الْمَعْنى (فَيجب الحكم بِهِ) أَي باعتبارها بَينهمَا (فِي وَضعه تَعَالَى) فَإِن خَفِي ذَلِك علينا فلقصور منا أَو لحكمة اقتضته (للْقطع بِحِكْمَتِهِ) وَهِي على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي شرح الْكَشَّاف العملم بالأشياء كَمَا هُوَ وَالْعلم بالأمور على مَا يَنْبَغِي وَيُطلق على مَا يشملها، وَمن الْعُلُوم أَن كل معنى لَيْسَ نسبته إِلَى جَمِيع الْأَلْفَاظ على السوية بل بَينه وَبَين بَعْضهَا مُنَاسبَة لَيست بَينه وَبَين غَيرهَا، وَيَنْبَغِي أَن يُرَاعى ذَلِك فِي الْوَضع والقادر الْحَكِيم لَا يفوت ذَلِك (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة (ظَاهر فِي) وضع (غَيره) بِنَاء على أَن الظَّاهِر من حَاله عدم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، فَهُوَ مظنون فِي حَقه (وَالْوَاحد قد يُنَاسب بِالذَّاتِ الضدين) جَوَاب على استدلالنا فِي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة، تَقْرِيره اللَّفْظ الْوَاحِد قد يكون للشَّيْء ونقيضه أَو ضِدّه، كالجون للأحمر والأبيض وَالْأسود. والقرء للْحيض وَالطُّهْر، ومناسبته لأَحَدهمَا تَسْتَلْزِم عدمهَا إِلَى الآخر وَحَاصِل الْجَواب منع الاستلزام بِهَذَا السَّنَد (فَلَا يسْتَدلّ على نفي(1/54)
لُزُومهَا) أَي الْمُنَاسبَة (بِوَضْع) اللَّفْظ (الْوَاحِد لَهما) أَي الضدين، وَهَذَا بِنَاء على تَقْرِير الِاسْتِدْلَال على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَأما إِذا قررت بِأَنَّهُ لَو كَانَت دلَالَة الْأَلْفَاظ لمناسبة ذاتية لما وضع اللَّفْظ الْوَاحِد للنقيضين، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الِاخْتِلَاف فِيمَا بِالذَّاتِ إِن دلّ عَلَيْهِمَا، فَلَا يُجَاب بِمَا ذكر، لَكِن القَوْل بِدلَالَة الْأَلْفَاظ الْمُنَاسبَة طبيعية، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْوَضع كَمَا عزى إِلَى بعض الْمُعْتَزلَة مِنْهُم عباد بن سُلَيْمَان مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يصدر من الْعَاقِل، وَلذَا أولوه بِمَا ذكر فِي مَحَله، وأوله المُصَنّف رَحمَه الله بِمَا يَأْتِي، وَالْجُمْهُور على أَن نِسْبَة الْأَلْفَاظ إِلَى الْمعَانِي على السوية وَتَخْصِيص الْبَعْض بِالْبَعْضِ إِرَادَة الْوَاضِع الْمُخْتَار، غير أَن المُصَنّف رَحمَه الله مَال إِلَى اعْتِبَار الْمُنَاسبَة على مَا ذكر، وأيده بقوله (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار الْمُنَاسبَة على الْوَجْه الْمَذْكُور (مُرَاد الْقَائِل بِلُزُوم الْمُنَاسبَة فِي الدّلَالَة) لَا الْمُنَاسبَة الذاتية الْمُقْتَضِيَة إِيَّاهَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَاده مَا ذكر بل مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ (فَهُوَ) أَي مُرَاده أَو قَوْله (ضَرُورِيّ الْبطلَان) فَلَا يحْتَاج إِبْطَاله إِلَى الْحجَّة والبرهان كَمَا فعله ابْن الْحَاجِب وَكثير من أهل الشَّأْن (والموضوع لَهُ) اللَّفْظ (قيل الذهْنِي دَائِما) أَي الصُّور الذهنية سَوَاء كَانَ مَوْجُودا فِي الذِّهْن وَالْخَارِج أَو فِي الذِّهْن فَقَط، وَهَذَا مُخْتَار الإِمَام الرَّازِيّ (وَقيل) الْمَوْضُوع لَهُ الْمَوْجُود (الْخَارِجِي) وعزى إِلَى أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ (وَقيل الْأَعَمّ) من الذهْنِي والخارجي، وَقَالَ الْأَصْفَهَانِي هُوَ الْحق (وَنحن) نقُول اللَّفْظ (فِي الْأَشْخَاص) أَي فِي الْأَعْلَام الشخصية مَوْضُوع (للخارجي) أَي للموجود الْخَارِجِي (وَوُجُوب استحضار الصُّورَة) أَي الصُّورَة الذهنية للموجود الْخَارِجِي (للوضع) أَي لِأَن يضع اللَّفْظ بِإِزَاءِ ذَلِك وَالْمَوْجُود الْخَارِجِي (لَا يَنْفِيه) أَي لَا يَنْفِي كَونه للخارجي جَوَاب لمن قَالَ للذهني، لِأَن الْوَاضِع إِنَّمَا يستحضر صُورَة فَيَضَع الِاسْم بإزائها، فالموضوع لَهُ تِلْكَ الصُّورَة وَحَاصِله أَن الصُّورَة آلَة لملاحظة الْخَارِجِي، لَا أَنه وضع لَهَا (ونفيناه) أَي وضع الْأَلْفَاظ (للماهيات الْكُلية) لما سنذكر فِي بحث الْمُطلق (سوى علم الْجِنْس على رَأْي) أَي على رَأْي من يفرق بَينه وَبَين اسْم الْجِنْس بِأَنَّهُ للْحَقِيقَة المتحدة، وَاسم الْجِنْس لفرد مِنْهَا غير معِين، وَهُوَ الْأَوْجه على مَا ذكره المُصَنّف رَحمَه الله، وَفِي اسْم الْجِنْس مذهبان: أَحدهمَا أَنه مَوْضُوع للماهية مَعَ وحدة لَا بِعَينهَا، وَيُسمى فَردا منتشرا وَذهب إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَهُ التَّفْتَازَانِيّ وَقطع بِهِ المُصَنّف رَحِمهم الله، وَالْآخر أَنه مَوْضُوع للماهية من حَيْثُ هِيَ، وَاخْتَارَهُ السَّيِّد الشريف رَحمَه الله، فالموضوع لَهُ على الأول الْمَاهِيّة بِشَرْط شَيْء، وعَلى الثَّانِي لَا بِشَرْط شَيْء، وَسَيَجِيءُ بَيَانه فِي بحث الْمُطلق إِن شَاءَ الله تَعَالَى (بل) مَا سوى الْأَعْلَام الشخصية والجنسية مَوْضُوع (لفرد غير معِين) وَهُوَ(1/55)
الْفَرد الْمُنْتَشِر (فِيمَا) وضع لمَفْهُوم كلي (أَفْرَاده خارجية أَو ذهنية) فَإِن كَانَت خارجية فالموضوع لَهُ فَرد مَا من تِلْكَ الْأَفْرَاد الخارجية، وَإِن كَانَت ذهنية من الذهنية، وَإِن كَانَت ذهنية وخارجية، فَالظَّاهِر أَن الْعبْرَة بالخارجية (وَطَرِيق مَعْرفَتهَا) أَي معرفَة الأوضاع (التَّوَاتُر كالسماء وَالْأَرْض وَالْحر وَالْبرد وَأكْثر) أوضاع (أَلْفَاظ الْقُرْآن مِنْهُ) أَي مِمَّا عرف بالتواتر، أَشَارَ إِلَى دفع مَا شكك بِهِ بعض المبتدعة من أَن أَكثر الْأَلْفَاظ دورانا على الألسن كالجلالة وَقع فِيهِ الْخلاف أسرياني أم عَرَبِيّ مُشْتَقّ، ومم؟ أَو مَوْضُوع ابْتِدَاء، وَلم؟ فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا الروَاة لَهُ معدودون كالخليل والأصمعي، وَلم يبلغُوا عدد التَّوَاتُر، فَلَا يحصل الْقطع بقَوْلهمْ، وَأَيْضًا الْغَلَط عَلَيْهِم فِي تتبع كَلَام البلغاء جَائِز، وَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (والتشكيك فِيهِ) أَي فِيمَا عرف بالتواتر (سفسطة) أَي مُكَابَرَة (فِي مَقْطُوع) بِهِ بأخبار من يحِيل الْعقل تواطأهم على الْكَذِب (والآحاد) مَعْطُوف على التَّوَاتُر، وَهِي مَا لم يبلغ حد التَّوَاتُر من الْأَخْبَار (كالقر) بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الرَّاء للبرد (واستنباط الْعقل من النَّقْل) طَرِيق ثَالِث لمعرفتها (كنقل أَن الْجمع الْمحلى) بِاللَّامِ (يدْخلهُ الِاسْتِثْنَاء) الْمُتَّصِل، وَهَذِه مُقَدّمَة نقلية (وَأَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء (إِخْرَاج بعض مَا يَشْمَلهُ اللَّفْظ) أَي لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَهِي أَيْضا نقلية (فَيحكم) الْعقل بعد التَّأَمُّل فِي هَاتين المقدمتين النقليتين (بِعُمُومِهِ) أَي الْجمع الْمَذْكُور وتناوله جَمِيع الْأَفْرَاد بضميمة عقلية، هِيَ أَن الْإِخْرَاج تَحْقِيقا لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتناول صدر الْكَلَام للمخرج تَحْقِيقا، وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْعُمُوم، ولمزيد حَاجَة هَذَا الْقسم إِلَى أَعمال الْعقل سمي بِالِاسْمِ الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ الْعقل لَهُ مدْخل تَامّ فِي الْأَقْسَام كلهَا (أما) الْعقل (الصّرْف) أَي الْخَالِص من غير مدخلية النَّقْل (فبمعزل) بِفَتْح الْمِيم وَكسر الزَّاي بمَكَان بعيد عَن الِاسْتِقْلَال بِمَعْرِِفَة الْوَضع (وَلَيْسَ المُرَاد) من النَّقْل (نقل قَول الْوَاضِع كَذَا لكذا) أَي اللَّفْظ الْفُلَانِيّ مَوْضُوع للمعنى الْفُلَانِيّ (بل) المُرَاد (توارث فهم كَذَا من كَذَا) أَي الْخلف من السّلف أَنه يفهم الْمَعْنى الْفُلَانِيّ من اللَّفْظ الْفُلَانِيّ إِفَادَة واستفادة (فَإِن زَاد) طَرِيق النَّقْل على الْقدر الْمَذْكُور بِنَحْوِ هَذَا اللَّفْظ مَوْضُوع لهَذَا الْمَعْنى (فَذَاك) أقوى وأصرح (وَاخْتِلَاف فِي) جَوَاز إِثْبَات اللُّغَة بطرِيق (الْقيَاس) وَهُوَ إِلْحَاق معنى بِمَعْنى مُسَمّى باسم فِي التَّسْمِيَة بذلك الِاسْم، فجوزه القَاضِي وَابْن سُرَيج وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالْإِمَام الرَّازِيّ، وَقيل عَلَيْهِ أَكثر عُلَمَاء الْعَرَبيَّة، وَالأَصَح مَنعه، وَهُوَ قَول عَامَّة الْحَنَفِيَّة وَأكْثر الشَّافِعِيَّة وَالْغَزالِيّ والآمدي (أَي إِذا سمي مُسَمّى باسم فِيهِ) أَي ذَلِك الِاسْم (معنى) بِاعْتِبَار أَصله من حَيْثُ الِاشْتِقَاق أَو غَيره (يخال) أَي يظنّ صفة معنى (اعْتِبَاره) أَي ذَلِك الْمَعْنى (فِي التَّسْمِيَة) بِأَن يكون سَبَب تَسْمِيَة ذَلِك الْمُسَمّى بذلك الِاسْم (للدوران) مُتَعَلق بيخال: أَي الظَّن(1/56)
الْمَذْكُور لأجل دوران الِاسْم مَعَ ذَلِك الْمَعْنى وجودا وعدما (وَيُوجد) ذَلِك الْمَعْنى عطف على يخال (فِي غَيره) أَي غير ذَلِك الْمُسَمّى (فَهَل يتَعَدَّى الِاسْم إِلَيْهِ) أَي إِلَى غير ذَلِك الْغَيْر بِسَبَب وجود ذَلِك الْمَعْنى فِيهِ (فيطلق) ذَلِك الِاسْم (عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الْغَيْر (حَقِيقَة) وَأما مجَازًا فَلَا نزاع فِيهِ (كالمسمى نقلا) أَي كَمَا يُطلق اسْم كَانَ لِمَعْنى، ثمَّ نقل إِلَى معنى آخر، فَسمى بِهِ لمشاركتهما فِي معنى يتضمنه الِاسْم على الْمُسَمّى الْمَنْقُول إِلَيْهِ حَقِيقَة، وَقَوله نقلا نصب على الْمصدر: أَي تَسْمِيَة نقل: أَي بطرِيق النَّقْل (كَالْخمرِ) الَّتِي هِيَ اسْم للنئ من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد إِذا أطلق (على النَّبِيذ) إِلْحَاقًا لَهُ بالنئ الْمَذْكُور (للمخامرة) وَهِي التخمير والتغطية لِلْعَقْلِ، وَهُوَ معنى فِي الِاسْم يظنّ اعْتِبَاره فِي تَسْمِيَة النئ بِهِ لدوران التَّسْمِيَة مَعَه، فَمَا لم يُوجد فِي مَاء الْعِنَب لَا يُسمى خمرًا بل عصيرا، وَإِذا وجد فِيهِ سمي بِهِ، وَإِذا زَالَ عَنهُ لم يسم بِهِ بل خلا، وَقد وجد فِي النَّبِيذ (أَو يخص) اسْم الْخمر (بمخامر هُوَ مَاء الْعِنَب) الْمَذْكُور، فَلَا يُطلق حَقِيقَة على النَّبِيذ، وَقَوله يخص مَعْطُوف على يتَعَدَّى (وَالسَّارِق) أَي وكالسارق الَّذِي هُوَ اسْم للآخذ مَال الْحَيّ خُفْيَة من حرز لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ إِذا أطلق (على النباش) وَهُوَ من يَأْخُذ كفن الْمَيِّت خُفْيَة من الْقَبْر بعد دَفنه (للأخذ خُفْيَة) أَي لهَذَا الْمَعْنى الْمَوْصُوف بِمَا ذكر (وَالزَّانِي) الَّذِي هُوَ اسْم للمولج آلَته فِي قبل آدمية حَيَّة مُحرمَة عَلَيْهِ بِلَا شُبْهَة إِذا أطلق (على اللائط) وَهُوَ من يعْمل عمل قوم لوط (للإيلاج الْمحرم) الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْمَوْصُوف بِمَا ذكر (وَالْمُخْتَار نَفْيه) أَي الْقيَاس الْمَذْكُور (قَالُوا) أَي المثبتون (الدوران) يُفِيد أَن صِحَة إِطْلَاق الِاسْم مَبْنِيّ على وجود الْمَعْنى الْمَذْكُور مهما وجد، وَقد وجد فِيمَا قصد إِلْحَاقه (قُلْنَا إفادته) أَي الدوران ذَلِك (مَمْنُوعَة) أَي كَون الدوران طَرِيقا صَحِيحا لإِثْبَات الْمَطْلُوب غير مُسلم، كَمَا يَأْتِي فِي مسالك الْعلَّة (وَبعد التَّسْلِيم) لإِفَادَة الدوران، وَكَونه طَرِيقا صَحِيحا كَمَا هُوَ مَذْهَب جمَاعَة نقُول (إِن أردتم) بدوران الِاسْم مَعَ الْمَعْنى الْمَذْكُور دورانا (مُطلقًا) سَوَاء وجد فِي أَفْرَاد الْمُسَمّى أَو غَيرهَا بادعاء ثُبُوت الِاسْم فِي كل مَادَّة يُوجد فِيهَا ذَلِك الْمَعْنى، وانتفائه فِي كل مَا لم يُوجد فِيهِ بطرِيق النَّقْل (فَغير الْمَفْرُوض) أَي فَمَا أردتموه خلاف الْمَفْرُوض (لِأَن مَا يُوجد فِيهِ) ذَلِك الْمَعْنى (حِينَئِذٍ) أَي حِين إِذْ ثَبت كَون الِاسْم لما فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى مُطلقًا (يكون) خبر إِن (من أَفْرَاد الْمُسَمّى) يَعْنِي مَا فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق حِينَئِذٍ فرع يلْحق بِأَصْل الْقيَاس، وَهَذَا خلاف الْمَفْرُوض (أَو) أردتم بدوران الِاسْم أَن يَدُور مَعَه (فِي الأَصْل) الْمَقِيس عَلَيْهِ (فَقَط) بِوُجُود الِاسْم فِي كل مَادَّة يُوجد فِيهَا الْمُسَمّى وانتفائه فِي كل مَا لم يُوجد فِيهِ (منعنَا) حِينَئِذٍ(1/57)
(كَونه) أَي الدوران (طَرِيقا) مثبتا تَسْمِيَة الشَّيْء باسم لمشاركته الْمُسَمّى فِي معنى دَار الِاسْم مَعَه وجودا وعدما فِي الْمُسَمّى (هُنَا) أَي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَإِن سلمنَا كَون الدوران طَرِيقا صَحِيحا لإِثْبَات المطالب فِي الْجُمْلَة (وَكَونه) أَي الدوران (كَذَلِك) أَي طَرِيقا صَحِيحا لإِثْبَات الحكم (فِي الشرعيات) العمليات (للْحكم الشَّرْعِيّ) أَي لتعديته من مَحل إِلَى مَحل أَو لإثباته بِهَذَا الطَّرِيق (لَا يستلزمه) أَي كَونه طَرِيقا صَحِيحا (فِي) إِثْبَات (الِاسْم) وتعديته من مُسَمّى إِلَى مَحل آخر حَاصِل استدلالهم أَنه ثَبت الْقيَاس بالدوران شرعا فَيثبت لُغَة، إِذْ الْمَعْنى الْمُوجب للثبوت فيهمَا وَاحِد، وَهُوَ الِاشْتِرَاك فِي معنى يظنّ مدَار الحكم (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس فِي الشرعيات (سَمْعِي) ثَبت اعْتِبَاره بِالسَّمَاعِ من الشَّارِع (تعبد بِهِ) أَي تعبدنا الشَّارِع بِهِ لوُرُود الْقَاطِع مِنْهُ فِي حَقه، وَهُوَ الْإِجْمَاع إِذْ لَا عِبْرَة بِخِلَاف الظَّاهِرِيَّة فِيهِ (لَا) أَنه أَمر (عَقْلِي) ليَكُون للرأي مدْخل فِيهِ فَيرد نقضا على عدم اعتبارنا الْقيَاس فِي اللُّغَة، ثمَّ أيد سَنَد الْمَنْع الْمَذْكُور فِي ثَانِي شقي الترديد بقوله (ثمَّ تَجْوِيز كَون خُصُوصِيَّة الْمُسَمّى مُعْتَبرَة) فِي التَّسْمِيَة بِالِاسْمِ الْمَذْكُور (ثَابت) وَالْمرَاد بِثُبُوت التجويز أَنه لَيْسَ مُجَرّد احْتِمَال عَقْلِي بل هُوَ إِمْكَان وقوعي (بل) ثُبُوته (ظَاهر بِثُبُوت مَنعهم) أَي عُلَمَاء الْعَرَبيَّة، قَالَ أهل الْعَرَبيَّة فِي مَبْحَث الِاشْتِقَاق: الْمُشْتَقّ قد يطرد كاسم الْفَاعِل، وَالزَّمَان وَغَيرهمَا، وَقد لَا يطرد كالقارورة والدبران، وتحقيقه أَن وجود معنى الأَصْل فِي مَحل التَّسْمِيَة قد يعْتَبر بِحَيْثُ أَنه دَاخل فِي التَّسْمِيَة، وَالْمرَاد ذَات مَا بِاعْتِبَار نسبته لَهُ إِلَيْهَا، فَهَذَا يطرد فِي كل ذَات كَذَلِك، وَقد يعْتَبر بِحَيْثُ أَنه مصحح للتسمية مُرَجّح لَهَا من بَين الْأَسْمَاء من غير دُخُوله فِي التَّسْمِيَة، وَالْمرَاد ذَات مَخْصُوصَة فِيهَا الْمَعْنى: لَا من حَيْثُ هُوَ فِيهَا بل بِاعْتِبَار خصوصها، فَهَذَا لَا يطرد وَالْجَار مُتَعَلق بِثَابِت أَو بِظَاهِر (طرد الأدهم) مفعول الْمَنْع أَي صِحَة إِطْلَاق الأدهم الَّذِي هُوَ اسْم الْفرس الْأسود على كل مَا فِيهِ سَواد (والأبلق) الَّذِي هُوَ اسْم للْفرس الَّذِي فِيهِ سَواد وَبَيَاض على كل مَا فِيهِ ذَلِك (والقارورة) الَّتِي هِيَ اسْم لمقر الْمَائِعَات من الزّجاج على كل مَا هُوَ مقرّ لَهَا من غَيره (والأجدال) الَّذِي هُوَ اسْم للصقر لقُوته، على كل مَا فِيهِ قُوَّة (والأخيل) الَّذِي هُوَ اسْم لطائر بِهِ خيلان على كل مَا بِهِ ذَلِك (وَمَا لَا يُحْصى) من نَظَائِر هَذِه الْمَذْكُورَات، كالسماك الَّذِي هُوَ اسْم لكل من كوكبين مخصوصين مرتفعين، على كل مُرْتَفع، وَقرر هَذَا الْكَلَام مُعَارضَة، بَيَانه أَن الْقيَاس فِي اللُّغَة إِثْبَات لَهَا الْمُحْتَمل وَهُوَ بَاطِل، أما الأولى فَلِأَنَّهُ يحْتَمل التَّصْرِيح بِمَنْعه كَمَا يحْتَمل التَّصْرِيح بِاعْتِبَارِهِ بِدَلِيل مَنعهم اطراد الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة، وَأما الثَّانِيَة فَلِأَنَّهُ بِمُجَرَّد احْتِمَال الْوَضع لَا يَصح الحكم بِهِ فَإِن ذَلِك يسْتَلْزم جَوَاز الحكم بِالْوَضْعِ بِغَيْر قِيَاس، إِذا قَامَ احْتِمَال، وَذَلِكَ بَاطِل اتِّفَاقًا (فَظهر)(1/58)
بِمَا ذكر من اعْتِبَار خُصُوصِيَّة الْمُسَمّى (أَن المناط) أَي منَاط التَّسْمِيَة (فِي مثله) أَي مثل مَا ذكر مِمَّا فِيهِ معنى يُنَاسب أَن يعْتَبر فِي التَّسْمِيَة هُوَ (الْمَجْمُوع) من الذوات وَالْوَصْف الْمَخْصُوص (فإثباتها) أَي اللُّغَة (بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ إِثْبَات (بِالِاحْتِمَالِ) وَفِي بعض النّسخ بمحتمل وَهُوَ بَاطِل لما عرفت، ثمَّ قيل ثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي الْحُدُود فِي الْجِنَايَات الْمَذْكُورَة، فالقائل بِالْقِيَاسِ يحد شَارِب النَّبِيذ والنباش واللائط، وَمن لم يقل لَا يحد (وَاللَّفْظ أَن وضع لغيره) أَي لغير نَفسه سَوَاء كَانَ لفظا آخر كالاسم وَالْفِعْل، أَو معنى كزيد وَضرب كَذَا قيل، وَيرد عَلَيْهِ أَن الِاسْم وَالْفِعْل وضعا لمفهومين كليين وَيُمكن الْجَواب بِأَن أفرادهما أَلْفَاظ فكون مَا وضعا لَهُ ألفاظا بِاعْتِبَار مَا صدقا عَلَيْهِ، والتمثيل بالضمائر الراجعة إِلَى الْأَلْفَاظ ونظائرها على رَأْي الْمُتَأَخِّرين من أَن الْوَضع فِيهَا عَام والموضوع لَهُ خَاص (فمستعمل وَإِن لم يسْتَعْمل) قطّ فِيمَا وضع لَهُ والمستعمل يسْتَعْمل فِي مَعْنيين أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر مَا أطلق وَأُرِيد بِهِ الْمَعْنى (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يوضع لغيره (فمهمل وَإِن اسْتعْمل) أَي أطلق وَأُرِيد بِهِ نَفسه (كديز ثَلَاثَة) فَإِنَّهُ لم يوضع دير لغيره من لفظ أَو معنى (وبالمهمل) أَي بِاسْتِعْمَال المهمل فِي نَفسه اسْتِعْمَالا صَحِيحا (ظهر وضع لَك لفظ لنَفسِهِ) لِأَن ذكر اللَّفْظ وَإِرَادَة نَفسه لَا يخْتَص بالمهمل بل يعم الْأَلْفَاظ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي دلَالَته عَلَيْهِ وَتلك الدّلَالَة لَيست عقلية فَهِيَ وضعية (كوضعها لغيره) أَي كظهور وضع بَعْضهَا لغير نَفسه بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْغَيْر فَشبه ظُهُور وضع الْكل للنَّفس بِظُهُور وضع الْبَعْض للْغَيْر بِجَامِع الِاسْتِعْمَال بِلَا قرينَة، غَايَة الْأَمر أَن منَاط الِاسْتِعْمَال والإهمال الْوَضع للْغَيْر (لِأَن الْمجَاز يسْتَلْزم وضعا) أَي وَضعه قبل أَن يسْتَعْمل فِي الْمَعْنى الْمجَازِي (للمغاير) أَي لمغاير الْمَعْنى الْمجَازِي: لِأَن الْمجَاز هُوَ اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ فَلَو فرض كَون الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه مجَازًا لزم كَون نَفسه مغايرا لما وضع لَهُ فَالْحَاصِل أَن مجازيه المهمل الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه تَسْتَلْزِم وَضعه للمغاير وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْوَضع للمغاير (مُنْتَفٍ فِي المهمل) كَمَا علم من تَعْرِيفه الْحَاصِل من التَّقْسِيم، وَإِذا انْتَفَى الْمجَاز تعين الْحَقِيقَة، وَهِي مستلزمة للوضع، وعَلى هَذَا التَّقْرِير يثبت الْوَضع فِي المهمل الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه، ثمَّ يحمل عَلَيْهِ الْمُسْتَعْمل لعدم الْقَائِل بِالْفرقِ بَين المهمل والمستعمل بِاعْتِبَار الِاسْتِعْمَال فِي نَفسهَا وَيُمكن أَن يُرَاد استلزام مجازية الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه وَضعه لغير نَفسه، لِأَن مَا وضع لَهُ اللَّفْظ مُغَاير لمعناه الْمجَازِي (وَلعدم العلاقة) تَعْلِيل آخر لنفي مجازية الْمُسْتَعْمل فِي نَفسه وَحَاصِله أَن العلاقة لَازِمَة فِي الْمجَاز وَلَا يتَصَوَّر شَيْء من أَنْوَاع العلاقة الْمُعْتَبرَة بَين نفس اللَّفْظ وَمَا وضع لَهُ أما فِي المهمل فَظَاهر، وَأما فِي الْمُسْتَعْمل فَلِأَنَّهُ لَا علاقَة بَين اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، أَعنِي من العلاقات الْمُعْتَبرَة كَمَا لَا يخفى على الْعَارِف بهَا، وَمَا قيل من أَن العلاقة بَينهمَا الْمُجَاورَة لارتسامهما فِي الخيال مَعًا لَيْسَ(1/59)
بِشَيْء، لِأَن العلاقة فِي الْمجَاز وَسِيلَة للانتقال من الدَّال إِلَى الْمَدْلُول وهما متحدان هَهُنَا والتغاير اعتباري، فَمن حَيْثُ أَنه سَبَب لإحضار نَفسه دَال، وَمن حَيْثُ أَنه مُرَاد بِذكرِهِ مَدْلُول وَلَا يحْتَاج مثل هَذِه الدّلَالَة إِلَى وَسِيلَة، نعم يحْتَاج إِلَى قرينَة تعين أَن المُرَاد بِهِ نَفسه، وَهُوَ غير العلاقة وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن كَون اللَّفْظ مَوْضُوعا لنَفسِهِ يسْتَلْزم الْمُسَاوَاة بَين دلَالَته على نَفسه ودلالته على مَعْنَاهُ، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ لتبادر مَعْنَاهُ وَسَبقه إِلَى الْفَهم، أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَيجب كَون الدّلَالَة) أَي دلَالَة اللَّفْظ الْمَوْضُوع لغيره (على مُغَاير) أَي على مَا وضع لَهُ المغاير لنَفسِهِ دون نَفسه (قبل) ذكر (الْمسند) ظرف للدلالة الْمَذْكُورَة وَإِنَّمَا قيدت بِهِ، لِأَنَّهُ بعد ذكره يتَعَيَّن كَون المُرَاد بِهِ نَفسه لِأَنَّهُ صَارف عَن المغاير لعدم صِحَة إِسْنَاده إِلَيْهِ (لعدم الشُّهْرَة) خبر الْكَوْن، يَعْنِي عدم شهرة وضع اللَّفْظ لنَفسِهِ أَو عدم شهرة اسْتِعْمَاله فِي نَفسه كشهرة اسْتِعْمَاله فِي الْغَيْر فَإِن كل وَاحِد من العدمين يُوجب عدم تبادر النَّفس خُصُوصا مَعَ شهرة وَضعه للْغَيْر، أَو شهرة اسْتِعْمَاله فِيهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وشهرة مَا يُقَابله) فكون الدّلَالَة قبل الْمسند على المغاير لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة لَا يُنَافِي وَضعه لَهما (وَلما كَانَ) وَضعه لنَفسِهِ (غير قصدي) بِأَن قَالَ الْوَضع مثلا وضعت كل لفظ بِإِزَاءِ نَفسه (لِأَن الظَّاهِر أَنه) أَي وَضعه لنَفسِهِ (لَيْسَ إِلَّا تَجْوِيز اسْتِعْمَاله) فِي نَفسه (ليحكم عَلَيْهِ) أَي على اللَّفْظ (نَفسه) تَأْكِيد للمجرور، وَذَلِكَ لِأَن الْوَضع القصدي إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد المباينة والبعد بَين الدَّال والمدلول، وَلَا بعد بَين اللَّفْظ وَنَفسه، بل فهم نَفسه عِنْد ذكره ضَرُورِيّ، لَكِن لَا يُسمى ذَلِك دلَالَة إِلَّا إِذا صرفت قرينَة عنان الْقَصْد إِلَيْهِ بِالذَّاتِ ليحكم عَلَيْهِ، فَيكون حِينَئِذٍ مرَادا، وَلما وجدنَا هَذِه الْإِرَادَة فِي الاطلاقات الصَّحِيحَة فِي جَمِيع اللُّغَات عرفنَا التجويز فِي ذَلِك من الْوَاضِع، وَإِلَّا لما وَقعت كَذَلِك، وَلَا شكّ أَن هَذَا التجويز نوع من الْوَضع مِنْهُ (لم يوضع الألقاب الاصطلاحية بِاعْتِبَارِهِ) جَوَابا لما، وَالْمَقْصُود من هَذَا الْكَلَام دفع إِيرَاد يدل عَلَيْهِ قَوْله (فَلم يكن كل مَوْضُوع للمغاير مُشْتَركا) تَقْرِيره أَن القَوْل بِوَضْع الْأَلْفَاظ لأنفسها يسْتَلْزم انحصار اللَّفْظ الْمَوْضُوع فِي الْمُشْتَرك فَلَا يَصح تقسيمه إِلَى الْمُفْرد والمشترك وَكَذَلِكَ انحصاره فِي الْعلم إِلَى غير ذَلِك وَحَاصِل الْجَواب أَن الِاشْتِرَاك وَغَيره من الْأَسْمَاء الاصطلاحية لم تُوضَع لمعانيها بِاعْتِبَار هَذَا الْوَضع، بل بِاعْتِبَار وَضعهَا لغير أَنْفسهَا (وَلم يسم) اللَّفْظ الْمَوْضُوع (بِاعْتِبَارِهِ) أَي وَضعه لنَفسِهِ (عُلَمَاء وَلَا اسْم جنس وَلَا دَالا بالمطابقة) إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا سميت الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة ألقابا، لكَونهَا مشعرة بمعان اعْتبرت فِي تَسْمِيَة مسمياتها بهَا كَمَا أَن الألقاب مشعرة بمعان اعْتبر فِي تَسْمِيَتهَا فِي مدح أَو ذمّ (والاعتراض بِأَنَّهُ) أَي القَوْل بِوَضْع اللَّفْظ لنَفسِهِ (مُكَابَرَة لِلْعَقْلِ بل لَا وضع) للفظ لنَفسِهِ (لاستدعائه) أَي الْوَضع (التَّعَدُّد) أَي(1/60)
تعدد مُتَعَلقَة ضَرُورَة استلزامه مَوْضُوعا وموضوعا لَهُ وَلَا تعدد على تَقْدِير وَضعه لنَفسِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْوَضع (للْحَاجة) أَي إِفَادَة الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ (وَهِي) أَي الْحَاجة الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تحصل (فِي) إِفَادَة (المغاير) أَي إِفَادَة اللَّفْظ مَا يغايره (مَبْنِيّ) خبر الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ قَوْله الِاعْتِرَاض على حمل كَلَام الْقَائِل بِالْوَضْعِ (على ظَاهر اللَّفْظ) أَي على معنى يدل عَلَيْهِ ظَاهر عِبَارَته من إِطْلَاق لفظ الْوَضع (وَمَا قُلْنَا) من أَن المُرَاد من وضع اللَّفْظ لنَفسِهِ تَجْوِيز اسْتِعْمَاله فِي نَفسه ليحكم عَلَيْهِ (مخلص مِنْهُ) أَي من الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور وَأجِيب أَيْضا بِأَن التغاير الاعتباري كَاف فِي كَون الشَّيْء دَالا ومدلولا، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن المخلص مغن عَن هَذَا التَّكَلُّف. قَالَ السَّيِّد السَّنَد فِي حَاشِيَة الْكَشَّاف ردا على الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ التَّحْقِيق أَنه إِذا أُرِيد إِجْرَاء الحكم على لفظ مَخْصُوص تلفظ بِهِ نَفسه وَلم يحْتَج هُنَاكَ إِلَى وضع وَلَا إِلَى دَال على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ للاستغناء بتلفظه وحضوره بذلك فِي ذهن السَّامع عَمَّا يدل عَلَيْهِ ويحضره فِيهِ، وَمَا ذكره المُصَنّف قريب مِنْهُ (والمستعمل مُفْرد ومركب، فالمفرد مَاله دلَالَة لاستقلاله بِوَضْع) الْجَار الأول مُتَعَلق بِالدّلَالَةِ، وَالثَّانِي بالاستقلال: أَي بِكَوْن دلَالَته على الْمَعْنى بِسَبَب وَضعه لَهُ مُسْتقِلّا لَا فِي ضمن لفظ آخر كتاء تضرب (وَلَا جُزْء مِنْهُ) أَي مِمَّا لَهُ الدّلَالَة الْمَذْكُورَة (لَهُ) أَي الْجُزْء الْمَذْكُور (مثلهَا) أَي مثل الدّلَالَة الْمَذْكُورَة بِأَن يدل على معنى لاستقلاله بِوَضْع، فَقَوله مِنْهُ صفة جُزْء وَله خبر مثلهَا، وَالْجُمْلَة خبر لَا (والمركب مَا لَهُ ذَلِك) أَي الدّلَالَة الْمَذْكُورَة (ولجزئه) مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَجْرُور: أَي ولجزئه أَيْضا تِلْكَ الدّلَالَة (وَلم يشْتَرط كَونه) أَي كَون جزئه (دَالا على جُزْء الْمُسَمّى) أَي مُسَمّى الْكل كَمَا شَرط المنطقيون (فَدخل نَحْو عبد الله علما فِي الْمركب) لِأَن جزءه دَال لَكِن لَا على جُزْء الْمَعْنى فَإِن قلت صرح الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِعَدَمِ دلَالَة جُزْء مِنْهُ عِنْد الْقَرِينَة الدَّالَّة على إِرَادَة الْمَعْنى العلمي، وَشبه عبد فِي عبد الله بِأَن من إِنْسَان، وَلَا قَائِل فِيهِ بالتركيب وَدلَالَة أَن على الشَّرْط قُلْنَا الْقَرِينَة صارفة عَن الْإِرَادَة لَا الدّلَالَة وَلَيْسَ امتزاج مَاله دلَالَة بِمَا لَا دلَالَة لَهُ كامتزاجه بِمَا لَهُ دلَالَة بِحَيْثُ لَا يشابه الْمركب مِنْهُمَا بهيئة المركبات (وَخرج) عَن الْمركب (تضرب وأخواته) من المبدوء بِالْهَمْزَةِ وَالنُّون وَالْيَاء وفيهَا مَذَاهِب وَالْمُخْتَار أَن الْكل مُفْرد وَمُقَابِله أَن الْكل مركب، وَالثَّالِث التَّفْصِيل وَهُوَ قَول ابْن سينا أَن المبدوء بِالْيَاءِ مُفْرد وَغَيره مركب، وَجه الثَّانِي دلَالَة حرف المضارعة على مَوْضُوع معِين فِي غير ذِي الْيَاء وَغير معِين فِيهِ، وَلَا وَجه للتفصيل كَذَا نقل عَن المُصَنّف وَلَا يبعد أَن يُقَال فِي تَوْجِيهه أَن الْفِعْل من حَيْثُ أَنه عرض لَا بُد لَهُ من مَوْضُوع يدل على مَوْضُوع غير معِين فالياء كَأَنَّهَا لَا تفِيد أمرا زَائِدا بِخِلَاف مَا يدل على تعين الْمَوْضُوع (لِأَنَّهُ) أَي الْمُضَارع مَوْضُوع(1/61)
(لمُجَرّد فعل الْحَال أَو الِاسْتِقْبَال) على سَبِيل منع الْخُلُو، فَيصح على الْأَقْوَال كَونه للْحَال فَقَط أَو الِاسْتِقْبَال فَقَط، أَو لَهما على الِاشْتِرَاك كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (لموضوع خَاص) يَعْنِي مَا قَامَ بِهِ من الْمُتَكَلّم والمخاطب وَالْغَائِب الْمعِين، فمنعاه مركب من ثَلَاثَة حدث وزمان وَنسبَة إِلَى معِين وَالْجَار مُتَعَلق بِمَحْذُوف، وَهُوَ صفة فعل: أَي لمُجَرّد الْفِعْل الثَّابِت لموضوع، الْمُثبت لَهُ خَارج عَمَّا وضع لَهُ وَحَاصِل التَّعْلِيل أَن الْمُضَارع الَّذِي فِيهِ حرف المضارعة كلمة وَاحِدَة وضعت دفْعَة وَاحِدَة للمعنى الَّذِي فِيهِ النِّسْبَة إِلَى الْمُتَكَلّم أَو الْمُخَاطب أَو الْغَائِب إِلَّا أَنه وضع مَدْخُول حرف المضارعة للْحَدَث وَالزَّمَان وَالنِّسْبَة، وحرف المضارعة لوصف ذَلِك الْمَوْضُوع من التَّكَلُّم الخ (بِخِلَاف ضربت) بالحركات الثَّلَاث فِي التَّاء (لاستقلال تائه بِالْإِسْنَادِ) الَّذِي يقْضِي اسْتِقْلَال الْمسند إِلَيْهِ لفظا لكَونه محلا للإعراب، وَمعنى لكَونه مُسْندًا إِلَيْهِ (بِخِلَاف تَاء تضرب) سَوَاء كَانَت للمخاطب أَو للغائبة، وَهُوَ حَال من التَّاء، وَالْمعْنَى تَاء ضربت مُسْتَقلَّة حَال كَونهَا مُلَابسَة بِخِلَاف تَاء تضرب فِي الِاسْتِقْلَال (وَقيد المنطقيون) فِي تعريفي الْمُفْرد الْمركب (دلَالَة الْجُزْء بِجُزْء الْمَعْنى) أَي بِكَوْنِهَا على جُزْء الْمَعْنى (وقصدها) أَي وبكونها مَقْصُودَة، فالمفرد عِنْدهم مَا لَيْسَ لَهُ جُزْء دَال على جُزْء مَعْنَاهُ دلَالَة مَقْصُودَة إِمَّا بِأَن لَا يكون لَهُ جُزْء كالهمزة، أَو كَانَ بِلَا دلَالَة كزاي زيد، أَو مَعَ دلَالَة لَكِن لَا على جُزْء الْمَعْنى كَعبد الله، أَو مَعَ دلَالَة على جُزْء مَعْنَاهُ لَكِن دلَالَة غير مَقْصُودَة كالحيوان النَّاطِق الْمَوْضُوع لشخص، وَإِلَى الآخرين أَشَارَ بقوله (فعبد الله مُفْرد، و) كَذَا (الْحَيَوَان النَّاطِق لإِنْسَان) تَفْرِيع على اعْتِبَار القيدين نفيا وإثباتا (وإلزامهم) أَي المنطقيين (بتركيب نَحْو مخرج) وضارب وسكران لدلَالَة جَوْهَر الْكَلِمَة على مبدأ الِاشْتِقَاق، وَمَا ضم إِلَيْهِ من مَا زيد عَلَيْهِ (غير لَازم) عَلَيْهِم، وَلما كَانَ الْإِلْزَام الْمَذْكُور محررا على وَجْهَيْن تَارَة بِاعْتِبَار الْهَيْئَة، وَتارَة بِاعْتِبَار الْحُرُوف الزَّوَائِد فصل الْجَواب فَقَالَ (فعلى اعْتِبَار الْجُزْء الْهَيْئَة) مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى التصيير وَالْمعْنَى فَعدم لُزُومه بِنَاء على اعْتِبَار الْجُزْء الْمُوجب تركيبها الْهَيْئَة مفَاد (لتصريحهم) أَي المنطقيين فِي تَفْسِير الْجُزْء الْمُعْتَبر فِي الْمُفْرد والمركب (بالمسموع بالاستقلال) فمرادهم جُزْء مسموع بِذَاتِهِ لَا فِي ضمن شَيْء والهيئة إِن سلم كَونهَا مسموعة فَهِيَ مسموعة فِي ضمن الْمَادَّة، وَقَرِيب من هَذَا مَا قيل من أَن المُرَاد الْجُزْء الميرتب فِي السّمع (وَلِأَن الْكَلَام فِي تركيب اللَّفْظ ظَاهر) أَي وَلِأَن كَلَام المنطقيين هَهُنَا فِي تركيب لفظ مَعَ لفظ ظَاهر متبادر والتعريفات تحمل على مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهَا، وَالْحَاصِل أَنه دفع الِاعْتِرَاض عَنْهُم بِوَجْهَيْنِ: الأول أَنهم صَرَّحُوا بمرادهم، وَالثَّانِي أَن مُرَادهم ظَاهر من كَلَامهم من غير حَاجَة إِلَى تصريحهم (وعَلى اعْتِبَاره) أَي الْجُزْء (الْمِيم) فِي نَحْو(1/62)
مخرج (وَنَحْوه) كالألف فِي ضَارب (فلمنع دلَالَته) أَي كل من الْمِيم وَنَحْوه (بل) الدَّال على مَجْمُوع الْمَعْنى المُرَاد فِي هَذِه الْأَلْفَاظ (الْمَجْمُوع) من الْحُرُوف الْأُصُول والزوائد لوضع الْمَجْمُوع دفْعَة للمجموع من غير وضع الْجُزْء للجزء، لَا يُقَال لَزِمَهُم القَوْل بتركيب نَحْو مخرج لقَولهم بتركيب الْمُضَارع، لِأَن اعْتِبَار التَّرْكِيب فِيهِ يسْتَلْزم كَون الْحَرْف الزَّائِد مَوْضُوعا بِإِزَاءِ مَا هُوَ الأَصْل فِي الْمَعْنى: أَعنِي الذَّات الَّتِي يقوم بهَا مبدأ الِاشْتِقَاق، بِخِلَاف حرف المضارعة، فَإِنَّهَا بِإِزَاءِ وصف الْفَاعِل من التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة، نعم الْوَجْه عدم التَّرْكِيب فِي الْمُضَارع أَيْضا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَجعل تضرب) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق للمخاطب أَو الغائبة (مركبا إِن كَانَ) سَببه (الْإِسْنَاد فِي تائه فخلاف أهل اللُّغَة) أَي مخالفهم وَكَيف لَا والمسند إِلَيْهِ الِاسْم لَا غير وحروف المضارعة من حُرُوف المباني، مَجْمُوع الشَّرْط وَالْجَزَاء خبر الْمُبْتَدَأ (أَو للمستكن) مَعْطُوف على قَوْله إِلَى تائه، وَاللَّام بِمَعْنى إِلَى كَقَوْلِه تَعَالَى - {فسقناه لبلد} - (فَمَا ذكرنَا) أَي فَجَوَابه مَا ذكرنَا من أَن الْمُضَارع مَوْضُوع لمُجَرّد الْفِعْل الثَّابِت لموضوع خَاص وَلَا تركيب فِيهِ، وَالضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ كلمة أُخْرَى مَوْضُوعَة لذَلِك الْمَوْضُوع، وَلَا نزاع فِي تركيب مَجْمُوع الْمُضَارع وَالضَّمِير (وَلذَا) أَي وَلعدم اقْتِضَاء المستكن تركبه (لم يركب) أَي لم يصر مركبا (اضْرِب) على صِيغَة الْأَمر (وَيضْرب فِي زيد يضْرب) مَعَ وجود المستكن فيهمَا (وَجَوَاب مركبه) أَي من ذهب إِلَى تركيب الْمُضَارع مُطلقًا (مِنْهُم) أَي من المنطقيين (مَا ذكرنَا) من التَّفْصِيل، وَذهب الرضي إِلَى أَن الْمُضَارع، وَمثل مسلمان ومسلمون وَبصرى وقائمة والمؤنث بِالْألف والمعرف بِاللَّامِ مركبات عدت لشدَّة الامتزاج وَعدم اسْتِقْلَال الْحُرُوف الْمُتَّصِلَة فِيهَا كلمة وَاحِدَة وأعربت إِعْرَاب الْكَلِمَة الْوَاحِدَة، وَمَا اخْتَارَهُ المُصَنّف رَحمَه الله أنسب بقواعد الْإِعْرَاب، وَلما ذكر (وينقسم كل من الْمُفْرد والمركب، فالمركب) قدمه لقلَّة أقسامه وَكَون مَفْهُومه وجوديا (إِن أَفَادَ نِسْبَة تَامَّة) يَصح السُّكُوت عَلَيْهَا (بِمُجَرَّد ذَاته) من غير انضمامه إِلَى كلمة أُخْرَى، فَخرج قَائِم مَعَ ضَمِيره فِي زيد قَائِم، لِأَنَّهُ يدل عَلَيْهَا بانضمامه إِلَى زيد (فجملة) أَي فَهُوَ جملَة اسمية أَن بُدِئَ باسم كزيد قَائِم وفعلية إِن بُدِئَ بِفعل كقام زيد وَيَا عبد الله وَإِن أكرمتني أكرمتك، وَيُقَال لهَذِهِ شَرْطِيَّة، وأمامك أَو فِي الدَّار خَبرا عِنْد الْبَصرِيين بِتَقْدِير حصل أَو اسْتَقر، وَيُقَال لهَذِهِ ظرفية خلافًا للكوفيين فَإِنَّهُم جَعَلُوهُ مُفردا بِتَقْدِير نَحْو حَاصِل، وَمِنْهُم من جعله قسما بِرَأْسِهِ لَا من الْمُفْرد وَلَا من الْجُمْلَة (أَو نَاقِصَة) عطف على تَامَّة: أَي إِن أَفَادَ نِسْبَة نَاقِصَة لَا يَصح السُّكُوت عَلَيْهَا (فالتقييدي) أَي فَهُوَ الْمركب التقييدي لتقييد الْجُزْء الأول بِالْآخرِ كغلام زيد وَالْحَيَوَان النَّاطِق (ومفرد(1/63)
أَيْضا) لِأَن الْمُفْرد مُشْتَرك بَين معَان مِنْهَا مَا يُقَابل الْجُمْلَة، وَمِنْهَا مَا أَفَادَ بقوله (وَكَذَا فِي مُقَابلَة الْمثنى وَالْمَجْمُوع) أَي كَمَا يُطلق فِي مُقَابلَة الْجُمْلَة كَذَلِك يُطلق فِي مقابلتهما، وَمِنْهَا مَا يُقَابل الْمُضَاف إِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والمضاف) عطف على الْمثنى وَالْمَجْمُوع (وَنَحْو قَائِم) من الصِّفَات (لَا يرد) على تَعْرِيف الْجُمْلَة بتوهم كَون مَا أَفَادَهُ من نِسْبَة الْمصدر إِلَى الذَّات تَاما (لِأَنَّهُ مُفْرد) لعدم دلَالَة جزئه على معنى (وَأَيْضًا) لَا يدل على النِّسْبَة وضعا (إِنَّمَا يدل على ذَات متصفة) بِمَا اشتق مِنْهُ بِوَضْعِهِ لَهَا (فَيلْزم) أَن يفهم (النِّسْبَة) بَين الذَّات وَالْوَصْف (عقلا) أَي لُزُوما عقليا ضَرُورَة أَن الْوَصْف لَا بُد أَن يقوم بموصوف (لَا أَنَّهَا مَدْلُول اللَّفْظ) فَإِن قلت الدّلَالَة على الذَّات المتصفة بِوَصْف يسْتَلْزم كَون النِّسْبَة الَّتِي هِيَ الاتصاف المتعقل بسين الذَّات وَالْوَصْف مدلولا قلت الْمَعْنى الْمركب الْمُشْتَمل على النِّسْبَة إِذا وضع بإزائه لفظ وَاحِد يكون الْوَضع لَهُ هُنَاكَ أمرا وحدانيا إِذا أَخذ بِالْعقلِ فِي تَفْصِيله ينْحل إِلَى مُتَعَدد مِنْهُ النِّسْبَة فَتَأمل (وَحَال وُقُوعه) أَي نَحْو قَائِم (خَبرا فِي نَحْو زيد قَائِم نسبته إِلَى الضَّمِير لَيست تَامَّة بِمُجَرَّد ذَاته) مُسْند إِلَى فَاعله (بل) النِّسْبَة (التَّامَّة) نسبته مَعَ فَاعله (إِلَى زيد وَلذَا) أَي وَلكَون نسبته إِلَى الضَّمِير غير تَامَّة (عد مَعَه) أَي مَعَ الضَّمِير (مُفردا) كَمَا يدل عَلَيْهِ اختلافه باخْتلَاف العوامل وَوَضعه على أَن يكون مُعْتَمدًا على من هُوَ لَهُ لإفادته معنى فِي ذَات تقدم ذكرهَا، (و) إِفْرَاد نَحْو قَائِم حَال وُقُوعه خَبرا (على) رَأْي (المنطقيين فِي اعْتِبَاره) أَي الضَّمِير (الرابطة) ثَانِي مفعول الِاعْتِبَار لما يرتبط بِهِ الْمَحْمُول بالموضوع (أظهر فإسناده لَيْسَ إِلَّا إِلَى زيد) لِأَن الرابطة دَالَّة على النِّسْبَة لَا أَنَّهَا ظرفها (وَهُوَ) أَي الضَّمِير (يُفِيد أَن مَعْنَاهُ) أَي قَائِم ثَابت (لَهُ) أَي لزيد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفد ذَلِك (لاستقل كل) من الْمَوْضُوع والمحمول (بمفهومه) عَن الآخر (فَلم يرتبط، وَغَايَة مَا يلْزم) المنطقيين فِي الِاعْتِبَار الْمَذْكُورَة (طرده) أَي اعْتِبَار الضَّمِير (فِي الجامد) من الْأَخْبَار كَمَا فِي الْمُشْتَقّ طردا للباب من اطرد الْأَمر: أَي تبع بعضه بَعْضًا (وَقد يلْتَزم) طرده فِي الجامد (كالكوفيين) أَي كالتزام الْكُوفِيّين ذَلِك فَإِنَّهُم يؤولون غير الْمُشْتَقّ بِهِ، فيؤولون زيد أَسد بِشُجَاعٍ، وأخوك بمواخيك، وكل جامد بِمَا يُنَاسِبه، عَن الْكسَائي أَن الجامد يتَحَمَّل الضَّمِير بِلَا تَأْوِيل (وَإِن كَانَ) الِالْتِزَام الْمَذْكُور (على غير مهيعم) أَي طريقهم الْبَين فَإِنَّهُم لَا يلتزمون تحمل الْمُشْتَقّ لَهُ فضلا عَن الجامد، بل إِن كَانَ ملفوظا يسمون الْقَضِيَّة ثلاثية، وَإِلَّا قَالُوا هُوَ مَحْذُوف للْعلم بِهِ، ويسمونها ثنائية، فعلى هَذَا يحْتَاج قَوْله، وعَلى المنطقيين إِلَى آخِره إِلَى تَأْوِيله، لِأَن ظَاهره يَقْتَضِي اعْتِبَار الضَّمِير وَجعله رابطة فَتدبر (وبخفائه) أَي الضَّمِير الْمُسْتَتر (وَالدَّال) أَمر(1/64)
ظَاهر، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ خفِيا فِي ذَاته كَيفَ يكون سَببا لظُهُور الْمَدْلُول، وَلَا بُد من أَمر بعيد الرَّبْط بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر (قيل الرابط حَرَكَة الْإِعْرَاب) ضمة ظَاهِرَة فِي آخر المعرب، ويلحقها مَا يقوم مقَامهَا وَاو أَو ألف (وَلَا يُفِيد) الْأَعْرَاب الْمَذْكُور أَيْضا مَا قصدوه من الظُّهُور (إِذْ يخفى) الْأَعْرَاب أَيْضا (فِي المبنى والمعتل) مَقْصُورا كَانَ أَو منقوصا، وَكَذَا المعرب عِنْد الْوَقْف (وَالْأَظْهَر أَنه) أَي الرَّبْط (فعل النَّفس) وَهُوَ الْإِيقَاع والانتزاع (وَدَلِيله) أَي فعل النَّفس (الضَّم الْخَاص) أَي التَّرْكِيب الْخَاص الْمَوْضُوع نَوعه لإِفَادَة ذَلِك، وَأما الْحَرَكَة (فَعِنْدَ ظُهُورهَا) لفقد الْمَانِع (يتَأَكَّد الدَّال) وَهُوَ الضَّم الْمَذْكُور (وَإِلَّا انْفَرد) أَي وَإِن لم تظهر لمَانع انْفَرد الضَّم بِالدّلَالَةِ الْمَذْكُورَة (وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود) الْأَصْلِيّ (من وضع الْمُفْردَات لَيْسَ إِلَّا إِفَادَة الْمعَانِي التركيبية) هَذِه تَوْطِئَة لما بعْدهَا من بَيَان أَقسَام حَاصِلَة فِي اعْتِبَار الْمَعْنى التركيبي (وَالْجُمْلَة خبر إِن دلّ) أَي الْجُمْلَة، والتذكير بِاعْتِبَار الْخَبَر (على مُطَابقَة) نسبتها المفادة مِنْهَا لأمر (خَارج) عَن مدلولها بِاعْتِبَار تِلْكَ الملاحظة المستفادة من دلالتها كَائِن بَين طرفِي الْإِمْكَان فِي الْوَاقِع من الْوُقُوع، أَو اللاوقوع، وَلَا يذهب عَلَيْك الْفرق بَين الدّلَالَة على الْمُطَابقَة وَبَين الْمُطَابقَة بِحَسب نفس الْأَمر، فَإِن الأولى لَازِمَة للنسبة الْجُزْئِيَّة لَا الثَّانِيَة، وَذَلِكَ لكَونهَا حاكية عَن نِسْبَة خارجية بَين الطَّرفَيْنِ، إِذْ لَا بُد من الْمُطَابقَة فِي التَّصَوُّر بَين الحاكي والمحكي عَنهُ، فَإِن كَانَ مَا هُوَ الْوَاقِع فِي نفس الْأَمر بِعَيْنِه هُوَ المحكي تحصل الثَّانِيَة، وَإِلَّا فَلَا (وَأما عدمهَا) أَي عدم مُطَابقَة نسبتها المفادة مِنْهَا (فَلَيْسَ مدلولا وَلَا مُحْتَمل اللَّفْظ) لِأَن مَا يفهم من الحاكي إِنَّمَا هُوَ مِثَال المحكي عَنهُ لَا غير، وَلَكِن (إِنَّمَا يجوز الْعقل أَن مَدْلُوله) أَي الْخَبَر (غير وَاقع) لِأَن الْحِكَايَة عَن الشَّيْء لَا تَسْتَلْزِم تحَققه فِي الْوَاقِع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تدل الْجُمْلَة على مُطَابقَة خَارج بِأَن لم تكن نسبتها المدلولة حاكية عَن نِسْبَة خارجية (فإنشاء) أَي فالجملة حِينَئِذٍ إنْشَاء (وَلَا حكم فِيهِ) وَفسّر الحكم بقوله (أَي إِدْرَاك أَنَّهَا) أَي النِّسْبَة (وَاقعَة أَولا) أَي لَيست بواقعة (فَلَيْسَ كل جملَة قَضِيَّة) إِذْ لَا بُد فِيهَا من الحكم وَكَونهَا حاكية عَن خارجية، وَلذَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب، فالجملة أَعم من الْقَضِيَّة (وَالْكَلَام يرادفها) أَي الْجُمْلَة (عِنْد قوم) من النُّحَاة، قيل مِنْهُم الزَّمَخْشَرِيّ عَفا الله عَنهُ (وأعم) مِنْهَا مُطلقًا (عِنْد الأصولين كاللغويين) أَي كَمَا أَنه أَعم عِنْدهم، وَنقل الأمدي عَن أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، وَالْإِمَام الرَّازِيّ عَن جَمِيعهم أَن الْكَلِمَة المركبة من حرفين فَصَاعِدا كَلَام، وَشرط صدورها عَن مُخْتَار، فالصادر من الساهي أَو النَّائِم لَيْسَ بِكَلَام.(1/65)
وَاخْتلف فِي إِطْلَاقه على كَلِمَات غير متضمنة الْمعَانِي، وَلَيْسَ مثل " ق " كلَاما إِلَّا إِذا اعْتبر الْمُسْتَتر (وأخص) أَي الْكَلَام أخص مُطلقًا من الْجُمْلَة (عِنْد آخَرين) مِنْهُم ابْن مَالك، وَاخْتَارَهُ الرضي. وَقَالَ التَّفْتَازَانِيّ أَنه الِاصْطِلَاح الْمَشْهُور، فَقَالُوا الْكَلَام مَا تضمن الْإِسْنَاد الْأَصْلِيّ، وَكَانَ مَقْصُودا لذاته، وَالْجُمْلَة مَا تضمن الْإِسْنَاد الْأَصْلِيّ مَقْصُودا لذاته أَولا، فالمصدر وَالصِّفَات المسندة إِلَى فاعلها إسنادها لَيْسَ أصلا، لِأَن اعْتِبَاره نِسْبَة الْفِعْل، وَالْجُمْلَة الْوَاقِعَة خَبرا أَو وَصفا أَو حَالا، أَو شرطا، أَو صلَة، أَو نَحْو ذَلِك لَيْسَ إسنادها مَقْصُودا لذاته (وللمفرد بِاعْتِبَار ذَاته) كَكَوْنِهِ مشتقا أَو جَامِدا (ودلالته) ككونها مُطَابقَة، أَو تضمنا، أَو التزاما، وَكَونهَا ظَاهرا أَو خفِيا (ومقايسته لمفرد آخر) كالترادف والتساوي (ومدلوله) كالعموم وَالْخُصُوص (واستعماله) كالحقيقة وَالْمجَاز (وإطلاقه وتقييده) كَذَا وجد فِي النّسخ، وَلَا يظْهر وَجهه، فَإِن الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد إِنَّمَا ذكرهمَا فِي جملَة أَقسَام انقسامه بِالِاعْتِبَارِ الرَّابِع قبل الْفَصْل الْخَامِس (انقسامات فِي) خَمْسَة (فُصُول)
الْفَصْل الأول
فِي انقسام الْمُفْرد بِاعْتِبَار ذَاته من حَيْثُ أَنه مُشْتَقّ أَولا
(وَهُوَ) أَي الْمُفْرد قِسْمَانِ (مُشْتَقّ) وَهُوَ (مَا وَافق مصدرا) هُوَ اسْم الْحَدث الْجَارِي على الْفِعْل: أَي الْمَعْنى الْقَائِم بِالْغَيْر، وجريانه عَلَيْهِ كَونه أصلا لَهُ ومأخذا (بِحُرُوفِهِ الْأُصُول وَمَعْنَاهُ) مَعْطُوف على الْمَجْرُور الْمُتَعَلّق بوافق، فَلَا يكون الذّهاب من الذَّهَب، وَلَا ضرب بِمَعْنى دق من الضَّرْب بِمَعْنى السّير، وَلَا يضر عدم مُوَافَقَته لَهَا لسَبَب الإعلال، وَلم يذكر التَّرْتِيب لتبادره إِلَى الذِّهْن، فَخرج مثل الجبذ والجذب (مَعَ زِيَادَة) فِي الْمَعْنى سَوَاء كَانَت فِي اللَّفْظ أَولا (هِيَ) أَي الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة (فَائِدَة الِاشْتِقَاق) وغايته (فالمقتل) حَال كَونه (مصدرا مَعَ الْقَتْل أصلان) غير مُشْتَقّ أَحدهمَا عَن الآخر (مزِيد وَغير مزِيد) هَذَا إِذا لم يعْتَبر فِي المقتل زِيَادَة تَقْوِيَة (وَإِن اعْتبر بِهِ) أَي بِالْقَتْلِ أَو بِالزَّائِدِ (زِيَادَة تَقْوِيَة) فِي مَعْنَاهُ الْمَوْجُود فِي الْقَتْل (فمشتق مِنْهُ) أَي فالمقتل مُشْتَقّ من الْقَتْل لصدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّعْرِيف على رَأْي الْبَصرِيين، وَعند الْكُوفِيّين الْمُشْتَقّ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْفِعْل، وَالْمرَاد بِالْمَصْدَرِ مَا هُوَ أَعم من الْمُسْتَعْمل والمقدر، فَدخل الْأَفْعَال وَالصِّفَات الَّتِي لم تسْتَعْمل مصادرها: كنعم، وَبئسَ، وتبارك، وربعة بِمَعْنى مربوعة بَين الطول وَالْقصر، والقفاخر: أَي الضخم الجثة، ثمَّ أَسمَاء الْفَاعِل وَالْمَفْعُول مُشْتَقَّة من المصادر عِنْد الْجُمْهُور، وَمن الْفِعْل الْمُشْتَقّ مِنْهَا عِنْد الْبَعْض، وَيجوز الِاشْتِقَاق من المصادر(1/66)
عِنْد الْجُمْهُور، وَمن الْفِعْل الْمُشْتَقّ مِنْهَا عِنْد الْبَعْض، وَيجوز الِاشْتِقَاق من المصادر بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا المجازية، وَلَا بُد من التغاير بَين الْمُشْتَقّ والمشتق مِنْهُ بِزِيَادَة حرف أَو حَرَكَة أَو نقصانهما (وجامد) عطف على مُشْتَقّ (خِلَافه) فَهُوَ مَا لَيْسَ بموافق مصدر إِلَى آخِره كَرجل وَأسد (والاشتقاق الْكَبِير) وَهُوَ مُوَافقَة لفظين فِي الْحُرُوف الْأُصُول غير مرتبه مَعَ مُوَافقَة أَو مُنَاسبَة فِي الْمَعْنى: كالجبذ والجذب (لَيْسَ من حَاجَة الأصولي) لِأَن المبحوث عَنهُ فِي الْأُصُول إِنَّمَا هُوَ الْمُشْتَقّ بالاشتقاق الصَّغِير، وَقد علم حَده من تَعْرِيف الْمُشْتَقّ، وَاكْتفى بِذكر الْكَبِير عَن الْأَكْبَر، وَهُوَ مُنَاسبَة لفظين فِي الْحُرُوف الْأُصُول وَالْمعْنَى، كالثلب والثلم، والنعيق، والنهيق، لِأَن عدم حَاجَة الأصولي إِلَى الْكَبِير تَسْتَلْزِم عدم حَاجته إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الأولى (والمشتق) قِسْمَانِ (صفة) وَهُوَ (مَا دلّ على ذَات مُبْهمَة) أَي على حَقِيقَة غير مُعينَة بتعين شخصي وَلَا جنسي (متصفة بِمعين) أَي بِوَصْف لَهُ تعين مَا كضارب، فَإِن مَعْنَاهُ ذَات لَهُ الضَّرْب، فالذات فِي غَايَة الْإِبْهَام لعدم اختصاصها بِشَيْء من الْأَشْيَاء، وَالضَّرْب وصف ممتاز من سَائِر الْأَوْصَاف (فَخرج) بِقَيْد الْإِبْهَام (اسْم الزَّمَان وَالْمَكَان لِأَن المقتل) مثلا (مَكَان أَو زمَان فِيهِ الْقَتْل) وَلَا شكّ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَعَيّن بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَات مَا، لكَونهَا من الْأُمُور الْعَامَّة مُسَاوِيَة بِشَيْء مَا (قيل تتَحَقَّق الْفَائِدَة) بالأخبار (فِي نَحْو الضَّارِب جسم) فِي الْجُمْلَة لِإِمْكَان الذهول عَن جسميته (فَلم يكن) الْجِسْم (جُزْءا) من مَفْهُوم الضَّارِب (والألم يفد) نَحْو الضَّارِب جسم (كالإنسان حَيَوَان) أَي كَمَا لَا يُفِيد الْإِنْسَان حَيَوَان لكَون الْحَيَوَان جُزْءا مِنْهُ، نقل عَن المُصَنّف أَن هَذَا دَلِيل على لُزُوم إِبْهَام الذوات فِي الصّفة، وَيتَّجه عَلَيْهِ أَن عدم جزئية الْجِسْم فِي مَفْهُوم الصّفة لَا يسْتَلْزم الْمُدَّعِي، وَهُوَ غَايَة الْإِبْهَام لجَوَاز أَن يكون لَهُ جُزْء آخر مِمَّا يُخرجهُ عَن غَايَة الْإِبْهَام، وَيُجَاب عَنهُ بِأَن كل مَا تفرض جزئيته مِنْهُ بقول الْمُسْتَدلّ هُوَ يحصل عَلَيْهِ، وَالْحمل مُفِيد فَلَا يكون جُزْءا مِنْهُ، ثمَّ منع المُصَنّف رَحمَه الله تحقق الْفَائِدَة بقوله (وَلقَائِل منع الْفرق) بَين الضَّارِب جسم، وَبَين الْإِنْسَان حَيَوَان، وادعاء تساويهما فِي عدم الْفَائِدَة (وَالِاسْتِدْلَال) مَعْطُوف على الْمَنْع: أَي لقَائِل أَن يسْتَدلّ على عدم إِبْهَام الذَّات على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي نَحْو الضَّارِب (بتبادر الْجَوْهَر مِنْهُ) فَإِن تبادره من نَحْو الضَّارِب دَلِيل على أَن الذَّات لَا تعم الْعرض، فَلم يكن فِي غَايَة الْإِبْهَام مُسَاوِيا لشَيْء مَا (وَالْأَوْجه) فِي الِاسْتِدْلَال على إِبْهَام الذَّات (صِحَة الْحمل) أَي حمل الصّفة الْمَأْخُوذَة فِي مفهومها الذَّات (على كل من الْعين) وَهُوَ الْجَوْهَر (وَالْمعْنَى) وَهُوَ الْعرض، فَلَو اعْتبر فِي مفهومها مَا يَخُصهَا بالجوهر لما صَحَّ حملهَا على الْعرض، وَيجوز أَن يُرَاد بِالْعينِ وَالْمعْنَى الْمَوْجُود الْخَارِجِي، وَمَا لَيْسَ بموجود فِي الْخَارِج(1/67)
(وَغير صفة) مَعْطُوف على قَوْله صفة وَهُوَ (خِلَافه) أَي مَا لَا يدل على ذَات مُبْهمَة متصفة بِمعين بِأَن يدل على ذَات مُعينَة أَو مُبْهمَة غير متصفة بِمَا ذكر وَظَاهر هَذَا يَقْتَضِي أَن مَا يدل على ذَات متصفة بِوَصْف غير معِين كالإمكان الْعَام، والوجود الْمُطلق لَيْسَ بِصفة، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمَوْجُود والممكن وَنَحْوهمَا صِفَات: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال بتعين هَذِه الْأَوْصَاف، وَلَو بِوَجْه مَا فاذن عدم اعْتِبَار قيد التعين فِي التَّعْرِيف أولى كَمَا قيل: مَا دلّ على ذَات مَا بِاعْتِبَار معنى هُوَ الْمَقْصُود.
مَسْأَلَة
(وَلَا يشتق) من مصدر وصف (لذات وَالْمعْنَى) المصدري (قَائِم بِغَيْرِهِ) أَي غير الْمُشْتَقّ لَهُ، وَالْمرَاد بالاشتقاق لَهَا أَن يشتق لِأَن يُطلق عَلَيْهَا وَتسَمى بِهِ، قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي تَفْسِير كَلَام شَارِح الْمُخْتَصر: الاستقراء يُفِيد الْقطع بذلك، يَعْنِي حصل لنا من تتبع كَلَام الْعَرَب حكم كلي قَطْعِيّ بذلك كوجوب رفع الْفَاعِل، وَإِن كَانَ الاستقراء فِي نَفسه لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن انْتهى، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْهِ حُصُول الْقطع من غير مُوجب: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال انْضَمَّ مَعَ الاستقراء قَرَائِن يُفِيد الْمَجْمُوع الْقطع بذلك (وَقَول الْمُعْتَزلَة) مُبْتَدأ خَبره (معنى كَونه) تَعَالَى (متكلما خلقه) أَي خلق الْكَلَام، وَالْمعْنَى مقولهم هَذَا الْكَلَام الْمُخَالف لما ذكرنَا، وَيجوز أَن يكون الْخَبَر محذوفا، وَالْمَذْكُور مقول القَوْل: أَي قَوْلهم هَذَا مُخَالف لما ذكرنَا (فِي الْجِسْم) مُتَعَلق بالخلق، والجسم كالشجرة الَّتِي سمع مِنْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ تَعَالَى - {نُودي من شاطئ الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} - (وألزموا) أَي الْمُعْتَزلَة بطرِيق النَّقْض (جَوَاز) إِطْلَاق (المتحرك والأبيض) على الله، تَعَالَى شَأْنه عَن ذَلِك علوا كَبِيرا: لخلقه هَذِه الْأَعْرَاض فِي الْأَجْسَام الَّتِي هِيَ محالها، (وَدفع) الْإِلْزَام الْمَذْكُور (عَنْهُم بِالْفرقِ) بَين الْمُتَكَلّم وَمَا ألزموا بِهِ (بِأَنَّهُ ثَبت) بِالسَّمْعِ (الْمُتَكَلّم لَهُ) تَعَالَى كَقَوْلِه - {وكلم الله مُوسَى تكليما} -، وَغَيره (وَامْتنع قِيَامه) أَي الْكَلَام (بِهِ) تَعَالَى بالبرهان، لِأَنَّهُ أصوات وحروف عِنْدهم، وَهِي حَادِثَة فَلَا تكون قَائِمَة بِهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لزم كَونه محلا للحوادث (فَلَزِمَ أَن مَعْنَاهُ) أَي الْمُتَكَلّم (فِي حَقه خالقه) أَي الْكَلَام فِي جسم، وَلَا كَذَلِك المتحرك والأبيض وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لم يثبت لَهُ بِالسَّمْعِ شَيْء مِنْهَا، بل ثَبت الْمَنْع عَن إِطْلَاقهَا (وَلَيْسَ) هَذَا الدّفع (بِشَيْء، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيل فِي الحكم اللّغَوِيّ) أَي الحكم الْكُلِّي المستبط من تتبع اللُّغَة، وَهُوَ أَنه لَا يشتق لذات، وَالْمعْنَى قَائِم بِغَيْرِهِ (بَين(1/68)
من يمْتَنع الْقيام بِهِ) أَي قيام الْمصدر بِهِ عقلا أَو شرعا (فَيجوز) إِطْلَاق الْمُشْتَقّ عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي وَالْحَال أَن الْمصدر قَائِم (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر من يمْتَنع الْقيام بِهِ (و) بَين (غَيره) أَي من لم يمْتَنع قيام الْمصدر بِهِ (فَلَا) يجوز إِطْلَاق الْمُشْتَقّ عَلَيْهِ، وَالْمعْنَى قَائِم بِغَيْرِهِ وَالْحَاصِل أَن الحكم اللّغَوِيّ الْكُلِّي الْمُقْتَضى عدم جَوَاز إِطْلَاق الْمُشْتَقّ على من لم يقم بِهِ الْمصدر من غير تَفْصِيل يقْضِي عَلَيْكُم بِعَدَمِ صِحَة إِطْلَاق الْمُتَكَلّم عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكرْتُمْ فَإِن قُلْتُمْ الِامْتِنَاع الْمَذْكُور قرينَة صارفة عَن إِرَادَة الْحَقِيقَة إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي الَّذِي ذكرنَا قُلْنَا ذَلِك عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، وَهِي غير متعذرة لوُجُود الْكَلَام النَّفْسِيّ على مَا هُوَ مَذْهَبنَا (بل) نقُول لَا يمْتَنع قيام الْكَلَام بِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ (لَو امْتنع لم يصغ) الْمُتَكَلّم (لَهُ) تَعَالَى (أصلا فَحَيْثُ صِيغ) لَهُ تَعَالَى (لزم قِيَامه) أَي الْكَلَام (بِهِ تَعَالَى) فَتعين أَن المُرَاد من الْكَلَام غير الْأَصْوَات والحروف وَهُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ (فَلَو ادعوهُ) أَي الْمُعْتَزلَة أَن معنى التَّكَلُّم خلق الْكَلَام (مجَازًا) لَا حَقِيقَة، فَلم يصغ لَهُ تَعَالَى، وَلَا يُنَافِي الحكم اللّغَوِيّ (ارْتَفع الْخلاف فِي الأَصْل الْمَذْكُور) وَهُوَ أَنه لَا يشتق لذات، وَالْمعْنَى قَائِم بغَيْرهَا، لِأَن الِاشْتِقَاق لَهَا أَن يُطلق عَلَيْهَا حَقِيقَة، وَقد اعْتَرَفُوا بنفيه، وَإِن لم يرْتَفع الْخلاف فِي المسئلة الكلامية لِأَن كَلَامه تَعَالَى عِنْدهم حَادث قَائِم بجسم، وَعِنْدنَا قديم قَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَفِي أَن الْمُتَكَلّم يُطلق عَلَيْهِ حَقِيقَة (وَهُوَ) أَي الادعاء الْمَذْكُور مِنْهُم (أقرب) إِلَى الْقبُول من ادِّعَاء كَون معنى كَلَامه ذَلِك حَقِيقَة لعدم مُخَالفَته الحكم اللّغَوِيّ، وسعة دَائِرَة الْمجَاز وَإِن كَانَ فِي حد ذَاته بعيد الارتكاب مثل هَذَا التَّجَوُّز من غير تعذر الْحَقِيقَة، والتفريق بَين المشتقات الَّتِي تطلق عَلَيْهِ تَعَالَى يَجْعَل مبدأ اشتقاق الْبَعْض قَائِما بِغَيْرِهِ تَعَالَى إِلَى غير ذَلِك (غير أَنهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (نقلوا استدلالهم) أَي الْمُعْتَزلَة على كَون الْمُتَكَلّم بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكرُوهُ (بِإِطْلَاق ضَارب حَقِيقَة) على شخص (وَهُوَ) أَي الضَّرْب قَائِم (بِغَيْرِهِ) أَي غير ذَلِك الشَّخْص، لِأَن الضَّرْب هُوَ الْأَثر الْحَاصِل فِي الْمَفْعُول، وَهُوَ الْمَضْرُوب فَإِن صَحَّ هَذَا النَّقْل عَنْهُم تعين أَن مُرَادهم ادِّعَاء الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز (وَأجِيب) عَن استدلالهم (بِأَنَّهُ) أَي الضَّرْب (التَّأْثِير) أَي تَأْثِير ذَلِك أثر الْقَائِم بالمضروب وإيجاده (وَهُوَ) أَي التَّأْثِير قَائِم (بِهِ) أَي بالضارب والمضروب لَا بالمضروب فَقَط، وَقد استوفيت الْكَلَام فِي تَحْقِيق هَذَا فِي رسالتي الْمَوْضُوعَة لبَيَان الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ وَهَذَا مَبْنِيّ على مَا هُوَ الْحق من أَن التَّأْثِير لَيْسَ هُوَ الْأَثر على أَن الْأَثر الَّذِي هُوَ الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ إِنَّمَا هُوَ قَائِم بالضارب (وَبِأَنَّهُ) مَعْطُوف على إِطْلَاق ضَارب، وَالضَّمِير للشأن (ثَبت الْخَالِق لَهُ) تَعَالَى (بِاعْتِبَار الْخلق) الَّذِي هُوَ مبدأ اشتقاقه (وَهُوَ) أَي الْخلق (الْمَخْلُوق) . قَالَ تَعَالَى - {هَذَا خلق الله} - مُشِيرا بِهِ إِلَى(1/69)
الْمَخْلُوق، والمخلوق غير قَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى (لَا التَّأْثِير) أَي الْخلق لَيْسَ هُوَ التَّأْثِير (والأقدم الْعَالم إِن قدم) التَّأْثِير لعدم انفكاك الْأَثر عَن التَّأْثِير (وَإِلَّا) وَإِن لم يكن التَّأْثِير قَدِيما، بل حَادِثا (تسلسل) أَي لزم التسلسل فِي التأثيرات، لِأَن الْحَادِث أثر يحْتَاج إِلَى مُؤثر وتأثير، فَيَعُود الْكَلَام إِلَى ذَلِك التَّأْثِير، وَهَكَذَا (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال على تَقْدِير تَسْلِيم مقدماته (مُثبت لجزء الدَّعْوَى) لَا لَهَا لِأَنَّهَا مركبة من مقدمتين، أَحدهمَا الِاشْتِقَاق لذات لَا يقوم بهَا المبدأ، وَثَانِيهمَا أَنه قَائِم بغَيْرهَا، وَالدَّلِيل لَا يُفِيد إِلَّا الأولى، إِذْ الْخلق بِمَعْنى الْمَخْلُوق مَجْمُوع الْجَوْهَر وَالْعرض، وَبَعضه قَائِم بِنَفسِهِ، وَبَعضه بذلك الْبَعْض، وَالْمَجْمُوع يعد قَائِما بِنَفسِهِ لَا بِغَيْرِهِ كالجسم الْمركب من الْمَادَّة وَالصُّورَة ونوقش بِأَن إِطْلَاق الْخَالِق لَا يجب أَن يكون بِاعْتِبَار جَمِيع الْمَخْلُوقَات، بل يَصح بِاعْتِبَار الْأَفْعَال وَالصِّفَات، وَحِينَئِذٍ يثبت تَمام الدَّعْوَى فَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أُجِيب بِأَن معنى خلقه كَونه سُبْحَانَهُ تعلّقت قدرته بالإيجاد وَهُوَ) أَي كَونه تَعَالَى كَذَا (إِضَافَة اعْتِبَار تقوم بِهِ) تَعَالَى أما كَونه إِضَافَة لكَونهَا معقولة بِالْقِيَاسِ إِلَى الْغَيْر، وَأما إِضَافَته إِلَى الِاعْتِبَار، فباعتبار أَنه يعقل بَين الذَّات الأقدس، وَأمر اعتباري هُوَ تعلق قدرته سُبْحَانَهُ بالإيجاد، ومبني هَذَا الْجَواب على نفي كَون التكوين صفة حَقِيقِيَّة أزلية تتكون بهَا المكونات الْحَادِثَة فِي أَوْقَاتهَا كَمَا هُوَ مَذْهَب الماتريدية كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا صفة متقررة) مَعْطُوف على إِضَافَة اعْتِبَار (ليلزم كَونه محلا للحوادث) غَايَة للمنفي، يَعْنِي كَونه صفة متقررة يسْتَلْزم كَونه تَعَالَى محلا للحوادث على تَقْدِير حُدُوثه (أَو قدم الْعَالم) أَي تَقْدِير قدمه مَعْطُوف على كَونه (وَأورد) على الْجَواب الْمَذْكُور بطرِيق الترديد كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (إِن قَامَت بِهِ) تَعَالَى (النِّسْبَة) الَّتِي هِيَ (الِاعْتِبَار) الْمَذْكُور فِي قَوْله إِضَافَة اعْتِبَار، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْإِضَافَة بَيَانِيَّة (فَهُوَ) تَعَالَى حِينَئِذٍ (مَحل للحوادث، وَإِن لم تقم بِهِ ثَبت مطلوبهم، وَهُوَ الِاشْتِقَاق لذات وَلَيْسَ الْمَعْنى) قَائِما (بِهِ) أَي الذَّات بِتَأْوِيل مَا اشتق لَهُ، وَقد سبق أَنه مُثبت لجزء الْمُدَّعِي (مَعَ أَن الْوَجْه) الَّذِي مَعَ وجوده لَا يُسمى غَيره وَجها (أَن لَا تقوم) النِّسْبَة الْمَذْكُورَة (بِهِ) تَعَالَى (لِأَن الاعتباري لَيْسَ لَهُ وجود حَقِيقِيّ) وَهُوَ الْوُجُود الْخَارِجِي (فَلَا يقوم بِهِ حَقِيقَة) لِأَن الْقيَاس فرع وجود مَا يقوم بِهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الْعَمى وَهُوَ عدم الْبَصَر عَمَّا من شَأْنه أَن يبصر غير مَوْجُود فِي الْخَارِج مَعَ أَنه قَائِم فِيهِ بالأعمى، وَمن ثمَّ اشْتهر بَينهم أَن ثُبُوت شَيْء لشَيْء فرع ثُبُوت الْمُثبت لَهُ لَا الْمُثبت: نعم ذكر بعض الأفاضل على سَبِيل الِاعْتِرَاض أَنه فرع ثُبُوت الْمُثبت أَيْضا، فَلَا وَجه للتخصيص، وَكَأن المُصَنّف رَحمَه الله مَال إِلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يُنكر قيام الْعمي فِي الْخَارِج، بل فِي الذِّهْن، وَهُوَ الْمُصَحح للاشتقاق كَمَا يُشِير إِلَيْهِ بقوله(1/70)
(لَكِن كَلَامهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (أَنه يَكْفِي فِي الِاشْتِقَاق) أَي فِي اشتقاق الْخَالِق من الْخلق لَهُ تَعَالَى (هَذَا الْقدر من الانتساب) بَيَان ذَلِك مَا أَفَادَهُ السَّيِّد من أَن للقدرة تعلقا حَادِثا لولاه لم تُوجد الْحَوَادِث، وَإِذا انتسب إِلَى الْعَالم فَهُوَ صدوره عَن الْخَالِق، أَو إِلَى الْقُدْرَة، فَهُوَ إيجادها للْعَالم، أَو إِلَى ذِي الْقُدْرَة، فَهُوَ خلقه للْعَالم، أَو يُمكن أَن يُقَال إِذا نسب إِلَى الْعَالم صَار مُبْتَدأ وصف لَهُ، هُوَ صدوره عَن الْخَالِق، وَإِلَى الْقُدْرَة مُبْتَدأ وصف آخر هُوَ الإيجاد، وَإِلَى ذِي الْمقدرَة صَارَت مُبْتَدأ وصف آخر، وَهُوَ كَونه تعلّقت قدرته، وَبِاعْتِبَار هَذِه النِّسْبَة اشتق اسْم الْخَالِق، وَلَا نعني بقيامه كَونه صفة حَقِيقِيَّة قَائِمَة بِهِ، بل مَا هُوَ أَعم من ذَلِك، فَإِن سَائِر الإضافات الَّتِي هِيَ أُمُور اعتبارية لَا تحقق لَهَا فِي الْأَعْيَان قَائِمَة بمحالها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلْيَكُن) هَذَا الْقدر من الانتساب (هُوَ المُرَاد بِقِيَام الْمَعْنى فِي صدر المسئلة) حِين أورد عَلَيْهِم بِأَن نَحْو الْخَالِق والرازق اشتق لَهُ تَعَالَى، وَالْمعْنَى غير قَائِم بِهِ (ثمَّ هَذَا الْجَواب) أَي بِأَن معنى خلقه كَونه تعلّقت قدرته بإيجاده (ينبو) أَي يبعد (عَن كَلَام الْحَنَفِيَّة) أَي متأخريهم من عهد أبي مَنْصُور الماتريدي (فِي صِفَات الْأَفْعَال) وَهِي مَا أفادت تكوينا، كالخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، فَإِنَّهُم صَرَّحُوا بِأَنَّهَا صِفَات قديمَة مُغَايرَة للقدرة والإرادة فَقَوله ينبو خبر يكن، وَقَوله أَنه يَكْفِي بدل عَن اسْمهَا كَمَا أَن مَدْخُول ثمَّ مَعْطُوف عَلَيْهِ (غير أَنا بَينا فِي الرسَالَة الْمُسَمَّاة بالمسايرة) فِي العقائد المنجية فِي الْآخِرَة (أَن قَول أبي حنيفَة) رَحمَه الله (لَا يُفِيد مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَأَنه) أَي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ (قَول مستحدث) لَيْسَ فِي كَلَام الْمُتَقَدِّمين (وَقَوله) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه تَعَالَى (خَالق قبل أَن يخلق إِلَى آخِره) أَي ورازق قبل أَن يرْزق (بِالضَّرُورَةِ يُرَاد بِهِ) أَي بالخلق الْمَذْكُور فِي قَوْله هَذَا (قدرَة الْخلق) الَّتِي هِيَ صفة حَقِيقِيَّة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد بِهِ قدرته، بل الْخلق بِالْفِعْلِ (قدم الْعَالم) لِأَن وجود الْمَخْلُوق لَازم لَهُ فَإِن قلت هَذَا يرجع إِلَى قَول الكرامية، وهم أَصْحَاب مُحَمَّد بن كرام الْقَائِل بِأَن معبوده مُسْتَقر على الْعَرْش، وَأَنه جَوْهَر، تَعَالَى الله عَن ذَلِك. قَالَ فَخر الْإِسْلَام: وَأما الكرامية فَيَقُولُونَ إِنَّا نُسَمِّيه خَالِقًا فِي الْأَزَل لَا على معنى أَنه خلق الْخلق، بل لِأَنَّهُ قَادر على الْخلق، وَهَذَا فَاسد فَإِنَّهُ لَو جَازَ لجَاز أَن يُسَمِّي الْقَادِر على الْكَلَام متكلما انْتهى قلت هم يفسرون اسْم الْخَالِق بالقادر عَلَيْهِ كتفسير الْمُعْتَزلَة الْمُتَكَلّم بخالق الْكَلَام، وَالْإِمَام أَرَادَ بِهِ ذَلِك مجَازًا فِي بعض الاطلاقات (و) الْخلق (بِالْفِعْلِ تعلقهَا) أَي الْقُدْرَة بالإيجاد، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الأول تَعْبِير لِلْخلقِ بالإمكان (وَهُوَ) أَي التَّعَلُّق الْمَذْكُور (عرُوض الْإِضَافَة للقدرة) وَهِي إيجادها للمقدور (وَيلْزم حُدُوثه) أَي التَّعَلُّق الْمَذْكُور، وَإِلَّا يلْزم قدم الْعَالم (وَلَو صرح)(1/71)
أَبُو حنيفَة رَحمَه الله (بِهِ) أَي بِأَن المُرَاد بالخلق الْمَذْكُور فِي قَوْله الْمَشْهُور الْخلق بِالْفِعْلِ (فقد نَفَاهُ الدَّلِيل) أَي لَا يتبع فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ قد نَفَاهُ الدَّلِيل الْقطعِي، وَهُوَ لُزُوم قدم الْعَالم على تَقْدِير قدم الْخلق بِالْفِعْلِ فَإِن قلت قَوْلنَا: الله تَعَالَى خَالق بِالْفِعْلِ مُطلقَة عَامَّة، وَصدق الْمُطلقَة دائمي لِأَنَّهُ لَا يلْزم فِيهَا إِلَّا ثُبُوت الْمَحْمُول للموضوع فِي الْجُمْلَة، فَلَا يلْزم دوَام ثُبُوت الْخلق حَتَّى يلْزم قدم الْعَالم قلت هَذَا من الاعتبارات الفلسفية لَا تساعده اللُّغَة، فَإِن إِطْلَاق الْمُشْتَقّ على شَيْء حَقِيقَة يقتضى ثُبُوت مبدأ الِاشْتِقَاق فِي زمَان الْإِطْلَاق على قَول الْجُمْهُور، أَو فِيهِ، أَو قبله عِنْد الْبَعْض، وَللَّه در المُصَنّف حَيْثُ ذكر مَسْأَلَة اشْتِرَاط بَقَاء الْمَعْنى فِي كَون الْمُشْتَقّ حَقِيقَة عقيب هَذَا الْبَحْث، فَقَالَ:
مَسْأَلَة
(الْوَصْف) وَهُوَ على مَا مر مَا دلّ على ذَات مُبْهمَة متصفة بِمعين (حَال الاتصاف حَقِيقَة) أَي إِذا أطلق على ذَات متصفة بمبدأ اشتقاقه فِي زمَان اتصافها بِهِ حَقِيقَة اتِّفَاقًا، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن رَاكِبًا فِي جَاءَنِي رَاكب، وَسَيَجِيءُ رَاكب حَقِيقَة إِن كَانَ الرّكُوب مَوْجُودا عِنْد ثُبُوت الْمَجِيء لموصوفه وَإِن لم يكن مَوْجُودا فِي زمَان الاخبار فَالْعِبْرَة بِزَمَان تعلق مَا نسب إِلَيْهِ فِي الْكَلَام، فَإِن وجد الْمَعْنى فِيهِ فالوصف حَقِيقَة سَوَاء وجد فِي زمَان الاخبار أَولا، ثمَّ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب جعلا مَوْضُوع المسئلة الْمُشْتَقّ. وَقَالَ التَّفْتَازَانِيّ: التَّحْقِيق أَن المنازع اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الْحُدُوث، وسيظهر لَك أَن الْوَجْه مَا اخْتَارَهُ المُصَنّف رَحمَه الله (وَقَبله) وَإِذا أطلق على ذَات قبل أَن يَتَّصِف بِالْمَعْنَى المصدري (مجَاز) اتِّفَاقًا (وَبعد انقضائه) أَي وَإِذا طلق ثَانِيًا حَقِيقَة عَلَيْهَا بعد مَا اتصفت بِهِ وانقضى ذَلِك الاتصاف، فقد اخْتلف فِيهِ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَولهَا مجَاز مُطلقًا (ثَالِثهَا) التَّفْصِيل، وَهُوَ أَنه (إِن كَانَ بَقَاؤُهُ) أَي الاتصاف (مُمكنا) بِأَن لم يكن الْمصدر من المصادر السيالة الْغَيْر القارة لعدم اجْتِمَاع أزائها فِي الْوُجُود كالتكلم والاخبار، بل يكون مثل الْقيام وَالْقعُود (فمجاز، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بَقَاؤُهُ مُمكنا بِأَن كَانَ من المصادر الْمَذْكُورَة فالوصف حِينَئِذٍ (حَقِيقَة) وَاكْتفى بِذكر الثَّالِث اختصارا مَعَ أَن الْأَوَّلين يفهمان فِي أَمْثَال هَذَا الْمقَام كَمَا لَا يخفى، كَيفَ وَقَوله ثَالِثهَا دلّ على أَن هَهُنَا قَوْلَيْنِ غَيره؟ وَلَا يخلوا إِمَّا فيهمَا التَّفْصِيل أَولا، لَا سَبِيل إِلَى الأول لِأَنَّهُ يجب إِذن ذكرهمَا، وعَلى الثَّانِي يتَعَيَّن أَن يكون أَحدهمَا القَوْل بالمجاز مُطلقًا وَالْآخر بِالْحَقِيقَةِ مُطلقًا (كَذَا) إِشَارَة إِلَى مَا ذكرت فِي بَيَان الْأَقْوَال، وَالْكَاف اسْم مُبْتَدأ خَبره (شرح بِهِ) وَالضَّمِير الْمَجْرُور عَائِد إِلَى الْمُبْتَدَأ (وَضعهَا) قَائِم مقَام فَاعل شرح،(1/72)
وَالضَّمِير رَاجع إِلَى المسئلة، وَوضع المسئلة عبارَة عَن ذكرهَا فِي صدر المبحث لِأَن يُقَام عَلَيْهَا الْبُرْهَان، وَهَذَا كَمَا هُوَ الْمُعْتَاد من وضع الْمُدَّعِي أَولا، ثمَّ إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ، وَقَوله (هَل يشْتَرط لكَونه حَقِيقَة بَقَاء الْمَعْنى، ثَالِثهَا إِن كَانَ مُمكنا اشْترط) بدل من قَوْله وَضعهَا، وَالْمعْنَى شرح وضع المسئلة، وَهُوَ هَل يشْتَرط إِلَى آخِره بِمثل مَا ذكرنَا، والواضع ابْن الْحَاجِب، وَالشَّارِح القَاضِي عضد الدّين (وَهُوَ) أَي الشَّرْح الْمَذْكُور (قَاصِر) عَن إِفَادَة مَا يفِيدهُ الْوَضع الْمَذْكُور (إِذْ يُفِيد) الْوَضع إِطْلَاق اشْتِرَاط الْحَقِيقَة بِبَقَاء الْمَعْنى فِي كل مَا يُمكن بَقَاؤُهُ فِيهِ، و (إِطْلَاق الِاشْتِرَاط) على الْوَجْه الْمَذْكُور يُفِيد (المجازية حَال قيام جُزْء) من الْمَعْنى بعد انْقِضَاء بعض أَجْزَائِهِ (فِي) كل (مَا يُمكن) بَقَاؤُهُ فِيهِ ضَرُورَة انْتِفَاء شَرط الْحَقِيقَة، وَهُوَ بَقَاء الْمَعْنى بسب انْقِضَاء بعض أَجْزَائِهِ (وَالشَّرْح) الْمَذْكُور يُفِيد (الْحَقِيقَة) فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذكر للوصف ثَلَاث حالات: حَال الاتصاف، وَقَبله، وَبعد انقضائه، وَلَا شكّ أَن مَا يُمكن بَقَاء الْمَعْنى فِيهِ إِذا انْقَضى بعض أَجْزَائِهِ دون بعض لَا تندرج حَاله هَذِه تَحت الثَّالِثَة، لِأَن انْقِضَاء الْمَعْنى عبارَة عَن انْقِضَاء جَمِيع أَجْزَائِهِ، وَلَا تَحت الثَّانِيَة، وَهُوَ ظَاهر، فَتعين دُخُوله فِي الأولى، وَلزِمَ الحكم بِكَوْنِهِ حَقِيقَة لقَوْله حَال الاتصاف حَقِيقَة، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: معنى قَوْله: وَهُوَ قَاصِر أَن الْوَضع قَاصِر عَمَّا هُوَ الْحق فِي الْأَدَاء، إِذْ الْمَفْهُوم من كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله الْمُوَافقَة مَعَ القَاضِي فِيمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه لموافقته إِيَّاه فِي الْوَضع، وَيُؤَيِّدهُ قرب الْمرجع حِينَئِذٍ الضَّمِير هُوَ وَالله أعلم.
(الْمجَاز) أَي دَلِيل الْمجَاز مُبْتَدأ خَبره (يَصح فِي الْحَال نَفْيه مُطلقًا) وَالْمعْنَى دَلِيل الْقَائِل بمجازية الْوَصْف بعد انْقِضَاء الْمَعْنى صِحَة نفي الْوَصْف المنقضي مبدأ اشتقاقه عَن الذَّات الَّتِي انْقَضى عَنهُ فِيمَا بعد الِانْقِضَاء نفيا مُطلقًا عَن التَّقْيِيد بالماضي أَو الْحَال أَو الِاسْتِقْبَال، وَهُوَ النَّفْي فِي الْجُمْلَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصح نَفْيه فِي الْحَال، وَهُوَ أخص من النَّفْي مُطلقًا، والأخص يسْتَلْزم الْأَعَمّ (وَهُوَ) أَي نَفْيه مُطلقًا (دَلِيله) أَي دَلِيل كَون الْوَصْف مجَازًا (وَكَونه) أَي كَون نفي الْوَصْف فِي الْجُمْلَة (لَا يُنَافِي الثُّبُوت المنقضى فِي نفس الْأَمر) لعدم الْمُنَافَاة بَين السالبة الْمُطلقَة والموجبة الْغَيْر الدائمة، وَقَوله فِي نفس الْأَمر ظرف عدم الْمُنَافَاة (لَا يَنْفِي مُقْتَضَاهُ) أَي مُقْتَضى النَّفْي الْمَذْكُور (من نفي كَونه حَقِيقَة) بَيَان لمقتضاه: أَي عدم الْمُنَافَاة بَين النَّفْي والثبوت لَا يسْتَلْزم عدم اقْتِضَاء النَّفْي مجازية الْمَنْفِيّ (نعم لَو كَانَ المُرَاد) من النَّفْي الَّذِي جعل دَلِيل الْمجَاز (نفي ثُبُوت الضَّرْب مثلا فِي الْحَال وَهُوَ) أَي نفي ثُبُوت الضَّرْب فِي الْحَال (نفي الْمُقَيد) بِالْحَال لَكَانَ يبْقى اقْتِضَاء المجازية، لِأَن دَلِيل المجازية نفي الضَّرْب بِلَا تَقْيِيد (لَكِن المُرَاد صدق زيد لَيْسَ ضَارِبًا من غير قصد التَّقْيِيد) أَي تَقْيِيد(1/73)
الضَّرْب الْمَنْفِيّ بِكَوْنِهِ فِي الْحَال، وَإِن كَانَ صدق النَّفْي فِي نفس الْأَمر بِاعْتِبَار ثُبُوت الضَّرْب فِي الْحَال وَغَيره (وَأجِيب بِمَنْع صدق) النَّفْي (الْمُطلق على طَلَاقه) قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ إِن ادّعى صِحَة النَّفْي الْمُطلق بِحَسب اللُّغَة: أَي يَصح لُغَة أَنه لَيْسَ بضارب فَهُوَ مَمْنُوع، بل هُوَ عين النزاع، وَإِن ادّعى صِحَّته عقلا، بِمَعْنى أَنه يصدق عقلا أَنه لَيْسَ بضارب فِي الْجُمْلَة بِنَاء على أَنه يصدق أَنه لَيْسَ بضارب فِي الْحَال، والضارب فِي الْحَال ضَارب فِي الْجُمْلَة، فصحة النَّفْي بِهَذَا الْمَعْنى لَا يُنَافِي كَون اللَّفْظ حَقِيقَة، بل النَّافِي لَهُ صِحَة النَّفْي بِالْكُلِّيَّةِ انْتهى، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله اكْتفى بِمَا هُوَ الْعُمْدَة فِي الْجَواب (قَالُوا) ثَانِيًا (لَو كَانَ) الْوَصْف (حَقِيقَة بِاعْتِبَار مَا) أَي اتصاف كَانَ (قبله) أَي قبل الْإِطْلَاق (لَكَانَ) حَقِيقَة أَيْضا (بِاعْتِبَار مَا بعده) أَي الْإِطْلَاق (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن حَقِيقَة بِاعْتِبَار مَا بعده على تَقْدِير كَونه حَقِيقَة بِاعْتِبَار مَا قبله (فتحكم) أَي فَيلْزم تحكم، أَو فَالْفرق تحكم (بَيَان الْمُلَازمَة) بَين الاعتبارين (أَن صِحَّته) أَي كَون الْإِطْلَاق حَقِيقَة (فِي الْحَال) فِي حَال اتصاف مَا يُطلق عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى (أَن تقيد بِهِ) أَي بالاتصاف فِي الْحَال (فمجاز فيهمَا) أَي فالوصف مجَاز فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا لانْتِفَاء مَا قيد بِهِ فيهمَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَقَيَّد بالقيد الْمَذْكُور (فحقيقة فيهمَا) لِأَن الْمُعْتَبر حِينَئِذٍ فِي الْحَقِيقَة تحقق الْمَعْنى فِي وَقت مَا وهما متساويان فِيهِ (وَغَيره) أَي غير أحد الْأَمريْنِ من كَونه حَقِيقَة فيهمَا مَعًا أَو مجَازًا فيهمَا مَعًا (تحكم) لعدم الْفَارِق (الْجَواب) أَنه (لَا يلْزم من عدم التَّقْيِيد بِهِ) أَي الاتصاف فِي الْحَال (عدم التَّقْيِيد) بِمَا يَخُصهَا بِمَا عدا الصُّورَة الَّتِي لَا نزاع فِي مجازيتها (لجَوَاز تقيده) أَي كَون الْإِطْلَاق حَقِيقَة (بالثبوت) أَي ثُبُوت الْمَعْنى (قَائِما) حَال الْإِطْلَاق (أَو منقضيا) حالان عَمَّا أضيف إِلَيْهِ الثُّبُوت فَحذف وَعوض عَنهُ اللَّام، أَعنِي الْمَعْنى فَإِنَّهُ فَاعل معنى (الْحَقِيقَة) أَي دَلِيل كَون الْوَصْف حَقِيقَة فِيمَا أطلق عَلَيْهِ بعد انْقِضَاء الْمَعْنى، هَذَا الْكَلَام (أجمع اللُّغَة) أَي أَهلهَا (على) صِحَة إِطْلَاق (ضَارب أمس) على من قَامَ بِهِ الضَّرْب بالْأَمْس وانقضى (وَالْأَصْل) فِي الْإِطْلَاق (الْحَقِيقَة) فَلَا يعدل عَنهُ إِلَّا لمَانع، وَالْأَصْل عَدمه (عورض) الدَّلِيل الْمَذْكُور (بإجماعهم) أَي أهل اللُّغَة (على صِحَّته) أَي إِطْلَاق ضَارب (غَدا) على من لم يقم بِهِ الضَّرْب بعد وسيقوم فِي غَد (وَلَا حَقِيقَة) فِي هَذَا الْإِطْلَاق بِالْإِجْمَاع وَلَا فرق بَينهمَا لاشْتِرَاكهمَا فِي صِحَة الْإِطْلَاق إِجْمَاعًا وَعدم وجود الْمَعْنى فِي الْحَال فَيحكم بمجازيتهما مَعًا (وَحَاصِله خص الأَصْل لدَلِيل الْإِجْمَاع على مجازية الثَّانِي، وَلَيْسَ مثله فِي الآخر) ضمير حَاصله رَاجع إِلَى جَوَاب الْمُعَارضَة الْمَفْهُوم بِقَرِينَة الْمقَام لكَونه مترقيا بعْدهَا سِيمَا عِنْد كَونهَا ظَاهِرَة الدّفع، على أَن مَا بعده يُنَادي بتفسير الْمرجع، تَقْرِيره خص الأَصْل الْمَذْكُور وَهُوَ الأَصْل الْحَقِيقَة(1/74)
فِي الثَّانِي وَهُوَ ضَارب غَدا للْإِجْمَاع، وَلَا إِجْمَاع على مجازية الأول ليخص فِيهِ أَيْضا، فَعدم الْفرق بَينهمَا غير صَحِيح يعلم أَن قَول الشَّارِح: الْوَجْه حذف وَلَيْسَ مثله فِي الآخر الْوَجْه حذفه وَلَا يخفى عَلَيْك مَا فِي قَوْله خص الأَصْل من اللطف (قَالُوا) ثَانِيًا (لَو لم يَصح) إِطْلَاق الْوَصْف بعد انْقِضَاء الْمَعْنى (حَقِيقَة لم يَصح) أَن يُقَال (الْمُؤمن لغافل) عَن تذكر الْإِيمَان (ونائم) حَقِيقَة لِكَوْنِهِمَا غير متصفين بالتصديق وَالْإِقْرَار فِي الْحَالَتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُمَا غير متصفين بضدهما فيهمَا (وَالْإِجْمَاع) على (أَنه) أَي الْمُؤمن (لَا يخرج بهما) أَي بالغفلة وَالنَّوْم (عَنهُ) أَي الْإِيمَان (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْمُؤمن (مجَاز) فيهمَا، وَالْإِجْمَاع على صِحَة إِطْلَاق الْمُؤمن عَلَيْهِمَا، لَا على إِطْلَاقه عَلَيْهِمَا حَقِيقَة (لِامْتِنَاع) أَن يُقَال (كَافِر لمُؤْمِن لكفر تقدم) على إيمَانه تَعْلِيل لكَون إِطْلَاق الْمُؤمن عَلَيْهِمَا مجَازًا، تَوْضِيحه لَو كَانَ حَقِيقَة بِاعْتِبَار إِيمَان تقدم لما امْتنع إِطْلَاق كَافِر لمُؤْمِن تقدم كفره لكنه مُمْتَنع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يمْتَنع ذَلِك (كَانَ أكَابِر الصَّحَابَة كفَّارًا حَقِيقَة) لتقدم الْكفْر على إِيمَانهم، فَتعين كَون الْمُؤمن مجَازًا فِي الغافل والنائم (وَكَذَا النَّائِم لليقظان) أَي وَكَذَا كَانَ إِطْلَاق النَّائِم على الْيَقظَان حَقِيقَة لنوم تقدم، وبطلانه لُغَة ظَاهر (قيل وَالْحق أَنه) أَي الْمُؤمن وَنَحْوه (لَيْسَ من مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي محلّة (اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الْحُدُوث) يَعْنِي أَن مَا هُوَ على صِيغَة اسْم الْفَاعِل قد يكون بِمَعْنى الْحُدُوث كالعالم لله سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ بِمَعْنى الِاسْتِمْرَار (لَا) بِمَعْنى الثُّبُوت كَمَا (فِي مثل الْمُؤمن وَالْحر وَالْعَبْد مِمَّا لَا يعْتَبر فِيهِ طريان) أَي من الصِّفَات الَّتِي لم يعْتَبر فِيهَا حُدُوث مبدأ اشتقاقها، أَعنِي عروضه لموصوفاتها بعد مَا لم يكن. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَالتَّحْقِيق أَن النزاع فِي حَقِيقَة اسْم الْفَاعِل، وَهُوَ الَّذِي بِمَعْنى الْحُدُوث، لَا فِي مثل الْكَافِر، وَالْمُؤمن، والنائم، وَالْيَقظَان، والحلو، والحامض، وَالْعَبْد، وَالْحر مِمَّا يعْتَبر فِي بعضه الاتصاف بِهِ مَعَ عدم طريان المنافى، وَفِي بعضه الاتصاف بِهِ بِالْفِعْلِ أَلْبَتَّة انْتهى، وَقد علم بذلك أَن الْحُدُوث لم يعْتَبر فِي شَيْء من الْمَذْكُورَات، وَالْمُعْتَبر فِي الْبَعْض الأول الاتصاف فِي الْجُمْلَة مَعَ عدم طريان المنافى، وَالْكَافِر وَالْمُؤمن من الْبَعْض الأول، وَالْبَاقِي من الثَّانِي (وَقد يُقَال وَلَو سلم) كَون الْمُؤمن اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الْحُدُوث (فَالْجَوَاب الْحق) الكاشف عَن حَقِيقَة المُرَاد الحاسم مَادَّة الشُّبْهَة (أَنه إِذا أجمع على أَنه) أَي الْمُؤمن (إِذا لم يخرج بهما) أَي النّوم والغفلة (عَن الْإِيمَان أَو عَن كَونه مُؤمنا) يجوز أَن يكون تَفْسِيرا للْإيمَان، وَبَيَان كَونه مصدرا مَبْنِيا للْفَاعِل، وَيجوز أَن يُرَاد بِالْإِيمَان الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ، وَذكر هَذَا للْمُبَالَغَة بِاعْتِبَار إِفَادَة عدم خُرُوجه عَن الْإِيمَان وَعَن لَازمه فَهُوَ كالتأكيد (باعترافكم) مُتَعَلق بأجمع لَا بيخرج كَمَا توهمه الشَّارِح لفساد الْمَعْنى حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ يقتضى الْإِجْمَاع على عدم الْخُرُوج(1/75)
باعتراف الْخصم (بل حكم أهل اللُّغَة وَالشَّرْع) كلمة بل للترقي بِضَم أهل اللُّغَة إِلَى أهل الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ أصل الشَّرْع (بِأَنَّهُ) أَي الشَّأْن (مَا دَامَ الْمَعْنى مودعا حافظة الْمدْرك كَانَ قَائِما بِهِ) المُرَاد بِالْمَعْنَى الْإِيمَان وَنَحْوه من الصِّفَات النفسية الإدراكية، والمدرك الْعقل، وَلَيْسَ المُرَاد بالحافظة مصطلح الْحُكَمَاء، أعيى خزانَة الواهمة الَّتِي تدْرك الْمعَانِي الْجُزْئِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالمحسوسات كصداقة زيد وعداوة عَمْرو، بل الْقُوَّة الَّتِي تحفظ مدركات الْعقل مُطلقًا، وَالْمعْنَى حكم الْفَرِيقَانِ بِقِيَام الْإِيمَان وَنَحْوه بالمدرك مَا دَامَ مَوْجُودا فِي خزانته (مَا لم يطْرَأ) على الْمدْرك (حكم يناقضه) أَي الْمَعْنى الْمَذْكُور، كلمة مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة نائبة عَن الظّرْف الْمُضَاف إِلَى الْمصدر المؤولة هِيَ وصلتها بِهِ: أَي مُدَّة دوَام الْمَعْنى وَمُدَّة عدم طروحكم، والظرف الثَّانِي بدل عَن الأول، وَفِي الْحَقِيقَة تَفْسِير لَهُ، لِأَن مُدَّة دوَام الْمَعْنى هِيَ مُدَّة عدم طرُو مَا يناقضه، وَالْعَامِل فيهمَا كَذَلِك، وَلَك أَن تجْعَل الظّرْف الثَّانِي مَعْمُولا لقوه مودعا، غير أَنه موهم وجود الْإِيدَاع على تَقْدِير الطرو أَيْضا، وَالْمرَاد بالحكم المناقض مَا يُنَافِي الْإِيمَان من قَول أَو فعل كالتكلم بِكَلِمَة الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان، وتسميتهما حكما، لِأَنَّهُ سَبَب لترتيب أَحْكَام بِوَضْع الشَّارِع فَهُوَ من خطاب الْوَضع الَّذِي يُسمى حكما عِنْد الْأُصُولِيِّينَ (بِلَا شَرط دوَام الْمُشَاهدَة) مُتَعَلق بِحكم: أَي لَا يشْتَرط فِي قيام الْإِيمَان بالمدرك الْمُؤمن دوَام مشاهدته باستحضار صورته، وَالنَّظَر إِلَيْهَا من غير أَن تغيب (فالإطلاق) أَي إِطْلَاق الْمُؤمن على الغافل والنائم وَغَيرهمَا (حِينَئِذٍ) أَي حِين إِذْ يكون الْإِيمَان مودعا فِي الحافظة كامنا (حَال قيام الْمَعْنى) الَّذِي هُوَ الْإِيمَان (وَهُوَ) أَي إِطْلَاق الْوَصْف على الذَّات حَال قيام الْمَعْنى (حَقِيقِيّ اتِّفَاقًا فَلم يفد) صِحَة إِطْلَاق الْمُؤمن على الغافل والنائم (فِي مَحل النزاع شَيْئا) من الْفَائِدَة لِأَن النزاع فِيمَا بعد انْقِضَاء الْمَعْنى (وَبِه) أَي بِهَذَا الْجَواب الْحق (يبطل الْجَواب بِأَنَّهُ) أَي الْمُؤمن فِي الغافل والنائم (مجَاز) لما عرفت من أَن إِطْلَاقه عَلَيْهِمَا حَال قيام الْمَعْنى، وَهُوَ حَقِيقِيّ (وإثباته) أَي إِثْبَات أَنه مجَاز (بامتناع) أَن يُقَال (كَافِر لمُؤْمِن صَحَابِيّ أَو غَيره الخ بَاطِل) لِأَن امْتنَاع إِطْلَاق كَافِر لمُؤْمِن تقدم كفره إِنَّمَا هُوَ من جِهَة الشَّرْع، وَأما امْتِنَاعه من جِهَة اللُّغَة فَعدم صِحَّته غير مُسلم (بل صِحَّته) أَي صِحَة إِطْلَاق كَافِر عَلَيْهِ (لُغَة اتِّفَاق) أَي مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل اللُّغَة (وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَنه) أَي الْكَافِر فِي الْمُؤمن الْمَذْكُور (حَقِيقَة) لُغَة أَو مجَازًا (وَالْمَانِع) عَن الْإِطْلَاق أَمر (شَرْعِي) لَا لغَوِيّ فَإِنَّهُ مَنْهِيّ تَعْظِيمًا لَهُ (واذن) ظرف زمَان فِيهِ معنى الشَّرْط غَالِبا، وَقد يكون لمُجَرّد الظَّرْفِيَّة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين} - أَصله إِذا حذفت الْجُمْلَة الْمُضَاف إِلَيْهَا، وَعوض مِنْهَا التَّنْوِين، والعالم فِيهِ الادعاء الْمَذْكُور فِي قَوْلهم (لَهُم ادِّعَاء كَونه حَقِيقَة)(1/76)
أَي وَإِذا لم يكن الْمَانِع لغويا لأهل الْحَقِيقَة ادعا كَون كَافِر حَقِيقَة فِي الْمُؤمن الْمَذْكُور لُغَة، وَأَن امْتنَاع إِطْلَاقه لمَانع شرعا (مَعَ صِحَة إِطْلَاق) لفظ (الضِّدّ) وَهُوَ الْمُؤمن (كَذَلِك) أَي حَقِيقَة (وَلَا يمْتَنع) صِحَة إِطْلَاق الضدين على شَيْء وَاحِد على جَمِيع التقادير (إِلَّا لَو قَامَ مَعْنَاهُمَا فِي وَقت الصحتين) أَي على تَقْدِير قيام معنى الضدين فِي وَقت وَاحِد هُوَ وَقت الصحتين (وَلَيْسَ الْمُدَّعِي) أَي مدعي أهل الْحَقِيقَة (سوى كَون اللَّفْظ) أَي الْوَصْف المنازع فِيهِ (بعد انْقِضَاء الْمَعْنى حَقِيقَة، وَأَيْنَ هُوَ؟) أَي كَونه حَقِيقَة بعد انْقِضَاء الْمَعْنى (من قِيَامه) أَي الْمَعْنى (فِي الْحَال) أَي فِي حَال صِحَة الْإِطْلَاق (ليجتمع المتنافيان) فِي وَقت وَاحِد (أَو يلْزم قيام أَحدهمَا) أَي المتنافيين (بِعَيْنِه) قَوْله يلْزم مَعْطُوف على يجْتَمع، وَإِنَّمَا قَالَ بِعَيْنِه لِأَن الْخُلُو عَن أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين فِيمَا نَحن فِيهِ غير مُتَصَوّر، إِذْ انْتِفَاء الْإِيمَان يسْتَلْزم الْكفْر وَبِالْعَكْسِ، وَأما إِذا كَانَ الضدان بِحَيْثُ لَا يمْتَنع ارتفاعهما عَن الْمحل كالأسود والأبيض، فَيجوز أَن لَا يقوم شَيْء مِنْهُمَا مَعَ صِحَة إطلاقهما بِاعْتِبَار الاتصاف السَّابِق تَلْخِيص الْكَلَام أَن حَاصِل الِاسْتِدْلَال صِحَة إِطْلَاق الْمُؤمن على الغافل والنائم اللَّازِمَة عدم خروجهما عَن الْإِيمَان يَقْتَضِي كَونه حَقِيقَة، وَكَذَا سَائِر الْأَوْصَاف بعد الِانْقِضَاء وخلاصة الْجَواب: إِمَّا منع لُزُوم الْحَقِيقَة لجَوَاز كَون الْإِطْلَاق مجازيا مُسْتَندا بامتناع كَافِر الخ أَو الْمُعَارضَة بادعا المجازية وإثباتها بالامتناع الْمَذْكُورَة ومحصول الْكَلَام الْمُحَقق منع استلزام دَلِيل مدعي الْحَقِيقَة وخصمه مدعاه لخُرُوج الْمُؤمن وَالْكَافِر عَن مَحل النزاع على تَقْدِير الْمُعَارضَة، أَو عدم صَلَاحِية خَصمه لسندية لما ذكر وَحَاصِل تَحْقِيق المُصَنّف منع استلزام الدَّلِيل الْمُدَّعِي على تَقْدِير كَون الْمُؤمن اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الْحُدُوث لِأَنَّهُ لَيْسَ من مَحل النزاع لعدم انْقِضَاء الْمَعْنى فِيهِ، وَإِبْطَال دَلِيل مدعى الْمجَاز لصِحَّة إِطْلَاق كَافِر لمُؤْمِن لُغَة بالِاتِّفَاقِ على تَقْرِير الْمُعَارضَة، وَعدم صَلَاحِية السندية على تَقْرِير الْمَنْع مَعَ زِيَادَة التَّحْقِيق على مَا ترى، كَيفَ وَقد أبطل جَوَابا صرح بقوته القَاضِي عضد الدّين، وناهيك بِهِ (قَالُوا) ثَالِثا (لَو اشْترط لكَونه) أَي الْوَصْف (حَقِيقَة بَقَاء الْمَعْنى لم يكن لأكْثر المشتقات) من المصادر السيالة (حَقِيقَة) لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر بَقَاؤُهَا إِلَّا بعد حُصُولهَا، وَهُوَ لَا يتَصَوَّر إِلَّا باجتماع أَجْزَائِهَا، وَأَنَّهَا تَنْقَضِي أَولا فأولا (كضارب ومخبر) أما الضَّرْب فَفِي كَونه نظر كَمَا سَيَأْتِي، وَأما الْأَخْبَار فَلِأَنَّهُ عبارَة عَن التَّلَفُّظ بحروف تَنْقَضِي أَولا فأولا، فَقبل أَن يتَلَفَّظ بالحرف الْأَخير لم يتَحَقَّق الْأَخْبَار، وَحين تلفظ بِهِ قد انْقَضى، فَمَتَى يُطلق عَلَيْهِ عِنْد بَقَاء الْمَعْنى ليَكُون حَقِيقَة (بل) تكون الْحَقِيقَة (لنَحْو قَائِم وقاعد) مِمَّا اشتق من غير السيالة مِمَّا يجْتَمع أجزاؤه فِي الْوُجُود وَيبقى (وَالْجَوَاب أَنه) أَي بَقَاء الْمَعْنى (يشْتَرط إِن أمكن) بَقَاؤُهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن (فوجود جُزْء) أَي فَيشْتَرط وجود جُزْء فَلَا يلْزم أَن لَا يكون لأكْثر(1/77)
المشتقات حَقِيقَة، فَمَا دَامَ جُزْء مِنْهَا مَوْجُودا يُطلق الْوَصْف حَقِيقَة، وَلَا يلْزم كَون الْمُجيب مُطلق الِاشْتِرَاط، ليرد أَن هَذَا الْجَواب خلاف مذْهبه (وَالْحق أَن هَذَا) التَّفْصِيل (يجب أَن يكون مُرَاد مُطلق الِاشْتِرَاط) أَي من اشْتِرَاط بَقَاء الْمَعْنى فِي مُطلق الْأَوْصَاف (ضَرُورَة) أَي وجوبا أَو للضَّرُورَة الْمُقْتَضِيَة الْوُجُوب الْمَذْكُور، وَذَلِكَ لِأَن الْعَاقِل الْعَارِف باللغة لَا يسْتَلْزم نفي الْحَقِيقَة رَأْسا عَن أَكثر المشتقات (لَا مذهبا ثَالِثا) مَعْطُوف على خبر يكون فَلَا يكون فِيمَا بعد الِانْقِضَاء إِلَّا مذهبان: نفي الِاشْتِرَاط مُطلقًا، وَالتَّفْصِيل (فَهُوَ) أَي مُطلق الِاشْتِرَاط (وَإِن قَالَ يشْتَرط بَقَاء الْمَعْنى) والمتبادر مِنْهُ بَقَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لكنه (يُرِيد) بِهِ (وجود شَيْء مِنْهُ) أَي جُزْء من الْمَعْنى لظُهُور فَسَاد إِرَادَة مَا هُوَ الْمُتَبَادر فِيمَا لَا يُمكن بَقَاؤُهُ، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا يُفِيد التَّعْمِيم فِيمَا يُمكن ومالا يُمكن، وَلَا ضَرُورَة فِي ارتكابه فِيمَا يُمكن، وَقد صرح التفتازابي أَن مُرَاد الْمُطلق أَنه لَا بُد من بَقَاء الْمَعْنى بِتَمَامِهِ إِن أمكن وَإِلَّا فبجزء مِنْهُ، وَيُمكن حمل هَذَا الْكَلَام عَلَيْهِ بِضَرْب من الْمُسَامحَة، وَإِنَّمَا لم يقل آخر جُزْء كَمَا فِي الْمُنْتَهى لِأَن الْمُعْتَبر الْمُبَاشرَة الْعُرْفِيَّة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَلفظ مخبر وضارب إِذا أطلق فِي حَال الاتصاف) أَي اتصاف الْمخبر (بِبَعْض الْأَخْبَار) بِكَسْر الْهمزَة: أَي عِنْد مُبَاشَرَته بِبَعْض حُرُوفه وبشيء من الضَّرْب (يكون حَقِيقَة لِأَن مثل ذَلِك) الْإِطْلَاق (يُقَال فِيهِ أَنه) إِطْلَاق حَال اتصافه) أَي الْمخبر والضارب (بالأخبار وَالضَّرْب عرفا) أَي فِي عرف اللُّغَة، ومدار معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على الْعرف (وَإِذا كَانَ) الْعرف أَو الْأَمر (كَذَلِك وَجب أَن يحمل كَلَامه) أَي مُطلق الِاشْتِرَاط (عَلَيْهِ) أَي على مَا ذكر من المُرَاد تَصْحِيحا لكَلَام الْعَاقِل الْعَارِف باللغة (وَمن المستبعد أَن يَقُول أحد) مِمَّن لَهُ أدنى معرفَة باللغة (لفظ ضَارب) إِذْ أطلق على شخص (فِي حَال الضَّرْب مجَاز) لعدم قيام مَجْمُوع أَجْزَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَالة (وَإنَّهُ) أَي الضَّارِب (لم يسْتَعْمل حَقِيقَة أبدا، وَكثير مثل هَذَا) من إِثْبَات الْخلاف بِنَاء على مَا يتَوَهَّم من ظواهر الْأَقْوَال (فِي كَلَام المولعين) من أولع بالشَّيْء إِذا علق بِهِ (بِإِثْبَات الْخلاف) وهم الَّذين ابتلوا بالوقوع فِيهِ من غير توقف وَتَأمل وُقُوع (وَنقل الْأَقْوَال) مَعْطُوف على إِثْبَات لخلاف: أَي المولعين بِمُجَرَّد نقل الْأَقْوَال من غير تدبر وتعمق فِي فهم مَقَاصِد الْقَوْم، وَيجوز أَن يكون مُبْتَدأ خَبره (لمن تتبع) أَي نقلهَا مُسلم لمن تتبع حق التتبع، والمولعون لَيْسُوا مِنْهُم، فعلى الأول مُتَعَلق بِمَحْذُوف: أَي مَعْلُوم كثرته لمن تتبع (ثمَّ الْحق أَن ضَارِبًا لَيْسَ مِنْهُ) أَي من الْوَصْف الَّذِي لَا يُمكن بَقَاء مَعْنَاهُ (لِأَن الْوُجُود) عِنْد إِطْلَاقه على من يُبَاشر الضَّرْب (تَمام الْمَعْنى) لَا جزؤه كَمَا يتَوَهَّم من ضرب مائَة عَصا أَنه ضرب وَاحِد، وكل وَاحِد من الْمِائَة(1/78)
جُزْء مِنْهُ بل كل وَاحِد مِنْهَا يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم الضَّرْب مَوْجُود فِيهِ تَمام حَقِيقَته (وَإِن انْقَضى كثير من الْأَمْثَال) أَي من أَفْرَاد الضَّرْب الْمُمَاثلَة للموجود حَال الْإِطْلَاق (لَا يُقَال فَالْوَجْه حِينَئِذٍ) أَي حِين أُجِيب عَن أَدِلَّة الْمجَاز والحقيقة، وَلم يبْق لأَحَدهمَا رُجْحَان على الآخر من حَيْثُ الدَّلِيل (الْحَقِيقَة) أَي اخْتِيَارهَا (تَقْدِيمًا للتواطئ) وَهُوَ كَون اللَّفْظ مَوْضُوعا لما يعم الْمَعْنى الَّذِي هُوَ حَقِيقَة فِيهِ بِلَا شُبْهَة، وَالْمعْنَى الَّذِي فِيهِ شُبْهَة المجازية (على الْمجَاز) أَي المجازية (لَا التَّوَقُّف) أَي لَيْسَ الْوَجْه التَّوَقُّف (كظاهر بعض الْمُتَأَخِّرين) أَي كمفهوم ظَاهر كَلَام بَعضهم، وَهُوَ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (لعدم لَازمه) أَي التواطئ تَعْلِيل لقَوْله: لَا يُقَال وَحَاصِله الِاسْتِدْلَال بِنَفْي اللَّازِم على نفي الْمَلْزُوم (وَهُوَ) أَي لَازمه (سبق الْأَحَد) أَي أحد الْأَمريْنِ: من الْمُثبت لَهُ الْمَعْنى قَائِما، والمثبت لَهُ منقضيا (الدائر) بَين الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين، يَعْنِي لَو كَانَ الْوَصْف مَوْضُوعا لأحد الْأَمريْنِ لسبق إِلَى الْفَهم عِنْد إِطْلَاقه كَمَا هُوَ شَأْن الْمَوْضُوع لَهُ، لكنه لم يسْبق فَلَا وضع فَلَا تواطؤ (لسبقه) أَي الْمَعْنى إِلَى الْفَهم (بِاعْتِبَار الْحَال من نَحْو زيد قَائِم) وَسبق أحد الْأَمريْنِ بِعَيْنِه يسْتَلْزم عدم سبق أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، وَظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن المُصَنّف رَحمَه الله: اخْتَار المجازية فِي مَحل النزاع، وَقد استبان بِمَا ذكر من التَّفْصِيل أَن مَحل النزاع الْوَصْف الَّذِي هُوَ مَظَنَّة لَا يكون إِلَّا حَقِيقَة بعد الِانْقِضَاء، بِخِلَاف مَا اعْتبر فِيهِ الاتصاف بِالْفِعْلِ اتِّفَاقًا، وَمَا اعْتبر فِيهِ عدم طريان المنافى وَالله أعلم.
الْفَصْل الثَّانِي
(فِي) تَقْسِيم الْمُفْرد بِاعْتِبَار (الدّلَالَة وظهورها وخفائها) فَهِيَ (تقسيمات) ثَلَاثَة
(التَّقْسِيم الأول) وَهُوَ تقسيمه بِاعْتِبَار الدّلَالَة نَفسهَا، التَّقْسِيم ضم قيود متباينة ذاتا أَو اعْتِبَارا إِلَى مَفْهُوم كلي بِحَيْثُ يحصل من انضمام كل قسيم، وَهُوَ قسيم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخر (اللَّفْظ الْمُفْرد إِمَّا دَال بالمطابقة أَو التضمن أَو الِالْتِزَام) وَسَيَجِيءُ تَفْسِيرهَا (وَالْعَادَة) أَي عَادَة الْأُصُولِيِّينَ (التَّقْسِيم فِيهَا) أَي الدّلَالَة نَفسهَا، لَا الدَّال (ويستتبعه) أَي الدّلَالَة اللَّفْظ فِي الانقسام: أَي يَنْقَسِم اللَّفْظ تبعا للدلالة، وَإِنَّمَا عدل عَنْهَا لتَكون التقسيمات كلهَا للمفرد تسهيلا للضبط (وَالدّلَالَة كَون الشَّيْء) بِحَيْثُ (مَتى فهم فهم) مِنْهُ (غَيره فَإِن كَانَ التلازم) أَي لُزُوم فهم الْغَيْر لذَلِك فهم الشَّيْء، وملزومية ذَلِك الشَّيْء لفهم الْغَيْر الْمُسْتَفَاد من قَوْله مَتى فهم فهم الخ، وَالْمرَاد عدم الانفكاك لَا امْتِنَاعه (بعلة الْوَضع) بِسَبَب كَون ذَلِك الشَّيْء مَوْضُوعا لذَلِك الْغَيْر، أَو لما هُوَ جزؤه أَو لَازمه (فوضعية) أَي فالدلالة وضعية (أَو الْعقل) والتقابل بِاعْتِبَار اسْتِقْلَال الْعقل وَعَدَمه، وَإِلَّا(1/79)
فالعقل لَهُ مدْخل فِي الوضعية أَيْضا (فعقلية، وَمِنْهَا الطبيعية) أَي من الْعَقْلِيَّة الدّلَالَة الطبيعية، وَهِي مَا كَانَت الطبيعة سَبَب وجود الدَّال (إِذْ دلَالَة أح على الْأَذَى) وَهُوَ وجع الصدرا لملجئ صَاحبه إِلَى إِيقَاعه (دلَالَة الْأَثر) وَهُوَ أح (على مبدئه) ومنشئه، وَهُوَ الوجع الْمَذْكُور (كالصوت) أَي كدلالة الصَّوْت المسموع من وَرَاء الْجِدَار على صَاحبه (وَالْكِتَابَة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَاتِب (وَالدُّخَان) بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّار، فَإِنَّهَا عقليات كلهَا (والوضعية) تَارَة (غير لفظية كالعقود) جمع عقد، وَهُوَ مَا يعْقد بالأصابع على كَيْفيَّة خَاصَّة مَوْضُوع لعدد معِين (وَالنّصب) جمع نصبة، وَهُوَ الْعَلامَة المنصوبة لمعْرِفَة الطَّرِيق (ولفظية) وَهِي (كَون اللَّفْظ بِحَيْثُ إِذا أرسل) لم يقل أطلق لِأَن الْمُتَبَادر من الْإِطْلَاق مَا قرن بالإرادة، والإرسال أَعم وَاللَّفْظ يدل على مَعْنَاهُ إِذا تلفظ بِهِ، وَإِن لم يرد بِهِ الْمَعْنى (فهم) مِنْهُ (الْمَعْنى للْعلم بِوَضْعِهِ) أَي اللَّفْظ (لَهُ) أَي الْمَعْنى والمتبادر كَون اللَّام مُتَعَلقا بفهم، وَهُوَ يُوهم كَون اللَّازِم الْفَهم من حَيْثُ إِنَّه مُعَلل، وَيرد أَنه إِذا أرسل وَلم يكن السَّامع عَالما بِالْوَضْعِ لم يفهم، وَهُوَ يُنَافِي مَتى فهم فهم فَتعين كَونه مُتَعَلقا بِالْإِرْسَال، وَاللَّام بِمَعْنى عِنْد كَقَوْلِه تَعَالَى - {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} - (وَأورد) نقضا على عكس التَّعْرِيف من حَيْثُ تضمنه لُزُوم حُدُوث فهم الْمَعْنى عِنْد الْإِرْسَال (سَمَاعه) أَي اللَّفْظ (حَال كَون الْمَعْنى مشاهدا) للسامع لعدم حُدُوث الْفَهم حِينَئِذٍ لِامْتِنَاع حُصُول الْحَاصِل (وَأجِيب بِقِيَام الْحَيْثِيَّة) المفسرة بهَا الدّلَالَة اللفظية، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهِي) أَي الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة (الدّلَالَة) تَوْضِيحه سلمنَا انْتِفَاء حُدُوث فهم الْمَعْنى حَال الْمُشَاهدَة، لكنه لَا يخل فِيهَا، لِأَنَّهَا عبارَة عَن تِلْكَ الْحَيْثِيَّة، وَهِي مَوْجُودَة فِي الدَّال لكَونه بِحَيْثُ إِلَى آخِره، وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نسلم قيام الْحَيْثِيَّة، لِأَن كلمة إِذا فِيهَا بِمَعْنى مَتى لما مر فِي تَعْرِيف مُطلق الدّلَالَة، فَيجب حُدُوث الْمَعْنى فِي كل إرْسَال، وَقد عرفت عَدمه عِنْد إرْسَاله حَال الْمُشَاهدَة، وَلعدم حقية هَذَا الْجَواب. قَالَ (وَالْحق) أَن يُقَال إِنَّه حصل (الِانْقِطَاع) أَي انْقِطَاع الْمُشَاهدَة (بِالسَّمَاعِ) أَي بِسَبَب اشْتِغَال البال باستماع اللَّفْظ (ثمَّ التجدد) أَي تجدّد فهم حَادث (عَنهُ) أَي عَن اللَّفْظ، وَيتَّجه أَنه لَا تَنْقَطِع الْمُشَاهدَة غَايَة الْأَمر أَن يَنْقَطِع الالتفاف إِلَى الْمُشَاهدَة بِالذَّاتِ، وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِانْقِطَاع الْمُشَاهدَة هُوَ هَذَا، وَالْمرَاد بالفهم اللَّازِم فِي الدّلَالَة مَا يعم الْفَهم الْحَادِث من حَيْثُ الذَّات، والحادث من حَيْثُ الِالْتِفَات (وللدلالة إضافات) أَي صِفَات إضافية حَاصِلَة لَهَا بِالْقِيَاسِ (إِلَى تَمام مَا وضع لَهُ اللَّفْظ، وجزئه، ولازمه) فَإِذا اعْتبرت الدّلَالَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمام مَا وضع لَهُ حصلت إِضَافَة، وَإِلَى جزئه أُخْرَى، وَإِلَى لَازمه أُخْرَى (إِن كَانَا) أَي إِن وجد الْجُزْء وَاللَّازِم فَكَانَ تَامَّة، وَيجوز كَونهَا نَاقِصَة، وَالْخَبَر مَحْذُوف،(1/80)
أَعنِي موجودين، وَقَوله للدلالة إِلَى آخِره دَال على الْجَزَاء الْمَحْذُوف والمشروط إِنَّمَا هُوَ الإضافتان الأخيرتان بِالْحَقِيقَةِ، أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ الْمَشْهُور من أَن الْمُطَابقَة لَا تَسْتَلْزِم التضمن والالتزام، لجَوَاز أَن يكون مَا وضع لَهُ بسيطا لَا لَازم أَو مركب كَذَا (وَلها) أَي للدلالة (مَعَ كل) إِضَافَة (اسْم، فَمَعَ الأول) اسْمهَا (دلَالَة الْمُطَابقَة، وَمَعَ الثَّانِي دلَالَة التضمن، وَكَذَا الِالْتِزَام) أَي وَمَعَ إضافتها إِلَى اللَّازِم اسْمهَا دلَالَة الِالْتِزَام، وَالتَّعْبِير عَن الْإِضَافَة بِالْأولِ وَالثَّانِي بِاعْتِبَار كَونهَا مصدرا، (ويستلزم اجتماعها) أَي الدلالات الثَّلَاث (انتقالين) من لفظ (وَاحِد) مِنْهُ (إِلَى الْمَعْنى المطابقي والتضمني) وَإِنَّمَا قُلْنَا بوحدة الِانْتِقَال فيهمَا (لِأَن فهمه) أَي الْجُزْء (فِي ضمنه) أَي تَمام مَا وضع (لَا كظن) أَي كمظنون (شَارِح الْمطَالع) الْفَاضِل الْمَشْهُور قطب الدّين الرَّازِيّ من أَنه ينْتَقل الذِّهْن من اللَّفْظ إِلَى جُزْء مَا وضع لَهُ، ثمَّ مِنْهُ إِلَى تَمَامه، وَأَن الْمُطَابقَة تَابِعَة للتضمن فِي الْفَهم لسبق الْجُزْء فِي الْمَوْجُودين، وَمَا ذكره المُصَنّف رَحمَه الله إِشَارَة إِلَى مَا ذكره الْمُحَقق شَارِح الْمُخْتَصر القَاضِي عضد الدّين فِي الدّلَالَة اللفظية من أَنه ينْتَقل الذِّهْن من اللَّفْظ إِلَى الْمَعْنى ابْتِدَاء، وَهِي وَاحِدَة لَكِن رُبمَا تضمن الْمَعْنى الْوَاحِد جزءين فيفهم مِنْهُ الجزءان، وَهُوَ بِعَيْنِه فهم الْكل، فالدلالة على الْكل لَا تغاير الدّلَالَة على الجزءين مَعًا مُغَايرَة بِالذَّاتِ بل بِالْإِضَافَة وَالِاعْتِبَار، وَقرر هَذَا التَّحْقِيق الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، ثمَّ قَالَ ومبني هَذَا التَّحْقِيق على أَن التضمن فهم الْجُزْء فِي ضمن الْكل، والالتزام فهم اللَّازِم بعد فهم الْمَلْزُوم، حَتَّى إِذا اسْتعْمل اللَّفْظ فِي الْجُزْء أَو اللَّازِم مَعَ قرينَة مَانِعَة عَن إِرَادَة الْمُسَمّى لم يكن تضمنا أَو التزاما بل مُطَابقَة لكَونهَا دَالَّة على تَمام الْمَعْنى: أَي مَا عَنى بِاللَّفْظِ وَقصد انْتهى بَيَان ذَلِك أَن دلَالَة اللَّفْظ بِوَضْعِهِ للمعنى فالعالم بِهِ إِذا فهم اللَّفْظ يتَوَجَّه قصدا بِمُقْتَضى علمه نَحْو الْمَوْضُوع لَهُ لَا إِلَى جزئه وَإِن كَانَ يتعقل قبل تعقل الْكل ضَرُورَة، لِأَن الذِّهْن غير مُتَوَجّه إِلَيْهِ قصدا، وَكَونه وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال فرع توجه الذِّهْن إِلَيْهِ قصدا لَا يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون مَقْصُود شَارِح الْمطَالع من كَون الْجُزْء وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال مُقَدّمَة فِي التعقل لِأَن ذَلِك بديهي لَا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان وَلَا تنَازع فِيهِ مَعَ أَنه شبه وساطته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل بوساطة الْمَوْضُوع لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الالتزامي (يَلِيهِ) أَي يَلِي ذَلِك الْوَاحِد انْتِقَال (آخر) من الْمَعْنى المطابقي (إِلَى) الْمَعْنى (الالتزامي لُزُوما) أَي لكَون الالتزامي لَازِما للمطابقي، وَإِنَّمَا صَار لُزُومه سَبَب الِانْتِقَال (لِأَنَّهُ) أَي اللُّزُوم هَهُنَا (بِالْمَعْنَى الْأَخَص) اللُّزُوم عِنْد المنطقيين يُطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا أخص، وَهُوَ كَون اللَّازِم بِحَيْثُ يحصل فِي الذِّهْن كلما حصل الْمَلْزُوم فِيهِ، وَثَانِيهمَا الْأَعَمّ، وَهُوَ كَونه بِحَيْثُ إِذا تصور مَعَ الْمَلْزُوم يحكم الْعقل باللزوم بَينهمَا على الْفَوْر أَو بعد التَّأَمُّل، أما لعلاقة عقلية أَو لعرف خَاص أَو عَام وَمَا يجْرِي مجْرَاه والأخصية بِاعْتِبَار أَنه كلما(1/81)
تحقق اللُّزُوم بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا تعقلا يحكم الْعقل باللزوم بَينهمَا من غير عكس وَهُوَ ظَاهر (فَانْتفى لُزُوم الالتزامي مُطلقًا) كَمَا زعم الإِمَام الرَّازِيّ من أَن كل مُسَمّى لَهُ لَازم ذهني، وَذَلِكَ الزَّعْم (للُزُوم تعقل أَنه) أَي الْمُسَمّى (لَيْسَ غَيره) أَي غير نَفسه (لِأَن ذَلِك) أَي التعقل الْمَذْكُور لَازم (بالأعم) أَي بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ، وَقد عَرفته وَالْمُعْتَبر هَهُنَا اللَّازِم بِالْمَعْنَى الْأَخَص (هَذَا) كُله (على) اصْطِلَاح (المنطقيين فَلَا دلَالَة للمجازات على) الْمعَانِي (المجازية) لعدم كَونهَا بِحَيْثُ مَتى أرْسلت فهم مِنْهَا تِلْكَ الْمعَانِي، بل إِذا أرْسلت مَعَ الْقَرِينَة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بل ينْتَقل إِلَيْهَا) أَي الْمعَانِي المجازية (بِالْقَرِينَةِ فَهِيَ) أَي الْمعَانِي المجازية (مرادات) بالمجازات (لَا مدلولات لَهَا فَلَا تورد) المجازات نقضا (عَلَيْهِم) أَي على عكس تَعْرِيف المنطقيين بِأَنَّهَا خَارِجَة عَنهُ (إِذْ يلتزمونه) أَي خُرُوجهَا عَن التَّعْرِيف لعدم دُخُولهَا فِي الْمُعَرّف (وَلَا ضَرَر) فِي ذَلِك (إِذْ لم يسْتَلْزم) عدم دلالتها على الْمعَانِي المجازية (نفى فهم المُرَاد) مِنْهَا ليَكُون التزامهم بَاطِلا لكَونه خلاف الْوَاقِع (فَلَيْسَ للمجاز) الْمُسْتَعْمل (فِي الْجُزْء وَاللَّازِم دلَالَة مُطَابقَة فيهمَا) أَي بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله فِي الْجُزْء وَاللَّازِم (كَمَا قيل) قَائِله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، وَقد مر آنِفا (بل اسْتِعْمَال يُوجب الِانْتِقَال مَعَه إِلَى كل فَقَط الْقَرِينَة) اضراب عَن ثُبُوت الدّلَالَة المطابقية للمجاز على الْجُزْء اللَّازِم إِلَى ثُبُوت اسْتِعْمَال لَهُ توجب الْقَرِينَة المفيدة إِرَادَة أَحدهمَا حَال كَونهَا مَعَ ذَلِك الِاسْتِعْمَال الِانْتِقَال عَن الْمَوْضُوع لَهُ إِلَى كل من الْجُزْء وَاللَّازِم فَقَط: أَي بِدُونِ مُشَاركَة شَيْء آخر إِيَّاه فِي الْإِرَادَة (وَدلَالَة) مَعْطُوف على اسْتِعْمَال (تضمنية والتزامية فيهمَا) مُتَعَلق بِاسْتِعْمَال، وَإِنَّمَا تثبت الدلالتان (تبعا للمطابقية الَّتِي لم ترد) فَلَا يرد أَنه يلْزم تحقق الدّلَالَة التضمنية والالتزامية بِدُونِ المطابقية (وَهَذَا) أَي وجود المطابقية فِي الْمجَاز الْمَذْكُور مَعَ كَونهَا غير مُرَاد (لِأَن بعد) تحقق (الْوَضع لَا تسْقط الدّلَالَة) المطابقية (عَن) الدَّال (الوضعي) إِذا كَانَ الشَّارِح عَالما بِالْوَضْعِ (فَكَذَا لَا تسْقط) الدّلَالَة (عَن لَازمه) أَي لَازم الوضعي إِذا كَانَ لَهُ لَازم (فتتحقق) الدّلَالَة المطابقية فِي الْمجَاز الْمَذْكُور (لتحَقّق علتها) أَي الدّلَالَة (وَهُوَ) أَي علتها (الْعلم بِالْوَضْعِ) فَإِن قلت قَوْله بعد الْوَضع إِلَى آخِره يدل على أَن مُجَرّد الْوَضع كَاف فِي تحقق الْحَيْثِيَّة، وَهَذَا يدل على أَنه لَا بُد من الْعلم بِالْوَضْعِ أَيْضا قلت لَيْسَ المُرَاد من التحقق هُنَا اتصاف اللَّفْظ بالحيثية الْمَذْكُورَة بل ثَمَرَتهَا، وَهُوَ الِانْتِقَال إِلَى مَا وضع لَهُ، وَمُجَرَّد الْوَضع كَاف فِي اتصافه بالحيثية الْمَذْكُورَة غير كَاف فِي الِانْتِقَال بل لَا بُد فِيهِ من الْعلم بِالْوَضْعِ أَيْضا (وَالْمرَاد) من اللَّفْظ الْمجَازِي (غير متعلقها) أَي غير مُتَعَلق الدّلَالَة المطابقية، وَهُوَ الْمَدْلُول المطابقي، يَعْنِي المُرَاد المعني الْمجَازِي الَّذِي هُوَ غير متعلقها (وَأما الأصوليون فَمَا للوضع دخل(1/82)
فِي الِانْتِقَال) أَي فعندهم الدّلَالَة الوضعية هِيَ الَّتِي للوضع دخل فِي الِانْتِقَال من دالها إِلَى مدلولها (فتتحقق) الدّلَالَة على اصطلاحهم (فِي الْمجَاز) لدخل الْوَضع فِي الِانْتِقَال الْمجَازِي، لِأَن العلاقة بَين الْمَعْنى الْمجَازِي والموضوع لَهُ سَببه، وَعدم اعتبارهم اللُّزُوم الْكُلِّي بَين فهم الْمَعْنى وَفهم اللَّفْظ اكْتِفَاء باللزوم فِي الْجُمْلَة (والالتزامية بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ) أَي وتتحقق الدّلَالَة الالتزامية باللزوم بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَلَا يشْتَرط اللُّزُوم بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَقد مر تفسيرهما (ثمَّ اخْتلف الِاصْطِلَاح) للأصوليين فِي أَصْنَاف الدّلَالَة الوضعية بِاعْتِبَار مفهوماتها وأسمائها (وَفِي ثُبُوت بَعْضهَا) بِإِثْبَات بَعضهم قسما لم يُثبتهُ الْبَعْض الآخر كالمفهوم الْمُخَالف أثْبته الشَّافِعِيَّة لَا الْحَنَفِيَّة (أَيْضا، فالحنفية) أَي فَقَالَت الْحَنَفِيَّة (الدّلَالَة) الوضعية قِسْمَانِ (لفظية وَغير لفظية، وَهِي) أَي غير اللفظية (الضرورية) أَي الَّتِي أوجبت الضَّرُورَة الناشئة من الدَّلِيل اعْتِبَارهَا من غير لفظ يدل (ويسمونها) أَي الْحَنَفِيَّة (بَيَان الضَّرُورَة) أَي الْحَاصِل بِسَبَبِهَا، فَهُوَ من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى سَببه، وَأما تَسْمِيَة الدّلَالَة بَيَانا فباعتبار أَن موصوفها بَيَان لمدلوله (وَهِي) أَي الضرورية (أَرْبَعَة أَقسَام كلهَا دلَالَة سكُوت مُلْحق باللفظية) لِأَن السُّكُوت بمعاونة الْمقَام يَقْتَضِي اعْتِبَارهَا (الأول مَا يلْزم منطوقا) لِأَن السُّكُوت بِدُونِ اتصالها مَعَ الْمَنْطُوق وَلَا يُفِيد اعْتِبَارهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} دلّ سُكُوته) عَن ذكر نصيب الْأَب (أَن للْأَب الْبَاقِي) لِأَنَّهُ لَا شكّ أَن تعْيين نصِيبه مَقْصُود كتعيين نصيب الْأُم، فَإِن لم يكن الْبَاقِي لَهُ لَا يتَعَيَّن فَيلْزم عدم صِحَة السُّكُوت لَا يُقَال الْمَنْطُوق يدل على انحصار الْوَارِث فيهمَا وَتَعْيِين نصيب الْأُم، وَيلْزمهُ كَون الْبَاقِي للْأَب، فَهُوَ مَدْلُوله التزاما لأَنا نقُول: لَو سلم دلَالَته على الانحصار لَا نسلم كَونه دَالا عَلَيْهِ التزاما، لجَوَاز أَن يكون لَهُ بعض الْبَاقِي وَالْبَعْض الآخر يقسم بَينهمَا بطرِيق الرَّد، أَو يُعْطي لبيت المَال فَإِن قلت الْأَب عصبَة فَلَا يحْتَمل مَا ذكرت قلت الْكَلَام فِي دلَالَة اللَّفْظ، وَلَيْسَ الْمُخَاطب منحصرا فِيمَن يعلم قَوَاعِد الْفَرَائِض فاحتيج إِلَى أَن يُقَال لَو كَانَ نصِيبه بعض الْبَاقِي لما صَحَّ السُّكُوت عَن بَيَانه قَوْله - {وَورثه} - إِلَى آخِره مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف: أَي مِنْهَا، وَقَوله دلّ إِلَى آخِره اسْتِئْنَاف، وَكَذَا قَوْله (ودفعته) أَي النَّقْد (مُضَارَبَة) وَهِي عقد شركَة فِي الرِّبْح الْحَاصِل بِعَمَل الْمضَارب (على أَن لَك نصف الرِّبْح يُفِيد) سُكُوته (أَن الْبَاقِي) وَهُوَ النّصْف الآخر (للْمَالِك) وَيتَّجه هَهُنَا نَظِير الْإِيرَاد الْمَذْكُور وَلَيْسَ فِيهِ نَظِير ذَلِك الْجَواب، لِأَن الْبَاقِي من حَيْثُ أَنه نَمَاء ملكه يتَعَيَّن أَن يكون لَهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد بِدلَالَة السُّكُوت مَا لم يكن الدَّال فِيهِ منطوقا، وملاحظة الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة كَذَلِك (وَكَذَا فِي قلبه اسْتِحْسَانًا) أَي وَمِنْهَا قَوْله دَفعته إِلَيْك مُضَارَبَة على أَن لي نصف الرِّبْح فَالْقِيَاس فَسَاده لعدم بَيَان نصيب الْمضَارب، وَالِاسْتِحْسَان صِحَّته، لِأَن الْمَنْطُوق دلّ على أَن نصيب الْمَالِك(1/83)
النّصْف فَتعين النّصْف الآخر للْمُضَارب لعدم مُسْتَحقّ آخر وَالرِّبْح مُشْتَرك بَينهمَا.
(الثَّانِي دلَالَة حَال السَّاكِت) الَّذِي وظيفته الْبَيَان مُطلقًا، أَو فِي تِلْكَ الْحَادِثَة (كسكوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أَمر يُشَاهِدهُ) من قَول أَو فعل لَيْسَ مُعْتَقد كَافِر مَعَ قدرته على الْإِنْكَار وَعدم سبق بَيَان حكمه مِنْهُ، فَإِنَّهُ يدل حِينَئِذٍ على الْجَوَاز من فَاعله وَغَيره، لِأَنَّهُ لَو لم يكن جَائِزا لزم ارتكابه لمحرم، وَهُوَ تَقْرِيره على الْمحرم، هَذَا إِذا لم يُنكر وَلم يستبشر، وَأما إِذا استبشر فدلالته على الْجَوَاز أوضح (وَسَيَأْتِي فِي السّنة) بَيَانه مستقصى إِن شَاءَ الله تَعَالَى (وسكوت الصَّحَابَة عَن تَقْوِيم مَنَافِع ولد الْمَغْرُور) هُوَ ولد الرجل من امْرَأَة ملكهَا فِي ظَنّه ملك يَمِين أَو نِكَاح، ثمَّ اسْتحقَّهَا شخص بِإِثْبَات كَونهَا أمة لَهُ، فَردَّتْ عَلَيْهِ مَعَ الْعقر، وَيثبت نسب الْوَلَد مِنْهُ، وَهُوَ حر بِالْقيمَةِ. قَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ: لَا خلاف بَين الصَّدْر الأول وفقهاء الْأَمْصَار فِي أَنه حر الأَصْل، وَفِي أَنه مَضْمُون على الْأَب، إِلَّا أَن السّلف اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة ضَمَانه، فَذهب أَصْحَابنَا أَن عَلَيْهِ الْقيمَة بَالِغَة مَا بلغت، وَفِي الْهِدَايَة وَغَيرهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَقد وَقعت الْحَادِثَة فِي زمن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فبينوا مَا تعلق بهَا من الْأَحْكَام، وسكتوا عَن تَقْوِيم مَنَافِع الْوَلَد ليَأْخُذ الْمُسْتَحق قيمتهَا كَمَا يَأْخُذ قيمَة الْوَلَد، وَقد جَاءَ طَالبا لحكم الْحَادِثَة غير عَالم بِجَمِيعِ مَاله وهم عالمون بِهِ، فسكوتهم هَذَا (يُفِيد عدم تَقْوِيم الْمَنَافِع) لِأَنَّهَا لَو كَانَت مُتَقَومَة فِي الشَّرْع مُسْتَحقَّة للْمولى للَزِمَ عَلَيْهِم ارْتِكَاب محرم، وَهُوَ كتمان حكم الله عِنْد وجوب بَيَانه. قَالَ الله تَعَالَى - {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} -، (وَمِنْه) أَي من الثَّانِي (سكُوت الْبكر) عِنْد اسْتِئْذَان الْوَلِيّ، أَو رَسُوله إِلَيْهَا فِي تَزْوِيجهَا من معِين مَعَ ذكر الْمهْر أَولا على اخْتِلَاف الْمَشَايِخ، أَو عِنْد بُلُوغهَا ذَلِك عَن الْوَلِيّ على الْأَصَح فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيد الرِّضَا بِهِ بِدلَالَة حَالهَا من الرَّغْبَة فِي الزواج كَمَا هُوَ شَأْن النِّسَاء، وَعدم الْمَانِع عَن الرَّد، لِأَن الْحيَاء يمْنَعهَا عَن الْإِجَازَة لما فِيهَا من إِظْهَار الرَّغْبَة فِي الرِّجَال، لَا عَن الرَّد، بل الْحيَاء يَقْتَضِي الرَّد، لِأَن السُّكُوت لَا يَخْلُو عَن تَجْوِيز قلت سِيمَا إِذا علمت أَن سكُوت الْبكر رضَا، فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " قلت يَا رَسُول الله تستأمر النِّسَاء؟ قَالَ: نعم، قلت: إِن الْبكر تَسْتَحي فتسكت؟ فَقَالَ سكُوتهَا إِذْنهَا ". (وَفِي ادِّعَاء أكبر ولد من ثَلَاثَة بطُون أمته نفي لغيره) أَي وَمِنْهَا سُكُوته عَن دَعْوَة وَلدين من ثَلَاثَة بطُون أمته بعد دَعْوَة الْأَكْبَر، فَإِنَّهُ فِي ادِّعَاء الْأَكْبَر خَاصَّة نفي لَهما.
اعْلَم أَن الْفراش ثَلَاثَة: قوي، وَضَعِيف، ومتوسط، وَهِي فرَاش الْمَنْكُوحَة، وَالْأمة أم الْوَلَد، وَفِي الأول يثبت النّسَب بِغَيْر الدعْوَة، وَلَا يَنْفِي بنفيه إِلَّا بالملاعنة، وَفِي الثَّانِي لَا يثبت(1/84)
سقط(1/85)
سقط(1/86)
كل مِنْهُمَا فِي التَّقْسِيم الثَّانِي (ففهم إِبَاحَة النِّكَاح وَالْقصر على الْعدَد) أَي الْأَرْبَع عِنْد اجتماعهن فِي حق الْحر (من آيَة - {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} - (من الْعبارَة) لِأَنَّهُمَا مقصودان من اللَّفْظ، وَإِن كَانَ الأول غير أُصَلِّي كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَإِن كَانَت) أَي الْآيَة (ظَاهرا فِي الأول) أَي إِبَاحَة النِّكَاح، لِأَن الْمَقْصُود بالإفادة بالْكلَام أَصَالَة إِنَّمَا هُوَ بَيَان الْعدَد، والسياق لَهُ لَا لنَفس الْحل، لِأَنَّهُ عرف من غَيرهَا قبل نُزُولهَا، وَفِي الْعبارَة مُسَامَحَة، لِأَن الْفَهم الْمَذْكُور من مَدْلُول الْعبارَة، لَا مِنْهَا، وَيجوز أَن يكون من للابتداء لَا للتَّبْعِيض (وَكَذَا حُرْمَة الرِّبَا وَحل البيع والتفرقة) بَين البيع والربا بِالْحلِّ وَالْحُرْمَة من آيَة، {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} من عبارَة النَّص، وَإِن كَانَت ظَاهرا فِي الْأَوَّلين نصا فِي التَّفْرِقَة، لِأَن سياقها لإنكار تَسْوِيَة الْكفَّار بَينهمَا وَبَيَان الْفرق وَإِبْطَال قياسهم الْمَفْهُوم من قَوْلهم: إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا (والتفرقة لَازم مُتَأَخّر) لمسمى اللَّفْظ فَيصح جعله من الْعبارَة، وَبِخِلَاف الْمُتَقَدّم فَإِنَّهُ من الِاقْتِضَاء، وَذَلِكَ لِأَن الْمُتَأَخر كالمعلول، والمتقدم كالعلة، وَدلَالَة الْعلَّة على الْمَعْلُول مطردَة بِخِلَاف الْعَكْس كَمَا بَين فِي مَوْضِعه (وَلذَا) أَي وَلِأَن الْمَعْنى العباري يكون لَازم مَا وضع لَهُ (لم يُقيد بالوضعي) أَرَادَ بالوضعي هَهُنَا بِقَرِينَة الْمقَام مَا هُوَ عين الْمَوْضُوع لَهُ أَو جزؤه كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ، وَإِن كَانَ مَا سبق فِي تَعْرِيف الوضعية يعم اللَّازِم أَيْضا (و) قد (يُقَال) فِي تَعْرِيفهَا كَمَا قَالَ فَخر الْإِسْلَام وَمن تبعه (مَا سيق لَهُ الْكَلَام) قَالَ صَاحب الْكَشَّاف وَغَيره (وَالْمرَاد) مَا سيق لَهُ (سوقا أَصْلِيًّا أَو غير أُصَلِّي وَهُوَ) أَي غير الْأَصْلِيّ (مُجَرّد قصد الْمُتَكَلّم بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ (لإِفَادَة مَعْنَاهُ) ليتوسل بِهِ إِلَى أَدَاء مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من السِّيَاق (وَلذَا) أَي لكَون المُرَاد السُّوق الْأَعَمّ (عممنا الدّلَالَة للعبارة فِي الْآيَتَيْنِ) فِيهِ تَعْرِيض لصدر الشَّرِيعَة حَيْثُ جعل الدّلَالَة على التَّفْرِقَة بَين البيع والربا عبارَة لكَونهَا مَقْصُودَة بِالسوقِ، وعَلى الْحل وَالْحُرْمَة إِشَارَة لعدم كَونهمَا مقصودين، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن تَسْمِيَة مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ صَرِيحًا بِالْإِشَارَةِ لَا يَخْلُو عَن بعد (ودلالته) أَي اللَّفْظ (على مَا لم يقْصد بِهِ أصلا) لَا أَصَالَة وَلَا تبعا (إِشَارَة) كانتقال الْملك وَوُجُوب التَّسْلِيم فِي البيع وَحُرْمَة الِانْتِفَاع وَوُجُوب رد الزَّائِد فِي الرِّبَا (وَقد يتَأَمَّل) أَي الْمَعْنى الإشاري أَصله يتَأَمَّل فِيهِ حذف الْجَار، وأوصل الضَّمِير إِلَى الْفِعْل مستترا وَالْمعْنَى قد يَقع التَّأَمُّل فِي اسْتِخْرَاج الْمَعْنى الإشاري من اللَّفْظ، قَالَ صَاحب الْكَشَّاف: فَكَمَا أَن إِدْرَاك مَا لَيْسَ بمقصود بِالنَّصِّ مَعَ الْمَقْصُود بِهِ من قُوَّة الْأَبْصَار فهم مَا لَيْسَ بمقصود من الْكَلَام فِي ضمن الْمَقْصُود بِهِ من قُوَّة الذكاء، وَلِهَذَا يخْتَص بفهم الْإِشَارَة الْخَواص (كالاختصاص) أَي اخْتِصَاص الْوَلَد (بالوالد نسبا) أَي من حَيْثُ(1/87)
نسبه، فَإِنَّهُ مَفْهُوم إِشَارَة (من آيَة: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} (دون الْأُم) لِأَن اللَّام للاختصاص، فَيجب كَون الْوَالِد أخص بِالْوَلَدِ من سواهُ فِي الْولادَة الَّذِي هُوَ الانتساب، وَهُوَ غير مَقْصُود مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود من سوقها إِيجَاب النَّفَقَة وَالْكِسْوَة على الْوَلَد فَإِن قلت قد سبق أَن السُّوق الْأَصْلِيّ وَغَيره، والاختصاص لكَونه معنى اللَّام مسوق لَهُ تبعا قلت معنى اللَّام الِاخْتِصَاص مُطلقًا، لَا من حَيْثُ النّسَب فَتَأمل، وَهَذَا مِثَال لما يتَأَمَّل فِيهِ لغموضه، وَلذَا خَفِي على كثير من الأذكياء (فَيثبت أَحْكَام) متفرعة على الِاخْتِصَاص الْمَذْكُور (من انْفِرَاده) أَي الْأَب (بِنَفَقَتِهِ) أَي الْوَلَد كَالْعَبْدِ لما كَانَ مُخْتَصًّا بالمولى لَا يُشَارِكهُ أحد فِي نَفَقَته، لِأَن غرمه على من لَهُ غنمه، فَأصل النَّفَقَة وُجُوبه بِعِبَارَة النَّص، والانفراد بإشارته (والإمامة والكفاءة وعدمهما) أَي الْإِمَامَة والكفاءة، يَعْنِي من تِلْكَ الْأَحْكَام أَهْلِيَّة الْوَلَد للْإِمَامَة الْكُبْرَى وكفاءته للقرشية مثلا، إِذا كَانَ الْأَب أَهلا وكفؤا لَهما: أَي من حَيْثُ النّسَب فَلَا يرد الْوَلَد الَّذِي لَا يستجمع شرائطها لم يَتَعَدَّ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذا لم يكن الْأَب أَهلا وكفؤا لم يكن الْوَلَد أَهلا وكفؤا (مَا لم يُخرجهُ الدَّلِيل) اسْتثِْنَاء معنى: أَي يثبت جَمِيع الْأَحْكَام الَّتِي يقتضيها الِاخْتِصَاص الْمَذْكُور إِلَّا مَا أخرجه الدَّلِيل عَن أَن يثبت، فَلَا يثبت حُرِّيَّته ورقه بتبعية الْأَب لكَونه تَابعا للْأُم فيهمَا، لما ورد فيهمَا من الْأَثر (وَزَوَال ملك المُهَاجر) من دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام مَعْطُوف على الِاخْتِصَاص، فَهُوَ مِثَال آخر لما يتَأَمَّل فِيهِ (عَن المخلف) مُتَعَلق بالزوال: أَي عَمَّا خَلفه فِي دَار الْحَرْب باستيلاء الْكفَّار واحرازهم إِيَّاه (من لفظ الْفُقَرَاء) ، فِي قَوْله تَعَالَى - {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} - وَالْجَار مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة الزَّوَال: أَي الْمَفْهُوم إِشَارَة مِنْهُ، وَالْكَلَام إِنَّمَا سيق لبَيَان اسْتِحْقَاق الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة سَهْما من الْغَنِيمَة، وَلم يقْصد بِهِ زَوَال ملكهم عَنهُ أصلا، لكنه يفهم بِإِشَارَة لفظ الْفُقَرَاء، فَإِن الْفَقِير لُغَة من لَهُ مَا يَكْفِي عِيَاله، أَو من يجد الْقُوت، والمسكين من لَا شَيْء لَهُ، وَقيل المعتر الْمُحْتَاج، والمسكين من أذله الْفقر وَغَيره، وَقيل هُوَ أخس حَالا من الْفَقِير، وَقيل هما سَوَاء، وَشرعا من لم يملك النّصاب، وكل وَاحِد من الْمعَانِي الْمَذْكُورَة يلْزمه زَوَال الْملك، لِأَنَّهُ لَو لم يزل لصدق عَلَيْهِم الْأَغْنِيَاء لَا الْفُقَرَاء، لِأَن الْغَنِيّ يتَحَقَّق بِملك المَال وَإِن بَعدت يَده عَنهُ، وَكَذَا ذكر ابْن السَّبِيل مُقَابلا للْفُقَرَاء فِي النُّصُوص، وَاتفقَ على عدم دُخُوله فيهم عَامَّة الْعلمَاء فَإِن قيل هُوَ اسْتِعَارَة شبهوا بالفقراء لاحتياجهم، وَانْقِطَاع أطماعهم عَن أَمْوَالهم بِقَرِينَة إِن الله لم يَجْعَل للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا، وَالْمرَاد السَّبِيل الشَّرْعِيّ لَا الْحسي، وبقرينة إِضَافَة الديار وَالْأَمْوَال إِلَيْهِم أُجِيب بِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة، وَنفي السَّبِيل بِاعْتِبَار أَنهم لَا يملكُونَ أنفس الْمُؤمنِينَ(1/88)
سقط(1/89)
سقط(1/90)
مقَام التَّأْدِيب والتعذيب يدل على الإيلام، فَمن حلف لَا يضْرب كَانَ حَالفا أَن لَا يؤلم، فَيحنث بالخنق، أَو العض، وَمَا فِيهِ إيلام كالضرب (فَغير مَشْهُور) كَونهَا من دلَالَة النَّص (و) إِن دلّ اللَّفْظ (على مسكوت يتَوَقَّف صدقه) أَي الْمَنْطُوق (عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الْمَنْطُوق، واعتباره فِي الْكَلَام (كرفع الْخَطَأ) فِي الحَدِيث المتداول بَين الْفُقَهَاء " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان "، وَلَا يضر عدم العثور بروايته بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ روى بِمَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا " رفع الله عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ". وَقيل رِجَاله ثِقَات، وَيجوز أَن يقْرَأ بِلَفْظ الْمصدر الْمُضَاف مشارا بِهِ إِلَى الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، هَذَا وَلَا شكّ أَن ذَات الْخَطَأ غير مَرْفُوع لِكَثْرَة وُقُوعه، فَلَو لم يرد حكم الْخَطَأ أَو إثمه لم يكن الْكَلَام صَادِقا لعدم رفع ذَاته (أَو صِحَّته) مَعْطُوف على صدقه: أَي يتَوَقَّف صِحَة الْمَنْطُوق على اعْتِبَار ذَلِك الْمَسْكُوت كَمَا فِي: أعتق عَبدك عني بِأَلف فَإِنَّهُ لَو لم يكن المعني بِعْ عَبدك مني بِأَلف، وَكن وَكيلِي فِي إِعْتَاقه لم يَصح هَذَا الْكَلَام وَلم يستقم (على مَا سنذكر) تَفْصِيله فِي مسئلة الْمُقْتَضى (اقْتِضَاء) أَي لدلَالَة على الْمَسْكُوت المتوقف عَلَيْهِ صدق الْمَنْطُوق، أَو صِحَّته اقْتِضَاء، وَوجه التَّسْمِيَة ظَاهر فَإِن قلت كل وَاحِد كَمَا دلّ عَلَيْهِ لفظ دلَالَة أَو اقْتِضَاء، إِمَّا مَقْصُود مِنْهُ أَولا، فعلى الأول ينْدَرج تَحت الْعبارَة، وعَلى الثَّانِي تَحت الْإِشَارَة، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ يلْزم كَون قسم الشَّيْء قسيما لَهُ قلت لَيْسَ شَيْء مِنْهُمَا مَقْصُودا مِنْهُ، وَلَا ينْدَرج تَحت الْإِشَارَة، لِأَن المُرَاد مِنْهَا مَا لم يكن بطرِيق الدّلَالَة والاقتضاء لقَرِينَة التقابل (والشافعة قسموها) أَي الدّلَالَة الوضعية اللفظية (إِلَى مَنْطُوق دلَالَة اللَّفْظ) عطف بَيَان لمنطوق إِن جر على مَا جوزه الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى - {مقَام إِبْرَاهِيم} - إِنَّه عطف بَيَان لآيَات، أَو بدل مِنْهُ، وَخبر مَحْذُوف إِن رفع، ومفعول أَعنِي إِن نصب (فِي مَحل النُّطْق) ظرف للدلالة بِاعْتِبَار الْمَدْلُول، فاللفظ إِذا دلّ على حَال مَنْطُوق يُقَال دلَالَته فِي مَحل النُّطْق، وَإِذا دلّ على حَال مسكوت يُقَال دلَالَته لَيست فِي مَحل النُّطْق، لِأَن بَيَان حَال الْمَنْطُوق حقيق بِأَن يَقع النُّطْق فِيهِ وَمحل لَهُ، وَبَيَان حَال غَيره حقيق بِأَن يسكت عَنهُ (على) ثُبُوت (حكم الْمَذْكُور وَإِن) كَانَ ذَلِك الحكم (غير مَذْكُور كفى السَّائِمَة) أَي كدلالة قَوْله فِي السَّائِمَة (مَعَ قرينَة الحكم) وَهِي وُقُوعه فِي جَوَاب من قَالَ فِي الْغنم المعلوفة الزَّكَاة أم فِي السَّائِمَة على حكم غير مَذْكُور، وَهِي وجوب الزَّكَاة فِي مَحل النُّطْق لكَونه بَيَان حَال الْمَنْطُوق، وَهُوَ السَّائِمَة، وَإِضَافَة الْقَرِينَة إِلَى الحكم من قبيل إِضَافَة الدَّال إِلَى الْمَدْلُول.
(وَمَفْهُوم) مَعْطُوف على مَنْطُوق (دلَالَته) وَالْكَلَام فِيهِ كَمَا مر (لَا فِيهِ) أَي لَا فِي مَحل النُّطْق (على) ثُبُوت (حكم مَذْكُور لمسكوت) لم يذكر فِي الْكَلَام (أَو نَفْيه) أَي الحكم الْمَذْكُور (عَنهُ) أَي عَن(1/91)
الْمَسْكُوت سَوَاء كَانَ الحكم الْمَذْكُور إِيجَابا أَو سلبا (وَقد يظْهر) من كَلَام الْقَوْم (أَنَّهُمَا) أَي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم (قِسْمَانِ للمدلول) : قَالَه الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: جَعلهمَا من أَقسَام الدّلَالَة محوج إِلَى تكلّف عَظِيم فِي تَصْحِيح عِبَارَات الْقَوْم، نقل عَن المُصَنّف أَن كلمة قد هَهُنَا للتكثير، وَهِي قد تسْتَعْمل لذَلِك كَمَا قَالَه سِيبَوَيْهٍ وَغَيره (فالدلالة حِينَئِذٍ دلَالَة الْمَنْطُوق، وَدلَالَة الْمَفْهُوم لأنفسهما) يَعْنِي حِين جعل الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم قسمي الْمَدْلُول، يُقَال فِي التَّقْسِيم إِلَيْهِمَا الدّلَالَة الوضعية: أما دلَالَة الْمَنْطُوق بِأَن كَانَ مدلولها، وَأما دلَالَة الْمَفْهُوم كَذَلِك (والمنطوق) قِسْمَانِ (صَرِيح) هُوَ (دلَالَته) أَي اللَّفْظ الناشئة (عَن) مُجَرّد (الْوَضع وَلَو) كَانَت تِلْكَ الدّلَالَة (تضمنا) فانحصر الصَّرِيح فِي الْمُطَابقَة والتضمن، وَخرجت الالتزامية، لِأَنَّهَا لَيست عَن مُجَرّد الْوَضع، بل لَا بُد فِيهَا من علاقَة اللُّزُوم أَيْضا (وَغَيره) أَي غير الصَّرِيح وَهُوَ دلَالَته (على مَا يلْزم) أَي مَا وضع لَهُ (وينقسم) غير الصَّرِيح (إِلَى) الدّلَالَة على لَازم (مَقْصُود من اللَّفْظ) يتَعَلَّق قصد الْمُتَكَلّم بِهِ وَإِرَادَة إِفَادَة اللَّفْظ (فتنحصر) الدّلَالَة على اللَّازِم الْمَقْصُود بالاستقراء (فِي الِاقْتِضَاء كَمَا ذكرنَا آنِفا) أَي من سَاعَة، وَفِي أول وَقت يقرب بِنَا، يَعْنِي قَوْله وعَلى مسكوت يتَوَقَّف صدقه عَلَيْهِ كرفع الْخَطَأ أَو صِحَّته (والإيماء) وَهُوَ دلَالَته على لَازم مَقْصُود بِسَبَب (قرانه) أَي اللَّفْظ (بِمَا) أَي بِشَيْء (لَو لم يكن هُوَ) أَي ذَلِك الشَّيْء (عِلّة لَهُ) أَي لمدلوله (كَانَ) ذَلِك الْقرَان (بَعيدا) عَمَّا هُوَ الْمُتَعَارف فِي المحاورات، لكَون الْمُتَعَارف فِي المحاورات إِرَادَة علية مَا قرن بِهِ لَهُ (وَيُسمى) هَذَا الْقسم الْمُسَمّى بِالْإِيمَاءِ (تَنْبِيها) أَيْضا لِأَنَّهُ كَمَا فِيهِ إِيمَاء إِلَى علية ذَلِك الشَّيْء بِسَبَب ذَلِك الْقرَان كَذَلِك فِيهِ تَنْبِيه عَلَيْهَا أَيْضا (كقران) قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أعتق) رَقَبَة (بواقعت) أَي بقول الْأَعرَابِي " واقعت فِي نَهَار رَمَضَان يَا رَسُول الله " كَذَا ذكر الحَدِيث فِي كتب الْأُصُول، وَالْمَذْكُور فِي الصِّحَاح السِّتَّة عَن أبي هُرَيْرَة " أَتَى رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَلَكت، قَالَ مَا شَأْنك؟ قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان، قَالَ: فَهَل تَجِد رَقَبَة تعتقها؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا، قَالَ اجْلِسْ، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرق فِيهِ تمر، فَقَالَ: تصدق بِهِ، قَالَ: عَليّ أفقر مني يَا رَسُول الله؟ فوَاللَّه مَا بَين لابتيها يُرِيد الحرتين أهل بَيت أفقر من أهل بَيْتِي، فَضَحِك عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت ثناياه، وَفِي لفظ أنيابه، وَفِي لفظ نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ خُذْهُ فأطعمه أهلك " ذكره المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة، فقران قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَواب وَقعت إِلَى آخِره يُفِيد علية الوقاع للاعتاق، فَإِن غَرَض السَّائِل بَيَان مُوجب فعله (وَغير مَقْصُود) عطف على مَقْصُود، فَهُوَ الْقسم الثَّانِي(1/92)
سقط(1/93)
سقط(1/94)
مَا يُنَاسِبه، وَهُوَ الدِّينَار الْمُنَاسب بالتأدية (ولاعتبار الْحَنَفِيَّة) الْمَسْكُوت (الْمسَاوِي) للمنطوق فِي الحكم ومناطه (أثبتوا الْكَفَّارَة) على الْأكل فِي رَمَضَان من غير مُبِيح شَرْعِي، وَلَا شُبْهَة مُلْحقَة بِهِ (بعمد الْأكل كالجماع) أَي كَمَا أثبتها النَّص الْمَذْكُور فِي الْكتب السِّتَّة فِي الْجِمَاع الْعمد والمناط المستوي فِيهِ الْأكل، وَالْجَامِع تَفْوِيت ركن الصَّوْم اعتداء، وَإِنَّمَا حكمنَا بِكَوْنِهِ مناطا (لتبادر أَنَّهَا) : أَي الْكَفَّارَة (فِيهِ) أَي الْجِمَاع (لتفويت الرُّكْن اعتداء) .
وَمن أَسبَاب الْعلم بالمناط تبادره من النَّص، كَيفَ وَالْجِمَاع من حَيْثُ ذَاته لم يكن محرما؟ وَمَا ثمَّ إِلَّا كَونه مفوتا لركن الصَّوْم عمدا، وَلَا شكّ فِي مساواتهما فِي معنى التفويت، والركن فِي اللُّغَة الْجَانِب الْقوي، وَفِي الشَّرْع جُزْء الشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ جزآن فَصَاعِدا وَإِلَّا فنفسه، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله صرح فِي شرح الْهِدَايَة فِي الصَّوْم بِأَن رُكْنه وَاحِد، وَهُوَ الْكَفّ عَن كل مِنْهَا: أَي الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع. وَقَالَ فتساوت كلهَا فِي أَنَّهَا مُتَعَلق الرُّكْن لَا يفضل وَاحِد على أَخَوَيْهِ بِشَيْء فِي ذَلِك انْتهى، وَالْمرَاد بالاعتداء: الْعدوان وَالظُّلم بتعمد الْإِفْسَاد، وَقد يُقَال لَا، ثمَّ أَن الْمُتَبَادر مُجَرّد تَفْوِيت الرُّكْن، بل تفويته على نَفسه وعَلى غَيره مَعَ زِيَادَة خصوصيات جماعية مُوجبَة لكَمَال الْفَضِيلَة فَتدبر (وَلما انقسم) مَفْهُوم الْمُوَافقَة (إِلَى قَطْعِيّ) هُوَ مَا يكون فِيهِ التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع قطعيين على مَا ذكره القَاضِي عضد الدّين وَالظَّاهِر أَنه مَبْنِيّ على رَأْي شارط الْأَوْلَوِيَّة وَإِلَّا يَكْفِي قَطْعِيَّة التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى ووجوده بالمسكوت (كَمَا سبق) من الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة (وظني) وَهُوَ مَا فِيهِ أحد الْمَذْكُورين ظنيا (كَقَوْل الشَّافِعِي) رَحمَه الله (إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة) وَهِي تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة لمن قدر عَلَيْهِ، وَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لمن لم يقدر (فِي) الفتل (الْخَطَأ) . قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله الْعمد: قصد الْفِعْل والشخص بِمَا يقتل غَالِبا: جارح، أَو مثقل، فَإِن فقد قصد أَحدهمَا بِأَن وَقع عَلَيْهِ فَمَاتَ، أَو رمى شَجَرَة فَأَصَابَهُ فخطأ (وَغير الْغمُوس) أَي وَوَجَبَت الْكَفَّارَة، وَهِي إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا يطعم الشَّخْص أَهله، أَو كسوتهم، أَو تَحْرِير رَقَبَة فِي حق المستطيع، وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام إِذا يسْتَطع فِي الْيَمين المنعقدة، وَهِي الْحلف على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل ليفعله أَو يتْركهُ بِالنَّصِّ على ذَلِك (ففيهما) أَي فوجوب الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل الْعمد الْمَفْهُوم بِذكر مُقَابِله، والغموس وَهُوَ الْحلف على أَمر حَال، أَو مَاض يتَعَمَّد فِيهِ الْكَذِب (أولى) من وُجُوبهَا فِي الْأَوَّلين (لفهم الْمُتَعَلّق) تَعْلِيل لقَوْل الشَّافِعِي رَحمَه الله: أَي قَالَ ذَلِك، لِأَنَّهُ فهم من النصين الدالين على وجوب التَّعَلُّق فِي الْمَنْطُوق أَن الحكم فيهمَا مُتَعَلق (بالزجر) على ارتكابهما تعلق الْمَعْلُول بعلته، وَأَن الْعمد والغموس أَشد مُنَاسبَة بِهَذِهِ الْعلَّة، فَهُوَ أولى بالحكم، وَذَلِكَ لِأَن احتياجهما إِلَى الزّجر أَكثر،(1/95)
وَهَذَا الْفَهم ظَنِّي لعدم مَا يُفِيد الْقطع بِهِ، وَمن ثمَّ لم يُوَافقهُ أَصْحَابنَا، بل ذَهَبُوا إِلَى أَن المناط فيهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا بتدارك مَا فرط) عطف على قَوْلهمَا بالزجر: أَي لَا التَّعَلُّق مثلا فِي مُسَافر قصر من التثبت فِي الرَّمْي، والتحفظ عَن هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى بترك الْيَمين، أَو بِعَدَمِ ارْتِكَاب مَا يُوجب الْحِنْث (بالثواب) الْحَاصِل بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَن معنى الْعِبَادَة فِيهَا أغلب، أَو الْعقُوبَة، فعلى الأول يتَرَجَّح تعلقهَا بالتدارك، وعَلى الثَّانِي بالزجر، والأغلب فِيهَا عندنَا الأول، وَعِنْده الثَّانِي، وَلَا يخفى أَن مَا يتدارك بِهِ الأخف لَا يصلح لِأَن يتدارك بِهِ الأغلظ، والعمد من أكبر الْكَبَائِر، والغموس كَبِيرَة مَحْضَة مَعْدُودَة فِي الْخَبَر الصَّحِيح من الْكَبَائِر. وَقَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة عِنْد قَوْله وَلَا كَفَّارَة فِيهَا: أَي فِي الْغمُوس إِلَّا التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء: مِنْهُم مَالك وَأحمد (جَازَ الِاخْتِلَاف فِيهَا) جَوَاب لما، يَعْنِي لما كَانَ قسم مِنْهَا ظنيا محلا للِاجْتِهَاد جَازَ الِاجْتِهَاد فِيهَا، وتفرع عَلَيْهِ جَوَاز الِاخْتِلَاف فِيهَا، وَلَو كَانَ كلهَا قَطْعِيا لما جَازَ ذَلِك (وَالْخَطَأ) عطف على الِاخْتِلَاف (كَمَا ذكرنَا) لِأَن جَوَاز الِاخْتِلَاف يسْتَلْزم جَوَاز الْخَطَأ لعدم إِمْكَان صوابية الْقَوْلَيْنِ الْمُخْتَلِفين، (وَلذَا) أَي لجَوَاز الِاخْتِلَاف فِي دلَالَة النَّص بِنَاء على الِاخْتِلَاف فِي فهم المناط (فرع أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وجوب الْحَد باللواطة على دلَالَة نَص وُجُوبه) أَي الْحَد (بِالزِّنَا بِنَاء) عِلّة للتفريع، أَو الدّلَالَة (على تعلقه) أَي تعلق وجوب حد الزِّنَا (بسفح المَاء) أَي إِرَاقَة الْمَنِيّ (فِي مَحل محرم مشتهي وَالْحُرْمَة قَوِيَّة) حَال من مفعول فرع: أَي فرع وجوب حد اللواطة عَلَيْهَا حَال كَون الْحُرْمَة الْمُقْتَضِيَة ذَلِك الْوُجُوب أقوى من الْحُرْمَة الْمُوجبَة حد الزِّنَا لكَونهَا مُؤَبّدَة لَا تنكشف بِحَال، بِخِلَاف الْأُخْرَى لانكشافها فِي بعض الْمحَال بِملك النِّكَاح أَو الْيَمين، وَبِه أَفَادَ أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم هَذَا، وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة ذَهَبُوا إِلَى مَا ذَهَبا (وَالْإِمَام) أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يمْنَع وجوب الْحَد باللواطة، فَإِنَّهُ (يَقُول السفح) بِالزِّنَا (أَشد ضَرَرا) من السفح باللواطة (إِذْ هُوَ) أَي السفح بِالزِّنَا (إهلاك نفس معنى) يُؤَيّدهُ أَنه قرن بَينه وَبَين الْقَتْل فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} -، قيل لِأَنَّهُ مفض إِلَى الْإِثْبَات ظَاهرا وَإِذا ثَبت وَلَيْسَ لَهُ مرب وَلَا قيم لعجزهن عَن الِاكْتِسَاب يهْلك الْوَلَد، وَالْأَوْجه أَن يُقَال الإهلاك الْمَعْنَوِيّ لهتك الْعرض بِعَدَمِ النّسَب، وَفِي الحَدِيث " عرض الْمُؤمن كدمه "، وَعدم الاتصاف بالكمالات العلمية والعملية، والاتصاف بالرذائل مِمَّا يُنَاسب مثبته السوء، فَإِن عجز النِّسَاء والهلاك لعدم من ينْفق لَا عِبْرَة بِهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} - على أَن الزَّانِيَة لَا تعجز (وَهُوَ) أَي القَوْل الْمُعَلل مَبْنِيّ (على اعْتِبَاره) أَي الإهلاك الْمَذْكُور(1/96)
سقط(1/97)
سقط(1/98)
قَالَ ثَعْلَب لمُحَمد بن عبد الله بن طَاهِر لما سَأَلَهُ مَا الْهَلَع؟ قد فسره الله تَعَالَى، وَلَا يكون تَفْسِير أبين من تَفْسِيره (ومدح وذم) أَي وَلَا بِوَصْف مادح، وَلَا ذام يقْصد بِهِ مُجَرّد الْمَدْح والذم، وَلَا مترجم بِهِ على الْمَوْصُوف، نَحْو جَاءَ زيد الْعَالم، أَو الْجَاهِل، أَو الْفَقِير، وَلَا بِوَصْف مُؤَكد، وَهُوَ مَا موصوفه مُتَضَمّن لمعناه كأمس الدابر لَا يعود (ومخرج الْغَالِب) أَي وَلَا بِوَصْف خرج مخرج الْغَالِب الْمُعْتَاد بِأَن لَا يَنْفَكّ عَن الْمَوْصُوف فِي أَكثر تحققاته، فخروجه وبروزه مَعَ الْمَوْصُوف فِي الذّكر على حسب بروزه مَعَه فِي الْوُجُود، وَلَا يقْصد بِهِ التَّخْصِيص (كاللاتي فِي جحوركم) فِي قَوْله تَعَالَى - {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} - جمع ربيبة، بنت زَوْجَة الرجل من آخر، سميت بهَا، لِأَنَّهُ يُرَبِّيهَا غَالِبا كولده، وَإِنَّمَا لحقته الْهَاء، مَعَ أَنه فعيل بِمَعْنى مفعول لصيرورته اسْما، وكونهن فِي حجور أَزوَاج الْأُمَّهَات هُوَ الْغَالِب من حالهن، فوصفهن بِهِ لذَلِك لَا للتخصيص (فَلَا يدل) الْكَلَام الْمُشْتَمل على الْمَوْصُوف بِوَصْف من الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة، أَو قَوْله - {وربائبكم} - الخ (على نفي الحكم عِنْد عَدمه) أَي عدم ذَلِك الْوَصْف، أَو عدم كونهن فِي حجوركم، وَفَائِدَة ذكر الاحتضان تَقْوِيَة الشّبَه بَينهَا وَبَين الْأَوْلَاد المستدعية كَونهَا حَقِيقَة بِأَن تجْرِي مجراهم، وَذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى تَعْمِيم الحكم، وَقد روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ جعله شرطا حَتَّى أَن الْبعيد عَن الزَّوْج لَا يحرم عَلَيْهِ، وَنقل عَن ابْن عبد السَّلَام أَن الْقَاعِدَة تَقْتَضِي الْعَكْس، وَهُوَ أَنه إِذا خرج مخرج الْغَالِب يكون لَهُ مَفْهُوم، لَا إِذا لم يكن غَالِبا، لِأَن الْغَالِب على الْحَقِيقَة تدل الْعَادة على ثُبُوتهَا لَهَا، فالمتكلم يَكْتَفِي بدلالتها عَن ذكره، فَإِنَّمَا ذكره ليدل على نفي الحكم عَمَّا عداهُ، وَإِذا لم يكن عَادَة فغرض الْمُتَكَلّم بِذكرِهِ إفهام السَّامع ثُبُوته للْحَقِيقَة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَجَوَاب سُؤال عَن الْمَوْصُوف) أَي وَلَا بِوَصْف ذكر فِي جَوَاب سُؤال عَن مَوْصُوف بِهِ، كَأَن يُقَال هَل فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَيَقُول الْمُجيب فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة، فَذكر الْوَصْف لتنصيص الْجَواب فِي مَحل السُّؤَال، فَلَا يدل على عدم الْوُجُوب فِي غَيرهَا (وَبَيَان الحكم لمن هوله) وَلَا بِوَصْف ذكر لبَيَان الحكم لمن لَهُ الْمَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف كَمَا إِذا كَانَ لزيد غنم سَائِمَة، وَأَنت تُرِيدُ بَيَان حكم غنم زيد لَا غَيره، فَتَقول فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة تنصيصا على أَن الْغَرَض بَيَان وجوب الزَّكَاة لأجل زيد (ولتقدير جهل الْمُخَاطب بِحكمِهِ) أَي وَلَا بِوَصْف ذكر لغَرَض جَهَالَة الْمُخَاطب بِحكم الْمَوْصُوف بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف فَقَط لعلمه بِاعْتِبَار وصف آخر كَمَا إِذا لم يعلم فِي السَّائِمَة مَعَ علمه فِي العلوفة (أَو ظن الْمُتَكَلّم) أَي ولتقدير ظن الْمُتَكَلّم علم الْمُخَاطب بِحَال الْمَسْكُوت كظنه أَن الْمُخَاطب عَالم بِأَنَّهُ لَا زَكَاة فِي المعلوفة (أَو جَهله) أَي لتقدير جهل الْمُتَكَلّم بِحَال الْمَسْكُوت فِيمَا إِذا كَانَ غير الشَّارِع (وَخَوف يمْنَع ذكر حَاله)(1/99)
وَلَا بِوَصْف ذكر لتقدير خوف يمْنَع الْمُتَكَلّم عَن ذكر السُّكُوت (أَو غير ذَلِك) كَمَا يقتضى تَخْصِيصه بِالذكر، فَإِن مَفْهُوم الصّفة إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ إِذا لم يكن لذكرها فَائِدَة أُخْرَى (كفى السَّائِمَة الزَّكَاة يُفِيد) الْوَصْف بالسوم (نَفْيه) أَي نفي الحكم، وَهُوَ وجوب الزَّكَاة (عَن العلوفة) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: أَي المعلوفة، وَالْقَائِل بِمَفْهُوم الصّفة الشَّافِعِي وَأحمد والأشعري وَكثير من الْعلمَاء: رَضِي الله عَنْهُم، ونفاه أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَابْن سُرَيج وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْقَاضِي أَبُو بكر وَالْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ والمعتزلة.
