مُقَدّمَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد شمس الْأَئِمَّة أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي سهل السَّرخسِيّ إملاء فِي يَوْم السبت سلخ شَوَّال سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِي زَاوِيَة من حِصَار أوزجند الْحَمد لله الحميد الْمجِيد المبدىء المعيد الفعال لما يُرِيد ذِي الْبَطْش الشَّديد وَالْأَمر الحميد وَالْحكم الرشيد والوعد والوعيد
نحمده على مَا أكرمنا بِهِ من مِيرَاث النُّبُوَّة ونشكره على مَا هدَانَا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ أصل فِي الدّين والمروة وَهُوَ الْعلم الَّذِي هُوَ أنفس الأعلاق وَأجل مكتسب فِي الْآفَاق
فَهُوَ أعز عِنْد الْكَرِيم من الكبريت الْأَحْمَر والزمرد الْأَخْضَر ونثارة الدّرّ والعنبر ونفيس الْيَاقُوت والجوهر من جمعه فقد جمع الْعِزّ والشرف وَمن عَدمه فقد عدم مجامع الْخَيْر واللطف يُقَوي الضَّعِيف وَيزِيد عز الشريف يرفع الخامل الحقير ويمول العائل الْفَقِير بِهِ يطْلب رضَا الرَّحْمَن وتستفتح أَبْوَاب الْجنان وينال الْعِزّ فِي الدّين وَالدُّنْيَا والمحمدة فِي البدء والعقبى لأَجله بعث الله النَّبِيين وختمهم بِسَيِّد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله الطيبين
وَبعد فَإِن من أفضل الْأُمُور وَأَشْرَفهَا عِنْد الْجُمْهُور بعد معرفَة أصل الدّين الِاقْتِدَاء بالأئمة الْمُتَقَدِّمين فِي بذل المجهود لمعْرِفَة الْأَحْكَام فبها يَتَأَتَّى الْفَصْل بَين الْحَلَال وَالْحرَام وَقد سمي الله تَعَالَى ذَلِك فِي مُحكم تَنْزِيله الْخَيْر الْكثير فَقَالَ {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا} فسر ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيره الْحِكْمَة بِعلم الْفِقْه وَهُوَ المُرَاد بقوله عز وَجل {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} أَي بِبَيَان الْفِقْه ومحاسن الشَّرِيعَة فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خياركم فِي الْجَاهِلِيَّة خياركم فِي الْإِسْلَام إِذا تفقهوا وَإِلَى ذَلِك دَعَا الله الصَّحَابَة الَّذين هم(1/9)
أَعْلَام الدّين وقدوة الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من الْفِقْه فِي الدّين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَلِيل من الْفِقْه خير من كثير من الْعَمَل
غير أَن تَمام الْفِقْه لَا يكون إِلَّا باجتماع ثَلَاثَة أَشْيَاء الْعلم بالمشروبات والإتقان فِي معرفَة ذَلِك بِالْوُقُوفِ على النُّصُوص بمعانيها وَضبط الْأُصُول بفروعها ثمَّ الْعَمَل بذلك
فتمام الْمَقْصُود لَا يكون إِلَّا بعد الْعَمَل بِالْعلمِ وَمن كَانَ حَافِظًا للمشروبات من غير إتقان فِي الْمعرفَة فَهُوَ من جملَة الروَاة وَبعد الإتقان إِذا لم يكن عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ فَقِيه من وَجه دون وَجه فَأَما إِذا كَانَ عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ الْفَقِيه الْمُطلق الَّذِي أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ هُوَ أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَهُوَ صفة المقدمين من أَئِمَّتنَا أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُم وَلَا يخفى ذَلِك على من يتَأَمَّل فِي أَقْوَالهم وأحوالهم عَن إنصاف
فَذَلِك الَّذِي دَعَاني إِلَى إملاء شرح فِي الْكتب الَّتِي صنفها مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله بآكد إِشَارَة وأسهل عبارَة
وَلما انْتهى الْمَقْصُود من ذَلِك رَأَيْت من الصَّوَاب أَن أبين للمقتسبين أصُول مَا بنيت عَلَيْهَا شرح الْكتب ليَكُون الْوُقُوف على الْأُصُول معينا لَهُم على فهم مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِي الْفُرُوع ومرشدا لَهُم إِلَى مَا وَقع الْإِخْلَال بِهِ فِي بَيَان الْفُرُوع
فالأصول مَعْدُودَة والحوادث ممدودة والمجموعات فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة للْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وَإِنَّا فِيمَا قصدته بهم من المقتدين رَجَاء أَن أكون من الْأَشْبَاه فَخير الْأُمُور الِاتِّبَاع وشرها الابتداع(1/10)
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ أتكل وَإِلَيْهِ أبتهل وَبِه أَعْتَصِم وَله أستسلم وبحوله أعتضد وإياه أعْتَمد فَمن اعْتصمَ بِهِ فَازَ بالخيرات سَهْمه ولاح فِي الصعُود نجمه
فأحق مَا يبْدَأ بِهِ فِي الْبَيَان الْأَمر والنهى لِأَن مُعظم الِابْتِلَاء بهما وبمعرفتهما تتمّ معرفَة الْأَحْكَام ويتميز الْحَلَال من الْحَرَام
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْأَمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن الْأَمر أحد أَقسَام الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْخَبَر والاستخبار وَهُوَ عِنْد أهل اللِّسَان قَول الْمَرْء لغيره افْعَل وَلَكِن الْفُقَهَاء قَالُوا هَذِه الْكَلِمَة إِذا خَاطب الْمَرْء بهَا من هُوَ مثله أَو دونه فَهُوَ أَمر وَإِذا خَاطب بهَا من هُوَ فَوْقه لَا يكون أمرا لِأَن الْأَمر يتَعَلَّق بالمأمور
فَإِن كَانَ الْمُخَاطب مِمَّن يجوز أَن يكون مَأْمُور الْمُخَاطب كَانَ أمرا وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يجوز أَن يكون مأموره لَا يكون أمرا كَقَوْل الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني يكون سؤالا وَدُعَاء لَا أمرا
ثمَّ المُرَاد بِالْأَمر يعرف بِهَذِهِ الصِّيغَة فَقَط وَلَا يعرف حَقِيقَة الْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة فِي قَول الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ يعرف حَقِيقَة المُرَاد بِالْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة
وعَلى هَذَا يبتني الْخلاف فِي أَفعَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مُوجبَة أم لَا وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي عَن سمته وطريقته فِي أَفعاله وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} وَالْمرَاد فعله وطريقته وَقَالَ تَعَالَى {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} أَي أفعالهم وَقَالَ تَعَالَى {وتنازعتم فِي الْأَمر} أَي فِيمَا تقدمون عَلَيْهِ من الْفِعْل وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الْأَمر كُله لله}(1/11)
المُرَاد الشَّأْن وَالْفِعْل وَالْعرب تَقول أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أَي حَاله وأفعاله وَإِذا ثَبت أَن الْأَمر يعبر بِهِ عَن الْفِعْل كَانَ حَقِيقَة فِيهِ يُوضحهُ أَن الْعَرَب تفرق بَين جمع الْأَمر الَّذِي هُوَ القَوْل فَقَالُوا فِيهِ أوَامِر وَالْأَمر الَّذِي هُوَ الْفِعْل فَقَالُوا فِي جمعه أُمُور فَفِي التَّفْرِيق بَين الجمعين دلَالَة على أَن كل وَاحِد مِنْهُ حَقِيقَة وَمن يَقُول إِن اسْتِعْمَال الْأَمر فِي الْفِعْل بطرِيق الْمجَاز والاتساع فَلَا بُد لَهُ من بَيَان الْوَجْه الَّذِي اتَّسع فِيهِ لأَجله لِأَن الاتساع وَالْمجَاز لَا يكون إِلَّا بطرِيق مَعْلُوم يستعار اللَّفْظ بذلك الطَّرِيق لغير حَقِيقَته مجَازًا
وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُذُوا عني مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي تنصيص على وجوب اتِّبَاعه فِي أَفعاله
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن المُرَاد بِالْأَمر من أعظم الْمَقَاصِد فَلَا بُد من أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع هُوَ حَقِيقَة يعرف بِهِ اعْتِبَارا بِسَائِر الْمَقَاصِد من الْمَاضِي والمستقبل وَالْحَال وَهَذَا لِأَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمَقَاصِد وَلَا يتَحَقَّق انْتِفَاء الْقُصُور إِلَّا بعد أَن يكون لكل مَقْصُود عبارَة هُوَ مَخْصُوص بهَا ثمَّ قد تسْتَعْمل تِلْكَ الْعبارَة لغيره مجَازًا بِمَنْزِلَة أَسمَاء الْأَعْيَان فَكل عين مُخْتَصّ باسم هُوَ مَوْضُوع لَهُ وَقد يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا نَحْو أَسد فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة اسْم لعين وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا يُوضحهُ أَن قَوْلنَا أَمر مصدر والمصادر لَا بُد أَن تُوجد عَن فعل أَو يُوجد عَنْهَا فعل على حسب اخْتِلَاف أهل اللِّسَان فِي ذَلِك ثمَّ لَا تَجِد أحدا من أهل اللِّسَان يُسَمِّي الْفَاعِل للشَّيْء آمرا أَلا ترى أَنهم لَا يَقُولُونَ للآكل والشارب آمرا فَبِهَذَا تبين أَن اسْم الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْفِعْل حَقِيقَة وَلَا يُقَال الْأَمر اسْم عَام يدْخل تَحْتَهُ الْمُشْتَقّ وَغَيره لِأَن الْأَمر مُشْتَقّ فِي الأَصْل فَإِنَّهُ يُقَال أَمر يَأْمر أمرا فَهُوَ آمُر وَمَا كَانَ مشتقا فِي الأَصْل لَا يُقَال إِنَّه يتَنَاوَل الْمُشْتَقّ وَغَيره حَقِيقَة وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِيمَا هُوَ غير مُشْتَقّ فِي الأَصْل(1/12)
كاللسان وَنَحْوه وَفِي قَول الْقَائِل رَأَيْت فلَانا يَأْمر بِكَذَا وَيفْعل بِخِلَافِهِ دَلِيل ظَاهر على أَن الْفِعْل غير الْأَمر حَقِيقَة
فَأَما مَا تلوا من الْآيَات فَنحْن لَا ننكر اسْتِعْمَال الْأَمر فِي غير مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ لِأَن ذَلِك فِي الْقُرْآن على وُجُوه مِنْهَا الْقَضَاء قَالَ الله تَعَالَى {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض} وَقَالَ تَعَالَى {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} وَمِنْهَا الدّين قَالَ الله تَعَالَى {حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله} وَمِنْهَا القَوْل قَالَ الله تَعَالَى {يتنازعون بَينهم أَمرهم} وَمِنْهَا الْوَحْي قَالَ الله تَعَالَى {يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ} وَمِنْهَا الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى {أَتَى أَمر الله} وَمِنْهَا الْعَذَاب قَالَ الله تَعَالَى {فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك وَمَا زادوهم غير تتبيب} وَمِنْهَا الذَّنب قَالَ الله تَعَالَى {فذاقت وبال أمرهَا} فإمَّا أَن نقُول كل ذَلِك يرجع إِلَى شَيْء وَاحِد وَهُوَ أَن تَمام ذَلِك كُله بِاللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل إِن الْأَمر كُله لله} ثمَّ فهمنا ذَلِك بِمَا هُوَ صِيغَة الْأَمر حَقِيقَة فَقَالَ {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وكما قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} أَو نقُول مَا كَانَ حَقِيقَة لشَيْء لَا يجوز نَفْيه عَنهُ بِحَال وَمَا كَانَ مُسْتَعْملا بطرِيق الْمجَاز لشَيْء يجوز نَفْيه عَنهُ كاسم الْأَب فَهُوَ حَقِيقَة للْأَب الْأَدْنَى فَلَا يجوز نَفْيه عَنهُ ومجاز للْجدّ فَيجوز نَفْيه عَنهُ بِإِثْبَات غَيره ثمَّ يجوز نفي هَذِه الْعبارَة عَن الْفِعْل وَغَيره مِمَّا لَا يُوجد فِيهِ هَذِه الصِّيغَة فَإِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ مَا أمرت الْيَوْم بِشَيْء كَانَ صَادِقا وَإِن كَانَ قد فعل أفعالا فَعرفنَا أَن الِاسْتِعْمَال فِيهِ مجَاز وَطَرِيق هَذَا الْمجَاز أَنهم فِي قَوْلهم أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أجروا اسْم الْمصدر على الْمَفْعُول بِهِ كَقَوْلِهِم هَذَا الدِّرْهَم ضرب الْأَمِير وَهَذَا الثَّوْب نسج الْيمن وأيد مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة خلع النَّاس نعَالهمْ فَلَمَّا فرغ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا حملكم على مَا صَنَعْتُم وَلَو كَانَ فعله يُوجب الِاتِّبَاع مُطلقًا لم يكن لهَذَا السُّؤَال مِنْهُ معنى
وَلما وَاصل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاصل أَصْحَابه فَأنْكر عَلَيْهِم وَقَالَ إِنِّي لست(1/13)
كأحدكم إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني وَفِي اسْتِعْمَال صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله خُذُوا عني مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي بَيَان أَن نفس الْفِعْل لَا يُوجب الِاتِّبَاع لَا محَالة فقد كَانُوا مشاهدين لذَلِك وَلَو ثَبت بِهِ وجوب الِاتِّبَاع خلا هَذَا اللَّفْظ عَن فَائِدَة وَذَلِكَ لَا يجوز اعْتِقَاده فِي كَلَام صَاحب الشَّرْع فِيمَا يرجع إِلَى إحكام الْبَيَان
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر الَّذِي يذكر فِي مُقَدّمَة هَذَا الْفَصْل
اعْلَم أَن صِيغَة الْأَمر تسْتَعْمل على سَبْعَة أوجه على الْإِلْزَام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} وَقَالَ تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وعَلى النّدب كَقَوْلِه تَعَالَى {وافعلوا الْخَيْر} وَقَوله تَعَالَى {وأحسنوا} وعَلى الْإِبَاحَة كَقَوْلِه تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} وعَلى الْإِرْشَاد إِلَى مَا هُوَ الأوثق كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} وعَلى التقريع كَقَوْلِه تَعَالَى {فَأتوا بِسُورَة من مثله} وعَلى التوبيخ كَقَوْلِه تَعَالَى {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك} وعَلى السُّؤَال كَقَوْلِه تَعَالَى {رَبنَا تقبل منا}
وَلَا خلاف أَن السُّؤَال والتوبيخ والتقريع لَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر وَإِن كَانَ فِي صُورَة الْأَمر وَلَا خلاف أَن اسْم الْأَمر يتَنَاوَل مَا هُوَ للإلزام حَقِيقَة ويختلفون فِيمَا هُوَ للْإِبَاحَة أَو الْإِرْشَاد أَو النّدب فَذكر الْكَرْخِي والجصاص رحمهمَا الله أَن هَذَا لَا يُسمى أمرا حَقِيقَة وَإِن كَانَ الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا وَاخْتلف فِيهِ أَصْحَاب الشَّافِعِي فَمنهمْ من يَقُول اسْم الْأَمر يتَنَاوَل ذَلِك كُله حَقِيقَة وَمِنْهُم من يَقُول مَا كَانَ للنَّدْب يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر حَقِيقَة لِأَنَّهُ يُثَاب على فعله ونيل الثَّوَاب يكون بِالطَّاعَةِ وَالطَّاعَة فِي الائتمار بِالْأَمر وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي فَإِن نيل الثَّوَاب بِفعل النَّوَافِل من الصَّوْم(1/14)
وَالصَّلَاة لِأَنَّهُ عمل بِخِلَاف هوى النَّفس الأمارة بالسوء على قصد ابْتِغَاء مرضاة الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى} وَلَيْسَ من ضَرُورَة هَذَا كَون الْعَمَل مَأْمُورا بِهِ
والفريق الثَّانِي يَقُولُونَ مَا يُفِيد الْإِبَاحَة وَالنَّدْب فموجبه بعض مُوجب مَا هُوَ الْإِيجَاب لِأَن بِالْإِيجَابِ هَذَا وَزِيَادَة فَيكون هَذَا قاصرا لَا مغايرا وَالْمجَاز مَا جَاوز أَصله وتعداه
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الِاسْم فِيهِ حَقِيقَة وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِن مُوجب الْأَمر حَقِيقَة الْإِيجَاب وَقطع التَّخْيِير لِأَن ذَلِك من ضَرُورَة الْإِيجَاب وبالإباحة وَالنَّدْب لَا يَنْقَطِع التَّخْيِير
عرفنَا أَن مُوجبه غير مُوجب الْأَمر حَقِيقَة وَإِنَّمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر مجَازًا
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْعَرَب تسمي تَارِك الْأَمر عَاصِيا وَبِه ورد الْكتاب قَالَ الله تَعَالَى {أفعصيت أَمْرِي} وَقَالَ الْقَائِل أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني وَكَانَ من التَّوْفِيق قتل ابْن هَاشم وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوى فَلم يستبينوا الرشد إِلَّا ضحى الْغَد فَلَمَّا عصوني كنت فيهم وَقد أرى غوايتهم فِي أنني غير مهتدي وتارك الْمُبَاح وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ لَا يكون عاصبا فَعرفنَا أَن الِاسْم لَا يتَنَاوَلهُ حَقِيقَة ثمَّ حد الْحَقِيقَة فِي الْأَسَامِي مَا لَا يجوز نَفْيه عَمَّا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ ورأينا أَن الْإِنْسَان لَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم سِتَّة من شَوَّال كَانَ صَادِقا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم رَمَضَان كَانَ كَاذِبًا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الضُّحَى كَانَ صَادِقا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الظّهْر كَانَ كَاذِبًا
فَفِي تَجْوِيز نفي صِيغَة الْأَمر عَن الْمَنْدُوب دَلِيل ظَاهر على أَن الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا لَا حَقِيقَة
فَأَما الْكَلَام فِي مُوجب الْأَمر فَالْمَذْهَب عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء أَن مُوجب مطلقه الْإِلْزَام إِلَّا بِدَلِيل
وَزعم ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن مُوجبه الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ وَادّعى أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي فقد ذكر فِي أَحْكَام الْقُرْآن فِي قَوْله {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} أَنه يحْتَمل أَمريْن
وَأنكر هَذَا أَكثر أَصْحَابه وَقَالُوا مُرَاده أَنه يحْتَمل أَن يكون بِخِلَاف الْإِطْلَاق وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعُمُوم إِنَّه يحْتَمل الْخُصُوص بِأَن يرد دَلِيل يَخُصُّهُ وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده الْعُمُوم(1/15)
وَزَعَمُوا أَنه جزم على أَن الْأَمر للْوُجُوب فِي سَائِر كتبه
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك إِن مُوجب مطلقه الْإِبَاحَة وَقَالَ بَعضهم مُوجبه النّدب
أما الواقفون فَيَقُولُونَ قد صَحَّ اسْتِعْمَال هَذِه الصِّيغَة لمعان مُخْتَلفَة كَمَا بَينا فَلَا يتَعَيَّن شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة فِي الِاحْتِمَال وَهَذَا فَاسد جدا فَإِن الصَّحَابَة امتثلوا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا سمعُوا مِنْهُ صِيغَة الْأَمر من غير أَن اشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَو لم يكن مُوجب هَذِه الصِّيغَة مَعْلُوما بهَا لاشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَا يُقَال إِنَّمَا عرفُوا ذَلِك بِمَا شاهدوا من الْأَحْوَال لَا بِصِيغَة الْأَمر لِأَن من كَانَ غَائِبا مِنْهُم عَن مَجْلِسه اشْتغل بِهِ كَمَا بلغه صِيغَة الْأَمر حسب مَا اشْتغل بِهِ من كَانَ حَاضرا ومشاهدة الْحَال لَا تُوجد فِي حق من كَانَ غَائِبا وَحين دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فَأخر الْمَجِيء لكَونه فِي الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ أما سَمِعت الله يَقُول {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} فاستدل عَلَيْهِ بِصِيغَة الْأَمر فَقَط وَعرف النَّاس كلهم دَلِيل على مَا قُلْنَا فَإِن من أَمر من تلْزمهُ طَاعَته بِهَذِهِ الصِّيغَة فَامْتنعَ كَانَ ملاما معاتبا وَلَو كَانَ الْمَقْصُود لَا يصير مَعْلُوما بهَا للاحتمال لم يكن معاتبا
ثمَّ كَمَا أَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمعَانِي فَكَذَلِك كل عبارَة تكون لِمَعْنى خَاص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض وَصِيغَة الْأَمر أحد تصاريف الْكَلَام فَلَا بُد من أَن يكون لِمَعْنى خَاص فِي أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض مغير لَهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام
وَمن يَقُول بِأَن مُوجب مُطلق الْأَمر الْوَقْف لَا يجد بدا من أَن يَقُول مُوجب مُطلق النَّهْي الْوَقْف أَيْضا للاحتمال فَيكون هَذَا قولا باتحاد موجبهما وَهُوَ بَاطِل وَفِي القَوْل بِأَن مُوجب الْأَمر الْوَقْف إبِْطَال حقائق الْأَشْيَاء وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرُوهُ نعتبره فِي أَن لَا نجعله محكما بِمُجَرَّد الصِّيغَة لَا فِي أَن لَا يثبت مُوجبه أصلا أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره إِن شِئْت فافعل كَذَا وَإِن شِئْت فافعل كَذَا كَانَ مُوجب كَلَامه التَّخْيِير عِنْد الْعُقَلَاء وَاحْتِمَال غَيره وَهُوَ الزّجر قَائِم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر}(1/16)
وَأما الَّذين قَالُوا مُوجبه الْإِبَاحَة اعتبروا الِاحْتِمَال لكِنهمْ قَالُوا من ضَرُورَة الْأَمر ثُبُوت صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ فَإِن الْحَكِيم لَا يَأْمر بالقبيح فَيثبت بمطلقه مَا هُوَ من ضَرُورَة هَذِه الصِّيغَة وَهُوَ التَّمْكِين من الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَالْإِبَاحَة وَهَذَا فَاسد أَيْضا فصفة الْحسن بِمُجَرَّدِهِ تثبت بِالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لِمَعْنى خَاص فَلَا بُد أَن تثبت بمطلقها حسنا بِصفة وَيعْتَبر الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن مُطلق النَّهْي يُوجب قبح الْمنْهِي عَنهُ على وَجه يجب الِانْتِهَاء عَنهُ فَكَذَلِك مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ على وَجه يجب الائتمار
وَالَّذين قَالُوا بالندب ذَهَبُوا إِلَى أَن الْأَمر لطلب الْمَأْمُور بِهِ من الْمُخَاطب وَذَلِكَ يرجح جَانب الْإِقْدَام عَلَيْهِ ضَرُورَة
وَهَذَا التَّرْجِيح قد يكون بالإلزام وَقد يكون بالندب فَيثبت أقل الْأَمريْنِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن بِهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل على الزِّيَادَة وَهَذَا ضَعِيف فَإِن الْأَمر لما كَانَ لطلب الْمَأْمُور بِهِ اقْتضى مطلقه الْكَامِل من الطّلب إِذْ لَا قُصُور فِي الصِّيغَة وَلَا فِي ولَايَة الْمُتَكَلّم فَإِنَّهُ مفترض الطَّاعَة بِملك الْإِلْزَام
ثمَّ إِمَّا أَن يكون الْأَمر حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب خَاصَّة فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يحمل على حَقِيقَة أَو يكون حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب جَمِيعًا فَيثبت بمطلقه الْإِيجَاب لتَضَمّنه النّدب وَالزِّيَادَة لَا يجوز أَن يُقَال هُوَ للنَّدْب حَقِيقَة وللإيجاب مجَازًا لِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى تصويب قَول من قَالَ إِن الله لم يَأْمر بِالْإِيمَان وَلَا بِالصَّلَاةِ وَبطلَان هَذَا لَا يخفى على ذِي لب
وَمَا قَالُوا يبطل بِلَفْظ الْعَام فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الثَّلَاثَة فَمَا فَوق ذَلِك ثمَّ عِنْد الْإِطْلَاق لَا يحمل على الْمُتَيَقن وَهُوَ الْأَقَل وَإِنَّمَا يحمل على الْجِنْس لتكثير الْفَائِدَة بِهِ
وَكَذَا صِيغَة الْأَمر وَلَو لم يكن فِي القَوْل بِمَا قَالُوا إِلَّا ترك الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لَكَانَ ذَلِك كَافِيا فِي وجوب الْمصير إِلَى مَا قُلْنَا فَإِن الْمَنْدُوب بِفِعْلِهِ يسْتَحق الثَّوَاب وَلَا يسْتَحق بِتَرْكِهِ الْعقَاب وَالْوَاجِب يسْتَحق بِفِعْلِهِ الثَّوَاب وَيسْتَحق بِتَرْكِهِ الْعقَاب فَالْقَوْل بِأَن مُقْتَضى مُطلق الْأَمر الْإِيجَاب وَفِيه معنى الِاحْتِيَاط من كل وَجه أولى(1/17)
ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة قَوْلنَا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} فَفِي نفي التَّخْيِير بَيَان أَن مُوجب الْأَمر الْإِلْزَام ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَمن يعْص الله وَرَسُوله} وَلَا يكون عَاصِيا بترك الِامْتِثَال إِلَّا أَن يكون مُوجبه الْإِلْزَام وَقَالَ {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} أَي أَن تسْجد فقد ذمه على الِامْتِنَاع من الِامْتِثَال والذم بترك الْوَاجِب وَقَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة} وَخَوف الْعقُوبَة فِي ترك الْوَاجِب وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول ترك الائتمار لَا يكون خلافًا فَإِن الْمَأْمُور فِي الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك وَلَا شكّ فِي أَن ترك الائتمار بِالْفطرِ من غير عذر يكون خلافًا فِيمَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ
ثمَّ الْأَمر يطْلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه يشْهد بِهِ الْكتاب وَالْإِجْمَاع والمعقول
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره} فإضافة الْوُجُود وَالْقِيَام إِلَى الْأَمر ظَاهره يدل على أَن الإيجاد يتَّصل بِالْأَمر وَكَذَلِكَ قَوْله {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَالْمُرَاد حَقِيقَة هَذِه الْكَلِمَة عندنَا لَا أَن يكون مجَازًا عَن التكوين كَمَا زعم بَعضهم فَإنَّا نستدل بِهِ على أَن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق لِأَنَّهُ سَابق على المحدثات أجمع وحرف الْفَاء للتعقيب
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذِه الصِّيغَة لطلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ فَإِن من أَرَادَ أَن يطْلب عملا من غَيره لَا يجد لفظا مَوْضُوعا لإِظْهَار مَقْصُوده سوى قَوْله افْعَل وَبِهَذَا يثبت أَن هَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لهَذَا الْمَعْنى خَاصَّة كَمَا أَن اللَّفْظ الْمَاضِي مَوْضُوع للمضي والمستقبل للاستقبال وَكَذَلِكَ الْحَال
ثمَّ سَائِر الْمعَانِي الَّتِي وضعت(1/18)
الْأَلْفَاظ لَهَا كَانَت لَازِمَة لمطلقها إِلَّا أَن يقوم الدَّلِيل بِخِلَافِهِ فَكَذَلِك معنى طلب الْمَأْمُور بِهَذِهِ الصِّيغَة وَلِأَن قَوْلنَا أَمر فعل مُتَعَدٍّ لَازمه ائتمر والمتعدي لَا يتَحَقَّق بِدُونِ اللَّازِم فَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون أمرا بِدُونِ الائتمار كَمَا لَا يكون كسرا بِدُونِ الانكسار وَحَقِيقَة الائتمار بِوُجُود الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا أَن الْوُجُود لَو اتَّصل بِالْأَمر وَلَا صنع للمخاطب فِيهِ سقط التَّكْلِيف وَهَذَا لَا وَجه لَهُ لِأَن فِي الائتمار للمخاطب ضرب اخْتِيَار بِقدر مَا يَنْتَفِي بِهِ الْجَبْر وَيسْتَحق الثَّوَاب بالإقدام على الائتمار وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِذا اتَّصل الْوُجُود بِصِيغَة الْأَمر فَلم تثبت حَقِيقَة الْوُجُود بِهَذِهِ الصِّيغَة تَحَرُّزًا عَن القَوْل بالجبر فأثبتنا بِهِ آكِد مَا يكون من وُجُوه الطّلب وَهُوَ الْإِلْزَام أَلا ترى أَن بِمُطلق النَّهْي يثبت آكِد مَا يكون من طلب الإعدام وَهُوَ وجوب الِانْتِهَاء وَلَا يثبت الانعدام بِمُطلق النَّهْي وَكَذَلِكَ بِالْأَمر لِأَن إِحْدَى الصيغتين لطلب الإيجاد وَالْأُخْرَى لطلب الإعدام
وَمن فروع هَذَا الْفَصْل الْأَمر بعد الْحَظْر فَالصَّحِيح عندنَا أَن مطلقه للْإِيجَاب أَيْضا لما قَررنَا أَن الْإِلْزَام مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة عِنْد الْإِمْكَان إِلَّا أَن يقوم دَلِيل مَانع
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ لإِزَالَة الْحَظْر وَمن ضَرُورَته الْإِبَاحَة فَقَط فَكَأَن الْآمِر قَالَ كنت منعتك عَن هَذَا فَرفعت ذَلِك الْمَنْع وأذنت لَك فِيهِ
فاستدلوا على هَذَا بقوله تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله}
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَلَكنَّا نقُول إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للْحَلَال بقوله {أحل لكم الطَّيِّبَات} الْآيَة لَا بِصِيغَة الْأَمر مَقْصُودا بِهِ وَكَذَلِكَ إِبَاحَة البيع بعد الْفَرَاغ من الْجُمُعَة بقوله {وَأحل الله البيع} لَا بِصِيغَة الْأَمر ثمَّ صِيغَة الْأَمر لَيست لإِزَالَة الْحَظْر وَلَا لرفع الْمَنْع بل لطلب الْمَأْمُور بِهِ وارتفاع الْحَظْر وَزَوَال الْمَنْع من ضَرُورَة هَذَا الطّلب فَإِنَّمَا يعْمل مُطلق اللَّفْظ فِيمَا يكون مَوْضُوعا لَهُ حَقِيقَة(1/19)
فصل فِي بَيَان مُقْتَضى مُطلق الْأَمر فِي حكم التّكْرَار
الصَّحِيح من مَذْهَب عُلَمَائِنَا أَن صِيغَة الْأَمر لَا توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله وَلَكِن الْأَمر بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي أدنى مَا يكون من جنسه على احْتِمَال الْكل وَلَا يكون مُوجبا للْكُلّ إِلَّا بِدَلِيل
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا هَذَا إِذا لم يكن مُعَلّقا بِشَرْط وَلَا مُقَيّدا بِوَصْف فَإِن كَانَ فمقتضاه التّكْرَار بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِي مطلقه لَا يُوجب التّكْرَار وَلَكِن يحْتَملهُ وَالْعدَد أَيْضا إِذا اقْترن بِهِ دَلِيل
