وُرُود التَّعَبُّد بالاقتصار على الظَّن فِي ذَلِك وَلَكِن لَا نجوز الِاقْتِصَار على الظَّن فِي ذَلِك وَهَذَا السُّؤَال إِنَّمَا يلْزم على القَوْل بِأَن خبر الثِّقَة غير الظَّن وَهَذَا يوافقنا عَلَيْهِ خصومنا فان كَانَ السُّؤَال لَازِما لنا فَهُوَ لَازم لَهُم أَيْضا وَلَا جَوَاب عَنهُ إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه لَا يجوز الِاقْتِصَار فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل على الظَّن دون الْعلم وَمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الْجَواب عَن الْأَخْبَار لِأَن زيدا إِذا أخبرنَا بِأَن عمرا فِي الدَّار وظننا صدقه لم نَأْمَن أَن لَا يكون فِي الدَّار لِأَنَّهُ كَونه فِي الدَّار لَيْسَ مِمَّا يحصل بِحَسب ظننا بل هُوَ أَمر فِي نَفسه كَذَلِك ظنناه أم لم نظنه فخبرنا قطعا عَن أَنه فِي الدَّار خبر لَا نَأْمَن من كَونه كذبا فقبح فان أخبرنَا بِحَسب ظننا جَازَ لأَنا نَأْمَن كَونه كذبا فان قيل ايجوز أَن يَقُول لكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ظننتم صدق من أخْبركُم بِشَيْء فَهُوَ كَمَا أخْبركُم قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز اتِّفَاق الصدْق فِي خبر كل من ظننا صدقه وَلَا يجوز أَيْضا أَن يَقُول إِذا أخْبركُم زيد بِشَيْء وظننتم صدقه فَهُوَ صَادِق لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَّفق الصدْق وَالصَّوَاب فِي كل مَا ظنناه وَيجوز أَن يَقُول إِذا أخْبركُم زيد بِأُمُور يسيرَة وعينها وظننتم صدقه فَهُوَ كَمَا أخْبركُم لِأَنَّهُ يجوز أَن يتَّفق الصدْق وَالصَّوَاب فِيمَا نظنه إِذا كَانَت أَشْيَاء يسيرَة نَحْو أَن يَقُول إِذا أخْبركُم زيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الله لَا يرى أَو قَالَ إِذا أخْبركُم مخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الله لَا يرى وظننتم صدقه عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ كَمَا أخْبركُم أَو يَقُول إِذا أخْبركُم زيد بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ إِن الله لَا يرى فَهُوَ صَادِق وَإِذا قَالَ ذَلِك انتقلنا عَن ظننا إِلَى الْقطع وَجَاز أَن نخبر عَن ذَلِك قطعا فَأَما إِذا أخبرنَا الْوَاحِد عَن أهل اللُّغَة أَنهم وضعُوا لفظا للْعُمُوم فانا لَا نقطع على ذَلِك لِأَن كَونهم واضعين لَهُ لَيْسَ مِمَّا يحصل بِحَسب الظَّن فَهُوَ بِخِلَاف كَون الْفِعْل مصلحَة وَيجوز أَن نظن أَنهم وضعُوا ذَلِك للْعُمُوم وَأَن يتعبدنا الله سُبْحَانَهُ بالاستدلال بذلك اللَّفْظ على الشُّمُول فِي الْفُرُوع الشَّرْعِيَّة
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْفُرُوع جَازَ التَّعَبُّد بِهِ فِي نقل(2/103)
الْقُرْآن الْجَواب أَنهم جمعُوا بَين الْمَوْضِعَيْنِ بِغَيْر عِلّة ثمَّ إِن الْقُرْآن الْمَنْقُول بالآحاد إِمَّا أَن يظْهر فِيهِ الإعجاز وَإِمَّا أَن لَا يظْهر فِيهِ الإعجاز فان لم يظْهر فِيهِ الإعجاز جَازَ أَن نعمل بِمَا تضمنه من عمل إِذا نقل إِلَيْنَا بالآحاد وَلِهَذَا نعمل بِمثل مَا ينْقل من قِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود رَحمَه الله وَمَا يظْهر فِيهِ الإعجاز فَهُوَ حجَّة للنبوة وَلَا يكون حجَّة إِلَّا وَقد علم أَنه لم يُعَارض فِي عصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ سَماع أهل الْعَصْر لَهُ وَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا وَقد تَوَاتر نقل ظُهُوره فِي ذَلِك الْعَصْر
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الشرعيات مصَالح وَالْوَاحد يجوز أَن يكذب فِيمَا يخبر بِهِ من فعل أَو ترك وَلَا نَأْمَن أَن يكون مَا تضمنه خَبره مفْسدَة وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن ذَلِك فِي الشَّرْح والدرس فَقَالَ إِن الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي الْوَاجِب الشَّرْعِيّ كَونه مصلحَة مدلولا عَلَيْهِ إِمَّا بِعَيْنِه وَإِمَّا بِصفتِهِ فاذا قَامَت الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل عِنْد خبر الْوَاحِد وظننا صدقه علمنَا أَن الْعَمَل صَلَاح لنا كَمَا نعلم أَن قطع الْيَد صَلَاح عِنْد الْبَيِّنَة وَهَذَا لَا يعْتَرض قَول الْمُخَالف إِن الرَّاوِي إِذا جَازَ عَلَيْهِ الْكَذِب لم نَأْمَن أَن يخبر بالمفسدة وَمَتى ثَبت للمخالف هَذَا كَانَ لَهُ أَن يَقُول لَا يجوز أَن تدل دلَالَة على مَا ذكرْتُمْ فان قُلْتُمْ قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِمَا ظنناه يدل على صدق الْمخبر قيل لكم فَيجب أَن تقطعوا على صدقه وَلَئِن جَازَ ذَلِك ليجوزن أَن تدل دلَالَة على أَن نحكم مَا نريده فنعلم أَن كل مَا نُرِيد الحكم بِهِ فَهُوَ صَوَاب فان قُلْتُمْ لَا يجوز أَن يتَّفق ذَلِك فِي كل مَا نريده قيل لَك وَلَا يجوز أَن يتَّفق الصَّوَاب فِي كل مَا نظن صدق الرَّاوِي فِيهِ فَأَما مَا ذكره من الحكم عِنْد الْبَيِّنَة فَهُوَ نقض لما اعتلوا بِهِ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكذب الشُّهُود فنقطع يدا لَا يسْتَحق قطعهَا وَالْجَوَاب عَن الشُّبْهَة هُوَ أَن الْفِعْل قد يكون صلاحا إِذا فَعَلْنَاهُ وَنحن على حَالَة مَخْصُوصَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون مَتى ظننا صدق الرَّاوِي أَو كُنَّا مِمَّن يجوز أَن يظنّ صدقه لأمارة صَحِيحَة فمصلحتنا أَن نَفْعل مَا اقْتَضَاهُ الْخَبَر صدق الرَّاوِي أَو كذب كَمَا نقُوله فِي الحكم عِنْد الْبَيِّنَة وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك لم يجب مَا قَالُوهُ من أَن تَجْوِيز(2/104)
كذب الرَّاوِي يلْزمه تَجْوِيز كَون الْفِعْل الَّذِي رَوَاهُ مفْسدَة كَمَا لَا يلْزمه مثله فِي الْبَيِّنَة فان قَالُوا لَيْسَ يخلوا ظنكم صدق الرَّاوِي إِمَّا أَن يكون طَرِيقا إِلَى الْمصلحَة أَو شرطا فِي كَون فعلكم مصلحَة فان كَانَ طَرِيقا وقلتم لَا يجوز أَن يخطىء فقد جعلتم الظَّن علما ولزمكم قبُول خبر الْوَاحِد فِي الاعتقادات وَإِن جوزتم أَن يخطىء الظَّن لم يجز كَونه طَرِيقا إِلَى الْقطع على أَن مَا فعلتموه مصلحَة وَلَئِن جَازَ أَن يكون طَرِيقا إِلَى ذَلِك مَعَ جَوَاز كَونه خطأ جَازَ أَن يكون طَرِيقا إِلَى الاعتقادات وَجَاز وُرُود التَّعَبُّد بِهِ فِيهَا وَإِن جعلتموه شرطا يصير الْفِعْل عِنْده مصلحَة فَلم لَا يجوز كَون الْفِعْل مصلحَة إِذا ظننا كذب الرَّاوِي لَهُ وَإِذا اشتهينا فعله وَإِذا اخترناه وَأَن يرد التَّعَبُّد بذلك قيل قد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فَقَالَ يجوز كَون هَذِه الْأَشْيَاء أسبابا يجب عِنْدهَا الْفِعْل على مَا ذَكرُوهُ وَنحن نجيب عَن ذَلِك بِأَنا إِنَّمَا جَوَّزنَا أَن يكون الْفِعْل مصلحَة عِنْد حَالَة من حالاتنا ثمَّ بَينا إِن ظننا صدق الرَّاوِي مِمَّا يشْهد الْعقل بِجَوَاز كَونه شرطا فِي الْمصلحَة بِمَا ذَكرْنَاهُ من التَّصَرُّف فِي الْأَسْفَار وَالْحكم بِالْبَيِّنَاتِ وكما أَن الْعقل بذلك شَاهد فَهُوَ شَاهد بِأَن مَا ذكرتموه لَا يكون شرطا فِي وجوب الْفِعْل أَلا ترى أَن الْمُسَافِر إِذا خَافَ فِي سَفَره فخبره بعض من يظنّ صدقه بسلامة بعض الطّرق وَفَسَاد غَيره فانه يجب عَلَيْهِ أَن يعْمل على مَا ظَنّه صلاحا دون مَا ظن فِيهِ الْفساد وَلَو ظن كذب الْمخبر بأمارة لم يجز أَن يعْمل على خَبره وَلَا يجوز لَهُ مَعَ اشْتِبَاه الطّرق عَلَيْهِ وخوفه أَن يعْمل على شَهْوَته واختياره من غير أَمارَة على أَن القَوْل بِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يعْمل الْإِنْسَان بِمَا يشتهيه ويختاره إِسْقَاط للتكليف لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ قيل لَهُ افْعَل مَا تختاره دون مَا لَا تختاره وَنحن إِنَّمَا نتكلم فِي تَكْلِيف على صفة هَل يحسن أم لَا وَقصد السَّائِل أَن يلْزمنَا على هَذَا التَّكْلِيف تكليفا آخر على صفة أُخْرَى وَلَيْسَ غَرَضه إلزامنا إِسْقَاط التَّكْلِيف فقد بَان أَنه لم يلْزمنَا مَا قصد إلزامنا فان قَالُوا يجوز أَن يُقَال للْإنْسَان إِذا اخْتَرْت الْفِعْل أَو اشتهيته فَلم يصرفك صَارف فقد وَجب عَلَيْك فعله مَا دمت مرِيدا لَهُ وَإِن لم تكن مُخْتَارًا(2/105)
لَهُ قَاصِدا إِلَيْهِ لم يجب عَلَيْك فعله قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه لَا بُد من كَونه فَاعِلا فايجاب ذَلِك لَا يَصح
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن أَخْبَار الْآحَاد قد تتعارض وَلَا يُمكن الْعَمَل بهَا فَلَو جَازَ التَّعَبُّد بهَا لجَاز التَّعَبُّد بِمَا لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ الْجَواب أَنه لَيْسَ كل تعَارض يمْنَع من الْعَمَل بالْخبر بل قد يعْمل مَعَ التَّعَارُض على مَا يتَرَجَّح من أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر كَمَا يعْمل الْمُسَافِر فِي طَرِيقه على مَا يتَرَجَّح من إِحْدَى الأمارتين وَيُمكن أَن يعْمل بالخبرين إِمَّا على الْجمع وَإِمَّا على التَّخْيِير فان لم يُمكن ذَلِك ففقد إِمْكَانه يمْنَع من التَّعَبُّد بهَا فِيهِ هَذَا التَّعَارُض الْمَانِع من الْعَمَل غير مَانع من التَّعَبُّد بِمَا يُمكن الْعَمَل بِهِ مِمَّا لَا تعَارض فِيهِ وَمَا ذَكرُوهُ منتقض بِالْعَمَلِ بِالْبَيِّنَاتِ والأمارات للْمُسَافِر لِأَنَّهَا قد تتعارض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اخْتلف مجيزو وُرُود التَّعَبُّد بأخبار الْآحَاد فِي الشرعيات فَمنهمْ من قَالَ قد ورد التَّعَبُّد بهَا وَمِنْهُم من قَالَ لم يرد بهَا وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قرن إِلَى قَوْله لم يرد التَّعَبُّد بهَا أَن قَالَ قد ورد التَّعَبُّد بِأَن لَا يعْمل بهَا وَمِنْهُم من اقْتصر على أَن التَّعَبُّد لم يرد بهَا وَاخْتلف من قَالَ بورود التَّعَبُّد بهَا فَقَالَ قوم الْعقل يدل على التَّعَبُّد بهَا وَمِنْهُم من قَالَ الْعقل لَا يدل على ذَلِك
وَالدَّلِيل على وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد هُوَ أَن الْعُقَلَاء يعْملُونَ بعقولهم وجوب الْعَمَل على خبر الْوَاحِد فِي العقليات وَلَا يجوز أَن يعلمُوا وجوب ذَلِك أَو حسنه بعقولهم إِلَّا وَقد علمُوا الْعلَّة الَّتِي لَهَا وَجب ذَلِك أَو حسن وَلَا عِلّة لذَلِك إِلَّا أَنهم قد ظنُّوا بِخَبَر الْوَاحِد تَفْصِيل جملَة مَعْلُومَة بِالْعقلِ وَهَذَا مَوْجُود فِي خبر الْوَاحِد الْوَارِد فِي الشرعيات فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ يبين مَا ذَكرْنَاهُ أَنه مَعْلُوم بِالْعقلِ وجوب التَّحَرُّز من المضار وَحسن اجتلاب الْمَنَافِع فاذا ظننا(2/106)
صدق من أخبرنَا بمضرة إِن لم نفصد أَو لم نشرب الدَّوَاء أَو إِن سلكنا فِي سفرنا طَرِيقا مَخْصُوصًا أَو لم نقم من تَحت الْحَائِط فقد ظننا تَفْصِيلًا لما علمناه فِي الْجُمْلَة من وجوب التَّحَرُّز من المضار وَقد علمنَا فِي الْجُمْلَة وجوب الانقياد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يخبرنا بِهِ من مصالحنا وَوُجُوب التَّحَرُّز من الْمضرَّة فِي تجنب الْمصَالح فاذا ظننا بِخَبَر الْوَاحِد أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قد دَعَانَا إِلَى الانقياد لَهُ فِي فعل أخبر أَنه مصلحَة وخلافه مفْسدَة مضرَّة فقد ظننا تَفْصِيلًا لما علمناه فِي الْجُمْلَة وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْعلَّة مَا ذَكرْنَاهُ لِأَن الحكم يحصل عِنْده وينتفي عِنْد انتفائه لأَنا إِذا علمناه فِي الْجُمْلَة وجوب التَّحَرُّز من الْمضرَّة وظننا بالْخبر أَن علينا فِي الْفِعْل مضرَّة وَلم يُمكن الْعلم وَجب علينا تجنبه وَإِن ازلنا عَن أَنْفُسنَا اعْتِقَاد مَا عدا ذَلِك وَإِذا رَجعْنَا إِلَى عقولنا وجدناها تتبع تجنب هَذَا الْفِعْل لهَذِهِ الْجُمْلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلَو لم يحصل لنا الْعلم بِوُجُوب دفع المضار فِي الْجُمْلَة أَو حصل ذَلِك وَلم نظن أَن علينا فِي الْفِعْل مضرَّة لم يجب علينا تجنبه وَكَذَلِكَ لَو ظننا ذَلِك وأمكننا تَحْصِيل الْعلم فَعلمنَا أَن الْعلَّة مَا ذَكرْنَاهُ
إِن قيل بل الْعلَّة فِي الأَصْل ظننا الْمضرَّة فِي امور الدُّنْيَا وَلَيْسَ كَذَلِك خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات قيل إِن مَا ذكرتموه وَإِن كَانَ من أُمُور الدُّنْيَا فَهُوَ من امور الدّين لِأَن التَّحَرُّز من المضار وَاجِب فِي الْعقل وَمَا وَجب فِي الْعقل فَهُوَ من الدّين فان قَالُوا إِن خبر الْوَاحِد فِي أُمُور الدُّنْيَا وَارِد فِيمَا نعلم جملَته عقلا وَلَيْسَ كَذَلِك خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات قيل لَا فرق بَينهمَا لِأَن خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات وَارِد بتفصيل الانقياد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتزام أمره والتحرز من مضار الْمُخَالفَة وَهَذَا مَعْلُوم بِالْعقلِ وَالشَّرْع كَمَا يعلم التَّحَرُّز من مضار الدُّنْيَا بِالْعقلِ وَالشَّرْع وَأَيْضًا فَلَو ثَبت أَن وجوب التَّحَرُّز من مضار الدُّنْيَا مَعْلُوم بِالْعقلِ فَقَط والتحرز من مضار الشرعيات مَعْلُوم بِالشَّرْعِ فَقَط لَكَانَ ذَلِك اخْتِلَافا فِي طَرِيق الْعلم بِالْوُجُوب وَذَلِكَ غير مُؤثر فِيمَا يقبل من أَخْبَار الْآحَاد وَإِنَّمَا الَّذِي يجوز أَن يُؤثر فِي ذَلِك هُوَ أَن يُقَال إِن الشرعيات مصَالح والمخبر الْوَاحِد يجوز أَن يكون كذابا فَلَا نَأْمَن أَن يكون مَا نَقله(2/107)
مفْسدَة وسنتكلم فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله
إِن قيل إِنَّمَا وَجب قبُول خبر الْوَاحِد فِي العقليات لِأَنَّهُ لَا يغلب على الظَّن وُصُول الْمضرَّة إِذا قبلناه بل يغلب على الظَّن وصولها إِذا لم نقبله وَلَيْسَ كَذَلِك الشرعيات لِأَنَّهُ لَيْسَ يغلب على ظننا وُصُول الْمضرَّة إِذا لم نقبل خبر الْوَاحِد بل لَا نَأْمَن أَن يؤاخذنا المتعبد لنا إِذا قبلنَا خبر الْوَاحِد وَالْجَوَاب ان كلامنا فِي خبر من نظن صدقه لدينِهِ وأمانته وَقد بَينا أَن خبر من هَذِه سَبيله فِي الشرعيات يُسَاوِي خَبره فِي العقليات وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يغلب على ظننا وُصُول الْمضرَّة إِلَيْنَا إِن لم نقبل خَبره ويؤمننا من مُؤَاخذَة المتعبد إِذا قبلناه ويقضينا الْقطع على مؤاخذته إِذا لم نقبله
إِن قيل إِنَّمَا قبلنَا خبر الْوَاحِد فِي العقليات لِأَن الْعَادة قد جرت بنزول المضار وَالْمَنَافِع فاذا غلب على الظَّن وُصُول الْمضرَّة لزمنا التَّحَرُّز مِنْهَا قيل وَقد جرت عَادَة الشَّرْع بالزام الْعِبَادَات وَلَا يمْتَنع فِي الْعقل إِيدَاع ذَلِك الْوَاحِد وَأَن تكون الْمصلحَة أَن يرد التَّعَبُّد بِهِ كَمَا لَا يمْتَنع أَن يرد التَّحَرُّز من الْمضرَّة من جِهَة وَاحِد فاذا لم يمْتَنع ذَلِك جرى خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات مجْرَاه فِي العقليات
فان قيل الْفرق بَين الشرعيات والعقليات أَن الشرعيات يُمكن فِيهَا طَريقَة تَقْتَضِي الْعلم نَحْو الرُّجُوع إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه عَلَيْهِ السَّلَام وَالْإِجْمَاع والبقاء على حكم الْعقل فَلم يجز الرُّجُوع إِلَى الظَّن وَلَيْسَ كَذَلِك الامور الْعَقْلِيَّة من أُمُور الدُّنْيَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر فِيهَا طَريقَة مَعْلُومَة فَجَاز الرُّجُوع إِلَى الظَّن قيل إِنَّه إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة كتاب أَو سنة مَقْطُوع بهَا أَو إِجْمَاع بِخِلَاف خبر الْوَاحِد وَلم يكن الْخَبَر مُخَصّصا فانا لَا نعدل إِلَيْهِ عَن هَذِه الْأَدِلَّة ومسألتنا مَفْرُوضَة فِي خبر وَاحِد تخَالف مَا ذكرتموه وَأما الْبَقَاء فممكن فِي العقليات وَفِي الشرعيات لِأَن الأَصْل فِي الْعقل أَن لَا يجب علينا إيلام أَنْفُسنَا بفصد وَشرب دَوَاء ومسير فِي طَرِيق مَخْصُوص فاذا لم يجز الْبَقَاء على حكم الْعقل فِي هَذِه(2/108)
الْأَشْيَاء إِذا أخبرنَا بالمضرة فِي تَركهَا من نظن صدقه علمنَا أَن الْبَقَاء على حكم الْعقل لَيْسَ بِدَلِيل قَاطع مَعَ الظَّن لصدق الْمخبر فَبَطل قَول الْمُخَالف إِن ذَلِك دَلِيل قَاطع مَعَ خبر الْوَاحِد
وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن قِيَاس خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات على قبُوله فِي العقليات والمعاملات بِأَن الْمُعَامَلَات مَبْنِيَّة على غَالب الظَّن والشرعيات مَبْنِيَّة على الْمصَالح فاذا لم نَأْمَن كذب الْمخبر لم نَأْمَن أَن يكون فعلنَا مَا أخبرنَا بِهِ مفْسدَة وَالْجَوَاب أَن قَوْله إِن الْمُعَامَلَات مَبْنِيَّة على غَالب الظَّن هُوَ الحكم الَّذِي طلبنا علته وقسنا بهَا خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات على الْمُعَامَلَات فَلَا يَنْبَغِي أَن يفرق بَينهمَا بذلك لأَنا نَكُون قد فرقنا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِنَفس الحكم والمصالح وَإِن كَانَت مُعْتَبرَة فِي الشرعيات فالمضار وَالْمَنَافِع هما المعتبران فِي العقليات والمعاملات لأَنا إِنَّمَا ننحو بِمَا نفعله نَحْو الْمَنَافِع والخلاص من المضار كَمَا أَنا ننحو بالشرائع تَحْصِيل الْمصَالح ولأجلها وَجَبت فاذا قَامَ غَالب الظَّن فِي الْمَنَافِع والمضار الْعَقْلِيَّة مقَام الْعلم مَعَ تَجْوِيز كذب الْمخبر فَكَذَلِك غَالب الظَّن بِصدق الْمخبر فِي الشرعيات وَلَو جَازَ أَن لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات لجَوَاز كذب الْمخبر فَيكون مَا أخبر بِهِ مفْسدَة جَازَ أَن لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِي العقليات لجَوَاز كذب الْمخبر فيلحقنا الْمضرَّة فِي اتِّبَاعه ونخلص مِنْهَا بمخالفته على أَن قَوْله لَا نَأْمَن أَن يكون الْمخبر كَاذِبًا فنكون باتباعه فاعلين للمفسدة يُبِيح الْمَنْع من وُرُود التَّعَبُّد بِقبُول خَبره لِأَن فعل مَا لَا نؤمن من كَونه مفْسدَة قَبِيح فان قَالَ قيام الدّلَالَة على التَّعَبُّد بِهِ دلَالَة على أَن الْمصلحَة هِيَ اتِّبَاع مَا ظنناه من صدقه لَا غير قيل فاذن يجوز أَن تكون الْمصلحَة هِيَ فعلنَا مَا ظنناه من صدق الْمخبر فَلم قطعْتُمْ على أَن الْمصلحَة قد تكون غير مَا فَعَلْنَاهُ فان قَالُوا نَحن وَإِن جَوَّزنَا أَن نَكُون علمنَا بِحَسب مَا ظننا من صدق الرَّاوِي هُوَ الْمصلحَة فانا لَا نعلم ذَلِك إِلَّا بتعبد شَرْعِي قيل فكأنكم فصلتم بَين خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات وَبَينه فِي العقليات بِأَن العقليات يعْمل فِيهَا على الظَّن من غير تعبد شَرْعِي والشرعيات لَا يعْمل فِيهَا على الظَّن(2/109)
إِلَّا بتعبد وَهَذَا هُوَ نفس الْمَسْأَلَة فقد فصلتم بَين المسالتين بِنَفس الحكم لَا بِالْعِلَّةِ المفرقة بَينهمَا على انه جَازَ أَن يُقَال إِن قيام الدّلَالَة الشَّرْعِيَّة على قبُول خبر الْوَاحِد يدلنا على ان الْمصلحَة لَيست إِلَّا الْعَمَل بِمَا ظنناه من صدق الرَّاوِي جَازَ أَن يُقَال قِيَاس الَّذِي ذكرنَا هُوَ دليلنا على أَن الْمصلحَة لَيست إِلَّا الْعَمَل بِمَا ظنناه من صدق الرَّاوِي
وَأجَاب أَيْضا بِأَن الْعَمَل على غَالب الظَّن فِي دفع المضار فِي الدُّنْيَا هُوَ الأَصْل للْعَمَل على الْعلم بِدفع المضار لِأَن امور الدُّنْيَا الْمُسْتَقْبلَة غير مَعْلُومَة وَإِنَّمَا هِيَ مظنونة وَلَيْسَ يُمكن أَن يُقَال إِن أُمُور الدّين المظنونة هِيَ الأَصْل لامور الدّين الْمَعْلُومَة وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ فرق لَا يُؤثر فِي وَجه الْجمع الَّذِي ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب إِذا أشبه الظَّن لامور الدّين الظَّن لامور الدُّنْيَا فِي وجوب الْعَمَل عَلَيْهَا أَن يشتبها فِي كل وَجه بل لَا يمْتَنع أَن يجب الْعَمَل عَلَيْهِمَا وَيكون الْعَمَل على غَالب الظَّن أصلا للْعَمَل على الْعلم فِي امور الدُّنْيَا وللعمل على الظَّن فِي أُمُور الدّين أصلا بِنَفسِهِ
دَلِيل قَالَ الله سُبْحَانَهُ {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فتعبدنا بِقبُول خبر كل طَائِفَة خرجت للتفقه ثمَّ أنذرت قَومهَا وَهَذِه صفة خبر الْوَاحِد يبين ذَلِك أَنه سُبْحَانَهُ أوجب على كل فرقة أَن تخرج مِنْهَا طَائِفَة وَالثَّلَاثَة فرقة فَوَجَبَ أَن تخرج مِنْهَا طَائِفَة والطائفة من الثَّلَاثَة وَاحِد أَو اثْنَان فاذا خرجا لسَمَاع الْأَخْبَار وتدبرها فقد خرجا للتفقه فِي الدّين فاذا رَجَعَ من هَذِه سَبيله فَأخْبر قومه بِوُجُوب عبَادَة وحذرهم من تَركهَا فقد أنذر قومه فاذا كُنَّا متعبدين بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْله كُنَّا متعبدين بذلك وَإِن لم نخرج لهَذَا الْغَرَض لِأَن أحدا لم يفصل بَين الْمَوْضِعَيْنِ(2/110)
إِن قيل لم قُلْتُمْ إِن الْآيَة تدل على التَّعَبُّد بِالرُّجُوعِ إِلَى قَول الطَّائِفَة قيل إِنَّمَا تعبدها بانذار قَومهَا لكَي يحذر فتعبد قَومهَا بالحذر وَلَيْسَ يَخْلُو إِذا أخبرتم الطَّائِفَة بِوُجُوب فعل أَو تَحْرِيمه إِمَّا أَن يلْزمهَا الْمصير إِلَى قَول الطَّائِفَة أَو يلْزمهَا الْإِمْسَاك عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ من فعل أَو ترك أَو أَن يخرج جماعتها أَو من يقوم بِالْحجَّةِ بنقله إِلَى الْآفَاق لاستبانة الْخَبَر وَالْقسم الأول هُوَ قَوْلنَا وَالثَّانِي يرجع إِلَيْهِ لأَنا إِن كُنَّا نشرب النَّبِيذ فخبرنا الطَّائِفَة بِتَحْرِيمِهِ فإيجاب إمساكنا عَن شربه هُوَ تَحْرِيم شربه وَإِن كُنَّا تاركين لبَعض الصَّلَوَات فأخبرونا بِوُجُوبِهَا فوجوب إمساكنا عَن الْإِخْلَال بهَا هُوَ إِيجَاب فعلنَا فَبَان رُجُوع هَذَا الْقسم إِلَى الْقسم الأول بِخِلَاف مَا ظَنّه بَعضهم وَإِن وَجب على جماعتنا أَو على أكثرنا الْخُرُوج من الأوطان إِلَى الْآفَاق ليعلموا صَحِيح الحَدِيث من باطله لم يَصح بِالْإِجْمَاع لِأَن أحدا من الْأمة لم يُوجب على اهل الْقرى فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعصر من بعده أَن يخرجُوا أَو أَكْثَرهم إِذا لم تقم الْحجَّة بِنَقْل الطَّائِفَة إِلَيْهِم ويتركوا بِلَادهمْ كلما سمعُوا بِخَبَر يتَضَمَّن فعلا شَرْعِيًّا وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَن لَا يستقروا فِي بِلَادهمْ قبل اسْتِقْرَار السّنَن
إِن قيل قَوْلكُم إِن الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ خبر الْوَاحِد بَاطِل من وُجُوه
مِنْهَا أَنه عز وَجل تعبد من كل فرقة طَائِفَة بالتفقه والإنذار لقومهم وهم مَجْمُوع الْفرق لِأَن مَجْمُوع الطوائف هم قوم الْفرق فَلَا يمْتَنع أَن يكون مَجْمُوع الطوائف من يتواتر الْخَبَر بنقلهم الْجَواب أَنه لَا يجوز أَن يكون أَرَادَ مَجْمُوع الطوائف ينذر كل فرقة لِأَنَّهَا لم يكن عِنْد كل طَائِفَة فرقة فَتكون رَاجِعَة إِلَيْهَا وَقَوله {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} يدل على أَنهم كَانُوا عِنْدهم وَهَذَا إِنَّمَا يتم فِي كل فرقة مَعَ طائفتها
وَمِنْهَا أَن قَوْله {ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا} يدل على أَنه أَرَادَ(2/111)
الْإِنْذَار بالفتوى دون الْخَبَر الْجَواب إِن كثيرا مِمَّن يمْنَع من الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يمْنَع الْعَاميّ من الْأَخْذ بالفتوى وَأَيْضًا فان التفقه يكون بِسَمَاع الْأَخْبَار والتدبر لَهَا وَقد كَانَ التفقه هَكَذَا فِي الزَّمن الأول وَهَذِه الْحَال يتم مَعهَا الْإِنْذَار بالفتوى وبالإخبار فاذا لم يفصل الله سُبْحَانَهُ الإنذارين كَانَ مَحْمُولا على كل وَاحِد مِنْهُمَا كَمَا أَنه لَو قَالَ ولتضربوا كَانَ شَائِعا فِي الضَّرْب بِكُل خَشَبَة وعَلى كل وَجه من الشدَّة واللين على أَنه لم يفصل بَين أَن يكون قَومهمْ مجتهدين أَو غير مجتهدين والإنذار بالفتوى إِنَّمَا يلْزم قبُوله غير الْمُجْتَهد فَوَجَبَ صرف الْكَلَام إِلَى الْإِخْبَار لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يخْتَلف فِيهِ الْمُجْتَهد وَغير الْمُجْتَهد إِن قيل قَوْله {ليتفقهوا فِي الدّين} يدل على انه لَيْسَ فِي الطَّائِفَة مُجْتَهد إِذْ لَو كَانَ فِيهَا مُجْتَهد لما كَانَ ليجب على بَعْضهَا أَن ينفر للتفقه الْجَواب إِن الْعِبَادَات فِي عصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت تتجدد حَالا فحالا وَيرد نسخهَا بعد ثُبُوتهَا فحصول الْمُجْتَهد فِي الطَّائِفَة لَا يُغني عَن أَن ينفر مِنْهَا من يسمع مَا يَتَجَدَّد من السّنَن المبتدأة والناسخة وَكَذَلِكَ الْأَعْصَار المقاربة لعصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قبل اسْتِقْرَار السّنَن وانتشارها لجَوَاز أَن تكون فِي غَيرهَا من الطوائف من السّنَن مَا لم تبلغها
وَمِنْهَا أَن قَوْله {ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ} يحْتَمل التفقه فِي الْأُصُول وإنذار قَومهمْ ليحذروا وَلَيْسَ هَذَا من خبر الْوَاحِد فِي الشرعيات بسبيل الْجَواب إِن الْمُسْتَفَاد من التفقه فِي الْعَادة التفقه فِي الْفُرُوع على أَنه إِن كَانَ المُرَاد بالأصول هَا هُنَا التَّوْحِيد وَالْعدْل فالخاطر يجوز من ترك النّظر فيهمَا وَلَيْسَ يحْتَاج فِي الحذر من تَركهمَا إِلَى السّفر وَإِن كَانَ المُرَاد بهَا أصُول الشَّرِيعَة كالصلوات الْخمس فَذَلِك عندنَا لَازم بالآحاد فِي ابْتِدَاء الشَّرِيعَة لِأَن الْوَاحِد إِذا أخبر أهل الْيمن بِأَن الصَّلَوَات قد أوجبهَا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لزمتهم(2/112)
وَتَكون من الْفُرُوع حَتَّى يتواتر نقلهَا وعَلى هَذَا جرى الْأَمر فِي تحول أهل قبا عَن الْقبْلَة
إِن قيل لَو كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ خبر الْوَاحِد لما دلّت على وجوب الْعَمَل بِهِ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنه لَا يمْتَنع أَن يجب الْإِنْذَار على من خرج للتفقه وَلَا يجب على الْمُنْذر الْقبُول كَمَا يجب على الشَّاهِد أَن يشْهد وَلَا يجب على الْحَاكِم أَن يحكم بِشَهَادَتِهِ وَيجب على كل وَاحِد من المتواترين أَن يُخبرهُ وَلَا يجب على السَّامع أَن يَقُول على خَبره وَحده فِيمَا طَريقَة الْعلم وَيجب على من خوف بِالْقَتْلِ إِن لم يدْفع مَاله أَن يَدْفَعهُ ويقبح من الْمخوف أَخذه قيل إِنَّا لم نستدل على وجوب الْمصير إِلَى الْإِنْذَار بِوُجُوب الْإِنْذَار وَإِنَّمَا استدللنا يَقُوله عز وَجل {لَعَلَّهُم يحذرون} وَذَلِكَ إِمَّا أَن يكون تعبدا بالحذر أَو إِبَاحَة لَهُ وَأي الْأَمريْنِ كَانَ فقد بَطل مَذْهَب الْخصم إِذْ قد بَينا أَن الحذر لَا يكون إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى مُوجب الْخَبَر
وَالْوَجْه الآخر قَوْلهم يجوز أَن يكون أوجب على من نفر الْإِنْذَار لكَي يحذر من سَمعه إِذا انضاف إِلَى الْمُنْذر غَيره حَتَّى يتواتر إِنْذَارهم وإخبارهم قيل فاذن إِنَّمَا يحذرون عِنْد تَوَاتر الْخَبَر لَا عِنْد إنذار من نفر مِنْهُم للتفقه وَالْآيَة تَقْتَضِي أَن يحذروا عِنْد إنذاره ولأجله كَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره جَالس الصَّالِحين لَعَلَّك تصلح أَفَادَ ذَلِك كَون مجالستهم سَببا لصلاحه لَا غير لِأَنَّهُ مَا علق صَلَاحه إِلَّا بِهِ فَكَذَلِك قَوْله {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون}
دَلِيل أَجمعت الصَّحَابَة على الْعَمَل بِخَبَر لَا يقطع على مغيبه لِأَنَّهُ لما اشْتبهَ(2/113)
عَلَيْهِم الْغسْل من التقاء الختانين رجعُوا إِلَى أَزوَاج النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَطلب أَبُو بكر عَلَيْهِ السَّلَام الحكم فِي الْجدّة وَرجع فِي توريثها إِلَى خبر الْمُغيرَة وَنقض قَضِيَّة قَضَاهَا بِخَبَر رَوَاهُ بِلَال وَقَالَ عمر وَمَا أَدْرِي مَا القَوْل فِي أَمر الْمَجُوس وَكَثُرت مَسْأَلته عَن ذَلِك فَلَمَّا روى لَهُ عبد الرحمن بن عَوْف عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام سنوا بهم سنة أهل الْكتاب صَار إِلَى ذَلِك وَكَانَ يرى أَن لَا شَيْء فِي الْجَنِين إِذا خرج مَيتا وَفِيه الدِّيَة إِذا خرج حَيا ثمَّ ترك ذَلِك لخَبر حمل بن مَالك بعد أَن نَاشد الصَّحَابَة وَكَانَ لَا يؤرث الإمرأة من دِيَة زَوجهَا ثمَّ ترك ذَلِك لخَبر الضَّحَّاك بن سُفْيَان وَكَانَ يَجْعَل فِي الْأَصَابِع نصف الدِّيَة ويفصل بَينهَا فَيجْعَل فِي الابهام خمس عشرَة من الْإِبِل وَفِي البنصر تِسْعَة وَفِي الْخِنْصر سِتَّة ثمَّ يَجْعَل فِي الْبَاقِيَة عشرا عشرا فَلَمَّا رُوِيَ لَهُ من كتاب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى عَمْرو بن حزم أَن فِي كل إِصْبَع عشرا من الْإِبِل رَجَعَ عَن رَأْيه وَترك رَأْيه فِي بِلَاد الطَّاعُون لخَبر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام كنت إِذا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا نَفَعَنِي الله بِهِ بِمَا شَاءَ أَن يَنْفَعنِي فاذا حَدثنِي بِهِ غَيره اسْتَحْلَفته فاذا حلف صدقته وحَدثني أَبُو بكر وَصدق أَبُو بكر وَرجع فِي خطأ الإِمَام إِلَى مَا رَوَاهُ عمر وَسَأَلَ الْمِقْدَاد أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المذى ثمَّ أخبرهُ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْجَوَابِ فَعمل عَلَيْهِ وَرَجَعُوا فِي الرِّبَا إِلَى خبر أبي سعيد الْخُدْرِيّ وكل وَاحِد من هَذِه الْأَخْبَار وَإِن كَانَ خبر وَاحِد فجملتهما متواترة لَا يجوز مَعَ كثرتها أَن تكون كذبا كَمَا أَن الْأَخْبَار عَن سخاء حَاتِم متواترة فِي الْجُمْلَة وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا خبر وَاحِد وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُم عمِلُوا على هَذِه الْأَخْبَار لأَجلهَا لأَنهم لَو لم يَكُونُوا عمِلُوا لأَجلهَا بل لأمر آخر إِمَّا لاجتهاد تجدّد لَهُم أَو ذكرُوا شَيْئا سَمِعُوهُ من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لوَجَبَ من جِهَة الْعَادة وَالدّين أَن ينقلوا ذَلِك أما الْعَادة فَلِأَن الْجَمَاعَة إِذا اشْتَدَّ اهتمامها بامر قد الْتبس عَلَيْهَا ثمَّ زَالَ اللّبْس عَنْهَا لشَيْء سمعته أَو رَأْي حدث لَهَا فانه لَا بُد من إظهارها الاستبشار وَالسُّرُور بِمَا ظَفرت بِهِ والتعجب من ذهَاب ذَلِك عَلَيْهَا فان جَازَ أَن لَا يظْهر ذَلِك الْوَاحِد(2/114)
لم يجز فِي كل وَاحِد وَأما الدّين فَلِأَن سكوتهم عَن ذَلِك وعملهم عِنْد الْخَبَر بِمُوجبِه يُوهم أَنهم عمِلُوا لأَجله كَمَا يدل عَمَلهم بِمُوجب آيَة عِنْد سماعهَا على أَنهم عمِلُوا لأَجلهَا وَالْإِيهَام لذَلِك قَبِيح كَمَا أَنه لَو قَالَ لَهُم قَائِل احكموا فِي هَذِه الْحَوَادِث لشهوتي فَذكرُوا عِنْد هَذَا القَوْل شَيْئا سَمِعُوهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه لَا يحسن من جِهَة الدّين أَن لَا تبين أَنَّهَا حكمت لما ذكرته لَا للشهوة وَأَيْضًا فبعيد فِي الْعَادة مَعَ كَثْرَة هَذِه الْأَخْبَار أَن يتَّفق ذكرهم لشَيْء سَمِعُوهُ من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَآله أَو يَتَجَدَّد لَهُم اجْتِهَاد وَأَيْضًا فَطلب أبي بكر عَلَيْهِ السَّلَام من الْمُغيرَة شَاهدا مَعَه فِي إِرْث الْجدّة دَلِيل على أَنه كَانَ يرى أَن الحكم يتَعَلَّق بهما لِأَنَّهُ لم يكن يعلم أَنه سَيذكرُ عِنْد الشَّاهِد الآخر شَيْئا سَمعه من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَأَيْضًا فقد كَانُوا يتركون آرائهم عِنْد سَماع الْخَبَر كَمَا رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ فِي الْخَبَر كدنا نقضي فِيهِ بآرائنا فَدلَّ على أَنه لم يعْمل بِرَأْيهِ عِنْد سَماع الْخَبَر
إِن قيل وَمن أَيْن أَنهم بأجمعهم عمِلُوا بأخبار الآحادإنهم كَانُوا بَين عَامل بهَا وَسَاكِت عَن النكير فَدلَّ على رضاهم بِالْعَمَلِ بهَا فان قيل فَلَعَلَّ بَعضهم كَانَ نَاظرا متوقفا عَن الْعَمَل فَلَا يكونُونَ متفقين على ذَلِك قيل لَو كَانَ كَذَلِك وَكَانَ الْعَمَل بهَا مُنْكرا لَكَانَ إِنْكَاره وَاجِبا فَيَكُونُوا قد اتَّفقُوا على ترك الْوَاجِب لأَنهم بأجمعهم قد تركُوا إِنْكَاره إِن قيل أَلَيْسَ قد رد أَبُو بكر خبر الْوَاحِد وَلم يعْمل إِلَّا على خبر اثْنَيْنِ قيل هَذَا لَا ينْقض مَا قصدناه من الْعَمَل بِخَبَر من لَا يقطع على مغيبة وَالْكَلَام فِي اشْتِرَاط اثْنَيْنِ سَيَأْتِي
إِن قيل فقد ردوا فِي بعض الْحَوَادِث خبر الْوَاحِد كَقَوْل عمر فِي خبر فَاطِمَة بنت قيس لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت ولستم بِأَن تَقولُوا إِنَّمَا ردُّوهُ لعِلَّة لَا نعرفها لَا لِأَنَّهُ خبر وَاحِد بِأولى من أَن تَقولُوا بل قبلوا مَا قبلوه لعِلَّة لَا نعرفها لَا لِأَنَّهُ خبر وَاحِد وَالْجَوَاب أَن عمر رد خبر فَاطِمَة بنت قيس فِي نسخ الْآيَة أَو فِي(2/115)
تخصيصها وَكثير مِمَّن يقبل خبر الْوَاحِد لَا يقبله فِي التَّخْصِيص فَلَيْسَ ينقص ذَلِك الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْجُمْلَة على أَن قَوْله لَا نَدع كتاب رَبنَا يَقْتَضِي ترك الْكتاب أصلا وَذَلِكَ نسخ وَنحن نمْنَع نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد على أَن قَوْله لقَوْل امْرَأَة لَعَلَّهَا صدقت أم كذبت يُفِيد أَنه اعْتقد فِيهَا أَنَّهَا غير ضابطة لما تسمعه وَهَذِه الْعلَّة غير مَوْجُودَة فِيمَن يضْبط وَبِهَذَا يبطل قَول من يَقُول إِن عمر رَضِي الله عَنهُ علل رد حَدِيثهَا لعِلَّة مَوْجُودَة فِي كل مخبر
إِن قيل فقد قبلوا خبر الْوَاحِد فِي نسخ حكم مَعْلُوم نَحْو قبُول أهل قبا نسخ الْقبْلَة قيل ذَلِك جَائِز فِي الْعقل وَفِي صدر الْإِسْلَام قَالَ اصحابنا وَلَوْلَا إِجْمَاع الصَّحَابَة على الْمَنْع من ذَلِك لجوزناه وَقد قَالَ أَبُو عَليّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد كَانَ أخْبرهُم بنسخ الْقبْلَة وَأَنه ينفذ إِلَيْهِم بنسخها فلَانا وأعلمهم صدقه فَكَانُوا قاطعين على صدقه فَلم ينسخوا الْقبْلَة إِلَّا بِخَبَر مَعْلُوم
وَقد اسْتدلَّ فِي الْمَسْأَلَة بأَشْيَاء لَا تدل
مِنْهَا قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} قَالُوا فعلق وجوب التبين على مَجِيء الْفَاسِق فَكَانَ مَجِيء غير الْفَاسِق بِخِلَافِهِ وَهَذَا لَا يَصح إِلَّا مَعَ القَوْل بِدَلِيل الْخطاب وَقَالُوا أَيْضا قَوْله {إِن جَاءَكُم فَاسق} شَرط فِي إِيجَاب التثبيت فَوَجَبَ إِن لم يَجِيء فَاسق أَن لَا يجب التثبت وَأَن يكون التسرع مُبَاحا سَوَاء جَاءَنَا عدل أَو لم يجئنا أحد لِأَنَّهُ فِي كلا الْحَالين لم يَجِيء الْفَاسِق وَقد وَقع الِاتِّفَاق على الْمَنْع من التسرع إِذا لم يَجِيء أحد أصلا فَبَقيَ الْقسم الآخر وَهُوَ أَن يَجِيء مخبر غير فَاسق وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة يَقْتَضِي نفي وجوب التثبت على نفي مَجِيء الْفَاسِق وَأحد لَا يَقُول بذلك والمستدل يَجْعَل نفي وجوب التثبت وَإِبَاحَة التسرع وَاقِفًا على مَجِيء(2/116)
عدل وَيُمكن أَن يسْتَدلّ بِالْآيَةِ من وَجه آخر وَهُوَ أَن سَبَب نُزُولهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط ساعيا فَعَاد فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الَّذين بَعثه إِلَيْهِم أَرَادوا قَتله فأجمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غزوهم وقتلهم وَهَذَا حكم شَرْعِي قد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ الْعَمَل فِيهِ على خبر الْوَاحِد فَلَو كَانَ ذَلِك مَحْظُورًا لأنكره الله تَعَالَى وَلما علق حظره بِالْفِسْقِ لِأَن ذَلِك يُوهم أَنه إِنَّمَا لم يجز ذَلِك التسرع لأجل فسق الْمخبر لَا غير يبين ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا عمل على غزوهم لأجل خبر الْوَلِيد مَعَ ظَنّه أَنه عدل ولهذه الْآيَة ولاه الصَّدَقَة وَلقَائِل أَن يَقُول نزُول هَذِه الْآيَة فِي الْوَلِيد بن عقبَة مَنْقُول بالآحاد فَلم يجز بِنَا الِاحْتِجَاج عَلَيْهِ وَقد روى عمر بن شبة فِي كتاب الْكُوفَة فِي أَخْبَار الْوَلِيد باسناده عَن قَتَادَة فِي قَول الله سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ} قَالَ هُوَ الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط بَعثه النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى بني المصطلق مُصدقا فَلَمَّا أبصروه أَقبلُوا نَحوه فهابهم فَرجع إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأخْبر أَنهم ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام فَبعث نَبِي الله خَالِد بن الْوَلِيد وَأمره أَن يثبت وَلَا يعجل فَانْطَلق حَتَّى أَتَاهُم لَيْلًا فَبعث عيونه فَلَمَّا جَاءُوهُ خبروه أَنهم متمسكون بِالْإِسْلَامِ وسمعوا أذانهم وصلاتهم فَلَمَّا أَصْبحُوا أَتَاهُم خَالِد وَرَأى مَا يُعجبهُ فَرجع إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأخْبرهُ الْخَبَر وَذكر رِوَايَة أُخْرَى أَنه رَجَعَ الْوَلِيد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ قد منعُوا فَأنْزل الله سُبْحَانَهُ الْآيَة وَلَيْسَ فِي ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هم بقتالهم من غير تثبت وَتبين
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} والمخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلُزُوم الْعِبَادَة علينا شَاهد على النَّاس وَلَيْسَ يجوز أَن يَجعله الله عدلا ليشهد إِلَّا وَقد تعبد بِالرُّجُوعِ إِلَى خَبره الْجَواب إِن قَوْله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا خطاب لكافة الْأمة دون آحادها فان أُرِيد بِهِ شَهَادَة جَمِيعهم علينا من جِهَة الْخَبَر فَذَلِك تَوَاتر وَلَا(2/117)
يكون فِي اشْتِرَاط كَونهم وسطا فَائِدَة لِأَن المتواترين نعلم صدقهم وَإِن لم يَكُونُوا مُؤمنين وَإِن أُرِيد بِهِ شَهَادَتهم علينا من جِهَة الرَّأْي فَذَلِك هُوَ الْإِجْمَاع وعَلى كلا الْقسمَيْنِ يخرج مِنْهُ خبر الْوَاحِد وَلَيْسَ المُرَاد بِالْآيَةِ كل وَاحِد مِنْهُم لِأَنَّهُ لَيْسَ كل وَاحِد مِنْهُم مَقْطُوعًا على عَدَالَته فَلهَذَا لَا يقطع على مُوجب خبر الْوَاحِد
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى} الْآيَة فحظر كتمان الْهدى وَأوجب إِظْهَاره وَمَا سَمعه الْإِنْسَان من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ من الْهدى فَيجب على سامعه إِظْهَاره وَإِن لم يسمعهُ غَيره مِمَّن يتواتر الْخَبَر بنقله وَلَو لم يجب علينا قبُول خبر الْوَاحِد لم يجب على الْمخبر إِظْهَاره لِأَنَّهُ يكون وجود الْإِظْهَار كَعَدَمِهِ وَالْجَوَاب إِن قَول الله عز وَجل {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب} يدل على أَنه أَرَادَ مَا أنزلهُ الله فِي الْكتاب وأخبار الْآحَاد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمعزل عَن ذَلِك وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يُوصف بِأَنَّهُ مَكْتُوم إِذا لم يظْهر وَكَانَت الْعَادة أَو التَّعَبُّد يدعوان إِلَى إِظْهَاره فَيجب أَن يبين الْمُسْتَدلّ أَن التَّعَبُّد قد ورد بأخبار الْآحَاد حَتَّى يتم لَهُ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَإِذا بَين ذَلِك فقد بَين مَا رام أَن يُبينهُ بِهَذِهِ الْآيَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْعَادة تَدْعُو إِلَى إِظْهَار مَا سَمعه الْإِنْسَان من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يرجع إِلَى الشَّرِيعَة
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَلم يفرق بَين أَن يكون من هُوَ من أهل الذّكر مُجْتَهدا أَو غير مُجْتَهد وَمَعْلُوم أَن غير الْمُجْتَهد إِنَّمَا يسْأَل ليخبر لَا ليفتي عَن نَفسه وَلَيْسَ يجوز أَن يجب السُّؤَال(2/118)
وَلَا يجب الْقبُول الْجَواب إِنَّه لَيْسَ فِي الاية أَنه يجب سُؤَالهمْ ليعلم مَا أخبروا بِهِ ليعْمَل مَا أخبروا بِهِ وَإِذا لم يمْتَنع أَن يكون اراد سُؤَالهمْ ليعلم السَّائِل لم يكن المُرَاد إِلَّا سُؤال من يتواتر الْخَبَر بنقله وَقَوله عز وَجل {وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} يدل على أَنه عز وَجل أَرَادَ سُؤَالهمْ ليعلم مَا يخبرون بِهِ من أَنه أرسل الله عز وَجل إِلَّا رجَالًا يوحي إِلَيْهِم وَهَذَا علم دون عمل
وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله} فَأوجب الشَّهَادَة لله وَالْقِيَام بِالْقِسْطِ وَلَا يُوجب ذَلِك إِلَّا وَقد ألزم قبُول شَهَادَتهم وَمن أخبر بِمَا سَمعه من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فقد قَامَ بِالْقِسْطِ وَشهد لله وَالْجَوَاب إِنَّمَا يكون شَاهدا لله تَعَالَى وَقَائِمًا بِالْقِسْطِ إِذا شهد بِمَا يلْزم قبُوله دون مَا لَا يحل قبُوله كَالشَّهَادَةِ بِأُمُور الدُّنْيَا وَيحْتَمل أَن يكون سُبْحَانَهُ أوجب الشَّهَادَة بِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليرويه غَيره فيتواتر نَقله فان قيل الاية لَا تفرق بَين أَن يكون الْخَبَر قد سمعته جمَاعَة من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين أَن يكون قد سَمعه وَاحِد فِي وجوب الشَّهَادَة بِهِ قيل إِن من يُنكر الْعَمَل بأخبار الْآحَاد يمْتَنع من أَن يخص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْعبَادَة من لَا يتواتر الْخَبَر بنقله إِلَّا أَن يكون التَّعَبُّد يَخُصُّهُ وَحده
وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} وَقَوله {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَظَاهره يَقْتَضِي بَيَان جَمِيع مَا أنزل إِلَيْهِ لجَمِيع من عاصره وَلمن يَأْتِي بعده فَلَو وَجب عَلَيْهِ أَن يبين كل ذَلِك لمن يتواتر الْخَبَر بنقله لكَانَتْ الْأَخْبَار كلهَا منقولة عَنهُ بالتواتر إِلَّا أَن يُقَال إِن بعض السامعين للْخَبَر نَقله دون بعض وَذَلِكَ يُوجب تُهْمَة السّلف وَجَوَاز(2/119)
كَون شرائع مَعَهم لم ينقلوها وَلَا يجوز أَن يكون كل مَا نقل بأخبار الْآحَاد لم يقلهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل فِي الْعَادة أَن تكون هَذِه الْأَخْبَار على كثرتها كَاذِبَة وَلَا يجوز أَن تَتَضَمَّن عبادات تخْتَص من عاصر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن أَكْثَرهَا خطاب لأهل عصره وَلمن يَأْتِي بعده فَثَبت أَنه إِنَّمَا وَجب عَلَيْهِ أَن يبين بعض شَرعه لمن لَا يتواتر الْخَبَر بنقله وَإِن كَانَ بَيَانا لمن بعده وَفِي ذَلِك وجوب الْعَمَل بِهِ على من بعدهمْ الْجَواب إِن الْمُخَالف يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون بعض أَخْبَار الْآحَاد كذبا وَبَعضهَا عبادات تخْتَص أهل ذَلِك الْعَصْر وَبَعضهَا قد أَدَّاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى من يتواتر الْخَبَر بنقله لَكِن بَعضهم نَقله دون بعض وَأَخْطَأ بَعضهم وَذَلِكَ غير مُمْتَنع وَيكون لُزُوم ذَلِك لنا مَشْرُوطًا بتواتر الْخَبَر إِلَيْنَا وَقَوْلهمْ إِن جَوَاز ذَلِك يَقْتَضِي جَوَاز كتمانهم شرائع كَثِيرَة فَذَلِك لَا يلْزم من لم يقل بأخبار الْآحَاد لِأَن عِنْدهم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَين الْعِبَادَات للْجَمَاعَة الْكَثِيرَة وَالْعَادَة تمنع من كتمان أجمعهم مَعَ مَا علمناه من توفر دواعي الْأمة إِلَى نقل السّنَن وَالْأَخْبَار على أَنه لَا بُد من أَن يبلغ ذَلِك جَمِيع أهل الْعَصْر فاجتماعهم على كِتْمَانه اجْتِمَاع من الْأمة على الْخَطَأ وَذَلِكَ لَا يجوز
وَمِنْهَا أَنه قد تَوَاتر النَّقْل بانفاذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سعاته إِلَى الْقَبَائِل والمدن لأخذ الزكوات وَتَعْلِيم الْأَحْكَام كإنقاذه معَاذًا إِلَى الْيمن ليفقههم فِي دينهم وَيقبض زكواتهم وَقد وَجب عَلَيْهِم الْمصير إِلَى رِوَايَته فِي نصب الزَّكَاة وَفِي فروعها وَقد كَانَ يرد على رَسُول الله الْوَاحِد والاثنان يخبران باسلامهما وَإِسْلَام قومهما ويسألان أَن ينفذ من يعلمهُمْ شرائع الْإِسْلَام وَكَانَ ينفذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَهم الرجل الْوَاحِد كانفاذه أَبَا عُبَيْدَة وَغَيره وَالْعلم بذلك ظَاهر لمن قَرَأَ الْأَخْبَار وَالسير وَلَا يُمكن دَفعه وَلم يكن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ينفذ إِلَيْهِم الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة وَلَو فعل ذَلِك لم يكن أهل الْمَدِينَة ليفوا بِمن أسلم من الْقَبَائِل وَلَا أوجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أهل الْقبْلَة أَن تصير بأجمعها إِلَيْهِ أَو أَكْثَرهَا لتعرف شَرعه بل أوجب عَلَيْهِم الْمصير إِلَى مَا يُؤَدِّيه رَسُوله فان قيل أَلَيْسَ كَانُوا يعْرفُونَ التَّوْحِيد والنبوة وَذَلِكَ لَا يعْمل فِيهِ بأخبار الْآحَاد قيل أما التَّوْحِيد فالمرجع(2/120)
فِيهِ إِلَى أَدِلَّة الْعُقُول فَمن أظهره وَجب علينا إِحْسَان الظَّن بِهِ وَأَنه قد اعتقده من وَجهه وَمن رام أَن يعرف التَّوْحِيد أمكنه ذَلِك بالاستدلال بأدلته الْعَقْلِيَّة وَلَيْسَ طَريقَة الاخبار فَيُقَال إِنَّهُم اقتصروا فِيهِ على الْآحَاد أَو التَّوَاتُر وَأما النُّبُوَّة فطريقها المعجز والتحدي بِالْقُرْآنِ وَغَيره من المعجزات وَقد كَانَ اشْتهر ذَلِك فِي الْقَبَائِل وَلم يكن نَقله بالآحاد فان قيل أَلَيْسَ لم يجز لَهُم أَن يعملوا بأخبار الْآحَاد إِلَّا وَقد دلّت الدّلَالَة عِنْدهم على ذَلِك فان كَانَ قد تَوَاتر عِنْدهم التَّعَبُّد بذلك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يؤمنكم أَن شَرعه قد كَانَ تَوَاتر إِلَيْهِم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ قيل إِن كَانَ وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد مَعْلُوما بِالْعقلِ فَلَا يمْتَنع أَن يَكُونُوا عمِلُوا على ذَلِك وَإِلَّا فانهم عمِلُوا على مَا تَوَاتر عِنْدهم من أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينفذ آحَاد النَّاس إِلَى الْقَبَائِل يعلمونهم الشَّرْع لِأَنَّهُ إِذا تَوَاتر ذَلِك عندنَا كَانَ تواتره عِنْدهم أولى وَلَيْسَ كَذَلِك جَمِيع شَرعه لأَنهم لَو علمُوا جَمِيعه لما احتاجوا إِلَى إِنْفَاذ من يعلمهُمْ فان قيل فَأول من أنفذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم من ايْنَ علمُوا أَن ذَلِك من دينهم قيل لَا يمْتَنع أَن يكون أول من أنفذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم علمُوا ذَلِك باخبار قَومهمْ الَّذين نفذوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يمْتَنع أَن يكون أُولَئِكَ كَانُوا أَكثر من أَرْبَعَة فَوَقع لقومهم الْعلم باخبارهم ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعبدهم بِالرُّجُوعِ إِلَى إِخْبَار من أنفذه إِلَيْهِم ليعلمهم شَرعه فان قيل أَلَيْسَ قد كَانَ رسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلمُونَ النَّاس الْقُرْآن الَّذِي يتلونه فِي الصَّلَاة وأعداد رَكْعَات الصَّلَوَات وَطَرِيق ذَلِك يجب كَونه مَعْلُوما دون أَخْبَار الْآحَاد قيل إِنَّمَا كَانَ يجب أَن يكون طَرِيق ذَلِك مَعْلُوما بعد انتشار الشَّرِيعَة وتواتر نقلهَا فَأَما فِي ابْتِدَاء الشَّرِيعَة فطريق ذَلِك لمن بعد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبَار الْآحَاد وَهِي فِي تِلْكَ الْحَال من الْفُرُوع لَا من الاصول وللمخالف أَن يَقُول إِنِّي إِنَّمَا أمنع الْمُجْتَهد من أَن يعدل عَن حكم الْعقل إِلَى خبر الْوَاحِد وَلَا أمنع من رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي فِي فروع الشَّرْع فَهَل تَوَاتر عنْدكُمْ النَّقْل بِأَن الَّذين ارسل إِلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا من أهل الِاجْتِهَاد وَأَن الرُّسُل كَانُوا يخبرونهم عَن رَسُول الله ويكلونهم فِيمَا أخبروهم إِلَى الِاجْتِهَاد(2/121)
لَيْسَ مَعكُمْ ذَلِك بل الظَّاهِر مِمَّن تجدّد إِسْلَامه أَنه لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد وَأَن رسل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانُوا يعلمونهم كَمَا يعلم الْفَقِيه الْعَاميّ وَالْأَب وَلَده كَيْفيَّة الصَّلَاة فان قُلْتُمْ فبماذا علمُوا وجوب قبُول فَتْوَى ذَلِك الرَّسُول قيل لكم بِمَا تَوَاتر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنْفَاذ رسله ليعلمهم الْأَحْكَام كَمَا ذكرتموه أَنْتُم حِين قيل لكم بِمَاذَا علمُوا وجوب الْمصير إِلَى أَخْبَار الْآحَاد فان قُلْتُمْ إِذا لزم الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي لزم الْمصير إِلَى خبر الْوَاحِد إِذْ لَا فرق بَينهمَا كُنْتُم قائسين بِخَبَر الْوَاحِد على الْفَتْوَى وَذَلِكَ انْتِقَال من هَذِه الدّلَالَة إِلَى دلَالَة أُخْرَى لِأَن هَذِه الدّلَالَة غير مَبْنِيَّة على الْقيَاس بل على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أنفذ المخبرين بالآحاد وَأوجب على غير من ذكرْتُمْ فَهَذِهِ الدّلَالَة تلْزم من منع من قبل خبر الْوَاحِد وَمنع الْعَاميّ من قبُول الْفَتْوَى
وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى الْعَالم الْمخبر عَن اجْتِهَاده مَعَ إِمْكَان بَقَاء الْعَاميّ على حكم الْعقل فبأن يجب على الْعَالم أَن يرجع إِلَى الْخَبَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى فَتْوَى الْعَالم وَإِن حَكَاهُ عَن أبي حنيفَة لما غلب على الظَّن صدقه فبأن يجب على الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَى الْحِكَايَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أولى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى رَسُول الْمُفْتِي فبأن يجب على الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَى الْحِكَايَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أولى وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى رَسُول الْمُفْتِي فبأن يجب على الْمُجْتَهد الرُّجُوع إِلَى الْمخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى وَمِنْهَا قَوْلهم قد وَجب الحكم بِمَا شهد بِهِ الشَّاهِدَانِ لما كَانَا عَدْلَيْنِ وَكَانَ مَا شَهدا بِهِ مِمَّا لَو علم لوَجَبَ الحكم بِهِ وَهَذَا مَوْجُود فِي الْمخبر الْعدْل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب انهم إِن حمعوا هَذِه الْمسَائِل وردوها إِلَى الْعَمَل على الْأَخْبَار عَن الْمُعَامَلَات وَالْمَنَافِع والمضار فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الدَّلِيل الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب وَإِن جعلُوا هَذِه الْأُصُول اصولا شَرْعِيَّة وردوا إِلَيْهَا هَذِه الْفُرُوع وَجب أَن يعللوها بعلل مَعْلُومَة حَتَّى يردوا بهَا هَذِه الْفُرُوع إِلَيْهَا وَلم يَفْعَلُوا ذَلِك وَلَا(2/122)
يمْتَنع أَن يكون إِنَّمَا وَجب على الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى الْفَتْوَى وَإِلَى من يخبر عَن أبي حنيفَة وَإِلَى رَسُول الْمُفْتِي لكَونه غير مُجْتَهد أَلا ترى أَنه يجب عَلَيْهِ الرُّجُوع إِلَى الْفَتْوَى وَلَا يجب ذَلِك على الْعَالم أَلا ترى أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون مصلحَة الْعَاميّ الرُّجُوع إِلَى إِخْبَار الْمُجْتَهد عَن نَفسه وَإِلَى إِخْبَار من يخبر عَنهُ وَيكون رُجُوع الْمُجْتَهد إِلَى الْمخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم يعلم صدقه مفْسدَة وَكثير من النَّاس يمْنَع من الْفَتْوَى على سَبِيل الْحِكَايَة عَن الْغَيْر فَلَا يلْزم قِيَاس الْمَسْأَلَة على هَذَا الأَصْل وَأما الْعَمَل على الشَّهَادَة فانهم إِن جَعَلُوهُ أصلا شَرْعِيًّا فَيجب أَن يعللوا ذَلِك بعلة شَرْعِيَّة مَعْلُومَة وَلم يَفْعَلُوا ذَلِك فَمن أَيْن أَن الْعلَّة مَا ذَكرُوهُ مَعَ أَنه لَيْسَ يمْتَنع أَن تكون مصلحتنا أَن لَا تثبت حكما شَرْعِيًّا فِي الْجُمْلَة بطرِيق غير مَعْلُوم وَيجوز أَن تكون مصلحتنا إِذا ثَبت الحكم فِي جملَة الشَّرِيعَة بطريقة مَعْلُومَة أَن تثبت ذَلِك الحكم فِي الْأَعْيَان بطرِيق مظنونة وَإِذا جَازَ ذَلِك فَمن أَيْن أَن الْعلَّة مَا ذَكرُوهُ أَلا ترى أَن شَهَادَة الْوَاحِد وَخبر الْوَاحِد وَإِن اشْتَركَا فِي الْعلَّة الَّتِي ذكروها فقد افْتَرقَا فِي وجوب الْقبُول فقد بَطل أَن تكون الْعلَّة ماذكروه
وَمِنْهَا لَا بُد للاحكام الشَّرْعِيَّة من طَرِيق وَقد يحدث من الْمسَائِل مَا لَيْسَ فِي الْكتاب وَالسّنة المتواترة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس دَلِيل عَلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا خبر الْوَاحِد الْجَواب انه إِن لم يُوجد فِي شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ حكم الْحَادِثَة كَانَ للمخالف أَن يُوجب الْبَقَاء على حكم الْعقل فَلَا تكون الضَّرُورَة دَاعِيَة إِلَى أَخْبَار الْآحَاد
وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء
مِنْهَا أَن الْعقل يمْنَع من قبُول خبر الْوَاحِد من حَيْثُ لم يُؤمن كَونه كَاذِبًا فنكون عاملين بالمفسدة وَالْجَوَاب أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة الْعَمَل بِمَا ظننا صدقه من الْأَخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اخْتصَّ بشرائط صدق الرَّاوِي أم كذب على مَا بَيناهُ من قبل وَبينا أَن الْعقل يجوز وَيُوجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد(2/123)
وَمَا ذَكرُوهُ منتقض بالشهادات على أَحْكَام الْفروج والدماء لأَنا لَا نَأْمَن كذبهَا ويلزمنا الْعَمَل بهَا وَلَا يلْزم من ذَلِك جَوَاز عَملنَا بالمفسدة وَالظُّلم
وَمِنْهَا أَن التَّعَبُّد السمعي لم يرد بِقبُول خبر الْوَاحِد وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا أَنه قد ورد بذلك وَلَو لم يرد بِهِ لكفى دَلِيل الْعقل فِي التَّعَبُّد بِهِ
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَوله {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَوله {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَالْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد اقتفاء لما لَيْسَ لنا بِهِ علم وَشَهَادَة وَقَول بِمَا لَا نعلم لِأَن الْعَمَل بِهِ مَوْقُوف على الظَّن الْجَواب أَنه لَيْسَ فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ لِأَن عِنْد خبر الْوَاحِد نعمل بِمُوجبِه ونخبر بِوُجُوب ذَلِك علينا ونعلمه ونخبر بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك إِن لم يكن الرَّاوِي تعمد الْكَذِب وَلَا سَهَا وَلَا غلط أما الْعَمَل بِمُوجبِه فَلَيْسَ نقُول فَيُقَال إِنَّه قَول مَا ظنناه أَو بِمَا علمناه وَهُوَ اقتفاء لما كُنَّا بِهِ عَالمين وَهُوَ الدَّلِيل الْقَاطِع الدَّال على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا الدَّلِيل هُوَ الَّذِي اتبعناه فِي الْعَمَل وَفِي الْإِخْبَار بِوُجُوب الْعَمَل علينا فَلم نقل على الله عز وَجل مَا لَا نعلمهُ واعتقادنا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك إِن لم يكن الرَّاوِي غلط أَو تعمد الْكَذِب وَهُوَ علم وإخبارنا بذلك شَهَادَة بِمَا نعلمهُ لِأَن كل مخبر إِذا لم يتَعَمَّد الْكَذِب وَلم يَفْعَله سَهوا أَو غَلطا فَهُوَ صَادِق
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} قدم من اتبع الظَّن وَبَين أَنه لَا غناء لَهُ فِي الْحق فَكَانَ على عُمُومه الْجَواب انا بعلمنا على خبر الْوَاحِد متبعون الدَّلِيل الْقَاطِع الدَّال على اتِّبَاع خبر الْوَاحِد إِن قيل أَلَيْسَ لَا بُد أَن تظنوا صدق الرَّاوِي حَتَّى تعلمُوا(2/124)
بالْخبر قيل بلَى وَلَكِن الِاتِّبَاع هُوَ الدَّلِيل فان قيل فقد جعلتم للظن حظا فِي الِاتِّبَاع لأنكم لَو لم تظنوا صدق الرَّاوِي لم تعلمُوا بالْخبر الْجَواب ان الله تَعَالَى إِنَّمَا ذمّ من لم يتبع إِلَّا الظَّن بقوله {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن} فَلم يدْخل فِي ذَلِك من اتبع الدَّلِيل عِنْد الظَّن وَقَوله عقيب ذَلِك {إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} يُفِيد أَن مَا فَعَلُوهُ من أَنهم مَا يتبعُون إِلَّا الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا فَكَأَن الظَّن وَحده لَا يُغني من الْحق شَيْئا ويفيد أَيْضا أَن الظَّن للشَّيْء لَا يُفِيد أَن المظنون حق لَا محَالة وَكَذَلِكَ نقُول لأَنا إِذا ظننا صدق الرَّاوِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا لم يجب أَن يكون ذَلِك حَقًا لأَنا ظنناه على أَنا إِذا علمنَا وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عِنْد ظننا صدقه فَالَّذِي أغْنى فِي الْحق هُوَ إِمَّا الدَّلِيل الدَّال على مُوجب خبر الْوَاحِد وَإِمَّا مَجْمُوع الدَّلِيل مَعَ الظَّن ومجموع الْأَمريْنِ لَيْسَ هُوَ الظَّن
وَمِنْهَا قَول الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} قَالُوا وَالْحكم بِخَبَر الْعدْل عمل على جَهَالَة لتجويزنا كذبه فقد تساوى من هَذِه الْجِهَة الْعَمَل بِخَبَر الْفَاسِق فَحرم الْعَمَل بِهِ الْجَواب ان الْعَمَل بالجهالة عمل بالشَّيْء من غير طَرِيق يسوغ الْعَمَل بِهِ وَلِهَذَا لم يكن الْمُسَافِر عَاملا بِجَهَالَة إِذا سَافر بعد الفحص والمساءلة وَإِن جوز أَن يكون الْأَمر بِخِلَاف مَا أخبر بِهِ فان ادّعى الْمُسْتَدلّ أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عمل بِغَيْر طَرِيق يسوغ ذَلِك فقد بني أَحْكَامه على نفس الْمَسْأَلَة
وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل {ثمَّ يحكم الله آيَاته} فَلَو كَانَ خبر الْوَاحِد دلَالَة وَكَانَ من آيَات الله لَكَانَ الله قد أحكمه وَلَو أحكمه لم يجز كَونه كذبا الْجَواب ان ذَلِك وَارِد عقيب قَول الله عز وَجل {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته}(2/125)
فَبين أَنه يحكم آيَاته بعد نسخ مَا يلقيه الشَّيْطَان لِأَن ثمَّ للتَّرْتِيب وَالَّذِي يقف أَحْكَامه على نسخ مَا القاه الشَّيْطَان هُوَ الْقُرْآن لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ تعلق بِمَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَان وَأَيْضًا فخبر الْوَاحِد امارة وَلَيْسَ بِدلَالَة فَلم يُطلق عَلَيْهِ القَوْل بِأَنَّهُ من آيَات الله عز وَجل وَإِن كَانَ الْعَمَل يجب عِنْده لِأَن الْآيَة دلَالَة كَمَا لَا تكون الشَّهَادَات من آيَات الله عز وَجل حَتَّى يقطع على صدقهَا وَإِن وَجب الْعَمَل عِنْدهَا
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا} فَأخْبر أَنه مُرْسل إِلَى كَافَّة النَّاس فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَن يُخَاطب بشرعه جَمِيعهم وَذَلِكَ يَقْتَضِي نقل جَمِيعهم أَو من يتواتر الْخَبَر بنقله فَمَا رُوِيَ بالآحاد لَيْسَ من شَرعه الْجَواب يُقَال لَهُم وَلم لَا يكون مُرْسلا إِلَى كَافَّة النَّاس وَإِن بَين شَرعه لبعضها بالآحاد فان قَالُوا لجَوَاز أَن لَا يصل إِلَيْهِم شَرعه إِذا أودعهُ آحَاد النَّاس قيل وَلم لَا يجوز أَن يلْزمهُم شَرعه بِشَرْط أَن يبلغهم كَمَا يلْزم شَرعه من بعد عَنهُ من أهل عصره إِذا بَلغهُمْ وَلَا يلْزمهُم قبل أَن يبلغهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يرد لَهُ الْخَبَر وَمَا لَا يرد لَهُ مِمَّا فِيهِ اشْتِبَاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ سيكذب عَليّ يدل على أَنه قد كذب عَلَيْهِ أَو سيكذب فِيمَا بعد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِن كَانَ هَذَا الْخَبَر كذبا عَلَيْهِ فقد كذب عَلَيْهِ وَإِن لم يكن كذبا عَلَيْهِ فقد كذب عَلَيْهِ أَو سيكذب عَلَيْهِ بعد هَذَا الْوَقْت وَإِذا جَوَّزنَا أَن يكون قد تقدم الْكَذِب عَلَيْهِ فَلَا بُد من اعْتِبَار الْأَخْبَار المروية وَلَو لم يرو هَذَا الْخَبَر لَكَانَ تَجْوِيز الْكَذِب عَلَيْهِ يَقْتَضِي اعْتِبَار الْأَخْبَار فَكيف وَقد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر(2/126)
وَالْأَخْبَار المروية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَرْبَان أَحدهمَا يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَهَا وَالْآخر لَا يعلم أَنه قَالَهَا فالمعلوم أَنه قَالَه إِمَّا أَن لَا تتعارض وَإِمَّا أَن تتعارض فان لم تتعارض وَجب الْعَمَل بهَا إِن تَضَمَّنت عملا وَإِن تَعَارَضَت وَأمكن تَأْوِيل بَعْضهَا على مُوَافقَة بعض فعل ذَلِك بِأَن يحمل أَحدهمَا على الْمجَاز إِمَّا بنسخ أَو تَخْصِيص أَو غير ذَلِك وَإِن لم يُمكن تَأْوِيل بَعْضهَا على مُوَافقَة بعض حملا على التَّخْيِير إِذْ لَيْسَ الْعَمَل على أَحدهمَا أولى من الآخر وَوُقُوع الْعلم بالْخبر يمْنَع من رده من غير تَأْوِيل
وَأما الْأَخْبَار الَّتِي لَا يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَهَا فضربان أَحدهمَا يتَضَمَّن عملا وَالْآخر لَا يتَضَمَّن عملا فَمَا لَا يتَضَمَّن عملا لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ وَمَا يتَضَمَّن عملا فقد يجب الْعَمَل بِهِ على شَرَائِط وَقد يرد لفقد تِلْكَ الشَّرَائِط وَقد يحصل فِي بعض ذَلِك اشْتِبَاه وَقد لَا يحصل فِيهِ اشْتِبَاه فَكل ذَلِك يجب رُجُوعه إِمَّا إِلَى الْخَبَر أَو إِلَى مَا للْخَبَر بِهِ تعلق وَهُوَ الرَّاوِي وَكَيْفِيَّة نَقله والمخبر عَنهُ أما الرَّاجِع إِلَى الْخَبَر فبأن يكون فِيهِ زِيَادَة لم تذكر فِي رِوَايَة اخرى فان ذَلِك قد يقْدَح فِي الحَدِيث فِي بعض الْحَالَات وَمِمَّا يشْتَبه الْحَال فِيهِ أَن يُخَالف حفاظ أهل النَّقْل فِي أَلْفَاظ الحَدِيث وَأما مَا يرجع إِلَى الرَّاوِي فضربان أَحدهمَا يرجع إِلَى الْعدَد وَالْآخر يرجع إِلَى الْأَحْوَال أما الرَّاجِع إِلَى الْأَحْوَال فَهُوَ كل مَا قدح فِي الظَّن لصدقه أَن لَا يكون عدلا وَيدخل فِي ذَلِك الْكَذِب والتساهل وقله التحفظ فِيمَا يسمعهُ وَيَرْوِيه ووجوه الْفسق كلهَا وَنَحْو مَا سخف من الْمعاصِي والمباحات وَنَحْو أَن لَا يكون ضابطا وَنَحْو أَن يَعْتَرِيه السَّهْو بعد ضبط الحَدِيث على تَفْصِيل سَنذكرُهُ وَنَحْو أَن يكون مَجْهُولا غير مَعْرُوف الْعَدَالَة وَلَا يرد حَدِيثه إِذا كَانَ لَهُ اسْم يعرف بِهِ وَاسم لَا يعرف بِهِ وَإِذا لم يكثر من رِوَايَة الحَدِيث وَلَا كاثر مجالسة أهل الْعلم أَو رَوَاهُ ثمَّ ذكر بِهِ فَلم يذكرهُ اَوْ كَانَ وَاحِدًا لم يروه مَعَه غَيره وَهَذَا الْقسم يرجع إِلَى الْعدَد واما كَيْفيَّة النَّقْل فأشياء مِنْهَا رِوَايَة الحَدِيث على الْمَعْنى وَمِنْهَا رِوَايَته من كتاب وَهُوَ لَا يذكرهُ وَمِنْهَا التَّدْلِيس وَمِنْهَا الْإِرْسَال وَمِنْهَا إرْسَال الحَدِيث تَارَة(2/127)
وَإِسْنَاده اخرى وَرِوَايَته تَارَة مَوْقُوفا وَتارَة مَوْصُولا وَأما حَال الْمخبر عَنهُ فبأن يثبت بِالدَّلِيلِ الْقَاطِع خلاف مَا اقْتَضَاهُ الْخَبَر كدليل الْعقل وَالْكتاب وَالسّنة الْمَعْلُومَة وَلَا فرق بَين أَن يكون الْخَبَر دافعا للْكتاب وَالسّنة الْمَعْلُومَة على كل حَال أَو على وَجه النّسخ وَاخْتلفُوا إِذا كَانَ الْخَبَر مُخَصّصا لَهما وَاخْتلفُوا إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ يعم الْبلوى بِهِ هَل يرد لَهُ خبر الْوَاحِد أم لَا وَلَا يرد إِذا عمل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَافِهِ أَو عمل أَكثر الصَّحَابَة بِخِلَافِهِ وَكَذَلِكَ إِذا عَابَ أَكْثَرهم على الرَّاوِي على اخْتِلَاف فِيهِ وَلَا يرد إِذا خَالف قِيَاس الْأُصُول
وَنحن نذْكر أَولا مَا يرجع إِلَى الْخَبَر ثمَّ مَا يرجع إِلَى الْمخبر ثمَّ مَا يرجع إِلَى كَيْفيَّة نَقله ثمَّ مَا يرجع إِلَى الْمخبر عَنهُ إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْخَبَر إِذا تضمن زِيَادَة لم تذكر فِي رِوَايَة أُخْرَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه إِذا رُوِيَ الرَّاوِي زِيَادَة فاما أَن يكون لم يروها غَيره أَو لم يروها هُوَ مرّة أُخْرَى وَالْأول ضَرْبَان احدهما أَن يكون من لم يروها لَا يقبل حَدِيثه وَالْآخر أَن يقبل حَدِيثه فَالْأول لَا يمْنَع من قبُول الزِّيَادَة لِأَن راويها مِمَّن يقبل رِوَايَته وَلم يعارضها رِوَايَة مثلهَا يبين ذَلِك أَن الَّذِي لَا يقبل رِوَايَته لَو روى نفي تِلْكَ الزِّيَادَة لم يمْنَع ذَلِك من قبُول الزِّيَادَة فبأن لَا يمْنَع تَركه لذكرها أولى وَإِن كَانَ الَّذِي لم يروها يقبل رِوَايَته فَأَما أَن يعلم انهما أسندا الْخَبَرَيْنِ إِلَى مجلسين أَو إِلَى مجْلِس وَاحِد أَو لَا يعلم ذَلِك من حَالهمَا فان علمنَا أَنَّهُمَا أسنداه إِلَى مجلسين قبلت الزِّيَادَة لِأَنَّهُ لَا معَارض لَهَا لجَوَاز أَن يُقيد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَلَامه فِي بعض الْحَالَات دون بعض ثمَّ هَل تِلْكَ الزِّيَادَة نسخ أَو تَخْصِيص قد بَين فِيمَا سلف وَإِن علمنَا أَنَّهُمَا أسنداه إِلَى مجْلِس وَاحِد فاما أَن يكون الَّذِي لم يرو الزِّيَادَة عددا لَا يجوز أَن يغفلوا عَن تِلْكَ الزِّيَادَة الَّتِي رَوَاهَا الْوَاحِد وَإِمَّا أَن يكون الرَّاوِي لَهَا عددا لَا يجوز عَلَيْهِم توهم مَا لم يكن وَإِمَّا أَن يجوز على كلا(2/128)
الْفَرِيقَيْنِ ذَلِك وَيجوز خِلَافه فَالْأول يمْنَع من قبُول الزِّيَادَة لِأَن من لم يروها إِنَّمَا لم يروها لِأَنَّهَا لم تكن وَيكون الرَّاوِي لَهَا قد سَمعهَا من غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَظن أَنه سَمعهَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ الرَّاوِي للزِّيَادَة عددا كثيرا لَا يجوز عَلَيْهِم توهم مَا لم يكن قبلت الزِّيَادَة لأَنهم مَا رووها إِلَّا لِأَنَّهَا كَانَت وَإِن لم يكن الرَّاوِي لَهَا وَلَا التارك لَهَا عددا كثيرا فإمَّا أَن تكون الزِّيَادَة مُغيرَة الْإِعْرَاب وَبِنَاء الْكَلَام أَو غير مُغيرَة لذَلِك بل مُنْفَصِلَة فَالْأول كَقَوْلِه أَو نصف صَاع من بر وَكَقَوْلِه أَو صَاعا من بر فَكل وَاحِد من الراويين قد روى مَا يَنْفِي رِوَايَة الآخر لِأَن أَحدهمَا روى النصب وَالْآخر روى الْجَرّ فروايتهما متناقضة فان تفاضلا فِي الضَّبْط عمل على رِوَايَة الأضبط لِأَن مَعَ تعَارض الرِّوَايَتَيْنِ وَكَون كل وَاحِد من الراويين يقبل حَدِيثه يجب التَّرْجِيح وَقُوَّة الضَّبْط وَالْعَدَالَة مِمَّا يرجح بِهِ الْخَبَر وَإِن تَسَاويا فِي الضَّبْط واشتبه علينا الْأَمر فِي تفاضلهما فِيهِ لم تكن رِوَايَة أَحدهمَا بِالْقبُولِ أولى من الْأُخْرَى فَيجب الرُّجُوع إِلَى تَرْجِيح آخر وَإِن كَانَت الزِّيَادَة لَا تغير بِنَاء لفظ الحَدِيث وَإِعْرَابه كَمَا رُوِيَ من قَوْله أَو صَاعا من بر وَمَا رُوِيَ من قَوْله أَو صَاعا من بر بَين اثْنَيْنِ فَكل وَاحِد مِنْهُمَا قد روى أَو صَاعا من بر على صُورَة وَاحِدَة وَزَاد أَحدهمَا بَين اثْنَيْنِ فَهَذِهِ الزِّيَادَة تقبل
فَصَارَت الزِّيَادَة إِنَّمَا تقبل على شُرُوط مِنْهَا أَن لَا يكثر عدد من لم يروها وَمِنْهَا أَن لاتكون مُؤثرَة فِي لفظ الْمَزِيد عَلَيْهِ وَإِعْرَابه أَو اثرت كَانَ راويها أضبط وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله يقبل الزِّيَادَة سَوَاء أثرت فِي اللَّفْظ أَو لم تُؤثر إِذا أثرت فِي الْمَعْنى وَقبلهَا قَاضِي الْقُضَاة إِذا أثرت فِي الْمَعْنى دون اللَّفْظ وَلم يقبلهَا إِذا اثرت فِي إِعْرَاب اللغظ وَحكى أَن اصحاب الحَدِيث لَا يقبلُونَ الزِّيَادَة
وَالدّلَالَة على قبُولهَا إِذا اخْتصّت بالشرائط الْمَذْكُورَة أَن الرَّاوِي للزِّيَادَة مِمَّن يجب قبُول خَبره وَلَا معَارض لروايته فَوَجَبَ قبُولهَا كَمَا لَو انْفَرد بِرِوَايَة(2/129)
الحَدِيث وَلم يروه غَيره وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه مِمَّن يقبل لِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِالْعَدَالَةِ والضبط وَجَمِيع الصِّفَات الْمَطْلُوبَة وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَا معَارض لروايته لِأَن التارك لرِوَايَة الزِّيَادَة لم ينفها لفظا وَلَا معنى أما أَنه لم ينفها لفظا فَبين واما أَنه لم ينفها فِي الْمَعْنى فَلِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّه نفاها فِي الْمَعْنى إِلَّا من حَيْثُ كَانَ الرَّاوِي الآخر لما سَاق الحَدِيث وَكَانَ قصد اسْتِيفَاؤهُ ثمَّ لم يذكر الزِّيَادَة علم أَنه قد نفاها وَجرى مجْرى أَن ينفيها لفظا وَيُمكن أَن يكون هَذَا الْكَلَام دَلِيلا لَهُ مُبْتَدأ وَالْجَوَاب إِنَّه لَيْسَ يجب أَن يكون إِنَّمَا لم يروها التارك لَهَا لِأَنَّهُ نفاها لَكِن يجوز أَن يكون إِنَّمَا لم يروها لِأَنَّهُ لم يسْمعهَا لسهو اعتراه حِين تكلم بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لشغل قلب اعتراه أَو تشاغل بعطاس أَو إصغاء إِلَى كَلَام آخر فاذا جَازَ كل ذَلِك بَطل القَوْل بِأَن التارك للزِّيَادَة قد نفاها فِي الْمَعْنى
فان قيل فَلم مَا حملتم ترك الرِّوَايَة للزِّيَادَة على أحد هَذِه الْوُجُوه بِأولى من أَن يحملوا رِوَايَة من رَوَاهَا على أَنه تصور أَنه سمع تِلْكَ الزِّيَادَة من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يكن سَمعهَا مِنْهُ قيل لِأَن سَهْو الْإِنْسَان عَمَّا سَمعه وتشاغله عَن سَماع مَا جرى بمشهد مِنْهُ يكثر وَلَا يكثر توهم الْإِنْسَان أَنه سمع مَا لم يسمع وَلِأَنَّهُ لَا سَبَب لذَلِك إِلَّا أَنه سمع الزِّيَادَة من الْغَيْر فَظن أَنه سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو سمع من النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئا فَظن أَنه سمع مِنْهُ ايضا مَا لَهُ بِهِ ولترك رِوَايَة مَا جرى اسباب كَثِيرَة قد ذَكرنَاهَا فَلذَلِك كَانَ ترك الْإِنْسَان رِوَايَة مَا جرى أَكثر من رِوَايَته مَا لم يجر إِذا لم يتَعَمَّد الْكَذِب
فان قيل فَيجب أَن يكون رِوَايَة من روى أَو نصف صَاع من بر أولى من رِوَايَة من روى أَو صَاعا من بر لِأَن فِيهَا زِيَادَة نصف يجوز أَن يكون التارك لَهَا لم يسْمعهَا قيل لَو لم يكن إِلَّا هَذَا لكَانَتْ الزِّيَادَة أولى لَكِن لما تَعَارضا فِي رِوَايَة إعرابين متنافيين لم تكن إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أولى من الْأُخْرَى يبين ذَلِك أَنه لَا يُمكن أَن يُقَال لَعَلَّ الَّذِي روى أَو صَاع من بر لم يسمع لَفظه نصف وَسمع لفظ صَاع لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لسمعها مجرورة(2/130)
إِن قيل فَيلْزم على مَا ذكرْتُمْ أَن الَّذِي لم يرو الزِّيَادَة لَو نفاها لم يُعَارض نَفْيه رِوَايَة من رَوَاهَا قيل إِن قَالَ أعلم أَنه لم تكن هَذِه الزِّيَادَة وأنني مَا سَمعتهَا وَلم يقطعني قَاطع عَن سماعهَا فانه يكون نَاقِلا للنَّفْي ولارتفاع الْمَوَانِع كَمَا نقل الآخر الزِّيَادَة فتتعارض الرِّوَايَتَانِ وَإِن قَالَ لم تكن هَذِه الزِّيَادَة فانه يحْتَمل أَن يكون ذَلِك مَوضِع اجْتِهَاد وَيحْتَمل أَن يُقَال رِوَايَة الْمُثبت أولى لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون النَّافِي إِنَّمَا نفى الزِّيَادَة بِحَسب ظَنّه وَيحْتَمل أَن يُقَال يرجع إِلَى رِوَايَة النَّافِي إِذا كَانَ أضبط
وَاحْتج الدافعون للزِّيَادَة بأَشْيَاء
مِنْهَا أَن ضبط الرَّاوِي إِنَّمَا يعرف بموافقة المعروفين بالضبط فاذا لم يُوَافقهُ فِي الرِّوَايَة لم يعرف ضَبطه وَالْجَوَاب إِنَّه لَو لم يثبت ضبط الْإِنْسَان إِلَّا بموافقة ضَابِط آخر لَهُ أدّى إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وَلم يعرف ضبط أحد فَعلمنَا قد يعرف ضبط الْإِنْسَان لغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَوْجُود فِيمَن روى الزِّيَادَة وَأَيْضًا فانما يعرف اختلال ضبط الانسان إِذا خَالفه من يضْبط مرَارًا كَثِيرَة فَأَما الْمرة والمرتان فَلَا يمْتَنع أَن يضْبط هُوَ فِيهَا ويسهو من هُوَ أضبط مِنْهُ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن جمَاعَة لَو كَانُوا فِي مجْلِس فنقلوا عَن صَاحبه كلَاما وَانْفَرَدَ وَاحِد مِنْهُم بِزِيَادَة غير البَاقِينَ مَعَ كثرتهم وَشدَّة عنايتهم بِمَا سَمِعُوهُ وَرَوَوْهُ لأطرح السامعون تِلْكَ الزِّيَادَة الْجَواب إِن ذَلِك لَيْسَ مِمَّا نَحن بسبيله لأَنا قد قُلْنَا إِن الْجَمَاعَة إِذا تركت الزِّيَادَة كَانَت رِوَايَتهَا أولى وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ التارك للزِّيَادَة أضبط إِذا غيرت الزِّيَادَة اللَّفْظ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا كَانَ الضَّابِط لَو وَافق هَذَا الرَّاوِي للزِّيَادَة لقوي بموافقته خَبره فَيجب إِذا خَالفه أَن يضعف وَالْجَوَاب إِنَّه بامساكه عَن الزِّيَادَة غير مُخَالف لَهُ كَمَا أَنه بامساكه عَن رِوَايَة خبر آخر لَا يكون مُخَالفا لَهُ وَأَيْضًا فانه إِذا وَجب قَول الزِّيَادَة بمشاركة غَيره من الروَاة لَهُ وَجب إِذا لم(2/131)
يشاركوه أَن تنقص تِلْكَ الْقُوَّة وَلَيْسَ إِذا نقصت يجب أَن تبلغ حدا فِي الضعْف لَا يقبل الْخَبَر مَعَه أَلا ترى أَنه لَو شَارك الرَّاوِي جمَاعَة فِي خبر فقوي الْخَبَر بذلك فانه إِذا لم يشاركوه فِي الرِّوَايَة بل رَوَاهُ وَحده لَا يجب أَن يَنْتَهِي فِي الضعْف إِلَى حد لَا يجوز أَن يقبل مَعَه
فَأَما إِذا لم يعلم هَل اسند المخبران الْخَبَرَيْنِ إِلَى مجْلِس وَاحِد أَو مجلسين وَكَانَت الزِّيَادَة تغير إِعْرَاب الْمَزِيد عَلَيْهِ وَلم يكن الرَّاوِي لَهُ وَلَا التارك لَهَا كَثْرَة فانه يَقْتَضِي التَّوَقُّف وَالرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح لأَنا لَا نَأْمَن أَن يَكُونَا قد اسنداه إِلَى مجْلِس وَاحِد فيتمانعا وَالصَّحِيح أَن يُقَال يجب حمل الْخَبَرَيْنِ على أَنَّهُمَا جَريا فِي مجلسين لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا فِي مجْلِس وَاحِد لجرى على لفظ وَاحِد وَلَو كَانَ اللَّفْظ وَاحِدًا لَكَانَ الظَّاهِر من عدالتهما وضبطهما أَن لَا يخْتَلف روايتهما
فَأَما إِذا روى الرَّاوِي زِيَادَة لم يروها هُوَ مرّة أُخْرَى مُتَقَدّمَة أَو مُتَأَخِّرَة وَأَنه إِن أسْند الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى مجلسين قبل ذَلِك وَكَذَلِكَ إِذا لم يعلم أَنه اسندهما إِلَى مجلسين حمل أَنَّهُمَا كَانَا فِي مجلسين وَإِن علمنَا أَنه لم يسندهما إِلَى مجلسين وَكَانَ قد روى الْخَبَر دفعات كَثِيرَة من غير زِيَادَة وَرَوَاهُ مرّة وَاحِدَة بِالزِّيَادَةِ فالأغلب انه سَهَا فِي إِثْبَات الزِّيَادَة لِأَن سَهْو الْإِنْسَان مرّة وَاحِدَة أغلب وَأكْثر من سَهْوه مرَارًا كَثِيرَة فان قَالَ قد كنت أنسيت هَذِه الزِّيَادَة والآن ذكرتها قبلت الزِّيَادَة وَحمل أمره على الْأَقَل النَّادِر لمَكَان قَوْله وَكَذَلِكَ إِن كَانَ لَهُ كتاب يرجع إِلَيْهِ وَإِن كَانَ إِنَّمَا رَوَاهَا مرّة وأخل بروايتها مرّة وَكَانَت الزِّيَادَة تغير إِعْرَاب الْكَلَام تَعَارَضَت الرِّوَايَتَانِ وَإِن كَانَت الزِّيَادَة لَا تغير اللَّفْظ احْتمل أَن يتعارضا لِأَنَّهُ على كل حَال قد وهم وهما بَاطِلا إِمَّا زِيَادَة لَا اصل لَهَا وَإِمَّا نِسْيَانا لما كَانَ لَهُ اصل فَلَيْسَ بِأَن يُقَال ضَبطه يمْنَع من أَن يكون قد وهم عِنْد سَمَاعه للْحَدِيث زِيَادَة لَا اصل لَهَا وَأَنه نسي فَلم يروها فِي بعض الْحَالَات وَذكرهَا مرّة أُخْرَى بِأولى من ان يُقَال إِن ضَبطه(2/132)
يمْنَع من نسيانه لَهَا وَالْأولَى أَن يُقَال أَظُنهُ من رِوَايَته لما لم يسمعهُ توهما مِنْهُ أَنه سَمعه الْأَقْرَب أَن يكون نَسِيَهَا حِين لم يروها لِأَن نِسْيَان الضَّابِط لما سمع عِنْد تطاول الزَّمَان أَكثر وأغلب من ذَهَابه عَن سَماع مَا حَضَره فَوَجَبَ لذَلِك قبُول الزِّيَادَة
وَإِذا روى الرَّاوِي الحَدِيث تَارَة مَعَ زِيَادَة وَتارَة بِغَيْر زِيَادَة استهانة وَقلة تحفظ سَقَطت عَدَالَته وَلم يقبل حَدِيثه وَإِذا كَانَ فِي الْخَبَر لفظ لَا يُفِيد إِلَّا التَّأْكِيد لم يجز إِسْقَاطه لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ذكره إِلَّا لفائدة
فَأَما إِذا خَالف فِي لفظ الحَدِيث حفاظ أهل النَّقْل فقد ذكر ذَلِك فِي جملَة مَا يرد لَهُ الحَدِيث وَهُوَ دَاخل فِي الزِّيَادَة وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن لِأَن الْخلاف لَيْسَ يَقع بَينهم إِلَّا بِأَن يزِيد أحدهم فِي الحَدِيث مَا لَا يرويهِ الآخر اَوْ يروي أَحدهمَا اللَّفْظ على إِعْرَاب يروي الآخر خِلَافه وَقد تقدم بَيَان ذَلِك كُله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر فُصُول أَحْوَال الرَّاوِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فصل
اعْلَم أَنه لما وَجب رد الْخَبَر إِذا كَانَ الرَّاوِي غير عدل وَجب أَن نذْكر مَا الْعدْل وَمَا الْعَدَالَة ثمَّ نذْكر الدّلَالَة على اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الْأَخْبَار
أما الْعدْل والعدلة فهما فِي اللُّغَة مصدر مُقَابل الْجور وَهُوَ إيضاف الْغَيْر بِفعل مَا يجب لَهُ وَيسْتَحق عَلَيْهِ وَترك مَا لَا يجب عَلَيْهِ وَلِهَذَا وصف الْعقَاب بِأَنَّهُ عدل لما كَانَ مُسْتَحقّا على المعاقب ويوصف ترك الزِّيَادَة عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عدل ويوصف الثَّوَاب بِأَنَّهُ عدل لما كَانَ وَاجِبا للمثاب فان قيل فَيجب إِذا لم يجب على الْإِنْسَان حق لغيره وَكَانَ مَا يسْتَحقّهُ على غَيره لَا يَسْتَوْفِيه أَن يُوصف بِأَنَّهُ غير عدل قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَن قَوْلنَا غير عدل يُطلق على الجائر وَإِطْلَاق هَذَا الْوَصْف على مَا ذكره السَّائِل يُوهم أَنه جَائِر(2/133)
وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الْعدْل هُوَ فعل حسن يتَعَدَّى الْفَاعِل إِلَى غَيره بنفعه أَو بضرره وَقد الْتزم على ذَلِك أَن يكون الِابْتِدَاء بالتفضل عدلا قَالَ وَلذَلِك يُقَال إِن الله سُبْحَانَهُ عدل بابتداء الْخلق فِي الدُّنْيَا وَقد تعورف اسْتِعْمَال الْعدْل فِي المستكثر من فعل الْعدْل وَلذَلِك يُوصف الله سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عدل وتعورف اسْتِعْمَاله أَيْضا فِيمَن أهل لقبُول شَهَادَته وَيدخل فِي ذَلِك الْحُرِّيَّة وَغَيرهَا وتعورف أَيْضا فِيمَا تقبل رِوَايَته عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ من اجْتنب الْكَبَائِر وَالْكذب والمسخفات من الْمعاصِي والمباحات وَلَا خلاف فِي اعْتِبَار هَذِه الْأُمُور فِيمَن يروي الْخَبَر لِأَن خلاف ذَلِك يقْدَح فِي الثِّقَة لقَوْله لِأَن من تقدم على الْكَذِب لَا يُؤمن مِنْهُ الْكَذِب فِي كل مَا يخبر بِهِ وَمن تقدم على الْفسق وَهُوَ يعْتَقد انه فسق لَا يُؤمن مِنْهُ الْإِقْدَام على الْكَذِب فِي حَدِيثه وَمن تقدم على المسخفات كالتطفيف وكالأكل على الطَّرِيق وَإِن اثمر النَّقْص لَا يُؤمن مِنْهُ الْكَذِب وَإِن أثمر عِنْده النَّقْص والمشارطة على أَخذ الاجرة على الحَدِيث فَهُوَ ابلغ فِي الدناءة من الْأكل على الطَّرِيق وَهُوَ جَار مجْرى اشْتِرَاط الاجرة على صَلَاة النَّافِلَة
وَأما الْفسق فِي الاعتقادات إِذا كَانَ صَاحبه متحرجا فِي افعاله فَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ابي على وابي هَاشم أَنه يمْنَع من قبُول الحَدِيث لِأَن الْفسق فِي أَفعَال الْجَوَارِح يمْنَع من قبُول الحَدِيث لكَونه فسقا لَا لِأَنَّهُ من افعال الْجَوَارِح لِأَن الْمُبَاحَات من أَفعَال الْجَوَارِح لَا تمنع من قبُول الحَدِيث وَهَذِه الْعلَّة قَائِمَة فِي الاعتقالات إِذا كَانَت فسقا وَالْجَوَاب إِن الْفسق من أَفعَال الْجَوَارِح إِنَّمَا منع من قبُول الحَدِيث لِأَن فَاعله فعله وَهُوَ يعلم أَنه فسق فقدح ذَلِك فِي الظَّن لصدقه وَلم يُؤمن أَن يقدم على الْكَذِب وَإِن علم أَنه مَحْظُور وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا اعْتقد اعتقادا هُوَ فسق وَقد اشْتبهَ عَلَيْهِ وَهُوَ متحرج فِي أَفعاله
إِن قيل أَلَيْسَ لَو فسق وَهُوَ يعلم أَنه فسق لم يقبل حَدِيثه فَكيف يقبل إِذا ضم إِلَى فسقه خَطِيئَة أُخْرَى وَهِي اعْتِقَاده أَن ذَلِك غير فسق قيل إِنَّه إِذا(2/134)
لم يعْتَقد أَنه فسق لم يقْدَح ذَلِك تحريجه وتنزهه عَن الْكَذِب وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا اعْتقد أَنه فسق
وَعند جلّ الْفُقَهَاء أَن الْفسق فِي الِاعْتِقَاد لَا يمْنَع من قبُول الحَدِيث لِأَن من تقدم قد قبل بَعضهم حَدِيث بعض بعد الْفرْقَة وَقبل التابعون رِوَايَة الْفَرِيقَيْنِ من السّلف وَلِأَن الظَّن يقوى بِصدق من هَذِه سَبيله إِذا كَانَ متحرجا فَأَما الْكفْر الَّذِي يخرج بِهِ الْإِسْلَام من جملَة الْإِسْلَام وَأهل الْقبْلَة كاليهودية والنصرانية فانه يمْنَع من قبُول الْخَبَر للاجماع على ذَلِك وَلِأَن الْخَارِج من الْإِسْلَام يَدعُوهُ اعْتِقَاده فِيهِ إِلَى التحريف فِيهِ وَلَا يقوى الظَّن لصدقه وَأما الْكفْر بِتَأْوِيل فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه يمْنَع من قبُول الحَدِيث قَالَ لِاتِّفَاق الْأمة على الْمَنْع من قبُول خبر الْكَافِر قَالَ وَالْفُقَهَاء إِنَّمَا قبلوا أَخْبَار من هُوَ كَافِر عندنَا لأَنهم لم يعتقدوا فِيهِ أَنه كَافِر وَالْأولَى أَن يقبل خبر من فسق أَو كفر بِتَأْوِيل إِذا لم يخرج من أهل الْقبْلَة وَكَانَ متحرجا لِأَن الظَّن لصدقه غير زائل وادعاؤه الْإِجْمَاع على نفي قبُول خبر الْكَافِر على الْإِطْلَاق لَا يَصح لِأَن كثيرا من أَصْحَاب الحَدِيث يقبلُونَ كثيرا من أَخْبَار سلفنا رَحِمهم الله كالحسن وَقَتَادَة وَعَمْرو مَعَ علمهمْ بمذهبهم وإكفارهم من يَقُول بقَوْلهمْ وَقد نصوا على ذَلِك فَأَما من يظْهر مِنْهُ العناد فِي مذْهبه مَعَ ظُهُوره عِنْده فانه لَا يقبل حَدِيثه كَمَا لَا يقبل حَدِيث الْفَاسِق بِأَفْعَال الْجَوَارِح لما كَانَ يعلمهَا فسقا فَأَما من تدين بِالْكَذِبِ لينصر مقَالَته فالظن لَا يحصل بصدقه وَكَذَلِكَ التساهل فِي الحَدِيث وَترك التحفظ من الزِّيَادَة فِيهِ وَالنُّقْصَان مِنْهُ
وَأما كَون الرَّاوِي غير ضَابِط لما يسمعهُ أَو يَعْتَرِيه السَّهْو فِيمَا يسمعهُ بعد سَمَاعه لَهُ فَلهُ أَحْوَال ثَلَاثَة
أَحدهَا أَن يكون سَهْوه واختلال ضَبطه أَكثر فيقدح ذَلِك فِي الظَّن لما نَقله إِلَّا أَن يكون مَا نَقله مِمَّا يبعد أَن لَا يضبطه الْإِنْسَان وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول الظَّاهِر من الْعقل الضَّبْط وَقلة السَّهْو لِأَن الْعُقَلَاء يَخْتَلِفُونَ فِي الضَّبْط(2/135)
وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول الظَّاهِر من الْعدْل أَنه لَا يروي الحَدِيث وَهُوَ يتهم ضبط نَفسه وَحفظه لِأَن من لَا يضْبط يظنّ أَنه قد ضبط وَمن سَهَا يظنّ أَنه مَا سَهَا فيروي حسب ظَنّه
وَالثَّانِي أَن يتساوى ضَبطه واختلاله فَلَا يحصل الظَّن أَيْضا لصِحَّة مَا رَوَاهُ لتعادل الْأَمريْنِ فَلَا يقبل حَدِيثه إِن قيل أَلَيْسَ قد أنْكرت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا على أبي هُرَيْرَة رَحمَه الله كَثْرَة الرِّوَايَة ثمَّ قبلت أخباره قيل إِنَّهَا لم تنكر عَلَيْهِ لقلَّة ضَبطه لَكِن لِأَن الْكَثْرَة يعرض فِيهَا الاختلال والسهو فاحتاطت بالإنكار عَلَيْهِ وَإِن كَانَ أَهلا لقبُول أخباره وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه إِذا تساوى غفلته وَذكره قبل خَبره لِأَن الْخَبَر أَمارَة فَالْأَصْل فِيهِ الصِّحَّة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْخَبَر أَمارَة إِذا تكاملت شَرَائِطه وَلَا تتكامل شَرَائِطه إِلَّا أَن يتَرَجَّح ذكر الرَّاوِي على سَهْوه
وَالثَّالِث إِن كَانَ الْأَكْثَر مِنْهُ الذّكر وجودة الضَّبْط قوي الظَّن لصِحَّة رِوَايَته فَقبل خَبره فِيمَا لَا يعلم أَنه سَهَا فِيهِ
وَاعْلَم أَنه إِذا ثَبت اعْتِبَار الْعَدَالَة وَغَيرهَا من الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَجب إِن كَانَ لَهَا ظَاهر أَن يعْتَمد عَلَيْهِ وَإِلَّا لزم اخْتِيَارهَا وَلَا شُبْهَة أَن فِي بعض الْأَزْمَان كزمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قد كَانَت الْعَدَالَة منوطة بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الظَّاهِر من الْمُسلم كَونه عدلا وَلِهَذَا اقْتصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبُول خبر الْأَعرَابِي عَن رُؤْيَة الْهلَال على ظَاهر الاسلام واقتصرت الصَّحَابَة على إِسْلَام من كَانَ يروي الْأَخْبَار من الْأَعْرَاب فَأَما الْأَزْمَان الَّتِي كثرت فِيهَا الْجِنَايَات مِمَّن يعْتَقد الْإِسْلَام فَلَيْسَ الظَّاهِر من إِسْلَام الْإِنْسَان كَونه عدلا فَلَا بُد من اختباره وَقد ذكر الْفُقَهَاء هَذَا التَّفْصِيل
وَلَا يرد حَدِيث من لَا يعرف معنى مَا يَنْقُلهُ كالأعجمي لِأَن جَهله بِمَعْنى الْكَلَام لَا يمْنَع من ضَبطه الحَدِيث وَلِهَذَا يُمكن للأعجمي ان يحفظ الْقُرْآن وَإِن لم يعرف مَعْنَاهُ وَقد قبلت الصَّحَابَة أَخْبَار الْأَعْرَاب وَإِن لم يعرفوا كثيرا من مَعَاني(2/136)
الْكَلَام مِمَّا يفْتَقر إِلَى الِاسْتِدْلَال فَأَما الصَّبِي فالأغلب أَن النَّفس لَا تثق بروايته فان جَازَ فِي بعض الْحَالَات أَن يغلب الظَّن لصدقه فالشرع مِنْهُ من قبُول خَبره إِذا رَوَاهُ وَهُوَ صبي فان سمع الحَدِيث وَهُوَ صبي وَرَوَاهُ وَهُوَ بَالغ قبل خَبره وَقد قبلت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا رِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ حِين سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير بَالغ لما كَانَ حِين رَوَاهَا بَالغا وَيقبل رِوَايَة الْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْأَعْمَى من حفظه لِأَنَّهُ قد يظنّ صدقهم فِي روايتهم وَلم تمنع الشَّرِيعَة من قبُولهَا بل قد قبلت الصَّحَابَة رِوَايَة ابْن عَبَّاس وَكَانَ ضريرا وَرِوَايَة النِّسَاء وَيقبل رِوَايَة من لم يرو إِلَّا خَبرا وَاحِدًا وَلم يكاثر أهل الْعلم وَلَا أَطَالَ مجالسة أهل النَّقْل لِأَن كل خصْلَة لَا تقدح فِي غَالب الظَّن لصِحَّة الرِّوَايَة وَلم يرد الشَّرْع بِاعْتِبَار نَفيهَا فانها لَا تمنع من قبُول الحَدِيث وَكَون الرَّاوِي غير مجَالِس لأهل الْعلم لَا يقْدَح فِي ظننا صدقه
وَيُفَارق ذَلِك استفتاء من لم يُجَالس أهل الْعلم لِأَن جَوَاز الاستفتاء مَوْقُوف على كَون الْمُفْتِي من أهل الِاجْتِهَاد وَلنْ يكون الْإِنْسَان كَذَلِك إِلَّا بالتعلم ومجالسة الْعلمَاء إِلَّا أَنه إِذا تعَارض خبران أَحدهمَا يرويهِ من لم يُجَالس اهل النَّقْل وَالْآخر يرويهِ من جالسهم كَانَت رِوَايَة من جالسهم أولى لِأَن المكثر من مجالسة أهل الصَّنْعَة أخبر بهَا وَأعرف بتفاصيلها
وَيقبل حَدِيث الْإِنْسَان وَإِن اخْتلف فِي اسْمه مَتى عرفت عَدَالَته إِمَّا بِظَاهِر الْإِسْلَام وَإِمَّا بطريقة زَائِدَة وَإِذا روى زيد عَن عَمْرو خَبرا فَقَالَ عَمْرو لَا أذكر أَنِّي رويت هَذَا الحَدِيث فَعِنْدَ أبي الْحسن رَحمَه الله لَا يقبل الحَدِيث لِأَنَّهُ الأَصْل فِي الرِّوَايَة فاذا أنكرها لم يقبل وَكَذَلِكَ رد حَدِيث ربيعَة عَن الزُّهْرِيّ أَيّمَا امراة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل لِأَن الزُّهْرِيّ أنكر أَن يكون رَوَاهُ وَعند الشَّافِعِي وَغَيره أَنه يقبل لِأَن ثِقَة الرَّاوِي تَقْتَضِي قبُول حَدِيثه مَا أمكن وَيُمكن أَن يكون صَادِقا وَإِن لم يذكر الْمَرْوِيّ عَنهُ لِأَنَّهُ يجوز أَن ينسى أَنه رَوَاهُ فقد يحدث الْإِنْسَان بِحَدِيث من أَمر الدُّنْيَا ثمَّ يسهو عَنهُ وَيذكر بِهِ فَلَا(2/137)
يذكرهُ إِلَّا بعد زمَان طَوِيل وَرُبمَا لم يذكرهُ أصلا فاذا كَانَ كَذَلِك جَازَ للمروي عَنهُ أَن يرويهِ عَن الرَّاوِي كَمَا قَالَ الزُّهْرِيّ حَدثنِي ربيعَة عني فان قَالَ الْمَرْوِيّ عَنهُ مَا رويت هَذَا الحَدِيث جَازَ أَن يكون قَالَ ذَلِك بِحَسب ظَنّه فَلَا يرد الحَدِيث فان قَالَ أعلم أَنِّي مَا رويته فانه تعَارض ذَلِك رِوَايَة من روى عَنهُ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا ثِقَة فَيحْتَمل أَن يكون الْمَرْوِيّ عَنهُ قد رَوَاهُ ثمَّ نَسيَه وَيحْتَمل أَن يكون الرَّاوِي سَمعه من غَيره مِمَّن لَيْسَ بِثِقَة وأسنده إِلَى من أسْندهُ إِلَيْهِ سَهوا
فصل فِي أَن الْخَبَر لَا يرد إِذا كَانَ رَاوِيه وَاحِدًا
ذهب جلّ الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد إِلَى قبُول الْخَبَر وَإِن رَوَاهُ وَاحِد وَقَالَ أَبُو عَليّ إِذا روى العدلان خَبرا وَجب الْعَمَل بِهِ وَإِن رَوَاهُ وَاحِد فَقَط لم يجز الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِأحد شُرُوط مِنْهَا أَن يعضده ظَاهر أَو عمل بعض الصَّحَابَة أَو اجْتِهَاد أَو يكون منتشرا وَحكى عَنهُ قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه لم يقبل فِي الزِّنَا إِلَّا خبر اربعة كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلم تقبل شَهَادَة الْقَابِلَة الْوَاحِدَة
وَالدَّلِيل على القَوْل الاول قِيَاسه على أَخْبَار الْمُعَامَلَات على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع السّلف عمل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على خبر رَوَاهُ بِلَال وَعمل عمر على خبر حمل بن مَالك وعملت الصَّحَابَة على خبر أبي سعيد فِي الرِّبَا وعملت على خبر أبي رَافع فِي المخابرة وَكَانَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام يسْتَحْلف وَيقبل خبر ابي بكر بِغَيْر استحلاف وَلَيْسَ يجوز أَن يُقَال لَعَلَّهُم قبلوا مَا قبلوه لِأَن اجْتِهَادًا عضده لأَنهم كَانُوا يتركون اجتهادهم لبَعض هَذِه الْأَخْبَار وَكَانُوا لَا يرَوْنَ بالمخابرة بَأْسا حَتَّى رُوِيَ لَهُم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَنْهَا
وَحجَّة أبي عَليّ رَحمَه الله هِيَ الْمرجع فِي قبُول خبر الْوَاحِد إِلَى الشَّرْع وَقد رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْمل على خبر ذِي الْيَدَيْنِ حَتَّى سَأَلَ ابا بكر وَعمر وَقد اعْتبرت الصَّحَابَة الْعدَد فِي الْأَخْبَار فان ابا بكر لم يقبل خبر الْمُغيرَة فِي الْجدّة حَتَّى رَوَاهُ مَعَه مُحَمَّد بن مسلمة وَلم يعْمل عمر على خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان(2/138)
حَتَّى رَوَاهُ مَعَه غَيره وَلَا عمل على خبر فَاطِمَة بنت قيس وَلم يقبلا خبر عُثْمَان فِي رد الحكم وَقَالا إِنَّك شَاهد وَاحِد قَالَ فَعلمت أَن ذَلِك إِجْمَاع لِأَنَّهُ لم يُنكر عَلَيْهِم
الْجَواب أما رُجُوع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خبر ابي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي خبر ذِي الْيَدَيْنِ فان دلّ فانما يدل على اعْتِبَار ثَلَاثَة ابي بكر وَعمر وَذي الْيَدَيْنِ على أَن الْإِنْسَان قد يخبر عَن أُمُور الدُّنْيَا بِمَا يظنّ خِلَافه فَيرجع فِي تَحْقِيق ذَلِك إِلَى جمَاعَة استظهارا وطلبا لقُوَّة الظَّن فَلَا يدل على أَنه لَا يعول فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَّا على خبر جمَاعَة وَأما طلب الصَّحَابَة لراو آخر فانه لَا يدل على أَنهم اعتقدوا أَنه لَا يعْمل على الْوَاحِد لَو انْفَرد لِأَن الْحَاكِم قد يطْلب شَاهدا ثَالِثا ليقوي ظَنّه وَإِن كَانَ لَو لم يشْهد الثَّالِث عمل على شَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَقد يعْمل الانسان فِي امور الدُّنْيَا على خبر الْوَاحِد وَيطْلب فِي بعض الْأَشْيَاء مخبرا ثَانِيًا ليقوي ظَنّه وَقد يضعف الظَّن لصدق الرَّاوِي مرّة وَلَا يضعف لصدقه أُخْرَى وَقد ينْفَرد الْعدْل بالرواية لأمر مستبعد فِي الْعَادة أَو لأمر تَقْتَضِي الْعَادة أَن لَا ينْفَرد بروايته الْوَاحِد وَلَا يظنّ تَعَمّده بِهِ الْكَذِب لَكِن يظنّ بِهِ السَّهْو والغلط وَلَا يظنّ بِهِ ذَلِك مرّة اخرى إِذا انْتَفَت هَذِه الْأُمُور فاذا كَانَ طَرِيق قبُول خبر الْوَاحِد وَالِاجْتِهَاد فِي عَدَالَة الرَّاوِي وَضَبطه وَاخْتلفت الاحوال فِي ذَلِك وَوجدنَا الَّذين طلبُوا رَاوِيا آخر هم الَّذين لم يطلبوه فِي حَالَة اخرى علمنَا أَنهم إِنَّمَا طلبُوا مخبرا ثَانِيًا لتقوية الظَّن أَو لِأَنَّهُ اعتراضهم بعض مَا ذَكرْنَاهُ لَا لأَنهم اعتقدوا حظر الْعَمَل على خبر الْوَاحِد على أَنه رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ لأبي مُوسَى مَا اتهمتك وَلَكِنِّي خفت أَن يتقول النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد بَينا أَن ردة خبر فَاطِمَة بنت قيس إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ نسخ لكتاب الله عز وَجل وَإِنَّمَا لم يعْمل أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا على خبر عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي رد الحكم لِأَن ذَلِك شَهَادَة لِأَنَّهُ إِثْبَات حكم فِي عين لَا يتعداها أَلا ترى أَنَّهُمَا سميا ذَلِك شَهَادَة فَدلَّ ذَلِك على أَنه كَانَ شَهَادَة عِنْدهمَا(2/139)
وقاس أَبُو عَليّ رَحمَه الله الْخَبَر على الشاهدة لعِلَّة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا إِخْبَار عَن الْغَيْر يجب عِنْده الْعَمَل فَكَانَ من شَرطه الْعدَد وَهَذِه عِلّة غير مَعْلُومَة فَلَا يجوز الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا فِيمَا يجب فِيهِ الْعلم وَلَيْسَ يمْتَنع أَن تكون الشَّهَادَة إِنَّمَا شَرط فِيهَا الْعدَد لكَونهَا شَهَادَة وَلِهَذَا قبل فَتْوَى الْفَقِيه الْوَاحِد لما لم يكن شَهَادَة وَلِهَذَا لم يعْتَبر فِي الْمخبر مَا اعْتبر فِي الشَّاهِد من الْحُرِّيَّة
فصل فِي الْخَبَر إِذا أسْندهُ من أرسل غَيره من الْأَحَادِيث هَل يقبل أم لَا
أما من يقبل الْمَرَاسِيل فَلَا شُبْهَة فِي قبُوله واما من لم يقبل الْمَرَاسِيل فكثير مِنْهُم قبله ايضا قَالَ لِأَن إرْسَاله يخْتَص ذَلِك الْمُرْسل دون هَذَا الْمسند وَلَيْسَ إرْسَاله لذَلِك الْخَبَر بِأَكْثَرَ من تَركه رِوَايَته فَوَجَبَ قبُول مُسْنده إِلَّا أَن يُوهم فِيمَا أرْسلهُ أَنه سَمعه مِمَّن أسْندهُ إِلَيْهِ وأتى بِلَفْظ يُوهم ذَلِك فَجرى ذَلِك مجْرى كذبه فيقدح فِي أَمَانَته فَأَما إِذا قَالَ قَالَ فلَان فان ذَلِك لَا يُوهم أَنه سَمعه مِمَّن أسْندهُ إِلَيْهِ فَلَا يقْدَح فِي امانته
وَمِنْهُم من لم يقبل مَا اسنده قَالَ إِن إرْسَاله يدل على أَنه إِنَّمَا لم يذكر الرَّاوِي لضَعْفه فِي نَفسه فستره لَهُ وَالْحَال هَذِه خِيَانَة فَلم يقبل حَدِيثه
وَاخْتلف من قبل من حَدِيث الْمُرْسل مَا اسنده كَيفَ يقبله فَقَالَ الشَّافِعِي لَا يقبل من حَدِيثه إِلَّا مَا قَالَ فِيهِ حَدثنِي أَو سَمِعت وَلَا يقبل إِذا أَتَى بِلَفْظ موهم وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث لَا يقبل حَتَّى يَقُول سَمِعت فلَانا وَأَصْحَاب الحَدِيث يفرقون بَين أَن يَقُول الْإِنْسَان حَدثنِي فلَان أَو أَخْبرنِي فلَان فيجعلون الأول دَالا على أَنه شافهه بِالْحَدِيثِ ويجعلون الثَّانِي مترددا بَين المشافهة بِالْحَدِيثِ وَبَين أَن يكون قد أجَازه أَو كتب بِهِ إِلَيْهِ وَهَذِه عَادَة لَهُم وَإِلَّا فَظَاهر قَوْله أَخْبرنِي يُفِيد أَنه تولى إخْبَاره بِالْحَدِيثِ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بالمشافهة(2/140)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول كَيْفيَّة النَّقْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فصل فِي رِوَايَة الحَدِيث بِغَيْر لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل يرد لَهُ الحَدِيث أم لَا
إِذا رُوِيَ الحَدِيث بِلَفْظ غير لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان لم يسند مُسْنده بل زَاد أَو نقص أَو كَانَ أوضح مِنْهُ أَو أُخْفِي مِنْهُ فانه لَا يجوز ذَلِك لِأَن مَا زَاد على كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كذب عَلَيْهِ لَا يجوز قبُوله وَمَا نقص عَنهُ فانه إِمَّا أَن ينبىء عَن أَنه رفع حكما قد اثبته فَلَا يجوز قبُوله أَو يكون فِيهِ كتمان لحكم قد أثْبته وَالْكذب والكتمان محظوران وَلَا يجوز الْعُدُول إِلَى لفظ أظهر من لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أخْفى مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ان يتَعَلَّق الْمصلحَة بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْخَفي أَو الظَّاهِر أَلا ترى أَنه قد يجوز أَن يكون من الْمصلحَة أَن يعرف الحكم بِاللَّفْظِ الْجَلِيّ تَارَة وبالخفي أَو بِالْقِيَاسِ تَارَة وَإِن سد اللَّفْظ مسد لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان اشتبهت الْحَال فِيهِ حَتَّى يكون مَوضِع اجْتِهَاد لم يجز ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ان يكون لَو نقل لفظ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى غَيره أَن يكون اجْتِهَاد غَيره فِيهِ خلاف اجْتِهَاده وَإِن لم تشتبه الْحَال فِيهِ نَحْو قَول الْقَائِل جلس وَقعد فانه يجوز الْعُدُول عَن أَحدهمَا إِلَى الآخر وَيقبل الْخَبَر وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله لِأَنَّهُ إِن وَجب نقل الحَدِيث لأجل اللَّفْظ فَقَط دَفعه الْإِجْمَاع وَإِن وَجب لأجل اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَجب تِلَاوَة اللَّفْظ وَلَا دَلِيل فِي الْعقل وَلَا فِي الشَّرْع يَقْتَضِي كوننا متعبدين بِتِلَاوَة لفظ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَبَقيَ أَنه يجب نقل حَدِيثه لأجل الْمَعْنى وَهَذَا الْغَرَض حَاصِل وَإِن عدل الرَّاوِي إِلَى لفظ يقوم مقَام لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَفَارق الْأَذَان وَالتَّشَهُّد لِأَن الشَّرْع اقْتضى كوننا متعبدين بِتِلَاوَة ألفاظها فان قاسوا خطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّشَهُّد أعوزتهم على صَحِيحَة تجمع بَينهمَا وَلم يكن ذَلِك بِأولى من قِيَاسه على الشَّهَادَة وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصر الله امرء سمع مَقَالَتي فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب(2/141)
حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه لَا يمْنَع من نقل حَدِيثه على الْمَعْنى لِأَن من نقل الْمَعْنى يُقَال إِنَّه قد أدّى كَمَا سمع لِأَنَّهُ يُقَال للمترجم من لُغَة إِلَى لُغَة قد أدّى كَمَا سمع على أَنه لَو منع الْخَبَر من نقل الحَدِيث على الْمَعْنى لَكَانَ قد منع من ذَلِك فِيمَا يشْتَبه وَيجوز أَن يخْتَلف الِاجْتِهَاد فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه وَمَا لَا يشْتَبه من الْأَلْفَاظ وَلَا يخْتَلف اجْتِهَاد النَّاس فِي قيام بعضه مقَام بعض يَسْتَوِي فِيهِ النَّاقِص الْفِقْه والكامل الْفِقْه والفقيه وَغير الْفَقِيه وَلِهَذَا يجب أَن يكون النَّاقِل للْحَدِيث على الْمَعْنى من أهل الْعلم ليعلم مَا يشْتَبه الْحَال فِيهِ مِمَّا لَا يشْتَبه فِيهِ
فصل فِي الرِّوَايَة من كتاب
إِذا روى الرَّاوِي الحَدِيث من كِتَابه فَلهُ أَحْوَال
مِنْهَا أَن يعلم أَنه قَرَأَهُ على شَيْخه أَو حَدثهُ بِهِ وَيذكر أَلْفَاظ قِرَاءَته وَوقت ذَلِك فَلَا شُبْهَة فِي جَوَاز رِوَايَته وَالْأَخْذ بهَا وَكَذَلِكَ إِذا علم الرَّاوِي أَنه قَرَأَ جَمِيع مَا فِي الْكتاب أَو حَدثهُ بِهِ الرَّاوِي وَلم يذكر الفاظ الْقِرَاءَة وَلَا وَقت الْقِرَاءَة لِأَنَّهُ عَالم فِي الْحَال بِأَنَّهُ قَرَأَ جَمِيع مَا فِي الْكتاب أَو سَمعه مِمَّن حَدثهُ
وَمِنْهَا أَن يعلم أَنه مَا سمع مَا فِي الْكتاب أَو يظنّ ذَلِك أَو يجوز سَمَاعه وَيجوز نَفْيه على سَوَاء وَفِي ذَلِك كُله لَا يجوز لَهُ أَن يحدث بِهِ وَلَا يُؤْخَذ بروايته لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَن يخبر بِمَا يعلم أَنه كَاذِب فِيهِ أَو ظان أَو شَاك
وَمِنْهَا أَن لَا يذكر سَمَاعه لما فِي الْكتاب وَلَا قِرَاءَته لَهُ وَلكنه يغلب على ظَنّه سَمَاعه لَهُ أَو قِرَاءَته لما يرَاهُ من خطه فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون النَّاس قد اخْتلفُوا فِيهِ فَعِنْدَ أبي حنيفه رَحمَه الله لَا يجوز لَهُ أَن يرويهِ وَلَا يجوز الْعَمَل على رِوَايَته لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَقُول حَدثنِي فلَان وَهُوَ لَا يعلم أَنه حَدثهُ إِذا كَانَ ذَلِك حكما عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد حَدثهُ كَمَا لَا يجوز مثله فِي الشَّهَادَة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يجوز لَهُ الرِّوَايَة وَيجب الْعَمَل عَلَيْهَا لِأَن الصَّحَابَة(2/142)
كَانَت تعْمل على كتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو عَملهَا على كِتَابه إِلَى عَمْرو بن حزم من غير أَن يرويهِ لَهَا راو بل عمِلُوا لأجل الْخط وَأَنه مَنْسُوب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان ثَبت أَنَّهَا عملت عَلَيْهِ من غير رِوَايَة جَازَ أَن يروي الْإِنْسَان من كِتَابه إِذا غلب على ظَنّه سَمَاعه وَيكون إخْبَاره إِخْبَارًا عَن ظَنّه وَيجوز الْعَمَل عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الْمَرَاسِيل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْخَبَر الْمُرْسل هُوَ أَن يسمع الرجل الحَدِيث من زيد عَن عَمْرو فاذا رَوَاهُ قَالَ قَالَ عَمْرو وأضرب عَن ذكر زيد وَاخْتلف النَّاس فِي الرَّاوِي إِذا فعل ذَلِك وَكَانَ مِمَّن يقبل مُسْنده يقبل مرسله أَبُو حنيفَة وَمَالك وابو هَاشم على كل حَال وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح عنيت بالمتكلمين الَّذين قبلوا الْمَرَاسِيل ابا هَاشم دون من لم يقبل إِلَّا خبر اثْنَيْنِ وَقَالَ فِي الدَّرْس إِن أَبَا عَليّ يَقُول إِذا روى الحَدِيث اثْنَان رَوَاهُ أَحدهمَا عَن رجل بَصرِي لم يسمه وَرَوَاهُ الآخر عَن كُوفِي لم يسمه فانه يقبل وَلم يقبل أهل الظَّاهِر وَطَائِفَة من أَصْحَاب الحَدِيث الْمَرَاسِيل على كل حَال وَقبل قوم مَرَاسِيل من يقبل مُسْنده فِي حَال دون حَال وَهِي إِذا اخْتصَّ بِشُرُوط وَالشَّافِعِيّ اعْتبر أحد شُرُوط
مِنْهَا أَن يكون ذَلِك الْخَبَر قد أسْندهُ غير مرسله قَالَ قَاضِي الْقُضَاة هَذَا إِذا لم تقم الْحجَّة باسناد ذَلِك من الْمسند فَأَما إِن قَامَت الْحجَّة باسناده فَالْمُعْتَبر بِهِ دون الْمُرْسل
وَمِنْهَا أَن يكون قد أرْسلهُ راو آخر يروي عَن غير شُيُوخ الأول
وَمِنْهَا أَن يعضده قَول صَحَابِيّ
وَمِنْهَا أَن يعضده قَول أَكثر أهل الْعلم(2/143)
وَمِنْهَا أَن يكون الْمُرْسل مِمَّن لَا يُرْسل عَمَّن فِيهِ عِلّة من جَهَالَة وَغَيرهَا ثمَّ قَالَ وَمن هَذِه حَاله أحب أَن يقبل مرسله وَلَا أَسْتَطِيع أَن اقول إِن الْحجَّة تثبت بِهِ كثبوتها بالمتصل وَشرط عِيسَى بن ابان فِي قبُول الْمَرَاسِيل أَن يُرْسِلهُ صَحَابِيّ أَو تَابِعِيّ أَو تَابِعِيّ التَّابِعين أَو من أَئِمَّة أهل النَّقْل دون من سوى هَؤُلَاءِ
وَاحْتج من قبل الْمَرَاسِيل باشياء مِنْهَا إرْسَال الْمُرْسل مَعَ عَدَالَته يجْرِي مجْرى ذكره من أرسل عَنهُ وَقَوله هُوَ عدل عِنْدِي فِي الدّلَالَة على أَنه قد عدله وَلَو قَالَ ذَلِك لقبل حَدِيثه فَكَذَلِك إِذا أرسل وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن إرْسَاله يجْرِي مجْرى ذكره وتعديله لِأَنَّهُ مَعَ عَدَالَته لَا يستجيز أَن يخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَله الْإِخْبَار عَنهُ وَلَا يكون لَهُ الْإِخْبَار بذلك إِلَّا وَهُوَ عَالم أَو ظان لِأَن الْخَبَر بِمَا يجوز كَونه ونفيه على سَوَاء قَبِيح وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْزَام النَّاس عبَادَة أَو إطراح عبَادَة عَنْهُم من غير أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوجب ذَلِك أَو يَظُنّهُ فَبَان أَن عَدَالَته تَقْتَضِي مَا ذكرنَا وَأما أَن الرَّاوِي إِذا ذكر من رُوِيَ عَنهُ وَقَالَ هُوَ ثِقَة عِنْدِي لزم قبُول خَبره وَإِن لم يذكر أَسبَاب ثقته فَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين اصحاب أبي حنيفَة والشافهي وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْجرْح فَعِنْدَ أَصْحَاب ابي حنيفَة لَا يجب أَن يذكر الْإِنْسَان سَبَب الْجرْح وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يصير الْمَجْرُوح مجروحا إِلَّا بِذكر اسباب الْجرْح وَالْأَمر فِي التَّزْكِيَة ظَاهر فان اصحاب الحَدِيث يزكون الرجل من غير أَن يذكرُوا أَسبَاب عَدَالَته وَلِأَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يكون ثِقَة زكيا إِذا اجْتنب الْكَبَائِر وَلم يخل بالواجبات فَلَو وَجب ذكر أَعْيَان ذَلِك فِي طول الزَّمَان مَخَافَة أَن يكون فِيهَا مَا لَا تسلم مَعَه عَدَالَة الْإِنْسَان عِنْد السَّامع وَجب مَا يشق احصاؤه بل يتَعَذَّر إِن قيل إِنَّمَا لم يجب على الْمُزَكي ذكر اسباب الْعَدَالَة لهَذِهِ الْمَشَقَّة الَّتِي ذكرتموها وَذَلِكَ غير قَائِم فِي ذكر الْمخبر قيل هَذِه الْمَشَقَّة إِن ثَبت مَعهَا الظَّن لعدالة من زَكَّاهُ الْمُزَكي فَهُوَ غرضنا وَلَيْسَ سَبَب هَذَا الظَّن هَذِه الْمَشَقَّة وَإِنَّمَا سَببه عَدَالَة الْمُزَكي وَهَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ وَلَو لم تثبت مَعهَا عَدَالَته لم يجز الحكم بتزكيته لأجل الْمَشَقَّة إِذْ كَانَ الظَّن لعدالته غير حَاصِل فان قيل إِنَّمَا لم يجب على الْمُزَكي ذكر أَسبَاب عَدَالَة من زَكَاة(2/144)
لِأَنَّهُ يخبر عَن ظَنّه وَأما الْمخبر فانما يخبر عَن غَيره فَوَجَبَ ذكره قيل وَقد يكون الْإِنْسَان عدلا عِنْد الْمُزَكي بِأَن يُخبرهُ غَيره عَن عَدَالَته فَهُوَ كالمخبر وَأَيْضًا فان هَذَا فرق لَا يُؤثر فِي مَوضِع الْجمع وَذَلِكَ أَن الْمخبر إِنَّمَا أخبر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَرِيقه إِلَى ذَلِك غَيره كَمَا أَن ظن الْمُزَكي لعدالة من زَكَاة طَريقَة مَعْرفَته بِأَسْبَاب عَدَالَته فَكَمَا لم يجب ذكر ذَلِك لم يجب ذكر الْمخبر فان قيل يلزمكم على مَا ذكرْتُمْ أَن يجْرِي إضراب شُهُود الْفَرْع مَعَ عدالتهم عَن ذكر شُهُود الاصل مجْرى أَن يذكروهم ويعدلوهم وَأَن يلْزم الْحَاكِم الحكم بِشَهَادَتِهِم وَإِن لم يذكرُوا شُهُود الأَصْل كَمَا يلْزمه إِذا ذكروهم وعدلوهم الْجَواب إِن إضرابهم عَن ذكر شُهُود الأَصْل يجْرِي مجْرى مَا ذكرْتُمْ وَلَو تركنَا وَهَذَا الأَصْل لحكمنا بِشَهَادَتِهِم وَإِن لم يذكرُوا شُهُود الأَصْل لَكِن الدّلَالَة منعت من ذَلِك وَلَيْسَ يجب إِذا منعت الدّلَالَة من ذَلِك أَن يمْتَنع أَن يحكم بأخبار الْمَرَاسِيل كَمَا أَن الدّلَالَة قد دلّت على أَن من شَرط الحكم بِشَهَادَة شُهُود الْفَرْع أَن يحملهم شُهُود الأَصْل الشَّهَادَة فاعتبرنا قيام الدّلَالَة على ذَلِك وَلم نعتبره فِي غير هَذَا الْموضع لِأَنَّهُ لَو لم تقم الدّلَالَة على ذَلِك لأجرينا الشَّهَادَة على الشَّهَادَة مجْرى الشَّهَادَة على الْإِقْرَار وَلَا يشرط فِيهِ أَن يحملهم الشُّهُود الشَّهَادَة كَمَا لَا يشرط أَن يحملهم الْمقر الشَّهَادَة على إِقْرَاره إِن قيل أَلَيْسَ لَو ثَبت عَدَالَة الشُّهُود عِنْد الْحَاكِم لم يسْقط النّظر فِي عدالتهم عَن حَاكم آخر فَهَلا كَانَ ثُبُوت عَدَالَة من أرْسلهُ الْمخبر عِنْده لَا يسْقط عَن غَيره النّظر فِي عَدَالَته قيل فَيجب لَو ذكر الْمخبر من أخبر عَنهُ وعدله أَن لَا يسْقط عَن السَّامع للْخَبَر النّظر فِي عَدَالَته كَمَا لم يسْقط عَن القَاضِي الثَّانِي النّظر فِي عَدَالَة الشُّهُود وَإِن ذكرُوا عِنْده فَلَمَّا لم يجز ذَلِك علمنَا مُفَارقَة الشَّهَادَة للْخَبَر
وَمِنْهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة حُكيَ عَن الْبَراء بن عَازِب أَنه قَالَ لَيْسَ كل مَا حَدَّثْنَاكُمْ بِهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمعناه مِنْهُ غير أَنا لَا نكذب وَرُوِيَ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ فَلَمَّا سُئِلَ عَن ذَلِك ذكر أَن الْفضل بن عَبَّاس أخبرهُ بذلك وَرُوِيَ ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم =(2/145)
أَنه قَالَ لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة ثمَّ أسْندهُ إِلَى أُسَامَة وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى رمي جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ اسند ذَلِك إِلَى الْفضل بن عَبَّاس فَلَو لم يجز الْعَمَل على الْمَرَاسِيل لَكَانَ الْمُرْسل إِذا لم يبين أَنه قد أرسل الحَدِيث جرى مجْرى أَن يروي عَن فَاسق أَو كَافِر على وَجه يُوهم أَنه عدل وَلَا يبين أَنه كَافِر فِي أَن ذَلِك مُنكر وَلَو كَانَ مُنْكرا لأنكروه وَلما اجْتَمعُوا على ترك إِنْكَاره وَمَعْلُوم أَن من أرسل وَمن لم يُرْسل لم يُنكر ذَلِك إِن قيل أَلَيْسَ قد كَانَ عَليّ ابْن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام يسْتَحْلف من يُخبرهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو سَمعه من غَيره عَنهُ وَيجوز أَن يكون حلفه هَل سمع الحَدِيث فِي الْجُمْلَة أم لَا على أَن استحلافه إِنَّمَا كَانَ استظهارا لِأَن أحدا لَا يشرط ذَلِك فِي حَدِيث الثِّقَة وَلِهَذَا لم يسْتَحْلف أَبَا بكر عَلَيْهِ السَّلَام على أَن ذَلِك لَا يعْتَرض دليلنا لِأَن دليلنا هُوَ أَنهم لما عرفُوا أَن بَعضهم أرسل لم ينكروا عَلَيْهِ وَلم يرو أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام أنكر عَلَيْهِم إِن قيل مَا ذكرتموه من الْأَخْبَار الدَّالَّة على أَنهم أرْسلُوا هِيَ أَخْبَار آحَاد غير مؤدية إِلَى الْعلم فَالْجَوَاب ان كل وَاحِد مِنْهَا وَإِن كَانَ خبر وَاحِد فان مجموعها متواتر وَلقَائِل أَن يَقُول إِن مَا ذكرتموه أَخْبَار يسيرَة وَلَا يصير مَعْنَاهَا متواتر بِهَذَا الْقدر أَلا ترى أَن الْخَبَر الْوَاحِد لَو رَوَاهُ ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة لم يكن متواترا فالأخبار الثَّلَاثَة وَالْأَرْبَعَة أولى أَن لَا يكون مَعْنَاهَا متواترا فَلَا يَصح الِاحْتِجَاج بهَا إِلَّا ان يُقَال إِنَّه يجوز أَن يحْتَج بأخبار الْآحَاد فِي إِثْبَات مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْعَمَل دون الْعلم