(وَالشّرط على شَرط) أَي وَمَفْهُوم الشَّرْط عِنْد تَعْلِيق حكم على شَرط، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الشَّرْط، فَيثبت نقيضه، والعاطف إِمَّا لعطف الشَّرْط على الصّفة، والظرف وَمَا أضيف إِلَيْهِ مُقَدّر بِقَرِينَة السِّيَاق، أَو لعطف الشَّرْط وَمَا بعده على الصّفة وصلَة التَّعْلِيق، أَعنِي الْمَوْصُوف، والعطف على معمولي عاملين مُخْتَلفين جَائِز مُطلقًا عِنْد الْأَخْفَش إِلَّا إِذا وَقع فصل بَين العاطف والمعطوف الْمَجْرُور، وَكَذَا على مَا هُوَ الْمُخْتَار وَابْن الْحَاجِب إِذا كَانَ الْمَجْرُور مقدما مثل قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ فَلَا نَفَقَة لمبانة غَيرهَا} أَي غير الْحَامِل، علق إِيجَاب النَّفَقَة على كَون المبانة ذَات حمل، فَدلَّ على عدم وُجُوبهَا غير حَامِل، وَقيد الْمُطلقَة بالمبانة لوُجُوب نَفَقَة الْمُطلقَة الرَّجْعِيَّة إِجْمَاعًا حَامِلا كَانَت أَو لَا.
(والغاية) أَي وَمَفْهُوم الْغَايَة (عِنْد مده) أَي الحكم الثَّابِت للمنطوق (إِلَيْهَا) أَي إِلَى الْغَايَة، لِأَن ذكر الْغَايَة يدل على انتهائه عِنْدهَا، فَلم يثبت للمسكوت الَّذِي هُوَ بعد الْغَايَة، فَيثبت لَهُ نقيضه كَقَوْلِه تَعَالَى {فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح} زوجا غَيره، فَإِن حكم الْمَنْطُوق، وَهُوَ عدم الْحل انْتهى عِنْد نِكَاح الزَّوْج الآخر (فَتحل) للْأولِ (إِذا نكحت) غَيره وَانْقَضَت الْعدة، فالمسكوت عَنهُ نِكَاح الأول يعد نِكَاح الثَّانِي، ونقيض الحكم الْحل.
(وَالْعدَد) أَي وَمَفْهُوم الْعدَد، وَهُوَ دلَالَته على ثُبُوت نقيض حكم الْمَنْطُوق (عِنْد تَقْيِيده) أَي حكم الْمَنْطُوق (بِهِ) أَي بِالْعدَدِ الْمَسْكُوت فِيمَا عدا الْعدَد كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} فَإِنَّهُ يدل على نفي الْوُجُوب عَن الزَّائِد على الثَّمَانِينَ كَمَا يدل على وُجُوبهَا بِسَبَب تَقْيِيد الْوُجُوب بِالْعدَدِ الْمَذْكُور (فَرجع الْكل) أَي الشَّرْط والغاية وَالْعدَد (إِلَى الصّفة معنى) لِأَن الْمَقْصُود من الصّفة تَخْصِيص الْمَنْطُوق، وَهُوَ حَاصِل فِي الْكل، وَلَيْسَ الْمَقْصُود عدم التَّفَاوُت بَين الْمَذْكُورَات بِوَجْه حَتَّى يرد أَنه لَو كَانَ الْكل سَوَاء لما وَقع الِاخْتِلَاف بَين الْقَائِلين بهَا، فالشافعي وَأحمد والأشعري وَأَبُو عبيد من اللغويين، وَكثير من الْفُقَهَاء والمتكلمين قَالُوا بِمَفْهُوم الصّفة. وَقَالَ بِمَفْهُوم الشَّرْط كل من قَالَ بمفهومها، وَبَعض من لم يقل بِهِ(1/100)
سقط(1/101)
سقط(1/102)
سقط(1/103)
سقط(1/104)
سقط(1/105)
سقط(1/106)
يفِيدهُ) أَي كَون الْأَكْثَر مُوَافقا للْأَصْل (فَلَا يتَمَكَّن من إثْبَاته) أَي انْتِفَاء الحكم (بِاللَّفْظِ و) الْحَال أَنه (فِيهِ) أَي فِي إثْبَاته بِاللَّفْظِ (النزاع) بَين الْفَرِيقَيْنِ وَالْحَاصِل أَنه لَو لم يكن الأَصْل الَّذِي يصلح لِأَن يثبت بِهِ انْتِفَاء الحكم علن الْمَسْكُوت مَوْجُودا فِي الْأَكْثَر كَأَن يظنّ ثُبُوته بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ إِذا علم مَشْرُوعِيَّة الحكم وَلم يظْهر لَهُ فِي الشَّرْع مَا يظنّ كَونه دَلِيلا لَهُ سوى أَمر خَاص يكَاد أَن يتَعَيَّن لذَلِك، وَأما إِذا وجد لَهُ مَا يصلح لذَلِك سوى أَمر هُوَ مَحل النزاع تعين إِسْنَاده إِلَيْهِ (وَإِذ قد ظهر) بِمَا ذكر من الِاسْتِدْلَال بفهم أبي عبيد وَغَيره على الْمَفْهُوم (أَن الدَّلِيل) لإِثْبَات الْمَفْهُوم (الْفَهم) أَي فهم انْتِفَاء الحكم عَن الْمَسْكُوت فِي الْموَاد الْمَذْكُورَة (وَفِي مفيده) أَي الْفَهم الْمَذْكُور (احْتِمَال لما ذكرنَا) من التَّرَدُّد فِي أَنه مَدْلُول اللَّفْظ أَو الأَصْل الخ (اتَّحد حَال الْإِثْبَات وَالنَّفْي) أَي نِسْبَة إِثْبَات الْمَفْهُوم ونفيه إِلَى اللَّفْظ على السوية لتساوي احتمالية الْإِرَادَة وَعدمهَا بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وَالدَّال على الشَّيْء لَا يشك فِي أَنه يفِيدهُ أم لَا، فالشك فِي إفادته يسْتَلْزم نفي دلَالَته، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوب (فَإِن أُجِيب عَن الْمَنْع) أَي منع انحصار الْفَائِدَة فِي النَّفْي عَن الْمَسْكُوت بتحرير الدَّلِيل على وَجه لَا يتَّجه الْمَنْع الْمَذْكُور بِأَن يُقَال (وضع التَّخْصِيص للفائدة) على صِيغَة الْمَجْهُول أَو الْمصدر الْمُضَاف (وضع الْمُشْتَرك الْمَعْنَوِيّ) بِالنّصب على الأول وَالرَّفْع على الثَّانِي: أَي وضع مَا وضع لمَفْهُوم عَام تَحْتَهُ أَفْرَاد هِيَ الْفَوَائِد الْجُزْئِيَّة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وكل فَائِدَة فَرد مِنْهُ) أَي الْمُشْتَرك الْمَذْكُور (تتَعَيَّن بِالْقَرِينَةِ) لتِلْك الْفَائِدَة الْمُطلقَة الْمَوْضُوع لَهَا التَّخْصِيص (فِي المورد) فِي كل كَلَام ورد فِيهِ التَّخْصِيص بِالْقَرِينَةِ الْمعينَة لَهَا (وَهِي) أَي الْقَرِينَة (عِنْد عدم قرينَة غير الْمَنْفِيّ عَن الْمَسْكُوت لُزُوم عدم الْفَائِدَة) للتخصيص الْمُوجب وجود الْمَوْضُوع بِدُونِ مَا وضع لَهُ فَيجب (إِن لم يكن) النَّفْي عَن الْمَسْكُوت مرَادا من التَّخْصِيص (فَيجب) أَن يكون النَّفْي عَنهُ حِينَئِذٍ (مدلولا لفظيا) لِأَن الْمَوْضُوع للْجِنْس إِذا أُرِيد بِهِ فَرد مِنْهُ بِالْقَرِينَةِ يكون دَالا عَلَيْهِ (قُلْنَا لَا دلَالَة للأعم على الْأَخَص) بِخُصُوصِهِ بِإِحْدَى الدلالات الثَّلَاث، يَعْنِي إِذا قُلْتُمْ بِوَضْع التَّخْصِيص لمُطلق الْفَائِدَة الَّذِي نفى الحكم عَن الْمَسْكُوت فَرد مِنْهُ لزم كَون التَّخْصِيص أَعم مِنْهُ، وَقُلْنَا لَا دلَالَة إِلَى آخِره (فَلَيْسَ) النَّفْي الْمَذْكُور مدلولا (لفظيا بل) الدّلَالَة (للقرينة) مَعْطُوف على قَوْله للأعم فَإِن قلت ذكر الْعَام وَإِرَادَة الْخَاص بمعاونة الْقَرِينَة إِطْلَاق مجازى ومدلول الْمجَاز مَدْلُول لَفْظِي قلت النزاع فِي إِثْبَات الْمَفْهُوم وَهُوَ عبارَة عَن دلَالَة اللَّفْظ بِاعْتِبَار التَّخْصِيص من غير حَاجَة إِلَى أَمر آخر وَمَا ذكرته من لُزُوم عدم الْفَائِدَة أَمر آخر على أَن قَوْلنَا فَلَيْسَ لفظيا سَنَد للْمَنْع، فَإِن الْمُجيب عَن الْمَنْع منصبه إِثْبَات الْمُدعى بادعاء وضع التَّخْصِيص إِلَى آخِره، والخصم يمْنَع وَضعه لما ذكر، وَيُؤَيّد مَنعه بِنَفْي(1/107)
المدلولية اللفظية، وَلَا خَفَاء فِي أَنه سَنَد أخص، وإبطاله غير موجه، وَأَيْضًا يتَحَقَّق النزاع فِي كل مَادَّة بقول الْخصم بِثُبُوت الْمَفْهُوم مُدعيًا وجود الْقَرِينَة، أَعنِي لُزُوم عدم الْفَائِدَة، فَيُقَال لَهُ لَا نسلم ذَلِك: لم لَا يجوز أَن يكون هُنَاكَ فَائِدَة أُخْرَى؟ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالثَّابِت) فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يدعى فِيهَا الْخصم ثُبُوت الْمَفْهُوم (عدم الْعلم بِقَرِينَة الْغَيْر) أَي غير نفي الحكم عَن الْمَسْكُوت (لَا عدمهَا) أَي عدم قرينَة الْغَيْر فِي نفس الْأَمر لعدم الْإِحَاطَة بِالنَّفْيِ (فَيكون) التَّخْصِيص الَّذِي ادّعى وَضعه لمُطلق الْفَائِدَة (مُجملا) لازدحام الْمعَانِي الممكنة إرادتها وَعدم مَا تعين بَعْضهَا (فِي) نفي الحكم عَن (الْمَسْكُوت وَغَيره) أَي غير النَّفْي (لَا مُوجبا فِيهِ) أَي فِي الْمَسْكُوت (شَيْئا) من نفي الحكم عَنهُ وَغَيره أَو شَيْئا من الْإِيجَاب (كَرجل بِلَا قرينَة فِي زيد) فَإِنَّهُ مُجمل فِي زيد وَعَمْرو وَغَيرهمَا، وَلَا يُوجب فِي زيد شَيْئا (فَإِن قيل) لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم من أَن الثَّابِت عدم الْعلم بهَا لَا لعدمها، وَأَن الأول لَا يدل على الثَّانِي (بل) عدم الْعلم بِقَرِينَة الْغَيْر (ظَاهر فِي عدمهَا) أَي فِي عدمهَا بِحَسب الْوَاقِع، وَإِن لم يكن نصافيه (بعد فحص الْعَالم) بأساليب الْكَلَام، وقرائن الْمقَام مَعَ كَمَال الاهتمام عَن قرينَة الْغَيْر، فَيدل عدم علمه بهَا على عدمهَا بِحَسب غَالب الظَّن لِأَنَّهَا لَو كَانَت لم تخف عَلَيْهِ، وَهَذَا الْكَلَام إِثْبَات للمقدمة الممنوعة على تَقْدِير أَن يكون مَا قبله منعا، وَإِبْطَال لعدم ثُبُوت عدم الْقَرِينَة إِن كَانَ مُعَارضَة (قُلْنَا) ظُهُور عدمهَا (مَمْنُوع) أَن عدم الْعلم بِشَيْء وَلَو بعد فحص الْعَالم لَا يسْتَلْزم عَدمه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يستلزمه (لم يتَوَقَّف) الْعَالم بعد الفحص (فِي حكم) لِأَنَّهُ لَا تَخْلُو حَادِثَة من الْحَوَادِث عَن حكم ثَابت من الله تَعَالَى مَعَ أَمارَة أُقِيمَت عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْحق عِنْد أهل التَّحْقِيق، وَمن ضَرُورَة استلزام عدم الْعلم بالشَّيْء عدم استلزام وجود الْعلم فَلَا وَجه للتوقف (وَقد ثَبت) التَّوَقُّف (عَن الْأَئِمَّة) الْمُجْتَهدين فِي كثير من الْأَحْكَام فَإِن قلت لَعَلَّ توقفهم لعدم الْقطع، وَنحن قُلْنَا ظَاهر فِي عدمهَا، وَلم نَدع الْقطع بِهِ قُلْنَا ثَبت عَنْهُم التَّوَقُّف فِيمَا يَكْتَفِي فِيهِ بِالظَّنِّ من الْفُرُوع (فَإِن قيل) لاثبات الْمُقدمَة الممنوعة، وَهُوَ ظُهُور عدم قرينَة الْغَيْر بِإِبْطَال السَّنَد الْمسَاوِي للْمَنْع بزعم الْخصم التَّوَقُّف (نَادِر) كَالْمَعْدُومِ فَلَا يُنَافِي الظُّهُور الْمَذْكُور (قُلْنَا) لتأييد الْمَنْع بِسَنَد آخر إِن لم يسلم ذَلِك السَّنَد (فمواضع الْخلاف) بَين الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ والنافين، أَو بَين الْمُجْتَهدين فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (كَثِيرَة تفِيد) تِلْكَ الْمَوَاضِع (عدم الْوُجُود بالفحص) أَي عدم وجود علم (للْعَالم) بِسَبَب الفحص مَعَ وجود المفحوص عَنهُ فِي الْوَاقِع، أَو عدم وجود مَا فحص عَنهُ لما زعمتم من أَن عدم علم الْعَالم بِهِ دَلِيل على عَدمه وَهُوَ بَاطِل لوُجُوده بِدَلِيل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده الْمُخَالف تَوْضِيحه أَن كلا من الْمُجْتَهدين(1/108)
سقط(1/109)
سقط(1/110)
سقط(1/111)
سقط(1/112)
سقط(1/113)
سقط(1/114)
سقط(1/115)
سقط(1/116)
ينتفى الحكم عَنهُ فِي نفس الْأَمر) لِأَن ثُبُوت الحكم لَهُ فرع تعرضه (وَدفع الأول) من الْوَجْهَيْنِ (بِأَنَّهُ مُكَابَرَة) لظُهُور عدم اعْتِبَار مَفْهُوم المخالقة فِي الْأَخْبَار مُطلقًا، وَفِيه نظر كَيفَ وأوجه الْإِثْبَات غير مُخْتَصَّة بالإنشاء (و) دفع (الثَّانِي) وَهُوَ الْفرق بَينهمَا (بإفادته) أَي إِفَادَة انْتِفَاء تعرضه للمسكوت (السُّكُوت عَن الْمَسْكُوت) لانْتِفَاء الحكم فِي نفس الْأَمر فَلَا فرق بَينهمَا (وَهُوَ) أَي السُّكُوت عَن المكسوت وَعدم إِفَادَة الحكم ثَابت لَهُ (قَول النافين) للمفهوم فِيهِ أَن قَول النافين السُّكُوت عَنهُ إِثْبَاتًا ونفيا، وَاللَّازِم من انْتِفَاء التَّعَرُّض الَّذِي ذكره الْخصم السُّكُوت عَنهُ إِثْبَاتًا فَقَط (وَمِنْهَا) أَي وَمن الْأَدِلَّة المنظور فِيهَا أَنه (لَو ثَبت الْمَفْهُوم ثَبت التَّعَارُض) فِي حكم الْمَسْكُوت بَين الدَّال على نفي الحكم عَنهُ وَبَين مَا يدل على مشاركته للمذكور فِيهِ (لثُبُوت الْمُخَالفَة) فِي مواد التَّخْصِيص بَين مَا يَقْتَضِيهِ الْمَفْهُوم من نفي الحكم، وَبَين مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل آخر من ثُبُوته للمسكوت (كثيرا) وَيلْزمهُ ثُبُوت التَّعَارُض كثيرا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} - إِذْ مَفْهُومه عدم النَّهْي عَن الْقَلِيل إِذْ النَّهْي عَن الْقَلِيل وَالْكثير ثَابت لقَوْله - {وَحرم الرِّبَا} - وَغَيره (وَهُوَ) أَي التَّعَارُض (خلاف الأَصْل لَا يُصَار إِلَيْهِ) أَي التَّعَارُض أَو خلاف الأَصْل (إِلَّا بِدَلِيل) ملجئ إِلَى الْمصير إِلَيْهِ، وَيتَّجه حِينَئِذٍ أَن الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة للمفهوم كَثِيرَة فيصار إِلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (فَإِن أقيم) الدَّلِيل على اعْتِبَاره (فَبعد صِحَّته) فِيهِ إِشَارَة إِلَى عدم صِحَّته وَعدم صلاحيته لِأَن يُعَارض دليلنا لصِحَّته: أَي فَبعد تَسْلِيم صِحَّته (كَانَ دليلنا مُعَارضا) وَإِذا تَعَارضا تساقطا فَلَا يبْقى بعد ذَلِك الِاعْتِبَار الْمَفْهُوم مُرَجّح، وَتعقبه المُصَنّف بِأَن ذَلِك إِذا لم ترجح عَلَيْهِ، فَقَالَ (وَالْحق أَن كل دَلِيل يخرج) الحكم (عَن الأَصْل) بإفادته إِيَّاه على خلاف إِفَادَة مَا يُوَافق الأَصْل (بعد صِحَّته يقدم) ذَلِك الدَّلِيل الْمخْرج على مَا يُوَافق (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقدم (لزم مثله) أَي مثل مَا ذكر من ثُبُوت التَّعَارُض الَّذِي هُوَ خلاف الأَصْل إِلَى آخِره (فِي حجية خبر الْوَاحِد وَغَيره) مِمَّا يدل على خلاف الأَصْل يَعْنِي إِذا دلّ ظَنِّي كالقياس على حكم مُوَافق للْأَصْل، وَخبر الْوَاحِد على خِلَافه يُقَال: لَو ثَبت حجية الْخَبَر ثَبت التَّعَارُض، ثمَّ تقديمهم الْمخْرج عَن الأَصْل كترجيحهم بَيِّنَة الْخَارِج على ذِي الْيَد (وَيدْفَع) هَذَا الْإِيرَاد: أَعنِي تَقْدِيم الْمخْرج للُزُوم مثله الخ من قبل النافين (بِأَن ذَلِك) أَي تَرْجِيح مُثبت خلاف الأَصْل إِنَّمَا هُوَ (عِنْد تساويهما) أَي الْأَدِلَّة المتعارضة (فِي استلزام الْمَطْلُوب وأدلتكم) أَيهَا المثبتون (بَينا أَن شَيْئا مِنْهَا لَا يسْتَلْزم اعْتِبَاره) أَي الْمَفْهُوم فَإِذن لَا تصلح، لِأَن تعَارض أدلتنا لاستلزامها عدم اعْتِبَاره (وَمثله فِي الشَّرْط) أَي وَمثل ذكره فِي الصّفة من الْأَدِلَّة مَا أورد عَلَيْهَا ذكره(1/117)
فِي الشَّرْط (من الْجَانِبَيْنِ) الْمُثبت والنافي (وَشَرطه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (وَمَا تقدم من عدم خُرُوجه) أَي الْقَيْد، وَهُوَ الشَّرْط هَهُنَا (مخرج الْغَالِب) وَقد مر تَفْسِيره كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} - على أحد الْوُجُوه (وَنَحْوه) مِمَّا لَا يتَعَيَّن مَعَه كَون الْمَفْهُوم فَائِدَة للتَّقْيِيد (ويخصه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (قَوْلهم أَنه) أَي الشَّرْط (سَبَب) للجزاء (فعلى) تَقْدِير (اتحاده) أَي السَّبَب انْتِفَاء الحكم عَنهُ انْتِفَاء الشَّرْط (ظَاهر) ضَرُورَة انْتِفَاء الشَّيْء عِنْد انْتِفَاء السَّبَب بِالْكُلِّيَّةِ (وعَلى) تَقْدِير (جَوَاز التَّعَدُّد) أَي تعدد السَّبَب (الأَصْل عدم غَيره) أَي الشَّرْط من الْأَسْبَاب الْأُخَر، فَإِن سَبَبِيَّة الشَّرْط مَعْلُومَة وسببية غَيره غير مَعْلُومَة، وَالْأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْعَدَم كَمَا أَفَادَ بقوله (فَإِذا انْتَفَى) الشَّرْط الَّذِي هُوَ السَّبَب (انْتَفَى) الْمُسَبّب (مُطلقًا) لانحصار السَّبَب فِيهِ لما ذكر (مُلَاحظَة النَّفْي الْأَصْلِيّ مَا لم يقم دَلِيل الْوُجُود) أَي وجود سَبَب آخر للجزاء (مَعَ أَن الْكَلَام فِيمَا إِذا استقصى الْبَحْث) أَي بولغ فِي التفتيش والفحص إِلَى أقْصَى الْغَايَة (عَن) وجود سَبَب (آخر فَلم يُوجد فَإِن احْتِمَال وجوده) أَي سَبَب آخر (يضعف) حِينَئِذٍ جدا (فيترجح الْعَدَم) رجحانا تَاما (وَالْمَفْهُوم) ثُبُوته (ظَنِّي لَا يُؤثر فِيهِ) ذَلِك (الِاحْتِمَال) الضَّعِيف، بل حَقِيقَة الظَّن لَا يتَحَقَّق بِدُونِهِ، وَالِاحْتِمَال الْمَرْجُوح إِنَّمَا يُنَافِي الْقطعِي (وَلَا يخفى أَن هَذَا) التَّقْرِير (رُجُوع عَن أَنه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (مَدْلُول اللَّفْظ إِلَى إِضَافَته) أَي الْمَفْهُوم (إِلَى انْتِفَاء السَّبَب) فكأنهم اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ، بل يدل عَلَيْهِ دَلِيل عَقْلِي هُوَ انْتِفَاء السَّبَب المستلزم انْتِفَاء الْمُسَبّب الَّذِي هُوَ الحكم (وَهُوَ) أَي الرُّجُوع إِلَيْهَا (قَول الْحَنَفِيَّة أَنه) أَي انتفام الحكم عِنْد عدم الشَّرْط (يبْقى على عَدمه الْأَصْلِيّ فِي التَّحْقِيق) ظرف لنسبة الْخَبَر إِلَى الْمُبْتَدَأ (وَالْأَقْرَب لَهُم) أَي المثبتة (إِضَافَته) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (إِلَى شَرْطِيَّة اللَّفْظ المفادة للأداة) بِنَاء (على أَن الشَّرْط) الَّذِي هُوَ من حَيْثُ شرطيته مفادة للأداة لُغَة مَعْنَاهَا (مَا ينتفى الْجَزَاء بانتفائه فَيكون) انْتِفَاء الْجَزَاء لانْتِفَاء الشَّرْط (مدلولا) لفظيا (للأداة) إِشَارَة إِلَى مَا قَالُوا من أَن أهل اللُّغَة قاطبة أطْلقُوا حرف الشَّرْط على كلمة إِن، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مَا دخلت عَلَيْهِ شرطا، وَالشّرط ينتفى الْمَشْرُوط بانتفائه: أَلا ترى أَن الْعلم وَالزَّكَاة ينتفيان بِانْتِفَاء الْحَيَاة والحول انْتهى، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه من بَاب اشْتِبَاه الشَّرْط الْحكمِي بِالشّرطِ النَّحْوِيّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْجَوَاب منع كَون الشَّرْط) النَّحْوِيّ شَيْئا (سوى مَا جعل سَببا للجزاء) ذهنا أَو خَارِجا سَوَاء كَانَ عِلّة للجزاء كطلوع الشَّمْس لوُجُود النَّهَار أَو معلولاله كَعَكْسِهِ أَو غَيرهمَا، كَانَ دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (والانتفاء) أَي انْتِفَاء الْجَزَاء (للانتفاء) أَي لانْتِفَاء الشَّرْط (لَيْسَ(1/118)
سقط(1/119)
سقط(1/120)
كَمَا يفهم مِمَّا قبل (وَالْخلاف الْمشَار إِلَيْهِ) بقوله الشَّرْط مَانع إِلَى آخِره (هُوَ أَن اللَّفْظ الَّذِي ثبتَتْ سببيته) مشروعيته (شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا، أَو سَبَبِيَّة شَرْعِيَّة (لحكم) كَأَنْت طَالِق لإنشاء الطَّلَاق (إِذا جعل جَزَاء لشرط) كَانَ دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (هَل يسلبه) أَي الْجعل الْمَذْكُور المجعول جَزَاء (سببيته) الثَّابِتَة شرعا (لذَلِك الحكم) الْمُسَبّب شرعا (قبل وجود الشَّرْط) ظرف للسبب (كَأَنْت طَالِق و) أَنْت (حرَّة) مثل اللَّفْظ الثَّابِت سببيته شرعا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (جعل) شرعا (سَببا لزوَال الْملك) أَي ملك النِّكَاح والرقبة (فَإِذا دخل الشَّرْط) على السَّبَب الْمَذْكُور (منع) دُخُوله عَلَيْهِ (الحكم) عَن الِانْعِقَاد (عِنْده) أَي عِنْد الشَّافِعِي (فَقَط) لَا السَّبَب، فَلَا يسلب سببيته قبل وجود الشَّرْط، فغايته تَأْخِير انْعِقَاد الحكم إِلَى وجوده (وَعِنْدنَا منع) دُخُوله عَلَيْهِ (سببيته) أَي السَّبَب الْمَذْكُور، فَيلْزم منع الحكم بِالطَّرِيقِ الأولى (فتفرعت الخلافيات) الْمَذْكُورَة، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن منشأ الْغَلَط اشْتِرَاك الخلافيتين فِي أَمر التَّعْلِيق بِالشّرطِ، وَذكر السَّبَب شرعا، وَعدم الحكم بِانْتِفَاء الشَّرْط وَعدم الْفرق بَين السَّبَب فَمَا نَحن فِيهِ، وَهُوَ الشَّرْط، وَالسَّبَب الْمَذْكُور فِي تِلْكَ الخلافية، وَهُوَ السَّبَب الشَّرْعِيّ الْوَاقِع جَزَاء الشَّرْط، وَأَن عدم سَبَب الشَّرْط سَببه سَبَب الحكم شرعا لَا يسْتَلْزم كَون عدم الحكم عِنْد عدم الشَّرْط حكما شَرْعِيًّا لَا عدما أَصْلِيًّا، وَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا، ثمَّ لما بَين عدم بِنَاء الْخلاف فِيمَا نَحن فِيهِ على مَا ذكر أَرَادَ أَن يبين مُنَاسبَة أُخْرَى بَينهمَا، فَقَالَ (وَإِنَّمَا يتفرعان مَعًا) أَي الْخلاف الَّذِي نَحن بصدد بَيَانه، وَمَا جعله الغالط مَبْنِيّ لَهُ (على الْخلاف فِي اعْتِبَار الْجَزَاء) حَال كَونه جُزْءا (من التَّرْكِيب الشرطي) وَالِاعْتِبَار لتَضَمّنه معنى الْجعل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، فَالْأول مَا أضيف إِلَيْهِ، وَالثَّانِي قَوْله (يُفِيد) أَي الْجَزَاء (حكمه على عُمُوم التقادير) وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله يُفِيد استئنافا لبَيَان الِاعْتِبَار كَأَن سَائِلًا قَالَ كَيفَ الْخلاف فِي اعْتِبَاره، فَقَالَ هَل يُفِيد الْجَزَاء الَّذِي هُوَ سَبَب شَرْعِي لحكم حكمه على جَمِيع التقادير أم لَا بِأَن يدل من حَيْثُ ذَاته مَعَ قطع النّظر على تَقْيِيده بِالشّرطِ على ثُبُوت حكمه فِي جَمِيع الْأَوْقَات بِاعْتِبَار جَمِيع أَحْوَاله وأوضاعه غير أَنه (خصصه الشَّرْط) أَي خصص الشَّرْط عُمُومه الْمُسْتَفَاد مِنْهُ (بِإِخْرَاج مَا) أَي بِإِخْرَاج التقادير الَّتِي هِيَ (سوى مَا تضمنه) الشَّرْط من التقادير الْحَاصِلَة مَعَ وجود الشَّرْط (عَن ثُبُوت الحكم مَعَه) كلمة عَن مُتَعَلقَة بالاخراج، وَضمير مَعَه رَاجع إِلَى مَا سوى الشَّرْط، يَعْنِي يخرج الشَّرْط مَا سوى متضمنه عَن أَن يثبت الحكم مَعَه، فَيلْزم إِفَادَة الشَّرْط نفي الحكم عِنْد التقادير المخرجة (فَيكون النَّفْي) أَي نفي حكم الْجَزَاء عِنْد عدم الشَّرْط (مُضَافا إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط (لِأَنَّهُ) أَي الشَّرْط (دَلِيل التَّخْصِيص) أَي تَخْصِيص الحكم بِمَا(1/121)
تضمنه الشَّرْط، فالثبوت والانتفاء حكمان شرعيان ثابتان بِاللَّفْظِ منطوقا ومفهوما ذكر السَّيِّد الشريف أَن هَذَا ظَاهر مَا ذهب إِلَيْهِ السكاكي لأهل الْعَرَبيَّة، فَإِن عِنْدهم على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ الحكم فِي الْجَزَاء وَالشّرط قيد لَهُ بِمَنْزِلَة الظّرْف وَالْحَال حَتَّى أَن الْجَزَاء إِذا كَانَ خَبرا، فالشرطية خبرية وَإِلَّا فإنشائية، فَالْقَوْل بِمَفْهُوم الشَّرْط يتَفَرَّع على هَذَا الْمَذْهَب، كَذَا قيل، وَلَا يظْهر مدافعة مَا نقل عَن الْمُحَقق لكَلَام السكاكي فَتَأمل فَإِن قلت عرفنَا تفرع كَون عدم الحكم حكما شَرْعِيًّا على إِفَادَة الْجَزَاء حكمه على عُمُوم التقادير، وتحصيص الشَّرْط، إِذْ حَاصله قصر الحكم على تقادير، وَهُوَ مركب من حكمين: أَحدهمَا أَن الحكم ثَابت مَعَ تقاديره، وَالثَّانِي أَنه مُنْتَفٍ فِيمَا عَداهَا، لَكِن مَا عرفنَا تفرع كَون الشَّرْط غير مَانع من انْعِقَاد السَّبَب عَلَيْهِ قلت يُمكن أَن يُقَال لما تربت على الشَّرْط التَّأْثِير الْمَذْكُور ناسب أَن يَجْعَل سَببا متراخيا عَنهُ الحكم لَا أمرا خَالِيا عَن السَّبَبِيَّة فَتَأمل جزاءه (وَأهل النّظر) وهم المنطقيون، وَفِي هَذَا التَّعْبِير إِشْعَار بِأَن الصَّوَاب مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ كَمَا هُوَ التَّحْقِيق (يمْنَعُونَ إفادته) أَي الْجَزَاء (شَيْئا) من الحكم (حَال وُقُوعه) أَي الْجَزَاء جُزْءا وَالْمرَاد بِالْأولِ ذَاته، وَبِالثَّانِي وَصفه، يَعْنِي فِي زمَان اتصافه بالجزائية، وَأما إِذا اسْتعْمل بِلَا تَقْيِيد بِالشّرطِ فَيُفِيد الحكم كَسَائِر الْجمل (بل هُوَ) أَي الْجَزَاء (حِينَئِذٍ) أَي حِين كَونه جُزْءا (كزاي زيد) فِي أَنه (جُزْء الْكَلَام الْمُفِيد) أَي للْحكم، وَلَيْسَ بمفيد لَهُ اسْتِقْلَالا، وَلَيْسَ التَّشْبِيه من كل وَجه، فَلَا يتَّجه أَن لَيْسَ فِي الْمُشبه بِهِ دلَالَة أصلا، بِخِلَاف الْمُشبه (فضلا عَن إِيجَابه) أَي الْجَزَاء الحكم (على عُمُوم التقادير) حَتَّى يكون الشَّرْط مُخَصّصا، لذَلِك الْعُمُوم، وفضلا ينصب بِمَحْذُوف، ويتوسط بَين أدنى وَأَعْلَى بعد نفي صَرِيح، أَو ضمني تَنْبِيها بِنَفْي الْأَدْنَى، واستبعاده على نفي الْأَعْلَى، واستحالته، وَضمير ناصبه بمضمون المنفية، نَحْو: فلَان لَا ينظر إِلَى الْفَقِير، فضلا عَن الْإِعْطَاء، من فضل عَن المَال إِذا ذهب أَكْثَره وَبَقِي أَقَله، وَالْمعْنَى نفي عدم النّظر عَن الْإِعْطَاء، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التهكم (وَالْمَجْمُوع) أَي مَجْمُوع الشَّرْط وَالْجَزَاء عِنْدهم (يُفِيد حكما مُقَيّدا بِالشّرطِ) وَذَلِكَ الحكم الْمُقَيد مَا يُسْتَفَاد من قَوْله (فَإِنَّمَا دلَالَته) أَي الْمَجْمُوع (على الْوُجُود) أَي على مَضْمُون الْجَزَاء (عِنْد وجوده) أَي وجود مَضْمُون الشَّرْط (فَإِذا لم يُوجد) الشَّرْط (بَقِي مَا قيد) أَي الحكم الَّذِي قيد (وجوده بِوُجُودِهِ) أَي الشَّرْط (على عَدمه الْأَصْلِيّ) مُتَعَلق بقوله بَقِي وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل فِي الحكم الْعَدَم، وَلم يُوجد مَا يُخرجهُ عَن الأَصْل إِلَّا الحكم بِوُجُودِهِ عِنْد وجود الشَّرْط، وَلم يُوجد الحكم بِوُجُودِهِ عِنْد عدم الشَّرْط ليخرج هُوَ أَيْضا عَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ. فَالْقَوْل بِعَدَمِ مَفْهُوم الشَّرْط متفرع على هَذَا التَّحْقِيق وَحَاصِل تَحْقِيق السَّيِّد(1/122)
فِي هَذَا الْمقَام أَنه لَو كَانَ الْخَبَر هُوَ التَّالِي لم يتَصَوَّر صدق الشّرطِيَّة مَعَ كذبه ضَرُورَة استلزام انْتِفَاء الْمُطلق انْتِفَاء الْمُقَيد وَحَاصِل اعْتِرَاض الدواني عَلَيْهِ منع كَون الْمُطلق الَّذِي قيد بِالشّرطِ ثُبُوت النِّسْبَة بِحَسب الْوَاقِع، بل مَا يعم الْوَاقِع وَالظَّن، فكذب زيد قَائِم فِي الْوَاقِع لَا يسْتَلْزم كذب زيد قَائِم فِي ظَنِّي، فَاعْتبر بدل الظَّن حَال وجود الشَّرْط قلت إِذا أطلق زيد قَائِم يفهم مِنْهُ بِحَسب الْوَاقِع، فَإِذا قيد بِالشّرطِ يُقيد بذلك الِاعْتِبَار، وَلَو قَالَ أَن المُرَاد أَن يتَحَقَّق عِنْد تحَققه أَن يتَحَقَّق فَهُوَ بِعَيْنِه تَحْقِيق أهل النّظر فَتدبر (وَأما تَفْرِيع) جَوَاز (تَعْجِيل الْكَفَّارَة الْمَالِيَّة) أَو أعتق الرَّقَبَة (قبل الْحِنْث) على أَن السَّبَب مُنْعَقد قبل وجود الشَّرْط وَأثر الشَّرْط إِنَّمَا هُوَ فِي تَأْخِير الحكم إِلَى وجوده على مَا مر، فَلَيْسَ بِظَاهِر لعدم لُزُوم التَّعْلِيق وَالْيَمِين (فَقيل) فِي تَأْوِيله أَن تفريعه (بِاعْتِبَار الْمَعْنى) الَّذِي هُوَ مدَار الأَصْل الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن انْتِفَاء شَرط الشَّيْء لَا يمْنَع انْعِقَاد سَببه، وَقد تقرر عِنْد الشَّافِعِي رَحمَه الله أَن سَبَب الْكَفَّارَة الْيَمين والحنث شَرطهَا، وَإِنَّمَا قيد بالمالية، لِأَن المدنية لَا يجوز تَعْجِيلهَا، لِأَن وجوب أَدَائِهَا إِنَّمَا هُوَ بعد الْحِنْث إِجْمَاعًا، وَالْوُجُوب فِيهَا إِمَّا عين وجوب الْأَدَاء أَو هما متلازمان، فتعجيلها تَعْجِيل قبل الْوُجُوب بِخِلَاف الْمَالِيَّة، فَإِن وجوب المَال فِي الذِّمَّة قد يثبت قبل وجوب الْأَدَاء كَالثّمنِ الْمُؤَجل (وَلَا يخفى مَا فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّأْوِيل من التَّكَلُّف من غير ضَرُورَة، لِأَن تفريعه على الأَصْل الْمَذْكُور مُسْتَغْنى عَنهُ لكَونه من فروع أَن انْتِفَاء الشَّرْط الشَّرْعِيّ لَا يمْنَع انْعِقَاد السَّبَب، فَإِن الْحِنْث عِنْده شَرط وجوب الْكَفَّارَة وَالْيَمِين سَبَب لَهُ، وَقد انْعَقَد من غير مَانع، (وَالْأَوْجه خلاف قَوْله) أَي الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي الْفَرْع الْمَذْكُور، وَهُوَ عدم جَوَاز تَعْجِيل أَدَاء الْكَفَّارَة الْمَالِيَّة قبل الْحِنْث (لعقلية سَبَبِيَّة الْحِنْث) أَي لمعقولية سَبَب هُوَ الْحِنْث بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفَّارَة (لَا الْيَمين) أَي لَا معقولية سَبَب هُوَ الْيَمين، فالإضافة بَيَانِيَّة تَوْضِيحه أَن سَببهَا عِنْده الْيَمين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أضافها إِلَى الْيَمين فِي قَوْله - {ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم} - ويتبادر مِنْهَا السَّبَبِيَّة، وعندما الْحِنْث، لِأَن الْكَفَّارَة تنبئ عَن ستر مَا وَقع من الْإِخْلَال بتوقير مَا يجب لاسم الله، فَيَنْبَغِي أَن يكون سَببهَا مَا يُوجب الْإِخْلَال، وَهُوَ الْحِنْث لكَونه مفضيا إِلَيْهَا من حَيْثُ أَنه جِنَايَة لَا الْيَمين الَّتِي انْعَقَدت للبر، وَوضعت للإفضاء إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل سَببا، ومفضيا إِلَى مَا لَا يجب إِلَّا عِنْد عدم الْبر على أَن السَّبَب يجب تَقْدِيره عِنْد وجود الْمُسَبّب، وَالْيَمِين لَا تبقى عِنْد وجود الْكَفَّارَة لانتقاضها بِالْحِنْثِ، غَايَة الْأَمر أَن الْكَفَّارَة لَا تتَحَقَّق بِلَا سبق الْيَمين، وَهَذَا يقتضى كَونهَا شرطا فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن تُفْضِي الْيَمين إِلَيْهَا بطرِيق الانقلاب، يَعْنِي أَنَّهَا مفضية إِلَى الْبر ابْتِدَاء، وَعند فَوَاته تصير مفضية إِلَى الْكَفَّارَة فَهِيَ خلف للبر قُلْنَا الافضاء(1/123)
بطرِيق الانقلاب خلاف الظَّاهِر، وَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل، وَلَا دَلِيل سوى الْإِضَافَة، وَهُوَ ضَعِيف لَا يُقَاوم عقلية سَبَب الْحِنْث، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِن أضيفت) الْكَفَّارَة (إِلَيْهِ) أَي الْحلف (فِي النَّص) الْمَذْكُور فَإِنَّهَا من إِضَافَة الحكم إِلَى شَرطه (كإضافة صَدَقَة الْفطر عندنَا) فَإِن الْفطر عندنَا شَرطهَا وسببها رَأس يمونه ويلي عَلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ دلَالَة الْإِضَافَة على السَّبَبِيَّة لَيست بِأَمْر مُسلم، وَلَا سِيمَا إِذا وجد مَا هُوَ مُتَعَيّن للسَّبَبِيَّة نظرا إِلَى مَا يفيدها لَهُ (وَوَجهه) أَي وَجه مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: من أَن الشَّرْط مَانع من انْعِقَاد سَبَبِيَّة مَا علق عَلَيْهِ لحكمه (أَولا أَن السَّبَب) الشَّرْعِيّ هُوَ المفضي إِلَى الحكم) أَي الطَّرِيق الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ (وَالتَّعْلِيق) أَي تَعْلِيق السَّبَب الْمَذْكُور (مَانع من الْإِفْضَاء) أَي من إفضائه إِلَى الحكم قبل وجود الشَّرْط (لمَنعه) أَي التَّعْلِيق السَّبَب الَّذِي علق من التَّأْثِير (من الْمحل) أَي مَحل الحكم، وَذَلِكَ لِأَن السَّبَب كَأَنْت طَالِق إِنَّمَا يُؤثر شرعا فِي مَحَله الَّذِي هُوَ ملك النِّكَاح إِنَّمَا نجز من غير تَعْلِيق بِشَيْء، وَإِذا علق بِهِ مَنعه عَن التَّأْثِير إِلَى حِين وجوده، فَعِنْدَ ذَلِك يصير تنجيزا (والأسباب الشَّرْعِيَّة لَا تصير قبل الْوُصُول إِلَى الْمحل أسبابا) وَالْمرَاد بوصوله: تعلقه بِهِ عِنْد وجود الْمُعَلق بِهِ، فَإِن الْمُتَكَلّم لم يقْصد تعلق مُوجب السَّبَب، وَهُوَ الطَّلَاق بِالْمحل الَّذِي هُوَ ملك النِّكَاح إِلَّا عِنْده فَلَا وُصُول قبله، فتسميتها قبل الْوُصُول أسبابا بِاعْتِبَار مَا تئول إِلَيْهِ (فضعف قَوْله) أَي الشَّافِعِي رَحمَه الله (السَّبَب) بِوُقُوع الطَّلَاق قَول الْمُعَلق (أَنْت طَالِق، وَالشّرط لم يعدمه) لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ عدم إعدامه ذَات السَّبَب من حَيْثُ هِيَ، فَلَا يجديه نفعا، وَإِن أَرَادَ من حَيْثُ إِنَّهَا سَبَب فَغير مُسلم لما عرفت من منع الْإِفْضَاء إِلَى آخِره (فَإِنَّمَا أخر الحكم) يَعْنِي لَا يمْنَع انْعِقَاد السَّبَب بل يُؤَخر الحكم إِلَى وجود الشَّرْط (وَأورد) علينا إِذا منع الشَّرْط انْعِقَاد السَّبَب وَالْحكم مَعًا لزم عدم إِفَادَة مَا علق بِهِ الشَّرْط شَيْئا (فَيجب أَن يَلْغُو) ذكر السَّبَب الْمُعَلق لعدم الإفادة شَيْء من الفائدتين (كالأجنبية) أَي كَمَا يَلْغُو ذكر الطَّلَاق مُنجزا فِي الْأَجْنَبِيَّة لتساويهما فِي عدم الْوُصُول إِلَى الْمحل، وَإِن كَانَ الْمحل مَوْجُودا فِي الأول دون الثَّانِي (وَأجِيب) عَن الْإِيرَاد الْمَذْكُور بِأَنَّهُ (لَو لم يرج) وُصُول السَّبَب الْمُعَلق إِلَى الْمحل بِأَن علق مَا لَا يُرْجَى الْوُقُوف عَلَيْهِ (لَغَا) جَوَاب لَو (كطالق إِن شَاءَ الله) فَإِن مَشِيئَته تَعَالَى فِيمَا لَا يعلم وُقُوعه بِدَلِيل لَا يُرْجَى الْعلم بهَا بوصول السَّبَب الْمُعَلق إِلَى الْمحل، فَيلْغُو (وَغَيره) أَي غير مَا لم يرج وُصُوله إِلَى الْمحل من الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة الْمُعَلقَة بِالشّرطِ (بعرضية السَّبَبِيَّة) فعلة بِمَعْنى الْمَفْعُول كَالْقبْضَةِ، يُقَال لما يعرض دون الشَّيْء، وللمعرض لِلْأَمْرِ المنهى لَهُ، وَهَذَا هُوَ المُرَاد هَهُنَا، وَالْيَاء للمصدرية وَالْإِضَافَة من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول بِوَاسِطَة حرف الْجَرّ وَالْمعْنَى كَون الْجَزَاء متهيئا للسَّبَبِيَّة(1/124)
بِحَيْثُ لَا يتَوَقَّف على شَيْء سوى وجود الشَّرْط مَعَ بَقَاء الْمحل قَابلا لوُرُود الحكم (فَلَا يلغى) ذكر السَّبَب وَلَا يعد لَغوا (تَصْحِيحا) لكَلَام الْعَاقِل، فَإِن عرضيته فَائِدَة مترتبة على ذكره مُعَلّقا فَإِن قلت السَّبَب مثل: أَنْت طَالِق مَوْضُوع لإِثْبَات التَّطْلِيق، وَعقد الطَّلَاق شرعا، فَإِذا علق بِالشّرطِ يتَأَخَّر حكمه بِالْإِجْمَاع، فالتعليق يمْنَع الحكم ضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة فِي منع سببيته، فَلَا يعدل عَن مُوجب وَضعه الشَّرْعِيّ من غير ضَرُورَة، فَينْعَقد قبل وجوب الشَّرْط سَببا، ويتأخر حكمه، وَأَيْضًا جَوَاب الشَّرْط يتَضَمَّن نِسْبَة أحد جزءيه إِلَى الآخر وَالْحكم بهَا، وَالثَّانِي هُوَ المنقسم إِلَى الْأَخْبَار والإنشاء، وكل مِنْهُمَا يَسْتَحِيل تَعْلِيقه لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ من الْكَلَام يَسْتَحِيل وجودهما حَيْثُ لَا كَلَام، وَالشّرط قد يُوجد حِين يكون الشارط سَاهِيا ونائما، وَغير مُتَكَلم، ويستحيل كَون الْإِنْسَان مخبرا ومنشئا عِنْد ذَلِك، فَتعين أَن التَّعْلِيق بِاعْتِبَار الأول، فالمعلق مخبر ومنشئ عِنْد التَّعْلِيق، وَالْحكم حَاصِل عِنْده، فَالْمَوْقُوفُ على دُخُول الدَّار مثلا إِنَّمَا هُوَ الطَّلَاق لَا التَّطْلِيق، فَقَوله: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق إنْشَاء التَّعْلِيق، لَا تَعْلِيق الْإِنْشَاء أَقُول: إِن أردْت بِقَوْلِك مَوْضُوع لإثباتهما شرعا أَنه مَوْضُوع على الْإِطْلَاق مُنجزا كَانَ أَو مُعَلّقا فَمَمْنُوع، لِأَنَّهُ لم يثبت سببيته شرعا إِلَى حَال التَّنْجِيز، وَإِن أردْت وَضعه عِنْد التَّعْلِيق فَهُوَ عين مَحل النزاع، وَإِن أردْت وَضعه عِنْد التَّنْجِيز فَلَا يجديك نفعا، ثمَّ إِن الْجَزَاء إِن كَانَ خَبرا فالمعلق خبري، وَإِن كَانَ إنْشَاء فإنشائي، فَيتَحَقَّق تَعْلِيق الْإِنْشَاء وإنشاء التَّعْلِيق مَعًا، وقولك: يَسْتَحِيل وجودهما حَيْثُ لَا كَلَام إِن أردْت بوجودهما تحقق مضمونهما فِي نفس الْأَمر مترتبا عَلَيْهِ الحكم الشَّرْعِيّ فَلَا يَسْتَحِيل حَيْثُ لَا كَلَام، وَهُوَ ظَاهر، وَإِن أردْت وجودهما فِي الذِّهْن والتلفظ، فَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق، وَلَا سَهْو وَلَا نِسْيَان، ثمَّ الحكم التنجيزي نَوْعَانِ: ابتدائي يثبت بِمُجَرَّد التَّكَلُّم بِسَبَبِهِ الَّذِي مَا علق بِشَيْء، وَغير ابتدائي يثبت بِسَبَبِهِ الَّذِي يعْتَبر وجوده عِنْد تحقق مَا علق بِهِ، فَكَأَن الْمُتَكَلّم بِالتَّعْلِيقِ يصير متكلما بذلك السَّبَب عِنْد تحقق الشَّرْط، فَلَا يستدعى حصور الذِّهْن والتكلم إِلَّا عِنْد التَّعْلِيق إِذا تحقق، فَكَأَن الْمُعَلق يَقُول عِنْد التَّعْلِيق إِذا تحقق هَذَا الشَّرْط فَلْيَكُن هَذَا السَّبَب وَحكمه منجزين مني وَمن اعْتِبَار الشَّارِع هَذَا مِنْهُ، وَدفع عَنهُ مؤونة العقد الْجَدِيد حَال وجود الشَّرْط اكْتِفَاء بذلك التَّعْلِيق توسعة عَلَيْهِ فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من التعليقات لمصالحهم (وَثَانِيا) أَي وَوجه مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من أَن الشَّرْط مَانع من انْعِقَاد سَبَبِيَّة مَا علق عَلَيْهِ الحكم ثَانِيًا (توقف) السَّبَب الَّذِي صَار جُزْءا (على الشَّرْط فَصَارَ) السَّبَب الْمُعَلق بِهِ (كجزء سَبَب) فِي احْتِيَاج الحكم إِلَيْهِ مَعَ عدم استقلاله فِي إِيجَابه، وَالشَّيْء لَا يتَحَقَّق بِمُجَرَّد تحقق جُزْء مِنْهُ أَو الْمَعْنى، فَصَارَ الشَّرْط كجزء سَبَب(1/125)
ومآلهما وَاحِد، وَالْأول أظهر (بِخِلَاف) مَا ألحق الشَّافِعِي رَحمَه الله التَّعْلِيق بِهِ من (البيع الْمُؤَجل) فِيهِ الثّمن (و) بِخِلَاف البيع (بِشَرْط الْخِيَار و) بِخِلَاف السَّبَب الشَّرْعِيّ (الْمُضَاف) إِلَى الزَّمَان (كطالق غَدا) فَإِن كلا مِنْهُمَا (سَبَب) مُنْعَقد (فِي الْحَال) أَي فِي حَال صدوره عَن الْمُتَكَلّم لَا يمنعهُ شَيْء من الْوُصُول إِلَى الْمحل، وَهَذَا جَوَاب عَمَّا يُمكن تَقْرِيره بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا الْمُعَارضَة بِقِيَاس الْمُعَلق بِالشّرطِ على الْأَسْبَاب الْمَذْكُورَة فِي حكم الِانْعِقَاد من حَيْثُ السَّبَبِيَّة بِجَامِع الِاشْتِرَاك فِي كَونهَا معلقَة بِحَسب الْمَعْنى كَالْبيع بالأجل، وَالْخيَار، وَالطَّلَاق بالغد. وَثَانِيهمَا النَّقْض بَيَانه أَن القَوْل بِكَوْن الْمُتَعَلّق مَانِعا من الْإِفْضَاء إِلَى آخِره، أَو بصيرورة الْمَوْقُوف على الشَّرْط كجزء سَبَب مَنْقُوص بِهَذِهِ المعلقات وَحَاصِل الْجَواب إِمَّا منع صِحَة الْقيَاس لكَونه مَعَ الْفَارِق، أَو منع جَرَيَان الدَّلِيل بِبَيَان أَن الْمُعَلق فِي الْمَذْكُورَات الحكم دون السَّبَب، بِخِلَاف المنازع فِيهِ (لِأَن الْأَجَل) الَّذِي يعلق الْمُؤَجل بِالْوَقْتِ الْمعِين إِنَّمَا يعْتَبر (دُخُوله) ووروده فِي الْمَعْنى (على الثّمن) أَي على لُزُوم مُطَالبَته، فتأثير التَّأْجِيل فِي تَأْخِير الْمُطَالبَة فَقَط (لَا) يعْتَبر دُخُوله على (البيع) الَّذِي هُوَ سَبَب، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ تَأْخِيرهَا، وَهُوَ يحصل بِمُجَرَّد دُخُوله على لُزُوم مُطَالبَة الثّمن فِي الْحَال، فَلَا وَجه لاعْتِبَار دُخُوله على السَّبَب من غير حَاجَة، مَعَ أَنه على خلاف الْقيَاس، وَهُوَ متقدر بِقدر الضَّرُورَة (و) لِأَن (الْخِيَار) أَي شَرطه إِنَّمَا شرع (بِخِلَاف الْقيَاس لدفع الْغبن) أَي النَّقْص المتوهم فِي البيع عِنْد قلَّة التروي من البَائِع وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِيفَاء النّظر فِي مُدَّة الْخِيَار (لِأَن إِثْبَات ملك المَال لَا يحْتَمل الْخطر) تَعْلِيل لكَونه على خلاف الْقيَاس، يَعْنِي أَن البيع إِثْبَات لملك المَال لكَونه عِلّة لَهُ شرعا، وَإِثْبَات ملك المَال لَا يحْتَمل أَن يعلق بِمَا بَين أَن يكون وَأَن لَا يكون (لصيرورته) أَي لصيرورة الْإِثْبَات الْمَذْكُور أَن يعلق بِمَا بَين أَن يكون وَأَن لَا يكون ذكر (قمارا) فِي الْمَعْنى لمشاركته إِيَّاه فِي عِلّة الْحُرْمَة، وَهِي التَّعْلِيق على أَمر لَا يعلم وجوده وَعَدَمه (فَاكْتفى) فِي البيع بِشَرْط الْخِيَار (بِاعْتِبَارِهِ) أَي شَرط الْخِيَار (فِي الحكم) بِتَأْخِيرِهِ إِلَى أَن يُجِيز أَو يرد، وَلم يعْتَبر فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ البيع حذرا عَن صَيْرُورَته قمارا واحترازا عَن مُخَالفَة الْقيَاس بِغَيْر ضَرُورَة. قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَلقَائِل أَن يَقُول: الْقمَار مَا حرم لِمَعْنى الْخطر، بل بِاعْتِبَار تَعْلِيق الْملك بِمَا لم يَضَعهُ الشَّرْع سَببا للْملك، فَإِن الشَّارِع لم يضع ظُهُور الْعدَد الْفُلَانِيّ سَببا للْملك، والخطر طرد فِي ذَلِك لَا أثر لَهُ انْتهى وَمعنى كَون الْخطر طردا فِيهِ عدم تحَققه بِدُونِ الْخطر، نعلم أَنه حقق هُنَاكَ ومشي مَعَ الْقَوْم هُنَا، وَيُمكن أَن يُعلل بنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع وَشرط (وَالْحق أَنه) أَي اعْتِبَاره فِي الحكم دون السَّبَب ل (مُقْتَضى اللَّفْظ) أَي اللَّفْظ الدَّال على خِيَار الشَّرْط، وَهُوَ قَوْله على أَنِّي بِالْخِيَارِ(1/126)
سقط(1/127)
سقط(1/128)
كالتعليق الْمَانِع من انْعِقَاد السَّبَب الْمُعَلق بِالشّرطِ كَمَا عرفت، وَعدم الْمَانِع مَعَ وجود الْمُقْتَضى وَهُوَ التَّكَلُّم بِالسَّبَبِ بِلَا تَعْلِيق يقتضى تحَققه، غَايَة الْأَمر تَأْخِير الحكم الْمُسَبّب إِلَى وجود الْوَقْت الْمعِين الَّذِي هُوَ كَائِن لَا محَالة (إِذْ الزَّمَان من لَوَازِم الْوُجُود) الْخَارِجِي فالإضافة إِلَيْهِ إِضَافَة إِلَى مَا قطع بِوُجُودِهِ، وَفِي مثله مَا يكون الْغَرَض من الْإِضَافَة تَحْقِيق الْمُضَاف إِلَيْهِ (وَيرد) على القَوْل بِأَن الْيَمين إعدام مُوجب الْمُعَلق أَنه لَا يَصح على إِطْلَاقه بل (كَون الْيَمين توجب الإعدام) لما ذكر إِنَّمَا يَصح (فِي الْمَنْع) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الْمَقْصُود من الْيَمين الْمَنْع عَن إِيقَاع مَا عقدت للِاحْتِرَاز عَنهُ، و (أما) إِذا قصد بهَا (الْحمل) على الْإِثْبَات بِمَا عقدت لقصد تَحْصِيله (فَلَا) توجب الإعدام وَهُوَ ظَاهر (كَأَن بشرتني بقدوم وَلَدي فَأَنت حر) فَإِن غَرَض الْمُتَكَلّم فِيهِ حث عَبده على الْمُبَادرَة إِلَى الْبشَارَة (فَالْأولى) فِي التَّفْرِقَة بَين الْمُعَلق والمضاف، وَالْقَوْل بِأَن الأول يمْنَع السَّبَب عَن الِانْعِقَاد دون الثَّانِي أَن يُقَال (الْفرق) بَينهمَا حَاصِل (بالخطر وَعَدَمه) أَي بِأَن وجود الشَّرْط الْمُعَلق بِهِ السَّبَب على الْخطر فَهُوَ بَين أَن يُوجد، بِخِلَاف الْوَقْت الْمُضَاف إِلَيْهِ السَّبَب فَإِنَّهُ كَائِن لَا محَالة لما عرفت، وَإِذا كَانَ وجود الشَّيْء مشكوكا فِيهِ فانعقاده سَببا أولى بذلك، وَالْإِضَافَة إِلَى الْكَائِن لَا محَالة لَا تورث شكا فِي وجود الْمُضَاف: فَلَا يمنعهُ عَن الِانْعِقَاد شَيْء، لِأَن الأَصْل عدم مَانع آخر فَإِن قلت فِي الْإِضَافَة يثبت الحكم فِي الْمُسْتَقْبل إِذا بَقِي الْمحل، فَأَما إِذا لم يبْق فَلَا، فَكيف ينْعَقد الْمُضَاف سَببا مَعَ التَّرَدُّد فِي وجود مسببه بِسَبَب التَّرَدُّد فِي وجود مَحل ذَلِك الْمُسَبّب قلت الأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الْبَقَاء (ثمَّ) إِن الْفرق بالخطر وَعَدَمه (يَقْتَضِي كَون) أَنْت حر) (يَوْم يقدم فلَان كَانَ قدم) فلَان (فِي يَوْم) كَذَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْبناء على الْخطر، وَإِن سمي الأول إِضَافَة، وَالثَّانِي تَعْلِيقا، لِأَن الْعبْرَة بالمعاني، وَلَا فرق بَينهمَا معنى لتوقف الْحُرِّيَّة فِي كل مِنْهُمَا على مَا لَا يعم وجوده، لِأَن الْيَوْم الْمُقَيد بقدوم فلَان مَشْكُوك الْوُجُود بِاعْتِبَار قَيده (ويستلزم) أَيْضا (عدم جَوَاز التَّعْجِيل) بِالصَّدَقَةِ (فِيمَا لَو قَالَ عَليّ صَدَقَة يَوْم يقدم فلَان) أَي فِي صَدَقَة فرض إِيجَابهَا يَوْم قدوم فلَان فِي القَوْل الْمَذْكُور (وَإِن كَانَ) كل من القيدين متلبسا (بِصُورَة إِضَافَة) لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة بصورته بعد مَا ظهر عدم الْفرق بَينه وَبَين الْمُعَلق بِالشّرطِ فِي معنى الْخطر، وَهُوَ يسْتَلْزم عدم انْعِقَاد السَّبَب وَالْأَدَاء قبل انْعِقَاد السَّبَب غير جَائِز اتِّفَاقًا (و) كَذَا يسْتَلْزم (كَون إِذا جَاءَ غَد فَأَنت حر كإذا مت فَأَنت حر) فِي انْعِقَاد سَبَب الْحُرِّيَّة فِي كل مِنْهُمَا (لعدم الْخطر) الْمَانِع عَن الِانْعِقَاد (فَيمْتَنع بَيْعه قبل الْغَد كَمَا يمْتَنع) بَيْعه (قبل الْمَوْت لانعقاده) أَي انْعِقَاد إِذا جَاءَ غَد إِلَى آخِره كانعقاد أَنْت حر إِذا مت (سَببا فِي الْحَال) أَي بِمُجَرَّد التَّكَلُّم قبل مَجِيء الْغَد وَالْمَوْت (على مَا عرف)(1/129)
من أَن سَبَب الْحُرِّيَّة فِي الْمُدبر القَوْل الْمَذْكُور، لِأَنَّهَا تثبت بعد الْمَوْت، وَلَا ثُبُوت بِلَا سَبَب، وَلَا سَبَب غَيره، فإمَّا أَن يَجْعَل سَببا فِي الْحَال، أَو بعد الْمَوْت، وَلَا سَبِيل إِلَى الثَّانِي، لِأَن الْمَوْت سالب الْأَهْلِيَّة، وَسبب التَّصَرُّف لَا ينْعَقد إِلَّا من أَهله (لكِنهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (يجيزون بَيْعه قبل الْغَد، والأجوبة عَنهُ) أَي عَن الأشكال على الْفرق والخطر وَعَدَمه بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين (لَيست بِشَيْء) مِنْهَا كَون الْغَد كَائِنا لَا محَالة لجَوَاز قيام الْقِيَامَة قبله، ورد بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا كَانَ التَّعْلِيق بعد أَشْرَاط السَّاعَة، وَمِنْهَا أَن الْكَلَام فِي الْأَغْلَب فَيلْحق النَّادِر بِهِ، ورد بِأَنَّهُ اعْتِرَاف بالإيراد على أَن التَّعْلِيق بِمثل مَجِيء الْغَد وَرَأس الشَّهْر غير نَادِر إِلَى غير ذَلِك (وَقيل) فِي دفع مَا ذكر من استلزام الْفرق بالخطر وَعَدَمه المحذورات الْمَذْكُورَة (المُرَاد بِالسَّبَبِ فِي نَحْو قَوْلنَا الْمُعَلق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال) أَي فِي حَال التَّعْلِيق قبل وجود الْمُعَلق بِهِ (الْعلَّة) اعتبروا فِي حَقِيقَة الْعلَّة ثَلَاثَة أُمُور: إِضَافَة الحكم إِلَيْهَا كَمَا يُقَال قَتله بِالرَّمْي، وَعتق بِالشِّرَاءِ وَهلك بِالْجرْحِ، أَو كَونهَا مَوْضُوعَة لَهُ شرعا، وتأثيرها فِيهِ وحصوله مَعهَا فِي الزَّمَان، وَفِي حَقِيقَة السَّبَب أَن يكون طَرِيقا للْحكم من غير تَأْثِير وَمن غير أَن يُضَاف إِلَيْهِ وجوبا أَو وجودا وَيُطلق اسْم كل مِنْهُمَا عَن الآخر لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة (وَفِي الْمُضَاف السَّبَب المفضي) معطوفان بعطف وَاحِد على قَوْله فِي نَحْو قَوْلنَا، وَقَوله الْعلَّة على مَذْهَب الْأَخْفَش، أَو من عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة بِحَذْف الْمُبْتَدَأ مَعَ مَا يتَعَلَّق بِهِ: أَي المُرَاد بِالسَّبَبِ فِي قَوْلنَا الْمُضَاف سَبَب فِي الْحَال السَّبَب المفضي إِلَى الحكم من غير تَأْثِير (وَهُوَ) أَي السَّبَب المفضي (السَّبَب الْحَقِيقِيّ) اصْطِلَاحا كَمَا مر (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين إِذْ اخْتلف مورد النَّفْي وَالْإِثْبَات بِأَن نفى عَن السَّبَب الْمُعَلق السَّبَبِيَّة بِمَعْنى علية الْعلية، وَأثبت للمضاف بِمَعْنى الْإِفْضَاء على الْوَجْه الْمَذْكُور و (لَا خلاف) فِي الْمَعْنى بَين الْمُعَلق والمضاف بِاعْتِبَار النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَلَا يتَوَجَّه أَنه لَا فرق بَينهمَا فِي الِانْعِقَاد سَببا، وَعَدَمه فِيمَا إِذا كَانَ مَا بِهِ التَّقْيِيد أمرا كَائِنا لَا محَالة أَو مَشْكُوك الْوُجُود فَلم فرقتم بَينهمَا؟ لأَنا لم نفرق بَينهمَا، بل نَفينَا الْعلية عَن الْمُعَلق، وَلم نثبتها للمضاف، وأثبتنا الْإِفْضَاء للمضاف وَمَا نفيناه عَن الْمُعَلق (وَارْتَفَعت الاشكالات وَصدق أَن الْمُضَاف لَيْسَ سَببا أَيْضا فِي الْحَال) كَمَا أَن الْمُعَلق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال (بذلك الْمَعْنى) أَي بِمَعْنى الْعلَّة كَمَا عرفت (إِلَّا أَن اخْتِلَاف الْأَحْكَام حَيْثُ قَالُوا: الْمُضَاف سَبَب فِي الْحَال فَجَاز تَعْجِيله) أَي تَعْجِيل مُوجب حكمه إِذا كَانَ عبَادَة بدنية أَو مَالِيَّة أَو مركبة مِنْهُمَا كَمَا هُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله وَأبي يُوسُف، لِأَنَّهُ تَعْجِيل بعد وجود سَبَب الْوُجُوب، خلافًا لمُحَمد رَحمَه الله فِيمَا عدا الْمَالِيَّة، ولزفر فِي الْكل (وَالْمُعَلّق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال فَلَا يجوز تَعْجِيله بنفيه) خبران: أَي(1/130)
يَنْفِي كَون المُرَاد مَا ذكر لرفع الاشكالات، لِأَنَّهُ لَو لم يتحد مورد النَّفْي وَالْإِثْبَات لم يتَفَرَّع اخْتِلَافهمَا فِي جَوَاز التَّعْجِيل وَعَدَمه.
مسئلة
(من المفاهيم مَفْهُوم اللقب) هُوَ فِي اللُّغَة النبز، وَفِي اصْطِلَاح النُّحَاة قسم من الْعلم، والأعلام ثَلَاثَة اضْرِب: اسْم، وَهُوَ مَا لَا يقْصد بِهِ مدح وَلَا ذمّ كزيد، ولقب، وَهُوَ مَا يقْصد بِهِ أَحدهمَا كبطة وَقْفَة فِي الذَّم، ومصطفى ومرتضى فِي الْمَدْح، وكنية، وَهُوَ الْمصدر بِالْأَبِ أَو الْأُم أَو الابْن أَو الْبِنْت نَحْو أَبُو عَمْرو وَأم كُلْثُوم وَابْن آوى وَبنت وردان، وَالْمرَاد باللقب هَهُنَا مَا لَيْسَ بِصفة (نَفَاهُ) أَي مَفْهُوم اللقب (الْكل إِلَّا بعض الْحَنَابِلَة وشذوذا) ابْن خويز منداد من الْمَالِكِيَّة والدقاق والصيرفي وَأَبا حَامِد من الشَّافِعِيَّة (وَهُوَ) أَي مَفْهُوم اللقب (إِضَافَة نقيض حكم) أَي نِسْبَة نقيض حكم مُسَمّى (معبر عَنهُ) أَي عَن ذَلِك الْمُسَمّى الْمعبر عَنهُ (باسمه) حَال كَون ذَلِك الِاسْم (علما أَو جِنْسا إِلَى مَا سواهُ) مُتَعَلق بإضافته: أَي مَا سوى ذَلِك الْمُسَمّى الْمعبر عَنهُ باسمه، وَهُوَ الْمَسْكُوت عَنهُ على مَا عرفت فِي سَائِر المفاهيم، مثل فِي الْغنم زَكَاة، فتنفى عَن غير الْغنم (وَقد يُقَال الْعلم) بدل للقب لقَوْل الْحَنَفِيَّة التَّنْصِيص على الشَّيْء باسمه الْعلم لَا يدل على نفي الحكم (وَالْمرَاد الْأَعَمّ) أَي مَا يعم نوعيه: علم الشَّخْص، وَعلم الْجِنْس، وَاسم الْجِنْس وَهُوَ مَا لَيْسَ بِصفة (والمعول) فِي نَفْيه (عدم الْمُوجب) للمقول بِهِ كَمَا مر فِي نفي مَفْهُوم الْمُخَالفَة (وللزوم ظُهُور الْكفْر) مَعْطُوف على مَا فهم من السِّيَاق كَأَنَّهُ قَالَ نفوه لعدم الْمُوجب، وللزوم نفي ظُهُور الْكفْر، وَذكر الظُّهُور لِأَنَّهُ عِنْد الْقَائِل بِهِ ظَنِّي مَبْنِيّ على الظَّاهِر (من نَحْو مُحَمَّد رَسُول الله) لكَون مَفْهُومه على القَوْل بِهِ نفي رِسَالَة غَيره ظَاهرا، لَا نصا، لِأَن القَوْل بِهِ لَا يسْتَلْزم اعْتِبَاره فِي جَمِيع الْموَاد، بل إِذا لم يكن قرينَة صارفة، وَلُزُوم الْكفْر قرينَة غير أَن ظَاهر الْكَلَام قبل التَّأَمُّل يُفِيد ذَلِك على القَوْل بِهِ (وَفُلَان مَوْجُود) أَي وللزوم ظُهُور الْكفْر من نَحْو فلَان مَوْجُود: يَعْنِي نفي وجود الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ: أَي ظُهُور الْكفْر من نَحْوهمَا (وَهُوَ) مُنْتَفٍ) بالِاتِّفَاقِ قطعا، فَالْقَوْل بِهِ بَاطِل قطعا، قيل وَقع الْإِلْزَام بِهِ للدقاق فِي مجْلِس النّظر بِبَغْدَاد، قيل هَذَا إِذا لم يكن للتخصيص فَائِدَة أُخْرَى، لم لَا يجوز أَن يقْصد بِهِ الاخبار بذلك؟ وَلَا طَرِيق إِلَيْهِ سوى التَّصْرِيح بِالِاسْمِ، ورد بِأَنَّهُ اعْتِرَاف بانتفائه رَأْسا، لِأَن هَذِه الْفَائِدَة حَاصِلَة فِي جَمِيع الصُّور فَتَأمل (وَاسْتدلَّ) على نَفْيه (بِلُزُوم انْتِفَاء الْقيَاس) على تَقْدِير اعْتِبَاره، وانتفاؤه بَاطِل، وَذَلِكَ لِأَن النَّص الدَّال على حكم الأَصْل أَن تنَاول حكم الْفَرْع ثَبت(1/131)
الْأَخَص بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا فإمَّا أَن يدل بمفهومه اللقى على نفي الحكم عَن غير الْمَذْكُور أَولا، وعَلى الأول ينتفى الْقيَاس لاقْتِضَاء ثُبُوته للْغَيْر، وعَلى الثَّانِي يثبت الْمُدَّعِي، وَأَنت خَبِير بِأَن اللَّازِم انْتِفَاء الْقيَاس فِيمَا اعْتبر فِيهِ بِمَفْهُوم اللقب لَا مُطلقًا (وَالْجَوَاب) عَن الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور أَن الْقيَاس يستدعى مُسَاوَاة الْفَرْع للْأَصْل فِي عِلّة الحكم و (إِذا ظهر الْمُسَاوَاة قدم) الْقيَاس على الْمَفْهُوم اللقبى، إِذْ الْقَائِلُونَ بِهِ قَائِلُونَ بِتَقْدِيم الْقيَاس عَلَيْهِ (لزِيَادَة قوته) أَي الْقيَاس على الْمَفْهُوم اللقبى كَمَا إِذا ظهر أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت من الْمَنْطُوق فِي المناط، فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك لَا مَحل لمَفْهُوم الْمُخَالفَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أصلا لثُبُوت مَفْهُوم الْمُوَافقَة لَهُ (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِمَفْهُوم اللقب (لَو قَالَ) قَائِل (لمخاصمه لَيست أُمِّي زَانِيَة أَفَادَ) قَوْله هَذَا (نسبته) أَي الزِّنَا (إِلَى أمه) أَي أم المخاصم لتبادره إِلَى الْفَهم، وَلذَا قَالَ مَالك وَأحمد رحمهمَا الله تَعَالَى يجب الْحَد على الْقَائِل إِذا كَانَت عفيفة، وَلَوْلَا أَن تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ يدل على نَفْيه عَمَّا عداهُ لما تبادر إِلَى الْفَهم (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي التبادر الْمَذْكُور (بِقَرِينَة الْحَال) وَهُوَ الْخِصَام الَّذِي هُوَ مَظَنَّة الْأَذَى والتقبيح قلت وَلَوْلَا ذَلِك الْقَصْد لَكَانَ ذكر الْبَريَّة الْمَذْكُورَة أَجْنَبِيّا لَا يَلِيق بمقام الْخِصَام.
مسئلة
(النَّفْي فِي) الْكَلَام الْمُشْتَمل على (الْحصْر) الْمُسْتَفَاد (بإنما) نَحْو إِنَّمَا زيد قَائِم، وَإِنَّمَا الْعَالم زيد، وَإِمَّا ضرب زيد عمرا يَوْم الْجُمُعَة (لغير الآخر) أَي النَّفْي الْمَذْكُور مُخْتَصّ بِمَا يُقَابل الْجُزْء الآخر من الْكَلَام كالقيام وَزيد وَيَوْم الْجُمُعَة فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة، وَمَا يقابلها النَّفْي كالقعود وَعَمْرو وَيَوْم غير الْجُمُعَة (قيل) انفهام النَّفْي الْمَذْكُور (بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف قَائِله أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَجَمَاعَة (وَقيل بالمنطوق) وقائله القَاضِي أَبُو بكر وَالْغَزالِيّ (وَهُوَ الْأَرْجَح وَنسب للحنفية) أَي إِلَيْهِم كَقَوْلِه تَعَالَى - {لعادوا لما نهوا عَنهُ} - (عَدمه) أَي عدم النَّفْي الْمَذْكُور أَو الْحصْر (فَإِنَّمَا زيد قَائِم) لَا يُفِيد الْحصْر عِنْدهم بل هُوَ (كَأَنَّهُ قَائِم) أَي مثل أَن زيدا قَائِم فِي عدم الدّلَالَة على نفي غير الْقيام، وَكلمَة مَا زَائِدَة ألحقت بِأَن لمزيد التَّأْكِيد فَقَط، قيل وَهُوَ مُخْتَار الْآمِدِيّ، وَأبي حَيَّان، وَنسبه إِلَى الْبَصرِيين، وَنسبه إِلَى الْحَنَفِيَّة صَاحب البديع، وَتعقبه المُصَنّف رَحمَه الله بقوله (وَقد تكَرر مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (نسبته) أَي الْحصْر إِلَى إِنَّمَا كَمَا فِي كشف الْأَسْرَار وَالْكَافِي وجامع الْأَسْرَار وَغَيرهَا (وَأَيْضًا) يُؤَيّد ذَلِك أَنه (لم يجب أحد من الْحَنَفِيَّة بِمَنْع إفادتها) أَي إِنَّمَا للحصر (فِي(1/132)
الِاسْتِدْلَال بإنما الْأَعْمَال) بِالنِّيَّاتِ (على شَرط النِّيَّة فِي الْوضُوء) بِأَن الْوضُوء عمل وَلَا عمل إِلَّا بِالنِّيَّةِ، لِأَن كلمة إِنَّمَا تفِيد الْحصْر كَمَا وَإِلَّا، وَكلمَة على صلَة الِاسْتِدْلَال (بل) إِنَّمَا أجابوا (بِتَقْدِير الْكَمَال أَو الصِّحَّة) لِأَنَّهُ لَو لم يقدر مثل ذَلِك لم يَصح الْكَلَام للْقطع بِوُجُود الْعَمَل بِلَا نِيَّة كعمل الساهي، فَالْمُرَاد لَا كَمَال للأعمال أَو لَا صِحَة لَهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ وكمالها: أَي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الثَّوَاب إِن كَانَت من الْعِبَادَة أَو الْأَثر الْمَطْلُوب مِنْهَا إِن كَانَت من الْمُعَامَلَات (وَهُوَ) أَي تَقْدِير الْكَمَال أَو الصِّحَّة (الْحق) وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى أَن الْعُدُول عَن الْمَنْع الْمَذْكُور إِلَى التَّقْدِير فِي الْجَواب هُوَ الْحق ثمَّ أَنه أورد على تَقْدِير الصِّحَّة أَن نفي الْأَعْمَال مُطلقًا بِدُونِ النِّيَّة غير مُسلم، كَيفَ والضوء عِنْدهم يَصح بِدُونِهَا؟ فَأَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (وَلَا يَصح الْوضُوء عبَادَة إِلَّا بِالنِّيَّةِ) يَعْنِي المُرَاد من الْأَعْمَال الْعِبَادَات على اعْتِبَار تَقْدِير الصِّحَّة فَإِن قلت الْأَعْمَال جمع محلى بِاللَّامِ، وَهُوَ من صِيغ الْعُمُوم قلت الْعُمُوم لَيْسَ بِمُرَاد قطعا، لِأَن الْأَعْمَال العادية لَا مدْخل للنِّيَّة فِيهَا لَا سِيمَا السَّيِّئَات، ثمَّ بَين أَن الْوضُوء الَّذِي يتَوَقَّف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا هُوَ مُطلق الْوضُوء لَا الْمُقَيد بِوَصْف الْعِبَادَة بقوله (لَكِن منعُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (توقف صِحَة الصَّلَاة على وضوء هُوَ عبَادَة كباقي الشُّرُوط) كستر الْعَوْرَة وتطهير الثِّيَاب وَغير ذَلِك أَي لم يتَوَقَّف الصَّلَاة على وضوء هُوَ عبَادَة كَمَا لم يتَوَقَّف على ستر هُوَ عبَادَة، بل يتَوَقَّف على مُطلق السّتْر سَوَاء كَانَ عبَادَة بمقارنة النِّيَّة أَو لَا، قيل عدم مَنعهم لَيْسَ لتسليمهم إِفَادَة إِنَّمَا الْحصْر، بل لِأَن الْحصْر أَمر مُسلم لكَونه مستفادا من عُمُوم الْأَعْمَال بِاللَّامِ، فَالْمَعْنى كل عمل بنية، وَقد عرفت أَن الْعُمُوم لَيْسَ بِمُرَاد قطعا على أَن الْكَلَام فِي معرض التأييد لَا الْحجَّة، لِأَن الْمُسْتَند فِي قَول الْحَنَفِيَّة بالحصر إِنَّمَا هُوَ النَّقْل (لنا يفهم مِنْهُ الْمَجْمُوع) مُبْتَدأ وَخَبره نَحْو تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ تَقْدِيره فهم الْمَجْمُوع من النَّفْي وَالْإِثْبَات من إِنَّمَا حجَّة لنا (فَكَانَ) إِنَّمَا مَوْضُوعا (لَهُ) أَي للمجموع، لِأَن فهم الْمَعْنى من اللَّفْظ من غير احْتِيَاج إِلَى قرينَة دَلِيل الْوَضع (وَكَون النَّافِي الْمَعْهُود) إفادته النَّفْي (منتفيا) إِنَّمَا (لَا يسْتَلْزم نَفْيه) أَي نفي النَّفْي الَّذِي يتضمنه الْحصْر، أَو نفي الْفَهم الْمَذْكُور، جَوَاب سُؤال تَقْدِيره دلَالَة إِنَّمَا على النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء غير مُسْتَقِيم، لِأَن الْمَوْضُوع الْمَعْهُود للنَّفْي كلمة لَا وَنَحْوهَا لَا إِنَّمَا، (لِأَن مُوجب الِانْتِقَال) بِكَسْر الْجِيم (الْوَضع) خبران: أَي وضع لفظ بل وضع لشَيْء مَعَ الْعلم بِالْوَضْعِ (لَا) الْوَضع (بِشَرْط لفظ خَاص) كَمَا وَلَا وَحَتَّى إِذا لم يُوجد لم يُوجد الِانْتِقَال (وَكَون فهمه) أَي الْمَجْمُوع من النَّفْي وَالْإِثْبَات من إِنَّمَا (لَا يستلزمه) أَي وَضعهَا لَهُ (لجوازه) أَي فهمه (بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف (لَا يَنْفِي الظُّهُور) خبر الْمُبْتَدَأ: يَعْنِي أَن جَوَاز انفهامه(1/133)
بطرِيق الْمَفْهُوم احْتِمَالا فَلَا ينفى ظُهُور منطوقيته الْمُسْتَفَاد من تبادره إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع كلمة إِنَّمَا (وَلَو ثَبت) فهمه بِالْمَفْهُومِ (كَانَ) ذَلِك الْفَهم (بِمَفْهُوم اللقب) لعدم احْتِمَال غَيره من المفاهيم وَهُوَ ظَاهر (وَهُوَ) أَي مَفْهُوم اللقب (منفي) بِاتِّفَاق الْجُمْهُور. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ النَّفْي مَفْهُوم لَا مَنْطُوق، وَيدل عَلَيْهِ أَمَارَات مثل جَوَاز: إِنَّمَا زيد قَائِم لَا قَاعد بِخِلَاف مَا زيد إِلَّا قَائِم لَا قَاعد، وَإِن صَرِيح النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء يسْتَعْمل عِنْد إِصْرَار الْمُخَاطب على الْإِنْكَار بِخِلَاف إِنَّمَا انْتهى، وَصرح الشَّيْخ عبد القاهر، وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ أَنه لَا يحسن الْجمع بَين لَا العاطفة وَبَين النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء لَا نفي الصِّحَّة وتصريح السكاكي بِعَدَمِ الصِّحَّة متعقب، وَفِي الْكَشَّاف فِي قَوْله تَعَالَى - {زين للنَّاس} - الْآيَة: أَي المزين لَهُم حبه مَا هُوَ إِلَّا الشَّهَوَات لَا غير، وَأما اسْتِعْمَال صَرِيح النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء عِنْد الْإِصْرَار دون إِنَّمَا فَلِأَن من يُخَاطب الْمصر عَلَيْهِ يخْتَار مَا يدل على دَفعه قطعا، وَنحن نعترف بِأَن دلَالَة إِنَّمَا عَلَيْهِ ظنية، وَإِلَّا لما وَقع الْخلاف فِي إفادتها ذَلِك (وَأما الْحصْر) الْمُسْتَفَاد (بِاللَّامِ) الاستغراقية المفيدة (للْعُمُوم) أَي عُمُوم الْجِنْس الَّذِي دخلت عَلَيْهِ، وَهُوَ أحد جزئي الْكَلَام (و) الْجُزْء (الآخر أخص) حَال عَن اللَّام أَو الْعُمُوم: أَي وَالْحَال أَن الْجُزْء الآخر أخص من الْمحلي بِاللَّامِ (كالعالم وَالرجل زيد) فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا دخله اللَّام للْعُمُوم والجزء الآخر هُوَ زيد أخص مِنْهُ مُطلقًا (تقدم أَو تَأَخّر) حَال أُخْرَى عَن الْمَذْكُور وَالضَّمِير للْآخر (فَلَا يَنْبَغِي أَن يخْتَلف فِيهِ) جَوَاب أما، وَالضَّمِير الْمَجْرُور للحصر (وَلَو نفي الْمَفْهُوم) كلمة لَو وصلية، أَشَارَ إِلَى مَا قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ من أَن كَون هَذَا الْحصْر مفهوما لَا منطوقا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يَقع فِيهِ خلاف للْقطع بِأَنَّهُ لَا نطق بِالنَّفْيِ أصلا وَحَاصِل تَحْقِيق الرضي فِي هَذَا الْمقَام أَن تقدم الْوَصْف مُبْتَدأ على الْمَوْصُوف والأخص خَبرا لَهُ يُفِيد قصره على الْمَوْصُوف للعدول عَن التَّرْتِيب الطبيعي: وَهُوَ تقدم الذَّات على الْوَصْف، وَلِأَن المُرَاد بالعالم وصديقي هُوَ الْجِنْس بَاقِيا على عُمُومه لعدم قرينَة الْعَهْد، وَالْحكم بالاتحاد بَين الْجِنْس الْمُسْتَغْرق وَزيد إِنَّمَا يكون بادعاء انحصاره فِيهِ بتنزيل مَا عداهُ منزلَة الْعَدَم انْتهى، وَهَذَا يدل على أَن الْحصْر يفِيدهُ فِي صُورَة تَقْدِيم الْوَصْف فَقَط، وَصرح الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِأَن إِفَادَة الْحصْر عِنْد كَون الْمُبْتَدَأ مُعَرفا ظَاهرا فِي الْعُمُوم صفة كَانَت أَو اسْم جنس، وَكَون خَبره مَا هُوَ أخص مِنْهُ هما لَا خلاف فِيهِ بَين عُلَمَاء الْمعَانِي تمسكا بِاسْتِعْمَال الفصحاء، وَلَا خلاف فِي عَكسه أَيْضا غير أَن القَاضِي عضد الدّين ذكر أَن الْوَصْف إِذا وَقع مُسْندًا إِلَيْهِ قصد بِهِ الذَّات الموصوفة بِهِ، وَإِذا وَقع مُسْندًا قصد بِهِ ذَات مَا مَوْصُوفَة بِهِ وَهُوَ عَارض الأول انْتهى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ على الأول يُرَاد بِهِ الذَّات الموصوفة بِالْوَصْفِ العنواني، وعَلى الثَّانِي يُرَاد بِهِ مَفْهُوم ذَات مَا مَوْصُوفَة بذلك الْوَصْف(1/134)
وَهَذَا غارض للذات الْمَخْصُوصَة، واتحاد زيد مَعَ الذَّات الموصوفة يُفِيد الْحصْر بِخِلَاف اتحاده مَعَ عَارضه، فَإِنَّهُ لَا يمْتَنع اشْتِرَاك المعروضات فِيهِ، واتحاد كل مِنْهُمَا بِحِصَّة مِنْهُ، كَذَا أَفَادَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، ثمَّ قَالَ وَالْحق أَن مَا ذكره فِي الْوَصْف النكرَة مثل زيد عَالم دون زيد الْعَالم، فَإِن مَعْنَاهُ الذَّات الموصوفة فَردا أَو جِنْسا كَمَا فِي الْعَالم زيد، فَيكون عدم الْفرق ضَرُورِيًّا هَذَا، وَكَلَام المُصَنّف رَحمَه الله مشْعر بِأَن الْحصْر الْمُسْتَفَاد فِيهِ اتِّفَاقًا لَيْسَ بطرِيق الْمَفْهُوم، بل هُوَ مُسْتَفَاد من خُصُوصِيَّة الْهَيْئَة الْحَاصِلَة من الْمُبْتَدَأ الْمُعَرّف بِاللَّامِ الظَّاهِر فِي الْعُمُوم مَعَ أخصية الْخَبَر حَقِيقَة أَو مجَازًا عرفيا، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى لَا خلاف فِي ثُبُوت الْمَفْهُوم فِي هَذِه الصُّور وَإِن نفى فِي غَيرهَا وَالله أعلم (بِخِلَاف صديقي زيد إِذا أخر) صديقي نَحْو زيد صديقي (لانْتِفَاء عُمُومه) أَي عُمُوم صديقي، لِأَن عُمُومه إِنَّمَا كَانَ عِنْد التَّقْدِيم للعدول عَن التَّرْتِيب الطبيعي كَمَا ذكره القَاضِي، وَقد عرفت مَا حَقَّقَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (ويندرج) الْحصْر الْمَذْكُور (فِي بَيَان الضَّرُورَة عِنْد الْحَنَفِيَّة) فَإِن قلت قد صرح بِأَن أَقسَام بَيَان الضَّرُورَة كلهَا دلَالَة سكُوت، وَقَوله (إِذْ ثُبُوت الْجِنْس) الثَّابِت (برمتِهِ) أَي بجملته (لوَاحِد) بِحَيْثُ لَا يُوجد فِي غَيره حِصَّة مِنْهُ (بِالضَّرُورَةِ ينتفى عَن غَيره) يدل على أَنه أَمر مَدْلُول أَمر لَفْظِي هُوَ ثُبُوت الْجِنْس إِلَى آخِره قلت الْحصْر الْمَذْكُور مركب من جزءين: إِثْبَات وَنفي، وَاللَّفْظ نَاطِق بِالْأولِ فَقَط، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله ثُبُوت الْجِنْس برمتِهِ لوَاحِد، وَالثَّانِي يثبت لضَرُورَة اتِّحَاد الْجِنْس بجملته مَعَه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله بِالضَّرُورَةِ ينتفى عَن غَيره، فالدال عَلَيْهِ أَمر معنوي: أَعنِي كَون الْجِنْس برمتِهِ للْوَاحِد بَقِي أَن كَونه دلَالَة سكُوت يَقْتَضِي أَن يكون للمسكوت مدْخل فِيهَا، وَهُوَ غير ظَاهر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال: إِن قَوْلنَا الْعَالم زيد إِنَّمَا يدل على الْحصْر لسكوت الْمُتَكَلّم عَن ذكر غير زيد مَعَه، وَعند ذَلِك يتَحَقَّق ثُبُوت الْجِنْس برمتِهِ لزيد، وَيرد عَلَيْهِ أَنكُمْ حكمتم فِي آيَة للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين بِأَن دلالتها على زَوَال ملك المُهَاجر إِشَارَة، وَكَذَا فِي جَوَاز الإصباح جنبا فِي آيَة - {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} - وَلَا فرق بَين الْحصْر الْمَذْكُور وَبَينهمَا، وَيُمكن أَن يفرق بمدخلية السُّكُوت وَعدمهَا فَتَأمل، وَقَوله ثُبُوت الْجِنْس مُبْتَدأ خَبره ينتفى، وبرمته حَال عَن الْجِنْس، وبالضرورة مُتَعَلق بينتفى، وَيُمكن أَن يَجْعَل جملتين بِأَن يكون لوَاحِد خبر ثُبُوت الْجِنْس، وَضمير ينتفى للْجِنْس، واختلافهما اسمية وفعلية اقْتضى الْفَصْل، وَفِيه بعد (وتكرر من الْحَنَفِيَّة مثله) أَي مثل القَوْل بالحصر الْمَذْكُور مِنْهَا (فِي نفي الْيَمين عَن الْمُدَّعِي بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالْيَمِين على من أنكر) فِي الْهِدَايَة جعل جنس الْإِيمَان على المنكرين، وَلَيْسَ وَرَاء الْجِنْس شَيْء انْتهى (وَغَيره) أَي وَفِي غير نفي الْيَمين (والتشكيك) فِي إِفَادَة نَحْو الْعَالم زيد الْحصْر (بتجويز كَونه) أَي الْجِنْس (لوَاحِد) كزيد(1/135)
(وَلآخر) كعمرو وَعدم كَونه برمتِهِ لوَاحِد (غير مَقْبُول) بعد التَّمَسُّك بِاسْتِعْمَال الفصحاء (وَقد حكى نَفْيه) أَي نفي الْحصْر الْمَذْكُور (وإثباته مفهوما ومنطوقا) فَهَذِهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب (واستبعد) إثْبَاته منطوقا (لعدم النُّطْق بالنافي) أَي إِنَّمَا يدل على نفي الْعلم عَن غير زيد مثلا (وَعلمت فِي إِنَّمَا أَن لَا أثر لَهُ) أَي لعدم النُّطْق بالنافي الْمَعْهُود كَمَا وَلَا بعد وجود مُوجب الِانْتِقَال من وضع إِنَّمَا لمجموع النَّفْي وَالْإِثْبَات (بل وَجهه) أَي وَجه هَذَا الاستبعاد (عدم لفظ يتَبَادَر مِنْهُ) النَّفْي أَو الْمَجْمُوع بِاعْتِبَارِهِ (لِأَن اللَّام) فِي الْعَالم زيد (للْعُمُوم) وشمول اللَّفْظ بِجَمِيعِ أَفْرَاد الْمُسَمّى (فَقَط) فَلَيْسَ النَّفْي جُزْء مفهومها، لكنه يلْزم لما ذكره بقوله (فَإِنَّمَا يثبت) النَّفْي عَن الْغَيْر حَال كَونه (لَازِما لإثباته) أَي إِثْبَات الْجِنْس برمتِهِ لوَاحِد، أَو لإِثْبَات النَّفْي الْمَذْكُور وَالْإِضَافَة بِأَدْنَى مُلَابسَة (بِخِلَاف إِنَّمَا) فَإِنَّهُ يتَبَادَر مِنْهُ النَّفْي كالإثبات (وَمَا نسب إِلَى المنطقيين من جعلهم إِيَّاه) أَي ذَا اللَّام الَّتِي للْعُمُوم (جزئيا) أَي غير مُسْتَغْرق لأفراده لعدم اعتبارهم اللَّام سور الْكُلية (يَنْفِيه) خبر الْمَوْصُول، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب لَهُ، وَالْمَرْفُوع قَوْله (مَا حقق) فِي الْمنطق (من أَن السُّور مَا دلّ على كمية) أَفْرَاد (الْمَوْضُوع) كلا أَو بَعْضًا، وَلَا شكّ أَن اللَّام تدل (فذو اللَّام مسور بسور الْكُلية) فَهِيَ كلفظة كل.
التَّقْسِيم الثَّانِي
من التقسيمات الْمَذْكُورَة فِي عنوان هَذَا الْفَصْل (بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته) أَي اللَّفْظ الْمُفْرد ومراتبها فِي الظُّهُور (إِلَى ظَاهر وَنَصّ ومفسر ومحكم) مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره التَّقْسِيم الثَّانِي تَقْسِيم اللَّفْظ بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته إِلَى ظَاهر وَكَذَا وَكَذَا (فمتأخروا الْحَنَفِيَّة) أَي فَقَالَ متأخروهم (مَا ظهر مَعْنَاهُ الوضعي) قد عرفت أَن الوضعي مَا للوضع مدْخل فِيهِ، فَدخل الْمَعْنى الْمجَازِي أَيْضا (بِمُجَرَّدِهِ) أَي ظهر وَفهم من غير خَفَاء بِمُجَرَّد سَماع اللَّفْظ، ظَاهر هَذِه الْعبارَة خُرُوج الْمجَاز، لِأَن ظُهُور مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ لَا بِمُجَرَّد اللَّفْظ، لَكِن لَا يجوز أَن يكون المُرَاد بِمُجَرَّد اللَّفْظ مَعَ مَا لَا بُد مِنْهُ فِي دلَالَته من غير احْتِيَاج إِلَى أَمر مُسْتَقْبل من كَلَام أَو دَلِيل عَقْلِي، وَأما الْقَرِينَة فَهِيَ كَالْعلمِ بِالْوَضْعِ فِي فهم الْمَوْضُوع لَهُ من اللَّفْظ. قَالَ ابْن الْحَاجِب: مَا دلّ دلَالَة ظنية، أما بِالْوَضْعِ كالأسد، أَو بِالْعرْفِ كالغائط انْتهى، وَفسّر القَاضِي مُرَاده بقوله كالأسد للحيوان، وَأما بعرف الِاسْتِعْمَال كالغائط للْخَارِج المستقذر، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ هَهُنَا: وَظَاهر كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله أَن قَوْلنَا إِمَّا بِالْوَضْعِ أَو بِالْعرْفِ من تَمام الْحَد احْتِرَازًا بِهِ عَن الْمجَاز، وَبِه صرح الْآمِدِيّ(1/136)
رَحمَه الله (مُحْتملا) لغير مَعْنَاهُ الظَّاهِر احْتِمَالا مرجوحا (إِن لم يسق) الْكَلَام (لَهُ) أَي لمعناه (أَي لَيْسَ) مَعْنَاهُ (الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ من اسْتِعْمَاله) فاسم لَيْسَ ضمير الْمَعْنى وَخَبره الْمَقْصد، قَيده بالأصلي لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد نفى كَونه مَقْصُودا مُطلقًا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُود بقوله كَمَا سنذكر عِنْد تَعْمِيم الْمَقْصد الْأَصْلِيّ وَغَيره فِي عبارَة المُصَنّف رَحمَه الله (فَهُوَ) أَي اللَّفْظ (بِهَذَا الِاعْتِبَار) أَي بِاعْتِبَار ظُهُور مَعْنَاهُ الوضعي بِمُجَرَّدِهِ إِلَى آخِره (الظَّاهِر) أَي يُسمى بِهِ، وَوجه التَّسْمِيَة ظَاهر (وَبِاعْتِبَار ظُهُور مَا سيق لَهُ مَعَ احْتِمَال التَّخْصِيص والتأويل النَّص) احْتِمَال التَّخْصِيص فِيمَا إِذا كَانَ عَاما، وَأما التَّأْوِيل فَهُوَ يتَحَقَّق فِي الْعَام وَالْخَاص فَلَا وَجه لتخصيص الشَّارِح إِيَّاه بالخاص، والتأويل من أولت الشَّيْء صرفته ورجعته، وَهُوَ اعْتِبَار دَلِيل يصير الْمَعْنى بِهِ أغلب على الظَّن من الْمَعْنى الظَّاهِر، وَالنَّص من نصصت الشَّيْء رفعته، سمى بِهِ لارتفاعه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِر (وَيُقَال) النَّص (أَيْضا لكل) شَيْء (سَمْعِي) أَي لكل لفظ سمع من الشَّارِع سَوَاء كَانَ ظَاهرا أَولا (وَمَعَ عدم احْتِمَاله غير النّسخ الْمُفَسّر) التَّفْسِير مُبَالغَة الفسر: وَهُوَ الْكَشْف، فيراد بِهِ كشف لَا شُبْهَة فِيهِ، وَلِهَذَا يحرم التَّفْسِير بِالرَّأْيِ دون التَّأْوِيل لِأَنَّهُ الظَّن بالمراد، وَحمل الْكَلَام على غير الظَّاهِر بِلَا جزم فيقبله الظَّاهِر وَالنَّص، لِأَن الظَّاهِر يحْتَمل غير المُرَاد احْتِمَالا بَعيدا، وَالنَّص يحْتَملهُ احْتِمَالا أبعد دون الْمُفَسّر، لِأَنَّهُ لَا يحْتَملهُ أصلا: غير أَنه يحْتَمل أَن ينْسَخ (وَيُقَال) الْمُفَسّر (أَيْضا ل) كل (مَا بَين) المُرَاد مِنْهُ (بقطعي مِمَّا فِيهِ خَفَاء من الْأَقْسَام الْآتِيَة) للفظ بِاعْتِبَار خَفَاء مَعْنَاهُ الوضعي، والمشكل مَا عدا الْمُتَشَابه مِنْهَا كَمَا هُوَ الْمُخْتَار من أَن الْمُتَشَابه لَا يلْحقهُ الْبَيَان فِي هَذِه الدَّار، وَهُوَ الْخَفي والمشكل والمجمل وَاعْترض الشَّارِح على المُصَنّف بِمَا حَاصله أَن كَلَام المُصَنّف يدل على أَن بَين الْمَعْنيين عُمُوما من وَجه لاجتماعهما فِيمَا لَا يحْتَمل إِلَّا النّسخ، وَقد كَانَ لَهُ خَفَاء أزيل بقطعي، وافتراق الأول عَن الثَّانِي فِي غير مُحْتَمل لم يكن لَهُ خَفَاء أزيل بقطعي: وَهُوَ يحْتَمل غير النّسخ، وَكَلَام فَخر الْإِسْلَام على خِلَافه حَيْثُ قَالَ: وَأما الْمُفَسّر فَمَا ازْدَادَ وضوحا على النَّص: سَوَاء كَانَ بِمَعْنى فِي النَّص أَو بِغَيْرِهِ بِأَن كَانَ مُجملا فَلحقه بَيَان قَاطع فانسد بَاب التَّأْوِيل والتخصيص انْتهى، لِأَنَّهُ يدل على أَن لَهُ معنى وَاحِدًا يعم مَا لَا يحْتَمل من الأَصْل، وَمَا لَا يحْتَمل بعد الْبَيَان، وَكَذَا يدل على خِلَافه على مَا فِي الْمِيزَان من أَن الْمُفَسّر كَمَا يَقع على مَا كَانَ مَكْشُوف المُرَاد من الأَصْل بِأَن لَا يحْتَمل إِلَّا وَجها وَاحِدًا يَقع على الْمُشْتَرك والمشكل والمجمل الَّذِي صَار مُرَاد الْمُتَكَلّم مِنْهُ مَعْلُوما للسامع بِوَاسِطَة انْقِطَاع الِاحْتِمَال والإشكال انْتهى وَأَنت خَبِير بِأَن المُصَنّف رَحمَه الله لم يُصَرح بِالنِّسْبَةِ بَين الْمَعْنيين، وَكَلَام الْمَتْن مُوَافق لما فِي الْمِيزَان، فَإِنَّهُ وَإِن لم يُصَرح بِكَوْنِهِ مَكْشُوف المُرَاد من الأَصْل، لكنه يفهم من قرينَة التقابل وَكَونه من أَقسَام ظَاهر(1/137)
الدّلَالَة، وَلَا مَحْظُور فِي أَن يُخَالف فَخر الْإِسْلَام إِذا وَافق غَيره على أَنه يجوز أَن فَخر الْإِسْلَام لما رأى أَن لفظ الْمُفَسّر يسْتَعْمل تَارَة فِي هَذَا، وَتارَة فِي ذَاك جعله بِإِزَاءِ مَا يعمهما اصْطِلَاحا مِنْهُ وَلَا مشاحه فِيهِ (وان) بَين المُرَاد بِمَا فِيهِ خَفَاء من الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة (بظني) كَخَبَر الْوَاحِد وَبَعض الأقيسة (فمؤول) ذكره تَقْرِيبًا وتتميما لبَيَان مَا بَين مِنْهُ المُرَاد (وَمَعَ عَدمه) أَي عدم اعْتِبَار ظُهُور مَا سيق لَهُ مَعَ عدم احْتِمَال غير النّسخ وَمَعَ عدم احْتِمَاله، وَيفهم هَذَا من سِيَاق الترقي من الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَيحْتَمل أَن يرجع ضمير عَدمه إِلَى مُطلق الِاحْتِمَال، وبنفي الْمُطلق يحصل الْمَقْصُود (فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَيده بذلك الزَّمَان، لِأَن احْتِمَاله لَا يتَصَوَّر بعد مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لانْقِطَاع الْوَحْي، فَجَمِيع السمعيات مُتَسَاوِيَة فِي عدم احْتِمَاله كَمَا سَيذكرُهُ (الْمُحكم) وَلَا يخفى وَجه التَّسْمِيَة وَهُوَ (حَقِيقَة عرفية) مُخْتَصَّة بالأصوليين (فِي الْمُحكم لنَفسِهِ) وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل النّسخ لَا فِي زَمَانه وَلَا فِي غَيره: كالآيات الدَّالَّة على وجود الصَّانِع ووحدانيته وَسَائِر صِفَاته، وعَلى الْأَخْبَار عَمَّا كَانَ أَو سَيكون عِنْد الْجُمْهُور لِامْتِنَاع التَّغَيُّر فِي مدلولاتها وَلُزُوم الْكَذِب (وَالْكل) من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا من السمعيات (بعده) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مُحكم لغيره) وَهُوَ انْقِطَاع الْوَحْي فَإِن قلت قَوْله الْكل يَشْمَل الْمُحكم لنَفسِهِ أَيْضا قلت فليشمل، غَايَة الْأَمر لُزُوم كَونه محكما لنَفسِهِ وَغَيره (يلْزمه) أَي لفظ الْمُحكم عِنْد إِطْلَاقه على الْمُحكم لغيره أَو يلْزم الْمُحكم لغيره عِنْد إِطْلَاق لفظ الْمُحكم عَلَيْهِ (التَّقْيِيد) بِقَيْد لغيره (عرفا) أصوليا تمييزا بَين الصِّنْفَيْنِ فِي اللَّفْظ بعد اشتراكهما فِي الْمَعْنى اللّغَوِيّ: وَهُوَ الإتقان والإحكام الْمنَافِي للتغيير والتبديل وَإِنَّمَا لزم التَّقْيِيد فِي الثَّانِي، لِأَن الأول أكمل فِي معنى الإحكام فَيَنْصَرِف الْمُطلق إِلَيْهِ، ثمَّ قبل زِيَادَة الوضوح فِي النَّص على الظَّاهِر بِكَوْنِهِ مسوقا لَهُ، وَفِي الْمُفَسّر بِكَوْنِهِ لَا يحْتَمل التَّأْوِيل والتخصيص، وَأما فِي الْمُحكم فَغير ظَاهر، لِأَن عدم احْتِمَال النّسخ لَا يُؤثر فِي زِيَادَة الوضوح فِي النَّص على الظَّاهِر بِكَوْنِهِ، وَأجِيب بِأَن المُرَاد بِزِيَادَة الوضوح فِيهِ لازمها وَهُوَ زِيَادَة الْقُوَّة، ثمَّ إِذا كَانَت الْأَقْسَام متمايزة بقيود متباينة (فَهِيَ متباينة) هَذَا على مَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْمُتَأَخِّرين، فَيشْتَرط فِي الظَّاهِر عدم السُّوق، وَفِي النَّص احْتِمَال التَّخْصِيص والتأويل: أَي أَحدهمَا، وَفِي الْمُفَسّر احْتِمَال النّسخ، وَأما مُقْتَضى كَلَام الْمُتَقَدِّمين فَهُوَ أَن الْمُعْتَبر فِي الظَّاهِر ظُهُور المُرَاد سَوَاء سيق لَهُ أَولا، وَفِي النَّص السُّوق احْتمل أَولا، وَفِي الْمُفَسّر عدم احتمالهما احْتمل النّسخ أَولا على مَا سَيَجِيءُ (وَلَا يمْتَنع الِاجْتِمَاع) أَي اجْتِمَاع قسمَيْنِ مِنْهَا فَأكْثر (فِي لفظ) وَاحِد (بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سيق إِلَيْهِ وَعَدَمه) عطف على الْمَوْصُول وَالضَّمِير لَهُ، فَالْمُرَاد بِعَدَمِهِ مَا لم يسق لَهُ من بَاب ذكر اللَّازِم وَإِرَادَة الْمَلْزُوم مَعَ ظُهُور الْقَرِينَة، وَيجوز أَن يكون عَدمه على صِيغَة الْمَاضِي، من(1/138)
قَوْلهم عَدمه إِذا لم يجده، فَيكون مَعْطُوفًا على صلَة الْمَوْصُول، وَالضَّمِير للسوق فَتدبر وَلَا تدافع بَين إِمْكَان الِاجْتِمَاع وَلُزُوم التباين بَين الْأَقْسَام، لِأَن ذَلِك بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْوَاحِد، وَهَذَا بِاعْتِبَار الْمَعْنيين (كَمَا تفيده الْمثل، {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} بدل الْبَعْض من الْمثل بِغَيْر عَائِد إِلَى الْمُبدل للْعلم الْوَاضِح ببعضيته مِنْهَا (ظَاهر) أَي النَّص الْمَذْكُور ظَاهر (فِي الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم إِذا لم يسق لذَلِك) أَي الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم (نَص) خبر بعد خبر (بِاعْتِبَار) معنى مَفْهُوم مِنْهُ (خَارج) عَن منطوقه (هُوَ) أَي ذَلِك الْخَارِج (رد تسويتهم) المفهومة من قَوْلهم إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا، فَمَا وضع لَهُ اللَّفْظ غير مسوق لَهُ ولازمه الْمَدْلُول التزاما هُوَ المسوق لَهُ {فانكحوا مَا طَابَ لكم} الْآيَة) أَي مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع (ظَاهر فِي الْحل) أَي فِي حل أصل النِّكَاح، لِأَن الْأَمر للْإِبَاحَة (نَص بِاعْتِبَار) معنى (خَارج) عَن الْمُسَمّى (هُوَ قصره) أَي النِّكَاح أَو التناكح (على الْعدَد) الْمَذْكُور (إِذْ السُّوق لَهُ) أَي الْعدَد أَو الْقصر عَلَيْهِ، إِذْ الْحل قد كَانَ مَعْلُوما قبل نُزُولهَا، يُؤَيّد ذَلِك ذكره بعد خوف الْجور، وَترك الْعدْل فِي الْيَتَامَى الْمَدْلُول بقوله تَعَالَى - {وَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} -، فَكَأَنَّهُ يَقُول: اتْرُكُوا زواج الْيَتَامَى عِنْد خوف ذَلِك، فَإِن لكم سَعَة فِي غَيْرهنَّ إِلَى هَذَا الْحَد (فيجتمعان) أَي القسمان كَالظَّاهِرِ، وَالنَّص (دلَالَة) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْفِعْل إِلَى فَاعله، يَعْنِي اجْتِمَاع الدلالتين كَيفَ، وَإِلَّا فالدال وَاحِد لَا يتَصَوَّر فِيهِ الِاجْتِمَاع إِلَّا باعتبارها (ثمَّ الْقَرِينَة تعين المُرَاد بِالسوقِ) فَلَا يشْتَبه على الْمُخَاطب بِسَبَب اجْتِمَاع الدلالتين (وَهُوَ) أَي المُرَاد بِالسوقِ الْمَدْلُول (الالتزامي) فِيمَا تقدم من المثالين (فيراد) الْمَعْنى (الآخر) الَّذِي هُوَ ملزوم ذَلِك الالتزامي معنى (حَقِيقِيًّا) للفظ لكَونه مُسَمَّاهُ (لَا) يُرَاد معنى (أَصْلِيًّا) مَقْصُودا بِالسوقِ (أَعنِي) بِالْآخرِ الْحَقِيقِيّ الْمَعْنى (الظَّاهِرِيّ، وَيصير الْمَعْنى النصي مدلولا التزاميا لمجموع الظاهرين) فِي قَوْله تَعَالَى - {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} -، فَعلم أَن النَّص قد يكون مركبا من جملتين، فَلَا يَنْبَغِي تَقْيِيد الْمقسم بالأفراد (وَمِثَال انْفِرَاد النَّص) عَن الظَّاهِر قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} لكَون مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ هُوَ المسوق لَهُ واحتماله التَّخْصِيص بِمَا عدا الصّبيان والمجانين (وكل لفظ سيق لمفهومه) الْحَقِيقِيّ الْمُحْتَمل للتخصيص أَو التَّأْوِيل الظَّاهِر مُرَاده بِمُجَرَّدِهِ مَعْطُوف على خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي يَا أَيهَا النَّاس إِلَى آخِره و (أما الظَّاهِر فَلَا ينْفَرد) عَن النَّص (إِذْ لَا بُد) فِي كل أَمر تحقق فِيهِ ظَاهر (من أَن يساق اللَّفْظ لغَرَض) وَيمْتَنع خلو الْكَلَام عَن مَقْصُود أُصَلِّي يساق لَهُ، فَإِن كَانَ مُسَمَّاهُ لم يكن هُنَاكَ غير النَّص، وَإِن كَانَ غَيره لم ينْفَرد الظَّاهِر عَنهُ (ومثلوا) أَي الْمُتَأَخّرُونَ (الْمُفَسّر كالمتقدمين) أَي كَمَا مثل المتقدمون بقوله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة} الْآيَة، ويلزمهم) أَي(1/139)
الْمُتَأَخِّرين على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من اعْتِبَار التباين بَين الْأَقْسَام، وَاحْتِمَال النّسخ فِي الْمُفَسّر (أَن لَا يَصح) تمثيلهم هَذَا (لعدم احْتِمَال النّسخ) لكَونه من الْأَخْبَار (وثبوته) أَي احْتِمَال النّسخ (مُعْتَبر) فِي الْمُفَسّر (للتباين) الْمُعْتَبر بَين الْأَقْسَام على رَأْيهمْ (فَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْمُفَسّر) أَي تحَققه بعد احْتِمَال النّسخ فِيهِ (فِي مُفِيد حكم) أَي فِي لفظ يُفِيد حكما شَرْعِيًّا ليمكن نسخه (بِخِلَاف الْمُحكم) فَإِنَّهُ يتَحَقَّق فِي الْأَخْبَار أَيْضا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَالله بِكُل شَيْء عليم} ، لِأَنَّهُ) أَي شَرط الْمُحكم بِتَقْدِير الْمُضَاف (نَفْيه) أَي نفي الِاحْتِمَال النّسخ، وَالنَّفْي مُتَحَقق فِي الْأَخْبَار (وَالْأولَى) أَن يذكر فِي تَمْثِيل الْمُحكم (نَحْو) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْجِهَاد مَاض) مُنْذُ بَعَثَنِي الله إِلَى أَن يُقَاتل آخر أمتِي الدَّجَّال لَا يُبطلهُ جور جَائِر، وَلَا عدل عَادل: مُخْتَصر من حَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد، وَجه الْأَوْلَوِيَّة أَن قصد الأصولي بِالذَّاتِ نَحْو بَيَان أَنْوَاع مَا يدل على الحكم الشَّرْعِيّ. (و) قَالَ (المتقدمون) من الْحَنَفِيَّة (الْمُعْتَبر فِي الظَّاهِر ظُهُور) الْمَعْنى (الوضعي بِمُجَرَّدِهِ) أَي بِمُجَرَّد اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ، وَقد مر بَيَانه (سيق لَهُ أَولا) أَي سَوَاء سيق اللَّفْظ لذَلِك الوضعي أَولا (و) الْمُعْتَبر (فِي النَّص ذَلِك) أَي الظُّهُور المتحقق فِي ضمن السُّوق وَعَدَمه (مَعَ ظُهُور مَا سيق لَهُ) إِذا كَانَ مَا سيق لَهُ غير مَعْنَاهُ الوضعي كآية الرِّبَا، وَعدد النِّسَاء (احْتمل التَّخْصِيص والتأويل أَولا، وَفِي الْمُفَسّر) الْمُعْتَبر (عدم الِاحْتِمَال) لَهما مَعَ ظُهُور مَعْنَاهُ الوضعي والمسوق لَهُ سَوَاء (احْتمل النّسخ أَولا و) الْمُعْتَبر (فِي الْمُحكم عَدمه) أَي احْتِمَال النّسخ مَعَ ظُهُور مَا ذكر، وَعدم احْتِمَال التَّخْصِيص (فَهِيَ) أَي الْأَقْسَام (متداخلة) لكَون الأول يعم الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة، وَالثَّانِي الباقيين، وَالثَّالِث وَالرَّابِع (وَقَول فَخر الْإِسْلَام فِي الْمُفَسّر إِلَّا أَنه يحْتَمل النّسخ سَنَد للمتأخرين فِي اعتبارهم (التباين) بَينهمَا، لِأَنَّهُ لَا وَجه لاعْتِبَار التباين بَين الْمُفَسّر والمحكم دون غَيرهمَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا فصل بَين الْأَقْسَام) فِي اعْتِبَار التباين وَعَدَمه (وَبِه) أَي بقول فَخر الْإِسْلَام هَذَا (يبعد نفي) اعْتِبَار (التباين) بَين الْأَقْسَام (عَن كل الْمُتَقَدِّمين) لِأَن الظَّاهِر عدم مُخَالفَته كلهم (وَلعدم) اعْتِبَار (التباين) بَينهَا (مثلُوا) أَي المتقدمون (الظَّاهِر) أَي صوروه بقوله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا} ، الزَّانِي) بِحَذْف العاطف أَو بسردهما على طَرِيق التعداد، وَيُؤَيّد الأول ذكره العاطف فِي قَوْله (وَالسَّارِق وبالأمر) بِإِظْهَار الْبَاء فِي الْمُقدر فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِشَارَة إِلَى كَون الْأَمر (وَالنَّهْي) بِاعْتِبَار كثرتهما متميزين عَن الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة (مَعَ ظهورما) أَي معنى (سيق لَهُ) كل وَاحِد من الْمَذْكُورَات: أَي مثلُوا بهَا مَعَ علمهمْ بِكَوْنِهَا نصوصا بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا الظَّاهِرِيَّة لكَونهَا مسوقا لَهَا، فَعلم أَن الْمُعْتَبر فِي الظَّاهِر عِنْدهم ظُهُور الْمَعْنى سَوَاء كَانَ مسوقا لَهُ أَولا، فَالظَّاهِر أَعم من النَّص لَا مباين لَهُ(1/140)
(وَاقْتصر بَعضهم) أَي الْمُتَقَدِّمين (فِي) تَمْثِيل (النَّص) على إِبَاحَة الْعدَد (على) ذكر (مثنى إِلَى رباع) وَلم يذكر - فانكحوا إِلَى مثنى -، وَفِي تَمْثِيل النَّص على التَّفْرِقَة بَين البيع والربا على مَا ذكر حرم الرِّبَا ظنا مِنْهُ أَن النَّص إِنَّمَا هُوَ مثنى وَثَلَاث وَربَاع فِي الأول، (وَحرم الرِّبَا) فِي الثَّانِيَة (وَالْحق أَن كلا من انكحوا، وَاسم الْعدَد لَا يسْتَقلّ نصا إِلَّا بملاحظة الآخر) وَكَذَا كل من أحل الله البيع، وَمن حرم الرِّبَا لَا يسْتَقلّ نصا على التَّفْرِقَة إِلَّا بملاحظة الآخر (فالمجموع) هُوَ (النَّص) وَذَلِكَ لِأَن التَّنْصِيص على عدد معِين بِاعْتِبَار حكم خَاص لَا يحصل بِمُجَرَّد ذكر الْعدَد من غير ذكر الْمَعْدُود وَالْحكم، وَكَذَا التَّنْصِيص على الْفرق لَا يحصل إِلَّا بِمُجَرَّد حُرْمَة الرِّبَا بِدُونِ ذكر حل البيع. (و) قَالَت (الشَّافِعِيَّة الظَّاهِر مَا) أَي لفظ (لَهُ دلَالَة ظنية) ناشئة (عَن وضع) كالأسد للحيوان المفترس، وعَلى هَذَا فالنص مَا دلّ دلَالَة قَطْعِيَّة (أَو عرف) كالغائط للْخَارِج المستقذر إِذا غلب فِيهِ بعد أَن كَانَ فِي الأَصْل للمكان المطمئن من الأَرْض (وَإِن كَانَ) الدَّال الْمَذْكُور (مجَازًا بِاعْتِبَار اللُّغَة) يَعْنِي أَن لفظ الْغَائِط كَانَ فِي اللُّغَة مَوْضُوعا بِإِزَاءِ الْمَكَان المطمئن الَّذِي هُوَ مَحل عَادَة للْخَارِج المستقذر، وَبِاعْتِبَار هَذِه العلاقة كَانَ يسْتَعْمل فِيهِ مجَازًا، ثمَّ صَار لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال فِيهِ مَوْضُوعا عرفا، فَإِن اسْتعْمل فِيهِ بِاعْتِبَار الْوَضع الْعرفِيّ كَانَ حَقِيقَة، وَإِن بنى التخاطب فِيهِ على الْوَضع اللّغَوِيّ وَاسْتعْمل فِيهِ بِاعْتِبَار تِلْكَ العلاقة كَانَ مجَازًا لغويا، وَقَوله عَن الخ إِن كَانَ من تَمام الْحَد لزم خُرُوج الْمجَاز عَن التَّعْرِيف وَإِن كَانَ إِشَارَة إِلَى التَّقْسِيم بعد تَمام الْحَد لم يلْزم، غير أَن التَّقْسِيم حِينَئِذٍ لَا يكون حاصرا، (ويستلزم) كَونه ظَنِّي الدّلَالَة أَن يحْتَمل (احْتِمَالا مرجوحا) غير الْمَعْنى الظَّاهِرِيّ، وَإِلَّا لزم كَونه قَطْعِيّ الدّلَالَة على الْمَعْنى الظَّاهِرِيّ (وَهُوَ قسم من النَّص عِنْد الْحَنَفِيَّة) أَي الَّذِي هُوَ ظَاهر عِنْد الشَّافِعِيَّة قسم مِمَّا هُوَ نَص عِنْد الْحَنَفِيَّة، فالظرف مُتَعَلق بِمَا يُسْتَفَاد من قَوْله من النَّص، وَالْمعْنَى من الْمُسَمّى بِالنَّصِّ عِنْدهم، وَيجوز أَن يكون ظرفا لكَون الظَّاهِر قسما مِنْهُ، ومآلهما وَاحِد وَلما كَانَ يتَّجه هَهُنَا سُؤال، وَهُوَ أَن مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ ظنا قد لَا يكون مسوقا لَهُ وَلَا ظَاهرا مِنْهُ بِمُجَرَّدِهِ، وهما معتبران فِي النَّص عِنْد الْحَنَفِيَّة مَعَ الدّلَالَة الظنية، فَكل نَص دَال ظنا من غير عكس، فالدال ظنا أَعم من النَّص، وَكَيف يكون الْأَعَمّ قسما من الْأَخَص؟ أَرَادَ تَقْيِيد الْأَعَمّ بِمَا يُسْتَفَاد من قَوْله (وَهُوَ) أَي مَاله دلَالَة ظنية (مَا) أَي لفظ (كَانَ سوقه لمفهومه) وَلَا شكّ أَن النَّص كَمَا يكون سوقه لمفهومه كَذَلِك يكون لغير مَفْهُومه كآية الرِّبَا وَالسَّرِقَة، وَالْجُمْلَة إِمَّا حَال عَن قَوْله هُوَ، أَو مستأنفة لبَيَان الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بالقسمية، وَهَذَا على رَأْي الْمُتَقَدِّمين، وَأما على رَأْي الْمُتَأَخِّرين فالنص اعْتبر فِيهِ احْتِمَال التَّخْصِيص والتأويل،(1/141)
فَالظَّاهِر بعد التَّقْيِيد الْمَذْكُور يكون أَيْضا أخص مِنْهُ إِلَّا أَن مَادَّة الِافْتِرَاق حِينَئِذٍ تَنْحَصِر فِيمَا سيق لغير مَفْهُومه، بِخِلَاف الأول، فَإِن الْمُفَسّر والمحكم كَذَلِك فِي مَادَّة الِافْتِرَاق فَإِن قلت هَل يجوز إرجاع الْمَرْفُوع الثَّانِي إِلَى النَّص قلت لَا، لِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ كَون الظَّاهِر على إِطْلَاقه قسما من النَّص لعدم مَا يُقَيِّدهُ، مَعَ أَنه مضى تَفْسِيره قَرِيبا، وَلَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير ثَانِيًا، وَلَيْسَ من دأب المُصَنّف مثل هَذَا التّكْرَار ثمَّ لما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة أَن يُقَال كَيفَ يكون ظَاهر الشَّافِعِيَّة قسما من نَص الْحَنَفِيَّة مَعَ تصريحهم بقطعية دلَالَة النَّص أَفَادَ أَن لَا مُنَافَاة بَينهمَا بقوله (وَإِن اخْتلفُوا) أَي الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (فِي قَطْعِيَّة دلَالَته) أَي النَّص (وظنيتها) أَي دلَالَته، ثمَّ أَفَادَ وَجه التَّوْفِيق بقوله (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْخلاف والنزاع الْمَذْكُور (لَفْظِي) أَي مَنْسُوب إِلَى اللَّفْظ بِاعْتِبَار مَا يُوهم ظَاهره، وَلَا خلاف فِي الْمَعْنى لعدم اتِّحَاد مورد الْقطع وَالظَّن (فالقطعية) الَّتِي ذكرهَا الْحَنَفِيَّة (للدلالة) أَي لدلَالَة هَذَا الْقسم من النَّص على مَعْنَاهُ (والظنية) الَّتِي ذكرهَا الشَّافِعِيَّة (بِاعْتِبَار الْإِرَادَة) وَأَيْنَ الدّلَالَة من الْإِرَادَة؟ فَإِن دلَالَة اللَّفْظ الْمَوْضُوع على مَعْنَاهُ بعد الْعلم بِالْوَضْعِ لَا تنفك عَنهُ قطعا، بِخِلَاف إِرَادَة مَا وضع لَهُ، فَإِنَّهُ قد يصرف عَنهُ الْقَرِينَة الصارفة إِلَى مَا تعينه الْمعينَة (فَلَا اخْتِلَاف) فِي الْمَعْنى هَذَا، وَيرد عَلَيْهِ أَن القطعية بِاعْتِبَار الدّلَالَة لَا تخص النَّص، بل الظَّاهِر أَيْضا دلَالَة قَطْعِيَّة بالتأويل الْمَذْكُور، وَالِاحْتِمَال بِاعْتِبَار الْإِرَادَة فَتدبر (واستمروا) أَي الشَّافِعِيَّة (على إِيرَاد المؤول قرينا لَهُ) أَي الظَّاهِر، (فَيُقَال الظَّاهِر، والمؤول كالخاص وَالْعَام) أَي كَمَا اسْتمرّ الأصوليون على إِيرَاد الْعَام قرينا للخاص (لإِفَادَة الْمُقَابلَة) بَين الظَّاهِر والمؤول (فَيلْزم فِي الظَّاهِر عدم الصّرْف) أَي لما جعلُوا الظَّاهِر مُقَابلا للمؤول لزم أَن يعْتَبر فِي مَفْهُوم الظَّاهِر عدم الصّرْف عَن مَعْنَاهُ الظَّاهِر تَحْقِيقا للمقابلة، فَإِن الصّرْف عَن الظَّاهِر مُعْتَبر فِي مَفْهُوم المؤول (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر عدم الصّرْف فِي الظَّاهِر (اجْتمعَا) أَي الظَّاهِر والمؤول فِي لفظ وَاحِد، والمتقابلان لَا يَجْتَمِعَانِ، بَيَان الْمُلَازمَة مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (إِذْ المصروف) أَي اللَّفْظ الَّذِي صرف عَن مَعْنَاهُ الَّذِي دلَالَته عَلَيْهِ ظنية إِلَى معنى يحْتَملهُ احْتِمَالا مرجوحا لدَلِيل يَقْتَضِيهِ (لَا تسْقط دلَالَته على) الْمَعْنى (الرَّاجِح) يَعْنِي أَن دلَالَته عَلَيْهِ بعد الصّرْف لم تَتَغَيَّر عَن حَالهَا، لِأَن الصّرْف بِاعْتِبَار الْإِرَادَة فَقَط كَمَا عرفت، وَأما الدّلَالَة وَفهم الْمَعْنى فَلَا يتَصَوَّر أَن يصرف عَنْهَا بعد الْعلم بِالْوَضْعِ (فَيكون) اللَّفْظ المصروف عَن الظَّاهِر (بِاعْتِبَارِهِ) أَي كَونه دَالا على الرَّاجِح (ظَاهرا) لصدق تَعْرِيفه عَلَيْهِ، لَان الْمَفْرُوض عدم اعْتِبَار مَا يحصل بِهِ التقابل فِي الْمَفْهُوم (وَبِاعْتِبَار الحكم بِإِرَادَة) الْمَعْنى (الْمَرْجُوح) الَّذِي يحْتَملهُ احْتِمَالا مرجوحا (مؤوّلا) ، وَلَا يعلم أَنه لَا يحصل التباين بَين الْقسمَيْنِ إِلَّا بِاعْتِبَار الصّرْف وجودا وعدما(1/142)
فِي مفهومهما فَإِن قلت قد سبق أَن ظنية دلَالَة الظَّاهِر عِنْد الشَّافِعِيَّة الْإِرَادَة والمصروف تسْقط دلَالَته على الرَّاجِح من حَيْثُ أَنه مُرَاد قلت المصروف من حَيْثُ ذَاته من غير أَن يُلَاحظ مَعَه الصَّارِف يدل دلَالَة ظنية على أَن الرَّاجِح مُرَاد مِنْهُ، وَمُرَاد المُصَنّف صدق التَّعْرِيف بِهَذَا الِاعْتِبَار، لَا مَعَ مُلَاحظَة الصَّارِف فَإِن قيل لَا بَأْس باجتماع المتقابلين باعتبارين وَإِنَّمَا الْمَحْذُور اجْتِمَاعهمَا بِاعْتِبَار وَاحِد قلت هَذَا إِذا كَانَ التَّقْسِيم اعتباريا، وَأما إِذا كَانَ حَقِيقِيًّا فَلَا بُد أَن لَا يجتمعا أصلا، وَالْأَصْل فِي التَّقْسِيم أَن يكون حَقِيقِيًّا، كَيفَ والتباين بَين أَحْكَام الْأَقْسَام يستدعى التباين بَينهَا؟ نعم تَارَة تَسْتَلْزِم ذَلِك عِنْد الضَّرُورَة كَمَا لزم الْمصير إِلَيْهِ بَين الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة على رَأْي الْمُتَقَدِّمين (وَتقدم المؤول عِنْد الْحَنَفِيَّة) وَهُوَ مَا بَين بظني بِمَا فِيهِ خَفَاء على مَا مر قَرِيبا (وَلَا يُنكر إِطْلَاقه) أَي المؤول (على) اللَّفْظ (المصروف) عَن ظَاهره (أَيْضا أحد) فَاعل لَا يُنكر، فالمؤول لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا مَخْصُوص بالحنفية، وَالْآخر مُشْتَرك بَينهم وَبَين غَيرهم. وَقَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ: إِن التَّأْوِيل احْتِمَال يعضده دَلِيل يصير بِهِ أغلب على الظَّن من الْمَعْنى الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر، وَفِيه مُسَامَحَة لِأَن التَّأْوِيل إِنَّمَا هُوَ الْحمل على الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح، لَا نَفسه فَإِنَّهُ شَرطه، إِذْ لَا يَصح حمل اللَّفْظ على مَا لَا يحْتَملهُ، وَيرد على عَكسه التَّأْوِيل الْمَقْطُوع بِهِ، وَيُمكن دَفعه بِأَنَّهُ اكْتفى بِذكر الْأَدْنَى، فَيعلم الْأَعْلَى بِالطَّرِيقِ الأولى إِلَّا أَنه ذكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن التَّأْوِيل ظن بالمراد، وَالتَّفْسِير قطع بِهِ، ثمَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيل الصَّحِيح، وَأما التَّأْوِيل الْفَاسِد فَهُوَ حمله على الْمَرْجُوح بِلَا دَلِيل، أَو بِدَلِيل مَرْجُوح، أَو مسَاوٍ (وَالنَّص) عِنْد الشَّافِعِيَّة مَا دلّ على معنى (بِلَا احْتِمَال) لغيره، وَلذَا فسروه بِمَا دلّ دلَالَة قَطْعِيَّة، فَإِن عدم احْتِمَال الْغَيْر يستدعى الْقطع فَهُوَ (كالمفسر عِنْد الْحَنَفِيَّة) فِي عدم احْتِمَال معنى آخر، لَا من كل وَجه فَلَا يرد أَن ظُهُور الْمَعْنى والسوق لَهُ مُعْتَبر فِيهِ عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة لم يعتبروا ذَلِك فِي النَّص (لَا النَّص) عِنْدهم (فَإِنَّهُ) أَي النَّص عِنْدهم (يحْتَمل الْمجَاز باتفاقهم) أَي الْحَنَفِيَّة، ويخرجه الِاحْتِمَال عَن كَونه قَطْعِيّ الدّلَالَة (وَعلمت) من قَوْلنَا: القطعية للدلالة، والظنية بِاعْتِبَار الْإِرَادَة (أَنه) أَي احْتِمَال الْمجَاز (لَا يُنَافِي القَوْل بقطعيته) أَي بقطعية النَّص بِاعْتِبَار الدّلَالَة (وَقد يفسرون) أَي الشَّافِعِيَّة (الظَّاهِر بِمَا لَهُ دلَالَة وَاضِحَة، فالنص قسم مِنْهُ عِنْدهم) أَي الظَّاهِر حِينَئِذٍ. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ لِأَن الدّلَالَة الْوَاضِحَة أَعم من الظنية والقطعية انْتهى، فَيتَّجه أَنه يجوز عدم وضوح الْمَعْنى المُرَاد قطعا، فَكيف بأخصية النَّص مُطلقًا، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ مُجَرّد احْتِمَال فَلَا يصلح للنقض فَتَأمل (والمحكم) عِنْدهم (أَعم يصدق على كل مِنْهُمَا) أَي الظَّاهِر، وَالنَّص (وَلَا يُنَافِي التَّأْوِيل أَيْضا فَهُوَ) أَي الْمُحكم (عِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة(1/143)
(مَا استقام نظمه للإفادة وَلَو بِتَأْوِيل) فَإِن المؤول بالتأويل الصَّحِيح قد استقام نظمه للإفادة. وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين: الْمُحكم هُوَ المتضح الْمَعْنى سَوَاء كَانَ نصا أَو ظَاهرا، والمتشابه غير المتضح الْمَعْنى، وَمِنْهُم من قَالَ الْمُحكم: مَا استقام نظمه للإفادة وَهُوَ حق، لَكِن مَا يُقَابله من الْمُتَشَابه يكون مَا احْتمل نظمه لعدم الإفادة. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَالظَّاهِر أَن القَوْل باخْتلَاف نظم الْقُرْآن مِمَّا لَا يصدر عَن الْمُسلم، بل الْمُقَابل مَا استقام نظمه لَا للإفادة، فَيكون الْمُحكم مَا انتظم وترتب للإفادة: إِمَّا من غير تَأْوِيل أَو مَعَ التَّأْوِيل، والمتشابه: مَا انتظم وترتب لَا للإفادة، بل للابتلاء وَالْمرَاد بالنظم: اللَّفْظ كَمَا فِي التَّلْوِيح (وَالْحَنَفِيَّة أوعب وضعا للحالات) من قَوْلهم: وعبه، وأوعبه، واستوعبه: أَخذه أجمع، وَقَوله وضعا تَمْيِيز عَن نِسْبَة أوعب إِلَى ضمير الْحَنَفِيَّة، وَقَوله للحالات صلَة الْوَضع، فَالْمَعْنى وضعهم الْأَلْفَاظ الاصطلاحية بِإِزَاءِ الْمعَانِي الْحَاصِلَة من تنوع أَحْوَال الْأَدِلَّة أوعب، وأشمل من وضع الشَّافِعِيَّة لَهَا: نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: وَلذَا كَانَê أَقسَام مَا ظهر مَعْنَاهُ أَرْبَعَة متباينة عِنْد الْمُتَأَخِّرين، وَعند الشَّافِعِيَّة لَيْسَ فِي الْخَارِج إِلَّا قِسْمَانِ، لِأَن الْمُحكم أَعم من الظَّاهِر وَالنَّص، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي ضمن أَحدهمَا وَالْمرَاد من الْحَالَات حَالَة احْتِمَال غير الوضعي، وَحَالَة سوقه لشَيْء من مَفْهُومه أَو غَيره، وَحَالَة عدم سوقه لمفهومه، وَحَالَة عدم احْتِمَال النّسخ واحتماله انْتهى (وَمَوْضِع الِاشْتِقَاق يرجح قَوْلهم فِي الْمُحكم) أَي رِعَايَة الْمُنَاسبَة بَين مَا اشتق مِنْهُ الْأَسَامِي الْمَذْكُورَة ومسمياتها يرجح قَول الْحَنَفِيَّة فِي الْمُحكم، وَقَوله فِي الْمُحكم إِمَّا مُتَعَلق بقَوْلهمْ، وَهُوَ الْأَقْرَب، أَو يرجح، أَو بِمَحْذُوف هُوَ صفة الْمُبْتَدَأ، وَذَلِكَ لِأَن مَا لَا يحْتَمل تَخْصِيصًا وَلَا تَأْوِيلا وَلَا نسخا كَأَن الْأَحْكَام فِيهِ أتم وأكمل، بِخِلَاف مَا يحْتَمل شَيْئا مِنْهَا.
بَقِي أَن المُصَنّف لم يذكر لَهُم الْمُفَسّر، وَفِي الْمَحْصُول أَن لَهُ مَعْنيين: أَحدهمَا مَا احْتَاجَ إِلَى التَّفْسِير، وَقد ورد تَفْسِيره، وَثَانِيهمَا الْكَلَام الْمُبْتَدَأ المستغنى عَن التَّفْسِير لوضوحه انْتهى وَالظَّاهِر أَن المُصَنّف لم يلْتَفت إِلَيْهِ لعدم شهرته عِنْدهم، على أَنه لَا حَاجَة فِيهِ إِلَى ارْتِكَاب اصْطِلَاح مِنْهُم، بل اللُّغَة كَافِيَة فِيهِ.
(تَنْبِيه) على تَفْصِيل للتأويل (وقسموا) أَي الشَّافِعِيَّة (التَّأْوِيل إِلَى قريب) من الْفَهم (وبعيد) عَنهُ (ومتعذر) فهمه (غير مَقْبُول) عِنْد الْأُصُولِيِّينَ (قَالُوا) أَي الشَّافِعِيَّة (وَهُوَ) أَي المعتذر (مَا لَا يحْتَملهُ اللَّفْظ) لعدم وَضعه لَهُ، وَعدم العلاقة بَينه وَبَين مَا وضع لَهُ (وَلَا يخفى أَنه) أَي مَا لَا يحْتَملهُ اللَّفْظ (لَيْسَ من أقسامه) أَي التَّأْوِيل (وَهُوَ) أَي التَّأْوِيل مُطلقًا (حمل الظَّاهِر على الْمُحْتَمل الْمَرْجُوح) على مَا مر فَلَا بُد من الِاحْتِمَال وَلَو مرجوحا (إِلَّا(1/144)
أَن يعرف) التَّأْوِيل (بِصَرْف اللَّفْظ عَن ظَاهره فَقَط) من غير اعْتِبَار حمله على الْمُحْتَمل فَيصدق عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، ثمَّ أَنهم قَالُوا حمل الظَّاهِر، لِأَن النَّص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل عِنْدهم، وَتَعْيِين أحد مدلولي الْمُشْتَرك لَا يُسمى تَأْوِيلا، وَقيد بالمجروح لِأَن مَا يحمل على الرَّاجِح ظَاهر (ثمَّ ذكرُوا من الْبَعِيدَة تأويلات) وَاقعَة (للحنفية) مِنْهَا قَوْلهم (فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغيلان ابْن سَلمَة الثَّقَفِيّ وَقد أسلم) حَال كَونه (على عشر) من النِّسَاء على مَا كَانُوا عَلَيْهِ من عَادَة الْجَاهِلِيَّة (أمسك أَرْبعا، وَفَارق سائرهن) مقول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم (أَي ابتدئ نِكَاح أَربع، أَو أمسك الْأَرْبَع الأول) مقول قَوْلهم فِي مقَام التَّأْوِيل تَفْسِيرا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أمسك إِلَى آخِره " فسروا الْإِمْسَاك بِالْأَمر بابتداء نِكَاح أَربع مِنْهُنَّ على تَقْدِير علمه بِأَنَّهُ تزوجهن بِعقد وَاحِد لفساد نِكَاح الْكل حِينَئِذٍ بِقَرِينَة أَن إمساكهن لَا يجوز بِدُونِهِ، فَإِن الْأَمر بِمَا يتَوَقَّف جَوَازه على شَيْء أَمر بذلك الشَّيْء أَو بإمساك الْأَرْبَع الأول على تَقْدِير علمه بِأَنَّهُ تزوجهن بعقود مُتَفَرِّقَة، لِأَن الْفساد حِينَئِذٍ فِيمَا بعد الْأَرْبَع (فَإِنَّهُ يبعد أَن يُخَاطب بِمثلِهِ) أَي بِمثل هَذَا الْكَلَام المصروف عَن ظَاهره إِلَى مَا يتَوَقَّف فهمه على معرفَة الشرعيات مُخَاطب (متجدد) دُخُوله (فِي الْإِسْلَام بِلَا بَيَان) لما أُرِيد بِهِ، فَإِن الظَّاهِر من الْأَمر بالإمساك اسْتِدَامَة أَربع مِنْهُنَّ: أَي أَربع شَاءَ مَعَ عدم الْقَرِينَة الصارفة عَن الظَّاهِر، لِأَن الْمَفْرُوض عدم معرفَة الْمُخَاطب الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، فَقَوله فَإِنَّهُ إِلَى آخِره تَعْلِيل لبعد التَّأْوِيل، وَقيل فِي تأييد الْبعد مَعَ أَنه لم ينْقل تَجْدِيد فَقَط، لَا مِنْهُ وَلَا من غَيره أصلا مَعَ كَثْرَة إِسْلَام الْكَفَرَة المتزوجين (و) مِنْهَا قَوْلهم فِي (قَوْله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لفيروز الديلمي وَقد أسلم على أُخْتَيْنِ: أمسك أَيَّتهمَا شِئْت) حذف مقولهم لوضوحه: أَي ابتدئ نِكَاح من شِئْت مِنْهُمَا، بِنَاء على فرض علمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتزوجه إِيَّاهَا فِي عقد وَاحِد، لِأَنَّهُ لَو تزوجهما فِي عقدين لبطل نِكَاح الثَّانِيَة فَقَط وَتعين إمْسَاك الأولى. قَالَ الشَّارِح ثمَّ هَذَا اللَّفْظ وَإِن لم يحفظ فقد حفظ مَعْنَاهُ، وَهُوَ " اختر أَيَّتهمَا شِئْت " كَمَا هُوَ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ (أبعد) خبر مَحْذُوف: أَي هَذَا أبعد من الأول، وَذَلِكَ لما فِيهِ من تَفْسِير الْإِمْسَاك بابتداء النِّكَاح وَفرض أَنه تزوجهما فِي عقد وَاحِد، واطلاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك كَمَا فِي التَّأْوِيل الأول من نَحْو مَا ذكر على أحد تقديريه، وَمَا يحذو حذوه على الآخر، وَهُوَ إمْسَاك أَربع مُعينَة لفرض اطِّلَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنه تزوجهن فِي عُقُود مُتَفَرِّقَة مَعَ زِيَادَة شَيْء آخر هُنَا، وَهُوَ التَّصْرِيح بقوله " أَيَّتهمَا شِئْت " فَإِنَّهُ يدل على أَن التَّرْتِيب غير مُعْتَبر كَذَا ذكرُوا، وَفِيه نظر لِأَن التَّخْيِير الْمُسْتَفَاد من أَيَّتهمَا شِئْت إِذا كَانَ مَبْنِيا على اطِّلَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنه(1/145)
تزوجهما فِي عقد وَاحِد لَا يدل على أَن التَّرْتِيب بَينهمَا فِي العقد غير مُعْتَبر فِي جَوَاز إمْسَاك إِحْدَاهمَا بِلَا تَجْدِيد عقد، وَإِنَّمَا كَانَ يدل عَلَيْهِ لَو لم يعلم بذلك، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَال حِينَئِذٍ تخييره فِي تعْيين إِحْدَاهمَا من غير أَن يسْأَل عَن التَّرْتِيب وَعَدَمه دَال على مَا ذكر، وَالْوَجْه أَن يُقَال إِن كَون الْأَمر بالإمساك مَبْنِيا على اطِّلَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بعيد، وَلَا بُد من ارتكابه فِي الحَدِيث الثَّانِي، بِخِلَاف الأول لعدم التَّنْصِيص على تَعْمِيم مُتَعَلق التَّخْيِير فِيهِ، لِأَن قَوْله: أَرْبعا يصلح لِأَن يُرَاد بِهِ أَربع مُعينَة أَو غير مُعينَة، فَكَأَنَّهُ قيل لَهُ: إِن كنت عقدتهن فِي عقد وَاحِد فاختر أَي أَربع شِئْت، أَو فِي عُقُود فالأربع الأول لَا يُقَال كَيفَ يُخَاطب بِمثل هَذَا المتجدد فِي الْإِسْلَام، فَإِن هَذَا الاستبعاد مُشْتَرك بَين الْحَدِيثين، غير أَن الثَّانِي أبعد، لِأَنَّهُ لَا مخلص فِيهِ من فرض الِاطِّلَاع الْمَذْكُور، بِخِلَاف الأول (و) مِنْهَا (قَوْلهم فِي) قَوْله تَعَالَى {فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} فِي كَفَّارَة الظِّهَار (إطْعَام طَعَام سِتِّينَ) مقول لَهُم فِي التَّأْوِيل وَحَاصِله حذف مَا أضيف إِلَيْهِ الْإِطْعَام، وَهُوَ الْمُضَاف إِلَى سِتِّينَ، لِأَن 9 الْإِطْعَام إِذا أضيف إِلَى سِتِّينَ يلْزم اعْتِبَار الْعدَد الْمَخْصُوص، لِأَنَّهُ إِذا أعْطى لوَاحِد طَعَام سِتِّينَ لَا يَصح أَن يُقَال: أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا، بل يَصح أَن يُقَال: أطْعم طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا فَإِن قلت كَمَا أَن إِضَافَة الْإِطْعَام إِلَى السِّتين تَسْتَلْزِم اعْتِبَار عدم تحقق الْعدَد كَذَلِك إِضَافَة الطَّعَام إِلَيْهَا يستلزمه، فَلَا يَصح إطْعَام طَعَام سِتِّينَ قلت يُرَاد بِطَعَام سِتِّينَ فِي عرف اللُّغَة مَا يكفيهم، والمدار على الْعرف، وَالْمرَاد بِالْإِطْعَامِ حِينَئِذٍ: الْإِعْطَاء وَالْمعْنَى: فكفارته إِعْطَاء هَذَا الْمِقْدَار من الطَّعَام، فَيجوز أَن يُعْطي لوَاحِد، والداعي إِلَى ارْتِكَاب خلاف الظَّاهِر أَن الْمَقْصُود دفع سِتِّينَ حَاجَة من حاجات الْمَسَاكِين (وحاجة وَاحِد فِي سِتِّينَ يَوْمًا حَاجَة سِتِّينَ) وَالْحمل فِيهِ إِمَّا كَقَوْلِهِم: زيد أَسد، وَالْمعْنَى كحاجة سِتِّينَ فِي حُصُول الْمَقْصُود وَالْعبْرَة بِهِ، وَإِمَّا بِدُونِ الْحَذف بِأَن يكون المُرَاد بحاجة سِتِّينَ مَا يكفيهم كَمَا قُلْنَا فِي طَعَام سِتِّينَ، وَهُوَ الْأَظْهر، وَذكر سِتِّينَ يَوْمًا لتجدد الْحَاجَات بتجدد الْأَيَّام (مَعَ إِمْكَان قَصده) أَي من الْبَعِيدَة قَوْلهم بِهَذَا التَّأْوِيل الملغي اعْتِبَار خُصُوص الْعدَد الْمَذْكُور مَعَ إِمْكَان مقصوديته للشارع (لفضل الْجَمَاعَة) تَعْلِيل للقصد، يَعْنِي إِذا أعْطى طَعَام السِّتين للستين أدْرك فَضِيلَة تطييب قُلُوب الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة (وبركتهم) أَي بركَة دُعَائِهِمْ (وتضافر قُلُوبهم) أَي تظافرها وتعاضدها (على الدُّعَاء لَهُ) أَي للمكفر (وَعُمُوم الِانْتِفَاع) وشموله للعدد الْمَذْكُور مَعْطُوف على فضل الْجَمَاعَة (دون الْخُصُوص) أَي دون خُصُوص الِانْتِفَاع بِأَن يعْطى وَاحِدًا طَعَام سِتِّينَ، وَيُمكن أَن يُرَاد بالخصوص مَا دون السِّتين، لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة الْعُمُوم بِمَعْنى الشُّمُول للستين (و) مِنْهَا (قَوْلهم فِي نَحْو فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة) كَذَا فِي كتاب رَسُول الله(1/146)
سقط(1/147)
سقط(1/148)
على أَن الْمَقْصُود (بَيَان المصارف) فَإِنَّهُم حِين لمزوا وَزَعَمُوا أَن الَّذين أعْطوا مِنْهَا لَيْسُوا من مصارفها، وَإِنَّمَا أعْطوا بِمُوجب هوى النَّفس، فسيق الْكَلَام (لدفع وهم أَنهم) أَي المعطين (يختارون) من يحبونَ، وَمن يبغضون (فِي الْعَطاء وَالْمَنْع) عَنهُ (ورد) الدّفع الْمَذْكُور (بِأَنَّهُ) أَي كَون السِّيَاق لما ذكر (لَا يُنَافِي الظَّاهِر فَلَا يصلح صارفا عَنهُ) . وَقَالَ الْآمِدِيّ إِن سلمنَا أَنه لبَيَان الْمصرف، فَلَا نسلم أَنه لَا مَقْصُود سواهُ، فَلْيَكُن الِاسْتِحْقَاق بِصفة التَّشْرِيك أَيْضا مَقْصُودا عملا بِظَاهِر اللَّفْظ انْتهى ثمَّ ذكر المُصَنّف رَحمَه الله الرَّد الْمَذْكُور بقوله: (وَلَا يخفى أَن ظَاهره) أَي ظَاهر قَوْله تَعَالَى - {إِنَّمَا الصَّدقَات} - الْآيَة (من الْعُمُوم) بَيَان لظاهره: أَي عُمُوم الصَّدقَات، وَعُمُوم الْفُقَرَاء، والمذكورين بِمَعْنى أَن كل صَدَقَة يَسْتَحِقهَا كل فَقير، وكل مِسْكين إِلَى غير ذَلِك (مُنْتَفٍ اتِّفَاقًا) أَي غير مُرَاد إِجْمَاعًا (ولتعذره) أَي الْعُمُوم (حملوه) أَي الشَّافِعِيَّة الْعُمُوم فيهم (على ثَلَاثَة من كل صنف) من الثَّمَانِية إِذا كَانَ المفرق غير الْمَالِك ووكيله ووجدوا (وَهُوَ) أَي حملهمْ هَذَا (بِنَاء على أَن معنى الْجمع مُرَاد) بِلَفْظِهِ (مَعَ اللَّام) حَال عَن ضمير مُرَاد، وَهَذَا من قبيل معية الْمَدْلُول، والمتصل بداله، وَيجوز أَن يكون حَالا عَن لَفظه الْمُقدر كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ (والاستغراق) مَعْطُوف على معنى الْجمع، أَو على ضمير مُرَاد، وَترك التَّأْكِيد بالمنفصل لوُقُوع الْفَصْل وَالْمعْنَى أَن الْجمع الْمحلي بِاللَّامِ يُرَاد بِهِ معنى الْجمع، والاستغراق أَيْضا إِن لم يمْنَع مَانع (وَهُوَ) أَي الِاسْتِغْرَاق (مُنْتَفٍ) هَهُنَا بِالْإِجْمَاع كَمَا عرفت وَلَا يخفى أَن هَذَا على خلاف مَا هُوَ الْمَشْهُور أَن اللَّام تبطل الجمعية، وَتَكون اللَّام لاستغراق الْآحَاد، لَا الْمَجْمُوع، وَلذَا قَالُوا: أَن أشملية استغراق الْمُفْرد فِي مثل: لَا رجل فِي الدَّار فِي لَا، كَمَا فِي الجموع المحلاة بِاللَّامِ، فَإِن استغراقها كاستغراق الْمُفْرد، وَلَا فرق بَين يحب الْمُحْسِنِينَ وَيُحب كل محسن فِي معنى الِاسْتِغْرَاق: نعم يفرق بَينهمَا بِاعْتِبَار أَحْكَام لفظية كَمَا فِي مَوْضِعه، وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى إِن معنى الْجمع مُرَاد بِلَفْظِهِ مَعَ اللَّام إِذا لم يقْصد الْعُمُوم، والاستغراق مُرَاد إِذا قصد، فاشتراكهما فِي الْإِرَادَة بِالْجمعِ الْمحلي على سَبِيل الْبَدَلِيَّة لَا الِاجْتِمَاع فَتَأمل، ثمَّ أَنه لما انْتَفَى الِاسْتِغْرَاق وَبقيت الجمعية، وأقلها ثَلَاثَة حمل عَلَيْهَا لتيقنها، وَذَلِكَ فِيمَا عدا الصَّدقَات من الجموع الْمَذْكُورَة بعْدهَا (وَكَونه) أَي اللَّام مَعْطُوف على قَوْله ظَاهره (للتَّمْلِيك لغير معِين) على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ (أبعد) مِمَّا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة من التَّأْوِيل الَّذِي سَمَّاهُ الْخصم بَعيدا وَلَيْسَ فِي هَذَا اعْتِرَاف بالبعد، بل كَقَوْلِه تَعَالَى - {مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو} -، ثمَّ بَين كَونه أبعد بقوله (ينبو عَن الشَّرْع وَالْعقل) أَي يقصر عَن تَوْجِيهه، من قَوْلهم نبا السهْم عَن الهدف: أَي قصر، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يعْهَد مثله فِي الشَّرْع، وَغير الْمعِين من حَيْثُ(1/149)
إِنَّه غير معِين لَا وجود لَهُ، وَمن حَيْثُ التَّحْقِيق فِي ضمن الْفَرد يتَعَيَّن، فَيلْزم ثُبُوت الْملك لأشخاص مُعينَة، وَلَا يُمكن أَن يثبت لجَمِيع الْأَفْرَاد، فَيلْزم تَرْجِيح بَعْضهَا من غير مُرَجّح فينبو عَنهُ الْعقل أَيْضا، وكما أَنه لَا يُمكن اعْتِبَار الْملك لغير معِين، كَذَلِك لَا يُمكن اعْتِبَار الِاسْتِحْقَاق لَهُ (فالمستحق الله تَعَالَى وَأمر بِصَرْف مَا يسْتَحقّهُ إِلَى من كَانَ من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة، وَذَلِكَ لوُرُود النُّصُوص فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي أَمْوَال الْأَغْنِيَاء وصرفها إِلَى الْفُقَرَاء، فالزكاة عبَادَة، وَالْعِبَادَة خَالص حق الله تَعَالَى، فَلَا يجب للْفُقَرَاء ابْتِدَاء، وَإِنَّمَا يصرف إِلَيْهِم إنجازا لعدة أَرْزَاقهم (فَإِن كَانُوا) أَي الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة (بِهَذَا الْقدر) أَي بِمُجَرَّد أَمر الله تَعَالَى بِصَرْف مَا يسْتَحقّهُ إِلَيْهِم (مستحقين) للصدقات (فبلا ملك) أَي فاستحقاقهم بِلَا ملك فَلم يثبت مدعى الْخصم من حمل الْكَلَام على الظَّاهِر، وَهُوَ الْملك، وَفِي قَوْله: إِن كَانُوا إِشَارَة إِلَى منع استحقاقهم بِهَذَا الْقدر (وَدون اسْتِحْقَاق الزَّوْجَة النَّفَقَة) مَعْطُوف على قَوْله بِلَا ملك يَعْنِي إِذا كَانَ استحقاقهم بِمُجَرَّد الْأَمر كَانَ دون اسْتِحْقَاقهَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْأَمر، ومزية اسْتِحْقَاقهَا لتعيين الْمُسْتَحق وَهِي الزَّوْجَة دونهم (وَلَا تملك) على صِيغَة الْمَعْلُوم: أَي الزَّوْجَة، أَو الْمَجْهُول: أَي النَّفَقَة (إِلَّا بِالْقَبْضِ) يرد عَلَيْهِ أَن الْخصم يَكْفِيهِ أدنى دَرَجَات الِاسْتِحْقَاق وأنكم مَا نفيتموه بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَن كَون اللَّام لاسْتِحْقَاق يقربهُ إِلَى الْحَقِيقَة، فَلَا يضرّهُ كَون استحقاقهم دون اسْتِحْقَاق الزَّوْجَة: فَالْوَجْه نفي الِاسْتِحْقَاق رَأْسا كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ إِمَّا لما ذكرنَا، وَإِمَّا لِأَن الْمُتَبَادر كَون الْآيَة لبَيَان الْمصرف نظرا إِلَى السِّيَاق وَكَمَال ضعف الِاسْتِحْقَاق (وَلنَا آثَار صِحَاح عَن عدَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ صَرِيحَة فِيمَا قُلْنَا، وَلم يرو عَن أحد مِنْهُم خلَافَة) بعض الْفُقَهَاء يُسمى الْمَوْقُوف على الصَّحَابِيّ أَو التَّابِعِيّ بالأثر، وَالْمَرْفُوع بالْخبر، وَأما أهل الحَدِيث فيطلقون الْأَثر عَلَيْهِمَا، وَقَوله: وَلنَا: أَي وَالْحجّة الثَّابِتَة لنا، وآثار خبر الْمُبْتَدَأ، وصحاح صفة أثار، وَكَذَلِكَ صَرِيحَة، أما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمنهمْ عمر رَضِي الله عَنهُ، روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة والطبري، وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس روى عَنهُ الْبَيْهَقِيّ والطبري، وَمِنْهُم حُذَيْفَة، وَأما التابعون فَمنهمْ سعيد بن جُبَير وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَمَيْمُون بن مهْرَان روى عَنْهُم ابْن أبي شيبَة والطبري (وَلَا ريب فِي فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف قَوْلهم) أَي الشَّافِعِيَّة ذكر أَبُو عبيد فِي كتاب الْأَمْوَال أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قسم الذهيبة الَّتِي بعث بهَا معَاذ من الْيمن فِي الْمُؤَلّفَة فَقَط: الْأَقْرَع وعيينة وعلقمة بن علاثة وَزيد الْخَلِيل) قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة: الْمُؤَلّفَة كَانُوا ثَلَاثَة أَقسَام، قسم كفار كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعطيهم لتأليفهم على الْإِسْلَام، وَقسم كَانَ يعطيهم لدفع شرهم، وَقسم أَسْلمُوا وَفِيهِمْ ضعف فِي الْإِسْلَام، وَكَانَ(1/150)
سقط(1/151)
سقط(1/152)
الحَدِيث (فَقلت لَهُ أَن سُلَيْمَان بن مُوسَى حَدثنَا بِهِ عَنْك، فَقَالَ أخْشَى أَن يكون وهم عَليّ، وَأثْنى على سُلَيْمَان) خيرا (فصمم) الزُّهْرِيّ على الْإِنْكَار (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْكَلَام مِمَّن روى عَنهُ خبر إِنْكَار (فِي عرف الْمُتَكَلِّمين) من أَرْبَاب اللِّسَان، أَو من أهل الْعلم سِيمَا الْمُحدثين الموثقين بِالْحِفْظِ والإتقان (لَا شكّ) مَرْفُوع عطفا على إِنْكَار، أَو مَبْنِيّ على الْفَتْح على أَن لَا لنفي الْجِنْس، وَالْخَبَر مَحْذُوف، أَي لَا شكّ فِيهِ فَإِن قلت قَوْله أخْشَى مشْعر بِعَدَمِ جزمه بِكَوْنِهِ وهما قلت عدم الْجَزْم لَيْسَ بتجويز أَنه رَوَاهُ ثمَّ نسى، بل لاحْتِمَال أَن يكون الْوَهم من ابْن جريج لَا من سُلَيْمَان، على أَن الْعدْل لَا يقطع بِعَدَمِ تَعَمّده الْكَذِب، بل يظنّ بِهِ ثمَّ اعْلَم أَن ابْن جريج أحد الْأَعْلَام الثِّقَات بِاتِّفَاق الْمُحدثين، وَكَذَا ابْن عدي (أَو لمعارضة مَا هُوَ أصح) من الحَدِيث الْمَذْكُور إِيَّاه عطف على قَوْله لضعف الحَدِيث، فعلى هَذَا لَا يكون التَّأْوِيل بَعيدا لوُجُود مَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ (رِوَايَة مُسلم) وَهُوَ بدل من الْمَوْصُول: أَي مرويه، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَهِي) أَي الأيم (من لَا زوج لَهَا بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا، وَلَيْسَ للْوَلِيّ حق فِي نَفسهَا) أَي الأيم (سوى التَّزْوِيج) فَلَا يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون أحقيتها بِاعْتِبَار حق آخر؟ (فَجَعلهَا) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَحَق بِهِ) أَي بِالتَّزْوِيجِ (مِنْهُ) أَي من الْوَلِيّ (فَهُوَ) أَي حَدِيث " أَيّمَا امْرَأَة " إِلَى آخِره دائر (بَين أَن يحمل) فِيهِ من كلمة بَاطِل (على أول الْبطلَان) أَي على أَنه يَئُول إِلَى الْبطلَان كَمَا مر (أَو يتْرك) الْعَمَل بِهِ (للمعارض الرَّاجِح) وَمن لطف طبع المُصَنّف رَحمَه الله أَنه لم يرض فِي جَوَاب حَدِيث " أَيّمَا امْرَأَة " بحملها على الصَّغِيرَة، وَمَا ذكر مَعهَا لما فِيهِ من تَخْصِيص الْعَام بِحَيْثُ يخرج من دَائِرَة عُمُومه أَكثر الْأَفْرَاد، وَيبقى الْأَقَل الَّذِي لَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن، وَلَا بإهمال هَذَا التَّأْوِيل بِالْكُلِّيَّةِ، بل اسْتِعْمَاله فِي الحَدِيث الْآتِي لملاءمته بِهِ كَمَا سَيظْهر، غير أَنه بَقِي شَيْء، وَهُوَ أحقية الأيم بِنَفسِهَا لَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون للْوَلِيّ حق فِيهَا، لجَوَاز أَن يكون التَّزْوِيج حَقّهمَا مَعًا، وَتَكون هِيَ أَحَق كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله: من وَليهَا. وَقد أَشَارَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة إِلَى مَا يصلح جَوَابا عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: أثبت لكل مِنْهَا وَمن الْوَلِيّ حَقًا فِي ضمن قَوْله أَحَق، وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ للْوَلِيّ سوى مُبَاشرَة العقد إِذا رضيت، وَقد جعلهَا أَحَق مِنْهُ بِهِ أَقُول للمناقشة مجَال، فللخصم أَن يَقُول أحقيتها من الْوَلِيّ بِالتَّزْوِيجِ لَا يسْتَلْزم أحقيتها مِنْهُ بِالْمُبَاشرَةِ، لِأَن التَّزْوِيج لَيْسَ مُجَرّد الْمُبَاشرَة، بل هُوَ إتْمَام أحد ركني العقد، وَهُوَ كَمَا يحْتَاج إِلَى الْمُبَاشرَة يحْتَاج إِلَى تحقق الرِّضَا بالتمليك، فَلْيَكُن الرِّضَا حَقّهَا، والمباشرة حَقه، وَلَا شكّ أَن الأَصْل هُوَ الرِّضَا، وَإِذا كَانَ مُعظم أَمر التَّزْوِيج حَقّهَا تكون هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا فِي التَّزْوِيج(1/153)
وَالله أعلم (وَأما الْحمل على الْأمة وَمَا ذكر) مَعهَا من الصَّغِيرَة وَالْمُكَاتبَة (فَإِنَّمَا هُوَ فِي لَا نِكَاح إِلَّا بولِي أَي من لَهُ ولَايَة) ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، غير الْمَنْكُوحَة أَو نَفسهَا كَمَا إِذا كَانَت حرَّة عَاقِلَة بَالِغَة (فَيخرج) من النِّكَاح الْمُعْتَبر شرعا (نِكَاح العَبْد) لنَفسِهِ امْرَأَة (و) نِكَاح (الْأمة) نَفسهَا بِغَيْر إِذن الْمولى، (و) نِكَاح (مَا ذكر) من الصَّغِيرَة وَالْمُكَاتبَة، وَكَذَا الصَّغِير وَالْمَجْنُون كَمَا سيشير إِلَيْهِ: وَذَلِكَ لعدم وَلَا يتهم، وَقد انحصر النِّكَاح فِيمَا صدر عَن ولَايَة (وَإِذ دلّ) الحَدِيث (الصَّحِيح) وَهُوَ مَا فِي مُسلم " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا " (على صِحَة مباشرتها) عقد النِّكَاح كَمَا مر من تَقْرِيره من أَن الْوَلِيّ تصح مُبَاشَرَته وَهِي أَحَق بِهِ مِنْهُ، وَصِحَّة الْمُبَاشرَة دَلِيل الْولَايَة فاشتراط الْوَلِيّ فِي النِّكَاح لَيْسَ بمخرج نِكَاحهَا نَفسهَا فَحِينَئِذٍ (لزم كَونه) أَي كَون شَرط الْوَلِيّ (لإِخْرَاج) نِكَاح (الْأمة وَالْعَبْد والمراهقة) وَهِي من قُلُوب الْبلُوغ، فَلَزِمَ إِخْرَاج من لم يُقَارِبه بِالطَّرِيقِ الأولى (والمعتوهة) وَهِي من يخْتَلط كَلَامه وَأمره، وَكَذَا نِكَاح الْمُرَاهق وَالْمَجْنُون وَلم يذكر الْمكَاتب لِأَنَّهُ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم فَإِن قلت إِذا خرج نِكَاح هَؤُلَاءِ عَن النِّكَاح الشَّرْعِيّ، فَمَا معنى الْحمل على الأية وَمَا ذكر فِي " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " وَفَائِدَة حمل النكرَة المنفية على بعض أفرادها وُرُود النَّفْي على ذَلِك الْبَعْض خَاصَّة لعدم صِحَة نَفيهَا مُطلقًا، وَهَذَا إِذا لم يكن فِي الْكَلَام مَا يبين مورد النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَقد تبين هَهُنَا بِالنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاء قلت لم يرد حمل النِّكَاح الْمَذْكُور فِي لَا نِكَاح على مَا ذكر ليرد مَا قلت، بل أَرَادَ حمل النِّكَاح الصَّادِر لَا عَن ولَايَة شَرْعِيَّة الْمَفْهُوم ضمنا لاندراجه تَحت النَّفْي مَعَ عدم اندراجه فِي الِاسْتِثْنَاء، فَهَذَا الْحمل تَفْسِير للمجمل، لَا تَخْصِيص للعام، على أَنه لَو كَانَ من تَخْصِيص الْعلم بِدَلِيل نقيضه فِي حَدِيث أَيّمَا امْرَأَة لم يكن فِيهِ بعد كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَتَخْصِيص الْعَام لَيْسَ من الِاحْتِمَالَات الْبَعِيدَة) كَيفَ وَمَا من عَام إِلَّا وَقد خصص مِنْهُ الْبَعْض (و) لَا سِيمَا (قد ألجأ إِلَيْهِ) أَي إِلَى التَّخْصِيص (الدَّلِيل) وَهُوَ حَدِيث مُسلم الْمَذْكُور وَعَن المُصَنّف رَحمَه الله أَنه يخص حَدِيث أَيّمَا امْرَأَة بِمن نكحت غير الْكُفْء على قَول من لم يصحح مَا باشرته من غير كُفْء، وَالْمرَاد بِالْبَاطِلِ حَقِيقَته أَو حكمه على قَول من يُصَحِّحهُ وَيثبت للْوَلِيّ حق الْفَسْخ، كل ذَلِك شَائِع فِي اطلاقات النُّصُوص، فَيثبت مَعَ الْمَنْقُول، وَالْوَجْه الْمَعْنَوِيّ وَهُوَ أَنَّهَا تصرفت فِي خَالص حَقّهَا: وَهِي من أَهله كَالْمَالِ فَيجب تَصْحِيحه مَعَ كَونه خلاف الأولى (وَأما الزَّكَاة) أَي وَأما الدَّاعِي إِلَى اعْتِبَار الْمَالِيَّة فِي الزَّكَاة (فَمَعَ الْمَعْنى النَّص) أَي النَّص مَعَ الْمَعْنى، وكل مِنْهُمَا مُسْتَقل فِي الْمَقْصُود وَقدم الْعقلِيّ لِأَنَّهُ منَاط النقلي (أما الأول فللعلم) أَي اعْتِبَار الْقيمَة للْعلم (بِأَن الْأَمر بِالدفع) أَي بِدفع الزَّكَاة (إِلَى الْفَقِير) فِي النُّصُوص (إِيصَال لرزقهم الْمَوْعُود مِنْهُ سُبْحَانَهُ) فَإِن الْمولى إِذا وعد(1/154)
عَبده يُعْطِيهِ، ثمَّ أَمر من لَهُ حق عَلَيْهِ بِإِعْطَاء مَا يصلح لِأَن يكون أَدَاء للموعود، فَلَا شكّ فِي أَنه يحمل أمره على إنجاز وعده السَّابِق، لِأَن الْمَوْعُود كالواجب فَلَا يقدم مَا لم يجب عَلَيْهِ، وَإسْنَاد الإيصال إِلَى الْآمِر مجازى قصد بِهِ الْمُبَالغَة فِي استلزام أمره إِيَّاه كَمَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله - {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} - (وَهُوَ) أَي رزقهم الْمَوْعُود (مُتَعَدد من طَعَام وشراب وَكِسْوَة) وَغَيرهَا من مسكن ومنكح، وَغير الرزق وَمَا يَسُوقهُ الله إِلَى الْحَيَوَان فينتفع بِهِ (فقد وعدهم الله أصنافا) لِأَنَّهُ وعدهم الرزق: وَهُوَ أَصْنَاف (وَأمر من عِنْده من مَاله) أَي وَأمر غَنِيا عِنْده من مَال الله عز وَجل (صنف وَاحِد) كالغنم وَالْإِبِل أَو غَيرهَا (أَن يُؤَدِّي مواعيده) الَّتِي هِيَ أَصْنَاف، لِأَن الْأَمر بِالدفع إنجاز الْوَعْد السَّابِق المندرج تَحْتَهُ الْأَصْنَاف أَمر بأَدَاء المواعيد (فَكَانَ) أَمر الله من عِنْده صنف من مَاله بِدفع جُزْء من ذَلِك المَال أَدَاء للمواعيد، فَكَانَ أَمر الله من عِنْده (إِذْنا بِإِعْطَاء الْقيم) نظرا إِلَى حِكْمَة الْآمِر (كَمَا فِي مثله من الشَّاهِد) تأييد للمعنى الْمَذْكُور بِقِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد، وَهُوَ أَن السَّيِّد إِذا أَمر عَبده أَن يُؤَدِّي أَصْنَاف مواعيده، مِمَّا عِنْد العَبْد، وَهُوَ صنف وَاحِد، وَعين مِقْدَار مَا أَمر بإعطائه كَانَ ذَلِك إِذْنا بأَدَاء الْقيمَة معنى (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ الْمَأْمُور بِهِ فِي الزَّكَاة إِعْطَاء الْقيم، وَهِي عبارَة عَن مَالِيَّة المنصوصات، ومالية الشَّيْء تصدق على عين ذَلِك الشَّيْء كَمَا يصدق على مَا يماثله (لم تبطل الشَّاة) مثلا بِأَن لَا يتَأَدَّى بهَا الْوَاجِب كَمَا زعم الْخصم (بل) يبطل (تَعْيِينهَا) بِحَيْثُ لَا يسوغ غَيرهَا (وَحَقِيقَته) أَي حَقِيقَة بطلَان تَعْيِينهَا (بطلَان عدم إِجْزَاء غَيرهَا) مِمَّا يساويها فِي الْقيمَة (وَصَارَت) الشَّاة (محلا هِيَ وَغَيرهَا) مِمَّا يساويها فِي الْقيمَة، والصيرورة بِاعْتِبَار مُشَاركَة الْغَيْر إِيَّاه فِي الْمَحَلِّيَّة، لَا بِاعْتِبَار محليتها فِي نَفسهَا، فَإِن ذَلِك ثَابت من الأَصْل (فالتعليل) الْمَذْكُور (وسع الْمحل) أَي مَحل الْوُجُوب وَمَا يتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِب (وَلَيْسَ التَّعْلِيل) حَيْثُ كَانَ (إِلَّا لتوسعته) أَي الْمحل لِأَنَّهُ لإلحاق غير الْمَنْصُوص بالمنصوص فِي الحكم لمشاركتهما فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ منَاط الحكم (وَأما النَّص) الدَّال على اعْتِبَار الْقيمَة فِي الزَّكَاة (فَمَا علقه البُخَارِيّ) فِي صَحِيحه، وَالتَّعْلِيق أَن يحذف من مبدأ الْإِسْنَاد وَاحِد فَأكْثر كَقَوْل الشَّافِعِي رَحمَه الله: قَالَ نَافِع، وَقَول مَالك: قَالَ ابْن عمر، أَو قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وتعليقاته صَحِيحَة) قَالَ الشَّارِح وَوَصله يحيى بن آدم فِي كتاب الْخراج (من قَول معَاذ) بَيَان للموصول توَسط بَينهمَا المعترضة (ائْتُونِي بخميس) بِالسِّين الْمُهْملَة كَمَا هُوَ الصَّوَاب، لَا الصَّاد. قَالَ الْخَلِيل هُوَ ثوب طوله خَمْسَة أَذْرع، وَقَالَ الدَّاودِيّ كسَاء قيسه ذَا، وَقيل سمي بِملك من مُلُوك الْيمن أول من أَمر بِعِلْمِهِ (أَو لبيس) هُوَ مَا يلبس من الثِّيَاب والملبوس الْخلق (مَكَان الشّعير والذرة أَهْون عَلَيْكُم) أما بِاعْتِبَار(1/155)
أَنه كَانَ يُوجد عِنْدهم مِنْهُمَا مَا لم يَكُونُوا مُحْتَاجين إِلَيْهِ، أَو بِاعْتِبَار أَن حَاجَة الْإِنْسَان إِلَى الْمَأْكُول أَشد مِنْهَا إِلَى الملبوس أَو غير ذَلِك (وَخير لأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ) لكَون حَاجتهم إِلَيْهَا أَشد، أَو لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدهم الكفاف من الْمَأْكُول، أَو لقلَّة أكلهم وَقُوَّة توكلهم بِحَيْثُ لم يَكُونُوا يدخرون الطَّعَام وَشدَّة الْبرد بِالْمَدِينَةِ كَمَا يشْعر بِهِ التَّقْيِيد، وَذكر الشَّارِح نصا آخر وَهُوَ مَا فِي كتاب الصّديق لأنس مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ " من بلغت عِنْده من الْإِبِل صَدَقَة الْجَذعَة، وَلَيْسَ عِنْد جَذَعَة وَعِنْده حَقه، فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ الحقة وَيجْعَل مَعهَا شَاتين أَو عشْرين درهما " الحَدِيث (فَظهر أَن ذكر الشَّاة والجذعة) وَغَيرهمَا (كَانَ لتقدير الْمَالِيَّة، وَلِأَنَّهُ) أَي إِعْطَاء الشَّاة والجذعة (أخف على أَرْبَاب الْمَوَاشِي) لوجودها عِنْدهم (لَا لتعيينها) بِحَيْثُ لَا يُجزئ عَنْهَا الْبَدَل (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي الْكَفَّارَة) فِي إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا طَعَام سِتِّينَ على مَا مر (مثله) أَي مثل قَوْلهم (فِي الْأَوَّلين) وهما مسألتا، إِسْلَام الرجل على أَكثر من أَربع، وعَلى أُخْتَيْنِ فِي أَنه خلاف الْأَوْجه، وَإِنَّمَا الْأَوْجه قَول الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: إِنَّه إِذا أطْعم مِسْكينا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا لَا يُجزئهُ، وَذَلِكَ لما مر من إِمْكَان قصد فضل الْجَمَاعَة وتضافر قُلُوبهم إِلَى آخِره مَعَ ارْتِكَاب الْمجَاز من غير ضَرُورَة، وَهُوَ جعل السِّتين أَعم من الْحَقِيقِيّ والحكمي (وَالله أعلم) .