وَقَالَ بَعضهم مطلقه يُوجب التّكْرَار إِلَّا أَن يقوم دَلِيل يمْنَع مِنْهُ ويحكى هَذَا عَن الْمُزنِيّ وَاحْتج صَاحب هَذَا الْمَذْهَب بِحَدِيث أَقرع بن حَابِس رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَج أَفِي كل عَام أم مرّة فَقَالَ بل مرّة وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ وَلَو وَجَبت مَا قُمْتُم بهَا فَلَو لم تكن صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله حجُّوا مُحْتملا التّكْرَار أَو مُوجبا لَهُ لما أشكل عَلَيْهِ ذَلِك فقد كَانَ من أهل اللِّسَان ولكان يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُؤَاله عَمَّا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ فحين اشْتغل بِبَيَان معنى دفع الْحَرج فِي الِاكْتِفَاء بِمرَّة وَاحِدَة عرفنَا أَن مُوجب هَذِه الصِّيغَة التّكْرَار
ثمَّ الْمرة من التّكْرَار بِمَنْزِلَة الْخَاص من الْعَام وَمُوجب الْعَام الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص
وَبَيَان هَذَا أَن قَول الْقَائِل افْعَل طلب الْفِعْل بِمَا هُوَ مُخْتَصر من الْمصدر الَّذِي هُوَ نِسْبَة الِاسْم وَهُوَ الْفِعْل وَحكم الْمُخْتَصر مَا هُوَ حكم المطول وَالِاسْم يُوجب إِطْلَاقه الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص فَكَذَلِك الْفِعْل لِأَن للْفِعْل كلا وبعضا كَمَا للْمَفْعُول فمطلقه يُوجب الْكل ويحتمله ثمَّ الْكل لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالتكرار
واعتبروا الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن النَّهْي يُوجب إعدام الْمنْهِي عَنهُ عَاما فَكَذَلِك الْأَمر يُوجب إيجاده تَمامًا حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص وَذَلِكَ يُوجب التّكْرَار لَا محَالة(1/20)
وَأما الشَّافِعِي رَحمَه الله فاحتج بِنَحْوِ هَذَا أَيْضا وَلَكِن على وَجه يتَبَيَّن بِهِ الْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَيثبت بِهِ الِاحْتِمَال دون الْإِيجَاب وَذَلِكَ أَن قَوْله افْعَل يَقْتَضِي مصدرا على سَبِيل التنكير أَي افْعَل فعلا
بَيَانه فِي قَوْله طلق أَي طلق طَلَاقا وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ على سَبِيل التنكير لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء للْحَاجة إِلَى تَصْحِيح الْكَلَام وبالمنكر يحصل هَذَا الْمَقْصُود فَيكون الثَّابِت بِمُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة مَا هُوَ نكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة فِي الْإِثْبَات تخص كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} وَلَكِن احْتِمَال التّكْرَار وَالْعدَد فِيهِ لَا يشكل لِأَن ذَلِك الْمُنكر مُتَعَدد فِي نَفسه
أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه التَّفْسِير وَتقول طَلقهَا اثْنَتَيْنِ أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَيكون ذَلِك نصبا على التَّفْسِير وَلَو لم يكن اللَّفْظ مُحْتملا لَهُ لم يستقم تَفْسِيره بِهِ بِخِلَاف النَّهْي فصيغة النَّهْي عَن الْفِعْل تَقْتَضِي أَيْضا مصدرا على سَبِيل التنكير أَي لَا تفعل فعلا وَلَكِن النكرَة فِي النَّفْي تعم
قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} وَمن قَالَ لغيره لَا تَتَصَدَّق من مَالِي يتَنَاوَل النَّهْي كل دِرْهَم من مَاله بِخِلَاف قَوْله تصدق من مَالِي فَإِنَّهُ لَا يتَنَاوَل الْأَمر إِلَّا الْأَقَل على احْتِمَال أَن يكون مُرَاده كل مَاله وَلِهَذَا قَالَ إِن مُطلق الصِّيغَة لَا توجب التّكْرَار لِأَن ثُبُوت الْمصدر فِيهِ بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى يُوضحهُ أَن هَذِه الصِّيغَة أحد أَقسَام الْكَلَام فَتعْتَبر بِسَائِر الْأَقْسَام
وَقَول الْقَائِل دخل فلَان الدَّار إِخْبَار عَن دُخُوله على احْتِمَال أَن يكون دخل مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو مرَارًا فَكَذَلِك قَوْله ادخل يكون طلب الدُّخُول مِنْهُ على احْتِمَال أَن يكون المُرَاد مرّة أَو مرَارًا ثمَّ الْمُوجب مَا هُوَ الْمُتَيَقن بِهِ دون الْمُحْتَمل
وَأما الَّذين قَالُوا فِي الْمُعَلق بِالشّرطِ أَو الْمُقَيد بِالْوَصْفِ إِنَّه يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الشَّرْط وَالْوَصْف استدلوا بالعبادات الَّتِي أَمر الشَّرْع بهَا مُقَيّدا بِوَقْت أَو حَال وبالعقوبات الَّتِي أَمر الشَّرْع بإقامتها مُقَيّدا بِوَصْف أَن ذَلِك يتَكَرَّر بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن هَذَا لَيْسَ بِمذهب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فَإِن من قَالَ لامْرَأَته إِذا دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق لم تطلق بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا مرّة وَإِن تكَرر مِنْهَا الدُّخُول(1/21)
وَلم تطلق إِلَّا وَاحِدَة وَإِن نوى أَكثر من ذَلِك وَهَذَا لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ عِنْد وجود الشَّرْط كالمنجز وَهَذِه الصِّيغَة لَا تحْتَمل الْعدَد والتكرار عِنْد التَّنْجِيز فَكَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق بِالشّرطِ إِذا وجد الشَّرْط وَإِنَّمَا يحْكى هَذَا الْكَلَام عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فَإِنَّهُ أوجب التَّيَمُّم لكل صَلَاة وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} إِلَى قَوْله {فَتَيَمَّمُوا} وَقَالَ ظَاهر هَذَا الشَّرْط يُوجب الطَّهَارَة عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صلى صلوَات بِوضُوء وَاحِد ترك هَذَا فِي الطَّهَارَة بِالْمَاءِ لقِيَام الدَّلِيل فَبَقيَ حكم التَّيَمُّم على مَا اقْتَضَاهُ أصل الْكَلَام
وَهَذَا سَهْو فَالْمُرَاد بقوله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} أَي وَأَنْتُم محدثون عَلَيْهِ اتّفق أهل التَّفْسِير وَبِاعْتِبَار إِضْمَار هَذَا السَّبَب يَسْتَوِي حكم الطَّهَارَة بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّم وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَمَّا يستدلون بِهِ من الْعِبَادَات والعقوبات فَإِن تكررها لَيْسَ بِصِيغَة مُطلق الْأَمر وَلَا بِتَكَرُّر الشَّرْط بل بتجدد السَّبَب الَّذِي جعله الشَّرْع سَببا مُوجبا لَهُ فَفِي قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} أَمر بِالْأَدَاءِ وَبَيَان للسبب الْمُوجب وَهُوَ دلوك الشَّمْس فقد جعل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا مُوجبا للصَّلَاة إِظْهَارًا لفضيلة ذَلِك الْوَقْت بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل أد الثّمن للشراء وَالنَّفقَة للنِّكَاح يفهم مِنْهُ الْأَمر بِالْأَدَاءِ وَالْإِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب لما طُولِبَ بِأَدَائِهِ
وَلما أشكل على الْأَقْرَع بن حَابِس رَضِي الله عَنهُ حكم الْحَج حَتَّى سَأَلَ فقد كَانَ من الْمُحْتَمل أَن يكون وَقت الْحَج هُوَ السَّبَب الْمُوجب لَهُ بِجعْل الشَّرْع إِيَّاه لذَلِك بِمَنْزِلَة الصَّوْم وَالصَّلَاة وَمن الْمُحْتَمل أَن يكون السَّبَب مَا هُوَ غير متكرر وَهُوَ الْبَيْت وَالْوَقْت شَرط الْأَدَاء وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام بَين لَهُ بقوله بل مرّة أَن السَّبَب هُوَ الْبَيْت وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ دَلِيل على أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُوجبا لَهُ كَانَ الْوُجُوب فِي كل عَام بِصِيغَة الْأَمر لَا بِهَذَا القَوْل مِنْهُ وَقد نَص على أَنَّهَا كَانَت تجب بقوله لَو قلت فِي كل عَام
ثمَّ الْحجَّة لنا فِي أَن هَذِه الصِّيغَة لَا توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله أَن قَوْله افْعَل(1/22)
لطلب فعل مَعْلُوم بحركات تُوجد مِنْهُ وتنقضي وَتلك الحركات لَا تبقى وَلَا يتَصَوَّر عودهَا إِنَّمَا المتصور تجدّد مثلهَا وَلِهَذَا يُسمى تَكْرَارا مجَازًا من غير أَن يشكل على أحد أَن الثَّانِي غير الأول
وَبِهَذَا تبين أَنه لَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال الْعدَد وَلَا احْتِمَال التّكْرَار أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره اشْتَرِ لي عبدا لَا يتَنَاوَل هَذَا أَكثر من عبد وَاحِد وَلَا يحْتَمل الشِّرَاء مرّة بعد مرّة أَيْضا وَكَذَلِكَ قَوْله زَوجنِي امْرَأَة لَا يحْتَمل إِلَّا امْرَأَة وَاحِدَة وَلَا يحْتَمل تزويجا بعد تَزْوِيج إِلَّا أَن مَا بِهِ يتم فعله عِنْد الحركات الَّتِي تُوجد مِنْهُ لَهُ كل وَبَعض فَيثبت بالصيغة الْيَقِين الَّذِي هُوَ الْأَقَل للتيقن بِهِ وَيحْتَمل الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه عملت نِيَّته فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْعدَد أصلا فَلَا تعْمل نِيَّته فِي الْعدَد وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته طَلِّقِي نَفسك أَو لأَجْنَبِيّ طَلقهَا إِنَّه يتَنَاوَل الْوَاحِد إِلَّا أَن يَنْوِي الثَّلَاث فتعمل نِيَّته لِأَن ذَلِك كل فِيمَا يتم بِهِ فعل الطَّلَاق وَلَو نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل نِيَّته لِأَنَّهُ مُجَرّد نِيَّة الْعدَد إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة أمة فَتكون نِيَّته الثِّنْتَيْنِ فِي حَقّهَا نِيَّة كل الطَّلَاق وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لعَبْدِهِ تزوج يتَنَاوَل امْرَأَة وَاحِدَة إِلَّا أَن يَنْوِي اثْنَتَيْنِ فتعمل نِيَّته لِأَنَّهُ كل النِّكَاح فِي حق العَبْد لَا لِأَنَّهُ نوى الْعدَد وَلَا معنى لما قَالُوا إِن صِحَة اقتران الْعدَد والمرات بِهَذِهِ الصِّيغَة على سَبِيل التَّفْسِير لَهَا دَلِيل على أَن الصِّيغَة تحْتَمل ذَلِك لِأَن هَذَا الْقرَان عمله فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا فِي التَّفْسِير لما هُوَ من محتملات تِلْكَ الصِّيغَة بِمَنْزِلَة اقتران الشَّرْط وَالْبدل بِهَذِهِ الصِّيغَة
أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا لَا يحْتَمل وُقُوع الثِّنْتَيْنِ بِهِ مَعَ قيام الثَّلَاث فِي ملكه وَلَا التَّأْخِير إِلَى مُدَّة وَلَو قرن بِهِ إِلَّا وَاحِدَة إِلَى شهر أَو اثْنَتَيْنِ كَانَ صَحِيحا وَكَانَ عَاملا فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا أَن يكون مُفَسرًا لَهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قرن بالصيغة ذكر الْعدَد فِي الْإِيقَاع يكون الْوُقُوع بِلَفْظ الْعدَد لَا بِأَصْل الصِّيغَة حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته طَلقتك ثَلَاثًا أَو قَالَ وَاحِدَة فَمَاتَتْ الْمَرْأَة قبل ذكر الْعدَد لم يَقع شَيْء(1/23)
فَبِهَذَا تبين أَن عمل هَذَا الْقرَان فِي التَّغْيِير وَالتَّفْسِير يكون مقررا للْحكم الْمُفَسّر لَا مغيرا يُحَقّق مَا ذَكرْنَاهُ أَن قَول الْقَائِل اضْرِب أَي اكْتسب ضربا وَقَوله طلق أَي أوقع طَلَاقا وَهَذِه صِيغَة فَرد فَلَا تحْتَمل الْجمع وَلَا توجبه وَفِي التّكْرَار وَالْعدَد جمع لَا محَالة والمغايرة بَين الْجمع والفرد على سَبِيل المضادة فَكَمَا أَن صِيغَة الْجمع لَا تحْتَمل الْفَرد حَقِيقَة فَكَذَا صِيغَة الْفَرد لَا تحْتَمل الْجمع حَقِيقَة بِمَنْزِلَة الِاسْم الْفَرد نَحْو قَوْلنَا زيد لَا يحْتَمل الْجمع وَالْعدَد فالبعض مِمَّا تتناوله هَذِه الصِّيغَة فَرد صُورَة وَمعنى وكل فَرد من حَيْثُ الْجِنْس معنى فَإنَّك إِذا قابلت هَذَا الْجِنْس بِسَائِر الْأَجْنَاس كَانَ جِنْسا وَاحِدًا وَهُوَ جمع صُورَة فَعِنْدَ عدم النِّيَّة لَا يتَنَاوَل إِلَّا الْفَرد صُورَة وَمعنى وَلَكِن فِيهِ احْتِمَال الْكل لكَون ذَلِك فَردا معنى بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان فَإِنَّهُ فَرد لَهُ أَجزَاء وأبعاض وَالطَّلَاق أَيْضا فَرد جِنْسا وَله أَجزَاء وأبعاض فتعمل نِيَّة الْكل فِي الْإِيقَاع وَلَا تعْمل نِيَّة الثِّنْتَيْنِ أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ معنى الفردية صُورَة وَلَا معنى فَلم يكن من محتملات الْكَلَام أصلا وعَلى هَذَا الأَصْل تخرج أَسمَاء الْأَجْنَاس مَا يكون مِنْهَا فَردا صُورَة أَو حكما
أما الصُّورَة فكالماء وَالطَّعَام إِذا حلف لَا يشرب مَاء أَو لَا يَأْكُل طَعَاما يَحْنَث بِأَدْنَى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نوى ذَلِك لم يَحْنَث أصلا
وَلَو نوى مِقْدَارًا من ذَلِك لم تعْمل نِيَّته لخلو الْمَنوِي عَن صِيغَة الفردية صُورَة وَمعنى والفرد حكما كاسم النِّسَاء إِذا حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء فَهَذِهِ صِيغَة الْجمع وَلَكِن جعلت عبارَة عَن الْجِنْس مجَازًا لأَنا لَو جعلناها جمعا لم يبْق لحرف اللَّام الَّذِي هُوَ للمعهود فِيهِ فَائِدَة وَلَو جَعَلْنَاهُ جِنْسا كَانَ حرف الْعَهْد فِيهِ مُعْتَبرا فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الْمَعْهُود من ذَلِك الْجِنْس وَيبقى معنى الْجمع مُعْتَبرا فِيهِ أَيْضا بِاعْتِبَار الْجِنْس فَيتَنَاوَل أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْجِنْس على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ وعَلى هَذَا لَو حلف لَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم بني آدم أَو وكل وَكيلا بِأَن يَشْتَرِي لَهُ الثِّيَاب فَإِن التَّوْكِيل صَحِيح بِخِلَاف مَا لَو وَكله بِأَن يَشْتَرِي لَهُ أثوابا على مَا بَيناهُ فِي الزِّيَادَات(1/24)
وَحكي عَن عِيسَى بن أبان رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول صِيغَة مُطلق الْأَمر فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة تحْتَمل التّكْرَار وَإِن كَانَ لَا يُوَجه إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَفِيمَا لَيست لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة لَا تحْتَمل التّكْرَار لِأَن فِيمَا لَا نِهَايَة لَهُ يعلم يَقِينا أَن الْمُخَاطب لم يرد الْكل فَإِن ذَلِك لَيْسَ فِي وسع الْمُخَاطب وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته وَهَذَا نَحْو قَوْله صم وصل فَلَيْسَ لهَذَا الْجِنْس من الْفِعْل نِهَايَة مَعْلُومَة وَإِنَّمَا يعجز العَبْد عَن إِقَامَته بِمَوْتِهِ فَعرفنَا يَقِينا أَن المُرَاد بِهَذَا الْخطاب الْفَرد مِنْهُ خَاصَّة وَأما فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة كَالطَّلَاقِ وَالْعدة فَالْكل من محتملات الْخطاب وَذَلِكَ تَارَة يكون بتكرار التَّطْلِيق وَتارَة يكون بِالْجمعِ بَين التطليقات فِي اللَّفْظ فَيكون صِيغَة الْكَلَام مُحْتملا لَهُ كُله
وَخرج على هَذَا الأَصْل قَول الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق للسّنة أَو للعدة فَإِنَّهُ يحْتَمل نِيَّة الثَّلَاث فِي الْإِيقَاع جملَة وَاحِدَة وَنِيَّة التّكْرَار فِي أَن يَنْوِي وُقُوع كل تَطْلِيقَة فِي طهر على حِدة
وَفِيمَا قَرَّرْنَاهُ من الْكَلَام دَلِيل على ضعف مَا ذهب إِلَيْهِ إِذا تَأَمَّلت
وَالْكَلَام فِي مُقْتَضى صِيغَة الْفَرد دون مَا إِذا قرن بِهِ مَا يدل على التَّغْيِير من قَوْله للسّنة أَو للعدة
وَاسْتدلَّ الْجَصَّاص رَحمَه الله على بطلَان قَول من يَقُول إِن مُطلق صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِي التّكْرَار فَقَالَ بالامتثال مرّة وَاحِدَة يستجيز كل أحد أَن يَقُول إِنَّه أَتَى بالمأمور بِهِ وَخرج عَن مُوجب الْأَمر وَكَانَ مصيبا فِي ذَلِك فَلَو كَانَ مُوجبه التّكْرَار لَكَانَ آتِيَا بِبَعْض الْمَأْمُور بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول فَإِذا أَتَى بِهِ ثَانِيًا وثالثا يُقَال أَيْضا فِي الْعَادة أَتَى بالمأمور بِهِ لِأَن قَائِل هَذَا لَا يكون مصيبا فِي ذَلِك فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْمُخَاطب فِي الْمرة الثَّانِيَة مُتَطَوّع من عِنْده بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ لَا أَن يكون آتِيَا بالمأمور بِهِ بِمَنْزِلَة الْمُصَلِّي أَربع رَكْعَات فِي الْوَقْت بعد صَلَاة الظّهْر يكون مُتَطَوعا بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ إِلَّا أَن الَّذِي يُسَمِّيه آتِيَا بالمأمور بِهِ إِنَّمَا يُسَمِّيه بذلك توسعا ومجازا فَلهَذَا لَا نُسَمِّيه كَاذِبًا وَالله أعلم(1/25)
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حكم الْوَقْت
الْأَمر نَوْعَانِ مُطلق عَن الْوَقْت ومقيد بِهِ فنبدأ بِبَيَان الْمُطلق قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَصح عِنْدِي فِيهِ من مَذْهَب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله أَنه على التَّرَاخِي فَلَا يثبت حكم وجوب الْأَدَاء على الْفَوْر بِمُطلق الْأَمر نَص عَلَيْهِ فِي الْجَامِع فَقَالَ فِيمَن نذر أَن يعْتَكف شهرا يعْتَكف أَي شهر شَاءَ وَكَذَلِكَ لَو نذر أَن يَصُوم شهرا
وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَاجِب بِمُطلق الْأَمر
وَفِي كتاب الصَّوْم أَشَارَ فِي قَضَاء رَمَضَان إِلَى أَنه يقْضِي مَتى شَاءَ وَفِي الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر الْمَذْهَب مَعْلُوم فِي أَنه لَا يصير مفرطا بِتَأْخِير الْأَدَاء وَأَن لَهُ أَن يبْعَث بهَا إِلَى فُقَرَاء قرَابَته فِي بَلْدَة أُخْرَى
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول مُطلق الْأَمر يُوجب الْأَدَاء على الْفَوْر وَهُوَ الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فقد ذكر فِي كِتَابه إِنَّا استدللنا بِتَأْخِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج مَعَ الْإِمْكَان على أَن وقته موسع وَهَذَا مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَن مُوجب مُطلق الْأَمر على الْفَوْر حَتَّى يقوم الدَّلِيل
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُول هُوَ مَوْقُوف على الْبَيَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا ينبىء عَن الْوَقْت فَيكون مُجملا فِي حَقه وَهَذَا فَاسد جدا فَإِنَّهُم يوافقونا على ثُبُوت أصل الْوَاجِب بِمُطلق الْأَمر وَذَلِكَ يُوجب الْأَدَاء عِنْد الْإِمْكَان وَلَا إِمْكَان إِلَّا بِوَقْت فَثَبت بِدَلِيل الْإِشَارَة إِلَى الْوَقْت بِهَذَا الطَّرِيق
ثمَّ بِهَذَا الْكَلَام يسْتَدلّ الْكَرْخِي فَيَقُول وَقت الْأَدَاء ثَابت بِمُقْتَضى الْحَال وَمُقْتَضى الْحَال دون مُقْتَضى اللَّفْظ وَلَا عُمُوم لمقْتَضى اللَّفْظ فَكَذَلِك لَا عُمُوم لما ثَبت بِمُقْتَضى الْحَال وَأول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء مُرَاد بالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَو أدّى فِيهِ كَانَ ممتثلا لِلْأَمْرِ فَلَا يثبت مَا بعده مرَادا إِلَّا بِدَلِيل يُوضحهُ أَن التَّخْيِير يَنْتَفِي بِمُطلق الْأَمر بَين الْأَدَاء وَالتّرْك(1/26)
فَيثبت هَذَا الحكم وَهُوَ انْتِفَاء التَّخْيِير فِي أول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء كَمَا ثَبت حكم الْوُجُوب والتفويت حرَام بالِاتِّفَاقِ وَفِي هَذَا التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أيقدر على الْأَدَاء فِي الْوَقْت الثَّانِي أَو لَا يقدر وبالاحتمال الثَّانِي لَا يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء على وَجه يكون مُعَارضا للمتيقن بِهِ فَيكون تَأْخِيره عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان تفويتا وَلِهَذَا اسْتحْسنَ ذمه على ذَلِك إِذا عجز عَن الْأَدَاء وَلِأَن الْأَمر بِالْأَدَاءِ يفيدنا الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء وَتلك الْمصلحَة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَلِهَذَا جَازَ النّسخ فِي الْأَمر وَالنَّهْي وبمطلق الْأَمر يثبت الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان وَلَا يثبت الْمُتَيَقن بِهِ فِيمَا بعده
ثمَّ الْمُتَعَلّق بِالْأَمر اعْتِقَاد الْوُجُوب وَأَدَاء الْوَاجِب وَأَحَدهمَا وَهُوَ الِاعْتِقَاد يثبت بِمُطلق الْأَمر للْحَال فَكَذَلِك الثَّانِي وَاعْتبر الْأَمر بِالنَّهْي والانتهاء الْوَاجِب بِالنَّهْي يثبت على الْفَوْر فَكَذَلِك الائتمار الْوَاجِب بِالْأَمر
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن قَول الْقَائِل لعَبْدِهِ افْعَل كَذَا السَّاعَة يُوجب الائتمار على الْفَوْر وَهَذَا أَمر مُقَيّد وَقَوله افْعَل مُطلق وَبَين الْمُطلق والمقيد مُغَايرَة على سَبِيل الْمُنَافَاة فَلَا يجوز أَن يكون حكم الْمُطلق مَا هُوَ حكم الْمُقَيد فِيمَا يثبت التَّقْيِيد بِهِ لِأَن فِي ذَلِك إِلْغَاء صفة الْإِطْلَاق وَإِثْبَات التَّقْيِيد من غير دَلِيل فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا يدل على التَّقْيِيد فِي وَقت الْأَدَاء فإثباته يكون زِيَادَة وَهُوَ نَظِير تَقْيِيد الْمحل فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ تصدق بِهَذَا الدِّرْهَم على أول فَقير يدْخل يلْزمه أَن يتَصَدَّق على أول من يدْخل إِذا كَانَ فَقِيرا وَلَو قَالَ تصدق بِهَذَا الدِّرْهَم لم يلْزمه أَن يتَصَدَّق بِهِ على أول فَقير يدْخل وَكَانَ لَهُ أَن يتَصَدَّق بِهِ على أَي فَقير شَاءَ لِأَن الْأَمر مُطلق فتعيين الْمحل فِيهِ يكون زِيَادَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه يتَحَقَّق الِامْتِثَال بِالْأَدَاءِ فِي أَي جُزْء عينه من أَوْقَات الْإِمْكَان فِي عمره وَلَو تعين للْأَدَاء الْجُزْء الأول لم يكن ممتثلا بِالْأَدَاءِ بعده وَفِي اتِّفَاق الْكل(1/27)
على أَنه مؤدي الْوَاجِب مَتى أَدَّاهُ إِيضَاح لما قُلْنَا
وَبِهَذَا تبين فَسَاد مَا قَالَ إِن الْمصلحَة فِي الْأَدَاء غير مَعْلُوم إِلَّا فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان فَإِن الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وامتثال الْأَمر لَا يحصل إِلَّا بِهِ أَلا ترى أَن بعد الانتساخ لَا يبْقى ذَلِك فَعرفنَا أَن بِمُطلق الْأَمر يصير معنى الْمصلحَة فِي الْأَدَاء مَعْلُوما لَهُ فِي أَي جُزْء أَدَّاهُ من عمره مَا لم يظْهر ناسخه والتفويت حرَام كَمَا قَالَ إِلَّا أَن الْفَوات لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِمَوْتِهِ وَلَيْسَ فِي مُجَرّد التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ مُتَمَكن من الْأَدَاء فِي كل جُزْء يُدْرِكهُ من الْوَقْت بعد الْجُزْء الأول حسب تمكنه فِي الْجُزْء الأول وَمَوْت الْفجأَة نَادِر وَبِنَاء الْأَحْكَام على الظَّاهِر دون النَّادِر
فَإِن قيل فوقت الْمَوْت غير مَعْلُوم لَهُ وبالإجماع بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء إِذا لم يؤد حَتَّى مَاتَ يكون مفرطا مفوتا آثِما فِيمَا صنع فبه يتَبَيَّن أَنه لَا يَسعهُ التَّأْخِير
قُلْنَا الْوُجُوب ثَابت بعد الْأَمر وَالتَّأْخِير فِي الْأَدَاء مُبَاح لَهُ بِشَرْط أَن لَا يكون تفويتا وَتَقْيِيد الْمُبَاح بِشَرْط فِيهِ خطر مُسْتَقِيم فِي الشَّرْع كالرمي إِلَى الصَّيْد مُبَاح بِشَرْط أَن لَا يُصِيب آدَمِيًّا وَهَذَا لِأَنَّهُ مُتَمَكن من ترك هَذَا التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يُنكر كَونه مَنْدُوبًا للمسارعة إِلَى الْأَدَاء
قَالَ الله تَعَالَى {فاستبقوا الْخيرَات} فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يتَمَكَّن من الْبناء على الظَّاهِر من التَّأْخِير مَا دَامَ يَرْجُو أَن يبْقى حَيا عَادَة وَإِن مَاتَ كَانَ مفرطا لتمكنه من ترك التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ
ثمَّ هَذَا الحكم إِنَّمَا يثبت فِيمَا لَا يكون مُسْتَغْرقا لجَمِيع الْعُمر فَأَما مَا يكون مُسْتَغْرقا لَهُ فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ هَذَا الْمَعْنى واعتقاد الْوُجُوب مُسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر وَكَذَلِكَ الِانْتِهَاء الَّذِي هُوَ مُوجب النَّهْي يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر
فَأَما أَدَاء الْوَاجِب فَلَا يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر فَلَا يتَعَيَّن للْأَدَاء جُزْء من الْعُمر إِلَّا بِدَلِيل فَإِن جَمِيع الْعُمر فِي أَدَاء هَذَا الْوَاجِب كجميع وَقت الصَّلَاة لأَدَاء الصَّلَاة وَهُنَاكَ لَا يتَعَيَّن الْجُزْء الأول من الْوَقْت للْأَدَاء فِيهِ على وَجه لَا يَسعهُ التَّأْخِير عَنهُ فَكَذَلِك هَهُنَا
وَمن أَصْحَابنَا من جعل هَذَا الْفَصْل على الْخلاف الْمَشْهُور بَين أَصْحَابنَا فِي الْحَج(1/28)
أَنه على الْفَوْر أم على التَّرَاخِي قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا غلط من قَائِله فَالْأَمْر بأَدَاء الْحَج لَيْسَ بِمُطلق بل هُوَ موقت بأشهر الْحَج وَهِي شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة وَقد بَينا أَن الْمُطلق غير الْمُقَيد بِوَقْت وَلَا خلاف أَن وَقت أَدَاء الْحَج أشهر الْحَج
ثمَّ قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تتَعَيَّن أشهر الْحَج من السّنة الأولى للْأَدَاء إِذا تمكن مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله لَا تتَعَيَّن ويسعه التَّأْخِير وَعَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ ف مُحَمَّد يَقُول الْحَج فرض الْعُمر وَوقت أَدَائِهِ أشهر الْحَج من سنة من سني الْعُمر وَهَذَا الْوَقْت متكرر فِي عمر الْمُخَاطب فَلَا يجوز تعْيين أشهر الْحَج من السّنة الأولى إِلَّا بِدَلِيل وَالتَّأْخِير عَنْهَا لَا يكون تفويتا بِمَنْزِلَة تَأْخِير قَضَاء رَمَضَان
وَتَأْخِير صَوْم الشَّهْرَيْنِ فِي الْكَفَّارَة فالأيام والشهور تَتَكَرَّر فِي الْعُمر وَلَا يكون مُجَرّد التَّأْخِير فِيهَا تفويتا فَكَذَلِك الْحَج أَلا ترى أَنه مَتى أدّى كَانَ مُؤديا للْمَأْمُور
وَأَبُو يُوسُف يَقُول أشهر الْحَج من السّنة الأولى بعد الْإِمْكَان مُتَعَيّن الْأَدَاء لِأَنَّهُ فَرد فِي هَذَا الحكم لَا مُزَاحم لَهُ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق التَّعَارُض وينعدم التَّعْيِين بِاعْتِبَار الْمُزَاحمَة وَلَا يدْرِي أَنه هَل يبْقى إِلَى السّنة الثَّانِيَة ليَكُون أشهر الْحَج مِنْهَا من جملَة عمره أم لَا وَمَعْلُوم أَن الْمُحْتَمل لَا يُعَارض المتحقق فَإِذا ثَبت انْتِفَاء الْمُزَاحمَة كَانَت هَذِه الْأَشْهر متعينة للْأَدَاء فالتأخير عَنْهَا يكون تفويتا كتأخيرة الصَّلَاة عَن الْوَقْت وَالصَّوْم عَن الشَّهْر إِلَّا أَنه إِذا بَقِي حَيا إِلَى أشهر الْحَج من السّنة الثَّانِيَة فقد تحققت الْمُزَاحمَة الْآن وَتبين أَن الأولى لم تكن متعينة فَلهَذَا كَانَ مُؤديا فِي السّنة الثَّانِيَة وَقَامَ أشهر الْحَج من هَذِه السّنة مقَام الأولى فِي التَّعْيِين لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الْأَدَاء فِي وَقت مَاض وَلَا يدْرِي أيبقى بعد هَذَا أم لَا وَهَذَا بِخِلَاف الْأَمر الْمُطلق فبالتأخير عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان لَا يَزُول تمكنه من الْأَدَاء هُنَاكَ وَهَهُنَا يَزُول تمكنه من الْأَدَاء بِمُضِيِّ يَوْم عَرَفَة إِلَى أَن يدْرك هَذَا الْيَوْم من السّنة الثَّانِيَة وَلَا يدْرِي أيدركه أم لَا وَبِخِلَاف قَضَاء رَمَضَان فتأخيره عَن الْيَوْم الأول لَا يكون تفويتا أَيْضا لتمكنه مِنْهُ فِي الْيَوْم الثَّانِي وَلَا يُقَال بمجيء اللَّيْل يَزُول تمكنه ثمَّ لَا يدْرِي أيدرك الْيَوْم الثَّانِي أم لَا لِأَن الْمَوْت فِي لَيْلَة وَاحِدَة قبل(1/29)
ظُهُور علاماته يكون فَجْأَة وَهُوَ نَادِر وَلَا يبْنى الحكم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يبْنى على الظَّاهِر بِمَنْزِلَة موت الْمَفْقُود فَإِنَّهُ إِذا لم يبْق أحد من أقرانه حَيا يحكم بِمَوْتِهِ بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَن بَقَاءَهُ بعد موت أقرانه نَادِر فَأَما مَوته فِي سنة لَا يكون نَادرا فَيثبت احْتِمَال الْمَوْت والحياة فِي هَذِه الْمدَّة على السوَاء فَلهَذَا كَانَ التَّأْخِير تفويتا وعَلى هَذَا صَوْم الْكَفَّارَة وَالتَّأْخِير هُنَاكَ لَا يكون تفويتا لِأَن تمكنه من الْأَدَاء لَا يَزُول بِمُضِيِّ بعض الشُّهُور
فَأَما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الموقت فَإِنَّهُ يَنْقَسِم على ثَلَاثَة أَقسَام فَالْأول مَا يكون الْوَقْت ظرفا للْوَاجِب بِالْأَمر وَلَا يكون معيارا وَالثَّانِي مَا يكون الْوَقْت معيارا لَهُ وَالثَّالِث مَا هُوَ مُشكل مشتبه
فنبدأ بِبَيَان الْقسم الأول وَذَلِكَ وَقت الصَّلَاة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} ثمَّ الْوَقْت يكون ظرفا للْأَدَاء وشرطا لَهُ وسببا للْوُجُوب وَبَيَانه أَنه ظرف للْأَدَاء لصِحَّته فِي أَي جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت أدّى وَهَذَا لِأَن الصَّلَاة عبَادَة مَعْلُومَة بأركانها فَإِذا لم يطول أَرْكَانهَا يصير مُؤديا فِي جُزْء قَلِيل من الْوَقْت فَإِذا طول مِنْهَا ركنا يخرج الْوَقْت قبل أَن يصير مُؤديا لَهَا فَعرفنَا أَن الْوَقْت لَيْسَ بمعيار وَلكنه ظرف للْأَدَاء وَهُوَ شَرط أَيْضا