وَمِنْهَا أَنه لَو لم يقبل الْخَبَر الْمُرْسل لما قبل إِذا جَوَّزنَا كَونه مُرْسلا حَتَّى إِذا قَالَ الرَّاوِي عَن فلَان لم يقبل حَدِيثه لجَوَاز أَن يكون مَا سمع مِنْهُ لكنه أخبر عَنهُ وَلقَائِل أَن يَقُول لَا يقبل الحَدِيث إِلَّا أَن يظنّ أَنه غير مُرْسل نَحْو أَن يَقُول حَدثنَا فلَان أَو سَمِعت فلَانا أَو عَن فلَان وَيكون قد أَطَالَ صحبته لِأَن ذَلِك أَمارَة تدل على أَنه قد سَمعه مِنْهُ وَمَتى لم يعلم أَنه صَحبه لم يكن قَوْله عَن فلَان أَمارَة على أَنه سَمعه مِنْهُ فَلَا يقبل حَدِيثه
وَاحْتج من لم يقبل أَخْبَار الْمَرَاسِيل بأَشْيَاء(2/146)
مِنْهَا أَن ترك الرَّاوِي لذكر من حَدثهُ يتَضَمَّن جَهَالَة عينه وَصفته فاذا كَانَ لَو ذكر اسْمه فَعرف السَّامع عينه وَلم يعرف عَدَالَته لم يجز لَهُ الْعَمَل بحَديثه فَأولى أَن لَا يجوز لَهُ قبُوله إِذا لم يعرف عينه وَلَا عَدَالَته وَالدَّلِيل على أَن ترك ذكره للراوي يتَضَمَّن جَهَالَة عَدَالَته أَن عَدَالَته إِن عرفناها بِذكرِهِ فالمرسل مَا ذكره وَإِن عرفناها بِأَن الثِّقَة لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة فَهَذَا لَا يَصح لِأَن كثيرا من الثِّقَات قد أرْسلُوا عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة وَلِأَن الْإِنْسَان قد يكون ثِقَة عِنْد إِنْسَان وَلَا يكون ثِقَة عِنْد إِنْسَان آخر فَلَا يمْتَنع لَو عرفنَا من لم يذكرهُ الْمُرْسل لما كَانَ ثِقَة عندنَا وَالْجَوَاب إِن إرْسَال الْمُرْسل لَا يتَضَمَّن جَهَالَة صفة من لم يذكرهُ لِأَن نَفْيه يشْهد بعدالة من أرسل عَنهُ وَقَوْلهمْ إِن الْعدْل قد يُرْسل عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة لَا يقْدَح فِيمَا قُلْنَاهُ لِأَن من أرسل عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة إِن كَانَ قد عرف أَنه غير ثِقَة فَذَلِك يقْدَح فِي عَدَالَته كَمَا أَنه إِذا ذكره وَقَالَ هُوَ ثِقَة عِنْدِي وَعلمنَا أَنه لم يكن عِنْده ثِقَة فانه يقْدَح فِي عَدَالَته وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي أَن الظَّاهِر وَالْغَالِب مِمَّن ظَاهره الْعَدَالَة أَنه لَا يزكّى من يعْتَقد أَنه غير زكي كَذَلِك الْغَالِب مِمَّن هُوَ ثِقَة فِي الظَّاهِر أَنه لَا يُرْسل إِلَّا عَمَّن هُوَ ثِقَة عِنْده وَالْغَالِب لَا يَزُول بالنادر وَإِن كَانَ قد ارسل عَنهُ وَهُوَ ثِقَة عِنْده وَبَان لنا انه لَيْسَ بِثِقَة فَذَلِك لَا يقْدَح أَيْضا فِي أَن الظَّاهِر من كَونه ثِقَة عِنْده أَن يكون ثِقَة فِي نَفسه وَإِن جَازَ خِلَافه لِأَن الْغَالِب لَا يبطل بتجويز خِلَافه كَمَا أَنه لَو قَالَ هُوَ عدل عِنْدِي جَازَ لَو فحصنا نَحن عَنهُ أَن لَا يكون عدلا عندنَا وَلَا يمْتَنع ذَلِك من أَن الظَّاهِر من تزكيته أَنه زكي فِي نَفسه وَأَنه لَا يجب علينا الفحس عَنهُ وَقَوْلهمْ إِذا لم يجز قبُول الْخَبَر إِذا سمى الْمخبر من سمع مِنْهُ مَتى لم يعرف عَدَالَته فبأن لَا يجوز ذَلِك إِذا لم يعرف عينه وَلَا عَدَالَته أولى فَالْجَوَاب عَنهُ أَن مِمَّن يقبل الْمَرَاسِيل من يَقُول إِذا سمى الرَّاوِي من روى عَنهُ وَلم يقل هُوَ عدل عِنْدِي فقد زَكَّاهُ وَيجب قبُول حَدِيثه وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يسْقط النّظر فِي الْمُحدثين مَعَ كَثْرَة الْفساد فِي النَّاس إِذا ذكر الْمُحدث من روى عَنهُ لِأَن عَدَالَته تَقْتَضِي ثِقَة من سمع مِنْهُ وثقة من سمع مِنْهُ تَقْتَضِي عَدَالَة من سمع(2/147)
مِنْهُ هَكَذَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه إِذا ذكر اسْمه لم يسْقط عَنَّا النّظر فِي عَدَالَته وَإِذا لم يذكر اسْمه سقط النّظر فِي عَدَالَته لِأَنَّهُ إِذا لم يذكر عينه فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد حكم بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك وألزمنا تِلْكَ الْعِبَادَة وَلَيْسَ لَهُ أَن يحكم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء إِلَّا وَهُوَ عَالم أَو ظان لَهُ وَلَا يظنّ ذَلِك إِلَّا والراوي ثِقَة عِنْده وَلِأَنَّهُ لما لم يذكر الرَّاوِي لم يمكنا من النّظر فِي عَدَالَته وَإِذا ذكر الرَّاوِي الَّذِي سمع مِنْهُ الحَدِيث فانه لم يحكم بِهِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا منعنَا من النّظر فِي عَدَالَته بل قد مكننا من النّظر فِي ذَلِك إِذْ كَانَ قد ذكره
وَمِنْهَا أَن الشَّاهِدين إِذا كَانَا عَدْلَيْنِ لم يجز أَن يشهدَا على شَهَادَة شَاهِدين يخفيان ذكرهمَا وهما غير عَدْلَيْنِ عِنْدهمَا وَمَعَ ذَلِك لم يجر إضرابهما عَن ذكر شُهُود الأَصْل مجْرى ذكرهمَا وتزكيتهما وَالْجَوَاب إِن عَدَالَة الشَّاهِدين تَقْتَضِي غَلَبَة الظَّن بِثِقَة من شَهدا على شَهَادَته إِذا لم يذكراه فقد التزمنا فِي الشَّهَادَة مثل مَا قُلْنَاهُ فِي الْخَبَر وَلَو تركنَا وَهَذَا الأَصْل لحكمنا بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة من غير أَن نذْكر شُهُود الأَصْل على مَا تقدم بَيَانه فان قيل فيلزمكم أَن لَا تحكموا بالْخبر الْمُرْسل وَإِن كَانَ غلب على ظنكم عَدَالَة من أخبر عَنهُ الْمخبر كَمَا لم تحكموا بِشَهَادَة شُهُود فِي الْفَرْع وَإِن غلب على ظنكم عَدَالَة شُهُود الأَصْل وَالْعلَّة الجامعة بَينهمَا أَن كل وَاحِد من الشُّهُود والمخبرين يسندون إِلَى غَيرهم مَا يلزمون بِهِ حكما للْغَيْر فَلم يلْزم الحكم إِلَّا بِذكر من يسندون إِلَيْهِ قيل لسنا نعلم أَن الْعلَّة مَا ذكرْتُمْ وَلَيْسَ يجوز أَن يتَوَصَّل إِلَى الْعلم بعلة غير مَعْلُومَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون قد اعْتبر فِي الشَّهَادَة ضرب من الِاحْتِيَاط فَلم يقنع فِيهَا إِلَّا بِذكر شُهُود الأَصْل كَمَا اعْتبر فِيهَا الْحُرِّيَّة وَالْعدَد وَأَن يحمل شُهُود الأَصْل الشَّهَادَة شُهُود الْفَرْع وَقد قَالَ الشَّيْخ ابو عبد الله رَحمَه الله إِن الْقيَاس يمْنَع من الحكم بِالشَّهَادَةِ فَلم يجز قِيَاس الْمَرَاسِيل على ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز الْقيَاس على الْمَخْصُوص من جملَة الْقيَاس والمخالف لَا يسلم قَوْله إِن الحكم بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَيسلم أَنه لَا يجوز الْقيَاس على الْمَخْصُوص(2/148)
من جملَة الْقيَاس على أَن من يقيس الْمَرَاسِيل على الشَّهَادَة على الشَّهَادَة إِنَّمَا يقيس عَلَيْهَا فِي الْمَنْع لَا فِي جَوَاز الحكم فَلم يكن قائسا عَلَيْهَا من الْوَجْه الَّذِي منع مِنْهُ الْقيَاس وَقد فرق بَين الْمَرَاسِيل وَبَين الشَّهَادَة على الشَّهَادَة فَقيل إِن الْحَاكِم إِنَّمَا يحكم بِشَهَادَة شُهُود الأَصْل فَلهَذَا وَجب ذكرهم ولمخالفهم أَن يَقُول وَالْحكم بِلُزُوم الْعِبَادَة إِنَّمَا يَقع بِخَبَر الأول فَيجب ذكره فان قَالُوا كَيفَ نقُول ذَلِك وَعِنْدنَا أَنه لَا يجب ذكر الْمخبر الأول قيل إِنَّكُم تعلقون لُزُوم الْعِبَادَة بالمخبر الأول وَلِهَذَا تعتبرون عَدَالَته وتستدلون عَلَيْهِمَا بارسال الْمخبر الثَّانِي مَعَ عَدَالَته على أَنه إِن كَانَ لُزُوم الْعِبَادَة لَا يتَعَلَّق بالمخبر الأول لِأَنَّهُ لَا يجب ذكره فقد صَار ذَلِك تَابعا لكَونه غير وَاجِب ذكره فقد فرقتم بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِمَا هُوَ مَبْنِيّ على مَوضِع الْخلاف لِأَن مَوضِع الْخلاف هُوَ أَنه لَا يجب ذكر الْمخبر الأول وَكَون الْمخبر الأول لَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم وَالْعِبَادَة تَابع لذَلِك وَبِه فرقتم بَين الشَّهَادَة وَالْخَبَر وَقد فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْضا بِأَن شُهُود الْفَرْع وكلاء شُهُود الأَصْل لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُم أَن يشْهدُوا على شَهَادَتهم إِذا سمعوهم يشْهدُونَ حَتَّى يحملوهم الشَّهَادَة كَمَا لَا يجوز للْوَكِيل التَّصَرُّف إِلَّا بعد أَن يؤكله المؤكل وَهَذَا فرق غير مُؤثر لِأَن المحتج جمع بَين الشَّهَادَة وَالْخَبَر بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذكرهَا خَصمه فِي الْمَرَاسِيل وَهِي أَن عَدَالَة الرَّاوِي تَقْتَضِي أَنه مَا أرسل الحَدِيث إِلَّا وَهُوَ على غَايَة الثِّقَة بعدالة من أخبر عَنهُ وَهَذِه الْعَدَالَة قَائِمَة فِي الشُّهُود على مَا بَيناهُ
وَمِنْهَا أَنه لَو جَازَ الْعَمَل على الْمَرَاسِيل لم يكن لذكر أَسمَاء الروَاة والفحص عَن عدالتهم معنى وَالْجَوَاب أَن لَهُ معنى من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِذا ذكرهم الرَّاوِي أمكن السَّامع الفحص عَن عدالتهم فَيكون لظَنّه لعدالتهم آكِد من ظَنّه لعدالتهم لأجل إرْسَال الْمُرْسل لِأَن طمأنينة الْإِنْسَان إِلَى فحصه وخبرته أقوى من طمأنينته إِلَى خبر غَيره وَهَذَا الْجَواب يَقْتَضِي تَرْجِيح الْمسند على الْمُرْسل وَالْآخر أَن الرَّاوِي للْحَدِيث قد يشْتَبه عَلَيْهِ حَال من أخبرهُ فَلَا يقدم على تزكيته وَلَا على جرحه فيذكر ليفحص غَيره عَنهُ(2/149)
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو وَجب الْعَمَل بالمراسيل للزمنا فِي عصرنا هَذَا أَن نعمل على قَول الْإِنْسَان قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا وَإِن لم يذكر الروَاة الْجَواب إِن ذكر الْخَبَر إِن كَانَ مَعْرُوفا فِي جملَة الْأَحَادِيث فقد عرفت رُوَاته وَإِن لم يكن مَعْرُوفا لم يقبل لَا لِأَنَّهُ مُرْسل بل لِأَن الْأَحَادِيث قد ضبطت وجمعت فَمَا لَا يعرفهُ أَصْحَاب الحَدِيث مِنْهَا فِي وقتنا هُوَ كذب فان كَانَ الْعَصْر الَّذِي أرسل فِيهِ الرَّاوِي عصرا لم يضْبط فِيهِ السّنَن قبل مرسله
فَأَما قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْمُرْسل يقبل إِذا أسْندهُ الْمُرْسل أَو أسْندهُ غَيره فان أَرَادَ أَنه يقبل وَالْحجّة هُوَ الْخَبَر الْمسند فَصَحِيح على أَصله وَلَا تَأْثِير للمرسل وَإِن أَرَادَ أَنه يصير الْمُرْسل حجَّة فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن مَا لَيْسَ بِحجَّة لَا يصير حجَّة إِذا اقترنت بِهِ حجَّة كَمَا أَن خبر الْوَاحِد لَا يصير طَرِيقا إِلَى الْعلم وَإِن عضدته آيَة أَو خبر متواتر وَأما قَوْله إِنَّه يعْمل على خبر الْمُرْسل إِذا أرْسلهُ غَيره مِمَّن يروي عَن غير مشائخه فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ يجوز أَن يَنْضَم مَا لَيْسَ بِحجَّة إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة فَيصير حجَّة إِذْ كل وَاحِدَة من الرِّوَايَتَيْنِ مُرْسلَة وَكَذَلِكَ قَوْله إِذا عضد الْمُرْسل قَول بعض الصَّحَابَة أَو فَتْوَى أَكثر أهل الْعلم لِأَن ذَلِك غير حجَّة وَلَا يصير الْمُرْسل بِهِ حجَّة فان جعل قَول بعض الصَّحَابَة حجَّة فَالْكَلَام عَلَيْهِ مَا تقدم
وَقد حكى بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ أَنه خص مَرَاسِيل الصَّحَابَة بِالْقبُولِ وَحكى قَاضِي الْقُضَاة عَنهُ أَنه قَالَ إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا قبلت ذَلِك إِلَّا أَن أعلم أَنه أرْسلهُ وَالدَّلِيل على بطلَان تَخْصِيص الصَّحَابَة بذلك أَن مَا دلّ على قبُول الْمَرَاسِيل يشْتَمل من كَانَ عدلا من الروَاة صحابيا كَانَ أَو غَيره وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ لَا يدل على أَن غَيرهم لَا يقبل مرسله كَمَا لَا يدل على أَن غَيرهم لَا يقبل مُسْنده وَقَوْلهمْ إِن الصَّحَابِيّ لَا يُطلق القَوْل بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا إِلَّا وَقد سَمعه أَو حَدثهُ عَنهُ الثِّقَة فانه يُقَال لَهُم وَلم وَجب ذَلِك فيهم(2/150)
فان قَالُوا لعدالتهم قيل فَهَذِهِ الْعلَّة حَاصِلَة فِي غَيرهم من الْعُدُول فان قَالَ الظَّاهِر من قَول الصَّحَابِيّ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذَا أَنه سَمعه مِنْهُ قيل فقد قبلتموه على أَنه مُسْند لَا على أَنه مُرْسل على أَنه يُمكن أَن يَقُول الصَّحَابِيّ بَلغنِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كَذَا وَكَذَا أَو سَمِعت أَنه قَالَ كَذَا فيتصور الْمَسْأَلَة فِي هَذَا الْموضع
فصل فِي الحَدِيث إِذا أرسل مرّة وَأسْندَ مرّة اخرى أَو ألحق بِالنَّبِيِّ مرّة وَجعل مَوْقُوفا على صَحَابِيّ مرّة
إِذا أسْند الرَّاوِي الحَدِيث وأرسله غَيره فَلَا شُبْهَة فِي قبُول من يقبل الْمَرَاسِيل لَهُ وَمن لَا يقبلهَا أَيْضا بجعله مُسْندًا لِأَن عَدَالَة الْمسند تَقْتَضِي ذَلِك إِذا لم يعارضها معَارض وَلَيْسَ فِي إرْسَال الْمُرْسل مَا يُعَارض إِسْنَاده لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون إِنَّمَا أرسل غَيره الْخَبَر لِأَنَّهُ سَمعه مُرْسلا وسَمعه هَذَا مُسْندًا أَو لِأَنَّهُ سَمعه الْمُرْسل مُسْندًا ثمَّ نسي رَاوِيه بِعَيْنِه وَعلم ثقته فِي الْجُمْلَة فَأرْسلهُ لهَذَا الْوَجْه أَو أرْسلهُ لمعرفته بِثِقَة من رَوَاهُ بِعَيْنِه وَأما إِذا أرْسلهُ هُوَ فِي وَقت آخر فان ذَلِك لَا يمْنَع من جعله مُسْندًا أَيْضا لِأَنَّهُ يجوز أَن يُرْسِلهُ فِي وَقت آخر لهَذِهِ الْأُمُور
وَأما إِذا وصل الرَّاوِي الحَدِيث بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوَقفه الآخر على صَحَابِيّ فانه يَجْعَل مُتَّصِلا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَوَاز أَن يكون بعض الصَّحَابَة سمع ذَلِك الْخَبَر من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَوَاهُ مرّة عَنهُ وَذكره مرّة اخرى عَن نَفسه على سَبِيل الْفَتْوَى فَسَمعهُ بعض النَّاس يسْندهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَمعه الآخر يُفْتِي بِهِ عَن نَفسه فَرَوَاهُ كل وَاحِد مِنْهُمَا على مَا سمع وَيجوز أَن يكون أحد الراويين سمع الصَّحَابِيّ يسند الْخَبَر إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نسي أَنه أسْندهُ إِلَيْهِ وتوهم أَنه ذكره عَن نَفسه فَجعله مَوْقُوفا عَلَيْهِ
فَأَما إِذا وصل الرَّاوِي الحَدِيث بِالنَّبِيِّ مرّة وَجعله هُوَ مَوْقُوفا على بعض(2/151)
الصَّحَابَة مرّة فانه يَجْعَل أَيْضا مُتَّصِلا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَوَاز أَن يكون سَمعه من الصَّحَابِيّ تَارَة عَن نَفسه وَتارَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيجوز أَن يكون سَمعه مُتَّصِلا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ نسي أَنه سَمعه مُتَّصِلا فَرَوَاهُ مَوْقُوفا فان كَانَ الرَّاوِي وَقفه وأرسله زَمَانا طَويلا ثمَّ أسْندهُ أَو وَصله بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فانه يبعد أَن ينساه هَذَا الزَّمَان الطَّوِيل ثمَّ يذكرهُ إِلَّا أَن يكون عِنْده كتاب يرجع إِلَيْهِ فيذكر بِهِ مَا ينسيه الزَّمَان الطَّوِيل
فصل فِي التَّدْلِيس
إِذا روى الرَّاوِي الْخَبَر عَن رجل يعرف باسم فَلم يذكرهُ بذلك الِاسْم وَذكره باسم لَا يعرف بِهِ فان كَانَ فعل ذَلِك لضَعْفه وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل أَن يقبل حَدِيثه فقد غش النَّاس وخانهم وَذَلِكَ قَادِح فِي الظَّن لأمانته فِيمَا يرويهِ وَلَا يقبل حَدِيثه وَإِن كَانَ فعل ذَلِك لصِغَر سنّ من روى عَنهُ لَا لِأَنَّهُ غير ثِقَة فان من يَقُول ظَاهر الْإِسْلَام الْعَدَالَة يقبل هَذَا الحَدِيث وَمن يَقُول لَا بُد من فحص عَن الْعَدَالَة بعد الْمعرفَة باسلام الرَّاوِي فَمن لم يقبل الْمَرَاسِيل من هَؤُلَاءِ يجب أَن لَا يقبل ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من جَهله بِعَيْنِه أَن يفحص عَن عَدَالَته كَمَا لَا يتَمَكَّن ذَلِك فِي الْمُرْسل وَمن يقبل الْمَرَاسِيل يلْزمه قبُوله لِأَن عَدَالَة الرَّاوِي تَقْتَضِي أَنه مَا ترك ذكره بِالِاسْمِ الْمَعْرُوف وَمنع بذلك من الفحص عَن عَدَالَته إِلَّا وَهُوَ عدل ثِقَة فَجرى مجْرى تعديله بالتصريح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول مَا يرجع إِلَى الْمخبر عَنهُ مِمَّا يُؤثر فِي الْخَبَر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فصل فِي الْخَبَر إِذا كَانَ مُقْتَضَاهُ بِخِلَاف مُقْتَضى الْعقل
اعْلَم أَن الْعقل إِذا منع من الشَّيْء فإمَّا أَن يمْنَع مِنْهُ بِشَرْط أَو بِغَيْر شَرط فان منع مِنْهُ بِشَرْط نَحْو إيلام الْحَيَوَان إِذا كَانَ مَحْضا لَا نفع فِيهِ فانه يقبل(2/152)
خبر الْوَاحِد باباحته وَيعلم أَنه غير مَحْض وَأَنه فِيهِ مَنْفَعَة وَإِن منع الْعقل من الشَّيْء بِغَيْر شَرط نَحْو مَنعه من حسن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَمَتَى ورد خبر بِخِلَاف ذَلِك فَإِن أمكن تَأْوِيله من غير تعسف جَوَّزنَا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وعنى التَّأْوِيل الصَّحِيح وَإِن لم يُمكن تَأْوِيله إِلَّا بتعسف لم يجز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه على ذَلِك الْوَجْه لِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّأْوِيل مَعَ التعسف بَطل التَّنَاقُض من الْكَلَام كُله وَيجب فِيمَا لَا يُمكن تَأْوِيله الْقطع على ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقلهُ وَإِن كَانَ قَالَه فَإِنَّمَا قَالَ حِكَايَة عَن الْغَيْر أَو مَعَ زِيَادَة أَو نُقْصَان يخرج بهما من الإحالة
وَإِنَّمَا لم يقبل ظَاهر الْخَبَر فِي مُخَالفَة مُقْتَضى الْعقل لأَنا قد علمنَا بِالْعقلِ على الْإِطْلَاق أَن الله عز وَجل لَا يُكَلف مَا لَا يُطَاق وَأَن ذَلِك قَبِيح فَلَو قبلنَا الْخَبَر فِي خِلَافه لم يخل إِمَّا أَن نعتقد صدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك فيجتمع لنا صدق النقيضين أَو لَا نصدقه فنعدل عَن مَدْلُول المعجز وَذَلِكَ محَال
فصل فِي خبر الْوَاحِد إِذا رفع مُقْتَضى الْكتاب أَو سنة متواترة
اعْلَم أَن خبر الْوَاحِد إِنَّمَا يكون رَافعا للْكتاب إِذا نفى أَحدهمَا مَا اثبته الآخر على الْحَد الَّذِي أثْبته أَو أثبت أَحدهمَا ضد مَا أثْبته الآخر على الْحَد الَّذِي أثْبته فَالْأول نَحْو أَن يَقُول فِي أَحدهمَا ليصل فلَان فِي الْوَقْت الْفُلَانِيّ فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ على الْوَجْه الْفُلَانِيّ وَينْهى فِي الآخر عَن هَذِه الصَّلَاة على هَذَا الْحَد وَالثَّانِي أَن يامر بِتِلْكَ الصَّلَاة فِي مَكَان آخر فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه فان كَانَ الْخَبَر يُنَافِي الْكتاب من غير نسخ لم يجز قبُوله لأَنا قد علمنَا أَن الله تَعَالَى قد تكلم بِالْآيَةِ وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تكلم بِمَا تَوَاتر من نَقله عَنهُ فَلَو أَخذنَا بِخَبَر الْوَاحِد لَكنا قد تركنَا بِالْجُمْلَةِ مَا قد علمنَا أَن الله عز وَجل قَالَه وعدلنا إِلَى مَا لَا نعلم أَنه صدق
إِن قيل هلا قُلْتُمْ إِن الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالْآيَةِ مقتضاها بِشَرْط أَن لَا يعارضها خبر وَاحِد قيل فَهُوَ عَالم بمعارضة خبر الْوَاحِد لَهُ فَلَا يجوز هَذَا(2/153)
الإشراط لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يَأْمر بِشَرْط وَيجب الْقطع على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقل ذَلِك الْخَبَر أَو قَالَه على سَبِيل الْحِكَايَة عَن الْغَيْر أَو مَعَ زِيَادَة أَو نُقْصَان ينفيان الْمُعَارضَة وَكَذَلِكَ إِذا عَارض الْإِجْمَاع خبر وَاحِد فان أمكن تَأْوِيل الْخَبَر مَعَ الْآيَة على وَجه النّسخ فالعقل يجوز النّسخ كالتخصيص وَعند أَصْحَابنَا أَن الشَّرْع منع من النّسخ بِهِ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنه يظنّ أَن بَين عِيسَى بن أبان وَبَين الشَّافِعِي رحمهمَا الله خلافًا فِي قبُول أَخْبَار الْآحَاد إِذا خَالَفت ظَاهر الْكتاب وَقَالَ وَيُشبه أَن يكون الْخلاف بَينهمَا فِي عرض خبر الْوَاحِد على الْكتاب إِذا تكاملت شَرَائِطه فَعِنْدَ الشَّافِعِي أَنه لَا يعرض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يكمل شَرَائِطه إِلَّا وَهُوَ غير مُخَالف للْكتاب وَعند عِيسَى بن أبان أَنه يجب عرضه عَلَيْهِ حَتَّى يعْمل عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمارَة فَيجوز أَن يخطىء وَيجوز أَن يُصِيب فَلَا يمْتَنع أَن يُخَالف الْكتاب فَلَا يعلم إِذن تكامله شَرَائِطه إِلَّا إِذا علم أَنه لَا يُعَارض الْكتاب وَالْكَلَام فِيمَا يكون نسخا وَمَا لَا يكون نسخا وَفِي الزِّيَادَة هَل هِيَ نسخ أم لَا قد مضى فِي النَّاسِخ والمنسوخ وَلَا شُبْهَة فِي أَن النَّاسِخ من حَقه أَن يكون غير مُقَارن فان علم أَن خبر الْوَاحِد الرافع لبَعض حكم الْآيَة إِمَّا بِالزِّيَادَةِ أَو بغَيْرهَا مُقَارن لم يكن نسخا وَإِن علم أَنه غير مُقَارن لم يقبل وَإِن شكّ فِيهِ قبل عِنْد قَاضِي الْقُضَاة لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا رفعت بعض أَحْكَام الْقُرْآن لأخبار الْآحَاد وَلم تسْأَل هَل كَانَت مُقَارنَة أم لَا فَأَما مُعَارضَة أقاويل أَكثر الصَّحَابَة فَلَا يمْنَع من قبُوله لِأَن قَول أَكْثَرهم لَيْسَ بِحجَّة
فصل فِي الحكم إِذا اقْتضى عُمُوم الْكتاب فِيهِ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ خبر الْوَاحِد
اخْتلف مثبتو التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد فِي جَوَاز تَخْصِيص الْقُرْآن وَالسّنة المتواترة فَمنع قوم من ذَلِك على كل حَال وَأَجَازَهُ مُعظم الْفُقَهَاء على كل حَال وَمنع مِنْهُ قوم فِي حَال دون حَال فَقَالَ عِيسَى بن أبان إِذا دخلهما التَّخْصِيص من(2/154)
وَجه جَازَ تخصيصهما بِخَبَر الْوَاحِد لِأَنَّهُمَا يصيران مجملين ومجازين بالتخصيص الأول وَإِذا لم يدخلهما التَّخْصِيص من وَجه آخر لم يجز تخصيصهما وَشرط قوم فِي جَوَاز تخصيصهما بأخبار الْآحَاد أَن يكون التَّخْصِيص قد دخلهما بِدَلِيل مُنْفَصِل
وَالدَّلِيل على تَخْصِيص الْقُرْآن بذلك أَن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الظَّن وَالْعقل يَقْتَضِي الْعَمَل على الظَّن فِي الْمَنَافِع والمضار فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ وَإِن خص الْعُمُوم
إِن قيل الظَّن لصدق الرَّاوِي لَا يحصل مَعَ عُمُوم الْكتاب قيل إِذا كَانَ الظَّن لصدقه يحصل إِذا لم يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب وَجب حُصُوله مَعَ عُمُوم الْكتاب لِأَنَّهُ لَا وَجه يحِيل وُقُوع الظَّن لصِحَّة الْخَبَر مَعَ مُعَارضَة عُمُوم الْكتاب
فان قيل الْوَجْه الْمُحِيل لذَلِك هُوَ أَن عُمُوم الْكتاب إِذا انْفَرد اقْتضى الْعلم بشموله وَخبر الْوَاحِد إِذا انْفَرد اقْتضى الظَّن لصِحَّته فَلم يجز التَّعَبُّد بِهِ إِذا عَارضه عُمُوم الْكتاب وَإِذا لم يجز ذَلِك لم يحصل الظَّن بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه الْجَواب إِن خبر الْوَاحِد وَإِن اقْتضى الظَّن إِذا انْفَرد فان وجوب الحكم بِهِ مَعْلُوم غير مظنون والتعارض إِنَّمَا وَقع بَين حكمه وَبَين حكم الْعُمُوم فاذا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مَعْلُوما لَو انْفَرد لم يجز الْمَنْع من التَّعَبُّد بالْخبر مَعَ عُمُوم الْكتاب فَلم يمْنَع من وُقُوع الظَّن لصِحَّته بل وَجب التَّعَبُّد بِهِ لِأَنَّهُ أخص
فان قيل الدَّلِيل الَّذِي دلّ على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّمَا دلّ بِشَرْط أَن يظنّ صدق الرَّاوِي وَمَعَ مُعَارضَة الْعُمُوم لَا يظنّ صدقه فَالشَّرْط لم يُوجد وَالدَّلِيل لم يحصل فَالْجَوَاب عَنهُ أَن عَدَالَة الرَّاوِي لَا ينفيها الْعُمُوم فالظن لصدقه حَاصِل وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان فَثَبت بِهِ التَّخْصِيص فِي الأَصْل بَيَاض مِقْدَار أَربع كَلِمَات وَوُجُوب الْعَمَل بِمُقْتَضى الْعُمُوم مَعْلُوم فقد صَار الْمصير إِلَيْهِ أولى لِأَن نَقله مَعْلُوم وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ مَعْلُوم هَذَا الدَّلِيل(2/155)
يُعَارضهُ أَن الْعُمُوم مَعْلُوم يتَنَاوَلهُ الْأَشْخَاص وَالْعقل يَقْتَضِي أَن لَا يتْرك الْعَمَل على مَا يغلب الظَّن فَوَجَبَ الْعَمَل عَلَيْهِ وَإِن عَارضه خبر وَاحِد لِأَنَّهُ من لم يتْرك مَا يعلم لما يظنّ فقد تحرز من المضار وَلِأَن الْعُمُوم لَو أَفَادَ الظَّن لقَائِل خبر الْوَاحِد وتعارضا وَوَجَب الْمصير إِلَى دَلِيل الْعقل أَو دَلِيل غَيرهمَا وَلِأَن خبر الْوَاحِد لَو قدح فِي الْعُمُوم لوَجَبَ اسْتِعْمَاله وَلَو رفع جَمِيع مَا يتَنَاوَلهُ الْعُمُوم وجوزنا فِي كل وَاحِد من الْأَخْبَار المخصصة أَنه صَحِيح وَالْآخر فَاسد فَكَانَ يبْقى من الْعُمُوم ثَلَاثَة أشخاص لَا بِأَعْيَانِهَا أَو شخص وَاحِد لَا بِعَيْنِه لِأَن كل خبر يكْسب الظَّن وَالظَّن يَقْتَضِي الْعقل وَالْعَمَل عَلَيْهِ وَيجوز فِي التناهي إِلَى الْوَاحِد من الْعُمُوم أَن يكون الْخَبَر الْوَارِد بِهِ مَعَ ذَلِك الْوَاحِد صَحِيحا وَغَيره مِمَّا تقدم كذب فَيَجِيء من ذَلِك أَن يرفع جَمِيع مَا تنَاوله الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد وَذَلِكَ محَال فان قيل من الْعجب أَن يجْتَمع علم وَظن متعارضين فيقدح الظَّن فِي الْعلم وَلَا يبطل الظَّن بِالْعلمِ قيل قد كُنَّا نجوز أَن يكون هُنَاكَ دَلِيل يَقْتَضِي تَخْصِيص الْعَام قبل الْعلم بِخَبَر الْوَاحِد وَلَو كَانَ الْعُمُوم مَقْطُوعًا أَنه لَا يجوز تَخْصِيصه لم يَخُصُّهُ بِخَبَر الْوَاحِد وَكَانَ الْعلم لَا يرْتَفع بِالظَّنِّ
إِن قيل الْعقل يمْنَع من الْعُدُول عَن الْمَعْلُوم إِلَى المظنون وَعُمُوم الْكتاب مَعْلُوم شُمُوله وَخبر الْوَاحِد مظنون صِحَّته فَلم يجز الْعَمَل عَلَيْهِ مَعَ عُمُوم الْكتاب قيل إِن أُرِيد أَن خبر الْوَاحِد مظنون لَو انْفَرد فقد تكلمنا فِي ذَلِك وَإِن أُرِيد أَن مظنون صِحَّته مَعَ مُعَارضَة الْعُمُوم فَذَلِك يمْنَع من الْعلم بشمول الْعُمُوم لأَنا إِذا ظننا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا رَوَاهُ الرَّاوِي فقد جَوَّزنَا ثُبُوت حكم الْخَبَر وَمَعَ تَجْوِيز ذَلِك لَا يحصل الْعلم بِمَا اقْتَضَاهُ الْعُمُوم من الحكم الْمُخَالف لحكم الْخَبَر وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة لأَنهم خصوا قَول الله عز وَجل {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا نورث مَا تركنَا فَهُوَ صَدَقَة وَلما رُوِيَ أَن الْقَاتِل لَا يَرث وَالصَّحِيح أَن(2/156)
فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام طالبت بعد ذَلِك بالنحلة لَا بِالْمِيرَاثِ وخصوا الْآيَة أَيْضا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه جعل للجدة السُّدس وَهَذَا يُغير فرض مَا تضمنته الْآيَة فَكَانَت مخصصة لَهَا وخصوا قَول الله عز وَجل {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا وخصوا قَوْله سُبْحَانَهُ {وَأحل الله البيع} بِخَبَر أبي سعيد فِي الْمَنْع من بيع دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ وخصوا قَوْله {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} بِمَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَجُوس سنوا بهم سنة أهل الْكتاب وكل هَذِه أَخْبَار آحَاد وَتَخْصِيص الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا ظواهر الْقُرْآن بهَا ظَاهر لَا يُمكن دَفعه وَلَا يُمكن أَن يُقَال خصوها بِغَيْر ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يرْوى مَا خصوها بِهِ ويروى مَا لم يجر لَهُ ذكر وَمَا ذَكرْنَاهُ يَقْتَضِي أَن يحمل قَول عمر رَضِي الله عَنهُ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نسيت أم كذبت على أَنه لَا يَدعه نسخا ليجمع بَين هَذَا الْخَبَر وَبَين الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلِأَن قَوْله لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا يُفِيد النّسخ دون التَّخْصِيص وَلِهَذَا لَا يُقَال فِيمَن خص آيَة من الْقُرْآن قد ترك الْقُرْآن
فان قيل هلا قبلوا خَبَرهَا فِي نَفسهَا خَاصَّة وأخرجوها وَحدهَا من الْآيَة وَهِي قَوْله {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} قيل إِن حكمهَا قد كَانَ يقْضِي وَإِنَّمَا رَوَت الْخَبَر ليعْمَل بِهِ فِي غَيرهَا فَلَو قبلوا خَبَرهَا لقبلوه فِي غَيرهَا على أَنهم لَو قبلوا خَبَرهَا فِي نَفسهَا لقبلوه فِيمَن هُوَ بِمثل صفتهَا على مَا جرت بِهِ عَادَتهم فِي إِجْرَاء الْخَبَر فِي كل من كَانَت صفته صفة من ورد فِيهِ الْخَبَر(2/157)
وَقد قَالَ بَعضهم إِن قَول عمر لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نسيت أم كذبت يدل على أَنه ترك قَوْلهَا لهَذِهِ الْعلَّة لَا لما ذكرتموه فِي أَنه لَو قبل خَبَرهَا فِي نَفسهَا لقبله فِي غَيرهَا الْجَواب أَنهم لَو قبلوا خَبَرهَا لدل على إخْرَاجهَا وَإِخْرَاج غَيرهَا وَكَانُوا تاركين للْكتاب لأَنهم لَا يكونُونَ تاركين للْكتاب إِلَّا باخراجها وَإِخْرَاج غَيرهَا فصح أَنهم إِنَّمَا يتركون الْكتاب لأجل قَوْلهَا وروايتها هُوَ الدَّال على تخصيصها وَتَخْصِيص غَيرهَا
إِن قيل قد قبل أهل قبا خبر الْوَاحِد فِي نسخ الْقبْلَة أفيتجوزون نسخ الْقُرْآن بأخبار الْآحَاد قيل ذَلِك جَائِز فِي الْعقل وَقد كَانَ مَعْمُولا فِي صدر الْإِسْلَام بِدلَالَة حَدِيث أهل قبا ثمَّ نسخ ذَلِك وَدلّ على نسخه خبر عمر رَضِي الله عَنهُ وَإِجْمَاع السّلف عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو على رَحمَه الله لَا يمْتَنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم إِنِّي أنفذ اليكم فلَانا بنسخ الْقبْلَة فاقبلوا خَبره فانه صَادِق وَذَلِكَ دلَالَة قَاطِعَة على صدقه
وَحكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه منع من نسخ الْقُرْآن بأخبار الْآحَاد فِي الْجُمْلَة دون التَّفْصِيل وَمعنى ذَلِك أَنه منع من نسخه بِخَبَر غير مَقْطُوع بِهِ وَجوز أَن يصل نسخه إِلَى بعض الْمُكَلّفين بِخَبَر وَاحِد فَيلْزمهُ الْعَمَل بِهِ دَلِيل الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَاجِب إِذا اخْتصَّ بشرائط وَهَذِه الشَّرَائِط حَاصِلَة فِيهِ إِذا عَارضه عُمُوم الْكتاب فَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ
فان قيل من شَرط الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد أَن لَا يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب قيل قد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن إِجْمَاع الصَّحَابَة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يُوجب الْعَمَل بِهِ وَلَا يجوز أَن يشْتَرط فِي الْعَمَل بِهِ شَرط إِلَّا بِدَلِيل وَلَيْسَ على مَا اشْترط السَّائِل دَلِيل وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يجب ذَلِك لَو أَجمعُوا على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِلَفْظ عَام يتَنَاوَل حَال مُعَارضَة الْعُمُوم حت لَا يخرج مِنْهُ حَالَة من الْحَالَات إِلَّا لدلَالَة وَمَا اجْمَعُوا كَذَا بل اجْمَعُوا على الْعَمَل بِهِ فِي مَوضِع(2/158)
فَيَنْبَغِي أَن ينظر فِي الْموضع الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ فِيهِ فان تنَاول هَذِه الْمَسْأَلَة قضى بِهِ وَلَا ينْقل مِنْهُ إِلَى مَوضِع آخر إِلَّا لدلَالَة فان قُلْتُمْ قد عمِلُوا بِهِ مَعَ مُعَارضَة عُمُوم الْكتاب كَانَ رُجُوعا إِلَى دَلِيل آخر
فان قيل إِجْمَاع الصَّحَابَة على الْعَمَل بِهِ يَكْفِي فِي وجوب الْعَمَل بِهِ فِي كل مَوضِع من الدّلَالَة أَلا ترى أَنهم لَو أَجمعُوا على قبُوله فِي الصَّلَاة لدل ذَلِك على قبُوله فِي فرع من فروع الصّيام قيل إِنَّمَا يدل قبولهم لَهُ فِي فرع من فروع الصَّلَاة على قبُوله فِي غير ذَلِك من الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَ يُمكن أَن يُقَال لَا فرق بَين الْعَمَل بِهِ مَعَ مُعَارضَة عُمُوم الْكتاب لَهُ وَمَعَ فقد ذَلِك وَإِن الْحَال فِي خبر الْوَاحِد مَعَ مُعَارضَة دَلِيل شَرْعِي كالحال فِيهِ إِذا لم يُعَارضهُ ذَلِك أَلا ترى أَن كثيرا من الْعلمَاء قد فرق بَينهمَا
فان قيل إِنَّا نستدل باجماع الصَّحَابَة على ان الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَعْلُوم إِذا انْفَرد كَمَا أَن الْعَمَل باستغراق الْعُمُوم مَعْلُوم إِذا انْفَرد ثمَّ نقُول فاذا اجْتمعَا لم يجز إطراح أَحدهمَا وَالْعَمَل بهما لَا يُمكن إِلَّا مَعَ التَّخْصِيص قيل إِذا كَانَ الْعَمَل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا مَعْلُوما إِذا انْفَرد جَازَ أَن يكون الْعَمَل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا مَعْلُوما مَعَ التَّعَارُض وَجَاز أَن يكون الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَعْلُوما بِشَرْط أَن لَا يُعَارضهُ الْعُمُوم وَإِذا جَازَ كلا الْأَمريْنِ وَجب التَّوَقُّف فَمن أَيْن قطعْتُمْ على وجوب الْعَمَل بهما وَأَنْتُم المستدلون وَأَيْضًا فان عُمُوم الْكتاب مَعْلُوم وجوب الحكم باستغراقه إِلَّا أَن يُعَارضهُ مَا يكون حكمه مَعْلُوما عِنْد مُعَارضَة الْعُمُوم فاذا لم يثبت لكم ذَلِك فِي خبر الْوَاحِد لأنكم لم تثبتوا أَن الصَّحَابَة أَجمعت على الْعَمَل فِي هَذَا الْموضع وَجب الْقَضَاء باستغراق الْعُمُوم
وَاحْتج الْمُخَالف فَقَالَ إِن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الظَّن وَعُمُوم الْكتاب يَقْتَضِي الْقطع وَلَا يجوز الْعَمَل بِمَا يَقْتَضِي الظَّن والعدول إِلَيْهِ عَمَّا يَقْتَضِي الْقطع الْجَواب يُقَال لَهُ أَتُرِيدُ أَن عُمُوم الْكتاب يَقْتَضِي الْعلم بشمول حكمه وَأَن خبر الْوَاحِد يَقْتَضِي الظَّن بِثُبُوت حكمه أَو تُرِيدُ أَن عُمُوم الْكتاب مَعْلُوم(2/159)
أَنه كَلَام الله سُبْحَانَهُ وَخبر الْوَاحِد يظنّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فان قَالَ بِالْأولِ قيل لَهُ أتعني ذَلِك لَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه أَو إِذا اجْتمعَا فان قَالَ إِذا اجْتمعَا أَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه قيل لَا نسلم ذَلِك لِأَن عندنَا أَن الْعَمَل على خبر الْوَاحِد مَعْلُوم سَوَاء عَارضه عُمُوم كتاب أَو لم يُعَارضهُ فَمَا ذكرته هُوَ نفس الْمَسْأَلَة وَإِن قَالَ أُرِيد الْوَجْه الثَّانِي قيل وَلم إِذا علمنَا أَن الله سُبْحَانَهُ تكلم بِالْعُمُومِ وَغلب على ظننا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تكلم بالْخبر وَلم نعلمهُ لَا يجوز أَن نعلم عِنْده وجوب الْعَمَل فان قَالَ لِأَن الْخَبَر إِذا كَانَ مظنونا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه لم يجز أَن يعلم عِنْده وجوب الْعَمَل قيل فَيجب أَن لَا نعلم عِنْده وجوب الْعَمَل مَعَ فقد الْكتاب لِأَن الظَّن لَا يكون طَرِيقا إِلَى الْعلم على كل حَال وايضا فان طريقنا إِلَى الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد هُوَ الْإِجْمَاع وَشرط ذَلِك ظننا صدق الرَّاوِي وَالْإِجْمَاع مَعْلُوم وظننا صدق الرَّاوِي مَعْلُوم فان قَالَ عُمُوم الْكتاب لَيْسَ يقف على شَرط مظنون فَالْخَبَر مظنون صدقه فقد وقف الْعَمَل بِهِ على أَمر مظنون فَلم يجز الْعُدُول إِلَيْهِ عَن عُمُوم الْكتاب قيل إِنَّمَا كَانَ يمْنَع مَا ذكرت لَو كَانَ طريقنا إِلَى الحكم هُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكُنَّا إِذا لم نَأْمَن أَن يكون لم يقل ذَلِك القَوْل لَا يجوز لنا الحكم بِهِ وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لما جَازَ الْعَمَل على خبر الْوَاحِد وَإِن لم يُعَارضهُ عُمُوم الْكتاب وَإِنَّمَا طريقنا إِلَى ذَلِك هُوَ ظننا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك القَوْل مَعَ قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِمَا يغلب على ظننا من ذَلِك وكلا هذَيْن مَعْلُوم لأَنا نعلم أَنا ظانون صدق الرَّاوِي ونعلم الدّلَالَة على وجوب الْعَمَل بِمَا ظنناه فَثَبت مُسَاوَاة طريقنا إِلَى الْعلم بِحكم الْخَبَر لطريقنا إِلَى الْعلم لشمُول الْآيَة فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيق مَعْلُوم وَبَطل إحالتهم قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد مَعَ عُمُوم الْكتاب
فان قيل الْعُمُوم مَعْلُوم وَمَعْلُوم أَنه قَول الله سُبْحَانَهُ وَقد دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ دَلِيل قَاطع وَهَذَا لَا يتَغَيَّر وَخبر الْوَاحِد قد يَزُول الظَّن فِيهِ بالبحث عَن الرَّاوِي وَالظَّن فِي حَاله فيزول الَّذِي دلّ على وجوب الْعَمَل بِهِ(2/160)
فَكيف يَزُول مَا لَا يتَغَيَّر بِحَال مَا يتَغَيَّر وَقد نقضت الشُّبْهَة بانتقالنا عَن مُقْتَضى الْعقل بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا لَا يلْزم لِأَن عُمُوم الْكتاب دلّ لَفظه على شُمُول الحكم على طَرِيق الْقطع لَو انْفَرد أَلا ترى أَنه يتَنَاوَل لَفظه كل وَاحِد من أشخاص النَّوْع وَالْجِنْس فَلَو عدلنا عَن بعضه بِخَبَر الْوَاحِد كُنَّا قد عدلنا عَن مُوجب دَلِيل قَاطع وَأما الْعقل فانه لَا يَقْتَضِي قبح ذبح الْحَيَوَان إِلَّا من حَيْثُ أَنه ألم مَحْض وَلَيْسَ يدل الْعقل على انه مَحْض وَإِنَّمَا يعلم الْعَاقِل أَنه مَحْض لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعقل وَلَا فِي السّمع مَا يدل عَلَيْهِ فاذا ورد الْخَبَر باباحته علمنَا أَن فِيهِ مَنْفَعَة موفية فَزَالَ الشَّرْط الَّذِي مَعَه قضى الْعقل بقبحه وَلم نَكُنْ تاركين لموجب الْعقل بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْعقل لم يدل على أَنه لَيْسَ فِيهِ نفع موف وَخبر الْوَاحِد دلّ على ذَلِك فَلم نَكُنْ بتاركين لدلَالَة مَعْلُومَة إِلَى شَيْء مظنون
واجيب عَن الشُّبْهَة أَيْضا بِأَن خبر الْوَاحِد وَعُمُوم الْكتاب طريقهما الِاجْتِهَاد فهما يتساويان وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ إِن أُرِيد أَن طريقهما الِاجْتِهَاد الَّذِي هُوَ بذل الْجهد فِي الِاسْتِدْلَال فَصَحِيح لِأَن أَحدهمَا مظنون أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه وَالْآخر مَعْلُوم أَن الله عز وَجل قَالَه وَإِن أُرِيد أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مظنون فَلَا يَصح
وَقد قَاس الْمُخَالف الْمَنْع من تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد على الْمَنْع من نسخه بِخَبَر الْوَاحِد بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عدُول إِلَى مظنون عَن مَعْلُوم الْجَواب إِنَّهُم إِن قاسوا أَحدهمَا على الآخر فِي الْمَنْع من التَّعَبُّد بهما من جِهَة الْعُقُول لم نسلم الحكم فِي الأَصْل لأَنا نجوز من جِهَة الْعقل نسخ الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن قاسوا أَحدهمَا على الآخر فِي الْمَنْع من التَّعَبُّد شرعا فَمَا ذَكرُوهُ من الْعلَّة غير مَعْلُومَة فَلم يجز الْقيَاس بهَا فِي هَذَا الْموضع وَأما من منع تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد إِذا لم يتقدمه تَخْصِيص فقد أبطل لِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص كَالَّذي لَيْسَ بمخصوص فِي أَنه مَعْلُوم صدوره من حَكِيم وتناوله من جِهَة الْحَقِيقَة لما لم يتَنَاوَلهُ التَّخْصِيص فاذا خصت الصَّحَابَة بِخَبَر الْوَاحِد(2/161)
الْعُمُوم الْمَخْصُوص دلّ ذَلِك على جَوَاز تَخْصِيصه عُمُوما لم يدْخلهُ التَّخْصِيص إِذْ أَحدهمَا فِي معنى الآخر كَمَا أَن إجماعها على تَخْصِيص بعض الْآيَات بِخَبَر الْوَاحِد دَلِيل على تَخْصِيص آيَة أُخْرَى بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن أَحدهمَا فِي معنى الآخر
وقلوهم إِن الْعُمُوم الْمَخْصُوص قد صَار مجَازًا أَو مُجملا فَجَاز تَخْصِيصه وَلَيْسَ كَذَلِك الْعُمُوم إِذا لم يخص فَبَاطِل لِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص لَيْسَ بمجاز من حَيْثُ يتَنَاوَل مَا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص فَصَارَ من هَذِه الْجِهَة كَالَّذي لم يتقدمه تَخْصِيص وَإِنَّمَا هُوَ مجَاز من حَيْثُ لم يرد بِهِ بعض مَا يتَنَاوَلهُ وَقَوْلهمْ إِنَّه مُجمل لَا نسلمه وَقَوْلهمْ إِن عمر عَلَيْهِ السَّلَام امْتنع من تَخْصِيص قَوْله عز وَجل {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} بِخَبَر فَاطِمَة بنت قيس بقوله لَا نَدع كتاب رَبنَا وَسنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نسيت أم كذبت لَا يَصح لأَنا قد بَينا أَن ذَلِك ينْصَرف إِلَى النّسخ على أَن هَذِه الْآيَة مَخْصُوصَة بِخُرُوج الْمُرْتَدَّة مِنْهَا وَقَول من فرق بَين الْعُمُوم الْمَخْصُوص بِالِاسْتِثْنَاءِ وَبَين الْمَخْصُوص بِالدّلَالَةِ الْمُنْفَصِلَة بِأَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص بِالِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقَة فِيمَا عدا الْمُسْتَثْنى لِأَن الْعُمُوم مَعَ الِاسْتِثْنَاء يجْرِي مجْرى لفظ الْعدَد مَعَ الِاسْتِثْنَاء فِي أَنه يتَنَاوَل مَا عدا الْمُسْتَثْنى من الْأَعْدَاد وَأما الْعُمُوم الْمَخْصُوص بِدَلِيل مُنْفَصِل فَهُوَ مجَاز فَبَاطِل بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن
فصل فِي الحكم إِذا اقْتضى قِيَاس الاصول فِيهِ خلاف مَا اقْتَضَاهُ خبر الْوَاحِد
اعْلَم أَن الْقيَاس على أصل من الاصول إِذا عَارض خبر وَاحِد فانما يُعَارضهُ إِذا اقْتضى الْخَبَر إِيجَاب أَشْيَاء وَاقْتضى الْقيَاس حظر جَمِيعهَا على الْحَد الَّذِي اقْتضى الْخَبَر إِيجَابهَا أَو بَان يكون الْخَبَر مُخَصّصا لعِلَّة الْقيَاس فان اقْتضى تخصيصها فِيمَن يُجِيز تَخْصِيص الْعلَّة يجمع بَينهمَا وَمن لَا يرى تَخْصِيص الْعلَّة(2/162)
يجرى هَذَا الْقسم مجْرى الْقسم الأول وَلَيْسَ تَخْلُو عِلّة الْقيَاس الَّذِي هَذِه حَاله إِمَّا أَن تكون مَنْصُوصا عَلَيْهَا أَو مستنبطة فان كَانَت منصوصة لم يخل النَّص عَلَيْهَا إِمَّا أَن يكون مَقْطُوعًا بِهِ أَو غير مَقْطُوع بِهِ فان كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ وَكَانَ خبر الْوَاحِد يَنْفِي مُوجبهَا وَلم يكن إِضْمَار زِيَادَة فِيهَا تخرج مَعَه الْعلَّة من ان يعارضها خبر الْوَاحِد فانه يجب الْعُدُول إِلَيْهَا عَن خبر الْوَاحِد لِأَن النَّص على الْعلَّة كالنص على حكمهَا فَكَمَا لَا يجوز قبُول خبر الْوَاحِد إِذا رفع مُوجب النَّص الْمَقْطُوع بِهِ فَكَذَلِك فِي هَذَا الْموضع وَلِأَن خبر الْوَاحِد فِي هَذَا الْمَكَان يخرج الْعلَّة المنصوصة من كَونهَا عِلّة وَالنَّص قد اقْتضى كَونهَا عِلّة فَصَارَ خبر الْوَاحِد رَافعا مُوجب النَّص الْمَقْطُوع بِهِ وَإِن لم يكن النَّص على الْعلَّة مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا كَانَ حكمهَا فِي الأَصْل ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ فانه يكون مُعَارضا لخَبر الْوَاحِد لِأَنَّهُمَا خَبرا وَاحِد وَيكون الرُّجُوع إِلَى الْخَبَر فِي إِثْبَات الحكم أولى من الْخَبَر الدَّال على الْعلَّة لِأَن دَال بصريحه على الحكم وَالْخَبَر الدَّال على الْعلَّة لَيْسَ بدال على الحكم بصريحه وَنَفسه بل بِوَاسِطَة وَإِن كَانَ حكمهَا فِي الأَصْل ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ فَهُوَ مَوضِع اجْتِهَاد على مَا سنبينه الْآن فِي الْعلَّة المستنبطة
فَأَما إِن كَانَت عِلّة الْقيَاس مستنبطة فَلَا يَخْلُو أصل الْقيَاس إِمَّا أَن يكون حكمه ثَابتا بِخَبَر وَاحِد أَو بِنَصّ مَقْطُوع بِهِ فاذا كَانَ ثَابتا بِخَبَر وَاحِد لم يكن الْقيَاس أولى من الْخَبَر الْمعَارض لَهُ بل الْأَخْذ بالْخبر أولى فَأَما إِذا كَانَ الحكم فِي أصل الْقيَاس ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَالْخَبَر الْمعَارض للْقِيَاس خبر وَاحِد فَيَنْبَغِي أَن يكون النَّاس إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي هَذَا الْموضع وَإِن كَانَ الاصوليون ذكرُوا الْخلاف فِيهِ مُطلقًا فَعِنْدَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن الْأَخْذ بالْخبر أولى وَهُوَ قَول أبي الْحسن وَقَالَ عِيسَى بن أبان إِن كَانَ رَاوِي الْخَبَر ضابطا عَالما غير متساهل فِيمَا يرويهِ وَجب قبُول خَبره وَترك الْقيَاس وَإِن كَانَ الرَّاوِي بِخِلَاف ذَلِك كَانَ مَوضِع الِاجْتِهَاد وَذكر أَن فِي الصَّحَابَة عَلَيْهِم السَّلَام من رد حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِالِاجْتِهَادِ وَحكي عَن مَالك أَنه رجح الْقيَاس على الْخَبَر وَمِنْهُم من قَالَ طَرِيقه الِاجْتِهَاد(2/163)
وَاحْتج المرجحون للْخَبَر بأَشْيَاء
مِنْهَا إِجْمَاع الصحاب لِأَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ نقض حكما حكم بِهِ بِرَأْيهِ لحَدِيث سَمعه من بِلَال وَترك عمر رَضِي الله عَنهُ رَأْيه فِي الْجَنِين وَفِي التَّسْوِيَة بَين الْأَصَابِع للْحَدِيث فان قيل إِن ابْن عَبَّاس قد خَالف فِي ذَلِك لِأَنَّهُ لم يقبل خبر أبي هُرَيْرَة إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا وَقَالَ مَا نصْنَع بمهراسنا والمهراس حجر عَظِيم كَانُوا يجْعَلُونَ فِيهِ المَاء ويتوضؤن مِنْهُ فَأَشَارَ بذلك إِلَى أَنه لَا يُمكن غسل الْيَد مِنْهُ قبل إدخالها فِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَة يَا بن أخي إِذا حدثتك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا فَلَا تضرب لَهُ الْأَمْثَال قيل إِن ابْن عَبَّاس ترك هَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْأَخْذ بِهِ إِذْ كَانَ لَا يُمكن قلب المهراس على الْيَد وَذَلِكَ خَارج عَن قِيَاس علته مظنونة فان قيل لَيْسَ فِي ذك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُم غسل أَيْديهم من إِنَاء آخر غير المهراس ثمَّ يدخلُوا أَيْديهم فِي المهراس فَعلمنَا أَنه رد الْخَبَر لِأَنَّهُ مُخَالف لقياس الْأُصُول لَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْأَخْذ بِهِ قيل فاذا أمكن الْأَخْذ بِهِ فَمن أَيْن أَن قِيَاس الاصول كَانَ يُبِيح غسل الْيَد من ذَلِك الْإِنَاء حَتَّى يكون قد رد الْخَبَر لذَلِك الْقيَاس وَإِذا صَحَّ ذَلِك لم يثبت لَهُم أَن ابْن عَبَّاس رجح قِيَاس الاصول على الْخَبَر حَتَّى يكون قادحا فِي الْإِجْمَاع
وَمِنْهَا أَن خبرالواحد أصل للْقِيَاس وَلَا يجوز أَن يتْرك الأَصْل بالفرع وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بقولكم إِن خبر الْوَاحِد أصل للْقِيَاس أَنه هُوَ الدَّلِيل على صِحَة الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَإِن أردتم أَن خبر الْوَاحِد هُوَ أصل الْقيَاس الَّذِي وَقعت الْمُعَارضَة بِهِ وَأَن الْقيَاس هُوَ قِيَاس على حكمه فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن أصل الْقيَاس هُوَ غير هَذَا الْخَبَر فان قَالُوا نُرِيد بذلك أَن خبر الْوَاحِد فِي الْجُمْلَة هُوَ أصل الْقيَاس أَلا ترى أَن أصل الْقيَاس هُوَ خبر وَاحِد مثل هَذَا الْخَبَر الْمعَارض قيل إِنَّمَا يلْزم هَذَا من قَالَ إِن الْقيَاس على حكم خبر الْوَاحِد أولى(2/164)
من خبر وَاحِد يُعَارض الْقيَاس فَأَما من قَالَ إِن الْقيَاس أولى من خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ الْقيَاس قِيَاسا على دَلِيل قَاطع فَلَا يلْزمه هَذَا الْكَلَام
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن خبر الْوَاحِد يجْرِي مجْرى مَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ أولى من الْقيَاس وَلقَائِل أَن يَقُول إِن خبر الْوَاحِد يجْرِي مجْرى مَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وجوب الْعَمَل وَهَكَذَا الْقيَاس وَأَيْضًا فَلَيْسَ يجب إِذا جرى خبر الْوَاحِد مجْرى مَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض الْأُمُور أَن يجْرِي مجْرَاه فِي أُمُور أخر أَلا ترى انه لَا يجْرِي مجْرَاه فِي نسخ الْقُرْآن
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن إِثْبَات الحكم بِخَبَر الْوَاحِد يسْتَند إِلَى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر وَاسِطَة وإثباته بِالْقِيَاسِ يسْتَند إِلَى قَوْله بِوَاسِطَة فَكَانَ إثْبَاته بالْخبر أولى وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه كَانَ لإِثْبَات الحكم بالْخبر هَذِه المزية فان لإِثْبَات الحكم بِهَذَا الْقيَاس مزية أُخْرَى وَهِي استناده إِلَى أصل مَعْلُوم وَإِن كَانَ بِوَاسِطَة الِاجْتِهَاد فِي الأمارة فَكَمَا أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد يسْتَند إِلَى أصل مَعْلُوم وَهُوَ مَا دلّ على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فَكَذَلِك الحكم بِالْقِيَاسِ يسْتَند إِلَى مَا دلّ على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَعْلُوم وكما أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ يفْتَقر إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الأمارة فَالْحكم بِخَبَر الْوَاحِد يفْتَقر إِلَى الِاجْتِهَاد فِي أَحْوَال المخبرين فهما يتساويان من هَذِه الْوُجُوه وَهَذَا من أقوى مَا يحْتَج بِهِ من رد الْأَمر فِيهَا إِلَى الِاجْتِهَاد
وَمِنْهَا أَن عُمُوم الْكتاب يدل تصريحه على مَا تنَاوله لَفظه وَيدل على حكم الْفُرُوع بِوَاسِطَة الْقيَاس ودلالته على مَا تنَاوله لَفظه أقوى لِأَنَّهُ يتَنَاوَلهُ بِنَفسِهِ من غير وَاسِطَة وَلَيْسَ كَذَلِك دلَالَته على حكم الْفُرُوع فاذا جَازَ أَن يخرج مِنْهُ بعض مَا تنَاوله لَفظه بِخَبَر الْوَاحِد مَعَ قُوَّة دلَالَته عَلَيْهِ كَانَ بِأَن يخرج مِنْهُ مَدْلُوله الأخفى وَهُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَة الْقيَاس لأجل خبر الْوَاحِد أولى إِذْ كَانَ إِخْرَاج مَا دلّ عَلَيْهِ بِوَاسِطَة الْقيَاس يجْرِي مجْرى التَّخْصِيص لِأَنَّهُ إِخْرَاج بعض مَا دلّ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يدل على أَشْيَاء بِوَاسِطَة وَبِغير وَاسِطَة(2/165)
وللخصم أَن يَقُول إِن عُمُوم الْكتاب لَا يدل على حكم الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلهَا فَلَا يدل على امارة الْقيَاس فَصَارَ حكم الْفُرُوع هُوَ مَدْلُول دَلِيل آخر وَهُوَ الْقيَاس فَلَيْسَ بِأَن يَتْرُكُوهُ بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن خبر الْوَاحِد يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب مَعَ قُوَّة عُمُوم الْكتاب بِأولى من أَن يتْركُوا الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لأجل الْقيَاس إِذْ كَانَ الْقيَاس يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب
وَاحْتج من قدم الْقيَاس على الاصول على خبر الْوَاحِد بِأَن الْقيَاس لَا يحْتَمل وَلَا يجوز تَخْصِيصه وَلَيْسَ كَذَلِك الْخَبَر فَكَانَ الْقيَاس أولى الْجَواب أَن ذَلِك يَقْتَضِي تَقْدِيمه على نَص الْكتاب وَالسّنة المتواترة وَأَيْضًا فانه إِن اخْتصَّ الْقيَاس بِهَذِهِ المزية فَالْخَبَر مُخْتَصّ بمزية اخرى وَهِي أَن دلَالَة الْأَلْفَاظ لَا تستنبط من غَيرهَا وَالْقِيَاس مستنبط من الْأَلْفَاظ فَكَانَت الْأَلْفَاظ أقوى من الدّلَالَة
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن الْقيَاس أثبت من الْخَبَر لتجويز الْخَطَأ وَالْكذب على الْمخبر وَالْجَوَاب أَن جَوَاز ذَلِك كجواز كَون الحكم غير مُتَعَلق بالأمارة فِي الْقيَاس وَإِن كَانَ الْأَغْلَب صدق الرَّاوِي وَتعلق الحكم بالأمارة
وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا كَانَ الْقيَاس يخص بِهِ عُمُوم الْكتاب فبأن يتْرك لأَجله خبر الْوَاحِد أولى إِذْ هُوَ أَضْعَف من الْعُمُوم الْجَواب أَنا إِذا خصصنا الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ لم نَكُنْ تاركين لَهُ أصلا بِالْقِيَاسِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تركنَا الْخَبَر أصلا بِالْقِيَاسِ وَالْأولَى أَن يكون طَرِيق تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر الِاجْتِهَاد لتساويهما من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا فان قوي عِنْد الْمُجْتَهد امارة الْقيَاس وَكَانَت تزيد عِنْده فِي الْقُوَّة على عَدَالَة الرَّاوِي وَضَبطه وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَإِن كَانَ ضبط الرَّاوِي وثقته يزِيد عِنْد الْمُجْتَهد على أَمارَة الْقيَاس وَجب عَلَيْهِ الْمصير إِلَى الْخَبَر(2/166)
فصل فِي فَائِدَة خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ الْبلوى بِهِ عَاما هَل يرد لَهُ خبر الْوَاحِد الْوَارِد فِيهِ أم لَا
الْخَبَر الْمَرْوِيّ بالآحاد لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يتَضَمَّن إِيجَاب الْعلم أَو يتَضَمَّن إِيجَاب الْعَمَل فَقَط وَالْأول إِمَّا أَن يكون فِي الْأَدِلَّة القاطعة مَا يدل على ذَلِك الْعلم وَإِمَّا أَن لَا يكون فِيهَا مَا يدل على ذَلِك فان لم يكن فِيهَا مَا يدل على ذَلِك لم يقبل الْخَبَر سَوَاء تضمن مَعَ الْعلم عملا أَو لم يتَضَمَّن عملا لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لأشاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه يجب فِي الْعَادة التَّوَاتُر بنقله ولأوجب نَقله على وَجه تقوم الْحجَّة بِهِ إِذْ كَانَ لَا يجوز أَن يُوجب علينا الْعلم وَلَا يَجْعَل لنا طَرِيقا إِلَيْهِ وَخبر الْوَاحِد لَيْسَ بطرِيق إِلَى الْعلم
إِن قيل هلا قبلتم الْخَبَر وحكمتم بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوجب الْعلم على مَا شافهه بذلك قيل لَيْسَ يَسْتَحِيل ذَلِك إِذا كَانَ الْخَبَر خطابا لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا رددنا الْخَبَر إِذا كَانَ إِيجَابا على من شافهه وَمن لم يشافهه
إِن قيل جوزوا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أظهر الْخَبَر وَأمر بتواتر نَقله وألزم كل أحد الْعلم بِشَرْط أَن يبلغهُ الْخَبَر على حد التَّوَاتُر فَيكون من شافهه بِهِ قد وَجب عَلَيْهِ الْعلم وَمن لم يشافهه لم يجب عَلَيْهِ إِذا لم ينْقل بالتواتر قيل لَو كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اشاع الحَدِيث وأظهره على هَذَا الْحَد وَأوجب تَوَاتر نَقله لقويت دواعي الدّين وَالْعَادَة إِلَى نَقله متواترا وَلما جَازَ أَن يخفى لِأَن جَوَاز خَفَاء ذَلِك يَقْتَضِي تَجْوِيز حُدُوث أُمُور فِي الدّين وَالدُّنْيَا عَظِيمَة لم يبلغنَا خَبَرهَا وَلذَلِك قُلْنَا إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ يجْهر بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم كَمَا كَانَ يجْهر بِالْفَاتِحَةِ لَكَانَ النَّقْل لأَحَدهمَا كالنقل للْآخر فَلَمَّا اخْتلف النَّقْل علمنَا أَنه كَانَ يجْهر مرّة بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ويخفي أُخْرَى فَنقل بعض النَّاس أَنه جهر وَنقل غَيره أَنه أسر
فَأَما إِن كَانَ فِي الْأَدِلَّة مَا يدل على الْعلم لم يمْنَع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد(2/167)
اقْتصر بذلك الْخَبَر على آحَاد وَاقْتصر بِمن سواهُم على الدَّلِيل الآخر فِي وجوب الْعلم فَأَما إِن كَانَ الْخَبَر يتمضن الْعَمَل دون الْعلم فإمَّا أَن يعم الْبلوى بِمَا تضمنه أَو لَا يعم الْبلوى بِهِ فان لم يعم الْبلوى بِهِ قبل وَإِن عَم الْبلوى فقد اخْتلف الْقَائِلُونَ بأخبار الْآحَاد فِي قبُوله
فَلم يقبله الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَحمَه الله وَيَقُول إِن فروع الصَّلَاة مُخَالفَة لذَلِك فَلَا يمْتَنع أَن يخْتَص بهَا الْعلمَاء وَيَقُول كل شَرط يفْسد الصَّلَاة وَهُوَ ركن فِيهَا إِنَّه يجب ظُهُور نَقله كالقبلة الَّتِي ظهر نقلهَا ظُهُور نقل الصَّلَاة وَمَا يعرض فِيهَا وَلَيْسَ بِشَرْط نَحْو تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة لَا يجب نَقله عَاما وَيَقُول لَيْسَ يجب شياع نقل صفة الْمَنْقُول كوجوب الْوتر وَلَا يُوجب شياع نقل الْوضُوء من الرعاف وَلَا التوضي من القهقهة لِأَن ذَلِك لَيْسَ يعم بِهِ الْبلوى
وَعند الشَّيْخ أبي عَليّ أَن الْأَخْبَار الَّتِي لَا تَتَضَمَّن الْعلم لَا يجب شياع نقلهَا فِي الْخَاصَّة والعامة بل لَا يمْتَنع أَن لَا يكون الْعَامَّة مكلفة لما تضمنته كالحدود أَو مكلفة بِالرُّجُوعِ إِلَى الْعلمَاء وَهُوَ مَذْهَب قَاضِي الْقُضَاة وَالدَّلِيل على قَوْله إِن إِجْمَاع الصَّحَابَة على الْعَمَل بأخبار الْآحَاد يَقْتَضِي الْعَمَل بهَا اجْمَعْ مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع أَلا ترى أَنه دلّ على جَوَاز الْعَمَل بأخبار لم ترو فيهم لما كَانَت فِي معنى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ وَرجعت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التقاء الختانين
وَأَيْضًا فَمن لم يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى فإمَّا أَن لَا يقبله لِأَن الشَّرِيعَة منعت من قبُوله أَو لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَة مَا يدل على قبُوله أَو لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَحِيحا لأشاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمر بتواتر نَقله ليصل إِلَى من بعد بفائدته فيتمكن مِمَّا كلف من الْعَمَل بِهِ وَلَو كَانَ كَذَلِك لقويت دواعي الدّين وَالْعَادَة إِلَى إِشَاعَة نَقله(2/168)
وَهَذِه الْأَقْسَام كلهَا بَاطِلَة لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الشَّرْع نَص يمْنَع من قبُوله لعرفناه مَعَ الفحص الشَّديد إِن قيل أَلَيْسَ قد رد عمر خبر أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان ورد أَبُو بكر خبر الْمُغيرَة فِي الْجدّة قيل إِنَّمَا يدل هَذَا على مَا ذكرْتُمْ لَو لم يقبلُوا فِي ذَلِك إِلَّا خَبرا قد تَوَاتر نَقله فَأَما وَقد قبلوه إِذا انْضَمَّ إِلَى الرَّاوِي راو آخر فَلَا دَلِيل لكم فِي ذَلِك وَإِجْمَاع الصَّحَابَة على الْعَمَل بأخبار الْآحَاد يتَضَمَّن فِي الْمَعْنى هَذِه الْمَسْأَلَة على مَا سنبينه فَبَطل قَوْلكُم لَيْسَ فِي الشَّرْع مَا دلّ على قبُوله وَقَوْلهمْ إِذا عَم الْبلوى بالحكم وَجب فِي الْحِكْمَة إشاعته فَبَاطِل لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب ذَلِك لَو لزم الْمُكَلّفين الْعلم مَعَ الْعَمَل إو لَزِمَهُم الْعَمَل على كل حَال فَأَما إِذا لزم الْعَمَل بِهِ بِشَرْط أَن يبلغهم الْخَبَر وَإِلَّا لم يلْزمهُم فَلَيْسَ فِي ذَلِك تَكْلِيف مَا لَا طَرِيق إِلَيْهِ وَلَو وَجب مَا ذَكرُوهُ فِيمَا يعم الْبلوى بِهِ لوَجَبَ فِيمَا لَا يعم بِهِ الْبلوى لِأَن مَا لَا يعم بِهِ الْبلوى يعلم وُقُوعه وَإِن كَانَ وُقُوعه نَادرا وَفِي آحَاد النَّاس كالرعاف فِي الصَّلَاة فَيجب فِي الْحِكْمَة إِشَاعَة حكمه خوفًا من أَن لَا يصل إِلَى من ابْتُلِيَ بِهِ فيضيع الْغَرَض
فان قَالُوا لَا يلْزم القَوْل بِوُجُوب إشاعته لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُكَلف الْمَرْء ذَلِك الحكم بِشَرْط وُصُوله إِلَيْهِ وَإِن لم يصل إِلَيْهِ لم يكن مُكَلّفا قيل إِن جَازَ ذَلِك فِي آحَاد من النَّاس جَازَ فِي جَمَاعَتهمْ على أَن وجوب الْوتر يعم الْبلوى بِهِ وَلم يتواتر النَّقْل بِوُجُوبِهِ وَقَوْلهمْ قد تَوَاتر النَّقْل بالوتر لَا يعصمهم من التَّنَاقُض لِأَن الْوُجُوب يعم بِهِ الْبلوى وَالنَّقْل لَهُ لم يتواتر فَأَما القي والرعاف فِي الصَّلَاة فالبلوى بهما عَام وَلَيْسَ يبطل عُمُومه كَون مس الذّكر أَعم مِنْهُ
فصل فِي خبر الْوَاحِد إِذا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف مُقْتَضَاهُ
اعْلَم ان الرَّاوِي إِذا روى شَيْئا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِلَافه فَلَا يَخْلُو الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ إِمَّا أَن يتَنَاوَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِمَّا لَا يتَنَاوَلهُ فان لم يتَنَاوَلهُ نَحْو أَن يكون خَبرا عَن وجوب الْفِعْل على غَيره أَو يكون أمرا أَو نهيا لغيره عَن فعل وَيكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد فعل مَا نهي عَنهُ أَو لم يفعل مَا أَمر بِهِ فانه إِن لم تدل(2/169)
دلَالَة من إِجْمَاع أَو غَيره على أَن حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم غَيره فِي ذَلِك الْفِعْل فانه لَا تعَارض بَين ذَلِك الْخَبَر وَبَين فعله وَإِن دلّت على ان حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم غَيره فِي ذَلِك فَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْقسم الَّذِي سَنذكرُهُ الْآن وَإِن كَانَ الْخَبَر يتَنَاوَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يكون خَبرا عَن الْوُجُوب عَلَيْهِ وعَلى غَيره أَو حِكَايَة عَن الله تَعَالَى يتَنَاوَلهُ ويتناول غَيره فانه يكون معرضًا لَهُ فان أمكن أَن يخص أَحدهمَا بِالْآخرِ فعل ذَلِك وَإِن لم يُمكن وَكَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ متواترا دون الآخر قضي بالتواتر وَإِن كَانَا منقولين بالآحاد رَجَعَ فيهمَا إِلَى التَّرْجِيح وَلَيْسَ يجوز مَعَ هَذَا التَّنَافِي أَن يَكُونَا منقولين بالتواتر
فصل فِي الرِّوَايَة بِحَسب سَماع الرَّاوِي
إِذا قَالَ الرَّاوِي حَدثنِي فلَان أَو أَخْبرنِي فلَان أَو سَمِعت فلَانا وَقد حدث بذلك من سَمعه يَقُول هَذَا القَوْل فَلِمَنْ سَمعه أَن يَقُول حَدثنِي وَأَخْبرنِي وَسمعت مِنْهُ وَإِذا قريء على الْإِنْسَان الْأَحَادِيث ثمَّ قَالَ عِنْد الْفَرَاغ من الْقِرَاءَة الْأَمر كَمَا قريء عَليّ أَو قَالَ قد سَمِعت مَا قريء عَليّ فانه يكون بِهَذَا القَوْل مُحدثا على الْجُمْلَة فَلِمَنْ سمع الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَسمع الشَّيْخ يَقُول ذَلِك أَن يَقُول حَدثنِي وَأَخْبرنِي وَسمعت من فلَان أَلا ترى أَنه لَا فرق فِي جَوَاز الشَّهَادَة على البيع بَين أَن يلفظ البَائِع عِنْد الشَّاهِد بِلَفْظ البيع وَبَين أَن يقْرَأ عَلَيْهِ كتاب البيع فَيَقُول الْأَمر كَمَا قريء عَليّ فَأَما إِذا قريء عَلَيْهِ فَلم يُنكر وَلم يقل الْأَمر على مَا قريء عَليّ أَو قد سَمِعت مَا قريء فللسامعين أَن يعملوا على تِلْكَ الْأَحَادِيث لِأَن ترك النكير يدل على سَمَاعه الْأَحَادِيث وَلَيْسَ لمن سمع الْقِرَاءَة أَن يَقُول حَدثنِي أَو أَخْبرنِي أَو سَمِعت لِأَن الشَّيْخ لم يلفظ بِشَيْء سَمعه مِنْهُ وَلَا فصل بَين التحدث والإخبار
فان قيل إِمْسَاكه عَن النكير يجْرِي مجْرى إِبَاحَته أَن يتحدث عَنهُ قيل لَو أباحهم أَن يتحدثوا عَنهُ لم يجز لَهُم التحدث عَنهُ إِذا لم يُحَدِّثهُمْ لِأَن الْكَذِب لَا(2/170)
يصير مُبَاحا باباحته إِن قيل الْعَادة قد أجرت سكُوت الشَّيْخ عَن الْإِنْكَار مجْرى قَوْله قد سَمِعت مَا قريء عَليّ فَكَانَ لَهُم أَن يتحدثوا عَنهُ قيل إِمْسَاكه يجْرِي مجْرى قَوْله سَمِعت ذَلِك فِي الدّلَالَة على انه قد سَمعه وَلَيْسَ يخرج من ان يكون الشَّيْخ لم يتَلَفَّظ بالأخبار والتحدث وَله أَن يَقُول قَرَأت على فلَان أَو قريء عَلَيْهِ وَأَنا أسمع
وَأما المناولة فَهِيَ أَن يُشِير الْإِنْسَان إِلَى كتاب يعرف مَا فِيهِ من الْأَحَادِيث فَيَقُول لغيره قد سَمِعت مَا فِي هَذَا الْكتاب فَيكون بذلك مُحدثا لِأَنَّهُ سَمعه وَيجوز لذَلِك الْغَيْر أَن يرويهِ عَنهُ فَيَقُول حَدثنِي فلَان أَو أَخْبرنِي فلَان وَسَوَاء قَالَ اروه عني أَو لم يقل فَأَما إِذا قَالَ لَهُ حدث عني بِمَا فِي هَذَا الْجُزْء وَلم يقل سمعته فانه لَا يكون مُحدثا لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا أجَاز لَهُ التحدث بِهِ عَنهُ فَلَيْسَ لَهُ أَن يحدث عَنهُ لِأَنَّهُ يكون بالتحدث عَنهُ كَاذِبًا وَلَيْسَ يصير ذَلِك مُبَاحا باباحته لَهُ
وَإِذا سمع الشَّيْخ نُسْخَة من كتاب مَشْهُور لم يجز لَهُ أَن يُشِير إِلَى غير تِلْكَ النُّسْخَة من ذَلِك الْكتاب فَيَقُول قد سمعته لِأَن النّسخ من الْكتاب الْوَاحِد قد تخْتَلف إِلَّا أَن يعلم أَن النسختين تتَّفقَانِ
وَأما الْكِتَابَة فَهِيَ أَن يكْتب الشَّيْخ إِلَى غَيره أَنه سمع الْكتاب الْفُلَانِيّ أَو النُّسْخَة الْفُلَانِيَّة فان اضْطر الْمَكْتُوب إِلَيْهِ أَنه خطه جَازَ أَن يروي عَنهُ وَإِن لم يضْطَر إِلَى ذَلِك لكنه ظَنّه جَازَ أَن يروي بِحَسب ظَنّه
وَأما الْإِجَازَة فَهِيَ أَن يَقُول الْإِنْسَان لغيره قد أجزت لَك أَن تروي عني مَا صَحَّ من أحاديثي وَأَصْحَاب الحَدِيث يجيزون ذَلِك ويسوغون لمن اجيز لَهُ أَن يَقُول أَخْبرنِي فلَان وَلَا يجيزون لَهُ أَن يَقُول حَدثنِي قَالُوا لِأَن قَوْله قد أجزت لَك أَن تروي مَا صَحَّ عني من أحاديثي يجْرِي فِي الْعَادة مجْرى قَوْله مَا صَحَّ عني من أحاديثي قد سمعته فاروه عني وَاعْلَم أَن ظَاهر الْإِجَازَة هِيَ إِبَاحَة الشَّيْخ التحديث عَنهُ والإخبار عَنهُ من غير أَن يُخبرهُ ويحدثه وَهَذَا(2/171)
إِبَاحَة الْكَذِب وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك وَلَا لغيره أَن يستبيح الْكَذِب إِذا أُبِيح فان ثَبت أَن قَوْله قد أجزت لَك أَن تروي عني إِقْرَار من جِهَة الْعَادة أَنه سمع مَا صَحَّ عَنهُ فَحكمه حكم المناولة وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا بِكَذَا مَا حكمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَنْبَغِي أَن نذْكر من الصَّحَابِيّ وَمَا طَرِيق كَونه صحابيا ثمَّ نتكلم فِي قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا أَن نَفْعل كَذَا مَا الَّذِي يفِيدهُ
أما الصَّحَابِيّ فَيَنْبَغِي أَن يجْتَمع فِيهِ أَمْرَانِ حَتَّى يكون صحابيا أَحدهمَا أَن يُطِيل مجالسة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن من رَآهُ من الوافدين عَلَيْهِ وَغَيرهم وَلكم يطلّ الْمكْث لَا يُسمى صحابيا وَالْآخر أَن يُطِيل الْمكْث مَعَه على طَرِيق التبع لَهُ وَالْأَخْذ عَنهُ والاتباع لَهُ وَلِهَذَا لَا نصف من أَطَالَ مجالسة الْعَالم وَلم يقْصد الْمُتَابَعَة لَهُ بِأَنَّهُ من أَصْحَابه
وَأما طريقنا إِلَى كَون الصَّحَابِيّ صحابيا فطريقان أَحدهمَا يَقْتَضِي الْعلم وَهُوَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر بِأَنَّهُ صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتبعه وَالْآخر يَقْتَضِي الظَّن وَهُوَ إِخْبَار الثِّقَة بذلك إِمَّا هُوَ وَإِمَّا غَيره
فاذا قد عرفنَا من الصَّحَابَة فلنتكلم فِي مسَائِل
مِنْهَا قَول الصَّحَابِيّ امرنا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا أَو أوجب علينا كَذَا أَو أُبِيح لنا كَذَا أَو حظر علينا كَذَا أَو من السّنة كَذَا
وَمِنْهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ قلت هَذَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمِنْهَا قَول الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا وَكَذَا(2/172)
وَمِنْهَا قَول الصَّحَابِيّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا
وَمِنْهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ قولا لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهِ
أما قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا أَن نَفْعل كَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا فَذهب الشَّافِعِي وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله وقاضي الْقُضَاة أَنه يُفِيد أَن الْآمِر هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن لَيْسَ ذَلِك هُوَ الظَّاهِر بل يجوز أَن يكون الْآمِر غَيره وَحمل على ذَلِك قَول الرَّاوِي أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة وَالدَّلِيل على القَوْل الأول أَن من الْتزم طَاعَة رَئِيس فانه إِذا قَالَ أمرنَا بِكَذَا وَكَذَا فانه يفهم مِنْهُ مَا يلْتَزم طَاعَته ويؤثر أمره أَلا ترى أَن الرجل من أَوْلِيَاء السُّلْطَان إِذا قَالَ فِي دَار السُّلْطَان أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا فهم مِنْهُ أَن السُّلْطَان الَّذِي يلْتَزم طَاعَته هُوَ الَّذِي أَمر وَأَيْضًا فغرض الصَّحَابِيّ أَن يعلمنَا الشَّرْع ويفيدنا الحكم فَيجب حمل ذَلِك على من يصدر الشَّرْع عَنهُ دون الْأَئِمَّة والولاة لِأَن امرهم لَا يُؤثر فِي الشَّرْع وَلَا هم المتبعون فِيهِ وَلَا يحمل هَذَا القَوْل على أَمر الله عز وَجل لِأَن أَمر الله عز وَجل ظَاهر للْكُلّ لَا نستفيده من كَلَام الصَّحَابِيّ وَلَا نحمله على جمَاعَة الْأمة لِأَن قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا إِن أَفَادَ ذَلِك أَفَادَ أَن جَمِيع الامة أمرت بذلك وَهِي لَا تَأمر نَفسهَا
فاما قَول الصَّحَابِيّ أوجب علينا كَذَا أَو حظر علينا كَذَا أَو ابيح لنا كَذَا فانه يفهم مِنْهُ أَن الْمُوجب الْمُبِيح الحاظر هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْإِبَاحَة والحظر والإيجاب على الْحَقِيقَة لَا تحصل من بشر سواهُ
وَإِذا قَالَ الْإِنْسَان من السّنة كَذَا لم يعقل مِنْهُ إِلَّا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أَن قَوْلنَا هَذَا الْفِعْل طَاعَة يُفِيد أَنه طَاعَة لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ
إِن قيل يجوز أَن يكون الصَّحَابِيّ إِنَّمَا قَالَ اوجب علينا كَذَا لِأَنَّهُ سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمر بذلك الشَّيْء فَحَمله على الْإِيجَاب فَلَا يلْزم ذَلِك من لم يقل إِن الْأَمر لَيْسَ على الْوُجُوب الْجَواب أَن من يَقُول إِن الْأَمر على(2/173)
الْوُجُوب يلْزمه أَن يَأْخُذ بقول الصَّحَابِيّ أوجب علينا كَذَا وَلَا يسْقط عَنهُ الْوُجُوب لما قَالَه السَّائِل وَمن لم يقل إِن الْأَمر على الْوُجُوب يلْزمه ذَلِك أَيْضا لِأَن الظَّاهِر من الصَّحَابِيّ أَنه لم يقل ذَلِك إِلَّا مَعَ زول الْإِشْكَال وَالْخلاف وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون قد سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَفْظَة الْوُجُوب أَو اضْطر إِلَى ذَلِك من قَصده
إِن قيل أَلَيْسَ قد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا وعني بذلك سنة غَيره قُلْنَا لسنا نمْنَع من ذَلِك مَعَ التَّقْيِيد وَإِنَّمَا نمْنَع من أَن يفهم من إِطْلَاق السّنة سنة غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما قَول الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد قَالَ قوم إِنَّه يحْتَمل أَن يكون أخبرهُ غَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمعهُ مِنْهُ وَقَالَ قوم الظَّاهِر أَنه سَمعه مِنْهُ وَهَكَذَا ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح
فَأَما إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا وَكَذَا فَالظَّاهِر مِنْهُ أَنه قصد أَن يعلمنَا بِهَذَا الْكَلَام حكما ويفيدنا شرعا وَلَا يكون كَذَلِك إِلَّا وَقد كَانُوا يَفْعَلُونَهُ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه يظْهر لَهُ فَلَا يُنكره وَلِهَذَا كَانَ الظَّاهِر من قَول الرَّاوِي كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا أَن جمَاعَة الامة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك أَو يفعل الْبَعْض فَلَا يُنكر أَو يفعل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيعلم بِهِ وَلَا يُنكره وَذَلِكَ كَقَوْل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانُوا لَا يقطعون الْيَد فِي الشَّيْء التافه
فَأَما إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قولا لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهِ فَحسن الظَّن بِهِ يَقْتَضِي أَن يكون قَالَه عَن طَرِيق فاذا لم يكن الِاجْتِهَاد فَلَيْسَ إِلَّا أَنه سَمعه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم =(2/174)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي مَذْهَب الرَّاوِي إِذا كَانَ بِخِلَاف رِوَايَته مَا الْمَعْقُول مِنْهُ وَهل يخْتَص بِهِ رِوَايَته أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
حُكيَ عَن بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة وَغَيرهم أَن الرَّاوِي للْحَدِيث الْعَام إِذا خصّه أَو تَأَوَّلَه وَجب الْمصير إِلَى تَأْوِيله وتخصيصه لِأَن بمشاهدته النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعرف بمقاصده وَلذَلِك حملُوا رِوَايَة أبي هُرَيْرَة فِي غسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب سبعا على النّدب لِأَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يقْتَصر على الثَّلَاث وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمصير إِلَى ظَاهر الْخَبَر أولى وَمِنْهُم من جعل التَّمَسُّك بِظَاهِر الْخَبَر أولى من تَأْوِيل الرَّاوِي إِذا كَانَ تَأْوِيله بِخِلَاف ظَاهر الْخَبَر قَالَ فان كَانَ تَأْوِيله هُوَ أحد محتملي الظَّاهِر حملت الرِّوَايَة عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَنَّهُ حمل مَا رَوَاهُ ابْن عمر من حَدِيث الِافْتِرَاق على افْتِرَاق الْأَبدَان لِأَنَّهُ مَذْهَب ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن لم يكن لمَذْهَب الرَّاوِي وتأويله وَجه إِلَّا أَنه علم قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك التَّأْوِيل ضَرُورَة وَجب الْمصير إِلَى تَأْوِيله وَإِن لم يعلم ذَلِك بل جوز أَن يكون صَار إِلَى ذَلِك التَّأْوِيل لنَصّ أَو قِيَاس وَجب النّظر فِي ذَلِك الْوَجْه فان اقْتضى ذَلِك مَا ذهب إِلَيْهِ الرَّاوِي وَجب الْمصير إِلَيْهِ وَإِلَّا لم يصر إِلَيْهِ وَهَذَا صَحِيح وَكَذَلِكَ إِذا علم انه صَار إِلَى ذَلِك التَّأْوِيل لنَصّ جلي لَا مساغ للِاجْتِهَاد فِي خِلَافه وتأويله فَأَنَّهُ يلْزم الْمصير إِلَى تَأْوِيله كَمَا لَو صرح بالرواية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك التَّأْوِيل قَالَ قَاضِي الْقُضَاة فان كَانَ الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ مُجملا وَبَينه الرَّاوِي فان بَيَانه اولى
وَدَلِيل الشَّيْخ ابي الْحسن رَحمَه الله هُوَ أَن مَذْهَب الرَّاوِي لَيْسَ بِحجَّة وَقَول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حجَّة فَلم يجز الْعُدُول عَنهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة وَدَلِيلنَا أَن نخص الْعُمُوم لتخصيص النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَإِنَّمَا نستدل بِمذهب الرَّاوِي على تَخْصِيص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ وَيجْرِي مَذْهَبهم مجْرى روايتهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوجه الِاسْتِدْلَال بذلك هُوَ انه إِذا لم يكن فِيمَا يعرفهُ من النُّصُوص ووجوه الِاجْتِهَاد مَا يَقْتَضِي(2/175)
ذَلِك التَّخْصِيص فَلَا يَخْلُو الرَّاوِي إِمَّا أَن يكون قَالَ مَا قَالَ لشَهْوَة أَو لِأَنَّهُ اضْطر إِلَى قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى التَّخْصِيص أَو لِأَنَّهُ سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك نصا جليا لَا يسوغ الِاجْتِهَاد فِي خِلَافه اَوْ سمع نصا مُحْتملا وَالظَّاهِر من دينه يمْنَع من تَخْصِيص الْعُمُوم بالتشهي وَيمْنَع من أَن لَا ينْقل الحَدِيث الْمُحْتَمل لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون اجْتِهَاد غَيره فِيهِ خلاف اجْتِهَاده فَيثبت القسمان الْآخرَانِ وَأيهمَا كَانَ وَجب التَّخْصِيص كَمَا لَو أظهر الرِّوَايَة بذلك
فان قيل لم لم ينْقل قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو النَّص الْجَلِيّ قيل لِأَن تَخْصِيصه الْعُمُوم مَعَ دينه يجْرِي مجْرى نَقله النَّص من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فان قيل أفما تجوزون أَن يكون قد وهم فَظن من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا أصل لَهُ وتوهم أَنه عَالم بذلك قيل الظَّاهِر من دينه أَنه مَا خص الْعُمُوم إِلَّا وَقد اضْطر إِلَى قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك كَمَا أَن الظَّاهِر من رِوَايَة الضَّابِط المتيقظ أَنه لم يخطيء سَمعه وَإِن جَازَ خلاف ذَلِك بِأَن يتَوَهَّم خلاف مَا قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الاخبار الْمُعَارضَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْخَبَرَيْنِ المتعارضين إِمَّا أَن يَكُونَا معلومين أَو غير معلومين أَو أَحدهمَا مَعْلُوم وَالْآخر غير مَعْلُوم فان كَانَا معلومين فإمَّا ان يَكُونَا خاصين اَوْ عَاميْنِ اَوْ أَحدهمَا خَاص وَالْآخر عَام فان كَانَا عَاميْنِ فاما أَن يَكُونَا عَاميْنِ من كل وَجه أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا عَاما من وَجه خَاصّا من وَجه فان كَانَ احدهما عَاما وَالْآخر خَاصّا قضي بالخاص على الْعَام وَإِن كَانَا خاصين على الْإِطْلَاق أَو عَاميْنِ على الْإِطْلَاق وَعرف التأريخ فيهمَا قضينا بنسخ الْمُتَأَخر مِنْهُمَا للمتقدم فان لم يعرف التأريخ فيهمَا فَإِن أمكن التَّخْيِير فيهمَا فعل ذَلِك وَإِن لم يُمكن التَّخْيِير فيهمَا أَو أمكن ذَلِك لَكِن الْأمة منعت مِنْهُ حكمنَا بَان التَّعَبُّد فيهمَا بالنسخ عِنْد من عرف التأريخ وَأَن التَّعَبُّد علينا هُوَ بِالرُّجُوعِ إِلَى(2/176)
مُقْتَضى الْعقل لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر وَلَا يجوز تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِمَا يرجع إِلَى إِسْنَاده لِأَن التَّرْجِيح بذلك يَقْتَضِي قُوَّة الظَّن لثُبُوت احدهما وَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا مظنونا فيقوى ظننا لَهُ وَيجوز ان يُقَال إِن التَّعَبُّد علينا بِأَحَدِهِمَا يُقَوي بِمَا يرجع إِلَى صفة الحكم نَحْو الْحَظْر وَالْوُجُوب لِأَن ذَلِك لَيْسَ يَقْتَضِي قُوَّة الظَّن لثُبُوت الْخَبَر وَإِنَّمَا يَقْتَضِي التَّعَبُّد والتعبد عِنْد التَّعَارُض قد يدْخل الظَّن فِي شَرَائِطه وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا خَاصّا من وَجه عَاما من وَجه فَلَيْسَ تَخْصِيص أَحدهمَا بِالْآخرِ أولى من الْعَكْس فَيجوز أَن يرجح كَون أَحدهمَا مُخَصّصا للْآخر بِمَا يرجع إِلَى الحكم من كَونه مَحْظُورًا أَو غير ذَلِك وَمِثَال ذَلِك من الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف} وَقَوله {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} وَإِن كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا وَكَانَ أَحدهمَا خَاصّا فانه يَقع التَّخْصِيص بِهِ مَعْلُوما كَانَ الْخَاص أَو مظنونا وَإِن لم يكن أَحدهمَا خَاصّا حكم بالمعلوم لِأَنَّهُ لَا يجوز إطراحه إِلَى المظنون وَإِن كَانَا مظنونين قضي بالخاص مِنْهُمَا إِن كَانَ فيهمَا خَاص وَإِن لم يكن رجح أَحدهمَا على الآخر وَعمل على الْأَرْجَح
وَيُقَال أَيْضا فِي قسْمَة الْأَخْبَار المتعارضة أَن الْخَبَرَيْنِ إِذا تَعَارضا فإمَّا أَن يُمكن الْجمع بَينهمَا اَوْ لَا يُمكن فان أمكن فإمَّا ان يُمكن الْجمع بَينهمَا فِي وَقت وَاحِد أَو فِي وَقْتَيْنِ أما فِي وَقت وَاحِد فبأن يحمل أَحدهمَا لمَكَان الآخر على مجَاز إِمَّا بالتخصيص وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَأما فِي وَقْتَيْنِ فبأن يعلم تقدم أَحدهمَا بِعَيْنِه على الآخر فَيكون مَنْسُوخا بِمَا تاخر عَنهُ وَأما مَا لَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فإمَّا أَن لَا يُمكن لأنفسهما أَو لأمر اقتران بهما فَمَا لَا يُمكن لأمر اقْترن بهما فَهُوَ أَن يُمكن تاويل أَحدهمَا بِالْآخرِ لَكِن الْأمة منعت من ذَلِك كَرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة يُمكن تَخْصِيصه فِي الجنسين الْمُخْتَلِفين بِخَبَر أبي سعيد لَكِن السّلف على قَوْلَيْنِ أَكْثَرهم تَركه وَصَارَ إِلَى رِوَايَة أبي(2/177)
سعيد والأقل أَخذ بِهِ وَأما الَّذِي لَا يُمكن ذَلِك فِيهِ لأنفسهما فَلهُ شُرُوط
مِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا نفيا لحم الآخر أَو حكم أَحدهمَا ضدا لحكم الآخر
وَمِنْهَا أَن يتَعَلَّق كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا تعلق بِهِ الآخر على الْحَد الَّذِي تعلق بِهِ الآخر فِي الْوَقْت الَّذِي تعلق بِهِ الآخر وَلَا يكون أَحدهمَا خَاصّا وَالْآخر عَاما بل يكونَانِ خاصين أَو عَاميْنِ أَو كل وَاحِد مِنْهُمَا خَاصّا من وَجه عَاما من وَجه فَلَا يكون أَحدهمَا بِأَن يكون مَخْصُوصًا بِالْآخرِ بِأولى من الْعَكْس
وَمِنْهَا أَن لَا يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر وَمَتى تَعَارضا هَذَا التَّعَارُض رجح بَينهمَا وَعمل على التَّرْجِيح وَإِن تَسَاويا فِي التَّرْجِيح فسنذكر حكمه إِن شَاءَ الله
إِن قيل كَيفَ يثبت التَّنَافِي فِي الْأَخْبَار وَلَيْسَ فِي الألفلظ إِلَّا مَا يُمكن تَأْوِيله على مُوَافقَة غَيره قيل قد يكون فِي الْأَلْفَاظ مَا لَا يُمكن ذَلِك فِيهِ إِلَّا بالتعسف الشَّديد فِي التَّأْوِيل وَمثل ذَلِك لَا يُوجد فِي كَلَام حَكِيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يتَرَجَّح بِهِ أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْخَبَر يرجح على الْخَبَر بِمَا يرجع إِلَى سَنَده وَبِمَا يرجع إِلَى مَتنه والراجع إِلَى سَنَده ضَرْبَان أَحدهمَا كَثْرَة الروَاة وَالْآخر أَحْوَالهم وَكَثْرَة الروَاة ضَرْبَان أَحدهمَا تكون الْكَثْرَة مُسَمَّاة وَالْآخر لَا تكون مُسَمَّاة فَالْأول أَن يروي أحد الْخَبَرَيْنِ صَحَابِيّ مَذْكُور وَالْآخر يرويهِ صحابيان مذكوران وَالثَّانِي أَن يروي كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ صَحَابِيّ مَذْكُور ويروي أَيْضا أَحدهمَا تَابِعِيّ ثِقَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمعلوم أَنه مَا أَخذ الْعلم ذَلِك عَن الصَّحَابِيّ الْمَذْكُور الَّذِي رَوَاهُ وَلَا عَمَّن أَخذ الْعلم عَنهُ فَيعلم أَنه قد رَوَاهُ صَحَابِيّ آخر(2/178)
وَأما التَّرْجِيح بأحوال الروَاة فانه يَقع بِقُوَّة الْأَحْوَال المراعاة فِي قبُول الْخَبَر وَهِي ضَرْبَان أَحدهمَا الدّين والورع والتحري وَالْآخر الْعلم والبصيرة بِمَا يرويهِ أما الأول فبأن يكون رَاوِي أحد الْخَبَرَيْنِ أَشد تحريا وَأكْثر ورعا وَأما الثَّانِي فضربان أَحدهمَا أَن تكون قُوَّة علم الرَّاوِي وَشدَّة بصيرته لَا تخْتَص بذلك الْخَبَر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ وَالْآخر يخْتَص بذلك الْخَبَر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ أما الأول فبأن يكون أَحدهمَا أضبط وَقد يكون أضبط لِأَنَّهُ أَشد تيقظا وأوفر عقلا وأغزر فقها وَقد يسْتَدلّ على أَنه أضبط بِكَوْنِهِ أَكثر اشتغالا بِالْحَدِيثِ وَأَشد انْقِطَاعًا إِلَيْهِ بقلة مَا يَقع فِي حَدِيثه إِلَيْهِ من الْخلَل فِي الْمَعْنى وَاللَّفْظ وَأما مَا يخْتَص الْخَبَر وَمَا يتَعَلَّق بِهِ فراجع إِلَى قُوَّة طَرِيق الرَّاوِي نَحْو أَن يروي زيد أَنه شَاهد عمرا بِبَغْدَاد فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ فِي وَقت السحر ويروي الآخر أَنه شَاهده فِي ذَلِك الْيَوْم بِالْبَصْرَةِ الظّهْر فان طَرِيق هَذَا أظهر وَدخُول اللّبْس على الرَّاوِي وَالْآخر أَكثر وَنَحْو أَن يُرْسل أَحدهمَا الحَدِيث ويسنده الآخر على قَول بَعضهم لِأَن الثِّقَة لَا يُرْسل الحَدِيث فَيَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَقد اشتدت ثقته بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك وَنَحْو أَن يكون أحد الراويين أَشد مُلَابسَة بِمَا رَوَاهُ فَيكون طَرِيقه إِلَيْهِ أظهر فَكَذَلِك رجعت الصَّحَابَة إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَحْكَام الْجَنَابَة وَرجح الشَّافِعِي رِوَايَة أبي رَافع فِي تَزْوِيج مَيْمُونَة على رِوَايَة ابْن عَبَّاس لأَنا أَبَا رَافع السفير فِي ذَلِك فَكَانَ أعرف بالقصة وَنحن نذْكر الْآن الْأَدِلَّة على ذَلِك إِن شَاءَ الله
أما كَثْرَة الروَاة فقد رجح بهَا الشَّافِعِي وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن وَلم يرجح بهَا قوم وَالدَّلِيل على التَّرْجِيح بِهِ أَن أحد الْخَبَرَيْنِ إِنَّمَا يرتجح على صَاحبه بِقُوَّة يتَمَيَّز بهَا وَكَثْرَة الْعدَد قُوَّة أما اعْتِبَار الْقُوَّة فِي الْأَخْبَار فقد رَجَعَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بأخبار الْآحَاد وَأَجْمعُوا على الِاحْتِيَاط فِي الْإِخْبَار وَأما أَن كَثْرَة الروَاة تحصل بهَا قُوَّة الْخَبَر فَلِأَن الروَاة إِذا بلغُوا حدا من الْكَثْرَة وَقع الْعلم بخبرهم فَكلما قاربوا تِلْكَ الْكَثْرَة قوي الظَّن لصدقهم وَلِأَن السَّهْو والغلط مَعَ الْكَثْرَة أقل وَكَذَلِكَ الْكَذِب لِأَن الْإِنْسَان يستحي أَن يطلع غَيره على كذبه وَلَا يستحي إِذا(2/179)
لم يشْعر بِهِ غَيره
وقاس الْمُخَالف الْخَبَر على الشَّهَادَة بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا خبر عَمَّا يتَعَلَّق بِهِ حكم فَلم يتَرَجَّح بِكَثْرَة المخبرين الْجَواب إِن قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله حكى فِي الدَّرْس أَن مَالِكًا رَحمَه الله رجح إِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ بِكَثْرَة الشُّهُود وَغَيره لم يرجحها بِالْكَثْرَةِ قَالَ لِأَن الشَّهَادَة أصل فِي نَفسه أَلا ترى أَنه اعْتبر فِيهَا لفظ مَخْصُوص وَلَيْسَ يجب إِذا لم يجز الشَّهَادَة على مُوجب الْقيَاس فِي ذَلِك من التَّرْجِيح بِقُوَّة الظَّن أَن لَا يجْرِي الْخَبَر على ذَلِك لِأَن الأَصْل هُوَ التَّرْجِيح بِقُوَّة الظَّن إِذْ الظَّن الْقوي مَعَ ظن أَضْعَف مِنْهُ كَالْعلمِ مَعَ الظَّن لِأَن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا زِيَادَة لَيست فِي الآخر فاذا كَانَ الأَصْل ثُبُوت التَّرْجِيح بذلك فَمَا خرج عَن هَذَا الأَصْل لَا يجوز قِيَاس مَا عداهُ عَلَيْهِ بل يجب تبقيه مَا عداهُ على حكم الأَصْل وقاس الْمُخَالف أَيْضا الْخَبَر على الْفَتْوَى فِي أَنه لَا يتَرَجَّح إِحْدَى الفتويين على الْأُخْرَى بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ وَالْجَوَاب مَا ذَكرْنَاهُ من أَن خُرُوج الْبَعْض من هَذِه الْمسَائِل عَن مُوجب الْقيَاس لَا يَقْتَضِي خُرُوج الْبَعْض الآخر مِنْهُ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح إِنَّه لَو رجح إِحْدَى الفتويين بِكَثْرَة الْمُفْتِينَ جَازَ
وَأما التَّرْجِيح بِزِيَادَة الْوَرع والتحري فانما وَجب لِأَن الْكَذِب والتساهل مَعهَا أبعد فالظن لصدق الرَّاوِي أقوى وَالْخَطَأ مَعَ قُوَّة الضَّبْط أبعد فالظن لصدق الْخَبَر مَعَه يكون أقوى وَالْخَطَأ مَعَ كَون الرَّاوِي أفقه ابعد إِذا كَانَ يروي على الْمَعْنى فَأَما رِوَايَة اللَّفْظ فانه يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيه وَغَيره والغلط مَعَ الْأَشْيَاء الَّتِي لَا تَلْتَبِس الْحَال فِيهَا أبعد وَكَون أحد الراويين أَشد مُلَابسَة لما ورد الْخَبَر فِيهِ يبعد مَعَه الالتباس والاشتباه
وَأما تَرْجِيح الْمُرْسل على الْمسند فَلم يذهب إِلَيْهِ أَكثر النَّاس وَذهب عِيسَى ابْن ابان إِلَى التَّرْجِيح بِهِ لِأَن الثِّقَة لَا يُرْسل الحَدِيث وَيَقُول قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا وَقد وثق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه قَالَ قَاضِي الْقُضَاة هَذَا الْكَلَام يتَوَجَّه إِذا قَالَ الرَّاوِي قَالَ النَّبِي فَأَما إِذا قَالَ عَن النَّبِي فانه لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ هَذَا(2/180)
الْكَلَام وَأَيْضًا فان قَول الرَّاوِي قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يحسن مَعَه الظَّن لكَونه قَائِلا لذَلِك كَمَا يحسن مَعَ الْعلم فَمن ايْنَ أَنه لم يقل قَالَ النَّبِي إِلَّا وظنه آكِد من الظَّن الْحَاصِل بِرِوَايَة الْمسند الْمعَارض لَهُ فان قَالَ الْمُرْسل للْحَدِيث إِذا أرْسلت فقد حدثت عَن جمَاعَة من الثِّقَات فَحِينَئِذٍ يكون مرسله اقوى مِمَّن أسْند حَدِيثه إِلَى وَاحِد لأجل الْكَثْرَة
وَقد رجح قوم الْخَبَر بِكَوْن الرَّاوِي من أكَابِر السّلف وَكَونه أقدم هِجْرَة وَهَذَا إِنَّمَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح من حَيْثُ كَانَ من هَذِه سَبيله أعرف بأحوال النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام واشد خبْرَة بِهِ وَرجح قوم الْخَبَر بِالْحُرِّيَّةِ والذكورية أما الْحُرِّيَّة فَلَا تَأْثِير لَهَا فِي قُوَّة الظَّن وَأما الذكورية فان كَانَ الضَّبْط مَعهَا أَشد وَقع بهَا التَّرْجِيح وكل ذَلِك قد دخل فِيمَا تقدم
وَأما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى متن الْخَبَر فضربان أَحدهمَا رَاجع إِلَى لفظ الْخَبَر وَالْآخر لَا يرجع إِلَى لَفظه اما الرَّاجِع إِلَى لَفظه فبأن يكون فِي أَحدهمَا اختلال فِي اللَّفْظ أَو فِي الْمَعْنى وَالْآخر سليما من ذَلِك فيقوى الظَّن لبعده عَن الْخَطَأ والسهو فان قيل فَمَا كَانَ اضْطِرَاب لَفظه بِغَيْر الْمَعْنى يَنْبَغِي أَن لَا يقبل فَلَا معنى للترجيح عَلَيْهِ قيل قد يقبل إِذا أمكن تَأْوِيل ذَلِك الِاضْطِرَاب على بعض الْوُجُوه وَأما مَا لَا يرجع إِلَى اللَّفْظ فضربان أَحدهمَا صفة حكمه وَالْآخر طَرِيق يشْهد بِحكمِهِ فَأَما مَا يشد بالحكم فضربان أَحدهمَا يَكْفِي نَفسه فِي ثُبُوت الحكم وَالْآخر لَا يَكْفِي وَمَا يَكْفِي نَفسه فِي ذَلِك ضَرْبَان احدهما دَلِيل وَالْآخر أَمارَة فالدليل هُوَ الْكتاب وَالسّنة الْمَقْطُوع بهَا لِأَنَّهُ إِذا وَقع التَّرْجِيح بِمَا لَا يَكْفِي نَفسه فِي ثُبُوت الحكم فالترجيح بِمَا لَا يَكْفِي نَفسه أولى وَهَذَا مَفْرُوض فِي كتاب يدل على الحكم على ضرب من الِاشْتِبَاه وَيكون خبر الْوَاحِد تدل عَلَيْهِ دلَالَة ظَاهِرَة فَحِينَئِذٍ يرجح بِالْكتاب وَإِلَّا فَإِن دلّ الْكتاب دلَالَة ظَاهِرَة فَلَا معنى لِأَن يَقع التَّرْجِيح بِهِ بل هُوَ الأَصْل فِي الدّلَالَة وعَلى هَذَا قد يعضد الْإِجْمَاع الْخَبَر فيرجح بِهِ وَإِن انْعَقَد الْإِجْمَاع عَن غَيره وَمن ذَلِك أَن(2/181)
يكون من عمل بِأحد الْخَبَرَيْنِ قد عمل بِالْآخرِ وَإِن لم يعلم أَي عمليه هُوَ الْمُتَأَخر فَيكون الْخَبَر الَّذِي عمل بِهِ الْفَرِيقَانِ أولى قَالَ قَاضِي الْقُضَاة لأَنا إِذا لم نعلم أَي العملين هُوَ الْمُتَأَخر كَانَ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لنا أَن ندفعه بالمحتمل
وَلقَائِل أَن يَقُول سَوَاء كَانَ الْعَمَل بذلك الْخَبَر مُتَقَدما أَو مُتَأَخِّرًا فانه يكون إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ إِن كَانَ مُتَقَدما فقد وافقوا رِوَايَة الْخَبَر الآخر وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مُتَأَخِّرًا لِأَن رُوَاة الْخَبَر الآخر عاملون بِهِ على كل حَال
وَأما الأمارة المرجحة للْخَبَر فَقِيَاس الْأُصُول إِذا شهد بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر
فَأَما مَا لَا يَكْفِي فِي ثُبُوت الحكم فضربان
أَحدهمَا أَن يُوَافق أحد الْخَبَرَيْنِ حكم الْعقل الَّذِي يجوز الِانْتِقَال عَنهُ وَذَلِكَ أَن الْعقل لَيْسَ يَكْفِي فِي قبح الْمضرَّة إِلَّا بِشَرْط أَن لَا يُوجد دَلِيل شَرْعِي يدل على أَن فِيهِ مصلحَة وَمَنْفَعَة موفية فان وَافق حكم الْعقل أحد الْخَبَرَيْنِ لم يرجح بذلك على الْخَبَر الآخر فَلذَلِك أخرنا الْكَلَام فِي هَذَا الْقسم
وَالضَّرْب الآخر أَن يعْمل أَكثر السّلف بِأحد الْخَبَرَيْنِ ويعيبوا على من خَالفه كَخَبَر الرِّبَا وَقد رجح بذلك عيس بن أبان لِأَن الْأَغْلَب أَن الصَّوَاب يكون مَعَ الْأَكْثَر وَيمْنَع مِنْهُ قَاضِي الْقُضَاة لِأَن عمل الْأَكْثَر لَيْسَ بِحجَّة وَيجوز الْغَلَط عَلَيْهِم كجوازه على الْأَقَل
وَأما التَّرْجِيح بِصفة حكم الْخَبَر فوجوه
مِنْهَا أَن يكون جكم أحد الْخَبَرَيْنِ مطابقا للْأَصْل وَيكون الآخر نَاقِلا عَن الأَصْل نفيا كَانَ أَو إِثْبَاتًا
وَمِنْهَا أَن يكون لأحد الْخَبَرَيْنِ حكم بَاقٍ بِاتِّفَاق وَلَيْسَ كَذَلِك للْخَبَر الآخر(2/182)
وَمِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا أحوط
وَمِنْهَا أَن يكون آكِد
وَمِنْهَا أَن يكون حكم أَحدهمَا قد ندبنا إِلَى إِسْقَاطه
أما إِذا كَانَ حكم احدهما هُوَ الأَصْل فضربان أَحدهمَا أَن يكون الأَصْل من حَال الْمَرْوِيّ عَنهُ وَالْآخر أَن يكون هُوَ الأَصْل فِي الْعقل
فَالْأول نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل فِي الْكَعْبَة وَأَنه لم يقبل وَهُوَ صَائِم وَأَنه تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال لِأَن الأَصْل هُوَ عدم الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة وَعدم الْقبْلَة وَعدم التَّزْوِيج فَالْخَبَر الْمَرْوِيّ أَنه صلى فِي الْكَعْبَة أولى لِأَن ثِقَة من روى أَنه صلى فِيهَا تَقْتَضِي أَن تحمل رِوَايَة من روى أَنه لم يصل فِيهَا على حسب اعْتِقَاده وَأَنه خَفِي عَلَيْهِ بعض احوال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما رِوَايَة أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقبلهَا وَهُوَ صَائِم فانما هِيَ رِوَايَة عَن حَالهَا مَعَه لَا تعَارض رِوَايَة عَائِشَة أَنه قبلهَا وَهُوَ صَائِم فَلَا يمْنَع من الْأَخْذ بهَا وعدالة رَاوِي تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حرَام تَقْتَضِي أَن ينْسب رَاوِي تَزْوِيجه إِيَّاهَا وَهُوَ حَلَال إِلَى أَنه استدام الأَصْل فَكَانَت أولى من هَذِه الرِّوَايَة
وَالضَّرْب الثَّانِي كَرِوَايَة من روى حكما يَقْتَضِيهِ الْعقل نَحْو إِسْقَاط عبَادَة ويروي الآخر التَّعَبُّد بهَا فرواية الْإِثْبَات أولى لِأَن الظَّاهِر ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا يعلمنَا مَا لَا نعلمهُ من دونه وَهَذَا الظَّاهِر مُطَابق لرِوَايَة من روى الحكم الشَّرْعِيّ فَكَانَت أولى وَلِأَن الظَّاهِر مِمَّا يُطَابق حكم الْعقل أَنه هُوَ الأَصْل الْمُتَقَدّم وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى متأخره فَكَانَت أشبه بالناسخ وَالْأَخْذ بالناسخ أولى وَالْوَجْه الأول أقوى
إِن قيل هلا عملتم بِمَا يُوَافق أصل الْعقل لِأَنَّهُ قد عضده دَلِيل وَلَيْسَ كَذَلِك الحكم النَّاقِل قيل إِن الْعقل إِنَّمَا لَا يُوجب الْعِبَادَة بِشَرْط أَن لَا ينْقل(2/183)
شرع فاذا روى شرع ناقل صَار كَأَن الْعقل مَا اقْتضى نفي تِلْكَ الْعِبَادَة لِأَن شَرط اقتضائه لنفيها قد زَالَ وَالتَّرْجِيح وَاقع بِهَذَا الْقَبِيل وَإِن كَانَ الخبران معلومين إِذا احتججنا بِمَا ذَكرْنَاهُ أخيرا من أَن الْخَبَر النَّاقِل كالناسخ لِأَن النَّاسِخ يقدم على الْمَنْسُوخ وَإِن كَانَا معلومين وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَن الْخَبَرَيْنِ إِذا كَانَ أَحدهمَا نفيا وَالْآخر إِثْبَاتًا وَكَانَا شرعيين فانهما سَوَاء
وَلقَائِل أَن يَقُول لَا بُد أَن يكون أَحدهمَا مطابقا لحكم الْعقل لِأَنَّهُ لَا فعل من الْأَفْعَال إِلَّا وَله فِي الْعقل حكم إِمَّا الْقبْح أَو الْحسن أَو مَا زَاد على الْحسن وَلَيْسَ يكون أحد الْخَبَرَيْنِ نفيا وَالْآخر إِثْبَاتًا إِلَّا وَالنَّفْي مِنْهُمَا نفي لوَاحِد من هَذِه الْأَحْكَام وَالْإِثْبَات مِنْهُمَا إِثْبَات لبعضها فَإِذن أحد هذَيْن الْخَبَرَيْنِ وَاجِب أَن يكون مطابقا لحكم الْعقل
وَقد مثل قَاضِي الْقُضَاة ذَلِك بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي الْكَعْبَة وَمَا رُوِيَ أَنه لم يصل فِيهَا وَبِمَا رَوَت عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبلهَا وَهُوَ صَائِم وَمَا رَوَت أم سَلمَة أَنه مَا كَانَ يقبلهَا وَهُوَ صَائِم وَلَيْسَ هَذَا بمثال الْمَسْأَلَة لِأَن الْقبْلَة ونفيها وَالصَّلَاة ونفيها هِيَ أَفعَال وَلَيْسَت بِأَحْكَام فَيُقَال إِنَّهَا عقلية اَوْ شَرْعِيَّة وَإِنَّمَا الْأَحْكَام جَوَاز الصَّلَاة وَنفي جَوَازهَا وَالْعقل لَو تجرد لَكَانَ مطابقا لنفي جَوَازهَا وَأَنَّهَا غير مصلحَة وَكَون الْقبْلَة غير مفْسدَة للصَّوْم هُوَ مُقْتَضى الْعقل وَكَذَلِكَ تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال أَو حرَام هُوَ إِيقَاع فعل فِي أَحْوَال وَلَيْسَ ذَلِك بِحكم وَإِنَّمَا الحكم هُوَ حسن ذَلِك مَعَ الْإِحْرَام أَو قبحه وَمُقْتَضى الْعقل هُوَ حسنه فَبَان أَن أَحْكَام هَذِه الْأَفْعَال لَيْسَ يَخْلُو أَن تطابق الْعقل إِمَّا النَّفْي مِنْهَا وَإِمَّا الْإِثْبَات فان مثل ذَلِك بِأَن يَقْتَضِي الْعقل قبح الْفِعْل ويروي خبر فِي إِبَاحَته وَخبر فِي وُجُوبه فَيُقَال إِن وُجُوبه وإباحته شرعيان وَالْإِبَاحَة نفي الْوُجُوب فَالْجَوَاب إِن مَا تضمن الْإِبَاحَة لَا يتَضَمَّن نفي الْوُجُوب فَقَط وَلَو تضمن ذَلِك كَانَ قد تضمن حكما عقليا لِأَن الْقبْح قد اقْتَضَاهُ الْعقل والقبيح غير وَاجِب فَمَا اقْتضى كَونه غير وَاجِب قد(2/184)
طابق مُقْتَضى الْعقل لَكِن مَا تضمن الْإِبَاحَة قد تضمن نفيا وإثباتا أما النَّفْي فنفي الْوُجُوب وَأما الْإِثْبَات فَهُوَ كَون الْفِعْل حسنا وَهُوَ زِيَادَة نفي الْوُجُوب وَهُوَ حكم شَرْعِي وَالْخَبَر الدَّال على الْوُجُوب أولى لِأَنَّهُ لَا يُعَارض خبر الْإِبَاحَة فِي اقتضائه نفي الْقبْح لِأَن الْوَاجِب غير قَبِيح وَلَا يُعَارضهُ فِي اقتضائه الْحسن لِأَن الْوَاجِب حسن وَإِنَّمَا يُعَارضهُ فِي نفي الْإِيجَاب وَهَذَا هُوَ حكم الْعقل والإيجاب هُوَ الحكم الْمَنْقُول فَكَانَ أولى
فَأَما إِذا كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ يَقْتَضِي إِثْبَات حد وَالْآخر يَقْتَضِي نَفْيه فقوم رجحوا الْخَبَر الْمسْقط للحد لِأَن الْحَد يسْقط بالشبه وبتعارض الْبَيِّنَتَيْنِ فَوَجَبَ إِسْقَاطه بتعارض الْخَبَرَيْنِ وَيكون ذَلِك كالشبه فِي إِسْقَاطه وقاضي الْقُضَاة يَقُول هما سَوَاء لِأَن الْحَد إِنَّمَا يسْقط عَن الْأَعْيَان بالشبه فَأَما إثْبَاته فِي الْجُمْلَة فِي الشَّرِيعَة فمفارق لإثباته وإسقاطه فِي أَعْيَان الْأَشْخَاص وَلقَائِل أَن يَقُول إِن تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْحَد إِذا كَانَ شبهه فِي إِسْقَاطه الْأَعْيَان مَعَ ثُبُوته فِي أصل الشَّرِيعَة فبأن يجب إِسْقَاطه فِي الْجُمْلَة إِذا تعَارض خبران وَلم يقدم لَهُ حَالَة ثُبُوت أولى
وَأما إِذا تضمن أحد الْخَبَرَيْنِ الْحُرِّيَّة وتضمن الآخر الرّقّ فَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَنَّهُمَا سيان وَقَالَ غَيره الْمُثبت للحرية أولى لِأَن الْحُرِّيَّة لَا يعترضها من الْأَسْبَاب المبطلة لَهَا مَا يعْتَرض الرّقّ وَلَا يبطل الْحُرِّيَّة بعد ثُبُوتهَا كَمَا يبطل الرّقّ بعد ثُبُوته فَكَانَت الْحُرِّيَّة آكِد
فَأَما إِذا اقْتضى أحد الْخَبَرَيْنِ الْحَظْر وَاقْتضى الآخر الْإِبَاحَة فان أَحدهمَا لَا بُد من كَونه مطابقا لمقْتَضى الْعقل فَيكون النَّاقِل عَنهُ أولى وَلَكِن لَا يمْتَنع أَن ينظر هَل للحظر وَجه تَرْجِيح كَمَا أَن النَّقْل عَن أصل الْعقل وَجه تَرْجِيح فان قيل قد يكون الْحَظْر وَالْإِبَاحَة شرعيين إِذا كَانَ حكم الْعقل الْوُجُوب قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْخَبَر الحاظر هُوَ النَّاقِل عَن مُوجب الْعقل الَّذِي هُوَ الْوُجُوب وَالْخَبَر الْمُبِيح لَا يُعَارض حكم الْعقل من حَيْثُ اقْتضى الْحسن وَإِنَّمَا يُعَارضهُ من(2/185)
حَيْثُ يَنْفِي الْوُجُوب وَلَا مُعَارضَة بَينه وَبَين الْخَبَر الحاظر من هَذِه الْجِهَة وَالْقَوْل فِي الْحَظْر هَل هُوَ وَجه تَرْجِيح يجْرِي هَكَذَا لَا يخلوا الخبران اللَّذَان أَحدهمَا حاظر وَالْآخر مُبِيح إِمَّا أَن يكون لأَحَدهمَا حكم بَاقٍ أَو لَا يكون لأَحَدهمَا حكم بَاقٍ فان كَانَ لَهُ ذَلِك فإمَّا أَن يكون ذَلِك الحكم يعلم بَقَاؤُهُ بذلك الْخَبَر أَو بِغَيْرِهِ فان لم يعلم إِلَّا بذلك الْخَبَر نَحْو أَن يكون حكما شَرْعِيًّا أجمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ لأجل ذَلِك الْخَبَر فانه يدل ذَلِك على ثُبُوت الْخَبَر وبقائه لِأَنَّهُ لَو لم يكن كَذَلِك لم يثبت حكمه وَإِن كَانَ ذَلِك الحكم الْبَاقِي يعلم بِغَيْر ذَلِك الْخَبَر لم يثبت حكمه وَإِن كَانَ ذَلِك الحكم الْبَاقِي يعلم بِغَيْر ذَلِك الْخَبَر فانه لَا يدل على ثُبُوت الحكم وَصِحَّته فَلَا يكون ذَلِك الْخَبَر أولى من غَيره نَحْو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ عَن مس الذّكر هَل فِيهِ وضوء فَقَالَ لَا هَل هُوَ إِلَّا بضعَة مِنْك فان كَون الذّكر بضعَة من الْإِنْسَان وَإِن كَانَ بَاقِيا فَلَيْسَ بَقَاؤُهُ لأجل هَذَا الْخَبَر فَيدل على بَقَاء الْخَبَر فَأَما إِن لم يكن لأحد الْخَبَرَيْنِ حكم بَاقٍ فان الشَّيْخ ابا الْحسن قَالَ الحاظر أولى وَقَالَ الشَّيْخ ابو هَاشم وَعِيسَى ابْن أبان رحمهمَا الله يطرحان وَيرجع الْمُجْتَهد إِلَى غَيرهمَا من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَو الْبَقَاء على حكم الْعقل وَوجه قَوْلهمَا هُوَ أَنا إِذا علمنَا تقدم أحد هذَيْن الْخَبَرَيْنِ وَلم يعلم ايهما هُوَ الْمُتَقَدّم جَازَ كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ الْمُتَأَخر الَّذِي يجب الْعَمَل بِهِ بَدَلا من صَاحبه وَلَيْسَ يجوز استعمالهما لأَنا فَرضنَا الْكَلَام فِي خبرين متنافيين وَلذَلِك احتجنا إِلَى التَّرْجِيح وَلَا يجوز الْعَمَل على أَحدهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعَمَل على أَحدهمَا أولى من الْعَمَل على الآخر فَلم يبْق إِلَّا إطراحهما وجريا مجْرى عقدتي وليين على امْرَأَة وَلَا يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر فانهما تبطلان لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحدهمَا أولى من الآخر وَجرى مجْرى الغرقى فِي أَنه إِذا لم يعلم تقدم أَحدهمَا على الآخر بَطل حكم الْإِرْث بَينهم
فان قيل فَيجب أَن لَا يعملوا على حكم الْعقل لجَوَاز أَن يكون هُوَ الْمفْسدَة قيل إِنَّمَا يلْزم ذَلِك بِدَلِيل شَرْعِي ناقل وَلَا دَلِيل فِي الشَّرْع مَعَ التَّعَارُض لِأَن التَّعَارُض والتمانع يصير الشَّرْع كَأَنَّهُ لم يكن فينفرد حكم الْعقل(2/186)
وَالْجَوَاب عَن الشهبة هُوَ أَن قَوْلهم إِذا جَازَ أَن يكون كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ هُوَ الْمُتَأَخر فَلم يكن الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا أولى من الآخر هُوَ نفس الْخلاف لِأَن الْمُخَالف يَقُول بل الْعَمَل على الحاظر أولى وَإِن جَوَّزنَا تقدمه وَلَا يشبه ذَلِك عقدتي الوليين على المراة لِأَنَّهُ لَيْسَ أحد الْعقْدَيْنِ حاظرا وَالْآخر مبيحا وَكَذَلِكَ الغرقى لما ترافع مَوْتهمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم جِهَة مُخْتَصَّة للحظر وجهة مُخْتَصَّة للاباحة
وَقد نصر القَوْل الأول بِوُجُوه
مِنْهَا أَن الْحَظْر أَدخل فِي التَّعَبُّد من الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ أشق فَكَانَ أولى وَالْجَوَاب إِن الْفِعْل قد يتعبدنا الله بحظره وَقد يتعبدنا الله باعتقاد إِبَاحَته وَقد يرد الشَّرْع باباحته مَا لم يكن فِي الْفِعْل مُبَاحا كَمَا يرد بحظر مَا لم يكن مَحْظُورًا فَلَيْسَ أَحدهمَا أَدخل فِي التَّعَبُّد من الآخر
وَمِنْهَا أَنه إِذا تعَارض خَبرا حظر وَإِبَاحَة فقد حصلت جِهَة حظر وجهة إِبَاحَة وَهَاتَانِ الجهتان مَتى اجتمعتا كَانَ الْحَظْر أولى أَلا ترى أَن الْأمة بَين شَرِيكَيْنِ لما اجْتمع فِيهَا ملك هَذَا الشَّرِيك فَهُوَ مُبِيح لَهُ الوطيء وَملك الآخر وَهُوَ حاظر كَانَ الْحَظْر أولى الْجَواب إِن ملك أحد الشَّرِيكَيْنِ لبَعض الْأمة لَيْسَ بِجِهَة مبيحة للوطيء با الْجِهَة المبيحة للوطيء ملك جَمِيعهَا فَلم يحصل فِي هَذِه الْأمة جهتان إِحْدَاهمَا لَو انْفَرَدت أَبَاحَتْ وَالْأُخْرَى لَو انْفَرَدت حظرت والخبران كل وَاحِد مِنْهُمَا لَو انْفَرد لثبت حكمه
وَمِنْهَا لَو غرق جمَاعَة من الْأَقَارِب وخفي علينا تقدم بَعضهم على بعض جعلناهم كَأَنَّهُمْ غرقوا مَعًا وَلم نؤرث بَعضهم من بعض وغلبنا حظر التَّوَارُث بَينهم الْجَواب إِن ذَلِك حجَّة لمخالفهم لأَنهم قد نزلُوا منزلَة من لم يموتوا وَفرق بَينهمَا قَاضِي الْقُضَاة بِأَن الغرقى يجوز أَن يَكُونُوا غرقوا مَعًا فَجَاز أَن نجريهم هَذَا المجرى أما الْخَبَر الحاظر والمبيح فَلَا يجوز كَونهمَا واردين مَعًا فَلم(2/187)
يَصح تقديرهما هَذَا التَّقْدِير
وَمِنْهَا أَن الْعَمَل على الْحَظْر أحوط لِأَنَّهُ إِن كَانَ الْفِعْل مَحْظُورًا فقد تجنبه الْمُكَلف وَإِن كَانَ مُبَاحا لم يضرّهُ تَركه وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا استباحه وَفعله لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون مَحْظُورًا فَيكون بِفِعْلِهِ لَهُ فَاعِلا لمحظور
إِن قيل وَهُوَ معذر إِذا عمله على الْحَظْر لِأَنَّهُ قد اعْتقد قبحه وَلَا يَأْمَن كَونه مسنا فَيكون مقدما على اعْتِقَاد لَا يَأْمَن كَونه جهلا فَالْجَوَاب إِن الْفِعْل إِذا كَانَ مَحْظُورًا فاستباحه الْإِنْسَان كَانَ بِفِعْلِهِ وباعتقاد إِبَاحَته مقدما على قبيحين وَإِذا كَانَ مُبَاحا فتجنبه مُعْتَقدًا لحظره كَانَ مقبحا باعتقاد حظره فَصَارَ التَّعْزِير فِي ذَلِك أَكثر وَكَانَ الْعُدُول إِلَى تجنبه أولى لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَض إِلَّا التَّرْجِيح بِوَجْه لَهُ ضرب من الْقُوَّة وَأَيْضًا فانه إِذا ثَبت أَن تجنب الْفِعْل أولى من الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي تعَارض فِيهِ الخبران قَطعنَا على أَن اعْتِقَاد تجنبه وحظره لَيْسَ بِجَهْل وَلَا قَبِيح وَلَا نَكُون مقدمين على اعْتِقَاد لَا يُؤمن كَونه جهلا فَهَذَا الْوَجْه أولى فِي الِاحْتِجَاج من كل مَا سلف
فان قيل أَلَيْسَ إِذا تَعَارَضَت الْبَيِّنَتَانِ فِي الْملك لم تسقطا وَعَملا عَلَيْهِمَا فَهَلا وَجب مثله فِي الْخَبَرَيْنِ قيل أحد لم يقل فِي الْخَبَرَيْنِ المتنافيين كَذَلِك فان قيل فَهَلا اطرحتم الْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا اطرحتم الْخَبَرَيْنِ قيل لِأَنَّهُ يُمكن الْعَمَل عَلَيْهِمَا بِأَن يَجْعَل الدَّار ملكا بَين المتداعيين وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَن الْبَيِّنَتَيْنِ يجوز صدقهما بِأَن يشْهد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا شهد بِهِ لمَكَان الْيَد وَالتَّصَرُّف وَيجوز أَن يكون المتداعيان متصرفين فِي الْملك فَيثبت لكل وَاحِد مِنْهُمَا الْملك بِحكم الْيَد وَلَيْسَ يجوز وُرُود الْإِبَاحَة والحظر مَعًا فينقلا مَعًا(2/188)
الْكَلَام فِي الْقيَاس وَالِاجْتِهَاد
فصل فِي ذكر أَبْوَاب الْقيَاس
اعْلَم أَن الْغَرَض بالْكلَام فِي الْقيَاس أَن نبين أَنه متعبد بِهِ ونبين شُرُوطه وَالْكَلَام فِي وُرُود التَّعَبُّد بِهِ يَنْبَغِي أَن يتقدمه جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ وكلا الْأَمريْنِ يبتنى على الْكَلَام فِي مَاهِيَّة الْقيَاس وَلما كَانَ الْقيَاس الشَّرْعِيّ أَمارَة وَجب أَن نبين أول مَا الأمارات وَمَا أقسامها ثمَّ نذْكر مَا الْقيَاس وَمَا يتَّصل بِهِ ثمَّ نذْكر جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ وَنفي جَوَاز ذَلِك وَذَلِكَ يتَضَمَّن أبوابا مِنْهَا جَوَاز التَّعَبُّد بِهِ فِي الْجُمْلَة وَمِنْهَا جَوَاز تعبد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وَمِنْهَا جَوَاز تعبد من عاصره بِهِ وَمِنْهَا أَنه لَا يجوز التَّعَبُّد بِهِ فِي جَمِيع الشرعيات وَأما وُرُود التَّعَبُّد فيتضمن أَيْضا أبوابا مِنْهَا وُرُود التَّعَبُّد بِهِ فِي الْجُمْلَة وَمِنْهَا هَل النَّص على عِلّة الحكم يَكْفِي فِي التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ أم لَا وَمِنْهَا هَل يفقتر التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ إِلَى أَن ينص لنا على الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ وَإِلَى إِجْمَاع الامة على تَعْلِيل الأَصْل أم لَا وَمِنْهَا هَل تعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْقِيَاسِ وَمِنْهَا هَل تعبد بِهِ من عاصره وَمِنْهَا هَل يُوصف الْقيَاس المتعبد بِهِ بِأَنَّهُ دين ومأمور بِهِ وَبعد ذَلِك نتكلم فِي شُرُوط الْقيَاس وَذَلِكَ يشْتَمل على أَبْوَاب سنذكرها إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الأمارات وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الأمارة هِيَ الَّتِي النّظر الصَّحِيح فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى الظَّن وَبِذَلِك نتميز من الدّلَالَة والمتكلمون يسمون كل مَا هَذِه سَبيله أَمارَة عقليا كَانَ أَو(2/189)