التَّقْسِيم الثَّالِث
من التقسيمات الثَّلَاثَة للفظ بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته وخفائه (مُقَابل) التَّقْسِيم (الثَّانِي) وَهُوَ تَقْسِيم اللَّفْظ بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته، فَلَزِمَ كَون هَذَا (بِاعْتِبَار الخفاء) أَي خَفَاء دلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى المُرَاد (فَمَا) أَي اللَّفْظ الَّذِي (كَانَ خفاؤه بِعَارِض) من الْأُمُور الخارجية من نفس اللَّفْظ من الْأَحْوَال الطارئة عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (غير الصِّيغَة فالخفي) أَي فَهُوَ الْخَفي، سمي بِهِ مَعَ كَونه أقل خَفَاء من الْأَقْسَام الْبَاقِيَة، لكَونه مُقَابلا للظَّاهِر الَّذِي هُوَ أقل ظهورا من تِلْكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْخَفي (أقلهَا) أَي أقل أَقسَام هَذَا التَّقْسِيم (فِي الخفاء كَالظَّاهِرِ) فَإِنَّهُ أقل أَقسَام ذَلِك التَّقْسِيم (فِي الظُّهُور) فَإِن قيل يَنْبَغِي أَن يكون الْخَفي مَا خَفِي المُرَاد مِنْهُ بِنَفس اللَّفْظ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة الظَّاهِر، وَهُوَ مَا ظهر المُرَاد مِنْهُ بِنَفس اللَّفْظ وَأجِيب بِأَن الخفاء بِنَفس اللَّفْظ فَوق الخفاء بِعَارِض، فَلَو كَانَ الْخَفي مَا ذكرت لزم أَن لَا يكون فِي أول مَرَاتِب الخفاء، فَلَا يكون إِذن مُقَابلا للظَّاهِر (وَحَقِيقَته) أَي حَده الكاشف عَن حَقِيقَته فَوق كشف(1/156)
مَا ذكر من تَعْرِيفه (لفظ) وضع (لمَفْهُوم عرض) وصف بِحَال مُتَعَلّقه (فِيمَا هُوَ ببادئ الرَّأْي) بادئ الرَّأْي ظَاهره، والرأي الِاعْتِقَاد، وَالْبَاء بِمَعْنى فِي، وَالْمعْنَى فِي أول الملاحظة (من أَفْرَاده) أَي من أَفْرَاد ذَلِك الْمَفْهُوم خبر هُوَ، قدم عَلَيْهِ مَا هُوَ ظرف نسبته إِلَى الْمُبْتَدَأ، أَو (مَا يخفى) فَاعل عرض أَو عَارض يخفي (بِهِ) أَي بِسَبَب ذَلِك الْعَارِض (كَونه) فَاعل يخفى، وَالضَّمِير للموصول الأول، (مِنْهَا) أَي من أَفْرَاد ذَلِك الْمَفْهُوم فَالْحَاصِل أَن عرُوض هَذَا الْعَارِض فِي ذَلِك الْمحل أورث فِي كَونه فَردا لذَلِك الْمَفْهُوم خَفَاء بعد مَا كَانَ يحكم الْعقل فِي بادئ النّظر بفرديتها (إِلَى قَلِيل تَأمل) غَايَة الخفاء فيرتفع بتأمل قَلِيل (ويجتمعان) أَي الْخَفي وَمَا يُقَابله وَهُوَ الظَّاهِر (فِي لفظ) وَاحِد (بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْهُومه) وَهُوَ مَا ببادئ الرَّأْي من أَفْرَاده وَعرض مَا يخفي فِيهِ كَونه مِنْهَا (كالسارق ظَاهر فِي مَفْهُومه الشَّرْعِيّ) وَهُوَ الْعَاقِل الْبَالِغ الْآخِذ مَا يوازي عشرَة دَرَاهِم خُفْيَة من المَال المتناول مِمَّا لَا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد من حرز بِلَا شُبْهَة مِمَّن هُوَ بصدد الْحِفْظ (خَفِي فِي النباش) آخذ كفن الْمَيِّت من الْغَيْر خُفْيَة بنبشه، وَهُوَ إبراز المستور وكشف الشَّيْء (والطرار) آخذ المَال الْمَذْكُور من الْيَقظَان من غَفلَة مِنْهُ بطر أَو غَيره، والطر هُوَ الْقطع، وَأَشَارَ إِلَى الْعَارِض الْمُورث للخفاء الْمَذْكُور بقوله (للاختصاص) مُتَعَلق بخفي (باسم) مُتَعَلق بالاختصاص، وَذَلِكَ لِأَن الِاخْتِصَاص الْمَعْنى باسم بِحَيْثُ لَا يُطلق عَلَيْهِ غَيره مِمَّا ينْدَرج تَحت مَفْهُوم يظنّ كَون ذَلِك الْمَعْنى من أَفْرَاده فِي بادئ الرَّأْي يُورث خَفَاء فِي كَونه مِنْهَا ويرجح عَدمه، لِأَن الظَّاهِر عدم اخْتِصَاص بعض أَفْرَاد مَفْهُوم باسم عَن سَائِر أَفْرَاده، ثمَّ غيا الخفاء فِي النباش والطرار بغاية يدل عَلَيْهَا قَوْله (إِلَى ظُهُور أَنه) أَي بِأَن يظْهر بعد قَلِيل تَأمل أَن الِاخْتِصَاص (فِي الطرار لزِيَادَة) أَي لزِيَادَة مُسَمَّاهُ فِي الْمَعْنى الَّذِي هُوَ منَاط حكم السّرقَة: وَهِي الحذاقة فِي فعل السّرقَة وَفضل فِي جِنَايَته، لِأَنَّهُ يسارق الْأَعْين المستيقظة لغفلة، وَعند ظُهُور هَذِه المزية يَزُول الخفاء وَيعلم كَونه من أَفْرَاد السَّارِق (فَفِيهِ) أَي فَيجب فِي الطرار (حَده) أَي السَّارِق (دلَالَة) أَي بِدلَالَة النَّص الْوَارِد فِي إِيجَاب هَذِه، لكَونه أولى بِثُبُوت الحكم لَهُ لوُجُود المناط فِيهِ على الْوَجْه الأتم فَإِن قلت ظُهُور كَونه من أَفْرَاد السَّارِق بعد التَّأَمُّل يُنَافِي ثُبُوت حكمه بِدلَالَة النَّص قلت كَأَنَّهُ أَرَادَ ثُبُوت دلَالَة قبل الظُّهُور فَتَأمل (لَا قِيَاسا) عَلَيْهِ حَتَّى يرد أَن الْحُدُود لَا تثبت بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يعرى عَن شُبْهَة الْحُدُود تدرأ بهَا، غير أَن الْإِطْلَاق إِنَّمَا يَتَأَتَّى على قَول أبي يُوسُف وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَإِلَّا فَظَاهر الْمَذْهَب فِيهِ تَفْصِيل. قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة قَوْله وَمن شقّ: أَي شقّ صرة والصرة الْهِمْيَان، وَالْمرَاد من الصرة هُنَا الْموضع المشدود فِيهِ الدَّرَاهِم لم يقطع وَإِن أَدخل يَده فِي الْكمّ قطع، لِأَن فِي الْوَجْه الأول يتَحَقَّق الْأَخْذ من خَارج(1/157)
فَلَا يُوجد هتك الْحِرْز، وَفِي الثَّانِي الرِّبَاط من دَاخل يتَحَقَّق الْأَخْذ من الْحِرْز وَهُوَ الْكمّ، وَلَو كَانَ مَكَان الطر حل الرِّبَاط ثمَّ الْأَخْذ فِي الْوَجْهَيْنِ ينعكس الْجَواب (والنباش) مَعْطُوف على الطرار أَي وَإِن الِاخْتِصَاص فِي النباش (لنَقص) فِي منَاط الحكم لعدم الْحِرْز، وَعدم الْحَافِظ، وقصور الْمَالِيَّة لِأَن المَال مَا يرغب فِيهِ، والكفن ينفر عَنهُ، وَعدم المملوكية لأحد، لِأَن الْمَيِّت لَيْسَ بِأَهْل للْملك وَالْوَارِث لَا يملك من التَّرِكَة إِلَّا مَا يفضل عَن حَاجَة الْمَيِّت (فَلَا) يجب فِيهِ حد السّرقَة، وَلِأَن شرع الْحَد للانزجار، وَالْحَاجة إِلَيْهِ عِنْد كَثْرَة وجوده، والنبش نَادِر، والانزجار حَاصِل طبعا، وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى، خلافًا لأبي يُوسُف، وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَقَول أبي حنيفَة، قَول ابْن عَبَّاس وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ، وَقَوْلهمْ مَذْهَب عمر وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَالْحسن وَأبي ثَوْر ثمَّ الْكَفَن للْوَارِث عِنْدهم، فَهُوَ الْخصم فِي الْقطع وَإِن كَفنه أَجْنَبِي فَهُوَ الْخصم (وَمَا) أَي اللَّفْظ الَّذِي كَانَ خفاؤه (لتَعَدد الْمعَانِي الاستعمالية) أَي الَّتِي تسْتَعْمل فِي كل مِنْهَا (مَعَ الْعلم بالاشتراك) أَي بِكَوْن اللَّفْظ مَوْضُوعا لكل مِنْهَا بِوَضْع على حِدة (وَلَا معِين) أَي وَلم يكن هُنَاكَ قرينَة مُعينَة للمراد (أَو تجويزها مجازية) مَعْطُوف على الْعلم، وَلَا شكّ أَن تَجْوِيز كَون كل من الْمعَانِي الاستعمالية مرَادا من اللَّفْظ مجَازًا إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا صرف صَارف عَن إِرَادَة مَا وضع لَهُ، وَكَانَ الْمقَام صَالحا لإِرَادَة كل مِنْهَا، وَلم يكن مَا يعين وَاحِدًا مِنْهَا، وَقَوله مجازية مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان للتجويز لتَضَمّنه معِين التصيير (أَو بَعْضهَا) مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَجْرُور، وَذَلِكَ بِأَن يزدحم معَان استعمالية بَعْضهَا حَقِيقِيَّة وَبَعضهَا مجازية بِحَسب التجويز، وَهُوَ إِنَّمَا يتَصَوَّر إِذا كَانَ الْمقَام صَالحا لإِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، والمجازي بِأَن لم يكن الصَّارِف عَن الْحَقِيقِيّ قَاطعا فِي الصّرْف وَإِلَّا يتَعَيَّن الْمجَازِي (إِلَى تَأمل) غَايَة للخفاء فِي هَذَا الْقسم، وَقد مر أَن الْعقل يدْرك المُرَاد فِيهِ بعد التَّأَمُّل، وَإِنَّمَا قيد تعدد الْمعَانِي الْمُوجب للخفاء بِالْعلمِ بالاشتراك أَو التجويز الْمَذْكُور، لِأَن تعدد الْمعَانِي لاستعماله من غير أَن يعلم السَّامع اشتراكها أَو تجوزها مجازية أَو بَعْضهَا لَا يتَصَوَّر، لِأَن شَرط الِاسْتِعْمَال فِي الْمَعْنى أَن يكون مَوْضُوعا لَهُ، أَو يكون بَينه وَبَين الْمَوْضُوع لَهُ علاقَة من أَنْوَاع العلاقات الْمُعْتَبرَة فِي المجازات، وَقد علمت أَن مُجَرّد التَّعَدُّد لَا يَكْفِي، بل لَا بُد أَن يكون الْمقَام بِحَيْثُ يحْتَمل كلا مِنْهَا (مُشكل) خبر الْمَوْصُول، من أشكل عَلَيْهِ الْأَمر إِذا دخل فِي أشكاله وَأَمْثَاله، بِحَيْثُ لَا يعرف إِلَّا بِدَلِيل يتَمَيَّز بِهِ (وَلَا يُبَالِي بصدقه) أَي الْمُشكل (على الْمُشْتَرك) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي أثْنَاء التَّعْرِيف (كَأَنِّي فِي) قَوْله تَعَالَى - {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ} - (أَنى شِئْتُم) قَالَه مُشكل لخفا مَعْنَاهُ لاشتراكه بَين معَان يسْتَعْمل فِي كل مِنْهَا، قَالَ الرضي:(1/158)
سقط(1/159)
سقط(1/160)
الْمَوْصُول مَعَ صلته مركب فِيهِ إِجْمَال لاحْتِمَال أَن يُرَاد بِهِ الزَّوْج، وَإِلَيْهِ ذهب أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد لما روى الدَّارَقُطْنِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " ولي الْعقْدَة الزَّوْج وَالْوَلِيّ " كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، وَالْمعْنَى على الأول أَن الْوَاجِب على من طلق قبل الْمَسِيس بعد تَسْمِيَة الْمهْر النّصْف " إِلَّا أَن يعفون " أَي المطلقات فَلَا يَأْخُذن شَيْئا، وَالْوَاو حِينَئِذٍ لَام الْفِعْل، وَالنُّون ضمير، أَو يعْفُو الزَّوْج عَمَّا يعود إِلَيْهِ بالتشطير، فيسوق الْمهْر إِلَيْهَا كملا، وعَلى الثَّانِي أَو يعْفُو الَّذِي يَلِي عقده نِكَاحهنَّ، وَذَلِكَ إِذا كَانَت صَغِيرَة (ومرجع الضَّمِير) مَعْطُوف على مُفْرد، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى ومرجع الضَّمِير مِنْهُ، وَذَلِكَ إِذا تقدم أَمْرَانِ يصلح لكل مِنْهُمَا كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا يمْنَع أحد جَاره أَن يضع خَشَبَة فِي جِدَاره " يحْتَمل عوده إِلَى أحدكُم، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد، وَإِلَى الْجَار كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَذَلِكَ إِذا كَانَ لَا يضرّهُ، وَلَا يجد الْوَاضِع بدا مِنْهُ، وَلَا يخفى أَن الْأَلْيَق بالوضعية فِي حق الْجَار الأول، وَقد سُئِلَ عَن أبي بكر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا أَيهمَا أفضل؟ فَأُجِيب من بنته فِي بَيته (وَتَقْيِيد الْوَصْف وإطلاقه فِي نَحْو طَبِيب ماهر) وَفِي الشَّرْح العضدي: وَمِنْهَا مرجع الصّفة فِي نَحْو زيد طَبِيب ماهر لتردده بَين المهارة مُطلقًا، والمهارة فِي الطِّبّ انْتهى. أَرَادَ بمرجع مَا يَئُول إِلَيْهِ فَإِنَّهُ مُتَرَدّد بَين الْوَجْهَيْنِ وَحَاصِله أَن الْوَصْف وَهُوَ ماهر مثلا مردد بَين أَن يكون مُقَيّدا بِكَوْنِهِ فِي الطِّبّ، أَو مُطلقًا بِأَن تكون مهارته فِي الطِّبّ وَغَيره، فَقَوله وَتَقْيِيد الْوَصْف مَعْطُوف على مَا عطف عَلَيْهِ مرجع الضَّمِير أَو عَلَيْهِ (وَالظَّاهِر أَن الْكل) أَي إِجْمَال كل مَا تقدم من الْمثل ونظائرها (فِي مُفْرد بِشَرْط التَّرْكِيب) لِأَن الحكم بِكَوْن اللَّفْظ مُجملا إِذا لم يكن جُزْء الْكَلَام، وطرف نِسْبَة غَيرهَا ظَاهر، لِأَنَّهُ عبارَة عَن عدم تعين المُرَاد مِنْهُ عِنْد الِاسْتِعْمَال، واستعماله إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي التراكيب، فَإِن إِطْلَاق لفظ مُفْرد، وَإِرَادَة معنى بِهِ من غير أَن يكون مَحْكُومًا عَلَيْهِ، أَو بِهِ، أَو مُتَعَلقا بِأَحَدِهِمَا، أَو طرفا لنسبة مَا يكَاد أَن لَا يصدر من الْعَاقِل، ثمَّ فِيمَا يظنّ كَونه إِجْمَالا فِي الْمركب كَقَوْلِه تَعَالَى - {الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} - يظْهر بعد التَّأَمُّل أَنه فِي الْمُفْرد، وَهُوَ الْمَوْصُول هَهُنَا غير أَنه لَا يتم بِدُونِ الصِّلَة، فَشرط التَّرْكِيب فَتدبر (وَعِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة خبر الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ (الْمُتَشَابه) أَي اسْم الْمُتَشَابه مَوْجُود فِي اصطلاحهم (لَكِن مُقْتَضى كَلَام الْمُحَقِّقين تساويهما) أَي الْمُجْمل والمتشابه (لتعريفهم) أَي الشَّافِعِيَّة، أَو تحقيقهم (الْمُجْمل بِمَا لم تتضح دلَالَته) قيل من قَول أَو فعل، فَإِن الْفِعْل لَهُ دلَالَة عقلية، وَخرج المهمل لعدم الدّلَالَة، والمبين لاتضاحها فِيهِ (وَبِمَا لم يفهم مِنْهُ معنى أَنه مُرَاد) أَي لم يفهم مِنْهُ الْمَعْنى من حَيْثُ أَنه مُرَاد، وَإِلَّا فَالْأَصْل الْفَهم على سَبِيل(1/161)
الِاحْتِمَال غير منفي، فَقَوله أَنه مُرَاد بدل اشْتِمَال (وَعَلِيهِ) أَي على التَّعْرِيف الثَّانِي (اعتراضات) مثل أَنه غير مطرد لصدقه على المهمل وَلَا منعكس، لِأَنَّهُ يجوز أَن يفهم من الْمُجْمل أحد محامله لَا بِعَيْنِه وَهُوَ معِين، وَقد يكون الْمُجْمل فعلا، والمتبادر من الْمَوْصُول اللَّفْظ (لَيست بشي) لِأَن الْمُتَبَادر مِنْهُ أَن يكون لَهُ دلَالَة، وَلَا دلَالَة للمهمل، وَفهم أحد المحامل لَا بِعَيْنِه لَا يكون فهم المُرَاد، والموصول أَعم من القَوْل وَالْفِعْل (والمتشابه) أَي ولتعريفهم إِيَّاه (بِغَيْر المتضح الْمَعْنى) وَهُوَ التَّسَاوِي بَين التعريفات ظَاهر، بل الْكَلَام فِي الِاتِّحَاد (وَجعل الْبَيْضَاوِيّ إِيَّاه) أَي الْمُتَشَابه (مُشْتَركا بَين الْمُجْمل والمؤول) حَيْثُ قَالَ والمشترك بَين النَّص، وَالظَّاهِر الْمُحكم، وَبَين الْمُجْمل والمؤول الْمُتَشَابه (مُشكل) لَا يذهب عَلَيْك لطف هَذَا التَّعْبِير (لِأَن المؤول ظَهرت دلَالَته على الْمَرْجُوح) فَصَارَ متضح الْمَعْنى (بِالْمُوجبِ) أَي بِالدَّلِيلِ الْمُوجب حمله على الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح حَتَّى صَار بِهِ راجحا (لَا يُقَال يُريدهُ) أَي يُرِيد الْبَيْضَاوِيّ كَون المؤول غير متضح الْمَعْنى (فِي نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن الْمُوجب لِأَنَّهُ) أَي المؤول (حِينَئِذٍ) أَي حِين قطع النّظر عَن الْمُوجب (ظَاهر لَا يصدق عَلَيْهِ متشابه) إِذْ الِاحْتِمَال الرَّاجِح لَا يُعَارضهُ الْمَرْجُوح على ذَلِك التَّقْدِير فَتعين أَن يكون مرَادا بِحَسب الظَّاهِر، فَلَا يصدق عَلَيْهِ إِذن غير متضح المُرَاد فَلَا يصدق على المؤول تَعْرِيف الْمُتَشَابه، لَا بِالنّظرِ إِلَى نَفسه، وَلَا بِالنّظرِ إِلَى الْمُوجب، فَلَا وَجه لإدراجه فِي الْمُتَشَابه (وَأَيْضًا يَجِيء مثله فِي الْمُجْمل) جَوَاب آخر عَن قَوْله لَا يُقَال الخ تَقْرِيره أَنكُمْ حَيْثُ سميتم المؤول المقرون بِمَا يُوجب حمله على الْمَعْنى الْمَرْجُوح متشابها بِاعْتِبَار نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن الْبَيَان احْتِرَازًا عَن التحكم (لَكِن مَا لحقه الْبَيَان خرج عَن الْإِجْمَال بالِاتِّفَاقِ) من الْفَرِيقَيْنِ (وَسمي مُبينًا عِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة (وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (إِن كَانَ) الْبَيَان (شافيا) رَافعا للإجمال رَأْسا (بقطعي فمفسر) أَي فَمَا لحقه الْبَيَان الْمَذْكُور يُسمى مُفَسرًا عِنْدهم كبيان الصَّلَاة وَالزَّكَاة (أَو) كَانَ الْبَيَان شافيا (بظني فمؤول) كبيان مِقْدَار الْمسْح بِحَدِيث الْمُغيرَة (أَو) كَانَ الْبَيَان (غير شاف خرج) الْمُجْمل (عَن الْإِجْمَال إِلَى الْإِشْكَال) كبيان الْعدَد بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة فِي الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُ يبْقى فِيهِ الْإِشْكَال بَعْدَمَا ارْتَفع الْإِجْمَال بِاعْتِبَار منَاط الحكم هَل هُوَ الْجِنْس وَالْقدر، أَو الطّعْم؟ على مَا عرف فِي مَوْضِعه (فَجَاز طلبه) أَي طلب بَيَانه حِينَئِذٍ (من غير الْمُتَكَلّم) لِأَن بَيَان الْمُشكل مِمَّا يَكْتَفِي فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ، بِخِلَاف الْإِجْمَال، فَظهر أَن الْمُجْمل الَّذِي لحقه الْبَيَان: قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا: شافيا كَانَ أَو غير شاف لَا يُوصف بالإجمال عِنْد الْحَنَفِيَّة أَيْضا (فَلِذَا) أَي لما ذكر من التَّفْصِيل (رد مَا ظن من أَن الْمُشْتَرك المقترن بِبَيَان مُجمل بِالنّظرِ إِلَى نَفسه مُبين بِالنّظرِ إِلَى الْمُقَارن) الظَّان الْأَصْفَهَانِي، والراد(1/162)
سقط(1/163)
سقط(1/164)
نَفسه فِي لِبَاس الْفَقِير وَالله أعلم (وَغَايَة الْأَمر) أَي أَمر الْخصم وشأنه فِي المناقشة أَن يدعى (أَن مُقْتَضى الظَّاهِر) على تَقْدِير كَون الْجُمْلَة المعطوفة لبَيَان قسم مُقَابل لقسم الزيغ (أَن يُقَال: وَأما الراسخون) ليعادل قسيمه، وَلِأَن الشَّائِع فِي كلمة: أما فِي مثل هَذَا الْمقَام أَن يثنى ويكرر، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (فَإِذا ظهر الْمَعْنى) المُرَاد بإماراته، وَهُوَ هَهُنَا بَيَان حَال الْقسمَيْنِ على الْوَجْه الَّذِي ذكر (وَجب كَونه) أَي كَون الْكَلَام وَاقعا (على مُقْتَضى الْحَال) وَهُوَ الْأَمر الدَّاعِي لاعْتِبَار خُصُوصِيَّة مَا فِي الْكَلَام (الْمُخَالف لمقْتَضى الظَّاهِر) وَهُوَ إِيرَاد كلمة أما، وَالْحَال الَّتِي مُقْتَضى الْمُخَالف إبراز الْكَلَام فِي صُورَة توهم مُوجب عطف الْمُفْرد ليتمسك بِهِ أهل الزيغ فيستحكم فِيهِ، ويتميز عَنْهُم الراسخون بالثبات عَن الزلل كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} - {يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا} - (مَعَ أَن الْحَال قيد لِلْعَامِلِ) وَهُوَ الْعلم هَهُنَا (وَلَيْسَ علمهمْ) أَي الراسخين بتأويله (مُقَيّدا بِحَال قَوْلهم - {آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} -) بل هُوَ مَوْجُود فِي جَمِيع الْأَحْوَال (وأيد حملنَا) الْآيَة على الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا (قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: وَأَن تَأْوِيله إِلَّا عِنْد الله) فَإِنَّهُ لَا يُمكن فِيهَا عطف والراسخون على الله لكَونه مجرورا، فموجبه حصر علم التَّأْوِيل فِي الله، والتوفيق بَين الْقرَاءَات مَطْلُوب، وَكَذَا قَرَأَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ كَمَا أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، وعزيت إِلَى أبي أَيْضا (فَلَو لم تكن) قِرَاءَة ابْن مَسْعُود (حجَّة) لكَونهَا شَاذَّة (صلحت مؤيدا) لما قدمْنَاهُ (على وزان ضَعِيف الحَدِيث) الَّذِي ضعفه لَيْسَ بِسَبَب فسق رُوَاته (يصلح شَاهدا وَإِن لم يكن مثبتا) قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي مبَاحث السّنة حَدِيث الضعْف للفسق لَا يرتقي بِتَعَدُّد الطّرق إِلَى الحجية وَلغيره مَعَ الْعَدَالَة يرتقي، فمراده من شَهَادَته تَكْمِيل وجبر لنُقْصَان كَانَ فِي الدَّلِيل لموجبه الْمُورث لشُبْهَة فِيهِ، فَإِذا صلحت مؤيدا على تَقْدِير عدم حجيتها (فَكيف) لَا يصلح (وَالْوَجْه) أَي الدَّلِيل (منتهض) أَي قَائِم (على الحجية كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى) أَي على حجية الْقِرَاءَة الشاذة. قَالَ فِي مبَاحث الْكتاب: الشاذ حجَّة ظنية خلافًا للشَّافِعِيّ رَحمَه الله، لنا مَنْقُول عدل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى قلت بل وفيهَا زِيَادَة، وَهِي أَنه نِسْبَة إِلَى الله تَعَالَى، والجرأة على الله أصعب من الجرأة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَجَرت عَادَة الشَّافِعِيَّة بِاتِّبَاع الْمُجْمل بِخِلَاف) صلَة الِاتِّبَاع (فِي جزئيات) مُتَعَلق بِالْخِلَافِ (أَنَّهَا) أَي تِلْكَ الجزئيات (مِنْهُ) أَي من الْمُجْمل، وَقَوله أَنَّهَا مِنْهُ: بدل من الجزئيات، لِأَن الْخلاف فِي أَنَّهَا أَي تِلْكَ الجزئيات هَل هِيَ من الْمُجْمل أم لَا (فِي مسَائِل) أَي حَال كَون تِلْكَ الجزئيات مَذْكُورَة فِي ضمن مسَائِل.(1/165)
(الأولى) مُبْتَدأ خَبره (التَّحْرِيم الْمُضَاف إِلَى الْأَعْيَان) إِلَى آخِره {كحرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} - {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} -، والتحليل الْمُضَاف إِلَيْهَا نَحْو - {أحلّت لكم الْأَنْعَام} -، وَالْمرَاد بِالْإِضَافَة النِّسْبَة، والأعيان مَا يُقَابل الْمعَانِي وَالْأَفْعَال (عَن الْكَرْخِي والبصري) أبي عبد الله نقل (إجماله) أَي إِجْمَال التَّحْرِيم الْمَذْكُور (وَالْحق) كَمَا قَالَ (ظُهُوره) أَنه ظَاهر (فِي) مُرَاده (معِين) بِحَسب كل مقَام كَمَا سيتبين (لنا) أَي الْحجَّة فِي الظُّهُور (الاستقراء) أَي مفَاد الاستقراء أَو المستقرأ (فِي مثله) من إِضَافَة الحكم إِلَى الذوات (إِرَادَة منع الْفِعْل الْمَقْصُود مِنْهَا) أَي من الْأَعْيَان، فَإِن مِمَّا يقْصد من النِّسَاء مثلا النِّكَاح ودواعيه، وَمن الْحَرِير اللّبْس، وَمن الْخمر الشّرْب، فالتحريم بِالْحَقِيقَةِ مُضَاف إِلَى هَذِه الْأَفْعَال (حَتَّى كَانَ) الْمَنْع الْمَذْكُور (متبادرا) أَي سَابِقًا إِلَى الْفَهم عرفا (من) نَحْو (حرمت الْحَرِير وَالْخمر والأمهات فَلَا إِجْمَال) إِذْ المُرَاد مُتَعَيّن (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بالإجمال (لَا بُد من تَقْدِير فعل) إِذْ التَّحْرِيم والتحليل تَكْلِيف بِالْفِعْلِ الْمَقْدُور، والمعين غير مَقْدُور، وَلَا يَصح تَقْدِير جَمِيع الْأَفْعَال (وَلَا معِين) للْبَعْض، فَلَزِمَ الْإِجْمَال (قُلْنَا تعين) الْبَعْض، وَهُوَ الْمَقْصُود من الْعين (بِمَا ذكرنَا) من التبادر (وادعاء فَخر الْإِسْلَام وَغَيره من الْحَنَفِيَّة الْحَقِيقَة) فِي اللَّفْظ الْمركب الدَّال على تَحْرِيم الْعين، مَعَ أَن الْحُرْمَة وَغَيرهَا من الْأَحْكَام الْخَمْسَة إِنَّمَا يُوصف بهَا أَفعَال الْمُكَلّفين، وَمُقْتَضَاهُ أَن يكون من الْمجَاز الْعقلِيّ (لقصد إِخْرَاج الْمحل) الَّذِي هُوَ الْعين الْمُضَاف إِلَيْهَا التَّحْرِيم (عَن الْمَحَلِّيَّة) عَن أَن يكون محلا للْفِعْل، وَقَوله لقصد مُتَعَلق بالادعاء، يَعْنِي أَن الْمَقْصُود من تَحْرِيم الْعين خُرُوجهَا عَن الْمَحَلِّيَّة، وَالْخُرُوج عَن الْمَحَلِّيَّة وصف ثَابت للعين حَقِيقَة فإسناده إِلَيْهَا على سَبِيل الْحَقِيقَة، وَلَا يخفى أَن تَفْسِير التَّحْرِيم بِهَذَا الْمَعْنى يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل تَصْحِيح، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (تَصْحِيحه) أَي الادعاء الْمَذْكُور، وَهُوَ خبر الْمُبْتَدَأ (بادعاء تعارف تركيب منع الْعين) كَحُرْمَةِ الْحَرِير وَالْخمر (لإخراجها) أَي الْعين (عَن محلية الْفِعْل) الْمَقْصُود مِنْهَا (الْمُتَبَادر) إِلَى الْفَهم (لَا) عَن محلية الْفِعْل (مُطلقًا) أَلا ترى أَن الْأُم خرجت عَن محليتها للنِّكَاح ودواعيه وَلم تخرج عَن محليتها لِأَن تقبل رَأسهَا إِكْرَاما، وَنَحْو ذَلِك (وَفِيه) أَي فِيمَا ذكرنَا من التَّصْحِيح (زِيَادَة بَيَان سَبَب الْعُدُول عَن التَّعْلِيق) أَي تَعْلِيق التَّحْرِيم (بِالْفِعْلِ إِلَى التَّعْلِيق بِالْعينِ) وَمِنْهُم من خصص ادِّعَاء الْحَقِيقَة بالحرام لعَينه، وَمِنْهُم من عمم فَأدْخل الْحَرَام لغيره أَيْضا فِيهِ وَهُوَ الْأَظْهر، وَقد نَص الْكرْمَانِي على تَسْلِيم كَونه مجَازًا فِي اللُّغَة حَقِيقَة فِي الْعرف، يَعْنِي عرف الشَّرْع.
المسئلة (الثَّانِيَة) مُبْتَدأ خَبره (لَا إِجْمَال فِي وأمسحوا برءوسكم) فَإِن قلت لَا بُد فِي المسئلة من(1/166)
سقط(1/167)
سقط(1/168)
أَي التَّبْعِيض (جَاءَ) وَثَبت (ضَرُورَة استيعابها) اسْتِيعَاب الْمسْح الْآلَة، فَإِن الْبَاء حِين دخلت فِي الْمحل تعدى الْفِعْل، وَهُوَ الْمسْح إِلَى الْآلَة تَقْديرا واستوعبها (وَهِي) أَي الْآلَة (غَالِبا كالربع) أَي كربع الرَّأْس فِي الْمِقْدَار، فَلَزِمَ الرّبع كَمَا هُوَ ظَاهر الْمَذْهَب، فَلَا إِجْمَال حِينَئِذٍ وَلَا إِطْلَاق (وَكَونه) أَي الرّبع الْمَمْسُوح (الناصية) وَهِي الْمُقدم من الرَّأْس (أفضل لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَمَا سَيذكرُهُ المُصَنّف رَحمَه الله فِي مسئلة الْبَاء.
المسئلة (الثَّالِثَة لَا إِجْمَال فِي نَحْو " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ ") مِمَّا يَنْفِي صفته، وَالْمرَاد لَازم من لوازمها (لِأَن الْعرف) أَي الْمَعْنى الْعرفِيّ (فِي مثله قبل) وُرُود (الشَّرْع رفع الْعقُوبَة) فَإِن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ رفعت عَنْك الْخَطَأ كَانَ الْمَفْهُوم مِنْهُ أَنِّي لَا أؤاخذك بِهِ وَلَا أعاقبك عَلَيْهِ، فَهُوَ وَاضح فِيهِ (وَالْإِجْمَاع) مُنْعَقد (على إِرَادَته) أَي رفع الْعقُوبَة من الحَدِيث الْمَذْكُور (شرعا) أَي إِرَادَة شَرْعِيَّة فَلَزِمَ مُوَافقَة عرف الشَّرْع بعرف اللُّغَة (وَلَيْسَ الضَّمَان عُقُوبَة) فَلَا يُرَاد أَن رفع الْعقُوبَة مُطلقًا فِي الْخَطَأ يسْتَلْزم سُقُوط الضَّمَان فِيمَا إِذا أتلف مَال الْغَيْر خطأ (بل) يجب (جبرا لحَال المغبون) الْمُتْلف عَلَيْهِ فَلَا يجب عُقُوبَة (قَالُوا) أَي الذاهبون إِلَى الْإِجْمَال فِيمَا ذكر المذكورون فِيمَا سبق بطرِيق الْإِشَارَة، لِأَن الْمسَائِل المعدودة مِمَّا اخْتلف الأصوليون فِيهَا بِاعْتِبَار الْإِجْمَال وَعَدَمه (الْإِضْمَار) وَالتَّقْدِير لمتعلق الرّفْع (مُتَعَيّن) لِأَن نفس الْخَطَأ غير مَرْفُوع لوُقُوعه أَكثر من أَن يُحْصى (وَلَا معِين) لخُصُوص المُرَاد فَلَزِمَ الْإِجْمَال (أُجِيب) عَن احتجاجهم بِأَنَّهُ (عينه) أَي الْبَعْض بِخُصُوصِهِ، وَهُوَ رفع الْعقُوبَة (الْعرف الْمَذْكُور) على مَا عرفت.
المسئلة (الرَّابِعَة لَا إِجْمَال فِيمَا يَنْفِي من الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة محذوفة الْخَبَر) أَي خبر لَا النافية الدَّاخِلَة على الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة (كلا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب) ، لَا صَلَاة (إِلَّا بِطهُور) فَهَذَا من قبيل زيد عَالم (خلافًا للْقَاضِي) أبي بكر الباقلاني (لنا أَن نثبت أَن الصِّحَّة جُزْء مَفْهُوم الِاسْم الشَّرْعِيّ) وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ (وَلَا عرف) للشارع (يصرف عَنهُ) أَي الْمَفْهُوم الشَّرْعِيّ (لزم تَقْدِير الْوُجُود) لِأَن الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من نفي الْفِعْل الشَّرْعِيّ أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا نفي الْوُجُود وَهُوَ الْأَظْهر، وَإِمَّا نفي الصِّحَّة، وَحَيْثُ فرض جزئية الصِّحَّة من مَفْهُوم الْكُلِّي كَانَ نفي الصِّحَّة مستلزما لنفي الْوُجُود، وَلَا شكّ أَن نفي الْوُجُود مُسْتَلْزم لنفي الصِّحَّة، لِأَنَّهُ لَا صِحَة بِدُونِ الْوُجُود فاذن بَينهمَا تلازم، وَقد عرفت أَن نفي الْوُجُود أظهر وَأقرب إِلَى الْفَهم فَتعين (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تثبت جزئيتها لَهُ (فَإِن تعورف صرفه) أَي نفي الْفِعْل شرعا فِي مثل ذَلِك (إِلَى) نفي (الْكَمَال لزم) صرفه إِلَيْهِ كَمَا فِي لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد لَا فِي الْمَسْجِد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه، وَقَالَ ابْن خرم هُوَ صَحِيح من قَول عَليّ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتعارف صرفه إِلَى نفي الْكَمَال (لزم(1/169)
تَقْدِير الصِّحَّة لِأَنَّهُ) أَي تقديرها (أقرب إِلَى نفي الذَّات) من تَقْدِير الْكَمَال يَعْنِي أَن الْحَقِيقَة المعتذرة هِيَ نفي الذَّات، وَعند تعذرها يتَعَيَّن الْأَقْرَب إِلَيْهَا فَإِن قلت قد سبق أَن نفي الْوُجُود أظهر وَهُوَ أقرب إِلَيْهِ قُلْنَا الْمَفْرُوض عدم الصِّحَّة جزئية من مَفْهُوم الِاسْم، وَعند ذَلِك يتَحَقَّق الْمَفْهُوم بِدُونِ الصِّحَّة، وكما أَن نفي الذَّات غير صَحِيح، لِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع كَذَلِك نفي الْوُجُود بِدُونِ الصِّحَّة غير صَادِق فَلَا تصح إِرَادَته فَتعين أَن يُرَاد نفي الصِّحَّة (وَهَذَا) أَي التَّعْلِيل بالأقربية على إِرَادَة نفي الصِّحَّة (تَرْجِيح لإِرَادَة بعض المجازات المحتملة) أَي بعض الْمعَانِي المجازية الَّتِي يحْتَملهُ اللَّفْظ بِحَسب الْمقَام على الْبَعْض (لَا إِثْبَات اللُّغَة بالترجيح) فَإِنَّهُ غير جَائِز على مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من عدم جَوَاز إِثْبَات اللُّغَة بِالْقِيَاسِ خلافًا للْقَاضِي وَابْن سُرَيج، وَبَعض الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَسْمِيَة مسكوت عَنهُ باسم إِلْحَاقًا لَهُ بِمَعْنى يُسمى بذلك الِاسْم لِمَعْنى تَدور التَّسْمِيَة بِهِ مَعَه كَمَا بَين فِي مَوْضِعه، وكما أَنه لَا يجوز بِالْقِيَاسِ كَذَلِك لَا يجوز بالترجيح لاشْتِرَاكهمَا فِي الْعلَّة، وَهِي عدم صِحَة الحكم بِوَضْع اللَّفْظ بالمحتمل (قَالُوا) أَي المجملون (الْعرف فِيهِ) أَي فِيمَا يَنْفِي من الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة (مُشْتَرك بَين الصِّحَّة والكمال) يَعْنِي كَمَا أَنه يُرَاد بِهِ نفي الصِّحَّة عرفا فِي بعض الْموَاد كَذَلِك يُرَاد بِهِ نفي الْكَمَال عرفا فِي بعض آخر، (ف) إِذا كَانَ اللَّفْظ مُشْتَركا عرفا بَين الْمَعْنيين (لزم الْإِجْمَال قُلْنَا) الِاشْتِرَاك بَينهمَا عرفا (مَمْنُوع بل) إِرَادَة نفي الْكَمَال فِي بعض الاستعمالات الشَّرْعِيَّة مجَازًا (لاقْتِضَاء الدَّلِيل) الدَّال على أَن المُرَاد نفي الْكَمَال (فِي خصوصيات الْمَوَارِد) فَهُوَ قرينَة مُعينَة للمعنى الْمجَازِي مُخْتَصَّة بموارد جزئية، وَعند انْتِفَاء تِلْكَ الْقَرِينَة يتَعَيَّن الْمجَازِي الْأَقْرَب إِلَى الْحَقِيقَة على مَا ذكر من غير مزاحمة مجازى آخر فَلَا إِجْمَال.
الْمَسْأَلَة (الْخَامِسَة لَا إِجْمَال فِي الْيَد وَالْقطع فَلَا إِجْمَال فِي فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا) يَعْنِي لَو كَانَ فِيهِ إِجْمَال لَكَانَ باعتبارهما، لِأَن غَيرهمَا من الْأَجْزَاء لَا يتَوَهَّم فِيهِ ذَلِك، وَإِذا لم يكن فِي شَيْء مِنْهُمَا لزم نفي الْإِجْمَال فِيهِ مُطلقًا (و) قَالَ (شرذمة) بِالْكَسْرِ: أَي قَلِيل من النَّاس (نعم) حرف إِيجَاب يُقرر مَا قبلهَا خبريا أَو إستفهاميا مثبتا أَو منفيا، يَعْنِي نعم فِيهَا إِجْمَال (فَنعم) أَي فَفِي فَاقْطَعُوا إِلَى آخِره إِجْمَال باعتبارهما، وَقد سبق أَن فِي أَمْثَاله الْإِجْمَال فِي الْمُفْرد بِشَرْط التَّرْكِيب، وَالْحجّة (لنا أَنَّهُمَا) أَي الْيَد وَالْقطع (لُغَة) موضوعان (لجملتها) أَي الْيَد من رُءُوس الْأَصَابِع (إِلَى الْمنْكب) وَهُوَ مجمع رَأس الْكَتف والعضد (والأبانة) وَهِي فصل الْمُتَّصِل (قَالُوا) أَي المجملون (يُقَال) الْيَد (للْكُلّ و) يُقَال للجزء مِنْهَا من رُءُوس الْأَصَابِع (إِلَى الْكُوع) وَهُوَ طرف الزند الَّذِي يَلِي الْإِبْهَام (و) يُقَال (الْقطع للإبانة وَالْجرْح) وَهُوَ شقّ الْعُضْو من غير إبانة لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ (وَالْأَصْل) فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ (الْحَقِيقَة) فَهُوَ حَقِيقَة فِي كل مِنْهُمَا وَلَا مُرَجّح(1/170)
لوَاحِد من الْكل والجزء فِي الأول، والأبانة وَالْجرْح فِي الثَّانِي، فَكَانَا مجملين (وَالْجَوَاب) أَنا لَا نسلم اشتراكهما (بل) كل من الْيَد وَالْقطع (مجَاز فِي) الْمَعْنى (الثَّانِي) أَي الْجُزْء وَالْجرْح (للظهور) أَي لظُهُور الْيَد وَالْقطع (فِي الْأَوَّلين) الْكل والأبانة، وتبادر الْمَعْنى من اللَّفْظ دَلِيل الْحَقِيقَة، وَلَو كَانَا مشتركين لم يتَبَادَر أحد الْمَعْنيين (فَلَا إِجْمَال، وَاسْتدلَّ) بمزيف على نفي الْإِجْمَال وَهُوَ أَن كلا مِنْهُمَا (يحْتَمل الِاشْتِرَاك) اللَّفْظِيّ على الْوَجْه الْمَذْكُور (والتواطؤ) بِأَن تكون الْيَد مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْكل والجزء، وَالْقطع للقدر الْمُشْتَرك بَين الأبانة وَالْجرْح (وَالْمجَاز) بِأَن يكون كل مِنْهُمَا حَقِيقَة فِي أحد فِي الْمَعْنيين مجَازًا فِي الآخر (والإجمال) يتَحَقَّق (على أَحدهَا) أَي أحد الِاحْتِمَالَات الثَّلَاثَة (وَعَدَمه) أَي عدم الِاحْتِمَال يتَحَقَّق (على اثْنَيْنِ) من الثَّلَاثَة (فَهُوَ) أَي عدم الْإِجْمَال (أولى) بِالِاعْتِبَارِ، لِأَن وُقُوع وَاحِد لَا بِعَيْنِه من اثْنَيْنِ أقرب من وُقُوع وَاحِد بِعَيْنِه فيغلب على الظَّن الْأَقْرَب المستلزم عدم الْإِجْمَال (وَدفع) الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (بِأَنَّهُ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال (إِثْبَات اللُّغَة) وَوضع اللَّفْظ: أَي الْيَد وَالْقطع (بِتَعْيِين مَا وضع لَهُ الْيَد) وَالْقطع، الْبَاء للْبَيَان مُتَعَلق بالإثبات (بالترجيح) مُتَعَلق بِالتَّعْيِينِ (لعدم الْإِجْمَال) على الْإِجْمَال، فَاللَّام صلَة التَّرْجِيح، وَحَاصِله إِثْبَات أَن الْيَد وَالْقطع مَوْضُوع للْكُلّ والإبانة، بِدَلِيل تَرْجِيح عدم الْإِجْمَال عَلَيْهِ لكَونه أقرب مَوْضُوعا من وجوده لما ذكر، وَقد مر أَن إِثْبَات اللُّغَة بِمثلِهِ غير صَحِيح (على أَن نفي الْإِجْمَال) هُنَا أَعنِي (فِي الْآيَة على تَقْدِير التواطئ مَمْنُوع إِذْ الْحمل) أَي حمل كل وَاحِد من الْيَد وَالْقطع (على الْقدر الْمُشْتَرك لَا يتَصَوَّر، إِذْ لَا يتَصَوَّر إِضَافَة الْقطع) ونسبته (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الْقدر الْمُشْتَرك (إِلَّا على إِرَادَة الْإِطْلَاق) بِأَن يُرَاد إِيقَاع الْقطع على أَفْرَاد مَا من أَفْرَاد الْمُشْتَرك: أَي فَرد كَانَ لِأَنَّهُ لَو لم يرد ذَلِك لامتنع إِضَافَة الْقطع إِلَيْهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ، وَهِي أَمر اعتباري لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج، وَإِمَّا أَن يُرَاد بِهِ كل فَرد مِنْهُ فَيلْزم قطع كل مَا يصدق عَلَيْهِ الْقدر الْمُشْتَرك، وَهُوَ ظَاهر الْبطلَان فَلم يبْق إِلَّا الْإِطْلَاق (وَهُوَ) أَي الْإِطْلَاق (مُنْتَفٍ إِجْمَاعًا) لِأَن مُقْتَضَاهُ حُصُول إِقَامَة حد السّرقَة بِقطع جُزْء من أَجزَاء الْيَد مُطلقًا وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع فَعلم أَنه على تَقْدِير التواطئ لَا يُرَاد الْقدر الْمُشْتَرك (فَكَانَ) المُرَاد (محلا معينا مِنْهَا) أَي من الْيَد (لَا معِين) فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى فَلَزِمَ الْإِجْمَال (وَالْحق أَنه لَا تواطؤ) أَي لَيْسَ بموضوع للقدر الْمُشْتَرك (وَإِلَّا نَاقض) تواطؤه (كَونه) مَوْضُوعا (للْكُلّ) وَوَضعه ثَابت للْكُلّ نقلا وَيدل عَلَيْهِ تبادره عِنْد الْإِطْلَاق من غير قرينَة صارفة عَنهُ (لَكِن يعلم إِرَادَة الْقطع فِي خُصُوص) أَي فِي جُزْء مَخْصُوص (مِنْهُ) أَي من الْكل لإِرَادَة قطع الْكل، وَهَذَا الْعلم بِمَا(1/171)
قَامَ عِنْد المخاطبين من الْقَرَائِن الدَّالَّة على كَون المُرَاد محلا معينا من غير تعْيين ذَلِك الْمعِين، وَلذَا قَالَ (وَلَا معِين، فإجماله فِيهِ) أَي فَكَانَ الْقطع مُجملا فِي حق مَحَله الْمعِين (وَأما إِلْزَام أَن لَا مُجمل حِينَئِذٍ) جَوَاب سُؤال مُقَدّر على الِاسْتِدْلَال المزيف، تَقْرِيره يلْزم أَن لَا يكون مُجمل أبدا أَو مَا من الْجمل وَإِلَّا يجْرِي فِيهِ ذَلِك بِعَيْنِه، وَقَوله حِينَئِذٍ أَي حِين يتم هَذَا التَّوْجِيه (فَدفع) الْإِلْزَام الْمَذْكُور (بِأَن ذَلِك) أَي جَرَيَان الدَّلِيل فِيمَا (إِذا لم يتَعَيَّن) الْإِجْمَال بدليله (لَكِن تعينه) أَي الْإِجْمَال فِي موَاضعه (ثَابت بِالْعلمِ بالاشتراك والحقائق الشَّرْعِيَّة) إِشَارَة إِلَى مَا سبق من أَن الأجمال قد يكون لتَعَدد مَكَان لَا يعرف إِلَّا بِبَيَان كمشترك تعذر تَرْجِيحه، وَقد يكون لإبهام مُتَكَلم لوضعه لغير مَا عرف كالأسماء الشَّرْعِيَّة من الصَّلَاة وَالزَّكَاة والربا، وَقد مر بَيَانه، فَالْمُرَاد بقوله بِالْعلمِ الخ الْعلم بِهِ مَعَ تعذر التَّرْجِيح، وَقَوله والحقائق مَعْطُوف على الِاشْتِرَاك يَعْنِي الْإِجْمَال ثَابت بعلمنا بِأَن الصَّلَاة مثلا لَهَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة مُعينَة غير اللُّغَوِيَّة مُرَادة للشارع عِنْد اسْتِعْمَالهَا وَلَا معِين لَهَا عِنْد التخاطب بهَا، فَلَزِمَ الْإِجْمَال.
الْمَسْأَلَة (السَّادِسَة لَا إِجْمَال فِيمَا) أَي لفظ (لَهُ مسميان لغَوِيّ وشرعي) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وضعا فِي اللُّغَة للدُّعَاء والإمساك، وَفِي الشَّرْع للمحققين الشرعيين (بل) ذَلِك اللَّفْظ إِذا صدر عَن الشَّارِع (ظَاهر فِي) الْمُسَمّى (الشَّرْعِيّ) فِي الْإِثْبَات وَالنَّهْي، وَهَذَا أحد الْأَقْوَال فِي هَذِه المسئلة: وَهُوَ الْمُخْتَار (وَثَانِيها للْقَاضِي أَنه مُجمل فيهمَا) و (ثَالِثهَا للغزالي) وَهُوَ أَن (فِي النَّهْي مُجمل) وَفِي الْإِثْبَات الشَّرْعِيّ (وَرَابِعهَا) لقوم مِنْهُم الْآمِدِيّ وَهُوَ أَنه (فِيهِ) أَي فِي النَّهْي (اللّغَوِيّ) وَفِي الْإِثْبَات الشَّرْعِيّ (لنا عرفه) أَي عرف الشَّرْع (يقْضِي) أَي يحكم (بظهوره) أَي اللَّفْظ (فِيهِ) أَي فِي الشَّرْع، لِأَنَّهُ صَار مَوْضُوعا فِي عرف الشَّرْع وَالظَّاهِر من الشَّارِع، بل وَمن أهل الشَّرْع أَيْضا أَن يُخَاطب بعرفه، كَيفَ وَلَو خَاطب بِغَيْرِهِ كَانَ مجَازًا إِلَّا إِذا كَانَ التخاطب بذلك الْغَيْر (الْإِجْمَال) أَي دَلِيل الْإِجْمَال فِي الْإِثْبَات وَالنَّهْي أَنه (يصلح لكل) من الْمُسَمّى اللّغَوِيّ والشرعي وَلم يَتَّضِح وَهُوَ معنى الْإِجْمَال، وَالْجَوَاب ظُهُوره فِي الشَّرْعِيّ. قَالَ (الْغَزالِيّ) مَا ذكرْتُمْ من الظُّهُور فِي الْإِثْبَات وَاضح، وَأما فِي النَّهْي فَلَا يُمكن حمله على الْمُسَمّى (الشَّرْعِيّ) إِذْ الشَّرْعِيّ (مَا وَافق أمره) أَي الشَّارِع (وَهُوَ) مَا وَافق أمره (الصَّحِيح) فالشرعي هُوَ الصَّحِيح (وَيمْتَنع) الْوِفَاق (فِي النَّهْي) لِأَن الْمنْهِي عَنهُ مُخَالف لِلْأَمْرِ، لِأَن النَّهْي يدل على فَسَاده (أُجِيب) عَنهُ بِأَنَّهُ (لَيْسَ الشَّرْعِيّ الصَّحِيح) أَي لَا يعْتَبر الصِّحَّة فِي الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ لَا جَزَاء وَلَا شرطا (بل) الشَّرْعِيّ (الْهَيْئَة) بِالنّصب عطف على خبر لَيْسَ، وَلَا يضر انْتِقَاض النَّفْي ببل، لِأَن عَملهَا للفعلية: يَعْنِي لَيْسَ الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ هُوَ الصَّحِيح، بل مَا يُسَمِّيه الشَّارِع(1/172)
بذلك الِاسْم من الهيآت الْمَخْصُوصَة حَيْثُ يَقُول هَذِه صَلَاة صَحِيحَة، وَهَذِه صَلَاة فَاسِدَة (وَالرَّابِع) أَي وَالْقَوْل الرَّابِع (مثله) أَي مثل القَوْل الثَّالِث فِي الْإِثْبَات وَقد عرفت أَن الثَّالِث أَنه فِي الْإِثْبَات الشَّرْعِيّ (غير أَنه) فِي اللَّفْظ فِي هَذَا القَوْل (فِي النَّهْي) مُتَعَيّن (للغوي إِذْ لَا ثَالِث) للغوي والشرعي (وَقد تعذر الشَّرْعِيّ) لما عرفت فِي الثَّالِث، فَلَا إِجْمَال حَيْثُ تعين اللّغَوِيّ (وَجَوَابه مَا تقدم) من قَوْله أُجِيب لَيْسَ الشَّرْعِيّ الصَّحِيح إِلَى آخِره، وَأَنه يلْزم أَن يكون معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد " الحَدِيث، ودعى الصَّلَاة للحائض وَنَحْوهمَا لَا دُعَاء ودعى الدُّعَاء إِلَى غير ذَلِك، وبطلانه ظَاهر، وَلَك أَن تَقول لم لَا يجوز أَن يكون مُرَاد هَذَا الْقَائِل كَون اللَّفْظ فِي النَّهْي للهيئة الْمُجَرَّدَة عَن اعْتِبَار الصِّحَّة من حَيْثُ أَنه فَرد من أَفْرَاد الْمَعْنى اللّغَوِيّ، فاللفظ مُسْتَعْمل فِي الْفَرد الْمُنْتَشِر، والخصوصية مَأْخُوذَة من الْقَرِينَة فَلَا مجَاز وَلَا إِجْمَال فَتَأمل ذَلِك، كَيفَ وَإِن لم يؤول كَلَامه بِمثلِهِ، لَكِن إِن ظَاهر الْبطلَان لَا يَقُول بِهِ عَاقل (فَأَما الْحَنَفِيَّة فاعتبروا وصف الصِّحَّة فِي الِاسْم الشَّرْعِيّ على مَا يعرف) فِي مَبْحَث النَّهْي، لَكِن لَهُم تَفْصِيل فِي تَفْسِيرهَا كَمَا أَفَادَ بقوله (فالصحة فِي) بَاب (الْمُعَامَلَة ترَتّب الْآثَار) واستتباع الْغَايَة الْمَطْلُوبَة مِنْهَا كَمَا فِي قَوْله (مَعَ عدم وجوب الْفَسْخ) أَي فسخ تِلْكَ الْمُعَامَلَة الَّتِي ترَتّب عَلَيْهَا الْآثَار، احْتِرَازًا عَن ترَتّب الْأَثر الَّذِي فِي الْفَاسِد، فَإِنَّهُ يجب فَسخهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْفساد عِنْدهم) أَي عِنْد الْحَنَفِيَّة ترَتّب الْآثَار (مَعَه) أَي مَعَ وجوب الْفَسْخ (وَإِن كَانَ) الصَّحِيح (عبَادَة فالترتب) أَي فالصحة فِيهِ ترَتّب الْأَثر بِدُونِ قيد آخر، والأثر بَرَاءَة الذِّمَّة فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة (فيراد) بِالِاسْمِ الشَّرْعِيّ (فِي النَّفْي) وَهُوَ يَشْمَل النَّهْي أَيْضا (الصُّورَة) وَهِي مُجَرّدَة ذَلِك الْمُسَمّى خَالِيَة عَن وصف الصِّحَّة (مَعَ النِّيَّة فِي الْعِبَادَة) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ الْمَنْفِيّ عبَادَة (وَيكون) الِاسْم الشَّرْعِيّ حِينَئِذٍ (مجَازًا شَرْعِيًّا) مرعيا فِيهِ الْعَلامَة بَين الْمَعْنى الْمجَازِي وَبَين مَا وضع لَهُ الِاسْم فِي عرف الشَّرْع مُسْتَعْملا (فِي جُزْء الْمَفْهُوم) الشَّرْعِيّ وَذَلِكَ لِأَن الْمنْهِي عَنهُ لَا ثَوَاب لَهُ فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَثر، والترتب عين الصِّحَّة فِي الْعِبَادَة بِخِلَاف الْمُعَامَلَة، فَإِنَّهُ جُزْء مفهومها فِيهَا وَهُوَ يتَحَقَّق فِي الْفَاسِد أَيْضا، فالفاسد فِي الْمُعَامَلَات غير صَحِيح يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَثر كالملك فِي البيع الْفَاسِد إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض بِخِلَاف الْبَاطِل، فَإِنَّهُ مُقَابل للصحيح وَالْفَاسِد.
الْمَسْأَلَة (السَّابِعَة إِذا حمل الشَّارِع لفظا شَرْعِيًّا على) لفظ شَرْعِي (آخر) حمل مواطأة وَكَانَ بَين مفيديهما تبَاين فِي الْوَاقِع، فَحمل من بَاب التَّشْبِيه البليغ كزيد أَسد (وَأمكن فِي وَجه الشّبَه محملان) محمل (شَرْعِي) ومحمل (ولغوي لزم الشَّرْعِيّ كالطواف صَلَاة) تَمَامه الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن(1/173)
الله تَعَالَى قد أحل لكم فِيهِ الْكَلَام، فَمن تكلم فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير، وَقَالَ الْحَاكِم صَحِيح الْإِسْنَاد حمل الشَّارِع لفظ الصَّلَاة الْمَوْضُوع شرعا للأركان الْمَخْصُوصَة على الطّواف الْمَوْضُوع شرعا للأشراط الْمَخْصُوصَة وَلَا اتِّحَاد بَينهمَا، فاحتيج إِلَى أَن يصرف عَن الظَّاهِر، وَحمل على أَنه كَالصَّلَاةِ فاحتجنا إِلَى بَيَان وَجه الشّبَه، وَله وَجْهَان، فَأَشَارَ إِلَيْهِمَا بقوله (تصح) فِي وَجه الشّبَه أَن يكون الْمَعْنى كَونهَا مثلهَا (ثَوابًا أَو لاشْتِرَاط الطَّهَارَة) عطف على ثَوابًا لكَونه معلولا لَهُ للشبيه الْمَفْهُوم من فحوى الْكَلَام: أَي شبه للثَّواب: أَي الْمُشَاركَة فِيهِ، أَو للمشاركة فِي اشْتِرَاط الطَّهَارَة، فَقَوله تصح إِلَى آخِره مستأنفة لبَيَان المحملين (وَهُوَ) أَن الْمحمل على أحد الْأَمريْنِ: الثَّوَاب أَو الِاشْتِرَاط هُوَ الْمحمل (الشَّرْعِيّ) لِأَن حَاصله يرجع إِلَى بَيَان حكم شَرْعِي، أَو لِأَن الملحوظ فيهمَا المعنيان الشرعيان (أَو لوُقُوع الدُّعَاء فِيهِ) أَي فِي الطّواف وَالدُّعَاء هُوَ معنى الصَّلَاة لُغَة فالمشبه حِينَئِذٍ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيّ والمشبه بِهِ مَا صدق عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ، وَوجه الشّبَه اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على الدُّعَاء وَإِن كَانَ فِي أَحدهمَا من قبيل اشْتِمَال الظّرْف على المظروف، وَفِي الآخر من قبيل الْفَرد على الطبيعة (وَهُوَ) أَي الْحمل على هَذَا الْمَعْنى هُوَ الْمحمل (اللّغَوِيّ) لبنائه على الْمَعْنى اللّغَوِيّ، أَو لِأَن فَائِدَة الْخطاب حِينَئِذٍ لَيست بَيَان حكم شَرْعِي، بل مُجَرّد اشتمالهما على الدُّعَاء وَهِي مِمَّا يفاد فِي المحاورات اللُّغَوِيَّة، وَلَا يخفى مَا فِيهِ (والاثنان جمَاعَة) معطوفة على قَوْله الطّواف صَلَاة: أَي الِاثْنَان كالجماعة، يَصح أَن يكون من حَيْثُ الثَّوَاب مثلهَا (فِي) مِقْدَار (ثَوَابهَا و) فِي (سنة تقدم الامام) إِضَافَة سنة بَيَانِيَّة، وإذافة تقدم إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْفَاعِل (و) فِي (الْمِيرَاث) حَتَّى يحجب الِاثْنَان من الْأُخوة للْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس كالثلاثة فَصَاعِدا، وَهَذَا هُوَ الشَّرْعِيّ (أَو يصدق) عَلَيْهِ مَفْهُوم الْجَمَاعَة (عَلَيْهِمَا) أَي الِاثْنَيْنِ (لُغَة) أَي بِاعْتِبَار الْمَعْنى اللّغَوِيّ، فَقَوله أَو يصدق مَعْطُوف على مجرور فِي، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيل الْمصدر، وَالْمعْنَى أَو فِي صدقه عَلَيْهِمَا صدقا بِحَسب اللُّغَة، وَالْحجّة (لنا) فِي نفي الْإِجْمَال مُطلقًا (عرفه) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا هُوَ الْمُعْتَاد مِنْهُ (تَعْرِيف الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة وتبينها، فالمحمل الشَّرْعِيّ على طبقه دون الْمحمل اللّغَوِيّ فَيتَعَيَّن، فَلَا إِجْمَال (وَأَيْضًا لم يبْعَث) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لتعريف اللُّغَة) فَبعد حمل كَلَامه عَلَيْهِ ومرجع الْمحمل اللّغَوِيّ، وَهُوَ كَون الطّواف صَلَاة لوُقُوع الدُّعَاء فِيهِ، وَكَون الِاثْنَيْنِ جمَاعَة لصدقه عَلَيْهِمَا تَعْرِيف بِهِ، وَبَيَان اللُّغَة الصَّلَاة من حَيْثُ إِنَّهَا تصدق على الطّواف من حَيْثُ اشتماله على الدُّعَاء، وللغة الْجَمَاعَة من حَيْثُ إِنَّهَا تصدق على الِاثْنَيْنِ (قَالُوا) أَي المجملون (يصلح) اللَّفْظ (لَهما) أَي للمحمل الشَّرْعِيّ واللغوي لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوض، وَلم يَتَّضِح دلَالَته على أَحدهمَا لعدم الدَّلِيل، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَلَا معرف) لأَحَدهمَا بِعَيْنِه (قُلْنَا(1/174)
مَا ذكرنَا) دلَالَته من أَن عرفه تَعْرِيف الْأَحْكَام لَا اللُّغَة (معرف) لتعيين المُرَاد مِنْهُمَا.
المسئلة (الثَّامِنَة إِذا تساوى إِطْلَاق لفظ لِمَعْنى ولمعنيين) بِأَن أطلق لِمَعْنى وَاحِد تَارَة ولمعنيين تَارَة أُخْرَى، وَلَيْسَ أحد الاستعمالين أرجح من الآخر (فَهُوَ) أَي اللَّفْظ الْمَذْكُور (مُجمل) لتردده بَين الْمَعْنى والمعنيين على السوَاء (كالدابة للحمار، وَله) أَي للحمار (مَعَ الْفرس وَمَا رجح بِهِ) القَوْل بظهوره فِي الْمَعْنيين (من كَثْرَة الْمَعْنى) فَإِن الْمَعْنيين أَكثر فَائِدَة (إِثْبَات الْوَضع بِزِيَادَة الْفَائِدَة) وَقد علم بُطْلَانه، فالترجيح بِهِ بَاطِل، كَذَا قَالُوا، وَاعْترض المُصَنّف عَلَيْهِ بقوله (وَهُوَ) أَي الحكم بِأَنَّهُ إِثْبَات الْوَضع إِلَى آخِره (غلط بل هُوَ) أَي مَا رجح بِهِ (إِرَادَة أحد المفهومين) أَي دَلِيل إِرَادَته (بهَا) أَي بِزِيَادَة الْفَائِدَة وَلَا مَحْذُور فِيهِ (نعم هُوَ) أَي مَا رجح بِهِ (معَارض بِأَن الْحَقَائِق) أَي الْأَلْفَاظ المستعملة فِي مَعَانِيهَا الَّتِي وضعت بإزائها إِطْلَاقهَا (لِمَعْنى) وَاحِد (أغلب) وَأكْثر من إِطْلَاقهَا لمعنيين فَصَاعِدا (وَقَوْلهمْ) أَي المجملين (يحْتَمل) اللَّفْظ الْمَذْكُور الِاحْتِمَالَات (الثَّلَاثَة) الِاشْتِرَاط اللَّفْظِيّ والتواطؤ وَالْمجَاز فِي أحد الاطلاقين (كَمَا فِي وَالسَّارِق) على مَا تقدم (انْدفع) بِمَا ذكرنَا ثمَّة، فَارْجِع ليه ولتعلم أَن اللَّفْظ إِذا أطلق تَارَة لِمَعْنى وَأُخْرَى لذَلِك الْمَعْنى بِعَيْنِه مَعَ معنى آخر، فالإجمال فِيهِ بِاعْتِبَار هَذَا الآخر فَقَط، لِأَن ذَلِك الْمَعْنى لَا شكّ فِي كَونه مرَادا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
الْفَصْل الثَّالِث
(اللَّفْظ) بل الْمُفْرد (بالمقايسة إِلَى) مُفْرد (آخر إِمَّا مرادف مُتحد مفهومهما) وصف بِحَال الْمُتَعَلّق لمرادف كاشف، لِأَن الترادف توارد كَلِمَتَيْنِ فَصَاعِدا فِي الدّلَالَة على الِانْفِرَاد بِأَصْل الْوَضع على معنى وَاحِد من جِهَة وَاحِدَة، فَخرج بِقَيْد الِانْفِرَاد توارد التَّابِع والمتبوع وبأصل الْوَضع توارد الْكَلِمَات الدَّالَّة مجَازًا على معنى وَاحِد من جِهَة وَاحِدَة، فَخرج بِقَيْد الِانْفِرَاد توارد التَّابِع والمتبوع، وبأصل الْوَضع توارد الْكَلِمَات الدَّالَّة مجَازًا على وَجه معنى وَاحِد، والدالة بَعْضهَا مجَازًا وَبَعضهَا حَقِيقَة، وبوحدة الْمَعْنى التَّأْكِيد والمؤكد، وبوحدة الْجِهَة الْحَد والمحدود كالإنسان، وَالْحَيَوَان النَّاطِق لاخْتِلَاف مَعْنَاهُمَا من حَيْثُ الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل، كَذَا قَالُوا وَصفته أَن الْحَد مركب، وَقد اعْتبر فِي تَعْرِيف الترادف الْإِفْرَاد لقَولهم توارد كَلِمَتَيْنِ، وَهُوَ مَأْخُوذ من الترادف الَّذِي هُوَ ركُوب وَاحِد خلف الآخر كَأَن الْمَعْنى مركوب لَهما (كالبر والقمح) للحنطة (أَو مباين) للْآخر (مُخْتَلفَة) أَي الْمَفْهُوم صفة كاشفة، وأصل المباينة الْمُفَارقَة(1/175)
(تواصلت) معانيهما بِأَن يدل أَحدهمَا على الذَّات وَالْآخر على صفتهَا (كالسيف والصارم) أَي شَدِيد الْقطع، أَو أَحدهمَا صفة، وَالْآخر صفة الصّفة كالناطق والفصيح (أَولا) أَي أَو تفاصلت كالسواد وَالْبَيَاض.
مَسْأَلَة
(المترادف وَاقع) مَوْجُود فِي اللُّغَة (خلافًا لقوم قَوْلهم) أَي الْقَوْم الْمُخَالفين لَو وَقع لزم أَن يعرف من اللَّفْظ الثَّانِي مَا عرفه اللَّفْظ الأول وَهُوَ الْمَعْنى (وَلَا فَائِدَة فِي تَعْرِيف الْمُعَرّف) فَرده بقوله (لَو صَحَّ) مَا قَالُوا (لزم امْتنَاع تعدد العلامات) لشَيْء وَاحِد، فَإِن الْعَلامَة الثَّانِيَة تعرف مَا تعرفه الأولى، وَاللَّازِم بَاطِل لجَوَاز تعددها ووقوعها، ثمَّ أَشَارَ إِلَى حل الشُّبْهَة بقوله (ثمَّ فَائِدَته) أَي الترادف (التَّوَصُّل إِلَى الروي) وَهُوَ الْحَرْف الَّذِي تنبني عَلَيْهِ القصيدة وتنسب إِلَيْهِ، فَيُقَال قصيدة لامية أَو نونية، من الرّيّ لِأَن الْبَيْت ريوي عِنْده (وأنواع البديع) كالتجنيس مَعْطُوف على الْمَجْرُور (إِذْ قد يَتَأَتَّى) التَّوَصُّل الْمَذْكُور (بِلَفْظ دون آخر) وَذَلِكَ لِأَن أحد المترادفين قد يصلح للروي دون الآخر، وَكَذَا التجانس وَهُوَ تشابه اللَّفْظَيْنِ فِي التَّلَفُّظ كالاتفاق فِي أَنْوَاع الْحُرُوف، وأعدادها، وهيآتها، وترتيبها قد يحصل بِأحد المترادفين دون الآخر (وَأَيْضًا فالجلوس، وَالْقعُود، والأسد، والسبع مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ كَونه من الِاسْم وَالصّفة أَو الصِّفَات أَو الصّفة وصفتها كالمتكلم والفصيح يحققه) أَي الترادف (فَلَا يقبل التشكيك) ردا لما قَالُوا من أَن كل لفظين يظنّ بَينهمَا الترادف لتقاربهما معنى ليسَا مترادفين فِي نفس الْأَمر، بل بَين معنييهما نوع اتِّصَال لكَون أَحدهمَا صفة ذَات، وَالْآخر صفة صفتهَا وَحَاصِل الْجَواب أَن هَذَا تشكيك فِيمَا علم قطعا فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِ، فَإِن مثل الْجُلُوس، وَالْقعُود، والأسد، والسبع لَا يتَصَوَّر كَونه من قبيل مَا ذكر.
مسئلة
(يجوز إِيقَاع كل مِنْهُمَا) أَي المترادفين (بدل الآخر) حَتَّى يَتَرَتَّب على كل مِنْهُمَا مَا يَتَرَتَّب على الآخر من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (إِلَّا لمَانع شَرْعِي على) القَوْل (الْأَصَح إِذْ لَا حجر فِي التَّرْكِيب لُغَة بعد صِحَة تركيب معنى المترادفين) يَعْنِي أَن إِيقَاع كل مِنْهُمَا بدل الآخر عبارَة عَن تركيبه، وَجعل جُزْءا من الْكَلَام، وَبعد صِحَة تركيب مَعْنَاهُمَا بجعله جُزْءا من معنى الْكَلَام، وَيلْزم صِحَة تركيب كل مِنْهُمَا فِي الْكَلَام اللَّفْظِيّ لعدم الْفرق بَينهمَا فِي إِفَادَة ذَلِك الْمَعْنى الْمَفْرُوض صِحَة تركيبه إِذْ الْعبْرَة بِالْمَعْنَى، وَالْمَقْصُود من اللَّفْظ أَن يتوسل بِهِ إِلَيْهِ، وَلَا فرق بَينهمَا فِيهِ، ثمَّ هَذَا هُوَ الأَصْل(1/176)
فَلَا يعدل عَنهُ إِلَّا لمَانع، وَقد اسْتَثْنَاهُ (قَالُوا) أَي المانعون (لَو صَحَّ) إِيقَاع كل مِنْهُمَا بدل الآخر (لصَحَّ) فِي تَكْبِيرَة الْإِحْرَام (خداي) هُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ اسْم للذات المقدسة (أكبر) بإيقاع خداي وَهُوَ مرادف للجلالة بدلهَا (قُلْنَا الْحَنَفِيَّة يلتزمونه) أَي جَوَاز الْإِيقَاع فِيهِ وَلَا إِلْزَام إِلَّا بمجمع عَلَيْهِ حَيْثُ لَا دَلِيل سواهُ (وَالْآخرُونَ) الَّذين لَا يلتزمونه وَلم يجوزوه يَقُولُونَ عدم جَوَاز الْإِيقَاع فِيهِ (للمانع الشَّرْعِيّ) وَهُوَ التَّقْيِيد بِاللَّفْظِ الْمَأْثُور مَعَ كَون الْمحل مِمَّا يلْزم فِيهِ غَايَة الِاحْتِيَاط. (وَأما كَون اخْتِلَاط اللغتين) كالفارسية والعربية (مَانِعا من التَّرْكِيب بعد الْفَهم) أَي بعد فهم الْمَعْنى التركيبي (فبلا دَلِيل عَلَيْهِ) أَي فَهُوَ ادِّعَاء بِلَا دَلِيل، فَلَا يسمع فِيهِ تعَارض لِابْنِ الْحَاجِب (سوى عدم فعلهم) أَي الْعَرَب اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، يَعْنِي سوى هَذَا، وَهُوَ لَا ينتهض حجَّة (وَقد يبطل) الادعاء الْمَذْكُور (بالمعرب) وَهُوَ لفظ استعملته الْعَرَب فِي معنى وضع لَهُ فِي غير لغتهم، فَإِن كثيرا مَا يركب مَعَ الْكَلِمَات الْعَرَبيَّة فِي كَلَام الْعَرَب، فَيلْزم مِنْهُ الِاخْتِلَاط الْمَذْكُور، ثمَّ لما كَانَ يتَوَهَّم أَن اسْتِعْمَال الْعَرَب إِيَّاه فِي كَلَامهم أخرجه عَن العجمية دَفعه بقوله (وَلم يخرج) المعرب (عَن العجمية) بالتعريب، ثمَّ دفع أَن يُقَال تغييرهم إِيَّاه دَلِيل خُرُوجه عَنْهَا بقوله (والتغيير لعدم إحسانهم النُّطْق بِهِ) لعدم ممارستهم فِيهِ (أَو التلاعب) كَمَا نقل عَن بعض الْعَرَب حِين اعْترض عَلَيْهِ فِي التَّغْيِير أَنه قَالَ: عجمي أَلعَب بِهِ (لَا قصدا لجعله عَرَبيا) فَإِن المغير غير الأَصْل فَكَانَ وضع آخر مِنْهُم للفظ آخر (وَلَو سلم) أَن التَّغْيِير للقصد الْمَذْكُور وَلم يبطل بالمعرب (لَا يسْتَلْزم) عدم فعلهم (الحكم بامتناعه) أَي امْتنَاع اخْتِلَاط اللغتين ليلزم مِنْهُ امْتنَاع الْإِيقَاع الْمَذْكُور (إِلَّا مَعَ عدم علم الْمُخَاطب) معنى ذَلِك المرادف من لُغَة أُخْرَى (مَعَ قصد الإفادة) لَهُ بذلك الْمركب الْمُخْتَلط فَإِنَّهُ لَا يجوز حِينَئِذٍ إِيقَاع المرادف الَّذِي لَا علم للمخاطب بِمَعْنَاهُ بدل المرادف الَّذِي لَهُ علم بِهِ، وَهَذَا ظَاهر غير أَنه عِلّة مُسْتَقلَّة للامتناع الْمَذْكُور، وَقَوله إِلَّا مَعَ إِلَى آخِره يدل على أَنه ضميمة عدم فعلهم فِي الاستلزام فَتَأمل.
مسئلة
(وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي المترادف (الْحَد والمحدود) زعم قوم أَنَّهُمَا مترادفات، وَلذَلِك قَالُوا مَا الْحَد إِلَّا تَبْدِيل لفظ بِلَفْظ أَجلي، وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيم كَمَا سَيظْهر الْحَد إِمَّا بِحَسب الِاسْم، وَهُوَ مَا دلّ على تَفْصِيل مَا دلّ عَلَيْهِ الِاسْم إِجْمَالا فَيُفِيد تصورا لم يكن حَاصِلا، وَإِمَّا بِحَسب الْحَقِيقَة، وَهُوَ مَا دلّ على هَيْئَة الشَّيْء الثَّابِتَة فيخص الموجودات، وَأما تَعْرِيف الشَّيْء بِمَا يرادفه فَهُوَ حد لَفْظِي يقْصد بِهِ التَّصْدِيق بِأَن الْحَد مَوْضُوع لهَذَا، ثمَّ الْحَد إِن اشْتَمَل على جَمِيع ذاتيات الْمَحْدُود(1/177)
فَهُوَ تَامّ، وَإِلَّا فَهُوَ نَاقص (أما التَّام) أَي أما عدم كَون الْحَد التَّام مرادفا للمحدود (فلاستدعائه) أَي التَّام (تعدد الدَّال على أَبْعَاضه) أَي الْمَحْدُود لكَونه مركبا من جنسه وفصله القريبين فَهُوَ يدل على حَقِيقَة الْمَحْدُود بأوضاع مُتعَدِّدَة بِإِزَاءِ أَجْزَائِهِ مفصلة، والمحدود يدل عَلَيْهَا بِوَضْع وَاحِد بإزائها إِجْمَالا، والمترادفان إِنَّمَا يكون وضعهما ودلالتهما على لفظ وَاحِد، وَلَا يكونَانِ إِلَّا مفردين (وَأما) الْحَد (النَّاقِص فَإِنَّمَا مَفْهُومه) ومدلوله (الْجُزْء الْمسَاوِي) للمحدود، وَهُوَ الْفَصْل، وَلَا اتِّحَاد بَين الْجُزْء وَالْكل (فَلَا ترادف: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن لَا يلْتَزم الِاصْطِلَاح على اشْتِرَاط الْأَفْرَاد) فِي الترادف، فَيكون الْحَد التَّام والمحدود مترادفين (فَهِيَ) أَي فَهَذِهِ المسئلة حِينَئِذٍ (لفظية) يرجع الْخلاف فِيهَا إِلَى أَمر لَفْظِي، وَهُوَ الِاخْتِلَاف فِي الِاصْطِلَاح وَلَا مشاحة فِيهِ، فَمن يعْتَبر الْأَفْرَاد كَمَا هُوَ الْمَشْهُور لَا يجعلهما من المترادفين، وَلَا يعْتَبر بجعلهما مِنْهُمَا (وَلَا التَّابِع مَعَ الْمَتْبُوع) فِي مثل (حسن بسن) فِي الرضي أَن التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ على قسمَيْنِ: إِعَادَة لفظ الأول بِعَيْنِه، وتقويته بموازنة مَعَ اتِّفَاقهمَا فِي الْحَرْف الْأَخير إِمَّا بِأَن يكون للثَّانِي معنى ظَاهر نَحْو - {هَنِيئًا مريئا} -، أَو لَا يكون لَهُ معنى أصلا مَعَ ضم إِلَى الأول لتزيين الْكَلَام لفظا، وتقويته معنى وَإِن لم يكن لَهُ فِي حَالَة الْإِفْرَاد معنى، نَحْو: حسن بسن، أَوله معنى التَّكْلِيف غير ظَاهر، نَحْو: خَبِيث نبيث من نبثت الشَّرّ: أَي استخرجته (قيل) عدم كَون التَّابِع والمتبوع مترادفين (لِأَنَّهُ) أَي التَّابِع (إِذا أفرد لَا يدل على شَيْء) فَكيف يكون مرادفا لما يدل على معنى إِذا أفرد (فَإِن كَانَت دلَالَته) أَي التَّابِع (مَشْرُوطَة) بِذكر الْمَتْبُوع (فَهُوَ حرف) لِأَن هَذَا شَأْن الْحُرُوف، وَلَا ترادف بَين الْحَرْف وَالِاسْم (وَلَيْسَ) بِحرف إِجْمَاعًا (وَقيل لفظ بِوَزْن الأول لازدواجه لَا معنى لَهُ وَالْأَوْجه أَنه) لفظ وضع (لتقوية متبوع خَاص) وَهُوَ المسموع متبوعا لَهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر خُصُوص الْمَتْبُوع فِي تقويته (لزم) أَن يجوز (نَحْو: زيد بسن) وَقد عرفت تعْيين الخصوصية من كَلَام الرضي (وَأما التوكيد) بِكُل وَأجْمع وتصاريفه (كأجمعين) وأكتع وَغَيرهَا من التأكيدات المعنوية (فلتقوية عَام سَابق) عَلَيْهِ (فَوَضعه) أَي هَذَا التَّأْكِيد (أَعم من) وضع (التَّابِع) الْمَذْكُور لعدم اشْتِرَاط تعين الْمَتْبُوع (فَلَا ترادف) بَين الْمُؤَكّد، والمؤكد، بل لَا يتَوَهَّم فِيهِ الترادف لعدم الِاخْتِصَاص كَمَا عرفت (وَمَا قيل المرادف لَا يزِيد مرادفه قُوَّة) قَوْله المرادف إِلَى آخِره عطف بَيَان للموصول، وَهُوَ مُبْتَدأ خَبره (مَمْنُوع إِذْ لَا يكون) المرادف (أقل من التوكيد اللَّفْظِيّ) الَّذِي هُوَ تَكْرِير اللَّفْظ الأول، وَهُوَ مِمَّا يُفِيد مؤكده قُوَّة حَتَّى ينْدَفع بِهِ توهم التَّجَوُّز والسهو إِلَى غير ذَلِك. (تَنْبِيه: تكون المقايسة) بَين الاسمين لِأَن تصرف النِّسْبَة بَينهمَا (بِالذَّاتِ) وبحسب(1/178)
الْحَقِيقَة (للمعنى فيكتسبه) من الِاكْتِسَاب أَو الاكتساء، وَالضَّمِير لما يعلم بالمقايسة كالتساوي والتباين (الِاسْم لدلالته) أَي الِاسْم (عَلَيْهِ) أَي الْمَعْنى هُوَ ظرف النِّسْبَة فِي المقايسة بِحَسب الْحَقِيقَة (فالمفهوم) الَّذِي هُوَ معنى الِاسْم (بِالنِّسْبَةِ إِلَى) مَفْهُوم (آخر إِمَّا مسَاوٍ) لَهُ، وَتَفْسِير الْمُسَاوَاة أَنه (يصدق كل) مِنْهُمَا (على كل مَا يصدق عَلَيْهِ الآخر) فالجملة مستأنفة بَيَانِيَّة (أَو مباين مباينة كُلية لَا يتصادقان) أصلا أَي لَا يصدق كل مِنْهُمَا على شَيْء مِمَّا يصدق عَلَيْهِ الآخر كالإنسان وَالْفرس (أَو) متباين لَهُ مباينة (جزئية يتصادقان) فِي الْجُمْلَة (ويتفارقان) فِي الْجُمْلَة بِأَن يصدق كل مِنْهُمَا على شَيْء لَا يصدق عَلَيْهِ الآخر (كالإنسان، والأبيض) يتصادقان فِي الرُّومِي، ويتفارقان فِي الزنْجِي، وَالْفرس الْأَبْيَض (وَالْعَام وَالْمجَاز) يتصادقان فِي الْمجَاز الْمُسْتَغْرق أَفْرَاد الْمَعْنى الْمجَازِي، ويتفارقان فِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَالْمجَاز الْخَاص (وَلَا وَاجِب وَلَا مَنْدُوب) يتصادقان فِي الْحَرَام وَالْمَكْرُوه، ويتفارقان فِي الْعَام الْمُسْتَعْمل فِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَالْمَنْدُوب وَالْوَاجِب (وَأما أَعم مِنْهُ مُطلقًا يصدق) أَي الْمَفْهُوم (عَلَيْهِ) أَي على كل مَا يصدق عَلَيْهِ الآخر (و) يصدق (على غَيره) أَي على غير الْأَعَمّ أَيْضا (كالعبادة) الصادقة (على) جَمِيع أَفْرَاد (الصَّلَاة و) على (الصَّوْم) أَيْضا (وَالْحَيَوَان على الْإِنْسَان وَالْفرس) تَكْرِير الْأَمْثِلَة إِشْعَار بِأَن النّسَب الْمَذْكُورَة تعم الشرعيات وَغَيرهَا، وَكَذَلِكَ تعم المفهومات الوجودية والعدمية (ونقيضا المتساويين متساويان) فَيصدق أَن لَا إِنْسَان على كل مَا يصدق عَلَيْهِ لَا نطاق، وَكَذَا الْعَكْس (و) نقيضا (المتباينين مُطلقًا) أَي مباينة جزئية أَو كُلية (متباينان مباينة جزئية كلا إِنْسَان، وَلَا أَبيض، وَلَا إِنْسَان، وَلَا فرس) نشر على غير تَرْتِيب اللف، لِأَن الْمَفْهُوم أَولا من قَوْله متباينين مُطلقًا المباينة: الْكُلية، ثمَّ المباينة الْجُزْئِيَّة بِاعْتِبَار ترَتّب ذكر الْأَقْسَام سَابِقًا للاهتمام بشأن المباينة الْجُزْئِيَّة لِئَلَّا يذهل عَنهُ لظُهُور لفظ المتباينين فِي الْكُلية أما اجْتِمَاع لَا إِنْسَان وَلَا أَبيض، فَفِي نَحْو: الْفرس الْأسود، وَأما افتراقهما فَفِي الْفرس الْأَبْيَض وَالْإِنْسَان الْأسود، وَأما اجْتِمَاع: لَا إِنْسَان وَلَا فرس، فَفِي نَحْو الْأسد، وَأما افْتِرَاق لَا إِنْسَان وَلَا فرس فَفِي الْفرس وَالْإِنْسَان (إِلَّا أَنَّهَا) أَي المباينة الْجُزْئِيَّة (فِي الأول) بِاعْتِبَار تَرْتِيب النشر، وَهُوَ المباينة الْجُزْئِيَّة الْمُعْتَبرَة بَين نقيض المتباينين مباينة جزئية (تخص الْعُمُوم من وَجه) فَلَا يتَحَقَّق فِي ضمن المباينة الْكُلية أصلا (بِخِلَاف الثَّانِي) وَهِي المباينة الْجُزْئِيَّة الْمُعْتَبرَة بَين نقيضي المتباينين مباينة كُلية (فقد يكون) أَي الثَّانِي (كليا) أَي يتَحَقَّق تَارَة فِي ضمن المباينة الْجُزْئِيَّة، وَتارَة فِي ضمن المباينة الْكُلية (كلا مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم) فَإِنَّهُ كَمَا أَن بَين مَوْجُود ومعدوم مباينة كُلية كَذَلِك بَين لَا مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم، لِأَن كل مَا يصدق(1/179)
عَلَيْهِ لَا مَوْجُود يصدق عَلَيْهِ مَعْدُوم، وكل مَا يصدق عَلَيْهِ لَا مَعْدُوم يصدق عَلَيْهِ مَوْجُود، وَهَذَا بِنَاء (على نفي الْحَال) وَأما على إثْبَاته كَمَا هُوَ قَول الْبَعْض، فَبين لَا مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم عُمُوم من وَجه لتصادقهما فِيهَا لِأَنَّهَا صفة لموجود غير مَوْجُودَة فِي نَفسهَا، وَلَا مَعْدُومَة كالأجناس والفصول، وتفارقهما فِي الْمَعْدُوم وَالْمَوْجُود (وَمَا) أَي وكل مفهومين (بَينهمَا عُمُوم مُطلق يتعاكس نقيضاهما، فنقيض الْأَعَمّ أخص من نقيض الْأَخَص، ونقيض الْأَخَص أَعم من نقيض الْأَعَمّ) يَعْنِي كل مَا يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَعَمّ يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَخَص، وَإِلَّا لصدق نقيض الْأَعَمّ على شَيْء لم يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَخَص، فَيصدق عَلَيْهِ عين الْأَخَص ضَرُورَة امْتنَاع ارْتِفَاع النقيضين فَلَزِمَ تحقق الْأَخَص بِدُونِ الْأَعَمّ، وَلَيْسَ كل مَا يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَخَص يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَعَمّ لصدق نقيض الْأَخَص على شَيْء لَا يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَعَمّ، فَإِن مَادَّة افْتِرَاق الْأَعَمّ من الْأَخَص يصدق عَلَيْهِ نقيض الْأَخَص، وَلَا يصدق عَلَيْهَا نقيض الْأَعَمّ، بل عينه وَهُوَ ظَاهر.
الْفَصْل الرَّابِع
(عَن الْأُصُول الْخَمْسَة الْمشَار إِلَيْهَا فِيمَا سبق بقوله: وللمفرد انقسامات بِاعْتِبَار ذَاته، ودلالته، ومقايسته لمفرد آخر، ومدلوله، وإطلاقه، وتقييده فِي فُصُول انْتهى، وَهَذَا مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف يَعْنِي فِي الْمُفْرد بِاعْتِبَار مَدْلُوله (وَفِيه) أَي فِي الْفَصْل الرَّابِع (تقاسيم) .
التَّقْسِيم (الأول: وَيَتَعَدَّى إِلَيْهِ من مَعْنَاهُ إِمَّا كلي) قَوْله الأول مُبْتَدأ خَبره جملَة حذف صدرها، أَعنِي الْمُفْرد إِمَّا كلي إِلَى آخِره، وَمَا بَينهمَا مُعْتَرضَة، وَالْوَاو للاعتراض، وَالْمعْنَى: وَيَتَعَدَّى التَّقْسِيم الأول: أَي بِاعْتِبَار قيوده المنضمة إِلَى مقسمه: أَي الْمُفْرد من مَعْنَاهُ، فَإِن الْكُلية والجزئية من عوارض الْمعَانِي بِاعْتِبَار وجودهَا فِي الذِّهْن، ويوصف بهما الْأَلْفَاظ مجَازًا تَسْمِيَة للدال باسم الْمَدْلُول (لَا يمْنَع تصور مَعْنَاهُ) أَي لَا يمْنَع الصُّورَة الْحَاصِلَة فِي الْعقل المنعكسة من مَعْنَاهُ الْعقل (فَقَط) قطّ من أَسمَاء الْأَفْعَال بِمَعْنى انته، وَكَثِيرًا مَا يصدر بِالْفَاءِ تزيينا للفظ، فَكَأَنَّهُ جَزَاء شَرط مَحْذُوف: أَي إِذا نسبت الْمَنْع إِلَى التَّصَوُّر فانته عَن نسبته إِلَى الْغَيْر وَحَاصِله أَن الْعبْرَة بِنَفس التَّصَوُّر مَعَ قطع النّظر عَمَّا سواهَا (من الشّركَة فِيهِ) أَي من فرض شركَة كثيرين فِي مَعْنَاهَا، فكلمة من صلَة الْمَنْع (أَو جزئي حَقِيقِيّ يمْنَع) تصور مَعْنَاهُ الْعقل من فرض شركَة كثيرين فِيهِ بِأَن يحمل عَلَيْهَا مواطأة (بِخِلَاف) الجزئي (الإضافي) أَي (كل أخص)(1/180)
مندرج (تَحت أَعم) فَهُوَ أَعم من الجزئي الْحَقِيقِيّ لصدقه على مثل الْإِنْسَان المندرج تَحت الْحَيَوَان كصدقه على زيد المندرج تَحت الْإِنْسَان، وَيُسمى الأول كليا لكَونه جُزْءا غَالِبا من فَرده الَّذِي هُوَ كل مَنْسُوبا إِلَيْهِ. وَالثَّانِي جزئيا لكَونه فَردا من الْكُلِّي مَنْسُوبا إِلَيْهِ. وَالثَّالِث إضافيا لاعْتِبَار الْإِضَافَة إِلَى الْأَعَمّ فِي مَفْهُومه (والكلي إِن تَسَاوَت أَفْرَاد مَفْهُومه فِيهِ) أَي فِي مَفْهُومه، وستعرف الْمُسَاوَاة بِذكر مَا يقابلها (فمتواطئ) من التواطئ، وَهُوَ التوافق لتوافق الْأَفْرَاد فِيهِ (كالإنسان، أَو تفاوتت) أَفْرَاد مَفْهُومه فِيهِ (بِشدَّة وَضعف كالأبيض) فَإِن مَعْنَاهُ، وَهُوَ اللَّوْن المفرق لِلْبَصَرِ فِي الثَّلج أَشد مِنْهُ فِي العاج (وَالْمُسْتَحب) فَإِن مَا طلب فعله مَعَ تَجْوِيز التّرْك حُصُوله فِي ضمن السّنَن الْمُؤَكّدَة أولى وَأَشد من حُصُوله فِي ضمن السّنَن الزَّوَائِد (فمشكك) بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل، وَإِنَّمَا يُسمى بِهِ (للتردد فِي) أَن (وَضعه للخصوصيات) بِأَن يكون مَوْضُوعا بِإِزَاءِ هَذِه الخصوصية بِوَضْع، وإزاء تِلْكَ الخصوصية بِوَضْع آخر (فمشترك) أَي فَهُوَ على هَذَا التَّقْدِير مُشْتَرك بَين الخصوصيات اشتراكا لفظيا (أَو) وَضعه (للمشترك) بَينهمَا مَعَ قطع النّظر عَن التَّفَاوُت الَّذِي بَينهمَا (فمتواطئ) ومنشأ التَّرَدُّد وجود التَّفَاوُت الْآتِي بِحَسب الظَّاهِر كَون تِلْكَ الْأَفْرَاد أَفْرَاد مَفْهُوم وَاحِد، وَظُهُور عدم مَا يُعينهُ من ذَلِك بعد التَّأَمُّل لوُجُود الْقدر الْمُشْتَرك (وَلِهَذَا) بِعَيْنِه (قيل بنفيه) أَي بِنَفْي التَّرَدُّد بَين الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين التشكيك (لِأَن الْوَاقِع) فِي نفس الْأَمر (أَحدهمَا) أَي أحد الِاحْتِمَالَيْنِ، وَلَا تشكيك فِي شَيْء مِنْهُمَا: أما على الأول فَلِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق على ذَلِك التَّقْدِير مَفْهُوم عَام لَهُ أَفْرَاد مُتَفَاوِتَة، وَأما على الثَّانِي فَلِأَن الْقدر الْمُشْتَرك قطع النّظر عَن التَّفَاوُت ليستوي فِيهِ الْأَفْرَاد (وَالْجَوَاب أَن الِاصْطِلَاح) وَاقع (على تَسْمِيَة) لفظ (متفاوت) مَعْنَاهُ بِاعْتِبَار تحَققه فِي ضمن أَفْرَاده بالشدة والضعف (بِهِ) أَي بالمشكك (والتفاوت) الْمُعْتَبر فِي الْمُسَمّى الْمَذْكُور (وَاقع) أَي مُحَقّق فِي معنى بعض الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوع بِإِزَاءِ مَفْهُوم كلي لَهُ أَفْرَاد مُتَفَاوِتَة فِيهِ، وَإِذا ثَبت التَّسْمِيَة بالمشكك وَتحقّق الْمُسَمّى فِي الْخَارِج (فَكيف يَنْفِي) المشكك، الظَّاهِر أَن هَذَا الْبَحْث مُعَارضَة وَحَاصِله: إِن كَانَ لكم دَلِيل على نفي وجود المشكك فلنا دَلِيل على وجوده، وَحِينَئِذٍ يكون قَوْله (فَإِن قيل بِنَفْي مُسَمَّاهُ) منعا للمقدمة القائلة أَن التَّفَاوُت الَّذِي هُوَ مُسَمّى المشكك وَاقع، وَالضَّمِير فِي مُسَمَّاهُ عَائِد إِلَى المشكك بِاعْتِبَار مَا يتَضَمَّن من التَّفَاوُت الْمَذْكُور، ثمَّ بَين النَّفْي بقوله (فَإِن مَا بِهِ) التَّفَاوُت (كخصوصية الثَّلج) الَّتِي حصل بهَا الشدَّة (أَن أخذت) أَي الخصوصية (فِي مَفْهُومه) أَي المشكك بِأَن تكون الشدَّة المفرقة لِلْبَصَرِ الْمَوْجُودَة فِي الثَّلج جُزْء مَفْهُوم الْأَبْيَض (فَلَا شركَة) لغير الثَّلج كالعاج مَعَه فِي مَفْهُوم الْأَبْيَض (فَلَا تفَاوت) حِينَئِذٍ إِذْ لم(1/181)
يبْق لَهُ أَفْرَاد غير أَفْرَاد الثَّلج، وَلَا تفَاوت فِيهَا (وَلزِمَ الِاشْتِرَاك) اللَّفْظِيّ، إِذْ من الْمَعْلُوم أَن إِطْلَاق الْأَبْيَض على العاج وَغَيره مِمَّا سوى الثَّلج مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ الْأَبْيَض بطرِيق الْحَقِيقَة، وَحَيْثُ لم يُوجد قدر مُشْتَرك لزم الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تُوجد الخصوصية فِي مَفْهُومه اسْتَوَت أَفْرَاد الثَّلج والعاج وَغَيرهمَا فِي مَفْهُومه وَهُوَ ظَاهر (فَلَا تفَاوت) بَين أَفْرَاده فِي مَفْهُومه (وَلزِمَ التواطؤ قُلْنَا مَا بِهِ) التَّفَاوُت من الخصوصيات المستلزمة حُصُول الْمَفْهُوم بطرِيق الشدَّة فِي الْبَعْض والضعف فِي الْبَعْض الآخر (مُعْتَبر فِيمَا صدق عَلَيْهِ الْمَفْهُوم) بطرِيق اعْتِبَار على وَجه الْجُزْئِيَّة كَمَا سَيظْهر (من أَفْرَاد تِلْكَ الخصوصية) بَيَان لما صدق الْمَفْهُوم عَلَيْهِ وَظَاهره يَقْتَضِي عدم اعْتِبَار مَا بِهِ التَّفَاوُت فِي مَاهِيَّة تِلْكَ الخصوصية، وَسَيَأْتِي اعْتِبَاره فضلا مِنْهَا، وَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن للمجيب أَن يعتبره فِي أفرادها دون الْمَاهِيّة فَإِنَّهُ أَدخل فِي دفع الِاعْتِرَاض، ثمَّ يُصَرح ثَانِيًا بِمَا هُوَ التَّحْقِيق، وَفِي إِضَافَة الْأَفْرَاد إِلَى تِلْكَ الخصوصية مُسَامَحَة، وَالْمرَاد أَفْرَاد مَا فِيهِ تِلْكَ الخصوصية، وَهُوَ الثَّلج مثلا (لَا) أَنه مُعْتَبر (فِي نَفسه) أَي نفس الْمَفْهُوم الَّذِي وضع لَهُ الْأَبْيَض مثلا (وَحَاصِل هَذَا) الْجَواب (أَن كل خُصُوصِيَّة) من الخصوصيات الْمُوجبَة للشدة أَو الضعْف (مَعَ الْمَفْهُوم) الَّذِي وضع الْأَبْيَض بإزائه مثلا (نوع ويستلزم) كَون كل خُصُوصِيَّة مَعَه نوعا (أَن مُسَمّى المشكك كالسواد وَالْبَيَاض لَا يكون إِلَّا جِنْسا، وَمَا بِهِ التَّفَاوُت فُصُول تحصله) أَي الْجِنْس الْمَذْكُور (أنواعا) مفعول ثَان للتحصيل فَإِنَّهُ يتَضَمَّن معنى الْجعل، وَيجوز أَن يكون حَالا عَن الضَّمِير الْمَنْصُوب وَالْمعْنَى: أَن الخصوصيات الَّتِي بهَا تَتَفَاوَت أَفْرَاد مُسَمّى المشكك إِذا انضمت إِلَى الْمَاهِيّة الجنسية الَّتِي هِيَ الْمُسَمّى تجْعَل تِلْكَ الْمَاهِيّة أنواعا، لِأَنَّهُ يتقوم بانضمام كل مِنْهَا إِلَى الْمَاهِيّة نوع مركب من الْجِنْس والفصل، أَو تحققها، أَو يقومها حَال كَونهَا أنواعا، فَإِنَّهُ لَا وجود للأجناس إِلَّا فِي ضمن الْأَنْوَاع كَمَا لَا وجود للأنواع إِلَّا فِي ضمن الْأَشْخَاص، فالجنس، وَالنَّوْع، والشخص مُتحد وجودا وَجعلا، وَإِن كَانَت مُتَغَايِرَة بِحَسب التعقل (فَمن الماهيات الجنسية مَا) أَي ماهيات جنسية (فُصُول أَنْوَاعهَا مقادير من الشدَّة والضعف) أَي ذُو مقادير مِنْهُمَا، فاختلاف تِلْكَ الْأَنْوَاع بِاعْتِبَار تِلْكَ الْفُصُول، وَاخْتِلَاف تِلْكَ الْفُصُول بِاعْتِبَار اخْتِلَاف مقاديرها من الْكَيْفِيَّة الجنسية، فَإِن الْبيَاض مثلا كَيْفيَّة جنسية يتَحَقَّق فِي أَنْوَاع كَثِيرَة، وَفِي كل نوع مِقْدَار خَاص من تِلْكَ الْكَيْفِيَّة لَهُ مرتبَة مَخْصُوصَة من الشدَّة والضعف، وهما أَمْرَانِ إضافيان (وَذَلِكَ) أَي مَا فُصُول أَنْوَاعهَا مقادير مِنْهَا يتَحَقَّق (فِي ماهيات الْأَعْرَاض وَلذَا) أَي وَلأَجل أَن تحقق هَذَا الْقسم إِنَّمَا يكون فِي الْأَعْرَاض (يَقُولُونَ) أَي المتكلمون، بل الْحُكَمَاء (الْمَقُول) أَي الْمَحْمُول على(1/182)
سقط(1/183)
سقط(1/184)
التَّقْسِيم الثَّالِث
من تقاسيم الْفَصْل الرَّابِع (قسم فَخر الْإِسْلَام اللَّفْظ) الْمُفْرد (بِحَسب اللُّغَة والصيغة) الْجَار مُتَعَلق بقسم، واللغة اللَّفْظ الْمَوْضُوع، والصيغة الْهَيْئَة الْعَارِضَة لَهُ بِاعْتِبَار الحركات والسكنات وَتَقْدِيم بعض الْحُرُوف على بعض، وَالظَّاهِر أَنه يُرَاد باللغة هَهُنَا جَوْهَر الْحُرُوف بِقَرِينَة انضمام الصِّيغَة إِلَيْهَا، وَلما كَانَتَا متعلقي الْوَضع عبر بهما عَنهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أَي بِاعْتِبَار وَضعه إِلَى خَاص وعام، ومشترك، ومؤول) فسر بِمَا ترجح من الْمُشْتَرك بعض وجوهه بغالب الرَّأْي، وَأورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد لَا يكون من الْمُشْتَرك، وترجحه قد لَا يكون بغالب الرَّأْي، فِي الْمِيزَان: أَن الْخَفي والمشكل والمشترك والمجمل إِذا لحقها الْبَيَان بِدَلِيل قَطْعِيّ سمي مُفَسرًا، وَإِن زَالَ خفاؤه بِدَلِيل فِيهِ شُبْهَة كَخَبَر الْوَاحِد، وَالْقِيَاس سمي مؤولا انْتهى وَأجِيب عَن الأول بِأَن المُرَاد تَعْرِيف المؤول من الْمُشْتَرك، وَعَن الثَّانِي بِأَن المُرَاد بغالب الرَّأْي، مِمَّا يعم الْحَاصِل من الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد. وَقَالَ صدر الشَّرِيعَة: وَإِنَّمَا لم أورد المؤول فِي الْقِسْمَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاعْتِبَار الْوَضع، بل بِاعْتِبَار رَأْي الْمُجْتَهد انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ المُصَنّف رَحمَه الله بقوله (وَاعْترض بِأَن المؤول وَلَو) كَانَ (من الْمُشْتَرك لَيْسَ بِاعْتِبَار الْوَضع) وَلم يلْتَفت إِلَى مَا قيل فِي تَوْجِيه كَلَام فَخر الْإِسْلَام من أَن معنى كَونه بِاعْتِبَار الْوَضع أَن الحكم بعد التَّأْوِيل يُضَاف إِلَى الصِّيغَة، لِأَن مَا يحصل من التَّأَمُّل بِالدَّلِيلِ لَا وَجه لجعله من الاعتبارات الْمُتَعَلّقَة بِالْوَضْعِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل عَن رفع إِجْمَال بظني) أَي التَّأْوِيل لم ينشأ عَن الْوَضع، بل هُوَ نَاشِئ عَن إِزَالَة إِبْهَام حَاصِل بازدحام احتمالات ناشئة من الِاشْتِرَاك بِدَلِيل ظَنِّي قياسي أَو خبر (فِي الِاسْتِعْمَال) مُتَعَلق بإجمال، فالطرفان: أَعنِي بظني، وَهَذَا يتعلقان بِرَفْع وإجمال على تَرْتِيب اللف والنشر، وَلَا شكّ أَن الْإِبْهَام إِنَّمَا يعرض للمشترك فِي حَال الِاسْتِعْمَال لَا الْوَضع (فَهِيَ) أَي الْأَقْسَام إِذا (ثَلَاثَة، لِأَن اللَّفْظ أَن كَانَ مُسَمَّاهُ متحدا وَلَو بالنوع) كَرجل وَفرس (أَو مُتَعَددًا مدلولا على خُصُوص كميته) لِأَن كمية المتعدد الْمَذْكُور (بِهِ) أَي بِلَفْظ ذَلِك المتعدد مَعَ كميته الْمَخْصُوصَة مدلولا مطابقيا للفظه، فَقَوله مدلولا وضعا للمتعدد بِحَال مُتَعَلقَة: أَعنِي كَونه بِحَيْثُ يدل على خُصُوص كمية لَفظه، لِأَنَّهُ لم يقْصد مدلولية ذَلِك المتعدد، لِأَنَّهُ ظَاهر لكَونه مُسَمّى لَفظه (فالخاص) جَوَاب للشّرط: أَي فَهُوَ الْخَاص (فَدخل) فِي الْخَاص (الْمُطلق) تَفْرِيع على قَوْله وَلَو بالنوع: كَمَا أَن قَوْله (وَالْعدَد) تَفْرِيع على قَوْله: وَلَو بالنوع كَمَا أَن قَوْله تَفْرِيع على قَوْله أَو مُتَعَددًا إِلَى آخِره (وَالْأَمر وَالنَّهْي)(1/185)
لِاتِّحَاد مسماهما نوعا كَمَا ستعرف، وَالْمُطلق على مَا سَيَجِيءُ مَا دلّ على فَرد شَائِع لَا قيد مَعَه مُسْتقِلّا لفظا (وَإِن تعدد) مُسَمَّاهُ (بِلَا مُلَاحظَة حصر) وَإِن كَانَ محصورا فِي الْوَاقِع (فَأَما بِوَضْع وَاحِد) أَي فَذَلِك اللَّفْظ المتعدد مُسَمَّاهُ أما مَوْضُوع بِإِزَاءِ ذَلِك المتعدد بِوَضْع وَاحِد (فَمن حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) أَي فاللفظ من حَيْثُ أَنه مَوْضُوع بِوَضْع وَاحِد لمتعدد غير مَحْصُور هُوَ (الْعَام، أَو) بِوَضْع (مُتَعَدد فَمن حَيْثُ هُوَ كَذَلِك الْمُشْتَرك) فَهُوَ مَا وضع وضعا مُتَعَددًا لمعان مُتعَدِّدَة، فَعدم مُلَاحظَة الْحصْر فِي الْمُشْتَرك قيد واقعي لَا اجترازي كَمَا فِي الْعَام فَإِنَّهُ فِيهِ لإِخْرَاج أَسمَاء الْعدَد والتثنية (فَيدْخل فِي الْعَام الْجمع الْمُنكر) كرجال المتعدد مُسَمَّاهُ من غير مُلَاحظَة الْحصْر مَعَ اتِّحَاد الْوَضع (وعَلى اشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق) فِي الْعَام (فمتحد الْوَضع) أَي اللَّفْظ الْمَوْضُوع بِوَضْع وَاحِد لغير المنحصر (أَن استغرق) جَمِيع مَا يصلح لَهُ (فالعام) جَوَاب الشَّرْط: أَي فَهُوَ الْعَام (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يسْتَغْرق (فالجمع) أَي فَهُوَ الْجمع الْمُنكر فَهُوَ حِينَئِذٍ وَاسِطَة بَين الْخَاص وَالْعَام (وَأخذ) قيد (الْحَيْثِيَّة) كَمَا ذكرنَا فِي التعريفين المستنبطين من التَّقْسِيم (يبين عدم العناد) والتباين (بِجُزْء الْمَفْهُوم بَين الْمُشْتَرك وَالْعَام) أَي لَيْسَ مَا يُوجب العناد بَينهمَا ذاتيا كالإنسان وَالْفرس حَتَّى يكون التَّقْسِيم حَقِيقِيًّا، بل بِحَسب الِاعْتِبَار والحيثية فيتصادقان لَا من حيثية وَاحِدَة كَمَا سَيَجِيءُ (وَلذَا) أَي لعدم العناد بَينهمَا بِجُزْء الْمَفْهُوم (لَا يحْتَاج إِلَيْهَا) أَي إِلَى الْحَيْثِيَّة (فِي تعريفهما ابْتِدَاء) لَا فِي ضمن التَّقْسِيم، لِأَن الْمَنْطُوق حِينَئِذٍ بَيَان أَجزَاء الْمَاهِيّة، والحيثية لَيست مِنْهَا، وَإِذا قد عرفت أَنه لَا عناد بَين الْعَام والمشترك بِالذَّاتِ إِذا لم يعْتَبر فِي الْعَام عدم تعدد الْوَضع وَأَنت تعلم أَن العناد بالذت مَوْجُود بَين الْمُنْفَرد والمشترك لاعْتِبَار عدم تعدده فِيهِ (فَالْحق) أَي اللَّائِق الْحقيق بِالِاعْتِبَارِ أَن يعْتَبر (تقسيمان) :
التَّقْسِيم (الأول بِاعْتِبَار اتِّحَاد الْوَضع وتعدده يخرج الْمُنْفَرد) وَهُوَ الْمَوْضُوع لِمَعْنى وَاحِد لَا غير (وَلم يُخرجهُ) أَي الْمُنْفَرد (الْحَنَفِيَّة على كَثْرَة أقسامهم) أَي مَعَ كثرتها، وَأخرجه الشَّافِعِيَّة (و) يخرج (الْمُشْتَرك و) ذكرت (فِيهِ) أَي فِي قسم الْمُشْتَرك (مسئلة) وَاحِدَة وَهِي هَذِه (الْمُشْتَرك) مُبْتَدأ خَبره (خَامِسهَا) إِلَى آخِره، وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْأَقْوَال تَقْدِير الْكَلَام الْمُشْتَرك فِي جَوَازه ووقوعه أَقْوَال: غير جَائِز، جَائِز غير وَاقع، وَاقع فِي اللُّغَة لَا غير، فِي اللُّغَة وَالْقُرْآن لَا غير، خَامِسهَا فِيهِ أَي فِي الْمُشْتَرك جَائِز و (وَاقع فِي اللُّغَة وَالْقُرْآن والْحَدِيث) وَهُوَ الْمُخْتَار و (لنا) على الْجَوَاز (لَا امْتنَاع لوضع لفظ مرَّتَيْنِ فَصَاعِدا لمفهومين فَصَاعِدا على أَن يسْتَعْمل) ذَلِك اللَّفْظ (لكل) من المفهومين أَو المفهومات (على الْبَدَل) لَا على الِاجْتِمَاع، لَا خَفَاء فِي أَن مَنْظُور الْوَاضِع فِي كل وضع أَن يسْتَعْمل ذَلِك اللَّفْظ لكل من المفهومين أَو المفهومات على(1/186)
سقط(1/187)
سقط(1/188)
الأول (لمنع عدم تناهي الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة والمتضادة) . قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَة على الشَّرْح العضدي أَن المفهومين إِذا اشْتَركَا فِي الصِّفَات النفسية فمتماثلان وَإِلَّا كَانَا مَعْنيين يمْنَع اجْتِمَاعهمَا فِي مَحل وَاحِد من جِهَة وَاحِدَة فمتضادان، وَإِلَّا فمختلفان (وتحققه) أَي عدم التناهي (فِي المتماثلة وَلَا يلْزم لتعريفها) أَي المتماثلة (الْوَضع لَهَا) بِأَن يوضع لكل مِنْهَا على حِدة (بل الْقطع) حَاصِل (بنفيه) أَي الْوَضع لَهَا بِحَسب الخصوصيات، وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى أَن يوضع لكل نوع اسْم، وَذَلِكَ متناه (وَإِن سلم) عدم تناهي الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة والمتضادة (فالوضع) لَازم (للمحتاج إِلَيْهِ) مِنْهَا لَا غير (وَهُوَ) أَي الْمُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا (متناه، وَلَو سلم) الْوَضع للْكُلّ (فخلوها) أَي المسميات عَن الْأَسْمَاء (على التَّقْدِيرَيْنِ مُشْتَرك الْإِلْزَام) على من يثبت الِاشْتِرَاك، وعَلى من يَنْفِيه، لِأَنَّهُ إِذا قوبل أُمُور متناهية بِأُمُور غير متناهية بطرِيق التَّوْزِيع تفنى المتناهية، وَإِن جعل كل مِنْهَا بِإِزَاءِ أُلُوف غير متناهية، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا نِسْبَة للمتناهى بِغَيْر المتناهى، وَلَو سلم) لُزُوم الْخُلُو على تَقْدِير عدم الِاشْتِرَاك فَقَط (فبطلان الْخُلُو مَمْنُوع) لِأَن بُطْلَانه على تَقْدِير عدم إِفَادَة مَا هُوَ خَال عَن الِاسْم (وَلَا تَنْتفِي الإفادة فِيمَا إِذا لم يوضع لَهُ) لحصولها بِأَلْفَاظ مجازية وتركيب كليات كإفادة أَنْوَاع الروائح والطعوم (وَأما تَجْوِيز عدم تناهي الْمركب من المتناهي) فِي مقَام منع تناهي الْأَلْفَاظ المركبة من الْحُرُوف المتناهية لدفع لُزُوم الْخُلُو على تَقْدِير عدم الْمُشْتَرك (إِذا لم يكن) التَّرْكِيب (بالتكرار) أَي بتكرار الْحُرُوف (والإضافات) أَي وبإضافة بعض الْكَلِمَات إِلَى بعض فِي أَدَاء الْمَعْنى المُرَاد (كتركيب الْأَعْدَاد) الْحَاصِلَة بتكرار الْوحدَة المتفاوتة فِي الْقلَّة وَالْكَثْرَة المضافة فِيهَا مَرَاتِب الْآحَاد، والعشرات، أَو المئات إِلَى مرتبَة فَوْقهَا (فَبَاطِل) جَوَاب أما وَخبر تَجْوِيز (بِأَيّ اعْتِبَار فرض) التَّرْكِيب سوى مَا كَانَ بالتكرار وَالْإِضَافَة الْمَذْكُورين: أَي عدم تناهيه بَاطِل وَلَو استوعب فِي عَالم الْفَرْض جَمِيع التراكيب الممكنة على الأنحاء الْمُخْتَلفَة سوى مَا ذكر (وَلَو) فرض انضمام الْوَضع (مَعَ الإهمال) أَي الْمَوْضُوع مَعَ المهمل (إِذْ الْإِخْرَاج) أَي إِخْرَاج الْأَلْفَاظ من الْحُرُوف (بضغط) أَي بزحمة وَشدَّة (فِي محَال) الصَّدْر وَالْحلق وَغَيرهمَا (متناهية على أنحاء) أَي أَنْوَاع من الكيفيات (متناهية) وَمَا قَامَ بالمحال المتناهية وإحاطة الكيفيات المتناهية متناه لَا محَالة (وَإِنَّمَا اشْتبهَ) تناهي الْأَلْفَاظ (للكثرة الزَّائِدَة) فِيهَا على كَثْرَة غَيرهَا.(1/189)
التَّقْسِيم الثَّانِي
من التقسيمين الْمَذْكُورين فِي التَّقْسِيم الثَّالِث من تقاسيم الْفَصْل الرَّابِع (بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع لَهُ يخرج الْخَاص وَالْعَام) كَمَا أخرج التَّقْسِيم الأول الْمُنْفَرد والمشترك (وتتداخل) أَقسَام التقسيمين (فالمشترك عَام، وخاص، وَالْمُنْفَرد كَذَلِك) أَي عَام وخاص أَيْضا، أما انقسام الْمُنْفَرد إِلَيْهِمَا فَظَاهر، وَأما انقسام الْمُشْتَرك إِلَيْهِمَا فَإِنَّهُ إِذا نَظرنَا إِلَى كل وَاحِد من مَعَانِيه فحاله كَحال الْمُنْفَرد تَارَة يكون عَاما، وَتارَة يكون خَاصّا، وَيجوز أَن يكون عَاما بِاعْتِبَار بعض مَعَانِيه، وخاصا بِاعْتِبَار آخر (وَلَا وَجه لإِخْرَاج الْجمع) الْمُنكر (عَنْهُمَا) أَي الْخَاص وَالْعَام (على التَّقْدِيرَيْنِ) بِاشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق، وَعدم اشْتِرَاطه فِي الْعَام، لِأَنَّهُ إِن لم يشْتَرط فَهُوَ دَاخل فِي الْعَام وَإِلَّا فَفِي الْخَاص (لِأَن رجَالًا فِي الْجمع مُطلق كَرجل فِي الوحدان) لَا فرق بَينهمَا إِلَّا بِاعْتِبَار أَن مَا صدق عَلَيْهِ رجال كل جمَاعَة جمَاعَة على الْبَدَل، وَمَا صدق عَلَيْهِ رجل كل فَرد فَرد، وَالْمُطلق مندرج فِي الْخَاص على مَا سبق (وَالِاخْتِلَاف) بَين مَا صدق عَلَيْهِ الْجمع وَمَا صدق عَلَيْهِ الْمُفْرد (بِالْعدَدِ وَعَدَمه لَا أثر لَهُ) فِي الِاخْتِلَاف بِالْإِطْلَاقِ وَعَدَمه فَإِن قلت قَول المُصَنّف فِيمَا سبق، وَإِلَّا فالجمع بعد ذكر الْخَاص وَالْعَام تَصْرِيح بِكَوْنِهِ وَاسِطَة بَينهمَا قلت سِيَاق الْكَلَام هُنَاكَ على طَريقَة صدر الشَّرِيعَة وَغَيره، وَهَهُنَا على التَّحْقِيق لَكِن بَقِي شَيْء، وَهُوَ أَنه على تَقْدِير عدم اشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق أَيْضا يَنْبَغِي أَن يدْخل الْجمع فِي الْخَاص لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال أَنه ذُو جِهَتَيْنِ: جِهَة تعدد وشمول من حَيْثُ الْأَجْزَاء، وجهة اتِّحَاد وَإِطْلَاق من حَيْثُ الْمَفْهُوم لَكِن الْأَلْيَق فِيهِ بِالِاعْتِبَارِ فِيهِ الأول فاعتبرها من لم يشْتَرط وَحكم بِعُمُومِهِ، وَمن يشْتَرط يعْتَبر الثَّانِيَة وَيحكم من تِلْكَ الْحَيْثِيَّة بِإِطْلَاقِهِ لَا من حيثية التَّعَدُّد بِحَسب الْأَجْزَاء (فالمفرد عَام) اعْتبر الْأَفْرَاد فِي الْعَام دفعا لتوهم عدم اعْتِبَاره لما يُوهِمهُ كَمَا سَيَجِيءُ، وَفصل بَين الْقسمَيْنِ بِمَا يتَعَلَّق بالقسم الأول من المباحث احْتِرَازًا عَن التّكْرَار (وَهُوَ) أَي الْعَام (مَا دلّ على استغراق أَفْرَاد مَفْهُوم) وَإِنَّمَا لم يقل مَفْهُومه، لِأَن الْمُتَبَادر مِنْهُ المطابقي واستغراق الْجمع وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِهِ: بل بِاعْتِبَار أَفْرَاد مَفْهُوم مفرده، وَهُوَ مَفْهُومه التضمني كَمَا سَيَجِيءُ (وَيدخل الْمُشْتَرك) فِي الْحَمد (لَو عَم) واستغرق (أَفْرَاد مَفْهُوم) أَو أَكثر من مفهوماته (أَو فِي المفاهيم) وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول، أَو المفاهيم، فَعدل عَنهُ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد استغراقه أفرادها بِاسْتِعْمَالِهِ فِي معنى مجازي يعمها فيستوعبها، فَإِن كَانَ ذَلِك غير مَبْنِيّ (على) قَول (من(1/190)
يعممه) وَإِنَّمَا الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ استغراقه إِيَّاهَا بِاسْتِعْمَالِهِ فِي مفاهيمه، فَالْمَعْنى أَو عَم الْأَفْرَاد مُسْتَعْملا فِي المفاهيم، وَالضَّمِير فِي يعممه رَاجع إِلَى الْمُشْتَرك، والمعمم الشَّافِعِي، وَمن وَافقه (وَالْحَاصِل أَن الْعُمُوم) يتَحَقَّق (بِاعْتِبَار) استغراق (أَفْرَاد مَفْهُوم) وَاحِد أُرِيد بِهِ سَوَاء انْفَرد فِي الأرادة بِهِ، أَو أُرِيد مَعَه مَفْهُوم آخر، فتعريف الْعَام بِمَا دلّ على استغراق أَفْرَاد مَفْهُوم من غير تَقْيِيد الْمَفْهُوم بِقَيْد فَقَط تَعْرِيف بِمُطلق يَشْمَل الْوَجْهَيْنِ (وَمن لم يشْتَرط الِاسْتِغْرَاق) فِي الْعَالم (كفخر الأسلام) فتعريفه عِنْده (مَا يَنْتَظِم جمعا من المسميات) وَالْمرَاد بهَا أَفْرَاد مُسَمَّاة، أَو مُسَمّى مُفْرد، فَلَا يدْخل فِيهِ الْمُشْتَرك لعدم انتظامه جمعا مِنْهَا لكَونه يحْتَمل كل وَاحِد مِنْهَا على سَبِيل الْبَدَل، والانتظام عبارَة عَن الشُّمُول (وَكَذَا) أَي مثل التَّعْرِيف الْمَذْكُور فِي الابتناء على عدم الِاشْتِرَاط تَعْرِيف صَاحب الْمنَار، وَهُوَ (مَا يتَنَاوَل أفرادا متفقة الْحُدُود شمولا) فَخرج بقوله أفرادا الْخَاص، لِأَنَّهُ إِمَّا يُرَاد بِهِ الْوَاحِد بالشخص أَو بالنوع، وَأما يُرَاد بِهِ المتعدد لَكِنَّهَا لَيست بأفراد مُسَمَّاهُ وَلَا أَفْرَاد مُسَمّى مفرده، وَبِقَوْلِهِ متفقة الْحُدُود الْمُشْتَرك، لِأَن الْأَفْرَاد الَّتِي يتَنَاوَل حُدُودهَا مُخْتَلفَة، فَإِن لفظ الْعين مثلا متناول لمجموع أَفْرَاد حَقِيقَة بَعْضهَا مَاهِيَّة الْعين الْجَارِيَة، وَبَعضهَا الآخر مَاهِيَّة الْعين الباصرة، وَهَكَذَا، وَبِقَوْلِهِ شمولا اسْم الْجِنْس لِأَن متناولها على سَبِيل الْبَدَل (وَأما تَعْرِيفه على) اشْتِرَاط (الِاسْتِغْرَاق) بِمَا دلّ على مسميات بِاعْتِبَار أَمر اشتركت) تِلْكَ المسميات (فِيهِ) فِي ذَلِك الْأَمر (مُطلقًا ضَرْبَة) قَوْله على مسميات أخرج نَحْو زيد، وَقَوله بِاعْتِبَار أَمر اشتركت مُتَعَلق بدل، وَأخرج نَحْو عشرَة فَإِنَّهَا دلّت على آحادها لَا بِاعْتِبَار أَمر اشتركت الْآحَاد فِيهِ، لِأَنَّهَا أَجزَاء الْعشْرَة لَا جزئياتها، وَقَوله مُطلقًا مفعول مُطلق لدل، أَو حَال عَن ضمير فِيهِ لإِخْرَاج الْمَعْهُود فَإِنَّهُ يدل على مسميات بِاعْتِبَار مَا اشتركت فِيهِ مَعَ قيد خصصه بالمعهود، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فمطلقا لإِخْرَاج الْمُشْتَركَة الْمَعْهُودَة) أَي لإِخْرَاج مَا دلّ على المسميات الْمُشْتَركَة فِي أَمر الْمشَار إِلَيْهَا بِاللَّامِ العهدية وَنَحْوهَا الدَّاخِلَة على الْمَفْهُوم الْعَام الَّذِي جعل آلَة لملاحظة تِلْكَ الْأَفْرَاد الْمُشْتَركَة فِيهِ (لِأَنَّهَا) أَي الْمُشْتَركَة الْمَعْهُودَة (مدلولة مُقَيّدَة بالعهد) أَي الْمَعْهُود بِهِ، وَقَوله ضَرْبَة أَي دفْعَة وَاحِدَة لإِخْرَاج نَحْو رجل فَإِنَّهُ يدل على مسمياته لَا دفْعَة، بل دفعات على الْبَدَل (وَيرد) على جامعية التَّعْرِيف الْمَذْكُور (خُرُوج) نَحْو (عُلَمَاء الْبَلَد) مِمَّا يُضَاف الْمَفْهُوم الْكُلِّي إِلَى مَا يخصصه، مَعَ أَنه عَام قصد بِهِ الِاسْتِغْرَاق بِسَبَب اعْتِبَار قيد الْإِطْلَاق فِي التَّعْرِيف، وتقيده بالمضاف إِلَيْهِ (وَأجِيب بِأَن الْمُشْتَرك فِيهِ) أَي الَّذِي اشتركت المسميات فِيهِ (عَالم الْبَلَد مُطلقًا) لَا الْعَالم، وعالم الْبَلَد لم يتَقَيَّد بِقَيْد وَإِنَّمَا قيد الْعَالم فَإِن قلت قد اعْتبر الْأَفْرَاد فِي الْعَالم، وعالم الْبَلَد مركب قلت الْعَالم إِنَّمَا هُوَ(1/191)
الْمُضَاف من حَيْثُ هُوَ مُضَاف، والمضاف إِلَيْهِ خَارج (بِخِلَاف الرِّجَال المعهودين) فَإِن الْمُشْتَرك فِيهِ (هُوَ الرجل الْمَعْهُود) أَي الرجل الَّذِي قيد بالمعهودية بعد مَا كَانَ مُطلقًا بِمُقْتَضى أصل وَضعه (وَالْحق أَن لَا فرق) بَينهمَا من حَيْثُ الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد (لِأَن عَالم الْبَلَد مَعْهُود) إِذْ لَيْسَ المُرَاد كل مَا يصدق عَلَيْهِ هَذَا الْمركب الإضافي، بل الْمَوْجُودين فِي حَال التَّكَلُّم، وَلَا شكّ أَنهم حِصَّة مُعينَة مِنْهُ وَأَن كثر عَددهمْ، وَقد اشْتهر إِلَيْهَا بِالْإِضَافَة العهدية (وَكَون المُرَاد) من الْعَهْد الَّذِي احْتَرز عَنهُ بقوله مُطلقًا (عهدا اعْتبر خصوصيته) بِأَن كَانَ مفادا بلام الْعَهْد (لَا يدل عَلَيْهِ) أَي على المُرَاد الْمَذْكُور (اللَّفْظ) لِأَن اللَّفْظ وَهُوَ مُطلقًا يدل على الِاحْتِرَاز عَن مُطلق الْعَهْد، بل مُطلق التَّقْيِيد (فَيرد) نَحْو عُلَمَاء الْبَلَد على عكس التَّعْرِيف (وَيرد) أَيْضا على التَّعْرِيف الْمَذْكُور، لَكِن على طرده (الْجمع الْمُنكر) كرجال، فَإِنَّهُ يدل على مسميات وَهِي آحَاد بِاعْتِبَار أَمر اشتركت، وَهُوَ مَفْهُوم رجل مُطلقًا لعدم الْعَهْد، وَلَيْسَ بعام عِنْد من يشْتَرط الِاسْتِغْرَاق (فَإِن أُجِيب بِإِرَادَة مسميات الدَّال) من المسميات الْمَذْكُورَة فِي التعريفات فالآحاد لَيست بمسميات للدال الَّذِي هُوَ لفظ الْجمع، لِأَن مسمياته الْجَمَاعَات (فَبعد حمله) أَي الْمَذْكُور فِي التعريفات: أَي المسميات (على أَفْرَاد مُسَمَّاهُ ليَصِح) التَّعْرِيف (وَلَا يشْعر بِهِ) أَي وَالْحَال أَن (اللَّفْظ) غير مشْعر بِهَذَا المُرَاد، لِأَن مَدْلُول المسميات إِنَّمَا هُوَ الْإِطْلَاق، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن المسميات وَإِن أطلق، فالمتبادر مِنْهَا أَن تكون مسميات بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّفْظ الَّذِي تنَاولهَا الْعَام فَعدم إِشْعَار اللَّفْظ مَحل نظر (فباعتبار إِلَى آخِره مُسْتَدْرك) أَي مُسْتَغْنى عَنهُ (لخُرُوج الْعدَد) عَن التَّعْرِيف بقوله على مسميات على مَا فَسرهَا الْمُجيب (لِأَنَّهَا) أَي آحَاد الْعدَد (لَيست أَفْرَاد مُسَمَّاهُ) بل أجزاؤه (ثمَّ أَفْرَاد الْعَام الْمُفْرد الوحدان و) أَفْرَاد (الْجمع الْمحلي) بِاللَّامِ (الجموع فَإِن الْتزم كَون عُمُومه) أَي الْجمع الْمحلي (باعتبارها) أَي الجموع الَّتِي هِيَ أَفْرَاده (فَقَط) من غير اعْتِبَار الوحدان الَّتِي هِيَ أجزاؤه (فَبَاطِل) هَذَا الِالْتِزَام (للإطباق) من أَئِمَّة اللُّغَة وَالتَّفْسِير وَالْأُصُول وَغَيرهم (على فهمها) أَي الوحدان من حَيْثُ تعلق الحكم الْمَنْسُوب إِلَيْهِ (مِنْهُ) أَي من الْجمع الْمحلي مُتَعَلق بفهمها (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر الْآحَاد تَحت عُمُومه على مَا وَقع الإطباق عَلَيْهِ (فتعليق الحكم حِينَئِذٍ بِهِ) أَي بِالْجمعِ الْمحلي (لَا يُوجِبهُ) أَي لَا يُوجب تَعْلِيق الحكم (فِي كل فَرد) أَي فِي كل وَاحِد من الوحدان، بل يقْتَصر على الجموع، وَثُبُوت الحكم لشَيْء لَا يسْتَلْزم ثُبُوته لأجزائه (وَالْحق أَن لَام الْجِنْس تسلب الجمعية إِلَى الجنسية) فيراد بِالْجمعِ الْمحلي الْجِنْس الَّذِي وضع مُفْرد بإزائه (مَعَ بَقَاء الْأَحْكَام اللفظية) من إرجاع ضمير الْجمع إِلَيْهِ وتوصيفه بِمَا يُوصف بِهِ الْجمع إِلَى غير ذَلِك (لفهم الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم الْمُثبت لَهُ تَعْلِيل(1/192)
للسلب الْمَذْكُور (فِي الْوَاحِد فِي: لَا أَشْتَرِي العبيد، وَيُحب الْمُحْسِنِينَ) أَي يفهم فِي موارد اسْتِعْمَال لمحلي ثُبُوت الحكم الْمُتَعَلّق بِهِ لكل وَاحِد وَاحِد من آحَاد مفرده، لَا لكل جمَاعَة جمَاعَة من أَفْرَاده، فيفهم نفي شِرَاء العَبْد الْوَاحِد، وَلِهَذَا يَحْنَث لَو حلف لَا يَشْتَرِي العبيد، وَلَا يفهم مِنْهُ أَن مُرَاد الْحَالِف الِامْتِنَاع عَن شِرَاء العبيد بِوَصْف الجمعية، وَكَذَا يفهم من يحب الْمُحْسِنِينَ تعلق الْمحبَّة بِكُل فَرد فَرد، لَا بِكُل جمَاعَة، وَهُوَ ظَاهر، فلولا أَن اللَّام أبطل الجمعية لما فهمنا ذَلِك لِأَن اللَّام لَا تستغرق إِلَّا أَفْرَاد مَفْهُوم مدخولها، وَمَعَ بَقَاء الجمعية أَفْرَاد مدخوله الْجَمَاعَات لَا الْآحَاد فَإِن قلت أهوَ حَقِيقَة أم مجَاز قلت قَالَ صدر الشَّرِيعَة أَن مَا قَالُوهُ أَنه يحمل على الْجِنْس مجَازًا مُقَيّد بِصُورَة لَا يُمكن حمله فِيهَا على الْعَهْد أَو الِاسْتِغْرَاق حَتَّى لَو أمكن يحمل عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} - فَإِن علماءنا قَالُوا أَنه لسلب الْعُمُوم لَا لعُمُوم السَّلب فَجعلُوا اللَّام لاستغراق الْجِنْس انْتهى. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ هَهُنَا: لَا شكّ أَن حمل الْجمع على الْجِنْس مجَاز، وعَلى الْعَهْد أَو الِاسْتِغْرَاق حَقِيقَة، وَلَا مساغ للخلف إِلَّا عِنْد تعذر الأَصْل انْتهى: فَعلم أَن الْجمع الْمحلى للاستغراق حَقِيقَة غير أَن الْمُحَقق لم يُصَرح بسلب اللَّام جمعيته، لكنه لَازم كَلَامه حَيْثُ صرح بِثُبُوت الحكم الْمُتَعَلّق بِالْجمعِ الْمحلي لكل من الوحدان كَمَا عرفت فَوَجَبَ إِثْبَات وضع ثَان لَهُ بعد دُخُول اللَّام، لِأَن كَونه حَقِيقَة بِاعْتِبَار الْوَضع الأول مَعَ سلب الجمعية ظَاهر الْبطلَان، لَكِن عدم صِحَة تَخْصِيصه إِلَى مَا دون الثَّلَاثَة يدافعه: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال أَحْكَام الْوَضع الأول مرعية فِيهِ فِي الْجُمْلَة كَمَا فِي إرجاع الضَّمِير والتوصيف، وَكَون سلب الجمعية بِاعْتِبَار ثُبُوت حكمه، لَا بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله فِيهَا غير موجه (ثمَّ يُورد) على استغراق الْعَام (مُطلقًا) مُفردا كَانَ أَو جمعا (أَن دلَالَته على الْمُفْرد تضمنية، إِذْ لَيْسَ) الْمُفْرد مدلولا (مطابقيا) لِأَن مَدْلُوله المطابقي مَجْمُوع الْأَفْرَاد الْمُشْتَركَة فِي الْمَفْهُوم الْمُعْتَبر فِيهِ على مَا صَرَّحُوا بِهِ (وَلَا خَارِجا لَازِما، وَلَا يُمكن جعله) أَي الْفَرد (من مَا صدقاته) أَي مَفْهُوم الْعَام، جمع مَا صدق لصيرورته بِمَنْزِلَة كلمة وَاحِدَة فِي اصْطِلَاح الْعلمَاء (لِأَنَّهُ) أَي الْعَام (لَيْسَ) بِاعْتِبَار تنَاوله لكل فَرد (بدليا) أَي على سَبِيل الْبَدَلِيَّة كَمَا مر فِي رجل، بل على سَبِيل الشُّمُول، وَمَا صرح بِهِ صدر الشَّرِيعَة من أَنه قد يكون على سَبِيل الْبَدَل كَمَا فِي: من دخل هَذَا الْحصن أَولا، فَكَأَنَّهُ غير مرضِي للْمُصَنف كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي التَّلْوِيح (فالتعليق بِهِ) أَي تَعْلِيق الحكم بِالْعَام (تَعْلِيق بِالْكُلِّ) أَي مَجْمُوع الْأَفْرَاد (فَلَا يلْزم) من التَّعْلِيق بِالْكُلِّ التَّعْلِيق (فِي الْجُزْء وَالْجَوَاب الْعلم باللزوم) أَي لُزُوم التَّعْلِيق فِي الْجُزْء من التَّعْلِيق بِالْكُلِّ (لُغَة) أَي لُزُوما لغويا(1/193)
لَا عقليا حَاصِل (فِي خُصُوص هَذَا الْجُزْء، لِأَنَّهُ جزئي من وَجه، فَإِنَّهُ جزئي الْمَفْهُوم الَّذِي بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك فِيهِ يثبت الْعُمُوم) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن هَذَا اللُّزُوم اللّغَوِيّ لَا يَخْلُو عَن وَجه عَقْلِي (وَقد يُقَال الْعَام مركب) تَارَة، كَالرّجلِ (فَلَا يُؤْخَذ) فِي تَعْرِيفه (الْجِنْس) الَّذِي هُوَ (الْمُفْرد) فَلم أخذتموه (وَيُجَاب بِأَنَّهُ) أَي الْعَام فِي مثل الرجل مُفْرد غير أَن عُمُومه مَشْرُوط (بِشَرْط التَّرْكِيب، فالعام رجل بِشَرْط اللَّام) كَمَا هُوَ قَول السكاكي، فالموضوع للاستغراق الرجل المقرون مَعَ اللَّام وَاللَّام شَرط (أَو بعلتها) مَعْطُوف على قَوْله بِشَرْط اللَّام بِأَن يكون رجل بعد دُخُول اللَّام على وَضعهَا الأول، والموضوع للاستغراق هُوَ اللَّام كَلَفْظِ كل (فالحرف يُفِيد مَعْنَاهُ) وَهُوَ الِاسْتِغْرَاق (فِيهِ) أَي فِي رجل، فالعام مَا دلّ على استغراقه الْحَرْف (أَو الْمقَام) كوقوع النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي أَو الشَّرْط (فَيصير) رجل (الْمُسْتَغْرق) بإفادة اللَّام أَو الْمقَام الِاسْتِغْرَاق فِيهِ، وَهُوَ خبر يصير، واستفادة الْعَام معنى الْعُمُوم من غَيره (وَفِي الْمَوْصُول أظهر) مِنْهُ فِي الْمحلى لِأَن الصِّلَة هِيَ المفيدة للموصول وصف الْعُمُوم لِأَنَّهُ لَا يتم إِلَّا بهَا (فيندفع الِاعْتِرَاض بِهِ) أَي بالموصول (على الْغَزالِيّ فِي قَوْله) فِي تَعْرِيف الْعَام (اللَّفْظ الْوَاحِد) الدَّال من جِهَة وَاحِدَة على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا من حَيْثُ اعْترض عَلَيْهِ أَن الموصولات بصلاتها لَيست لفظا وَاحِدًا، وَوجه الاندفاع أَن الْعَام هُوَ نفس الْمَوْصُول، غَايَة الْأَمر أَنه اسْتَفَادَ الْعُمُوم من صلته كَمَا اسْتَفَادَ الْمحلي من اللَّام (وخاص) عطف على عَام، وَهُوَ (مَا لَيْسَ بعام) على اخْتِلَاف الِاصْطِلَاح فِيهِ من حَيْثُ اشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق وَعَدَمه (أما الْعَام فَيتَعَلَّق بِهِ مبَاحث:
(الْبَحْث الأول هَل يُوصف بِهِ) أَي بِالْعُمُومِ (الْمعَانِي حَقِيقَة كاللفظ) أَي كَمَا يُوصف بِهِ للفظ حَقِيقَة (أَو) يُوصف بِهِ الْمعَانِي (مجَازًا أَو لَا) يُوصف بِهِ لَا حَقِيقَة (وَلَا) مجَازًا أَقْوَال (وَالْمُخْتَار الأول، وَلَا يلْزم) من اتصافهما بِهِ حَقِيقَة (الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ) بِأَن يكون الْعُمُوم مَوْضُوعا بِإِزَاءِ مَعْنيين مُخْتَلفين لوضعين يَتَّصِف بِأَحَدِهِمَا الْأَلْفَاظ، وبالآخر الْمعَانِي (إِذْ الْعُمُوم شُمُول أَمر لمتعدد) وَلَا شكّ فِي اتصاف كل من الْأَلْفَاظ والمعاني بِهَذَا الشُّمُول حَقِيقَة، غَايَة الْأَمر أَنه فِي الأول من قبيل شُمُول الدَّال لمدلولاته، وَفِي الثَّانِي من شُمُول الْكُلِّي الْأَفْرَاد، وَالْكل للأجزاء وَنَحْوهمَا، وَإِنَّمَا يُصَار إِلَى الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ إِذا لم يكن معنى يَشْتَرِكَانِ فِيهِ (فَهُوَ) أَي اشْتِرَاك الْأَلْفَاظ والمعاني فِي الشُّمُول الْمَذْكُور اشْتِرَاك (معنوي خير مِنْهُمَا) أَي من الْمُشْتَرك اللَّفْظِيّ، وَكَونه مجَازًا فِي الْمعَانِي، لِأَن الْمجَاز خلاف الأَصْل كَمَا أَن الأَصْل عدم الِاشْتِرَاك (وكل من الْمَعْنى وَاللَّفْظ مَحل) للاتصاف بالشمول الْمَذْكُور، فالمقتضى لاعْتِبَار الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ، وَهُوَ الْمَعْنى الْمُشْتَرك فِيهِ مَعَ الخبرية مَوْجُود، وَالْمَانِع عَنهُ وَهُوَ عدم الْمَحَلِّيَّة مَعْدُوم (ومنشؤه) أَي(1/194)
سقط(1/195)
سقط(1/196)
الْبَحْث الثَّانِي
(هَل الصِّيَغ من أَسمَاء الشَّرْط والاستفهام والموصولات و) الْمُفْرد (الْمحلي) بِاللَّامِ (و) النكرَة (المنفية وَالْجمع بِاللَّامِ وَالْإِضَافَة) مَعْطُوف على اللَّام (مَوْضُوعَة) خبر الْمُبْتَدَأ (للْعُمُوم على الْخُصُوص) أَي للْعُمُوم خَاصَّة، وَلَيْسَت بموضوعة للخصوص (أَو) للخصوص على الْخُصُوص (مجَاز فِيهِ) أَي فِي الْعُمُوم (أَو مُشْتَركَة) بَينهمَا (وَتوقف الْأَشْعَرِيّ) عَن الحكم بِشَيْء من الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْعُمُوم أَو الْخُصُوص (مرّة كَالْقَاضِي) أبي بكر (و) قَالَ (مرّة بالاشتراك) اللَّفْظِيّ كجماعة (وَقيل) الصِّيَغ الْمَذْكُورَة مَوْضُوعَة للْعُمُوم (فِي الطّلب) أَي فِيمَا إِذا كَانَت وَاقعَة فِي الْكَلَام الطلبي (مَعَ الْوَقْف فِي الْأَخْبَار وتفصيل) معنى (الْوَقْف إِلَى معنى لَا نَدْرِي) أَوضعت للْعُمُوم أَو لَا (وَإِلَى نعلم الْوَضع، وَلَا نَدْرِي أحقيقة أم مجَاز؟) فِي الْعُمُوم، وعَلى تَقْدِير كَونهَا فِيهِ لَا نَدْرِي أَنَّهَا وضعت لَهُ مُنْفَردا، أَو مُشْتَركَة بَينه وَبَين الْخُصُوص، هَكَذَا فسر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ الْمحل (لَا يَصح) خبر تَفْصِيل الْوَقْف: يَعْنِي بَيَان الْوَقْف على الْوَجْه الْمَذْكُور غير مُسْتَقِيم (إِذْ لَا شكّ فِي الِاسْتِعْمَال) أَي اسْتِعْمَال الصِّيَغ الْمَذْكُورَة فِي الْعُمُوم (وَبِه) أَي الِاسْتِعْمَال (يعلم وَضعه) أَي وضع الْمُسْتَعْمل للمستعمل فِيهِ (فَلم يبْق إِلَّا التَّرَدُّد فِي أَنه) أَي وَضعه الْوَضع (النوعي) فَيكون مجَازًا فِيهِ (أَو الشخصي) فَيكون حَقِيقَة فِيهِ (فَيرجع) الأول (إِلَى الثَّانِي) لِأَن التَّرَدُّد فِي الْوَضع الْمُطلق بعد الِاسْتِعْمَال غير مَعْقُول والمتردد فِي الْوَضع الشخصي نفي الْجَزْم بِأَصْل الْوَضع هُوَ عين التَّرَدُّد فِي أَنه حَقِيقَة أَو مجَاز (وَلَا شكّ فِي فهمه) أَي الْعُمُوم (من) اسْم الْجمع الْمُعَرّف بِاللَّامِ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أمرت أَن أقَاتل النَّاس) حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِذا قالوها فقد حقنوا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا " كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَإِلَّا لما قرر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ احتجاج عمر بِهِ فِي منع فَقَالَ: مانعي الزَّكَاة وَعدل إِلَى الِاحْتِجَاج بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا ذكر " إِلَّا بِحقِّهِ) وَقَالَ " وَالزَّكَاة من حَقه " فَإِن النَّاس لَو لم تعم الْكل لم يلْزم أَن يَعْنِي كل قتال بالغاية الْمَذْكُورَة، وَمن الْجمع الْمحلي فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَئِمَّة من قُرَيْش) كَمَا احْتج أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على الْأَنْصَار حَيْثُ قَالُوا: منا أَمِير ومنكم أَمِير، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء) لَا نورث وَمن الْمُفْرد الْمحلى فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة} وَقَوله تَعَالَى {لننجينه وَأَهله} فِي اسْم الْجمع الْمُضَاف وفهمه) أَي الْعُمُوم (الْعلمَاء قاطبة) فِي الْقَامُوس: جَاءُوا قاطبة جَمِيعًا، لَا تسْتَعْمل إِلَّا(1/197)
حَالا من اسْم الشَّرْط (فِي من دخل) دارى فَهُوَ حر (و) اسْم الِاسْتِفْهَام كَمَا فِي (مَا صنعت وَمن جَاءَ سُؤال عَن كل جَاءَ ومصنوع، و) من النكرَة المنفية كَمَا فِي (لَا تَشْتُم أحدا إِنَّمَا هُوَ) أَي التَّرَدُّد (فِي أَنه) أَي الْعُمُوم مَفْهُوم (بِالْوَضْعِ أَو بالقرنية كَقَوْل الْخُصُوص) أَي لقَوْل من يَقُول إِنَّهَا مَوْضُوعَة للخصوص، وتستعمل مجَازًا فِي الْعُمُوم بِالْقَرِينَةِ وَهِي (كالترتيب) للْحكم (على) الْوَصْف (الْمُنَاسب) الْمشعر بعليته لَهُ (فِي نَحْو السَّارِق، وَأكْرم الْعلمَاء) لظُهُور مُنَاسبَة السّرقَة وَالْحكم بِالْقطعِ وَالْإِكْرَام من حَيْثُ الْعلية (وَالْعلم) عطف على التَّرْتِيب: أَي علم المخاطبين (بِأَنَّهُ) أَي الحكم (تمهيد قَاعِدَة) كُلية، فَعلم الْعُمُوم بِقَرِينَة الْعلم بذلك (كرجم مَاعِز) كعلم الصَّحَابَة بِأَن رجمه تشريع قَاعِدَة شَرْعِيَّة: هِيَ وجوب الرَّجْم على من أقرّ بِالزِّنَا بالشرائط الْمُعْتَبرَة شرعا من الْإِحْصَان وَغَيره (إِذْ علم أَنه) أَي الْحَاكِم يَرْجُمهُ (شَارِع) ومنصبه بَيَان الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة (و) قد روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (حكمي على الْوَاحِد) حكمي على الْجَمَاعَة " كَمَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْفُقَهَاء، وَقد صَحَّ مَا يُؤدى مَعْنَاهُ عَن أُمَيْمَة أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نسْوَة نُبَايِعهُ على الْإِسْلَام، فَقلت يَا رَسُول الله هَل نُبَايِعك؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أُصَافح النِّسَاء، وَإِنَّمَا قولي لمِائَة امْرَأَة كَقَوْلي لامْرَأَة وَاحِدَة (أَو ضَرُورَة) مفعول لَهُ للفهم مَعْطُوف على قَوْله بِالْوَضْعِ فَإِن الْبَاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة وَالْمعْنَى أَن التَّرَدُّد فِي أَن الْعُمُوم هَل هُوَ مَفْهُوم بِسَبَب الْوَضع أَو بِسَبَب الْقَرِينَة على مَا ذكر، أَو لأجل الضَّرُورَة الْحَاصِلَة (من نفي النكرَة) الْمَوْضُوعَة للفرد الْمُبْهم المستلزم انتفاؤها انْتِفَاء جَمِيع الْأَفْرَاد (وألزموا) أَي الْقَائِلُونَ بوضعها للخصوص واستعمالها فِي الْعُمُوم بالقرائن بِأَنَّهُ لَو صَحَّ مَا ذكرْتُمْ لزمكم (أَن لَا يحكم بوضعي) أَي بِمَعْنى وضعي (للفظ) من الْأَلْفَاظ (إِذا لم ينْقل قطّ عَن الْوَاضِع) التَّنْصِيص على الْوَضع (بل أَخذ) الحكم بِوَضْع هَذَا لذا (من التبادر) أَي تبادر الْمَعْنى إِلَى الذِّهْن (عِنْد الِاسْتِعْمَال) وَفِي بعض النّسخ عِنْد الْإِطْلَاق، وَالْمعْنَى وَاحِد: أَي تبادر الْمَعْنى إِلَى ذهن الْمُخَاطب بِمُجَرَّد سَماع اللَّفْظ عِنْد الِاسْتِعْمَال قبل أَن يتَأَمَّل فِي الْقَرَائِن دَلِيل كَونه مَوْضُوعا لَهُ، وَلَا مَأْخَذ للْعلم بِالْوَضْعِ سوى هَذَا (وَأَيْضًا شاع) من غير نَكِير (احتجاجهم) أَي الْعلمَاء سلفا وخلفا (بِهِ) أَي الْعُمُوم من الصِّيَغ الْمَذْكُورَة (كعمر) أَي كاحتجاج (عمر على أبي بكر فِي مانعي الزَّكَاة) حِين أَرَادَ مُقَاتلَتهمْ (بأمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله) الحَدِيث، وَقد مر آنِفا بِحمْل الْمُعَرّف بِاللَّامِ على الْعُمُوم المغيا بقول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَتَقْرِير أبي بكر رَضِي الله عَنهُ على مَا مر، (و) كاحتجاج (أبي بكر) على الْأَنْصَار بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَئِمَّة من قُرَيْش) نقل الشَّارِح عَن بعض الْحفاظ أَنه لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مَوْجُودا فِي كتب الحَدِيث عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ،(1/198)
وَإِنَّمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا فِي قصَّة السَّقِيفَة قَول أبي بكر أَن الْعَرَب لَا تعرف هَذَا الْأَمر إِلَّا لهَذَا الْحَيّ من قُرَيْش، وَذكر مَا أخرجه أَحْمد بِسَنَد رِجَاله ثِقَات، لَكِن فِيهِ انْقِطَاع: أَن أَبَا بكر قَالَ لسعد: يَعْنِي ابْن عبَادَة لقد علمت يَا سعد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لقريش أَنْتُم وُلَاة هَذَا الْأَمر (و) كاحتجاج أبي بكر على من ظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُورث (نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث) بِحمْل الْأَنْبِيَاء على الْعُمُوم ليدْخل فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمعاشر جمع معشر كمكسر: وَهُوَ الْجَمَاعَة (على وَجه) مُتَعَلق بالاحتجاج (يجْزم بِأَنَّهُ) أَي الِاحْتِجَاج الْمَذْكُور أَو الْعُمُوم (بِاللَّفْظِ) أَي لفهم الْعُمُوم من مُجَرّد اللَّفْظ، لَا من الْقَرَائِن وَإِلَّا لذكرت عِنْد الِاحْتِجَاج (وَاسْتدلَّ) للمختار بمزيف (بِأَنَّهُ) أَي الْعُمُوم (معنى كثرت الْحَاجة إِلَى التَّعْبِير عَنهُ فكغيره) أَي فَهُوَ كَغَيْرِهِ من الْمعَانِي كثرت الْحَاجة إِلَى التَّعْبِير عَنْهَا فَوَجَبَ الْوَضع لَهُ كَمَا وضع لغيره (وَأجِيب بِمَنْع الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم أَن كَثْرَة الْحَاجة إِلَى التَّعْبِير عَنهُ تَقْتَضِي الْوَضع لَهُ، بل مُطلق التَّعْبِير وَهُوَ يحصل بطرِيق الْمجَاز أَيْضا، ثمَّ شرع فِي بَيَان القَوْل الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهَا مَوْضُوعَة للخصوص مجَازًا فِي الْعُمُوم فَقَالَ (الْخُصُوص) مُسَمّى الصِّيَغ دون الْعُمُوم لِأَنَّهُ (لَا عُمُوم إِلَّا لمركب) إِذْ الْمَعْنى دَلِيل الْخُصُوص أَنه لَا عُمُوم إِلَّا لمركب: أَي لَا يُسْتَفَاد الْعُمُوم إِلَّا من الْمركب (وَلَا وضع لَهُ) أَي للمركب: يَعْنِي أَن الْمركب من حَيْثُ هُوَ مركب غير مَوْضُوع (بل) الْوَضع (لمفرداته) أَي الْمركب (وَالْقطع) أَي الْمَقْطُوع بِهِ (أَنَّهَا) أَي الْمُفْردَات كل وَاحِد مِنْهَا مَوْضُوع (لغيره) أَي الْعُمُوم فَلم يوضع مُفْرد للْعُمُوم أصلا (فَلَا وضع لَهُ) أَي الْعُمُوم لانحصار الْوَضع فِي وضع الْمُفْرد وَعدم وضع الْمُفْرد للْعُمُوم رَأْسا (فَصدق أَنَّهَا) أَي الصِّيَغ الْمَذْكُورَة (للخصوص) إِذْ لَا وَاسِطَة بَينهمَا على الْمُخْتَار، وَكَذَا سَائِر الصِّيَغ إِذْ لم يوضع للْعُمُوم لفظ (بَيَانه) أَي بَيَان مَا ذكر من أَنه لَا عُمُوم إِلَّا لمركب (أَن معنى الشَّرْط) الَّذِي فِيهِ الْعُمُوم (وأخواته) أَي الِاسْتِفْهَام، وَالنَّفْي، والموصول إِلَى آخرهَا (لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَلْفَاظ لكل مِنْهَا وضع على حِدته) وانفراده، وَإِذا كَانَ لكل مِنْهَا وضع مُسْتقِلّا يلْزم التَّرْكِيب فِي الْمَجْمُوع (وَإِنَّمَا يثبت) معنى كل من الْمَذْكُورَات (بالمجموع) أَي بِمَجْمُوع الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة (مثلا معنى من عَاقل) أَي عَالم لِأَنَّهُ يُطلق على الله وَالظَّاهِر الْحَقِيقَة وَالْعقل لَا يُضَاف إِلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوس اسْم من بِمَعْنى الَّذِي، فعلى هَذَا يكون الْعَاقِل حَقِيقَة عرفا (فيضم إِلَيْهِ) أَي إِلَى اللَّفْظ (الآخر) متلبسا (بِخُصُوص من النِّسْبَة) المفهومة من الْهَيْئَة التركيبية (فَيحصل) بانضمام ذَلِك وملاحظة تِلْكَ النِّسْبَة مِنْهُمَا (معنى الشَّرْط والاستفهام وَبِهِمَا) أَي بِمَعْنى الشَّرْط والاستفهام يحصل (الْعُمُوم، وَصرح فِي) كتب (الْعَرَبيَّة بِأَن تضمن من معنى الشَّرْط والاستفهام طَارِئ على(1/199)
مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ، وَالْجَوَاب) من قبل المثبتين (أَن اللَّازِم) من الدَّلِيل الْمَذْكُور مُجَرّد (التَّوَقُّف) أَي توقف حُصُول معنى الشَّرْط وأخواته (على التَّرْكِيب) لَا كَون الْمركب مُسْتَعْملا فِي الْعُمُوم (فَلَا يسْتَلْزم) الدَّلِيل (أَن الْمَجْمُوع) هُوَ (الدَّال) على الْعُمُوم (وَتقدم الْفرق) بَين كَون الْمركب دَالا وَكَون التَّرْكِيب يتَوَقَّف عَلَيْهِ الدّلَالَة (وَلَيْسَ بِبَعِيد قَول الْوَاضِع) اسْم لَيْسَ (فِي) وضع (النكرَة) ظرف القَوْل (لفرد) فَقَوله: أَي وَضَعتهَا لفرد (يحْتَمل) ذكر الْفَرد الْمَوْضُوع لَهُ (كل فَرد) من أَفْرَاد الْجِنْس الملحوظ للواضع. قَوْله يحْتَمل أَن يكون من مقوله، فعلى هَذَا يُوصف الْفَرد بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور من الْوَاضِع وَأَن يكون من كَلَام المُصَنّف بَيَانا للْوَاقِع (فَإِذا عرفت) النكرَة الْمَذْكُورَة بِشَيْء من طرق التَّعْرِيف (فللكل) أَي فوضعها للْكُلّ أَي جَمِيع الْأَفْرَاد (ضَرْبَة) أَي جملَة، من قَوْلهم ضرب الشَّيْء بالشَّيْء: أَي خلط فَهُوَ حَال عَن الْكل (وَهُوَ) أَي كَونهَا للْكُلّ إِذا عرفت هُوَ (الظَّاهِر) الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم، وَالْمَقْصُود من هَذَا الْكَلَام دفع الاستبعاد المتوهم فِي بادئ النّظر من تعلق الوضعين الْمُخْتَلِفين بِلَفْظ وَاحِد بِاعْتِبَار حَالية التنكير والتعريف الْمُقْتَضى كَون الْمُفْرد مَوْضُوعا للْعُمُوم بعد وَضعه للخصوص (لأَنا نفهمه) أَي كَونهَا للْكُلّ وعمومها (فِي أكْرم الْجَاهِل، وأهن الْعَالم، وَلَا مُنَاسبَة) بَين الْإِكْرَام وَالْجهل، وَلَا بَين الإهانة وَالْعلم حَتَّى يُقَال: يجوز أَن يكون فهم الْعُمُوم بِقَرِينَة ترَتّب الحكم على الْمَوْصُوف بِوَصْف هُوَ عِلّة مَوْجُودَة فِي كل فَرد كَمَا قيل فِي أكْرم الْعَالم كَمَا مر (فَكَانَ) الْعُمُوم (وضعيا) لتبادره من نفس اللَّفْظ من غير قرينَة (وغايته) أَي غَايَة قَول الْوَاضِع ذَلِك (أَن وَضعه) أَي الْعُمُوم فِيمَا ذكر (وضع الْقَوَاعِد اللُّغَوِيَّة كقواعد النّسَب والتصغير) الْوَضع اللّغَوِيّ على قسمَيْنِ: قسم يُلَاحظ فِيهِ خُصُوص اللَّفْظ عِنْد الْوَضع، وَقسم لَا يُلَاحظ فِيهِ خصوصيته، بل الملحوظ فِيهِ مَفْهُوم كلي ينْدَرج فِيهِ أَلْفَاظ كَثِيرَة وَيجْعَل كل مِنْهَا فِي تِلْكَ الملاحظة الإجمالية بِإِزَاءِ معنى ملحوظ إِجْمَالا كَقَوْلِه: جعلت كل وَاحِد من صِيغ النِّسْبَة لذات مَا منسوبة إِلَى مَدْلُول الأَصْل، فَالْمُرَاد بِوَضْع الْقَوَاعِد اللُّغَوِيَّة الْقسم الثَّانِي (وأفراد موضوعها) أَي مَوْضُوع الْقَوَاعِد اللُّغَوِيَّة (حقائق) لما عرفت من أَن آلَة مُلَاحظَة الْوَاضِع حِين وَضعهَا مَفْهُوم كلي أفرادها أَلْفَاظ يعين كل وَاحِد مِنْهَا للدلالة على معنى خَاص من الْمعَانِي المندرجة تَحت مَفْهُوم كلي جعل آلَة لملاحظتها فِي مُقَابلَة الْكُلِّي الأول، فالموضوع والموضوع لَهُ فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ كل فردين مِنْهُمَا، وَلَا شكّ أَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ إِنَّمَا وضعت للدلالة بِنَفسِهَا، فَهِيَ حَقِيقَة عِنْد الِاسْتِعْمَال بِخِلَاف الْوَضع النوعي فِي المجازات، فَإِن الْمَوْضُوع فِيهَا مَا وضع للدلالة بِنَفسِهِ، بل بانضمام الْقَرِينَة كَأَنَّهُ قَالَ الْوَاضِع: كل لفظ مَوْضُوع لِمَعْنى بِإِزَاءِ مَا يُنَاسب ذَلِك الْمَعْنى بِنَوْع من العلاقات الْمُعْتَبرَة، لَكِن لَا(1/200)
لِأَن يدل بِنَفسِهِ، بل بانضمام الْقَرِينَة فأفراد مَوْضُوعه مجازات (وَلذَا) أَي وَلأَجل أَن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة من حَيْثُ أَنَّهَا نكرَة مَوْضُوعَة للفرد الْمُنْتَشِر، وَمن حَيْثُ أَنَّهَا معرفَة مَوْضُوعَة للْكُلّ ضَرْبَة بِالْوَضْعِ الْمَذْكُور (وَقع التَّرَدُّد فِي كَونه مُشْتَركا لفظيا) بَين الْخُصُوص والعموم نظرا إِلَى جَانب الِاتِّحَاد الذاتي، والتغاير الاعتباري، فَإِن الأول يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك، وَالثَّانِي عَدمه، فَإِن الْمَوْضُوع للفرد الْمُنْتَشِر إِنَّمَا هُوَ الْمُجَرّد عَن التَّعْرِيف، وللكل الْمُعَرّف، فَلَا اشْتِرَاك، ثمَّ أَرَادَ تَحْقِيق الْمقَام بتفصيل مواد الْعُمُوم، فَقَالَ (وَالْوَجْه أَن عُمُوم غير الْمحلى) بِاللَّامِ (والمضاف) من أَسمَاء الشَّرْط والاستفهام، والموصول، والنكرة المنفية (عَقْلِي) لَا يحْتَاج إِلَى وضع الْوَاضِع إِيَّاهَا للْعُمُوم (لجزم الْعقل بِهِ) أَي الْعُمُوم (عِنْد ضم) معنى (الشَّرْط، و) معنى (الصِّلَة إِلَى مُسَمّى من) الموصولة مثلا (وَهُوَ عَاقل) أَي ذَات لَهُ الْعقل (و) إِلَى مُسَمّى (الَّذِي وَهُوَ ذَات) مُبْهمَة توضح الصِّلَة إبهامه، وَذَلِكَ لِأَن تَعْلِيق الحكم بهَا يُفِيد علية مَضْمُون الشَّرْط والصلة لَهُ والمعلول دائر مَعَ علته فَيعم جَمِيع أفرادها لتحَقّق الْعلَّة فِي الْجَمِيع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَيثبت مَا علق بِهِ) أَي بِالْمُسَمّى من الحكم (لكل متصف) بِالْمُسَمّى من أَفْرَاده (لوُجُود مَا صدق عَلَيْهِ مَا علق) الحكم (عَلَيْهِ) الْمَوْصُول الأول عبارَة عَن أَفْرَاد الْمُسَمّى، وَالثَّانِي عَن الشَّرْط والصلة: وَهُوَ فَاعل صدق، فَإِن كل فَرد من أَفْرَاد الْمُسَمّى يصدق عَلَيْهِ مَضْمُون الشَّرْط وَالصّفة وَهُوَ فَاعل صدق، فَإِن كل فَرد من أَفْرَاد الْمُسَمّى يصدق عَلَيْهِ مَضْمُون الشَّرْط أَو الصِّلَة الَّذِي هُوَ عِلّة الحكم، وَهُوَ يَدُور مَعَه (وَكَذَا النكرَة المنفية) لجزم الْعقل بِالْعُمُومِ فِيهِ أَيْضا (لِأَن نفي ذَات مَا) وَهِي الْفَرد الْمُنْتَشِر الَّذِي هُوَ مُسَمّى النكرَة (لَا يتَحَقَّق) أَي النَّفْي الْمَذْكُور (مَعَ وجود ذَات) مِمَّا يصدق عَلَيْهِ ذَات مَا فَإِن قلت لَا نسلم ذَلِك، بل يتَحَقَّق النَّفْي الْمَذْكُور عِنْد الْبَعْض مَعَ وجود الْبَعْض قلت المتحقق حِينَئِذٍ نفي ذَات فِي الْمحل الْخَاص لَا انْتِفَاء مُطلقًا، فَإِن نفي الْخَاص لَا يستلزمه نفي الْعَام والمنفي فِي النكرَة المنفية إِنَّمَا هُوَ الْفَرد الْمُنْتَشِر مُطلقًا كَمَا أَن نفي الْمَاهِيّة الْمُطلقَة يسْتَلْزم نفي كل فَرد من أفرادها (وَهَذَا) أَي كَون الْعُمُوم فِي الْمَذْكُورَات عقليا (وَإِن لم يناف الْوَضع) أَي وضع الْمَذْكُورَات للْعُمُوم لجَوَاز دلَالَة الْعقل والوضع (لَكِن يصير) الْوَضع (ضائعا، وحكمته) أَي الْوَضع (تبعده) أَي وُقُوع الْوَضع، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ فهم الْمَعْنى، وَهُوَ حَاصِل بِدُونِهِ (كَمَا لَو وضع لفظ للدلالة على حَيَاة لافظة) فَإِنَّهُ ضائع، لِأَن مُجَرّد وجود اللَّفْظ مَعَ قطع النّظر عَن كَونه مَوْضُوعا كَاف فِي الدّلَالَة على وجود لفظ عقلا (وَاعْلَم أَن الْعَرَبيَّة) أَي أهل الْعَرَبيَّة قَالُوا (النكرَة المنفية بِلَا) حَال كَونهَا (مركبة) مَعَ لَا تركيب مزج، إِمَّا لكَون تركيبه للْبِنَاء كتركيب خَمْسَة عشر، أَو لعدم انْفِصَاله عَن لَا كَمَا لَا ينْفَصل عشر عَن خَمْسَة عشر على اخْتِلَاف(1/201)
الْقَوْلَيْنِ فِي اسْم لأبناء أَو أعرابا إِذا لم يكن مُضَافا وَلَا شُبْهَة (نَص فِي الْعُمُوم) قَالَ الْمُحَقق الرضى وَالْحق أَن نقُول أَنه مَبْنِيّ لتَضَمّنه معنى من الاستغراقية، وَذَلِكَ لِأَن قَوْلك لَا رجل نَص فِي نفي الْجِنْس بِمَنْزِلَة لَا من رجل، بِخِلَاف: لَا رجل فِي الدَّار وَلَا امْرَأَة، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ فِي سِيَاق النَّفْي يُفِيد الْعُمُوم لَكِن لَا نصا بل ظَاهر فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَغَيرهَا) أَي غير المنفية بِلَا مركبة (ظَاهر) فِي الْعُمُوم (فَجَاز) أَن يُقَال لَا رجل فِي الدَّار (بل رجلَانِ وَامْتنع) بل رجلَانِ (فِي الأول وبعلته) أَي بِسَبَب كَون المركبة نصا فِيهِ (يلْزم امْتِنَاعه) أَي امْتنَاع بل رجلَانِ (فِي لَا رجال) لكَونه نصا فِي نفي الْجِنْس وهم لَا يَقُولُونَ بامتناعه فِيهِ (فَإِن قَالُوا) فِي التفصي عَن هَذَا الْإِشْكَال (الْمَنْفِيّ) فِي لَا رجال (الْحَقِيقَة) الْمقيدَة (بِقَيْد تعدد) هُوَ مَدْلُول صِيغَة الْجمع، وَمن نفي الْجِنْس الْمُقَيد بِقَيْد لَا يلْزم نَفْيه بِدُونِ ذَلِك الْقَيْد (قُلْنَا إِذا صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ فِي الْمُقَيد بِقَيْد الْعدَد (فَلم لَا يَصح) فِي الْمُقَيد (بِقَيْد الْوحدَة) فِي نفي الْجِنْس بِأَن يُقَال لَا رجل فِي الدَّار بل رجلَانِ أَن أَو رجال (كجوازه) أَي أَن يُقَال بل رجلَانِ (فِي الظَّاهِر) وَهُوَ غير الْمَنْفِيّ بِلَا مركبة على مَا مر آنِفا نَحْو لَا رجل بِالرَّفْع بل رجلَانِ لكَون الْمَنْفِيّ الْحَقِيقَة الْمقيدَة بِقَيْد الْوحدَة (وَحكم الْعَرَب بِهِ) أَي بِكَوْن الْمَنْفِيّ فِي رجل نصا فِي الْعُمُوم كَمَا قَالُوا (مَمْنُوع) بل هُوَ من كَلَام المولدين (والقاطع بنفيه) أَي نفي حكم الْعَرَب بِمَا ذكر من التَّنْصِيص على الْعُمُوم بِحَيْثُ لَا يجْرِي فِيهِ التَّخْصِيص (مِنْهَا مَا) روى (عَن ابْن عَبَّاس) رَضِي الله عَنْهُمَا (مَا من عَام إِلَّا وَقد خصص) أَي مَا من عَام مَوْجُود كَائِنا فِي حَال خص فِيهَا، فَمن بعض أَفْرَاده عَن تنَاول الحكم (وَقد خص) عُمُوم هَذَا الْمَرْوِيّ بِنَحْوِ - وَالله بِكُل شَيْء عليم فَلَا يرد أَن عُمُوم هَذَا من أَفْرَاد مَوْضُوعه وَلم يخصص لِأَنَّهُ خصص (بِنَحْوِ) مَا ذكر لِأَن قَوْله تَعَالَى {وَالله بِكُل شَيْء عليم} عَام لم يخصص، فَالْمُرَاد بقوله مَا من عَام مَا سوى نَحْو ذَلِك، وَإِذا ثَبت تَخْصِيص كل عَام فَلَا تنصيص فِي المنفى بِلَا المركبة على الْعُمُوم فَيجوز بل رجلَانِ فِي لَا رجل، لِأَن الْعَام إِذا خصص لَا يبْقى عُمُومه قَطْعِيا (وَلَا ضَرَر) مَعْطُوف على قَوْله عَن ابْن عَبَّاس، أَي وَأَيْضًا الْقَاطِع بنفيه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا ضَرَر وَلَا ضرار " على مَا روى كثير مِنْهُم مَالك وَصَححهُ الْحَاكِم على شَرط مُسلم فَإِنَّهُ منفي بِلَا المركبة (و) قد (أوجب) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كثيرا من الضَّرَر) من حد، وقصاص وتعزير وَغَيرهَا لمرتكب أَسبَابهَا، فَالْمُرَاد نفي ضَرَر لم يرد فِي الشَّرْع، وَقد يُقَال أَن الْوَارِد فِي الشَّرْع لَيْسَ بِضَرَر كَيفَ وَقد قَالَ الله تَعَالَى - {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} - الْآيَة، وَفِيه مَا فِيهِ (وتنتفى) بِمَا ذكرنَا من عدم الْفرق بَين المنفيات وَمنع مَا حكى عَن الْعَرَب مُسْتَندا بِمَا ذكر (منافاته) أَي مُنَافَاة كَون المركبة نصا(1/202)
فِي الْعُمُوم (لإِطْلَاق) عُلَمَاء (الْأُصُول) جَوَاز تَخْصِيص (الْعَام) فِي قَوْلهم الْعَام (يجوز تَخْصِيصه) وَجه الْمُنَافَاة أَن كَون المركبة لنفي الْجِنْس والحقيقة مُطلقًا يسْتَلْزم تنَاول الحكم على كل فَرد بِحَيْثُ لَا يشذ مِنْهَا شَيْء، والتخصيص إِخْرَاج للْبَعْض عَن دَائِرَة تنَاوله فَلَا يجوز اجْتِمَاعهمَا وَوجه انتفائهما أَن حَاصِل بحثنا كَون المركبة أقوى دلَالَة على الِاسْتِغْرَاق من غَيرهَا، لَا كَونهَا نصا فِيهِ بِحَيْثُ لَا يجوز إِخْرَاج فَرد مِنْهُ، وَنقل عَن المُصَنّف أَن قَول الزَّمَخْشَرِيّ أَن قِرَاءَة النصب فِي لَا ريب فِيهِ يُوجب الِاسْتِغْرَاق، وَقِرَاءَة الرّفْع تجوزه غير حسن، لِأَنَّهُ أطبق أَئِمَّة الْأُصُول على أَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تفِيد الْعُمُوم سَوَاء كَانَت مركبة بِلَا أَو لَا، وَلَا مَأْخَذ لَهُم فِي ذَلِك سوى اللُّغَة وهم المتقدمون فِي أَخذ الْمعَانِي من قوالب الْأَلْفَاظ، ثمَّ إِن وجدنَا الْمُتَكَلّم لم يعقب الْمَنْفِيّ بِإِخْرَاج شَيْء حكمنَا بِإِرَادَة ظَاهره من الْعُمُوم وَوَجَب الْعَمَل بِهِ، وَأَن ذكر مخرجا، نَحْو: بل رجلَانِ علمنَا أَن قَصده النَّفْي لقيد الْوحدَة، أَو مخرجا آخر مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا علمنَا أَنه أَرَادَ بِالْعَام بعضه، وكل من قراءتي النصب وَالرَّفْع يُوجب الِاسْتِغْرَاق غير أَن إِيجَاب النصب أقوى (فَإِن قيل فَهَل) فِي (بل رجلَانِ تَخْصِيص) للأرجل (مَعَ أَن حَاصله) أَي حَاصِل لَا رجل (نفي الْمُقَيد ب) قيد (الْوحدَة (وَإِذا قيد الْمَنْفِيّ بهَا (فَلَيْسَ عُمُومه) أَي النَّفْي (إِلَّا فِي الْمُقَيد بهَا) أَي الْوحدَة، وَلَا شكّ أَنه لم يخرج من أَفْرَاده الْمقيدَة شَيْء ليَكُون تَخْصِيصًا، فَإِن الْمخْرج مَوْصُوف بضد الْوحدَة (قُلْنَا التَّخْصِيص) فِيهِ (بِحَسب الدّلَالَة ظَاهِرَة لَا) بِحَسب (المُرَاد) فَإِن الدّلَالَة تتبع الْعلم بِالْوَضْعِ، وَقد علم وضع اللَّفْظ الَّذِي دخله النَّفْي بِإِزَاءِ الْمَاهِيّة الْمُطلقَة، ونفيها يسْتَلْزم نفي كل فَرد من أفرادها، وَأما المُرَاد فيفهم تَارَة بالقرائن الصارفة عَن مُقْتَضى الظَّاهِر، وبل رجلَانِ قرينَة صارفة عَن إِرَادَة نفي الْجِنْس إِلَى نفي وصف الْوحدَة، وَحِينَئِذٍ لَا تَخْصِيص فَإِن قلت هَذَا على تَقْدِير كَون اسْم الْجِنْس مَوْضُوعا للماهية الْمُطلقَة، وَأما على تَقْدِير كَونه للفرد الْمُنْتَشِر كَمَا هُوَ تَحْقِيق المُصَنّف فَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكرت، لِأَن الْمَنْفِيّ حِينَئِذٍ مُقَيّد بِقَيْد الْوحدَة قُلْنَا نفي الْمُقَيد على وَجْهَيْن: أَحدهمَا تَوْجِيه النَّفْي نَحْو الْقَيْد كَمَا عرفت. وَالثَّانِي تَوْجِيهه إِلَى الْمُقَيد: يَعْنِي مَا من شَأْنه التَّقْيِيد بِقَيْد الْوحدَة الْمُطلقَة وَهُوَ مسَاوٍ للماهية الْمُطلقَة بِحَسب الصدْق، فنفيه يُفِيد الِاسْتِغْرَاق كنفي الْمُطلقَة، فقولنا: بل رجلَانِ حِينَئِذٍ يكون تَخْصِيصًا، لِأَن الْمثنى حِينَئِذٍ يصدق عَلَيْهِ الْمَاهِيّة الْمقيدَة بِقَيْد الْوحدَة، وَقد خرج من دَائِرَة عُمُوم نفي الْمُقَيد، وَلَا نعني بالتخصيص إِلَّا هَذَا وَيرد عَلَيْهِ أَن هَذَا الْمَعْنى لَيْسَ مُقْتَضى الْوَضع، وَالدّلَالَة تَابِعَة لَهُ فَالصَّوَاب أَن يُقَال مُرَاد المُصَنّف أَن الْمَنْفِيّ بِلَا: تَارَة يُرَاد بِهِ نفي الْجِنْس مُطلقًا، وَهُوَ الْمُتَبَادر، وَتارَة نَفْيه مُقَيّدا، فالعالم بهما حِين يسمعهُ يتَّصل إِلَى الأول قبل الْعلم بالمراد بِقَرِينَة، بل رجلَانِ(1/203)
بعد التَّأَمُّل، فبالنظر إِلَى تِلْكَ الدّلَالَة تَخْصِيص (فَلَا شكّ) فِيمَا قُلْنَا من أَنه تَخْصِيص بِنَاء (على) اصْطِلَاح (الشَّافِعِيَّة) فَإِن قصر الْعَام على بعض مُسَمَّاهُ تَخْصِيص عِنْدهم سَوَاء كَانَ بِمُتَّصِل أَو بمنفصل مُسْتَقل أَو غير مُسْتَقل (وَأما الْحَنَفِيَّة فَهُوَ) أَي مثل: بل رجلَانِ عِنْدهم (كالمتصل) أَي كالمستثنى الْمُتَّصِل أَو الْمَعْنى، وَأما على اصْطِلَاح الْحَنَفِيَّة فَهُوَ كالمتصل (والتخصيص) عِنْدهم إِنَّمَا يكون (بمستقل) فِي التَّلْوِيح: قصر الْعَام على بعض مَا يتَنَاوَلهُ تَخْصِيص عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة فَفِيهِ تَفْصِيل، وَهُوَ أَنه إِمَّا أَن يكون بِغَيْر مُسْتَقل، أَو بمستقل، وَالْأول لَيْسَ بتخصيص، بل إِن كَانَ بألا وَأَخَوَاتهَا اسْتثِْنَاء، وَإِلَّا فَإِن كَانَ بِأَن وَمَا يُؤدى مؤداها بِشَرْط، وَإِلَّا فَإِن كَانَ بإلى وَمَا يُفِيد مَعْنَاهَا فغاية وَإِلَّا فصيغة. وَالثَّانِي هُوَ التَّخْصِيص سَوَاء كَانَ بِدلَالَة اللَّفْظ، أَو الْعقل، أَو الْحس، أَو الْعَادة، أَو نُقْصَان بعض الْأَفْرَاد، أَو زِيَادَته، وَفسّر غير المستقل بِكَلَام يتَعَلَّق بصدر الْكَلَام وَلَا يكون تَاما بِنَفسِهِ انْتهى (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن الصِّيَغ الْمَذْكُورَة مَوْضُوعَة للخصوص على (الْخُصُوص) أَي الْمَعْنى الْمَذْكُور اعْتِبَاره يُسمى اللَّفْظ خَاصّا، وَهُوَ هَهُنَا نفس الْمَاهِيّة من غير اعْتِبَار عدد مَعهَا من حَيْثُ تحققها فِي ضمن الْأَفْرَاد (مُتَيَقن) لوُجُوده فِي الصِّيَغ الْمَذْكُورَة بِاتِّفَاق الْكل، فَإِن الِاخْتِلَاف فِي كَونه حِين مُسَمّى اللَّفْظ وجزئه يكون اللَّفْظ
مَوْضُوعا لَهُ مَعَ وصف الْعُمُوم (فَيجب) كَونه مُسَمّى لتعينه (وينفى الْمُحْتَمل) أَي الْعُمُوم لِأَنَّهُ مُشْتَرك الْوُجُود (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (إِثْبَات اللُّغَة بالترجيح) أَي بترجيح معنى على غَيره، وَهُوَ لَا يجوز كَمَا لَا يجوز إِثْبَاتهَا بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا لَا تثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ كَمَا مر (وَبِأَن الْعُمُوم أرجح) من الْخُصُوص (للِاحْتِيَاط) لِأَن فِي اعْتِبَار الْخُصُوص دون الْعُمُوم مَعَ احْتِمَال كَونه مرَادا للشارع تضعيفا لأمر يحْتَمل أَن يكون حكما شَرْعِيًّا فِي نفس الْأَمر (وَفِي هَذَا) الْجَواب (إِثْبَاتهَا) أَي اللُّغَة (بالترجيح مَعَ أَن الِاحْتِيَاط) الَّذِي جعل مرجحا (لَا يسْتَمر) أَي لَا يتَحَقَّق فِي جَمِيع الْموَاد، بل فِي بَعْضهَا كالإباحة، والرخص: الِاحْتِيَاط فِي عدم الْحمل على الْعُمُوم (بل الْجَواب) الْحسن أَن يُقَال (لَا احْتِمَال) لعدم الْوُجُود (بعد مَا ذكرنَا) من أَدِلَّة الْعُمُوم (وَأما استدلالهم) أَي الْقَائِلين بِالْوَضْعِ للخصوص بِمَا ينْسب إِلَى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا (مَا من عَام إِلَّا وَقد خص، ففرع دعوانا) أَن وَضعهَا للْعُمُوم فِي الأَصْل، والتخصيص لأسباب ودواع (الِاشْتِرَاك) أَي دَلِيل الِاشْتِرَاك قَوْلهم (ثَبت الْإِطْلَاق) أَي إِطْلَاق الصِّيَغ الْمَذْكُورَة على الْعُمُوم وَالْخُصُوص (وَالْأَصْل) فِي الاطلاق (الْحَقِيقَة، وَالْجَوَاب لَو لم يثبت بِمَا ذكرنَا) من أَدِلَّة الْعُمُوم لَكَانَ الْأَمر كَمَا ذكرْتُمْ لكنه ثَابت. قَالَ (الْمفصل) وَقد عرفت تَفْصِيله فِي صدر المبحث انْعَقَد (الْإِجْمَاع على عُمُوم التَّكْلِيف) وشموله جَمِيع(1/204)
الْمُكَلّفين (وَهُوَ) أَي عُمُومه إِنَّمَا يحصل (بِالطَّلَبِ) على وَجه الْعُمُوم فَإِنَّهُ لَو لم يكن الطّلب عَاما لم يكن التَّكْلِيف عَاما (قُلْنَا وَكَذَا الْأَخْبَار فِيمَا) أَي فِي كَلَام (لَيْسَ فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْكَلَام (صِيغَة خُصُوص) كَمَا إِذا كَانَ فِيهِ كَاف خطاب الْمُفْرد (مثل - {نَحن نقص عَلَيْك} - لتَعَلُّقه) أَي الْأَخْبَار (بِحَال الْكل) وَإِن اخْتلف كَيْفيَّة التَّعْلِيق، فَفِي الطّلب بطرِيق الِاقْتِضَاء، وَفِي الْأَخْبَار بطرِيق الْإِرْشَاد، وَطلب الْإِيمَان بِهِ. قَالَ القَاضِي فِي شرح الْمُخْتَصر فِي هَذَا الْمقَام، وَالْجَوَاب الْمُعَارضَة بِمثلِهِ فِي الْأَخْبَار للْإِجْمَاع على أَن الْأَخْبَار بِمَا ورد فِي حق جَمِيع الْأمة وَإِنَّا مكلفون بمعرفتها (وَلَا معنى للتوقف) الْمَنْقُول عَن الْأَشْعَرِيّ وَالْقَاضِي على مَا سبق (بعد استدلالنا) بِمَا ذكر بمعرفتها لقُوته وظهوره.
الْبَحْث الثَّالِث
من المباحث الْمُتَعَلّقَة بِالْعَام: بحث الْجمع الْمُنكر، وَيجوز أَن يكون الْخَبَر قَوْله (لَيْسَ الْجمع الْمُنكر عَاما) إِلَى آخر المبحث (خلافًا لطائفة من الْحَنَفِيَّة) مِنْهُم فَخر الْإِسْلَام وَعَامة الْأُصُولِيِّينَ على أَن جمع الْقلَّة النكرَة لَيْسَ بعام لظُهُوره فِي الْعشْرَة فَمَا دونهَا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي جمع الْكَثْرَة النكرَة، فَقَوْل فَخر الْإِسْلَام: أما الْعَام بصيغته وَمَعْنَاهُ فَهُوَ صِيغَة كل جمع يُخَالف قَول الْعَامَّة (لنا الْقطع بِأَن رجَالًا لَا يتَبَادَر مِنْهُ عِنْد إِطْلَاقه) عَن قرينَة الْعُمُوم (استغراقهم) أَي استغراق رجَالًا فِي: رَأَيْت رجَالًا مثلا جَمِيع الرِّجَال (كَرجل) أَي كَمَا أَن رجلا عِنْد إِطْلَاقه عَنْهَا لَا يتَبَادَر مِنْهُ استغراق أَفْرَاد مَفْهُومه، وَلَو كَانَ حَقِيقَة الْعُمُوم لتبادر مِنْهُ ذَلِك (فَلَيْسَ) الْجمع الْمُنكر (عَاما) كَمَا أَن رجلا كَذَلِك: كَذَا فِي شرح التلميذ (فَمَا قيل الْمرتبَة المستغرقة) فَهِيَ الْجَمَاعَة الَّتِي تندرج فِيهَا كل جمَاعَة يصدق عَلَيْهَا صِيغَة الْجمع: يَعْنِي مَجْمُوع أَفْرَاد الرجل (من) جملَة (مراتبه) أَي مَرَاتِب الْجمع الْمُنكر، لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ صِيغَة الْجمع (فَيحمل) الْجمع الْمُنكر (عَلَيْهَا) أَي على الْمرتبَة المستغرقة فَيتَحَقَّق الْعُمُوم عِنْد ذَلِك، وَإِنَّمَا يحمل عَلَيْهَا (للِاحْتِيَاط) على مَا سبق آنِفا (بعد أَنه) أَي مَا قيل، والظرف مُتَعَلق بِخَبَر الْمَوْصُول: أَعنِي لَيْسَ (معَارض) خبر أَن (بِأَن غَيرهَا) أَي غير المستغرقة، وَهُوَ أقل مَرَاتِب الْجمع (أولى للتيقن) بِهِ لوجودها فِي جَمِيع الْمَرَاتِب، وَمَا سواهُ مَشْكُوك فِيهِ (و) بعد أَنه معَارض بِكَوْن الِاحْتِيَاط لَا يسْتَمر) فِي الِاسْتِغْرَاق (بل) قد (يكون) الِاحْتِيَاط (فِي عَدمه) أَي عدم الِاسْتِغْرَاق كَمَا مر و (لَيْسَ) مَا قيل (فِي مَحل النزاع لِأَنَّهُ) أَي النزاع (فِي أَنه) أَي الْعُمُوم (مَفْهُومه) أَي مَفْهُوم الْجمع الْمُنكر أم لَا (وَأَيْنَ الْحمل) أَي حمل جمع الْمُنكر (على(1/205)
بعض مَا صدقاته) الَّذِي هُوَ الْمرتبَة المستغرقة (للِاحْتِيَاط) مُتَعَلق بِالْحملِ (مِنْهُ) أَي من مَحل النزاع، وَالْجَار مُتَعَلق بِمَا تعلق بِهِ خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي أَيْن، وَالْمعْنَى الْحمل الْمَذْكُور فِي أَي مَكَان من مَحل النزاع، أَي من قربه، وَالْمرَاد إبعاده عَن ساحته لعدم الْمُنَاسبَة (وَأما إِلْزَام) منكرى عُمُوم الْجمع الْمُنكر على مثبتيه بِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْك عدم عُمُوم الْجمع لعدم الْمُنَاسبَة عُمُوم (نَحْو رجل فمدفوع بِأَنَّهُ) أَي نَحْو رجل (لَيْسَ من أَفْرَاده) الْمرتبَة (المستغرقة) ليحمل عَلَيْهَا (بِخِلَاف رجال فَإِنَّهُ للْجمع) الْمُطلق (الْمُشْتَرك بَين الْمُسْتَغْرق وَغَيره) مِمَّا صدقاته (قيل مَبْنِيّ الْخلاف) فِي أَنه عَام أم لَا؟ على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي التَّلْوِيح (الْخلاف فِي اشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق فِي الْعُمُوم، فَمن لَا) يشْتَرط (كفخر الْإِسْلَام وَغَيره جعله) أَي الْجمع الْمُنكر (عَاما) وَمن لَا يشْتَرط لَا يَجعله عَاما (وَإِذا) أَي وَحين يكون مبْنى الْخلاف ذَلِك (لَا وَجه لمحاولة استغراقه) أَي الْجمع الْمُنكر، فِي الْقَامُوس حاوله حوالا، ومحاولة، رامه (بِالْحملِ على مرتبَة الِاسْتِغْرَاق بل) النزاع (لَفْظِي) إضراب عَن كَون الْخلاف فِيهِ مَبْنِيا على ذَلِك الْخلاف، لِأَنَّهُ فرع وجود الْخلاف بِحَسب الْحَقِيقَة وَالْمعْنَى، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل وَاللَّفْظ فَقَط (فمراد الْمُثبت) لجمع الْمُنكر الْعُمُوم (مَفْهُوم) أَي إِثْبَات مَفْهُوم لفظ (عُمُوم) لُغَة (وَهُوَ) أَي مَفْهُومه (شُمُول مُتَعَدد) وَهُوَ (أَعم من الِاسْتِغْرَاق) والخصم لَا يَنْفِيه بِهَذَا الْمَعْنى (وَمُرَاد النَّافِي) من الْعُمُوم الَّذِي نَفَاهُ (عُمُوم الصِّيَغ الَّتِي أثبتنا كَونهَا) أَي كَون تِلْكَ الصِّيَغ (حَقِيقَة فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْعُمُوم (وَهُوَ) أَي عُمُوم الصِّيَغ الْمَذْكُورَة (الاستغراقي حَتَّى قبل) عمومها (الْأَحْكَام) الْمرتبَة على الْعُمُوم الاستغراقي (من التَّخْصِيص وَالِاسْتِثْنَاء) وَغَيرهمَا مِمَّا يقْصد الْبَحْث عَنهُ فِي مَبْحَث الْعَام (وَلَا نزاع فِي) أَن مُرَاد النَّافِي من الْعُمُوم الَّذِي نَفَاهُ هُوَ (هَذَا) الْعُمُوم الاستغراقي (لأحد) من أهل هَذَا الشَّأْن (وَلَا) نزاع أَيْضا (فِي عَدمه) أَي عدم هَذَا الْعُمُوم (فِي رجال) وَلِهَذَا (لَا يُقَال: اقْتُل رجَالًا إِلَّا زيدا) أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ) أَي الِاسْتِثْنَاء ل (إِخْرَاج مالولاه) أَي الِاسْتِثْنَاء (لدخل) فِي حكم صدر الْكَلَام (وَلَو قيل) اقْتُل رجَالًا (وَلَا تقتل زيدا كَانَ) وَلَا تقتل زيدا (ابْتِدَاء) لكَلَام آخر (لَا تَخْصِيصًا) لِأَنَّهُ فرع الْعُمُوم الاستغراقي (وَإِذ بَينا أَنه) أَي الْجمع الْمُنكر مَوْضُوع (للمشترك) بَين مَرَاتِب الْجمع (وَهُوَ) أَي الْمُشْتَرك بَينهَا (الْجمع مُطلقًا، فَفِي أَقَله) أَي أقل الْجمع مُطلقًا (خلاف) فِي التَّلْوِيح: ذهب أَكثر الصَّحَابَة وَالْفُقَهَاء وأئمة اللُّغَة إِلَى أَنه ثَلَاثَة، وَفصل الْخلاف بقوله (قيل) أَقَله (ثَلَاثَة) من آحَاد مفرده (مجَاز لما دونهَا) أَي الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحد، فَإِذا أطلق على الثَّلَاثَة فَمَا فَوْقهَا أَي عدد كَانَ فَهُوَ حَقِيقَة لكَونهَا من أَفْرَاد مَا وضع لَهُ الْجمع، بِخِلَاف مَا دون الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ لَيْسَ من أَفْرَاده (وَهُوَ)(1/206)
أَي هَذَا القَوْل هُوَ (الْمُخْتَار) لما سَيَجِيءُ (وَقيل حَقِيقَة فِي اثْنَيْنِ أَيْضا) لكَونه من أَفْرَاد مُسَمّى الْجمع للاكتفاء بِمَا فَوق الْوَاحِد فِيهِ، فالأقل على هَذَا اثْنَان (وَقيل) حَقِيقَة فِي الثَّلَاثَة (مجَاز فيهمَا) أَي فِي اثْنَيْنِ لَا فِيمَا دونه، وَهُوَ الْوَاحِد (وَقيل) حَقِيقَة فِي الثَّلَاثَة، وَلَا يُطلق على اثْنَيْنِ (لَا) حَقِيقَة (وَلَا) مجَازًا، فَلَزِمَ عدم إِطْلَاقه على الْوَاحِد بِالطَّرِيقِ الأول، ثمَّ شرع فِي بَيَان وَجه الْمجَاز، فَقَالَ (لقَوْل ابْن عَبَّاس) رَضِي الله عَنْهُمَا (لَيْسَ الأخوان إخْوَة) أخرج ابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَنهُ أَنه دخل على عُثْمَان، فَقَالَ أَن الأخوان لَا يرد أَن الْأُم عَن الثُّلُث، فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول - {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} - والأخوان ليسَا بإخوة بِلِسَان قَوْمك، فَقَالَ عُثْمَان: لَا أَسْتَطِيع أرد أمرا توارث عَلَيْهِ النَّاس وَكَانَ قبلي وَمضى فِي الْأَمْصَار انْتهى (أَي حَقِيقَة) أَي أَرَادَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا نفى إِطْلَاق الْأُخوة على الْأَخَوَيْنِ بطرِيق الْحَقِيقَة، لَا نفى إِطْلَاقهَا عَلَيْهِمَا بطرِيق الْمجَاز (لقَوْل زيد: الأخوان إخْوَة) . قَالَ الْحَاكِم صَحِيح الْإِسْنَاد عَن خَارِجَة بن زيد عَن ثَابت عَن أَبِيه أَنه كَانَ يحجب الْأُم عَن الثُّلُث بالأخوين، فَقَالَ أَبَا سعيد فَإِن الله عز وَجل يَقُول - {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} - وَأَنت تحجبها بالأخوين؟ فَقَالَ: إِن الْعَرَب تسمى الْأَخَوَيْنِ إخْوَة (أَي مجَازًا) وَإِنَّمَا جعلنَا مورد النَّفْي الْحَقِيقَة، وَمحل الْإِثْبَات الْمجَاز (جمعا) بَين كل مِنْهُمَا، وتوفيقا بَين الْأَمريْنِ الصَّحِيحَيْنِ على مَا تَقْتَضِيه قَاعِدَة الْأُصُول (وَتَسْلِيم عُثْمَان لِابْنِ عَبَّاس تمسكه، ثمَّ عدوله إِلَى الْإِجْمَاع دَلِيل على الْأَمريْنِ) أما على الأول فَظَاهر، وَأما على الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لما تمسك بِالْإِجْمَاع، وَلَا بُد لَهُ من التَّوْفِيق بَين الْكتاب وَالْإِجْمَاع تعين ارتكابه الْمجَاز فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة لِئَلَّا يلْزم مُخَالفَة الْإِجْمَاع لمفهومها، وَفِيه أَنه إِنَّمَا يتم إِذا كَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَائِلا بِمَفْهُوم الْعدَد فَتَأمل، ثمَّ أَشَارَ إِلَى إِطْلَاق الْجمع على الْوَاحِد مجَازًا بقوله (وَلَا شكّ فِي صِحَة الْإِنْكَار على متبرجة) أَي مظهرة زينتها (لرجل) أَجْنَبِي بقوله (أتتبرجين للرِّجَال) فقد أطلق فِي هَذَا الْإِنْكَار الرِّجَال على الرجل الْوَاحِد لِأَنَّهَا مَا تبرجت إِلَّا لوَاحِد (وَلَا يخفى أَنه) أَي لفظ الرِّجَال هُنَا (من الْعَام) الْمُسْتَعْمل (فِي الْخُصُوص) لكَونه محلى بِاللَّامِ الاستغراقية (لَا الْمُخْتَلف) فِيهِ (من نَحْو رجال الْمُنكر) صفة الْمُخْتَلف، أَو رجال لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ لَفظه، وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَار معرفَة، الْجَار وَالْمَجْرُور مُتَعَلق بمقدر حَال عَن الضَّمِير فِي الْمُخْتَلف (على أَنه) أَي الْمِثَال الْمَذْكُور (لَا يستلزمه) أَي كَون الْجمع (مجَازًا فِيهِ) أَي فِي الْوَاحِد (لجَوَاز أَن الْمَعْنى أهوَ) أَي التبرج (عادتك لَهُم) أَي للرِّجَال مُتَعَلق بالتبرج (حَتَّى تبرجت لهَذَا) الرجل (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (مِمَّا يُرَاد فِي مثله) أَي فِي مثل هَذَا الْكَلَام (نَحْو: أتظلم الْمُسلمين) لمن ظلم وَاحِدًا(1/207)
يحْتَمل أَن يُرَاد بِصِيغَة الْجمع الْجِنْس كَمَا فِي: فلَان يركب الْخَيل وَحَاصِل الجوابين مَعَ استلزام صِحَة الْإِنْكَار اسْتِعْمَال الْجمع الْمُنكر فِي الْوَاحِد مُسْتَندا بِأَن الْجمع الْمَذْكُور فِيهِ لَيْسَ بمنكر، وَبِأَن الْمَعْنى لَيْسَ كَمَا زعمت من أَن المُرَاد بِالرِّجَالِ ذَلِك الرجل (وَالْحق جَوَازه) أَي جَوَاز إِطْلَاق الْجمع على الْوَاحِد مجَازًا (حَيْثُ يثبت الْمُصَحح) من نُكْتَة بليغة محسنة لتنزيل الْوَاحِد منزلَة الْجَمَاعَة (كرأيت رجَالًا فِي رجل يقوم مقَام الْكثير) كَمَا إِذا كَانَ متفننا بصنائع يسْتَقلّ كل مِنْهَا لرجل كَامِل (وَحَيْثُ لَا) يثبت الْمُصَحح (فَلَا) يجوز (وتبادر مَا فَوق الِاثْنَيْنِ) عِنْد إِطْلَاق الْجمع (يُفِيد الْحَقِيقَة فِيهِ) على مَا مر غير مرّة وَهَذَا دَلِيل عَقْلِي، وَالْأول وَمَا بعده نقلي (واستدلال النافين) لصِحَّة إِطْلَاقه على الِاثْنَيْنِ مُطلقًا (بِعَدَمِ جَوَاز) تركيب (الرِّجَال العاقلان) لعدم صِحَة إِطْلَاق العاقلان على الرِّجَال، وَلَا بُد فِي التوصيف مِنْهَا (وَالرجلَانِ العاقلون) على عكس الأول لعكس مَا ذكرنَا (مجَازًا) لعدم جوازهما حَقِيقَة. قَوْله مجَازًا حَال عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لكَونه فَاعِلا للْجُوَاز معنى، والتجوز الْمَنْفِيّ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار النِّسْبَة التوصيفية (دفع) خبر الْمُبْتَدَأ (بمراعاتهم مُطَابقَة الصُّورَة) أَي الْمُطَابقَة بِحَسب الصُّورَة بَين الصِّيغَة والموصوف، وَعدم اكتفائهم بالمطابقة بِحَسب الْمَعْنى بِسَبَب حمل لفظ الْجمع على مَا فَوق الْوَاحِد مجَازًا مُحَافظَة على التشاكل بَينهمَا (وَنقض) الدّفع الْمَذْكُور (بِجَوَاز زيد وَعَمْرو الفاضلان، وَفِي ثَلَاثَة) نَحْو: زيد، وَعَمْرو، وَبكر (الفاضلون) وَلَا يخفى أَن الدّفع الْمَذْكُور منع، وَسَنَد: تَوْضِيحه أَنا لَا نسلم استلزام عدم جَوَاز مَا ذكر عدم صِحَة الْإِطْلَاق مُطلقًا لجَوَاز أَن يكون ذَلِك لمَانع مَخْصُوص بِبَعْض الصُّور كرعاية مُطَابقَة الصُّورَة، وَلَا يلْزم على الْمَانِع دَعْوَى لُزُوم رِعَايَة الْمُطَابقَة مُطلقًا وَإِبْطَال السَّنَد الْأَخَص غير موجه وَيُمكن الْجَواب بِأَن الْمَنْع الْمَذْكُور بِدُونِ لُزُوم رِعَايَة الْمُطَابقَة صُورَة غير موجه، لِأَن صِحَة الْمجَاز لوُجُود العلاقة يقتضى جَوَاز الرِّجَال العاقلان، وَلَا يَنْفِي الْجَوَاز الْمَذْكُور سوى اللُّزُوم الْمَذْكُور، وَالْأَصْل عدم مَانع آخر فَالسَّنَد مسَاوٍ للْمَنْع، وَإِبْطَال أحد المتساويين يسْتَلْزم إبِْطَال الآخر (وَدفعه) أَي النقيض الْمَذْكُور على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (بِأَن الْجمع) بَين مُتَعَدد (بِحرف الْجمع) كواو الْعَطف، وَالْمرَاد بِالْجمعِ الْمَعْنَوِيّ اللّغَوِيّ (كالجمع بِلَفْظ الْجمع) المُرَاد بِهَذَا الْمَعْنى الاصطلاحي فَتحصل الْمُطَابقَة بَين الصّفة والموصوف إِذا كَانَ الْمَوْصُوف جمعا بِالْمَعْنَى الأول، وَالصّفة بِالْمَعْنَى الثَّانِي (لَيْسَ بِشَيْء) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي دَفعه (إِذْ لَا يُخرجهُ) أَي لَا يخرج الِاشْتِرَاك فِي معنى الْجمع على مَا ذكر مَا بِهِ النَّقْض عَن عدم الْمُطَابقَة (إِلَى مُطَابقَة الصُّورَة، وَالْوَجْه) فِي الدّفع (اعْتِبَارا لمطابقة الْأَعَمّ. من الْحَقِيقِيَّة والحكمية) بَين الصّفة والموصوف بِمَا قدمنَا من رِعَايَة الْحَقِيقَة(1/208)
فِي توصيف الْمثنى بالمجموع وَعَكسه، وَلذَلِك لم يجوزوه، وَمن رِعَايَة الْحكمِيَّة فِي زيد وَعَمْرو الفاضلان وَلذَلِك جوزوه، فالحقيقة مَا تكون الْمُطَابقَة بِحَسب اللَّفْظ وَالْمعْنَى مَعًا، والحكمية مَا تكون بِحَسب الْمَعْنى فَقَط (وَلَا خلاف فِي نَحْو صغت قُلُوبكُمَا) فَإِنَّهُ أطلق الْجمع فِيهِ على الِاثْنَيْنِ اتِّفَاقًا (و) لَا خلاف أَيْضا فِي لفظ (نَا) الَّذِي يعبر بِهِ الْمُتَكَلّم عَن نَفسه وَغَيره، وَإِن كَانَ ذَلِك الْغَيْر وَاحِدًا (و) لَا فِي لفظ (جمع) أَي فِي ج م ع (أَنه) أَي فِي أَن كلا مِنْهَا (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من مَحل النزاع (وَلَا) خلاف أَيْضا فِي أَن (الْوَاو فِي ضربوا مِنْهُ) أَي من مَحل النزاع، وَكَذَا غَيرهَا من الضمائر ثمَّ أَنهم لم يفرقُوا فِي هَذَا بَين جمع الْقلَّة وَالْكَثْرَة: كَذَا فِي التَّلْوِيح وَغَيره.