فالأداء إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْوَقْت وَالتَّأْخِير عَنهُ يكون تفويتا وَمَعْلُوم أَن الْأَدَاء بأركان يتَحَقَّق من الْمُؤَدِّي قبل خُرُوج الْوَقْت فَعرفنَا أَن خُرُوج الْوَقْت مفوت بِاعْتِبَار أَنه يفوت بِهِ شَرط الْأَدَاء
وَبَيَان أَنه سَبَب للْوُجُوب أَنه لَا يجوز تَعْجِيلهَا قبله وَأَن الْوَاجِب تخْتَلف صفته باخْتلَاف الْأَوْقَات فَهَذَا عَلامَة كَون الْوَقْت سَببا لوُجُوبهَا فَأَما مَا هُوَ الدَّلِيل على ذَلِك نذكرهُ فِي بَيَان أَسبَاب الشَّرَائِع فِي مَوْضِعه ثمَّ لَا يُمكن جعل جَمِيع الْوَقْت سَببا للْوُجُوب لِأَنَّهُ ظرف للْأَدَاء فَلَو جعل جَمِيع الْوَقْت سَببا لحصل الْأَدَاء قبل وجود السَّبَب أَولا يتَحَقَّق الْأَدَاء فِيمَا هُوَ ظرف للْأَدَاء فَإِن شُهُود جَمِيع الْوَقْت لَا يكون إِلَّا بعد مُضِيّ الْوَقْت فَلَا بُد أَن يَجْعَل جُزْء من الْوَقْت سَببا للْوُجُوب لِأَنَّهُ لَيْسَ بَين الْكل والجزء الَّذِي هُوَ أدنى(1/30)
مِقْدَار مَعْلُوم وَإِذا تقرر هَذَا قُلْنَا الْجُزْء الأول من الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب فبإدراكه يثبت حكم الْوُجُوب وَصِحَّة أَدَاء الْوَاجِب
هَذَا معنى مَا نقل عَن مُحَمَّد بن شُجَاع رَحمَه الله أَن الصَّلَاة تجب بِأول جُزْء من الْوَقْت وجوبا موسعا وَهُوَ الْأَصَح
وَأكْثر الْعِرَاقِيّين من مَشَايِخنَا يُنكرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ الْوُجُوب لَا يثبت فِي أول الْوَقْت وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْوُجُوب بآخر الْوَقْت ويستدلون على ذَلِك بِمَا لَو حَاضَت الْمَرْأَة فِي آخر الْوَقْت فَإِنَّهَا لَا يلْزمهَا قَضَاء تِلْكَ الصَّلَاة إِذا طهرت والمقيم إِذا سَافر فِي آخر الْوَقْت يُصَلِّي صَلَاة الْمُسَافِرين وَلَو ثَبت الْوُجُوب بِأول جُزْء من الْوَقْت لَكَانَ الْمُعْتَبر حَاله عِنْد ذَلِك وَكَذَلِكَ لَو مَاتَ فِي الْوَقْت لَقِي الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو ثَبت الْوُجُوب فِي أول الْوَقْت لكَانَتْ الرُّخْصَة فِي التَّأْخِير بعد ذَلِك مُقَيّدَة بِشَرْط أَلا يفوتهُ كَمَا بَينا فِي الْأَمر الْمُطلق
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي صفة الْمُؤَدِّي فِي أول الْوَقْت فَمنهمْ من يَقُول هُوَ نفل يمْنَع لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر الْوَقْت إِذا كَانَ على صفة يلْزمه الْأَدَاء فِيهَا بِحكم الْخطاب قَالَ لِأَنَّهُ يتَمَكَّن من ترك الْأَدَاء فِي أول الْوَقْت لَا إِلَى بدل وَهَذَا حد النَّفْل وَلَكِن بِأَدَائِهِ يحصل مَا هُوَ الْمَطْلُوب وَهُوَ إِظْهَار فَضِيلَة الْوَقْت فَيمْنَع لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر الْوَقْت أَو يُغير صفة ذَلِك الْمُؤَدِّي حِين أدْرك آخر الْوَقْت بِمَنْزِلَة مصلي الظّهْر فِي بَيته يَوْم الْجُمُعَة إِذا شهد الْجُمُعَة مَعَ الإِمَام تَتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى قبلهَا فَيصير نفلا بعد أَن كَانَ فرضا وَهَذَا غلط بَين فَإِنَّهُ لَا تتأدى لَهُ هَذِه الصَّلَاة إِلَّا بنية الظّهْر وَالظّهْر اسْم للْفَرض دون النَّفْل وَلَو نوى النَّفْل كَانَ مُؤديا للصَّلَاة وَلَا يمْنَع ذَلِك لُزُوم الْفَرْض إِيَّاه فِي آخر الْوَقْت وَلَا تَتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى إِلَى صفة الْفَرْضِيَّة وَهَذَا لِأَن بِاعْتِبَار آخر الْوَقْت يجب الْأَدَاء وَلَيْسَ لوُجُوب الْأَدَاء أثر فِي الْمُؤَدى فَكيف يكون مغيرا صفة الْمُؤَدى وَمن يَقُول بِهَذَا القَوْل لَا يجد بدا من أَن يَقُول إِذا أدّيت الْجُمُعَة فِي أول الْوَقْت كَانَ الْمُؤَدى نفلا والتنفل بِالْجمعَةِ غير مَشْرُوع وَفِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/31)
وَإِن أول وَقت الظّهْر حِين تَزُول الشَّمْس مَا يبطل مَا قَالُوا لِأَن المُرَاد وَقت الْأَدَاء وَوقت الْوُجُوب فعلى مَا قَالَ هَذَا الْقَائِل لَا يكون هَذَا وَقت الْوُجُوب وَلَا وَقت أَدَاء الظّهْر فَهُوَ مُخَالف للنَّص
وَمِنْهُم من قَالَ الْمُؤَدى فِي أول الْوَقْت مَوْقُوف على مَا يظْهر من حَاله فِي آخر الْوَقْت وَهَكَذَا القَوْل فِي الزَّكَاة إِذا عجلها قبل الْحول وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات إِذا عجل شَاة أَرْبَعِينَ وَدفعهَا إِلَى السَّاعِي ثمَّ تمّ الْحول وَفِي يَده ثَمَان وَثَلَاثُونَ فَلهُ أَن يسْتَردّ الْمَدْفُوع من السَّاعِي وَإِن كَانَ السَّاعِي تصدق بِهِ كَانَ تَطَوّعا لَهُ وَلَو تمّ الْحول وَفِي يَده تسع وَثَلَاثُونَ وَجَبت عَلَيْهِ الزَّكَاة إِذا كَانَ الْمُؤَدى قَائِما فِي يَد السَّاعِي بِعَيْنِه وَجَاز عَن الزَّكَاة وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فالأداء لَا يَصح إِلَّا بنية الظّهْر وَالظّهْر اسْم للْفَرض خَاصَّة وَلَو نوى الْفَرْض صحت نِيَّته وَلَو نوى النَّفْل لم تصح نِيَّته فِي حق أَدَاء الْفَرِيضَة فَلَو كَانَ حكم الْمُؤَدى التَّوَقُّف لاستوت فِيهِ النيتان ولتأدى بِمُطلق نِيَّة الصَّلَاة وَالْقَوْل بالتوقف فِي فعل قد أَمْضَاهُ لَا يكون قَوِيا فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة جَمِيعًا وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول الْمُؤَدى فرض على أَن يكون الْوُجُوب مُتَعَلقا بآخر الْوَقْت أَو بِالْفِعْلِ لِأَن الْوُجُوب إِنَّمَا لَا يثبت بِأول الْوَقْت لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمعِين لذَلِك الْجُزْء فِي كَونه سَببا وبفعل الْأَدَاء يحصل التَّعْيِين فَيكون الْمُؤَدى وَاجِبا بِمَنْزِلَة مَا لَو بَاعَ قَفِيزا من صبرَة يتَعَيَّن البيع فِي قفيز بِالتَّسْلِيمِ وَلَو أدّى شَاة من أَرْبَعِينَ فِي الزَّكَاة يتَعَيَّن الْمُؤَدى وَاجِبا بِالْأَدَاءِ والحانث بِالْيَمِينِ إِذا كفر بِأحد الْأَشْيَاء يتَعَيَّن ذَلِك وَاجِبا بِأَدَائِهِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة رُجُوع إِلَى مَا قُلْنَا فَفِي هَذِه الْفُصُول الْوُجُوب ثَابت بِأَصْل السَّبَب قبل تعين الْوَاجِب بِالْأَدَاءِ فَكَذَلِك هُنَا الْوُجُوب ثَابت بِإِدْرَاك الْجُزْء الأول من الْوَقْت وَالتَّعْيِين يحصل بِالْأَدَاءِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِثْبَات حكم الْوُجُوب بعد الْأَدَاء مَقْصُورا على الْحَال لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب على الْمَرْء مَا يَفْعَله لَا مَا قد فعله وَإِذا تقدم الْوُجُوب على الْفِعْل ضَرُورَة يتَحَقَّق بِهِ مَا قُلْنَا إِن الْوُجُوب وَصِحَّة الْأَدَاء يثبت بالجزء الأول من الْوَقْت
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما تقرر الْوُجُوب لزمَه الْأَدَاء على وَجه لَا يتَغَيَّر بِتَغَيُّر حَاله بعد ذَلِك بِعَارِض من حيض أَو سفر وَقُلْنَا(1/32)
نَحن الْأَدَاء إِنَّمَا يجب بِالطَّلَبِ أَلا ترى أَن الرّيح إِذا هبت بِثَوْب إِنْسَان وألقته فِي حجر غَيره فالثوب ملك لصَاحبه وَلَا يجب على من فِي حجره أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ قبل طلبه لِأَن حُصُوله فِي حجره كَانَ بِغَيْر صنعه فَكَذَلِك هَهُنَا الْوُجُوب تسببه كَانَ جبرا إِذْ لَا صنع للْعَبد فِيهِ فَإِنَّمَا يلْزمه أَدَاء الْوُجُوب عِنْد طلب من لَهُ الْحق وَقد خَيره من لَهُ الْحق فِي الْأَدَاء مَا لم يتضيق الْوَقْت يقرره أَن وجوب الْأَدَاء لَا يتَّصل بِثُبُوت حكم الْوُجُوب لَا محَالة فَإِن البيع بِثمن مُؤَجل يُوجب الثّمن فِي الْحَال إِذْ لَو كَانَ وجوب الثّمن مُتَأَخِّرًا إِلَى مُضِيّ الْأَجَل لم يَصح البيع ثمَّ وجوب الْأَدَاء يكون مُتَأَخِّرًا إِلَى حُلُول الْأَجَل فههنا أَيْضا وجوب الْأَدَاء يتَأَخَّر إِلَى توجه الْمُطَالبَة وَذَلِكَ بِاعْتِبَار استطاعة تكون مَعَ الْفِعْل فَقبل فعل الْأَدَاء لم تثبت الْمُطَالبَة على وَجه يَنْقَطِع بِهِ الْخِيَار وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْوَقْت يثبت حكم الْوُجُوب فِي حَقّهمَا ثمَّ الْخطاب بِالْأَدَاءِ يتَأَخَّر إِلَى مَا بعد الانتباه والإفاقة
وَالْحَاصِل أَنه يتَعَيَّن للسَّبَبِيَّة الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ الْأَدَاء من الْوَقْت فَإِن اتَّصل بالجزء الأول كَانَ هُوَ السَّبَب وَإِلَّا تنْتَقل السَّبَبِيَّة إِلَى آخر الْجُزْء الثَّانِي ثمَّ إِلَى الثَّالِث هَكَذَا لمعنيين أَحدهمَا أَن فِي الْمُجَاوزَة عَن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ الْأَدَاء فِي جعله سَببا لَا ضَرُورَة وَلَيْسَ بَين الْأَدْنَى وَالْكل مِقْدَار يُمكن الرُّجُوع إِلَيْهِ وَالثَّانِي أَنه إِذا لم يتَّصل الْأَدَاء بالجزء الَّذِي تتَعَيَّن بِهِ السَّبَبِيَّة يكون تفويتا كَمَا إِذا لم يتَّصل الْأَدَاء بالجزء الْأَخير من الْوَقْت يكون تفويتا حَتَّى يصير دينا فِي الذِّمَّة وَلَا وَجه لجعله مفوتا مَا بَقِي الْوَقْت لِأَن الشَّرْع خَيره فِي الْأَدَاء فَعرفنَا أَن هَذَا الْمَعْنى تَخْيِير لَهُ فِي نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء مَا بَقِي الْوَقْت وَاسِعًا يبْقى هَذَا الْخِيَار لَهُ فَلَا يكون مفرطا وَلِهَذَا لَا يلْزمه شَيْء إِذا مَاتَ وَلَا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة لِأَن الِانْتِقَال يتَحَقَّق فِي حَقّهَا لبَقَاء خِيَارهَا والجزء الَّذِي تُدْرِكهُ من الْوَقْت بعد الْحيض لَا يُوجب عَلَيْهَا الصَّلَاة والجزء الَّذِي يُدْرِكهُ الْمُسَافِر بَعْدَمَا صَار مُسَافِرًا لَا يُوجب عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ(1/33)
ثمَّ قَالَ زفر رَحمَه الله إِذا تضيق الْوَقْت على وَجه لَا يفصل عَن الْأَدَاء تتَعَيَّن السَّبَبِيَّة فِي ذَلِك الْجُزْء أَلا ترى أَنه يَنْقَطِع خِيَاره وَلَا يَسعهُ التَّأْخِير بعد ذَلِك فَلَا يتَغَيَّر بِمَا يعْتَرض بعد ذَلِك من سفر أَو مرض وَقُلْنَا نَحن إِنَّمَا لَا يَسعهُ التَّأْخِير كي لَا يفوت شَرط الْأَدَاء وَهُوَ الْوَقْت على مَا بَينا أَن الْوَقْت ظرف للْأَدَاء وَمَا بعده من آخر الْوَقْت صَالح لانتقال السَّبَبِيَّة إِلَيْهِ فَيحصل الِانْتِقَال بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إِلَى آخر جُزْء من أَجزَاء الْوَقْت فتتعين السَّبَبِيَّة فِيهِ ضَرُورَة إِذا لم يبْق بعده مَا يحْتَمل انْتِقَال السَّبَبِيَّة إِلَيْهِ فَيتَحَقَّق التفويت بمضيه وَيعْتَبر صفة ذَلِك الْجُزْء وحاله عِنْد ذَلِك الْجُزْء حَتَّى إِذا كَانَت حَائِضًا لَا يلْزمهَا الْقَضَاء وَإِذا طهرت عَن الْحيض عِنْد ذَلِك الْجُزْء وأيامها عشرَة تلزمها الصَّلَاة نَص عَلَيْهِ فِي نَوَادِر أبي سُلَيْمَان فَإِذا أسلم الْكَافِر أَو أدْرك الصَّبِي عِنْد ذَلِك الْجُزْء يلْزمهُمَا الصَّلَاة وَإِذا كَانَ مُسَافِرًا عِنْد ذَلِك الْجُزْء يلْزمه صَلَاة السّفر وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه إِذا طلعت الشَّمْس وَهُوَ فِي خلال الْفجْر يفْسد الْفَرْض لِأَن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ طُلُوع الشَّمْس من الْوَقْت سَبَب صَحِيح تَامّ فَثَبت الْوُجُوب بِصفة الْكَمَال فَلَا يتَأَدَّى فِي الْأَدَاء مَعَ النُّقْصَان بِخِلَاف مَا إِذا غربت الشَّمْس وَهُوَ فِي خلال صَلَاة الْعَصْر فَإِن الْجُزْء الَّذِي يتَّصل بِهِ الْغُرُوب من الْوَقْت فِي الْمَعْنى سَبَب فَاسد للنَّهْي الْوَارِد عَن الصَّلَاة بعد مَا تحمر الشَّمْس فَيثبت الْوُجُوب مَعَ النُّقْصَان بِحَسب السَّبَب وَقد وجد الْأَدَاء بِتِلْكَ الصّفة وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا انْعَدم مِنْهُ الْأَدَاء أصلا ثمَّ أدّى فِي الْيَوْم الثَّانِي بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ إِذا لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ حَتَّى مُضِيّ الْوَقْت فَحكم السَّبَبِيَّة يكون مُضَافا إِلَى جَمِيع الْوَقْت وَهُوَ سَبَب صَحِيح تَامّ وَإِنَّمَا يتَأَدَّى بِصفة النُّقْصَان عِنْد ضعف السَّبَب إِذا لم يصر دينا فِي الذِّمَّة واشتغاله بِالْأَدَاءِ يمْنَع صَيْرُورَته دينا فِي ذمَّته فَأَما إِذا لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ حَتَّى تحقق التفويت بِمُضِيِّ الْوَقْت صَار دينا فِي ذمَّته فَيثبت بِصفة الْكَمَال وَهَذَا هُوَ الِانْفِصَال عَن الْإِشْكَال الَّذِي يُقَال على هَذَا وَهُوَ مَا إِذا أسلم الْكَافِر بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس وَلم يصل ثمَّ أَدَّاهَا فِي الْيَوْم(1/34)
الثَّانِي بَعْدَمَا احْمَرَّتْ الشَّمْس فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَنَّهُ مَعَ تمكن النُّقْصَان فِي السَّبَبِيَّة إِذا مضى الْوَقْت صَار الْوَاجِب دينا فِي ذمَّته بِصفة الْكَمَال
وَمَا ذهب إِلَيْهِ زفر ضَعِيف فَإِن من تذكر صَلَاة الظّهْر وَقد بَقِي إِلَى وَقت تغير الشَّمْس مِقْدَار مَا يُمكنهُ أَن يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَة أَو رَكْعَتَيْنِ يمْنَع من الِاشْتِغَال بِالْأَدَاءِ وَإِن كَانَ وَقت التَّذَكُّر وقتا للفائتة بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْأَدَاء قبل تغير الشَّمْس وَإِذا تَغَيَّرت فَسدتْ صلَاته فَكَذَلِك عِنْد تضيق الْوَقْت يُؤمر بِالْأَدَاءِ وَلَا يَسعهُ التَّأْخِير لَا بِاعْتِبَار أَن السَّبَبِيَّة تتَعَيَّن فِي ذَلِك الْجُزْء وَلَكِن ليتَمَكَّن من الْأَدَاء فِيمَا هُوَ ظرف للْأَدَاء وَهُوَ الْوَقْت وَهَذَا التَّمَكُّن يفوت بِالتَّأْخِيرِ بعْدهَا
وَمن حكم هَذَا الْوَقْت أَن التَّعْيِين لَا يثبت بقوله حَتَّى لَو قَالَ عينت هَذَا الْجُزْء إِن لم يشْتَغل بِالْأَدَاءِ بعده لَا يتَعَيَّن لِأَن خِيَاره لم يَنْقَطِع وَله أَن يُؤَخر الْأَدَاء بعد هَذَا القَوْل وَالتَّعْيِين من ضَرُورَة انْقِطَاع خِيَاره فِي نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بِفعل الْأَدَاء كالمكفر إِذا قَالَ عينت الطَّعَام للتكفير بِهِ لَا يتَعَيَّن مَا لم يُبَاشر التَّكْفِير بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن نقل السَّبَبِيَّة من جُزْء إِلَى جُزْء تصرف فِي المشروعات وَلَيْسَ ذَلِك إِلَى العَبْد لِأَن الشَّرْع لما خَيره فقد جعل لَهُ هَذِه الْولَايَة فَيثبت لَهُ حق التَّصَرُّف بِهَذِهِ الصّفة لِأَن الشَّرْع قد ولاه ذَلِك كَمَا ثَبت لَهُ ولَايَة الْإِيجَاب فِيمَا كَانَ مَشْرُوعا غير وَاجِب بنذره
وَمن حكمه أَنه لَا يمْنَع صِحَة أَدَاء صَلَاة أُخْرَى فِيهِ لِأَن الْوَقْت ظرف للْأَدَاء وللواجب أَرْكَان مَعْلُومَة يُؤَدِّيهَا بمنافع هِيَ حَقه وَبعد الْوُجُوب بقيت الْمَنَافِع حَقًا لَهُ أَيْضا فَكَانَ لَهُ أَن يتَصَرَّف فِيهَا بِالصرْفِ إِلَى أَدَاء وَاجِب آخر بِمَنْزِلَة من دفع ثوبا إِلَى خياط ليخيطه فِي هَذَا الْيَوْم فَإِنَّهُ يسْتَحق على الْخياط إِقَامَة الْعَمَل وَلَا يتَعَذَّر عَلَيْهِ خياطَة ثوب آخر فِي ذَلِك الْيَوْم لِأَن مَنَافِعه بقيت حَقًا لَهُ بعد مَا اسْتحق عَلَيْهِ خياطَة الثَّوْب بِالْإِجَارَة(1/35)
وَمن حكمه أَنه لَا يتَأَدَّى إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَن صرف مَا هُوَ حَقه من الْمَنَافِع إِلَى أَدَاء الْوَاجِب عَلَيْهِ لَا يكون إِلَّا بِالنِّيَّةِ
وَمن حكمه اشْتِرَاط تعْيين النِّيَّة فِيهِ لِأَن مَنَافِعه لما بقيت على صفة يصلح لأَدَاء فرض الْوَقْت وَغَيره من الصَّلَوَات بهَا لم يتَعَيَّن فرض الْوَقْت مَا لم يُعينهُ بِالنِّيَّةِ وَاشْتِرَاط تعْيين الْوَقْت لإصابة فرض الْوَقْت حكم ثَبت شرعا فَلَا يسْقط ذَلِك بتقصير يكون من العَبْد فِي الْأَدَاء حَتَّى إِذا تضيق الْوَقْت على وَجه لَا يسع إِلَّا لأَدَاء الْفَرْض أَو لَا يسع لَهُ أَيْضا لَا يسْقط اعْتِبَار نِيَّة التَّعْيِين فِيهِ بِهَذَا الْمَعْنى
وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ مَا يكون الْوَقْت معيارا لَهُ كَصَوْم رَمَضَان لِأَن ركن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك ومقداره لَا يعرف إِلَّا بوقته فَكَانَ الْوَقْت معيارا لَهُ بِمَنْزِلَة الْكَيْل فِي المكيلات
وَمن حكمه أَن الْإِمْسَاك الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي الْأَيَّام من شهر رَمَضَان لما تعين لأَدَاء الْفَرْض لم يبْق غَيره مَشْرُوعا فِيهِ إِذْ لَا تصور لأَدَاء صَومينِ بإمساك وَاحِد وَمَا يتَصَوَّر فِي هَذَا الْوَقْت لَا يفضل عَن الْمُسْتَحق بِحَال فَلَا يكون غَيره مَشْرُوعا فِيهِ مُسْتَحقّا وَلَا مُتَصَوّر الْأَدَاء شرعا
ثمَّ قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يَسْتَوِي فِي هَذَا الحكم الْمُسَافِر والمقيم لِأَن وجوب صَوْم الشَّهْر يثبت بِشُهُود الشَّهْر فِي حق الْمُسَافِر وَلِهَذَا صَحَّ الْأَدَاء إِلَّا أَن الشَّرْع مكنه من التَّرَخُّص بِالْفطرِ لدفع الْمَشَقَّة عَنهُ فَإِذا ترك التَّرَخُّص كَانَ هُوَ والمقيم سَوَاء فَيكون صَوْمه عَن فرض رَمَضَان فتلغو نِيَّته لتطوع أَو لواجب آخر
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول إِذا نوى الْمُسَافِر وَاجِبا آخر صَحَّ صَوْمه عَمَّا نوى لِأَن انْتِفَاء صَوْم آخر فِي هَذَا الزَّمَان لَيْسَ من حكم الْوُجُوب وَاسْتِحْقَاق الْأَدَاء بمنافعه فَذَلِك مَوْجُود فِيمَا كَانَ الْوَقْت ظرفا لَهُ بل هُوَ من حكم تعينه مُسْتَحقّا للْأَدَاء فِيهِ وَلَا تعين فِي حق الْمُسَافِر فَهُوَ مُخَيّر بَين الْأَدَاء أَو التَّأْخِير إِلَى عدَّة من أَيَّام أخر فَلَا تَنْفِي صِحَة أَدَاء صَوْم آخر مِنْهُ بِهَذَا الْإِمْسَاك وَلِأَن الْوُجُوب وَإِن ثَبت فِي حَقه وَلَكِن التَّرَخُّص بِتَأْخِير أَدَاء الْوَاجِب ثَابت فِي حَقه أَيْضا وَهُوَ مَا ترك التَّرَخُّص حِين(1/36)
مَا صرف الْإِمْسَاك إِلَى مَا هُوَ دين فِي ذمَّته فَإِن ذَلِك أهم عِنْده وَإِذا كَانَ هُوَ بِالْفطرِ مترخصا لِأَن فِيهِ رفقا بِبدنِهِ فَلِأَن يكون فِي صرفه إِلَى وَاجِب آخر مترخصا لِأَنَّهُ نظر مِنْهُ لدينِهِ كَانَ أولى وعَلى الطَّرِيق الأول إِذا نوى النَّفْل كَانَ صَائِما عَن النَّفْل وعَلى الطَّرِيق الثَّانِي يكون صَائِما عَن الْفَرْض لِأَنَّهُ فِي نِيَّة النَّفْل لَا يكون مترخصا بِالصرْفِ إِلَى مَا هُوَ الأهم وَفِيه رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله
فَأَما الْمَرِيض إِذا صَامَ كَانَ صَوْمه عَن صَوْم رَمَضَان وَإِن نوى عَن وَاجِب آخر أَو نوى النَّفْل لِأَن الرُّخْصَة فِي حق الْمَرِيض إِنَّمَا تثبت إِذا تحقق عَجزه عَن أَدَاء الصَّوْم وَإِذا صَامَ فقد انْعَدم دَلِيل سَبَب الرُّخْصَة فِي حَقه فَكَانَ هُوَ كَالصَّحِيحِ وَأما الرُّخْصَة فِي حق الْمُسَافِر بِاعْتِبَار سَبَب ظَاهر قَامَ مقَام الْعذر الْبَاطِن وَهُوَ السّفر وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِم بِفعل الصَّوْم فَيبقى لَهُ حق التَّرَخُّص وَهُوَ فِي نِيَّته وَاجِبا آخر مترخص كَمَا بَيناهُ
وَقَالَ زفر رَحمَه الله وَلما تعين صَوْم الْفَرْض مَشْرُوعا فِي هَذَا الزَّمَان وركن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك فَالَّذِي يتَصَوَّر فِيهِ من الْإِمْسَاك مُسْتَحقّ الصّرْف إِلَيْهِ فَلَا يتَوَقَّف الصِّحَّة على عَزِيمَة مِنْهُ بل على أَي وَجه أَتَى بِهِ يكون من الْمُسْتَحق كمن اسْتَأْجر خياط 8 اليخيط لَهُ ثوبا بِعَيْنِه بِيَدِهِ فَسَوَاء خاطه على قَصده الْإِعَانَة أَو غَيره يكون من الْوَجْه الْمُسْتَحق وَمن عَلَيْهِ الزَّكَاة فِي نِصَاب بِعَيْنِه إِذا وهبه للْفَقِير يكون مُؤديا لِلزَّكَاةِ وَإِن لم ينْو لهَذَا الْمَعْنى
وَلَكنَّا نقُول مَعَ تعين الصَّوْم مَشْرُوعا مَنَافِعه الَّتِي تُوجد فِي الْوَقْت بَاقِيَة حَقًا لَهُ وَهُوَ مَأْمُور بِأَن يُؤَدِّي بِمَا هُوَ حَقه مَا هُوَ مُسْتَحقّ عَلَيْهِ من الْعِبَادَة وَذَلِكَ بأَدَاء يكون مِنْهُ على اخْتِيَار فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك بِدُونِ الْعَزِيمَة لِأَنَّهُ مَا لم يعزم على الصَّوْم لَا يكون صارفا مَاله إِلَى مَا هُوَ مُسْتَحقّ عَلَيْهِ فَإِن عدم الْعَزْم لَيْسَ بِشَيْء وَإِنَّمَا لَا يتَحَقَّق مِنْهُ صرف مَنَافِعه إِلَى أَدَاء صَوْم آخر لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت كَمَا لَا يتَحَقَّق مِنْهُ أَدَاء صَوْم بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِيهِ بِخِلَاف الْأَجِير فَفِي أجِير الْوَاحِد الْمُسْتَحق مَنَافِعه بِعَيْنِه وَفِي الْأَجِير الْمُشْتَرك الْمُسْتَحق هُوَ الْوَصْف(1/37)
الَّذِي يحدث فِي الثَّوْب بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لَا يتَوَقَّف على عزم يكون مِنْهُ وَبِخِلَاف الزَّكَاة فالمستحق صرف جُزْء من المَال إِلَى الْمُحْتَاج ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى وَقد تحقق ذَلِك فالهبة صَارَت عبارَة عَن الصَّدَقَة فِي حَقه مجَازًا لِأَن المبتغى بهَا وَجه الله تَعَالَى دون الْعِوَض من المصروف إِلَيْهِ
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يتَحَقَّق صرف مَاله إِلَى مَا هُوَ مَشْرُوع فِي الْوَقْت مُسْتَحقّا مَا لم يُعينهُ فِي عزيمته لِأَن معنى الْقرْبَة مُعْتَبر فِي الصّفة كَمَا هُوَ مُعْتَبر فِي الأَصْل فَكَمَا تشْتَرط عزيمته فِي أَدَاء أصل الصَّوْم ليتَحَقَّق معنى الْعِبَادَة يشْتَرط ذَلِك فِي وَصفه ليَكُون لَهُ اخْتِيَار فِي الصّفة كَمَا فِي الأَصْل وَمن قَالَ بنية النَّفْل يصير مصيبا للمشروع فقد أبعد لِأَنَّهُ لَو اعْتقد هَذِه الصّفة فِي الْمَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت كفر بربه فَكيف يصير بِهَذِهِ الْعَزِيمَة مصيبا للمشروع وَلَكنَّا نقُول لما كَانَ الْمَشْرُوع فِي هَذَا الْوَقْت من الصَّوْم الَّذِي يتَصَوَّر أَدَاؤُهُ مِنْهُ وَاحِدًا عينا كَانَ هُوَ بِالْقَصْدِ إِلَى الصَّوْم مصيبا لَهُ فالواحد الْمعِين فِي زمَان أَو مَكَان يصاب باسم جنسه كَمَا يصاب باسم نَوعه وَكَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَة منا قولا بِمُوجب الْعلَّة أَن تعْيين الْمُسْتَحق فِي الْعَزِيمَة لَا بُد مِنْهُ وَلَكِن هَذَا التَّعْيِين يحصل بنية الصَّوْم لَا أَن نقُول التَّعْيِين غير مُعْتَبر وَلَكِن لَا يشْتَرط عزيمته فِي الْوَصْف مَقْصُودا لِأَن بعد وجود أصل الصَّوْم مِنْهُ فِي هَذَا الزَّمَان لَا اخْتِيَار لَهُ فِي صفته وَلِهَذَا لَا يتَصَوَّر أَدَاؤُهُ بِصفة أُخْرَى شرعا فَأَما إِذا نوى النَّفْل فَهَذَا الْوَصْف من نِيَّته لَغْو لِأَن النَّفْل غير مَشْرُوع فِيهِ كَمَا تلغو نِيَّة أَدَاء الصَّوْم فِي اللَّيْل لِأَنَّهُ غير مَشْرُوع فِيهِ وكما تلغو نِيَّة الْفَرْض خَارج رَمَضَان مِمَّن لَا فرض عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يعْتَبر من نِيَّته عَزِيمَة أصل الصَّوْم وَهُوَ مَأْمُور بِأَن يعْتَقد فِي صَوْم الْمَشْرُوع أَنه صَوْم فبه يكون مصيبا للمشروع وعَلى هَذَا نقُول فِيمَن نذر الصَّوْم فِي وَقت بِعَيْنِه خَارج رَمَضَان إِنَّه يتَأَدَّى مِنْهُ بِمُطلق النِّيَّة وَنِيَّة النَّفْل لِأَن الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت قبل نَذره عين وَهُوَ النَّفْل وَقد جعل لَهُ الشَّرْع ولَايَة جعل الْمَشْرُوع وَاجِبا بنذره فبمطلق النِّيَّة يكون مصيبا للمشروع وَهُوَ الْمَنْذُور بِعَيْنِه وَنِيَّة النَّفْل مِنْهُ بعد النّذر لَغْو(1/38)
لِأَنَّهُ لما صَار وَاجِبا بنذره لم يبْق نفلا فِي حَقه فَأَما إِذا نوى وَاجِبا آخر كَانَ عَن ذَلِك الْوَاجِب لِأَن الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت قبل نَذره كَانَ صَالحا لأَدَاء وَاجِب آخر بِهِ إِذا صرفه إِلَيْهِ بعزمه وَتلك الصلاحية لَا تنعدم بنذره لِأَن تصرف النَّاذِر صَحِيح فِي مَحل حَقه وَذَلِكَ فِي جعل مَا كَانَ مَشْرُوعا لَهُ نفلا وَاجِبا بنذره فَأَما نفي الصلاحية فَلَيْسَ من حَقه فِي شَيْء فَلَا يعْتَبر تصرفه فِيهِ وَإِذا بقيت الصلاحية تأدي الْوَاجِب الآخر بِهِ عِنْد عزمه بِخِلَاف شهر رَمَضَان فقد انْتَفَى فِيهِ صَلَاحِية الْإِمْسَاك لأَدَاء صَوْم آخر سوى الْفَرْض شرعا فتلغو نِيَّته لواجب آخر كَمَا تلغو نِيَّة النَّفْل
وَقَالَ الشَّافِعِي صرف الْإِمْسَاك الَّذِي يتَصَوَّر مِنْهُ فِي نَهَار رَمَضَان إِلَى صَوْم الْفَرْض مُسْتَحقّ عَلَيْهِ من أول النَّهَار إِلَى آخِره وَلَا يتَحَقَّق هَذَا الصّرْف إِلَّا بعزيمته فَإِذا انعدمت الْعَزِيمَة فِي أول النَّهَار لم يكن ذَلِك الْجُزْء مصروفا إِلَى الصَّوْم وَهُوَ بالعزيمة بعد ذَلِك إِنَّمَا يكون صارفا لما بَقِي لَا لما مضى وَالصَّوْم مِنْهُ لَا يتَحَقَّق فِيمَا مضى وَلِهَذَا لَو نوى بعد الزَّوَال لَا يَصح وَلَا صِحَة لما بَقِي بِدُونِ مَا مضى أَلا ترى أَن الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الْفَرَائِض تشرط من أول النَّهَار إِلَى آخِره فرجحت الْمُفْسد على الْمُصَحح إِذا انعدمت النِّيَّة فِي أول النَّهَار أخذا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَة بِخِلَاف النَّفْل فَهُوَ غير مُقَدّر شرعا وأداؤه موكول إِلَى نشاطه فيتأدى بِقدر مَا يُؤَدِّيه مَعَ أَن هُنَاكَ لَو رجحنا الْمُفْسد فَاتَهُ الْأَدَاء لَا إِلَى خلف فرجحنا الْمُصَحح لكيلا يفوتهُ أصلا وَهَهُنَا يفوتهُ الْأَدَاء إِلَى خلف وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا قدم النِّيَّة فَإِن مَا تقدم مِنْهُ من الْعَزِيمَة يكون قَائِما حكما إِذا جَاءَ وَقت الْأَدَاء وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَوله وَآخره سَوَاء فتقترن الْعَزِيمَة بأَدَاء الْكل حكما أَلا ترى أَن صَوْم(1/39)
الْقَضَاء بِهِ يتَأَدَّى وَلَا يتَأَدَّى بالعزيمة قبل الزَّوَال وَلَكنَّا نقُول مَا يتَأَدَّى بِهِ هَذَا الصَّوْم فِي حكم شَيْء وَاحِد فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل التجزي فِي الْأَدَاء وبالاتفاق لَا يشْتَرط اقتران النِّيَّة بأَدَاء جَمِيعه فَإِنَّهُ لَو أُغمي عَلَيْهِ بعد الشُّرُوع فِي الصَّوْم يتَأَدَّى صَوْمه وَلَا يشْتَرط اقترانه بِأول حَالَة الْأَدَاء فَإِنَّهُ لَو قدم النِّيَّة تأدى صَوْمه وَإِن كَانَ غافلا عَنهُ عِنْد ابْتِدَاء الْأَدَاء بِالنَّوْمِ فَأَما أَن يكون ابْتِدَاء حَال الصَّوْم فِي أَنه يسْقط اعْتِبَار الْعَزِيمَة فِيهِ بِمَنْزِلَة الدَّوَام فِي الصَّلَاة أَو يكون حَال الِابْتِدَاء مُعْتَبرا بِحَال الدَّوَام وَكَانَ ذَلِك لدفع الْحَرج فوقت الشُّرُوع فِي الْأَدَاء هَهُنَا مشتبه بحرج الْمَرْء فِي الانتباه فِي ذَلِك الْوَقْت ثمَّ لَا ينْدَفع هَذَا الْحَرج بِجَوَاز تَقْدِيم النِّيَّة فِي جنس الصائمين ففيهم صبي يبلغ وَمَجْنُون يفِيق فِي آخر اللَّيْل وَفِي يَوْم الشَّك هُوَ مَمْنُوع من نِيَّة الْفَرْض قبل أَن يتَبَيَّن وَنِيَّة النَّفْل عِنْده لَا تتأدى إِذا تبين وَإِذا بَقِي معنى الْحَرج قُلْنَا لما صَحَّ الْأَدَاء بنية مُتَقَدّمَة وَإِن لم تقارن حَالَة الشُّرُوع وَلَا حَالَة الْأَدَاء فَلِأَن تصح بنية مُتَأَخِّرَة لاقترانها بِمَا هُوَ ركن الْأَدَاء كَانَ أولى
وَتبين بِهَذَا أَن الْمَوْجُود من الْإِمْسَاك فِي أول النَّهَار لم يتَعَيَّن للفطر لِأَنَّهُ بَقِي مُتَمَكنًا من جعل الْبَاقِي صوما بعزيمته وَالْوَاحد الَّذِي لَا يتجزى فِي حكم لَا ينْفَصل بعضه من بعض فَمن ضَرُورَة بَقَاء الْإِمْكَان فِيمَا بَقِي بَقَاؤُهُ فِيمَا مضى حكما بِأَن تستند الْعَزِيمَة إِلَيْهِ لتوقف الْإِمْسَاك عَلَيْهِ وَلَكِن هَذَا إِذا وجدت الْعَزِيمَة فِي أَكثر الرُّكْن لِأَن الْأَكْثَر بِمَنْزِلَة الْكَمَال من وَجه فَكَمَا أَنه مَا بَقِي الْإِمْكَان فِي صرف جَمِيع الرُّكْن إِلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحق بعزيمته يبْقى حكم صِحَة الْأَدَاء فَكَذَلِك إِذا بَقِي الْإِمْكَان فِي صرف أَكثر الرُّكْن إِلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحق عَلَيْهِ بعزيمته لِأَن الْكل من وَجه يجوز إِقَامَته مقَام الْكل من جَمِيع الْوُجُوه حكما وَفِيه أَدَاء الْعِبَادَة فِي وَقتهَا فَيكون(1/40)
الْمصير إِلَيْهِ أولى من الْمصير إِلَى التفويت لِانْعِدَامِ صفة الْكَمَال من جَمِيع الْوُجُوه وَهَذَا التَّرْجِيح أولى من التَّرْجِيح بِصفة الْعِبَادَة فَهِيَ حَالَة تبتنى على وجود الأَصْل وَالتَّرْجِيح بإيجاد أصل الشَّيْء أولى بالمصير إِلَيْهِ من التَّرْجِيح بِالصّفةِ وَالصّفة تتبع الأَصْل وَلَا يتبع الأَصْل الصّفة وعَلى هَذَا نقُول فِي الْمَنْذُور فِي وَقت بِعَيْنِه إِنَّه يتَأَدَّى بِمثل هَذِه الْعَزِيمَة لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَة يكون مُؤديا للمشروع قبل نَذره والمشروع فِي الْوَقْت بعد نَذره على مَا كَانَ عَلَيْهِ من قبل فَيصير مُؤديا لَهُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَة أَيْضا وَفِي أَدَائِهِ وَفَاء بالمنذور وَكَذَلِكَ فِي صَوْم الْقَضَاء يصير مُؤديا للمشروع فِي الْوَقْت بِهَذِهِ الْعَزِيمَة وَهُوَ النَّفْل