شَرْعِيًّا وَالْفُقَهَاء يسمون الأمارات الشَّرْعِيَّة كالقياس وَخبر الْوَاحِد أَدِلَّة وَلَا يسمون الأمارات الْعَقْلِيَّة أَدِلَّة كالأمارة على الْقبْلَة وعَلى قيم الْمُتْلفَات وَالْكَلَام فِي ذَلِك كَلَام فِي عبارَة لَا طائل فِي الْإِكْثَار مِنْهُ
وَأما قسْمَة الأمارات فقد ذكر فِيهَا عدَّة وُجُوه مِنْهَا المحكى عَن الشَّيْخ أبي الْحسن رَحمَه الله وَهِي أَن أَدِلَّة الشَّرْع الَّتِي لَيست بِنَصّ وَلَا ظَاهر مِنْهَا مَا يُسمى قِيَاسا وَمِنْهَا مَا يُسمى دَلِيلا على صِحَة الْعلَّة وَمِنْهَا مَا يُسمى دَلِيلا على مَوضِع الحكم وَمِنْهَا مَا يُسمى دَلِيلا على المُرَاد بالعبارة الْمُشْتَركَة هَذَا مَا لَهُ اصل معِين فَأَما مَا لَا أصل لَهُ معِين فنحو مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى قيم الْمُتْلفَات وَلَيْسَ يَعْنِي بِالْأَصْلِ هَا هُنَا مَا يَقع الرَّد إِلَيْهِ لِأَن كثيرا من هَذِه الْأَقْسَام لَا يَقع الرَّد إِلَيْهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَصْلِ هَا هُنَا طَريقَة يشار إِلَيْهَا
وَنحن نقسم مَا ذكره فَنَقُول ادلة الشَّرْع إِمَّا ظَاهر وَنَصّ وَإِمَّا غير ظَاهر وَغير نَص وَمَا لَيْسَ بِظَاهِر مِنْهُ مَا لَا يحصل فِيهِ طَريقَة مُعينَة مثل مَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى قيم الْمُتْلفَات وَمِنْه مَا لَهُ طَريقَة مُعينَة يشار إِلَيْهَا وَلما كَانَ كل دَلِيل فَلهُ مَدْلُول وَجب فِيمَا لَهُ طَريقَة مُعينَة أَن يدل على مَدْلُول وَلَا يَخْلُو مَدْلُوله إِمَّا أَن يكون حكما وَإِمَّا دَلِيلا على حكم فَمَا يدل على حكم مِمَّا لَهُ طَريقَة يشار إِلَيْهَا فَهُوَ الْقيَاس وَمَا يدل على دَلِيل حكم فَمِنْهُ مَا يدل على عِلّة حكم لِأَن عِلّة الحكم دَلِيل على الحكم وَذَلِكَ نَحْو مَا كَانَ يسْتَدلّ بِهِ على أَن الْكَيْل أولى من الطّعْم فِي كَونه عِلّة الرِّبَا وَمِنْه مَا يدل على مُرَاد الله سُبْحَانَهُ بخطابه الْمُشْتَرك نَحْو مَا يدل على أَن المُرَاد بِآيَة الْأَقْرَاء الْحيض وَمِنْه مَا يدل على أَن الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالْكَفَّارَةِ الْمُعَلقَة بِالْجِمَاعِ فِي الصَّوْم هُوَ أَن يعلقها بهتك صَوْم شهر رَمَضَان مَعَ ضرب من المأثم وَهَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم
قَالَ قَاضِي الْقُضَاة كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر فِيهَا الِاسْتِحْسَان وَأجَاب عَن(2/190)
ذَلِك بِأَن الِاسْتِحْسَان إِمَّا أَن يكون عُدُولًا إِلَى قِيَاس أولى من قِيَاس فقد ذكر الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْقيَاس فِي جملَة أقسامه وَإِمَّا أَن يكون عُدُولًا إِلَى نَص وَلَيْسَ غَرَضه قسْمَة النُّصُوص فيدخله فِي جملَته وَقَالَ أَيْضا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر مَا يحْتَج بِهِ أَصْحَاب أبي حنيفَة من قَوْلهم إِن الْعِبَادَة إِذا لم تفْسد لعدم صفة من صفاتها فبأن لَا تفْسد بِوُقُوع تِلْكَ الصّفة على وَجه الْفساد أولى وللشيخ أبي الْحسن أَن يُجيب على ذَلِك بِأَن هَذَا دَاخل فِي جملَة الْقيَاس وَذَلِكَ أَن الْعِبَادَة الَّتِي قد انْتَفَت عَنْهَا الصّفة وَالَّتِي قد حصلت فِيهَا الصّفة على وَجه الْفساد قد اشْتَركَا فِي أَنَّهُمَا لم يختصا بِالصّفةِ على وَجه الصِّحَّة وَقَالَ أَيْضا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر فِي ذَلِك استدلالهم على أَن انكشاف ربع السَّاق فِي الصَّلَاة يُفْسِدهَا وَهُوَ قَوْلهم إِن انكشاف جَمِيعه يُفْسِدهَا لِأَن المواجه لَهُ يرى ربعه وَلأبي الْحسن ان يَقُول إِن هَذَا دَاخل فِي جملَة الْقيَاس لِأَنِّي قد علمت أَن الْعلَّة الْمفْسدَة للصَّلَاة إِذا انْكَشَفَ جَمِيعه هُوَ إِمْكَان رُؤْيَة ربعه وَهَذِه الْعلَّة قَائِمَة فِي انكشاف ربعه فالجمع بَينهمَا قِيَاس
وَقِسْمَة أُخْرَى محكية عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله وَهِي أَن أَدِلَّة الشَّرْع مستنبطة وَغير مستنبطة وَالَّتِي لَيست مستنبطة يدْخل فِيهَا خطاب الله عز وَجل وخطاب رَسُوله وأفعاله وخطاب الامة وافعالها والمستنبطة ضَرْبَان احدهما تحقق فِيهِ الْعلَّة وَالْآخر لَا تحقق فِيهِ الْعلَّة أما الَّذِي تحقق فِيهِ الْعلَّة فضربان أَحدهمَا لَا يقوى شبه الْفَرْع فِيهِ إِلَّا بِأَصْل وَاحِد ويسميه قِيَاس عِلّة وَقِيَاس معنى كرد العَبْد إِلَّا الْأمة فِي تنصيف الْحَد وَالْآخر يُقَوي شُبْهَة باصول مُخْتَلفَة وَأَن يرجح شبهه بِأَحَدِهِمَا نَحْو شبه العَبْد الْمُتْلف بالمملوكات وبالحر الَّذِي دِيَته مقدرَة وَيُسمى ذَلِك قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه وَمَا لَا تحقق فِيهِ الْعلَّة هُوَ إِيجَابه على من هُوَ خَارج الْمصر حُضُور الْجُمُعَة وَنَحْو اشْتِرَاك الْأَخ وَالْجد فِي الْمِيرَاث وَهَذَا الْمِثَال خَارج من هَذَا الْقسم لِأَن الْعلَّة فِيهِ مُحَققَة وَهُوَ الإدلاء بِالْمَيتِ وَيبعد أَن يسْتَدلّ على الْأَحْكَام بطريقة مستنبطة لَا تحقق فِيهَا الْعلَّة لِأَن الْعلَّة هِيَ الطَّرِيق إِلَى الحكم فَمَا لم تحقق لم يُمكن التَّوَصُّل إِلَى الحكم(2/191)
وَكَانَ الشَّافِعِي يُسَمِّي الْقيَاس اسْتِدْلَالا لِأَنَّهُ فحص وَنظر ويسمي الِاسْتِدْلَال قِيَاسا لوُجُود التَّعْلِيل فِيهِ
وَقسم قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الْعمد الأمارات قسْمَة هَذَا مَعْنَاهَا الأمارات الَّتِي لَيست بأخبار آحَاد إِمَّا أَن يكون لَهَا أصل يَقع الرَّد إِلَيْهِ وَهُوَ الْقيَاس وَإِمَّا أَن لَا يكون لَهَا أصل يَقع إِلَيْهِ الرَّد وَهُوَ ضَرْبَان
أَحدهمَا لَا يتلخص الامارة فِيهِ كالأمارة الَّتِي يفصل بهَا بَين الْعَمَل الْقَلِيل وَالْكثير فِي الصَّلَاة إِذْ الْمرجع بذلك إِلَى مَا يغلب فِي الظَّن من غير أَمارَة يُمكن تَعْيِينهَا وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل أَمارَة الْعَمَل الْقَلِيل فِي الصَّلَاة أَن لَا يغلب على ظن الْمشَاهد لفَاعِله أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة لِأَن من يُشَاهد غَيره يقتل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ من الْعَمَل الْقَلِيل
وَالضَّرْب الآخر يُمكن تَلْخِيص الأمارة فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَمارَة عقلية وَالْآخر أَمارَة سمعية والأمارة الْعَقْلِيَّة هِيَ الَّتِي لَا يحْتَاج فِي كَونهَا أَمارَة إِلَى سمع وَهِي ضَرْبَان احدهما الحكم الْمُتَعَلّق بهَا عَقْلِي وَالْآخر سَمْعِي أما الأول فقيم الْمُتْلفَات الحكم فِيهِ عَقْلِي وَهُوَ قدر الْقيمَة والأمارة عقلية وَهِي اختبار عادات النَّاس فِي البيع وَيُمكن تَلْخِيص الأمارة فِي ذَلِك لِأَن من قوم الثَّوْب بِعشْرَة دَرَاهِم لَو قيل لَهُ لم قومته لقَالَ إِن عَادَة النَّاس أَن يبيعوا مثله بِعشْرَة دَرَاهِم
إِن قيل هلا أوجبتم من جِهَة الْعقل إِذا خرق زيد ثوب عَمْرو أَن يخرق عَمْرو ثوب زيد قيل إِن زيدا لَو أمكنه أَن لَا يخرق مَا خرقه من ثوب عَمْرو وَجب عَلَيْهِ أَن لَا يخرقه وَلم يُوجد معنى لذَلِك فاذا لم يُمكنهُ ذَلِك وَجب عَلَيْهِ مَا يجْرِي هَذَا المجرى وَهُوَ سد الثلمة الَّتِي أحدثها بِدفع الْمثل أَو الْقيمَة حَتَّى يصير كَأَنَّهُ لم يحدث مَا أحدث
فان قيل إِنَّه إِذا خرج من الْقيمَة فقد نفى شِفَاء الغيظ قيل إِن غيظ(2/192)
الْمَجْنِي عَلَيْهِ يَزُول بِخُرُوج الْجَانِي من الْقيمَة أَو الْمثل مَعَ الِاعْتِذَار أَو مَعَ إِلْزَام الْحَاكِم إِيَّاه ذَلِك
وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن السُّؤَال بِأَن زيدا إِذا خرق ثوب من خرق ثَوْبه فقد أضرّ بِنَفسِهِ حِين لم يتعوض من مَاله التَّالِف بِمَال غَيره والإضرار بِالنَّفسِ من غير فَائِدَة قَبِيح وَسَأَلَ نَفسه فَقَالَ هلا كَانَت الْفَائِدَة فِي ذَلِك التشفي فَقَالَ التشفي إِنَّمَا يحسن تبعا لحسن تخريق ثوب الْجَانِي فاذا لم يحسن ذَلِك لم يحسن التشفي وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يقبح تخريق ثوب الْجَانِي إِذا بينتم أَنه لَا يحسن التشفي فقبحه تَابع لبُطْلَان كَون التشفي وَجها فِي حسنه بِخِلَاف قَوْلكُم إِن التشفي تَابع لحسن التخريق
وَأما الأمارة الْعَقْلِيَّة الَّتِي حكمهَا سَمْعِي فنحو الأمارات الْعَقْلِيَّة الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى جِهَة الْقبْلَة وَحكمهَا السمعي وجوب التَّوَجُّه فِي تِلْكَ الْجِهَة وعَلى التَّحْقِيق حكمهَا هُوَ كَون الْقبْلَة فِي تِلْكَ الْجِهَة وَوُجُوب التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة هُوَ تَابع لحكمها إِلَّا أَن ذَلِك لَا يخرج وجوب التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة من أَن يكون من أَحْكَام هَذِه الأمارة على بعض الْوُجُوه
وَأما الأمارة السمعية فَهِيَ الَّتِي يفْتَقر فِي كَونهَا أَمارَة إِلَى سمع وَلَا يَخْلُو حكمهَا إِمَّا أَن يكون سمعيا أَو عقليا إِلَّا أَنه لَا يجوز أَن يكون حكمهَا عقليا لِأَن الْعقل أسبق من السّمع وَطَرِيق الشَّيْء لَا يجوز أَن يتَأَخَّر عَنهُ وَأما الَّتِي حكمهَا سَمْعِي فنحو جعل الْمَسْجِد أَمارَة فاصلة بَين الْحَالة الَّتِي يجوز للامام إِذا أحدث أَن يسْتَخْلف فِيهَا وَبَين الْحَالة الَّتِي لَا يجوز لَهُ ذَلِك من حَيْثُ بني الْمَسْجِد للصَّلَاة الْوَاحِدَة فَكَانَ كالصف الْوَاحِد فَهَذَا الِاعْتِبَار بِالشَّرْعِ علم كَونه أَمارَة وَالْحكم الْمُتَعَلّق بِهِ سَمْعِي وَكَذَلِكَ وجوب مصير أهل الْقرى إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة إِذا سمعو الْأَذَان هُوَ حكم سَمْعِي وَكَون سَماع الْأَذَان أَمارَة لذَلِك مَعْلُوم بِالسَّمْعِ(2/193)
فان قيل وَلم قُلْتُمْ إِن مَا لَا يتلخص فِيهِ طَريقَة مُعينَة لَا بُد فِيهِ من أَمارَة قيل لِأَن الله سُبْحَانَهُ كلفنا فِي ذَلِك الِاجْتِهَاد وَالنَّظَر وَلَا بُد من أَن نجتهد فِي طَرِيق إِمَّا دلَالَة وَإِمَّا أَمارَة فَإِذا لم يكن دلَالَة فَلَا بُد من أَمارَة وَإِن لم يتلخص الْعبارَة عَنْهَا وَلِهَذَا يجد الْإِنْسَان فِي نَفسه أمرا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الظَّن فان مَا عمله فِي الصَّلَاة عمل قَلِيل وَإِن لم يتلخص الْعبارَة عَنهُ
وَاعْلَم أَن الأمارة لَا بُد من أَن يكون بَينهَا وَبَين مَا هِيَ أَمارَة فِيهِ تعلق لَوْلَا ذَلِك لم يكن بِأَن يكون أَمارَة عَلَيْهِ أولى من أَن لَا يكون أَمارَة عَلَيْهِ أَو أَمارَة على غَيره وَذَلِكَ التَّعَلُّق ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تكون الأمارة كالمؤثرة فِي مدلولها على الْأَكْثَر والأغلب وَالْآخر أَن تكون لَوْلَا مدلولها لما كَانَت الأمارة على الْأَمر الْأَكْثَر وَيكون مدلولها كالمؤثر فِيهَا وَيجوز حُصُول الأمارة على الندرة من دون مدلولها مِثَال الأول من العقليات الْغَيْم الرطب فِي زمن الشتَاء لِأَنَّهُ كالمؤثر فِي نزُول الْمَطَر وَهُوَ أَمارَة عَلَيْهِ ومثاله أَيْضا دين الْإِنْسَان فانه مُؤثر فِي تجنبه الْكَذِب وَهُوَ أَمارَة عَلَيْهِ ومثاله فِي الشرعيات وجود عِلّة الأَصْل فِي الْفَرْع فانها أَمارَة لثُبُوت حكمه وَهِي طريقنا إِلَى ثُبُوت الحكم فِيهِ إِذا دلّ الدَّلِيل على وجوب الْقيَاس وَمِثَال الْقسم الثَّانِي من العقليات أَن نعلم أَن فِي بعض الْمنَازل مَرِيضا قد شفي ثمَّ يسمع الصُّرَاخ من دَاره فَذَلِك أَمارَة على مَوته وَمَوته هُوَ الْمُؤثر فِي الصُّرَاخ ولولاه لم يكن الصُّرَاخ فِي الْأَكْثَر وَإِن جَازَ أَن يكون سَبَب حُدُوثه غير مَوته ومثاله من الشرعيات ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل مَعَ وصف وانتفاؤه فِي الأَصْل عِنْد انتفائه فَذَلِك أَمارَة لكَون ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم فِي الأَصْل لِأَن حُصُول الحكم بِحُصُول الْوَصْف وانتفاؤه بانتفائه طَرِيق إِلَى كَون ذَلِك عِلّة فاذا لم يكن دلَالَة فَهُوَ إِذا أَمارَة على ذَلِك وَلَوْلَا أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم لم تحصل هَذِه الأمارة أَعنِي ثُبُوت الحكم بِثُبُوت الْوَصْف وانتفاؤه بانتفائه وَإِذا ثَبت أَن ذَلِك الْوَصْف هُوَ عِلّة الحكم فِي الأَصْل ثَبت كَونه أَمارَة على وجوب الحكم فِي الْفَرْع وَلَيْسَ يمْتَنع كَون الحكم على كَيْفيَّة مَخْصُوصَة أَمارَة على أَن بعض أَوْصَاف الأَصْل هُوَ عِلّة حكمه(2/194)
وَتَكون الْعلَّة أَمارَة على وجوب الحكم فِي الْفَرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْقيَاس مَا هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اخْتلف النَّاس فِي حد الْقيَاس فحده بَعضهم بِأَنَّهُ اسْتِخْرَاج الْحق وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون اسْتِخْرَاج الْحق بالاستدلال بالنصوص والظواهر قِيَاسا وَيلْزم ذَلِك أَيْضا من حَده بِأَنَّهُ اسْتِدْلَال وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ التَّشْبِيه وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون من قَالَ إِن الارز يشبه الْبر فِي الصلابة قائسا وَأَن يُوصف الله سُبْحَانَهُ بانه قائس إِذا شبه بَين الشَّيْئَيْنِ وَحده الشَّيْخ أَبُو هَاشم بِأَنَّهُ حمل الشَّيْء على غَيره وإجراء حكمه عَلَيْهِ فان أَرَادَ إِجْرَاء حكمه عَلَيْهِ لأجل الشّبَه فَصَحِيح وَكَانَ يجب التَّصْرِيح بذلك وَإِن لم يرد ذَلِك لم يَصح لِأَن إِثْبَات الحكم فِي الشَّيْء من غير تَشْبِيه بَينه وَبَين غَيره يكون مُبْتَدأ وَمن ابْتَدَأَ فَأثْبت فِي الشَّيْء حكما لَا يكون قائسا وَإِن اتّفق أَن يكون ذَلِك الحكم ثَابتا فِي غَيره وَحده قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله بِأَنَّهُ حمل الشَّيْء على الشَّيْء فِي بعض أَحْكَامه لضرب من الشّبَه
وَأبين من هَذَا أَن يحد بِأَنَّهُ تَحْصِيل حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم عِنْد الْمُجْتَهد وَقد دخل فِي ذَلِك الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الْإِثْبَات وَفِي النَّفْي وَإِنَّمَا قُلْنَا الشّبَه عِنْد الْمُجْتَهد لِأَن الْمُجْتَهد قد يظنّ أَن بَين الشَّيْئَيْنِ شبها وَإِن لم يكن بَينهمَا شبه فَيكون رده إِلَيْهِ قِيَاسا وَإِنَّمَا حددنا الْقيَاس بِمَا ذكرنَا لِأَن الْمَعْقُول من الْقيَاس أَن يكون قِيَاس شَيْء على شَيْء أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ قست هَذَا الشَّيْء قيل لَهُ على مَاذَا قسته وَلَو أثبت الْإِنْسَان حكم الشَّيْء فِي غَيره لَا لشبه بَينهمَا لَكَانَ مبتدئا بالحكم فِيهِ غير مراع لحكم الأَصْل وَلم يشرط اعْتِبَار الشّبَه فِي الْحَد لِأَنَّهُ دَاخل فِي الْمَعْقُول من الْقيَاس لَا لِأَن الْقيَاس لَا يَصح من دونه(2/195)
إِن قيل أَلَيْسَ الْفُقَهَاء يسمون قِيَاس الْعَكْس قِيَاسا وَلَيْسَ هُوَ تَحْصِيل حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم بل هُوَ تَحْصِيل نقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لافتراقهما فِي عِلّة الحكم مِثَاله قَول الْقَائِل لَو لم يكن الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف لما كَانَ من شَرطه وَإِن نذر أَن يعْتَكف بِالصَّوْمِ كَالصَّلَاةِ لما لم تكن من شَرط الِاعْتِكَاف لم تكن من شَرطه وَإِن نذر أَن يعْتَكف بِالصَّلَاةِ فَالْأَصْل هُوَ الصَّلَاة وَالْحكم هُوَ نفي كَونهَا شرطا فِي الِاعْتِكَاف وَلَيْسَ يثبت هَذَا الحكم فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ الصَّوْم فَإِنَّمَا يثبت نقيضه وَلم يجتمعا فِي الْعلَّة بل افْتَرقَا فِيهَا لِأَن الْعلَّة الَّتِي لَهَا لم تكن الصَّلَاة شرطا فِي الِاعْتِكَاف هِيَ كَونهَا غير شَرط فِيهِ مَعَ النّذر وَهَذَا الْمَعْنى غير مَوْجُود فِي الصَّوْم لِأَنَّهُ شَرط مَعَ النّذر الْجَواب انه إِذا كَانَ الْمَعْقُول من الْقيَاس أَن يكون قِيَاس شَيْء على شَيْء وَلَا يكون قِيَاسا عَلَيْهِ إِلَّا وَقد اعْتبر حكمه وَلَا يكون الْقيَاس مُعْتَبرا بِحكمِهِ إِلَّا وَقد اعْتبر الشّبَه بَينهمَا إِذا كَانَ ذَلِك لَا يتم فِي قِيَاس الْعَكْس وَجب تَسْمِيَته قِيَاسا مجَازًا من حَيْثُ كَانَ الْفَرْع مُعْتَبرا بِغَيْرِهِ على بعض الْوُجُوه فَلَا يجب إِذن دُخُوله فِي الْحَد
وَيجوز أَن نحد الْقيَاس بِحَدّ يشْتَمل قِيَاس الطَّرْد وَالْعَكْس فَنَقُول الْقيَاس هُوَ تَحْصِيل الحكم فِي الشَّيْء بِاعْتِبَار تَعْلِيل غَيره وَهَذَا الْحَد يشْتَمل على كلا القياسين أما قِيَاس الطَّرْد فقد حصل الحكم فِي فَرعه بِاعْتِبَار تَعْلِيل الأَصْل وَأما قِيَاس الْعَكْس فانه قد اعْتبر تَعْلِيل الأَصْل لنفي حكمه من الْفَرْع لافتراقهما فِي الْعلَّة
وَإِذا حددنا الْقيَاس بذلك قسمناه إِلَى قِيَاس الطَّرْد وَالْعَكْس وَقِيَاس الطَّرْد هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ أَولا وَقِيَاس الْعَكْس هُوَ تَحْصِيل نقيض حكم الشَّيْء فِي غَيره لافتراقهما فِي عِلّة الحكم
فَأَما حكم الْقيَاس الشَّرْعِيّ فَهُوَ المنقسم إِلَى كَون الْفِعْل قبيحا وحسنا وَيكون فعله أولى من تَركه أَو يكون تَركه أولى من فعله وَكَونه وَاجِبا
وَأما الأَصْل فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه مُسْتَعْمل فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء أَحدهَا(2/196)
الطَّرِيق إِلَى الشَّيْء كالكتاب هُوَ أصل الْأَحْكَام وأحدها الحكم الْمَقِيس عَلَيْهِ وَهُوَ أصل الْقيَاس وَاحِدهَا الشَّيْء الَّذِي لَا يَصح الْعلم بِغَيْرِهِ إِلَّا مَعَ الْعلم بِهِ كالموصوف وَالصّفة وأحدها الحكم الَّذِي لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره كدخول الْحمام بِغَيْر عوض مُقَدّر فَإِنَّهُ يُقَال إِن هَذَا أصل فِي نَفسه وَيُمكن أَن يُقَال إِن قَوْلنَا أصل يسْتَعْمل على الْحَقِيقَة وعَلى الْمجَاز فالمستعمل على الْحَقِيقَة هُوَ مَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ غَيره ويستند إِلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ صِحَّته كَالْعلمِ بِصفة الشَّيْء يتَفَرَّع على الْعلم بالشَّيْء وَقد يُوصف الشَّيْء أَيْضا بِأَنَّهُ أصل الصّفة وَالضَّرْب الآخر يتَفَرَّع عَلَيْهِ الْعلم بالشَّيْء بِأَن يكون طَرِيقا إِلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا يكون طَرِيقا إِلَيْهِ بطرِيق التَّشْبِيه وَهُوَ أصل الْقيَاس وَالْآخر بِغَيْر طَرِيق التشبية وَهُوَ النُّصُوص وَغَيرهَا وَأما الْمُسَمّى اصلا على الْمجَاز فَهُوَ دُخُول الْحمام باجرة غير مقدرَة وَإِنَّمَا تجوزنا بتسميته ذَلِك اصلا لِأَنَّهُ أشبه الْأُصُول الْمُتَقَدّم ذكرهَا من حَيْثُ لم يستفد حكمه من غَيره
فاما أصل الْقيَاس فقد اخْتلف النَّاس فِيهِ فَقَالَ المتكلمون الأَصْل الَّذِي يُقَاس عَلَيْهِ الارز هُوَ الْخَبَر الدَّال على ثُبُوت الرِّبَا فِي الْبر وَقَالَ الْفُقَهَاء بل هُوَ الشَّيْء يثبت حكم الْقيَاس فِيهِ بِالنَّصِّ كالبر أَو يَقُول هُوَ الشَّيْء الَّذِي يسْبق الْعلم بِحُصُول حكم الْقيَاس فِيهِ وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ حكم الْقيَاس من حَيْثُ هُوَ ثَابت بِالنَّصِّ نَحْو كَون الْبر حَرَامًا وَالْكَلَام فِي ذَلِك من وَجْهَيْن أَحدهمَا مَا الَّذِي يَقع النّظر فِيهِ حَتَّى يعلم حُصُول الحكم فِي الارز وَالْآخر قَوْلنَا هَل فَائِدَة قَوْلنَا أصل ثَابِتَة فِي كل وَاحِد من هَذِه الْأَشْيَاء أم لَا وَأَنه أَحْرَى أَن يُوصف بِأَنَّهُ أصل أما الْكَلَام فِي الأول فَهُوَ أَن القائس ينظر أَي الْأَوْصَاف يُؤثر فِي قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا فنظره يتَعَلَّق بالحكم وبالعلة ثمَّ ينظر هَل الْعلَّة مَوْجُودَة فِي الْأرز أم لَا فان كَانَت مَوْجُودَة تبعها الحكم وَلَو علم قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا ضَرُورَة أمكنه قِيَاس الارز عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يحْتَج الارز إِلَى الِاسْتِدْلَال بالْخبر على ثُبُوت الرِّبَا فِي الْبر لِأَنَّهُ لَيْسَ يعلم ذَلِك ضَرُورَة وَلَا(2/197)
بِدَلِيل عقل وَهَذِه الْجُمْلَة لَا بُد مِنْهَا وَلَا خلاف فِيهَا فان خَالف فِيهَا أحد فِيمَا ذَكرْنَاهُ يفْسد قَوْله وَالْكَلَام فِي الْوَجْه الثَّانِي هُوَ أَن وصف الْخَبَر الثَّانِي على قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا بِأَنَّهُ أصل لقبح بيع الْأرز صَحِيح لِأَنَّهُ عَلَيْهِ يتَفَرَّع قبح بيع الارز مُتَفَاضلا من حَيْثُ كَانَ الْخَبَر دَالا على مَا إِذا نَظرنَا فِيهِ فَعلمنَا عِلّة الْقبْح أَو ظنناها أثبتنا الْقبْح فِي الارز وَأما وصف الْبر بِأَنَّهُ أصل ففائدته أَن الْعلم بِحكمِهِ بسبق الْعلم بِحكم الارز وَأَن حكم الارز يتَفَرَّع على حكم الْبر وَالْبر نَفسه أصل لحكمه لِأَن الشَّيْء اصل لصفته يبين أَن حكم الارز يتَفَرَّع على حكم الْبر هُوَ أَنا إِذا نَظرنَا فِي حكم الْبر وظننا علته أمكننا قِيَاس الارز عَلَيْهِ فَصَارَ حكم الارز متفرعا على حكم الْبر من هَذِه الْجِهَة وَلَيْسَ يلْزم على هَذَا أَن يُوصف الْبر قبل الشَّرْع بِأَنَّهُ اصل لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ اصلا إِذا ثَبت فِيهِ الحكم الَّذِي إِذا نَظرنَا فِيهِ وَفِي صِفَاته يوصلنا إِلَى حكم غَيره وَمَعْلُوم أَن الرِّبَا لم يكن ثَابتا فِي الْبر قبل الشَّرْع فَلم يكن إِذْ ذَاك اصلا وَإِذا كَانَ لوصف الْبر بِأَنَّهُ أصل وَجه صَحِيح لم نلم الْفُقَهَاء على الِاصْطِلَاح على وصف ذَلِك بِأَنَّهُ اصل فَأَما وصف حكم الْبر بِأَنَّهُ أصل لحكم الارز فَلهُ وَجه صَحِيح ايضا لِأَن حكم الارز يتَفَرَّع على حكم الْبر من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ
إِن قيل لَيْسَ يَخْلُو كَون الْبر حَرَامًا إِمَّا أَن يكون فعلنَا أَو اعتقادنا قبح بيع بعضه بِبَعْض مُتَفَاضلا وَإِن كَانَ هُوَ فعلنَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَصح الْقيَاس لَو لم يُوجد فعلنَا لبيعه مُتَفَاضلا وَإِن كَانَ هُوَ اعتقادنا كَون ذَلِك حَرَامًا فاعتقادنا لذَلِك لَيْسَ بِحرَام فيقاس عَلَيْهِ بيع الارز فَإِذن الأَصْل هُوَ الْخَبَر الْجَواب ان من جعل حكم الْبر هُوَ الأَصْل يَقُول إِن الحكم هُوَ قبح بَيْعه مُتَفَاضلا وَلَيْسَ هُوَ مُجَرّد الْفِعْل وَلَا اعتقادنا كَمَا أَنا نقيس الْكَذِب الَّذِي فِيهِ نفع على الْكَذِب العاري عَن نفع وَدفع ضَرَر وَلَا نقيسه على مُجَرّد كَونه فعلا وَلَا على علمنَا بقبحه لِأَن علمنَا لَيْسَ بقبح وَلَيْسَ قبحه مَعْلُوما بِدَلِيل فَيُقَال إِن الْقيَاس يَقع على دَلِيله وَلَيْسَ يقف صِحَة الْقيَاس على وجود بيع الْبر مُتَفَاضلا لانه لَو لم يُوجد ذَلِك أمكننا أَن نقُول لَو وجد لَكَانَ قبيحا لِأَنَّهُ(2/198)
مَكِيل جنس وَهَذَا قَائِم فِي الارز فَوَجَبَ قبح بَيْعه مَعَه مُتَفَاضلا كَمَا أَنه لَو لم يُوجد كذب أمكننا أَن نقُول لَو وجد الْكَذِب العاري من دفع مضرَّة ونفع لَكَانَ قبيحا لِأَنَّهُ كذب وَهَذَا حَاصِل فِي الْكَذِب الَّذِي فِيهِ نفع على أَن الْقَائِل إِن كَون بيع الْبر مُتَفَاضلا حَرَامًا إِمَّا أَن يكون بيعنا لَهُ مُتَفَاضلا وَإِمَّا أَن يكون اعتقادنا كَونه حَرَامًا قد جعل كَونه حَرَامًا مُعْتَقدًا لاعتقاد ومعتقد الِاعْتِقَاد غير الِاعْتِقَاد وَهُوَ أَيْضا أَمر زَائِد على كَون الْفِعْل فعلا لِأَن كَون الْفِعْل حَرَامًا أَمر زَائِد على كَونه فعلا وَلِهَذَا كَانَ اعْتِقَاد أَحدهمَا مفارقا لاعتقاد الآخر وَالْفُقَهَاء يَقُولُونَ تَحْرِيم الْفِعْل ويعنون بذلك كَونه حَرَامًا فصح أَن لكل وَاحِد من الْأَقَاوِيل الْمَذْكُورَة فِي معنى الأَصْل وَجها صَحِيحا وَإِن كَانَ الأول أَن يكون الحكم هُوَ الأَصْل
وَأما الْفَرْع فِي الْقيَاس فَهُوَ عِنْد الْمُتَكَلِّمين الحكم الْمَطْلُوب إثْبَاته بِالتَّعْلِيلِ كقبح بيع الارز مُتَفَاضلا لِأَنَّهُ هُوَ المتفرع على غَيره دون نفس الارز وَعند الْفُقَهَاء ان الْفَرْع هُوَ الَّذِي يطْلب حكمه بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَيْضا الَّذِي يتَعَدَّى إِلَيْهِ حكم غَيره أَو الَّذِي يتَأَخَّر الْعلم بِحكمِهِ كالارز وَإِنَّمَا سموا ذَلِك فرعا لِأَن حكمه يتَفَرَّع على غَيره وَمَا ذكره المتكلمون أولى لِأَن نفس الارز لَيْسَ يتَفَرَّع على غَيره وَإِنَّمَا المتفرع حكمه
وَأما الشّبَه فَهُوَ مَا يشْتَرك فِيهِ الشيئان من الصِّفَات سَوَاء كَانَت صفة ذاتية أَو غير ذاتية كاشتراك الجسمين فِي السوَاد وَقد يكون صفة تفِيد حكما عقليا أَو سمعيا وغرض الْفُقَهَاء من ذَلِك مَا اقْتضى الحكم السمعي
وَأما التَّشْبِيه فقد قيل هُوَ فِي الأَصْل مَا بِهِ يكون الشَّيْء مشبها لغيره كالتحريك هُوَ مَا بِهِ يكون الشَّيْء محركا لغيره فقد اسْتعْمل فِي الِاعْتِقَاد وَالظَّن وَالْخَبَر فَيُقَال لمن أخبر أَو اعْتقد أَن الله عز وَجل يشبه الْأَشْيَاء إِنَّه مشبه وان خَبره تَشْبِيه
فَأَما قَوْلنَا عِلّة فمستعمل فِي عرف اللُّغَة وَفِي عرف الْفُقَهَاء وَفِي عرف(2/199)
الْمُتَكَلِّمين أما فِي عرف اللُّغَة فمستعمل فِيمَا أثر فِي أَمر من الامور سَوَاء كَانَ صفة أَو كَانَ ذاتا وَسَوَاء آثر فِي الْفِعْل أَو فِي التّرْك فَيُقَال مَجِيء زيد عِلّة فِي خُرُوج عَمْرو وَفِي أَن لَا يخرج عَمْرو ويسمون الْمَرَض عِلّة لِأَنَّهُ يُؤثر فِي فقد التَّصَرُّف وَأما الْعلَّة فِي عرف الْفُقَهَاء فَهِيَ مَا أثرث حكما شَرْعِيًّا وَإِنَّمَا يكون الحكم شَرْعِيًّا إِذا كَانَ مستفادا من الشَّرْع وَأما فِي عرف الْمُتَكَلِّمين فتستعمل على الْمجَاز وعَلى الْحَقِيقَة أما على الْحَقِيقَة فتستعمل فِي كل ذَات أوجبت حَالا لغَيْرهَا كَقَوْل بَعضهم إِن الْحَرَكَة عِلّة مُوجبَة كَون المتحرك متحركا وَأما اسْتِعْمَاله على الْمجَاز فَمِنْهُ أَن تكون الْعلَّة مُؤثرَة فِي الِاسْم كَقَوْلِنَا السوَاد عِلّة فِي كَون الْأسود أسود أَي هُوَ عِلّة فِي تَسْمِيَته أسود وَمِنْه مَا يُؤثر فِي الْمَعْنى وَهَذَا مِنْهُ مَا يُؤثر فِي النَّفْي كتأثير الْبيَاض فِي انْتِفَاء السوَاد وَمِنْه مَا يُؤثر فِي الْإِثْبَات وَهَذَا مِنْهُ ذَات كتأثير السَّبَب فِي الْمُسَبّب وَمِنْه صفة تَقْتَضِي صفة كاقتضاء صفة الْجَوْهَر كَونه متحيزا هَذَا على قَول شُيُوخنَا وَإِنَّمَا سموا كل وَاحِد من ذَلِك عِلّة لِأَن لَهَا تَأْثِيرا فِي الْإِيجَاب إِلَّا أَنهم لَا يسمون هَذِه الْأَقْسَام عللا إِلَّا نَادرا وَسموا الْقسم الأول عِلّة على الْحَقِيقَة لِأَنَّهَا مُوجبَة على كل حَال من غير شَرط وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَقْسَام الْأُخَر
وَأما الْمُعَلل فَهُوَ مَا طلبت علته فعلل بهَا وَهَذَا هُوَ الحكم الثَّابِت فِي الأَصْل لِأَنَّهُ الَّذِي يعلم أَولا ثمَّ يطْلب علته فيعلل بهَا
وَأما الْمَعْلُول فَهُوَ الَّذِي أثرته الْعلَّة وأنتجته وَهَذَا هُوَ الحكم من حَيْثُ هُوَ ثَابت فِي الْفَرْع لَا من حَيْثُ هُوَ ثَابت فِي الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْعقل لَا يقبح التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن من نفاة الْقيَاس من قَالَ إِن الْعقل يقبح التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ على الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَمِنْهُم من قَالَ إِن الْعقل لَا يقبح ذَلِك وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعقل(2/200)
يجوز تَكَامل شُرُوط حسن التَّعَبُّد بذلك وَلَا يجوز أَن يقبحه مَعَ تجويزه اخْتِصَاصه بِمَا يُوجب حسنه
وشرائط حسن التَّعَبُّد بِالْفِعْلِ إِمَّا أَن ترجع إِلَى الْفِعْل نَحْو كَونه ندبا وواجبا وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى الْفَاعِل نَحْو كَونه مزاح الْعلَّة بالأقدار والآلات وإعلام وجوب الْفِعْل وَكَونه ندبا أَو التَّمَكُّن من علم ذَلِك بِنصب الدّلَالَة وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى التَّعَبُّد نَحْو أَن يكون الْأَمر مفْسدَة وَإِمَّا أَن ترجع إِلَى الْمُكَلف نَحْو علمه من حَال الْفِعْل وَالْفَاعِل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَأَنه سيثيب الْمُكَلف إِن أطَاع وكل ذَلِك يجوز الْعقل حُصُوله فِي هَذَا التَّعَبُّد
وَأما مَا يرجع إِلَى الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَهُوَ أَن الْعقل يجوز أَن يكون فعلنَا بِحَسب مَا ظنناه من الأمارة لطفا وَإِذا لم نعمل بحسبها فاتنا اللطف وَذَلِكَ إِن ظننا الأمارة حَالَة نَحن عَلَيْهَا وَقد تخْتَلف الْمصَالح بِحَسب أحوالنا أَلا ترى أَن مصلحَة الْمُسَافِر فِي صلَاته خلاف مصلحَة الْمُقِيم وَكَذَلِكَ الطَّاهِر وَالْحَائِض وَيخْتَلف الْوَاجِب على الْإِنْسَان بِحَسب ظَنّه الْمُخَالفَة فِي سَفَره وَأما أَن الْإِنْسَان قَادر على الْفِعْل حَاضر الْآلَات فَبين وَأما أَنه يجوز كَون الْمُكَلف مُتَمَكنًا من الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل على الْقيَاس فَهُوَ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ الله عز وَجل للمكلف إِذا ظَنَنْت بأمارة أَن عِلّة تَحْرِيم الْخمر هِيَ الشدَّة فقد وَجب عَلَيْك قِيَاس النَّبِيذ عَلَيْهِ ولزمك اجْتِنَاب شربه فقد تمكن من الْعلم بقبح شرب النَّبِيذ لِأَنَّهُ قد وقف علمه بقبحه على ظَنّه الأمارة وَهُوَ يعرف هَذَا الظَّن من نَفسه كَمَا أَنه يكون مُمكنا لَهُ من الْعلم إِذا قَالَ لَهُ الْخمر حرَام لِأَنَّهَا شَدِيدَة وَقس عَلَيْهَا النَّبِيذ وكما لَو قَالَ لَهُ النَّبِيذ حرَام وَإِذا كَانَ الْمُكَلف مُتَمَكنًا من الْعلم فَلَو قَالَ الله سُبْحَانَهُ لَهُ ذَلِك وَجَاز فِي الْعقل ان يَقُول لَهُ هَذَا القَوْل فقد جَازَ فِي الْعقل أَن يكون مُتَمَكنًا من الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل على الْقيَاس
وَأما أَن الْعقل يجوز أَن لَا يكون التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ مفْسدَة فُلَانُهُ إِن جوز كَونه مفْسدَة فانه يجوز غير مفْسدَة إِذْ لَيْسَ فِي الْعقل مَا يُوجب كَونه مفْسدَة(2/201)
وَأَيْضًا فاذا جَازَ أَن يكون الْعَمَل بِالْقِيَاسِ مصلحَة جَازَ أَن يكون التَّعَبُّد بذلك مصلحَة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون الْعَمَل بالشَّيْء مصلحَة وَيكون التَّعَبُّد بِهِ مفْسدَة
وَأما أَن الْمُكَلف عَالم من حَال الْفِعْل وَالْفَاعِل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَأَنه سيثيب الْمُكَلف إِن أطَاع فَلِأَنَّهُ عَالم بِكُل مَا يَصح أَن يعلم وَهَذِه الْأَشْيَاء يَصح أَن تعلم فِي نَفسهَا فقد جَازَ تَكَامل الشَّرَائِط لحسن هَذَا التَّكْلِيف
وَيُمكن اخْتِصَار هَذِه الدّلَالَة ويقتصر على مَا يُخَالف فِيهِ الْخصم فَنَقُول إِنَّه قد حسن فِي الْعقل تَكْلِيف الْعَمَل بِمُوجب الْقيَاس الْمَعْلُومَة علته وَلَو قبح تَكْلِيف الْعَمَل إِذا كَانَ الْقيَاس مظنون الْعلَّة لَكَانَ إِنَّمَا يقبح لأجل مَا بِهِ افترق التكليفان وَالَّذِي افْتَرقَا فِيهِ هُوَ بَيَان هَذَا التَّكْلِيف للْعَمَل بِحَسب الظَّن دون التَّكْلِيف الآخر وَلَو كَانَ هَذَا وَجها بقبح التَّكْلِيف لما ورد بِهِ التَّعَبُّد الْعقلِيّ والسمعي أما الْعقلِيّ فوجوب الْقيام من تَحت حَائِط مائل يخْشَى سُقُوطه لفرط ميله وَإِن جوز السَّلامَة فِي الْقعُود والهلاك فِي النهوض وقبح السّفر للريح مَعَ ظن الخسران وقبح سلوك طَرِيق بِظَنّ الأمارة وجود اللُّصُوص فِيهِ وَإِن جَوَّزنَا خلاف مَا ظننا وَأما السمعي فَالْحكم بِشَهَادَة من يظنّ صدقه وتولية الْقُضَاة والأمراء عِنْد ظن سدادهم والتوجه إِلَى جِهَة عِنْد ظن كَون الْقبْلَة فِيهَا وَالْحكم بِقدر من النَّفَقَة بِحَسب الظَّن إِلَى غير ذَلِك وَأَيْضًا فَالْحكم بِحَسب الظَّن لَا يمْتَنع أَن يكون مصلحَة من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَلم يمْتَنع وُرُود التَّعَبُّد بِهِ
وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء
مِنْهَا قَوْله لَو جَازَ التَّعَبُّد فِي الْفُرُوع بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّهَا مصَالح جَازَ مثله فِي الْأُصُول الشَّرْعِيَّة مَعَ أَنَّهَا مصَالح الْجَواب ان الْمُسْتَدلّ إِن ألزمنا جَوَاز التَّعَبُّد بِقِيَاس الْبر فِي الرِّبَا على أصل قد نَص على ثُبُوت الرِّبَا فِيهِ فانا نلتزم ذَلِك وَيكون قبح بيع الْبر مُتَفَاضلا فرعا وَالْحَال هَذِه لِأَنَّهُ لم ينص على ثُبُوت الرِّبَا(2/202)
فِيهِ وَإِنَّمَا أثبت الرِّبَا فِيهِ بِالرَّدِّ إِلَى غَيره وَإِن ألزمنا أَن نقيس الرِّبَا فِي الْبر لَا على شَيْء فقد ألزم مَا لَا يعقل لِأَن الْمَعْقُول من الْقيَاس أَن يكون قِيَاسا على شَيْء وَيُقَال لَهُم إِذا جَازَ قِيَاس شَيْء على شَيْء جَازَ مَا لَا يتَصَوَّر من قِيَاس شَيْء لَا على شَيْء وعَلى أَن الْمُخَالف لم يقْصد إلزامنا مَا لَا يعقل وَإِنَّمَا قصد إلزامنا مَا يعقل مِمَّا تحظره الْحِكْمَة لِأَنَّهُ قَالَ لَا يجوز أَن يتعبد بِالظَّنِّ فِي الْمصَالح وَهَذَا إِن امْتنع فانما يمْتَنع من جِهَة الْحِكْمَة لَا لِأَنَّهُ لَا يعقل
وَمِنْهَا قَوْلهم الشرعيات مصَالح فَلَو جَوَّزنَا إِثْبَاتهَا بالأمارات مَعَ أَنَّهَا قد تخطىء جَازَ أَن يخبر بِأَن زيدا فِي الدَّار إِذا دلّت الأمارات على كَونه فِيهَا وَإِن كَانَت الأمارات قد تخطىء وتصيب وَالْجَوَاب حكى قَاضِي الْقُضَاة عَن الشَّيْخ ابي عبد الله رحمهمَا الله التَّسْوِيَة بَين الْأَمريْنِ قَالَ لِأَنَّهُ كَمَا نجوز أَن بِنصب الله تَعَالَى أَمارَة على شبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ فاذا غلب على ظننا شبهه بِهِ تعبدنا بِالْعلمِ بِوُجُوب إِلْحَاقه بِهِ فِي حكمه وبالعمل بِهِ فَكَذَلِك نجوز أَن ينصب على كَون زيد فِي الدَّار أَمارَة فاذا ظنناه فِي الدَّار جَازَ أَن يتعبدنا بِأَن ننتقل عَن ظن كَونه فِيهَا إِلَى الْعلم لكَونه فِيهَا ويتعبدنا بالْخبر عَن كَونه فِيهَا فَلم يفرق بَينهمَا
وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لم يسو بَينهمَا لِأَن الأمارة الدَّالَّة على كَون زيد فِي الدَّار نظيرها الأمارة الدَّالَّة على شبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ فِيمَا هُوَ عِلّة الحكم وَنحن لَا ننتقل عَن الظَّن لشبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ إِلَى الْقطع على ذَلِك فَكيف قَالَ إِنَّه يجوز أَن يتعبدنا أَن ننتقل عَن الظَّن لكَون زيد فِي الدَّار إِلَى الْعلم بِأَنَّهُ فِيهَا كَمَا فعلنَا فِي الْقيَاس وَهُوَ لم يفعل مثل ذَلِك فِي الْقيَاس وَأَيْضًا فان جَازَ مَعَ كَون الأمارة قد تخطىء وتصيب أَن يسْتَمر الْحَال فِي إصابتها فِي دلالتها على كَون زيد فِي الدَّار جَازَ مَعَ أَن الِاخْتِيَار قد يخطىء ويصيب أَن تستمر إِصَابَته للحق وَإِن جَازَ أَن يتَّفق إِصَابَة الأمارة فِي شَيْء من الْأَشْيَاء فتتعبد بهَا فِي ذَلِك الشَّيْء بِالْقطعِ على حكمهَا جَازَ مثله فِي الِاخْتِيَار إِذا اتّفق إِصَابَته الْحق فِي مَوضِع وَاحِد وَفِي ذَلِك مُوَافقَة مويس بن عمرَان(2/203)
وَحكي عَن الشَّيْخ أبي هَاشم أَنه منع من التَّعَبُّد بالأخبار عَن كَون زيد فِي الدَّار وَيُمكن نصْرَة ذَلِك فَنَقُول إِن أَرَادَ السَّائِل إلزامنا جَوَاز الْخَبَر عَن ظننا كَون زيد فِي الدَّار فَذَلِك جَائِز وَهُوَ خبر صدق وَإِن أَرَادَ إلزامنا الْإِخْبَار عَن كَون زيد فِي الدَّار على الْإِطْلَاق لَا بِحَسب الظَّن فَذَلِك غير لَازم لِأَن من شَرط حسن الْخَبَر أَن يكون صدقا وَالْخَبَر عَن أَن زيدا فِي الدَّار لَا يكون حسنا إِلَّا وَهُوَ صدق وَلَيْسَ معنى كَونه مُصدقا أَن نفعله وَنحن ظانون أَن زيدا فِي الدَّار بل معنى كَونه صدقا أَن يكون متناولا لكَون زيد فِي الدَّار وَيكون زيد فِيهَا وَقد يظنّ الْمخبر أَنه فِيهَا وَلَا يكون فِيهَا فَمَتَى أخبر وَالْحَال هَذِه عَن كَونه فِيهَا على سَبِيل الْقطع كَانَ مقدما على خبر لَا يَأْمَن كَونه كذبا وَذَلِكَ قَبِيح وَأما الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة فَهِيَ مصَالح وَقد يكون الْفِعْل يصلح إِذا فَعَلْنَاهُ وَنحن على صفة مَا وَمَتى لم يكن مصلحَة فَلَا يمْتَنع أَن يكون فعلنَا الْفِعْل وَنحن نظن شبه الْفَرْع بِالْأَصْلِ هُوَ الْمصلحَة وَإِذا لم نَنْظُر حَتَّى نظن شبهه بِهِ أَو بِغَيْرِهِ فاتتنا الْمصلحَة فاذا تعبدنا الله عز وَجل بذلك علمنَا بتعبده أَن الْمصلحَة هُوَ أَن نَفْعل بِحَسب ظننا
وَهَكَذَا الْجَواب إِذا قيل لنا جوزوا أَن تدل أَمارَة على أَن الْعُمُوم مُسْتَغْرق وتخبرون بذلك على سَبِيل الْقطع لِأَن معنى كَونه مُسْتَغْرقا هُوَ أَن الْعَرَب وَضعته للاستغراق وَكَذَلِكَ الْخَبَر عَن أَن الله عز وَجل لَا يرى لأجل أَمارَة وَلَيْسَ يخْتَلف ذَلِك بِحَسب ظننا كَمَا يجوز أَن تخْتَلف الْمصَالح بِحَسب ظننا
فان قيل أتجوزون أَن يدلكم أَمارَة على أَن الْعَرَب وضعت أَلْفَاظ الْعُمُوم للاستغراق فيلزمكم أَن تستدلوا بِهِ على الْأَحْكَام قيل لَا يمْتَنع ذَلِك وَلَا أعرف فِيهِ نصا عَن شُيُوخنَا لِأَنَّهُ إِن جَازَ أَن نستدل بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ظننا أَنه قَالَه جَازَ أَن نستدل إِذا ظننا أَن الْعَرَب وَضعته للاستغراق
فان قيل أفتجوزون أَن يجب عَلَيْكُم عبَادَة الله إِذا ظننتم وجوده بأمارة وَأَن تقتصروا على الظَّن فِي ذَلِك قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَنَّهُ إِنَّمَا تجب مَعْرفَته(2/204)
لِأَنَّهَا لطف وَنحن مَعَ الْمعرفَة وَالْعلم بِهِ ابعد من الْقَبِيح وَمَتى أمعن الْإِنْسَان فِي النّظر وصل إِلَى الْعلم بِهِ فَلَزِمَ الْإِنْسَان ذَلِك لِأَنَّهُ يلْزمه كل مَا مَعَه يكون أبعد من الْقَبِيح وَمن المضار ويمكنه ذَلِك بالإمعان فِي النّظر
فان قيل أَيجوزُ أَن لَا يُمكنهُ ذَلِك بِأَن لَا تنصب لَهُ دلَالَة عَلَيْهِ وتنصب لَهُ أَمارَة قيل هَذَا محَال لِأَن جسم الْإِنْسَان دلَالَة على الله تَعَالَى فَكيف يجوز وَالْحَال هَذِه أَن لَا يكون الْإِنْسَان دلَالَة على ربه
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْمصَالح لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالاستدلال وَلَكِن بالنصوص فَكيف يتعبد فِيهَا بِالْقِيَاسِ الْجَواب أَنهم إِن أَرَادوا أَن الْمصَالح لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالاستدلال أصلا فَذَلِك بَاطِل بالاستدلال بالنصوص وَإِن أَرَادوا الِاسْتِدْلَال بالأمارات قيل أتريدون الأمارات الَّتِي لَا تستند إِلَى اصول منصوصة فان قَالُوا نعم فَكَذَلِك نقُول وَإِن قَالُوا نُرِيد الأمارات المستندة إِلَى اصول منصوصة فَهُوَ نفس الْمَسْأَلَة فقد استدلوا على صِحَة قَوْلهم بقَوْلهمْ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الأمارة وَالظَّن قد يخطئان وَلَا يجوز أَن يتعبد الْحَكِيم فِي الْمصَالح بِمَا يجوز أَن يخطىء الْمصَالح الْجَواب أَنا لَا نقُول إِنَّا نظن الْمصلحَة فَيلْزم مَا ذكرْتُمْ وَإِنَّمَا نقُول إِن عَملنَا بِحَسب الظَّن هُوَ الْمصلحَة وَذَلِكَ مَعْلُوم بِدَلِيل قَاطع وَهُوَ دَلِيل التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ على أَن مَا ذَكرُوهُ منتقض بِمَا تعبدنا فِيهِ بِالظَّنِّ فِي الشَّرْع وَالْعقل كالشهادات وَالتَّصَرُّف فِي الْمَنَافِع والمضار لأَنا قد نتصرف وَنحن نظن الْمَنْفَعَة فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الْمضرَّة وَيحسن ذَلِك وَإِن أمكن أَن يدلنا الله عز وَجل على مَا فِيهِ منافعنا بِدَلِيل قَاطع أَو يعلمنَا الله عز وَجل ذَلِك ضَرُورَة وَقد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن الشُّبْهَة بِأَن الْمصَالح إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بالنصوص لَا غير لَكِن بَعْضهَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِنَصّ ظَاهر وَبَعضهَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِنَصّ خَفِي يفْتَقر إِلَى الِاسْتِدْلَال حَتَّى يعلم أَن الحكم مُرَاد بِهِ وَمَا علم بِالْقِيَاسِ من هَذَا الْقَبِيل وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَا معنى لقولكم إِن النَّص دلّ على حكم الْفَرْع وأنكم احتجتم إِلَى اسْتِدْلَال لِتَعْلَمُوا أَنه مُرَاد بِالنَّصِّ إِلَّا(2/205)
أَن النَّص دلّ على حكم الأَصْل ثمَّ استخرجتم عِلّة الحكم وقستم بهَا بعض الْفُرُوع وَهَذَا الَّذِي أنكرناه
وَمِنْهَا قَوْلهم الْقيَاس فعلنَا وَلَا يجوز التَّوَصُّل إِلَى الْمصَالح بفعلنا الْجَواب أَن الْقيَاس هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشْتِرَاكهمَا فِي عِلّة الحكم وَلَا بُد فِي ذَلِك من أَمارَة يسْتَدلّ بهَا على عِلّة الأَصْل وَمن دَلِيل يدلنا على وجوب إِلْحَاق حكم الأَصْل بالفرع الَّذِي وجدت فِيهِ عِلّة الحكم وَلَا بُد من نظر فِي هَذِه الدّلَالَة وَفِي الامارة فان أَرَادوا بقَوْلهمْ إِن الْقيَاس فعلنَا إثباتنا حكم الأَصْل فِي الْفَرْع فَذَلِك هُوَ اعتقادنا وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي توصلنا بِهِ إِلَى الْمصَالح بل إِنَّمَا توصلنا إِلَى هَذَا الِاعْتِقَاد بِغَيْرِهِ وَإِن أَرَادوا الدَّلِيل الدَّال على وجوب إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ أَو الأمارة الدَّالَّة على صِحَة الْعلَّة فَذَلِك لَيْسَ بفعلنا وَإِن أَرَادوا النّظر فِي الدَّلِيل والأمارة فلعمري إِنَّه فعلنَا وَلَيْسَ يمْتَنع أَن نتوصل بِهِ إِلَى الْمصَالح إِذا وَقع فِي دَلِيل كَمَا أَن النُّصُوص تُؤدِّي إِلَى الْمصَالح بِشَرْط وُقُوع النّظر فِيهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَكل ظن وكل علم مكتسب فانما يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِالنّظرِ وَهُوَ فعلنَا
وَمِنْهَا قَوْلهم جلى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا تعرف إِلَّا بالنصوص فَلم يجز إِثْبَات خفيها إِلَّا بِالنَّصِّ أَيْضا لِأَن مَا علم جليه بطرِيق فخفيه لَا يعلم إِلَّا بذلك فِي الطَّرِيق كالمدركات لَا يعلم جليها وخفيها إِلَّا بالإدراك الْجَواب يُقَال لَهُم وَلم إِذا كَانَت المدركات كَذَلِك كَانَت غَيرهَا مثلهَا أَلَيْسَ مَا عدا الشرعيات يعلم جليه بالإدراك والضرورة وَيعلم خفيه بالاستدلال دون الْإِدْرَاك وجلى الشرعيات تعلم بالنصوص الظَّاهِرَة وخفيها تعلم بِنَصّ خَفِي وَكثير من الزَّعْفَرَان الْوَاقِع فِي المَاء يعلم بالإدراك وخفيه يعلم بِخَبَر من شَاهد وُقُوعه فِيهِ فان قَالُوا أَلَيْسَ قد اسْتندَ ذَلِك إِلَى الْمُشَاهدَة قيل فَكَذَلِك أَحْكَام الْفُرُوع تستند إِلَى الْأَحْكَام الثَّابِتَة بالنصوص وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن الشُّبْهَة بِمَا ذَكرْنَاهُ من وُقُوع الزَّعْفَرَان فِي المَاء وَبِأَن جَمِيع الشرعيات تعلم(2/206)
بِالنَّصِّ لَكِن بَعْضهَا تعلم بِظَاهِر النَّص وَبَعضهَا تعلم اسْتِدْلَالا بِالنَّصِّ وَمَا علم بِالْقِيَاسِ هُوَ من الْقسم الثَّانِي وَلَهُم أَن يَقُولُوا إِن النَّص لَا يتَنَاوَل إِلَّا حكم الأَصْل وَلَيْسَ فِيهِ ذكر لحكم الْفَرْع وَلَو كَانَت الْفُرُوع مَعْلُومَة بالنصوص لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهَا لكَانَتْ العقليات المكتسبة مَعْلُومَة بالإدراك لِأَنَّهُ لَا بُد مِنْهُ فِي الْعلم بهَا
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَت للشرعيات علل لكَانَتْ كالعلل الْعَقْلِيَّة فِي الاستحالة انفكاكها من أَحْكَامهَا فِي كل حَال أَلا ترى أَن الْحَرَكَة يَسْتَحِيل وجودهَا وَلَيْسَ الْجِسْم متحركا وَفِي ذَلِك ثُبُوت الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة قبل الشَّرْع الْجَواب أَنهم جمعُوا بَين الْعِلَل الْعَقْلِيَّة والشرعية من غير جَامع وَأَيْضًا فان عنوا بالحركة تحرّك الْجِسْم فَذَلِك إِنَّمَا وَجب كَون الْجِسْم مَعَه متحركا لِأَن كَون الْجِسْم إِذا تحرّك هُوَ معنى كَونه متحركا فَالْقَوْل بِأَن فِيهِ حَرَكَة وَلَيْسَ هُوَ متحرك مناقضة وَإِن عنوا بالحركة معنى يُوجب كَون الْجِسْم متحركا كَمَا يَقُوله أَصْحَابنَا فَذَلِك ذَات مُوجبَة كَون الْجِسْم متحركا وَلَا يجوز وقُوف ايجابها على شَرط لِأَنَّهَا لَو وجدت من دون إِيجَاب لنا انْفَصل وجودهَا من عدمهَا وَأما الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فانها إِمَّا أَن تكون وَجه الْمصلحَة وَإِمَّا أَن تكون أَمارَة يصحبها وَجه الْمصلحَة فان كَانَت وَجه الْمصلحَة فمعلوم أَن وَجه الْمصلحَة يجوز أَن يَقْتَضِي الْمصلحَة بِشَرْط يخْتَص بعض الْأَزْمَان دون بعض أَلا ترى أَن مصلحَة الصَّبِي فِي وَقت الرِّفْق ومصلحته فِي وَقت العنف وَلِهَذَا اخْتلف شرائع الْأَنْبِيَاء وَصَحَّ نسخ الْعِبَادَات فَلم يمْتَنع أَن يكون الشَّرْط فِي كَون الْعِلَل الشَّرْعِيَّة مُوجبَة للْمصْلحَة لَا يحصل قبل الشَّرِيعَة فَلَا تثبت الْمصلحَة قبل الشَّرِيعَة وَإِن كَانَت الْعِلَل الشَّرْعِيَّة امارات تصْحَب وَجه الْمصلحَة وَكَانَ وَجه الْمصلحَة قد يقف على شَرط يرجع إِلَى أَحْوَال الْمُكَلف وَيخْتَص بِبَعْض الْأَزْمَان كَانَت الأمارة الَّتِي تصْحَب وَجه الْمصلحَة تخْتَص كَونهَا أَمارَة أَيْضا بِبَعْض الْأَزْمَان دون بعض فان قيل بِمَاذَا تعلمُونَ تعلق الحكم بِالْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّة قيل بتعليق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الحكم عَلَيْهَا إِمَّا نصا وَإِمَّا تَنْبِيها كَمَا نعلم تعلق(2/207)
الحكم بِالِاسْمِ بتعليق النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الحكم عَلَيْهِ وَذَلِكَ غير حَاصِل قبل الشَّرِيعَة فَلم يثبت قبل الشَّرْع
وَمِنْهَا قَوْلهم الْعقل كالنص فِي أَنه يدل على حكم الْحَادِثَة فَكَمَا لَا يجوز أَن يتعبدنا الله تَعَالَى بِالْقِيَاسِ الْمُخَالف لنَصّ معِين فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يتعبدنا بِقِيَاس يُخَالف حكم الْعقل وكل حَادِثَة فلهَا حكم فِي الْعقل فاذن لَا يجوز أَن يتعبد فِيهَا بِالْقِيَاسِ الْجَواب أَن هَذَا منتقض بِخَبَر الْوَاحِد لِأَنَّهُ لَا يجوز اسْتِعْمَاله فِي خلاف نَص الْقُرْآن وَيجوز أَن ينْتَقل بِهِ عَن حكم الْعقل على أَن مَا ذَكرُوهُ لَا يمْنَع من التَّعَبُّد بِقِيَاس مُطَابق لما فِي الْعقل على أَن النَّص الْمعِين لَو تَرَكْنَاهُ بِالْقِيَاسِ كُنَّا قد ألغينا كَلَام الْحَكِيم لِأَنَّهُ اقْتضى الحكم مُطلقًا وَالْعقل فانما اقْتضى الحكم مَا لم ينقلنا عَن دَلِيل شَرْعِي فَمن أَيْن لَهُم أَن الْقيَاس لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي وَهل نوزعوا إِلَّا فِي ذَلِك
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْحَكِيم لَا يقْتَصر بالمكلف على أدون البيانين مَعَ قدرته على أعلاهما وَالْقِيَاس أدون بَيَانا من النَّص الْجَواب أَن فِي هَذَا الْكَلَام تَسْلِيم أَن الْقيَاس بَيَان فَلَا يمْتَنع أَن تكون فِيهِ مصلحَة زَائِدَة وَإِن كَانَ أدون بَيَانا من غَيره وَلَو وَجب التَّعَبُّد بِأَعْلَى الباينات لوَجَبَ تعريفنا الْأَحْكَام ضَرُورَة أَو الِاقْتِصَار بِنَا على النُّصُوص الجلية المتواترة دون الْآحَاد لِأَنَّهَا أَعلَى بَيَانا من الْخفية
وَمِنْهَا قَوْلهم نظر القائس لَا بُد من أَن يَقع فِي مَنْظُور فِيهِ وَلَيْسَ إِلَّا النَّص أَو الحكم وَلَيْسَ يجوز أَن يَقع فِي النَّص لِأَن النَّص لَا يتَنَاوَل الْفَرْع وَلَا يجوز وُقُوعه فِي الحكم لِأَن الحكم هُوَ فعل الْمُكَلف فَكَانَ يَنْبَغِي لَو لم يُوجد فعل من الْمُكَلف أَن لَا يَصح مِنْهُ الَّذِي يحصل من القائس هُوَ نظر فِي الأمارات الدَّالَّة على الْعِلَل وَقد تكون الأمارة كَيْفيَّة فِي الحكم نَحْو ان يحصل الحكم بِحَسب حُصُول صفة وينتفي عِنْد انتفائها فِي الأَصْل أَو يكون لصفة من الصِّفَات تَأْثِير فِي الاصول فالنظر فِي ذَلِك يَقْتَضِي كَون تِلْكَ الصّفة عِلّة وَالنَّظَر فِي حُصُولهَا فِي(2/208)
الْفَرْع يُؤَدِّي إِلَى إِلْحَاقه بِالْأَصْلِ وَلَيْسَ الحكم هُوَ فعلنَا بل كَون الْفِعْل وَاجِبا وقبيحا وَذَلِكَ مُتَصَوّر متوهم يُمكن النّظر فِي حُصُوله بِحَسب صفة من الصِّفَات وجد الْفِعْل أَو لم يُوجد
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ أَن يكون الْقيَاس صَحِيحا لَكَانَ حجَّة مَعَ النَّص الْجَواب أَن ذَلِك دَعْوَى وَمَعَ ذَلِك فَإِن أَرَادوا أَنه يكون حجَّة مَعَ النَّص على حكم الأَصْل فَكَذَلِك نقُول وَإِن أَرَادوا مَعَ النَّص على خلاف حكمه فِي الْفَرْع فقد بَينا القَوْل فِي ذَلِك فِي الْخَبَر الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول على انه لَا يمْتَنع أَن يكون حجَّة إِذا انْفَرد وَإِذا عَارضه النَّص كَانَ النَّص أولى مِنْهُ كَمَا أَن خبر الْوَاحِد حجَّة إِذا انْفَرد وَإِذا اجْتمع مَعَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَمَعَ نَص الْقُرْآن كَانَا أولى وَإِن أَرَادوا النَّص على مثل حكمه فِي الْفَرْع فانا نجوز ذَلِك لِأَنَّهُ إِن كَانَ النَّص خبر وَاحِد فَهُوَ أَمارَة وَكَذَلِكَ الْقيَاس المطابق لَهُ وَإِن كَانَ النَّص خَبرا متواترا فَالْقِيَاس حجَّة فِي الْفَرْع بِمَعْنى أَنه لَو فَقدنَا النَّص الْمُتَوَاتر لوَجَبَ الحكم لمَكَان الْقيَاس
وَمِنْهَا أَنه لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ لجَاز أَن يتعبد بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَمن حَضَره ولصح بِهِ النّسخ الْجَواب أَن كل ذَلِك مجوز فِي الْعقل
وَمِنْهَا لَو جَازَ التَّعَبُّد بِتَحْرِيم شَيْء لظننا شُبْهَة بِأَصْل محرم جَازَ أَن نتعبد بِتَحْرِيمِهِ إِذا ظننا شُبْهَة بِالْأَصْلِ من غير أَمارَة أَو اعتقدنا شُبْهَة تنحيتا وَإِذا اشتهينا تَحْرِيمه وَإِذا اخترنا ذَلِك أَو شككنا فِي كَونه مشبها لَهُ لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن تكون مصلحتنا أَن نَفْعل بِحَسب شهوتنا وشكنا واختبارنا الْجَواب أَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ مَبْنِيّ على مَا تقرر فِي الْعقل من حسن التَّصَرُّف فِي الدُّنْيَا بِحَسب ظن النَّفْع وانفاع الضَّرَر إِذا كَانَ الظَّن صادرا عَن امارة كَمَا تقرر حسن ذَلِك فِي الْعقل فقد تقرر فِيهِ قبح تحمل المشاق لأجل الشَّهَوَات والهوى وَالِاخْتِيَار وَلأَجل ظن لَا أَمارَة لَهُ وتقرر فِي الْعقل أَن الْإِقْدَام على الْفِعْل مَعَ الشَّك فِي مضرته لَا يحسن إِلَّا بعد الْبَحْث وَمَتى أقدم الْإِنْسَان من غير بحث ذمه(2/209)
الْعُقَلَاء وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا ظن اندفاع مضرَّة لأجل أَمارَة صَحِيحَة وَأما إِذا شكّ فِي حُصُوله وَجه الْقبْح فِي الشَّيْء كشكه فِي كَون الْخَبَر كذبا فانه يقبح مِنْهُ فقد عمل فِي هَذَا الْموضع على الشَّك وَإِذا شكّ فِي الْحَدث بعد تَيَقّن الطَّهَارَة فمالك عمل على الشَّك فَأوجب الطَّهَارَة وَغَيره من الْفُقَهَاء عمل على الأَصْل وَلكُل وَجه فِي التَّعَبُّد فقد جَازَ الْعَمَل على الشَّك على بعض الْوُجُوه
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيّ لَكَانَ على علته أَمارَة وَلَا يجوز أَن تكون عَلَيْهَا أَمارَة فاذا لَا يجوز التَّعَبُّد بِهِ وَإِنَّمَا لم تكن على علته أَمارَة لِأَن الأمارة إِمَّا أَن تدل عَلَيْهَا الْعَادَات أَو النُّصُوص وكلامنا فِي قِيَاس لَيست علته وَلَا أمارتها مَنْصُوص عَلَيْهَا فَلم يجز أَن يكون النَّص طَرِيقا إِلَى أَمارَة الْقيَاس المستنبطة علته وَلما لم تكن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ثَابِتَة بالعادات لم تكن عللها وأماراتها ثَابِتَة بالعادات يُقَال لَهُم وَلم لَا يجوز أَن يكون الطَّرِيق إِلَى ذَلِك تَنْبِيه الشَّرْع وعاداته لِأَن الشَّرْع يدل تصريحه وَقد يدل تنبيهه فاذا علمنَا أَن الحكم يثبت فِي الأَصْل عِنْد وصف وينتفي عِنْد انتفائه غلب على ظننا أَنه لأَجله ثَبت وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْوَصْف مؤثرا فِي جنس ذَلِك نَحْو الْبلُوغ الْمُؤثر فِي رفع الْحجر فِي المَال كَانَ اولى بِأَن يرفع الْحجر فِي النِّكَاح وَلَا شُبْهَة فِي حُصُول الظَّن عِنْد هَذِه الأمارات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه كَانَ يجوز من جِهَة الْعقل أَن يتعبد الله الْأَنْبِيَاء بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن اجْتِهَاد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِن أُرِيد بِهِ الِاسْتِدْلَال بالنصوص على مُرَاد الله عز وَجل فَذَلِك جَائِز لَا شُبْهَة فِيهِ وَإِن أُرِيد بِهِ الِاسْتِدْلَال بالأمارات الشَّرْعِيَّة فالأمارات الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان أَخْبَار آحَاد وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالْآخر الأمارات المستنبطة الَّتِي يجمع بهَا بَين الْفُرُوع والاصول وَهَذَا هُوَ الَّذِي يشْتَبه الْحَال فِيهِ هَل كَانَ يجوز تعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَالصَّحِيح جَوَازه لِأَنَّهُ كَمَا يجوز فِي الْعقل أَن تكون مصلحتنا أَن نعمل باجتهادنا تَارَة(2/210)
وبالنص أُخْرَى جَازَ مثله فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ يحِيل الْعقل ذَلِك فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويصححه فِينَا كَمَا لَا يُصَحِّحهُ فِي زيد وَيمْنَع مِنْهُ فِي عَمْرو وَلِهَذَا جَازَ أَن يجب علينا وَعَلِيهِ الْعَمَل على اجتهادنا فِي مضار الدُّنْيَا ومنافعها
فان قيل إِن اجْتِهَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْتَص بِوَجْه قبح لِأَنَّهُ ينفر عَنهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِذا علم أَنه يثبت الْأَحْكَام بِاجْتِهَادِهِ نفر عَنهُ وَالثَّانِي أَنه إِذا ثَبت الحكم بِاجْتِهَادِهِ كَانَ للْعَالم أَن يُخَالِفهُ وَوَجَب إِذا أفتى الْعَاميّ أَن يُخبرهُ وَذَلِكَ أبلغ مَا ينفر عَنهُ الْجَواب انه لَا تنفير فِي إثْبَاته الحكم بِاجْتِهَادِهِ لِأَن الْمُجْتَهد لَيْسَ يجْتَهد من قبل نَفسه لكنه يعْتَقد أَن الله عز وَجل حكم بذلك الحكم وَأَنه اسْتدلَّ بتنبيه الله عز وَجل إِيَّاه فَأَي تنفير فِي الِاسْتِدْلَال على مُرَاد الله عز وَجل وَأما مُخَالفَة الْعَالم والعامي لَهُ فَلَا يجوز كَمَا لَا يجوز مخالفتهما الْإِجْمَاع
إِن قيل لَو وَجب على غَيره الْأَخْذ بقوله وَالْقطع عَلَيْهِ لوَجَبَ ذَلِك لكَونه نَبيا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يقطع هُوَ على قَول نَفسه لعلمه أَنه نَبِي وقطعه على قَول نَفسه يُخرجهُ عَن ان يكون من جملَة الِاجْتِهَاد المفضي إِلَى الظَّن قيل قد أجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله بِأَن كَونه نَبيا يكون دلَالَة لغيره على الْقطع وَلَا يكون دلَالَة لنَفسِهِ قَالَ وَلَا يتنافى ذَلِك وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الدَّلِيل لَا يجوز ان يدل مُكَلّفا دون مُكَلّف مَعَ اشتراكهما فِي الْعلم بشرائطه وَلَيْسَ يعلم غير النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من شَرَائِط الِاسْتِدْلَال على أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مُصِيب قطعا مَا لَا يعلم النَّبِي فَكيف يكون كَونه نَبيا دلَالَة قَاطِعَة لغيره وَلَا يكون دلَالَة لَهُ وَنحن نقُول فِي ذَلِك إِنَّه إِذا كَانَ الله عز وَجل إِنَّمَا كلف الْمُجْتَهد الحكم بأشبه الأمارتين ومكنه من الْوُصُول إِلَى ذَلِك بِأَن ينظر النّظر الصَّحِيح فالنبي عَلَيْهِ السَّلَام يعلم من نَفسه الْوُصُول إِلَى ذَلِك لعلمه بِأَنَّهُ قد نظر النّظر الصَّحِيح كَمَا يعلم ذَلِك من غَيره من الْمُجْتَهدين وَغير النَّبِي يعلم ذَلِك من حَال النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لعلمه بِأَنَّهُ مَعْصُوم من الْخَطَأ فِي الْأَحْكَام كَمَا أَنه مَعْصُوم فِيمَا يُؤَدِّيه إِذْ خلاف(2/211)
ذَلِك ينفر عَنهُ وَلَا يجوز ان يرجع عَن ذَلِك الحكم لِأَن الرُّجُوع عَنهُ خطأ فَأَما إِذا قيل كل مُجْتَهد مُصِيب فانه إِذا كَانَ غَيره من الْمُجْتَهدين يقطع على أَنه مُصِيب فالنبي بِالْقطعِ على ذَلِك من نَفسه أولى وَلَا يجوز لغيره أَن يُخَالِفهُ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده لِأَنَّهُ ينفر عَنهُ وَإِن كَانَ رُجُوعه إِلَى قَول آخر ينفر عَنهُ لم نجوزه وَإِن لم ينفر جوزناه
فان قيل لَو جَوَّزنَا أَن يجْتَهد لوَجَبَ الْقطع على ان الْعلَّة الَّتِي استخرجها هِيَ عِلّة الحكم لوُجُوب حكمنَا بهَا وَلَا يقطع هُوَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مُجْتَهد ومحال أَن نقطع نَحن على ذَلِك دونه مَعَ كوننا متبعين لَهُ وَمَعَ انا إِنَّمَا قَطعنَا على ذَلِك لكَونه نَبيا وَهُوَ يعلم مَعَ كَونه نَبيا مَا علمناه الْجَواب أَنه لَا يقطع هُوَ وَلَا نَحن على عِلّة حكم الأَصْل وَنحن وَهُوَ نقطع على عِلّة حكم الْفَرْع على مَا سَنذكرُهُ عِنْد الْكَلَام فِي أَن الْحق فِي وَاحِد وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك رَحمَه الله فِي الشَّرْح بجوابين أَحدهمَا أَنا نَحن نقطع على الْعلَّة الَّتِي استخرجها لِأَنَّهُ يجب علينا اتِّبَاعه وَلَا يقطع هُوَ على ذَلِك لِأَنَّهُ مُجْتَهد وَهَذَا لَا يَصح لما ذَكرْنَاهُ وَالْآخر أَنه بعد تَكَامل اجْتِهَاده يعلم أَنَّهَا عِلّة الحكم كَمَا أَنا نظن صدق الْمخبر إِذا أخبر وَحده فاذا تَوَاتر المخبرون حصل لنا الْعلم بصدقه
فان قيل أفتجوزون أَن يتعبد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِاجْتِهَادِهِ فِي تَأْوِيل آيَة قيل يجوز ذَلِك بل ذَلِك أولى مِمَّا تقدم لِأَن الِاسْتِدْلَال على ذَلِك اسْتِدْلَال بِدلَالَة لَا بأمارة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي هَل كَانَ يجوز ان يتعبد الله عز وَجل من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن حَضَره أَو غَابَ عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اما من غَابَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام فَحكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح(2/212)
أَن أَكثر الذاهبين إِلَى الِاجْتِهَاد أَجَازُوا ذَلِك والأقلون منعُوا مِنْهُ وَحكي أَن أَبَا عَليّ رَحمَه الله قَالَ فِي كتاب الِاجْتِهَاد لَا أَدْرِي هَل كَانَ يجوز لمن غَابَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عصره أَن يجْتَهد أم لَا قَالَ لِأَن خبر معَاذ من اخبار الْآحَاد وَالصَّحِيح أَن لَهُم أَن يجتهدوا إِذا ضَاقَ زمَان الْحَادِثَة عَن استفتاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لَا يُمكنهُم سوى ذَلِك وَلِأَنَّهُ لَا فرق فِي الْعُقُول بَينهم وَبَين من لَا يعاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَن خبر معَاذ وَإِن كَانَ من اخبار الْآحَاد فقد تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ فهم بَين مُحْتَج بِهِ ومتأول لَهُ فصح التَّعَلُّق بِهِ فِي أَن للمجتهد أَن يجْتَهد مَعَ غيبته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما إِذا أمكن الْمُجْتَهد مراسلة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْحَاضِر إِذا أمكنه سُؤَاله وَقد أجَاز اجْتِهَاده قوم من القائسين إِلَّا أَن يمْنَع من اجْتِهَاده مَانع وَمنع مِنْهُ آخَرُونَ مِنْهُم الشَّيْخَانِ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم وَأَجَازَ قوم لمن بِحَضْرَتِهِ أَن يجْتَهد إِذا أذن لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك وَأَجَازَ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله من جِهَة الْعقل وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلمن غَابَ عَنهُ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة أَن يعْمل بِاجْتِهَادِهِ إِذا لم يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يمْتَنع إِذا سَأَلَهُ أَن يكون مصْلحَته أَن ينص لَهُ على الحكم وَلَا يمْتَنع أَن تكون مصْلحَته أَن يكله إِلَى اجْتِهَاده وَالْأولَى أَن يُقَال إِنَّه لَا يجوز لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد من جِهَة الْعقل قبل سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا لَا يجوز للسالك فِي بَريَّة مخوفة أَن يعْمل على رَأْيه مَعَ تمكنه من سُؤال من بِخَبَر الطَّرِيق أَسد من خبرته وكما لَا يجوز أَن يجْتَهد من غير أَن يطْلب للنصوص ويفقدها وَيجوز إِن سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكله إِلَى اجْتِهَاده بِأَن يعلم الله تَعَالَى أَن مصْلحَته أَن يعْمل على اجْتِهَاده(2/213)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا يجوز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيع الشرعيات وَيجوز التَّعَبُّد فِي جَمِيعهَا بالنصوص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما جَوَاز ذَلِك بالنصوص لِأَنَّهُ مُمكن أَن ينص الله عز وَجل على صِفَات الْمسَائِل فِي الْجُمْلَة فَيدْخل تفصيلها فِيهَا وَيجوز أَن يكون فِي ذَلِك مصلحَة نَحْو أَن ينص الله تَعَالَى على الرِّبَا فِي كل مَوْزُون فَيدْخل فِي ذَلِك أَنْوَاع الموزونات أما التَّعَبُّد فِي جَمِيعهَا بِالْقِيَاسِ فَلَا يَصح لِأَنَّهُ إِمَّا أَن تقاس جَمِيع الشرعيات أَو لَا تقاس فان لم تقس انْتقض كَونهَا مقيسة وَإِن قيست فاما أَن يُقَاس على غَيرهَا وَإِمَّا ان يُقَاس بَعْضهَا على بعض بِأَن يُقَاس الْفَرْع على الأَصْل وَيُقَاس الأَصْل على فَرعه وَفِي ذَلِك تبين الشَّيْء بِنَفسِهِ وَإِن قيست على غَيرهَا فَذَلِك الْغَيْر إِمَّا شَرْعِي وَإِمَّا عَقْلِي وقياسها على أصُول غَيرهَا شرعيه لَا يُمكن لأَنا قد فَرضنَا الْكَلَام فِي أَن يكون جَمِيع الشرعيات مقيسة وَلم يبْق مِنْهَا شَيْء يُقَاس عَلَيْهِ وَإِن قيست على أصُول عقلية بِاعْتِبَار وُجُوه قبحها وحسنها أَو بِاعْتِبَار أَمَارَات عقلية مستندة إِلَى عادات لم يَصح لأَنا لم نجد فِي الْعقل أصلا لوُجُوب الصَّلَاة وأعداد ركعاتها وشروطها واوقاتها وَلَا نعلم أَيْضا وَجه وجوب ذَلِك فِي الصَّلَاة من جِهَة الْعقل فَيَقَع الْقيَاس بهَا على غَيرهَا وَأما الأمارات المستخرجة بالعادات فَلَيْسَتْ دَالَّة على وجوب شَيْء وَلَا على حظره وَإِنَّمَا تدل على حُدُوث حَادث كأمارة الْمَطَر أَو تدل على مِقْدَار شَيْء كأمارة قيمَة الْمُتْلف وَلَيْسَ وجوب الصَّلَاة وأعداد ركعاتها من هذَيْن وَلَا تَجِد من جِهَة الْعَادَات أَمَارَات على وجوب الصَّلَاة وشروطها وَلَو دلّت أَمَارَات الْعَادَات على ذَلِك لما كَانَ وجوب الصَّلَاة شَرْعِيًّا بل كَانَ مَعْرُوفا بِالْعَادَةِ فصح أَن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيع الشرعيات لَا يجوز(2/214)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنا متعبدون بِالْقِيَاسِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن من النَّاس من قَالَ قد تعبدنا الله تَعَالَى فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة بِالْقِيَاسِ وَمِنْهُم من قَالَ لم يتعبد بِهِ وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قَالَ قد وَردت الشَّرِيعَة بِالْمَنْعِ مِنْهُ وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا لم يُثبتهُ فِي الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على التَّعَبُّد بِهِ وَاخْتلف من أثبت التَّعَبُّد بِهِ فَقَالَ قوم الْعقل يدل على ذَلِك والسمع وَقَالَ آخَرُونَ السّمع فَقَط يدل عَلَيْهِ وَالَّذِي يبين أَن الْعقل بدل على التَّعَبُّد بِهِ أَن مرادنا بقولنَا إِن الْعقل يدل على ذَلِك هُوَ أَنا إِذا ظننا بأمارة شَرْعِيَّة عِلّة حكم الأَصْل ثمَّ علمنَا بِالْعقلِ أَو بالحس ثُبُوتهَا فِي شَيْء آخر فان الْعقل يُوجب قِيَاس ذَلِك الشَّيْء على ذَلِك الأَصْل بِتِلْكَ الْعلَّة أما جَوَاز قيام امارة شَرْعِيَّة على عِلّة حكم الأَصْل فَهُوَ أَنا إِذا علمنَا أَن قبح شرب الْخمر يحصل عِنْد شدتها وينتفي عِنْد انْتِفَاء شدتها كَانَ ذَلِك أَمارَة تَقْتَضِي الظَّن لكَون شدتها عِلّة تَحْرِيمهَا وَمَعْلُوم أَن الشدَّة مَعْلُوم ثُبُوتهَا فِي النَّبِيذ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْعقل يُوجب قِيَاس النَّبِيذ على الْخمر لِأَن الْعقل يَقْتَضِي قبح مَا ظننا فِيهِ أَمارَة الْمضرَّة وأمارة التَّحْرِيم هِيَ أَمارَة الْمضرَّة أَلا ترى أَن الْعقل يَقْتَضِي قبح الْجُلُوس تَحت حَائِط مائل لعلمنا بِثُبُوت امارة الْمضرَّة فان قيل كَيفَ يجوز الْقطع على قبح مَا وجدت فِيهِ امارة التَّحْرِيم والمضرة مَعَ ان الأمارة قد تخطىء وَقد تصيب قيل كَمَا يجوز مثله فِي امارة المضار الْحَاصِلَة فِي الْقيام تَحت حَائِط مائل
فان قَالُوا الْعقل إِذا انْفَرد يَقْتَضِي إِبَاحَة شرب النَّبِيذ فَلم يجز الِانْصِرَاف عَنهُ لأمارة قيل لَهُم مثله فِي الْجُلُوس تَحت الْحَائِط لِأَن الْعقل يَقْتَضِي إِبَاحَة الْجُلُوس فِي الأَصْل فَيجب أَن لَا ننتقل عَن هَذِه الْإِبَاحَة لأمارة يجوز أَن تخطيء وتصيب
فان قَالُوا إِنَّمَا حسن الْجُلُوس بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ امارة الْمضرَّة قيل(2/215)
وَإِنَّمَا حسن بِالْعقلِ شرب النَّبِيذ بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ أَمارَة التَّحْرِيم والمضرة وَلَا فرق بَينهمَا
وَيدل عَلَيْهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ لأَنهم قَالُوا فِي مسَائِل اخْتلف فِيهَا بِالْقِيَاسِ من غير نَكِير ظهر من بَعضهم وَمَا قَالُوهُ من غير نَكِير فَهُوَ حق فَمن ذَلِك قَول الرجل لزوجته أَنْت عَليّ حرَام قَالَ أَبُو بكر وَعمر عَلَيْهِمَا السَّلَام هُوَ يَمِين وَقَالَ عَليّ وَزيد عَلَيْهِمَا السَّلَام هُوَ طَلَاق ثَالِث وَقَالَ ابْن مَسْعُود عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ طَلْقَة وَاحِدَة وَقَالَ ابْن عَبَّاس عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ ظِهَار وَقَالَ بَعضهم هُوَ إِيلَاء وَاخْتِلَافهمْ فِي ذَلِك ظَاهر وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُم قَالُوا ذَلِك قِيَاسا لأَنهم إِمَّا أَن يَكُونُوا قَالُوا ذَلِك عَن طَرِيق أَو لَا عَن طَرِيق وَلَو كَانُوا قَالُوا ذَلِك لَا عَن طَرِيق لكانوا قد اتَّفقُوا على الْخَطَأ لِأَن من أعظم الْخَطَأ أَن يُقَال فِي دين الله عز وَجل لَا عَن طَرِيق فان قَالُوا ذَلِك عَن طَرِيق فَأَما أَن يكون نصا جليا أَو غير جلي أَو قِيَاسا أَو استنابطا وَلَو كَانَ فِي ذَلِك نَص لاحتج بِهِ بَعضهم ليقيم عذر نَفسه وليرد غَيره عَن خطئه هَذِه عَادَة من قَالَ قولا خَالفه فِيهِ من يقْصد مباحثته وَطلب الْحق مِنْهُ وَلِأَنَّهُم كَانُوا يعظمون مُخَالفَة نُصُوص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جليها وخفيها فَلَو كَانَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك نَص مُخَالف لبَعض هَذِه الْأَقَاوِيل لكَانَتْ كراهتهم لمُخَالفَته تَدْعُو إِلَى إِظْهَاره سِيمَا إِن كَانَ جليا وَأَيْضًا محَال من جِهَة الْعَادَات فِي عدد كثير يهتمون بِنَقْل كَلَام من يعظمونه حَتَّى ينقلوا مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي أَن يهملوا إِظْهَار مَا اشتدت الْحَاجة إِلَيْهِ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي وَوَقع فِي الِاخْتِلَاف وَيُفَارق ذَلِك ترك نقل مَا أَجمعُوا لأَجله لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة وَقد أغْنى عَن الْخَبَر وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا وَقع الِاخْتِلَاف وَلَو أظهرُوا النَّص لاحتجوا بِهِ ولكان خوضهم فِيهِ يمْنَع من أَن ينكتم وَلَا ينْقل وَلَو نقل لعرفه الْفُقَهَاء مَعَ فحصهم عَن السّنَن ولسنا نجد فِي الشَّرِيعَة نصا فِي ذَلِك فان قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} إِنَّمَا هُوَ منع من(2/216)
التَّحْرِيم وَلَيْسَ فِيهِ مَا حكمه
فان قَالُوا وَلَو كَانُوا قاسوا هَذِه الْمَسْأَلَة على غَيرهَا لصرحوا بِالْعِلَّةِ قيل لَا يجب ذَلِك بل يَكْفِي التَّنْبِيه على الْعلَّة وَقد نبه كل مِنْهُم على الْقيَاس وَالْعلَّة لِأَن من قَالَ إِنَّه طَلَاق ثَلَاث جعل مُطلق التَّحْرِيم يَقْتَضِي غَايَة التَّحْرِيم ثمَّ ألزمهُ هَذَا الحكم قِيَاسا على طَلَاق الثَّلَاث من حَيْثُ كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا يُفِيد غَايَة التَّحْرِيم وَمن جعله طَلْقَة وَاحِدَة اعْتبر أقل مَا يثبت مَعَه التَّحْرِيم وقاسه على الطَّلقَة الْوَاحِدَة بعلة ان كل وَاحِد مِنْهَا يتَنَاوَل أقل التَّحْرِيم وَمن جعله إِيلَاء اعْتبر أَن الزَّوْج قد منع نَفسه بِهَذَا القَوْل عَن وَطئهَا وَمن جعله ظِهَارًا أجراه مجْرى الظِّهَار من قبل أَنه يُفِيد التَّحْرِيم بِلَفْظ لَيْسَ بِلَفْظ طَلَاق وَلَا إِيلَاء
وَإِذا كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُمكنا وَلم يُمكن ذكر نَص وَلَا أَنهم قَالُوا بِغَيْر طَرِيق وَجب الْقطع على أَنهم أَرَادوا مَا ذَكرْنَاهُ أَو مَا يجْرِي مجْرَاه من التَّشْبِيه
وَأَيْضًا فان النَّاس قد يقتصرون على الْفَتْوَى فِي كَلَامهم وَيعلم السَّامع الْوَجْه الدَّال على الْفَتْوَى من نفس الْفَتْوَى أَلا ترى أَن النَّاس قد يشيرون فِي الْحَرْب بآراء ويجرون الشَّيْء مجْرى غَيره وَلَا يصرحون بِذكر الشّبَه فَيعلم وَجه التَّشْبِيه بَيَان ذَلِك أَن رَئِيس الْجَيْش لَو امْر مرّة بِضَرْب رِقَاب من يتحسس عَلَيْهِ لعَدوه قصدا مِنْهُ إِلَى زجر من يتحسس عَلَيْهِ ثمَّ أحسن مرّة إِلَى من يتحسس عَلَيْهِ استمالة مِنْهُ لَهُم ليدلوه على عَورَة عدوه ثمَّ ظهر مرّة ثَالِثَة على آخَرين ينقلون اخباره على عدوه فَقَالَ بَعضهم اقتلهم كَالَّذِين قَتلهمْ وَقَالَ آخَرُونَ أحسن إِلَيْهِم كَالَّذِين أَحْسَنت إِلَيْهِم لعلم أَن هَؤُلَاءِ لحظوا استمالتهم ليدلوه على عَورَة عدوه واولئك قصدُوا زجر غَيرهم عَن التحسس عَلَيْهِ فَكَذَلِك مَا ذكرنَا عَن السّلف رَضِي الله عَنْهُم
فان قيل هلا وَجب أَن يصرحوا وَلَا يقتصروا فِيهَا على التَّنْبِيه كَمَا وَجب(2/217)
أَن ينقلوا النَّص قيل قد ثَبت أَن الْعَادة والديانة قد أوجبتها نقل النَّص وَأَن الْعَادة فِي التَّعْلِيل والتشبيه أَن يُصَرح بهَا تَارَة وينبه عَلَيْهَا أُخْرَى
فان قيل هلا صَرَّحُوا بذلك ليقيموا عذرهمْ ويمكنوا غَيرهم من الِاحْتِجَاج بِهِ قيل قد بلغُوا هَذِه الْغَرَض بالتنبيه وَلِهَذَا قد يُنَبه الْفُقَهَاء من كَلَامهم على تَلْخِيص الْعلَّة وَالْقِيَاس وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لم يكن مِنْهُم نَكِير لِأَنَّهُ لَو كَانَ مِنْهُم نَكِير لظهر وَلَا منع مَعَ ظُهُوره أَن ينكتم وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُم إِذا لم ينكروه لم يكن بَاطِلا لِأَنَّهُ لَو كَانَ بَاطِلا لَكَانَ إِنْكَاره وَاجِبا وَكَانُوا قد اتَّفقُوا على ترك الْوَاجِب وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا لم ينكروه لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي معاصي غير الْأَنْبِيَاء مَا يقطع على أَنه صَغِير وَلِأَن الصَّغِير يجب إِنْكَاره كالكبير
وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ وشبهوه بِغَيْرِهِ مَسْأَلَة الْجد وَقَول ابْن عَبَّاس أما يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب ابا وَلم يذهب إِلَى تَسْمِيَة الْجد ابا لِأَن ابْن عَبَّاس لَا يذهب عَلَيْهِ مَعَ تقدمه فِي اللُّغَة أَن الْجد لَا يُسمى أَبَا حَقِيقَة أَلا ترى أَنه يَنْفِي عَنهُ الِاسْم فَيُقَال لَيْسَ هُوَ بِأبي الْمَيِّت وَلكنه جده وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه بِمَنْزِلَة الْأَب كَمَا أَن ابْن الابْن بِمَنْزِلَة الابْن لما كَانَ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّت من جِهَة الْأَوْلَاد بِوَاسِطَة وَأَنه لَا فرق فِي الْولادَة والقرب بهَا بَين الْعُلُوّ السّفل هَذَا يدل عَلَيْهِ كَلَامه لِأَنَّهُ إِذا لم يرد أَنه أَب فِي الْحَقِيقَة فَلَا بُد مِمَّا ذَكرْنَاهُ وَعَن عَليّ وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شبهاه بغصني شَجَرَة وبجدولي نهر ليعرفا قربهما من الْمَيِّت ثمَّ شركا بَينهمَا فِي الْمِيرَاث
قان قيل وَمن أَيْن صِحَة هَذَا التَّشْبِيه عَنْهُم قيل من نقل فتاويهم نقل هَذَا التَّشْبِيه فاذا كَانَ أَحدهمَا مَعْلُوما كَانَ الآخر مثله وَيبين ذَلِك أَن الْمُتَقَدِّمين من الْمُخَالفين كَانُوا بَين متناول لهَذِهِ التشبيهات وَبَين محط لَهَا فَلم يكن فيهم من يجحدها وَإِنَّمَا تجاسر على جَحدهَا بعض أهل هَذَا الْعَصْر وَلَو علمُوا أَن الإقراربفتاويهم يضرهم لجحدوها على أَنهم لَو لَو يشبهوا بِمَا ذَكرْنَاهُ لكانوا(2/218)
قد قَالُوا غير ذَلِك من الِاحْتِجَاج إِمَّا نَص أَو غَيره مُجملا أَو مفصلا وَلَا يجوز مَعَ اهتمام النقلَة بأحوالهم على كثرتهم أَن يتْركُوا نقل مَا كَانَ بَينهم ويطبقوا على نقل مَا لم يجز لَهُ ذكر فيهم وَلَيْسَ لأحد أَن يَقُول إِن تشبيههم الْجد وَالْأَخ بغصني شَجَرَة وبجدولي نهر تَشْبِيه عَقْلِي يعْرفُونَ بِهِ قربهما من الْمَيِّت ثمَّ يورثونهما أَو أَحدهمَا لما تقرر فِي الشَّرْع من أَن المشتركين فِي الْقرب يرثان وَأَن أقربهما أَحَق بِالْمِيرَاثِ وَذَلِكَ أَنه قد يَرث الْأَبْعَد مَعَ الْأَقْرَب فان ابْن الابْن إِلَى أَربع منَازِل هُوَ أولى بِالْمَالِ من بنت الْبِنْت وَابْن ابْن الْعم أول من بنت الْعم وَهُوَ أبعد مِنْهُمَا وَأَيْضًا فانهم لم يورثوهما على سَوَاء بل بَعضهم قَاسم بالجد مَا كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من الثُّلُث وَشبهه فِي ذَلِك بَالَام لما كَانَ لَهُ أَوْلَاد وَلم ينقصهُ من الثُّلُث مَعَ مَا لَهُ من الْأَوْلَاد والتعصيب وَبَعْضهمْ قَاسم بِهِ مَا كَانَت الْمُقَاسَمَة خيرا لَهُ من السُّدس فَلم ينقصهُ من السُّدس تَشْبِيها بالجدة أم الْأُم من حَيْثُ اشْتَركَا فِي الْأَوْلَاد بِوَاسِطَة
إِن قيل إِنَّمَا اعْتبر بالسدس لِأَن رجلا روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل للْجدّ السُّدس فَقَالَ لَهُ عمر مَعَ من قَالَ الرجل لَا ادري وَالْجَوَاب أَن قَوْله لَا أَدْرِي دَلِيل على أَنه جعل لَهُ السُّدس فِي حَال دون حَال وَأَنه نسي الرجل تِلْكَ الْحَالة فَلَا يُمكن أَن يُقَال لَهُ السُّدس فِي كل حَال فَلهَذَا لم ينقصوه مِنْهُ وعَلى أَنه لَو كَانَ ذَلِك عَاما فِي جَمِيع الْحَالَات لتعلقوا بِهِ وَتعلق بِهِ بَعضهم وَكَانُوا لَا يعطونه إِلَّا السُّدس إِذْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أعطَاهُ السُّدس فِي كل حَال وَلَيْسَ لأحدأن يَقُول إِنَّهُم قَالُوا فِي هَذِه الْمسَائِل بِالصُّلْحِ لِأَن مَسْأَلَة الْحَرَام لَا يجوز فِيهَا الصُّلْح وَلِأَن كل مِنْهُم أفتى المستفتى وَحكم بِمَا يَقُوله وَلم يردهُ إِلَى الصُّلْح وَلَيْسَ لأحد ان يَقُول إِنَّهُم قَالُوا فِيهَا بِأَقَلّ مَا قيل لِأَنَّهُ لم يتَقَدَّم اخْتلَافهمْ أَقْوَال فَقَالُوا هم بِأَقَلِّهَا وَلَا اتَّفقُوا على قَول فَيُقَال إِنَّه أقل مَا قيل بل قَالُوا بأقاويل متباينة بَعْضهَا اقل من بعض وَمِمَّا قَالَه السّلف اعْتِبَارا أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لم يُعْط الْإِخْوَة للْأَب وَالأُم شَيْئا فِي الْمَسْأَلَة الحمارية فَقَالُوا هَب أَن ابانا كَانَ حمارا فورثهم وَهَذَا اعْتِبَار لأَنهم قَالُوا إِذا(2/219)
أَعْطَيْت الْإِخْوَة للْأُم وَنحن قد شاركناهم فِي ولادَة الْأُم وزدنا عَلَيْهِم بِالْأَبِ فان لم ينفعنا ذَلِك لم يجز أَن يضرنا وَلَيْسَ يجوز أَن يكون أَعْطَاهُم لدخولهم تَحت الظَّاهِر وَهُوَ قَوْله {فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} لِأَن الْخطاب انْصَرف إِلَى الاخوة للْأُم فَقَط أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث}
دَلِيل آخر ظَاهر عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنهم قَالُوا بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ لَا يُمكن دَفعه كَقَوْل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَقُول فِيهَا برأيي وَقَول عمر اقضي برأيي فِيهِ وَقَالَ هَذَا مَا رأى عمر وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أم الْوَلَد كَانَ رَأْيِي ورأي عمر أَن لَا يبعن ثمَّ رَأَيْت ببيعهن وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قصَّة بروع بنت واشق أَقُول فِيهَا برأيي وَقَوْلنَا رَأْي عبارَة عَن اعْتِقَاد أَو ظن فان توصل إِلَيْهِمَا بِاعْتِبَار واستنباط إِمَّا بِدلَالَة عقلية أَو امارة فَلَا شُبْهَة فِي وُقُوع اسْم الرَّأْي عَلَيْهِمَا فانه يُقَال فلَان رَأْيه الْعدْل وَفُلَان من رَأْيه الْقدر وَإِن توصل إِلَيْهِمَا بِنَصّ جلي أَو خَفِي فوقوع اسْم الرَّأْي عَلَيْهِمَا مشتبه وَالْأَقْرَب أَنه يجوز أَن يَقع عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أحد من أَن يَقُول إِن تَحْرِيم الْميتَة يرَاهُ الْمُسلمُونَ وَهُوَ رَأْيهمْ وَيمْتَنع أَن يَقُول هُوَ من رَأْيهمْ لِأَنَّهُ يُوهم أَنهم حرموها برأيهم فَأَما قَول الْقَائِل قلت هَذَا برأيي فَلَا يعقل مِنْهُ أَنه قَالَه بِنَصّ لَا جلي وَلَا خَفِي وَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَنه قَالَه استنباطا واستخراجا بِمَا يرَاهُ من الأمارات والأدلة الَّتِي لَيست بِنَصّ جلي وَلَا خَفِي وَلِهَذَا لَا يُقَال إِن الْمُسلمين حرمُوا الْميتَة برأيهم وَلَا يُقَال إِن ابا حنيفَة اثْبتْ الرِّبَا فِي السِّتَّة الْأَجْنَاس بِرَأْيهِ وَيُقَال إِنَّه أثبت الرِّبَا فِيمَا عَداهَا بِرَأْيهِ وَلَا يُقَال فِي الْجَيْش إِذا اطاعوا الإِمَام فِي رَأْي إِنَّهُم فاعلون ذَلِك بأرائهم وَلذَلِك لَا تُوصَف آراؤهم بالسداد إِذا كَانَ رَأْي الإِمَام سديدا واتبعوه فِيهِ من غير فحص وَيُقَال(2/220)
للْإنْسَان أقلت هَذَا بِرَأْيِك أم بِكِتَاب الله فَيجْعَل أَحدهمَا فِي مُقَابلَة الآخر
ومخالفونا يذمون القَوْل بِالرَّأْيِ ويذمون أَصْحَاب الرَّأْي وهم الْقَائِلُونَ بآرائهم وَلَيْسَ يجوز أَن يذموا الْقَائِلين بالنصوص فاذا ثَبت ذَلِك وَلم تكن على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة أَدِلَّة عقلية علمنَا أَن قَول من قَالَ من السّلف أَقُول فِيهَا برأيي إِنَّمَا اراد بِهِ الأمارات المظنونة وَأما قَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة إِلَى ابي مُوسَى قس الْأُمُور فَهُوَ صَرِيح فِي الْقيَاس
إِن قيل قد رُوِيَ عَنْهُم ذمّ الرَّأْي كَقَوْل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَي أَرض تُقِلني أَو سَمَاء تُظِلنِي إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ أجرأكم على الْجد أجرأكم على النَّار وَقَوله أعيتهم الْأَحَادِيث أَن يحفظوها فَقَالُوا بِالرَّأْيِ وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من أَرَادَ أَن يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيقل فِي الْجد بِرَأْيهِ وَقَوله لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ مسح بَاطِن الْخُف أولى من ظَاهره وَقَول ابْن مَسْعُود يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا يقيسون الامور بآرائهم الْجَواب إِنَّه إِذا كَانَ الَّذين ذموا الرَّأْي هم الَّذين قَالُوا بِهِ وَجب صرف ذمهم إِلَى الرَّأْي مَعَ وجود النَّص أَو مَعَ ترك الطّلب للنَّص كَمَا يجب مثله لَو حُكيَ الرَّأْي وذمه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَن قَول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَي أَرض تُقِلني إِذا قلت فِي كتاب الله برأيي إِنَّمَا عَنى بِهِ تَفْسِير الْقُرْآن ولعمري إِنَّه إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يُفَسر على عرف اللُّغَة وَبِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَول عمر أجرأكم على الْجد أجرأكم على النَّار إِنَّمَا هُوَ ذمّ الجرأة وَترك التثبت وَلَيْسَ بذم للرأي وَقَوله أعيتهم الأحالديث أَن يحفظوها إِنَّمَا هُوَ ذمّ لمن عدل إِلَى الرَّأْي وَلم يطْلب الْأَحَادِيث وَلم يحفظ مَا وجد مِنْهَا وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من اراد أَن يقتحم جراثيم جَهَنَّم فَلْيقل فِي الْجد بِرَأْيهِ مَعْنَاهُ الرَّأْي الَّذِي لَا يسْتَند إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَالْقَوْل بِمَا سنح من غير استقصاء النّظر فِي الأمارات الصَّحِيحَة وَقَول ابْن مَسْعُود يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ النَّاس عُلَمَاء جُهَّالًا(2/221)
يقيسون الامور بآرائهم فانما ذمّ بذلك الرَّأْي قبل طلب السّنَن وَالنَّظَر فِيهَا وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره مَعْنَاهُ لَو كَانَ الدّين جمعه بِالرَّأْيِ فَكَانهُ أَرَادَ أَن يبين ان لَيْسَ جَمِيع مَا أَتَت بِهِ السّنَن على مَا يَقْتَضِيهِ راي الْإِنْسَان وَبَين ذَلِك بمسح الْخُف
دَلِيل آخر رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ حِين أنفذه إِلَى الْيمن بِمَ تحكم قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فان لم تَجِد قَالَ بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فان لم تَجِد قَالَ أجتهد رَأْيِي وَعنهُ أَنه قَالَ لِمعَاذ وَأبي مُوسَى وَقد أنفذهما إِلَى الْيمن بِمَ تقضيان قَالَا إِن لم نجد الحكم فِي السّنة قسنا الْأَمر بِالْأَمر فَمَا كَانَ اقْربْ إِلَى الْحق عَملنَا بِهِ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ اقْضِ بِالْكتاب وَالسّنة إِذا وجدتهما فان لم تَجِد الحكم فيهمَا اجْتهد رايك وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر وَقد سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم أرايت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته وَقَالَ للخثعمية وَقد سَأَلته الْحَج عَن ابيها أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت تقضينه قَالَت نعم قَالَ فدين الله أَحَق أَن يقْضى وَخبر معَاذ وَإِن قيل إِنَّه مُرْسل رَوَاهُ جمَاعَة من أهل حمص مذكورون عَن معَاذ وَقد تلقى بِالْقبُولِ لِأَن النَّاس فِيهِ فريقان احدهما يحْتَج بِهِ وَالْآخر يتأوله وَوجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوبه فِي قَوْله أجتهد رَأْيِي عِنْد الِانْتِقَال من الْكتاب وَالسّنة فَعلمنَا أَن قَوْله أجتهد رَأْيِي لم ينْصَرف إِلَى الحكم بِالْكتاب وَالسّنة
فان قيل إِنَّمَا عَنى معَاذ أَن يجْتَهد رَأْيه فِي الِاسْتِدْلَال بخفي النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة قيل قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان لم تَجِد مُطلق فِي نفي وجدان نَص جلي وخفي فِي الْكتاب وَالسّنة على أَن من اسْتدلَّ بالنصوص الْخفية لَا يُقَال إِنَّه قد اجْتهد رَأْيه فان قيل إِنَّمَا أَرَادَ أجتهد رَأْيِي فِي طلب الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة قيل الطَّالِب لَا يُقَال إِنَّه اجْتهد رَأْيه وَإِنَّمَا يُقَال اجْتهد فِي الطّلب وَأَيْضًا فان معَاذ لما قَالَ أحكم بِكِتَاب الله وَقَالَ لَهُ ص =(2/222)
فان لم تَجِد انْصَرف إِلَى نفي الوجدان الَّذِي يجوز مَعَه الِانْتِقَال من الْكتاب وَكَذَلِكَ قَوْله فِي السّنة فان لم تَجِد يُرِيد نفي الوجدان المسوغ للانتقال من السّنة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا وَقد استوفى الطّلب فان قيل أفتقطعون على ثُبُوت خبر معَاذ قيل لَا وَمَا اسْتدلَّ بِهِ على صِحَّته من احتجاج بعض الْأمة بِهِ وتاول بَعْضهَا لَهُ لَا يدل على أَن مُتَّفق على صِحَّته لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن تكون الْأمة إِنَّمَا لم ترده لِأَنَّهَا لم تعلم بُطْلَانه وَلما أمكن الْمُخَالف تَأْوِيله وَلم يعلم بطلَان تاويله لم يردهُ كأخبار الْفِقْه إِن قيل أفصحيح الِاحْتِجَاج بِهَذِهِ الْأَخْبَار وَإِن كَانَت من أَخْبَار الْآحَاد قيل يَصح ذَلِك لِأَن اسْتِعْمَال الْقيَاس من الْأَعْمَال فَجَاز ان يقبل فِيهِ أَخْبَار الْآحَاد وَيقطع على وُجُوبه علينا لأجل الدَّلِيل الدَّال على وجوب قبُول أَخْبَار الْآحَاد كَمَا يقطع بذلك على وجوب مَا تضمنته اخبار الْآحَاد من فروع الشَّرِيعَة وَلَا فرق بَين أَن نظن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَة وَبَين أَن نظن أَنه أَمر بِاسْتِعْمَال مَا يُفْضِي إِلَى وجوب النِّيَّة فِي انه يجب أَلا ترى أَنه لَا فرق بَين أَن يخبرنا مخبر بِوُجُود سبع فِي الطَّرِيق فِي لُزُوم تجنبه إِذا ظننا صدقه وَبَين أَن يَأْمُرنَا من ظَاهره السداد والنصح سُؤال رجل عَن الطَّرِيق وَيَقُول لنا إِنَّه خَبِير بِالطَّرِيقِ فِي أَنه يلْزمنَا سُؤَاله إِذا خفنا الطَّرِيق وَإِذا أخبرنَا بِشَيْء وظننا صدقه عَملنَا بِحَسبِهِ
وَأما وَجه الِاسْتِدْلَال يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء فَهُوَ أَنه شبه قبْلَة الصَّائِم من غير إيلاج بمضمضة من غير ازدراد واجرى حكم أَحدهمَا على الآخر وَهُوَ نفي إِفْسَاد الصَّوْم وَهَذَا قِيَاس وَقَوله أَرَأَيْت لَو تمضمضت يدل على أَنه كَانَ تمهد أَمر الْقيَاس وَأَنه قد دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للخثعمية أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين وتشبيهه حَجهَا عَنهُ بذلك يدل على تمهد الْقيَاس فِي الشَّرِيعَة
دَلِيل آخر قَالَ الله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ(2/223)
اعْتِبَار الشَّيْء بِغَيْرِهِ وإجراء حكمه عَلَيْهِ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي الْأَسْنَان اعْتبر حكمهَا بالأصابع فِي ان دِيَتهَا مُتَسَاوِيَة وَقَالَ اعْتبر هَذَا بِهَذَا وَقَوْلهمْ إِن فِي هَذَا عِبْرَة مَعْنَاهُ أَن فِيهِ مَا يَقْتَضِي حمل غَيره عَلَيْهِ نَحْو أَن يعاجل من ظلم بِالْهَلَاكِ فَيُقَال فِي هَذَا عِبْرَة أَي فِيهِ مَا يَقْتَضِي حمل غَيره عَلَيْهِ وَلَيْسَ الِاعْتِبَار هُوَ الانزجار والاتعاظ لِأَن الاتعاظ والانزجار غَايَة الِاعْتِبَار فَعلمنَا تباينهما
إِن قيل لَو كَانَ الِاعْتِبَار مَا ذكرْتُمْ لوصف قائس الْفُرُوع على الاصول بِأَنَّهُ مُعْتَبر وَإِن أقدم على الْمعاصِي وَلم يعْمل لآخرته قيل لَا يُوصف بِهَذَا لِأَن إِطْلَاق ذَلِك يُفِيد أَنه مُعْتَبر بِجَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أَن يعْتَبر بِهِ لِأَنَّهُ يخرج مخرج الْمَدْح لكنه يُقَال إِنَّه يعْتَبر الْفُرُوع بالاصول
إِن قيل لَو كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ مَا ذكرْتُمْ لحسن التَّصْرِيح بِهِ وَمَعْلُوم أَنه لَا يحسن أَن نقُول يخرجُون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فقيسوا الارز على الْبر قيل إِنَّمَا لم يحسن ذَلِك لِأَنَّهُ اقْتِصَار على مَا لَا تعلق لَهُ بالْكلَام وعدول عَمَّا يتَعَلَّق بِهِ وَيُفَارق ذَلِك أَن يَأْتِي بِكَلَام يشْتَمل على مَا يتَعَلَّق بالْكلَام الْمُتَقَدّم وعَلى مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ أَلا ترى أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لَو سُئِلَ عَمَّن بلع حَصَاة فِي شهر رَمَضَان لم يحسن أَن يَقُول من جَامع فِي رَمَضَان فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة إِذا لم يكن فِي ذَلِك تَنْبِيه على حكم من بلغ حَصَاة وَيحسن أَن يَقُول من أفطر فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة وَلَو كَانَ ذَلِك دخل فِيهِ لُزُوم الْكَفَّارَة لمن بلع حَصَاة
ولمعترض أَن يَقُول إِن قَوْله سُبْحَانَهُ {فاعتبروا} لَيْسَ بِعُمُوم فَلم يفد جَمِيع ضروب الِاعْتِبَار فِي كل شَيْء كَمَا أَن قَول الْقَائِل اقْتُلُوا لَا يُفِيد جَمِيع ضروب الْقَتْل وَلَا قتل كل إِنْسَان واعترضت الدّلَالَة أَيْضا بِأَن للمخالف أَن يَقُول إِنَّا اعْتبرنَا بالاصول الَّتِي وَردت فِيهَا النُّصُوص فَكَمَا لَا(2/224)
أثبت فِي الاصول الَّتِي لَا ينفرع على غَيرهَا الحكم إِلَّا بِالنَّصِّ أَو الْبَقَاء على حكم الْعقل كَذَا لَا اثْبتْ فِي غَيرهَا حكما إِلَّا بِالنَّصِّ أَو بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل دَلِيل آخر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَظَاهر الرَّد يُفِيد الْقيَاس وَلِأَنَّهُ لَو أَرَادَ بِالرَّدِّ إِلَى الله الِاسْتِدْلَال بِظَاهِر كتاب الله تَعَالَى لَكَانَ الْكَلَام متكررا لِأَن ذَلِك مُسْتَفَاد من قَول الله تَعَالَى {وَأَطيعُوا الله} إِذا ذَلِك أَمر بامتثال خطاب الله سُبْحَانَهُ كُله وَالْجَوَاب أَن الرَّد إِلَى الله يُفِيد الرُّجُوع إِلَى ظَاهر كتاب الله جليه وخفيه لِأَنَّهُ يُقَال لمن يسْتَدلّ بِهِ وَيعْمل بِمَا فِيهِ إِنَّه يرد امْرَهْ إِلَى الله وَالْغَرَض بِالْآيَةِ أَمر بِطَاعَة الله سُبْحَانَهُ فِيمَا نعلم أَنه امرنا بِهِ وأمرنا بِمَا لَا نعلم أَنه أمرنَا بِهِ مِمَّا اخْتَلَفْنَا فِيهِ أَن نرده إِلَى كتاب الله عز وَجل وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن نفحص عَنهُ فيهمَا حَتَّى إِذا علمنَا أَنه مِمَّا أمرنَا الله تَعَالَى بِهِ دخل ذَلِك فَمَا قد أوجبه علينا فِي اول الْآيَة من طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله فَلَا تكْرَار فِي ذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون الله تَعَالَى عَنى بِالْخِطَابِ المعاصرين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن خطاب المواجهة هَذَا ظَاهره فَقَالَ لَهُم أطِيعُوا الله فِيمَا امركم بِهِ وَأَطيعُوا الرَّسُول فان تنازعتم فِي شَيْء لم يظْهر فِيهِ من الله وَرَسُوله أَمر فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول بِأَن تسألوا عَنهُ الرَّسُول
فان قيل هَذَا قصر للخطاب على المعاصرين للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام دون غَيرهم وذل تَخْصِيص بِغَيْر دلَالَة قيل ظَاهر المواجهة يَقْتَضِي الْحَاضِرين وَأَيْضًا فانا إِن تركنَا الظَّاهِر من هَذَا الْوَجْه فَنحْن متمسكون بِهِ من حَيْثُ جَعَلْنَاهُ عَاما فِي أهل الِاجْتِهَاد وَغَيرهم وَأَنْتُم تخصون بِالرَّدِّ أهل الِاجْتِهَاد فَكل منا تَأَول الظَّاهِر وَأَنْتُم المستدلون
دَلِيل آخر قَوْله تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} والاستنباط هُوَ الْقيَاس وَكَذَلِكَ الرَّد(2/225)
وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الرَّد إِلَى اولي الْأَمر يكون بالاستفتاء والاستشارة والاستنباط هُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من كَونه بَاطِنا إِلَى أَن يظْهر وَقد يكون ذَلِك بِالْقِيَاسِ وَقد يكون بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُقَال لمن اسْتدلَّ على الشَّيْء بخفي النُّصُوص قد استنبط هَذَا الحكم من هَذِه النُّصُوص على أَن هَذَا وَارِد فِي الْأَمْن وَالْخَوْف قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول} الْآيَة
دَلِيل قَول الله عز وَجل {إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا} وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا التَّشَبُّه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْكَلَام خرج مخرج النكير عَلَيْهِم لأَنهم أوجبوا إِذا كَانُوا بشرا مثلهم أَن لَا يصدوهم عَمَّا كَانَ يعبد آباؤهم وَقد ردوا عَلَيْهِم بِمَا حَكَاهُ الله عز وَجل من قَوْله {إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده} وعَلى ان هَذَا تَشْبِيه فِي غير حكم شَرْعِي فَهُوَ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لمن ذكر أَنه ولد لَهُ ابْن أسود أَلَك إبل فَقَالَ نعم فَقَالَ أفيهما جمل أَوْرَق قَالَ نعم قَالَ وَأَنِّي ذَلِك قَالَ الرجل لَعَلَّ عرقا نزع قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَعَلَّ عرقا نزع وَذَلِكَ أَن هَذَا تَنْبِيه على أَمارَة عقلية فِي حكم عَقْلِي
دَلِيل عقلت الْأمة من قَول الله سُبْحَانَهُ {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} الْمَنْع من ضربهما وَلم تعقل ذَلِك إِلَّا قِيَاسا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْأمة عقلت ذَلِك لفظا كَمَا أَن قَول الْقَائِل مَا لفُلَان عِنْدِي حَبَّة يُفِيد فِي عرف اللُّغَة أَنه مَا لَهُ عِنْده قَلِيل وَلَا كثير لَا حَبَّة وَلَا أقل مِنْهَا وَله أَن يَقُول إِن الْمَنْع من ضربهما علم قِيَاسا على الْمَنْع من التأفيف بعلة أَنه أَذَى وَكَون الْأَذَى عِلّة فِي ذَلِك مَعْلُوم غير مظنون(2/226)
دَلِيل أَجمعت الْأمة على قِيَاس الزناة على مَاعِز فِي الرَّجْم وَلقَائِل أَن يَقُول بل عقلت الْأمة أَن حكم الزناة حكم مَاعِز من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَرُورَة أَو أَنَّهَا عقلت ذَلِك من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكمي فِي الْوَاحِد حكمي فِي الْجَمَاعَة على أَن كَون الزِّنَا بِشَرْط الْإِحْصَان عِلّة فِي الرَّجْم مَعْلُوم غير مظنون
دَلِيل قد تعبدنا الله عز وَجل بالاستدلال بالأمارات على جِهَة الْقبْلَة إِذا اشْتبهَ علينا أمرهَا وَأَن نصلي إِلَى الْجِهَة الَّتِي ظننا أَن الْقبْلَة فِيهَا وَهَذَا تعبد بالاستدلال بالأمارات وبالعمل بحسبها الْجَواب ان من الْمُخَالفين من لَا يجوز الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة وَيُوجب على من اشتبهت عَلَيْهِ الْقبْلَة الصَّلَاة إِلَى جَمِيع الْجِهَات فَلَا يسلم هذاالموضع وَمِنْهُم من يُوجب الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة وَله أَن يَقُول إِن الأمارات الدَّالَّة على الْقبْلَة أَمَارَات عقلية لَا سمعية وَلست امْنَعْ من كوننا متعبدين بِمَا ذكرْتُمْ فِي الْقبْلَة وَلَكِنِّي أمنع من كوننا متعبدين فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة بالاستدلال بالأمارات المظنونة الشَّرْعِيَّة وبالعمل بحسبها وَلَيْسَ يلْزم إِذا تعبدنا بالأمارات فِي مَوضِع أَن نَكُون متعبدين بهَا فِي مَوضِع آخر إِلَّا لجامع يجمع بَين الْمَوْضِعَيْنِ فان قَالُوا إِذا جَازَ التَّعَبُّد بالأمارات المظنونة فِي مَوضِع جَازَ التَّعَبُّد بهَا فِي مَوضِع آخر إِذا مَا سوغ احدهما سوغ الآخر وَإِن منع من احدهما مَانع فَهُوَ مَانع من الآخر قيل هَذَا يدل على جَوَاز التَّعَبُّد بالأمارات فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة وَلَيْسَ ذَلِك مَسْأَلَتنَا فان قَالُوا إِنَّا تعبدنا بذلك فِي الْقبْلَة لِأَنَّهُ لما لم نعاينها لم يبْق إِلَّا التَّعَبُّد فِيهَا بالأمارات وَكَذَلِكَ مَعَ فقد النَّص على الْحَوَادِث لَا يبْقى إِلَّا التَّعَبُّد بالأمارات قيل لم زعمتم ذَلِك وَمَا أنكرتم أَنه يبْقى من التَّعَبُّد فِي الْمَوْضِعَيْنِ وُجُوه أخر مِنْهَا ان نتعبد فِيهَا بِحكم الْعقل فَيبقى فِي الْحَوَادِث الشَّرْعِيَّة على مُقْتَضى الْعقل وَلَا يلْزم عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة الصَّلَاة إِلَى جِهَة من الْجِهَات وَيُمكن أَن نتعبد بِالصَّلَاةِ إِلَى جَمِيع الْجِهَات أَو إِلَى أَي جِهَة اخترنا فان قَالُوا إِنَّمَا تعبدنا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقبْلَة وَالْعَمَل بِحَسبِهِ لفقد الْعلم بهَا فَيجب إِذا فَقدنَا الْعلم بِحكم الْحَادِثَة أَن نَكُون متعبدين بالاستدلال عَلَيْهِ بالأمارات وَالْعَمَل بحسبها قيل لَهُم إِن مخالفكم(2/227)
لَا يسلم أَنا قد فَقدنَا طَرِيقا إِلَى الْعلم بِحكم الْحَادِثَة لِأَنَّهُ يَجْعَل الطَّرِيق إِلَى ذَلِك الْعقل فان قَالُوا إِنَّمَا تعبدنا بالأمارات فِي الْقبْلَة لفقد معاينتها فَيجب مثله فِي حكم الْحَادِثَة عِنْد فقد النَّص لِأَن فقد النَّص يجْرِي فقد مُعَاينَة الْقبْلَة قيل لَهُم أَتَجْعَلُونَ فقد مُعَاينَة الْقبْلَة عِنْد فقد مُعَاينَة الْقبْلَة عِلّة مظنونة أَو مَعْلُومَة فان قَالُوا هِيَ مظنونة قيل لَهُم وَهل نوزعتم إِلَّا فِي صِحَة الْقيَاس بعلة مظنونة وَإِن قَالُوا هِيَ مَعْلُومَة قيل لَهُم دلوا على ذَلِك وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون إِنَّمَا يجب الْعَمَل فِي الأمارات فِي الْقبْلَة لمصْلحَة لَا يعلمهَا إِلَّا الله أَلا ترى أَنه كَانَ لَا يمْتَنع أَن يتعبدنا بالأمارات فِي الْقبْلَة إِذا لم نعاينها ويتعبدنا بِالْبَقَاءِ على حكم مُوجب الْعقل فِي الْفُرُوع الَّتِي لَا نَص فِيهَا فان قَالُوا إِنَّمَا تعبدنا بالأمارات فِي الْقبْلَة لِأَن ذَلِك من قبيل دفع المضار وَهَذَا مَوْجُود فِي الْفُرُوع الشَّرْعِيَّة قيل هَذَا رُجُوع إِلَى دليلنا الأول وَيجب الرُّجُوع فِيهِ إِلَى أصل عَقْلِي لِأَن مَا ذكرتموه عِلّة عقلية
دَلِيل آخر كل حَادِثَة فَلَا بُد فِيهَا من حكم وَلَا بُد من أَن يكون إِلَيْهِ طَرِيق وَكثير من الْحَوَادِث لَا نَص فِيهَا وَلَا إِجْمَاع وَلَيْسَ بعدهمَا إِلَّا الْقيَاس فَلَو لم يكن الْقيَاس حجَّة خلت كثير من الْحَوَادِث من أَن يكون إِلَى حكمه طَرِيق فان قيل جَمِيع الْحَوَادِث عَلَيْهَا نُصُوص تشملها إِمَّا ظَاهِرَة وَإِمَّا خُفْيَة وَلَيْسَ يبعد ذَلِك وَإِن كثرت الْحَوَادِث إِذا كَانَت النُّصُوص عَامَّة لِأَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا سقت السَّمَاء الْعشْر شَامِل لكل مَا سقته السَّمَاء وَإِن كثر عدده قيل لَو كَانَ جَمِيع الْحَوَادِث يشملها النُّصُوص لما افْتقر أهل الظَّاهِر فِي كثير مِنْهَا إِلَى اسْتِصْحَاب الْحَال وَهَذِه الدّلَالَة مُعْتَرضَة لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الْمُسْتَدلّ أَنه لَا بُد فِي كل حَادِثَة من حكم أَي من قَضِيَّة إِمَّا نفيا وغما إِثْبَاتًا فَصَحِيح لَكِن لَا يلْزم أَن يكون طَرِيق ذَلِك الشَّرْع بل قد يجوز أَن يكون طَرِيقه الشَّرْع وَيجوز أَن يكون طَرِيقه الْعقل فيلزمنا التَّمَسُّك بِحكمِهِ إِذا لم ينقلنا عَنهُ نَص وَإِن اراد بالحكم حكما شَرْعِيًّا فانه يجوز خلو كثير من الْحَوَادِث مِنْهُ(2/228)
وَقد اسْتدلَّ بِهَذِهِ الدّلَالَة من وَجه آخر وَهُوَ أَن السّلف رجعُوا فِي أَحْكَام الْحَوَادِث إِلَى الشَّرْع فَعلمنَا أَن طريقها الشَّرْع دون الْعقل فاذا لم يكن فِيهَا نَص وَلَا إِجْمَاع فطريقها إِذا الْقيَاس وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بِهَذَا الْكَلَام الْمسَائِل الَّتِي دارت بَين الصَّحَابَة وبينتم أَنهم لم يستدلوا فِيهَا بِالْعقلِ وَلَا بِالْكتاب وَالسّنة وَأَنه لَيْسَ بعد ذَلِك إِلَّا أَنهم استدلوا عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ فَهَذَا اسْتِدْلَال بِإِجْمَاع السّلف وَقد تقدم وَإِن أردتم أَن السّلف لما طلبُوا حكم بعض الْمسَائِل من الشَّرْع وَجب أَن نطلب حكم جَمِيع الْحَوَادِث من الشَّرْع فَقَط قيل لكم وَلم يجب ذَلِك أَو لَسْتُم وغيركم من مخالفيكم تستدلون فِي كثير من الْمسَائِل بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل فان قُلْتُمْ لَو لم يكن الْقيَاس صَحِيحا لعدلوا فِي الْحَوَادِث الْحَادِثَة فِيمَا بَينهم الَّتِي لَا نَص فِيهَا إِلَى حكم الْعقل فَلَمَّا لم يَفْعَلُوا ذَلِك علمنَا أَنهم عدلوا إِلَى الْقيَاس قيل لكم هَذَا رُجُوع إِلَى استدلالكم الأول وَهُوَ قَوْلكُم إِنَّمَا حكمُوا فِي الْمسَائِل بِأَحْكَام لَا وَجه لما حكمُوا بِهِ إِلَّا الْقيَاس
وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء
مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} وَبِقَوْلِهِ {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَبِقَوْلِهِ {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَبِقَوْلِهِ {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} قَالُوا وَالْحكم بِالْقِيَاسِ تقدم بَين يَدي الله وَرَسُوله لِأَنَّهُ حكم بِغَيْر قَوْلهمَا وَقَول على الله بِمَا لَا نعلم وَوصف الشَّيْء بِأَنَّهُ حَلَال وَحرَام وَلَا نَأْمَن كَونه كذبا وَبِقَوْلِهِ {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله}(2/229)
وَبِقَوْلِهِ {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} وَبِقَوْلِهِ {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَبِقَوْلِهِ {تبيانا لكل شَيْء} وَبِقَوْلِهِ {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} وَبِقَوْلِهِ {أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم} الْجَواب يُقَال لَهُم لم زعمتم أَن الحكم بِالْقِيَاسِ هَذَا سَبيله وَمَا أنكرتم أَنا لَا نَكُون بالحكم بِهِ متعبدين بَين يَدي الله وَرَسُوله إِذْ كُنَّا حاكمين بِمَا أمرنَا الله أَن نحكم بِهِ وَلم نقف مَا لَيْسَ لنا بِهِ علم وَلم نقل على الله مَا لَا نعلم وَلَا واصفين بِالْكَذِبِ لِأَن الدّلَالَة القاطعة على صِحَة الْقيَاس قد أمنتنا من كل ذَلِك وأوجبت أَن الحكم بِهِ حكم بِمَا انْزِلْ عز وَجل ورد إِلَى الله وَالرَّسُول وَأَنه مِمَّا بَينه الله عز وَجل فِي كِتَابه لِأَنَّهُ دلّ على صِحَة الْقيَاس وَمَعْلُوم أَن المُرَاد بقوله {تبيانا لكل شَيْء} إِمَّا على جملَة أَو على تَفْصِيل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَان لكل شَيْء على التَّفْصِيل أَلا ترى أَن كثيرا مِنْهُ مُبين بسنته عَلَيْهِ السَّلَام
وَمِنْهَا مَا احْتج بِهِ النظام من أَن الله عز وَجل قد دلّ بِوَضْع الشَّرِيعَة على أَنه منعنَا من الْقيَاس لِأَنَّهُ فرق بَين المتفقين وَجمع بَين المفرقين فأباح النّظر الى شعر الْأمة الْحَسْنَاء وحظر النّظر إِلَى شعر الْحرَّة وَإِن كَانَت شوهاء وَأوجب الْغسْل من الْمَنِيّ دون الْبَوْل وَأوجب على الطَّاهِر من الْحيض قَضَاء الصّيام دون الصَّلَاة وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن ذَلِك بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْقيَاس يَقْتَضِي الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الحكم واختلافهما فِيهِ إِذا اشْتَركَا أَو افْتَرقَا فِي علته لَا فِي الصُّورَة وَلم يبين النظام أَن شعر الْحرَّة وَالْأمة قد اشْتَركَا فِي عِلّة التَّحْرِيم أَو الْإِبَاحَة حَتَّى يكون وُرُود الشَّرْع بالتفرقة بَينهمَا ورودا بِمَا يمْنَع من الْقيَاس(2/230)
وللنظام أَن يَقُول غرضي بِمَا ذكرته الْإِبَانَة عَن أَن الشَّرِيعَة قد شهِدت بابطال أماراتكم لِأَن الشَّرِيعَة لَو حظرت النّظر إِلَى شعر الْحرَّة وَلم تذكر الْأمة لقلتم إِنَّمَا حظرت ذَلِك خوف الْفِتْنَة وَذَلِكَ قَائِم فِي شعر الْأمة الْحَسْنَاء فَيحرم النّظر إِلَيْهِ ولكان ذَلِك من اقوى مَا تذكرونه من أماراتكم فِي الْقيَاس فاذا شهِدت الشَّرِيعَة بابطاله فقد صَحَّ قولي إِن وَضعهَا يمْنَع من الْقيَاس وَمِنْهَا أَن ذَلِك لَو منع من الْقيَاس الشَّرْعِيّ لمنع من الْقيَاس الْعقلِيّ لِأَن الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة قد تخْتَلف فِيهَا الْأَشْيَاء المتفقة وتشترك فِيهَا الْأَشْيَاء المتباينة وللنظام أَن يَقُول الاحكام الْعَقْلِيَّة لَا تشترك فِيهَا الْأَشْيَاء المتباينة فِي علل تِلْكَ الْأَحْكَام وَلَا تفترق فِيهَا الْأَشْيَاء المتفقة فِي عللها وَأَنا قد أريتكم أَشْيَاء متفقة فِي أَمْثَال عللكم وأماراتكم وَهِي متباينة فِي أَحْكَام تِلْكَ الامارات فَكَانَ فِي ذَلِك بطلَان قَوْلكُم وَلم توجدوني مثله فِي العقليات وَمِنْهَا أَن قَالَ أَكثر مَا يَقْتَضِيهِ وضع الشَّرِيعَة أَن تخْتَلف أَحْكَام الْأَشْيَاء فَيكون الْقيَاس عَلَيْهَا يثبت أحكاما متضادة فِي الْفُرُوع وَلَيْسَ ذَلِك يمْتَنع عندنَا إِذا كَانَ الْمُكَلف مُخَيّرا فِيهَا وللنظام أَن يَقُول مَا التزمتموه خَارج عَمَّا رمته لِأَن الَّذِي رمته هُوَ وُرُود الشَّرِيعَة بِمَا يُخَالف مفايستكم فِي التَّسْوِيَة والتفرقة ليَصِح أَن وَضعهَا يمْنَع من الْقيَاس وَلَيْسَ غرضي أَن أبين أَن الْقيَاس يَقْتَضِي أحكاما متضادة فِي الْفَرْع فتجيبوني بِالْتِزَام ذَلِك وَنحن نجيب النظام فَنَقُول إِنَّه أرانا مثل أمارتنا فقد نفت الشَّرِيعَة أَحْكَامهَا وَذَلِكَ إِنَّمَا نمْنَع من كَونهَا أَدِلَّة وَلَا نمْنَع من كَونهَا أَمارَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرط الأمارة أَن تدل هِيَ وأمثالها على حكمهَا على كل حَال بل قد تتخرم دلالتها وَلَا تخرج من كَونهَا أَمارَة أَلا ترى أَن الْغَيْم الرطب أَمارَة فِي الشتَاء على الْمَطَر وَلَيْسَ ينْقض كَونه أَمارَة على ذَلِك وجودنا غيما أرطب من ذَلِك فِي صميم الشتَاء وَلَا يكون الْمَطَر وامثال ذَلِك كثير وَكَذَلِكَ لَا تخرج أمارتنا من كَونهَا أَمَارَات بِوَجْه لوجودنا أَمْثَالهَا وأحكامها متخلفة عَنْهَا فان قَالَ قد وجدت الْأَكْثَر من أَمْثَال أماراتكم لَا يتَعَلَّق بهَا فِي الشَّرِيعَة حكم فَخرجت بذلك عَن أَن تكون أَمَارَات إِذْ الْأَكْثَر من الأمارات يتَعَلَّق بهَا(2/231)
الْأَحْكَام قيل لَهُ بَين ذَلِك وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى بَيَانه وَمِمَّا احْتج بِهِ الْمُخَالف قَوْلهم لَو كَانَ الله عز وَجل وَرَسُوله قد تعبدنا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ القائسون مُطِيعِينَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي ذَلِك كَونه عَالما بهم وَبِمَا يؤديهم اجتهادهم إِلَيْهِ وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الله عز وَجل قد أعلم نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقائسين مفصلا وَأَرَادَ الْقيَاس مِنْهُم وَكَانُوا مُطِيعِينَ لَهُ وَلَا يمْتَنع أَن يكون قد أَرَادَ فِي الْجُمْلَة من الْمُجْتَهدين أَن يجتهدوا الِاجْتِهَاد الصَّحِيح ويفعلوا بِحَسبِهِ وكل من فعل ذَلِك يكون مُطيعًا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فان قيل فَمَتَى أَرَادَ الله عز وَجل حكم الْفُرُوع من الْمُكَلف قيل ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد وَعَلِيهِ دَلِيل يَقُول إِن الله عز وَجل أَرَادَ حكم الْفَرْع بِنصب الدّلَالَة على ذَلِك وَمن يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب مِنْهُم من يَقُول أَرَادَ أَحْكَام الْفُرُوع عِنْد نصب الأمارات وَمِنْهُم من يَقُول أرادها عِنْد نصب الدّلَالَة على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ وَقد اخْتَارَهُ قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد وَقَالَ وَمِنْهُم من يَقُول أرادذلك عِنْد النَّص الدَّال على حكم الأَصْل وَقد اخْتَارَهُ فِي الشَّرْح وَفِي كتاب النِّهَايَة وَمِنْهُم من يَقُول أَرَادَ بعض الْأَحْكَام بالنصوص وَيقف على الْبَاقِي وَلَا يدْرِي بِمَاذَا أُرِيد وابطل فِي الشَّرْح أَن تكون الْأَحْكَام مُرَادة بِدَلِيل الْقيَاس لِأَن دَلِيل الْقيَاس مُجمل وَأوجب أَن تكون مُرَادة بِالنَّصِّ الدَّال على حكم الأَصْل قَالَ لِأَن عِنْد الْقيَاس نقُول لَا يَخْلُو مُرَاده بِتَحْرِيم الرِّبَا إِمَّا أَن يكون نفس الْعين أَو بعض صفاتها ثمَّ نتوصل بالأمارات إِلَى إِثْبَات الْمَعْنى وَلقَائِل أَن يَقُول لَا أقسم هَذِه الْقِسْمَة لِأَنِّي قد علمت أَنه مَا أُرِيد بِتَحْرِيم التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة إِلَّا مَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظ دون غَيره وَإِنَّمَا أعرف حكم الْفَرْع لاختصاصه بِمَا ظَنَنْت أَنه عِلّة الحكم مَعَ قيام الدّلَالَة على الْعَمَل بِالْقِيَاسِ وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الله عز وَجل إِنَّمَا أَرَادَ الحكم عِنْد نصب الدّلَالَة على صِحَة الْقيَاس مَعَ نصب الأمارة الدَّالَّة على عِلّة الحكم ووجودها فِي الْفَرْع لِأَنَّهُ لَا بُد من مَجْمُوع ذَلِك فِي الْعلم لحكم الْفَرْع وَلَيْسَ بعض ذَلِك مُرَتبا على بعض بل لمجموعة تشافه(2/232)
الحكم وَمعنى ذَلِك انه فعل كل وَاحِد من ذَلِك لأجل الحكم
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَإِن جَازَ فان مقايستكم لم يرد التَّعَبُّد بهَا لِأَنَّهُ مَا من فرع إِلَّا وَيُشبه أصلين متضادي الحكم وَذَلِكَ يَقْتَضِي ثبوتهما فِيهِ وَذَلِكَ محَال فَعلمنَا أَن الله سُبْحَانَهُ لم يتعبدنا بذلك الْجَواب يُقَال لَهُم إِن كل فرع يشبه أصلين متضادي الحكم ثمَّ لَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك لم يؤد إِلَى محَال لِأَن من لَا يُجِيز الحكم فِي الْفَرْع بالتخيير يَقُول إِن الله سُبْحَانَهُ قد جعل لنا طَرِيقا إِلَى قُوَّة شبهه باحد الْأَصْلَيْنِ فَيَنْبَغِي أَن يُرَاجع الْمُجْتَهد النّظر حَتَّى يظفر بذلك وَمن يجوز الحكم بالتخيير يَقُول يجوز ان يعتدل الشبهان عِنْد الْمُجْتَهد فَيكون مُخَيّرا بَين إِلْحَاقه بِأَيّ الْأَصْلَيْنِ شَاءَ فَلَا يُنَافِي فِي ذَلِك وَالْقَوْل فِي ذَلِك كالقول فِي أَخْبَار الْآحَاد المتعارضة
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس وَإِن جَازَ التَّعَبُّد بِهِ مَوْقُوف على ثُبُوت الْحَاجة إِلَيْهِ وَتَنَاول النُّصُوص الْخَاصَّة والعامة للحوادث كلهَا يرفع الْحَاجة إِلَيْهِ فاذا لسنا متعبدين بِهِ الْجَواب أَن قَوْلهم إِن النُّصُوص متناولة لجَمِيع الْحَوَادِث دَعْوَى وَلَو كَانَت النُّصُوص متناولة لجَمِيع الْحَوَادِث لتناولت الْحَوَادِث الَّتِي اخْتلف الصَّحَابَة فِيهَا وَكَانُوا يحتجون بهَا وَلما لم يحتجوا بهَا علمنَا أَنه لم يكن فِيهَا نُصُوص وَلَو تناولت النُّصُوص جَمِيع الْحَوَادِث لما افْتقر نفاة الْقيَاس إِلَى الِاسْتِدْلَال بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل فِي كثير من الْحَوَادِث