(تَنْبِيه: لم تزد الشَّافِعِيَّة فِي) بَيَان أَحْوَال (صِيغ الْعُمُوم) شَيْئا (على إِثْبَاتهَا) بل اكتفوا بِمُجَرَّد الْإِثْبَات من غير زِيَادَة تَفْصِيل (وفصلها الْحَنَفِيَّة إِلَى عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ) بِكَوْن اللَّفْظ جمعا، وَالْمعْنَى مُسْتَغْرقا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَهُوَ) أَي الْعَام بصيغته وَمَعْنَاهُ (الْجمع الْمحلي) بِاللَّامِ (للاستغراق، و) إِلَى عَام (بِمَعْنَاهُ) فَقَط (وَهُوَ الْمُفْرد الْمحلي) بِاللَّامِ (كَالرّجلِ والنكرة) المستغرقة (فِي) سِيَاق (النَّفْي وَالنِّسَاء، وَالْقَوْم، والرهط، وَمن، وَمَا، وَأي مُضَافَة، وكل، وَجَمِيع) وَلَا يخفى أَنه ذكر فِيمَا سبق من الصِّيَغ مَا لَيْسَ بداخل فِي أحد الْقسمَيْنِ هَهُنَا وَالظَّاهِر من هَذَا التَّفْصِيل اسْتِيفَاء الْكل، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بقوله وَهُوَ الْجمع الْمحلي الْجمع وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْقسم الثَّانِي، فِي التَّلْوِيح مَا حَاصله، وَهِي إِمَّا لفظ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ بِأَن يكون اللَّفْظ مجموعا، وَالْمعْنَى مستوعبا، أَو وجد لَهُ مُفْرد من لَفظه كالرجال أَولا كالنساء، وَإِمَّا بِمَعْنَاهُ فَقَط بِكَوْنِهِ مُفردا مستوعبا، وَلَا يتَصَوَّر عَام بصيغته فَقَط إِذْ لَا بُد من تعدد الْمَعْنى، وَالْعَام بِمَعْنَاهُ فَقَط إِمَّا يتَنَاوَل مَجْمُوع الْأَفْرَاد، وَإِمَّا يتَنَاوَل كل وَاحِد بطرِيق الشُّمُول أَو الْبَدَل، فَالْأول يتَعَلَّق الحكم فِيهِ بِمَجْمُوع الْأَفْرَاد، لَا بِكُل وَاحِد إِلَّا من حَيْثُ أَنه دَاخل فِي الْمَجْمُوع كالرهط لما دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَيْسَ فيهم امْرَأَة، وَالْقَوْم لجَماعَة الرِّجَال خَاصَّة فاللفظ مُفْرد بِدَلِيل أَنه يثنى، وَيجمع، ويوحد الضَّمِير الرَّاجِع إِلَيْهِ، وتحقيقه أَنه فِي الأَصْل مصدر قَامَ، فوصف بِهِ ثمَّ غلب على الرِّجَال خَاصَّة لقيامهم بِأُمُور النِّسَاء، وَهَذَا تَأْوِيل مَا قيل إِنَّه جمع قَائِم، وَإِلَّا فَفعل لَيْسَ من أبنية الْجمع، وكل مِنْهُمَا متناول لجَمِيع آحاده، وَلَا لكل وَاحِد من حَيْثُ أَنه وَاحِد، حَتَّى لَو قَالَ الرَّهْط أَو الْقَوْم الَّذِي يدْخل هَذَا الْحصن فَلهُ كَذَا، فَدخل جمَاعَة كَانَ النَّفْل لمجموعهم، وَلَو دخله وَاحِد لم يسْتَحق شَيْئا وَالثَّانِي يتَعَلَّق الحكم فِيهِ بِكُل وَاحِد سَوَاء كَانَ مجتمعا مَعَ غَيره أَو مُتَفَرقًا عَنهُ مثل: من دخل هَذَا(1/209)
الْحصن فَلهُ دِرْهَم، فَلَو دخله وَاحِد اسْتحق درهما، وَلَو دخله جمَاعَة مَعًا أَو متعاقبين اسْتحق كل وَاحِد مِنْهُم الدِّرْهَم وَالثَّالِث يتَعَلَّق الحكم فِيهِ بِكُل وَاحِد بِشَرْط الِانْفِرَاد، وَلَا يتَعَلَّق بِوَاحِد آخر، مثل: من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ دِرْهَم، فَلَو دخله جمَاعَة مَعًا لم يستحقوا شَيْئا، وَلَو دخلُوا متعاقبين لم يسْتَحق إِلَّا السَّابِق انْتهى، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله خَالفه بِإِدْخَال النِّسَاء فِي الْعَام بِمَعْنَاهُ فَقَط: إِمَّا لِأَن المرضي عِنْده أَنه اسْم جمع، أَو لاعتباره فِي الْعَام بصيغته وَمَعْنَاهُ أَن يكون لَهُ مُفْرد من لَفظه وَهُوَ الْأَظْهر، فَإِنَّهُ صرح فِي الْقَامُوس بِأَنَّهُ جمع الْمَرْأَة من غير لَفظهَا، هَذَا وَعُمُوم كل وَجَمِيع بِاعْتِبَار مَا أضيف إِلَيْهِ، وإنهما لمُجَرّد الِاسْتِغْرَاق (فانقسم الْعُمُوم) بِهَذَا التَّفْصِيل (إِلَى صيغي) مَنْسُوب إِلَى أصل الْوَضع لكَون الصِّيغَة مَوْضُوعَة لمتعدد ابْتِدَاء (ومعنوي) غير متبادر من نفس الصِّيغَة تبادر الْقسم الأول (أما الْجمع الْمحلي فاستغراقه كالمفرد لكل فَرد لما تقدم) من أَن لَام الْجِنْس تسلب الجمعية إِلَى الجنسية إِلَى آخِره (وَمَا قيل أَن استغراق الْمُفْرد أشمل) من استغراق الْجمع (فَفِي النَّفْي) يَعْنِي أَن أشمليته فِيمَا إِذا كَانَ فِي سِيَاق النَّفْي، لِأَنَّهُ يسلب حِينَئِذٍ الجمعية، وَنفي تَحْقِيق الْجَمَاعَة لَا يسْتَلْزم نفي تَحْقِيق الْوَاحِد والاثنين، بِخِلَاف الْعَكْس إِذا لم يَجْعَل الْوحدَة أَو الأثنينية قيد الْمَنْفِيّ موردا للنَّفْي (أَو المُرَاد) أَن استغراف الْمُفْرد أشمل (أَنه) أَي استغراقه للآحاد (بِلَا وَاسِطَة الْجمع) بِخِلَاف استغراق الْجمع لَهَا فَإِنَّهَا بواسطته، لِأَن الحكم الثَّابِت للْجمع إِنَّمَا يثبت ابْتِدَاء لما يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم الْجمع، ثمَّ يسري إِلَى الْآحَاد إِذا لم يكن ثُبُوته للمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع، فأشمليته بِمَعْنى أظهرية شُمُوله، لَا بِمَعْنى أوسعية دَائِرَة شُمُوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد أحد التَّأْويلَيْنِ (فَمَمْنُوع) أَي فكونه أشمل مَمْنُوع، ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن شَيْئا من التَّأْويلَيْنِ لَا يَصح أَيْضا بقوله (وَمَا تقدم) من سلب لَام الْجِنْس الجمعية إِلَى الجنسية، وَمن عدم الْفرق بَين: لَا رجل، وَلَا رجال فِي نفي الْجِنْس (يَنْفِي كَونه) أَي كَون استغراق الْجمع (بِوَاسِطَة الْجمع) لِأَنَّهُ لم يبْق الجمعية بعد السَّلب (و) كَذَلِك يَنْفِي (أشمليته فِي النَّفْي) لعدم الْفرق بَينهمَا بِحَسب الْحَقِيقَة على مَا مر بَيَانه (ولإجماع الصَّحَابَة على) فهم الْعُمُوم فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَئِمَّة من قُرَيْش) وَإِلَّا لم يحصل إِلْزَام الْأَنْصَار عِنْد قَوْلهم: أَمِير منا، وأمير مِنْكُم لجَوَاز الْعَمَل بِمُوجب قَوْلهم: إِذا لم يقْصد بقوله الْأَئِمَّة الِاسْتِغْرَاق، بِخِلَاف مَا إِذا قصد فَإِن الْمَعْنى حِينَئِذٍ: كل إِمَام من قُرَيْش (و) لإِجْمَاع أهل (اللُّغَة على صِحَة الِاسْتِثْنَاء) أَي اسْتثِْنَاء الْمُفْرد من الْجمع الْمحلي فَإِنَّهُ لَو لم يسْتَغْرق الْآحَاد كالجنس الْمحلي لما صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ، فَإِن استثناءه مِنْهُ يقتضى شُمُوله إِيَّاه قطعا، وَهَذَا الْقطع لَا يحصل إِلَّا بالاستغراق، وَكَونه بِحَيْثُ يتَنَاوَلهُ الحكم لَوْلَا الِاسْتِثْنَاء (كَمَا تقدم) وَلما بَين ضعف مَا قيل من(1/210)
الأشملية أَرَادَ أَن يبين ضعف مَا يَبْنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ (وَعنهُ) أَي وَعَن كَون استغراق الْجمع دون استغراق الْمُفْرد لشُمُوله الجموع لَا الْآحَاد (قالوأ) أَي أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي رد اسْتِدْلَال الْمُعْتَزلَة بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} على نفي الرُّؤْيَة مُطلقًا هُوَ (سلب الْعُمُوم) وَرفع الْإِيجَاب الْكُلِّي للْفرق بَينه وَبَين لَا يُدْرِكهُ الْبَصَر، فَإِن الثَّانِي نفي لإدراك جنس الْبَصَر إِيَّاه. وَالْأول نفي لإدراك الْجِنْس الْمُسْتَغْرق، وَنفي الْجِنْس الْمُسْتَغْرق لَا يسْتَلْزم نَفْيه مُطلقًا لجَوَاز أَن يتَحَقَّق بِغَيْر استغراق فَإِن قلت من أَيْن لَك أَن قَوْلهم هَذَا مَبْنِيّ على كَون استغراق الْجمع دون استغراق الْمُفْرد، لم لَا يجوز أَن يكون مَبْنِيّ قَوْله: وَعنهُ عَن كَون استغراق الْجمع كالمفرد كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر من السِّيَاق، لِأَنَّهُ الأَصْل الممهد، وَمَا ذكرت أَمر ذكر على وَجه الِاعْتِرَاض وَنفي قلت نعم، لَكِن يرد حِينَئِذٍ أَن الْحمل على سلب الْعُمُوم على ذَلِك التَّقْدِير خلاف الظَّاهِر لكَونه بِمَنْزِلَة لَا يُدْرِكهُ الْبَصَر فِي الدّلَالَة على نفي الْجِنْس فَتَأمل (لَا عُمُوم السَّلب) وَالسَّلب الْكُلِّي لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَحَقَّق على تَقْدِير نفي الْجِنْس مُطلقًا، وَقَوله (أَي لَا يُدْرِكهُ كل بصر) تَفْسِير لسلب الْعُمُوم، فالمنفي ثُبُوت رُؤْيَة الْكل (وَهُوَ) أَي سلب الْعُمُوم سلب (جزئي) لَا سلب كلي لِأَن نقيض الْإِيجَاب الْكُلِّي وَرَفعه السَّلب الجزئي (فَجَاز) ثُبُوت الرُّؤْيَة (لبعضها) أَي الْأَبْصَار، يرد عَلَيْهِ أَن حَاصِل هَذَا إبِْطَال مَذْهَب الْخصم، وَهُوَ السَّلب الْكُلِّي، لَكِن لَا يثبت بِهِ مَذْهَبنَا، وَهُوَ ثُبُوت الرُّؤْيَة لكل مُؤمن وَالْجَوَاب أَن هَذَا لمُجَرّد إبِْطَال مَذْهَب الْخصم، وَأَن للْمَذْهَب أَدِلَّة أُخْرَى (نعم إِذا اعْتبر الْجمع للْجِنْس) لسلب اللَّام جمعيته إِلَى الجنسية (كَانَ) النَّفْي الْمَذْكُور (عُمُوم السَّلب) لوروده على الْجِنْس كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يحب الْكَافرين} إِذْ لَا شكّ أَن المُرَاد مِنْهُ نفي الْمحبَّة عَن جنس الْكَافِر مُطلقًا، لَا الْجِنْس الْمَوْصُوف بالجمعية، وَقَوله لنفي الْجِنْس تَعْلِيل لعُمُوم السَّلب، وَيجوز أَن يكون قَوْله - {لَا يحب الْكَافرين} - مُبْتَدأ خَبره لنفي الْجِنْس، وَتَكون الْجُمْلَة تَوْطِئَة لقَوْله (وَلَو اعْتبر مثله) أَي مثل مَا فِي قَوْله - {لَا يحب الْكَافرين} - من نفي الْجِنْس (فِي الْآيَة) فِي قَوْله تَعَالَى - {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} - (ادّعى) حِينَئِذٍ فِي جَوَاب الْخصم (أَن الْإِدْرَاك) الْمَنْفِيّ فِي الْآيَة (أخص من الرُّؤْيَة) الْمُطلقَة، وَهُوَ مَا كَانَ على وَجه الْإِحَاطَة للمرئي، وَنفي الْأَخَص لَا يسْتَلْزم نفي الْأَعَمّ وَلما عد الْمحلي بِاللَّامِ من صِيغ الْعُمُوم، وَكَانَ لَهُ معَان أَرْبَعَة: الْجِنْس، والاستغراق، والعهد الْخَارِجِي، والعهد الذهْنِي، والعموم إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق احْتَاجَ إِلَى بَيَان ضَابِط يعرف بِهِ إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق، فَقَالَ (وَالتَّعْيِين) أَي تعْيين أحد الْمعَانِي الْمَذْكُورَة إِنَّمَا يكون (بِمعين) من قرينَة لفظية أَو حَالية بِحَسب الْمقَام (وَإِن لم يكن) ذَلِك الْمعِين (وَلَا عهد خارجي) وَلم يكن(1/211)
مَعْهُود معِين من أَفْرَاد الْمحلي بِاللَّامِ بَين الْمُتَكَلّم والمخاطب قبل هَذَا التخاطب (وَأمكن أَحدهمَا) أَي الِاسْتِغْرَاق أَو الْجِنْس، وَقد سبق ذكرهمَا قَرِيبا مفرقا، وَالْمرَاد إِمْكَان أَحدهمَا بِدُونِ الآخر (تعين) الَّذِي أمكن (وَإِن أمكن كل مِنْهُمَا قيل) وقائله جمَاعَة: مِنْهُم فَخر الْإِسْلَام، وَأَبُو زيد (الْجِنْس) أَي المُرَاد عِنْد إِمْكَان كل مِنْهُمَا الْجِنْس (للتيقن) لِأَنَّهُ مَوْجُود فِي ضمن الِاسْتِغْرَاق أَيْضا، والمتيقن أولى بالإرادة عِنْد التَّرَدُّد (وَقيل) وقائله عَامَّة مَشَايِخنَا وَغَيرهم تعين (الِاسْتِغْرَاق للأكثرية) أَي لِأَنَّهُ يُرَاد فِي أَكثر استعمالات الْمحلي بِاللَّامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِنْس (خُصُوصا فِي اسْتِعْمَال الشَّارِع) على مَا يشْهد بِهِ التتبع والاستقراء (وَقرر) كَمَا صرح بِهِ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (أَن الْجمع الْمحلي للمعهود والاستغراق حَقِيقَة، وللجنس مجَاز) وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصُود من وضع الْأَلْفَاظ بِإِزَاءِ المفهومات الْكُلية أَن تسْتَعْمل فِي أَفْرَاده الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج لِأَن الْأَحْكَام تثبت لَهَا، لَا الطبائع الْكُلية، وَلذَا ذهب كثير من الْمُحَقِّقين إِلَى أَن اسْم الْجِنْس مَوْضُوع للفرد الْمُنْتَشِر لَا الْمَاهِيّة الْمُطلقَة، وَهُوَ الْأَوْجه فَإِن قلت مُرَادهم من الْجِنْس هُنَا هُوَ الْمَعْهُود الذهْنِي قلت هُوَ قريب من الْجِنْس بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور بِاعْتِبَار كَونه قَلِيل الْفَائِدَة (وَأَنه) أَي الْجِنْس (خلف) عَنْهُمَا (لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا لتعذرهما) كَمَا هُوَ شَأْن الْمجَاز مَعَ الْحَقِيقَة وَالْخلف مَعَ الأَصْل (ولدا) أَي لِأَنَّهُ لَا يُصَار إِلَيْهِ لتعذرهما (لَو حلف لَا يكلمهُ الْأَيَّام أَو الشُّهُور يَقع) الْمَذْكُور من الْأَيَّام والشهور (على الْعشْرَة) مِنْهَا (عِنْده) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله (وعَلى الْأُسْبُوع) فِي الْأَيَّام (و) على (السّنة) فِي الشُّهُور (عِنْدهمَا لَا مَكَان) حمل الْمحلي الْمَذْكُور: وَهُوَ الْأَيَّام والشهور على (الْعَهْد) الْخَارِجِي الَّذِي هُوَ حَقِيقَة فِيهِ (غير أَنهم) أَي الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (اخْتلفُوا فِي) مَا هُوَ (الْمَعْهُود) فِي الْأَيَّام والشهور، فَعنده الْعشْرَة من الْأَيَّام والشهور، وَعِنْدَهُمَا الْأُسْبُوع وَالسّنة. قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة لقَائِل أَن يرجح قَوْلهمَا فِي الْأَيَّام والشهور بِأَن عهد هما أَعهد، وَذَلِكَ لِأَن عهدية الْعشْرَة إِنَّمَا هُوَ للْجمع مُطلقًا من غير نظر إِلَى مَادَّة خَاصَّة، فَإِذا عرض فِي خُصُوص مَادَّة من الْجمع مُطلقًا كالأيام عهدية عدد غَيره كَانَ اعْتِبَار هَذَا الْمَعْهُود أولى، وَقد عهد فِي الْأَيَّام السَّبْعَة، وَفِي الشُّهُور الاثنى عشر، فَيكون صرف خُصُوص هذَيْن الجمعين إِلَيْهِمَا أولى بِخِلَاف غَيرهمَا من الجموع كالسنين والأزمنة، فَإِنَّهُ لم يعْهَد فِي مادتهما عدد آخر فَيَنْصَرِف إِلَى مَا اسْتَقر للْجمع مُطلقًا من إِرَادَة الْعشْرَة فَمَا دونهَا انْتهى، يرد عَلَيْهِ أَن الْمَعْهُود فِي الْأَيَّام سَبْعَة: أَولهَا السبت، وَآخِرهَا الْجُمُعَة، وهما لَا يحملانها على السَّبْعَة الَّذِي يكون على هَذَا الْوَجْه، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن الْمَعْهُود يعم كَمَا قلت غير أَن تِلْكَ الخصوصية ألغيت لعدم تعلق الْقَصْد بهَا حَال الْيَمين كَمَا لَا يخفى (وخالعني على مَا فِي يَدي من الدَّرَاهِم وَلَا شَيْء) فِي يَدهَا(1/212)
(لَزِمَهَا ثَلَاثَة) أَي وللأصل الْمَذْكُور فِي قَوْلهَا خالعني على مَا فِي يَدي إِلَى آخِره لَزِمَهَا ثَلَاثَة، يرد عَلَيْهِ أَن هَذَا من قبيل حمل الْجمع على أقل مراتبه لتيقنه، لَا من بَاب حمل الْجمع الْمحلي على الْعَهْد لامكانه، فَلَا وَجه لذكره هَهُنَا، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن أصل الْكَلَام إِنَّمَا كَانَ فِي أَن الْجِنْس مجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمحلي الْمَذْكُور لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، وَلَا شكّ أَن حَقِيقَة الْجمع تَقْتَضِي وجود مَا فَوق الِاثْنَيْنِ من أَفْرَاد مفرده، فَحَمله على الْجِنْس بِحَيْثُ يصدق على الْوَاحِد والاثنين، بل تَأْثِيره فِي استغراق الْآحَاد وَإِثْبَات الحكم لكل وَاحِد مِنْهَا لَا يَجْعَل الْجمع مثل الْمُفْرد من كل وَجه (وَلَا شكّ أَن تَعْرِيف الْجِنْس الَّذِي اسْتدلَّ على ثُبُوته باطباق الْعَرَب) أَي اتِّفَاقهم (على) إِرَادَة الْجِنْس من نَحْو: فلَان (يلبس البرود، ويركب الْخَيل، ويخدمه العبيد) للْقطع بِعَدَمِ الْقَصْد إِلَى عهد أَو استغراق أَو عدد، لِأَنَّهُ يُقَال فِي حق من لَا يلبس إِلَّا بردا وَاحِدًا وَلَا يركب إِلَّا فرسا وَاحِدًا، وَلَا يَخْدمه إِلَى عبد وَاحِد (هُوَ المُرَاد بالمعهود الذهْنِي) قَوْله المُرَاد الخ خَبره أَن، وَقَوله: هُوَ للفصل، والمضاف الْمَجْرُور بِالْبَاء مَحْذُوف: أَي بتعريف الْمَعْهُود الذهْنِي (إِذْ هُوَ) أَي تَعْرِيف الْمَعْهُود الذهْنِي (الْإِشَارَة إِلَى الْحَقِيقَة) الَّتِي هِيَ مُسَمّى مَدْخُول اللَّام (باعتبارها) أَي بِاعْتِبَار تِلْكَ الْحَقِيقَة، وَجعلهَا (بعض الْأَفْرَاد) أَي يشار إِلَى الْحَقِيقَة من حَيْثُ تحققها فِي ضمن فَرد مَا، لَا من حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَلَا من حَيْثُ تحققها فِي ضمن فَرد معِين، أَو فِي ضمن كل فَرد (غير مُعينَة للعهدية الذهنية) لَا الخارجية حَيْثُ لم يعْهَد قبل بَين الْمُتَكَلّم والمخاطب ذكر فَرد وَحِصَّة مُعينَة من تِلْكَ الْحَقِيقَة، غير أَن الطبيعة الْكُلية من حَيْثُ تحققها فِي ضمن فَرد مَا أَمر مَعْلُوم مَعْهُود فِي الأذهان، فباللام يشار إِلَيْهَا من حَيْثُ أَنَّهَا مَعْلُومَة معهودة فِي ذهن الْمُخَاطب، وَلما كَانَ معلومية الْحَقِيقَة الْمُعْتَبرَة من حَيْثُ تحققها فِي ضمن الْفَرد الْمُنْتَشِر بِاعْتِبَار معلومية الطبيعة أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لجنسها) وَإِضَافَة الْجِنْس إِلَيْهَا من قبيل إِضَافَة الْمُطلق إِلَى الْمُقَيد كشجر الْأَرَاك (وَالتَّعْبِير بِالْحِصَّةِ) من الْحَقِيقَة عَن الْمَعْهُود الذهْنِي (غير جيد) لِأَن الْحصَّة إِنَّمَا هِيَ الْفَرد الْمعِين: أَو الْأَفْرَاد الْمعينَة من الطبيعة، وَأما الْفَرد الْمُنْتَشِر فَهُوَ مَفْهُوم كلي مسَاوٍ للْحَقِيقَة، كَذَا قيل وَفِيه نظر، فَالْوَجْه أَن يُقَال أَنه أَشَارَ إِلَى مَا قَالُوا: من أَن كل كلي بِالنِّسْبَةِ إِلَى حصصه نوع، فَأَما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَاده فقد يكون عرضيا، فقد فرقوا بَينهمَا، وَيطْلب تَحْقِيقه فِي مَحَله من الْمَعْلُوم أَن المُرَاد هَهُنَا الْفَرد فَإِن قلت بَقِي قسم من الْمحلي لم يذكرهُ، وَهُوَ(1/213)
جنس الْمشَار إِلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ مَعَ قطع النّظر عَن تحَققه فِي ضمن فَرد قلت لم يتَعَلَّق غَرَض الأصولي بِهِ، لِأَنَّهُ من الاعتبارات الْعَقْلِيَّة الْمُنَاسبَة للاعتبارات الفلسفية، فَإِنَّهُ قد يثبت لَهُ الْأَحْكَام فِي تِلْكَ الْعُلُوم، فَلَا بَأْس بِعَدَمِ ذكره وَعدم اعْتِبَاره (وَعنهُ) أَي عَن تَعْرِيف الْجِنْس (لتعينه) أَي الْجِنْس لعدم إِمْكَان الْعَهْد والاستغراق (وَجب من) قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} جَوَاز الصّرْف لوَاحِد) يَعْنِي ثَبت الْجَوَاز الْمَذْكُور مِنْهُ ثبوتا ناشئا عَن تَعْرِيف الْجِنْس فِي الْفُقَرَاء لتعين الْجِنْس، لعدم إِمْكَان الْحمل على الْحَقِيقَة من الْعَهْد والاستغراق، أما الْعَهْد فَظَاهر، وَأما الِاسْتِغْرَاق فَلِأَنَّهُ يسْتَلْزم كَون كل صَدَقَة لكل فَقير وَلَا يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون الْمَعْنى جَمِيع الصَّدقَات لجَمِيع الْفُقَرَاء؟ وتقابل الْجمع بِالْجمعِ يقتضى انقسام الْآحَاد على الْآحَاد لأَنا نقُول: لَيْسَ هَذَا معنى الِاسْتِغْرَاق، إِذْ مفاده ثُبُوت الحكم لكل فَرد لَا للمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع، وَلَو سلم، فالمطلوب حَاصِل وَهُوَ جَوَاز صرف الزَّكَاة إِلَى فَقير وَاحِد، لكنه لَا يكون حِينَئِذٍ من تَعْرِيف الْجِنْس لتعينه، وَفِيه مَا فِيهِ (وتنصف الْمُوصي بِهِ لزيد وللفقراء) فَنصف لَهُ، وَنصف لَهُم مَعْطُوف على وَجب: أَي وَعَن تَعْرِيف الْجِنْس وَكَون اللَّام لَهُ لتعينه تنصف الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ يُرَاد حِينَئِذٍ جنس الْفَقِير المُرَاد مِنْهُ الْمَعْهُود الذهْنِي الَّذِي هُوَ الْفَرد الْمُنْتَشِر، فَكَأَنَّهُ أوصى للاثنين: زيد وفقير (وَأجْمع على الْحِنْث بفرد فِي الْحلف) على أَنه (لَا يتَزَوَّج النِّسَاء و) الْحلف على أَنه (لَا يَشْتَرِي العبيد) فَقَوله: وَأجْمع أَيْضا مَعْطُوف على وَجب، فَإِنَّهُ أَيْضا من فروع تَعْرِيف الْجِنْس لتعينه بِدَلِيل إِجْمَاع الْعلمَاء على حنث الْحَالِف بتزوج امْرَأَة وَاحِدَة فِي الأولى، وَشِرَاء عبد وَاحِد فِي الثَّانِيَة، فلولا المُرَاد بِالنسَاء وَالْعَبِيد الْجِنْس لما حنث (الْأَبْنِيَة الْعُمُوم) فِي المنفى لَا النَّفْي، اسْتثِْنَاء من عُمُوم الْأَحْوَال: أَعنِي أَجمعُوا على الْحِنْث بِمَا ذكر فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا عِنْد مَا يَنْوِي الْحَالِف منع نَفسه عَن تزوج كل النِّسَاء، وَشِرَاء كل العبيد لَا عَن الْبَعْض مِنْهُمَا (فَلَا يَحْنَث أبدا) لِأَن تزوج كل النِّسَاء وَشِرَاء كل العبيد محَال (قَضَاء وديانة) لِأَنَّهُ نوى حَقِيقَة كَلَامه، كَذَا قيل، وَيرد عَلَيْهِ أَن يقتضى الْكَلَام السَّابِق أَن رفع الْإِيجَاب الْكُلِّي لَيْسَ حَقِيقَة الْجمع الْمحلي الْوَاقِع فِي سِيَاق النَّفْي، لِأَن الرّفْع الْمَذْكُور فِي قُوَّة السَّلب الجزئي فَلَا استغراق حِينَئِذٍ وَلَا عهد، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن الِاسْتِغْرَاق مَوْجُود فِي الْإِيجَاب الَّذِي هُوَ مورد النَّفْي وَإِن لم يُوجد فِي النَّفْي، وَفِيه نظر (وَقيل) لَا يَحْنَث (ديانَة) وَيحنث قَضَاء (لِأَنَّهُ) أَي قَوْله لَا يتَزَوَّج النِّسَاء وَلَا يَشْتَرِي العبيد عِنْد إِرَادَة الْعُمُوم (كالمجاز) فِي الِاحْتِيَاج إِلَى الْقَرِينَة لعروض الِاشْتِرَاك إِن قُلْنَا أَن مثله يسْتَعْمل حَقِيقَة فِي عُمُوم النَّفْي، وَنفي الْعُمُوم، ومجازا إِن قُلْنَا حَقِيقَته عُمُوم النَّفْي بِدَلِيل التبادر إِلَى الْفَهم، وَلِهَذَا (لَا ينَال) الْعُمُوم الْمَذْكُور (إِلَّا بِالنِّيَّةِ) كَمَا هُوَ شَأْن الْمجَاز وَمَا يجْرِي مجْرَاه،(1/214)
وَقيل المُرَاد بِالْإِجْمَاع الْمَذْكُور إِجْمَاع مَشَايِخنَا، فقد ذكر الرَّافِعِيّ رَحمَه الله فِي هذَيْن الفرعين أَنه يَحْنَث بتزوج ثَلَاث نسْوَة، وَشِرَاء ثَلَاثَة أعبد (وَمِنْه) أَي من تَعْرِيف الْجِنْس بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (لَا من) تَعْرِيف (الْمَاهِيّة) من حَيْثُ هِيَ كَمَا قيل (شربت المَاء، وأكلت الْخبز وَالْعَسَل) كَانَ (كأدخل السُّوق) لِأَن الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ اعْتِبَار عَقْلِي مَحْض، لَا تشرب وَلَا تُؤْكَل، وَلَا تدخل، وَإِنَّمَا قَالَ كأدخل السُّوق إِشَارَة إِلَى أَن كَون اللَّام فِيهِ للْعهد الذهْنِي أَمر مُسلم والمذكورات مثله، فَلَا يَنْبَغِي أَن يناقش فِيهَا أَيْضا (وَهَذَا) الَّذِي يشرع فِيهِ (اسْتِئْنَاف) وابتدأ كَلَام لَا من تَتِمَّة الْكَلَام السَّابِق وَإِن كَانَ لَهُ نوع تعلق بِهِ (اللَّام) الموضوضة (للتعريف) حَقِيقَتهَا (الْإِشَارَة إِلَى المُرَاد بِاللَّفْظِ) إِشَارَة عقلية، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله للتعريف خبر الْمُبْتَدَأ، وَقَوله الْإِشَارَة بَدَلا مِنْهُ سَوَاء كَانَ ذَلِك المُرَاد (مُسَمّى) بِأَن وضع اللَّفْظ بإزائه (أَولا) بِأَن كَانَ معنى مجازيا، وَالْمرَاد الْإِشَارَة من حَيْثُ أَنه مَعْلُوم الْمُخَاطب وَإِلَّا فالإشارة إِلَى نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن معلوميته متحققة فِي النكرَة أَيْضا بِمُقْتَضى الْوَضع أَو الْقَرِينَة، غير أَنه لَا يشار إِلَى معلوميته وَإِن كَانَ مَعْلُوما فِي نفس الْأَمر للمخاطب (فالمعرف فِي) مر عَليّ أَشْجَع النَّاس (فأكرمت الْأسد الرجل) الشجاع (وَإِنَّمَا تدخل) لَام التَّعْرِيف (النكرَة) لَا الْمعرفَة لاستغنائها عَنْهَا (ومسماها) أَي النكرَة (بِلَا شَرط فَرد) مَا من الْمَفْهُوم الْكُلِّي الَّذِي يدل عَلَيْهِ (بِلَا زِيَادَة) من أَمر وجودي أَو عدمي: يَعْنِي مَاهِيَّة الْفَرد الْمُنْتَشِر لَا بِشَرْط شَيْء لَا مَاهِيَّة بِشَرْط شَيْء أَو بِشَرْط لَا شَيْء، وَإِنَّمَا قَالَ بِلَا شَرط، لِأَن مُسَمّى النكرَة بِشَرْط كَونه فِي سِيَاق النَّفْي كل فَرد وَلَا فَرد مَا (فَعدم التَّعْيِين) فِي مُسَمّى النكرَة (لَيْسَ جُزْءا لمعناها وَلَا شرطا) كَمَا يُوهم التَّعْبِير عَنهُ بفرد مَا وبالفرد الْمُنْتَشِر، وَإِلَّا لامتنع تحَققه مَعَ التَّعْيِين (فاستعملت فِي الْمعِين عِنْد الْمُتَكَلّم لَا السَّامع حَقِيقَة لصدق) مَفْهُوم (الْمُفْرد) يَعْنِي النكرَة إِذا اسْتعْملت فِي فَردهَا الَّذِي هُوَ معِين عِنْد الْمُتَكَلّم غير معِين عِنْد السَّامع، فَهِيَ بِاعْتِبَار هَذَا الِاسْتِعْمَال حَقِيقَة لصدق مَا وضعت لَهُ على الْمُسْتَعْمل فِيهِ، لَا أَنه يسْتَعْمل دَائِما فِي الْمعِين عِنْده لجَوَاز عدم تعْيين مَا اسْتعْملت فِيهِ عِنْد الْمُتَكَلّم أَيْضا كَمَا إِذا قَالَ: جَاءَنِي رجل وَهُوَ لَا يعرفهُ بِعَيْنِه (فَإِن نسبت إِلَيْهِ بعده) أَي إِن نسبت الْمُتَكَلّم الْمَذْكُور لذَلِك الْفَرد الْغَيْر الْمعِين شَيْئا بعد ذَلِك الِاسْتِعْمَال، والمخاطب هُوَ السَّامع الْمَذْكُور (عرفت) تِلْكَ النكرَة فِي خطابه الثَّانِي بِاللَّامِ حَال كَونه (معهودا) بَين الْمُتَكَلّم والمخاطب بِمَا سبق ذكره، وَلَو على سَبِيل الْإِبْهَام، فَعلم أَن التَّعْرِيف العهدي لَا يسْتَلْزم التَّعْيِين الشخصي، بل يَكْفِي فِيهِ تعين مَا (يُقَال) للْعهد الْمَذْكُور معهودا عهدا (ذكريا وخارجيا) صفة أُخْرَى، أما كَونه ذكريا فلسبق ذكره، وَأما كَونه(1/215)
خارجيا فلمعهوديته فِي خَارج هَذِه الملاحظة الكائنة فِي هَذَا التخاطب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أَي مَا عهد من السَّابِق) فَقَوله: مَا عهد تَفْسِير للمعهود، وَقَوله: من السَّابِق تَفْسِير لقَوْله خارجيا، فَإِن مَا عهد فِي الزَّمَان السَّابِق لَا جرم يكون خارجيا عَن الملاحظة الخالية، وَكلمَة من ابتدائية لبَيَان مبدأ الْعَهْد (وَلَو) كَانَ الْمشَار إِلَيْهِ بِاللَّامِ معينا عِنْد التخاطب لما يُوجب ذَلِك من قرينَة أَو دوَام حُضُور فِي الذِّهْن إِلَى غير ذَلِك (غير مَذْكُور) بَينهَا (خص) ذَلِك الْمعِين الْغَيْر الْمَذْكُور (بالخارجي) أَي بالمعهود الْخَارِجِي، وَلَا يُقَال لَهُ الذكرى الْخَارِجِي كَقَوْلِه تَعَالَى {إِذْ هما فِي الْغَار} فَإِن الْغَار مَعْلُوم مُتَعَيّن عِنْد المخاطبين من غير سبق ذكر (وَإِذا دخلت) اللَّام الِاسْم (الْمُسْتَعْمل فِي غَيره) أَي فِي الْفَرد الْغَيْر الْمعِين عِنْد الْمُتَكَلّم وَالسَّامِع (عرفت معهودا ذهنيا) لكَون الْمشَار إِلَيْهِ أمرا ذهنيا غير مُتَعَيّن فِي الْخَارِج (وَيُقَال) للتعريف الْحَاصِل مِنْهَا حِينَئِذٍ (تَعْرِيف الْجِنْس أَيْضا) كَمَا يُقَال: تَعْرِيف الْعَهْد الذهْنِي (لصدق) الْفَرد (الشَّائِع على كل فَرد) من أَفْرَاد الْجِنْس (وَإِذا أُرِيد بهَا كل الْأَفْرَاد) أَي النكرَة بِأَن يشار بِاللَّامِ إِلَى الْحَقِيقَة من حَيْثُ تحققها فِي ضمن كل فَرد (عرفت الِاسْتِغْرَاق) أَي عرفت النكرَة تَعْرِيف الِاسْتِغْرَاق، فَحذف الْمُضَاف وأقيم الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه فأعرب بإعرابه (أَو) أُرِيد بهَا (الْحَقِيقَة) من حَيْثُ هِيَ (بِلَا اعْتِبَار فَرد) وَقطع النّظر عَن اعْتِبَار تحققها فِي الْخَارِج فِي ضمن فَرد (فَهِيَ) أَي اللَّام (لتعريف الْحَقِيقَة والماهية كَالرّجلِ خير من الْمَرْأَة) لِأَنَّهُ لَا الْتِفَات فِي تَفْضِيل جنس الرجل على جنس الْمَرْأَة إِلَى الْفَرد، لِأَنَّهُ لَا يُرَاد أَن فَردا مَا مِنْهُ خير من فَرد مَا مِنْهَا، وَلَا أَن كل فَرد مِنْهُ خير من كل فَرد مِنْهَا فَإِن قلت إِذا قطع النّظر عَن الْفَرد مُطلقًا لزم الحكم بخيرية اعْتِبَار عَقْلِي من اعْتِبَار عَقْلِي آخر قلت لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ تَرْجِيح لجنس مَوْجُود فِي الْخَارِج على جنس مَوْجُود فِيهِ، غَايَة الْأَمر عدم الْتِفَات الْحَاكِم إِلَى وجودهما وفردهما فِي الْخَارِج، وَعدم اعْتِبَار وجود الشَّيْء فِي نظر الْعقل لَا يسْتَلْزم عدم وجوده فِي نفس الْأَمر (غير أَنه) أَي الشَّأْن قد (يخال) أَي يظنّ (أَن الِاسْم) الَّذِي دَخلته اللَّام (حِينَئِذٍ مجَاز فيهمَا) أَي فِي الِاسْتِغْرَاق والحقيقة (لِأَنَّهُ) أَي الِاسْم الْمَذْكُور (لَيْسَ) مَوْضُوعا (للاستغراق وَلَا للماهية) من حَيْثُ هِيَ، بل للفرد والمنتشر للماهية (وَلَا اللَّام) مَوْضُوعَة للْإِشَارَة إِلَى كل فَرد، وَلَا للْإِشَارَة إِلَى الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة للْإِشَارَة إِلَى مَا وضع لَهُ مدخوله، وَقد عرفت عدم وَضعه لشَيْء مِنْهَا (وَلَكِن تبادر الِاسْتِغْرَاق) فِي الاطلاقات (عِنْد عدم الْعَهْد يُوجب وَضعه لَهُ) أَي وضع الِاسْم للاستغراق أَي (بِشَرْط اللَّام) قيد للوضع لظُهُور عدم تبادره من الِاسْم الْمَذْكُور إِذا لم يكن مَدْخُول اللَّام (كَمَا قدمنَا) فِي(1/216)
ذيل الْكَلَام على تَعْرِيف الْعَام (وَأَنه) أَي عدم الْعَهْد (الْقَرِينَة) لإِرَادَة بعض الْمعَانِي الَّتِي وضع الْمحلى بِإِزَاءِ كل مِنْهَا على سَبِيل الِاشْتِرَاك (وَلَو أَرَادَهُ) أَي عدم كَون الْعَهْد قرينَة بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (قَائِل أَن الِاسْتِغْرَاق) يفهم (من الْمقَام) كالسكاكي (صَحَّ) مَا أَرَادَهُ (بِخِلَاف الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ) فَإِنَّهَا (لم تتبادر) من الْمُعَرّف بِاللَّامِ (فتعريفها) أَي الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ (تَعْلِيق معنى حَقِيقِيّ للام) وَهُوَ الْإِشَارَة إِلَى مَعْلُوم مَعْهُود (بمجازى) أَي بِمَعْنى مجازى (للاسم، فَاللَّام فِي الْكل) أَي الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (حَقِيقَة لتحَقّق مَعْنَاهَا الْإِشَارَة) بِالْجَرِّ بدل من مَعْنَاهَا (فِي كل) من الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة (واختلافه) أَي تنوع مَعْنَاهَا على الْوُجُوه الْأَرْبَعَة (لَيْسَ إِلَّا لخُصُوص) من (الْمُتَعَلّق) الْمشَار إِلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي معنى حرفي وَنسبَة فيختلف باخْتلَاف الْمُتَعَلّق (فَظهر) من هَذَا الْبَيَان (أَي خصوصيات التعريفات) الْحَاصِلَة من اللَّام كل وَاحِد مِنْهَا (تَابع لخصوصيات المرادات ب) مَدْخُول (اللَّام) من الْفَرد الْمعِين، أَو الشَّائِع، أَو كل الْأَفْرَاد أَو الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ (والمعين) لوَاحِد مِنْهَا بِخُصُوصِهِ (الْقَرِينَة) بِحَسب المقامات (فَمَا قيل الرَّاجِح مُطلقًا) الْعَهْد (الْخَارِجِي ثمَّ الِاسْتِغْرَاق لندرة إِرَادَة الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، والمعهود الذهْنِي يتَوَقَّف على قرينَة) للبعضية والاستغراق هُوَ الْمَفْهُوم من الاطلاق حَيْثُ لَا عهد فِي الْخَارِج، وَالْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَغَيره (غير مُحَرر) خبر مَا قيل، فِي الْقَامُوس تَحْرِير الْكتاب وَغَيره: تقويمه وَالْمعْنَى غير مُبين على وَجه يَسْتَقِيم بخلوصه عَن الِاعْتِرَاض الَّذِي يُوجب العوج (فَإِن الْمُرَجح عِنْد إِمْكَان كل من اثْنَيْنِ فِي الْإِرَادَة الأكثرية) لأَحَدهمَا (اسْتِعْمَالا) يَعْنِي إِذا أطلق لفظ لَهُ مَعْنيانِ، وَيصِح فِي ذَلِك الْمقَام إِرَادَة كل مِنْهُمَا فَلَا يتَعَيَّن أَحدهمَا مرَادا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا بِحَيْثُ يسْتَعْمل اللَّفْظ فِيهِ أَكثر تكون أكثريته بِحَسب الِاسْتِعْمَال مرجحا لإرادته (أَو فَائِدَة) مَعْطُوفًا على قَوْله اسْتِعْمَالا، فهما تمييزان عَن نِسْبَة الأكثرية أَحدهمَا، فَإِن أصل التَّرْكِيب أكثرية أَحدهمَا، حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ وَعوض عَنهُ اللَّام (وَلَا خَفَاء فِي أَن نَحْو: جَاءَنِي عَالم، فَأكْرم الْعَالم زِيَادَة الْفَائِدَة) فِيهِ إِنَّمَا يتَحَقَّق (فِي الِاسْتِغْرَاق، حَيْثُ يكرم الجائي) الْمَذْكُور الْمَقْصُود إكرامه أَصَالَة (ضمن الْعُمُوم) حَال عَن الجائي وَإِن كَانَ الْأَظْهر كَونه ظرفا ليكرم، لِأَن تَقْدِير فِي فِي ظروف الْمَكَان مَحْدُود بِمَا عرف فِي مَحَله وَحَاصِله أَن إِرَادَة الْعُمُوم والاستغراق يُفِيد أَمر الْمُخَاطب بإكرام الجائي مَعَ زِيَادَة أمره بإكرام كل عَالم سواهُ (بِخِلَاف تَقْدِيم) الْعَهْد (الْخَارِجِي) وترجيحه بِأَن يحمل الْعَالم على الْعَالم الْمَذْكُور الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الجيئية (فَإِنَّهُ) أَي الْكَلَام الْمَذْكُور (يكون) حِينَئِذٍ (أمرا بإكرام الجائي فَقَط) دون غَيره من الْعلمَاء (وَلذَا) أَي لأكثرية الْفَائِدَة (قدم)(1/217)
الِاسْتِغْرَاق (على) الْعَهْد (الذهْنِي إِذا أمكنا) أَي الِاسْتِغْرَاق والعهد الذهْنِي (وَظهر مِمَّا ذكرنَا) من أَن اللَّام للْإِشَارَة إِلَى المُرَاد بِاللَّفْظِ، وَمن أَن خصوصيات التعريفات تَابع لخصوصيات المرادات من مَدْخُول اللَّام إِلَى آخِره (أَن لَيْسَ تَعْرِيف الِاسْتِغْرَاق والعهد الذهْنِي من فروع) تَعْرِيف (الْحَقِيقَة كَمَا قيل) إِذْ لَو كَانَ من فروعها لم تكن الْإِشَارَة بهَا إِلَى المُرَاد بِاللَّفْظِ على الْإِطْلَاق، إِذْ المُرَاد بِهِ قد يكون نفس الْحَقِيقَة وَقد يكون نفس الْحَقِيقَة من حَيْثُ تحققها فِي ضمن الْأَفْرَاد كلا أَو بَعْضًا على مَا سبق وَلم يكن تَابعا لتِلْك الخصوصيات، بل كَانَ تَابعا لنَفس الْحَقِيقَة لكَون الْإِشَارَة فِي الْكل إِلَى نفس الْحَقِيقَة على ذَلِك التَّقْدِير، فَإِن معنى تبعيتها للخصوصيات أَن يكون تعين كل خُصُوصِيَّة مِنْهَا بِاعْتِبَار كَونهَا إِشَارَة إِلَى خُصُوصِيَّة المُرَاد (وَلَا أَن اللَّام لَيست إِلَّا لتعريف الْحَقِيقَة) وَبَاقِي الْأَقْسَام من فروعه (كَمَا نسب إِلَى الْمُحَقِّقين) قَوْله كَمَا قيل كَمَا نسب خبران لمَحْذُوف تَقْدِيره: وَهَذَا القَوْل كَمَا قيل كَمَا نسب (غير أَن حاصلها) أَي حَاصِل التعريفات الْحَاصِلَة بِاللَّامِ (أَرْبَعَة أَقسَام فذكروها) أَي هَذِه الْأَقْسَام على وَجه يُوهم أَنَّهَا أَقسَام تَعْرِيف الْحَقِيقَة (تسهيلا) للضبط (بل الْمُعَرّف لَيْسَ إِلَّا المُرَاد بِالِاسْمِ) سَوَاء اسْتعْمل فِيهِ حَقِيقَة أَو مجَازًا (وَلَيْسَت الْمَاهِيّة مُرَادة دَائِما، وَكَونهَا جُزْء المُرَاد لَا يُوجب أَنَّهَا المُرَاد الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْأَحْكَام فِي التَّرْكِيب) وَهُوَ الملتفت بِالذَّاتِ، والجزء إِنَّمَا يقْصد ضمنا بالتبع، أَشَارَ بقوله دَائِما فِي سِيَاق النَّفْي إِلَى أَنَّهَا قد ترَاد فِي بعض الاستعمالات مجاراة للخصم، ثمَّ نفى كَونهَا مُرَادة بِالْكُلِّيَّةِ بقوله (على أَنَّهَا) أَي الْمَاهِيّة (لم ترد) من حَيْثُ كَونهَا (جُزْءا) من الْمُسَمّى لتَكون اللَّام إِشَارَة إِلَى الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، إِذْ التَّحْقِيق أَن الْمُسَمّى إِنَّمَا هِيَ الْحَقِيقَة الْمقيدَة بالوحدة الْمُطلقَة كَمَا سيشير إِلَيْهِ (بل) إِنَّمَا أريدت عِنْد كَون اللَّام للْحَقِيقَة على أَنَّهَا كل) أَي تَمام مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (فَإِنَّهَا إِنَّمَا أريدت) عِنْد ذَلِك (مُقَيّدَة بِمَا يمْنَع الِاشْتِرَاك، وَهُوَ) التعين الْمُطلق، وَمنعه الِاشْتِرَاك بِاعْتِبَار مَا صدق عَلَيْهِ، وَذَلِكَ: أَي الْمقيدَة بِمَا يمْنَع الِاشْتِرَاك (نفس الْفَرد، وَهُوَ) أَي الْفَرد (المُرَاد بالتعريف) الْمشَار إِلَيْهِ بأدلته (وَالِاسْم) أَي وَأَيْضًا هُوَ المُرَاد بِالِاسْمِ الْمَدْخُول للام (وَالْمَجْمُوع) من الْمَاهِيّة والقيد (غير أَحدهمَا) فَلَا يكون المُرَاد بالتعريف وَالِاسْم الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ فحاصل هَذَا التَّحْقِيق ردقولهم فِي لَام الْحَقِيقَة إِنَّهَا إِشَارَة إِلَى الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ، فَإِن الْإِشَارَة فِي الرجل خير من الْمَرْأَة إِلَى الْمَاهِيّة الْمقيدَة بِالتَّعْيِينِ الْمُطلق، لَا الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ، والماهية من حَيْثُ هِيَ من الاعتبارات الْعَقْلِيَّة لَا تُوصَف بالخيرية، وَمثل الْإِنْسَان نوع من الاعتبارات الفلسفية لَا يلْتَفت إِلَيْهَا فِي كَلَام الْعَرَب، وَالْفرق حِينَئِذٍ بَين لَام الْحَقِيقَة وَلَام الِاسْتِغْرَاق، والعهد الذهْنِي أَنَّهَا ساكتة عَن بَيَان كَون الْمَاهِيّة(1/218)
متحققة فِي ضمن الْكل أَو الْبَعْض وَالله أعلم. (هَذَا وَحين صَار الْجمع مَعَ اللَّام كالمفرد) لإبطال اللَّام الجنسي معنى الجمعية على مَا مر (كَانَ تقسيمه) أَي الْجمع (مثله) أَي مثل تَقْسِيم الْمُفْرد (إِلَّا أَن كَونه) أَي الْجمع (مجَازًا عَن الْجِنْس يبعد، بل) هُوَ (حَقِيقَة لكل) من الِاسْتِغْرَاق وَالْجِنْس للْفرق بَين صِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْمُفْرد بِاعْتِبَار أصل الْوَضع. فَإِن الْمُفْرد فِي الأَصْل مَوْضُوع للفرد، وَالْجمع للأفراد، فَنَاسَبَ كَونه حَقِيقَة عِنْد إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق، لِأَن جَمِيع الْأَفْرَاد مِمَّا يصدق عَلَيْهِ حَقِيقَته الْأَصْلِيَّة، وَعند إبِْطَال جمعيته ناسب إِرَادَة الْجِنْس مِنْهُ مُجَردا عَن قيد الْوحدَة لتجرده عَن الْعدَد بِاعْتِبَار وضع ثَان لَهُ عِنْد دُخُول اللَّام، ثمَّ أَشَارَ إِلَى دَلِيل الْحَقِيقَة بقوله (للفهم) يَعْنِي يفهم مِنْهُ كل من الْمَعْنيين من غير حَاجَة إِلَى قرينَة، وَهَذَا عَلامَة الْحَقِيقَة (كَمَا ذكرنَا فِي نَحْو الْأَئِمَّة من قُرَيْش) من إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق (و) فِي نَحْو (يَخْدمه العبيد) من إِرَادَة الْجِنْس (وَمَا لَا يُحْصى) من الْأَمْثِلَة (وَأما النكرَة فعمومها فِي النَّفْي ضَرُورِيّ) وَقد سبق بَيَانه (وَكَذَا) عمومها ضَرُورِيّ (فِي الشَّرْط الْمُثبت) حَال كَونه (يَمِينا) (لِأَن الْحلف) فِي الشَّرْط الْمَذْكُور (على نَفْيه) أَي نفي مَضْمُون الشَّرْط، فَفِي قَوْله إِن كلمت رجلا، فَأَنت طَالِق الْمَحْلُوف عَلَيْهِ نفي الْكَلَام، لِأَنَّهُ الْمَطْلُوب من الْحلف، فَبِهَذَا الِاعْتِبَار قَوْله رجلا نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي (لَا الْمَنْفِيّ) عطف على الْمُثبت فَلَا عُمُوم لَهَا فِيهِ (كَأَن لم أكلم رجلا) فَهِيَ طَالِق (لِأَنَّهُ) أَي الْحلف فِي الشَّرْط الْمَنْفِيّ (على الْإِثْبَات) أَي إِثْبَات مَضْمُون الشَّرْط، وَلَا عُمُوم لَهَا فِي الْإِثْبَات من غير قرينَة الْعُمُوم كَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْمِثَال (لأُكلمَن رجلا) وَلذَا قَالُوا: الْيَمين فِي الْإِثْبَات للْمَنْع وَالنَّهْي: وَهُوَ كالنفي، وَفِي النَّفْي للْحَمْل على إِيقَاع مَضْمُون الشَّرْط، وَهُوَ لَا يقتضى الْعُمُوم (وَلَا يبعد فِي غير الْيَمين قصد الْوحدَة) إِذا وَقعت فِيهِ فَإِن الْوحدَة مُعْتَبرَة فِي مَفْهُوم النكرَة لِأَنَّهَا الْمَاهِيّة الْمقيدَة بالوحدة الْمُطلقَة، فقد يكون منَاط الحكم الْمُقَيد فِي الْمُقَيد بِهِ كَمَا (فِي مثل إِن جَاءَك رجل فأطعمه فَلَا تعم) فِيهِ إِذْ حَال كَون الْوحدَة مرَادا للمتكلم فَلَا يطعم إِذا جَاءَ أَكثر من رجل وَاحِد (وَفِي غَيرهمَا) أَي فِي غير الْمَنْفِيّ الصَّرِيح وَالشّرط الْمُثبت الَّذِي بِمَعْنَاهُ (إِن وصفت بِصفة عَامَّة) وَفسّر عمومها بقوله (أَي لَا تخص فَردا) بِأَن تحققت فِي أَكثر من وَاحِد نَحْو: جَالس رجلا يدْخل دَاره وَحده قبل كل أحد (عَمت كلعبد مُؤمن خير، وَقَول مَعْرُوف خير) فَإِن كلا من الصفتين لَا يخْتَص بهَا وَاحِد، ثمَّ أَنَّهَا تعم (مَا لم يتَعَذَّر) الْعُمُوم فَإِن تعذر لَا تعم (كلقيت رجلا عَالما) فَإِنَّهُ وصف بِصفة عَامَّة، لكنه مُتَعَذر لقاؤه كل عَالم عَادَة (وَوَاللَّه لَا أجالس إِلَّا رجلا عَالما) فَإِن مَا بعد الِاسْتِثْنَاء فِي غير الْمُوجب إِثْبَات، وَقد وصف بِصفة عَامَّة غير أَنه تعذر الْعُمُوم عَادَة وَلم يقْصد بِهِ الوجدة بِقَرِينَة الصّفة الْعَامَّة، فَلِذَا قَالَ (لَهُ مجالسة(1/219)
كل عَالم جمعا وَتَفْرِيقًا) فَلَا يَحْنَث بمجالسته الْعَالمين أَو الْعلمَاء كَمَا لَا يَحْنَث بمجالسة عَالم وَاحِد، وَهَذَا بِخِلَاف (وَوَاللَّه لَا أجالس إِلَّا رجلا غير مُقَيّد) بِصفة عَامَّة (يَحْنَث برجلَيْن، قيل الْفرق) بَين هَاتين المسئلتين (أَن الِاسْتِثْنَاء بِمَا يصدق على الشَّخْص) الْوَاحِد (لَا يتَنَاوَل إِلَّا وَاحِدًا) لِأَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مُسْتَغْرق جَمِيع مَا يصلح لَهُ فَلَا يحكم بِخُرُوج شَيْء مِنْهُ إِلَّا بِقدر مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْتِثْنَاء، وَمُقْتَضَاهُ أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم الْمُسْتَثْنى (فَإِذا وصف) الِاسْم النكرَة الْمُسْتَثْنى (بعام ظهر الْقَصْد إِلَى وحدة النَّوْع) كَانَ قبل الْوَصْف يحمل الْوحدَة على وحدة الشَّخْص، فصرف الْوَصْف الْعَام عَن وحدة إِلَى وحدة، وَقيل يَنْبَغِي أَن يُقَال وصف عَام لَا يزاحمه وصف يُنَافِي الْعُمُوم، نَحْو: لَا أكلم إِلَّا رجلا كوفيا وَاحِدًا فَإِنَّهُ يمْتَنع فِيهِ الْعُمُوم، وَتَركه المُصَنّف لظُهُوره (وَزِيَادَة) قيد آخر على الْوَصْف الْعَام كَمَا فِي التَّلْوِيح، وَهُوَ (بِقَرِينَة كَونه) أَي الْوَصْف (مِمَّا يَصح تَعْلِيل الحكم بِهِ نقص) خبر زِيَادَة وَلَا يخفى لطفه، بل الصَّوَاب أَن لَا يُزَاد، لِأَن هَذَا الحكم بِعَيْنِه ثَابت فِيمَا لَو قَالَ: لَا أجالس إِلَّا جَاهِلا مَعَ أَنه لَا يصلح التَّعْلِيل بِهِ عِنْد الْعقل (وَحَاصِله) أَي حَاصِل اسْتِعْمَالهَا فِي غير النَّفْي (أَنَّهَا فِي الْإِثْبَات تعم بِقَرِينَة لَا تَنْحَصِر فِي الْوَصْف) صفة للقرينة أَو اسْتِئْنَاف لبيانها (بل يكثر) أَي يكثر تحققها فِي ضمن الْوَصْف (وَقد يظْهر عمومها من الْمقَام وَغَيره: كعلمت نفس، وَتَمْرَة خير من جَرَادَة) فَإِن الْمقَام قرينَة على أَنه لَيْسَ علم النَّفس بِمَا قدمت وأخرت أمرا يخْتَص بِأحد دون أحد، وَكَذَا: خيريه تَمْرَة، وَهُوَ أثر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عمر وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم (وَأكْرم كل رجل) وَهَذَا مِثَال لغير الْمقَام، وَهُوَ لفظ كل (و) أكْرم (رجلا لَا امْرَأَة) فَإِن نفى الْمَرْأَة فِي الْمُقَابلَة يدل على أَن الْإِكْرَام مَنُوط بِوَصْف الرجلية أَيْنَمَا وجد، والتخصيص بِالْبَعْضِ تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح (وَهِي) أَي النكرَة (فِي غير هَذِه) الْمَوَاضِع (مُطلقَة) أَي دَالَّة على فَرد غير معِين على سَبِيل الْبَدَل كَأَن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة كَمَا يقتضية الْوَضع لَا تعرض فِيهَا لعُمُوم وَلَا خُصُوص (وَمن فروعها إِعَادَتهَا) أَي مِمَّا يفرع على النكرَة أَحْكَام إِعَادَتهَا معرفَة: أَي ونكرة (وَكَذَا الْمعرفَة) أَي من فروعها إِعَادَتهَا معرفَة ونكرة، فَالْمُرَاد بِالْإِعَادَةِ تَكْرِير اللَّفْظ الأول إِمَّا مَعَ كَيْفيَّة من التَّعْرِيف والتنكير أَو بِدُونِهَا (وَيلْزم كَون تَعْرِيفهَا) أَي تَعْرِيف الْمعرفَة (بِاللَّامِ أَو الْإِضَافَة فِي إِعَادَتهَا) أَي فِي إِعَادَة تِلْكَ الْمعرفَة (نكرَة) مفعول للإعادة. قَالَ الشَّارِح وَفِي إِعَادَة النكرَة معرفَة أَيْضا، ثمَّ الْأَقْسَام الممكنة أَرْبَعَة: إِعَادَة الْمعرفَة معرفَة، والنكرة نكرَة، والمعرفة نكرَة، وَعَكسه (وَضَابِط الْأَقْسَام) بِاعْتِبَار الْأَحْكَام أَن يُقَال (أَن نكر الثَّانِي فَغير الأول) أَي فَالْمُرَاد بِالثَّانِي غير المُرَاد بِالْأولِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسب تَعْرِيفه بِاللَّامِ(1/220)
أَو الْإِضَافَة بِنَاء على كَونه معهودا سَابِقًا ذكره (أَو عرف فعينه) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا} -، وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لن يغلب عسر يسرين فَإِن مَعَ الْعسر يسرا ". (وَهُوَ) أَي الضَّابِط الْمَذْكُور (أكثري) لَا كلي، لِأَنَّهُ قد تُعَاد النكرَة نكرَة عين الأولى كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} -، وتعاد النكرَة معرفَة غير الأولى كَقَوْلِه تَعَالَى - {زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب} - كَذَا قيل، وَفِيه نظر، وتعاد الْمعرفَة معرفَة غير الأولى كَقَوْلِه تَعَالَى - {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب} -، ونكرة عين الأول كبيت الحماسة:
صفحنا عَن بني ذهل وَقُلْنَا الْقَوْم إخْوَان عَسى الْأَيَّام أَن يرجع ن قوما كَالَّذي كَانُوا
(فينبني عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الأَصْل (إِقْرَاره بِمَال مُقَيّد بالصك) وَهُوَ كتاب الْإِقْرَار بِالْمَالِ وَغَيره، مُعرب (و) إقراه بِمَال (مُطلق) كل من المسئلتين (مَعْرُوفَة عِنْد الْحَنَفِيَّة غير إِقْرَاره بمقيد) أَي غير مَعْرُوف عِنْدهم إِقْرَاره بِمَال مُقَيّد بالصك فِي مجْلِس (ثمَّ) إِقْرَاره (فِي) مجْلِس (آخر) مُقَيّدا بالصك (بِهِ) أَي بِالْمَالِ (مُنْكرا وَقَلبه) أَي وَغير مَعْرُوف أَيْضا إِقْرَاره بِمَال مُنكر فِي مجْلِس، ثمَّ بِهِ فِي مجْلِس آخر مُقَيّدا بالصك، فَإِن حكم هَاتين المسئلتين غير مَعْرُوف نقلا عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله وصاحبيه، وَإِنَّمَا (خرج وجوب مالين عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله) فِي الأولى (و) وجوب (مَال) وَاحِد فِي الثَّانِيَة (اتِّفَاقًا) نقل عَن المُصَنّف أَنه لخص شرح هَذِه الْجُمْلَة، فَقَالَ: فالمنقول أَنه إِذا أقرّ بِأَلف فِي هَذَا الصَّك ثمَّ أقرّ بهَا كَذَلِك فِي مجْلِس آخر عَن شُهُود آخَرين كَانَ اللَّام ألفا وَاحِدَة بِنَاء على إِعَادَة الْمعرفَة، وَلَو أقرّ بِأَلف مُطلق عَن الصَّك غير مُقَيّد بِسَبَب، ثمَّ فِي مجْلِس آخر بِأَلف كَذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة تلْزمهُ أَلفَانِ بِنَاء على إِعَادَة النكرَة نكرَة كَمَا لَو كتب صكين كلا بِأَلف وَأشْهد على كل شَاهِدين، وَعِنْدَهُمَا تلْزمهُ ألف وَاحِدَة للْعُرْف على تكْرَار الْإِقْرَار للتَّأْكِيد، وَلَو اتَّحد الْمجْلس فِي هَذِه لزمَه ألف وَاحِدَة اتِّفَاقًا فِي تَخْرِيج الْكَرْخِي لجمع الْمجْلس المتفرقات، وَلَو أقرّ بِأَلف مُقَيّد بالصك عِنْد شَاهِدين، ثمَّ فِي آخر عِنْد آخَرين بِأَلف مُنكر خرج لُزُوم أَلفَيْنِ على قَول أبي حنيفَة بِنَاء على إِعَادَة الْمعرفَة نكرَة، وَفِي عكسها يَنْبَغِي وجوب ألف اتِّفَاقًا، لِأَن النكرَة أُعِيدَت معرفَة، ثمَّ التَّقْيِيد بالشاهدين فِي الصُّور، لِأَنَّهُ لَو أقرّ بِأَلف عِنْد شَاهد وَألف عِنْد آخر، أَو بِأَلف عِنْد شَاهِدين وَألف عِنْد القَاضِي لزمَه ألف وَاحِدَة اتِّفَاقًا انْتهى، وَذَلِكَ لِأَن الشَّاهِد الْوَاحِد لَا يتم بِهِ الْحجَّة فالإعادة للْأَحْكَام والإتمام، والإعادة عِنْد القَاضِي لإِسْقَاط مُؤنَة الْإِثْبَات بِالْبَيِّنَةِ، وَفِيه الِاتِّفَاق بتخريج الْكَرْخِي، لِأَنَّهُ على الِاخْتِلَاف فِي تَخْرِيج الرَّازِيّ، وَلَو أقرّ بِأَلف عِنْد شَاهِدين فِي(1/221)
مجْلِس، ثمَّ بِأَلف عِنْد آخَرين فِي مجْلِس أَو عَكسه يلْزمه المالان، وَعِنْدَهُمَا يدْخل الْأَقَل فِي الْأَكْثَر (وَأما من فعلى الْخُصُوص) أَي فوصفها على الْخُصُوص (كَسَائِر الموصولات) فَهِيَ لَيست بِالْوَضْعِ، بل بِالْوَصْفِ الْمَعْنَوِيّ الَّذِي هُوَ مَضْمُون الصِّلَة، لِأَن الْمَوْصُول مَعَ الصِّلَة فِي حكم اسْم مَوْصُوف على مَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد المُصَنّف رَحمَه الله (والنكرة) أَي وكالنكرة فِي كَونهَا مَوْضُوعَة فِي الْخُصُوص (وأخص مِنْهَا) أَي من النكرَة (لِأَنَّهَا) أَي من وضعت (لعاقل ذكر أَو أُنْثَى عِنْد الْأَكْثَر) فعلى هَذَا إِطْلَاقهَا على الله يجوز، وَلَو قيل الْعَالم لَكَانَ أَعم، وَقد يُطلق على غير الْعَالم مُنْفَردا، أَو مَعَ غَيره، وَقيل يخْتَص بالمذكر (وَنصب الْخلاف فِي) من (الشّرطِيَّة) خَاصَّة كَمَا فعل ابْن الْحَاجِب (غير جيد) إِذْ الموصولة، والموصوفة والاستفهامية كَذَلِك (وَالِاسْتِدْلَال) للْأَكْثَر ثَابت (بِالْإِجْمَاع على عتقهن) أَي إمائه (فِي من دخل) دَاري فَهُوَ حر، إِذْ لَوْلَا ظُهُور تنَاوله لَهُنَّ لما أجمع عَلَيْهِ (والنكرة بِحَسب الْمَادَّة قد تكون لغيره) لما قَالَ أَن من أخص لاختصاصها بالعاقل فهم أَن النكرَة للعاقل وَغَيره، فَرُبمَا يفهم أَن وَضعهَا مُطلقًا لما يشملهما، فَبين أَن النكرَة قد تخص بالعاقل، وَقد تكون لغير الْعَاقِل، وَالَّذِي لَيْسَ بِحَسب الْمَادَّة كَلَفْظِ: عَاقل وَمَجْنُون فِي ضِدّه، وَفرس لنَوْع غير عَاقل، فالأعم بعض النكرَة (وتساويها) أَي النكرَة (الَّذِي) وَبَقِيَّة الموصولات فِي أَنَّهَا على الْخُصُوص والشيوع (وضعا وَإِنَّمَا لَزِمَهَا) أَي من الموصولة، وَكَذَا بَقِيَّة الموصولات (التَّعْرِيف فِي الِاسْتِعْمَال وعمومها) أَي من (بِالصّفةِ) المعنوية على مَا ذكر، فَإِن كَانَت الصّفة بِحَيْثُ تعم جَمِيع مَا تصلح لَهُ تعين عمومها (وَيلْزم عمومها فِي الشَّرْط والاستفهام، وَقد تخص مَوْصُولَة وموصوفة) وَهَذَا لَا تَحْرِير فِيهِ، فَإِن من كَمَا تخص مَوْصُولَة وموصوفة لعدم عُمُوم مَضْمُون صلتها وصفتها تخص شَرْطِيَّة، واستفهامية لما يُوجب تخصيصها، وكما يلْزم عمومها شَرْطِيَّة أَو استفهامية بِوَاسِطَة الشَّرْط، والاستفهام قد يلْزم عمومها مَوْصُولَة وموصوفة لعُمُوم مضمونها، ثمَّ لَا يلْزم من كَونهَا مرَادا بهَا الْخُصُوص فِي بعض الْأَحْوَال وَضعهَا لَهُ، وَمَا ذكره المُصَنّف مَذْكُور فِي غير مَوضِع فَهُوَ مختاره لما بدا لَهُ من الاستعمالات وَغَيرهَا، وَإِذا تقرر مَا ذكر (فَفِي من شَاءَ من عَبِيدِي عتقه) فَهُوَ حر فشاءوا عتقهم (يعتقون، وَكَذَا من شِئْت) من عَبِيدِي عتقه فَأعْتقهُ (عِنْدهمَا) أَي عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد: إِذا شَاءَ عتقهم (يعتقهم) وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك (لِأَن من للْبَيَان، و) من للْعُمُوم فَيتَنَاوَل الْجَمِيع (عِنْده) أَي أبي حنيفَة إِذا شَاءَ يعْتق الْكل (إِلَّا الأخيران رتب) عتقهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرتب عتقهم، بل أعتقهم دفْعَة (فمختار الْمولى) أَي أعتقوا إِلَّا وَاحِدًا للْمولى الْخِيَار فِي تعينه (لِأَنَّهَا) أَي من (تبعيض فيهمَا) أَي من(1/222)
المسئلتين (فأمكنا) أَي عُمُوم من، وتبعيض من فِي التَّعْلِيق (فِي الأولى لتعين عتق كل) من العبيد (بمشيئته، فَإِذا عتق كل مَعَ قطع النّظر عَن غَيره فَهُوَ) أَي كل مِنْهُم (بعض) من الْعُمُوم (وَفِي الثَّانِيَة) تعلق عتقهم (بِمَشِيئَة وَاحِد، فَلَو أعتقهم لَا تبعيض) بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ إِمْكَان الْعَمَل بِهِ، وبالعموم أَو بِمُجَرَّد إِخْرَاج وَاحِد، فَإِن الْقَلِيل فِي حكم الْعَدَم (وَهَذَا) الدَّلِيل (يتم فِي الدفعى) أَي فِيمَا إِذا تعلق مَشِيئَته بِالْكُلِّ دفْعَة فَإِنَّهُ لَا يبْقى حِينَئِذٍ للتَّبْعِيض تَوْجِيه (لَا) يتم (فِي التَّرْتِيب) بِأَن يتَعَلَّق مَشِيئَة الْمُخَاطب بعتقهم دفعات فَيصدق على كل وَاحِد أَنه شَاءَ الْمُخَاطب عتقه، وَهُوَ بعض من العبيد (وتوجيه قَوْله) أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله كَمَا وَجهه صدر الشَّرِيعَة وَادّعى التفرد بِهِ (بِأَن الْبَعْض مُتَيَقن) على تقديري التَّبْعِيض وَالْبَيَان، وَالْحمل على الْمُتَيَقن مُتَعَيّن (لَا يقتضيها) كَون من (تبعيضية) أَي تبعيضها فالمضاف إِلَيْهِ مَحْذُوف وَيجوز أَن تكون تبعيضية تمييزا عَن نِسْبَة الْمَنْقُول: أَي لَا يقتضى تبعيضها (لِأَنَّهَا) أَي التبعيضية (للْبَعْض الْمُجَرّد) الَّذِي يكون تَمام المُرَاد، لَا فِي ضمن الْكل، نَحْو: أكلت من الرَّغِيف (وَلَيْسَ) الْبَعْض الْمُجَرّد (هُوَ الْمُتَيَقن) على التَّقْدِيرَيْنِ (بل) الْبَعْض الْمَذْكُور الَّذِي التبعيضية عبارَة عَنهُ (ضِدّه) أَي ضد الْبَعْض المتحقق فِي ضمن البيانية، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُجَرَّد بالتفسير الْمَذْكُور وَلَا يُمكن اجْتِمَاع الضدين فَكيف يتَصَوَّر وجود الْمُجَرّد على التَّقْدِيرَيْنِ وَالْجَوَاب بِأَن المُرَاد بِالْبَعْضِ فِي قَوْله: الْبَعْض مُتَيَقن مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْبَعْض غير سديد، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يلْزم أَن تكون من تبعيضية، والتوجيه مَبْنِيّ عَلَيْهِ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى تَوْجِيه آخر لقَوْل أبي حنيفَة بقوله (وَبِأَن وصف من بِمَشِيئَة الْمُخَاطب) فِيمَن شِئْت من عَبِيدِي إِلَى آخِره (وصف خَاص) لِأَن مَا يُوصف بِهِ خَاص لكَونه مُسْندًا إِلَى خَاص (وعمومها) أَي عُمُوم من إِنَّمَا يحصل (بِالْعَام) أَي بِالْوَصْفِ الْعَام وَلم يُوجد فَلَا عُمُوم، فَوَجَبَ الْعَمَل بِمُوجب التَّبْعِيض من غير معَارض، وَلزِمَ اسْتثِْنَاء الْوَاحِد تَحْقِيقا لِمَعْنى التَّبْعِيض. وَقَالَ الشَّارِح: أَن عُمُوم الْمَشِيئَة بإسنادها إِلَى الْعَام الَّذِي هُوَ من وَلَا يخفى فَسَاده، إِذْ قد مر أَن عُمُوم من بِالصّفةِ فَكيف يكون عُمُوم الصّفة بهَا؟ وَلَئِن سلم فَمَا معنى التَّوْجِيه حِينَئِذٍ فَافْهَم (كمن شَاءَ من عَبِيدِي إِلَى آخِره) تَمْثِيل للوصف الْعَام لعدم إِسْنَاد الْمَشِيئَة إِلَى خَاص (دفع) التَّوْجِيه الْمَذْكُور (بِأَن حَقِيقَة وصفهَا) أَي وصف من (فِيهِ) أَي فِيمَن شِئْت إِلَى آخِره (بِكَوْنِهَا) أَي من (مُتَعَلق مَشِيئَة) الْمُخَاطب (وَهُوَ) أَي مُتَعَلق مَشِيئَته: يَعْنِي كَونهَا بِحَيْثُ أضيف إِلَيْهَا الْمَشِيئَة (عَام) فَانْدفع ادِّعَاء كَون الْوَصْف خَاصّا (وَأما مَا فلغير الْعَاقِل) وَحده: نَحْو - {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} -، (وللمختلط) بِمن يعقل وَمن لَا يعقل: نَحْو - {سبح لله مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} ، والمتبادر من(1/223)
هَذَا كَونهَا مُشْتَركَة بَين غير الْعَاقِل والمختلط (فَلَو ولدت غُلَاما وَجَارِيَة فِي) مُدَّة التَّعْلِيق بقوله (إِن كَانَ مَا فِي بَطْنك غُلَاما) فَأَنت طَالِق (لَا يَقع) الطَّلَاق. قَالَ الشَّارِح لِأَن الشَّرْط إِنَّمَا يكون جَمِيع مَا فِي بَطنهَا غُلَاما بِنَاء على عُمُوم مَا، فَلَا يتَحَقَّق مَضْمُون الشَّرْط (وَفِي طَلِّقِي نَفسك من الثَّلَاث مَا شِئْت لَهَا الثَّلَاث) أَي لَهَا الْخِيَار فِي إِيقَاع الثَّلَاث (عِنْدهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (وَعِنْده) أَي عِنْد أبي حنيفَة (ثِنْتَانِ، وَهِي) أَي هَذِه المسئلة (كَالَّتِي قبلهَا) أَي من شِئْت من عَبِيدِي إِلَى آخِره من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا بَيَانِيَّة عِنْدهمَا تبعيضية عِنْده أَي أبي حنيفَة رَحمَه الله (وَقَوله أحسن، لِأَن تَقْدِيره) أَي الْكَلَام (على الْبَيَان) طَلِّقِي نَفسك (مَا شِئْت مِمَّا هُوَ الثَّلَاث) . وَفِي شرح الْهِدَايَة: طَلِّقِي نَفسك مَا شِئْت الَّذِي هُوَ الثَّلَاث: هَذَا إِذا كَانَ مَا معرفَة، فَإِن كَانَ نكرَة فَالْمَعْنى عددا شِئْت هُوَ الثَّلَاث، وَضَابِط البيانية صِحَة وضع الَّذِي مَكَانهَا، وَوَصلهَا بضمير مَرْفُوع مُنْفَصِل مَعَ مدخولها إِذا كَانَ الْمُبين معرفَة، وَصِحَّة وضع الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُنْفَصِل موضعهَا ليَكُون مدخولها إِذا كَانَ الْمُبين نكرَة، فَفِي - {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} -: الرجس هُوَ الْأَوْثَان، ثمَّ هَذَا تَفْوِيض الثَّلَاث إِلَيْهَا (وطلقي مَا شِئْت واف بِهِ) فَلَا حَاجَة إِلَى قَوْله: من الثَّلَاث (فالتبعيض) أَي فكون التَّبْعِيض مرَادا مِنْهُ (مَعَ زِيَادَة من الثَّلَاث) عَلَيْهِ (أظهر) احْتِرَازًا عَن المستغنى عَنهُ (وَأما كل فلاستغراق أَفْرَاد مَا دَخلته) فحال مدخولها حِينَئِذٍ (كَانَ لَيْسَ مَعَه غَيره) أَي كحاله وَقت عدم غَيره مَعَه (فِي الْمُنكر) أَي فِيمَا إِذا كَانَ مدخولها نكرَة، وَذَلِكَ لِأَن النكرَة عبارَة عَن الْفَرد الْمُنْتَشِر، واستغراقه عبارَة عَنهُ من حَيْثُ تحققها فِي ضمن كل مَا يصدق عَلَيْهِ من أشخاصه، وَهَذِه الْحَيْثِيَّة وَإِن كَانَت زَائِدَة على ذَاته لَكِنَّهَا من حَيْثُ أَنَّهَا حصلت بِاعْتِبَار مُلَاحظَة أُمُور متحدة مَعَه بِحَسب الْمَاهِيّة كَالْعدمِ، بِخِلَاف مُقَابلَة الْمشَار إِلَيْهِ بقوله (وأجزائه) أَي ولاستغراق أَجْزَائِهِ (فِي الْمُعَرّف) فِيمَا إِذا كَانَ مدخوله معرفَة فَإِن أَجزَاء الشَّيْء أُمُور مباينة لذَلِك الشَّيْء بِحَسب الْحَقِيقَة (فكذب كل الرُّمَّان مَأْكُول) لِأَن قشره مثلا من جملَة أَجْزَائِهِ، وَهُوَ غير مَأْكُول فَإِنَّهُ صَادِق لعدم استغراق أَجْزَائِهِ الَّتِي لَا تُؤْكَل، وَإِنَّمَا يسْتَغْرق كل رمان ومأكوليته (دون كل رمان) مَا هُوَ الْمُتَعَارف أكله من أَجْزَائِهِ (وَوَجَب لكل من الداخلين) مَعًا الْحصن (فِي كل من دخل) هَذَا الْحصن (أَولا) فَلهُ كَذَا مَا سَمَّاهُ (بِخِلَاف: من دخل أَولا) فَلهُ كَذَا فَدخل أَكثر من وَاحِد (لَا شَيْء لأحد، لِأَن عمومها) أَي من (لَيْسَ ك) عُمُوم (جَمِيع) من حَيْثُ الشُّمُول على سَبِيل الِاجْتِمَاع ليَكُون للمجموع مَجْمُوع الْمُسَمّى، فَيقسم عَلَيْهِم (وَلَا ككل) من حَيْثُ الشُّمُول على سَبِيل الِانْفِرَاد، فَيكون لكل وَاحِد مَا سَمَّاهُ (بل) عمومها ثَابت (ضَرُورَة الْإِبْهَام)(1/224)
أَي لأجل ضَرُورَة ناشئة من الْإِبْهَام (كالنكرة فِي النَّفْي) أَي كعموم النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي ضَرُورَة الْإِبْهَام، فَإِن مدلولها فَرد لَا على التَّعْيِين، وانتفاؤه بِالنَّفْيِ يسْتَلْزم انْتِفَاء كل فَرد بِعَيْنِه، إِذْ لَو بَقِي فَرد وَاحِد لتحَقّق الْفَرد لَا على التَّعْيِين فِي ضمنه الْمَفْرُوض انتفاؤه رَأْسا، هَذَا فِي النكرَة وَأما كلمة من فَمن حَيْثُ أَنَّهَا من المبهمات مدلولها فَرد من الْمَوْصُوف بصلتها لَا على التَّعْيِين فشاركت النكرَة الْمَذْكُورَة فِي الْإِبْهَام غير أَن الْعُمُوم هُنَاكَ من سِيَاق النَّفْي، وَهَهُنَا بِسَبَب أَن إِرَادَة الْبَعْض دون الآخر تَرْجِيح بِغَيْر مُرَجّح فَيعم الْكل، لَكِن لَا على سَبِيل الشُّمُول كَمَا فِي مَدْخُول كل، بل على سَبِيل الْبَدَل كَمَا هُوَ مُقْتَضى أصل وَضعهَا، وَوُجُوب الْمُسَمّى على أحد الْوَجْهَيْنِ مَوْقُوف على أحد العمومين المنفيين (فَلَا شركَة) بَين من، ومدخول كل فِي كَيْفيَّة الْعُمُوم (تصحح) تِلْكَ الشّركَة (التَّجَوُّز) بِكَلِمَة من عَن جَمِيع أَو كل، وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ فِيهَا صَارف قوي عَن الْحَقِيقَة إِلَى الِاسْتِعَارَة لأَحَدهمَا لَا مَكَان الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ، وَتعذر الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ إِذا دخل أَكثر من الْوَاحِد مَعًا (وَقيل) فِي الْفرق بَين المسئلتين، وَالْقَائِل صدر الشَّرِيعَة، فِي نسختين من الْمَتْن: فَخر الْإِسْلَام، وَنقل هَذَا أَخذ مِنْهُ (الأول فَرد سَابق على كل من سواهُ) من الْأَفْرَاد (بِلَا تعدد) فَلَا يصدق على مَا فَوق الْوَاحِد، (وَإِضَافَة كل) إِلَى من (توجبه) أَي التَّعَدُّد فِيهِ (فَجعل) الأول بِقَرِينَة الأول (مجَازًا عَن جزئه وَهُوَ السَّابِق) على الْغَيْر (فَقَط) بِلَا قيد الْوحدَة فَيصح إِضَافَة كل الافرادي إِلَيْهِ، وَيكون من فِيهِ نكرَة مَوْصُوفَة بَقِي شَيْء، وَهُوَ أَنه لَا يَكْفِي مُجَرّد التَّجْرِيد عَن قيد الْوحدَة، بل لَا بُد من تصرف آخر فِي معنى الأول بِأَن يُرَاد بِهِ من لَا يسْبقهُ من سواهُ، وَإِلَّا لم يصدق على شَيْء من المتعدد، إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه سَابق على من سواهُ فَافْهَم (فَفِي التَّعَاقُب) أَي تعاقب الداخلين (يسْتَحق الأول فَقَط، لِأَن من بعده مَسْبُوق) فَلَا يصدق عَلَيْهِ أَنه أول كَمَا هُوَ مَفْهُوم السَّابِق الْمُتَبَادر عِنْد الاطلاق (وَكَمَال السَّابِق) إِنَّمَا يتَحَقَّق (بِعَدَمِهِ) أَي بِعَدَمِ كَونه مَسْبُوقا بِالْغَيْر (خُصُوصا فِي مقَام التحريض) على التشجيع (فَلَا يعْتَرض بِأَن مُقْتَضَاهُ) أَي مُقْتَضى عُمُوم السَّابِق بِحَيْثُ يعم من لَهُ سبق من وَجه، وَإِن كَانَ مَسْبُوقا من وَجه آخر (اسْتِحْقَاق كل من الْمُتَعَاقدين إِلَّا الآخر) فَإِنَّهُ مَسْبُوق غير سَابق بِوَجْه (بِعُمُوم الْمجَاز) بِإِرَادَة معنى مجازي يصدق على الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَغَيره (وَأما جَمِيع فللعموم على الِاجْتِمَاع، فللكل نفل) وَاحِد يقسم بَينهم بِالسَّوِيَّةِ إِذا دخلُوا جَمِيعًا لعدم صدق مَفْهُوم من جعل لَهُ النَّفْل على كل وَاحِد مُنْفَردا (فِي جَمِيع من دخل أَولا فَلهُ كَذَا) عملا (بحقيقته) أَي بِحَقِيقَة لفظ جَمِيع، وَهِي الْعُمُوم الاحاطي على سَبِيل الِاجْتِمَاع (وللأول فَقَط فِي) صُورَة (التَّعَاقُب: بدلالته) أَي بِدلَالَة قَوْله لجَمِيع من دخل(1/225)
إِلَى آخِره فَإِن هَذَا التَّنْفِيل للتشجيع والحث على المسارعة إِلَى الدُّخُول، فَإِذا اسْتَحَقَّه السَّابِق بِصفة الِاجْتِمَاع: فَلِأَن يسْتَحقّهُ بِصفة الِانْفِرَاد أولى، لِأَن الشجَاعَة فِيهِ أقوى (لَا بمجازه) أَي لَيْسَ للْأولِ فَقَط فِي التَّعَاقُب بِسَبَب الْعَمَل بمجاز لفظ جَمِيع اسْتِعْمَاله (فِي) معنى (كل) الإفرادي (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك وَاسْتحق الأول بمجازه الْمَذْكُور (لزم الْجمع بَين) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ و) الْمَعْنى (الْمجَازِي فِي الْإِرَادَة) بِأَن يُرَاد مِنْهُ مَا وضع لَهُ، وَهُوَ الْعُمُوم الاجتماعي، وَمعنى كل الإفرادي مَعًا، لَا يُقَال لم لَا يجوز أَن يُرَاد لَهُ معنى مجازي يعم الْحَقِيقِيّ، وَهَذَا الْمجَازِي أَيْضا (لتعذر عُمُوم الْمجَاز هُنَا) فَإِنَّهُ إِذا أُرِيد بِجَمِيعِ معنى كل الإفرادي مجَازًا اندرج دُخُول الْجَمَاعَة أَولا مَعًا تَحت هَذَا التَّنْفِيل على غير الْوَجْه الَّذِي تَقْتَضِيه الْحَقِيقَة، وَهُوَ أَن يكون للْكُلّ نفل وَاحِد لِأَن الْمَعْنى الْمجَازِي يَقْتَضِي أَن يكون لكل وَاحِد من الْجَمَاعَة مَا سَمَّاهُ كَامِلا، فَلَو أُرِيد بِهَذَا اللَّفْظ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ كَانَ ذَلِك بعلاقة الْوَضع لَهُ، فَإِذا فرض مَعَ هَذَا اندراج الأول فِي التَّعَاقُب تَحْتَهُ كَانَ هَذَا بعلاقة الْوَضع لَهُ المجازية عَن كل، فَلَزِمَ الْجمع الْمَذْكُور، وَظهر تعذر عُمُوم الْمجَاز الْمَذْكُور فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ معنى مجازي آخر يندرجان تَحْتَهُ، وَلَا يلْزم الْجمع بَينهمَا قلت وجود مَفْهُوم شَامِل للْجَمَاعَة الْمَذْكُورَة على الْوَجْه الْمَذْكُور، وللفرد الأول فِي التَّعَاقُب على الْكَيْفِيَّة الْمَذْكُورَة مِمَّا يكَاد أَن يحملهُ الْعقل فَتدبر (وَأما أَي فلبعض مَا أضيف إِلَيْهِ) حَال كَون مَا أضيف إِلَيْهِ (كلا) ذَا أبعاض (معرفَة) فَلَا ينْتَقض بِمثل: أَي النقطة كَذَا الانتفاء الْكُلية بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور: نعم إِن جعل اللَّام للْعهد الذهْنِي كَانَ: أَي الجزئي دَاخِلا فِي الْقسم الْآتِي (وَلَو) كَانَ تَعْرِيفه (بِاللَّامِ) فَعلم أَنه إِذا كَانَ بِغَيْر اللَّام فكونها لبَعض مَا أضيف إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الأولى، وَذَلِكَ لِأَن مَدْخُول اللَّام إِنَّمَا يكون مفهوما كليا، فيتبادر من إضافتها إِلَيْهِ إِرَادَة الجزئيات، بِخِلَاف غَيره من المعارف كَالْعلمِ فَإِن الْمُتَبَادر من إضافتها إِلَيْهِ إِرَادَة الْبَعْض، مثل: أَي زيد أحسن (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مَا أضيف إِلَيْهِ كلا معرفَة (فلجزئيه) أَي فَأَي لجزئي مَا أضيف إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون كليا نكرَة أَو معرفَة لفظا كالمعهود الذهْنِي: كَذَا نَقله الشَّارِح عَن المُصَنّف، وَفِيه أَنه يجوز أَن يكون معهودا خارجيا غير ذِي أبعاض لاندراجه تَحت قَوْله: وَإِلَّا، وَيجوز أَن يكون ضمير كَذَا إِلَى غير ذَلِك فَتَأمل، (وبحسب) حَال (مدخولها) من الْكُلية والتعريف وَمَا يقابلهما (يتَعَيَّن وصفهَا) أَي وصف أَي (الْمَعْنَوِيّ) وَهُوَ مَضْمُون مَا ينْسب إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ مُعَرفا يكون المُرَاد بِأَيّ الْبَعْض مِنْهُ، فَيتَعَيَّن أَن يكون الْوَصْف الْمَعْنَوِيّ مِمَّا يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَامْتنعَ أَي الرجل عنْدك لعدم الصِّحَّة) لِأَن العندية الْمَخْصُوصَة مِمَّا لَا يجوز توصيف بعض الرجل(1/226)
مُنْفَردا بهَا (وَجَاز) أَي الرجل (أحسن) لجَوَاز انْفِرَاد بعضه بالأحسنية (وَهِي) أَي أَي (فِي الشَّرْط والاستفهام) أَي فِيمَا إِذا كَانَت شَرْطِيَّة أَو استفهامية (ككل فِي النكرَة) أَي هِيَ ككل فِيمَا إِذا دخل على النكرَة فِي كَونه لاستغراق أَفْرَاد مدخوله (فَتجب الْمُطَابقَة) أَي مُطَابقَة الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى أَي: إفرادا، وتثنية، وجمعا: تذكيرا وتأنيثا (لما أضيفت) أَي (إِلَيْهِ) لِأَن المُرَاد بهَا حِينَئِذٍ فَرد من أَفْرَاد مَا أضيف، لَا بعض من أَبْعَاضه (كأي رجلَيْنِ تكرم) أَي تكرمهما (أكرمهما) فَإِن الضَّمِير فِي الْحَقِيقَة رَاجع للرجلين (وَأي رجال تكرم أكْرمهم) وَأي رجل تكرم أكْرمه، وَأي امْرَأَة تكرم أكرمها، وَأي امْرَأَة قَامَت، وَهَكَذَا (و) هِيَ فِي الشَّرْط والاستفهام مثل (بعض فِي الْمعرفَة فيتحد) الضَّمِير الرَّاجِع إِلَيْهَا مثنى كَانَ الْمُضَاف إِلَيْهِ أَو مجموعا: مذكرا أَو مؤنثا، لِأَن الرَّاجِع إِلَى أَي حِينَئِذٍ رَاجع إِلَى الْمُفْرد، إِذْ المُرَاد بهَا بعض مِمَّا أضيف إِلَيْهِ، وَلَا فرق بَين الْمُذكر، والمؤنث، والمفرد، وَالْجمع (كأي الرجلَيْن) أَو الْمَرْأَتَيْنِ، أَو الرِّجَال، أَو النِّسَاء (تضرب أضربه، وتعم) أَي (بِالْوَصْفِ) الْعَام كَمَا نَص عَلَيْهِ مُحَمَّد فِي الْجَامِع الْكَبِير (فَيعتق الْكل إِذا ضربوا فِي) تَعْلِيق (أَي عَبِيدِي ضربك) فَهُوَ حر، فَإِن الْوَصْف وَهُوَ الضَّرْب بِاعْتِبَار إِسْنَاده إِلَى كل وَاحِد من العبيد عَام (ومنعوه) أَي عتق الْكل (فِي) أَي عَبِيدِي (ضَربته) لِأَن الْوَصْف بِاعْتِبَار إِسْنَاده إِلَى الْخَاص خَاص (إِلَّا الأول) اسْتثِْنَاء من منع الْكل: يَعْنِي إِذا ضَربهمْ على التَّرْتِيب لعدم المزاحم بِخِلَاف غَيره فَإِنَّهُ يزاحمه انْتِهَاء عَن التَّعْلِيق بِعِتْق الأول (أَو مَا يُعينهُ الْمولى فِي الْمَعِيَّة) أَي فِيمَا إِذا ضَربهمْ دفْعَة وَاحِدَة، لِأَن عتق الْوَاحِد لَا بُد مِنْهُ عملا بِمُوجب التَّعْلِيق، وَذَلِكَ غير مُتَعَيّن، فالتعيين إِلَيْهِ وَإِن كَانَ الِاخْتِيَار فِي الضَّرْب (لِأَن الْوَصْف) الَّذِي هُوَ الضَّرْب (لغَيْرهَا) أَي لغير العبيد: وَهُوَ الْمُخَاطب، وَهُوَ خَاص فَالْحَاصِل أَن الْعُمُوم فِي المسئلة السَّابِقَة إِنَّمَا جَاءَ من قبيل الصّفة وَلم يتَحَقَّق هَهُنَا. قَالَ صدر الشَّرِيعَة هَهُنَا: وَهَذَا الْفرق مُشكل من جِهَة النَّحْو لِأَن فِي الأول وَصفا بالضاربية، وَفِي الثَّانِي بالمضروبية، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَمنع) كَونهَا غير مَوْصُوفَة بِصفة عَامَّة هَهُنَا أَيْضا مُسْتَندا (بِأَنَّهَا) يَعْنِي أيا (مَوْصُوفَة بالمضروبية) ثمَّ أَشَارَ إِلَى دفع مَا أُجِيب بِهِ عَن هَذَا الْمَنْع بقوله (وَكَون المفعولية) أَي مفعولية العبيد فِي أَي عَبِيدِي ضَربته (فضلَة) وَفِيه مُسَامَحَة لِأَن الفضلة هُوَ الْمَفْعُول لَا المفعولية، والفضلة (تثبت ضَرُورَة التحقق) أَي ضَرُورَة تحقق الْفِعْل الْمُتَعَدِّي، وَالثَّابِت ضَرُورَة يتَقَدَّر بِقَدرِهَا، فَلَا يظْهر أَثَره فِي التَّعْمِيم (لَا يُنَافِيهِ) أَي لَا يُنَافِي الْعُمُوم بِالصّفةِ، لِأَن الْمَدْلُول على عُمُوم الصّفة سَوَاء كَانَت الصّفة حَاصِلَة بِاعْتِبَار نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول (وَالْفرق) بَين الصُّورَتَيْنِ كَمَا قَالَ صدر الشَّرِيعَة(1/227)
(بِكَوْن الثَّانِي) وَهُوَ: أَي عَبِيدِي ضَربته (لاختيار أحدهم عرفا) أَي لتخيير الْمُخَاطب فِي تعْيين وَاحِد من العبيد فِي الْعرف (ككل أَي خبر تُرِيدُ) فَإِن المُرَاد مِنْهُ تَخْيِير الْمُخَاطب فِي أكل خبز وَاحِد (وَالْأَوْجه) الْأَحْسَن أَن يُقَال فِي التنظير (أَي خبزي ليطابق الْمِثَال) وَهُوَ: أَي عَبِيدِي (لَيْسَ لَهُ) أَي للمخاطب (أكل الْكل، بل تعْيين وَاحِد يختاره بِخِلَاف الأول) وَهُوَ: أَي عَبِيدِي ضربك، فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر فِيهِ ذَلِك، وَقَوله وَالْفرق مُبْتَدأ خَبره (لَا يدْفع) الِاعْتِرَاض (بِنَحْوِ أَي عَبِيدِي وطئته دابتك) فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْفرق الْمَذْكُور (لِأَن مَحل الْفرق) الْمَذْكُور (مَا يَصح فِيهِ التَّخْيِير) وَهَذَا الْمِثَال مِمَّا لَا يتَصَوَّر فِيهِ ذَلِك مَعَ أَنه مندرج فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة، ثمَّ إِن المُصَنّف رَحمَه الله قد حقق أَن عُمُوم أَي بِاعْتِبَار عُمُوم الْوَصْف، وَمِنْهُم من ادّعى أَنه بِاعْتِبَار الْوَضع، فَأَرَادَ رده صَرِيحًا فَقَالَ (وَأما ادِّعَاء وَضعهَا) أَي أَي (ابْتِدَاء للْعُمُوم الاستغراقي) قيد الْعُمُوم بِهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم إِرَادَة الْعُمُوم الَّذِي يكون فِي النكرات، فَإِن الْفَرد الْمُنْتَشِر يعم جَمِيع الْأَفْرَاد على سَبِيل الِاحْتِمَال (بادعاء الْفرق بَين أعتق عبدا من عَبِيدِي ضربك، وَأي عبد) من عَبِيدِي ضربك: كَمَا فِي التَّلْوِيح، فَإِنَّهُ لَيْسَ للْمَأْمُور إِلَّا إِعْتَاق وَاحِد متصف بالضاربية فِي الأول، وَله أَن يعْتق كل عبد ضربه من عبيده فِي الثَّانِي (فَمَمْنُوع) خبر للمبتدأ، وَجَوَاب لأما، يَعْنِي لَا نسلم أَن الْفرق بَينهمَا بِمَا ذكر، بل الْعُمُوم فيهمَا للوصف، كَذَا نَقله الشَّارِح عَن المُصَنّف (ورد أَخذ خصوصها) يَعْنِي كَون أَي خَاصّا (وضعا من إِفْرَاد الضَّمِير فِي) نَحْو (أَي الرِّجَال أَتَاك) فَإِن الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى أَي على تَقْدِير عمومها إِنَّمَا يكون على طبق عمومها، فَيُقَال: أَي الرِّجَال أتوك؟ (و) من (صِحَة الْجَواب) عَنْهَا (بِالْوَاحِدِ) كزيد أَو عَمْرو (بِالنَّقْضِ) مُتَعَلق بِالرَّدِّ: يَعْنِي رد الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور بِالنَّقْضِ (بِمن وَمَا: يَعْنِي لِأَنَّهُمَا استغراقيان وضعا مَعَ إِفْرَاد ضميرهما و) إِفْرَاد (جوابهما) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي التَّلْوِيح (مَمْنُوع) \ خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي ورد (بل وضعهما أَيْضا على الْخُصُوص كالنكرة وعمومهما بِالصّفةِ كَمَا مر) ثمَّ لما ورد على الْقَوْلَيْنِ بعمومها بِعُمُوم الصّفة عدم عمومها فِي بعض الصُّور مَعَ عُمُوم الصّفة دَفعه بقوله (وَعدم عتق أحد) من العبيد (فِي أَيّكُم حمل هَذِه) العدلة (وَهِي حمل وَاحِد) مِنْهُم (فحملوها) مَعًا (لعدم الشَّرْط) لِلْعِتْقِ بِحمْل وَاحِد) لَهَا بكمالها عطف بَيَان للشّرط يَعْنِي أَن شَرط الْعتْق أَن يحمل الْوَاحِد بِانْفِرَادِهِ تَمامهَا فَعِنْدَ حمل الْجَمِيع إِيَّاهَا لم يتَحَقَّق ذَلِك (وَلذَا) أَي وَلكَون الشَّرْط مَا ذكر (عتق الْكل فِي التَّعَاقُب) أَي فِيمَا إِذا حمل كل وَاحِد مِنْهُم مُنْفَردا تَمامهَا على سَبِيل التَّعَاقُب إِلَّا الْمَعِيَّة (وَكَذَا) يعْتق الْكل (إِذا لم يكن) الْمشَار إِلَيْهِ (حمل وَاحِد) بِأَن لَا يُطيق الْوَاحِد حملهَا فحلمها وَاحِد وَجَمَاعَة، لِأَن الْمَقْصُود صيرورتها مَحْمُولَة إِلَى(1/228)
مَوضِع حَاجَة بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ يُطيق حملهَا وَاحِد، إِذْ الْمَقْصُود حِينَئِذٍ معرفَة جلادتهم: وَهِي تحصل بِحمْل الْوَاحِد مُنْفَردا، وعَلى هَذَا لَو انحرقت الْعَادة فحملها كل وَاحِد مِنْهُم على التَّعَاقُب لَا يسْتَحق إِلَّا الأول لانْتِهَاء حُصُول الْمَقْصُود بِحمْلِهِ فينتهي حكم التَّعْلِيق بِهِ، وَظَاهر الْكَشْف الْكَبِير عتق الْكل، كَذَا ذكر الشَّارِح.
مسئلة
(لَيْسَ الْعَام مُجملا خلافًا لعامة الأشاعرة) على مَا فِي التَّلْوِيح (وَنقل بَعضهم) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة (دَلِيله) أَي دَلِيل الْإِجْمَال: وَهُوَ قَوْله (أعداد الْمَجْمُوع) أعداد أَفْرَاد كل جمع (مُخْتَلفَة) فَإِن جمع الْقلَّة يَصح أَن يُرَاد بِهِ كل عدد من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَجمع الْكَثْرَة إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ (فَوَجَبَ التَّوَقُّف) فِي تعْيين المُرَاد بِهِ (إِلَى) تعْيين (معِين) على صِيغَة الْفَاعِل (يُفِيد) النَّقْل الْمَذْكُور (أَن الْخلاف فِي الْجمع الْمُنكر) عَن القَوْل بِعُمُومِهِ (لَا الْعَام مُطلقًا) لعدم جَرَيَان مَا نقل فِي غَيره (ومعممه) أَي من يَقُول بِعُمُوم الْجمع الْمُنكر (من الْحَنَفِيَّة يُصَرح بنفيه) أَي بِنَفْي إجماله (وجوابهم) أَي المعممين عَن هَذَا الدَّلِيل قَوْلهم (وَجب الْحمل) أَي حمل الْجمع الْمُنكر (على) الْمرتبَة (المستغرقة) لكل عدد من مراتبه (على مَا تقدم عَنْهُم) فِي المسئلة الْخَاصَّة بِهِ (فَلَا إِجْمَال، و) أجابوا أَيْضا (ب) أَن (الْحمل على) الْعدَد (الْمُتَيَقن) وَهُوَ أقل مَرَاتِب الْجمع (فَلَا إِجْمَال) أَيْضا (وَقد ينْقل) لدَلِيل الْإِجْمَال قَوْلهم (الْعَام مُشْتَرك بَين الْوَاحِد وَالْكثير للإطلاق) أَي لِأَنَّهُ يُطلق على صِيغَة الْعَام على كل مِنْهُمَا (وَالْأَصْل) فِي الْإِطْلَاق (الْحَقِيقَة) فَأشبه المُرَاد بِهِ (فَوَجَبَ التَّوَقُّف إِلَى دَلِيل الْعُمُوم) أَو الْخُصُوص فَيعْمل بِهِ حِينَئِذٍ (فَيُفِيد) هَذَا النَّقْل (أَنه) القَوْل بالإجمال (قَول الْقَائِل باشتراك الصِّيغَة) بَين الْعُمُوم وَالْخُصُوص (وَهُوَ) أَي القَوْل بالإجمال (أحد قولي الْأَشْعَرِيّ، ونسبته) أَي الْإِجْمَال (إِلَى الأشعرية غير وَاقع بل) هُوَ مَنْسُوب (إِلَى الْأَشْعَرِيّ لتوقفه فِي الصِّيَغ) المستعملة فِي الْعُمُوم فِي أَنَّهَا مَوْضُوعَة للْعُمُوم خَاصَّة، وَهَذَا التَّوَقُّف (للاشتراك) فِي قَول (لَهُ) بِأَنَّهَا مُشْتَركَة بَين الْعُمُوم وَالْخُصُوص (أَو لَا لَهُ) أَي أَو لتوقفه فِيهَا لَا لاشتراك، بل لكَونه لَا يدْرِي كَونهَا مَوْضُوعَة للْعُمُوم أَو الْخُصُوص (فِي) قَول (آخر) للأشعري (وَإِذن فمعلوم تَفْرِيع التَّوَقُّف) فِي الْعَمَل بِالْعَام إِلَى تعْيين أحد الْمَعْنيين (على مَذْهَب الِاشْتِرَاك) أَي وَإِذا علل توقف الْأَشْعَرِيّ فِي الصِّيَغ بالاشتراك على قَوْله: لَهُ علم أَن القَوْل بالاشتراك كَائِنا من كَانَ قَائِله يلْزمه التَّوَقُّف فِيهَا (وَالْوَقْف) فِي الْعَمَل بهَا مَعْطُوف على تَفْرِيع (إِلَى الْمعِين وَقد أفرد الْمَبْنِيّ) لهَذَا الْخلاف: وَهُوَ أَن الصِّيَغ هِيَ للْعُمُوم أَو(1/229)
الْخُصُوص أَولهمَا (بالبحث) كَمَا مر مَعَ إبِْطَال الِاشْتِرَاك والتوقف (فيستغني بِهِ) أَي بإفراد الْمَبْنِيّ بالبحث (عَن هَذِه) المسئلة، لِأَنَّهُ قد بَين فِيهَا أَن لَا اشْتِرَاك فَلَا وقف (وتفارق مسئلة) التَّوَقُّف للاشتراك مسئلة (منع الْعَمَل بِهِ) أَي بالعالم (قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص بِأَن الْبَحْث) فِي هَذِه المسئلة (يظْهر المُرَاد من المفاهيم) الْمُشْتَرك فِيهَا اللَّفْظ (وَهُنَاكَ) أَي فِي مسئلة منع الْعَمَل إِلَى آخِره يظْهر (إِرَادَة الْمَفْهُوم المتحد) فِي الْوَضع: وَهُوَ الْعُمُوم من حَيْثُ أَنه ثَابت (لَا الْمجَاز) لم يرد الْمجَاز أَو بِالْعَكْسِ (وَلَو جعلت هَذِه) الْمَسْأَلَة (إِيَّاهَا) أَي مسئلة وجوب الْبَحْث عَن الْمُخَصّص (أشكل بِنَقْل الْإِجْمَاع فِيهَا) أَي فِي مسئلة وجوب الْبَحْث عَن الْمُخَصّص (بِخِلَاف هَذِه) فَإِنَّهُ نقل فِيهَا الْخلاف، وَالْمجْمَع عَلَيْهِ لَا يكون مُخْتَلفا فِيهِ (فَإِن قيل) الْإِجْمَاع الْمَذْكُور كَيفَ يَصح فَإِنَّهُ (إِن اشْتهر الْمجَاز: أَعنِي الْخُصُوص) فَإِن اللَّفْظ الْمَوْضُوع للْعُمُوم إِذا أُرِيد بِهِ الْبَعْض كَانَ مجَازًا لَا محَالة (فَلَا إِجْمَاع على التَّوَقُّف) حِينَئِذٍ، بل يعْمل بالخصوص بِلَا توقف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يشْتَهر ذَلِك فِيهِ (فَكَذَلِك) لَا إِجْمَاع على التَّوَقُّف أَيْضا لوُجُوب الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ حِينَئِذٍ، وَهِي الْعُمُوم (فَالْجَوَاب قد يَقع التَّرَدُّد فِيهِ) أَي فِي الْخُصُوص باشتباه الْقَرَائِن (والمزاحمة) أَي مزاحمة مَا يُوجب الِاحْتِمَال (فَيلْزم حكم الْمُجْمل) وَهُوَ التَّوَقُّف إِلَى أَن يظْهر المُرَاد مِنْهُ بطريقه (وَهُوَ) أَي التَّرَدُّد بِاعْتِبَار احْتِمَال الْخُصُوص (ثَابت فِي خُصُوص هَذِه الْحَقِيقَة بِسَبَب) مَا تقرر من أَنه (مَا من عَام إِلَّا وَقد خص) حَتَّى هَذَا الْعَام أَيْضا بقوله - {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} - وَنَحْوه (وَجَوَابه) أَي جَوَاب الْإِجْمَال بِنَاء على القَوْل بالاشتراك أَو الْوَقْف فِي ذَلِك (بطلَان الِاشْتِرَاك وَالْوَقْف كَمَا تقدم) فِي الْبَحْث الثَّانِي وَالله سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوفق.
مسئلة
(نقل الْإِجْمَاع على منع الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص) وَمن ناقليه الْغَزالِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب (وَهُوَ) أَي النَّقْل الْمَذْكُور صِحَّته (إِمَّا لعدم اعْتِبَار قَول الصَّيْرَفِي) وَهُوَ أَنه يتَمَسَّك بِهِ ابْتِدَاء مَا لم يظْهر مُخَصص (لقَوْل إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه) أَي قَول الصَّيْرَفِي (لَيْسَ من مبَاحث الْعُقَلَاء، بل صدر عَن غباوة وعناد، وَأما لتأويله) أَي قَول الصَّيْرَفِي كَمَا ذكر الْعَلامَة الشِّيرَازِيّ (بِوُجُوب اعْتِقَاد الْعُمُوم قبل ظُهُور الْمُخَصّص، فَإِن ظهر) الْمُخَصّص (تغير) اعْتِقَاد الْعُمُوم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يظْهر (اسْتمرّ) اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَاعْترض عَلَيْهِ المُصَنّف رَحمَه الله بقوله (وَقد يُقَال الْفرق) بَين الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل بِإِيجَاب الِاعْتِقَاد قبل الْبَحْث وَعدم تَجْوِيز(1/230)
الْعَمَل قبله (تحكم) كَيفَ والاعتقاد إِنَّمَا هُوَ هُوَ للْعَمَل، وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى أَن الْفرق بَين الْعَام وَغَيره من النُّصُوص بِإِيجَاب اعْتِقَاد ظَاهره من غير بحث تحكم فَتَأمل (وَكَلَام الْبَيْضَاوِيّ) فِي نقل مذْهبه من أَنه يسْتَدلّ بِالْعَام مَا لم يظْهر الْمُخَصّص وَابْن سُرَيج أوجب طلبه (لَا يحْتَمل ذَلِك التَّأْوِيل فَلَا ينْصَرف عَنهُ) أَي عَن قَول الصَّيْرَفِي (قَول الإِمَام) من أَنه لَيْسَ من مبَاحث الْعُقَلَاء إِلَى آخِره (وَمثله) أَي الْعَام فِي منع الْعَمَل بِهِ قبل الْبَحْث (كل دَلِيل يُمكن معارضته) فَلَا يجوز الْعَمَل بِدَلِيل مَا قبل الْبَحْث عَن وجود الْمعَارض (وَهَذَا لِأَنَّهُ) أَي الدَّلِيل (لَا يتم دَلِيلا) مُوجبا للْعَمَل (إِلَّا بِشَرْط عَدمه) أَي الْمعَارض (فَيلْزم الِاطِّلَاع على الشَّرْط) وَهُوَ عدم الْمعَارض (فِي الحكم بالمشروط) وَهُوَ الْعَمَل بِهِ هَذَا، وَنقل الشَّارِح عَن السُّبْكِيّ منع الْإِجْمَاع الْمَنْقُول وَإِن الْأُسْتَاذ أَبَا إِسْحَاق الإسفرايني وَالشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالْإِمَام الرَّازِيّ حكوا الْخلاف فِي هَذِه المسئلة، وَأَن الْأُسْتَاذ حكى الِاتِّفَاق على التَّمَسُّك بِالْعَام فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْبَحْث عَن تَخْصِيص لتأكد انْتِفَاء احْتِمَال الْمُخَصّص ثمَّة (وَالْخلاف فِي قدر الْبَحْث، وَالْأَكْثَر) على أَنه يبْحَث (إِلَى أَن يغلب ظن عَدمه) أَي الْمُخَصّص (وَعَن القَاضِي أبي بكر إِلَى الْقطع بِهِ) أَي بِعَدَمِهِ (لنا لَو شَرط) الْقطع بِهِ (بَطل) الْعَمَل بِهِ بِأَكْثَرَ العمومات الْمَعْمُول بهَا اتِّفَاقًا إِذْ الْقطع لَا سَبِيل إِلَيْهِ غَايَة الْأَمر عدم الوجدان بعد بذل الْجهد فِي الْبَحْث (قَالُوا) أَي القَاضِي وَمن تبعه (إِذا كثر بحث الْمُجْتَهد) عَن الْمُخَصّص (وَلم يجد قَضَت الْعَادة بِعَدَمِ الْوُجُوب) أَي بِالْقطعِ بِعَدَمِهِ (أُجِيب بِالْمَنْعِ، فقد يجد) الْمُجْتَهد الْمُخَصّص (بعد الْكَثْرَة) أَي بعد كَثْرَة بَحثه عَنهُ، وَحكمه بِالْعُمُومِ (ثمَّ يزِيد) فِي الْبَحْث (فَيرجع) إِلَى الْعُمُوم.
مسئلة
(صِيغَة جمع الْمُذكر) السَّالِم، لم يُقَيِّدهُ بِهِ، لِأَنَّهُ الْمُتَبَادر مِنْهُ عرفا (وَنَحْو الْوَاو فِي فعلوا) ويفعلون، وافعلوا (هَل يَشْمَل النِّسَاء وضعا، نَفَاهُ) أَي نفي الشُّمُول وضعا إيامن (الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ (إِلَّا فِي تَغْلِيب) الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، لِأَن الشُّمُول فِي التغليب على سَبِيل الْمجَاز (خلافًا للحنابلة) وَاتَّفَقُوا على أَن مثل الرِّجَال بِمَا يخص الذُّكُور بِحَسب الْمَادَّة لَا يشملهن كَمَا أَن النِّسَاء تخص الأناث (للْأَكْثَر) قَوْله تَعَالَى {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} إِذْ لَو دخلت المسلمات فِي الْمُسلمين للَزِمَ التّكْرَار ثمَّ إِنَّه لما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه لم لَا يجوز أَن ذكر المسلمات من قبيل التَّأْكِيد وَالتَّصْرِيح بِمَا علم ضمنا؟ قَالَ (وَفَائِدَة الِابْتِدَاء) أَي الإفادة ابْتِدَاء (أولى فِي النصوصية بعد التَّنَاوُل) من حَيْثُ الْعُمُوم تناولا (ظَاهرا)(1/231)
يَعْنِي سلمنَا أَن مَا ذكرت لَهُ وَجه، لَكِن حمل الْكَلَام البليغ على الْوَجْه الأبلغ أولى، وَلَا شكّ أَن الإفادة خير من الْإِعَادَة، وَإِنَّمَا قَالَ ظَاهرا لِأَن تنَاول الْعَام لجَمِيع الْأَفْرَاد لَيْسَ على سَبِيل النصوصية، بل بِحَسب الظُّهُور (وَسَببه) أَي وللأكثر أَيْضا سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة (وَهُوَ قَول أم سَلمَة: يَا رَسُول الله إِن النِّسَاء قُلْنَ مَا نرى الله ذكر إِلَّا الرِّجَال، فأنزلت) على مَا روى (فِي مُسْند أَحْمد من طَرِيق أم سَلمَة) أَي من طَرِيق يَنْتَهِي إِلَى رِوَايَة أم سَلمَة (وَمن طَرِيق أم عمَارَة وَحسنه) أَي الحَدِيث الْمَذْكُور (التِّرْمِذِيّ) وَتعقبه الشَّارِح بِأَن ظَاهر عبارَة المُصَنّف أَن لفظ الحَدِيث هَكَذَا فِي مسئلة أَحْمد من الطَّرِيقَيْنِ، وَحسنه التِّرْمِذِيّ وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْمَذْكُور فِي مُسْنده بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ، وَبَينه غير أَن الْمَذْكُور فِيهِ حَاصله أَنَّهُنَّ نفين ذكرهن مُطلقًا (فقرر) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (النَّفْي) وَلَو كن داخلات لم يقررهن عَلَيْهِ بِكُل مَنعهنَّ مِنْهُ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن نفيهن مَعَ قطع النّظر عَن تَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة بقوله (وَهن أَيْضا من أهل اللِّسَان) كَمَا أَن الرِّجَال من أَهله، فَلَو كَانَت النِّسَاء دَاخِلَة فِي صِيغَة جمع الْمُذكر وضعا لما نفين (قَالُوا) أَي الْحَنَابِلَة (صَحَّ) إِطْلَاقه (للمذكر والمؤنث) كاهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا: خطابا لآدَم، وحواء، وإبليس (كَمَا للمذكر فَقَط، وَالْأَصْل) فِي الْإِطْلَاق (الْحَقِيقَة أُجِيب بِلُزُوم الِاشْتِرَاك) اللَّفْظِيّ على هَذَا التَّقْدِير، وَفِيه نظر لجَوَاز الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ بَين الرِّجَال فَقَط، وَبينهمْ وَالنِّسَاء مختلطين (وَالْمجَاز خير) مِنْهُ (وَاعْلَم أَن من الْمُحَقِّقين) وَهُوَ ابْن الْحَاجِب (من يُورد دليلهم) أَي الْحَنَابِلَة (هَكَذَا: الْمَعْرُوف) من أهل اللِّسَان (تَغْلِيب الذُّكُور) على الأناث، وَهَكَذَا إِنَّمَا يتَصَوَّر بِدُخُول النِّسَاء فِيهِ (ثمَّ يُجيب بِكَوْنِهِ) أَي بِكَوْن لفظ الْجمع (إِذن) أَي إِذْ كَانَ دخولهن على سَبِيل التغليب (مجَازًا، وَأَنه خير الخ) أَي من الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ (وَهُوَ) أَي إِيرَاد دليلهم هَكَذَا (بعيد) مِنْهُم (إِذْ اعترافهم بالتغليب اعْتِرَاف بالمجاز) لِأَنَّهُ نوع مِنْهُ (وعَلى كل تَقْدِير) من إِيرَاد دليلهم هَكَذَا، وإيراده على مَا ذكر قبل (فالانفصال) أَي الْجَواب عَن دليلهم سمى بِهِ لِأَنَّهُ ينْفَصل بِهِ الْمُجيب عَن الْمُنَازعَة (بِكَوْن الْمجَاز خيرا إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِيّ) أَي فِيمَا إِذا كَانَ مُرَاد الْمُسْتَدلّ الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ (وَيُمكن ادعاؤهم) أَي الْحَنَابِلَة الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ: أَي هُوَ) أَي جمع الْمُذكر وَنَحْوه (للأحد الدائر فِي عقلاء المذكرين منفردين أَو مَعَ الأناث، فَلَا يتم) الِانْفِصَال الْمَذْكُور لِأَن الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ خير من الْمجَاز (وَيدل عَلَيْهِ) أَي على كَونه للمشترك الْمَعْنَوِيّ (شُمُول الْأَحْكَام الْمُعَلقَة بالصيغة) لَهُنَّ أَيْضا كوجوب الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام إِلَى غير ذَلِك، وتساويهم فِي الْأَحْكَام يُنَاسب ويلائم تساويهم فِي كَيْفيَّة شُمُول اللَّفْظ (فَإِن قيل) شمولها لَهُنَّ(1/232)
(بِخَارِج) أَي بِدَلِيل خَارج عَن تِلْكَ النُّصُوص كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِنَّمَا النِّسَاء شقائق الرِّجَال " وَالْإِجْمَاع (منع) ذَلِك فَإِن قلت هَذَا منع على الْمَنْع فَلَا يسمع قُلْنَا المُرَاد مِنْهُ الْإِبْطَال وَحَاصِله أَنه علم بالتتبع عدم دَلِيل خارجي، إِذْ لَا يُوجد معِين من الْخَارِج فِي كل مَادَّة يُفِيد الشُّمُول (فَإِن اسْتدلَّ) على عدم الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ (بِعَدَمِ دخولهن) فِي الجموع الْوَارِدَة (فِي الْجِهَاد وَالْجُمُعَة وَغَيرهمَا) كحل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين فِي قَوْله تَعَالَى - {وَجَاهدُوا فِي الله} ، {واسعوا إِلَى ذكر الله} ، {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} - (لعدمه) أَي لعدم، دخولهن فِيهَا، وَهَذَا يدل على عدم دخولهن وضعا فِي الصِّيَغ الْمَذْكُورَة، ودخولهن فِيهَا فِي بعض الْأَحْكَام بِخَارِج (فقد يُقَال) فِي الْجَواب عَن الاستذلال الْمَذْكُور (بل ذَلِك) أَي عدم دخولهن فِيمَا إِذا لم يدخلن فِيهِ (بِخَارِج) عَنْهَا (وَهُوَ) أَي عدم دخولهن فِيمَا ذكر بِخَارِج (أولى من دخولهن) فِيمَا دخلن فِيهِ (بِهِ) أَي بِخَارِج (لِأَنَّهُ) أَي عدم دخولهن (أقل، وَإسْنَاد الْأَقَل إِلَى الْخَارِج أولى) من إِسْنَاد الْأَكْثَر تعليلا لخلاف الظَّاهِر (خُصُوصا بعد تَرْجِيح) الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ) على اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز، ثمَّ الْخَارِج الْمخْرج لَهُنَّ مِمَّا ذكر الْإِجْمَاع وَالسّنة (وَلَا حَاجَة بعد ذَلِك) أَي بعد تَرْجِيح الْمَعْنَوِيّ بِمَا ذكر من دلَالَة شُمُول الْأَحْكَام، وَإسْنَاد الْأَقَل إِلَى الْخَارِج (إِلَى الِاسْتِدْلَال) لدخولهن حَقِيقَة (بالإيصاء لرجال وَنسَاء) أَي بِأَن يوصى شخص بِمَال لرجال وَنسَاء، وَفِي بعض النّسخ لِنسَاء وَرِجَال (ثمَّ قَوْله أوصيت لَهُم) فَإِن الضَّمِير فِي لَهُم عبارَة عَن مَجْمُوع مَا صرح بِهِ أَولا إِجْمَاعًا على أَنه يرد عَلَيْهِ أَن تقدم الجمعين الخاصين قرينَة إرادتهما جَمِيعًا، فَلَا يثبت دخولهن حَقِيقَة بِهِ (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين يرجح قَول الْحَنَابِلَة (فقولها) أَي أم سَلمَة نقلا عَنْهُن (مَا نرى الله ذكرهن) مؤول (أَي) مَا نرى الله ذكرهن (باستقلال وَلَا يخفى عدم تحقق الْخلاف) بَين الْفَرِيقَيْنِ (فِي نَحْو زيدون) من صِيغ جمع الْمُذكر للاتفاق على عدم دخولهن فِيهِ، لِأَنَّهُ مَوْضُوع بِحَسب الْمَادَّة للذكور خَاصَّة (إِلَّا بِفَرْض امْرَأَة مُسَمَّاة بزيد) فَإِن الْعلم إِذا ثني أَو جمع ثمَّ نكر وأبيد بِهِ الْمُسَمّى، وَإِلَّا مرأة الْمَذْكُورَة مِمَّن سمي بِهِ (وَأما أَسمَاء الْأَجْنَاس كمسلمون) مِمَّا يخص بِالذكر وضعا (فقد يسْتَدلّ بِهِ) للْأَكْثَر على عدم دخولهن فِيهَا وضعا (للاتفاق على أَنه جمع الْمُذكر، وَالْجمع لتضعيف الْوَاحِد، وَهُوَ مُسلم) فِي هَذَا الْمِثَال لَا مسلمة (وَلَهُم) أَي الْحَنَابِلَة (دَفعه) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (بِأَن الْجمع للتضعيف الْوَاحِد (لَكِن الْكَلَام فِي كَونه) أَي فِي كَون ذَلِك (الْوَاحِد الْمُذكر لَيْسَ غير) أَو والمؤنث أَيْضا، وَفِيه أَنه لَا بُد لذَلِك الْوَاحِد الَّذِي الْجمع تَضْعِيفه من لفظ معِين وضعا، وَإِذا اعْتبر(1/233)
معنى دائر بَين الْمُذكر والمؤنث لم يُوجد لَهُ لفظ كَذَا وَجعل الجموع كلهَا مِمَّا لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه مِمَّا لَا يَقُول بِهِ أحد، غير أَن الْمَفْهُوم من كَلَامه الْآتِي أَن كل وَاحِد من الْمُسلم والمسلمة مُفْرد لَهُ، وَفِيه مَا فِيهِ ثمَّ لما توجه عَلَيْهِ إطباقهم على التَّسْمِيَة بِجمع الْمُذكر لَا الْمُذكر والمؤنث: أجَاب عَنهُ بقوله (وتسميته بِجمع الْمُذكر اصْطِلَاح) لأهل الْعَرَبيَّة، لَا للْعَرَب فَلَا يقوم بِهِ الْحجَّة (فَإِن قيل) لَو كَانَ الْمُسلمُونَ جمعا لمسلمة أَيْضا وَهُوَ جمع سَلامَة (فَأَيْنَ تذْهب التَّاء فِي مسلمة الَّتِي هِيَ من آحاده قيل) فِي جَوَاب هَذِه الأشكال ذهبت (مذهبها) أَي مثل ذهابها، فعلى هَذَا مصدر ميمي، وَيجوز أَن يكون اسْم مَكَان: أَي ذهبت فِي مَذْهَب مثل مذهبها (فِي صَوَاحِب أَو طلحون على رَأْي أَئِمَّة الْكُوفَة) وَابْن كيسَان إِلَّا أَنه فتح اللَّام فِي طلحون قِيَاسا على أرضون، وَمنعه البصريون وَقَالُوا إِنَّمَا يجمع على طلحات كَمَا هُوَ المسموع، والخلو من تَاء التَّأْنِيث الْمُغَايرَة لما فِي عدَّة، وثبة علمين شَرط لهَذَا الْجمع، فَالْقَوْل بِأَنَّهَا ذهبت مذهبها فِي طلحون أولى، لِأَن كلا مِنْهُمَا تَصْحِيح، بِخِلَاف صَوَاحِب (وَالْوَجْه أَن الِاسْتِدْلَال بِتَسْمِيَة جمع الْمُذكر من كل أَئِمَّة اللُّغَة اسْتِدْلَال بإجماعهم) على أَنه تَضْعِيف الْوَاحِد الْمُذكر لَا الْمُخْتَلط (وَإِلَّا لقالوا جمع الْمُخْتَلط وَالْأَصْل عدم التغليب فِي التَّسْمِيَة) فَلَا يرد أَنه لم لَا يجوز أَن يكون عِنْدهم جمع الْمُخْتَلط غير أَنهم غلبوا جَانب الذُّكُور فِي التَّسْمِيَة على الأناث، فَإِن التغليب خلاف الظَّاهِر (بل يجب) عَدمه على تَقْدِير كَونه جمع الْمُخْتَلط (دفعا للوهم) الْحَاصِل من التَّسْمِيَة (فَحَيْثُ قَالُوهُ) أَي جمع الْمُذكر (كَانَ) هَذَا الْجمع (ظَاهرا فِي الْخُصُوص) أَي فِي الذُّكُور (وَيدْفَع) هَذَا بِأَنَّهُ (لما لزمَه الذُّكُور) لفظ جمع الْمُذكر كَانَ هَذَا الْجمع ظَاهرا فِي الْخُصُوص (حَيْثُ كَانَ) مَوْضُوعا (للأعم مِنْهُم) أَي من الذُّكُور خَاصَّة بِأَن يُرَاد بِهِ الذُّكُور مُطلقًا حَال كَونهم (منفردين أَو مختلطين كَانَ نسبته) أَي جمع الْمُذكر حَيْثُ كَانَ مَوْضُوعا للأعم مِنْهُم: أَي من الذُّكُور خَاصَّة بِأَن يُرَاد بِهِ الذُّكُور مُطلقًا حَال كَونهم منفردين، أَو مختلطين كَانَ نسبته: أَي جمع الْمُذكر (إِلَيْهِم) أَي لذكور (أولى من) هَا: أَي من نسبته إِلَى (الْمُخْتَلط، إِذْ لَا يلْزمه) أَي الْمُخْتَلط لفظ الْجمع لمفارقته إِيَّاه فِيمَا إِذا أُرِيد بِهِ الذُّكُور منفردين (وَحِينَئِذٍ ترجح الْحَنَابِلَة) أَي قَوْلهم (وَهُوَ) أَي قَوْلهم (قَول الْحَنَفِيَّة، وَعَلِيهِ) أَي على القَوْل بتناول جمع الْمُذكر الأناث (فرع) قَول الْمُسْتَأْمن: (أمنوني على بني) فَأعْطى الْأمان على بنيه (تدخل بَنَاته) تَحت عُمُوم لفظ بني، فيشملهن الْأمان (وَالْأَظْهَر خصوصه) أَي اخْتِصَاص بني بالذكور (لتبادر خصوصهم) أَي الذُّكُور فِي خُصُوص هَذَا الْجمع (عِنْد الْإِطْلَاق) من غير قرينَة، والتبادر عِنْده بِدُونِهَا أَمارَة الْحَقِيقَة (وَدخُول(1/234)
الْبَنَات) فِي الْأمان على الْبَنِينَ، للِاحْتِيَاط فِي الْأمان (حَيْثُ كَانَ) الْعُمُوم (مِمَّا تصح إِرَادَته) مجَازًا.
مسئلة
(هَل الْمُشْتَرك عَام استغراقي فِي) أَفْرَاد كل وَاحِد من (مفاهيمه) أَي مسمياته مَعًا فِي إِطْلَاق وَاحِد بِاعْتِبَار أوضاعه المتعددة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ثَمَرَة هَذَا الِاسْتِغْرَاق بقوله (فَالْحكم عَلَيْهِ) أَي الْمُشْتَرك (يتَعَلَّق بِكُل مِنْهَا) أَي من أَفْرَاد تِلْكَ المفهومات، فَكَأَنَّهُ مَدْخُول كل الإفرادي (لَا الْمَجْمُوع) أَي الحكم عَلَيْهِ لَا يتَعَلَّق بِمَجْمُوع تِلْكَ المفاهيم من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع ليَكُون مثل مَدْخُول كل الْمَجْمُوع نَحْو: كلهم يحمل هَذِه الصَّخْرَة فَلَا يكون حِينَئِذٍ كل فَرد من مفاهيمه مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِمَا حكم بِهِ عَلَيْهِ (فَعَن الشَّافِعِي نعم) أَي يعم الْمُشْتَرك أَفْرَاد كل وَاحِد من مفاهيمه حَقِيقَة: نَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزالِيّ، والآمدي وَفِي الشَّرْح العضدي عَنهُ أَنه ظَاهر فيهمَا دون أَحدهمَا خَاصَّة، فَيحمل على التجرد عَن الْقَرَائِن عَلَيْهِمَا، وَهُوَ عَام فيهمَا، وَالْعَام عِنْده قِسْمَانِ: مُتَّفق الْحَقِيقَة، ومختلف الْحَقِيقَة (و) عَن (الْحَنَفِيَّة لَا) يعم حَقِيقَة (وَلَا مجَازًا) وَوَافَقَهُمْ البصريان: أَبُو الْحُسَيْن، وَأَبُو عبد الله، وَأَبُو هَاشم وَغَيرهم (فَقيل) لَا يَصح (لُغَة) وَيصِح عقلا (كالغزالي) أَي كَمَا قَالَ هُوَ وَأَبوهُ الْحُسَيْن، وَالْإِمَام الرَّازِيّ (وَقيل) لَا يَصح (عقلا) : اخْتَارَهُ صدر الشَّرِيعَة. قَالَ (الْآمِدِيّ يَصح مجَازًا) وَإِلَيْهِ ذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب (وَقيل) يَصح (فِي النَّفْي فَقَط حَقِيقَة وَعَلِيهِ) أَي على هَذَا القَوْل (فرع فِي وَصَايَا الْهِدَايَة. وَفِي الْمَبْسُوط حلف: لَا أكلم مَوْلَاك) وَهُوَ مُشْتَرك بَين الْمُعْتق وَالْمُعتق (وَله) موَالِي (أعلون) يشملهم اللَّفْظ بِالْمَعْنَى الأول (و) موَالِي (أسفلون) يشملهم بِالْمَعْنَى الثَّانِي (أَيهمْ) أَي أَي وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ (كلم) هم الْحَالِف (حنث، لِأَن الْمُشْتَرك فِي النَّفْي يعم) كل فَرد من كل وَاحِد من مفاهيمه (وَهُوَ الْمُخْتَار، وَالْقَاضِي، والمعتزلة) . قَالُوا (يَصح حَقِيقَة، فَإِن) كَانَت صِحَة إِطْلَاقه حَقِيقَة (للْعُمُوم) أَي لعمومه فِي مفاهيمه من غير أَن يكون مَوْضُوعا للْكُلّ بِوَضْع مُسْتَقل غير وَضعه لكل مِنْهُمَا بِوَضْع على حِدة (فكقول الشَّافِعِي) رَحمَه الله: أَي فَقَوْلهم كَقَوْلِه (أَو) كَانَت صِحَّته (للاشتراك فِي كلهَا وكل مِنْهَا) بِأَن يكون مَوْضُوعا للمجموع بِوَضْع مُسْتَقل، وَلكُل مِنْهَا بأوضاع مُتعَدِّدَة، فَعِنْدَ اسْتِعْمَاله فِي الْكل يكون الملحوظ وَضعه للْكُلّ، لَا وَضعه للْكُلّ وَلكُل وَاحِد، لِأَنَّهُ الأول: يَعْنِي وَالْفرق بَين هَذَا، وَقَول الشَّافِعِي أَن الشَّافِعِي(1/235)
رَحمَه الله لَا يَقُول باشتراكه بَين الْكل وكل مِنْهَا، بل يَقُول بِالْعُمُومِ الاستغراقي والحقيقة بِمُجَرَّد اشتراكه بَين مَعَانِيه (أَو لَيْسَ) الْأَمر (كَذَلِك) أَي لَا الْعُمُوم وَلَا للاشتراك فِي كلهَا، وكل مِنْهُمَا (فمباين لَهُ) أَي فَقَوْلهم مباين لقَوْل الشَّافِعِي رَحمَه الله (فَلَيْسَ مَذْهَب الشَّافِعِي أخص مِنْهُ) أَي من قَول القَاضِي (كَمَا قيل) قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْمُشْتَرك (حَقِيقَة) فِي كل من مَعَانِيه (يتَوَقَّف السَّامع فِي المُرَاد بهَا) أَي بِتِلْكَ الْحَقِيقَة (إِلَى الْقَرِينَة) الْمعينَة لإجماله فِي مَعَانِيه (ومذهبه) أَي الشَّافِعِي أَنه (لَا يتَوَقَّف) السَّامع فِي المُرَاد بهَا إِلَى الْقَرِينَة لظُهُوره فِي الْعُمُوم، وَالْمذهب الْمُخْتَار لنا وللقاضي فِي الْمُشْتَرك هُوَ الْمَجْمُوع من كَونه حَقِيقَة وَكَونه بِحَيْثُ يتَوَقَّف السَّامع فِي المُرَاد بِهِ إِلَى الْقَرِينَة، فَكيف يكون مَذْهَب الشَّافِعِي أخص من مَذْهَب القَاضِي (وَالْمذهب: هُوَ الْمَجْمُوع لَا مُجَرّد كَونه حَقِيقَة، وَوُجُود مُشْتَرك بَينهمَا) أَي بَين قَول الشَّافِعِي وَالْقَاضِي (هُوَ صِحَة إِطْلَاقه عَلَيْهِمَا لَا يُوجب الأخصية) الْمَذْكُورَة (ككل متباينين تَحت جنس) كالإنسان وَالْفرس تَحت الْحَيَوَان (وَعَن الشَّافِعِي رَحمَه الله يعم) الْمُشْتَرك جَمِيع مَعَانِيه (احْتِيَاطًا) نَقله الإِمَام الرَّازِيّ (وَهُوَ أوجه النقلين عَنهُ للاتفاق على أَنه) أَي الْمُشْتَرك (حَقِيقَة فِي أَحدهمَا) أَي اتَّفقُوا على أَن الْمُشْتَرك بَين الْمَعْنيين إِذا اسْتعْمل فِي كل مِنْهُمَا مُنْفَردا فَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ (فظهوره فِي الْكل) على سَبِيل الِاسْتِغْرَاق الإفرادي بِحَيْثُ لَا يخرج عَنهُ فَرد من أَفْرَاد شَيْء من مفهوميه (فرع كَونه حَقِيقَة فِيهِ أَيْضا) أَي فِي الْكل، لِأَن اللَّفْظ لَا يكون ظَاهرا فِي معنى بِحَيْثُ يتَبَادَر إِلَى لذهن من غير حَاجَة إِلَى قرينَة عِنْد إِطْلَاقه، إِلَّا إِذا كَانَ حَقِيقَة فِيهِ (وَهُوَ) أَي كَونه حَقِيقَة فِي الْكل إِنَّمَا يتَحَقَّق (بِوَضْعِهِ) أَي اللَّفْظ (لَهُ) أَي للْكُلّ (أَيْضا) أَي كَمَا أَنه وضع لكل وَاحِد مِنْهُمَا (فَلَزِمَ) كَون الْكل (مفهوما آخر) لَهُ (فتعميمه) أَي الْمُشْتَرك (اسْتِعْمَال فِي أحد مفاهيمه) وَهُوَ الْكل (لِأَن فِيهِ) أَي فِي اسْتِعْمَاله فِي الْكل (الِاحْتِيَاط) لما فِيهِ من الْخُرُوج عَن الْعهْدَة يتَعَيَّن لجَوَاز لُزُوم تَعْطِيل الْبَعْض على تَقْدِير عدم إِرَادَة الْكل، وَيرد عَلَيْهِ أَنا لَا نسلم الِاحْتِيَاط فِيمَا إِذا كَانَ الأَصْل فِي الحكم المفاد بالمشترك الْحَظْر، فَإِن الِاحْتِيَاط حِينَئِذٍ تقليل ارْتِكَاب مَا هُوَ الْمَحْظُور قبل وُرُوده وَهُوَ بِحمْلِهِ على الْبَعْض (جعله) أَي الشَّافِعِي الِاحْتِيَاط (كالقرينة) لإِرَادَة الْكل، وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي كَونه مُجملا أَو عَاما فِيمَا إِذا وقف على موَالِيه، وَلَيْسَ لَهُ موَالٍ إِلَّا من أَعلَى أَو أَسْفَل، فعلى الْإِجْمَال وجود أحد الْفَرِيقَيْنِ فَقَط قرينَة لإِرَادَة أحد الْمَعْنيين، فَلَا يدْخل فِي الْوَقْف من حدث بعد الْوَقْف من الْفَرِيق الآخر، وعَلى الْعُمُوم يدْخل وَهُوَ ظَاهر كَمَا لَو وقف على أَوْلَاده وَله أَوْلَاد، ثمَّ حدث آخر يشاركهم (وَالْجمع كالواحد عِنْد الْأَكْثَر) أَي جمع الْمُشْتَرك بِاعْتِبَار مفاهيمه كالعيون بِاعْتِبَار(1/236)
الباصرة وَالْجَارِيَة، وَالشَّمْس كالمفرد الْمُشْتَرك فِي جَوَاز إِطْلَاقه على مَعَانِيه دفْعَة، وَعَدَمه عِنْد أَكثر الْأُصُولِيِّينَ، فَمن أجَاز فِي الْمُفْرد ذَلِك أجَاز جمعه باعتبارها، وَمن منع فِي الْمُفْرد منع فِي الْجمع ذَلِك، وَمن فصل ثمَّة فصل هُنَا، لِأَن الْجمع يتبع مفرده (وَأَجَازَهُ) أَي جمعه بِاعْتِبَار مَعَانِيه (آخَرُونَ مَعَ مَنعه) أَي منع جَوَاز إِطْلَاقه على مَعَانِيه دفْعَة (فِي الْمُفْرد لِأَنَّهُ) أَي الْجمع (فِي قُوَّة المتعدد بالْعَطْف) فَكَأَنَّهُ اسْتعْمل كل مُفْرد فِي معنى وَأجِيب بِالْمَنْعِ أَولا، وعَلى التَّسْلِيم لَيْسَ فِي قُوَّة المتعدد مُطلقًا، بل المتعدد من نوع وَاحِد بِشَهَادَة الِاسْتِغْرَاق والتثنية مُلْحقَة بِالْجمعِ وللنحويين فيهمَا مذهبان، الْجَوَاز وَعَدَمه: وَهُوَ الْمَشْهُور (وَشرط تعميمه) أَي الْمُشْتَرك فِي مفاهيمه (مُطلقًا) مُفردا كَانَ أَو مثنى أَو مجموعا (إِمْكَان الْجمع) بَينهَا فَلَا يعم صِيغَة أفعل فِي الْإِيجَاب والتهديد لعدم إِمْكَانه، لِأَن الْإِيجَاب يَقْتَضِي الْفِعْل، والتهديد التّرْك (والاتفاق على مَنعه) أَي منع اسْتِعْمَاله حَقِيقَة (فِي الْمَجْمُوع) أَي مَجْمُوع مَعَانِيه من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع، قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: الثَّالِث إِطْلَاقه على مَجْمُوع الْمَعْنيين بِأَن يُرَاد بِهِ فِي إِطْلَاق وَاحِد الْمَجْمُوع الْمركب من الْمَعْنيين بِحَيْثُ لَا يُفِيد أَن كلا مِنْهُمَا منَاط الحكم، وَلَا نزاع فِي امْتنَاع ذَلِك حَقِيقَة وَفِي جَوَازه مجَازًا إِن وجدت علاقَة مصححه (فَلَا يتَعَلَّق الحكم إِلَّا بِهِ) أَي بالمجموع على ذَلِك التَّقْدِير (على خلاف الْعَام) فَإِن الحكم يتَعَلَّق فِيهِ بِكُل من أَفْرَاده (و) الِاتِّفَاق أَيْضا (على منع كَونه) أَي الْمُشْتَرك مُسْتَعْملا (فيهمَا) أَي معنييه مَعًا (حَقِيقَة) فِي أَحدهمَا (ومجازا) فِي الآخر (لنا) نعني الْحَنَفِيَّة فِي عدم استغراقه مفاهيمه (يسْبق إِلَى الْفَهم إِرَادَة أَحدهمَا) أَي معنى الْمُشْتَرك عِنْد إِطْلَاقه، يَعْنِي إِذا سمعنَا الْمُشْتَرك ينْتَقل ذهننا فَوْرًا إِلَى أَن مُرَاد الْمُتَكَلّم وَاحِد من مَعَانِيه لَا الْأَكْثَر (حَتَّى تبادر) إِلَى الذِّهْن (طلب الْمعِين) بِصِيغَة الْفَاعِل يَعْنِي أَن تبادر أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين سَبَب لتبادر طلب الْمعِين بِصِيغَة الْفَاعِل، فَالثَّانِي ينور الأول (وَهُوَ) أَي تبادر الآخر لَا على التَّعْيِين الْمُوجب لطلب الْمعِين (مُوجب الحكم بِأَن شَرط اسْتِعْمَاله) أَي الْمُشْتَرك (لُغَة) ظرف للشّرط وَنصب على الْمصدر: أَي اسْتِعْمَالا يَقْتَضِيهِ وضع اللُّغَة (كَونه) أَي كَون اسْتِعْمَاله وَاقعا (فِي أَحدهمَا) أَي معنييه، وَوجه إِيجَابه الحكم الْمَذْكُور أَنه لَوْلَا أَن الْوَاضِع اللّغَوِيّ اقْتضى أَن يذكر الْمُشْتَرك، وَيُرَاد بِهِ أحد مَعَانِيه فَقَط لم يتَبَادَر إِلَى الْفَهم إِنَّمَا يتبع مَا يَقْتَضِيهِ الْوَضع، وَلذَلِك قَالُوا تبادر الْمَعْنى إِلَى الْفَهم عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ دَلِيل كَونه حَقِيقَة فِيهِ (فاتنفى ظُهُوره) أَي الْمُشْتَرك (فِي الْكل) لِأَنَّهُ لَو كَانَ ظَاهرا فِيهِ لتبادر هُوَ إِلَى الْفَهم لَا أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين (وَمنع سبق) ذَلِك أَي إِرَادَة أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين (مُكَابَرَة تضمحل) تِلْكَ المكابرة (بِالْعرضِ) على عرف أهل الِاسْتِعْمَال، فَيُقَال لَهُم مَا تفهمون على الْفَوْر إِذا أطلق(1/237)
الْمُشْتَرك، وَيجوز أَن يُرَاد الْعرض على الوجدان، فَإِن كل أحد إِذا رَاجع وجدانه وجد ذَلِك (وإلزام كَونه) أَي الْمُشْتَرك (مُشْتَركا معنويا) لَا لفظيا، لِأَن مَفْهُوم أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين مُشْتَرك بَين الْمَعْنيين يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا وتبادره إِلَى الْفَهم دَلِيل كَونه مَوْضُوعا بإزائه (مَمْنُوع فَإِنَّهُ) أَي الْمُشْتَرك اللَّفْظِيّ (مَا) أَي لفظ (تعدّدت أوضاعه للمفاهيم) وَهَذَا الْمَعْنى صَادِق على لفظ الْمعِين مثلا، وَصدق التَّعْرِيف يسْتَلْزم تحقق الْمُعَرّف، وَلَيْسَ تبادر ذَلِك الْمَعْنى الْمُشْتَرك بِسَبَب وضع اللَّفْظ لَهُ، بل بِسَبَب وَضعه لكل وَاحِد من الْمَعْنيين المندرجين تَحْتَهُ على وَجه اقْتضى إِرَادَة الْبَعْض من المفاهيم: كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَشرط كَون اسْتِعْمَاله) أَي الْمُشْتَرك اللَّفْظِيّ (فِي الْإِثْبَات) أَي فِيمَا إِذا ثَبت لَهُ حكم، احْتِرَاز عَمَّا إِذا نفى عَنهُ، فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يعم على مَا تقدم (فِي بَعْضهَا) أَي المفاهيم خبر الْكَوْن، وَقَوله فِي الْإِثْبَات ظرف للاستعمال (كالمعنوي للأفراد) أَي كَمَا شَرط كَون اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك الْمَعْنَوِيّ الْمَوْضُوع لفرد مَا من أَفْرَاده على مَا هُوَ الْمُخْتَار فِي اسْم الْجِنْس فِي بعض تِلْكَ الْأَفْرَاد (فَلَزِمَ فيهمَا) أَي الْمَعْنَوِيّ واللفظي (تبادر الْأَحَد) غير أَن الْأَحَد فِي الْمَعْنَوِيّ أحد الْأَفْرَاد، وَفِي اللَّفْظِيّ أحد المفاهيم (والتوقف إِلَى الْمعِين) أَي توقف فهم مُرَاد الْمُتَكَلّم إِلَى مَا يعين ذَلِك الْأَحَد الْمُبْهم من الْقَرِينَة (فاشتركا) أَي الْمَعْنَوِيّ واللفظي (فِي لَازم) هُوَ التبادر والتوقف الْمَذْكُورَان (مَعَ تبَاين الحقيقتين) لما عرفت من اعْتِبَار تعدد الْوَضع فِي اللَّفْظِيّ، واتحاده فِي الْمَعْنَوِيّ وَغير ذَلِك (وَأَيْضًا اتِّفَاق المانعين لوُجُوده) أَي الْمُشْتَرك اللَّفْظِيّ (على تَعْلِيله) أَي تَعْلِيل الْمَنْع لوُجُوده (بِأَنَّهُ) أَي الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ (مخل بالفهم و) اتِّفَاق (المجيبين على أَن الْإِجْمَال مِمَّا يقْصد) فِي التخاطب (اتِّفَاق الْكل) خبر اتِّفَاق المانعين وَمَا عطف عَلَيْهِ (على نفي ظُهُوره) أَي الْمُشْتَرك (فِي الْكل) إِذْ أجمع الْفَرِيقَانِ على أَن الْمُشْتَرك إِذا أطلق مفاده الْإِجْمَال غير أَن أَحدهمَا حكم بِأَنَّهُ إخلال، وَالْآخر بِأَنَّهُ لَيْسَ بإخلال، بل هُوَ مِمَّا يقْصد (وَأَيْضًا لَو عَم) الْمُشْتَرك فِي معنييه (كَانَ مجَازًا) فِي أَحدهمَا (لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ) أَي حِين يُرَاد بِهِ أَحدهمَا (عَام مَخْصُوص) وَالْعَام الْمَخْصُوص مجَاز، لِأَنَّهُ حَقِيقَته الْعُمُوم من غير تَخْصِيص (لَا يُقَال ذَلِك) أَي لُزُوم كَونه مجَازًا عِنْد إِرَادَة أَحدهمَا مِنْهُ (لَو لم يكن مَوْضُوعا لَهُ) أَي لأَحَدهمَا أَيْضا، لكنه مَوْضُوع لَهُ غير أَنه حَقِيقَة محتاجة إِلَى الْقَرِينَة: (لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون مَوْضُوعا لَهُ أَيْضا (مُشْتَرك بَين الْكل وَالْبَعْض فَيلْزم التَّوَقُّف فِي المُرَاد مِنْهُمَا) أَي من الْكل وَالْبَعْض (إِلَى الْقَرِينَة) الْمعينَة لوَاحِد مِنْهُمَا بِعَيْنِه (فَلَا يكون ظَاهرا فِي الْكل) كَمَا عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله (فَلَو عَم) الْمُشْتَرك (فلغيره) أَي فهم الْكل دون أَحدهمَا فَقَط لَيْسَ لمُجَرّد تَعْبِير لكَونه مَوْضُوعا للْعُمُوم (كَمَا نقل عَن الشَّافِعِي) رَحمَه الله(1/238)
(أَنه) أَي عُمُومه (احْتِيَاط للْعلم) أَي ليحصل الْعلم (بِفعل المُرَاد) للمتكلم بالمشترك (قُلْنَا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ) إِلَى أَنه عَام فِي الْكل للِاحْتِيَاط (أَلا بِالْعلمِ بشرع مَا علم أَنه لم يشرع) يَعْنِي أَنه قد علم قبل حمل الْمُشْتَرك على الْعُمُوم أَن ذَلِك الحكم الْعَام لم يكن مَشْرُوعا، وَالنَّص الْمُشْتَمل على الْمُشْتَرك لَيْسَ بِنَصّ على الْعُمُوم، بل يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ بعض من ذَلِك الْعُمُوم، بل هُوَ الْمُتَبَادر لما مر، فالمتيقن بِمُجَرَّد ذَلِك النَّص مشروعيته للْبَعْض لَا الْكل، فالحمل على الْعُمُوم حكم بمشروعية حكم علم مشروعيته قبل الْحمل الْمَذْكُور بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال (وَهُوَ) أَي شرع مَا علم أَنه لم يشرع (حرَام) لِأَنَّهُ إِثْبَات حكم شَرْعِي من غير دَلِيل غير جَائِز إِجْمَاعًا وارتكاب الْمحرم يُنَافِي الِاحْتِيَاط فَإِن قلت قد وجدنَا فِي كثير من الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة إِيجَاب أَمر على وَجه مَعَ كَون نَصه مُحْتملا لغير إِيجَابه على ذَلِك الْوَجْه، مُعَللا بِالِاحْتِيَاطِ وَقصد خُرُوج الْمُكَلف عَن الْعهْدَة بِيَقِين فَيلْزم فِيهَا شرع مَا علم إِلَى آخِره قلت ذَلِك فِيمَا علم وجوب أصل الْفِعْل يَقِينا غير أَنه وَقع الشَّك فِي كيفيته وإيقاعه على بعض الكيفيات مُوجب لِلْخُرُوجِ عَن الْعهْدَة بِيَقِين، وَفِيمَا نَحن فِيهِ الْمُتَيَقن إِيجَاب أصل الْفِعْل فِي أَفْرَاد مَفْهُوم وَاحِد من مفاهيم الْمُشْتَرك وَبَينهمَا بون بعيد فَتَأمل (والتوقف) فِي الْعَمَل بالمشترك (إِلَى ظُهُور المُرَاد الإجمالي) وَهُوَ الْمعِين الَّذِي قصد من جملَة مفاهيمه وَلم يعلم بِمُجَرَّد إِطْلَاقه لما سبق من الدَّلِيل الْمُقْتَضى تبادر مَفْهُوم أحد الْمعَانِي لَا على التَّعْيِين (وَاجِب) فالحمل على الْعُمُوم من غير توقف إِلَى ظُهُور قرينَة دَالَّة على تعْيين المُرَاد ترك الْوَاجِب فَلَا يجوز (وَأما بُطْلَانه) أَي بطلَان عُمُومه فِي مَعَانِيه (مجَازًا، فلعدم العلاقة) بَين الْكل وَبَين أحد مَعَانِيه الَّذِي هُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه لَا نسلم عدم العلاقة، فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ جُزْء من الْمجَازِي: وَهُوَ من العلاقات الْمُعْتَبرَة قَالَ (والجزء) أَي وَاسْتِعْمَال اسْم الْجُزْء (فِي الْكل مَشْرُوط بالتركب الْحَقِيقِيّ) بِأَن يكون الْكل مركبا مِنْهُ وَمن غَيره فِي الْخَارِج بِحَيْثُ يصير شخصا وَاحِدًا وَلَا غَيره بالتركيب الاعتباري بِمُجَرَّد اعْتِبَار الْعقل (وَكَونه) أَي وبكون التَّرْكِيب بِحَيْثُ (إِذا انْتَفَى الْجُزْء انْتَفَى الِاسْم) أَي اسْم الْكل (عَن الْكل عرفا كالرقبة) أَي كإطلاق اسْم الرَّقَبَة (على الْكل) وَهُوَ الْإِنْسَان (بِخِلَاف الظفر) فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِي الْإِنْسَان بِانْتِفَاء الظفر أَو الْأصْبع، بل الْيَد وَإِنَّمَا قَالَ عرفا، لِأَنَّهُ لَا شكّ فِي انْتِفَاء الْمَجْمُوع الْمركب من الظفر مثلا بشخصه فِي نفس الْأَمر (و) بِخِلَاف إِطْلَاق (نَحْو الأَرْض لمجموع السَّمَوَات وَالْأَرْض) فَإِنَّهُ لَا يَصح لعدم التَّرْكِيب الْحَقِيقِيّ (على أَنه) أَي تَعْمِيم الْمُشْتَرك فِي مَعَانِيه (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من اسْتِعْمَال لفظ الْجُزْء فِي الْكل (لِأَنَّهُ) أَي الشَّأْن (لم يوضع لمجموعها) أَي المفاهيم: أَي لم يَقع بِإِزَاءِ الْمَجْمُوع وضع، وَلَا بُد(1/239)
فِي اسْتِعْمَال لفظ الْجُزْء فِي الْكل أَن يكون للْكُلّ اسْم وضع بإزائه (ليَكُون كل مَفْهُوم جُزْء مَا) أَي كل (وضع لَهُ اسْم خُصُوصا على قَول الْمجَاز) فَإِن الْقَائِل بِهِ معترف بِعَدَمِ وَضعه للْكُلّ، وَعدم وضع لفظ آخر لَا نزاع فِيهِ (وَأما صِحَّته) أَي صِحَة عُمُومه (فِي النَّفْي) كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (فَإِن الْمَنْفِيّ) أَي الْمَفْهُوم الَّذِي أُرِيد بالمشترك فنفى فِي سِيَاق النَّفْي (مَا يُسمى بِاللَّفْظِ) أَي لفظ الْمُشْتَرك، فَإِنَّهُ يتَنَاوَل كل وحد من مسمياته، وَعَن الْفَاضِل الْأَبْهَرِيّ أَنه لَا خلاف فِي صِحَة هَذَا ومجازيته كَمَا يؤول الْعلم بِمَا يقْضِي بِهِ عِنْد إِرَادَة تكبره وتثنيته وَجمعه، وَهَذَا التَّحْقِيق بِخِلَاف مَا نَقله عَن الْبَعْض أَنه حَقِيقَة. قَالَ (المصححون) عُمُوم الْمُشْتَرك فِي مَعَانِيه (حَقِيقَة) وَمَا (وضع) الْمُشْتَرك (لكل) من المفاهيم (فَإِذا قصد الْكل) أَي جَمِيعهَا بِهِ مَعًا (كَانَ) مُسْتَعْملا (فِيمَا وضع لَهُ قُلْنَا اسْم الْحَقِيقَة) إِنَّمَا يثبت بِاللَّفْظِ (بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالْوَضْعِ) أَي لَا بِمُجَرَّد الْوَضع (فَإِذا شَرط فِي الِاسْتِعْمَال) أَي اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك (عدم الْجمع) بَين مفاهيمه فِي الْإِرَادَة مِنْهُ دفْعَة لُغَة (امْتنع) اسْتِعْمَاله فِي الْجَمِيع (لُغَة) وَالْعلم بِالشّرطِ الْمَذْكُور إِنَّمَا حصل بالمتبع والاستقراء للغة فَحَيْثُ لم يَجدوا اسْتِعْمَاله فِي الْكل أصلا عمِلُوا بِهِ وَبِمَا سيشير إِلَيْهِ (فَلَو اسْتعْمل) فِي الْجَمِيع (كَانَ خطأ فضلا عَن كَونه حَقِيقَة) فِيهِ (فَيمْتَنع وجوده) أَي وجود اسْتِعْمَاله فِي الْجَمِيع (فِي لِسَان الشَّرْع واللغة) أما اللُّغَة فقد عرفت، وَأما الشَّرْع فَلِأَنَّهُ لَا يكون الِاسْتِعْمَال الشَّرْعِيّ على خلاف الِاسْتِعْمَال اللّغَوِيّ فِيمَا شَرط فِي مُطلق الِاسْتِعْمَال، وَهُوَ ظَاهر (وَدَلِيل الِاشْتِرَاط) بِالشّرطِ الْمَذْكُور (مَا قدمنَا) من تبادر الْأَحَد لَا على التَّعْيِين عِنْد إِطْلَاقه (قَالُوا) أَي المجوزون فِي دفع الِامْتِنَاع (وَقع) اسْتِعْمَاله كَذَلِك فِي كَلَام الله تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ، ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ} الْآيَة، وَهِي) أَي الصَّلَاة (من الله الرَّحْمَة وَمن غَيره الدُّعَاء، فَهُوَ) أَي لفظ يصلونَ (مُشْتَرك) وَقد اسْتعْمل فِي كلا معنييه فِي هَذِه الْآيَة (وَالسُّجُود فِي الْعُقَلَاء بِوَضْع الْجَبْهَة) على الأَرْض (وَمن غَيرهم الخضوع) والانقياد (قُلْنَا إِذا لزم كَونه) أَي اللَّفْظ (حَقِيقَة فِي مَعْنيين) مُخْتَلفين بِالْحَقِيقَةِ بِأَن يسْتَعْمل فِي كل مِنْهُمَا بِلَا قرينَة الْمجَاز (وَأمكن جعله) أَي جعل ذَلِك اللَّفْظ مَوْضُوعا (لمشترك) أَي لِمَعْنى مُشْتَرك (بَينهمَا) . أَي الْمَعْنيين بِأَن يكون ثمَّة معنى يعمها وَيصْلح لِأَن يَجْعَل الْمَوْضُوع لَهُ بِاعْتِبَار تبادره من اللَّفْظ عِنْد الْإِطْلَاق (لزم) كَونه كَذَلِك لَا مُشْتَركا لفظيا لما تقرر عِنْدهم من أَن التواطؤ خير من الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ، وَهنا كَذَلِك (فالسجود) أَي مَعْنَاهُ (الْمُشْتَرك) من سُجُود الْعُقَلَاء وَغَيرهم هُوَ (الخضوع الشَّامِل) للاحتياري والقهري من قَول، وَفعل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (قولا وفعلا) وَمِنْه انقياد الْمَخْلُوق لأمر الله وتصرفه فِيهِ (فَهُوَ) أَي الخضوع الْمُطلق (متواطئ)(1/240)
أَي ككلي بَين سُجُود الْعُقَلَاء (فَيسْجد لَهُ) أَي فَقَوله تَعَالَى - {يسْجد لَهُ} - مَعْنَاهُ (يخضع لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ) أَي الخضوع (لجنسيته تخْتَلف صوره) كَمَا أَن سَائِر الماهيات الجنسية قَابِلَة لحلول صور نوعية مُخْتَلفَة (فَفِي الْعُقَلَاء) يتَحَقَّق (بِالْوَضْعِ) أَي بِوَضْع الْجَبْهَة على الأَرْض إِظْهَارًا لكَمَال التذلل والانقياد (وَفِي غَيرهم بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر وضع الْجَبْهَة مِمَّا يدل على الخضوع كقبول التَّصَرُّف من غير إباء (فَانْدفع الِاعْتِرَاض بِأَنَّهُ إِن أُرِيد) بِالسُّجُود الخضوع والانقياد (القهري شَمل الْكل) أَي الموجودات الممكنة (فَلَا وَجه لتخصيص كثير من النَّاس) بِالذكر (أَو) أُرِيد الخضوع (الِاخْتِيَارِيّ لم يتأت فِي غَيرهم) أَي غير الْعُقَلَاء: لأَنا نَخْتَار شقا ثَالِثا وَهُوَ الْمَعْنى الْأَعَمّ من القهري والاختياري فَإِن قلت إِذا أُرِيد الْأَعَمّ أَيْضا لَا مغنى لوجه التَّخْصِيص الْمَذْكُور لِأَنَّهُ يعم الْكل قلت وجهة الْإِشَارَة إِلَى أَن الْعُقَلَاء تميزوا بِنَوْع من ذَلِك الْجِنْس غير أَنه خَاصَّة غير شَامِلَة لكلهم، وَفِيه إِيهَام أَن بَعضهم خارجون عَن دَائِرَة الخضوع الْمُطلق بِالْكُلِّيَّةِ (وَكَذَا الصَّلَاة مَوْضُوعَة للاعتناء) بالمصلى عَلَيْهِ (بِإِظْهَار الشّرف) وَرفع الْقدر لَهُ (ويتحقق) الاعتناء الْمَذْكُور (مِنْهُ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ) عَلَيْهِ (وَمن غَيره بدعائه لَهُ) وَإِنَّمَا اختير هَذَا (تَقْدِيمًا للاشتراك الْمَعْنَوِيّ على) الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ، أَو يَجْعَل) مَعْطُوف على الشّرطِيَّة الْمَذْكُورَة بعد قُلْنَا: أَي يَجْعَل الْمَذْكُور من السُّجُود وَالصَّلَاة (مجَازًا فِيهِ) أَي الْمَعْنى الْمَذْكُور من الخضوع والاعتناء لعلاقة اللُّزُوم (فَيعم) الْمَعْنى الْمجَازِي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ فيهمَا: أَعنِي وضع الْجَبْهَة وَالدُّعَاء (وَأما أهل التَّفْسِير فعلى) أَي فاتفقوا على (إِضْمَار خبر للْأولِ) فِي آيَة الصَّلَاة، تَقْدِيره إِن الله يُصَلِّي وَمَلَائِكَته يصلونَ، فَحذف يُصَلِّي لدلَالَة يصلونَ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَول الْقَائِل:
(نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف)
وَإِذا تكَرر اللَّفْظ حمل كل وَاحِد على معنى آخر فَلَا حجَّة فِيهِ (وَعَلِيهِ) أَي وعَلى منع تَعْمِيم الْمُشْتَرك (تفرع بطلَان الْوَصِيَّة لمواليه وهم) أَي الموَالِي موجودون (لَهُ من الطَّرفَيْنِ) على مَا تقدم لِأَنَّهُ لما لم يعمها وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر بَقِي الْمُوصى لَهُ مَجْهُولا فبطلت.
مسئلة
(الْمُقْتَضى) بِصِيغَة الْمَفْعُول هُوَ (مَا استدعاه صدقه الْكَلَام: كرفع الْخَطَأ وَالنِّسْيَان) أَي كَمَا اقْتضى، لَا صدق رفع الْخَطَأ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان ":(1/241)
الحَدِيث (أَو) مَا استدعاه (حكم لزمَه شرعا) أَي لزم الْكَلَام: كاعتق عَبدك عني بِأَلف، وَالْمرَاد بِهِ الْمَفْهُوم الْكُلِّي وَمنع عُمُومه: أَي عُمُوم الْمُقْتَضى، فَالْحكم اللَّازِم للْكَلَام ولَايَة الاعتاق للمخاطب عِنْده من قبل الْمُتَكَلّم، وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك إِلَّا بِاعْتِبَار بيع بَينهمَا سَابق على الْوكَالَة اللَّازِمَة للْكَلَام الْمَذْكُور، فإنشاء البيع الْمَذْكُور مَا استدعاه الحكم الْمَذْكُور، وَيجوز أَن يكون قَوْله أَو حكم مَعْطُوفًا على الْمَوْصُول، وَالْمعْنَى والمقتضى حكم لزم الْكَلَام لتوقف صِحَة حكمه الْمَنْطُوق عَلَيْهِ، لَكِن قَوْله (فَإِن توقفا) يُؤَيّد الأول: أَي توقف الصدْق وَالْحكم الْمَذْكُورَان على مَا هُوَ الْمُتَبَادر (على خَاص بِعَيْنِه أَو عَام لزم) ذَلِك الْخَاص أَو الْعَام، وَالْمرَاد بِهِ الْمَفْهُوم الْكُلِّي (وَمنع عُمُومه) أَي عُمُوم الْمُقْتَضى أَو الْعَام (هُنَا) أَي فِيمَا توقفه على عَام (لعدم كَونه) أَي الْعَام هُنَا (لفظا) إِذْ الْعُمُوم من أَوْصَاف اللَّفْظ كَمَا ذكره جمَاعَة: مِنْهُم صدر الشَّرِيعَة (لَيْسَ بِشَيْء) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي منع (لِأَن الْمُقدر كالملفوظ) فِي إِفَادَة الْمَعْنى (وَقد تعين) الْمُقدر بِصفة الْعُمُوم بِالدَّلِيلِ الْمعِين لَهُ فَيكون عَاما (وَأَيْضًا هُوَ) أَي عُمُوم الْمُقدر (ضرري لفرض التَّوَقُّف) أَي توقف الْكَلَام صدقا أَو صِحَة شَرْعِيَّة (عَلَيْهِ) أَي على عُمُومه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ (فَغير الْمَفْرُوض) أَي فالمقدر الَّذِي لَا يتَوَقَّف على عُمُومه غير الْمُقدر الْمَفْرُوض (وَلَو كَانَ) التَّوَقُّف (على أحد أَفْرَاده) أَي الْعَام (لَا يقدر مَا يعمها) أَي أَفْرَاده كلهَا (بل إِن اخْتلفت أَحْكَامهَا) أَي أَحْكَام أَفْرَاد تِلْكَ الْعَام فيترتب على تَقْدِير بَعْضهَا حكم يُخَالف الحكم الْمُتَرَتب على الْبَعْض الآخر (وَلَا معِين) فِي الْمقَام يعين الْبَعْض الَّذِي يحصل بِهِ الْمَقْصُود (فمجمل) فالمقدر حِينَئِذٍ مُجمل (أَولا) تخْتَلف أَحْكَامهَا (فالدائر) أَي فَيقدر الْفَرد الْمُنْتَشِر الَّذِي يَدُور مَعَ كل فَرد لصدقه عَلَيْهِ، وَنسب إِلَى الشَّافِعِيَّة أَنهم يقدرُونَ فِي هَذَا الْمقَام مَا يعمها (لنا) فِي أَنه لَا يقدر مَا يعمها أَن تَقْدِيره (إِضْمَار الْكل) أَي تَقْدِيره فِي الْكَلَام (بِلَا مُقْتَض) فَلَا يجوز، لِأَن التَّقْدِير إِنَّمَا يكون بِحَسب الضَّرُورَة. (قَالُوا) أَي المعممون إِضْمَار الْكل كتعميم رفع حكم الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، بِحَيْثُ يَشْمَل الدنيوي، وَهُوَ الصِّحَّة وَالْفساد، والأخروي وَهُوَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب (أقرب إِلَى الْحَقِيقَة) كرفع ذَات الْخَطَأ وَالنِّسْيَان من سَائِر المجازات إِلَيْهَا لِأَن فِي رفع أَحْكَامهَا مُطلقًا رَفعهَا، وَالْمجَاز الْأَقْرَب أولى من غَيره (قُلْنَا) نعم (إِذا لم ينفه) أَي الْمجَاز الْأَقْرَب (الدَّلِيل) وَلَكِن هُنَا نَفَاهُ، وَهُوَ إِضْمَار الْكل بِلَا مُقْتَض (وَكَون الْمُوجب للإضمار) حَاصِلا (فِي الْبَعْض) أَي فِي بعض أَفْرَاد الْعَام (يَنْفِي الْكل) أَي إِضْمَار الْكل (لما قُلْنَا) من كَونه بِلَا مُقْتَض، فَإِن مُقْتَضى التَّبْعِيض لَا يكون مُقْتَضى الْكل، (فَفِي الحَدِيث أُرِيد حكمهمَا) أَي حكم الْخَطَأ وَالنِّسْيَان (ومطلقه) أَي الحكم الْمُطلق (يعم حكمي(1/242)
الدَّاريْنِ) الدُّنْيَا وَالْآخِرَة (وَلَا تلازم) بَين الْحكمَيْنِ (إِذْ ينتفى الْإِثْم) وَهُوَ حكم الْآخِرَة (وَيلْزم الضَّمَان) وَهُوَ حكم الدُّنْيَا كَمَا فِي إِتْلَاف مُحْتَرم مَمْلُوك للْغَيْر خطأ (فلولا الْإِجْمَاع على أَن الأخروي مُرَاد توقف) عَن الْعَمَل بِهِ لإجماله فِيهَا (وَإِذ أجمع) على أَن الأخروي مُرَاد (انْتَفَى الآخر) وَهُوَ الدنيوي (ففسدت الصَّلَاة بنسيان الْكَلَام وخطئه) أَي بنسيان وَخطأ أوقع الْمصلى فِي التَّكَلُّم، فالإضافة لأدنى مُلَابسَة، وَالْكَلَام مُفسد مُطلقًا عِنْد أَصْحَابنَا، ولغيرهم تفاصيل تعرف فِي فروعهم (و) فسد (الصَّوْم بِالثَّانِي) أَي بالمفسد الثَّانِي، وَهُوَ الْأكل أَو الشّرْب خطأ لوصول المَاء إِلَى الْجوف خطأ فِي الْمَضْمَضَة (لَا الأول) أَي لَا بالمفسد الأول، وَهُوَ الْأكل وَالشرب نِسْيَانا (بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من نسى وَهُوَ صَائِم فَأكل أَو شرب فليتم صَوْمه، فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " (وَلَو صَحَّ قِيَاسه) أَي الْخَطَأ (عَلَيْهِ) أَي النسْيَان فِي غير إِفْسَاد الصَّوْم بِجَامِع عدم الْقَصْد إِلَى الْجِنَايَة كَمَا هُوَ القَوْل الْأَصَح للشَّافِعِيّ رَحمَه الله إِذا لم يُبَالغ فِي الْمَضْمَضَة، وَالِاسْتِنْشَاق، وَقَول أَحْمد رَحمَه الله إِذا لم يسرف فيهمَا خلافًا لِأَصْحَابِنَا وَمَالك، بل وَأكْثر الْفُقَهَاء على مَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ (فدليل آخر) أَي فموجبه دَلِيل آخر، لَا حَدِيث " رفع الْخَطَأ ". وَإِنَّمَا قَالَ لَو، لِأَن صِحَّته مَحل نظر لكَونه قِيَاسا مَعَ الْفَارِق الْمُؤثر لندرة الْأكل اَوْ الشّرْب مَعَ التَّذَكُّر، ولكثرة الْوُجُود دخل فِي الْعذر (وَأما الصَّلَاة) أَي قياسها (على الصَّوْم) فِي عدم الْفساد بِفعل الْمُفْسد نِسْيَانا (فبعيد، لِأَن عذره) أَي الْمُكَلف (وَلَا مُذَكّر) حَال عَن الضَّمِير: أَي كَونه مَعْذُورًا فِي حَال لَا مُذَكّر لَهُ فِيهَا كَمَا فِي الصَّوْم (لَا يستلزمه) أَي لَا يسْتَلْزم كَونه مَعْذُورًا حَال كَونه (مَعَه) أَي مَعَ الْمُذكر كَمَا فِي الصَّلَاة لانْتِفَاء التَّقْصِير مِنْهُ فِي الأول دون الثَّانِي (وَلذَا) أَي لعدم الاستلزام الْمَذْكُور (وَجب الْجَزَاء بقتل الْمحرم الصَّيْد نَاسِيا) لوُجُود الْمُذكر لَهُ، وَهُوَ هَيْئَة الْإِحْرَام (وَفِي الثَّانِي) من قسمي الْمُقْتَضى فِي نَحْو: أعتق عَبدك عني بِأَلف (لزم التَّرْكِيب) من حكمين (شرعا) إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَة (حكم) هُوَ (صِحَة الْعتْق) عَن الْأَمر (و) حكم هُوَ (سُقُوط الْكَفَّارَة) عَنهُ إِن نوى عتقه فِيهَا فَيَقْتَضِي سبق وجود الْملك للْآمِر فِي العَبْد ليَصِح الاعتاق عَنهُ، وَالْملك يقتضى سَببا، وَهُوَ هَهُنَا البيع بِدَلِيل قَوْله: عني بِأَلف، فَالْبيع لَازم مُتَقَدم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (ويقتضى) هَذَا اللَّازِم (سبق تَقْدِير: اشْتريت عَبدك بِأَلف فِي الْمُتَقَدّم) أَي فِي قَول الْآمِر: أعتق عَبدك إِلَى آخِره (و) سبق تَقْدِير (بِعته فِي الْمُتَأَخر) أَي فِي قَول الْمَأْمُور أَعتَقته عَنْك على هَذَا (أما) الْمُتَقَدّم (بِعَيْنِه) أَي بِالنّظرِ إِلَى نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن لَازمه (فتوكيل) أَي فَهُوَ تَوْكِيل (للْبَائِع) بالاعتاق (فَقَط) أَي لَا يتَعَدَّى عَن هَذَا الْمِقْدَار(1/243)
بِاعْتِبَار منطوقه وَإِن كَانَ مستلزما لركني البيع، وهما: اشْتريت فِي الْمُتَقَدّم، وبعت فِي الْمُتَأَخر وَهَذَا (لَا يُجزئ) فِي انْعِقَاد البيع لِأَنَّهُ لَا بُد من التَّلَفُّظ بشرَاء العَبْد، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُقْتَضى الْقيَاس إِلَّا أَنا تَرَكْنَاهُ لما أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَوْلَا أَنه) أَي انْعِقَاده (ضمني) وَكم من شَيْء يثبت ضمنا وَلَا يثبت قصدا فَلَا يصير فِي ثُبُوته بِدُونِ التَّلَفُّظ بهما، إِذْ كل مِنْهُمَا ركن يقبل السُّقُوط فِي الْجُمْلَة كَمَا فِي بيع التعاطي: أَلا ترى أَنه لم يشْتَرط فِي الضمني مَا اشْترط فِي القصدي من كَون الْمَبِيع مَقْدُور التَّسْلِيم حَتَّى يَصح هَذَا فِي الْآبِق فَيعتق عَن الْآمِر وَلم يثبت لَهُ خِيَار الرُّؤْيَة وَالْعَيْب، غير أَنه يشْتَرط فِيهِ أَهْلِيَّة الاعتاق، فَلَو لم يكن أَهلا لَهُ لَا يثبت البيع بِهِ، فَلَا يعْتق، وَلَا يسْتَشْكل كَون الْمُقْتَضى لَا عُمُوم لَهُ بِوُقُوع الثَّلَاث بطلقي نَفسك إِذا طلقت نَفسهَا ثَلَاثًا، وَقد نَوَاهَا الزَّوْج لِأَنَّهُ لَيْسَ من مَحل النزاع كَمَا أَفَادَ بقوله (وَلَيْسَ من الْمُقْتَضى) على صِيغَة الْفَاعِل (طَلِّقِي) أَو على صِيغَة الْمَفْعُول، وَالْمعْنَى وَلَيْسَ من الْمُقْتَضى مَا اقْتَضَاهُ طَلِّقِي (لِأَن الْجِنْس) وَهُوَ الطَّلَاق (مَذْكُور لُغَة) والمقتضى يلْزمه عدم الذّكر (إِذْ هُوَ) أَي طَلِّقِي مَعْنَاهُ (أوجدي طَلَاقا) كَمَا عرف فِي علم الْمعَانِي من أَن الْفِعْل الْمُتَعَدِّي قد يحذف مَفْعُوله، وَيُرَاد بِهِ هَذَا (فَصحت نِيَّة الْعُمُوم) لِأَن الْمصدر مِمَّا يصلح للْعُمُوم وَقد نَوَاه (وَنقض) هَذَا (بطالق) فَإِن اسْم الْفَاعِل يتَضَمَّن الْمصدر، فَيَنْبَغِي أَن يَصح فِيهِ نِيَّة الثَّلَاث، لَكِن الْحَنَفِيَّة لم يصححوه حَتَّى لَو نوى الثَّلَاث لم يَقع إِلَّا وَاحِدَة (وَأجِيب بِأَن الْمَذْكُور) فِي أَنْت طَالِق (طَلَاق هُوَ وصفهَا) أَي الْمُطلقَة، لَا الموصوفة بطالق (وتعدده) أَي تعدد وصفهَا بِهِ (بِتَعَدُّد فعله) أَي فعل الْمُطلق (تطليقه) وَلَا يتَكَرَّر الْأَثر إِلَّا بِتَكَرُّر الْمُؤثر فَإِن قلت فعلى هَذَا لَا يَتَّصِف بِالطَّلَاق الثَّلَاث فِي طَلِّقِي، وَإِن نَوَاهَا لعدم تعدد التَّطْلِيق المستلزم لعدم تعدد الْوَصْف قلت المُرَاد وصفهَا بِحَيْثُ يسْتَلْزم الْأَخْبَار عَن كَونهَا مَوْصُوفَة بالمتعدد من الطَّلَاق فَإِن لَهُ تَأْثِيرا فِي الْفرق كَمَا ستعرف (وثبوته) أَي التَّطْلِيق (مُقْتَضى حكم شَرْعِي هُوَ الْوُقُوع) أَي وُقُوع الطَّلَاق فِي أَنْت طَالِق، فَإِنَّهُ يقتضى سبق تطليق (تَصْدِيقًا لَهُ) أَي لمن قَالَ: أَنْت طَالِق، فَإِن إِيقَاعه هَذَا الحكم الشَّرْعِيّ إِنَّمَا وَقع على وَجه استلزام الْأَخْبَار عَن وُقُوع الطَّلَاق، ووقوعه مَوْقُوف على التَّطْلِيق توقف الْأَثر على الْمُؤثر، فَصدقهُ فِي هَذَا الاخبار يتَوَقَّف على سبق التَّطْلِيق، بِخِلَاف طَلِّقِي فَإِنَّهُ انشاء مَحْض لَا يسْتَلْزم إِخْبَارًا مقتضيا لسبق تطليق، وَإِذا عرفت أَن ثُبُوت التَّطْلِيق فِي أَنْت طَالِق على سَبِيل الِاقْتِضَاء (فَلَا يقبل الْعُمُوم) وَفِيه أَنه لَو سلم أَن الْمُقْتَضى لَا عُمُوم لَهُ، لَكِن عدم قبُوله للْعُمُوم بانضمام مَا يَقْتَضِيهِ من النِّيَّة غير مُسلم (وَيدْفَع) هَذَا الْفرق (بِأَنَّهُ) أَي أَنْت طَالِق (إنْشَاء شرعا) وَإِن كَانَ إِخْبَارًا لُغَة (يَقع بِهِ) الطَّلَاق(1/244)
(وَلَا مُقَدّر أصلا) فِي أَنْت طَالِق، أَي لَا يقدر فِيهِ تطليق سَابق مصدرا قَالَه (لِأَنَّهُ) أَي التَّقْدِير (فرع الخبرية الْمَحْضَة) إِذْ الْكَلَام الَّذِي هُوَ خبر من وَجه وإنشاء من وَجه يجوز أَن يعْتَبر فِيهِ حيثية الإنشائية، وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا تَقْتَضِيه حيثيته الْأُخْرَى (وَلَا تصح فِيهِ) أَي فِي أَنْت طَالِق (الجهتان) الإنشائية والخبرية مَعًا كَمَا قيل (لتنافي لازمي الْخَبَر والإنشاء) يَعْنِي احْتِمَال الصدْق وَالْكذب وَعدم احتمالهما (وَالثَّابِت لَهُ) أَي لأَنْت طَالِق (لَازم الانشاء) لعدم احْتِمَاله الصدْق وَالْكذب فَقَط، دون لَازم الْخَبَر فَهُوَ إنْشَاء مَحْض (وَقد يلْتَزم) كَونه إنْشَاء وَيُجَاب عَن عدم صِحَة نِيَّة الثَّلَاث بِأَنَّهُ نقل من الْأَخْبَار إِلَى الْإِنْشَاء إِلَى وُقُوع وَاحِدَة فَقَط، فإرادة التَّعَدُّد خلاف مَا عين لَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (غير أَن المتحقق) عِنْد النَّقْل عَن الْأَخْبَار إِلَى الْإِنْشَاء (تَعْيِينه) أَي تعْيين أَنْت طَالِق (برمتِهِ) أَي بجملته ومجموع أَجْزَائِهِ لَا يكون (إنْشَاء لوُقُوع) طَلْقَة (وَاحِدَة فتعديها) أَي الْوَاحِدَة إِلَى مَا فَوْقهَا يكون (بِلَا لفظ) مُفِيد لذَلِك، وَهُوَ غير جَائِز اتِّفَاقًا (بِخِلَاف طَلِّقِي) لعدم تعينه إنْشَاء لوُقُوع وَاحِدَة (لِأَنَّهُ) أَي طَلِّقِي (طلب لإيقاع الطَّلَاق) مُطلقًا (فَتَصِح) نِيَّة الثَّلَاث فِيهِ (وَفِي) وُقُوع (الثَّلَاث) إِذا نَوَاهَا (بطالق) أَي بأنت طَالِق (طَلَاقا رِوَايَة) عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله (بِالْمَنْعِ) أَي بِمَنْع وُقُوعهَا كَمَا هُوَ الظَّاهِر لكَونه كَأَنْت طَالِق (وعَلى) تَقْدِير (التَّسْلِيم) لوقوعها بِهِ كَمَا (هُوَ) الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة هُوَ: أَي وُقُوعهَا بِهِ مَبْنِيّ (على إِرَادَة التَّطْلِيق بطلاقا) حَال كَونه (مصدرا لمَحْذُوف) فَإِنَّهُ قد يُرَاد بِهِ التَّطْلِيق كالسلام والبلاغ بِمَعْنى التَّسْلِيم والتبليغ، فَيصح حِينَئِذٍ إِرَادَة الثَّلَاث لكَونه مَعْمُولا لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره طَالِق، لَا فِي طَلقتك طَلَاقا: يَعْنِي ثَلَاثًا (وَإِنَّمَا يتم) القَوْل بوقوعها بطلاقا (بإلغاء طَالِق مَعَه) أَي مَعَ طَلَاقا فِي حق الْإِيقَاع: أَي (كَمَا) ألغى طَالِق (مَعَ الْعدَد) فِي أَنْت طَالِق ثَلَاثًا، فَإِن الْوَاقِع هُوَ الْعدَد (وَإِلَّا) أَي لم يلغ (وَقع بِهِ) أَي بطالق (وَاحِدَة لزم ثِنْتَانِ بِالْمَصْدَرِ) عِنْد نِيَّة الثَّلَاث (وَهُوَ) أَي وُقُوع ثِنْتَيْنِ بِالْمَصْدَرِ (مُنْتَفٍ عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِي الْحرَّة لما عرف مِنْهُ أَن معنى التَّوْحِيد مراعى فِيهِ، وَهُوَ بالفردية، والجنسية، والمثنى بمعزل عَنْهُمَا وَأَيْضًا يلْزم فِي غير المدخولة الْبَيْنُونَة بالواحدة، وَعدم وُقُوع شَيْء بِالْمَصْدَرِ الْمَنوِي بِهِ بِالثلَاثِ (وَفِي أَنْت الطَّلَاق) يَصح نِيَّة الثَّلَاث (بِتَأْوِيل وَقع عَلَيْك) الطَّلَاق لعدم صِحَة ظَاهره، وصيانة لكَلَام الْعَاقِل عَن الْبطلَان (وَمَا قيل فَمَا يمْنَع مثله فِي أَنْت طَالِق) بِأَن يُقَال: أَنْت ذَات وَقع عَلَيْك التَّطْلِيق فَيصح فِيهِ نِيَّة الثَّلَاث أَيْضا (يُجَاب بِعَدَمِ إِمْكَان التَّصَرُّف فِيهِ) أَي فِي أَنْت طَالِق (إِذْ نقل) من الْأَخْبَار (للإنشائية) أَي إِلَيْهَا شرعا (فَكَانَ عين اللَّفْظ) أَي لفظ أَنْت طَالِق مَوْضُوعا (لعين(1/245)
الْمَعْنى الْمَعْلُوم نَقله إِلَيْهِ، وَهُوَ) أَي الْمَعْنى الْمَنْقُول إِلَيْهِ الطَّلقَة (الْوَاحِدَة) عِنْد عدم ذكر الْعدَد (والثنتان، وَالثَّلَاث مَعَ الْعدَد، وَلَيْسَ من الْمُقْتَضى الْمَفْعُول) بِهِ المطوي ذكره لفعل مُتَعَدد بعد نفي أَو شَرط كَمَا (فِي نَحْو لَا آكل وَإِن أكلت) فَعَبْدي حر (إِذْ لَا يحكم بكذب مُجَرّد أكلت) وَلَا أكل كَمَا يحكم بكذب رفع الْخَطَأ، لِأَن نَفسه غير مَرْفُوع، لِأَن أكلت من غير أَن يذكر لَهُ مُتَعَلق خَاص لَا يلْزم كذبه (فَلم يتَوَقَّف صدقه) أَي أكلت (عَلَيْهِ) أَي الْمَفْعُول بِهِ (و (لَا) يحكم (بِعَدَمِ صِحَة شَرْعِيَّة) لأكلت بِدُونِ الْمَفْعُول بِهِ (فتخصه) أَي الْمَفْعُول بِهِ (باسم الْمَحْذُوف، وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَحْذُوف (وَإِن قبل الْعُمُوم لَا يقبل عُمُومه التَّخْصِيص، إِذْ لَيْسَ) هَذَا الْمَحْذُوف أمرا (لفظيا وَلَا فِي حكمه) أَي اللَّفْظِيّ لتناسبه وَعدم الِالْتِفَات إِلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ الْأَخْبَار إِلَّا بِمُجَرَّد الْفِعْل على مَا عرف فِي تَنْزِيل المتعدى منزلَة اللَّازِم (فَلَو نوى مَأْكُولا دون) مَأْكُول (آخر لم تصح) نِيَّته قَضَاء بالِاتِّفَاقِ وَلَا (ديانَة خلافًا للشَّافِعِيَّة) وَفِي رِوَايَة عَن أبي يُوسُف اخْتَارَهَا الْخصاف (والاتفاق عَلَيْهِ) أَي على عدم قبُول التَّخْصِيص (فِي بَاقِي المتعلقات من الزَّمَان وَالْمَكَان) حَتَّى لَو نوى لَا يَأْكُل فِي زمَان أَو مَكَان دون آخر لم تصح نِيَّته اتِّفَاقًا (والتزام الْخلاف) فِي قبُول التَّخْصِيص) (فِيهَا) أَي فِي بَاقِي المتعلقات أَيْضا بِجَامِع المفعولية كَمَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب (غير صَحِيح) قَالَ السُّبْكِيّ أَنه لَو قَالَ وَالله لَا آكل وَنوى زَمَانا أَو مَكَانا صحت يَمِينه: يَعْنِي نِيَّته، وَدَعوى الإِمَام الرَّازِيّ الْإِجْمَاع على خِلَافه مَمْنُوعَة وَقد نَص الشَّافِعِي رَحمَه الله على أَنه لَو قَالَ: إِن كلمت زيدا فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ: أردْت التَّكَلُّم شهرا يَصح فَيحْتَاج إِلَى الْفرق (وَالْفرق) بَين الْمَفْعُول بِهِ وظرفي الزَّمَان وَالْمَكَان (بِأَن الْمَفْعُول بِهِ فِي حكمه) أَي الْمَذْكُور (إِذْ لَا يعقل) معنى الْفِعْل الْمُتَعَدِّي (إِلَّا بعقليته) أَي إِلَّا بتعقل الْمَفْعُول بِهِ، فَيجوز أَن يُرَاد بِهِ الْبَعْض، بِخِلَاف الظرفين إِذْ ليسَا فِي حكم الْمَذْكُور لِأَن الْفِعْل قد يعقل مَعَ الذهول عَنْهُمَا وَإِن لم يَنْفَكّ عَنْهُمَا فِي الْوَاقِع، فَلَا يدخلَانِ تَحت الْإِرَادَة، والتخصيص فرع الدُّخُول تحتهَا (مَمْنُوع) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي الْفرق، ومرجع الْمَنْع قَوْله إِذْ لَا يعقل إِلَى آخِره (ونقطع بتعقل معنى) الْفِعْل (الْمُتَعَدِّي من غير إخطاره) أَي الْمَفْعُول بالبال، إِن أَرَادَ من غير اخطار خُصُوص الْمَفْعُول بِهِ فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ من غير اخطار مفعول مَا فَغير مُسلم، بل الوجدان يحكم بِأَن الضَّرْب لَا يتعقل بِدُونِ تعقل مَضْرُوب مَا، وَلذَا صَرَّحُوا بِأَن نِسْبَة الْمَفْعُول بِهِ جُزْء من الْمُتَعَدِّي لنسبة الْفَاعِل (فَإِنَّمَا هُوَ) أَي الْمَفْعُول (لَازم لوُجُوده) أَي وجود الْمُتَعَدِّي (لَا) لتعقل مَعْنَاهُ فَلَيْسَ بِلَازِم (مَدْلُول اللَّفْظ) فِي التعقل ليتجزى بالإرادة فَلم يكن كالمذكور (بَقِي أَن يُقَال لَا آكل) مَعْنَاهُ (لَا أوجد أكلا) وأكلا عَام لِأَنَّهُ نكرَة(1/246)
فِي سِيَاق النَّفْي (فيقبله) أَي التَّخْصِيص إِذْ لَا مَانع مِنْهُ غير أَن لَا يقبل مِنْهُ قَضَاء لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر (وَالنَّظَر يقتضى أَنه إِن لاحظ الْأكل الجزئي الْمُتَعَلّق بالمأكول الْخَاص) الَّذِي لم يردهُ (إخراجا) أَي مخرجا لَهُ من الْأكل الْعَام لَا الْمَأْكُول نَفسه (صَحَّ) الْإِخْرَاج والتخصيص، لِأَن الْمخْرج جزئي من جزئيات الْأكل الْعَام (أَو) لاحظ (الْمَأْكُول) الْخَاص من الْمَأْكُول الْمُطلق من حَيْثُ هُوَ (فَلَا) يَصح لِأَنَّهُ من المتعلقات الَّتِي يعقل الْفِعْل بِدُونِهَا (غير أَنا نعلم بِالْعَادَةِ فِي مثله) أَي مثل هَذَا الْكَلَام (عدم مُلَاحظَة الْحَرَكَة الْخَاصَّة) الَّتِي هِيَ بعض أَفْرَاد الْفِعْل الْمُطلق الَّذِي هُوَ الْأكل (وإخراجها) أَي الْحَرَكَة الْخَاصَّة من الْأكل الْمُطلق (بل) المُرَاد إِخْرَاج (الْمَأْكُول) الْخَاص من الْمَأْكُول الْمُطلق (وعَلى مثله) أَي مَا هُوَ مَعْلُوم عَادَة (يبْنى الْفِقْه فَوَجَبَ الْبناء عَلَيْهِ) أَي على أَنه لاحظ الْمَأْكُول الْخَاص إخراجا لَهُ من الْمَأْكُول الْمُطلق: وَهُوَ غير عَام فَلَا يقبل التَّخْصِيص بِخِلَاف الْحلف: أَي (بِخِلَاف مَا إِذا حلف لَا يخرج) حَال كَونه (مخرجا للسَّفر مثلا) من الْخُرُوج بِالنِّيَّةِ (حَيْثُ يَصح) إِخْرَاجه مِنْهَا تَخْصِيصًا (لِأَن الْخُرُوج متنوع إِلَى) خُرُوج (سفر و) خُرُوج (غَيره) أَي غير السّفر متنوع إِلَى (قريب وبعيد) بِدَلِيل اخْتِلَاف أَحْكَامهَا (وَالْعَادَة ملاحظته) أَي النَّوْع مِنْهُ (فنية بعضه) أَي نِيَّة خُرُوج نوع مِنْهُ (نِيَّة نوع) فَصحت (كَأَنْت بَائِن ينوى بِهِ الثَّلَاث) حَيْثُ يَصح بنيتها، لِأَنَّهَا أحد نَوْعي الْبَيْنُونَة.