وَأما الْقَضَاء فَهُوَ مُسْتَحقّ فِي ذمَّته لَا اتِّصَال لَهُ بِالْوَقْتِ قبل أَن يعزم على صرف الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت إِلَيْهِ فَلم يتَوَقَّف إِمْسَاكه فِي أول النَّهَار عَلَيْهِ وَلم يزل تمكنه من أَدَاء مَا فِي ذمَّته بعزيمة تقترن بِالْجَمِيعِ من كل وَجه وَلِهَذَا لَا نصير إِلَى اعْتِبَار الْكل من وَجه وَاحِد فِيهِ وَلِهَذَا شرطنا الْأَهْلِيَّة فِي جَمِيع النَّهَار لِأَن مَعَ انعدام الْأَهْلِيَّة فِي أول النَّهَار لَا يثبت اسْتِحْقَاق الْأَدَاء والمصير إِلَى طلب الْكَمَال من وَجه لتقرر اسْتِحْقَاق الْأَدَاء فَإِذا لم تُوجد تِلْكَ الْأَهْلِيَّة فِي أول النَّهَار لم نشتغل بِطَلَب الْكَمَال من وَجه أَلا ترى أَنه يشْتَرط وجود الْأَهْلِيَّة لِلْعِبَادَةِ عِنْد النِّيَّة وَإِن سبقت وَقت الْأَدَاء وَلم يدل ذَلِك على اشْتِرَاط اقتران النِّيَّة بِرُكْن الْأَدَاء وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا فِي صَوْم النَّفْل إِنَّه لَا يتَأَدَّى بِدُونِ الْعَزِيمَة قبل الزَّوَال لِأَن الرُّكْن الَّذِي بِهِ يتَأَدَّى الصَّوْم كَمَا لَا يتجزى وجوبا لَا يتجزى وجودا وَلَا يتَصَوَّر الْأَدَاء إِلَّا بِكَمَالِهِ وَصفَة الْكَمَال لَا تثبت بِالنِّيَّةِ بعد الزَّوَال حَقِيقَة وَلَا حكما وَتثبت بِالنِّيَّةِ قبل الزَّوَال حكما بِاعْتِبَار إِقَامَة الْأَكْثَر مقَام الْكل وَلم يرد على مَا قُلْنَا الْإِمْسَاك الَّذِي ينْدب إِلَيْهِ الْمَرْء فِي يَوْم الْأَضْحَى إِلَى أَن يفرغ من الصَّلَاة فَإِن ذَلِك لَيْسَ بِصَوْم وَإِنَّمَا ندب إِلَيْهِ ليَكُون أول مَا يتَنَاوَلهُ فِي هَذَا الْيَوْم من القربان وَالنَّاس أضياف الله تَعَالَى يتَنَاوَل(1/41)
القربان فِي هَذَا الْيَوْم وَإِلَّا حسن أَن يكون أول مَا يتَنَاوَل مِنْهُ الضَّيْف طَعَام الضِّيَافَة وَلِهَذَا ثَبت هَذَا الحكم فِي حق أهل الْأَمْصَار دون أهل السوَاد فَلهم حق التَّضْحِيَة بعد طُلُوع الْفجْر وَلَيْسَ لأهل الْمصر أَن يضحوا إِلَّا بعد الصَّلَاة
وَمن هَذَا الْجِنْس صَوْم الْكَفَّارَة وَالْقَضَاء فالوقت معيار لَهُ على معنى أَن مِقْدَاره يعرف بِهِ وَلكنه لَيْسَ بِسَبَب لوُجُوبه بِخِلَاف صَوْم رَمَضَان فالوقت هُنَاكَ معيار وَسبب الْوُجُوب على مَا نبينه فِي بَابه وَلِهَذَا لَا يتَحَقَّق قَضَاء صَوْم يَوْمَيْنِ فِي يَوْم وَاحِد وَأَدَاء كفارتين بِالصَّوْمِ فِي شَهْرَيْن لِأَن الْوَقْت معيار بِمَنْزِلَة الْكَيْل للمكيل فَكَمَا لَا يتَحَقَّق قفيزان فِي قفيز وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة لَا يتَحَقَّق صَوْم يَوْمَيْنِ فِي يَوْم وَاحِد
وَمن حكم هَذَا النَّوْع أَنه لَا يتَأَدَّى بِدُونِ الْعَزِيمَة مِنْهُ على الْأَدَاء فِي جَمِيع الْوَقْت وَأَنه لَا يتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ مَا بَقِي حَيا وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْمُشكل فوقت الْحَج وَبَيَان الْإِشْكَال فِيهِ أَن الْحَج عبَادَة تتأدى بأركان مَعْلُومَة وَلَا يسْتَغْرق الْأَدَاء جَمِيع الْوَقْت فَمن هَذَا الْوَجْه (يشبه الصَّلَاة وَلَا يتَصَوَّر من الْأَدَاء فِي الْوَقْت فِي سنة وَاحِدَة إِلَّا حجَّة وَاحِدَة فَمن هَذَا الْوَجْه) يشبه الصَّوْم الَّذِي يكون الْوَقْت معيارا لَهُ وَفِي وقته اشْتِبَاه أَيْضا فالحج فرض الْعُمر وَوَقته أشهر الْحَج من سنة من سني الْعُمر وَأشهر الْحَج من السّنة الأولى تتَعَيَّن على وَجه لَا تفضل عَن الْأَدَاء وَبِاعْتِبَار أشهر الْحَج من السنين الَّتِي يَأْتِيهَا الْوَقْت تفضل عَن الْأَدَاء وَكَون ذَلِك من عمره مُحْتَمل فِي نَفسه فَكَانَ مشتبها ثمَّ يَتَرَتَّب على مَا قُلْنَا حكمان صِحَة الْأَدَاء بِاعْتِبَار الْوَقْت وَوُجُوب التَّعْجِيل بِكَوْن الْوَقْت مُتَعَيّنا وَفِي أحد الْحكمَيْنِ اتِّفَاق حَتَّى إِنَّه يكون مُؤديا فِي أَي سنة أَدَّاهُ للتيقن بِكَوْن ذَلِك من عمره ولاتساع الْوَقْت بإدراكه وَفِي الحكم الثَّانِي اخْتِلَاف فَعِنْدَ أبي يُوسُف رَحمَه الله الْوَقْت مُتَعَيّن قبل إِدْرَاك السّنة الثَّانِيَة فَلَا يَسعهُ التَّأْخِير وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله الْوَقْت غير مُتَعَيّن مَا بَقِي حَيا فيسعه التَّأْخِير بِشَرْط أَن لَا يفوتهُ(1/42)
وَمن حكمه أَنه بَعْدَمَا لزمَه الْأَدَاء بالتمكن مِنْهُ يصير مفوتا بِالْمَوْتِ قبل الْأَدَاء حَتَّى يُؤمر بِالْوَصِيَّةِ بِأَن يحجّ عَنهُ بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِن هُنَاكَ بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء لَا يصير مفوتا إِذا مَاتَ فِي الْوَقْت قبل الْأَدَاء لِأَن الْوَقْت هُنَا مُقَدّر بعمره فبموته يتَحَقَّق مُضِيّ الْوَقْت وَقد تمكن من الْأَدَاء فَإِذا أخر حَتَّى مُضِيّ الْوَقْت كَانَ مفوتا وَهُنَاكَ الْوَقْت مُقَدّر بِزَمَان لَا يَنْتَهِي ذَلِك بِمَوْتِهِ فَلَا يكون هُوَ مفوتا بِتَأْخِير الْأَدَاء وَإِن مَاتَ لبَقَاء الْوَقْت فَلهَذَا لَا يلْزمه شَيْء وَيكون آثِما هُنَا إِذا مَاتَ بعد التَّمَكُّن بِتَأْخِير الْأَدَاء
أما عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله فَلِأَن وَقت الْأَدَاء كَانَ مُتَعَيّنا فالتأخير عَنهُ كَانَ تفويتا وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله إِبَاحَة التَّأْخِير لَهُ كَانَ مُقَيّدا بِشَرْط وَهُوَ أَن يُؤَدِّيه فِي عمره فَإِذا انْعَدم هَذَا الشَّرْط كَانَ آثِما فِي التَّأْخِير لِأَنَّهُ تبين بِمَوْتِهِ أَن الْوَقْت كَانَ عينا وَأَن التَّأْخِير مَا كَانَ يَسعهُ بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء
وَمن حكمه أَنه لَا يتَأَدَّى الْفَرْض بنية النَّفْل
أما عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله فَلِأَن وَقت الْأَدَاء من عمره متسع يفضل عَن الْأَدَاء فَهُوَ كوقت الصَّلَاة وَعند أبي يُوسُف رَحمَه الله وَقت الْأَدَاء وَإِن كَانَ مُتَعَيّنا فالأداء يكون بأركان مَعْلُومَة فَيكون بِمَنْزِلَة الصَّلَاة بعد مَا تضيق الْوَقْت بهَا ثمَّ وَقت أَدَاء النَّفْل وَوقت أَدَاء الْفَرْض فِي الْحَج غير مُخْتَلف فَتَصِح مِنْهُ الْعَزِيمَة على أَدَاء النَّفْل فِيهِ وَبِه تنعدم الْعَزِيمَة على أَدَاء الْفَرْض وَبِدُون الْعَزِيمَة لَا يتَأَدَّى بِخِلَاف الصَّوْم فَلَا تصور لأَدَاء النَّفْل هُنَاكَ فِي الْوَقْت الْمعِين لأَدَاء الْفَرْض فتلغو نِيَّة النَّفْل هُنَاكَ وَيكون مُؤديا للْفَرض بعزيمة أصل النِّيَّة
وَقَالَ الشَّافِعِي أَنا ألغي نِيَّته النَّفْل مِنْهُ أَيْضا لِأَنَّهُ نوع سفه فالحج لَا يتَأَدَّى إِلَّا بتحمل الْمَشَقَّة وَقطع الْمسَافَة وَلِهَذَا لم يجب فِي الْعُمر إِلَّا مرّة فنية النَّفْل قبل أَدَاء الْفَرْض تكون سفها وَالسَّفِيه عِنْدِي مَحْجُور عَلَيْهِ فتلغو نِيَّة النَّفْل بِهَذَا الطَّرِيق وَلَكِن بإلغاء نِيَّة النَّفْل لَا يَنْعَدِم أصل نِيَّته الْحَج لِأَن الصّفة تنفصل عَن الأَصْل فِي هَذِه الْعِبَادَة أَلا ترى أَن بانعدام صفة الصِّحَّة لَا يَنْعَدِم أصل الْإِحْرَام بِخِلَاف الصَّوْم فالصفة هُنَاكَ لَا تنفصل عَن الأَصْل أَلا ترى أَن بانعدام صفة الصِّحَّة يَنْعَدِم أصل الصَّوْم مَعَ أَن الْحَج قد يتَأَدَّى من غير عَزِيمَة كالمغمى عَلَيْهِ يحرم عَنهُ أَصْحَابه فَيصير هُوَ محرما(1/43)
وَالرجل يحرم عَن أَبَوَيْهِ فَيصح وَإِن لم تُوجد الْعَزِيمَة مِنْهُمَا
وَلَكنَّا نقُول الْوَاجِب عَلَيْهِ أَدَاء مَا هُوَ عبَادَة والمؤدى يكون عبَادَة وَقد بَينا أَن هَذَا الْوَصْف لَا يتَحَقَّق بِدُونِ اخْتِيَار يكون مِنْهُ بالعزم على الْأَدَاء وإعراضه عَن أَدَاء الْفَرْض بالعزم على أَدَاء النَّفْل يكون أبلغ من إعراضه عَن أَدَاء الْفَرْض بترك أصل الْعَزِيمَة وَفِي إِثْبَات الْحجر بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَه انْتِفَاء اخْتِيَاره وَجعله مجبورا فِيهِ وَهَذَا يُنَافِي أَدَاء الْعِبَادَة فَيَعُود هَذَا القَوْل على مَوْضُوعه بِالنَّقْضِ وَأما الْإِحْرَام فعندنا شَرط الْأَدَاء بِمَنْزِلَة الطَّهَارَة للصَّلَاة وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَقْدِيمه على وَقت الْحَج أَو أَقَمْنَا هُنَاكَ دلَالَة الِاسْتِعَانَة مقَام حَقِيقَة الِاسْتِعَانَة عِنْد الْحَاجة اسْتِحْسَانًا فَيصير الْعَزْم بِهِ على أَدَاء الْفَرْض مَوْجُودا حكما وَهَذَا الْمَعْنى يَنْعَدِم عِنْد الْعَزْم على النَّفْل
وَمن حكمه أَنه يتَأَدَّى بِمُطلق نِيَّة الْحَج لَا بِاعْتِبَار أَنه يسْقط اشْتِرَاط نِيَّة التعين فِيهِ فَإِن الْوَقْت لما كَانَ قَابلا لأَدَاء الْفَرْض وَالنَّفْل فِيهِ لَا بُد من تعْيين الْفَرْض ليصير مؤدى وَلَكِن هَذَا التَّعْيِين ثَبت بِدلَالَة الْحَال فَإِن الْإِنْسَان فِي الْعَادة لَا يتَحَمَّل الْمَشَقَّة الْعَظِيمَة ثمَّ يشْتَغل بأَدَاء حجَّة أُخْرَى قبل أَدَاء حجَّة الْإِسْلَام وَدلَالَة الْعرف يحصل التَّعْيِين بهَا وَلَكِن إِذا لم يُصَرح بغَيْرهَا فَأَما مَعَ التَّصْرِيح يسْقط اعْتِبَار الْعرف كمن اشْترى بِدَرَاهِم مُطلقَة يتَعَيَّن نقد الْبَلَد بِدلَالَة الْعرف فَإِن صرح بِاشْتِرَاط نقد آخر عِنْد الشِّرَاء سقط اعْتِبَار ذَلِك الْعرف وَينْعَقد العقد بِمَا صرح بِهِ
فصل فِي بَيَان حكم الْوَاجِب بِالْأَمر
وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَدَاء وَقَضَاء
فالأداء تَسْلِيم عين الْوَاجِب بِسَبَبِهِ إِلَى مُسْتَحقّه قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك وَالْقَضَاء إِسْقَاط الْوَاجِب بِمثل من عِنْد الْمَأْمُور هُوَ حَقه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خَيركُمْ أحسنكم قَضَاء
وَقَالَ رحم الله امْرأ سهل البيع وَالشِّرَاء سهل الْقَضَاء سهل الِاقْتِضَاء ويتبين هَذَا فِي الْمَغْصُوب رد الْغَاصِب عينه تَسْلِيم نفس الْوَاجِب عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ ورد الْمثل بعد هَلَاك الْعين إِسْقَاط الْوَاجِب بِمثل من عِنْده فيسمى الأول أَدَاء وَالثَّانِي قَضَاء لحقه وَقد يدْخل النَّفْل فِي قسم الْأَدَاء على قَول من يَقُول مُقْتَضى الْأَمر النّدب أَو الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ يسلم عين مَا ندب إِلَى تَسْلِيمه وَلَا يدْخل فِي قسم الْقَضَاء لِأَنَّهُ إِسْقَاط الْوَاجِب بِمثل من عِنْده وَلَا وجوب هُنَاكَ وَقد تسْتَعْمل عبارَة الْقَضَاء فِي الْأَدَاء مجَازًا لما فِيهِ من إِسْقَاط الْوَاجِب قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} وَقد(1/44)
تسْتَعْمل عبارَة الْأَدَاء فِي الْقَضَاء مجَازًا لما فِيهِ من التَّسْلِيم إِلَّا أَن حَقِيقَة كل عبارَة مَا فسرناها بِهِ فَفِي الْأَدَاء معنى الِاسْتِقْصَاء وَشدَّة الرِّعَايَة فِي الْخُرُوج عَمَّا لزمَه وَذَلِكَ بِتَسْلِيم عين الْوَاجِب وَلَيْسَ فِي الْقَضَاء من معنى الِاسْتِقْصَاء وَشدَّة الرِّعَايَة شَيْء بل فِيهِ إِشَارَة إِلَى معنى التَّقْصِير من الْمَأْمُور وَذَلِكَ بِإِقَامَة مثل من عِنْده مقَام الْمَأْمُور بِهِ بعد فَوَاته
وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِي أَن وجوب الْقَضَاء بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجب بِهِ الْأَدَاء أم بِدَلِيل آخر غير الْأَمر الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء (فالعراقيون يَقُولُونَ وجوب الْقَضَاء بِدَلِيل آخر غير الْأَمر الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء) لِأَن الْوَاجِب بِالْأَمر أَدَاء الْعِبَادَة وَلَا مدْخل للرأي فِي معرفَة الْعِبَادَة فَإِذا كَانَ نَص الْأَمر مُقَيّدا بِوَقْت كَانَ عبَادَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَمعنى الْعِبَادَة إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي امْتِثَال الْأَمر وَفِي الْمُقَيد بِالْوَقْتِ لَا تصور لذَلِك بعد فَوَات الْوَقْت عرفنَا أَن الْوُجُوب بِدَلِيل مُبْتَدأ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي الصَّوْم {فَعدَّة من أَيَّام أخر} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّلَاة من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا يُوضحهُ أَن الْأَدَاء بِفعل من الْمَأْمُور وَالْفِعْل الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي وَقت غير الْفِعْل الَّذِي يُوجد مِنْهُ فِي وَقت آخر فَإِذا كَانَ الْأَمر مُقَيّدا بِوَقْت لَا يتَنَاوَل فعل الْأَدَاء فِي وَقت آخر كمن اسْتَأْجر أَجِيرا فِي وَقت مَعْلُوم لعمل فمضي ذَلِك الْوَقْت لَا يلْزمه تَسْلِيم النَّفس لإِقَامَة الْعَمَل بِحكم ذَلِك العقد وَهَذَا لِأَن فِي التَّنْصِيص على التَّوْقِيت إِظْهَار فَضِيلَة(1/45)
الْوَقْت وَذَلِكَ لَا يحصل بِالْأَدَاءِ بعد مُضِيّ الْوَقْت فَعرفنَا أَنه إِن فَاتَ بِمُضِيِّ الْوَقْت فَإِنَّمَا يفوت على وَجه لَا يُمكن تَدَارُكه فَلَا يجب الْقَضَاء إِلَّا بِدَلِيل آخر
وَأكْثر مَشَايِخنَا رَحِمهم الله على أَن الْقَضَاء يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء عِنْد فَوَاته وَهُوَ الْأَصَح فَإِن الشَّرْع لما نَص على الْقَضَاء فِي الصَّلَاة وَالصَّوْم كَانَ الْمَعْنى فِيهِ معقولا وَهُوَ أَن مثل الْمَأْمُور بِهِ فِي الْوَقْت مَشْرُوع حَقًا للْمَأْمُور بعد خُرُوج الْوَقْت وَخُرُوج الْوَقْت قبل الْأَدَاء لَا يكون مسْقطًا لأَدَاء الْوَاجِب فِي الْوَقْت بِعَيْنِه بل بِاعْتِبَار الْفَوات فيتقدر بِقدر مَا يتَحَقَّق فِيهِ الْفَوات وَهُوَ فَضِيلَة الْوَقْت فَلَا يبْقى ذَلِك مَضْمُونا عَلَيْهِ بعد مُضِيّ الْوَقْت إِلَّا فِي حق الْإِثْم إِذا تعمد التفويت فَأَما فِي أصل الْعِبَادَة التفويت لَا يتَحَقَّق بِمُضِيِّ الْوَقْت لكَون مثله مَشْرُوعا فِيهِ للْعَبد مُتَصَوّر الْوُجُود مِنْهُ حَقِيقَة وَحكما وَمَا يكون سُقُوطه للعجز بِسَبَب الْفَوات يتَقَدَّر بِقدر مَا يتَحَقَّق فِيهِ الْفَوات فَيبقى هُوَ مطالبا بِإِقَامَة الْمثل من عِنْده مقَام نفس الْوَاجِب بِالْأَمر وَهُوَ الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَإِذا عقل هَذَا الْمَعْنى فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ تعدى بِهِ الحكم إِلَى الْفَرْع وَهِي الْوَاجِبَات بِالنذرِ الموقت من الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالِاعْتِكَاف وَهَذَا أشبه بأصول عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فَإِنَّهُم قَالُوا لَو أَن قوما فَاتَتْهُمْ صَلَاة من صلوَات اللَّيْل فقضوها بِالنَّهَارِ بِالْجَمَاعَة جهر إمَامهمْ بِالْقِرَاءَةِ وَلَو فَاتَتْهُمْ صَلَاة من صلوَات النَّهَار فقضوها بِاللَّيْلِ لم يجْهر إمَامهمْ بِالْقِرَاءَةِ وَمن فَاتَتْهُ صَلَاة فِي السّفر فقضاها بعد الْإِقَامَة صلى رَكْعَتَيْنِ وَلَو فَاتَتْهُ حِين كَانَ مُقيما فقضاها فِي السّفر صلى أَرْبعا وَهَذَا لِأَن الْأَدَاء صَار مُسْتَحقّا بِالْأَمر فِي الْوَقْت وَنحن نعلم أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود عين الْوَقْت فَمَعْنَى الْعِبَادَة فِي كَونه عملا بِخِلَاف هوى النَّفس أَو فِي كَونه تَعْظِيمًا لله تَعَالَى وثناء عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَبَعْدَمَا صَار مَضْمُون التَّسْلِيم لَا يسْقط ذَلِك عَنهُ بترك الِامْتِثَال بل يَتَقَرَّر بِهِ حكم الضَّمَان إِلَّا أَن بِقدر مَا يتَحَقَّق الْعَجز عَن أَدَائِهِ بِالْمثلِ الَّذِي هُوَ قَائِم مقَامه يسْقط ضَرُورَة وَمَا وَرَاء ذَلِك يبْقى وَلِهَذَا قُلْنَا من فَاتَتْهُ صَلَاة من أَيَّام التَّكْبِير فقضاها بعد أَيَّام التَّكْبِير لم يكبر عقيبها لِأَن الْجَهْر بِالتَّكْبِيرِ دبر الصَّلَاة غير مَشْرُوع للْعَبد فِي غير أَيَّام التَّكْبِير بل هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ لكَونه بِدعَة فبمضي الْوَقْت يتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ فَيسْقط أصل الصَّلَاة مَشْرُوع لَهُ بعد أَيَّام التَّكْبِير فَيبقى الْوَاجِب(1/46)
بِاعْتِبَارِهِ وَكَذَلِكَ من فَاتَتْهُ الْجُمُعَة لم يقضها بعد مُضِيّ الْوَقْت لِأَن إِقَامَة الْخطْبَة مقَام رَكْعَتَيْنِ غير مَشْرُوع للْعَبد فِي غير ذَلِك الْوَقْت فبمضي الْوَقْت يتَحَقَّق الْعَجز فِيهِ وَتلْزَمهُ صَلَاة الظّهْر لِأَن مثله مَشْرُوع للْعَبد بعد مُضِيّ الْوَقْت
وَمن نصر القَوْل الأول اسْتدلَّ بِمَا ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الْجَامِع أَن من نذر أَن يعْتَكف شهر رَمَضَان فصَام وَلم يعْتَكف ثمَّ قضى اعْتِكَافه فِي الرمضان الثَّانِي لَا يجْزِيه عَن الْمَنْذُور وَلَو كَانَ وجوب الْقَضَاء بِمَا وَجب بِهِ الْأَدَاء وَهُوَ الْأَمر بِالْوَفَاءِ بِالنذرِ لجَاز لِأَن الثَّانِي مثل الأول فِي كَون الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ مُسْتَحقّا عَلَيْهِ وَصِحَّة أَدَاء الِاعْتِكَاف بِهِ فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا لم يجز لِأَن وجوب الْقَضَاء بِدَلِيل آخر وَهُوَ تَفْوِيت الْوَاجِب فِي الْوَقْت عِنْد مضيه على وَجه هُوَ مَقْدُور فِيهِ وَهَذَا السَّبَب يُوجب الِاعْتِكَاف دينا فِي ذمَّته فيلتحق باعتكاف يجب بِالنذرِ مُطلقًا عَن الْوَقْت فَلَا يتَأَدَّى بالاعتكاف فِي رَمَضَان
وَلَكنَّا نقُول أصل النّذر أوجب عَلَيْهِ الِاعْتِكَاف ولوجوب الِاعْتِكَاف أثر فِي وجوب الصَّوْم بِاعْتِبَار أَنه شَرط فِيهِ وَشرط الشَّيْء تَابع لَهُ فموجب الأَصْل يكون مُوجبا لتَبعه إِلَّا أَنه امْتنع وجوب الصَّوْم بِهِ لعَارض على شرف الزَّوَال وَهُوَ اتِّصَاله بِوَقْت لَا يجوز أَن يجب الصَّوْم فِيهِ بِإِيجَاب من العَبْد فبمضي الْوَقْت قبل أَن يعْتَكف زَالَ هَذَا الِاتِّصَال وَتحقّق وجوب الصَّوْم لوُجُوب الِاعْتِكَاف فِي ذمَّته ثمَّ الصَّوْم الْوَاجِب فِي الذِّمَّة لَا يتَأَدَّى بِصَوْم رَمَضَان وَإِنَّمَا لم يجب عَلَيْهِ الصَّوْم لاتصال حكم الْأَدَاء بِصَوْم رَمَضَان وَقد انْقَطع ذَلِك حِين صَامَ فِي الرمضان الأول وَلم يعْتَكف حَتَّى إِنَّه لَو لم يصم وَلم يعْتَكف ثمَّ اعْتكف فِي قَضَاء الصَّوْم خرج عَن عُهْدَة الْمَنْذُور لبَقَاء الِاتِّصَال حِين لم يصم فِي رَمَضَان وَإِن تحقق مُضِيّ الْوَقْت وَبِهَذَا تبين فَسَاد مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِأَن وجوب الْقَضَاء لَو كَانَ بِدَلِيل آخر كَانَ سَببا آخر وَالنّذر بالاعتكاف مَا كَانَ مُتَّصِلا بِهِ فَلَا يتَأَدَّى بِاعْتِبَارِهِ كَمَا لَا يتَأَدَّى فِي الرمضان الثَّانِي وَإِن صَامَهُ يقرره أَن امْتنَاع وجوب الصَّوْم عَلَيْهِ بِالنذرِ لِمَعْنى شرف الْوَقْت الْمُضَاف إِلَيْهِ النّذر وَقد بَينا أَن شرف الْوَقْت يفوت بمضيه على وَجه لَا يُمكن تَدَارُكه فبفواته يَنْعَدِم مَا كَانَ مُتَعَلقا بِهِ وَهُوَ امْتنَاع(1/47)
وجوب الصَّوْم بِالنذرِ بالاعتكاف حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله فِي رِوَايَة يبطل نَذره لِأَنَّهُ يبْقى اعتكافا بِغَيْر صَوْم وَذَلِكَ لَا يكون وَاجِبا
وَقُلْنَا يجب الصَّوْم لوُجُوب الِاعْتِكَاف لِأَن بانعدام التبع لَا يَنْعَدِم الأَصْل وبوجوب الأَصْل يجب التبع عِنْد زَوَال الْمَانِع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَاعْلَم بِأَن الْأَدَاء فِي الْأَمر الموقت يكون فِي الْوَقْت وَفِي غير الموقت يكون الْأَدَاء فِي الْعُمر لِأَن جَمِيع الْعُمر فِيهِ بِمَنْزِلَة الْوَقْت فِيمَا هُوَ موقت وَهُوَ أَنْوَاع ثَلَاثَة كَامِل وقاصر وَأَدَاء يشبه الْقَضَاء حكما
فالكامل هُوَ الْأَدَاء الْمَشْرُوع بِصفتِهِ كَمَا أَمر بِهِ والقاصر بِأَن يتَمَكَّن نُقْصَان فِي صفته وَذَلِكَ مثل الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة بِالْجَمَاعَة فَهِيَ أَدَاء مَحْض وَالْأَدَاء من الْمُنْفَرد يكون قاصرا لنُقْصَان فِي صفة الْأَدَاء فَإِنَّهُ مَأْمُور بِالْأَدَاءِ بِالْجَمَاعَة وَلِهَذَا لَا يكون الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ عَزِيمَة فِي حق الْمُنْفَرد فِي صَلَاة اللَّيْل لِأَن ذَلِك من شبه الْأَدَاء الْمَحْض وَمن اقْتدى بِالْإِمَامِ من أول الصَّلَاة وأداها مَعَه كَانَ ذَلِك أَدَاء مَحْضا وَلَو اقْتدى بِهِ فِي الْقعدَة الْأَخِيرَة ثمَّ قَامَ وَأدّى الصَّلَاة كَانَ ذَلِك أَدَاء قاصرا لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْت وَلكنه مُنْفَرد فِيمَا يُؤَدِّي لِأَن اقتداءه بِالْإِمَامِ فِيمَا فرغ الإِمَام من أَدَائِهِ لَا يتَحَقَّق فَكَانَ مُنْفَردا فِي الْأَدَاء وَإِن كَانَ مقتديا فِي التَّحْرِيمَة لِأَنَّهُ أدْركهَا مَعَ الإِمَام وَلِهَذَا لَا يَصح اقْتِدَاء الْغَيْر بِهِ وَتلْزَمهُ الْقِرَاءَة وَسُجُود السَّهْو لَو سَهَا لكَونه مُنْفَردا وَأَدَاء الْمُنْفَرد قَاصِر وَلِهَذَا لَا يجْهر بِالْقِرَاءَةِ
وَلَو اقْتدى بِالْإِمَامِ فِي أول الصَّلَاة ثمَّ نَام خَلفه حَتَّى فرغ الإِمَام أَو سبقه الْحَدث فَذهب وَتَوَضَّأ ثمَّ جَاءَ بعد فرَاغ الإِمَام فَهُوَ مؤد يشبه أَدَاؤُهُ الْقَضَاء فِي الحكم لِأَن بِاعْتِبَار بَقَاء الْوَقْت هُوَ مؤد وَبِاعْتِبَار أَنه الْتزم أَدَاء الصَّلَاة مَعَ الإِمَام حِين تحرم مَعَه كَانَ هُوَ قَاضِيا لما فَاتَهُ بفراغ الإِمَام وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ فِي حكم الْمُقْتَدِي حَتَّى لَا تلْزمهُ الْقِرَاءَة وَلَو سَهَا لَا يلْزمه سُجُود السَّهْو لِأَن الْقَضَاء بِصفة الْأَدَاء وَاجِب بِمَا وَجب بِهِ الْأَدَاء فَإِن قيل هَذَا على الْعَكْس فَصَاحب الشَّرْع جعل الْمَسْبُوق قَاضِيا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا فاتكم فاقضوا فَكيف يَسْتَقِيم جعل الْمَسْبُوق مُؤديا وَجعل اللَّاحِق قَاضِيا حكما قُلْنَا قد بَينا أَن اسْتِعْمَال(1/48)
إِحْدَى العبارتين مَكَان الْأُخْرَى مجَازًا جَائِز وَإِنَّمَا سمي الْمَسْبُوق قَاضِيا مجَازًا لما فِي فعله من إِسْقَاط الْوَاجِب أَو سَمَّاهُ قَاضِيا بِاعْتِبَار حَال الإِمَام وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله وَمَا فاتكم فاقضوا وَنحن إِنَّمَا نجعله مُؤديا أَدَاء قاصرا بِاعْتِبَار حَاله وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا لَو أَن مُسَافِرًا اقْتدى بمسافر ونام خَلفه ثمَّ اسْتَيْقَظَ وَنوى الْإِقَامَة وَهُوَ فِي مَوضِع الْإِقَامَة أَو سبقه الْحَدث فَرجع إِلَى مصره وَتَوَضَّأ فَإِن كَانَ ذَلِك قبل فرَاغ الإِمَام من صلَاته صلى أَربع رَكْعَات وَإِن كَانَ بعد فَرَاغه صلى رَكْعَتَيْنِ إِلَّا أَن يتَكَلَّم فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي أَرْبعا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة القَاضِي فِي الْإِتْمَام حكما وَوُجُوب الْقَضَاء بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ وَجب الْأَدَاء فَلَا يتَغَيَّر إِلَّا بِمَا يتَغَيَّر بِهِ الأَصْل وَقبل فرَاغ الإِمَام نِيَّة الْإِقَامَة (وَدخُول مَوضِع الْإِقَامَة) مغير للْفَرض فِي حق الأَصْل وَهُوَ الإِمَام فَيكون مغيرا فِي حق من يقْضِي ذَلِك الأَصْل وَبعد الْفَرَاغ نِيَّة الْإِقَامَة وَدخُول الْمصر غير مغير للْفَرض فِي حق الأَصْل فَكَذَلِك لَا يُغير فِي حق من يقْضِي ذَلِك الأَصْل إِلَّا أَن يتَكَلَّم فَحِينَئِذٍ يَنْعَدِم معنى الْقَضَاء لِخُرُوجِهِ بالْكلَام من تحريمة الْمُشَاركَة وَهُوَ الْمُؤَدِّي لبَقَاء الْوَقْت فيتغير فَرْضه بنية الْإِقَامَة وَلَو كَانَ مَسْبُوقا صلى أَرْبعا فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مؤد إتْمَام صلَاته أَدَاء قاصرا سَوَاء تكلم أَو لم يتَكَلَّم فرغ الإِمَام أَو لم يفرغ كَانَت نِيَّة الْإِقَامَة مُغيرَة للْفَرض لكَونه مُؤديا بِاعْتِبَار بَقَاء الْوَقْت
وَأما الْقَضَاء فَهُوَ نَوْعَانِ بِمثل مَعْقُول كَمَا بَينا وبمثل غير مَعْقُول كالفدية فِي حق الشَّيْخ الفاني مَكَان الصَّوْم وإحجاج الْغَيْر بِمَالِه عِنْد فَوَات الْأَدَاء بِنَفسِهِ لعَجزه فَإِن ذَلِك ثَابت بِالنَّصِّ قَالَ الله تَعَالَى {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} أَي لَا يطيقُونَهُ هَكَذَا نقل عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِي الْحَج حَدِيث الخثعمية حَيْثُ قَالَت يَا رَسُول الله إِن فَرِيضَة الله تَعَالَى على عباده فِي الْحَج أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة أفيجزىء أَن أحج عَنهُ فَقَالَ أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته أَكَانَ يقبل مِنْك فَقَالَت نعم فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الله أَحَق أَن يقبل ثمَّ لَا مماثلة بَين الصَّوْم وَبَين الْفِدْيَة صُورَة وَلَا معنى(1/49)
وَكَذَلِكَ لَا مماثلة بَين دفع المَال إِلَى من ينْفق على نَفسه فِي طَرِيق الْحَج وَبَين مُبَاشرَة أَدَاء الْحَج وَسُقُوط الْوَاجِب عَن الْمَأْمُور بِاعْتِبَار ذَلِك فَأَما أصل الْأَعْمَال يكون من الْحَاج دون المحجوج عَنهُ فَهُوَ قَضَاء بِمثل غير مَعْقُول وَمَا يكون بِهَذِهِ الصّفة لَا يَتَأَتَّى تَعديَة الحكم فِيهِ إِلَى الْفُرُوع فَيقْتَصر على مورد النَّص وَلِهَذَا قُلْنَا إِن النُّقْصَان الَّذِي يتَمَكَّن فِي الصَّلَاة بترك الِاعْتِدَال فِي الْأَركان لَا يضمن بِشَيْء سوى الْإِثْم لِأَنَّهُ لَيْسَ لذَلِك الْوَصْف مُنْفَردا عَن الأَصْل مثل صُورَة وَلَا معنى وَلذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله فِيمَن لَهُ مِائَتَا دِرْهَم جِيَاد فَأدى زَكَاتهَا خَمْسَة زُيُوفًا لَا يلْزمه شَيْء آخر لِأَنَّهُ لَيْسَ لصفة الْجَوْدَة الَّتِي تحقق فِيهَا الْفَوات مثل صُورَة وَلَا معنى من حَيْثُ الْقيمَة فَإِنَّهَا لَا تتقوم شرعا عِنْد الْمُقَابلَة بجنسها
وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله يلْزمه أَدَاء الْفضل احْتِيَاطًا لِأَن سُقُوط قيمَة الْجَوْدَة فِي حكم الرِّبَا للْحَاجة إِلَى جعل الْأَمْوَال أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَة قطعا وَمعنى الرِّبَا لَا يتَحَقَّق فِيمَا وَجب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لله تَعَالَى بِمثلِهِ فِي صفة الْمَالِيَّة حَقِيقَة وَيقوم مقَامه فِي أَدَاء الْوَاجِب بِهِ احْتِيَاطًا وعَلى هَذَا نقُول رمي الْجمار يسْقط بِمُضِيِّ الْوَقْت لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مثل مَعْقُول صُورَة وَلَا معنى فَإِنَّهُ لم يشرع قربَة للْعَبد فِي غير ذَلِك الْوَقْت
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم وَقد أوجبتم الدَّم عَلَيْهِ بِاعْتِبَار ترك رمي الْجمار قُلْنَا إِيجَاب الدَّم عَلَيْهِ لَا بطرِيق أَنه مثل للرمي قَائِم مقَامه بل لِأَنَّهُ جبر لنُقْصَان تمكن فِي نُسكه بترك الرَّمْي وجبر نُقْصَان النّسك بِالدَّمِ مَعْلُوم بِالنَّصِّ قَالَ الله تَعَالَى {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك}
فَإِن قيل فقد جعلتم الْفِدْيَة مَشْرُوعَة مَكَان الصَّلَاة بِالْقِيَاسِ على الصَّوْم وَلَو كَانَ ذَلِك غير مَعْقُول الْمَعْنى لم يجز تَعديَة حكمه إِلَى الصَّلَاة بِالرَّأْيِ قُلْنَا لَا نعدي ذَلِك الحكم(1/50)
إِلَى الصَّلَاة بِالرَّأْيِ وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون فِيهِ معنى مَعْقُول وَإِن كُنَّا لَا نقف عَلَيْهِ وَالصَّلَاة نَظِير الصَّوْم فِي الْقُوَّة أَو أهم مِنْهُ وَيحْتَمل أَنه لَيْسَ فِيهِ معنى مَعْقُول فَإِن مَا لَا نقف عَلَيْهِ لَا يكون علينا الْعَمَل بِهِ فلاحتمال الْوَجْه الأول يفْدي مَكَان الصَّلَاة ولاحتمال الْوَجْه الثَّانِي لَا يجب الْفِدَاء وَإِن فدى لم يكن بِهِ بَأْس فأمرناه بذلك احْتِيَاطًا لِأَن التَّصَدُّق بِالطَّعَامِ لَا يَنْفَكّ عَن معنى الْقرْبَة وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها وَلِهَذَا لَا نقُول فِي الْفِدْيَة عَن الصَّلَاة إِنَّهَا جَائِزَة قطعا وَلَكنَّا نرجو الْقبُول من الله فضلا
وَقَالَ مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات يجْزِيه ذَلِك إِن شَاءَ الله وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَدَاء الْوَارِث عَن الْمُورث بِغَيْر أمره فِي الصَّوْم يجْزِيه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وعَلى هَذَا الأَصْل حكم الْأُضْحِية فالتقرب بإراقة الدَّم عرف بِنَصّ غير مَعْقُول الْمَعْنى فَيفوت بِمُضِيِّ الْوَقْت لِأَن مثله غير مَشْرُوع قربَة للْعَبد فِي غير ذَلِك الْوَقْت