وَمِنْهَا أَن يزِيدُوا فِي هَذِه الدّلَالَة فيقولوا تنَاول خَاص النُّصُوص وعامها أَو دَلِيل الْعقل لكل حَادِثَة تغني عَن الْقيَاس فِيهَا فَلم نَكُنْ متعبدين بِهِ إِذْ التَّعَبُّد بِهِ مَوْقُوف على الْحَاجة ولسنا مُحْتَاجين إِلَيْهِ مَعَ هَذِه الامور الْجَواب أَن تنَاول النُّصُوص للحادثة لَا يمْنَع من قياسها على غَيرهَا إِذا كَانَ حكم الْقيَاس هُوَ حكم النَّص لِأَنَّهُ إِن تنَاولهَا خبر وَاحِد كَانَ عَلَيْهَا أمارتان خبر وَاحِد وَقِيَاس وَإِن تنَاولهَا خبر متواتر قسناها على غَيرهَا لِأَنَّهُ لَو لم يكن الْخَبَر الْمُتَوَاتر لدل الْقيَاس على حكمهَا وَإِن تنَاول الْحَادِثَة عُمُوم جَازَ إِثْبَات حكم الْعُمُوم فِيهَا(2/233)
بقياسها على غَيرهَا وَجَاز إخْرَاجهَا من الْعُمُوم بقياسها أَيْضا على غَيرهَا فَتَنَاول النُّصُوص للحادثة لَا يَقْتَضِي كوننا غير متعبدين فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَأما تنَاول الْعقل للحادثة فانه إِنَّمَا يَقْتَضِي إِثْبَات حكمه فِيهَا ويغني عَمَّا سواهُ مَا لم ينْقل عَنهُ دَلِيل شَرْعِي فَعَلَيْهِم أَن يبينوا أَن الْقيَاس لَيْسَ بِدَلِيل شَرْعِي حَتَّى يمْتَنع أَن ينقلنا عَن حكم الْعقل هَذَا إِذا كَانَ الْقيَاس غير مُطَابق لحكم الْعقل فان كَانَ مطابقا لَهُ فَمَا الْمَانِع من ان يدل هُوَ على الْحَادِثَة مَعَ الْعقل كَمَا يدل الْعقل على الْحَادِثَة مَعَ خبر وَاحِد
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو نَص الله عز وَجل على عِلّة حكم الْحَادِثَة مَا جَازَ أَن نقيس عَلَيْهَا غَيرهَا بِتِلْكَ الْعلَّة فأحرى أَن لَا يجوز أَن نقيس على مَا لم ينص على علته وَإِذا لم يجز لنا الْقيَاس ثَبت أَن الله عز وَجل مَا تعبدنا بِهِ وَاسْتَدَلُّوا على أَن الْقيَاس على مَا نَص على علته لَا يجوز بِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لوَكِيله أعتق زيدا عَبدِي لِأَنَّهُ اسود مَا جَازَ أَن يعْتق كل عبد لَهُ أسود الْجَواب يُقَال لَهُم أتمنعون الْقيَاس على مَا نَص على عِلّة حكمه وَإِن تعبدنا بِالْقِيَاسِ أَو إِن لم نتعبد بِالْقِيَاسِ فان قَالُوا بِالْأولِ كَانُوا قد منعُوا من فعل مَا تعبد الله عز وَجل بِهِ لِأَن الله عز وَجل إِذا تعبدنا بِالْقِيَاسِ فَأولى المقاييس مَا نَص على علته وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم من النَّاس من يَقُول لَا يجوز الْقيَاس على مَا نَص على علته إِلَّا بعد أَن نتعبد بِالْقِيَاسِ وَلَا يَكْفِي النَّص على عِلّة الحكم فِي إِبَاحَة الْقيَاس ويحوج إِلَى ذَلِك من النَّص على الْعلَّة وَمَعَ فقد النَّص عَلَيْهَا ويسوى بَين الْمَوْضِعَيْنِ وَمن النَّاس من يَقُول يَكْفِي النَّص على الْعلَّة فِي جَوَاز الْقيَاس بهَا لما سَنذكرُهُ فِي بَاب ياتي وَلَا بُد من تعبد بِالْقِيَاسِ إِذا لم ينص على الْعلَّة وَإِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من يَقُول إِن التَّعَبُّد بذلك يثبت عقلا وَشرعا وَمِنْهُم من يَقُول يثبت شرعا فَقَط فَمَا بني عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ دَلِيله من أَن الْقيَاس على مَا نَص على علته لَا يجوز لَا يُسلمهُ هَؤُلَاءِ وَمَا احْتج بِهِ من الْعتْق سَيَجِيءُ الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب مُفْرد أَن شَاءَ الله تَعَالَى(2/234)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النَّص على عِلّة الحكم هَل هُوَ تعبد بِالْقِيَاسِ بهَا أَو لَا بُد من تعبد زَائِد على النَّص على الْعلَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ الجعفران وَبَعض أهل الظَّاهِر لَيْسَ النَّص على الْعلَّة تعبدا بِالْقِيَاسِ بهَا وَقَالَ أَبُو اسحاق النظام وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الْفُقَهَاء وَقَول بعض أهل الظَّاهِر إِن النَّص عَلَيْهَا يَكْفِي فِي التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ بهَا وَالشَّيْخ أَبُو هَاشم أَبُو عبد الله رَحمَه الله إِن كَانَت الْعلَّة المنصوصة عِلّة فِي التَّحْرِيم كَانَ النَّص عَلَيْهَا تعبدا بِالْقِيَاسِ بهَا وَإِن كَانَت عِلّة فِي إِيجَاب الْفِعْل أَو كَونه ندبا لم يكن النَّص عَلَيْهَا تعبدا بِالْقِيَاسِ بهَا
وَاحْتج المانعون من الْقيَاس بهَا من غير هَذَا التَّفْصِيل فَقَالُوا إِن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة إِمَّا أَن تكون وَجه الْمصلحَة وَإِمَّا أَن تكون أَمارَة فان كَانَت وَجه الْمصلحَة وَجب أَن يُوقع الْمُكَلف الْفِعْل لأَجلهَا وَلَيْسَ يجب إِذا فعل الْإِنْسَان فعلا لغَرَض من الْأَغْرَاض وَوجه من الْوُجُوه ان يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض لِأَن من اكل رمانة لِأَنَّهَا حامضة لَا يجب أَن يَأْكُل كل رمانة حامضة وَمن تصدق على فَقير بدرهم لِأَنَّهُ فَقير لَا يجب أَن يتَصَدَّق على كل فَقير فَلَو أوجب الله علينا أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو وَكَانَت حلاوته دَاعِيَة إِلَى اكله لم يجب أَن تَدعُوهُ حلاوة الْعَسَل إِلَى أكله فَلم يجب علينا أكله وَأكل كل حُلْو وَإِن كَانَت الْعلَّة أَمارَة فَمَعْنَى ذَلِك هُوَ أَن وَجه الْمصلحَة يقارنها وَلَا يَنْفَكّ مِنْهَا فاذا ثَبت بهَا ذكرنَا أَن وَجه الْمصلحَة لَا تتبعها الْمصلحَة فِي كل مَوضِع فَكَذَلِك مَا لَا يَنْفَكّ من وَجه الْمصلحَة فعلى هَذَا الْوَجْه ذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله هَذَا الدَّلِيل وَالْجَوَاب إِن السكر لَو وَجب أكله لِأَنَّهُ حُلْو وَقُلْنَا إِن حلاوته وَجه الْمصلحَة وَالْوُجُوب لم يلْزم أَن يَأْكُل الْمُكَلف السكر لِأَنَّهُ حُلْو فيوقع الْفِعْل لهَذَا الْوَجْه بل يَكْفِي أَن يَأْكُلهُ لِأَنَّهُ وَاجِب وَلَيْسَ من شَرط كَون(2/235)
حلاوة السكر وَجه الْمصلحَة أَن يكون دَاعِيَة إِلَى اكل السكر بل من شَرط كَونهَا وَجه الْمصلحَة أَن يكون أكل السكر يَدْعُو لأَجلهَا إِلَى فعل وَاجِب آخر أَو يصرف عَن قَبِيح وَهَذَا الْقدر كَاف فِي كَون الْحَلَاوَة وَجه الْمصلحَة وَلَو لزم الْمُكَلف أكل السكر لنه حُلْو لم يسْقط عَنهُ وجوب أكل كل حُلْو من حَيْثُ أمكنه أَن يَأْكُل السكر من حَيْثُ أَنه حُلْو وَلَا يَأْكُل مَا ساواه فِي الْحَلَاوَة على مَا ذكره الْمُسْتَدلّ فِي الرمانة لِأَن وجوب الْوَاجِب لَا يقف على كَونه لَا بُد من وُقُوعه من الْمُكَلف بل من شَرط وُجُوبه إِمْكَان وُقُوعه وَإِمْكَان تَركه
وَيُمكن أَصْحَاب هَذِه الْمقَالة أَن يحتجوا بِهَذِهِ الدّلَالَة على وَجه آخر فيقولوا إِن علل الشرعيات هِيَ وُجُوه الْمصَالح والمصلحة إِمَّا أَن تكون دَاعِيَة إِلَى فعل وَاجِب ومسهلة لَهُ أَو صارفة عَن قَبِيح أَو دَاعِيَة إِلَى تَركه ومسهلة لَهُ وَمَا دَعَا إِلَى فعل وسهلة لَا يجب أَن يكون هُوَ وَلَا مثله دَاعيا إِلَى جنس ذَلِك الْفِعْل وَلَا مسهلا لَهُ وَمَا يصرف عَن الْفِعْل يجب أَن يصرف هُوَ وَمثله عَن جنس ذَلِك الْفِعْل أَلا ترى أَن من أكل رمانة لِأَنَّهَا حامضة فان حموضتها قد دَعَتْهُ إِلَى أكلهَا وسهلت عَلَيْهِ وَلَا يجب أَن يَأْكُل غَيرهَا من الرُّمَّان وَمن لم يَأْكُل رمانة لِأَنَّهَا حامضة فان حموضتها قد صرفته عَن أكلهَا وسهلت عَلَيْهِ الْإِخْلَال بأكلها وَيلْزم أَن لَا يَأْكُل كل رمانه حامضة فاذا ثَبت ذَلِك فَلَو نَص الله عز وَجل على أَن عِلّة وجوب أكل السكر كَونه حلوا يجوزنا أَن تكون حلاوته لطفا وداعيا إِلَى الْإِخْلَال بِالْكَذِبِ فَيلْزم أَن تكون حلاوة الْعَسَل إِذا أكله الْإِنْسَان دَاعيا لَهُ إِلَى الْإِخْلَال بِالْكَذِبِ وجوزنا أَن تكون حلاوته دَاعِيَة إِلَى فعل وَاجِب كرد الْوَدِيعَة ومسهلا لَهُ كَمَا ان حموضة الرمانة دَاعِيَة إِلَى أكلهَا وَلَا يلْزم أَن تَدْعُو حلاوة الْعَسَل إِلَى رد الودائع كَمَا لم يلْزم أَن تَدْعُو حموضة رمانة أُخْرَى أَو حموضة الْخلّ إِلَى أكله وَإِذا جَوَّزنَا كلا الْأَمريْنِ لم يجز لنا إِيجَاب أكل الْعَسَل لتجويزنا أَن تكون حلاوة السكر وَجه مصلحَة فِي فعل وَاجِب فَلَا يجب أَن تكون حلاوة الْعَسَل بِمثلِهِ بل يلْزمنَا أَن نقطع على أَن حلاوة السكر(2/236)
لَيْسَ بِوَجْه مصلحَة فِي التّرْك لِأَنَّهَا لَو كَانَت كَذَلِك لأخبرنا الله عز وَجل بذلك أَو لتعبدنا بِالْقِيَاسِ وَالْجَوَاب إِن من يفعل الْفِعْل لداع ومسهل فانه يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الدَّاعِي إِلَّا أَن يُقَابل ذَلِك الدَّاعِي صَارف أَو يُؤَدِّي إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ وآكل الرمانة إِنَّمَا لم يَأْكُل رمانة أُخْرَى لِأَن شَهْوَته للحموضة قد زَالَت أَو تناقصت فَلم يحصل دَاعِيَة إِلَى أكل رمانة أُخْرَى أَو لم يحصل على حد مَا حصل إِلَى الأولى وَإِذا نَص الله سُبْحَانَهُ على أَن عِلّة أكل السكر كَونه حلوا فَظَاهر أَن حلاوته هِيَ وَجه الْمصلحَة من غير شَرط فَلم يجز حُصُول الْحَلَاوَة إِلَّا وَهِي دَاعِيَة إِلَى مَا دعت إِلَيْهِ حلاوة السكر
وَاحْتَجُّوا بِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ أعتقت عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ اسود لم يعْتَقد السامعون أَنه قد أعتق كل عبيده السود وَلَو قَالَ لوَكِيله أعتق عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ أسود لم يجز للْوَكِيل عتق كل عبيده السود الْجَواب إِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ أعتقت عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ أسود فان كل عَاقل يناقضه إِذا لم يعْتق غَيره من عبيده السود إِلَّا أَن يكون قد عرف من قَصده أَنه اعتقده لِأَنَّهُ أسود مَعَ شَرط آخر لَا يُوجد فِي غَيره وَإِذا قَالَ لوَكِيله أعتق زيدا عَبدِي لِأَنَّهُ أسود قَالَ لَهُ الْعُقَلَاء فعندك الآخر أسود فَلم خصصت هَذَا بِالْعِتْقِ وَإِنَّمَا لم يجز للْوَكِيل الْإِقْدَام على عتق عبد لَهُ لِأَن الشَّرْع منع من ذَلِك إِلَّا بِصَرِيح القَوْل وَلِأَن المؤكل لما جَازَت عَلَيْهِ البدوات والمناقضات لم يجز من جِهَة الْعقل الْإِقْدَام على إِتْلَاف مَاله إِلَّا بِصَرِيح القَوْل أَلا ترى أَن المؤكل لَو أَمر وَكيله بِالْقِيَاسِ لم يكن للْوَكِيل عتق كل عبيده السود وَلِهَذَا ثَبت الْقيَاس فِيمَا عدا الْإِتْلَاف لِأَن الْإِنْسَان لَو قَالَ لعَبْدِهِ لَا تدخل دَار فلَان لِأَنَّهُ عدوي فَدخل دَار غَيره من أعدائه لامه الْعُقَلَاء وَلَو قَالَ أوجبت أَو أبحت لَك دُخُول دَار فلَان لِأَنَّهُ صديقي كَانَ لَهُ دُخُول دَار غَيره من أصدقائه وَلَو لامه لائم على ذَلِك لعنفه الْعُقَلَاء
وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الشَّيْخ عبد الله رحمهمَا الله احْتج لمذهبه بِأَن من فعل(2/237)
فعلا لغَرَض من الْأَغْرَاض فانه لَا يجب أَن يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض وَمن ترك فعلا لغَرَض فانه لَا يجب أَن يفعل مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض وَمن ترك فعلا لغَرَض فانه يتْرك مَا ساواه فِي ذَلِك الْغَرَض فاذا حرم الله تَعَالَى الْخمر لشدتها فان الشدَّة تكون وَجه الْمصلحَة وَلَا يكون كَذَلِك إِلَّا وَلها يتْرك الْفِعْل وَإِذا كَانَت وَجها فِي التّرْك وَجب أَن يشيع فِي تَحْرِيم كل شدَّة فاذا وَجب أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو لم يجب أَن يشيع فِي كل حُلْو وَالْجَوَاب يُقَال إِن أردْت أَن الشدَّة وَجه لَهَا بترك شرب الْخمر فقد بَينا بطلَان ذَلِك إِن أردْت أَنَّهَا لاخْتِصَاص الْخمر بهَا يَقْتَضِي ترك شربهَا انصرافا عَن قَبِيح آخر فَمن أَيْن ذَلِك وَمَا يُنكر أَنه يجوز ذَلِك وَيجوز أَن يكون تَارِك شربهَا يفعل وَاجِبا وَلَو شربهَا أخل بِهِ وَمَا يُنكر لَو أوجب الله تَعَالَى علينا أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو أَن يكون أكله يصرف عَن قَبِيح وَلَا يَدْعُو إِلَى وَاجِب فَلَا يَنْبَغِي أَن يفرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ بل يَنْبَغِي أَن يجوز فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يكون دَاعيا إِلَى التّرْك وداعيا إِلَى الْفِعْل على أَن قَوْله إِن وَجه الْمصلحَة لَهَا يفعل الْفِعْل إِن أَرَادَ بِهِ لَهَا يفعل الملطوف فِيهِ على معنى أَن الْمُكَلف يفعل الملطوف فِيهِ لأجل اللطف فَهُوَ صَحِيح وَإِن أَرَادَ أَن وَجه الْمصلحَة هُوَ غَرَضه ومقصوده بِفعل الملطوف فِيهِ كَمَا يَقُول خرجت من الدَّار لاسلم على زيد فَبَاطِل لِأَن اللطف مُتَقَدم فَلَا يجوز أَن يكون هُوَ غَرَض الْمُكَلف أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا اسْتغنى أَو رزقه الله ولدا فَدَعَاهُ ذَلِك إِلَى الصَّلَاة لَا يكون غَرَضه وقصده بِالصَّلَاةِ الِاسْتِغْنَاء وَالْولد
وَأما أَبُو إِسْحَاق النظام فَلهُ أَن يحْتَج فَيَقُول لَو قَالَ الله عز وَجل اوجبت أكل السكر فِي كل يَوْم لِأَنَّهُ حُلْو لَكَانَ ذَلِك تعليلا لوُجُوبه فِي كل يَوْم ولكانت الْحَلَاوَة فَقَط وَجه الْمصلحَة فِي وُجُوبه فِي كل يَوْم لِأَنَّهُ قصر التَّعْلِيل عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَاف أحوالنا وَلَا يجوز حُصُول وَجه الْوُجُوب أَو الْحسن أَو الْقبْح فَلَا يُؤثر أَلا ترى أَنه لَا يجوز حُصُول الْفِعْل ظلما وَلَا يكون قبيحا وَأَيْضًا فان قدرا من الرِّفْق لَا يجوز أَن يصلح الصَّبِي وَهُوَ على صفة مَخْصُوصَة(2/238)
وَلَا يصلحه مثله مَتى كَانَ الصَّبِي على تِلْكَ الصّفة وَإِذا ثَبت ذَلِك كَانَت الْحَلَاوَة مُؤثرَة فِي الْمصلحَة فِي كل مَوضِع فَوَجَبَ أكل الْعَسَل
وَقد احْتج لهَذِهِ الْمقَالة أَيْضا بِأَنَّهُ لَو لم يجز الْقيَاس بِالْعِلَّةِ المنصوصة لم تكن للنَّص عَلَيْهَا فَائِدَة وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْفَائِدَة فِيهَا أَن يعلم كَونهَا عِلّة لِأَن الْعلم نَفسه فَائِدَة
وَقَالَ أَيْضا لَو لم يتعبد بِالْقِيَاسِ لعلم كل عَاقل تَحْرِيم ضرب الْوَالِدين من قَول الله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} لما نبه الله تَعَالَى على الْعلَّة فاذا نَص عَلَيْهَا فَالْقِيَاس بهَا أولى فَالْجَوَاب إِن كثيرا من النَّاس يَقُول إِن الْمَنْع من ضربهما مَعْلُوم بِاللَّفْظِ لَا من جِهَة الْقيَاس وَمن لم يقل إِن ذَلِك مَعْلُوم بِاللَّفْظِ يَقُول لَو لم يتعبد الله عز وَجل بِالْقِيَاسِ لم أعرف ذَلِك بِالْقِيَاسِ على التأفيف لَكِن أعرفهُ بِالْعقلِ من حَيْثُ أَن ضربهما كفر نعْمَة وَإِنَّمَا يثبت أَن الْمَنْع من التأفيف دَال على تَحْرِيم الضَّرْب إِذا ثَبت أَن الْعلم بِالْعِلَّةِ يَكْفِي فِي التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فَأَما مَعَ الشَّك فِي ذَلِك فَلَا يُمكن الْمَنْع من ضربهما بِالْقِيَاسِ على التأفيف فأمأ إِذا نَص الله عز وَجل على الْعلَّة وَتعبد بِالْقِيَاسِ فَلَا شُبْهَة فِي جَوَاز الْقيَاس بهَا لأَنا قد بَينا أَن النَّص على الْعلَّة هُوَ تعبد بِالْقِيَاسِ فانضمام تعبد زَائِد يزِيد التَّعَبُّد تَأْكِيدًا وَلِأَنَّهُ لَو لم يجز الْقيَاس بهَا لم يجز الْقيَاس بالمستنبطة فَكَانَ لَا يجوز الْقيَاس أصلا وَفِي ذَلِك وُرُود التَّعَبُّد بِمَا لَا يجوز فعله
شُبْهَة
إِن قيل إِذا أوجب الله تَعَالَى أكل السكر لِأَنَّهُ حُلْو فَيجب إِذا شَاركهُ الْعَسَل فِي الْحَلَاوَة أَن يكون قد قَامَ مقَامه فِي وَجه الْمصلحَة وَفِي ذَلِك كَونهمَا واجبين على الْبَدَل وَالْجَوَاب إِن الْفِعْل إِذا وَجب التَّعْيِين لوجه ثمَّ شَاركهُ(2/239)
فِيهِ فعل آخر وَجب أَن يُشَارِكهُ فِي الْوُجُوب على التَّعْيِين لِأَن هَذَا هُوَ حكم الأَصْل
شُبْهَة
إِن قَالُوا لَو قَالَ الرجل لوَكِيله أعتق عَبدِي زيدا لِأَنَّهُ أسود وَيَنْبَغِي أَن يقيس لم يجز لَهُ أَن يعْتق جَمِيع عبيده السود وَالْجَوَاب عَن ذَلِك مَا تقدم من أَن الشَّرْع وَالِاحْتِيَاط من جِهَة الْعقل يمْنَع من الْإِتْلَاف على المؤكل إِلَّا بِصَرِيح اللَّفْظ لما يجوز عَلَيْهِ من المناقضات والبدوات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنا متعبدون بِالْقِيَاسِ على الأَصْل وَإِن لم ينص لنا على الْقيَاس عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَلَا أَجمعت الامة على تَعْلِيله وَوُجُوب الْقيَاس عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
حُكيَ عَن بشر المريسي الْمَنْع من الْقيَاس على الأَصْل إِلَّا بعد أَن تجمع الامة على تَعْلِيله وَعَن قوم أَنه يجب أَن ينص لنا على وجوب الْقيَاس عَلَيْهِ وَالدَّلِيل على أَنه لَا اعْتِبَار بذلك أَن الصَّحَابَة قد قاست على أصُول لم يتقدمها إِجْمَاع على قِيَاس تِلْكَ الْمسَائِل عَلَيْهَا وَقد قَاس كل مِنْهُم على غير الأَصْل الَّذِي قَاس عَلَيْهِ غَيره وَلَا نَص لَهُم على الْقيَاس على أصل من تِلْكَ الْأُصُول لِأَنَّهُ لَو نَص لَهُم على ذَلِك لاحتج بِهِ بَعضهم على بعض فِي وجوب الْقيَاس على ذَلِك الأَصْل وَلِأَنَّهُ إِن كَانَ الأَصْل قد نَص على علته فقد بَينا أَن ذَلِك تعبد بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَأَنه لَا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة تعبد وَبينا مثل ذَلِك فِي الْعِلَل المستنبطة وَقُلْنَا إِن الْعقل يَقْتَضِي الْقيَاس بهَا على الأَصْل كالأمارات الْعَقْلِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بِالِاجْتِهَادِ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم رحمهمَا الله إِنَّه لم يكن متعبدا بِالِاجْتِهَادِ فِي شَيْء من الشرعيات وَحكي عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله أَنه كَانَ متعبدا بذلك(2/240)
وَجوز الشَّافِعِي فِي رسَالَته أَن يكون فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتِهَادًا وَجوز قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله ذَلِك وَلم يقطع عَلَيْهِ وَاسْتدلَّ بِأَن الْعقل يجوز أَن يتعبده الله بِالِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ فِي الْعقل وَلَا فِي السّمع مَا يدل على أَنه تعبد بذلك وَلَا أَنه لم يتعبد بِهِ وَذَلِكَ يَصح إِذا أفسدنا أَدِلَّة القاطعين على أَنه تعبد بذلك والقاطعين على أَنه لم يتعبد بِهِ
فمما احْتج بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ تعبد بِالِاجْتِهَادِ قَوْلهم إِن فِي الِاجْتِهَاد مزِيد ثَوَاب فَلَا يجوز أَن يحرمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْجَوَاب إِنَّه لَيْسَ يثبت أَن ثَوَاب الْمُجْتَهد فِي الأمارات أَكثر من ثَوَاب الْمُسْتَدلّ بالأدلة لِأَن الْمَشَقَّة مَوْجُودَة فيهمَا وَلَا يعلم التَّفَاضُل بَينهمَا فِيمَا يَقْتَضِي مزِيد الثَّوَاب على أَن الْوَاجِب أَن يكون ثَوَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر وَلَيْسَ فِي كل فعل فَعَلْنَاهُ يجب أَن يفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله ليستحق مثل ثوابنا على أَن هَذَا يَقْتَضِي أَن يكون متعبدا بِالِاجْتِهَادِ فِي جَمِيع مَا تعبدنا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ
وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ فِي مَكَّة لَا يختلي خَلاهَا قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الْإِذْخر وَمَعْلُوم أَن الْوَحْي لم ينزل عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَال وَلكنه تنبه من اسْتثِْنَاء الْعَبَّاس على مَوضِع الِاجْتِهَاد وَالْجَوَاب إِنَّه لَا يمْتَنع ان يكون أَرَادَ اسْتثِْنَاء الْإِذْخر فسبقه الْعَبَّاس إِلَيْهِ فَلَا يجب الْقطع على مَا قَالُوهُ
وَمِنْهَا أَن الْعَمَل على الْقيَاس مَعْلُوم بِالْعقلِ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره فِي ذَلِك سَوَاء وَالْجَوَاب إِن الْعقل يُوجب عندنَا إِذا لم يكن فِي الْحَادِثَة نَص وَإِذا لم يدل الشَّرْع على أَن الْقيَاس مفْسدَة فَمَا يؤمننا أَن يكون اسْتِعْمَال الْقيَاس للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مفْسدَة وَأَن مصْلحَته أَن يعْمل على النَّص فدله الله عز وَجل على ذَلِك وَنَصّ لَهُ على الْأَحْكَام(2/241)
وَاحْتج المانعون من كَونه متعبدا بِالِاجْتِهَادِ بأَشْيَاء
مِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فَأخْبر أَن مَا ينْطق بِهِ هُوَ عَن وَحي وَلَا يُقَال لما يصدر عَن اجْتِهَاد إِنَّه عَن وَحي أَلا ترى أَنه لَا يُقَال إِن قَول الْمُجْتَهد منا هُوَ عَن وَحي وَأجَاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَن الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى مَا ينْطق بِهِ دون مَا يظْهر مِنْهُ فعلا فَمن أَيْن أَن كل مَا فعله كَانَ وَحيا وَأما قَوْله وَمَا ينْطق عَن الْهوى فَلَا يمْتَنع من كَونه مُجْتَهدا لِأَن الحكم بِالِاجْتِهَادِ لَيْسَ هُوَ عَن هوى
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْأمة اتّفقت على أَن مَا يَقُوله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ عَن اجْتِهَاد وَالْجَوَاب إِن أَبَا يُوسُف وَالشَّافِعِيّ يخالفان فِي ذَلِك وَلَا يعلم سبق الْإِجْمَاع لَهما
وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ فِي الْأَحْكَام مَا صدر عَن اجْتِهَاد فَيجب أَن لَا يَجْعَل أصلا وَأَن يُخَالف فِيهِ وَلَا يكفر مخالفه لِأَن كل ذَلِك من حق الِاجْتِهَاد الْجَواب إِنَّه لَيْسَ ذَلِك من حق الِاجْتِهَاد على الْإِطْلَاق أَلا ترى أَن الْأمة إِذا أَجمعت عَن اجْتِهَاد فانه لَا يجوز مُخَالفَته وَيجب أَن يَجْعَل أصلا وَرُبمَا فسق من خَالفه وَإِن كَانَ من خَالف الِاجْتِهَاد الَّذِي لم يجمع عَلَيْهِ لَا يفسق وَإِذا جَازَ أَن يفسق إِذا قارنه إِجْمَاع جَازَ أَن يكفر إِذا قارنه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل منزلا فَقيل لَهُ إِن كَانَ ذَلِك عَن وَحي فالسمع وَالطَّاعَة وَإِن كَانَ إِنَّمَا هُوَ الرَّأْي فَلَيْسَ بمنزل مكيدة فَقَالَ بل هُوَ الرَّأْي فَدلَّ على أَنه يجوز مُرَاجعَته فِي الرَّأْي وَمَعْلُوم أَنه لَا يجوز مُرَاجعَته فِي الْأَحْكَام فَعلم أَنَّهَا لَيست بِرَأْي وَالْجَوَاب أَن ذَلِك إِنَّمَا يدل على مُرَاجعَته فِي الآراء الَّتِي لَيست من الْأَحْكَام كالرأي فِي الْحَرْب وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة خَارِجَة عَن ذَلِك(2/242)
وَمِنْهَا أَنه لَو كَانَ متعبدا بِالِاجْتِهَادِ لاظهره الْجَواب إِنَّه لَا يمْتَنع ان يكون من الْمصلحَة إِظْهَاره
وَمِنْهَا أَنه لَو تعبد بِالِاجْتِهَادِ لما توقف على الْوَحْي الْجَواب إِنَّه لَيْسَ معنى أَن توقف فِي كل الْأَحْكَام على الْوَحْي فاذا ثَبت ذَلِك فَكل مَا تعبدنا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ الشَّرْعِيّ فَيجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعبد بِهِ وَيجوز أَن يكون قد نصب لَهُ دَلِيل يَخُصُّهُ وَأما الِاجْتِهَاد فِي أَخْبَار الْآحَاد فيتأتى فِينَا دونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَن عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل كَانَ متعبدا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الشَّرْح أَن أَكثر الذاهبين إِلَى الِاجْتِهَاد قَالُوا كَانَ متعبدا بذلك والأقلون منعُوا وَحكى أَن أَبَا عَليّ رَحمَه الله قَالَ لَا أَدْرِي هَل كَانَ من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متعبدا بِأَن يجْتَهد أم لَا لِأَن خبر معَاذ من أَخْبَار الْآحَاد وَلم يقطع قَاضِي الْقُضَاة على وُرُود التَّعَبُّد بذلك لمن حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن مَا يروي فِي ذَلِك أَخْبَار آحَاد وَقطع على أَن من غَابَ عَنهُ مِمَّن عاصره متعبد بذلك لِأَن خبر معَاذ عِنْده ثَابت لتلقي الامة لَهُ بِالْقبُولِ وَظَاهر أَنه لم يكن عَادَة الْحَاضِرين عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك عَادَة لَهُم لظهر لَهُم ذَلِك عَنْهُم كَمَا أَنه لم يكن عَادَتهم طلب الحكم من التَّوْرَاة وَيجوز أَن يكون الْوَاحِد والاثنان قد أذن لَهما النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجتهدا بِحَضْرَتِهِ لِأَن خبر عَمْرو بن الْعَاصِ يجوز صِحَّته فَأَما من غَابَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيجوز أَن يكون متعبدا بِالِاجْتِهَادِ أَيْضا إِلَّا أَن الْأَمر فِيهِ أظهر مِمَّن حَضَره لِأَن خبر معَاذ أظهر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْقيَاس هَل هُوَ مَأْمُور بِهِ وَدين أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما كَونه مَأْمُورا بِهِ بِمَعْنى أَن الله عز وَجل بعثنَا على فعله بالأدلة(2/243)
فَصَحِيح وَأما كَونه مَأْمُورا بِهِ بِصِيغَة افْعَل فَصَحِيح أَيْضا عِنْد من يحْتَج بقول الله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَمَا جرى مجْرَاه من أَلْفَاظ الْأَمر وَأما من يحْتَج بِالْإِجْمَاع أَو بِالْعقلِ فَلَا يُمكنهُ علم ذَلِك لجَوَاز أَن يكون مَا دلّ الْأمة على صِحَة الْقيَاس هُوَ إِخْبَار من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصِحَّتِهِ وَثُبُوت التَّعَبُّد بِهِ
وَأما وَصفه بانه دين الله عز وَجل فَلَا شُبْهَة فِيهِ إِذا عني بذلك أَنه لَيْسَ ببدعة وَإِن عني غير ذَلِك فَعِنْدَ الشَّيْخ ابي الْهُذيْل رَحمَه الله انه لَا يُطلق عَلَيْهِ ذَلِك لِأَن اسْم الدّين يَقع على مَا هُوَ ثَابت مُسْتَمر وَأَبُو عَليّ رَحمَه الله يصف مَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبا بذلك وَبِأَنَّهُ إِيمَان دون مَا كَانَ مِنْهُ ندبا وقاضي الْقُضَاة رَحمَه الله يصف بذلك واجبه وندبه
وَالْقِيَاس الشَّرْعِيّ ضَرْبَان وَاجِب وَندب وَالْوَاجِب ضَرْبَان أَحدهمَا وَاجِب على الْأَعْيَان والتضييق وَالْآخر على الْكِفَايَة فَالَّذِي على الْأَعْيَان والتضييق هُوَ قِيَاس من نزلت بِهِ حَادِثَة من الْمُجْتَهدين أَو كَانَ قَاضِيا فِيهَا أَو مفتيا وَلم يقم غَيره مقَامه وضاق الْوَقْت وَالْوَاجِب على الْكِفَايَة أَن يقوم غَيره مقَامه فِي الْفَتْوَى وَالنَّدْب فَهُوَ الْقيَاس فِيمَا لم يحدث من الْمسَائِل مِمَّا يجوز حُدُوثه فقد ندب الْإِنْسَان إِلَى إبلاء الِاجْتِهَاد فِيهِ ليَكُون الْجَواب فِيهِ معدا لوقت الْحَاجة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي شُرُوط الْقيَاس وَمَا يُصَحِّحهُ وَمَا يُفْسِدهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْقيَاس لما كَانَ هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاشتباههما فِي عِلّة الحكم كَانَ الْكَلَام فِيهِ إِمَّا كلَاما فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ دَلِيل الحكم أَو كلَاما فِي(2/244)
الحكم الَّذِي هُوَ مدلولها وَالْكَلَام فِي الحكم يجب أَن يتَعَلَّق بالحكم وَبِمَا يُوجد الحكم فِيهِ وَلما كَانَ الحكم مَوْجُودا فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع أمكن أَن نَنْظُر فِيهِ نظرا مُتَعَلقا بِالْأَصْلِ أَو بالفرع أَو بِالْأَصْلِ وبالفرع مَعًا وَالْكَلَام فِي الْعلَّة إِمَّا كَلَام فِي وجودهَا أَو فِي غير وجودهَا وَالْكَلَام فِي وجودهَا إِمَّا أَن يتَعَلَّق بوجودها فِي الأَصْل أَو فِي الْفَرْع لِأَن الْعلَّة يجب أَن تُوجد فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَالْكَلَام فِي غير وجودهَا إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي طَرِيق صِحَّتهَا أَو فِيمَا يعترضها ويفسدها وَيدخل فِي كل قسم من ذَلِك عدَّة فُصُول سنذكرها إِن شَاءَ الله وَقد أجرينا الْكَلَام فِي الْقيَاس فِي كتاب مُفْرد فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ وَذكرنَا جَمِيع فصوله فِي هَذِه الْأَقْسَام وَذكرنَا هَذِه الْقِسْمَة وشرحناها فِي شرحنا للعمد
وَنحن نجري الْكَلَام فِي الْقيَاس فِي هَذَا الْكتاب على قسْمَة اخرى فَنَقُول إِن الْكَلَام فِي الْقيَاس يجب أَن يتَعَلَّق بعلته لِأَنَّهَا عِلّة حكم أَصله وَدَلِيل حكم فَرعه وَلما كَانَت عِلّة الْقيَاس هِيَ عِلّة حكم الأَصْل وَدلَالَة حكم الْفَرْع إِذا اخْتصّت بهما وَوجدت فيهمَا وَجب أَن نتكلم فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَفِي طَرِيق وجودهَا فيهمَا ثمَّ نتكلم فِي كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل وَفِي طَرِيق كَونهَا عِلّة فِيهِ ثمَّ نتكلم فِي كَونهَا دلَالَة على حكم الْفَرْع وكلامنا فِي كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل هُوَ كَلَام فِي شُرُوطهَا المختصة بِكَوْنِهَا عِلّة حكم الأَصْل وكلامنا فِي كَونهَا دلَالَة حكم الْفَرْع هُوَ كَلَام شُرُوطهَا المختصة بِكَوْنِهَا دلَالَة على حكم الْفَرْع وَإِن كَانَ هَذَانِ الكلامان جَمِيعًا كلَاما يقف عَلَيْهِ فَسَاد الْعلَّة وَنفي فَسَادهَا وَأما الْكَلَام فِي طَرِيق كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل فانه يتبعهُ القَوْل بِأَنَّهُ لَا بُد فِي الْقيَاس من عِلّة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن نقُول لَا بُد من طَرِيق إِلَى كَون الْعلَّة عِلّة إِلَّا وَقد أَوجَبْنَا انه لَا بُد فِي الْقيَاس من عِلّة
وَالْكَلَام فِي طَرِيق الْعلَّة يَقع فِي فُصُول مِنْهَا أَنه لَا يجوز إِثْبَات الْوَصْف عِلّة إِلَّا بِدلَالَة وَمِنْهَا أَنه يجب أَن تكون الدّلَالَة شَرْعِيَّة وَمِنْهَا أَنه يجوز أَن يكون(2/245)
الدَّلِيل على كَونهَا عِلّة نصا وَغَيره وَمِنْهَا أَنْوَاع أَدِلَّة صِحَة الْعلَّة
وَأما الْكَلَام فِي الشُّرُوط الراجعة إِلَى كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل فَيَقَع فِي مَوَاضِع مِنْهَا الْكَلَام فِي وجود الحكم فِي الأَصْل لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل كَون الْوَصْف عِلّة فِي حكم وَالْحكم غير حَاصِل وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم بِالِاسْمِ وبحكم شَرْعِي وبالأوصاف الْكَثِيرَة وَمِنْهَا التَّعْلِيل بأوصاف فِيهَا وصف لَا يُؤثر وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم الْمَخْصُوص من جِهَة الْقيَاس وَمِنْهَا تَعْلِيل الْكَفَّارَات وَالْحُدُود والتقديرات وَمِنْهَا هَل يُوجد فِي الاستنباط طَريقَة غير الْقيَاس يجوز الِاسْتِدْلَال بهَا على مَوضِع الحكم أم لَا وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم بعلتين وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تكون إِحْدَى العلتين دلَالَة حكم الأَصْل وَالْآخر لَا تكون دلَالَة حكمه وَمِنْهَا تَعْلِيل الحكم بِمَا لَا يتَعَدَّى عَن الأَصْل وَمِنْهَا هَل يجوز أَن تخَالف الْعلَّة مَوْضُوع حكم أَصْلهَا أم لَا
وَأما الْكَلَام فِي الْعلَّة من حَيْثُ هِيَ دلَالَة على حكم الْفَرْع فضربان احدهما يتَعَلَّق بِحكم الأَصْل وَالْآخر لَا يتَعَلَّق بِهِ والمتعلق بِحكم الأَصْل ضَرْبَان أَحدهمَا هَل تدل الْعلَّة على حكم الْفَرْع وَإِن اخْتلف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع وَالْآخر هَل تدل على حكمه وَإِن كَانَ حكم الأَصْل مُتَأَخِّرًا عَن حكم الْفَرْع وَأما مَا لَا يتَعَلَّق بِحكم الأَصْل فأشياء مِنْهَا هَل الْعلَّة دَالَّة على اسْم الْفَرْع ثمَّ يعلق بِهِ حكم شَرْعِي أَو يدل ابْتِدَاء على حكم شَرْعِي وَمِنْهَا هَل تدل على حكمه وَإِن لم يثبت ذَلِك الحكم فِي ذَلِك الْفَرْع فِي الْجُمْلَة أم لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا الشَّرْط وَمِنْهَا هَل تدل على حكم الْفَرْع مَعَ مُعَارضَة نَص خَاص أَو عَام فيخصه أَو ينسخه وَمِنْهَا هَل تدل على الحكم وعَلى ضِدّه وَهَذَا هُوَ الْقلب وَمِنْهَا هَل يُمكن الْخصم أَن يَقُول بموجبها ليعلم أَن الْمُسْتَدلّ مَا اسْتدلَّ بهَا على مَوضِع الْخلاف وَمِنْهَا هَل يجوز وجودهَا لفظا أَو معنى فِي فرع وَلَا تدل على حكمهَا أم لَا وَيتبع ذَلِك ذكر النَّقْض وَمَا يحترس بِهِ من النَّقْض وَذكر الِاسْتِحْسَان وَمِنْهَا القَوْل فِي دلالتها على حكم الْفَرْع مَعَ مُعَارضَة على أُخْرَى(2/246)
وَهُوَ ضَرْبَان احدهما مُعَارضَة عِلّة الأَصْل بعلة أُخْرَى وَقد دخل ذَلِك فِي القَوْل بالعلتين وَالْآخر مُعَارضَة قِيَاس بِقِيَاس
وَلما كَانَت الْمُعَارضَة إِنَّمَا تتمّ مَعَ التَّنَافِي وَمَعَ الِاشْتِبَاه وَقد يجب مَتى حصلت الْمُعَارضَة أَن يَقع التَّرْجِيح وَجب ذكر الْعِلَل المتنافية والفصل بَينهمَا وَبَين الْعِلَل الَّتِي لَيست متنافية وَذكر قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه والفصل بَينهمَا وَبَين الْعِلَل الَّتِي لَيست متنافية وَذكر قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه والفصل بَينه وَبَين قِيَاس الْمَعْنى وَذكر مَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح وَهل يجوز اسْتِوَاء الأمارتين فِي وُجُوه التَّرْجِيح وَمَا القَوْل فيهمَا إِذا اسْتَويَا وَهل يجوز إِذا اسْتَويَا عِنْد الْمُجْتَهد أَن يكون لَهُ اقاويل مُخْتَلفَة فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة وَهل يجوز أَن ينْسب إِلَى الْمُجْتَهد أقاويل على طَرِيق التَّرْجِيح
وَنحن نذْكر هَذِه الْأَبْوَاب على هَذَا النسق إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع وَفِي طَرِيق وجودهما فيهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن القائس قد يُعلل الْفَرْع بأوصاف لَا يسلم خَصمه وجودهَا فِي الْفَرْع فَيكون لَهُ أَن ينازعه فِي ذَلِك وَقد لَا يسلم وجودهَا فِي بعض الْفَرْع فَيمْتَنع القائس من قِيَاس جَمِيع الْفَرْع بِتِلْكَ الْعلَّة وَإِن رام القائس أَن يقيس مَا وجدت فِيهِ الْعلَّة دون مَا لم تُوجد فِيهِ الْعلَّة جَازَ ذَلِك إِذا أمكن أَن يكون بعض ذَلِك الْفَرْع مُعَللا دون بعض وَقد يُعلل القائس الأَصْل بعلة لَا تُوجد فِي الأَصْل عِنْد خَصمه وَلَا تُوجد فِي بعضه فَلهُ أَن يمنعهُ من رد الْفَرْع إِلَى جَمِيع ذَلِك الأَصْل فان رده إِلَى الْموضع الَّذِي وجدت فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة جَازَ ذَلِك إِلَّا أَن يمْنَع مَانع من تَعْلِيل بعض الأَصْل دون بعض وَذَلِكَ كمنع أَصْحَاب الشَّافِعِي من قِيَاس الجص على الْبر بعلة أَنه مَكِيل لقَولهم إِن عِلّة تَحْرِيم الْبر هِيَ عِلّة وَاحِدَة شائعة فِي جَمِيع الْبر والكيل غير شَائِع فِي جَمِيع الْبر لِأَن الْحبَّة أَو الحبتين لَا يَتَأَتَّى فيهمَا الْكَيْل(2/247)
وأصحابنا ينفصلون عَن ذَلِك بِأَن الْمحرم من الْبر علته وَاحِدَة وَهِي الْكَيْل إِلَّا أَن الْمحرم هُوَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل دون مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهي عَن بيع الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل فَأجَاز بِالْكَيْلِ مَا منع مِنْهُ بِغَيْر كيل وَالَّذِي يجوز بَيْعه إِذا تساوى فِي الْكَيْل هُوَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل فَيجب أَن يكون مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل هُوَ مَا يحرم بَيْعه إِذا تفاضل فِي الْكَيْل فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع
فَأَما طَرِيق وجودهَا فيهمَا فقد يجوز أَن تكون أَمارَة تُفْضِي إِلَى الظَّن وَقد تكون دلَالَة تَقْتَضِي وجودهَا فيهمَا ضَرُورَة وَلَا فرق بَين هَذِه الْأَقْسَام فِي صِحَة الْقيَاس لِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يعلق الحكم بِمَا يَظُنّهُ عِلّة الحكم جَازَ أَن يعلق الحكم بِمَا ظن وجوده من عِلّة الحكم أَلا ترى أَنا يظنّ مَجِيء الْمَطَر إِذا ظننا بِخَبَر من ظَاهره الصدْق وجود الْغَيْم كَمَا يظنّ ذَلِك وَإِن علمنَا وجود الْغَيْم فاذا جَازَ لنا التَّسْوِيَة بَين الأَصْل وَالْفرع إِذا ظننا اشتراكهما فِي الاوصاف جَازَ ذَلِك مَعَ الْعلم المكتسب لاشْتِرَاكهمَا فِي الْأَوْصَاف وَكَانَ جَوَاز ذَلِك فِي الْعلم الضَّرُورِيّ باشتراكهما فِي الْأَوْصَاف أَحَق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا بُد فِي الْقيَاس من عِلّة وَأَنه لَا بُد أَن يكون إِلَيْهِمَا طَرِيق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ لَا بُد فِيهِ من أصل وَفرع يثبت فِيهِ حكم الأَصْل وَلَيْسَ يَخْلُو القائس إِمَّا أَن يثبت الحكم فِي الْفَرْع تبعا لثُبُوته فِي الأَصْل أَولا يثبت تبعا لَهُ فان لم يُثبتهُ تبعا للْأَصْل كَانَ مبتدئا بالحكم غير قائس وَإِن أثبت الحكم فِي الْفَرْع تبعا لثُبُوته فِي الأَصْل وَلم يعْتَبر شبها بَين الْفَرْع وَالْأَصْل لم يكن بِأَن يتبع الْفَرْع هَذَا الأَصْل بِأولى من أَن لَا يتبعهُ إِيَّاه ويتبعه أصلا وَيجب أَن يكون لذَلِك الشّبَه تعلق بالحكم وتأثير فِيهِ وَإِلَّا لم يكن القائس بِأَن يعْتَبر ذَلِك الشّبَه بِأولى من أَن لَا يعتبره وَيعْتَبر شبها آخر بَين الْفَرْع وَبَين أصل(2/248)
أخر أَولا يعْتَبر شبها أصلا
فان قيل ألستم تقيسون الْفَرْع على أصل لم تدل دلَالَة على وجوب الْقيَاس عَلَيْهِ فَهَلا جَازَ أَن تقيس لأجل شبه لم تدل دلَالَة على كَونه عِلّة الْجَواب أَنا لَا نقيس الْفَرْع على اصل إِلَّا وَقد دلّت الدّلَالَة على وجوب الْقيَاس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا دلّت الدّلَالَة على عِلّة حكم الأَصْل وَعلمنَا وجودهَا فِي الْفَرْع فقيام الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة أَو السمعية على أَنا متعبدون بِالْقِيَاسِ يدل على وجوب قِيَاس ذَلِك الْفَرْع على ذَلِك الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن طَرِيق الْعلَّة الشَّرْعِيَّة الشَّرْع فَقَط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن طَرِيق الْعلَّة الشَّرْعِيَّة هُوَ كَيْفيَّة ثُبُوت حكمهَا وتأثيرها فِيهِ نَحْو أَن يثبت حكمهَا مَعهَا فِي الأَصْل وينتفي بانتفائها وَمَعْلُوم أَن ذَلِك مَوْقُوف على الشَّرْع لِأَن حكمهَا وَكَيْفِيَّة ثُبُوتهَا بِحَسب الْعلَّة حاصلان بِالشَّرْعِ فَقَط
فان قيل هلا توصلتم إِلَيْهَا بأمارة من جِهَة الْعَادَات كَمَا تتوصلون إِلَى قيم الْمُتْلفَات وجهة الْقبْلَة بأمارات من جِهَة الْعَادَات قيل إِنَّمَا سَاغَ ذَلِك فِي الْقيم لِأَن الْعَادَات قد جرت بِبيع الْأَشْيَاء الَّتِي من جنس الْمُتْلف وَأمكن أَن يعرف قيمَة الْمُتْلف بِاعْتِبَار ثمن نَظِيره فَأَما الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فأحكامها شَرْعِيَّة لم تثبت بالعادات فتعلم علتها بكيفية ثُبُوتهَا فِي الْعَادة وَأما الْقبْلَة فقد عرف كَونهَا فِي بعض الْجِهَات وَعرف كَون الشَّمْس فِي بعض الْجِهَات وَكَذَلِكَ الرِّيَاح فَأمكن أَن نستدل بِبَعْض مَا هُوَ فِي جِهَة على شَيْء آخر هُوَ فِي جِهَة وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعَ أَمَارَات الْعَادَات
إِن قيل أَلَيْسَ نستدل بعقولنا على أَن الحكم الشَّرْعِيّ إِذا حصل عِنْد صفة وارتفع عِنْد ارتفاعها فَهُوَ مُؤثر فِيهِ قيل إِنَّا لَا ندفع أَن الِاسْتِدْلَال(2/249)
بالأمارات والأدلة إِنَّمَا يتَمَكَّن مِنْهُ بالعقول وَلَكنَّا انكرنا أَن تكون الأمارة عَلَيْهَا أَمارَة عقلية وَمَا ذكرْتُمْ من الأمارة شَرْعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الطَّرِيق إِلَى صِحَة الْعِلَل الشَّرْعِيَّة يجوز أَن يكون نصا وَغير نَص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة قد يجوز كَونهَا مَعْلُومَة فَيكون طريقها نصا من الله أَو من رَسُوله أَو من الامة متواترا وَيجوز أَن يكون مظنونا كَونهَا عِلّة وَأكْثر الْعِلَل الشَّرْعِيَّة مظنونة فَيجب أَن يكون طريقها أمارت مظنونة وَلَا فرق بَين أَن يكون نصا مَنْقُولًا بالآحاد أَو تَنْبِيه نَص هَذِه سَبيله أَو استنباطا لِأَن كل ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الظَّن الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب فِي الْعِلَل وَنحن نشرح أَدِلَّة النُّصُوص والاستنباط على صِحَة الْعِلَل فِي بَاب يَلِي هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَقسَام طرق الْعِلَل الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه لما كَانَت طرق الْعِلَل الشَّرْعِيَّة الشَّرْع وَكَانَت الطّرق الشَّرْعِيَّة إِمَّا لفظا وَإِمَّا استنباطا كَانَت طرق الْعِلَل الشَّرْعِيَّة إِمَّا لفظا وَإِمَّا استنباطا والألفاظ الدَّالَّة على ذَلِك إِمَّا صَرِيحَة وَإِمَّا منبهة أما الصَّرِيحَة فَمِنْهَا أَن يكون لَفظهَا لفظ الْعلَّة وَمِنْهَا مَا يقوم مقَام لفظ الْعلَّة فَالْأول كَقَوْل الْقَائِل لغيره أوجبت عَلَيْك كَذَا لعِلَّة كَذَا وَالثَّانِي قَول الْقَائِل لغيره أوجبت عَلَيْك كَذَا لِأَنَّهُ كَذَا أَو لأجل كَذَا أَو كَيْلا يكون كَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لأجل الرأفة وَقَالَ الله عز وَجل {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم}(2/250)
إِن قيل قد يَقُول الْإِنْسَان لغيره صل للتقرب إِلَى الله عز وَجل وَلَا يُفِيد ذَلِك كَون التَّقَرُّب عِلّة فِي وجوب الْفِعْل قيل لِأَنَّهُ لم يُعلل الْوُجُوب بالتقرب وَإِنَّمَا علل فعله للصَّلَاة وَهَذَا يَقْتَضِي كَون التَّقَرُّب عِلّة وغرضا باعثا على الْفِعْل
وَأما الْأَلْفَاظ المنبهة على الْعلَّة فضروب
مِنْهَا أَن يكون فِي الْكَلَام لفظ غير صَحِيح فِي التَّعْلِيل يعلق الحكم بعلته
وَمِنْهَا أَن يصدر الحكم من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد علمه بِصفة الْمَحْكُوم فِيهِ فَيعلم أَنَّهَا عِلّة الحكم
وَمِنْهَا أَن تكون الصّفة مَذْكُورَة على حد لَو لم تكن عِلّة لم يكن لذكرها فَائِدَة
وَمِنْهَا أَن يَقع النَّهْي عَن فعل بِمَنْع مَا تقدم إِيجَابه علينا فنعلم أَن الْعلَّة فِي كَونه محرما كَونه مَانِعا من الْوَاجِب وَإِن لم يُصَرح بذلك
أما الْقسم الأول فكتعليق الحكم على علته بِلَفْظ الْفَاء وَلَا بُد من تَأْخِير لفظ الْفَاء وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تدخل الْفَاء على السَّبَب وَالْعلَّة وَيكون الحكم مُتَقَدما كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمحرم الَّذِي وَقعت بِهِ رَاحِلَته لَا تخمروا رَأسه وَلَا تقربوه طيبا فانه يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا وَالْآخر أَن تدخل الْفَاء على الحكم وَتَكون الْعلَّة مُتَقَدّمَة وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن تكون الْفَاء دخلت على كَلَام الله عز وَجل أَو كَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْآخر أَن تدخل فِي رِوَايَة الرَّاوِي فَالْأول قَول الله عز وَجل {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} وَقَوله {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ}(2/251)
يدل على أَن الْعلَّة فِي قيام وليه وبالإملاء هُوَ أَنه لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ وَالثَّانِي قَول الرَّاوِي سَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسجدَ وزنى مَاعِز فرجمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَن يصدر القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد علمه بِصفة الْمَحْكُوم فِيهِ فنحو أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حكم شَيْء وَيذكر السَّائِل صفة لذَلِك الشَّيْء مِمَّا يجوز كَونهَا عِلّة مُؤثرَة فِي ذَلِك الحكم فيجيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد سَماع تِلْكَ الصّفة فَيعلم أَنه لَو لم تكن مُؤثرَة فِي ذَلِك الحكم لم يجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد سماعهَا نَحْو أَن يَقُول قَائِل يَا رَسُول الله أفطرت فَيَقُول عَلَيْك الْكَفَّارَة فَيعلم أَن الْكَفَّارَة وَجَبت لأجل الْإِفْطَار إِذْ لَو لم يكن الْإِفْطَار مؤثرا فِي ذَلِك لما أوجب الحكم عِنْد سَمَاعه لَهُ كَمَا لَا يجوز أَن يُوجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لَو سمع أَنه مَشى وتحدث
وَأما الثَّالِث وَهُوَ أَن لَا يكون لذَلِك الْوَصْف فَائِدَة لَو لم يكن عِلّة فضروب
مِنْهَا أَن يكون الْوَصْف مَذْكُورا بِلَفْظ أَن كَمَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْتنع من الدُّخُول عِنْد قوم عِنْدهم كلب فَقيل إِنَّك تدخل على آل فلَان وَعِنْدهم هر فَقَالَ إِنَّهَا لَيست بِنَجس إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات فَلَو لم يكن لكَونهَا من الطوافين تَأْثِير فِي طَهَارَتهَا لم يكن لذكره عقيب حكمه بطهارتها فَائِدَة
وَمِنْهَا أَن يُوصف الْمَحْكُوم فِيهِ بِصفة قد كَانَ يُمكن الْإِخْلَال بذكرها وَذكر مَا جرى مجْراهَا فنعلم أَنَّهَا مَا ذكرت إِلَّا لِأَنَّهَا مُؤثرَة فِي الحكم كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي النَّبِيذ تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور
وَمِنْهَا التَّقْرِير على وصف الشَّيْء وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يُقرر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وصف الشَّيْء الْمَسْئُول عَنهُ كَقَوْلِه أينقص الرطب إِذا جف(2/252)
فَقَالُوا نعم قَالَ فَلَا إِذن فَلَو لم يكن نقصانه باليبس عِلّة فِي الْمَنْع من البيع لم يكن للتقرير عَلَيْهِ فَائِدَة وَهَذَا يدل على الْعلَّة أَيْضا من حَيْثُ الْجَواب بِالْفَاءِ
وَمِنْهَا أَن يُقرر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حكم مَا يشبه الْمَسْئُول عَنهُ وينبه على وَجه الشّبَه فَيعلم أَن وَجه الشّبَه هُوَ الْعلَّة فِي ذَلِك الحكم كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر رَضِي الله عَنهُ وَقد سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ محجته فَعلم أَنه لم يفْسد الصَّوْم بالمضمضة والقبلة لِأَنَّهُ لم يحصل مَا يتبعهما من الْإِنْزَال والازدراء
وَمِنْهَا أَن يفرق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين شَيْئَيْنِ فِي الحكم بِذكر صفة فَيعلم أَنه لَو لم تكن تِلْكَ الصّفة عِلّة لم يكن لذكرها معنى وَهَذَا ضَرْبَان أَحدهمَا أَن لَا يكون حكم أَحدهمَا مَذْكُورا فِي الْخطاب وَالْآخر أَن يكون حكمهمَا مَذْكُورا فِيهِ أما الأول فَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَاتِل لَا يَرث وَذَلِكَ أَنه قد تقدم بِبَيَان إِرْث الْوَرَثَة فَلَمَّا قَالَ الْقَاتِل لَا يَرث وَفرق بَينه وَبَين جَمِيع الْوَرَثَة بِذكر الْقَتْل الَّذِي يجوز كَونه مؤثرا فِي نفي الْإِرْث علمنَا أَنه الْعلَّة فِي نفي الْإِرْث وَكَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان لِأَنَّهُ قد تقدم أَمر القَاضِي بِأَن يقْضِي فاذا منع من ان يقْضِي وَهُوَ غَضْبَان علمنَا أَن الْغَضَب عِلّة فِي الْمَنْع سِيمَا وَقد علمنَا أَن الْغَضَب بِمَنْع من الْوُقُوف على الْحجَّة وَيمْنَع من الِاسْتِيفَاء وَأما إِذا كَانَ حكم الشَّيْئَيْنِ مَذْكُورا فِي الْخطاب فضروب
مِنْهَا أَن يفرق بَينهمَا بِلَفْظ يجْرِي مجْرى الشَّرْط كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم يدا بيد بعد نَهْيه عَن بيع الْبر مُتَفَاضلا فَدلَّ على أَن اخْتِلَاف الجنسين عِلّة فِي جَوَاز البيع
وَمِنْهَا أَن تقع التَّفْرِقَة بَينهمَا بالغاية كَقَوْلِه عز وَجل {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} فَلَو اقْتصر على ذَلِك لدل على تعلق الْإِبَاحَة بِالطُّهْرِ وَإِلَّا لم(2/253)
يكن لذكره فَائِدَة مَعَ جَوَاز كَونه عِلّة
وَمِنْهَا وُقُوع التَّفْرِقَة بَينهمَا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْل الله عز وَجل {إِلَّا أَن يعفون}
وَمِنْهَا أَن تكون التَّفْرِقَة وَقعت بِلَفْظ يجْرِي مجْرى الِاسْتِدْرَاك كَقَوْل الله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} فَدلَّ على أَن التعقيد مُؤثر فِي الْمُؤَاخَذَة
وَمِنْهَا أَن يسْتَأْنف أحد الشَّيْئَيْنِ بِذكر صفة من الصِّفَات بعد ذكر الآخر وَتَكون تِلْكَ الصّفة مِمَّا يجوز أَن تُؤثر فِي ذَلِك الحكم كَقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للراجل سهم وللفارس سَهْمَان وَهَذِه الْأَقْسَام وَإِن كَانَت مُؤثرَة فِي الحكم فانه لَا يمْتَنع أَن تكون مُؤثرَة فِيهِ لعلل لِأَنَّهُ يجوز أَن يُعلل كَون الْغَضَب مَانِعا من الحكم بَين الْخَصْمَيْنِ بِأَنَّهُ يشغل الذِّهْن وَيجوز أَن تدل الدّلَالَة على أَن هَذِه الْعِلَل لَهَا شُرُوط وَيجوز أَن تدل على أَنَّهَا غير مَشْرُوطَة فاذا فقدت الدّلَالَة حكم بأَشْيَاء مُخْتَلفَة غير مَشْرُوطَة
وَأما الرَّابِع وَهُوَ النَّهْي عَن شَيْء يمْنَع من الْوَاجِب فَهُوَ كَقَوْل الله عز وَجل {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} وَذَلِكَ أَنه لما أوجب علينا السَّعْي ثمَّ نَهَانَا عَن البيع الْمَانِع من السَّعْي علمنَا أَنه إِنَّمَا نَهَانَا عَنهُ لِأَنَّهُ مَانع من الْوَاجِب وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} وَذَلِكَ أَنه نهى عَن ذَلِك لِأَنَّهُ منَاف للإعظام الْوَاجِب لَهما من حَيْثُ كَانَ أَذَى واستخفافا فَدلَّ من طَرِيق الأولى على الْمَنْع من ضربهما لِأَن مَا منع مِنْهُ لعِلَّة فَمَا فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة وَزِيَادَة أولى بِالْمَنْعِ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَن الْمَنْع من ضربهما مَعْقُول من جِهَة اللَّفْظ لَا من جِهَة الْقيَاس قَالَ وَلَا بُد من اعْتِبَار عَادَة أهل اللُّغَة فِي ذَلِك(2/254)
وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك مَعْقُول من قِيَاس الأولى لَا بِاللَّفْظِ هُوَ أَنه لَو عقل بِاللَّفْظِ لَكَانَ اللَّفْظ مَوْضُوعا للْمَنْع من ضربهما إِمَّا فِي اللُّغَة اَوْ فِي الْعرف وَمن الْبَين أَنه غير مَوْضُوع للْمَنْع من الضَّرْب فِي اللُّغَة وَلَا يجوز أَن يكون مَوْضُوعا لذَلِك فِي الْعرف لِأَن الْعلم بِالْمَنْعِ من ضربهما مَوْقُوف على قِيَاس الأولى بَيَان ذَلِك إِن الْإِنْسَان إِذا سمع قَول الله عز وَجل {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} إِلَى قَوْله {وَقل لَهما قولا كَرِيمًا} علم أَن هَذَا القَوْل خرج مخرج الإعظام لَهما سِيمَا مَعَ مَا تقرر فِي الْعُقُول من وجوب تعظيمهما إِذا كَانَا مُؤمنين وَإِذا علم ذَلِك علم أَنه نهى عَن التأفيف لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّعْظِيم فانه يُنَافِيهِ من حَيْثُ كَانَ أَذَى قصد بِهِ الاستخفاف فنعلم أَنه نهى عَن ذَلِك لكَونه أَذَى ونعلم أَن الْحَكِيم لَا ينْهَى عَن الشَّيْء لعِلَّة ويرخص فِيمَا فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة وَزِيَادَة بل يكون يحظر ذَلِك أولى وَالضَّرْب هَذِه سَبيله فَكَانَ أولى بِالْمَنْعِ يبين ذَلِك أَنه لَو لم يحصل للْإنْسَان هَذِه الْجُمْلَة لم يعلم الْمَنْع من ضربهما لِأَنَّهُ لَو جوز أَن يكون إِنَّمَا نهى عَن التأفيف لِأَنَّهُ أَذَى قَلِيل لَا للإعظام لجوزنا أَن نؤمر بضربهما فان الْإِنْسَان قد يَقُول لغيره لَا تحبس اللص لَكِن اقْطَعْ يَده وَلَا تقطع يَد فلَان بل اقتله وَلَو علم أَنه نهى عَن التأفيف لِأَنَّهُ أَذَى وَجوز أَن يمْنَع الْحَكِيم من الشَّيْء لعِلَّة ويرخص فِيمَا فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة وَزِيَادَة لما علم الْمَنْع من ضربهما فَعلمنَا أَن الْعلم بذلك مَوْقُوف على الْجُمْلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا لَا غير دون مَا يدعى من الْعرف وَأَيْضًا فَلَيْسَ يجوز الحكم بِنَقْل الْكَلَام إِلَى الْعرف إِلَّا إِذا لم يُمكن سواهُ وَقد بَينا أَنه قد أمكن سواهُ
إِن قيل لَو عقل ذَلِك بِالْقِيَاسِ لجَاز أَن لَا يعلم الْمَنْع من ضربهما كثير من النَّاس بِأَن لَا يقيسوا قيل إِنَّمَا كَانَ يجب ذَلِك لَو كَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من مُقَدمَات هَذَا الْقيَاس مستانفا تحْتَاج إِلَى غامض فحص فَأَما وَكثير مِنْهَا يُعلمهُ الْمُكَلف قبل الْخطاب كالقول بِأَن الْحَكِيم لَا يرخص فِي فعل مَا فِيهِ عِلّة الْمَنْع وَزِيَادَة(2/255)
وكالقول بمنافاة الْأَذَى وَالِاسْتِخْفَاف للتعظيم وَمِنْهَا مَا الْعلم بِهِ مُقَارن للخطاب كالقول بِأَن هَذَا الْخطاب خرج مخرج التَّعْظِيم فاذا كَانَ كَذَلِك كَانَت هَذِه الْمُقدمَات متكالمة للعاقل عِنْد سَماع الْخطاب وَبهَا يكمل قِيَاس الأولى
فان قيل لَو علم ذَلِك بِالْقِيَاسِ لصَحَّ أَن لَا يعلم الْعَاقِل الْمَنْع من ضربهما لَو مَنعه الله عز وَجل من الْقيَاس الشَّرْعِيّ قيل لَا يحسن الْمَنْع من هَذَا الْقيَاس مَعَ الْإِيضَاح لعلته لِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يَقُول الْحَكِيم لَا تمنعوا مِمَّا وجد فِيهِ عِلّة الْمَنْع وَزِيَادَة أَلا ترى لَو قَالَ إِنَّمَا منعت من ضرب الْأَبَوَيْنِ لكَونه أَذَى وَلَا تقيسوا على ذَلِك مَا هُوَ اشد مِنْهُ كَانَ مناقضة للتَّعْلِيل وَلَا يكون مناقضة فِي اللَّفْظ وَلَو حسن الْمَنْع من هَذَا الْقيَاس لَكَانَ إِذا منع الله من الْقيَاس لَا يعلم الْمَنْع من ضربهما وَإِن منع من التأفيف
فَأَما قَول الْقَائِل لَيْسَ لفُلَان عِنْدِي حَبَّة فانه يمْنَع من أَن يكون لَهُ عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِك لَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَبَّة وَزِيَادَة فَأَما مَا نقص عَن الْحبَّة فَلَيْسَ ينبىء القَوْل عَنهُ لكنه لَا يثبت فِي الذِّمَّة على وَجه يُطَالب بِهِ الْإِنْسَان فان جرت الْعَادة بالمطالبة بِهِ لم يفد قَوْله لَيْسَ لَهُ عِنْدِي حَبَّة نفى مَا نقص عَنْهَا
وَقَول الْقَائِل فلَان لَا يملك حَبَّة ينفى كَونه مَالِكًا لأكْثر مِنْهَا هُوَ حَبَّة وَزِيَادَة وَمَا نقص عَنْهَا لَا يتَعَرَّض لَهُ خطابه وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُوصف الْإِنْسَان بِأَنَّهُ مَالِكه وَقَول الْقَائِل فلَان لَا يملك نقيرا وَلَا قطميرا فانه يدل من جِهَة الْعرف على أَنه لَا يملك شَيْئا لَا من جِهَة اللُّغَة وَلَا جِهَة التَّعْلِيل أما اللُّغَة فلَان قَوْلنَا قطمير مَوْضُوع لما يغشى النواة وَقَوْلنَا نقير مَوْضُوع للنقرة الَّتِي على ظهرهَا وَلَيْسَ هُوَ مَوْضُوعا لقَلِيل المَال وَكَثِيره وَأما أَنه غير مَفْهُوم بِالتَّعْلِيلِ فَلِأَن الْإِنْسَان لَا يقْصد أَن يَنْفِي كَون غير مَالِكًا لنقير النواة وللفتيل وَإِذا لم يقْصد نفي ذَلِك وَلَا يحظر ذَلِك على مَاله لم يُمكن أَن يُقَال إِذا لم يكن الْإِنْسَان مَالِكًا لَهما فبأن لَا يملك مَا فَوْقهمَا أولى وَلَا يقْصد الْإِنْسَان أَن يصف(2/256)
غَيره بالخيانة بالنقير والقطمير حَتَّى يُقَال إِذا خَان فيهمَا فَمَا فَوْقهمَا أولى بذلك فاذا بَطل أَن يكون ذَلِك مفهوما باللغة وَالتَّعْلِيل علمنَا أَنه فِي الْعرف مَوْضُوع لنفي ملك الْقَلِيل وَالْكثير لَا أَنه يُفِيد نفي ملكه لأَقل الْقَلِيل ثمَّ يُقَال مَا زَاد على أقل لغيره قد حصل فِيهِ الْقَلِيل وَزِيَادَة
فَأَما قَول الْقَائِل لغيره لَا تقل لأَبِيك أُفٍّ فانه يقْصد بِهِ الْمَنْع من التأفيف على الْحَقِيقَة فَيمكن أَن يُقَال إِذا مَنعه من ذَلِك لِأَنَّهُ أَذَى فبأن يمنعهُ مِمَّا هُوَ أعظم مِنْهُ أولى
وَأما قَول الْقَائِل فلَان مؤتمن على قِنْطَار فانه لَا يدل على انه أَمِين فِيمَا زَاد على ذَلِك لِأَن الْإِنْسَان قد يصرفهُ نَفسه عَن الْخِيَانَة فِي قدر من المَال وَلَا يصرفهُ عَن الْخِيَانَة فِيمَا هُوَ اكثر مِنْهُ وَأما مَا نقص عَن قِنْطَار فانه قد دخل فِي القنطار فالخطاب يتَنَاوَلهُ فان علمنَا أَن قَوْله فلَان مؤتمن على قِنْطَار يَقْتَضِي أَمَانَته على كل حَال كَانَ ذَلِك مَعْرُوفا بِالْعرْفِ لِأَنَّهُ لَا تَقْتَضِيه اللُّغَة وَلَا التَّعْلِيل
فَأَما طَرِيق الْعلَّة المستنبطة فأشياء
مِنْهَا أَن يكون الْوَصْف مؤثرا فِي قبيل ذَلِك الحكم ونوعه فِي الاصول فَيكون أولى بِأَن يكون عِلّة من وصف لَا تُؤثر فِي نوع ذَلِك الحكم وَلَا تُؤثر فِيهِ بِعَيْنِه لِأَن الْعلَّة تُؤثر فِي الحكم فَمَا لَا يُؤثر فِي الحكم لَا يكون عِلّة وَذَلِكَ كالبلوغ مُؤثر فِي رفع الْحجر عَن المَال فَكَانَ أولى بَان يكون عِلّة فِي رفع الْحجر فِي النِّكَاح من الثيوبة لِأَن الثيوبة لَا تُؤثر فِي جنس هَذَا الحكم الَّذِي هُوَ رفع الْحجر
وَمِنْهَا أَن يُوجد الحكم فِي الأَصْل عِنْد حُصُوله صفة وينتفي عِنْد انتفائها وَذَلِكَ يَقْتَضِي ان لذَلِك الْوَصْف من التَّأْثِير فِي ذَلِك الحكم مَا لَيْسَ لغيره وَهَذِه طَريقَة تعتمد فِي المؤثرات الْعَقْلِيَّة وَقد حكى قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله عَن الشَّيْخ(2/257)
أبي عبد الله رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ لَا يعتمدها وَيَقُول يجب أَن يقوى بغَيْرهَا وَالْأولَى كَونهَا مُعْتَمدَة بِنَفسِهَا فان قيل إِن كَانَ للْأَصْل وصف آخر يُوجد الحكم بِوُجُودِهِ وينتفي بانتفائه مَا قَوْلكُم فِيهِ قيل إِنَّه إِذا كَانَ الحكم يُوجد مَعَ وجود كل وَاحِد من الوصفين لم يكن الحكم يَنْتَفِي عِنْد انْتِفَاء كل وَاحِد مِنْهَا على كل حَال إِلَّا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُؤثر فِيهِ لِأَنَّهُ قد كفى كل وَاحِد من الوصفين فِي وجود الحكم وَأثر عَدمه فِي عَدمه على بعض الْوُجُوه وَهُوَ إِذا لم يخلفه الْوَصْف الآخر
وَمِنْهَا أَن يجمع الْأمة أَو القائسون مِنْهَا على تَعْلِيل أصل ويختلفوا فِي علته فَيبْطل إِلَّا عِلّة وَاحِدَة فَيعلم صِحَّتهَا لِأَنَّهَا لَو فَسدتْ لخرج الْحق عَن أَيدي الْأمة فَأَما إِذا لم يجمعوا على تَعْلِيل الأَصْل بل علله فَمنهمْ من علله بعلة وَمِنْهُم من علله بِأُخْرَى وفسدت إِحْدَاهمَا فانه لَا يجب صِحَة الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إفسادها ذهَاب جَمِيع الْأمة عَن الْحق وَلَا فِي سلامتها من وُجُوه الْفساد مَا يُوجب صِحَّتهَا على أَن من أقوى وُجُوه الْفساد أَن لَا يدل دَلِيل على صِحَّتهَا وَقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس أَن قيام الدّلَالَة على التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ يُوجب الْقيَاس على كل حَال إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أقوى الْمَوَانِع أَن لَا يظفر بعلة قد دلّ الدَّلِيل على صِحَّتهَا وَمِمَّا ذكر من الطّرق أَن يكون الحكم مجاورا لأحد الوصفين دون الآخر فَيكون مَا جاوره الحكم عِلّة دون مَا لم يجاوره ولمعترض أَن يَقُول إِن كَانَ الحكم المجاور للوصف حَاصِلا عِنْده وَإِن عدم الْوَصْف الآخر ومرتفعا عِنْد ارتفاعه وَإِن وجد الْوَصْف الآخر فَهَذَا رُجُوع إِلَى أَن الحكم قد وجد بِوُجُود الْوَصْف وانتفى بانتفائه وَلم يُوجد بِوُجُود وصف آخر وَلَا انْتَفَى بانتفائه وَإِن أُرِيد أَن الحكم قد يَتَجَدَّد عِنْد تجدّد أحد الوصفين وَلَا بُد من تقدم وجود الْوَصْف الآخر فانه لَا يدل ذَلِك على أَن أحد الوصفين هُوَ الْعلَّة وَحده لِأَنَّهُ لَيْسَ يَكْفِي حُصُوله وَحده كالرجم المتجدد اسْتِحْقَاقه عِنْد تجدّد الزِّنَا لَيْسَ يَكْفِي فِيهِ الزِّنَا إِلَّا بعد تقدم الْإِحْصَان فَوَجَبَ اعتبارهما وَإِن كَانَ الْإِحْصَان شرطا(2/258)
لَا عِلّة لِأَنَّهُ لَا يجوز ان يسْتَحق بِهِ الْعقُوبَة
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها دَلِيل على أَنَّهَا عِلّة وَمعنى جريانها فِي معلولها هُوَ أَن الحكم يتبعهَا فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ وَالْجَوَاب إِن أَرَادَ الْمُسْتَدلّ أَن الحكم يتبعهَا فِي كل مَوضِع بِاتِّفَاق مِنْهُ وَمن خَصمه لم يسلم لَهُ الْخصم ذَلِك لِأَن الْعِرَاقِيّ لَا يسلم للحجازي أَن تَحْرِيم التَّفَاضُل يحصل فِي كل مَأْكُول وَإِن اراد أَنه هُوَ الَّذِي يتبعهَا حكمهَا فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ قيل لَهُ أفيسوغ لَك أَن يتبعهَا الحكم فِي مَوضِع وجدت فِيهِ فان قَالَ لَا قيل لَهُ فَلم سَاغَ لَك ذَلِك فان قَالَ لِأَنَّهَا عِلّة الحكم فِي الأَصْل قيل فَأَنت مستدل على أَنَّهَا عِلّة حكم الأَصْل بِصِحَّة الجريان ونستدل على صِحَة الجريان بِأَنَّهَا عِلّة الحكم فِي الأَصْل وَذَلِكَ فَاسد فان قَالَ إِنَّمَا سَاغَ لي ذَلِك لِأَنَّهَا لَا تنْتَقض قيل معنى كَونهَا غير منتقضة أَنَّك علقت الحكم بهَا فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ فكأنك قلت إِنَّمَا سَاغَ لي تَعْلِيق الحكم بهَا أَيْنَمَا وجدت لِأَنِّي علقت الحكم بهَا أَيْنَمَا وجدت فان قَالَ إِنَّمَا سَاغَ لي تَعْلِيق الحكم بهَا أَيْنَمَا وجدت لِأَنَّهُ لم يَمْنعنِي من ذَلِك نَص وَلَا عِلّة أولى مِنْهَا قيل لَهُ وَلم إِذا لم يمْنَع من ذَلِك نَص أَو عِلّة وَجب تَعْلِيق الحكم بهَا وَمَا أنْكرت أَنه إِذا لم يمْنَع النَّص من ذَلِك منع غَيره من وُجُوه الْفساد لِأَن وُجُوه الْفساد كَثِيرَة فان قَالَ لَيْسَ يمْنَع من ذَلِك وَجه من وُجُوه الْفساد قيل لَهُ أتعد فِي وُجُوه الْفساد فقد الدّلَالَة على صِحَّتهَا فان قَالَ نعم قيل فَدلَّ على صِحَّتهَا واترك جريانها وَعدم انتقاضها وَإِن قَالَ لَا أعد ذَلِك من وُجُوه الْفساد بل يجوز لي أَن أعلق الحكم بهَا إِذا سلمت من نَص يَدْفَعهَا وَغَيره ذَلِك قيل لَهُ لم زعمت أَنَّهَا إِذا سلمت من ذَلِك صحت فان قَالَ لِأَنَّهَا تفْسد بمعارضة النَّص وَغَيره من وُجُوه الْفساد فَيجب صِحَّتهَا بسلامتها من ذَلِك قيل إِن قَوْلنَا إِن مَا حصل فِيهِ وَجه من وُجُوه الْفساد فَهُوَ فَاسد إِنَّمَا يلْزمه القَوْل بِأَن مَا لَيْسَ بفاسد فَلَيْسَ فِيهِ وَجه من وُجُوه الْفساد وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن مَا لم يحصل فِيهِ وَجه فَسَاد فَلَيْسَ بفاسد(2/259)
كَمَا أَن قَوْلنَا الْإِنْسَان حَيَوَان يلْزمه أَن مَا لَيْسَ بحيوان فَلَيْسَ بانسان وَلَا يلْزمه مِنْهُ أَن مَا لَيْسَ بانسان فَلَيْسَ بحيوان وَيبين ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ زيد لَيْسَ فِي الدَّار لبطل القَوْل بِأَن زيدا فِي الدَّار وَلَا يجب إِذا لم يخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَن يَصح القَوْل بِأَنَّهُ فِي الدَّار فان قَالَ ألستم تنفون وجوب صَلَاة سادسة لعدم الدّلَالَة فَيجوز مثله فِي الْعلَّة قيل إِنَّمَا نفي ذَلِك شُيُوخنَا لعلمهم باضطرار أَن ذَلِك لَيْسَ من الدّين وَلَو لم يعلم ذَلِك باضطرار لنفيناه لدلَالَة وَهِي أَنه لَو وَجَبت لدلنا الله سُبْحَانَهُ على ذَلِك فان قَالُوا قُولُوا لَو لم يكن الْعلَّة صَحِيحَة لأعلمنا الله تَعَالَى ذَلِك قيل يَكْفِي فِي النَّفْي فقد دلَالَة الْإِثْبَات وَلَا يَكْفِي فِي الْإِثْبَات فقد دلَالَة النَّفْي أَلا ترى أَنا ننفي صَلَاة سادسة لفقد الدَّلِيل على وُجُوبهَا وَلَا نوجبها لفقد الدَّلِيل على نَفيهَا وَذَلِكَ أَن الأَصْل نفي وُجُوبهَا فَلَا ننتقل عَنهُ إِلَّا بِدَلِيل وَالْأَصْل أَنا غير معتقدين لصِحَّة الْعلَّة فَلَا ننتقل عَن ذَلِكُم إِلَّا بِدَلِيل فان قَالُوا عجز الْخصم عَن إفسادها يدل على صِحَّتهَا قيل الْخصم قد يعجز عَن إِفْسَاد الْفَاسِد وَأكْثر مَا فِي عَجزه أَن يكون قد سلمت الْعلَّة من وُجُوه الْفساد وَقد تقدم الْكَلَام فِي ذَلِك
وَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي طَرِيق الْعلَّة وَنحن نتكلم الْآن فِي الْعلَّة من حَيْثُ هِيَ عِلّة حكم الأَصْل وَمَا يتَّصل بذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي حكم الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْوَصْف لَا يَصح كَونه عِلّة حكم الأَصْل إِلَّا وَالْحكم مَوْجُود فِي الأَصْل فَيَنْبَغِي أَن ينظر الْإِنْسَان هَل الحكم مَوْجُود فِي الأَصْل ام لَا فانه قد يقيس الْإِنْسَان على أصل لَا يسلم خَصمه وجود الحكم فِيهِ وَقد يكون الحكم مَوْجُودا فِي بعض الأَصْل دون بعض وَيكون القائس قد رام رد الْفَرْع إِلَى جَمِيع الأَصْل فَلَا يُمكنهُ ذَلِك فان رام رده إِلَى الْموضع الَّذِي وجد فِيهِ وَلم يمْنَع من ذَلِك مَانع من إِجْمَاع أَو غَيره جَازَ ذَلِك(2/260)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل حكم الأَصْل بِالِاسْمِ وبأحكام شَرْعِيَّة وبجميع أَوْصَاف الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما تَعْلِيله بِالِاسْمِ نَحْو تَحْرِيم الْخمر بَان الْعَرَب سمته خمرًا فَلَا يَصح لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لذَلِك فِي التَّحْرِيم وَيجوز تَعْلِيل التَّحْرِيم بِكَوْنِهِ خمرًا وَيُرَاد بذلك فَائِدَة قَوْلنَا خمر لِأَن الْمرجع بذلك إِلَى صِفَات علتها الْخمر وَيجوز تَعْلِيل الحكم بِحكم شَرْعِي لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون لبَعض الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تَأْثِير فِي حكم آخر نَحْو قَوْلنَا طَهَارَة مزيلة للْحَدَث وَأَشْبَاه ذَلِك كَثِيرَة وَلَا يمْتَنع أَن يكون الْمُؤثر فِي الحكم مَجْمُوع صِفَات كَثِيرَة كَمَا لَا يمْتَنع أَن يكون الْمُؤثر فِيهِ صِفَات قَليلَة فاما تَعْلِيل الحكم بِجَمِيعِ صِفَات الأَصْل حَتَّى يدْخل فِيهِ كَونه فِي مَكَان كَذَا وَأَن كَونه كَذَا فَلَا يَصح لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لكثير من هَذِه الْأَوْصَاف فِي الحكم وَمن يمْنَع من الْعلَّة القاصرة يَقُول إِن تَعْلِيل الشَّيْء بِجَمِيعِ أَوْصَافه تَعْلِيل بِمَا لَا يتَعَدَّى لِأَن جَمِيع صِفَات الشَّيْء لَا تُوجد فِي غَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي عدم التَّأْثِير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه إِذا كَانَ فِي أَوْصَاف الْعلَّة وصف لَا تَأْثِير لَهُ لَو عدم عَن الأَصْل لم يعْدم الحكم عَنهُ فانه يعلم بذلك أَنه لَا يجوز أَن تكون الْعلَّة مَجْمُوع تِلْكَ الْأَوْصَاف بل يَنْبَغِي أَن يرفض مِنْهَا ذَلِك الْوَصْف لِأَنَّهُ لَو أثبت فِي الْعلَّة مَا لَا يضر عَدمه وَجب إشبات مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الْأَوْصَاف فان انتقضت الْعلَّة بفرع من الْفُرُوع مَتى أزلنا ذَلِك الْوَصْف عَن الْعلَّة فَسدتْ الْعلَّة وَلَا يجوز ضم الْوَصْف إِلَيْهَا لتسلم الْعلَّة من النَّقْض لِأَن الْعلَّة يجب أَن تعلم أَولا أَن حكم الأَصْل مُتَعَلق بهَا وانها مُؤثرَة فِيهِ ثمَّ تجْرِي فِي الْفُرُوع فاذا كَانَ وصف مِنْهَا غير مُؤثر فِي حكمه لم يجز كَونه فِي جملَة علته فَيجب إِسْقَاطه وَإِذا سقط(2/261)
وانتقض مَا عداهُ لم يجز كَون مَجْمُوع الْأَوْصَاف عِلّة وَلَا مَا عدا ذَلِك الْوَصْف وَيُفَارق عدم التَّأْثِير عكس الْعلَّة لِأَن عكسها هُوَ أَن يُوجد حكمهَا مَعَ عدمهَا فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَيْسَ ذَلِك يمْتَنع لِأَن الْعلَّة إِذا كَانَت أَمارَة فقد يجوز أَن تدل على الحكم الْوَاحِد أمارتان أَيهمَا وجدت دلّت عَلَيْهِ وَإِن كَانَت وَجه الْمصلحَة فقد شبت الْمصلحَة لوجه وَقد ثَبت لوجه آخر كَمَا يقبح الشَّيْء لوجه ويقبح لوجه آخر فَأَما عدم التَّأْثِير فَهُوَ أَن لَا يُؤثر وصف من الْأَوْصَاف فِي الحكم وَيكون التَّأْثِير لغيره فَلَا يجوز ضم مَا لَا تَأْثِير إِلَى مَا لَهُ تَأْثِير - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل الأَصْل الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم انه إِذا تقررت فِي الاصول أَحْكَام مَعْلُومَة وَيثبت بِخَبَر من الْأَخْبَار فِي شَيْء من الْأَشْيَاء حكم مُخَالف لما يَقْتَضِيهِ قِيَاس ذَلِك الشَّيْء على تِلْكَ الاصول فمعلوم أَن الْقيَاس على ذَلِك الشَّيْء يُوجب خلاف مَا يُوجِبهُ الْقيَاس على تِلْكَ الاصول وَقد اجاز أَصْحَاب الشَّافِعِي وَطَائِفَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة الْقيَاس على ذَلِك الشَّيْء الْمَخْصُوص من جملَة الْقيَاس وَلم يجوز الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْقيَاس عَلَيْهِ إِلَّا لإحدى خلال ثَلَاث أَحدهَا أَن يكون مَا ورد خلاف قِيَاس الاصول قد نَص على علته نَحْو مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه علل طَهَارَة الهر بِأَنَّهَا من الطوافين علينا والطوافات قَالَ لِأَن النَّص على الْعلَّة كالتصريح بِوُجُوب الْقيَاس على ذَلِك الشَّيْء وأحدها أَن تكون الامة مجمعة على تَعْلِيل مَا ورد بِهِ الْخَبَر وَإِن اخْتلفُوا فِي علته وأحدها أَن يكون الحكم الَّذِي ورد بِهِ الْخَبَر مُوَافقا للْقِيَاس على بعض الاصول وَإِن كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس على أصُول أخر كالخبر بالتحالف فِي الْمُتَبَايعين إِذا اخْتلفَا فانه بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَيُقَاس عَلَيْهِ الْإِجَارَات لِأَن قياسها مُوَافق لقياس آخر من قِيَاس الاصول وَهُوَ أَنه تملك على الْغَيْر فَالْقَوْل قَوْله فِيهِ وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ فِي الشَّرْع أصل يُبِيح هَذَا الْقيَاس وأصل يحظره وَكَانَ الأَصْل جَوَاز الْقيَاس وَجب الْقيَاس(2/262)
وَقد أجَاز الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ الْقيَاس على خبر الْوَاحِد الْمُخَصّص للْعُمُوم وَقَالَ مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي رَحمَه الله إِذا كَانَ الْخَبَر الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول غير مَقْطُوع بِهِ لم يجز الْقيَاس عَلَيْهِ فَاقْتضى قَوْله هَذَا أَنه يجوز أَن يكون مذْهبه أَنه إِذا كَانَ الْخَبَر مَقْطُوعًا بِهِ جَازَ الْقيَاس عَلَيْهِ وَاعْلَم أَن مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول إِمَّا أَن يكون دَلِيلا مَقْطُوعًا بِهِ أَو غير مَقْطُوع بِهِ فان كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ أصل فِي نَفسه لِأَن هَذَا معنى قَوْلنَا أصل فِي هَذَا الْموضع فَالْقِيَاس عَلَيْهِ كالقياس على تِلْكَ الاصول وَيجب أَن يقْصد الْمُجْتَهد مقصد التَّرْجِيح بَين القياسين وَيبين ذَلِك أَنه إِذا كَانَ عُمُوم الْكتاب لَا يمْنَع من قِيَاس يخصصه فبأن يكون الْقيَاس على الْعُمُوم لَا يمْنَع من الْقيَاس على أصل آخر يُخَالف الْعُمُوم اولى لِأَن الْعُمُوم أقوى من الْقيَاس عَلَيْهِ وَإِن كَانَ الْخَبَر الْوَارِد بِخِلَاف قِيَاس الاصول غير مَقْطُوع بِهِ فانه لَا تَخْلُو عِلّة حكمه إِمَّا تكون منصوصة أَو غير منصوصة فان لم تكن منصوصة وَلَو كَانَت اقوى من الْعلَّة الَّتِي يُقَاس بهَا الْفُرُوع على تِلْكَ الاصول فَلَا شُبْهَة فِي أَن الْقيَاس على الاصول أولى لِأَن الْقيَاس على مَا طَرِيقه مَعْلُوم أولى من الْقيَاس على مَا طَرِيقه غير مَعْلُوم وَإِن كَانَت الْعلَّة منصوصة فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله فِي الدَّرْس أَنه يَسْتَوِي القياسان من هَذَا الْوَجْه لِأَن الْقيَاس على الاصول يخْتَص بِأَن طَرِيق حكم أَصله مَعْلُوم وَإِن كَانَت طرق علته غير مَعْلُومَة وَالْقِيَاس على مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول علته منصوصة
وَلقَائِل أَن يَقُول إِن هَذِه الْعلَّة وَإِن كَانَت منصوصة فَهِيَ غير مَعْلُومَة إِذْ هِيَ منقولة بالآحاد فَلم يساو الْقيَاس بهَا على تِلْكَ الاصول فِي الْقُوَّة وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الْقيَاس على الاصول الْمَعْلُومَة لَهُ حَظّ من الْقُوَّة من حَيْثُ كَانَ حكم أَصله مَعْلُوما وَلَا يمْتَنع أَن تعَارض هَذِه الْقُوَّة قُوَّة أُخْرَى وَهِي طَرِيق الْعلَّة بِأَن يكون طَرِيق عِلّة الْقيَاس الآخر أقوى من طَرِيق عِلّة الْقيَاس على الاصول أما بِأَن تكون الْعلَّة منصوصة أَو مدلولا عَلَيْهَا بتنبيه فالموضع مَوضِع اجْتِهَاد فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاق الْمَنْع من ذَلِك(2/263)
يبين ذَلِك أَن خبر الْوَاحِد إِذا خص عُمُوم الْكتاب جَازَ أَن يكون الْقيَاس على الْخَبَر الْخَاص أولى من الْقيَاس على الْعُمُوم وَإِن كَانَ الْعُمُوم مَعْلُوما وَخبر الْوَاحِد غير مَعْلُوم إِن قيل إِن مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَإِن كَانَ مَعْلُوما فانه لَا يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن تدل أَمارَة على عِلّة حكمه قيل هَذَا دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا فان قَالُوا الدَّلِيل على ذَلِك أَن الْقيَاس على الْأُصُول يمانع الْقيَاس على مَا ورد بِخِلَاف الاصول قيل هلا كَانَ الْقيَاس على مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول يمانع الْقيَاس على الاصول وَيمْنَع أَن تدل على علته أَمارَة وَإِذا جَازَ أَن يدل على عِلّة هَذَا الْقيَاس النَّص جَازَ أَن يدل عَلَيْهِ دلَالَة غير النَّص
فان قيل مَا ورد بِخِلَاف قِيَاس الاصول وَإِن كَانَ مَعْلُوما فانه لَا يجوز أَن يُسَاوِي أَمارَة عِلّة الْقيَاس على الاصول فِي الْقُوَّة فَلَا يجوز الْقيَاس عَلَيْهِ قيل هَذَا دَعْوَى وَمَا أنكرتم أَن يكون الْخَبَر الْوَارِد بخلاق قِيَاس الاصول قد غير الحكم عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من قبل لِأَنَّهُ لما كَانَ مَعْلُوما صَار أصلا فِي نَفسه فَلَا يمْتَنع أَن يَقع التَّنْبِيه على علته وَيكون التَّنْبِيه عَلَيْهِ أقوى وَأظْهر من التَّنْبِيه على عِلّة الاصول ثمَّ يُقَال لَهُم أَلَيْسَ قد جَازَ أَن يدل عَلَيْهَا النَّص وَهُوَ أقوى وَأظْهر من عِلّة الاصول فَلَا يجوز أَن يدل عَلَيْهَا تَنْبِيه النَّص وَيكون أقوى من دلَالَة عِلّة الاصول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل أصُول الْعِبَادَات والتقديرات وَغير ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن أَبَا عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَا يجوز تَعْلِيل الاصول وَلَا يجوز إِثْبَات صَلَاة سادسة بِالْقِيَاسِ وَلَا بتعليل الْحُدُود وَهُوَ قَول أبي الْحسن وَلِهَذَا منع من قطع المختلس بِالْقِيَاسِ وَمنع من إِثْبَات صَلَاة بإيماء الْحَاجِب بِالْقِيَاسِ وَمنع من تَعْلِيل الْكَفَّارَات وَإِثْبَات كَفَّارَة بِقِيَاس وَسوى بَين الْكَفَّارَات الْجَارِيَة مجْرى الْعُقُوبَات وَبَين مَا لَا تجْرِي مجْرى الْعُقُوبَات وأعمل الِاسْتِدْلَال فِي موضعهَا وَفِي مَوضِع الْحَد وَحكي عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ شَبِيها بذلك(2/264)
لِأَنَّهُ لم يثبت الصَّوْم بَدَلا من هدى الْمحصر لِأَن ذَلِك إِثْبَات عبَادَة مُبتَدأَة وَمنع الشَّيْخ أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ من إِثْبَات النصب ابْتِدَاء بِالْقِيَاسِ أَو بِخَبَر الْوَاحِد وَكَذَلِكَ لم يثبت الزَّكَاة فِي الفصلان وَاسْتعْمل الْقيَاس فِي نصب مَا ثَبت فِيهِ الزَّكَاة كَمَا يعْمل الْقيَاس فِي صِفَات الصَّلَاة وَإِن لم يَسْتَعْمِلهُ فِي نفس الصَّلَاة وَقبل خبر الْوَاحِد فِي إِثْبَات نِصَاب زَائِد على الْمِائَتَيْنِ على مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَمنع من الْقيَاس فِي الْمَقَادِير وَلم يُعلل مَا رخص فِيهِ للتساهل وَلم يقس عَلَيْهِ كاجرة الْحمام والاستصناع وَقبل أَبُو يُوسُف خبر الْوَاحِد فِي إِثْبَات الْحُدُود كَمَا يقبل الشَّهَادَة فِيهِ وَإِن كَانَ مِمَّا يدْرَأ بِالشُّبْهَةِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه يثبت الْحَد بِالْقِيَاسِ أَيْضا لِأَن الْقيَاس كَخَبَر الْوَاحِد فِي إِفَادَة الظَّن فان لم يمْتَنع إثْبَاته بِأَحَدِهِمَا وَإِن كَانَ يدْرَأ بِالشُّبْهَةِ فَكَذَلِك الآخر أما الشَّافِعِي رَحمَه الله وَأَصْحَابه فانهم يعللون كل ذَلِك ويستعملون الْقيَاس فِيهِ مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ إِن الْأُصُول وَالْحُدُود لَا مجَال للْقِيَاس فيهمَا وَلَو دلّ الدَّلِيل على الْعلَّة فيهمَا لقيس عَلَيْهِمَا وَقد حد بَعضهم واطىء الْبَهِيمَة قِيَاسا على الزَّانِي وَإِن كَانَ بَعضهم يَقُول إِن ذَلِك زنا
وَالْخلاف بَين النَّاس هَل فِي الشَّرِيعَة جملَة من الْمسَائِل يعلم أَنه لَا يجوز أَن تدل دلَالَة على عِلّة أَحْكَامهَا فَيمْتَنع اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهَا فِي الْجُمْلَة أَو لَيْسَ ذَلِك بل يَنْبَغِي أَن يستقرىء مَسْأَلَة مَسْأَلَة فأصحاب أبي حنيفَة يَقُولُونَ إِنَّا قد علمنَا ذَلِك فِي جملَة من الْمسَائِل وَهِي الَّتِي ذكروها وَغَيرهم لَا يحكم بذلك فِي أَكثر هَذِه الْمسَائِل على سَبِيل الْجُمْلَة بل يستقرءون مَسْأَلَة مَسْأَلَة وَالْأَظْهَر فِي كثير مِمَّا ذَكرُوهُ أَنه لَا يظْهر علته كالتقديرات واصول الْعِبَادَات وَالْأولَى مَعَ ذَلِك استقراء مَسْأَلَة مَسْأَلَة فَمَا لَا يدل على علته دلَالَة لم يسْتَعْمل فِيهِ الْقيَاس لجَوَاز أَن يكون فِيهَا مَا دلّ دلَالَة على عِلّة حكمه غير أَن مَا أَخذ علينا التطرق إِلَيْهِ بالأدلة الْمَعْلُومَة فانه لَا يجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهِ كَصَلَاة سادسة ولإجماع الامة على أَنه لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ وَلِأَنَّهُ لَا تظهر فِيهِ دلَالَة تدل على علته وَمَا رخص فِيهِ للتساهل فَلَا عِلّة فِيهِ إِلَّا شذة الْبلوى بِهِ وكل مَا هَذِه حَاله قد رخصوه وَمَا لم يرخصوه من ذَلِك فالإجماع على حظره يمْنَع من قِيَاسه على مَا(2/265)
رخصوه وَيبعد أَن تظهر فِي التقديرات والأعداد عِلّة فاما الْكَفَّارَات فَلَا يبعد أَن تظهر علتها فيقاس عَلَيْهَا غَيرهَا بِتِلْكَ الْعلَّة وَلَيْسَ لمن منع من ذَلِك أَن يجْرِي بِهِ مجْرى الْحُدُود من حَيْثُ كَانَت عقوبات لِأَنَّهُ يُسَوِّي فِي الْمَنْع من إِثْبَاتهَا قِيَاسا بَين مَا يجْرِي مِنْهَا مجْرى الْعُقُوبَات وَبَين مَا لَا يجْرِي مِنْهَا مجْرى الْعُقُوبَات وَأَيْضًا فقد أثبتوا على الْآكِل فِي شهر رَمَضَان كَفَّارَة وَهِي جَارِيَة مجْرى الْعُقُوبَات اعْتِبَارا بالمجامع وسلكوا فِي ذَلِك مَسْلَك التَّعْلِيل وَلَا يعصمهم من ذَلِك أَن يمتنعوا من تَسْمِيَة ذَلِك قِيَاسا وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم هَل هُوَ قِيَاس أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الشَّيْخ أَبَا الْحسن رَحمَه الله لم يكن يثبت الْكَفَّارَات بِالْقِيَاسِ وَكَانَ يثبتها بالاستدلال على مَوضِع الحكم فَيثبت الْكَفَّارَة على الْأكل فِي شهر رَمَضَان اعْتِبَارا بالمجاميع فِيهِ فَيَقُول قد علمت أَن الْكَفَّارَة لم تجب فِي الْجِمَاع لعَينه بل لِأَنَّهُ مُفسد لعين صَوْم شهر رَمَضَان مَعَ ضرب مَخْصُوص من المأثم وَهَذَا مَوْجُود فِي الْأكل
وَذكر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَنه كَانَ يفصل بَين الْقيَاس وَبَين ذَلِك بِأَنا نحتاج إِلَى الِاسْتِدْلَال لنعلم بِأَن الْجِمَاع يخْتَص بمأثم مَخْصُوص وَلَا يحْتَاج إِلَى الِاسْتِدْلَال لنعلم أَن الْبر مَكِيل فَيُقَال لَهُ حَاجَتك إِلَى هَذَا الِاسْتِدْلَال لَا يخْرجك من أَن تكون قد سلكت مَسْلَك التَّعْلِيل بِهَذِهِ الْأَوْصَاف وأجريت حكمهَا مَعهَا وَهَذِه صُورَة الْقيَاس على أَن المقائيس مَا يعلم ثُبُوت علته فِي أَصله بِدَلِيل وَذَلِكَ بِأَن تكون الْعلَّة حكما شَرْعِيًّا لِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعْلُومَة بِالدَّلِيلِ على أَن مَا افْتقر فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَال هُوَ أخْفى مِمَّا علم ضَرُورَة فان لم تثبت الْكَفَّارَة بالأجلى فَالْأولى أَن لَا تثبت بالأخفى
وَيُمكن أَن نقيس الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم بِوَجْه آخر وَهُوَ أَن يكون الحكم ثَابتا فِي مَوضِع مُجمل ثمَّ نستدل لنعلم ذَلِك الْموضع فاذا ثَبت بِالدَّلِيلِ أَن(2/266)
شَيْئا من الْأَشْيَاء من ذَلِك الْموضع ألحق بِهِ حكمه لَا على سَبِيل الْقيَاس بل على سَبِيل إِدْخَال التَّفْصِيل فِي الْجُمْلَة فان قيس الِاسْتِدْلَال على مَوضِع الحكم بِهَذَا قيل لَهُ أموضع الْكَفَّارَة هُوَ الْجِمَاع أم بعض أَوْصَافه فان قَالَ هُوَ الْجِمَاع قيل هَذَا لَا يحْتَاج إِلَى اسْتِدْلَال زَائِد على الْخَبَر وَيَنْبَغِي أَن لَا يلْحق بِهِ إِلَّا مَا كَانَ جماعا وَإِن قَالَ موضعهَا هُوَ بعض أَوْصَافه وَهُوَ إِفْسَاد عين صَوْم الشَّهْر مَعَ مأثم مَخْصُوص قيل ابالنص علمت أَن هَذَا مَوضِع الْكَفَّارَة أم بِدَلِيل وَلَيْسَ يُمكنهُ القَوْل بِأَنَّهُ علم ذَلِك بِالنَّصِّ لِأَن النَّص يتَنَاوَل الْجِمَاع لَا هَذِه الْأَوْصَاف وَإِن قَالَ علمت ذَلِك لَا بِالنَّصِّ وَلَكِن بِاعْتِبَار أفسدت بِهِ تَعْلِيق الْكَفَّارَة بِالْجِمَاعِ وَبِغَيْرِهِ من أَوْصَافه سوى مَا ذكرته قيل هَذَا تَعْلِيل مِنْك لِأَنَّك علقت هَذِه الْكَفَّارَة بِهَذِهِ الْأَوْصَاف وَقلت لَهَا مَا ثَبت الْكَفَّارَة وتوصلت إِلَى ذَلِك بِأَن أفسدت تعلق الْكَفَّارَة بِمَا عَداهَا فاذا حكمت على الْأكل بِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مُفسد لعين صَوْم رَمَضَان مَعَ مأثم مَخْصُوص فقد قست وَجرى ذَلِك مجْرى أَن تفْسد تَعْلِيق الرِّبَا بِعَين الْبر وبصفاته سوى الْكَيْل ثمَّ تحرم الارز لِأَنَّهُ مَكِيل وكل من أثبت الْكَفَّارَة بِالْقِيَاسِ أَن يسْلك هَذَا المسلك ونسميه اسْتِدْلَالا على مَوضِع الحكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب تَعْلِيل حكم الأَصْل بعلتين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن حكم الأَصْل إِذا علل بعلتين فإمَّا أَن تكون إِحْدَاهمَا هِيَ الدَّلِيل على حكم الأَصْل أَو لَا تكون وَاحِدَة مِنْهُمَا هِيَ الدَّلِيل على حكم الأَصْل بل الدَّلِيل عَلَيْهِ نَص أَو إِجْمَاع فان لم تكن وَاحِدَة مِنْهُمَا دَلِيلا على حكم الأَصْل جَازَ أَن تصحا جَمِيعًا لِأَن الْعلَّة إِن كَانَت أَمارَة فَجَائِز أَن تدل على الحكم الْوَاحِد امارتان وَإِن كَانَت مُوجبَة وَجه مصلحَة فَجَائِز أَن يكون الشَّيْء صلاحا من وَجْهَيْن يبين ذَلِك أَنه قد يسْتَحق الْإِنْسَان الْقَتْل لردته وَلِأَنَّهُ قتل غَيره وَقد تفْسد صَلَاة الْإِنْسَان بِالْحَدَثِ وبالكلام إِذا وجدا مَعًا وأمثال ذَلِك كَثِيرَة وَإِن كَانَ إِحْدَى العلتين دَلِيلا على حكم الأَصْل فإمَّا أَن تكون دَلِيل حكمه من غير أَن يُقَاس بهَا على اصل آخر أَو أَن تكون دَلِيله بَان يُقَاس بهَا(2/267)
على أصل آخر مِثَال ردنا التطاول فِي الشَّهَادَة على السّرقَة إِلَى التطاول فِي الشَّهَادَة على الزِّنَا فِي أَن الْحَاكِم لَا يحكم بهما بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق من حُقُوق الله تَعَالَى وَلَيْسَت هَذِه الْعلَّة هِيَ الَّتِي لَهَا لم يحكم الْحَاكِم بِالشَّهَادَةِ على الزِّنَا إِذا تطاول عهدها لَكِن الْعلَّة فِي ذَلِك أَن الشُّهُود على الزِّنَا مخيرون بَين إِقَامَة الشَّهَادَة بِحَق الله سُبْحَانَهُ وَبَين السّتْر على الْمَشْهُود عَلَيْهِ فاذا أخروا الشَّهَادَة علمنَا أَنهم آثروا فاذا شهدُوا من بعد تَبينا ان عَدَاوَة تَجَدَّدَتْ لَهُم والعدوان تتهم الشُّهُود وَقد منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبُول شَهَادَة ذَوي الأضغان وَظهر لنا أَنهم من ذَوي الأضغان لَا أَنا نقيسهم على ذَوي الأضغان وَهَذِه الْعلَّة لَا يُمكن ذكرهَا فِي الشَّهَادَة على السّرقَة لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الشُّهُود إِنَّمَا أخروا الشَّهَادَة لِأَن الْمَسْرُوق مِنْهُ أخر الْمُطَالبَة فقد بَان عِلّة حكم الأَصْل غير الْعلَّة الَّتِي بهَا رددنا الْفَرْع إِلَى الأَصْل
وَقد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَمنهمْ من أجَاز تَعْلِيل الحكم بِالْعِلَّةِ الَّتِي لم يثبت الحكم بهَا قَالَ لِأَن الْعلَّة الَّتِي بهَا يثبت حكم الأَصْل هِيَ طَرِيق الحكم فِي الأَصْل فجرت مجْرى النَّص الدَّال على حكم الأَصْل فَكَمَا يجوز أَن تدل دلَالَة على أَن لبَعض اوصاف الأَصْل الْمَنْصُوص على حكمه تَأْثِيرا فِي ذَلِك الحكم فتجعل علته وَيُقَاس بهَا فرع من الْفُرُوع عَلَيْهِ جَازَ أَيْضا فِي بعض مَا ثَبت حكمه لعِلَّة من الْعِلَل أَن تدل دلَالَة على أَن لبَعض أَوْصَافه تَأْثِيرا فِي ذَلِك الحكم فتجعل عِلّة فِيهِ وَيُقَاس بهَا على الْفُرُوع وَمِنْهُم من لم يصحح الْعلَّة الَّتِي لَا يثبت بهَا حكم الأَصْل لِأَن هَذِه الْعلَّة لَا يُمكن أَن تدل على صِحَّتهَا وَأَنَّهَا لمكانها ثَبت حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يسْتَدلّ على ذَلِك بِفساد مَا عَداهَا لِأَن الْعلَّة الْأُخْرَى صَحِيحَة وَلَا يُمكن أَن نستدل عَلَيْهَا بِأَن الحكم يُوجد بوجودها فِي الأَصْل وينتفي بانتفائها عَن الأَصْل وَانْتِفَاء مَا يقوم مقَامهَا لعلمنا أَنَّهَا لَو وجدت وَحدهَا فِي الأَصْل من دون الْعلَّة الْأُخْرَى لم يثبت الحكم فاذا لم يُمكن أَن تدل دلَالَة على صِحَّتهَا لم تثبت صِحَّتهَا
وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ إِذا كَانَت الْعلَّة الَّتِي هِيَ دَلِيل الحكم فِي الأَصْل يُقَاس بهَا ذَلِك الأَصْل على أصل آخر فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُمكن أَن يُقَاس الْفَرْع الآخر بِتِلْكَ الْعلَّة على الأَصْل الأول أَو لَا يُمكن فَإِن لم يُمكن فَالْخِلَاف فِيهِ(2/268)
كالخلاف فِيمَا تقدم الْآن وَإِن أمكن ذَلِك فمثاله أَن يرد الذّرة إِلَى الارز بعلة أَنه مَكِيل وَيرد الارز إِلَى الْبر بِهَذِهِ الْعلَّة وَهَذَا تَطْوِيل لَا فَائِدَة فِيهِ لِأَنَّهُ يُمكن رد الذّرة إِلَى الْبر بِهَذِهِ الْعلَّة وَلِأَن رد الذّرة إِلَى الارز يُوهم أَن حكمه مِنْهُ مُسْتَفَاد وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن الذّرة كالارز فِي أَن الْعلم بِحكم أَحدهمَا لَا يسْبق الْعلم بِحكم الآخر فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ بل حكمهَا يَتَرَتَّب على الْبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَعْلِيل الأَصْل بعلة لَا تتعدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما الشَّيْخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله فانه أفسدها إِلَّا أَن يدل عَلَيْهَا نَص أَو إِجْمَاع وَحكى عَنهُ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَنَّهَا صححها فِي بعض مسَائِله وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ أفسدها إِلَّا أَن يدل عَلَيْهَا نَص وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وقاضي الْقُضَاة يصححونها
وَالدَّلِيل على صِحَّتهَا هُوَ أَن من أفسدها إِمَّا أَن يُفْسِدهَا لِأَنَّهَا لم تتعد إِلَى فرع مُخْتَلف فِيهِ أَو أَنَّهَا لم تتعد إِلَى فرع أصلا اخْتلف فِيهِ أَو لم يخْتَلف فِيهِ فان قَالَ بِالْأولِ كَانَ قد جعل صِحَّتهَا وفسادها موقوفين على أَن يخْتَار النَّاس الْخلاف فِي الْفَرْع أَو الِاتِّفَاق فِيهِ وَهَذَا شنيع وَأَيْضًا فَإِن كَانَت الْعلَّة هِيَ وَجه الْمصلحَة فوجوه الْمصَالح إِذا حصلت فِي الشَّيْء اقْتَضَت كَونه مصلحَة وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ أَو لم يَقع وَإِن كَانَت أَمارَة على الحكم وعَلى وَجه الْمصلحَة فالأدلة والأمارات لَا تفْسد بالِاتِّفَاقِ على مدلولها وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي فَالَّذِي يُفْسِدهُ أَيْضا هُوَ أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة إِذا دلّت عَلَيْهَا الأمارة غلب على ظننا أَنَّهَا وَجه الْمصلحَة وَإِن لم تتعد لِأَن وُجُوه الْمصَالح قد تخْتَص نوعا وَاحِدًا وَقد تتعداه كَمَا نقُوله فِي وُجُوه الْقبْح وَالْحسن كلهَا وَأَيْضًا فالعلة لَو فَسدتْ إِذا لم تتعد لَكَانَ فَسَادهَا وَجه مَعْقُول
فان قَالُوا الْوَجْه فِي ذَلِك هُوَ أَن الْعلَّة المستنبطة إِذا لم تتعد لم يكن فِي استنباطها فَائِدَة لِأَن حكم الأَصْل ثَابت بِالنَّصِّ لِأَنَّهَا بِالنَّصِّ قد أُغني غنها فِي الأَصْل وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي فرع فَيكون طَرِيقا إِلَى حكمه وَإِذا لم يكن فِي(2/269)
استنباطها فَائِدَة كَانَت عَبَثا وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة المنصوصة لِأَنَّهَا لم تثبت عِلّة بالاستنباط قيل إِن المستنبط لِلْعِلَّةِ طَالب لَهَا وَهُوَ فِي حَال طلبه لَا يعلم مَا عِلّة الحكم وَهل هِيَ متعدية أم لَا فَيُقَال لَهُ لَا تتكلف هَذَا الْبَحْث والطلب وَإِنَّمَا يعلم أَن الْعلَّة الَّتِي تبحث عَنْهَا لَا تتعدى بعد اسْتِيفَاء الطّلب وَأَيْضًا يكون الطّلب لَهَا عَبَثا لَا يفْسد الْعلَّة لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع كَونهَا عِلّة وَيكون الطَّالِب لَهَا عابثا حِين يتشاغل بِطَلَب مَا هُوَ مستغن عَنهُ وَأَيْضًا فَلَو جَازَ أَن يكون الطّلب لَهَا عَبَثا لِأَنَّهَا لَيست بطرِيق إِلَى الحكم لَا فِي الحكم وَلَا فِي الْفَرْع لَكَانَ النَّص عَلَيْهَا عَبَثا لِأَنَّهَا لَيست بطرِيق إِلَى حكم فِي أصل وَلَا فرع وَأَيْضًا وُقُوع الْغنى عَن الشَّيْء لَا يُفْسِدهُ أَلا ترى أَنا نستغني بِالْقُرْآنِ فِي بعض الْأَحْكَام عَن أَخْبَار الْآحَاد وَعَن الْقيَاس وَلَا يُوجب ذَلِك فسادهما
فان قيل خبر الْوَاحِد يُمكن أَن يكون طَرِيقا إِلَى الحكم الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَلَا يُمكن أَن تكون الْعلَّة القاصرة طَرِيقا إِلَى حكم أصلا قيل إِنَّمَا تكلمنا على قَوْلكُم طلبَهَا عَبث إِذْ النَّص قد أغْنى عَنْهَا وَلَيْسَ لَهَا وجود فِي بعض الْفُرُوع وَلم نتكلم على مَا ذكرتموه الْآن وَهُوَ قَوْلكُم الْعلَّة القاصرة لَا يُمكن أَن تكون طَرِيقا إِلَى حكم فَلم يكن فِي طلبَهَا فَائِدَة فان قُلْتُمْ ذَلِك أجبناكم بِمَا تقدم دون هَذَا الْوَجْه
وَإِن قَالُوا إِذا لم تكن الْعلَّة طَرِيقا إِلَى حكم لم تكن فِيهَا نَفسهَا فَائِدَة وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لَا يجوز أَن ينصب الله عز وَجل عَلَيْهِ أَمارَة فَكل عِلّة قَاصِرَة فَإنَّا نعلم أَن الله عز وَجل لم ينصب عَلَيْهَا أَمارَة قيل وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لَا يجوز أَن ينص الله عز وَجل وَلَا رَسُوله عَلَيْهِ فان جعلتم للنَّص عَلَيْهَا فَائِدَة فقد بَطل قَوْلكُم إِن مَا لَا يُفِيد حكما فَهُوَ فَاسد وَأَيْضًا فَلَا فَائِدَة أَكثر من الْعلم بعلة الحكم فانا إِذا علمنَا كم الشَّيْء ووقفنا على علنه صرنا عَالمين أَو ظانين بِمَا لم نَكُنْ عَالمين بِهِ وَذَلِكَ مَا تتشوق النَّفس إِلَى مَعْرفَته وَلَا يمْتَنع أَن يكون لنا فِي ظن ذَاك مصلحَة وَفَائِدَة أُخْرَى وَهِي أَن نمتنع من قِيَاس فرع على أصل علته قَاصِرَة
فان قَالُوا فَهَذَا يُمكن إِذا لم تنصب أَمارَة على أَن ذَلِك الْوَصْف عِلّة قيل(2/270)
هَذَا الْقدر لَا يمْنَع من الْقيَاس على ذَلِك الأَصْل لِأَنَّهُ يجوز أَن يظنّ أَن علته وصف آخر فيقاس بِهِ فرع من الْفُرُوع وَإِذا ظننا أَن مَا لَا يتَعَدَّى هُوَ الْعلَّة لِأَن أَمارَة كَونه عِلّة أقوى من كل الأمارات رفضنا مَا عدا ذَلِك الْوَصْف فَلم نقس على ذَلِك الْوَصْف شَيْئا وَلَهُم أَن يَقُولُوا وَكَانَ يُمكن أَن لَا يُقَاس على ذَلِك الأَصْل بِأَن لَا ينصب الله عز وَجل أَمارَة على شَيْء من أَوْصَافه وَإِذا أمكن ذَلِك لم يكن فِي نصب أَمارَة على الْوَصْف الَّذِي لَا يتَعَدَّى فَائِدَة
واقوى مَا يُمكن أَن يحتجوا بِهِ هُوَ أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة والأمارة كالدلالة فِي أَنَّهَا كاشفة عَن شَيْء وَلَا يتَصَوَّر دلَالَة وامارة لَا تكشف عَن شَيْء وَالْعلَّة القاصرة لَا تكشف عَن حكم أصل وَلَا فرع فَلم تكن أَمارَة وَإِذا لم تكن أَمارَة لم تكن عِلّة وَالْجَوَاب إِنَّه إِذا دلّت أَمارَة صَحِيحَة على كَون الْوَصْف عِلّة قضينا بِأَنَّهَا وَجه الْمصلحَة وَقُلْنَا بِأَن الْعلَّة أَمارَة على معنى أَنَّهَا مظنون كَونهَا عِلّة وَيُمكن أَن نقُول إِنَّهَا أَمارَة على وَجه الْمصلحَة بِمَعْنى أَنَّهَا مُقَارنَة فَيدل على أَن وَجه الْمصلحَة يُوجد حَيْثُ تُوجد الْعلَّة ثمَّ يُقَال لَهُم إِذا نَص على الْعلَّة الَّتِي لَا تتعدى أَلَيْسَ تكون الْعلَّة أَمارَة أَو دلَالَة فان قَالُوا بلَى قيل لَهُم فعلى مَا تدل فان قَالُوا إِنَّهَا تكون وَجه الْمصلحَة أَو تكون أَمارَة على وَجه الْمصلحَة وَلَا تكون أَمارَة وَلَا دلَالَة على حكم قيل لَهُم مثله فِي الْعلَّة المستنبطة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اخْتِلَاف مَوْضُوع الْعلَّة وَالْحكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْعلَّة قد تكون حكما مَا شَرْعِيًّا وَيكون حكمهَا شَرْعِيًّا وَإِذا كَانَ أَحدهمَا مَبْنِيا على التَّخْفِيف وَالْآخر على التَّغْلِيظ جَازَ أَن يَجْعَل ذَلِك أَمارَة تَقْتَضِي أَن لَا يعْتَبر أَحدهمَا بِالْآخرِ وَيُمكن أَن يُجَاب عَن ذَلِك فَيُقَال لَا يمْتَنع اعْتِبَار أَحدهمَا بِالْآخرِ إِذا دلّت الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة فان قيل إِنَّه لَا يجوز أَن تدل الدّلَالَة على صِحَة مثل هَذِه الْعلَّة انْتقل الْكَلَام إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة وَنحن من بعد نذْكر الْكَلَام فِي الْعلَّة من حَيْثُ هِيَ دَلِيل على حكم الْفَرْع إِن شَاءَ الله(2/271)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اخْتِلَاف مَوْضُوع الْفَرْع وَالْأَصْل وَفِي حكم الْفَرْع إِذا تقدم حكم الأَصْل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما اخْتِلَاف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع فنحو أَن يكون الأَصْل مَبْنِيا على التَّخْفِيف كالتيمم وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ وَيكون الْفَرْع مَبْنِيا على التَّغْلِيظ كَالْوضُوءِ وَغسل الرجلَيْن ويروم القائس أَن يثبت فِي الْفَرْع حكما مخففا وَيكون الأَصْل مَبْنِيا على التَّغْلِيظ كَالْوضُوءِ وَغسل الرجلَيْن وَيكون الْفَرْع مَبْنِيا على التَّخْفِيف كالتيمم وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ ويروم القائس أَن يثبت فِي الْفَرْع حكما مغلظا فاختلاف الْفَرْع وَالْأَصْل كالأمارة على أَنه لَا يَنْبَغِي رد أَحدهمَا إِلَى الآخر فان دلّت دلَالَة على صِحَة الْعلَّة الجامعة بَينهمَا أوجبت الدّلَالَة التَّسْوِيَة بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِي ذَلِك الحكم وَإِن اخْتلفَا فِي التَّغْلِيظ وَالتَّخْفِيف من وُجُوه أخر
وَأما الْفَرْع إِذا تقدم حكمه على حكم الأَصْل فمثاله الْوضُوء إِذا قيس على التَّيَمُّم فِي اشْتِرَاط النِّيَّة فِيهِ وَذَلِكَ أَن الْوضُوء وَجب بِمَكَّة وَالتَّيَمُّم وَجب بعد الْهِجْرَة وَقد منع من ذَلِك قوم لِأَن شَرط مَا تقدم وُجُوبه لَا يجوز كَونه مستفادا مِمَّا تَأَخّر وُجُوبه لِأَن الدَّلِيل لَا يجوز تَأَخره عَن الْمَدْلُول عَلَيْهِ وَالْأولَى أَن يُقَال إِن الْفَرْع إِذا تقدم حكمه فانه إِن لم يدل على ثُبُوت حكمه إِلَّا الْقيَاس على ذَلِك الأَصْل فانه لَا يَصح ذَلِك الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون لنا على الحكم الَّذِي تعبدنا بِهِ دَلِيل فِي الْحَال وَإِن دلّ على حكم الْفَرْع دَلِيل مُتَقَدم لم يبطل ذَلِك الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يدلنا الله عز وَجل على الحكم بأدلة مترادفة أَلا ترى أَن المعجزات تتواتر بعد المعجزة الْمُقَارنَة لابتداء الدعْوَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْعلَّة هَل هِيَ دَلِيل على رسم الْفَرْع ثمَّ يعلق بِهِ حكم شَرْعِي أَو تدل ابْتِدَاء على حكم شَرْعِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
حُكيَ عَن أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج أَنه قَالَ إِنَّمَا يثبت بِالْقِيَاسِ الْأَسْمَاء فِي الْفَرْع ثمَّ تعلق عَلَيْهَا الْأَحْكَام وَكَانَ يتَوَصَّل بِالْقِيَاسِ إِلَى أَن الشُّفْعَة تَرِكَة ثمَّ(2/272)
يَجْعَلهَا موروثة وَإِن وطىء الْبَهِيمَة زنا ثمَّ يتَعَلَّق بِهِ الْحَد وَبَعض الشَّافِعِيَّة كَانَ يقيس النَّبِيذ على الْخمر فِي تَسْمِيَته خمرًا لاشْتِرَاكهمَا فِي الشدَّة ثمَّ يحرمه بِالْآيَةِ وَأكْثر الْفُقَهَاء متفقون على أَن الْعِلَل تثبت بهَا الْأَحْكَام
فان كَانَ أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج منع من إِثْبَات الْأَحْكَام فِي الْفَرْع بالعلل فَذَلِك بَاطِل لِأَن أَكثر الْمسَائِل إِنَّمَا تعلل فِيهَا أَحْكَامهَا دون أسمائها والأمارات إِنَّمَا تدل على أَن بعض صِفَات الأَصْل لَهُ تَأْثِير فِي الحكم لَا فِي الِاسْم أَلا ترى أَنا نعلل تَحْرِيم الْبر بِكَوْنِهِ مَكِيلًا لَا بِكَوْنِهِ مُسَمّى بِأَنَّهُ بر والأمارة إِنَّمَا تدل على أَن للكيل أَو الطّعْم تَأْثِيرا فِي تَحْرِيم بعضه بِبَعْض مُتَفَاضلا لَا فِي كَونه مُسَمّى بِأَنَّهُ بر ثمَّ إِنَّا نرد الارز إِلَيْهِ لنثبت فِيهِ حكمه ابْتِدَاء لَا تبعا للاسم لأَنا لَا نروم بقياسه عَلَيْهِ أَن نُسَمِّيه برا وَإِن أَرَادَ أَن الْعِلَل قد يتَوَصَّل بهَا إِلَى الْأَسْمَاء فِي بعض الْمَوَاضِع وَلم يمْنَع من أَن يتَوَصَّل بهَا إِلَى الْأَحْكَام أَيْضا فان أَرَادَ بالعلل الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وبالأسماء الْأَسْمَاء اللُّغَوِيَّة فَذَلِك بَاطِل لِأَن اللُّغَة أسبق من الشَّرْع ولتقدم اللُّغَة خاطبنا الله تَعَالَى بهَا فَلَا يجوز إِثْبَات أسمائها بِأُمُور طارئة وَلِأَن أَمَارَات جَمِيع الْعِلَل الشَّرْعِيَّة تتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَلَا تتَعَلَّق بالأسماء اللُّغَوِيَّة وَإِن أَرَادَ أَن الْأَسْمَاء قد تثبت فِي اللُّغَة بِقِيَاس غير شَرْعِي نَحْو أَن نعلم أَنهم سموا الْجِسْم الْأَبْيَض الَّذِي حضرهم بِأَنَّهُ أَبيض لوُجُود الْبيَاض فِيهِ لعلمنا أَنه إِذا انْتَفَى عَنهُ الْبيَاض لم يسموه بذلك فاذا وجد فِيهِ سموهُ بذلك ثمَّ نقيس عَلَيْهِ مَا غَابَ عَنْهُم من الْأَجْسَام الْبيض فقد تقدم القَوْل فِي ذَلِك وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيد وَإِن أَرَادَ أَن من الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة مَا تثبت بالعلل فَغير بعيد ايضا لأَنا نعلم أَن الشَّرِيعَة إِنَّمَا سمت الصَّلَاة صَلَاة لصفة من الصِّفَات مَتى انْتَفَت عَنْهَا لم تسم فِي الشَّرِيعَة صَلَاة فنعلم أَن مَا شاركها فِي تِلْكَ الصّفة يُسمى صَلَاة
وَأما قَول بعض الشَّافِعِيَّة أَن النَّبِيذ يُسمى خمرًا فَلَيْسَ هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي(2/273)
وَقد قَالَ فِي كثير من كتبه إِن الْخمر هُوَ عصير الْعِنَب الني المشتد وَأما قِيَاسه النَّبِيذ على الْخمر بعلة الشدَّة وإيجابهم بذلك أَن يُسمى خمرًا فَبَاطِل لِأَن الْخمر لم تسم خمرًا للشدة فَقَط وَإِن كَانَ لَو لم تُوجد الشدَّة لم تسم خمرًا كَمَا أَن الْخلّ لم يسم خلا للحموضة وَإِن كَانَ لولاها لم يسم خلا لكنه إِنَّمَا سمى خمرًا لِأَنَّهُ عصير الْعِنَب الني المشتد وَلَو كَانَ قَوْلنَا خمر يشْتَمل التمري والعنبي لشمُول اسْم الْخمر لخمر الْعرَاق وخمر فَارس لَكَانَ قَول الْقَائِل لغيره أَمَعَك نَبِيذ أم خمر كَقَوْلِه أَمَعَك خمر أَو خمر الْعرَاق فَلَمَّا افْتَرقَا فِي الْجِنْس علمنَا أَن اسْم الْخمر لَا يتَنَاوَل النَّبِيذ وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخمر من هَاتين مَحْمُول على أَنه إِنَّمَا سمى مَا يكون من النَّخْلَة خمرًا مجَازًا لما ذَكرْنَاهُ الْآن
فان قيل هلا قُلْتُمْ إِنَّه يَقع عَلَيْهِ اسْم الْخمر يعرف الشَّرْع قيل لَيْسَ هَذَا قولا لأحد وَلَو اقْتَضَاهُ عرف الشَّرْع لسبق إِلَى إفهام أهل الشَّرْع من قَوْلنَا خمر التمري والعنبي مَعًا على سَوَاء كَمَا يسْبق إِلَى إفهامهم من اسْم الصَّلَاة هَذِه الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يقبح أَن يَقُول الْقَائِل أَمَعَك نَبِيذ أم خمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْعلَّة هَل يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع وَإِن لم ينص عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ذهب الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله إِلَى أَنه لَا يجوز إِثْبَات الحكم فِي شَيْء بِالْقِيَاسِ إِلَّا وَقد ورد النَّص باثباته فِيهِ على الْجُمْلَة فَيكون الْقيَاس دَالا على تَفْصِيل الحكم قَالَ فَلَو لم يكن إِرْث الْأَخ ثَابتا فِي الْجُمْلَة لم يجز إِثْبَات إِرْثه مَعَ الْجد بِالْقِيَاسِ وَأَجَازَ غَيره من القائسين إِثْبَات الحكم بِالْقِيَاسِ وَإِن لم يتَقَدَّم إثْبَاته فِي الْجُمْلَة وَالدَّلِيل على ذَلِك هُوَ أَن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة على جَوَاز اسْتِعْمَال الْقيَاس لَا تخص التَّفْصِيل من الْجُمْلَة بل تجوز اسْتِعْمَال الْقيَاس فِيهَا وَلِأَن الْأمة قاست مَسْأَلَة الْحَرَام وَلم يتقدمه فِيهَا حكم شَرْعِي على الْجُمْلَة راموا(2/274)
تَفْصِيله بل كَانُوا لمقايستهم يثبتون أصل الحكم وَقَول الله عز وَجل {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} لَيْسَ يدل على إِثْبَات الحكم فِي الْجُمْلَة فِي مَسْأَلَة الْحَرَام لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يدل على الْمَنْع من التَّحْرِيم وَلَا يدل على حكم التَّحْرِيم إِذا وجد وَقد قَاس مثبتو الْقيَاس الارز على الْبر وَلَا يتقدمه تَحْرِيم بِبيعِهِ مُتَفَاضلا على الْجُمْلَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص النُّصُوص بِالْقِيَاسِ ونسخها بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما نسخ النُّصُوص بِالْقِيَاسِ فسنبينه فِي تضاعيف هَذَا الْفَصْل وَأما إِذا كَانَ الْقيَاس رَافعا للنصوص من غير نسخ فقد تقدم ذَلِك فِي الْأَخْبَار وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا الْفَصْل هُنَاكَ وَلم نذكرهُ فِي أَبْوَاب الْقيَاس لأَنا نقدم النَّص على الْقيَاس وَذَلِكَ لَا يقف على كَون الْقيَاس حجَّة فِي الْجُمْلَة وَأما إِذا كَانَت النُّصُوص عَامَّة فانما ذكرنَا القَوْل فِي مُعَارضَة الْقيَاس لَهَا فِي ابواب الْقيَاس لأَنا نخصص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا وَالْقِيَاس حجَّة فِي الْجُمْلَة
وَقد اخْتلف النَّاس فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ رَحمَه الله وَبَعض الْفُقَهَاء لَا يخص بِهِ أصلا وَهُوَ قَول أبي هَاشم أَولا وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو الْحسن وَكثير من الْفُقَهَاء أَنه يخص بِهِ الْعُمُوم على كل حَال وَهُوَ قَول أبي هَاشم أخيرا وَمن النَّاس من خص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ فِي حَال دون حَال وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي تِلْكَ الْحَال فَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي من خص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ وَلم يَخُصُّهُ بالخفي وَمن النَّاس من خصّه بِالْقِيَاسِ إِذا دخله التَّخْصِيص وَلم يَخُصُّهُ بِهِ إِذا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص
وَالدَّلِيل على تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ هُوَ أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهَا اخْتلفت فِي الْجد فبعضهم جعله أولى من الْأَخ والاخت بِجَمِيعِ المَال وَذهب فِي(2/275)
ذَلِك إِلَى قِيَاس وَخص بِهِ قَول الله عز وَجل {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} وَبَعْضهمْ قَاسم بَين الْجد وَالْأَخ وَاسْتدلَّ بِالْقِيَاسِ على أَنه يقاسم وَلم يَجْعَل للاخ إِرْث جَمِيع مَال اخته وَلم يَجْعَل لاخته مَعَ الْجد النّصْف بل خص الْآيَة وَهَذَا يبطل قَول من لم يخص الْعُمُوم إِلَّا بِقِيَاس معنى لِأَن الْقيَاس فِي مَسْأَلَة الْجد هُوَ قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه
فان قَالُوا خصو الْآيَة بِكَوْن الْجد وَارِثا بِمِقْدَار مَا يَرِثهُ وَإِثْبَات إِرْثه فِي الْجُمْلَة مَعْلُوم بِقِيَاس جلي قيل إِنَّهُم لم يذكرُوا فِي ذَلِك قِيَاسا مُفردا بل لم يستعملوا فِي إِثْبَات إِرْثه إِلَّا مَا استعملوه فِي مِقْدَار إِرْثه لأَنهم استعملوا الْقيَاس فِي هَل يَرث الْكل أَو الْبَعْض ثمَّ تبع ذَلِك ثُبُوت إِرْثه وَهَذِه الدّلَالَة تفْسد قَول من شَرط فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ أَن يكون الْعُمُوم قد خص من وَجه آخر لأَنا قد بَينا فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد أَن الْعُمُوم الْمَخْصُوص هُوَ كالعموم الَّذِي لم يخص وَإِذا لم يكن بَينهمَا فرق كَانَ إِجْمَاع السّلف رَضِي الله عَنْهُم على أَحدهمَا كاجماعهم على الآخر كَمَا إِن إِجْمَاعهم على الْقيَاس فِي مَسْأَلَة الْجد دَلِيل على صِحَة الْقيَاس فِي مَسْأَلَة تجْرِي مجْراهَا
إِن قيل الْيَسْ التَّخْصِيص فِي معنى النّسخ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ إِخْرَاج بعض مَا تضمنه الطاب ثمَّ لم يدل عنْدكُمْ إِجْمَاع الصَّحَابَة على تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ وبأخبار الْآحَاد على جَوَاز نسخه بهما وَلَا دلّ إِجْمَاعهم على الْمَنْع من نسخ الْعُمُوم بهما على الْمَنْع من تَخْصِيصه بهما فَهَلا قُلْتُمْ إِن إِجْمَاعهم على تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِالْقِيَاسِ إِذا دخله التَّخْصِيص لَا يدل على جَوَاز تَخْصِيصه إِذا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص وَإِن كَانَ أَحدهمَا فِي معنى الآخر قيل إِن الْحكمَيْنِ إِذا كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا فان الدّلَالَة على جَوَاز أَحدهمَا هِيَ دلَالَة على جَوَاز الآخر إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع أَلا ترى أَن الصَّحَابَة لَو أَجمعت على قبُول خبر(2/276)
الْوَاحِد فِي وجوب النِّيَّة فِي الْوضُوء لدل ذَلِك على قبُوله فِي النِّيَّة فِي التَّيَمُّم فاذا ثَبت ذَلِك فاجماعهم على تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ هُوَ دَلِيل على جَوَاز نسخه بِالْقِيَاسِ لَوْلَا مَانع من ذَلِك وَهُوَ الْإِجْمَاع وإجماعهم على الْمَنْع من نسخه بِالْقِيَاسِ هُوَ دَلِيل على الْمَنْع من تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ لَوْلَا مَانع منع من ذَلِك وَهُوَ إِجْمَاعهم على تَخْصِيصه بِهِ
دَلِيل آخر وجوب الْعَمَل بِالْقِيَاسِ مَقْطُوع بِهِ لِأَن دَلِيله مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة كَمَا أَن الْعَمَل بِالْعُمُومِ مَقْطُوع بِهِ فهما متساويان فِي هَذِه الْجِهَة وَمِنْهَا يَقع التَّخْصِيص فَيجب إذذ كَانَ أَحدهمَا أخص من الآخر أَن يخص بِهِ الْأَعَمّ كَمَا يخص الْعُمُوم بِدَلِيل خَاص مَقْطُوع بِهِ يبين ذَلِك أَنا نعدل عَن مُقْتَضى الْعقل فِي تَحْلِيل الأنبذة وَغير ذَلِك إِلَى الْقيَاس مَعَ أَن مُقْتَضى الْعقل مَقْطُوع بِهِ فَيجب مثله فِي الْعُمُوم
فان قيل إِنَّمَا نعدل إِلَى الْقيَاس عَن مجوزات الْعُقُول لَا عَن واجباتها وَإِبَاحَة النَّبِيذ من مجوزات الْعُقُول قيل مَا معنى وصفكم لإباحة النَّبِيذ أَنه من مجوزات الْعُقُول فان قَالُوا معنى ذَلِك أَن الْعقل وَإِن أَبَاحَهُ فانه يجوز أَن يخْتَص بِوَجْه مفْسدَة فِي الْمُسْتَقْبل فَيرد الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ قيل لَهُم وكل مَا يعدل إِلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَن مُقْتَضى الْعُقُول هَذِه سَبيله وَهُوَ مَوضِع استدلالنا عَلَيْكُم فان قَالُوا إِنَّمَا جَوَّزنَا اسْتِعْمَال الْقيَاس فِي مُقْتَضى الْعقل لِأَن الْعقل اقْتضى حكمه بِشَرْط أَن لَا ينقلنا عَنهُ دَلِيل سَمْعِي وَالْقِيَاس دَلِيل سَمْعِي فاذا نقلنا عَن مُقْتَضى الْعقل وَجب الِانْتِقَال عَنهُ قيل والعموم أَيْضا إِنَّمَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاق مَا لم يمنعنا دَلِيل سَمْعِي وَالْقِيَاس فِي الْجُمْلَة دَلِيل سَمْعِي عندنَا وعندكم وَاعْلَم أَنا قد بَينا فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد انه لَا يَصح الِاحْتِجَاج باجماع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْآحَاد فِي الْجُمْلَة على قبُولهَا فِي التَّخْصِيص وَأَنه إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج بقبولهم لَهَا فِي التَّخْصِيص لِأَن إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مُفَارقَة للاخرى وَمَا ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ يتَوَجَّه هَا هُنَا فَلَا معنى لإعادته(2/277)
دَلِيل قد خصت الصَّحَابَة الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا خصت آيَة الْجلد واخرجت مِنْهَا العَبْد لأَنهم لم يجلدوه مائَة وَإِنَّمَا خصوه بِالْقِيَاسِ وَلقَائِل أَن يَقُول مَا يؤمنكم أَن يَكُونُوا خصوه من الْآيَة بِدَلِيل غير الْقيَاس وَاسْتغْنى بِالْإِجْمَاع عَن نَقله