مَسْأَلَة
الْمَذْكُور فِي عبارَة كثير الْفِعْل الْمُثبت هَل هُوَ عَام أَولا؟ نبه المُصَنّف على أَنه لَيْسَ المُرَاد مَا يُقَابل القَوْل، بل الْفِعْل المصطلح فَقَالَ (إِذا نقل فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِيغَة لَا عُمُوم لَهَا كصلى فِي الْكَعْبَة) كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ (لَا يعم) فعله الْمعبر عَنهُ بِتِلْكَ الصِّيغَة (بِاعْتِبَار) من الاعتبارات (لِأَنَّهُ) أَي نقل فعله بِتِلْكَ الصِّيغَة (أَخْبَار عَن دُخُول) فعل (جزئي فِي الْوُجُود) وَلَا يتَصَوَّر الْعُمُوم فِي الجزئي الْحَقِيقِيّ (فَلَا يدل) قَول الْمخبر صلى (على) تحقق (الْفَرْض وَالنَّفْل) كِلَاهُمَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لشخصيته) أَي الْفِعْل الْمَذْكُور (وَأما نَحْو صلى الْعشَاء بعد غيبوبة الشَّفق، فَإِنَّمَا يعم) فعله الْمعبر عَنهُ بصلى، لَكِن لَا بِاعْتِبَار نَفسه بل بِاعْتِبَار وُقُوعه بعد كل وَاحِد من معنى الشَّفق الَّذِي يعم (الْحمرَة وَالْبَيَاض) لاشتراكه فِيهَا (عِنْد من يعمم الْمُشْتَرك وَلَا يسْتَلْزم) تعميمه (تكْرَار الصَّلَاة بعد كل) من الْحمرَة وَالْبَيَاض (كَمَا فِي تَعْمِيم الْمُشْتَرك حَيْثُ يتَعَلَّق) أَي حكم الْمُشْتَرك (بِكُل) من مَعَانِيه (على الِانْفِرَاد لخُصُوص(1/247)
الْمَادَّة) مُتَعَلق بقوله يعم الْحمرَة وَالْبَيَاض (وَهُوَ) أَي خُصُوص الْمَادَّة (كَون الْبيَاض دَائِما بعد الْحمرَة) يَعْنِي إِنَّمَا يعمها مَعَ شخصية الصَّلَاة للخصوصية المتحققة فِي الْمخبر عَنهُ، فَإِنَّهُ لَوْلَا لُزُوم بعدية الْبيَاض للحمرة لم يحسن إِرَادَة الْعُمُوم الْمَذْكُور لجَوَاز وُقُوع تِلْكَ الصَّلَاة بعد غيبوبة الشَّفق الْأَحْمَر من غير أَن يَقع بعد غيبوبة الشَّفق الْأَبْيَض، بِأَن لَا يعقب الْأَبْيَض الْأَحْمَر، بِخِلَاف مَا إِذا لم يُفَارق أَحدهمَا الآخر، فَإِن الظَّاهِر عدم افتراقهما فِي استعقاب الصَّلَاة الْمَذْكُورَة، فِيهِ مَا فِيهِ (فصح أَن يُرَاد صلى بعدهمَا صَلَاة وَاحِدَة فَلَا يعم) لفظ صلى الْمَذْكُور (فِي الصَّلَاة بطرِيق التّكْرَار) لعدم دَلِيل التّكْرَار (فَلَا يلْزم جَوَاز صلَاتهَا) أَي صَلَاة الْعشَاء والتأنيث بِاعْتِبَار الْعَتَمَة (بعد الْحمرَة فَقَط، وَمَا يتَوَهَّم من نَحْو كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس بَيْضَاء) مُرْتَفعَة حَيَّة (وَكَانَ يجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر من التّكْرَار) بَيَان لما (فَمن إِسْنَاد الْمُضَارع) لَا من الْفِعْل من حَيْثُ هُوَ، وَقيل من كَانَ وَمَشى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب (وَقيل من الْمَجْمُوع مِنْهُ) أَي من إِسْنَاد الْمُضَارع (وَمن قرَان كَانَ، لَكِن نَحْو بَنو فلَان يكرمون الضَّيْف ويأكلون الْحِنْطَة يُفِيد أَنه) أَي الْإِكْرَام وَالْأكل (عَادَتهم) والتكرار يُسْتَفَاد من الْعَادة (وَلَا يخفى أَن الإفادة) أَي إِفَادَة إِسْنَاد الْمُضَارع (التّكْرَار استعمالية لَا وضعية) وأكثرية أَيْضا لَا كُلية، وَقيل إِن كَانَ وَإسْنَاد الْمُضَارع إِذا اجْتمعَا كَانَ متعاضدين على إِفَادَة التّكْرَار غَالِبا (وَمِنْه) أَي وَمن أجل مَا ذكر من عدم عُمُوم فعله الْمَذْكُور (أَن لَا يعم) عدم عُمُوم حكم فعله (الْأمة وَلَو) اقْترن (بِقَرِينَة) تفِيد الْعُمُوم (كنقل الْفِعْل خَاصّا بعد اجمال فِي عَام بِحَيْثُ يفهم أَنه) أَي ذَلِك الْفِعْل الْمَنْقُول (بَيَان) لاجمال ذَلِك الْعَام (فَإِن الْعُمُوم للمجمل لَا لنقل الْفِعْل) أَي لَا للْفِعْل الْمَنْقُول خَاصّا، وَفِيه رد لما فِي الشَّرْح العضدي كَمَا قَالَ الرَّاوِي: قطع يَد السَّارِق من الْكُوع بعد اقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا بَيَان لإجمال فِي مَحل الْقطع، وَهَذَا إِذا أطلق الْيَد حَقِيقَة على مَجْمُوع مَا من الْمنْكب إِلَى الْأَصَابِع وعَلى مَا من الْكُوع إِلَيْهَا، وَأما إِذا خص بِالْأولِ فَهُوَ إِرَادَة دَلِيل الْمَعْنى الْمجَازِي فعموم يَد السَّارِق يُسْتَفَاد من اقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا، لَا من قَول الرَّاوِي الْمَذْكُور، وَكَقَوْلِه صلي فَقَامَ وَركع وَسجد بعد قَوْله أقِيمُوا الصَّلَاة (وَكَذَا نَحْو صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) أَي وكما أَن الْقَرِينَة الْمَذْكُورَة لَا تَسْتَلْزِم عُمُوم الْفِعْل الْمَنْقُول كَذَلِك قَوْله صلي إِلَى آخِره لَا يستدعى عُمُوم قَول الرَّاوِي صلي كَذَا بعد قَوْله الْمَذْكُور (وتوجيه الْمُخَالف) الْقَائِل بِعُمُومِهِ للْأمة للتمسك (بِعُمُوم نَحْو سَهَا فَسجدَ) عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بهم فَسَهَا فِي صلَاته فَسجدَ سَجْدَتي السَّهْو (و) قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا) بعد قَوْلهَا إِذا جَاوز الْخِتَان وَجب الْغسْل، فَإِن كلا مِنْهُمَا يعم الْأمة (مَدْفُوع بِأَنَّهُ)(1/248)
أَي الْعُمُوم لَهُم (من خَارج) عَن مَفْهُوم اللَّفْظ المحكى كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكل سَهْو سَجْدَتَانِ بعد السَّلَام رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد، وَإِذا التقى الختانان وَجب الْغسْل رَوَاهُ مُسلم وَغَيره أَيْضا عُمُوم السُّجُود لعُمُوم علته: وَهُوَ السَّهْو حَيْثُ رتب عَلَيْهِ بَقَاء التعقب: وَهُوَ دَلِيل الْعلية (وَأما حِكَايَة قَول لَهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يدْرِي عُمُومه بِلَفْظ عَام) مُتَعَلق بحكاية يَعْنِي أَن فِي الْحِكَايَة مَا يدل على الْعُمُوم، والمحكى لَا يدْرِي هَل فِيهِ مَا يدل على الْعُمُوم أَولا (كقضى بِالشُّفْعَة للْجَار، وَنهى عَن بيع الْغرَر) فَإِن الْجَار محلى بلام الِاسْتِغْرَاق، وَكَذَا إِضَافَة البيع استغراق، وَلَا يدْرِي حَال مَا أخبر عَنهُ بِاعْتِبَار الْعُمُوم وَعَدَمه (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة (مَسْأَلَة أُخْرَى) ذكرت للمناسبة (فَيجب الْحمل) أَي حمل المحكى عَنهُ (على الْعُمُوم) فَالشُّفْعَة لكل جَار، وَالنَّهْي عَن كل بيع فِيهِ غرر كَبيع الْآبِق والمعدوم (خلافًا لكثير) من أهل الْعلم، وَإِنَّمَا يجب الْحمل على الْعُمُوم (لِأَنَّهُ) أَي الصَّحَابِيّ (عدل عَارِف باللغة وَالْمعْنَى) فبعرفان عِبَارَته فَيُفِيد الْعُمُوم، فلولا أَن حقق الْعُمُوم فِي المسئلة لمنعته الْعَدَالَة عَن التَّعْبِير بِمَا يُفِيد الْعُمُوم الَّذِي يَنْبَنِي عمل الْأمة عَلَيْهِ (فَالظَّاهِر) من حَالَة (الْمُطَابقَة) أَي مُطَابقَة مَا يُسْتَفَاد من كَلَامه مَا هُوَ الثَّابِت فِي نفس الْأَمر (وَقَوْلهمْ) أَي الْكثير (يحْتَمل غررا وجارا خاصين كجار شريك فاجتهد) الحاكي (فِي الْعُمُوم) فِي مأخذه فَانْتهى اجْتِهَاده إِلَيْهِ (فحكاه) أَي الْعُمُوم بِحَسب مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (أَو أَخطَأ فِيمَا سَمعه) بِأَن توهم أَن مسموعه بِصفة الْعُمُوم، وَلم يكن فِي الْوَاقِع كَذَلِك (احْتِمَال) خلاف الظَّاهِر (لَا يقْدَح) فِي الِاحْتِجَاج بِهِ على الْعُمُوم، لِأَن الظَّاهِر كَاف فِي الظَّن وَالظَّاهِر من علمه وعدالته الْمُطَابقَة (وجعلهما) أَي قضى بِالشُّفْعَة، وَنهى عَن بيع الْغرَر (من حِكَايَة فعل) لَا من حِكَايَة قَول على مَا ذكر بِلَفْظ (ظَاهر فِي الْعُمُوم) فعلى الأول المحكى قَول والحاكي عَام نصا، وعَلى هَذَا فعل والحاكي عَام ظَاهر (مُنْتَفٍ) أَي مُنْتَفٍ مصداق الْجعل الْمَذْكُور (لِأَن الْقَضَاء وَالنَّهْي) اللَّذين قَول الحاكي قضي وَنهى أَخْبَار عَنْهُمَا لَيْسَ بِفعل لَا يكون مَعَه عُمُوم، بل هُوَ (قَول يكون مَعَه عُمُوم وخصوص) يَعْنِي يصلح للْعُمُوم وَالْخُصُوص كَسَائِر الْأَقْوَال وَيحمل على الْعُمُوم لتطابقه الْحِكَايَة الصادرة عَن الْعدْل الْعَارِف باللغة فَإِن قلت سلمنَا أَن الْقَضَاء قَول لكَونه عبارَة عَن حكمت عَلَيْك وَنَحْوه، وَكَذَا النَّهْي كَقَوْلِه: لَا تبع كَذَا لَكِن لَا يحْتَمل مثل هَذَا القَوْل الْعُمُوم كالفعل لشخصيته قلت مثل هَذَا لَا يصلح لِأَن يخبر عَنهُ بِمَا يُفِيد الْعُمُوم، بل لَا بُد أَن يكون منشأ الْأَخْبَار قولا دَالا على الْعُمُوم أَو قَضَاء ونهيا مكررا يحصل بِهِ الْعَمَل بِالْعُمُومِ وَالله أعلم.(1/249)
مَسْأَلَة
(قيل) وَالْقَائِل ابْن الْحَاجِب (نفى الْمُسَاوَاة فِي لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة يدل على الْعُمُوم) لجَمِيع وُجُوه الْمُسَاوَاة نَحْو قَوْله تَعَالَى - {لَا يَسْتَوِي} - الْآيَة هَل يَقْتَضِي الْعُمُوم: أَي يدل على عدم جَمِيع وُجُوه الْمُسَاوَاة فَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا ذمِّي، الْمُخْتَار أَنه يَقْتَضِي الْعُمُوم وَكَذَلِكَ غير الْمُسَاوَاة من الْأَفْعَال (وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَقْتَضِيهِ) فَمن ثمَّ جور قتل الْمُسلم بالذمي (وَلَيْسَ) كَذَلِك (بل لَا يخْتَلف) على صِيغَة الْمَجْهُول (فِي دلَالَته) أَي نفي الْمُسَاوَاة (عَلَيْهِ) أَي على الْعُمُوم (وَكَذَا) يدل على الْعُمُوم (نفي كل فعل) عَام فِي وجوهه (كلا آكل) فَإِنَّهُ عَام على وُجُوه الْأكل (وَلَا) يخْتَلف أَيْضا (فِي عدم صِحَة إِرَادَته) أَي الْعُمُوم فِي نفي الْمُسَاوَاة (لقَولهم) أَي مخالفي الْحَنَفِيَّة (فِي جَوَاب قَول الْحَنَفِيَّة) أَن عُمُوم نفي الْمُسَاوَاة قَول (لَا يصدق إِذْ لَا بُد) بَين كل أَمريْن (من مُسَاوَاة) من وَجه أقلهما فِي سلب مَا عداهما عَنْهُمَا (المُرَاد) مقول قَول الْمُخَالفين: أَي المُرَاد من عُمُوم الْمُسَاوَاة (مُسَاوَاة يَصح نَفيهَا وَمَا سواهُ) أَي سوى مَا يَصح نَفيهَا (مَخْصُوص) من عُمُوم نَفيهَا (بِالْعقلِ) أَي بِدَلِيل الْعقل، فَعلم اتِّفَاق للْكُلّ على دلَالَة الْعُمُوم وعَلى عدم إِرَادَته للمصارف الْمَذْكُورَة، وَإِذا كَانَ دلَالَة الْعُمُوم وَعدم إِرَادَته مُتَّفقا عَلَيْهِ والنزاع فِيمَا هُوَ المُرَاد (فالاستدلال) على عُمُوم نفي الْمُسَاوَاة (بِأَنَّهُ) أَي النَّفْي الْمَذْكُور (نفي) دَاخل (على نكرَة: يَعْنِي الْمصدر) الَّذِي تضمنه الْمَنْفِيّ كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب (فِي غير مَحل النزاع، إِنَّمَا هُوَ) أَي النزاع (فِي أَن المُرَاد من عُمُومه بعد تَخْصِيص الْعقل مَا لَا بُد مِنْهُ) أَي من تَخْصِيصه (هَل يخص أَمر الْآخِرَة فَلَا يُعَارض) المُرَاد (آيَات الْقصاص الْعَامَّة) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} - الْآيَة (فَيقْتل الْمُسلم بالذمي أَو يعم الدَّاريْنِ) الدُّنْيَا وَالْآخِرَة (فيعارض) المُرَاد آيَات الْقصاص فيخص (فَلَا يقتل الْمُسلم بالذمي. قَالَ الشَّارِح. قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله: وَحَاصِله أَنه هَل ثمَّ قرينَة تصرف نفي الْمُسَاوَاة إِلَى خُصُوص أَمر الْآخِرَة أَو لَا فَيعم الدَّاريْنِ (قَالَ بِهِ) أَي بِالْعُمُومِ (الشَّافِعِيَّة، وَالْحَنَفِيَّة) خصوه (بِالْأولِ) أَي بِأَمْر الْآخِرَة (لقَرِينَة تعقيبه) أَي النَّفْي الْمَذْكُور (بِذكر الْفَوْز) قَالَ الله تَعَالَى - {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} - (أَصْحَاب الْجنَّة هم الفائزون ثمَّ فِي الْآثَار مَا يُؤَيّدهُ) أَي قَول الْحَنَفِيَّة: مِنْهَا (حَدِيث) عبد الرَّحْمَن (بن الْبَيْلَمَانِي) بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَاللَّام المفتوحتين بَينهمَا يَاء تَحْتَانِيَّة من مشاهير التَّابِعين، روى عَن ابْن عمر، وَعنهُ ابْنه قَالَ أَبُو حَاتِم ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف لَا تقوم بِهِ الْحجَّة قَالَ (قتل(1/250)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسلما بمعاهد، الحَدِيث) يَعْنِي قَوْله وَقَالَ: أَنا أَحَق من وفى بِذِمَّتِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله وَعبد الرَّزَّاق وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر مَرْفُوعا وَأعله (وَنَحْوه) مَا روى الْمَشَايِخ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ (إِنَّمَا بذلوا الْجِزْيَة لتَكون دِمَاؤُهُمْ كدمائنا الخ) وَأَمْوَالهمْ كأموالنا وَلم يجده المخرجون بِهَذَا اللَّفْظ، وَإِنَّمَا روى الشَّافِعِي وَالدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَد فِيهِ أَبُو الْجنُوب وَهُوَ مضعف، عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ: من كَانَت لَهُ ذمتنا فذمته كذمتنا وديته كديتنا (فَظهر أَن الْخلاف فِي تطبيق كل من المذهبين على دَلِيل تفصيلي) فَهِيَ مسئلة فقهية لَا أَصْلِيَّة كَمَا عرفت من عدم الِاخْتِلَاف فِي دلَالَة قَوْله تَعَالَى - {لَا يَسْتَوِي} - إِلَى آخِره على الْعُمُوم إِلَى آخِره.
مسئلة
(خطاب الله تَعَالَى للرسول) بتوجيه الْخطاب إِلَيْهِ (بِخُصُوصِهِ) كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا أَيهَا الرَّسُول، لَئِن أشركت} : قد نصب فِيهِ خلاف) وَمن ناصبيه ابْن الْحَاجِب (فالحنفية) وَأحمد قَالُوا (يتَنَاوَل الْأمة) وَالْمُصَنّف رَحمَه الله لم يلْتَفت إِلَى مَا ذكره الأسنوي من أَن ظَاهر كَلَام الشَّافِعِيَّة يوافقهم فَقَالَ (وَالشَّافِعِيَّة لَا) يتناولهم (مستدلين) أَي الشَّافِعِيَّة (بِالْقطعِ من) أَن (اللُّغَة بِأَن مَا للْوَاحِد لَا يتَنَاوَل غَيره) أَي غير ذَلِك الْوَاحِد (وَبِأَنَّهُ لَو عمهم) أَي الْأمة كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّة (كَانَ إخراجهم) أَي الْأمة فِيمَا إِذا دلّ الدَّلِيل على أَنهم لم يرادوا (تَخْصِيصًا، وَلَا قَائِل بِهِ) أَي التَّخْصِيص (وَلَيْسَ) هَذَا الِاسْتِدْلَال (فِي مَحل النزاع فَإِن مُرَاد الْحَنَفِيَّة) بِعُمُوم إيَّاهُم (أَن أَمر مثله) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مِمَّن لَهُ منصب الِاقْتِدَاء والمتبوعية يفهم مِنْهُ) أَي من أمره (أهل اللُّغَة شُمُول أَتْبَاعه عرفا) لَا وضعا كَمَا إِذا قيل لأمير اركب للمناجزة) بِالْجِيم وَالزَّاي الْمُعْجَمَة الْمُحَاربَة، وَبِالْحَاءِ وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ الْمُقَاتلَة (غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ منصب الِاقْتِدَاء بِهِ) والمتبوعية يفهم مِنْهُ: أَي من أمره (فِي كل شَيْء) مِمَّا يُخَاطب بِهِ (إِلَّا) مَا يخص بِهِ (بِدَلِيل) يُفِيد اخْتِصَاصه (لِأَنَّهُ بعث ليؤتسى بِهِ، فَكل حكم خُوطِبَ هُوَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِهِ عَم) الْأمة (عرفا) فِي خطاباته (وَإِن كَانَ فعله) أَي ذَلِك الحكم (لَا يتَوَقَّف على أعوان كالمناجزة) أَي كتوقف الْمُقَاتلَة الْمَأْمُور بهَا الْأَمِير (واذن) أَي وَإِذا كَانَ عَاما عرفا (يلتزمون) أَي الْحَنَفِيَّة (أَن إخراجهم) أَي الْأمة من خطابه بِخُصُوصِهِ (تَخْصِيص فَإِنَّهُ) أَي التَّخْصِيص (كَمَا يرد على الْعَام لُغَة يرد على الْعَام عرفا، واستدلالهم) أَي الْحَنَفِيَّة للْعُمُوم الْمَذْكُور {بِنَحْوِ يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} - فطلقوهن لعدهن - مِمَّا أفرد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/251)
بِالْخِطَابِ وَأمر بِصِيغَة الْعُمُوم الدَّالَّة على إِرَادَة الْعُمُوم فِي صدر الْكَلَام (وَبِأَنَّهُ لَو لم يعمهم لَكَانَ خَالِصَة لَك) بعد قَوْله - {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك} - إِلَى قَوْله - {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها} - (غير مُفِيد) لِأَن الِاخْتِصَاص والخلوص على تَقْدِير عدم الْعُمُوم ثَابت بِالْخِطَابِ الْخَاص (و) قَوْله تَعَالَى {زَوَّجْنَاكهَا لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} - فِي أَزوَاج أدعيائهم - فَأخْبر أَنه إِنَّمَا أَبَاحَ تَزْوِيجه إِيَّاهَا ليَكُون شَامِلًا للْأمة، وَلَو كَانَ خطابه خَاصّا لما حصل الْمَقْصُود (لبَيَان التَّنَاوُل الْعرفِيّ) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي واستدلالهم (لَا) لبَيَان التَّنَاوُل (اللّغَوِيّ، فأجوبتهم) أَي الشَّافِعِيَّة عَن هَذِه الاستدلالات (الَّتِي حاصلها أَن الْفَهم) أَي فهم الْأمة من هَذِه النُّصُوص (بِغَيْر الْوَضع اللّغَوِيّ طائحة) أَي سَاقِطَة لِأَن الْحَنَفِيَّة معترفون، بِعَدَمِ الْعُمُوم لُغَة، ثمَّ تعقب الْحَنَفِيَّة فِي استدلالهم ب {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك} الْآيَة فَقَالَ (غير أَن نفي الْفَائِدَة مُطلقًا) على ذَلِك التَّقْدِير (مِمَّا يمْنَع لجَوَاز كَونهَا) أَي الْفَائِدَة (منع الْإِلْحَاق) أَي إِلْحَاق الْأمة بِهِ قِيَاسا (وَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ) أَي نفي الْفَائِدَة مُطلقًا (فِي الْوَجْه) أَي وَجه الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ (وَيَكْفِي) فِي الِاسْتِدْلَال لَهُم بهَا (أَن خَالِصَة لَك ظَاهر فِي فهم الْعُمُوم) للْأمة من قَوْله - {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك} - (لولاه) أَي لفظ خَالِصَة لَك وظهوره عَلامَة كَونه عَاما عرفا، ثمَّ أَن الشَّافِعِيَّة قد ذكرُوا فِي نفي إِرَادَة الْعُمُوم أَنه يُنَافِي كَون أَفْرَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالذكر للتشريف فَأجَاب عَنهُ بقوله (وَكَون إِفْرَاده بِالذكر للتشريف لَا يُنَافِي الْمَطْلُوب) وَهُوَ الْعُمُوم عرفا (فَمن التشريف أَن خصّه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِهِ) أَي الْخطاب بِحَسب الذّكر (وَالْمرَاد أَتْبَاعه مَعَه) وَإِلَّا لَكَانَ مُقْتَضى هَذِه الْإِرَادَة أَن يُقَال: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا وَنَحْو ذَلِك (وَعرف) من هَذَا التَّقْدِير (أَن وَضعهَا) أَي هَذِه المسئلة معنونة بعنوان (الْخطاب لوَاحِد من الْأمة هَل يعم لَيْسَ بحيد) لِأَن الْحَنَفِيَّة لَا يَقُولُونَ خطاب من لَيْسَ لَهُ منصب الِاقْتِدَاء يعم الْأمة عرفا، بل هَذَا مَوْضُوع مَا يَلِي هَذِه: أَعنِي قَوْله.
مسئلة
(خطاب الْوَاحِد لَا يعم غَيره لُغَة، وَنقل عَن الْحَنَابِلَة عُمُومه، ومرادهم خطاب الشَّارِع لوَاحِد بِحكم يعلم عِنْده) أَي عِنْد ذَلِك الْخطاب (تعلقه) أَي ذَلِك الحكم (بِالْكُلِّ إِلَّا بِدَلِيل) يَقْتَضِي التَّخْصِيص (كَقَوْلِه حكمي على الْوَاحِد حكمي على الْجَمَاعَة) وَقد مر فِي الْبَحْث الثَّانِي من مبَاحث الْعَام، وَتكلم فِي سَنَده (وَفهم الصَّحَابَة ذَلِك) أَي أَن حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْوَاحِد حكمه على الْجَمَاعَة (حَتَّى حكمُوا على غير مَا عز بِمَا حكم بِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/252)
من الرَّجْم (عَلَيْهِ) أَي على مَا عز حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ خشيت أَن يطول بِالنَّاسِ زمَان حَتَّى يَقُول قَائِل لَا نجد الرَّجْم فِي كتاب الله فيضلوا بترك فَرِيضَة أنزلهَا الله، أَلا وَإِن الرَّجْم حق على من زنا وَقد أحصن إِذا قَامَت الْبَيِّنَة أَو كَانَ الْحَبل أَو الِاعْتِرَاف: رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَقَالَ أَيْضا كَمَا فِي البُخَارِيّ، وحكوا على ذَلِك إِجْمَاع الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ ليعتد بِالْجَمَاعَة (ولعموم الرسَالَة بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود) رَوَاهُ أَحْمد وَابْن حبَان وَأَبُو دَاوُد لَكِن بِتَقْدِيم الْأَحْمَر على الْأسود: أَي إِلَى الْعَرَب والعجم، وَقيل إِلَى الْإِنْس وَالْجِنّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} وَإِذا كَانَ مُرَاد الْحَنَابِلَة هَذَا (فَكَلَام الخلافيين فِيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة (كَالَّتِي قبلهَا) من حَيْثُ عدم التوارد على مَحل وَاحِد.
مسئلة
(الْخطاب الَّذِي يعم العبيد لُغَة) كيا أَيهَا النَّاس: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا (هَل يتناولهم شرعا فيعمهم حكمه) أَي حكم الْخطاب الْمَذْكُور إيَّاهُم (الْأَكْثَر نعم) أَي قَالَ أَكثر الْأُصُولِيِّينَ يعم بتناولهم شرعا ويعم حكمه إيَّاهُم (وَقيل لَا) يتناولهم شرعا وَلَا يعمهم حكمه. (و) قَالَ (الرَّازِيّ الْحَنَفِيّ) يتناولهم شرعا (فِي حقول الله تَعَالَى فَقَط) . قَالَ الْكرْمَانِي لَا كَلَام فِي أَن مثل هَذَا إِذا لم يتَضَمَّن حكما يحْتَاج فِي قِيَامه إِلَى صرف زمَان يتناولهم، بل فِيمَا إِذا تضمن مَا يمنعهُ من الِاشْتِغَال بِقِيَام مهمات السادات (وَحَاصِله) أَي هَذَا الْخلاف (أَن الْخلاف فِي إرادتهم) أَي العبيد (بِاللَّفْظِ الْعَام وَعدمهَا) أَي عدم إرادتهم بِهِ (واستدلال النَّافِي) لتناولهم (بِمَا ثَبت شرعا من كَون مَنَافِعه) أَي العَبْد (مَمْلُوكَة لسَيِّده فَلَو تناولهم) الْخطاب الْمَذْكُور (نَاقض) الْخطاب الْمَذْكُور (دَلِيل عدم الْإِرَادَة) يَعْنِي مِمَّا يدل على مملوكية منافعهم المستلزمة عدم مُطَالبَته سُبْحَانَهُ إيَّاهُم بصرفها فِي خدمته سُبْحَانَهُ لغناه عَنْهُمَا، وحاجة الْعباد إِلَيْهِ (وَأما قَوْلهم) أَي النافين (خرج) العَبْد (من) خطاب (نَحْو الْجِهَاد، وَالْجُمُعَة، وَالْحج) والتبرعات وَبَعض الأقارير مِمَّا دلّ عَلَيْهِ من النَّص وَالْإِجْمَاع (فَلَو كَانَ دَاخِلا) فِي تِلْكَ العمومات قبل الْإِخْرَاج (أَي مرَادا) من حَيْثُ الْإِرَادَة وَإِنَّمَا قيد بِهِ، لِأَن الدُّخُول من حَيْثُ التَّنَاوُل بِحَسب الْمَفْهُوم اللّغَوِيّ لَا نزاع فِيهِ (كَانَ) ذَلِك الْإِخْرَاج بعد الدُّخُول مرَادا (تَخْصِيصًا، وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم التَّخْصِيص (فَتجوز بالتخصيص عَن النّسخ) جَوَاب أما: أَي قَوْلهم الْمَذْكُور بِاعْتِبَار تعبيرهم بالتخصيص تجوزا أُرِيد بِهِ الْمَعْنى الْمجَازِي للتخصيص وَهُوَ النّسخ، لِأَن إِرَادَة الْعُمُوم مُسْتَلْزم(1/253)
لتشريفه، ثمَّ إِفَادَة مَا يُخَالف الْعُمُوم نسخ لَهُ (وَالْجَوَاب) عَن قَوْلهم الَّذِي حَاصله النّسخ (بِأَن خُرُوجه) أَي العَبْد من تِلْكَ العمومات (بِالدَّلِيلِ) الْمُفِيد لَهُ (يلْزم أَن مَعْنَاهُ) أَي كَون مَعْنَاهُ أَنه (لم يرد) العَبْد من ذَلِك الْعُمُوم (لدَلِيل) يدل على عدم إِرَادَته (فضلا عَن إِرَادَته، ثمَّ نُسْخَة) يَعْنِي إِذا لم يكن أَرَادَهُ أصلا لزم بِالطَّرِيقِ الأولى أَن لَا يكون ثمَّة مَجْمُوع الْأَمريْنِ من الْإِرَادَة والنسخ الْمَوْقُوف على الْإِرَادَة، وَالضَّمِير فِي نُسْخَة رَاجع إِلَى الحكم الْمُتَعَلّق بِالْعَبدِ على تَقْدِير الْإِرَادَة (عَنهُ) أَي عَن العَبْد الْمُتَعَلّق بالنسخ (وَحَاصِله) أَي حَاصِل الْجَواب (أَن اللَّازِم) فِي نفس الْأَمر (التَّخْصِيص الاصطلاحي بدليله لَا النّسخ) وَهُوَ أَن الْخَارِج عَن حكم الْعَام فِي نفس الْأَمر لم يكن مرَادا من اللَّفْظ الدَّال على الْعُمُوم (وَقد يُقرر) تَوْجِيه المسئلة هَكَذَا (دلّ) الدَّلِيل (على عدم إِرَادَته) أَي العَبْد (فِي بَعْضهَا) أَي فِي الْأَحْكَام (وَعَلَيْهَا فِي بَعْضهَا) أَي وعَلى إِرَادَته فِي بعض الْأَحْكَام (فالمثبت (للتناول شرعا (يعْتَبر بالتناول) لُغَة لِأَن الأَصْل مطابقته) أَي التَّنَاوُل (الْإِرَادَة، والنافي) بقول (عرض الِاشْتِرَاك فِي الِاسْتِعْمَال) لَا يُرَاد فِي بعض الاستعمالات، وَلَا يُرَاد فِي بعض الآخر (فتوقف دُخُولهمْ) أَي العبيد (إِلَى الدَّلِيل لِأَن الأَصْل عدم الدُّخُول (أَو قَامَ) الدَّلِيل مَعْطُوف على عرض (على عدمهَا) أَي الْإِرَادَة (وَهُوَ) أَي الدَّلِيل الْقَائِم على عدم الْإِرَادَة (مالكية السَّيِّد لَهَا) أَي لمنافعه (والرازي يمنعهُ) أَي عدم إرادتهم (فِي حُقُوقه) تَعَالَى (وَالدَّلِيل) على إرادتهم فِيهَا (الأكثرية) لدخولهم فِي الخطابات الْوَارِدَة فِي حُقُوق الله تَعَالَى على وفْق اللُّغَة، وأكثرية إرادتهم فِي الِاسْتِعْمَال إِذا انْضَمَّ إِلَيْهَا مَا تَقْتَضِيه اللُّغَة يصلح دَلِيلا للإرادة (فَوَجَبَ التَّفْصِيل) بَين حق الله وَغَيره (و) بِهَذَا التَّفْصِيل (انتظم) أَي صَحَّ (منع عُمُوم مملوكية مَنَافِعه) للسَّيِّد فِي جَمِيع الْأَوْقَات، بل يسْتَثْنى مِنْهَا أَوْقَات الْأَعْمَال الْمَطْلُوبَة مِنْهُ عِنْد الضّيق حَتَّى لَو أمره فِي آخر وَقت الصَّلَاة بِحَيْثُ لَو أطاعه لفاتته وَجب عَلَيْهِ صرف ذَلِك الْوَقْت فِي الصَّلَاة، وَلَا يجوز للسَّيِّد استخدامه (فَانْدفع الأول) أَي التَّنَاقُض الْمَذْكُور فرجح قَول الشَّيْخ أبي بكر الرَّازِيّ.
مسئلة
(خطاب الله سُبْحَانَهُ الْعَام: ك {يَا عبَادي} - {يَا أَيهَا النَّاس} - شَمله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِرَادَته) بِالرَّفْع فَاعل شَمل، وإضافته إِلَى ضمير الْخطاب لأدنى مُلَابسَة (كَمَا تنَاوله) أَي الْخطاب الْمَذْكُور الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لُغَة) وَلَو قَالَ شَمله إِرَادَة كَمَا شَمله لُغَة لَكَانَ أظهر (عِنْد الْأَكْثَر) سَوَاء صدر بالْقَوْل أَو التَّبْلِيغ أَولا، والظرف مُتَعَلق بشمله (وَقيل لَا)(1/254)
يَشْمَلهُ إِرَادَته (لِأَن كَونه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مبلغه) أَي الْخطاب للْأمة (مَانع) من ذَلِك، وَإِلَّا لَكَانَ مبلغا ومبلغا بخطاب وَاحِد، وَلَا يظْهر امْتنَاع اجْتِمَاعهمَا فِي شخص وَاحِد من جِهَتَيْنِ فَتَأمل (وَلذَا) أَي ولكونه مَانِعا من شُمُوله الْإِرَادَة (خرج) رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من أَحْكَام عَامَّة) أَي لم يدْخل فِيهَا (كسنية الضُّحَى) فَإِنَّهَا مَنْدُوبَة للْأمة على القَوْل الْأَشْبَه، وَقد ذهب غير وَاحِد من أَعْيَان الْمُتَأَخِّرين: مِنْهُم النَّوَوِيّ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَة عَلَيْهِ. قَالَ الشَّارِح وَالْأَوْجه عَدمه فَإِن الخصوصية لَا تثبت إِلَّا بِدَلِيل صَحِيح وَهُوَ مَقْصُود، وَقد جَاءَ مِمَّا هُوَ أقوى مِنْهُ مَا يُعَارضهُ، وَقد نقل فِي شرح الْمُهَذّب عَن الْعلمَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يداوم على صَلَاة الضُّحَى مَخَافَة أَن تفرض على الْأمة فيعجزوا عَنْهَا، وَكَانَ يَفْعَلهَا فِي بعض الْأَوْقَات (وَحل أَخذ الصَّدَقَة) فَرضهَا وتطوعها تَشْرِيفًا لَهُ فَإِنَّهَا أوساخ النَّاس على مَا فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح (و) حُرْمَة (الزِّيَادَة على أَربع) من الزَّوْجَات بِالْإِجْمَاع وَأما الْكَلَام فِي الزِّيَادَة على التسع، فَالْأَصَحّ الْجَوَاز عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " مَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أحل لَهُ النِّسَاء ". قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح، وَالْحَاكِم صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلَفظه " حَتَّى أحل لَهُ من النِّسَاء مَا شَاءَ " (وَالْجَوَاب الْمبلغ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام للْأَحْكَام الْعَامَّة إِلَى وَاحِد من الْعباد) حَال كَون ذَلِك الْوَاحِد (مشمولا بهَا) أَي بِتِلْكَ الْأَحْكَام (ليسمعهم) أَي الْعباد (إِيَّاهَا) أَي الْأَحْكَام وَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ حَال تَبْلِيغ جِبْرِيل الْخطاب الَّذِي هُوَ دَاخل فِيهِ (فَلَا مُوجب لِخُرُوجِهِ، وَهُوَ مشمول بِهِ لُغَة فَمَا تحقق خُرُوجه مِنْهُ لزم كَونه لدَلِيل خَاص فِيهِ، فتفصيل الْحَلِيمِيّ) والصيرفي (بَين أَن يكون) الْخطاب الْعَام (مُتَعَلق قَول: كقل يَا عبَادي، فَيمْنَع) شُمُوله إِيَّاه (وَإِلَّا) أَي وَإِن يكن مُتَعَلق قَول (فَلَا) يمْنَع (مُنْتَفٍ) خبر تَفْصِيل الْحَلِيمِيّ، وَقد عرفت وَجه الانتفاء من التَّنَاوُل بِحَسب اللُّغَة فِي الْكل وَعدم الْمُوجب لعدم الْإِرَادَة سوى دَلِيل التَّخْصِيص فِي الْبَعْض على أَن الخطابات كلهَا مقدرَة بِنَحْوِ: قل، أَو بلغ على مَا قَالَ بَعضهم، ورد بِالْمَنْعِ، وَلَو سلم فَلَيْسَ الْمُقدر كالملفوظ من كل وَجه.
مَسْأَلَة
(الْخطاب الشفاهي كيا أَيهَا الَّذين آمنُوا: لَيْسَ خطابا لمن بعدهمْ) أَي الَّذين سيوجدون بعد الْمَوْجُودين فِي زمَان الْخطاب (وَإِنَّمَا يثبت حكمه) أَي الْخطاب الشفاهي (لَهُم) أَي لمن سيوجد (بِخَارِج) من الْخطاب من نَص أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس (دلّ) ذَلِك (على أَن كل(1/255)
خطاب علق بالموجودين حكما فَإِنَّهُ يلْزم من بعدهمْ. وَقَالَت الْحَنَابِلَة وَأَبُو الْيُسْر من الْحَنَفِيَّة هُوَ) أَي الْخطاب الشفاهي (خطاب لَهُم) أَي لمن بعدهمْ أَيْضا (لنا الْقطع بِعَدَمِ التَّنَاوُل) أَي تنَاول الْخطاب الشفاهي لَهُم (لُغَة) على مَا هُوَ التَّحْقِيق. (قَالُوا: لم تزل عُلَمَاء الْأَمْصَار فِي الْأَعْصَار يستدلون بِهِ) أَي بِالْخِطَابِ الشفاهي (على الْمَوْجُودين) فِي أعصارهم، وَهُوَ إِجْمَاع لَهُم على الْعُمُوم (أُجِيب لَا يتَعَيَّن كَونه) أَي كَون الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَيْهِم (لتناولهم) أَي لتناول الْخطاب الْمَذْكُور إيَّاهُم (لجَوَاز كَونه) أَي استدلالهم بِهِ عَلَيْهِم (لعلمهم) أَي الْعلمَاء (بِثُبُوت حكم مَا تعلق بِمن قبلهم عَلَيْهِم) أَي على من بعدهمْ بِنَصّ، أَو إِجْمَاع، أَو قِيَاس (وَأما استدلالهم) أَي الْحَنَابِلَة بِأَنَّهُ (لَو لم يتَعَلَّق) الْخطاب الْمَذْكُور (بهم) أَي بِمن سيوجد (لم يكن) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مُرْسلا إِلَيْهِم) إِذْ لَا معنى للإرسال إِلَيْهِم إِلَّا أَن يُقَال لَهُ بلغ أحكامي إِلَيْهِم، وَلَا تَبْلِيغ بِهَذِهِ العمومات (فَظَاهر الضعْف) للْمَنْع الظَّاهِر للملازمة الْمَذْكُورَة، إِذْ الْإِرْسَال إِلَيْهِم لَا يسْتَلْزم الْخطاب الشفاهي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل، بل يتَحَقَّق بِحُصُول الْخطاب للْبَعْض، وللبعض بِنصب الدَّلَائِل على أَن حكمهم حكم الَّذِي شافههم (وَاعْلَم أَنه إِذا نصر الْخطاب فِي الْأَزَل للمعدوم) كَمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَة تَكْلِيف الْمَعْدُوم نَصره على مَا ذهب إِلَيْهِ الأشاعرة (وَمَعْلُوم أَن النّظم القرآني يُحَاذِي دلاله) أَي من حَيْثُ الدّلَالَة الْمَعْنى (الْقَائِم بِهِ تَعَالَى قوي قَوْلهم) أَي الْحَنَابِلَة جَوَاب إِذا، نقل عَن الْعَلامَة أَنه ذكر فِي الْكتب الْمَشْهُورَة أَن الْحق أَن الْعُمُوم مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَهُوَ قريب (وَيُجَاب بِأَن التَّعَلُّق) أَي تعلق الْخطاب بالمعدومين (فِي الْأَزَل يدْخلهُ) أَي التَّعْلِيق الأزلي (معنى التَّعْلِيق على مَا عرف) من أَن مَعْنَاهُ أَن الْمَعْدُوم الَّذِي علم الله أَنه يُوجد مَطْلُوب مِنْهُ فِي الْأَزَل طلبا غير تنجيزي، بِمَعْنى أَنه إِذا وجد بِصفة التَّكْلِيف يَأْتِي بذلك الْفِعْل كَمَا تَجِد فِي نَفسك طلب صَلَاح ولد سيوجد، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنع الطّلب التنجيزي من الْمَعْدُوم فِي صُورَة الْأَمر وَالنَّهْي على مَا تبين فِي مَحَله (وَالْكَلَام) أَي الْكَلَام المنازع فِيهِ إِنَّمَا هُوَ (فِي النّظم الْخَالِي عَنهُ) أَي عَن معنى التَّعْلِيق، وَهُوَ تَوْجِيه الْكَلَام اللَّفْظِيّ التنجيزي نَحْو الْغَيْر للتفهيم، وَهَذَا لَا بُد فِيهِ من وجود الْمُخَاطب، فَهَذَا يُقَوي قَول الْأَكْثَرين.
مسئلة
(الْمُخَاطب) بِالْكَسْرِ (دَاخل فِي عُمُوم مُتَعَلق خطابه عِنْد الْأَكْثَر: مثل) قَوْله تَعَالَى { (وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم، وَأكْرم من أكرمك وَلَا تهنه} فَالله عَالم بِذَاتِهِ} ، والآمر الناهي إِذا أكْرم غَيره(1/256)
كَانَ الْغَيْر مَأْمُورا بإكرامه، مَنْهِيّا عَن إهانته لوُجُود الْمُقْتَضى وَانْتِفَاء الْمَانِع (وَقيل كَونه) أَي الْمُتَكَلّم (الْمُخَاطب يُخرجهُ) من ذَلِك (وَالْجَوَاب منع الْمُلَازمَة) بَين كَونه مُخَاطبا، وَخُرُوجه عَن ذَلِك الْخطاب (وَأما) عُمُوم قَوْله (الله خَالق كل شَيْء فمخصوص بِالْعقلِ) لِامْتِنَاع خلق الْقَدِيم، وَلَا سِيمَا الْوَاجِب لذاته: وَهَذَا جَوَاب احتجاج المانعين لدُخُوله، تَقْرِيره لَو كَانَ دَاخِلا لزم كَونه تَعَالَى خَالِقًا لنَفسِهِ بقوله تَعَالَى - {خَالق كل شَيْء} - فحاصل الْجَواب أَنه لَوْلَا الْمُخَصّص الْعقلِيّ لَكَانَ دَاخِلا، وَقيل أَن التَّخْصِيص خُرُوج مَا يقتضى ظَاهر اللَّفْظ دُخُوله، وَالله سُبْحَانَهُ وَإِن كَانَ شَيْئا، لَكِن عِنْد ذكر الْأَشْيَاء لَا يفهم دُخُوله، وَفِيه مَا فِيهِ.
مسئلة
(الْعَام فِي معرض الْمَدْح والذم كَانَ الْأَبْرَار) لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم (يعم) اسْتِعْمَالا كَمَا هُوَ عَام وضعا (خلافًا للشَّافِعِيّ حَتَّى منع بَعضهم) أَي الشَّافِعِيَّة (الِاسْتِدْلَال بالذين يكنزون) الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله الْآيَة (على وُجُوبهَا) أَي الزَّكَاة (فِي الْحلِيّ) لِأَن الْقَصْد بَيَان الكانز، لَا بَيَان التَّعْمِيم، وَإِثْبَات الحكم فِي جَمِيع المتناولات اللُّغَوِيَّة (لنا عَام بصيغته) من غير معَارض فَوَجَبَ الْعَمَل. (قَالُوا) أَي الشَّافِعِيَّة (عهد فيهمَا) أَي الْمَدْح والذم (ذكر الْعَام مَعَ عدم إِرَادَته) أَي الْعُمُوم (مُبَالغَة) فِي الْحَث على الطَّاعَة، والزجر عَن الْمعْصِيَة، فالقصد من صِيغَة الْعُمُوم فيهمَا التَّأْكِيد والاهتمام فِي الْحَث والزجر، لَا لعُمُوم (وَأجِيب بِأَنَّهَا) أَي الْمُبَالغَة (لَا تنافيه) أَي الْعُمُوم (إِذْ كَانَت الْمُبَالغَة (للحث) لَا مَكَان الْجمع بَين المصلحتين، فَلَا صَارف عَن الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة (بِخِلَاف) الْمُبَالغَة (فِي نَحْو: قتلت النَّاس كلهم) فَإِن معنى الْمُبَالغَة على تَنْزِيل قتل الْبَعْض منزلَة قتل الْكل لكَوْنهم كبنيان وَاحِد على أَن الْقَرِينَة الصارفة عَن إِرَادَة الْعُمُوم فِيهِ وَاضِحَة لعدم إِمْكَان قتل الْكل، وَعدم إِرَادَة الْعُمُوم فِي أَمْثَاله كَمَا لَا يخفى.
مسئلة
(مثل خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة لَا يُوجِبهُ) أَي الْأَخْذ (من كل نوع) من أَنْوَاع المَال (عِنْد الْكَرْخِي وَغَيره) كالآمدي وَابْن الْحَاجِب (خلافًا للْأَكْثَر، لَهُ) أَي للكرخي (يصدق بِأخذ صَدَقَة) وَاحِدَة بالنوع (مِنْهَا) أَي من جملَة أَمْوَالهم (أَنه أَخذ صَدَقَة من أَمْوَالهم)(1/257)
إِذْ الْمَأْمُور بِهِ أَخذ صَدَقَة مَا، وَقد تحقق فِي ضمن تِلْكَ الْوَاحِدَة (وهم) أَي الْأَكْثَر (يمنعونه) أَي صدق ذَلِك (لِأَنَّهُ) أَي لفظ أَمْوَال (جمع مُضَاف، فَالْمَعْنى) خُذ (من كل مَال) صَدَقَة (فَيعم) الْمَأْخُوذ (بِعُمُومِهِ) أَي الْمَأْخُوذ مِنْهُ (أُجِيب بِأَن عُمُوم كل تفصيلي) أَي لاستغراق كل وَاحِد وَاحِد مفصلا (بِخِلَاف الْجمع) فَإِن عُمُومه لَيْسَ بتفصيلي (للْفرق الضَّرُورِيّ: بَين للرِّجَال عِنْدِي دِرْهَم، وَلكُل رجل) عِنْدِي دِرْهَم حَتَّى يلْزم فِي الأول دِرْهَم وَاحِد للْجَمِيع، وَفِي الثَّانِي دِرْهَم لكل رجل (وَهَذَا) الْجَواب (يُشِير إِلَى أَن استغراق الْجمع الْمحلي لَيْسَ كالمفرد، وَهُوَ) أَي كَون استغراقه لَيْسَ كالمفرد (خلاف) الْمَذْهَب (الْمَنْصُور، بل هُوَ) أَي الْجمع الْمحلي (كالمفرد، وَإِن صَحَّ إِرَادَة الْمَجْمُوع بِهِ) أَي الْمحلي (لَا كل فَرد بِالْقَرِينَةِ) الصارفة عَن كل فَرد أَلْبَتَّة لإِرَادَة الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ كهذه الدَّار لَا تسع الرِّجَال (وَقد ينصر) كَونه لَيْسَ كالمفرد (بِالْفرقِ: بَين للْمَسَاكِين عِنْدِي دِرْهَم، وللمسكين) عِنْدِي دِرْهَم عِنْد قصد الِاسْتِغْرَاق تتبادر إِرَادَة الْمَجْمُوع فِي الْجمع، وكل وَاحِد وَاحِد فِي الْمُفْرد (قبل مُلَاحظَة اسْتِحَالَة انقسامه) أَي الدِّرْهَم الْوَاحِد (على الْكل) فَإِنَّهُ بعد ملاحظتها يتَعَيَّن إِرَادَة خلاف الظَّاهِر، وَهُوَ الْمَجْمُوع فَيكون الْمَعْنى: لكل وَاحِد عِنْدِي دِرْهَم (و) ينصر أَيْضا (بتبادر صدق مَا تقدم) من أَخذ صَدَقَة من أَمْوَالهم على أَخذ صَدَقَة وَاحِدَة مِنْهَا (فَالْحق أَن عمومها) أَي الجموع المحلاة (مجموعي) بِمَعْنى أَن الحكم الْمَنْسُوب إِلَيْهَا يثبت للمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع لَا لكل وَاحِد من آحادها (وَإِن قُلْنَا أَن أَفْرَاد الْجمع الْعَام الواحدان) أَي أَفْرَاد مَفْهُوم مفرده، لَا أَفْرَاد مَفْهُومه: أَعنِي الْجَمَاعَات كَمَا سبق (فَإِنَّهُ) أَي كَونه مُسْتَغْرقا لآحاد الْمُفْرد (لَا يُنَافِيهِ) أَي كَون عمومها مجموعيا بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (وَلُزُوم الحكم الشَّرْعِيّ أَو) لُزُوم الحكم (مُطلقًا) شَرْعِيًّا كَانَ أَو غَيره (لكل) من الْآحَاد (ضَرُورَة عدم تجزؤ الْمَطْلُوب) فِيمَا إِذا لم يكن الحكم الْمُتَعَلّق بِالْجمعِ الْمحلي أمرا قَابلا للتجزئة ليتصور أَن يكون الْمَطْلُوب من الجموع فعلا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يتَعَيَّن أَن يكون الْمَطْلُوب من كل وَاحِد فعلا آخر، وَقَوله ضَرُورَة مفعول لمَحْذُوف هُوَ خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي لُزُوم الحكم (وَغَيره) من الْقَرَائِن الدَّالَّة على أَن الحكم ثَابت لكل وَاحِد من آحَاد الْجمع الْمَذْكُور مَعْطُوف على عدم تجزؤ (كيحب الْمُحْسِنِينَ) للْعلم بحب كل محسن (وَالْحَاصِل أَنه) أَي عُمُوم الْجمع فِي الْآحَاد على وَجه الِانْفِرَاد (مُقْتَضى أَمر آخر غير اللُّغَة) وَالتَّحْقِيق الْمَذْكُور مَبْنِيّ على الْوَضع اللّغَوِيّ (وَصُورَة هَذِه المسئلة) يَعْنِي عنوانها (عِنْد الْحَنَفِيَّة الْجمع الْمُضَاف لجمع) أَي إِلَى جمع (كمن أَمْوَالهم لَا يُوجب إِثْبَات الحكم لَهُ) أَي إثْبَاته لَهُ مُضَافا إِلَى كل فَرد من آحَاد الْجمع(1/258)
سقط(1/259)
سقط(1/260)
الْمَنْطُوق لكل مَا صدق عَلَيْهِ الْمَفْهُوم) ثمَّ تعقب هَذَا التَّحْقِيق بقوله (وَعلمت أَن لفظ الْغَزالِيّ) الْمَذْكُور (ظَاهر فِي خِلَافه) أَي خلاف تَحْقِيق هَذَا الْمُحَقق: يَعْنِي شَارِح الْمُخْتَصر. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَظَاهر كَلَام الْمُسْتَصْفى أَن النزاع عَائِد إِلَى أَن الْعُمُوم من عوارض الْأَلْفَاظ خَاصَّة أم لَا قَالَ من يَقُول بِالْمَفْهُومِ قد يظنّ للمفهوم عُمُوما ويتمسك بِهِ، وَفِيه نظر لِأَن الْعُمُوم لفظ متشابه دلَالَته بِالْإِضَافَة إِلَى مسمياته، والتمسك بِالْمَفْهُومِ والفحوى لَيْسَ بتمسك بِلَفْظ بل بمسكوت (وَجَاز أَن يَقُول) الْغَزالِيّ (بِثُبُوت النقيض) أَي نقيض حكم الْمَنْطُوق (على الْعُمُوم وينسبه) أَي الْعُمُوم (إِلَى الأَصْل) فَإِن الأَصْل فِي كل مَا صدق عَلَيْهِ مَا يُقَابل الْمَنْطُوق إِلَّا أَن يكون فِيهِ حكم الْمَنْطُوق، إِذْ الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْعَدَم والاستصحاب إبْقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ (لَا للمفهوم) أَي لَا ينْسبهُ إِلَى الْمَفْهُوم ليسلم عَن النزاع (كطريق الْحَنَفِيَّة) أَي ويختار مثل طريقهم (فِيهِ) أَي فِي الْمَفْهُوم (على مَا تقدم) فِي بحث الْمَفْهُوم.
مسئلة
(قَالَت الْحَنَفِيَّة يقتل الْمُسلم بالذمي فرعا فقهيا) أَي حَال كَون مقولهم متفرعا على أصل أثبتوه بحجته لَا مثبتا بِنَصّ فِيهِ (مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقتل مُسلم بِكَافِر وَلَا) يقتل (ذُو عهد) من الْكفَّار (فِي) مُدَّة (عَهده، فَاخْتلف فِي مبناه) أَي مبْنى هَذَا الْفَرْع (فالآمدي) وَالْغَزالِيّ قَالَا: مبناه مَا أَفَادَهُ بقوله (عُمُوم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ يسْتَلْزم عُمُوم الْمَعْطُوف عِنْد الْحَنَفِيَّة خلافًا لَهُم) أَي الشَّافِعِيَّة (وَلَا بُد من تَقْدِير بِكَافِر مَعَ ذُو عهد، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقدر بِكَافِر (لم يقتل) ذُو عهد (بِمُسلم) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يدل على نفي قَتله مُطلقًا بِوَجْه من الْوُجُوه: وَهُوَ بَاطِل إِجْمَاعًا (فإمَّا) أَن يكون وَجه استلزام عُمُوم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ عُمُوم الْمَعْطُوف (لُغَة) أَي أمرا يَقْتَضِيهِ عرف اللُّغَة (على مَا قَالَ الْحَنَفِيَّة الْمَعْطُوف جملَة نَاقِصَة) فِي أَدَاء المُرَاد (فَيقدر خبر الأول فِيهَا) أَي فِي الْجُمْلَة الْمَذْكُورَة، وَإِنَّمَا عبروا عَن هَذَا الْمُقدر بِلَفْظ خبر (تجوزا بِهِ) أَي بالْخبر (عَن المتعلقات) بعلاقة التَّعْلِيق بصدر الْكَلَام (فنحو ضربت زيدا يَوْم الْجُمُعَة وعمرا يلْزم تَقْيِيد ضرب عَمْرو بِهِ) أَي بِيَوْم الْجُمُعَة (ظَاهرا) أَي رِعَايَة لظَاهِر الْكَلَام (وَوَجهه) أَي وَجه هَذَا اللُّزُوم لُغَة (أَن الْعَطف) فِي اللُّغَة (لتشريك الثَّانِي) مَعَ الأول (فِي الْمُتَعَلّق) قَالَ الشَّارِح بِفَتْح اللَّام، وَالْأَظْهَر بِكَسْرِهَا (وَهُوَ) أَي الْمُتَعَلّق فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي (عدم قَتله) أَي ذُو عهد (بِكَافِر وَإِن شركه) بالمعطوف مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (النجَاة فِي الْعَامِل وَلم يَأْخُذُوا الْقَيْد) أَي قيد الْعَامِل (فِيهِ) أَي فِي جَانب الْمَعْطُوف (لَكِن هَذَا)(1/261)
أَي أَخذ الْقَيْد فِي الْمَعْطُوف وتشريكه مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِيهِ أَيْضا (حق وَهُوَ لازمهم) أَي النُّحَاة (فَإِن الْعَامِل مُقَيّد بِالْفَرْضِ) لِأَن فرض الْكَلَام فِي الْعَامِل الْمُقَيد (فشركته) أَي الثَّانِي للْأولِ (فِيهِ) أَي فِي الْعَامِل الْمُقَيد (توجب تَقْيِيده) أَي الثَّانِي (مثله) أَي الأول (وَإِمَّا) يكون ذَلِك حَاصِلا (بمنفصل) أَي بِأَمْر مُنْفَصِل عَن اللَّفْظ (شَرْعِي) أَي يَقْتَضِيهِ الشَّرْع (هُوَ) أَي ذَلِك الْمُنْفَصِل الشَّرْعِيّ (لُزُوم عدم قتل الذِّمِّيّ بِمُسلم لولاه) أَي شركَة الْمَعْطُوف مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الْمُتَعَلّق الْمَذْكُور (ثمَّ هُوَ) أَي الْكَافِر فِي جَانب الْمَعْطُوف (مَخْصُوص بالحربي لقَتله) أَي ذِي الْعَهْد (بالذمي) إِجْمَاعًا (فَانْتفى اللَّازِم) وَهُوَ عُمُوم الثَّانِي (فينتفى الْمَلْزُوم، وَهُوَ عُمُوم الأول) فَلَا يحمل على عدم قتل الْمُسلم بِكَافِر مُطلقًا، بل بِكَافِر حَرْبِيّ (وَقيل) قَالَه الإِمَام الرَّازِيّ والبيضاوي وَغَيرهمَا (تَخْصِيص الْمَعْطُوف يُوجِبهُ) أَي التَّخْصِيص بذلك الْوَجْه (فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (وَهَذَا) القَوْل (لَازم للْأولِ أَي لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي قَالَه الْآمِدِيّ (لِأَن تَخْصِيصه) أَي الْمَعْطُوف (نفي عُمُومه، وَهُوَ) أَي نفي عُمُومه (انْتِفَاء اللَّازِم (فِي) القَوْل (الأول) يَعْنِي عُمُوم الْمَعْطُوف، لِأَن قَول الْآمِدِيّ عُمُوم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ يسْتَلْزم عُمُوم الْمَعْطُوف حَاصله أَن عُمُوم الْمَعْطُوف لَازم عُمُوم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ ملزوم، فَلَو لم يخص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بتخصيص الْمَعْطُوف لَكَانَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ عَاما، والمعطوف عَلَيْهِ خَاصّا وَلزِمَ انْتِفَاء اللَّازِم (وَنفي اللَّازِم) وَهُوَ عُمُوم الْمَعْطُوف (ملزوم لنفي الْمَلْزُوم) وَهُوَ عُمُوم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، وَإِذا كَانَ انْتِفَاء عُمُوم الْمَعْطُوف مستلزما لانْتِفَاء عُمُوم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ ثَبت قَوْلنَا تَخْصِيص الْمَعْطُوف يُوجب تَخْصِيص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (وَقد يُقَال) فِي تَقْرِير هَذَا تَخْصِيص الثَّانِي بِوَجْه (يسْتَلْزم تَخْصِيص الأول بِمَا خص بِهِ) الثَّانِي (وَلَا شكّ أَنه) أَي تَخْصِيص الثَّانِي بالحربي (مُرَاد) لما عرفت، فَالْأول كَذَلِك (فَيصير الحَدِيث دَلِيلا للحنفية على قتل الْمُسلم بالذمي) لِأَنَّهُ صَار الْمَعْنى: لَا يقتل مُسلم بحربي، وَلَا يقتل ذمِّي بحربي، وَيلْزمهُ أَن يقتل الْمُسلم بِغَيْر حَرْبِيّ، وَيدخل فِي غير الْحَرْبِيّ الذِّمِّيّ، ثمَّ رده بقوله (وَهَذَا إِنَّمَا يتم لَو قَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة) نَحوه يجوز إِيرَاده إلزاميا على الْقَائِل بِهِ (وَقيل قلبه) أَي تَخْصِيص الأول يسْتَلْزم تَخْصِيص الثَّانِي (غير أَنه) أَي هَذَا القَوْل (لَا يصلح لمبني الْفَرْع) الْمَذْكُور لعدم دَلِيل التَّخْصِيص فِي الأول (نعم لَا تلازم) بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ من جِهَة الْعُمُوم وَالْخُصُوص (فقد يعمان) أَي الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ (وَقد يعم أَحدهمَا لَا الآخر، وَكَون الْعَطف للتشريك يصدق إِذا شركت بعض أَفْرَاد الْمَعْطُوف فِي الْمُقَيد الْمُتَعَلّق بِكُل أَفْرَاد الأول) وتأنيث شركت بِاعْتِبَار تعدد ذَلِك الْبَعْض (فَظهر) مِمَّا تبين (أَن(1/262)
الحَدِيث) وَإِن لم يدل على قتل الْمُسلم بالذمي لَا دلَالَة لَهُ على عدم قَتله بِهِ أَن الحَدِيث الْمَذْكُور (لَا يُعَارض آيَات الْقصاص الْعَامَّة) كَقَوْلِه تَعَالَى - {أَن النَّفس بِالنَّفسِ} - مِمَّا يدل على أَن كل قَاتل يقْتَصّ مِنْهُ سَوَاء كَانَ مقتوله مُسلما أَو كَافِرًا إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الْإِجْمَاع، بل صَار من ضروريات الدّين من عدم قتل الْمُسلم بالحربي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِن خص مِنْهَا) أَي من عُمُوم تِلْكَ الْعَامَّة (الْحَرْبِيّ لتخصيص) لفظ (كَافِر الأول) فِي الحَدِيث الْمَذْكُور (بالحربي) تَعْلِيل لعدم الْمُعَارضَة (والمحققون) من الْحَنَفِيَّة (على أَن المُرَاد بالكافر) الْمَذْكُور فِي الحَدِيث (الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن) لَا الْحَرْبِيّ مُطلقًا (ليُفِيد) قَوْله: لَا يقتل مُسلم بِكَافِر (إِذْ غَيره) أَي غير الْمُسْتَأْمن من الْحَرْبِيّ (مِمَّا عرف) عدم قتل الْمُسلم بِهِ (بِالضَّرُورَةِ من الدّين كَالصَّلَاةِ) أَي كَمَا عرف بِالضَّرُورَةِ فرضيته فَإِن قلت لَا نسلم عدم الْفَائِدَة على تَقْدِير إِرَادَة الْحَرْبِيّ مُطلقًا إِذْ تحصل الْفَائِدَة بِاعْتِبَار بعض أَفْرَاده، وَهُوَ الْمُسْتَأْمن قُلْنَا كفى بِعَدَمِ الْفَائِدَة بِاعْتِبَار الْأَكْثَر محذورا (فَلَا يقتل الذِّمِّيّ بالمستأمن) كَمَا لَا يقتل الْمُسلم بِهِ لما مر من وجوب تَقْدِير بِكَافِر فِي الْمَعْطُوف، وَعدم إِمْكَان حمله على الْعُمُوم، لِأَن عدم قتل ذِي الْعَهْد بالذمي مُخَالف لآيَات الْقصاص، وبالحربي غير الْمُسْتَأْمن غير مُفِيد لما مر (وَالَّذِي فِي هَذِه) المسئلة (من مبَاحث الْعُمُوم كَون الْعَطف على عَام لعامله) أَي لعامل ذَلِك الْعَام (مُتَعَلق عَام) قَوْله لعامله إِلَى هُنَا صفة عَام (يُوجب تَقْدِير لَفظه) أَي لفظ الْمُتَعَلّق الْعَام (فِي الْمَعْطُوف) وَقَوله يُوجب إِلَى آخِره خبر الْكَوْن (ثمَّ يخص أَحدهمَا) سَوَاء كَانَ الْمَعْطُوف أَو الْمَعْطُوف عَلَيْهِ (بِخُصُوص الآخر، وَإِلَّا) وَإِن لم يخص أَحدهمَا بِخُصُوص الآخر (اخْتلف الْعَامِل، وَفِيه) أَي فِي لُزُوم اختلافه (مَا سَمِعت) يُشِير إِلَى قَوْله: نعم لَا يلْزم إِلَى آخِره:
مسئلة
(الْجَواب) عَن السُّؤَال حَال كَونه (غير المستقل) بِأَن لَا يكون مُفِيدا بِدُونِ السُّؤَال كنعم، وَلَا (يُسَاوِي السُّؤَال فِي الْعُمُوم اتِّفَاقًا، وَفِي الْخُصُوص قيل كَذَلِك) أَي يُسَاوِيه فِي الْخُصُوص أَيْضا اتِّفَاقًا، قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَته على الشَّرْح العضدي: ظَاهر الْكَلَام أَنه لَا نزاع فِي كَونه تَابعا للسؤال فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص حَتَّى لَو قيل هَل يجوز الْوضُوء بِمَاء الْبَحْر؟ فَقَالَ نعم كَانَ عَاما، وَلَو قيل: هَل يجوز لي الْوضُوء بِمَاء الْبَحْر؟ فَقَالَ نعم كَانَ خَاصّا بِهِ إِلَّا أَن صَرِيح كَلَام الْآمِدِيّ والشارحين، وَبِه تشعر عبارَة الْمَتْن أَن الِاتِّفَاق إِنَّمَا هُوَ فِي الْعُمُوم، وَأما فِي الْخُصُوص، فخلاف الشَّافِعِي رَحمَه الله حَيْثُ ذهب إِلَى دلَالَة الْجَواب على جَوَاز التَّوَضُّؤ بِمَاء(1/263)
الْبَحْر لكل أحد، مصيرا مِنْهُ إِلَى ترك الاستفصال فِي حِكَايَة الْحَال مَعَ قيام الِاحْتِمَال ينزل منزلَة الْعُمُوم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقد يعم) الْجَواب فِي الْخُصُوص (عِنْد الشَّافِعِي) رَحمَه الله (لترك الاستفصال) يَعْنِي أَن الرَّاوِي لما ترك التَّفْصِيل وَلم يُقيد الْجَواب بِبَعْض الْأَحْوَال مَعَ احْتِمَال كَونه مُقَيّدا بِهِ، وَحكى الْوَاقِعَة من غير تَفْصِيل علم أَنه فهم الْعُمُوم من الشَّارِع وَإِلَّا لَكَانَ يجب عَلَيْهِ التَّفْصِيل، وَقيل إِنَّمَا ذكر الشَّافِعِي رَحمَه الله ذَلِك فِيمَا إِذا كَانَ الْجَواب مُسْتقِلّا (وَالظَّاهِر الأول) وَهُوَ كَون غير المستقل تَابعا للسؤال فِي الْخُصُوص (وَلَا معنى للُزُوم الْعُمُوم) فِي الْجَواب (لتَركه) أَي الاستفصال إِن قَالَ بِهِ قَائِل (إِلَّا) الْعُمُوم (فِي الْأَحْوَال والأوقات وَالْمرَاد عُمُوم الْمُكَلّفين) أَي لَكِن النزاع فِي أَن المُرَاد عُمُوم الْجَواب للمكلفين، أَو خصوصه ببعضهم (وَالْقطع أَنه) أَي الْعُمُوم للمكلفين (إِن ثَبت فِي نَحْو) نعم جَوَابا لقَوْل الْقَائِل (أَيحلُّ لي كَذَا، فبقياس) أَي فثبوته بِقِيَاس نعم عَلَيْهِ لاشتراكهم فِي الْعلَّة (أَو بِنَحْوِ حكمي على الْوَاحِد) حكمي على الْجَمَاعَة (لَا من نعم) فَقَط (وَأما) الْجَواب (المستقل الْعَام) الْوَارِد (على سَبَب خَاص، فللعموم) عِنْد الْأَكْثَر، وَالْمرَاد بالمستقل: الوافي بِالْمَقْصُودِ مَعَ قطع النّظر عَن السَّبَب سَوَاء كَانَ سؤالا كَمَا روى أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقيل يَا رَسُول الله: أَنَتَوَضَّأُ من بِئْر بضَاعَة، وَهِي بِئْر يلقى فِيهَا الْحيض، وَالنَّتن وَلحم الْكلاب؟ فَقَالَ: إِن المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء، أَو حَادِثَة كَمَا لَو شَاهد من رمى شَاة ميتَة، فَقَالَ: " أَيّمَا أهاب دبغ فقد طهر ": (خلافًا للشَّافِعِيّ) على مَا نَقله الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا، وَقَالَ الأسنوي رَحمَه الله: نَص الإِمَام فِي الْأُم على أَن السَّبَب لَا يضيع شَيْئا إِنَّمَا بِصِيغَة الْأَلْفَاظ (لنا أَن التَّمَسُّك) فِي إِثْبَات الْعُمُوم وَالْخُصُوص إِنَّمَا يكون (بِاللَّفْظِ وَهُوَ) لفظ الْأَجْوِبَة الْمُتَنَازع فِيهَا (عَام) وَلَا مَانع من حملهَا على مقتضيها (وخصوص السَّبَب لَا يَقْتَضِي إِخْرَاج غَيره) أَي غير السَّبَب من دَائِرَة تنَاول اللَّفْظ (وَتمسك الصَّحَابَة) عطف على أَن التَّمَسُّك إِلَى آخِره (وَمن بعدهمْ) من الْمُجْتَهدين (فِي جَمِيع الْأَعْصَار بهَا) أَي بالأجوبة التَّامَّة الْوَارِدَة على سَبَب خَاص (كآية السّرقَة وَهِي) وَارِدَة (فِي) سَرقَة (رِدَاء صَفْوَان) بن أُميَّة (أَو) فِي سَرقَة (الْمِجَن) على اخْتِلَاف الرِّوَايَة، وَذكر بعض الْحفاظ أَنَّهَا نزلت فِي ابْن أُبَيْرِق سَارِق الدرْع، وَقطع سَارِق رِدَاء صَفْوَان بعد فتح مَكَّة، وَصَفوَان أسلم بعد الْفَتْح (وَآيَة الظِّهَار فِي سَلمَة بن صَخْر البياضي) وَتعقب بِأَنَّهَا نزلت فِي أَوْس ابْن الصَّامِت وَزَوجته (وَآيَة اللّعان فِي هِلَال بن أُميَّة، أَو عُوَيْمِر) وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، وَلَا شكّ فِي عُمُوم هَذِه الْأَحْكَام مَعَ خُصُوص أَسبَابهَا (قَالُوا) أَي المانعون لعمومها (لَو كَانَ) الْجَواب عَاما للسبب وَغَيره (لجَاز تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ) من عُمُوم الْجَواب(1/264)
كَغَيْرِهِ من أَفْرَاده لتساويهما فِي الْعُمُوم (وَأجِيب) بِمَنْع الْمُلَازمَة (بِأَنَّهُ) أَي تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ (خص من جَوَاز التَّخْصِيص للْقطع بِدُخُولِهِ) أَي دُخُول السَّبَب فِي إِرَادَة الْمُتَكَلّم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن دَاخِلا فِيهَا (لم يكن) الْجَواب (جَوَابا) لَهُ (وَأجِيب أَيْضا بِمَنْع بطلَان اللَّازِم) أَي لَا نسلم عدم جَوَاز تَخْصِيص السَّبَب بِالِاجْتِهَادِ (فَإِن أَبَا حنيفَة أخرج ولد الْأمة) الْمَوْطُوءَة (من عُمُوم) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْوَلَد للْفراش) فَلم يثبت نسبه مِنْهُ إِلَّا بِدَعْوَاهُ (مَعَ وُرُوده) أَي النَّص الْمَذْكُور (فِي) ولد (وليدة زَمعَة) وَكَانَت أمة مَوْطُوءَة لَهُ على مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا عَن عَائِشَة قَالَت: " كَانَ عتبَة بن أبي وَقاص عهد إِلَى أَخِيه سعد بن أبي وَقاص: أَن ابْن وليدة زَمعَة مني فاقبضه إليم، فَلَمَّا كَانَ عَام الْفَتْح أَخذه سعد، فَقَالَ ابْن أخي عهد إِلَيّ فِيهِ، فَقَامَ عبد بن زَمعَة، فَقَالَ أخي وَابْن أبي ولد على فرَاشه فتساوقا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ كل مِنْهُمَا مَا قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر، ثمَّ قَالَ لسودة بنت زَمعَة: احتجبي مِنْهُ لما رَأْي من شبهه عتبَة فَمَا رَآهَا حَتَّى لحق بِاللَّه تَعَالَى " (وَلَيْسَ) هَذَا الْجَواب (بِشَيْء فَإِن السَّبَب الْخَاص ولد زَمعَة وَلم يُخرجهُ) أَبُو حنيفَة من الْوَلَد للْفراش، وَإِنَّمَا أخرج مُطلق ولد الْأمة الْمَوْطُوءَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فالمخرج نوع السَّبَب) أَي الْمخْرج مَفْهُوم عَام ينْدَرج تَحْتَهُ السَّبَب الْمَذْكُور من عُمُوم هَذَا النَّوْع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (مَخْصُوصًا مِنْهُ) أَي من النَّوْع الْمَذْكُور (السَّبَب) الْخَاص وَهُوَ ولد زَمعَة (وَالتَّحْقِيق أَنه) أَي أَبَا حنيفَة (لم يخرج نَوعه أَيْضا لِأَنَّهَا) أَي الْأمة (مَا لم تصر أم ولد عِنْده لَيست بفراش) أَي عِنْد أبي حنيفَة، فالأمة الْمَوْطُوءَة الَّتِي لم تثبت نسب وَلَدهَا بِغَيْر دَعْوَة السَّيِّد لَيست بفراش عِنْده، والإخراج فرع الدُّخُول (فالفراش الْمَنْكُوحَة) وَهِي الْفراش الْقوي يثبت فِيهِ النّسَب بِمُجَرَّد الْولادَة وَلَا ينتفى إِلَّا بِاللّعانِ (وَأم الْوَلَد) وَهِي فرَاش ضَعِيف إِن لم تكن حَامِلا فَيجوز تَزْوِيجهَا، وفراش متوسط إِن كَانَت حَامِلا فَيمْتَنع تزَوجهَا وَيثبت وَلَدهَا بِلَا دَعْوَة، وينتفى بِمُجَرَّد نَفْيه فِي الْحَالين. قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا أوجه من قَوْلهم الْقوي الْمَنْكُوحَة، والمتوسط أم الْوَلَد، والضعيف الْأمة الْمَوْطُوءَة (وَإِطْلَاق الْفراش على وليدة زَمعَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " الْوَلَد للْفراش بعد قَول عبد بن زَمعَة ولد على فرَاش أبي لَا يسْتَلْزم كَون الْأمة مُطلقًا فراشا لجَوَاز كَونهَا) أَي وليدة زَمعَة (كَانَت أم ولد) ذكر كَانَت بعد كَونهَا لِئَلَّا يتَوَهَّم كَونهَا أم ولد بِاعْتِبَار هَذَا الْوَلَد الْمُتَنَازع فِيهِ (وَقد قيل بِهِ) أَي بِكَوْنِهَا كَانَت أم وَلَده (وَدلّ عَلَيْهِ بِلَفْظ وليدة) فَإِنَّهَا (فعيلة بِمَعْنى فاعلة، على أَنه منع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثبت نسبه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ لَك) أَي مِيرَاث من أَبِيك، وَلذَا لم يقل هُوَ أَخُوك(1/265)
فمعارض بِهِ، وَهَذَا أرجح لشهرتها (وَقَوله احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة) إِذْ لَو كَانَ أخاها شرعا لم يجب احتجابها، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أَحْمد، وَأما أَنْت فاحتجبي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك بِأَخ (قَالُوا لَو عَم) الْجَواب فِي السَّبَب وَغَيره (كَانَ نقل الصَّحَابَة السَّبَب بِلَا فَائِدَة) إِذْ لَا فَائِدَة لَهُ سوى التَّخْصِيص (وَهُوَ) أَي نقلهم بِلَا فَائِدَة (بعيد أُجِيب بِأَن مَعْرفَته) أَي السَّبَب (ليمنع تَخْصِيصه) من عُمُوم الْجَواب بِالِاجْتِهَادِ (أجل فَائِدَة، وَنَفس معرفَة الْأَسْبَاب ليحترز عَن الأغاليط) فَائِدَة جليلة أَيْضا، فِي الْقَامُوس الْغَلَط محركة أَن يَعْنِي بالشَّيْء فَلَا تعرف وَجه الصَّوَاب فِيهِ، هَذَا، وَالتَّعْلِيل بالاحتراز عَنْهَا لم يذكر فِي الشَّرْح العضدي، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَن الرَّاوِي قد يحمل اللَّفْظ على غير مَا أَرَادَ بِهِ الشَّارِع، وَهَذَا غلط مِنْهُ وببيان السَّبَب يرْتَفع ذَلِك الِاحْتِمَال (قَالُوا لَو قَالَ لَا أتغدى جَوَاب تغد عِنْدِي لم يعم) قَوْله لَا أتغدى كل تغدى وَنزل على التغدي عِنْده (إِذْ لم يعد كَاذِبًا بتغدية عِنْد غَيره أُجِيب بِأَن تَخْصِيصه بعرف فِيهِ) فِي الشَّرْح العضدي الْجَواب خرج ذَلِك عَن الْعُمُوم دليلنا الْعرف خَاص فِيهِ والتخلف لمَانع لَا يقْدَح فِيهِ: أَي الدَّلِيل وَلَا يعرفهُ عَمَّا لَا يتَحَقَّق فِيهِ الْمَانِع انْتهى: يَعْنِي أَن دليلنا وَهُوَ أَن الْمُعْتَبر عُمُوم اللَّفْظ (لَا ب) خُصُوص (السَّبَب) عَام خص مِنْهُ مثل الصُّورَة الْمَذْكُورَة لما عرف فِيهِ من إِرَادَة الْخُصُوص فِي عرف المحاورات وَالْأَظْهَر أَن الْمَعْنى تَخْصِيص مثل جَوَاب الْمَذْكُور: أَعنِي لَا أتغدى بالتغدي عِنْد السَّائِل، وَقَالَ زفر بِعُمُوم مثله أَيْضا، حَتَّى لَو كَانَ حَالفا على ذَلِك حنث عِنْده وَلَو زَاد الْيَوْم لَا يَحْنَث عِنْد الشَّافِعِي أَيْضا إِن تغدى عِنْد غَيره، وَعِنْدنَا يَحْنَث لظُهُور إِرَادَة الِابْتِدَاء، لَا الْجَواب (قَالُوا لَو عَم) الْجَواب السَّبَب الْمَسْئُول عَنهُ وَغَيره (لم يكن) الْجَواب (مطابقا) للسؤال لِأَنَّهُ خَاص، وَالْجَوَاب عَام، وَهَذَا لَا يَلِيق بالشارع (قُلْنَا) بل (طابق) بِبَيَان حكم (وَزَاد) عَلَيْهِ حكم بِبَيَان حكم نَظَائِره أَيْضا (قَالُوا لَو عَم) أَي لَو حكم بِعُمُوم الْجَواب الْمَسْئُول عَنهُ وَغَيره (كَانَ) الحكم بِعُمُومِهِ (تحكما بِأحد مجازات مُحْتَملَة) أَي بِسَبَب حمله على أحد معَان مجازية مُتَسَاوِيَة الْأَقْدَام فِي الِاحْتِمَال وَهُوَ تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، ثمَّ بَين تِلْكَ الْمعَانِي المجازية بقوله (نصوصية على السَّبَب فَقَط أَو مَعَ الْكل أَو) مَعَ (الْبَعْض) فالمفهوم المردد بدل من مجازات بدل الْبَعْض، فِي الشَّرْح العضدي بَيَان الْمُلَازمَة أَن طهوره فِي الْعُمُوم قد فَاتَ بنصوصية فِي صُورَة السَّبَب حَيْثُ تنَاولهَا بخصوصها بعد أَن لم يكن فَصَارَ مصروفا عَمَّا وضع لَهُ غير مَا وضع لَهُ وَالسَّبَب خَاص مَعَ سَائِر الخصوصيات وَمَعَ بَعْضهَا مجازات لَهُ فَكَانَ الْحمل على السَّبَب مَعَ سَائِر الخصوصيات على التَّعْيِين تحكما، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: لِأَن ظُهُور اللَّفْظ فِي الْعُمُوم عبارَة عَن تَسَاوِي نسبته إِلَى جَمِيع مَا يتَنَاوَلهُ من غير تنَاول للْبَعْض بِخُصُوصِهِ(1/266)
(قُلْنَا لَا مجَاز أصلا لِأَنَّهُ) أَي الْمجَاز إِنَّمَا يتَحَقَّق (بِالِاسْتِعْمَالِ فِي الْمَعْنى) الَّذِي لم يوضع اللَّفْظ لَهُ (لَا بكيفية الدّلَالَة) يَعْنِي لَا يتَحَقَّق الْمجَاز بِمُجَرَّد كَون دلَالَته على الْبَعْض أظهر بِقَرِينَة وُرُوده فِيهِ من غير أَن يسْتَعْمل فِيهِ (وَقد اسْتعْمل) اللَّفْظ الْعَام (فِي الْكل) فَرده السببي وَغَيره (فَهُوَ حَقِيقَة) فِي الْعُمُوم (وَأَيْضًا نمْنَع نصوصيته) أَي اللَّفْظ الْعَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبَب (بل تنَاوله للسبب كَغَيْرِهِ) من الْأَفْرَاد (وَإِنَّمَا يثبت بِخَارِج) عَن اللَّفْظ، وَهُوَ لُزُوم انْتِفَاء الْجَواب (الْقطع بِعَدَمِ خُرُوجه) أَي الْفَرد السببي (من الحكم وَلَا يخفى أَن الْخَارِج حِينَئِذٍ) أَي حِين كَونه سَببا للْقطع بِعَدَمِ خُرُوجه (مُحَقّق للنصوصية لِأَنَّهَا) أَي النصوصية (أبدا لَا تكون من ذَات اللَّفْظ إِلَّا إِن كَانَ) اللَّفْظ (علما إِن لم يتجوز بهَا) أَي بالأعلام، فَإِن تجوز بهَا كَغَيْرِهَا إِنَّمَا يكون نصوصيتها بِخَارِج وَالله أعلم.
الْبَحْث الرَّابِع
(الِاتِّفَاق على إِطْلَاق قَطْعِيّ الدّلَالَة على الْخَاص) وَاقع، وَيحْتَمل أَن يكون الْبَحْث الرَّابِع مُبْتَدأ خَبره الِاتِّفَاق إِلَى آخِره، لَعَلَّه لم يقل اتَّفقُوا على أَن الْخَاص قَطْعِيّ الدّلَالَة مَعَ كَونه أخص فِي المُرَاد وَأظْهر لعدم تَصْرِيح الْأَئِمَّة بذلك، وَإِنَّمَا يفهم من إطلاقاتهم (وعَلى احْتِمَاله) أَي الْخَاص (الْمجَاز) أَي تجوز بِهِ غير مَا وضع لَهُ (وَيلْزمهُ) أَي الِاتِّفَاق على احْتِمَاله الْمجَاز (الِاتِّفَاق على عدم الْقطع) الْمُتَعَلّق بِدلَالَة الْخَاص (بِنَفْي الْقَرِينَة الصارمة عَن) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) لَهُ، لِأَن الْقطع بِنَفسِهَا يسْتَلْزم الْقطع بِعَدَمِ احْتِمَال الْمجَاز لِامْتِنَاع الْمجَاز بِدُونِ الْقَرِينَة الصارفة عَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (و) يلوم الِاتِّفَاق الثَّانِي، بعد اتِّفَاق الأول (أَن هَذَا الْقطع) الْمُتَعَلّق بِدلَالَة الْخَاص (لَا يُنَافِي الِاحْتِمَال مُطلقًا) كَمَا يعْتَبر فِي العقائد، بل يُنَافِي الِاحْتِمَال النَّاشِئ عَن دَلِيل كَمَا هُوَ مصطلح الْفُقَهَاء (وَاخْتلف فِي إِطْلَاقه) أَي إِطْلَاق لفظ قَطْعِيّ الدّلَالَة (على الْعَام فالأكثر) من الْفُقَهَاء والمتكلمين (على نَفْيه) أَي نفي إِطْلَاقه عَلَيْهِ (وَأكْثر الْحَنَفِيَّة) من جُمْهُور الْعِرَاقِيّين وَعَامة الْمُتَأَخِّرين، قَالُوا (نعم) يُطلق عَلَيْهِ، بل ذكر عبد القاهر الْبَغْدَادِيّ من الْمُحدثين أَنه مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله، يُقَال وَأَصْحَابه، وَقواهُ فَخر الْإِسْلَام كَذَا ذكره الشَّارِح (وَأَبُو مَنْصُور) الماتريدي (وَجَمَاعَة) وهم مَشَايِخ سَمَرْقَنْد (كالأكثر) قَالُوا لَا يُطلق عَلَيْهِ (لِكَثْرَة إِرَادَة بعضه) أَي بعض الْعَام من الْعَام عِنْد إِطْلَاقه (سَوَاء سمي) كَون بعضه مرَادا (تَخْصِيصًا اصطلاحيا أَو لَا كَثْرَة تجَاوز الْحَد وتعجز عَن الْعد حَتَّى اشْتهر) بَين الْعلمَاء قَوْلهم(1/267)
(مَا من عَام إِلَّا وَقد خص، وَهَذَا) الْعَام يَعْنِي مَا من عَام إِلَى آخِره أَيْضا (مِمَّا خص بِنَحْوِ وَالله بِكُل شَيْء عليم) إِذْ لم يخرج من تَحت إحاطته شَيْء مِمَّا يخص، وَكَذَا {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} فِي قلَّة مِمَّا لَا يُحْصى) يَعْنِي نَحْو مَا ذكر وَاقع فِي مواد قَلِيله ممتازة من مواد كَثِيرَة لَا تعد وَلَا تحصى (وَمثله) أَي مثل وجود هَذِه الْكَثْرَة من التخصيصات فِي العمومات (يُورث الِاحْتِمَال (فِي) الْعَام (الْمعِين) أَي فِي خُصُوص كل عَام (فَيصير) كَون المُرَاد جَمِيع الْأَفْرَاد (ظنيا فَبَطل منع كَثْرَة تَخْصِيصه) كَمَا فعله صدر الشَّرِيعَة (لِأَنَّهُ) أَي تَخْصِيصه عِنْد الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يكون (بمستقل مُقَارن، وَهُوَ) أَي المستقل الْمُقَارن (قَلِيل) فَلَا كَثْرَة لتخصيص الْعَام (لأَنهم) أَي الْأَكْثَر (يمْنَعُونَ اقْتِصَاره) أَي التَّخْصِيص على المستقل الْمُقَارن، بل يتَحَقَّق بِغَيْرِهِ (وَلَو سلم) اقْتِصَاره (فالمؤثر فِي ظنيته) أَي ظنية الْعَام من حَيْثُ الدّلَالَة على الْعُمُوم (كَثْرَة إِرَادَة الْبَعْض فَقَط، لَا مَعَ اعْتِبَار تَسْمِيَته تَخْصِيصًا فِي الِاصْطِلَاح) إِذْ لَا دخل فِي التَّسْمِيَة فِي هَذَا الْمَعْنى (قَالُوا) أَي القطعيون (وضع) الْعَام (لمسمى فالقطع) حَاصِل (بلزومه) أَي الْمُسَمّى لَهُ (عِنْد الْإِطْلَاق، فَإِن قيل إِن أُرِيد) بلزومه (لُزُوم تنَاوله) أَي تنَاول لَفظه من حَيْثُ الدّلَالَة اللَّازِمَة للوضع (فَمُسلم وَلَا يُفِيد) لِأَن الْكَلَام فِي إِرَادَة الْعُمُوم من غير تَخْصِيص، والتناول بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور حَاصِل فِي صُورَة التَّخْصِيص أَيْضا (أَو) أُرِيد لُزُوم (إِرَادَته) أَي الْمُسَمّى (فَمَمْنُوع، إِذْ تَجْوِيز إِرَادَة الْبَعْض قَائِم فَيمْنَع) تجويزها (الْقطع) وَإِن كَانَ احْتِمَالا مرجوحا (قيل المُرَاد) بِالْقطعِ بِلُزُوم إِرَادَته (مَا) أَي قطع (كقطعية الْخَاص) وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال نَاشِئ عَن الدَّلِيل (لَا مَا يَنْفِي احْتِمَاله) أَي الْعَام أصلا (لتحققه) فِي الِاحْتِمَال فِي الْجُمْلَة (فِي الْخَاص مَعَ قطعيته اتِّفَاقًا، فحقيقة الْخلاف) فِي قَطْعِيَّة لعام (أَنه) أَي الْعَام (كالخاص) فِي إِفَادَة الْعلم (أَو أحط) رُتْبَة مِنْهُ فِيهَا (فَلَا يُفِيد الِاسْتِدْلَال) على قَطْعِيَّة الْعَام (بِأَنَّهُ لَو جَازَ إِرَادَة بعضه بِلَا قرينَة كَانَ) الْخطاب بِهِ (تلبيسا) للاشتباه بَين الْعُمُوم وَالْخُصُوص (وتكليفا بِغَيْر الْمَقْدُور) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الوسع الْوُقُوف على الْإِرَادَة الْبَاطِنَة (للُزُوم مثله) أَي مثل مَا ذكر من التلبيس والتكليف (فِي الْخَاص) لتحَقّق مُطلق الِاحْتِمَال وَجَوَاز إِرَادَة غير مُسَمَّاهُ مجَازًا (مَعَ أَن الْمُلَازمَة) بَين جَوَاز إِرَادَة الْبَعْض وَحُصُول التلبيس والتكليف الْمَذْكُور (مَمْنُوعَة) بِاعْتِبَار كل من الْأَمريْنِ (أما الأول) أَي منعهَا بِاعْتِبَار التلبيس فِي إِطْلَاق الْعَام (فَلِأَن الْمُدعى) وَالْمرَاد بِنَفْي الْقَرِينَة فِي قَول من يثبت احْتِمَال الْخُصُوص عِنْد إِطْلَاق الْعَام بِلَا قرينَة (خفاؤها) أَي الْقَرِينَة (لَا نَفيهَا) كَأَنَّهُ يَقُول يجوز أَن الْمُتَكَلّم أَرَادَ بِهِ الْبَعْض وَنصب قرينَة خفيت علينا، وَلَا تلبيس بعد نصبها (وَأما الثَّانِي) وَهُوَ منعهَا بِاعْتِبَار التَّكْلِيف بِغَيْر(1/268)
الْمَقْدُور (فَإِنَّمَا يلْزم) ذَلِك (لَو كلف) بِالْعَمَلِ (بالمراد) الْعَام (لكنه) لم يُكَلف بِهِ بل (بِمَا ظهر من اللَّفْظ) عِنْد الْمُجْتَهد مرَادا كَانَ فِي نفس الْأَمر أَو لَا (وَالِاسْتِدْلَال) على ظنية الْعَام (بِكَثْرَة الِاحْتِمَال فِي الْعَام، إِذْ فِيهِ) أَي فِي الْعَام (مَا فِي الْخَاص) من احْتِمَال الْمجَاز (مَعَ احْتِمَال إِرَادَة الْبَعْض مَدْفُوع) كَمَا ذكر صدر الشَّرِيعَة (بِأَن كَون حَقِيقَة لَهَا مَعْنيانِ مجازيان) (و) الْحَال أَن (لأخرى) أَي لحقيقة أُخْرَى معنى (وَاحِد لَا يحطه) أَي صَاحب الْمَعْنيين كَونه كَذَلِك (عَنهُ) أَي عَن رُتْبَة صَاحب معنى وَاحِد (لِأَن الثَّابِت فِي كل مِنْهُمَا) أَي مِمَّا لَهُ مجازان وَمَا لَهُ مجَاز وَاحِد (حَال إِطْلَاقه احْتِمَال مجَاز وَاحِد فتساويا) أَي ذُو المجازين وَذُو الْمجَاز الْوَاحِد فِي الدّلَالَة على الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ حَيْثُ لَا قرينَة للمجاز، وَفِيه مَا فِيهِ (قُلْنَا) نَحن معشر الظنيين (حِين آل) الِاخْتِلَاف بَيْننَا وَبَيْنكُم (إِلَى أَنه) أَي الْعَام (كالخاص) فِيمَا ذكر (أَو دونه فَإِنَّمَا ترجح) الْخَاص على الْعَام (بِقُوَّة احْتِمَال الْعَام إِرَادَة الْبَعْض لتِلْك الْكَثْرَة) أَي كَثْرَة إِرَادَة الْبَعْض عِنْد إِطْلَاقه (وندرة مَا فِي الْخَاص) من إِرَادَة الْمجَاز (كندرة) إِرَادَة (كتاب زيد بزيد) فِي جَاءَ زيد (فَصَارَ التَّحْقِيق أَن إِطْلَاق القطعية على) دلَالَة (الْخَاص لعدم اعْتِبَار ذَلِك الِاحْتِمَال لندرته فِيهِ (بِخِلَاف الْعَام) لما عرفت (قَوْلهم) أَي القطعيين (لَا عِبْرَة بِهِ) أَي بِاحْتِمَال التَّخْصِيص فِي الْعَام (أَيْضا إِذْ لم ينشأ) ذَلِك الِاحْتِمَال (عَن دَلِيل قُلْنَا، بل نَشأ عَنهُ) أَي عَن دَلِيل (وَهُوَ) أَي الدَّلِيل (غَلَبَة وُقُوعه) أَي التَّخْصِيص فِي الْعَام الْمُطلق (فتوجب) غَلَبَة الْوُقُوع فِي الْمُطلق (الظنية فِي) الْعَام (الْمعِين) لِأَن كَون هَذَا الْمعِين على وفْق أَكثر أَفْرَاد الْمُطلق، إِذْ لم يكن احْتِمَالا راجحا لعدم ظُهُور الْقَرِينَة، فَلَا أقل من أَن يكون احْتِمَالا مرجوحا لاحْتِمَال وجود الْقَرِينَة الْخفية على مَا سبق وَلَيْسَ فِيهِ مَا يلْحقهُ بِالْعدمِ كالندرة، (وَإِن أُرِيد) بِالدَّلِيلِ فِي: لم ينشأ عَن دَلِيل (دَلِيل إِرَادَة الْبَعْض فِي) الْعَام (الْمعِين خرج) هَذَا المُرَاد (عَن مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي مَحَله (ظنية إِرَادَة الْكل) أَو قطعيتها (إِلَى الْقطع بِإِرَادَة الْبَعْض) مُتَعَلق بخرج، وَمَا بَينهمَا اعْتِرَاض، لِأَنَّهُ إِذا تحقق دَلِيل إِرَادَة الْبَعْض صَارَت قَطْعِيَّة (وَالْجَوَاب) أَي جَوَاب القطعيين عَن ظنيته (منع تَجْوِيز إِرَادَة الْبَعْض بِلَا مُخَصص مُقَارن) مُسْتَقل (لاستلزامه) أَي هَذَا التجويز (مَا سَيذكرُ فِي اشْتِرَاط مُقَارنَة الْمُخَصّص) من الْإِيقَاع فِي الْكَذِب، أَو طلب الْجَهْل الْمركب (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْجَواب يُقَال (فِي الْخَاص) عَن ظنية نظرا إِلَى احْتِمَال الْمجَاز (وَقَوْلهمْ) أَي القطعيين (حِينَئِذٍ) أَي حِين منع تَجْوِيز إِرَادَة الْبَعْض بِلَا قرينَة لما ذكر (يحْتَمل) الْعَام (الْمجَاز) مؤول (أَي) يحْتَملهُ (من حَيْثُ) هُوَ عَام مَعَ قطع النّظر عَن عدم الْقَرِينَة (أما) الْعَام (الْوَاقِع(1/269)
فِي الِاسْتِعْمَال) من حَيْثُ هُوَ وَاقع فِي الِاسْتِعْمَال (فَلَا يحْتَمل غَيره) أَي غير مُسَمَّاهُ (إِلَّا بِقَرِينَة تظهر) عِنْد السَّامع (فتوجب) تِلْكَ الْقَرِينَة (غَيره) أَي غير مُسَمَّاهُ (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ الْحَال فِي احْتِمَال الْعَام الْمجَاز هَذَا لتفصيل (فكون الِاتِّفَاق على عدم الْقطع نفي الْقَرِينَة) الصارفة عَن الْحَقِيقِيّ إِلَى الْمجَازِي فِي الْخَاص (مَمْنُوع، بل إِذا لم تظهر) الْقَرِينَة (قطع بنفيها) لما سَمِعت فِي الْعَام من أَن الْوَاقِع فِي الِاسْتِعْمَال لَا يحْتَمل، بل ذَلِك فِي الْخَاص أولى، وَعدم احْتِمَال فِيهِ مُسْتَلْزم للْقطع بنفيها (وثمرته) أَي ثَمَرَة الْخلاف فِي أَن الْعَام أحط رُتْبَة من الْخَاص فِي الدّلَالَة أَو مثله تظهر (فِي الْمُعَارضَة) بَينهمَا (وَوُجُوب نسخ الْمُتَأَخر مِنْهُمَا الْمُتَقَدّم) فالقائل بِكَوْن الْخَاص أقوى يقدمهُ عِنْد الْمُعَارضَة وَلم يجوز نسخ الْخَاص بِهِ، وَمن يسوى بَينهمَا لَا يقدم أَحدهمَا على الآخر عِنْد التَّعَارُض إِلَّا بمرجح، وَيجوز نسخ كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ (وَلذَا) أَي لتساويهما (نسخ طَهَارَة بَوْل الْمَأْكُول) الْمُسْتَفَاد مِمَّا عَن أنس أَن رهطا من عكل، أَو قَالَ عرينة قدمُوا فاجتووا الْمَدِينَة، فَأمر لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلقاح، وَأمرهمْ أَن يشْربُوا من أبوالها وَأَلْبَانهَا مُتَّفق عَلَيْهِ، لِأَن النَّجس يحرم التَّدَاوِي بِهِ (وَهُوَ) النَّص الْمُفِيد طَهَارَته (خَاص باستنزهوا الْبَوْل) " عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ ": رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ على شَرطهمَا وَلَا أعرف لَهُ عِلّة، وَهُوَ عَام وَهَذَا إِذا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَن حَدِيث العرنيين كَمَا قيل (أَو رجح) حَدِيث الاستنزاه (بعد الْمُعَارضَة للِاحْتِيَاط) فِي الْعَمَل بالمحرم إِن لم يعلم تَأَخره (وَأما وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم فَبعد الْبَحْث) والتفحص (عَن الْمُخَصّص) إِلَى الْقطع، أَو غَلَبَة الظَّن بِعَدَمِهِ (اتِّفَاق) خبر الْمُبْتَدَأ: أَي يجب بعد مَا ذكر أَن يعْتَقد عُمُومه إِجْمَاعًا (لبعد وجوب الْعَمَل بِمَا لم يَعْتَقِدهُ) يَعْنِي أَن الْعَمَل بِالْعُمُومِ بعد ذَلِك أَمر مُقَرر، وَيبعد أَن يجب الْعَمَل بِشَيْء لم يَعْتَقِدهُ اعتقادا (مطابقا لَهُ) أَي لعلمه كَمَا أَن ذَلِك الشَّيْء تعلق بِهِ عمله بِصفة الْعُمُوم كَذَلِك يجب أَن يتَعَلَّق بِهِ اعْتِقَاده بِصفة الْعُمُوم، وَفسّر الشَّارِح قَوْله بقوله: أَي لاعْتِقَاده، وَلَا معنى لَهُ إِذْ لَا يُمكن أَن يعْتَقد الْإِنْسَان شَيْئا لَا يكون مطابقا لاعْتِقَاده (وَأما) وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم (قبله) أَي الْبَحْث عَن الْمُخَصّص (فَمَا تقدم) فِي مسئلة نقل الْإِجْمَاع على منع الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص (من حمل كَلَام الصَّيْرَفِي) أَي مِمَّا حمل عَلَيْهِ كَلَامه: وَهُوَ وجوب الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث من وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم قبل ظُهُور الْمُخَصّص، فَإِن ظهر تغير، وَإِلَّا اسْتمرّ بعد مَا نقل كَلَام أَمَام الْحَرَمَيْنِ فِيهِ من أَنه لَيْسَ من مبَاحث الْعُقَلَاء (يُفِيد) خبر الْمَوْصُول (أَنه كَذَلِك) أَي مثل وجوب اعْتِقَاد الْعُمُوم بِهَذَا الْبَحْث عَنهُ، وَالشَّارِح فسر قَوْله كَذَلِك بِكَوْنِهِ مُتَّفقا عَلَيْهِ أَيْضا،(1/270)
وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مَا تقدم لَا يُفِيد إِلَّا أصل الْوُجُوب، لَا كَونه مُتَّفقا عَلَيْهِ (وَالنَّظَر يقتضى) أَن يُقَال (إِذا توقف وجوب الْعَمَل على الْبَحْث توقف اعْتِقَاده) أَي الْعُمُوم على الْبَحْث، لِأَنَّهُ كَمَا لَا يُطَالب بِالْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُوم، كَذَلِك لَا يُطَالب بالاعتقاد لما لَيْسَ بِمَعْلُوم، إِذْ كل مِنْهُمَا تَكْلِيف بِمَا لَيْسَ فِي الوسع، وَزعم الشَّارِح أَن ظَاهر كَلَام مَشَايِخنَا يُوَافق مَا حمل عَلَيْهِ كَلَام الصَّيْرَفِي، وَالْوَجْه مَا ذكر المُصَنّف فَيجب حمل كَلَامهم عَلَيْهِ (وَقَول مُحَمَّد) رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات (فِيمَن أوصى بِخَاتم لإِنْسَان ثمَّ) أوصى مَفْصُولًا (بفصه لآخران الفص بَينهمَا) وَالْحَلقَة للْأولِ خَاصَّة (من بَاب الْخَاص لَا الْعَام) لِأَن الْمُعْتَبر إِمَّا لخاتمي أَو هَذَا الْخَاتم أَو تَجْوِيز الفص مِنْهُ كجزء من الْإِنْسَان، فَلَا شكّ أَن الْإِنْسَان لَا يكون عَاما بِاعْتِبَار أَجْزَائِهِ، فَكَذَا الْخَاتم (غير أَنه) أَي الْخَاتم (نَظِير) للعام فِي أَنه يَشْمَل الفص كشمول الْعَام مَا يتَنَاوَلهُ فَأطلق عَلَيْهِ توسعا (وَخَالفهُ) أَي مُحَمَّدًا (أَبُو يُوسُف) رحمهمَا الله (فَجعله) أَي الفص (للثَّانِي) كَمَا فِي الْهِدَايَة والإيضاح والمنظومة وغالب شُرُوح الزِّيَادَات وَظَاهر التَّقْوِيم وأصول فَخر الْإِسْلَام: أَن قَول مُحَمَّد قَول الْكل فَيحمل على أَن لأبي يُوسُف فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَاتَّفَقُوا على أَنه لَا خلاف فِي أَن الْحلقَة للْأولِ والفص للثَّانِي إِذا كَانَ مَوْصُولا، وَجه مَا عَن أبي يُوسُف أَن الْوَصِيّ لَا يلْزمه شَيْء فِي الْحَيَاة، وَالْكَلَام الثَّانِي بَيَان المُرَاد من الأول، فالموصول والمفصول فِيهِ سَوَاء كَمَا فِي الْوَصِيَّة بِالرَّقَبَةِ لإِنْسَان والخدمة أَو الْغلَّة لآخر، وَوجه الظَّاهِر أَن اسْم الْخَاتم يتناولهما مَعًا لِأَنَّهُ مركب مِنْهُمَا، فَالْكَلَام الثَّانِي تَخْصِيص: وَهُوَ إِنَّمَا يَصح مَوْصُولا، وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا لَا يُعَارض الأول، وهما سيان فِي إِيجَاب الحكم فثبتت الْمُسَاوَاة بَينهمَا، وَلَيْسَ الثَّانِي رُجُوعا عَن الأول، لِأَن اللَّفْظ لَا يُنبئ عَنهُ فَصَارَ كَمَا لَو أوصى بِمعين لإِنْسَان، ثمَّ أوصى بِهِ لآخر
الْبَحْث الْخَامِس
(يرد على الْعَام التَّخْصِيص، فَأكْثر الْحَنَفِيَّة) عِنْدهم التَّخْصِيص (بَيَان أَنه) أَي الْعَام (أُرِيد بعضه بمستقل) وَهُوَ مَا كَانَ مُبْتَدأ بِنَفسِهِ غير مُتَعَلق بصدر الْكَلَام، احْتَرز بِهِ عَن نَحْو الِاسْتِثْنَاء وَالصّفة (مُقَارن: أَي مَوْصُول) بِالْعَام: أَي مَذْكُور عقبه، فسره بِهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم إِرَادَة الْمَعِيَّة من الْمُقَارنَة فَإِن قلت هَذَا غير مُتَصَوّر قُلْنَا يتَصَوَّر فِي فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ قَوْله، وَإِنَّمَا اشْترط الْمُقَارنَة (فِي) الْمُخَصّص (الأول، فَإِن تراخي) الْبَيَان الْمَذْكُور عَن الْعَام (فناسخ لَا) فِي الْمُخَصّص (الثَّانِي) وَمَا بعده (وَالْوَجْه أَن الثَّانِي) إِذا ترَاخى فَهُوَ (نَاسخ(1/271)
أَيْضا) فالمقارنة شَرط فِيهِ أَيْضا (إِلَّا الْقيَاس) اسْتثِْنَاء من قَوْله: فَإِن تراخي فناسخ فَإِنَّهُ بَيَان لَا يتَصَوَّر ناسخيته وَإِن تراخي بِحَسب الظَّاهِر (إِذْ لَا يتَصَوَّر تراخيه) بِحَسب الْحَقِيقَة وَبِاعْتِبَار وضع الشَّارِع لعُمُوم علته الْمَوْجُودَة فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ للمقيس الْمُوجبَة لمشاركته الْمَقِيس عَلَيْهِ فِي الحكم وَإِن خَفِي ذَلِك قبل الِاجْتِهَاد، فعلى مَا ذكر يجوز التَّخْصِيص بالمخصص الثَّانِي الْمُتَأَخر وَلَا نسخ، وعَلى مَا ذكر المُصَنّف بحثا لَا يجوز لِأَنَّهُ نَاسخ (وَصرح الْمُحَقِّقُونَ بِأَن تفرع عدم جَوَاز ذكر بعض) من المخصصات (دون بعض على منع تَأْخِير تَخْصِيص الْمُخَصّص ضَرُورِيّ) فَإِن عِلّة منع تَأَخره لُزُوم النّسخ، فَتبين مِنْهُ إِذا كَانَ للعام عدَّة مخصصات وَجب ذكر الْكل وَلم يجز ذكر بَعْضهَا دون بعض فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يذكر الْمَتْرُوك ثَانِيًا مَفْصُولًا فَيلْزم النّسخ، وَهَذَا يدل على مَا ذكره المُصَنّف من أَن تراخي الْمُخَصّص الثَّانِي أَيْضا يُوجب النّسخ كَمَا لَا يخفى (أَو جهل) تراخيه كَمَا جهل مقارنته مَعْطُوف على قَوْله تراخي (فَحكم التَّعَارُض) يجْرِي بَين الْعَام وَمَا جهل تراخيه فِي الْقدر الَّذِي اخْتلف فِيهِ الحكم (كترجيح الْمَانِع) مِنْهُمَا: أَي الْمحرم على الْمُبِيح (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتأت التَّرْجِيح فَالْحكم (الْوَقْف) كَمَا فِي البديع، أَو التساقط كَمَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب، وحاصلهما وَاحِد (وَوَجَب نسخ الْخَاص بِالْعَام الْمُتَأَخر عَنهُ) كقلبه، وَبِه قَالَ القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَفِي البديع جعل هَذَا قَول الْعِرَاقِيّين من الْحَنَفِيَّة، ثمَّ قَالَ وَالشَّافِعِيّ وَالْقَاضِي أَبُو زيد وَجمع من مَشَايِخنَا الْخَاص مُبين مُطلقًا: يَعْنِي سَوَاء كَانَ الْخَاص مُتَقَدما أَو مُتَأَخِّرًا، أَو مَجْهُولا، أَو وردا مَعًا (وَالشَّافِعِيَّة) قَالَ الشَّارِح: أَي أَكْثَرهم (وَبَعض الْحَنَفِيَّة) قَالُوا: التَّخْصِيص (قصر الْعَام على بعض مُسَمَّاهُ، وَقيل) على بعض (مسمياته) كَمَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب والبديع بِنَاء (على إِرَادَة أَجزَاء مُسَمَّاهُ) تَنْزِيلا لأجزائه منزلَة مسميات لَهُ، إِذْ لَا مسميات للفظ الْوَاحِد غير أَن مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام الْمُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ أَجزَاء لَهُ (وَهُوَ) أَي كَون المُرَاد هَذَا (يُحَقّق مَا أسلفناه) فِي الْكَلَام على تَعْرِيف الْعَام من (أَن دلَالَته) أَي الْعَام (على الْأَفْرَاد تضمنية أَو) على إِرَادَة (الْآحَاد الْمُشْتَركَة فِي الْمُشْتَرك) بِكَسْر الرَّاء فِي الأول وَفتحهَا فِي الثَّانِي، وَهُوَ الْمَعْنى الْكُلِّي الَّذِي يصدق على الآخر كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد، وَهِي جزئيات لَهُ كَمَا مَشى عَلَيْهِ الْفَاضِل الْأَبْهَرِيّ (وَإِضَافَة المسميات إِلَيْهِ) أَي الْعَام (حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون المُرَاد هَذَا (بِعُمُوم نسبته) لِأَن الْمُتَبَادر من الْإِضَافَة الْمَذْكُورَة أَن تكون مسميات اللَّفْظ الْعَام، وَلَا يَصح ذَلِك لِأَن أَفْرَاد الْكُلِّي لَا يكون مسميات اللَّفْظ الْمَوْضُوع لَهُ فَلَا بُد من صرفهَا عَن تِلْكَ النِّسْبَة الْخَاصَّة إِلَى نِسْبَة عَامَّة، وَهِي مُلَاحظَة كَونهَا مسميات فِي الْجُمْلَة لَا بِالنّظرِ إِلَى لفظ الْعَام، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِنَّهَا) أَي تِلْكَ الْآحَاد (مسميات فِي نفس الْأَمر) لأساميها(1/272)
(لَا بِهِ) أَي لَيْسَ بمسميات بِلَفْظ الْعَام، وَهَذَا التَّعْرِيف يصدق على الْقصر الْكَائِن فِي الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص ابْتِدَاء: وَهُوَ لَيْسَ بِمُرَاد عُمُومه لَا حكما وَلَا تناولا، والمخصوص من عُمُومه مُرَاد تناولا حكما (وَيكون) التَّخْصِيص (بمستقل كالعقل والسمعي الْمُنْفَصِل، ومتصل) مَعْطُوف على مُسْتَقل (وَالْعَام فِيهِ) أَي فِي تَعْرِيف التَّخْصِيص (حَقِيقَة لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص (حكم على الْمُسْتَغْرق) بِأَنَّهُ أُرِيد مِنْهُ الْبَعْض، تَعْرِيض بِنَفْي مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن المُرَاد بِهِ مَا هُوَ عَام على تَقْدِير عدم الْمُخَصّص فَإِن قلت أَنكُمْ اعتبرتم الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص، فَلَا يُمكن إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق لما يصلح لَهُ مَعَ وجود مَا يدل على خُرُوج الْبَعْض قلت عَام بِحَسب التَّنَاوُل وَمُقْتَضى الْوَضع فَقبل بَيَان إِرَادَة الْبَعْض يفهم مِنْهُ إِرَادَة الْكل، وَقد عرفت أَن المُرَاد من الْمُقَارنَة أَن يكون مَوْصُولا بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ اسْتعْمل فِي الْعُمُوم من غير أَن يحكم عَلَيْهِ من حَيْثُ الْعُمُوم كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله حكم على الْمُسْتَغْرق فَتدبر (فمخرج الْبَعْض مُطلقًا) سَوَاء كَانَ مُتَّصِلا أَو لَا، من عقل أَو حس، أَو لفظ، أَو عَادَة (مُخَصص) على هَذَا الِاصْطِلَاح (وَيُقَال) التَّخْصِيص (لقصر اللَّفْظ مُطلقًا) أَي عَاما كَانَ أَو غَيره (على بعض مُسَمَّاهُ) فتحقق فِي خَاص مُسْتَعْمل فِي بعض أَجزَاء مُسَمَّاهُ (وَلَا يخفى مَا فِي) لفظ (قصر) من الْقُصُور فِي أَدَاء الْمَقْصُود (إِذْ لَا ينفى النّسخ) فِيمَا إِذا نسخ بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام، وَالْمرَاد بِعَدَمِ نَفْيه إِيَّاه عدم إِخْرَاجه عَن التَّعْرِيف وَأجَاب الْأَبْهَرِيّ بِمَنْع وُرُوده لِأَن الْعَام إِذا ورد عَلَيْهِ النّسخ فِي الْبَعْض لم يكن مَقْصُورا على بعض مسمياته حِين أطلق، بل أُرِيد بِهِ الْكل أَولا، ثمَّ رفع الْبَعْض أَو انْتهى حكمه، بِخِلَاف التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ لم يرد بِالْعَام حِين أطلق إِلَّا الْبَعْض، أما بِحَسب الحكم كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء، وَأما بِحَسب الذَّات كَمَا فِي غَيره انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن قَوْله أُرِيد بِهِ الْكل أَولا، ثمَّ رفع اعْتِرَاف بورود النَّقْض بِاعْتِبَار الْحَالة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ بعد نسخ لفظ مَقْصُور على بعض أَفْرَاد مُسَمَّاهُ، لِأَنَّهُ بعد ذَلِك لم يبْق ذَلِك الْبَعْض مرَادا من الْعَام فَتَأمل (وَمنعه) أَي التَّخْصِيص (شذوذ بِالْعقلِ لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص بِالْعقلِ (لَو صَحَّ صحت إِرَادَته) أَي إِرَادَة مَا قضى الْعقل بِإِخْرَاجِهِ من الْعَام، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ، أما الْمُلَازمَة فَلِأَن الْخَارِج بِالْعقلِ من مسمياته، وَأما الانتفاء فَلِأَنَّهُ لَا يَصح لعاقل إِرَادَة مَا يُخَالف الْعقل (ولكان) التَّخْصِيص بِالْعقلِ (مُتَأَخِّرًا) عَن الْعَام ضَرُورَة تَأْخِير الْبَيَان عَن الْمُبين (وَالْعقل مُتَقَدم) والتخصيص بِهِ فِي رتبته (ولصح نسخه) أَي كَون الْعقل نَاسِخا، لِأَنَّهُ بَيَان والنسخ قسم من الْبَيَان (أُجِيب بِمَنْع الْمُلَازمَة) فِي الأول (بل اللَّازِم) فِي الأول (دلَالَته) أَي لَا نسلم أَنه لَو صَحَّ التَّخْصِيص بِالْعقلِ صَحَّ أَن يُرَاد(1/273)
مَا أخرجه الْعقل، فَإِن التَّخْصِيص فرع الْعُمُوم، والعموم دلَالَة اللَّفْظ على الِاسْتِغْرَاق، لَا فرع صِحَة إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق (وَهِي) أَي الدّلَالَة الْمَذْكُورَة (ثَابِتَة بعد الْإِخْرَاج) فضلا عَمَّا قبله فَإِن الدّلَالَة على مَا وضع لَهُ اللَّفْظ من لَوَازِم الْوَضع، والإخراج لَا ينفى الْوَضع (و) فِي الثَّانِي اللَّازِم (تَأَخّر بَيَانه) أَي بَيَان الْعقل (لَا ذَاته) أَي لَا تَأَخّر الْعقل نَفسه، وَبَيَانه مُتَأَخّر عَن الْعَام (و) فِي الثَّالِث عدم لُزُوم صِحَة النّسخ من صِحَة التَّخْصِيص (لعجز الْعقل عَن دَرك الْمدَّة الْمقدرَة للْحكم) فالعقل يصلح مُخَصّصا لعدم عَجزه عَن معرفَة عدم صَلَاحِية مَا يُخرجهُ الحكم الْمَنْسُوب إِلَى الْعَام، وَلَا يصلح نَاسِخا لعَجزه عَمَّا ذكره والنسخ لَا يتَحَقَّق بِدُونِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا تلازم بَين الصلاحيتين، وَمَا ذكره سَنَد لمنع الْمُلَازمَة (وَأجِيب عَن الأول أَيْضا بِأَن التَّخْصِيص للمفرد، وَهُوَ كل شَيْء) مثلا فِي قَوْله تَعَالَى - {خَالق كل شَيْء} -، (وَيصِح إِرَادَة الْجَمِيع) أَي جَمِيع مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ شَيْء (بِهِ) أَي بِكُل شَيْء، وَلَا مَحْذُور إِذا قطع النّظر عَن نِسْبَة الْخلق إِلَيْهِ (إِلَّا أَنه إِذا وَقع) كل شَيْء (فِي التَّرْكِيب، وَنسب إِلَيْهِ مَا يمْتَنع) نسبته (إِلَى الْكل) أَي إِلَى كل أَفْرَاده (منعهَا) أَي منع الْعقل إِرَادَته (وَهُوَ معنى تَخْصِيص الْعقل، وَدفع) الأول (أَيْضا) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (بِأَن التَّحْقِيق صِحَّتهَا) أَي إِرَادَة الْكل (فِي التَّرْكِيب أَيْضا لُغَة غير أَنه يكذب) أَي يصير التَّرْكِيب كَاذِبًا حِينَئِذٍ لعدم مطابقته الْوَاقِع (وَهُوَ) أَي وَكذبه (غَيرهَا) أَي غير صِحَة الْإِرَادَة لُغَة (وَلَا يخفى أَن المُرَاد) من تَخْصِيص الْعقل (حكم الْعقل بِإِرَادَة الْبَعْض لامتناعه) أَي الحكم (فِي الْكل فِي نفس الْأَمر مِمَّن يمْتَنع عَلَيْهِ الْكَذِب) فَلم يَصح إِرَادَة الْكل فِي التَّرْكِيب لُغَة أَيْضا لِامْتِنَاع الحكم، لِأَن أصل اللُّغَة أَيْضا من حَيْثُ أَنه عَاقل مُمْتَنع أَن يقْصد مَا يحيله الْعقل، وَلقَائِل أَن يَقُول مَقْصُود الْمُحَقق صِحَّتهَا فِي التَّرْكِيب لُغَة فِي الْجُمْلَة بِالنّظرِ إِلَى نفس الْكَلَام من غير مُلَاحظَة حَال الْمُتَكَلّم وَغَيره فِيمَا إِذا لم يكن اسْتِحَالَة النِّسْبَة إِلَى الْكل بديهيا كَمَا إِذا قيل كل مفهومين يَجْتَمِعَانِ حَتَّى النقيضين، ويكفيه هَذَا الْمِقْدَار، لِأَن الْمُسْتَدلّ يدعى السَّلب الْكُلِّي، فالإيجاب الجزئي يصلح سندا لمنع بطلَان الثَّانِي، وَهُوَ انْتِفَاء صِحَة إِرَادَة مَا قضى الْعقل بِإِخْرَاجِهِ مُطلقًا فَتدبر. (قَالُوا) أَي المانعون من التَّخْصِيص بِالْعقلِ (تَعَارضا) أَي الْعَام، وَالْعقل (فتساقطا) احْتِرَازًا عَن التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح (أَو يقدم الْعَام، لِأَن أَدِلَّة الْأَحْكَام النَّقْل لَا الْعقل قُلْنَا فِي إِبْطَاله) أَي الْعقل (إِبْطَاله) أَي النَّقْل (لِأَن دلَالَته) أَي النَّقْل (فرع حكمه) أَي الْعقل (بهَا) أَي بدلالته (فَإِذا حكم) الْعقل (بِأَنَّهَا) أَي دلَالَته (على وَجه كَذَا) كالخصوص هُنَا (لزم) حكمه وَهُوَ الْمَطْلُوب (وَأَيْضًا يجب تَأْوِيل(1/274)
الْمُحْتَمل) إِذا عَارضه مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل (وَهُوَ) أَي الْمُحْتَمل هُنَا (النَّقْل) لِأَنَّهُ يحْتَمل غير ظَاهره، وَهُوَ الْخُصُوص، بِخِلَاف الْعقل فَإِنَّهُ قَاطع فَتعين تَأْوِيل النَّقْل بالتخصيص، وَذكر السُّبْكِيّ أَنه لَا نزاع فِي أَن مَا يُسمى مُخْتَصًّا بِالْعقلِ خَارج، وَإِنَّمَا النزاع فِي أَن اللَّفْظ هَل يَشْمَلهُ، فَمن قَالَ يَشْمَلهُ سَمَّاهُ تَخْصِيصًا، وَمن قَالَ لَا كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا يُسَمِّيه تَخْصِيصًا وَدَعوى الْغَزالِيّ الْإِجْمَاع على أَن الْعقل مُخَصص مَحْمُول على أَن مَا يُسمى مُخَصّصا خَارج (و) منع التَّخْصِيص قوم (آخَرُونَ مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ بِالْعقلِ أَو غَيره (لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص (كذب) إِشَارَة إِلَى مَا ذكرنَا فِي نفي الْمجَاز فِي الْكتاب وَالسّنة من أَنه كذب، لِأَنَّهُ يصدق نفي رُؤْيَة حَقِيقَة الْحَيَوَان المفترس فِي قَوْلك: رَأَيْت أسدا، فَيكون إِثْبَاتهَا كذبا، وَكَذَلِكَ هَهُنَا يصدق نفي رُؤْيَة حَقِيقَة التَّخْصِيص نظرا إِلَى مَا أَفَادَهُ الْعَام: أَي الِاسْتِغْرَاق، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا ذكر فِي الْجَواب ثمَّة من أَن الْكَذِب إِنَّمَا يلْزم إِذا أُرِيد رُؤْيَة حَقِيقَة لفظ الْأسد، لَا الرجل الشجاع بقوله (قُلْنَا يصدق) التَّخْصِيص إِذا كَانَ الْعَام (مجَازًا) وَمعنى قَوْله كذب أَنه مُسْتَلْزم للكذب الْعَام الْمُفِيد للاستغراق (قيل) الْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (يُزَاد) فِي الدَّلِيل بعد قَوْله كذب (أَو بداء) بِالدَّال الْمُهْملَة وَالْمدّ، وَهُوَ ظُهُور الْمصلحَة بعد خفائها ليشْمل الْإِنْشَاء (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد (خص) الِامْتِنَاع (الْخَبَر) لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَذِب (وَلَيْسَ) الْأَمر كَذَلِك (لَكِن صرح بِأَن الْخلاف لَيْسَ إِلَّا فِي الْخَبَر) والمصرح الْآمِدِيّ وَغَيره (وَاعْترض أَبُو إِسْحَاق) . قَالَ الشَّارِح: وَالظَّاهِر أَنه الشِّيرَازِيّ الشَّافِعِي الْمَشْهُور، والاعتراض الْمَنْع، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الطَّرِيق إِذا اعْترض فِيهِ بِنَاء أَو غَيره منع السابلة من سلوكه كَذَا فِي الْقَامُوس، وَلذَا تعدى إِلَى (من أوهم كَلَامه أَنه) أَي الْخلاف (فِي الْأَمر أَيْضا) وَإِذا لم يكن الْخلاف إِلَّا فِي الْخَبَر، فَذكر الْكَذِب كَاف فِي الِاسْتِدْلَال (والقاطع فِيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة (الله خَالق كل شَيْء، وَهُوَ على كل شَيْء قدير) للْقطع بِأَن ذَاته تَعَالَى، وتقدس منزه عَن المخلوقية والمقدورية، وَكَذَلِكَ الممتنعات كاجتماع النقيضين، فالتخصيص مَقْطُوع بِهِ، وَقد مر أَن الْمُتَكَلّم يدْخل فِي عُمُوم خطابه إِذا كَانَ من أَفْرَاد الْعَام (وَلنَا فِي) منع (التَّرَاخِي أَن إِطْلَاقه) أَي الْعَام (بِلَا مخرج إِفَادَة إِرَادَة الْكل) أَي مُفِيد إِرَادَته على الْإِسْنَاد الْمجَازِي، أَو الْمجَاز فِي الظّرْف (فَمَعَ عدمهَا) أَي عدم إِرَادَة الْكل فِي نفس الْأَمر (يلْزم أَخْبَار الشَّارِع) فِي الْخَبَر (وإفادته) الْإِنْشَاء لثُبُوت (مَا لَيْسَ بِثَابِت) صلَة الإفادة، وصلَة الْأَخْبَار مَحْذُوف يفسره الْمَذْكُور (وَذَلِكَ كذب) فِي الْخَبَر (وَطلب للْجَهْل الْمركب من(1/275)
الْمُكَلّفين) فِي الْإِنْشَاء: أما الْكَذِب فِي الاخبار فَظَاهر، وَأما طلب الْجَهْل الْمركب فِي الْإِنْشَاء فَلِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم أَن يعتقدوا عُمُوم ذَلِك الْمُكَلف بِهِ من حَيْثُ أَنه يتَعَلَّق بِهِ حكم الله، وَهُوَ غير وَاقع فِي نفس الْأَمر، فالجهل بِاعْتِبَار عدم علمهمْ لما هُوَ مَطْلُوب فِي نفس الْأَمر، وَهُوَ الْمَخْصُوص وَأما التَّرْكِيب فالاعتقاد مَا هُوَ خلاف نفس الْأَمر (وَهَذَا) الدَّلِيل بِعَيْنِه (يجْرِي فِي الْمُخَصّص الثَّانِي) وهلم جرا (كَالْأولِ، وَمُقْتَضى هَذَا) الدَّلِيل (وجوب وصل أحد الْأَمريْنِ) بِالْعَام (من) الْبَيَان (الإجمالي كَقَوْل أبي الْحُسَيْن، أَو التفصيلي، ثمَّ يتَأَخَّر) الْبَيَان التفصيلي (فِي) الْمُخَصّص (الأول) أَي الإجمالي إِذا وَقع (إِلَى) وَقت (الْحَاجة) إِلَيْهِ لتمكن الْإِمْسَاك (بعده) أَي الْبَيَان الإجمالي (لِأَنَّهُ) أَي الْبَيَان التفصيلي (حِينَئِذٍ) أَي حِين الإجمالي مَوْصُولا بِالْعَام (بَيَان الْمُجْمل) وَهُوَ جَائِز التَّأَخُّر إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَى الْفِعْل كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (وَلَا يبعد إرادتهموه) بإشباع ضم الْمِيم لإلحاق الضَّمِير الْمَنْصُوب الْمُتَّصِل: أَي إِرَادَة الْحَنَفِيَّة وجوب وصل أحد الْأَمريْنِ من الْبَيَان الإجمالي، والتفصيلي بِالْعَام باشتراطهم مُقَارنَة الْمُخَصّص الأول للعام (كَهَذا الْعَام مرَادا بعضه) تَصْوِير للمخصص الإجمالي (وَبِه) أَي بِلُزُوم وصل أحد الْأَمريْنِ (تَنْتفِي اللوازم الْبَاطِلَة) من الْكَذِب وَطلب الْجَهْل الْمركب على تَقْدِير تراخي الْمُخَصّص مُطلقًا (وإلزام الْآمِدِيّ) وَغَيره الْحَنَفِيَّة بِنَاء على امْتنَاع تَأَخّر الْمُخَصّص (امْتنَاع تَأْخِير النّسخ بِجَامِع الْجَهْل بالمراد) من الْعَام قبل الْعلم بالمخصص وبدء الْمَنْسُوخ قبل الْعلم بالناسخ، وَلَا يمْتَنع تَأَخّر النّسخ اتِّفَاقًا (لَيْسَ) أَي إِلْزَامه (لَازِما، لِأَن) الْجَهْل (الْبَسِيط غير مَذْمُوم على) الْإِطْلَاق (وَلذَا طلب) الْبَسِيط (عندنَا فِي الْمُتَشَابه) فَقُلْنَا يجب اعْتِقَاد حَقِيقَته إِجْمَالا، وَترك طلب تَأْوِيله كَمَا قرر فِي مَوْضِعه (بِخِلَاف) الْجَهْل (الْمركب) فَإِنَّهُ مَذْمُوم مُطلقًا، وَاللَّازِم فِي تَأْخِير بَيَان التَّخْصِيص طلب الْجَهْل الْمركب فَافْتَرقَا (وللتمكن من الْعَمَل المطابق) لما فِي نفس الْأَمر بالمنسوخ فِي تَأْخِير النّسخ (إِلَى سَماع النَّاسِخ) بِخِلَاف تَأْخِير الْمُخَصّص فَإِنَّهُ لَا يتَمَكَّن أَن يعْمل بِالْعَام من غير الْعلم المُرَاد مِنْهُ (وَقَوْلهمْ) أَي المجوزون للتراخي كالشافعية لَا يلْزم من إِطْلَاق الْعَام بِلَا مخرج إِفَادَة إِرَادَة وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ على مَا مر (بل) إِنَّمَا يُطلق (لتفهيم إِرَادَة الْعُمُوم) حَالَة كَونه مُشْتَمِلًا (على احْتِمَال الْخُصُوص أَن أُرِيد الْمَجْمُوع) من فهم إِرَادَة الْعُمُوم مَعَ تَجْوِيز التَّخْصِيص (معنى الصِّيغَة) أَي صِيغَة الْعَام، الْقَائِم مقَام فَاعل أُرِيد الْجُمْلَة بِاعْتِبَار مضمونها أَو لفظ الْمَجْمُوع، وَمعنى الصِّيغَة حَال عَنهُ (فَبَاطِل) لِأَن الصِّيغَة لم تُوضَع للمجموع قطعا (أَو) أُرِيد (هُوَ) أَي معنى الصِّيغَة (الأول) أَي كالعموم (وَالِاحْتِمَال ب) ثَابت (خَارج) أَي بِقَرِينَة خارجية، نَحْو كَثْرَة تَخْصِيص العمومات(1/276)
(لزم) ذَلِك الْخَارِج وجود الْعَام فِي الْخَارِج (وَإِن لم يلْزم تعقله) أَي الْعَام (لَا يُفِيد. وَفِي نُسْخَة الشَّارِح لزم أَن تعينه: أَي هَذَا الِاحْتِمَال قرينَة لَازِمَة وَإِن لم يلْزم تعقله، وَقَوله لزم إِلَى آخِره جَزَاء الشَّرْط على ثَانِي شقي الترديد (ولزومها) فِي ذَلِك الْخَارِج (مَمْنُوع) لَا دَلِيل عَلَيْهِ (إِلَّا إِن كَانَ) أَي تحقق وَثَبت وَالْأَظْهَر أَن الْمَعْنى إِلَّا إِذا كَانَ ذَلِك الْخَارِج (مَا تقدم من غَلَبَة التَّخْصِيص) ومجاوزة الْحَد (فِي بحث القطعية) أَي قَطْعِيَّة دلَالَة الْعَام فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يحصل لَهُ دَلِيل (وعملت) مِمَّا تقدم (أَنَّهَا إِنَّمَا تفِيد) عدم الْقطع بِسَبَبِهِ احْتِمَال التَّخْصِيص (فِي الْعَام فِي الْجُمْلَة) وَقد سبق أَن قَوْلهم أَن الْعَام يحْتَمل الْمجَاز مَعْنَاهُ أَن الْعَام من حَيْثُ هُوَ عَام من قطع النّظر عَن عدم الْقَرِينَة يحْتَملهُ، وَأما إِذا علم عدمهَا فِي الْعَام الْمعِين فَلَا يحْتَملهُ التَّخْصِيص مجَازًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا فِي خُصُوص) الْعَام (الْمُسْتَعْمل) فَإِنَّهُ إِذا كَانَ مَقْرُونا بِالْقَرِينَةِ الصارفة عَن الْحَقِيقَة تعين الْمجَاز وَإِن لم يكن هُنَاكَ قرينَة، كَذَا تعين الْحَقِيقَة فَلَا يحْتَمل التَّخْصِيص وَلَا الْمجَاز (قَالُوا) أَي المجيزون للتراخي (وَقع) التَّرَاخِي (فَإِن وَأولَات الْأَحْمَال) أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ (خص بِهِ) عُمُوم قَوْله تَعَالَى - {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} -، فَإِنَّهُ يعم أولات الْأَحْمَال وَغَيره، فأولات الْأَحْمَال مَعَ كَونه مُتَأَخِّرًا خصصه، وَبَين أَن المُرَاد بِهِ غير أولات الْأَحْمَال (قُلْنَا الأولى) وَهِي أولات الْأَحْمَال (مُتَأَخِّرَة) فِي النُّزُول عَن الثَّانِيَة (لقَوْل ابْن مَسْعُود من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء) يُرِيد سُورَة الطَّلَاق (الْقصرى) نزلت (بعدالتي فِي سُورَة الْبَقَرَة) ذكره مُحَمَّد فِي الأَصْل، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من شَاءَ لَاعَنته لأنزلت سُورَة النِّسَاء الْقصرى بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَفِي البُخَارِيّ مَا يُفِيد هَذَا (فَيكون) مَا فِي الْقصرى (نسخا) لما فِي الْبَقَرَة لَا تَخْصِيصًا، وَفِي البُخَارِيّ عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَا يُقرر النّسخ الْمَذْكُور (وَكَذَا وَالْمُحصنَات من الَّذين) أُوتُوا الْكتاب (بعد وَلَا تنْكِحُوا المشركات) كَمَا ذكره جمَاعَة من الْمُفَسّرين فإخراج الكتابيات نسخ، وَهَذَا يدل على كَون أهل الْكتاب من الْمُشْركين، وتأويله أَن يُقَال أَن مِنْهُم من قَالَ ثَالِث ثَلَاثَة، وَنَحْو هَذَا، أَو يُقَال المُرَاد من الْمُشرك الْكَافِر، وَفِيه مَا فِيهِ (وَكَذَا جعل السَّلب للْقَاتِل مُطلقًا) أَي سَوَاء نفله الإِمَام أم لَا إِذا كَانَ الْقَاتِل من أهل السهْم كَمَا هُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد (أَو بِرَأْي الإِمَام) كَمَا هُوَ قَول أَصْحَابنَا وَمَالك، وسلب الْمَقْتُول ثِيَابه وسلاحه، ومركبه بِمَا عَلَيْهِ من الْآلَة وَمَا مَعَه من مَال (بعد) قَوْله تَعَالَى - {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء (فَأن لله خمسه} } - الْآيَة، فَيكون اخْتِصَاص الْقَاتِل بالسلب نسخا (وكل متراخ) مخرج لبَعض الْعَام السَّابِق يكون نَاسِخا لذَلِك الْبَعْض لَا مُخْتَصًّا (قَالُوا) أَيْضا، قَالَ تَعَالَى لنوح - {فاسلك فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} - (وَأهْلك(1/277)
وتراخى إِخْرَاج ابْنه) كنعان بقوله - {يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك} (قُلْنَا هُوَ) أَي تراخي إِخْرَاج ابْنه تراخي (بَيَان الْمُجْمل) لَا تراخي مُخَصص الْعَام (لِأَنَّهُ) أَي لفظ الْأَهْل (شاع فِي النّسَب وَغَيره كَالزَّوْجَةِ، والأتباع الموافقين) قَالَ تَعَالَى - {فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله} - الْآيَة (وَبَين تَعَالَى بقوله - {لَيْسَ من أهلك} - إِرَادَته أحد المفهومين: وَهُوَ المتبعون، أَو هُوَ) أَي هَذَا الْبَيَان الْمُتَأَخر (لاستثناء مَجْهُول مِنْهُ) أَي من عُمُوم أهلك، وَهُوَ (إِلَّا من سبق عَلَيْهِ) القَوْل مِنْهُم، فَهُوَ بَيَان مُجمل، وعَلى اصْطِلَاح أَكثر الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْحَنَفِيَّة من بَيَان بعض المُرَاد بالتخصيص الإجمالي للْعُمُوم (وَقَوله) أَي قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام (إِن ابْني من أَهلِي لظن إيمَانه عِنْد مُشَاهدَة الْآيَة) أَي طغيان المَاء وغزارة فيضة من السَّمَاء وَالْأَرْض، أَو ظن إيمَانه مُطلقًا، لِأَنَّهُ لم يعلم كفره، لِأَنَّهُ كَانَ من الْمُنَافِقين على مَا قيل، ويناسبه - {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} - وَهَذَا على تَقْدِير فهم إِرَادَة المتبعين من الْأَهْل (أَو ظن إِرَادَة النّسَب) بالأهل (وَأما - {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} - (فعمومه فِي معبود المخاطبين بِهِ) وهم قُرَيْش وَهُوَ الْأَصْنَام كَمَا ذكره السُّهيْلي (فَلم يتَنَاوَل عِيسَى وَالْمَلَائِكَة) حَتَّى يُقَال أَنهم أخرجُوا متراخيا بقوله تَعَالَى - {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} - فَيكون فِيهِ حجَّة لجَوَاز تراخي الْمُخَصّص (وَاعْتِرَاض ابْن الزبعري) بِكَسْر الزاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُهْملَة، وَعَن أبي عُبَيْدَة فتح الزاء، وأصل الزبعري الْكثير الشّعْر فِي الرَّأْس والأذنين، وَقَالَ الْفراء: السَّيئ الْخلق، واسْمه عبد الله كَانَ من أَعْيَان قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة وفحول الشُّعَرَاء، وَكَانَ يهاجي للْمُسلمين ثمَّ أسلم عَام الْفَتْح وَحسن إِسْلَامه، وَله أشعار يعْتَذر فِيهَا مَا سبق مَذْكُورَة فِي السِّيرَة لِابْنِ إِسْحَاق (جدل متعنت) : روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه جَاءَ عبد الله بن الزبعري إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّد تزْعم أَن الله أنزل عَلَيْك - {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} - قَالَ نعم، قَالَ فقد عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمَلَائِكَة وَعِيسَى وعزير، فَكل هَؤُلَاءِ فِي النَّار مَعَ آلِهَتنَا، فَنزلت - {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون، وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} - إِلَى قَوْله - {خصمون} - وَهَذَا حَدِيث حسن، وَمَا قيل من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " مَا أجهلك بلغته، مَا لما لَا يعقل فشيء لَا يعرف وَلَا أصل لَهُ " كَذَا ذكره الْحفاظ: كالسبكي وَغَيره، وَهَهُنَا رِوَايَات أخر طويناها وَمَا ذكرنَا أصح (قَالُوا فِيهِ) أَي(1/278)
فِي نسخ مَا ذكر بِمَا ذكر (إبِْطَال الْقَاطِع بالمحتمل) وَهُوَ مُمْتَنع فَتعين تَخْصِيص الْعَام بِهِ فَإِن قلت كَيفَ حكم بقطعية الأول وَاحْتِمَال الثَّانِي مَعَ اشتراكهما فِي الْعُمُوم وَاحْتِمَال التَّخْصِيص قلت الأول لَا صَارف لَهُ عَن ظَاهره، وَالثَّانِي لَهُ صَارف وَهُوَ الأول (قُلْنَا) هَذَا: أَعنِي كَونه مُحْتملا (مَبْنِيّ على ظنية دلَالَة الْعَام، وَهُوَ) أَي كَونه ظَنِّي الدّلَالَة (مَمْنُوع) ، بل هُوَ قَطْعِيّ الدّلَالَة أَيْضا كَمَا هُوَ فَهُوَ إبِْطَال الْقَاطِع بالقاطع، وَلَا خلاف فِي جَوَازه (وَلَو سلم) أَن الْعَام ظَنِّي الدّلَالَة (فَلَا مُخَصص فِي الشَّرْع بخاص) من كل وَجه (بل) التَّخْصِيص (بالاستقراء) لَا يكون إِلَّا (بعام خصوصه بِالنِّسْبَةِ) إِلَى مَا هُوَ مُخْتَصّ بِهِ: يَعْنِي خُصُوصِيَّة الْمُخَصّص لكَونه جزئيا إضافيا لما خصص بِهِ لَا بِاعْتِبَار أَنه خَاص اصْطِلَاحا، فَيلْزم عَلَيْكُم إبِْطَال الْقَاطِع بالمحتمل فِي الْقدر الَّذِي أخرج من الأول (كلا تقتلُوا النِّسَاء) أَي كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع هَذَا مَعَ قَوْله: - {اقْتُلُوا الْمُشْركين} - فَإِن ذَلِك عَام فِي نَفسه خَاص بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيَة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن قتل النِّسَاء (وَمَا استدلوا بِهِ من وَأولَات الْأَحْمَال، وَالْمُحصنَات) على تَخْصِيص الْعَام بالمخصص المتراخي على مَا سبق ذكره مَعْطُوف على قَوْله لَا تقتلُوا فَإِن كلا مِنْهُمَا خَاص بِالنِّسْبَةِ (فاللازم) على تَقْدِير التَّسْلِيم 0 إبِْطَال ظَنِّي بظني) لكَون كل من الْمُتَقَدّم والمتأخر عَاما، لَا إبِْطَال قَطْعِيّ بقطعي كَمَا زعمتم (وَأما اشْتِرَاط الِاسْتِقْلَال) فِي الْمُخَصّص (فلتغير دلَالَته) أَي لتغيير دلَالَة الْعَام من الْقطع (إِلَى الظَّن) فَإِنَّهُ لَو لم يكن مُسْتقِلّا كالاستثناء وَبدل الْبَعْض لَا يتَغَيَّر، بل يتقى على قطعيته، فَدلَّ الْكَلَام على أَن المستقل بِغَيْر إِلَى الظَّن، وَغير المستقل غير مغير وَمنع كل مِنْهُمَا، وَقيل الْمخْرج لبَعض مِنْهُ معِين قَابل للتَّعْلِيل إِذا كَانَ مقترنا يُغَيِّرهُ إِلَى الظَّن مُسْتقِلّا كَانَ أَولا، وَأما المتراخي فَغير المستقل مِنْهُ لَا يُغير، والمستقل نَاسخ، وَيلْزمهُ عدم التَّغْيِير إِلَى الظَّن (لَا يَحْتَاجهُ) أَي لَا يحْتَاج إِلَى الشَّرْط الْمَذْكُور (الْقَائِل بظنيته من الْحَنَفِيَّة) كَأبي مَنْصُور وَمن مَعَه، لِأَن ظنية دلَالَة الْعَام مَوْجُودَة بِلَا مغير (وَلَا خلاف فِي عدم تغيره) أَي الْعَام (بِالْعقلِ) أَي بالمخصص الْعقلِيّ من الْقطع (إِلَى الظَّن كخروج الصَّبِي وَالْمَجْنُون من خطاب الشَّرْع إِلَّا أَن يخرج الْعقل (مَجْهُولا) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تبطل حجيته فِي الْبَاقِي لعدم تعينه بِنَاء على مجهولية الْمخْرج فضلا عَن الْقطع إِلَى الظَّن (تَفْصِيل) الْمخْرج لبَعض أَفْرَاد الْعَام (الْمُتَّصِل) بِهِ أَقسَام يرتقى عَددهَا (إِلَى خَمْسَة: الأول الشَّرْط) وَهُوَ (مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوُجُود) أَي وجود الشَّيْء بِأَن لَا يُوجد بِدُونِ وجوده (وَلَا دخل لَهُ فِي التَّأْثِير والإفضاء، فَخرج جُزْء السَّبَب) لِأَنَّهُ وَإِن توقف عَلَيْهِ السَّبَب لَكِن لَا دخل لَهُ فِي الْإِفْضَاء إِلَيْهِ، وَقد علم بذلك خُرُوج سَبَب الشَّيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الأولى (و) خرج (الْعلَّة) لِأَنَّهَا وَإِن توقف عَلَيْهَا الْوُجُود: لَكِنَّهَا مُؤثرَة (وَقَول الْغَزالِيّ) فِي تَعْرِيف(1/279)
الشَّرْط (مَا لَا يُوجد الْمَشْرُوط دونه، وَلَا يلْزم أَن يُوجد الْمَشْرُوط عِنْده) أَي الشَّرْط أورد عَلَيْهِ أَنه دوري لتعقل تعقل الْمَشْرُوط على الشَّرْط: لَا أَنه مُشْتَقّ مِنْهُ (دفع دوره بِإِرَادَة مَا صدق عَلَيْهِ الْمَشْرُوط) بِلَفْظِهِ (أَي الشَّيْء) الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ الشَّرْط، وَيُقَال شَرط الشَّيْء كَذَا: وَهُوَ لَا يتَوَقَّف فِي تعقله على تعقل الشَّرْط، وَإِنَّمَا الْمَوْقُوف على تعقله مَفْهُوم الشَّرْط (وَيرد عَلَيْهِ) أَي على طرده (جُزْء السَّبَب المتحد) لِأَن الْمُسَبّب لَا يُوجد بِدُونِهِ وَلَا يلْزم أَن يُوجد عِنْده، وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْط، (وَقيل مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر كَالْوضُوءِ يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر فِي الصَّلَاة) . قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: إِذا كَانَ الْوضُوء شرطا فِي الصَّلَاة لم يزدْ أَنه يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَأْثِير الصَّلَاة فِي الشَّيْء، بل تَأْثِير الْمُؤثر فِي الصَّلَاة. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: يحْتَمل أَن يُقَال أَنه شَرط لتأثير الصَّلَاة فِي الحكم وَهُوَ الصِّحَّة (وَيرد عَلَيْهِ) أَي على الْعَكْس عَكسه (الْحَيَاة للْعلم الْقَدِيم) فَإِنَّهَا شَرط لتحققه لَا لتأثيره، لِأَنَّهُ لَيْسَ للْعلم تَأْثِير، إِذْ لَيْسَ هُوَ صفة مُؤثرَة: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد تَعْرِيف شَرط الْمُؤثر، لَا الشَّرْط مُطلقًا (وَهُوَ) أَي الشَّرْط (عَقْلِي: كالحياة للْعلم) إِذْ الْعقل يحكم بِأَن الْعلم لَا يُوجد بِدُونِ الْحَيَاة (وشرعي: كالطهارة) للصَّلَاة، فَإِن الشَّرْع هُوَ الْحَاكِم بذلك (وَأما اللّغَوِيّ) وَهُوَ مثل قَوْلنَا: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق، فَإِن أهل اللُّغَة وضعُوا هَذَا التَّرْكِيب ليدل على أَن مَا دخلت عَلَيْهِ إِن شَرط، وَالْمُعَلّق بِهِ جَزَاء (فَإِنَّمَا هُوَ الْعَلامَة) بِكَوْنِهِ دَلِيلا على ظُهُور الحكم عِنْد ظُهُوره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَتَسْمِيَة نَحْو: إِن جَاءَ فَأكْرمه، وَإِن دخلت فطالق بِهِ) أَي بِالشّرطِ (مَعَ أَنه سَبَب جعلي) للثَّانِي (لصيرورته عَلامَة على الثَّانِي) أَي الْجَزَاء (وَإِنَّمَا يسْتَعْمل) هَذَا الشَّرْط (فِيمَا لَا يتَوَقَّف الْمُسَبّب بعده على غَيره) . وَفِي الشَّرْح العضدي وَيسْتَعْمل فِي شَرط يشبه بِالسَّبَبِ من حَيْثُ أَنه يستتبع الْوُجُود: وَهُوَ الشَّرْط الَّذِي لم يبْق للمسبب أَمر يتَوَقَّف عَلَيْهِ، فَإِذا وجد ذَلِك الشَّرْط فقد وجدت الْأَسْبَاب والشروط كلهَا فيوجد الْمَشْرُوط، فَإِذا قيل: إِن طلعت الشَّمْس فالبيت مضيء: فهم مِنْهُ أَنه لَا يتَوَقَّف إضاءته إِلَّا على طُلُوعهَا (وَقد يتحد) أَي يكون الشَّرْط أمرا وَاحِدًا (وَقد يَتَعَدَّد) الشَّرْط (معنى) أَي تعددا بِحَسب الْمَعْنى لَا بِحَسب اللَّفْظ (جمعا) أَي حَال كَونه ذَلِك المتعدد الْمَعْنَوِيّ يتَوَقَّف الْمَشْرُوط على اجْتِمَاع آحاده فِي التحقق (وبدلا) بِأَن يتَوَقَّف على وَاحِد من ذَلِك المتعدد على سَبِيل الْبَدَلِيَّة، فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقسَام (وَكَذَا الْجَزَاء) يتحد ويتعدد جمعا وبدلا، فَهَذِهِ ثَلَاثَة أُخْرَى (فَهِيَ) أَي جَمِيع الْأَقْسَام الْحَاصِلَة من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة (تِسْعَة بِلَا توقف) أَي تَتَعَدَّد بِغَيْر توقف فِي تعدده الْمَعْنَوِيّ (على) تكْرَار (أَدَاة) أَي أَدَاة الشَّرْط لفظا (بل) يَكْفِي تعددها (معنى، وَلذَا) أَي وَلعدم توقف التَّعَدُّد على الْمَعْنَوِيّ تكَرر الْأَدَاء (اخْتلف) الْجَواب (لَو دخلت إِحْدَاهمَا فِي قَوْله: إِن دخلتما)(1/280)
الدَّار (فطالقان) أَي فأنتما طالقان، ثمَّ صور الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور بقوله (أتطلق) الدَّاخِلَة (للاتحاد عرفا) أَي لِأَن الْمَفْهُوم فِي الْعرف من التَّعْلِيق الْمَذْكُور كَون شَرط طَلَاق كل مِنْهُمَا متحدا وَهُوَ دخولهما فِي الدَّار من غير أَن يشْتَرط فِي طلاقهما اجْتِمَاع دُخُولهَا مَعَ دُخُول الْأُخْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لكل مِنْهُمَا: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (أَولا) تطلق وَاحِدَة مِنْهُمَا (حَتَّى يدخلا، لِأَن الشَّرْط دخولهما) جَمِيعًا كَمَا هُوَ ظَاهر اللَّفْظ (أَو يطلقان) جَمِيعًا وَإِن لم تدخل الْأُخْرَى (لِأَنَّهُ أَي دخولهما الَّذِي هُوَ (الشَّرْط) مُتَعَدد (بَدَلا) فتحقق كل من الدخولين كَاف فِي تحقق الْجَزَاء الَّذِي هُوَ طالقان، وَهَذَا ثَالِث الْأَقْوَال (وَنَحْو) أَنْت (طَالِق إِن دخلت الدَّار) إِن دخلت (شَرط للمتقدم) أَي أَنْت طَالِق (معنى للْقطع بتقييده) أَي لأَنا نعلم قطعا أَن قَوْله طَالِق الْمُتَقَدّم يتَقَيَّد (بِهِ) أَي بِأَن دخلت: وَلَا يَعْنِي بِالشّرطِ إِلَّا مَا يتَقَيَّد بِهِ الحكم (وَعند النُّحَاة) إِن دخلت فِي هَذَا التَّعْلِيق شَرط (لمَحْذُوف مَدْلُول على لَفظه) بالمتقدم (فَلم يجْزم) الْمُتَقَدّم (بِهِ) أَي بِالشّرطِ أَشَارَ إِلَى أَنه دعاهم إِلَى ذَلِك أَمر لَفْظِي، وَهُوَ الْعَمَل (على تَقْيِيده) أَي مَعَ تَقْيِيد الْمُتَقَدّم بِالشّرطِ، فَلَا خلاف بَين النَّحْوِيين والأصوليين بِحَسب الْمَعْنى (وَإِن أطلق) الْمُتَقَدّم (لفظا) أَولا، فَإِن التَّقْيِيد يلْحقهُ ثَانِيًا لتقدم جَوَاب من حَيْثُ الْمَعْنى هَذَا بِنَاء على مَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَمن وَافقه بِنَاء على مَذْهَب الْبَصرِيين وَأما عِنْد الْكُوفِيّين فَهُوَ جَوَاب فِي اللَّفْظ أَيْضا لم يجْزم وَلم يصدر بِالْفَاءِ لتقدمه وَعند البصرية لَا يقدر مَعَ هَذَا الْمُقدم جَوَاب آخر للشّرط وَإِن لم يكن جَوَابا لَهُ، فَإِنَّهُ يغنى عَنهُ مثل استجارك الَّذِي هُوَ كالعوض من الْمُقدر (وَإِذا تعقب) الشَّرْط (جملا) متعاطفة، كلا آكل، وَلَا أشْرب إِن فعلت كَذَا (قيدها) جَمِيعًا (عِنْد الْحَنَفِيَّة بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء) فَإِنَّهُ يخْتَص بالأخيرة (عِنْدهم) إِلَّا بِدَلِيل فِيمَا قبلهَا، وَجه الْفرق بِنَاء على أَن الْجَزَاء هُوَ الْجُمْلَة الأولى أَن الشَّرْط مقدم عَلَيْهَا معنى، وَالْبَاقِي مَعْطُوف على الْجَزَاء بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء، فَإِنَّهُ مُتَأَخّر لفظا وَمعنى فَهُوَ قيد لما يتَّصل بِهِ، وتفصيله مَذْكُور فِي مَحَله
(الثَّانِي) من الْأَقْسَام الْخَمْسَة من الْبَيَان الْمُتَّصِل (الْغَايَة) ولفظها: إِلَى، وَحَتَّى، نَحْو (أكْرم بني تَمِيم إِلَى أَن يدخلُوا وَلَا يخفى عدم صدق تَعْرِيف التَّخْصِيص) وَهُوَ مَا سبق قصر اللَّفْظ مُطلقًا على بعض مُسَمَّاهُ (على إِخْرَاج الشَّرْط والغاية) لعدم إِخْرَاج شَيْء مِنْهُمَا بعض الْمُسَمّى، فَإِن مفادهما عدم ثُبُوت حكم الْعَام لَهُ على بعض التقادير على مَا سيشير إِلَيْهِ (لِأَنَّهُ) أَي الْإِكْرَام مثلا (لكل بني تَمِيم على تَقْدِير و) هُوَ تَقْدِير عدم دُخُولهمْ (لَا قصر) أَي لَا قصر الْإِكْرَام (على بَعضهم دَائِما) بِأَن يَنْفِي الْبَعْض الآخر عَنْهُم دَائِما (وَحَقِيقَته) أَي حَقِيقَة إِخْرَاج الشَّرْط والغاية (تَخْصِيص عُمُوم التقادير عَن أَن يثبت مَعهَا) أَي مَعَ التقادير كلهَا (الحكم) وَكلمَة عَن مُتَعَلقَة بالتخصيص بِاعْتِبَار(1/281)
تضمنه معنى التجاوز، فَإِنَّهُ إِذا خصص الْعُمُوم تجَاوز التقادير عَن أَن يثبت مَعهَا الحكم عُمُوما (وَقد يتَّفق) عُمُوم التقادير (تَخْصِيص الآخر) وَهُوَ تَخْصِيص عُمُوم الْأَفْرَاد: أَي تصاريفه مُوَافقَة، وَيجوز أَن يكون تَخْصِيص الآخر يتَّفق، وَيقدر مَعَ تَخْصِيص عُمُوم التقادير كَقَوْلِك: أكْرم بني تَمِيم إِن دخلُوا، أَو إِلَى أَن يدخلُوا، وَأَرَدْت بِهِ الْمُسلمين مِنْهُم (وَقد لَا) يتَّفق تَخْصِيص الْعُمُوم الآخر: كأكرم بني تَمِيم إِذا دخلُوا (وَقد يتضادان) أَي الشَّرْط والغاية (تَخْصِيصًا) بِأَن يخرج الشَّرْط بعض التقادير عَن الحكم، وتقتضي الْغَايَة دُخُول ذَلِك الْبَعْض فِيهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِر من هَذِه الْعبارَة، وَكَيف يتَصَوَّر وُقُوع مثل هَذَا فِي كَلَام الْعَاقِل: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون هَذَا الِاقْتِضَاء بِحَسب اللوازم الْخفية فَتَأمل، وَيحْتَمل كَون ضمير ويتضادان للعمومين، وَوَجهه أَيْضا غير ظَاهر (وتجري أَقسَام الشَّرْط) التِّسْعَة الْمَذْكُورَة: أَي أَمْثَالهَا (فِي الْغَايَة) فقد يكون متحدا ومتعددا جمعا وبدلا فتأتي الْأَقْسَام التِّسْعَة: وَهِي كالاستثناء فِي الْعود إِلَى الْجَمِيع أَو إِلَى الْأَخِيرَة، والمذاهب الْمذَاهب، وَالْمُخْتَار الْمُخْتَار: كَذَا فِي الشَّرْح العضدي
(الثَّالِث) من الْأَقْسَام الْخَمْسَة (الصّفة) نَحْو (أكْرم الرِّجَال الْعلمَاء) قصر الْعلمَاء الرِّجَال على بعض أَفْرَاده فَخرج غَيرهم، وَيجب فِيهِ الِاتِّصَال بالموصوف، كالغاية بِمَا هِيَ غَايَة لَهُ (وَفِي تعقبه) أَي الْوَصْف (مُتَعَددًا كتميم وقريش الطوَال) فعلوا كَذَا خلاف فِي تَقْيِيده الْأَخير أَو الْمَجْمُوع (كالاستثناء، وَالْأَوْجه الِاقْتِصَار) على الْأَخير كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء (وَلَا يخفى أَن الْإِخْرَاج بِالصّفةِ وَالشّرط والغاية، وَالْبدل) واللقب (يُسمى تَخْصِيصًا) كَمَا تَقول الشَّافِعِيَّة وَمن وافقهم (أَولا) يُسمى تَخْصِيصًا (لَا يتَصَوَّر من الْحَنَفِيَّة لنفي الْمَفْهُوم) الْمُخَالف عِنْدهم (وَلَيْسَ) الْإِخْرَاج بأحدها (تَخْصِيصًا إِلَّا بِهِ) أَي بِاعْتِبَار الْمَفْهُوم.
(الرَّابِع بدل الْبَعْض) من الْكل، نَحْو: أكْرم بني تَمِيم (الْعلمَاء مِنْهُم) : ذكره ابْن الْحَاجِب. وَقَالَ السُّبْكِيّ: وَلم يذكرهُ الْأَكْثَرُونَ، لِأَن الْمُبدل مِنْهُ فِي نِيَّة الطرح، فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ لمحل يخرج مِنْهُ فَلَا تَخْصِيص بِهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ: كالزمخشري أَن الْمُبدل مِنْهُ فِي غير بدل الْغَلَط لَيْسَ فِي حكم المهدر، بل هُوَ للتمهيد والتوطئة، وليفاد بمجموعها فضل تَأْكِيد وتبيين لَا يكون فِي الْإِفْرَاد.
(الْخَامِس: الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل، وَالْمرَاد) بِهِ هَهُنَا (أدوات الْإِخْرَاج لَا الْإِخْرَاج الْخَاص وَإِن كَانَ) الْإِخْرَاج الْخَاص قد (يُرَاد بِهِ) أَي بِلَفْظ الِاسْتِثْنَاء (كالمستثنى) أَي كَمَا يُرَاد بِهِ الْمُسْتَثْنى، وَهُوَ الْمخْرج، وَمِنْه تَفْسِيره بالمذكور بعد إِلَّا (إِذْ الْكَلَام فِي تَفْصِيل مَا هُوَ) أَي الْإِخْرَاج الْخَاص يتَحَقَّق (بِهِ، لَا) فِي نفس (التَّخْصِيص الْخَاص) الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج الْخَاص (وَهُوَ) أَي مَا بِهِ الْإِخْرَاج (إِلَّا غير(1/282)
الصّفة وَأَخَوَاتهَا) وَهِي: غير، وَسوى، وَعدا، وخلا، وحاشا، وَلَيْسَ، وَلَا يكون، وَإِلَّا، وسيما، وبيد، وبله، وَلما. وَفِي بَعْضهَا خلاف بَين أهل الْعَرَبيَّة، قيد إِلَّا بِغَيْر الصّفة، لِأَنَّهَا صفة تدخل فِي الْمُخَصّص الوضعي (وَأَنَّهَا) أَي إِلَّا وَأَخَوَاتهَا (تسْتَعْمل فِي إِخْرَاج مَا بعْدهَا) حَال كَونه (كَائِنا بعض مَا قبلهَا عَن حكمه) أَي حكم مَا قبلهَا (وَهَذَا الْإِخْرَاج يُسمى اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا) وَيسْتَعْمل (فِي إِخْرَاجه) أَي مَا بعْدهَا حَال كَونه (كَائِنا خِلَافه) أَي خلاف مَا ذكر بِأَن لَا يكون بعض مَا قبلهَا (عَن حكمه) أَي حكم مَا قبلهَا (وَيُسمى) هَذَا الْإِخْرَاج اسْتثِْنَاء (مُنْقَطِعًا) ، وَلَا يسْتَعْمل فِي الْمُنْقَطع سوى: إِلَّا، وَغير، وَسوى، وبيد (وَشَرطه) أَي الْمُنْقَطع (كَونه) أَي الْمُسْتَثْنى (مِمَّا يقارنه) أَي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (كثيرا) ليَكُون من توابعه حَتَّى يستحضره بِذكرِهِ (كجاءوا) أَي الْقَوْم (إِلَّا حمارا، وَمِنْه) أَي الْمُنْقَطع قَول الشَّاعِر:
(وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس
(إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس)
لِأَنَّهُ حصر الأنيس) فيهمَا وهما ليسَا فِيهِ، والحصر فيهمَا بعد نفي مَا عداهما يشْعر بِأَنَّهُمَا قد خلفتا أهل الْبَلَد وصارتا بِمَنْزِلَة أَهلهَا، واليعافير جمع يَعْفُور: وَهُوَ الْحمار الوحشي، وَقيل تَيْس من تيوس الظباء، والعيس بِالْكَسْرِ: الْإِبِل الْبيض يخالط بياضها شقرة، وَقيل الْجَرَاد (بِخِلَاف إِلَّا الْأكل) فَلَا يُقَال: جَاءُوا إِلَّا الْأكل (أَو) كَون الْمُسْتَثْنى بِحَيْثُ (يَشْمَلهُ حكمه) أَي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (كصونت الْخَيل إِلَّا الْحمير) أَو الْبَعِير، لِأَن التصويت يَشْمَل الْحَيَوَانَات (بِخِلَاف الصهيل أَو) كَون الْمُسْتَثْنى بِحَيْثُ (ذكر) قبله (حكم) مَعْنَاهُ (يضاده) أَي الْمُسْتَثْنى (كَمَا نفع إِلَّا مَا ضرّ، وَمَا زَاد إِلَّا مَا نقض) . قَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَا الأولى نَافِيَة، وَالثَّانيَِة مَصْدَرِيَّة، وفاعل زَاد ونفع مُضْمر، وَالتَّقْدِير: مَا زَاد فلَان شَيْئا إِلَّا نُقْصَانا، وَمَا نفع إِلَّا مضرَّة، فالمستثنى، وَهُوَ النُّقْصَان والمضرة حكم مُخَالف للمستثنى مِنْهُ، وَهُوَ الزِّيَادَة والنفع، فالاستثناء مُنْقَطع انْتهى، وَفِيه أَيْضا الْمُقَارنَة بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ بِاعْتِبَار أَنه يفهم أحد الضدين عِنْد ذكر الآخر. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي الْمِثَال الثَّانِي: لَكِن النُّقْصَان فعل، أَو لَكِن النُّقْصَان أمره وشأنه، وَلَيْسَ الْمَعْنى: مَا زَاد شَيْئا غير النُّقْصَان ليَكُون مُتَّصِلا عرفا أهـ. فَبين الْكَلَامَيْنِ تدافع، لِأَن سِيبَوَيْهٍ فسره بِهَذَا الْمَعْنى وَحكم بالانقطاع، وَلَك أَن تَقول: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد سِيبَوَيْهٍ: مَا زَاد شَيْئا غير النُّقْصَان مِمَّا يقْصد، أَو زِيَادَة كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر، فَلَا شكّ فِي انْقِطَاعه حِينَئِذٍ: غير أَنه يحْتَمل الِاتِّصَال كَمَا أَفَادَهُ المُصَنّف رَحمَه الله بقوله (أما مَا زَاد إِلَّا مَا نقص فَيحْتَمل الِاتِّصَال، لِأَنَّهُ) أَي النُّقْصَان (زِيَادَة حَال بعد التَّمام) وَيقرب مِنْهُ مَا عَن(1/283)
ابْن مَالك: إِذا قلت مَا زَاد فكأنك قلت مَا عرض لَهُ عَارض ثمَّ استثنيت من الْعَارِض النَّقْص: هَذَا، وَالْمرَاد من التَّمام تِلْكَ الْحَالة الَّتِي كَانَت لَهُ قبل النَّقْص وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مثل هَذَا الِاعْتِبَار فِي الْمِثَال الأول رَكِيك، لِأَنَّهُ يُرَاد بِمَا زَاد أَنه على حَاله عرفا، وَلَا يُرَاد بِمَا نفع كَونه على حَاله فَقَوْل الشَّارِح: إنَّهُمَا شَيْئَانِ لَيْسَ بِشَيْء (وَالْمرَاد من الْإِخْرَاج إفادته) أَي الْمخْرج (عدم الدُّخُول) أَي دُخُول الْمُسْتَثْنى (فِي الحكم اشْتهر) لفظ الْإِخْرَاج (فِيهِ) أَي فِي عدم الدُّخُول (اصْطِلَاحا) فَلَا ضير فِي ذكره فِي التَّعْرِيف، وَإِنَّمَا احْتِيجَ لبَيَان المُرَاد (إِذْ حَقِيقَته) أَي حَقِيقَة الْإِخْرَاج إِنَّمَا تتَحَقَّق (بعد الدُّخُول، وَهُوَ) أَي الْإِخْرَاج حَقِيقَة (من الْإِرَادَة) صلَة الْإِخْرَاج: أَي إِخْرَاج الْمُسْتَثْنى من المُرَاد (بِحكم الصَّدْر) مُتَعَلق بالإرادة (مُنْتَفٍ) إِذْ لَا يُمكن أَن يُرَاد تنَاول الحكم الْوَاقِع فِي صدر الْكَلَام الْمُسْتَثْنى، ثمَّ يخرج مِنْهُ للُزُوم التَّنَاقُض (و) الْإِخْرَاج (من التَّنَاوُل) أَي تنَاول اللَّفْظ، وَالدّلَالَة عَلَيْهِ (لَا يُمكن) لِأَن التَّنَاوُل بَاقٍ بعد الاسثتناء أَيْضا، لِأَنَّهُ بعلة الْوَضع، فَلَا يَنْقَطِع عَن الْمَوْضُوع (فَقيل) لفظ الِاسْتِثْنَاء (مُشْتَرك فيهمَا) أَي الْمُتَّصِل والمنقطع (لَفْظِي) لَا طَلَاقه على كل مِنْهَا حَقِيقَة من غير أَن يشْتَرك بَينهمَا معنى، وَعدم تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر ليَكُون حَقِيقَة ومجازا (وَقيل متواطئ) أَي مَوْضُوع للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا كَمَا سَيَجِيءُ، والتواطؤ خير من الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ، وَالْمجَاز (وَالْمُخْتَار) أَنه فِي الْمُتَّصِل حَقِيقَة، و (فِي الْمُنْقَطع مجَاز) وَنَقله الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَرين (قَالُوا) وَمِنْهُم ابْن الْحَاجِب (فعلى التواطؤ أمكن حَده) أَي الْمُنْقَطع (مَعَ الْمُتَّصِل بِحَدّ وَاحِد بِاعْتِبَار) الْمَعْنى (الْمُشْتَرك بَينهمَا) أَي الْمُتَّصِل والمنقطع (مُجَرّد الْمُخَالفَة) بِالْجَرِّ عطف بَيَان للمشترك (الْأَعَمّ من الْإِخْرَاج وَعَدَمه) قيل الْأَعَمّ أفعل التَّفْضِيل، وَهُوَ معرف بِاللَّامِ، وَقد أجْرى على الْمُخَالفَة فَيجب تأنيثه، وَيمْتَنع فِيهِ من أُجِيب بِأَنَّهُ صفة لمُجَرّد، وَمن لبَيَان الْمُخَالفَة، لَا صلَة الْأَعَمّ. وَقَالَ الشَّارِح فِيهِ تَأمل (فَيُقَال مَا دلّ على الْمُخَالفَة بإلا غير الصّفة إِلَى آخِره) أَي وَأَخَوَاتهَا، وَقَوله بإلا غير الصّفة إِخْرَاج سَائِر أَنْوَاع التَّخْصِيص (وعَلى أَنه) أَي لفظ الِاسْتِثْنَاء (مُشْتَرك) لَفْظِي بَينهمَا (أَو مجَاز فِي الْمُنْقَطع لَا يُمكن) حد الْمُنْقَطع مَعَ الْمُتَّصِل بِحَدّ وَاحِد (لِأَن مفهومية) أَي الِاسْتِثْنَاء (حِينَئِذٍ حقيقتان مُخْتَلِفَتَانِ، فَيحد كل) من الْمُتَّصِل والمنفصل (بِخُصُوصِهِ، فيزاد) على الْحَد الْوَاحِد السَّابِق (فِي) حد (الْمُنْقَطع) قيد (من غير إِخْرَاج لإِخْرَاج الْمُتَّصِل وَلَا شكّ أَن هَذَا) أَي امْتنَاع الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي تَعْرِيف وَاحِد (إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْرِيف ماهيتين مختلفتين كَمَا لَو كَانَ التَّعْرِيف للاستثناء بِمَعْنى الاخراجين المسميين بالمتصل والمنقطع) فَإِن الْإِخْرَاج فِي الْمُتَّصِل إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله صدر الْكَلَام من حكمه.(1/284)
وَفِي الْمُنْقَطع إِخْرَاج مَا لَا يتَنَاوَلهُ الصَّدْر من حكمه وَلَا شكّ أَنَّهُمَا حقيقتان بِمَعْنى ماهيتان مُخْتَلِفَتَانِ مُمْتَنع اجْتِمَاعهمَا فِي حد وَاحِد فَإِن قلت قد يجمع بَين الماهيات الْمُخْتَلفَة فِي تَعْرِيف وَاحِد كتعريف الْحَيَوَان المندرج تَحْتَهُ الْحَيَوَان: الْإِنْسَان، وَالْفرس وَغَيرهمَا بالجسم النامي الحساس إِلَى آخِره قلت المُرَاد: تَعْرِيف الماهيتين بِحَيْثُ يتَمَيَّز كل مِنْهُمَا على جَمِيع مَا عداهُ لَا يُقَال يجوز أَن يذكر كل مِنْهُمَا بِجَمِيعِ قيوده بِأَو الترديدية، لِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن حِينَئِذٍ اخْتِصَاص شَيْء من الترديد بِشَيْء مِنْهُمَا بِعَيْنِه من نفس التَّعْرِيف وَالْحق أَن الْكَلَام فِي الْحَد الأسمى فَلَا يتَصَوَّر وحدته إِلَّا بِأَن يُوجد مُسَمّى وَاحِد، وضع الِاسْم بإزائه، والمفروض فِيمَا نَحن فِيهِ خِلَافه فَافْهَم (وَبِأَن وضع لفظ مرَّتَيْنِ لشيئين) حَتَّى كَانَ مُشْتَركا لفظيا بَينهمَا (أَو) وضع لفظ (مرّة لمشترك بَينهمَا) أَي بَين شَيْئَيْنِ حَتَّى كَانَ متواطئا (أَو) وضع (لأَحَدهمَا ويتجوز بِهِ فِي الآخر لَا يتَعَذَّر تَعْرِيفه على تَقْدِير تَقْدِير) بِأَن يُقَال فِيمَا نَحن فِيهِ الِاسْتِثْنَاء على تَقْدِير وَضعه للمتصل مَعْنَاهُ، وَكَذَا قَوْله على تَقْدِير مكررا، مثل قَوْلهم: رتبته بَابا بَابا، وَجَاءُوا وَاحِدًا وَاحِدًا: فَهُوَ حَال عَن تَعْرِيفه: يَعْنِي مفصلا على هَذَا الْوَجْه. قَالَ الرضي وصابطه أَن يَتَأَتَّى للتفصيل بعده كَمَا ذكر الْمَجْمُوع بجزئه مكررا (وَالْكَلَام) هَهُنَا (إِنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى الأداة) يَعْنِي أَن لفظ الِاسْتِثْنَاء يُطلق على الْإِخْرَاج الْمَذْكُور وعَلى اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ، وَكَلَام الْأُصُولِيِّينَ فِي هَذَا الْمقَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَخِيرَة، فالأداة إِمَّا مُشْتَرك وَإِمَّا متواطئ إِلَى آخِره، وَيجوز تَعْرِيفهَا على كل تَقْدِير تَقْدِير (فَيُقَال مَا دلّ على عدم إِرَادَة مَا بعده) حَال كَون مَا بعده (كَائِنا بعض مَا قبله، أَو) كَائِنا (خِلَافه) أَي خلاف مَا ذكر بِأَن لَا يكون بعض مَا قبله (بِحكمِهِ) مُتَعَلق الْإِرَادَة: أَي لم يقْصد بِحكمِهِ أَن يَشْمَل مَا بعده ناشئة دلَالَته على الْمَعْنيين (عَن وضعين) وضع مرّة لِأَن يدل على عدم إِرَادَة مَا بعده كَائِنا إِلَى آخِره، وَمرَّة لمقابله (على الِاشْتِرَاك، وَيتْرك لفظ الْوَضع) الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُور بِصِيغَة التَّثْنِيَة (على) تَقْدِير (التواطؤ) وَالْبَاقِي على حَاله، فَيُقَال مَا دلّ على عدم إِرَادَة مَا بعده كَائِنا بعض مَا قبله أَو خِلَافه (و) يُقَال على أَنه حَقِيقَة فِي الْمُتَّصِل مجَاز فِي الْمُنْقَطع مَا دلّ على عدم إِرَادَة مَا بعده (كَائِنا بعضه) أَي بعض مَا قبله (بِحكمِهِ بِوَضْعِهِ) أَي بِسَبَب وضع مَا دلّ على هَذَا الْمَعْنى (لَهُ) أَي لهَذَا الْمَعْنى (فَقَط، وخلافه بِالْقَرِينَةِ) أَي وَدلّ على عدم إِرَادَة مَا بعده كَائِنا خِلَافه مَا قبله بِأَن لَا يكون بعضه بِحكمِهِ بِالْقَرِينَةِ: أَي دلَالَته على هَذَا الْمَعْنى بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ (ثمَّ لَا يخفى صدق تعريفنا) وَهُوَ قَوْلنَا مَا دلّ الخ بِبَعْض تصرف (عَلَيْهَا) أَي على الأداة (على التقادير) الثَّلَاثَة (بِلَا حَاجَة إِلَى خِلَافه) من التعاريف على(1/285)
مَا تكلفوا فِي هَذَا الْمقَام (وَقَوله) أَي الَّذِي جوز حَده على التواطؤ، فَقَالَ مَا دلّ على الْمُخَالفَة (بإلا) غير الصّفة (إِلَى آخِره يُفِيد أَن إِلَّا وَأَخَوَاتهَا مَعَ مَا دلّ غيران) أَي متغايران، لِأَن الدَّال بِوَاسِطَة شَيْء غير ذَلِك الشي (وَلَيْسَ) كَذَلِك لِأَن الدَّال إِنَّمَا هُوَ إِلَّا وَأَخَوَاتهَا غير أَن الْحُرُوف لَا تستقل بِالدّلَالَةِ بِدُونِ متعلقها (وَقَوله فِي الْمُنْقَطع من غير إِخْرَاج أَن) أَرَادَ بِهِ نفي الْإِخْرَاج (مُطلقًا) من حَيْثُ تنَاول الصَّدْر، وَمن حَيْثُ تنَاول الحكم (لم يصدق) التَّعْرِيف (على شَيْء من أَفْرَاد الْمَحْدُود لِأَنَّهَا) أَي أَفْرَاده (مخرجة من الحكم) فَإِن قلت الْإِخْرَاج مِنْهُ فِي الْمُتَّصِل بِاعْتِبَار شُمُول صدر الْكَلَام الْمُسْتَثْنى، فَإِنَّهُ بِحَسب الظَّاهِر يُفِيد دُخُوله فِي الحكم، وَإِن كَانَ بِحَسب الْحَقِيقَة لَا حكم قبل الِاسْتِثْنَاء على مَا بَين فِي مَحَله دفعا للتناقض، فَمَا معنى الْإِخْرَاج مِنْهُ فِي الْمُنْقَطع قلت قد مر أَن المُرَاد من الْإِخْرَاج إِفَادَة عدم الدُّخُول فِي الحكم (والإخراج فِي الِاسْتِثْنَاء بقسميه) الْمُتَّصِل والمنقطع (لَيْسَ إِلَّا مِنْهُ) أَي من الحكم (وَحمله) أَي الْإِخْرَاج (على أَنه من الْجِنْس فَقَط، وَأَنه) أَي كَون الْإِخْرَاج هَذَا (الِاصْطِلَاح) أَي مُوجب الِاصْطِلَاح (بَاطِل للْقطع بِأَن زيدا لم يخرج من الْقَوْم، وَلَا يصطلح على بَاطِل، وَإِن أُرِيد التَّجَوُّز بِالْجِنْسِ عَن حكمه) ليَكُون الْمجَاز لغويا، (أَو أضمر) الحكم ليَكُون من مجَاز الْحَذف (صَار الْمَعْنى من غير إِخْرَاج من حكم الْجِنْس، وَعَاد الأول، وَهُوَ أَن الْوَاقِع إِخْرَاج مَا بعد إِلَّا مُطلقًا) أَي مُتَّصِلا كَانَ أَو مُنْقَطِعًا (من حكم مَا قبلهَا، وَعَدَمه) أَي الْإِخْرَاج (من نفس الْجِنْس) أما فِي الْمُتَّصِل فَلِأَن التَّنَاوُل بَاقٍ، وَأما فِي الْمُنْقَطع فلعدم الدُّخُول الَّذِي الْإِخْرَاج فَرعه فَإِن قلت قد مر أَن المُرَاد من الْإِخْرَاج إِفَادَة عدم الدُّخُول قلت إِفَادَة الدُّخُول بِاعْتِبَار الحكم لَهُ وَجه إِذْ يتَوَهَّم ذَلِك، وَلَا وَجه لإِفَادَة عدم دُخُوله خلاف الْجِنْس فِي الْجِنْس، فَإِنَّهُ لَا يتَوَهَّم بِجِنْس (وَوجه الْمُخْتَار) وَهُوَ كَون أَدَاة الِاسْتِثْنَاء حَقِيقَة فِي الْمُتَّصِل مجَاز فِي المقطع (بِأَن عُلَمَاء الْأَمْصَار ردُّوهُ) أَي الْمَذْكُور: يَعْنِي أَدَاة الِاسْتِثْنَاء (إِلَى الْمُتَّصِل، وَإِن) كَانَ الْمُتَّصِل (خلاف الظَّاهِر، فحملوا لَهُ: ألف إِلَّا كرا) من الْبر عَليّ (على قِيمَته) صلَة لحملوا، وَلَوْلَا أَنهم قصدُوا حمل إِلَّا على حَقِيقَته مَا صرفُوا اللَّفْظ عَن ظَاهره، فَإِن ذكر الْكر وَإِرَادَة قِيمَته خلاف الظَّاهِر فَإِن قلت اخْتَارُوا التَّجَوُّز فِي الْكر على التَّجَوُّز فِي إِلَّا، وَلم يعكسوا ليَكُون الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا قلت الطَّرِيق الجادة فِي إِخْرَاج شَيْء من حكم صدر الْكَلَام مَسْلَك الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل لَا الْمُنْقَطع فِيمَا أمكن حمل الْكَلَام على الِاتِّصَال لَا يعدل عَنهُ إِلَى الِانْقِطَاع، وَإِلَيْهِ يُشِير قَوْله (وَلِأَنَّهُ يتَبَادَر من، نَحْو: جَاءَ الْقَوْم إِلَّا قبل ذكر زيد، أَو حمَار أَنه يُرِيد أَن يخرج بعض الْقَوْم عَن حكمهم، فيشرأب) أَي فَيطلع، فِي الْقَامُوس اشرأب إِلَيْهِ مد عُنُقه(1/286)
لينْظر، أَو ارْتَفع، وَالِاسْم الشرأبية كالطمأنية (إِلَى أَنه أَيهمْ، وَلَو كَانَت) إِلَّا (حَقِيقَة فِي إِخْرَاج الْأَعَمّ مِنْهُ) مِمَّا تنَاوله الصَّدْر (من حكمه) أَي من حكم الصَّدْر (لم يتَبَادَر معِين) وَهُوَ مَا تنَاوله صدر الْكَلَام (لَا يُقَال جَازَ) تبادر الْمعِين (لعروض شهرة أوجبت الِانْتِقَال إِلَيْهِ) أَي الْمعِين، فالتبادر لأمر عَارض لأصل الْوَضع، وَمثله لَا يكون عَلامَة الْحَقِيقَة (لِأَنَّهُ) أَي عرُوض الشُّهْرَة فِي أحد الْمَعْنيين الحقيقيين (نَادِر لَا يعْتَبر بِهِ) بِمُجَرَّد الْإِمْكَان (قبل فعليته) أَي تحَققه بِالْفِعْلِ (وَإِلَّا) لَو اعْتبر جَوَاز عرُوض الشُّهْرَة مُوجبا للتبادر (بَطل الْحمل على الْحَقِيقَة عِنْد إمكانهما) أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، لِأَن الْحَقِيقَة لَا تعرف إِلَّا بالتبادر عِنْد الْإِطْلَاق، وَإِذا جوز كَون التبادر لعروض عَن الشُّهْرَة على سَبِيل الِاحْتِمَال انسد بَاب إِثْبَات الْحَقِيقَة (وَغير ذَلِك) من الْحمل على الِاشْتِرَاك إِذا ثَبت تبادر المفاهيم على السوَاء بتجويز كَون تبادر أَحدهمَا لعروض الشُّهْرَة. (وَقَالَ الْغَزالِيّ) وَالْقَاضِي (فِي) تَعْرِيف الِاسْتِثْنَاء (الْمُتَّصِل قَول ذُو صِيغ مَخْصُوصَة دَال على أَن الْمَذْكُور) الْمُتَّصِل (بِهِ لم يرد بالْقَوْل الأول أَفَادَ جنسه) وَهُوَ قَول (أَنه) أَي التَّعْرِيف (لغير الْمَعْنى المصدري) الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج، بل للأداة (ومخصوصة أَي معهودة، وَهِي إِلَّا وَأَخَوَاتهَا، فالأنسب أَن يُقَال يرد على طرده) أَي على مانعية التَّعْرِيف (الشَّرْط) نَحْو: أكْرم النَّاس أَن علمُوا، لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ قَول إِلَى آخِره، لِأَن لَهُ صيغا هِيَ أدوات الشَّرْط، وَسَيذكر الْقَيْد الآخر (لَا) أَن يُقَال يرد على طرده (التَّخْصِيص بِهِ) أَي بِالشّرطِ كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب: إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ قَول، وَإِنَّمَا قَالَ الْأَنْسَب لِأَنَّهُ يُمكن تَأْوِيل مَا قَالَ (و) يرد عَلَيْهِ (الْمَوْصُول) حَال كَونه (وَصفا) مُخَصّصا، نَحْو: أكْرم النَّاس الَّذين علمُوا (والمستقل) نَحْو: لَا تكرم زيدا بعد أكْرم الْقَوْم (وَدفع الْأَوَّلَانِ) أَي الايردان بِالشّرطِ والموصول، والدافع ابْن الْحَاجِب (بِأَنَّهُمَا) أَي الشَّرْط والموصول (لَا يخرجَانِ الْمَذْكُور) وَهُوَ الْعلمَاء فِي المثالين (بل) يخرجَانِ (غَيره) أَي غير الْمَذْكُور، وَهُوَ من عداهم (وَتقدم التَّحْقِيق فِيهِ) من أَن الشَّرْط مخرج بعض التقادير، وَكَذَلِكَ الْوَصْف (والمستقل لم يوضع لإِفَادَة الْمُخَالفَة، وَإِنَّمَا تفهم) الْمُخَالفَة (بملاحظتهما) أَي المستقل، وَمَا خص بِهِ وَالْمرَاد من الدّلَالَة فِي التَّعْرِيف مَا بِالْوَضْعِ (و) أورد (على عَكسه) أَي على جامعية التَّعْرِيف (شخص جَاءُوا إِلَّا زيدا، وسائرها) أَي خُصُوص إِلَّا، وكل من أدوات الِاسْتِثْنَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء مِنْهَا ذَا صِيغ، فَلَا يصدق الْحَد على شَيْء مِنْهَا (ورد) هَذَا الْإِيرَاد (بِظُهُور أَن المُرَاد) بالْقَوْل الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف (جنس الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل) فَإِنَّهُ ذُو صِيغ، وكل فَرد مِنْهُ ذُو صِيغَة وَلَا يخفى مَا فِيهِ من أَن التَّعْرِيف لَا يكون إِلَّا للْجِنْس، وَمَعَ هَذَا لَا بُد من صدق التَّعْرِيف على(1/287)
كل فَرد (وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَعدم وُرُوده) أَي هَذَا الْإِيرَاد (على) تَقْدِير (كَونه) أَي كَون التَّعْرِيف (تعريفا للأدوات يُفِيد الْعُمُوم) بِأَن يكون الْمُعَرّف جنس الأدوات لَا من حَيْثُ هُوَ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي التعريفات، بل من حَيْثُ تحققها فِي ضمن كل من الْأَفْرَاد، فَكل خُصُوصِيَّة من خصوصيات الأدوات لَيست من أَفْرَاد الْمُعَرّف، فَلَا ينْتَقض بهَا التَّعْرِيف جمعا (وعَلى) تَقْدِير (كَونه) أَي التَّعْرِيف تعريفا (لما يصدق عَلَيْهِ أَدَاة الِاسْتِثْنَاء) بِأَن يكون الْمُعَرّف الْفَرد الْمُنْتَشِر لجنس أَدَاة الِاسْتِثْنَاء (ليَكُون الْمِثَال) الْمَذْكُور، وَهُوَ قَوْله: إِلَّا زيد الَّذِي هُوَ شخص من ذَلِك الْجِنْس (من أَفْرَاد الْمُعَرّف بِخِلَاف الأول) وَهُوَ فرض كَون التَّعْرِيف للأدوات يُفِيد الْعُمُوم، فَإِن الْمِثَال الْمَذْكُور لَيْسَ من أَفْرَاد الْمُعَرّف: أَي بِنَاء عَلَيْهِ (صَادِق عَلَيْهِ) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره والتعريف صَادِق على الْمِثَال الْمَذْكُور بِنَاء على كَونه لما يصدق عَلَيْهِ إِلَى آخِره (إِذْ الْجِنْس) أَي جنس الْفَرد الْمُنْتَشِر (قَول كلي لَا يتَحَقَّق خَارِجا إِلَّا فِي ضمن أَدَاة) فَهُوَ بِاعْتِبَار كل تحقق ذُو صِيغَة وَاحِدَة، وَلَكِن بِاعْتِبَار تحققاته ذُو صِيغ كَثِيرَة (وَهُوَ) أَي الْجِنْس (نَفسه ذُو الصِّيَغ) وَإِن كَانَ شخصه ذَا صِيغَة وَاحِدَة (وَيصدق على الْكُلِّي الْكَائِن فِي ضمن إِلَّا فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (ذَلِك) أَي قَول ذُو صِيغ إِلَى آخِره وَالْحَاصِل أَن الْفَرد الْمُنْتَشِر وَإِن لم يصدق عَلَيْهِ بِاعْتِبَار تحَققه فِي ضمن هَذَا الْخَاص أَنه قَول ذُو صِيغ إِلَى آخِره، لَكِن يصدق عَلَيْهِ بِاعْتِبَار تحققاته فِي ضمن الخصوصيات أَنه قَول ذُو صِيغ (وَقيل) فِي التَّعْرِيف (لفظ مُتَّصِل بجملة لَا يسْتَقلّ) صفة لفظ، وَكَذَا قَوْله (دَال على أَن مَدْلُوله) الضَّمِير رَاجع إِلَى لفظ (غير مُرَاد بِمَا اتَّصل) اللَّفْظ الْمَذْكُور (بِهِ) وَهُوَ الْجُمْلَة (لَيْسَ) ذَلِك اللَّفْظ (بِشَرْط وَلَا صفة وَلَا غَايَة) احْتِرَاز بِلَفْظ من المخصصات الحسية أَو الْعَقْلِيَّة، وبمتصل عَن الْمُنْفَصِلَة، وَبلا يسْتَقلّ عَن مثل قَامَ الْقَوْم وَلم يقم زيد، وبعدم إِرَادَة مَدْلُوله عَن الْأَسْمَاء الْمُؤَكّدَة مثل: جَاءَ الْقَوْم كلهم، وَالْبَاقِي ظَاهر (و) يرد (على طرده قَامُوا لَا زيد) لصدق الْحَد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ باستثناء (وَدفع بِمَا ذكرنَا) من أَنه لم يوضع لإِفَادَة عدم الْإِرَادَة، وَإِنَّمَا لَزِمت من ملاحظته مَعَ مَا قبله لُزُوما عقليا لَا وضعيا بِدَلِيل جَاءَ زيد لَا عَمْرو، لِامْتِنَاع إِرَادَة عَمْرو من زيد (و) يرد (على عَكسه) الِاسْتِثْنَاء (المفرغ للْفَاعِل) نَحْو: مَا جَاءَ إِلَّا زيد، إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ الْحَد لعدم اتِّصَاله بِالْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِل، وَالْفِعْل وَحده مُفْرد (وَدفع بِأَن مَا قبله) أَي مَا قبل إِلَّا زيد (فِي تقديرها) أَي الْجُمْلَة، فَالْمُرَاد بِالْجُمْلَةِ مَا يعم الْجُمْلَة تَقْديرا (وعَلى هَذَا) مَشى (من يقدر فَاعِلا عَاما) وَيجْعَل مَا بعد إِلَّا بَدَلا مِنْهُ فَنَقُول التَّقْدِير: مَا جَاءَ أحد إِلَّا زيد (وَلَعَلَّ الْمُعَرّف) الَّذِي عرف بالتعريف الْمَذْكُور (يرَاهُ) أَي التَّقْدِير على الْوَجْه الْمَذْكُور (ثمَّ يفْسد) عَكسه أَيْضا (بِأَن كل مُسْتَثْنى مُتَّصِل مُرَاد بِالْأولِ) بِحَسب(1/288)
دلَالَة لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ على إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِيَّاه (وَيدْفَع بِمَنْعه) أَي بِمَنْع كَون الْمُسْتَثْنى مرَادا بِالْأولِ، وَإِن كَانَ مدلولا (وَلَو سلم) كَونه مرَادا فِي الْجُمْلَة (فَغير مُرَاد بالحكم وَهَذَا) التَّعْرِيف (أَيْضا لما لَهُ) التَّعْرِيف فِي (الأول) أَي تَعْرِيف الْغَزالِيّ: وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى الأداة (فَلَا يكون الأولى) من كل مِنْهُمَا أَن يُقَال فِي تَعْرِيفه كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب (إِخْرَاج بَالا أَو إِحْدَى أخواتها، وَهُوَ) أَي هَذَا التَّعْرِيف (على غير مهيعة) أَي طَرِيق كل من التعريفين السَّابِقين أَي لَا يكون هَذَا أولى، وَالْحَال أَنه على غير مهيعهما، فَإِن الْأَوْلَوِيَّة فرع الِاتِّحَاد فِيمَا صدق التعريفات الثَّلَاثَة عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ (إِلَّا معنى الأول تَعْرِيف) الِاسْتِثْنَاء بِالْمَعْنَى (المصدري الَّذِي هُوَ التَّخْصِيص الْخَاص) وَهُوَ مَا يكون بألا وَإِحْدَى أخواتها (وَترك مَا بِهِ) التَّخْصِيص (وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك) أَي أولى هَهُنَا (فَإِن الْكَلَام فِي ذَلِك) أَي الْمُخَصّص الْمُتَّصِل الْمُسَمّى بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي نفس التَّخْصِيص إِذْ الْكَلَام فِي بَيَان المخصصات (وَاعْلَم أَنه قد يعرف مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الِاسْتِثْنَاء من ماهيتي الْمُتَّصِل والمنقطع غير أَنه) أَي لفظ الِاسْتِثْنَاء (لَيْسَ حَقِيقَة فيهمَا) أَي الماهيتين (مُشْتَركا) بِأَن يكون مَوْضُوعا بِإِزَاءِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِوَضْع على حِدة (أَو متواطئا) بِأَن يكون مَوْضُوعا بِإِزَاءِ مَفْهُوم يعمهما (إِلَّا اصْطِلَاحا) نحويا اسْتثِْنَاء من قَوْله متواطئا: أَي لَيْسَ حَقِيقَة فيهمَا على التواطؤ فِي وضع إِلَّا فِي الْوَضع الاصطلاحي (وَنظر الأصولي فِي معنى الِاسْتِثْنَاء) إِنَّمَا هُوَ (من جِهَة اللُّغَة، وَيُمكن تعريفهما) أَي ماهيتي الْمُتَّصِل والمنفصل (لَا من حَيْثُ هما مدلولا لفظ أصلا، أَو مدلولا لفظ لغَوِيّ) يَعْنِي تعريفهما إِنَّمَا يتَصَوَّر على أحد الْوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن يَقع النّظر عَن كَونهمَا مدلولي لفظ، لَا لُغَة وَلَا اصْطِلَاحا إِن لم يكن فِي نفس الْأَمر هَهُنَا اصْطِلَاح كَمَا أَنه لَيْسَ هَهُنَا لُغَة، وَالثَّانِي أَن يَقع النّظر عَن كَونهمَا مدلولي لُغَة وَإِن فرض وجود اصْطِلَاح (هُوَ) أَي ذَلِك اللَّفْظ اللّغَوِيّ (الأدوات، فالاستثناء: أَي مَا تفيده إِلَّا وَأَخَوَاتهَا) حَقِيقَة أَو مجَازًا (الْمَعْرُوفَة) صفة لأخواتها (إِخْرَاج بهَا) أَي بِإِحْدَى الْمَذْكُورَات، ثمَّ فسر الْإِخْرَاج بقوله (أَي منع) أحد الْمَذْكُورَات مدخوله (من الدُّخُول اشْتهر) لفظ الْإِخْرَاج فِي هَذَا الْمحل (فِيهِ) أَي فِي الْمَنْع الْمَذْكُور (من الحكم أَو الصَّدْر مَعَه) أَي مَعَ الحكم على مَا ذكر من الْوَجْهَيْنِ.