فَإِن قيل فعندكم يجب التَّصَدُّق بِالْقيمَةِ بعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر وَمَا ذَاك إِلَّا بِاعْتِبَار إِقَامَة الْقيمَة مقَام مَا يُضحي بِهِ وَقد أثبتم ذَلِك بِالرَّأْيِ قُلْنَا لَا كَذَلِك وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون الْمَقْصُود بِمَا هُوَ الْوَاجِب فِي الْوَقْت إِيصَال مَنْفَعَة اللَّحْم إِلَى الْفُقَرَاء إِلَّا أَن الشَّرْع أمره بإراقة الدَّم لما فِيهَا من تطييب اللَّحْم وَتَحْقِيق معنى الضِّيَافَة فَالنَّاس أضياف الله تَعَالَى بلحوم الْأَضَاحِي فِي هَذِه الْأَيَّام وَيحْتَمل أَن يكون الْمَقْصُود إِرَاقَة الدَّم الَّذِي هُوَ نُقْصَان للمالية عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله وتفويت للمالية عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله يتَبَيَّن ذَلِك بِالشَّاة الْمَوْهُوبَة إِذا ضحى بهَا الْمَوْهُوب لَهُ فَإِن الْوَاهِب لَا يرجع فِيهَا عِنْد أبي يُوسُف رَحمَه الله وَله أَن يرجع فِيهَا عِنْد مُحَمَّد رَحمَه الله لِأَنَّهَا نُقْصَان مَحْض إِلَّا أَن الِاحْتِمَال سَاقِط الِاعْتِبَار فِي مُقَابلَة النَّص فَفِي أَيَّام النَّحْر هُوَ قَادر على أَدَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِعَيْنِه فَلَا يُصَار إِلَى الِاحْتِمَال بِإِقَامَة الْقيمَة مقَامه وَبعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر قد تحقق الْعَجز عَن أَدَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فجَاء أَوَان اعْتِبَار الِاحْتِمَال(1/51)
وَاحْتِمَال الْوَجْه الأول يلْزمه التَّصَدُّق بِالْقيمَةِ لِأَن ذَلِك قربَة مَشْرُوعَة لَهُ فِي غير أَيَّام النَّحْر وَالْمعْنَى فِيهِ مَعْقُول وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَاب الْعِبَادَات أصل فلاعتبار هَذَا الِاحْتِمَال ألزمناه التَّصَدُّق بِالْقيمَةِ لَا ليقوم ذَلِك مقَام إِرَاقَة الدَّم وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله من أدْرك الإِمَام فِي الرُّكُوع فِي صَلَاة الْعِيد لَا يَأْتِي بالتكبيرات فِي الرُّكُوع لِأَن محلهَا الْقيام وَقد فَاتَ وَمثل الْفَائِت غير مَشْرُوع لَهُ فِي حَالَة الرُّكُوع ليقيمه مقَام مَا عَلَيْهِ بطرِيق الْقَضَاء فَيتَحَقَّق الْفَوات فِيهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله حَال الرُّكُوع مشبه بِحَالَة الْقيام لِاسْتِوَاء النّصْف الْأَسْفَل فِي الرُّكُوع وَبِه يُفَارق الْقَائِم الْقَاعِد فباعتبار هَذَا الشّبَه لَا يتَحَقَّق الْفَوات وتكبير الرُّكُوع مَحْسُوب من تَكْبِيرَات الْعِيد وَهُوَ مؤدي فِي حَالَة الِانْتِقَال فَإِذا كَانَت هَذِه الْحَالة محلا لبَعض تَكْبِيرَات الْعِيد نَجْعَلهَا عِنْد الْحَاجة محلا لجَمِيع التَّكْبِيرَات احْتِيَاطًا وعَلى هَذَا لَو ترك قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَالسورَة فِي الْأَوليين قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وجهر لِأَن مَحل أَدَاء ركن الْقِرَاءَة الْقيام الَّذِي هُوَ ركن الصَّلَاة إِلَّا أَنه تعين الْقيام فِي الْأَوليين لذَلِك بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل وَهُوَ خبر الْوَاحِد وَالْقِيَام فِي الْأُخْرَيَيْنِ مثل الْقيام فِي الْأَوليين فِي كَونه ركن الصَّلَاة ولهذه المشابهة لَا يتَحَقَّق الْفَوات وَيَقْضِي الْقِرَاءَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ
وَلَو قَرَأَ الْفَاتِحَة فِي الْأَوليين وَلم يقْرَأ السُّورَة قضى السُّورَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ لاعْتِبَار هَذَا الشّبَه أَيْضا وَالْقِيَام فِي الْأُخْرَيَيْنِ غير مَحل لقِرَاءَة السُّورَة أَدَاء وَهُوَ مَحل لقِرَاءَة السُّورَة قَضَاء بِالْمَعْنَى الَّذِي بَينا
وَلَو قَرَأَ السُّورَة فِي الْأَوليين وَلم يقْرَأ الْفَاتِحَة لم يقْض الْفَاتِحَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِأَن الْقيام فِي الْأُخْرَيَيْنِ مَحل للفاتحة أَدَاء فَلَو قَرَأَهَا على وَجه الْقَضَاء كَانَ مغيرا بِهِ مَا هُوَ مَشْرُوع فِي صلَاته مَعَ وجود حَقِيقَة الْأَدَاء وَذَلِكَ لَيْسَ فِي ولَايَة العَبْد فَيتَحَقَّق فَوَات قِرَاءَة الْفَاتِحَة بِتَرْكِهَا فِي الْأَوليين لَا إِلَى خلف فَلَا بُد من القَوْل بسقوطها عَنهُ إِذْ لَا مثل لَهَا صُورَة أَو معنى ليقام مقَامهَا
وَهَذِه الْأَقْسَام كلهَا تتَحَقَّق فِي حُقُوق الْعباد أَيْضا
أما بَيَان الْأَدَاء الْمَحْض فَهُوَ فِي تَسْلِيم عين الْمَغْصُوب إِلَى الْمَغْصُوب مِنْهُ على الْوَجْه الَّذِي غصبه وَتَسْلِيم عين الْمَبِيع إِلَى المُشْتَرِي على الْوَجْه الَّذِي اقْتَضَاهُ العقد وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ مَا لَو بَاعَ الْغَاصِب الْمَغْصُوب(1/52)
من الْمَغْصُوب مِنْهُ أَو وهبه لَهُ وَسلمهُ فَإِنَّهُ يكون أَدَاء الْعين الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ وَيَلْغُو مَا صرح بِهِ وَكَذَلِكَ لَو أَن المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بَاعَ الْمَبِيع من البَائِع بعد الْقَبْض أَو وهبه وَسلمهُ يكون أَدَاء الْعين الْمُسْتَحق بِسَبَب فَسَاد البيع وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو أطْعم الْغَاصِب الْمَغْصُوب مِنْهُ الطَّعَام الْمَغْصُوب أَو ألبسهُ الثَّوْب الْمَغْصُوب وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فَإِنَّهُ يكون ذَلِك أَدَاء للعين الْمُسْتَحق بِالْغَصْبِ ويتأكد ذَلِك بِإِتْلَاف الْعين فَلَا يبْقى بعد ذَلِك للْمَغْصُوب مِنْهُ عَلَيْهِ شَيْء
وَالشَّافِعِيّ أَبى ذَلِك فِي أحد قوليه لِأَن أَدَاء الْمُسْتَحق مَأْمُور بِهِ شرعا وَالْمَوْجُود مِنْهُ غرور فَلَا يَجْعَل ذَلِك أَدَاء للْمَأْمُور وَلَكِن يَجْعَل اسْتِعْمَالا مِنْهُ للْمَغْصُوب مِنْهُ فِي التَّنَاوُل فَكَأَنَّهُ تنَاول لنَفسِهِ فيتقرر عَلَيْهِ الضَّمَان وَهَذَا ضَعِيف فالغرور فِي إخْبَاره أَنه طَعَامه وَأَدَاء الْوَاجِب فِي وضع الطَّعَام بَين يَدَيْهِ وتمكينه مِنْهُ وهما غيران وبالقول إِنَّمَا جَاءَ الْغرُور بِجَهْل الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا لنُقْصَان فِي تَمْكِينه فَلَا يخرج بِهِ من أَن يكون فعله أَدَاء لما هُوَ الْمُسْتَحق كَمَا لَو اشْترى عبدا ثمَّ قَالَ البَائِع للْمُشْتَرِي أعتق عَبدِي هَذَا وَأَشَارَ إِلَى الْمَبِيع فَأعْتقهُ المُشْتَرِي وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فَإِنَّهُ يكون قَابِضا وَإِن كَانَ هُوَ مغرورا بِمَا أخبرهُ البَائِع بِهِ وَلَكِن قَبضه بِالْإِعْتَاقِ وَخبر البَائِع وَجَهل المُشْتَرِي غير مُؤثر فِي ذَلِك فَبَقيَ إِعْتَاقه قبضا تَاما
وَمن الْأَدَاء التَّام تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ وَبدل الصّرْف فَإِن ذَلِك أَدَاء الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ حكما بطرِيق أَن الِاسْتِبْدَال مُتَعَذر فِيهِ شرعا قبل الْقَبْض فَيجْعَل كَأَن الْمَقْبُوض عين مَا تنَاوله العقد حكما وَإِن كَانَ غَيره فِي الْحَقِيقَة لِأَن العقد تنَاول الدّين والمقبوض عين
وَأما الْأَدَاء الْقَاصِر وَهُوَ رد الْمَغْصُوب مَشْغُولًا بِالدّينِ أَو الْجِنَايَة بِسَبَب كَانَ مِنْهُ عِنْد الْغَاصِب وَمعنى الْقُصُور فِيهِ أَنه أَدَّاهُ لَا على الْوَصْف الَّذِي اسْتحق عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ فلوجود أصل الْأَدَاء قُلْنَا إِذا هلك فِي يَد الْمَالِك قبل الدّفع إِلَى ولي الْجِنَايَة برىء الْغَاصِب ولقصور فِي الصّفة قُلْنَا إِذا دفع إِلَى ولي الْجِنَايَة أَو بيع فِي الدّين يرجع الْمَالِك على الْغَاصِب بِقِيمَتِه كَأَن الرَّد لم يُوجد فَكَذَلِك البَائِع إِذا سلم الْمَبِيع وَهُوَ(1/53)
مُبَاح الدَّم فَهَذَا أَدَاء قَاصِر لِأَنَّهُ سلمه على غير الْوَصْف الَّذِي هُوَ مُقْتَضى العقد فَإِن هلك فِي يَد المُشْتَرِي لزمَه الثّمن لوُجُود أصل الْأَدَاء وَإِن قتل بِالسَّبَبِ الَّذِي صَار مُبَاح الدَّم رَجَعَ بِجَمِيعِ الثّمن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن الْأَدَاء كَانَ قاصرا فَإِذا تحقق الْفَوات بِسَبَب يُضَاف إِلَى مَا بِهِ صَار الْأَدَاء قاصرا جعل كَأَن الْأَدَاء لم يُوجد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْأَدَاء قَاصِر لعيب فِي الْمحل فَإِن حل الدَّم فِي الْمَمْلُوك عيب وقصور الْأَدَاء بِسَبَب الْعَيْب يعْتَبر مَا بَقِي الْمحل قَائِما فَأَما إِذا فَاتَ بِسَبَب عيب حدث عِنْد المُشْتَرِي لم ينْتَقض بِهِ أصل الْأَدَاء وَقد تلف هُنَا بقتل أحدثه الْقَاتِل عِنْد المُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِن أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ اسْتِحْقَاق هَذَا الْقَتْل كَانَ بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ صَار الْأَدَاء قاصرا فيحال بالتلف على أصل السَّبَب
وَمن الْأَدَاء الْقَاصِر إِيفَاء بدل الصّرْف أَو رَأس مَال السّلم إِذا كَانَ زُيُوفًا فَإِنَّهُ قَاصِر بِاعْتِبَار أَنه دون حَقه فِي الصّفة وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَهُ أَن يرد الْمَقْبُوض فِي الْمجْلس ويطالبه بالجياد وَلَو هلك الْمَقْبُوض فِي يَده قبل أَن يردهُ لم يرجع بِشَيْء لِأَن بِاعْتِبَار الأَصْل كَانَ فعله أَدَاء فَمَا لم يَنْفَسِخ ذَلِك الْفِعْل لَا يَنْعَدِم معنى الْأَدَاء فِيهِ وَبعد هَلَاكه تعذر فسخ الْأَدَاء فِي الْهَالِك وَلَا يُمكن إِيجَاب مثله لِأَن الْمَقْبُوض ملك الْقَابِض فَلَا يكون مَضْمُونا عَلَيْهِ وَصفَة الْجَوْدَة مُنْفَرِدَة عَن الأَصْل لَيْسَ لَهَا مثل لَا صُورَة وَلَا معنى فِي أَمْوَال الرِّبَا فَسقط حَقه
وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله أستحسن أَن يرد مثل الْمَقْبُوض (لِأَن حَقه فِي الصّفة مرعي وتتعذر رعايته مُنْفَصِلا عَن الأَصْل فَيرد مثل الْمَقْبُوض) حَتَّى يُقَام ذَلِك مقَام رد الْعين عِنْد تعذر رد الْعين وينعدم بِهِ أصل الْأَدَاء فيطالبه بِالْأَدَاءِ الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ
قَالَ وَهَذَا بِخِلَاف الزَّكَاة فِيمَا قبض الْفَقِير هُنَاكَ لَا يُمكن أَن يَجْعَل مَضْمُونا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي الحكم كَأَنَّهُ بِقَبْضِهِ كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى لَا من الْمُعْطِي وَبِدُون رد الْمثل يتَعَذَّر اعْتِبَار الْجَوْدَة مُنْفَرِدَة عَن الأَصْل أَلا ترى أَن الْمَقْبُوض وَإِن كَانَ قَائِما فِي يَده لَا يتَمَكَّن من رده(1/54)
وَمن الْأَدَاء الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَة الْقَضَاء حكما أَن يتَزَوَّج امْرَأَة على عبد لغيره بِعَيْنِه ثمَّ يَشْتَرِي ذَلِك العَبْد فيسلمه إِلَيْهَا فَإِن ذَلِك يكون أَدَاء للعين الْمُسْتَحق بِسَبَبِهِ وَهُوَ التَّسْمِيَة فِي العقد وَلِهَذَا لَا يكون لَهَا أَن تمْتَنع من الْقبُول وَهَذَا لِأَن كَون الْمُسَمّى مَمْلُوكا لغير الزَّوْج لَا يمْنَع صِحَة التَّسْمِيَة وَثُبُوت الِاسْتِحْقَاق بهَا على الزَّوْج أَلا ترى أَنه تلْزمهُ الْقيمَة إِذا تعذر تَسْلِيم الْعين وَمَا ذَلِك إِلَّا لاسْتِحْقَاق الأَصْل غير أَن هَذَا أَدَاء هُوَ فِي معنى الْقَضَاء حكما فَإِن مَا اشْتَرَاهُ الزَّوْج قبل أَن يسلم إِلَيْهَا مَمْلُوك لَهُ حَتَّى لَو تصرف فِيهِ بِالْإِعْتَاقِ ينفذ تصرفه وَلَو أَعتَقته الْمَرْأَة قبل التَّسْلِيم إِلَيْهَا لَا ينْفد عتقهَا وَلَو كَانَ أَبَاهَا لم يعْتق عَلَيْهَا فَهَذَا التَّسْلِيم من الزَّوْج أَدَاء مَال من عِنْده مَكَان مَا اسْتحق عَلَيْهِ فَمن هَذَا الْوَجْه يشبه الْقَضَاء
وَلَو قضى القَاضِي لَهَا بِالْقيمَةِ قبل أَن يَتَمَلَّكهُ الزَّوْج ثمَّ تملكه فسلمه إِلَيْهَا لم يكن ذَلِك أَدَاء مُسْتَحقّا بِالتَّسْمِيَةِ وَلَكِن يكون مُبَادلَة بِالْقيمَةِ الَّتِي تقرر حَقّهَا فِيهِ حَتَّى إِنَّهَا إِذا لم ترض بذلك لَا يكون للزَّوْج أَن يجبرها على الْقبُول بِخِلَاف مَا قبل الْقَضَاء لَهَا بِالْقيمَةِ
وَأما الْقَضَاء بِمثل مَعْقُول فبيانه فِي ضَمَان الغصوب والمتلفات فَإِن الْغَاصِب يُؤَدِّي مَالا من عِنْده وَهُوَ مثل لما كَانَ مُسْتَحقّا عَلَيْهِ بِسَبَب الْغَصْب وَهُوَ نَوْعَانِ مثل صُورَة وَمعنى كَمَا فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون وَمثل معنى لَا صُورَة وَالْمَقْصُود جبران حق الْمُتْلف عَلَيْهِ وَفِي الْمثل صُورَة وَمعنى هَذَا الْمَقْصُود أتم مِنْهُ فِي الْمثل معنى فَلَا يُصَار إِلَى الْمثل معنى لَا صُورَة إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة كَمَا لَا يُصَار إِلَى الْمثل إِلَّا عِنْد تعذر رد الْعين فَلَو أَرَادَ أَدَاء الْقيمَة مَعَ وجود الْمثل فِي أَيدي النَّاس كَانَ للْمَغْصُوب مِنْهُ أَن يمْتَنع من قبُوله وَإِذا انْقَطع الْمثل من أَيدي النَّاس فَحِينَئِذٍ تتَحَقَّق الضَّرُورَة فِي اعْتِبَار الْمثل فِي معنى الْمَالِيَّة وَسقط اعْتِبَار الْمثل صُورَة لتحَقّق فَوَاته
ثمَّ قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله تعْتَبر قِيمَته فِي آخر أَوْقَات وجوده لِأَن الضَّرُورَة تتَحَقَّق عِنْد انْقِطَاعه من أَيدي النَّاس
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تعْتَبر وَقت الْخُصُومَة لِأَن الْمثل قَائِم بِالذِّمةِ حكما وَأَدَاء الْمثل بصورته موهوم بِأَن يصبر إِلَى أَوَانه فَإِنَّمَا تتَحَقَّق الضَّرُورَة(1/55)
عِنْد الْمُطَالبَة وَذَلِكَ وَقت قَضَاء القَاضِي
وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله بالانقطاع يتَحَقَّق الْفَوات وَذَلِكَ غير مُوجب للضَّمَان إِنَّمَا الْمُوجب أصل الْغَصْب فَتعْتَبر قِيمَته وَقت الْغَصْب وَهَذَا لِأَن الْقيمَة خلف عَن رد الْعين وَلِهَذَا كَانَ قَضَاء وَالْخلف إِنَّمَا يكون وَاجِبا بِالسَّبَبِ الَّذِي بِهِ كَانَ الأَصْل وَاجِبا وَفِيمَا لَيْسَ لَهُ مثل صُورَة يجب قِيمَته وَقت الْغَصْب وَيكون ذَلِك قَضَاء بِالْمثلِ معنى لما تعذر اعْتِبَار الْمثل صُورَة حَتَّى إِن فِيمَا يتَعَذَّر اعْتِبَار الْمثل صُورَة وَمعنى بتحقق الْفَوات غير مُوجب شَيْئا سوى الْإِثْم وَذَلِكَ بِأَن يغصب زَوْجَة إِنْسَان أَو وَلَده فَإِن الْأَدَاء مُسْتَحقّ عَلَيْهِ وَلَو مَاتَ فِي يَده لم يضمن شَيْئا لتحَقّق الْفَوات بانعدام الْمثل صُورَة وَمعنى
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْمَالِ بطرِيق الْعدوان الْمَحْض لِأَن ضَمَان الْعدوان مُقَدّر بِالْمثلِ نصا وَلَا مماثلة بَين الْعين وَالْمَنْفَعَة صُورَة وَلَا معنى لِأَن من ضَرُورَة كَون الشَّيْء مثلا لغيره أَن يكون ذَلِك الْغَيْر مثلا لَهُ ثمَّ الْعين لَا تضمن بِالْمَنْفَعَةِ بطرِيق الْعدوان قطّ فَعرفنَا أَنه لَا مماثلة بَينهمَا وَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَة لَا تضمن بِالْمَنْفَعَةِ فَإِن الْحجر المبنية على تقطيع وَاحِد وتؤاجر بِأُجْرَة وَاحِدَة لَا تكون مَنْفَعَة إِحْدَاهمَا مثلا لمَنْفَعَة الْأُخْرَى فِي ضَمَان الْعدوان مَعَ وجود المشابهة صُورَة وَمعنى فِي الظَّاهِر فَلِأَن لَا يضمن الْمَنْفَعَة بِالْعينِ وَلَا مشابهة بَينهمَا صُورَة وَلَا معنى كَانَ أولى وَانْتِفَاء المشابهة صُورَة لَا يخفى
وَأما الْمَعْنى فَلِأَن الْمَنَافِع أَعْرَاض لَا تبقى وَقْتَيْنِ وَالْعين تبقى وَبَين مَا يبْقى وَبَين مَا لَا يبْقى تفَاوت عَظِيم فِي الْمَعْنى وَبِهَذَا تبين أَنه لَا مَالِيَّة فِي الْمَنْفَعَة حَقِيقَة لِأَن الْمَالِيَّة لَا تسبق الْوُجُود وَبعد الْوُجُود تثبت بالإحراز والتمول وَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر فِيمَا لَا يبْقى وَقْتَيْنِ وَبِهَذَا تبين أَيْضا أَن الْإِتْلَاف وَالْغَصْب لَا يتَحَقَّق فِي الْمَنْفَعَة فَإِن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ فعل هُوَ غصب أَو إِتْلَاف وكما يُوجد يتلاشى وَفِي حَال تلاشيه لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْغَصْب والإتلاف إِلَّا أَن الشَّرْع فِي حكم العقد جعل الْمَعْدُوم حَقِيقَة من الْمَنْفَعَة كالموجود أَو أَقَامَ الْعين المنتفع بِهِ مقَام الْمَنْفَعَة للْحَاجة إِلَى ذَلِك وَهَذِه الْحَاجة إِنَّمَا تتَحَقَّق فِي العقد فَيثبت(1/56)
هَذَا الحكم فِيمَا يَتَرَتَّب على العقد من الضَّمَان جَائِزا كَانَ أَو فَاسِدا لِأَن الْفَاسِد لَا يُمكن أَن يَجْعَل أصلا بِنَفسِهِ ليعرف حكمه من عينه فَلَا بُد من أَن يرد حكمه إِلَى الْجَائِز ثمَّ ضَمَان العقد فَاسِدا كَانَ أَو جَائِزا يبتنى على التَّرَاضِي لَا على التَّسَاوِي نصا والتراضي يتَحَقَّق مَعَ انعدام الْمُمَاثلَة فَلهَذَا كَانَ مَضْمُونا بِالْعقدِ فَاسِدا كَانَ أَو جَائِزا وَوُجُوب الضَّمَان يلْزمه الْخُرُوج عَنهُ بِالْأَدَاءِ فَيكون ذَلِك بِحَسب الْإِمْكَان يُوضحهُ أَن قوام الْأَعْرَاض بالأعيان وَالْعين يقوم بِنَفسِهِ وَلَا مماثلة بَين مَا يقوم بِنَفسِهِ وَبَين مَا يقوم بِغَيْرِهِ بل مَا يقوم بِنَفسِهِ أَزِيد فِي الْمَعْنى لَا محَالة وَلَكِن هَذِه الزِّيَادَة يسْقط اعْتِبَارهَا فِي ضَمَان العقد لوُجُود التَّرَاضِي فَاسِدا كَانَ العقد أَو جَائِزا وَلَا وَجه لإِسْقَاط اعْتِبَار هَذِه الزِّيَادَة فِي ضَمَان الْعدوان لِأَن بظُلْم الْغَاصِب لَا تسْقط حُرْمَة مَاله فَلَو أَوجَبْنَا عَلَيْهِ هَذِه الزِّيَادَة أهدرناها فِي حَقه وَلَو لم نوجب الضَّمَان لم يهدر حق الْمَغْصُوب مِنْهُ بل يتَأَخَّر إِلَى الْآخِرَة وضرر التَّأْخِير دون ضَرَر الإهدار وَإِذا ألزمناه أَدَاء الزِّيَادَة كَانَ ذَلِك مُضَافا إِلَيْنَا وَإِذا لم نوجب الضَّمَان لتعذر إِيجَاب الْمثل صُورَة وَمعنى لَا يكون سُقُوط حق الْمَغْصُوب مِنْهُ فِي حق أَحْكَام الدُّنْيَا مُضَافا إِلَيْنَا بِمَنْزِلَة من ضرب إنْسَانا ضربا لَا أثر لَهُ أَو شَتمه شتيمة لَا عُقُوبَة بهَا فِي الدُّنْيَا
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا قطع يَد إِنْسَان عمدا ثمَّ قَتله عمدا قبل الْبُرْء يتَخَيَّر الْوَلِيّ لِأَن الْقطع ثمَّ الْقَتْل مثل الأول صُورَة وَمعنى وَالْقَتْل بِدُونِ الْقطع مثل معنى فَالرَّأْي إِلَى الْوَلِيّ فِي ذَلِك
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْقَتْل بعد الْقطع قبل الْبُرْء تَحْقِيق لموجب الْفِعْل الأول وَالْقَتْل بِهِ من الْوَلِيّ يكون مثلا كَامِلا فَلَا يُصَار إِلَى الْقطع
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله هَذَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَأَما من حَيْثُ الصُّورَة الْمثل الأول هُوَ الْقطع ثمَّ الْقَتْل وَالْقَتْل بعد الْقطع تَارَة يكون محققا لموجب الْفِعْل الأول وَتارَة يكون ماحيا أثر الْفِعْل الأول حَتَّى إِذا كَانَ الْقَاتِل غير الْقَاطِع كَانَ الْقصاص فِي النَّفس على الثَّانِي خَاصَّة فَلَا يسْقط اعْتِبَار الْمُمَاثلَة صُورَة بِهَذَا الْمَعْنى
فَأَما الْقَضَاء بِمثل غير مَعْقُول فَهُوَ ضَمَان الْمُحْتَرَم الْمُتَقَوم الَّذِي لَيْسَ بِمَال بِمَا هُوَ مَال(1/57)
معنى ضَمَان النَّفس والأطراف بِالْمَالِ فِي حَالَة الْخَطَأ فَإِنَّهُ ثَابت بِالنَّصِّ من غير أَن يعقل فِيهِ الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَا مماثلة بَين الْآدَمِيّ وَالْمَال صُورَة وَلَا معنى فالآدمي مَالك لِلْمَالِ وَالْمَال مَخْلُوق لإِقَامَة مصَالح الْآدَمِيّ بِهِ ثمَّ الشَّرْع أوجب الدِّيَة فِي الْقَتْل خطأ فَمَا عقل من ذَلِك إِلَّا معنى الْمِنَّة على الْقَاتِل بِتَسْلِيم نَفسه لَهُ لعذر الْخَطَأ وَمعنى الْمِنَّة على الْمَقْتُول لصيانة دَمه عَن الهدر وَإِيجَاب مَال يقْضِي بِهِ حَوَائِجه أَو حوائج ورثته الَّذين يخلفونه وَلِهَذَا لَا يُوجِبهُ مَعَ إِمْكَانه إِيجَاب الْمثل بِصفتِهِ وَهُوَ الْقصاص لِأَنَّهُ هُوَ الْمثل صُورَة وَمعنى فَالْمَعْنى الْمَطْلُوب هُوَ الْحَيَاة وَفِي الْقصاص حَيَاة لَا فِي المَال فَإِذا لم تكن هَذِه الْحَالة فِي معنى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من كل وَجه يتَعَذَّر إلحاقها بِهِ وَإِيجَاب المَال
وعَلى هَذَا الأَصْل لَو قتل من عَلَيْهِ الْقصاص إِنْسَان آخر لَا يضمن لمن لَهُ الْقصاص شَيْئا لِأَن ملك الْقصاص الثَّابِت لَهُ لَيْسَ بِمَال فَلَا يكون المَال مثلا لَهُ لَا صُورَة وَلَا معنى وَكَذَلِكَ لَو قتل زَوْجَة إِنْسَان لَا يضمن للزَّوْج شَيْئا بِاعْتِبَار مَا فَوت عَلَيْهِ من ملك النِّكَاح لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِمَال فَلَا يكون المَال مثلا لَهُ صُورَة وَمعنى وَهَذَا لِأَن ملك النِّكَاح مَشْرُوع للسكن والنسل وَالْمَال بذلة لإِقَامَة الْمصَالح فَكيف يكون بَينهمَا مماثلة وَإِذا تحقق انعدام الْمثل تحقق الْفَوات
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا شُهُود الْعَفو عَن الْقصاص إِذا رجعُوا لم يضمنوا شَيْئا وَكَذَلِكَ الْمُكْره للْوَلِيّ على الْعَفو بِغَيْر حق لَا يضمن شَيْئا لِأَنَّهُ أتلف عَلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم وَلَا وَجه لإِيجَاب الضَّمَان هُنَا صِيَانة لملكه فِي الْقصاص فالعفو مَنْدُوب إِلَيْهِ شرعا وإهدار مثله لَا يقبح
وَكَذَلِكَ قُلْنَا شُهُود الطَّلَاق بعد الدُّخُول إِذا رجعُوا لم يضمنوا للزَّوْج شَيْئا وَالْمكْره على الطَّلَاق بعد الدُّخُول كَذَلِك وَالْمَرْأَة إِذا ارْتَدَّت لَا تضمن للزَّوْج شَيْئا وَلَو جَامعهَا ابْن الزَّوْج لَا يضمن للزَّوْج شَيْئا لِأَنَّهُ أتلف عَلَيْهِ ملك النِّكَاح وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم فَلَا يكون المَال مثلا لَهُ صُورَة(1/58)
وَلَا معنى والصيانة هُنَا للمحل الْمَمْلُوك لَا للْملك الْوَارِد عَلَيْهِ أَلا ترى أَن إِزَالَة هَذَا الْملك بِالطَّلَاق صَحِيح من غير شُهُود وَولي وَعوض وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْبضْع لَا يتقوم عِنْد الْخُرُوج من ملك الزَّوْج وَإِن كَانَ يتقوم عِنْد الدُّخُول فِي ملكه لِأَن معنى الْخطر للمحل وَوقت التَّمَلُّك وَقت الِاسْتِيلَاء على الْمحل بِإِثْبَات الْملك فَيكون مُتَقَوّما لإِظْهَار خطره فَأَما وَقت الْخُرُوج فَهُوَ وَقت إِطْلَاق الْمحل وَإِزَالَة الِاسْتِيلَاء عَنهُ فَلَا يظْهر حكم التقوم فِيهِ وَلَا يدْخل على مَا قُلْنَا شُهُود الطَّلَاق قبل الدُّخُول إِذا رجعُوا فَإِنَّهُم يضمنُون نصف الصَدَاق للزَّوْج لأَنهم لَا يضمنُون شَيْئا من قيمَة مَا أتلفوا وَهُوَ الْبضْع فَقيمته مهر الْمثل وَلَا يضمنُون شَيْئا مِنْهُ وَلَكِن سُقُوط الْمُطَالبَة بِتَسْلِيم الْبضْع قبل الدُّخُول يكون مسْقطًا للمطالبة بِالْعِوَضِ الْمُسَمّى إِذا لم يكن ذَلِك بِسَبَب مُضَاف إِلَى الزَّوْج فهما بِالْإِضَافَة إِلَى الزَّوْج بِشَهَادَتِهِمَا على الطَّلَاق كالملزمين لَهُ نصف الصَدَاق حكما أَو كَأَنَّهُمَا فوتا عَلَيْهِ يَده فِي ذَلِك النّصْف بعد فَوَات تَسْلِيم الْبضْع فيكونان بِمَنْزِلَة الغاصبين فِي حَقه
وَمن الْقَضَاء الَّذِي هُوَ فِي حكم الْأَدَاء مَا إِذا تزوج امْرَأَة على عبد بِغَيْر عينه فَأَتَاهَا بِالْقيمَةِ أجبرت على الْقبُول وَكَانَ ذَلِك قَضَاء بِالْمثلِ الْمُسَمّى من عِنْده وَهُوَ فِي معنى الْأَدَاء لِأَن العَبْد الْمُطلق مَعْلُوم الْجِنْس مَجْهُول الْوَصْف فباعتبار كَونه مَعْلُوم الْجِنْس يكون أَدَاء للمسمى بِتَسْلِيم العَبْد وَلِهَذَا لَو أَتَاهَا بِهِ أجبرت على الْقبُول وَمن حَيْثُ إِنَّه مَجْهُول الْوَصْف يتَعَذَّر عَلَيْهَا الْمُطَالبَة بِعَين الْمُسَمّى فَيكون تَسْلِيم الْقيمَة قَضَاء فِي حكم الْأَدَاء فتجبر على قبُولهَا بِخِلَاف العَبْد إِذا كَانَ بِعَيْنِه (أَو الْمكيل أَو الْمَوْزُون إِذا كَانَ مَوْصُوفا أَو معينا لِأَن الْمُسَمّى مَعْلُوم بِعَيْنِه) وَوَصفه فَتكون الْقيمَة بمقابلته قَضَاء لَيْسَ فِي معنى الْأَدَاء فَلَا تجبر على الْقبُول إِذا أَتَاهَا بِهِ إِلَّا عِنْد تحقق الْعَجز عَن تَسْلِيم مَا هُوَ الْمُسْتَحق كَمَا فِي ضَمَان الْغَصْب على مَا قَررنَا وَالله أعلم(1/59)
فصل فِي بَيَان مُقْتَضى الْأَمر فِي صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن مُطلق مُقْتَضى الْأَمر كَون الْمَأْمُور بِهِ حسنا شرعا وَهَذَا الْوَصْف غير ثَابت للْمَأْمُور بِهِ بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ أحد تصاريف الْكَلَام فَيتَحَقَّق فِي الْقَبِيح وَالْحسن جَمِيعًا لُغَة كَسَائِر التصريفات وَلَا نقُول إِنَّه ثَابت عقلا كَمَا زعم بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله لِأَن الْعقل بِنَفسِهِ غير مُوجب عندنَا
وَبَيَان كَونه ثَابتا شرعا أَن الله تَعَالَى لم يَأْمر بالفحشاء كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي مُحكم تَنْزِيله وَالْأَمر طلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ بأبلغ الْجِهَات وَلِهَذَا كَانَ مُطلقَة مُوجبا شرعا والقبيح وَاجِب الإعدام شرعا فَمَا هُوَ وَاجِب الإيجاد شرعا تعرف صفة الْحسن فِيهِ شرعا
ثمَّ هُوَ فِي صفة الْحسن نَوْعَانِ حسن لِمَعْنى فِي نَفسه وَحسن لِمَعْنى فِي غَيره
وَالنَّوْع الأول قِسْمَانِ حسن لعَينه لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَحسن لعَينه قد يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال
وَالْقسم الثَّانِي نَوْعَانِ أَيْضا حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَذَلِكَ مَقْصُود فِي نَفسه لَا يحصل مِنْهُ مَا لأَجله كَانَ حسنا وَحسن لِمَعْنى فِي غَيره يتَحَقَّق بِوُجُودِهِ مَا لأَجله كَانَ حسنا
وَأما النَّوْع الأول من الْقسم الأول فَهُوَ الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَصِفَاته فَإِنَّهُ مَأْمُور بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} وَهُوَ حسن لعَينه وركنه التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ فالتصديق لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَمَتى بدله بِغَيْرِهِ فَهُوَ كفر مِنْهُ على أَي وَجه بدله وَالْإِقْرَار حسن لعَينه وَهُوَ يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال
حَتَّى إِنَّه إِذا بدله بِغَيْرِهِ بِعُذْر الْإِكْرَاه لم يكن ذَلِك كفرا مِنْهُ إِذا كَانَ مطمئن الْقلب بِالْإِيمَان وَهَذَا لِأَن اللِّسَان لَيْسَ بمعدن التَّصْدِيق وَلَكِن يعبر اللِّسَان عَمَّا فِي قلبه فَيكون دَلِيل التَّصْدِيق وجودا وعدما فَإِذا بدله بِغَيْرِهِ فِي وَقت يكون مُتَمَكنًا من إِظْهَاره يكون كَافِرًا وَإِذا زَالَ تمكنه من الْإِظْهَار بِالْإِكْرَاهِ لم يصر كَافِرًا لِأَن سَبَب الْخَوْف على نَفسه دَلِيل ظَاهر على بَقَاء التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ وَأَن الْحَامِل لَهُ على هَذَا التبديل حَاجته إِلَى دفع الْهَلَاك عَن نَفسه لَا تَبْدِيل الِاعْتِقَاد(1/60)
فَأَما فِي وَقت التَّمَكُّن تبديله دَلِيل تبدل الِاعْتِقَاد فَكَانَ ركن الْإِيمَان وجودا وعدما وَإِن كَانَ دون التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ لاحْتِمَاله السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال
وَمن هَذَا النَّوْع الصَّلَاة فَإِنَّهَا حَسَنَة لِأَنَّهَا تَعْظِيم لله تَعَالَى قولا وفعلا بِجَمِيعِ الْجَوَارِح وَهِي تحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال فَكَانَت فِي صفة الْحسن نَظِير الْإِقْرَار وَلكنهَا لَيست بِرُكْن الْإِيمَان فِي جَمِيع الْأَحْوَال فالإقرار دَلِيل التَّصْدِيق وجودا وعدما وَالصَّلَاة لَا تكون دَلِيل التَّصْدِيق وجودا وعدما وَقد تدل على ذَلِك إِذا أَتَى بهَا على هَيْئَة مَخْصُوصَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا صلى الْكَافِر بِجَمَاعَة الْمُسلمين يحكم بِإِسْلَامِهِ
وَمِمَّا يشبه هَذَا النَّوْع معنى الزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج
فالزكاة حَسَنَة لما فِيهَا من إِيصَال الْكِفَايَة إِلَى الْفَقِير الْمُحْتَاج بِأَمْر الله وَالصَّوْم حسن لما فِيهِ من قهر النَّفس الأمارة بالسوء فِي منع شهوتها بِأَمْر الله تَعَالَى وَالْحج حسن بِمَعْنى شرف الْبَيْت بِأَمْر الله تَعَالَى غير أَن هَذِه الوسائط لَا تخرجها من أَن تكون حَسَنَة لعينها فحاجة الْفَقِير كَانَ بِخلق الله تَعَالَى إِيَّاهَا على هَذِه الصّفة لَا بصنع بَاشرهُ بِنَفسِهِ وَكَون النَّفس أَمارَة بِخلق الله تَعَالَى إِيَّاهَا على هَذِه الصّفة لَا لكَونهَا جانية بِنَفسِهَا وَشرف الْبَيْت بِجعْل الله تَعَالَى إِيَّاه مشرفا بِهَذِهِ الصّفة فَعرفنَا أَنَّهَا فِي الْمَعْنى من النَّوْع الَّذِي هُوَ حسن لعَينه وَلِهَذَا جعلناها عبَادَة مَحْضَة وشرطنا للْوُجُوب فِيهَا الْأَهْلِيَّة الْكَامِلَة وَحكم هَذَا الْقسم وَاحِد وَهُوَ أَنه إِذا وَجب بِالْأَمر لَا يسْقط إِلَّا بِالْأَدَاءِ أَو بِإِسْقَاط من الْآمِر فِيمَا يحْتَمل السُّقُوط