دَلِيل قد خصت الصَّحَابَة قَول الله عز وَجل {وَأحل الله البيع} بِقِيَاس الارز على الْبر وَلقَائِل أَن يَقُول لَا سَبِيل لكم إِلَى بَيَان ذَلِك لِأَن كثيرا من الْفُقَهَاء لَا يسلمُونَ أَن الصَّحَابَة اعتقدت تَحْرِيم التَّفَاضُل فِيمَا عدا السِّتَّة فضلا عَن أَن يَكُونُوا محرمين لَهُ قِيَاسا
دَلِيل قد عدلت الصَّحَابَة عَن ظَاهر الْقُرْآن لقياس فَيجب مثله فِي التَّخْصِيص لِأَن التَّخْصِيص عدُول عَن الظَّاهِر وَلقَائِل أَن يَقُول إِن من يُخَالف فِي تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِالْقِيَاسِ لَا يسلم أَن الصَّحَابَة أَجمعت على ترك الظَّاهِر بِالْقِيَاسِ
وَاحْتج الْمُخَالف باشياء
مِنْهَا أَن عُمُوم الْكتاب دَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَالْقِيَاس أَمارَة مظنونة وَلَا يجوز الِاعْتِرَاض بالمظنون على الْمَعْلُوم وَالْجَوَاب عَن ذَلِك قد تقدم فِي بَاب تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد وَرُبمَا تعلق بِهَذِهِ الشُّبْهَة من لَا يُجِيز تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ إِذا لم يدْخلهُ التَّخْصِيص ويجيز تَخْصِيصه إِذا دخله التَّخْصِيص فاذا نوقض بتخصيصه بِالْقِيَاسِ إِذا دخله التَّخْصِيص يَقُول إِن دُخُول التَّخْصِيص يدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ مَعَ الْعُمُوم احملوه على عُمُومه مَا لم يمنعكم مَانع وَيدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قد أشعرنا بِأَنَّهُ معرض للتخصيص فَيُقَال لَهُ لم زعمت أَن تَخْصِيصه يَقْتَضِي حمله على عُمُومه مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع فان قَالَ لِأَن الْعُمُوم من حَقه أَن يجْرِي على عُمُومه إِلَّا لدَلِيل قيل فَهَذَا حكم الْعُمُوم(2/278)
سَوَاء علمنَا دُخُول التَّخْصِيص عَلَيْهِ أَو لم نعلم ذَلِك وَلَيْسَ يقف ذَلِك على دُخُول التَّخْصِيص وَيُقَال لَهُ وَدلَالَة الأمارة على تَخْصِيص الْعُمُوم تدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قَالَ فِي الْعُمُوم إحملوه على عُمُومه إِلَّا أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع وَيُقَال لَهُم لم زعمتم أَن دُخُول التَّخْصِيص فِي الْعُمُوم إِشْعَار بتخصيص زَائِد وَرُبمَا قَالُوا لَو خص الْعُمُوم الَّذِي لم يدْخلهُ التَّخْصِيص لاقترن بِهِ مَا يَخُصُّهُ لِأَن الْبَيَان لَا يتَأَخَّر قيل كَذَلِك يَقُول من لم يجوز تاخير الْبَيَان لِأَنَّهُ يذهب إِلَى أَن مَا دلّ على عِلّة الْقيَاس لم يكن مُتَأَخِّرًا عَن الْعُمُوم ثمَّ يُقَال لَهُ يلزمك مَا ألزمتنا فِي الْعُمُوم إِذا دخله التَّخْصِيص وَقَالُوا أَيْضا إِن مَا دخله التَّخْصِيص يدل على أَن صَاحب الشَّرِيعَة قد قَالَ فِيهِ إِنَّه لَيْسَ المُرَاد بِهِ جَمِيعه فَيكون مُجملا فَجَاز إِعْمَال الْقيَاس فِيهِ وَالْجَوَاب أَن الْعُمُوم إِذا خص تَخْصِيصًا معينا فانه يبْقى الْبَاقِي وَمَعْلُوم دُخُوله تَحت الْعُمُوم وَلَا يكون مُجملا وَإِنَّمَا يكون مُجملا إِذا خص تَخْصِيصًا غير معِين
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس إِنَّمَا يَصح بِالضَّرُورَةِ الداعية إِلَيْهِ وَمَعَ وجود الْعُمُوم فَلَا ضَرُورَة تَدْعُو إِلَيْهِ الْجَواب يُقَال لَهُم اتريدون أَن الضَّرُورَة الداعية إِلَى الْقيَاس زائلة إِذا دخل الحكم تَحت لفظ الْعُمُوم أَو اذا كَانَ الحكم مرَادا بِالْعُمُومِ فان قَالُوا بِالْأولِ كَانَ مَوضِع الْخلاف وَإِن قَالُوا بِالثَّانِي لم يُمكنهُم أَن يبينوا أَن الحكم مُرَاد بِالْعُمُومِ إِلَّا إِذا اثبتوا أَن الْقيَاس لَيْسَ بِحجَّة مَعَ الْعُمُوم فَيصير دليلهم مَبْنِيا على نفس الْمَسْأَلَة فان قَالُوا تنَاول لفظ الْعُمُوم للمسألة يدل على أَنَّهَا مُرَادة بِهِ وَذَلِكَ نعني عَن الْقيَاس قيل إِنَّمَا تعلمُونَ أَن تنَاول لفظ الْعُمُوم لَهَا يدل على انها مُرَادة بِهِ إِذا علمْتُم أَنه لَيْسَ من شَرط دلَالَة الْعُمُوم على ذَلِك أَن لَا يُعَارضهُ قِيَاس وَإِنَّمَا تعلمُونَ ذَلِك إِذا علمْتُم أَن الْقيَاس الْمُخَصّص للْعُمُوم لَيْسَ بِدلَالَة وَهَذَا مَوضِع الْخلاف
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْقيَاس فرع على النَّص فَلَو خص الْقيَاس الْعُمُوم لَكَانَ قد اعْترض بالفرع على الأَصْل الْجَواب إِن قِيَاس الارز على الْبر إِنَّمَا يخص(2/279)
قَول الله عز وَجل {وَأحل الله البيع} وَلَيْسَ هَذِه الْآيَة أصلا لهَذَا الْقيَاس لِأَن أصل الْقيَاس هُوَ إِمَّا مَا يَقع الرَّد إِلَيْهِ كالبر أَو تَحْرِيمه أَو مَا يدل على تَحْرِيمه أَو مَا يدل على صِحَة الْقيَاس كاجماع الصَّحَابَة وَغَيره فاما قَول الله عز وَجل {وَأحل الله البيع} فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي رددنا إِلَيْهِ الارز وَلَا هُوَ الدَّال على صِحَة الْقيَاس فَلم يعْتَرض بالفرع على أَصله
وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ بِمَاذَا تحكم قَالَ بِكِتَاب الله قَالَ فان لم تَجِد قَالَ بِسنة نبيه قَالَ فان لم تَجِد قَالَ أجتهد رَأْيِي فَجعل اجْتِهَاده مَشْرُوطًا بَان لَا يجد الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَنَاوَلهُ عُمُوم الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ مَوْجُود إِمَّا فِي الْكتاب وَإِمَّا فِي السّنة وَقد صَوبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب أَن المُرَاد بذلك إِن لم يجد فِي نَص الْكتاب وَالسّنة الَّذِي يعلم بدليلنا يدل على ذَلِك أَنه قَالَ أحكم بِكِتَاب الله عز وَجل قَالَ فان لم تَجِد قَالَ أحكم بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَا يمْنَع من تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ الْمَعْلُومَة وَلَيْسَ يجوز الْجَواب عَن هَذَا الْخَبَر بَان يُقَال إِن حكم الْقيَاس غير مَوْجُود وَإِن تنَاوله الْعُمُوم وَأَن ذَلِك قد دخل تَحت قَوْله أجتهد رَأْيِي لِأَنَّهُ إِنَّمَا يعلم معَاذ أَن ذَلِك الحكم غير مَوْجُود فِي الْكتاب وان تنَاوله عُمُومه بعد أَن يجْتَهد فَيعلم أَن الْقيَاس قد دلّ على أَن ذَلِك الحكم لم يرد بِالْعُمُومِ وَعند ذَلِك يسْقط عَنهُ الِاجْتِهَاد وَمَعْلُوم أَنه قد جعل اجْتِهَاد رَأْيه مَشْرُوطًا بِنَفْي وجدانه الحكم وَهَذَا التَّأْوِيل يَقْتَضِي أَن نفي وجدانه الحكم فِي الْكتاب مَشْرُوط بتقدم اجْتِهَاد رَأْيه
وَمِنْهَا أَن النّسخ كاتخصيص فِي ان كل وَاحِد مِنْهُمَا يدل على أَن الْمُخَاطب بِالْخِطَابِ لم يرد بِهِ بعض مَا تنَاوله فاذا لم يجز النّسخ بِالْقِيَاسِ فَكَذَلِك التَّخْصِيص وَالْجَوَاب أَن شَيخنَا أَبَا عبد الله يَقُول إِن الْأمة أَجمعت على أَن الْقُرْآن لَا ينْسَخ بِقِيَاس كَمَا أَجمعت الصَّحَابَة على أَنه يخص بِهِ وَلَوْلَا ذَلِك لجوزت نسخ الْقُرْآن بِهِ فالشبهة زائلة عَنهُ فان قيل كَيفَ يجوز أَن نجمع على(2/280)
الْمَنْع مَا اجمعت الصَّحَابَة على جَوَازه قيل إِن الصَّحَابَة لم تنص على جَوَاز نسخ الْقُرْآن بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا أَجمعت على تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يرد التَّعَبُّد بِأَحَدِهِمَا دون الآخر لوجه الْمصلحَة يفترقان فِيهِ لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عز وَجل أَلا ترى أَنه كَانَ يجوز وُرُود النَّص بِالْفرقِ بَين التَّخْصِيص والنسخ بِالْقِيَاسِ وَأجَاب الشَّيْخ أَبُو هَاشم رَحمَه الله بِأَنَّهُ إِنَّمَا لم يجز النّسخ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن ينزل الله عز وَجل نصا وَيجْعَل الْعَمَل بِهِ مَوْقُوفا على اجتهادنا وَإِنَّمَا الْجَائِز صرفه من وَجه إِلَى وَجه بِالِاجْتِهَادِ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن كَون الْعَمَل بِالنَّصِّ مَوْقُوفا على اجتهادنا مَعْنَاهُ أَنا نجوز أَن لَا يعْمل بِهِ أصلا إِذا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَى ذَلِك وَلَيْسَ هَذَا سَبِيل النّسخ من الْمَنْسُوخ قد عمل بِهِ فِي حَال مُتَقَدّمَة فان كَانَ إِخْرَاج بعض الْأَشْخَاص من كَونهم مرادين بِالْخِطَابِ هُوَ صرف للخطاب من جِهَة إِلَى جِهَة وَلَيْسَ هُوَ إيقاف الْخطاب على اجتهادنا فَكَذَلِك إِخْرَاج حكم الْخطاب فِي بعض الْأَزْمَان دون بعض هُوَ صرف الْخطاب من جِهَة إِلَى جِهَة وَأجَاب أَصْحَاب الشَّافِعِي عَن الشُّبْهَة بِأَن النّسخ إِنَّمَا لم يَصح بِالْقِيَاسِ لِأَن كَونه نَاسِخا للنَّص بِخِلَافِهِ وَالْقِيَاس لَا يَصح إِذا دَفعه النَّص فوقوع النّسخ بِهِ وُقُوع بِدَلِيل فَاسد وَهَذَا لَا يَصح لِأَن الْقيَاس إِذا نسخ الْكتاب لم يكن الْكتاب بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يبطل حكمه وَإِنَّمَا يقصر حكمه على بعض الْأَزْمَان كَمَا أَن الْقيَاس إِذا خصّه لم يكن النَّص بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لم يرفعهُ بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا قصره على بعض الْأَشْخَاص
وَمِنْهَا قَوْلهم من شَرط الْقيَاس أَن لَا يردهُ النَّص لِأَن الامة أَجمعت على هَذَا الشَّرْط وَإِذا كَانَ الْعُمُوم بِخِلَاف الْقيَاس فقد رده النَّص الْجَواب يُقَال لَهُم إِن أردتم برد النَّص أَن يكون الْقيَاس دافعا لَهُ أصلا فَكَذَلِك نقُول وَلَيْسَ ذَلِك مَوْجُودا فِي مَسْأَلَتنَا وَإِن أردتم أَن يكون الْقيَاس يُنَافِي بعض مَا اقْتَضَاهُ الْعُمُوم فَلَيْسَ فَسَاد مَا هَذِه سَبيله يجمع بل هُوَ مَوضِع الْخلاف(2/281)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قلب الْعلَّة وَالْقَوْل بموجبها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما قلب الْعلَّة فَهُوَ أَن يعلق الْخصم عَلَيْهَا ضد مَا علقه الْمُعَلل من الحكم فَلَا يكون تَعْلِيق أحد الْحكمَيْنِ أولى من الآخر فَيبْطل تعلقهَا بهما وَذَلِكَ على أضْرب أَحدهمَا أَن يكون الحكمان مفصلين وَالْآخر أَن يَكُونَا مجملين وَالْآخر أَن يكون أَحدهمَا مُجملا وَالْآخر مفصلا أما المفصلان فضربان
أَحدهمَا أَن يتناقضا بأنفسهما حَتَّى يَقُول الْمُعَلل فَوَجَبَ أَن يجوز وَيَقُول الاخر فَوَجَبَ أَن لَا يجوز وَالْآخر لَا يتناقضان بأنفسهما بل بِوَاسِطَة مِثَاله أَن يُعلل الْمُعَلل اسْتِحْقَاق من قتل بِغَيْر السَّيْف للْقصَاص بِأَنَّهُ قتل لَا على وَجه الْقصاص فَأشبه مَا إِذا قتل الْقَاتِل بِالسَّيْفِ فَيَقُول الْخصم فَوَجَبَ أَن لَا يقْتَصّ مِنْهُ بِغَيْر السَّيْف كَمَا إِذا قتل الْقَاتِل بِالسَّيْفِ أما الْقسم الأول فَلَا وجود لَهُ لِأَن الْحكمَيْنِ إِذا تناقضا كذب احدهما واستحال اجْتِمَاعهمَا فِي الأَصْل وَمن حق من قلب الْقيَاس أَن يصدق هُوَ والمعلل فِيمَا يحكمان بِهِ فِي الأَصْل واما الثَّانِي فَلهُ وجود وَهُوَ دَلِيل على فَسَاد الْعلَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بَان تدل الْعلَّة على أحد الْحكمَيْنِ وَلَا تدل على الآخر لِأَن الْإِجْمَاع وَاقع على أحد الْحكمَيْنِ إِذا ثَبت انْتَفَى الآخر بِأولى من الْعَكْس واما إِذا كَانَا مجملين فنحو أَن يَقُول أَحدهمَا فَوَجَبَ أَن يكون من شَرط هَذِه الْعِبَادَة معنى مَا وَيَقُول الآخر فَوَجَبَ أَن لَا يكون من شَرطهَا معنى من الْمعَانِي وَهَذَا كالقسم الأول فِي التَّنَاقُض لِأَن الْحكمَيْنِ وَإِن كَانَا مجملين فهما مفصلان فِي إِثْبَات الشَّرْط ونفيه وَأما إِذا كَانَ أَحدهمَا مُجملا وَالْآخر مفصلا فضربان
أَحدهمَا أَن يكون الْمُجْمل هُوَ حكم التَّسْوِيَة نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل فَوَجَبَ أَن يَسْتَوِي كَذَا مَعَ كَذَا وَتَكون الامة مجمعة على أَن أَحدهمَا على الْحَظْر فَيجب مثله فِي الآخر وَالْآخر لَيْسَ هُوَ قِيَاس التَّسْوِيَة ومثاله تَعْلِيل الِاعْتِكَاف(2/282)
بِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى من الْمعَانِي كالوقوف بِعَرَفَة وَيَقُول الْخصم فَلم يكن من شَرطه الصَّوْم كالوقوف وَهَذَا هُوَ الَّذِي قلبه يفْسد الْعلَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يدل الْعلَّة على أَحدهمَا فَيَنْتَفِي الآخر لمَكَان الْإِجْمَاع بِأولى من الْعَكْس وَهَذَا أولى مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِي كتاب أفردناه فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ فان اعْترض قلب الْعلَّة نقض أَو غَيره من وُجُوه الْفساد بَطل الْقلب وَصَحَّ قِيَاس الْمُعَلل لِأَنَّهُ قد صَار حكمه أولى بِأَن يعلق على الْعلَّة
فَأَما القَوْل بِمُوجب الْعلَّة فَهُوَ أَن يُمكن الْخصم أَن يَقُول بالحكم الَّذِي علقه القائس فَيعلم أَن الْعلَّة مَا دلّت على مَوضِع الْخلاف مِثَاله تَعْلِيل الِاعْتِكَاف بِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه معنى مَا كالوقوف بِعَرَفَة فَيَقُول الْخصم أَنا أَقُول من شَرط الِاعْتِكَاف اقتران معنى مَا وَهُوَ النِّيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تَخْصِيص الْعلَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْعلَّة قد يُوجد مَعْنَاهَا فِي فرع من دون حكمهَا وَقد يُوجد لَفظهَا وَمَعْنَاهَا فِي فرع من دون حكمهَا
فَالْأول هُوَ الْكسر وَذَلِكَ بِأَن ترفع وَصفا من أَوْصَاف الْعلَّة ظنا مِنْك أَنه لَا تَأْثِير لَهُ وَأَن الَّذِي يجوز أَن يُؤثر فِي الحكم هُوَ مَا عداهُ ثمَّ ينْقض مَا عداهُ مِثَاله أَن يُعلل مُعَلل وجوب صَلَاة الْخَوْف بِأَنَّهَا صَلَاة يجب قَضَاؤُهَا كَصَلَاة الْأَمْن فيظن الْمُعْتَرض انه لَا تَأْثِير لكَون الْعِبَادَة صَلَاة فِي هَذَا الحكم وَأَن الَّذِي يظنّ أَنه مُؤثر فِي الْوُجُوب هُوَ وجوب الْقَضَاء ثمَّ ينْقض ذَلِك بِصَوْم الْحَائِض فِي شهر رَمَضَان يجب قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ بِوَاجِب وَيَنْبَغِي للمعلل إِذا أَرَادَ أَن يُجيب عَن ذَلِك أَن يبين أَن لكَون الْعِبَادَة صَلَاة تَأْثِيرا فِي الحكم الْمُعَلل وَأَن الصَّلَاة تخَالف الصّيام فِي هَذَا الْبَاب(2/283)
وَأما الْقسم الثَّانِي فَهُوَ النَّقْض وَقد اخْتلف النَّاس هَل يجوز تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة وَلَا يمْنَع ذَلِك من كَونهَا أَمارَة على الحكم وَلَا يجوز تخصيصها وَيكون تخصيصها مَانِعا من كَونهَا أَمارَة فَأكْثر أَصْحَاب أبي حنيفَة يجيزون تخصيصها وَهُوَ محكي عَن مَالك وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يمْنَعُونَ وَرُبمَا مر فِي كَلَام الشَّافِعِي جَوَازه وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن الشَّافِعِي يُجِيز ذَلِك وَإِنَّمَا يعدل عَن حكم عِلّة إِلَى حكم عِلّة أُخْرَى والمعلوم من مذْهبه أَنه يشْتَرط نفي الْعلَّة الثَّابِتَة فِي الْعلَّة الاولى حَتَّى لَا ينْتَقض غير أَنه لَا يُصَرح بِاشْتِرَاط ذَلِك لِأَنَّهُ مَعْلُوم من مذْهبه الِاشْتِرَاط
أما الْعلَّة الشَّرْعِيَّة المنصوصة فقد اتّفق على جَوَاز تخصيصها من أجَاز تَخْصِيص الشَّرْعِيَّة المستنبطة وَاخْتلف مانعو تَخْصِيص المستنبطة فِي جَوَاز تَخْصِيص المنصوصة الشَّرْعِيَّة فَأَجَازَهُ بَعضهم وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَمنع مِنْهُ آخَرُونَ وَأقوى مَا يحْتَج بِهِ المانعون من تخيص الْعلَّة المستنبطة هُوَ أَن يُقَال معنى قَوْلنَا إِنَّه لَا يجوز تَخْصِيص الْعلَّة هُوَ أَن تخصيصها يمْنَع من كَونهَا أَمارَة وطريقا إِلَى الْوُقُوف على الحكم فِي شَيْء من الْفُرُوع سَوَاء ظن بهَا أَنه وَجه الْمصلحَة أَو لم يظنّ بهَا ذَلِك فاذا بَينا ان تخصيصها يمْنَع من كَونهَا طَرِيقا إِلَى الحكم فقد تمّ مَا اردناه وَبَيَان ذَلِك أَنا إِذا علمنَا أَن عِلّة تَحْرِيم بيع الذَّهَب بِالذَّهَب مُتَفَاضلا هِيَ كَونه مَوْزُونا ثمَّ علمنَا إِبَاحَة بيع الرصاص مُتَفَاضلا مَعَ أَنه مَوْزُون لم يخل إِمَّا أَن نعلم ذَلِك بعلة أُخْرَى تَقْتَضِي إِبَاحَته هِيَ أقوى من عِلّة تَحْرِيم الذَّهَب وَإِمَّا أَن نعلم ذَلِك بِنَصّ فَإِن دلّ على إِبَاحَته عِلّة يُقَاس بهَا الرصاص على أصل مُبَاح نَحْو كَونه أَبيض أَو غير ذَلِك من أَوْصَافه فانا حِينَئِذٍ إِنَّمَا نعلم تَحْرِيم بيع الْحَدِيد مُتَفَاضلا لِأَنَّهُ مَوْزُون غير أَبيض لأَنا لَو شككنا فِي كَونه أَبيض لم نعلم قبح بَيْعه مُتَفَاضلا كَمَا لَا نعلم ذَلِك لَو شككنا فِي كَونه مَوْزُونا فَبَان أَنا لَا نعلم بعد التَّخْصِيص تَحْرِيم شَيْء بِكَوْنِهِ مَوْزُونا فَقَط وَبَطل أَن يكون هَذَا فَقَط عِلّة وَثَبت أَن الْعلَّة كَونه مَوْزُونا مَعَ أَنه غير أَبيض(2/284)
فان قَالَ أَنا أشترطه غير أَنِّي لَا أُسَمِّيهِ جُزْءا من الْعلَّة وَإِن كَانَ التَّحْرِيم لَا يحصل من دونه قيل قد ناقضت فِي هَذَا الْكَلَام لِأَنَّك قد اشترطته فِي التَّحْرِيم وَلم تفصل بَينه وَبَين غَيره من الْأَوْصَاف ثمَّ نقضت ذَلِك بِقَوْلِك لَا أُسَمِّيهِ جُزْءا من الْعلَّة مَعَ أَنَّك قد وَافَقت فِي الْمَعْنى وخالفت فِي الِاسْم وَإِن دلّ على إِبَاحَة بيع الرصاص نَص وَكُنَّا قد علمنَا إِبَاحَته فَالْقَوْل فِي ذَلِك قد تقدم من أَن نشترط نفي عِلّة الْإِبَاحَة فِي عِلّة الْحَظْر وَإِن لم نعلم عِلّة إِبَاحَته فمعلوم أَن عِلّة ذَلِك مَقْصُورَة على الرصاص لَا يتخطأه لِأَنَّهَا لَو تخطئه لوَجَبَ فِي الْحِكْمَة أَن ينصب الله عَلَيْهَا دلَالَة ليعلم ثُبُوت حكمهَا فِيمَا عدا الرصاص وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم نعلم قبح بيع الْحَدِيد مُتَفَاضلا وَلَا غَيره إِلَّا إِذا علمناه مَوْزُونا لَيْسَ بِرَصَاصٍ لِأَنَّهُ لَو شككنا فِي كَونه رصاصا لم نعلم قبح بَيْعه مُتَفَاضلا وَكَذَا القَوْل فِي الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ لأَنا إِنَّمَا نعلم حسن قتل زيد الْمُشرك بقول الله عز وَجل {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَإِن ذَلِك تنَاوله اللَّفْظ مَعَ أَنه لَا دَلِيل يخصصه وَهَذَا لَا يُمكن تَخْصِيصه وَالَّذِي يبين مَا قُلْنَاهُ من اشْتِرَاط نفي الْمُخَصّص أَن الْإِنْسَان لَو اسْتدلَّ على طَرِيقه فِي بَريَّة بأميال مَنْصُوبَة ثمَّ رأى ميلًا لَا يدل على طَرِيقه وَعلم أَنه لَا يدل على طَرِيقه لِأَنَّهُ أسود فانه لَا يسْتَدلّ فِيمَا بعد على طَرِيقه بِوُجُود ميل دون أَن يعلم أَنه غير أسود لِأَنَّهُ لَو شكّ فِي سوَاده لم يسْتَدلّ بِهِ على طَرِيقه فقد صَحَّ مَا اردناه وَالْعلَّة المنصوصة فِي ذَلِك كالمستنبطة
وَقد احْتج فِي الْمَسْأَلَة بأَشْيَاء أخر
مِنْهَا أَنه لَا طَرِيق إِلَى صِحَة الْعلَّة الشَّرْعِيَّة المستنبطة إِلَّا جريانها فِي معلولاتها فاذا لم تجر فِيهَا لم يكن إِلَى صِحَّتهَا طَرِيق وَلَو كَانَت صَحِيحَة لوَجَبَ فِي الْحِكْمَة نصب طَرِيق إِلَيْهَا وَهَذَا بَاطِل لما بَيناهُ من أَن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها لَيْسَ بطرِيق إِلَى صِحَّتهَا فضلا أَن يُقَال إِنَّه لَيْسَ إِلَيْهَا طَرِيق سواهُ(2/285)
فَلم يجب بطلَان الْعلَّة إِذا لم تجر فِي معلولها
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة قد دلّ الدَّلِيل على تعلق الحكم بهَا فَلم يجز تخصيصها كالعلة الْعَقْلِيَّة وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم زعمتم أَن الْعَقْلِيَّة إِنَّمَا لم يجز تخصيصها لِأَن الدّلَالَة دلّت على تعلق الحكم بهَا وَمَا أنكرتم أَن الَّذِي لَهُ لم يجز تخصيصها هُوَ كَونهَا مُوجبَة وَالْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة فالأمارات قد يتبعهَا حكمهَا وَقد لَا يتبعهَا فان قَالُوا ألستم تجوزون كَون بعض الْعِلَل الشَّرْعِيَّة وَجه الْمصلحَة ووجوه الْمصَالح مُوجبَات ايضا فَلم يجز إِذا تخصيصها قيل إِن ثَبت ذَلِك فِي بعض الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فَأَنا نظن كَونهَا وَجه مصلحَة فَهِيَ من هَذِه الْجِهَة أَمارَة أَيْضا والأمارات المظنونة لَا يجب أَن لَا تخطيء أبدا فان قَالُوا الْعلَّة الْمَانِعَة من تَخْصِيص الْعَقْلِيَّة هُوَ وجوب تبع حكمهَا لَهَا اينما حصلت مَا لم يمْنَع من ذَلِك مَانع فَلذَلِك لم يجز ان يمْنَع مَانع من حكمهَا وَكَانَ وجوب تبع الحكم لَهَا من غير مَانع هُوَ الَّذِي لأَجله لم يجز أَن يمْنَع مَانع من حكمهَا قيل لم زعمتم أَن الْعلَّة مَا ذكرْتُمْ وَلم إِذا وَجب تبع الحكم لَهَا مَا لم يمْنَع مَانع لم يجز أَن يمْنَع مَانع من تَعْلِيق الحكم بهَا فِي بعض الْمَوَاضِع ثمَّ يبطل ذَلِك عَلَيْهِم بِالْعِلَّةِ المنصوصة على قَول من أجَاز تخصيصها وَيبْطل بِالْعُمُومِ لِأَنَّهُ يجب شُمُوله مَا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع وَلَا يَسْتَحِيل أَن يمْنَع مَانع من شُمُوله
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة مَعَ الشَّرْع كالعقلية مَعَ الْعقل فَكَمَا لم يجز تَخْصِيص هَذِه الْعلَّة لم يجز تَخْصِيص تِلْكَ وَلقَائِل أَن يَقُول إِن عنيتم أَنَّهَا مَعَ الشَّرْع كالعقلية مَعَ الْعقل من حَيْثُ دلّ الدَّلِيل على تعلق الحكم بهَا فَهُوَ الدَّلِيل الْمُتَقَدّم وَإِن عنيتم أَنَّهَا مَعَ الشَّرْع كالعقلية مَعَ الْعقل فِي الْمَنْع من تخصيصها فقد جمعتم بَينهمَا بِغَيْر عِلّة
وَمِنْهَا أَن الأمارة الدَّالَّة على الْعلَّة هِيَ طريقها وَالطَّرِيق إِلَى الاعتقادات والظنون لَا يخْتَلف فِي الشَّخْص الْوَاحِد بل إِذا كَانَ طَرِيقا إِلَى الظَّن شَيْء أَو اعْتِقَاده وَوجد فِي شَيْء آخر كَانَ طَرِيقا إِلَى اعْتِقَاده أَو ظَنّه فَيجب أَن يكون(2/286)
الأمارة طَرِيقا إِلَى ظن الْوَصْف عِلّة فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ وَلقَائِل أَن يَقُول الأمارة لَيست دَالَّة على أَن الْعلَّة فِي الْفُرُوع فَيلْزم الْإِنْسَان أَن يعْتَقد كَونهَا عِلّة فِي كل تِلْكَ الْفُرُوع وَإِنَّمَا هِيَ دَالَّة على أَنَّهَا عِلّة الأَصْل وَإِنَّمَا يعلم أَنه لَا يجوز تخصيصها بِنَظَر آخر وَهُوَ مَوضِع الْخلاف وَمِنْهَا أَن الْعلَّة طَرِيق إِلَى إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع لأَنا إِذا علمنَا أَن الْوَصْف عِلّة الأَصْل وَدلّ الدَّلِيل على التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فان الْوَصْف يكون طَرِيقا إِلَى إِثْبَات الحكم فِي الْفَرْع فاذا اخْتصَّ هَذَا الطَّرِيق بفرعين لم يجز كَونه طَرِيقا إِلَى الْعلم بِحكم أَحدهمَا وَلَا يكون طَرِيقا إِلَى الْعلم بِحكم الآخر لِأَن طَرِيق الْعلم بالشَّيْء أَو الظَّن لَهُ لَا يجوز حُصُوله فِي اشياء فَيكون طَرِيقا إِلَى الْعلم أَو الظَّن بِأَحَدِهِمَا وَلَا يكون طَرِيقا إِلَى ذَلِك فِي الآخر سِيمَا وَمَا ذَكرْنَاهُ طَرِيق إِلَى الْعلم بِحكم الْفَرْع وَلَيْسَ بطرِيق إِلَى الظَّن وَإِنَّمَا الطَّرِيق إِلَى الظَّن مَا ذَكرْنَاهُ من الأمارة لِأَنَّهُ طَرِيق إِلَى كَون الْوَصْف عِلّة للْحكم وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الحكم فِي الطّرق لَا يخْتَلف لِأَن هَذِه سَبِيل الْأَدِلَّة والإدراك فِي كَونهمَا طَرِيقين إِلَى الْعلم فان قيل إِنَّمَا وَجب ذَلِك فِيمَا ذكرْتُمْ لِأَنَّهُ طرف مُوجب قيل الْإِدْرَاك لَيْسَ بِمُوجب للْعلم فقد استمرت هَذِه الْقَضِيَّة فِيهِ فان قيل الْعلَّة فِي اسْتِمْرَار الْأَدِلَّة والإدراك فِيمَا ذكرْتُمْ أَنه لَيْسَ للأمارات فِيهَا مدْخل وَلَيْسَ كَذَلِك الحكم بِالْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّة قيل إِن مَا ذَكرْنَاهُ لَا يخْتَلف بِحَسب الأمارات لِأَن من ظن أَن زيدا فِي الدَّار بِخَبَر رجل بعيد من الْكَذِب فانه لَا يجوز أَن يُخبرهُ عَن كَون عَمْرو فِي الدَّار فَلَا يَظُنّهُ صَادِقا فاذا وَجب ذَلِك فِي الأمارات المفردة فَالَّذِي يقْتَرن بهَا أَدِلَّة قَاطِعَة أولى بذلك وَلقَائِل أَن يَقُول لَيْسَ الْعلَّة فِي الْعلَّة والإدراك أَنَّهُمَا طَرِيقَانِ بل لِأَن الْأَدِلَّة إِمَّا أَن كَون مُوجبَة كدلالة كَون الْحَيّ حَيا على كَونه مدْركا وَإِمَّا أَن تكون لَوْلَا الْمَدْلُول مَا كَانَت الدّلَالَة على كل حَال كدلالة صِحَة الْفِعْل على كَون فَاعله قَادِرًا وَلَيْسَ كَذَلِك الأمارة لِأَنَّهَا غير مُوجبَة وَلَيْسَت لَوْلَا الْمَدْلُول مَا كَانَت الأمارة على كل حَال وَأما كَون الْمدْرك مدْركا فَعِنْدَ اصحابنا يجب عِنْده الْعلم بالمدرك فَهُوَ كالموجب وَالصَّحِيح أَن كَون الْمدْرك مدْركا يُوجب(2/287)
كَونه عَالما بالمدرك وَله أَن يَقُول إِذا جَازَ أَن تخْتَلف الْأَدِلَّة والأمارات فِي الشخصين فَهَلا جَازَ اخْتِلَافهمَا فِي الشَّخْص الْوَاحِد فانكم لَا تجيزون أَن يسْتَدلّ الِاثْنَان بِالدّلَالَةِ اسْتِدْلَالا صَحِيحا فَيعلم أَحدهمَا مدلولها دون الاخر وَلَا أَن يسْتَدلّ الْوَاحِد بِالدّلَالَةِ على مَدْلُول فِي موضِعين فَيعلم ثُبُوته فِي أَحدهمَا دون الآخر وتجيزون أَن ينظر الِاثْنَان فِي الأمارة نظرا وَاحِدًا فيظن أَحدهمَا حكمهَا دون الآخر فَيعلم حكمهَا فِي أحد الشَّيْئَيْنِ دون الآخر وَيُفَارق الْأَدِلَّة فِي ذَلِك كَمَا فَارقهَا فِي الناظرين وَيَقُول ايضا على استدلالهم بالْخبر إِن من أخبرهُ زيد بِأَن عمرا فِي الدَّار فانه لَو قيل لَهُ لم ظَنَنْت أَن عمرا فِي الدَّار لقَالَ إِن زيدا أخبر بذلك وَهُوَ بعيد من الْكَذِب وَمَعَ ذَلِك قد يُخبرهُ بِأَن خَالِدا فِي الدَّار فَلَا يظنّ ذَلِك إِذا أخبرهُ من هُوَ أبعد من الْكَذِب مِنْهُ أَنه فِي ذَلِك الْوَقْت فِي السُّوق أَو ظن كَونه فِي السُّوق بأمارة أُخْرَى وَلَا يخرج إِخْبَار زيد على كَونه أَمارَة على أَن عمرا فِي الدَّار لِأَن الأمارة لَا تخرج عَن كَونهَا أَمارَة إِذا أَخْطَأت فِي مَوضِع آخر فَكَذَلِك لَا تخرج الْعلَّة من كَونهَا أَمارَة وَإِن تخلف عَنْهَا حكمهَا
وَمِنْهَا لَو جَازَ وجود الْعلَّة فِي فرع وَلَا يتبعهَا فِيهَا حكمهَا لم يكن بعض الْفُرُوع بذلك أولى من بعض فَكَانَ يجب أَن نحتاج فِي تعلق الحكم عَلَيْهَا فِي كل فرع إِلَى دلَالَة لِأَن كَونهَا عِلّة لَيْسَ يَقْتَضِي تَعْلِيق الحكم بهَا فِي كل مَوضِع إِن قيل أَلَيْسَ يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم وَلم يُخرجهُ ذَلِك من كَونه دلَالَة قيل إِن التَّخْصِيص لَيْسَ يدْخل الْعُمُوم من الْوَجْه الَّذِي كَانَ مِنْهُ دلَالَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدل لأجل صيغته بِشَرْط انْتِفَاء الْقَرَائِن وصدره عَن حَكِيم وَلَيْسَ يجوز اجْتِمَاع ذَلِك كُله وَلَا يدل فَلم توجودنا دلَالَة حصلت فِي مَوضِع وَلم تدل وَلم ينْقض ذَلِك كَونهَا دلَالَة وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة عنْدكُمْ لأنكم جعلتموها أَمارَة وخصصتموها مَعَ ذَلِك وَلقَائِل أَن يَقُول قَوْلكُم لَيْسَ بعض الْفُرُوع بِأَن لَا يُوجد فِيهِ حكمهَا اولى من بعض بَاطِل لِأَن بَعْضهَا أولى من بعض لِأَن(2/288)
الْفَرْع الْمُخْتَص بِمَا يمْنَع من حكم الْعلَّة أولى بِأَن لَا يُوجد فِيهِ حكم الْعلَّة من فرع لم يُوجد فِيهِ مَا يمْنَع من حكم الْعلَّة وَذَلِكَ أَن الْعلَّة أَمارَة والأمارة يتبعهَا حكمهَا على الْأَكْثَر وَلذَلِك كَانَت طَرِيقا إِلَى الظَّن وَالْأَصْل فِيهَا أَن يتبعهَا حكمهَا إِلَّا لمَانع فان وجدت فِي مَوضِع وَكَانَ حكمهَا لَا يتبعهَا وَالْحكمَة تَقْتَضِي أَن يدل الله عز وَجل على ذَلِك فاذا لم يدلنا عَلَيْهِ فَلَا مَانع من تَعْلِيق الحكم بهَا
وَمِنْهَا قَوْلهم وجود الْعلَّة مَعَ عدم حكمهَا يدل على أَن الْمُعَلل مَا استوفى شُرُوط الْعلَّة وَالْعلَّة إِذا لم تستوف شُرُوطهَا كَانَت بَاطِلَة الْجَواب يُقَال لَهُم وَلم زعمتم أَن تخلف حكمهَا عَنْهَا يدل على أَن الْمُعَلل مَا استوفى شُرُوط الْعلَّة وَلَا بُد من أَن يَقُولُوا لَو استوفى شُرُوطهَا لم يتَخَلَّف عَنْهَا حكمهَا فَيُقَال لَهُم هَذَا مَوضِع الْخلاف وَيبْطل ذَلِك بِالْعِلَّةِ المنصوصة إِذا لم يُقرر بهَا التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ وَيبْطل على بَعضهم بتخصيص الْعلَّة المنصوصة مَعَ وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن وجود الْعلَّة مَعَ عدم حكمهَا مناقضة وَهُوَ من آكِد مَا يفْسد بِهِ الْعلَّة وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم مَا معنى قَوْلكُم مناقضة فان قَالُوا المناقضة هِيَ الْإِقْرَار بِوُجُود الْعلَّة من دون حكمهَا من غير دَلِيل منع من حكمهَا قيل هَذَا لَا يدل على فَسَاد الْعلَّة وَإِنَّمَا يدل على أَن الْمُعَلل قد أَخطَأ حِين لم يتبعهَا حكمهَا فان قَالُوا المناقضة هِيَ الْإِقْرَار بِوُجُود الْعلَّة من دون حكمهَا وَإِن دلّ الدَّلِيل على انْتِفَاء حكمهَا قيل لَهُم مخالفكم لَا يسلم أَن ذَلِك مناقضة وَيَقُول إِن سميتم أَن ذَلِك مناقضة فَلم زعمتم أَنه يفْسد الْعلَّة فان قَالُوا إِنَّمَا قُلْنَا إِن ذَلِك مناقضة تفْسد الْعلَّة لِأَن الْعُقَلَاء يعدونه مناقضة مفْسدَة حَتَّى الْعَوام مِنْهُم لِأَن قَائِلا لَو قَالَ سامحت فلَانا لِأَنَّهُ بَصرِي ثمَّ لم يسامح غَيره من الْبَصرِيين لقَالَ لَهُ الْعَوام والخواص زعمت أَنَّك سامحت فلَانا لِأَنَّهُ بَصرِي فَهَذَا بَصرِي قيل إِن هَذَا الْإِنْسَان لَو اعتذر بِأَنَّهُ لم يسامح فلَانا وَإِن(2/289)
كَانَ بصريا لِأَنَّهُ عدوه لم يُمكن أَن يدعى على جَمِيع النَّاس أَنهم يذمونه ويلزمونه اشْتِرَاط نفي الْعَدَاوَة فِي علته الأولى وَإِن ادعوا ذَلِك على جَمِيع الْعُقَلَاء فمخالفوهم من الْعُقَلَاء وَلَا يلزمون الْمُعَلل ذَلِك فان قَالُوا لَو لم تفْسد الْعلَّة بتخصيصها لم تفْسد بمعارضة نَص لَهَا قيل لَهُم إِن أردتم أَن النَّص عارضها فِي بعض فروعها فَهَذَا هُوَ التَّخْصِيص الَّذِي لَا تفْسد الْعلَّة بِهِ عِنْد خصومكم وَإِن اردتم أَن النَّص يمْنَع من حكمهَا فِي جَمِيع فروعها فَمن أجَاز الْعلَّة القاصرة لَا يمْنَع من كَونهَا عِلّة فِي الأَصْل فَقَط وَمن لم يجز ذَلِك يفْسد الْعلَّة من حَيْثُ كَانَت قَاصِرَة خَارِجَة عَن كَونهَا أَمارَة فِي كل الْمَوَاضِع وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تخلف عَنْهَا حكمهَا فِي بعض فروعها لمَانع لِأَن ذَلِك لَا يمْنَع من كَونهَا أَمارَة على أَن هَذِه الشُّبْهَة تبطل بِالنَّصِّ على الْعلَّة إِذا لم يرد مَعَه التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ على قَول من لم يجز الْقيَاس بهَا لِأَن حكمهَا يَنْتَفِي عَنْهَا فِي الْفُرُوع كلهَا وَلَيْسَ ذَلِك مناقضة وَلَا يجْرِي مجْرى مُعَارضَة النَّص بعلة وَيبْطل الْعلَّة المنصوصة مَعَ وُرُود التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْعلَّة مَعَ كل فرع تجْرِي مجْرى النَّص على فرع وَاحِد فَكَمَا لم يجز تَخْصِيص النَّص على فرع وَاحِد فَكَذَلِك الْعلَّة الْجَواب إِن النَّص المتناول لعين وَاحِدَة لَا يُمكن تَخْصِيصه لِأَنَّهُ غير متناول الْأَشْيَاء فَيخرج بَعْضهَا وَلَيْسَ كَذَلِك الْعلَّة الشائعة فِي فروع كَثِيرَة لِأَنَّهَا تتَنَاوَل أَشْيَاء فَهِيَ كالعموم فَجَاز أَن تدل دلَالَة على إِخْرَاج بعض تِلْكَ الْأَشْيَاء من حكمهَا وَيبْطل ذَلِك بِالْعِلَّةِ المنصوصة على قَول من أجَاز تخصيصها
وَاحْتج من أجَاز تَخْصِيص الْعلَّة بأَشْيَاء
مِنْهَا أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة فَجَاز وجودهَا فِي مَوضِع وَلَا حكم كَمَا جَازَ وجودهَا قبل الشَّرْع وَلَيْسَ مَعهَا ذَلِك الحكم وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم إِذا جَازَ قبل كَونهَا أَمارَة أَن يُوجد من دون حكمهَا جَازَ تخصيصها بعد كَونهَا أَمارَة وَمَا تنكرون أَن تكون لما صَارَت أَمارَة صَارَت طَرِيقا إِلَى الحكم وَلَيْسَ(2/290)
كَذَلِك قبل كَونهَا أَمارَة أَلا ترى أَنَّهَا قبل الشَّرِيعَة لم يتَعَلَّق بهَا حكم وَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق بهَا حكم أصلا بعد كَونهَا أَمارَة على أَن ذَلِك يبطل على قَول الشَّيْخ أبي عبد الله رَحمَه الله بِالْعِلَّةِ فِي التّرْك لِأَنَّهُ قد أجَاز وجودهَا قبل الشَّرِيعَة من دون حكمهَا وَلم يجز تخصيصها بعد كَونهَا أَمارَة
وَمِنْهَا أَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة على الحكم بِجعْل جَاعل فَجَاز أَن نَجْعَلهَا أَمارَة فِي مَكَان دون مَكَان كَمَا أَن خبر الْوَاحِد لما كَانَ أَمارَة جَازَ أَن يَجْعَل أَمارَة مَعَ عدم نَص الْقُرْآن وَلَا يَجْعَل أَمارَة مَعَ أَن نَص الْقُرْآن بِخِلَافِهِ الْجَواب إِن الْعلَّة لَا تكون أَمارَة على الحكم بِجعْل جَاعل لأننا إِن جعلناها وَجه الْمصلحَة فوجوه الْمصَالح لَا تكون كَذَلِك بِجعْل جَاعل وَكَذَلِكَ جَمِيع وُجُوه الْقبْح وَالْحسن أَلا ترى أَن كَون الْفِعْل ردا للوديعة لَا يكون وَجها فِي حسنه بِجعْل جَاعل وَإِن جعلناها أَمارَة تُوجد مَعَ وَجه الْمصلحَة فكونها كَذَلِك لَيْسَ بِجعْل جَاعل بل هِيَ كَذَلِك شَاءَ الْجَاعِل ذَلِك أَو لم يشأه فَإِن وجدت الأمارة مَعَ وَجه الْمصلحَة فِي مَوضِع دون مَوضِع وعرفنا ذَلِك فَلَا بُد من أَن نشترط انْتِفَاء الْموضع الَّذِي يُوجد الْعلَّة فِيهِ من دون وَجه الْمصلحَة حَتَّى يَصح أَن تكون طَرِيقا وَلِهَذَا نقُول إِن خبر الْوَاحِد أَمارَة وَطَرِيق إِلَى حكم بِشَرْط أَن لَا يُعَارض كتابا وَلَا خَبرا متواترا أَو إِجْمَاعًا
وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّه إِذا كَانَ الْمَانِع عِنْد خصومنا من تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة أَن ذَلِك يمْنَع من جريانها فِي معلولها وَهُوَ طَرِيق صِحَّتهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ طَرِيق صِحَّتهَا فالعلة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا إِذا لَا يمْتَنع تخصيصها لِأَن ذَلِك لَا ينْقض طَرِيق صِحَّتهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ طَرِيق صِحَّتهَا هُوَ الجريان فِي معلولها وَإِذا صَحَّ تَخْصِيص الْعلَّة المنصوصة علمنَا أَن ذَلِك إِنَّمَا لم يمْنَع مِنْهَا لكَونهَا عِلّة شَرْعِيَّة وأمارة فَجَاز مثله فِي المستنبطة لِأَن مَا يجوز ويستحيل على الشَّيْء لَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف طَرِيقه الْجَواب إِن من منع من تَخْصِيص الْعلَّة المنصوصة لَهُ أَن يَقُول إِنَّمَا أمنع من تَخْصِيص المستنبطة بِغَيْر الجريان بل بِمَا ذكرته من كَون(2/291)
ذَلِك طَرِيقا إِلَى الحكم إِلَى غير ذَلِك من الْوُجُوه لَا أستدل بالجريان أصلا وَاسْتدلَّ بِهِ على الْمَنْع من تَخْصِيص الْعلَّة المستنبطة فَقَط وَأما المنصوصة فاذا كَانَ طَرِيق صِحَّتهَا غير الجريان جَازَ أَن يمْنَع من تخصيصها بِوَجْه آخر وَمن يُجِيز تَخْصِيص الْعلَّة المنصوصة لَهُ أَن يفرق بَينهَا وَبَين المستنبطة بِمَا قد بني عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ دَلِيله وَهُوَ أَن طَرِيق صِحَة المستنبطة الجريان والتحصيص يبطل ذَلِك وَلَيْسَ طَرِيق صِحَة المنصوصة الجريان فيبطله التَّخْصِيص وَقَوْلهمْ إِن مَا يَسْتَحِيل وَيجوز على الشَّيْء لَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف طَرِيقه فَبَاطِل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مَا يَسْتَحِيل على الشَّيْء إِنَّمَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ لما يرجع إِلَى طرْقَة جَازَ أَن تخْتَلف استحالته إِذا اخْتلفت الطّرق واستحالة تَخْصِيص الْعلَّة إِنَّمَا كَانَ لأجل بطلَان طريقها فالعلة الَّتِي طريقها نَص لَا يُفْسِدهَا نَص تخصيصها فَلَا يَسْتَحِيل التَّخْصِيص عَلَيْهَا
وَمِنْهَا وَهُوَ وَجه قوي يُمكن أَن يحتجوا بِهِ فيقولوا إِن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة أَمارَة فوجودها فِي بعض الْمَوَاضِع من دون حكمهَا لَا يُخرجهَا من كَونهَا امارة لِأَن الأمارة لَيْسَ يجب وجود حكمهَا مَعهَا على كل حَال وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَن يكون الْغَالِب مُوَاصلَة حكمهَا لَهَا وَلَيْسَ يبطل هَذَا الْغَالِب بتخلف حكمهَا عَنْهَا فِي بعض الْمَوَاضِع فَبَطل قَول من قَالَ إِن تخصيصها يُخرجهَا من كَونهَا أَمارَة وَعلة يبين ذَلِك ان وقُوف مركوب القَاضِي على بَاب الْأَمِير أَمارَة لكَونه فِي دَار الْأَمِير وَلَا يُخرجهُ عَن كَونه أَمارَة على ذَلِك أَن لَا نشاهد القَاضِي فِي بعض الْحَالَات فِي دَار الْأَمِير أَو نرى مركوبه عَليّ بَاب الْأَمِير مَعَ غُلَام غَيره فنظن أَنه قد استعاره غَيره أَلا ترى أَنا إِذا رَأينَا مركوبه على بَاب الْأَمِير مرّة أُخْرَى ظننا كَون القَاضِي فِي دَار الْأَمِير إِذا كَانَ الْأَغْلَب أَنه هُوَ الَّذِي يركب ذَلِك المركوب وَكَذَلِكَ وجود الْغَيْم الرطب فِي الشتَاء من دون مطر لَا يخرج الْغَيْم من كَونه أَمارَة على نزُول الْمَطَر الْجَواب إِنَّا لَا نمْنَع أَن تُوجد الأمارة فِي بعض الْمَوَاضِع لَعَلَّه من الْعِلَل شرطنا فِي كَونهَا أَمارَة انْتِفَاء تِلْكَ الْعلَّة أَو انْتِفَاء الْموضع الَّذِي لم يُوجد فِيهِ حكمهَا وَلَا يكون طَرِيقا إِلَى الحكم(2/292)
إِلَّا إِذا علمنَا انْتِفَاء مَا شرطنا انتفاؤه يبين ذَلِك أَنه إِذا لم يكن القَاضِي فِي دَار الْأَمِير وَإِن كَانَ مركوبه بِبَابِهِ إِذا كَانَ مَعَ غُلَام غَيره فانا لَا يمكننا أَن نظن كَون القَاضِي فِي دَار الْأَمِير إِذا شاهدنا مركوبه على بَابه إِلَّا بِأَن نعلم أَو نظن أَنه لَيْسَ غُلَام غَيره مَعَه أَلا ترى أَنا لَو ظننا غُلَام غَيره مَعَه لم نظن كَون القَاضِي فِي الدَّار وَلَو رَأينَا مركوبه على بَاب الْأَمِير ونظرنا فِي الدَّار وَلم نشاهده فِيهَا فانا نظن فِيمَا بعد أَنه فِي الدَّار إِذا شاهدنا مركوبه على الْبَاب وَعلمنَا أننا لم نشاهد دَاخل الدَّار فَلم نشاهده فِيهَا وَالله أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب مناقضة الْعلَّة وَمَا يحترس بِهِ من النَّقْض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن نقض الْعلَّة هُوَ أَن تُوجد فِي مَوضِع من دون حكمهَا وَحكمهَا ضَرْبَان مُجمل ومفصل والمجمل ضَرْبَان إِثْبَات وَنفي فالإثبات الْمُجْمل لَا ينْقض بِنَفْي مفصل وَالنَّفْي الْمُجْمل ينْقض باثبات مفصل مِثَال الأول أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي فَيَقُول لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَثَبت بَينهمَا قصاص كالمسلمين فينقض بِهِ إِذا قَتله خطأ وَذَلِكَ ان نفي الْقصاص بَينهمَا فِي الْخَطَأ لَا يمْنَع من صدق القَوْل بِأَن بَينهمَا قصاصا وَإِذا صدق القَوْل بذلك علم أَن ثُبُوت الْقصاص بَينهمَا لم يرْتَفع فَلم ينتف حكم الْعلَّة وَمِثَال الثَّانِي أَن يَقُول الْمُعَلل لِأَنَّهُمَا مكلفان فَلم يثبت بَينهمَا قصاص فاذا نوقض بِالْمُسْلِمين ثَبت بَينهمَا قصاص فِي قتل الْعمد انتقضت الْعلَّة لِأَن ثُبُوت الْقصاص بَين الشخصين فِي مَوضِع من الْمَوَاضِع لَا يصدق مَعَه القَوْل بانه لَا قصاص بَينهمَا على الْإِطْلَاق
وَأما الحكم الْمفصل فإمَّا أَن يكون إِثْبَاتًا وَإِمَّا نفيا فالإثبات ينْقض بِالنَّفْيِ الْمُجْمل مِثَاله أَن يَقُول الْمُعَلل فَوَجَبَ أَن يثبت بَينهمَا جَمِيعًا قصاص فِي قتل الْعمد وَذَلِكَ ينْتَقض بِالْحرِّ وَالْعَبْد إِذا قتل العَبْد لِأَنَّهُ لَا يثبت بَينهمَا قصاص لِأَن انْتِفَاء الْقصاص على الْإِطْلَاق يزِيل ثُبُوت الْقصاص فِي بعض(2/293)
الْمَوَاضِع واما النَّفْي الْمفصل فانه لَا ينْقض باثبات مُجمل لِأَن قَول الْمُعَلل فَلم يثبت بَينهمَا قصاص فِي قتل الْخَطَأ لَا ينْتَقض بِثُبُوت الْقصاص بَين الْمُسلمين لِأَن ثُبُوت الْقصاص ينهما فِي الْجُمْلَة لَا يمْنَع من انتفائه عَنْهُمَا فِي بعض الْمَوَاضِع
وَقد يحترس من النَّقْض بِوُجُوه مِنْهَا الاحتراس بِالْأَصْلِ وَمِنْهَا الاحتراس بِشَرْط يذكر فِي حكم الْعلَّة وَمِنْهَا الاحتراس بِحَذْف الحكم والاقتصار على الشّبَه بِالْأَصْلِ
مِثَال الاحتراس بِالْأَصْلِ أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي بِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَقتل احدهما بِالْآخرِ قِيَاسا على الْمُسلمين فاذا نوقض بقتل الْخَطَأ قَالَ أَنا رددت الْفَرْع إِلَى الْمُسلم وانا أَقُول فِي الْفَرْع مثل مَا قلته فِي الأَصْل وَأَنا اوجب الْقصاص فِي الأَصْل فِي الْعمد دون الْخَطَأ وَهَذَا الاحتراس غير صَحِيح لِأَن الحكم هُوَ مَا يلفظ بِهِ الْمُعَلل دون مَا أضمره وَهُوَ إِنَّمَا صرح باشتباه الشخصين فِي الْقَتْل لَا غير وَلم يشْتَرط فِيهِ شرطا آخر وَلَيْسَ رد الْفَرْع إِلَى الأَصْل بِمُوجب استوائهما فِي كل حكم على كل وَجه لِأَنَّهُ لم يُصَرح بذلك
وَأما الاحتراس بِشَرْط مَذْكُور فِي الحكم فمثاله أَن يَقُول الْمُعَلل لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَوَجَبَ أَن يثبت بَينهمَا قصاص إِذا قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الاحتراس فِي الحكم هُوَ إِقْرَار بانتقاض الْعلَّة وَذَلِكَ أَن الْمُعَلل قد حكم بِأَن الْعلَّة هِيَ كَونهمَا حُرَّيْنِ مكلفين محقوني الدَّم فَقَط وَأَنه لَا يدْخل فِي الْعلَّة غير ذَلِك فاذا قَالَ إِن هَذَا يُوجب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ مَعَ وجود هَذِه الْأَوْصَاف فقد أقرّ بِأَن الْعلَّة تُوجد فِي موضِعين ويتبعهما حكمهَا فِي أَحدهمَا دون الآخر فان قيل لَا يمْنَع أَن تكون الْحُرِّيَّة وَالْعقل وحقن الدَّم إِنَّمَا تُؤثر فِي إِيجَاب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ قيل إِن كَانَ ذَلِك يُؤثر فِي اُحْدُ الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر لِمَعْنى اخْتصَّ بِهِ أَحدهمَا فَيَنْبَغِي أَن يذكر ذَلِك الْمَعْنى فِي جملَة الْعلَّة لِأَن لَهُ تَأْثِيرا فِي إِيجَاب الْقصاص وَإِن كَانَت الْأَوْصَاف تُؤثر فِي الحكم فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر(2/294)
لَا لأمر افترق فِيهِ الموضعان فقد أقررتم أَن الْعلَّة تَقْتَضِي الحكم فِي مَوضِع دون مَوضِع وَإِن كَانَت مَوْجُودَة فيهمَا على سَوَاء وَلنَا أَن نجيب عَن هَذَا الْكَلَام ونقول إِن الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الحكم هُوَ مُتَأَخّر فِي اللَّفْظ مُتَقَدم فِي الْمَعْنى لِأَن معنى الْقيَاس لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا فَثَبت بَينهمَا الْقصاص وَذَلِكَ أَن قتل الْعمد لَهُ تَأْثِير فِي الْقصاص وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه وَإِن كَانَ ذكر فِي الحكم فَهُوَ مَذْكُور على أَنه من جملَة الْعلَّة
وَأما الإحتراس بِحَذْف الحكم فَهُوَ أَن يذكر الْمُعَلل الْعلَّة وَلَا يذكر الحكم لكنه يَقُول عقيب الْعلَّة فَأشبه الْفَرْع كَيْت وَكَيْت وَقد يفعل ذَلِك إِذا لم يُمكن التَّصْرِيح بالحكم وَقد قيل إِن هَذَا لَا يَصح لِأَن قَوْلنَا فَأشبه كَيْت وَكَيْت هُوَ حكم بِأَن الْفَرْع يشبه كَيْت وَكَيْت وَإِذا كَانَ ذَلِك حكما احْتَاجَ الْفَرْع إِلَى أصل يرد إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الِاسْتِحْسَان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن المحكي عَن أَصْحَاب ابي حنيفَة القَوْل بالاستحسان وَقد ظن كثير مِمَّن رد عَلَيْهِم أَنهم عنوا بذلك الحكم بِغَيْر دلَالَة وَالَّذِي حصله متأخرو أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله هُوَ أَن الِاسْتِحْسَان عدُول فِي الحكم عَن طَريقَة إِلَى طَريقَة هِيَ أقوى مِنْهَا وَهَذَا اولى مِمَّن ظَنّه مخالفوهم لِأَنَّهُ الْأَلْيَق بِأَهْل الْعلم وَلِأَن أَصْحَاب الْمقَالة أعرف بمقاصد أسلافهم وَلِأَنَّهُم قد نصوا فِي كثير من الْمسَائِل فَقَالُوا استحسنا هَذَا الْأَثر ولوجه كَذَا فَعلمنَا أَنهم لم يستحسنوا بِغَيْر طَرِيق
وَالَّذِي يمْنَع من الحكم بِغَيْر طَرِيق أَن الحكم بِغَيْر طَريقَة إِمَّا أَن يكون حكما بالشهوة أَو بِأول خاطر أَو بِظَنّ الأمارة لَهُ وَذَلِكَ يَتَأَتَّى من الصَّبِي والعامي كَمَا يَتَأَتَّى من الْعَالم فَكَانَ يَنْبَغِي جَوَاز ذَلِك من هَؤُلَاءِ أَجْمَعِينَ وَكَانَ يَنْبَغِي ان(2/295)
لَا يلام من حكم بذلك وَلِأَن هَذِه الْأَشْيَاء قد تتَنَاوَل الْحق كَمَا تتَنَاوَل الْبَاطِل وَلِأَن الظَّن لَا عَن أَمارَة لَا يتَمَيَّز من ظن السوداوي
وَالْكَلَام فِي الِاسْتِحْسَان على مَا فسره أَصْحَاب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقع فِي الْمَعْنى وَيَقَع فِي الْعبارَة أما فِي الْمَعْنى فَهُوَ أَن بعض الأمارات قد يكون أقوى من بعض وَيجوز الْعُدُول من أَمارَة إِلَى أُخْرَى من غير أَن تفْسد الاخرى وَذَلِكَ رَاجع إِلَى تَخْصِيص الْعلَّة وَقد تقدم القَوْل فِي ذَلِك وَمن الْكَلَام فِي الْمَعْنى الْكَلَام فِي حد الِاسْتِحْسَان وَأما الْكَلَام فِي الْعبارَة فَهُوَ أَن لتسميتهم ذَلِك اسْتِحْسَانًا وَجه صَحِيح
وَأما حد الِاسْتِحْسَان فقد اخْتلف فِيهِ فحده بَعضهم بانه الْعُدُول عَن مُوجب قِيَاس إِلَى قِيَاس أقوى مِنْهُ وَهَذَا بَاطِل لأَنهم يستحسنون إِذا عدلوا إِلَى نَص كَمَا لَا يستحسنون أَن لَا قَضَاء على الْآكِل نَاسِيا فِي صَوْمه وتركهم الْقيَاس فِي ذَلِك للْخَبَر وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ تَخْصِيص قِيَاس بِدَلِيل هُوَ أقوى مِنْهُ وَهَذَا بَاطِل لأَنهم قد يعدلُونَ فِي الِاسْتِحْسَان عَن قِيَاس وَعَن غير قِيَاس وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ ترك طَريقَة للْحكم إِلَى أُخْرَى أولى مِنْهَا لولاها لوَجَبَ الثَّبَات على الأولى ويقرن هَذَا من وَجه أبي الْحسن رَحمَه الله وَهُوَ قَوْله الِاسْتِحْسَان هُوَ ان يعدل الْإِنْسَان عَن أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة بِمثل مَا حكم بِهِ فِي نظائرها إِلَى خِلَافه لوجه هُوَ أقوى من الأول يَقْتَضِي الْعُدُول عَن الأول وَهَذَا يلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الْعُدُول عَن الْعُمُوم إِلَى التَّخْصِيص اسْتِحْسَانًا وَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون الْقيَاس الَّذِي يعدل إِلَيْهِ عَن الِاسْتِحْسَان اسْتِحْسَانًا
وَيَنْبَغِي أَن يُقَال الِاسْتِحْسَان هُوَ ترك وَجه من وُجُوه الِاجْتِهَاد غير شَامِل شُمُول الْأَلْفَاظ لوجه هُوَ أقوى مِنْهُ وَهُوَ فِي حكم الطارىء على الأول وَلَا يلْزم على ذَلِك قَوْلهم تركنَا الِاسْتِحْسَان باقياس لِأَن الْقيَاس الَّذِي تركُوا لَهُ الِاسْتِحْسَان لَيْسَ فِي حكم الطارىء بل هُوَ الأَصْل وَلذَلِك لم يصفوه بِأَنَّهُ اسْتِحْسَان وَإِن كَانَ أقوى فِي ذَلِك الْموضع مِمَّا تَرَكُوهُ(2/296)
واما الْوَجْه فِي تسميتهم ذَلِك اسْتِحْسَانًا فَهُوَ أَن الِاسْتِحْسَان وَإِن كَانَ وَقع على الشَّهْوَة والاستحلاء فقد يَقع على الْعلم بِحسن الشَّيْء فَيُقَال فلَان يستحسن القَوْل بِالتَّوْحِيدِ وَالْعدْل وَقد يَقع على الِاعْتِقَاد وَالظَّن بِحسن الشَّيْء فاذا ظن الْمُجْتَهد الأمارة واقتضاء ذَلِك أَن يعْتَقد حسن مدلولها جَازَ أَن يَقُول قد استحسنت هَذَا الحكم فصح فَائِدَة هَذِه التَّسْمِيَة وَجَاز الِاصْطِلَاح مِنْهُم على التَّسْمِيَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي تعَارض الْعِلَل وَالْقَوْل فِي تنافيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن وَصفنَا الْعِلَل بانها متناقضة متنافية قد يفهم مِنْهُ أَنَّهَا متضادة لَا يَصح اجتماعها وَهَذَا غير مَوْجُود فِي هَذَا الْموضع لِأَن الْأكل والكيل والاقتيات لَا تتضاد وَقد يفهم مِنْهُ أَنَّهَا لَا تَجْتَمِع كَونهَا عللا وَذَلِكَ ضَرْبَان أَحدهمَا لَا تَجْتَمِع كَونهَا عللا لتنافي أَحْكَامهَا وَالْآخر لَا تَجْتَمِع كَونهَا عللا لَا لتنافي أَحْكَامهَا والمتنافي أَحْكَامهَا لَا بُد أَن يكون أَصْلهَا أَكثر من وَاحِد ويستحيل أَن يكون أَصْلهَا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَو كَانَ أَصْلهَا وَاحِدًا على وَجه وَاحِد لَكَانَ قد اجْتمع فِي الأَصْل حكمان متنافيان وَذَلِكَ محَال
فان قيل هلا تنافت الْعِلَل وَإِن كَانَ اصلها وَاحِدًا وخكمه وَاحِدًا إِذا تنافت الْأَحْكَام فِي الْفُرُوع بَان تُوجد إِحْدَى العلتين فِي فرع وَلَا تُوجد الْأُخْرَى فِيهِ فَيلْزم أَن يُوجد فِيهِ حكم الْعلَّة لوُجُود إِحْدَى العلتين وَإِن يَنْتَفِي لانْتِفَاء الْعلَّة الْأُخْرَى قيل إِذا وجدت إِحْدَى العلتين فِي الْفَرْع دون الاخرى وَجب وجود حكمهَا فِيهِ وَلَا يلْزم انتفاؤها لانْتِفَاء الْعلَّة الاخرى لِأَن انْتِفَاء الْعلَّة لَا يَقْتَضِي انْتِفَاء حكمهَا إِذا خلفتها عِلّة أُخْرَى
فاذا ثَبت أَن أصل العلتين المتنافيتي الحكم اثْنَان فَصَاعِدا فمثاله وجوب النِّيَّة فِي التَّيَمُّم وَنفي وُجُوبهَا فِي إِزَالَة النَّجَاسَة ورد الْوضُوء إِلَى إِزَالَة النَّجَاسَة(2/297)
بعلة انها طَهَارَة بِالْمَاءِ وَيرد إِلَى التَّيَمُّم بعلة أَنَّهَا طَهَارَة عَن حدث وَإِن امْتنع كَونهَا عللا لوجوه سوى تنَافِي الْحكمَيْنِ فَبَان لَا يكون فِي الامة من علل ذَلِك الأَصْل بعلتين بل كل مِنْهُم علله بعلة وَاحِدَة كتعليلهم تَحْرِيم التَّفَاضُل فِي الْبر بِكَوْنِهِ مَكِيلًا أَو مَأْكُولا أَو مقتاتا وَلَيْسَ مِنْهُم أحد علله بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَمَتى تنافت الْعِلَل واشتبه القَوْل فِي فروعها وَجب التَّرْجِيح وَيَنْبَغِي قبل ذَلِك أَن نتكلم فِي غَلَبَة الْأَشْبَاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي غَلَبَة الْأَشْبَاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن نذْكر مَا الشّبَه وبماذا يَقع وَمَا الشّبَه الْغَالِب وَمَا قِيَاس الْمَعْنى وَمَا قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه وَقِسْمَة قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه
والشبه هُوَ مَا لَهُ يحصل الِاشْتِبَاه والاشتباه هُوَ اشْتِرَاك الشَّيْئَيْنِ فِي صفة من الصِّفَات وَوجه من الْوُجُوه وَهَذِه الصّفة وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الشّبَه
وَأما مَا يَقع بِهِ الْأَشْبَاه فَابْن علية يعْتَبر الصُّورَة كردة الجلسة الثَّانِيَة فِي الصَّلَاة إِلَى الجلسة الأولى فِي إِسْقَاط وُجُوبهَا لِأَن كل وَاحِدَة مِنْهَا جلْسَة وَالشَّافِعِيّ يعْتَبر الشّبَه بِالْأَحْكَامِ كردة العَبْد الْمَقْتُول إِلَى المملوكات فِي اعْتِبَار قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت من حَيْثُ أشبه المملوكات فِي احكام كَثِيرَة وَالصَّحِيح أَن الشّبَه يكون بِكُل مَا كَانَ لَهُ تَأْثِير فِي الحكم سَوَاء كَانَ حكما اَوْ لم يكن حكما لِأَن كَون الْبر مَكِيلًا أَو مَأْكُولا لَيْسَ بِحكم
وَأما غَلَبَة الشّبَه فَهُوَ أَن يكون الشّبَه أقوى من شبه آخر فَهُوَ أولى بِأَن يتَعَلَّق الحكم بِهِ لقُوَّة امارته وَقُوَّة الأمارات امْر ظَاهر لَا إِشْكَال فِيهِ
وَأما قِيَاس الْمَعْنى فَهُوَ أَن يكون شبه فَرعه بِأَصْلِهِ لَا يُعَارضهُ شبه آخر فان عَارضه كَانَ خفِيا جدا كرد العَبْد إِلَى الْأمة فِي تنصيف حد الزِّنَا(2/298)
وَأما قِيَاس غَلَبَة الْأَشْبَاه فَهُوَ أَن يُعَارض الشّبَه الْحَاصِل فِيهِ شبه آخر يُسَاوِيه فِي الْقُوَّة ويخفي فضل قُوَّة أَحدهمَا على الآخر وَلَا يَخْلُو هَذَانِ الشبهان إِمَّا أَن يرجعا إِلَى أصل وَاحِد أَو إِلَى أصلين فان رجعا إِلَى أصلين جَازَ أَن يكون الْفَرْع وَاحِدًا وَيُشبه بِأحد الشبهين أحد الْأَصْلَيْنِ وَيُشبه بالشبه الآخر الأَصْل الآخر كَالْعَبْدِ الْمَقْتُول يشبه الْحر فِي تَحْدِيد بدله من حَيْثُ كَانَ مُكَلّفا وَيُشبه المملوكات فِي نفي تَحْدِيد بدله من حَيْثُ كَانَ مَمْلُوكا
وَأما أَن يرجع إِلَى اصل وَاحِد فقد يكون الْفَرْع اثْنَيْنِ وَقد يكون وَاحِدًا فان كَانَا اثْنَيْنِ فانه يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا يشبه الأَصْل بِأحد الشبهين دون الآخر كالارز والجص أَحدهمَا يشبه الْبر من حَيْثُ كَانَ مَكِيلًا وَالْآخر يُشبههُ من حَيْثُ كَانَ مَأْكُولا وَأما إِذا كَانَ الْفَرْع وَاحِدًا فكالارز الْمُشبه للبر من حَيْثُ كَانَ مَأْكُولا وَمن حَيْثُ كَانَ مَكِيلًا وَمن حَيْثُ كَانَ مقتاتا فَيَقَع النّظر فِي أَي هَذِه الْوُجُوه هِيَ عِلّة الحكم فَمَا لم تدل عَلَيْهِ أَمارَة قضي بفساده وَمَا تساوى فِي دلَالَة الأمارات عَلَيْهِ عدل فِيهِ إِلَى التَّرْجِيح
وَنحن نذْكر الْآن الْوُجُوه الَّتِي يَقع بهَا تَرْجِيح الْعِلَل إِن شَاءَ الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يرجح بِهِ عِلّة على عِلّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن نذْكر أَولا مَا التَّرْجِيح وَمَا الْفَائِدَة فِيهِ ثمَّ نقسم التَّرْجِيح للعلل
أما التَّرْجِيح فَهُوَ الشُّرُوع فِي تَقْوِيَة أحد الطَّرِيقَيْنِ على الآخر وَلذَلِك لَا يَصح التَّرْجِيح إِلَّا بعد تَكَامل كَونهمَا طَرِيقين لَو انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَصح تَرْجِيح طَرِيق على مَا لَيْسَ بطرِيق
واما الْفَائِدَة فِي التَّرْجِيح فَهِيَ أَن يُقَوي الظَّن الصَّادِر عَن إِحْدَى الأمارتين(2/299)
عِنْد تعارضهما وَلذَلِك لَا يَصح التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة لِأَنَّهَا لَا تتعارض لِأَن تعارضها مَوْقُوف على تنَافِي مدلولاتها وَفِي تعارضها ثُبُوت مدلولاتها على تنافيها وَلِأَن الْأَدِلَّة لَا تَقْتَضِي الظَّن فَلَا يُمكن القَوْل بِأَن أحد الظنين يقوى وَلِأَن التَّرْجِيح يَقْتَضِي التَّمَسُّك بِمَا ثَبت فِيهِ التَّرْجِيح واطراح مَا لم يثبت فِيهِ وَالدَّلِيل لَا يجوز اطراحه
فَأَما قسْمَة تَرْجِيح الْعِلَل فَهِيَ أَن العة يَنْبَغِي أَن ترجح بِمَا يرجع إِلَى طريقها وَبِمَا يرجع إِلَى الحكم الَّذِي هِيَ طَرِيقه وَبِمَا يرجع إِلَى مَكَانهَا وَهُوَ الأَصْل أَو الْفَرْع أَو هما بمجموعهما
أما الرَّاجِع إِلَى طريقها فَمِنْهُ مَا يرجع إِلَى طريقها فِي الأَصْل وَمِنْه مَا يرجع إِلَى طريقها فِي الْفَرْع
أما الرَّاجِع إِلَى طريقها فِي الأَصْل فضربان أَحدهمَا أَن يكون طَرِيق وجودهَا فِي الأَصْل أقوى من طَرِيق وجود عِلّة أُخْرَى فِي أَصْلهَا وَالْآخر أَن يكون طَرِيق صِحَة إِحْدَى العلتين فِي الأَصْل أقوى من طَرِيق صِحَة الْأُخْرَى
وَأما الرَّاجِع إِلَى طريقها فِي الْفَرْع فَأن يكون طَرِيق وجودهَا فِي الْفَرْع أقوى من طَرِيق وجود الاخرى فِي فرعها
وَأما التَّرْجِيح الرَّاجِع إِلَى حكمهَا فضربان أَحدهمَا يتَعَلَّق بحكمها فِي الأَصْل وَالْآخر يتَعَلَّق بحكمها فِي الْفَرْع أما الْمُتَعَلّق بِالْأَصْلِ فضربان أَحدهمَا أَن يكون طَرِيق ثُبُوت أحد الْحكمَيْنِ فِي الأَصْل أقوى من طَرِيق ثُبُوت الحكم الآخر فِي أَصله وَالْآخر أَن يكون طَرِيق ثُبُوت أَحدهمَا فِي الأَصْل الشَّرْع وَطَرِيق ثُبُوت الآخر فِي أَصله الْعقل وَأما الْمُتَعَلّق بحكمها فِي الْفَرْع فضروب مِنْهَا أَن يكون أَحدهمَا حظرا وَالْآخر إِبَاحَة وَمِنْهَا أَن يكون فِي أَحدهمَا زِيَادَة على الآخر كالندب والمباح وَمِنْهَا أَن يكون قد شهِدت الاصول بِأحد الْحكمَيْنِ كعموم خطاب أَو قَول صَحَابِيّ وَمِنْهَا أَن يكون حكم إِحْدَى(2/300)
العلتين يتبعهَا فِي جَمِيع فروعها وَحكم الْعلَّة الْأُخْرَى لَا يتبعهَا فِي جَمِيع فروعها فَيكون أولى على قَول من أجَاز تَخْصِيص الْعلَّة
وَأما التَّرْجِيح الرَّاجِع إِلَى الأَصْل وَحده فبأن تكون إِحْدَى العلتين منتزعة من عدَّة أصُول وَالْأُخْرَى منتزعة من أصل وَاحِد
وَأما التَّرْجِيح الرَّاجِع إِلَى الْفَرْع وَحده فبأن يكون فروع إِحْدَى العلتين أَكثر من الْأُخْرَى
وَأما الرَّاجِع إِلَى الأَصْل وَالْفرع جَمِيعًا فبأن يكون الْفَرْع باحد الْأَصْلَيْنِ أشبه مِنْهُ بِالْآخرِ بِأَن يكون من جنسه كرد كَفَّارَة إِلَى كَفَّارَة ورد الْمِقْدَار الْمُفْسد للصَّلَاة من كشف الْعَوْرَة إِلَى مِقْدَار مَا يُفْسِدهَا من النَّجَاسَة لِأَن بَين هذَيْن تجانسا من بعض الْوُجُوه وَفِي بعض هَذِه الْوُجُوه اخْتِلَاف وَسَنذكر عِنْد الْأَمْثِلَة إِن شَاءَ الله
أما الَّتِي طَرِيق وجودهَا فِي الأَصْل أقوى فبأن تكون إِحْدَاهمَا يعلم وجودهَا فِي الأَصْل بالحس وَالصُّورَة نَحْو كَون الْبر مَكِيلًا أَو مطعوما وَتَكون الْأُخْرَى مَعْلُوم وجودهَا فِيهِ باستدلال أَو إِحْدَاهمَا مَعْلُوم وجودهَا فِي الأَصْل بِدَلِيل وَالْأُخْرَى مظنون وجودهَا فِيهِ بأمارة أَو يكون جَمِيعًا مظنونين بأمارتين غير أَن أَمارَة وجود إِحْدَاهمَا أقوى وَذَلِكَ وَجه تَرْجِيح لِأَن الْوَصْف لَا يكون عِلّة فِي الأَصْل إِلَّا وَهُوَ مَوْجُود فِيهِ فاذا كَانَ علمنَا أَو ظننا لوُجُوده فِيهِ أقوى من علمنَا أَو ظننا لوُجُود الآخرى فِيهِ فقد صَار ظننا لكَونهَا عِلّة حكم الأَصْل أقوى من ظننا لكَون الْأُخْرَى عِلّة حكم الأَصْل وَأما الَّتِي طَرِيق كَونهَا عِلّة حكم الأَصْل أقوى فبأن يكون عِلّة كَونهَا حكم الأَصْل صَرِيح نَص وَطَرِيق الْأُخْرَى تَنْبِيه نَص أَو طَرِيق إِحْدَاهمَا تَنْبِيه نَص وَطَرِيق الْأُخْرَى الاستنباط أَو أَمارَة إِحْدَاهمَا أقوى من أَمارَة الْأُخْرَى وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك تَرْجِيحا لِأَن مَا قوى طَرِيقه قوى الظَّن لَهُ أَو الِاعْتِقَاد لَهُ وَكَذَلِكَ الَّتِي طَرِيق وجودهَا فِي الْفَرْع أقوى من طَرِيق وجود الْأُخْرَى فِي الْفَرْع لِأَن ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع تبع(2/301)
لوُجُود علته فاذا قوي علمنَا أَو ظننا لوجودها فِي الْفَرْع قوي علمنَا لقُوَّة أصل الْعلم وَإِذا كَانَ حكمهَا فِي الْفَرْع أولى صَار كَونهَا عِلّة أولى
وَأما التَّرْجِيح بِقُوَّة ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل فنحو أَن يدل على الأَصْل دَلِيل قَاطع وَيدل على حكم الأَصْل الآخر أَمارَة وَإِنَّمَا كَانَ من قوي حكم أَصله أولى لِأَن الْوَصْف لَا يكون عِلّة حكم الأَصْل إِلَّا وَحكمه ثَابت فاذا كَانَ حكم أحد الْأَصْلَيْنِ أقوى ثبوتا كَانَ مَا يقعه من الْعلَّة وَمن حكم الْفَرْع أقوى ثبوتا
وَأما التَّرْجِيح بِكَوْن أحد الْحكمَيْنِ شَرْعِيًّا وَالْآخر عقليا فَصَحِيح لِأَن الْقيَاس الشَّرْعِيّ دلَالَة شَرْعِيَّة وَالْأولَى فِي الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَن تكون أَحْكَامهَا شَرْعِيَّة وَالْقِيَاس الَّذِي حكمه شَرْعِي هُوَ أَشد مُطَابقَة للأدلة الشَّرْعِيَّة
فان قيل كَيفَ يجوز أَن يسْتَخْرج من أصل عَقْلِي عِلّة شَرْعِيَّة قيل يجوز ذَلِك إِذا لم ينقلنا عَنهُ الشَّرْع فنستخرج الْعلَّة الَّتِي لَهَا لم ينقلنا عَنهُ الشَّرْع
فَأَما إِذا كَانَ أحد الْحكمَيْنِ نفيا وَالْآخر إِثْبَاتًا وَكَانَا شرعيين فقد ذطر قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله أَنه لَا يكون أَحدهمَا أولى من الآخر وَقد ذكرنَا فِي تَرْجِيح الْأَخْبَار أَنه لَا بُد فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات من أَن يكون أَحدهمَا عقليا وَالْآخر سمعيا
وَأما التَّرْجِيح بِكَوْن اُحْدُ الْحكمَيْنِ فِي الْفَرْع حظرا وَالْآخر إِبَاحَة فانه إِن كَانَ الْحَظ شَرْعِيًّا كَانَ أولى فَكَانَت علته لِأَن الحكم الشَّرْعِيّ أولى وَلِأَن الْأَخْذ بالحظر أحوط وَإِن كَانَ الْحَظْر عقليا فكونه حظرا جِهَة تَرْجِيح وَكَون الْإِبَاحَة شَرْعِيَّة جِهَة لترجيح الْإِبَاحَة فَالْوَاجِب الرُّجُوع إِلَى تَرْجِيح آخر وَلَا بُد فِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة من أَن يكون أَحدهمَا عقليا وَالْآخر شَرْعِيًّا على مَا بَيناهُ فِي الْأَخْبَار وَأما إِذا كَانَ حكم إِحْدَى العلتين الْعتْق وَحكم الْأُخْرَى الرّقّ فالمثبتة لِلْعِتْقِ أولى لِأَن تعلق الْحُرِّيَّة بالْقَوْل ثَابت بِالشَّرْعِ لَا بِالْعقلِ(2/302)
فَهُوَ من هَذِه الْجِهَة حكم شَرْعِي وَلِأَن الْعتْق فِي الشَّرِيعَة فَوْقه من حَيْثُ لَا يلْحقهُ الْفَسْخ فَكَانَت علته أولى فَأَما إِذا كَانَ حكم أَحدهمَا فِي الْفَرْع إِسْقَاط الْحَد وَحكم الْأُخْرَى إثْبَاته فالشيخ أَبُو عبد الله رَحمَه الله يرجح الْمسْقط للحد لِأَنَّهُ قد أَخذ علينا إِسْقَاط الْحَد وَلِأَن الْعلَّة تَقْتَضِي حظره والحظر أولى وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله لَا تَرْجِيح بذلك بل يرجح المثبتة للحد لِأَنَّهُ حكم شَرْعِي وَيَقُول إِنَّمَا أَخذ علينا إِسْقَاط الْحَد من الْأَعْيَان وَلم يُؤْخَذ علينا إِسْقَاطه عَن جملَة الشَّرِيعَة
فَأَما التَّرْجِيح بِكَوْن اُحْدُ حكمي الْعلَّة أَزِيد من حكم الْأُخْرَى فَمثل أَن يكون حكم أَحدهمَا الْإِبَاحَة وَحكم الآخر النّدب فالتي حكمهَا النّدب أولى لِأَن النّدب يتَضَمَّن شَيْئا من معنى الإباجة الَّذِي هُوَ الْحسن وَيزِيد عَلَيْهِ فَكَانَ أولى إِذا كَانَت الزِّيَادَة شَرْعِيَّة
وَأما التَّرْجِيح بِشَهَادَة الْأُصُول فقد يُرَاد بِشَهَادَة الْأُصُول أَن يكون جنس ذَلِك الحكم ثَابتا فِي الْأُصُول مثل تَحْرِيم الْمثلَة فِي الْجُمْلَة فالعلة الْمُحرمَة لمثلة مَخْصُوصَة أولى لِأَن الشَّرِيعَة فِي الْجُمْلَة تشهد بهَا وَقد يُرَاد بِشَهَادَة الْأُصُول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَهَذِه إِن كَانَت صَرِيحَة فَهِيَ الأَصْل فِي الدّلَالَة لَا يجوز وُقُوع التَّرْجِيح بهَا وَإِن مَسهَا احْتِمَال شَدِيد جَازَ تَرْجِيح الْقيَاس بهَا لوضوح دلَالَة الْقيَاس على دلالتها وَيَقَع التَّرْجِيح بقول الصَّحَابِيّ لِأَنَّهُ أعرف بمقاصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَكَذَلِكَ إِذا عضدت الْعلَّة عِلّة كَمَا ترجح أَخْبَار الْآحَاد بَعْضهَا بِبَعْض وكما يرجح الْخَبَر على خبر آخر بِكَثْرَة الروَاة وَلما تقدم كَانَت الْعلَّة الَّتِي لَا تخصص الْعُمُوم أولى من الَّتِي تخصه لِأَن لفظ الْعُمُوم قد شهد لَهَا
وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن هَذَا مُخَالف لما ذَكرْنَاهُ من شَهَادَة الْأُصُول لِأَن كلا المعللين قد اتفقَا على مُطَابقَة ذَلِك الأَصْل لإحدى العلتين وَلم يَقع الِاتِّفَاق مِنْهُمَا على ذَلِك فِي هَذَا الْموضع لِأَن أحد المعللين يَقُول مَا(2/303)
أَرَادَ الله عز وَجل بِالْعُمُومِ مَا تناولته الْعلَّة المخصصة وَلقَائِل أَن يَقُول إنَّهُمَا سَوَاء لِأَن أحد المعللين وَإِن لم يقل ذَلِك فان الْعُمُوم يشْهد لمطابقة إِحْدَى العلتين فَكَانَت أولى وَإِذا اقْترن بِالْقِيَاسِ خبر وَاحِد مُحْتَمل فقد قَالَ إِنَّه يرجح بِهِ مَعَ أَن الْخصم يُمكنهُ أَن يَقُول فِي الْمُحْتَمل إِنَّه مَا أُرِيد بِهِ مَا يُخَالف علتي وَقَوله فِي الْمُحْتَمل أمكن من قَوْله فِي الْعُمُوم
وَأما التَّرْجِيح بِلُزُوم الحكم لِلْعِلَّةِ فِي الْفُرُوع كلهَا دون الْأُخْرَى فبعض من أجَاز تَخْصِيص الْعلَّة لَا يرجح بذلك وَبَعْضهمْ يرجح بِهِ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن لُزُوم الحكم لَهَا يكسبها شبها بالعقليات وَيُؤذن بلزومه لَهَا فِي الأَصْل
فَأَما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الأَصْل فبأن تكون إِحْدَى العلتين منتزعة من أصُول كَثِيرَة وَالْأُخْرَى منتزعة من أقل من تِلْكَ الْأُصُول فقد اخْتلف فِي ذَلِك فَمن النَّاس من رجح بذلك وَمِنْهُم من لم يرجح بِهِ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة رَحمَه الله لَا يرجح بِهِ إِذا كَانَت طَريقَة التَّعْلِيل وَاحِدَة وَإِن كَانَت طَرِيقَته غير وَاحِدَة رجح بِهِ أما أَنه إِذا كَانَت علل تِلْكَ الْأُصُول كَثِيرَة وأماراتها مُخْتَلفَة فالترجيح يَقع بذلك لشهادة الْعِلَل وأماراتها بَعْضهَا لبَعض وَيكون التَّرْجِيح وَاقعا حِينَئِذٍ بِشَهَادَة الْعِلَل بَعْضهَا لبَعض وَأما إِذا كَانَت الْعلَّة وَاحِدَة وأماراتها وَاحِدَة فانه إِن كَانَ الأَصْل نوعا وَإِنَّمَا أشخاصه كَثِيرَة فانه لَا يرجح فِي ذَلِك لِأَن النَّوْع وَاحِد وعَلى أَنا لَا نعلم أَن آحَاد بعض النَّوْع أَكثر من آحَاد النَّوْع الآخر وَإِن كَانَت الاصول أنواعا كَثِيرَة وَقع التَّرْجِيح بهَا وَإِن كَانَت علتها وَاحِدَة لِأَنَّهُ تكون الْأُصُول الْكَثِيرَة شاهدة لإحدى العلتين وَيكون حكمهَا أَكثر ثبوتا فِي الْأُصُول من حكم الْأُخْرَى وَذَلِكَ مقو للظن
وَأما تَرْجِيح الْعلَّة الرَّاجِع إِلَى فروعها فَأن تكون فروع إِحْدَى العلتين أَكثر من فروع الْأُخْرَى وَقد رجح بذلك قوم وَكَذَلِكَ الْعلَّة المتعدية وَلم يرجح بِهِ آخَرُونَ(2/304)
والأولون قَالُوا إِنَّهَا إِذا كثرت فروعها كثرت فائدتها فَكَانَت أولى وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا يجب أَن يكون أولى إِذا كثرت فوائدها الشَّرْعِيَّة وَكَثْرَة فروعها ترجع إِلَى اخْتِيَار الله تَعَالَى خلق الْأَنْوَاع الَّتِي تخْتَص تِلْكَ الْعلَّة وَلَيْسَ ذَلِك بِأَمْر شَرْعِي
وَاحْتج من لم يرجح بذلك بِأَن قَالَ لَو كَانَ أَعم العلتين بِالْأَخْذِ أولى لَكَانَ أَعم الخطابين أولى بِالْعَمَلِ وَالْجَوَاب إِنَّه إِنَّمَا لم يكن أَعم الخطابين أولى بل كَانَ أخصهما أولى لِأَن الْأَخْذ بأخصهما لَيْسَ فِيهِ إطراح لأعمهما وَالْأَخْذ بأعمهما فِيهِ إطراح لأخصهما وَأما العلتان فانهما إِذا انتهتا إِلَى التَّرْجِيح لم يُمكن الْجمع بَينهمَا وَأيهمَا اسْتعْملت اطرحت الْأُخْرَى فَكَانَ اطراح مَا قل حكمه لقلَّة فروعه أولى
وَقَالُوا أَيْضا يَنْبَغِي أَن تصح الْعلَّة فِي الأَصْل وَإِذا صحت أجريت فِي الْقُوَّة قلت أَو كثرت وَالْجَوَاب إِنَّه إِنَّمَا ترجح الْعلَّة على الْعلَّة إِذا شهد لثُبُوت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا أَمارَة وَلَا معنى لقولكم يَنْبَغِي أَن تثبت الْعلَّة فِي الأَصْل
وَقَالُوا ايضا كَثْرَة الْفُرُوع ترجع إِلَى كَثْرَة مَا خلق الله مِمَّا يُوجد فِيهِ الْعلَّة وَلَيْسَ ذَلِك بِأَمْر شَرْعِي فَيَقَع بِهِ التَّرْجِيح وَلَيْسَ كَذَلِك كَثْرَة أَنْوَاع الاصول لِأَن الأَصْل شَاهد لِلْعِلَّةِ فكثرة مَا يشْهد لَهَا تقويها وَالْفرع لَا يشْهد لِلْعِلَّةِ بل حكمه تَابع لَهَا
وَأما تَرْجِيح الْعلَّة بِمَا يرجع إِلَى الأَصْل وَالْفرع فَهُوَ أَن تكون إِحْدَى العلتين يرد بهَا الْفَرْع إِلَى مَا هُوَ من جنسه كرد كَفَّارَة إِلَى كَفَّارَة وَالْأُخْرَى يرد بهَا الْفَرْع إِلَى مَا لَيْسَ من جنسه كرد كَفَّارَة إِلَى غير كَفَّارَة فَتكون الأولى أولى وَهُوَ مَذْهَب أبي الْحسن وَأكْثر الشَّافِعِيَّة لِأَن الشَّيْء أَكثر شبها بِجِنْسِهِ مِنْهُ بِغَيْر جنسه وَالْقِيَاس يتبع الشّبَه فكثرته تقَوِّي الظَّن وَإِن لم تكن تِلْكَ الْوُجُوه عِلّة وَبِالْجُمْلَةِ رد الشَّيْء إِلَى مَا هُوَ أشبه بِهِ أولى وَلذَلِك كَانَ رد كشف الْعَوْرَة إِلَى(2/305)
إِزَالَة النَّجَاسَة فِي أَن انكشاف قدر الدِّرْهَم من الْعَوْرَة الْمُغَلَّظَة يفْسد الصَّلَاة أولى من الرَّد إِلَى غير ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْمُجْتَهد هَل يجوز أَن يعتدل عِنْده الأمارات فِي الْمَسْأَلَة أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أجَاز شيخانا أَبُو عَليّ وَأَبُو هَاشم ذَلِك وَقَالا يكون الْمُجْتَهد عِنْد تَسَاوِي الأمارتين مُخَيّرا بَين حكميهما وَمِنْه شَيخنَا أَبُو الْحسن من ذَلِك وَقَالَ لَا بُد من تَرْجِيح
وَحجَّة من أجَاز ذَلِك هِيَ أَن من منع من ذَلِك إِمَّا أَن يمْنَع مِنْهُ من جِهَة الْعقل بِأَن يَجْعَل اسْتِحَالَة ذَلِك كاستحالة لَا تعادل الدّلَالَة والشبهة حَتَّى تَكُونَا جَمِيعًا صحيحتين أَو يمْنَع من ذَلِك لدَلِيل سَمْعِي وَالْوَجْه الأول بَاطِل لأَنا لَا نجد فِي الْعقل مَا يحِيل تَسَاوِي الأمارتين فِي الْقُوَّة فَكَانَ ذَلِك من مجوزات الْعُقُول أَلا ترى أَنه لَا يمْتَنع عندنَا أَن يخبر اثْنَان باثبات الشَّيْء ونفيه وَيَسْتَوِي عندنَا عدالتهما وَصدق لهجتهما وتتعارض الأمارات الدَّالَّة على جِهَة الْقبْلَة ثمَّ لَيْسَ يُؤثر سُقُوط فرض التَّوَجُّه فِي بعض الْمَوَاضِع فِيمَا ذَكرْنَاهُ من جَوَاز كَون الأمارات مُتَسَاوِيَة فِي الْقُوَّة فَالْفرق بَين الأمارات فِي ذَلِك وَبَين الْأَدِلَّة أَن الْأَدِلَّة يجب أَن يكون مدلولها على مَا دلّت عَلَيْهِ فَلَو كَانَ مَا يدل على الشَّيْء وَمَا يدل على نَفْيه متساويين فِي أَنفسهمَا لَكَانَ الدليلان صَحِيحَيْنِ وَفِي ذَلِك حُصُول مدلوليهما جَمِيعًا النَّفْي النَّفْي والاثبات كالدليل الدَّال على أَن الله سُبْحَانَهُ يَسْتَحِيل أَن يرى والشبهة الْمُوجبَة أَن يرى وَأما الأمارة فَلَيْسَ يجب أَن يتبعهَا مدلولها بل قد تُوجد الأمارة الْأَقْوَى وَلَا يتبعهَا مدلولها كالغيم الكثيف الرطب فِي زمَان الشتَاء فَلَا يتبعهُ الْمَطَر وَيتبع الأمارة الضعيفة مدلولها كالغيم الْخَفِيف وَقد يخبر الرجل الْمَعْرُوف بِالصّدقِ فيكذب وَقد يخبر الرجل الْمَعْرُوف بِالْكَذِبِ فَيصدق فِي ذَلِك الْخَبَر وَلَيْسَ فِي تَسَاوِي الأمارتين فِي(2/306)
الْقُوَّة مَا يُوجب حُصُول مدلولهما وَلَو وَجب حُصُول مدلولهما وَهُوَ صِحَة عِلّة التَّحْرِيم وَصِحَّة عِلّة الْإِبَاحَة لم يلْزم مِنْهُ حُصُول التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة على شخص وَاحِد بل كَانَ يلْزمه التَّخْيِير لَيْسَ فِي ذَلِك ثُبُوت النقيضين وَأما إِن منع من تعادل الأمارتين لدَلِيل سَمْعِي وَهُوَ أَنَّهُمَا للو تعادلا فِي الْقُوَّة لم يكن الحكم باحداهما أولى من الْأُخْرَى وَفِي ذَلِك إِثْبَات حكميهما إِمَّا على الْجمع وَذَلِكَ غير مُمكن وَإِمَّا على التَّخْيِير وَالْأمة مجمعة على أَن الْمُكَلّفين غير مخيرين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد بَاطِل لِأَن تعادل الأمارتين كَلَفْظِ التَّخْيِير فِي الدّلَالَة على التَّخْيِير لِأَنَّهُ إِذا لم يكن حكم إِحْدَاهمَا أولى من حكم الْأُخْرَى وَلم يُمكن الْجمع فَلَيْسَ إِلَّا التَّخْيِير وَقد يثبت التَّخْيِير من غير لفظ لِأَن من مَعَه مِائَتَان من الْإِبِل فَهُوَ مُخَيّر بَين اداء أَربع حقاق أَو خمس بَنَات لبون وَلَيْسَ فِي ذَلِك لفظ التَّخْيِير وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل أَرْبَعِينَ ابْنة لبون وَفِي كل خمسين حقة
إِن قيل هَذَا يقوم مقَام لفظ التَّخْيِير قيل فَكَذَلِك تعادل الأمارتين
وَأما قَوْله إِن الْأمة مجمعة على أَن الْمُكَلّفين غير مخيرين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد فان عنوا جَمِيع الْمسَائِل الْمَاضِيَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد والمستقبلة لم نسلم ذَلِك وَإِن ارادوا الْمسَائِل الْمَاضِيَة دون الْمُسْتَقْبلَة لم نسلم أَيْضا لِأَن عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري خير بَين غسل الرجلَيْن ومسحهما وَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ يَقُول بقولين فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة وَيَقُول بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَجه قَالُوا وَلَو تتبعنا مَا ذَكرُوهُ من الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة الْمَاضِيَة لم يمْنَع ذَلِك من صِحَة التَّخْيِير فِي الْحَوَادِث الْمُسْتَقْبلَة قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن يحْتَج بِأَن تعادل الأمارتين يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين الْحكمَيْنِ وَلَا لفظ للتَّخْيِير وَالْأمة مجمعة على بُطْلَانه وَقد أُجِيب عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ وَله أَن يحْتَج بِمَا هُوَ جَوَاب عَن دلَالَة مَخْصُوصَة فَيَقُول لَو تعادلت الأمارتان لَأَدَّى إِلَى الشَّك فِي الحكم وَذَلِكَ لَا يجوز وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه يُؤَدِّي إِلَى الشَّك لِأَن الرجلَيْن المتساويين فِي الصدْق لَو(2/307)
أخبرنَا أَحدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي الْكَعْبَة مَعَ أَنه لم يدخلهَا إِلَّا مرّة وَاحِدَة وَأَنه لم يَنْفَكّ الرَّاوِي من مشاهدته لَهُ مُنْذُ دَخلهَا إِلَى أَن خرج مِنْهَا وَأخْبرنَا آخر أَنه رَآهُ يُصَلِّي فِيهَا فانا نشك هَل صلى فِيهَا أَو لم يصل فِيهَا وَلَا نظن أَحدهمَا وَلَا كل وَاحِد مِنْهُمَا أما أَنا لَا نظن وَاحِدًا مِنْهُمَا فَقَط فَلِأَن الظَّن هُوَ تَغْلِيب أحد المجوزين على الآخر وَإِنَّمَا يغلب أَحدهمَا ويترجح بأمارة ترجحه فاذا كَانَ فِي أحد المجوزين من الأمارة مثل مَا فِي الآخر لم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر وَكَيف يتَرَجَّح أَحدهمَا على الآخر وَنحن نجوز من خطأ أحد المخبرين مثل مَا نجوز من خطأ الْمخبر الآخر فَأَما أَنا لَا نظن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَلِأَن الظَّن هُوَ تَغْلِيب أحد المجوزين على نقيضه فاذا قُلْنَا هَذَا التجويز أغلب وَأظْهر من الآخر أَفَادَ زِيَادَته على الآخر وَإِذا قُلْنَا كل وَاحِد مِنْهُمَا ظن غَالب للْآخر أَفَادَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا زَائِد على الآخر وكل وَاحِد مِنْهُمَا نَاقص عَن الآخر وَهَذَا محَال وَإِذا لم يحصل عِنْد ذَلِك ظن وَكَانَ الحكم مَوْقُوفا على الظَّن لم يجز الحكم وَهَكَذَا لقَوْل فِي الأمارات المستنبطة
وَأما أَنه لَا يجوز أَن لَا نحكم فِي الْمسَائِل إِلَّا بِحكم شَرْعِي بِالْإِجْمَاع لِأَن النَّاس على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا أَنه يجب أَن نحكم فِيهَا بِحكم شَرْعِي معِين غير التَّخْيِير وَالْآخر أَنه يجب أَن نحكم فِيهَا إِمَّا بِحكم معِين وَإِمَّا بالتخيير فان قيل هلا قُلْتُمْ إِنَّه يجوز أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة بالأحوط أَو بِحكم الْعقل أَو بالحكم الشَّرْعِيّ لِأَنَّهُ ناقل قيل هَذَا رُجُوع إِلَى أَن الأمارتين لَا تتساويان لِأَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو حكم أَحدهمَا من أَن يكون هُوَ الحكم الْعقلِيّ وَمَا عداهُ شَرْعِي وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون أَحدهمَا حظرا وَالْآخر مُبَاحا أَو وَإِذا أقررتم أَنه يلْزم الْمصير إِلَيْهَا فقد اقررتم بِأَن الأمارتين لَا تتعادلان عِنْد الْمُجْتَهد إِذا استوفى الِاجْتِهَاد
فان قيل فَهَلا قُلْتُمْ بالتخيير إِذا تعادلت الأمارتان قيل لَا يجوز ذَلِك لِأَن التَّخْيِير هُوَ يُفِيد لحكم كل وَاحِد من الأمارتين وَذَلِكَ لَا يجوز مَعَ تجويزنا ان يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا غير أَمارَة وَانْتِفَاء ظننا يبين ذَلِك أَنه إِذا تعادلت(2/308)
الأمارات الدَّالَّة على أَن الْكَيْل عِلّة للأمارات الدَّالَّة على أَن الطّعْم علته لم يَجْعَل لنا الظَّن بِأَن أَحدهمَا عِلّة وَلَا الظَّن بِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة وَمَعَ انْتِفَاء الظَّن لكَون الْوَصْف عِلّة لَا يجوز أَن يعلق الحكم بِهِ
وَأَيْضًا فالتخيير بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات لَا يَصح إِلَّا على معنى الْإِبَاحَة وَذَلِكَ كالتخيير بَين أَن يكون الْفِعْل مَحْظُورًا أَو مُبَاحا أَو وَاجِبا أَو غير وَاجِب لِأَنَّهُ إِذا خير الْإِنْسَان بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة وَقيل إِن شِئْت فافعله وَإِن شِئْت فَلَا تَفْعَلهُ فقد ابيح الْفِعْل إِذْ لَيْسَ للْإِبَاحَة معنى سوى ذَلِك فان قيل الْفرق بَين ذَلِك وَبَين الْإِبَاحَة معنى سوى ذَلِك وَهُوَ أَن الْإِبَاحَة هِيَ تَخْيِير بَين الْفِعْل والكف عَنهُ على الْإِطْلَاق وَفِي هَذَا الْموضع إِنَّمَا قيل للمكلف افْعَل إِن اعتقدت كَون الْفِعْل مُبَاحا وَلَا تفعل إِن اعتقدت حظره قيل أَلَيْسَ الِاعْتِقَاد لحظره وإباحته علما فَمن قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَمَا الطَّرِيق إِلَى كَون ذَلِك علما فان قَالُوا ثُبُوت الأمارة مَعَ الدّلَالَة الدَّالَّة على وجوب الحكم بالأمارة قيل وَفِي القَوْل الآخر مثل هَذِه الدّلَالَة وَكَيف يجوز أَن تَقولُوا إِن الطَّرِيق إِلَى الْعلم بِالْإِبَاحَةِ مَا ذكرْتُمْ وَأَنْتُم تجوزون لَهُ أَن لَا يعْتَقد الْإِبَاحَة ويعتقد الْحَظْر فان قَالُوا الطَّرِيق إِلَى الْعلم بِالْإِبَاحَةِ أَو إِلَى الْعلم بالحظر أَن يخْتَار الْمُكَلف اعْتِقَاد أَحدهمَا قيل اخْتِيَار الْإِنْسَان أَن يعْتَقد شَيْئا لَيْسَ يدل على صِحَة معتقده فَيكون اعْتِقَاده علما إِذْ لَيْسَ لَهُ تعلق بالأدلة وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَن تخْتَار الاعتقادات فَتَصِير باختيارنا علوما وَكَيف يجوز ذَلِك مَعَ أَن الْإِنْسَان قد يخْتَار الصَّحِيح كَمَا يخْتَار الْفَاسِد وَلَيْسَ مَعَ الِاخْتِيَار من الدّلَالَة مَا يخْتَص أحد الاعتقادين دون الاخر فان قَالُوا إِنَّمَا دلّت على حسن الْفِعْل بِالشّرطِ أَن يخْتَار الْمُكَلف اعْتِقَاده قيل الدّلَالَة الدَّالَّة على الْحسن والقبح لَا تعلق لَهَا بِالِاخْتِيَارِ فَفَارَقَ ذَلِك جَمِيع شُرُوط الْأَدِلَّة وَأَيْضًا فَحسن الِاخْتِيَار للاعتقاد تَابع لحسن الِاعْتِقَاد لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحسن أَن نعتقد مَا هُوَ صَحِيح فِي نَفسه فالاختيار تَابع لما هُوَ تَابع للمعتقد وهم عكسوا الْقَضِيَّة فَجعلُوا الِاعْتِقَاد تَابعا للاختيار وَجعلُوا صِحَة المعتقد تَابعا للاعتقاد وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يَقْتَضِي أَن(2/309)
الْعَاميّ إِذا أفتاه مفت بالحظر وَأَفْتَاهُ آخر بِالْإِبَاحَةِ وَقُلْنَا إِنَّه يجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِيهَا فانه إِذا اجْتهد فيهمَا فَلَا بُد من أَن يتَرَجَّح عِنْده أَحدهمَا على الآخر فان قيل هلا قُلْتُمْ أَنه يصير الْفِعْل مُبَاحا إِذا تَسَاويا عِنْد الْإِنْسَان قيل لَو جَعَلْنَاهُ مُبَاحا لَكنا قد علمنَا على أَمارَة الْإِبَاحَة مَعَ مُسَاوَاة أَمارَة الْحَظْر لَهَا وَلَيْسَ يجوز ذَلِك لِأَنَّهُمَا إِذا تَسَاويا عِنْده وَجب الشَّك على مَا ذَكرْنَاهُ وَالْعَمَل فِي هَذِه الْمسَائِل يتبع الظَّن لَا الشَّك وَأما إِن لم يلْزم المستفتي الِاجْتِهَاد فيهمَا فَلَا بُد من القَوْل بِأَنَّهُ يصير الْفِعْل مُبَاحا وَلَيْسَ هُنَاكَ اجْتِهَاد فِي أمارتين فَيمْتَنع مَعَ تساويهما عِنْد الْمُجْتَهد أَن يحكم بِحكم أَحدهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يَصح أَن يَقُوله الْمُجْتَهد من الْأَقَاوِيل وَمَا لَا يَصح وَهل يَصح أَن يُقَال لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْأَقَاوِيل المتناقضة لَا يَصح أَن يعتقدها أحد من النَّاس نَحْو أَن يعْتَقد أَن العفل حرَام عَلَيْهِ فِي وَقت مَخْصُوص فِي مَكَان مَخْصُوص على وَجه مَخْصُوص ويعتقد مَعَ هَذَا الِاعْتِقَاد أَن ذَلِك الْفِعْل حَلَال لَهُ على هَذِه الشُّرُوط فَأَما اعْتِقَاد وجوب فعلين ضدين على الْبَدَل والتخيير فَغير مُمْتَنع نَحْو أَن يعْتَقد أَن الْخُرُوج من الدَّار يجب من كلا بابيها على التَّخْيِير وَنَحْو الصَّلَاة فِي أَمَاكِن متضادة وَيجوز أَن يعْتَقد مُعْتَقد الِاعْتِدَاد بالأطهار وَالْحيض على الْبَدَل لِأَنَّهُ لَا تنَافِي فِي ذَلِك
وَذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الْعمد أَنه يَصح أَن يعْتَقد الْإِنْسَان إِثْبَات الحكم ونفيه وَكَون الْعِبَادَة وَاجِبَة ومستحبة وَكَون الْفِعْل حسنا وقبيحا كل ذَلِك على الْبَدَل وَمنع فِي الشَّرْح من دُخُول التَّخْيِير بَين الْمُسْتَحبّ والمباح قَالَ لِأَن لأَحَدهمَا مدخلًا فِي التَّعَبُّد دون الآخر فان قَالَ أُرِيد لَهُ أَن يفعل الْمُسْتَحبّ وَلَا يَفْعَله فَهُوَ صَحِيح كَانَ التَّخْيِير أَو لم يكن قَالَ وَأما التَّخْيِير(2/310)
بَين الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب فبعيد لِأَن ذَلِك يقْدَح فِي كَون الْوَاجِب وَاجِبا
وَأما نَحن فقد بَينا فِي الْبَاب الْمُتَقَدّم القَوْل فِي ذَلِك فَأَما مَا يعزى إِلَى الشَّافِعِي من الْقَوْلَيْنِ فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن ذَلِك يَصح من وُجُوه ثَلَاثَة
أَحدهَا أَنه يتكافى عِنْده أمارتا الْقَوْلَيْنِ فَيَقُول بهما على التَّخْيِير وَالْآخر أَن يكون قد فسد عِنْده مَا عداهما وَلَا يدْرِي ايهما الْحق من غير أَن يقويا وَالْآخر أَن يَكُونَا قد قَوِيا عِنْده قُوَّة مَا وَله فيهمَا نظر وَفَسَد مَا عداهما فَيُقَال لَهُ فِيهَا قَولَانِ على معنى أَنَّهُمَا قولاه اللَّذَان قواهما على مَا عداهما
وَلقَائِل أَن يَقُول أما تكافي الأمارتين فِي قَوْلَيْنِ نفي وَإِثْبَات وَالْقَوْل بِأَن الْمُكَلف يكون مُخَيّرا فيهمَا فقد بَينا أَنه لَا يَصح نَحْو مَا يَقُوله فِيمَا سقط من شعر اللِّحْيَة عَن الْوَجْه أَن فِيهِ قَوْلَيْنِ أَحدهمَا يجب غسله فِي الْوضُوء وَالْآخر لَا يجب وَأما تكافي الأمارتين فِي فعلين غير متنافيين نَحْو الِاعْتِدَاد بالأطهار وبالحيض فقد كَانَ يَصح التَّخْيِير بَين ذَلِك كَمَا يَصح التَّخْيِير بَين الْكَفَّارَات الثَّلَاث إِلَّا أَنه لَا يُقَال لمن اعْتقد التَّخْيِير فِي ذَلِك إِن لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَوْلَيْنِ بل قَول وَاحِد وَهُوَ القَوْل بالتخيير فانه مَا من أحد يَقُول إِن للْمُسلمين فِي كَفَّارَة الْيَمين ثَلَاثَة أقاويل أَحدهمَا أَن يكفر بِالْعِتْقِ وَالْآخر بالكسوة وَالْآخر بِالْإِطْعَامِ وَإِن لَهُم فِي الصَّلَاة فِي الْبِقَاع أقاويل كَثِيرَة وَفِي الْخُرُوج من دَار مَغْصُوبَة ذَات بَابَيْنِ قَولَانِ وَأما الْوَجْهَانِ الْآخرَانِ فالمرجع بهما إِلَى أَنه شَاك فِي قَوْلنَا وَمن شكّ فِي شَيْئَيْنِ وَجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا بَدَلا من الآخر لَا يكون لَهُ قَول فِي الْمَسْأَلَة أصلا فضلا أَن يُقَال لَهُ فِيهَا قَولَانِ فان من شكّ فِي أَن الْعَالم مُحدث أَو قديم لَا يُقَال لَهُ فِي الْعَالم قَولَانِ على أَنه قد قَالَ قولا نفيا وإثباتا لَا متوسط بَينهمَا فَلَا يُمكن أَن يُقَال قد فسد مَا عداهما وَتوقف فِي الصَّحِيح مِنْهُمَا نَحْو غسل مَا سقط عَن الْوَجْه من اللِّحْيَة
فَأَما مَا يحْكى عَن الشَّافِعِي من الْقَوْلَيْنِ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن الشَّافِعِي إِذا(2/311)
قَالَ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ فَلهُ ثَلَاثَة أَحْوَال أَحدهَا أَن لَا يكون لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَلَا فِيمَا يجْرِي مجْراهَا غير ذَلِك القَوْل وَظَاهر فِيمَا هَذِه حَاله أَن لَا ينْسب إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة غير ذَلِك القَوْل وَالْآخر أَن يكون لَهُ قَول آخر فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة أَو فِيمَا يجْرِي مجْراهَا وَالْآخر أَن يكون لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة أَو فِيمَا يجْرِي مجْراهَا قَولَانِ أَو أَكثر فان كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة قَول آخر ذكره فِي مَوضِع آخر فَلَا بُد من أَن يكون قد اثبتهما فِي زمَان بعد زمَان فان علمنَا الْمُتَأَخر مِنْهُمَا كَانَ ذَلِك القَوْل رُجُوعا إِلَى القَوْل الآخر لِأَنَّهُ لَا شَيْء أبلغ فِي رُجُوع الْعَالم عَن القَوْل من أَن يَقُول بضده وعَلى هَذَا يكون أَمر الله عز وَجل بضد مَا أَمر من قبل نَاسِخا لأَمره الأول فان لم يعلم الْمُتَأَخر مِنْهُمَا فَالْوَاجِب إسنادهما إِلَيْهِ وَيُقَال لَا يعلم الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا وَلَا يجوز أَن يُقَال إنَّهُمَا قولاه فِي حَالَة وَاحِدَة لأَنا غير عَالمين بذلك فَأَما إِن نَص على خلاف ذَلِك القَوْل فِي مَسْأَلَة تجْرِي مجْرى تِلْكَ الْمَسْأَلَة فان أمكن أَن يفرق بَينهمَا بعض الْمُجْتَهدين فانه لَا يَنْبَغِي أَن ينْقل قَوْله من إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى لجَوَاز أَن يكون قد فرق بَينهمَا وَإِن لم يُمكن أَن يذهب بعض الْمُجْتَهدين إِلَى الْفرق بَينهمَا فانه يجْرِي نَصه فِيهَا مجْرى أَن ينص فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة على قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين وَأما إِن وجد لَهُ فِي مَوضِع آخر قَولَانِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة بِعَينهَا فانه لَا يجوز أَن يحملا على اخْتِلَاف حَالين وَلَا يحمل على أَنَّهُمَا حِكَايَة عَن غَيره لِأَن الظَّاهِر خلاف ذَلِك فان أَشَارَ إِلَى أحد الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ وَهَذَا مِمَّا أستخير الله فِيهِ أَو قواه ضربا من التقوية فانه يدل على أَنه قد اخْتَارَهُ على القَوْل الآخر لِأَنَّهُ إِنَّمَا يخْتَار الْمُجْتَهد أحد الْقَوْلَيْنِ على ألاخر إِذا قوي عِنْده وَيجوز أَن يكون إِنَّمَا بَانَتْ لَهُ قُوَّة أَحدهمَا عِنْد فَرَاغه من إثباتهما فِي الْكتاب وَكَانَا متكافئين عِنْده لما ابْتَدَأَ باثباتهما وَإِن لم يقو أحد الْقَوْلَيْنِ فانه إِن كَانَ حِين نَص على أحد الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة لم تكن الْمَسْأَلَة مَقْصُودَة فِي كَلَامه فانه لَا يدل ذكره على أَنه فِي تِلْكَ الْحَال مَا كَانَ يَعْتَقِدهُ سواهُ لِأَن مَا لَيْسَ بمقصود لَا يَسْتَوْفِي القَوْل فِيهِ وَسَوَاء علمنَا تقدم بعضه على ذَلِك القَوْل أَو علمنَا تَأَخره أَو لم نعلم تقدمه وَلَا تَأَخره(2/312)
وَإِن كَانَت الْمَسْأَلَة مَقْصُودَة فِي كَلَامه فَذكره لذَلِك القَوْل يدل على أَنه لم يكن يعْتَقد فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة سواهُ فان علمنَا تَأَخره أَعنِي القَوْل الْمُنْفَرد كَانَ ذَلِك رُجُوعا عَن مَا عداهُ فان كَانَ هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ الآخرين فَهُوَ رُجُوع عَن القَوْل الآخر وَإِن كَانَ غَيرهمَا فَهُوَ رُجُوع عَنْهُمَا إِلَيْهِ وَإِن علمنَا تَأَخّر الْقَوْلَيْنِ فقد صَار لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ فان كَانَا سوى القَوْل الْمُنْفَرد فقد رَجَعَ عَن القَوْل النفرد وَإِن كَانَ القَوْل الْمُنْفَرد هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فقد صَار لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول آخر مَعَ ذَلِك القَوْل وَإِن لم نعلم تَأَخّر أحد النصين عَن الآخر وَجب حِكَايَة الْحَال وَيُقَال لَا نَدْرِي أَي النصين تقدم الآخر فان كَانَ نَصه على الْقَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَة يجْرِي مجْرى الْمَسْأَلَة الَّتِي نَص فِيهَا على القَوْل الْمُنْفَرد وَأمكن أَن يكون بَينهمَا فرق يذهب إِلَيْهِ الْمُجْتَهد فَيَنْبَغِي أَن يُقَال لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَول وَاحِد وَفِي الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى قَولَانِ وَإِن لم يُمكن أَن يفرق بَينهمَا مُجْتَهد فَالْقَوْل فيهمَا كالقول فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة وَقد دخل فِي جملَة هَذِه الْقِسْمَة أَن ينص على قَوْلَيْنِ مَعًا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة فَنَقُول فِيهَا قَولَانِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْوَجْه الَّذِي يجوز مَعَه تَخْرِيج الْمَذْهَب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن مَذْهَب الْإِنْسَان هُوَ اعْتِقَاده فَمَتَى ظننا اعْتِقَاد الْإِنْسَان أَو عَرفْنَاهُ ضَرُورَة أَو بِدَلِيل مُجمل أَو مفصل قُلْنَا إِنَّه مذْهبه وَمَتى لم نظن ذَلِك وَلم نعلمهُ لم نقل إِنَّه مذْهبه
وَقد يدل الْإِنْسَان على مذْهبه فِي الْمَسْأَلَة بِوُجُوه مِنْهَا أَن يحكم فِي الْمَسْأَلَة بِعَينهَا بِحكم معِين وَمِنْهَا أَن يَأْتِي بِلَفْظ عَام يَشْمَل تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَغَيرهَا فَيَقُول الشُّفْعَة لكل جَار وَمِنْهَا أَن يعلم أَنه لَا فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وينص على حكم احدهما فَيعلم أَن حكم الاخرى عِنْد ذَلِك الحكم نَحْو أَن يَقُول الشُّفْعَة لِجَار الدّكان فَيعلم أَن الشُّفْعَة عِنْده لِجَار الدَّار إِذْ قد علمنَا أَنه لَا يفرق بَين الدَّار(2/313)
والدكان وَمِنْهَا أَن يُعلل الحكم بعلة تُوجد فِي عدَّة مسَائِل فَيعلم أَن مذْهبه شُمُول ذَلِك الحكم لتِلْك الْمسَائِل سَوَاء قَالَ بتخصيص لعِلَّة أَو لم يقل أما إِذا لم يقل بتخصيص الْعلَّة وَقَالَ النِّيَّة وَاجِبَة فِي التَّيَمُّم لِأَنَّهُ طَهَارَة عَن حدث فقد اعْتقد وجوب النِّيَّة لأجل هَذِه الْعلَّة فاذا علم أَن الْعلَّة شَامِلَة علم شُمُول حكمهَا فَأَما من يجوز تَخْصِيص الْعلَّة فانه يجوز تخصيصها إِذا دلّ على تخصيصهما دلَالَة كالعموم فَكَمَا أَن كَلَام الْعَالم الْعَام يدل على مذْهبه فَكَذَلِك تَعْلِيله
فَأَما إِذا نَص الْعَالم فِي مَسْأَلَة على حكم وَكَانَت الْمَسْأَلَة تشبه مَسْأَلَة أُخْرَى شبها يجوز أَن يذهب على بعض الْمُجْتَهدين فانه لَا يجوز أَن يُقَال قَوْله فِي هَذِه الْمَسْأَلَة هُوَ قَوْله فِي الْمَسْأَلَة الْأُخْرَى لِأَنَّهُ قد لَا تخطر الْمَسْأَلَة بِبَالِهِ وَلم يُنَبه على حكمهَا لفظا وَلَا معنى وَلَا يمْتَنع لَو خطرت بِبَالِهِ لصار فِيهَا إِلَى الِاجْتِهَاد الآخر
فان قيل أَلَيْسَ إِذا نَص الله تَعَالَى على حكم مَسْأَلَة ثمَّ نبه على علته وَرَأى بعض الْمُجْتَهدين أَن عِلّة ذَلِك الحكم مَوْجُودَة فِي فرع فانكم تَقولُونَ من دين الله وَدين رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحكم فِي الْفَرْع بِحكم الأَصْل فَهَلا قُلْتُمْ فِي نَص الْمُجْتَهد مثل ذَلِك قيل لَهُ إِنَّمَا قُلْنَا إِن ذَلِك دين الله تَعَالَى لِأَنَّهُ قد دلنا على الْعلَّة بتنبيه عَلَيْهَا ودلنا على أَنه قد تعبدنا باجراء حكمهَا بتبعها والعالم لم يدلنا على مذْهبه فِي غير مَا نَص عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون مِمَّن يفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ ويخطىء فِي الْفرق بَينهمَا وَلَا يجوز مثل ذَلِك على الله سُبْحَانَهُ(2/314)
الْكَلَام فِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْأَشْيَاء هَل هِيَ قبل الشَّرْع على الْحَظْر أَو على الْإِبَاحَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن أَفعَال الْمُكَلف فِي الْعقل ضَرْبَان قَبِيح وَحسن فالقبيح كالظلم وَالْجهل وَالْكذب وَكفر النِّعْمَة وَغير ذَلِك وَالْحسن ضَرْبَان أَحدهمَا يتَرَجَّح فعله على تَركه وَالْآخر لَا يتَرَجَّح فعله على تَركه فَالْأول مِنْهُ مَا الأولى أَن نَفْعل كالإحسان والتفضل وَمِنْه مَا لَا بُد من فعله وَهُوَ الْوَاجِب كالإنصاف وشكر الْمُنعم وَأما الَّذِي لَا يتَرَجَّح فعله على تَركه فَهُوَ الْمُبَاح وَذَلِكَ كالانتفاع بالمآكل والمشارب وَهَذَا مَذْهَب الشَّيْخَيْنِ أبي عَليّ وَأبي هَاشم وَالشَّيْخ ابي الْحسن وَذهب بعض شُيُوخنَا البغداديين وَقوم من الْفُقَهَاء إِلَى أَن ذَلِك مَحْظُور وَتوقف آخَرُونَ فِي حظر ذَلِك وإباحته
وَقد تقدم معنى الْمُبَاح والمحظور فَلَا معنى لإعادته غير أَنه قد يُوصف الْفِعْل بِأَن الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَقَط مُبَاح وَإِن كَانَ مَحْظُورًا تَركه كوصفنا الْمُرْتَد بِأَنَّهُ مُبَاح الدَّم وَمَعْنَاهُ أَنه لَا ضَرَر على من اراق دَمه وَلَا تبعة وَإِن كَانَ الإِمَام ملوما بترك إراقته وَدَلِيلنَا على أَن الِانْتِفَاع بالمآكل مُبَاح فِي الْعقل هُوَ أَن الِانْتِفَاع بهَا مَنْفَعَة لَيْسَ فِيهِ وَجه من وُجُوه الْقبْح وكل مَا هَذِه سَبيله فحسنه مَعْلُوم وَالْعلَّة فِي حسن مَا هَذِه سَبيله هِيَ أَن الْمَنْفَعَة تَدْعُو إِلَى الْفِعْل وتسوغه إِذْ هِيَ غَرَض من الْأَغْرَاض فاذا انْتَفَى وُجُوه عَنْهَا تجرد مَا يَقْتَضِي الْحسن أما أَن أكل الْفَاكِهَة مَنْفَعَة فَلَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا شُبْهَة فِي انْتِفَاء وُجُوه الْقبْح عَنهُ نَحْو الْكَذِب وَالْجهل وَكفر النِّعْمَة أَو مضرَّة على النَّفس أَو على الْغَيْر لأَنا إِنَّمَا تكلمنا فِي أكل مَا لَا مضرَّة فِيهِ وَلَو كَانَ فِيهِ مفْسدَة لدلنا الله عَلَيْهَا(2/315)
وَلَيْسَ فِي الْعقل دَلِيل عَلَيْهَا وَلَا فِي السّمع
إِن قيل جَوَاز كَونه مفْسدَة يُغني فِي قبحه كَمَا يُغني جَوَاز كَون الْخَبَر كذبا فِي قبحه وَإِذا قبح مَعَ الْجَوَاز لم يجب فِي الْحِكْمَة تَعْرِيف كَونه مفْسدَة قيل قد أُجِيب عَن السُّؤَال بأَشْيَاء
مِنْهَا أَنا كَمَا نعلم قبح خبر لَا نَأْمَن كَونه كذبا فانا نعلم حسن مَنْفَعَة لَا نعلم فِيهَا وَجها من وُجُوه الْقبْح أَلا ترى أَنا نعلم حسن التنفس فِي الْهَوَاء أَو التَّصَرُّف فِيهِ وَلَيْسَ يضرنا أَن لَا نَعْرِف الْفرق بَين ذَلِك وَبَين الْخَبَر الَّذِي يقبح إِذا جَوَّزنَا كَونه كذبا وَهَذَا الْجَواب لَا يَصح لِأَن الْمُسْتَدلّ رام أَن يثبت حسن هَذَا التَّصَرُّف بِانْتِفَاء وُجُوه الْقبْح عَنهُ وَاسْتدلَّ على انْتِفَاء كَونه مفْسدَة بِأَنَّهُ لَو كَانَ مفْسدَة للَزِمَ فِي الْجُمْلَة تعريفنا كَونه مفْسدَة وَهَذَا الْجَواب يَنْفِي وُجُوه الْقبْح عَنهُ تبعا للْعلم بِأَنَّهُ حسن فَهُوَ مُخَالف لموضوع الدّلَالَة وَهُوَ انْتِقَال إِلَى دلَالَة أُخْرَى وَهِي قِيَاس سَائِر الْمَنَافِع على التنفس فِي الْهَوَاء وَسَيَجِيءُ الْكَلَام على هَذَا الْقيَاس
وَمِنْهَا أَن الْكَذِب يقبح على كل وَجه وَإِن اخْتصَّ بنفع وَدفع ضَرَر وَلَيْسَ كَذَلِك الْمَنَافِع والمضار وَلقَائِل أَن يَقُول وَلم إِذا افْتَرقَا من هَذِه الْجِهَة وَجب إِذا قبح أَحدهمَا لتجويز كَونه كذبا لَا يقبح الآخر لتجويز كَونه مفْسدَة وَأَيْضًا فان الْمفْسدَة لَا تحسن على وَجه وَإِن اخْتصّت بنفع أَو دفع ضَرَر كَمَا أَن الْكَذِب لَا يحسن مَعَ النَّفْع وَرفع الضَّرَر فَهَلا كَانَ تَجْوِيز الْمفْسدَة كتجويز كَون الْخَبَر كذبا فِي تقبيح الْفِعْل
وَمِنْهَا أَن الأَصْل فِي النَّفْع أَن يكون حسنا وَأَن يكون خَالِصا إِذا لم يعلم فِيهِ مضرَّة وَوجه قبح فاذا كَانَ كَذَلِك وَجب مَتى لم يخبرنا الله أَن الْفِعْل مفْسدَة أَن نقطع على أَنه لَيْسَ بمفسدة وَلَيْسَ كَذَلِك الْخَبَر لِأَنَّهُ لَيْسَ الأَصْل فِيهِ كَونه صدقا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن أردتم بِهَذَا الْكَلَام أَن النَّفْع الَّذِي لَا يعلم(2/316)
فِيهِ وَجه قبح يجب الْقطع على أَنه لَيْسَ فِيهِ وَجه قبح فَفِي ذَلِك تخالفون لِأَن مخالفكم يَقُول مَتى لم نعلم فِيهِ وَجه قبح فَنحْن نجوزه وَإِن أردتم ان الْغَالِب فِيمَا هَذِه سَبيله أَنه لَيْسَ فِيهِ وَجه قبح قيل لكم لم زعمتم أَن الْغَالِب مَا ذكرْتُمْ وَلم إِذا كَانَ الْغَالِب ذَلِك لم يكن تَجْوِيز وَجه الْقبْح كَافِيا فِي الْقبْح
وَيُمكن الِاسْتِدْلَال بالنفع على وَجه آخر فَيُقَال إِن النَّفْع يَدْعُو إِلَى الْفِعْل وَيَقْتَضِي حسنه إِذا خلا من وُجُوه الْقبْح وخلا من أَمارَة الضَّرَر والمفسدة وَالِانْتِفَاع بالمآكل هَذِه سَبيله فِي الْعقل فَكَانَ حسنا وَالدّلَالَة على أَن الْمُعْتَبر هُوَ بأمارة الضَّرَر والمفسدة هِيَ أَن الْعُقَلَاء يلومون من امْتنع عَن الْفِعْل لتجويز الضَّرَر بِلَا أَمارَة ويعذرونه إِذا كَانَت فِيهِ أَمارَة أَلا تراهم يلومون من قَامَ من تَحت حَائِط لَا ميل فِيهِ لجَوَاز سُقُوطه لفساد فِي اساسه وَفِي بَاطِنه وَلَا يلومونه إِذا كَانَ مائلا وَلَا يلومون من امْتنع من أكل طَعَام شهي لأمارة دلّت على أَنه مَسْمُوم ويلومونه من جِهَة الْعقل إِذا امْتنع مِنْهُ لتجويز كَونه مسموما وَلَيْسَ يلومونه على ذَلِك لِأَنَّهُ خَالف الشَّرْع فِي امْتِنَاعه من ذَلِك بل رُبمَا لَا يخْطر الشَّرْع ببالهم فِي ذَلِك الْوَقْت وَلِأَن لومهم على ذَلِك لَيْسَ كلومهم من امْتنع من أكل لحم الْحَيَوَان وَلِأَن البراهمة يلومونه على ذَلِك وَلَا يعْرفُونَ الشَّرْع وَأما أَن الِانْتِفَاع بالمأكل هَذِه سَبيله فُلَانُهُ ظَاهر خلوه من كَونه كذبا وجهلا وَكفر نعْمَة وَكَونه تَصرفا فِي ملك الْغَيْر إِنَّمَا يقبح الْفِعْل إِذا استضر بِهِ الْغَيْر على مَا سنشرحه وَأما كَونه مفْسدَة ومضرة فاستبعاد الْعُقَلَاء لَهُ كاستبعادهم أَن يكون الطَّعَام مسموما وَأَن الْحَائِط الَّذِي لَا ميل فِيهِ يسْقط وَأما الْأَخْبَار إِذا لم يُؤمن كذبهَا فقد علمنَا قبحها وَإِن لم نشْهد أَمارَة بكذبها كَمَا نعلم حسن نفع لَا أَمارَة فِيهِ بِكَوْنِهِ مفْسدَة ومضرة وَلَا يضرنا أَن لَا نَعْرِف الْعلَّة فِي ذَلِك وَأَيْضًا فالنفع وَجه يحسن وَلَيْسَ كَون الْخَبَر خَبرا وَجه حسن وَلَا الْأَظْهر أَن يكون صدقا
جَوَاب آخر لَو قبح الْإِقْدَام على الْمَنَافِع لتجويز كَونهَا مفْسدَة لقبح(2/317)
الإحجام عَنْهَا لتجويز كَونه مفْسدَة وَفِي ذَلِك وجوب الانفكاك مِنْهُمَا وَذَلِكَ وجوب مَا لَا يُطَاق فَبَطل أَن يكون تَجْوِيز كَون الْفِعْل مفْسدَة وَجه قبح وَلَا يلْزم إِذا قبح الْخَبَر لجَوَاز كَونه كذبا أَن يقبح تَركه لِأَن تَركه لَيْسَ بِخَبَر فَيجوز كَونه كذبا وَلَا يلْزمنَا وجوب فعل الْخَبَر لجَوَاز كَونه صدقا لِأَن الْقطع على كَونه صدقا لَا يُوجب فعله فضلا عَن جَوَاز كَونه صدقا
فان قيل لَيْسَ بِأَن يقبح لجَوَاز كَونه كذبا بِأولى من أَن يحسن لجَوَاز كَونه صدقا قيل اعْتِبَار وَجه الْقبْح أولى لأَنا إِذا فعلنَا الْخَبَر لم نَأْمَن كَونه كذبا قبيحا فاذا تَرَكْنَاهُ لم نَكُنْ خَائِفين من الْوُقُوع فِي الْقبْح
فان قيل لَيْسَ بِأَن يقبح الْخَبَر لجَوَاز كَونه كذبا باولى من أَن يجب لجَوَاز كَون الْإِخْلَال بِهِ مفْسدَة قيل كَيفَ يلْزمنَا ذَلِك وَنحن نقُول إِن تَجْوِيز كَون الْفِعْل مفْسدَة من غير أَمارَة لَا يَقْتَضِي قبح الْفِعْل وَلَو لم يدل على ذَلِك إِلَّا هَذَا الْوَجْه لكفى
فان قيل إِن تَجْوِيز الْمفْسدَة وَجه الْقبْح وَهُوَ إِن حصل فِي الْإِقْدَام على الْمَنْفَعَة وَفِي الإحجام عَنْهَا فانا نتخلص من هَذَا الْفساد بِالتّرْكِ لِأَن الشَّرْع لَا يَنْفَكّ مِنْهُ الْعقل فيبين هَل فِي ذَلِك مفْسدَة أم لَا قيل إِنَّا لم نتكلم فِي الْعقل لَا يَنْفَكّ من الشَّرْع وَإِنَّمَا تكلمنا على أَنه لَو انْفَرد الْعقل هَل كَانَ يقبح هَذَا الْإِقْدَام على الْمَنَافِع أم لَا وَقد بَان أَنه لَا وَجه يُوجب قبحه ثمَّ يُقَال لَهُم كَيفَ تستدلون بذلك على وجوب اقتران الْعقل بِالشَّرْعِ فان قَالُوا بِأَن نقُول لَو انْفَرد الْعقل عَن الشَّرْع لم يحسن الْإِقْدَام على الْمَنَافِع والإحجام عَنْهَا لجَوَاز كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا مفْسدَة وَلم يقبح الْإِقْدَام والإحجام تبعا لِاسْتِحَالَة الانفكاك مِنْهُمَا ومحال إنفكاك الْمَنَافِع من هَذِه الْأَقْسَام فانفكاك الْعقل عَن سمع قد أدّى إِلَى هَذَا الْفساد فَلم يجز أَن يَنْفَكّ من سمع قيل لَهُم أَرَأَيْتُم لَو انْفَكَّ الْعقل عَن سمع أَكَانَ يجب الانفكاك من الْإِقْدَام على الْمَنَافِع وَمن الإحجام فان قَالُوا لَيْسَ بِأَن لَا يجب ذَلِك لِاسْتِحَالَة بِأولى من أَن يجب(2/318)
لقبح الْإِقْدَام والإخلال قيل لَهُم ارأيتم لَو أقدم الْمُكَلف على الْمَنَافِع أَو أخل بهَا كَانَ يحسن ذمه فان قَالُوا لَا نَدْرِي كَانُوا قد جوزوا حسن الذَّم على مَا لَا يُمكن انفكاك مِنْهُ وَمَعْلُوم بطلَان ذَلِك وَإِن قَالُوا كَانَ لَا يحسن الذَّم قيل لَهُم فاذا لم يَنْفَكّ الشَّرْع عَن عقل حسن من الْمُكَلف الْإِقْدَام وَحسن الإحجام وَأَيْضًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَقُولُوا إِن الْمُكَلف يلْزمه الْإِخْلَال بالمنافع قبل الشَّرْع لأَنهم قد أقرُّوا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يقبح الْإِقْدَام بِأولى من أَن يقبح الإحجام وَأَيْضًا فان الانفكاك من شرع لَا يُؤَدِّي إِلَى الْفساد الَّذِي ذَكرُوهُ لِأَن الْمُكَلف يَقُول إِن لي إِلَهًا حكيما وَلَيْسَ يجوز أَن يجب عَليّ الانفكاك من الْإِقْدَام على الْمَنَافِع وَمن الإحجام عَنْهَا لِأَن ذَلِك يَسْتَحِيل فاذا لَيْسَ يجْتَمع الْإِقْدَام والإخلال بهَا فِي الْقبْح وَلَو انْفَرد أَحدهمَا بالْحسنِ دون الآخر لوَجَبَ فِي حِكْمَة الْمُكَلف أَن يفرق لي بَينهمَا بِدَلِيل عَقْلِي أَو سَمْعِي إِذْ كنت لَا أعرف ذَلِك ضَرُورَة وَلَيْسَ فِي الْعقل تَجْوِيز كَون أَحدهمَا مفْسدَة دون الآخر وَإِذا لم يفرق لي بَينهمَا فَلَيْسَ ينْفَرد أَحدهمَا بالْحسنِ دون الْقبْح وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقبْح فاذن يَجْتَمِعَانِ فِي الْحسن وَأَيْضًا فان كَانَ انفكاك الْعقل من سمع يُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْمحَال فَمَا يصنع النَّاظر عِنْد ابْتِدَائه بِالنّظرِ قبل وُصُوله إِلَى النّظر فِي النبوات
فإمَّا القَوْل بِأَن الْإِقْدَام على الْمَنَافِع قَبِيح لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فان قاسوه على تصرف بَعْضنَا على ملك بَعْص بِغَيْر إِذْنه فَبَاطِل لِأَن فِي الِامْتِنَاع عَنْهَا إِضْرَار بِالنَّفسِ وَهُوَ تصرف فِي ملك الله بِغَيْر إِذْنه فَيجب قبح الْإِقْدَام وَذَلِكَ محَال وَأَيْضًا فَمَعْنَى الْملك فِينَا وَفِي ملك الله تَعَالَى يخْتَلف وَالْجمع بِهِ بَين ملك الله تَعَالَى وملكنا جمع بِغَيْر عِلّة وَاحِدَة وَذَلِكَ أَن معنى كوننا مالكين للشَّيْء هُوَ أَنا أَحَق بِالِانْتِفَاعِ بِهِ من غَيرنَا على الْإِطْلَاق وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على الله تَعَالَى وَمعنى كَونه مَالِكًا للشَّيْء هُوَ أَنه قَادر على إيجاده وإفنائه فان قَالُوا بل معنى كَونه مَالِكًا للمنافع هُوَ أَنه لَيْسَ لغيره التَّصَرُّف فِيهَا إِلَّا بلإذنه وَله الْمَنْع مِنْهَا قيل هَذَا تَعْلِيل الحكم بِنَفسِهِ وَمَعَ ذَلِك فَلم نسلم(2/319)
مَا ذكرتموه وَأَيْضًا فان الْإِنْسَان إِنَّمَا يكون مَالِكًا للشَّيْء وأحق بِهِ من غَيره بِالشَّرْعِ لِأَن عنْدكُمْ أَن الْعقل لَا يَقْتَضِي جَوَاز تصرف الْإِنْسَان فِي الشَّيْء فاذا لم يكن هَذَا الأَصْل ثَابتا فِي الْعقل عنْدكُمْ وَكَانَ كلامنا فِيمَا يَقْتَضِيهِ مَا يثبت فِي الْعقل سقط مَا قُلْتُمْ وَأَيْضًا فانه إِنَّمَا يقبح تصرفنا فِي ملك غَيرنَا لِأَنَّهُ يضرّهُ لَا لِأَنَّهُ مَالِكه فَقَط أَلا ترى أَنه يحسن منا الاستظلال بحائط غَيرنَا وَالنَّظَر فِي مرآته والتقاط مَا تناثر من حب غَلَّته بِغَيْر إِذْنه مَا لم يضرّهُ ذَلِك وَالْمَنَافِع والمضار يستحيلان على الله تَعَالَى
وَقد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن إِبَاحَة ذَلِك فِي الْعقل تجْرِي مجْرى إِذن سَمْعِي وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا نعلم أَن الله تَعَالَى قد أَبَاحَهُ فِي الْعقل إِذا أفسدتم أَن يكون كَون التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر وَجه قبح وَمَتى جوز ذَلِك لم نعلم إِبَاحَة الله تَعَالَى لذَلِك
دَلِيل خلق الله تَعَالَى الطعوم فِي الْأَجْسَام مَعَ إِمْكَان أَن لَا يخلقها فِيهَا يَقْتَضِي أَن يكون لَهُ فِيهَا غَرَض يَخُصهَا وَإِلَّا كَانَت عَبَثا ويستحيل أَن يعود إِلَيْهِ ذَلِك الْغَرَض بنفع أَو دفع ضَرَر لاستحالتهما عَلَيْهِ وَلَا يجوز أَن يعود على غَيره بِضَرَر لِأَنَّهُ قد لَا يكون فِيهَا ضَرَر وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا تضر بادراكها وَفِي ذَلِك إِبَاحَة إِدْرَاكهَا وَلِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يكون غَرَضه الْإِضْرَار الْخَالِص بِمن لَا يسْتَحق الْإِضْرَار فَوَجَبَ أَن يكون الْغَرَض بادراكها نفعا يعود إِلَى غَيره إِمَّا بِأَن يُدْرِكهَا أَو بِأَن يجتنبها لكَون تنَاولهَا مفْسدَة فَيسْتَحق الثَّوَاب بادراكها وَإِمَّا بِأَن يسْتَدلّ بهَا وَفِي ذَلِك إِبَاحَة إِدْرَاكهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَحق الثَّوَاب بتجنبها إِذا دعت النَّفس إِلَى إِدْرَاكهَا وَفِي ذَلِك تقدم إِدْرَاكهَا وَإِنَّمَا يسْتَدلّ بهَا إِذا عرفت والمعرفة بهَا مَوْقُوفَة على إِدْرَاكهَا لِأَن الله تَعَالَى لم يخلق فِينَا الْمعرفَة بهَا من دون الْإِدْرَاك فصح أَنه لَا فَائِدَة فِيهَا إِلَّا الْإِبَاحَة للِانْتِفَاع بهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يركب الله فِي الْعُقُول إِبَاحَة الِانْتِفَاع بِتِلْكَ الْأَجْسَام ليعلم حُصُول الطعوم فِيهَا فينتفع بهَا بِأحد هَذِه الْوُجُوه(2/320)
وَقد قيل لَو خلقهَا ليستدل بهَا لَا لينْتَفع بهَا بِالْأَكْلِ لَكَانَ قد خلق مَا يُمكن أَن ينْتَفع بِهِ من وَجْهَيْن وَقصد الِانْتِفَاع بِأَحَدِهِمَا فَقَط مَعَ إِمْكَان الِانْتِفَاع بِالْوَجْهِ الآخر وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَونهَا عَبَثا من الْوَجْه الَّذِي لم يَقْصِدهُ لِأَن كلا الْوَجْهَيْنِ يجريان مجْرى فعلين متميزين فَكَمَا أَنه لَو فعل أَحدهمَا لغَرَض وَفعل الآخر لَا لغَرَض لَكَانَ عَبَثا فَكَذَلِك الْوَجْهَانِ وَلَا يلْزم على ذَلِك أَن يقْصد الِانْتِفَاع للْمَلَائكَة بِأَكْل المأكولات وَأَن يقْصد اسْتِدْلَال اهل الْجنَّة بِمَا يخلقه لَهُم لِأَن استدلالهم بذلك على الله لَا يُمكن مَعَ علمهمْ بِهِ ضَرُورَة وَكَذَلِكَ انْتِفَاع الْمَلَائِكَة من جِهَة الْعقل وَلقَائِل أَن يَقُول وَلَا يجوز أَن يقْصد انتفاعنا بالطعوم من جِهَة الْأكل لِأَن ذَلِك مفْسدَة وَلَو حسن أَن يقْصد لم يمْتَنع أَن يقْصد الِانْتِفَاع بالطعوم من أحد الْوَجْهَيْنِ دون الآخر لِأَن الْأَصْلَح فِي الدُّنْيَا غير وَاجِب على قَول الشَّيْخ وَقَوْلهمْ إِن الْوَجْهَيْنِ يجريان مجْرى الْفِعْلَيْنِ إِن أَرَادوا بِهِ أَنَّهُمَا كالفعلين فِي وجوب حُصُول غَرَض فيهمَا لم نسلمه وَلنَا أَن نقُول إِن الْفِعْلَيْنِ المتميزين إِذا فعل الْفَاعِل أَحدهمَا لَا لغَرَض فقد أوجد فعلا لَا غَرَض فِيهِ وَكَانَ عَبَثا فَأَما الْفِعْل الْوَاحِد إِذا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ من وَجْهَيْن فقصد أَحدهمَا فانه قد فعل الْفِعْل لغَرَض فَلم يكن عَبَثا
دَلِيل وَقد اسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ يحسن من الْعُقَلَاء التنفس فِي الْهَوَاء وَأَن يدخلُوا مِنْهُ أَكثر مِمَّا تحْتَاج إِلَيْهِ الْحَيَاة وَمن رام أَن يقدر على نَفسه ذَلِك وَلَا يزِيد على قدر مَا تحْتَاج إِلَيْهِ الْحَيَاة عده الْعُقَلَاء من المجانين وَالْعلَّة فِي حسن ذَلِك أَنه انْتِفَاع لَا يعلم فِي مفْسدَة وَلَا مضرَّة وَهَذَا قَائِم فِي غير ذَلِك وَلَيْسَ لأحد أَن يَجْعَل عِلّة حسن ذَلِك أَن فِيهِ بَقَاء الْحَيَاة وَفِي تَركه هلاكها مَعَ أَنَّهَا ملك الْغَيْر وَأَن الْإِنْسَان ملْجأ إِلَى ذَلِك لأَنا فَرضنَا الْمَسْأَلَة فِي قدر يَنْفِي الْحَيَاة من دونه على أَن الْكَفّ عَن التنفس إِن أتلف الْحَيَاة فَلَيْسَ يجب أَن يقبح من الْإِنْسَان على قَوْلكُم لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب على الْإِنْسَان أَن يصلح ملك غَيره وَإِنَّمَا يجب عَلَيْهِ أَن لَا يتلفه(2/321)
فان قيل إِنَّمَا يحسن من الْإِنْسَان أَن يتنفس ليندفع عَن قلبه الْحَرَارَة وَذَلِكَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْحَيَاة وَمَا زَاد عَلَيْهِ يضر وَلَا يحسن قيل لَيْسَ يجب أَن يكون مَا زَاد على مَا تحْتَاج إِلَيْهِ الْحَيَاة مضرا بل لَا يمْتَنع أَن يكون نَافِعًا ملذا كَمَا لَا يمْتَنع أَن لَا يكون مَا زَاد على مَا يثبت مَعَه الْحَيَاة من المأكل مضرا بل يكون نَافِعًا ملذا يَقْتَضِي خصب الْبدن فَلم يلْزم مَا ذكره السَّائِل من قبح هَذِه الزِّيَادَة وَهَذِه الدّلَالَة ترجع إِلَى الدّلَالَة الْمُتَقَدّمَة وَهِي أَن الْمَنَافِع لَا يقْدَح فِي حسنها تَجْوِيز الْمفْسدَة والمضرة وَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن من استنشاق الْهَوَاء هُوَ مِثَال لما ذَكرْنَاهُ أَن من الْعُقَلَاء يستحسنون أَمْثَال هَذِه الْمَنَافِع فَأَما من توقف فَقَالَ لَا أَدْرِي هَل الْأَشْيَاء على الْحَظْر أَو على الْإِبَاحَة فَقَوله بَاطِل بِمَا ذَكرْنَاهُ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يَقُول لَو انْفَرد الْعقل لَاسْتَحَقَّ من أقدم على الْمَنَافِع الذَّم فنجعلها محظورة أَو يَقُول لَا يسْتَحق الذَّم فنجعلها مُبَاحَة فاذا صَحَّ أَن من الْأَشْيَاء مَا هُوَ على الْحَظْر وَمِنْهَا مَا هُوَ على الْإِبَاحَة كَانَ ذَلِك أصلا فِي الدّلَالَة على إِبَاحَة الْمُبَاح مِنْهَا وحظر الْمَحْظُور إِذا لم تنقلنا عَنهُ الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي فُصُول طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه لَا يَنْبَغِي أَن نتكلم فِي شُرُوط الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَّا بعد أَن نبين أَنه لَا بُد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من طرق عقلية أَو شَرْعِيَّة نفيا كَانَ الحكم أَو إِثْبَاتًا ونبين الْفَصْل بَين مَا هُوَ طَرِيق فِي ذَلِك وَمَا لَيْسَ بطرِيق ليعمد الْمُسْتَدلّ إِلَى مَا هُوَ طَرِيق فيستدل بِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن نبين أَنه لَا بُد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من طَرِيق إِمَّا عَقْلِي وَإِمَّا شَرْعِي وَيدخل فِي الطَّرِيق الْعقلِيّ فصلان أَحدهمَا أَن يبين الْفَصْل بَين الِاسْتِدْلَال بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل وَبَين مَا يلتبس بذلك من اسْتِصْحَاب الْحَال وَالْآخر أَن يبين الْفَصْل بَين مَا يَصح أَن يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِالْعقلِ وَمَا لَا يَصح وَيدخل فِي الطَّرِيق السمعي فصلان أَحدهمَا(2/322)