مسئلة
(الِاتِّفَاق أَن مَا بعد إِلَّا مخرج من حكم الصَّدْر: أَي لم يرد بِهِ) أَي بِحكم الصَّدْر (فالمقر بِهِ لَيْسَ إِلَّا سَبْعَة، فِي على عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، وَاخْتلف فِي تَقْدِير دلَالَته) أَي فِي تَوْجِيه دلَالَة الْكَلَام الْمَذْكُور على سَبْعَة (فالأكثر) على أَنه (أُرِيد سَبْعَة) بِعشْرَة مجَازًا (وَإِلَّا)(1/289)
مَعَ دُخُولهَا (قرينته) أَي قرينَة هَذَا المُرَاد الَّذِي هُوَ جُزْء الْمُسَمّى (والاتفاق أَن التَّخْصِيص كَذَلِك) أَي الْمُخَصّص فِيهِ قرينَة على أَن المُرَاد بالمخصص مَا بَقِي بعد التَّخْصِيص (وَقيل أُرِيد عشرَة ثمَّ أخرج) ثَلَاثَة بإلا ثَلَاثَة، فَدلَّ إِلَّا على الْإِخْرَاج وَثَلَاثَة على الْعدَد الْمُسَمّى بهَا (ثمَّ حكم على الْبَاقِي، وَالْمرَاد أُرِيد عشرَة وَحكم على سَبْعَة فإرادة الْعشْرَة) بِلَفْظ عشرَة (بَاقٍ بعد الحكم) على سَبْعَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن المُرَاد هَذَا (رَجَعَ إِلَى إِرَادَة سَبْعَة بِهِ) أَي بِلَفْظ عشرَة (مَعَ الحكم عَلَيْهَا) أَي على سَبْعَة (فَلم يزدْ على الأول إِلَّا) مَا حصل (بتكلف لَا فَائِدَة لَهُ وَاخْتَارَهُ) أَي هَذَا القَوْل (بعض الْمُتَأَخِّرين) وَهُوَ ابْن الْحَاجِب، وَاسْتدلَّ (بِالْقطعِ باستثناء نصفهَا فِي: اشْتريت الْجَارِيَة إِلَّا نصفهَا فَكَانَ) جَمِيع الْجَارِيَة (مرَادا) من الْجَارِيَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد مِنْهَا جَمِيعًا، بل نصفهَا (كَانَ) الِاسْتِثْنَاء لنصفها (من نصفهَا فَهُوَ) أَي الِاسْتِثْنَاء (مُسْتَغْرق) جمع الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَهُوَ بَاطِل (أَو) كَانَ (الْمخْرج الرّبع لِأَن الْبَاقِي من النّصْف بعد إِخْرَاج النّصْف مِنْهُ) أَي من النّصْف (الرّبع ويتسلسل: أَي يَنْتَهِي إِلَى إِخْرَاج الْجُزْء غير المتجزئ مِنْهُ) أَي من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَفِي تَفْسِير التسلسل بالانتهاء إِلَى مَا ذكر مُسَامَحَة: يَعْنِي لَيْسَ المُرَاد التسلسل إِلَى غير النِّهَايَة، يل إِلَى حد لَا يتَصَوَّر بعده الْمخْرج والمخرج مِنْهُ (وَعلمت أَن الْإِخْرَاج مجَاز عَن عدم الْإِرَادَة) أَي عَن عدم إِرَادَة الْمُسْتَثْنى مِنْهُ بالمستثنى مِنْهُ (عِنْدهم، وَإِلَّا نصفهَا بَيَان إِرَادَة النّصْف بلفظها) أَي الْجَارِيَة فَلَا يكون إِلَّا نصفهَا مُسْتَغْرقا، وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم ذَلِك لَو أُرِيد بِلَفْظ الْجَارِيَة نصفهَا قبل ذكرا، ثمَّ أخرج نصفهَا من ذَلِك المُرَاد (وَلَا يتسلسل) الإخراجيات (لعدم حَقِيقَة الْإِخْرَاج) فَإِن مبْنى التسلسل على أَن الِاسْتِثْنَاء يخرج بعض المُرَاد من لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ يتَعَيَّن بعده الْإِخْرَاج بِالِاسْتِثْنَاءِ، فتعقب كل اسْتثِْنَاء اسْتثِْنَاء، وَهَذَا إِذا كَانَ هُنَاكَ حَقِيقَة الْإِخْرَاج، وَأما إِذا كَانَ الْإِخْرَاج عبارَة عَن عدم إِرَادَة الْبَعْض بِسَبَب الِاسْتِثْنَاء، وَبعد مَا تعين المُرَاد بِسَبَبِهِ فقد انْتهى عمل الِاسْتِثْنَاء قبله، وَلَا إِخْرَاج بعد ذَلِك فَافْهَم (و) ابْن الْحَاجِب قَالَ (أَيْضا الضَّمِير) فِي نصفهَا (لِلْجَارِيَةِ) إِذْ المُرَاد نصف جَمِيعهَا قطعا، وَيلْزم من كَون المُرَاد من الْجَارِيَة نصفهَا أَن يرجع الضَّمِير إِلَى نصفهَا، لِأَن الْمَذْكُور على هَذَا التَّقْدِير لَا جَمِيعهَا (وَيدْفَع) هَذَا (بِأَن الْمرجع) لضمير نصفهَا (اللَّفْظ) أَي لفظ الْجَارِيَة (لِأَنَّهُ) أَي الضَّمِير (لربط لفظ بِلَفْظ بِاعْتِبَار مَعْنَاهُمَا) حَقِيقِيًّا كَانَ أَو مجازيا لَا الْمُسَمّى: أَي (لَا) بِاعْتِبَار (الْمُسَمّى) خَاصَّة (فَيرجع) ضمير نصفهَا (إِلَى لفظ الْجَارِيَة مرَادا بِهِ بَعْضهَا) الَّذِي هُوَ النّصْف (وَأَيْضًا إِجْمَاع) أهل (الْعَرَبيَّة أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل (إِخْرَاج بعض من كل) وَلَو أُرِيد الْبَاقِي من الْجَارِيَة(1/290)
لم يكن ثمَّة كل وَلَا بعض وَلَا إِخْرَاج، فَأجَاب عَنهُ بقوله (وَعرفت أَنه) أَي الْإِخْرَاج (منع دُخُوله) أَي الْمُسْتَثْنى (فِي الْكل) وَهُوَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (فالإجماع على هَذَا الْمَعْنى) وَهُوَ مَوْجُود على قَول الْأَكْثَر، ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب (وَأَيْضًا تبطل النُّصُوص) لِأَنَّهُ إِذا حمل على الْمَعْنى الْمجَازِي لم تبْق نصوصية فِي مَعْنَاهُ (قُلْنَا: النَّص وَالظَّاهِر سَوَاء بِاعْتِبَار ذاتهما) فَإِن كَون اللَّفْظ نصا فِي معنى بِحَيْثُ لَا يحْتَمل خِلَافه لَا يتَحَقَّق قطّ بِمُجَرَّد ذَاته، بل باقتران أَمر آخر من لفظ وَغَيره، فَلَا أثر لذات اللَّفْظ فِي منع التَّجَوُّز بِهِ، وَلَوْلَا انضمام كلهم أَجْمَعُونَ للفظ الْمَلَائِكَة، ويطير بجناحيه للفظ الطَّائِر لما نَص الأول فِي الْعُمُوم، وَالثَّانِي فِيمَا أُرِيد بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَا نصوصية بِمَعْنى رفع الِاحْتِمَال مُطلقًا إِلَّا بِخَارِج، وَلَيْسَ الْعدَد بِمُجَرَّدِهِ) أَي مُجَرّد لَفظه (مِنْهُ) أَي من النَّص بِمَعْنى نفي الِاحْتِمَال (فالملازمة) بَين إِرَادَة السَّبْعَة من الْعشْرَة وَبطلَان النُّصُوص (مَمْنُوعَة) وَقد عرفت سَنَد الْمَنْع (وَأما إِسْقَاط مَا بعْدهَا) أَي وَأما الدَّلِيل الْخَامِس لِابْنِ الْحَاجِب، وَهُوَ أَنا نعلم فِي الِاسْتِثْنَاء أَنه يسْقط مَا بعد إِلَّا مِمَّا قبلهَا (فَيبقى الْبَاقِي) من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فيسند إِلَيْهِ الحكم (وَهُوَ) أَي إِسْقَاط مَا بعْدهَا مِمَّا قبلهَا (فرع إِرَادَة الْكل) مِمَّا قبلهَا (فَقَوْل الْأَكْثَر يقتضى أَن الْإِسْقَاط) الْمَذْكُور (ذكر مَا لم يرد) بالحكم، وَهُوَ الثَّلَاثَة بعْدهَا كَمَا أَن الْإِخْرَاج عبارَة عَن عدم الدُّخُول ابْتِدَاء وهما متقاربان معنى، وَقد مر أَنه شاع فِي عدم الدُّخُول، فشيوع تِلْكَ الْإِرَادَة قرينَة لهَذِهِ (ونسبته) أَي نِسْبَة مَا لم يرد بِهِ (للمسمى) أَي الْمَوْضُوع لَهُ لفظ الْعشْرَة من حَيْثُ أَنه يفهم من ذكر إِلَّا ثَلَاثَة أَن الثَّلَاثَة هِيَ من أَجزَاء الْعشْرَة، وَلم يتَنَاوَلهُ حكم مَا عده من أَجْزَائِهَا مَعَ أَن لفظ الْعشْرَة مستعملة فِي السَّبْعَة لَا فِي الْعشْرَة (ليعرف الْبَاقِي) المُرَاد من الْمُسَمّى لَا لِأَن الْمُسَمّى قد اسْتعْمل فِيهِ اللَّفْظ (أَو) الْإِسْقَاط (بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَدْلُوله) أَي اللَّفْظ، فَإِنَّهُ لما كَانَت الثَّلَاثَة مَعَ السَّبْعَة مُشَاركَة فِي المدلولية من اللَّفْظ بِمُوجب الْوَضع وَلم ينلها الحكم كَمَا نَالَ السَّبْعَة قبل لَهَا أسقط مَا قبلهَا (وَإِذا لم يبطل الأول) أَي قَول الْأَكْثَر (وَهُوَ أقل تكلفا) من الثَّانِي (تعين) الأول للاعتبار (وَلِأَن الثَّانِي خَارج عَن قانون الِاسْتِعْمَال، وَهُوَ) أَي قانون الِاسْتِعْمَال (إِيقَاع اللَّفْظ فِي التَّرْكِيب ليحكم على وضعيه) أَي الْمَعْنى الْمَوْضُوع لَهُ اللَّفْظ (أَو مُرَاده) أَي وعَلى الْمَعْنى المُرَاد بِهِ مجَازًا (أَو بهما) أَي وليحكم بِالْمَعْنَى الْمَوْضُوع لَهُ اللَّفْظ أَو بالمراد، لِأَن اللَّفْظ إِمَّا مَأْخُوذ فِي جَانب الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، أَو فِي جَانب الْمَحْكُوم بِهِ (وَلَا مُوجب) لِلْخُرُوجِ عَن قانون الِاسْتِعْمَال (فَوَجَبَ نَفْيه) أَي نفي القَوْل الثَّانِي لِخُرُوجِهِ عَن القانون (وَعَن القَاضِي أبي بكر عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة) مَوْضُوعَة (لمدلول سَبْعَة كسبعة) أَي كَمَا وضع لفظ سَبْعَة لَهُ، وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (ورد بِأَنَّهُ خَارج(1/291)
عَن اللُّغَة، إِذْ لَا تركيب من) أَلْفَاظ (ثَلَاثَة فِي غير المحكي، وَالْأول غير مُضَاف وَلَا مُعرب وَلَا حرف) فَعلم أَنه يُوجد مركب من ثَلَاثَة أَلْفَاظ إِذا كَانَ محكيا كبرق نَحره، وشاب قرناها، وَإِذا كَانَ غير المحكى إِذا كَانَ الأول مِنْهُ غير جَامع السُّكُوت الثَّلَاثَة كَأبي عبد الله. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: إِنَّمَا الْكَلَام فِي التَّسْمِيَة بِثَلَاثَة أَلْفَاظ فَصَاعِدا إِذا جعلت اسْما وَاحِدًا على طَرِيق حَضرمَوْت وبعلبك من غير أَن يُلَاحظ فِيهَا الْإِعْرَاب وَالْبناء الأصليان، بل يكون بِمَنْزِلَة زيد وَعَمْرو، وَيجْرِي الْإِعْرَاب الْمُسْتَحق على حرفه الْأَخير، وَهَذَا لَيْسَ من لُغَة الْعَرَب بِلَا نزاع صرح بِهِ صَاحب الْكَشَّاف انْتهى وَحَاصِل كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله: نفى مركب من ثَلَاثَة أَلْفَاظ يكون أَولهَا جَامع السُّكُوت الثَّلَاثَة وَقَوْلنَا عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة يصدق على أَولهَا أَنه لَيْسَ بمضاف، وَلَا حرف، وَلَا مُعرب لِأَنَّهُ على طَريقَة القَاضِي مَحل الْإِعْرَاب الْحَرْف الْأَخير لَا الأول (و) رد أَيْضا (بِلُزُوم عود الضَّمِير) فِي نَحْو إِلَّا نصفهَا (على جُزْء الِاسْم) الَّذِي هُوَ الْجَارِيَة فِي: اشْتريت الْجَارِيَة إِلَّا نصفهَا (وَهُوَ) جُزْء الِاسْم (كزاي زيد لعدم دلَالَته) أَي جُزْء الِاسْم على الْمَعْنى، فَيمْتَنع عود الضَّمِير إِلَيْهِ (وَالْحق أَنه) أَي قَول القَاضِي (أحد المذهبين) الْمَذْكُورين (للْقطع بِأَن مفرداته) أَي مُفْرَدَات عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة بَاقِيَة (فِي مَعَانِيهَا) الافرادية (وَقَوله بِإِزَاءِ سَبْعَة) إِنَّمَا هُوَ (بِاعْتِبَار الْحَاصِل) من التَّرْكِيب سَوَاء قُلْنَا أَن الْعشْرَة اسْتعْملت مجَازًا فِي السَّبْعَة بِقَرِينَة إِلَّا ثَلَاثَة، أَو اسْتعْملت فِي الْعشْرَة ثمَّ أخرج الثَّلَاثَة، فَإِنَّهُ على التَّقْدِيرَيْنِ لَا بُد من مُلَاحظَة معنى إِلَّا وَمعنى ثَلَاثَة، وَبعد إِخْرَاج ثَلَاثَة من عشرَة يصير كَأَنَّهُ اسْتعْمل أَولا فِي السَّبْعَة وَلَا يخفى أَن معنى اسْتِعْمَال عشرَة فِي سَبْعَة ذكر عشرَة وَإِرَادَة سَبْعَة، وَلَا تتمّ هَذِه الْإِرَادَة على وَجه يفهمها الْمُخَاطب إِلَّا بعد تعقل معنى إِلَّا وَثَلَاثَة، فالتركيب الْمَذْكُور بعد أحد التصرفين محصوله محصول السَّبْعَة من حَيْثُ الْمَآل (وَلذَا شبه) فَقَالَ كسبعة على مَا نقل عَنهُ (فَانْتفى مَا بناه بَعضهم) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة (عَلَيْهِ) أَي على قَول القَاضِي (من أَن تَخْصِيصه) أَي الِاسْتِثْنَاء بِنَاء على مَا ذهب إِلَيْهِ (كمفهوم اللقب) أَي كتخصيص مَفْهُوم اللقب على مَا ذهب إِلَيْهِ بعض النَّاس: يَعْنِي أَن تَخْصِيص الِاسْتِثْنَاء أَمر مُتَّفق عَلَيْهِ، وتخصيض مَفْهُوم اللقب نَفَاهُ الْكل إِلَّا بعض الْحَنَابِلَة وشذوذا وَهُوَ إِضَافَة نقيض حكم مَا عبر عَنهُ باسمه علما أَو جِنْسا إِلَى مَا سواهُ على مَا سبق، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة بِمَنْزِلَة سَبْعَة، فنفى الحكم عَمَّا عدا سَبْعَة كنفي الزَّكَاة عَمَّا عدا الْغنم فِي قَوْلنَا: فِي الْغنم زَكَاة، وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْء من الْإِخْرَاج، وَلذَا قَالَ (الْمُقْتَضى أَن لَا إِخْرَاج أصلا) صفة لمَفْهُوم اللقب (وَجهه) أَي وَجه مَا قُلْنَا من أَن قَوْله بِإِزَاءِ سَبْعَة بِاعْتِبَار الْحَاصِل (أَن(1/292)
الحكم لَيْسَ إِلَّا على السَّبْعَة فَأَما باعتبارها) أَي بِاعْتِبَار كَون السَّبْعَة (مدلولا مجازيا للتركيب) فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ الْعشْرَة المخرجة مِنْهَا الثَّلَاثَة كَمَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور (أَو) بِاعْتِبَار كَون السَّبْعَة (مَا) أَي شَيْئا (يصدق على السَّبْعَة، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ حَاصِل التَّرْكِيب حَاصِل السَّبْعَة فَلَا يخرج القَاضِي على المذهبين (هَذَا) أَي خُذ هَذَا، أَو الشَّأْن هَذَا (وَبَعض الْحَنَفِيَّة قَالُوا إِخْرَاج الِاسْتِثْنَاء عِنْد الشَّافِعِي بطرِيق الْمُعَارضَة) لِأَنَّهُ أثبت للمستثنى حكم مُخَالف لصدر الْكَلَام كَمَا فِي الْعَام إِذا خص مِنْهُ بعضه من حَيْثُ أَنه يثبت لذَلِك الْبَعْض حكم مُخَالف لحكمه، فتحقق الْمُعَارضَة بَين الْحكمَيْنِ (وَعِنْدنَا بَيَان مَحْض) لكَون الحكم الْمَذْكُور فِي الصَّدْر واردا على الْبَعْض، وَهُوَ مَا عدا الْمُسْتَثْنى (ثمَّ أبطلوه) أَي الْحَنَفِيَّة المذكورون مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله (بِأَنَّهُ لَو كَانَ) إِخْرَاجه بطرِيق الْمُعَارضَة (وَهُوَ) أَي وَالْحَال أَن الْإِقْرَار الْمَذْكُور (لَا يُوجب) حكمه (إِلَّا فِي سَبْعَة ثَبت مَا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ، فَإِن الْعشْرَة لَا يَقع عَلَيْهَا) أَي السَّبْعَة فَقَط (حَقِيقَة) وَهُوَ ظَاهر (وَلَا مجَازًا) وَلَا نِسْبَة بَينهَا وَبَين الْعشْرَة سوى العددية، وَهِي عَامَّة لَا تصلح للتجوز، وَشرط التَّجَوُّز بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية كَون الْجُزْء مُخْتَصًّا بِالْكُلِّ كاختصاص الرَّقَبَة بالإنسان (بِخِلَاف الْعَام) الْمَخْصُوص (إِذْ لَا يستلزمه) أَي ثُبُوت مَا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ، لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْعَام لَا يُطلق على بعض أَفْرَاده لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا لوُجُود العلاقة المصححة للتجوز (وَلَو سلم) جَوَاز التَّجَوُّز بِالْعشرَةِ عَن السَّبْعَة كَمَا يشْعر قَوْلهم عشرَة كَامِلَة رفعا لتوهم الْمجَاز (فالمجاز مَرْجُوح) لكَونه خلاف الأَصْل (فَلَا يحمل عَلَيْهِ) مَعَ إِمْكَان الْحَقِيقَة بِأَن يُرَاد الْعشْرَة، ثمَّ يخرج مِنْهَا الْبَعْض (كَذَا نَقله) أَي هَذَا الْإِبْطَال (مُتَأَخّر) يَعْنِي صدر الشَّرِيعَة (من الْحَنَفِيَّة، وَأَنه) أَي وأبطلوه بِأَنَّهُ: أَي قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله مَبْنِيّ (على) قَول (الْقَائِل) بِأَن قَوْله (عشرَة) فِي الْإِقْرَار الْمَذْكُور (مُسْتَعْمل (فِي سَبْعَة) وَالْحكم عَلَيْهَا فَقَط من غير أَن يحكم على الثَّلَاثَة بِنَفْي وَلَا إِثْبَات (فَتكون الثَّلَاثَة مسكوتة) وَهَذَا يُنَافِي مَا سبق من أَن إِخْرَاج الِاسْتِثْنَاء عِنْد الشَّافِعِي رَحمَه الله بطرِيق الْمُعَارضَة (وَكَأن هَذَا مِنْهُ) أَي من الْمُبْطل (إِلْزَام) للشَّافِعِيّ (وَإِلَّا فالشافعي) رَحمَه الله (لَا يَجْعَلهَا) أَي الثَّلَاثَة (مسكوتة) بل يَجْعَل لَهَا ضد حكم الصَّدْر لما عرفت (وَغَيره) أَي غير هَذَا الْمُتَأَخر (مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة كصاحب التَّحْقِيق، وَصَاحب الْمنَار وشارحيه، والبديع (نَقله) أَي الْإِبْطَال (بِالْآيَةِ هَكَذَا: لَو كَانَ) عمل الِاسْتِثْنَاء بِنَاء (على الْمُعَارضَة ثَبت فِي قَوْله تَعَالَى) - (فَلبث فيهم(1/293)
(ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما) } - حكم الْألف بجملتها) قَوْله ألف فَاعل ثَبت (ثمَّ عَارضه) أَي الِاسْتِثْنَاء حكم االألف (فِي الْخمسين) إِلَّا خمسين (فَيلْزم كذب الْخَبَر فِي أَحدهمَا، وَهَذَا) التَّوْجِيه (هُوَ الْأَلْيَق بِمَعْنى الْمُعَارضَة) وَهُوَ الْمُنَافَاة المستلزم كذب أحد المتنافيين (وَإِلَّا فَالْحكم على سَبْعَة) فِي عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة (و) على (تِسْعمائَة وَخمسين) فِي الْآيَة (بالإثبات لَا يُعَارضهُ) أَي الحكم الْمَذْكُور (نَفْيه) أَي الحكم (عَن ثَلَاثَة وَخمسين) لعدم توارد الْإِثْبَات وَالنَّفْي على مَحل وَاحِد (وَبَنوهُ) أَي الْحَنَفِيَّة كَون إِلَّا ثَلَاثَة وَإِلَّا خمسين نفيا على الثَّلَاثَة والخمسة (على أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَقَلبه) أَي وعَلى أَن الِاسْتِثْنَاء من الْإِثْبَات نفي (مَنْقُولًا عَن أهل اللُّغَة، وعَلى أَن التَّوْحِيد) وَهُوَ الْإِقْرَار بِوُجُود الْبَارِي ووحدته (فِي كَلمته) أَي التَّوْحِيد وَهِي: لَا إِلَه إِلَّا الله إِنَّمَا يحصل (بِالنَّفْيِ) للألوهية عَمَّا سوى الله (وَالْإِثْبَات) أَي إِثْبَاتهَا لله وَحده (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي هَذِه الْكَلِمَة مَجْمُوع النَّفْي وَالْإِثْبَات (كَانَت) كلمة التَّوْحِيد (مُجَرّد نفي الألوهية عَن غَيره) أَي عَن غير الله تَعَالَى، فَلَا يحصل بِهِ التَّوْحِيد على مَا عرفت (فالتزمته) أَي أَنَّهَا لَا تفِيد إِلَّا نفي الألوهية عَن غَيره تَعَالَى (الطَّائِفَة الْقَائِلُونَ مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (مَا بعد إِلَّا مسكوت) عَن مَحْكُوم عَلَيْهِ بِحكم (وَإِن التَّوْحِيد) الْمركب من النَّفْي وَالْإِثْبَات يحصل (من النَّفْي القولي) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِلَا إِلَه إِلَّا الله (وَالْإِثْبَات العلمي لأَنهم) أَي الْكفَّار (لم ينكروا ألوهيته تَعَالَى) كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} - الْآيَة ونظائره (بل أشركوا، فبالنفي عَن غَيره ينتفى) الشّرك (وَيحصل التَّوْحِيد فَلَا تكون) كلمة التَّوْحِيد (من الدهري إِيَّاه) أَي توحيده، لإنكاره وجود الْبَارِي تَعَالَى سَوَاء كَانَ قَائِلا بصانع هُوَ الدَّهْر والأفلاك، أَو الأنجم، أَو الْفُصُول الْأَرْبَعَة أَو غير ذَلِك أَولا (وَالْجُمْهُور وَمِنْهُم طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة) كفخر الْإِسْلَام وَمن وَافقه ذَهَبُوا إِلَى الحكم (فِيمَا بعد إِلَّا بالنقيض) يَعْنِي أَنه لَا يدل على أَن مَا بعْدهَا لم يثبت لَهُ مَا ثَبت لما قبلهَا، وَيلْزم مِنْهُ أَن يثبت لَهُ نقيض مَا ثَبت لذَلِك: وَإِلَّا يلْزم ارْتِفَاع النقيضين، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى وَالْجُمْهُور إِلَى آخِره حكم فِيمَا بعد إِلَّا بالنقيض بِمُوجب اللُّغَة (وَهُوَ) مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور (الْأَوْجه، لنقل الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات إِلَى آخِره) أَي إِثْبَات وَقَلبه عَن أهل اللُّغَة (وَلَا يسْتَلْزم) هَذَا (كَون الْإِخْرَاج بطرِيق الْمُعَارضَة لعدم اتِّحَاد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات كَمَا ذكرنَا آنِفا) من أَن الحكم على سَبْعَة وعَلى تِسْعمائَة وَخمسين بالإثبات وَلَا يُعَارضهُ نَفْيه عَن ثَلَاثَة وَعَن خمسين (وَنقل أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء (تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا) بِالضَّمِّ وَالْقصر اسْم من الِاسْتِثْنَاء من أهل اللُّغَة أَيْضا (لَا يُنَافِيهِ) أَي كَونه من الْإِثْبَات نفيا وَقَلبه (فَجَاز اجْتِمَاعهمَا) أَي النقلين (فَيصدق أَنه تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا بِاعْتِبَار الْحَاصِل من(1/294)
مَجْمُوع التَّرْكِيب، وَنفي وَإِثْبَات بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء) يَعْنِي إِذا فصلنا أَجزَاء الْكَلَام وجدنَا نفيا وإثباتا، وَإِذا نَظرنَا إِلَى محصله ومآله وجدنَا تكلما بِالْبَاقِي فَإِن قلت الْمَفْهُوم من أَنه تكلم بِالْبَاقِي إِلَى آخِره الِاقْتِصَار على حكم الصَّدْر وَتَعْيِين مَحَله، وَهُوَ الْبَاقِي بعد إِخْرَاج مَا بعد إِلَّا من غير تعرض لحكم مَا بعْدهَا فَكيف لَا يُنَافِيهِ قلت الظَّاهِر من الْعبارَة مَا ذكرت لَكِن التَّوْفِيق بَين النقلين يقتضى صرفه عَن الظَّاهِر، وَحمله على عدم دُخُول الثَّلَاثَة مثلا فِي الحكم الْمُثبت على عشرَة فالقائل لَهُ عَليّ عشرَة كَأَنَّهُ لم يتَكَلَّم إِلَّا بسبعة، وَذَلِكَ قَوْله إِلَّا ثَلَاثَة، وَلَيْسَ المُرَاد أَنه لم يتَكَلَّم إِلَّا بهَا حَقِيقَة حَتَّى يلْزم انْتِفَاء الحكم فِيمَا بعد إِلَّا كَمَا سيشير إِلَيْهِ (وَنَحْو لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور يُفِيد ثُبُوتهَا) أَي صِحَة الصَّلَاة (مَعَ الظُّهُور فِي الْجُمْلَة) جَوَاب عَمَّا قيل فِي إِثْبَات كَون مَا بعد إِلَّا فِي حكم الْمَسْكُوت عَنهُ، وَأَنه لَو لم يكن كَذَلِك يلْزم صِحَة الصَّلَاة بالطهور وَلَيْسَ كَذَلِك لاشتراطها بِشُرُوط أخر وَحَاصِل الْجَواب أَن اللَّازِم من اعْتِبَار الحكم فِيمَا بعد إِلَّا هَهُنَا الْإِيجَاب الجزئي لَا الْإِيجَاب الْكُلِّي، وَلَا شكّ أَن الصَّلَاة الجامعة لبَقيَّة الشُّرُوط تصح بِطهُور فَصحت الْمُوجبَة فِي الْجُمْلَة (وغايته) أَي غَايَة مَا يلْزم من كَلَام من قَالَ أَن الِاسْتِثْنَاء تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا أَن الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار صدر الْكَلَام (تكلم بعام مَخْصُوص) بِمَا عدا الْمُسْتَثْنى إِذا كَانَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ عَاما، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّكَلُّم بِمَا خرج عَنهُ من أَفْرَاده ثَانِيًا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِحكم مُخَالف للْأولِ، هَذَا وَالشَّارِح حمله على الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور فِي لَا صَلَاة إِلَى آخِره وتكلف فِي تَحْصِيل عُمُومه بِكَوْنِهِ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، وَأَن هَذَا الْمُقْتَضى للْعُمُوم مُنْتَفٍ فِي الْإِثْبَات، وَلم يتَعَرَّض لبَيَان الْخُصُوص، ثمَّ أَفَادَ أَن الْمَعْنى لَا جَوَاز للصَّلَاة فِي حَال من الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَال من الاقتران بالطهور، فَإِن لَهَا فِي هَذِه الْحَال جَوَازًا فِي الْجُمْلَة على مَا عرفت (غير أَن قَول الطَّائِفَة الثَّانِيَة) الحكم (الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي بعد الْإِشَارَة، فَقَوْل الثَّانِي (إِشَارَة) خبر أَن (وَهُوَ) أَي الحكم الإشاري (مَنْطُوق) فِي الْكَلَام (غير مَقْصُود بِالسوقِ على مَا مر) فِي التَّقْسِيم الأول (وَقَول الْهِدَايَة) وَهُوَ (فِيمَا أَنْت إِلَّا حر يعْتق لِأَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات على وَجه التَّأْكِيد كَمَا فِي كلمة الشَّهَادَة ظَاهر فِي الْعبارَة) فِي شرح الْهِدَايَة: هَذَا هُوَ الْحق الْمَفْهُوم من تركيب الِاسْتِثْنَاء لُغَة، ثمَّ قَالَ: وَأما كَونه إِثْبَاتًا مؤكدا فلوروده بعد النَّفْي بِخِلَاف الْإِثْبَات الْمُجَرّد انْتهى، كَأَنَّهُ يُرِيد أَن الْإِثْبَات بعد النَّفْي يسْتَلْزم تكْرَار الأَصْل النِّسْبَة أَو يُنبئ عَن زِيَادَة تَحْقِيق فِي الْمحل، وَأما كَونه ظَاهرا فِي الْعبارَة، فَلِأَن الْمَعْنى الَّذِي لم يكن سوق الْكَلَام لَهُ لَا يُؤَكد وَالله أعلم (وَالْأَوْجه أَنه مَنْطُوق إِشَارَة تَارَة وَعبارَة) تَارَة (أُخْرَى بِأَن يقْصد) بِالسوقِ كَمَا هُوَ حَال سَائِر المنطوقات وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه مَنْطُوق (لما ذكرنَا) مِمَّا يدل على منطوقيته (وَلِأَن النَّفْي عَمَّا بعد إِلَّا يفهم(1/295)
من اللَّفْظ) وَلَا يَعْنِي بالمنطوقية إِلَّا هَذَا وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ خلاف حكم مَا قبلهَا (وَأما الِاتِّفَاق على أَن إِلَّا لمُخَالفَة مَا بعْدهَا لما قبلهَا وضعا فَلَا يُفِيد) الْمَقْصُود (لصدق الْمُخَالفَة) بَين مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا (بِعَدَمِ الحكم عَلَيْهِ) أَي على مَا بعد إِلَّا (فَلَا يسْتَلْزم الحكم) على مَا بعد إِلَّا (بنقيضه) أَي بنقيض حكم مَا قبلهَا شَيْء (إِلَّا فهمه) أَي فهم الحكم بنقيضه من اللَّفْظ (كَمَا سَمِعت) إِذْ فهم الْمَعْنى من اللَّفْظ دَلِيل إفادته إِيَّاه (ثمَّ قد يقصدان) أَي الْإِثْبَات وَالنَّفْي (ككلمة التَّوْحِيد) أَي كَمَا قصدا فِي كلمة التَّوْحِيد (والمفرغ) أَي وكما قصدا فِي الِاسْتِثْنَاء المفرغ كَمَا جَاءَ إِلَّا زيد وَفِي نَحْو مَا جَاءَ الْقَوْم إِلَّا زيدا للْقطع بِأَن سياقها لإِثْبَات الألوهية، ومجيء زيد بِالْمَنْعِ وَجه (فعبارة) أَي فَالْحكم بعد إِلَّا فِيهَا عبارَة (أَو) يقْصد (غير الثَّانِي) وَهُوَ الحكم على مَا قبلهَا لَا غير (كعلي عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة لفهم أَن الْغَرَض السَّبْعَة) أَي الْإِقْرَار بهَا وَلم يقْصد أَن الثَّلَاثَة لَيست عَليّ وَإِن كَانَ يلْزم ضمنا (فإشارة) أَي فَالْحكم على مَا بعد الْأَخير إِشَارَة (وَلما بعد أَن يَقُول بِحَقِيقَة الْمُعَارضَة) فِي الِاسْتِثْنَاء الْوَاقِع فِي الْكتاب وَالسّنة (مُسلم لِأَنَّهَا) أَي الْمُعَارضَة تكون (بِثُبُوت الْحكمَيْنِ) المتناقضين (وَهُوَ) أَي ثبوتهما (التَّنَاقُض صرح الْمُحَقِّقُونَ) جَوَاب لما (بِنَفْي الْخلاف الْمَذْكُور) وَهُوَ أَن الْإِخْرَاج فِي الِاسْتِثْنَاء بطرِيق الْمُعَارضَة أَولا (وباتفاق أهل الدّيانَة أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء (بَيَان مَحْض كَسَائِر التخصيصات، وَإِنَّمَا هُوَ) أَي الِاسْتِثْنَاء (صورتهَا) أَي الْمُعَارضَة (نظرا إِلَى ظَاهر إِسْنَاد الصَّدْر) مَعَ مَا يُخَالِفهُ فِيمَا بعد إِلَّا (وَلَا يخْتَلف فِيهِ) أَي فِيمَا ذكر من أَنه بَيَان مَحْض، وَلَيْسَ الْمُعَارضَة إِلَّا بِحَسب الصُّورَة (كالتخصيص بِغَيْرِهِ) أَي كَمَا لَا يخْتَلف فِي التَّخْصِيص بِغَيْر الِاسْتِثْنَاء.
(تَنْبِيه: جَوَاز) بيع (مَا لَا يدْخل تَحت الْكَيْل) من المكيلات (قلَّة) بِأَن يكون مَا دون نصف صَاع على مَا قَالُوا (بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا عِنْد الْحَنَفِيَّة، لَا الشَّافِعِيَّة مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء، قيل) قَالَه فَخر الْإِسْلَام وَمن وَافقه (للمعارضة عِنْده) أَي الشَّافِعِي (فَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاء لكم بيع طَعَام) بِطَعَام (مسَاوٍ، فَمَا سواهُ) أَي مَا سوى الْمسَاوِي مِنْهُ قَلِيلا أَو كثيرا. (منع) أَي مَمْنُوع (بالصدر) أَي لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ، لِأَن الِاسْتِثْنَاء إِخْرَاج الْمكيل الْمسَاوِي خَاصَّة من عُمُوم الطَّعَام ضَرُورَة ثُبُوت الْمُعَارضَة فِيهِ، إِذْ المُرَاد التَّسَاوِي فِي الْكَيْل فنفى غير الْمكيل مُتَحَقق بِلَا مُعَارضَة، فَيحرم بيع حفْنَة من الْبر بحفنتين مِنْهُ مثلا (و) قَالَ (الْحَنَفِيَّة لَا حكم) مُتَحَقق (فِي الثَّانِي) أَي الْمُسْتَثْنى (وَهُوَ اسْتثِْنَاء حَال الْمُسَاوَاة من) الْأَحْوَال (الثَّلَاثَة) أَي (المجازفة وأخويها) المفاضلة والمساواة بِنَاء على أَنه تكلم بِالْبَاقِي: فَكَأَنَّهُ نهى عَن المجازفة والمفاضلة فَقَط (وَالْكل) أَي المجازفة وأخواها (يسْتَند إِلَى الْكَيْل) لِأَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ(1/296)
طَعَام يحْتَمل المفاضلة والمساواة، وَلَا يحتملها إِلَّا مَا يدْخل تَحت الْكَيْل عَادَة فَمَا لَا يدْخل فِي الْكَيْل عَادَة غير مَذْكُور فِي النَّص، وَالْأَصْل فِي الْبياعَات الْإِبَاحَة على مَا يَقع بِهِ التَّرَاضِي، هَذَا وَلم يظْهر وَجه بِنَاء هَذَا على عدم الحكم فِي الثَّانِي، وَلَو فرض الحكم بِجَوَاز البيع فِي صُورَة الْمُسَاوَاة يحصل الْمَقْصُود أَيْضا لِأَن مَا لَا يدْخل فِي الْمكيل خَارج عَن النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا يلْزم) كَون هَذَا الِاخْتِلَاف مَبْنِيا على الْمُعَارضَة وَعدمهَا (بل لَا يشكل على أحد أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء فِي هَذَا الحَدِيث (مفرغ للْحَال) يَعْنِي حَال الْمُسَاوَاة من جملَة أَحْوَال الطَّعَام الْمَبِيع بِالطَّعَامِ، وَلزِمَ حمل صدر الْكَلَام على عُمُوم الْأَحْوَال ليَصِح الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَزِمَ الِاتِّصَال) أَي فَلَزِمَ حمل الْكَلَام على مَا يحصل بِهِ الِاتِّصَال (فالمبني) لهَذَا الْخلاف (تَقْدِير نوع) الْمُسْتَثْنى (المفرغ لَهُ أَو) تَقْدِير مَا هُوَ (أَعلَى) مِنْهُ يَعْنِي جنسه، ثمَّ لما كَانَ لفظ التَّقْدِير موهما لتقدير لفظ وَإِعْرَابه، وَذَلِكَ يُنَافِي تَفْرِيغ الْعَامِل للمستثنى فسر مُرَاده فَقَالَ (أَي تَقْدِير معنى لَا) تَقْدِير ذِي (إِعْرَاب، فَمَا فِيهَا) أَي الدَّار (إِلَّا زيد) أَي فَمَعْنَى هَذَا التَّرْكِيب وَتَقْدِيره (أَي إِنْسَان) لِأَنَّهُ نوع لزيد (لَا حَيَوَان) لِأَنَّهُ جنسه (والمساواة) الَّتِي هِيَ الْمُسْتَثْنى المفرغ هَهُنَا لَا يتَحَقَّق إِلَّا (بِالْكَيْلِ) فَلَزِمَ أَن يقدر نوعها وَهُوَ أَعم أَحْوَال الْمكيل (فَلَا تَبِيعُوا) أَي فَالْمَعْنى حِينَئِذٍ لَا تَبِيعُوا (طَعَاما يُكَال إِلَّا مُسَاوِيا، فالحل فِيمَا دونه) أَي دون مَا يُكَال (بِالْأَصْلِ) فَإِن الأَصْل فِي البيع الْحل (وقدروا) أَي كالشافعية مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ فَقَالُوا (طَعَاما فِي حَال فَشَمَلَ) النَّهْي (الْقلَّة) أَي الطَّعَام الْقَلِيل (أما ذَلِك) الْمَبْنِيّ الأول: وَهُوَ عدم الحكم فِي الثَّانِي ووجوده فِيهِ (فمبني كَون الْحل فِي التَّسَاوِي) عِنْد الْفَرِيقَيْنِ (بِالْأَصْلِ أَو بالمنطوق) فَإِن قَوْلنَا بِعَدَمِ الحكم فِيمَا بعد، وَإِلَّا فالحل فِي صُورَة الْمُسَاوَاة بِالْأَصْلِ وَإِن قُلْنَا بِوُجُودِهِ فِيهِ فبالمنطوق (ثمَّ هُوَ) أَي كَون ذَلِك هُوَ الْمَبْنِيّ فِي كَونه بِالْأَصْلِ أَو بالمنطوق (على) قَول (الطَّائِفَة الأولى) من الْحَنَفِيَّة لَيْسَ فِيمَا بعد إِلَّا حكم، أما على قَول الطَّائِفَة الْأُخْرَى فِيهِ حكم بالنقيض، فالحل فِيهِ بالمنطوق أَيْضا.
مسئلة
(يشْتَرط فِيهِ) أَي الِاسْتِثْنَاء (الِاتِّصَال) بالمستثنى مِنْهُ لفظا عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء (إِلَّا لتنفس أَو سعال أَو أَخذ فَم وَنَحْوه) كعطاس أَو جشاء (وَعَن ابْن عَبَّاس جَوَاز الْفَصْل بِشَهْر وَسنة و) عَنهُ جَوَازه (مُطلقًا) وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَام الْأَكْثَرين فِي النَّقْل عَنهُ، كَذَا ذكره الشَّارِح وَقَالَ السُّبْكِيّ رَحمَه الله: هِيَ رِوَايَات شَاذَّة لم تثبت عَنهُ، لَكِن رِوَايَة الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَنهُ(1/297)
إِذا حلف الرجل على يَمِين فَلهُ أَن يسْتَثْنى وَلَو إِلَى سنة وَفِيه نزل - {وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت} - قَالَ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ (وَحمل) مَا عَن ابْن عَبَّاس من جَوَاز الْفَصْل (على مَا إِذا كَانَ) الِاسْتِثْنَاء (منويا حَال التَّكَلُّم) فَيكون مُتَّصِلا قصدا مُتَأَخِّرًا لفظا (ويدين) الناوي لَهُ فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فِي صِحَة دَعْوَى نِيَّة الِاسْتِثْنَاء. قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ نقل عَن ابْن عَبَّاس جَوَاز تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء، وَلَعَلَّه لَا يَصح النَّقْل عَنهُ إِذْ لَا يَلِيق ذَلِك بمنصبه وَإِن صَحَّ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ إِذا نوى الِاسْتِثْنَاء أَولا، ثمَّ أظهر نِيَّته بعده فيدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فِيمَا يرَاهُ وَأما جَوَاز التَّأْخِير بِدُونِ هَذَا التَّأْوِيل فَيردهُ اتِّفَاق أهل اللُّغَة على خِلَافه لِأَنَّهُ جُزْء من الْكَلَام يحصل بِهِ الْإِتْمَام، فَإِذا انْفَصل لم يكن إتماما كالشرط وَخبر الْمُبْتَدَأ (وَهُوَ) أَي جَوَاز فصل الِاسْتِثْنَاء إِذا كَانَ منويا حَال التَّكَلُّم بالمستثنى مِنْهُ (قَول أَحْمد، وَعَن طَاوس وَالْحسن تَقْيِيده) أَي جَوَاز الْفَصْل (بِالْمَجْلِسِ) وَأَنت خَبِير بِأَن الْمجْلس قد يطول وَكَونه إتماما لما قبله بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة يُنَافِيهِ، نعم لَا يبعد عَن اعتبارات الْفُقَهَاء، وَقَوْلهمْ أَن الْمجْلس جَامع المتفرقات (لنا لَو تَأَخّر) أَي لَو جَازَ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء (لم يعين تَعَالَى لبر أَيُّوب صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه أَخذ الضغث) وَهِي الحزمة الصَّغِيرَة من الْحَشِيش وَنَحْوه وَضرب زَوجته بِهِ فِي حلفه أَي يضْربهَا مائَة سَوط ضَرْبَة لما ذهبت لِحَاجَتِهِ فأبطأت على مَا روى، بل كَانَ يَقُول لَهُ استثن من غير هَذِه الْحِيلَة، وَقد يُقَال إِن ذكر مخلص مَخْصُوص عَن الْحِنْث لَا يُنَافِي جَوَاز مَا عداهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال ترك مَا هُوَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى لَا يَلِيق بِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ حِيلَة الِاسْتِثْنَاء، وَالِاسْتِثْنَاء لَيْسَ بحيلة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَلم يقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا (فليكفر) عَن يَمِينه وليفعل الَّذِي هُوَ خير، رَوَاهُ مُسلم (مُقْتَصرا) على الْأَمر بالتفكير مَعَ أَنه كَانَ يحب لأمته مَا هُوَ الْأَيْسَر كَمَا سيصرح بِهِ (إِذْ لم يتَعَيَّن) التَّكْفِير (مخلصا) من عُهْدَة الْيَمين خُصُوصا (مَعَ اخْتِيَاره الْأَيْسَر لَهُم دَائِما) على مَا يدل عَلَيْهِ صِحَاح الْأَخْبَار، مَعَ أَن الِاسْتِثْنَاء أولى لعدم الْحِنْث فِيهِ (بِلَا تَفْصِيل بَين) اسْتثِْنَاء (منوي) وَغير منوي (وَمُدَّة) أَي وَبَين مُدَّة قَصِيرَة وَمُدَّة طَوِيلَة (وَغَيرهمَا) أَي الْمَنوِي والمدة مِمَّا هُوَ من وَظِيفَة الشَّارِع بَيَانه كَكَوْنِهِ يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله وَلَا يصدق قَضَاء (وَأَيْضًا لم يجْزم بِطَلَاق، وعتاق، وَكذب، وَصدق، وَلَا عقد) أَي وَلم يجْزم بانعقاد عقد بيع وَنِكَاح وَغَيرهمَا لَا مَكَان لُحُوق الِاسْتِثْنَاء وَدَعوى الحاقة (وَدفع أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عتب الْمَنْصُور) أبي جَعْفَر الدوانيقي ثَانِي خلفاء العباسية فِي مُخَالفَة جده ابْن عَبَّاس فِي جَوَاز الِانْفِصَال (بِلُزُوم عدم لُزُوم عقد الْبيعَة) فَقَالَ هَذَا يرجع عَلَيْك أفترضي لمن يُبَايِعك بِالْإِيمَان أَن يخرج من عنْدك فيستثنى، فَاسْتَحْسَنَهُ، ذكره فِي الْكَشَّاف وَغَيره، وَقيل أَن(1/298)
الَّذِي أغراه مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي وَأَنه لما أَجَابَهُ الإِمَام بذلك قَالَ: نعم مَا قلت وَغَضب على ابْن إِسْحَاق وَأخرجه من عِنْده (قَالُوا) أَي المجيزون للانفصال (ألحق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ الله تَعَالَى بقوله لأغزون قُريْشًا بعد سنة قُلْنَا بِتَقْدِير اسْتِئْنَاف لأغزون) ثَانِيًا جمعا بَين هَذَا وَبَين أدلتنا (وَحمله) أَي الْفَصْل (على السُّكُوت الْعَارِض مَعَ نقل هَذِه الْمدَّة مُمْتَنع) كَمَا حمله على هَذَا الْمحمل ابْن الْحَاجِب بِنَاء على الِاحْتِجَاج بِهِ بِلَفْظ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لأغزون قُريْشًا " ثمَّ سكت ثمَّ قَالَ " إِن شَاءَ الله " حَدِيث غَرِيب اخْتلف فِي وَصله وإرساله، هَذَا وَإِنَّمَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ إِذا لم يغزهم كَمَا فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد ثمَّ لم يغزهم (قَالُوا) أَيْضا (سَأَلَهُ الْيَهُود عَن مُدَّة أهل الْكَهْف، فَقَالَ غَدا أُجِيبكُم بتأخر الْوَحْي بضعَة عشر يَوْمًا، ثمَّ أنزل - {وَلَا تقولن لشَيْء} - الْآيَة فَقَالَهَا) أَي كلمة إِن شَاءَ الله وَلم يكن هُنَاكَ مَا يرتبط بِهِ هَذَا الِاسْتِثْنَاء إِلَّا قَوْله: غَدا أُجِيبكُم وَلَوْلَا صِحَة الِانْفِصَال لما قَالَهَا (قُلْنَا) يجوز أَن يلْحق بمستأنف نَحْو: أُجِيبكُم (كَالْأولِ جمعا) بَين الْأَدِلَّة (وَيجوز فِيهِ) أَي فِي هَذَا (أمتثل إِن شَاءَ الله تَعَالَى) أَي أعلق كلما أَقُول إِنِّي فَاعل بِمَشِيئَة الله تَعَالَى (وَكَون ابْن عَبَّاس عَرَبيا) فصيحا، وَقد قَالَ بِهِ فَيمْتَنع (معَارض بعلي وَغَيره من الصَّحَابَة) الفصحاء حَيْثُ لم يَقُولُوا بِهِ: وَإِلَّا ثقل عَنْهُم كَمَا عَنهُ (أَو مُرَاده) أَي ابْن عَبَّاس بِجَوَاز الِانْفِصَال فِي الِاسْتِثْنَاء جَوَاز انْفِصَال الِاسْتِثْنَاء (الْمَأْمُور بِهِ) يَعْنِي التَّعْلِيق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى الْمَدْلُول لِلْآيَةِ بِأَن يَقُول أَولا أفعل، ثمَّ يَقُول بعد حِين إِن شَاءَ الله ليَكُون إِثْبَاتًا بِالسنةِ، لَا أَن يكون هَذَا القَوْل رَافعا للإثم وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ إِذا قَالَ وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَلم يَفْعَله، ثمَّ قَالَ بعد حِين إِن شَاءَ الله تَعَالَى، والمحقق التَّفْتَازَانِيّ لَهُ فِي هَذَا الْجَواب تَفْصِيل: ذكره فِي حَاشِيَته على الْمُخْتَصر (وَقيل لم يقلهُ) أَي جَوَاز الْفَصْل (ابْن عَبَّاس) وَيُؤَيِّدهُ مَا روى عَنهُ من أَنه مَخْصُوص برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى - {وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت} - أَي إِذا نسيت الِاسْتِثْنَاء إِن ذكرت، وَلَيْسَ لغيره الِاسْتِثْنَاء إِلَّا مَوْصُولا بِيَمِينِهِ (وحكاية) مَا جرى بَين أبي حنيفَة رَحمَه الله و (الْمَنْصُور تبعدهما) أَي كَون المُرَاد الِاسْتِثْنَاء الْمَأْمُور بِهِ وَعدم القَوْل وَهُوَ ظَاهر (وَاعْلَم أَن الْتِزَام الْجَواب عَن فَصله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِمَا ذكر (بِنَاء) أَي مبْنى (على أَن الْمَعْنى) أَي معنى إِن شَاءَ الله تَعَالَى (إِلَّا أَن يَشَاء الله خِلَافه) قَالَ الْعَلامَة الْبَيْضَاوِيّ: الِاسْتِثْنَاء من النَّهْي: أَي وَلَا تقولن لشَيْء تعزم عَلَيْهِ إِنِّي فَاعله فيام يسْتَقْبل إِلَّا أَن يَشَاء الله: أَي متلبسا بمشيئته، فَالْمَعْنى قَائِلا إِن شَاءَ الله انْتهى فَالْمَعْنى لَا تقل ذَلِك فِي حَال من الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَال كونك قَائِلا إِن شَاءَ الله، وَلَا شكّ أَن مَنْطُوق إِن شَاءَ الله لَيْسَ إِلَّا أَن يَشَاء خِلَافه فَلَا يكون بِمَعْنَاهُ إِلَّا بطرِيق اللُّزُوم، فَإِنَّهُ إِذا علق فعله بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلّقَة بذلك(1/299)
الْفِعْل يلْزم أَن لَا يتَحَقَّق عِنْد تعلق الْمَشِيئَة بِخِلَافِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفعلهُ إِلَّا أَن يَشَاء خِلَافه وَهَذَا الِاعْتِبَار يكون مِمَّا نَحن فِيهِ، وَإِذا كَانَ الْمَعْنى على هَذَا (فَهُوَ) اسْتثِْنَاء (من الْأَحْوَال) وَقد عرفت تَفْسِيره (أَو) بِنَاء على أَنه (لَا فرق) بَين الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء فِي وجوب الِاتِّصَال وَعَدَمه (وَإِلَّا) أَي لم يكن أحد الْوَجْهَيْنِ (فَلَيْسَ) إِن شَاءَ الله (من مَفْهُوم مَحل النزاع) أَي من جزئياته، فَإِن الْمُتَنَازع فِيهِ فصل الِاسْتِثْنَاء كَمَا إِذا قُلْنَا أَن معنى الْآيَة إِلَّا وَقت أَن يَشَاء الله أَن يَقُوله بِمَعْنى أَن يَأْذَن لَك فِيهِ على مَا ذكره الْعَلامَة، فَإِن الْمَعْنى حِينَئِذٍ لَا تقل إِنِّي فَاعل ذَلِك إِلَّا وَقت إِذْنه بالْقَوْل الْمَذْكُور، وَلَا يدل هَذَا على لُزُوم الِاسْتِثْنَاء، غير أَنه لَا يلائم هَذَا مَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَنه لما نزل قَالَ: إِن شَاءَ الله فَتَأمل.
مسئلة
الِاسْتِثْنَاء (الْمُسْتَغْرق بَاطِل) لِأَنَّهُ لَا يبْقى بعده شَيْء يصير متكلما، وتركيب الِاسْتِثْنَاء وضع للمتكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره فِيهِ الِاتِّفَاق. قَالَ الشَّارِح: وَهُوَ مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ الصَّدْر أَو مساويه (وفصله) أَي الْمُسْتَغْرق (الْحَنَفِيَّة إِلَى مَا) أَي مُسْتَغْرق ملبس (بِلَفْظ الصَّدْر) بِأَن يكون لفظ الْمُسْتَثْنى عين لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (أَو مساويه) فِي الْمَفْهُوم، وَقد اتحدا فِيمَا يصدقان عَلَيْهِ: كعبيدي أَحْرَار إِلَّا عَبِيدِي، أَو مماليكي (فَيمْتَنع و) إِلَى (مَا بِغَيْرِهِمَا: كعبيدي أَحْرَار إِلَّا هَؤُلَاءِ، أَو إِلَّا سالما، وغانما، وراشدا، وهم) أَي الْمشَار إِلَيْهِم بهؤلاء فِي الشق الأول لمسمين فِي الشق الثَّانِي (الْكل، وَكَذَا نسَائِي) طَوَالِق (إِلَّا فُلَانَة، وفلانة، وفلانة، فَلَا) يمْتَنع: فَلَا يعْتق وَاحِد مِنْهُم، وَلَا تطلق وَاحِدَة مِنْهُنَّ (وَالْأَكْثَر على جَوَاز) اسْتثِْنَاء (الْأَكْثَر) فَيبقى الْأَقَل من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (و) على جَوَاز اسْتثِْنَاء (النّصْف) فَيبقى النّصْف (ومنعهما) أَي الْأَكْثَر وَالنّصف (الْحَنَابِلَة، وَالْقَاضِي، وَقيل إِن كَانَ (الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (عددا صَرِيحًا) يمْتَنع فِيهِ اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر وَالنّصف كعشرة إِلَّا سِتَّة، أَو إِلَّا خَمْسَة، وَإِن كَانَ غير صَرِيح فَلَا يمتنعان فِيهِ: كأكرم بني تَمِيم إِلَّا الْجُهَّال، وهم النّصْف أَو الْأَكْثَر، فَعلم مِنْهُ أَن مَبْنِيّ الِامْتِنَاع ظَاهر العنوان وَالْعرْف، وَمن هُنَا يعلم وَجه قَول الْحَنَفِيَّة فِي تَجْوِيز الِاسْتِغْرَاق بِعَين لفظ الصَّدْر ومساويه فَافْهَم (لنا فِي غير الْعدَد - {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك} - وهم) أَي متبعوه (أَكثر) مِمَّن لم يتبعهُ (لقَوْله تَعَالَى - {وَمَا أَكثر النَّاس} - الْآيَة) وَالْمرَاد بعبادي الْإِنْس فَلَا يرد أَن الْعباد بِاعْتِبَار الْمَلَائِكَة أَكْثَرهم غير متبعين، وَلَا يُقَال المُرَاد بِأَكْثَرَ النَّاس الموجودون فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/300)
فَلَا يسْتَلْزم كَون المتبعين أَكثر لجَوَاز أَن يكون الموجودون فِي غير زَمَانه أَكْثَرهم مُؤمنُونَ لأَنا نقُول: لَيْسَ اللَّام فِي النَّاس للْعهد، بل للْجِنْس بِدَلِيل مَا صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَن حِصَّة الْجنَّة من كل ألف وَاحِد، وَالْبَاقِي حِصَّة النَّار (وكلكم جَائِع إِلَّا من أطعمته) كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره، فَإِن من أطْعمهُ الله أَكثر مِمَّن لم يطعمهُ (وَمن الْعدَد إِجْمَاع) فُقَهَاء (الْأَمْصَار على لُزُوم دِرْهَم فِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا تِسْعَة) فَهَذَا دَلِيل على جَوَاز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، لِأَنَّهُ لَو لم يجز كَانَ يلْزم الْكل بِمُوجب الْإِقْرَار بِالْعشرَةِ من غير اسْتثِْنَاء صَحِيح (قَالُوا) عَليّ (عشرَة إِلَّا تِسْعَة، وَنصف، وَثلث، وَثمن دِرْهَم مستقبح عَادَة) إِذْ جعل الدِّرْهَم أَرْبَعَة وَعشْرين جُزْءا، وَنصفه اثْنَا عشر، وَثلثه ثَمَانِيَة، وثمنه ثَلَاثَة، وَالْمَجْمُوع ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ فِيمَا يبْقى فِي جَانب الْمُسْتَثْنى مِنْهُ إِلَّا ثلث ثمن دِرْهَم، وَفِي بعض النّسخ مستهجن (أُجِيب استقباجه لَا يُخرجهُ عَن الصِّحَّة كعشرة إِلَّا دانقا، ودانقا إِلَى عشْرين) دانقا، وَهُوَ سدس الدِّرْهَم فَإِنَّهُ مستقبح وَلَيْسَ استقباحه لأجل أَن الْمُسْتَثْنى أَكثر، لِأَنَّهُ ثلث الْكل، بل لأجل التَّطْوِيل وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْحَاصِل صرف الْقبْح إِلَى كَيْفيَّة اسْتِعْمَال اللَّفْظ، لَا إِلَى مَعْنَاهُ) .
مسئلة
(الْحَنَفِيَّة) قَالُوا (شَرط إِخْرَاجه) أَي المستنثى من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (كَونه) أَي الْمُسْتَثْنى بَعْضًا (من الْمُوجب) أَي مِمَّا أوجبه الصَّدْر وتناوله (قصدا لَا ضمنا) وتبعا (فَلِذَا) الشَّرْط (أبطل أَبُو يُوسُف اسْتثِْنَاء الْإِقْرَار من الْخُصُومَة فِي التَّوْكِيل بهَا) أَي بِالْخُصُومَةِ بِأَن يَقُول: وكلت بِالْخُصُومَةِ إِلَّا الْإِقْرَار (لِأَن ثُبُوته) أَي ثُبُوت الْإِقْرَار للْوَكِيل (بتضمن الْوكَالَة) بِالْخُصُومَةِ (إِقَامَته) أَي الْمُوكل الْوَكِيل (مقَام نَفسه) لَا لِأَن الْإِقْرَار يدْخل فِي الْخُصُومَة قصدا وبالذات (إِذْ الْخُصُومَة لَا تنتظمه) أَي لَا يتَنَاوَل الْإِقْرَار بِمُوجب مَفْهُومه لِأَنَّهُ مسَاوٍ لَهُ وموافقه، وَالْخُصُومَة مُنَازعَة وإنكار (وَإِنَّمَا أجَازه) أَي اسْتثِْنَاء الْإِقْرَار مِنْهَا (مُحَمَّد) لوَجْهَيْنِ: الأول (لاعتبارها) أَي الْخُصُومَة (مجَازًا فِي الْجَواب) مُطلقًا لِأَن حَقِيقَة الْخُصُومَة مهجورة شرعا لقَوْله تَعَالَى - {وَلَا تنازعوا} -: فيصار إِلَى الْمجَاز، والعلاقة كَون الْخُصُومَة سَببا إِلَى الجوانب (فَكَانَ) الاقرار (من أَفْرَاده) أَي الْجَواب الْمُطلق قَالُوا وَالِاسْتِثْنَاء على هَذَا بَيَان تَغْيِير فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا وَالْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ يملك الْإِقْرَار عِنْد الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة الْوَجْه الثَّانِي أَن اسْتثِْنَاء الْإِقْرَار عمل بِحَقِيقَة اللُّغَة، فَيكون اسْتِثْنَاؤُهُ تقريرا مُوجب التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ. فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ بَيَان تَقْرِير لَا اسْتثِْنَاء فَيصح مَوْصُولا ومفصولا: كَذَا ذكره الشَّارِح وَفِي الْوَجْه(1/301)
الثَّانِي مَا لَا يخفى (وعَلى هَذَا) الَّذِي ذكر لمُحَمد (صَحَّ اسْتثِْنَاء الْإِنْكَار أَيْضا عِنْده) أَي عِنْد مُحَمَّد من التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ لشمُول الْمَعْنى الْمجَازِي إِيَّاه، وَعدم لُزُوم الِاسْتِغْرَاق (وَبَطل عِنْد أبي يُوسُف لِأَنَّهُ) أَي اسْتثِْنَاء الْإِنْكَار (مُسْتَغْرق) لِأَنَّهُ لم يبْق بعده لُزُوم شَيْء بعد استثنائه من الْخُصُومَة لما عرفت.
مسئلة
(إِذا تعقب) الِاسْتِثْنَاء (جملا) متعاطفة (بِالْوَاو وَنَحْوهَا) وَهِي الْفَاء، وَثمّ، وَحَتَّى، وَمِنْهُم من قيد بِالْوَاو كإمام الْحَرَمَيْنِ والآمدي وَابْن الْحَاجِب، وَمِنْهُم من أطلق العاطف، كَالْقَاضِي أبي بكر، وَمِنْهُم من أطلق كَونه عقب الْجمل من غير ذكر للْعَطْف كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ (فالشافعية قَالُوا يتَعَلَّق) الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور (بِالْكُلِّ) أَي بِكُل وَاحِد من تِلْكَ الْجمل (ظَاهرا) لَا نصا إِذْ لَا دَلِيل للْقطع، فِي الشَّرْح العضدي لَا خلاف فِي إِمْكَان رده إِلَى الْجَمِيع وَلَا إِلَى الْأَخير خَاصَّة، إِنَّمَا الْخلاف فِي الظُّهُور، فَقَالَ الشَّافِعِي ظَاهر فِي رُجُوعه إِلَى الْجَمِيع خَاصَّة، وَالْحَنَفِيَّة إِلَى الْأَخِيرَة، وَالْقَاضِي الْغَزالِيّ وَغَيرهمَا بِالْوَقْفِ بِمَعْنى لَا يدْرِي أَنه حَقِيقَة فِي أَيهمَا. وَقَالَ المرتضى: أَنه مُشْتَرك بَينهمَا، فَيتَوَقَّف إِلَى ظُهُور الْقَرِينَة، وَهَذَانِ: يَعْنِي مَذْهَب الْوَقْف والاشتراك موافقان الْحَنَفِيَّة فِي الحكم وَإِن خالفا فِي المأخذ: يَعْنِي أَنه يُفِيد الْإِخْرَاج عَن مَضْمُون الْجُمْلَة الْأَخِيرَة دون غَيرهَا، لَكِن عِنْدهمَا لعدم الدَّلِيل فِي الْغَيْر، وَعِنْدهم لدَلِيل الْعَدَم، وَهَذَا مُقْتَضى اخْتِلَاف المأخذ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن: إِن تبين اسْتِقْلَال الثَّانِيَة عَن الأولى بالاضراب عَن الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللجميع، وَظُهُور الاضرابات بِأَن يختلفا نوعا أَو اسْما مَعَ أَنه لَيْسَ فيهمَا الِاسْم الثَّانِي ضمير الِاسْم الأول أَو يختلفا حكما مَعَ أَن الجملتين فِي الْأَقْسَام الثَّلَاثَة غير مشتركتين فِي غَرَض. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِأَن يختلفا نوعا من جِهَة الخبرية والإنشائية، وكونهما أمرا ونهيا وَنَحْو ذَلِك، أَو اسْما بِأَن يكون الِاسْم الَّذِي يصلح مستترا مِنْهُ فِي أَحدهمَا غير الَّذِي فِي الْأُخْرَى أَو حكما بِأَن يكون مَضْمُون هَذِه مُخَالفا لمضمون الْأُخْرَى (وَقَول أبي الْحُسَيْن) وَعبد الْجَبَّار وَفِي الْمَحْصُول أَنه حق (إِن ظهر الإضراب عَن الأول) وَقد عرفت تَفْسِيره (فللأخير) أَي فالاستثناء مُتَعَلق بالأخير فَقَط (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يظْهر الإضراب عَن الأول (فللكل) أَي فَيتَعَلَّق بِكُل مِنْهُمَا، وَعدم الظُّهُور (ككون الثَّانِي ضمير الأول) كَانَ الظَّاهِر فِي مثله رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا جَمِيعًا (وَلَو اخْتلفَا) أَي الكلامان (فِيمَا يذكر) أَي فِي النَّوْع، وَالْحكم، وَالِاسْم (أَو اشْتَركَا) أَي الكلامان (فِي الْغَرَض) المسوق لَهُ الْكَلَام (وَمِنْه) أَي من هَذَا الْقَبِيل (قَوْله تَعَالَى (وَلَا تقبلُوا لَهُم(1/302)
شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} ) فَإِنَّهُمَا اخْتلفَا نوعا إنْشَاء، وخبرا واشتركا فِي الْغَرَض، وَهُوَ الإهانة والانتقام. وَقَول أبي الْحُسَيْن مُبْتَدأ خَبره (لَا يزِيد عَلَيْهِ) أَي على قَول الشَّافِعِي (إِلَّا بتفصيل الْقَرِينَة) لموافقته إِيَّاه فِي كَونه ظَاهرا فِي الرُّجُوع إِلَى الْكل مُحْتَاجا فِي الصّرْف إِلَى الْأَخير إِلَى الْقَرِينَة غير أَنه فصل الْقَرِينَة الدَّالَّة على تعْيين الْأَخير بِظُهُور الإضراب وَقسم مَا بِهِ يظْهر (إِلَى اخْتِلَافهمَا) أَي الْكَلَامَيْنِ (نوعا بالإنشائية، والخبرية، وَالْأَمر، وَالنَّهْي، ويقتضى) قَول أبي الْحُسَيْن (فِي أكْرم بني تَمِيم، وَبَنُو تَمِيم مكرمون إِلَّا زيدا أَن إكرامه) أَي زيد (مَطْلُوب غير وَاقع) لوُجُود الِاخْتِلَاف نوعا (أَو) عدم رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى الْجُمْلَة الطلبية أَو اخْتِلَافهمَا (اسْما بِوُجُود الِاسْم الصَّالح لتَعَلُّقه) أَي الِاسْتِثْنَاء (فِي) الْجُمْلَة (الثَّانِيَة غير) الِاسْم (الأول) فِي الْجُمْلَة الأولى (أَو) اخْتِلَافهمَا (حكما) وَقد مر تَفْسِيره، وَإِنَّمَا لم يزدْ قَول أبي الْحُسَيْن على قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله (إِذْ حَاصله) أَي قَول أبي الْحُسَيْن (تعلقه) أَي الِاسْتِثْنَاء (بِالْكُلِّ إِلَّا بقاصر) على الْأَخِيرَة (غير أَنه) أَي أَبَا الْحُسَيْن (جعل ذَلِك) الِاخْتِلَاف بَينهمَا (قاصرا) للاستثناء على الْأَخِيرَة (فَإِن لم يُوَافق) أَبُو الْحُسَيْن على صِيغَة الْمَجْهُول (عَلَيْهِ) أَي على جعل ذَلِك قاصرا بِأَن لم يَجعله الشَّافِعِي رَحمَه الله قاصرا (فَالْخِلَاف فِي شَيْء آخر) وَهُوَ خُصُوص هَذَا الْقَاصِر بعد الِاتِّفَاق على أَنه إِن لم يكن قاصرا على الْأَخِيرَة، فَهُوَ رَاجع إِلَى الْكل (وَالْحَنَفِيَّة، وَالْغَزالِيّ، والباقلاني، والمرتضى) على أَن الِاسْتِثْنَاء يتَعَلَّق (بالأخيرة إِلَّا بِدَلِيل فِيمَا قبلهَا، قيل) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (فالحنفية لظُهُور الِاقْتِصَار) على الْأَخِيرَة كَمَا سَيَأْتِي (وَالْآخرُونَ لعدم ظُهُور الشُّمُول) للْكُلّ (أما للاشتراك) اشتراكا لفظيا (بَين إِخْرَاجه) أَي الِاسْتِثْنَاء (مِمَّا يَلِيهِ) وَهُوَ الْأَخير (فَقَط و) بَين إِخْرَاجه من (الْكل) فَإِنَّهُ ثَبت عوده إِلَى مَا يَلِيهِ فَقَط كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا أمرأتك} -، وَقد يتَعَيَّن عوده إِلَى مَا عدا الْأَخِيرَة، نَحْو قَوْله تَعَالَى - {فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} - وَعوده إِلَى الْكل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} - إِلَى قَوْله - {إِلَّا من نَاب} -، وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة (أَو لعدم الْعلم بِأَنَّهُ) أَي الِاسْتِثْنَاء (كَذَلِك) أَي مُشْتَرك كَمَا ذكر، أَو رَاجع إِلَى مَا يَلِيهِ، أَو الْمَعْنى رَاجع إِلَى الْكل (أَو) إِلَى (مَا يَلِيهِ) لَا غير لُغَة كَمَا هُوَ قَول الباقلاني وَالْغَزالِيّ، (فَلَزِمَ مَا يَلِيهِ) أَي فَلَزِمَ رُجُوعه إِلَى مَا يَلِيهِ على قَول الْكل وَلَا يخفى أَنه لَا يلْزم على تَقْدِير الِاشْتِرَاك، لَا على تَقْدِير عدم الْعلم تعين مَا يَلِيهِ، بل اللَّازِم التَّوَقُّف إِلَى أَن تتَحَقَّق الْقَرِينَة الْمعينَة فَإِن قلت الْقرب قرينَة مرجحة قُلْنَا سبق الأولى فِي قابلية الرُّجُوع إِلَيْهِ ليعارضه(1/303)
كَمَا ذهب إِلَيْهِ كثير من الْمُفَسّرين: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال الْقرب أقوى (وَمَا قيل) وقائله ابْن الْحَاجِب (الْمُخْتَار أَنه مَعَ قرينَة الِانْقِطَاع) أَي انْقِطَاع الْأَخِيرَة عَمَّا قبلهَا (للأخيرة و) مَعَ قرينَة (الِاتِّصَال) بِمَا قبلهَا تكون (للْكُلّ، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن إِحْدَى القرينتين (فالوقف) فِيمَا عدا الْأَخير لَازم، فَقَوله مَا قيل مُبْتَدأ وَمَا بعده مقول القَوْل، وَالْخَبَر قَوْله (مَذْهَب الْوَقْف) بِحَذْف الْمُضَاف: أَي أهل الْوَقْف، أَو الْإِضَافَة بَيَانِيَّة، ثمَّ أثبت كَونه مَذْهَب الْوَقْف بقوله (للاتفاق) الْكَائِن بَين هَذَا الْقَائِل والذاهبين إِلَى الْوَقْف (على أَن إِخْرَاجه) أَي الِاسْتِثْنَاء (من) الْجُمْلَة (الْأَخِيرَة) عِنْد عدم الْقَرِينَة لما عرفت (وَالْعَمَل بِالْقَرِينَةِ) عِنْد وجودهَا، فالمآل وَاحِد (وَاعْلَم أَن الْمُدَّعِي فِي كتب الْحَنَفِيَّة أَنه من الْأَخِيرَة، وَمَا زيد) على هَذَا الْقدر (من) قيد (ظُهُور الْعَدَم) أَي عدم الْإِخْرَاج مِمَّا قبل الْأَخِيرَة الْمشَار إِلَيْهِ بِظُهُور الِاقْتِصَار على مَا مر لم يصرحوا بِهِ بل (أَخذ من استدلالهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بِأَن شَرطه) أَي الِاسْتِثْنَاء من شَيْء (الِاتِّصَال) بذلك (وَهُوَ) أَي الِاتِّصَال (مُنْتَفٍ فِي غير لأخيرة) لتخلل الْأَخِيرَة بَين الِاسْتِثْنَاء وَمَا قبلهَا (وَمُقْتَضَاهُ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال (عدم الصِّحَّة مُطلقًا) فِيمَا عدا الْأَخِيرَة (وَهُوَ) أَي عدمهَا فِيمَا عَداهَا (بَاطِل، إِذْ لَا يمْتَنع) الِاسْتِثْنَاء بالِاتِّفَاقِ (فِي الْكل) بِأَن يكون من كل وَاحِدَة من تِلْكَ الْجمل (بِالدَّلِيلِ) على مَا ذكر (وَأما دَفعه) أَي دفع هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَن الْجَمِيع كالجملة) الْوَاحِدَة (ف) هُوَ (قَول الشَّافِعِيَّة: الْعَطف يصير المتعدد) أَي الْجمل الْمَعْطُوف بَعْضهَا على بعض (إِلَى آخِره) أَي كالمفرد، وَلَا شكّ أَنه لَا يعود فِيهِ إِلَى جزئه، فَكَذَا فِي الْجمل لَا يعود إِلَى بَعْضهَا (وسنبطل) هَذَا القَوْل (و) من استدلالهم (بقَوْلهمْ عمله) أَي الِاسْتِثْنَاء (ضَرُورِيّ لعدم استقلاله) بِنَفسِهِ، إِذْ لَا بُد لَهُ من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، والضرورة تدفع بِالْعودِ إِلَى وَاحِدَة مِنْهَا (والأخيرة منتفية اتِّفَاقًا، وَمَا) يثبت (بالضررة) يقدر (بِقَدرِهَا) أَي بِقدر الضَّرُورَة فَتعين الْأَخِيرَة (وَمنع) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَي عمله (وضعي) لَا ضَرُورِيّ (قُلْنَا لَو سلم) أَنه وضعي (فَلَمَّا يَلِيهِ فَقَط) أَي فَإِن أردتم أَنه مَوْضُوع لما يَلِيهِ فَقَط فَهُوَ الْمَطْلُوب (أَو الْكل) أَي أَو أَنه مَوْضُوع للْكُلّ (فَمَمْنُوع) أَي بَاطِل للاتفاق على أَنه يسْتَعْمل فِيمَا يَلِيهِ فَقَط، وَالْأَصْل فِيهِ الْحَقِيقَة (فاللازم) بِمُوجب الدَّلِيل (لُزُومه) أَي لُزُوم كَون الِاسْتِثْنَاء (من الْأَخِيرَة والتوقف فِيمَا قبلهَا) أَي فِي كَونه اسْتثِْنَاء مِمَّا قبل الْأَخِيرَة (إِلَى الدَّلِيل) أَي إِلَى وجود الدَّال على عوده إِلَيْهِ (وَأَيْضًا بِدفع الدَّلِيل الْمعِين لَا ينْدَفع الْمَطْلُوب) لجَوَاز ثُبُوته بِغَيْرِهِ (فَلْيَكُن الْمَطْلُوب مَا ذكرنَا) من أَنه يثبت فِي الْأَخِيرَة إِلَّا بِدَلِيل فِيمَا قبلهَا من غير ادِّعَاء ظُهُور فِي عدم تعلقه بِمَا قبلهَا، إِذْ الْغَرَض لم يتَعَلَّق إِلَّا بِعَدَمِ رُجُوعه إِلَى الْكل إِلَّا بِدَلِيل فِي(1/304)
خُصُوص موارده، كَذَا نقل عَن المُصَنّف (وَمن أدلتهم) أَي الْحَنَفِيَّة (حكم الأولى مُتَيَقن وَرَفعه) أَي حكمهَا (عَن الْبَعْض) أَي عَن بعض الأولى (بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوك للشَّكّ فِي تعلقه) أَي الِاسْتِثْنَاء (بِهِ) أَي الْبَعْض، إِمَّا (لوجه الِاشْتِرَاك) أَي لما يُفِيد كَون الِاسْتِثْنَاء مُشْتَركا بَين أَن يكون للأخيرة فَقَط، وَبَين أَن يكون للْكُلّ: وَهُوَ أَنه (اسْتعْمل فيهمَا) لما علم بالاستقراء (وَالْأَصْل) فِي الِاسْتِعْمَال (الْحَقِيقَة، وَهُوَ) أَي هَذَا الْوَجْه (إِنَّمَا يُفِيد لُزُوم التَّوَقُّف فِيهَا) أَي فِيمَا قبل الْأَخِيرَة، بل فِي الْكل، لَوْلَا تَيَقّن الْأَخِيرَة لما ذكر (لَا ظُهُور الْعَدَم) فِيمَا قبل الْأَخِيرَة (أَو دافعه) أَي لوجه دَافع الِاشْتِرَاك الْقَائِل (الْمجَاز خير) من الِاشْتِرَاك فَلْيَكُن فِيمَا قبل الْأَخِيرَة مجَازًا (فيفيده) أَي ظُهُور الْعَدَم فِيمَا قبل الْأَخِيرَة إِلَى ظُهُور الدَّلِيل على تعلقه فِيمَا قبلهَا (وإبطاله) أَي هَذَا الدَّلِيل من قبل الشَّافِعِيَّة (بقَوْلهمْ: لَا يَقِين) فِي حكم الأولى (مَعَ تجويزه) أَي تَجْوِيز كَون الِاسْتِثْنَاء (للْكُلّ يدْفع بِمَا تقدم فِي اشْتِرَاط اتِّصَال الْمُخَصّص) من أَن إِطْلَاق الْعَام بِلَا مخرج إِفَادَة إِرَادَة الْكل، فَلَو لم يكن المُرَاد فِي نفس الْأَمر يلْزم إِخْبَار الشَّارِع وإفادته لثُبُوت مَا لَيْسَ بِثَابِت، ودلك كذب وَطلب للْجَهْل الْمركب من الْمُكَلّفين (أَو) يدْفع (بِإِرَادَة الظُّهُور بِهِ) أَي بِالْيَقِينِ (وَمَا قيل) فِي معارضتهم (الْأَخِيرَة أَيْضا كَذَلِك) أَي حكمهَا مُتَيَقن وَرَفعه عَن الْبَعْض بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوك (لجَوَاز رُجُوعه) أَي الِاسْتِثْنَاء (إِلَى الأولى بِالدَّلِيلِ قُلْنَا الرّفْع) أَي رفع الحكم عَن الْبَعْض (ظَاهر فِي الْأَخِيرَة، وَلذَا) أَي ولظهوره فِيهَا (لزم) أَي الِاسْتِثْنَاء، أَو الرّفْع (فِيهَا) أَي الْأَخِيرَة (اتِّفَاقًا) كَمَا مر (فَلَو تمّ) مَا قيل فِي الْمُعَارضَة (توقف) الِاسْتِثْنَاء (فِي الْكل، وَهُوَ) أَي التَّوَقُّف فِي الْكل (بَاطِل وَحَاصِله) أَي حَاصِل مَا قُلْنَا من ظُهُور الرّفْع فِي الْأَخِيرَة، لَا حَاصِل قَول الشَّافِعِيَّة كَمَا توهمه الشَّارِح فَإِنَّهُ مَعَ بعده لَا معنى لَهُ (تَرْجِيح الْمجَاز) أَي تَرْجِيح كَون الِاسْتِثْنَاء إِذا رَجَعَ إِلَى الْكل مجَازًا على كَونه حَقِيقَة كَمَا زعم الْخصم (فَفِيمَا يَلِيهِ) أَي فالاستثناء فِيمَا يَلِيهِ (حَقِيقَة وَفِي الْكل مجَاز وَأما فِي غَيرهمَا) أَي فِي غير مَا يَلِيهِ وَالْكل (فَيمْتَنع للفصل) بَينه وَبَين الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (حَقِيقَة) وَهُوَ ظَاهر (وَحكما) لِأَن الْفَاصِل، وَهُوَ مَا يَلِيهِ لَا حَظّ لَهُ من حكم الِاسْتِثْنَاء فَهُوَ فصل حَقِيقَة وَحكما، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الِاسْتِثْنَاء من الْكل، فَإِن مَا يَلِيهِ وَإِن كَانَ فصلا بَينه وَبَين مَا قبله من حَيْثُ الْحَقِيقَة لكنه لَيْسَ بفصل من حَيْثُ الحكم لشمُول الِاسْتِثْنَاء لَهُ (وَفِي الْمجَاز) عِنْد رُجُوعه إِلَى الْكل (يتَوَقَّف) رُجُوعه إِلَيْهِ (على الْقَرِينَة) فَإِن لم تكن تتَعَيَّن الْحَقِيقَة (والعلاقة) بَين الْمَعْنى الْمجَازِي، وَهُوَ الصّرْف إِلَى الْكل، والحقيقي وَهُوَ الْعود إِلَى مَا يَلِيهِ (تشبيهه) أَي الْكل (بِهِ) أَي بِمَا يَلِيهِ (لجمع(1/305)
الْعَطف) أَي لِأَن الْعَطف جمع بَين المتعاطفات، فَجَعلهَا فِي رُتْبَة وَاحِدَة من حَيْثُ الْمَعْنى فاشتراكها فِي تِلْكَ الرُّتْبَة وَجه الشّبَه (بِخِلَاف الِاتِّصَال الصُّورِي) بَينهَا بِحَسب التَّكَلُّم لعدم الْفَصْل فَإِنَّهُ لَا يصلح علاقَة للمجاز (لِأَنَّهُ) أَي الِاتِّصَال الصُّورِي (يتَحَقَّق) فِي الْجمل المتعاقبة (بِلَا عطف) وَهُنَاكَ يتَعَيَّن الِاسْتِثْنَاء للأخيرة اتِّفَاقًا من غير تَجْوِيز لما قبلهَا وَلَو مجَازًا (و) يتَحَقَّق أَيْضا (مَعَ الاضراب) الْمعِين كَونه للأخيرة على مَا سبق فَلَا يصلح علاقَة (وَمَا قيل فِي وَجهه) أَي وَجه التَّوَقُّف فِي غير الْأَخِيرَة (الأشكال) بِفَتْح الْهمزَة جمع شكل (يُوجب الْإِشْكَال) بِكَسْر الْهمزَة الِاشْتِبَاه، فِي الشَّرْح العضدي: الِاتِّصَال يَجْعَلهَا كالواحدة، والانفصال يَجْعَلهَا كالأجانب، والأشكال بِمُوجب الشَّك انْتهى، فَكل شبه مِنْهُمَا شكل، وَلِهَذَا تعَارض الِاشْتِبَاه يُوجب التَّوَقُّف (فَمَعْنَاه) أَن الِاشْتِبَاه (يخرج من) الْجُمْلَة (الأولى) نظرا إِلَى الِاتِّصَال (وَلَا) يخرج) مِنْهَا نظرا إِلَى الِانْفِصَال، أَو الْمَعْنى أَنه يخرج من الأولى فِي بعض الاستعمالات وَلَا يخرج مِنْهَا فِي الْأُخَر (فتوقف فِيهِ) أَي فِي إِخْرَاجه فِي غير الْأَخِيرَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مَعْنَاهُ هَذَا، بل يعْتَبر الْإِشْكَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخِيرَة أَيْضا (اقْتضى) مَا قيل (أَن يتَوَقَّف فِي الْأَخِيرَة أَيْضا) وَهُوَ بَاطِل لما عرفت (الشَّافِعِيَّة) قَالُوا: أَولا (الْعَطف يصير المتعدد كالمفرد) وَقد مر (أُجِيب) بِأَن ذَلِك (فِي) عطف (الْمُفْردَات) بَعْضهَا على بعض، لِأَن الْعَطف فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة كالجمع فِي الْأَسْمَاء المتفقة، فَيصير الْمَجْمُوع كصيغ الْجمع الْوَاحِدَة، وَهَذَا هُوَ الْإِبْطَال الْمَوْعُود (وَمَا يُقَال هِيَ) أَي الْجمل (مثلهَا) أَي الْمُفْردَات (إِذْ الِاسْتِثْنَاء فِيهَا) أَي الْجمل (من المتعلقات) أَي متعلقات الْمسند إِلَيْهِ، أَو الْمسند (أَو) من (الْمسند إِلَيْهِ) فَإِذا قطع النّظر عَن سَائِر أَجزَاء الْجمل المتعاطفة مَا عدا مَا اسْتثْنى مِنْهُ صَارَت مثل الْمُفْردَات، فِي الشَّرْح العضدي: لَا فرق بَين الَّذين قتلوا، وسرقوا، وزنوا إِلَّا من تَابَ، وَبَين اضْرِب الَّذين هم قتلة، وسراق وزناة إِلَّا من تَابَ، وَلَا شكّ أَنه لَا يعود من الْمُفْرد إِلَى جُزْء، فَكَذَا فِي الْجمل المعطوفة، ثمَّ أجَاب عَنهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن ذَلِك فِي الْمُفْردَات، أَو مَا فِي حكمهَا الَّتِي لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب أَو الَّتِي وَقعت صلَة للموصول أَو نَحْو ذَلِك انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي كَونهَا مثلهَا (إِذا اتّحدت جِهَة النِّسْبَة فِيهَا) أَي الْجمل بِأَن تكون نِسْبَة تِلْكَ الْجمل متشاركة فِي جِهَة وَاحِدَة ككونها خَبرا، أَو صفة، أَو صلَة إِلَى غير ذَلِك (وَهُوَ) أَي اتِّحَاد جِهَة النِّسْبَة فِيهَا (الدَّلِيل) على تعلقه بِالْكُلِّ (ككونها) أَي الْجمل (صلَة) للموصول كَمَا مر آنِفا (للْقطع بِأَن نَحْو: ضرب بَنو تَمِيم، وَبكر شجعان لَيْسَ فِي حكمه) أَي الْمُفْرد (قَالُوا) ثَانِيًا (لَو قَالَ) وَالله (لَا أكلت وَلَا شربت إِن شَاءَ الله تَعَالَى تعلق) إِن شَاءَ الله (بهما) أَي بالجملتين(1/306)
اتِّفَاقًا (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي إِن شَاءَ الله (شَرط) لَا اسْتثِْنَاء، وَهُوَ يتَعَلَّق بِغَيْر المتعدد بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء (فَإِن ألحق) الِاسْتِثْنَاء (بِهِ) أَي بِالشّرطِ (فَقِيَاس فِي اللُّغَة) وَهُوَ غير صَحِيح (وَلَو سلم صِحَّته) أَي صِحَة الْإِلْحَاق (فَالْفرق) بَين الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء (أَن الشَّرْط مُقَدّر تَقْدِيمه) أَي تعْيين تَقْدِيمه معنى لتقدمه رُتْبَة بِحَسب التحقق (وَلَو سلم عدم لُزُومه) أَي تَقْدِيم الشَّرْط (فلقرينة الِاتِّصَال) أَي فَتعلق الشَّرْط بِكُل مِنْهُمَا لوُجُود الْقَرِينَة الدَّالَّة على اتِّصَاله بِكُل مِنْهَا (وَهُوَ) تِلْكَ الْقَرِينَة والتأنيث بِاعْتِبَار الْخَبَر (الْحلف) الْوَاقِع (على الْكل) على مَا هُوَ الْعَادة فِي مثله (قَالُوا) ثَالِثا (قد يتَعَلَّق الْغَرَض بِهِ) أَي الِاسْتِثْنَاء (كَذَلِك) أَي بِأَن يكون مُتَعَلقا بِالْكُلِّ (وتكراره) أَي الِاسْتِثْنَاء للْكُلّ (يستهجن) وَلَوْلَا أَنه يعود إِلَى الْكل بِدُونِ التّكْرَار لما استهجن لتعينه طَرِيقا (فَلَزِمَ ظُهُوره) أَي الِاسْتِثْنَاء (فِيهَا) أَي فِي الْجمل كلهَا (قُلْنَا الْمُلَازمَة) بَين تكراره والاستهجان (مَمْنُوعَة لمنع الاستهجان إِلَّا مَعَ اتِّحَاد الحكم الْمخْرج مِنْهُ) وَالْحكم الْمخْرج مِنْهُ فِي مَحل النزاع مُتَعَدد (وَلَو سلم) أَن التّكْرَار يستهجن مُطلقًا (لم يتَعَيَّن) التّكْرَار (طَرِيقا) لإِفَادَة المُرَاد (فلينصب قرينَة الْكل، أَو يُصَرح بِهِ) أَي بِالِاسْتِثْنَاءِ من الْكل (بعده) أَي بعد الْكل، أَو الِاسْتِثْنَاء كَأَن يَقُول إِلَّا كَذَا فِي الْجَمِيع (قَالُوا) رَابِعا هُوَ (صَالح) للْجَمِيع (فالقصر على الْأَخِيرَة تحكم قُلْنَا إرادتها) أَي الْأَخِيرَة (اتِّفَاق، والتردد فِيمَا قبلهَا) والاتفاق مُرَجّح فَلَا تحكم (والصلاحية لَا توجب ظُهُوره) أَي الِاسْتِثْنَاء (فِيهِ) أَي فِي الْكل (كالجمع الْمُنكر فِي الِاسْتِغْرَاق) فَإِنَّهُ صَالح للْجَمِيع، وَلَيْسَ بِظَاهِر فِيهِ (قَالُوا) خَامِسًا (لَو قَالَ عَليّ خَمْسَة، وَخَمْسَة إِلَّا سِتَّة، فبالكل) أَي فَيتَعَلَّق بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا (قُلْنَا بعد كَونه) أَي كل مِمَّا اسْتثْنى مِنْهُ فِي الْمِثَال (مُفردا) وكلامنا فِيمَا إِذا كَانَ جملا (أوجبه) أَي أوجب كَون الِاسْتِثْنَاء من الْجَمِيع (تعينه للصِّحَّة) إِذْ لَو رَجَعَ إِلَى الْأَخِيرَة لم يستقم، فَهُوَ قرينَة الِاتِّصَال بِالْكُلِّ وَأَيْضًا مدعاكم الْعود إِلَى كل وَاحِدَة لَا إِلَى الْجَمِيع. وَفِي الشَّرْح العضدي النزاع فِيمَا يصلح للْجَمِيع وللأخيرة، وَهَذَا لَا يصلح لكل وَاحِدَة.
(تَنْبِيه: بنى على الْخلاف) الْمَذْكُور (وجوب رد شَهَادَة الْمَحْدُود فِي قذف عِنْد الْحَنَفِيَّة) إِذا تَابَ من ذَلِك بِأَن أكذب نَفسه عِنْد من قذفه وَأصْلح عمله (لقصر) الِاسْتِثْنَاء الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} على مَا يَلِيهِ) هُوَ {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} فينتفى عَنهُ الْفسق لَا غير، وَيبقى عدم قبُول شَهَادَته مُؤَبَّدًا (خلافًا للشَّافِعِيّ رَحمَه الله) وَمَالك وَأحمد رَحِمهم الله (ردا لَهُ) أَي للاستثناء (إِلَيْهِ) أَي مَعَ مَا يَلِيهِ (مَعَ لَا تقبلُوا) فينتفى عَنهُ الْفسق وَتقبل(1/307)
شَهَادَته (وَلَوْلَا منع الدَّلِيل) الدَّال على اخْتِصَاصه بالأخير (من تعلقه) أَي الِاسْتِثْنَاء (بِالْأولِ) أَي فَاجْلِدُوهُمْ (تعلق بِهِ) أَيْضا عِنْدهم، لِأَنَّهُ على تَقْدِير عدم دَلِيل الْقصر كَانَ الظَّاهِر رُجُوعه إِلَى الْكل (ثمَّ قيل الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع) قَالَه القَاضِي أَبُو زيد، وفخر الْإِسْلَام، وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ (لِأَن الْفَاسِقين لم يتَنَاوَل التائبين) لِأَن التائب لَا يبْقى فَاسِقًا بعد التَّوْبَة، وَالْحمل على الْمجَاز بِاعْتِبَار مَا كَانَ بعيد، وَأَنت خَبِير بِأَن الْفَاسِقين لَيْسَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، بل أُولَئِكَ قطعا فَمَا معنى (وَالْأَوْجه أَنه مُتَّصِل) مخرج (من أُولَئِكَ) لَا من الْفَاسِقين، ثمَّ فسر الْمشَار إِلَيْهِ بقوله (أَعنِي الَّذين يرْمونَ) لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم الدّين يرْمونَ بعد التَّوْبَة فَيخرج مِنْهُ بِاعْتِبَار حكم الْفسق لتوبتهم.
مسئلة
(إِذا خص الْعَام كَانَ مجَازًا فِي الْبَاقِي عِنْد الْجُمْهُور) من الأشاعرة ومشاهير الْمُعْتَزلَة (وَبَعض الْحَنَفِيَّة) كصاحب البديع، وَصدر الشَّرِيعَة (إِلَّا أَنه لَا تَخْصِيص لأكثرهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلَّا بمستقل على مَا سبق) فَهُوَ بعد إِخْرَاج بعضه بِغَيْر مُسْتَقل حَقِيقَة على قَوْلهم كَمَا صرح بِهِ صدر الشَّرِيعَة (وَبَعْضهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (كالسرخسي والحنابلة) وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، بل جَمَاهِير الْفُقَهَاء على مَا ذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ (حَقِيقَة) فِي الْبَاقِي (وَبَعْضهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ حَقِيقَة فِي الْبَاقِي مجَاز فِي الِاقْتِصَار) عَلَيْهِ (وَالشَّافِعِيَّة) نقلوا (عَن الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ) الشَّيْخ الإِمَام أَبُو بكر أَحْمد (الْجَصَّاص إِن كَانَ الْبَاقِي كَثْرَة يعسر ضَبطهَا فحقيقة وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْبَاقِي كَذَلِك (فمجاز) . وَقَالَ الْغَزالِيّ كل عدد لَو اجْتَمعُوا فِي صَعِيد يعسر على النَّاظر عَددهمْ بِمُجَرَّد النّظر كالألف فَهُوَ غير مَحْصُور، وَإِن سهل كالعشرة وَالْعِشْرين فمحصور، وَمن الطَّرفَيْنِ أوساط يلْحق أَحدهمَا بِالظَّنِّ، وَمَا وَقع فِيهِ الشَّك استفت فِيهِ الْقلب كَذَا ذكره الشَّارِح (وَالْحَنَفِيَّة) نقلوا (عَنهُ) أَي الْجَصَّاص (إِن كَانَ جمعا فَقَط) أَي من غير تَقْيِيد بالقيد السَّابِق فحقيقة وَإِلَّا بمجاز (وَأَبُو الْحُسَيْن إِن خص بِمَا لَا يسْتَقلّ) من شَرط، أَو صفة، أَو اسْتثِْنَاء) أَو غَايَة (فحقيقة) وَإِن خص بمستقل من سمع أَو عقل فمجاز (القَاضِي إِن خص بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء) فحقيقة وَإِلَّا فمجاز (وَقيل إِن خص بلفظي) مُتَّصِل أَو مُنْفَصِل فحقيقة وَإِلَّا فمجاز (عبد الْجَبَّار أَن خص بِشَرْط أَو صفة) فحقيقة وَإِلَّا فمجاز، فَهَذِهِ ثَمَانِيَة مَذَاهِب (لنا) على الْمُخْتَار، وَهُوَ الأول (الْفَرْض أَنه) أَي الْعَام (حَقِيقَة فِي الِاسْتِغْرَاق على الْخُصُوص) أَي من غير اشْتِرَاك بكنه وَبَين الْبَعْض (فَلَو كَانَ للْبَاقِي فَقَط) أَي من غير انضمام مَا عدا الْبَاقِي إِلَيْهِ (حَقِيقَة) أَيْضا(1/308)
(كَانَ مُشْتَركا) لفظيا (وَهُوَ) أَي كَونه مُشْتَركا بَين الْكل وَالْبَعْض (غير الْمَفْرُوض، وَدفع) هَذَا الِاسْتِدْلَال كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (بِأَنَّهُ) أَي الْعَام (فِي صُورَة التَّخْصِيص للاستغراق، لِأَن أكْرم بني تَمِيم الطوَال على تَقْدِير من بني تَمِيم: أَي بَعضهم) فَإِن من للتَّبْعِيض وَالتَّقْيِيد فِي معنى من (فَلَزِمَ إِرَادَة كلهم) من قَوْلهم بني تَمِيم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مرَادا (كَانَ الْمَعْنى) أكْرم (بعض بَعضهم) لِأَن لَازم من التبعيضية صِحَة وضع بعض مَكَانهَا، وَالْفَرْض أَن المُرَاد ببني تَمِيم الْبَعْض (ثمَّ عرض الحكم) مَعْطُوف على لزم: أَي عرض لعمومه مصحح الحكم وَهُوَ الْوَصْف الْمُخْتَص (فَخرج) الْبَعْض (الآخر) وَهُوَ الَّذِي لم ويصف بِهِ (وَهَذَا) التَّوْجِيه هُوَ (لَازم فِي الْمُسْتَثْنى على مَا قيل) من أَن المُرَاد بالمستثنى مِنْهُ الِاسْتِغْرَاق والعموم، ثمَّ يخرج مِنْهُ الْمُسْتَثْنى، ثمَّ يحكم على الْبَاقِي (وَيُمكن اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار كَون المُرَاد جَمِيع مَا يتَنَاوَلهُ، ثمَّ إِخْرَاج غير المُرَاد بالحكم ثمَّ الحكم (فِي الْكل) أَي فِي جَمِيع العمومات المخصصة بِأَيّ تَخْصِيص كَانَ (غير أَن وضع الْمُفْرد واستعماله لَيْسَ إِلَّا للتركيب) لِأَن الْمَقْصُود إِفَادَة الْمعَانِي التركيبية (وَيبعد أَن يركبه) أَي الْمُتَكَلّم الْمُفْرد مَعَ غَيره (مرِيدا الْمَجْمُوع ليحكم على الْبَعْض، لِأَنَّهُ) أَي قصد الْمَجْمُوع (حِينَئِذٍ) أَي حِين يُرِيد الحكم على الْبَعْض (بِلَا فَائِدَة لصِحَّة أَن يُرَاد مِنْهُ) أَي من اللَّفْظ الْمَوْضُوع (لُغَة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فَقَط) وَهُوَ الْبَعْض بِقَرِينَة الْمُخَصّص (وَلَو كَانَ عددا) فَانْتفى الدّفع (وَقَول السَّرخسِيّ صِيغَة الْعُمُوم) مَوْضُوعَة (للْكُلّ وَمَعَ ذَلِك حَقِيقَة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص لِأَنَّهَا) أَي صيغته (إِنَّمَا تتناوله) أَي مَا وَرَاء الْمَخْصُوص (من حَيْثُ أَنه كل لَا بعض) بِمَعْنى أَن حَقِيقَتهَا كل الْأَفْرَاد، وَعند التَّخْصِيص يصير مَا وَرَاء الْمَخْصُوص كل الْأَفْرَاد فَيصدق أَن تنَاولهَا إِيَّاه من حَيْثُ أَنه كل لَا من حَيْثُ أَنه كل لَا من حَيْثُ أَنه بعض (كالاستثناء يصير الْكَلَام) يَعْنِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بطرِيق أَنه) أَي مَا وَرَاء الْمُسْتَثْنى (كل، لَا بعض) فَقَوْل السَّرخسِيّ مُبْتَدأ خَبره (إِن أَرَادَ) أَن تنَاوله لما وَرَاء الْمَخْصُوص (بِوَضْع آخر خَاص لزم الِاشْتِرَاك) اللَّفْظِيّ، والمفروض خِلَافه (أَو وضع الْمجَاز فنقيض مَطْلُوبه) وَهُوَ أَنه أَي حَقِيقَته فِيهِ (فَإِن قيل لم لم تحمله) أَي كَلَام السَّرخسِيّ (على أَنه لَا يشْتَرط الِاسْتِغْرَاق) فِي الْعَام: وَهُوَ حَقِيقَة مَا لم يسْتَعْمل فِي غير أَفْرَاده، والمخصوص من أَفْرَاده فَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ (قُلْنَا الْكَلَام فِي الْعَام إِذا خص) وَكَانَ الِاخْتِصَاص مرَادا بِهِ وَهُوَ أَمر زَائِد على مَا وضع لَهُ (وَإِنَّمَا يقبله) أَي التَّخْصِيص (الصِّيَغ الْمُتَقَدّمَة: كالجمع الْمحلي وَنَحْوه) من الموصولات وَأَسْمَاء الشَّرْط والاستفهام إِلَى غير ذَلِك (مِمَّا اتّفق على استغراقه وَالْخلاف فِي اشْتِرَاطه) أَي الِاسْتِغْرَاق إِنَّمَا هُوَ (فِي مُسَمّى لفظ عَام) يَعْنِي هَل يشْتَرط فِيمَا(1/309)
وضع لفظ الْعَام اصْطِلَاحا الِاسْتِغْرَاق أم لَا (وَمن لم يَشْتَرِطه) أَي الِاسْتِغْرَاق فِيهِ (وَإِن جعل من صيغته) أَي الْعَام (الْجمع الْمُنكر لَا يصحح اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار مَا لَيْسَ بمستغرق (هُنَا) أَي فِيمَا قبل التَّخْصِيص (إِذْ لَا يقبل) غير الْمُسْتَغْرق (الْإِخْرَاج مِنْهُ) إِذْ إِخْرَاج بعض أَفْرَاد الْمَفْهُوم فرع الْعلم باندراجه تَحْتَهُ من حَيْثُ الْإِرَادَة، وَلَا علم بذلك فِيمَا لَا استغراق فِيهِ (وَلذَا لَا يسْتَثْنى مِنْهُ) كَمَا مر فِي بَحثه (وَمَا قيل إِرَادَته) أَي الْبَاقِي (لَيْسَ بِالْوَضْعِ الثَّانِي والاستعمال) فِيهِ (بل) الْبَاقِي مُرَاد (بِالْأولِ) أَي بِالْوَضْعِ الأول، فِي الشَّرْح العضدي وَأَيْضًا فَلم يرد الْبَاقِي بِوَضْع وَاسْتِعْمَال ثَان، بل بِالْوَضْعِ وَاسْتِعْمَال الأول، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ عدم إِرَادَة الْمخْرج بِخِلَاف الْمجَاز (مَمْنُوع) أَي إِرَادَة الْبَاقِي بِالْوَضْعِ الأول وَكَونه حَقِيقَة بذلك الِاعْتِبَار (بل الْحَقِيقَة) إِنَّمَا يتَحَقَّق ب (بإرادته) أَي بِالْبَاقِي (الأول) أَي بِمُوجب الْوَضع الأول (من حَيْثُ هُوَ) أَي الْبَاقِي (دَاخل فِي تَمام) الْمَعْنى (الوضعي المُرَاد) بِاللَّفْظِ (لَا) بإرادته (بِمُجَرَّد كَونه تَمام المُرَاد بالحكم) وَالْأَظْهَر لَا من حَيْثُ كَونه تَمام المُرَاد، فَكَأَنَّهُ قصد أَن مُجَرّد الْبَاقِي لَا يَكْفِي فِي الْحَقِيقَة، بل لَا بُد من الْمَجْمُوع، أما إِذا أُرِيد مُجَرّد كَونه تَمام المُرَاد حَقِيقَة (فَهُوَ) أَي فَهَذَا المُرَاد إِنَّمَا يحصل (بِالثَّانِي) أَي بِالْوَضْعِ الثَّانِي (الْحَنَابِلَة تنَاوله) أَي تنَاول الْعَام للْبَاقِي بعد التَّخْصِيص (كَمَا كَانَ) قبله (وَكَونه) أَي تنَاوله بعض التَّخْصِيص (مَعَ قرينَة الِاقْتِصَار) عَلَيْهِ (لَا يُغَيِّرهُ) أَي لَا يُغير كَيْفيَّة تنَاوله (فَهُوَ حَقِيقَة قُلْنَا الْحَقِيقَة بِالِاسْتِعْمَالِ فِي الْمَعْنى) الْمَوْضُوع لَهُ بِأَن يكون مَجْمُوع الْمُسَمّى مرَادا (لَا) بِمُجَرَّد (التَّنَاوُل) لَهُ من حَيْثُ الدّلَالَة على مَا يَقْتَضِيهِ الْوَضع (لِأَنَّهُ) أَي التَّنَاوُل (لتبعيته للوضع ثَابت للمخرج) بِفَتْح الرَّاء (بعد التَّخْصِيص) فَلَا فرق فِي هَذَا التَّنَاوُل بَين الْبَاقِي والمخرج (و) كَذَلِك ثَابت (لَكِن وضعي) سَوَاء كَانَ عين الْمَوْضُوع لَهُ أَو جزءه (حَال التَّجَوُّز بِلَفْظِهِ) واستعماله فِي الْمَعْنى الْمجَازِي، لِأَن الْعَالم بِالْوَضْعِ ينْتَقل إِلَى مَا وضع لَهُ لَا محَالة وَإِن كَانَ المُرَاد غَيره بِمُوجب الْقَرِينَة الصارفة (الرَّازِيّ إِذا بَقِي) من الْعَام مِقْدَار (غير منحصر) فِي عدد (فَهُوَ) أَي ذَلِك الْبَاقِي (معنى الْعُمُوم) فِيهِ مُسَامَحَة لِأَنَّهُ كَون اللَّفْظ دَالا على أَمر غير منحصر فِي عدد فَتكون فِيهِ حَقِيقَة (نَقله الشَّافِعِيَّة عَنهُ وَالْحَنَفِيَّة بِنَقْل مذْهبه أَجْدَر) من الشَّافِعِيَّة لِأَنَّهُ مِنْهُم (وَهُوَ) أَي مذْهبه على النقلين (بِنَاء على عدم اشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق) فِي الْعُمُوم، فِي الشَّرْح العضدي الرَّازِيّ قَالَ معنى الْعُمُوم حَقِيقَة كَون اللَّفْظ دَالا على أَمر غير منحصر فِي عدد، فَإِذا كَانَ الْبَاقِي غير منحصر كَانَ عَاما الْجَواب منع كَون مَعْنَاهُ ذَلِك، بل مَعْنَاهُ تنَاوله للْجَمِيع وَكَانَ للْجَمِيع وَقد صَار لغيره فَكَانَ مجَازًا، وَلَا يخفى أَن هَذَا منشؤه اشْتِبَاه كَون النزاع فِي لفظ الْعَام أَو فِي الصِّيَغ(1/310)
انْتهى، وَقَوله هَذَا إِمَّا إِشَارَة إِلَى مَا قَالَه الرَّازِيّ، وَإِمَّا إِلَى نقل هَذَا عَنهُ لإِثْبَات كَون الصِّيغَة حَقِيقَة فِي الْبَاقِي وَالثَّانِي مُتَعَيّن إِذْ هُوَ لم يفرع على بَقَاء غير المنحصر كَونهَا حَقِيقَة فِيهِ، بل وجود معنى الْعُمُوم فِيهَا وَهُوَ لَا يسْتَلْزم كَونهَا حَقِيقَة، وَنسبَة الِاشْتِبَاه إِلَى ناقل الْمَذْهَب أولى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَغلط) نقلهم عَنهُ على الْوَجْه الْمَذْكُور، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله وَالْحَنَفِيَّة إِلَى آخِره، وَزعم الشَّارِح أَن الْمَعْنى غلط الرَّازِيّ، وَقَوله (بِأَن مُقْتَضَاهُ كَون الْخلاف) بَين الرَّازِيّ وَغَيره (فِي لفظ الْعُمُوم لَا فِي الصِّيغَة) يرد عَلَيْهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَن مَذْهَب الرَّازِيّ إِذا كَانَ مَبْنِيا على تَفْسِير الْعُمُوم بِمَا ذكر لزم مُخَالفَته فِيمَا وضع لَهُ للفظ الْعُمُوم، وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ قد تقدر أَن خِلَافه فِي الصِّيغَة الموصوفة بِالْعُمُومِ هَل إِذا خصص وَالْبَاقِي غير منحصر يكون حَقِيقَة أم لَا، عِنْده نعم، وَعند غَيره مَا عرفت وَهل يغلط الرَّازِيّ بِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْك أَن تخالفهم فِي لفظ الْعُمُوم لَا فِي الصِّيغَة، لَا يُقَال معنى تغليطه أَن دخولك فِي هَذَا النَّوْع بَين الْقَوْم، فَهَذَا الْوَجْه يدل على أَنَّك زعمت أَن خلافهم فِي لفظ الْعَام، لأَنا نقُول لَا يُنَاسب هَذَا فِي حق الْأَئِمَّة وَالله أعلم (أَبُو الْحُسَيْن لَو كَانَ الْإِخْرَاج بِمَا لَا يسْتَقلّ يُوجب تجوزا) فِي اللَّفْظ (لزم كَون) لفظ (الْمُسلم للمعهود مجَازًا) إِذا خرج من مَفْهُومه غير الْمَعْهُود بِمَا هُوَ كالجزء لَهُ، وَهُوَ اللَّام وَقد صَار بِهِ لِمَعْنى غير مَا وضع لَهُ إِذا لم يكن فِيهِ الْعَهْد (وَالْجَوَاب) عَنهُ كَمَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب (بِأَن الْمَجْمُوع) من مُسلم وَاللَّام هُوَ (الدَّال) فالجنس مَدْخُول اللَّام، وَالتَّقْيِيد بالمعهود الْمخْرج لغيره اللَّام، فَلَا يلْزم الْمجَاز وَلَا كَون الْعَام مُسْتَعْملا فِي غير مَا وضع لَهُ وَهُوَ الْجِنْس (مندفع) خبر، وَالْجَوَاب (بِأَنَّهُ) أَي بِكَوْن الْمَجْمُوع دَالا على الْوَجْه الْمَذْكُور (بعد الْعلم بِأَنَّهُمَا) أَي اللَّام وَمُسلمًا (كلمتان) متلبسان (بوضعين) لمعنييهما (ركبتا) لإِفَادَة التَّقْيِيد (مُجَرّد اعْتِبَار يُمكن مثله فِي الْعَام الْمُقَيد بِمَا يسْتَقلّ) إِذْ لَا تَأْثِير لعدم الِاسْتِقْلَال لإحدى الْكَلِمَتَيْنِ من حَيْثُ الحرفية فِي هَذَا الِاعْتِبَار (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر مثله فِي الْمُقَيد بِمَا يسْتَقلّ (فتحكم مَحْض) أَي فتخصيص الِاعْتِبَار الْمَذْكُور بِأَحَدِهِمَا دون الآخر تحكم لعدم الْفرق بَينهمَا، فالمخلص أَن يُقَال للمعرف للْعهد وضعان، وضع للْجِنْس قبل دُخُول اللَّام عَلَيْهِ فِي حَال النكارة، وَآخر للمعهود كوضع المبهمات، فَإِن مَا وضعت لَهُ خصوصيات، وَآلَة الملاحظة عِنْد الْوَضع مَفْهُوم عَام كَمَا هُوَ رَأْي الْمُتَأَخِّرين، وَلَيْسَ الْعَام الْمَخْصُوص بِمَا لَا يسْتَقلّ كَذَلِك، بل هُوَ كالمخصوص بِمَا يسْتَقلّ مُسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ، وَهُوَ الْبَاقِي بعد التَّخْصِيص (القَاضِي وَعبد الْجَبَّار مثله) أَي أبي الْحُسَيْن (فِيمَا لم يخرجَاهُ) مَا لم يسْتَقلّ، وَهُوَ الصّفة والغاية عِنْد القَاضِي، وَالِاسْتِثْنَاء والغاية عِنْد عبد الْجَبَّار من حَيْثُ الدَّلِيل، وَهُوَ لُزُوم كَون نَحْو الْمُسلم مجَازًا فِي الْمَعْهُود، وَمن حَيْثُ الْجَواب، وَهُوَ منع لُزُومه لما ذكر (الْمُخَصّص بِاللَّفْظِ مثله) أَي أبي الْحُسَيْن دَلِيلا وجوابا على مَا عرفت(1/311)
(وَهُوَ) أَي دَلِيل هَذَا (أَضْعَف) لشمُول اللَّفْظِيّ الْمُتَّصِل والمنفصل، وَدَلِيله لَا يُنَاسب إِلَّا الْمُتَّصِل (الإِمَام الْجمع كتعداد الْآحَاد) . قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: معنى الرِّجَال فلَان، وَفُلَان، وَفُلَان إِلَى أَن يستوعب، وَإِنَّمَا وضع الرِّجَال اختصارا (وَفِيه) أَي فِي تعدادها (إِذا بَطل إِرَادَة الْبَعْض لم يصر الْبَاقِي مجَازًا) فَكَذَا الْجمع (أُجِيب أَن الْحَاصِل) من التعداد فِي الْجمع أَمر (وَاحِد) وَهُوَ مَجْمُوع مَا يصلح لَهُ الْعَام لوضعه (للاستغراق، فَفِي بعضه) أَي فاستعماله فِي بعض ذَلِك الْحَاصِل (فَقَط) من غير أَن يُرَاد بِهِ الْبَعْض الآخر (مجَاز) بِخِلَاف الْآحَاد المتعددة فَإِنَّهُ لم يرد بِلَفْظ مِنْهَا بعض مَا وضع لَهُ، وَإِذا بطلت بعض الْحَقَائِق لم يلْزم بطلَان حَقِيقَة أُخْرَى، على أَنه قد منع كَون الْجمع كتكرار الْآحَاد من كل وَجه، وَلَيْسَ مُرَاد أهل الْعَرَبيَّة ذَلِك، بل بَيَان أهل الْحِكْمَة فِي وَضعه (وَمَا قيل) من أَنه (يُمكن) أَن يكون (اللَّفْظ) الْوَاحِد حَقِيقَة ومجازا (بحيثيتين) أَي باعتبارهما، فَلْيَكُن الْعَام الْمَخْصُوص كَذَلِك، فَيكون مجَازًا من حَيْثُ أَنه لَيْسَ مَوْضُوعه الأَصْل حَقِيقَة من حَيْثُ أَنه بَاقٍ على أصل وَضعه وَلم ينْقل نقلا كليا كَمَا اخْتَارَهُ السُّبْكِيّ (فتانك) الحيثيتان إِنَّمَا هما (بِاعْتِبَار وضعي الْحَقِيقِيّ والمجازي) يَعْنِي أَن الحيثيتين إِنَّمَا هُوَ كَون اللَّفْظ بِحَيْثُ إِذا اسْتعْمل فِي هَذَا كَانَ حَقِيقَة لوضعه لَهُ عينا، وَهُوَ الْوَضع الْحَقِيقِيّ، وَإِن اسْتعْمل فِي ذَلِك كَانَ مجَازًا لوضعه لَهُ بالنوع، لَا أَنه فِي اسْتِعْمَال وَاحِد
يكون اللَّفْظ حَقِيقَة ومجازا كل ادَّعَاهُ الإِمَام: كَذَا ذكره الشَّارِح وَالْوَجْه أَن يعْتَبر بِالنِّسْبَةِ إِلَى معنى وَاحِد كَالشَّمْسِ إِذا وضعت بِإِزَاءِ الصُّورَة أَيْضا فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ ذَات حيثيتين بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لكَونهَا مَوْضُوعَة لَهُ بِالْوَضْعِ النوعي الْمجَازِي لكَونه لَازم مَا وضعت لَهُ أَولا، وَهُوَ الْجَزْم (وَلَا يلْزم) من اجْتِمَاع هَاتين الحيثيتين (اجْتِمَاعهمَا) أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي اسْتِعْمَال وَاحِد (على أَنه نقل اتِّفَاق نَفْيه) أَي الِاتِّفَاق على نفي كَون اللَّفْظ حَقِيقَة ومجازا فِي اسْتِعْمَال وَاحِد، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي صِحَة إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي مَعًا فِي اسْتِعْمَال وَاحِد، ثمَّ يكون حَقِيقَة ومجازا: (هَذَا) مَا ذكر (وَلم يسْتَدلّ) الإِمَام (على شقَّه الآخر، وَهُوَ أَنه مجَاز فِي الِاقْتِصَار) على الْبَاقِي (لظَنّه ظُهُوره) أَي ظُهُور كَونه مجَازًا فِيهِ (وَهُوَ غلط لِأَنَّهُ لَا يكون) الْعَام (مجَازًا بِاعْتِبَار الِاقْتِصَار إِلَّا لَو اسْتعْمل فِي معنى الِاقْتِصَار، وانتفاؤه) أَي اسْتِعْمَاله فِيهِ (ظَاهر، بل الِاقْتِصَار إِنَّمَا يلْزم اسْتِعْمَاله فِي الْبَاقِي بِلَا زِيَادَة، فَهُوَ) أَي الِاقْتِصَار (لَازم لوُجُوده) أَي وجود الِاسْتِعْمَال فِي الْبَاقِي (لَا مُرَاد إفادته) أَي الِاقْتِصَار (بِهِ) أَي بِالْعَام الْمَخْصُوص (وَلَو أَرَادَ بالاقتصار اسْتِعْمَاله) أَي الْعَام (فِي الْبَاقِي بِلَا زِيَادَة، فَهُوَ شقَّه الأول، وَعلمت مجازيته فِيهِ) أَي فِي الْبَاقِي.(1/312)
مَسْأَلَة
قَالَ (الْجُمْهُور الْعَام الْمَخْصُوص بمجمل) أَي بمبهم غير معِين، من الْإِجْمَال اللّغَوِيّ (لَيْسَ حجَّة، كلا تقتلُوا بَعضهم) مَعَ اقْتُلُوا الْمُشْركين (وبمبين حجَّة) وَقَالَ (فَخر الْإِسْلَام حجَّة فيهمَا) أَي فِي الْوَجْهَيْنِ (ظنية الدّلَالَة بعد أَن كَانَ قطعيها) أَي الدّلَالَة قبل التَّخْصِيص بِأَحَدِهِمَا (وَقيل يسْقط الْمُجْمل) الَّذِي خص بِهِ الْعَام عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار (وَالْعَام) يَنْفِي (كَمَا كَانَ) قبل لُحُوقه بِهِ، وَعَلِيهِ أَبُو الْمعِين من الْحَنَفِيَّة وَابْن برهَان من الشَّافِعِيَّة (وَفِي الْمُبين) قَالَ (أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ إِن كَانَ الْعَام منبئا عَنهُ) أَي عَن الْبَاقِي بعد التَّخْصِيص (بِسُرْعَة) فَهُوَ حجَّة (كالمشركين من أهل الذِّمَّة) أَي فِيمَا إِذا خصوا بِأَهْل الذِّمَّة بِلَفْظ مُتَّصِل، أَو مُنْفَصِل، أَو بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُنبئ عَن الْحَرْبِيّ: أَي ينْتَقل الذِّهْن إِلَيْهِ إِذا أطلق الْمُشْركُونَ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُنبئ عَنهُ (فَلَيْسَ حجَّة كالسارق لَا يُنبئ عَن سَارِق نِصَاب و) عَن سَارِق (من حرز لعدم الِانْتِقَال) أَي انْتِقَال الذِّهْن (إِلَيْهِمَا) أَي النّصاب والحرز من إِطْلَاق السَّارِق قبل بَيَان الشَّارِع، فَإِذا أبطل الْعَمَل فِي صُورَة انتفائهما لم يعْمل بِهِ فِي صُورَة وجودهما. قَالَ (عبد الْجَبَّار، وَإِن لم يكن) الْعَام (مُجملا) قبل التَّخْصِيص (فَهُوَ حجَّة) ، نَحْو الْمُشْركين (بِخِلَاف) الْمُجْمل قبله، نَحْو أقِيمُوا (الصَّلَاة فَإِنَّهُ بعد تَخْصِيص الْحَائِض) أَي بعد إِخْرَاج صَلَاة الْحَائِض (مِنْهُ) أَي من الصَّلَاة بِالنَّصِّ الآخر (يفْتَقر) إِلَى الْبَيَان كَمَا كَانَ مفتقرا قبله، وَلذَلِك بَينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". قَالَ (الْبَلْخِي من مجيزي التَّخْصِيص بِمُتَّصِل) أَي غير مُسْتَقل كالشرط وَالصّفة (حجَّة أَن خص بِهِ) أَي بالمتصل لَيْسَ بِحجَّة أَن خص بمنفصل كالدليل الْعقلِيّ (وَقيل حجَّة فِي أقل الْجمع) وَهُوَ اثْنَان أَو ثَلَاثَة على الْخلاف، لَا فِيمَا زَاد عَلَيْهِ. وَقَالَ (أَبُو ثَوْر لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا) سَوَاء خص بِمُتَّصِل أَو بمنفصل أنبأ عَن الْبَاقِي أَو لَا، احْتَاجَ إِلَى الْبَيَان أَولا (وَقيل عَنهُ) أَي عَن أبي ثَوْر لَيْسَ حجَّة (إِلَّا فِي أخص الْخُصُوص) أَي الْوَاحِد (إِذا علم) أَي إِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَعْلُوما (كالكرخي والجرجاني وَعِيسَى بن أبان أَي يصير) الْعَام الْمَخْصُوص (مُجملا فِيمَا سواهُ) أَي أخص الْخُصُوص، فَيتَوَقَّف الِاحْتِجَاج وَالْعَمَل بِهِ (إِلَى الْبَيَان) قَالَ الشَّارِح: أَن أخص الْخُصُوص وَهُوَ الْوَاحِد غير معِين، فَلَا يُمكن الْعَمَل بِهِ قبل الْبَيَان أَيْضا انْتهى؛ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَلَام المُصَنّف، لِأَن الْمَفْهُوم مِنْهُ ثُبُوت الحكم فِي أخص الْخُصُوص بِغَيْر توقف إِلَى الْبَيَان وَلَو على سَبِيل الْإِبْهَام، فَلْيَكُن الْعَمَل بِهِ على سَبِيل التَّعْيِين مُحْتَاجا إِلَى الْبَيَان (لنا) على الأول (اسْتِدْلَال الصَّحَابَة بِهِ) أَي بِالْعَام الْمَخْصُوص(1/313)
بمبين مَعَ التّكْرَار والشيوع، وَعدم النكير من أحد مِنْهُم فَكَانَ إِجْمَاعًا (وَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم، وَلَا تكرم فلَانا وَفُلَانًا فَترك) إكرام أحد مِمَّن عداهما (قطع بعصيانه) فَدلَّ على ظُهُوره فِي الْعُمُوم (وَلِأَن تنَاول الْبَاقِي بعده) أَي التَّخْصِيص (بَاقٍ، وحجيته) أَي الْعَام (فِيهِ) أَي الْبَاقِي (كَانَ بِاعْتِبَارِهِ) أَي التَّنَاوُل (وَبِهَذَا) الدَّلِيل الْأَخير: كَذَا ذكره الشَّارِح وَالصَّوَاب أَن الْمَعْنى وَبِهَذَا الْمَجْمُوع كَمَا سَيظْهر (اسْتدلَّ الْمُطلق) لحجيته (وَيدْفَع) اسْتِدْلَال الْمُطلق بِهِ (باستدلالهم) أَي الصَّحَابَة (والعصيان) بترك مَا علق بِالْعَام الْمَخْصُوص كِلَاهُمَا (فِي الْمُبين، وَالْحجّة فِيهِ) أَي الْبَاقِي (قبله) أَي التَّخْصِيص إِنَّمَا كَانَ (لعدم الْإِجْمَال) فَلَا يكون حجَّة فِي الْمَخْصُوص بمجمل لتحَقّق الْإِجْمَال حِينَئِذٍ (وبقاؤه) أَي التَّنَاوُل إِنَّمَا هُوَ أَيْضا (فِي الْمُبين لَا الْمُجْمل) . قَالَ (فَخر الْإِسْلَام: وَالْعَام عِنْده كالخاص) فِي قَطْعِيَّة الدّلَالَة كَمَا تقدم قَالَ وَالْحَالة هَذِه (للمخصص شبه الِاسْتِثْنَاء لبيانه) أَي الْمُخَصّص (عدم إِرَادَة الْمخْرج) مِمَّا تنَاوله الْعَام كَمَا أَن الِاسْتِثْنَاء كَذَلِك (و) شبه (النَّاسِخ) بصيغته (لاستقلاله) بِنَفسِهِ فِي الإفادة (فَيبْطل) الْمُخَصّص (إِذا كَانَ مَجْهُولا) . قَالَ الشَّارِح: أَي متناولا لما هُوَ مَجْهُول عِنْد السَّامع (للثَّانِي) أَي لشبه النَّاسِخ (وَيبقى الْعَام على قطعيته لبُطْلَان النَّاسِخ الْمَجْهُول) وَعدم تعدِي جهالته إِلَى الْمَعْلُوم لكَونه مُسْتقِلّا، بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة وصف قَائِم بصدر الْكَلَام فهما بِمَنْزِلَة كَلَام وَاحِد فيؤثر جَهَالَة الْمُسْتَثْنى فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَيتَوَقَّف على الْبَيَان للإجمال (وَيبْطل الأول) أَي الْعَام (للْأولِ) أَي لشبهه بِالِاسْتِثْنَاءِ لتعدي جهالته إِلَيْهِ كَمَا فِي اسْتثِْنَاء الْمَجْهُول (وَفِي) الْمُخَصّص (الْمَعْلُوم شبه النَّاسِخ) من حَيْثُ كَونه مُسْتقِلّا (يُبطلهُ) أَي الْعَام (لصِحَّة تَعْلِيله) أَي الْمُخَصّص الْمَعْلُوم شبه النَّاسِخ من هَذِه الْحَيْثِيَّة كَمَا هُوَ الأَصْل فِي النُّصُوص المستقلة وَإِن كَانَ النَّاسِخ لَا يُعلل (وَجَهل قدر الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ) بِالتَّعْلِيلِ (فيجهل الْمخْرج) بِهَذَا السَّبَب (وَشبه الِاسْتِثْنَاء) من حَيْثُ إِثْبَات الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص وَعدم دُخُول الْمَخْصُوص تَحت حكم الْعَام (يبْقى قطعيته) فَلَا يبطل الْعَام فِي الْوَجْهَيْنِ، وَيتْرك إِلَى الظنية للشبهين (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (ضَعِيف، لِأَن إِعْمَال الشبهين عِنْد الْإِمْكَان، وَهُوَ) إِمْكَان إعمالها (مُنْتَفٍ فِي الْمَجْهُول) لِأَن الْعَمَل بالمخصوص بِالْمَجْهُولِ مَوْقُوف على الْبَيَان، فِيهِ أَن توقف الْعَمَل بِهِ على الْبَيَان لَا يسْتَلْزم عدم حجيته، أَلا ترى أَن أقِيمُوا الصَّلَاة كَانَ قبل الْبَيَان حجَّة غير أَن احْتِيَاجه بِاعْتِبَار الْكَيْفِيَّة، واحتياج هَذَا من حَيْثُ الكمية فَتَأمل (بل الْمُعْتَبر الأول) أَي الشبة بِالِاسْتِثْنَاءِ (لِأَنَّهُ) أَي الشّبَه بِهِ (معنوي) فَإِن الِاسْتِثْنَاء يخرج من الْعَام كالمستقل غير أَنه لم يسم تَخْصِيصًا اصْطِلَاحا (وَشبه النَّاسِخ طرد) وَهُوَ مشاركتهما فِي أَمر لَفْظِي على سَبِيل الِاتِّفَاق من غير مُنَاسبَة(1/314)
معنوية يعْتد بهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ فِي مُجَرّد اللَّفْظ) أَي كَون كل مِنْهُمَا لَا يحْتَاج فِي صِحَة التَّكَلُّم بِهِ إِلَى غَيره (وعَلى هَذَا) يَعْنِي كَون الْمُعْتَبر فِيهِ شبه الِاسْتِثْنَاء (تبطل حجيته) فِي الْمَجْهُول (كالجمهور) أَي كَمَا قَالَ الْجُمْهُور (وصيرورته ظنيا فِي الْمَعْلُوم لما تحقق من عدم إِرَادَة مَعْنَاهُ) أَي الْعَام بالتخصيص بالمعلوم (مَعَ احْتِمَال قِيَاس آخر مخرج) مِنْهُ بَعْضًا آخر (وَهَذَا) الِاحْتِمَال لتَضَمّنه) أَي الْمُخَصّص (حكما) شَرْعِيًّا، وَالْأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل للتضمن للْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (لَا لشبه النَّاسِخ باستقلال صيغته) لكَونه طرديا كَمَا ذكر (وَكَون السمعي حجَّة) فِي إِثْبَات حكم (فرع معلومية مَحل حكمه، وَالْقطع) حَاصِل (بنفيها) أَي معلومية مَحل حكمه (فِي نَحْو: لَا تقتلُوا بَعضهم، فَإِن دفع) هَذَا (بثبوتها) أَي الحجية مَعَ انْتِفَاء معلومية مَحل حكم الْمُخَصّص (فِي نَحْو: وَحرم الرِّبَا) من قَوْله - {وَأحل الله البيع} - (للْعلم بِحل البيع قُلْنَا أَن علموه) أَي المخاطبين الرِّبَا (نوعا مَعْرُوفا من البيع) كَمَا يعرفهُ الْيَوْم (فَلَا إِجْمَال) لمعلوميته (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعلموه إِلَى آخِره (فكحرم بعض البيع) أَي فَهُوَ مُجمل يتَوَقَّف الْعَمَل بِهِ على الْبَيَان مَعَ اعْتِبَار حَقِيقَة المُرَاد بِهِ (وَإِخْرَاج سَارِق أقل من) مِقْدَار قيمَة (الْمِجَن) الْمشَار إِلَيْهِ فِي حَدِيث أَيمن لم تقطع الْيَد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا فِي عَن الْمِجَن، وثمنه يَوْمئِذٍ دِينَار كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (مدعى كل معلومية كمية ثَلَاثَة أَو عشرَة) عطف بَيَان لكمية (فَلَيْسَ) تَخْصِيص عُمُوم الْآيَة بِهِ (مِنْهُ) أَي من التَّخْصِيص بالمجمل فَلَا يسْقط الِاحْتِجَاج بِآيَة السّرقَة على قطع السَّارِق (أَو) سلمنَا أَنه مِنْهُ لكِنهمْ (توقفوا أَولا) فِي الْعَمَل بِآيَة السّرقَة (حَتَّى بَان) مِقْدَار قيمَة الْمِجَن (على الِاخْتِلَاف) فعملوا بهَا عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد رَحِمهم الله فِي أظهر رواياته يقطع إِذا سرق ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو ربع دِينَار، وَعِنْدنَا بِعشْرَة دَرَاهِم (وَقَوله) أَي قَول فَخر الْإِسْلَام فِي التَّخْصِيص بالمعلوم يبطل الْعُمُوم لصِحَّة تَعْلِيله (وبالتعليل لَا يدْرِي قدر الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ إِن أَرَادَ) بِهِ لَا يدْرِي ذَلِك (بِالْفِعْلِ) أَي وَقت التَّعْلِيل (لَيْسَ بضائر) الأولى فَلَيْسَ: أَي لَا يضر شَيْء من الْأَحْوَال (إِلَّا إِذا لزم فِي حجيته) أَي الْكَلَام الْمَخْصُوص (فِي الْبَاقِي تعين عدده) أَي الْبَاقِي (لَكِن اللَّازِم) فِي حجيته فِيهِ (تعين النَّوْع وَالتَّعْلِيل يفِيدهُ) أَي يعين النَّوْع (لِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة لإِخْرَاج الْبَعْض حِينَئِذٍ (وصف ظَاهر منضبط، فَمَا تحققت فِيهِ) من المندرج تَحت الْعَام (ثَبت خُرُوجه، وَمَا لَا) يتَحَقَّق فِيهِ (فتحت الْعَام) بَاقٍ (أَو) أَرَادَ أَنه (قبله) أَي قبل التَّعْلِيل (أَي بِمُجَرَّد علم الْمُخَصّص) أَي بِالْعلمِ بِهِ من غير أَن يتَعَيَّن الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ بعد (يجب التَّوَقُّف) فِي الْبَاقِي (للْحكم بِأَنَّهُ) أَي الْمخْرج (مُعَلل ظَاهرا) إِذْ الأَصْل فِي الْأَحْكَام التَّعْلِيل (وَلَا يدْرِي إِلَى آخِره) أَي(1/315)
قدر الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ نوعا، وَفِي نسخ الْمَتْن هَهُنَا أَو لَا يدْرِي وَهُوَ سَهْو من النَّاسِخ: إِذْ لَا معنى لَهُ إِلَّا بتكلف رَكِيك لَا يحْتَاج إِلَيْهِ (فَقَوْل الْكَرْخِي وَغَيره من الواقفية) كالجرجاني وَعِيسَى ابْن أبان على مَا سبق ذكره مَعَ تَفْسِير لمرادهم، وَقَول الْكَرْخِي خبر مَحْذُوف: أَي فَهَذَا قَول الْكَرْخِي، وَالْجُمْلَة جَزَاء الشَّرْط على الشق الْأَخير من الترديد (لِأَن مَعْنَاهُ) أَي معنى قَول الْكَرْخِي (يتَوَقَّف) الْعَمَل بِالْعَام الْمَذْكُور (لذَلِك) أَي لِأَنَّهُ لَا يدْرِي قدر المتعدى إِلَيْهِ (إِلَى أَن يستنبط) الْوَصْف المناط لإِخْرَاج الْبَعْض (فَيعلم الْمخْرج بِالْقِيَاسِ حِينَئِذٍ لما ذكرنَا فِي الْمَجْهُول) . قَوْله لما ذكرنَا إِلَى آخِره تَعْلِيل لما فهم ضمنا من سُقُوط الحجية قبل الْعلم بِمِقْدَار المتعدى إِلَيْهِ، والموصول إِشَارَة إِلَى قَوْله: وَكَون السّمع حجَّة فرع معلومتيه بنفيها الخ (وَزِيَادَة الْعَمَل) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة (بِالْعَام) صلَة الْعَمَل (قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص) ظرف للْعَمَل، ثمَّ فسر الْمُخْتَص بقوله أَعنِي (أَعنِي الْقيَاس الَّذِي حكم بِهِ) أَي الَّذِي تضمنه الْمُخَصّص (للْحكم بمعلولية التَّخْصِيص) لما ذكر من الأَصْل فِي الْأَحْكَام التَّعْلِيل، قَوْله للْحكم تَعْلِيل القَوْل لقَوْله حكم بِهِ، وَقَوله وَزِيَادَة الْعَمَل مَعْطُوف على مَا ذكرنَا: أَي ولزيادة أَمر آخر: وَهُوَ عدم جَوَاز الْعَمَل بِالْعَام قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص على مَا سبق أَنه أجمع عَلَيْهِ لعدم الِاعْتِدَاد بقول الصَّيْرَفِي، وَقَوله أَعنِي تَفْسِير للمخصص فَمَا نَحن فِيهِ (وَهُوَ) أَي قَول فَخر الْإِسْلَام (حِينَئِذٍ) أَي حِين فسر بِمَا ذكر (أحسن) لكنه لم يردهُ وَإِلَّا لم يعسر لكَونه حجَّة ظنية (وَقَول الْإِسْقَاط) للعام الْمَخْصُوص (مُطلقًا) أَي فِي أخص الْخُصُوص وَغَيره (إِن صَحَّ) أَن أحدا ذهب إِلَيْهِ (وَهُوَ) أَي القَوْل بِهِ (بعيد) وَإِن نَقله الْآمِدِيّ وَغَيره (سَاقِط لقطعيته) أَي الْعَام (فِي أخص الْخُصُوص) مَعْلُوما كَانَ الْمُخْتَص أَو مَجْهُولا للْقطع بتناوله بعد التَّخْصِيص لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ احْتِمَال الْخُرُوج (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك وَجَاز إِخْرَاجه (كَانَ) التَّخْصِيص (نسخا) لَا تَخْصِيصًا.
مسئلة
(الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف (خصوا بِهِ) أَي بِالْمَفْهُومِ (الْعَام) فِي الشَّرْح العضدي من قَالَ بِالْمَفْهُومِ جوز تَخْصِيص الْعَام بِالْمَفْهُومِ كَمَا جوزه بالمنطوق (كفى الْغنم زَكَاة) فَإِن الْغنم عَام مُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ إِذا ضم (مَعَ فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة) فَإِن هَذَا بمفهومه يدل على أَنه لَيْسَ فِي المعلوفة الزَّكَاة، وَبِهَذَا الْمَفْهُوم يخص عُمُوم الأول، وَفِي الشَّرْح الْمَذْكُور، فَإِن قيل لَا نسلم الْمُعَارضَة، فَإِن الْمَنْطُوق أقوى، والأضعف يمحى مَعَ الْأَقْوَى فَلَا يُعَارضهُ قُلْنَا الْجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ أولى من إبِْطَال أَحدهمَا وَإِن كَانَ أَضْعَف كَغَيْرِهِ من المخصصات: فَإنَّا نعمل بهما جمعا بَين الْأَدِلَّة(1/316)
وَلَا يشْتَرط التَّسَاوِي: أَي بَين الْعَام وَالْمَفْهُوم، لِأَن كلا مِنْهُمَا ظَنِّي الدّلَالَة عِنْد الْقَائِلين بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لجمع الظنية إيَّاهُمَا) أَي الْعَام وَالْمَفْهُوم، لِأَن كلا مِنْهُمَا ظَنِّي الدّلَالَة (ومساواتهما) أَي الْمَخْصُوص والمخصوص بِهِ (ظنا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْمُسَاوَاة إِلَى الضَّمِير: أَي مُسَاوَاة ظنيهما قُوَّة (لَيْسَ شرطا) فِي التَّخْصِيص حَتَّى لَا يصلح الأضعف لِأَن تَخْصِيص الْأَقْوَى من خبر الْوَاحِد (للاتفاق عَلَيْهِ) أَي التَّخْصِيص (بِخَبَر الْوَاحِد للْكتاب بعد تَخْصِيصه) أَي اتَّفقُوا على أَنه يجوز تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد بعد أَن خصص بقطعي، مَعَ أَن الْكتاب إِن خصص أقوى من خبر الْوَاحِد، وَإِنَّمَا ارتكبوا ذَلِك (للْجمع) بَين الْأَدِلَّة المتعارضة، وَإِنَّمَا قَالَ بعد تَخْصِيصه ليَصِح دَعْوَى الِاتِّفَاق، فَإِنَّهُ لَا يجوز عندنَا تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد ابْتِدَاء كَمَا سَيَأْتِي (وَالتَّحْقِيق أَن مَعَ ظنية الدّلَالَة فيهمَا) أَي الْعَام وَالْمَفْهُوم الْمُخَالف (يُقَوي ظن الْخُصُوص) فِي الْعَام (لغلبته) أَي الْخُصُوص (فِي الْعَام) فَلَا يكون الْعَام أقوى من الْمَفْهُوم ظنا.
مَسْأَلَة
(الْعَادة) وَهِي الْأَمر المتكرر وَلَو من غير علاقَة عقلية وَالْمرَاد هُنَا (الْعرف العملي) لقوم (مُخَصص) للعام الْوَاقِع فِي تخاطبهم (عِنْد الْحَنَفِيَّة، خلافًا للشَّافِعِيَّة كحرمت الطَّعَام، وعادتهم) أَي المخاطبين (أكل الْبر انْصَرف) الطَّعَام (إِلَيْهِ) أَي الْبر (وَهُوَ) قَول الْحَنَفِيَّة (الْوَجْه، إِمَّا) تَخْصِيص الْعَام (بِالْعرْفِ القولي) وَهُوَ أَن يتعارف عِنْد قوم فِي إِطْلَاق لفظ إِرَادَة بعض أَفْرَاده مثلا بِحَيْثُ لَا يتَبَادَر عِنْد سَمَاعه إِلَّا ذَلِك (فاتفاق) أَي فتخصيص الْعَام بِهِ عِنْد ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ (كالدابة على الْحمار، وَالدِّرْهَم على النَّقْد الْغَالِب لنا الِاتِّفَاق على فهم) لحم (الضَّأْن بِخُصُوصِهِ فِي: اشْتَرِ لَحْمًا وَقصر الْأَمر) بشرَاء اللَّحْم (عَلَيْهِ) أَي الضَّأْن (إِذا كَانَت الْعَادة أكله فَوَجَبَ) كَون الْعرف العملي مُخَصّصا (كالقولي لِاتِّحَاد الْمُوجب) وَهُوَ تبادره بِخُصُوصِهِ من من إِطْلَاق اللَّفْظ (وإلغاء الْفَارِق) بَينهمَا (بِالْإِطْلَاقِ والعموم) مَحل الِاتِّفَاق، فَإِن لَحْمًا فِي اشْتَرِ لَحْمًا مُطلق، وَلَيْسَ بعام وَهُوَ ظَاهر والعموم فِي الْمُبْتَاع فِيهِ فِي حرمت الطَّعَام لظُهُور أَنه لَا أثر لهَذَا الْفَارِق (وَكَون دلَالَة الْمُطلق على الْمُقَيد دلَالَة الْجُزْء على الْكل و) دلَالَة (الْعَام على الْفَرد قلبه) فَإِن لَحْمًا جُزْء من لحم الضَّأْن، وَالطَّعَام الدَّال على كل طَعَام لاستغراقه الْأَفْرَاد كل وَالْبر جُزْء مِنْهُ (كَذَلِك) أَي فَارق ملغى، إِذْ لَا أثر لَهُ بعد اشتراكهما فِي تبادر الْخُصُوص (تَنْبِيه: مثل جمع من الْحَنَفِيَّة) مِنْهُم فَخر الْإِسْلَام (لذَلِك) أَي للتخصيص بِالْعَادَةِ (بِالنذرِ بِالصَّلَاةِ وَالْحج ينْصَرف إِلَى الشَّرْعِيّ) مِنْهُمَا (وَقد يخال) أَي يظنّ كل مِنْهُمَا (غير مُطَابق)(1/317)
لَهُ، وَإِنَّمَا هما مثالان للتخصيص بِالْعرْفِ القولي (وَالْحق صدقهما) أَي التَّخْصِيص بِكُل من العرفين (عَلَيْهِمَا) أَي المثالين، وَلَا يُقَال وضع الْحَنَفِيَّة لهَذِهِ المسئلة يُشِير إِلَى مَا يخال (إِذْ وضعهم) لَهَا هَكَذَا (تتْرك الْحَقِيقَة) بِخَمْسَة أَشْيَاء (عَاما) كَانَ اللَّفْظ (أَو غَيره بِدلَالَة الْعَادة) هَذَا أحد الْخَمْسَة (وبدلالة اللَّفْظ فِي نَفسه) هَذَا ثَانِيهمَا، وفسروه كَمَا قَالَ (أَي إنباء الْمَادَّة) أَي مَادَّة اللَّفْظ (عَن كَمَال فيخص) اللَّفْظ (بِمَا فِيهِ) من الْكَمَال (كحلفه لَا يَأْكُل لَحْمًا: وَلَا نِيَّة معممة) أَي وَالْحَال لَيْسَ هُنَاكَ نِيَّة تَقْتَضِي عُمُوم اللَّحْم لما يصلح لَهُ (لَا يدْخل السّمك) فِي حلفه إِلَّا فِي رِوَايَة شَاذَّة عَن أبي يُوسُف لقَوْله تَعَالَى - {لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} - أَي من الْبَحْر سمكًا، وَإِنَّمَا لم يدْخل (لإنبائه) أَي اللَّحْم (عَن الشدَّة بِالدَّمِ) لدلَالَة مادته على الشدَّة وَالْقُوَّة، فَإِنَّهُ سمى لَحْمًا لقُوَّة فِيهِ لتولده من الدَّم الَّذِي هُوَ أقوى الأخلاط فِي الْحَيَوَان، وَلَيْسَ للسمك دم لعيشه فِي المَاء وحله بِلَا ذَكَاة، فَإِن الدموي لَا يعِيش فِيهِ وَلَا يحل بِدُونِهَا (وَقد يدْخل) هَذَا (فِي الْعرفِيّ) فِي التَّحْقِيق عَامَّة الْعلمَاء تمسكوا فِي هَذِه المسئلة بِالْعرْفِ (نعم لَو انْفَرد) إنباء اللَّفْظ بِالْإِخْرَاجِ من الْعَام أَو الْمُطلق (أخرج) يَعْنِي إِمْكَان حُصُول الْخُرُوج بالإنباء لَا يَنْفِي دُخُوله فِي الْعرفِيّ، غَايَته أَنه إِذا انْفَرد أخرج (وَلَو عَارضه) أَي الإنباء عرف (قدم الْعرف) على الإنباء لرجحان اعْتِبَاره عَلَيْهِ (وَقَوله كل مَمْلُوك لي حر لَا يعْتق مكَاتبه) وَيعتق مدبره وَأم وَلَده لنُقْصَان الْملك فِي الْمكَاتب لعدم مملوكيته يدا لَا رَقَبَة، وَلِهَذَا لَا يحل وَطْء الْمُكَاتبَة وَلم يتَنَاوَل الْملك عِنْد الْإِطْلَاق إِلَّا الْكَامِل عرفا، (أَو) إنباء الْمَادَّة (عَن نقص) فِي الْمُسَمّى (فِي يتَنَاوَل) اللَّفْظ الْمُسَمّى (ذَا كَمَال كحلفه لَا يَأْكُل فَاكِهَة لَا يَحْنَث بالعنب، لِأَن التَّرْكِيب دَال على التّبعِيَّة والقصور فِي الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ) من المأكولات: وَهُوَ التغذي، لِأَن الْفَاكِهَة اسْم من التفكه، وَهُوَ التنعم، وَهُوَ إِنَّمَا يكون بِأَمْر زَائِد على الْمُحْتَاج إِلَيْهِ أَصَالَة مِمَّا يكون بِهِ القوام فَإِنَّهُ لَا يُسمى منعما، وَالْعِنَب مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ القوام حَتَّى يَكْتَفِي بِهِ فِي بعض الْمَوَاضِع، وَمثله الرطب وَالرُّمَّان، وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله، وَقَالا: يَحْنَث لوُجُود معنى التفكه فِيهِ، بل هِيَ أعز الْفَوَاكِه والتنعم بهَا يفوق التنعم بغَيْرهَا من الْفَوَاكِه، وَقَالَ الْمَشَايِخ هَذَا اخْتِلَاف زمَان فَفِي زَمَانه مَا كَانَت تعد من الْفَوَاكِه، وَفِي زَمَاننَا تعد مِنْهَا (وَبِمَعْنى من الْمُتَكَلّم) هَذَا ثَالِث الْخَمْسَة: أَي وبدلالة معنى من صِفَات الْمُتَكَلّم (كَانَ خرجت فطالق عقيب تهيئها لخرجة لجت فِيهَا) أَي حرصت على تِلْكَ الخرجة (لَا يَحْنَث بِهِ) أَي بخروجها (بعد سَاعَة، وَتسَمى يَمِين الْفَوْر) هُوَ مَأْخُوذ من فوران الْقدر، سميت بِاعْتِبَار صدورها من فوران الْغَضَب، أَو لِأَن الْفَوْر استعير للسرعة، ثمَّ سمى بِهِ الْحَالة الَّتِي لَا لبث فِيهَا، يُقَال أخرج من فوره: أَي من سَاعَته، وَأول من استخرجها أَبُو حنيفَة(1/318)
وَكَانُوا قبل ذَلِك يَقُولُونَ بتأييده كلا أفعل كَذَا، وَلَا أفعل الْيَوْم كَذَا: وَهِي مُؤَبّدَة لفظا مُؤَقَّتَة معنى لتقييده بِالْحَال لكَونهَا جَوَابا لكَلَام يتَعَلَّق بِالْحَال كَذَا قَالُوا (وَحَقِيقَته) أَي حَقِيقَة الْمُخَصّص فِي هَذَا الْقسم (دلَالَة حَالهمَا) أَي الْمُتَكَلّم، والمخاطب ككونها ملحة على الْخُرُوج فِي تِلْكَ الْحَالة، وَكَونه ملحا على الْمَنْع حِينَئِذٍ (وبدلالة مَحل الْكَلَام) لكَون الْمحل غير قَابل للْحَقِيقَة، فَإِن الْعَاقِل لَا يقْصد مَا لَا يقبله الْمحل صِيَانة لكَلَامه من اللَّغْو وَالْكذب، فَتعين إِرَادَة الْمَعْنى الْمجَازِي، وَهَذَا رَابِع الْخَمْسَة (كَأَنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَرفع الْخَطَأ) فَإِن نفس الْعَمَل يُوجد بِدُونِ النِّيَّة وَنَفس الْخَطَأ لم يرفع فَتعذر إِرَادَة الْحَقِيقَة (وَقد يدرج هَذَا فِي) الْمُخَصّص (الْعقلِيّ) فَإِن الْعقل يحِيل إِرَادَة الْحَقِيقَة لما ذكر قيل لَا نسلم هَذَا فِي الْأَعْمَال، إِذْ لَا يلْزم تَقْدِير الْمُتَعَلّق الْعَام كالحصول لجَوَاز تَقْدِيره مُتَعَلق خَاص بِقَرِينَة الْمقَام، نَحْو: مَا الْأَعْمَال مُعْتَبرَة لشَيْء من الْأَشْيَاء إِلَّا بِالنِّيَّاتِ. قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله: بل التَّقْدِير مَا الْأَعْمَال محسوبة بِشَيْء من الْأَشْيَاء كالشروع فِيهَا والتلبس بهَا إِلَّا بِالنِّيَّاتِ (وبالسياق) أَي وبدلالة سوق الْكَلَام على أَن المُرَاد غير الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ بِأَن يكون هُنَاكَ قرينَة لفظية سَابِقَة عَلَيْهِ أَو مُتَأَخِّرَة عَنهُ، والسباق بِالْبَاء الْمُوَحدَة مُخْتَصّ بالمتقدمة، وَهَذَا خَامِس الْخَمْسَة (كطلق امْرَأَتي إِن كنت رجلا، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد التَّوْكِيل بِهِ) أَي بتطليقها الَّذِي هُوَ حَقِيقَة طلق امْرَأَتي لقَرِينَة السِّيَاق على مَا يدل عَلَيْهِ قَوْله إِن كنت رجلا عرفا (وَيَأْتِي التَّخْصِيص بِفعل الصَّحَابِيّ) فِي المسئلة الثَّالِثَة وَفِي مبَاحث السّنة.
مسئلة
(إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكمِهِ) أَي الْعَام: يَعْنِي إِذا علق على عَام حكم ثمَّ علق على فَرد من أَفْرَاد ذَلِك الْعَام ذَلِك الحكم (لَا يخصصه) أَي الْفَرد الْمَذْكُور ذَلِك الْعَام (وَهُوَ) أَي كَون إِفْرَاد فَرد مِنْهُ بِحكمِهِ مُخَصّصا (قلب الْمُتَعَارف فِي التَّخْصِيص، وَهُوَ) أَي الْمُتَعَارف فِيهِ (قصره) أَي الحكم (على غير مُتَعَلق دَلِيله) فَإِن مُتَعَلق دَلِيل التخصص هُوَ الْفَرد الَّذِي يخرج من الْعَام وَيقصر الحكم على غَيره، وَهُوَ الْبَاقِي بعد إِخْرَاجه من الْأَفْرَاد، وَذَلِكَ دَلِيل التَّخْصِيص يدل على أَنه خَارج من حكم الْعَام، فَهُوَ مُتَعَلّقه (بل) حَاصِل (هَذَا) الْإِفْرَاد (قصره) أَي الحكم (عَلَيْهِ) أَي على مُتَعَلق دَلِيل التَّخْصِيص، وَهُوَ الْفَرد الَّذِي أفرد بِحكمِهِ، فَلَو جعل مَا أفرد بالحكم مُخَصّصا، وَهَذَا الْإِفْرَاد دَلِيلا للتخصيص وَلَا شكّ أَن الْمَقْصُور عَلَيْهِ حِينَئِذٍ هُوَ عين مَا أفرد لزم الْمَقْصُور عَلَيْهِ مُتَعَلق دَلِيل التَّخْصِيص، وَهُوَ قلب الْمُتَعَارف (مِثَاله أَيّمَا أهاب) دبغ فقد طهر (مَعَ قَوْله فِي شَاة مَيْمُونَة دباغها طهورها) فَلَا يخص حكم الطّهُورِيَّة(1/319)
بالدباغ جلد شَاة مَيْمُونَة من بَين الأهب، وَتكلم الشَّارِح فِي الحَدِيث الثَّانِي وَذكر مَا يُفِيد مَعْنَاهُ (وَمِنْه) أَي من إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكمِهِ (أَو شبهه) مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا مَعَ) مَا فِي رِوَايَة لمُسلم رَوَاهُ. " وَجعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا (وتربتها) لنا طهُورا إِذا لم تَجِد المَاء ". قَالَ الشَّارِح إِنَّمَا قَالَ أَو شبهه لجَوَاز أَن يُقَال التُّرَاب جُزْء من الأَرْض لَا جزئي لَهَا، وَإِنَّمَا بَينهمَا شبه من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا بعض من الْمُسَمّى (لنا لَا تعَارض) بَين إِثْبَات الحكم للْكُلّ وإثباته للْبَعْض (فَوَجَبَ اعتبارهما فَلَا يخص الطّهُورِيَّة التُّرَاب من أَجزَاء الأَرْض قَالُوا الْمَفْهُوم مُخَصص) للعام كَمَا مر، وَمَفْهُوم مَا أفرد بالحكم نفى الحكم عَن سَائِر أَفْرَاده إِذا لَا فَائِدَة لذكره إِلَّا ذَلِك فَيخْتَص حكم الطّهُورِيَّة بِشَاة مَيْمُونَة فِي عُمُوم أَيّمَا أهاب (قُلْنَا) دلَالَة الْمَفْهُوم (مَمْنُوع عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَلَو سلم فَهَذَا) أَي مَفْهُوم إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكمِهِ (مَفْهُوم لقب مَرْدُود) عِنْد الْجُمْهُور كَمَا تقدم، وَفَائِدَة ذكر ذَلِك الْفَرد نفى احْتِمَال تَخْصِيصه من الْعَام، وَهَذَا إِذا لم يكن لَهُ مَفْهُوم مُخَالفَة إِلَّا اللقب وَأما إِذا كَانَ لَهُ غَيره فَلَا يتم الْجَواب على التَّسْلِيم كَذَا ذكره الشَّارِح، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن النزاع فِي أَن مُجَرّد إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكمِهِ هَل يخصص أَولا، وَاعْتِبَار الْمَفْهُوم أمرا زَائِدا على الْإِفْرَاد بالحكم فَتَأمل.
مسئلة
(رُجُوع الضَّمِير) الْوَاقِع بعد الْعَام (إِلَى الْبَعْض) من أَفْرَاده (لَيْسَ تَخْصِيصًا، مثل والمطلقات) يَتَرَبَّصْنَ (مَعَ وبعولتهن) أَحَق بردهن، فَإِن المطلقات يعم البائنات والرجعيات وَالضَّمِير للرجعيات فَقَط لعدم إِمْكَان الرَّد فِي البائنات (فَلَا يخص التَّرَبُّص الرجعيات) بل يتَعَلَّق بِهن وبالبائنات عِنْد أَكثر الشَّافِعِيَّة وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب والبيضاوي (وَأَبُو الْحُسَيْن وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ) قَالَا (تَخْصِيص) لَهُ، قيل وَعَلِيهِ أَكثر الْحَنَفِيَّة وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْمُعْتَزلَة، وعزى إِلَى الشَّافِعِي رَحمَه الله (وَهُوَ الْأَوْجه، وَقيل بِالْوَقْفِ) عزى إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره (لنا) على الْمُخْتَار: وَهُوَ أَنه تَخْصِيص لَهُ (حَقِيقَته) أَي الضَّمِير (رابط لِمَعْنى مُتَأَخّر بمتقدم أَعم من مَذْكُور أَو مُقَدّر بِدَلِيل) يدل على تَقْدِيره (على أَنه) أَي الرابط مُتَعَلق بربط (هُوَ) أَي الْمُتَقَدّم (فَلَا يتَصَوَّر الِاخْتِلَاف) بَينهمَا (وَمَا قيل) فِي وَجه أَنه لَا يخص (التَّجَوُّز فِيهِ) أَي الضَّمِير (غير ملزوم للتجوز فِي الأول) أَي الْعَام: يَعْنِي لَا يلْزم من كَون الضَّمِير مجَازًا فِي الْبَعْض كَون الْعَام مجَازًا فِيهِ (فبعيد إِذْ رُجُوعه) أَي الضَّمِير (إِلَى لفظ الأول بِاعْتِبَار(1/320)
مَعْنَاهُ فَلَا يتَصَوَّر كَونه) أَي الضَّمِير (مجَازًا) فِي الْبَعْض ومرجعه الَّذِي هُوَ الْعَام على حَقِيقَته وَهُوَ الْعُمُوم (فَإِذا خص) الضَّمِير (الرجعيات) من المطلقات (مَعَ كَونه) أَي الضَّمِير (عبارَة عَن المطلقات فهن) أَي الرجعيات (المُرَاد بِهِ) أَي الْعَام (وَهُوَ) المطلقات وَهُوَ أَي كَونه المُرَاد بالمطلقات الرجعيات لَا غير هُوَ (التَّخْصِيص) للمطلقات (وَبِه) أَي بِهَذَا الْجَواب (ظهر أَن قَوْلهم) أَي الْقَائِلين بِعَدَمِ التَّخْصِيص (فِي جَوَاب قَول الْوَاقِف) لزم تَخْصِيص الظَّاهِر وَالضَّمِير، دفعا للمخالفة، وَتَخْصِيص أَحدهمَا دون الآخر تحكم إِذْ (لَا ترجح لاعْتِبَار الْخُصُوص فِي أَحدهمَا بِعَيْنِه) فَوَجَبَ التَّوَقُّف ومقول قَوْلهم (ان دلَالَة الضَّمِير أَضْعَف) من دلَالَة الظَّاهِر لتوقف الضَّمِير عَلَيْهِ (فالتغيير فِيهِ) أَي الضَّمِير (أسهل) من التَّغْيِير فِي الظَّاهِر فترجح اعْتِبَار الْخُصُوص فِي الضَّمِير (لَا يُفِيد) خبران، وَذَلِكَ لما ظهر من بَيَان حَقِيقَة الضَّمِير المستدعى اتحادهما (وَامْتنع الْخلاف) وَفِي نُسْخَة الِاخْتِلَاف بَين الضَّمِير ومرجعه (فِي الْآيَة) (فَبَطل تَرْجِيحه) أَي تَرْجِيح قَول الْقَائِلين بِعَدَمِ التَّخْصِيص (بِأَنَّهُ) أَي تَخْصِيص الضَّمِير (لَا يسْتَلْزم تَخْصِيص الأول، بِخِلَاف قلبه) فَإِنَّهُ يسْتَلْزم تَخْصِيص الأول تَخْصِيص الضَّمِير إِذْ يسْتَلْزم تَخْصِيص كل مِنْهُمَا تَخْصِيص الآخر لما عرفت من وجوب الِاتِّحَاد بَينهمَا (وَاللَّازِم فِي الْآيَة إِمَّا عوده) أَي الضَّمِير (على مُقَدّر هُوَ المتضمن) على صِيغَة الْمَفْعُول: وَهُوَ الرجعيات (مدلولا) تضمنيا (للمتضمن) على صِيغَة الْفَاعِل: وَهُوَ المطلقات (وَأما عَلَيْهِ) أَي المتضمن على صِيغَة الْفَاعِل: وَهُوَ المطلقات مرَادا بِهن الرجعيات (مجَازًا) عَن إِطْلَاق الْكل وَإِرَادَة الْبَعْض (وَوُجُوب تربص غير الرجعيات بِدَلِيل آخر) كالإجماع وَالْقِيَاس.
مسئلة
لما كَانَت الْمقَالة فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة، وَكَانَ كل مَا ذكر من الْمسَائِل مُتَعَلقَة بالألفاظ الْمَوْضُوعَة بِاعْتِبَار ذَاتهَا، أَو دلالتها، أَو مقايستها إِلَى لفظ آخر أَو مدلولها أَو اسْتِعْمَالهَا على التَّفْصِيل الَّذِي سبق، وَلم تكن هَذِه المسئلة من هَذَا الْقَبِيل، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَلَيْسَت لغوية) وَالتَّقْدِير: هَذِه مسئلة (مبدئية) بل استطرادية، فَإِن ذكرهَا فِي هَذِه الْمقَالة على سَبِيل الاستطراد، لِأَنَّهَا لَو كَانَت مِمَّا تتَعَلَّق باللغة كَانَت مثل غَيرهَا مَذْكُورَة أَصَالَة، لَا على سَبِيل التّبعِيَّة والاستطراد، وَيجوز أَن يُرَاد بمبدئها مَا أُشير إِلَيْهِ فِي عنوان الْمقَالة. قَالَ (الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة) والأشعري وَأَبُو هَاشم وَأَبُو الْحُسَيْن (يجوز التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ) قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا (إِلَّا أَن الْحَنَفِيَّة) قيدوا جَوَاز التَّخْصِيص بِهِ(1/321)
(بِشَرْط تَخْصِيص) الْعَام (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْقيَاس من سَمْعِي أَو عَقْلِي (وتقييده) أَي التَّخْصِيص بِغَيْرِهِ (بالقبلية) أَي بِأَن يكون قبل التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ كَمَا وَقع فِي عبارَة كثير (لَا يتَصَوَّر) وَذَلِكَ لِأَن تَخْصِيص الْقيَاس بِإِخْرَاجِهِ بعض أَفْرَاد الْعَام عَن حكمه إِلْحَاق لَهُ بِأَصْل مَنْصُوص فِي حكم مُخَالف لحكم الْعَام لاشْتِرَاكهمَا فِي الْعلَّة، فالمخصص حَقِيقَة ذَلِك النَّص، وَالْقِيَاس إِنَّمَا هُوَ مظهر لذَلِك التَّخْصِيص، وَلَا شكّ أَن ذَلِك النَّص مُقَارن للعام، وَإِذن لَا يتَصَوَّر مُخَصص آخر قبله، وَهُوَ ظَاهر (وَتَقَدَّمت إِشَارَة إِلَيْهِ) فِي الْبَحْث الْخَامِس من الْعَام حَيْثُ قَالَ عِنْد اشْتِرَاط الْحَنَفِيَّة مُقَارنَة الْمُخَصّص الأول للُزُوم النّسخ على تَقْدِير تراخيه وَالْوَجْه أَن الثَّانِي نَاسخ أَيْضا لَا الْقيَاس إِذْ لَا يتَصَوَّر تراخيه (فَالْمُرَاد بالقبلية) فِي التَّخْصِيص بِالْغَيْر (ظُهُور الْغَيْر سَابِقًا) على ظُهُوره. وَقَالَ (ابْن سُرَيج إِن كَانَ) الْقيَاس (جليا) جَازَ تَخْصِيصه، وَإِن كَانَ خفِيا لَا يجوز، وَفِي تَفْسِير الْجَلِيّ مَذَاهِب، وَالرَّاجِح أَنه قِيَاس الْمَعْنى وَهُوَ الْمَشْهُور، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَالَّذِي مَشى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب أَنه الَّذِي قطع فِيهِ بِنَفْي تَأْثِير الْفَارِق بَين الأَصْل وَالْفرع، والخفي مَا ظن فِيهِ ذَلِك (وَقيل إِن كَانَ أَصله) أَي الْقيَاس: يَعْنِي الْمَقِيس عَلَيْهِ (مخرجا من ذَلِك الْعُمُوم) أَي الْعُمُوم الَّذِي يُرَاد تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ الْمَذْكُور (بِنَصّ) خصص وَإِلَّا فَلَا، وَالْجَار مُتَعَلق بمخرجا، فَإِن الْمخْرج بِالْقِيَاسِ حِينَئِذٍ مخرج بذلك النَّص، فَإِن حكمه مُعَلل بعلة الْقيَاس الْمَذْكُور: وَهِي مستنبطة من ذَلِك النَّص فَيلْزم ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع أَيْضا مِنْهُ (والجبائي يقدم الْعَام مُطلقًا) جليا كَانَ الْقيَاس أَو خفِيا مخرجا أَصله من ذَلِك الْعُمُوم أَولا، وَنَقله القَاضِي عَن الْأَشْعَرِيّ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، فَلَا يخصصون الْعَام بِالْقِيَاسِ مُطلقًا (وَتوقف إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْقَاضِي، وَقيل إِن كَانَ أَصله مُخَصّصا) أَي مخرجا من الْعُمُوم (أَو) ثَبت (الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع) خصص (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق شَيْء مِنْهَا (اعْتبرت قَرَائِن التَّرْجِيح) فَإِن ظهر مَا يرجح الْقيَاس خص الْعَام وَإِلَّا عمل بِعُمُومِهِ (وَاخْتَارَهُ بَعضهم) وَهُوَ ابْن الْحَاجِب، وَإِن تَسَاويا فالوقف، وَهُوَ رَأْي الْغَزالِيّ. وَقَالَ الرَّازِيّ أَنه حق كَذَا قيل. قَالَ السُّبْكِيّ مَذْهَب ابْن الْحَاجِب آيل إِلَى اتِّبَاع أرجح الظنين، وَإِن تَسَاويا فالوقف. وَقَالَ الشَّارِح لَيْسَ كَذَلِك، إِذْ لَا وقف فِي هَذَا الْمُخْتَار لِابْنِ الْحَاجِب (لنا) على الأول (الِاشْتِرَاك) للعام وَالْقِيَاس (فِي الظنية، أما الثَّلَاثَة) مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد رَحِمهم الله (فمطلقا) أَي ظَنِّي مُطلقًا فعندهم، يخص سَوَاء خص الْعَام أَولا إِلَى آخِره، وَقد سبق أَنه قَول طَائِفَة من الحنبلية (وَأما الطَّائِفَة من الْحَنَفِيَّة) الْقَائِلُونَ بِأَن الْعَام قَطْعِيّ (فبالتخصيص) صَار ظنيا عِنْدهم أَيْضا لعدم إِرَادَة مَعْنَاهُ وَاحْتِمَال إِخْرَاج بعض آخر مِنْهُ (والتفاوت فِي الظنية غير مَانع) من تَخْصِيص(1/322)
الأضعف للأقوى (كَمَا تقدم) فِي التَّخْصِيص بِالْمَفْهُومِ (وَوَجهه) أَي وَجه عدم اعْتِبَار التَّفَاوُت أَو التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ وَإِن كَانَ أَضْعَف (أعمالهما) أَي الدَّلِيلَيْنِ الْعَام وَالْقِيَاس (مَا أمكن) فَإِنَّهُ أولى من إبِْطَال أَحدهمَا، فرعاية هَذَا الْمَعْنى أهم من الِاحْتِرَاز عَن كَون الأضعف مُخَصّصا للأقوى (أَو) أَن يُقَال (ترجح الْمُخَصّص) على صِيغَة الْفَاعِل، وَإِن كَانَ الْمُخَصّص على صِيغَة الْمَفْعُول أقوى مِنْهُ (هُوَ الْوَاقِع) بالِاتِّفَاقِ (كَمَا تقدم) فِي بحث التَّخْصِيص بِالْمَفْهُومِ بالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ بِخَبَر الْوَاحِد للْكتاب بعد تَخْصِيصه بقطعي (فَبَطل تَوْجِيه الْأَخير) أَي مُخْتَار ابْن الْحَاجِب (بِكَوْن الْعلَّة كَذَلِك) أَي ثَابِتَة بِنَصّ أَو إِجْمَاع (توجب كَون الْقيَاس كالنص وَالْإِجْمَاع) وَإِنَّمَا بَطل (لِأَن) الْعلَّة (المستنبطة دَلِيل، وَوُجُوب الْأَعْمَال عَام) لكل دَلِيل فَوَجَبَ أَعمال المستنبطة كالمنصوصة (وَمَا قيل) فِي وَجه عدم أَعمالهَا إِذا عارضت عَاما (المستنبطة إِمَّا راجحة، أَو مُسَاوِيَة، أَو مرجوحة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَام (فالتخصيص على تَقْدِير) وَهُوَ تَقْدِير كَون المستنبطة راجحة (وَعَدَمه) أَي التَّخْصِيص (على تقديرين) وهما تَقْدِير الْمُسَاوَاة والمرجوحية (فيترجح) عدم التَّخْصِيص، لِأَن وُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من وُقُوع وَاحِد معِين وَقَوله مَا قيل مُبْتَدأ خَبره (يُوجب بطلَان الْمُخَصّص مُطلقًا) إِذْ يُقَال كل مُخَصص إِمَّا رَاجِح على الْعَام الْمخْرج مِنْهُ، أَو مسَاوٍ، أَو مَرْجُوح فالتخصيص على تَقْدِير إِلَى آخِره (بل الرجحان) الْمُخَصّص على الْعُمُوم (دائمي بأعمالهما) أَي أَعمال الدَّلِيلَيْنِ الْقيَاس، وَالْعَام حَيْثُ أمكن (وَلما تقدم) من أَن الْوَاقِع تَرْجِيح الْمُخَصّص وَإِن كَانَ الْمُخَصّص فِي الظَّن (ولتخصيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد) وَهَذَا لَيْسَ بتكرار لِأَن مَا تقدم على وَجه الْعُمُوم، وَهَذَا على وَجه الْخُصُوص. قَالَ (الجبائي يلْزم) على تَقْدِير تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ (تَقْدِيم الأضعف) وَهُوَ الْقيَاس على الْأَقْوَى، وَهُوَ الْعَام (على مَا يَأْتِي) تَقْرِيره فِي مسئلة تعَارض الْقيَاس وَالْخَبَر (فِي الْخَبَر، وَيَأْتِي جَوَابه، و) يُجَاب (بِأَن ذَلِك) أَي لُزُوم مَا ذكر من تَقْدِيم الأضعف (عِنْد إبِْطَال أَحدهمَا) من الْعَام وَالْقِيَاس (وَهَذَا) أَي تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ (أعمالهما، وَبِأَنَّهُ) أَي الجبائي (يخصص الْكتاب بِالسنةِ وبالمفهوم) الْمُخَالف وَالسّنة أَيْضا مَعَ قصورهما فِي الْقُوَّة عَن الْكتاب وقصور الْمَفْهُوم عَن السّنة (قَالُوا) للجبائي (أخر معَاذ الْقيَاس) عَن السّنة (وَأقرهُ) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك. أخرج أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بَعثه إِلَى الْيمن: قَالَ كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك أَمر؟ قَالَ أَقْْضِي بِمَا فِي كتاب الله، قَالَ فَإِن لم يكن فِي كتاب الله؟ قَالَ فبسنة رَسُول الله، قَالَ فَإِن لم يكن فِي سنة رَسُول الله؟ قَالَ أجتهد رَأْيِي فَلَا آلو: قَالَ فَضرب فِي صَدْرِي وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول(1/323)
رَسُول الله لما يرضى رَسُول الله، وَهَذَا التَّقْدِير على تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس يدل على وجوب تَقْدِيمه على الْقيَاس إِذا خَالفه أَو وَافقه (أُجِيب أخر السّنة أَيْضا عَن الْكتاب وتخصيصه) أَي الْكتاب (بهَا) أَي بِالسنةِ (اتِّفَاق) فَمَا هُوَ جوابكم فَهُوَ جَوَابنَا (وَأَيْضًا لَيْسَ فِيهِ) أَي فِي حَدِيث معَاذ (مَا يمْنَع الْجمع) بَين الْقيَاس وَالْعَام (عِنْد التَّعَارُض، والتخصيص مِنْهُ) أَي من الْجمع بَينهمَا، غَايَة مَا فِيهِ عدم إبِْطَال السّنة بِالْقِيَاسِ، وَنحن قَائِلُونَ بِهِ على أَن حَدِيثه. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيهِ غَرِيب، وَإِسْنَاده لَيْسَ عِنْدِي بِمُتَّصِل. وَقَالَ البُخَارِيّ لَا يَصح لَكِن شهرته وتلقى الْعلمَاء لَهُ بِالْقبُولِ لَا يقعده عَن دَرَجَة الحجية، وَمن ثمَّ أطلق جمَاعَة من الْفُقَهَاء كالباقلاني والطبري وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ عَلَيْهِ الصِّحَّة، وَأخرج لَهُ شَوَاهِد من الصَّحِيح وَالْحسن (وَله) أَي الجبائي (أَيْضا دَلِيل اعْتِبَار الْقيَاس الْإِجْمَاع، وَلَا إِجْمَاع عِنْد مُخَالفَته) أَي الْقيَاس (الْعُمُوم) وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْعَمَل بِهِ فَامْتنعَ الْعَمَل بِهِ، إِذْ لَا يثبت حكم بِلَا دَلِيل (وَالْجَوَاب إِذا ثبتَتْ حجيته) أَي الْقيَاس (بِهِ) أَي الْإِجْمَاع (ثَبت حكمهَا) أَي جَمِيع أَحْكَام تترتب على حجيته (وَمِنْه) وَمن حكمهَا (الْجمع) بَين مُقْتَضى الْقيَاس وَالْعَام الْمعَارض لَهُ (مَا أمكن) وَقد أمكن كَمَا ذكرنَا (و) الْحجَّة (للمفصل الثَّانِي) على الْمفصل الأول وَهُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله، وَقيل إِن كَانَ أَصله مخرجا أَن الْعلَّة (المؤثرة) أَي مَا ثَبت تأثيرها بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِيهِ مُسَامَحَة وَالْمرَاد الْقيَاس الْمُشْتَمل على المؤثرة (والمخصص) بِصِيغَة الْمَفْعُول أَي الْقيَاس الَّذِي خص أَصله من الْعَام (تَرْجِعَانِ إِلَى النَّص) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (حكمي على الْوَاحِد) حكمي على الْجَمَاعَة، فَإِذا ثَبت الْعلية، أَو الحكم فِي حق وَاحِد ثَبت فِي حق الْجَمَاعَة بِهَذَا النَّص، وَلزِمَ تَخْصِيص الْعَام بِهِ، وَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بمحض الْكَلَام أَن الْمفصل الثَّانِي يَقُول للْأولِ: وَأَنَّك خصصت الْعَام بِقِيَاس آخر أَصله من حكمه بِنَصّ نظرا إِلَى أَنه يرجع إِلَى كَون النَّص مُخَصّصا وَلم يخصص بِقِيَاس ثَبت تَأْثِير علته بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع وَهُوَ تحكم، لِأَن تَخْصِيص هَذَا رَاجع إِلَى النَّص، وَفسّر هَذَا النَّص فِي الشَّرْح العضدي بحكمي على الْوَاحِد إِلَى آخِره، وَيثبت بِمَا ذكر، وتوضيحه أَن الشَّارِع إِذا أثبت حكما لشَيْء لَهُ نَظَائِر من حَيْثُ الاشتمال على منَاط الحكم فقد أثْبته لنظائره وَأَيْضًا فَمُقْتَضى هَذَا النَّص ثُبُوت حكم الأَصْل فِي الصُّورَتَيْنِ لما تحققت فِيهِ عِلّة من أَفْرَاد الْعَام، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالنَّصِّ الْمَذْكُور مَا ثَبت بِهِ أصل الْقيَاس فيهمَا، وَيكون قَوْله حكمي إِلَى آخِره بَيَانا لكَون تَخْصِيص الْقيَاس فيهمَا بِمُوجب النَّص (وَإِذا ترجح ظن التَّخْصِيص) لما كَانَ فِي هَذَا التَّفْصِيل ثَلَاث صور: كَون أصل الْقيَاس مخرجا من ذَلِك الْعُمُوم، وَثُبُوت الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَأَن لَا يتَحَقَّق(1/324)
شَيْء مِنْهُمَا، وَذكر حكم الأولى وَالثَّانيَِة، وَهُوَ اعْتِبَار التَّخْصِيص فيهمَا لرجوع الْقيَاس إِلَى النَّص لما ذكر بَين حكم الثَّالِثَة بِأَنَّهُ إِذا ترجح ظن اعْتِبَار التَّخْصِيص بمرجح على ظن الْعُمُوم (فبالإجماع على اتِّبَاع الرَّاجِح) أَي فَيجب تَخْصِيص الْعَام بِهِ لرجحان ظَنّه وَالْإِجْمَاع على اتِّبَاع الرَّاجِح (وَهَذَا) الْكَلَام بِنَاء (على اعْتِبَار رُجْحَان ظن الْقيَاس) واشتراطه (فِي تَخْصِيصه) أَي فِي تَخْصِيص الْقيَاس للعام (وَعلمت انتفاءه) أَي انْتِفَاء اعْتِبَاره حَيْثُ قُلْنَا التَّفَاوُت فِي الظنية غير مَانع عَن التَّخْصِيص بِهِ (أَو لُزُومه بِلَا تِلْكَ الْقُيُود) فسر الشَّارِح بِلُزُوم التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ من غير اعْتِبَار ثُبُوت الْعلَّة بِنَصّ، أَو إِجْمَاع، أَو مُرَجّح خَاص لِأَنَّهُ دَلِيل، وكل دَلِيل يجب إعماله مَا أمكن انْتهى، وَلَا يظْهر حِينَئِذٍ وَجه أَو الترديدية وَالْأَوْجه أَن يُقَال: أَو بِمَعْنى بل، كَقَوْلِه تَعَالَى - {أَو يزِيدُونَ} -، وَضمير لُزُومه لرجحان الظَّن، فَإِن غَلَبَة التَّخْصِيص فِي الْعَام مَعَ وجوب أَعمال الدَّلِيلَيْنِ يسْتَلْزم رُجْحَان ظن الْقيَاس والتخصيص وَالله أعلم.
قَالَ (الْوَاقِف: فِي كل مِنْهُمَا) أَي الْعَام وَالْقِيَاس (جِهَة قطع) فِي الْعَام بِاعْتِبَار الثُّبُوت، وَفِي الْقيَاس بِاعْتِبَار الحجية (وَظن) فِي الْعَام بِاعْتِبَار الدّلَالَة، وَفِي الْقيَاس بِاعْتِبَار الحكم فِي الْفُرُوع (فَيتَوَقَّف قُلْنَا لَو لم يكن مُرَجّح وَهُوَ أعمالهما) بِحَسب الْإِمْكَان فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك لَا يجوز إبِْطَال أَحدهمَا فضلا عَن إبطالهما مَعًا، وَفِي التَّوَقُّف إبطالهما (وَأما تَخْصِيص الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد، وتقييده) أَي الْقُرْآن (بِهِ) أَي بِخَبَر الْوَاحِد (و) تَخْصِيص (الْكتاب بِالْكتاب وَالْإِجْمَاع، فَفِي موَاضعهَا) تَأتي مفصلة (وَأما) تَخْصِيص الْعَام (بالتقرير) أَي تَقْرِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما يسْتَلْزم خُرُوج بعض الْعَام من حكمه (كعلمه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِفعل مُخَالف للعام وَلم يُنكره) أَي ذَلِك الْفِعْل مَعْطُوف على علمه بِتَأْوِيل وَعدم إِنْكَاره، وَيحْتَمل أَن يكون حَالا من الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول (بِكَوْن) أَيهمَا (الْفَاعِل مُخَصّصا) من ذَلِك الْعَام مُتَعَلق بِعَدَمِ الْإِنْكَار أَي عدم إِنْكَاره على ذَلِك الْفَاعِل بِسَبَب كَونه مُخَصّصا مِنْهُ (فَوَاجِب عِنْد الشَّافِعِيَّة) وَمن يشْتَرط مُقَارنَة الْمُخَصّص من الْحَنَفِيَّة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ فعل ذَلِك الْفَاعِل عقب ذكر الْعَام فِي مجْلِس ذكره أَولا (لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص (أسهل من النّسخ وَأكْثر، وبشرط كَون الْعلم) بِفعل ذَلِك الْفَاعِل (عقيب ذكر الْعَام فِي مَجْلِسه) أَي مجْلِس ذكره (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي مَجْلِسه بل بعده (فنسخ) لذَلِك الْعُمُوم (عِنْد شارطي الْمُقَارنَة) فِي الْمُخَصّص (من الْحَنَفِيَّة) ثمَّ على كَونه مُخَصّصا (فَإِن علل ذَلِك) أَي تَخْصِيص الْفَاعِل من الْعَام بِمَعْنى (تعدِي) ذَلِك التَّخْصِيص (إِلَى غير الْفَاعِل) إِذا تحقق ذَلِك الْمَعْنى فِي ذَلِك الْغَيْر،(1/325)
لَكِن بِشَرْط أَن لَا يستوعب ذَلِك الْمَعْنى جَمِيع أَفْرَاد الْعَام وَإِلَّا يكون نسخا، وَإِن لم يُعلل فالمختار عدم تعدِي حكمه إِلَى غَيره لتعذر دَلِيل التَّعْدِيَة. قَالَ السُّبْكِيّ وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا ثَبت حكمي على الْوَاحِد الحَدِيث لم يحْتَج إِلَى الْعلم بالجامع، بل يَكْفِي عدم الْعلم بالفارق، وَالْأَصْل بعد ثُبُوت هَذَا الحَدِيث أَن الْخلف فِي الشَّرْع شرع، فالمختار عندنَا التَّعْمِيم وَإِن لم يظْهر الْمَعْنى مَا لم يظْهر مَا يقتضى التَّخْصِيص انْتهى، وَفِيه نظر لِأَن عُمُوم الْعَام يمْنَع ثُبُوت حكم ذَلِك الْفَاعِل فِي غَيره فَتَأمل (وَيَأْتِي تَمَامه) فِي مسئلة قبل فصل التَّعَارُض بِثَلَاث مسَائِل (وَيتَصَوَّر كَون فعل الصَّحَابِيّ) الْمُخَالف للْعُمُوم (عِنْد الْحَنَفِيَّة مُخَصّصا إِذا عرف علمه) أَي الصَّحَابِيّ (بِالْعَام) (إِذْ قَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة، وَوَافَقَهُمْ الْحَنَابِلَة (بحجيته) أَي فعل الصَّحَابِيّ (حملا على علمه) أَي الصَّحَابِيّ (بالمقارن) أَي الْمُخَصّص الْمُقَارن للْعُمُوم (وَهُوَ) أَي حمل علمه فِي هَذِه الصُّورَة على الْعلم بالمخصص (أسهل من حملهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة تَركه أَي الصَّحَابِيّ (مرويه على علمه) مُتَعَلق بحملهم (بالناسخ) لِأَن التَّخْصِيص أخف من النّسخ، فَتعين حَيْثُ أمكن.