وَبَيَان الْقسم الثَّانِي فِي السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فَإِنَّهُ حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ أَنه يتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَدَاء الْجُمُعَة وَذَلِكَ الْمَعْنى مَقْصُود بِنَفسِهِ لَا يصير مَوْجُودا بِمُجَرَّد وجود الْمَأْمُور بِهِ من السَّعْي وَحكمه أَنه يسْقط بِالْأَدَاءِ إِذا حصل الْمَقْصُود بِهِ وَلَا يسْقط إِذا لم يحصل الْمَقْصُود بِهِ حَتَّى إِنَّه إِذا حمله إِنْسَان إِلَى مَوضِع مكْرها بعد السَّعْي قبل أَدَاء الْجُمُعَة ثمَّ خلى عَنهُ كَانَ السَّعْي وَاجِبا عَلَيْهِ وَإِذا حصل الْمَقْصُود بِدُونِ السَّعْي بِأَن حمل مكْرها إِلَى الْجَامِع حَتَّى صلى الْجُمُعَة سقط اعْتِبَار السَّعْي وَلَا يتَمَكَّن بانعدامه نُقْصَان فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَإِذا سقط عَنهُ الْجُمُعَة لمَرض أَو سفر سقط عَنهُ السَّعْي(1/61)
وَمن هَذَا النَّوْع الْوضُوء فَإِنَّهُ حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ التَّمَكُّن من أَدَاء الصَّلَاة وَمَا هُوَ الْمَقْصُود لَا يصير مؤدى بِعَيْنِه وَلِهَذَا جَوَّزنَا الْوضُوء والاغتسال بِغَيْر النِّيَّة وَمِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْل لِلْعِبَادَةِ أَدَاء وَهُوَ الْكَافِر وَلَا يُنكر معنى الْقرْبَة فِي الْوضُوء حَتَّى إِذا قصد بِهِ التَّقَرُّب وَهُوَ من أَهله بِأَن تَوَضَّأ وَهُوَ متوضىء كَانَ مثابا على ذَلِك وَكَذَلِكَ إِذا تَوَضَّأ وَهُوَ مُحدث على قصد التَّقَرُّب فَإِنَّهُ تَطْهِير والتطهير حسن شرعا كتطهير الْمَكَان وَالثيَاب قَالَ الله تَعَالَى {أَن طهرا بَيْتِي للطائفين} وَقَالَ تَعَالَى {وثيابك فطهر} إِلَّا أَن مَا هُوَ شَرط أَدَاء الصَّلَاة يتَحَقَّق بِدُونِ هَذَا الْوَصْف وَهُوَ قصد التَّقَرُّب لِأَن شَرط أَدَاء الصَّلَاة أَن يقوم إِلَيْهَا طَاهِرا عَن الْحَدث وَبِدُون هَذَا الْوَصْف يَزُول الْحَدث وَهُوَ معنى قَوْلنَا إِنَّه يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة بِالْوضُوءِ وَإِن لم يُنَوّه وَلكنه لَا يكون مثابا عَلَيْهِ ثمَّ حكمه حكم السَّعْي كَمَا بَينا إِلَّا أَن مَعَ انعدام السَّعْي يتم أَدَاء الْجُمُعَة وَبِدُون الْوضُوء لَا يجوز أَدَاء الصَّلَاة من الْمُحدث لِأَن من شَرط الْجَوَاز الطَّهَارَة عَن الْحَدث
وَبَيَان النَّوْع الآخر فِي الصَّلَاة على الْمَيِّت وقتال الْمُشْركين وَإِقَامَة الْحُدُود
فَالصَّلَاة على الْمَيِّت حَسَنَة لإسلام الْمَيِّت وَذَلِكَ معنى فِي غير الصَّلَاة مُضَاف إِلَى كسب وَاخْتِيَار كَانَ من العَبْد قبل مَوته وَبِدُون هَذَا الْوَصْف يكون قبيحا مَنْهِيّا عَنهُ يَعْنِي الصَّلَاة على الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} وَكَذَلِكَ الْقِتَال مَعَ الْمُشْركين حسن لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ كفر الْكَافِر أَو قَصده إِلَى محاربة الْمُسلمين وَذَلِكَ مُضَاف إِلَى اخْتِيَاره
وَكَذَلِكَ الْقِتَال مَعَ أهل الْبَغي حسن لدفع فتنتهم ومحاربتهم عَن أهل الْعدْل
وَكَذَا إِقَامَة الْحُدُود حسن لِمَعْنى الزّجر عَن الْمعاصِي وَتلك الْمعاصِي تُضَاف إِلَى كسب وَاخْتِيَار مِمَّن تُقَام عَلَيْهِ وَلَكِن لَا يتم إِلَّا بِحُصُول مَا لأَجله كَانَ حسنا وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه يسْقط بعد الْوُجُوب بِالْأَدَاءِ وبانعدام الْمَعْنى الَّذِي لأَجله كَانَ يجب حَتَّى إِذا تحقق الانزجار عَن ارْتِكَاب الْمعاصِي أَو تصور إِسْلَام الْخلق عَن آخِرهم لَا تبقى فرضيته إِلَّا أَنه خلاف للْخَبَر لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق انعدام هَذَا الْمَعْنى فِي الظَّاهِر
وَكَذَلِكَ الصَّلَاة على الْمَيِّت تسْقط بِعَارِض مُضَاف إِلَى اخْتِيَاره من بغي أَو غَيره وَإِذا قَامَ بِهِ الْوَلِيّ مَعَ بعض النَّاس يسْقط عَن البَاقِينَ
وَكَذَلِكَ الْقِتَال إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ لحُصُول الْمَقْصُود وَإِذا(1/62)
تحقق صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ قد ذهب بعض مَشَايِخنَا إِلَى أَن عِنْد إِطْلَاق الْأَمر يثبت النَّوْع الثَّانِي من الْحسن وَلَا يثبت النَّوْع الأول إِلَّا بِدَلِيل يقْتَرن بِهِ لِأَن ثُبُوت هَذِه الصّفة بطرِيق الِاقْتِضَاء وَإِنَّمَا ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق الْأَدْنَى على مَا نبينه فِي بَاب الِاقْتِضَاء والأدنى هُوَ الْحسن لِمَعْنى فِي غَيره لَا لعَينه
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن بِمُطلق الْأَمر يثبت حسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه شرعا فَإِن الْأَمر لطلب الإيجاد وبمطلقه يثبت أقوى أَنْوَاع الطّلب وَهُوَ الْإِيجَاب فَيثبت أَيْضا أَعلَى صِفَات الْحسن لِأَنَّهُ استعباد فَإِن قَوْله {أقِيمُوا الصَّلَاة} و {اعبدوني} هما فِي الْمَعْنى سَوَاء وَالْعِبَادَة لله تَعَالَى حَسَنَة لعينها وَلِأَن مَا يكون حسنا لِمَعْنى فِي غَيره فَهَذِهِ الصّفة لَهُ شبه الْمجَاز لِأَنَّهُ ثَابت من وَجه دون وَجه وَمَا يكون حسنا لعَينه فَهَذِهِ الصّفة لَهُ حَقِيقَة وبالمطلق تثبت الْحَقِيقَة دون الْمجَاز وَإِذا ثَبت هَذَا قُلْنَا اتّفق الْفُقَهَاء على ثُبُوت صفة الْجَوَاز مُطلقًا للْمَأْمُور بِهِ كَمَا قَررنَا أَن مُقْتَضى الْأَمر حسن الْمَأْمُور بِهِ حَقِيقَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد جَوَازه شرعا وَلِأَن مُقْتَضى مطلقه الْإِيجَاب وَلَا يجوز أَن يكون وَاجِب الْأَدَاء شرعا إِلَّا بعد أَن يكون جَائِزا شرعا وعَلى قَول بعض الْمُتَكَلِّمين بِمُطلق الْأَمر لَا يثبت جَوَاز الْأَدَاء حَتَّى يقْتَرن بِهِ دَلِيل
وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بالظان عِنْد تضايق الْوَقْت أَنه على طَهَارَة فَإِنَّهُ مَأْمُور بأَدَاء الصَّلَاة شرعا لَا يكون جَائِزا إِذا أَدَّاهَا على هَذِه الصّفة وَمن أفسد حجه فَهُوَ مَأْمُور بِالْأَدَاءِ شرعا وَلَا يكون الْمُؤَدى جَائِزا إِذا أَدَّاهُ وَهَذَا سَهْو مِنْهُم فَإِن عندنَا من كَانَ عِنْده أَنه على طَهَارَة فصلى جَازَت صلَاته نَص عَلَيْهِ فِي كتاب التَّحَرِّي فِيمَا إِذا تَوَضَّأ بِمَاء نجس فَقَالَ صلَاته جَائِزَة مَا لم يعلم فَإِذا علم أَعَادَهُ
فَإِن قيل فَإِذا جَازَت صلَاته كَيفَ تلْزمهُ الْإِعَادَة وَالْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار قُلْنَا الْمُؤَدى جَائِز حَتَّى لَو مَاتَ قبل أَن يعلم لَقِي الله وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَأَما إِذا علم فقد تبدل حَاله وَوُجُوب الْأَدَاء بعد تبدل الْحَال لَا يكون تَكْرَارا وتحقيقه أَن الْأَمر يتَوَجَّه بِحَسب التَّوَسُّع قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَإِذا كَانَ عِنْده أَنه على طَهَارَة يثبت الْأَمر فِي حَقه على حسب مَا يَلِيق بِحَالهِ وَمن ضَرُورَته(1/63)
الْجَوَاز على تِلْكَ الْحَالة وَإِذا تبدل حَاله بِالْعلمِ ثَبت الْأَمر بِالْأَدَاءِ كَمَا يَلِيق بِحَالهِ وَلَكِن لما كَانَ لَهُ طَرِيق يتَوَصَّل بِهِ إِلَى هَذِه الْحَالة إِذا تحرز وَأحسن النّظر لم يسْقط الْوَاجِب فِي هَذِه الْحَالة بِالْأَدَاءِ الأول وَإِن كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ لدفع الْحَرج عَنهُ وَالْحج بمعزل مِمَّا قُلْنَا فالثابت بِالْأَمر وجوب أَدَاء الْأَعْمَال بِصفة الصِّحَّة وَأما بعد الْإِفْسَاد فالثابت وجوب التَّحَلُّل عَن الْإِحْرَام بطريقه وَهَذَا أَمر آخر سوى الأول والمأمور بِهِ فِي هَذَا الْأَمر مجزى فَإِن التَّحَلُّل بأَدَاء الْأَعْمَال بعد الْإِفْسَاد جَائِز شرعا
ويحكى عَن أبي بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول صفة الْجَوَاز وَإِن كَانَت تثبت بِمُطلق الْأَمر شرعا فقد تتَنَاوَل الْأَمر على مَا هُوَ مَكْرُوه شرعا أَيْضا وَاسْتدلَّ على ذَلِك بأَدَاء عصر يَوْمه بعد تغير الشَّمْس فَإِنَّهُ جَائِز مَأْمُور بِهِ شرعا وَهُوَ مَكْرُوه أَيْضا وَكَذَلِكَ قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} يتَنَاوَل طواف الْمُحدث عندنَا حَتَّى يكون طَوَافه ركن الْحَج وَذَلِكَ جَائِز مَأْمُور بِهِ شرعا وَيكون مَكْرُوها
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن بِمُطلق الْأَمر كَمَا تثبت صفة الْجَوَاز وَالْحسن شرعا يثبت انْتِفَاء صفة الْكَرَاهَة لِأَن الْأَمر استعباد وَلَا كَرَاهَة فِي عبَادَة العَبْد لرَبه وَانْتِفَاء الْكَرَاهَة تثبت بِالْإِذْنِ شرعا وَمَعْلُوم أَن الْإِذْن دون الْأَمر فِي طلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ فَلِأَن يثبت انْتِفَاء الْكَرَاهَة بِالْأَمر أولى فَأَما الصَّلَاة بعد تغير الشَّمْس وَالْكَرَاهَة لَيست للصَّلَاة وَلَكِن للتشبه بِمن يعبد الشَّمْس والمأمور بِهِ هُوَ الصَّلَاة وَكَذَلِكَ الطّواف الْكَرَاهَة لَيست فِي الطّواف الَّذِي فِيهِ تَعْظِيم الْبَيْت بل لوصف فِي الطّواف وَهُوَ الْحَدث وَذَلِكَ لَيْسَ من الطّواف فِي شَيْء
ثمَّ تكلم مَشَايِخنَا رَحِمهم الله فِيمَا إِذا انْعَدم صفة الْوُجُوب للْمَأْمُور بِهِ لقِيَام الدَّلِيل هَل تبقى صفة الْجَوَاز أم لَا فالعراقيون من مَشَايِخنَا يَقُولُونَ هُوَ على هَذَا الْخلاف عندنَا لَا تبقى وعَلى قَول الشَّافِعِي تبقى فيثبتون هَذَا الْخلاف فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر يَمِينه ثمَّ ليأت بِالَّذِي هُوَ خير فَإِن صِيغَة الْأَمر بِهَذِهِ الصّفة توجب التَّكْفِير سَابِقًا على الْحِنْث وَقد انْعَدم هَذَا الْوُجُوب بِدَلِيل(1/64)
الْإِجْمَاع فَبَقيَ الْجَوَاز عِنْده وَلم يبْق عندنَا وحجته فِي ذَلِك أَن من ضَرُورَة وجوب الْأَدَاء جَوَاز الْأَدَاء وَالثَّابِت بضرورة النَّص كالمنصوص وَلَيْسَ من ضَرُورَة انْتِفَاء الْوُجُوب انْتِفَاء الْجَوَاز فَيبقى حكم الْجَوَاز بَعْدَمَا انْتَفَى الْوُجُوب بِالدَّلِيلِ وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِصَوْم عَاشُورَاء فبانتساخ وجوب الْأَدَاء فِيهِ لم ينتسخ جَوَاز الْأَدَاء وَلَكنَّا نقُول مُوجب الْأَمر أَدَاء هُوَ مُتَعَيّن على وَجه لَا يتَخَيَّر العَبْد بَين الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَبَين تَركه شرعا وَالْجَوَاز فِيمَا يكون العَبْد مُخَيّرا فِيهِ وَبَينهمَا مُغَايرَة على سَبِيل الْمُنَافَاة فَإِذا قَامَ الدَّلِيل على انتساخ مُوجب الْأَمر لَا يجوز إبْقَاء غير مُوجب الْأَمر مُضَافا إِلَى الْأَمر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن بِانْتِفَاء حكم الْوُجُوب لقِيَام الدَّلِيل ينتسخ الْأَمر وَيخرج من أَن يكون أمرا شرعا والمصير إِلَى بَيَان مُوجبه ابْتِدَاء وَبَقَاء فِي حَال مَا يكون أمرا شرعا فَأَما بعد خُرُوجه من أَن يكون أمرا شرعا فَلَا معنى للاشتغال بِهَذَا التَّكْلِيف وَبَعْدَمَا انتسخ الْأَمر بِصَوْم عَاشُورَاء لَا نقُول جَوَاز الصَّوْم فِي ذَلِك الْيَوْم مُوجب ذَلِك الْأَمر بل هُوَ مُوجب كَون الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ للْعَبد كَمَا فِي سَائِر الْأَيَّام وَقد كَانَ ذَلِك ثَابتا قبل إِيجَاب الصَّوْم فِيهِ بِالْأَمر شرعا فَبَقيَ على مَا كَانَ حَتَّى إِذا بَقِي الْأَمر يبْقى حكم الْجَوَاز عندنَا وَلِهَذَا قُلْنَا الصَّحِيح الْمُقِيم إِذا صلى الظّهْر فِي بَيته يَوْم الْجُمُعَة جَازَت صلَاته وَالْوَاجِب عَلَيْهِ فِي الْمصر أَدَاء الْجُمُعَة بَعْدَمَا شرعت الْجُمُعَة وَلَكِن بَقِي أصل أَمر أَدَاء الظّهْر وَلِهَذَا يلْزمه بعد مُضِيّ الْوَقْت قَضَاء الظّهْر وَلَو شهد الْجُمُعَة بعد الظّهْر كَانَ مُؤديا فرض الْوَقْت فبه تبين أَن الْوَاجِب أَدَاء الْجُمُعَة دون أَدَاء الظّهْر إِذْ الْوَاجِب إِسْقَاط فرض الْوَقْت بأَدَاء الْجُمُعَة فَكَذَلِك يجب نقض الظّهْر الْمُؤَدِّي بأَدَاء الْجُمُعَة وَلِهَذَا سوينا بذلك بَين الْمَعْذُور وَغير الْمَعْذُور لِأَن جَوَاز ترك أَدَاء الْجُمُعَة للمعذور رخصَة فَلَا يتَغَيَّر بِهِ حكم مَا هُوَ عَزِيمَة وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان صفة الْحسن لما هُوَ شَرط أَدَاء اللَّازِم بِالْأَمر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن من شَرط وجوب أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ الْقُدْرَة الَّتِي بهَا يتَمَكَّن الْمَأْمُور من الْأَدَاء لقَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَلِأَن الْوَاجِب أَدَاء مَا هُوَ عبَادَة وَذَلِكَ عبارَة عَن فعل يكتسبه العَبْد عَن اخْتِيَار ليَكُون مُعظما فِيهِ ربه فينال الثَّوَاب وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة غير أَنه لَا يشْتَرط وجودهَا وَقت الْأَمر لصِحَّة الْأَمر لِأَنَّهُ لَا يتَأَدَّى الْمَأْمُور الْأَدَاء وَذَلِكَ غير مَوْجُود سَابِقًا على الْأَدَاء فَإِن الِاسْتِطَاعَة لَا تسبق الْفِعْل وانعدامها عِنْد الْأَمر لَا يمْنَع صِحَة الْأَمر وَلَا يُخرجهُ من أَن يكون حسنا بِمَنْزِلَة انعدام الْمَأْمُور فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ رَسُولا إِلَى النَّاس كَافَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْمَوْجُودَة وَقت الْأَمر بِحَال(1/65)
وَإِنَّمَا يتَأَدَّى بالموجود مِنْهَا عِنْد {نذيرا للبشر} وَلَا شكّ أَنه أَمر جَمِيع من أرسل إِلَيْهِم بالشرائع ثمَّ صَحَّ الْأَمر فِي حق الَّذين وجدوا بعده ويلزمهم الْأَدَاء بِشَرْط أَن يبلغهم فيتمكنون من الْأَدَاء قَالَ تَعَالَى {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وكما يحسن الْأَمر قبل وجود الْمَأْمُور بِهِ يحسن قبل وجود الْقُدْرَة الَّتِي يتَمَكَّن بهَا من الْأَدَاء وَلَكِن بِشَرْط التَّمَكُّن عِنْد الْأَدَاء أَلا ترى أَن التَّصْرِيح بِهَذَا الشَّرْط لَا يعْدم صفة الْحسن فِي الْأَمر فَإِن الْمَرِيض يُؤمر بِقِتَال الْمُشْركين إِذا برىء فَيكون ذَلِك حسنا قَالَ تَعَالَى {فَإِذا اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاة} وَهَذَا الشَّرْط نَوْعَانِ مُطلق وكامل
فالمطلق أدنى مَا يتَمَكَّن بِهِ من أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ ماليا كَانَ أَو بدنيا لِأَن هَذَا شَرط وجوب الْأَدَاء فِي كل أَمر فضلا من الله تَعَالَى وَرَحْمَة خُصُوصا فِي حق هَذِه الْأمة فقد رفع الله عَنْهُم الْحَرج وَوضع عَنْهُم الإصر والأغلال وَفِي لُزُوم الْأَدَاء بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة من الْحَرج والثقل مَا لَا يخفى وعَلى هَذَا وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يثبت فِي حَال عدم المَاء لِانْعِدَامِ هَذِه الْقُدْرَة وَكَذَلِكَ فِي حَال الْعَجز عَن الِاسْتِعْمَال إِلَّا بحرج بِأَن يخَاف زِيَادَة الْمَرَض أَو الْعَطش أَو يلْحقهُ نوع حرج فِي مَاله بِأَن لَا يُبَاع مِنْهُ بِثمن مثله وَكَذَلِكَ أَدَاء الصَّلَاة لَا يجب بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة وَلِهَذَا كَانَ وجوب الْأَدَاء بِحَسب مَا يتَمَكَّن مِنْهُ قَائِما أَو قَاعِدا أَو بِالْإِيمَاءِ وَكَذَلِكَ وجوب أَدَاء الْحَج لَا يكون إِلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَة بِملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة لِأَن التَّمَكُّن من السّفر الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْأَدَاء لَا يكون إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ وجوب أَدَاء الصَّدَقَة الْمَالِيَّة لَا يكون إِلَّا بِهَذَا الشَّرْط فَإِنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْأَدَاء عبَادَة إِلَّا بِملك المَال وَلِهَذَا لَا يعْتَبر التَّمَكُّن مِنْهُ بِمَال غَيره وَإِن أذن لَهُ فِي ذَلِك فِي وجوب الْأَدَاء بِخِلَاف الطَّهَارَة فصفة الْعِبَادَة هُنَاكَ غير مَقْصُودَة وَهنا مَقْصُودَة وَمَعَ ذَلِك صفة الْغَنِيّ فِي الْمُؤَدى مُعْتَبر(1/66)
هُنَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى وَبِدُون ملك المَال لَا تثبت صفة الْغنى وَلِهَذَا قَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله إِذا أسلم الْكَافِر أَو بلغ الصَّبِي أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض فِي آخر الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يتمكنون من أَدَاء الْفَرْض فِيمَا بَقِي من الْوَقْت لَا يلْزمهُم الْأَدَاء لِانْعِدَامِ الشَّرْط وَهُوَ التَّمَكُّن وَلَكِن علماءنا رَحِمهم الله قَالُوا يلْزمهُم أَدَاء الصَّلَاة اسْتِحْسَانًا لِأَن السَّبَب الْمُوجب جُزْء من الْوَقْت وَشرط وجوب الْأَدَاء كَون الْقُدْرَة على الْأَدَاء متوهم الْوُجُود لَا كَونه مُتَحَقق الْوُجُود فَإِن ذَلِك لَا يسْبق الْأَدَاء وَهَذَا التَّوَهُّم مَوْجُود هَهُنَا لجَوَاز أَن يظْهر فِي ذَلِك الْجُزْء من الْوَقْت امتداد بتوقف الشَّمْس فيسع الْأَدَاء كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ فَيثبت وجوب الْأَدَاء بِهِ ثمَّ الْعَجز عَن الْأَدَاء فِيهِ ظَاهر لينتقل الحكم إِلَى مَا هُوَ خلف عَن الْأَدَاء وَهُوَ الْقَضَاء بِمَنْزِلَة الْحلف على مس السَّمَاء تَنْعَقِد مُوجبَة للبر لتوهم الْكَوْن فِيمَا خلف عَلَيْهِ ثمَّ بِالْعَجزِ الظَّاهِر ينْتَقل الْوَاجِب فِي الْحَال إِلَى مَا هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَكَذَلِكَ الْحَدث فِي وَقت الصَّلَاة مِمَّن كَانَ عادما للْمَاء يكون مُوجبا للطَّهَارَة بِالْمَاءِ لتوهم الْقُدْرَة عَلَيْهَا ثمَّ تتحول إِلَى التُّرَاب بِاعْتِبَار الْعَجز الظَّاهِر فِي الْحَال غير أَن فِي فصل الْحَائِض بِشَرْط حَقِيقَة الطُّهْر فِي جُزْء من الْوَقْت بِأَن تكون أَيَّامهَا عشرَة أَو الحكم بِالطُّهْرِ بِدَلِيل شَرْعِي بِأَن تكون أَيَّامهَا دون الْعشْرَة فَيَنْقَطِع الدَّم وَالْبَاقِي من الْوَقْت مِقْدَار مَا يُمكنهَا أَن تَغْتَسِل فِيهِ وَتحرم للصَّلَاة وَهَذَا لِأَن فِي أوَامِر الْعباد صفة الْحسن وَلُزُوم الْأَدَاء يثبت بِهَذَا الْقدر من الْقُدْرَة فَإِن من قَالَ لامرىء اسْقِنِي مَاء غَدا يكون أمرا صَحِيحا مُوجبا للْأَدَاء فَلَا يتَعَيَّن للْحَال فَإِنَّهُ يقدر على ذَلِك فِي غَد لجَوَاز أَن يَمُوت قبله أَو يظْهر عَارض يحول بَينه وَبَين التَّمَكُّن من الْأَدَاء فَكَذَلِك فِي أوَامِر الشَّرْع وجوب الْأَدَاء يثبت بِهَذَا الْقدر
ثمَّ هَذَا الشَّرْط مُخْتَصّ بِالْأَدَاءِ دون الْقَضَاء فَإِنَّهُ شَرط الْوُجُوب وَلَا يتَكَرَّر الْوُجُوب فِي وَاجِب وَاحِد فَلَا يشْتَرط بَقَاء هَذَا التَّمَكُّن لبَقَاء الْوَاجِب وَلَكِن إِن كَانَ الْفَوات بِمُضِيِّ الْوَقْت لَا عَن تَقْصِير مِنْهُ بَقِي الْأَدَاء وَاجِبا على أَن يَتَأَتَّى بالخلف وَهُوَ الْقَضَاء وَإِن كَانَ عَن تَقْصِير مِنْهُ(1/67)
فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِك وَبِاعْتِبَار تعديه يَجْعَل الشَّرْط كالقائم حكما وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا هلك المَال بعد وجوب الْحَج وَصدقَة الْفطر لَا يسْقط الْوَاجِب عَنهُ بذلك لِأَن التَّمَكُّن من الْأَدَاء بِملك المَال كَانَ شَرط وجوب الْأَدَاء فَيبقى الْوَاجِب وَإِن انْعَدم هَذَا الشَّرْط
وَأما الْكَامِل مِنْهُ فالقدرة الميسرة للْأَدَاء وَهِي زَائِدَة على الأولى بِدَرَجَة كَرَامَة من الله تَعَالَى وَفرق مَا بَينهمَا أَنه لَا يتَغَيَّر بِالْأولَى صفة الْوَاجِب فَكَانَ شَرط الْوُجُوب فَلَا يعْتَبر بَقَاؤُهَا لبَقَاء الْوَاجِب وَالثَّانيَِة يُغير صفة الْوَاجِب فيجعلها سَمحا سهلا لينًا وَلِهَذَا يشْتَرط بَقَاؤُهَا بِبَقَاء الْوَاجِب لِأَنَّهُ مَتى وَجب الْأَدَاء بِصفة لَا يبْقى الْأَدَاء وَاجِبا إِلَّا بِتِلْكَ الصّفة وَلَا يكون الْأَدَاء بِهَذِهِ الصّفة بعد انعدام الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء وَبَيَان هَذَا أَن الزَّكَاة تسْقط بِهَلَاك المَال بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء لِأَن الشَّرْع إِنَّمَا أوجب الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَلِهَذَا خصّه بِالْمَالِ النامي وَمَا أوجب الْأَدَاء إِلَّا بعد مُضِيّ حول ليتَحَقَّق النَّمَاء فَيكون الْمُؤَدى جُزْءا من الْفضل قَلِيلا من كثير وَذَلِكَ غَايَة فِي الْيُسْر فَأَما أصل التَّمَكُّن من الْأَدَاء يثبت بِكُل مَال فَلَو بَقِي الْوَاجِب بعد هَلَاك المَال لم يكن الْمُؤَدى بِصفة الْيُسْر بل يكون بِصفة الْغرم فَلَا يكون الْبَاقِي ذَلِك الَّذِي وَجب وَلَا وَجه لإِيجَاب غَيره إِلَّا بِسَبَب متجدد وَلِهَذَا لَو اسْتهْلك المَال بَقِي عَلَيْهِ وجوب الْأَدَاء لِأَنَّهُ صَار النّصاب مَشْغُولًا بِحَق الْمُسْتَحق لِلزَّكَاةِ فالاستهلاك تعد مِنْهُ على مَحل الْحق بالتفويت وَذَلِكَ سَبَب مُوجب للغرم عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذا اسْتَهْلكهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يعلم بِجِنَايَتِهِ يصير غارما لقيمته وَإِن صَادف فعله ملكه بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى فلوجود سَبَب آخر أمكن إِيجَاب الْأَدَاء لَا بِالصّفةِ الَّتِي بهَا وَجب ابْتِدَاء وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا هلك بعض النّصاب فَإِن الْوَاجِب يبْقى بِقدر مَا بَقِي مِنْهُ وَإِن كَانَ كَمَال النّصاب شَرط الْوُجُوب فِي الِابْتِدَاء لِأَن اشْتِرَاط كَمَال النّصاب لَيْسَ لأجل الْيُسْر حَتَّى يتَغَيَّر بِهِ صفة الْوَاجِب فَإِن أَدَاء دِرْهَم من أَرْبَعِينَ وَأَدَاء خَمْسَة من مِائَتَيْنِ فِي معنى الْيُسْر سَوَاء إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَدَاء ربع الْعشْر وَلَكِن شَرط كَمَال النّصاب ليثبت بِهِ صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ فالمطلوب بِالْأَدَاءِ إغناء الْمُحْتَاج وَإِنَّمَا(1/68)
يتَحَقَّق الإغناء بِصفة الْحسن من الْغَنِيّ كَمَا يتَحَقَّق التَّمْلِيك من الْمَالِك وأحوال النَّاس تخْتَلف فِي صفة الْغنى بِالْمَالِ فَجعل الشَّرْع لذَلِك حدا وَهُوَ ملك النّصاب تيسيرا ثمَّ هَذَا الْغنى شَرط وجوب الْأَدَاء بِمَنْزِلَة أدنى التَّمَكُّن الَّذِي هُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء من غير أَن يكون مغيرا صفة الْوَاجِب فَلهَذَا لَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وَلَكِن بِقدر مَا بَقِي من المَال يبْقى الْوَاجِب بِصفتِهِ لبَقَاء صفة الْيُسْر فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا يسْقط الْعشْر بِهَلَاك الْخَارِج قبل الْأَدَاء لِأَن الْقُدْرَة الميسرة شَرط الْأَدَاء فِيهِ فالعشر مؤونة الأَرْض النامية وَلَا يجب إِلَّا بعد تحقق الْخَارِج فَإِنَّمَا يجب قَلِيل من كثير من النَّمَاء فَيكون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَذَلِكَ لَا يبْقى بعد هَلَاك الْخَارِج وَكَذَلِكَ الْخراج لَا يبْقى إِذا اصطلم الزَّرْع آفَة لِأَن وجوب الْأَدَاء بِاعْتِبَار الْقُدْرَة الميسرة وَلِهَذَا يتَقَدَّر الْوَاجِب بِحَسب الرّبع حَتَّى إِذا قل الْخَارِج لَا يجب من الْخَارِج أَكثر من نصف الْخَارِج إِلَّا أَن عِنْد التَّمَكُّن من الزِّرَاعَة إِذا لم يفعل جعلت الْقُدْرَة الميسرة كالموجود حكما بتقصير كَانَ مِنْهُ فِي الزِّرَاعَة وَذَلِكَ لَا يُوجد فِيمَا إِذا اصطلم الزَّرْع آفَة فَلَو بَقِي الْخراج كَانَ غرما وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يسْقط الْعشْر بِمَوْت من عَلَيْهِ مَعَ بَقَاء الْخَارِج لِأَن الْقُدْرَة الميسرة لأَدَاء المالي بِالْمَالِ تكون وَهُوَ بَاقٍ بعد مَوته فَيجْعَل هُوَ كالحي حكما بِاعْتِبَار خَلفه وَيكون أَدَاء الْوَاجِب بِالصّفةِ الَّتِي يثبت بهَا الْوُجُوب ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ الزَّكَاة لَا تسْقط بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَام الْآخِرَة وَلِهَذَا يُؤمر بالإيصاء بِهِ وتؤدى من ثلث مَاله بعد مَوته إِذا أوصى لبَقَاء الْقُدْرَة الميسرة وَبِاعْتِبَار حَيَاته حكما وَبَقَاء الْمحل الَّذِي هُوَ خَالص حَقه وَهُوَ الثُّلُث فَيكون الْأَدَاء مِنْهُ بِصفة الْيُسْر إِلَّا أَنه إِذا لم يوص لَا يبْقى فِي أَحْكَام الدُّنْيَا بعد مَوته لِأَن الْوَاجِب أَدَاء الْعِبَادَة وَبِاعْتِبَار الْخلَافَة الَّتِي تثبت بعد مَوته لَا يُمكن تَحْقِيق هَذَا الْوَصْف لِأَن ذَلِك يثبت من غير اخْتِيَار لَهُ مِنْهُ وَفِي الْعشْر معنى الْعِبَادَة لما لم يكن مَقْصُودا بَقِي بعد مَوته وَإِن لم يوص بِهِ وَكَذَلِكَ الْخراج إِذا حصل الْخَارِج ثمَّ هلك قبل أَدَائِهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الحانث فِي يَمِينه إِذا عجز عَن التَّكْفِير بِالْمَالِ يجوز لَهُ أَن يكفر بِالصَّوْمِ لِأَن وجوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار الْقُدْرَة الميسرة أَلا ترى أَنه ثَبت التخير شرعا فِي أَنْوَاع التَّكْفِير(1/69)
بِالْمَالِ وَالْوَاجِب أحد الْأَنْوَاع عِنْد أهل الْفِقْه بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض الْمُتَكَلِّمين أَن الْكل وَاجِب لِاسْتِوَاء الْكل فِي صِيغَة الْأَمر والتخيير لإِسْقَاط الْوَاجِب بِمَا يُعينهُ مِنْهَا ويجعلون الْأَمر مثل قِيَاس النَّهْي فَإِن مثل هَذَا التَّخْيِير فِي النَّهْي لَا يخرج حكم النَّهْي من أَن يكون متناولا جَمِيع مَا تنَاوله الصِّيغَة فَكَذَلِك الْأَمر وَلَكنَّا نقُول فِي النَّهْي يتَحَقَّق وجوب الِانْتِهَاء فِي الْكل مَعَ ذكر حرف أَو لِأَن ذَلِك فِي مَوضِع النَّفْي وحرف أَو فِي مَوضِع النَّفْي يُوجب التَّعْمِيم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} فَأَما فِي بَاب الْكَفَّارَة ذكر حرف أَو فِي مَوضِع الْإِثْبَات فَإِنَّمَا يُفِيد الْإِيجَاب فِي أحد الْأَنْوَاع أَلا ترى أَنه لَو كفر بالأنواع كلهَا لم يكن مُؤديا للْوَاجِب فِي جَمِيعهَا ويستحيل أَن يكون وَاجِبا قبل الْأَدَاء ثمَّ إِذا أدّى يكون الْمُؤَدى نفلا لَا وَاجِبا ويتأدى الْوَاجِب بِنَوْع وَاحِد وَهَذَا النَّوْع مَنْصُوص عَلَيْهِ فَلَا يكون خلفا عَن غَيره وَلَو كَانَ الْكل وَاجِبا لم يسْقط الْوَاجِب فِي الْبَعْض بِدُونِ أَدَائِهِ أَو أَدَاء مَا هُوَ خلف عَنهُ فَعرفنَا أَن الْوَاجِب أحد الْأَنْوَاع والتخيير ليَكُون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَلِهَذَا تحول إِلَى الصَّوْم عِنْد الْعَجز عَن الْأَدَاء بِالْمَالِ وَالْمُعْتَبر فِيهِ الْعَجز للْحَال لَا تحقق الْعَجز بعجز مستدام فِي الْعُمر فَإِن فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام} مَا يدل على أَنه يعْتَبر الْعَجز فِي الْحَال إِذْ لَو اعْتبر الْعَجز فِي جَمِيع الْعُمر لم يتَحَقَّق أَدَاء الصَّوْم بعد هَذَا الْعَجز وَكَذَلِكَ التَّكْفِير بِالطَّعَامِ فِي الظِّهَار يعْتَبر الْعَجز فِي الْحَال عَن التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَلِهَذَا لَو مرض أَيَّامًا فَكفر بِالْإِطْعَامِ جَازَ
فَتبين بِهَذَا كُله أَن الْمُعْتَبر فِي الْكَفَّارَة الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء وَبعد هَلَاك المَال لَا يبْقى ذَلِك لَو بَقِي التَّكْفِير بِالْمَالِ عينا فجوزنا لَهُ التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَلَا تَفْصِيل هُنَا بَين أَن يهْلك المَال بصنعه أَو بِغَيْر صنعه لِأَن الْوَاجِب لَا يُصَادف المَال قبل الْأَدَاء وَلَا يَجْعَل المَال مَشْغُولًا بِهِ فَلَا يكون الِاسْتِهْلَاك تَعَديا على مَحل مَشْغُول بِحَق الْمُسْتَحق وَلِهَذَا لَا يسْقط بِهَلَاك المَال حَتَّى إِنَّه إِذا أيسر بِمَال آخر يلْزمه التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْقُدْرَة الميسرة تثبت بِملك المَال وَلَا تخْتَص بِمَال دون مَال فَكَانَ المَال الْمُسْتَفَاد فِيهِ وَالْمَال الَّذِي عِنْده سَوَاء وَلِهَذَا لَا يعْتَبر فِيهِ كَون المَال ناميا وَلَا يعْتَبر صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ لِأَن(1/70)