أَن يبين أَن السّمع الدَّال على الحكم يجب أَن يتَنَاوَلهُ إِمَّا صَرِيحًا وَإِمَّا غير صَرِيح وَلَا يجوز أَن يُقَال للمكلف احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ وَالْآخر أَن ذَلِك السّمع فِي شرعنا هُوَ الْقُرْآن دون غَيره من الْكتب الْمُتَقَدّمَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا يجوز إِثْبَاتهَا إِلَّا بطرِيق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الحكم الشَّرْعِيّ يجب كَونه مَعْلُوما وَإِلَّا لم يُؤمن كَونه خطأ وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الْعلم بِهِ فِي البديهة أَو لَا يكون فِيهَا فَلَو كَانَ فِيهَا لاشترك الْعُقَلَاء فِيهِ ولأنا نعلم أَنه لَيْسَ فِي البديهة الْعلم بِوُجُوب صَوْم أول يَوْم من شهر رَمَضَان وَسُقُوط وجوب مَا قبله وَإِذا لم يكن الْعلم بِهِ فِي البديهة لم يجز حُصُوله لنا إِلَّا بِأَمْر يوصلنا إِلَيْهِ إِمَّا إِدْرَاك أَو خبر متواتر أَو دَلِيل يجوز كَونهَا مدركة وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الْعلم إِذا كَانَ الْمخبر مدْركا لما أخبر بِهِ فَبَقيَ أَن يكون الْموصل إِلَى الْعلم بِهِ هُوَ الدَّلِيل
فَأَما من لَا يثبت الحكم فِي الشَّيْء فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون شاكا فِي إثْبَاته أَو مُعْتَقدًا أَو ظَانّا لنفيه فان اعْتقد أَو ظن نَفْيه وَأقر أَنه لم يصر إِلَى اعْتِقَاده أَو ظَنّه بطريقة فقد أقرّ أَنه منحت وَأَن ظَنّه جَار مجْرى ظن السوداوي وَإِن ادّعى أَنه صَار إِلَى ذَلِك بطريقة ودعا إِلَى اعْتِقَاده وظنه فَلَا بُد من أَن يذكر طَرِيقَته الَّتِي أدته إِلَى ذَلِك الِاعْتِقَاد أَو الظَّن لِأَنَّهُ إِن ألزم غَيره الْمصير إِلَيْهِ من غير أَنه يُمكنهُ من طَرِيقَته الَّتِي أوصلت إِلَى الْمَذْهَب فقد ألزمهُ مَا لَا يطيقه
والطريقة إِلَى الْمَذْهَب ضَرْبَان إِثْبَات وَنفي أما الْإِثْبَات فبأن ينص الله تَعَالَى أَو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك الحكم أَو تجمع الْأمة عَلَيْهِ أَو يدل الْقيَاس عَلَيْهِ وَأما النَّفْي فبأن يفقد النَّاظر بعد الفحص الشَّديد دَلِيلا على ذَلِك الحكم مَعَ أَنه لَو كَانَ ثَابتا لَكَانَ عَلَيْهِ دَلِيل وَهَذِه الطَّرِيقَة لَا بُد من الْبَيِّنَة عَلَيْهَا غير أَنه لَا يُمكن النَّافِي للْحكم أَو يُوقف المناظر لَهُ على دَلِيل من أَدِلَّة(2/323)
الْعقل أَو الشَّرْع ويعرفه أَنه لَا دَلِيل فِيهِ على ذَلِك الحكم وَالْوَاجِب على مخالفه أَن يرِيه دَلِيلا على إِثْبَات مَا نَفَاهُ ليَقَع الْكَلَام فِيهِ فان كَانَ الدَّلِيل إِثْبَاتًا وَجب أَن يُعينهُ
وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يثبت الحكم فِي الشَّيْء شاكا فِيهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون شاكا فِيهِ لطريقة أفضت بِهِ إِلَى الشَّك أَو لَا لطريقة فان شكّ لَا لطريقة بل لِأَنَّهُ لم يكن اسْتدلَّ عَلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ لَهُ مَذْهَب فَيُقَال أَنه صَار إِلَيْهِ لطريقة يجب عَلَيْهِ ذكرهَا إِذا استدعى غَيره إِلَى مذْهبه وَإِن كَانَ صَار إِلَى الشَّك لطريقة فاما أَن يكون فقد دلَالَة على الْمَذْهَب بعد الفحص الشَّديد مَعَ أَن ذَلِك الشَّيْء لَا يجوز أَن يكون ثَابتا وَلَا يدل عَلَيْهِ دَلِيل وَإِمَّا أَن يكون قد دلّ على فقد الدّلَالَة على ذَلِك الْمَذْهَب دَلِيل مُبْتَدأ نَحْو أَن يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا دَلِيل على هَذَا الشَّيْء وَفِي كلا الْقسمَيْنِ يكون الشاك مُعْتَقدًا أَنه لَا دَلِيل على ذَلِك الْمَذْهَب فيعتقد وجوب الشَّك فِيهِ وَله فِي الْحَالين مَذْهَب قد صَار إِلَيْهِ بطريقة فَمَتَى دَعَا إِلَيْهِ غَيره فَالْوَاجِب أَن يذكر لَهُ طَريقَة لتؤديه إِلَى مثل مَا أدته إِلَيْهِ
وَإِن كَانَت طَرِيقَته الْإِثْبَات عَنْهَا وَإِن كَانَت طَرِيقَته فقد الدّلَالَة بعد شدَّة الفحص أخبرهُ بذلك وَوَقفه على طرق الدّلَالَة على الْجُمْلَة ونبهه على التَّفْصِيل بافساد كل مَا يَدعِي أَنه دَلِيل على ذَلِك الْمَذْهَب إِذا استرشده المسترشد فاذا ثَبت ذَلِك فَمن قَالَ لَيْسَ على النَّافِي دَلِيل إِن أَرَادَ بِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل هُوَ إِثْبَات فقد بَينا أَنه لَيْسَ عِلّة ذَلِك إِلَّا أَن يكون دَلِيل إثْبَاته وَإِن أَرَادَ أَنه لَا يجب عَلَيْهِ ذكر طَرِيقه أصلا فقد بَينا وجوب ذَلِك وَلما تقدم علمنَا كذب الْمُدَّعِي للنبوة إِذا لم يدل على صدقه دلَالَة من معجز أَو غَيره لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَادِقا لما أخلاه الله من دلَالَة وَإِلَّا كَانَ قد كلفنا مَا لَا نطيقه وَكَذَلِكَ مَا لم يدل على إثْبَاته دَلِيل من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَجب نَفْيه
وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَن النَّافِي لنبوة مدعي النُّبُوَّة لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الدَّلِيل(2/324)
على من اثْبتْ نبوته وَالْجَوَاب عَنهُ مَا تقدم وَقَالَ أَيْضا الْمُدَّعِي لدار فِي يَد غَيره عَلَيْهِ الْبَيِّنَة وَلَا بَيِّنَة على الْمُنكر فَذا لم يكن على الْمُنكر بَيِّنَة فَلَيْسَ عَلَيْهِ دلَالَة لِأَن الْبَيِّنَة دلَالَة يُقَال لَهُم لم أردتم بِهَذَا الْكَلَام أَنه يجوز لمن الدَّار بِيَدِهِ أَن يعْتَقد كَونه مَالِكًا لَهَا من غير طَريقَة كإرث أَو غَيره فَلَيْسَ كَذَلِك بل لَيْسَ لَهُ اعْتِقَاد ذَلِك إِلَّا بطريقة من الطّرق وَإِن أردتم أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يذكر طَرِيقه فَصَحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْعُو النَّاس إِلَى أَن يعتقدوا كَونه مَالِكًا لَهَا فَيلْزمهُ أَن يذكر لَهُم حجَّته كَمَا يلْزم صَاحب الْمَذْهَب إِذا دَعَا النَّاس إِلَى مذْهبه أَن يذكر لَهُم حجَّته وَإِن أردتم أَن الَّذِي الدَّار فِي يَده يَدْعُو الْحَاكِم إِلَى أَن يحكم لَهُ بهَا من غير طَرِيقه يذكرهَا فَبَاطِل بل إِنَّمَا يَدعُوهُ إِلَى ذَلِك لطريقة وَهِي الْيَد وَلَيْسَ للْحَاكِم أَن يحكم لَهُ بذلك إِلَّا لدلَالَة فقد بَان أَنه لَا بُد من طَريقَة فِي كل هَذِه الْوُجُوه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي اسْتِصْحَاب الْحَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن اسْتِصْحَاب الْحَال هُوَ أَن يكون حكم ثَابت فِي حَالَة من الْحَالَات ثمَّ تَتَغَيَّر الْحَالة فيستصحب الْإِنْسَان ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مَعَ الْحَالة المتغيرة وَيَقُول من ادّعى تغير الحكم فَعَلَيهِ إِقَامَة الدَّلِيل وَقد ذهب قوم من أهل الظَّاهِر وَغَيرهم إِلَى الِاحْتِجَاج بذلك
وَقد يكون الحكم المستصحب عقليا وَقد يكون شَرْعِيًّا فالشرعي أَن يَقُول الْإِنْسَان الْمُتَيَمم إِذا رأى المَاء قبل صلَاته وَجب عَلَيْهِ التوضوء بِهِ وَكَذَلِكَ إِذا رَآهُ بعد دُخُوله فِي الصَّلَاة وَمن زعم أَن فرض الْوضُوء يتَغَيَّر بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاة فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ إِن شرك بَين الْحَالَتَيْنِ فِي وجوب الْوضُوء لاشْتِرَاكهمَا فِيمَا دلّ على وجوب الْوضُوء فَلَيْسَ باستصحاب حَال الَّذِي ننكره ويذهبون إِلَيْهِ وَإِن شرك بَينهمَا فِي الحكم لاشْتِرَاكهمَا فِي علته فَهَذَا(2/325)
قِيَاس وَإِن شرك بَينهمَا بِغَيْر دلَالَة وَلَا عِلّة فَلَيْسَ هُوَ بِأَن يجمع بَينهمَا بِأولى من أَن لَا يجمع بَينهمَا أَو بِأَن يجمع بَين الْمَسْأَلَة وَغَيرهَا وَلِأَن ذَلِك قِيَاس بِغَيْر عِلّة وَأهل الظَّاهِر المانعون من الْقيَاس بعلة أولى أَن يمنعوا من ذَلِك
فان قيل حُدُوث الْحَادِث لَا يُغير الْأَحْكَام فحدوث الصَّلَاة إِذن لَا يُغير وجوب الْوضُوء قيل لَيْسَ يمْتَنع أَن تخْتَلف الْمصَالح بحدوث الْحَوَادِث وَلِهَذَا جَازَ وُرُود النَّص باسقاط الْوضُوء عَن الرَّائِي للْمَاء فِي الصَّلَاة مَعَ وُجُوبه على من رَآهُ قبل الصَّلَاة
فان قيل لَو لم يَتَعَدَّ الحكم من حَالَة إِلَى حَالَة لوَجَبَ قصره على الزَّمَان الْوَاحِد قيل كَذَلِك يجب إِلَّا أَن يكون دَلِيل الحكم وعلته قد عَم الْأَزْمِنَة فان قيل فقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الشَّيْطَان يَأْتِي أحدكُم فيخيل أَنه أحدث فَلَا ينصرفن حَتَّى يجد ريحًا أَو يسمع صَوتا فَأوجب اسْتِدَامَة الحكم قيل إِنَّا لَا نمْنَع من تعدى الحكم من حَالَة إِلَى حَالَة لدلَالَة وَإِنَّمَا نمْنَع من ذَلِك لَا لدلَالَة وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ دلَالَة فان قيل أَلَيْسَ بعض الْفُقَهَاء قد جعل حكم الشاك فِي الْحَدث بعد تَيَقّن الطَّهَارَة كحكمه قبل الشَّك فِيهَا فِي إِسْقَاط الْوضُوء قيل إِن هَؤُلَاءِ إِن جمعُوا بَينهمَا لدلَالَة أَو عِلّة وَإِلَّا فَهُوَ مَوضِع الْخلاف على أَن ذَلِك خَارج عَمَّا نَحن بسبيله لِأَن الأَصْل فِي الْعقل أَن لَا وضوء فاذا لم يدل على وُجُوبه على الشاك فِي الْحَدث دَلِيل شَرْعِي فَالْوَاجِب الْبَقَاء على حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لدل الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك وجوب الْوضُوء على من رأى المَاء لِأَن الْوضُوء لَيْسَ هُوَ حكم الْعقل حَتَّى يلْزم الْبَقَاء عَلَيْهِ مَا لم تدل على خِلَافه دلَالَة
فان قيل الْيَسْ إِذا اخْتلفُوا فِي الْمَسْأَلَة على اقاويل يجوز الْأَخْذ بِأَقَلّ مَا قيل إِذا لم تدل على الزِّيَادَة دلَالَة قيل لِأَن أقل مَا قيل مُتَّفق عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة إِذا كَانَت حكما شَرْعِيًّا فَيجب نَفيهَا إِذا لم يدل عَلَيْهَا دَلِيل وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الِاسْتِدْلَال بِبَرَاءَة الذِّمَّة(2/326)
فَأَما إِذا كَانَ المستدام عقليا فمثاله أَن يَقُول الْقَائِل الْمُتَيَمم الْمُصَلِّي إِذا لم ير المَاء لم يلْزمه الطَّهَارَة الْأُخْرَى وَوَجَب أَن يمْضِي فِي صلَاته فَكَذَلِك إِذا رأى المَاء وَهَذَا يَصح من وَجه دون وَجه أما الْوَجْه الَّذِي لَا يَصح مِنْهُ فَهُوَ أَن يسْقط عَنهُ طَهَارَة أُخْرَى لأجل سُقُوطهَا إِذا لم ير المَاء لِأَن هَذَا جمع بَين حالتين بِغَيْر دلَالَة وَلَا عِلّة وَأما إِذا أسقط عَنهُ الْوضُوء بعد رُؤْيَة المَاء لِأَن إِيجَابه شَرْعِي فَلَو كَانَ ثَابتا لَكَانَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي على مَا بَينا فِي الِاسْتِدْلَال بِالنَّفْيِ فَصَحِيح وَإِن عورض هَذَا فَقيل الأَصْل فِي الشَّرْع وجوب الطَّهَارَة فَلَو سَقَطت عَن الرَّائِي للْمَاء فِي الصَّلَاة وَهُوَ متيمم لَكَانَ عَلَيْهِ دَلِيل شَرْعِي لم يسلم الْخصم أَن الطَّهَارَة وَاجِبَة فِي كل حَال وَإِن رأى الْمُتَيَمم المَاء فان اسْتدلَّ على وجوب ذَلِك لعُمُوم الْخطاب كَانَ اسْتِدْلَالا بِالْعُمُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا يعلم بأدلة الْعقل وَمَا يعلم بأدلة الشَّرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْأَشْيَاء الْمَعْلُومَة بِالدَّلِيلِ إِمَّا أَن يَصح أَن تعلم بِالْعقلِ فَقَط وَإِمَّا بِالشَّرْعِ فَقَط وَإِمَّا بِالشَّرْعِ وبالعقل وَأما الْمَعْلُومَة بِالْعقلِ فَقَط فَكل مَا كَانَ فِي الْعقل دَلِيل عَلَيْهِ وَكَانَ الْعلم بِصِحَّة الشَّرْع مَوْقُوفا على الْعلم بِهِ كالمعرفة بِاللَّه وبصفاته وَأَنه غَنِي لَا يفعل الْقَبِيح وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْعلم بِصِحَّة الشَّرْع مَوْقُوف على الْعلم بذلك لأَنا إِنَّمَا نعلم صِحَة الشَّرْع إِذا علمنَا صدق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا نعلم صدقهم بالمعجزات إِذا علمنَا أَنه لَا يجوز أَن يظهرها الله على يَد كَذَّاب وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك إِذا علمنَا أَن إظهارها عَلَيْهِ قَبِيح وَأَنه لَا يفعل الْقَبِيح وَإِنَّمَا نعلم أَنه لَا يفعل الْقَبِيح إِذا علمنَا أَنه عَالم بقبح الْقَبِيح عَالم باستغنائه عَنهُ وَالْعلم بذلك فرع على الْمعرفَة بِهِ فَيجب تقدم هَذِه المعارف للشَّرْع فَلم يجز كَون الشَّرْع طَرِيقا إِلَيْهَا(2/327)
فَأَما مَا يَصح أَن يعرف بِالشَّرْعِ وبالعقل فَهُوَ كل مَا كَانَ فِي الْعقل دَلِيل عَلَيْهِ وَلم تكن الْمعرفَة بِصِحَّة الشَّرْع مَوْقُوفَة على الْمعرفَة بِهِ كَالْعلمِ بِأَن الله وَاحِد لَا ثَانِي لَهُ فِي حكمته لِأَنَّهُ إِذا ثبتَتْ حكمته فَلَو كَانَ مَعَه حَكِيم آخر لم يجز أَن يرسلا أَو يُرْسل أحد مِنْهُمَا من يكذب فاذا أخبر الرَّسُول أَن الْإِلَه وَاحِد لَا قديم سواهُ علمنَا صدقه وَكَذَلِكَ وجوب رد الْوَدِيعَة وَالِانْتِفَاع بِمَا لَا مضرَّة فِيهِ على أحد
فَأَما مَا يعلم بِالشَّرْعِ وَحده فَهُوَ مَا فِي السّمع دَلِيل عَلَيْهِ دون الْعقل كالمصالح والمفاسد الشَّرْعِيَّة وَمَا لَهُ تعلق بهما أما الْمصَالح والمفاسد الشَّرْعِيَّة فَهِيَ كالأفعال الَّتِي تعبدنا بِفِعْلِهَا أَو تَركهَا بالشريعة نَحْو كَون الصَّلَاة وَاجِبَة وَشرب الْخمر حَرَامًا وَغير ذَلِك وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ فِي الْعقل دَلِيل على ذَلِك لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي الْعقل دَلِيل على ذَلِك لَكَانَ ذَلِك الدَّلِيل إِمَّا حكما مُوجبا عَن وُجُوبهَا أَو وَجها مُوجبا لَهَا وَالْحكم الْمُوجب عَن وُجُوبهَا هُوَ الذَّم والمدح وَمَعْلُوم أَنا لَا نعلم بِالْعقلِ اسْتِحْقَاق من أخر الصَّوْم عَن أول يَوْم من رَمَضَان للذم دون الَّذِي قبله وَلَا نعلم بالعقول مباينة أول يَوْم من رَمَضَان لليوم الَّذِي قبله فِي وَجه يَقْتَضِي تباينهما فِي الْوُجُوب سَوَاء وقف ذَلِك على أَمارَة مظنونة أَو لم يقف على ذَلِك وَقد دخل فِي ذَلِك القَوْل بِأَن الْعِبَادَات يعرف وُجُوبهَا بأمارات من جِهَة الْعَادَات تتَعَلَّق بالمنافع والمضار لِأَن وجوب مَا هَذِه سَبيله مَعْلُوم وَإِن تعلق بِشَرْط مظنون وَمَعْلُوم أَيْضا أَنا لَا نعلم بالعقول فِي هَذِه الْعِبَادَات مَنَافِع وَدفع مضار عاجله فَيُقَال إِنَّهَا تجب لأجل ذَلِك وَأما مَا لَهُ تعلق بالمصالح والمفاسد الشَّرْعِيَّة فَهِيَ طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كالأدلة والأمارات وَأَسْبَاب هَذِه الْأَحْكَام وعللها وشروطها أما ألأدلة فكون الْإِجْمَاع حجَّة وَأما الأمارات فكون الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد حجَّتَيْنِ على قَول من قَالَ لَا نعلم ذَلِك بِالْعقلِ وَأما الْأَسْبَاب فكون زَوَال الشَّمْس سَببا للصَّلَاة وَأما الْعِلَل فالكيل الَّذِي هُوَ عِلّة الرِّبَا وَأما الشُّرُوط فضربان أَحدهمَا شُرُوط فِي أَحْكَام مَعْلُومَة بِالْعقلِ كالشروط الَّتِي شرطتها الشَّرِيعَة فِي(2/328)
الْبياعَات لِأَن وُقُوع التَّمْلِيك بِالْبيعِ مَعْلُوم بِالْعقلِ وَالْآخر شُرُوط فِي أَحْكَام شَرْعِيَّة كستر الْعَوْرَة فِي الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَغير ذَلِك
وَقد فرق بَين الْعلَّة وَالسَّبَب بأَشْيَاء مِنْهَا أَن الْعلَّة لَا يجب تكررها وَالسَّبَب قد يجب تكرره وَلِهَذَا كَانَ الْإِقْرَار سَببا للحد لِأَنَّهُ يتَكَرَّر وَمِنْهَا أَن الْعلَّة تخْتَص الْمُعَلل وَالسَّبَب لَا يختصه كزوال الشَّمْس الَّذِي هُوَ سَبَب الصَّلَاة وَمِنْهَا أَن السَّبَب يشْتَرك فِي جمَاعَة وَلَا يشتركون فِي حكمه كزوال الشَّمْس يشْتَرك فِيهِ الْحَائِض والطاهر وَلَا يشتركون فِي وجوب الصَّلَاة وَلَيْسَ يشتركون فِي الْعلَّة إِلَّا ويشتركون فِي حكمهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَا يجوز أَن يُقَال للرسول أَو الْعَالم احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي جَوَاز ان يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى الْمُكَلف أَن يحرم وَيُوجب ويبيح بِاخْتِيَارِهِ فَمنع أَكثر النَّاس من ذَلِك على كل حَال وَأَجَازَهُ آخَرُونَ فالشيخ أَبُو عَليّ أجَاز ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة وَذكر ذَلِك فِي قَول الله تَعَالَى {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} ثمَّ رَجَعَ عَن هَذَا القَوْل وَأَجَازَ مويس بن عمرَان أَن يُقَال ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلغيره من الْعلمَاء وَذكر الشَّافِعِي فِي كتاب الرسَالَة مَا يدل على أَن الله تَعَالَى لما علم أَن الصَّوَاب يتَّفق من نبيه جعل ذَلِك لَهُ وَلم يقطع عَلَيْهِ بل جوزه وَجوز خِلَافه وَاحْتج قَاضِي الْقُضَاة للْمَنْع من ذَلِك بَان الشَّرَائِع إِنَّمَا يتعبد الله بهَا لكَونهَا مصَالح وَالْإِنْسَان قد يخْتَار الصّلاح وَقد يخْتَار الْفساد فَلَو اباح الله تَعَالَى للْإنْسَان الحكم بِمَا يختاره لَكَانَ فِيهِ إِبَاحَة الحكم بِمَا لَا يَأْمَن من كَونه فَسَادًا(2/329)
إِن قيل إِنَّه يَأْمَن ذَلِك لقَوْل الله لَهُ إِنَّك لَا تحكم إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَاب قيل لَا يجوز أَن يَقُول لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يسْتَمر بالمكلف اخْتِيَار الصّلاح دون الْفساد من غير علم بأعيان الصّلاح وَالْفساد كَمَا لَا يجوز اتِّفَاق الْأَفْعَال الْكَثِيرَة المحكمة من غير علم وكما لَا يجوز أَن يتَّفق من الْإِنْسَان الصدْق فِي الْأَخْبَار الْكَثِيرَة من غير أَن يتخللها كذب من غير علم وَلَو جَازَ ذَلِك لَخَرَجت الْأَخْبَار عَن الغيوب من أَن تكون دلَالَة على نبوتهم ولجاز أَن يُكَلف تَصْدِيق نَبِي دون من لَيْسَ بِنَبِي من غير علم وَلَو جَازَ اتِّفَاق اخْتِيَار الصَّوَاب من الْعَالم جَازَ اتفاقه من الْعَاميّ فيتعبده الله بالحكم بِاخْتِيَارِهِ وَلَيْسَ للمخالف أَن يَقُول إِن الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء قد أكْرمهم الله وخصهم بذلك لِأَن إِمْكَان اتِّفَاق ذَلِك لَا يفْتَرق فِيهِ الْعَاميّ والعالم
فان قيل إِنَّمَا يمْتَنع اتِّفَاق اخْتِيَار الصَّوَاب الْكثير من غير دلَالَة فَأَما الْقَلِيل فَلَا يمْتَنع اتِّفَاق الصَّوَاب فِيهِ فَيجوز أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى بعض الْمُكَلّفين الحكم بِاخْتِيَارِهِ فِي الْفِعْل والفعلين وَالثَّلَاثَة قيل قد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الْوَاجِب فِي التَّكْلِيف أَن يكون الْمُكَلف عَالما بِحسن مَا يقدم عَلَيْهِ من الْأَفْعَال قبل إقدامه وَهُوَ لَا يعلم ذَلِك إِذا علق الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ كَمَا يجوز أَن يخْتَار الصّلاح يجوز أَن يخْتَار الْفساد وَلِأَن حسن اخْتِيَاره للْفِعْل تَابع لحسن الْفِعْل فَلم يجز أَن يعلم حسنه لعلمه بِحسن اخْتِيَاره لَهُ
وَلقَائِل أَن يَقُول إِن مَا ذكره من أَنه لَا يجوز اسْتِمْرَار اخْتِيَار الْمصلحَة دون الْمفْسدَة من غير علم بِالْمَصْلَحَةِ صَحِيح إِذا كَانَ الْفِعْل مصلحَة من دون الِاخْتِيَار فَيمْتَنع أَن يتَّفق اختيارنا للْمصْلحَة دون الْمفْسدَة فَأَما إِذا كَانَ كَونه مصلحَة هُوَ فعلنَا لَهُ وَنحن مختارون لَهُ فَلَيْسَ يبطل بِمَا ذكره لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه لم يتَّفق تنَاول الِاخْتِيَار لما هُوَ مصلحَة فِي نَفسه من دون الِاخْتِيَار بل الْمصلحَة هُوَ مَجْمُوع الْفِعْل وَالِاخْتِيَار فَلَو صَحَّ مَا ذكره لصَحَّ أَن يَقُول من نفى الْقيَاس إِن الأمارات قد تخطىء وتصيب وَلَيْسَ يتَّفق فِيهَا الصَّوَاب أبدا(2/330)
فالعامل بحسبها عَامل بِمَا لَا يَأْمَن كَونه مفْسدَة
فان قُلْتُمْ إِن الْمصلحَة هِيَ علمنَا بِحَسب مَا ظنناه من الأمارة وَلَيْسَ كَونهَا مصلحَة ينْفَصل من ذَلِك إِن الأمارة الدَّالَّة عَلَيْهِ لَا يجب ان تصيب ابدا قيل وَلَيْسَ يَقُول الله للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ إِلَّا وَقد علم أَن مصْلحَته أَن يفعل مَا يختاره
وَأما قَوْله إِن الْمُكَلف يجب أَن يعلم حسن مَا يقدم عَلَيْهِ وَهَذَا الْمُكَلف لَا يعلم ذَلِك فَالْجَوَاب عَنهُ أَنه يعلم ذَلِك لقَوْل الله لَهُ إِنَّك لَا تحكم بِغَيْر الصَّوَاب كَمَا يعلم الْأَنْبِيَاء أَن مَا يقدمُونَ عَلَيْهِ من الْمعاصِي غير كَبَائِر وَأما قَوْله إِن حسن الِاخْتِيَار تَابع لحسن الْفِعْل فَلَا يجوز أَن يتبع حسن الْفِعْل الِاخْتِيَار فَالْجَوَاب عَنهُ أَن حسن الْفِعْل هَا هُنَا غير تَابع للاختيار بل هُوَ مصلحَة فِي نَفسه بِالِاخْتِيَارِ وَهَذَا جَوَاب من يُجِيز أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى الْمُكَلف بِاخْتِيَارِهِ فِي الشَّيْء الْوَاحِد والشيئين وَالثَّلَاثَة دون الْأَشْيَاء الْكَثِيرَة
وللخصم أَيْضا أَن يَقُول لَيْسَ يمْتَنع أَن تكون مصلحَة الْإِنْسَان أَن يفعل بِاخْتِيَارِهِ كَمَا أَن مصْلحَته فِي وَقت التَّشْدِيد وَفِي وَقت التسهيل وَله ان لَا يسلم أَن الِاخْتِيَار لَا يحسن إِلَّا أَن يكون الْفِعْل حسنا من دونه بل يكون حسنا إِذا كَانَ الْفِعْل مَعَه مصلحَة
وَنحن نرتب الدّلَالَة فَنَقُول إِن من أجَاز هَذَا التَّكْلِيف إِمَّا أَن يَقُول إِن الِاخْتِيَار بِهِ يتم كَون الْفِعْل مصلحَة حَتَّى تكون مصلحَة الْإِنْسَان مَا يختاره فِي الْحَادِثَة من فعل أَو ترك أَو يَجْعَل الْمصلحَة مُنْفَصِلَة عَن ذَلِك وَيَقُول إِن الله تَعَالَى قد علم أَن الْمُكَلف لَا يخْتَار إِلَّا مَا هُوَ مصلحَة فان قَالَ بِالْأولِ اسقط التَّكْلِيف لِأَن قَول الْمُكَلف للمكلف إِن شِئْت أَن تفعل فافعل وَإِن شِئْت أَن لَا تفعل فَلَا تفعل هُوَ مَحْض الاباحة فان قيل بل هُوَ إِيجَاب أَن لَا يَخْلُو من الْفِعْل والإخلال بِهِ قيل لَا يُمكن الْخُلُو من ذَلِك وَلَا يحسن إِيجَاب مَا لَا يُمكن(2/331)
خِلَافه وَلِهَذَا إِذا كَانَ الْعَاميّ مُخَيّرا بَين فَتْوَى من أفتاه بِالْإِيجَابِ وَمن أفتاه بِالْإِبَاحَةِ فقد سقط عَنهُ التَّكْلِيف وَصَارَ الْفِعْل مُبَاحا لِأَنَّهُ إِن اخْتَار أَن لَا يَفْعَله جَازَ لَهُ ذَلِك وَإِن قَالَ إِن الْفِعْل يكون مصلحَة من دون الِاخْتِيَار فإمَّا أَن يُخَيّر تَكْلِيف الله الْإِنْسَان أَن يفعل بِحَسب اخْتِيَاره أفعالا كَثِيرَة أَو أفعالا قَليلَة فَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَّفق اخْتِيَار الصّلاح فِي الْأَفْعَال الْكَثِيرَة كَمَا لَا يجوز أَن يتَّفق الصدْق فِي الْأَخْبَار الْكَثِيرَة وَالْأَحْكَام فِي الْأَفْعَال الْكَثِيرَة من غير علم فان قيل أَلَيْسَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يخْتَار من الْمعاصِي إِلَّا مَا يكون صَغِيرا قيل فَمن أَيْن أَنه يكثر ذَلِك مِنْهُ وَمَا أنكرتم ان الْوَاجِب أَن يُقَال إِن مَا يَقع مِنْهُ قَلِيل وَأَيْضًا فَلَو صَادف اخْتِيَار الْعَالم الْمصلحَة لم يكن لتكليفه الِاجْتِهَاد معنى فان قيل الْفَائِدَة فِيهِ أَن يكثر ثَوَابه قيل التَّكْلِيف لَا يحسن لمُجَرّد الثَّوَاب فان قيل إِذا اجْتهد تَغَيَّرت الْمصلحَة قيل إِن كَانَت هَذِه الْمصلحَة مُسَاوِيَة لمصلحته إِذا لم ينظر فَلَا فَائِدَة لتكليف النّظر وَإِن كَانَت زَائِدَة وَجب تَكْلِيفه الِاجْتِهَاد
وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ القَوْل بِأَنَّهُ إِنَّمَا يحسن أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى الْمُكَلف الحكم بِاخْتِيَارِهِ فِي الْأَفْعَال الْيَسِيرَة فَالَّذِي يُفْسِدهُ وَيفْسد الْوَجْه الأول أَيْضا هُوَ أَنه إِمَّا أَن يكون الله تَعَالَى قد أوجب عَلَيْهِ الْمصلحَة من الْفِعْل أَو تَركه من غير أَن يُعينهُ لَهُ فَيكون قد كلفه مَا لَا يطيقه وَإِمَّا أَن يكون قد خَيره بَينه وَبَين غَيره مِمَّا لَيْسَ بمصلحة فَيكون قد خَيره بَين الْمصلحَة والمفسدة لِأَنَّهُ قد قَالَ لَهُ افْعَل أَيهمَا شِئْت من الاختيارين والفعلين وَهَذَا تَخْيِير بَين الْمصلحَة والمفسدة وَذَلِكَ بَاطِل
وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء مِنْهَا مَا احْتَجُّوا بِهِ على جَوَاز اسْتِمْرَار اخْتِيَار الصَّوَاب دون الْخَطَأ وَمِنْهَا مَا احْتَجُّوا بِهِ على جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِمَا ذَكرُوهُ وَمِنْهَا مَا احْتَجُّوا بِهِ على وُرُود التَّعَبُّد بذلك
أما الأول فَقَوْلهم إِذا جَازَ أَن يتَّفق اخْتِيَار الْأَنْبِيَاء للصغائر دون الْكَبَائِر(2/332)
وَإِن لم يكن لَهُم على عينهَا دَلِيل جَازَ اتِّفَاق اختيارهم الصَّوَاب دون الْخَطَأ وَإِن لم يكن لَهُم على عينه دَلِيل فَالْجَوَاب مَا تقدم
وَأما مَا استدلوا بِهِ على الثَّانِي فَمن وُجُوه
مِنْهَا قَوْلهم إِذا جَازَ أَن يُفَوض الله إِلَى الْمُكَلف أَن يخْتَار وَاحِدَة من الْكَفَّارَات جَازَ أَن يُفَوض إِلَيْهِ الحكم بِوَاحِد من الْأَحْكَام بِحَسب اخْتِيَاره وَالْجَوَاب إِن ذَلِك يلْزم من قَالَ إِن الْمصلحَة وَالْوَاجِب من الْكَفَّارَات وَاحِدَة فَقَط وَقد جعل إِلَى الْمُكَلف اخْتِيَارهَا لعلم الله سُبْحَانَهُ أَنه لَا يخْتَار سواهَا واما من قَالَ إِن الْكَفَّارَات الثَّلَاث تتساوى فِي الْوُجُوب والمصلحة فَلم يقل إِنَّه إِذا اخْتَار وَاحِدَة مِنْهَا فقد وَقع اخْتِيَاره على الْوَاجِب دون مَا لَيْسَ بِوَاجِب فَيلْزمهُ مثله فِي جَمِيع الْأَحْكَام على أَن الْعَاميّ يجوز لَهُ ان يخْتَار وَاحِدَة من الْكَفَّارَات فَيجب أَن يجوز أَن يُفَوض إِلَيْهِ الحكم بِمَا شَاءَ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا جَازَ أَن يتعبد الْعَاميّ أَن يخْتَار الْعَمَل على فَتْوَى أحد الفقيهين وَيتَعَيَّن ذَلِك بِاخْتِيَارِهِ جَازَ مثله فِي أصل التَّعَبُّد فَالْجَوَاب يُقَال لَهُم فَيَنْبَغِي أَن يجوز تَفْوِيض الحكم بِالِاخْتِيَارِ إِلَى الْعَاميّ وَأَيْضًا فان وجوب أَخذ الْعَاميّ بفتوى الْفَقِيه مَعْلُوم لَهُ لِأَنَّهُ يعلم من دين الْإِسْلَام وجوب رُجُوع من لَا معرفَة لَهُ إِلَى الْعلمَاء فِيمَا ينويه من الشرعيات فاذا اخْتلف فِيهِ فقيهان وافتاه أَحدهمَا بِخِلَاف مَا أفتاه الآخر كَانَا واجبين عَلَيْهِ على التَّخْيِير وَالْقَوْل فِي ذَلِك كالقول فِي الْكَفَّارَات فَإِن حرم أَحدهمَا عَلَيْهِ الْفِعْل وأوجبه الآخر كَانَ مُخَيّرا بَين فعله وَتَركه إِن تَسَاويا عِنْده وَقد قُلْنَا إِن ذَلِك يرجح إِلَى الْإِبَاحَة وَإِسْقَاط التَّكْلِيف إِذْ لَو اخْتَار ترك الْفِعْل جَازَ لَهُ ذَلِك
وَمِنْهَا أَنه إِذا جَازَ أَن يُكَلف الْإِنْسَان الْعَمَل على الأمارات مَعَ أَنَّهَا قد تخطر جَازَ أَن يُكَلف الْإِنْسَان الْعَمَل على اخْتِيَاره وَإِن كَانَ الْإِنْسَان قد يخْتَار الصَّوَاب كَمَا يخْتَار الْفساد الْجَواب إِن الْمصلحَة أَن نعمل بِحَسب مَا ظنناه من الأمارة فالأمارة كالوجه فِي الْمصلحَة على مَا بَيناهُ إِلَّا أَنَّهَا مُمَيزَة للْمصْلحَة من(2/333)
غَيرهَا فَيلْزم مَا ذكرْتُمْ وَلَيْسَ كَذَلِك الِاخْتِيَار لأَنا قد أفسدنا أَن يكون وَجه الْمصلحَة وأفسدنا أَن يكون مُمَيّزا لَهَا من الْمفْسدَة
وَمِنْهَا ان الْوَاجِب فِي التَّكْلِيف أَن يَجْعَل للمكلف طَرِيق إِلَى مَا كلف إِمَّا على جملَة وَإِمَّا على تَفْصِيل لنا من الْخَطَأ فِيمَا نَفْعل وَإِذا قَالَ الله للمكلف احكم فانك لَا تحكم إِلَّا بِالصَّوَابِ فقد جعل لَهُ طَرِيق مَقْطُوع بِهِ على صِحَة مَا يحكم بِهِ وَالْجَوَاب أَنا قد بَينا أَنه لَا يجوز ان يَجْعَل الله تَعَالَى إِلَيْهِ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون اخْتِيَار الْمُكَلف هُوَ وَجه الْمصلحَة وَلَا يجوز اسْتِمْرَار وُقُوع اخْتِيَاره على الصَّوَاب والمصلحة وَبينا أَن الله عز وَجل لَو قَالَ ذَلِك لَكَانَ قد خَيره بَين الْمصلحَة والمفسدة
وَأما مَا استدلوا بِهِ على وُرُود التَّعَبُّد بذلك فوجوه
مِنْهَا قَول الله عز وَجل {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} فَالْجَوَاب إِن الْآيَة تشهد بِأَن الطَّعَام كَانَ حلا لِبَنِيهِ وَإِسْرَائِيل لَيْسَ بداخل فِي بنيه وَيجوز أَن يكون حرم على نَفسه بِالِاجْتِهَادِ أَو بِالنذرِ وَأَن يكون فِي شريعتهم إِثْبَات التَّحْرِيم بِالنذرِ كَمَا ثَبت الْإِيجَاب فِي شريعتنا بِالنذرِ
وَمِنْهَا أَن السّنة مُضَافَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحَقِيقَة الاضافة تَقْتَضِي أَنه من قبله وَالْجَوَاب إِنَّه إِنَّمَا اضيفت إِلَيْهِ لِأَنَّهَا بقوله وَجَبت وَهُوَ السفير فِيهَا وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ جَمِيع السّنَن وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ جَمِيعهَا بِاخْتِيَارِهِ
وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ فِي مَكَّة لَا يختلي خَلاهَا قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الْإِذْخر وَمَعْلُوم أَن الْوَحْي لم يرد فِي تِلْكَ الْحَال وَالْجَوَاب أَنه قد قيل إِن الْإِذْخر لَيْسَ من الخلا وَإِنَّمَا اسْتثِْنَاء الْعَبَّاس(2/334)
تَأْكِيدًا وَلَا يمْتَنع أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ استثناءه فَسبق الْعَبَّاس إِلَى سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك
وَمِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ يَعْنِي الْحَج فعلق وُجُوبه بقوله فَالْجَوَاب أَنه لَو قَالَ نعم لَوَجَبَتْ من حَيْثُ كَانَ قَوْله دَلِيلا على وُجُوبه وَلَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يدل على أَن قَوْله صادر عَن اخْتِيَاره أَو عَن وَحي
وَمِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا أَن أشق على امتي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة وَقَوله لَوْلَا أخْشَى أَن يفْرض السِّوَاك لاستكت قَالُوا فَبين ان أمره بِالسِّوَاكِ مَوْقُوف على اخْتِيَاره فَالْجَوَاب إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون عَنى أَنه لَوْلَا أَن أشق على امتي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ على طَرِيق التَّكْلِيف وَلَا يمْتَنع أَن يكون الله قد أعلمهُ أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُم بِهِ لأجل الْمَشَقَّة وَأَنه أَن يكون الله قد اعلمه أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُم بِهِ لأجل الْمَشَقَّة وَأَنه لَا يحصل على صفة الْمصلحَة لأمته إِلَّا إِذا فعله عِنْد كل صَلَاة وَإِذا لم يَفْعَله عِنْد كل صَلَاة لم يكن مصلحَة
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اثْبتْ الْأَحْكَام من جِهَته إِلَّا تسع آيَات أنزلهَا الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَالْجَوَاب أَنا لَا نعلم ذَلِك وَلَو علمنَا ذَلِك لم نعلم أَن مَا عدا التسع الايات لم يُوح إِلَيْهِ
وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَفَوْت لكم عَن صدقه الْخَيل وَالرَّقِيق فَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا أضَاف الْعَفو إِلَى نَفسه لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى اخذها وَهُوَ الَّذِي لم يَأْخُذهَا الْآن وَإِن كَانَ ذَلِك بِوَحْي على أَن كل هَذَا أَخْبَار آحَاد لَا يحْتَج بهَا فِي مثل هَذَا الْموضع
وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة لَو حكمت فِي الْحَوَادِث عَن دلَالَة لما اضيفت إِلَى رأيها فَالْجَوَاب إِن الرَّأْي هُوَ القَوْل الصَّادِر عَن اجْتِهَاد وَنظر فِي أَمارَة أَو دلَالَة(2/335)
مستنبطة وَلَيْسَ هُوَ القَوْل من غير نظر لِأَن ذَلِك لَيْسَ هُوَ بِرَأْي بل هُوَ تنحيت وتشهي
وَمِنْهَا انهم لَو حكمُوا بِدَلِيل لما تَرَكُوهُ لِأَن الْحق لَا يتْرك وَالْجَوَاب إِن الْأَدِلَّة إِذا دَخَلتهَا الشُّبْهَة تركت والأمارات بِجَوَاز ذَلِك اولى على انهم إِنَّمَا يتركون اقوالهم إِذا تغير اجتهادهم لِأَن الْوَاجِب يتَغَيَّر بِحَسب تغير اجتهادهم عِنْد من يَقُول وغن كل مُجْتَهد مُصِيب فَيكون الْحق هُوَ القَوْل الثَّانِي دون القَوْل الأول
وَمِنْهَا أَنهم قَالُوا فِي حكمهم إِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان فَلَو كَانَ ذَلِك عَن دَلِيل لم يَقُولُوا بذلك فَالْجَوَاب إِنَّه لَو كَانَ ذَلِك عَن اخْتِيَار قد ابيح لَهُم الْعَمَل بِهِ لما شكوا فِي كَونه صَوَابا على أَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد يجوز ان يخطئوا فَلَا سُؤال عَلَيْهِ وَمن قَالَ إِن الْمُجْتَهد مُصِيب يَقُول إِنَّمَا قَالُوا وَإِن كَانَ خطأ فَمن الشَّيْطَان لخوفهم أَن يكون عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص خلاف حكمهم لم يَقع إِلَيْهِم
وَمِنْهَا قَوْلهم إِنَّهُم لَو قَالُوا عَن نظر وَقِيَاس لنقلت عَنْهُم التعليلات والاصول وَالْجَوَاب إِنَّه قد نقل عَنْهُم ذَلِك على ضرب من التَّنْبِيه على مَا بَيناهُ فِي الْقيَاس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز تعبد النَّبِي الثَّانِي بشريعة الأول وَفِي أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن متعبدا قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا بشريعة من تقدم لَا هُوَ وَلَا امته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه لَو امْتنع أَن يتعبد النَّبِي الثَّانِي بشريعة الأول لَكَانَ إِنَّمَا امْتنع لوجه مَعْقُول وَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا ان يُقَال إِنَّه يمْتَنع أَن تكون مصلحَة النَّبِي الثَّانِي ومصلحة امته مصلحَة النَّبِي الأول أَو يُقَال إِن مَجِيء النَّبِي الثَّانِي بشريعة الأول(2/336)
عَبث وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ كَمَا لَا يمْتَنع فِي الْعقل أَن تكون مصلحَة النَّبِي الثَّانِي مَعَ امته مُخَالفَة الأول كَذَلِك لَا يمْتَنع أَن تكون مُوَافقَة لمصْلحَة الأول لَا فرق فِي الْعُقُول بَين الْأَمريْنِ واما الثَّانِي فَبَاطِل أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يتعبد النَّبِي الثَّانِي بِالرُّجُوعِ إِلَى دُعَاء النَّبِي الأول ويوحى إِلَيْهِ بعبادات زَائِدَة اَوْ بِشُرُوط زَائِدَة على الْعِبَادَات الَّتِي علمهَا من النَّبِي الأول أَو يُوحى إِلَيْهِ بشريعة الأول لِأَنَّهَا قد درست أَو يُوحى إِلَيْهِ بهَا وَيبْعَث إِلَى غير من بعث إِلَيْهِ النَّبِي الأول وَمَعَ كل هَذِه الْوُجُوه لَا يحصل الْعَبَث
فَأَما كَون نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متعبدا قبل الْبعْثَة بشريعة من تقدمه فقد منع قوم مِنْهُ وَقَالَ بِهِ قوم وَتوقف فِيهِ آخَرُونَ وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَن الشَّيْخ أَبَا هِشَام توقف فِيهِ فِي بعض الْمَوَاضِع وَاخْتلفُوا بعد النُّبُوَّة فَقَالَ قوم كَانَ متعبدا بشريعة من قبله إِلَّا مَا اسْتثِْنَاء الدَّلِيل وَقَالَ آخَرُونَ مَا كَانَ متعبدا بذلك وَاخْتلف من قَالَ كَانَ متعبدا بذلك قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا فَقَالَ قوم كَانَ متعبدا بشريعة إِبْرَاهِيم وَقَالَ آخَرُونَ بل بشريعة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
وَالدّلَالَة على انه لم يكن متعبدا قبل النُّبُوَّة بذلك أَنه لَو كَانَ متعبدا بذلك لَكَانَ يفعل مَا تعبد بِهِ وَلَو فعل ذَلِك لَكَانَ يخالط من ينْقل ذَلِك الشَّرْع من النَّصَارَى وَغَيرهم فيفعل فعلهم وَقد نقلت أَفعاله قبل الشَّرِيعَة والبعثة وَعرفت أَحْوَاله وَلم ينْقل أَنه كَانَ يفعل مَا كَانَت النَّصَارَى تَفْعَلهُ وَلَا يخالطهم أَو يخالط غَيرهم ويسألهم عَن شرعهم
وَاحْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ قد كَانَ قبل الْبعْثَة يحجّ ويعتمر وَيَطوف بِالْبَيْتِ ويعظمه ويزكي وَيَأْكُل اللَّحْم ويركب الْبَهَائِم وَيحمل عَلَيْهَا وكل ذَلِك لَا يحسن إِلَّا شرعا فَالْجَوَاب إِنَّه لَو يثبت أَنه حج وَاعْتمر قبل الْبعْثَة وَتَوَلَّى التَّزْكِيَة بِنَفسِهِ وَلَا أَمر بهَا واما اكل اللَّحْم المزكى فَحسن فِي الْعقل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَر على اُحْدُ وَفِيه مَنْفَعَة للآكل وَأما ركُوب الْبَهَائِم وَالْحمل عَلَيْهَا فَحسن فِي الْعقل عِنْد الشَّيْخ أبي هَاشم لِأَنَّهُ ضَرَر يُؤَدِّي إِلَى نفع أعظم(2/337)
مِنْهُ وَهُوَ الْقيام بمصالحها وإيصال النَّفْع إِلَيْهَا واما الطّواف بِالْبَيْتِ فَيحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا فعله ليتشاغل كَمَا يتشاغل الْإِنْسَان بِالْمَشْيِ ويستروح إِلَيْهِ إِذا كَانَ مفكرا وعَلى أَنه لَيْسَ يجب أَن يكون فعله لذَلِك كثيرا حَتَّى يمْتَنع عَلَيْهِ واما تَعْظِيمه للبيت فَيحْتَمل أَن يكون عظمه لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام عظمه وَالْعقل يَقْتَضِي حسن تَعْظِيم أَمَاكِن الْأَنْبِيَاء وتمييزها وتعظيم مَا عظموه مَا لم يثبت نسخه
وَأما الدّلَالَة على انه مَا كَانَ متعبدا من قبله بعد الْبعْثَة هِيَ أَن الْقَائِل كَانَ متعبدا بذلك لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرِيد أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَيْهِ بِلُزُوم الْعِبَادَات الَّتِي تعبد بهَا من قبله وَأوحى إِلَيْهَا بصفاتها فَلَا يرجع فِي كلا الْأَمريْنِ إِلَى النَّقْل عَمَّن تقدم أَو يَقُول إِنَّه يرجع فِي وجوب شرع من تقدم وَفِي صِفَاته إِلَى النَّقْل كَمَا نفعله نَحن فِي شَرعه أَو يَقُول إِنَّه أوحى إِلَيْهِ بِوُجُوب الْعِبَادَات الَّتِي هِيَ شرع من تقدم وَأمر بِالرُّجُوعِ إِلَى النَّقْل عَمَّن تقدم فِي معرفَة صفاتها فَهُوَ يرجع فِي وُجُوبهَا إِلَى الْوَحْي فِي صفاتها إِلَى النَّقْل أَو يَقُول إِنَّه يرجع فِي وُجُوبهَا إِلَى النَّقْل الْمُتَوَاتر وَفِي معرفَة صفاتها إِلَى الْوَحْي الْمنزل عَلَيْهِ فان أَرَادَ الأول فَلَا يَخْلُو أَن يَقُول إِن جَمِيع مَا أُوحِي إِلَيْهِ هُوَ شرع نَبِي تقدم إِمَّا مُوسَى وَإِمَّا غَيره أَو يَقُول إِن بعض مَا أوحى إِلَيْهِ هُوَ شرع نَبِي تقدم وَالْأول بَاطِل لِأَن كثيرا من شَرعه لَا يُوَافق شرع مُوسَى والمسيح وَغَيرهمَا وَإِن اراد الثَّانِي لم نأباه وَلَا يجوز أَن يُقَال لأجل مَا وَقع الِاتِّفَاق فِيهِ إِنَّه متعبد فِيهِ بشرع من تقدمه لِأَنَّهُ إِنَّمَا علمه بِالْوَحْي فاضافة ذَلِك إِلَى الْوَحْي الْمنزل عَلَيْهِ أولى وَأما الْوُجُوه الثَّلَاثَة فباطلة من وُجُوه
مِنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْتَظر الْوَحْي عِنْد الْحَوَادِث كالظهار وَاللّعان والإفك وَغير ذَلِك وَلَا يسْأَل عَن التَّوْرَاة فَلَو كَانَ متعبدا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا أَو إِلَى غَيرهَا فِي معرفَة الْعِبَادَات وَفِي معرفَة صفاتها لرجع إِلَيْهَا فان قيل إِنَّمَا لم يرجع إِلَيْهَا فِي معرفَة هَذِه الْأَحْكَام وَغَيرهَا لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاة مِمَّا تعبد فِيهِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهُ تعبد بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْرَاة إِلَّا فِي هَذِه الْأَحْكَام قيل إِنَّه لم يرجع(2/338)
إِلَيْهَا إِلَّا فِي الرَّجْم فَكَانهُ مَا تعبد بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا إِلَّا فِي ذَلِك فَقَط وَهَذَا رُجُوع إِلَى مَا قُلْنَاهُ من أَنه لم يكن متعبدا بِالتَّوْرَاةِ فِي الأَصْل وَيبقى الْخلاف فِي الرَّجْم وسنبين أَنه لم يرجع إِلَيْهَا ليستفيد الحكم مِنْهَا وَلَو ثَبت أَنه أَرَادَ الاستفادة للْحكم مِنْهَا لوَجَبَ أَن لَا يكون متعبدا بِالرُّجُوعِ إِلَى التَّوْرَاة إِلَّا فِي الرَّجْم فَقَط وَأَيْضًا فان السّلف لم يرجِعوا فِي شَيْء من الْحَوَادِث إِلَى نقل أهل الْملَل وَلم يسألوهم عَن شرعهم فِيهَا وَلَو كَانُوا متعبدين بذلك لجرت كتب الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين مجْرى الْقُرْآن وَالسّنة فِي وجوب الرُّجُوع إِلَيْهَا فان قيل إِنَّمَا كَانُوا متعبدين بِمَا تَوَاتر من شرع من تقدم دون مَا نقل بالآحاد لِأَن نقل الْوَاحِد والاثنين من الْكفَّار لَا يجوز الْعَمَل بِهِ وَلم يفحصوا عَن شرعهم لِأَن مَا تَوَاتر نَقله يبلغهم من غير فحص قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن كثيرا مِمَّا تَوَاتر نَقله لَا يعرفهُ إِلَّا من خالط النقلَة وفحص عَن نقلهم أَلا ترى أَن كثيرا من فَتَاوَى السّلف وَمَا شجر بَينهم يعرف بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَلَا يعرفهُ من لم يخالط النقلَة وَأَيْضًا فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ لَهُ معَاذ أحكم بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله وَقَالَ من بعد أجتهد رَأْيِي صَوبه وَلم يعرفهُ أَنه يجب عَلَيْهِ الحكم بِمَا فِي التوارة وَالْإِنْجِيل فان قيل فقد دخلت التَّوْرَاة فِي قَوْله أحكم بِكِتَاب الله قيل إِن إِطْلَاق قَوْله كتاب الله لَا يعقل مِنْهُ فِي الشَّرِيعَة إِلَّا الْقُرْآن أَلا ترى أَنه الْمَفْهُوم من قَوْله قَرَأت كتاب الله ورأينا كتاب الله وحكمنا بِكِتَاب الله دَلِيل وَأَيْضًا لَو كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخَاطبا بشرع من سلف لم يخل إِمَّا أَن يكون مُخَاطبا بشرع مُوسَى أَو الْمَسِيح أَو شرع من تقدمهما وَلَا يجوز كَونه مُخَاطبا بشرع مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخا بشرع الْمَسِيح وَلَا يجوز أَن يكون مُسْتَعْملا لشرع الْمَسِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ اُحْدُ من الْأمة قَالَ بذلك لِأَن الْأمة على ثَلَاثَة أقاويل مِنْهُم من قَالَ لم يكن متعبدا بشرائع من سلف وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّمَا تعبد بشرع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلِهَذَا يرجع إِلَى التَّوْرَاة وَمِنْهُم قَالَ إِنَّه تعبد بشرائع من سلف إِلَّا مَا منع مِنْهُ الدَّلِيل دَلِيل آخر لَو كَانَ متعبدا بشرع من سلف لم ينْسب جَمِيع شَرعه إِلَيْهِ كَمَا لَا ينْسب شَرعه إِلَى بعض أمته لما كَانَت أمته(2/339)
استفادت مِنْهُ شَرعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء
مِنْهَا قَول الله عز وَجل {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} قَالُوا وشرعه من هدَاهُم فَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعه فَالْجَوَاب إِن الله عز وَجل أمره بِاتِّبَاع هدى مُضَاف إِلَى جَمَاعَتهمْ وَالْهدى الْمُضَاف إِلَى جَمَاعَتهمْ هُوَ الْعدْل والتوحيد دون الشَّرَائِع الَّتِي لم يجتمعوا عَلَيْهَا
وَمِنْهَا قَول الله عز وَجل {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ} الْآيَة قَالُوا فَبين أَنَّهَا منزلَة ليحكم بهَا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا هُوَ من جملَة النَّبِيين عَلَيْهِم السَّلَام فَالْجَوَاب أَن ظَاهر ذَلِك يَقْتَضِي أَن يحكم بهَا كل النَّبِيين وَذَلِكَ يُوجب حمله على الحكم بِالتَّوْحِيدِ وَالْعدْل ليدْخل جَمِيع النَّبِيين فِيهِ فَنحْن إِذا حملنَا الْآيَة على ذَلِك أمكننا أَن يكون المُرَاد جَمِيع النَّبِيين وَإِذا حملوه على الحكم بالشرائع لم يُمكن دُخُول جَمِيع النَّبِيين فِيهِ لِأَن بَعضهم قد نسخ بعض مَا فِي التَّوْرَاة فاذا كُنَّا تاركين لأحد ظاهري الْآيَة وَهُوَ الحكم بجميعها ومتمسكين بِالظَّاهِرِ الآخر وَهُوَ حكم جَمِيع النَّبِيين والمستدل بِالْآيَةِ كَذَلِك يفعل ساويناه وَسقط استدلاله
وَمِنْهَا قَول الله تَعَالَى {إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده} الْآيَة وَالْجَوَاب إِنَّه عز وَجل لم يقل إِنَّه أُوحِي إِلَيْهِ بِمَا اوحى إِلَى نوح والنبيين من بعده وَإِنَّمَا قَالَ إِنَّه أُوحِي إِلَيْهِ كَمَا أوحى إِلَى غَيره ليزيل تعجب من تعجب بِأَن يوحي الله عز وَجل إِلَيْهِ كَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا قَالَ لغيره كَيفَ راسلني بك فَقَالَ كَمَا راسلك بفلان وَفُلَان لم يفد ذَلِك أَنه راسله بِمَا راسله على لِسَان فلَان وَفُلَان يبين ذَلِك أَنه قَالَ فِي آخر الْكَلَام(2/340)
{وكلم الله مُوسَى تكليما} فَبين أَن إرْسَاله الرُّسُل غير مُنكر وَلَا مستطرف على أَنه لَو دلّت الْآيَة على أَنه أوحى إِلَيْهِ بِمَا أوحى إِلَى غَيره لدل ذَلِك على أَنه تعبد بشرائع من قبله بِأَمْر مُبْتَدأ
وَمِنْهَا قَول الله تَعَالَى {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} فَالْجَوَاب إِن اسْم الْملَّة لَا يَقع إِلَّا على الاصول من التَّوْحِيد وَالْعدْل وَالْإِخْلَاص لله بِالْعبَادَة دون الْفُرُوع لِأَنَّهُ لَا يُقَال مِلَّة أبي حنيفَة وملة الشَّافِعِي وَيُرَاد مَذْهَبهمَا وَلَا يُقَال ملتهما مُخْتَلفَة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} فَعلمنَا أَنه أَرَادَ بالملة أصل الدّين وَلِأَن شَرِيعَة إِبْرَاهِيم قد كَانَ انْقَطع نقلهَا وَلَا يجوز أَن يحثه الله عز وَجل على اتِّبَاع مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى} الْآيَة فَالْجَوَاب إِن اسْم الدّين يَقع على الاصول دون الْفُرُوع وَلِهَذَا لَا يُقَال دين الشَّافِعِي وَيُرَاد بِهِ مذْهبه وَلَا يُقَال دينه وَدين أبي حنيفَة مُخْتَلف على أَن قَوْله {أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا} دلَالَة على أَن الَّذِي شَرعه لنا مِمَّا وصّى بِهِ نوحًا هُوَ ترك التَّفَرُّق وَأَن نتمسك بِمَا شرع وَلَو دلّت الْآيَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعبد بشرع من قبله لدلت على أَنه تعبد بذلك بِأَمْر مُبْتَدأ
وَمِنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجَعَ إِلَى التَّوْرَاة فِي رجم الْيَهُودِيين يُقَال لَهُم وَلم قُلْتُمْ إِنَّه رَجَعَ إِلَيْهَا ليستفيد الحكم مِنْهَا وهلا قُلْتُمْ إِنَّه رَجَعَ إِلَيْهَا ليقررهم على صدقه فِي حكايته أَن الرَّجْم مَذْكُور فِيهَا وَلَو رَجَعَ ليستفيد الحكم مِنْهَا لرجع إِلَيْهَا فِي غير ذَلِك من الْأَحْكَام ولرجع إِلَيْهَا فِي شَرَائِط الرَّجْم كالإحصان وَغَيره وَلما اعْتمد على من أخبرهُ فِي تِلْكَ الْحَال لأَنهم لم يَكُونُوا(2/341)
بِصُورَة المتواترين وأخبار آحَاد الْكفَّار غير مَعْلُوم بهَا وَأَيْضًا فكون التَّوْرَاة محرفة يمْنَع من الرُّجُوع إِلَيْهَا وَمن استفادة الحكم مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر فُصُول كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام ضَرْبَان اسْتِدْلَال بِدَلِيل شَرْعِي كالخطاب وَالْأَفْعَال وَالْقِيَاس واستدلال بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل وَكِلَاهُمَا يفتقران إِلَى الْمعرفَة بحكمة الْمُكَلف ويفتقر الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ إِلَى معرفَة مَا يفِيدهُ الْخطاب وَقد تقدم بَيَان فَوَائِد الْخطاب
فالاستدلال بالأدلة يخْتَلف بِحَسب تجردها عَن قرينَة وبحسب اقتران الْقَرَائِن بهَا وَالْخطاب من الْأَدِلَّة مِنْهُ مُشْتَرك بَين حقيقتين وَمِنْه غير مُشْتَرك وَحَقِيقَة الْخطاب قد تكون لغوية وَقد تكون شَرْعِيَّة وَقد تكون عرفية والقرائن قد تعدل بِالْخِطَابِ عَن ظَاهره وَقد تكون مكملة لظاهره وَيَنْبَغِي أَن نذْكر صفة الْمُكَلف الَّتِي يُمكن مَعهَا الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام وَنَذْكُر كَيْفيَّة التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام فِي الْجُمْلَة وَنَذْكُر الْخطاب الَّذِي لَيْسَ بمشترك وَهُوَ متجرد وَكَيف يسْتَدلّ بِهِ على حقائقه اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية وَنَذْكُر كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال مَعَ الْقيَاس المكمل وَنَذْكُر كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الَّذِي لَيْسَ بمشترك على مجازه إِذا اقترنت بِهِ الْقَرَائِن وَنَذْكُر كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الْمُشْتَرك إِذا اقترنت بهَا الْقَرَائِن وَإِذا لم تقترن بِهِ وَنَذْكُر مَا يشبه بالقرائن مِمَّا لَيْسَ بِقَرِينَة على الْحَقِيقَة وَنَذْكُر من الَّذِي يجب أَن يبين لَهُ مَدْلُول الْخطاب حَتَّى نحمله على ظَاهره(2/342)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي صفة الْمُكَلف الَّتِي مَعهَا يُمكن الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَفِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن صفة الْمُكَلف الَّتِي مَعهَا يُمكن الِاسْتِدْلَال على الْأَحْكَام هِيَ كَونه عَالما بقبح الْقَبِيح وبوجوب الْوَاجِب وَبِأَنَّهُ عَالم غَنِي عَن فعل الْقَبِيح وَعَن الْإِخْلَال بِالْوَاجِبِ فَمَتَى علم الْمُسْتَدلّ ذَلِك علم أَنه لَا يجوز أَن لَا يعرفنا البارىء عز وَجل مصالحنا ومفاسدنا لِأَن تَعْرِيف الألطاف وَاجِب والحكيم لَا يخل بِوَاجِب وَيعلم أَيْضا انه لَا يجوز ان يدلنا ويخاطبنا بِمَا يُفِيد فِي الْمُوَاضَعَة شَيْئا مَا إِلَّا وَهُوَ عَالم بَان مَا يفِيدهُ الْخطاب على مَا يفِيدهُ إِمَّا أَن يفِيدهُ بِمُجَرَّدِهِ أَو بِقَرِينَة لِأَنَّهُ لَو لم يعلم ذَلِك لَكَانَ قد لبس علينا ودلنا على خلاف الْحق وَذَلِكَ قَبِيح
أما التَّوَصُّل إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَهُوَ أَن الْمُجْتَهد إِذا أَرَادَ معرفَة حكم الْحَادِثَة فَيجب أَن ينظر مَا حكمهَا فِي الْعقل ثمَّ ينظر هَل يجوز أَن يتَغَيَّر حكم الْعقل فِيهَا وَهل فِي أَدِلَّة الشَّرْع مَا يَقْتَضِي تقدم ذَلِك الحكم أم لَا فَإِن لم يجد مَا يَنْقُلهُ عَن الْعقل قضي بِهِ وَالشّرط فِي ذَلِك هُوَ علمه بانه لَو كَانَت الْمصلحَة قد تَغَيَّرت عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْعقل لما جَازَ أَن لَا يدلنا الله تَعَالَى على ذَلِك فَإِن وجد فِي الشَّرْع مَا يدل على نَقله قضي بانتقاله لِأَن الْعُقُول إِنَّمَا دلّت على تِلْكَ الْأَحْكَام بِشَرْط أَن لَا ينقلنا عَنهُ دَلِيل شَرْعِي
وَالدّلَالَة الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان خطاب وَغير خطاب وَهُوَ الْأَفْعَال وَالْقِيَاس والاستنباط وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِأَفْعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ علمنَا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يفعل على وَجه الْعِبَادَة مَا لَيْسَ بِطَاعَة وان نعلم أَن مَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ أَو ندب مِنْهُ فَهُوَ وَاجِب علينا أَو ندب منا إِلَّا أَن يدل دَلِيل على خِلَافه وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ هُوَ أَن نعلم أَنا متعبدون بِهِ وَأَن حِكْمَة الله(2/343)
تَقْتَضِي أَنا مَا تعبدنا بِهِ إِلَّا وَذَلِكَ مصلحتنا
وَأما الْأَدِلَّة الَّتِي هِيَ الْخطاب فَهُوَ خطاب الله وخطاب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخطاب الْأمة وَقد يسْتَدلّ على الحكم بِالْخِطَابِ وبالإمساك عَن الْخطاب وَعَن غَيره من الْأَدِلَّة وَالشّرط فِي الإستدلال بخطاب الله أَن نعلم مَا يفِيدهُ الْخطاب بِمُجَرَّدِهِ وَمَا يفِيدهُ مَعَ قرينَة وَأَن الله تَعَالَى لَا يجرد خطابا يُفِيد فِي الْمُوَاضَعَة شَيْئا مَا إِلَّا وَقد علم أَن فَائِدَته على مَا أَفَادَهُ الْخطاب إِمَّا بِمُجَرَّدِهِ وَإِمَّا مَعَ قرينَة وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بإمساكه عَن أَن يدلنا على الحكم أَن نعلم أَنه لَو كَانَ الحكم حَاصِلا لدلنا على حُصُوله وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بخطاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ أَن نعلم فَائِدَة الْخطاب ونعلم أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يبْعَث من يخبر بِالْكَذِبِ وَلَا يُنْهِي عَن حسن وَلَا يَأْمر بقبيح وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِهِ أَن يُؤَدِّي إِلَيْنَا الْعِبَادَة هُوَ علمنَا أَنه مَعَ حكمته لَا يجوز أَن يبْعَث من يعلم أَنه يخفي عَنَّا مصالحنا وَالشّرط فِي الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاع هُوَ أَن نعلم أَن الله عز وَجل أَو رَسُوله قد شهد أَنهم لَا يجمعُونَ على خطأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الْمُجَرّد على حقائقه اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْخطاب إِذا كَانَ يسْتَعْمل فِي شَيْء على سَبِيل الْحَقِيقَة وَيسْتَعْمل فِي شَيْء آخر على سَبِيل الْمجَاز وتجرد عَن قرينَة فَالْوَاجِب حمله على حَقِيقَته دون الْمجَاز لِأَن الْغَرَض بِهِ الإفهام والمخاطب إِنَّمَا يفهم من الْخطاب حَقِيقَته وَيحْتَاج إِلَى قرينَة لفهم مجازه فَلَو كلفه الله تَعَالَى أَن يفهم مِنْهُ الْمجَاز من غير قرينَة لم يكن قد جعل لَهُ السَّبِيل إِلَى مَا كلفه
وَحَقِيقَة الْخطاب ضَرْبَان أَحدهمَا حَقِيقَة أَصْلِيَّة وَهِي اللُّغَوِيَّة وَالْأُخْرَى طارئة وَهِي ضَرْبَان إِحْدَاهمَا طارئة بمواضعة عرفية وَالْأُخْرَى بمواضعة(2/344)
شَرْعِيَّة فَمَتَى كَانَ الْخطاب مُسْتَعْملا فِي شَيْء من جِهَة اللُّغَة ومستعملا فِي غَيره من جِهَة الْعرف وَلم يخرج بِالْعرْفِ من أَن يكون حَقِيقَة فِيمَا كَانَ مُسْتَعْملا فِيهِ من جِهَة اللُّغَة بل كَانَ حَقِيقَة فِي الْمَعْنى اللّغَوِيّ وَفِي الْمَعْنى الْعرفِيّ فَلَا يكون أَحدهمَا إِلَى الْفَهم أسبق عِنْد سَماع الْخطاب فَهُوَ مُشْتَرك بَينهمَا وَسَيَجِيءُ القَوْل فِي الِاسْم الْمُشْتَرك لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُوم من الْخطاب فَجرى مجْرى الْمجَاز
والحقيقة اللُّغَوِيَّة وَنَظِير ذَلِك اسْم الْغَائِط كَانَ حَقِيقَة فِي الْمَكَان المطمئن من الأَرْض ثمَّ صَار فِي الْعرف حَقِيقَة فِي قَضَاء الْحَاجة ومجازا فِي الْمَكَان المطمئن وَإِذا اسْتعْمل الْخطاب فِي الْعرف أَو اللُّغَة فِي شَيْء وَاسْتعْمل فِي الشَّرْع فِي شَيْء آخر وَكَانَ حَقِيقَة فِي الشَّرْعِيّ واللغوي أَو الْعرفِيّ فَهُوَ مُشْتَرك بَينهمَا وَإِن كَانَ مجَازًا فِي الْعرفِيّ أَو فِي اللّغَوِيّ وَجب حمله على الشَّرْعِيّ لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم عِنْد سَماع الْخطاب وَذَلِكَ اسْم الصَّلَاة كَانَ حَقِيقَة فِي الدُّعَاء ثمَّ صَار مجَازًا فِيهِ حَقِيقَة فِي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة لَا يفهم من إِطْلَاقه سواهَا فَصَارَ حمل الْخطاب على مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ أولى من حمله على الْعرفِيّ ثمَّ على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة وَحمله على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة أولى من حمله على مجازها فَإِذا تعذر ذَلِك حمل على مجازها فَإِن خطاب الله طائفتين بخطاب هُوَ حَقِيقَة عِنْد إِحْدَاهمَا فِي شَيْء وَعند الْأُخْرَى فِي شَيْء آخر فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن يحملهُ كل وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ على مَا تتعارفه لِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى إفهامنا فَلَو أَرَادَ أحد الْمَعْنيين من كلا الطَّائِفَتَيْنِ لدل الطَّائِفَة الَّتِي لَا تعرف ذَلِك الْمَعْنى على أَنه قد أَرَادَهُ
فَإِن قيل فَمَا قَوْلكُم لَو حرم الله علينا أَن نسمي الدُّعَاء صَلَاة وَأوجب أَن نسمي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة بذلك وعصينا فِي ذَلِك وَلم نتعارف من اسْم الصَّلَاة إِلَّا الدُّعَاء ثمَّ قَالَ لنا أقِيمُوا الصَّلَاة على مَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نحمله عَلَيْهِ قيل إِن كَانَ قد أخبرنَا أَنه لَا يسْتَعْمل هَذَا الِاسْم إِلَّا فِي الصَّلَاة الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ يُرِيد بِهِ الشَّرْعِيَّة وَإِن لم يخبرنا بذلك فَإِنَّهُ لَا يُرِيد بِهِ إِلَّا الدُّعَاء لِأَنَّهُ الْمَفْهُوم عندنَا وَلَيْسَ يجب إِذا قبح منا اسْتِعْمَال هَذَا الِاسْم فِي الدُّعَاء أَن يقبح من الله تَعَالَى ذَلِك(2/345)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ مَعَ الْقَرَائِن المكملة لظاهره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن هَذِه الْقَرَائِن مِنْهَا مَا ترجع إِلَى حَال الْمُخَاطب وَمِنْهَا مَا لَا ترجع إِلَى حَاله فَالْأول كاستدلالنا بِكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبكونه منتصبا لتعليم الشَّرْع على انه عَنى بخطابه حكما شَرْعِيًّا وَهَذَا إِذا كَانَ خطابه مترددا بَين حكم شَرْعِي وعقلي لِأَنَّهُ منتصب لتعليم الشَّرْع فَأَما إِذا كَانَ ظَاهر خطابه يُفِيد حكما عقليا ومجازه يُفِيد الشَّرْعِيّ فَالْوَاجِب حمله على ظَاهره لأَنا إِنَّمَا نرجح حمله على الشَّرْعِيّ بِكَوْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منتصبا لتعليم الشَّرْع وَذَلِكَ إِنَّمَا يتم مَعَ تردد خطابه بَين الشَّرْعِيّ والعقلي على سَوَاء فَأَما إِذا كَانَ ظَاهره مَعَ احدهما فَلَا تَرْجِيح وَكَذَلِكَ إِذا تردد خطابه بَين تَعْلِيم اسْم لغَوِيّ وشرعي فَإِنَّهُ يجب حمله على تَعْلِيم الِاسْم الشَّرْعِيّ لِأَن اللّغَوِيّ يعرف من دونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَاعْلَم أَن كل خطاب فَإِنَّهُ لَا بُد فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ من اعْتِبَار حَال الْمُتَكَلّم بِهِ أَلا ترى أَنا نعتبر حكمته وَإِنَّمَا أردنَا الْأَحْوَال الَّتِي لَهَا نعدل بِالْخِطَابِ من معنى إِلَى معنى مَعَ كَونه مترددا بَينهمَا
وَأما الْقَرِينَة الَّتِي لَيست بِحَال الْمُتَكَلّم فضربان أَحدهمَا أَن تكون الْقَرِينَة خطابا آخر وَالْآخر أَن تكون الْقَرِينَة تعلقا بَين مَا تنَاوله الْخطاب وَبَين مَا لم يتَنَاوَلهُ
أما الضَّرْب الأول فأشياء
مِنْهَا أَن يكون أحد الخطابين يدل على أَن الشَّيْء صفة وَالْآخر يدل على اخْتِصَاص تِلْكَ الصّفة بِحكم من الْأَحْكَام فنعلم أَن ذَلِك الشَّيْء يخْتَص بذلك الحكم وَذَلِكَ مثل قَوْله سُبْحَانَهُ {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَذَلِكَ يدل على أَن الْقُرْآن ذكر وَقَوله تَعَالَى {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث إِلَّا استمعوه وهم يَلْعَبُونَ}(2/346)
يدل على حدث الذّكر فَوَجَبَ من كلا الِاثْنَيْنِ كَون الْقُرْآن مُحدثا
وَمِنْهَا مَا يدل الْخطاب على اخْتِصَاص حكم بشيئين وَيدل خطاب آخر على أَن أحد الشَّيْئَيْنِ يخْتَص بِبَعْض ذَلِك الحكم فنعلم أَن الشَّيْء الآخر يخْتَص بِبَقِيَّة ذَلِك الحكم كَقَوْل الله سُبْحَانَهُ {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} يدل على أَن مُدَّة الْحمل وَمُدَّة الرَّضَاع ثَلَاثُونَ شهرا وَدلّ قَوْله {وفصاله فِي عَاميْنِ} على أَن الْحمل يكون سِتَّة أشهر لِأَن الفصال يكون فِي عَاميْنِ
وَمِنْهَا أَن يكون أحد الخطابين طَرِيقا إِلَى أَن لشَيْء من الْأَشْيَاء حكما وَأَنه لَيْسَ لغيره وَيدل خطاب على أَن ذَلِك الحكم الْمَذْكُور لبَعض الْأَشْيَاء فنعلم أَنه هُوَ الأول أَو جُزْء مِنْهُ نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ {شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} يدل على أَن ابْتِدَاء نزُول الْقُرْآن فِي شهر رَمَضَان لعلمنا أَن كثيرا مِنْهُ قد نزل فِي غير شهر رَمَضَان وَقَوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} يدل على أَن ابْتِدَاء نُزُوله فِي لَيْلَة الْقدر وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا وَلَيْلَة الْقدر هِيَ جُزْء من هر رَمَضَان وَهَذَا إِنَّمَا يَصح مَتى ثَبت بِالْإِجْمَاع أَن قَوْله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} يُفِيد أَن ابْتِدَاء نُزُوله فِي لَيْلَة الْقدر
فَأَما إِذا كَانَت الْقَرِينَة تعلقا بَين فَائِدَة الْخطاب وَبَين غَيره فضربان أَحدهمَا أَن يكون بَينهمَا تعلق التَّعْلِيل وَهَذَا هُوَ الْقيَاس وَقد تقدم القَوْل فِيهِ وَالْآخر لَا يكون تعلق التَّعْلِيل إِلَّا أَنه لَا يثبت أَحدهمَا إِلَّا مَعَ الآخر وَهُوَ ضَرْبَان احدهما هَذَا حكمه لمَكَان الْإِجْمَاع وَإِن لم يعلم التَّعَلُّق بَينهمَا وَالْآخر هَذَا حكمه لِأَنَّهُ لَا يُمكن انفكاك كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه أما الأول فمثاله أَن(2/347)
يدل الظَّاهِر على ان الْخَال يَرث وَتجمع الْأمة على أَن الْخَالَة بمثابته فِي إِثْبَات الْإِرْث ونفيه فنحكم بذلك وَإِن لم نَعْرِف وَجه التَّعَلُّق بَينهمَا وَأما الثَّانِي فضربان أَحدهمَا ان يكون ذَلِك الْمَعْنى وصلَة إِلَى فَائِدَة الْآيَة كالأمر بِالطَّهَارَةِ يَقْتَضِي وجوب اسْتِيفَاء المَاء وَالْآخر أَن لَا يكون وصلَة إِلَيْهِ وَهُوَ ضَرْبَان أَحدهمَا أَن يكون الحكم إِبَاحَة فَيعلم إِبَاحَة مَا لَا يتم الْفِعْل الْمُبَاح إِلَّا مَعَه وَالْآخر أَن يكون الحكم وجوبا فَيعلم وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا مَعَه فَالْأول قَول الله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} فأباح الله الْأكل وَالْجِمَاع إِلَى الْفجْر وَلَيْسَ يُمكن إِبَاحَة الوطيء إِلَى الْفجْر إِلَّا وَالْغسْل وَاقع بعد الْفجْر فَدلَّ على إِبَاحَة تَأَخره عَن الْفجْر وَأما إِذا كَانَ الحكم إِيجَابا فمثاله ايجاب ستر جَمِيع الْفَخْذ لَا يُمكن إِلَّا بستر جُزْء من الرّكْبَة فَدلَّ على وجوب ستر جُزْء من الرّكْبَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة حمل خطاب الْحَكِيم على غير ظَاهره إِذا اقترنت بِهِ الْقَرَائِن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم ان خطاب الله وخطاب رَسُوله لَا بُد من أَن يُفِيد أَشْيَاء وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مُحْتملا لأكْثر من حَقِيقَة وَاحِدَة فَيكون مُشْتَركا بَينهمَا وَإِمَّا أَن لَا يحْتَمل أَكثر من حَقِيقَة وَاحِدَة وَهَذَا الْقسم إِمَّا أَن يكون عَاما أَو خَاصّا فان كَانَ خَاصّا فاما أَن يتجرد عَن قرينَة أَو لَا يتجرد عَن قرينَة فان تجرد عَن قرينَة حمل الْخطاب على ظَاهره وَإِن لم يتجرد عَنْهَا فإمَّا أَن تدل الْقَرِينَة على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ ظَاهره أَو تدل على ان المُرَاد هُوَ ظَاهره أَو تدل على ان المُرَاد ظَاهر الْخطاب وَغير ظَاهره فَإِن دلّت على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ ظَاهره خرج ظَاهره من أَن يكون مرَادا وَلَا يَخْلُو ذَلِك الْخطاب إِمَّا أَن يكون متجوزا(2/348)
بِهِ فِي غير ظَاهره أَو غير متجوز بِهِ فِي غير ظَاهره فان لم يكن متجوزا بِهِ فِي غير ظَاهره على تعذر ذَلِك وَجب أَن يقْتَرن بِهِ قرينَة تدل على المُرَاد لِأَن الْخطاب لَيْسَ يتَنَاوَل غير ظَاهره فَيحمل عَلَيْهِ وَإِن كَانَ قد تجوز بِهِ فِي غير ظَاهره لم يخل وَجه الْمجَاز الَّذِي يسْتَعْمل الْخطاب فِيهِ إِمَّا أَن يكون وَاحِدًا أَو أَكثر من وَاحِد فان كَانَ وَاحِدًا حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ من غير افتقار إِلَى دلَالَة زَائِدَة لِأَن الْحَكِيم إِذا خلا خطابه من قرينَة تدل على أَنه أَرَادَ غير فَائِدَته اللُّغَوِيَّة فَلَا بُد من أَن يُرِيد مَا يعنيه بِهِ أهل اللُّغَة فان لم يعن بِهِ الْحَقِيقَة فَلَيْسَ إِلَّا الْمجَاز وَإِن كَانَ وَجه الْمجَاز الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ الْخطاب أَكثر من وَاحِد لم يخل من أَن تدل دلَالَة مُبتَدأَة على المُرَاد بِعَيْنِه أَو لَا تدل دلَالَة على ذَلِك فان دلّت دلَالَة مُبتَدأَة على المُرَاد بِعَيْنِه لم تخل وُجُوه الْمجَاز إِمَّا أَن تكون محصورة أَو غير محصورة فان لم تكن محصورة فَلَا بُد من أَن تدل دلَالَة على مَا أُرِيد مِنْهَا
هَكَذَا ذكر قَاضِي الْقُضَاة قَالَ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يريدها الْمُخَاطب كلهَا مَعَ تعذر حصرها علينا وَيُمكن أَن يُقَال إِنَّه أرادها كلهَا على الْبَدَل لِأَن ذَلِك يُمكن مَعَ فقد الْحصْر وَمَعَ فقد دلَالَة على التَّعْيِين وَلَا يُمكن سواهُ يبين ذَلِك أَنه يحسن أَن نؤمر بِذبح بقرة فنكون مخيرين فِي ذبح أَي بقرة شِئْنَا وَإِن لم يمكنا حصر الْبَقر فَبَان أَن التَّخْيِير يُمكن مَعَ فقد الْحصْر
فَأَما من لم يجز أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة المعنيان المختلفان فانه يَجِيء على مذْهبه أَنه لَا بُد من دلَالَة تدل على المُرَاد بِعَيْنِه لِأَن اللَّفْظَة مَا وضعت للتَّخْيِير فان كَانَت وُجُوه الْمجَاز محصورة فانه لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون مُتَسَاوِيَة فِي الْقرب من الْحَقِيقَة وَقُوَّة الشّبَه بهَا أَو لَا تكون مُتَسَاوِيَة فِي ذَلِك فان كَانَ بَعْضهَا أشبه بِالْحَقِيقَةِ من بعض حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ لِأَن أسبق إِلَى الإفهام لقُوَّة شبهه وَيخرج الْبَاقِي من أَن يكون مرَادا كَمَا أَن الْخطاب إِذا حمل على حَقِيقَته لم يحمل على مجازه إِلَّا بِدَلِيل وَهَذَا يتم على قَول الْفَرِيقَيْنِ وَإِن كَانَت وُجُوه الْمجَاز مُتَسَاوِيَة(2/349)
لم يخل إِمَّا أَن تدل دلَالَة على أَن بَعْضهَا غير مُرَاد أَو لَا تدل دلَالَة على ذَلِك فان لم تدل دلَالَة على ذَلِك حمل اللَّفْظ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضهَا لحمل الْخطاب عَلَيْهِ أولى من بعض فَلَو أَرَادَ الْحَكِيم بَعْضهَا لدل عَلَيْهِ فاذا حمل الْخطاب عَلَيْهِ فان كَانَت غير متنافية وَأمكن أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة حمل الْخطاب عَلَيْهَا أجمع وَإِن لم يُمكن أَن يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة مَعًا حمل عَلَيْهَا على الْبَدَل وَالْأولَى أَن يُقَال على مَذْهَب هَؤُلَاءِ إِنَّه يَنْبَغِي أَن الْخطاب عَلَيْهَا على الْبَدَل وَإِن أمكن الْجَمِيع بَينهمَا لِأَن الْخطاب لَيْسَ بعام فَيتَنَاوَل الْجَمِيع
وَمِثَال الْمعَانِي الَّتِي تتنافى أَن ترَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة قَول الْقَائِل لغيره افْعَل إِذا دلّت الدّلَالَة على أَنه غير امْر فانه يَصح أَن يكون إِبَاحَة وَيصِح أَن يكون تهديدا واستعماله فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا مجَاز وَلَا يجوز أَن يسْتَعْمل فيهمَا على الْجمع مَعَ أَنه متناول لفعل وَاحِد فَأَما من يمْنَع أَن يُرَاد المعنيان بالعبارة الْوَاحِدَة فانه يَقُول لَا بُد فِي تَسَاوِي وُجُوه الْمجَاز من أَن يكون مُرَاد الْمُتَكَلّم وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا بُد من أَن يدل على مُرَاده مِنْهَا فَأَما إِن دلّت الدّلَالَة على أَن بعض وُجُوه الْمجَاز لم يرد فانه يجب حمل الْخطاب على الْوَجْه الآخر إِن لم يبْق إِلَّا وَجه وَاحِد وَإِن بَقِي أَكثر من وَجه وَاحِد حمل عَلَيْهَا إِمَّا على الْجمع وَإِمَّا على الْبَدَل على قَول من أجَاز ذَلِك وَمن لم يجز ذَلِك يَقُول لَا بُد من قرينَة فان دلّت الدّلَالَة على أَن غير الظَّاهِر مُرَاد فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تعينه أَو لَا تعينه فان لم تعينه فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْقَرِينَة الدَّالَّة على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ الظَّاهِر وَإِن عينته وَجب حمله على ذَلِك الْمعِين
وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة فِي الدَّرْس إِنَّه لَا تخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُرَادة لِأَنَّهُ لَا يتنافى أَن تكون مُرَادة مَعَ أَن غَيرهَا مُرَاد إِلَّا أَن تدل دلَالَة على أَن المُرَاد شَيْء غير الظَّاهِر فَيخرج الظَّاهِر من كَونه مرَادا لِأَن قَوْلنَا إِن المُرَاد هُوَ غير الظَّاهِر أوجب أَن جَمِيع المُرَاد هُوَ غير الظَّاهِر فَأَما إِن دلّت الدّلَالَة على أَن ظَاهر الْخطاب مُرَاد وَغير ظَاهره أَيْضا مُرَاد فان عينت ذَلِك الْغَيْر(2/350)
وَجب حمله عَلَيْهِمَا فَيكون الْخطاب مُسْتَعْملا فيهمَا من جِهَة اللُّغَة على قَول من اجاز ذَلِك فِي اللُّغَة وَمن منع ذَلِك فِي اللُّغَة يَقُول إِن الشَّرِيعَة قد وضعت تِلْكَ الْملَّة لَهما أَو يَقُول إِن الْمُتَكَلّم تكلم بِتِلْكَ الْكَلِمَة مرَّتَيْنِ اراد فِي إِحْدَاهمَا ظَاهر الْخطاب وَأَرَادَ فِي الْمرة الْأُخْرَى غير ظَاهره وَإِن لم تعين الْقَرِينَة ذَلِك الْغَيْر فَالْكَلَام فِي ذَلِك الْغَيْر كَالْكَلَامِ إِذا دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد لَيْسَ هُوَ الظَّاهِر وَلم تعينه
فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي الْخطاب الْخَاص فَأَما إِن كَانَ الْخطاب عَاما فانه إِن تجرد عَن قرينَة حمل على عُمُومه وَإِن لم يتجرد فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تدل الْقَرِينَة على أَن المُرَاد هُوَ ظَاهره وَغير ظَاهره أَو تدل على أَن المُرَاد غير ظَاهره أَو لَيْسَ هُوَ ظَاهره أَو تدل على أَنه قد أُرِيد بعضه أَو تدل على أَن بعضه لَيْسَ بِمُرَاد فان دلّت على أَن المُرَاد ظَاهره وَغير ظَاهره حمل على ظَاهره وعَلى غير ظَاهره إِن كَانَت الدّلَالَة قد عينته على مَا تقدم تَفْصِيله على قَول الْفَرِيقَيْنِ وَإِن لم تعينه فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْخَاص إِذا دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد غير ظَاهره وَلم تعينه وَإِن دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد بِهِ لَيْسَ هُوَ ظَاهره أَو أَن المُرَاد غير ظَاهره وَلم تعينه لم يجز تجرد هَذِه الْقَرِينَة لِأَنَّهُ إِذا لم يكن المُرَاد ظَاهره جَازَ أَن يكون المُرَاد هُوَ بعض مَا تنَاوله الْخطاب وَجَاز أَن يكون المُرَاد شَيْئا لم يتَنَاوَلهُ الْخطاب فاذا انقسم إِلَيْهِمَا وَلم يَصح اجْتِمَاعهمَا احتجنا إِلَى دلَالَة تعين المُرَاد وَيُمكن أَن تدل الدّلَالَة فِي الْعَام على أَن بعضه مُرَاد وَمَتى دلّت الدّلَالَة على ذَلِك لم يخرج الْبَعْض الآخر أَن يكون مرَادا لِأَنَّهُ لَا يتنافى ذَلِك فان دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد هُوَ الْبَعْض خرج الْبَعْض الآخر من كَونه مرَادا لِأَن ذَلِك إِخْبَار بِأَن كَمَال المُرَاد هُوَ الْبَعْض فان دلّت الدّلَالَة على أَن بعض الْعُمُوم لَيْسَ بِمُرَاد خرج ذَلِك من كَونه مرَادا وَبَقِي مَا عداهُ تَحت الْخطاب وَالله أعلم(2/351)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ الْمُشْتَرك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْخطاب إِذا كَانَ مُشْتَركا بَين حقيقتين فان من يمْنَع من إرادتهما يمْنَع من تجرد هَذَا الْخطاب عَن دلَالَة تدل على المُرَاد وَيَقُول إِن دلّت الدّلَالَة على أَنه قد أُرِيد بِهِ وَجب القَوْل بِأَنَّهُ قد تكلم بِهِ مرَّتَيْنِ أَو يَقُول إِن الشَّرْع قد وضع الِاسْم لمجموعهما وَمن لَا يمْنَع من ذَلِك يُجِيز أَن يتجرد عَن قرينَة وَيَقُول إِذا تجرد عَن قرينَة وَجب أَن يحمل الْخطاب على الْمَعْنيين على الْبَدَل إِن كَانَ اللَّفْظ وَاحِدًا نَحْو أَن يَقُول الْقَائِل للْمَرْأَة اعْتدي بقرء وَإِن كَانَ اللَّفْظ لفظ جمع وَجب أَن يحمل عَلَيْهِمَا على الْجمع إِن لم يتنافيا وعَلى الْبَدَل إِن تنافيا وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه لَو تجرد قَول الله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} لأوجبنا على الْمُعْتَدَّة أَن تَعْتَد بِثَلَاثَة قُرُوء بَعْضهَا طهر وَبَعضهَا حيض لِأَن اللَّفْظ يفيدهما فَلَيْسَ بِأَن يحمل على أَحدهمَا أولى من الآخر
وَلقَائِل أَن يَقُول هلا أوجب عَلَيْهَا الاعتداء بِثَلَاثَة يَقع عَلَيْهَا اسْم أَقراء سَوَاء كَانَ بَعْضهَا طهرا وَبَعضهَا حيضا أَو كلهَا طهرا أَو كلهَا حيضا لِأَن ذَلِك يجْرِي مجْرى قَوْلنَا رجال يُفِيد جمعا من الرِّجَال أَي جمع كَانَ فَأَما إِذا اقْترن بِهَذَا الْخطاب قرينَة دلّت على أَن أحد الْمَعْنيين غير مُرَاد تعين بِأَن الآخر مُرَاد وَإِن دلّت على أَن أَحدهمَا مُرَاد قضي بِهِ
وَذكر فِي الْعمد أَن يخرج الآخر من أَن يكون مرَادا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الِاسْم الْمُشْتَرك الأَصْل فِيهِ أَن يحمل على أحد معنييه لِأَنَّهُ لَا يفِيدهُ على الْجمع وَإِنَّمَا يحمل عَلَيْهِمَا إِذا لم تقترن قرينَة تخص أَحدهمَا وَبِهَذَا فَارق لفظ الْعُمُوم(2/352)
وَذكر فِي الدَّرْس أَن قيام الدّلَالَة على أَن أَحدهمَا مُرَاد لَا يمْنَع من كَون الآخر مرَادا فان دلّت الدّلَالَة على أَن لَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا كَانَ القَوْل فِيهِ كالقول فِيمَا لَا يحْتَمل إِلَّا حَقِيقَة وَاحِدَة إِذا دلّت الدّلَالَة على أَنه لَيْسَ بِمُرَاد ظَاهره وَكَذَلِكَ إِذا دلّت الدّلَالَة على أَن المُرَاد غَيرهَا وَلم تعينه أَو دلّت على أَن المُرَاد كلا الحقيقتين وَغَيرهمَا فَلم تعين ذَلِك الْغَيْر أَو عينته
وَالْقَوْل فِي الْخطاب الْعرفِيّ والشرعي كالقول فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْقِسْمَة فِيمَا يتجرد وَلَا يتجرد وَأكْثر هَذِه الْأَقْسَام إِنَّمَا تتفرع على قَول من قَالَ إِنَّه يُرَاد بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز والحقيقتان فَأَما من أَبى ذَلِك فانه يَقُول إِن كَانَ الْخطاب لَا يحْتَمل وَكَانَ خَاصّا ودلت الدّلَالَة على أَن المُرَاد لَيْسَ ظَاهره أَو هُوَ غير ظَاهره وَكَانَ لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي وَجه وَاحِد من وُجُوه الْمجَاز فانه يحمل عَلَيْهِ وَيخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُرَادة وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي أَكثر من وَجه وَاحِد من وُجُوه الْمجَاز وَجب أَن يكون المُرَاد وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا بُد من أَن تدل دلَالَة عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَكَذَلِكَ إِن كَانَ اللَّفْظ عَاما ودلت الدّلَالَة على أَن المُرَاد لَيْسَ شَيْئا مِمَّا تنَاوله اللَّفْظ فانه لَا بُد من أَن تدل عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَلَا يجوز أَن تدل دلَالَة على أَن المُرَاد هُوَ ظَاهره وَغير ظَاهره لِأَن الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لَا يُرَاد بهَا الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَإِن كَانَت اللَّفْظَة مُحْتَملَة لحقيقتين فَلَا بُد من أَن يُرَاد إِحْدَاهمَا أَو وَاحِدَة مِمَّا هِيَ مجَاز فِيهِ وَأي ذَلِك أُرِيد فَلَا بُد فِيهِ من دلَالَة وَإِن دلّت الدّلَالَة على أَنَّهُمَا قد أريدا أَو أَحدهمَا معما هِيَ مجَاز فِيهِ وَجب أَن يكون الْمُتَكَلّم قد تكلم بهَا مرَّتَيْنِ أَو يكون الِاسْم قد وضع لَهما فِي الشَّرْع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن ثُبُوت حكم الْخطاب فِيمَا تنَاوله على وَجه الْمجَاز لَا يدل على أَنه قد أُرِيد الْمجَاز بِالْخِطَابِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله وَحَكَاهُ عَن أبي الْحسن إِنَّه يحكم بذلك قَالَاه فِي قَول الله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء}(2/353)
إِن قيام الدّلَالَة على وجوب التَّيَمُّم على المجامع وَهُوَ الَّذِي يتَنَاوَلهُ اسْم الْمُلَامسَة على طَرِيق الْكِنَايَة يدل على أَنه مُرَاد بِالْآيَةِ وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله إِن الْخطاب إِذا علق على حكم من الْأَحْكَام على صفة من الصِّفَات وَدلّ الدَّلِيل على ثُبُوت ذَلِك الحكم مَعَ فقد تِلْكَ الصّفة فانه يعلم بذلك أَنه مُرَاد بِالْخِطَابِ نَحْو قَول الله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} فَلَمَّا أجمع الْمُسلمُونَ على أَن السَّارِق إِذا تَابَ يقطع لَا على جِهَة النكال علمنَا أَنه مُرَاد بِالْآيَةِ وَعند قَاضِي الْقُضَاة أَنه لَا يعلم ذَلِك فِي كلا المثالين إِلَّا بِدَلِيل زَائِد وَدَلِيله هُوَ أَن الْخطاب وَاجِب حمله على ظَاهره دون مجازه إِلَّا بِدلَالَة وَلَيْسَ فِي ثُبُوت حكم الْخطاب فِي مجازه دلَالَة على أَنه قد أُرِيد ذَلِك الْمجَاز بذلك الْخطاب لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون قد أَرَادَ ذَلِك بِدَلِيل آخر
فان قَالُوا إِنَّا علمنَا ذَلِك لِأَن الْأمة إِذا أَجمعت على ثُبُوت حكم الْآيَة فِي الْمجَاز وَكَانَت لَا تجمع إِلَّا عَن دلَالَة وَلم يكن فِي الشَّرْع مَا يجوز أَن يدل على ذَلِك الحكم إِلَّا ذَلِك الْخطاب علمنَا أَنَّهَا مَا أَجمعت على ذَلِك إِلَّا بِالْآيَةِ وَإِلَّا كَانَت قد أَجمعت لغير دلَالَة قيل هَذَا حجَّة عَلَيْكُم لِأَن الْخطاب لَا يكون حجَّة فِيمَا هُوَ مجَاز فِيهِ إِذا تجرد فَلَو أَجمعُوا على ثُبُوت الحكم فِي الْمجَاز لأجل الْخطاب لكانوا قد أَجمعُوا لَا لدلَالَة فان قَالُوا الْمجَاز يدل على مَا هُوَ مجَاز فِيهِ مَعَ الْقَرِينَة فاذا أَجمعُوا على الحكم لأجل دلَالَة الْخطاب مَعَ الْقَرِينَة كَانُوا قد أَجمعُوا على الحكم لدلَالَة قيل فَإِذن لَا بُد لكم من إِثْبَات أَمر زَائِد على الْخطاب ليَصِح الْإِجْمَاع على ثُبُوت الحكم فِي الْمجَاز فلستم بِأَن تَقولُوا بِأَن ذَلِك الْأَمر الزَّائِد هُوَ قرينَة اقترنت بِالْخِطَابِ بِأولى من أَن تَقولُوا بل هُوَ دلَالَة مُبتَدأَة على الحكم فان قَالُوا لَو أَجمعُوا لدلَالَة مُبتَدأَة لنقلوها قيل(2/354)
وَلَو أَجمعُوا لقَرِينَة لنقلوها فان قَالُوا لم ينقلوها اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع على ثُبُوت الحكم قيل وَلم ينقلوا الدَّلِيل الْمُبْتَدَأ اكْتِفَاء بِالْإِجْمَاع فان قَالُوا إِنَّمَا لم ينقلوا قرينَة لجَوَاز أَن يَكُونُوا اضطروا من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن المُرَاد بِالْخِطَابِ الْمجَاز وَلم تكن هُنَاكَ قرينَة تنقل قيل إِن جَازَ أَن يضطروا من قَصده إِلَى أَن المُرَاد بِالْآيَةِ هُوَ الْمجَاز جَازَ أَن يضطروا من قَصده إِلَى هَذَا الحكم من غير أَن يكون مرَادا بِالْآيَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَن ينقلوا إِلَيْنَا أَنهم علمُوا ذَلِك من قصد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ هَذَا هُوَ دليلهم على المُرَاد بِالْآيَةِ على أَن هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِيمَا يثبت الحكم فِيهِ بِنَصّ نَحْو وجوب التَّيَمُّم على المجامع لِأَن فِي ذَلِك خبر عمار رَضِي الله عَنهُ وَغَيره فَلَا يُمكن أَن يُقَال فِي ذَلِك إِنَّه لَا وَجه لإجماعهم سوى الْآيَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَن يجوز لَهُ أَن يقْضِي بِظَاهِر الْخطاب وعمومه وَمَتى يجوز لَهُ ذَلِك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن قَول الله تَعَالَى إِذا تنَاول أَشْيَاء كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وطرق سمع الْمُكَلف فانه لَا يجوز أَن يحملهُ على عُمُومه وَلَا يحكم بِثُبُوت التَّعَبُّد بفائدته إِلَّا بعد أَن ينظر فِيمَا يَخُصُّهُ أَو ينسخه فانه يجوز أَن يكون فِي الْأَدِلَّة مَا ينسخه ويخصه فاذا فحص وَوجد فِي ذَلِك مَا ينسخه أَو يَخُصُّهُ قضى بِمَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل وَإِن لم يصب ذَلِك لم يخل ظَاهر الْخطاب إِمَّا أَن يتَنَاوَل ذَلِك الْمُكَلف أَو لَا يتَنَاوَلهُ فان تنَاوله قضى بشمول الْخطاب لَهُ وَقضى بِلُزُوم تِلْكَ الْأَفْعَال لَهُ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يسمعهُ الله عز وَجل خطابا عَاما لأفعال وَيُرِيد مِنْهُم فهم مُرَاده وَلَا يُمكنهُ من الْعلم بمراده وَينصب دلَالَة يتَمَكَّن من الظفر بهَا فاذا فحص وَلم يصب الدّلَالَة قطع على أَن الله لم يرد الْخُصُوص وَإِن كَانَ ظَاهر الْخطاب لَا يتَنَاوَل ذَلِك الْمُكَلف لم يخل السّنَن إِمَّا أَن تكون انتشرت انتشارا لَا يخفي مَعَه مَا فِيهَا على من طلبَهَا من الْعلمَاء أَو(2/355)
لم تَنْتَشِر فان كَانَت قد انتشرت كعصرنا هَذَا فَالْوَاجِب أَن يقْضِي بِعُمُوم الْخطاب وَثُبُوت حكمه لِأَن السّنَن قد ظَهرت ظهورا لَا تخفي مَعَه على من التمسها وَإِن لم تكن السّنَن قد انتشرت فانه لَا يجوز أَن يقْضى بِعُمُوم الْخطاب لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون فِي الشَّرْع مَا يَخُصُّهُ لكنه لَا يجب فِي الْحِكْمَة ان يُمكن مِنْهُ وَلَا اتّفق بانتشار الشَّرِيعَة أَن يتَمَكَّن مِنْهُ
وَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه إِذا لم يجز لَهُ الْقطع على بَقَاء حكمه وَلَا عُمُومه لم يجز أَن يَجعله اصلا يقيس عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَثِق بِثُبُوتِهِ وَهَذَا لَا يتم لِأَن من كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد ففرضه فهم الْخطاب لأجل غَيره إِمَّا فرضا معينا أَو على طَرِيق الْكِفَايَة فَيجب إِذا أمكن من فهم الْخطاب فاذا لم يجد دَلِيلا نَاسِخا أَو مُخَصّصا وَجب أَن يقْضِي بِظَاهِرِهِ ويقيس عَلَيْهِ وَالْوَاجِب أَن يُقَال إِن من كَانَ أهل الِاجْتِهَاد إِذا لم يجد مَا يعدل بالحكم عَن ظَاهره فَالْوَاجِب أَن يحمل على ظَاهره فِي تِلْكَ الْحَال لِأَنَّهُ قد كلف الِاسْتِدْلَال بِهِ إِمَّا ليفتي غَيره أَو ليفتي نَفسه ويفتي غَيره وَلَا يجوز أَن لَا يَجْعَل لَهُ طَرِيقا إِلَى مَا كلف سَوَاء انتشرت السّنَن أَو لم تَنْتَشِر إِلَّا أَنه إِن لم تَنْتَشِر السّنَن قطع الْمُكَلف أَن فَرْضه فِي الْحَال وَفرض من يستفتيه الْعَمَل بِظَاهِر ذَلِك الْخطاب وَجوز أَن يكون فِي السّنَن مَا يعدل بِالْخِطَابِ عَن ظَاهره إِذا بلغه تِلْكَ السّنة يُغير فَرْضه وَلِهَذَا يجب أَن يكون من عاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّن غَابَ عَنهُ يجوز أَن يكون مَا يلْزمه من الْعِبَادَات قد نسخه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يبلغهُ النّسخ بعد وَأَنه إِذا بلغه النّسخ بِغَيْر فَرْضه وَيعْتَبر فرض قِيَاسه عَلَيْهِ فَأَما من لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد فَلَا يجوز أَن يقْضِي بِظَاهِر الْخطاب إِذا سَمعه فِي كل هَذِه الْأَحْوَال لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون فِي الْأَدِلَّة مَا يعدل بِالْخِطَابِ عَن ظَاهره وَلَا يجب فِي الْحِكْمَة أَن يبلغهُ وَلَا بُد مَعَ انتشار السّنَن أَن يبلغهُ(2/356)
الْكَلَام فِي الْمُفْتِي والمستفتي
اعْلَم أَن الْكَلَام فِي ذَلِك إِمَّا أَن يرجع إِلَى الْمُفْتِي أَو إِلَى المستفتي أَو إِلَى المستفتي فِيهِ أما الرَّاجِع إِلَيّ الْمُفْتِي ففصلان أَحدهمَا ان نذْكر الصّفة الَّتِي مَعهَا يجوز للمفتي أَن يُفْتِي وَالْآخر أَن نذْكر كَيْفيَّة فَتْوَى الْمُفْتِي أما الرَّاجِع إِلَى المستفتي ففصول مِنْهَا من الَّذِي يجوز لَهُ أَن أَن يستفتي وَمِنْهَا شَرط استفتائه وَمِنْهَا مَا يَنْبَغِي أَن يَفْعَله إِذا أفتاه الْمُفْتِي وَأما الرَّاجِع إِلَى مَا يستفتى فِيهِ فَهُوَ الَّذِي يجوز لَهُ أَن يَقع الاستفتاء فِيهِ هَل هُوَ الْفُرُوع فَقَط أم الْفُرُوع والاصول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الصّفة الَّتِي مَعهَا يجوز للْإنْسَان ان يُفْتِي نَفسه ويفتي غَيره وَيحكم عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن هَذِه الصّفة هِيَ أَن يكون الانسان من أهل الِاجْتِهَاد وَإِنَّمَا يكون من أَهله إِذا عرف الْأَدِلَّة السمعية وَأمكنهُ الِاسْتِدْلَال بهَا وَالدّلَالَة السمعية ظَاهر واستنباط وَالظَّاهِر مِنْهُ خطاب وَمِنْه أَفعَال وَهِي أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاستنباط ضَرْبَان قِيَاس واستدلال وَالِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ يفْتَقر إِلَى الِاسْتِدْلَال بالظواهر فاذا ذكرنَا الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ دخل فِيهِ الِاسْتِدْلَال بالظواهر وَنحن نبتدىء بِذكر ذَلِك فَنَقُول
يجب أَن يكون الْمُسْتَدلّ بِالْقِيَاسِ غير عَارِف بِحكم الْفُرُوع وَيكون عَارِفًا بِالْأَصْلِ وبحكمه وظانا بعلته وعالما بثبوتها فِي الْفَرْع أَو ظَانّا لذَلِك عَالما بِأَنَّهُ قد تعبد بِالْقِيَاسِ عَارِفًا بِشُرُوط الْقيَاس وَإِنَّمَا وَجب اشْتِرَاط جَمِيع ذَلِك لِأَن الْقيَاس هُوَ إثات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم فَيجب أَن(2/357)
يكون الْمُسْتَدلّ غير عَالم بِحكم الْفَرْع ليَصِح أَن يَطْلُبهُ بقياسه وَيجب أَن يكون عَارِفًا بِالْأَصْلِ ليَصِح أَن يعرف حكمه وَعلة حكمه وَيعرف أَن يظنّ أَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْفَرْع وَأَنه قد تعبد بتعليق الحكم بهَا فِي الْفَرْع ليجوز لَهُ أَن يعدى الحكم من الأَصْل إِلَى الْفَرْع لأجل وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع وَيجب أَن يعرف الْفَرْع بِعَيْنِه ليَصِح أَن يعرف ثُبُوت الْعلَّة وَحكمهَا فِيهِ وَيجب أَن يعرف شُرُوط الْقيَاس ليستعمل من الْقيَاس مَا اخْتصَّ بِتِلْكَ الشُّرُوط ويتوقى مَا لم يخْتَص بهَا وَقد علمنَا أَن الْمُسْتَدلّ إِنَّمَا يعلم حكم الأَصْل اسْتِدْلَالا بخطاب الله تَعَالَى وبخطاب نبيه وافعاله وَمَا علم من قَصده وخطاب الْأمة وَإِنَّمَا يَصح أَن يسْتَدلّ بِالْخِطَابِ إِذا علم أَن الْمُتَكَلّم بِهِ يجب إِذا تكلم بِكَلَام وَقد وضع لإِفَادَة شَيْء فقد علم أَن ذَلِك الشَّيْء على مَا أَفَادَهُ الْخطاب وَإِذا اقترنت بِهِ قرينَة فقد علم أَن ذَلِك الشَّيْء على مَا يدل عَلَيْهِ الْخطاب مَعَ الْقَرِينَة وَهَذِه الْجُمْلَة تَقْتَضِي أَن يعلم الْمُسْتَدلّ مَا وضع لَهُ الْخطاب فِي اللُّغَة وَفِي الْعرف وَفِي الشَّرْع ليحمله عَلَيْهِ وَيعرف مجازه فيعدل بالقرائن إِلَيْهِ وَيعرف من حَال الْمُتَكَلّم مَا يَثِق بِهِ من حُصُول مَدْلُول خطابه وَيعرف الْقَرَائِن وَهِي ضَرْبَان عقلية وشرعية والشرعية هِيَ بَيَان نسخ أَو بَيَان تَخْصِيص أَو غَيرهمَا من وُجُوه الْمجَاز وَأما الْقَرَائِن الْعَقْلِيَّة فَهِيَ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة إِذا دلّت على خلاف ظَاهر الْكَلَام وَأما حَال الْمُتَكَلّم فَهِيَ حكمته وَالْحكمَة إِمَّا أَن تثبت لِأَن الْحَكِيم عَالم غَنِي وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَعْصُوم من الْخَطَأ كالنبي وَالْأمة وَيجب أَن نَعْرِف حكمه الْمُتَكَلّم ليَصِح أَن نعلم مَا يجوز أَن يَقُوله ويريده وَمَا لَا يجوز أَن يُريدهُ ويقوله وَلَا يَصح الْمعرفَة بحكمة الله إِلَّا مَعَ الْمعرفَة بِذَاتِهِ وَصِفَاته وَلَا يَصح الْمعرفَة بحكمة النَّبِي إِلَّا مَعَ الْمعرفَة بِكَوْنِهِ نَبيا وَإِنَّمَا يعلم عصمَة الْأمة إِذا عرف أَن الله وَرَسُوله قد شهد بعصمتها والقرائن الناسخة والمخصصة يفْتَقر الْعلم بهَا إِلَى الْعلم بجملة النَّاسِخ والمنسوخ وَالْخَاص وَالْعَام وشروط ذَلِك وَأما الْأَفْعَال فان الِاسْتِدْلَال بهَا يفْتَقر إِلَى الْعلم بِأَنَّهَا حجَّة وَإِلَى الْعلم بِالْوَجْهِ الَّذِي وَقع الْفِعْل عَلَيْهِ وَالْخطاب الْمَنْقُول إِمَّا مَنْقُول بالتواتر وَلَا حَاجَة عَن عَدَالَة الروَاة وضبطهم وَإِمَّا ظن(2/358)
الْمُسْتَدلّ لعِلَّة حكم الأَصْل فانه لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا اسْتِدْلَالا بالأمارات وَيجب أَن يعلم أَن الْغَرَض أَن يَظُنهَا عِلّة لِأَن يعلمهَا حَتَّى يطْلب الْعلم وَلَا يُدْرِكهُ
وَأما الِاسْتِدْلَال الَّذِي لَيْسَ بِقِيَاس فانه إِن كَانَ اسْتِدْلَالا بعلة وأمارة فَلَا بُد من الِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا وَإِن كَانَ اسْتِدْلَالا بِشَهَادَة الْأُصُول من غير اعْتِبَار عِلّة وَصَحَّ ذَلِك فانه يفْتَقر فِيهِ إِلَى مثل مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْقيَاس إِلَّا الِاسْتِدْلَال على الْعلَّة
فاذا اخْتصَّ الْإِنْسَان بِمَا ذَكرْنَاهُ جَازَ لَهُ أَن يجْتَهد فِي الْمسَائِل فيفتي نَفسه وَغَيره وَيحكم على غَيره وَيجوز أَن يجْتَهد فِي مَسْأَلَة من الْفَرَائِض إِذا كَانَ عَالما بالفرائض وَإِن لم يعلم مَا عداهُ من ابواب الْفِقْه لِأَن الظَّاهِر من أَحْكَام الْفَرَائِض أَنَّهَا لَا تستنبط من غَيرهَا إِلَّا نَادرا والذهاب عَن النَّادِر لَا يقْدَح فِي الِاجْتِهَاد أَلا ترى أَن الْمُجْتَهد قد يخفي عَلَيْهِ من النُّصُوص الْيَسِير وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي كَونه من أهل الِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي كَيْفيَّة فَتْوَى الْمُفْتِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه لَا يجوز للمفتي أَن يُفْتِي بالحكاية عَن غَيره بل إِنَّمَا يُفْتِي بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْأَل عَمَّا عِنْده وَلَا يسْأَل عَن قَول غَيره وَإِن سُئِلَ أَن يَحْكِي قَول غَيره جَازَ لَهُ حكايته وَلَو جَازَ أَن يُفْتِي بالحكاية جَازَ للعامي أَن يُفْتِي بِمَا يجده فِي كتب الْفُقَهَاء وَمَتى لم يتَقَدَّم من الْمُفْتِي اجْتِهَاد فِي الْمَسْأَلَة وَجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِيهَا قبل الْفَتْوَى فان تقدم مِنْهُ اجْتِهَاد وَقَول فِي الْمَسْأَلَة وَكَانَ ذَاكِرًا لذَلِك القَوْل وَطَرِيقَة الِاجْتِهَاد لم يجب عَلَيْهِ تَجْدِيد الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ كالمجتهد فِي الْحَال وَإِن لم يذكر طَريقَة الِاجْتِهَاد فَهُوَ فِي حكم من لَا اجْتِهَاد لَهُ فَالْوَاجِب عَلَيْهِ تَجْدِيد الِاجْتِهَاد(2/359)
وَإِذا لم يجز لَهُ أَن يُفْتِي وَيُؤْخَذ بفتواه فأحرى أَن لَا يجوز أَن يَأْخُذ الْإِنْسَان بفتوى من مَاتَ لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَنه لَو كَانَ حَيا لَكَانَ ذَاكِرًا لطريقة الِاجْتِهَاد وراضيا بذلك القَوْل وَيُمكن أَن يُقَال إِن الظَّاهِر من ذَلِك القَوْل أَنه قَول ذَلِك الْفَقِيه إِلَى أَن مَاتَ وَمَوته قد أَزَال عَنهُ التَّكْلِيف وَلَا يُمكن أَن يُقَال إِنَّه يلْزمه إِعَادَة اجْتِهَاده فاذا أفتى الْمُجْتَهد بِاجْتِهَادِهِ ثمَّ تغير اجْتِهَاده لم يلْزم تَعْرِيف المستفتي تغير اجْتِهَاده إِذا كَانَ قد عمل بِهِ وَإِن لم يكن قد عمل بِهِ فَيَنْبَغِي أَن يعرفهُ إِن تمكن مِنْهُ لِأَن الْعَاميّ إِنَّمَا يعْمل بِهِ لِأَنَّهُ قَول الْمُفْتِي وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ هُوَ قَوْله فِي تِلْكَ الْحَال وَإِذا أفتاه بقول مجمع عَلَيْهِ لم يخيره فِي الْقبُول مِنْهُ وَإِن كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ خَيره بَين أَن يقبل مِنْهُ وَمن غَيره لَا شُبْهَة فِي ذَلِك على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب وعَلى قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد أَيْضا هَكَذَا يَجِيء لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يجب عَلَيْهِ الْأَخْذ بقول أحد المفتيين بِغَيْر حجَّة أولى من الآخر فان كَانَ هَذَا التَّخْيِير مَعْلُوما من قصد الْمُفْتِي لم يجب عَلَيْهِ أَن يخيره لفظا بل يذكر قَوْله فَقَط وَلَيْسَ كَذَلِك الحكم لِأَن الْحَاكِم وضع لرفع الْخُصُومَات فَلَو كَانَ الْخصم مُخَيّرا بَين الدُّخُول تَحت حكمه وَترك الدُّخُول لم تَنْقَطِع الْخُصُومَة وَإِذا اعتدل الْقَوْلَانِ عِنْد الْمُفْتِي فقد ذكر قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح أَن لَهُ أَن يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَقَالَ أَيْضا لَهُ أَن يُخَيّر المستفتي بَين الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْه أَن يُقَال يَنْبَغِي أَن يُخَيّر المستفتي أَنه إِنَّمَا يفتيه بِمَا يرَاهُ وَالَّذِي يرَاهُ هُوَ التَّخْيِير على قَول من قَالَ بالتخيير فِي الْأَحْكَام وَوجه القَوْل الآخر هُوَ أَنه كَمَا يجوز أَن يعْمل الْمُفْتِي باي الْقَوْلَيْنِ شَاءَ كَذَلِك يجوز لَهُ أَن يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي جَوَاز استفتاء الْعَاميّ للْعُلَمَاء فِي فروع الشَّرِيعَة وتقليده إيَّاهُم فِيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
منع قوم من شُيُوخنَا البغداديين من تَقْلِيد الْعَاميّ للْعَالم فِي فروع الشَّرِيعَة وَقَالُوا لَا يجوز أَن يَأْخُذ بقوله إِلَّا بعد أَن يبين لَهُ حجَّته وَأَجَازَ تَقْلِيده إِيَّاه(2/360)
فِي ذَلِك أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء وَحكى قَاضِي الْقُضَاة فِي الشَّرْح عَن أبي عَليّ أَنه أَبَاحَ للعامي تَقْلِيد الْعَالم فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد من الْفُرُوع دون مَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَالصَّحِيح جَوَاز تَقْلِيده فيهمَا وَالدَّلِيل على ذَلِك إِجْمَاع الْأمة قبل حُدُوث الْمُخَالف فان الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ كَانُوا يفتون الْعَامَّة فِي غامض الْفِقْه وَلَا يعرفونهم أدلتهم وَلَا ينبهونهم على ذَلِك ويلزمونهم سُؤَالهمْ إيَّاهُم وَلَا يُنكرُونَ عَلَيْهِم اقتصارهم على مُجَرّد أقاويلهم وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَخْلُو الْعَاميّ إِذا حدثت بِهِ حَادِثَة من الْفُرُوع إِمَّا أَن يكون متعبدا فِيهَا بِشَيْء أَو لَا يكون متعبدا فِيهَا بِشَيْء وَالْإِجْمَاع يمْنَع من أَن لَا يكون متعبدا فِيهَا بِشَيْء لِأَن الْأمة مجمعة على أَنه يلْزمه الرُّجُوع إِلَى الْعلمَاء فبعضهم يَقُول يقلدهم والمخالف يَقُول يسألهم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ليعْمَل عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ إِذا طلق طَلَاقا مُخْتَلفا فِيهِ فإمَّا أَن يكون مُبَاحا لَهُ الْمقَام على الزَّوْجَة أَو مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ بَينهمَا وَاسِطَة وَأيهمَا كَانَ فَهُوَ تعبد وَإِن كَانَ متعبدا فاما أَن يكون حكم الْعقل أَو حكم الشَّرْع وَالْإِجْمَاع يمْنَع من الأول لِأَن الْمُخَالف يلْزمه سُؤال الْعَالم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ليعلمه إِيَّاهَا وَلِأَن كثيرا من الْعَامَّة لَا يعرف حكم الْعقل فِي كثير من الْمسَائِل وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك أهل الِاجْتِهَاد وَإِن لزمَه حكم شَرْعِي فإمَّا أَن يلْزمه الْوُصُول إِلَيْهِ بالتقليد أَو بالاستدلال فان لزمَه بالاستدلال فإمَّا أَن يلْزمه ذَلِك بِأَن يتعلمه عِنْد كَمَال الْعقل ليصير من أهل الِاجْتِهَاد وَإِمَّا أَن يسْأَل الْعَالم عَن أَدِلَّة الْمَسْأَلَة فيجتهد فِيهَا فان لزمَه التَّعْلِيم عِنْد كَمَال الْعقل فالإجماع يمْنَع من وجوب التَّعَلُّم على كل أحد عِنْد كَمَال عقله وَلِأَن انصراف النَّاس إِلَى التَّعَلُّم المفضي إِلَى أَن يكون الْإِنْسَان من أهل الِاجْتِهَاد إهمال لأمر الدُّنْيَا وإفساد حَالهَا وَمَا أحد أوجب على النَّاس إهمال الدُّنْيَا وَأَيْضًا فَمَا الْجَواب الَّذِي يثبت بِهِ الْحَادِثَة فِي حَال تعلمه قبل أَن يَنْتَهِي إِلَى حَال الِاجْتِهَاد وَمَا الْجَواب إِن فرط فَلم يتَعَلَّم ثمَّ نزلت بِهِ حَادِثَة فِي صلَاته وصيامه أَو طَلَاقه وَإِن ابْتَدَأَ فِي الْحَال بالتفقه فَاتَتْهُ الْحَادِثَة وايضا فَلَيْسَ كل من تفقه صَار من أهل الِاجْتِهَاد حَسْبَمَا نجد عَلَيْهِ كثيرا مِمَّن تفقه وَإِن لزمَه أَن يسْأَل الْعَالم عَن الْأَدِلَّة اسْتدلَّ بهَا(2/361)
فمعلوم أَنه لايمكنه أَن يسْتَدلّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يذكرهُ لَهُ إِلَّا بعد أَن يعرف طرفا من اللُّغَة وَكَيْفِيَّة الِاسْتِدْلَال بِالْخِطَابِ وَأَنه لَيْسَ فِي الْأَدِلَّة مَا يعدل بِهِ عَن ظَاهِرَة من نسخ أَو تَخْصِيص أَو غير ذَلِك فان رَجَعَ إِلَى قَول الْعَالم فِي ذَلِك فقد قَلّدهُ وَإِن فحص عَن الْأَخْبَار وَوجه المقاييس لم يتَمَكَّن من ذَلِك إِلَّا فِي الزَّمَان الطَّوِيل وزمان الْحَادِثَة يضيق عَن ذَلِك وَقد لَا يُمكنهُ إِذا عرف وفحص عَن ذَلِك أَن يجْتَهد فكثير من أَصْحَاب الحَدِيث يعْرفُونَ مَا رُوِيَ من الحَدِيث وَلَيْسوا من أهل الِاجْتِهَاد فاذا أبطلنا هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق للعامي طَرِيق إِلَّا التَّقْلِيد وَقد اسْتدلَّ على تَقْلِيد الْعَاميّ الْعَالم بِأَن قيس على رُجُوع الْعَالم إِلَى رِوَايَة الْمخبر الْوَاحِد
وَاحْتج من منع من تَقْلِيد الْعَاميّ فِي الْفُرُوع بِأَن الْعَاميّ لَا يَأْمَن أَن يكون من قَلّدهُ لم ينصح فِي الِاجْتِهَاد فَيكون فَاعِلا لمفسدة وَهَذَا منتقض بِرُجُوع الْعَالم إِلَى الْمخبر الْوَاحِد لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن أَن يكون قد كذبه فِي خَبره فَيكون بامتثاله للْخَبَر فَاعِلا للمفسدة
فان قَالُوا مصلحَة الْعَالم أَن يعْمل بِخَبَر من ظن صدقه من الْعَامَّة وَإِن كَانَ كَاذِبًا قُلْنَا وَكَذَلِكَ مصلحَة الْعَاميّ أَن يعْمل بِحَسب فَتْوَى الْمُفْتِي وَإِن كَانَ غاشا وقاسوا التَّقْلِيد فِي الْفُرُوع على التَّقْلِيد فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل بِغَيْر عِلّة وكل قِيَاس لَا عِلّة فِيهِ فَبَاطِل ويعارضون بِالرُّجُوعِ إِلَى خبر الْوَاحِد وَالْفرق بَينهمَا أَن الْحق فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل وَغَيرهمَا يحصل لَا بِحَسب حَال الْإِنْسَان وظنه بل الْحق فِيهِ وَاحِد فاذا قلد فِيهِ الْمُقَلّد لم يَأْمَن أَن يكون من قَلّدهُ لم يصب ذَلِك الْحق وَأما الشرعيات فَالْحق فِيهَا كَونهَا مصلحَة وَفعل الْإِنْسَان قد يكون مصلحَة لَهُ إِذا كَانَ على حَال مَخْصُوصَة فَلَا يمْتَنع أَن يكون مصْلحَته مَعَ أَنه لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد أَن يعْمل بِحَسب فَتْوَى الْمُفْتِي فَيَأْمَن أَن يكون مقدما على جهل وَخطأ كَمَا أَن مصلحَة الْعَالم أَن يعْمل بِحَسب مَا أخبر بِهِ الْوَاحِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وايضا فالعامي إِنَّمَا يلْزمه النّظر فِي مسَائِل مَخْصُوصَة فِي الْعدْل(2/362)
والتوحيد وأدلتها عقلية يحْتَاج الْإِنْسَان إِلَى تَنْبِيه يسير لَا يقطع عمره والحوادث الطارئة فِي الْفُرُوع كَثِيرَة بِغَيْر إحصاء وَالِاجْتِهَاد فِيهَا لَا يتم إِلَّا بِأُمُور شَرْعِيَّة لَا يُمكن ضَبطهَا وَالِاسْتِدْلَال بهَا فِي الزَّمَان الطَّوِيل على مَا قدمْنَاهُ
فان قيل قد يجوز أَن يطْرَأ على صَاحب الْجُمْلَة شُبْهَة لَا يُمكنهُ حلهَا إِلَّا بِأَن يكون من المبرزين فِي الْعلم فأوجبوا عَلَيْهِ إِذن أَن يكون من المتناهين فِي الْعلم قيل إِن النّظر على سَبِيل الْجُمْلَة لَا يحدث مَعَه مثل هَذِه الشُّبْهَة إِلَّا نَادرا وَمثل ذَلِك إِذا رَجَعَ فِيهِ إِلَى تَنْبِيه الْعَالم على مَا فِي الْعقل من الْجَواب لم يسْتَغْرق الزَّمَان أما حُدُوث الْفُرُوع بالإنسان فَلَيْسَ بموقوف على أَن يكون من أهل الِاجْتِهَاد وَلَا الِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا مَرْكَز فِي الْعُقُول
وَالدَّلِيل على أَن للعامي أَن يُقَلّد فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد من الْفُرُوع وَفِيمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد من الْفُرُوع هُوَ أَنا لَو ألزمناه تَمْيِيز مسَائِل الِاجْتِهَاد مِمَّا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد لَكنا قد ألزمناه أَن يكون من أهل الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ لَا يُمَيّز ذَلِك إِلَّا أهل الِاجْتِهَاد وَفِي ذَلِك من الْفساد مَا تقدم
وَاحْتَجُّوا بِأَن مَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد الْحق فِي وَاحِد مِنْهُ فَلَا يَأْمَن الْعَاميّ إِذا قَلّدهُ فِيهِ أَن يُقَلّد فِي خلاف الْحق وَلَيْسَ كَذَلِك مسَائِل الِاجْتِهَاد لِأَن الْحق فِيهَا فِي جَمِيع الْأَقَاوِيل فأيها قَدمته فَهُوَ الْحق وَالْجَوَاب إِن تَقْلِيده فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد أَيْضا لَا يَأْمَن مَعَه أَن يُقَلّد من لم ينصحه فِي الِاجْتِهَاد وَأَفْتَاهُ بِخِلَاف مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده فان قَالُوا مصلحَة الْعَاميّ أَن يعْمل بِمَا يُفْتِي بِهِ الْمُفْتِي وَإِن غشه قيل ومصلحته أَن يعْمل بِمَا يفتيه بِهِ الْعَالم وَإِن كَانَ الْعَالم غير مُصِيب فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي شَرَائِط الاستفتاء وَمَا يجب على المستفتي إِذا أفتاه أهل الِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما شَرط الاستفتاء فَهُوَ أَن يغلب على ظن المستفتي أَن من يستفتيه من أهل الِاجْتِهَاد بِمَا يرَاهُ من انتصابه للْفَتْوَى بمشهد من أَعْيَان النَّاس وَأخذ النَّاس عَنهُ(2/363)
وَأَن يَظُنّهُ من أهل الدّين بِمَا يرَاهُ من اجْتِمَاع الْجَمَاعَات على سُؤَاله واستفتائه وَبِمَا يرَاهُ من سمات السّتْر وَالدّين وَلَا شُبْهَة فِي أَنه لَيْسَ للعامي أَن يستفتي من يَظُنّهُ غير عَالم وَلَا متدين بل يجوز لَهُ أَن يستفتي كل من يرى مِمَّن لَا يَظُنّهُ عَالما وَإِنَّمَا أَخذ عَلَيْهِ هَذَا الْقدر من الظَّن لِأَنَّهُ مُمكن لَهُ كَمَا أَن الِاجْتِهَاد فِي الْأَدِلَّة مُمكن للْعَالم
فَأَما مَا يجب على الْعَاميّ إِذا أفتاه أهل الِاجْتِهَاد فَهُوَ أَنهم إِن اتَّفقُوا وَجب على المستفتي الْمصير إِلَى الْفَتْوَى الَّتِي اتَّفقُوا عَلَيْهَا وَإِن اخْتلفُوا وَجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي أعلمهم وأدينهم لِأَن ذَلِك طَرِيق قُوَّة ظَنّه وهم مُمكن لَهُ فَجرى مجْرى قُوَّة ظن الْمُجْتَهد فِي الْمسَائِل
وَقد حُكيَ عَن قوم أَنهم أسقطوا عَنهُ الِاجْتِهَاد وَهُوَ ظَاهر لِأَن الْعلمَاء فِي كل عصر لَا يُنكرُونَ على الْعَامَّة ترك النّظر فِي أَحْوَال الْعلمَاء فان اجْتهد فِي أحدهم فَاسْتَوَى عِنْده علمهمْ وَدينهمْ كَانَ مُخَيّرا فِي الْأَخْذ بِأَيّ أقاويلهم شَاءَ فأيها اخْتَارَهُ وَجب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعضهم بِقبُول قَوْله أولى من بعض وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه إِذا جَازَ لَهُ أَن يخْتَار الْإِبَاحَة مَتى شَاءَ وَأَنه إِن اخْتَار الْأَخْذ بالحظر كَانَ لَهُ الْعُدُول عَنهُ إِلَى الْإِبَاحَة فقد صَار الْفِعْل مُبَاحا لِأَنَّهُ لَو تَركه مَتى شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ وَالْحَال هَذِه أَن يعْتَقد حظره
وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إنَّهُمَا إِذا تَسَاويا لم يكن لَهُ الْأَخْذ بالأخف من الْأَقَاوِيل طلبا مِنْهُ للتَّخْفِيف وَلقَائِل أَن يَقُول لَهُ ذَلِك لِأَن المفتيين إِذا اسْتَويَا صَار الأخف رخصَة وَاحْتج من أوجب الْأَخْذ بأثقل الْقَوْلَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْحق ثقيل مريء وَالْبَاطِل خَفِيف وبيء وَالْجَوَاب إِن هَذَا الْخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد وَلَيْسَ فِيهِ ايضا إِن الْحق أثقل من كل ثقيل وَإِنَّمَا يدل على أَن الْحق ثقيل ولأنا نَحن نقُول بذلك لِأَنَّهُ مُخَالف للشهوة على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عَنى أَن الْبَاطِل فِي الْغَالِب خَفِيف لِأَن الْعِبَادَات من النَّصَارَى والهند بَاطِلَة(2/364)
أَكْثَرهَا وَهِي ثَقيلَة جدا فان غلب على ظَنّه أَنَّهُمَا وَإِن كَانَا من أهل الدّين متساويان فِي الْعلم وَأَحَدهمَا أدين فَالْوَاجِب عَلَيْهِ اتِّبَاع الأدين لِأَن الثِّقَة بِهِ اقوى وَإِن تَسَاويا فِي الدّين وتفاضلا فِي الْعلم فَذكر فِي الْعمد أَن قوما جوزوا لَهُ تَقْلِيد الأنقص فِي الْعلم وَهَذَا القَوْل يسْقط عَنهُ الِاجْتِهَاد فِي أعلمهما إِذْ كَانَ لَو تبين لَهُ أعلمهما كَانَ لَهُ الْعُدُول عَنهُ وَقَالَ فِي شَرحه لَيْسَ لَهُ الْأَخْذ إِلَّا بقول الأعلم لِأَن النَّفس إِلَيْهِ أسكن وَجرى التَّفَاضُل فِي الْعلم مجْرى التَّفَاضُل فِي الدّين فَأَما إِن كَانَا عَالمين دينين وَكَانَ أدينهما أنقصهما علما يحْتَمل أَن يُقَال إنَّهُمَا سَوَاء وَالْأولَى أَن يرجح قَول الأعلم لزيادته فِيمَا يعين على الِاجْتِهَاد وَالْوُقُوف على الصَّوَاب وَمثل هَذَا النَّصْر لَا يخفى على الْعَوام لِأَنَّهُ كتدبير الدُّنْيَا فَلم يسْقط عَنْهُم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَنه لَيْسَ للعامي أَن يُقَلّد فِي أصُول الدّين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
منع أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء من التَّقْلِيد فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل والنبوات واباح قوم من اصحاب الشَّافِعِي أَن يُقَلّد فِي ذَلِك وَلم يَخْتَلِفُوا فِي انه لَيْسَ لَهُ أَن يُقَلّد فِي أصُول الشَّرِيعَة كوجوب الصَّلَاة وأعداد ركعاتها
وَالدّلَالَة على الْمَنْع من ذَلِك هِيَ أَن الْمُكَلف مَأْخُوذ عَلَيْهِ الْعلم بِهَذِهِ الْأُمُور والمقلد لَيْسَ بعالم لِأَنَّهُ يجوز خطأ من يقلده وَلِأَن من أَبَاحَهُ ذَلِك وَأوجب عَلَيْهِ الْمعرفَة بأصول الدّين والشريعة فقد نَاقض لِأَن الْمعرفَة بِوُجُوب الصَّلَاة وَالصِّيَام لَا تصح إِلَّا مَعَ الْمعرفَة بِصدق من جَاءَ بهما فان قلد فِي صدقه فقد قلد فِي وجوب كل مَا أخبر بِوُجُوبِهِ وَإِن جَازَ أَن يعلم صدقه بالتقليد جَازَ أَن يعلم أصُول الشَّرِيعَة بالتقليد(2/365)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي الْمُجْتَهد هَل لَهُ أَن يُقَلّد غَيره من الْمُجْتَهدين كالصحابي وَغَيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ أَبُو عَليّ لَهُ أَن يَأْخُذ بقول الْوَاحِد من الصَّحَابَة وَإِن كَانَ فِي الصَّحَابَة من يُخَالِفهُ فان حصل لقَوْل بَعضهم مزية أَخذ بِهِ وَإِن تساووا كَانَ الْمُجْتَهد مُخَيّرا وَحكى قَاضِي الْقُضَاة أَن الأولى أَن يجْتَهد الْمُجْتَهد وَيعْمل على اجْتِهَاده فان خَالف الصَّحَابِيّ جَازَ وَحكي عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه جعل الْأُصُول أَرْبَعَة ذكر مِنْهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة واختلافها فَجعل الِاخْتِلَاف من الْأُصُول تَقْتَضِي جَوَاز الْأَخْذ بالْقَوْل الْمُخْتَلف فِيهِ وَذكر الشَّافِعِي فِي رسَالَته الْقَدِيمَة جَوَاز تَقْلِيد الصَّحَابَة وَرجح قَول الْأَئِمَّة مِنْهُم وَمنع أَكثر الْفُقَهَاء الْمُجْتَهدين من ذَلِك وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز تَقْلِيد الْعَالم من هُوَ أعلم مِنْهُ من الصَّحَابَة وَغَيرهم فجوز ذَلِك مُحَمَّد بن الْحسن وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا جَوَازه وَالْأُخْرَى الْمَنْع مِنْهُ وَأَجَازَ ابْن سُرَيج تَقْلِيد الْعَالم من هُوَ أعلم مِنْهُ إِذا تعذر عَلَيْهِ وَجه الِاجْتِهَاد وَأكْثر الْفُقَهَاء يمْنَعُونَ من تَقْلِيد الْعَالم من هُوَ أعلم مِنْهُ
وَقد احْتج للْمَنْع من ذَلِك بأَشْيَاء
مِنْهَا أَنه لَو جَازَ لغير الصَّحَابَة من الْمُجْتَهدين تَقْلِيد الصَّحَابَة جَازَ لبَعْضهِم تَقْلِيد بعض وَلَو جَازَ ذَلِك لم يكن لمناظرتهم فِي الْمسَائِل فَائِدَة وَالْجَوَاب إِن من النَّاس من يجوز لغير الصَّحَابَة من الْمُجْتَهدين أَن يُقَلّد بَعضهم بَعْضًا وَيَقُول الْفَائِدَة فِي اجتهادهم فِي الْمَسْأَلَة أَن الِاجْتِهَاد وَالْعَمَل بِحَسبِهِ أولى من التَّقْلِيد وَلَا يمْتَنع أَيْضا أَن يجوز لغَيرهم تقليدهم وَيجب عَلَيْهِم الفحص وَالنَّظَر مَعَ ذَلِك
وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة كَانَت تتْرك آراءها لخَبر تسمعه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبأن يجب على غَيرهم الْعَمَل بالْخبر وبترك رَأْي الصَّحَابِيّ أولى وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الصَّحَابَة كَانَت تتْرك آراءها للْخَبَر إِذا كَانَ صَرِيحه بِخِلَاف رأيها وَإِذا تغير اجتهادها بسماعها وَالنَّظَر فِيهِ وَهَكَذَا يلْزم غَيرهَا لِأَنَّهُ لَا يجوز مَعَ أَن رَأْي(2/366)
الْمُجْتَهدين بِخِلَاف قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة أَن يتْرك اجْتِهَاده وَيصير إِلَى قَول الْوَاحِد وَإِنَّمَا يجوز لَهُ الْأَخْذ بقول الْوَاحِد من الصَّحَابَة مَعَ الْخَبَر إِذا احْتمل الْخَبَر الِاجْتِهَاد وَلم يجْتَهد فِيهِ فَلَا يمْتَنع أَن يصير إِلَى قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة وَيجب على ذَلِك الْوَاحِد أَن يجْتَهد كَمَا نقُوله فِي التَّابِعين مَعَ إِجْمَاع الصَّحَابَة
وَمِنْهَا أَن الْمُجْتَهد مُتَمَكن من الِاجْتِهَاد لتكامل الْآيَة فَلم يجز مَعَ تمكنه من الْعَمَل بِاجْتِهَادِهِ أَن يصير إِلَى قَول غَيره كَمَا لم يجز أَن يصير إِلَى قَول غَيره فِي العقليات لما تمكن من النّظر وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّمَا لم يجز التَّقْلِيد فِي العقليات لِأَن الْمَطْلُوب مِنْهَا الْعلم وَالْعلم لَا يحصل بالتقليد لتجويزنا خطأ من يقلده وَالْغَرَض بمسائل الِاجْتِهَاد الْعَمَل التَّابِع للظن وَقد يحصل الظَّن بتقليد الْعَالم فَلَا يمْتَنع أَن يرد التَّعَبُّد بِهِ وعَلى أَن إحالتهم ذَلِك إِمَّا أَن يكون بِالسَّمْعِ وَلَيْسَ فِي السّمع مَا يحِيل ذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ مَا يحِيل ذَلِك فَهُوَ الدَّلِيل لَا مَا ذَكرُوهُ الْآن أَو بِالْعقلِ وَمَعْلُوم أَن الْعقل لَا يجوز التَّعَبُّد بذلك لِأَن الْعَمَل بِحَسب الِاجْتِهَاد مصلحَة لغيره من الْمُجْتَهدين كَمَا هُوَ مصلحَة للعامي وكما أَن تَقْلِيد الْمُجْتَهدين مصلحَة لغَيرهم