مسئلة
(الْأَكْثَر) على (أَن مُنْتَهى التَّخْصِيص) أَي الَّذِي يجب أَن يبْقى بعد التَّخْصِيص من أَفْرَاد الْعَام (جمع يزِيد على نصفه) أَي على نصف أَفْرَاد الْعَام سَوَاء كَانَ جمعا كالرجال أَو غَيره كمن وَمَا (وَلَا يَسْتَقِيم) اعْتِبَار النّصْف (إِلَّا فِي نَحْو عُلَمَاء الْبَلَد مِمَّا ينْحَصر) وينضبط عدده ليعلم النّصْف مِنْهُ، أورد عَلَيْهِ أَن امْتنَاع تعْيين النّصْف فِيمَا لم يعلم عدده مُسلم، لَكِن لَا حَاجَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يُمكن أَن يعلم أَن الْبَاقِي أَكثر من النّصْف إِذا علم قدر مَا خرج بالتخصيص كَمَا إِذا كَانَ أهل الْبَلَد غير مَحْصُورين وَأخرج مِنْهُم عدد قَلِيل يقطع بِكَوْنِهِ دون النّصْف، وَقد يُجَاب بِأَن المُرَاد مَا ينْحَصر أَو مَا يقوم مقَام الانحصار فِي إفادته كَون الْبَاقِي أَكثر من النّصْف (وَقيل) منتهاه (ثَلَاثَة، وَقيل اثْنَان، وَقيل وَاحِد) قَالَ الشَّارِح: وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن سَائِر الشَّافِعِيَّة (وَهُوَ مُخْتَار الْحَنَفِيَّة، وَمَا قيل) كَمَا ذكره صَاحب الْمنَار وَصدر الشَّرِيعَة (الْوَاحِد فِيمَا) أَي الْعَام الَّذِي (هُوَ جنس وَالثَّلَاثَة فِيمَا هُوَ جمع، فمرادهم) أَي الْحَنَفِيَّة بِالْجمعِ الْجمع (الْمُنكر صرح بِهِ) حَيْثُ قَالُوا كعبيد وَنسَاء (و) صرح (بِإِرَادَة نَحْو الرجل وَالْعَبِيد وَالنِّسَاء والطائفة بِالْجِنْسِ) وصرحوا أَيْضا بِأَن كلا من الرجل وَمَا بعده مُفْرد دلَالَة وَإِن كَانَ بَعْضهَا جمعا صِيغَة كالعبيد (وَهُوَ) أَي الْجِنْس (مُعظم) الْعَام (الاستغراقي، وَفِيه) أَي وَفِي الْعَام الاستغراقي (الْكَلَام) فَالْمَعْنى أَن مُنْتَهى تَخْصِيص صِيغ الْعُمُوم الاستغراقي الْوَاحِد (وَأما) الْجمع (الْمُنكر فَمن الْخَاص(1/326)
خُصُوص جنس على مَا أسلفناه) فِي أول التَّقْسِيم الثَّانِي من التَّقْسِيم الثَّالِث من هَذَا الْفَصْل (حَقِيقَة فِي كل مرتبَة) من مَرَاتِب الْجمع وَمَا دخله التَّخْصِيص لَا يكون حَقِيقَة فِي الْبَاقِي (ثَلَاثَة أَو أَكثر) عطف بَيَان لكل مرتبَة (لِأَنَّهَا) أَي كل مرتبَة من مراتبه (مَا صدقاته كَرجل فِي كل فَرد زيد أَو غَيره) أَي نِسْبَة الْجمع الْمُنكر إِلَى تِلْكَ الْمَرَاتِب كنسبة رجل إِلَى زيد وَعَمْرو وَغَيره (وَلَو سلم) كَونه عَاما كَمَا هُوَ قَول من لم يشْتَرط الِاسْتِغْرَاق فِي الْعُمُوم (فعمومه) أَي عُمُوم الْجمع الْمُنكر (لَا يقبل حكم) هَذِه (المسئلة إِذْ لَا يقبل التَّخْصِيص) وَهَذِه المسئلة فرع قبُول التَّخْصِيص (كعموم الْمَعْنى) من غير تَبَعِيَّة اللَّفْظ (وَالْمَفْهُوم) الْمُخَالف فَإِنَّهُمَا عمومان لَا يقبلان التَّخْصِيص (على مَا قيل) أَشَارَ إِلَى أَن التَّحْقِيق أَنَّهُمَا يقبلانه كالألفاظ على مَا بَين فِي مَحَله (وَكَونه) أَي الشَّأْن (قد يدْخل عَلَيْهِم) أَي يُورد على الْحَنَفِيَّة (أَن الِاسْتِغْرَاق) أَي الْجمع الْمُسْتَغْرق بِاللَّامِ (لَيْسَ مسلوبا) عَنهُ (معنى الجمعية) إِلَى الجنسية (بِاللَّامِ) مُتَعَلق بالسلب، وَهَذَا يُنَافِي مَا سبق آنِفا (بل الْمَعْهُود الذهْنِي) هُوَ الَّذِي يسلب عَنهُ معنى الجمعية يَعْنِي إِذا كَانَ جمعا محلى بِاللَّامِ: أَي الجنسية (شَيْء آخر) غَايَته أَنه لَا يتم مَا سبق فِي الْجمع الاستغراقي بِاللَّامِ على ذَلِك التَّقْدِير، هَذَا وَقَوله وَكَونه إِلَى هَذَا وجد فِي نُسْخَة الشَّارِح وَلَيْسَ فِي غَيره من النّسخ المصححة (وَاخْتَارَ بعض من يجوز التَّخْصِيص بالمتصل) وَهُوَ ابْن الْحَاجِب (أَنه) أَي مُنْتَهى التَّخْصِيص (بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْبدل وَاحِد، وبالصفة وَالشّرط اثْنَان، وبالمنفصل فِي المحصور الْقَلِيل إِلَى اثْنَيْنِ، كقتلت كل زنديق وهم ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة) وَقد قيل اثْنَيْنِ وَعلم ذَلِك بِكَلَام أَو حس (وَفِي غير المحصور، وَالْعدَد الْكثير الأول) أَي جمع يزِيد على نصفه فَإِنَّهُ يقرب من مَدْلُوله (وَعلمت أَن لَا ضَابِط لَهُ إِلَّا أَن يُرَاد) بِعَدَمِ الْحصْر (كَثْرَة كَثِيرَة عرفا قَالُوا) أَي الْأَكْثَر (لَو قَالَ قتلت كل من فِي الْمَدِينَة، وَقد قتل ثَلَاثَة عد لاغيا فَبَطل) مَذْهَب الثَّلَاثَة ثمَّ (مَذْهَب الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحد) بطرِيق أولى (وَالْجَوَاب أَنه) أَي عدَّة لاغيا (إِذا لم يذكر دَلِيل التَّخْصِيص مَعَه فَإِن ذكر) دَلِيل التَّخْصِيص مَعَ الْعَام (منعناه) أَي عدَّة لاغيا إِذا لم يذكر دَلِيل التَّخْصِيص مَعَه (إِلَّا أَن يُرَاد انحطاط رُتْبَة) الْكَلَام عَن دَرَجَة البلاغة (وَلَيْسَ فِيهِ الْكَلَام وَتعين الِاثْنَيْنِ فِي الْقَلِيل كقتلت كل زنديق) عِنْد قَتله (لاثْنَيْنِ وهم أَرْبَعَة حَتَّى امْتنع) كَون مُنْتَهى التَّخْصِيص (مَا دونهمَا) أَي الِاثْنَيْنِ فِيهِ (وَفِي الصّفة وَالشّرط بِلَا دَلِيل) وَكَيف لَا (وَمن الْبَين صِحَة أكْرم النَّاس الْعلمَاء أَو إِن كَانُوا عُلَمَاء، وَلَيْسَ فِي الْوُجُود إِلَّا عَالم لزم إكرامه وَهُوَ) أَي حمل الْكَلَام على ذَلِك الْوَاحِد المستلزم لإكرامه لُزُوما مَعَ عدم إِرَادَة مَا عداهُ (معنى التَّخْصِيص) بهما (ومعين الْجمع) أَي الثَّلَاثَة (والاثنين مَا قيل فِي الْجمع) من إزاء قلَّة ثَلَاثَة(1/327)
أَو اثْنَان (وَلَيْسَ بِشَيْء) لِأَن الْكَلَام فِي أقل مرتبَة يخص إِلَيْهَا الْعَام لَا فِي أقل مرتبَة يُطلق عَلَيْهِ الْجمع الْمُنكر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا تلازم) بَين هذَيْن الأقلين (وَلنَا) مَا هُوَ مُخْتَار الْحَنَفِيَّة (الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس، وَالْمرَاد نعيم) بن مَسْعُود بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين وَغَيرهم (فَإِن أُجِيب بِأَن النَّاس للمعهود فَلَا عُمُوم، فمدفوع بِأَن كَون النَّاس الْمَعْهُود لوَاحِد مثله) أَي مثل النَّاس الْعَام، فَإِذا جَازَ أَن يُرَاد بِالنَّاسِ الْمَعْهُود وَاحِد من مَعْنَاهُ وَالْكثير جَازَ فِي النَّاس غير الْمَعْهُود إِرَادَة وَاحِد من مَعْنَاهُ الْكثير، (وَأَيْضًا لَا مَانع لغَوِيّ) أَي من حَيْثُ اللُّغَة (من الْإِرَادَة) أَي إِرَادَة وَاحِد بِالْعَام (بِالْقَرِينَةِ وَإِنَّمَا يعد لاغيا) بِإِرَادَة وَاحِد بِهِ (إِذا لم ينصبها) أَي الْقَرِينَة (وَنحن اشترطنا الْمُقَارنَة) أَي مُقَارنَة الْقَرِينَة (فِي التَّخْصِيص) فَلَا مَحْذُور (وَأما الْخَاص فَعلمت) فِي أَوَائِل هَذَا التَّقْسِيم (أَنه يَنْتَظِم الْمُطلق وَمَا بعده) من الْعدَد، وَالْأَمر وَالنَّهْي.
(أما الْمُطلق فَمَا دلّ على بعض أَفْرَاد) . قَالَ الشَّارِح إِنَّمَا قَالَ بعض وَلم يقل فَرد ليشْمل الْوَاحِد وَالْأَكْثَر فَيدْخل فِي الْمُطلق الْجمع الْمُنكر، وَأَنت خَبِير بِأَن كلا من مَا صدقَات الْجمع الْمُنكر فَرد بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِن اشْتَمَل على أَفْرَاد لمفرده (شَائِع) صفة بعض احْتِرَاز عَن الْعَام وَعَن المعارف كلهَا إِلَّا الْمَعْهُود الذهْنِي (لَا قيد مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْبَعْض فَخرج نَحْو - {رَقَبَة مُؤمنَة} - فَإِنَّهُ مُقَيّد وَأَنه يصدق عَلَيْهِ أَنه دَال على بعض شَائِع (مُسْتقِلّا لفظا) فَلَا يخرج الْمَعْهُود الذهْنِي، فَإِن اللَّام فِيهِ قيد غير مُسْتَقل لفظا لعدم استقلالها فِي الدّلَالَة: وَهُوَ من الْمُطلق، وَقَوله مُسْتقِلّا حَال من الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى اسْم لَا المستكن فِي الظّرْف، ولفظا تَمْيِيز عَن نِسْبَة مُسْتقِلّا إِلَى ذِي الْحَال (فَوَضعه) أَي الْمُطلق (لَهُ) أَي للدال على بعض أَفْرَاد إِلَى آخِره، كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَالصَّوَاب لبَعض أَفْرَاده إِلَى آخِره كَمَا لَا يخفى، تمهيد لدفع من قَالَ أَنه مَوْضُوع للْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ (لِأَن الدّلَالَة) أَي فهم الْبَعْض الشَّائِع من اللَّفْظ بِغَيْر قرينَة (عِنْد الْإِطْلَاق دَلِيله) أَي الْوَضع، فَإِن التبادر أَمارَة الْحَقِيقَة (وَلِأَن الْأَحْكَام) الْمُتَعَلّقَة بالمطلق إِنَّمَا هِيَ (على الْأَفْرَاد والوضع للاستعمال) الْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات الْأَحْكَام للمستعمل فِيهِ، فالمستعمل فِيهِ يَنْبَغِي أَن يكون الْمُثبت لَهُ الحكم: وَهُوَ الْفَرد لَا الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ (فَكَانَت) الْأَحْكَام المثبتة للأفراد (دَلِيله) أَي دَلِيل وضع الْمُطلق للْبَعْض الشَّائِع لَا للماهية، نعم قد يسْتَعْمل اللَّفْظ فِي الْمَاهِيّة الْمُطلقَة كَمَا فِي القضايا الطبيعية، وَذَلِكَ قَلِيل، وارتكاب التَّجَوُّز فِي الْقَلِيل أَهْون، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والقضايا الطبيعية لَا نِسْبَة لَهَا بمقابلها) من غَايَة قلتهَا وَكَمَال كَثْرَة مقابلها، أَلا ترى أَنَّهَا لَا تسْتَعْمل فِي الْعُلُوم (فاعتبارها) أَي الطبيعية دون المتعارفة (دَلِيل الْوَضع) مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى الْجعل (عكس الْمَعْقُول) الَّذِي هُوَ اعْتِبَار المتعارفة دون الطبيعية (و) عكس (الْأُصُول) من رِعَايَة جَانب(1/328)
الْأَحْكَام والاستعمالات وَغير ذَلِك (فالماهية فِيهَا) أَي فإرادة الْمَاهِيّة فِي القضايا الطبيعية (إِرَادَة) من الْمُتَكَلّم بِإِقَامَة قرينَة (لَا دلَالَة) من اللَّفْظ بِمُوجب الْوَضع (قرينتها) أَي قرينَة تِلْكَ الْإِرَادَة (خُصُوص الْمسند) من حَيْثُ أَنه وصف ثَابت للطبيعة لَا للفرد كَقَوْلِك: الْإِنْسَان نوع (وَنَحْوه) مِمَّا يدل على أَن المُرَاد نفس الطبيعة لَا الْفَرد (فَلَا دَلِيل على وضع اللَّفْظ للماهية من حَيْثُ هِيَ إِلَّا علم الْجِنْس إِن قُلْنَا بِالْفرقِ بَينه وبن اسْم الْجِنْس النكرَة، وَهُوَ) أَي الْفرق بَينهمَا (الْأَوْجه إِذْ اخْتِلَاف أَحْكَام اللَّفْظَيْنِ) اسْم الْجِنْس وَعلم الْجِنْس: كأسد وَأُسَامَة (يُؤذن بفرق فِي الْمَعْنى) بَينهمَا، فَإِن أُسَامَة يمْتَنع من دُخُول لَام التَّعْرِيف وَالْإِضَافَة وَالصرْف ويوصف بالمعرفة إِلَى غير ذَلِك بِخِلَاف أَسد، فَكَذَا قَالُوا علم الْجِنْس مَوْضُوع للْحَقِيقَة المتحدة فِي الذِّهْن الْمشَار إِلَيْهَا من حَيْثُ معلوميتها للمخاطب، وَاسم الْجِنْس للفرد الشَّائِع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن مَالك، وَهُوَ غير الْأَوْجه (فَلَا) وضع للْحَقِيقَة أصلا (فقد سَاوَى) الْمُطلق (النكرَة مَا لم يدخلهَا عُمُوم، والمعرف لفظا فَقَط) كَمَا فِي (اشْتَرِ اللَّحْم) لِأَن كلا من هَذِه الْمَذْكُورَات يدل على شَائِع فِي جنسه وَلَا قيد مَعَه مُسْتقِلّا، لفظا وَلذَا جَازَ توصيف الْمُعَرّف لفظا بالنكرة وتوصيفه بالمعرفة بِاعْتِبَار لَفظه، وَكَذَا جَازَ كَون الْجُمْلَة الخبرية حَالا مِنْهُ نظرا إِلَى اللَّفْظ، وَصفَة لَهُ نظرا إِلَى الْمَعْنى، وَالْمرَاد بمساواته لَهما أَن كل مَا صدق عَلَيْهِ أَحدهمَا يصدق عَلَيْهِ الآخر (فَبين الْمُطلق والنكرة عُمُوم من وَجه) لصدقهما فِي نَحْو: تَحْرِير رَقَبَة، وانفراد النكرَة عَنهُ إِذا كَانَت عَامَّة كَمَا إِذا وَقعت فِي سِيَاق النَّفْي، وانفراد الْمُطلق عَنْهَا فِي نَحْو: اشْتَرِ اللَّحْم (وَدخل الْجمع الْمُنكر) فِي الْمُطلق لصدق تَعْرِيفه عَلَيْهِ (وَمن خَالف الدَّلِيل) الدَّال على كَون اسْم الْجِنْس للفرد الشَّائِع: كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ، والبيضاوي، والسبكي (فَجعل النكرَة للماهية) فَلَزِمَ الْفرق بَينهَا وَبَين علم الْجِنْس (أَخذ فِي) مُسَمّى (علم الْجِنْس حُضُورهَا الذهْنِي فَكَانَ جُزْء مُسَمَّاهُ) أَي علم الْجِنْس (وَمُقْتَضَاهُ) أَي هَذَا الْأَخْذ (أَن الحكم على أُسَامَة يَقع على مَا صدق عَلَيْهِ) أُسَامَة (من أَسد) بَيَان للموصول، وَالْمرَاد بِهِ الْمَاهِيّة بِنَاء على مذْهبه (وَحُضُور ذهني) أَن جعل الْحُضُور جُزْءا من الْمَوْضُوع لَهُ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر من كَلَامهم، وَلذَا قَالَ فَكَانَ جُزْء أمسماه أولى (أَو) على مَا صدق عَلَيْهِ من أَسد (مُقَيّدا بِهِ) أَي بالحضور الذهْنِي أَن جعل قيدا خَارِجا عَن الْمَوْضُوع لَهُ، فَكَانَ التَّقْيِيد دَاخِلا فِيهِ (وَهُوَ) أَي كَون الحكم على أحد الْوَجْهَيْنِ (مُنْتَفٍ) فَإِن الْمُثبت لَهُ الحكم فِي نفس الْأَمر: إِنَّمَا هُوَ ذَات الْأسد لَا مَعَ وصف الْحُضُور، وَاعْتِبَار الْعقل على طبق مَا فِي نفس الْأَمر، والوجدان يُؤَيّدهُ (وَلَو سلم)(1/329)
عدم الانتفاء (فقد اسْتَقل مَا تقدم) من تبادر الْبَعْض الشَّائِع من الْإِطْلَاق (بنفيه) أَي بِنَفْي وضع الْمُطلق للماهية من حَيْثُ هِيَ (فَالْحق الأول) وَهُوَ أَن لَا وضع للْحَقِيقَة إِلَّا علم الْجِنْس إِن قُلْنَا إِلَى آخِره (وَكَذَا) خَالف الدَّلِيل (من جعلهَا) أَي النكرَة (قسيم الْمُطلق فَهِيَ) أَي النكرَة (للفرد) الشَّائِع (وَهُوَ) أَي الْمُطلق (للماهية) من حَيْثُ هِيَ كَمَا ذكر فِي التَّحْقِيق عَن بَعضهم فَإِنَّهُ (مَعَ كَونه) أَي وضع الْمُطلق لَهَا (بِلَا مُوجب يَنْفِيه اتِّفَاقهم على أَن رَقَبَة) فِي تَحْرِير رَقَبَة (من مثله) أَي الْمُطلق (وَلَا ريب) فِي (أَنه) أَي لفظ رَقَبَة (نكرَة والمقيد مَا) أَي لفظ دلّ على بعض شَائِع (مَعَه) أَي مَعَ قيد ملفوظ مُسْتَقل كرقبة مُؤمنَة، والرقبة المؤمنة (فالمعارف بِلَا قيد) مَعهَا مُسْتَقل لفظا (ثَالِث) أَي لَا مُطلق وَلَا مُقَيّد (وَقد يتْرك) فيهمَا الْقَيْد فِي تعريفهما، فَيُقَال مَا دلّ على بعض شَائِع، مَا دلّ لَا على شَائِع (فَتدخل) فِيهِ المعارف بِلَا قيد (فِي الْمُقَيد، وَلَيْسَ) دُخُولهَا فِيهِ (بِمَشْهُور) : كَذَا ذكره التَّفْتَازَانِيّ.
مسئلة
(إِذا اخْتلف حكم مُطلق ومقيده) كأطعم فَقِيرا، واكس فَقِيرا عَارِيا (لم يحمل) الْمُطلق على الْمُقَيد (إِلَّا ضَرُورَة) كَأَن يمْتَنع الْعَمَل بالمطلق مَعَ الْعَمَل بالمقيد بِدُونِ الْحمل الْمَذْكُور (كأعتق رَقَبَة، وَلَا تملك إِلَّا رَقَبَة مُؤمنَة) فَإِن النَّهْي عَن تملك مَا عدا المؤمنة مَعَ الْأَمر بِعِتْق الرَّقَبَة يُوجب تَقْيِيد الْمُعتقَة بالمؤمنة ضرور أَن الْعتْق فرع التَّمَلُّك وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّارِح بِأَن النَّهْي عَن التَّمَلُّك لَا يَقْتَضِي امْتنَاع تحقق عتق غير المؤمنة لجَوَاز تحقق ملكهَا قبل النَّهْي، وَإِنَّمَا يمْنَع حُدُوث ملك الْكَافِرَة بعد النَّهْي، ولجواز أَن يتَمَلَّك بِالْإِرْثِ فَإِن الْمنْهِي عَنهُ الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ وَلَا اخْتِيَار فِي الْإِرْث انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ يُمكن أَن يفْرض الْخطاب فِي حق شخص لم يملك رَقَبَة أصلا أَو غير المؤمنة والآمر عَالم بِهِ، فَأمره بِعِتْق الرَّقَبَة وَنَهْيه عَن تملك الْكَافِرَة دَلِيل على أَنه يطْلب مِنْهُ إِعْتَاق المؤمنة، ويفرض أَيْضا أَنه يُرِيد الِامْتِثَال مِنْهُ على الْفَوْر، وَلَيْسَ هُنَاكَ احْتِمَال حُدُوث الْملك بِالْإِرْثِ فَلَا إِشْكَال فِي التَّمْثِيل (أَو اتحدا) حكم الْمُطلق وَحكم مقيده حَال كَونهمَا (منفيين) كلاتعتق رَقَبَة كَافِرَة (فَمن بَاب آخر) أَي من بَاب إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكم الْعَام، وَتقدم أَنه لَيْسَ بتخصيص للعام على الْمُخْتَار، لَا من بَاب وَالْمُطلق على الْمُقَيد (أَو) حَال كَونهمَا (مثبتين متحدي السَّبَب وردا مَعًا حمل الْمُطلق عَلَيْهِ) أَي الْمُقَيد حَال كَون الْمُقَيد (بَيَانا) للمطلق (ضَرُورَة(1/330)
أَن السَّبَب الْوَاحِد لَا يُوجب المتنافيين فِي وَقت وَاحِد) فَإِنَّهُ لَو حمل الْمُطلق على إِطْلَاقه كَانَ لَازمه الْخُرُوج عَن الْعهْدَة بِدُونِ الْقَيْد وَمُقْتَضى الْمُقَيد أَن الْقَيْد مَطْلُوب أَيْضا فَيلْزم اقْتِضَاء السَّبَب الْوَاحِد مطلوبية الْقَيْد، وَعدم مطلوبيته فِي وَقت وَاحِد (كَصَوْم) كَفَّارَة (الْيَمين على التَّقْدِير) أَي تَقْدِير وُرُود الْمُطلق، وَهُوَ قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود: فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات فِيهَا مَعًا، وَمن ثمَّ قَالَ أَصْحَابنَا بِوُجُوب التَّتَابُع فِيهِ (أَو جهل) ورودهما مَعًا (فَالْأَوْجه عِنْدِي كَذَلِك) أَي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد (حملا) لَهما (على الْمَعِيَّة تَقْدِيمًا للْبَيَان على النّسخ عِنْد التَّرَدُّد) بَينهمَا، إِذْ لم يحمل على الْمَعِيَّة: إِمَّا لكَون الْمُطلق مقدما فَينْسَخ الْمُقَيد إِطْلَاقه، أَو بِالْعَكْسِ: فَينْسَخ الْمُطلق تَقْيِيد الْمُقَيد، وَإِنَّمَا يحمل على الْمَعِيَّة (للأغلبية) إِذْ الْبَيَان أَكثر وقوعا من النّسخ فَهُوَ أغلب (مَعَ أَن قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي التَّعَارُض) من أَن الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين إِذا لم يعلم تاريخهما يجمع بَينهمَا (يؤنسه) أَي يُؤَيّد مَا عِنْدِي ويجعله مأنوسا (وَإِلَّا أَي وَإِن لم يجهل، بل علم تَأَخّر أَحدهمَا عَن الآخر فَإِن كَانَ الْمُطلق فَسَيَأْتِي
وَإِن كَانَ الْمُقَيد (فالمقيد الْمُتَأَخر نَاسخ عِنْد الْحَنَفِيَّة: أَي أُرِيد الْإِطْلَاق) أَي أَرَادَهُ أَولا وَجعله مَشْرُوعا (ثمَّ رفع) أَي الْإِطْلَاق (بالقيد، فَلِذَا) أَي فلكون الْمُقَيد الْمُتَأَخر نَاسِخا عِنْدهم (لم يُقيد خبر الْوَاحِد عِنْدهم الْمُتَوَاتر، وَهُوَ) أَي تَقْيِيد الْخَبَر الْوَاحِد الْمُتَوَاتر هُوَ (الْمُسَمّى بِالزِّيَادَةِ على النَّص) عِنْدهم: لِأَنَّهُ ظَنِّي، والمتواتر قَطْعِيّ، وَلَا يجوز نسخ الْقطعِي بالظني (وَهُوَ) أَي كَون الْمُقَيد الْمُتَأَخر نَاسِخا لَهُ (الْأَوْجه، وَالشَّافِعِيَّة) قَالُوا: وُرُود الْمُقَيد بعد الْمُطلق (تَخْصِيص) للمطلق (أَي بَين الْمُقَيد أَنه) هُوَ (المُرَاد بالمطلق، وَهُوَ) أَي الْبَيَان الْمَذْكُور (معنى حمل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة (أَنه) حمل الْمُطلق على الْمُقَيد (جمع بَين الدَّلِيلَيْنِ) الْمُطلق والمقيد (مغالطة قَوْلهم) أَي الشَّافِعِيَّة فِي بَيَان وَجه الْجمع (لِأَن الْعَمَل بالمقيد عمل بِهِ) أَي بالمطلق من غير عكس (قُلْنَا) لَا نسلم أَنه عمل بالمطلق مُطلقًا (بل بالمطلق الْكَائِن فِي ضمن الْمُقَيد من حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) أَي فِي ضمن الْمُقَيد (وَهُوَ) أَي الْمُطلق من حَيْثُ هُوَ فِي ضمن الْمُقَيد (الْمُقَيد فَقَط، وَلَيْسَ الْعَمَل بالمطلق كَذَلِك) أَي الْعَمَل بِهِ فِي ضمن الْمُقَيد فَقَط (بل) الْعَمَل بِهِ (أَن يُجزئ كل مَا صدق عَلَيْهِ) الْمُطلق (من المقيدات) بَيَان لما، يَعْنِي أَن يحمل على إِطْلَاقه بِحَيْثُ أمكن للمكلف أَن يَأْتِي بِمَا شَاءَ من أَفْرَاده سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمُقَيد الْمَنْصُوص أَو غَيره، فَيكون كل فَرد من أَفْرَاد الْمُطلق مجزئا عَمَّا هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ فَيُجزئ تَحْرِير كل من المؤمنة والكافرة عَن الْكَفَّارَة (ومنشأ المغلطة أَن الْمُطلق باصطلاح) وَهُوَ اصْطِلَاح المنطقيين (الْمَاهِيّة لَا بِشَرْط شَيْء) يَعْنِي نفس الطبيعة من(1/331)
غير أَن يعْتَبر مَعهَا غَيرهَا سَوَاء كَانَ ذَلِك الْغَيْر وجود أَمر خَارج عَنْهَا أَو عَدمه وَلَا شكّ أَن مَاهِيَّة الْمُطلق بِهَذَا الْمَعْنى متحققة فِي الْمُقَيد، فَالْعَمَل بالمقيد عمل بِهِ فِي الْجُمْلَة (لَكِن) لَيْسَ المُرَاد بِالْعَمَلِ (هُنَا) الْعَمَل بِهِ بِهَذَا الْمَعْنى، بل المُرَاد هُنَا الْعَمَل بِهِ (بِشَرْط الْإِطْلَاق) يَعْنِي بِهِ تَعْمِيم جَوَاز الْعَمَل بِهِ على وَجه يعم جَمِيع أَفْرَاده، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَنَازع فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّة أَيْضا (وَلِأَن فِيهِ) أَي فِي حمله على الْمُقَيد (احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ قد يكون) أَي يحْتَمل أَن يكون الْمُكَلف (مُكَلّفا بالمقيد) فِي لأمر بالمطلق، بِأَن يكون هُوَ المُرَاد مِنْهُ (وَاعْتِبَار الْمُطلق) أَي اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه (لَا يتَيَقَّن مَعَه) أَي مَعَ احْتِمَال التَّكْلِيف بِهِ (بِفِعْلِهِ) أَي بِالْعَمَلِ بالمطلق فِي ضمن غير: يَعْنِي أَن الْمُكَلف إِذا أَتَى بالمطلق فِي ضمن غير الْمُقَيد لَا يجْزم بِأَن الشَّارِع يعتبره بِنَاء على وجود ذَلِك الِاحْتِمَال (قُلْنَا قضينا عهدته) أَي عُهْدَة الِاحْتِيَاط وعهدة التَّكْلِيف بالمقيد (بِإِيجَاب الْمُقَيد، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَنه) أَي إِيجَاب الْمُقَيد هَل هُوَ (حمل) هُوَ (بَيَان) أَي مُوجب هَذَا الْإِيجَاب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِجعْل الْمُقَيد بَيَانا للمطلق كَمَا فِي قَوْلهم (أَو نسخ) كَمَا هُوَ قَول أَصْحَابنَا (فالمقيد) للشَّافِعِيَّة (فِي مَحل النزاع إِثْبَات أَنه بَيَان، وَلَهُم) أَي الشَّافِعِيَّة (فِيهِ) أَي فِي إِثْبَات (أَنه) بَيَان أَنه: أَي الْبَيَان (أسهل من النّسخ) لِأَن الدّفع أسهل من الرّفْع (فَوَجَبَ الْحمل عَلَيْهِ) أَي الْبَيَان أسهل من النّسخ (قُلْنَا) اعْتِبَار الأسهل (إِذْ لَا مَانع) من الْحمل عَلَيْهِ (وَحَيْثُ كَانَ الْإِطْلَاق مِمَّا يُرَاد) شرعا (قطعا وَثَبت) الْإِطْلَاق (غير مقرون بِمَا يَنْفِيه وَجب اعْتِبَاره) أَي الْإِطْلَاق (كَذَلِك) أَي على صرافته (على نَحْو مَا قدمْنَاهُ فِي تَخْصِيص الْمُتَأَخر، وَمَا قيل) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب من أَنه (لَو لم يكن الْمُقَيد الْمُتَأَخر بَيَانا لَكَانَ كل تَخْصِيص نسخا) للعام بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا مخرج لبعضه من الحكم (مَمْنُوع الْمُلَازمَة، بل اللَّازِم كَون كل) لفظ مُسْتَقل مخرج لبَعض مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام (مُتَأَخّر) عَن الْعَام (نَاسِخا) لمحكمه فِي ذَلِك الْبَعْض (لَا تَخْصِيصًا، وَبِه نقُول، على أَن فِي عِبَارَته) أَي الْقَائِل الْمَذْكُور (مناقشة) تظهر (بِقَلِيل تَأمل) إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد نسخا وتخصيصا مَعًا: غير أَن الْمَقْصُود ظَاهر: يَعْنِي كل مَا هُوَ تَخْصِيص فِي نفس الْأَمر يلْزم أَن يكون نسخا على ذَلِك التَّقْدِير لَا تَخْصِيصًا (ثمَّ أُجِيب) عَن هَذَا (فِي أصولهم) أَي الشَّافِعِيَّة كَمَا فِي شرح العضدي (بِأَن فِي التَّقْيِيد حكما شَرْعِيًّا لم يكن ثَابتا قبل) : أَي قبل التَّقْيِيد كوجوب الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة: أَي لَا بُد فِي النّسخ من كَون الْمُتَأَخر حكما شَرْعِيًّا، وَهَذَا يتَحَقَّق فِي التَّقْيِيد دون التَّخْصِيص، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِخِلَاف التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ دفع لبَعض حكم الأول) فَقَط لَا إِثْبَات لحكم آخر (وينبو) أَي يبعد هَذَا الْجَواب (عَن الْفَرِيقَيْنِ) الشَّافِعِيَّة، وَالْحَنَفِيَّة لاستلزامه عدم ثُبُوت الحكم(1/332)
الشَّرْعِيّ فِي شَيْء من التقيدات قبل وُرُود الْمُقَيد، وَلم يقل بِهِ أحد مِنْهُمَا، أما الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُم يجْعَلُونَ التَّقْيِيد بَيَانا فِي جَمِيع صور النزاع والاتفاق وَيلْزمهُ ثُبُوت الحكم قبل وَإِن كَانَ ظُهُوره بعد، وَأما الْحَنَفِيَّة فقد وافقوا الْخصم فِي صُورَة الِاتِّفَاق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِن الْمُطلق مُرَاد بِحكم الْمُقَيد إِذا وَجب الْحمل) للمطلق على الْمُقَيد (اتِّفَاقًا) لِأَن الْبَيَان يقْصد بِهِ حكم الْمُبين، وَقد يُقَال مُرَاد الْمُجيب بالتقييد مَحل النزاع، فَمحل الْوِفَاق خَارج المبحث فَلَا ينبو عَن الْحَنَفِيَّة، وَالْجَوَاب رد على الشَّافِعِيَّة فَلَا يضر النبو عَنْهُم فَتَأمل (وإلزامهم) أَي الشَّافِعِيَّة للحنفية (كَون الْمُطلق الْمُتَأَخر نسخا) للمقيد على تَقْدِير كَون الْمُتَأَخر نَاسِخا للمطلق، لِأَن التَّقْيِيد اللَّاحِق كَمَا يُنَافِي الْإِطْلَاق السَّابِق وَيَرْفَعهُ كَذَلِك الْعَكْس، وَأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ (لَا أعلم فِيهِ تَصْرِيحًا من الْحَنَفِيَّة، وَعرف) من قواعدهم (ايجابهم وصل بَيَان المُرَاد بالمطلق) صلَة المُرَاد، وصلَة الْوَصْل محذوفة، وَيصِح الْعَكْس، وَهَذَا إِذا لم يكن الْإِطْلَاق مرَادا (كَقَوْلِهِم فِي تَخْصِيص الْعَام) يجب وصل الْمُخَصّص بِهِ إِذا لم يرد الْعُمُوم بِهِ (بذلك الْوَجْه) الْمُتَقَدّم بَيَانه فَليرْجع إِلَيْهِ (وَيَجِيء فِيهِ) أَي فِي تَأْخِير الْمُقَيد (مَا قدمْنَاهُ من وجوب إرادتهم مثل قَول أبي الْحُسَيْن من) وصل الْبَيَان (الإجمالي كَهَذا الْإِطْلَاق مُقَيّد وَيصير) الْمُطلق حِينَئِذٍ (مُجملا أَو التفصيلي، وَلنَا أَن نلتزمه) عِنْدهم أَي كَون الْمُطلق الْمُتَأَخر نَاسِخا الْمُقَيد (على قِيَاس نسخ الْعَام الْمُتَأَخر الْخَاص الْمُتَقَدّم) على الْمُقَيد (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (وَمعنى النّسخ فِيهِ) أَي فِي نسخ الْمُطلق الْمُتَأَخر الْمُقَيد (نسخ الْقصر على الْمُقَيد، أَو مختلفي السَّبَب كإطلاق الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار) حَيْثُ قَالَ تَعَالَى - {فَتَحْرِير رَقَبَة} - (وتقييدها فِي) كَفَّارَة (الْقَتْل) حَيْثُ قَالَ تَعَالَى - {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} - (فَعَن الشَّافِعِي يحمل) الْمُطلق على الْمُقَيد فَيجب كَونهَا مُؤمنَة فِي الظِّهَار كَمَا فِي الْقَتْل (فَأكْثر أَصْحَابه) أَي الشَّافِعِي يَقُولُونَ (يَعْنِي) الشَّافِعِي حمل مَا ورد فِيهِ الْمُطلق بِمَا ورد فِيهِ الْمُقَيد قِيَاسا (بِجَامِع) بَينهمَا وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدهم وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَهُوَ فِي هَذَا حُرْمَة سببهما: وَهُوَ الظِّهَار وَالْقَتْل (وَالْحَنَفِيَّة يمنعونه) أَي وجود جَامع يصلح مبْنى لقياس صَحِيح (لانْتِفَاء شَرط الْقيَاس عدم مُعَارضَة مُقْتَضى نَص) عطف بَيَان لشرط الْقيَاس، وَذَلِكَ لِأَن الْمُطلق نَص يدل على إِجْزَاء الْمُقَيد وَغَيره، وَالْقِيَاس يَقْتَضِي عدم إِجْزَاء الْغَيْر (وَبَعْضهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة نقل عَن الشَّافِعِي أَنه يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد (مُطلقًا) من غير اشْتِرَاط جَامع بَينهمَا (لوحدة كَلَام الله تَعَالَى فَلَا يخْتَلف) بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيد (بل يُفَسر بعضه بَعْضًا، وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (أَضْعَف) من الأول (إِذا نَظرنَا) لاستنباط الْأَحْكَام وَفهم المُرَاد (فِي مقتضيات الْعبارَات) من حَيْثُ الْعَرَبيَّة: وَهِي لَا تخْتَلف بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيد قطعا لَا فِي وحدة الْكَلَام الأزلي الْقَائِم، فَإِن تِلْكَ الْوحدَة بِحَسب ذَات الصّفة: وَهُوَ لَا تنَافِي الِاخْتِلَاف بِحَسب(1/333)
التعلقات كَمَا عرف فِي مَحَله، كَيفَ وَإِلَّا يرْتَفع اخْتِلَاف الْأَحْكَام مُطلقًا (وَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيد فِي سَبَب الحكم الْوَاحِد كأدوا عَن كل حر وَعبد) عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة قَالَ: خطب رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النَّاس قبل الْفطر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ فَقَالَ: أَدّوا صَاعا من بر أَو قَمح بَين اثْنَيْنِ أَو صَاعا من تمر، أَو شعير عَن كل حر وَعبد صَغِير أَو كَبِير، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيد لسَبَب وجوب صَدَقَة الْفطر: وَهُوَ الْمخْرج عَنهُ بِقَيْد الْإِسْلَام (مَعَ رِوَايَة من الْمُسلمين) على مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر بِلَفْظ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر فِي رَمَضَان على النَّاس صَاعا من تمر، أَو صَاعا من شعير عَن كل حر وَعبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين (فَلَا حمل) للمطلق على الْمُقَيد فِي هَذَا عِنْد الْحَنَفِيَّة (خلافًا للشَّافِعِيّ) رَحمَه الله (لما تقدم) من أَن الْحمل عِنْد الْحَنَفِيَّة لأحد أَمريْن: إِمَّا الضَّرُورَة أَو اتِّحَاد السَّبَب مَعَ اتِّحَاد الحكم، وَعند الشَّافِعِيَّة بالجامع أَو وحدة الْكَلَام وَتَفْسِير بعضه الْبَعْض (وَالِاحْتِيَاط الْمُتَقَدّم لَهُم) أَي الشَّافِعِيَّة فِي الْعَمَل بالمقيد (يَنْقَلِب عَلَيْهِم) فِي حملهمْ الْمُطلق فِي هَذَا على الْمُقَيد (إِذْ هُوَ) أَي الِاحْتِيَاط (فِي جعل كل) من الْمُطلق والمقيد من السَّبَب لِأَنَّهُ أَن جعل الْمُقَيد (سَببا) دون الْمُطلق على إِطْلَاقه يفوت الْعَمَل بِحكم الله على احْتِمَال اعْتِبَار الشَّارِع سَببه الْمُطلق لوُجُوب الصَّدَقَة فِي غير صُورَة الْمُقَيد أَيْضا، وَقد يكون لشَيْء وَاحِد أَسبَاب مُتعَدِّدَة، ثمَّ بَقِي شَيْء للشَّافِعِيَّة: وَهُوَ مَا إِذا أطلق الحكم فِي مَوضِع وَقيد فِي موضِعين بقيدين متضادين، قَالُوا من قَالَ بِالْحملِ مُطلقًا قَالَ بِبَقَاء الْمُطلق على إِطْلَاقه، إِذْ لَيْسَ التَّقْيِيد بِأَحَدِهِمَا بِأولى من الآخر، وَمن قَالَ بِالْحملِ قِيَاسا على مَا كَانَ الْحمل عَلَيْهِ أولى، فَإِن لم يكن قِيَاس رَجَعَ إِلَى الأَصْل الْإِطْلَاق.
مَبْحَث الْأَمر
(وَأما الْأَمر فلفظه) أَي أَمر (حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص) أَي صِيغَة افْعَل ونظائرها (اتِّفَاقًا) ثمَّ قيل (مجَاز فِي الْفِعْل) أَي الْفِعْل الَّذِي يعزم عَلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى - وشاورهم فِي الْأَمر - (وَقيل مُشْتَرك لَفْظِي فيهمَا) أَي مَوْضُوع لكل وَاحِد من القَوْل الْمَخْصُوص، وَالْفِعْل بِوَضْع على حِدة (وَقيل) مُشْتَرك (معنوي) بَينهمَا (وَقيل) مَوْضُوع (للْفِعْل الْأَعَمّ من اللساني) وَغَيره (ورد) هَذَا (بِلُزُوم كَون الْخَبَر وَالنَّهْي أمرا) حِينَئِذٍ، لِأَن كلا مِنْهُمَا فعل اللِّسَان (وَقيل) مَوْضُوع (لأَحَدهمَا الدائر) بَين القَوْل الْخَاص وَالْفِعْل (وَدفع بِلُزُوم كَون اللَّفْظ الْخَاص لَيْسَ أمرا لِأَنَّهُ) أَي اللَّفْظ الْخَاص (لَيْسَ إِيَّاه) أَي الْأَحَد الدائر، بل هُوَ وَاحِد معِين (وَإِنَّمَا يتم) هَذَا الدّفع(1/334)
بِنَاء (على أَن الْأَعَمّ مجَاز فِي فَرده مَا لم يؤول) فِي الْأَعَمّ بِأَن يُقَال لَيْسَ الْمُسْتَعْمل فِيهِ اللَّفْظ لَا الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ والخصوصية تفهم من الْقَرِينَة، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التَّكَلُّف (وَيدْفَع) كَون الْأَعَمّ مجَازًا إِلَّا بالتأويل (بِأَنَّهُ تَكْلِيف لَازم للوضع) أَي لوضع اسْم الْجِنْس (للماهية) من حَيْثُ هِيَ (فيؤيد) لُزُوم هَذَا التَّكْلِيف (نَفْيه) أَي نفي الْوَضع للماهية (وَقد نفيناه) أَي الْوَضع لَهَا قَرِيبا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك (فَمَعْنَى) وضع لفظ الْأَمر (لأَحَدهمَا) وَضعه (لفرد مِنْهُمَا على الْبَدَل) وَهُوَ معنى الْوَضع الْمُفْرد الشَّائِع (وَدفع) كَون الْأَعَمّ مجَازًا فِي فَرده أَيْضا (على تَقْدِيره) أَي تَقْدِير الْوَضع للماهية (بِأَنَّهُ) أَي كَون الْأَعَمّ مجَازًا فِي أَفْرَاده (غلط) نَاشِئ (من ظن كَون الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ) اللَّفْظ فِي تَعْرِيف الْحَقِيقَة اسْتِعْمَاله (فِي الْمُسَمّى دون أَفْرَاده وَلَا يخفى ندرته) أَي ندرة هَذَا الِاسْتِعْمَال، وَيلْزم مِنْهُ ندرة الْحَقَائِق، وَكَون كل الْأَلْفَاظ مجازات بِدُونِ التَّأْوِيل إِلَّا النَّادِر (لنا) على الْمُخْتَار: وَهُوَ لفظ الْأَمر حَقِيقَة فِي القَوْل الْمَخْصُوص مجَاز فِي الْفِعْل أَنه (يسْبق القَوْل الْمَخْصُوص) إِلَى الْفَهم عِنْد إِطْلَاق لفظ الْأَمر على أَنه مُرَاد دون الْفِعْل (فَلَو كَانَ كَذَلِك) أَي لفظ الْأَمر مُشْتَركا لفظيا أَو معنويا بَينهمَا (لم يسْبق معِين) مِنْهُمَا إِلَى الْفَهم الْمُتَبَادر، بل يتَبَادَر كل مِنْهُمَا على طَرِيق الِاحْتِمَال (وَاسْتدلَّ) أَيْضا على الْمُخْتَار (لَو كَانَ) لفظ الْأَمر (حَقِيقَة فيهمَا لزم الِاشْتِرَاك) أَيْضا (فيخل بالفهم) للتردد بَينهمَا (فعورض بِأَن الْمجَاز) أَيْضا (مخل) بالفهم لتجويز الْمُخَاطب كَونه مرَادا بِاللَّفْظِ (وَلَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الحكم بِهِ) أَي بالمجاز (بِالْقَرِينَةِ) الظَّاهِرَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تظهر (فبالحقيقة) أَي فَيحكم الْعقل بِالْحَقِيقَةِ فَإِنَّهَا المُرَاد (فَلَا إخلال وَالْأَوْجه أَنه) أَي الِاسْتِدْلَال (لَا يبطل التواطؤ) أَي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ، لِأَنَّهُ غير مخل بالفهم كَسَائِر أَسمَاء الْأَجْنَاس الْمُشْتَركَة بَين الْأَفْرَاد (فَلَا يلْزم الْمَطْلُوب) وَهُوَ أَن لفظ الْأَمر مجَاز فِي الْفِعْل (فَإِن نظمه) أَي الْمُسْتَدلّ التواطؤ (فِي الِاشْتِرَاك) بِإِرَادَة الْأَعَمّ من اللَّفْظِيّ والمعنوي (قدم) أَي النّظم الْمَذْكُور (الْمجَاز على التواطؤ، وَهُوَ) أَي تَقْدِيم الْمجَاز عَلَيْهِ (مُنْتَفٍ) لمُخَالفَته الأَصْل بِلَا مُوجب، بِخِلَاف تَقْدِيم التواطؤ عَلَيْهِ (قد صرح بِهِ) أَي بالانتفاء الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ) دَلِيله أَن لفظ الْأَمر (يُطلق لَهما) أَي القَوْل وَالْفِعْل (وَالْأَصْل) فِي الْإِطْلَاق (الْحَقِيقَة قُلْنَا أَيْن لُزُوم) الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ) من هَذَا الدَّلِيل: أَي لَا يسْتَلْزم أَصَالَة الْحَقِيقَة خُصُوص الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ لتحققهما فِي الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ) أَي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ، دَلِيله أَنه (يُطلق لَهما) وَالْإِطْلَاق إِمَّا على الْحَقِيقَة، وَهِي إِمَّا بالاشتراك اللَّفْظِيّ أَو الْمَعْنَوِيّ، وَإِمَّا على الْمجَاز (وَهُوَ) أَي الْمَعْنَوِيّ (خير من اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز أُجِيب لَو صَحَّ) هَذَا على إِطْلَاقه (ارتفعا) أَي(1/335)
الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز (لجَرَيَان مثله) أَي مثل هَذَا الِاسْتِدْلَال (فِي كل مَعْنيين للفظ) وَاللَّازِم مُنْتَفٍ (والحل أَن ذَلِك) أَي كَون الْمَعْنَوِيّ خيرا (عِنْد التَّرَدُّد) بَينه وَبَينهمَا (لَا مَعَ دَلِيل أَحدهمَا كَمَا ذكرنَا) من تبادر القَوْل الْمَخْصُوص (وَاسْتدلَّ) على الْمُخْتَار أَيْضا (لَو كَانَ) لفظ الْأَمر (حَقِيقَة فِي الْفِعْل اشتق بِاعْتِبَارِهِ) أَي الْفِعْل، فَيُقَال: أَمر وآمر (مثلا كَأَكْل وآكل) أَي كَمَا اشتق أكل وآكل من الْأكل لما كَانَ مَوْضُوعا للْفِعْل (وَيُجَاب إِن اشتق فَلَا إِشْكَال) يَعْنِي عدم الِاشْتِقَاق لَيْسَ بمجزوم بِهِ، فعلى تَقْدِير وجود الِاشْتِقَاق بطلَان اللَّازِم غير مُسلم (وَإِلَّا) وَإِن لم يشتق، وَهُوَ الظَّاهِر (فكالقارورة) أَي فلمانع من الِاشْتِقَاق كَمَا امْتنع أَن تطلق القارورة على غير الزّجاج مِمَّا يصلح مقرا للمائعات مَعَ أَن الْقيَاس يَقْتَضِي صِحَة إِطْلَاقهَا نظرا إِلَى الْمُنَاسبَة الاشتقاقية، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك (لدليلنا) على أَنه حَقِيقَة فِي الْفِعْل وَاعْترض الشَّارِح عَلَيْهِ بِأَن الْمَانِع من إِطْلَاق القارورة على غير الظّرْف الزّجاج انْتِفَاء الزّجاج الَّذِي الظَّاهِر اشْتِرَاطه فِي إِطْلَاقهَا على الْغَيْر، وَالْمَانِع من إِطْلَاق أَمر وآمر على مَدْلُول أكل وآكل، وَلَا دَلِيل على مخدوش يُفِيد تَقْدِير الْمَانِع فِي هَذَا، وَمن ادَّعَاهُ فَعَلَيهِ الْبَيَان انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه كَلَام على السَّنَد الْأَخَص بِمَنْع الْمُلَازمَة بَين صِحَة الِاشْتِقَاق وتحقيقه، إِذْ يَكْفِي فِيهِ أَن يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون عدم التحقق لمَانع كَمَا أَن الْقيَاس يَقْتَضِي صِحَة إِطْلَاق القارورة المشتقة من الْقَرار لما يقر فِيهِ الْمَائِع على الزجاجي وَغَيره وَلم يتَحَقَّق لمَانع وَإِن كَانَ مُجَرّد عدم الِاسْتِعْمَال، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَانِع قصد الِاخْتِصَاص إِلَى غير ذَلِك، وَانْتِفَاء الزّجاج لَا دخل لَهُ فِي الْمَقْصُود، إِذْ لَيْسَ هُوَ مُعْتَبرا فِي مبدأ الِاشْتِقَاق. (و) اسْتدلَّ أَيْضا للمختار (بِلُزُوم اتِّحَاد الْجمع) أَي جمع أَمر بِمَعْنى القَوْل الْمَخْصُوص، وَالْفِعْل لَو كَانَ حَقِيقَة فيهمَا (وَهُوَ) أَي اتِّحَاد الْجمع (مُنْتَفٍ، لِأَنَّهُ) أَي الْجمع (فِي الْفِعْل أُمُور، و) فِي (القَوْل أوَامِر) قيل عَلَيْهِ أَن كَون أوَامِر جمع أَمر مَمْنُوع، لِأَن فعلا لَا يجمع على فواعل، بل هِيَ جمع آمرة كضوارب جمع ضاربة، وَهَذَا بحث لَا يضرّهُ، لِأَن الِاخْتِلَاف ثَابت على حَاله، لِأَن كَونه حَقِيقَة فيهمَا يَسْتَدْعِي وجود جمع وَاحِد مُسْتَعْمل فيهمَا وَلَيْسَ كَذَلِك (وَيُجَاب بِجَوَاز اخْتِلَاف جمع لفظ وَاحِد بِاعْتِبَار معنيية) وللشارح هَهُنَا مَا يقْضِي مِنْهُ الْعجب حَيْثُ فسر معنييه بالحقيقي والمجازي وَمثل بِالْأَيْدِي والأيادي بِاعْتِبَار الْجَارِحَة وَالنعْمَة، وَالْمَقْصُود فِي الْجَواب تَجْوِيز الِاخْتِلَاف بِاعْتِبَار الْمَعْنيين الحقيقيين، فَإِن الِاخْتِلَاف بِاعْتِبَار الْحَقِيقِيّ والمجازي هُوَ مطلب الْمُسْتَدلّ، وَهَذَا الْجَواب رد عَلَيْهِ من قبل الْقَائِل بالاشتراك اللَّفْظِيّ (و) اسْتدلَّ أَيْضا للمختار (بِلُزُوم إنصاف من قَامَ بِهِ فعل بِكَوْنِهِ) أَي من قَامَ بِهِ ذَلِك الْفِعْل (مُطَاعًا) إِذا لم يُخَالف (أَو مُخَالفا) إِذا خُولِفَ كَمَا فِي قَول الْقَائِل(1/336)
بِأَن الْأَمر بقوله افْعَل يُوصف بهما، وَاللَّازِم مُنْتَفٍ (وَيُجَاب بِأَنَّهُ) أَي اللُّزُوم الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت (لَو كَانَ) الاتصاف بالكون مُطَاعًا أَو مُخَالفا (لَازِما عَاما) لِلْأَمْرِ بِاعْتِبَار كل مَا يُطلق عَلَيْهِ حَقِيقَة (لكنه) لَيْسَ كَذَلِك إِنَّمَا هُوَ (لَازم أحد المفهومين) وَهُوَ القَوْل الْمَخْصُوص لَا غير (و) اسْتدلَّ للمختار أَيْضا (بِصِحَّة نَفْيه) أَي الْأَمر عَن (الْفِعْل) فَيُقَال أَن الْفِعْل لَيْسَ بِأَمْر وأفراد الْحَقِيقَة لَا يَصح نفي الْحَقِيقَة عَنْهَا (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (مصادرة) على الْمَطْلُوب، إِذْ صِحَة نفي مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْأَمر حَقِيقَة عَن الْفِعْل فرع تَسْلِيم أَن الْفِعْل لَيْسَ أحد معنييه، وَهَذَا عين الْمُتَنَازع فِيهِ، ومنشأ الْغَلَط صِحَة نفي الْأَمر بِمَعْنى القَوْل الْمَخْصُوص عَن الْفِعْل (وحد) الْأَمر (النَّفْسِيّ) هُوَ نوع تعلق من أَنْوَاع تعلق الْكَلَام النَّفْسِيّ بِأَنَّهُ (اقْتِضَاء فعل غير كف على جِهَة الاستعلاء) وَهَذَا الْحَد لِابْنِ الْحَاجِب، فالاقتضاء جنس يَشْمَل الْأَمر وَالنَّهْي والالتماس وَالدُّعَاء، وَغير كف يخرج النَّهْي، وعَلى جِهَة الاستعلاء بِمَعْنى طلب الْعُلُوّ وعد نَفسه عَالِيا على الْمَطْلُوب مِنْهُ يخرج الالتماس لِأَنَّهُ على سَبِيل التَّسَاوِي، وَالدُّعَاء لِأَنَّهُ على سَبِيل التسفل (وسيتحقق فِي) مبَاحث (الحكم أَنه) أَي الْأَمر النَّفْسِيّ (معنى الْإِيجَاب فَيفْسد طرده بالندب النَّفْسِيّ) وَهُوَ لَيْسَ بِإِيجَاب (فَيجب زِيَادَة حتما) فِي التَّعْرِيف لإخراجه، وَكَون الْأَمر النَّفْسِيّ الْإِيجَاب بِنَاء على كَون الْأَمر حَقِيقَة فِي الْوُجُوب دون غَيره (وَأورد اكفف) وَنَحْوه كانته وذروا ترك (على عَكسه) فَإِنَّهَا أوَامِر، وَلَا يصدق عَلَيْهَا الْحَد لعدم اقْتِضَاء الْفِعْل غير الْكَفّ فِيهَا (وَلَا تتْرك) وَلَا تَنْتَهِ إِلَى آخِره (على طرده) فَإِنَّهَا نواهي وَيصدق عَلَيْهَا الْحَد (وَأجِيب بِأَن الْمَحْدُود النَّفْسِيّ، فيلتزم أَن معنى لَا تتْرك مِنْهُ) أَي من الْأَمر النَّفْسِيّ (واكفف وذروا البيع نهي) فاطرد وانعكس (وَإِذا كَانَ معنى أطلب فعل كَذَا الْحَال) خبر كَانَ: أَي الِاسْتِقْبَال (دخل) فِي الْأَمر النَّفْسِيّ لصدقه وَإِن كَانَ خَبرا صِيغَة لِأَنَّهُ اقْتِضَاء فعل غير كف (وَإِنَّمَا يمْتَنع) دُخُوله (فِي الصيغي) لِأَن الْمُعْتَبر فِيهِ القَوْل الْمَخْصُوص صِيغَة افْعَل وَنَحْوه (فَلَا يحْتَاج) إِلَى (أَن) المُرَاد من الْكَفّ فِي التَّعْرِيف (الْكَفّ عَن مَأْخَذ الِاشْتِقَاق) لِأَن الِاحْتِيَاج إِلَى أَفعَال (7) اكفف فرع كَونه دَاخِلا عَن الْمُعَرّف (والأليق بالأصول تَعْرِيف الصيغي، لِأَنَّهُ بَحثه) أَي علم الْأُصُول (عَن) الْأَدِلَّة (السمعية) وَهِي الْأَلْفَاظ من حَيْثُ يُوصل الْعلم بأحوالها من عُمُوم وخصوص وَغَيرهمَا إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام (وَهُوَ) أَي الْأَمر الصيغي (اصْطِلَاحا) لأهل الْعَرَبيَّة (صيغته الْمَعْلُومَة) سَوَاء كَانَت على سَبِيل الاستعلاء أَو لَا (ولغة هِيَ) أَي صيغته الْمَعْلُومَة مستعملة (فِي الطّلب الْجَازِم أَو اسْمهَا) أَي اسْم تِلْكَ الصِّيغَة كصيغة نزال (مَعَ الاستعلاء) وَهَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ لفظ الْأَمر: أَعنِي أَمر(1/337)
(بِخِلَاف فعل الْأَمر) نَحْو: اضْرِب فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهِ مَا ذكر (فَيصدق) هُوَ أَي الْأَمر بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ (مَعَ الْعُلُوّ وَعَدَمه، وَعَلِيهِ) أَي على عدم اشْتِرَاط الْعُلُوّ، وَهُوَ كَون الطَّالِب أَعلَى مرتبَة من الْمَطْلُوب مِنْهُ (الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ (وأهدرهما) أَي الاستعلاء والعلو (الْأَشْعَرِيّ) وَبِه قَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة (وَاعْتبر الْمُعْتَزلَة الْعُلُوّ) أَي اشترطوه إِلَّا أَبَا الْحسن مِنْهُم، وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن الصّباغ، والسمعاني من الشَّافِعِيَّة (وَلَا أَمر عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة (إِلَّا الصِّيغَة) لإنكارهم الْكَلَام النَّفْسِيّ (وَرجح نفي الْأَشْعَرِيّ الْعُلُوّ بذمهم) أَي الْعُقَلَاء (الْأَدْنَى بِأَمْر الْأَعْلَى) إِذْ لَو كَانَ الْعُلُوّ شرطا لما تحقق الْأَمر من الْأَدْنَى فلازم (و) رجح أَيْضا نَفْيه (الاستعلاء بقوله تَعَالَى عَن فِرْعَوْن) مُخَاطبا لِقَوْمِهِ (فَمَاذَا تأمرون) فَإِنَّهُ أطلق على قَوْلهم الْمُقْتَضى لَهُ فعلا غير كف، وَلم يكن لَهُم استعلاء عَلَيْهِ، بل كَانُوا يعبدونه (وَمِنْهُم من جعله) أَي مَاذَا تأمرون متمسكا بِهِ (لنفي الْعُلُوّ) وَهُوَ ظَاهر (وَالْحق اعْتِبَار الاستعلاء) كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَصحح فِي الْمَحْصُول (وَنفى) اشْتِرَاط (الْعُلُوّ لذمهم الْأَدْنَى بِأَمْر الْأَعْلَى) . وَقد مر آنِفا (وَالْآيَة) مَاذَا تأمرون (وَقَوله) أَي عَمْرو ابْن الْعَاصِ لمعاوية:
(أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني ... وَكَانَ من التَّوْفِيق قتل ابْن هَاشم)
لما خرج هَذَا من الْعرَاق على مُعَاوِيَة مرّة بعد مرّة، وَقد أمْسكهُ فِيهَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ عَمْرو بقتْله فخالفه وَأطلق لحلمه، أَي حضين بن الْمُنْذر يُخَاطب يزِيد بن الْمُهلب أَمِير خُرَاسَان وَالْعراق إِلَّا أَن تَمَامه فِي هَذَا:
(فَأَصْبَحت مسلوب الْإِمَارَة نَادِما ... )
(مجَاز عَن تشيرون وأشرت للْقطع بِأَن الصِّيغَة فِي التضرع، والتساوي لَا تسمى أمرا) وَفِي الْكَشَّاف: تأمرون من المؤامرة، وَهِي الْمُشَاورَة، أَو من الْأَمر الَّذِي هُوَ ضد النَّهْي: جعل العبيد آمرين وربهم مَأْمُورا لما استولى عَلَيْهِ فِي فرط الدهش والحيرة. وَقَالَ (القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ) وَالْغَزالِيّ (القَوْل الْمُقْتَضى) بِنَفسِهِ (طَاعَة الْمَأْمُور بِفعل الْمَأْمُور بِهِ) فَالْقَوْل جنس والمقتضى احْتِرَاز عَمَّا عدا الْأَمر من أَقسَام الْكَلَام، وبنفسه لقطع وهم حمل الْأَمر على الْعبارَة، وَأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي بِنَفسِهَا، بل بمعناها، وَالطَّاعَة احْتِرَاز عَن الدُّعَاء، وَالرَّغْبَة من غير جزم فِي طلب الطَّاعَة كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه مَا فِيهِ (ويستلزم) هَذَا الْحَد (الدّور من ثَلَاث أوجه) ذكر الطَّاعَة، والمأمور، والمأمور بِهِ: لِأَن الطَّاعَة مُوَافقَة الْأَمر، والمأمور مُشْتَقّ من الْأَمر فَيتَوَقَّف معرفَة كل مِنْهُمَا على معرفَة الْأَمر (وَدفعه) أَي الدّور على مَا فِي الشَّرْح العضدي (بِأَنا إِذا علمنَا الْأَمر من حَيْثُ هُوَ كَلَام علمنَا الْمُخَاطب بِهِ، وَهُوَ الْمَأْمُور وَمَا يتضمنه، وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ(1/338)
وَفعله) أَي الْمَأْمُور بِهِ (وَهُوَ الطَّاعَة وَلَا يتَوَقَّف) الْعلم بِشَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء (على معرفَة حَقِيقَة الْأَمر الْمَطْلُوبَة بالتعريف، فَإِن أَرَادَ) بقوله: إِذا علمنَا الْأَمر من حَيْثُ هُوَ كَلَام الْمَعْنى (الْحَاصِل من الْجِنْس) أَي القَوْل، وَهُوَ الْمَعْنى الْمُقَيد (لم يلْزمه غير الْأَوَّلين) وهما الْمُخَاطب بِهِ وَمَا يتضمنه الْكَلَام، وَفِيه أَن لُزُوم اللَّفْظ الْمُخَاطب فِي القَوْل اللَّفْظِيّ لكَونه مَوْضُوعا للإفادة، وَأما لُزُومه فِي النَّفْسِيّ فَغير ظَاهر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال لما كَانَ بَين اللَّفْظِيّ والنفسي شدَّة ارتباط بِمَا ينْتَقل الذِّهْن فِيهِ إِلَى مَا هُوَ لَازمه على أَنه كَلَام على السَّنَد الْأَخَص (ثمَّ لم يفد) القَوْل (حَقِيقَة) لفظ (الْمَأْمُور) أَي الْمَعْنى الَّذِي وضع بإزائه، وَقصد بِهِ فِي التَّعْرِيف (من مُجَرّد فهم الْمُخَاطب) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بالْقَوْل (وَلَا) حَقِيقَة (الْمَأْمُور بِهِ من حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) أَي الْمَأْمُور بِهِ: أَي لَا يفهم ذَاك الْمَأْمُور ملحوظا يُوصف المأمورية من فهم الْمُخَاطب، وَلَا ذَات الْمَأْمُور بِهِ بِوَصْف كَونه مَأْمُورا بِهِ (من معرفَة أَن للْكَلَام معنى تضمنه) كل ذَلِك ظَاهر (وَأما فعله) أَي وَأما إفادته لفعل مضمونه (وَكَونه) أَي كَون فعله (طَاعَة فأبعد) من كل من الْأَوَّلين (أَو) أَرَادَ الْحَاصِل من الْجِنْس (بقيوده) أَي بقيود الْجِنْس الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف (فعين الْحَقِيقَة) أَي فَهَذَا المُرَاد حَقِيقَة الْأَمر (وَيعود الدّور) وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن حَاصِل الدّفع منع كَون معرفَة كل مِنْهَا مَوْقُوفا على معرفَة حَقِيقَة الْأَمر لجَوَاز أَن يتَصَوَّر كل مِنْهَا على وَجه يميزه من غَيره من غير أَن يُوجد فِي ذَلِك التَّصَوُّر حَقِيقَة الْأَمر الَّتِي صَارَت مَطْلُوبَة من التَّعْرِيف: لكنه يرد عَلَيْهِ أَن سَنَده لَا يصلح للسندية (وَيبْطل طرده بأمرتك بِفعل كَذَا) فَإِنَّهُ خبر، وَلَيْسَ بِأَمْر مَعَ صدق الْحَد عَلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاء على أَن الْمُعَرّف الصيغي لَا النَّفْسِيّ كَمَا هُوَ الظَّاهِر من اللَّفْظ الْمُوَافق لغَرَض الأصولي، فَزِيَادَة فِيهِ بِنَفسِهِ فِي التَّعْرِيف لدفع الْوَهم الْمَذْكُور على مَا ذكره الشَّارِح غير حسن (وَقيل هُوَ الْخَبَر عَن اسْتِحْقَاق الثَّوَاب، وَفِيه) أَي فِي هَذَا الْحَد (جعل المباين) للمحدود، وَهُوَ الْخَبَر (جِنْسا لَهُ) وَهُوَ بَاطِل لما بَينهمَا من التَّنَافِي: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بِهِ مَا يسْتَلْزم الْإِخْبَار عَنهُ ضمنا فَتَأمل. (و) قَالَ (الْمُعْتَزلَة) أَي جمهورهم (قَول الْقَائِل لمن دونه افْعَل) أَي مَا وضع لطلب الْفِعْل من الْفَاعِل (وَإِبْطَال طرده) أَي هَذَا التَّعْرِيف (بالتهديد وَغَيره) مِمَّا لم يرد بِهِ الطّلب من هَذِه الصِّيغَة، نَحْو - اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، {وَإِذا حللتم فاصطادوا} -: للْإِبَاحَة لصدق الْحَد عَلَيْهِ مَعَ أَنه لَيْسَ بِأَمْر (مَدْفُوع بِظُهُور أَن المُرَاد) قَول الْقَائِل (افْعَل) حَال كَونه (مرَادا بِهِ مَا يتَبَادَر مِنْهُ) عِنْد الْإِطْلَاق، وَهُوَ الطّلب (و) إبِْطَال طرده (بالحاكي) لأمر غَيره لمن دونه (والمبلغ) لِلْأَمْرِ من دونه مَدْفُوع أَيْضا (بِأَنَّهُ) أَي قَول كل مِنْهُمَا (لَيْسَ قَول الْقَائِل) أَي الَّذِي هُوَ الحاكي والمبلغ(1/339)
فَاللَّام للْعهد (عرفا، يُقَال للتمثيل) بِشعر أَو غَيره لغيره (لَيْسَ) مَا تمثل بِهِ (قَوْله، وَلَيْسَ الْقُرْآن قَوْله) أَي النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَإِن كَانَ مبلغه فَلَا يبطل الطَّرْد (نعم الْعُلُوّ غير مُعْتَبر) على الصَّحِيح عندنَا (و) قَالَت (طَائِفَة) مِنْهُم: الْأَمر هُوَ (الصِّيغَة) الْمَعْلُومَة (مُجَرّدَة عَن الصَّارِف عَن الْأَمر، وَهُوَ) أَي هَذَا الْحَد تَعْرِيف الشَّيْء (بِنَفسِهِ، وَلَو أسْقطه) أَي لفظ مُجَرّدَة عَن الصَّارِف عَن الْأَمر (صَحَّ) التَّعْرِيف (لفهم الصَّارِف عَن المبادر) لِأَنَّهُ يفهم اشْتِرَاط التجرد عَن الصَّارِف عَمَّا هُوَ الْمُتَبَادر من الصِّيغَة الْمَعْلُومَة، وَهُوَ الطّلب، وَمَا يشار إِلَيْهِ الذِّهْن لَا حَاجَة إِلَى التَّصْرِيح بِهِ، وَالشَّارِح جعل ضمير أسقط للفظ عَن الْأَمر، وَذكر بعد قَول المُصَنّف عَن التبادر قَوْله الَّذِي هُوَ الطّلب من إِطْلَاق الصَّارِف، وَهُوَ الْأَظْهر (و) قَالَت (طَائِفَة) من معتزلة الْبَصْرَة (الصِّيغَة بِإِرَادَة وجود اللَّفْظ ودلالته على الْأَمر والامتثال) فِي الشَّرْح العضدي قَالَ قوم: صِيغَة افْعَل بارادات ثَلَاث: إِرَادَة وجود اللَّفْظ، وَإِرَادَة دلالتها على الْأَمر، وَإِرَادَة الِامْتِثَال، وَاحْترز بِالْأولَى عَن النَّائِم: إِذْ يصدر عَنهُ صِيغَة افْعَل من غير إِرَادَة وجود اللَّفْظ، وبالثانية عَن التهديد، والتخيير، وَالْإِكْرَام، والإهانة وَنَحْوهَا، وبالثالثة عَن الصِّيغَة تصدر عَن الْمبلغ والحاكي فَإِنَّهُ لَا يُرِيد الِامْتِثَال، وَإِلَى بعضه أَشَارَ بقوله (ويحترز بالأخير) أَي الِامْتِثَال (عَنْهَا) أَي الصِّيغَة صادرة (من نَائِم، ومبلغ، وَمَا سوى الْوُجُوب) من التهديد إِلَى آخِره، وَفِيه اعْتِرَاض على مَا فِي الشَّرْح الْمَذْكُور حَيْثُ لم يتَعَرَّض بِأَن الْأَخير مغن من حَيْثُ الِاحْتِرَاز عَن غَيره مِمَّا قبله (و) أَن (مَا قبله) أَي الْأَخير (تنصيص على الذاتي) وتصريح بأجزاء حَقِيقَة (وَأورد) على الْحَد الْمَذْكُور أَنه (إِن أُرِيد بِالْأَمر الْمَحْدُود اللَّفْظ) أَي الْأَمر الصيغي (أفْسدهُ) أَي الْحَد (إِرَادَة دلالتها) أَي الصِّيغَة (على الْأَمر) لِأَن اللَّفْظ غير مَدْلُول عَلَيْهِ (أَو) أُرِيد بِالْأَمر الْمَحْدُود (الْمَعْنى) النَّفْسِيّ (أفْسدهُ) أَي الْحَد (جنسه) فَاعل أفسد لِأَن الْمَعْنى لَيْسَ بِصِيغَة (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي المُرَاد بالمحدود (اللَّفْظ) وَبِمَا فِي الْحَد الْمَعْنى الَّذِي هُوَ الطّلب (وَاسْتعْمل الْمُشْتَرك) الَّذِي هُوَ نفس الْأَمر (فِي معنييه) الصِّيغَة الْمَعْلُومَة، والطلب (بِالْقَرِينَةِ) الْعَقْلِيَّة فَإِن قلت الْمَذْكُور فِي صدر التَّعْرِيف لفظ الصِّيغَة، وَفِي أثْنَاء التَّعْرِيف لفظ الْأَمر وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك فِي معنييه قلت مَعْلُوم أَن صَاحب التَّعْرِيف قَالَ: الْأَمر الصِّيغَة إِلَى آخِره، غَايَة الْأَمر أَنه لم يذكرهُ المُصَنّف هَهُنَا اعْتِمَادًا على مَا سبق (وَقَالَ قوم) آخَرُونَ من الْمُعْتَزلَة الْأَمر (إِرَادَة الْفِعْل (وَأورد) أَنه (غير جَامع لثُبُوت الْأَمر وَلَا إِرَادَة) كَمَا (فِي أَمر عَبده بِحَضْرَة من توعده) أَي السَّيِّد بالإهلاك أَن ظهر أَنه لَا يُخَالِفهُ مثلا (على ضربه) أَي ضرب الْآمِر عَبده،(1/340)
(فَاعْتَذر) المتوعد عَن ضربه (بمخالفته) أَي بمخالفة العَبْد إِيَّاه فِي أمره فِي حَضرته وَلم يرد مِنْهُ الْفِعْل، بل عَدمه ليثبت عذره فيتخلص العَبْد من وعيده (وألزم تَعْرِيفه) أَي الْأَمر (بِالطَّلَبِ النَّفْسِيّ مثله) أَي مثل الْإِيرَاد الْمَذْكُور: أَي كَمَا يرد على تَعْرِيف الْأَمر بِإِرَادَة الْفِعْل أَنه غير جَامع إِلَى آخِره كَذَلِك يرد على تَعْرِيفه بِأَنَّهُ طلب النَّفْسِيّ الْفِعْل لثُبُوت الْأَمر وَلَا طلب كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور بِعَيْنِه، إِذْ الْعَاقِل لَا يطْلب هَلَاك نَفسه كَمَا يُريدهُ (وَدفعه) على مَا فِي الشَّرْح العضدي (بتجويز طلبه) أَي طلب الْعَاقِل الْهَلَاك لغَرَض (إِذا علم عدم وُقُوعه) أَي الْهَلَاك (إِنَّمَا يَصح فِي اللَّفْظِيّ: أما النَّفْسِيّ فكالإرادة) أَي فالطب النَّفْسِيّ كالإرادة النفسية (لَا يَطْلُبهُ أَي سَبَب هَلَاكه بِقَلْبِه كَمَا لَا يُريدهُ، وَمَا قيل) على مَا ذكره الْآمِدِيّ، وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْحَاجِب (لَو كَانَ) الْأَمر (إِرَادَة لوقعت المأمورات) أَي الَّتِي أمرهَا (بِمُجَرَّدِهِ) أَي الْأَمر (لِأَنَّهَا) أَي الْإِرَادَة (صفة تخصص الْمَقْدُور بِوَقْت وجوده) أَي الْمَقْدُور (فوجدوها) أَي الْإِرَادَة (فرع) وجود مَقْدُور (مُخَصص) وَالثَّانِي بَاطِل لِأَن إِيمَان الْكفَّار الْمَعْلُوم عَدمه عِنْد الله لَا شكّ أَنه مَأْمُور بِهِ، فَيلْزم أَن يكون مرَادا، وَهُوَ يسْتَلْزم وجوده مَعَ أَنه محَال (لَا يلْزمهُم) أَي الْمُعْتَزلَة خبر مَا قيل (لِأَنَّهَا) أَي الْإِرَادَة (عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعباد (ميل يتبع اعْتِقَاد النَّفْع أَو دفع الضَّرَر) فِي الْفِعْل (وبالنسبة إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعلم بِمَا فِي الْفِعْل من الْمصلحَة) وَهَذَا تَحْقِيق مَذْهَبهم فِي الإفادة.
مسئلة
(صِيغَة الْأَمر خَاص) أَي حَقِيقَة على الْخُصُوص (فِي الْوُجُوب) فَقَط (عِنْد الْجُمْهُور) وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب والبيضاوي، وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ هُوَ الْحق، الْآمِدِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله، وَقيل هُوَ الَّذِي أملاه الْأَشْعَرِيّ على أَصْحَابه فَقَالَ (أَبُو هَاشم) فِي جمَاعَة من الْفُقَهَاء مِنْهُم الشَّافِعِي رَحمَه الله على قَول، وَعَامة الْمُعْتَزلَة قَالُوا حَقِيقَة (فِي النّدب) فَقَط (وَتوقف الْأَشْعَرِيّ وَالْقَاضِي فِي أَنه) مَوْضُوع (لأيهما) أَي الْوُجُوب وَالنَّدْب (وَقيل) توقفا فِيهِ (بِمَعْنى لَا يدْرِي مَفْهُومه) أصلا، قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَهُوَ الْمُوَافق لكَلَام الْآمِدِيّ (وَقيل مُشْتَرك) لَفْظِي (بَينهمَا) أَي الْوُجُوب وَالنَّدْب، وَهُوَ مَنْقُول عَن الشَّافِعِي (وَقيل) مُشْتَرك لَفْظِي بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب (وَالْإِبَاحَة، وَقيل) مَوْضُوع (للمشترك بَين الْأَوَّلين) أَي الْوُجُوب، وَالنَّدْب وَهُوَ الطّلب: أَي تَرْجِيح الْفِعْل على التّرْك: وَهُوَ مَنْقُول عَن أبي مَنْصُور الماتريدي وعزى إِلَى مَشَايِخ سَمَرْقَنْد (وَقيل) مَوْضُوع (لما) أَي للقدر الْمُشْتَرك (بَين الثَّلَاثَة من الْأذن) وَهُوَ رفع الْحَرج(1/341)
عَن الْفِعْل بَيَان للموصول، قيل وَهُوَ مَذْهَب المرتضى من الشِّيعَة، وَقَالَ (الشِّيعَة مُشْتَرك) لَفْظِي (بَين الثَّلَاثَة) أَي الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة (والتهديد) وَقيل غير ذَلِك (لنا) على الْمُخْتَار وَهُوَ أَنه حَقِيقَة فِي الْوُجُوب أَنه (تكَرر اسْتِدْلَال السّلف بهَا) أَي بِصِيغَة الْأَمر مُجَرّدَة عَن الْقَرَائِن (على الْوُجُوب) اسْتِدْلَالا (شَائِعا بِلَا نَكِير فَأوجب الْعلم العادي باتفاقهم) على أَنَّهَا لَهُ (كالقول) أَي كإجماعهم القَوْل: يَعْنِي أَن عدم نكيرهم مَعَ شيوع الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور يدل على إِجْمَاعهم على ذَلِك كَمَا يدل تصريحهم بذلك قولا (وَاعْترض بِأَنَّهُ) أَي استدلالهم على الْوُجُوب إِنَّمَا (كَانَ بأوامر مُحَققَة بقرائن الْوُجُوب) يَعْنِي أَن إِرَادَة الْوُجُوب بِتِلْكَ الْأَوَامِر لم يكن بطرِيق الْحَقِيقَة، بل بالمجاز بقرائن تدل على خُصُوص الْوُجُوب (بِدَلِيل استدلالهم بِكَثِير مِنْهَا) أَي من صِيغ الْأَمر (على النّدب قُلْنَا تِلْكَ) الصِّيَغ أُرِيد بهَا النّدب (بقرائن) صارفة عَن الْحَقِيقَة وَهُوَ الْوُجُوب مُعينَة للنَّدْب، علم ذَلِك (باستقراء الْوَاقِع مِنْهُمَا) أَي من الصِّيَغ الْمَنْسُوب إِلَيْهَا الْوُجُوب، والصيغ الْمَنْسُوب إِلَيْهَا النّدب فِي الْكتاب وَالسّنة وَالْعرْف: يَعْنِي علمنَا بالتتبع أَن فهم الْوُجُوب لَا يحْتَاج إِلَى الْقَرِينَة لتبادره إِلَى الذِّهْن بِخِلَاف النّدب فَإِنَّهُ يحْتَاج (قَالُوا) فِي الرَّد على الْمُخْتَار مَا يفِيدهُ هَذَا الدَّلِيل (ظن فِي الْأُصُول لِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع الْمَذْكُور (سكوتي) اخْتلف فِي حجيته، وَمثله يكون ظنيا (وَلما قُلْنَا من الِاحْتِمَال) أَي احْتِمَال كَون فهم الْوُجُوب بقرائن وَالظَّن لَا يَكْفِي، لِأَن الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم (قُلْنَا لَو سلم) أَنه ظَنِّي (كفى) فِي الْأُصُول (وَإِلَّا تعذر الْعَمَل بِأَكْثَرَ الظَّوَاهِر) لِأَنَّهَا لَا تفِيد إِلَّا الظَّن، وَالْقطع لَا سَبِيل إِلَيْهِ كَمَا لَا يخفى على المتتبع لمسائل الْأُصُول (لَكنا نمنعه) أَي كَون المفاد بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُور الظَّن (لذَلِك الْعلم) أَي لحُصُول الْعلم العادي باتفاقهم على أَنَّهَا للْوُجُوب بِسَبَب تكْرَار الِاسْتِدْلَال وَعدم النكير وَحُصُول الْعلم بِسَبَب الدَّلِيل يدل على كَون مفاده الْعلم إِلَّا الظَّن (ولقطعنا بتبادر الْوُجُوب من) الْأَوَامِر (الْمُجَرَّدَة) عَن الْقَرَائِن الصارفة عَنهُ (فَأوجب) الْقطع بتبادره (الْقطع بِهِ) أَي الْوُجُوب (من اللُّغَة، وَأَيْضًا) قَوْله تَعَالَى لإبليس - {مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} - (إِذْ أَمرتك، يَعْنِي) قلت لَك فِي ضمن خطابي الْمَلَائِكَة {اسجدوا لآدَم} الْمُجَرّد) عَن الْقَرَائِن صفة للفظ اسجدوا، دلّ على أَن مَدْلُول الْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرِينَة الصارفة للْوُجُوب، وَإِنَّمَا لزمَه اللوم المستعقب للطرد لَا مَكَان حمله على النّدب الَّذِي لَا حرج فِي تَركه، وَالْقَوْل بِأَن الْوُجُوب لَعَلَّه فهم من قرينَة حَالية أَو مقالية لم يحكها الْقُرْآن أَو من خُصُوصِيَّة تِلْكَ اللُّغَة الَّتِي وَقع الْأَمر بهَا احْتِمَال غير قَادِح فِي الظُّهُور، وَقَوله تَعَالَى {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} يدل على ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى (ذمهم على مُخَالفَة ارْكَعُوا) الْمُجَرّد، وَلَوْلَا أَن حَقِيقَته الْوُجُوب لما ترَتّب عَلَيْهَا الذَّم (وَأما) الِاسْتِدْلَال على الْوُجُوب كَمَا ذكره(1/342)
ابْن الْحَاجِب وَغَيره بِمَا اشْتهر على أَلْسِنَة الْعلمَاء وَهُوَ (تَارِك الْأَمر عَاص) مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن خطاب مُوسَى لهارون عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام - {أفعصيت أَمْرِي} - بِتَرْكِهِ مُقْتَضَاهُ (وَهُوَ) أَي العَاصِي مُطلقًا (متوعد) لقَوْله تَعَالَى - {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم} - (فنمنع كَونه) أَي العَاصِي (تَارِك) الْأَمر (الْمُجَرّد) عَن الْقَرَائِن الْمُجَرَّدَة للْوُجُوب (بل) العَاصِي (تَارِك مَا) هُوَ مقرون من الْأَوَامِر (بِقَرِينَة الْوُجُوب) وَإِضَافَة أَمْرِي عهدية أُشير بهَا إِلَى أَمر كَذَا (فَإِذا اسْتدلَّ) لعصيان تَارِك الْأَمر الْمُجَرّد (بأفعصيت أَمْرِي: أَي اخلفني) تفسر لقَوْله أَمْرِي إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى - {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي} - (منعنَا تجرده) أَي تجرد هَذَا الْأَمر عَن الْقَرِينَة المفيدة للْوُجُوب، فَإِن فِي السِّيَاق مَا يُفِيد ذَلِك (فَأَما) الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي يعرضون عَنهُ بترك مُقْتَضَاهُ - {أَن تصيبهم فتْنَة} - أَي محنة الدُّنْيَا - {أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} - لِأَنَّهُ رتب على ترك مُقْتَضى أمره أحد العذابين (فَصَحِيح، لِأَن عُمُومه) أَي عُمُوم أمره (بِإِضَافَة الْجِنْس الْمُقْتَضى كَون لفظ أَمر لما يُفِيد الْوُجُوب خَاصَّة يُوجِبهُ للمجردة) يَعْنِي أَن لفظ أمره عَام لكَون إِضَافَته جنسية فَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْله الْأَمر بِاللَّامِ الاستغراقية، فَلَزِمَ ترَتّب الْوَعيد على مُخَالفَة كل فَرد من أَفْرَاد مَا وضع لَهُ لفظ أَمر من الصِّيَغ الْمَعْلُومَة كاسجد، واركع إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا الْعُمُوم يقتضى كَون لفظ أَمر مَوْضُوعا لما يُفِيد الْوُجُوب فَقَط، وَإِلَّا لم يَتَرَتَّب الْوَعيد على مُخَالفَة كل فَرد، إِذْ من الْجَائِز على تَقْدِير عدم لُزُوم موضوعية كل صِيغَة مِنْهَا للْوُجُوب وَقع مُخَالفَته لمقْتَضى صِيغَة مُجَرّدَة عَن الْقَرِينَة الْمعينَة للْوُجُوب، فالعموم الْمَذْكُور مُوجب لكَون الصِّيغَة الْمُجَرَّدَة عَن الْقَرَائِن للْوُجُوب: فَحِينَئِذٍ يَصح الْعُمُوم لكَون جَمِيع أَفْرَاده حِينَئِذٍ مَوْضُوعا للْوُجُوب وَالله أعلم. (والاستلال) للْوُجُوب أَيْضا (بِأَن الِاشْتِرَاك خلاف الأَصْل) لَا خلاله بالفهم (فَيكون) الْأَمر (لأحد الْأَرْبَعَة) الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة والتهديد حَقِيقَة. وَفِي الْبَاقِي مجَازًا، وَلم يذكر غير الْأَرْبَعَة للاتفاق على كَونه مجَازًا فِيمَا سواهَا (وَالْإِبَاحَة والتهديد بعيد للْقطع بفهم تَرْجِيح الْوُجُوب) يَعْنِي أَنا نقطع بِأَنَّهُ يفهم من صِيغَة الْأَمر أَن الْأَمر طَالب لوُجُوب الْفِعْل بِمَعْنى أَنه رَاجِح عِنْدهم وَعَن تَركه أَعم من أَن يكون مجوزا للترك أَو لَا، وَهَذَا الْفَهم لَا يحْتَاج إِلَى قرينَة لتبادره إِلَى الذِّهْن (وَانْتِفَاء النّدب) أَي كَونه حَقِيقَة أَيْضا ثَابت (للْفرق بَين) قَوْلنَا (اسْقِنِي وندبتك) إِلَى أَن تسقيني، وَلَو كَانَ لَهُ لم يكن بَينهمَا فرق (ضَعِيف لمنعهم) أَي النادبين (الْفرق) بَينهمَا (وَلَو سلم) الْفرق (فَيكون ندبتك نصا) فِي النّدب (واسقني) لَيْسَ بِنَصّ فِيهِ، بل (يحْتَمل الْوُجُوب) وَالنَّدْب (وَأَيْضًا لَا ينتهض) أَي لَا يقوم بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُور حجَّة بِنَاء(1/343)
(على) احْتِمَال الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ إِذْ نفى) الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ لَا يُوجب تَخْصِيص الْحَقِيقَة بأحدها) أَي الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة وَإِذا لم يُوجب تخصيصها بأحدها يبطل نَفْيه الدَّلِيل أَيْضا لِأَنَّهَا فرع ذَلِك الْإِيجَاب (وَلَو أَرَادَ) الْمُسْتَدلّ بالاشتراك (مُطلق الِاشْتِرَاك) أَي مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الِاشْتِرَاك ليشْمل اللَّفْظِيّ والمعنوي (منعنَا كَون) الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ بِخِلَاف الأَصْل، وَلَو قَالَ) الْمُسْتَدلّ (الْمَعْنَوِيّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى معنوي أخص مِنْهُ خلاف الأَصْل: إِذْ الإفهام بِاللَّفْظِ) وَالْأَصْل فِيهِ الْخُصُوص لإفادته الْمَقْصُود من غير مُزَاحم، فَيكون الْأَمر مَوْضُوعا للْوُجُوب الْمُشْتَرك بَين أَفْرَاده مثلا أَدخل فِي الإفهام من كَونه لما يعم الْوُجُوب وَالنَّدْب إِلَى غير ذَلِك لقلَّة المزاحم (اتجه) جَوَاب لَو: يَعْنِي كَانَ كلَاما موجها، ثمَّ مثل للمعنوي الْأَعَمّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخَص بقوله (كالمعنوي الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب) وَهُوَ الطّلب (بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَوِيّ الَّذِي هُوَ وجوب فَإِنَّهُ) أَي الْمُشْتَرك بَينهمَا (جنس بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُوب، إِذْ هُوَ) أَي الْوُجُوب (نوع) من الطّلب (فدار) معنى الْأَمر (بَين خُصُوص الْجِنْس وخصوص النَّوْع) وخصوص النَّوْع أولى لما فِيهِ من تقليل الِاشْتِرَاك وَاحْتج (النادب) بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم) فَإِن رد الْأَمر إِلَى مشيئتنا عَلامَة أَن المُرَاد بِالْأَمر مَا يُفِيد النّدب (قُلْنَا) إفادته رد الْأَمر إِلَى مشيئتنا مَمْنُوع، بل هُوَ رد إِلَى استطاعتنا و (هُوَ دَلِيل الْوُجُوب) لِأَن السَّاقِط عَنَّا حِينَئِذٍ مَا لَا استطاعة لنا فِيهِ وَفِي الْمَنْدُوب المستطاع أَيْضا سَاقِط لَا حرج فِيهِ، وَاسْتدلَّ (الْقَائِل بِالطَّلَبِ) هُوَ الَّذِي يَقُول: حَقِيقَة الطّلب الْأَعَمّ من الْوُجُوب وَالنَّدْب فَإِنَّهُ (ثَبت رُجْحَان) جَانب (الْوُجُود) أَي وجود الْفِعْل على تَركه فِي قصد الْآمِر، وَهُوَ الْمَعْنى الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب (وَلَا مُخَصص) لَهُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِه ليتعين كَونه مَطْلُوبا لَهُ دون الآخر (فَوَجَبَ كَونه) أَي الْوُجُوب (الْمَطْلُوب مُطلقًا) حَال إِمَّا عَن الضَّمِير أَو عَن الْخَبَر، ومآلهما وَاحِد، وَإِذا ثَبت كَون الْوُجُوب الْمُطلق مرَادا وَجب كَونه حَقِيقَة فِيهِ (دفعا للاشتراك) على تَقْدِير كَونه مَوْضُوعا لكل مِنْهُمَا (وَالْمجَاز) على تَقْدِير وَضعه لأَحَدهمَا فَقَط وَلَا يخفى عَلَيْك أَن أول الْكَلَام يدل على أَن وجوب كَونه الْمَطْلُوب مُطلقًا لثُبُوت رُجْحَان الْوُجُود مَعَ عدم الْمُخَصّص، وَآخره يدل على أَنه وجوب لدفع لُزُوم الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز فبينهما تدافع، وَقد أَشَرنَا إِلَى جَوَابه وتوضيحه أَن قَوْله دفعا إِلَى آخِره تَعْلِيل لنفي احْتِمَال يفهم ضمنا، وَذَلِكَ لِأَن ثُبُوت رُجْحَان الْوُجُود كَمَا يجوز أَن يكون بِسَبَب وضع الْأَمر لمُطلق الطّلب كَذَلِك يجوز أَن يكون بِسَبَب اسْتِعْمَاله فِي كل من نَوْعي الطّلب على سَبِيل الِاشْتِرَاك، أَو الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، ورجحان الْوُجُوب لَازم على الْوَجْهَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَجب كَون حَقِيقَته للطلب الْمُطلق لَا غير دفعا إِلَى آخِره(1/344)
(قُلْنَا) بل هُوَ لأَحَدهمَا، وَهُوَ الْوُجُوب (بمخصص وَهِي) الْمُخَصّص، والتأنيث بِاعْتِبَار الْخَبَر وَهُوَ (أدلتنا على الْوُجُوب مَعَ أَنه) أَي جعله للطلب (إِثْبَات اللُّغَة بِلَازِم الْمَاهِيّة) وَهُوَ الرجحان الْمَذْكُور: وَهُوَ غير جَائِز لجَوَاز كَون اللَّازِم أَعم، فَيكون مَاهِيَّة الْمُسَمّى أخص من الطّلب الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب (الِاشْتِرَاك بَين الْأَرْبَعَة و) الِاشْتِرَاك بَين (الِاثْنَيْنِ) والاشتراك بَين الثَّلَاثَة، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ (ثَبت الْإِطْلَاق) على الْأَرْبَعَة، وعَلى الِاثْنَيْنِ، وعَلى الثَّلَاثَة (وَالْأَصْل الْحَقِيقَة قُلْنَا الْمجَاز خير) من الِاشْتِرَاك (وَتَعْيِين) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) وَهُوَ الْوُجُوب ثَابت (بِمَا تقدم) من أدلته قَالَ (الْوَاقِف كَونهَا) أَي الصِّيغَة (للْوُجُوب أَو غَيره بِالدَّلِيلِ) لاستعمالها فِيهِ وَفِي غَيره (وَهُوَ) الدَّلِيل على التَّعْيِين (مُنْتَفٍ، إِذْ الْآحَاد) أَي أَخْبَار الْآحَاد على كَونهَا للمعين (لَا تفِيد الْعلم) وَهُوَ الْمَطْلُوب فِي هَذِه المسئلة (وَلَو تَوَاتر) الْأَخْبَار (لم يخْتَلف) فِيهِ: أَي فِي التَّعْيِين، لَكِن الِاخْتِلَاف فِيهِ ثَابت فَلَا تَوَاتر، وَالْعقل الصّرْف بمعزل عَن إِثْبَات هَذَا الطّلب (قُلْنَا) لَا نسلم أَنه لم يتواتر، إِذْ (تَوَاتر استدلالات عدد التَّوَاتُر من الْعلمَاء وَأهل اللِّسَان تَوَاتر أَنَّهَا) أَي الصِّيغَة (لَهُ) أَي للْوُجُوب فَقَوله تَوَاتر أَولا مُبْتَدأ وَقَوله تَوَاتر ثَانِيًا خَبره، وَالْحمل على الْمُسَامحَة (وَلَو سلم) أَنه لم يتواتر (كفى الظَّن) الْمُسْتَفَاد من تتبع موارد اسْتِعْمَال هَذِه الصِّيغَة (الْقَائِل بِالْإِذْنِ كالقائل بِالطَّلَبِ) فِي أَنه يَقُول مثل قَوْله تَعَالَى ثَبت الْإِذْن بِالضَّرُورَةِ اللُّغَوِيَّة، وَلم يُوجد مُخَصص لَهُ بِأحد الثَّلَاثَة من الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة، فَوَجَبَ جعله للمشترك بَينهمَا وَهُوَ الْإِذْن بِالْفِعْلِ، وَيُجَاب بِمثل جَوَابه.
مسئلة
لَيست مبدئية لغوية، بل شَرْعِيَّة (مستطردة: أَكثر المتفقين على الْوُجُوب) لصيغة الْأَمر على مَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَمِنْهُم الشَّافِعِي والماتريدي على قَول متفقون على (أَنَّهَا) أَي صِيغَة الْأَمر (بعد الْحَظْر) أَي الْمَنْع (فِي لِسَان الشَّرْع للْإِبَاحَة) علم هَذَا (باستقراء استعمالاته) أَي الشَّرْع لَهَا (فَوَجَبَ الْحمل) أَي حملهَا (عَلَيْهِ) أَي على الْمَعْنى الإباحي (عِنْد التجرد) عَن الْمُوجب لغيره (لوُجُوب الْحمل على الْغَالِب) لِأَن الظَّاهِر كَون هَذَا الْخَاص مُلْحقًا بالغالب (مَا لم يعلم) بِدَلِيل (أَنه) أَي هَذَا الْأَمر الْخَاص (لَيْسَ مِنْهُ) أَي هَذَا (نَحْو: فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا) الْمُشْركين فَإِنَّهُ للْوُجُوب وَإِن كَانَ بعد الْحَظْر للْعلم بِوُجُوب قتل الْمُشرك إِلَّا لمَانع (وَظهر) من استناد الْإِبَاحَة إِلَى الاستقراء الْمَذْكُور (ضعف قَوْلهم) أَي الْقَائِلين بِالْوُجُوب بعد الْحَظْر: كَالْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ، وَأبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَالْإِمَام الرَّازِيّ والبيضاوي وفخر الْإِسْلَام(1/345)
وَعَامة الْمُتَأَخِّرين من الْحَنَفِيَّة (لَو كَانَ) الْأَمر للْإِبَاحَة بعد الْحَظْر (امْتنع التَّصْرِيح بِالْوُجُوب) بعد الْحَظْر، وَلَا يمْتَنع إِذْ لَا يلْزم من إِيجَاب الشَّيْء بعد التَّحْرِيم محَال، وَوجه الضعْف أَنا مَا ادعينا الْمُنَافَاة بَين الْإِيجَاب اللَّاحِق وَالتَّحْرِيم السَّابِق، بل الاستقراء دَعَانَا إِلَى ذَلِك (وَلَا مخلص) من كَونه للْإِبَاحَة (إِلَّا بِمَنْع صِحَة الاستقراء إِن تمّ) منع صِحَّته: وَهُوَ مَحل نظر (وَمَا قيل أَمر الْحَائِض وَالنُّفَسَاء) بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم بعد تحريمهما عَلَيْهِمَا فِي الْحيض وَالنّفاس (بِخِلَافِهِ) أَي يُفِيد الْوُجُوب بعد الْحَظْر لَا الْإِبَاحَة (غلط لِأَنَّهُ) أَي أَمرهمَا بهما (مُطلق) عَن التَّرْتِيب على سبق الْحَظْر (وَالْكَلَام) المنازع فِيهِ من أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة: إِنَّمَا هُوَ (فِي) الْأَمر (الْمُتَّصِل بِالنَّهْي إِخْبَارًا) كَمَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قد كنت نَهَيْتُكُمْ) عَن زِيَارَة الْقُبُور فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه فزوروها فَإِنَّهَا تذكر الْآخِرَة: رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ حسن صَحِيح (و) فِي الْأَمر (الْمُعَلق بِزَوَال سَببه) أَي سَبَب الْحَظْر نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} ، فالصيد كَانَ حَلَالا على الْإِطْلَاق ثمَّ حرم بِسَبَب الْإِحْرَام، ثمَّ علق الْحل بِالْإِذْنِ فِيهِ بِالْحلِّ المستلزم زَوَال السَّبَب الْمَذْكُور (وَيدْفَع) هَذَا التغليط (بوروده) أَي الْأَمر للحائض فِي الصَّلَاة (كَذَلِك) أَي مُعَلّقا بِسَبَب زَوَال الْحَظْر (فَفِي الحَدِيث) الْمُتَّفق عَلَيْهِ (فَإِذا أَدْبَرت عَنْك الْحَيْضَة فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي) إِلَّا أَن الْحَيْضَة لم تذكر بهَا صَرِيحًا بعد أَدْبَرت اكْتِفَاء بضميرها الْمُسْتَتر فِيهِ لتقدم ذكرهَا فِي قَوْله: فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعى الصَّلَاة، وَهَذَا الْمِقْدَار كَاف فِي دفع التغليط، لِأَن المغلط غلط بِاعْتِبَار أَمرهمَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم جَمِيعًا (وَالْحق أَن الاستقراء دلّ على أَنه) أَي الْأَمر (بعد الْحَظْر لما اعْترض) أَي طَرَأَ الْحَظْر (عَلَيْهِ، فَإِن) اعْترض (على الْإِبَاحَة) بِأَن كَانَ ذَلِك الْمَحْظُور مُبَاحا، قبل الْحَظْر ثمَّ اتَّصل بِهِ الْأَمر (كاصطادوا) فَإِن الصَّيْد كَانَ مُبَاحا قبل الْإِحْرَام فَصَارَ مَحْظُورًا بِهِ، فَأمر بِهِ بعد التَّحَلُّل (فلهَا) جَوَاب أَن: أَي فَالْأَمْر حِينَئِذٍ للْإِبَاحَة (أَو) اعْترض (على الْوُجُوب: كاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي فَلهُ) أَي فَالْأَمْر للْوُجُوب، لِأَن الصَّلَاة كَانَت وَاجِبَة ثمَّ حرمت بِالْحيضِ (فلنختر ذَلِك) أَي التَّفْصِيل الْمَذْكُور، وَفِي الشَّرْح العضدي وَهُوَ غير بعيد، وَمَا اخْتَارَهُ المُصَنّف أقرب إِلَى التَّحْقِيق (وَقَوْلهمْ) أَي الْقَائِلين بِأَنَّهُ للْوُجُوب بعد الْحَظْر (الْإِبَاحَة فِيهَا) أَي فِي هَذِه الْأَشْيَاء من الِاصْطِيَاد وَنَحْوه (ل) دَلِيل وَهُوَ (أَن الْعلم بِأَنَّهَا) أَي الْمَذْكُورَات (شرعت لنا) أَي لمصْلحَة انتفاعنا بهَا (فَلَا تصير) وَاجِبَة (علينا) بِالْأَمر فَإِنَّهُ يَنْقَلِب علينا حِينَئِذٍ لنقل الْوَاجِب وَاحْتِمَال الْفَوات الْمُوجب للعقوبة، وَهَذَا لَا يَلِيق بشأن مَا شرع للِانْتِفَاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه الْأمة (لَا يدْفع استقراء أَنَّهَا) أَي صِيغَة الْأَمر (لَهَا) أَي للْإِبَاحَة (فَإِنَّهُ) أَي هَذَا الاستقراء (مُوجب للْحَمْل على الْإِبَاحَة فِيمَا لَا قرينَة مَعَه) تدل على(1/346)
الْحمل على الْوُجُوب (و) مُوجب للْحَمْل بِنَاء (على مَا اخترنا على مَا اعْترض عَلَيْهِ) من الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب، هَذَا من تَمام المسئلة على مَا فِي نُسْخَة اعتمدنا عَلَيْهَا، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح زِيَادَة: وَهِي (ثمَّ إِنَّمَا يلْزم من قدم الْمجَاز الْمَشْهُور لَا أَبَا حنيفَة إِلَّا أَن تَمام الْوَجْه عَلَيْهِ فِيهَا) انْتهى، وَفسّر من قدم بِأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمن وافقهما، وَفسّر الْوَجْه بِوَجْه هَذِه المسئلة، وَفسّر ضمير عَلَيْهِ بِأبي حنيفَة وَلم يبين المُرَاد بِهَذَا الْكَلَام وَلَا يخفى عَلَيْك أَن حمل الْأَمر بعد الْحَظْر على الْإِبَاحَة لَا يلْزم أَن يكون بطرِيق التَّجَوُّز لجَوَاز كَونه فِي لِسَان الشَّرْع فِي خُصُوص هَذَا الْمحل حَقِيقَة على أَنه لَو سلم لَيْسَ من بَاب تَقْدِيم الْمجَاز الْمَشْهُور، بل من بَاب الْحمل على الْمجَاز بِالْقَرِينَةِ وَكَأَنَّهُ وَالله أعلم غير الْمَتْن فِي هَذَا الْمحل وَكَانَ قد كتب عَلَيْهِ الشَّرْح قبل التَّغْيِير وَلم يُغَيِّرهُ وَرَأَيْت أَن الصَّوَاب تَركه.
مسئلة
(لَا شكّ فِي تبادر كَون الصِّيغَة) أَي صِيغَة الْأَمر (فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب مجَازًا بِتَقْدِير أَنَّهَا خَاص فِي الْوُجُوب) فِي التَّوْضِيح: اعْلَم أَن الْأَمر إِذا كَانَ حَقِيقَة فِي الْوُجُوب فَإِنَّهُ إِذْ أُرِيد بِهِ الْإِبَاحَة أَو النّدب يكون بطرِيق الْمجَاز لَا محَالة، لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ فقد ذكر فَخر الْإِسْلَام فِي هَذِه المسئلة اخْتِلَافا، فَعِنْدَ الْكَرْخِي والجصاص مجَاز فيهمَا، وَعند الْبَعْض حَقِيقَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَحكى فَخر الْإِسْلَام على التَّقْدِير) الْمَذْكُور وَهُوَ تَقْدِير كَونهَا خَاصّا فِي الْوُجُوب (خلافًا فِي أَنَّهَا مجَاز) فيهمَا (أَو حَقِيقَة فيهمَا) وَلَعَلَّ ذكر التبادر فِي كَلَام المُصَنّف يكون إِشَارَة إِلَى احْتِمَال كَونهَا حَقِيقَة فيهمَا بالتأويل الْآتِي، وَحَيْثُ كَانَ القَوْل بِكَوْنِهَا حَقِيقَة فيهمَا مُحْتَاجا إِلَى التَّأْوِيل كَونهَا حَقِيقَة فيهمَا بالتأويل الْآتِي، وَحَيْثُ كَانَ القَوْل بِكَوْنِهَا حَقِيقَة فيهمَا مُحْتَاجا إِلَى التَّأْوِيل (فَقيل أَرَادَ) فَخر الْإِسْلَام، أَو الَّذِي حكى عَنهُ بِمحل الْخلاف (لفظ أَمر) يَعْنِي أَمر (وَبعد) أَي نسب إِلَى الْبعد كَونه مُرَاده (بنظمه الْإِبَاحَة) أَي بِسَبَب أَنه نظم الْإِبَاحَة مَعَ النّدب فِي سلك وَاحِد، وَلَا مُنَاسبَة بَين لفظ الْأَمر وَالْإِبَاحَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْمَعْرُوف) بَين الْأُصُولِيِّينَ (كَون الْخلاف فِي النّدب فَقَط) وَصُورَة الْخلاف (هَل يصدق أَنه) أَي الْمَنْدُوب (مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة) أم لَا (وَسَيذكر) فِي فصل الْمَحْكُوم بِهِ (وَقيل) أَرَادَ بِالْأَمر (الصِّيغَة) كافعل، لَا لفظ الْأَمر (وَالْمرَاد) أَي مُرَاد الْقَائِل حَقِيقَة فيهمَا (أَنَّهَا) أَي الصِّيغَة (حَقِيقَة خَاصَّة للْوُجُوب عِنْد التجرد) عَن الْقَرِينَة الصارفة لَهَا عَنهُ (وللندب وَالْإِبَاحَة مَعهَا) أَي الْقَرِينَة المفيدة أَنَّهَا لَهما كَمَا أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حَقِيقَة فِي الْكل بِدُونِ الِاسْتِثْنَاء، وَفِي الْبَاقِي مَعَ الِاسْتِثْنَاء (وَدفع) هَذَا القَوْل فِي التَّلْوِيح (باستلزامه رفع الْمجَاز) بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْمَعْنى(1/347)
المجازى عِنْد الْقَرِينَة المفيدة أَنه المُرَاد (وَبِأَنَّهُ يجب فِي الْحَقِيقَة اسْتِعْمَاله) أَي اللَّفْظ (فِي) الْمَعْنى (الوضعي بِلَا قرينَة) وَلَا يسْتَعْمل صِيغَة الْأَمر فيهمَا بِلَا قرينَة (وَقيل بل الْقِسْمَة) للفظ بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى (ثلاثية) وَهِي أَنه إِن اسْتعْمل فِي معنى خَارج عَمَّا وضع لَهُ فَجَاز وَإِلَّا فَإِن اسْتَعْملهُ فِي عين مَا وضع لَهُ فحقيقة، وَإِلَّا فحقيقة قَاصِرَة، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بقوله (بِإِثْبَات الْحَقِيقَة القاصرة: وَهِي مَا) أَي اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل (فِي الْجُزْء) أَي جُزْء مَا وضع لَهُ لوُجُوب اسْتِعْمَال الْمجَاز فِي غير الْمَعْنى الوضعي والجزئي لَيْسَ غيرا وَلَا عينا. قَالَ صدر الشَّرِيعَة: الْجُزْء عِنْد فَخر الْإِسْلَام لَيْسَ عينا وَلَا غيرا على مَا عرف من تَفْسِير الْغَيْر فِي علم الْكَلَام، فَإِذا تقرر هَذَا (فالكرخي والرازي وَكثير) على أَنَّهَا فِي النّدب وَالْإِبَاحَة (مجَاز إِذْ ليسَا) أَي النّدب وَالْإِبَاحَة (جزئي الْوُجُوب لمنافاته) أَي الْوُجُوب (فصلهما) أَي فصل النّدب وَالْإِبَاحَة، وَمَا يُنَافِي فصل الْمَاهِيّة لَا يكون جُزْءا مِنْهَا (وَإِنَّمَا بَينهمَا) أَي بَين الْوُجُوب وَبَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب قدر (مُشْتَرك هُوَ الْإِذْن) فِي الْفِعْل، ثمَّ امتاز الْوُجُوب بفصل هُوَ امْتنَاع التّرْك، وَالنَّدْب بِجَوَازِهِ مرجوحا، وَالْإِبَاحَة بِجَوَازِهِ مُسَاوِيا (وَالْقَائِل) بِأَن صِيغَة الْأَمر فيهمَا (حَقِيقَة) يَقُول (الْأَمر فِي الْإِبَاحَة إِنَّمَا يدل على الْمُشْتَرك الْإِذْن) فِي الْفِعْل عطف بَيَان للمشترك (وَهُوَ) أَي الْمُشْتَرك (الْجُزْء) من الْوُجُوب (فحقيقة قَاصِرَة) أَي فيهمَا حَقِيقَة قَاصِرَة (وَثُبُوت إِرَادَة مَا بِهِ المباينة) للْوُجُوب من جَوَاز التّرْك مرجوحا وتساويا (وَهُوَ) أَي مَا بِهِ المباينة (فصلهما) أَي النّدب وَالْإِبَاحَة إِنَّمَا تدل عَلَيْهِ (بِالْقَرِينَةِ لَا بِلَفْظ الْأَمر) أَي صيغته، وَفِي التَّلْوِيح للْقطع بِأَن الصِّيغَة لطلب الْفِعْل، وَلَا دلَالَة لَهَا على جَوَاز التّرْك أصلا، وَإِنَّمَا يثبت جَوَاز التّرْك بِحكم الأَصْل، إِذْ لَا دَلِيل على حُرْمَة التّرْك (ومبناه) أَي هَذَا الْكَلَام (على أَن الْإِبَاحَة رفع الْحَرج عَن الطَّرفَيْنِ) الْفِعْل وَالتّرْك (وَكَذَا النّدب) رفع الْحَرج عَن الطَّرفَيْنِ (مَعَ تَرْجِيح الْفِعْل، وَالْوُجُوب) رفع الْحَرج (عَن أَحدهمَا) أَي أحد الطَّرفَيْنِ: وَهُوَ الْفِعْل، لِأَنَّهَا لَو فسرت بمعان أخر على مَا فصلت فِي التَّلْوِيح لَا يَتَأَتَّى بِمَا ذكر (وَمن ظن جزئيتهما) أَي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب للْوُجُوب (فَبنى الْحَقِيقَة) أَي كَونه حَقِيقَة قَاصِرَة (عَلَيْهِ) أَي على كَونهمَا جُزْءا (غلط لترك) الظَّان الْمَذْكُور فِي جَعلهمَا جُزْءا من الْوُجُوب (فصلهما) المنافى للْوُجُوب إِذْ لَو لم يتْركهُ لما حكم بالجزئية وَقد عرفت أَن مَا حَكَاهُ فَخر الْإِسْلَام من القَوْل بِكَوْن صِيغَة الْأَمر حَقِيقَة فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب لما كَانَ مُحْتَاجا إِلَى التَّأْوِيل تصدى لتوجيهه صدر الشَّرِيعَة وَثلث الْقِسْمَة كَمَا سَمِعت وَجعل صِيغَة الْأَمر فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب حَقِيقَة قَاصِرَة لكَون مَدْلُول الصِّيغَة هُنَاكَ إِنَّمَا هُوَ جنس حقيقتهما: وَهُوَ الْإِذْن الْمَذْكُور على مَا مر بَيَانه عَن التَّلْوِيح. وَقَالَ هَذَا بحث دَقِيق مَا مَسّه إِلَّا خاطري، وَقَررهُ(1/348)
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَبَالغ فِي مساعدته حَتَّى قَالَ: فَإِن قلت قد صَرَّحُوا بِاسْتِعْمَال الْأَمر فِي النّدب وَالْإِبَاحَة وإرادتهما مِنْهُ، وَلَا ضَرُورَة فِي حمل كَلَامهم على أَن المُرَاد أَنه يسْتَعْمل فِي جنسهما عُدُولًا عَن الظَّاهِر: وَمَا ذكر من أَن الْأَمر لَا يدل على جَوَاز التّرْك أصلا، إِن أَرَادَ بِحَسب الْحَقِيقَة فَغير مُفِيد، وَإِن أَرَادَ بِحَسب الْمجَاز فمحال، لم لَا يجوز أَن يسْتَعْمل اللَّفْظ الْمَوْضُوع لطلب الْفِعْل جزما فِي طلبه مَعَ إجَازَة التّرْك وَالْإِذْن فِيهِ مرجوحا أَو مُسَاوِيا بِجَامِع اشتراكهما فِي جَوَاز الْفِعْل جرما فِي طلبه مَعَ إجَازَة التّرْك قلت هُوَ كَمَا صَرَّحُوا بِاسْتِعْمَال الْأسد فِي الْإِنْسَان الشجاع من حَيْثُ أَنه من أَفْرَاد الشجاع لَا من حَيْثُ أَنه مَدْلُول بِهِ على ذاتيات الْإِنْسَان، فاستعماله صِيغَة الْأَمر فِي النّدب وَالْإِبَاحَة من حَيْثُ أَنَّهُمَا من أَفْرَاد جَوَاز الْفِعْل وَالْإِذْن وَتثبت خُصُوصِيَّة كَونه مَعَ جَوَاز التّرْك بِالْقَرِينَةِ كَمَا أَن الْأسد يسْتَعْمل فِي الشجاع، وَيعلم كَونه إنْسَانا بِالْقَرِينَةِ انْتهى، وَتعقب المُصَنّف صدر الشَّرِيعَة بقوله (وَلَا يخفى أَن الدّلَالَة على الْمَعْنى وَعدمهَا) أَي عدم الدّلَالَة على الْمَعْنى (لَا دخل لَهَا فِي كَون اللَّفْظ مجَازًا، وَعَدَمه) أَي عدم كَونه مجَازًا بِأَن تكون حَقِيقَة قَاصِرَة أَو غير قَاصِرَة (بل) مدَار كَونه مجَازًا أَو حَقِيقَة (اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِيهِ) أَي فِي الْمَعْنى (وإرادته) أَي الْمَعْنى (بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ، فَإِن كَانَ الْمَعْنى الْمُسْتَعْمل فِيهِ مَا وضع لَهُ أَو جزءه كَانَ حَقِيقَة على الِاصْطِلَاح الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ غَيرهمَا كَانَ مجَازًا، وَكم بَين الدّلَالَة والاستعمال: أَلا ترى أَن اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ يدل على الْجُزْء اللَّازِم وَلَيْسَ بمستعمل فِي شَيْء مِنْهُمَا حِينَئِذٍ (وَلَا شكّ أَنه) أَي الْأَمر (اسْتعْمل فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب بِالْفَرْضِ) على مَا هُوَ الْمَفْرُوض، فَإِن المنازع فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْأَمر الْمُسْتَعْمل فيهمَا مَعَ تَسْلِيم كَونه مَوْضُوعا للْوُجُوب هَل حَقِيقَة فيهمَا أَو مجَاز؟ وَصدر الشَّرِيعَة بصدد تَوْجِيه كَونه حَقِيقَة فيهمَا: فَقَوله أَن لأمر يدل على جُزْء من الْإِبَاحَة، وَهُوَ جَوَاز الْفِعْل لَا يُغْنِيه، لِأَن ذَلِك الْجُزْء مَدْلُول لَهُ وَلَيْسَ بمستعمل فِيهِ حَتَّى يكون حَقِيقَة قَاصِرَة فِي الْجُزْء، وَلَا يلْزم مِنْهُ كَونه حَقِيقَة فِي الْإِبَاحَة والنزاع فِيهَا (فَيكون) الْأَمر (مجَازًا) فيهمَا (وَإِن لم يدل الْأَمر حِينَئِذٍ) أَي حِين اسْتعْمل فيهمَا (إِلَّا على جزئه) أَي جُزْء كل من الْإِبَاحَة وَالنَّدْب (إِطْلَاق الْفِعْل) عطف وَبَيَان لفعله، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا أجَاب بِهِ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ عَنهُ بقوله (وَكَون اسْتِعْمَاله) أَي الْأَمر (فيهمَا) أَي النّدب وَالْإِبَاحَة (من حَيْثُ هما) النّدب وَالْإِبَاحَة (من أَفْرَاد الْجَامِع) بَينهمَا وَبَين الْوُجُوب (وَهُوَ) أَي الْجَامِع (الْإِذْن) فِي الْفِعْل (كاستعمال الْأسد فِي الرجل الشجاع من حَيْثُ هُوَ) أَي الرجل الشجاع (من أَفْرَاده) أَي من أَفْرَاد الشجاع الْمُطلق كَمَا تقرر من أَن الْمُسْتَعَار لَهُ فِي اسْتِعْمَاله إِنَّمَا هُوَ شخص من أَفْرَاد الشجاع الْمُطلق، وخصوصية كَونه رجلا يفهم(1/349)
من الْقَرَائِن كَمَا سَيَجِيءُ، وَفسّر الشَّارِح ضمير أَفْرَاده بالأسد وَلَا معنى لَهُ (وَيعلم أَنه) أَي الْمُسْتَعْمل فِيهِ (إِنْسَان بِالْقَرِينَةِ لَا يصرف عَنهُ) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي قَوْله، وَكَون اسْتِعْمَاله إِلَى آخِره، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع للكون الْمَذْكُور، وَالْمَجْرُور للاستعمال فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب (إِلَى كَون الِاسْتِعْمَال فِي جُزْء مَفْهُومه) أَي مَفْهُوم الْأَمر وَهُوَ جَوَاز الْفِعْل: إِذْ فرق بَين أَن يكون الْمُسْتَعْمل فِيهِ فَردا من أَفْرَاد مَفْهُوم وَبَين أَن يكون عين ذَلِك الْمَفْهُوم (وَلَا) يصرف أَيْضا (كَون دلَالَته على مُجَرّد الْجُزْء) بِحَيْثُ لَا يتَعَدَّى إِلَى ماهو فَرد لَهُ عَن اسْتِعْمَاله فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب إِلَى اسْتِعْمَاله فِي جُزْء مَفْهُومه (بل هُوَ) أَي الْجُزْء الْمَذْكُور (لمُجَرّد تسويغ الِاسْتِعْمَال فِي تَمَامه) أَي تَمام الْمَعْنى الْمجَازِي الْمُسْتَعْمل فِيهِ: لِأَنَّهُ العلاقة بَينه وَبَين الْمَوْضُوع لَهُ، وَلَا ينافى دلَالَة اللَّفْظ بمعونة الْقَرِينَة على غير ذَلِك الْجُزْء أَيْضا، وَهَذِه إِشَارَة إِلَى مَا فِي التَّلْوِيح من منع كَون الْأَمر بِحَيْثُ لَا يدل إِلَّا على الطّلب (وَهُوَ) أَي الِاسْتِعْمَال فِي تَمام الْمَعْنى الْمجَازِي (منَاط المجازية دون الدّلَالَة لثبوتها) أَي الدّلَالَة (على) الْمَعْنى (الوضعي) أَي تَمام مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (مَعَ مجازيته) أَي مجازية اللَّفْظ وَكَونه مُسْتَعْملا فِي غير مَا وضع لَهُ، كَيفَ لَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَاسِطَة فِي الِانْتِقَال إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي (كَمَا قدمنَا، والقرينة) إِنَّمَا هِيَ (للدلالة على أَن اللَّفْظ لم يرد بِهِ الْمَعْنى الوضعي) لَا للدلالة على الوضعي أَو جزئه (وَالْمرَاد بحيوان فِي قَوْلنَا: يكْتب حَيَوَان إِنْسَان اسْتِعْمَالا لاسم الْأَعَمّ فِي الْأَخَص بِقَرِينَة يكْتب) إِشَارَة إِلَى مَا فِي التَّلْوِيح من قَوْله: فَإِن قلت فعلى هَذَا لَا فرق بَين قَوْلنَا هَذَا الْأَمر للنَّدْب، وَقَوْلنَا هُوَ للْإِبَاحَة: إِذْ المُرَاد أَنه يسْتَعْمل فِي جَوَاز الْفِعْل مَعَ قرينَة دَالَّة على أَوْلَوِيَّة الْفِعْل، وَالْمرَاد بِكَوْنِهِ للْإِبَاحَة أَنه خَال عَن ذَلِك كَمَا إِذا قُلْنَا: يَرْمِي حَيَوَان، ويطير حَيَوَان، فَإِنَّهُ مَدْلُول اللَّفْظ إِلَّا أَن الأول مُسْتَعْمل فِي الْإِنْسَان، وَالثَّانِي فِي الطير انْتهى. (وَتقدم) فِي أَوَائِل الْكَلَام فِي الْأَمر (أَنه) اسْتِعْمَال الْأَعَمّ فِي الْأَخَص (حَقِيقَة) لِأَن الخصوصية لَيست مِمَّا اسْتعْمل فِيهِ اللَّفْظ: بل هِيَ مَدْلُول عَلَيْهَا بِالْقَرِينَةِ وَلَا يخفى أَنه إِذا كَانَ الْأَمر مُسْتَعْملا على هَذَا المنوال فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب كَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَار حَقِيقَة قَاصِرَة فيهمَا: فغاية مَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ أَنه خلاف مَا هُوَ الْوَاقِع بِحَسب الظَّاهِر الْمُتَبَادر وَهُوَ أَن اسْتِعْمَاله فيهمَا إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار خصوصيتهما لَا بِاعْتِبَار كَونهمَا فردين لجَوَاز الْفِعْل، والخصوصية تُوجد من الْقَرِينَة، وَصدر الشَّرِيعَة إِنَّمَا قصد نوع تَأْوِيل لكَلَام ذَلِك الْقَائِل إِلَّا أَن يَجعله مذهبا لنَفسِهِ، كَيفَ وَقد صرح بِخِلَافِهِ وارتكاب خلاف الظَّاهِر لِئَلَّا يكون الْكَلَام فَاسِدا مَحْضا لَيْسَ ببدع فِي الْأَمر: فَالْأولى أَن يحمل تغليط المُصَنّف فِيمَا سبق على من ظن جزئية الْإِبَاحَة وَالنَّدْب من الْوُجُوب من غير ذَلِك الْقَائِل، وَيَبْنِي كَون الْأَمر حَقِيقَة قَاصِرَة عَلَيْهِ(1/350)
وَقَوله لَا يخفى إِلَى هُنَا على إِرَادَة تَحْقِيق على كَلَام الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ.
مسئلة
(الصِّيغَة أَي الْمَادَّة) لم يقل ابْتِدَاء الْمَادَّة: لِأَن الْمَذْكُور فِي كَلَام الْقَوْم لفظ الصِّيغَة، فَأَرَادَ تَفْسِيرهَا (بِاعْتِبَار الْهَيْئَة الْخَاصَّة) مَوْضُوعَة (لمُطلق الطّلب، لَا بِقَيْد مرّة) أَي لَيست لطلب الْفِعْل مَعَ قيد هُوَ إِيقَاعه مرّة وَاحِدَة (وَلَا تكْرَار) وَلَيْسَت لَهُ مَعَ كَونه يُوقع مكررا (وَلَا يحْتَملهُ) أَي التّكْرَار أَيْضا بِأَن يُرَاد بهَا لعدم دلالتها عَلَيْهِ، وَفِيه إِن أُرِيد عدم دلالتها بِمُوجب أهل الْوَضع فَمُسلم لَكِن الْخصم لَا يَدعِيهِ، وَلَا حَاجَة إِلَى ذكره بعد بَيَان مَا وضعت لَهُ، وَإِن أُرِيد عدمهَا بمعاونة الْقَرِينَة، فَغير مُسلم (وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة) والآمدي وَابْن الْحَاجِب وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ والبيضاوي، وَقَالَ السُّبْكِيّ وَأرَاهُ رَأْي أَكثر أَصْحَابنَا، (و) قَالَ (كثير) مِنْهُم أَنَّهَا (للمرة) وَعَزاهُ أَبُو إِسْحَق الاسفرايني إِلَى أَكثر الشَّافِعِيَّة، وَقَالَ أَنه مُقْتَضى كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله، وَأَنه الصَّحِيح الْأَشْبَه بمذاهب الْعلمَاء (وَقيل للتكرار أبدا) أَي مُدَّة الْعُمر مَعَ الْإِمْكَان كَمَا ذكره أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره ليخرج أزمنة ضروريات الْإِنْسَان، وعَلى هَذَا جمَاعَة من الْفُقَهَاء والمتكلمين: مِنْهُم أَبُو إِسْحَق الاسفرايني (وَقيل) الْأَمر (الْمُعَلق) على شَرط أَو صفة للتكرار لَا الْمُطلق، وَهُوَ معزو إِلَى بعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (وَقيل) الْأَمر الْمُطلق للمرة (ويحتمله) أَي التّكْرَار، وَهُوَ معزو إِلَى الشَّافِعِي رَحمَه الله (وَقيل بِالْوَقْفِ) إِمَّا على أَن مَعْنَاهُ (لَا نَدْرِي) أَو وضع للمرة أَو للتكرار أَو للمطلق (أَو) على أَن مَعْنَاهُ (لَا يدْرِي مُرَاده) أَي مُرَاد الْمُتَكَلّم بِهِ (للاشتراك) بَينهمَا، وَهُوَ قَول القَاضِي أبي بكر وَجَمَاعَة، وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (لنا) على الْمُخْتَار وَهُوَ الأول (إطباق الْعَرَبيَّة على أَن هَيْئَة الْأَمر لَا دلَالَة لَهَا إِلَّا على الطّلب فِي خُصُوص زمَان وخصوص الْمَطْلُوب) من قيام وقعود وَغَيرهمَا، إِنَّمَا هُوَ (من الْمَادَّة وَلَا دلَالَة لَهَا) إِلَّا (على غير مُجَرّد الْفِعْل) أَي الْمصدر (فَلَزِمَ) من مَجْمُوع الْهَيْئَة والمادة (أَن تَمام مَدْلُول الصِّيغَة طلب الْفِعْل فَقَط والبراءة) أَي الْخُرُوج عَن عُهْدَة الْأَمر تحصل (بِمرَّة) أَي بِفعل الْمَأْمُور بِهِ مرّة وَاحِدَة (لوُجُوده) أَي لتحَقّق مَا هُوَ الْمَطْلُوب بإدخاله فِي الْوُجُود مرّة (فَانْدفع دَلِيل الْمرة) وَهُوَ أَن الِامْتِثَال يحصل بِمرَّة فَيكون لَهَا، وَذَلِكَ لِأَن حُصُوله بهَا لَا يستدعى اعْتِبَارهَا جُزْءا من مَدْلُول الْأَمر، لِأَن هَذَا حَاصِل على تَقْدِير الْإِطْلَاق، لِأَنَّهُ لَا يُوجد الْمَأْمُور بِهِ بِدُونِ الْمرة، وَالزِّيَادَة عَلَيْهَا غير مَطْلُوبَة بِهِ (وَاسْتدلَّ) للمختار أَيْضا (مدلولها) أَي الصِّيغَة (طلب حَقِيقَة الْفِعْل فَقَط والمرة والتكرار(1/351)
خارجان) عَن حَقِيقَته، فَيجب أَن يحصل الِامْتِثَال بِهِ فِي أَيهمَا وجد وَلَا تتقيد بِأَحَدِهِمَا (وَدفع) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (بِأَنَّهُ) (اسْتِدْلَال بالنزاع) أَي بِالْأَمر الْمُتَنَازع فِيهِ بَين الْقَوْم فَإِن مِنْهُم من يَقُول هِيَ الْحَقِيقَة الْمقيدَة بالوحدة، وَمِنْهُم من يَقُول الْمقيدَة بالتكرار (وبأنهما من صِفَاته) أَي وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَن الْمرة والتكرار من صِفَات الْفِعْل: كالقلة وَالْكَثْرَة (وَلَا دلَالَة للموصوف على خُصُوص صفته بِالصِّفَاتِ الْمُقَابلَة (على الصّفة) الْمعينَة مِنْهَا (وَدفع) هَذَا أَيْضا على مَا فِي الشَّرْح الْمَذْكُور (بِأَنَّهُ إِنَّمَا يقتضى) مَا ذكر (انْتِفَاء دلَالَة الْمَادَّة: أَي الْمصدر على ذَلِك) أَي الْمرة والتكرار (وَالْكَلَام فِي الصِّيغَة) هَل هِيَ تدل على شَيْء مِنْهُمَا أم لَا، وَاحْتِمَال الصِّيغَة لَهما لَا يمْنَع ظُهُور أَحدهمَا، وَالْمُدَّعِي الدّلَالَة ظَاهرا لَا نصا (قَالُوا) أَي المكررون (تكَرر) الْمَطْلُوب (فِي النَّهْي فَعم) فِي الْأَزْمَان (فَوَجَبَ) التّكْرَار أَيْضا (فِي الْأَمر لِأَنَّهُمَا) أَي الْأَمر وَالنَّهْي (طلب قُلْنَا) هَذَا (قِيَاس فِي اللُّغَة لِأَنَّهُ فِي دلَالَة اللَّفْظ) وَقد تقدم بُطْلَانه (و) أُجِيب أَيْضا (بِالْفرقِ) بَينهمَا (بِأَن النَّهْي لتَركه) أَي الْفِعْل (وتحققه) أَي التّرْك (بِهِ) أَي التّرْك (فِي كل الْأَوْقَات) لَا يُقَال كَمَا أَن الْفِعْل يتَحَقَّق فِي بعض الْأَوْقَات كَذَلِك التّرْك يتَحَقَّق فِي بَعْضهَا لِأَن الْمصلحَة غَالِبا فِي انتفائه رَأْسا، وَذَلِكَ لَا يحصل فِي تَركه فِي بعض الْأَوْقَات (وَالْأَمر لَا يُنَافِيهِ) أَي الْفِعْل (ويتحقق) الْفِعْل (بِمرَّة، وَيَأْتِي) فِي هَذَا أَيْضا (أَنه مَحل النزاع) لِأَن كَونه لمُجَرّد إثْبَاته الْحَاصِل بِمرَّة عين النزاع، إِذْ الْمُخَالف يَقُول بل لإثباته دَائِما (وَأما) الْفرق بَينهمَا كَمَا فِي الْمُخْتَصر وَغَيره (بِأَن التّكْرَار مَانع من) فعل (غير الْمَأْمُور بِهِ) لِأَنَّهُ يسْتَغْرق وقته، وَمن شَأْن الْبشر أَنه يشْغلهُ شَأْن عَن شَأْن آخر عَادَة (فيتعطل) مَا سواهُ من الْمَأْمُور بِهِ والمصالح (بِخِلَاف النَّهْي) فَإِن دوَام التّرْك لَا يشْغلهُ عَن شَيْء من الْأَفْعَال (فمدفوع بِأَن الْكَلَام فِي مَدْلُوله) أَي لفظ الْأَمر، وَفِي أَنه هَل يدل على التّكْرَار أم لَا (وَلَيْسَ) مَدْلُوله (ملزوم الْإِرَادَة للتكرار) أَي إِرَادَة الْمُتَكَلّم التّكْرَار لَيْسَ بِلَازِم لكَون التكرارمدلولا للفظ فَيجوز أَن يكون اللَّفْظ دَالا على التّكْرَار، لَكِن الْمُتَكَلّم لَا تتَعَلَّق بِهِ إِرَادَته (فَيجب انتفاؤها) أَي إِرَادَة التّكْرَار على تَقْدِير كَونه مدلولا (للمانع) مِنْهَا: وَهُوَ مَا ذكر من لُزُوم التعطيل، فالدليل الْمَذْكُور يدل على عدم الْإِرَادَة، لَا الدّلَالَة (قَالُوا) أَي المكررون أَيْضا الْأَمر (نهى عَن أضداده) وَهِي كل مَا لَا يجْتَمع مَعَ الْمَأْمُور بِهِ، وَمِنْه تَركه (وَهُوَ) أَي النَّهْي (دائمي) أَي يمْنَع من الْمنْهِي عَنهُ دَائِما (فيتكرر) الْأَمر (فِي الْمَأْمُور) بِهِ إِذا لم يتَكَرَّر، ويكتفي بإيقاعه مرّة وَاحِدَة فِي وَقت وَاحِد لم يمْنَع من أضداده فِي سَائِر الْأَوْقَات (قُلْنَا تكَرر) النَّهْي (الْمَضْمُون فرع تكَرر) الْأَمر (المتضمن فإثبات تكرره) أَي تكْرَار الْأَمر المتضمن (بِهِ) أَي(1/352)
بتكرار النَّهْي الْمَضْمُون (دور) لتوقف كل من التكررين على الآخر (وَلَيْسَ) هَذَا الْجَواب (بِشَيْء) لأَنا نقُول (بل إِذا كَانَ) تكَرر النَّهْي الْمَضْمُون (فَرعه) أَي فرع تكَرر الْأَمر المتضمن (وتحققنا ثُبُوته) أَي ثُبُوت تكَرر الْفَرْع (استدللنا بِهِ) أَي بتكرره (على أَن الأَصْل كَذَلِك) أَي متكرر أَيْضا (من قبيل) الْبُرْهَان (الانىّ) وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بالأثر على الْمُؤثر (بل) يلْزم (للفرعية) أَي لفرعية تكَرر النَّهْي لتكرر الْأَمر (إِذا كَانَ) الْأَمر (دَائِما كَانَ) نهيا عَن أضداده (دَائِما أَو) كَانَ الْأَمر (فِي) وَقت (معِين فَفِيهِ) نفى ذَلِك الْوَقْت الْمعِين (نهى الضِّدّ) لَا فِي سَائِر الْأَوْقَات (أَو) كَانَ الْأَمر (مُطلقًا فَفِي وَقت الْفِعْل) نهى الضِّدّ (الْمُعَلق) أَي الْقَائِل بِأَن الْأَمر الْمُعَلق على شَرط أَو صفة يدل على التّكْرَار. قَالَ (تكَرر) الْمَأْمُور (فِي نَحْو: وَإِن كُنْتُم جنبا) فاطهروا: فتكرر وجوب التَّطْهِير بِتَكَرُّر الْجَنَابَة (قُلْنَا الشَّرْط هُنَا عِلّة فيتكرر) الْمَأْمُور بِهِ (بتكررها اتِّفَاقًا) ضَرُورَة تكَرر الْمَعْلُول بِتَكَرُّر علته (لَا) يثبت عِنْد ذَلِك التّكْرَار (بالصيغة، وَأما غَيره) أَي مَا لَا يكون عِلّة (كاذا دخل الشَّهْر فَأعتق: فخلاف) أَي فَفِيهِ خلاف فِي كَونه للتكرار (وَالْحق النَّفْي) أَي نفي التّكْرَار فِيهِ (فَإِن قلت: فَكيف نَفَاهُ) أَي تكَرر الحكم بتكرار الْوَصْف الَّذِي هُوَ علته (الْحَنَفِيَّة فِي وَالسَّارِق والسارقة) فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا (فَلم يقطعوا فِي) الْمرة (الثَّالِثَة) يَد السَّارِق الْيُسْرَى إِذا كَانَ قد قطع فِي الأولى يَده الْيُمْنَى. وَفِي الثَّانِيَة رجله الْيُسْرَى مَعَ أَن السّرقَة عِلّة الْقطع (وجلدوا فِي الزَّانِي بكرا أبدا) أَي كلما زنى ليَكُون الزِّنَا عِلّة للجلد (فَالْجَوَاب) أَن يُقَال (أما مانعو تَخْصِيص الْعلَّة فَلم يعلق) الْقطع عِنْدهم (بعلة) من السّرقَة وَنَحْوهَا (لِأَن عدم قطع يَده فِي الثَّانِيَة إِجْمَاعًا نقض) لكَونهَا عِلّة لتخلف الحكم عَنْهَا (فَوَجَبَ عدم الِاعْتِبَار) أَي عدم اعْتِبَار علية السّرقَة للْقطع (فَبَقيَ مُوجبه) أَي النَّص (الْقطع مرّة مَعَ السّرقَة) بِخِلَاف الْجلد فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ علق بعلة هِيَ الزِّنَا فيكرر بتكرره (وَالْوَجْه الْعَام) أَي على القَوْل بِجَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة وبعدم جَوَازه (أَنه) أَي نَص الْقطع (مؤول إِذْ حَقِيقَته قطع الْيَدَيْنِ بِسَرِقَة وَاحِدَة) فَإِن منطوقه قطع أَيدي كل من السَّارِق والسارقة إطلاقا للْجمع على مَا فَوق الْوَاحِد، وَهُوَ غير مَعْمُول بِهِ إِجْمَاعًا (بل صرف) النَّص (عَنهُ) أَي عَن قطع الْيَدَيْنِ (إِلَى وَاحِدَة هِيَ الْيُمْنَى بِالسنةِ) فَإِنَّهُ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسارق فَقطع يَمِينه، فَإِنَّهُ يدل على تعْيين الْيَمين للْقطع وَإِلَّا فقد كَانَ عَادَته طلب الْأَيْسَر للْأمة (وَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود) فَاقْطَعُوا أيمانهما، وَالْقِرَاءَة الشاذة حجَّة على الصَّحِيح (وَالْإِجْمَاع) وَلَا عِبْرَة فِي نقل عَن(1/353)
شذوذ من الِاكْتِفَاء بِقطع الْأَصَابِع لِأَن بهَا الْبَطْش (فَظهر) بِهَذِهِ الْأَدِلَّة (أَن المُرَاد) من النَّص (انقسام الْآحَاد على الْآحَاد: أَي كل سَارِق فَاقْطَعُوا يَده الْيُمْنَى بِمُوجب حمل الْمُطلق) وَهُوَ أَيْدِيهِمَا (عَلَيْهِ) أَي الْمُقَيد: وَهُوَ الْيُمْنَى لما ذكرنَا (فَلَو فرضت) السّرقَة (عِلّة) للْقطع (تعذر) الْقطع (لفَوَات مَحل الحكم) وَهُوَ الْيُمْنَى (فِي الثَّانِيَة) مُتَعَلق بتعذر، وَذَلِكَ بقطعها فِي الأولى (بِخِلَاف الْجلد) لعدم فَوت مَحَله وَهُوَ الْبدن بِالْجلدِ السَّابِق (وَقطع الرجل فِي الثَّانِيَة بِالسنةِ ابْتِدَاء) فقد روى الشَّافِعِي رَحمَه الله وَالطَّبَرَانِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ " إِذا سرق السَّارِق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله إِلَى غير ذَلِك وبالإجماع وَقَالَ (الْوَاقِف) لَو ثَبت كَونه للمرة أَو للتكرار (فَأَما بالآحاد) وَهِي إِنَّمَا تفِيد الظَّن، والمسئلة علمية، أَو بالتواتر وَهُوَ يمْنَع الْخلاف، وَالْفِعْل الصّرْف لَا مدْخل لَهُ فِيهِ، فَلَزِمَ الْوَقْف (وَتقدم مثله) فِي مسئلة: صِيغَة الْأَمر خَاص فِي الْوُجُوب للْوَاقِف فِي إمهاله أَو لغيره وَجَوَابه (وسؤال) الْأَقْرَع بن حَابِس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَج بقوله (ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد) يَعْنِي أوجوب الْحَج الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى - {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} - فِي حَقنا مَخْصُوص بِهَذَا الْعَام، بِمَعْنى أَنه إِذا أَتَيْنَا بِهِ فِي هَذِه السّنة لَا يجب علينا فِي سَائِر السنين، أم يجب علينا كل سنة؟ . وَفِي التَّلْوِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " يَا أَيهَا النَّاس: قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا، فَقَالَ الْأَقْرَع بن حَابِس: أكل عَام يَا رَسُول الله؟ فَسكت حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا: فَقَالَ لَو قلت نعم لوَجَبَ وَلما اسْتَطَعْتُم " (أوردهُ فَخر الْإِسْلَام) دَلِيلا (لاحْتِمَال التّكْرَار) فَقَالَ: لَو لم يحْتَمل اللَّفْظ لما أشكل عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور كَونه دَلِيلا (للْوَقْف بِالْمَعْنَى الثَّانِي) وَهُوَ أَنه لَا يدْرِي مُرَاد الْمُتَكَلّم بِهِ أهوَ الْمرة أَو التّكْرَار (أظهر) من كَونه دَلِيلا لاحْتِمَال التّكْرَار: لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يحْتَمل التّكْرَار يلْزم أَن يكون ظَاهرا فِي الْمرة، فَيلْزم كَون السُّؤَال فِي غير مَحَله لِأَنَّهُ مُوجبه للْعَمَل بِالظَّاهِرِ وَترك السُّؤَال بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مُرَاد الْمُتَكَلّم خفِيا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون السُّؤَال فِي مَحل الْحَاجة (وإيراده) دَلِيلا (لإِيجَاب التّكْرَار وَجه بِعِلْمِهِ) أَي السَّائِل (بِدفع الْحَرج) بِنَفْي الْحَرج فِي الدّين وَفِي حمله على التّكْرَار حرج عَظِيم فأشكل عَلَيْهِ فَسَأَلَ (وَإِنَّمَا يصحح) هَذَا التَّوْجِيه (السُّؤَال) على تَقْدِير كَون الْأَمر للتكرار فَإِنَّهُ إِذا علم من الْخَارِج أَن الْأَمر للتكرار، أَو يُقَال لم يكن للسؤال وَجه: فيتعذر بِهَذَا (لَا) أَنه يصحح (كَونه دَلِيلا لوُجُوب التّكْرَار أَو احْتِمَاله) أَي أَو كَونه دَلِيلا لاحْتِمَال التّكْرَار لجَوَاز أَن يكون مُتَسَاوِيا السُّؤَال عدم درايته لمراد الْمُتَكَلّم كَمَا ذكرنَا فَلَا يتَعَيَّن كَون السُّؤَال لعلمه بِدفع الْحَرج مَعَ علمه بِكَوْن الْأَمر للتكرار (ثمَّ(1/354)
الْجَواب) لِلْجُمْهُورِ عَن الِاسْتِدْلَال بالسؤال الْمَذْكُور (أَن الْعلم بتكرير) الحكم (الْمُتَعَلّق بِسَبَب متكرر ثَابت فَجَاز كَونه) أَي سُؤال السَّائِل الْمَذْكُور (لإشكال أَنه) أَي سَبَب الْحَج (الْوَقْت فيتكرر) وجوب الْحَج بتكريره (أَو) أَن سَببه (الْبَيْت فَلَا) يتَكَرَّر لعدم تكرره. قَالَ الشَّارِح: فِي أَكثر الْكتب أَن السَّائِل هُوَ سراقَة، فَقَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع: ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ (وَبنى بعض الْحَنَفِيَّة) كفخر الْإِسْلَام، وَصدر الشَّرِيعَة (على التّكْرَار وَعَدَمه، واحتماله) حكم (طَلِّقِي نَفسك أَو طَلقهَا يملك) الْمَأْمُور أَن يُطلق (أَكثر من الْوَاحِدَة) جملَة ومتفرقة (بِلَا نِيَّة على الأول) أَي على أَن الْأَمر للتكرار، فَإِن لفظ طلق إِذا كَانَ مَوْضُوعا لطلب التَّطْلِيق مكررا كَانَ التَّوْكِيل بِأَكْثَرَ من الْوَاحِدَة فَيملكهُ من غير الْتِفَات إِلَى نِيَّة الْمُوكل، لِأَن الشَّرْع يحكم بِالظَّاهِرِ (وَبهَا) أَي وَيملك أَكثر من الْوَاحِدَة بِالنِّيَّةِ (على الثَّالِث) أَي احْتِمَاله التّكْرَار مطابقا لنيته من اثْنَيْنِ وَثَلَاث، فَإِن لم تكن لَهُ نِيَّة أَو نوى وَاحِدَة فَوَاحِدَة لَا غير (وعَلى الثَّانِي) أَي عدم احْتِمَاله التّكْرَار (وَهُوَ) أَي الثَّانِي (قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة يملك (وَاحِدَة) سَوَاء نَوَاهَا أَو اثْنَتَيْنِ أَو لم ينْو شَيْئا (وَالثَّلَاث بِالنِّيَّةِ لَا الثِّنْتَيْنِ) وَإِن نواهما (وَلَا يخفى أَن المتفرع) فِي الْمَذْكُورَات بزعمهم (تعدد الْأَفْرَاد) للطَّلَاق وَعدم تعددها (وَلَيْسَ التّكْرَار) تعددها للْفِعْل (وَلَا ملزومه) أَي التّكْرَار (للتعدد) أَي لتحَقّق التَّعَدُّد بِحَسب الْأَفْرَاد (وَالْفِعْل وَاحِد فِي) إِيقَاع (التَّطْلِيق) دفْعَة وَاحِدَة (ثِنْتَيْنِ) تَارَة (وَثَلَاثًا) أُخْرَى فَإِن فِيهِ تعدد الطَّلَاق مَعَ عدم تكَرر فعل التَّطْلِيق (فَهُوَ) أَي تعدد الْأَفْرَاد (لَازم التّكْرَار أَعم) مِنْهُ لتحققه بِدُونِ التّكْرَار أَيْضا (فَلَا يلْزم من ثُبُوت التَّعَدُّد ثُبُوته) أَي التّكْرَار، لِأَن وجود الْأَعَمّ لَا يسْتَلْزم وجود الْأَخَص (وَلَا من انْتِفَاء التّكْرَار انتفاؤه) أَي التَّعَدُّد، لِأَن انْتِفَاء الْأَخَص لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء الْأَعَمّ (فَهِيَ) أَي الصُّور الْمَذْكُورَة بِاعْتِبَار التَّعَدُّد وَعَدَمه، ونظائرها غير مَبْنِيَّة على الْمَذْكُور لتحققها بِدُونِ الْخلاف فِي كَون الْأَمر للتكرار أَو لَا، بل هِيَ مسئلة (مُبتَدأَة) هَكَذَا:
(صِيغَة الْأَمر لَا تحْتَمل التَّعَدُّد الْمَحْض)
بِأَن لَا يكون هُنَاكَ جِهَة وَاحِدَة (لأفراد مفهومها) مُتَعَلق بالتعدد (فَلَا تصح إِرَادَته) أَي التَّعَدُّد الْمَحْض من صيغته (كَالطَّلَاقِ) أَي كَمَا لَا تصح إِرَادَة الطَّلَاق (من اسقنى خلافًا للشَّافِعِيّ) رَحمَه الله فَإِنَّهُ ذهب إِلَى أَنَّهَا تحتمله، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا تحتمله (لِأَنَّهَا مختصرة من طلب الْفِعْل بِالْمَصْدَرِ النكرَة) حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: طلق أَو وَقع طَلَاقا (وَهُوَ) أَي الْمصدر النكرَة (فَرد) من(1/355)
حَيْثُ أَنه لَا تركيب فِيهِ من جِهَة مَعْنَاهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ (فَتجب مُرَاعَاة فردية مَعْنَاهُ) (فَلَا تحْتَمل ضد مَعْنَاهُ) وَهُوَ التَّعَدُّد الْمَحْض، وَالْعدَد فِيهِ تركيب من الْأَفْرَاد (وَصِحَّة إِرَادَة الثِّنْتَيْنِ فِي الْأمة، وَالثَّلَاث فِي الْحرَّة للوحدة الجنسية) لِأَن الثِّنْتَيْنِ كل جنس طَلَاق الْأمة وَتَمَامه كَمَا أَن الثَّلَاث كَذَلِك فِي الْحرَّة فَإِنَّهُ لوحدته كل مِنْهُمَا فَرد وَاحِد من أَجنَاس التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة فَيَقَع بِالنِّيَّةِ (بِخِلَاف الثِّنْتَيْنِ فِي الْحرَّة) فَإِنَّهُ (لَا جِهَة لوحدته) فيهمَا لَا حَقِيقَة وَلَا حكما (فَانْتفى) كَونه مُحْتَمل اللَّفْظ فَلَا ينَال بِالنِّيَّةِ وَالْحَاصِل أَن الْفَرد الْحَقِيقِيّ مُوجبه والفرد الاعتباري محتمله، وَالْعدَد الْمَحْض لَا مُوجبه وَلَا يحْتَملهُ، وَمُوجب اللَّفْظ يثبت بِاللَّفْظِ من غير افتقار إِلَى النِّيَّة، ومحتمله لَا يثبت إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمَا لَا يحْتَملهُ لَا يثبت وَإِن نوى، لِأَن النِّيَّة لتعيين مُحْتَمل اللَّفْظ، لَا لإِثْبَات مَا لَا يحْتَملهُ (وَبعد أَنه لَا يلْزم اتِّحَاد مَدْلُول الصِّيغَة وتعدده) أَي تعدد مدلولها، بل قد يكون وَاحِدًا، وَقد يكون مُتَعَددًا (فقد يبعد نفي الِاحْتِمَال) أَي احْتِمَال التَّعَدُّد (لثُبُوت الْفرق لُغَة بَين أَسمَاء الْأَجْنَاس الْمعَانِي، وَبَعض) أَسمَاء الْأَجْنَاس (الْأَعْيَان) إِذْ لَا يُقَال لِرجلَيْنِ رجل، وَيُقَال للْقِيَام الْكثير قيام كالأعيان المتماثلة الْأَجْزَاء كَالْمَاءِ وَالْعَسَل، فَإِذا صدق الطَّلَاق على طَلْقَتَيْنِ كَيفَ لَا يحْتَملهُ) أَي الطَّلَاق هَذَا الْعدَد (لكِنهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (استمروا على مَا سَمِعت) من عدم الِاحْتِمَال (فِي الْكل) أَي كل أَسمَاء الْأَجْنَاس الْمعَانِي والأعيان حَتَّى قَالُوا تَفْرِيعا على ذَلِك (فَلَو حلف لَا يشرب مَاء انْصَرف) حلفه (إِلَى أقل مَا يصدق عَلَيْهِ) مَاء وَهُوَ قَطْرَة عِنْد الْإِطْلَاق (وَلَو نوى مياه الدُّنْيَا صَحَّ فيشرب مَا شَاءَ) مِنْهَا، وَلَا يَحْنَث لصدق أَنه لم يشْربهَا (أَو) قدرا من الأقدار المتخللة بَين الحدين كَمَا لَو نوى (كوزا لَا يَصح) ذَلِك مِنْهُ لخلو الْمَنوِي عَن صفة الفردية حَقِيقَة وَحكما.
مسئلة
(الْفَوْر) وَهُوَ امْتِثَال الْمَأْمُور بِهِ عقبه (ضَرُورِيّ للقائل بالتكرار) لِأَنَّهُ يلْزم استغراق الْأَوْقَات بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ على مَا مر (وَأما غَيره) أَي غير الْقَائِل بالتكرار (فإمَّا) أَي فَيَقُول الْمَأْمُور بِهِ لَا يَخْلُو من أَنه إِمَّا (مُقَيّد بِوَقْت يفوت الْأَدَاء) أَي أَدَاؤُهُ (بفوته) أَي بفوت ذَلِك الْوَقْت وَيَأْتِي تَفْصِيله فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (أَولا) أَي أَو غير مُقَيّد بِوَقْت كَذَا، وَإِن كَانَ وَاقعا فِي وَقت لَا محَالة (كالأمر بالكفارات وَالْقَضَاء) للصَّوْم وَالصَّلَاة (فَالثَّانِي) أَي غير الْمُقَيد بِمَا ذكر (لمُجَرّد الطّلب فَيجوز التَّأْخِير) على وَجه لَا يفوت الْمَأْمُور بِهِ كَمَا يجوز البدار بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الْحَنَفِيَّة، وعزى إِلَى الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، والآمدي، وَابْن الْحَاجِب،(1/356)
والبيضاوي. وَقَالَ ابْن برهَان لم ينْقل عَن الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة رحمهمَا الله نَص، وَإِنَّمَا فروعهما تدل على ذَلِك (وَقيل يُوجب الْفَوْر) والامتثال بِهِ (أول أَوْقَات الْإِمْكَان) للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ، وعزى إِلَى الْمَالِكِيَّة والحنابلة وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة. وَقَالَ (القَاضِي) الْأَمر يُوجب (إِمَّا إِيَّاه) أَي الْفَوْر (أَو الْعَزْم) على الْإِتْيَان بِهِ فِي ثَانِي حَال (وَتوقف إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي أَنه لُغَة للفور أم لَا، فَيجوز التَّرَاخِي) تَفْرِيع على الشق الثَّانِي (وَلَا يحْتَمل وُجُوبه) أَي التَّرَاخِي (فيمتثل) الْمَأْمُور (بِكُل) من الْفَوْز والتراخي لعدم رُجْحَان أَحدهمَا عِنْده (مَعَ التَّوَقُّف فِي أثمه بالتراخي) لَا بالفوز لعدم احْتِمَال وجوب التَّرَاخِي (وَقيل بِالْوَقْفِ فِي الِامْتِثَال) أَي لَا يدْرِي أَنه إِن بَادر يَأْثَم، أَو إِن أخر (لاحْتِمَال وجوب التَّرَاخِي لنا) على الْمُخْتَار، وَهُوَ أَنه لمُجَرّد الطّلب أَنه (لَا تزيد دلَالَته على مُجَرّد الطّلب) بفور أَو تزاخ لَا بِحَسب الْمَادَّة وَلَا بِحَسب الصِّيغَة (بِالْوَجْهِ السَّابِق) وَهُوَ أَن هَيْئَة الْأَمر لَا دلَالَة لَهَا إِلَّا على مُجَرّد الْفِعْل، فَلَزِمَ أَن تَمام مَدْلُول الصِّيغَة طلب الْفِعْل فَقَط (وَكَونه) أَي الْأَمر دَالا (على أَحدهمَا) أَي الْفَوْر أَو التَّرَاخِي (خَارج) عَن مَدْلُوله (يفهم بِالْقَرِينَةِ كاسقني) فَإِنَّهُ يدل على الْفَوْر لِأَن طلب السَّقْي عَادَة إِنَّمَا يكون عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ عَاجلا (وَافْعل بعد يَوْم) يدل على التَّرَاخِي بقوله بعد يَوْم (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بالفور (كل مخبر) بِكَلَام خبري: كزيد قَائِم (ومنشئ كبعت وَطَالِق يقْصد الْحَاضِر) عِنْد الْإِطْلَاق عَن الْقَرَائِن حَتَّى يكون موجدا للْبيع وَالطَّلَاق بِمَا ذكر (فَكَذَا الْأَمر) وَالْجَامِع بَينه وَبَين الْخَبَر كَون كل مِنْهُمَا من أَقسَام الْكَلَام، وَبَينه وَبَين سَائِر الإنشاءات الَّتِي يقْصد بهَا الْحَاضِر كَون كل مِنْهُمَا إنْشَاء (قُلْنَا) مَا ذكرت (قِيَاس فِي اللُّغَة) إِذْ قست الْأَمر فِي إفادته الْفَوْر على الْخَبَر والإنشاء للجامع الْمَذْكُور: وَهُوَ مَعَ اتِّحَاد الحكم غير جَائِز سِيمَا (مَعَ اخْتِلَاف حكمه فَإِنَّهُ) أَي الحكم (فِي الأَصْل) وَهُوَ الْخَبَر والإنشاء (تعين) الزَّمَان (الْحَاضِر) للظرفية (وَيمْتَنع فِي الْآمِر غير الِاسْتِقْبَال فِي) إِيقَاع (الْمَطْلُوب) لِأَن الْحَاصِل لَا يطْلب (والحاضر الطّلب) الْقَائِم بالآمر (وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ) أَي فِي الطّلب، بل فِي الْمَطْلُوب (فَإِن كَانَ) الزَّمَان الْمَطْلُوب فِيهِ إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ (أول زمَان يَلِيهِ) أَي يَلِي زمَان الطّلب مُتَّصِلا بِهِ (فالفور) أَي فَوَجَبَ الْفَوْر (أَو) الْمَطْلُوب فِيهِ (مَا بعده) أَي مَا بعد أول زمَان يَلِي الطّلب (فوجوب التَّرَاخِي، أَو) إِن كَانَ الْمَطْلُوب فِيهِ (مُطلقًا) غير مُتَعَيّن من قبل الْآمِر (فَمَا يعنيه) الْمَأْمُور من الْوَقْت (لَا على أَنه) أَي التَّرَاخِي (مَدْلُول الصِّيغَة قَالُوا) ثَالِثا (النَّهْي يُفِيد الْفَوْر، فَكَذَا الْأَمر) وَالْجَامِع بَينهمَا كَونهمَا طلبا (قُلْنَا) قِيَاس فِي اللُّغَة وَأَيْضًا الْفَوْر (فِي النَّهْي ضَرُورِيّ) لِأَن الْمَطْلُوب التّرْك مستمرا على مَا مر (بِخِلَاف الْأَمر،(1/357)
وَالتَّحْقِيق أَنه تحقق الْمَطْلُوب بِهِ) أَي بِالنَّهْي (وَهُوَ الِامْتِثَال بالفور) مُتَعَلق بتحقق الْمَطْلُوب فالفوز ثَبت لضَرُورَة الِامْتِثَال (لَا أَنه) أَي النَّهْي (يفِيدهُ) أَي الْفَوْر (وَقَوْلنَا ضَرُورِيّ فِيهِ أَي فِي امتثاله قَالُوا) ثَالِثا (الْأَمر نهي عَن الأضداد: وَهُوَ) أَي النَّهْي (للفور فَيلْزم فعل الْمَأْمُور بِهِ على الْفَوْر ليتَحَقَّق امْتِثَال النَّهْي عَنْهَا (أَي أضداد الْمَأْمُور بِهِ (وَتقدم نَحوه) من قَوْله: الْأَمر نفي عَن أضداده وَهُوَ دائمي فتكرر فِي الْمَأْمُور بِهِ (وَمَا هُوَ التَّحْقِيق فِيهِ) من أَنه إِذا كَانَ الْأَمر فِيهِ دَائِما كَانَ نهيا عَن أضداده دَائِما أَو فِي وَقت معِين فَفِيهِ نهي الضِّدّ لَا فِي سَائِر الْأَوْقَات، أَو مُطلقًا فَفِي وَقت الضِّدّ: أَي ضد، وَيُقَال هَهُنَا إِن كَانَ الْأَمر فوريا كَانَ النَّهْي كَذَلِك إِلَى آخِره (قَالُوا) رَابِعا (ذمّ) الله تَعَالَى إِبْلِيس (على عدم الْفَوْر) بقوله {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} حَيْثُ قَالَ - {وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} - فَدلَّ على أَنه على الْفَوْر وَإِلَّا لما اسْتحق الذَّم لِأَنَّهُ لم يضيق عَلَيْهِ (قُلْنَا) هَذَا الْأَمر (مُقَيّد) وَفِي نُسْخَة " ذَلِك مُقَيّد بِوَقْت " أَي وَقت نفخ الرّوح فِيهِ بعد تسويته (فَوته) صفة وَقت: أى ابليس الِامْتِثَال متجاوزا (عَنهُ بِدَلِيل: فاذا سويته) ونفحت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين، إِذْ التَّقْدِير فقعوا لَهُ ساجدين وَقت تسويتي إِيَّاه ونفخي فِيهِ الرّوح، إِذْ الْعَامِل فِي إِذا فقعوا (قَالُوا) خَامِسًا (لَو جَازَ التَّأْخِير) للْمَأْمُور بِهِ (لوَجَبَ) انتهاؤه (إِلَى) وَقت (معِين أَو إِلَى آخر أزمنة الْإِمْكَان، وَالْأول) أَي وجوب التَّأْخِير إِلَى وَقت معِين (مُنْتَفٍ) لِأَن الْكَلَام فِي غير الموقت شرعا، وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ من الْخَارِج، وَكبر السن، وَالْمَرَض الشَّديد لَا يعين، إِذْ كم من شباب يَمُوت فَجْأَة، وشيح ومريض يعِيش مُدَّة. (وَالثَّانِي) أَي وجوب التَّأْخِير إِلَى آخر أزمنة الْإِمْكَان تَكْلِيف (مَا لَا يُطَاق) لكَونه غير معِين عِنْد الْمُكَلف، فالتكليف بإيقاع الْفِعْل فِي وَقت مَجْهُول تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق (أُجِيب بِالنَّقْضِ) الإجمالي (بِجَوَاز التَّصْرِيح بِخِلَافِهِ) بِأَن يَقُول الشَّارِع افْعَل وَلَك التَّأْخِير فَإِنَّهُ جَائِز إِجْمَاعًا وَمَا ذكر من الدَّلِيل جَار فِيهِ (و) بِالنَّقْضِ التفصيلي (بِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزم) تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق (بِإِيجَاب التَّأْخِير إِلَيْهِ) أَي إِلَى آخر أزمنة الْإِمْكَان (أما جَوَازه) أَي التَّأْخِير (إِلَى وَقت يُعينهُ الْمُكَلف فَلَا) يلْزم مِنْهُ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق (لتمكنه من الِامْتِثَال) فِي أَي وَقت شَاءَ إِيقَاع الْفِعْل فِيهِ (قَالُوا) سادسا (وَجَبت المسارعة) إِلَى الْمَأْمُور بِهِ لقَوْله تَعَالَى {وسارعوا} إِلَى مغْفرَة من ربكُم: أَي إِلَى سَببهَا، لِأَن نَفسهَا لَيست فِي قدرَة العَبْد، وَمن سَببهَا فعل الْمَأْمُور بِهِ، وَإِنَّمَا تتَحَقَّق المسارعة بالفور وَقَوله تَعَالَى (فاستبقوا) الْخيرَات، وَالْكَلَام فِي الْمُسَابقَة مثله فِي المسارعة (الْجَواب جَازَ) كَونه فيهمَا (تَأْكِيدًا لإيجابه) أَي الْفَوْر بِأَن يكون أَصله مفادا (بالصيغة) كَمَا قَالُوا (و) جَازَ كَونه فيهمَا (تأسيسا) بِنَاء على أَن الصِّيغَة غير متعرضة لإيجابه، وَيكون الْإِيجَاب مفادا(1/358)
بهما كَمَا قُلْنَا (فَلَا يُفِيد) شَيْء مِنْهُمَا (أَنه) أَي الْفَوْر (مُوجبهَا) أَي الصِّيغَة كَمَا هُوَ مطلبهم لعدم انتهاض الِاسْتِدْلَال مَعَ احْتِمَال خلاف الْمَقْصُود (فَكيف والتأسيس مقدم) على التَّأْكِيد (فَانْقَلَبَ) دليلهم لِأَن حمل الْآيَتَيْنِ على التأسيس الَّذِي هُوَ الأَصْل يسْتَلْزم عدم إِفَادَة الصِّيغَة الْفَوْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ أَفَادَ) دليلهم (حِينَئِذٍ نَفْيه) أَي نفى كَون الصِّيغَة دَالَّة على الْفَوْر قَالَ (القَاضِي ثَبت حكم خِصَال الْكَفَّارَة) وَهُوَ أَنه لَو أَتَى بأحدها أجر وَلَو أخل بهَا عصى (فِي الْفِعْل والعزم) مُتَعَلق بثبت، وَمعنى ثُبُوت حكمهَا فِيهَا أَنه كَمَا يجب هُنَاكَ الْإِتْيَان بأحدها يجب هَهُنَا الْإِتْيَان بِأَحَدِهِمَا (وَهُوَ) أَي حكمهَا فِيهَا (الْعِصْيَان بتركهما) أَي الْفِعْل والعزم (وَعَدَمه) أَي عدم الْعِصْيَان بإتيانه (بِأَحَدِهِمَا فَكَانَ) الْفِعْل على الْفَوْر أَو الْعَزْم عَلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَال فَوْرًا (مُقْتَضَاهُ) أَي الْأَمر وَأورد عَلَيْهِ عدم تأثيم من أَتَى بالعزم وَلم يَأْتِ بِالْفِعْلِ أصلا، وَهُوَ خلاف الاجماع وَأجِيب بِأَن مُرَاده التَّخْيِير بَينهمَا مَا لم يتضيق الْوَقْت فَإِنَّهُ إِذا أضَاف تعين الْوَقْت (وَالْجَوَاب الْجَزْم بِأَن الطَّاعَة) الَّتِي هِيَ الِامْتِثَال إِنَّمَا هِيَ (بِالْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ) فَهُوَ مُقْتَضى أذ (فوجوب الْعَزْم لَيْسَ مُقْتَضَاهُ) أَي الْأَمر (على التَّخْيِير) بَينه وَبَين الْفِعْل (بل هُوَ) أَي الْعَزْم (على) فعل (مَا ثَبت وُجُوبه من أَحْكَام الْإِيمَان) ثَبت مَعَ ثُبُوت الْإِيمَان، لَا الِاخْتِصَاص لَهُ بِصِيغَة الْأَمر قَالَ (الإِمَام الطّلب مُحَقّق وَالشَّكّ فِي جَوَاز التَّأْخِير فَوَجَبَ الْفَوْر) ليخرج عَن الْعهْدَة بِيَقِين (وَاعْترض) على هَذَا بِأَنَّهُ (لَا يلائم مَا تقدم لَهُ) أَي للْإِمَام (من التَّوَقُّف فِي كَونه) أَي الْأَمر (للفور، وَأَيْضًا وجوب الْمُبَادرَة يُنَافِي قَوْله) أَي الإِمَام (أقطع بِأَنَّهُ) أَي الْمُكَلف (مهما أَتَى بِهِ) أَي الْمَأْمُور بِهِ فَهُوَ (موقع بِحكم الصِّيغَة للمطلوب) كَذَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، فَأجَاب عَنهُ المُصَنّف بقوله (وَأَنت إِذا وصلت قَوْله) أَي الإِمَام (للمطلوب) مَعَ مَا قبله (يُنَافِي قَوْله) وَهُوَ (وَإِنَّمَا التَّوَقُّف فِي أَنه لَو أخر) الْمُكَلف عَن أول زمَان الْإِمْكَان (هَل يَأْثَم بِالتَّأْخِيرِ مَعَ أَنه ممتثل لأصل الْمَطْلُوب) قطعا وَإِن احْتمل عدم الِامْتِثَال بِاعْتِبَار وَصفه، وَهُوَ كَونه على الْفَوْر نظرا إِلَى احْتِمَال كَونه مُوجب الْأَمر (لم تقف عَن الْجَزْم بالمطابقة) بَين كَلَامه جَوَاب إِذا، ومجموع الشَّرْط وَالْجَزَاء خبر أَنْت ثمَّ بَين وَجه التَّوْفِيق بقوله (فَإِن وجوب الْفَوْر بعد مَا قَالَ) من الشَّك فِي جَوَاز التَّأْخِير (لَيْسَ إِلَّا احْتِيَاطًا، لاحْتِمَال الْفَوْر لَا أَنه مُقْتَضى الصِّيغَة فَإِن الشَّك فِي جَوَاز التَّأْخِير) إِنَّمَا حصل (بِالشَّكِّ فِي الْفَوْر) أَي كَون الْأَمر حِينَئِذٍ مُفِيدا للفور (ثمَّ كَونه ممتثلا بِحكم الصِّيغَة يُنَافِي الْإِثْم) لِأَن الصِّيغَة دلّت على إِيقَاع الْفِعْل قطعا وَقد أَتَى بِهِ، ودلالتها على الْفَوْر غير مَعْلُوم وَلَا مظنون، وَلَا يُؤَاخذ العَبْد بترك مثله فَلم يكن حكم الصِّيغَة إِلَّا إِيقَاع الْفِعْل فَلَا وَجه لاحْتِمَال الْإِثْم (إِلَّا أَن يُرَاد)(1/359)
بالإثم الْمَذْكُور فِي كَلَامه (إِثْم ترك الِاحْتِيَاط) . قَالَ الشَّارِح وَبعد تَسْلِيم أَن الْفَوْر احْتِيَاط فكون تَركه مؤثما مَحل نظر انْتهى، وَفِي قَوْله وَبعد تَسْلِيم إِشَارَة إِلَى منع كَون الِاحْتِيَاط فِي الْفَوْر، وَلَا وَجه لمَنعه إِلَّا بِاعْتِبَار وجوب التَّأْخِير وَقد علمت أَنه لَا يُقيد بِهِ (نعم لَو قَالَ) الإِمَام (الْقَضَاء بالصيغة لَا بِسَبَب جَدِيد أمكن) هَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح وَلَيْسَ فِي النُّسْخَة الَّتِي اعتمادي عَلَيْهَا " نعم لَو قَالَ إِلَى آخِره " وَذكر فِي تَوْجِيهه مَا حَاصله إرجاع ضمير أمكن إِلَى عدم الْمُنَافَاة بَين الِامْتِثَال والتأثيم بِالتَّأْخِيرِ لجَوَاز جعله ممتثلا بِحكم الصِّيغَة من حَيْثُ الْقَضَاء، وآثما بِتَرْكِهِ الِامْتِثَال بِحكم الصِّيغَة من حَيْثُ الْأَدَاء، ثمَّ رد هَذَا التَّوْجِيه أَولا وَثَانِيا، وَالَّذِي يظْهر أَنه كَانَت هَذِه الزِّيَادَة ثمَّ غيرت وَلم يطلع الشَّارِح على التَّغْيِير وَهُوَ الصَّوَاب (وَأجِيب) عَن اسْتِدْلَال الإِمَام بِأَنَّهُ (لَا شكّ) فِي جَوَاز التَّأْخِير (مَعَ) وجود (دليلنا) الْمُفِيد لَهُ الرافع للشَّكّ.
(تَنْبِيه: قيل مسئلة الْأَمر للْوُجُوب شَرْعِيَّة لِأَن محمولها الْوُجُوب، وَهُوَ) حكم (شَرْعِي، وَقيل لغوية وَهُوَ ظَاهر) كَلَام (الْآمِدِيّ وَأَتْبَاعه) وَالصَّحِيح عَن أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ (إِذْ كرروا قَوْلهم فِي الْأَجْوِبَة قِيَاس فِي اللُّغَة، وَإِثْبَات اللُّغَة بلوازم الْمَاهِيّة، وَهُوَ) أَي كَونهَا لغوية (الْوَجْه، إِذْ لَا خلل) فِي ذَلِك وَإِن كَانَ محمولها الْوُجُوب (فَإِن الْإِيجَاب لُغَة الْإِثْبَات والإلزام، وإيجابه سُبْحَانَهُ لَيْسَ إِلَّا إِلْزَامه، وإثباته على المخاطبين بِطَلَبِهِ الحتم، فَهُوَ) أَي الْوُجُوب الشَّرْعِيّ (من أَفْرَاد) الْوُجُوب (اللّغَوِيّ) وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه يَنْبَغِي أَن تكون شَرْعِيَّة لِأَنَّهُ مَأْخُوذ فِي مَفْهُوم الْوُجُوب (وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب بِالتّرْكِ لَيْسَ جُزْء الْمَفْهُوم) للْوُجُوب (بل) لَازم (مُقَارن بِخَارِج) أَي دَلِيل خَارج من مَفْهُوم الْوُجُوب (عَقْلِي أَو عادي لأمر كل من لَهُ ولَايَة الْإِلْزَام، وَهُوَ) أَي الْخَارِج الْمَذْكُور (حسن عِقَاب مخالفه) أَي كَالَّذي يُخَالف أَمر من لَهُ ولَايَة الْإِلْزَام (وتعريف الْوُجُوب) لَهُ بِأَنَّهُ (طلب) للْفِعْل (ينتهض تَركه سَببا للعقاب) كَمَا هُوَ الْمَذْكُور فِي كَلَام الْقَوْم (تجوز لإيجابه تَعَالَى: أَو) لإِيجَاب (من لَهُ ولَايَة إِلَّا لزام بِقَرِينَة ينتهض إِلَى آخِره فَيصدق إِيجَابه تَعَالَى فَردا من مطلقه) أَي الْوُجُوب اللّغَوِيّ تَقْدِيره فَيصدق على إِيجَابه: فَيكون مَنْصُوبًا بِنَزْع الْخَافِض، وَيجوز أَن يكون يصدق بِمَعْنى يَشْمَل، وَقَوله فَردا حَال عَن إِيجَابه (وَظهر أَن الِاسْتِحْقَاق) للعقاب بِالتّرْكِ (لَيْسَ لَازم التّرْك) مُطلقًا (بل) هُوَ لَازم (لصنف مِنْهُ) أَي من الْوُجُوب (لتحَقّق الْأَمر مِمَّن لَا ولَايَة لَهُ مُفِيدا للْإِيجَاب (فَيتَحَقَّق هُوَ) أَي الْوُجُوب فِيهِ (وَلَا اسْتِحْقَاق) للعقاب (بِتَرْكِهِ) لِأَنَّهُ (بِلَا ولَايَة) لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ.(1/360)
مسئلة
(الْآمِر) لشخص (بِالْأَمر) لغيره (بالشَّيْء لَيْسَ آمرا بِهِ) أَي بذلك الشَّيْء (لذَلِك الْمَأْمُور) بالواسطة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمَأْمُور بالواسطة مَأْمُورا للْآمِر الأول بذلك الشَّيْء (كَانَ مر عَبدك بِبيع ثوبي تَعَديا) على صَاحب العَبْد بِالتَّصَرُّفِ فِي عَبده بِغَيْر إِذْنه (وناقض) أَمر السَّيِّد بِالْأَمر لعَبْدِهِ (قَوْلك للْعَبد لَا تبعه) لوُرُود الْأَمر وَالنَّهْي على فعل وَاحِد وَنقل الشَّارِح عَن السُّبْكِيّ منع لُزُوم التَّعَدِّي بِأَن التَّعَدِّي أَمر عبد الْغَيْر بِغَيْر أَمر سَيّده، وَهنا أمره بِأَمْر سَيّده: فَإِن أمره للْعَبد مُتَوَقف على أَمر سَيّده انْتهى، وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن النزاع فِي أَن مُجَرّد قَوْله: مر عَبدك إِلَى آخِره هَل هُوَ أَمر للْعَبد بِبيع الثَّوْب أم لَا؟ فَإِن السَّيِّد إِذا أَمر عَبده بِمُوجب مر عَبدك هَل يتَحَقَّق عِنْد ذَلِك أَمر العَبْد من قبل الْقَائِل مر عَبدك بِجعْل السَّيِّد سفيرا أَو وَكيلا فَافْهَم وَأما الْكَلَام فِي المناقضة فَمَا أَفَادَهُ بقوله: (وَلَا يخفى منع بطلَان التَّالِي، إِذْ لَا يُرَاد بالمناقضة هُنَا إِلَّا مَنعه) أَي الْمَأْمُور من البيع (بعد طلبه) أَي الْمَبِيع (مِنْهُ) أَي الْمَأْمُور بِالْبيعِ (وَهُوَ) أَي مَنعه مِنْهُ بعد طلبه مِنْهُ (نسخ) لطلبه على مَا هُوَ الْمُخْتَار: هَذَا، وَقيل الْأَمر بالشَّيْء أَمر بِهِ (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَمر بِهِ (فهم ذَلِك) أَي مَا ذكر من أَنه أَمر بِهِ (من أَمر الله تَعَالَى رَسُوله بِأَن يَأْمُرنَا) فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ أَن الله تَعَالَى أمرنَا بِمَا يَأْمر بِهِ الرَّسُول (و) من أَمر (الْملك وزيره) بِأَن يَأْمر فلَانا بِكَذَا فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ أَن الْآمِر هُوَ الْملك (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي فهم ذَلِك فيهمَا (من قرينَة أَنه) أَي الْمَأْمُور أَولا (رَسُول) ومبلغ عَن الله وَالْملك (لَا من لفظ الْأَمر الْمُتَعَلّق بِهِ) أَي بالمأمور الأول، وَمحل النزاع إِنَّمَا هُوَ هَذَا مَا لَو قَالَ: قل لفُلَان افْعَل كَذَا فَالْأول آمُر، وَالثَّانِي مبلغ بِلَا نزاع: كَذَا نقل عَن ابْن السُّبْكِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَاخْتَارَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ التَّسْوِيَة بَينهمَا.
مَسْأَلَة
(إِذا تعاقب أَمْرَانِ) غير متعاطفين (بمتماثلين) أَي بفعلين من نوع وَاحِد، نَحْو: صل رَكْعَتَيْنِ صل رَكْعَتَيْنِ (فِي قَابل للتكرار) ظرفان للتماثلين: أَي يكون تماثلهما فِي فعل قَابل للتكرار، احْتِرَازًا من نَحْو مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بِخِلَاف: صم الْيَوْم) صم الْيَوْم فَإِنَّهُ لَا يعود التّكْرَار فِي صَوْم الْيَوْم الْمعِين (وَلَا صَارف عَنهُ) أَي عَن التّكْرَار (من تَعْرِيف) الْمَأْمُور بِهِ بعد ذكره مُنْكرا (كصل الرَّكْعَتَيْنِ) بعد صل رَكْعَتَيْنِ (أَو) من (عَادَة كاسقني مَاء) اسْقِنِي(1/361)
مَاء (فَإِنَّهُ) أَي حكم مَا ذكره وَهُوَ كَون الثَّانِي مؤكدا للْأولِ فِي مثلهَا (اتِّفَاق) أما فِي الأولى فَلَمَّا ذكر، وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن دفع الْحَاجة بِمرَّة وَاحِدَة غَالِبا، وستظهر فَائِدَة مَا فِي الْقُيُود (قيل بِالْوَقْفِ) فِي كَونه تأسيسا أَو تَأْكِيدًا، وَهُوَ لأبي بكر الصَّيْرَفِي وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ (وَقيل تَأْكِيد) وَهُوَ لبَعض الشَّافِعِيَّة والجبائي (وَقيل تأسيس) وَهُوَ للأكثرين (لِأَنَّهُ) أَي التأسيس (أفود، وَوضع الْكَلَام للإفادة وَلِأَنَّهُ الأَصْل: وَالْأول) وَهُوَ أَنه أفود وَوضع الْكَلَام للإفادة (يُغني عَن هَذَا) أَي لِأَنَّهُ الأَصْل (وَالْكل) أَي كل مِنْهُمَا (لَا يُقَاوم الأكثرية) للتكرير فِي التَّأْكِيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى التأسيس معَارض بِمَا فِي التَّأْكِيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى التأسيس وَالْحمل على الْمَعْنى الْأَغْلَب (ومعارض بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّة) أَي التأسيس معَارض بِمَا فِي التَّأْكِيد من الْمُوَافقَة للْأَصْل: وَهِي بَرَاءَة ذمَّة الْمُكَلف من تعلق التَّكْلِيف بهَا مرّة ثَانِيَة (بعد منع الإصالة) أَي أَن الأَصْل فِي الْكَلَام الإفادة (فِي التّكْرَار) إِنَّمَا ذَلِك فِي غير التّكْرَار بِشَهَادَة الْكَثْرَة (فيتزجح) التَّأْكِيد (وَإِذا منع كَون التأسيس أَكثر فِي مَحل النزاع) وَهُوَ تعاقب أَمريْن بمتماثلين فِي قَابل للتكرار لَا صَارف عَنهُ (سقط مَا قيل) أَي مَا قَالَه الْوَاقِف (تعَارض التَّرْجِيح) فِي التأسيس والتأكيد (فالوقف) لثُبُوت أرجحية التَّأْكِيد عَلَيْهِ لما عرفت (وَفِي الْعَطف كوصل رَكْعَتَيْنِ) بعد صل رَكْعَتَيْنِ (يعْمل بهما) أَي الْأَمريْنِ، لِأَن التَّأْكِيد بالْعَطْف لم يعْهَد أَو يقل، وَقيل يكون الثَّانِي عين الأول، وَالْأول هُوَ الْوَجْه (إِلَّا أَن ترجح التَّأْكِيد) فِي الْعَطف بمرجح (فبه) أَي فَيعْمل بالتأكيد (أَو) يُوجد (التعادل) بَين المرجحات من الْجَانِبَيْنِ (فبمقتضى خَارج) أَي فَالْعَمَل بِمُقْتَضى خَارج عَن المعادلين إِن وجد، وَإِلَّا فالوقف، قيل بترجيح التأسيس لما فِيهِ من الِاحْتِيَاط وَأجِيب بِأَن الِاحْتِيَاط قد يكون فِي الْحمل على التَّأْكِيد لاحْتِمَال الْحُرْمَة فِي الْمرة الثَّانِيَة: هَذَا فِي الْأَمريْنِ بمتماثلين، فَإِن كَانَا مُخْتَلفين عمل بهما اتِّفَاقًا، ثمَّ هَذَا كُله فِي المتعاقبين فَإِن تراخي أَحدهمَا عَن الآخر عمل بهما سَوَاء تماثلا أَو اخْتلفَا بعطف أَو بِغَيْر عطف.