وَمِنْهَا أَن الْمُجْتَهد لَو أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى خلاف قَول من هُوَ أعلم مِنْهُ صَحَابِيّ أَو غَيره لما جَازَ ترك رَأْيه وَالْأَخْذ بِرَأْي الأعلم فَيجب أَن لَا يجوز لَهُ ذَلِك وَإِن لم يجْتَهد لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن لَو اجْتهد أَن يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى خلاف ذَلِك القَوْل وَلقَائِل أَن يَقُول لَا يمتنه أَن تكون مصْلحَته إِذا اجْتهد الْعَمَل على مَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَإِن لم يجْتَهد كَانَ الْأَخْذ بِمَا يختاره من أقاويل السّلف مصلحَة أَلا ترى أَنه يجوز وُرُود التَّعَبُّد بذلك وعَلى أَن هَذَا يمْنَع من تَقْلِيد الْعَاميّ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن لَو فعل مَا يتَمَكَّن بِهِ من التفقه ثمَّ اجْتهد أَن يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى خلاف قَول من قَلّدهُ
وَمِنْهَا أَن الْمُجْتَهد يتَمَكَّن من الْوُقُوف على الحكم بِاجْتِهَادِهِ فَلم يجز لَهُ الْعُدُول عَن ذَلِك إِلَى مَا هُوَ أنقص مِنْهُ كَمَا لَا يجوز للمتمكن من الْعلم الْعُدُول(2/367)
عَنهُ إِلَى الظَّن وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الْعقل لَا يمْنَع من أَن تكون مصلحَة المتمكن من الْعلم الْعَمَل على ظَنّه فَالْأَصْل غير مُسلم وَيبْطل مَا ذَكرُوهُ بالعامي إِذا تمكن من التفقه حَتَّى يصير من أهل الِاجْتِهَاد وكل هَذِه الْوُجُوه يحِيل وُرُود التَّعَبُّد بتقليد الْمُجْتَهدين وَقد بَينا أَن الْعقل لَا يحِيل ذَلِك
وَالْوَجْه الصَّحِيح فِي الْمَسْأَلَة هُوَ أَن يُقَال إِن اجْتِهَاد الْمُجْتَهد وَعَمله بِحَسب اجْتِهَاده متعبد بِهِ لِأَنَّهُ بذلك يكون مُطيعًا لله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى مَا نصب الأمارة إِلَّا وَقد أَرَادَ من الْمُجْتَهد أَن يجْتَهد فِيهَا وَلَيْسَ بعض الْمُجْتَهدين بذلك أولى من بعض وَلَيْسَ يجوز إِثْبَات بدل لهَذَا المُرَاد المتعبد بِهِ إِلَّا لدلَالَة عقليه أَو سمعية وَلَا دَلِيل يدل عَلَيْهِ فَوَجَبَ نَفْيه وَهَذَا إِنَّمَا يَصح إِذا أُجِيب عَن شبه الْمُخَالفين
وَقد احْتَجُّوا بِوُجُوه
مِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَوله عَلَيْك بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين بعدِي وَقَوله اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر وَقَوله ضرب الله بِالْحَقِّ على لِسَان عمر وَقَلبه وَقَوله الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَوله اللَّهُمَّ أدر الْحق مَعَ عَليّ حَيْثُ مَا دَار فَالْجَوَاب إِن هَذِه أَخْبَار آحَاد لَا يسْتَدلّ بهَا على الْعلم على أَن قَوْله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَوله عَلَيْكُم بِسنتي وَقَوله اقتدوا باللذين من بعدِي خطاب مُوَاجهَة لمن فِي ذَلِك الْعَصْر مِمَّن لَيْسَ بصحابي أَن يتبع الصَّحَابَة وَمن لم يكن صحابيا فِي ذَلِك الْعَصْر فَلَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد فَجَاز لَهُ أَن يُقَلّد وَقد نبه بذلك على أَن غَيرهم من أهل الْأَعْصَار من الْعَامَّة يجوز أَن يُقَلّد علماءه على أَن قَوْله بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ وَقَوله اقتدوا باللذين لَيْسَ بِعُمُوم فِي وُجُوه الِاقْتِدَاء فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ الِاقْتِدَاء بهم فِي روايتهم لِأَنَّهُ يُقَال لمن اتبع رِوَايَة غَيره إِنَّه قد اقْتدى بِهِ إِي اقْتدى بروايته وَصدق حَدِيثه على أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْك بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء يُفِيد(2/368)
وجوب الْأَخْذ بِسنة الْخُلَفَاء وَلَيْسَ أحد يُوجب ذَلِك إِلَّا على الْعَاميّ إِذا لم يجد غَيرهم مِمَّن يفتيه فَعلمنَا أَن لَيْسَ المُرَاد بِهِ الْفَتْوَى وَقَوله الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَوله اللَّهُمَّ أدر الْحق مَعَ عَليّ يدل على أَن قَوْلهمَا حق وصواب والقائلون بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب لَا يأبون ذَلِك وَكثير مِنْهُم يمْنَع الْعَالم من تقليدهما
وَمِنْهَا أَن بعض الصَّحَابَة كَانَ يرجع إِلَى قَول بعض عِنْد سَمَاعه من غير أَن يسْأَله عَن دَلِيله نَحْو مَا رُوِيَ أَن عمر رَجَعَ إِلَى قَول عَليّ ومعاذ وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من السّلف وَبَايع عبد الرَّحْمَن عُثْمَان على اتِّبَاع سنة ابي بكر وَعمر وَالْجَوَاب أَنه يجوز أَن يكون تنبه عمر على وَجه قَول عَليّ ومعاذ عِنْد سَمَاعه أَو خطر بِهِ وَجه قَوْلهمَا من غير أَن ينبهه قَوْلهمَا على ذَلِك وَقد يفهم الْحَاضِرُونَ ذَلِك فلحسن ظن الصَّحَابَة بعمر صرفُوا أمره إِلَى ذَلِك فَلم ينكروا عَلَيْهِ يبين ذَلِك أَن الْإِنْسَان إِذا تردد بَين رأيين فِي الْحَرْب ثمَّ صمم على أَحدهمَا فَقَالَ لَهُ قَائِل لَيْسَ هَذَا بصواب بل الصَّوَاب كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ صدقت فهم الْحَاضِرُونَ أَنه إِنَّمَا صدقه لِأَنَّهُ إِنَّمَا تنبه على وَجه الرَّأْي إِمَّا من ذَلِك الْكَلَام أَو من غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا عملت الصَّحَابَة بِخَبَر مَرْوِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْعَادة تَقْتَضِي أَنهم إِنَّمَا عمِلُوا لأجل الْخَبَر لَا أَنهم تنبهوا على وَجه الِاجْتِهَاد لأَنهم إِنَّمَا يسْأَلُون عَن الْأَخْبَار ليعملوا بهَا وَالْعَادَة فِي الْعلمَاء أَن يسْأَل بَعضهم بَعْضًا لَا ليعْمَل على قَوْله لَكِن ليتنبه على وَجه القَوْل يبين ذَلِك أَن وَكيلا فِي ضَيْعَة إِذا اشتبهت عَلَيْهِ أمورها فَقَالَ أَيّكُم سمع من موكلي فِي هَذَا شَيْئا فَقَالَ قَائِل سَمعه يَقُول كَذَا وَكَذَا فَعمل الْوَكِيل على ذَلِك علم الْحَاضِرُونَ أَنه إِنَّمَا عمل على مَا حُكيَ لَهُ لَا على الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ كَذَلِك لَو ترك بِرَأْيهِ وَصوب رَأْي غَيره مَعَ أَنه من أهل الرَّأْي والحزم
وَمِنْهَا أَن قَول الْمُجْتَهد صَوَاب وكل صَوَاب جَائِز اتِّبَاعه وَالْجَوَاب إِن الْقَائِلين بِأَن الْحق فِي وَاحِد لَا يسلمُونَ أَن كل مُجْتَهد محق والقائلون بِأَن(2/369)
كل مُجْتَهد مُصِيب يَقُولُونَ كل قَول كَانَ حَقًا وصوابا من قَائِل فَلَيْسَ يجب أَن يكون حَقًا وصوابا من غَيره أَلا ترى أَنه لَيْسَ بصواب مِمَّن أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى خِلَافه
فاذا ثَبت ذَلِك فَمن قَالَ أَنه لَا يجوز للمجتهد أَن يُقَلّد الصَّحَابِيّ فانه لَا يجوز تَخْصِيص عُمُوم الْقُرْآن وَالسّنة بذلك إِذْ لَيْسَ هُوَ حجَّة وَمن أجَاز للمجتهد تَقْلِيده فَذكر قَاضِي الْقُضَاة أَنه يلْزمه جَوَاز تَخْصِيص الْعُمُوم بِهِ لِأَنَّهُ قد جعله حجَّة وَلَيْسَ يظْهر ذَلِك لِأَن لَهُم أَن يَقُولُوا إِنَّمَا نجوز للمجتهد تَقْلِيد الْوَاحِد من السّلف إِذا لم يظْهر عُمُوم بِخِلَافِهِ فان ظهر ذَلِك لم يجز تَخْصِيصه بقول وَاحِد من السّلف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي إِصَابَة الْمُجْتَهدين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنا لما تكلمنا فِي حمل الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة وَفِي كَيْفيَّة الِاسْتِدْلَال بهَا واجتهاد الْمُجْتَهدين فِيهَا وَجب أَن نتكلم فِي إصابتهم واجتهادهم وَذَلِكَ يتَضَمَّن أبوابا مِنْهَا ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَمَا الَّذِي كلف الله الْمُجْتَهد وَمِنْهَا هَل دلّ الدَّلِيل على ذَلِك أم لَا وَمِنْهَا الْأَشْبَه وَالْقَوْل فِيهِ وَمِنْهَا الْفرق بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمِنْهَا أَنه لَا يجوز أَن يكون المجتهدون فِي الْأُصُول على اخْتلَافهمْ مصيبين وَنحن نأتي على هَذِه الْأَبْوَاب على هَذَا التَّرْتِيب بعون الله وَحسن توفيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر اخْتِلَاف النَّاس فِي أَن كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ أَبُو الْهُذيْل وابو عَليّ وابو هَاشم إِن كل مُجْتَهد فِي الْفُرُوع مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَفِي حكمه الَّذِي اداه إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَقد(2/370)
حُكيَ ذَلِك عَن أبي حنيفَة وَحَكَاهُ عَن الشَّافِعِي بعض أَصْحَابه وَهُوَ ظَاهر قَوْله فِي بعض الْمَوَاضِع لِأَنَّهُ قَالَ إِن كل مُجْتَهد قد أدّى مَا كلف وَقَالَ الْأَصَم وَابْن عَلَيْهِ وَبشر المريسي إِن المحق من الْمُجْتَهدين وَاحِد وَمن عداهُ مخطىءفي اجْتِهَاده وَفِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَقَالُوا إِن على الْحق دَلِيلا يعلم بِهِ الْمُسْتَدلّ أَنه قد وصل إِلَى الْحق وَيجب نقض الحكم بِمَا خَالف الْحق وَقَالَ غَيرهم مِمَّن قَالَ بِهَذِهِ الْمقَالة على الْحق دَلِيل وَإِن الْمُجْتَهد يعْتَقد أَنه قد أَصَابَهُ فِي الظَّاهِر دون الْبَاطِن وَقد حكى بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي ذَلِك عَن الشَّافِعِي وَحكى بَعضهم عَن أبي حنيفَة أَيْضا أَنه قَالَ الْحق فِي الْوَاحِد وَمن النَّاس من قَالَ إِن مَا عدا المحق من الْمُجْتَهدين مُصِيب فِي اجْتِهَاده مخطىء فِي الحكم وهم الْقَائِلُونَ بالأشبه لأَنهم جعلُوا أشبه عِنْد الله قَالُوا وَهُوَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد قَالُوا وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَو نَص الله على الحكم لنَصّ عَلَيْهِ وَلَا شُبْهَة فِي أَن ذَلِك الْأَشْبَه هُوَ وَاحِد مَا عداهُ خطأ وَقَالُوا مَا كلف الْإِنْسَان أَصَابَهُ الْأَشْبَه وَحكي عَن مُحَمَّد القَوْل بالأشبه وَحَكَاهُ سُفْيَان بن سحبان عَن ابي حنيفَة وَحكى قوم عَنهُ أَن الْمُجْتَهد مخطىء خطأ مَوْضُوعا عَنهُ وَقد حُكيَ القَوْل بالأشبه عَن ابي عَليّ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يمْتَنع أَن يكون الْفَرْع بِبَعْض الْأُصُول اشبه عَنهُ الله ويمر فِي كَلَامه مثل قَول ابي هَاشم وَعَن الشَّافِعِي أَن فِي كل مَسْأَلَة ظَاهرا وإحاطة وكلف الْمُجْتَهد الظَّاهِر وَلم يُكَلف الْإِحَاطَة وَعنهُ إِن فِي كل حَادِثَة مَطْلُوبا معينا وَلم يُكَلف الْمَرْء إِصَابَته
وَلم يخْتَلف الْقَائِلُونَ بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب مِمَّن قَالَ بالأشبه أَنه مَا كلف الْمَرْء إِصَابَة الْأَشْبَه وَإِنَّمَا كلف الِاجْتِهَاد وَالْعَمَل عَلَيْهِ وَلم يقل أحد أَن الْمُجْتَهد مخطىء فِي اجْتِهَاده مُصِيب فِي الحكم لِأَن من أَخطَأ فِي الِاجْتِهَاد وَقصر فِيهِ لَو قَالَ بِالْحَقِّ اتِّفَاقًا من غير طَريقَة كَانَ قَوْله خطأ لِأَنَّهُ كمن قَالَ تنحيتا من غير نظر أصلا(2/371)
فَصَارَ محصول هَذَا الِاخْتِلَاف هُوَ أَن من النَّاس من قَالَ كل اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين صَوَاب وَمِنْهُم من قَالَ إِن الصَّوَاب مِنْهُ وَاحِد وَمَا عداهُ خطأ وَاخْتلف من قَالَ كل وَاحِد صَوَاب فَمنهمْ من قَالَ احكام تِلْكَ الاجتهادات كلهَا صَوَاب أَيْضا وَمِنْهُم من قَالَ إِن الْوَاحِد مِنْهُ صَوَاب وَهُوَ الْأَشْبَه وَالْبَاقِي خطأ وَاخْتلف من قَالَ إِن الْوَاحِد مِنْهَا صَوَاب هَل على ذَلِك الْحق دَلِيل أم لَا فَقَالَ قوم عَلَيْهِ دَلِيل يعلم أَنه وصل إِلَيْهِ فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَقَالَ قوم عَلَيْهِ دَلِيل يعلم أَنه موصل إِلَيْهِ فِي الظَّاهِر دون الْبَاطِن
وَلَك أَيْضا أَن تَقول اخْتلف النَّاس فِي أَحْكَام الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع فَقَالَ قوم جَمِيع مَا حكم بِهِ على اختلافه صَوَاب وَقَالَ آخَرُونَ الْوَاحِد مِمَّا يحكم بِهِ صَوَاب دون مَا عداهُ وَلم يخْتَلف من قَالَ كل أحكامهم صَوَاب فِي أَن اجتهادهم كُله صَوَاب وَاخْتلف من قَالَ إِن الْوَاحِد من أحكامهم صَوَاب فِي أَن اجتهادهم كُله صَوَاب وَاخْتلف من قَالَ إِن الْوَاحِد من أحكامهم صَوَاب وَالْبَاقِي خطأ هَل اجتهادهم كُله صَوَاب أَو الْوَاحِد مِنْهُ صَوَاب فَقَط
فَهَذِهِ جملَة اخْتِلَاف النَّاس فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَاعْلَم أَنه يَنْبَغِي أَن يعلم مَا الَّذِي كلف الْمُجْتَهد حَتَّى يَصح أَن ينظر هَل جَمِيع الْمُجْتَهدين قد أَصَابُوا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا كلف الْمُجْتَهد فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَقَالَت طَائِفَة كلف الْمُجْتَهد فِي الْفُرُوع إِصَابَة دَلِيل قَاطع وَأَن يعْمل بِحَسبِهِ وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّمَا كلف الْعَمَل بِحَسب الأمارة لَا بِحَسب الدّلَالَة وَلَيْسَ على أَعْيَان الْفُرُوع أَدِلَّة وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعضهم كل اقاويل الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع صَوَاب وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ كل اقاويلهم صَوَابا وَاخْتلف من قَالَ كل أقاويلهم صَوَاب فَقَالَ بَعضهم فِي(2/372)
الْمَسْأَلَة أشبه مَطْلُوب وَهُوَ حكم لَو نَص الله تَعَالَى فِي الْمَسْأَلَة لنَصّ عَلَيْهِ وَنفى الْبَاقُونَ هَذَا الْأَشْبَه وَقَالُوا لَيْسَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد إِلَّا الظَّن للأمارة ليعْمَل على حسب ظَنّه وَنحن نبين أَنه يلْزم الْمُجْتَهد أَن يجْتَهد لظن أقوى الأمارات أَو لظن تعَارض الأمارات إِن جَازَ أَن تتعارض ثمَّ نبين أَنه إِذا ظن قُوَّة إِحْدَى الأمارات لَا يجوز لَهُ فِي تِلْكَ الْحَال أَن يعْمل على أَضْعَف الأمارات فِي نَفسه فالدلالة على أَنه يلْزمه الِاجْتِهَاد ليظن الأمارة الْأَقْوَى أَو يظنّ تعَارض الأمارات هِيَ أَن الْمُجْتَهد طَالب فإمَّا أَن يطْلب بِاجْتِهَادِهِ الظفر بِدَلِيل أَو أَمارَة فَلَيْسَ يجوز أَن يكون طلبه الظفر بِدَلِيل لِأَن من يَقُول على الْفُرُوع أَدِلَّة لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَعْنِي بذلك أَن أَعْيَان الْفُرُوع تتناولها أَدِلَّة وَإِمَّا أَن يَعْنِي بِهِ أَن الأمارات وَإِن تناولت الْفُرُوع فالأدلة دَالَّة على وجوب الْعَمَل على تِلْكَ الأمارات فان عَنى الثَّانِي فَهُوَ قَوْلنَا وَإِن عَنى الأول فَهُوَ فَاسد لِأَن أَكثر الْفُرُوع لَيْسَ عَلَيْهَا نُصُوص قُرْآن وَلَا أَخْبَار متواترة وَلَا إِجْمَاع وَإِنَّمَا تتناولها أَخْبَار آحَاد ومقاييس مظنونة الْعِلَل وَكثير من الْفُرُوع وَإِن تناولتها الايات فانه لما كَانَت تِلْكَ الْآيَات تعارضها أَخْبَار آحَاد ومقاييس تخصصها صَارَت تِلْكَ الْفُرُوع من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَصَارَ طريقها الظَّن فصح أَنه لَيْسَ يطْلب الْمُجْتَهد فِي الْفُرُوع الظفر بالأدلة وَلَيْسَ بعد ذَلِك إِلَّا أَنه يطْلب الظفر بالأمارة وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يجب عَلَيْهِ أَن يجْتَهد ويبذل مجهوده ليغلب على ظَنّه الأمارة الْأَقْوَى أَو لَا يجب عَلَيْهِ ذَلِك بل يجوز لَهُ أَن يقْتَصر على أول خاطر وَقد أجمع أهل الِاجْتِهَاد أَنه لَيْسَ لَهُ ذَلِك بل يَنْبَغِي أَن يستفرغ جهده ليغلب على ظَنّه أَن الأمارة أقوى من غَيرهَا أَو أَن الأمارات متعارضة إِن جَازَ ذَلِك وَأَجْمعُوا على أَنه لَا يجوز إِذا غلب على ظَنّه أَن الأمارة أقوى من غَيرهَا أَن لَا يعْمل عَلَيْهَا وَأَن يعْمل على الأمارات الأضعف فِي ظَنّه وَلِأَن أَضْعَف الأمارتين تجْرِي مَعَ أقواهما مجْرى الأمارة مَعَ الدّلَالَة وَإِن غلب على ظَنّه تعَارض الأمارات وَجَاز ذَلِك كَانَ مُخَيّرا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَن يحكم باحداهما أولى من الْأُخْرَى(2/373)
فان قيل فَمَا معنى قَوْلكُم إِن الأمارة اقوى من غَيرهَا وأشبه بِأَن يعلق الحكم عَلَيْهَا قيل قَوْلنَا أشبه قد يُرَاد بِهِ كَثْرَة الشّبَه وَيُرَاد بِهِ معنى الأولى مِثَال الأول قَوْلنَا زيد أشبه بِعَمْرو مِنْهُ بِخَالِد وَمِثَال الثَّانِي قَوْلنَا هَذَا الحكم أشبه ان يكون مرَادا لله تَعَالَى أَي هُوَ الأولى والأقوى ومثاله فِي الأمارات قَوْلنَا هَذِه الْعلَّة اشبه أَن يعلق بهَا الحكم وَأَن تكون عِلّة الحكم أَي كَونهَا عِلّة أولى من كَون غَيرهَا عِلّة لقوتها فِي نَفسهَا
فان قيل لم قُلْتُمْ فِي الأمارات مَا هُوَ أشبه بِأَن يتَعَلَّق بِهِ الحكم من غَيره قيل لَهُم لِأَن فِي الْعِلَل مَا يخْتَص بِنَوْع من التَّرْجِيح لَا يخْتَص بِهِ غَيره من الْعِلَل وَمَا يتَرَجَّح على غَيره فانه يكون أولى وأشبه بِأَن يكون عِلّة الحكم فان قيل كَون الْعلَّة أشبه يرجع إِلَى ظننا أَنَّهَا أولى بِأَن يتَعَلَّق الحكم بهَا أَو إِلَى قُوَّة الأمارة الدَّالَّة على أَن الحكم يتَعَلَّق بهَا قيل إِن أُرِيد أَن الْمُجْتَهد يظنّ أَن الأمارة فِي نَفسهَا أقوى فَكَذَلِك نقُول وَإِن أُرِيد أَن كَون الأمارة أولى هُوَ ظننا فَذَلِك بَاطِل لِأَن كَونهَا أولى رَاجع إِلَيْهَا وَهُوَ مظنون الظَّن ومدلول الأمارة أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ ظننا الْعلَّة أولى والأمارة دلّت على أَن الْعلَّة أولى وَلَا يجوز أَن يكون مظنون الظَّن هُوَ الظَّن وَلَا مَدْلُول الأمارة هُوَ الأمارة وَأَيْضًا فان الظَّن لكَون الْوَصْف عِلّة إِنَّمَا يقوى لقُوَّة أمارته وَقد أقرّ السَّائِل أَن الأمارة الدَّالَّة على صِحَة الْعلَّة تكون أقوى والأمارة إِذا كَانَت أقوى اقْتَضَت كَون مدلولها أقوى وَأولى بالثبوت فَإِن قَالُوا قُوَّة الأمارة للأمارة الاخرى ترجع إِلَى قُوَّة أَمارَة أُخْرَى يُقَال لَهُم لَو دلّت على هَذِه الأمارة أَمارَة أُخْرَى أدّى ذَلِك إِلَى أَمَارَات لَا نِهَايَة لَهَا وَأَيْضًا فان الأمارة الدَّالَّة على صِحَة الْعلَّة رَاجع إِلَيْهَا نَحْو وجود الحكم عِنْد وجودهَا وارتفاعه عِنْد ارتفاعها وَنَحْو كَون الْوَصْف مؤثرا فِي جنس ذَلِك الحكم فِي الاصول كالبلوغ الْمُؤثر فِي رفع الْحجر عَن المَال وَجَمِيع مَا يرجح بِهِ الْعلَّة يرجع إِلَيْهَا وَيتَعَلَّق بهَا من نَحْو كَونهَا مستنبطة من أصل مَعْلُوم الحكم أَو كَونهَا ثَابِتَة بتنبيه(2/374)
النَّص إِلَى غير ذَلِك وَكَذَلِكَ تَرْجِيح خبر ثِقَة على خبر ثِقَة بِكَوْنِهِ أضبط وَأعرف بِالْقَصْدِ وَأَشد تدينا وتوقيا تَرْجِيح لَا يرجع إِلَى الظَّن بل يرجع إِلَى الأمارة وَيتَعَلَّق بهَا فان قيل أَلَيْسَ قد تتساوى العلتان فِي وُجُوه التَّرْجِيح فَلَا تفضل إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى قيل إِن صَحَّ ذَلِك كَانَ العَبْد فِيهَا مُخَيّرا وَلم يمْنَع ذَلِك كَون بعض الْعِلَل أوضح وَأقوى من غَيرهَا
وَإِذ قد بَينا أَن الْمُجْتَهد قد كلف أَن يظنّ الأمارة الْأَقْوَى وَيعْمل عَلَيْهَا فلننظر هَل يجوز أَن يكون الظَّن الَّذِي كلفه المجتهدون أَكثر من وَاحِد فَيجوز أَن يكون الْحق أَكثر من وَاحِد وكل مُجْتَهد مُصِيب أم لَا يجوز أَن يكون الظَّن الَّذِي كلفوه إِلَّا وَاحِدًا فَيمْتَنع أَن يكون كل مُجْتَهد مصيبا بل يكون الْحق وَاحِدًا فَقَط - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن إِصَابَة الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع على اخْتلَافهمْ جَائِز غير مُمْتَنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الْمُجْتَهدين إِذا اخْتلفُوا فِي الْأَحْكَام التابعة للأمارات كَانَ يجوز أَن تدل دلَالَة على أَن جَمِيعهم مصيبون لما كلفوه عِنْد كثير من النَّاس وَمنع آخَرُونَ من جَوَاز ذَلِك
وَاسْتدلَّ مانعو ذَلِك بأَشْيَاء
مِنْهَا أَنه لَو جَازَ أَن يكون المجتهدون فِي الْفُرُوع مصيبين جَازَ مثله فِي الْمُجْتَهدين فِي الْأُصُول على اخْتلَافهمْ وَهَذَا بَاطِل لأَنهم جمعُوا بَينهمَا بِغَيْر عِلّة وَالْفرق بَينهمَا هُوَ أَن معنى الْإِصَابَة يُمكن فِي الْفُرُوع وَلَا يُمكن فِي الْأُصُول لِأَن اعتقادي النَّفْي وَالْإِثْبَات المتنافيين لَا يكونَانِ علمين بل يكون أَحدهمَا جهل وَذَلِكَ يمْنَع من اجْتِمَاعهمَا فِي الْحسن والتكليف وَأما الْأَفْعَال المتضادة فَيصح أَن يجب على شَخْصَيْنِ أَو على شخص وَاحِد فِي وَقْتَيْنِ أَو على(2/375)
شرطين فِي وَقت وَاحِد فاذا صَحَّ ذَلِك صَحَّ أَن يكون الاعتقادان لوُجُوبهَا علمين وحسنين داخلين تَحت التَّكْلِيف لِأَن متعلقهما غير متناف
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو جَازَ أَن يكون كل مُجْتَهد مصيبا لجَاز أَن يكون الْفِعْل الْوَاحِد حَلَالا حَرَامًا وَالْمَرْأَة محللة مُحرمَة بِأَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد أَحدهمَا إِلَى هَذَا واجتهاد الآخر إِلَى ذَلِك فَالْجَوَاب أَن الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يُؤَدِّي الْمُجْتَهد إِلَى أَن الْفِعْل حرَام عَلَيْهِ لَا على غَيره مِمَّن لم يؤده اجْتِهَاده إِلَى ذَلِك وَلَا اخْتَار تَقْلِيده وَيُؤَدِّي اجْتِهَاد الآخر إِلَى أَن الْفِعْل حَلَال لَهُ دون من لم يؤده اجْتِهَاده إِلَيْهِ وَلَا اخْتَار تَقْلِيده وَلَيْسَ ذَلِك بمتناف وَلَا يتنافى كَون الِاسْتِمْتَاع بِالْمَرْأَةِ حَلَالا لأحد الْمُجْتَهدين وَلمن أَرَادَ تَقْلِيده حَرَامًا على الْمُجْتَهد الآخر وَلمن أَرَادَ تَقْلِيده كَمَا أَن الْمَرْأَة حرَام على من طَلقهَا حَلَال لمن تزَوجهَا فَمَا الْمَانِع من أَن يكون الِاجْتِهَاد يحرم عِنْده الْفِعْل وَيحل كَمَا يحرم وَيحل عِنْد العقد وَالطَّلَاق
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن القَوْل باصابة الْمُجْتَهدين على اخْتلَافهمْ يُؤَدِّي إِلَى التهارج بِأَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد أحدهم إِلَى ضد مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر فَلَا يكون الْأَخْذ بِأَحَدِهِمَا أولى من الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا كَانَ الْحق فِي وَاحِد لِأَن الْأَخْذ بِهِ أولى وَيُمكن الْأَخْذ بِهِ لأجل مَا نَصبه الله من الدَّلِيل عَلَيْهِ فَالْجَوَاب انه لَيْسَ يجب فَسَاد مَا حصل فِيهِ ضرب من التَّعَارُض إِذا أمكن تَأْوِيله على وَجه صَحِيح أَلا ترى أَن الواجدين للميتة مَا لَا يمسك إِلَّا رَمق أَحدهمَا لَيْسَ بِأَن يَأْخُذهُ أَحدهمَا أولى من الآخر وَلَا يكفيهما جَمِيعًا فَيُقَال يمسك كل وَاحِد مِنْهُمَا رَمق نَفسه بِبَعْضِه وَمَعَ هَذَا لم يؤد إِلَى التهارج لِأَنَّهُ يُمكن تَخْرِيجه على وَجه صَحِيح بِأَن يُقَال يكون لمن سبق أَو يَأْكُل كل وَاحِد مِنْهُمَا بعضه فَيمسك بِهِ رمقه وَيبقى بعض الْمدَّة رَجَاء أَن يَأْتِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الْفرج فِي تِلْكَ الْمدَّة الْيَسِيرَة فان مَاتَا أَو أَحدهمَا فَالله المعوض لَهما وَكَذَلِكَ المجتهدان إِذا اخْتلفَا يُمكن أَن لَا يتهارجا ثمَّ إِنَّا نقسم الْحَوَادِث النَّازِلَة بالمكلفين لنرى أَنه لَا تهارج فَمَا ذَكرُوهُ فَنَقُول(2/376)
الْحَوَادِث إِمَّا أَن تنزل بمقلد أَو مُجْتَهد فان نزلت بمقلد فإمَّا أَن تخصه أَو تتَعَلَّق بِغَيْرِهِ فان خصته رَجَعَ فِيهَا إِلَى الْفُقَهَاء فقلدهم فان اخْتلفُوا عَلَيْهِ قلد أعلمهم وأدينهم عِنْده وَإِن تكافئوا عِنْده كَانَ مُخَيّرا وَلَا بُد للمخالف أَن يَقُول بذلك إِذا كَانَ مِمَّن يسوغ للعامي التَّقْلِيد وَإِن تعلّقت الْحَادِثَة بِهِ وَبِغَيْرِهِ نَحْو أَن تكون مخاصمة فِي مَال جَازَ أَن يصطلحا فِيهِ فان لم يصطلحا أَو كَانَت الْمُنَازعَة فِي غير مَال فصل القَاضِي بَينهمَا إِن كَانَ أَو رَضِيا بِمن يقْضِي بَينهمَا وَلَا بُد لخصمنا من أَن يُجيب بذلك ايضا وَإِن كَانَت الْحَادِثَة نازلة بمجتهد فإمَّا أَن تخصه وَإِمَّا أَن تتَعَلَّق بِغَيْرِهِ فان خصته عمل على اجْتِهَاده وَإِن تكافأ عِنْده الاجتهادان كَانَ مُخَيّرا عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَعند أبي الْحسن يُرَاجع اجْتِهَاده إِلَى أَن يتَرَجَّح عِنْده أَحدهمَا فان تعلّقت الْحَادِثَة بِهِ وَبِغَيْرِهِ بِأَن تكون مُنَازعَة فِي مَال أَو فِي استمتاع كمنازعة الرجل مَعَ زَوجته فِي استباحتها وهما من أهل الِاجْتِهَاد فانهما إِن لم يصطلحا فِي الْحَال رجعا فِيهِ وَفِيمَا لَا يجوز الصُّلْح فِيهِ إِلَى قَاض إِن كَانَ أَو رَضِيا بِمن يقْضِي بَينهمَا وَسَوَاء كَانَ صَاحب الْحَادِثَة حَاكما أَو غير حَاكم لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقْضِي لنَفسِهِ على خَصمه لِأَنَّهُ مُتَّهم لخصمه فان اشْتبهَ الحكم على القَاضِي كَانَ مُخَيّرا بَين الْحكمَيْنِ إِذا تكافأت عِنْده الأمارات أَو رَاجع الِاجْتِهَاد أَو نصب من يقْضِي بَين الْخَصْمَيْنِ وَهَذِه الْمَسْأَلَة تلْزم ايضا خصومنا لأَنهم يوجبون الرُّجُوع إِلَى الحكم عِنْد التَّنَازُع سَوَاء قَالُوا بالأمارات أَو بالأدلة لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قد تشتبهان فان حكم القَاضِي بِالتَّحْرِيمِ أَو بالتحليل على مَا يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَى مَا حكم بِهِ كَانَ لَهُ الْأَخْذ بِهِ وَإِن حكم بِتَحْرِيم الزَّوْجَة على الزَّوْج وَهُوَ يرى إباحتها أَو بِالْإِبَاحَةِ وَهُوَ يرى تَحْرِيمهَا فقد قيل يجب عَلَيْهِ الْمصير إِلَى ذَلِك وَتصير الزَّوْجَة مُبَاحَة لَهُ إِذا حكم الْحَاكِم بإباحتها وَإِن كَانَ قد رأى هُوَ حظرها لِأَن اجْتِهَاده شَرط فِي إباحتها مَا لم يحكم بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ حَاكم وَقيل إِذا حكم عَلَيْهِ باباحة الْمَرْأَة حَاكم وَهِي عِنْده حرَام اسْتَأْنف طَلاقهَا وازال الْإِشْكَال وَإِن كَانَ أحد الْخَصْمَيْنِ جدا وَهُوَ يرى الْمُقَاسَمَة وَالْآخر أَخا وَهُوَ يرى أَن المَال(2/377)
كُله للْجدّ أمكن أَن يصطلحا أَو يحتكما إِلَى من يقْضِي بَينهمَا وَيُمكن إيقاف مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف حَتَّى يسْبق اجْتِهَاد أَحدهمَا إِلَيْهِ فان أدّى اجْتِهَاد الْجد إِلَى أَن المَال لَهُ فِي حَال مَا أدّى اجْتِهَاد الْأَخ إِلَى الْمُقَاسَمَة فصل الْحَاكِم بَينهمَا وَلَا تهارج فِي ذَلِك
فَأَما الدّلَالَة على أَنه لَا يمْتَنع الْعقل أَن يكون المجتهدون فِي الْفُرُوع على اخْتلَافهمْ مصيبين فَهِيَ أَنا قد بَينا أَن الْمُجْتَهد إِنَّمَا كلف أَن يعْمل بِحَسب ظَنّه للأمارة الْأَقْوَى وَلَيْسَ بممتنع فِي الْعقل أَن يظنّ الْمُجْتَهد قُوَّة بعض الأمارات ويظن غَيره قُوَّة من غَيرهَا من الأمارات فَيلْزم كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يعْمل بِحَسب مَا ظَنّه وَإِن اخْتلف الفعلان فَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي فعله لما يَفْعَله مصيبا لما كلف وَلَيْسَ بممتنع فِي الْعقل أَن يكون الْفِعْل وَاجِبا على زيد وضده ونقيضه على غَيره فِي ذَلِك الْوَقْت وَيجوز أَن يجب عَلَيْهِ ضِدّه أَو نَفْيه فِي ذَلِك الْوَقْت على غير ذَلِك الشَّرْط فَيكون الْفِعْل مصلحَة على شَرط وضده ونفيه مصلحَة على شَرط آخر وَقد جَاءَ التَّعَبُّد الْعقلِيّ بذلك والشرعي أَلا ترى أَنه يجب على زيد الْأكل إِذا خَافَ التّلف فِي تَركه وَيجب عَلَيْهِ وعَلى غَيره تَركه إِذا خَافَ التف فِي فعله ومباح للزَّوْج الِاسْتِمْتَاع بِزَوْجَتِهِ ومحرم ذَلِك على غَيره وَعَلِيهِ أَيْضا إِذا طَلقهَا وَتجب على الطَّاهِر الصَّلَاة وَتحرم على الْحَائِض فاذا جَازَ تنَاول التَّكْلِيف للامور المتنافية على هَذِه الْوُجُوه لم يمْتَنع أَن يكون الْفِعْل مصلحَة إِذا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ ومفسدة إِذا أدّى الِاجْتِهَاد إِلَى غَيره فَيكون التَّكْلِيف تنَاوله وَتَنَاول ضِدّه بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَمن أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى وجوب الْفِعْل كَانَ مُكَلّفا فعله وَمن أَدَّاهُ إِلَى تَحْرِيمه كَانَ مُكَلّفا تَركه فيكونان بفعلهما مصيبين لما كلفا وَيكون اعْتِقَاد وُجُوبه على من أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى وُجُوبه عَلَيْهِ علما وَالْخَبَر عَن وُجُوبه عَلَيْهِ صدقا وَكَذَلِكَ اعْتِقَاد نفي وُجُوبه وَالْخَبَر عَن نفي وُجُوبه على من أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى نفي وُجُوبه كَمَا أَن اعْتِقَاد الطَّاهِر وجوب الصَّلَاة عَلَيْهَا علم وخبرها عَن ذَلِك صدق وَكَذَلِكَ اعْتِقَاد الْحَائِض نفي(2/378)
وجوب الصَّلَاة عَلَيْهَا علم وإخبارها عَن ذَلِك صدق وَكَذَلِكَ القَوْل فِي المقلدين إِذا اخْتَار أَحدهمَا تَقْلِيد مُثبت الْوُجُوب وَاخْتَارَ الآخر تَقْلِيد نافي الْوُجُوب
فان قيل إِنَّا لَا نمْنَع أَن يجب الضدان على شَخْصَيْنِ وعَلى شخص وَاحِد وعَلى شرطين وَلَكِن لَيْسَ يحصل هَذَانِ الشرطان فِي الِاجْتِهَاد لِأَن الْمُجْتَهد إِنَّمَا يجوز لَهُ الْعَمَل على اجْتِهَاده إِذا استقصى الِاجْتِهَاد فِي الأمارات وَمَتى استقصاها وَكَانَت الأمارات متكافئة فانه يقف على ذَلِك وَيكون فَرْضه التَّخْيِير وَإِن كَانَ فِيهَا مَا هُوَ أقوى من غَيره فانه يقف على ذَلِك وَيلْزمهُ الْعَمَل عَلَيْهِ فَقَط وَلَا يجوز أَن لَا يقف عَلَيْهِ إِلَّا إِذا قصر فِي الِاجْتِهَاد وَمَتى قصر فِيهِ لم يجز لَهُ الْعَمَل عَلَيْهِ وَلَيْسَ يجوز أَن يمْنَع بطء فهم بعض الْمُجْتَهدين من الْوُصُول إِلَى أقوى الأمارات لِأَن الْإِنْسَان لَا يجوز أَن يكون من أهل الِاجْتِهَاد إِلَّا وَهُوَ من ذَوي الْفَهم وَيكون عَارِفًا بِوُجُوه التَّرْجِيح وطرق الِاجْتِهَاد وَإِن جَازَ أَن ينْحَصر فهم غَيره وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون ظفره بِالْحَقِّ ابطأ من ظفر غَيره وَلَا يَقْتَضِي امْتنَاع وُصُوله إِلَيْهِ وَلَو جَازَ أَن يُقَال إِن من الْمُجْتَهدين من يمْتَنع عَلَيْهِ مَا ذكرنَا جَازَ أَن يُقَال إِن من المستدلين بالأدلة من يمْتَنع عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى الْحق مَعَ كَونه مُكَلّفا لَهُ غزير الْعلم الْجَواب أَنه لَا يمْتَنع أَن تكون الْمصلحَة لبَعض الْمُكَلّفين الْعَمَل على اقوى الأمارات ومصلحة الآخرين الْعَمَل على الأمارة الَّتِي هِيَ دونهَا فِي الْقُوَّة كَمَا لَا يمْتَنع أَن تكون مصلحَة بَعضهم الْعَمَل على النَّص وَالْعلم ومصلحة الْبَعْض الآخر الْعَمَل على الظَّن والأمارة وَإِذا جَازَ ذَلِك أخطر الله سُبْحَانَهُ مَا بِهِ تقوى الأمارة الَّتِي هِيَ أقوى على قلب من مصْلحَته الْعَمَل على اقوى الأمارات وأخطر الأمارة الأضعف على قلب من مصْلحَته الْعَمَل عَلَيْهَا وَلم يخْطر بِبَالِهِ مَا يُقَوي بِهِ الأمارة الْأُخْرَى بل يشْغلهُ عَن ذَلِك أَو عَن فهمه وَلَا يلْزم مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة والشبه لِأَن الله تَعَالَى لَو أخطر ببال الْمُكَلف الشُّبْهَة وشغله عَن الْجَواب عَنْهَا كَانَ قد أغراه بِالْجَهْلِ وأباحه لَهُ وَذَلِكَ قَبِيح وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَمَل على اضعف(2/379)
الأمارات وَالظَّن لكَونهَا أقوى الأمارات لِأَن الظَّن لأضعف الأمارات أَنَّهَا أقواها غير قَبِيح لِأَنَّهُ إِنَّمَا يظنّ الْمُجْتَهد ذك بِشَرْط أَن لَا يكون فِي وُجُوه التَّرْجِيح إِلَّا مَا خطر لَهُ كَمَا أَن الظَّن لكَون زيد فِي الدَّار غير قَبِيح وَإِن لم يكن زيد فِيهَا
وَإِذ قد بَينا أَنه مَا كَانَ يمْتَنع أَن يكون المجتهدون فِي الْفُرُوع على اخْتلَافهمْ مصيبين فلننظر هَل دلّ الدَّلِيل على أَنهم مصيبون أَو على أَن الْمُصِيب مِنْهُم وَاحِد فَقَط وَإِن دلّ الدَّلِيل على أَنهم مصيبون فَذَلِك لَا يكون إِلَّا بِأَن يكون الله عز وَجل لَا يخْطر ببال بَعضهم الأمارة الْأَقْوَى وَلَا مَا ترجح بِهِ ويتعبده بِمَا يخْطر بِبَالِهِ من الأمارة الضعيفة وَإِن دلّ الدَّلِيل على أَن المحق وَاحِد فَقَط فَذَلِك لَا يكون إِلَّا مَعَ القَوْل بِأَن الأمارة الْأَقْوَى وَمَا ترجح بِهِ لم يذهل عَنْهَا وَعَن النّظر فِيهَا أحد من الْمُجْتَهدين بل جوزها وأضرب المخطئون عَن النّظر فِيهَا مَعَ تجويزهم أَنهم لَو نظرُوا زِيَادَة نظر لظفروا بِمَا يَقْتَضِي غَالب الظَّن بِأَن الأمارة الْأَقْوَى غير مَا عِنْدهم فيكونون بذلك مخطئين فِي ترك النّظر الزَّائِد وَفِي الحكم بِمَا اختاروه من الأمارات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي ذكر مَا يحْتَج بِهِ لِلْقَوْلِ بِأَن الْحق فِي وَاحِد وَمَا يحْتَج بِهِ القَوْل بِأَن كل مُجْتَهد مُصِيب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أما من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد فَلهُ أَن يَقُول إِن الله عز وَجل إِنَّمَا كلف الظَّن لأقوى الأمارات وَالْعَمَل على ذَلِك فَمَتَى عدل عَن ذَلِك فقد أَخطَأ ويحتج لقَوْله إِن الْحق فِي وَاحِد بأَشْيَاء
مِنْهَا قَول الله عز وَجل {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين ففهمناها سُلَيْمَان} قَالُوا فَلَو كَانَا(2/380)
مصيبين لما خص سُلَيْمَان بِأَنَّهُ قد فهمه الحكم إِذْ كَانَ دَاوُد قد فهمه من الصَّوَاب مثل مَا فهم سُلَيْمَان وَلقَائِل أَن يَقُول مَا قَالَ الله عز وَجل أَنه قد فهمه الصَّوَاب فَيحْتَمل أَنه فهمه النَّاسِخ وَلم يفهم ذَلِك دَاوُد لِأَنَّهُ لم يبلغهُ وكل وَاحِد مِنْهُمَا مُصِيب فِيمَا حكم بِهِ على أَن أَكثر مَا فِي الْآيَة أَنَّهَا دَالَّة على أَن دَاوُد وَسليمَان كَانَ مصيبين وَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب كَون الْمُجْتَهدين فِي مَسْأَلَتنَا مصيبين
وَمِنْهَا إِجْمَاع السّلف فَروِيَ عَن أبي بكر الصّديق أَنه قَالَ فِي الْكَلَالَة أَقُول فِيهَا برأيي فان يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان وَقَالَ عبد الله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان وَقَالَ عمر بن الْخطاب لكَاتبه اكْتُبْ هَذَا مَا رَآهُ عمر فان يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فَمن عمر وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَسْأَلَتنَا أُفْتِي جمَاعَة من الصَّحَابَة بِحَضْرَة عمر إِن كَانُوا قد اجتهدوا فقد أخطأوا وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أما يَتَّقِي الله زيد يَجْعَل ابْن الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا وَهَذَا مَحْمُول على الْمُبَالغَة فِي التخطئة وَلَيْسَ يعرف لَهُم مُخَالف فِي السّلف وَلَا يجوز تأويلكم ذَلِك وَحمله على الْمجَاز لغير دلَالَة وَلَيْسَ للمخالف أَن يَقُول إِن الْحق فِي هَذِه الْمسَائِل فِي وَاحِد لِأَن من يَقُول كل مُجْتَهد مُصِيب يَجْعَل هَذِه الْمسَائِل من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا إِن الصَّحَابَة جوزت أَن تكون قصرت فِي النّظر وَلم تبالغ فِيهِ وَلِهَذَا جوزوا على الْوَاحِد مِنْهُم أَن يكون مخطئا لِأَن الْمُخَالف يَقُول فِي هَذِه الْمسَائِل إِن الْمُخَالفين فِيهَا مصيبون وَلَا فصل بَينهَا وَبَين غَيرهَا من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَلَا يجوز أَن يُقَال فِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّهُم لم ينْظرُوا فِي هَذِه الْمسَائِل وَأَنَّهُمْ حكمُوا فِيهَا بالتنحيت لأَنهم كَانُوا يؤمُّونَ إِلَى أماراتهم وَلِأَنَّهُم كَانُوا يجوزون التخطئة فِي هَذِه الْمسَائِل مَعَ علمهمْ أَنَّهَا متقولة بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد فَدلَّ إِطْلَاق ذَلِك على أَن مَا قيل من جِهَة الرَّأْي قد يدْخلهُ الْخَطَأ لأَنهم لم يفصلوا بَين أَن يكون قد قيل بِأول خاطر أَو قيل(2/381)
بِاجْتِهَاد وَبحث طَوِيل وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ اجْرِ فَحكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بعض الْمُجْتَهدين بالْخَطَأ
فان قيل المُرَاد بِهَذِهِ الْأَخْبَار خطأ الْأَشْبَه قيل لَا معنى للأشبه إِلَّا مَا ذكرنَا فِي الأمارة الْأَقْوَى وَمَا عداهُ سنبطله فان قَالُوا المُرَاد بِهِ أَخطَأ نصا لَو ظفر بِهِ لوَجَبَ عَلَيْهِ نقض حكمه قيل إِن كَانَ الْمُجْتَهد قد استقصى طلب النَّص فَلم يُمكنهُ الظفر فَهُوَ مُصِيب عنْدكُمْ وَعند غَيْركُمْ فِي الحكم وَفِي الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ لَا يلْزمه أَن يحكم بِمَا لم يبلغهُ من النُّصُوص وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ وَإِن لم يستقص النّظر فَهُوَ مخطيء فِي الحكم وَفِي الِاجْتِهَاد وَلَا يسْتَحق عنْدكُمْ الْأجر بل يسْتَحق الذَّم وَلَا يُسمى من لم يبلغهُ النَّص وَلم يتَمَكَّن مِنْهُ بِأَنَّهُ مخطيء للنَّص كَمَا لَا يُوصف من لم تبلغه شَرِيعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ قد أخطأها فان قَالُوا مَعْنَاهُ أَخطَأ حكما لَو حكم بِهِ كَانَ ثَوَابه أَكثر قيل لَا يجوز أَن يكون عدوله عَمَّا ثَوَابه أَكثر إِلَى مَا ثَوَابه أقل من الشَّيْطَان وَقد أضَاف الصَّحَابَة الْخَطَأ فِي ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان وَأَيْضًا فان إِطْلَاق قَوْلنَا أَخطَأ فلَان يَقْتَضِي الْعُدُول عَمَّا كلف وَمَتى لم يرد ذَلِك فانه يسْتَعْمل مُقَيّدا فَيُقَال أَخطَأ كَذَا وَكَذَا
فان قَالُوا كَيفَ يسْتَحق الْأجر وَقد أَخطَأ عنْدكُمْ فِي الِاجْتِهَاد وَفِي الحكم قيل إِنَّه مُصِيب فِيمَا فعله من الِاجْتِهَاد مخطىء فِي تَركه الزِّيَادَة على مَا فعله فَهُوَ مأجور على مَا فعله مغْفُور لَهُ تَركه مَا ترك من الِاجْتِهَاد فان قيل قد أغري إِذا بِالتّرْكِ لِأَنَّهُ قد أعلم أَنه لَا مضرَّة عَلَيْهِ قيل إِنَّا نَذْهَب إِلَى أَن كل من علم أَنه لَا مضرَّة عَلَيْهِ فِي الْفِعْل فقد أغري بِهِ أَلا ترى أَن من بشره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ لَا يخْشَى ضَرَر النَّار فِيمَا يَفْعَله لِأَنَّهُ أعلم أَنه إِمَّا أَن يسْقط عَنهُ الْعقَاب بِالتَّوْبَةِ وَإِمَّا بالمغفرة وَمَعَ ذَلِك لَيْسَ هُوَ مغرى على أَن الْمُجْتَهد لَا يكون مغرى لِأَنَّهُ لَا يعرف الْمرتبَة الَّتِي إِذا انْتهى إِلَيْهَا من النّظر غفر لَهُ(2/382)
تَركه للنَّظَر فِيمَا بعد وَإِنَّمَا ذَلِك شَيْء يعرفهُ الله تَعَالَى وَحده فَجرى ذَلِك مجْرى صغائرنا الَّتِي لَا يعرفهَا إِلَّا الله وَحده
وَلقَائِل أَن يَقُول إِن كل وَاحِد من هَذِه الْأَخْبَار خبر وَاحِد وَلم تبلغ من الْكَثْرَة إِلَى حد تصير مَعَه متواترة فِي الْمَعْنى فَلم يَصح التَّوَصُّل بهَا إِلَى الْعلم
وَمِمَّا يُمكن أَن يحْتَج بِهِ فِي الْمَسْأَلَة هُوَ أَن كل مَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد إِمَّا أَن تكون فِيهَا أَمارَة هِيَ أقوى من غَيرهَا وَإِمَّا أَن تكون فِيهَا أمارتان متكافئتان فان كَانَ فِيهَا أَمارَة هِيَ أقوى من غَيرهَا فقد كلف الْمُجْتَهد الظَّن لَهَا وَالْحكم بهَا فَمَتَى عدل عَنْهَا فقد أَخطَأ وَإِن كَانَ فِيهَا أمارتان متكافئتان فقد كلف الظَّن لتكافئهما وَالْحكم بالتخيير بَين حكميهما فَمَتَى عدل عَنْهُمَا فقد أَخطَأ وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنه قد كلف الظَّن لقُوَّة الأمارة القوية أَو الظَّن لتساوي الأمارتين إِن جَازَ تساويهما لِأَن الْمُجْتَهد طَالب وَقد بَطل أَن يكون طَالبا لدلَالَة فَثَبت أَنه طَالب لأمارة إِمَّا الْأَقْوَى وَإِمَّا الأضعف وَمَعْلُوم أَن الْمُجْتَهد لَيْسَ يقْصد بِاجْتِهَادِهِ الظفر بأضعف الأمارات وَلَا كلف ذَلِك فصح أَنه كلف الظفر بأقواها وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدهُ
وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه يقْصد الأمارة الْأَقْوَى فِي ظَنّه وَلَا يمْتَنع أَن يظنّ أَن هَذِه الأمارة أقوى من غَيرهَا ليرجحها على غَيرهَا بِكَثْرَة وُجُوه التَّرْجِيح وَيكون غَيرهَا أرجح من هَذِه الأمارة بِوُجُوه من التَّرْجِيح لم يخطرها الله بِبَالِهِ بل شغله عَنْهَا أَو شغله عَن فهمها إِذا سَمعهَا من خَصمه فكلف الْعَمَل بِمَا ظَنّه لِأَنَّهُ مصْلحَته فَكَانَ مصيبا فِي ذَلِك وأخطر ببال غَيره تِلْكَ الْوُجُوه وفهمه إِيَّاهَا لِأَن الْمصلحَة الْعَمَل بذلك فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مصيبا فِيمَا صَار إِلَيْهِ
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلهم لَو كَانَ المجتهدون على اخْتلَافهمْ مصيبين لم يكن فِي مناظرة بَعضهم لبَعض معنى لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يعْتَقد أَن الآخر قد أدّى مَا كلف وَأصَاب فِي فعله فَمَا وَجه مناظرته لَهُ وَنحن نعلم أَن كل وَاحِد مِنْهُم(2/383)
يناظر صَاحبه ليَرُدهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ فَلَو كَانَ مصيبا لما كَانَ لَهُ أَن يقْصد رده عَن الصَّوَاب يُقَال لَهُم إِن الْمُجْتَهدين لَا يخلوان إِذا تناظرا إِمَّا أَن يكون أَحدهمَا لم يغلب على ظَنّه الأمارة الْأَقْوَى فَهُوَ يُرِيد بمناظرته أَن يحصل لَهُ بذلك لِأَنَّهُ لم يحكم بِشَيْء فَيُقَال إِنَّه مُصِيب فِيهِ أَو مخطىء وَإِمَّا أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا يظنّ أَن أمارته هِيَ أقوى من أَمارَة غَيره فَهُوَ يناظر غَيره ليريه ذَلِك لِأَنَّهُ إِن كَانَ فَرْضه غير مَا هُوَ عَلَيْهِ فانه إِذا بَان لَهُ أَن أَمارَة من ناظره أقوى من أمارته تغير فَرْضه وَصَارَت مصْلحَته بِأَن يحكم بالأمارة الَّتِي بَان لَهُ قوتها
فان قيل وَمَا فَائِدَة من ناظره فِي أَن يُغير فَرْضه قيل الْفَائِدَة أَن لَا يمْتَنع أَن يكون إِذا تغير فَرْضه وَلَزِمَه أَن يحكم بالأمارة الَّتِي بَان لَهُ قوتها كَانَ ثَوَابه على ذكر أَكثر فلهذه الْفَائِدَة مَا تناظر المجتهدان وَلأَجل أَن هَذِه الْفَائِدَة رَاجِعَة إِلَى زِيَادَة الْمَنَافِع لم يجب على هذَيْن الْمُجْتَهدين المناظرة وَإِنَّمَا هما مندوبان إِلَيْهَا
وَيُمكن أَن يحْتَج فِي الْمَسْأَلَة أَيْضا فَيُقَال إِنَّه إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أَمارَة هِيَ اقوى من غَيرهَا جرت مَعَ غَيرهَا مجْرى الدّلَالَة مَعَ الأمارة فَكَانَ الْعَادِل عَن الأمارة غالطا وَالْجَوَاب إِن الْعُدُول عَن الأمارة القوية خطأ إِذا ظفر بهَا كَمَا أَن الْعُدُول عَن الدّلَالَة إِلَى الأمارة خطأ إِذا ظفر بِالدّلَالَةِ فَأَما إِذا لم يظفر بهَا وَلَا بالأمارة القوية فانه لَا يكون الْعُدُول عَنْهَا خطأ
وَاحْتج الذاهبون إِلَى أَن كل مُجْتَهد مُصِيب بأَشْيَاء
مِنْهَا قَول الله تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} فَلَو كَانَ أَحدهمَا مخطئا لم يكن الَّذِي قَالَه عَن علم الْجَواب إِنَّه(2/384)
سُبْحَانَهُ لم يقل إِن كلا آتيناه حكما وعلما بِمَا حكم بِهِ وَيجوز أَن يكون آتَاهُ حكما وعلما لوجوه الِاجْتِهَاد بطرق الاحكام على أَنه لَيْسَ يجب إِذا كَانَا قد أصابا أَن يكون كل مُجْتَهد مصيبا فِي هَذِه الشَّرِيعَة
وَمِنْهَا أَن الصَّحَابَة تصوب بَعْضهَا بَعْضًا فِيمَا اخْتلفت فِيهِ فَلَو كَانَ بَعضهم مخطئا لَكَانَ تصويبه كذبا وَالْأمة لَا تَجْتَمِع على الْكَذِب قَالُوا تصويب بَعضهم بَعْضًا ظَاهر كظهور تصويب بَعضهم بَعْضًا فِي الآراء والحروب وَكثير من القراآت وَالْجَوَاب إِنَّا لَا نسلم لَهُم ادعاءهم تصويب بَعضهم بَعْضًا لَا فِي الْفُرُوع وَلَا فِي الآراء والحروب وَأما القراآت المروية عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ يجب من تصويب بَعضهم بَعْضًا فِيهَا أَن يكون بَعضهم قد صوب بَعْضًا فِي غَيرهَا وَلَيْسَ مَعكُمْ أَن كل وَاحِد مِنْهُم قَالَ لصَاحبه اصبت فِي قَوْلك وَقَالُوا أَيْضا قد كَانَ بَعضهم يعظم بَعْضًا وَلَو لم يصوبه لما عظمه فَيُقَال لَهُم لم زعمتم ان ذَلِك دَلِيل على التصويب مَعَ جَوَاز أَن يَكُونُوا إِنَّمَا عظم بَعضهم بَعْضًا لِأَن الْخَطَأ فِي ذَلِك مغْفُور أَو صَغِير أَو جوزوا كَونه صَغِيرا فَلم يتْركُوا التَّعْظِيم مَعَ التجويز فَلَيْسَ يجب إِذا تعلق كثير من الْفُرُوع بالفروج والدماء أَن يكون كثيرا مَتى كَانَ خطأ لِأَنَّهُ إِذا لم يمْتَنع أَن يكون صَوَابا مَعَ تعلقه بالفروج فأحرى أَن يكون تَجْوِيز كَونه خطأ مغفورا وَلَيْسَ أَن يكون خطأ ولتعلقه بالأمارات يُخَفف عِقَابه فَيكون صَغِيرا وَإِن صدر عَن صَاحب كَبِيرَة كَانَ مُتَفَاضلا بغفرانه فان قيل فان لم يقدموا على التبرىء لتجويزهم كَونه صَغِيرا فقد جوزوا كَونه كَبِيرا وَفِي ذَلِك تَجْوِيز بَعضهم كَون بعض صَاحب كَبِيرَة قيل مَا الْمَانِع من تجويزهم ذَلِك فِي غير مَعْصُوم أَلَيْسَ كَانَ بَعضهم يجوز فِي بَاطِن بعض أَن يكون بِخِلَاف ظَاهره مَا لَا يضْطَر أَنه متدين بِهِ وَلَيْسَ إِذا أَجمعت الْأمة على أَن قتل الْخَوَارِج مخالفيهم إِمَّا طَاعَة أَو كَبِيرَة يجب أَن يجمعوا على أَن مسَائِل الِاجْتِهَاد إِمَّا طَاعَة وَإِمَّا كَبِيرَة
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو لم يصوب الصَّحَابَة كل الْمُجْتَهدين لأنكروا قَول المخطىء(2/385)
لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتْركُوا إِنْكَار الْمُنكر وَالْجَوَاب إِنَّه إِن أُرِيد بالإنكار الذَّم والتبريء فقد تقدم القَوْل فِيهِ وَإِن أُرِيد بِهِ الْمَنْع والتخطئة والمناظرة فَكل ذَلِك قد جرى لِأَن الْمَنْع من الاعتقادات إِنَّمَا يكون بالمناظرة وَقد تنَاظرُوا وشهدوا بالتخطئة على مَا ذكرنَا وَقَالَ ابْن عَبَّاس أما يَتَّقِي الله زيد بن ثَابت وَقَالَ من شَاءَ باهلته وَهَذَا إِمَّا أَن يكون ذما أَو مُبَالغَة فِي الْإِنْكَار وَعلمنَا باعظامه لزيد يصرف ذَلِك عَن الذَّم إِلَى الْمُبَالغَة فِي الْإِنْكَار وَلَيْسَ لَهُم حمل ذَلِك على خطأ نَص إِن كَانَ أَو على تَقْصِير فِي الِاجْتِهَاد لما ذَكرْنَاهُ وَلِأَن أَكثر مَا فِي هَذَا التَّأْوِيل أَن يحْتَملهُ الْكَلَام وَيحْتَمل مَا قُلْنَاهُ فَلَيْسَ لَهُم صرفه إِلَى مَا ذَكرُوهُ إِلَّا لدلَالَة حَتَّى يتم أَنه لم يُنكر بَعضهم على بعض وَقَوْلهمْ إِن ابْن عَبَّاس إِنَّمَا قَالَ لزيد مَا قَالَ لِأَن تَسْمِيَة الْجد أَبَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد فَبَاطِل لِأَن ابْن عَبَّاس لم يخف عَلَيْهِ أَن الْجد لَا يُسمى ابا فِي حَقِيقَة اللُّغَة وَلَا خَفِي على زيد أَن تَسْمِيَته ابا مجَاز وَإِنَّمَا ألحقهُ ابْن عَبَّاس بِابْن الابْن قِيَاسا وَذَلِكَ فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد وَقد أنكرهُ على مخالفه
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو كَانَ الْحق وَاحِدًا من الْأَقَاوِيل وَمَا عداهُ خطأ لَكَانَ الله قد كلفنا الْعُدُول عَن الْخَطَأ إِلَى ذَلِك القَوْل الصَّوَاب ولوجب أَن ينصب لنا دَلِيلا قَاطعا عَلَيْهِ لنثق بعدولنا عَن الْخَطَأ إِلَى الصَّوَاب وَلَو كَانَ على الْحق دَلِيل قَاطع لفسق مخالفه وَمنع من أَن يُفْتِي بِهِ وَيحكم بِهِ ولمنع الْعَاميّ من استفتائه ولنقض حكمه بِهِ وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم قد دلنا الله على الحكم الَّذِي كلفناه بِدلَالَة قَاطِعَة وَإِن لم يدلنا بِدلَالَة قَاطِعَة على أَن الْعلَّة هِيَ عِلّة الأَصْل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عز وَجل إِنَّمَا كلفنا الْعَمَل على أولى الْعِلَل وأقواها وَقد جعل لنا طَرِيقا نقطع مَعَه بِأَن إِحْدَى العلتين أولى أَن يتَعَلَّق الحكم بهَا وَأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الأَصْل وَالْفرع وَأَنه يلْزم الْعَمَل بهَا فِي الْفَرْع فان قيل مَا طريقكم إِلَى أَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة من وصف آخر قيل الطَّرِيق إِلَى ذَلِك هُوَ وُجُوه التَّرْجِيح وَذَلِكَ أَن وُجُوه التَّرْجِيح معقولة محصورة فاذا وجدناها أَو أَكْثَرهَا تخْتَص إِحْدَى العلتين قَطعنَا على أَنَّهَا أولى بِأَن تكون عِلّة الحكم فِي الأَصْل من غَيرهَا(2/386)
كَمَا إِذا رَأينَا أمارت الْغَيْم الممطر فِي بعض الغيوم نَحْو كَونه فِي الشتَاء وَكَونه كثيفا أغبر قَطعنَا على أَنه أولى بِأَن يكون ممطرا من غيم لَيْسَ هَذِه سَبيله وظننا أَن الْمَطَر يحصل عَنهُ وَلَيْسَ يبعد أَن يكون ظننا بِأَنَّهُ ممطر هُوَ علم بِأَنَّهُ أولى أَن يكون ممطرا وَكَذَلِكَ ظننا أَن الْوَصْف عِلّة الحكم فِي الأَصْل هُوَ علم بِأَنَّهُ أولى أَن يكون عِلّة الأَصْل وَلِهَذَا صَحَّ أَن تدل عَلَيْهِ دلَالَة قَاطِعَة فان قيل فَمَا مِثَال ذَلِك فِي الْعِلَل ووجوه التَّرْجِيح الَّتِي تقطعون بهَا على أَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة قيل مِثَال ذَلِك أَن يعلم أَن أحد الوصفين يثبت الحكم بِثُبُوتِهِ فِي الأَصْل وينتفي بانتفائه فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِك الآخر أَو أَن أَحدهمَا لَهُ تَأْثِير فِي الْأُصُول دون الآخر نَحْو كَون الْبلُوغ مؤثرا فِي رفع الْحجر عَن المَال وَيعلم أَن أحد الوصفين مستنبط من أصل مجمع على حكمه وَالْآخر مستنبط من أصل غير مجمع على حكمه وَالْآخر مستنبط من أصل غير مجمع على حكمه أَو أَن أَحدهمَا طَريقَة تَنْبِيه النَّص وَالْآخر مستنبط كل هَذِه الْأَشْيَاء مَعْلُوم أَنَّهَا وُجُوه مقوية وَمَعْلُوم ثُبُوتهَا فِي إِحْدَى العلتين فصح أَن يكون طَرِيقا إِلَى الْقطع بِأَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة وَقد يظنّ حُصُول بعض وُجُوه التَّرْجِيح فِي الأمارة فَيعلم أَنَّهَا أولى من غَيرهَا نَحْو أَن نظن أَن بعض المخبرين أدين واشد تحرجا بِأَن يخبرنا غَيره بذلك فنظن أَنه أَحَق بِأَن يكون صَادِقا مِمَّن لَا نظن أَنه دين ونظن أَن بعض الغيوم على صفة تَقْتَضِي الْمَطَر كالغبرة والكثافة بِخَبَر رجل ظَاهره الصدْق فنعلم أَنه أولى بِأَن يكون ممطرا من غيم لَا نظن فِيهِ هَذِه الصّفة وَهَذِه الصِّفَات المظنونة لَا بُد من أَن تكون طرقها مَعْلُومَة أَو تستند إِلَى طرق مَعْلُومَة وَإِلَّا أدّى إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ أَلا ترى أَن الطَّرِيق إِلَى حُصُول صفة الْغَيْم إِذا كَانَ الْخَبَر فَالْخَبَر مَعْلُوم لنا بالادراك فان قيل فاذا علمْتُم أَن الْوَصْف أولى بِأَن يكون عِلّة الحكم فِي الأَصْل من غَيره من الْأَوْصَاف فقد علمْتُم أَنه عِلّة لحكم الأَصْل قيل لَا يجب ذَلِك كَمَا لَا يجب ذَلِك إِذا علمنَا أَن هَذَا الْغَيْم الكثيف الأغبر أولى بالمطر من غيم رَقِيق غير أغبر أَن نقطع على أَنه ممطر بل قد يجوز أَن يكون ذَلِك هُوَ الممطر وَهَذَا غير ممطر فَلَو قَطعنَا على أَن الْغَيْم الكثيف هُوَ الممطر لنقض(2/387)
ذَلِك قَوْلنَا إِنَّا نعلم أَن الأولى أَن يكون ممطرا وكما أَن الرجل المتين الدّين الشَّديد التحرج أولى بِالصّدقِ فِيمَا يخبر بِهِ رجل هُوَ دونه فِي الدّين والتحرج وَلَا يجب من ذَلِك أَن يكون الَّذِي هُوَ أَشد تحرجا أصدق لَا محَالة بل قد يتَّفق أَن يكذب فِي بعض أخباره وَيصدق الَّذِي هُوَ دونه فِي التحرج وَكَذَلِكَ القَوْل فِي جَمِيع الأمارات فان قيل أفتقطعون على أَن تِلْكَ الْعلَّة هِيَ عِلّة الحكم فِي الْفَرْع قيل نعم لِأَن معنى قَوْلنَا إِنَّهَا عِلّة حكم الْفَرْع هُوَ أَن عِنْد علمنَا بوجودها فِي الْفَرْع يجب علينا أَن نحرم الْفَرْع إِن كَانَت عِلّة التَّحْرِيم أَو نبيحه إِن كَانَت عِلّة الْإِبَاحَة وَلَيْسَ يلْزم على هَذَا أَن نعلم أَنَّهَا عِلّة حكم الأَصْل لِأَن عِنْد علمنَا بوجودها فِي الأَصْل لَيْسَ يصير الأَصْل محرما علينا وَلَا مُبَاحا لنا بل تَحْرِيمه وإباحته يسبقان الْعلم بوجودها فِي الأَصْل وَلَا يتبعان علمنَا بوجودها فِيهِ وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يكون علمنَا بِكَوْنِهَا عِلّة حكم الْفَرْع يسْتَند إِلَى ظننا أَنَّهَا عِلّة حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يقف الْعلم على شَرط مظنون كَمَا يقف علمنَا بِوُجُوب التَّحَرُّز من مضرَّة مخصومة على الظَّن لنزولها بِنَا
وَيلْزم الْمُسْتَدلّ بِهَذِهِ الشُّبْهَة مثل الَّذِي ألزمنا لِأَنَّهُ يَقُول إِن الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فَكل فرقة مِنْهَا مُصِيبَة من حَيْثُ نظرت فِي أَمارَة صَحِيحَة وَلَو نظرت فِي غير أَمارَة لم تكن مُصِيبَة وَلَا كَانَ لظنها حكم وَلم يدل الله قبل اجتهادها على صِحَة كل وَاحِدَة من الأمارتين وَفَسَاد مَا عداهما بل لَيْسَ على ذَلِك إِلَّا أَمَارَات فقد اقروا بِصِحَّة علتين وَفَسَاد مَا عداهما وَلم تدل دلَالَة قَاطِعَة على أَن كل وَاحِدَة مِنْهَا عِلّة وَأَن مَا عداهما لَيْسَ بعلة فان جَازَ ذَلِك مَعَ أَنه مَعَ فقد الدّلَالَة لَا يَثِق الْمُكَلف بالوصول إِلَى الْعلَّة الصَّحِيحَة دون الْفَاسِدَة فَلم لَا يجوز ذَلِك فِي الأمارة الْوَاحِدَة فان قَالُوا قد دلنا الله تَعَالَى على صِحَة الأمارتين وعَلى صِحَة الحكم بِمَا دلنا بِهِ على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب قيل الدَّلِيل يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم الْعلم بالمدلول عَلَيْهِ والمجتهدون إِنَّمَا يعلمُونَ صِحَة كل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بعد أَن يَقُول بَعضهم بِأحد الْقَوْلَيْنِ وَيَقُول الْبَعْض الآخر بالْقَوْل الآخر وعَلى أَنه يلْزم أَن يعلمُوا صِحَة العلتين بعد اسْتِقْرَار الْخلاف(2/388)
وَفِي ذَلِك كَونهمَا دَلِيلين وخروجهما من كَونهمَا أمارتين فان قَالُوا مَا عدا الأمارتين لَو قَالَ بِهِ قَائِل لَكَانَ حَقًا أَيْضا وَلَيْسَ يجب نصب دلَالَة على فَسَاده قيل كَلَامه فِيهِ وَلَيْسَ بِحَق أَلَيْسَ لم ينصب الله دلَالَة على إِبْطَاله ليفصل بَينه وَبَين مَا هُوَ أَمارَة وايضا فقولكم إِن مَا عدا الأمارتين لَو قَالَ بِهِ قَائِل لَكَانَ حَقًا يَقْتَضِي أَن يقف كَونه حَقًا على قَول الْمُجْتَهد وَمَعْلُوم أَن قَول الْمُجْتَهد يتبع صِحَة الْعِلَل والأمارات وَهِي كالطرق إِلَى كَون أقاويلهم حَقًا ولأجلها حكمُوا بِمَا حكمُوا بِهِ وَقَوْلهمْ كَانَ على الصَّوَاب دلَالَة قَاطِعَة من الْقَوْلَيْنِ لنقض الحكم بِمَا عداهُ فَلم يسوغ الْفَتْوَى وَالْحكم بِهِ بل كَانَ الإِمَام لَا يولي من يُخَالِفهُ فِي الحكم ولمنع الْعَاميّ من استفتاء من يُخَالِفهُ ولفسق قَائِله لَا يَصح لأَنا قد بَينا أَنه لَيْسَ يجب أَن يكون هُنَاكَ دلَالَة قَاطِعَة إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَلَو لزم أَن تكون على نفس الحكم دلَالَة قَاطِعَة تتناوله لما لزم مَا ذَكرُوهُ وَأَيْضًا أَلا ترى أَن كثيرا من الْمسَائِل يسْتَدلّ عَلَيْهَا بِالْقُرْآنِ نَحْو التَّرْتِيب فِي الْوضُوء وَنفي وُجُوبه لِأَن كل فريق يسْتَدلّ بِالْآيَةِ ففريق يَقُول إِن الْفَاء للتعقيب وفريق يَقُول إِن الْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب وَذَلِكَ طَريقَة الْعلم وَلم يفسق قَائِله وَقد سَاغَ الْفَتْوَى بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ على أَنه لَيْسَ كل خطأ دلّ الدَّلِيل عَلَيْهِ فَهُوَ فسق بل قد يكون فسقا وَقد لَا يكون فسقا وَلَا يمْتَنع أَن يكون القَوْل خطأ من الْمُجْتَهد صَوَابا من الْمُقَلّد بِأَن يكون مصْلحَته الْأَخْذ عَن الْمُجْتَهد مخطئا كَانَ أَو مصيبا أَلا ترى أَن الْمُجْتَهد لَو لم يستقص الِاجْتِهَاد وَأَفْتَاهُ بِأول خاطر أَو استقصى الِاجْتِهَاد وَأَفْتَاهُ بِخِلَاف مَا أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهِ لَكَانَ الْمُجْتَهد مخطئا والمقلد مصيبا وَلم يجب على الله أَن يظْهر خِيَانَة الْمُجْتَهد حَتَّى لَا يَقع الْمُقَلّد فِي الْمفْسدَة بل قُلْنَا بأجمعنا إِن ذَلِك مفْسدَة من الْمُفْتِي وَأخذ الْعَاميّ بِمَا أفتاه غير مفْسدَة لَهُ وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا إِذا لم يمْتَنع أَن يكون القَوْل خطأ من الْمُفْتِي وَالْعَمَل بِهِ غير خطأ من المستفتي لم يجب أَن يمْنَع الْمُفْتِي من الْفَتْوَى لِأَنَّهُ لَو وَجب أَن يمْنَع(2/389)
مِنْهُ لم يخل إِمَّا أَن يجب ذَلِك لِأَن قبُول المستفتي لَهُ مفْسدَة أَو لِأَن فَتْوَى الْمُفْتِي لَهُ خطأ وَالْأول بَاطِل لأَنا قد بَينا أَن قبُول المستفتي لَهُ غير مُمْتَنع أَن يكون مصلحَة مِنْهُ وَالثَّانِي لَا يُوجب أَن يمْنَع من الْفَتْوَى إِلَّا بالمناظرة والإيضاح وَأهل الِاجْتِهَاد يناظر بَعضهم بَعْضًا على أَن أحد الْمُجْتَهدين لَو منع الْعَاميّ من أَن يستفتي خَصمه لَكَانَ خَصمه يمْنَع الْعَاميّ أَن يستفتي غَيره وَلَا يكون الْعَاميّ بِأَن يقبل من أَحدهمَا أولى من الآخر فَيمْتَنع عَلَيْهِ أَن يستفتي أحدا
فان قيل أجمع الْمُسلمُونَ على أَن المخطىء لَا يُمكن من الدُّعَاء إِلَى خطابه قيل لَيْسَ فِي هَذَا إِجْمَاع لِأَن من يَقُول إِن الْحق فِي وَاحِد من الْأَقَاوِيل لَا يمْنَع مُخَالفَة من الْفَتْوَى فان قيل فَمَاذَا تعلمُونَ أَن الْعَاميّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يمْتَنع من تَقْلِيد كل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ قيل نعم ذَلِك بِالْإِجْمَاع لِأَن الصَّحَابَة وَأهل الْأَعْصَار لَا يمْنَعُونَ الْعَامَّة من ذَلِك وَأما تَوْلِيَة الإِمَام مخالفيه فَلَيْسَ فِيهَا إِبَاحَة لَهُ الحكم بالْخَطَأ لِأَنَّهُ إِنَّمَا ولاه ليحكم بِالْحَقِّ لِأَن الطَّرِيق إِلَى الْحق مُمكن وَلَيْسَ الظَّاهِر من مُخَالفَة أَن يحكم بِمَا يُخَالِفهُ لِأَنَّهُ يجب على الْحَاكِم والمفتي أَن يجدد الِاجْتِهَاد فِي كل وَقت إِذا لم يذكر طَريقَة الِاجْتِهَاد فَكيف يظنّ بِمن يجدد الِاجْتِهَاد عِنْد حكمه وفتواه أَن لَا يظفر بِالْحَقِّ مَعَ إِمْكَان طَريقَة وَلَا يجب إِذا حكم الْحَاكِم بِخِلَاف رَأْي الإِمَام أَن ينْقضه عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون الْتِزَام الْخُصُوم لذَلِك الحكم لَيْسَ بخطأ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْتِزَام الْعَاميّ لفتوى الْمُفْتِي وَأَن يكون نَقصه بعد إمضائه مفْسدَة وَلَا يجب نقضه كَمَا لَا يجب إِذا علم الله أَن الْحَاكِم حكم بِغَيْر اجْتِهَاد أَو حكم بِخِلَاف اجْتِهَاده أَن يطلعنا الله على ذَلِك حَتَّى ننقضه أَو يبْعَث الله عز وَجل لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون إمضاؤه وإمضاء الْفَتْوَى بِهِ للعامي مصلحَة وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتنَا والداخل فِي زرع غَيره يقبح مِنْهُ الدُّخُول فِيهِ وَيحسن مِنْهُ التَّصَرُّف فِيهِ بِالْخرُوجِ مِنْهُ فَلَا يمْتَنع أَن يكون القَوْل خطأ من الْمُجْتَهد وَنقض الحكم بِهِ خطأ وَإِذا لم يمْتَنع أَن يكون الْتِزَام الْخُصُوم للْحكم مصلحَة لَهُم وَإِن كَانَ القَوْل بِهِ خطأ لم يجب على الإِمَام أَن يمْنَع الْحَاكِم من ذَلِك(2/390)
الحكم لِأَنَّهُ مفْسدَة للخصوم لأَنا قد بَينا أَن لَا يمْتَنع أَن لَا يكون مفْسدَة لَهُم وَإِنَّمَا يمْنَع من ذَلِك الحكم لما يرجع إِلَى الْحَاكِم وَذَلِكَ يكون بالمناظرة والتبين
فان قيل وَمن أَيْن قُلْتُمْ أَن القَوْل خطأ من الْمُجْتَهد وَالْعَمَل بِهِ غير خطأ من الْخُصُوم والمستفتي قيل يكفينا أَن نعلم أَنه لَا يجب إِذا كَانَ خطأ من الْمُجْتَهد أَن يكون خطأ من الْخُصُوم والمستفتي وَأَن كَونه خطأ من هَؤُلَاءِ يحْتَاج إِلَى دلَالَة فَلَا نبينه خطأ مِنْهُم إِلَّا لدلَالَة وعَلى الْمُسْتَدلّ أَن يبين أَنه خطأ من هَؤُلَاءِ حَتَّى يتم دلَالَته وَإِلَّا فَالَّذِي مَعَه هُوَ أَن الصَّحَابَة سوغت الْفَتْوَى وَالْحكم وَلم يمْنَع بَعْضهَا الْعَاميّ قبُول فَتْوَى الْبَعْض الآخر وَيحْتَمل أَن تكون فعلت ذَلِك لِأَنَّهَا اعتقدت أَن كل مُجْتَهد مُصِيب وَيحْتَمل أَن تكون فعلت ذَلِك لِأَن كَون القَوْل خطأ من قَائِله لَا يَقْتَضِي أَن يكون الْعَمَل بِهِ خطأ مِمَّن قَلّدهُ فِيهِ فقد سقط أَن يكون للخصم فِيهِ دلَالَة على أَنهم اعتقدوا أَن كل مُجْتَهد مُصِيب
فان قَالُوا فَلَو كَانُوا اعتقدوا مَا ذكرْتُمْ لكانوا قد اعتقدوه عَن دلَالَة فَأَي دلَالَة دلّت على أَن القَوْل خطأ من قَائِله دون من قلد فِيهِ قيل لَيْسَ يجب مطالبتهم بِالدّلَالَةِ وعَلى أَن ذَلِك لَازم للسَّائِل لِأَنَّهُ يُقَال لَهُم وإي دلَالَة دلتهم على أَن كل مُجْتَهد مُصِيب على أَنا نَحن قد بَينا أَنه يحْتَاج فِي كَون الْعَمَل بالْقَوْل خطأ من جِهَة الْمُقَلّد إِلَى دلَالَة وَأَنه مَتى لم يجد دلَالَة على ذَلِك وَجب نَفْيه كَمَا أَنا إِذا لم نجد دلَالَة على قَضَاء الْعِبَادَة الْفَاسِدَة وَجب نفي وُجُوبه
وَيُمكن أَن يسْتَدلّ فِي الْمَسْأَلَة فَيُقَال لَو كَانَ الْمُجْتَهد فِي الْفُرُوع مخطئا لَأَدَّى إِلَى أَقسَام كلهَا فَاسِدَة وَذَلِكَ أَنه مَا كَانَ يَخْلُو إِمَّا أَن يقطعوا فِي الْجُمْلَة على أَن المخطىء من الْمُجْتَهدين مغْفُور لَهُ تَقْصِيره فِي النّظر وَإِمَّا أَن لَا يقطعوا على ذَلِك فان لم يقطعوا على ذَلِك فإجماع الْمُجْتَهدين الْقَائِلين بِأَن على الْفُرُوع أَمَارَات يمْنَع من ذَلِك لأَنهم مجمعون على أَن المخطىء من الْمُجْتَهدين مغْفُور لَهُ وَلِأَن الصَّحَابَة مَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض أقاويلهم فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد(2/391)
إِنْكَار من يجوز أَنه من اهل النَّار وَإِن كَانَ غفرانه فِي الْجُمْلَة مَقْطُوعًا لم يخل إِمَّا أَن يكون الْمُجْتَهد إِذا أَخطَأ يجوز كَونه مخطئا ومخلا بِنَظَر يلْزمه فعله أَو لَا يجوز ذَلِك فان لم يجوز ذَلِك لم يَصح تَكْلِيفه النّظر الَّذِي فرط فِيهِ لِأَنَّهُ قَاطع على أَنه مَا فرط فِي النّظر فَهُوَ كالعالم وَلِأَنَّهُ فِي حكم الذاهل والذاهل والساهي لَا يُكَلف فِي حَال سَهْوه وذهوله وَلَا يسْتَحق عقَابا فَيُقَال أَنه قد غفر لَهُ وَإِن كَانَ يجوز كَونه مخطئا ومخلا النّظر فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يعلم أَنه فِي تِلْكَ الْحَال مغْفُور إخلاله بِمَا أخل بِهِ من النّظر أَو لَا يعلم ذَلِك ومحال أَن يعلم ذَلِك لِأَن الْمُجْتَهد لَا يُمَيّز الْمرتبَة الَّتِي إِذا انْتهى إِلَيْهَا غفر لَهُ إخلاله بِمَا بعْدهَا من النّظر من الْمرتبَة الَّتِي إِذا انْتهى إِلَيْهَا لم يغْفر لَهُ إخلاله بِمَا بعْدهَا من النّظر وَذَلِكَ أَنه يعلم أَنه إِن اقْتصر على أول النّظر لم يغْفر لَهُ مَا بعده وَلَيْسَ مرتبَة أولى بذلك من مرتبَة وَلَا يُمكن الاشارة إِلَى مَا يتَمَيَّز بِهِ بعض الْمَرَاتِب من بعض مَعَ كَونه مجوزا فِي جَمِيعهَا كَونه مخلا بِنَظَر يلْزمه فعله وَبعد فَلَو علم الْمُجْتَهد أَنه مغْفُور لَهُ إخلاله بِالنّظرِ لَكَانَ ذَلِك إغراء لَهُ بالمعصية لِأَنَّهُ قد أعلم أَنه لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي تَركه النّظر الزَّائِد مَعَ كَونه شاقا عَلَيْهِ فاذا كَانَ تَعْرِيف الصَّغَائِر عِنْد شيوخكم إغراء بهَا فَكَذَلِك تَعْرِيف هَذَا الْمُجْتَهد أَنه مغْفُور لَهُ وَإِن كَانَ الْمُجْتَهد المخطىء إِنَّمَا يعلم فِي الْجُمْلَة ان المخطىء من الْمُجْتَهدين مغْفُور لَهُ إِذا انْتهى إِلَى مرتبَة مَا من مَرَاتِب النّظر وأخل بِمَا بعْدهَا وَلم يتَعَيَّن لَهُ تِلْكَ الْمرتبَة وَجوز أَن يكون حِين أخل بِالنّظرِ الزَّائِد مَا انْتهى إِلَى الْمرتبَة الَّتِي يغْفر لَهُ إخلاله بِمَا بعْدهَا من النّظر لزم أَن يجوزوا كَون الْمُجْتَهدين المخطئين مَا انْتَهوا إِلَى هَذِه الْمرتبَة وَفِي ذَلِك تَجْوِيز كَونهم غير مغْفُور لَهُم وَأَنَّهُمْ من اهل الْعقَاب وَإِجْمَاع الْمُجْتَهدين بِخِلَاف ذَلِك لأَنهم يقضون بِأَن الْخَطَأ فِي الْمسَائِل الْوَاقِعَة من لدن الصَّحَابَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا مغْفُور عِنْد من قَالَ إِن فِيهَا أقاويل خطأ مَعَ معرفَة كل فريق مَا انْتهى إِلَيْهِ مُخَالفَة من الْمرتبَة فِي النّظر وكل مُجْتَهد يعلم من نَفسه أَنه إِن كَانَ مخطئا فَهَذِهِ حَاله وَكَذَلِكَ قَوْلكُم فِيمَا يحدث من(2/392)
مسَائِل الِاجْتِهَاد فقد بَان أَن القَوْل بخطأ الْمُجْتَهدين يُؤَدِّي إِلَى أَقسَام كلهَا فَاسِدَة وَفِي القَوْل باصابتهم أَجْمَعِينَ خلاص من هَذِه الْوُجُوه أجمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب القَوْل فِي الْأَشْبَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن مِمَّن قَالَ إِن كل مُجْتَهد مُصِيب لما كلف من قَالَ إِن فِي كل مَسْأَلَة أشبه مَطْلُوبا لَو نَص الله سُبْحَانَهُ على حكم الْمَسْأَلَة لنَصّ عَلَيْهِ فَيُقَال لَهُم أتريدون بالأشبه الحكم بأقوى الأمارات أَو تُرِيدُونَ حكما معينا يجوز أَن يكون غير الحكم بالأقوى من الأمارات فان قَالُوا بِالثَّانِي قيل لَهُم أتقولون إِن ذَلِك الحكم هُوَ مصلحَة الْمُجْتَهد وَمَا عداهُ مفسدته أَو تَقولُونَ لَيْسَ هُوَ مصْلحَته أَو تَقولُونَ هُوَ وَغَيره مصْلحَته على الْبَدَل فان قَالُوا لَيْسَ هُوَ مصْلحَته قيل لَهُم فَمَا وَجه طلبه لما لَيْسَ هُوَ مصْلحَته وَأَيْضًا فاذا لم يكن مصْلحَته فَكيف قُلْتُمْ لَو نَص الله تَعَالَى على الحكم فِي هَذِه الْحَال لنَصّ عَلَيْهِ أَيجوزُ أَن ينص على مَا لَيْسَ بمصلحة وَأَيْضًا إِذا لم يكن ذَلِك مصلحَة فَمَا مصْلحَته فان قَالُوا هُوَ الحكم بأشبه الأمارات صَارُوا إِلَى أَن الْحق هُوَ وَإِن أَرَادوا الْإِشَارَة إِلَى حكم آخر لم يُمكنهُم فان قَالُوا هُوَ مصْلحَته قيل لَهُم أكلفه الله الْوُصُول إِلَيْهِ أَو لم يكلفه ذَلِك فان قَالُوا مَا كلفه الْوُصُول إِلَيْهِ قيل لَهُم فَإِذن قد أَبَاحَهُ الْعُدُول عَن مصْلحَته إِلَى الْمفْسدَة وَذَلِكَ لَا يجوز فِي حكمته وَإِن قَالُوا قد كلفه الله إِصَابَته قيل لَهُم فَمن لم يصبهُ إِذن فقد أَخطَأ مَا كلف فَكيف تَقولُونَ إِنَّه مُصِيب مَا كلف وَيجب إِذا كلفه الله الْوُصُول إِلَى ذَلِك أَن يَجْعَل لَهُ إِلَيْهِ طَرِيقا إِمَّا دلَالَة وَإِمَّا أَمارَة وَقد قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ على اعيان الْفُرُوع أَدِلَّة لِأَنَّهَا تستند إِلَى ظنون فَبَقيَ أَن يكون طَرِيق ذَلِك هُوَ الأمارة والأمارة ضَرْبَان قَوِيَّة وضعيفة وَلَيْسَ يجوز أَن الطَّرِيق إِلَى ذَلِك هُوَ الأمارة الأضعف لِأَن الْمُكَلف لَا يجوز لَهُ إِذا عرضت لَهُ أمارتان إِحْدَاهمَا أقوى من الْأُخْرَى أَن يعدل عَن الأفوى إِلَى الأضعف فَثَبت(2/393)
أَنه كلف الْمُجْتَهد الحكم بأقوى الأمارات وَجعل الله لنا طَرِيقا إِلَى أَن الأمارة أقوى الأمارات بِمَا نَصبه من وُجُوه التَّرْجِيح وَلَا بُد من استناد ذَلِك إِلَى علم على مَا بَينا من قبل فان قَالُوا مصلحَة الْمُجْتَهد فِي كل مَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد هُوَ ذَلِك الحكم وَغَيره على الْبَدَل قيل لَهُم فاذن الحكم الْمَطْلُوب فِي كل مَسْأَلَة هُوَ التَّخْيِير وَيجب أَن يكون هُوَ المتعبد بِهِ وَأحد لم يقل بذلك وَيجب أَن يكون على الْحكمَيْنِ أمارتان مُخْتَلِفَتَانِ وَأحد لم يقل بذلك فِي كل الْمسَائِل
فان قَالُوا نُرِيد بالأشبه الحكم بأشبه الأمارات وأقواها فقد قَالُوا بِالْحَقِّ ثمَّ يُقَال لَهُم فَهَل كلف الله سُبْحَانَهُ كل مُجْتَهد إِصَابَة ذَلِك الْأَشْبَه أم لم يكلفه ذَلِك فان قَالُوا لم يكلفه قيل لَهُم فَلَا وَجه لطلبه لما لم يكلفه الله إِصَابَته وَإِن قَالُوا قد كلفه الله عز وَجل ذَلِك قيل لَهُم فَمن لم يصل إِلَيْهِ فقد أَخطَأ مَا كلف فَكيف قُلْتُمْ كل مُجْتَهد مُصِيب لما كلف فان قَالُوا كل أَمَارَات الْمُجْتَهدين تتساوى فِي الْقُوَّة قيل فَالْحكم فِيهَا إِذن هُوَ التَّخْيِير فَمن قَالَ لَيْسَ الحكم هُوَ التَّخْيِير فقد أَخطَأ وَأَيْضًا فالأمة مجمعة على انه لَيْسَ كل الأمارات مُتَسَاوِيَة فِي الْقُوَّة وَذَلِكَ أَن مِنْهُم من يمْنَع من تَسَاوِي الأمارات وَمِنْهُم من يُجِيز ذَلِك وَيَقُول إِن الْيَسِير مِنْهَا مُتَسَاوِيَة وباقيها غير مُتَسَاوِيَة ويدعى أَن الأمارات الَّتِي صَار إِلَيْهَا أقوى من أَمَارَات خَصمه وخصمه يَقُول بل اماراتي أقوى من أَمَارَات من خالفني وَلم يقل أحد من الْمُجْتَهدين أَن كل الْمسَائِل فأماراتها متكافئة
وَاحْتج الْمُخَالف بأَشْيَاء
مِنْهَا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر قَالُوا فَتبين أَن فِي الْمسَائِل حكما يجوز أَن يُصِيبهُ ويخطئه فَالْجَوَاب إِن من الْحَوَادِث مَا هَذِه سَبيله وَهُوَ الحكم بأشبه الأمارات وأقواها فان احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْأَشْبَه فَصَحِيح وَإِن احْتَجُّوا بِغَيْرِهِ(2/394)
قيل لَهُم مَا تنكرون أَن يكون مَا يجوز أَن يُصِيبهُ الْمُجْتَهد ويخطئه هُوَ مَا ذَكرْنَاهُ وَيُقَال لَهُم إِن كَانَ الْأَشْبَه حكما معينا عِنْد الله سوى الحكم بأشبه الأمارات فَذَلِك لم يُكَلف الْإِنْسَان إِصَابَته عنْدكُمْ فَكيف يكون مخطئا بالعدول عَنهُ وَلم ينقص ثَوَابه إِذا لم يظفر بِمَا لم يُكَلف الظفر بِهِ
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن الْمُجْتَهد طَالب والطالب لَا بُد لَهُ من مَطْلُوب وَالْجَوَاب أَن مَطْلُوبه هُوَ الحكم بأقوى الأمارات فَلَا يجوز أَن يطْلب الْأَشْبَه الَّذِي لم يَجْعَل لَهُ إِلَيْهِ طَرِيق وسبيل على قَوْلكُم
وَمِنْهَا قَوْلهم لَو نَص الله تَعَالَى على الحكم فِي الْمَسْأَلَة لنَصّ على حكم معِين وَذَلِكَ دَلِيل على ان ذَلِك الحكم هُوَ الصَّوَاب عِنْد الله تَعَالَى وَالْجَوَاب يُقَال لَهُم لَو نَص الله تَعَالَى على الحكم لنَصّ على حكم أشبه الأمارات فَيجب أَن يكون هُوَ الْأَشْبَه فان قَالُوا لَو كَانَت مصلحتنا حكما معينا لَيْسَ هُوَ حكم أشبه الأمارات ثمَّ أَرَادَ النَّص فِي الْمَسْأَلَة أَلَيْسَ ينص عَلَيْهِ قيل بلَى فان قَالُوا فَيجب أَن يكون الحكم الْمَطْلُوب الْآن هُوَ ذَلِك الحكم قيل لَهُم لَو كَانَت مصلحتنا حكما آخر لكلفناه الله وَنَصّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِذا لم ينص عَلَيْهِ وَلم يكلفنا إِيَّاه أَن لَا يكون هُوَ مصلحتنا وَإِذا لم يكن الْآن مصلحتنا لم يجب أَن نطلبه وَأَيْضًا كَيفَ تَقولُونَ إِنَّه الْآن مصلحتنا وَأَنْتُم تَقولُونَ مَا كلفنا إِصَابَته
وَمِنْهَا قَوْلهم إِذا كَانَ الْمُجْتَهد فِي الْقبْلَة مَطْلُوبَة الْقبْلَة بِعَينهَا وَكَذَلِكَ الطَّالِب لعَبْدِهِ الْآبِق مَطْلُوبَة العَبْد بِعَيْنِه فَكَذَلِك يجب أَن يكون مَطْلُوب الْمُجْتَهد فِي الْحَوَادِث حكما معينا عِنْد الله وَالْجَوَاب أَن لَيْسَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد فِي الْقبْلَة الْقبْلَة بِعَينهَا وَلَا الْجِهَة الَّتِي الْقبْلَة فِيهَا قطعا وَكَيف يطْلب الْقطع على ذَلِك من يعلم أَنه لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْقطع وَإِنَّمَا مَطْلُوبه الأول أَن يظنّ جِهَة الْقبْلَة بأقوى الأمارات وأشبهها وَيتبع هَذَا الْمَطْلُوب مَطْلُوب آخر وَهُوَ الْعلم بِوُجُوب الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ الْجِهَة وَيتبع ذَلِك فعل الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ الْجِهَة وَكَذَلِكَ(2/395)
نقُول فِي الْحَوَادِث إِن مَطْلُوب الْمُجْتَهد أَن يظنّ عِلّة الأَصْل بأقوى الأمارات وَيتبع ذَلِك أَن يعلم وجوب إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَيتبع هَذَا الْعلم أَن يعْمل بذلك فان قَالُوا أَلَيْسَ الْمُجْتَهد فِي الْقبْلَة يعلم أَن الْقبْلَة عين من الْأَعْيَان يجوز أَن تكون فِي الْجِهَة الَّتِي يظنّ باقوى الأمارات أَن الْقبْلَة فِيهَا وَيجوز أَن لَا يكون فِيهَا فَقولُوا إِن حكم الْمَسْأَلَة هُوَ حكم معِين عِنْد الله يجوز أَن يكون هُوَ حكم أقوى الأمارات وَيجوز أَن يكون غَيره قيل لَهُم وَلم إِذا جَازَ أَن تكون الْقبْلَة فِي غير الْجِهَة الَّتِي يطْلبهَا الْمُجْتَهد فِيهَا جَازَ أَن يكون حكم الْمَسْأَلَة غير حكم أشبه الأمارات وَيُقَال لَهُم الْفرق بَينهمَا أَن الْقبْلَة نَفسهَا لَيْسَ هِيَ مَطْلُوب الْمُجْتَهد الَّذِي كلف الصَّلَاة إِلَيْهِ بِعَيْنِه فَلم يمْتَنع أَن تكون فِي غير الْجِهَة الَّتِي يطْلبهَا فِيهَا بل مَطْلُوبَة الَّذِي كلف هُوَ الصَّلَاة إِلَى الْجِهَة الَّتِي يظنّ الْقبْلَة فِيهَا لَا إِلَى الْقبْلَة بِنَفسِهَا ولسنا نمْنَع أَن يكون مَا لم يُكَلف الْمَرْء إِصَابَته غير مَوْجُود بِحَيْثُ نظنه وَأما حكم الْحَادِثَة الَّذِي هُوَ مصلحَة الْمُكَلف فقد كلف الْوُصُول إِلَيْهِ فَلَا بُد أَن يكون ذَلِك الحكم إِمَّا مُقْتَضى دلَالَة أَو مُقْتَضى امارة قَوِيَّة أَو ضَعِيفَة فاذا لم يكن دلَالَة وَلَا أَمارَة ضَعِيفَة مَعَ تمكن الْمُجْتَهد من القوية فَلَا بُد من كَونه مُقْتَضى أَمارَة قَوِيَّة وَالْقَوْل بعد ذَلِك بانه يجوز أَن لَا يكون ذَلِك الحكم مُقْتَضى الأمارة القوية مناقضة ظَاهِرَة فان قَالُوا ذَلِك الحكم أَيْضا مَا كلف الْمَرْء إِصَابَته كَمَا لم يُكَلف إِصَابَة الْقبْلَة قيل قد أفسد ذَلِك فِيمَا تقدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْفرق بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن قَاضِي الْقُضَاة ذكر فِي الْعمد أَن مَا عَلَيْهِ دلَالَة قَاطِعَة فَلَيْسَ هُوَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَالْحق فِي وَاحِد مِنْهُ لَا يحل خِلَافه سَوَاء كَانَت تِلْكَ الدّلَالَة خُفْيَة اَوْ جلية وَلم يفصل بَين الْإِجْمَاع الْمُبْتَدَأ وَبَين الْإِجْمَاع بعد(2/396)
الْخلاف وَالْإِجْمَاع الصَّادِر عَن اجْتِهَاد وَحكي عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه نقض حكم الْحَاكِم فِي بيع امهات الْأَوْلَاد لوُقُوع الْإِجْمَاع على ذَلِك وَإِن كَانَ بعد الْخلاف وَعَن أبي حنيفَة أَنه لَا ينْقض بِهِ حكم الْحَاكِم وَحكي عَن أبي الْحسن أَن أَبَا حنيفَة لم يخرج هَذَا الْإِجْمَاع من كَونه حجَّة وَلكنه لَا ينْقض بِهِ حكم الْحَاكِم وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْعُمُوم إِذا خص بعضه أَن مَا دخل تَحت الْعُمُوم بعد التَّخْصِيص لَا يسوغ خِلَافه
وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة إِن مَا لَيْسَ عَلَيْهِ دلَالَة قَاطِعَة بل عَلَيْهِ أَمارَة فَقَط كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَالْوَاجِب على الْمُجْتَهد أَن يعْمل بِمَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَكل مُجْتَهد فِيهِ مُصِيب وَيحل خلاف بعض الْمُجْتَهدين لبَعض وَسَوَاء كَانَ خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس مخصصين لعُمُوم الْكتاب أَو لم يَكُونَا مخصصين لَهُ
وَاعْلَم أَن الْفُقَهَاء يعدون من مسَائِل الِاجْتِهَاد مَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِالْكتاب كالنية فِي الْوضُوء وَالتَّرْتِيب وَأَن الْوَاو للتَّرْتِيب أَو للْجمع وَأَن الْفَاء للتعقيب وَهَذِه أَدِلَّة مَعْلُومَة وَلَيْسَ فيهم من يسلم أَن ظَاهر الْآيَة مَعَ مُخَالفَة وَأَنه عدل عَن ذَلِك لخَبر وَاحِد أَو قِيَاس فَيكون طَرِيق الْمَسْأَلَة الأمارات فَقَط بل كل مِنْهُم يَقُول إِن الْآيَة تفِيد مَا أقوله اللَّهُمَّ إِلَّا ان يُقَال إِن كَون الْوَاو للْجَمِيع أَن للتَّرْتِيب وَأَن الْفَاء للتعقيب فِي اللُّغَة طَريقَة الأمارات دون الْأَدِلَّة وَهَذَا بعيد وَإِذا ثَبت ذَلِك لم يكن الْفرق بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَمَا لَيْسَ من مسَائِل الِاجْتِهَاد مَا ذكره وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن مسَائِل الِاجْتِهَاد الَّتِي لَا لوم على المخطىء فِيهَا هِيَ مَا اخْتلف فِيهِ أهل الِاجْتِهَاد من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَلَا يدْخل فِي ذَلِك مَا لَيْسَ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَلَا مَا اتّفق عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَلَا مَا خَالف فِيهِ من لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يكون الْخَطَأ فِي الْفُرُوع الَّتِي عَلَيْهَا أَمَارَات إِن كَانَ لَهُ ثَوَاب أَو يتفضل الله بغفرانه وَهَذَا الْفَصْل يَصح على قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد فَأَما من قَالَ كل(2/397)
مُجْتَهد مُصِيب فأنما يفصل بَين مسَائِل الِاجْتِهَاد وَبَين غَيرهَا فِي إِصَابَة الْمُجْتَهدين وَلَيْسَ يجوز ان يُصِيبُوا عِنْده كلهم إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة دلَالَة لِأَن خلاف الدّلَالَة خطأ وَيجوز لمن قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد أَن يَقُول خلاف الدّلَالَة خطأ وَأَنه مغْفُور
وَإِذ قد ذكرنَا أَحْكَام الْمُجْتَهدين فِي الْفُرُوع فلنذكر أَحْكَام الْمُجْتَهدين فِي الاصول وَعند الْفَرَاغ مِنْهُ يَقع الْفَرَاغ من الْكتاب إِن شَاءَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن الْمُجْتَهدين فِي الْأُصُول لَا يجوز أَن يَكُونُوا على تباينهم مصيبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن المعتقدين للشَّيْء باعتقادات متنافية لَا يجوز كَونهم بأجمعهم مصيبين كالمعتقدين أَن الله سُبْحَانَهُ يرى فِي بعض الْحَالَات والمعتقدين أَنه لَا يرى بِحَال وَقَالَ عبيد الله بن الْحسن الْعَنْبَري إِن الْمُجْتَهدين فِي الاصول من أهل الْقبْلَة كالموحدة والمشبهة وَأهل الْعدْل والقدرية مصيبون وَيَنْبَغِي أَن نبين معنى قَوْلنَا صَوَاب ثمَّ نبين أَنه لَا يُمكن اجْتِمَاع الاعتقادات المتنافية فِيهِ فَنَقُول
إِن كَانَ الْفِعْل الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ صوب خَارِجا عَن الاعتقادات والظنون وَالْأَخْبَار وَكَانَ من أَفعَال الْجَوَارِح وَغَيرهَا كالارادات والكراهات فَالْمُرَاد بذلك أَن فاعلة قد أصَاب بِهِ مَا كلف مَأْخُوذ من إِصَابَة الرَّامِي بسهمه الْغَرَض وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة المُرَاد بذلك أَنه أصَاب بِهِ فَاعله الْحسن وَإِن كَانَ الْفِعْل من حيّز الاعتقالات فقد يُوصف بِأَنَّهُ صَوَاب وَيُرَاد بِهِ هَذَا الْمَعْنى وَيُرَاد بِهِ أَيْضا أَنه أُصِيب بِهِ الْحق وَأَنَّهَا تعلّقت بالمعتقد والمخبر عَنهُ على مَا هما بِهِ وَإِن كَانَ الْفِعْل ظنا فقد يُوصف بِأَنَّهُ صَوَاب وَيُرَاد بِهِ الْوَجْه الأول وَقد يُرَاد بِهِ أَن مظنونه على مَا ظَنّه أَي أَن الْأَقْرَب فِي مظنونه أَنه يكون على مَا تنَاوله(2/398)
الظَّن سَوَاء وجد مظنونه أَو لم يُوجد وَقد يُقَال أَيْضا أَخطَأ ظن فلَان إِذا ظن وجود الشَّيْء فَلم يُوجد وَيُقَال أصَاب ظَنّه إِذا وجد مظنونه على حد مَا ظَنّه فالظن يُوصف بِأَنَّهُ صَوَاب على أحد هَذِه الْوُجُوه الثَّلَاثَة
فاذا ثَبت ذَلِك لم يجز كَون اعْتِقَاد الرُّؤْيَة واعتقاد نَفيهَا صوابين على كل هَذِه الْوُجُوه لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الْمُخَالف بكونهما صوابين أَنَّهُمَا يتناولان الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ فَذَلِك يَقْتَضِي أَن يكون البارىء سُبْحَانَهُ يرى فِي الْحَالَات وَلَا يرى فِي شَيْء من الْحَالَات وَذَلِكَ يتنافى وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كل اعتقادين ضدين لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يكونَانِ ضدين إِذا تعلقا باثبات وَنفي يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهمَا وَكَذَلِكَ الخبران عَن نفي وَإِثْبَات يَسْتَحِيل اجْتِمَاعهمَا لَا يجوز كَونهمَا متناولين للشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع الْإِثْبَات وَالنَّفْي المتنافيين وَكَذَلِكَ الْخَبَر بِأَن الْعَالم قديم وَالْخَبَر بِأَنَّهُ مُحدث وغن أَرَادَ أَن هذَيْن الاعتقادين صوابان على معنى أَنَّهُمَا حسنان أَو قد اصيب بهما التَّكْلِيف لم يجز لِأَنَّهُ إِذا كَانَ أَحدهمَا متناولا للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ جهل وَالْجهل قَبِيح لَا يتَنَاوَلهُ التَّكْلِيف وَالْخَبَر المتناول للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ كذب وقبيح لَا يتَنَاوَلهُ التَّكْلِيف واما الظَّن الصَّادِر عَن أَمارَة مُجْتَهد فَهُوَ أبدا صَوَاب لِأَنَّهُ متناول لما الْأَغْلَب كَونه فَهُوَ كَذَلِك كَانَ مظنونه أَو لم يكن وَأما أَنه صَوَاب بِمَعْنى أَن فَاعله قد أصَاب مَا كلف فانه إِن كَانَ مَا قد كلف فعله فَهُوَ صَوَاب على هَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يُكَلف فعله فَلَيْسَ بصواب على هَذَا الْمَعْنى
فان قَالَ الْمُخَالف إِن الله تَعَالَى كلف أهل الْقبْلَة الظَّن لكَونه يرى أَو لَا يرى واماراتهم هَذِه الْآيَات المتشابهة فالظانون لِكِلَا الْأَمريْنِ مصيبون لما كلفوه من الظَّن قيل إِن الْمَرْء إِنَّمَا كلف الظَّن إِذا تعذر عَلَيْهِ الْعلم وَالْعلم هَا هُنَا غير مُتَعَذر وَأَيْضًا فالمخالفون فِي الرُّؤْيَة وَفِي الْجَبْر وَفِي الْعدْل يَدعِي كل فريق مِنْهُم أَنه عَالم غير ظان فَالْقَوْل بِأَنَّهُم كلفوا الظَّن خَارج عَن الْإِجْمَاع(2/399)
وَيلْزم السَّائِل تَكْلِيف الْيَهُود وَالنَّصَارَى والملحدة الظَّن وأماراتهم الشّبَه الَّتِي يتعلقون بهَا ويكونوا مصيبين فِي ظن النَّفْي وَالْإِثْبَات وَهَذَا محَال(2/400)
زيادات الْمُعْتَمد لأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ أَيْضا عَن النُّسْخَة الوحيدة فِي مكتبة لاله لي بإستانبول(2/401)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
فصل
إِن قيل إِذا قُلْتُمْ إِن الْأَحْكَام الْمَعْلُومَة بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بالاستنباط أَحْكَام شَرْعِيَّة وقلتم أَيْضا إِن الْأَحْكَام الْعَقْلِيَّة إِذا لم تنقلها الشَّرْعِيَّة هِيَ شَرْعِيَّة ايضا فقد قُلْتُمْ إِن الْأَحْكَام كلهَا شَرْعِيَّة وَإِذا قُلْتُمْ ذَلِك فَكيف تَقولُونَ إِن الْأَحْكَام مِنْهَا عقلية وَمِنْهَا شَرْعِيَّة الْجَواب إِن وصف الحكم بِأَنَّهُ شَرْعِي يكون على وَجْهَيْن أَحدهمَا يُرَاد بِهِ أَنه حصل بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بِأَفْعَال حَاصِلَة فِيهَا أَو باستنباط من ذَلِك فَقَط وَالْآخر أَنه حصل بذلك أَو بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله عَن مُقْتَضى الْعقل فاذا قُلْنَا الْأَحْكَام مِنْهَا عقلية وَمِنْهَا شَرْعِيَّة فَإنَّا نُرِيد الْوَجْه الأول أَي أَن مِنْهَا عَقْلِي وَإِمَّا مركوز فِي الْعقل أَو حَاصِل بِدَلِيل عَقْلِي وَمِنْهَا مَا حصل بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بِفعل أَو باستنباط وكل وَاحِد من هذَيْن الْقسمَيْنِ مُقَابل للْآخر وَإِذا قُلْنَا إِن أصُول الْفِقْه هِيَ طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَإنَّا نُرِيد الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهَا طرق إِلَى الْأَحْكَام الْحَاصِلَة بِنَصّ الشَّرِيعَة أَو بِأَفْعَال أَو باستنباط مِنْهَا أَو بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله عَن مُقْتَضى الْعقل فَلذَلِك يَجْعَل الْحَظْر وَالْإِبَاحَة إِذا لم ينقلنا عَنْهُمَا الشَّرِيعَة من أَبْوَاب أصُول الْفِقْه وطرقه وَلَوْلَا أَن ذَلِك مَوْصُوف بِأَنَّهُ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا جَازَ أَن يَجْعَل الطَّرِيق إِلَيْهِ من طرق الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَالَّذِي يبين مَا ذَكرْنَاهُ أَن أحدا من الْفُقَهَاء لَا يمْنَع من ان نصف أَحْكَام الْفُرُوع الَّتِي يسْتَدلّ عَلَيْهَا بِالْبَقَاءِ على حكم الْعقل بِأَنَّهَا من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَقد يُوصف أَيْضا بِأَنَّهَا عقلية على معنى أَنَّهَا ثَابِتَة بِالْعقلِ فَبَان أَن وصف الحكم بِأَنَّهُ شَرْعِي جَازَ على الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرناهما(2/403)
فصل
إِن قيل إِذا قُلْتُمْ إِن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة هِيَ الْمَعْلُومَة بأدلة شَرْعِيَّة من خطاب أَو فعل أَو استنباط أَو الْمَعْلُومَة بإمساك الشَّرِيعَة عَن نقلهَا عَن حكم الأَصْل فَيجب أَن يكون وجوب الْمعرفَة شَرْعِيًّا وَطَرِيقَة إمْسَاك الشَّرِيعَة عَن نقل وُجُوبهَا الثَّابِت بِالْعقلِ قيل لَا يلْزم ذَلِك لأَنا إِذا قُلْنَا الحكم الشَّرْعِيّ هُوَ الْمَعْلُوم بإمساك الشَّرِيعَة عَن نقل حكم الْعقل لم يلْزم عَلَيْهِ وجوب الْمعرفَة لِأَنَّهُ غير مَعْلُوم وُجُوبهَا بالشريعة بل لَا يَصح أَن يعلم ذَلِك بِالشَّرْعِ لِأَن صِحَة الشَّرْع مَبْنِيَّة على الْمعرفَة فاذا لم يَصح أَن نَعْرِف وُجُوبهَا بِدَلِيل مُبْتَدأ شَرْعِي فأحرى أَن لَا نَعْرِف ذَلِك بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله وَأَيْضًا فانا لم نذْكر ذَلِك على أَنه حد للْحكم الشَّرْعِيّ وَإِنَّمَا ذَكرْنَاهُ لنبين أَنا أَشَرنَا بقولنَا حكم شَرْعِي إِلَى ذَلِك وَمَتى أردنَا أَن نحد ذَلِك قُلْنَا الحكم الشَّرْعِيّ هُوَ مَا رَجَعَ أهل الشَّرِيعَة فِي الْعلم بِهِ إِلَى الشَّرِيعَة إِمَّا بِأَن يستدلوا عَلَيْهِ بأدلة شَرْعِيَّة مُبتَدأَة أَو بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله فَكل مَا سلك الْفُقَهَاء فِيهِ هَذَا المسلك فَهُوَ حكم شَرْعِي وَمَا لم يسلكوا فِيهِ هَذَا المسلك لَا يُسمى حكما شَرْعِيًّا وَإِن صَحَّ أَن يسْتَدلّ بإمساك الشَّرِيعَة عَن نَقله وَأما وجوب الْمعرفَة فَغير لَازم لما قُلْنَاهُ أَولا
فصل
إِن قيل إِذا حددتم الظَّن بِأَنَّهُ تَغْلِيب بِالْقَلْبِ لأحد مجوزين ظاهري التجويز والتجويز هُوَ الشَّك وَالشَّكّ هُوَ خلو الْحَيّ من اعْتِقَاد النقيضين وَالظَّن لَهما مَعَ خطورة بالبال فَيجب أَن يكون الظَّان شاكا والشاك غير ظان فالظان إِذا غير ظان فان أجبتم عَن ذَلِك فقلتم نُرِيد بالتجويز هَهُنَا اعْتِقَاد إِمْكَان كل وَاحِد من النقيضين قيل لكم فَمَا قَوْلكُم فِيمَن غلب على ظَنّه أَن أحد النقيضين مُمكن يجوز أَن يغلب على ظَنّه أَن الله لَا يَسْتَحِيل أَن يرى أَلَيْسَ(2/404)
هَذَا ظان وَلَيْسَ هُوَ مُعْتَقدًا صِحَة رُؤْيَته وَلَا أَنَّهَا غير صَحِيحَة الْجَواب إِن قَوْلنَا فلَان شَاك فِي النقيضين أَو مجوز لكل وَاحِد مِنْهُمَا قد يُرَاد بِهِ أَنه غير مُعْتَقد وَلَا لوَاحِد مِنْهُمَا وَلَا ظان وَقد يُرَاد بذلك أَنه غير قَاطع على وَاحِد مِنْهُمَا وَلَا فِي حكم الْقَاطِع كالجاهل فعلى هَذَا نصف الظَّان بِأَنَّهُ شَاك وَبِأَنَّهُ مجوز لما ظَنّه وَلغيره بِمَعْنى أَنه مجوز لكل وَاحِد مِنْهُمَا غير قَاطع فصح أَن نقُول إِنَّه قد غلب بِقَلْبِه أحد المجوزين إِذْ هُوَ مجوز لكل وَاحِد مِنْهُمَا غير قَاطع وَلَا فِي حكم الْقَاطِع وَلَا فرق بَين أَن نقُول تَغْلِيب بِالْقَلْبِ لأحد المجوزين ظاهري التجويز وَبَين أَن نقُول تَغْلِيب الْحَيّ بِالْقَلْبِ لأحد أَمريْن غير قَاطع على وَاحِد مِنْهُمَا وَلَا فِي حكم الْقَاطِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب إِثْبَات الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَحدهمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الأولى أَن نقسم الْحَقِيقَة إِلَى اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية ثمَّ نحد كل وَاحِدَة مِنْهَا وَهُوَ أولى من أَن نحد الْكل بِحَدّ عَام لِأَنَّهُ يَقْتَضِي اضطرابا فِي الْحَد فَنَقُول
الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة هِيَ مَا أفيد بِهِ مَا وضع لَهُ فِي أصل اللُّغَة والحقيقة الْعُرْفِيَّة مَا أفيد بِهِ مَا وضع لَهُ فِي أصل الْعرف والحقيقة الشَّرْعِيَّة هِيَ مَا أفيد بِهِ مَا وضع لَهُ فِي أصل الشَّرْع وَاعْلَم أَنه إِذا حد الْمجَاز بِأَنَّهُ مَا أفيد بِهِ معنى مصطلحا عَلَيْهِ غير الْمَعْنى المصطلح عَلَيْهِ فِي الأَصْل بَطل إِذا وضع أهل اللُّغَة إسما لشَيْء ثمَّ تواضعوا على أَن يَجْعَلُوهُ إسما لشَيْء آخر وَلم ينقلوه عَن الأول لِأَنَّهُ قد أفيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل وَهُوَ مَعَ ذَلِك حَقِيقَة فِيهِ من جِهَة اللُّغَة كَمَا أَنه حَقِيقَة فِي الأول وَإِنَّمَا ينْفَصل من الْمجَاز بِالسَّبقِ إِلَى الأفهام فَيَنْبَغِي أَن نحد الْحَقِيقَة بذلك وَمَتى حددناها بذلك على الْإِطْلَاق لم يَصح أَيْضا لأجل الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة لِأَنَّهُ إِذا أفيد بِاللَّفْظِ أحد حقيقتيه لم يسْبق إِلَى الْفَهم دون(2/405)
الْحَقِيقَة الْأُخْرَى فَيَنْبَغِي أَن نقسم الْحَقِيقَة إِلَى المفردة والمشتركة
فالمفردة هِيَ مَا أفيد بهَا مَا هُوَ الأسبق إِلَى فهم العارفين بالاصطلاح عِنْد سماعهَا وَلَا يبطل ذَلِك باللفظة إِذا علم أَنه مَا عني بِهِ الْحَقِيقَة وَكَانَ لَهَا وَجْهَان فِي الْمجَاز أَحدهمَا أسبق إِلَى الْفَهم من الآخر وأشبه بِالْحَقِيقَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَجه الْمجَاز الأسبق لَيْسَ يسْبق إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع اللَّفْظَة إِلَّا بعد أَن يخرج الْحَقِيقَة من ان تكون مُرَادة فَلذَلِك لم يكن اللَّفْظ حَقِيقَة فِيهِ
وَأما الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة فَهِيَ مَا أفيد بهَا معنى يُسَاوِيه غَيره فِي السَّبق إِلَى الْفَهم عِنْد سَماع أهل الِاصْطِلَاح لَهَا وَقد دخل فِي ذَلِك الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة والعرفية والشرعية وَلَا يَنْبَغِي أَن نحد الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة بِأَنَّهَا مَا سبق إِلَى الْفَهم مَعْنَاهَا أَو مَا يقوم مقَامه لِأَن للسَّائِل أَن يَقُول يقوم مقَامهَا فِي مَاذَا فان قُلْنَا فِي كَونهَا حَقِيقَة كُنَّا قد فسرنا اللَّفْظَة بِنَفسِهَا
وَأما الْمجَاز فَهُوَ مَا أفيد بِهِ معنى مصطلحا عَلَيْهِ والأسبق إِلَى الْفَهم فِي تِلْكَ الْمُوَاضَعَة غَيره
فصل
إِن قيل إِذا كَانَت الْحَقِيقَة المفردة هِيَ مَا أفيد بهَا معنى لَا يسْبق إِلَى الْفَهم غَيره لم يدْخل فِيهِ الْأَمر لِأَنَّهُ لم يوضع ليُفِيد غَيره عنْدكُمْ كَمَا يَقُوله أصحابكم بل هُوَ نَفسه الطّلب قيل بل يدْخل فِيهِ الْأَمر لِأَن صيغته جعلهَا أهل اللُّغَة طلبا ووضعوها لَهُ لَا على أَن يكون إسما لَهُ بل على أَن يكون نَفسهَا طلبا وَإِنَّمَا يكون الصِّيغَة قد أفيد بهَا الطّلب إِذا قارنها من النَّفس مَا يطابقها وَهُوَ الارادة وَمَا يجْرِي مجْراهَا كَمَا يكون اللَّفْظَة مفادا بهَا مَا وضعت لَهُ إِذا قارنها من الْمُتَكَلّم بهَا إِرَادَة مَا وضعت لَهُ وَمَا يجْرِي مجْراهَا نَحْو الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر فقد أمكن ذَلِك فِي الْأَمر كَمَا أمكن فِي الْخَبَر(2/406)
فصل
إِن قيل إِذا قُلْتُمْ إِن مُوَافقَة الْأَمر هِيَ فعل مأموره ومخالفته هِيَ الْإِخْلَال بمأموره لزمكم إِذا كَانَت مُوَافقَة الْأَمر بالنوافل هِيَ فعل مأمورة أَن تكون مُخَالفَته هِيَ الْإِخْلَال بمامورة فَيكون التارك للنافلة مُخَالفا لأمر الله بهَا فَيكون دَاخِلا تَحت الْوَعيد فِي قَوْله {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} فَالْجَوَاب إِن الْأَمر بالنوافل هُوَ فِي تَقْدِير قَول الْقَائِل لغيره الأولى أَن تفعل وَلَك أَن لَا تفعل وَهَذَا يتَضَمَّن مَعْنيين فموافقته هِيَ شَيْئَانِ لَا شَيْء وَاحِد فاذا لَيْسَ مُوَافَقَته هِيَ أَن تفعل فَقَط بل مُوَافَقَته هِيَ أَن تفعل وَيجوز أَن تفعل فَيَنْبَغِي أَن يكون مُخَالفَته هِيَ أَن لَا تفعل مَعَ أَنه لَا يجوز أَن تفعل أَو أَن تفعل مَعَ أَنه لَا يجوز أَن لَا تفعل وَأما قَول الْقَائِل افْعَل إِذا لم تدل دلَالَة على جَوَاز ترك الْفِعْل فَلَيْسَ فِي ظَاهره إِلَّا أَن تفعل وَإِذا كَانَ ظَاهره استدعاء الْفِعْل فَقَط وَلَا يتَضَمَّن لَفظه شَيْئا آخر فموافقته هُوَ أَن تفعل لَا غير فَكَانَت مُخَالفَته نقيض أَن تفعل وَهُوَ الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ
فصل
لَيْسَ يمْتَنع أَن يُقَال إِن المخل بالكفارات الثَّلَاث إِذا اسْتحق الْعقَاب على الْإِخْلَال بأجمعها فانه لَا يكون ذَلِك الْعقَاب هُوَ عِقَاب وَاحِد مِنْهَا بل عِقَاب يعلم الله قدره لَا ينْسب إِلَى وَاحِد مِنْهَا وَلَا يمْتَنع أَن يُقَال هُوَ عِقَاب أقلهَا عقَابا بِأَن يكون بَعْضهَا أَكثر مشقة فَيسْتَحق على الْإِخْلَال بِهِ عقَابا لَو انْفَرد وُجُوبه على مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمُعْتَمد
فصل
إِذا نَاب أحد الْفِعْلَيْنِ منا الآخر فِي الْمصلحَة لم يجز أَن يُوجب الْحَكِيم(2/407)
أَحدهمَا بِعَيْنِه لِأَنَّهُ يكون قد فصل بَينهمَا فِي الْوُجُوب مَعَ اشتراكهما فِي وَجهه وَلَا أَن يوجبهما على الْجمع لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجمع وَجه وجوب لَا يحصل بِأَحَدِهِمَا وَلَا أَن لَا يُوجب وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَن فِي ذَلِك تَفْوِيت الْمصلحَة فَلم يبْق إِلَّا أَن يُوجِبهَا على الْبَدَل
فصل فِي الْفَوْر
إِذا اسْتدلَّ أَصْحَاب الْفَوْر بِالْقِسْمَةِ فَقَالُوا إِن جَازَ تَأْخِير الْمَأْمُور بِهِ عَن الزَّمَان الثَّانِي لم يخل إِمَّا أَن يجوز تَأْخِيره إِلَى غَايَة أَو لَا إِلَى غَايَة وَجَوَاز ذَلِك لَا إِلَى غَايَة بِلَا بدل يلحفه بالنوافل وَجَوَاز ذَلِك إِلَى بدل لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا دَلِيل على إِثْبَات بدل وَنفي الْبَدَل يَقْتَضِي وجوب الْفَوْر وَتَعْيِين الْوُجُوب بِالثَّانِي قيل لَهُم وَلَا دَلِيل على تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي وَنفي ذَلِك يَقْتَضِي إِثْبَات بدل على مَا قد ذكر فِي ذَلِك فان قَالُوا تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي لَازم لنفي الْبَدَل قيل لَهُم وَإِثْبَات الْبَدَل لَازم لنفي تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي فلستم بِأَن تنفوا الْبَدَل لفقد الدَّلِيل عَلَيْهِ وتعينوا الْوُجُوب بِالثَّانِي تبعا لذَلِك بِأولى من أَن ننفي تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي لفقد الدَّلِيل على ذَلِك وَنثْبت الْبَدَل تبعا لذَلِك فان قَالُوا تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي وَاجِب لِأَن صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِيه كَمَا يَقْتَضِي الإيقاعات الْحُكَّام فِي الثَّانِي قيل لَهُم هَذَا عدُول عَن دَلِيل الْقِسْمَة إِلَى دَلِيل آخر وَأَنْتُم فِي دَلِيل الْقِسْمَة إِنَّمَا عنيتم الْوُجُوب بِالثَّانِي بعد إبِْطَال الْبَدَل واقتصرتم فِي إبِْطَال الْبَدَل على انه لَا دَلِيل عَلَيْهِ فعارضناكم بِمَا ذَكرْنَاهُ فان قَالُوا إِنَّمَا نَفينَا الْبَدَل لِأَنَّهُ لَا ذكر لَهُ فِي لفظ الْأَمر قيل لَهُم وَلَا ذكر لتعيين الْوَقْت فِي لفظ الْأَمر فلستم بِنَفْي أَحدهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لفظ الْأَمر ذكر لَهُ بِأولى من أَن ننفي مَا أبيتموه من تعْيين الْوُجُوب بِالثَّانِي لِأَنَّهُ لَا ذكر لَهُ فِي لفظ الْأَمر لنثبت مَا نفيتموه من الْبَدَل(2/408)
فصل فِي الْفَوْر ايضا
إِن قيل هلا جَازَ أَن يقوم الْعَزْم مقَام المعزوم عَلَيْهِ فِي إِسْقَاط الْفَرْض فِي وَقت دون وَقت كَمَا قَامَ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مقَام غسل الرجلَيْن فِي الْمصلحَة وَفِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة يَوْمًا وَلَيْلَة دون مَا زَاد على ذَلِك للمقيم قيل إِن مسح الْخُفَّيْنِ عبَادَة مُبتَدأَة وَلَيْسَ بَدَلا من غسل الرجلَيْن كَمَا يكون أحد الواجبين بَدَلا من الْوَاجِب الآخر لِأَن اللابس للخفين لَا يلْزمه غسل الرجلَيْن فِي تِلْكَ الْحَال وَإِنَّمَا يلْزم ذَلِك إِذا تَغَيَّرت الْحَال بقلع الْخُف وَإِذا لم يمْتَنع ذَلِك فَمَا يُنكر السَّائِل أَن يكون الْمسْح على الْخُفَّيْنِ عبَادَة مُبتَدأَة يستباح بهَا الصَّلَاة وَمن الْمصلحَة أَن يستباح بهَا يَوْمًا وَلَيْلَة فَقَط فَلم يقل إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد قَامَ مقَام الآخر فِي الْوُجُوب وَوجه الْمصلحَة وَمَعَ ذَلِك لم يجز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مجْرى غسل الرجلَيْن فِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة بِهِ اسْتِبَاحَة غير مقدرَة
فصل فِي النَّهْي
إِذا أمكن الْمنْهِي أَن لَا يفعل المنهى عَنهُ من غير أَن يفعل ضدا من أضداده لم يكن النَّهْي إِيجَابا لشَيْء من أضداد المنهى عَنهُ نَحْو أَن ينْهَى المستلقي على ظَهره عَن الْقيام فانه يُمكنهُ أَن لَا يفعل الْقيام وَلَا يفعل ضدا من أضداده
فصل فِي النَّهْي عَن الْبَدَل
إِذا أمكن الْمُكَلف الانفكاك من فعلين وَتوجه النَّهْي إِلَيْهِمَا وَكَانَ نهيا عَن الْبَدَل فَذَلِك بِأَن يُقَال لَهُ لَا تفعل هَذَا بَدَلا من ذَلِك وَلَا ذَاك بَدَلا من هَذَا أَي لَا تكون فَاعِلا لأَحَدهمَا تَارِكًا للْآخر وَقد قُلْنَا فِي الْمُعْتَمد إِن هَذَا هُوَ إِيجَاب للْجمع بَينهمَا فَيحسن ذَلِك إِذا أمكن الْجمع وَلم يكن الْإِنْسَان ملْجأ إِلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِنَّه قد يَقْتَضِي ذَلِك وَيَقْتَضِي أَن لَا يفعل وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا لِأَنَّهُ إِذا تَركهمَا فَمَا فعل أَحدهمَا وَترك الآخر كَمَا لَو فعلهمَا جَمِيعًا(2/409)
فصل فِي دلَالَة النَّهْي على الْفساد
قَالُوا النَّهْي نقيض الْأَمر وَالْأَمر يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِعْ فَيجب أَن يدل النَّهْي على نفي إِجْزَاء المنهى عَنهُ وَنفي إِجْزَاء الْفِعْل هُوَ فَسَاده أجَاب قَاضِي الْقُضَاة بِأَن الْأَمر لَا يدل على الْإِجْزَاء لِأَنَّهُ يُفَسر الْإِجْزَاء بِنَفْي وجوب الْقَضَاء وَقد تقدم القَوْل فِي ذَلِك وَنحن نفسر الْإِجْزَاء بِغَيْر ذَلِك ونقول إِن الْأَمر يدل على إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ على التَّفْسِير الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَقد أجبنا فِي الْمُعْتَمد عَن الدّلَالَة فَقُلْنَا إِذا كَانَ النَّهْي هُوَ نقيض الْأَمر فَيجب أَن لَا يدل على مَا يدل عَلَيْهِ الْأَمر من الْإِجْزَاء والمخالف لَا يَقُول إِن النَّهْي يدل على إِجْزَاء المنهى عَنهُ وَإِن قَالَ إِن المجزىء عَنهُ قد يكون مجزئا
ولمعترض أَن يعْتَرض ذَلِك فَيَقُول لَيْسَ يَكْفِي أَن لَا يدل نقيض الشَّيْء على مَا يدل عَلَيْهِ الشَّيْء بل يجب أَن يدل على نقيض مَا دلّ عَلَيْهِ الشَّيْء أَلا ترى أَن قَوْلنَا زيد لَيْسَ بأبيض لما كَانَ نقيض قَوْلنَا زيد أَبيض دلّ على نقيض مَا يدل عَلَيْهِ قَوْلنَا زيد ابيض فقد دلّ على نفي مَدْلُول قَوْلنَا زيد أَبيض وَالْجَوَاب عَن الدّلَالَة أَن الْأَمر هُوَ استدعاء إِلَى الْفِعْل وَيَقْتَضِي أَن يفعل لَا محَالة فاذا كَانَ النَّهْي نقيضه فَيجب أَن يكون استدعاء إِلَى الْإِخْلَال بِالْفِعْلِ وَيَقْتَضِي أَن لَا يفعل لَا محَالة فقد قُلْنَا إِن مَدْلُول أَحدهمَا هُوَ نقيض مَدْلُول آخر وَأما إِجْزَاء الْمَأْمُور بِهِ فانه يعلم بِنَظَر آخر على مَا ذكر
فان قيل فاذا تبع مَدْلُول الْأَمر الْإِجْزَاء فَيجب أَن يتبع مَدْلُول نقيض الْأَمر نقيض مَا يتبع مَدْلُول الْأَمر وَهُوَ نفي الْإِجْزَاء وَهَذَا هُوَ الْفساد قيل لَا يجب ذَلِك لِأَن التَّابِع لاقْتِضَاء الْأَمر لإيقاع الْفِعْل لَا محَالة وَهُوَ إجزاؤه وَهُوَ سُقُوط التَّعَبُّد بِهِ وَهَذَا بِعَيْنِه هُوَ تَابع لاقْتِضَاء النَّهْي للإخلال بِالْفِعْلِ لَا نقيضه وَذَلِكَ لِأَن النَّهْي إِمَّا أَن يكون نهيا عَن مُجَرّد الْفِعْل أَو يكون نهيا عَن إِيقَاع عبَادَة على وَجه فَالْأول هُوَ أَن يُقَال للمكلف لَا تدخل الدَّار فَمَتَى لم يدخلهَا فقد أَجزَأَهُ ذَلِك فِي سُقُوط التَّعَبُّد بالإخلال بذلك فِي ذَلِك الْوَقْت(2/410)
وَفعل الدُّخُول يكون فَاسِدا وَلَا معنى لفساده إِلَّا أَنه قَبِيح محرم وَأما الثَّانِي فَهُوَ أَن يُقَال للمكلف لَا تصل عُريَانا فاذا لم يصل عُريَانا أَجزَأَهُ فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا قيل لَهُ صل على طَهَارَة فصلى على طَهَارَة فانه يُجزئهُ مَا فعله فِي إِسْقَاط التَّعَبُّد بِهِ فقد تبع مَدْلُول كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا تبع مَدْلُول الآخر قيل أَلَيْسَ إِذا قيل للمكلف صل بِطَهَارَة مَعَ أَن الْأَمر على الْوُجُوب فانه يتبع مَدْلُول هَذَا الْأَمر أَنه إِذا خَالف فصلى على غير طَهَارَة كَانَ مَا فعله فَاسِدا غير مجزىء فَيجب إِذا قيل لَهُ لَا تصل عُريَانا فَخَالف وَصلى عُريَانا أَن يكون ذَلِك فَاسِدا غير مجزىء قيل فقد أوجبتم أَن يتبع مَدْلُول النَّهْي مَا يتبع مَدْلُول الآخر وَهُوَ الْفساد وَنفي الْإِجْزَاء وَأَنْتُم أوجبتم أَن يكون التَّابِع لأَحَدهمَا نقيض مَا تبع الآخر وَلم توجبوا أَن يكون أحد التَّابِعين هُوَ التَّابِع للْآخر فَمَا ذكرتموه الْآن غير دَاخل فِي العقد الَّذِي ذكرتموه بل هُوَ ضِدّه فَإِن تركُوا مَا قَالُوهُ وَقَالُوا إِذا كَانَ النَّهْي نقيض الْأَمر فَيجب أَن يكون مَا يتبع مَدْلُول أَحدهمَا هُوَ مَا يتبع مَدْلُول الآخر قيل لَهُم هَذِه دَعْوَى مِنْكُم تخالفون فِيهَا وَنحن وَإِن لم نوجب أَن يكون التَّابِع لأَحَدهمَا هُوَ نقيض مَا يتبع الاخر فَإنَّا لَا نوجب أَن يكون مثله بل ذَلِك مَوْقُوف على الدّلَالَة وَلَيْسَ يجوز أَن يكون كَون النَّهْي وَالْأَمر نقيضين يَقْتَضِي تَسَاوِي مَا يتبع مدلولهما
فصل فِي الْعُمُوم
إِن قيل مَا تنكرون أَن يكون قَبيلَة من الْعَرَب وضعُوا للاستغراق وَحده لفظ كل أَو غَيره ثمَّ وَضعته قَبيلَة أُخْرَى للْبَعْض فَلم تتْرك الْعَرَب أَن تضع للاستغراق لفظا يَخُصُّهُ وَمَعَ ذَلِك فالإشراك حَاصِل قيل لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ حَقِيقَة قَوْلنَا كل عِنْد تِلْكَ الْقَبِيلَة للْبَعْض لَا غير وَأَن يسْبق إِلَى إفهامنا عِنْد سَماع قَوْلنَا كل الْبَعْض وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَا يحصل فِي قَبيلَة من الْقَبَائِل كَمَا لَا يسْبق إِلَى فهم أحد عِنْد سَماع اسْم الْأسد الرجل الشجاع إِذا(2/411)
تجرد اللَّفْظ وَأَيْضًا فَكيف اتّفق فِي أَلْفَاظ الْعُمُوم كلهَا على كثرتها أَن يحصل فِي كل وَاحِد مِنْهَا الْإِشْرَاك وَلَا يخلص وَاحِد مِنْهَا للاستغراق ويضعون لكل معنى اسْما يَخُصُّهُ وَلَا يضعون إسما للاستغراق إِلَّا ويضعونه لنقيض الِاسْتِغْرَاق وَأَيْضًا فَكَانَ يجب فِي الْقَبِيلَة الَّتِي وضعت قَوْلهَا كل للْبَعْض أَن يضعوا للاستغراق لفظا آخر ليعبروا بِهِ عَن الِاسْتِغْرَاق فان قَالُوا قد وضعُوا لَهُ لَفْظَة جَمِيع وَوَضَعته الْقَبِيلَة الْأُخْرَى للْبَعْض قيل كَيفَ اتّفق فِي جَمِيع أَلْفَاظ الْعُمُوم أَن بَعضهم وَضعهَا للْعُمُوم وَبَعضهَا للخصوص وَلم يخلص للاستغراق وَاحِد مِنْهَا وايضا فَمَا ذَكرْنَاهُ من شدَّة الْحَاجة إِلَى وضع اسْم للاستغراق يَقْتَضِي إِذا وَقع الِاشْتِرَاك فِي أَلْفَاظ الْعُمُوم لأجل وضع قبيلتين أَن يضعوا للاستغراق لفظا آخر يَخُصُّهُ لشدَّة حَاجتهم إِلَى ذَلِك
فصل فِي الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء
قد قيل لَو رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي إِلَى الِاسْتِثْنَاء الأول وَإِلَى الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لَكَانَ إِيجَابا وسلبا وَاعْترض ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ذَلِك إِذا تعلق بكلامين وَإِنَّمَا يمْتَنع إِذا تعلق بِكَلَام وَاحِد وَالْجَوَاب إِنَّه لَو رَجَعَ الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي إِلَيْهِمَا لَكَانَ إِيجَابا وسلبا من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ الْقَائِل لزيد عِنْدِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا دِرْهَمَيْنِ إِلَّا دِرْهَم وَرجع قَوْله إِلَّا دِرْهَم إِلَى الْعشْرَة وَهِي إِيجَاب لنفى مِنْهَا درهما آخر وَرجع مَعَ ذَلِك إِلَى الدرهمين وَهِي نفي لَكَانَ قد أوجب الدِّرْهَم كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا دِرْهَمَيْنِ إِلَّا دِرْهَم من الدرهمين فانه عَليّ فَيكون قد أثبت الدِّرْهَم فِي الْعشْرَة وَقد نَفَاهُ حِين رَجَعَ إِلَى الْعشْرَة فَيكون قد نفى عَن الْعشْرَة درهما سوى الدرهمين واثبته فِيهَا مَعًا فقد بَان أَنه يلْزم أَن يكون الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي نفيا وإثباتا من الْعشْرَة فَهُوَ إِذا نفي وَإِثْبَات من كَلَام وَاحِد(2/412)
الْأَفْعَال من بَاب قسْمَة الْأَفْعَال
قد حد الْقَبِيح بِأَنَّهُ فعل على صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فان قيل الصَّغِيرَة قبيحة وَلَيْسَت على صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم قيل بل لَهَا صفة لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم أَلا ترى أَنه لَو لم يكن فاعلها يسْتَحق من الْمَدْح أَكثر من ذمها لأثرت الصّفة فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فان قيل أَلَيْسَ مَعَ اسْتِحْقَاقه لمدح أَكثر من ذمها لَا يُؤثر فِي اسْتِحْقَاق الذَّم فقد انْتقض الْحَد قيل قَوْلنَا لَهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم لَا يَقْتَضِي أَن يُؤثر فِي ذَلِك فِي كل حَال وعَلى كل وَجه وسيما فِي عرف الْفُقَهَاء والمتكلمين فِي أصُول الْفِقْه لأَنهم يتعارضون من قَوْلهم لكذا تَأْثِير فِي كَذَا أَنه يُؤثر فِيهِ وَإِن كَانَ يُؤثر فِي بعض الْحَالَات وَإِذا قُلْنَا لليسار تَأْثِير فِي إِزَالَة الْهم لم ينْتَقض ذَلِك فِي عرف كل النَّاس بِأَن يُؤْخَذ الْيَسَار فِي بعض الْحَالَات وَلَا يَزُول الْهم لما كَانَ فِي بعض الْحَالَات مؤثرا فِي إِزَالَة الْهم فَمَا ذَكرْنَاهُ جَار فِي عرف الْفُقَهَاء وَغَيرهم
وَإِذا أردنَا حسم هَذَا السُّؤَال قُلْنَا فِي الْحَد الْقَبِيح فعل على صفة لكَونه عَلَيْهَا تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على بعض الْوُجُوه أَو مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع أَو قُلْنَا فعل لَهُ تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على بعض الْوُجُوه أَو مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع وَلَا نذْكر الصّفة وَإِذا قيدنَا الْحَد بذلك قُلْنَا فِي حد الْحسن إِنَّه فعل لَا تَأْثِير لَهُ فِي اسْتِحْقَاق فَاعله الذَّم على وَجه من الْوُجُوه أَو من غير مَانع وَكَذَلِكَ نُرِيد فِي حد الْوَاجِب إِذا حددناه بِاسْتِحْقَاق الذَّم على الْإِخْلَال بِهِ فَنَقُول هُوَ الْفِعْل الَّذِي للإخلال بِهِ تَأْثِير فِي اسْتِحْقَاق الذَّم على بعض الْوُجُوه أَو مَا لم يمْنَع من ذمه مَانع
فصل
الأولى فِي قسْمَة الْأَسْبَاب ان يُقَال الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة ضَرْبَان احدهما يعلم ثُبُوته وَكَونه سَببا بِالشَّرْعِ وَذَلِكَ كفساد الصَّلَاة فانا بِالشَّرْعِ نعلم ثُبُوته ونعلم(2/413)
بِالشَّرْعِ كَونه سَببا لوُجُوب الْقَضَاء وَالْآخر يعلم ثُبُوته لَا بِالشَّرْعِ وَيعلم بِالشَّرْعِ كَونه سَببا وَذَلِكَ حؤول الْحول فانا نعلم بِغَيْر الشَّرْع وجوده ونعلم بِالشَّرْعِ كَونه سَببا لوُجُوب إِخْرَاج الزَّكَاة وغذا ذكرنَا الْقِسْمَة كَذَلِك كُنَّا قد جعلنَا الْعلم فِي مُقَابلَة الْعلم وَهَذَا مرادنا فِي الْكتاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من بَاب التأسي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فعله يُسْتَفَاد من مُطلق الْمُشَاركَة فِي صُورَة الْفِعْل على الْوَجْه الَّذِي فعله وان التبع لَهُ فعله لِأَنَّهُ فعله فان قيدت الْمُتَابَعَة بِصُورَة الْفِعْل فَقيل اتبع زيد عمرا فِي صُورَة الْفِعْل لم يفد إِلَّا الْمُشَاركَة فِي الصُّورَة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي أَن السّمع لَا يَقْتَضِي على الْإِطْلَاق وجوب مثل فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنا ذكرنَا فِي الْبَاب فَقُلْنَا أما من قَالَ بِأَن أَفعاله أَدِلَّة بِاعْتِبَار الْوَجْه فانه إِن علم الطَّرِيقَة الَّتِي اتبعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْفِعْل عقلية كَانَت أَو سمعية فَهُوَ يرجع إِلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَال وَإِن لم يعرف الطَّرِيقَة فضربان أَحدهمَا يكون فعله بَيَانا لمجمل وَالْآخر لَا يكون بَيَانا لمجمل فان كَانَ بَيَانا لمجمل فَذَلِك الْمُجْمل هُوَ دَال على الْوُجُوب أَو النّدب أَو الْإِبَاحَة
ولمعترض أَن يعْتَرض هَذِه الْقِسْمَة فَيَقُول إِذا علم الْمُكَلف أَن فعل النَّبِي بَيَان لمجمل وَاسْتدلَّ بالمجمل على الْوُجُوب فقد عرف الطَّرِيقَة الَّتِي رَجَعَ إِلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوُجُوب فَهُوَ دَاخل فِي الْقسم الأول وَالْجَوَاب أَنا لم نقل فان علم الْمُكَلف أَن فعل النَّبِي بَيَان لمجمل وَإِنَّمَا قُلْنَا فان كَانَ فعله بَيَانا لمجمل وَقد يكون فعله بَيَانا لمجمل وَلَا يكون الْعلم بذلك قد تقدم للمكلف فَيحْتَاج أَن ينظر ويتأمل ليعرف الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل عَلَيْهِ وَمن جملَة مَا يتأمله أَن ينظر هَل فِي الشَّرْع مُجمل هَذَا بَيَانه ليعرف(2/414)
بالمجمل الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل عَلَيْهِ فاذا عرف ذَلِك اكْتفي بالمجمل فِي الِاسْتِدْلَال على الْوُجُوب فِي الْجُمْلَة وَعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوقع الْفِعْل عَلَيْهِ
وَإِذا أردنَا حسم هَذَا السُّؤَال فَالْأولى أَن نقُول فِي الْقِسْمَة إِمَّا أَن يعلم الْمُكَلف قبل أَن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل أَو مَعَه أَو بعده الطَّرِيقَة الَّتِي صَار إِلَيْهَا فِي الْعلم بالحكم عقلية كَانَت أَو سمعية مجملة كَانَت أَو مفصلة فَرجع إِلَيْهَا فِي الْعلم بالحكم وَإِمَّا أَن لَا يعلم الْمُكَلف ذَلِك فَيجب أَن يسْتَدلّ بِوَجْه آخر على الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِعْل عَلَيْهِ فان علم أَنه أوقعه على الْوُجُوب دلّ ذَلِك على وجوب مثله عَلَيْهِ وَإِن علم أَنه أوقعه على النّدب دلّ على أَنه مَنْدُوب إِلَى مثله وَإِن علم أَنه أوقعه مستبيحا لَهُ دلّ على أَنه مُبَاح مِنْهُ
اسْتدلَّ على أَن فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْوُجُوب بقول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} قَالُوا وَقَوله {يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} تهديدا واجيب عَن ذَلِك بِأَن قَوْله عز وَجل {لكم} لَيْسَ من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَلَو أَرَادَ الْوُجُوب لقَالَ {عَلَيْكُم} واعترضنا ذَلِك بانه لَا يَصح الِاسْتِدْلَال بذلك على نفي الْوُجُوب لِأَن معنى قَول الْقَائِل لنا أَن نَفْعل كَذَا هُوَ أَنه لَا حظر علينا فِي فعله وَالْوَاجِب لَا حظر علينا فِي فعله
فان قيل إِن الْمُجيب لم يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على نفي وجوب أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله إِن لَفْظَة لكم لَيْسَ من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَإِنَّمَا دفع الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ على وجوب أَفعاله فَقَالَ لَفْظَة لكم لَيست من أَلْفَاظ الْوُجُوب فَلَا يجوز أَن يُقَال لَهُ إِن الْوَاجِب لنا فعله لِأَنَّهُ لم يقل إِن(2/415)
الْوَاجِب لَا يكون لنا فعله وَإِنَّمَا قَالَ إِن لَفْظَة لكم لَا يخْتَص الْوُجُوب بل يسْتَعْمل فِي الْوَاجِب وَفِي غَيره فَلَيْسَ فِي ذكرهَا إِثْبَات للْوُجُوب قيل بل إِنَّمَا أورد الْمُجيب هَذَا الْكَلَام على جِهَة الِاسْتِدْلَال مِنْهُ على نفي الْوُجُوب لَا على أَن يدْفع اسْتِدْلَال خَصمه لِأَن خَصمه لم يسْتَدلّ على وجوب أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقول الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} فَيُقَال لَهُ لَفْظَة لكك لَا يخْتَص الْوُجُوب وَإِنَّمَا اسْتدلَّ بقوله {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} قَالَ وَهَذَا تهديد فَمَا أوردهُ الْمُجيب إِن لم يكن ابْتِدَاء اسْتِدْلَال مِنْهُ بِالْآيَةِ من حَيْثُ أَنه لَا يُقَال لكم فِيمَا هُوَ وَاجِب فَلَيْسَ هُوَ يدْفع لاستدلال الْمُسْتَدلّ بِالْآيَةِ وَيَنْبَغِي أَن يَقُول لمن تكلم على الْآيَة بقوله إِن لَفْظَة لكم لَيْسَ من أَلْفَاظ الْوُجُوب إِن أوردت ذَلِك دفعا لاستدلال الْمُسْتَدلّ بِالْآيَةِ فالمستدل بِالْآيَةِ لم يقل إِن قَول الله عز وَجل {لكم} من أَلْفَاظ الْوُجُوب وَإِن أوردت ذَلِك اسْتِدْلَالا مِنْك على أَن أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيست على الْوُجُوب لم يَصح ذَلِك لما بَيناهُ فِي الْكتاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِيمَا تدل عَلَيْهِ أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتروكه الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قد قُلْنَا أما أَفعاله الْمُتَعَلّقَة بِغَيْرِهِ فَهِيَ الْحُدُود وَالْقَضَاء على الْغَيْر ثمَّ قُلْنَا وقضاؤه على الْغَيْر وَإِن كَانَ من قبيل الْأَقْوَال فانه يَقْتَضِي لُزُوم مَا قضي بِهِ
وَلقَائِل أَن يَقُول لم أدخلتم الْقَضَاء فِي جملَة الْأَفْعَال مَعَ أَنه قَول وَأَنْتُم إِنَّمَا تتكلمون فِي أَبْوَاب الْأَفْعَال فِي الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ أَفعَال الْجَوَارِح وَالْجَوَاب إِنَّمَا تكلمنا فِي الْقَضَاء هَهُنَا لِأَنَّهُ كأفعال الْجَوَارِح بِالْغَيْر وَلم يجز ذكره فِيمَا قبل فذكرناه هَهُنَا لمشابهته للأفعال الْمُتَعَلّقَة بِالْغَيْر(2/416)
وَإِذا أردنَا حسم هَذَا الِاعْتِرَاض قُلْنَا فِي الْقِسْمَة إِن مَا يسند إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يتَعَلَّق بِغَيْرِهِ أَفعَال وتروك وَالْأَفْعَال ضَرْبَان أَفعَال هِيَ أَقْوَال وأفعال لَيست أقوالا وَالْأَفْعَال المتعدية إِلَى الْغَيْر مِنْهَا قَضَاء على غير وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِقَضَاء على غير وَالْأَفْعَال الَّتِي لَيست أقوالا هِيَ الْحُدُود والتعزيز وَإِنَّمَا قسمنا الْأَفْعَال إِلَى أَقْوَال وَإِلَى غير أَقْوَال لِأَن الْفِعْل إِذا أطلق أَو جعل فِي مُقَابلَة التّرْك أَفَادَ كل مَا يَفْعَله الْفَاعِل من قَول وَغير قَول وَإِذا جعل فِي مُقَابلَة الْفِعْل قَول لم يدْخل القَوْل تَحت الْفِعْل(2/417)
الْكَلَام فِي النَّاسِخ والمنسوخ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي حَقِيقَة النَّاسِخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قد حد أَصْحَابنَا الطَّرِيق النَّاسِخ بِأَنَّهُ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ وَقُلْنَا يلْزم على هَذَا أَن يكون الْعَجز المزيل لمثل الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا على الْمُكَلف نَاسِخا لِأَنَّهُ قد دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ فان قيل إِن الدَّال على أَن مثل الحكم غير ثَابت هُوَ دَلِيل الْعقل الدَّال على أَنه لَا تَكْلِيف مَعَ الْعَجز وَهَذَا الدَّلِيل مُتَقَدم على الدَّلِيل الدَّال على وجوب الْعِبَادَة غير متراخ عَنهُ قُلْنَا هَذَا يُوجب أَن لَا يُوصف فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضد مَا أمرنَا بِهِ بِأَنَّهُ دَلِيل مَا نسخ عَنَّا الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون نَاسِخا عَنَّا لأجل مَا تقدم من الدَّلِيل على أَنا إِذا علمنَا الْوَجْه الَّذِي أوقع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله عَلَيْهِ كَانَ حكمنَا فِيهِ حكمه من وجوب أَو نفل أَو إِبَاحَة وَقد قَالَ أَصْحَابنَا بِأَن فعله يكون دَلِيلا نَاسِخا عَنَّا الْعِبَادَة وَإِن كَانَ دَلِيل اتباعنا أَيَّاهُ فِيهِ مُتَقَدما فَكَذَلِك يلْزم أَن يُقَال فِي الْعَجز الطاريء على الْمُكَلف وعَلى أَن الدَّلِيل الْعقلِيّ الدَّال على أَن الْعِبَادَة ترْتَفع بِالْعَجزِ وَهُوَ كالدليل الْعقلِيّ الدَّال على وجوب الْمصير إِلَى قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَمَا لم يمْنَع أَن يكون قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ النَّاسِخ إِذا ورد بِرَفْع الْعِبَادَة فَكَذَلِك لَا يمْتَنع أَن يكون الْعَجز هُوَ النَّاسِخ وَإِن كُنَّا علمنَا بِالْعقلِ أَن الْعَجز ترْتَفع مَعَه الْعِبَادَة(2/418)
فان قيل قَول الله عز وَجل {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَوله {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} يجْرِي مجْرى أَن يَأْمُرنَا بِعبَادة عبَادَة ويشرطها بالاستطاعة وَلَو فعل ذَلِك لم يكن وجود الْعَجز نسخا لِأَنَّهُ قد علق الْعِبَادَة بِشَرْط مَعْلُوم مفصل وَالْخطاب الْمُقَيد بِهَذَا الشَّرْط غير مُتَأَخّر فَلم يكن نسخا كتعليق الْعِبَادَة بغاية مفصلة مثل قَوْله {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} انه لَا يكون وجود اللَّيْل نَاسِخا وَلَا قَوْله {إِلَى اللَّيْل} نَاسِخا للصَّوْم فِي اللَّيْل قيل أَلَيْسَ لَو لم يقل الله عز وَجل {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} وَلَا قَالَ {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} لَكَانَ وجود الْعَجز دَالا على أَن مثل حكم الْعِبَادَة غير ثَابت فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا يكون ذَلِك نَاسِخا لِأَن النّسخ لَا يثبت بعد انْقِطَاع الْوَحْي وَالْعجز قد يطْرَأ على الْمُكَلّفين بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد وجد الْحَد فِي هَذَا الْموضع والمحدود لَيْسَ بحاصل وَلَا شُبْهَة فِي أَن الْعَجز وَالْمَوْت قد طرءا على بعض الْمُكَلّفين قبل نزُول هَاتين الْآيَتَيْنِ فَزَالَ مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَلم يكن ذَلِك نَاسِخا وَقد قُلْنَا فِي الْكتاب إِنَّه يلْزم على الْحَد الْمَذْكُور أَن تكون الْأمة إِذا اخْتلفت فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وسوغت للعامي الْأَخْذ بايهما شَاءَ وأجازت للمجتهد أَن يَقُول بِأَيِّهِمَا شَاءَ إِذا أدّى اجْتِهَاده إِلَيْهِ أَو قَالَت إِن أَخذ بالْخَطَأ مِنْهُمَا لم يكن ملوما على قَول من قَالَ إِن الْحق فِي وَاحِد ثمَّ اجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ فَلم يسع للعامي الْأَخْذ بِمَا كَانَ يسوغ لَهُ الْأَخْذ بِهِ وَهُوَ القَوْل الآخر وَلَا كَانَ للمجتهد أَن يصير إِلَيْهِ ان يكون إِجْمَاعهم نَاسِخا لِأَنَّهُ دَال على أَن مثل الثَّابِت بنصهم غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ
إِن قيل أهل الِاجْتِهَاد من الْأمة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فانها لم تنص على جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا للعامي وللمجتهد قيل كَيفَ لم تنص على ذَلِك(2/419)
وَقد صرحت بِهِ فِي كتبهَا واستدلت عَلَيْهِ فان قيل لَيْسَ مَعكُمْ أَن كل وَاحِد من أهل الِاجْتِهَاد قد قَالَ بذلك نصا وَأَنه لم ينص عَلَيْهِ بَعضهم وَلم يُنكره الْبَاقُونَ قيل قد صَار الحكم ثَابتا بِالنَّصِّ من بَعضهم مَعَ علم البَاقِينَ وَذَلِكَ لَا يمْنَع من كَونه ثَابتا بِالنَّصِّ وَإِن كَانَ ثَابتا مَعَ غَيره ثمَّ يُقَال للسَّائِل الْيَسْ لَو نَص كل وَاحِد من الْأمة على جَوَاز تَقْلِيد الْعَاميّ لكل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ ثمَّ أَجمعُوا على أَحدهمَا فَحرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر لم يكن ذَاك نسخا لِأَن النّسخ لَا يكون بعد انْقِطَاع الْوَحْي فَبَطل أَن يقْتَصر فِي الْحَد على مَا ذكر لِأَنَّهُ لَو اقْتصر عَلَيْهِ لوَجَبَ لَو وجد أَن يكون الْمَحْدُود قد وجد كَمَا أَن من حد الْجَهْل بِأَنَّهُ اعْتِقَاد الشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ وفرضنا أَنه لَا وجود للْجَهْل فانه يلْزمه لَو وجد مَا هُوَ اعْتِقَاد الشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ أَن يكون قد وجد الْجَهْل وَلَو قَالَ لَا يكون الْجَهْل مَوْجُودا وَإِن وجد الِاعْتِقَاد للشَّيْء لَا على مَا هُوَ بِهِ لزمَه أَن لَا يكون هَذَا حد للْجَهْل فَكَذَلِك إِذا قَالَ الدَّلِيل النَّاسِخ هُوَ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ فانه وَإِن لم تنص الامة على جَوَاز تَقْلِيد الْعَاميّ لكل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ يلْزمه لَو نصت على ذَلِك ثمَّ أَجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ فَحرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر أَن يكون إجماعها نَاسِخا فان لم يكن نَاسِخا فقد فسد الْحَد
فان قيل أَنْتُم اعترضتم الْحَد باعتراض غير مُقَدّر وَمَا تذكرونه الْآن هُوَ مُقَدّر فَهُوَ غير مَا ذكرتموه فِي الْكتاب قيل إِنَّمَا اعترضنا باخْتلَاف الامة على قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة وتسويغهم بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا وَلم نقل إِن ذَلِك مُحَقّق أَو مُقَدّر
فَإِن قيل المجتهدون من الامة وَإِن قَالُوا يجوز للعامي الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ فان قَوْلهم لَا يُسمى نصا فِي الْعرف بل قَوْلنَا نَص فِي عرف الْفُقَهَاء يَقع على نَص الله عز وَجل وَنَصّ رَسُوله فقولنا فِي الْحَد إِن الدَّلِيل النَّاسِخ هُوَ مَا دلّ على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يتَنَاوَل نَص الامة لِأَنَّهُ لَا(2/420)
يُسمى نصا فِي الْعرف قيل لَيْسَ كَذَلِك لِأَن الْفُقَهَاء يَقُولُونَ قد نصت الْأمة على كَذَا وَكَذَا كَمَا يَقُولُونَ نَص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كَذَا وَكَذَا وَإِن كَانُوا لَا يَتَعَارَفُونَ من إِطْلَاق اسْم النَّص على نَص الْأمة فَأولى أَن لَا يتعارفوا من إِطْلَاقه نَص مُوسَى وَعِيسَى فَيجب أَن لَا يتَنَاوَل الْحَد الْمَذْكُور مَا دلّ على نسخ الشَّرَائِع لِأَن الْأمة إِذا أطلقت اسْم النَّص لَا تَعْنِي بِهِ نَص غير النَّبِي من الْأَنْبِيَاء وَمَعْلُوم ان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع عبَادَة لبَعض الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين يكون نسخا وَلَا يلْزمنَا مثل ذَلِك على مَا حددنا النَّاسِخ بقولنَا إِنَّه قَول صادر عَن الله أَو عَن رَسُوله لأَنا لم نقصر النَّص على كَلَام نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون كَلَام غَيره
فان قَالُوا الامة إِنَّمَا سوغت للعامي أَن يقبل مِمَّن يفتيه بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ فاذا أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ لم يجد الْعَاميّ من يفتيه بالْقَوْل الآخر فَيُقَال قد حرم عَلَيْهِ الْأَخْذ بِهِ قيل لَهُم قد يجد من يفتيه بِأَن يصير بعض الْمُجْتَهدين إِلَى القَوْل الآخر بعد إِجْمَاعهم وَمن حد الدَّلِيل النَّاسِخ بِمَا ذَكرْنَاهُ يحرم الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر وَلَا يُجِيز التَّقْلِيد فِيهِ وَأَيْضًا فانه يحرم على الْمُجْتَهد بعد الْإِجْمَاع على أحد الْقَوْلَيْنِ أَن يصير إِلَى القَوْل الآخر وَيكون مأثوما بَعْدَمَا كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد سوغوا لَهُ ذَلِك أَو قَالُوا لَا تكون مأثوما فقد حصل معنى النّسخ فِي الْمُجْتَهد وَأَيْضًا فَلَو أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ إِلَّا مُجْتَهد وَاحِد وَأفْتى الْعَاميّ بقوله ثمَّ وَافق من عداهُ على قَوْلهم قبل أَن يعْمل الْعَاميّ بذلك ثمَّ عرف مُوَافَقَته لَهُم فانه لَا يجوز لَهُ الْعَمَل على ذَلِك بعد مَا جَازَ لَهُ الْعَمَل عَلَيْهِ فقد صَار اتِّفَاقهم دَالا على أَن مثل الحكم الثَّابِت بنصهم غير ثَابت
فان قيل الامة إِذا اخْتلفت على قَوْلَيْنِ فانما سوغت للعامي وللمجتهد الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ بِشَرْط أَن لَا يتَّفق على أَحدهمَا وَهَذَا شَرط مفصل فوجوده لَا يكون نَاسِخا وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الله سُبْحَانَهُ {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا}(2/421)
لِأَن السَّبِيل هَهُنَا مُجمل غير مفصل فَمَا ورد بتفصيله يكون نَاسِخا لإمساك فِي الْبيُوت وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخذوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا قيل يَنْبَغِي أَن يَقع الِانْفِصَال بِمَا هُوَ مَذْكُور فِي الْحَد وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه من تَفْصِيل الشَّرْط لَيْسَ بمذكور فِي حد الدَّلِيل النَّاسِخ على أَن مَا ذكرتموه من الْحَد يَقْتَضِي أَن الْأمة لَو اخْتلفت فسوغت للعامي الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَلم يشرط مَا ذكرتموه فِي الْحَال فَلَمَّا اجمعت على أحد الْقَوْلَيْنِ حرمت الْأَخْذ بِالْآخرِ أَن يكون نَاسِخا على أَنه لَيْسَ مَعكُمْ أَن الْأمة لما اخْتلفت فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ سوغت الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على هَذَا الشَّرْط وَكَيف يمكنكم ادِّعَاء ذَلِك والمخالف يَقُول إِن الْأمة مَا منعت من الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ وَإِن اتّفقت على أَحدهمَا وَكَيف يمكنكم على أصولكم أَن تَقولُوا إِن الْأمة قد قَالَت ذَلِك حِين اخْتلفت وَأَنْتُم تجوزون أَن يَأْمر الله بتكرار الْعِبَادَة وَهُوَ يُرِيد نسخهَا فَلَا يبين ذَلِك فِي الْحَال لَا مُجملا وَلَا مفصلا ويبينه عِنْد وَقت النّسخ فَمَا تنكرون ان تكون الْأمة لم تبين تَحْرِيم الْأَخْذ بالْقَوْل الَّذِي أَجمعت على خِلَافه إِلَّا حِين أَجمعت على خِلَافه فَلم تكن إباحتها الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ مَشْرُوطَة
فان قَالُوا نَحن وَإِن جَوَّزنَا ذَلِك فانا نجوز أَن تكون شَرْطِيَّة عِنْد اختلافها قيل إِذا جوزتم كلا الْأَمريْنِ فجوزوا كَون اتِّفَاقهمَا نَاسِخا لجَوَاز الْأَخْذ بالْقَوْل الآخر لأنكم لَا تأمنون أَن يَكُونُوا مَا شرطُوا إِبَاحَة الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من الْقَوْلَيْنِ عِنْد اخْتلَافهمْ بِالشّرطِ الَّذِي ذكرتموه وَقد حددنا نَحن الطَّرِيق النَّاسِخ بِأَنَّهُ قَول صادر عَن الله أَو قَول أَو فعل أَو ترك منقولين عَن رَسُوله يُفِيد إِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بِنَصّ من الله أَو بِنَصّ أَو فعل منقولين عَن رَسُوله مَعَ تراخيه عَنهُ على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا
وَلقَائِل أَن يَقُول قَوْلكُم يُفِيد إِزَالَة مثل الحكم يَقْتَضِي أَن مثل الحكم(2/422)
كَانَ ثَابتا فأزيل لِأَنَّهُ لَا يُقَال أزلت هَذَا الشَّيْء إِلَّا وَقد كَانَ ذَلِك الشَّيْء ثَابتا وَإِزَالَة الحكم بعد ثُبُوته هُوَ بداء وَلَيْسَ هُوَ نسخا قيل قد يُقَال فِي الشَّيْء إِنَّه أزيل إِذا كَانَ ثَابتا فازيل وَقد يُقَال قد أزيل الشَّيْء بِكَذَا إِذا كَانَ فلولا ذَلِك المزيل لثبت ذَلِك الشَّيْء سِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك الشَّيْء يتَوَهَّم ثُبُوته ويتوقع فانه لَا يمْتَنع اُحْدُ إِذا كَانَ يتَوَقَّع اسْتِمْرَار توجهه إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ نهي عَن ذَلِك أَن يَقُول قد أزيل عَنَّا التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَإِنَّمَا يُرَاد إِزَالَة مَا يسْتَأْنف وَيصِح إِطْلَاق ذَلِك فِيهِ لما بَيناهُ وَقد دللنا فِي الْحَد على أَنا أردنَا هَذَا الْوَجْه بقولنَا مُفِيد لإِزَالَة مثل الحكم الثَّابِت بِنَصّ أَو فعل لِأَنَّهُ لَو كَانَ الحكم المزال قد كَانَ ثَبت ثمَّ أزيل لَكَانَ هُوَ حكم النَّص لَا مثله ودللنا على أَنه إِنَّمَا أزاله بِأَن دلّ على أَنه غير ثَابت وَبِأَنَّهُ منع من ثُبُوته بقولنَا على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا فَبَان بذلك أَنه مُفِيد لإِزَالَة الحكم على هَذَا الْوَجْه وَلنَا أَن نعتاض من قَوْلنَا مُفِيد لإِزَالَة مثل الحكم بقولنَا يُفِيد أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ أَو بِالْفِعْلِ غير ثَابت على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا وكل وَاحِد من هذَيْن الْكَلَامَيْنِ يتَرَجَّح على الآخر من وَجه أما قَوْلنَا يُفِيد أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ أَو بِالْفِعْلِ غير ثَابت فانه يتَرَجَّح على الْعبارَة الثَّانِيَة لِأَن فِيهَا تَصْرِيح بالإزالة وَهِي معنى النّسخ فِي الأَصْل وَالْحَد الْمُفِيد من جِهَة الصَّرِيح لِمَعْنى الْمَحْدُود وَفَائِدَته أولى
وَاعْلَم أَن الْغَرَض بِهَذَا الْحَد هُوَ حصر مَا وَقع الِاصْطِلَاح على تَسْمِيَته طَرِيقا نَاسِخا وَهُوَ بتفسير الِاسْم أشبه مِنْهُ بِالْحَدِّ فقولنا قَول أَو فعل منقولين عَن رَسُول الله قد حصرنا بِهِ مَا نقل عَنهُ من قَول أَو فعل وتناولهما قبل أَن ينقلا وَبَعْدَمَا نقلا فأشرنا بِهَذَا القَوْل إِلَى كل مَا وَقع الِاصْطِلَاح بعد وَفَاته على أَنه طَرِيق نَاسخ وَلَك أَن تعتاض من ذَلِك فَنَقُول قَول أَو فعل مَعْلُوم ورودهما من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مظنون وَلَيْسَ يلْزم على ذَلِك أَن يُقَال النّسخ يَقع بِالتّرْكِ ايضا وَذَلِكَ لِأَن الله أَو رَسُوله إِذا أوجبا صَلَاة متكررة فان نسخهَا(2/423)
بعد أَن فعلهَا فَلَا بُد من أَن يفعل فعلا يدل بِهِ عَن الصَّلَاة إِمَّا بِفِعْلِهِ فِي وَقت الصَّلَاة أَو بِفِعْلِهِ قبل الْوَقْت ويستديمه إِلَى دُخُول الْوَقْت وَخُرُوجه نَحْو أَن يستلقي وَإِذا فعل ذَلِك كَانَ النَّاسِخ هُوَ مَا فعله أَو مَا تجدّد فعله فِي الْوَقْت فالناسخ هُوَ الْفِعْل فِي الْحَالين وايضا فالترك يُسمى فعلا فانك تَقول بئس مَا فعل فلَان فَيُقَال لَك مَا فعل فَنَقُول لم يخرج من دَار غَيره بَعْدَمَا نَهَاهُ مَالِكهَا عَن الْكَوْن فِيهَا وَاسم الْفِعْل يَقع على التّرْك فِي الْعرف وَلَك أَن تزيد فِي الْحَد التّرْك فَتَقول قَول أَو فعل أَو ترك وَمَعْلُوم وُرُوده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مظنون يُفِيد أَن مثل الحكم الثَّابِت بِمثل هَذِه الامور غير ثَابت فِي الْمُسْتَقْبل على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ وَأما الْمَنْسُوخ فَهُوَ الحكم المزال إِذا اخْتصَّ بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَلَك أَن تَقول هُوَ الحكم الَّذِي تنَاول الطَّرِيق النَّاسِخ وَالطَّرِيق النَّاسِخ هُوَ الْمُخْتَص بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا أَو تَقول هُوَ الحكم الَّذِي اقْتضى الطَّرِيق النَّاسِخ أَنه غير ثَابت مَعَ أَنه مثل الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا وَأما حد النّسخ فَهُوَ إِزَالَة مثل الحكم الْمُخْتَص بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا أَو تَقول هُوَ تَبْيِين كَون مثل الحكم الثَّابِت غير ثَابت إِذا اخْتصَّ الحكم وَمثله بالشرائط الَّتِي ذَكرنَاهَا وَمن حد النّسخ بِأَنَّهُ إِزَالَة الحكم بعد استقراره فانه إِن أَرَادَ بذلك اسْتِقْرَار نفس الحكم فَذَلِك بداء وَإِن أَرَادَ اسْتِقْرَار جنس الحكم فَذَلِك يَقْتَضِي كَون إِزَالَة الْعِبَادَة بِالْعَجزِ أَو إِزَالَة حكم الْعقل بِحكم الشَّرْع نسخا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على جَوَاز نسخ الشَّرَائِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَنه لَا يجوز أَن يحمل جَوَاز بَيَان انْقِطَاع الْعِبَادَة بالنسخ على جَوَاز تَأْخِير بَيَان وَقت انقطاعهما بِالْمَوْتِ وَالْعجز لأَنا قد أشعرنا بِجَوَاز انقطاعها بِالْمَوْتِ وَالْعجز فِي كل وَقت الا ترى أَن الْإِنْسَان قبل التَّكْلِيف يجوز أَن يعجز وَيَمُوت(2/424)
فِي كل وَقت ويمنعه الْمَوَانِع وَإِذا ورد عَلَيْهِ الْأَمر يفعل الْعِبَادَة على التّكْرَار لم يجوز دوَام حَيَاته وَقدرته بل يجوز ارتفاعها فِي كل وَقت للْعَادَة الَّتِي جرت فِي النَّاس وَإِذا اقْترن بذلك أَن يعْتَقد أَنه لَا يجوز أَن يعرف وَقت مَوته لِأَن ذَلِك إغراء بِالْمَعَاصِي تَأَكد تجويزه للْمَوْت وَالْعجز فِي كل وَقت وَإِذا اقْترن بذلك قَول الله عز وَجل {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} يُؤَكد هَذَا التجويز فَبَان أَن الْمُكَلف قد أشعر إشعارا يجوز مَعَه أَن يتَعَذَّر عَلَيْهِ الْفِعْل فِي كل وَقت إِمَّا بِمَوْت أَو بِغَيْرِهِ فنظير ذَلِك أَن يُؤمر بِالْعبَادَة وَيُقَال لَهُ جوز وُرُود النّسخ عَلَيْهَا فِي الْمُسْتَقْبل أَو يُقَال لَهُ جوز فِي كل مَا يتعبدك بِهِ أَن يتَغَيَّر كَونه مصلحَة فِي وَقت من الْأَوْقَات الْمُسْتَقْبلَة
فان قيل فَيجب إِذا جرت الْعَادة بنسخ الْعِبَادَة الْمقيدَة بالتأييد أَو بالتكرار أَن يكون ذَلِك إشعارا بِجَوَاز النّسخ فَيجوز مَعَه أَن تنسخ الْعِبَادَة وَإِن لم يتَبَيَّن ذَلِك عِنْد وُرُود الْأَمر بهَا قيل الْعَادة إِنَّمَا تجْرِي عَن أول الْأَمر فَأول مَا يرد بالعبادات مُقَيّدا بالتكرار يَنْبَغِي أَن لَا يحسن نسخهَا إِلَّا أَن يشْعر بذلك عِنْد الْأَمر لِأَنَّهُ مَا تقدم هَذَا الْأَمر عَادَة فِي نسخ عبَادَة من دون إِشْعَار وَكَذَلِكَ فِي أَمر آخر بِعبَادة أُخْرَى وَفِي أَمر آخر وَإِذا توالى التَّعَبُّد مَعَ الْإِشْعَار صَارَت الْعَادة جَارِيَة بتأخر بَيَان النّسخ إِذا تقدمه الْإِشْعَار فَلَا يجوز من دون إِشْعَار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا كَانَ قَول الْقَائِل مَا آخذ مِنْك ثوبا آتِيك بِمَا هُوَ خير مِنْهُ أَو قَالَ بِشَيْء هُوَ خير مِنْهُ لَا يَقْتَضِي أَنه يَأْتِيهِ بِثَوْب آخر بل يجوز أَن يَأْتِيهِ بِثَوْب آخر وَيجوز أَن يَأْتِيهِ بِغَيْر ثوب وَهُوَ خير من الثَّوْب الَّذِي أَخذه لِأَن(2/425)
قَوْله مَا هَهُنَا بِمَعْنى شَيْء وَقَوْلنَا شَيْء يَقع على ثوب وعَلى غَيره فَكَذَلِك إِذا قَالَ أَتَيْتُك بِخَير مِنْهُ وَلَا يَقْتَضِي أَن يَأْتِيهِ بِثَوْب لَا محَالة لِأَن قَوْلنَا خير يَقع على كل خير ثوبا كَانَ أَو غير ثوب فَهُوَ عَام فيهمَا كَمَا أَن قَوْلنَا شَيْء وَقَوْلنَا مَا يعم الثَّوْب وَغَيره فَكَمَا لَا يقتض الْكَلَام الأول أَنه يَأْتِيهِ بِثَوْب لَا محَالة فَكَذَلِك فِي الْكَلَام الثَّانِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الزِّيَادَة على النَّص هَل هِيَ نسخ أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قد قُلْنَا فِي هَذَا الْبَاب أَن قَاضِي الْقُضَاة قَالَ لَو خير الله بَين شَيْئَيْنِ واجبين ثمَّ أثبت لَهما ثَالِثا لَكَانَ ذَلِك نسخا لقبح تَركهمَا جَمِيعًا وَقُلْنَا نَحن إِن هَذَا رَافع لحكم عَقْلِي فَلَا يجوز أَن يُسمى نسخا
وَلقَائِل أَن يَقُول قبح الْإِخْلَال بهما لَيْسَ بِحكم عَقْلِي وَإِنَّمَا علم بِالشَّرْعِ وَهُوَ إِيجَابه عز وَجل فعل الشَّيْئَيْنِ على الْبَدَل فَوَجَبَ أَن يكون إِيجَاب الثَّالِث نَاسِخا لقبح تَركهمَا وَالْجَوَاب أَن قبح تَركهمَا والإخلال بهما يتبع إِيجَاب الله الْفِعْلَيْنِ على الْبَدَل وَيتبع أَنه مَا كَانَ يجب فعل ثَالِث مَعَهُمَا أَلا ترى أَنا لَو لم نعلم إِلَّا وجوب الشَّيْئَيْنِ على الْبَدَل وَلم نعلم أَن الثَّالِث لَا يجب بل جَوَّزنَا وُجُوبه لم نعلم قبح تَركهمَا لتجويزنا وجوب ثَالِث إِذا تركناهما إِلَيْهِ لم يقبح منا تَركهمَا كَمَا أَنا لَو علمنَا أَن الثَّالِث لَا يجب وَلم نعلم وجوب الْفِعْلَيْنِ لم نعلم قبح تَركهمَا وَمَعْلُوم أَن إِيجَاب الْفِعْلَيْنِ على الْبَدَل يَقْتَضِي أَن للإخلال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَأْثِيرا فِي اسْتِحْقَاق الذَّم وَلَا يتَعَرَّض للثَّالِث بايجاب وَلَا بِنَفْي إِيجَاب وَإِنَّمَا نعلم أَنه غير وَاجِب بَقَاء على حكم الْعقل فاذا كَانَ قبح تَركهمَا يتَفَرَّع على أَمر شَرْعِي وعَلى أَمر عَقْلِي لم يتَخَلَّص كَونه مَعْلُوما بِالشَّرْعِ فَلم يَصح القَوْل بِأَن رَفعه نسخ(2/426)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب النُّقْصَان من الْعِبَادَة هَل هُوَ نسخ لغير مَا نقص مِنْهَا أم لَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اعْلَم أَن الصَّلَاة لما كَانَت وَاجِبَة إِلَى بَيت الْمُقَدّس كَانَت وَاجِبَة فِي كل مَكَان على الْبَدَل وَكَانَ يجب على الْمُصَلِّي أَن يتَوَجَّه فِي الْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس فالتوجه فِي الْمَكَان إِلَى بَيت الْمُقَدّس هُوَ هَيْئَة من هيآت الصَّلَاة فِي الْمَكَان فنسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِنَّمَا يتَنَاوَل هَذِه الْهَيْئَة فَلم يكن نسخا للصَّلَاة فِي الْمَكَان كَمَا أَنا لَو أمرنَا بِصَوْم يَوْم عَاشُورَاء على صفة وَهِي أَن نَكُون فِي ذَلِك الْيَوْم متوجهين إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ نسخ عَنَّا التَّوَجُّه فَقيل لَا تتوجهوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَإِن ذَلِك لَا يكون نسخا للصَّوْم فِي ذَلِك الْيَوْم على أَن النّسخ للتوجه ورد على وَجه فِيهِ تثبيت لجملة الصَّلَاة لِأَن الْمَرْوِيّ فِي ذَلِك هُوَ أَلا إِن الْقبْلَة قد حولت وَفِي ذَلِك تثبيت للصَّلَاة وَكَذَلِكَ مَا فِي القرأن من ذَلِك وَهُوَ قَوْله {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} وَهَذَا هُوَ النّسخ للتوجه إِلَى بَيت الْمُقَدّس لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي وجوب التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة وَلَا يَصح الْجمع بَين التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَإِلَى الْكَعْبَة مَعًا فوجوب أَحدهمَا فِي كل صَلَاة يُصليهَا يَنْفِي وجوب الآخر فَأَما صَوْم عَاشُورَاء فانه مَا وَجب إِلَّا فِي ذَلِك الْيَوْم فنظيره أَن لَا تجب الصَّلَاة إِلَّا فِي مَكَان مَخْصُوص فَلَو قيل لَا تصلوا فِي ذَلِك الْمَكَان لَكَانَ قد انْتَفَت جملَة الصَّلَاة لِأَنَّهَا لم تجب إِلَّا فِي ذَلِك الْمَكَان أَلا ترى أَنا نحتاج فِي وُجُوبهَا فِي مَكَان آخر إِلَى دَلِيل آخر وَكَذَلِكَ إِذا قيل لنا صُومُوا يَوْم عَاشُورَاء ثمَّ قيل لنا بعد حِين لَا تَصُومُوا فِي يَوْم عَاشُورَاء فان ذَلِك يَنْفِي جملَة الصَّوْم لِأَنَّهُ لم يجب فِي زمَان آخر وَإِنَّمَا وَجب فِي هَذَا الزَّمَان فَقَط فنفيه فِيهِ نفي لجملته
فان قيل كَون ذَلِك نسخا لجملة الصَّلَاة لَا يمْنَع مِمَّا نريده وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ يجوز صَوْم عَاشُورَاء بنية بعد الْفجْر جَازَ فِي الصَّوْم الْوَاجِب فِيمَا بعد وَهُوَ صَوْم شهر رَمَضَان أَن يجب بنية بعد الْفجْر لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن الشَّرْع قد صحّح(2/427)
الصَّوْم بنية بعد الْفجْر فاذا لم تغير الشَّرِيعَة ذَلِك وَجب أَن يبْقى على مَا كَانَ عَلَيْهِ قيل إِنَّمَا كَانَ يجب ذَلِك لَو ورد فِي ذَلِك لفظ عُمُوم نَحْو أَن يُقَال كل صَوْم شَرْعِي فانه يَصح بنية بعد الْفجْر وَقبل الزَّوَال فَأَما إِذا قيل هَذَا الصَّوْم الْوَاقِع فِي صَوْم عَاشُورَاء يَصح بنية بعد الْفجْر فانه لَا يجب مثله فِي صَوْم زمَان آخر لِأَن ذَلِك عبَادَة أُخْرَى وَلَا يجب أَن تتفق الْعِبَادَات فِي شَرَائِط صِحَّتهَا بل ذَلِك مَوْقُوف على دَلِيل زَائِد على مَا دلّ على أَن النِّيَّة بعد الْفجْر لَا تمنع من صِحَة صَوْم عَاشُورَاء
فان قَالُوا فَمَا يؤمنكم أَن يكون مَا دلّ على صِحَة صَوْم عَاشُورَاء بنية بعد الْفجْر هُوَ لفظ عُمُوم يَشْمَل كل صَوْم شَرْعِي فِي الْحَال وَفِيمَا يتعبد بِهِ فِيمَا بعد قيل إِذا كَانَ ذَلِك غير مَأْمُون وَكَذَلِكَ خِلَافه وَجب على من أثبت أَحدهمَا ليدل بِهِ على أَن النِّيَّة بعد الْفجْر يَصح بهَا صَوْم شهر رَمَضَان أَن يدل على مَا يبْنى ذَلِك عَلَيْهِ وَمَتى لم يبين ذَلِك لم يَصح دَلِيله وَيَكْفِي من قصد الطعْن عِلّة أَن يشكله فِيمَا بنى عَلَيْهِ دَلِيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي العمومين إِذا تَعَارضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا تعَارض العمومان من وَجه دون وَجه بِأَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا عَاما فِيمَا الآخر خَاص فِيهِ فقد ذكرنَا فِي الْكتاب أَنه إِن علم تقدم أَحدهمَا على صَاحبه وَكَانَا معلومين أَو مظنونين أَو كَانَ الْمُتَقَدّم مِنْهُم مظنونا والمتأخر مَعْلُوما فانه يَجِيء على قَول من جعل الْعَام الْمُتَأَخر نَاسِخا للخاص الْمُتَقَدّم أَن يكون الْمُتَأَخر من هذَيْن العمومين نَاسِخا للمتقدم لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِنْدهم أَن الْعَام مُتَأَخّر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم فِيمَا لم يثبت كَونه أَعم من اللَّفْظ الْمُتَقَدّم أولى بِأَن يكون نَاسِخا وَهَذَا صَحِيح لِأَن هَذَا الْعُمُوم الْمُتَأَخر إِن كَانَ أَعم من الْمُتَقَدّم فقد أطْلقُوا القَوْل بِأَن الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم وَلم يبنوا الْعَام الْمُتَأَخر على الْخَاص الْمُتَقَدّم وَإِن كَانَ هَذَا الْعُمُوم الْمُتَأَخر هُوَ أخص من الْعَام الْمُتَقَدّم فَمن قَوْلهم إِنَّه يخرج ماتناوله من الْعُمُوم الْمُتَقَدّم على جِهَة النّسخ لَا على جِهَة التَّخْصِيص لِأَن بَيَان التَّخْصِيص لَا يتَأَخَّر عِنْدهم أَو عِنْد(2/428)
أَكْثَرهم وَلَيْسَ هَهُنَا مَا يَقْتَضِي أَن يحكم بِأَنَّهُ قد كَانَ قَارن الْعَام مَا دلّ على تَخْصِيصه فَلذَلِك جعلُوا الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم
ثمَّ قُلْنَا وَإِن كَانَ الْمُتَقَدّم مَعْلُوما والمتأخر مظنونا لم يجز عِنْدهم أَن ينْسَخ الثَّانِي الأول وَوَجَب الرُّجُوع فيهمَا إِلَى التَّرْجِيح لِأَن المظنون لَا ينْسَخ الْمَعْلُوم وَإِذا لم يكن الثَّانِي مِنْهُمَا نَاسِخا وَأمكن اسْتِعْمَاله مَعَ التَّرْجِيح وَجب الرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح وَهَذَا صَحِيح وَذَلِكَ أَنه لَا يُمكن بِمُجَرَّد هَذَا التَّعَارُض النّسخ لِأَن النّسخ إِنَّمَا يكون بالشَّيْء الْمُتَأَخر والمتأخر من هذَيْن العمومين مظنون والمتقدم مِنْهَا مَعْلُوم والمظنون لَا ينْسَخ الْمَعْلُوم وَلَا يُمكن أَيْضا لمُجَرّد هَذَا التَّعَارُض أَن نخرج من أَحدهمَا مَا تنَاوله الآخر لأجل أَن الآخر أخص لِأَنَّهُ لَيْسَ يتَخَلَّص كَون أَحدهمَا أخص من الآخر فقد بَان أَنه لَا يُمكن بِمُجَرَّد هَذَا التَّعَارُض لَا نسخ وَلَا تَخْصِيص فَوَجَبَ التَّرْجِيح فان رجحنا الْمَعْلُوم مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ مَعْلُوما وَلم يثبت فِي المظنون وَجه تَرْجِيح استعملنا الْمَعْلُوم وأخرجنا مَا تنَاوله من المظنون لَا لمُجَرّد التَّعَارُض وَأَن لمعلوم أخص بل لأجل التَّرْجِيح وَإِن رجحنا المظنون مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ مَعْلُوما وَلم يثبت فِي المظنون وَجه تَرْجِيح استعملنا الْمَعْلُوم وأخرجنا مَا تنَاوله من المظنون لَا لمُجَرّد التَّعَارُض وَأَن الْمَعْلُوم أخص بل لأجل التَّرْجِيح وَإِن رجحنا المظنون لِأَن حكمه حظر أَو إِيجَاب أخرجنَا مَا تنَاوله من الْمَعْلُوم لأجل التَّرْجِيح أَيْضا واستدللنا بذلك على أَنه قد كَانَ قَارب الْعُمُوم الْمُتَقَدّم مَا دلّ على تَخْصِيصه وَإِخْرَاج ذَلِك الْقدر مِنْهُ لِأَنَّهُ إِن لم يُمكن كَذَلِك كَانَ الثَّانِي نَاسِخا وَلَا يجوز نسخ الْمَعْلُوم بالمظنون
ثمَّ قُلْنَا فَأَما من يَقُول إِن الْعَام الْمُتَأَخر يبْنى على الْخَاص الْمُتَقَدّم وَأَن الْخَاص الْمُتَأَخر يخرج بعض مَا دخل تَحت الْعَام الْمُتَقَدّم فَالَّذِي يَجِيء على مذْهبه أَن لَا يفرق بَين أَن يَكُونَا معلومين أَو مظنونين أَو أَحدهمَا مَعْلُوما وَالْآخر مظنونا فِي اسْتِعْمَال التَّرْجِيح وَترك النّسخ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يتَخَلَّص كَون الْمُتَأَخر أخص من الْمُتَقَدّم فَيخرج من الْمُتَقَدّم مَا دخل تَحت الْمُتَأَخر وَهَذَا صَحِيح لأَنا اردنا أَنه لَا يثبت عِنْدهم بِمُجَرَّد هَذَا التَّعَارُض إِخْرَاج مَا تنَاوله أَحدهمَا من الآخر لَا على جِهَة النّسخ وَلَا على جِهَة التَّخْصِيص وَالْبناء اما النّسخ فَلِأَن عِنْدهم أَن الْعَام الْمُتَأَخر لَا ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم بل يبْنى على(2/429)
الْخَاص الْمُتَقَدّم فَلَو كَانَ الْمُتَأَخر أَعم لم يجب فِيهِ النّسخ وَلَيْسَ يتَخَلَّص أَن أحد هذَيْن العمومين أخص من الآخر فَيُقَال إِن الْمُتَأَخر مِنْهَا أخص من الْمُتَقَدّم فَيخرج مَا تنَاوله من الْمُتَقَدّم إِمَّا بنسخ أَو بِأَن يدل على مُقَارنَة الْمُخَصّص لَهُ فَبَان أَن مُجَرّد هَذَا التَّعَارُض لَا يَقْتَضِي على قَوْلهم لَا نسخا وَلَا تَخْصِيصًا وَأَنه يجب الرُّجُوع إِلَى التَّرْجِيح فان رجحنا الْمَعْلُوم مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ مَعْلُوما أَو المظنون بِمَا يرجع إِلَى حكمه فَلَا بُد من أَن يخرج مَا تنَاوله من الآخر إِمَّا على جِهَة نسخ أَو تَخْصِيص وَلَيْسَ ينْقض ذَلِك قَوْلنَا إِنَّه يَجِيء على مَذْهَبهم أَن لَا ينسخوا وَلَا يخرجُوا من أَحدهمَا بعضه على جِهَة التَّخْصِيص لأَنا قُلْنَا لَا يجب ذَلِك لمُجَرّد التَّعَارُض قبل التَّرْجِيح وَلم نقل إِنَّهُم بعد التَّرْجِيح لَا يخرجُون من أحد العمومين بعض مَا تنَاوله بل قد دللنا بقوله إِنَّه يرجع إِلَى التراجيح على أَنه إِذا ترجح أَحدهمَا على الآخر فَحكم بِظَاهِرِهِ أَنه يخرج مَا تنَاوله من الْعُمُوم الآخر أَلا ترى أَنا إِذا رجحنا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا وَقُلْنَا لَا يُصليهَا عِنْد قيام الظهيرة فقد أخرجنَا الصَّلَاة الْمُقْتَضِيَة من مُطلق نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة فِي هَذَا الْوَقْت وَلَكِن لم نَفْعل ذَلِك لمُطلق التَّعَارُض فقد بَان أَن مَا حكمنَا بِهِ إِنَّمَا حكمنَا بِهِ على مُطلق التَّعَارُض قبل التَّرْجِيح لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوض على مُجَرّد التَّعَارُض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الدّلَالَة على صِحَة القَوْل بِالْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَول الله عز وَجل {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} خرج مخرج الْمَدْح وتمييز هَذِه الْأمة من سَائِر الامم فَلَا يجوز أَن يُرَاد بذلك أَنهم يأمرون بِبَعْض الْمَعْرُوف وَينْهَوْنَ عَن بعض الْمُنكر لِأَن كل أمة قد نهم عَن بعض الْمُنكر وَأمرت بِبَعْض الْمَعْرُوف وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد أَكثر مَا ينهون عَنهُ مُنكر لِأَن الْخِيَار من الْأُمَم السالفة الْأَكْثَر مِمَّا نهوا عَنهُ مُنكر وَلِأَن قَوْلنَا الْمُنكر إِمَّا أَن يكون لاستغراق(2/430)
الْمُنكر أَو للْجِنْس دون الِاسْتِغْرَاق وَلَيْسَ لَام الْجِنْس مَوْضُوعَة للْأَكْثَر وَلَا يجوز أَن يُرَاد بذلك الْوَصْف لَهُم بِأَنَّهُم فِيمَا مضى كَانُوا يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر لِأَن الْكَلَام مدح لَهُم فِي الْحَال فَلَا يجوز أَن يُفِيد تقدم كَونهم على خِصَال الْمَدْح وَلَا يُفِيد حصولهم الْآن على خِصَال الْمَدْح لِأَن الْإِنْسَان لَا يكون مُسْتَحقّا للمدح بِمَا فعله من قبل إِذا عدل عَنهُ إِلَى ضِدّه وخلافه حَتَّى يكون ناهيا عَن الْمُنكر ثمَّ يصير آمرا بالمنكرات فاذا ثَبت أَنهم ينهون عَن كل مُنكر فِي كل حَال إِلَّا مَا خرج بِدَلِيل فَلَو أَجمعُوا على خطأ لكانوا قد أَجمعُوا على مُنكر وَلَو أَجمعُوا عَلَيْهِ لكانوا غير ناهين عَنهُ
دَلِيل آخر قَول الله عز وَجل {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى} يَقْتَضِي اتِّبَاع سبيلهم على مَا بَيناهُ فِي الْكتاب فان قيل الاية تَقْتَضِي اتِّبَاع سبيلهم فِي الِاسْتِدْلَال على الحكم الَّذِي قَالُوا بِهِ بِدَلِيل وَلَا يَأْخُذُوا بِهِ بِغَيْر دَلِيل قيل كَذَلِك نقُول لأَنا إِذا أَخذنَا بذلك القَوْل كُنَّا قد أخذناه بِدَلِيل وَهُوَ إِجْمَاعهم وَقد دلّ الدَّلِيل على صِحَّته فَلَيْسَ فِي قَوْلنَا إِنَّه يجب علينا الرُّجُوع إِلَى قَوْلهم تَسْلِيم للخصم أَنا أَخذنَا بقَوْلهمْ بِلَا دَلِيل فَتكون الْآيَة حجَّة علينا
فان قيل يجب أَن يسْتَدلّ بِمَا استدلوا بِهِ يُعينهُ قيل لَا يجب ذَلِك لِأَن أهل كل عصر لَا يوجبون على الْمُكَلف الِاسْتِدْلَال على الحكم بِدَلِيل معِين إِذا أمكنه أَن يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِدَلِيل آخر فَلم يكن وجوب الِاسْتِدْلَال بدليلهم الْمعِين سَبِيلا لَهُم فَلم يدْخل تَحت الظَّاهِر
إِن قيل قَول الله عز وَجل {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يَقْتَضِي ظَاهره مُؤمنين مُعينين وَأَن نصير إِلَيْهِم لأَنهم قَالُوا على مَا قدرتموه فِي الْكتاب وَيَقْتَضِي ظَاهر الْآيَة ايضا أَن يَكُونُوا مُؤمنين على الْحَقِيقَة بِحَسب ظننا إِمَّا الْإِيمَان اللّغَوِيّ أَو الْعرفِيّ أَو الديني وَلَا سَبِيل لنا إِلَى الْعلم بذلك فَلَيْسَ لكم أَن تتركوا هَذَا الظَّاهِر بِأولى من أَن نَتْرُك الظَّاهِر الأول ونقول المُرَاد بذلك مُؤمنين موصوفين كَأَنَّهُ قَالَ وَيتبع غير سَبِيل من حَقّهَا أَن تكون سَبِيل(2/431)
الْمُؤمنِينَ قيل إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك تركْتُم الظَّاهِر من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنكُمْ تحملون الْكَلَام على التّكْرَار وَنحن نحمله على فَائِدَة محدودة وَذَلِكَ أَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ فِي الْجُمْلَة قد دخل فِي ترك مشاقة الرَّسُول فزجره عز وَجل عَن مشاقة الرَّسُول هُوَ زجر عَن اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ لأَنا قد علمنَا أَن مشاقته لَيست سَبِيل الْمُؤمنِينَ
وَالْآخر انكم إِذا حملتم الاية على مُؤمنين موصوفين احتجتم إِلَى إِضْمَار حَتَّى يكون تَقْدِير الْكَلَام وَيتبع سَبِيلا من حَقّهَا أَن تكون غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ أَو من حق الْمُؤمنِينَ أَن لَا يسلكوها وَإِذا حملنَا نَحن الْإِيمَان على الْإِيمَان اللّغَوِيّ كُنَّا تاركين للظَّاهِر من وَجه وَاحِد وَقَول الْخصم إِنَّكُم لَا تحملون الْآيَة على مُؤمنين على الْحَقِيقَة بل على مُؤمنين بِحَسب ظنكم لَا يَصح لأَنا إِذا حملنَا ذَلِك على التَّصْدِيق فَنحْن نعلم أَنه لَا يجوز أَن يكون أهل كل عصر على كثرتهم يخبرون أَنهم يُؤمنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَام وَلَيْسَ فيهم من يصدق بذلك أصلا أَو لَيْسَ فيهم من يصدق بذلك إِلَّا الْوَاحِد والاثنان بل نعلم أَن الْكثير مِنْهُم كَذَلِك ونظن أَن الْكل كَذَلِك
دَلِيل آخر قَول الله عز وَجل {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} فَاقْتضى هَذَا الشَّرْط أَنهم إِن لم يتنازعوا لَا يجب الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه وَلقَائِل أَن يَقُول إِن اراد الله بقوله {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء} أهل عصر وَاحِد فَلَيْسَ يَخْلُو إِذا لم يتنازعوا إِمَّا أَن يَكُونُوا لم يردوا إِلَى الله وَالرَّسُول فَلَا يجب اتباعهم وَلَا يكون قَوْلهم صَحِيحا وَإِمَّا أَن يَكُونُوا ردوا إِلَى الله وَالرَّسُول فَلَا يَصح أَن يبيحهم ترك الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه لِأَن ردهم الشَّيْء إِلَى الله وَرَسُوله هُوَ طلب حكمه فِي الْكتاب وَالسّنة فاذا طلبوه فيهمَا فوجدوه فيهمَا لم يَصح طلبه من بعد لِأَن طلب الْإِنْسَان لما هُوَ وَاجِد لَهُ محَال وَإِبَاحَة ترك الْمحَال عَبث وَإِن كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ أهل الْعَصْر الثَّانِي مَعَ أهل الْعَصْر الأول لم يَصح القَوْل بذلك لِأَن قَوْله فَإِن تنازعتم مُوَاجهَة لمن ترك الْقُرْآن وَهُوَ حَاضر فَعلمنَا أَن المُرَاد بذلك تنَازع(2/432)
بَعضهم مَعَ بعض وَأَيْضًا فقد بخالف أهل الْعَصْر الثَّانِي بعد انْقِرَاض الأول فَلَا يكون أهل العصرين متنازعين لِأَن التَّنَازُع بَين اثْنَيْنِ هُوَ أَن يُنَازع كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر وَلَيْسَ يُمكن أَن يُنَازع أهل الْعَصْر الأول لأهل الْعَصْر الثَّانِي إِن نازعوا أهل الْعَصْر الأول وَجب عَلَيْهِم الرُّجُوع إِلَى قَوْلهم إِلَى طلب الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة وَالرُّجُوع إِلَى الْإِجْمَاع عِنْد الْمُسْتَدلّ لَيْسَ هُوَ رد إِلَى الْكتاب وَالسّنة لِأَنَّهُ لَو كَانَ ردا إِلَيْهِمَا بَطل قَوْلهم إِذا لم يتنازعوا لم يجب الرَّد إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَلَا يجب عِنْد الْمُسْتَدلّ ايضا إِذا تنَازع أهل العصرين أَن يطْلب أهل الْعَصْر الأول الحكم فِي الْكتاب وَالسّنة لأَنهم قد طلبُوا قَوْلهم من قبل فِي الْكتاب وَالسّنة فوجدوه وَطلب مَا هم واجدين لَهُ محَال فَعِنْدَ التَّنَازُع لَا يجب على قَوْلهم الطّلب فِي الْكتاب وَالسّنة لَا على أهل الْعَصْر الأول وَلَا على أهل الْعَصْر الثَّانِي على قَول الْمُسْتَدلّ فَأَما إِذا لم يُنَازع أهل الثَّانِي أهل الْعَصْر الأول فعلى مَوْضُوع الِاسْتِدْلَال مُبَاح أَن لَا يردوا بأجمعهم إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَلَا يَصح هَذِه الْإِبَاحَة لجميعهم لِأَن بَعضهم وهم أهل الْعَصْر الأول قد رد ذَلِك القَوْل إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَإِبَاحَة ترك طلب مَا قد طلب وَوجد عَبث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْإِجْمَاع بعد الْخلاف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا اخْتلفت الْأمة فِي الْمَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ فقد سوغوا الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب بِشَرْط بَقَاء الْخلاف وَكَون الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد لأَنهم لَو سئلوا عَن عِلّة جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا لعللوا بِمَا ذكرنَا فاذا أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ فقد زَالَ الشَّرْط وتناولتهم أَدِلَّة الْإِجْمَاع وَلَا دَلِيل يدل على اشْتِرَاط هَذَا الْإِجْمَاع بِشَرْط فَلم يجز خِلَافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الطَّرِيق إِلَى معرفَة الْإِجْمَاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا لم تكن الْمَسْأَلَة من مسَائِل الِاجْتِهَاد وَقَالَ فِيهَا بعض أهل الْعلم قولا(2/433)
وانتشر فِي أهل الْعَصْر وَكَانَ على أهل الْعلم فِيهَا تَكْلِيف فان سكوتهم على النكير يدل على أَنه صَوَاب وَأَن خِلَافه خطأ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُنْكرا لكانوا قد تطابقوا على ترك إِنْكَار الْمُنكر مَعَ وجوب ذَلِك عَلَيْهِم هَذَا إِذا مر من الزَّمَان مَا يَنْقَضِي مَعَه زمَان المهلة لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِك يلْزمهُم أَن يعتقدوا فِي الْمَسْأَلَة حكما من الْأَحْكَام فيلزمهم إِظْهَار الْخلاف إِذا كَانُوا مخالفين فَأَما أول مَا ينتشر الْمَسْأَلَة فِي أهل الْعَصْر قبل اسْتِيفَاء النّظر فانه لَا يدل سكوتهم على رضاهم بذلك القَوْل الْمُنْتَشِر وَالْقسم الأول هُوَ الَّذِي اردناه فِي الْكتاب وَالتَّعْلِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْكتاب يدل عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي قَول الصَّحَابَة إِذا لم ينتشر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا لم ينتشر القَوْل فِي جَمِيع أهل الْعَصْر وَكَانَت الْبلوى بِتِلْكَ الْمَسْأَلَة عَامَّة فقد ذكرنَا فِي الْكتاب أَنه لَا بُد من أَن يكون لغير من قَالَ بالْقَوْل الَّذِي لم ينتشر قَول لِأَنَّهُ مُكَلّف للنَّظَر فِيهَا فاذا كَانَ لَهُ فِيهَا قَول وَجب أَن يكون مُوَافقا لهَذَا القَوْل لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُخَالفا لَهُ لنقلته النقلَة لعلمنا باهتمامهم بِالنَّقْلِ وَلقَائِل أَن يَقُول لَا يتم ذَلِك فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الْمُجْتَهدين لم يجْتَهد فِي الْحَادِثَة وَإِن لَزِمَهُم أَن يجتهدوا فِيهَا ليعلموا بهَا فِي أنفسهم ويكونوا قد أخطأوا فِي ذَلِك
فَإِن قُلْتُمْ لَو كَانَ كَذَلِك لأنكر عَلَيْهِم الْبَاقُونَ فاذا لم ينكروا عَلَيْهِم وَلَا هم أَنْكَرُوا على أنفسهم فقد تطابقوا على أَن لم ينكروا تَركهم الِاجْتِهَاد قيل لكم لم يلْزمهُم أَن ينكروا عَلَيْهِم ذَلِك لأَنهم لَا يعلمُونَ أَنهم قد تركُوا الِاجْتِهَاد فِي الْمَسْأَلَة بل يجوزون أَنهم إِنَّمَا سكتوا لأَنهم قد اجتهدوا فان قُلْتُمْ إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فقد تطابقوا على الْعُدُول عَن الصَّوَاب قيل لَا يَصح ذَلِك على قَول من قَالَ كل مُجْتَهد مُصِيب لِأَن القَوْل الَّذِي قَالَه من لم ينتشر قَوْله فَهُوَ صَوَاب فَمَا عدلوا بأجمعهم عَن الصَّوَاب وَإِنَّمَا يتم ذَلِك على قَول من قَالَ إِن الْحق وَاحِد بل يُقَال إِن الصَّوَاب هُوَ قَول وَاحِد فان لم يكن(2/434)
ذَلِك القَوْل الَّذِي لم ينتشر هُوَ الصَّوَاب كَانُوا قد عدلوا بأجمعهم عَن الصَّوَاب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي اسْم الْخَبَر وَحده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قد حد الْخَبَر بِأَنَّهُ الَّذِي يدْخلهُ الصدْق وَالْكذب وَاعْترض ذَلِك بِأَن قَول الْقَائِل مُحَمَّد ومسيلمة صادقان خبر وَلَيْسَ بِصدق وَلَا كذب واجاب قَاضِي الْقُضَاة عَن ذَلِك بِأَنا أردنَا بِدُخُول الصدْق وَالْكذب أَن الْإِنْسَان إِذا صدق الْمخبر أَو كذبه لم يحظر اللُّغَة ذَلِك وَهَذِه صُورَة هَذَا الْخَبَر وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه قد سلم أَن هَذَا الْخَبَر لَيْسَ بِصدق وَلَا كذب وَهَذَا يعْتَرض مَا يَقُوله من أَن كل خبر فانه لَا يَخْلُو من أَن يكون إِمَّا صَادِقا وَإِمَّا كَاذِبًا لِأَن هَذَا الْخَبَر قد خلا مِنْهُمَا وَإِذا حددنا الْخَبَر بِأَنَّهُ كَلَام يُفِيد بِنَفسِهِ إِضَافَة أَمر من الْأُمُور إِلَى أَمر من الامور نفيا أَو إِثْبَاتًا لم يلْزم إِذا قُلْنَا زيد الظريف فِي الدَّار أَن يكون قَوْلنَا زيد الظريف من جملَة هَذَا الْكَلَام خَبرا لِأَن ذَلِك لَا يُفِيد أَنه ظريف كَمَا أَنا إِذا قُلْنَا الظريف فِي الدَّار لَا يُفِيد أَنا حكمنَا بِأَن من أَشَرنَا إِلَيْهِ بِهَذَا الْكَلَام هُوَ ظريف وَإِنَّمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ بقولنَا هُوَ ظريف ثمَّ أفدنا أَنه فِي الدَّار كَمَا نشِير بقولنَا زيد فِي الدَّار إِلَى أَنه فِي الدَّار وَلم نفد أَنه يُسمى زيدا وَلنَا أَن نحترس من ذَلِك ونقول الْخَبَر كَلَام تَامّ يُفِيد بِنَفسِهِ إِضَافَة أَمر من الْأُمُور إِلَى أَمر من الْأُمُور نفيا أَو إِثْبَاتًا ونعني بقولنَا كَلَام تَامّ أَنه لَا يَقْتَضِي بِوَقع كَلَام آخر بل تقع بِهِ الْفَائِدَة بِنَفسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا قُلْنَا زيد الظريف لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِكَلَام تَامّ
فان قيل قَول الْقَائِل لَا ثَانِي لله عز وَجل هُوَ خبر وَلَيْسَ يُفِيد إِضَافَة أَمر إِلَى أَمر لِأَن الْوُجُود لَيْسَ بِصفة عنْدكُمْ وَلَا الثَّانِي ذاتا فتكونوا قد أضفتم نفي الصّفة إِلَى الذَّات الْجَواب إِنَّا نعني بقولنَا إِنَّه لَا ثَانِي للقديم هُوَ أَن مَا نعقله من ذَات لَهَا صفة الْقَدِيم لَيْسَ لَهَا وجود من خَارج عقلنا سوى الْقَدِيم عز وَجل فقد نَفينَا عَن عقلنا لما عَقَلْنَاهُ من ذَلِك أَن يتَعَلَّق بِذَات من خَارج لَيست بِذَات الْقَدِيم عز وَجل(2/435)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي بَيَان وُقُوع الْعلم بالأخبار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قد قُلْنَا فِيهِ إِنَّه لَو كَانَ كل مَا أَجمعُوا على مُقْتَضَاهُ من أَخْبَار الْآحَاد قد قَامَت الْحجَّة بِهِ لم يَصح الِاسْتِدْلَال باجماع الصَّحَابَة على الْعلم بأخبار الْآحَاد على جَوَاز الْعَمَل على خبر مظنون غير مَقْطُوع بِهِ إِن قيل يَصح الِاسْتِدْلَال على ذَلِك بأخبار آحَاد لم يجمع الصَّحَابَة على الْعَمَل بهَا لَكِن عمل بَعضهم بهَا وَلم يعْمل الْبَاقُونَ بهَا وَلم ينكروا على الْعَامِل بهَا قيل أَنْتُم استدللتم على الْعلم بِخَبَر الْوَاحِد باجماعهم على الْعَمَل بِخَبَر عبد الرَّحْمَن فِي الْمَجُوس وَخبر حمل بن مَالك فِي الْجَنِين وَالْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي دِيَة الْأَصَابِع كل ذَلِك قد أَجمعُوا على الْعَمَل بِهِ وَلَعَلَّه لَا يُوجد خبر عمل بِهِ بَعضهم وَلم يُنكر من لم يعْمل بِهِ على الْعَامِل بِهِ إِلَّا خبر أَو خبران أَو ثَلَاثَة مِمَّا لم يبلغ كَثْرَة فَيكون قد علم فِي الْجُمْلَة أَن الصَّحَابَة لم يُنكر بَعْضهَا على بعض الْعَمَل بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب فِي شُرُوط وُقُوع الْعلم بالْخبر الْمُتَوَاتر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِذا قَالَ قَائِل جوزوا أَن يخبر المتواترون بِالْكَذِبِ لِأَن السُّلْطَان حملهمْ على ذَلِك بالرهبة لم يجز إبِْطَال ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ يجب أَن يظْهر رهبة السُّلْطَان لِأَن للسَّائِل أَن يَقُول حملهمْ على الْكَذِب وعَلى كتمان الرهبة وَإِنَّمَا كَانَ للسَّائِل أَن يَقُول ذَلِك لِأَن الْمُجيب لما تعاطى الْجَواب عَن السُّؤَال سلم صِحَة الشَّك فِي الِاجْتِمَاع على الْكَذِب للرهبة وَإنَّهُ إِنَّمَا يَزُول هَذَا الشَّك بِالْجَوَابِ فَلَزِمَهُ كَمَا سوغ الشَّك فِي ذَلِك قبل النّظر أَن يسوغ الشَّك فِي الْحمل على كتمان الرهبة قبل النّظر وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِنَّه لَا يُمكن أَن يضْبط السُّلْطَان الْكَثْرَة الْعَظِيمَة حَتَّى يرهبها فَلَا تَتَحَدَّث بِالْكَذِبِ عَن كل إِنْسَان وَفِي كل حَال بل كثير مِنْهُم لَا يتحدث بِهِ وَكثير مِنْهُم يظْهر خلاف الْكَذِب عِنْد خاصته وثقاته ثمَّ لَا يلبث الصدْق أَن يشيع(2/436)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب التَّعَبُّد بالْخبر الْوَاحِد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِن قيل لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الصَّحَابَة عمل على الْخَبَر الْوَاحِد وَلم يُنكر عَلَيْهِ غَيره لِأَن غَيره كَانَ نَاظرا متوقفا فِي وجوب الْعَمَل بِهِ فَلذَلِك لم يُنكره وَلَيْسَ فِي ذَلِك اتِّفَاق مِنْهُم على ترك الْوَاجِب لأَنهم وَإِن اتَّفقُوا على ترك إِنْكَار الْعَمَل بذلك مَعَ أَن الْعَمَل بِهِ مُنكر فِي نَفسه فانهم لم يتفقوا على ترك الْوَاجِب لِأَن هَؤُلَاءِ الناظرين لَا يجب عَلَيْهِم الْإِنْكَار لأَنهم ناظرون الْجَواب إِن الله عز وَجل إِذا كلف الْمُجْتَهدين أَن يعرفوا هَل تعبدهم بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد أم لَا فَلَا بُد من أَن يمْضِي عَلَيْهِم من الزَّمَان مَا يتمكنون فِيهِ من الْوُصُول إِلَى مَا كلفهم فاذا مضى هَذَا الزَّمَان وَلم ينكروا الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فَلَو كَانَ الْعَمَل بهَا مُنْكرا لكانوا قد أَجمعُوا على ترك الْوَاجِب إِذْ الْإِنْكَار وَاجِب
دَلِيل وُرُود التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد هُوَ أَنه لَا يجوز أَن يكون مَا رُوِيَ من أَخْبَار الْآحَاد على كثرتها لم يقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا مِنْهَا بل يَنْبَغِي أَن يكون جَمِيعهَا أَو كثير مِنْهَا قد قَالَه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ يجوز أَن يكون مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك تعبدا لمن شافهه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون من لم يشافهه لِأَن الْإِجْمَاع بِخِلَاف ذَلِك وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لبين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن التَّعَبُّد بذلك مَقْصُور على من شافهه دون من لم يشافهه وَلم بَين ذَلِك فِي هَذِه الْأَخْبَار مَعَ كثرتها وَمَعَ إشاعته لهَذَا الْبَيَان لما جَازَ أَن ينكتم ذَلِك وَلَا ينْقل فَثَبت أَن التَّعَبُّد بذلك يتَوَجَّه إِلَى من شافهه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن لم يشافهه مِمَّن يَأْتِي بعده وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شافه بهَا من يكون نَقله متواترا وَإِمَّا أَن يكون شافه بذلك الْآحَاد وَالْأول يَقْتَضِي أَن ينْقل عَنهُ متواترا لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يشيع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكما عَاما فَلَا ينْقل متواترا فَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شافه بِهَذِهِ الْأَخْبَار الْآحَاد فَلَو كَانَ الْعَمَل بهَا لَا يلْزمنَا إِلَّا بِنَقْل متواتر لَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تعبدنا بِمَا لم يَجْعَل لنا طَرِيقا إِلَى أَن تعبدنا بِهِ فان قيل لَيْسَ يجب إِذا أشاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَبَر بِحَضْرَة من يكون نَقله(2/437)
متواترا أَن ينقلوه متواترا لِأَن الْإِنْسَان قد يتَكَلَّم بأنواع كَثِيرَة من الْكَلَام بِحَضْرَة الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة فَلَا تنقل جَمَاعَتهمْ عَنهُ كل مَا تكلم بِهِ بل قد يروي الْوَاحِد عَنهُ شَيْئا وَالْآخر عَنهُ شَيْئا آخر فَلم زعمتم أَنه يجب مَا ذكرْتُمْ قيل لَو لم ينقلوه متواترا مَعَ وجوب ذَلِك عَلَيْهِم لكانوا قد أَجمعُوا على ترك النكير مَعَ وجوب النكير عَلَيْهِم لِأَن النَّاقِل لم يُنكر على من لم ينْقل وَمن لم ينْقل فمعلوم أَنه لم يُنكر ترك النَّقْل وَلقَائِل أَن يَقُول جوزوا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شافه بالحكم من يحجّ نَقله وهم بعض الامة وَلَيْسَ خطأهم هُوَ خطأ جَمِيع الْأمة جَوَاب آخر عَن السُّؤَال وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ شافه بِهَذِهِ الْأَخْبَار من يتواتر الْخَبَر بنقله وَكَانَ من دينه الْعَمَل بالمتواتر من الْأَخْبَار دون الْآحَاد لَكَانَ قد أوجب عَلَيْهِم التَّوَاتُر وأعلمهم بذلك وَلَا يجوز فِي الْعَادة أَن يتدين الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة بِوُجُوب نقل كَلَام رجل ويكونوا على غَايَة الْحِرْص على نقل كَلَامه وأحواله وَيُوجب عَلَيْهِم ذَلِك وَلَا ينْقل الْجَمَاعَة كَلَامه الَّذِي شاع فيهم واعتقدوا وجوب نَقله عَلَيْهِم لِأَن مَا هم عَلَيْهِ من شدَّة الْحِرْص على نقل كَلَامه يمْنَع من ذَلِك وَيُفَارق ذَلِك سَماع الْجَمَاعَات الْكَثِيرَة أَنْوَاع الْكَلَام من الْوَاحِد منا لِأَنَّهَا غير حريصة على نقل كَلَام الْوَاحِد منا فان كَانَ لَهَا فِي ذَلِك غَرَض وَاشْتَدَّ حرصها عَلَيْهِ وَجب أَن تنقله فَأَما كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحواله فقد علمنَا من حَال الصَّدْر الأول شدَّة الْحِرْص على نَقله حَتَّى نقلوا مِنْهُ مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم
فان قيل أَلَيْسَ قد رُوِيَ عَنهُ بالآحاد أَخْبَار كَثِيرَة فِي التَّوْحِيد وَالْعدْل والوعيد والشفاعة وَغير ذَلِك مِمَّا يتَضَمَّن علما لَا عملا وَلَا يجوز أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ شَيْئا من ذَلِك لكثرته فَيجب أَن يكون قد قَالَه أَو بعضه فان كَانَ قد قَالَه عَن الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة وَلم تنقله متواترا فقد انْتقض قَوْلكُم إِن مَا يشيعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجب أَن ينْقل عَنهُ متواترا وَإِن لم يشعه كَانَ قد اقْتصر على الْوَاحِد فِيمَا لَا يكون خبر الْوَاحِد حجَّة فِيهِ قيل إِن مَا رُوِيَ عَنهُ من ذَلِك لَا يداني مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَأَيْضًا فَمَا(2/438)
رُوِيَ عَنهُ من ذَلِك إِن كَانَ مُوَافقا لدَلِيل الْعقل فَلَيْسَ يمْتَنع أَن يشافه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ بعض النَّاس وَلَا يَجْعَل نقل ذَلِك الْبَعْض حجَّة على من يَنْقُلهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون لنا طَرِيق إِلَى الْعلم بِمَا كلفنا لِأَن الْعقل طريقنا إِلَى الْعلم بِمَا تضمنه الْخَبَر وَإِن كَانَ ظَاهر الْخَبَر بِخِلَاف مُقْتَضى الْعقل فمراد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ خلاف ظَاهره فاذا شافه بِهِ الْوَاحِد فقد تعبده أَن يناوله ويحمله على الْمجَاز حَتَّى يُوَافق دَلِيل الْعقل وَلَيْسَ يجب أَن يتعبد غَيره بذلك الْخَبَر إِلَّا أَن يرْوى لَهُ فَيلْزمهُ أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كَانَ قَالَه فمراده الْمجَاز الْمُوَافق لدَلِيل الْعقل وَأَنه لم يرد ظَاهره وَهَذَا لَيْسَ بموقوف على أَن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فَيلْزم أَن يَجْعَل لَهُ طَرِيق إِلَى الْعلم بَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه تمت الزِّيَادَات بِحَمْد الله واهب العطيات(2/439)
= كتاب الْقيَاس الشَّرْعِيّ لأبي الْحُسَيْن مُحَمَّد بن عَليّ بن الطّيب الْبَصْرِيّ رَحمَه الله وَقد صنفه قبل كتاب الْمُعْتَمد كَمَا يظْهر من الإشارات العديدة إِلَيْهِ فِي كتاب الْمُعْتَمد من المخطوطة الوحيدة فِي لاله لي باستانبول=(2/441)
بِسم الله البرحمن الرَّحِيم = كتاب الْقيَاس الشَّرْعِيّ =
اعْلَم أَن الْغَرَض بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة أَن نورد الْوُجُوه الَّتِي يتَكَلَّم بهَا فِي الْقيَاس الشَّرْعِيّ على قسْمَة ملخصة وَنَذْكُر مَا يَدُور بَين الْفُقَهَاء فِي مناظرة الْفِقْه دون مَا يخْتَص أصُول الْفِقْه نَحْو الدّلَالَة على الْمَنْع من تَخْصِيص الْعلَّة وَمَا أشبه ذَلِك وَنحن أَولا نجد الْقيَاس لنستخرج من حَده الْقِسْمَة الَّتِي يَتَرَتَّب الْكَلَام فِي الْقيَاس عَلَيْهَا
فصل فِي حد الْقيَاس
الْقيَاس هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم وَهَذَا الْحَد لَا يَشْمَل أَنْوَاع الْقيَاس كلهَا وَإِنَّمَا يَشْمَل قِيَاس الطَّرْد فَقَط وَالْفُقَهَاء يسمون قِيَاس الْعَكْس قِيَاسا وَلَيْسَ هُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَات يَقْتَضِي حكم الشَّيْء فِي غَيره فَيَنْبَغِي إِذا أردنَا أَن نحد الْقيَاس بِحَدّ يَشْمَل قِيَاس الْعَكْس وَقِيَاس الطَّرْد أَن نقُول الْقيَاس هُوَ إِثْبَات الحكم فِي الشَّيْء بِالرَّدِّ إِلَى غَيره لأجل عِلّة وَذَلِكَ أَن قِيَاس الْعَكْس هُوَ رد الْفَرْع إِلَى أصل لكنه رد إِلَيْهِ ليثبت فِي الْفَرْع نقيض حكمه وَلَا بُد من اعْتِبَار عِلّة فِي الأَصْل أَيْضا وَاعْتِبَار نقيضها فِي الْفَرْع مِثَال ذَلِك أَن نستدل على أَن الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف بِأَن نقُول لَو لم يكن من شَرطه لم يلْزم أَن يعتكلف بِالصَّوْمِ إِذا نذر أَن يعْتَكف بِالصَّوْمِ كَمَا أَن الصَّلَاة لما لم تكن من شَرط الِاعْتِكَاف لم تكن من شَرطه وَإِن نذر أَن يعْتَكف بِالصَّلَاةِ فَالْأَصْل هَهُنَا هُوَ الصَّلَاة وَحكمه أَنه لَيْسَ من شَرط الِاعْتِكَاف وَنحن نُرِيد أَن نثبت نقيض هَذَا الحكم فِي الصَّوْم وَالْعلَّة فِي الصَّلَاة هِيَ أَنه لَا يلْزمه بِالنذرِ(2/443)
ونقيضها ثَابت فِي الصَّوْم
فاذا قد حددنا الْقيَاس فَيَنْبَغِي أَن نقسمهُ فَنَقُول الْقيَاس الشَّرْعِيّ ضَرْبَان قِيَاس طرد وَقِيَاس عكس أما قِيَاس الْعَكْس فَهُوَ إِثْبَات نقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع بِاعْتِبَار عِلّة وَإِن شِئْت قلت لتباينهما فِي الْعلَّة وَأما قِيَاس الطَّرْد فَهُوَ إِثْبَات حكم الأَصْل فِي الْفَرْع لاجتماعهما فِي عِلّة الحكم فقد ظهر من هَذَا الْحَد أَن قِيَاس الطَّرْد لَا يَخْلُو من أصل وَفرع وَعلة وَحكم فَالْحكم هُوَ المنقسم إِلَى الْوُجُوب وَالنَّدْب والمباح وَكَون الْفِعْل مَكْرُوها ومحظورا وَالْأَصْل مَا سبق الْعلم بِحكمِهِ وَإِن شِئْت قلت هُوَ الَّذِي يتَعَدَّى حكمه إِلَى غَيره وَالْفرع هُوَ الَّذِي يتَأَخَّر الْعلم بِحكمِهِ وَإِن شِئْت قلت هُوَ الَّذِي يتَعَدَّى إِلَيْهِ حكم غَيره والمتكلمون يذهبون فِي الأَصْل إِلَى أَنه دَلِيل الحكم نَحْو الْخَبَر الدَّال على إِثْبَات الرِّبَا فِي الْبر ويذهبون فِي الْفَرْع إِلَى أَنه الحكم الْمُسْتَفَاد بِالْقِيَاسِ نَحْو تَحْرِيم الارز وَعرف الْفُقَهَاء جَازَ على خلاف ذَلِك وَالْعلَّة هِيَ الَّتِي لأَجلهَا يثبت الحكم
وَلما كَانَ قِيَاس الطَّرْد لَا يشْتَمل إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة الأَصْل وَالْفرع وَالْحكم وَالْعلَّة وَجب أَن يكون الْكَلَام فِي الْقيَاس لَا يتعداها وَأَن يكون إِمَّا كلَاما مُتَعَلقا بِالْأَصْلِ أَو الْفَرْع أَو بالحكم أَو بِالْعِلَّةِ ولتعلق الْفَرْع وَالْأَصْل وَالْحكم وَالْعلَّة بَعْضهَا بِبَعْض مَا يتَعَلَّق الْكَلَام فِي بَعْضهَا بالْكلَام فِي بعض وَإِذا أمعنا النّظر فِي ذَلِك علمنَا أَن الْكَلَام فِي الْقيَاس إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي الْعلَّة أَو فِي الحكم وَالْكَلَام فِي الحكم إِمَّا أَن يكون كلَاما فِيهِ نَفسه أَو يكون كلَاما فِيهِ بِحَسب تعلقه بِالْأَصْلِ أَو بِحَسب تعلقه بالفرع أَو بِحَسب تعلقه بالفرع وَالْأَصْل جَمِيعًا وَالْكَلَام فِي الْعلَّة إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي وجودهَا وَإِمَّا أَن يكون كلَاما فِي غير وجودهَا وَالْعلَّة يجب أَن تكون مَوْجُودَة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع فَيجب أَن تنظر فِي كلا الْأَمريْنِ أَعنِي أَنَّك تنظر فِي وجودهَا فِي الأَصْل وَفِي وجودهَا فِي الْفَرْع وَأما نظرك فِي الْعلَّة لَا من قبل(2/444)
وجودهَا فضربان أَحدهمَا أَن تنظر فِي تصحيحها وَالثَّانِي أَن تنظر فِي إفسادها وَنحن نفصل ذَلِك فصولا إِن شَاءَ الله
فصل فِي الْكَلَام فِي الحكم
أعلم أَن الحكم لما وَجب أَن يكون مَوْجُودا فِي أصل الْقيَاس وفرعه جَازَ أَن يكون نظرك فِيهِ لَهُ تعلق بِالْأَصْلِ وَحده أَو بالفرع وَحده أَو بِالْأَصْلِ وَالْفرع مَعًا وَجَاز أَن يكون نظرك فِي الحكم يختصه وَلَا يتَعَلَّق بِالْأَصْلِ وَلَا بالفرع فَأول مَا يرد عَلَيْك الْقيَاس فَيَنْبَغِي أَن تعمد إِلَى أَصله فتنظر هَل الحكم مَوْجُود فِيهِ أم لَا فانه ريما قَاس على أصل اجْتمعت الْأمة على أَن حكم الْقيَاس مُنْتَفٍ عَنهُ وَرُبمَا كنت أَنْت تخَالفه فِي وجود الحكم فِي الأَصْل فتمنع القائس من الْقيَاس إِن كنت سَائِلًا أَو تنقل الْكَلَام إِلَى الأَصْل إِن كنت مسئولا وَإِذا وجدت الحكم فِي الأَصْل فَانْظُر هَل هُوَ مَوْجُود فِي جَمِيع الأَصْل أم لَيْسَ بموجود فِي جَمِيعه فانه إِن كَانَ مَوْجُودا فِي بعضه وَكَانَ القائس قد ظهر فِي كَلَامه أَنه قصد أَن يرد الْفَرْع إِلَى جَمِيع الأَصْل أعلمته أَنه لم يَأْتِ بِمَا قصد إِلَى إِيرَاده وَكَانَ لَك أَن تَأْخُذهُ بذلك وَأَيْضًا فَانْظُر هَل الحكم ثَابت فِي الأَصْل بِقِيَاس على أصل آخر أم لَا فانه رُبمَا رد القائس فرعا إِلَى أصل بعلة من الْعِلَل وَيكون الحكم إِنَّمَا يثبت فِي ذَلِك الأَصْل بعلة أُخْرَى مِثَال ذَلِك أَن يرد من طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَهُوَ يتَشَهَّد فِي صَلَاة الصُّبْح إِلَى من خرج وَقت الْمسْح على خفيه وَهُوَ جَالس فِي التَّشَهُّد الَّذِي بعلة أَنه خَارج من الصَّلَاة بِغَيْر فعله فَيجب أَن تبطل صلَاته وَيرد هَذَا الأَصْل إِلَى الْمُسَافِر إِذا نوى الْإِقَامَة وَهُوَ جَالس للتَّشَهُّد بعلة أَنه معني لَو طرى فِي أول الصَّلَاة لغير الْفَرْض فَوَجَبَ إِذا طرى فِي آخرهَا أَن يكون كطرئه فِي أَولهَا وَمَعْلُوم أَن عِلّة الْفَرْع الثَّانِي وَهِي الْخُرُوج من الصَّلَاة بِغَيْر فعله وَلَا يُوجد فِي الأَصْل الأول
وَاخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَمنع مِنْهُ قوم قَالُوا لِأَن الْفَرْع إِنَّمَا يرد إِلَى الأَصْل إِذا شَاركهُ فِي عِلّة حكمه قَالُوا وَعلة هَذَا الأَصْل هِيَ عِلّة أُخْرَى لَا(2/445)
يُوجد فِي الْفَرْع الثَّانِي وَقد أجَاز ذَلِك قوم وَقَالُوا الْعلَّة الَّتِي يثبت الحكم بهَا فِي الأَصْل هِيَ كالنص فِي أَنَّهَا طَرِيق الحكم وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يعلم بِالدَّلِيلِ أَن يكون لعِلَّة أُخْرَى تَأْثِير فِي ذَلِك الحكم فَترد بهَا بعض الْفُرُوع إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ نظرك فِي الحكم بِحَسب تعلقه بِالْأَصْلِ
وَأما إِذا نظرت فِيهِ بِحَسب تعلقه بالفرع فَقَط فَهُوَ أَن تنظر هَل الحكم يُمكن وجوده فِي الْفَرْع أم لَا فانه رُبمَا منع نَص أَو إِجْمَاع من وجوده فِي الْفَرْع فان لم يمْنَع نَص أَو إِجْمَاع من ذَلِك فَانْظُر هَل يُمكن أَن تثبت الحكم فِي الْفَرْع بِقِيَاس أم لَا فانه رُبمَا كَانَ الحكم كَفَّارَة أَو حدا أَو تَقْديرا أَو حكما مَخْصُوصًا من جملَة الْقيَاس وَهَذَا لَا يجوز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ عِنْد بعض الْفُقَهَاء فان كنت مِمَّن يَأْبَى ذللك وَكنت سَائِلًا أمكنك إيقاف وَإِن كَانَ الحكم يُمكن وجوده فِي الْفَرْع بِقِيَاس فَانْظُر هَل هُوَ مَوْجُود فِي جَمِيع الْفَرْع أَو فِي بعضه فان كَانَ مَوْجُودا فِي بعضه وَكَانَ القائس قد شَرط على نَفسه أَن يرد الْفَرْع كُله إِلَى الأَصْل ثمَّ لم يفعل كَانَ لَك أَن تَأْخُذهُ بِمَا شَرط على نَفسه وَمَا قَصده بِالْقِيَاسِ فَهَذَا هُوَ نظرك فِي الحكم بِحَسب تعلقه بالفرع
وَأما نظرك فِي الحكم بِحَسب تعلقه بِالْأَصْلِ وَالْفرع جَمِيعًا فَهُوَ أَن تنظر هَل يُمكن أَن يُسْتَفَاد حكم ذَلِك الْفَرْع من ذَلِك الأَصْل أم لَا فانه قد يكون مَوْضُوع الأَصْل على التَّغْلِيظ وموضوع الْفَرْع على التَّخْفِيف وَيكون الحكم تَخْفِيفًا وَهَذَا هُوَ اخْتِلَاف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع فلك أَن تمنع من هَذَا الْقيَاس وَتقول إِن اخْتِلَاف مَوْضُوع الأَصْل وَالْفرع كالأمارة على أَن حكم أَحدهمَا مباين لحكم الآخر وللقائس أَن يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون الأَصْل وَالْفرع متباينين فِي بعض الْأَحْكَام ومتفقين فِي بعض آخر فاذا دللت على صِحَة الْعلَّة وَجب أَن يشركا فِي الحكم الَّذِي تَقْتَضِيه تِلْكَ الْعلَّة
وَأما نظرك فِي الحكم من غير أَن يكون لَهُ تعلق بِالْأَصْلِ وَالْفرع فَهُوَ أَن تنظر هَل يمكنك أَن تَقول بالحكم الَّذِي علقه القائس على الْعلَّة فانه رُبمَا علق(2/446)
القائس على علته حكما مُجملا يمكنك أَن تَقول بِهِ وَهَذَا هُوَ القَوْل بِمُوجب الْعلَّة وَإِذا أمكنك ذَلِك بَان أَن القائس لم يدل على مَوضِع الْخلاف مِثَال ذَلِك أَن يُعلل مُعَلل كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف بِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه معنى يقارنه قِيَاسا على الْوُقُوف بِعَرَفَة فان لَك أَن تلتزم هَذَا الحكم وَهُوَ إشراط معنى إِذا كَانَ القائس لم يفصل الْمَعْنى فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي حكم الْعلَّة لَا بِحَسب تعلقه بِغَيْرِهِ وَلَك أَن تَقول إِن القَوْل بِمُوجب الْعلَّة هُوَ الْكَلَام فِي الحكم بِحَسب تعلقه بالفرع
فصل فِي الْكَلَام فِي الْعلَّة
اعْلَم أَنا قد قُلْنَا إِن الْكَلَام فِي الْعلَّة إِمَّا أَن يكون كلَاما فِي وجودهَا أَو فِي غير وجودهَا وَإِن الْكَلَام فِي غير وجودهَا يَنْقَسِم إِلَى الْكَلَام فِي تصحيحها وَإِلَى الْكَلَام فِي إفسادها فاذا نظرت فِي وجودهَا فَانْظُر هَل هِيَ مَوْجُودَة فِي جَمِيع الأَصْل أَو فِي بعضه فانه قد يجوز أَن تكون الْعلَّة مَوْجُودَة فِي بعض الأَصْل وَيكون الْمُعَلل قد رام أَن يرد الْفَرْع إِلَى جَمِيع الأَصْل فاذا لم تكن الْعلَّة شائعة فِي جَمِيع الأَصْل بَطل مَا رامه فان رد الْفَرْع إِلَى الْمَوْضُوع الَّذِي وجدت فِيهِ الْعلَّة من الأَصْل نظرت فان جَازَ أَن يكون بعض الأَصْل مُعَللا دون بعض أجزت للقائس مَا فعله وَإِن لم تجز أَن يكون بعض الأَصْل مُعَللا دون بعض وَلم تجز مَعَ ذَلِك أَن يكون عِلّة جَمِيع الأَصْل إِلَّا عِلّة وَاحِدَة بَطل قِيَاسه وَمِثَال ذَلِك منع أَصْحَاب الشَّافِعِي من قِيَاس الجص على الْبر بعلة أَنه مَكِيل بقَوْلهمْ إِن عِلّة تَحْرِيم الْبر هِيَ عِلّة وَاحِدَة شائعة فِي جَمِيع الْبر والكيل لَيْسَ بشائع فِي جَمِيع الْبر لِأَن الْحبَّة والحبتين لَا يَتَأَتَّى فيهمَا الْكَيْل وأصحابنا يجيبون عَن ذَلِك بِأَن الْمحرم من الْبر لَيْسَ لَهُ عِلّة وَاحِدَة وَهِي الْكَيْل لِأَن الْمحرم لَيْسَ هُوَ إِلَّا مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل من الْبر لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْبر بِالْبرِّ إِلَّا كَيْلا بكيل فَأجَاز بِالْكَيْلِ مَا منع مِنْهُ بِغَيْر كيل وَالَّذِي يجوز بَيْعه إِذا تساوى فِي الْكَيْل هُوَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل فَيجب أَن يكون مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَيْل هُوَ مَا(2/447)
يحرم بَيْعه إِذا تفاضل فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي وجود الْعلَّة فِي الأَصْل
فَأَما نظرك فِي وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع فَهُوَ أَن تنظر هَل الْعلَّة مَوْجُودَة فِي الْفَرْع عنْدك وَإِن كَانَت مَوْجُودَة فِيهِ فَهَل هِيَ مَوْجُودَة فِي جَمِيعه أَو فِي بعضه فانه رُبمَا وصف القائس الْفَرْع بِصفة لَا يجوز عِنْد خَصمه أَن يكون مَوْصُوفا بهَا وَقد يجمع الْمُسلمُونَ فِي ذَلِك الْفَرْع على أَنه لَا يجوز أَن يثبت حكمه إِلَّا بعلة وَاحِدَة فَيكون ذَلِك مُبْطلًا لتعليل من علله بعلة وَاحِدَة لَا تُوجد فِي جَمِيعه
فصل فِيمَا يدل على صِحَة الْعلَّة
يدل على صِحَّتهَا النَّص والاستنباط أما النَّص فإمَّا أَن يدل على صِحَّتهَا بصريحه وَإِمَّا أَن يدل على صِحَّتهَا بِضَرْب من التَّنْبِيه أما صَرِيح النَّص فَهُوَ أَن يَقُول الله عز وَجل أَو نبيه أَو الْأمة أَو القائسون من الْأمة إِن هَذَا محرم لعِلَّة كَذَا أَو لأجل كَذَا أَو لِأَنَّهُ كَذَا أَو لكيلا يكون كَذَا وَأما تَنْبِيه النَّص فنحو أَن يفرق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين شَيْئَيْنِ وَيذكر عِلّة أَحدهمَا فنعلم أَن عكس تِلْكَ الْعلَّة قَائِم فِي الشَّيْء الآخر وَأَنه عِلّة فِي نقيض حكم الشَّيْء الأول مِثَاله امْتنَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّخُول على قوم عِنْدهم كلب ودخوله على قوم عِنْدهم هر وَقَوله إِنَّهَا لَيست بِنَجس فَدلَّ ذَلِك على نَجَاسَة الْكَلْب وَأَنه هُوَ الْعلَّة فِي امْتنَاع دُخُوله على أربابه وَدلّ قَوْله فِي الهر إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات على أَن ذَلِك هُوَ عِلّة طَهَارَة الهر وَأَن كَون الْكَلْب لَيْسَ من الطوافين علينا مِمَّا يجوز أَن يُؤثر فِي نَجَاسَته وَمَا يجْرِي مجْرى التَّنْبِيه الْجَواب بالفا نَحْو قَول الله سُبْحَانَهُ {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فان ذَلِك يدل على أَن سَبَب الْقطع وعلته هُوَ السّرقَة
فَأَما مَا يدل على صِحَة الْعلَّة من جِهَة الاستنباط فانه يكون من وُجُوه(2/448)
مِنْهَا أَن يجمع القائسون على أَن الأَصْل مُعَلل بعلل محصورة لَا يجوز الزِّيَادَة عَلَيْهَا وتفسد جَمِيعهَا إِلَّا وَاحِدَة مِنْهَا فنعلم أَنَّهَا هِيَ الْعلَّة لِأَنَّهَا لَو لم تكن هِيَ الْعلَّة انْتقض القَوْل بِأَن الْعلَّة لَا تخرج عَن تِلْكَ الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة
وَمِنْهَا أَن يكون الحكم يُوجد بوجودها فِي الأَصْل ويرتفع بارتفاعها إِلَّا أَن يخلفها على أُخْرَى وَقد شَرط فِي ذَلِك أَن لَا يكون هُنَاكَ وصف آخر لَهُ تَأْثِير فِي الأَصْل هُوَ مِنْهَا بِأَن يكون عِلّة وَالَّذِي يبين أَن هَذَا الْوَجْه يدل على صِحَة الْعلَّة أَن الحكم إِذا وجد بِوُجُود الْعلَّة فِي الأَصْل وارتفع بارتفاعها غلب على الظَّن أَنَّهَا مُؤثرَة فِيهَا وَلم يجز أَن يكون تجويزها تأثيرها فِيهِ وتجويز كَونهَا غير مُؤثرَة فِيهِ على سَوَاء لَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر لِأَن وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها يَقْتَضِي لَا محَالة أَن يكون الحكم بِتِلْكَ الْعلَّة أخص
وَمِنْهَا أَن يكون الْعلَّة لَهَا تاثير فِي قبيل ذَلِك الحكم وجنسه فيغلب على الظَّن أَن كَونهَا عِلّة فِيهِ أولى من غَيرهَا مِثَال ذَلِك كَون الْبلُوغ عِلّة فِي رفع الْحجر فِي النِّكَاح لِأَن للبلوغ تَأْثِيرا فِي رفع جنس الْحجر وقبيله فَكَانَ أولى من الثيوبة فِي رفع حجر النِّكَاح يبين مَا ذكرنَا أَن الْحجر إِنَّمَا يثبت لغَرَض قد علمناه وَهُوَ نُقْصَان الْعقل المخل بِمَعْرِِفَة مصَالح الْإِنْسَان فِي تصرفه الْمُقْتَضِي لقلَّة الْخِبْرَة بالامور فاذا كَانَ هَذَا هُوَ الْمُثبت للحجر وَكَانَ هَذَا الْمَعْنى منفيا بِالْبُلُوغِ ظهر أَن الْبلُوغ يجب أَن يكون عِلّة زَوَال ذَلِك إِلَّا أَن يثبت أَن النِّكَاح يخْتَص بِمَعْنى آخر يحصل بِهِ الْخِبْرَة نَحْو الثيوبة الَّتِي يذكرهَا الشَّافِعِي فَينْظر فِي ذَلِك فَكل حكم يثبت لغَرَض من الْأَغْرَاض فَإنَّا نعلم أَن زَوَال ذَلِك الْغَرَض إِلَى خِلَافه يَقْتَضِي زَوَال ذَلِك الحكم إِلَّا أَن يخلف ذَلِك الْغَرَض غَرَض آخر سِيمَا إِن شهِدت الاصول بذلك كَمَا ذَكرْنَاهُ من زَوَال الْحجر عَن المَال بِالْبُلُوغِ
وَقد اسْتدلَّ قوم على صِحَة الْعلَّة بِوُجُوه أخر
مِنْهَا قَوْلهم إِنَّهَا قد سلمت من وُجُوه الْفساد وَيُقَال على ذَلِك إِن عددتم(2/449)
فِي وُجُوه الْفساد الَّتِي قد سلمت الْعلَّة مِنْهَا عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا فأقيموا الدّلَالَة على صِحَّتهَا لنسلم قَوْلكُم إِنَّهَا قد سلمت من عدم الدّلَالَة على صِحَّتهَا وَإِن لم تعدوا عدم الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة من وُجُوه الْفساد وقلتم إِن الْعلَّة إِذا سلمت من النَّقْض وَالْقلب وَالْعَكْس وَمَا جرى مجْراهَا فَهِيَ صَحِيحَة لم نسلم لكم أَن مَا سلم من هَذِه الْوُجُوه فَهِيَ عِلّة صَحِيحَة
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن عجز الْخصم عَن إفسادها يدل على صِحَّتهَا وَهَذَا لَا يدل لِأَن الْخصم قد يعجز عَن إِفْسَاد الْفَاسِد لِأَن أَكثر مَا فِي عجز الْخصم عَن إفسادها كَونهَا سليمَة من وُجُوه الْفساد وَهَذَا هُوَ الرُّجُوع إِلَى الْوَجْه الأول وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فان قيل أَلَيْسَ عجز الْعَرَب عَن مُعَارضَة الْقُرْآن دَلِيلا على إعجازه فَهَلا عجز الْخصم عَن إِفْسَاد الْعلَّة ومعارضتها على صِحَّتهَا الْجَواب إِن الْقُرْآن إِنَّمَا كَانَ معجزا لنقضه لعادة الفصحاء ومباينته لما تقدرون علته فاذا عجزوا عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَبِمَا يقارنه علم أَنه مباين لما تقدرون علته فَثَبت أَنه نَاقض للْعَادَة وَأما الْعلَّة فَلَيْسَ وَجه صِحَّتهَا كَونهَا ناقضة للْعَادَة حَتَّى يدل عجز الْخصم عَن الْإِتْيَان بِمِثْلِهَا على إعجازها وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ عجز النَّاس عَن معارضتها يدل على نقضهَا للْعَادَة وَلَيْسَ هَذَا من الْكَلَام فِي صِحَة الْعلَّة بسبيل
وَمِنْهَا قَوْلهم إِن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها دَلِيل على صِحَّتهَا وَهَذَا لَا يَصح لِأَن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها مَعْنَاهُ هُوَ أَن الْمُعَلل علق بهَا الحكم فِي كل مَوضِع وجدت فِيهِ وَهَذَا هُوَ فعله وَلَيْسَ يدل فعله على صِحَّتهَا وَلِأَنَّهُ قد كَانَ يَنْبَغِي أَن يدل الْمُعَلل على صِحَّتهَا فِي الأَصْل أَولا حتي يحسن مِنْهُ أَن يعلق الحكم بهَا فِي الْفُرُوع فقد علم أَن جَرَيَان الْعلَّة فِي معلولها فرع على إِقَامَة الدّلَالَة على صِحَّتهَا فَلَا يجوز أَن يَجْعَل دَلِيلا على صِحَّتهَا يبين ذَلِك أَن محصول هَذَا الدَّلِيل هُوَ انا لما منعنَا الْمُعَلل من تَعْلِيق الحكم بِالْعِلَّةِ وذممناه على ذَلِك اعتذر من ذَلِك بِأَن قَالَ إِنِّي اعلق الحكم بهَا فِي مَوَاضِع أخر وَنحن إِذا منعناه من الأول وَخَالَفنَا فِيهِ فَأولى أَن نخالفه ونمنعه مِمَّا جعله عذرا لنَفسِهِ(2/450)
فصل فِيمَا يخْتَص الْعلَّة من الْوُجُوه الْمفْسدَة لَهَا
اعْلَم أَن الْعلَّة قد يدل على فَسَادهَا قَول الْأمة وَقد يدل على فَسَادهَا الاستنباط مِثَال الأول أَن يقيس الْإِنْسَان قَلِيل الْبر فِي ثُبُوت الرِّبَا فِيهِ على قَلِيل الذَّهَب وَالْفِضَّة بعلة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت الرِّبَا فِي كَثِيره وَذَلِكَ أَن القائسين أَجمعُوا على أَن الْمحرم من الْبر محرم لعِلَّة وَاحِدَة وَهِي إِمَّا كيل أَو غَيره وَلم يقل أحد إِن الْمحرم من الْبر لَهُ عِلَّتَانِ وَلَا قَالَ إِن الْبر فرع على غَيره فتعليل قَلِيل الْبر بِأَنَّهُ يثبت الرِّبَا فِي كَثِيره مجمع على فَسَاده
وَأما مَا يدل على فَسَادهَا من جِهَة الاستنباط فوجوه مِنْهَا أَن يكون تعليلا بِالِاسْمِ وَمِنْهَا اخْتِلَاف موضوعها مَعَ الحكم وَمِنْهَا عدم التَّأْثِير وَمِنْهَا الْقلب وَمِنْهَا النَّقْض وَمِنْهَا الْكسر وَمِنْهَا أَن تعَارض الْعلَّة بعلة فِي الأَصْل أَو تعَارض جملَة الْقيَاس بِقِيَاس أما التَّعْلِيل بِالِاسْمِ فضربان احدهما أَن يُعلل مُعَلل تَحْرِيم الْخمر لِأَن الْعَرَب تَسْمِيَة خمرًا وَهَذَا تَعْلِيل فَاسد لِأَنَّهُ يبعد أَن يكون لتسمية الْعَرَب إِيَّاه بذلك تَأْثِير فِي تَحْرِيمه وَالْآخر أَن يُعلل تَحْرِيمه بِجِنْسِهِ نَحْو أَن يُعلل تَحْرِيمه بِكَوْنِهِ خمرًا وَهَذَا غير فَاسد لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون لكَونه خمرًا تَأْثِير فِي التَّحْرِيم وكما يجوز التَّعْلِيل بذلك كَذَلِك يجوز التَّعْلِيل بِصفة من الصِّفَات أَو بِحكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَيجْعَل الحكم الشَّرْعِيّ عِلّة فِي ثُبُوت حكم آخر شَرْعِي لِأَنَّهُ لَا يمْتَنع أَن يكون بعض الاحكام أَمارَة فِي ثُبُوت بعض آخر بِأَن يكون بَينهم تعلق يَقْتَضِي ذَلِك وَأما اخْتِلَاف الْوَضع فنحو أَن يُعلل الْإِنْسَان حكما من الْأَحْكَام بِحكم آخر شَرْعِي وَيكون أحد الْحكمَيْنِ مُبينًا على التَّخْفِيف وَالْآخر مَبْنِيا على التَّغْلِيظ فَيجوز أَن يَجْعَل ذَلِك أَمارَة تَقْتَضِي أَن لَا يعْتَبر أَحدهمَا بالاخر وَلقَائِل أَن يَقُول إِنَّه لَا يمْتَنع أَن يكون أَحدهمَا مُعْتَبرا بِالْآخرِ إِذا دلّ الدَّلِيل على ذَلِك وَكَذَلِكَ لَا يمْتَنع أَن يُقَاس الْفَرْع على الأَصْل(2/451)
وَإِن أَحدهمَا مَبْنِيا على التَّخْفِيف وَالْآخر على التَّغْلِيظ إِذا كَانَ الْجَامِع بَينهمَا عِلّة مدلولا على صِحَّتهَا فان قيل إِنَّه لَا يجوز أَن تدل الدّلَالَة على صِحَة عِلّة مثل هَذِه الْعِلَل انْتقل الْكَلَام مَعَ الْخصم إِلَى إِقَامَة الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة فاما عدم التَّأْثِير فَهُوَ أَن يذكر الْمُعَلل فِي جملَة أَوْصَاف الْعلَّة وَصفا لَو عدم من الأَصْل لم يعْدم الحكم عَنهُ فنعلم بذلك أَنه لَا يجوز أَن تكون الْعلَّة مَجْمُوع تِلْكَ الْأَوْصَاف بل يَنْبَغِي أَن نرفض مِنْهَا ذَلِك الْوَصْف لِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يَجْعَل فِي جملَة الْعلَّة مَا يضر فَقده فِي ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل وَجب إِثْبَات مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الْأَوْصَاف الَّتِي لَا يضر فقدها فِي ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل فان كُنَّا مَتى رفضنا ذَلِك الْوَصْف عَن تِلْكَ الْعلَّة الَّتِي انتقضت بفرع من الْفُرُوع وَجب أَن يدل انتقاضها على فَسَادهَا وَلَا يجوز ضم الْوَصْف إِلَيْهَا لتسلم الْعلَّة من النَّقْض لِأَن الْعلَّة يجب أَن نعلم أَولا أَن حكم الأَصْل يعلق بهَا ثمَّ يجْرِي فِي الْفُرُوع فاذا لم يُؤثر وصف مِنْهَا فِي حكمه لم يجز أَن يكون من جملَة علته وَإِذا وَجب إِسْقَاطه من الْعلَّة وَكَانَ مَا عداهُ من الْأَوْصَاف منتقضا علم فَسَاد الْعلَّة وَأما قلب الْقيَاس فَهُوَ أَن يعلق بِالْعِلَّةِ نقيض الحكم الْمَذْكُور فِي الْقيَاس وَيرد الْفَرْع بِتِلْكَ الْعلَّة إِلَى الأَصْل الَّذِي يرد إِلَيْهِ فرع الْقيَاس مِثَاله أَن يُعلل مُعَلل كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف فَيَقُول لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه اقتران معنى آخر إِلَيْهِ أَصله الْوُقُوف بِعَرَفَة وللخصم أَن يقلب الْقيَاس فَيَقُول لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَوَجَبَ أَن يكون لَا من شَرطه الصَّوْم قِيَاسا على الْوُقُوف بِعَرَفَة فاذا كَانَت الْعلَّة تتَعَلَّق بهَا الحكم ونقيضه لم يكن بِأَن يكون عِلّة فِي أحد الْحكمَيْنِ أولى من ان يكون عِلّة فِي الآخر وَالْقلب يكون على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون أحد الْحكمَيْنِ اللَّذين علقا بِالْعِلَّةِ مُجملا والاخر مفصلا مِثَاله مَا ذكرنَا من الْقيَاس فِي الِاعْتِكَاف وَذَلِكَ أَن من قَالَ فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه معنى آخر قد أجمل الحكم وَمن قَالَ فَوَجَبَ أَن لَا يكون الصَّوْم من شَرطه قد فصل وَالصَّحِيح أَن تكون مثل هَذِه الْعلَّة يدل على الحكم الْمفصل وَلَا يبطل إِذا أمكن أَن يعلق بهَا الحكم(2/452)
الْمُجْمل لِأَن الْمُجْمل لَيْسَ يُنَافِي الْمفصل وَذَلِكَ لِأَن النِّيَّة هِيَ معنى مَا وَلَا يمْتَنع أَن لَا يكون الصّيام شرطا فِي الْعِبَادَة وَإِن كَانَ من شَرطهَا معنى هُوَ النِّيَّة وَإِنَّمَا يجب أَن تبطل الْعلَّة إِذا تعلق بهَا حكمان يمْتَنع اجْتِمَاعهمَا لِأَنَّهُ لَا يكون ثُبُوت أَحدهمَا لأَجلهَا أولى من ثُبُوت الآخر وَلَيْسَ يُمكن أَن يتَعَلَّق بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَة حكمان مفصلان يتناقضان لِأَن الْحكمَيْنِ مَتى تناقضا وَجب أَن يكون أَحدهمَا كذبا وَالْآخر صدقا وَمن حق الْقيَاس إِذا قلب أَن يكون الَّذِي يقلبه وَالَّذِي قلب عَلَيْهِ صَادِقين فِي الحكم وَالضَّرْب الآخر فِي الْقلب هُوَ قلب التَّسْوِيَة وَهُوَ أَن يَقُول القالب فَوَجَبَ أَن يَسْتَوِي كَذَا مَعَ كَذَا فاذا ثَبت وجوب استوائهما فِي الحكم وَكَانَ أَحدهمَا مَحْظُورًا وَجب أَن يكون الآخر مثله فان كَانَ الْقلب ينْتَقض أَو يلْحقهُ وَجه آخر من وُجُوه الْفساد لم تبطل الْعلَّة لِأَن الْعلَّة إِنَّمَا تبطل إِذا أمكن أَن يعلق بهَا حكمان نقيضان وَلَا يكون تعلق أَحدهمَا اولى من الآخر فاذا انتقضت الْعلَّة مَعَ اُحْدُ الْحكمَيْنِ كَانَ تَعْلِيق الحكم الآخر بهَا أولى وَأما النَّقْض فَهُوَ وجود الْعلَّة فِي مَوضِع قد عدم حكمهَا عَنهُ وَلِهَذَا مَتى علل الْمُعَلل للجملة ثمَّ نوقض بالتفضيل لم يكن ذَلِك نقضا لِأَن حكم الْعلَّة هُوَ الْجُمْلَة وَلم يعْدم هَذَا عَن الْموضع الَّذِي وجدت فِيهِ الْعلَّة وَإِنَّمَا عدم الحكم الْمفصل وَالْحكم الْمفصل لم يكن حكمهَا الَّذِي علق بهَا فَأَما إِن علل مُعَلل للتفصيل فنوقض بِالْجُمْلَةِ فانه يكون نقضا صَحِيحا لِأَن الْجُمْلَة يدْخل فِيهَا التَّفْصِيل أَلا ترى أَن من علل وجوب الْقيَاس فِي قتل الذِّمِّيّ عمدا بانه حر مُكَلّف فنوقض بالحربي لِأَنَّهُ حر مُكَلّف وَلَا يثبت بَيْننَا وَبَينه قصاص أصلا لَا عمدا وَلَا خطأ فقد نوقض بِنَفْي الْحكمَيْنِ فِي الْجُمْلَة وَالتَّفْصِيل دَاخل فِيهِ وَهُوَ وجوب الْقصاص فِي قتل الْعمد وَمِثَال النَّقْض بالتفصيل إِذا ورد على الْجُمْلَة أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَوَجَبَ أَن يثبت بَينهمَا قصاص فتناقض بِالْمُسلمِ إِذا قتل ذِمِّيا خطأ وَهَذَا لَيْسَ بِنَقْض صَحِيح لِأَن الْمُعَلل إِنَّمَا أثبت بَينهمَا قصاصا على بعض الْوُجُوه وَلَيْسَ ينْتَقض هَذَا إِلَّا بِأَن يُؤْخَذ حران مكلفان(2/453)
محقونا الدَّم وَلَا يثبت بَينهمَا قصاص بِوَجْه وَقد يحترس من النَّقْض بِوُجُوه مِنْهَا الاحتراس بِالْأَصْلِ وَمِنْهَا الاحتراس بِشَرْط يذكر فِي حكم الْعلَّة وَمِنْهَا الاحتراس بِحَذْف الحكم والاقتصار على التَّشْبِيه بِالْأَصْلِ مِثَال الاحتراس بِالْأَصْلِ أَن يُعلل مُعَلل قتل الْمُسلم بالذمي بِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم كالمسلمين فاذا نوقض بقتل الْخَطَأ قَالَ إِنِّي إِنَّمَا رددت الْفَرْع إِلَى الْمُسلم وَأَنا أَقُول فِي الْفَرْع مثل مَا قلته فِي الأَصْل فَأَنا أوجب الْقصاص فِي الْعمد دون الْخَطَأ وَهَذَا الاحتراس لَا يَصح لِأَن النَّقْض هُوَ عدم الحكم عَن الْمَوْضُوع الَّذِي وجدت فِيهِ الْعلَّة الملفوظ بهَا لِأَن الْعلَّة الملفوظ بهَا هِيَ المؤثرة فِي الحكم لَا غَيره وَالْحكم هُوَ الْمَنْطُوق بِهِ لَا غير فاذا فعل ذَلِك تمّ النَّقْض وَقَول الْمُعَلل إِنِّي أوجب فِي الْفَرْع مثل مَا يجب فِي الأَصْل لَا يَصح لِأَنَّهُ إِنَّمَا اقْتضى لَفظه أَن يُسَوِّي بَين الْفَرْع وَالْأَصْل فِيمَا صرح بِهِ من ثُبُوت الْقيَاس وَمَا عدا ذَلِك لم يدل عَلَيْهِ لَفْظَة وَإِنَّمَا أضمره والنقض إِنَّمَا يتَوَجَّه نَحْو الْمظهر دون الْمُضمر وَأما الاحتراس بِحَذْف الحكم فَهُوَ أَن يذكر الْمُعَلل الْعلَّة وَلَا يذكر الحكم وَلكنه يَقُول عقيب الْعلَّة فَأشبه الْفَرْع كَيْت وَكَيْت وَقد يفعل ذَلِك إِذا لم يُمكن التَّصْرِيح بالحكم وَهَذَا الْحَذف لَا يَصح لِأَنَّهُ قَوْله فَأشبه كَيْت وَكَيْت هُوَ حكم بَان الْفَرْع يشبه كَيْت وَكَيْت وَإِذا كَانَ ذَلِك حكما احْتَاجَ إِلَى أصل يرد إِلَيْهِ الْفَرْع وَأما الاحتراس بِشَرْط مَذْكُور فِي الحكم فمثاله إِن يَقُول الْمُعَلل لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم فَوَجَبَ أَن يكون بَينهمَا قصاص إِذا قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا فاذا نوقض بقتل الْخَطَأ قَالَ قد احترست فِي الحكم بِقَوْلِي قَتله عمدا وَلقَائِل أَن يَقُول إِن الاحتراس فِي الحكم هُوَ إِقْرَار بانتقاض الْعلَّة وَذَلِكَ أَن الْمُعَلل قد حكم بِأَن الْعلَّة هِيَ كَونهمَا حُرَّيْنِ مكلفين محقوني الدَّم فَقَط وَأَنه لَا يدْخل فِي الْعلَّة غير ذَلِك فاذا قَالَ إِن هَذَا يُوجب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ مَعَ وجود هَذِه الْأَوْصَاف فقد أقرّ بَان الْعلَّة تُوجد فِي موضِعين ويتبعها حكمهَا فِي أَحدهمَا دون الآخر فان قيل لإنه لَا يمْتَنع أَن تكون هَذِه(2/454)
الْأَوْصَاف أَعنِي الْحُرِّيَّة والتكليف وحقن الدَّم إِنَّمَا تُؤثر فِي إِيجَاب الْقصاص فِي قتل الْعمد دون الْخَطَأ قيل إِن كَانَت هَذِه الْأَوْصَاف تُؤثر فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر لِمَعْنى اخْتصَّ يه أَحدهمَا أَعنِي قتل الْعمد فَيَنْبَغِي أَن يذكر ذَلِك فِي جملَة الْعلَّة إِذا كَانَ لَهُ تَأْثِير فِي إِيجَاب الْقصاص وَإِن كَانَت الْأَوْصَاف تُؤثر فِي الْحكمَيْنِ وَيَقْتَضِي أَحدهمَا فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ دون الآخر لَا لأمر افترق فِيهِ الموضعان فكأنكم قُلْتُمْ إِن الْعلَّة تَقْتَضِي الحكم فِي مَوضِع وَلَا تَقْتَضِيه فِي مَوضِع آخر وَإِن كَانَ وجودهَا فيهمَا على حد سَوَاء وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة النَّقْض ولمجيب أَن يُجيب عَن هَذَا فَيَقُول إِن الشَّرْط الْمَذْكُور فِي الحكم هُوَ مُتَأَخّر فِي اللَّفْظ ومتقدم فِي الْمَعْنى لِأَن قَوْلنَا إنَّهُمَا حران مكلفان فَوَجَبَ أَن يجب الْقصاص بَينهمَا على الْقَاتِل عمدا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُمَا حران مكلفان محقونا الدَّم قتل أَحدهمَا صَاحبه عمدا وَذَلِكَ لأَنا قد علمنَا أَن قتل الْعمد مِمَّا لَهُ تَأْثِير فِي الْقصاص وَهَذَا يَقْتَضِي أَنه وَإِن ذكر فِي الحكم فَهُوَ مَذْكُور على أَنه من جملَة الْعلَّة وَأما الْكسر فَهُوَ نقض الْعلَّة على مَعْنَاهَا دون لَفظهَا وَذَلِكَ بِأَن يرفض وَصفا من أَوْصَاف الْعلَّة ظنا مِنْهُ أَنه غير مُؤثر وَأَن الَّذِي يجوز أَن يتَعَلَّق بِهِ الحكم هُوَ مَا عدا ذَلِك الْوَصْف وتبدل من الْوَصْف الَّذِي رفضته وَصفا هُوَ أَعم مِنْهُ ثمَّ تنقض مَا عدا ذَلِك الْوَصْف وَمَتى رام الْمُعَلل أَن يُجيب عَن الْكسر وَجب عَلَيْهِ أَن يبين أَن للوصف الَّذِي رفضه خَصمه تَأْثِيرا فِي الحكم حَتَّى يجب إِضَافَته إِلَى غَيره من الْأَوْصَاف فَيمْتَنع فِي الْبَعْض مِثَال ذَلِك أَن يُعلل مُعَلل وجوب صَلَاة الْخَوْف بِأَنَّهَا صَلَاة يجب قَضَاؤُهَا كَصَلَاة الْأَمْن فيظن المعرض أَنه لَا تَأْثِير لكَون الْعِبَادَة صَلَاة فِي هَذَا الحكم وَأَن الَّذِي يظنّ أَنه مُؤثر فِي الْوُجُوب هُوَ وجوب الْقَضَاء ثمَّ ينْقض ذَلِك بِصَوْم الْحَائِض فِي شهر رَمَضَان أَنه لَيْسَ بِوَاجِب مَعَ أَن قَضَاؤُهُ وَاجِب وَمَتى رام الْمُعَلل أَن يُجيب عَن ذَلِك وَجب عَلَيْهِ أَن يبين أَن لكَون الْعِبَادَة صَلَاة تَأْثِيرا فِي كَون وجوب الْقَضَاء مؤثرا فِي وجوب الْعِبَادَة وَأَن الصَّلَاة تخَالف الصّيام فِي هَذَا الْبَاب وَقد سمي الْكسر عكسا وَهَذَا الْعَكْس هُوَ مُخَالف لعكس الْعلَّة الْمُقَابل للطرد لِأَن(2/455)
ذَلِك الْعَكْس هُوَ عدم الحكم فِي كل الْمسَائِل مَعَ عدم الْعلَّة وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْط فِي صِحَة الْعلَّة لِأَن الْعلَّة الشَّرْعِيَّة دلَالَة وأمارة على الحكم وَلَيْسَ يمْتَنع أَن يُوجد الْمَدْلُول عَلَيْهِ فِي بعض الْمَوَاضِع مَعَ فقد بعض أدلته إِذا دلّ عَلَيْهِ دَلِيل آخر وَهَذَا الْعَكْس مفارق لعدم التَّأْثِير لِأَن عدم التَّأْثِير هُوَ أَن يكون الْعلَّة ذَات وصفين أَو أَكثر فيوجد الحكم فِي الأَصْل بِوُجُود وصف من الْأَوْصَاف وَإِن عدم الْوَصْف الآخر وبعدم الحكم إِذا عدم الْوَصْف الَّذِي قُلْنَا إِن الحكم يُوجد بِوُجُودِهِ وَإِن وجد الْوَصْف الآخر فَيعلم بذلك أَن الْوَصْف الَّذِي يُوجد الحكم مَعَ عَدمه ويعدم مَعَ وجوده لَيْسَ من الْعلَّة فَلَا يجوز أَن يضم إِلَيْهَا وَأما عكس الْعلَّة فَهُوَ أَن يعْدم الحكم فِي غير الأَصْل وَالْعلَّة منتفية وَأما الْمُعَارضَة بعلة فضربان أَحدهمَا أَن تقع الْمُعَارضَة فِي عِلّة الأَصْل بِأَن يُعلل الْمُعْتَرض الأَصْل بعلة أُخْرَى وَالثَّانِي أَن يُعَارض الْقيَاس بِقِيَاس آخر فان عَارض الْقيَاس بِقِيَاس آخر فَالْكَلَام عَلَيْهِ مَا تقدم وَإِن عَارض عِلّة الأَصْل وَلم يكن القائس مِمَّن يَقُول بالعلتين لم يكن لَهُ أَن يَقُول بهما وَإِن كَانَ من مذْهبه القَوْل بالعلتين لم يكن لَهُ أَن يَقُول بهما فِي هَذَا الْموضع إِلَّا بعد أَن يصحح علته لِأَن الْمعَارض لم يسلم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا نازعه فِيهَا وَقَالَ لَهُ لَيْسَ الْعلَّة فِي الأَصْل مَا ذكرت وَإِنَّمَا الْعلَّة مَا أذكرهُ أَنا وَلَيْسَ يُمكن القائس إِذا عورض فِي عِلّة الأَصْل إِلَّا وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يصحح علته وَيبين أَنَّهَا أولى من عِلّة خَصمه أَو يصحح علته وَيَقُول بهَا وبعلة خَصمه إِن كَانَت عِلّة خَصمه عِنْده صَحِيحَة أَو يفْسد عِلّة خَصمه بالوجوه الَّتِي ذَكرنَاهَا وَيخْتَص هَذَا الْموضع بِوَجْه آخر من وُجُوه الْفساد وَهُوَ أَن تكون الْعلَّة الَّتِي وَقعت الْمُعَارضَة بهَا غير متعدية وَهَذَا الْوَجْه يفْسد الْعلَّة على قَول بعض النَّاس وَأحد الْوُجُوه الَّتِي تقدم ذكرهَا مِمَّا يفْسد الْعلَّة النَّقْض فان نقض القائس الْعلَّة الَّتِي عورض بهَا فِي الأَصْل فقد أفسدها وَإِن نقض عكسها الْمَوْجُود فِي الْفَرْع جَازَ لَهُ ذَلِك إِن كَانَ المنازع لَهُ فِي عِلّة الأَصْل قد علل بعلة الأَصْل وَعلل الْفَرْع بعكسها وَإِن كَانَ إِنَّمَا علل الأَصْل بعلة وَلم يُعلل الْفَرْع أصلا وَإِنَّمَا ادعِي أَنه لَا عِلّة(2/456)
للْأَصْل سوى مَا ذكره ليمنع من أَن يُقَاس ذَلِك الْفَرْع على ذَلِك الأَصْل لم يكن للقائس وَالْحَال هَذِه أَن ينْقض عكس علته مِثَال ذَلِك أَن يقيس قائس الْكَلْب على الهر فِي الطَّهَارَة فَيَقُول خَصمه الْمَعْنى فِي الأَصْل وَهُوَ الهر أَنَّهَا من الطوافين علينا والطوافات فَلهَذَا كَانَت طَاهِرَة وَهَذِه الْعلَّة لَيست فِي الْكَلْب فَلَا يَنْبَغِي أَن يُقَاس على الهر فَمَتَى قَالَ ذَلِك لم يكن للقائس أَن ينْقض علته إِلَّا تَعْلِيله الهر أَنَّهَا من الطوافين علينا فَقَط فَأَما إِن قَالَ الهر من الطوافين علينا فَكَانَت طَاهِرَة وَالْكَلب لَيْسَ من الطوافين علينا فَلهَذَا كَانَ نجسا جَازَ أَن ينْقض علته فِي الْكَلْب وَإِذا نقضهَا بَطل تَعْلِيله الهر بانها من الطوافين لِأَنَّهُ لما علل الأَصْل وَعكس علته فِي الْفَرْع أعلمنَا بذلك أَنه لَيْسَ يفرق بَينهمَا فِي النَّجَاسَة وَالطَّهَارَة إِلَّا من هَذِه الْجِهَة وَأَن طَهَارَة الْحَيَوَان مَوْقُوفَة على أَن يكون من الطوافين علينا فَقَط وَأَن مَا وجد هَذَا فِيهِ يكون طَاهِرا فَقَط فاذا رَأَيْنَاهُ شَيْئا طَاهِرا وَإِن لم يكن من الطوافين فقد بَطل قَوْله إِن طَهَارَة الْحَيَوَان مَوْقُوفَة على هَذَا الْمَعْنى إِلَّا أَن هَذَا لَيْسَ ينْقض لعِلَّة الأَصْل وَإِنَّمَا هُوَ إبِْطَال لقَوْله إِنَّه لَا عِلّة لطهارة الْحَيَوَان إِلَّا مَا ذَكرُوهُ فان ادعِي الْمُعَلل أَو أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْعلَّة فِي طَهَارَة السنور هِيَ المفرقة بَين مَا طهر من الْحَيَوَان وَبَين مَا لَا يطهر وَأَن طَهَارَة الْحَيَوَان مَوْقُوفَة عَلَيْهَا ثمَّ علمنَا أَن طَهَارَة الْحَيَوَان غير مَوْقُوفَة على مَا ذكره الْمُعَلل علمنَا أَن مَا ذكره الْمُعَلل لَيْسَ بعلة وَالْوَجْه الثَّالِث من الْكَلَام على الْعلَّة الَّتِي وَقعت الْمُعَارضَة بهَا هُوَ التَّرْجِيح وَنحن نفرد لذَلِك بَاب ولترجيح الْقيَاس على الْقيَاس فصلا
فصل فِي تَرْجِيح عِلّة الأَصْل على عِلّة أُخْرَى وَفِي تَرْجِيح قِيَاس على قِيَاس
اعْلَم أَنه إِذا وَقعت الْمُعَارضَة فِي عِلّة الأَصْل واستوى العلتان فَلَا بُد من تَرْجِيح أَحدهمَا على الْأُخْرَى وَذَلِكَ يكون بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا يرجع إِلَى قُوَّة طَرِيق صِحَة الْعلَّة وَالثَّانِي إِلَى تعدِي الْعلَّة أما قُوَّة طَرِيق صِحَة الْعلَّة فبأن تكون إِحْدَى العلتين مجمع عَلَيْهَا دون الْأُخْرَى أَو تكون إِحْدَاهمَا مَنْصُوصا(2/457)
عَلَيْهَا والاخرى مَعْلُومَة بِمَفْهُوم النَّص أَو إِحْدَاهمَا طريقها مَفْهُوم النَّص وَطَرِيق الاخرى الاستنباط أما التَّرْجِيح بِالتَّعَدِّي فبأن تكون إِحْدَاهمَا متعدية دون الاخرى أَو بِأَن تكون إِحْدَاهمَا أَكثر فروعا من الاخرى هَذَا على قَول الْأَكْثَر لَا يفْسد الْعلَّة إِذا لم تكن متعدية وَأما إِذا عورض الْقيَاس بِقِيَاس فانه يتَّجه علته من الْكَلَام فِي إفساده وَتَصْحِيح علته مَا قد سلف فاذا اسْتَويَا رجح أَحدهمَا على الآخر
وترجيح الْقيَاس يكون بِمَا يرجع إِلَى أَصله أَو إِلَى حكمه أَو إِلَى علته أما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الْعلَّة فقد سلف القَوْل فِيهِ إِلَّا أَن التَّرْجِيح بِالتَّعَدِّي لَا يُمكن هَهُنَا لِأَن هَذِه الْعلَّة متعدية إِذْ كَانَ قد جمع بهَا بَين أصل وَفرع وَأما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الأَصْل فبأن يكون طَرِيق ثُبُوت الحكم فِي أَحدهمَا أقوى من طَرِيق ثُبُوته فِي الآخر بِأَن يكون طَرِيق تَعْلِيل أحد الْأَصْلَيْنِ أقوى من طَرِيق تَعْلِيل الآخر فاذا كَانَ حكم الأَصْل مِنْهُ يُسْتَفَاد حكم الْفَرْع وَكَانَ فِي أَحدهمَا أقوى وَجب أَن يكون أحد القياسين أقوى وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ طَرِيق صِحَة عِلّة أَحدهمَا أقوى وَأما التَّرْجِيح بِمَا يرجع إِلَى الحكم فبأن يكون أحد الْحكمَيْنِ أحوط نَحْو أَن يكون احدهما وجوبا وَالْآخر ندبا أَو بِأَن يكون أَحدهمَا حظرا وَالْآخر مُبَاحا فَيكون الْحَظْر أولى لِأَنَّهُ أحوط أَو بِأَن يكون أحد الْحكمَيْنِ قد ندبنا إِلَى إِسْقَاطه بِالشُّبْهَةِ كالحدود وَقد ذهب إِلَى التَّرْجِيح بذلك بعض النَّاس دون بعض
وَقد ترجح الْعلَّة بِأَن يعضدها ظَاهر لِأَن ذَلِك يَقْتَضِي أَنَّهَا أولى من عِلّة لم يعضدها ظَاهر
قد أَتَيْنَا على الْكَلَام فِي تَصْحِيح الْعلَّة وَفِي إفسادها وترجيحها وإفسادها لَا يخرج عَن الْأَقْسَام الَّتِي ذَكرنَاهَا وَذَلِكَ لِأَن الطعْن على الْعلَّة نَفسهَا إِمَّا أَن يكون بِوَجْه مُنْفَصِل عَنْهَا أَو بِوَجْه يرجع إِلَيْهَا أما الْوَجْه الْمُنْفَصِل عَنْهَا فَهُوَ مُعَارضَة الْعلَّة بعلة وَأما الْمُتَّصِل بهَا فضربان أَحدهمَا أَن يكون لَهُ تعلق(2/458)
بغَيْرهَا وَالثَّانِي أَن لَا يكون لَهُ تعلق بغَيْرهَا وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ تعلق بغَيْرهَا هُوَ التَّعْلِيل بِالِاسْمِ وَأما مَا يكون لَهُ تعلق بغَيْرهَا فضربان احدهما أَن يكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ مَكَان وجودهَا وَهَذَا بِأَن لَا يكون لَهُ فرع يتَعَدَّى غليه وَالثَّانِي أَن يكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ حكمهَا
فصل فِي تَرْجِيح الْقيَاس على الْقيَاس
أَحدهمَا أَن يكون الْوَجْه الطاعن عَلَيْهَا الْمُتَعَلّق بحكمها يرجع إِلَى جملَة الْعلَّة وَالثَّانِي يرجع إِلَى جُزْء من أَجْزَائِهَا أما الرَّاجِع إِلَى جُزْء من أَجْزَائِهَا فَهُوَ أَن يكون وصف من أوصافها لَا يُؤثر فِي الحكم وَأما الرَّاجِع إِلَى جُمْلَتهَا فَهُوَ مَا يعلق بدلالتها على الحكم وَهَذَا بِأَن تكون الْعلَّة لَا تلِيق بِأَن تدل على الحكم وَهَذَا هُوَ اخْتِلَاف الْوَضع أَو بِأَن لَا يشافه الحكم فِي الدّلَالَة وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُمكن مَعَه القَوْل بِمُوجب الْعلَّة وَأما بِأَن تكون الْعلَّة تدل على الحكم وعَلى نقيضه فَيكون الْقلب وَأما إِن تدل علته فِي مَوضِع وَلَا تدل عَلَيْهِ فِي مَوضِع آخر وَقد وجدت فِيهِ وَهَذَا هُوَ النَّقْض وَأما الْكسر فَلَيْسَ هُوَ بقسم آخر لِأَن الْكسر هُوَ مؤلف من عدم وتأثر وَنقض على مَا تقدم بَيَانه
ضميمة فِي الْقلب
وَاعْلَم أنني نظرت فِي هَذَا الْكتاب بعد سِنِين مُنْذُ ألفته فَأَرَدْت أَن أضم إِلَيْهِ كلَاما فِي الْقلب أَكثر مِمَّا ذكرته فِي الْكتاب أَولا
اعْلَم أَن قلب الْقيَاس هُوَ أَن يعلق القالب للْقِيَاس على الْعلَّة نقيض الحكم الْمَذْكُور فِي الْقيَاس وَيرد الْفَرْع إِلَى ذَلِك الأَصْل بِعَيْنِه فَلَا يكون أحد الْحكمَيْنِ بِأَن يعلق بِالْعِلَّةِ أولى من أَن يعلق بِهِ الآخر وَلَا يَصح أَن يعلقا جَمِيعًا بهَا لتنافيهما وَلقَائِل أَن يَقُول إِن وجود الْقلب لَا يَصح لِأَن القالب إِمَّا أَن يعلق على الْعلَّة مثل الحكم الَّذِي علقه القائس أَو خِلَافه أَو نقيضه فان(2/459)
علق عَلَيْهَا مثل الحكم فَلَيْسَ ذَلِك بقلب بل هُوَ تَكْرِير الْقيَاس مِثَال ذَلِك أَن يَقُول القائس الِاعْتِكَاف لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ اصله الْوُقُوف بِعَرَفَة فيقلبه القالب فَيَقُول فَوَجَبَ أَن يكون من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ وَلَا يكون ذَلِك قلبا وَلكنه كرر الْقيَاس وَإِن علق على الْعلَّة حكما مُخَالفا لحكم الْقيَاس لم يكن ايضا قالبا وَلم يُمكن أَن يُقَال لَيْسَ بِأَن تعلق بهَا هَذَا الحكم أولى من الآخر لِأَن الْحكمَيْنِ الْمُخْتَلِفين غير الضدين يَصح اجْتِمَاعهمَا مِثَال ذَلِك أَن يَقُول الْقَائِل فِي الِاعْتِكَاف إِنَّه لبث فِي كَانَ مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى آخر إِلَيْهِ اصله الْوُقُوف بِعَرَفَة فَيَقُول القالب لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَجَاز أَن يكون طَاعَة وَعبادَة أَصله الْوُقُوف بِعَرَفَة فَلَا يكون قد قلب الْقيَاس لِأَنَّهُ يَصح اجْتِمَاع الْحكمَيْنِ أَعنِي أَن يكون اللّّبْث طَاعَة وَأَن يكون من شَرطه اقتران معنى آخر إِلَيْهِ إِذْ هَذَانِ الحكمان لَا يتنافيان فَلم يجز أَن يكون الْقلب بِذكر حكم مُخَالف لحكم الْقيَاس غير مضاد لَهُ وَلَا متناقض وَإِن كَانَ الحكم فِي الْقلب نقيض حكم الْقيَاس لم يَصح ايضا لِأَن من شَرط الْقلب أَن يرد الْفَرْع إِلَى أصل الْقيَاس وَيكون القائس والقالب قد صدقا فِي إِثْبَات حكميهما فِي الأَصْل والنقيضان لَا يجوز أَن يجتمعا فِي شَيْء وَاحِد على حد وَاحِد مِثَال ذَلِك أَن يَقُول قَائِل فِي الِاعْتِكَاف إِنَّه لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ فَيَقُول القالب فَلم يكن من شَرطه اقتران معنى لِأَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ لَا يصدقان فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة وَهُوَ الأَصْل لِأَنَّهُمَا نقيضان الا ترى أَنه لَا يجوز أَن يكون من شَرط الْوُقُوف اقتران معنى إِلَيْهِ وَلَيْسَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ أصلا فَلم يَصح الْقلب بِذكر نقيض حكم الْقيَاس فَبَان أَنه لَا وجوب للقلب وَالْجَوَاب أَنه قد يجوز أَن يعلق القالب على الْعلَّة حكما غير حكم الْقيَاس مِمَّا يجوز أَن يجْتَمع مَعَه فِي الأَصْل وَلَا يجوز أَن يجْتَمع فِي الْفَرْع لأجل إِجْمَاع من الامة أَو من القائس والقالب فيتنافى الحكمان فِي الْفَرْع بِوَاسِطَة الْإِجْمَاع مِثَال ذَلِك أَن يَقُول قَائِل فِي الِاعْتِكَاف لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان(2/460)
مَخْصُوص فَكَانَ من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ اصله الْوُقُوف ونفرض أَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَيْسَ من شَرط الِاعْتِكَاف النِّيَّة وَأَنه لَو ثَبت أَن من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ لم يكن إِلَّا الصَّوْم فثبوت هَذَا الْقيَاس مَعَ هَذَا الْإِجْمَاع يَقْتَضِي كَون الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف فاذا قَالَ القالب لِأَنَّهُ لبث فِي مَكَان مَخْصُوص فَلم يكن من شَرطه الصَّوْم اقتضي نفي كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف وَالْقِيَاس الأول فِي الْإِجْمَاع اقْتضى كَون الصَّوْم شرطا فِي الِاعْتِكَاف فيتنافى الحكمان فِي الْفَرْع لأجل هَذَا الْإِجْمَاع وَلم يتناف الحكمان بأنفسهما فِي الأَصْل أَعنِي أَن يكون من شَرطه اقتران معنى إِلَيْهِ وَأَن لَا يكون الصَّوْم من شَرطه وَلم نفرض أَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَو كَانَ من شَرط الْوُقُوف اقتران معنى إِلَيْهِ لما كَانَ إِلَّا الصَّوْم فصح أَن للقلب وجودا
وَقد يكون الحكم فِي الْفَرْع ذَا جِهَتَيْنِ لَا تتنافيان فِي الأَصْل بل توجدان فِيهِ وتتنافيان فِي الْفَرْع لأجل إِجْمَاع من الامة أَو من الْخصم مِثَال ذَلِك أَن يَقُول قَائِل الرَّأْس عُضْو من أَعْضَاء الطَّهَارَة فَلم يتَقَدَّر الْغَرَض فِيهِ بِأَقَلّ مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم أَصله الْوَجْه فيقلب الْخصم ذَلِك فَيَقُول فَوَجَبَ أَن لَا يتَقَدَّر فِيهِ بِالربعِ أَصله الْوَجْه وَهَذَانِ الحكمان لَا يتنافيان فِي الْوَجْه ويتنافيان فِي الْفَرْع على قَول الْخَصْمَيْنِ لِأَنَّهُمَا قد اتفقَا على أَنه إِذا لم يتَقَدَّر الْفَرْض فِي الرَّأْس بِالربعِ فَالْوَاجِب تَعْلِيقه بِأول مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْمسْح لبُطْلَان وجوب مسح جَمِيعه عِنْد الْخَصْمَيْنِ فَمَتَى ثَبت ان الْفَرْض لَا يتَعَلَّق بِأول الِاسْم صَحَّ قَول الْحَنَفِيّ لِاتِّفَاق مِنْهُ وَمن الشَّافِعِي وَمَتى ثَبت أَن الْفَرْض لَا يتَقَدَّر بِالربعِ ثَبت أَنه يتَعَلَّق بِأول مَا يَقع الِاسْم عَلَيْهِ لأجل اتِّفَاقهمَا على ذَلِك فتنافى الحكمان فِي الْفَرْع فَلم يكن بِأَن يعلق أَحدهمَا بِالْعِلَّةِ أولى من أَن يعلق بهَا الآخر وَهَذَا الحكمان هما منفصلان وَإِن لم يتنافيا بأنفسهما
وَيدخل فِي الْقلب قلب التَّسْوِيَة مِثَاله أَن يَقُول قَائِل فِي طَلَاق الْمُكْره لِأَنَّهُ مُكَلّف مَالك للطَّلَاق فَوَقع طَلَاقه أَصله الْمُخْتَار فَيَقُول القالب فَوَجَبَ(2/461)
أَن يَسْتَوِي حكم إِيقَاعه للطَّلَاق وَحكم إِقْرَاره بِهِ كالمختار وَهَذَا الحكمان لَا يتنافيان فِي الأَصْل لِأَن طَلَاق الْمُخْتَار يَقع وَمَعَ ذَلِك فَحكم إِيقَاعه للطَّلَاق كَحكم إِقْرَاره بِهِ فِي اللُّزُوم والثبوت ويتنافى هَذَانِ الحكمان فِي الْفَرْع لِأَنَّهُ إِذا كَانَ طَلَاق الْمُكْره كاقراره بِالطَّلَاق وَكَانَ إِقْرَاره بِالطَّلَاق لَا يثبت حكمه وَجب أَن يكون طَلَاقه لَا يثبت حكمه وَذَلِكَ منَاف لِلْقَوْلِ بِأَن طَلَاقه يثبت حكمه فَهَذَا وَجه من وُجُوه الْقلب صَحِيح لِأَن الْحكمَيْنِ قد تنافيا فِي الْفَرْع لأجل الْإِجْمَاع فَلم يكن بِأَن يعلق أَحدهمَا بِالْعِلَّةِ أولى من الآخر فَبَان أَن للقلب وجودا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهمَا أَن يكون أحد الْحكمَيْنِ مُجملا من غير ذكر تَسْوِيَة وَالْآخر مفصلا كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الِاعْتِكَاف وَالْآخر أَن يكون الحكمان مفصلين غير متنافيين بِأَن يكون الحكم فِي الْفَرْع ذَا جِهَتَيْنِ فيقصد كل وَاحِد من القائس والقالب إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَلَا تتنافيان فِي الأَصْل وتتنافيان فِي الْفَرْع لأجل الْإِجْمَاع وَالْآخر أَن يكون أحد الْحكمَيْنِ مفصلا وَالْآخر مُجملا وإجماله من جِهَة التَّسْوِيَة كَمَا ذَكرْنَاهُ آخرا
تمّ وَالْحَمْد لله على ذَلِك(2/462)