مسئلة
(اخْتلف الْقَائِلُونَ بالنفسي) أَي بِالْأَمر النَّفْسِيّ، وَهُوَ الَّذِي حد فِيمَا سبق باقتضاء فعل غير كف على جِهَة الاستعلاء، وستظهر فَائِدَة تَقْيِيد الِاخْتِلَاف بهم (فاختيار الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَابْن الْحَاجِب أَن الْأَمر بالشَّيْء فَوْرًا لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه) أَي ضد ذَلِك الشَّيْء (وَلَا يَقْتَضِيهِ) أَي لَا يَقْتَضِي الْأَمر بالشَّيْء النَّهْي عَن ضِدّه (عقلا، والمنسوب إِلَى الْعَامَّة) أَي عَامَّة الْعلمَاء(1/362)
وجماهيرهم (من الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والمحدثين أَنه) أَي الْأَمر بالشَّيْء (نهى عَنهُ) أَي عَن ضد ذَلِك الشَّيْء (إِن كَانَ) الضِّدّ (وَاحِدًا) فَالْأَمْر بِالْإِيمَان نهى عَن الْكفْر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن وَاحِدًا (فَعَن الْكل) أَي فَهُوَ نهى عَن كلهَا، فَالْأَمْر بِالْقيامِ نهى عَن الْقعُود، والاضطجاع، وَالسُّجُود وَغَيرهَا (وَقيل) نهى (عَن وَاحِد غير معِين) من أضداده (وَهُوَ بعيد) جدا (وَأَن النَّهْي) عَن الشَّيْء (أَمر بالضد المتحد) فِي الضدية، فالنهي عَن الْكفْر أَمر بِالْإِيمَان (وَإِلَّا) بِأَن كَانَ لَهُ أضداد (فَقيل) قَالَه بعض الْحَنَفِيَّة والمحدثين هُوَ أَمر (بِالْكُلِّ) أى بأضدادها كلهَا (وَفِيه بعد، والعامة) من الحنيفة وَالشَّافِعِيَّة والمحدثين هُوَ أَمر (بِوَاحِد غير معِين) من أضداده (وَالْقَاضِي) قَالَ (أَولا كَذَلِك) أَي الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده (وآخرا يتضمنان) أَي يتَضَمَّن الْأَمر بالشَّيْء النَّهْي عَن ضِدّه، ويتضمن النَّهْي عَن الشَّيْء الْأَمر بضده (وَمِنْهُم من اقْتصر على الْأَمر) أَي قَالَ الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه، وَسكت عَن النَّهْي وَهُوَ معزو للأشعري ومتابعيه (وعمم) الْأَمر فِي أَنه نهى عَن الضِّدّ (فِي) الْأَمر (الإيجابي و) الْأَمر (الندبى، فهما نهيا تَحْرِيم وَكَرَاهَة فِي الضِّدّ) نشر على تَرْتِيب اللف (وَمِنْهُم من خص أَمر الْوُجُوب) بِكَوْنِهِ نهيا عَن الضِّدّ دون أَمر النّدب (وَاتفقَ الْمُعْتَزلَة لنفيهم) الْكَلَام (النَّفْسِيّ على نفي العينية فيهمَا) أَي على أَن الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه وَلَا بِالْعَكْسِ لعدم إِمْكَان ذَلِك لفظا فيهمَا (وَاخْتلفُوا هَل يُوجب كل من الصيغتين) أَي صِيغَة الْأَمر وَالنَّهْي (حكما فِي الضِّدّ: فَأَبُو هَاشم وَأَتْبَاعه) قَالُوا (لَا) يُوجب شَيْئا مِنْهُمَا حكما فِيهِ (بل) الضِّدّ (مسكوت) عَنهُ (وَأَبُو الْحُسَيْن وَعبد الْجَبَّار) قَالَا الْأَمر (يُوجب حرمته) أَي الضِّدّ (وَعبارَة) طَائِفَة (أُخْرَى) الْأَمر (يدل عَلَيْهَا) أَي حُرْمَة ضِدّه (و) عبارَة طَائِفَة (أُخْرَى) الْأَمر (يقتضيها) أَي حُرْمَة ضِدّه: فَمن قَالَ يُوجب أَشَارَ إِلَى ثُبُوتهَا ضَرُورَة تحقق حكم الْأَمر كَالنِّكَاحِ أوجب الْحل فِي حق الزَّوْج بصيغته، وَالْحُرْمَة فِي حق الْغَيْر بِحكمِهِ دون صيغته، وَمن قَالَ يدل أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تثبت بطرِيق الدّلَالَة كالنهي عَن التأفيف يدل على حُرْمَة الضَّرْب، وَمن قَالَ يقتضى أَشَارَ إِلَى ثُبُوتهَا بِالضَّرُورَةِ المنسوبة إِلَى غير لفظ الْأَمر: كَذَا ذكره الشَّارِح. (وفخر الْإِسْلَام وَالْقَاضِي أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ رَحِمهم الله، وَصدر الْإِسْلَام (وأتباعهم) من الْمُتَأَخِّرين قَالُوا: الْأَمر (يَقْتَضِي كَرَاهَة الضِّدّ وَلَو كَانَ) الْأَمر (إِيجَابا، وَالنَّهْي) يَقْتَضِي (كَونه) أَي الضِّدّ (سنة مُؤَكدَة وَلَو) كَانَ النَّهْي (تَحْرِيمًا، وحرر أَن المسئلة فِي أَمر الْفَوْر لَا التَّرَاخِي) ذكره شمس الْأَئِمَّة وَصدر الْإِسْلَام وَصَاحب القواطع وَغَيرهم: كَذَا ذكره الشَّارِح (وَفِي الضِّدّ) الوجودي (المستلزم للترك(1/363)
لَا التّرْك) ثمَّ قَالُوا (وَلَيْسَ النزاع فِي لَفْظهمَا) أَي الْأَمر وَالنَّهْي بِأَن يُقَال: لفظ النَّهْي أَمر، وَبِالْعَكْسِ للْقطع بِأَن الْأَمر مَوْضُوع لصيغة افْعَل وَنَحْوه، وَالنَّهْي للا تفعل وَنَحْوه (وَلَا المفهومين) وَلَيْسَ النزاع فِي أَن مَفْهُوم أَحدهمَا، وَهُوَ الصِّيغَة الْمَخْصُوصَة لَيْسَ مَفْهُوم الآخر، وَهُوَ الصِّيغَة الْأُخْرَى (للتغاير) بَين المفهومين (بل) النزاع (فِي أَن طلب الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْأَمر عين طلب ترك ضِدّه الَّذِي هُوَ النَّهْي، وَقَول فَخر الْإِسْلَام وَمن مَعَه) وَالْأَمر بالشَّيْء يقتضى كَرَاهَة ضِدّه إِلَى آخِره كَمَا مر آنِفا (لَا يسْتَلْزم) كَون المُرَاد بِالْأَمر أوالنهي (اللَّفْظِيّ) حَتَّى يلْزم أَن تكون صِيغَة الْأَمر صِيغَة الْمنْهِي عَنهُ وَبِالْعَكْسِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ صِيغَة الْأَمر مستلزما للكراهة مَعَ قطع النّظر عَن مُلَاحظَة الضَّرُورَة كَانَت الْكَرَاهَة مدلولا التزاميا بِصِيغَة (بل هُوَ) أَي أحد قوليه وَمن مَعَه (كالتضمن فِي قَول القَاضِي آخرا) فِي أَن مآلهما وَاحِد: وَهُوَ أَنه يسْتَلْزم الْأَمر بالشَّيْء النَّهْي عَن ضِدّه ضَرُورَة، وَكَذَلِكَ النَّهْي عَن الشَّيْء يسْتَلْزم كَون ضد ذَلِك الشَّيْء مَأْمُورا بِهِ ضَرُورَة وَلذَا اقتصروا على كَونه سنة مُؤَكدَة: إِذْ لَا ضَرُورَة فِي إِثْبَات الْوُجُوب لَهُ، لِأَن حرمته تَسْتَلْزِم تَركه، وَتَركه لَا يسْتَلْزم فعل ضِدّه الوجودي لجَوَاز أَن لَا يفعل شَيْئا من الضدين، لكنه علم من عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يعْمل بضد مَا نهى عَنهُ أَلْبَتَّة فَيكون سنة مُؤَكدَة (وَمرَاده) أَي فَخر الْإِسْلَام من الْأَمر الَّذِي يقتضى كَرَاهَة الضِّدّ (غير أَمر الْفَوْر لتنصيصه) أَي فَخر الْإِسْلَام (على تَحْرِيم الضِّدّ المفوت) إِذا كَانَ الْأَمر للْوُجُوب حَيْثُ قَالَ: التَّحْرِيم إِذا لم يكن مَقْصُودا بِالْأَمر لم يعْتَبر إِلَّا من حَيْثُ يفوت الْأَمر، فَإِن لم يفوتهُ كَانَ مَكْرُوها: كالأمر بِالْقيامِ لَيْسَ بنهي عَن الْقعُود قصدا، حَتَّى لَو قعد ثمَّ قَامَ لم تفْسد صلَاته بِنَفس الْقعُود وَلكنه يكره انْتهى، وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَة تَفْصِيل، وَجه التَّعْلِيل أَن الِاشْتِغَال بالضد فِي الْأَمر الفوري مفوت لَهُ، فضد كل أَمر فوري حرَام لَا مَكْرُوه (وعَلى هَذَا) الَّذِي تحرر مُرَاد فَخر الْإِسْلَام (يَنْبَغِي تَقْيِيد الضِّدّ) فِيمَا إِذا قيل الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه (بالمفوت، ثمَّ إِطْلَاق الْأَمر عَن كَونه) أَي الْأَمر (فوريا) فَيُقَال: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه المفوت لَهُ، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده المفوت عَدمه لَهُ، وَلذَا قَالَ صدر الشَّرِيعَة: أَن الضدان فَوت الْمَقْصُود بِالْأَمر يحرم، وَإِن فَوت عَدمه الْمَقْصُود بِالنَّهْي يجب، وَإِن لم يفوت فِي الْأَمر يَقْتَضِي الْكَرَاهَة، وَفِي النَّهْي كَونه سنة مُؤَكدَة (وَفَائِدَة الْخلاف) فِي كَون الْأَمر بالشَّيْء نهيا عَن ضِدّه (اسْتِحْقَاق الْعقَاب بترك الْمَأْمُور بِهِ فَقَط) إِذا قيل بِأَنَّهُ لَيْسَ بنهي عَن ضِدّه (أَو بِهِ) أَي بترك الْمَأْمُور بِهِ (وبفعل الضِّدّ حَيْثُ عصى أمرا ونهيا) إِذا قيل بِأَنَّهُ نهي عَن ضِدّه، وعَلى هَذَا الْقيَاس فِي جَانب النَّهْي (للنافين) كَون الْأَمر نهيا عَن ضِدّه وَبِالْعَكْسِ (لَو كَانَا) أَي النَّهْي عَن الضِّدّ وَالْأَمر بالضد (إيَّاهُمَا) أَي عين الْأَمر(1/364)
بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن الشَّيْء (أَو) لم يَكُونَا عينهما بل كَانَا (لازميهما لزم تعقل الضِّدّ فِي الْأَمر وَالنَّهْي و) تعقل (الْكَفّ) فِي الْأَمر وَالْأَمر فِي النَّهْي (لاستحالتهما) أَي لِاسْتِحَالَة الْأَمر وَالنَّهْي عل ذَلِك التَّقْدِير (مِمَّن لم يتعقلهما) أَي الضِّدّ والكف فِي الْأَمر والضد وَالْأَمر فِي النَّهْي (وَالْقطع بتحققهما) أَي الْأَمر وَالنَّهْي (وَعدم خطورهما) أَي الضِّدّ والكف فِي الْأَمر والضد وَالْأَمر فِي النَّهْي حَاصِل (وَاعْترض) على هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَن مَا لَا يخْطر) بالبال إِنَّمَا هُوَ (الأضداد الْجُزْئِيَّة) كلهَا وتعقله أَي الضِّدّ وَلَيْسَت مرَادا للقائل بِكَوْنِهَا نهيا عَن الضِّدّ (وَالْمرَاد) بالضد فِي كَلَامه (الضِّدّ الْعَام) وَهُوَ مَا لَا يُجَامع الْمَأْمُور بِهِ الدائر فِي الأضداد الْجُزْئِيَّة كلهَا (وتعقله) أَي الضِّدّ الْعَام (لَازم) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي (إِذْ طلب الْفِعْل مَوْقُوف على الْعلم بِعَدَمِهِ) أَي الْفِعْل (لانْتِفَاء طلب الْحَاصِل) أَي الْمَعْلُوم حُصُوله، وَفِيه أَن هَذَا يَقْتَضِي عدم الْعلم بحصوله، لَا الْعلم بِعَدَمِهِ (وَهُوَ) أَي الْعلم بِعَدَمِهِ (ملزوم الْعلم بالخاص) أَي بالضد الْخَاص (وَهُوَ) أَي الضِّدّ الْخَاص (ملزوم للعام) أَي للضد الْعَام فَلَا بُد من تعقل الضِّدّ الْعَام فِي الْأَمر بالشَّيْء، وَكَذَلِكَ لَا بُد مِنْهُ فِي النَّهْي عَن الشَّيْء لانْتِفَاء طلب التّرْك مِمَّن لم يعلم بِوُجُود الْفِعْل وَالْعلم بِوُجُودِهِ ملزوم للْعلم بالضد الْخَاص: وَهُوَ ملزوم للعام، وَلما كَانَ تَقْرِير الِاعْتِرَاض فِي جَانب النهى نَظِير تَقْرِيره فِي جَانب الْأَمر بتغيير يسير اكْتفى بِمَا فِي جَانب الْأَمر وَترك الآخر للمقايسة، وَفِيه أَن لُزُوم الضِّدّ الْخَاص فِي الأول غير بعيد، لِأَن الْعَالم بِعَدَمِ الْفِعْل عَادَة لم يشغل الْمَأْمُور بضده بِخِلَاف الْعَالم بِوُجُودِهِ: فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك (وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا الِاعْتِرَاض من عدم التوارد أَولا) لِأَن شَرط التوارد الَّذِي هُوَ مدَار الِاعْتِرَاض كَون مورد الْإِيجَاب وَالسَّلب للمتخاصمين بِحَيْثُ يكون قَول كل مِنْهُمَا على طرف النقيض لقَوْل الآخر، والمستدل نفي خطور الضِّدّ الْخَاص على الْإِطْلَاق، فَقَوْل الْمُعْتَرض أَولا أَن مَا لَا يخْطر بالبال: إِنَّمَا هُوَ الأضداد الْجُزْئِيَّة مُوَافقَة مَعَه فِيهَا، فَلَا تتَحَقَّق المناظرة بَينهمَا بِاعْتِبَارِهِ: نعم يُجَاب عَنهُ بِأَن مُرَاد الْمُعْتَرض من ذَلِك بَيَان غلط الْمُسْتَدلّ من حَيْثُ أَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ مُرَاد الْقَائِل بِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن الضِّدّ، فَزعم أَن مُرَاده الأضداد الْجُزْئِيَّة وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الضِّدّ الْعَام، وَلَا يَصح نفي خطور الضِّدّ الْعَام لما ذكر، فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِد المناطرة بَينهمَا ويتحقق التوارد، فمقصود المُصَنّف أَنه إِذا نَظرنَا إِلَى أول كَلَام الْمُعْتَرض لم نجد التوارد، وَإِذا نَظرنَا إِلَى آخر كَلَامه وجدنَا التَّنَاقُض فَلَا خير فِي أول كَلَامه مَعَ قطع النّظر عَن آخِره وَلَا فِي آخِره إِذا انْضَمَّ مَعَ أَوله لوُجُود التَّنَاقُض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتناقضه فِي نَفسه ثَانِيًا) ثمَّ بَين التَّنَاقُض بقوله (إِذْ فرضهم) أَي الْقَائِلين بِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، فَإِن الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور من قبلهم لَا يخْطر أَن مَا فِي كَلَام النافين(1/365)
هُوَ الأضداد (الْجُزْئِيَّة فَلَا تخطر) أَي فَقَوْلهم لَا تخطر (تَسْلِيم) لعدم خطورها بالبال أصلا (وَقَوله) أَي الْمُعْتَرض الْعلم بِعَدَمِ الْفِعْل (ملزوم الْعلم بالخاص) أَي بالضد الْخَاص وَهُوَ أَي الضِّدّ الْخَاص ملزوم للعام: أَي للضد الْخَاص (يُنَاقض مَا لَا يخْطر إِلَى آخِره) أَي الأضداد الْجُزْئِيَّة. لِأَن الْإِيجَاب الجزئي نقيض السَّلب الْكُلِّي عِنْد اتِّحَاد النِّسْبَة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا فِي الشَّرْح العضدي وَغَيره فِي جَوَاب هَذَا الِاعْتِرَاض بقوله (وَأجِيب بِمَنْع التَّوَقُّف) لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ (على الْعلم بِعَدَمِ التَّلَبُّس) بذلك الْفِعْل فِي حَال الْأَمر بِهِ (لِأَن الْمَطْلُوب مُسْتَقْبل فَلَا حَاجَة لَهُ) أَي للطَّالِب (إِلَى الِالْتِفَات إِلَى مَا فِي الْحَال) أَي حَال الطّلب من وجود الْفِعْل وَعَدَمه (وَلَو سلم) توقف الْأَمر بِالْفِعْلِ على الْعلم بِعَدَمِ التَّلَبُّس بِهِ (فالكف) عَن الْفِعْل الْمَطْلُوب (مشَاهد) مَخْصُوص فقد تحقق مَا توقف عَلَيْهِ الْأَمر بِالْفِعْلِ من الْعلم بِعَدَمِ التَّلَبُّس بِهِ (وَلَا يسْتَلْزم) شُهُود الْكَفّ عَن الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ (الْعلم بِفعل ضد خَاص لحصوله) أَي لحُصُول شُهُود الْكَفّ (بِالسُّكُونِ) عَن الْحَرَكَة اللَّازِمَة لمباشرة الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ (وَلَو سلم) لُزُوم تعقل الضِّدّ فِي الْجُمْلَة (فمجرد تعقله الضِّدّ لَيْسَ ملزوما ل) تعلق ال (طلب بِتَرْكِهِ) الَّذِي هُوَ معنى النَّهْي عَن الضِّدّ (لجَوَاز الِاكْتِفَاء) فِي الْأَمر بالشَّيْء (بِمَنْع ترك الْفِعْل) الْمَأْمُور بِهِ فَترك الْمَأْمُور بِهِ ضد لَهُ، وَقد تعقل حَيْثُ منع عَنهُ، لكنه فرق بَين الْمَنْع عَن التّرْك وَبَين طلب الْكَفّ عَن التّرْك تَوْضِيحه أَن الْأَمر بِفعل غير مجوز تَركه قد يخْطر بِبَالِهِ تَركه من حَيْثُ أَنه لَا يجوزه ملحوظا بالتبع لَا قصدا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار يُقَال منع تَركه، وَلَا يُقَال: طلب الْكَفّ عَن تَركه، لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى توجه قصدي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِمَّا لما قيل لَا نزاع فِي أَن الْأَمر بِشَيْء نهى عَن تَركه) اللَّام فِي لما قيل مُتَعَلق بِجَوَاز الِاكْتِفَاء كَأَن قَائِلا يَقُول من أَيْن لَك الحكم بِجَوَاز الِاكْتِفَاء بِمَا ذكر من غير تعلق الطّلب بِتَرْكِهِ، فَيَقُول لَوْلَا جَوَاز ذَلِك لم يتَّفق الْكل على أَن الْأَمر بِشَيْء إِلَى آخِره، لِأَن عدم جَوَاز الِاكْتِفَاء يسْتَلْزم تعلق الطّلب بِالتّرْكِ قصدا، وَهُوَ ضد الْمَأْمُور بِهِ، فَيثبت أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه وَهُوَ عين المنازع فِيهِ، فَلَزِمَ تَأْوِيل قَوْلهم لَا نزاع إِلَى آخِره بِأَن المُرَاد مِنْهُ الْمَنْع عَن ترك الْفِعْل وَهُوَ كَاف فِي الْأَمر بالشَّيْء (وَإِمَّا لِأَنَّهُ) أَي منع تَركه (بِطَلَب آخر) غير طلب الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ (لخطور التّرْك عَادَة) فَإِن من يطْلب الْفِعْل من غير تَجْوِيز تَركه يخْطر التّرْك بِبَالِهِ غَالِبا من حَيْثُ كَونه مَطْلُوب التّرْك (وَطلب ترك تَركه) أَي ترك الْمَأْمُور بِهِ إِنَّمَا يكون امتثاله (الْكَائِن بِفِعْلِهِ) أَي بِأَن يفعل الْمَأْمُور بِهِ حَال كَونه طلب ترك التّرْك (وزان) قَوْله (لَا تتْرك) فَإِن قَوْله افْعَل هَذَا وَلَا تتْرك بِمَعْنى افعله واترك تَركه، وَحَاصِل طلب الْفِعْل وَطلب ترك تَركه وَاحِد فَإِن قلت إِمَّا الثَّانِيَة عديل أما الأولى، فَمَا وَجه تَعْلِيل جَوَاز الِاكْتِفَاء بِهِ مَعَ أَنه أثبت هُنَا(1/366)
طلبان قلت الثَّانِيَة فِي معنى الأولى بِاعْتِبَار اشتراكهما فِي عدم ملزومية الطّلب الأول للطلب الثَّانِي كَمَا هُوَ الْخصم فَتَأمل (وَكَذَا الضِّدّ المفوت) أَي مثل ترك الْفِعْل للضد المفوت للْفِعْل مَطْلُوب بِطَلَب آخر لخطور تَركه عَادَة وَطلب تَركه بِفعل الْمَأْمُور بِهِ (فَالْأَوْجه أَن الْأَمر بالشَّيْء مُسْتَلْزم النَّهْي عَن تَركه غير مَقْصُود) استلزاما بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ فَإِن اللَّازِم (بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ) هُوَ أَن يكون تصور الْمَلْزُوم وَاللَّازِم مَعًا كَافِيا فِيهِ للجزم باللزوم، بِخِلَاف اللَّازِم بِالْمَعْنَى الْأَخَص، فَإِن الْعلم بالملزوم هُنَاكَ يسْتَلْزم الْعلم باللازم (وَكَذَا) الْأَمر بالشَّيْء نهي (عَن الضِّدّ المفوت لخطوره كَذَلِك) أَي إِذا لوحظ معنى الْأَمر بالشَّيْء ولوحظ معنى النَّهْي عَن ضِدّه المفوت لَهُ حكم الْعقل باللزوم بَينهمَا (فَإِنَّمَا التعذيب بِهِ) أَي بالضد المفوت (لتفويته) أَي تَفْوِيت الْمَأْمُور بِهِ، لَا من حَيْثُ ترك الِامْتِثَال لحكم آخر غير الْمَأْمُور بِهِ (فَأَما ضد) أَي خطور ضد (بِخُصُوصِهِ) إِذا كَانَ للْمَأْمُور بِهِ أضداد (فَلَيْسَ لَازِما عَادَة) لِلْأَمْرِ بالشَّيْء (للْقطع بِعَدَمِ خطور الْأكل من تصور الصَّلَاة) عِنْد الْأَمر بهَا (فِي الْعَادة) . قَالَ (القَاضِي: لَو لم يكن) الْأَمر بالشَّيْء (إِيَّاه) أَي نهيا عَن ضِدّه (فضده أَو مثله أَو خِلَافه) أَي لَكَانَ إِمَّا مثله أَو ضِدّه أَو خِلَافه، وَاللَّازِم بأقسامه بَاطِل كَمَا فِي الشَّرْح العضدي، أما الْمُلَازمَة فَلِأَن كل متغايرين إِمَّا أَن يتساويا فِي صِفَات النَّفس أَو لَا، وَالْمعْنَى بِصِفَات النَّفس: مَا لَا يحْتَاج الْوَصْف بِهِ إِلَى تعقل أَمر زَائِد كالإنسانية للْإنْسَان، والحقيقة، والوجود، والشبيه لَهُ، بِخِلَاف الْحَدث والتحيز، فَإِن تَسَاويا فمثلان: كسوادين أَو بياضين، وَإِلَّا فإمَّا أَن يتنافيا بأنفسهما أَي يمْتَنع اجْتِمَاعهمَا فِي مَحل وَاحِد بِالنّظرِ إِلَى ذاتهما أَولا، فَإِن تنافيا بأنفسهما: كالسواد وَالْبَيَاض فضدان، وَإِلَّا فخلافان: كالسواد والحلاوة انْتهى، وَأما بطلَان اللَّازِم فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (والأولان) أَي كَونهمَا ضدين، وكونهما مثلين (باطلان) أَي منفيان (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَكُونَا كَذَلِك بِأَن يَكُونَا ضدين أَو مثلين (امْتنع اجْتِمَاعهمَا) لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع الضدين والمثلين (واجتماع الْأَمر بالشَّيْء مَعَ النَّهْي عَن ضِدّه لَا يقبل التشكيك) أَي لَا شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ كَمَا فِي تحرّك، وَلَا تسكن (وَكَذَا الثَّالِث) أَي كَونهمَا خلافين بَاطِل أَيْضا (وَإِلَّا) بِأَن يَكُونَا خلافين (جَازَ كل) أَي اجْتِمَاع كل من الْأَمر بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن ضِدّه (مَعَ ضد الآخر كالحلاوة وَالْبَيَاض) إِذْ يجوز أَن تَجْتَمِع الْحَلَاوَة مَعَ ضد الْبيَاض وَهُوَ السوَاد وَبِالْعَكْسِ (فيجتمع الْأَمر بالشَّيْء مَعَ ضد النَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ) أَي ضد النَّهْي عَن ضِدّه (الْأَمر بضده وَهُوَ) أَي الْأَمر بالشَّيْء مَعَ الْأَمر بضد ذَلِك الشَّيْء (تَكْلِيف بالمحال لِأَنَّهُ) أَي الْأَمر بالشَّيْء حِينَئِذٍ (طلبه) أَي طلب ذَلِك الشَّيْء (فِي وَقت طلب فِيهِ عَدمه) أَي عدم ذَلِك الشَّيْء فقد طلب مِنْهُ الْجمع بَين الضدين(1/367)
فتعينت العينية (أُجِيب بِمَنْع كَون لَازم كل خلافين ذَلِك) أَي جَوَاز اجْتِمَاع كل مَعَ ضد الآخر (لجَوَاز تلازمهما) أَي الخلافين على مَا هُوَ التَّحْقِيق من عدم اشْتِرَاط جَوَاز الانفكاك فِي المتغايرين كالجوهر مَعَ الْعرض وَالْعلَّة مَعَ الْمَعْلُول (فَلَا يُجَامع) أحد الخلافين على تَقْدِير تلازمهما (الضِّدّ) للْآخر، لِأَن أحد المتلازمين إِذا اجْتمع مَعَ ضد آخر لزم اجتماعه مَعَ الضدين جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهر (وَإِذن) أَي وَإِذا كَانَ الْأَمر على مَا حققناه فِي الخلافين (فالنهي) الَّذِي ادّعى كَون الْأَمر إِيَّاه (إِذا كَانَ ترك ضد الْمَأْمُور بِهِ اخترناهما) أَي اخترنا كَونه وَالْأَمر بالشَّيْء (خلافين) من شقوق الترديد (وَلَا يجب اجتماعه) أَي اجْتِمَاع النَّهْي اللَّازِم لِلْأَمْرِ (مَعَ ضد طلب الْمَأْمُور بِهِ) على مَا زَعمه القَاضِي (كَالصَّلَاةِ مَعَ إِبَاحَة الْأكل) أَي كالأمر بِالصَّلَاةِ وَالنَّهْي عَن الْأكل فَإِنَّهُمَا خلافان، وَلَا يلْزم من كَونهمَا خلافين اجْتِمَاع الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا مَعَ إِبَاحَة الْأكل الَّتِي هِيَ ضد النَّهْي عَن الْأكل (وَبعد تَحْرِير مَحل (النزاع) وَبَيَان المُرَاد من الْمنْهِي عَنهُ بِحَيْثُ لَا يشْتَبه (لَا يتَّجه الترديد) فِي المُرَاد بِالنَّهْي عَن الضِّدّ على مَا فِي الشَّرْح العضدي (بَينه) أَي بَين مَا ذكر (وَبَين فعل ضد ضِدّه الَّذِي) فعل ضِدّه، الَّذِي صفة فعل ضد ضِدّه (يتَحَقَّق بِهِ ترك ضِدّه) أَي ضد الْمَأْمُور بِهِ (وَهُوَ) أَي وَفعل ضد ضِدّه (عينه) أَي عين فعل الْمَأْمُور بِهِ (فحاصله) أَي حَاصِل الْمَجْمُوع أَعنِي الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه و (طلب الْفِعْل طلب عينه) أَي عين الْفِعْل، فَإِن ضد ضِدّه المفوت هُوَ عينه (وَأَنه) أَي الْحَاصِل الْمَذْكُور (لعب) إِذْ لَا يُقَال بَين الشَّيْء ونفيه مثل هَذَا الْكَلَام إِلَّا بطرِيق اللّعب وَاللَّهْو (ثمَّ إِصْلَاحه) أَي إصْلَاح الترديد على وَجه لَا يكون لعبا (بِأَن يُرَاد بِأَن طلب الْفِعْل لَهُ اسمان، أَمر بِالْفِعْلِ، وَنهى عَن ضِدّه وَهُوَ) أَي النزاع (حِينَئِذٍ لغَوِيّ) رَاجع إِلَى تَسْمِيَة الْأَمر بالشَّيْء نهيا عَن ضِدّه هَل هِيَ ثَابِتَة فِي اللُّغَة أم لَا؟ (وَلَهُم) أَي الْقَائِلين الْأَمر بالشَّيْء غير النَّهْي عَن ضِدّه، وهم القَاضِي وموافقوه (أَيْضا فعل السّكُون عين ترك الْحَرَكَة وَطَلَبه) أَي فعل السّكُون (استعلاء وَهُوَ الْأَمر طلب تَركهَا) أَي الْحَرَكَة (وَهُوَ) أَي طلب تَركهَا (النَّهْي، وَهَذَا) الدَّلِيل (كَالْأولِ يعم النَّهْي) إِذْ يُقَال أَيْضا بِالْقَلْبِ (وَالْجَوَاب بِرُجُوع النزاع لفظيا) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره فِي الشَّرْح العضدي رَجَعَ النزاع لفظيا فِي تَسْمِيَة فعل الْمَأْمُور بِهِ تركا لضده وَفِي تَسْمِيَة طلبه نهيا، وَكَانَ طَرِيق ثُبُوته النَّقْل لُغَة وَلم يثبت (مَمْنُوع بل هُوَ) أَي النزاع (فِي وحدة الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ) بِأَن يكون طلب الْفِعْل عين طلب ترك ضِدّه (وتعدده) بِأَن يَكُونَا متغايرين بِالذَّاتِ (بِنَاء على أَن الْفِعْل) الْمَأْمُور بِهِ (أَعنِي الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ) فَإِنَّهُ الْمَطْلُوب إِيقَاعه من الْمُكَلف لَا الْمصدر الْمَبْنِيّ(1/368)
للْفَاعِل وَلَا الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول إِذْ هما نسبتان عقليتان لازمتان للحاصل بِالْمَصْدَرِ فَإِنَّهُ إِذا صدر عَن الْفَاعِل وَتعلق بالمفعول ثَبت بِالضَّرُورَةِ للْفَاعِل وصف اعتباري: وَهُوَ كَونه بِحَيْثُ صدر عَنهُ ذَلِك الْحَدث، وَآخر للْمَفْعُول وَهُوَ كَونه بِحَيْثُ وَقع عَلَيْهِ وَلَا شَيْء مِنْهُمَا بموجود فِي الْخَارِج، وَإِنَّمَا الْمَوْجُود فِيهِ نفس ذَلِك الْحَدث الْمُسَمّى بالحاصل بِالْمَصْدَرِ، وَإِن أردْت زِيَادَة تَحْقِيق لَهُ فَعَلَيْك برسالة الْفُقَهَاء فِي تَحْقِيقه (وَترك أضداده) أَي الْمَأْمُور بِهِ (وَاحِد فِي الْوُجُود) أَي يوجدان (بِوُجُود وَاحِد أَو لَا) فعلى الأول يلْزم اتِّحَاد الطّلب الْمُتَعَلّق بِالْفِعْلِ مَعَ الطّلب الْمُتَعَلّق بترك أضداده، وعَلى الثَّانِي يلْزم تغاير الطلبين بِالذَّاتِ لتغاير متعلقيهما بِالذَّاتِ (بل الْجَواب مَا تضمنه دَلِيل النافين من الْقطع بِطَلَب الْفِعْل مَعَ عدم خطور الضِّدّ) وَهَذَا فِي غير نَحْو الْحَرَكَة والسكون (وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يتم) الِاسْتِدْلَال بِمَا ذكر من قَوْله: أَي فعل السّكُون عين ترك الْحَرَكَة إِلَى آخِره (فِيمَا أَحدهمَا) أَي الْمَأْمُور بِهِ وَالنَّهْي عَنهُ (ترك الآخر) وَفِي نُسْخَة عدم للْآخر (كالحركة والسكون، لَا) فِي (الأضداد الوجودية) يَعْنِي إِذا كَانَ للْمَأْمُور بِهِ ضد وَاحِد مسَاوٍ النقيضه وَهُوَ فِي الْمَعْنى لَيْسَ بوجودي لكَونه مُسَاوِيا لعدم الْمَأْمُور بِهِ، فَحِينَئِذٍ طلب تَركه طلب للْمَأْمُور بِهِ فِي الْحَقِيقَة، وَأما إِذا كَانَ لَهُ أضداد لَيْسَ أَحدهَا على الْوَجْه الْمَذْكُور وَهِي حِينَئِذٍ وجودية، فَطلب ترك أَحدهَا لَا يكون طلبا للْمَأْمُور بِهِ لنحقق تَركه فِي ضمن ضد آخر لَهُ (فَلَيْسَ) مَا أَحدهمَا ترك الآخر (مَحل النزاع عِنْد الْأَكْثَر) لاتفاقهم على أَن الْأَمر بالشَّيْء فِيهِ نهي عَن ضِدّه (وَلَا تَمَامه) أَي مَحل النزاع (عندنَا) لِأَنَّهُ أَعم من ذَلِك، هَكَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح وَلَيْسَ فِي النُّسْخَة الَّتِي اعتمدنا عَلَيْهَا عِنْد الْأَكْثَر إِلَى آخِره وَهُوَ الصَّوَاب، لِأَن نفي كَون مَا ذكر تَمام مَحل النزاع يدل على أَنه من جملَة مَحَله، وَلَا وَجه للنزاع فِيهِ كَمَا لَا يخفى إِلَّا أَن يتَكَلَّف، وَيُقَال فرق بَين طلب الشَّيْء وَطلب ترك نقيضه من حَيْثُ التَّعْبِير وَإِن اتحدا مَآلًا.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّب على هَذَا النزاع بِمرَّة (وللمعمم) الْقَائِل (فِي النَّهْي) أَنه أَمر بالضد كَمَا أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن الضِّدّ (دَلِيلا القَاضِي) وهما لَو لم يكن نَفسه لَكَانَ مثله أَو ضِدّه أَو خِلَافه إِلَى آخِره، والسكون ترك الْحَرَكَة إِلَى آخِره (وَالْجَوَاب) عَنْهُمَا (مَا تقدم) آنِفا من جَوَاز تلازم الخلافين وَالْقطع بِطَلَب الْفِعْل مَعَ عدم خطور الضِّدّ (وَأَيْضًا يلْزم فِي نهي الشَّارِع كَون كل من الْمعاصِي المضادة) للنَّهْي عَنهُ (مَأْمُور بِهِ مُخَيّرا) فَيكون النَّهْي عَن الزِّنَا أَمر باللواط (وَلَو التزموه لُغَة) فَقَالُوا سلمنَا أَنه يلْزم ذَلِك من حَيْثُ الدّلَالَة اللُّغَوِيَّة (غير أَنَّهَا) أَي الْمعاصِي (مَمْنُوعَة بشرعي) أَي بِدَلِيل شَرْعِي فَهُوَ قرينَة دَالَّة على أَنَّهَا لَيست مُرَاد(1/369)
الشَّارِع (كالمخرج من الْعَام) من حَيْثُ أَن الْعَام (يتَنَاوَلهُ) لُغَة (وَيمْتَنع فِيهِ) أَي فِي الْمخْرج (حكمه) أَي الْعَام بِدَلِيل شَرْعِي (أمكنهم) جَوَاب لَو، وَلَا يخفى سماجة هَذَا الِالْتِزَام (وعَلى اعْتِبَاره) أَي الِالْتِزَام الْمَذْكُور (فالمطلوب ضد لم يمنعهُ الدَّلِيل، وَأما إِلْزَام نفي الْمُبَاح) على المعمم بِأَن يُقَال مَا من مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ضد الْحَرَام مَنْهِيّ عَنهُ، وَلِهَذَا ذهب الكعبي إِلَى أَنه مَا من مُبَاح إِلَّا هُوَ ترك حرَام فَيلْزم كَون ذَلِك الْمُبَاح مَأْمُورا بِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ منع شَرْعِي حَتَّى يكون كالمخرج من الْعَام (فَغير لَازم) إِذْ كَون الْمُبَاح تركا لِلْحَرَامِ لَا يسْتَلْزم كَونه ضدا لَهُ إِذْ الضدان هما المتنافيان بأنفسهما، على أَنه إِن قَامَ دَلِيل على إِبَاحَته كَانَ قرينَة لعدم إِرَادَته على مَا ذكر آنِفا (المضمن) أَي الْقَائِل بِأَن الْأَمر بالشَّيْء يتَضَمَّن النَّهْي عَن ضِدّه وَنقض هَذَا الدَّلِيل قَالَ (أَمر الْإِيجَاب طلب فعل يذم بِتَرْكِهِ فاستلزم النَّهْي عَنهُ) أَي عَن تَركه (وَعَما يحصل) التّرْك (بِهِ وَهُوَ) أَي مَا يحصل بِهِ التّرْك (الضِّدّ) للْمَأْمُور بِهِ فاستلزم الْأَمر الْمَذْكُور النَّهْي عَن ضِدّه (وَنقض) هَذَا الدَّلِيل بِأَنَّهُ (لَو تمّ لزم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ) عَن الْمَأْمُور بِهِ (لكل أَمر إِيجَابا) لِأَن الْمُسْتَدلّ ادّعى استلزام الْأَمر النَّهْي عَن تَركه، لِأَن تَركه هُوَ الْكَفّ عَنهُ، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء هُوَ طلب الْكَفّ عَن الْكَفّ لَازم لطلب الْكَفّ عَن ذَلِك الشَّيْء، فالنهى عَن الْكَفّ الْمَأْمُور بِهِ هُوَ طلب الْكَفّ عَن الْكَفّ عَنهُ، وتصور الْكَفّ عَن الْكَفّ، وَاللَّازِم بَاطِل للْقطع بِطَلَب الْفِعْل مَعَ عدم خطور الْكَفّ عَن الْكَفّ (وَلَو سلم) عدم لُزُوم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ (منع كَون الذَّم بِالتّرْكِ جُزْء الْوُجُوب) أَي جُزْء الْأَمر الإيجابي أَو لَازم مَفْهُومه لُزُوما عقليا واستلزام الْأَمر الإيجابي النَّهْي عَن تَركه فرع كَون الذَّم بِالتّرْكِ جُزْءا أَو لَازِما (وَإِن وَقع) الذَّم بِالتّرْكِ (جُزْء التَّعْرِيف) الرسمي لَهُ (بل هُوَ) أَي الْوُجُوب يَعْنِي الْأَمر الإيجابي (الطّلب الْجَازِم) الَّذِي لم يجوز طَالبه ترك الْمَطْلُوب بِهِ (ثمَّ يلْزم تَركه) أَي ترك مَطْلُوبه (ذَلِك) أَي الذَّم فَاعل يلْزم قدم مَفْعُوله (إِذا صدر) الْأَمر (مِمَّن لَهُ حق الْإِلْزَام) أَي ولَايَة الْإِلْزَام واللزوم بِحَسب التحقق فِي الْخَارِج لَا يسْتَلْزم اللُّزُوم بِحَسب التعقل، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوب (وَلَو سلم) كَون الذَّم بِالتّرْكِ جُزْء الْوُجُوب (فَجَاز كَون الذَّم عِنْد التّرْك لِأَنَّهُ لم يفعل) مَا أَمر بِهِ لَا لِأَنَّهُ فعل الضِّدّ المستلزم للترك، وَكَون الضِّدّ مَنْهِيّا عَنهُ لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِكَوْن الذَّم لأَجله (وَلَا يخفى أَنه لَا يتَوَجَّه الذَّم على الْعَدَم) أَي على عدم الْفِعْل (من حَيْثُ هُوَ عدم بل من حَيْثُ هُوَ فعل الْمُكَلف) يَعْنِي لَو توجه إِنَّمَا يتَوَجَّه من حَيْثُ أَنه فعل الْمُكَلف لَكِن هَذِه الْحَيْثِيَّة غير مَوْجُودَة فِيهِ، فَلَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَيْسَ الْعَدَم فعله بل) فعله إِنَّمَا هُوَ (التّرْك المبقى للعدم) الأَصْل (على الأَصْل) وَحَاصِله كف النَّفس عَمَّا يقطع الْعَدَم الْأَصْلِيّ من فعل(1/370)
ضِدّه فَتَأمل (وَمَا قيل لَو سلم) أَن الْأَمر بالشَّيْء مُتَضَمّن للنَّهْي عَن ضِدّه (فَلَا مُبَاح) إِذْ ترك الْمَأْمُور بِهِ وضده يعم الْمُبَاحَات، والمفروض أَن الْأَمر يسْتَلْزم النَّهْي عَنْهَا، والمنهي عَنهُ لَا يكون مُبَاحا (فَغير لَازم) إِذْ المُرَاد من الضِّدّ الْمنْهِي عَنهُ المفوت لِلْأَمْرِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا) أَي وَلَو كَانَ مستلزما نفي الْمُبَاح بِأَن يكون مُرَاد المضمن من الضِّدّ كلما يتَحَقَّق فِيهِ ترك الْمَأْمُور بِهِ وَلم يُقيد بِمَا يفوتهُ (امْتنع) للمضمن المعمم (التَّصْرِيح فَلَا تعقل الضِّدّ المفوت) للْمَأْمُور بِهِ بعد الْأَمر لِأَن لَازم الْأَمر عِنْده على ذَلِك التَّقْدِير لَا بِفعل مُطلق الضِّدّ، فَبين لَازم الْكَلَام وَمَفْهُومه تدافع، وَمن الْمَعْلُوم عدم امْتنَاع تصريحه بذلك (والحل) أَي حل الشُّبْهَة (أَن لَيْسَ كل ضد) بِمَعْنى مَا يحصل بِهِ التّرْك (مفوتا) للْمَأْمُور بِهِ (وَلَا كل مُقَدّر) من الْمُبَاحَات (ضدا كَذَلِك) أَي مفوتا (كخطوه فِي الصَّلَاة، وابتلاع رِيقه، وَفتح عينه وَكثير) من نظائرها فَإِنَّهَا أُمُور مغايره بِالذَّاتِ للصَّلَاة، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار يُطلق عَلَيْهَا الضِّدّ وَلكنهَا لَا تفوت الصَّلَاة (وَأَيْضًا لَا يسْتَلْزم) هَذَا الدَّلِيل (مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي مَحل النزاع (الضِّدّ) الجزئي لِلْأَمْرِ وَهُوَ فعل خَاص وجودي مفوت للْمَأْمُور بِهِ (غير التّرْك) أَي ترك الْمَأْمُور بِهِ مُطلقًا، فَإِنَّهُ لَا نزاع فِي كَونه نهيا عَنهُ، غير أَنه لَا يلْزم بِهِ إِثْم عدم امْتِثَال الْأَمر، وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا أَفَادَهُ الدَّلِيل خَارج عَن مَحل النزاع (لِأَن مُتَعَلق النَّهْي اللَّازِم) لِلْأَمْرِ ضَرُورَة (أحد الْأَمريْنِ: من التّرْك والضد) يَعْنِي النَّهْي الَّذِي يحكم الْعقل بلزومه لِلْأَمْرِ مُتَعَلّقه أحد الْأَمريْنِ لَا على التَّعْيِين، فللمانع أَن يَقُول لم لَا يجوز أَن يكون تحَققه فِي ضمن التّرْك؟ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فنختار الأول) فَيكون النَّهْي اللَّازِم إِنَّمَا هُوَ النَّهْي عَن ترك الْمَأْمُور بِهِ لَا النَّهْي عَن الضِّدّ، وَهُوَ لَيْسَ من مَحل النزاع لما عرفت فَإِن قلت قد ادّعى المُصَنّف استلزام الْأَمر للنَّهْي عَن ترك الْمَأْمُور بِهِ وَعَما يحصل بِهِ التّرْك وَهُوَ الضِّدّ مَعًا، فَمَا وَجه تَسْلِيم استلزامه لَهما جَمِيعًا قلت بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ النَّهْي اللَّازِم لِلْأَمْرِ مُتَعَددًا، وَإِلَّا يلْزم إِثْبَات أَفْرَاد كَثِيرَة للمنهي بِعَدَد الأضداد الْجُزْئِيَّة وَاعْتِبَار ترك الْمَأْمُور بِهِ مُتَعَلقا بِالنَّهْي مغن عَن الْكل، لِأَنَّهُ يتَحَقَّق فِي ضمن كل ضد فَتعين لكَونه مُتَعَلقا للنَّهْي (وَزَاد المعممون فِي النَّهْي) الْقَائِلُونَ بِأَن النَّهْي عَن الشَّيْء يتَضَمَّن الْأَمر بضده كَمَا أَن الْأَمر يتَضَمَّن النَّهْي عَنهُ (أَنه) أَي النَّهْي (طلب ترك فعل وَتَركه) أَي الْفِعْل (بِفعل أحد أضداده) أَي الْفِعْل (فَوَجَبَ) أحد أضداده: وَهُوَ الْأَمر، لِأَن مَا لَا يحصل الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب (وَدفع) هَذَا (بِلُزُوم كَون كل من الْمعاصِي إِلَى آخِره) أَي المضادة مَأْمُورا بِهِ مُخَيّرا (وَبِأَن لَا مُبَاح) أَي وبلزوم أَن لَا يُوجد مُبَاح أصلا لما مر من أَن كل مُبَاح ترك الْمحرم وضد لَهُ فَإِن قلت غَايَة مَا يلْزم وجود أحد الْمُبَاحَات المضادة لَا كلهَا قلت وجوب أحد الْأَشْيَاء لَا على التَّعْيِين(1/371)
بِحَيْثُ يحصل مَا هُوَ الْوَاجِب بأَدَاء كل وَاحِد مِنْهَا يُنَافِي الْإِبَاحَة كَمَا فِي خِصَال الْكَفَّارَة (وبمنع وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب أَو الْمحرم) أَي الاجتناب من الْمحرم (إِلَّا بِهِ، وَفِيهِمَا) أَي فِي لُزُوم كَون كل من الْمعاصِي إِلَى آخِره، وَأَن لَا مُبَاح (مَا تقدم) من أَنهم لَو التزموا الأول لُغَة أمكنهم غير أَنه غير مُرَاد بِدَلِيل شَرْعِي وَأَن الثَّانِي غير لَازم (وَأما الْمَنْع) لوُجُوب مَا لَا يتم الْوَاجِب أَو الْمحرم إِلَّا بِهِ (فَلَو لم يجب) أَي فَدفعهُ أَن يُقَال لَو لم يجب مَا لَا يتم الْوَاجِب أَو الْمحرم إِلَّا بِهِ (لجَاز تَركه) أَي ترك مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ (ويستلزم جَوَاز) تَركه جَوَاز (ترك الْمَشْرُوط) فِي الْوَاجِب (أَو جَوَاز فعله) أَي الْمَشْرُوط فِي الْمحرم (بِلَا شَرطه الَّذِي لَا يتم إِلَّا بِهِ وَسَيَأْتِي تَمَامه) فِي مسئلة مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، فَلَا يمْنَع ذَلِك (بل يمْنَع أَنه) أَي الْمَطْلُوب بِالنَّهْي (لَا يتم إِلَّا بِهِ) أَي بِفعل أحد اضداده (بل يحصل) الْمَطْلُوب بِهِ بِهِ (بالكف) عَن الْفِعْل المنهى عَنهُ (الْمُجَرّد) عَن فعل الضِّدّ (والمخصص فِي العينية واللزوم) أَي المقتصر على أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه أَو يستلزمه، وَلَيْسَ النَّهْي عَن الشَّيْء أمرا بضده وَلَا يستلزمه (فإمَّا لِأَن النَّهْي طلب نفي) أَي فإمَّا لِأَن مذْهبه: أَي النَّهْي نفي الْفِعْل: وَهُوَ عدم مَحْض كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي هَاشم، لَا طلب الْكَفّ عَن الْفِعْل الَّذِي هُوَ ضِدّه فَلَا يكون أمرا بالضد وَلَا يستلزمه، إِذْ لَا مَطْلُوب حِينَئِذٍ سوى النَّفْي الْمَحْض (مَعَ منع أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَى آخِره) أَي إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَقد عرفت دَفعه، وَأَن مَحل الْمَنْع أَنه لَا يتم إِلَّا بِهِ (وَإِمَّا لظن وُرُود الْإِلْزَام الفظيع) وَهُوَ كَون الزِّنَا وَاجِبا لكَونه تركا للواط على تَقْدِير كَون النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده أَو يستلزممه (أَو لظن أَن أَمر الايجاب استلزم النهى) إِلَى آخِره (باستلزام ذمّ التّرْك) أى بِسَبَب استلزام أَمر الايجاب الذَّم على تَركه (والنهى لَا) يسْتَلْزم الْأَمر لِأَنَّهُ طلب الْكَفّ عَن الْفِعْل، والذم إِنَّمَا يَتَرَتَّب على الْفِعْل، فَلَو استلزم الْأَمر بشىء لَكَانَ ذَلِك الشىء هُوَ الْكَفّ، والكف لَا يصلح مُتَعَلقا لِلْأَمْرِ: إِذْ الْأَمر طلب فعل غير الْكَفّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ طلب كف عَن فعل مَعَ منع أَن مَا لَا يتم إِلَى آخِره) وَقد عرفت دَفعه، وَمحل الْمَنْع هَهُنَا كَون ضد الْمنْهِي عَنهُ بِحَيْثُ لَا يتم الِانْتِهَاء عَنهُ إِلَّا بِهِ يحصل الِانْتِهَاء بِمُجَرَّد الْكَفّ عَن الْمنْهِي عَنهُ (وَإِمَّا لظن وُرُود إبِْطَال الْمُبَاح كالكعبي) على تَقْدِير كَون النَّهْي عَن الشَّيْء أمرا بضده، لِأَن كل مُبَاح ترك الْمنْهِي عَنهُ: فَيلْزم كَونه مَأْمُورا بِهِ، لِأَن ترك الشَّيْء ضد لَهُ، وَقَوله كالكعبي: أَي كمذهب الكعبي على مَا مر من قَوْله: كل مُبَاح ترك لحرام (ومخصص أَمر الْإِيجَاب) بِكَوْنِهِ نهيا عَن ضِدّه، أَو مستلزما لَهُ دون أَمر النّدب ذهب إِلَيْهِ (لظن وُرُود الْأَخيرينِ) على تَقْدِير كَون أَمر النّدب نهيا عَن الضِّدّ، وَهُوَ أَن استلزام الذَّم للترك المستلزم للنَّهْي إِنَّمَا هُوَ فِي أَمر الْوُجُوب وَلُزُوم إبِْطَال الْمُبَاح: إِذْ مَا من وَقت إِلَّا(1/372)
وَندب فِيهِ فعل، فَإِن استغراق الْأَوْقَات بالمندوبات مَنْدُوب، بِخِلَاف الْوَاجِب فَإِنَّهُ لَا يستغرقها، فَيكون الْفِعْل فِي غير وَقت لُزُوم أَدَاء الْوَاجِب مُبَاحا وَلَا يلْزم نفي الْمُبَاح (وَعلمت) أَن (مرجع) قَول (فَخر الْإِسْلَام) وَهُوَ أَن الْأَمر يَقْتَضِي كَرَاهَة الضِّدّ وَلَو إِيجَابا وَالنَّهْي كَونه سنة مُؤَكدَة وَلَو تَحْرِيمًا (إِلَى) قَول (الْعَامَّة) من أَن الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه إِن كَانَ وَاحِدًا وَإِلَّا فَعَن الْكل وَأَن الْأَمر بالضد المتحد، وَفِي بعض النّسخ المتعدد بِوَاحِد غير معِين، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِم عدم الْمُخَالفَة بَينهم: وَإِنَّمَا علم ذَلِك بتقييد الضِّدّ فِي الْمُتَنَازع فِيهِ بالمفوت، وَحمل كَلَامه على المفوت، فعلى هَذَا ذكر الْكَرَاهَة فِي جَانب الْأَمر وَالسّنة فِي جَانب النَّهْي لَا يُوجب الِاخْتِلَاف بَين قَوْله وَقَوْلهمْ (وَلَا يخفى أَن مَا مثل بِهِ) فَخر الْإِسْلَام (لكَرَاهَة الضِّدّ من أَمر قيام الصَّلَاة) بَيَان للموصول مُبينًا لَهُ بقوله (لَا يفوت) امْتِثَال الْأَمر الْمَذْكُور (بالقعود فِيهَا) أَي فِي الصَّلَاة: إِذْ لَيْسَ الْقعُود ضدا مفوتا للْقِيَام لجَوَاز أَن يعود إِلَيْهِ لعدم تعْيين الزَّمَان (وَيكرهُ) عطف على قَوْله لَا يفوت (اتفاقي) خبر أَن: يَعْنِي إِنَّمَا أجتمع كَرَاهَته مَعَ الْأَمر بِالْقيامِ اتِّفَاقًا (لَا من مُقْتَضى الْأَمر) لِأَن مُقْتَضى الْأَمر النَّهْي عَن الضِّدّ المفوت، وَالْقعُود بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيام لَيْسَ كَذَلِك لما عرفت (بل مَبْنِيّ الْكَرَاهَة) أَمر (خَارج) عَن مُقْتَضى الْأَمر (وَهُوَ التَّأْخِير) عَن وقته الْمسنون لَهُ (وَإِلَّا) لَو كَانَ الْقعُود مفوتا لَهُ (فَسدتْ) وَكَانَ ذَلِك الْقعُود حَرَامًا (وَكَذَا قَول أبي يُوسُف بِالصِّحَّةِ) أَي بِصِحَّة السَّجْدَة الْمَأْمُور بهَا فِي الصَّلَاة (فِيمَن سجد) أَي فِي حق من سجد (على مَكَان نجس فِي الصَّلَاة وَأعَاد) السَّجْدَة (على) مَكَان (طَاهِر) لَيْسَ من مُقْتَضى الْأَمر (لِأَنَّهُ) أَي سُجُوده على نجس (تَأْخِير السَّجْدَة الْمُعْتَبرَة) وَهِي المستجمعة شَرَائِط الصِّحَّة (عَن وَقتهَا لَا تَفْوِيت) لَهَا (وَهُوَ) أَي تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا الْمسنون لَهَا (مَكْرُوه وفسدت) الصَّلَاة (عِنْدهمَا) أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله (للتفويت) لأمر الطَّهَارَة (بِنَاء على أَن الطَّهَارَة فِي الصَّلَاة) وصف (مَفْرُوض الدَّوَام) أَي فِي جَمِيع أَجزَاء الْوَقْت الَّذِي هُوَ فِي الصَّلَاة، وَقد فَاتَ فِي جُزْء مِنْهَا فَإِن قلت أَبُو يُوسُف رَحمَه الله لَا يعْتَبر ذَلِك الْجُزْء من أَجزَاء الصَّلَاة: بل هُوَ خَارج فاصل بَين الْأَجْزَاء قلت بل هُوَ من الْأَجْزَاء بِدَلِيل ترَتّب الْأَحْكَام اللَّازِمَة على الْمُصَلِّي بِالتَّحْرِيمِ لَهَا فِي ذَلِك الجزيء من الْوَقْت وَذكر الشَّارِح أَن حِكَايَة الْخلاف بَينهم هَكَذَا مَذْكُورَة فِي عير وَاحِد من الْكتب، وَذكر الْقَدُورِيّ أَن النَّجَاسَة إِن كَانَت فِي مَوضِع سُجُوده فروى مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَن صلَاته لَا تُجزئ إِلَّا أَن يُعِيد السُّجُود على مَوضِع طَاهِر، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وروى عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنَّهَا تُجزئ بِغَيْر إِعَادَة، وَجه الأولى أَن السُّجُود كالقيام فِي(1/373)
عدم الِاعْتِدَاد بِهِ مَعَ النَّجَاسَة، وَوجه الْأُخْرَى أَن الْوَاجِب عِنْده أَن يسْجد على طرف أَنفه، وَهُوَ أقل من قدر الدِّرْهَم، وَهَذَا الْقدر لَا يمْنَع جَوَاز الصَّلَاة وَأما عِنْدهمَا فالسجود على الْجَبْهَة وَاجِب، وَهُوَ أَكثر من قدر الدِّرْهَم فَيمْنَع جَوَاز الصَّلَاة، ثمَّ ذكر أَنه إِذا افْتتح على مَوضِع طَاهِر ثمَّ نقل قدمه إِلَى مَوضِع نجس ثمَّ أَعَادَهُ صحت صلَاته إِلَى أَن يَتَطَاوَل حَتَّى يصير فِي حكم الْفِعْل الَّذِي إِذا زيد فِي الصَّلَاة أفسدها انْتهى، وَفِي آخر كَلَامه نظر يظْهر بملاحظة فرض دوَام الطَّهَارَة فَتَأمل (وَأما قَوْله) أَي فَخر الْإِسْلَام (النَّهْي يُوجب فِي أحد الأضداد السّنيَّة كنهي الْمحرم عَن الْمخيط سنّ لَهُ الْإِزَار والرداء فَلَا يخفى بعده عَن وَجه الاستلزام) . قَالَ الشَّارِح قلت فِي هَذَا سَهْو، فَإِن لفظ فَخر الْإِسْلَام، وَأما النَّهْي عَن الشَّيْء فَهَل لَهُ حكم فِي ضِدّه؟ قَالَ بَعضهم يُوجب أَن يكون ضِدّه فِي معنى سنة وَاجِبَة، وعَلى القَوْل الْمُخْتَار يحتملان نقيض ذَلِك انْتهى، ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: أَي كَون الضِّدّ فِي معنى سنة مُؤَكدَة إِذا كَانَ النَّهْي لتَحْرِيم وَوجه بِأَن النَّهْي الثَّابِت فِي ضمن الْأَمر لما اقْتضى الْكَرَاهَة الَّتِي هِيَ أدنى من الْحُرْمَة بِدَرَجَة، وَجب أَن يَقْتَضِي الْأَمر الثَّابِت فِي ضمن النهى سنية الضِّدّ الَّتِى هى أدنى من الْوَاجِب بِدَرَجَة، ثمَّ قَالَ وَهَذَا التلازم غير لَازم كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ المُصَنّف، ثمَّ قَالَ فِي التَّحْقِيق وَغَيره وَلم يرد بِالسنةِ مَا هُوَ المصطلح بَين الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا هُوَ قريب من الْوُجُوب وَقَالَ يحْتَمل لِأَنَّهُ لم ينْقل هَذَا القَوْل نصا عَن السّلف لكنه مُقْتَضى الْقيَاس، ثمَّ ذكر من الحَدِيث مَا يدل على النَّهْي عَن لبس الْقَمِيص والعمائم والبرانس والخفاف، وَذكر أَن هَذَا النَّهْي ذُو ضد مُتحد، لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَة بَين لبس الْمخيط وَلبس غَيره، فَيلْزم وجوب لبس الْإِزَار، والرداء لَا سنيته، على أَن لبسهما لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ لما يدل عَلَيْهِ الحَدِيث من الْأَمر بلبسهما وَأَطْنَبَ فِي غير طائل، وَإِذا تَأَمَّلت فِي كَلَامه وجدته إِلَى السَّهْو أقرب، لِأَن استبعاد المُصَنّف بِسَبَب أَن أحد الأضداد إِذا كَانَ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي الِامْتِثَال بِالنَّهْي يلْزم كَونه وَاجِبا وَإِلَّا فَلَا يدل على سنيته أَيْضا، وَقَوله لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ غير مُوجبَة لجَوَاز تعدد دَلِيل السّنيَّة، فسبحان من جرأ الضَّعِيف على الْقوي لعدم مَعْرفَته مقَامه (وَأما النَّهْي) بالتفسير الْمُقَابل لِلْأَمْرِ (فالنفسي طلب كف عَن فعل) فَخرج الْأَمر لِأَنَّهُ طلب فعل غير كف (على جِهَة الاستعلاء) فَخرج بِهِ الالتماس وَالدُّعَاء (وإيراد كف نَفسك) عَن كَذَا طرده لصدقه عَلَيْهِ (إِن كَانَ) مورده مَادَّة للنقض (لَفظه) أَي لفظ كف نَفسك كَذَا (فَالْكَلَام فِي النَّفْسِيّ) أَي فَنَقُول لَا مَحْذُور لعدم صدقه عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَب كف، بل لَيْسَ بِطَلَب (أَو) كَانَ مورده (مَعْنَاهُ التزامناه) أَي صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ حَال كَونه (نهيا) نفسيا من جملَة أَفْرَاد الْمُعَرّف (وَكَذَا معنى أطلب الْكَفّ) نهى(1/374)
نَفسِي: أَي مَعْنَاهُ التضمني، وَهُوَ الطّلب. لَا المطابقي، لِأَنَّهُ إِخْبَار، وَالنَّهْي مَضْمُون إنشائي (لوحدة معنى اللَّفْظَيْنِ) أَي كف نَفسك، وأطلب الْكَفّ، وَمعنى كل وَاحِد من الْمَذْكُورين لدلالتها على قيام طلب الْكَفّ بالقائل (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْمَعْنى هُوَ (النَّهْي النَّفْسِيّ واللفظي، وَهُوَ غَرَض الأصولي) لِأَنَّهُ يبْحَث عَن الدّلَالَة اللفظية السمعية (مَبْنِيّ تَعْرِيفه) أَي اللَّفْظِيّ (أَن لذَلِك الطّلب) الْمَذْكُور (صِيغَة تخصه) أَي لَا تسْتَعْمل فِي غير حَقِيقَة، إِذْ لَو لم يكن هَذَا الِاخْتِصَاص لم يقصدوا تَعْرِيفه (وَفِي ذَلِك) أَي فِي أَن لَهُ صِيغَة تخصه من الْخلاف (مَا فِي الْأَمر) وَالصَّحِيح فِي كليهمَا نعم (وَحَاصِله) تَعْرِيف النَّهْي اللَّفْظِيّ ذكر (مَا يعينها) أَي يُمَيّز تِلْكَ الصِّيغَة من غَيرهَا من الصِّيَغ (فسميت) الْمَذْكُورَات لذَلِك (حدودا، وَالأَصَح) مِنْهَا صِيغَة (لَا تفعل) كَذَا ونظائرها (أَو اسْمه) أَي اسْم لَا تفعل من أَسمَاء الْأَفْعَال (كمه) فَإِنَّهُ بِمَعْنى لَا تفعل (حتما) حَال من لَا تفعل بِمَعْنى وجوبا، وَحَقِيقَة كَونه لطلب الْكَفّ من غير تَجْوِيز الْفِعْل، وَكَذَا (استعلاء) وَقد مر تَفْسِيره، وَالْخلاف فِي اشْتِرَاطه كالأمر وَأَنه الْمُخْتَار (وَهِي) أَي هَذِه الصِّيغَة خَاص (للتَّحْرِيم) لَا للكراهة (أَو الْكَرَاهَة) دون التَّحْرِيم، أَو مُشْتَرك لَفْظِي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة، أَو معنوي، أَو وضع للقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا، وَهُوَ طلب الْكَفّ استعلاء، أَو مُتَوَقف فيهمَا بِمَعْنى لَا نَدْرِي لأيهما وضعت (كالأمر) أَي كصيغة الْأَمر اكْتفى بِهِ عَن التَّفْصِيل الْمَذْكُور لما مر فِي الْأَمر. قَالَ الشَّارِح: ثمَّ يزِيد إِلَّا من يُنَافِي الْمذَاهب الْمَذْكُورَة ثمَّة (وَالْمُخْتَار) أَنَّهَا حَقِيقَة (للتَّحْرِيم لفهم الْمَنْع الحتم) أَي بِغَيْر تَجْوِيز الْفِعْل (من) الصِّيغَة (الْمُجَرَّدَة) عَن الْقَرَائِن، وَهُوَ أَمارَة الْحَقِيقَة (ومجاز فِي غَيره) أَي التَّحْرِيم لعدم التبادر وَالْحَاجة إِلَى الْقَرِينَة، ثمَّ هَذَا الْحَد النَّفْسِيّ غير منعكس لصدقه على الْكَرَاهَة النفسية، فَلِذَا قَالَ (فمحافظة عكس) حد النَّهْي (النَّفْسِيّ بِزِيَادَة) قيد (حتم) بعد قَوْله طلب كف. وَالْمرَاد بِالْعَكْسِ هَهُنَا المانعية (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يزدْ (دخلت الْكَرَاهَة النفسية فالنهي) النَّفْسِيّ (نفس التَّحْرِيم وَإِذا قيل مُقْتَضَاهُ) أَي إِذا قيل التَّحْرِيم مُقْتَضى النَّهْي (يُرَاد) بِالنَّهْي النَّهْي (اللَّفْظِيّ، وَتَقْيِيد الْحَنَفِيَّة التَّحْرِيم بقطعي الثُّبُوت و) تقييدهم (كَرَاهَته) أَي كَرَاهَة التَّحْرِيم (بظنيه) أَي بظني الثُّبُوت (لَيْسَ خلافًا) فِي أَن النَّهْي النَّفْسِيّ نفس التَّحْرِيم (وَلَا تعدد) فِي حَقِيقَة النَّهْي (فِي نفس الْأَمر) فَإِن الثَّابِت فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا هُوَ طلب التّرْك حتما لَا غَيره، وَهَذَا الطّلب قد يُسْتَفَاد بطرِيق قَطْعِيّ فَهُوَ قَطْعِيّ وَقد يُسْتَفَاد بطرِيق ظَنِّي فظني (وَكَون تقدم الْوُجُوب) للمنهي عَنهُ قبل النَّهْي عَنهُ (قرينَة الْإِبَاحَة) أَي كَون النَّهْي للْإِبَاحَة (حكى الْأُسْتَاذ) أَبُو إِسْحَاق الاسفراني(1/375)
(نَفْيه) أَي نفي كَونه قرينَة لَهَا (إِجْمَاعًا، وَتوقف الإِمَام) أَي إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِك (لَا يتَّجه إِلَّا بالطعن فِي نَقله) أَي فِي نقل الْأُسْتَاذ الْإِجْمَاع (وَنقل الْخلاف) أَي وَنقل الْموقف الَّذِي لم يقبل حِكَايَة الْإِجْمَاع الْخلاف فِي كَونه قرينَة. قَالَ الشَّارِح: وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَنه لم يُقَلّد إِلَّا تخمينا فَلَا يقْدَح (إِذْ بِتَقْدِير صِحَّته) أَي الْإِجْمَاع على ذَلِك (يلْزم استقراؤهم) أَي أهل الْإِجْمَاع (ذَلِك) أَي تتبعهم مواقع تحقق النَّهْي بعد الْوُجُوب استقراء مُفِيدا لنفي كَون تقدم الْوُجُوب قرينَة لكَون النَّهْي للْإِبَاحَة بوجدانهم كَون للْإِبَاحَة تَارَة وللتحريم، أَو الْكَرَاهَة أُخْرَى (وموجبها) أَي مُوجب صِيغَة النَّهْي (الْفَوْر والتكرار: أَي الِاسْتِمْرَار خلافًا لشذوذ) ذَهَبُوا إِلَى أَن مُوجبهَا مُطلق الْكَفّ من غير دلَالَة على الدَّوَام والمرة. قَالَ الشَّارِح: وَنَصّ فِي الْمَحْصُول على أَنه الْمُخْتَار وَفِي الْحَاصِل أَنه الْحق، لِأَنَّهَا قد تسْتَعْمل لكل مِنْهُمَا، وَالْمجَاز والاشتراك اللَّفْظِيّ خلاف الأَصْل، فَيكون الْمُقدر الْمُشْتَرك، وأجيبوا بِأَن الْعلمَاء لم يزَالُوا يستدلون بِالنَّهْي على وجوب التّرْك مَعَ اخْتِلَاف الْأَوْقَات من غير تَخْصِيص بِوَقْت دون وَقت، وَلَوْلَا أَنه للدوام لما صَحَّ ذَلِك.
مسئلة
قَالَ (الْأَكْثَر إِذا تعلق) النَّهْي (بِالْفِعْلِ) بِأَن طلب الْكَفّ عَنهُ (كَانَ) النَّهْي (لعَينه) أَي لذات الْفِعْل أَو جزئه بِأَن يكون منشأ النَّهْي قبيحا ذاتيا (مُطلقًا) أَي حسيا كَانَ ذَلِك الْفِعْل كَالزِّنَا وَالشرب، أَو شَرْعِيًّا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم (وَيَقْتَضِي) النَّهْي (الْفساد شرعا وَهُوَ) أَي الْفساد شرعا) (الْبطلَان) وَهُوَ (عدم سببيته لحكمه) بِأَن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ثَمَرَته الْمَقْصُودَة مِنْهُ (وَقيل) يَقْتَضِي الْفساد (لُغَة) أَي اقْتِضَاء بِحَسب اللُّغَة، بِمَعْنى أَن من يعرف اللُّغَة إِذا سمع النَّهْي اللَّفْظِيّ يفهم أَن مُتَعَلّقه بَاطِل لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكمه (وَقيل) يَقْتَضِي الْفساد (فِي الْعِبَادَات فَقَط) فَحِينَئِذٍ لَا يكون الِاقْتِضَاء لُغَة بل شرعا، وَعَلِيهِ أَبُو الْحسن الْبَصْرِيّ وَالْغَزالِيّ والرازي (وَالْحَنَفِيَّة كَذَلِك) أَي ذَهَبُوا إِلَى أَن النَّهْي الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين دون اعتقاداتهم على مَا فِي التَّلْوِيح يكون لعين الْفِعْل (فِي الْحسي) وَهُوَ (مَا لَا يتَوَقَّف مَعْرفَته على الشَّرْع كَالزِّنَا وَالشرب) أَي شرب الْخمر فَإِنَّهُ لَا تتَوَقَّف معرفَة حقيقتهما على الشَّرْع: إِذْ يعرفهما من يعلم الشَّرْع وَمن لَا يعلم، فِي التَّلْوِيح فسر الشَّرْعِيّ بِمَا يتَوَقَّف تحَققه على الشَّرْع، والحسي بِخِلَافِهِ وَاعْترض بِأَن مثل الصَّلَاة وَالْبيع يتَحَقَّق من غير توقف على الشَّرْع وَأجِيب بِأَن المستغني عَن الشَّرْع نفس الْفِعْل، وَأما مَعَ وصف كَونه عبَادَة أَو عقدا يتَوَقَّف على شَرَائِط(1/376)
وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام فَلَا يتَحَقَّق بِدُونِ الشَّرْع، ورد بِأَن المتوقف حِينَئِذٍ وصف كَونه عبَادَة فَفِي الْحسي أَيْضا وصف كَون الزِّنَا مثلا مَعْصِيّة لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالشَّرْعِ، ففسره المُصَنّف بِمَا يكون لَهُ مَعَ تحَققه الْحسي تحقق شَرْعِي بأركان وشرائط اعتبرها الشَّرْع بِحَيْثُ لَو انْتَفَى بَعْضهَا لم يحل الشَّارِع ذَلِك الْفِعْل وَلم يحكم بتحققه كَالصَّلَاةِ بِلَا طَهَارَة، وَالْبيع الْوَارِد على مَا لَيْسَ بِمحل انْتهى، وَيُمكن أَن يحمل عَلَيْهِ مَا ذكره المُصَنّف بِأَن يُرَاد بمعرفته معرفَة تحَققه على وَجه يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم فمعرفة تحقق الصَّلَاة على وَجه يَتَرَتَّب عَلَيْهَا أَنَّهَا مجزئة يتَوَقَّف على معرفَة شرائطها الشَّرْعِيَّة، بِخِلَاف الزِّنَا فَإِن الْعلم بتحققه الْحسي الْمُتَرَتب عَلَيْهِ الحكم لَا يتَوَقَّف على الشَّرْع (إِلَّا بِدَلِيل أَنه) أَي الْمنْهِي عَنهُ (لوصف ملازم أَو) منفك عَنهُ (مجاور) لَهُ فَيكون النَّهْي حِينَئِذٍ لغيره، وَهُوَ ذَلِك المجاور (كنهي قرْبَان الْحَائِض) فَإِن النَّهْي عَن وَطئهَا إِنَّمَا هُوَ لِمَعْنى الْأَذَى، وَهُوَ مجاور للْوَطْء غير مُتَّصِل بِهِ، وَلَيْسَ بِلَازِم لَهُ: إِذْ قد يَنْفَكّ عَنهُ مَا فِي حَالَة الطُّهْر (أما) الْفِعْل (الشَّرْعِيّ) وَهُوَ مَا تتَوَقَّف مَعْرفَته على الشَّرْع (فلغيره) أَي فالنهي عَنهُ لغيره من جِهَة كَونه (وَصفا لَازِما للتَّحْرِيم أَو كَرَاهَته) أَي كَرَاهَة التَّحْرِيم (بِحَسب الطَّرِيق) الموصلة لَهُ إِلَيْنَا من قطع أَو ظن (للُزُوم الْمنْهِي) تَعْلِيل للُزُوم ذَلِك الْوَصْف التَّحْرِيم الَّذِي هُوَ مثار النَّهْي للمنهي (كَصَوْم) يَوْم (الْعِيد) فَإِن الصَّوْم الشَّرْعِيّ لَا يعرف إِلَّا من قبل الشَّرْع وَقد نهى لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحل الْأَدَاء وَصفا لَازِما لَهُ وَهُوَ كَونه يَوْم ضِيَافَة الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَفِي الصَّوْم إِعْرَاض عَنْهَا فَكَانَ حَرَامًا للْإِجْمَاع عَلَيْهِ لَا أَنه مَكْرُوه تَحْرِيمًا لثُبُوته بِخَبَر الْآحَاد (أَو) فلغيره من جِهَة كَونه وَصفا (مجاورا) لَهُ (مُمكن الانفكاك) عَنهُ (فالكراهة) أَي فالنهي عَن الْفِعْل لمجاور كَذَا نفس الْكَرَاهَة كَمَا قَالَ نفس التَّحْرِيم (وَلَو) كَانَ طَرِيق ثُبُوت النهى (قطيعا كَالْبيع وَقت النيداء) أى أَذَان الْجُمُعَة بعد زَوَال الشَّمْس، فان النهى عَنهُ لوصف مجاور مُمكن الانفكاك مشار إِلَيْهِ بقوله (لترك السَّعْي) أَي للإخلال بالسعي الْوَاجِب، أما الانفكاك فَلِأَن البيع يُوجد بِدُونِ الْإِخْلَال بالسعي بِأَن يتبايعا فِي الطَّرِيق ذَاهِبين إِلَيْهَا، والإخلال بالسعي يُوجد بِدُونِ البيع بِأَن يمكثا فِي الطَّرِيق من غير بيع، وَلما لم يكن البيع الْمنْهِي عَنهُ للمجاور الْمُمكن الانفكاك منافيا لحكم الْخطاب الأول: أَعنِي وجوب السَّعْي وَكَانَ مخلا بِهِ فِي الْجُمْلَة فتنزل عَن مرتبَة الْحُرْمَة والبطلان إِلَى الْكَرَاهَة فهم ضمنا إِذا كَانَ الْمنْهِي عَنهُ منافيا لحكم الْخطاب الأول كَانَ بَاطِلا وَصرح بِمَا علم ضمنا فَقَالَ (فَإِن نافى) الْمنْهِي عَنهُ الشَّرْعِيّ بِاعْتِبَار حكمه حكم (الأول فَبَاطِل) أَي فَذَلِك الْمنْهِي عَنهُ بَاطِل إِن فعل لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ثَمَرَة (كَنِكَاح الْمَحَارِم) فَإِنَّهُ (لَيْسَ حكمه) أَي حكم هَذَا النِّكَاح (إِلَّا الْحل المنافى(1/377)
لمقتضاه أَي لمقْتَضى الْخطاب الأول، وَهُوَ التَّحْرِيم المؤبد فنكاحهن بَاطِل وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ بَاطِلا كَيفَ يسْقط بِهِ الْحَد وَيثبت بِهِ النّسَب أجَاب بقوله (وَعدم الْحَد وَثُبُوت النّسَب حكم الشُّبْهَة) أَي صُورَة العقد عَلَيْهِنَّ، وَعدم الْحَد قَول أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وَزفر، وَثُبُوت النّسَب، وَوُجُوب الْعدة قَول الْمَشَايِخ تَفْرِيعا على هَذَا القَوْل، وَمِنْهُم من منع ثُبُوته لَا وُجُوبهَا، لِأَن أقل مَا يبتنى عَلَيْهِ كِلَاهُمَا وجود الْحل من وَجه، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمَحَارِم فَلَا إِشْكَال حِينَئِذٍ وَأما على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة فَلَا إِشْكَال أَيْضا إِذا علم بِالتَّحْرِيمِ لإيجابهم الْحَد عَلَيْهِ، وَعدم وجوب الْغرَّة، وَعدم ثُبُوت النّسَب (وَيجب مثله) أَي مثل هَذَا الْبطلَان (فِي الْعِبَادَات) سَوَاء كَانَ الْمنْهِي عَنهُ لوصف ملازم أَولا لعدم سببيتها لحكمها الَّذِي شرعت لَهُ، وَهَذَا بحث المُصَنّف، وَاخْتَارَهُ ورتب عَلَيْهِ خلافًا لَهُم فِي بعض الْفُرُوع (كَصَوْم الْعِيد) فَإِن النَّهْي عَنهُ لِمَعْنى ملازم، وَهُوَ الْإِعْرَاض عَن ضِيَافَة الله تَعَالَى، فَكَانَ بَاطِلا لما ذكر، وَالْإِجْمَاع العقد على حرمته، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لعدم الْحل وَالثَّوَاب) وَمَا انْتَفَى فِيهِ صفة الْحل إِجْمَاعًا وَلم يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب، وَالَّذِي لم يشرع إِلَّا لَهُ فَهُوَ حقيق بِأَن يحكم بِبُطْلَانِهِ، ثمَّ فِيهِ على عدم حل الشُّرُوع فِيهِ عدم لُزُوم الْقَضَاء بالإفساد، فَقَالَ (فَوَجَبَ عدم الْقَضَاء بالإفساد، لِأَن وُجُوبه) أَي الْقَضَاء بالإفساد (يتبعهُ) أَي يتبع حل الشُّرُوع فِيهِ فَإِن قيل فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن لَا يَصح نَذره: إِذْ لَا يَصح نذر فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى كَمَا فِي صَحِيح مُسلم فَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَصِحَّة نَذره لِأَنَّهُ) أَي نَذره (غير مُتَعَلّقه) بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ مُبَاشرَة الصَّوْم فِي يَوْم الْعِيد: كَذَا فِي التَّلْوِيح وَالْحَاصِل أَن للصَّوْم جِهَة طَاعَة وجهة مَعْصِيّة، وانعقاد النّذر بِاعْتِبَار الْجِهَة الأولى حَتَّى قَالُوا: لَو صرح بِذكر الْمنْهِي عَنهُ، بِأَن يَقُول: لله عَليّ صَوْم يَوْم النَّحْر لم يَصح نَذره فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة كَمَا لَو قَالَت: لله عَليّ أَن أَصوم أَيَّام حيضي، بِخِلَاف مَا لَو قَالَت غَدا، وَكَانَ الْغَد يَوْم نحر أَو حيض وَأما ضرب أَبِيه أَو شَتمه فَلَا جِهَة فِيهِ لغير الْمعْصِيَة، فَلَا يَصح النّذر بِهِ أصلا وَتَحْقِيق ذَلِك أَن النّذر إِيجَاب بالْقَوْل وبالفعل أمكن التَّمْيِيز بَين الْمنْهِي عَنهُ والمشروع، والشروع إِيجَاب بِالْفِعْلِ، وَفِي الْفِعْل لَا يُمكن التَّمْيِيز بَين الْجِهَتَيْنِ انْتهى، وَإِنَّمَا ارتكبوا ذَلِك (ليظْهر) أَثَره (فِي الْقَضَاء تحصيلا للْمصْلحَة) وَهُوَ أَن ينْعَقد النّذر واضطر إِلَى الْقَضَاء لتعذر الْأَدَاء (فَيجب) على هَذَا (أَن لَا يبرأ) النَّاذِر (بصومه) لكِنهمْ يَقُولُونَ بِخُرُوجِهِ عَن نَذره بصيامه مَعَ الْعِصْيَان، لِأَنَّهُ نذر مَا هُوَ نَاقص وَأَدَّاهُ كَمَا الْتَزمهُ، وَلما كَانَ الْقَضَاء مَبْنِيا على أَن مُوجب النّذر وجوب أَدَائِهِ قَالَ. (فَإِن لزم فِيهَا) أَي صِحَة هَذَا النّذر (وجوب الْأَدَاء) للمنذور (أَولا) بِأَن يكون الْخطاب(1/378)
الْمُتَعَلّق بِمُوجب النّذر ابْتِدَاء طلب فعل عين الْمَنْذُور، فَإِذا لم يؤده حِينَئِذٍ يجب خَلفه من الْقَضَاء كَمَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي الْقَضَاء، وَلَا يكون المنظور أَولا ظُهُور الْأَثر فِي الْقَضَاء بِحَيْثُ لَا يبرأ بصومه (وَجب نَفيهَا) أَي صِحَة النّذر، لِأَنَّهُ نذر بِمَعْصِيَة وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَمَا ذكر من وجوب بطلَان مثل صَوْم يَوْم الْعِيد، وَوُجُوب عدم الْقَضَاء بالإفساد لما عَرفته، وَعدم صِحَة النّذر بِمُجَرَّد ظُهُور الْأَثر فِي الْقَضَاء وَعدم وجوب الْأَدَاء أَولا، وَعدم الْبَرَاءَة بصومه إِنَّمَا هُوَ مُقْتَضى رَأْي المُصَنّف رَحمَه الله بِمُوجب الدَّلِيل (خلافًا لَهُم) أَي للحنفية فِي ذَلِك كُله، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بأضداد ذَلِك على مَا هُوَ الْمَذْكُور فِي المطولات من كتبهمْ. وَفِي الشَّرْح تَفْصِيل لَهَا (وَمَا خَالف) مَا ذكرنَا من وجوب بطلَان الْعِبَادَات الَّتِي تعلق بهَا نهي التَّحْرِيم (فلدليل) يَقْتَضِي مُخَالفَة ذَلِك (كَالصَّلَاةِ) النَّافِلَة (فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة على ظنهم) أَي الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم حكمُوا بِصِحَّتِهَا مَعَ النَّهْي الْمحرم أَو الْمُوجب لكَرَاهَة التَّحْرِيم، فَفِي صَحِيح مُسلم وَالسّنَن الْأَرْبَع " ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي فِيهِنَّ وَأَن نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا: حِين تطلع الشَّمْس بازغة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى تَزُول، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب " وَفِي قَوْله إِلَى ظنهم إِشَارَة إِلَى أَنه خلاف مَا يرضيه، ثمَّ أَشَارَ إِلَى رفع منشأ ظنهم بقوله (وَكَون مسماها) أَي الصَّلَاة (لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالأركان) وَالنَّهْي عَن مُسَمّى الصَّلَاة فرع تحَققه، وَإِلَّا فَإِن كَانَ مِمَّا لَا يتَحَقَّق على تَقْدِير الْإِتْيَان بصورته يلْزم عدم الْفَائِدَة للنَّهْي، فَثَبت أَنه إِذا أَتَى بِصُورَة الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يتَحَقَّق هُنَاكَ حَقِيقَة الصَّلَاة بأركانها والشروع فِي النَّفْل يلْزم، فَعِنْدَ الْإِفْسَاد يجب الْقَضَاء، فَأَشَارَ إِلَى دفع هَذَا بقوله (لَا يقتضى) أَي الْكَوْن الْمَذْكُور (وجوب الْقَضَاء) عِنْد الْإِفْسَاد (لِأَنَّهُ) أَي وجوب الْقَضَاء عِنْده (بِوُجُوب الْإِتْمَام قبل الْإِفْسَاد، وَالثَّابِت) بِالنَّهْي الْمَذْكُور (نقيضه) أَي نقيض وجوب الْإِتْمَام وَهُوَ حرمته، بل حُرْمَة الشُّرُوع فِيهِ وَلَا بُد فِي إتْمَام هَذَا الْبَحْث من الْتِزَام أحد الْأَمريْنِ: منع اقْتِضَاء النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَذْكُورَة تحقق أَرْكَانهَا عِنْد الْإِتْيَان بصورتها على وَجه تتَحَقَّق حَقِيقَتهَا. أَو منع كَون الشُّرُوع فِي النَّفْل ملزما على الْإِطْلَاق: بل إِذا لم يكن مَنْهِيّا عَنهُ (وَيلْزم) كَون مسماها لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالأركان (أَن تفْسد) الصَّلَاة (بعد رَكْعَة) لِأَنَّهُ قبل الرَّكْعَة لَا تتَحَقَّق أَرْكَان الصَّلَاة من الْقيام وَالرُّكُوع وَالسُّجُود، وَبعد مَا تتَحَقَّق الرَّكْعَة فَيتَحَقَّق مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الصَّلَاة بتحقق ارْتِكَاب الْمنْهِي الْمُوجب للإفساد (وَهُوَ) أَي الْفساد بعد رَكْعَة (مُنْتَفٍ عِنْدهم) وَحِينَئِذٍ (فَالْوَجْه أَن لَا يَصح الشُّرُوع لانْتِفَاء فَائِدَته) أَي الشُّرُوع (من الْأَدَاء وَالْقَضَاء) لما قُلْنَا (وَلَا مخلص) مِمَّا أوردنا عَلَيْهِم من بطلَان الصَّلَاة وَعدم وجوب الْقَضَاء(1/379)
(إِلَّا بجعلها) أَي كَرَاهَة الصَّلَاة النَّافِلَة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة (تنزيهية، وَهُوَ) أَي جعلهَا تنزيهية (مُنْتَفٍ إِلَّا عِنْد شذوذ) من النَّاس لَا يعْتد بهم فَلَا يخلص وَالله أعلم أما البيع فَحكمه الْملك، وَيثبت) الْملك (مَعَ الْحُرْمَة فَيثبت) البيع مَعَ النَّهْي (مستعقبا لَهُ) أَي للْملك حَال كَونه (مَطْلُوب التفاسخ رفعا للمعصية إِلَّا بِدَلِيل الْبطلَان) اسْتثِْنَاء من ثُبُوت البيع مَعَ النَّهْي، وَذَلِكَ لعدم قابلية الْمحل (وَهُوَ) أَي كَون ثُبُوت الْملك مَطْلُوب التفاسخ (فَسَاد الْمُعَامَلَة عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِيهِ مُسَامَحَة، فَإِن فَسَادهَا سَبَب لطلب التفاسخ لَا عينه، وَإِنَّمَا قيد بالمعاملة، فَإِن الْعِبَادَة فَسَادهَا وبطلانها سَوَاء، وَإِنَّمَا الْفرق بَين الْفساد والبطلان فِي الْمُعَامَلَات (بِخِلَاف بيع المضامين) جمع مَضْمُون، من ضمن الشَّيْء بِمَعْنى تضمنه، وَهُوَ مَا تضمنه صلب الْفَحْل من الْوَلَد، فَيَقُول: بِعْت الْوَلَد الَّذِي يحصل من هَذَا الْفَحْل فَإِنَّهُ (بَاطِل) لقِيَام الدَّلِيل على ثُبُوت الْبطلَان فِيهِ مَعَ النَّهْي عَنهُ، وَقد صَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع المضامين، ثمَّ بَين سَبَب الْبطلَان بقوله (لعدم الْمحل) أَي محليته الشَّرْعِيَّة للْبيع، لِأَن المَاء قبل أَن يخلق مِنْهُ الْحَيَوَان لَيْسَ بِمَال، وَالْمحل شَرط لصِحَّة البيع فَكَانَ بَاطِلا بِالضَّرُورَةِ (أما الأول) أَي ثُبُوت حكم البيع، وَهُوَ الْملك مَعَ الْحُرْمَة (فلعدم النَّافِي) لَهُ كَمَا هُوَ الأَصْل (وَوُجُود الْمُقْتَضى) لَهُ (وَهُوَ الْوَضع الشَّرْعِيّ) لِأَن الشَّرْع وضع الْإِيجَاب وَالْقَبُول لإِثْبَات الْملك غير أَنه نهى عَنهُ إِذا كَانَ بِصفة كَذَا، وَهَذَا الْقدر لَا يُوجب تخلف مُقْتَضى ذَلِك الْوَضع (للْقطع بِأَن الْقَائِل لَا تَفْعَلهُ) أَي لَا تفعل مَا جعلته سَببا لكذا (على هَذَا الْوَجْه، فَإِن فعلت) ذَلِك على هَذَا الْوَجْه (ثَبت حكمه وعاقبتك) لعدم امْتِثَال النَّهْي (لم يُنَاقض) نَفسه فِي الحكم بِأَن التَّصَرُّف الْوَاقِع على هَذَا الْوَجْه مَنْهِيّ عَنهُ ومنتهض سَببا لكذا، وَقد يُقَال أَن مَا ذكرْتُمْ إِنَّمَا يتم إِذا جعله الشَّارِع سَببا للْحكم مُطلقًا سَوَاء وَقع على الْوَجْه الْمنْهِي الَّذِي يرتضيه: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَحَقَّق فِي خصوصيات المُرَاد مَا يدل على جعله سَببا على الْإِطْلَاق فَتَأمل (وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة النَّهْي عَن البيع (ظَاهر فِي عدم ثُبُوته) أَي الْملك فِي البيع الْوَاقِع على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ (شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا، أَو فِي الشَّرْع (مَمْنُوع) فَإِن أثر النَّهْي لَيْسَ إِلَّا فِي التَّحْرِيم، وَقد ذكر أَنه لَا يضاد ثُبُوت حكمه وَلَا يخفى أَن الْمَنْع إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ مقصودهم بِهَذَا إِثْبَات لطلب: أَعنِي بطلَان البيع، وَأما إِذا قصدُوا بِهِ تَقْوِيَة مَعَ وجود الْمُقْتَضى وَهُوَ الْوَضع الشَّرْعِيّ، وَعدم تَسْلِيم جعله سَببا على الْإِطْلَاق بِقَرِينَة النَّهْي: فَلَا يتَّجه الْمَنْع (فَيثبت الْملك شرعا فِي بيع الرِّبَا) أَي فِي بيع مُشْتَمل على اشْتِرَاط زِيَادَة بِلَا عوض حَقِيقَة أَو شُبْهَة (وَالشّرط) أَي وَفِي البيع الْمَشْرُوط بِشَرْط مُخَالف لما يَقْتَضِيهِ العقد حَال كَونه (مَطْلُوب(1/380)
الْفَسْخ) رفعا للمعصية (وَيلْزمهُ) أَي بيع الرِّبَا وَالشّرط (الصِّحَّة) وَهُوَ أَن يرجع إِلَى الصِّحَّة وَلَا يبْقى مَطْلُوب الْفَسْخ (بِإِسْقَاط الزِّيَادَة فِي) بيع الرِّبَا وَإِسْقَاط (الشَّرْط) الْمُفْسد فِي البيع الْمَشْرُوط بِهِ (لِأَنَّهُ) أَي كل وَاحِد مِنْهُمَا (الْمُفْسد) للْبيع (وَأما الثَّانِي) أَي لُزُوم التفاسخ (فلرفع الْمعْصِيَة وَيُصَرح بِثُبُوت الاعتبارين) استعقاب الحكم وَطلب الْفَسْخ (طَلَاق الْحَائِض) الْمَدْخُول بهَا وَقت الْحيض (ثَبت حكمه) وَهُوَ وُقُوع الطَّلَاق (وَأمر) الزَّوْج الْمُطلق فِي الْحيض (بالرجعة رفعا) للمعصية (بِالْقدرِ الْمُمكن) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر " أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض فَذكر ذَلِك عمر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتغيظ مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ ليراجعها ثمَّ يمْسِكهَا حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض فتطهره فَإِن بدا لَهُ أَي يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا قبل أَن يَمَسهَا فَتلك الْعدة كَمَا أَمر الله تَعَالَى " وَإِنَّمَا قَالَ بِالْقدرِ الْمُمكن لِأَن رفع الطَّلَاق الْوَاقِع حَال الْحيض بِالْكُلِّيَّةِ غير مُمكن لِأَنَّهُ نقص بِهِ عدد الطَّلَاق إِجْمَاعًا، لكنه لما كَانَ منشأ النَّهْي إطالة الْعدة بِالرُّجُوعِ يرْتَفع ذَلِك جعلت الرّجْعَة رفعا لَهُ بِاعْتِبَار ارْتِفَاع محذوره (بِخِلَاف مَا لَا يُمكن) رَفعه (كحل مَذْبُوح ملك الْغَيْر) صفة مَذْبُوح لعدم إِفَادَة إِضَافَة ملك إِلَى الْغَيْر التَّعْرِيف، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا قدرَة للْعَبد على رفع الْمعْصِيَة اللَّازِمَة من ذبحه مَمْلُوك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه بإعادته ملك الْغَيْر وَبِه الرّوح " وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه زار قوما من الْأَنْصَار فِي دَرَاهِم فذبحوا لَهُ شَاة فصنعوا لَهُ مِنْهَا طَعَاما فَأخذ من اللَّحْم شَيْئا فلاكه فمضغه سَاعَة لَا يسيغه: فَقَالَ مَا شَأْن هَذَا اللَّحْم؟ قَالُوا شَاة لفُلَان ذبحناها حَتَّى يَجِيء فنرضيه من ثمنهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطعموها الأسرى " فَقَوله أطعموها دلّ على أَنهم ملكوها بالإهلاك ولزمهم الضَّمَان غير أَنه ملك خَبِيث لمَكَان الْمعْصِيَة فِي طَرِيق ثُبُوته، وَمثل ذَلِك لَا يَلِيق بِغَيْر الأسرى (قَالُوا) أَي الذاهبون إِلَى أَنه يدل على الْبطلَان مُطلقًا (لم تزل الْعلمَاء) فِي الْأَعْصَار (يستدلون بِهِ) أَي بِالنَّهْي (على الْفساد: أَي الْبطلَان) من غير إِنْكَار عَلَيْهِم، فَهُوَ إِجْمَاع مِنْهُم على أَنه يدل على الْبطلَان (قُلْنَا) مَا ذكرْتُمْ من الِاسْتِدْلَال إِنَّمَا هُوَ (فِي الْعِبَادَات) على الْإِطْلَاق لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الثَّوَاب وَلَا ثَوَاب مَعَ النَّهْي (و) يسْتَدلّ على الْبطلَان بِالنَّهْي (مَعَ) وجود (الْمُقْتَضى) للبطلان (فِي غَيرهَا) أَي الْعِبَادَات من الْمُعَامَلَات: يَعْنِي لَا يثبت فِي الْمُعَامَلَات الْبطلَان بِمُجَرَّد النَّهْي لعدم انحصار فائدتها فِي الثَّوَاب، فَلَا يلْزم عدم الثَّوَاب الْبطلَان لوُجُود فَائِدَة أُخْرَى غير الثَّوَاب غير مُنَافِيَة للنَّهْي (وَإِلَّا) أَي لم يُوجد الْمُقْتَضِي فِي غير الْمُعَامَلَات (فعلى مُجَرّد التَّحْرِيم) أَي فالإجماع على أَنه يدل على مُجَرّد التَّحْرِيم، أَو فَإِنَّمَا يستدلون بِهِ على مُجَرّد تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ (وَلَو صرح بَعضهم بِالْبُطْلَانِ) أَي بِأَنَّهُ يدل على الْبطلَان (فكقولكم) أَي الشَّافِعِيَّة يرد عَلَيْهِ مَا يرد عَلَيْكُم فَلَا يصلح لِأَن(1/381)
يحتجوا بِهِ علينا (وَبِه) أَي بِهَذَا الدَّلِيل (اسْتدلَّ للغة) أَي لِأَنَّهُ يدل على الْبطلَان لُغَة (وَمنع بِأَن فهمه) أَي الْبطلَان مِنْهُ إِنَّمَا يكون (شرعا) لِأَن بُطْلَانه عبارَة عَن سلب أَحْكَامه وَلَيْسَ فِي لفظ النَّهْي مَا يدل على هَذَا لُغَة قطعا (قَالُوا) أَي الذاهبون إِلَى أَنه يدل على الْبطلَان لُغَة (لأمر يَقْتَضِي الصِّحَّة فضده) وَهُوَ النَّهْي يَقْتَضِي (ضدها) أَي ضد الصِّحَّة: وَهُوَ الْفساد والبطلان (أُجِيب بِمَنْع اقتضائه) أَي الْأَمر الصِّحَّة (لُغَة وَلَو سلم) اقْتِضَاء الْأَمر الصِّحَّة (فَيجوز اتِّحَاد أَحْكَام المتقابلات) لجَوَاز اشتراكها فِي لَازم وَاحِد وَلَا يخفى بعده هَهُنَا: إِذْ كَون الْأَمر مقتضيا للصِّحَّة إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار كَون الْمَأْمُور بِهِ مَطْلُوبا لِلْأَمْرِ وَالظَّاهِر كَون الْمَطْلُوب غير مسلوب الحكم، وَهَذَا الِاعْتِبَار لَا يتَصَوَّر فِيمَا هُوَ مَطْلُوب الْكَفّ، بل الظَّاهِر كَونه مسلوب الحكم فَتَأمل (وَلَو سلم) أَي أَحْكَام المتقابلة متقابلة (فاللازم عدم اقْتِضَاء الصِّحَّة لَا اقْتِضَاء عدمهَا) أَي الصِّحَّة، وَالْأول أَعم، والأعم لَا يسْتَلْزم الْأَخَص (وَدَلِيل تفصيلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِيمَا) يكون النهى عَنهُ لقبح (لعَينه وَغَيره) أَي وَفِيمَا يكون النَّهْي عَنهُ لقبح غَيره (أما فِي الْحسي) وَقد مر (فَالْأَصْل) أَي فالقبح فِيهِ لعَينه، لِأَن الأَصْل فِي الْقبْح أَن يكون قبحه لعَينه مَا لم يصرف عَنهُ صَارف، وَلَيْسَ فِيهِ، أَو لِأَن الأَصْل أَن يثبت الْقبْح باقتضاء النَّهْي فِي الْمنْهِي عَنهُ فِي غَيره فَلَا يتْرك الأَصْل من غير ضَرُورَة وَلَا ضَرُورَة: وَهَذَا أظهر (وَأما فِي الشَّرْعِيّ) وَقد مر تَفْسِيره أَيْضا فالقبح فِيهِ لغيره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَو) كَانَ الْمنْهِي عَنهُ (لعَينه) أَي لقبحه الذاتي (امْتنع الْمُسَمّى شرعا) لِامْتِنَاع وجود الْقبْح شرعا، وَالنَّهْي دلّ على وجوده إِذْ لَا ينْهَى عَن الْمَعْدُوم (فَحرم نفس الصَّوْم) فِي الْأَيَّام المنهية (وَالْبيع) وَقت النداء (لكنهما ثابتان) شرعا (فَكَانَ) الشَّرْعِيّ (مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ، لَا وَصفه بِالضَّرُورَةِ، وَقيل لَو كَانَ) الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ الشَّرْعِيّ لعَينه (امْتنع النَّهْي لِامْتِنَاع الْمنْهِي عَنهُ حِينَئِذٍ لَكِن النَّهْي وَاقع، فَكَذَا الْمنْهِي عَنهُ (وَدفع بِأَن امْتِنَاعه) أَي الْمنْهِي عَنهُ شرعا (لَا يمْنَع تصَوره) أَي إِمْكَان وجود الْمنْهِي عَنهُ (حسا وَهُوَ) أَي تصَوره حسا (مصحح النَّهْي وَهُوَ) أَي هَذَا الدّفع (بِنَاء على أَن الِاسْم الشَّرْعِيّ) مَوْضُوع (للصورة) سَوَاء تحقق مَعَ صور الْحَقِيقِيَّة الشَّرْعِيَّة مَا اعْتَبرهُ الشَّارِع من الْأَركان والشرائط أَولا (وهم) أَي الْحَنَفِيَّة (يمنعونه) أَي ينفون كَونه للصورة مُطلقًا (بل) هُوَ عِنْدهم لَهَا (بِقَيْد الِاعْتِبَار) يَعْنِي مُسَمّى الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة لَيْسَ مُجَرّد صورها، بل يُقيد اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاهَا بِأَن يكون مستجمعا للأركان والشرائط (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ للصورة مُطلقًا (النَّهْي عَن صَلَاة الْحَائِض و) النَّهْي عَن (صَوْم الْعِيد وَلُزُوم كَون مثل الطَّهَارَة) من شُرُوط الصَّلَاة (جُزْء مَفْهُوم الْمَشْرُوط) الَّذِي هُوَ الصَّلَاة لما ذكر من أَن الِاسْم(1/382)
الشَّرْعِيّ مَوْضُوع للصورة بِقَيْد الِاعْتِبَار واندراج الْمَشْرُوط فِي الِاعْتِبَار والاندراج فِي الْمُسَمّى يسْتَلْزم كَون المندرج جُزْءا مِنْهُ (و) لُزُوم (بطلَان صَلَاة فَاسِدَة) للتنافي بَين كَونهَا صَلَاة وَكَونهَا فَاسِدَة، لِأَن الِاعْتِبَار الْمَذْكُور مخرج لما فسد من مُسَمّى لفظ الصَّلَاة (يُوجِبهُ) خبر الْمُبْتَدَأ: أَي يُوجب مَا ذكر أَن الِاسْم بِإِزَاءِ الْهَيْئَة مُطلقًا (الْجَواب) أَنه (إِنَّمَا يُوجب) النَّهْي عَن الصَّلَاة وَالصَّوْم، وَقَوْلهمْ صَلَاة فَاسِدَة (صِحَة التَّرْكِيب) أَي تركيب لَا تصلي الْحَائِض وَلَا تصم يَوْم الْعِيد إِلَى غير ذَلِك (وَلَا يسْتَلْزم) صِحَة التَّرْكِيب (الْحَقِيقَة) أَي كَون الِاسْم حَقِيقَة فِي الصُّورَة فَقَط (فالاسم مجَاز شَرْعِي فِي الْجُزْء الَّذِي هُوَ الصُّورَة للْقطع بِصدق لم يصم للمسك) عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع (حمية) مَعَ وجود الصُّورَة والمنفي عدم الْمجَاز وللزوم اتِّحَاد مسماها: أَي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة لُغَة وَشرعا فِي بَعْضهَا: أَي فِي بعض تِلْكَ الْأَسْمَاء: وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ الْمَعْنى اللّغَوِيّ عين صُورَة الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ وَهُوَ أَي الِاتِّحَاد الْمَذْكُور مُنْتَفٍ لما مر (والوضع لما وجد شَرطه لَا يسْتَلْزم اعْتِبَار الشَّرْط جُزْءا) مِنْهُ فَانْتفى لُزُوم جزئية الشَّرْط من الْمَشْرُوط (وَلَا يخفى أَنه آل كَلَامهم) أَي الْحَنَفِيَّة على هَذَا الْجَواب (إِلَى أَن مصحح النَّهْي جُزْء الْمَفْهُوم) أَي اسْتِعْمَال لفظ الصَّلَاة وَالصَّوْم فِي جُزْء مفهومهما (وَهُوَ) أَي جُزْء الْمَفْهُوم (مُجَرّد الْهَيْئَة فَسَلمُوا قَول الْخصم) لموافقتهم لَهُ على أَن الْمُصَحح النَّهْي الْوُجُود الْحسي للمنهي وَإِن اخْتلفُوا فِي أَن الِاسْم حَقِيقَة شَرْعِيَّة للصورة فَقَط أَو بِقَيْد الِاعْتِبَار (غير أَن ضعف الدَّلِيل) الْمعِين (لَا يبطل الْمَدْلُول) لجَوَاز ثُبُوته بِغَيْرِهِ (ويكفيهم) أَي الْحَنَفِيَّة (مَا ذَكرْنَاهُ لَهُم) من أَنه لَو كَانَ لعَينه لامتنع الْمُسَمّى لِامْتِنَاع مشروعيته مَعَ كَونه قبيحا لعَينه.
(تَنْبِيه: لما قَالَت الْحَنَفِيَّة بِحسن بعض الْأَفْعَال وقبحها لنَفسهَا وَغَيرهَا كَانَ تعلق النَّهْي الشَّرْعِيّ بِاعْتِبَار الْقبْح مَسْبُوقا بِهِ) أَي الْقبْح (ضَرُورَة حِكْمَة الناهي) لِأَن الْحَكِيم لَا يُنْهِي عَن الشَّيْء إِلَّا لقبحه، والقبح إِنَّمَا يعرف بِهَذَا الْوَجْه (لَا) أَنه يكون (مَدْلُول الصِّيغَة، فانقسم مُتَعَلّقه) أَي النَّهْي (إِلَى حسي فقبحه لنَفسِهِ إِلَّا بِدَلِيل) يدل على أَنه لغيره (وَلَا جِهَة محسنة) لذَلِك الْحسي الْقَبِيح لنَفسِهِ (فَلَا تقبل حرمته النّسخ) لِأَن نسخ حرمتهَا مُسْتَلْزم شرعيتها، والمفروض انه لَيْسَ لَهَا جِهَة حسن أصلا، وَمَا لَيْسَ فِيهِ جِهَة حسن لَا يصلح للمشروعية (وَلَا يكون سَبَب نعْمَة) وكل مَشْرُوع لَا بُد أَن يكون سَبَب نعْمَة (كالعبث) أَي اللّعب لخلوه عَن الْفَائِدَة (وَالْكفْر) لما فِيهِ من الكفران الْمنَافِي لشكر النعم الْوَاجِب عقلا قبح مَا لَا فَائِدَة فِيهِ وكفران الْمُنعم مركوز فِي الْعقل بِحَيْثُ لَا يتَصَوَّر جَرَيَان النّسخ فِيهِ (بِخِلَاف الْكَذِب الْمُتَعَيّن طَرِيقا لعصمة نَبِي) فَإِن فِيهِ جِهَة محسنة (أَو) قبحه (لجِهَة لم يرجح عَلَيْهَا غَيرهَا) من الْجِهَات(1/383)
(فَكَذَلِك) أَي لَا تقبل حرمته النّسخ وَلَا يكون سَبَب نعْمَة (وَيُقَال فِيهِ قبح لعَينه شرعا كَالزِّنَا للتضييع) فَإِنَّهُ فعل حسي مَنْهِيّ عَنهُ لجِهَة فِيهِ لم يرجح عَلَيْهَا غَيرهَا: وَهِي تَضْييع النَّسْل، لِأَن الشَّرْع قصر انْتِفَاء النَّسْل بِالْوَطْءِ على مَحل مَمْلُوك (فَلم يبحه) الله تَعَالَى (فِي مِلَّة) من الْملَل فَإِن قيل ثُبُوت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة نعْمَة، لِأَنَّهَا تلْحق الأجنبيات بالأمهات والأجانب بِالْآبَاءِ، وَقد ثبتَتْ مسببة عَن الزِّنَا عِنْد الْحَنَفِيَّة فَتعلق بِهِ خطاب الْوَضع من حَيْثُ جعله سَببا لَهَا فَلَزِمَ مشروعيته من هَذَا الْوَجْه وَأجِيب بِأَنَّهَا لم تثبت مسببة عَن الزِّنَا من حَيْثُ ذَاته، بل من حَيْثُ أَنه سَبَب للْمَاء الَّذِي هُوَ سَبَب الْمعْصِيَة الْحَاصِلَة بِالْوَلَدِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحقّ للكراهة، وَمِنْهَا حُرْمَة الْمَحَارِم إِلَى آخر مَا ذكرُوا فِي مَحَله، وَفِيه مَا فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَثُبُوت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة عِنْده) أَي الزِّنَا (بِأَمْر آخر) لَا بِالزِّنَا (كثبوت ملك الْغَاصِب عِنْد زَوَال الِاسْم وتقرر الضَّمَان فِيمَا يجب بِملك) شُبْهَة، جَوَاب هَذَا الْإِشْكَال بِجَوَاب إِشْكَال آخر: وَهُوَ أَن الْغَصْب تعد على الْغَيْر فَلهُ جِهَة قبح لم يرجح عَلَيْهَا غَيرهَا وَقد جَعَلُوهُ مَشْرُوعا بعد النَّهْي حَيْثُ جَعَلُوهُ سَببا للْملك الْمَغْصُوب إِذْ تصرف فِيهِ الْغَاصِب تَصرفا بِهِ تغير بِحَيْثُ زَالَ اسْمه، وَكَانَ ذَلِك الْمَغْصُوب مِمَّا يَصح تملكه احْتِرَازًا عَن نَحْو الْمُدبر وَالْملك نعْمَة، وَذَلِكَ أَنه لم يثبت بِعَين الْغَصْب، بل بِأَمْر آخر وَهُوَ أَن لَا يلْزم اجْتِمَاع الْبَدَلَيْنِ فِي ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ إِن قُلْنَا يبْقى ملكه فِي عين الْمَغْصُوب عِنْد تقرر الضَّمَان وصيرورة قِيمَته دينا فِي ذمَّة الْغَاصِب، وَفِي الْمَبْسُوط وَلَكِن هَذَا غلط، لِأَن الْملك عندنَا يثبت من وَقت الْغَصْب، وَلِهَذَا يَقع بيع الْغَاصِب وَيسلم الْكسْب لَهُ انْتهى، وَقد يُقَال ثُبُوته من وَقت الْغَصْب بطرِيق الِاسْتِنَاد وَهُوَ لَا يُنَافِي ثُبُوته عِنْد زَوَال الِاسْم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ المُصَنّف رَحمَه الله إِلَى رد مَا ذكر من أَن سَبَب الْملك غير الْغَصْب أَمر آخر بقوله (وَالْمُخْتَار) أَن (الْغَصْب عِنْد الْفَوات سَبَب الضَّمَان مَقْصُودا جبرا) للفائت رِعَايَة للعدل: يَعْنِي لَا نقُول سَبَب الْملك أَمر آخر غير الْغَصْب، بل إِنَّمَا هُوَ الْغَصْب لَكِن عِنْد الْفَوات، فالفوات شَرط، وَالسَّبَب هُوَ الْغَصْب، وَطَرِيق سببيته أَنه قصد أَولا سببيته للضَّمَان جبرا (فاستدعى) كَون سَبَب الضَّمَان (تقدم الْملك) أَي ملك الْمَغْصُوب للْغَاصِب، لِأَنَّهُ مَعَ بَقَائِهِ فِي ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا يُمكن إِثْبَات الضَّمَان فِي ذمَّة الْغَاصِب لما ذكر (فَكَانَ) الْغَصْب (سَببا لَهُ) أَي للْملك (غير مَقْصُود) سببيته بِالذَّاتِ (بل بِوَاسِطَة سببيته) أَي الْغَصْب (لمستدعيه) أَي الْملك وَهُوَ الضَّمَان (وَهَذَا قَوْلهم) أَي حَاصِل قَول الْحَنَفِيَّة (فِي الْفِقْه هُوَ) أَي الْغَصْب (بعرضية) أَي فِي معرض (أَن يصير سَببا) لملك الْمَغْصُوب، لِأَنَّهُ مستبعد للإفضاء إِلَى الْملك غير أَنه مُتَوَقف على تحقق الْفَوات الَّذِي هُوَ شَرط الضَّمَان (لَا يُقَال لَا أثر لِلْعِلَّةِ الْبَعِيدَة) فِي الحكم (فَيصدق نفي سببيته) أَي الْغَصْب (للْملك) لِأَنَّهُ سَبَب بعيد لَهُ (فَالْحق الأول ((1/384)
أَي كَون السَّبَب للْملك أمرا آخر وَهُوَ الضَّمَان لَا نفس الْغَصْب، لأَنا نقُول لَيْسَ الْحق الأول (لِأَن) نفي سببيته (الصَّادِق) نَفيهَا (الْمُطلق) المتحقق فِي ضمن انْتِفَاء سَبَبِيَّة مَقْصُودَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وسببيته) أَي الْغَصْب للْملك مُقَيّدَة (بِقَيْد كَونه) أَي الْملك (غير مَقْصُود مِنْهُ) أَي الْغَصْب، بل لثُبُوته لضَرُورَة الْقَضَاء بِالْقيمَةِ، وَكَون الْحق هُوَ الأول إِنَّمَا يَتَأَتَّى بالسلب الْكُلِّي لسببيته مُطلقًا، كَيفَ (ولولاه) أَي سببيته: أَي الْغَصْب لملك الْغَاصِب للْمَغْصُوب (لم يَصح) أَي لم ينفذ (بيع الْغَاصِب) للْمَغْصُوب قبل الضَّمَان لانْتِفَاء مَا عدا وجوب السَّبَب من شُرُوط النّفُوذ فَإِن قيل يشكل بِعَدَمِ نُفُوذ عتقه قيل لَا، لِأَن الْمُسْتَند ثَابت من وَجه دون وَجه فَيكون نَاقِصا، والناقص يَكْفِي لنفوذ البيع لَا الْعتْق كَالْمكَاتبِ يَبِيع وَلَا يعْتق (وَلم يسلم لَهُ الْكسْب السَّابِق) أَي مَا كسب العَبْد الْمَغْصُوب قبل الضَّمَان، وَاسْتشْكل أَيْضا بِعَدَمِ ملك الْغَاصِب زوائده الْمُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَعدم ملك زوائده الْمُنْفَصِلَة لِأَنَّهُ) أَي ملك الْمَغْصُوب ملك (ضَرُورِيّ) لما ذكر أَنه ثَبت شرطا لوُجُود الضمأن، وَمَا ثَبت ضَرُورَة يقْتَصر على قدر الضَّرُورَة (والمنفصل) من الزِّيَادَة (لَيْسَ تبعا) للْمَغْصُوب (بِخِلَاف الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة) كالسمن وَالْجمال (وَالْكَسْب) فَإِن كلا مِنْهَا تبع مَحْض: أما الْمُتَّصِلَة فَظَاهر، وَأما الْكسْب فَلِأَنَّهُ بدل الْمَنْفَعَة وَالْحكم يثبت فِي التبع بِثُبُوتِهِ فِي الأَصْل سَوَاء ثَبت فِي الْمَتْبُوع مَقْصُودا بِسَبَبِهِ أَو شرطا لغيره، و (بِخِلَاف الْمُدبر) إِنَّمَا كرر قَوْله بِخِلَاف مَعَ أَن كسب الْمُدبر مثل مَا قبله فِي مُخَالفَة حكمه للمنفصل لِأَنَّهُ يسْتَشْكل بِهِ إِذْ لَا يثبت للْملك فِي الْمُدبر للْغَاصِب وَإِن أدّى الضَّمَان لَكِن تحقق فِيهِ معنى فقهي أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَإِنَّهُ) أَي الْغَاصِب إِنَّمَا (يملك كَسبه) أَي الْمُدبر (إِن كَانَ) لَهُ كسب (بِنَاء على أَنه) أَي الْمُدبر (خرج عَن) ملك (الْمولى تَحْقِيقا) شَرط (الضَّمَان بِقدر الْإِمْكَان) تَعْلِيل لملك الْكسْب وَالْخُرُوج من الْمولى على سَبِيل التَّنَازُع: إِذْ الضَّمَان يُنَافِي اجْتِمَاع الْبَدَلَيْنِ وَعدم حُصُول ملك الْغَاصِب، وَاسْتشْكل أَيْضا على الأَصْل الْمَذْكُور بِملك الْكَافِر مَال الْمُسلم إِذا أحرزه بدار الْحَرْب، فَإِن الِاسْتِيلَاء فعل حسي مَنْهِيّ عَنهُ لذاته فَلَا يكون مَشْرُوعا بعد النَّهْي وَقد خَالفه الْحَنَفِيَّة حَيْثُ جَعَلُوهُ بعد النَّهْي سَببا للْملك، وَأَشَارَ إِلَى الْجَواب عَنهُ بقوله (وَأما الْكَافِر) الْمَالِك مَال الْمُسلم (بالإحراز) بدار الْحَرْب (فإمَّا لعدم النَّهْي) أَي فاعتبار الشَّرْع سَببه إحرازه واستيلاؤه للْملك إِمَّا لِأَنَّهُ لم يتَوَجَّه لَهُ خطاب وَنهي بِنَاء على عدم خطابهم بالفروع) على مَا ذهب إِلَيْهِ بعض الْحَنَفِيَّة، وَإِذا اختير هَذَا التَّأْوِيل (فَلَيْسَ) كَون إحرازهم سَببا للْملك (من الْبَاب) المبحوث عَنهُ فِي هَذَا الْمقَام (وَأما) لِأَنَّهُ يملك ذَلِك بِالِاسْتِيلَاءِ (عِنْد ثُبُوت الْإِبَاحَة) أَي(1/385)
إِبَاحَة ذَلِك المَال لَهُ (بانتهاء ملك الْمُسلم) أَي بِسَبَب انْتِهَاء ملكه الْمُوجب رُجُوع المَال إِلَى الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة (بِزَوَال ملك الْمُسلم بِزَوَال الْعِصْمَة) مُتَعَلق بالانتهاء فَإِن مالكية الْمُسلم لمَاله ملزوم للعصمة الملزومة للإحراز بدار الْإِسْلَام، وَزَوَال اللَّازِم يسْتَلْزم زَوَال الْمَلْزُوم، وَزَوَال الْعِصْمَة (بالإحراز بِدَرَاهِم) أَي بِسَبَب إِحْرَاز الْكَافِر مَال الْمُسلم بدار الْحَرْب، وَإِنَّمَا كَانَ إحرازهم لَهُ بهَا مزيلا للعصمة (لانْقِطَاع الْولَايَة) أَي ولَايَة التَّبْلِيغ والإلزام: فَكَانَ استيلاؤهم على هَذَا المَال وعَلى الصَّيْد سَوَاء، وَإِذا كَانَ انْتهى سقط النَّهْي فَلم يكن الِاسْتِيلَاء مَحْظُورًا فصلح أَن يكون سَببا للْملك، ثمَّ يتَخَلَّص من هَذَا أَن مَا هُوَ مَحْظُور وَهُوَ ابْتِدَاء الِاسْتِيلَاء بدار الْإِسْلَام لَيْسَ بِسَبَب الْملك وَهُوَ سَبَب الْملك، وَهُوَ حَال الْبَقَاء والإحراز بدار الْكفْر لَيْسَ بمحظور فَلَا يرد النَّقْض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والاستيلاء ممتد فبقاؤه كابتدائه) فَصَارَ بعد الْإِحْرَاز بدار الْحَرْب كَأَنَّهُ استولى على مَال غير مَعْصُوم ابْتِدَاء بدار الْحَرْب فصلح سَببا للْملك فَإِن قيل سفر الْمعْصِيَة بِقطع الطَّرِيق وَإِلَّا بَاقٍ فعل حسي مَنْهِيّ عَنهُ لذاته فَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن لَا يَجْعَل سَببا للرخصة الَّتِي هِيَ نعْمَة وَقد جعلتموه سَببا، فَالْجَوَاب منع كَونه مَنْهِيّا عَنهُ لذاته كَمَا قَالَ (والترخص بسفر الْمعْصِيَة للْعلم بِأَنَّهُ) أَي النَّهْي (فِيهِ) أَي سفر الْمعْصِيَة (لغيره) أَي لغير ذَات السّفر (مجاورا) للسَّفر (من الْقَصْد للمعصية) وَهَذَا الْقَصْد لَيْسَ بِلَازِم لذاته (إِذْ قد لَا تفعل) الْمعْصِيَة، بِلَا يتبدل بِقصد الطَّاعَة (وَيدْرك الْآبِق الْأذن) بِالسَّفرِ من مَوْلَاهُ، فَيخرج عَن الْعِصْيَان، فَلَا يُؤثر هَذَا المجاور فِي كَونه سَببا للرخصة من حَيْثُ هُوَ سير مديد، لِأَنَّهُ من هَذِه الْحَيْثِيَّة مُبَاح (وَكَذَا وَطْء الْحَائِض عرف) كَونه مَنْهِيّا عَنهُ (للأذى) لقَوْله تَعَالَى - {قل هُوَ أَذَى} - وَهُوَ مجاور فِي الْمحل قَابل للانفكاك (فاستعقب الْإِحْصَان، وَتَحْلِيل الْمُطلقَة) ثَلَاثًا وَصَارَ كَمَا إِذا حرم بِالْيَمِينِ ثمَّ عطف على قَوْله إِلَى حسي قَوْله (وَإِلَى شَرْعِي فالقطع بِأَنَّهُ) أَي الْقبْح فِيهِ (لغيره) أَي غير الْمنْهِي عَنهُ، وَإِلَّا لم يشرع قطيعا (وَلَا ينتهض) الْمنْهِي عَنهُ الشَّرْعِيّ (سَببا) للنعمة (إِذا رتب) الشَّارِع عَلَيْهِ (حكما يُوجب كَونه) أَي الْمنْهِي عَنهُ (لعينة) أَي الْمنْهِي عَنهُ (أَيْضا كَنِكَاح الْمَحَارِم) فَإِنَّهُ فعل (شَرْعِي عقل قبحه: لِأَنَّهُ طَرِيق القطيعة) للرحم الْمَأْمُور بصلتها لما فِيهِ من الامتهان بالاستفراش وَغَيره (فحين أخرجن عَن الْمَحَلِّيَّة) لنكاحه (صَار) نِكَاحه إياهن (عَبَثا، فقبح لعَينه فَبَطل) فَقَوله إِذا رتب إِلَى آخِره بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء من كَون النَّهْي فِي الشَّرْعِيّ لغيره، وَقَوله أَيْضا إِلْحَاق لهَذِهِ الصُّورَة بالحسي الْمَذْكُور (ثمَّ الْإِخْرَاج) عَن محلية إنكاحه (لَيْسَ) وَاقعا على وَجه (وَإِلَّا لَازِما) أَي على وَجه اللُّزُوم (لما مهدناه من أَنه) أَي الشَّارِع (لم يَجْعَل لَهُ) أَي للنِّكَاح (حكما إِلَّا الْحل فنافى) حكمه (مُقْتَضى النَّهْي) وَهُوَ(1/386)
التَّحْرِيم المؤبد فَكَانَ الْمنْهِي عَنهُ بَاطِلا (وَكَذَا الصَّلَاة بِلَا طَهَارَة بَاطِلَة لمثله) أَي لانْتِفَاء أَهْلِيَّة العَبْد لَهَا بِلَا طَهَارَة شرعا فَصَارَ فعلهَا بِدُونِ الطَّهَارَة عَبَثا فقبح لعَينه (وَكَانَ يجب مثله) أَي بطلَان الصَّلَاة (فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة لَكِن الظَّن الْمُتَقَدّم) أوجب خِلَافه إِشَارَة إِلَى مَا سبق من قَوْله وَمَا خَالف فلدليل كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة على ظنهم: أَي الْحَنَفِيَّة، فَإِنَّهُم حكوا بِصِحَّتِهَا مَعَ النَّهْي الْمحرم، أَو الْمُوجب لكَرَاهَة التَّحْرِيم للْحَدِيث الْمَذْكُور فِيمَا سبق، وَذَلِكَ لِأَن مُقْتَضى النَّهْي التَّحْرِيم الْمنَافِي للْجُوَاز (وروى عَن أبي حنيفَة بُطْلَانهَا كَمَا اخترناه وَهُوَ قَول زفر) والدراية تقَوِّي هَذِه الرِّوَايَة، فَلْيَكُن التعويل عَلَيْهَا (فَإِن لم يرتب) الشَّارِع على الْمنْهِي عَنهُ حكما يُوجب كَون النَّهْي عَن الْمنْهِي عَنهُ لعَينه (ظهر أَنه لم يعْتَبر فِيهِ جِهَة توجب قبحا فِي عينه كَالْبيع) الْفَاسِد فِي وَقت النداء للْجُمُعَة (على مَا تقدم فَينْعَقد سَببا) لحكمه كالملك (فَظهر أَن الِاخْتِلَاف) فِي المنهيات الشرعيات من حَيْثُ الانتهاض سَببا وَعَدَمه (لَيْسَ مُرَتبا على أَن النَّهْي عَن الشَّرْعِيّ يدل على الصِّحَّة) للمنهي عَنهُ كَمَا هُوَ معزو إِلَى الْحَنَفِيَّة وَإِلَّا لما اخْتلفت فِي انتهاضها مسَائِل على أَن النَّهْي إخْرَاجهَا عَن الْمَحَلِّيَّة لما ذكر لم تنتهض إِلَّا وانتهضت (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة النَّهْي فِي المشروعيات (يدل على مشروعيته) أَي الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ (بِأَصْلِهِ لَا بوصفه إِنَّمَا يُفِيد صِحَة الأَصْل) أَي أصل الْفِعْل (وَلَا يخْتَلف فِيهِ) أَي فِي كَون الأَصْل صَحِيحا (لِأَنَّهُ) أَي الأَصْل (غير الْمنْهِي عَنهُ) الَّذِي هُوَ مَجْمُوع الأَصْل وَالْوَصْف (فَلَا يستعقب) كَون الْمنْهِي عَنهُ يدل على مَشْرُوعِيَّة الْفِعْل بِأَصْلِهِ (صِحَّته) أَي الأَصْل (بِوَصْف يلازمه) أَي الأَصْل، لَا يُقَال دلّ على صِحَة الأَصْل، وَالْوَصْف الملازم لَا يُفَارق الأَصْل فِي الْوُجُود فَلَا يُفَارِقهُ فِي الصِّحَّة أَيْضا لجَوَاز أَن يكون الشَّيْء بِالنّظرِ إِلَى نَفسه صَحِيحا، وبالنظر إِلَى وَصفه فَاسِدا وَإِن كَانَ ذَلِك الْوَصْف لَازِما لذاته، وَالله أعلم.
تمّ الْجُزْء الأول ويليه الْجُزْء الثَّانِي، وأوله: الْفَصْل الْخَامِس فِي الْمُفْرد بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله.(1/387)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْفَصْل الْخَامِس
فِي الْمُفْرد بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله (هُوَ) أَي الْمُفْرد (بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله يَنْقَسِم إِلَى حَقِيقَة ومجاز فالحقيقة) فعيلة بِمَعْنى فَاعل، من حق: إِذا ثَبت، أَو مفعول، من حققت الشَّيْء أحقه بِالضَّمِّ: إِذا أثْبته: فَالْمَعْنى الْكَلِمَة الثَّابِتَة أَو المثبتة فِي مَكَانهَا الْأَصْلِيّ، وَالتَّاء للنَّقْل من الوصيفه إِلَى الاسمية الصرفة، وللتأنيث عِنْد السكاكي: أما إِذا كَانَ بِمَعْنى فَاعل فَظَاهر لِأَنَّهُ يذكر وَيُؤَنث حِينَئِذٍ جرى على موصوفه أَولا وَأما إِذا كَانَ بِمَعْنى مفعول، فالتأنيث بِاعْتِبَار مَوْصُوف مؤنث لَهَا: أَي الْكَلِمَة غير مجراة هِيَ عَلَيْهِ، وَفِيه تكلّف مُسْتَغْنى عَنهُ، وَهِي اصْطِلَاحا (اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ أَو مَا صدق) مَا وضع لَهُ (عَلَيْهِ) فالمستعمل فِيهِ حِينَئِذٍ فَرد من أَفْرَاد الْمَوْضُوع لَهُ (فِي عرف بِهِ) أَي بذلك الْعرف (ذَلِك الِاسْتِعْمَال) أَي بِنَاء الِاسْتِعْمَال على ذَلِك الْعرف، والظرف مُتَعَلق بِالْوَضْعِ، فَخرج بِالْمُسْتَعْملِ المهمل والموضوع قبل الِاسْتِعْمَال، وَبِقَوْلِهِ فِيمَا وضع لَهُ الْمجَاز والغلط كَمَا سَيَأْتِي (وتنقسم) الْحَقِيقَة (بِحَسب ذَلِك) الْوَضع (إِلَى لغوية) بِأَن يكون الْوَاضِع أهل اللُّغَة (وشرعية) بِأَن يكون الشَّارِع (كَالصَّلَاةِ) حَقِيقَة لغوية: فالدعاء شَرْعِيَّة فِي الْأَركان الْمَخْصُوصَة (وعرفية عَامَّة) بِأَن يكون يكون أهل الْعرف الْعَام (كالدابة) فِي ذَوَات الْأَرْبَع والحافر (وخاصة) بِأَن يكون أهل الْعرف الْخَاص (كالرفع) للحركة والحرف المخصوصين: فَإِن أهل الْعَرَبيَّة وضعوه لَهما (وَالْقلب) كجعل الْمَعْلُول عِلّة وَعَكسه فَإِن الْأُصُولِيِّينَ وضعوه لَهُ (وَيدخل) فِي الْحَقِيقَة اللَّفْظ (الْمَنْقُول) وَهُوَ (مَا وضع لِمَعْنى بِاعْتِبَار مُنَاسبَة لما كَانَ) اللَّفْظ مَوْضُوعا (لَهُ أَولا) وَسَيَأْتِي تَفْصِيله (والمرتجل) وَهُوَ الْمُسْتَعْمل فِي وضعي لم يسْبق بآخر (والأعم) الْمُسْتَعْمل (فِي الْأَخَص كَرجل فِي زيد) نقل عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: لِأَن الْمَوْضُوع للأعم حَقِيقَة فِي كل فَرد من أَفْرَاده كالإنسان فِي زيد، لَا يعرف القدماء غير هَذَا إِلَى أَن أحدث التَّفْصِيل بَين أَن يُرَاد بِهِ خُصُوص الشَّخْص(2/2)
يَجْعَل خُصُوص عوارضه الشخصية مرَادا مَعَ الْمَعْنى الْأَعَمّ، فَيكون مجَازًا، أَو لَا فَيكون حَقِيقَة وَكَأن هَذِه الْإِرَادَة قَلما تخطر عِنْد الْإِطْلَاق حَتَّى ترك الأقدمون ذَلِك التَّفْصِيل، بل الْمُتَبَادر من مُرَاد من يَقُول لزيد يَا إِنْسَان: يامن صدق عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظ لَا يُلَاحظ أَكثر من ذَلِك انْتهى (وَزِيَادَة أَولا) بعد قَوْله فِيمَا وضع لَهُ كَمَا ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره (تخل بعكسه) أَي التَّعْرِيف (لصدق الْحَقِيقَة) فِي نفس الْأَمر (على الْمُشْتَرك) الْمُسْتَعْمل (فِي) الْمَعْنى (الْمُتَأَخر وَضعه لَهُ) وَهَذِه الزِّيَادَة تمنع صدق الْحَد عَلَيْهِ (وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ) دلَالَة على (أَنه) أَي الْقَيْد الَّذِي زيد (بِاعْتِبَار وضع الْمجَاز) أَي إِنَّمَا أَتَى بِهِ بِسَبَب اعْتِبَار الْوَضع فِي الْمجَاز لما ذكرُوا من أَن اللَّفْظ مَوْضُوع بِإِزَاءِ الْمَعْنى الْمجَازِي وضعا نوعيا لكنه وضع ثانوي وَلَا بُد لَهُ من تقدم وضع عَلَيْهِ فَذكر أَولا ليخرج الْمجَاز، كَذَا ذكره بعض الأفاضل، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَن لَا يكون من شَأْنه الثانوية فَلَا يشكل بِالْمَعْنَى الثَّانِي للمشترك، لِأَن الثانوية لَيست لَازِمَة لحقيقته وَإِن تحققت فِيهِ غير أَن هَذَا التَّأْوِيل مِمَّا لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ كَمَا ذكره المُصَنّف رَحمَه الله (على أَنه لَو فرض) وضع الْمجَاز (جَازَ أولية وضع الْمجَاز كاستعماله) أَي كَمَا يجوز أولية اسْتِعْمَال الْمجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِعْمَال الْحَقِيقَة بِأَن يوضع اللَّفْظ فيستعمل فِيمَا بَينه وَبَين مَا وضع لَهُ علاقَة قبل أَن يسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ، كَذَلِك يجوز أولية وضع الْمجَاز قبل وَضعه لمعناه بِأَن يَقُول وضعت هَذَا اللَّفْظ لِأَن يَسْتَعْمِلهُ فِيمَا بَينه وَبَين مَا سأضعه لَهُ مُنَاسبَة مُعْتَبرَة، كَذَا نقل عَن المُصَنّف فِي تَوْجِيه هَذَا الْمحل (وَبلا تَأْوِيل) أَي وَزِيَادَة السكاكي بِلَا تَأْوِيل بعد ذكر الْوَضع ليحترز بِهِ عَن الِاسْتِعَارَة لعد الْكَلِمَة مستعملة فِيمَا هِيَ مَوْضُوعَة لَهُ، لَكِن بالتأويل فِي الْوَضع: وَهُوَ أَن يستعار الْمَعْنى الْمَوْضُوع لَهُ لغيره بطرِيق الادعاء مُبَالغَة ثمَّ يُطلق عَلَيْهِ اللَّفْظ فَيكون مُسْتَعْملا فِيمَا وضع لَهُ بِتَأْوِيل، وَهَذِه الزِّيَادَة وَاقعَة (بِلَا حَاجَة) إِلَيْهَا فِي صِحَة الْحَد (إِذْ حَقِيقَة الْوَضع لَا تَشْمَل الادعائي) كَمَا سيتضح قَرِيبا وَقد يعْتَذر عَنهُ فِي ذَلِك بِأَنَّهُ أَرَادَ دفع الْوَهم لمَكَان الِاخْتِلَاف فِي الِاسْتِعَارَة هَل هُوَ مجَاز لغَوِيّ أَو حَقِيقَة لغوية (وَالْمجَاز) فِي الأَصْل مفعل: أما مصدر بِمَعْنى اسْم الْفَاعِل من الْجَوَاز بِمَعْنى العبور والتعدي، سميت بِهِ الْكَلِمَة المستعملة فِي غير مَا وضعت لَهُ لما فِيهَا من التَّعَدِّي من محلهَا الْأَصْلِيّ. أَو اسْم مَكَان سميت بِهِ لكَونهَا مَحل التَّعَدِّي للمعنى الْأَصْلِيّ أَو من جعلت كَذَا مجَازًا إِلَى حَاجَتي أَو طَرِيقا لَهَا، على أَن معنى جَازَ الْمَكَان سلكه، فَإِن الْمجَاز بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ طَرِيق إِلَى مَعْنَاهُ الْمُسْتَعْمل فِيهِ (مَا اسْتعْمل لغيره) أَي لفظ مُسْتَعْمل لغير مَا وضع لَهُ وَمَا صدق عَلَيْهِ (لمناسبة) بَينه وَبَين ذَلِك الْغَيْر (اعْتِبَار) بَين أهل الْعَرَبيَّة (نوعها) أَي نوع تِلْكَ الْمُنَاسبَة، وَسبب اعْتِبَار النَّوْع أَنه وجد فِي كَلَام الْعَرَب اسْتِعْمَال الْكَلِمَة فِي معنى وجد فِيهِ فَرد من أَفْرَاد ذَلِك(2/3)
النَّوْع من الْمُنَاسبَة (وينقسم) الْمجَاز إِلَى لغَوِيّ وشرعي، وعرفي عَام وخاص (كالحقيقة لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ، إِمَّا لمناسبة لما وضع لَهُ لُغَة أَو شرعا، أَو عرفا خَاصّا أَو عَاما (وَتدْخل الْأَعْلَام فيهمَا) أَي فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، فالمرتجل فِي الْحَقِيقَة وَهُوَ ظَاهر وَالْمَنْقُول إِن لم يكن مَعْنَاهُ الثَّانِي من أَفْرَاد الْمَعْنى الأول: فَهُوَ حَقِيقَة فِي الأول مجَاز فِي الثَّانِي من جِهَة الْوَضع الثَّانِي وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الثَّانِي من أَفْرَاد مَعْنَاهُ الأول، فَإِن كَانَ إِطْلَاقه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار أَنه من أَفْرَاد الأول فَهُوَ حَقِيقَة من جِهَة الْوَضع الأول مجَاز فِي الثَّانِي من جِهَة الْوَضع الأول ومجاز فِي الأول حَقِيقَة فِي الثَّانِي من جِهَة الْوَضع الثَّانِي وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الثَّانِي من أَفْرَاد مَعْنَاهُ الأول، فَإِن كَانَ إِطْلَاقه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار أَنه من أَفْرَاد الأول، فَهُوَ حَقِيقَة من جِهَة الْوَضع الأول، مجَاز من جِهَة الْوَضع الثَّانِي، وَإِن كَانَ بِاعْتِبَار أَنه من أَفْرَاد الثَّانِي فحقيقة من جِهَة الْوَضع الثَّانِي، مجَاز من جِهَة الْوَضع الأول، كَذَا ذكره الشَّارِح من غير تَنْقِيح وَلَا يخفى أَن الْأَعْلَام على تَقْدِير دُخُولهَا فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز كَغَيْرِهَا إِن اسْتعْملت فِيمَا وضعت لَهُ فِي عرف ذَلِك الِاسْتِعْمَال فحقيقة، وَإِن اسْتعْملت فِي غير ذَلِك فمجاز، سَوَاء كَانَت مرتجلة أَو منقولة إِلَى فَرد من أَفْرَاد الْمَعْنى الأول أَو إِلَى غَيره، فَإِذا كَانَ مدَار الِاسْتِعْمَال على الْوَضع الثَّانِي، وَأُرِيد بِالْعلمِ الْمَنْقُول مَا وضع لَهُ أَولا، أَو فَرد مَا وضع أَولا من حَيْثُ أَنه فَرد فَجَاز ايضا، وَإِن كَانَ مَدَاره على الْوَضع الأول وَأُرِيد بِهِ مَا وضع لَهُ ثَانِيًا من حَيْثُ انه وضع لَهُ ثَانِيًا من حَيْثُ أَنه وَله ضع لَهُ ثَانِيًا فمجاز أَيْضا، وَإِن كَانَ فَردا لما وضع لَهُ أَولا فَردا فالمدار على الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ فِي عرف التخاطب وجودا وعدما فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْعلم وَغَيره (و) لزم (على من أخرجهَا) أَي الْأَعْلَام مِنْهُمَا كالآمدي والرازي (تَقْيِيد الْجِنْس) الْمَأْخُوذ فِي تعريفهما بِغَيْر الْعلم، قَالَ الشَّارِح وَاقْتصر الْبَيْضَاوِيّ على أَنَّهَا لَا تُوصَف بالمجاز بِالذَّاتِ لِأَنَّهَا لم تنقل لعلاقة، وَفِيه نظر انْتهى (وَخرج عَنْهُمَا) أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (الْغَلَط) كخذ هَذَا الْفرس مُشِيرا إِلَى الْكتاب أما عَن الْحَقِيقَة فَظَاهر، وَأما عَن الْمجَاز فَلِأَنَّهُ لم يسْتَعْمل فِي غير الوضعي لعلاقة، لِأَن الِاسْتِعْمَال عبارَة عَن ذكر اللَّفْظ وَإِرَادَة الْمَعْنى بِهِ وَلم يتَحَقَّق، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ الْمَعْنى تعلّقت بِهِ إِرَادَة الْمُتَكَلّم لَكِن من حَيْثُ أَنه جرى الْفرس على لِسَانه خطأ فَهُوَ حَال الْإِعْرَاب أَو اللَّفْظ بِاعْتِبَار تغير حكم إعرابه والتعريف للْأولِ، فَلَا ينْتَقض بِخُرُوج الْمجَاز بِالنُّقْصَانِ، وَالزِّيَادَة كَقَوْلِه - {واسئل الْقرْيَة} - وَلَيْسَ كمثله ذكره الشَّارِح، وَقَالَ المُصَنّف (ومجاز الْحَذف حَقِيقَة) مستعملة فِيمَا وضع لَهُ (لِأَنَّهُ) أَي مجَاز الْحَذف إِنَّمَا هُوَ (الْمَذْكُور) الْمُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ كَلَفْظِ الْقرْيَة المُرَاد بِهِ الْمَكَان الَّذِي وَضعه بإزائه، وَإِنَّمَا سمي مجَازًا (بِاعْتِبَار تغير إعرابه) وَهُوَ الْجَرّ إِلَى النصب لِأَن التَّقْدِير اسئل أهل الْقرْيَة (وَلَو أُرِيد بِهِ) أَي بالمذكور وَهُوَ الْقرْيَة فِي هَذَا الْمِثَال (الْمَحْذُوف) بِذكر
الاثْنَي(2/4)
الْمحل وَإِرَادَة الْحَال (كَانَ) الْمَذْكُور هُوَ الْمجَاز (الْمَحْدُود) ويشمله التَّعْرِيف الْمَذْكُور (ومجاز الزِّيَادَة قيل) فِي تَعْرِيفه هُوَ (مَا لم يسْتَعْمل لِمَعْنى) كالكاف فِي كمثله، لِأَن الْمَعْنى لَيْسَ مثله من غير زِيَادَة فِيهِ (وَمُقْتَضَاهُ) أَي مُقْتَضى هَذَا القَوْل (أَنه لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا) لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي الْمَعْنى مَأْخُوذ فِي كل مِنْهُمَا (وَلما لم ينقص) مجَاز الزِّيَادَة (عَن التَّأْكِيد قيل لَا زَائِد) فِي كَلَام الْعَرَب، فَالْمُرَاد بِنَفْي الزِّيَادَة نفي كَونه لَغوا لَا فَائِدَة لَهُ أصلا فِي الْمَعْنى، وبإثباتها عدم اسْتِعْمَاله فِي معنى حَقِيقَة أَو مجَازًا، فَلَا تدافع بَينهمَا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ التَّحْقِيق عِنْده بقوله (وَالْحق أَنه) أَي مجَاز الزِّيَادَة (حَقِيقَة لوضعه لِمَعْنى التَّأْكِيد) واستعماله فِيهِ كَمَا وضع لغيره من التَّشْبِيه وَغَيره وَاسْتعْمل فِيهِ (لَا مجَاز لعدم العلاقة) الَّتِي هِيَ شَرط فِي الْمجَاز بَين مَعْنَاهُ الْمَشْهُور وَبَين التَّأْكِيد (فَكل مَا اسْتعْمل زَائِدا مُشْتَرك) بَين التَّأْكِيد وَغَيره (وزائد باصطلاح النَّحْوِيين) عطف على قَوْله حَقِيقَة، ومرادهم من الزِّيَادَة عدم إفادته غير التاكيد، لَا عدم إفادته مُطلقًا، فَإِنَّهُ يُنَافِي بلاغة الْكَلَام (وَاعْلَم أَن الْوَضع يكون لقاعدة) لَيست اللَّام صلَة الْوَضع لِأَن الْقَاعِدَة لَيست مَا وضع لَهُ، بل هِيَ لَام الْغَرَض، فَإِن الْمَقْصد من هَذَا النَّوْع من الْوَضع تَحْصِيل قَاعِدَة كُلية يعلم مِنْهَا وضع أَلْفَاظ كَثِيرَة بِإِزَاءِ معَان كَثِيرَة كَقَوْلِه: وضعت كل اسْم فَاعل بِإِزَاءِ ذَات ثَبت لَهَا مبدأ الِاشْتِقَاق بِمَعْنى الْحُدُوث وَقَوله (كُلية) صفة كاشفة، لِأَنَّهُ لَا تكون الْقَاعِدَة إِلَّا كُلية (جزئيات موضوعها) أَي مَوْضُوع تِلْكَ الْقَاعِدَة وَهُوَ فِي الْمِثَال الْمَذْكُور كل اسْم فَاعل (أَلْفَاظ مَخْصُوصَة) كضارب وناصر وكل وَاحِد مِنْهُمَا مَوْضُوع لِمَعْنى مَخْصُوص (ولمعنى خَاص) مَعْطُوف على قَوْله لقاعدة: أَي الْغَرَض من الْقسم الثَّانِي من الْوَضع إِفَادَة معنى خَاص وضع اللَّفْظ بإزائه بِخِلَاف الأول، فَإِن الْغَرَض مِنْهُ إِفَادَة معَان كَثِيرَة بِأَلْفَاظ كَثِيرَة (وَهُوَ) أَي الْوَضع لمُعين خَاص (الْوَضع الشخصي، وَالْأول) أَي الْوَضع لقاعدة إِلَى آخِره الْوَضع (النوعي) لكَون كل من الْمَوْضُوع لَهُ فِيهِ مفهوما كليا ينْدَرج تَحْتَهُ أَفْرَاد كَثِيرَة بِخِلَاف الأول (وينقسم) النوعي (إِلَى مَا) أَي إِلَى وضع نَوْعي (يدل جزئي مَوْضُوع مُتَعَلقَة) قد عرفت أَن الْوَضع النوعي مُتَعَلقَة الْقَاعِدَة الْكُلية وَأَن لَهَا مَوْضُوعا، لِأَنَّهَا قَضِيَّة كُلية وَأَن لموضوعها جزئيات: أَي أفرادا هى أَلْفَاظ مَخْصُوصَة، فَإِن كَانَ جزئي مَوْضُوع مُتَعَلّقه دَالا (بِنَفسِهِ) فَهُوَ الْقسم الْمشَار إِلَيْهِ بقوله (وَهُوَ) مَا يدل إِلَى آخِره (وضع قَوَاعِد التراكيب) الْقَوَاعِد مُتَعَلقَة بالتراكيب كَقَوْلِه: وضعت هَذِه الْهَيْئَة التركيبية للنسبة الإسنادية، وَهَذِه للنسبة الإضافية إِلَى غير ذَلِك (والتصاريف) أَي وقواعد مُتَعَلقَة بالتصاريف، والتصريف تَحْويل مبدأ الِاشْتِقَاق إِلَى أَمْثِلَة مُخْتَلفَة كالفعل وَاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَغَيرهَا (و) إِلَى مَا يدل جزئي مَوْضُوع مُتَعَلّقه (بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ) أَي مَا يَد بِالْقَرِينَةِ (وضع الْمجَاز كَقَوْل الْوَاضِع: كل مُفْرد(2/5)
بَين مُسَمَّاهُ و) بَين (غَيره) من الْمعَانِي الْمُنَاسبَة لَهُ أَمر (مُشْتَرك) يَعْنِي علاقَة ذَات نِسْبَة إِلَى كل من الْمُسَمّى وَذَلِكَ الْغَيْر (اعتبرته) صفة لمشترك، ثمَّ فسر اعْتِبَاره لذَلِك الْمُشْتَرك بقوله (أَي استعملته) أَي الْفَرد (فِي الْغَيْر بِاعْتِبَارِهِ) أَي اسْتِعْمَاله فِي ذَلِك الْغَيْر بِاعْتِبَار ذَلِك الْمُشْتَرك الْمُوجب للمناسبة بَينهمَا (فَلِكُل) من النَّاس أَن يسْتَعْمل (ذَلِك) الْمُفْرد فِي ذَلِك الْغَيْر // بِاعْتِبَار الْمُشْتَرك بَينهمَا (مَعَ قرينَة) صارفة عَن الْمُسَمّى مُعينَة لذَلِك الْمَعْنى (وَلَفظ الْوَضع حَقِيقَة عرفية فِي كل من الْأَوَّلين) الشخصي والنوعي الدَّال جُزْء مَوْضُوع مُتَعَلّقه بِنَفسِهِ لتبادر كل مِنْهُمَا إِلَى الْفَهم من إِطْلَاق لفظ الْوَضع، توصيف الشخصي بالأولوية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِث فَلَا يُنَافِي ثانويته فِي التَّقْسِيم الأول (مجَاز فِي الثَّالِث) النوعي الدَّال جزئي مَوْضُوع مُتَعَلّقه بِالْقَرِينَةِ (إِذْ لَا يفهم) من إِطْلَاق الْوَضع (بِدُونِ تَقْيِيده) أَي الْوَضع بالمجاز كَأَن يُقَال: وضع الْمجَاز (فَانْدفع) بِهَذَا التَّحْقِيق (مَا قيل) على حد الْحَقِيقَة، وقائله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (أَن أُرِيد بِالْوَضْعِ) الْوَضع (الشخصي خرج من الْحَقِيقَة) كثير من الْحَقَائِق (كالمثنى والمصغر) وكل مَا تكون دلَالَته بِحَسب الْهَيْئَة لَا الْمَادَّة لِأَنَّهَا، مَوْضُوعَة بالنوع لَا بالشخص (أَو) أُرِيد بِهِ مُطلق الْوَضع (الْأَعَمّ) من الشخصي والنوعي (دخل الْمجَاز) فِي تَعْرِيف الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ مَوْضُوع بالنوع وَحَاصِل الدّفع اخْتِيَار الشق الثَّالِث، وَهُوَ الْمَعْنى الْعرفِيّ الَّذِي يعم الْأَوَّلين: أَعنِي تعْيين اللَّفْظ للدلالة على الْمُسَمّى بِنَفسِهِ (وَظهر اقْتِضَاء الْمجَاز وضعين) وضعا (للفظ) لمسماه الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ حَقِيقَة (و) وضعا (لِمَعْنى نوع العلاقة) أَي لِمَعْنى بَينه وَبَين الْمُسَمّى نوع من العلاقة الْمُعْتَبرَة عِنْد أَرْبَاب الْعَرَبيَّة، والعلاقة بِكَسْر الْعين مَا ينْتَقل الذِّهْن بواسطته عَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ إِلَى الْمجَازِي، وَهِي فِي الأَصْل مَا يعلق الشَّيْء بِغَيْرِهِ، وَأما بِفَتْحِهَا فَهُوَ تعلق الْخصم بخصمه، والمحب بمحبوبه: كَذَا قيل، وَفِي الْقَامُوس العلاقة بِالْكَسْرِ: الْحبّ اللَّازِم للقلب، وبالفتح، الْمحبَّة وَنَحْوهَا، وبالكسر فِي السَّوْط وَنَحْوه (وَهِي) أَي العلاقة (بالاستقراء) خَمْسَة: (مشابهة صورية) بَين مَحل الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (كإنسان للمنقوش) أَي كمشابهة الْإِنْسَان للصورة المنقوشة فِي الْجِدَار وَغَيره (أَو) مشابهة بَينهمَا (فِي معنى مَشْهُور) أَي صفة غير الشكل ظَاهِرَة الثُّبُوت بِمحل الْحَقِيقَة، لَهَا بِهِ مزِيد اخْتِصَاص وشهرة لينتقل الذِّهْن عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ من الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ إِلَى تِلْكَ الصّفة فِي الْجُمْلَة: فيفهم الْمَعْنى الْمجَازِي بِاعْتِبَار ثُبُوت الصّفة لَهُ (كالشجاعة للأسد) فَإِنَّهَا صفة مَشْهُورَة لَهُ (بِخِلَاف البخر) فَإِنَّهُ غير مَشْهُور بِهِ فَلَا يَصح إِطْلَاق الْأسد على الرجل الأبخر للاشتراك فِي البخر (ويخص) هَذَا النَّوْع من الْمجَاز (بالاستعارة) أَي باسم الِاسْتِعَارَة (فِي عرف) لأهل علم الْبَيَان وَإِن كَانَ كل مجَاز فِيهِ اسْتِعَارَة للفظ من مَحَله الْأَصْلِيّ بِحَسب اللُّغَة بِخِلَاف(2/6)
ذِي اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِيمَا شبه بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ لعلاقة المشابهة: وَكَثِيرًا مَا يُطلق على اسْتِعْمَال الْمُشبه بِهِ فِي الْمُشبه، وَمَا عدا هَذَا النَّوْع يُسمى مجَازًا مُرْسلا (والكون) عَلَيْهِ أَي (كَون) الْمَعْنى (الْمجَازِي سَابِقًا) أَي فِي زمَان سَابق متلبسا (بالحقيقي) أَي بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ بِنَاء (على اعْتِبَار الحكم) وَإِن لم يكن كَذَلِك بِنَاء على اعْتِبَار حَال الْمُتَكَلّم (كآتوا الْيَتَامَى) أَمْوَالهم، فَإِنَّهُم موصوفون باليتم حَال الْخطاب بِهَذَا الْكَلَام، لكِنهمْ لَيْسُوا بموصوفين بِهِ حَال تعلق الإيتاء بهم: بل هم بالغون راشدون عِنْد ذَلِك، فَالْمُعْتَبر فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ حَال الحكم لِأَنَّهُ لم يذكر إِلَّا ليثبت الحكم لمعناه، فَالْمَعْنى الْمجَازِي لِلْيَتَامَى نظرا إِلَى اعْتِبَار الحكم الْمبلغ، وَقد كَانُوا متلبسين بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ وَهُوَ الْيُتْم قبل زمَان الحكم بالإيتاء، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله سَابِقًا خبر الْكَوْن، وَقَوله بالحقيقي حَالا، وعَلى اعْتِبَار الحكم صلَة لسابقا (وَالْأول) أَي كَون الْمَعْنى الْمجَازِي (آيلا إِلَيْهِ) أَي إِلَى الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (بعده) أَي بعد اعْتِبَار الحكم (وَإِن كَانَ) أَي تحقق الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ حَال التَّكَلُّم) بِالْجُمْلَةِ الْمُشْتَملَة على هَذَا الْمجَاز (كقتلت قَتِيلا، وَإِنَّمَا لم يكن) هَذَا (حَقِيقَة لِأَن المُرَاد) قتلت (حبا) يصير قَتِيلا بعد الْقَتْل، فَكَانَ مجَازًا بِاعْتِبَار أَوله بعد الْقَتْل إِلَى الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، ثمَّ ظَاهر هَذَا الْكَلَام أَنه لَا بُد من الصيرورة إِلَيْهِ فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد توهمها، وَبِه جزم كثير. وَقَالَ بَعضهم يَكْفِي توهمها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَكفى) فِي مجَاز الأول (توهمه) أَي الأول إِلَيْهِ (وَإِن لم يكن) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق الأول إِلَيْهِ (كعصرت خمرًا فأريقت فِي الْحَال، وَكَونه) أَي الْحَقِيقِيّ الَّذِي يؤول إِلَيْهِ ثَانِيًا (لَهُ) أَي للمعنى الْمجَازِي ثبوتا (بِالْقُوَّةِ) حَاصله (الاستعداد) أَي كَون الْمَعْنى الْمجَازِي مستعدا لحُصُول الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ (فيساوي) هَذَا الْكَوْن الْمعِين بالاستعداد (الأول على) سَبِيل (التَّوَهُّم) على قَول من يَكْتَفِي بِهِ، إِذْ لَا يلْزم من مُجَرّد الاستعداد الْحُصُول والمناقشة بِأَن توهم إتصاف الشَّيْء بالشَّيْء لَا يسْتَلْزم استعداده فِي نفس الْأَمر لَا يلائم هَذَا الْمقَام (وعَلى اعْتِبَار حَقِيقَة الْحُصُول لَا) يُسَاوِي الاستعداد الأول: بل الاستعداد أَعم (فَهُوَ) أَي اعْتِبَار تحقق الصيرورة إِلَيْهِ فِي الأول (أولى) لِأَنَّهُ من العلاقات وَالْأَصْل فِيهَا عدم الِاتِّحَاد (وَيصرف الْمِثَال) أَي عصرت خمرًا فأريقت فِي الْحَال (للاستعداد) لَا للْأولِ لوُجُود التَّوَهُّم فِيهِ، دون التحقق (والمجاورة) وَهَذِه هِيَ العلاقة الْخَامِسَة (وَمِنْهَا) أَي من الْمُجَاورَة (الْجُزْئِيَّة للمنتفى عرفا بانتفائه) أَي كَون الشَّيْء جُزْءا للشَّيْء الَّذِي يَنْتَفِي عرفا بِانْتِفَاء ذَلِك الْجُزْء، وَإِنَّمَا قَالَ عرفا، لِأَن انْتِفَاء الْمركب من الشَّيْء وَغَيره بِانْتِفَاء ذَلِك الشَّيْء ضرورى غير أَنه لَا يُقَال عرفا بِانْتِفَاء بعض الْأَجْزَاء انْتَفَى ذَلِك الشىء كَمَا إِذا انْتَفَى ظفر زيد مثلا لَا يُقَال انْتَفَى زيد عرفا (كالرقبة) فَإِنَّهَا جُزْء للذات وَهِي تَنْتفِي بانتفائها، فَيجوز ذكرهَا وَإِرَادَة(2/7)
الذَّات كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَتَحْرِير رَقَبَة} - (لَا الظفر) أَي وَلَيْسَ الظفر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات كَذَلِك لما ذكر فَلَا يَصح إِطْلَاقه عَلَيْهَا (بِخِلَاف) اسْتِعْمَال (الْكل فِي الْجُزْء) فَإِنَّهُ يَصح مُطلقًا، وَلَا يشْتَرط فِيهِ أَن يكون الْجُزْء بِهَذِهِ المثابة (وَمِنْه) أَي من إِطْلَاق اسْم الْكل على الْجُزْء (الْعَام لفرده) أَي ذكر الْعَام لإِرَادَة فَرد مِنْهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} بِنَاء على أَن المُرَاد بِالنَّاسِ نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ كَمَا ذكره ابْن عبد الْبر عَن طَائِفَة من الْمُفَسّرين وَابْن سعد فِي الطَّبَقَات وَجزم بِهِ السُّهيْلي، وَمَا قيل من أَنه من بَاب الْكُلِّي والجزئي لَا من بَاب الْكل والجزء مَدْفُوع بِمَا ذكر فِي أول مبَاحث الْعَام (و) مِنْهُ (قلبه) أَي إِطْلَاق فَرد من الْعَام على الْعَام نَحْو (علمت نفس) فَإِن المُرَاد كل نفس (والذهنية) أَي وَمن الْمُجَاورَة الْمُجَاورَة الْجُزْئِيَّة الذهنية (كالمقيد على الْمُطلق كالمشفر) بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ شفة الْبَعِير (على الشّفة مُطلقًا ولاجتماع الاعتبارين) التَّشْبِيه والمجاورة الذهنية من حَيْثُ الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد (صَحَّ) إِطْلَاق المشفر على شفة الْإِنْسَان (اسْتِعَارَة) إِذا قصد تشبيهها بمشفر الْإِبِل فِي الْغَلَط كَمَا صَحَّ أَن يكون مجَازًا مُرْسلا من بَاب إِطْلَاق الْمُقَيد على الْمُطلق (وَقَلبه) أَي إِطْلَاق الْمُطلق على الْمُقَيد (وَالْمرَاد أَن يُرَاد خُصُوص الشَّخْص) كزيد (باسم الْمُطلق) كَرجل (وَهُوَ) أَي القَوْل بِأَن هَذَا مجَاز لبَعض الْمُتَأَخِّرين (مستحدث، والغلط) فِيهِ جَاءَ (من ظن) أَن المُرَاد بِوُقُوع (الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ) وُقُوعه (فِي نفس الْمُسَمّى) الْكُلِّي (لَا) فِي (أَفْرَاده) فاستعماله فِي فَرد الْمُسَمّى من حَيْثُ الخصوصية الشخصية اسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ مَعَ زِيَادَة أَمر آخر، وَهُوَ الشَّخْص والمركب مِمَّا وضع لَهُ وَغَيره مُغَاير لما وضع لَهُ، فَيكون مجَازًا (ويلزمهم أَن أَنا) حَال كَونه صادرا (من مُتَكَلم خَاص وَهَذَا) حَال كَونه مُشْتَمِلًا (لمُعين مجَاز) خبر أَن، لِأَن كلا مِنْهُمَا مَوْضُوع لِمَعْنى كلي فاستعماله فِي جُزْء من حَيْثُ إِنَّه جُزْء اسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ، وعَلى هَذَا رَأْي الْمُتَقَدِّمين وَأما على رَأْي الْمُتَأَخِّرين فَهُوَ مَوْضُوع لكل وَاحِد من خصوصيات الْمَفْهُوم الْكُلِّي فالوضع عَام لكَون آلَة مُلَاحظَة الْأَشْخَاص مفهوما عَاما، والموضوع لَهُ خَاص على مَا حقق فِي مَوْضِعه (وَكثير) مَعْطُوف على مَحل اسْم أَن الْمُتَقَدّم الْمَبْنِيّ، وَذَلِكَ كَسَائِر الْمُضْمرَات والموصولات (والاتفاق) أَي اتِّفَاق الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين (على نَفْيه) أَي نفي كَون اسْتِعْمَال الْمَذْكُورَات فِي الخصوصيات مجَازًا، أما فِي المبهمات على رَأْي الْمُتَأَخِّرين فَظَاهر، وَأما على رَأْي غَيرهم فَلَمَّا سيشير إِلَيْهِ بقوله (فَإِنَّمَا هُوَ) أَي اسْتِعْمَال الْمُطلق فِي فَرد مِنْهُ (حَقِيقَة كَمَا ذكرنَا أول الْبَحْث، و) من الْمُجَاورَة (كَونهمَا) أَي الْحَقِيقِيّ والمجازي (عرضين فِي مَحل) وَاحِد (كالحياة للْعلم) أَي المستعملة فِي الْعلم بِهَذِهِ العلاقة (أَو) كَونهمَا عرضين (فِي محلين متشابهين ككلام السُّلْطَان) الْمُسْتَعْمل (لكَلَام(2/8)
وزيره) فَإِن مَحل الْكَلَامَيْنِ وَإِن لم يَكُونَا متحدين: لكنهما متشابهان فِي نَفاذ الحكم وَغَيره (أَو) كَونهمَا (جسمين فيهمَا) أَي فِي محلين متشابهين (كالرواية للمزادة) وَهِي فِي الأَصْل اسْم للبعير الَّذِي يحمل المزادة: أَي المزود الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الزَّاد: أَي الطَّعَام للسَّفر كَذَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ. وَقَالَ السَّيِّد الشريف: والمزادة ظرف المَاء يستقى بِهِ على الدَّابَّة الَّتِي تسمى راوية. قَالَ أَبُو عبيد: لَا تكون المزادة إِلَّا من جلدين تفأم بجلد ثَالِث بَينهمَا لتتسع وَجَمعهَا المزاود والمزايد، وَأما الظّرْف الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الزَّاد فَهُوَ المزود وَجمعه المزاود (وكونهما) أَي الْحَقِيقِيّ والمجازي (متلازمين ذهنا) بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ (كالسبب للمسبب) نَحْو: رعينا الْغَيْث مرَادا بِهِ النَّبَات الَّذِي سَببه الْغَيْث (وَقَلبه) أَي إِطْلَاق اسْم الْمُسَبّب على السَّبَب (وَشَرطه) أَي شَرط قلبه (عِنْد الْحَنَفِيَّة الِاخْتِصَاص) أَي اخْتِصَاص الْمُسَبّب بِالسَّبَبِ (كإطلاق الْمَوْت على الْمَرَض) المهلك (والنبت على الْغَيْث) والاختصاص بِحَسب الْأَغْلَب، فَلَا يرد أَن الْمَوْت قد يَقع بِدُونِ الْمَرَض والنبت قد ينْبت بِدُونِ الْغَيْث (والملزوم على اللَّازِم كنطقت الْحَال) أَي دلّت فَإِن النُّطْق ملزوم الدَّالَّة وَقَلبه كشد الْإِزَار الاعتزال النِّسَاء كَقَوْلِه:
(قوم إِذا حَاربُوا شدو مآزرهم ... دون النِّسَاء وَلَو باتت باطهار)
(أَو) متلازمين (خَارِجا: كالغائط على الفضلات) لِأَن الْغَائِط وَهُوَ الْمَكَان المنخفض من الأَرْض مِمَّا يقْصد عَادَة لإزالتها (وَهُوَ) أَي إِطْلَاق الْغَائِط عَلَيْهَا (الْمحل) أَي إِطْلَاق الْمحل (على الْحَال، وَقَلبه) أَي الْحَال على الْمحل كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله} - الَّتِي هِيَ الْجنَّة الَّتِي تحل فِيهَا الرَّحْمَة (وأدرج فِي) التجاور (الذهْنِي أحد المتقابلين فِي الآخر) فَإِن بَينهمَا مجاورة فِي الْجنان، حَتَّى أَن الذِّهْن ينْتَقل من مُلَاحظَة السوَاد مثلا إِلَى الْبيَاض (وَمنع) الإدراج الْمَذْكُور (بامتناع إِطْلَاق الْأَب على الابْن) مَعَ أَن بَينهمَا تقَابل التضايف ومجاورة فِي الْوُجُود ذهنا وخارجا (وَإِنَّمَا هُوَ) أَي إِطْلَاق أحد المتقابلين على الآخر (من قبيل الِاسْتِعَارَة بتنزيل التضاد منزلَة التناسب لتمليح) أَي إتْيَان بِمَا فِيهِ ملاحة وظرافة (أَو تهكم) أَي سخرية واستهزاء (أَو تفاؤل كالشجاع على الجبان) فَإِنَّهُ إِن كَانَ الْغَرَض مِنْهُ مُجَرّد الملاحة، لَا السخرية فتمليح، وَإِلَّا فتهكم (والبصير على الْأَعْمَى) وَهُوَ صَالح للْكُلّ، وَالْفرق بَينهمَا بِحَسب الْمقَام (أَو) متلازمين (لفظا) بِمَعْنى إِذا ذكر الْمَوْضُوع لَهُ معبرا عَنهُ باسمه ذكر الْمَعْنى الْمجَازِي معبرا عَنهُ باسم الْمَوْضُوع لَهُ غَالِبا على سَبِيل المشاكلة، فَيكون بَين اللَّفْظَيْنِ تلازم والتغاير بَينهمَا اعتباري بِاعْتِبَار الْمُسْتَعْمل فِيهِ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة} أطلق السَّيئَة على الْجَزَاء مَعَ أَنه حسن لوُقُوعه فِي صحبتهَا، وَقد يُقَال إِنَّمَا سمى جزاؤها سَيِّئَة لِأَنَّهُ يسوء من ينزل بِهِ، فعلى(2/9)
هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ (وَمَا ذكر من) كَون (الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان من العلاقة مُنْتَفٍ) لما مر من أَنه حَقِيقَة (وَالْمجَاز) أَي إِطْلَاق لفظ الْمجَاز (فِي متعلقهما) أَي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان (مجَاز) لعدم اسْتِعْمَاله فِي غير مَا وضع لَهُ، والعلاقة المشابهة فِي التَّعَدِّي من أَمر أُصَلِّي إِلَى غير أُصَلِّي (ويجمعها) أَي العلاقات (قَول فَخر الْإِسْلَام اتِّصَال) بَينهمَا (صُورَة أَو معنى) لِأَن كل مَوْجُود لَهُ صُورَة وَمعنى، لَا ثَالِث لَهما والعلاقة اتِّصَال: وَهُوَ إِمَّا بَين الصُّورَتَيْنِ وَإِمَّا بَين الْمَعْنيين (زَاد) فَخر الْإِسْلَام فِي نُسْخَة (فِي الصورى) أَي قَالَ بعد قَوْله اتِّصَال صُورَة (لَا تدخله شُبْهَة الِاتِّحَاد) بَين طرفِي الِاتِّصَال (فَانْدفع) بِهَذَا (لُزُوم إِطْلَاق بعض الْأَعْضَاء على بعض) فَإِن الِاتِّصَال بَينهمَا تدخله شُبْهَة الِاتِّحَاد بِاعْتِبَار الصُّورَة الاجتماعية، حَتَّى يُقَال للمجموع شخص وَاحِد (وَلم يحققوا علاقَة التغليب) . قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَأما بَيَان مجازية التغليب والعلاقة فِيهِ وَأَنه من أَي أَنْوَاعه فَمَا لم أر أحدا حام حوله (ولعلها) أَي العلاقة (فِي العمرين) لأبي بكر وَعمر (المشابهة سيرة) فِيمَا يتَعَلَّق بخلافة النُّبُوَّة (وخصوص الْمُغَلب) أَي تعْيين كَون الْمُغَلب اسْم عمر مَعَ أَن العلاقة الْمَذْكُورَة لَا تعين أحد الاسمين بِخُصُوصِهِ للتغليب (للخفة) فَإِن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر (وَهُوَ) أَي تَغْلِيب لفظ عمر على لفظ أبي بكر (عكس التَّشْبِيه) فَإِن شَأْن التَّشْبِيه أَن يُغير اسْم مَا هُوَ أَعلَى فِي وَجه التَّشَبُّه عَمَّا هُوَ أدنى فِيهِ (و) العلاقة (فِي القمرين الإضاءة، وَالْخُصُوص) أَي وخصوص الْمُغَلب وَهُوَ تَخْصِيص لفظ الْقَمَر، فَإِن كَانَ لفظ الْقَمَر أخف (للتذكير) فَإِن الْقَمَر مُذَكّر وَالشَّمْس مؤنث (منكوسا) أَي معكوسا بِالنّظرِ إِلَى التَّشْبِيه فَإِن الشَّمْس هِيَ الْمُشبه بِهِ (وَأما الخافقان فَلَا تَغْلِيب) فِيهِ بِنَاء (على أَنه) أَي الخافق مَوْضُوع (للضدين وَقد نقل) كَونه لَهما. قَالَ ابْن السّكيت: الخافقان أفقا الْمشرق وَالْمغْرب لِأَن اللَّيْل وَالنَّهَار يخفقان فيهمَا: أَي يضطربان وَهُوَ معنى مَا قيل هما الهوا آن المحيطان بجانبي الأَرْض جَمِيعًا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هما طرفا السَّمَاء وَالْأَرْض، وَأما من جعل الخافق حَقِيقَة فِي الْمغرب، من خَفَقت النُّجُوم إِذا غَابَتْ، لِأَنَّهُ تحقق مِنْهُ الْكَوَاكِب تلمع فقد غلب أَحدهمَا على الآخر.
(تَنْبِيه: يُقَال) أَي يُطلق (الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على غير الْمُفْرد بالاشتراك الْعرفِيّ، فعلى الْإِسْنَاد) أَي فَيُقَال عَلَيْهِ (عِنْد قوم) كصاحب التَّلْخِيص (وعَلى الْكَلَام على) اصْطِلَاح (الْأَكْثَر) مِنْهُم الشَّيْخ عبد القاهر والسكاكي (وَهُوَ) أَي إطلاقهما على الْكَلَام (أقرب) من إطلاقهما على الْإِسْنَاد، وَيَأْتِي وَجهه (فالحقيقة الْجُمْلَة الَّتِي أسْند فِيهَا الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ) من الْمصدر وَاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالصّفة المشبهة، وَاسم التَّفْضِيل والظرف (إِلَى مَا) أَي شَيْء (هُوَ) أَي الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ (لَهُ) أَي لذَلِك الشَّيْء: كالفاعل فِيمَا بني لَهُ وَالْمَفْعُول فِيمَا بني لَهُ، وَمعنى كَونه أَن يكون(2/10)
مَعْنَاهُ قَائِما بِهِ ووصفا لَهُ وَحقه أَن يسند إِلَيْهِ سَوَاء كَانَ بِاخْتِيَارِهِ كضرب أَولا كمات (عِنْد الْمُتَكَلّم) مُتَعَلق لَهُ: أَي فِي اعْتِقَاده وَزَادُوا على هَذَا قيد فِي الظَّاهِر ليدْخل فِيهِ مَا يفهم من كَلَام ظَاهر كَلَامه أَي اعْتِقَاده أَنه لَهُ، وَلَيْسَ فِي نفس الْأَمر اعْتِقَاده كَذَلِك كَمَا دخل بقوله عِنْد الْمُتَكَلّم مَا لَيْسَ لَهُ فِي نفس الْأَمر، لكنه لَهُ عِنْد الْمُتَكَلّم، وَعند المُصَنّف رَحمَه الله أَنه لَا حَاجَة إِلَى زِيَادَة هَذَا الْقَيْد وَلذَا قَالَ (وَلَا حَاجَة إِلَيّ فِي الظَّاهِر لِأَن الْمُعَرّف) على صِيغَة الْمَجْهُول (الْحَقِيقَة فِي نَفسهَا) يَعْنِي الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف بِدُونِ قيد فِي الظَّاهِر كَاف فِي تَصْوِير مَاهِيَّة الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى الْقَيْد الْمَذْكُور فِي الحكم بِأَن الْإِسْنَاد الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام الْمُتَكَلّم هَل هُوَ مُعْتَقد الْمُتَكَلّم ليتَحَقَّق هُنَاكَ فَرد من الْحَقِيقَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ثمَّ الحكم بوجودها) أَي الْحَقِيقَة (بدليله) أَي الْوُجُود فشيء آخر (غير ذَلِك) أَي غير الْحَقِيقَة فِي نَفسهَا، وَيلْزم من هَذَا أَنه إِذا ظهر لنا من ظَاهر حَال الْمُتَكَلّم أَن الْفِعْل لهَذَا الْفَاعِل فِي اعْتِقَاده وَلَيْسَ كَذَلِك فِي نفس الْأَمر لم يتَحَقَّق هُنَاكَ فَرد الْحَقِيقَة فِي نفس الْأَمر، وَإِن كَانَ فِي ظننا أَنه تحقق ويلتزمه المُصَنّف رَحمَه الله، لكنه بَقِي شَيْء: وَهُوَ أَن نَحْو زيد إِنْسَان جسم خَارج، مَعَ أَن ظَاهر كَلَام الشَّيْخ عبد القاهر والسكاكي أَنه حَقِيقَة لَا تدخل فِي التَّعْرِيف، وَذهب صَاحب التَّلْخِيص إِلَى أَنه لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز (وَالْمجَاز) الْجُمْلَة الَّتِي أسْند فِيهَا الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ (إِلَى غَيره) أَي غير مَا هُوَ لَهُ عِنْد الْمُتَكَلّم (لمشابهة الملابسة) بَين الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ، وَبَين غير مَا هُوَ لَهُ: يَعْنِي ينزل غير مَا هُوَ لَهُ فِي مَوضِع مَا هُوَ لَهُ لِكَوْنِهِمَا متشاركين فِي معنى الملابسة: يَعْنِي كَمَا أَن الْفِعْل أَو مَا فِي مَعْنَاهُ ملابس لما هُوَ لَهُ كَذَلِك ملابس لذَلِك الْغَيْر (أَو الْإِسْنَاد كَذَلِك) مَعْطُوف على قَوْله الْجُمْلَة الخ: أَي الْحَقِيقَة أما أَن تفسر بِالْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَة، وَإِمَّا أَن تفسر بِإِسْنَاد الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ إِلَى مَا هُوَ لَهُ عِنْد الْمُتَكَلّم، وعَلى هَذَا الْقيَاس تَعْرِيف الْمجَاز (وَالْأَحْسَن فيهمَا) أَي فِي تعريفي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَن يُقَال (مركب) نسب فِيهِ أَمر إِلَى مَا هُوَ لَهُ عِنْد المتكل، أَو إِلَى غير مَا هُوَ لَهُ عِنْده لمشابهة الملابسة (وَنسبَة ليدْخل) الْمركب (الإضافي) فِي نَحْو (إنبات الرّبيع) فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِي تعريفهم لعدم الْإِسْنَاد فِيهِ، وَمِنْه - شقَاق بَينهمَا} - ومكر اللَّيْل وَالنَّهَار، وَذَلِكَ لشمُول النِّسْبَة التَّامَّة وَغير التَّامَّة بِخِلَاف الْإِسْنَاد، وَإِنَّمَا قَالَ الْأَحْسَن، لجَوَاز سهل الْإِسْنَاد على الْمَعْنى الْأَعَمّ وَإِن كَانَ خلاف الظَّاهِر، وَأَيْضًا لَا مساحة فِي الِاصْطِلَاح، وَزَاد السكاكي فِي تَعْرِيف الْمجَاز قَوْله بِضَرْب من التَّأْوِيل لِئَلَّا ينْتَقض بِمَا إِذا قصد الْمُتَكَلّم صُدُور الْكَذِب عَنهُ فيسند إِلَى غير مَا هُوَ لَهُ عِنْده من غير مُلَاحظَة الملابسة الْمَذْكُورَة فَإِنَّهُ لَيْسَ بمجاز، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله أخرجه بقوله لمشابهته الملابسة وَلَا يخفى أَنه غير دَاخل فِي الْحَقِيقَة أَيْضا فَيبقى وَاسِطَة بَينهمَا (ويسميان) أَي هَذِه الْحَقِيقَة وَهَذَا الْمجَاز (عقليين) لِأَن(2/11)
الْحَاكِم بِأَنَّهُ ثَابت فِي مَحَله أَو مجَاز عَنهُ إِنَّمَا هُوَ الْعقل لَا الْوَضع كَمَا فِي اللغوين (وَوجه الأقربية) أَي أقربية إِطْلَاق الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على الْكَلَام من إطلاقهما على الْإِسْنَاد (اسْتِقْرَار أَنه) أَي الْوَصْف بهما (للفظ) يَعْنِي قد اسْتَقر فِي الأذهان أَنَّهُمَا من أَوْصَاف اللَّفْظ (والمركب) بِاعْتِبَار هَيئته النوعية (مَوْضُوع للتركيبي) أَي للمعنى التركيبي وضعا (نوعيا) لِأَن الْمَوْضُوع والموضوع لَهُ لَو حظا فِي هَذَا الْوَضع: يَعْنِي أَنه كلي (بدل أَفْرَاده) يَعْنِي أَن الْمركب الْمَذْكُور كلي، وكل مركب خَاص فَرد من أَفْرَاده وَكَذَلِكَ الْمَعْنى التركيبي، وَالْمَقْصُود وضع كل مركب خَاص بِإِزَاءِ معنى تركيبي خَاص، وتفصيل هَذِه الأوضاع غير مُمكن، فَجعل آلَة مُلَاحظَة الخصوصيات عنوان الْمركب الْكُلِّي وَآلَة مُلَاحظَة الْمعَانِي التركيبية عنوانا آخر مثله، فوضعوا ذَلِك لأفراد هَذَا دفْعَة وَاحِدَة، فَصَارَ هَذَا الْوَضع الْكُلِّي الإجمالي بدل وضع الْأَفْرَاد للإفراد تَفْصِيلًا (بِلَا قرينَة) مُتَعَلق بِالْوَضْعِ الْمَذْكُور: أَي وضع الْمركب الْمَذْكُور للدلالة على الْمَعْنى التركيبي بِنَفسِهِ بِلَا قرينَة، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح تدل إِفْرَاده بِلَا قرينَة من الدّلَالَة وَهُوَ الأوفق بِمَا سبق، فالمجاز مُتَعَلق بِالدّلَالَةِ (فَهِيَ) أَي تِلْكَ المركبات من المستعملة فِيمَا وضعت لَهَا بِلَا قرينَة (حقائق فَإِذا اسْتعْمل) الْمركب (فِيمَا) أَي فِي معنى غير مَا وضع لَهُ حَال كَونه متلبسا (بهَا) أَي بِالْقَرِينَةِ (فمجاز) أَي فَذَلِك الْمركب مجَاز (و) يُسمى (الْأَوَّلَانِ) أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْمُفْرد (لغويين تعميما للغة فِي الْعرف) بِأَن يُرَاد بهَا معنى عَام يتَحَقَّق فِي عرف أَرْبَاب الْعَرَبيَّة وَغَيرهم أَو الْمَعْنى أَن التَّعْمِيم إِنَّمَا هُوَ فِي الْعرف (وتوصف النِّسْبَة بهما) أَي بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز فَيُقَال: نِسْبَة حَقِيقَة وَنسبَة مجَاز (وتنسب) النِّسْبَة إِلَيْهِمَا، فَيُقَال نِسْبَة حَقِيقِيَّة وَنسبَة مجازية (لنسبتها) أَي لأجل نِسْبَة النِّسْبَة (إِلَى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز) لَا يظْهر وَجه لوضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد بهما هَهُنَا غير مَا أُرِيد بهما أَولا: أَي الثَّابِت فِي مَحَله والمجاوز عَنهُ فَيكون نِسْبَة النِّسْبَة إِلَيْهِمَا من قبيل نِسْبَة الْأَخَص إِلَى الْأَعَمّ (واستبعاده) قَالَ الشَّارِح: أَي الْمجَاز الْعقلِيّ والأولي: أَي وصف النِّسْبَة بهما (باتحاد جِهَة الْإِسْنَاد) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب من أَنه لَيْسَ للإسناد جهتان: جِهَة الْحَقِيقَة، وجهة الْمجَاز كالأسد، وَالْمجَاز لَا يتَحَقَّق إِلَّا عِنْد اخْتِلَاف الْجِهَتَيْنِ، وَفِي الشَّرْح العضدي: فَإِن قلت فقد قَالَ عبد القاهر فِي نَحْو أحياني اكتحالي بطلعتك: أَن الْمجَاز فِي الْإِسْنَاد فَإِن موجد الشرور هُوَ الله قُلْنَا هَذَا بعيد لِاتِّحَاد جِهَة الْإِسْنَاد، فَإِنَّهُ لَا فرق فِي اللُّغَة بَين قَوْلك سرني رؤيتك، وَمَات زيد وَضرب عَمْرو، فَإِن جِهَة الْإِسْنَاد وَاحِدَة لَا يخْطر بالبال عِنْد الِاسْتِعْمَال غَيرهَا. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَة عَلَيْهِ فِي منع كَون أَمْثَال هَذِه الصُّور من قبيل الْمجَاز إِلَّا بِاعْتِبَار الْمُفْردَات، وَهَذَا حق فِي مثل: شابت لمة اللَّيْل، لِأَن اللمة مجَاز عَن سَواد أَجزَاء اللَّيْل، والشيب الْبيَاض فِيهِ(2/12)
بِخِلَاف قَامَت الْحَرْب على سَاق، فَإِنَّهُ تَمْثِيل لحَال الْحَرْب بِحَال من يقوم على سَاقه لَا يقْعد وَلَا مجَاز فِي شَيْء من مفرداته وَبِالْجُمْلَةِ المركبات مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا التركيبة وضعا نوعيا بِحَيْثُ يدل عَلَيْهَا بِلَا قرينَة، فَإِن اسْتعْملت فِيهَا فحقائق وَإِلَّا فمجازات، وَهَذَا غير الْإِسْنَاد الْمجَازِي الَّذِي يَقُول بِهِ عبد القاهر وَمن تبعه من الْمُحَقِّقين، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء من اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ، بل مَعْنَاهُ أَن حق الْفِعْل بِحكم الْعقل أَن يسند إِلَى مَا هُوَ لَهُ فإسناده إِلَى غير مَا هُوَ لَهُ مجَاز عَقْلِي واتحاد جِهَة الْإِسْنَاد بِحَسب الْوَضع، واللغة لَا يُنَافِي ذَلِك وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ اتِّحَاد جِهَته بِحَسب الْعقل وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى مَا هُوَ متصف بِهِ محلا لَهُ فِي الْمَبْنِيّ للْفَاعِل ومتعلقا لَهُ فِي الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول فَمَا يَقْتَضِيهِ الْعقل ويرتضيه، وَفِي غير ذَلِك مِمَّا يأباه إِلَّا بِتَأْوِيل، وَلِهَذَا قَالَ الشَّارِح الْمُحَقق وَالَّذِي يزِيل الْوَهم بِالْكُلِّيَّةِ أَن يَجْعَل الْفِعْل مجَازًا وضعيا عَمَّا يَصح عِنْد الْعقل إِسْنَاده إِلَى الْفَاعِل الْمَذْكُور: وَهُوَ التَّسَبُّب العادي فَيكون أنبت مجَازًا عَن تسبب فِي الإنبات، وَصَامَ عَن تسبب فِي الصَّوْم إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا مُشكل فِيمَا أسْند إِلَى الْمصدر مثل جد جده، وَبِالْجُمْلَةِ كَلَام المُصَنّف فِي هَذَا الْمقَام يدل على قصر بَاعه فِي علم الْبَيَان انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بعيد إِذْ لَا يمْنَع اتحاده) أَي الْإِسْنَاد (بِحَسب الْوَضع) اللّغَوِيّ (انقسامه) أَي الْإِسْنَاد (عقلا إِلَى مَا هُوَ للمسند إِلَيْهِ) فَيكون حَقِيقَة (و) إِلَى (مَا لَيْسَ لَهُ) أَي للمسند إِلَيْهِ فَيكون مجَازًا (ثمَّ) لَا يمْنَع (وضع الِاصْطِلَاح) كَذَلِك بِأَن يُسمى الْإِسْنَاد إِلَى مَا هُوَ لَهُ حَقِيقَة، وَإِلَى غير مَا هُوَ لَهُ مجَازًا (والطرفان أَي الْمسند والمسند إِلَيْهِ، أَو الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ فِي الْمجَاز الْعقلِيّ (حقيقان كأشاب الصَّغِير الْبَيْت) أَي وأفنى الْكَبِير كرّ الْغَدَاة وَمر العشى، فَإِن كلا من الإشابة والإفناء مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته (أَو مجازان كأحياني اكتحالي بطلعتك) فَإِن المُرَاد بِالْإِحْيَاءِ: السرُور وبالاكتحال الرُّؤْيَة (أَو أَحدهمَا) نَحْو أَحْيَا الرّبيع الأَرْض، فَإِن المُرَاد بِالْإِحْيَاءِ الْمَعْنى الْمجَازِي وَهُوَ تهييج القوى النامية فِيهَا وأحداث نضارتها بالنبات كَمَا أَن الْحَيَاة صفة تَقْتَضِي الْحس وَالْحَرَكَة وبالربيع حَقِيقَته وكسا الْبَحْر الْفَيَّاض الْكَعْبَة: يَعْنِي الشَّخْص الْجواد وكسا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته (وَقد يرد) الْمجَاز الْعقلِيّ (إِلَى التَّجَوُّز بالمسند) حَال كَونه مُسْتَعْملا (فِيمَا تصح نسبته) إِلَى الْمسند إِلَيْهِ بِقَرِينَة صارفة عَن كَونه مُسْندًا إِلَى مَا هُوَ لَهُ وقرينة مُعينَة لما اسْتعْمل فِيهِ مَا يَصح إِسْنَاده إِلَى الْفَاعِل الْمَذْكُور لكَونه وَصفا لَهُ أَو مُتَعَلقا بِهِ فِي نفس الْأَمر، والراد هُوَ ابْن الْحَاجِب (وَإِلَى كَون الْمسند إِلَيْهِ اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ) مَعْطُوف على قَوْله إِلَى التَّجَوُّز، وَالتَّقْدِير وَقد يرد الْمجَاز الْعقلِيّ إِلَى كَون الْمسند إِلَيْهِ اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ على مَا هُوَ مصطلح السكاكي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كالسكاكي) أَي كرد السكاكي (وَلَيْسَ) الرَّد إِلَى كَونه اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ على اصْطِلَاحه مغنيا) عَن الرَّاد شَيْئا فِيمَا هُوَ(2/13)
بصدده من رد الْإِسْنَاد الْمجَازِي إِلَى الْحَقِيقِيّ (لِأَنَّهَا) أَي الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ عَن رَأْيه (إِرَادَة الْمُشبه بِهِ بِلَفْظ الْمُشبه) فِيهِ مُسَامَحَة، وَالْمرَاد لفظ الْمُشبه المُرَاد بِهِ الْمُشبه بِهِ (بادعائه) أَي بادعاء كَون الْمُشبه (من أَفْرَاده) أَي الْمُشبه بِهِ فيدعي أَن اسْم الْمنية فِي أنشبت الْمنية أظفارها اسْم للسبع مرادف لَهُ بِتَأْوِيل، وَهُوَ أَن الْمنية يَدعِي دُخُولهَا فِي جنس السبَاع مُبَالغَة فِي التَّشْبِيه: فَالْمُرَاد بِالنِّيَّةِ السَّبع بادعاء سبعيتها (فَلم يخرج) الْإِسْنَاد الْمَذْكُور (عَن كَون الْإِسْنَاد إِلَى غير من هُوَ لَهُ) عِنْد الْمُتَكَلّم إِلَى كَونه إِلَى من هُوَ لَهُ: فَإِن نِسْبَة إنشاب الْأَظْفَار إِلَى الْمنية لَا تصير نسبته إِلَى من هُوَ لَهُ بِمُجَرَّد أَن يَدعِي لَهَا السبعية: لِأَن السَّبع الادعائي لَيْسَ بِسبع حَقِيقِيّ وَلَا تصير نسبته إِلَى مَا هُوَ لَهُ إِلَّا بِكَوْن الْمنية سبعا حَقِيقِيًّا، وَذَلِكَ محَال (وَقد يعْتَبر) الْمجَازِي الْعقلِيّ (فِي الْهَيْئَة التركيبية الدَّالَّة على التَّلَبُّس الفاعلي، وَلَا مجَاز فِي الْمُفْردَات) كَمَا نسب إِلَى الشَّيْخ عبد القاهر، وَأنكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن يكون قولا لأحد من عُلَمَاء الْبَيَان اعْتِبَار الْمجَاز الْعقلِيّ فِيمَا ذكر إِنَّمَا كَانَ فِي النِّسْبَة والمركب، وَهَهُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَة الْعَارِضَة على الْمركب الدَّالَّة على النِّسْبَة الْقَائِمَة بَين الْفِعْل وَمَا قَامَ بِهِ من حَيْثُ أسْند فِيهِ إِلَى غير مَا يَقْتَضِي الْعقل إِسْنَاده إِلَيْهِ تَشْبِيها لَهُ بالفاعل الْحَقِيقِيّ، فَشبه تلبس الْغَيْر الفاعلي بالتلبس الفاعلي (فَهُوَ) أَي الْمجَاز (اسْتِعَارَة تمثيلية) وَهِي أَن يستعار الدَّال على هَيْئَة منتزعة من أُمُور من تِلْكَ الْهَيْئَة لهيئة أُخْرَى منتزعة من أُمُور أخر كَمَا إِذا شبهت هَيْئَة تردد الْمَعْنى فِي حكم بهيئة تردد من قَامَ ليذْهب، وَقلت أَرَاك أَيهَا الْمُفْتِي تقدم رجلا وتؤخر أُخْرَى لَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه الْمُفْردَات تجوز، وَإِنَّمَا وَقع التَّجَوُّز فِي مَجْمُوع الْمركب الدَّال على الصُّورَة الأولى حَقِيقَة باستعارة للصورة الثَّانِيَة مُبَالغَة فِي كَمَال مشابهة الْمُسْتَعَار لَهُ بالمستعار مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ دخل تَحت جنسه فَسُمي باسمه فَإِن قلت هَذَا يدل على أَن التَّجَوُّز إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظ الْمركب، وَالْكَلَام فِي اعْتِبَار الْمجَاز للهيئة التركيبية الدَّال على التَّلَبُّس الفاعلي بِأَن يستعار للتلبس الْغَيْر الفاعلي قلت مَا ذَكرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ تَفْسِير للاستعارة التمثيلية على مَا ذكره الْقَوْم وَالْمُصَنّف أَرَادَ إِدْخَال الْمجَاز فِي الْهَيْئَة التركيبية تحتهَا: إِذْ الدَّال فِي الْمركب الْمَذْكُور بِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ الْهَيْئَة الْعَارِضَة على مَجْمُوع مفرداتها، والتلبس الفاعلي هَيْئَة منتزعة من أُمُور، وَكَذَا التَّلَبُّس الْغَيْر الفاعلي فَيصدق عَلَيْهِ أَنه اسْتِعَارَة الدَّال على هَيْئَة لأخرى فَافْهَم (وَلم يقولوه) أَي عُلَمَاء الْبَيَان بِاعْتِبَار الْمجَاز الْعقلِيّ فِي الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة (هُنَا) أَي فِي مَحل النزاع الَّذِي ذكر فِيهِ هَذِه الْوُجُوه هُنَا، نَحْو: أنبت الرّبيع البقل وَالْمعْنَى: لم يقل عُلَمَاء الْأُصُول هَذَا الِاعْتِبَار فِي هَذَا الْبَحْث (وَلَيْسَ) هَذَا الِاعْتِبَار (بِبَعِيد) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (فَإِنَّمَا هِيَ) أَي هَذِه الإرادات المجازية (اعتبارات) وتصرفات عقلية للمتكلم (قد(2/14)
يَصح الْكل فِي مَادَّة) وَاحِدَة (وَقد لَا) يَصح الْكل فِي مَادَّة وَاحِدَة: بل يَصح الْبَعْض دون الْبَعْض (فَلَا حجر) فِي اعْتِبَارهَا عِنْد وجود مَا يصحح ذَلِك، وَمن ثمَّة اعْتبر صَاحب الْكَشَّاف التَّجَوُّز فِي قَوْله تَعَالَى - {ختم الله على قُلُوبهم} - من أَرْبَعَة أوجه.
مسئلة
(لَا خلاف أَن) الْأَسْمَاء (المستعملة لأهل الشَّرْع من نَحْو الصَّلَاة وَالزَّكَاة) فِي غير مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة (حقائق شَرْعِيَّة يتَبَادَر مِنْهَا مَا علم) لَهَا من مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّة (بِلَا قرينَة) سَوَاء كَانَ ذَلِك لمناسبة بَين الشَّرْعِيّ واللغوي فَيكون مَنْقُولًا، أَو لَا فَيكون مَوْضُوعا مُبْتَدأ (بل) الْخلاف (فِي أَنَّهَا) أَي الْأَسْمَاء المستعملة لأهل الشَّرْع فِي مَعَانِيهَا حَقِيقَة (عرفية للفقهاء) بسب وضعهم إِيَّاهَا لتِلْك الْمعَانِي، فَهِيَ فِي تخاطبهم تدل عَلَيْهَا بِلَا قرينَة، وَأما الشَّارِع فَإِنَّمَا استعملها فِيهَا مجَازًا عَن مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة بمعونة الْقَرَائِن فَلَا تحمل عَلَيْهَا إِلَّا بِقَرِينَة (أَو) حَقِيقَة شَرْعِيَّة (بِوَضْع الشَّارِع) حَتَّى تدل فِي كَلَامه على تِلْكَ الْمعَانِي بِلَا قرينَة (فالجمهور) أَي قَالَ جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ الْوَاقِع هُوَ (الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة بِوَضْع الشَّارِع (فَعَلَيهِ) أَي فعلى الْمَعْنى الشَّرْعِيّ (يحمل كَلَامه) أَي الشَّارِع إِذا وَقعت مُجَرّدَة عَن الْقَرَائِن (وَالْقَاضِي أَبُو بكر) الْوَاقِع هُوَ (الأول) أَي أَنَّهَا حَقِيقَة عرفية للفقهاء لَا للشارع (فعلى اللّغَوِيّ) يحمل كَلَام الشَّارِع إِذا لم يكن صَارف عَنهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِلَّا بِقَرِينَة) صارفة عَن اللّغَوِيّ إِلَى الشَّرْعِيّ. قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف فَإِن قلت كَيفَ يتَفَرَّع الْحمل على الْمَعْنى اللّغَوِيّ الْحَقِيقِيّ على كَونهَا مجازات قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مجازات عِنْد وجود الْقَرَائِن، وَيحمل على اللّغَوِيّ عِنْد عَدمه انْتهى قلت بَيَان الْمَتْن مغن عَن هَذَا الإطناب، وَقيل مُرَاده أَنَّهَا تسْتَعْمل فِي الدُّعَاء، ثمَّ شَرط فِيهِ الْأَفْعَال الرُّكُوع وَالسُّجُود وَغَيرهمَا فَتكون خَارِجَة عَن الصَّلَاة شرطا وَلَا يخفى بعده (وَفِيه) أَي فِيمَا ذهب إِلَيْهِ القَاضِي (نظر لِأَن كَونهَا) أَي الصَّلَاة مثلا مَوْضُوعَة (للأفعال) الْمَعْلُومَة شرعا (فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقبل التشكيك، وَأشهر) مَعْطُوف على قَوْله لَا يقبل فَهُوَ خبر أَن: يَعْنِي أَن أحد الْأَمريْنِ مُتَحَقق بِلَا شُبْهَة: أما الْعلم بِكَوْنِهَا للصَّلَاة بِوَضْع الشَّارِع، وَإِمَّا بِكَوْنِهَا مجَازًا فِي الْأَفْعَال أشهر من الْحَقِيقَة فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وهم) أَي القَاضِي وَالْجُمْهُور (يقدمونه) أَي الْمجَاز الْأَشْهر من الْحَقِيقَة (على الْحَقِيقَة) فَكيف يحمل على اللّغَوِيّ فِي كَلَام الشَّارِع عِنْد الْقَرِينَة (فَمَا قيل) قَائِله الْبَيْضَاوِيّ (الْحق أَنَّهَا مجازات) لغوية (اشتهرت يَعْنِي فِي لفظ الشَّارِع) لَا مَوْضُوعَات مُبتَدأَة لَيْسَ قولا(2/15)