بِالْوَاجِبِ لَيْسَ من نَمَاء المَال وَإِنَّمَا الشَّرْط فِيهِ الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء على وَجه ينَال الثَّوَاب بِالْأَدَاءِ فَيكون ذَلِك ساترا لما لحقه لارتكاب الْمَحْظُور وَفِي هَذَا يَسْتَوِي المَال النامي وَغير النامي وَيخرج على مَا بَينا أَنه إِذا هلك المَال بعد وجوب الْحَج بِأَن كَانَ مَالِكًا للزاد وَالرَّاحِلَة وَقت خُرُوج الْقَافِلَة من بلدته فَإِنَّهُ لَا يسْقط عَنهُ الْحَج لِأَن الشَّرْط هُنَاكَ أدنى التَّمَكُّن دون الْيُسْر فاليسر فِي سفر الْحَج يكون بالخدم والمراكب والأعوان وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْط وَأدنى التَّمَكُّن شَرط وجوب الْأَدَاء فَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب
وَكَذَلِكَ لَو هلك المَال بعد وجوب صَدَقَة الْفطر أَو هلك من وَجب عَلَيْهِ بعد وجوب الْأَدَاء فَإِنَّهُ لَا يسْقط الْوَاجِب لِأَن شَرط الْوُجُوب هُنَاكَ أدنى التَّمَكُّن وَصفَة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء دون الْيُسْر وَلِهَذَا لَو ملك من مَال البذلة والمهنة فضلا على حَاجته مَا يُسَاوِي نِصَابا يجب عَلَيْهِ وَبِهَذَا النَّوْع من المَال يحصل أدنى التَّمَكُّن والغنى إِذا بلغ نِصَابا فَأَما صفة الْيُسْر فَهُوَ مُخْتَصّ بِالْمَالِ النامي ليَكُون الْأَدَاء من فضل المَال وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْط هُنَا فَعرفنَا أَن التَّمَكُّن والغنى شَرط وجوب الْأَدَاء بِاعْتِبَار أَنه غَنِي قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم والإغناء إِنَّمَا يتَحَقَّق من الْغنى وَلم يتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى بِهَذَا الشَّرْط فَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا لَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الْمَدْيُون بِقدر مَا عَلَيْهِ من الدّين لِأَن الْوُجُوب بِاعْتِبَار الْغنى واليسر وَذَلِكَ يَنْعَدِم بِالدّينِ والغنى إِنَّمَا يحصل بِفضل عَن حَاجته وَحَاجته إِلَى قَضَاء الدّين حَاجَة أَصْلِيَّة فَلَا يحصل الْغنى بِملك ذَلِك الْقدر من المَال وَلِهَذَا حل لَهُ أَخذ الصَّدَقَة وَهِي لَا تحل لَغَنِيّ وَإِنَّمَا تيَسّر الْأَدَاء إِذا كَانَ الْمُؤَدى فضل مَال غير مَشْغُول بحاجته
وَكَذَلِكَ لَا تجب صَدَقَة الْفطر على الْمَدْيُون إِذا لم يملك نِصَابا فضلا عَن دينه لِأَن الْغَنِيّ يملك المَال مُعْتَبر فِي إِيجَاب صَدَقَة الْفطر على مَا بَينا أَنه إغناء للمحتاج وبحاجته إِلَى قَضَاء الدّين تنعدم صفة الْغنى وَإِن كَانَ الدّين على العَبْد الَّذِي هُوَ عبد(1/71)
للْخدمَة فعلى الْمولى أَن يُؤَدِّي عَنهُ صَدَقَة الْفطر لِأَن صفة الْغنى ثَابت لَهُ بِملك من النّصاب سوى هَذَا الْقدر وأصل الْمَالِيَّة غير مُعْتَبرَة فِيمَن يجب الْأَدَاء عَنهُ وَلِهَذَا تجب عَن وَلَده الْحر وَكَذَلِكَ الْغنى بِهِ غير مُعْتَبر فَإِنَّهُ يجب الْأَدَاء عَن الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَإِن لم يكن هُوَ غَنِيا بِملكه فيهمَا فَكَذَلِك إِذا كَانَ العَبْد مَشْغُولًا بِالدّينِ لِأَن ذَلِك الدّين على العَبْد يُوجب اسْتِحْقَاق مَالِيَّته فَيخرج الْمولى من أَن يكون غَنِيا بِهِ وَلَو كَانَ هَذَا العَبْد الْمَدْيُون للتِّجَارَة لم يجب على الْمولى أَن يُؤَدِّي عَنهُ زَكَاة التِّجَارَة لِأَن الْغنى بِالْمَالِ الَّذِي يجب أَدَاء الزَّكَاة عَنهُ شَرط ليَكُون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَذَلِكَ يَنْعَدِم بِقِيَام الدّين على العَبْد وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا وجوب كَفَّارَة الْمُوسر على الْمَدْيُون مَعَ اعْتِبَار صفة الْيُسْر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْمَذْكُور فِي كتاب الْأَيْمَان أَنه إِذا حنث فِي يَمِين وَله ألف دِرْهَم وَعَلِيهِ مثلهَا دين فَإِنَّهُ يكفر بِالصَّوْمِ بَعْدَمَا يقْضِي دينه بِالْمَالِ وَلم يتَعَرَّض لما قبل قَضَاء الدّين أَنه بِمَاذَا يكفر فَقَالَ بعض مَشَايِخنَا يكفر بِالصَّوْمِ أَيْضا لِأَن مَا فِي يَده من المَال مُسْتَحقّ بِدِينِهِ مَشْغُول بحاجته وَفِي التَّكْفِير بِالْمَالِ صفة الْيُسْر مُعْتَبر بِدَلِيل التَّخْيِير المثابت بِالنَّصِّ وبسبب الدّين يَنْعَدِم الْيُسْر فيكفر بِالصَّوْمِ وَمِنْهُم من يَقُول يلْزمه التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْكَفَّارَة أوجبت ساترة أَو زاجرة وَمَا أوجبت شكرا للنعمة فَلَا تشبه الزَّكَاة من هَذَا الْوَجْه فَإِنَّهَا أوجبت شكرا للنعمة والغنى وَلِهَذَا يشْتَرط لإيجابها أتم وُجُوه الْغنى وَذَلِكَ بِالْمَالِ النامي وَحَاجته إِلَى قَضَاء الدّين بِالْمَالِ يعْدم تَمام الْغنى وَلَا يعْدم معنى حُصُول الثَّوَاب لَهُ إِذا تصدق بِهِ ليَكُون ذَلِك ساترا للإثم الَّذِي لحقه بارتكاب مَحْظُور الْيَمين وَهُوَ الْمَقْصُود بِالْكَفَّارَةِ قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} يُوضحهُ أَن معنى الإغناء غير مُعْتَبر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ أَلا ترى أَنه يحصل بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ فِيهِ إغناء وَلِهَذَا قُلْنَا يحصل التَّكْفِير بِالْمَالِ بِطَعَام الْإِبَاحَة وَإِن كَانَ الإغناء لَا يحصل بِهِ فَعرفنَا أَن الْمُعْتَبر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ أصل الْيُسْر لَا نهايته وتيسير الْأَدَاء قَائِم بِملك المَال مَعَ قيام(1/72)
الدّين عَلَيْهِ، فَأَما فِي الزَّكَاة الْمُعْتَبر هُوَ الإغناء، وَلِهَذَا لَا يتَأَدَّى إِلَّا بِتَمْلِيك المَال والإغناء لَا يتَحَقَّق مِمَّن لَيْسَ بغني كَامِل الْغنى وبسبب الدّين يَنْعَدِم الْغنى وَلِهَذَا يمْتَنع وجوب أَدَاء الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر على الْمَدْيُون
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حق الْكفَّار
لَا خلاف أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النَّاس كَافَّة لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَان قَالَ تَعَالَى {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} إِلَى قَوْله
تَعَالَى {فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله} فَهَذَا الْخطاب مِنْهُ يتناولهم لَا محَالة
وَلَا خلاف أَنهم مخاطبون بالمشروع من الْعُقُوبَات وَلِهَذَا تُقَام على أهل الذِّمَّة عِنْد تقرر أَسبَابهَا لِأَنَّهَا تُقَام بطرِيق الخزي والعقوبة لتَكون زاجرة عَن الْإِقْدَام على أَسبَابهَا وباعتقاد حُرْمَة السَّبَب يتَحَقَّق ذَلِك وَلَا تنعدم الْأَهْلِيَّة لإِقَامَة ذَلِك عَلَيْهِ بطريقه بل هُوَ جَزَاء وعقوبة فبالكفار أليق مِنْهُ بِالْمُؤْمِنِينَ
وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالمعاملات يتناولهم أَيْضا لِأَن الْمَطْلُوب بهَا معنى دُنْيَوِيّ وَذَلِكَ بهم أليق فقد آثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَلِأَنَّهُم ملتزمون لذَلِك فعقد الذِّمَّة يقْصد بِهِ الْتِزَام أَحْكَام الْمُسلمين فِيمَا يرجع إِلَى الْمُعَامَلَات فَيثبت حكم الْخطاب بهَا فِي حَقهم كَمَا يثبت فِي حق الْمُسلمين لوُجُود الِالْتِزَام إِلَّا فِيمَا يعلم لقِيَام الدَّلِيل أَنهم غير ملتزمين لَهُ
وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالشرائع يتناولهم فِي حكم الْمُؤَاخَذَة فِي الْآخِرَة لِأَن مُوجب الْأَمر اعْتِقَاد اللُّزُوم وَالْأَدَاء وهم يُنكرُونَ اللُّزُوم اعتقادا وَذَلِكَ كفر مِنْهُم بِمَنْزِلَة إِنْكَار التَّوْحِيد فَإِن صِحَة التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ لَا يكون مَعَ إِنْكَار شَيْء من الشَّرَائِع
وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي السّير الْكَبِير من أنكر شَيْئا من الشَّرَائِع فقد أبطل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فقد ذكر بعض من لَا يعْتَمد على قَوْله من أهل زَمَاننَا فِي تصنيف لَهُ أَن الْمُسلم إِذا أنكر شَيْئا من الشَّرَائِع فَهُوَ كَافِر فِيمَا أنكرهُ مُؤمن فِيمَا سوى ذَلِك وَهُوَ شبه الْمحَال من الْكَلَام يبتلى ذَلِك هُوَ مُخَالف للرواية المنصوصة عَن الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله فَإِذا ثَبت أَنه ترك ذَلِك استحلالا وجحودا يكون كفرا مِنْهُ ظهر أَنه معاقب عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة كَمَا هُوَ معاقب على أصل الْكفْر وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} أَي لَا يقرونَ بهَا وَقَالَ تَعَالَى الْمَرْء بِمثلِهِ لقلَّة التَّأَمُّل(1/73)
أَو إعجابه بِنَفسِهِ أعاذنا الله من ذَلِك وَمَعَ {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} قيل فِي التَّفْسِير من الْمُسلمين المعتقدين فَرضِيَّة الصَّلَاة
فَهَذَا معنى قَوْلنَا إِن الْخطاب يتناولهم فِيمَا يرجع إِلَى الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة
فَأَما فِي وجوب الْأَدَاء فِي أَحْكَام الدُّنْيَا فمذهب الْعِرَاقِيّين من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَن الْخطاب يتناولهم أَيْضا وَالْأَدَاء وَاجِب عَلَيْهِم فَإِنَّهُم لَا يعاقبون على ترك الْأَدَاء إِذا لم يكن الْأَدَاء وَاجِبا عَلَيْهِم وَظَاهر مَا تلونا يدل على أَنهم يعاقبون فِي الْآخِرَة على الِامْتِنَاع من الْأَدَاء فِي الدُّنْيَا وَلِأَن الْكفْر رَأس الْمعاصِي فَلَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق التَّخْفِيف وَمَعْلُوم أَن سَبَب الْوُجُوب متقرر فِي حَقهم وصلاحية الذِّمَّة لثُبُوت الْوَاجِب فِيهَا بِسَبَبِهِ مَوْجُود فِي حَقهم وَشرط وجوب الْأَدَاء التَّمَكُّن مِنْهُ وَذَلِكَ غير منعدم فِي حَقهم فَلَو سقط الْخطاب بِالْأَدَاءِ كَانَ ذَلِك تَخْفِيفًا وَالْكفْر لَا يصلح تَخْفِيفًا لذَلِك وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن التَّمَكُّن من الْأَدَاء على هَذِه الصّفة لَا يتَحَقَّق حَتَّى لَو أدّى لم يكن ذَلِك معتدا بِهِ لِأَنَّهُ يتَمَكَّن بِهِ من الْأَدَاء بِشَرْط أَن يقدم الْإِيمَان وَالْخطاب بِهِ ثَابت فِي حَقه فَهُوَ نَظِير الْجنب والمحدث يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة بِشَرْط الطَّهَارَة وَهُوَ مطَالب بذلك فَيكون مُتَمَكنًا من أَدَاء الصَّلَاة يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بأدائها مَعَ أَن انعدام التَّمَكُّن من الْأَدَاء بإصراره على الْكفْر وَهُوَ جَان فِي ذَلِك فَيجْعَل التَّمَكُّن قَائِما حكما إِذا كَانَ انعدامه بِسَبَب جِنَايَته أَلا ترى أَن زَوَال التَّمَكُّن بِسَبَب الشُّكْر لَا يسْقط الْخطاب بأَدَاء الْعِبَادَات وَكَذَلِكَ انعدام التَّمَكُّن بِسَبَب الْجَهْل إِذا كَانَ بتقصير مِنْهُ لَا يسْقط الْخطاب بِالْأَدَاءِ فبسبب الْكفْر أولى
ومشايخ دِيَارنَا يَقُولُونَ إِنَّهُم لَا يخاطبون بأَدَاء مَا يحْتَمل السُّقُوط من الْعِبَادَات وَجَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة غير مَحْفُوظ من الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله نصا وَلَكِن(1/74)
مسائلهم تدل على ذَلِك فَإِن الْمُرْتَد إِذا أسلم لَا يلْزمه قَضَاء الصَّلَوَات الَّتِي تَركهَا فِي حَال الرِّدَّة عندنَا وَتلْزَمهُ عِنْد الشَّافِعِي وَالْمُرْتَدّ كَافِر
وَاسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا على أَن الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي أَن تنصيص عُلَمَائِنَا أَن ذَلِك لَا يلْزمه الْقَضَاء بعد الْإِسْلَام دَلِيل على أَنه لم يكن مُخَاطبا بأدائها فِي حَالَة الْكفْر وَهَذَا ضَعِيف فسقوط الْقَضَاء عَن الْمُرْتَد وَالْكَافِر الْأَصْلِيّ بعد الْإِسْلَام بِوُجُود الدَّلِيل الْمسْقط وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْإِسْلَام يجب مَا قبله والسقوط بِإِسْقَاط من لَهُ الْحق لَا يكون دَلِيل انْتِفَاء أصل الْوُجُوب
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ على ذَلِك بِمن صلى فِي أول الْوَقْت ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فِي آخر الْوَقْت فَعَلَيهِ أَدَاء فرض الْوَقْت عندنَا لِأَن بِالرّدَّةِ يَنْعَدِم خطاب الْأَدَاء فِي حَقه والاعتداد بِمَا مضى كَانَ بِنَاء عَلَيْهِ فَإِذا أسلم وَقد بَقِي شَيْء من الْوَقْت يثبت الْوُجُوب بِاعْتِبَارِهِ وَيصير مُخَاطبا بِالْأَدَاءِ ابْتِدَاء وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يلْزمه الْأَدَاء لِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ لَا يَنْعَدِم فِي حَقه بِالرّدَّةِ فَبَقيَ الْمُؤَدى معتدا بِهِ وعَلى هَذَا لَو حج ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلَكِن هَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِن الْمُؤَدى إِنَّمَا لَا يكون معتدا بِهِ بعد الرِّدَّة لِأَن الرِّدَّة تحبط الْعَمَل قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} يَعْنِي مَا اكْتسب من الْعِبَادَات وَمَا حَبط لَا يكون معتدا فَلهَذَا ألزمناه الْأَدَاء ثَانِيًا
وَمِنْهُم من جعل هَذِه الْمَسْأَلَة فرعا لأصل مَعْرُوف بَيْننَا وَبينهمْ أَن الشَّرَائِع عِنْدهم من نفس الْإِيمَان وهم مخاطبون بِالْإِيمَان (فيخاطبون بالشرائع وَعِنْدنَا الشَّرَائِع لَيست من نفس الْإِيمَان وهم مخاطبون بِالْإِيمَان) فَلَا يخاطبون بِالْأَدَاءِ بالشرائع الَّتِي تبتنى على الْإِيمَان مَا لم يُؤمنُوا وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِنَّهُم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك من نفس الْإِيمَان أَيْضا
فَالَّذِي يَصح من الِاسْتِدْلَال لمشايخنا رَحِمهم الله على هَذَا الْمَذْهَب لفظ مَذْكُور فِي الْكتاب وَهُوَ أَن من نذر أَن يَصُوم شهرا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فَلَيْسَ عَلَيْهِ من الصَّوْم الْمَنْذُور شَيْء لِأَن الرِّدَّة تبطل كل عبَادَة وَمَعْلُوم أَنه لم يرد بِهَذَا التَّعْلِيل الْعِبَادَة المؤداة فَهُوَ مَا أدّى الْمَنْذُور بعد فَعرف أَن الرِّدَّة تبطل وجوب أَدَاء كل عبَادَة فَيكون هَذَا شبه التَّنْصِيص عَن أَصْحَابنَا أَن الْخطاب بأَدَاء الشَّرَائِع الَّتِي تحْتَمل السُّقُوط لَا يتناولهم مَا لم يُؤمنُوا(1/75)
وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن فَقَالَ ادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن هم أجابوك فأعلمهم أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة الحَدِيث فَفِي هَذَا تنصيص على أَن وجوب أَدَاء الشَّرَائِع يَتَرَتَّب على الْإِجَابَة إِلَى مَا دعوا إِلَيْهِ من أصل الدّين وَالدَّلِيل على ذَلِك من طَرِيق الْمَعْنى أَن الْأَمر بأَدَاء الْعِبَادَة لينال بِهِ الْمُؤَدِّي الثَّوَاب فِي الْآخِرَة حكما من الله تَعَالَى (كَمَا وعده فِي مُحكم تَنْزِيله وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل لثواب الْعِبَادَة عُقُوبَة لَهُ على كفره حكما من الله تَعَالَى) كَمَا أَن العَبْد لَا يكون أَهلا لملك المَال حكما من الله تَعَالَى وَالْمَرْأَة لَا تكون أَهلا لثُبُوت ملك الْمُتْعَة لَهَا على الرجل بِسَبَب النِّكَاح أَو بِسَبَب ملك الرَّقَبَة حكما من الله تَعَالَى وَإِذا تحقق انعدام الْأَهْلِيَّة للْكَافِرِ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوب بِالْأَدَاءِ يظْهر بِهِ انعدام الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء وَبِدُون الْأَهْلِيَّة لَا يثبت وجوب الْأَدَاء وَبِه فَارق الْخطاب بِالْإِيمَان فَإِنَّهُ بِالْأَدَاءِ يصير أَهلا لما وعد الله الْمُؤمنِينَ فبه تبين الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء أَيْضا
فَإِن قيل هُوَ بِالْإِيمَان يصير أَهلا لما هُوَ مَوْعُود على أَدَاء الْعِبَادَات وَهُوَ مطَالب بِالْإِيمَان فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل فِي حكم توجه الْخطاب بِالْأَدَاءِ عَلَيْهِ كَأَن مَا هُوَ مطَالب بِهِ بِالْإِيمَان مَوْجُود فِي حَقه كَمَا جعل النُّطْفَة فِي الرَّحِم كالحي حكما فِي حق الْإِرْث وَالْوَصِيَّة وَالْإِعْتَاق وَيجْعَل الْبيض كالصيد حكما فِي وجوب الْجَزَاء على الْمحرم بكسره وَإِن لم يكن فِيهَا معنى الصيدية حَقِيقَة
قُلْنَا هَذَا أَن لَو كَانَ مآل أمره الْإِيمَان بِاعْتِبَار الظَّاهِر كالبيض والنطفة فمآلهما إِلَى الْحَيَاة والصيدية مَا لم يفسدا ومآل أَمر الْكَافِر لَيْسَ للْإيمَان ظَاهرا بل الظَّاهِر من حَال كل معتقداته يستديم اعْتِقَاده ثمَّ هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا يَسْتَقِيم اعْتِبَاره إِذا كَانَ عِنْد إيمَانه يَتَقَرَّر وجوب الْأَدَاء فِيمَا يَتَقَرَّر سَببه فِي حَال الْكفْر فَيُقَال يُخَاطب بِالْأَدَاءِ على أَن يسلم فيتقرر وجوب الْأَدَاء كَمَا فِي النُّطْفَة وَالْبيض فَإِن حكم الْعتْق وَالْملك والصيدية يَتَقَرَّر إِذا تحقق صفة الْحَيَاة فيهمَا وَهَهُنَا يَنْعَدِم بالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُ بعد الْإِيمَان لَا يبْقى وجوب الْأَدَاء فِي شَيْء مِمَّا سبق فِي حَالَة الْكفْر
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن العَبْد من أهل مُبَاشرَة التَّصَرُّف الْمُوجب لملك المَال وَإِن لم يكن أَهلا لملك المَال فَكَذَلِك يجوز أَن يكون الْكَافِر يُخَاطب بأَدَاء الْعِبَادَات وَإِن لم يكن(1/76)
أَهلا لما هُوَ الْمَقْصُود بالآداء
قُلْنَا صِحَة ذَلِك التَّصَرُّف من الْمَمْلُوك على أَن يخلفه الْمولى فِي حكمه أَو على أَن يَتَقَرَّر الحكم لَهُ إِذا أعتق كَالْمكَاتبِ فَأَما هُنَا لَا تثبت أَهْلِيَّة الْأَدَاء فِي حَقه على أَن يخلفه غَيره فِيمَا هُوَ المبتغي بِالْأَدَاءِ أَو على أَن يَتَقَرَّر ذَلِك لَهُ بعد إيمَانه وَهَذَا بِخِلَاف الْجنب والمحدث فِي الْخطاب بأَدَاء الصَّلَاة لِأَن الْأَهْلِيَّة لما هُوَ مَوْعُود للمصلين لَا يَنْعَدِم بالجنابة وَالْحَدَث وَلَكِن الطَّهَارَة شَرط الْأَدَاء وبانعدام الشَّرْط لَا تنعدم الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الأَصْل وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير من يَقُول لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَأعْتقهُ يَصح إِعْتَاقه عَن الْآمِر بِاعْتِبَار أَن الْملك فِي الْمحل شَرط الْإِعْتَاق فانعدامه عِنْد الْأَمر لَا يمْنَع صِحَة الْأَمر على أَن يكون مُوجبا للْحكم لَهُ إِذا وجد الشَّرْط عِنْد إِيجَاد الْعتْق
وَلَو قَالَ الْمولى لعَبْدِهِ أعتق عَن نَفسك عبدا فَأعتق لم يَصح هَذَا الْأَمر وَلم يكن الْإِعْتَاق عَن العَبْد لِأَنَّهُ بِصفة الرّقّ يخرج من أَن يكون أَهلا للإعتاق عَن نَفسه فَلَا يَصح أمره إِيَّاه بِالْإِعْتَاقِ عَن نَفسه مَعَ انعدام الْأَهْلِيَّة وَتبين بِهَذَا أَن سُقُوط الْخطاب بِالْأَدَاءِ عَنْهُم لَيْسَ للتَّخْفِيف عَلَيْهِم كَمَا ظنُّوا بل لتحَقّق معنى الْعقُوبَة والنقمة فِي حَقهم فَإِن الْإِخْرَاج من الْأَهْلِيَّة لثواب الْعِبَادَة يكون نقمة يُوضحهُ أَن الْأَمر لطلب أَدَاء الْعِبَادَة وَهُوَ مَعَ صفة الْكفْر لَا يكون أَهلا لِلْعِبَادَةِ بل يحبط عمله كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وَمَعْلُوم أَن فِي الْعِبَادَة الْمَنْفَعَة للمؤدي الْمَأْمُور لَا للْآمِر قَالَ الله تَعَالَى {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} وَالْكَافِر لَا يسْتَحق هَذَا النّظر وَالْمَنْفَعَة عُقُوبَة لَهُ على كفره فَكيف يكون فِيهِ معنى التَّخْفِيف عَلَيْهِ والإيجاب من الْآمِر نظر من الشَّرْع للْمَأْمُور فَعَسَى أَن يقصر فِيمَا لَا يكون وَاجِبا عَلَيْهِ وَلَا يقصر فِي أَدَاء مَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ وَالْكَافِر غير مُسْتَحقّ لهَذَا النّظر فقولنا وجوب الْأَدَاء لَا يتَنَاوَلهُ يكون تَغْلِيظًا عَلَيْهِ لَا تَخْفِيفًا وَلِهَذَا أثبتنا حكم وجوب الْأَدَاء فِيمَا يرجع إِلَى الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة فِي حَقه ثمَّ هُوَ بإصراره على الْكفْر متْلف نَفسه حكما فِيمَا يرجع إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُود بالعبادات فَيكون بِمَنْزِلَة من قتل نَفسه حَقِيقَة وَلَا يَجْعَل قَاتل النَّفس حَقِيقَة كالحي حكما فِي توجه الْخطاب عَلَيْهِ بأَدَاء الْعِبَادَات لَا للتَّخْفِيف عَلَيْهِ فَكَذَلِك الْكَافِر لَا يَجْعَل مُتَمَكنًا من الْأَدَاء حكما مَعَ إصراره على الْكفْر لَا بطرِيق التَّخْفِيف عَلَيْهِ وَلَكِن تجْعَل ذمَّته كالمعدومة حكما فِي الصلاحية لوُجُوب أَدَاء الْعِبَادَات فِيهَا تَحْقِيقا لِمَعْنى الهوان فِي حَقهم الله تَعَالَى قَالَ {إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} ثمَّ الْخطاب وَهُوَ أَن يلحقهم بالبهائم الَّتِي لَا ذمَّة لَهَا فِي هَذَا الحكم(1/77)
كَمَا وَصفهم بأَدَاء الْعِبَادَات ليسعى الْمَرْء بأدائها فِي فكاك نَفسه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام النَّاس غاديان بَائِع نَفسه فموبقها ومشتر نَفسه فمعتقها يَعْنِي بالائتمار بالأوامر وَالْقَوْل بِأَن الْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل للسعي فِي فكاك نَفسه مَا لم يُؤمن لَا يكون تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِير أَدَاء بدل الْكِتَابَة لما كَانَ ليتوصل بِهِ الْمكَاتب إِلَى فكاك نَفسه فإسقاط الْمولى هَذِه الْمُطَالبَة عَنهُ عِنْد عَجزه بِالرَّدِّ فِي الرّقّ لَا يكون تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَإِن مَا بَقِي فِيهِ من ذل الرّقّ فَوق ضَرَر الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ
وَإِنَّمَا استنبطنا هَذَا من تَعْلِيل مُحَمَّد رَحمَه الله فِي قَوْله مَا فِيهِ من الشّرك أعظم من ذَلِك علل بِهِ فِي أَنه لَا يلْزمه كَفَّارَة الظِّهَار وَكَفَّارَة الْيَمين وَإِن حنث وَفِي الْكَفَّارَات معنى الْعِبَادَة على مَا بَينا أَنه ينَال بِهِ الثَّوَاب فَيكون مكفرا للذنب وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل لذَلِك فَلَا يثبت فِي حَقه الْخطاب بأَدَاء الْكَفَّارَة كَمَا لَا يثبت فِي حق العَبْد الْخطاب بالتكفير بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل لذَلِك
وَنَظِير مَا قُلْنَا من الحسيات أَن مُطَالبَة الطَّبِيب الْمَرِيض بِشرب الدَّوَاء إِذا كَانَ يَرْجُو لَهُ الشِّفَاء يكون نظرا من الطَّبِيب لَا إِضْرَارًا بِهِ فَإِذا أيس من شفائه فَترك مُطَالبَته بِشرب الدَّوَاء لَا يكون ذَلِك تَخْفِيفًا عَلَيْهِ بل إجبارا لَهُ بِمَا هُوَ أَشد عَلَيْهِ من ضَرَر شرب الدَّوَاء وَهُوَ مَا يَذُوق من كأس الْحمام فَكَذَلِك هُنَا أَن الْكفَّار لَا يخاطبون بأَدَاء الشَّرَائِع لَا يتَضَمَّن معنى التَّخْفِيف عَلَيْهِم بل يكون فِيهِ بَيَان عظم الْوزر والعقوبة فِيمَا هُوَ مصر عَلَيْهِ من الشّرك وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب النَّهْي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن مُوجب النَّهْي شرعا لُزُوم الِانْتِهَاء عَن مُبَاشرَة الْمنْهِي عَنهُ لِأَنَّهُ ضد الْأَمر
أما من حَيْثُ اللُّغَة فصيغة الْأَمر لبَيَان أَن الْمَأْمُور بِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يكون وَصِيغَة النَّهْي لبَيَان أَنه مِمَّا يَنْبَغِي أَن لَا يكون وَأما شرعا فَالْأَمْر لطلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ على أبلغ الْوُجُوه مَعَ بَقَاء اخْتِيَار الْمُخَاطب فِي حَقِيقَة الإيجاد وَذَلِكَ(1/78)
فِي وجوب الائتمار وَالنَّهْي لطلب مُقْتَضى الِامْتِنَاع عَن الإيجاد على ابلغ الْوُجُوه مَعَ بَقَاء اخْتِيَار للمخاطب فِيهِ وَذَلِكَ بِوُجُوب الِانْتِهَاء فَإِذا تبين مُوجب النَّهْي قُلْنَا مُقْتَضى النَّهْي قبح الْمنْهِي عَنهُ شرعا كَمَا أَن مُقْتَضى الْأَمر حسن الائتمار بِهِ شرعا أَلا ترى أَن التَّحْرِيم لما كَانَ ضد الْإِحْلَال كَانَ مُقْتَضى أَحدهمَا ضد مُقْتَضى الآخر وَلِأَن صَاحب الشَّرْع جَاءَ بتتميم المحاسن وَنفي القبائح فَكَانَ نَهْيه مُوجبا قبح الْمنْهِي عَنهُ كَمَا كَانَ أمره مُوجبا صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ
فَإِن قيل لماذا لَا يَجْعَل مُقْتَضى النَّهْي شرعا حسن الِانْتِهَاء كَمَا كَانَ مُقْتَضى الْأَمر حسن الائتمار قُلْنَا لِأَنَّهُ يصير مقتضاهما وَاحِدًا وَبَينهمَا مُغَايرَة على سَبِيل المضادة ثمَّ الائتمار بِفعل يَقْصِدهُ الْمُخَاطب ويضاف وجوده إِلَى كَسبه فَيحسن الائتمار لكَون ذَلِك مُضَافا إِلَيْهِ فَأَما الِانْتِهَاء يكون بامتناعه عَن إِيجَاد الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ ثمَّ انعدامه لَا يكون مُضَافا إِلَى كَسبه وقصده بل الانعدام أصل فِيهِ مَا لم يوجده وَإِذا لم يكن مُضَافا إِلَى فعله الَّذِي هُوَ اخْتِيَاري لَا يَسْتَقِيم أَن يُوصف امْتِنَاعه عَن الإيجاد بالْحسنِ مَقْصُودا فَعرفنَا بِهِ أَن قبح الْمنْهِي عَنهُ ثَابت بِمُقْتَضى وجوب الِانْتِهَاء شرحا
فَإِن قيل تَركه الْفِعْل الَّذِي يكون إيجادا فعل مَقْصُود مِنْهُ على مَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن ترك الْفِعْل فعل لما فِيهِ من اسْتِعْمَال أحد الضدين والانتهاء بِهِ يتَحَقَّق قُلْنَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن مُوجب النَّهْي هُوَ الِانْتِهَاء وَحَقِيقَته الِامْتِنَاع عَن الإيجاد ثمَّ إِن دَعَتْهُ نَفسه إِلَى الإيجاد يلْزمه التّرْك ليَكُون مُمْتَنعا وَالنَّهْي عَنهُ يبْقى عدما كَمَا كَانَ أَلا ترى أَن الِامْتِنَاع الَّذِي بِهِ يتَحَقَّق الِانْتِهَاء يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر وَالتّرْك الَّذِي هُوَ فعل مِنْهُ لَا يسْتَغْرق فَإِنَّهُ قبل أَن يعلم بِهِ يكون منتهيا بالامتناع عَنهُ وَلَا يكون مباشرا للْفِعْل الَّذِي هُوَ ترك الإيجاد فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا عَن قصد مِنْهُ بعد الْعلم بِهِ
وَبَيَان هَذَا أَن الصَّائِم مَأْمُور بترك اقْتِضَاء السهرتين فِي حَال الصَّوْم فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ هَذَا الْفِعْل ركنا للصَّوْم حَتَّى يعلم بِهِ ويقصده والمعتدة مَمْنُوعَة من التَّزَوُّج وَالْخُرُوج والتطيب وَذَلِكَ ركن الِاعْتِدَاد وَيتم ذَلِك وَإِن لم تعلم بِهِ حَتَّى يحكم بِانْقِضَاء عدتهَا بِمُضِيِّ(1/79)
الزَّمَان قبل أَن نشعر بِهِ وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته إِن لم أشأ طَلَاقك فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ لَا أَشَاء طَلَاقك لم تطلق وَلَو قَالَ إِن أَبيت طَلَاقك فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ قد أَبيت طلقت لِأَن الإباء فعل يَقْصِدهُ ويكسبه فَيصير مَوْجُودا بقوله قد أَبيت وَلَا يكون ذَلِك مُسْتَغْرقا للمدة وَعدم الْمَشِيئَة عبارَة عَن امْتِنَاعه من الْمَشِيئَة وَذَلِكَ يسْتَغْرق عمره فَلَا يتَحَقَّق وجود الشَّرْط بقوله لَا أَشَاء وَلَا بامتناعه من الْمَشِيئَة فِي جُزْء من عمره
وَإِذا تبين أَن مُقْتَضى النَّهْي قبح الْمنْهِي عَنهُ شرعا فَنَقُول الْمنْهِي عَنهُ فِي صفة الْقبْح قِسْمَانِ قسم مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لعَينه وَقسم مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لغيره وَهَذَا الْقسم يتنوع نَوْعَيْنِ نوع مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لِمَعْنى جاوره جمعا وَنَوع مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِهِ وَصفا
فَأَما بَيَان الْقسم الأول فِي الْعَبَث والسفه فَإِنَّهُمَا قبيحان شرعا لِأَن وَاضع اللُّغَة وضع هذَيْن الاسمين لما يكون خَالِيا عَن الْفَائِدَة ومبنى الشَّرْع على مَا هُوَ حِكْمَة لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة فَمَا يَخْلُو عَن ذَلِك قطعا يكون قبيحا شرعا وَمن هَذَا النَّوْع فعل اللواطة فالمقصود من اقْتِضَاء الشَّهْوَة شرعا هُوَ النَّسْل وَهَذَا الْمحل لَيْسَ بِمحل لَهُ أصلا فَكَانَ قبيحا شرعا وَنَظِيره من الْعُقُود بيع الملاقيح والمضامين فَإِنَّهُ قَبِيح شرعا لِأَن البيع مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ شرعا وَهُوَ مَشْرُوع لاستنماء المَال بِهِ وَالْمَاء فِي الصلب وَالرحم لَا مَالِيَّة فِيهِ فَلم يكن محلا للْبيع شرعا وَكَذَلِكَ الصَّلَاة بِغَيْر الطَّهَارَة لِأَن الشَّرْع قصر الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الصَّلَاة على كَون الْمُصَلِّي طَاهِرا عَن الْحَدث والجنابة فتنعدم الْأَهْلِيَّة بانعدام صفة الطَّهَارَة وانعدام الْأَهْلِيَّة فَوق انعدام الْمَحَلِّيَّة فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا قبيحا شرعا بِهَذَا الطَّرِيق
وَحكم هَذَا النَّوْع من الْمنْهِي بَيَان أَنه غير مَشْرُوع أصلا لِأَن الْمَشْرُوع لَا يَخْلُو عَن حِكْمَة وَبِدُون الْأَهْلِيَّة والمحلية لَا تصور لذَلِك فَيعلم بِهِ أَنه غير مَشْرُوع أصلا
وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي من الْأَفْعَال وَطْء الرجل زَوجته فِي حَالَة الْحيض فَإِنَّهُ حرَام مَنْهِيّ عَنهُ وَلَكِن لِمَعْنى اسْتِعْمَال الْأَذَى وَاسْتِعْمَال الْأَذَى مجاور للْوَطْء جمعا غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا وَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَن يسْتَمْتع بهَا فِيمَا سوى مَوضِع خُرُوج الدَّم فِي قَول مُحَمَّد رَحمَه الله لِأَنَّهُ لَا يجاور فعله اسْتِعْمَال الْأَذَى وَفِي قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله يسْتَمْتع بهَا(1/80)
فَوق المئزر ويجتنب مَا تَحْتَهُ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن الْوُقُوع فِي اسْتِعْمَال الْأَذَى إِذا استمتع بهَا فِي الْموضع الْقَرِيب من مَوضِع الْأَذَى
وَنَظِير هَذَا النَّوْع من الْعُقُود والعبادات البيع وَقت النداء فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لما فِيهِ من الِاشْتِغَال عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة بِغَيْرِهِ بَعْدَمَا تعين لُزُوم السَّعْي وَذَلِكَ يجاور البيع وَلَا يتَّصل بِهِ وَصفا وَالصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَنْهِيّ عَنْهَا لِمَعْنى شغل ملك الْغَيْر بِنَفسِهِ وَذَلِكَ مجاور لفعل الصَّلَاة جمعا غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا فَعرفنَا أَن قبحه لِمَعْنى فِي غَيره
وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه يكون صَحِيحا مَشْرُوعا بعد النَّهْي من قبل أَن الْقبْح لما كَانَ بِاعْتِبَار فعل آخر سوى الصَّلَاة وَالْبيع وَالْوَطْء لم يكن مؤثرا فِي الْمَشْرُوع لَا أصلا وَلَا وَصفا أَلا ترى أَن الصَّائِم إِذا ترك الصَّلَاة يكون فعل الصَّوْم مِنْهُ عبَادَة صَحِيحَة هُوَ مُطِيع فِيهِ وَإِن كَانَ عَاصِيا فِي ترك الصَّلَاة وَهنا يكون مُطيعًا فِي الصَّلَاة وَإِن كَانَ عَاصِيا فِي شغل ملك الْغَيْر بِنَفسِهِ ومباشرا للْوَطْء الْمَمْلُوك بِالنِّكَاحِ وَإِن كَانَ عَاصِيا مرتكبا لِلْحَرَامِ بِاسْتِعْمَال الْأَذَى وَلِهَذَا قُلْنَا يثبت الْحل للزَّوْج الأول بِالْوَطْءِ الثَّانِي إِيَّاهَا فِي حَالَة الْحيض وَيثبت بِهِ إِحْصَان الواطىء أَيْضا
وَأما النَّوْع الثَّالِث فبيانه فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ وَطْء غير مَمْلُوك فَكَانَ قبيحا شرعا لِأَن الشَّرْع قصر ابْتِغَاء النَّسْل بِالْوَطْءِ على مَحل مَمْلُوك فَقَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} وَنَظِيره من الْعُقُود الرِّبَا فَإِنَّهُ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِالْبيعِ وَصفا وَهُوَ انعدام الْمُسَاوَاة الَّتِي هِيَ شَرط جَوَاز البيع فِي هَذِه الْأَمْوَال شرعا وَمن الْعِبَادَات النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فَإِنَّهُ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحل الْأَدَاء وَصفا وَهُوَ أَنه يَوْم عيد وَيَوْم ضِيَافَة
ثمَّ لَا خلاف فِيمَا يكون من الْأَفْعَال الَّتِي يتَحَقَّق حسا من هَذَا النَّوْع أَنه فِي صفة الْقبْح مُلْحق بالقسم الأول فَإِن الزِّنَا وَشرب الْخمر حرَام لعَينه غير مَشْرُوع أصلا وَلِهَذَا تتَعَلَّق بهما الْعقُوبَة الَّتِي تندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَمَا كَانَ مَشْرُوعا من وَجه وحراما لغيره لَا يَخْلُو عَن شُبْهَة فإيجاب الْعقُوبَة فيهمَا دَلِيل ظَاهر على أَن حرمتهما لعينهما وَذَلِكَ دَلِيل على قبح الْمنْهِي عَنهُ لعَينه(1/81)
وَاخْتلفُوا فِيمَا يكون من هَذَا النَّوْع من الْعُقُود والعبادات
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله مُوجب مُطلق النَّهْي فِيهَا تَقْرِير الْمَشْرُوع مَشْرُوعا وَجعل أَدَاء العَبْد إِذا بَاشَرَهَا فَاسِدا إِلَّا بِدَلِيل
وَقَالَ الشَّافِعِي مُوجب مُطلق النَّهْي فِي هَذَا النَّوْع انتساخ الْمنْهِي عَنهُ وَخُرُوجه من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا إِلَّا بِدَلِيل
وحجته فِي ذَلِك أَن النَّهْي ضد الْأَمر
ثمَّ مُقْتَضى مُطلق الْأَمر شرع الْمَأْمُور بِهِ فَمُقْتَضى مُطلق النَّهْي ضِدّه وَهُوَ انعدام كَون الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوعا وَهَذَا لِأَن الْحَقِيقَة هُوَ المُرَاد من كل نوع حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز ثمَّ الْحَقِيقَة فِي مُطلق الْأَمر إِثْبَات صفة الْحسن فِي الْمَأْمُور بِهِ شرعا لعَينه لَا لغيره
وَكَذَلِكَ الْحَقِيقَة فِي مُطلق النَّهْي إِثْبَات صفة الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ لعَينه لَا لغيره وَهَذَا لِأَن الْمُطلق ينْصَرف إِلَى الْكَامِل دون النَّاقِص فَإِن النَّاقِص مَوْجُود من وَجه دون وَجه وَمَعَ شُبْهَة الْعَدَم فِيهِ لَا يثبت مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِيهِ فَبِهَذَا تبين أَن الْمُطلق يتَنَاوَل الْكَامِل والكمال فِي الْأَمر الَّذِي هُوَ طلب الإيجاد بِأَن يحسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه فَكَذَلِك الْكَمَال فِيمَا هُوَ طلب الإعدام إِثْبَات صفة الْقبْح فِي إيجاده لعَينه
وَإِذا تقرر هَذَا خرج الْمنْهِي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا لمقْتَضى النَّهْي وَحكمه أما مُقْتَضَاهُ فَلِأَن أدنى دَرَجَات الْمَشْرُوع أَن يكون مُبَاحا والقبيح لعَينه لَا يجوز أَن يكون مُبَاحا فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَبِهَذَا تبين أَن النَّهْي بِمَعْنى النّسخ فِي إِخْرَاج الْمنْهِي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا
وَأما حكمه فوجوب الِانْتِهَاء ليَكُون مُعظما مُطيعًا للناهي فِي الِانْتِهَاء وَيكون عَاصِيا لَا محَالة فِي ترك الِانْتِهَاء وَإِنَّمَا يكون عَاصِيا بِمُبَاشَرَة مَا هُوَ خلاف الْمَشْرُوع فَعرفنَا أَن بِالنَّهْي يخرج من أَن يكون مَشْرُوعا
يقرره أَن الْمنْهِي عَنهُ لَا يكون مرضيا بِهِ أصلا وَإِن كَانَ لَا تنعدم بِهِ الْإِرَادَة وَالْقَضَاء والمشيئة بِمَنْزِلَة الْكفْر والمعاصي فَإِنَّهَا تكون من الْعباد بالإرادة والمشيئة وَالْقَضَاء وَلَا يكون مرضيا بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} والمشروع مَا يكون مرضيا بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة فَبِهَذَا تبين أَن الْمنْهِي عَنهُ غير مَشْرُوع أصلا ثمَّ صفة الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ وَإِن كَانَ لِمَعْنى اتَّصل بِهِ وَصفا فَذَلِك دَلِيل على أَنه لم يبْق مَشْرُوعا لِأَن ذَلِك الْوَصْف لَا يُفَارق(1/82)
الْمنْهِي عَنهُ وَمَعَ وجوده لَا يكون مَشْرُوعا فبه يخرج من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا بِمَنْزِلَة نِكَاح الْمُعْتَدَّة وَالنِّكَاح بِغَيْر شُهُود فَإِن النَّهْي عَنْهُمَا كَانَ لِمَعْنى زَائِد على مَا بِهِ يتم العقد من فقد شَرط أَو زِيَادَة صفة فِي الْمحل ثمَّ يخرج بِهِ من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا مُقَيّدا بِمَا هُوَ الحكم الْمَطْلُوب من النِّكَاح
إِذا تقرر هَذَا فالمسائل تخرج لَهُ على هَذَا الأَصْل مِنْهَا أَن الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن ثُبُوتهَا بطرِيق النِّعْمَة والكرامة حَتَّى تكون أمهاتها وبناتها فِي حَقه كأمهاته وَبنَاته فِي الْمَحْرَمِيَّة فيستدعي سَببا مَشْرُوعا وَالزِّنَا قَبِيح لعَينه غير مَشْرُوع أصلا فَلَا يصلح سَببا لهَذِهِ الْكَرَامَة
وَمِنْهَا أَن البيع الْفَاسِد نَحْو الرِّبَا وَالْبيع بِأَجل مَجْهُول وَبيع المَال بِالْخمرِ لَا يكون مُوجبا للْملك بِحَال لِأَن الْملك نعْمَة وكرامة أَلا ترى أَن صفة الْمَالِكِيَّة إِذا قوبلت بالمملوكية كَانَ معنى النِّعْمَة بالمالكية فيستدعي سَببا مَشْرُوعا والقبيح لعَينه لَا يكون مَشْرُوعا أصلا
يقرره أَن النِّعْمَة تستدعي سَببا مرغوبا فِيهِ شرعا ليرغب الْعَاقِل فِي مُبَاشَرَته لتَحْصِيل النِّعْمَة والمنهي عَنهُ شرعا لَا يجوز أَن يكون مرغوبا فِيهِ شرعا
وَمِنْهَا أَن الْغَصْب لَا يكون مُوجبا للْملك عِنْد تقرر الضَّمَان لهَذَا الْمَعْنى
وَمِنْهَا أَن اسْتِيلَاء الْكفَّار على مَال الْمُسلم لَا يكون مُوجبا للْملك لَهُم شرعا لِأَن ذَلِك عدوان مَحْض فَلَا يكون ذَلِك مَشْرُوعا فِي نَفسه وَلَا يصلح سَببا لحكم مَشْرُوع مَرْغُوب فِيهِ
وَمِنْهَا أَن صَوْم يَوْم الْعِيد لم يبْق بعد النَّهْي صوما مَشْرُوعا حَتَّى لَا يَصح الْتِزَامه بِالنذرِ لِأَن الصَّوْم الْمَشْرُوع عبَادَة وَالْعِبَادَة اسْم لما يكون الْمَرْء بمباشرته مُطيعًا لرَبه فَمَا يكون هُوَ بمباشرته عَاصِيا مرتكبا لِلْحَرَامِ لَا يكون صوما مَشْرُوعا
وَمِنْهَا أَن العَاصِي فِي سَفَره كَالْعَبْدِ الْآبِق وقاطع الطَّرِيق لَا يترخص برخص الْمُسَافِرين لِأَن ثُبُوت ذَلِك بطرِيق النِّعْمَة لدفع الْحَرج عَنهُ عِنْد السّير المديد فَإِذا كَانَ سيره مَعْصِيّة لم يصلح سَببا لما هُوَ نعْمَة فِي حَقه إِذْ النِّعْمَة تستدعي سَببا مَشْرُوعا وَمَا يكون الْمَرْء عَاصِيا بمباشرته فَإِنَّهُ لَا يكون مَشْرُوعا
وَمِنْهَا بيع الدّهن النَّجس فَإِنَّهُ لَا يكون مَشْرُوعا مُفِيدا لحكمه لِأَن النَّجَاسَة لما اتَّصَلت بالدهن وَصفا فَصَارَت بِحَيْثُ لَا تُفَارِقهُ خرج الدّهن من أَن يكون محلا للْبيع الْمَشْرُوع(1/83)
والتحق بودك الْميتَة فَخرج من أَن يكون محلا للْبيع مُفِيدا لحكمه وَهُوَ الْملك كَمَا بَينا فِي بيع الملاقيح والمضامين
قَالَ وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا الظِّهَار فَإِنَّهُ مُوجب لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ مَشْرُوعَة وَإِن كَانَ هُوَ فِي نَفسه قبيحا حَرَامًا لِأَنَّهُ مُنكر من القَوْل وزور هَذَا لِأَن الْكَفَّارَة مَشْرُوعَة جَزَاء على ارْتِكَاب الْمَحْظُور بِمَنْزِلَة الْحُدُود لَا أصلا بِنَفسِهِ على سَبِيل الْكَرَامَة وَالنعْمَة وَالْجَزَاء يَسْتَدْعِي سَببا مَحْظُورًا فَيكون الظِّهَار مَحْظُورًا يُحَقّق معنى السَّبَبِيَّة لما هُوَ فِي معنى الْجَزَاء وَلَا تعدم الصلاحية لذَلِك
وَلَا يدْخل عَلَيْهِ استيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة فَإِنَّهُ يثبت النّسَب وَالْملك للمستولد فِي نصيب شَرِيكه وَذَلِكَ حكم مَشْرُوع يثبت بِسَبَب وَطْء مَحْظُور لِأَن ثُبُوت النّسَب بِاعْتِبَار وَطئه ملك نَفسه وَالنَّهْي بِاعْتِبَار أَن وطأه يُصَادف ملك الشَّرِيك أَيْضا وَملك الشَّرِيك مجاور لملكه جمعا غير مُتَّصِل بِملكه وَصفا وَكَانَ فِي الصلاحية لثُبُوت النّسَب بِهِ بِمَنْزِلَة الْوَطْء فِي حَالَة الْحيض
ثمَّ إِنَّمَا يملك نصيب الشَّرِيك حكما لثُبُوت أُميَّة الْوَلَد فِي نصِيبه وَكَون الِاسْتِيلَاد مِمَّا لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي وَذَلِكَ غير مَحْظُور
وَلَا يدْخل على هَذَا الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض أَو الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَمَعَ ذَلِك كَانَ وَاقعا مُوجبا لحكم مَشْرُوع وَهُوَ الْفرْقَة لِأَن هَذَا النَّهْي لأجل الْحيض وَهُوَ صفة الْمَرْأَة غير مُتَّصِل بِالطَّلَاق وَصفا وَلكنه مجاور لَهُ جمعا حِين أوقعه فِي وقته
وَكَانَ النَّهْي لِمَعْنى الْإِضْرَار بهَا من حَيْثُ تَطْوِيل الْعدة عَلَيْهَا أَو تلبيس أَمر الْعدة عَلَيْهَا إِذا أوقع فِي الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ وَذَلِكَ غير مُتَّصِل بِالطَّلَاق الَّذِي هُوَ سَبَب الْفرْقَة أصلا وَلَا وَصفا
وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا إِحْرَام المجامع لأَهله فَإِنَّهُ ينْعَقد مُوجبا أَدَاء الْأَعْمَال وَإِن كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ لِأَن النَّهْي عَن الْجِمَاع مَعَ عقد الْإِحْرَام وَالْجِمَاع غير مُتَّصِل بِالْإِحْرَامِ أصلا وَلَا وَصفا وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا للْقَضَاء والشروع بِصفة الْفساد غير مُوجب للْقَضَاء بالِاتِّفَاقِ فَتبين بِهِ أَنه ينْعَقد صَحِيحا ثمَّ فسد لارتكاب الْمَحْظُور بِهِ(1/84)
وَلَكِن الْإِحْرَام مَشْرُوع على أَنه لَا يخرج مِنْهُ الْمَرْء بَعْدَمَا شرع فِيهِ إِلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي عينه الشَّرْع لِلْخُرُوجِ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاء الْأَعْمَال أَو الدَّم عِنْد الْإِحْصَار فَيلْزمهُ أَدَاء الْأَعْمَال ليكتسب بِهِ طَرِيق الْخُرُوج من الْإِحْرَام شرعا وَذَلِكَ مَشْرُوع فَيجوز أَن يلْزمه أَدَاء الْأَعْمَال أَيْضا
وَكَذَلِكَ لَو جَامعهَا بَعْدَمَا أحرم فَإِنَّهُ لَا يخرج إِلَّا بأَدَاء الْأَعْمَال لهَذَا الْمَعْنى وَلِأَن الْجِمَاع فِي الْإِحْرَام مَحْظُور شرعا فَيجوز أَن يُقَال مَا يلْزمه من أَدَاء الْأَعْمَال بعده على وَجه لَا يكون معتدا بِهِ فِي إِسْقَاط الْوَاجِب عَنهُ جَزَاء على ارْتِكَاب مَا هُوَ مَحْظُور وكلامنا فِيمَا هُوَ مَشْرُوع ابْتِدَاء لَا جَزَاء وَقبل الْجِمَاع لزمَه أَدَاء الْأَعْمَال بِسَبَب مَشْرُوع وَلَيْسَ إِلَى العَبْد ولَايَة تَغْيِير الْمَشْرُوع وَإِن كَانَ الْأَدَاء يفْسد بِفعل مِنْهُ كَمَا تفْسد الصَّلَاة بالتكلم فِيهَا وَلَا يتَغَيَّر بِهِ الْمَشْرُوع وَإِذا لم يصلح فعله مغيرا بَقِي طَرِيق الْخُرُوج بأَدَاء الْأَفْعَال مَشْرُوعا كَمَا كَانَ قبل الْجِمَاع وللشرع ولَايَة نفي الْمَشْرُوع وإخراجه من أَن يكون مَشْرُوعا كَمَا لَهُ ولَايَة الشَّرْع بِمُطلق نَهْيه الَّذِي هُوَ دَلِيل الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ فصلح أَن يكون مخرجا للمنهي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا فَلهَذَا لم يبْق مَشْرُوعا بعد النَّهْي
وَحجَّتنَا مَا ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الطَّلَاق فَإِنَّهُ قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فنهانا عَمَّا يتكون وَعَما لَا يتكون وَالنَّهْي عَمَّا لَا يتكون لَغْو حَتَّى لَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال للأعمى لَا تبصر وللآدمي لَا تطر وَمَعْلُوم أَنه إِنَّمَا نهى عَن صَوْم شَرْعِي فالإمساك الَّذِي يُسمى صوما لُغَة غير مَنْهِيّ عَنهُ وَمن أَتَى بِهِ لحمية أَو مرض أَو قلَّة اشتهاء لَا يكون مرتكبا للمنهي عَنهُ فَهَذَا دَلِيل على أَن الصَّوْم الَّذِي هُوَ عبَادَة مَشْرُوع فِي الْوَقْت بعد النَّهْي كَمَا كَانَ قبله
وَتَقْرِير هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مُوجب النَّهْي هُوَ الِانْتِهَاء وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الِانْتِهَاء عَن شَيْء والمعدوم لَيْسَ بِشَيْء فَكَانَ من ضَرُورَة صِحَة النَّهْي مُوجبا للانتهاء كَون الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوعا فِي الْوَقْت فَكيف يَسْتَقِيم أَن يَجْعَل الْمنْهِي عَنهُ غير مَشْرُوع بِحكم النَّهْي بَعْدَمَا كَانَ مَشْرُوعا وَبِه تبين أَن النَّهْي ضد النّسخ فالنسخ(1/85)
تصرف فِي الْمَشْرُوع بِالرَّفْع ثمَّ يَنْعَدِم أَدَاء العَبْد بِاعْتِبَار أَنه لم يبْق مَشْرُوعا وَلَيْسَ للْعَبد ولَايَة الشَّرْع وَالنَّهْي تصرف فِي منع الْمُخَاطب من أَدَاء مَا هُوَ مَشْرُوع فِي الْوَقْت فَيكون انعدام الْأَدَاء مِنْهُ انْتِهَاء عَمَّا نهي عَنهُ وَمُقْتَضى النَّهْي حُرْمَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ أَدَاء لوُجُوب الِانْتِهَاء فَبَقيَ الْمَشْرُوع مَشْرُوعا كَمَا كَانَ وَيصير الْأَدَاء فَاسِدا حَرَامًا لِأَن فِيهِ ترك الِانْتِهَاء الْوَاجِب بِالنَّهْي
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} فَإِنَّهُ كَانَ تَحْرِيمًا لفعل القربان وَلم يكن تَحْرِيمًا لعين الشَّجَرَة وكما لَا يتَصَوَّر تَحْرِيم قرْبَان الشَّجَرَة بِدُونِ الشَّجَرَة لَا يتَحَقَّق تَحْرِيم أَدَاء الصَّوْم فِي وَقت لَيْسَ فِيهِ صَوْم مَشْرُوع
وَبِهَذَا الْحَرْف يتَبَيَّن الْفرق بَين الْأَفْعَال الحسية والعقود الْحكمِيَّة والعبادات الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة حُرْمَة الْأَفْعَال الحسية انعدام التكون فَقُلْنَا تَأْثِير التَّحْرِيم فِي إخْرَاجهَا من أَن تكون مَشْرُوعَة أصلا وإلحاقها بِمَا هُوَ قَبِيح لعَينه وَمن ضَرُورَة تَحْرِيم الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بَقَاء أَصْلهَا مَشْرُوعا إِذْ لَا تكون لَهَا إِذا لم تبْق مَشْرُوعَة وَبِدُون التكون لَا يتَحَقَّق تَحْرِيم فعل الْأَدَاء وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَات فَكَانَ فِي إبْقَاء الْمَشْرُوع مَشْرُوعا مُرَاعَاة حَقِيقَة النَّهْي لَا أَن يكون تركا للْحَقِيقَة كَمَا قَرَّرَهُ الْخصم
يُوضحهُ أَن صفة الْفساد للْعقد لَا يكون إِلَّا عِنْد وجود العقد فَإِن الصّفة لَا تسبق الْمَوْصُوف وَكَذَلِكَ فَسَاد الْمُؤَدى من الصَّوْم لَا يسْبق الْأَدَاء وَلَا أَدَاء إِذا لم يبْق مَشْرُوعا فبه تبين أَنه بَقِي مَشْرُوعا والمشروعات لَا تكون قبيحا لعَينه فَعرفنَا أَن الْقبْح لوصف اتَّصل بِهِ فَصَارَ بِهِ الْأَدَاء قبيحا فَاسِدا إِلَّا فِي مَوضِع يتَعَذَّر الْجمع بَين صفة الْحُرْمَة وَبَقَاء الأَصْل فَحِينَئِذٍ يَنْعَدِم ضَرُورَة وَيكون ذَلِك نسخا من طَرِيق الْمَعْنى فِي صُورَة النَّهْي لَا أَن يكون نهيا حَقِيقَة وَلَا ضَرُورَة هُنَا
فالصوم وَالصَّلَاة يَسْتَقِيم أَن يكون أَصله مَشْرُوعا مَعَ كَون الْأَدَاء حَرَامًا كَصَوْم يَوْم الشَّك وَالصَّلَاة فِي وَقت مَكْرُوه وَكَذَلِكَ الْعُقُود الشَّرْعِيَّة يتَصَوَّر بَقَاء أَصْلهَا مَشْرُوعا مَعَ حُرْمَة مُبَاشرَة التَّصَرُّف وفساده كَالطَّلَاقِ فِي حَالَة الْحيض وَفِي الطُّهْر الَّذِي جَامع فِيهِ امْرَأَته
وَتَقْرِير آخر أَن النَّهْي يُوجب إعدام الْمنْهِي عَنهُ بِفعل مُضَاف إِلَى كسب العَبْد(1/86)
واختياره لِأَنَّهُ ابتلاء كالأمر وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الِابْتِلَاء إِذا بَقِي للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار حَتَّى إِذا انْتهى مُعظما لحُرْمَة الناهي كَانَ مثابا عَلَيْهِ وَإِذا أقدم عَلَيْهِ تَارِكًا تَعْظِيم حُرْمَة الناهي كَانَ معاقبا على إيجاده وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا فِيمَا هُوَ مَشْرُوع فَبِهَذَا تبين أَن مُوجب النَّهْي إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْعُقُود الشَّرْعِيَّة والعبادات إِذا كَانَت مَشْرُوعَة بعد النَّهْي فَأَما صفة الْقبْح فَهُوَ ثَابت بِمُقْتَضى النَّهْي وَلَكِن ثُبُوت الْمُقْتَضى لتصحيح الْمُقْتَضى لَا لإبطاله وَإِذا انْعَدم الْمَشْرُوع بِمُقْتَضى صفة الْقبْح يَنْعَدِم مُوجب النَّهْي وبانعدامه يبطل النَّهْي فَلَا يجوز إِثْبَات الْمُقْتَضى على وَجه يكون مُبْطلًا للمقتضي
وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله فعل ذَلِك فَكَانَ قَوْله فَاسِدا وَنحن أثبتنا أصل النَّهْي مُوجبا للانتهاء ثمَّ أثبتنا الْمُقْتَضى بِحَسب الْإِمْكَان على وَجه لَا يبطل بِهِ الأَصْل وَلَكِن يثبت الْقبْح وَالْحُرْمَة صفة لأَدَاء العَبْد الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت فَإِن الْقبْح إِذا كَانَ فِي وصف الشَّيْء لَا يعْدم أَصله كالإحرام بعد الْفساد فَإِنَّهُ يبْقى أَصله وَإِن كَانَ قبيحا لِمَعْنى اتَّصل بوصفه وَهُوَ الْفساد والعذر الَّذِي ذكره يرجع إِلَى تَحْقِيق مَا ذكرنَا فَإِن فَسَاد الْإِحْرَام بِالْجِمَاعِ حكم ثَابت شرعا وَإِلَى الشَّرْع ولَايَة إعدام أصل الْإِحْرَام فَلَو كَانَ من ضَرُورَة صفة الْفساد انعدام الأَصْل فِي المشروعات لَكَانَ الحكم بفساده شرعا معدما لأصله أَلا ترى أَن بِسَبَب الرِّدَّة يَنْعَدِم أصل الْإِحْرَام وَإِن كَانَ ذَلِك من أعظم الْجِنَايَات لِأَن حبوط الْعَمَل بِالرّدَّةِ حكم شَرْعِي وبسبب الْإِحْصَار يتَمَكَّن من الْخُرُوج من الْإِحْرَام قبل أَدَاء الْأَعْمَال وَذَلِكَ جِنَايَة من العَبْد وَلَكِن جَوَاز دفع ضَرَر اسْتِدَامَة الْإِحْرَام عَن نَفسه حكم شَرْعِي فيتمكن بِهِ من الْخُرُوج قبل أَدَاء الْأَعْمَال وَكَانَ مَا بَيناهُ نِهَايَة فِي التَّحْقِيق ومراعاة لحقيقة مُوجب النَّهْي وإثباتا بِمُقْتَضَاهُ بِحَسب الْإِمْكَان وَبِهَذَا يتَبَيَّن الْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي على مَا اسْتدلَّ بِهِ الْخصم فَإِن مُطلق الْأَمر يُوجب حسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه لِأَنَّهُ طلب الإيجاد بأبلغ الْجِهَات فتمام ذَلِك بالوجود حَقِيقَة فَكَانَ فِي إِثْبَات صفة الْحسن بِمُقْتَضى الْأَمر على هَذَا الْوَجْه تَحْقِيق الْمَأْمُور بِهِ فَأَما النَّهْي فَطلب الإعدام بأبلغ الْجِهَات وَلَكِن مَعَ بَقَاء اخْتِيَار العَبْد فِيهِ ليَكُون مبتلى كَمَا فِي الْأَمر وَحَقِيقَة ذَلِك إِنَّمَا يتكون بِهِ فِيمَا هُوَ مَشْرُوع وَيبقى بعد النَّهْي مَشْرُوعا(1/87)
فَيثبت مُقْتَضَاهُ على الْوَجْه الَّذِي يُوجِبهُ مَا هُوَ الْمُوجب الْأَصْلِيّ فِيهِ حَقِيقَة وكما أَن الْمَأْمُور بِهِ لَا يصير مَوْجُودا بِمُقْتَضى الْأَمر لِأَنَّهُ يَنْعَدِم بِهِ معنى الِابْتِلَاء فَكَذَلِك الْمنْهِي عَنهُ لَا يَنْعَدِم بِمُجَرَّد النَّهْي لتحقيق معنى الِانْتِهَاء وَإِذا لم يَنْعَدِم بَقِي مَشْرُوعا لَا محَالة
وَبَيَان تَخْرِيج الْمسَائِل على هَذَا الأَصْل أَن نقُول الصَّوْم مَشْرُوع فِي كل يَوْم بِاعْتِبَار أَنه وَقت اقْتِضَاء الشَّهْوَة عَادَة وَالصَّوْم منع النَّفس عَن اقْتِضَاء الشَّهْوَة لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى وَيَوْم الْعِيد كَسَائِر الْأَيَّام فِي هَذَا فَكَانَ الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ وبالنهي لم يَنْعَدِم هَذَا الْمَعْنى ثمَّ النَّهْي لَيْسَ لِأَنَّهُ صَوْم شَرْعِي وَلَكِن لما فِيهِ من معنى رد الضِّيَافَة وَإِلَيْهِ وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَهَذَا الْمَعْنى بِاعْتِبَار صفة الْيَوْم وَهُوَ أَنه يَوْم عيد فَيثبت الْقبْح فِي الصّفة دون الأَصْل وَهُوَ أَنه يكون حرَام الْأَدَاء والمؤدى يكون عَاصِيا بارتكابه مَا هُوَ حرَام وَيبقى أصل الصَّوْم مَشْرُوعا فِي الْوَقْت لِأَنَّهُ مَشْرُوع بِاعْتِبَار أصل الْيَوْم وَلَا قبح فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا يَصح الْتِزَامه بِالنذرِ لِأَنَّهُ بِالنذرِ يصير مُلْتَزما فِي ذمَّته مَا هُوَ عبَادَة مَشْرُوعَة فِي الْوَقْت وَلَا فَسَاد فِي الْمَشْرُوع وَذكر الْيَوْم لبَيَان مِقْدَار مَا الْتَزمهُ على مَا بَينا أَن الْوَقْت معيار للصَّوْم وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله (إِنَّه) لَا يلْزمه بِالشُّرُوعِ وَإِن أفْسدهُ بعد الشُّرُوع لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الشُّرُوع أَدَاء مِنْهُ فَيكون حَرَامًا فَاسِدا فَيكون هَذَا مطالبا بالكف عَنهُ شرعا لَا بإتمامه فَلَا يكون الْإِفْطَار جِنَايَة مِنْهُ على حق الشَّرْع وَلَا يبْقى فِي عهدته حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْقَضَاء فَأَما بِالنذرِ فَلَا يصير مرتكبا لِلْحَرَامِ فَيصح نَذره وَيُؤمر بِالْخرُوجِ عَنهُ بِصَوْم يَوْم آخر وَبِه يتم التَّحَرُّز عَن ارْتِكَاب الْمحرم وَلَكِن لَو صَامَ فِيهِ خرج عَن مُوجب نَذره لِأَنَّهُ الْتزم الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت ونتيقن أَنه أدّى الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت إِذا صَامَ فَيسْقط عَنهُ الْوَاجِب وَإِن كَانَ الْأَدَاء فَاسِدا مِنْهُ كمن نذر أَن يعْتق عبدا بِعَيْنِه فَعمى ذَلِك العَبْد أَو كَانَ أعمى يتَأَدَّى الْمَنْذُور بإعتاقه وَلَا فرق بَينهمَا فَالْعَبْد مستهلك بِاعْتِبَار(1/88)
وَصفه (قَائِم بِاعْتِبَار أَصله وَالصَّوْم فِي هَذَا الْوَقْت مَشْرُوع بِاعْتِبَار أَصله فَاسد الْأَدَاء بِاعْتِبَار وَصفه) وَلِهَذَا لَا يتَأَدَّى وَاجِب آخر بِصَوْم هَذَا الْيَوْم لِأَن ذَلِك وَجب فِي ذمَّته كَامِلا وبصفة الْفساد وَالْحُرْمَة فِي الْأَدَاء يَنْعَدِم الْكَمَال ضَرُورَة وعَلى هَذَا الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فالأداء مَنْهِيّ لِمَعْنى هُوَ صفة الْوَقْت وَهُوَ أَنه وَقت مُقَارنَة الشَّيْطَان الشَّمْس على مَا ورد بِهِ الْأَثر فَلَا يَنْعَدِم أصل الْعِبَادَة مَشْرُوعا فِيهِ وَلَكِن يحرم الْأَدَاء وَيلْزم بِالشُّرُوعِ كَمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَن الصَّلَاة عبَادَة مَعْلُومَة بأركانها وَالْوَقْت ظرف لَهَا لَا معيار فَلَا يصير مُؤديا بِمُجَرَّد الشُّرُوع وَالْمحرم هُوَ الْأَدَاء وَيتَصَوَّر بِهَذَا الشُّرُوع الْأَدَاء بِدُونِ صفة الْحُرْمَة بِأَن يصير حَتَّى تبيض الشَّمْس فَلم يكن الشُّرُوع فَاسِدا كَمَا لم يكن النّذر فَاسِدا فَيلْزمهُ الْقَضَاء لهَذَا وَلَكِن لَا يتَأَدَّى بِهِ وَاجِب آخر لِأَن النَّهْي بِاعْتِبَار وصف الْوَقْت الَّذِي هُوَ ظرف للْأَدَاء يُمكن نُقْصَانا فِي الْأَدَاء وَالْوَاجِب فِي ذمَّته بِصفة الْكَمَال فَلَا يتَأَدَّى بالناقص إِلَّا عصر يَوْمه فَإِن الْوُجُوب بِاعْتِبَار ذَلِك الْجُزْء الَّذِي هُوَ سَبَب وَإِنَّمَا يثبت الْوُجُوب بِصفة النُّقْصَان وَقد أدّى بِتِلْكَ الصّفة فَسقط عَنهُ الْوَاجِب وعَلى هَذَا قُلْنَا البيع الْفَاسِد يكون مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ مُوجبا لحكمه وَهُوَ الْملك إِذا تأيد بِالْقَبْضِ لِأَن الْمَشْرُوع إِيجَاب وَقبُول من أَهله فِي مَحَله وبالشرط الْفَاسِد لَا يخْتل شَيْء من ذَلِك أَلا ترى أَن الشَّرْط لَو كَانَ جَائِزا لم يكن مبدلا لأصله بل يكون مغيرا لوصفه وَالشّرط الْفَاسِد لَا يكون معدما لأصله أَيْضا بل يكون مغيرا لوصفه فَصَارَ فَاسِدا وَلَيْسَ من ضَرُورَة صفة الْفساد فِيهِ انعدام أَصله لِأَن بِالْفَسَادِ يثبت صفة الْحُرْمَة وَهَذَا السَّبَب مَشْرُوع لإِثْبَات الْملك وَملك الْيَمين مَعَ صفة الْحُرْمَة يجْتَمع أَلا ترى أَن من اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو مرتدة يثبت الْملك لَهُ مَعَ الْحُرْمَة وَأَن الْعصير إِذا تخمر يبْقى مَمْلُوكا لَهُ مَعَ الْحُرْمَة فَلهَذَا أثبتنا فِي البيع الْفَاسِد ملكا حَرَامًا مُسْتَحقّ الدّفع لفساد السَّبَب وَلم يَنْعَدِم بِهِ أصل الْمَشْرُوع بِخِلَاف النِّكَاح الْفَاسِد فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاح إِلَّا ملكا ضَرُورِيًّا يثبت بِهِ حل الِاسْتِمْتَاع وَلِهَذَا سمي ذَلِك الْملك حَلَالا فِي نَفسه وَمن ضَرُورَة فَسَاد السَّبَب ثُبُوت صفة الْحُرْمَة وَبَين الْحُرْمَة(1/89)
وَبَين ملك النِّكَاح مُنَافَاة فينعدم الْملك وَمن ضَرُورَة انعدامه خُرُوج السَّبَب من أَن يكون مَشْرُوعا لِأَن الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة ترَاد لأحكامها وَثُبُوت النّسَب وَوُجُوب الْمهْر وَالْعدة من حكم الشُّبْهَة لَا من حكم أصل العقد شرعا وَهَذَا الْكَلَام يَتَّضِح فِي النِّكَاح بِغَيْر شُهُود فَإِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود إِخْبَار عَن عَدمه بِدُونِ هَذَا الشَّرْط فَيكون نفيا لَا نهيا بِمَنْزِلَة قَول الرجل لَا رجل فِي الدَّار وَكَذَلِكَ فِي نِكَاح الْمَحَارِم فَإِن النَّص الْوَارِد فِيهِ تَحْرِيم الْعين بقوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} إِلَى آخر الْآيَة وَلَا يجْتَمع الْحل وَالْحُرْمَة فِي مَحل وَاحِد فَكَانَ ذَلِك نفيا للْحلّ بِالنِّكَاحِ لَا نهيا وَكَذَلِكَ نِكَاح الْمُعْتَدَّة فَإِن قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} مَعْطُوف على قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} مَعْنَاهُ وَحرمت الْمُحْصنَات من النِّسَاء وَذَلِكَ عبارَة عَن مَنْكُوحَة الْغَيْر ومعتدته فَيكون نفيا لَا نهيا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} فقد ظهر بِالدَّلِيلِ أَن الْحُرْمَة الثَّابِتَة بالمصاهرة هِيَ الثَّابِتَة بِالنّسَبِ على أَن تقوم الْمُصَاهَرَة مقَام النّسَب فِي ذَلِك فَكَانَ تَقْدِيره وَحرمت عَلَيْكُم مَا نكح آباؤكم وَتصير صُورَة النَّهْي عبارَة عَنهُ مجَازًا بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى فَكَانَ نفيا كَمَا هُوَ مُوجب النّسخ لَا نهيا وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تنْكح الْأمة على الْحرَّة فَإِنَّهُ إِخْبَار فَيكون نفيا للنِّكَاح مَعَ أَن الدّلَالَة قد قَامَت على أَن الْأمة من جملَة الْمُحرمَات مَضْمُومَة إِلَى الْحرَّة فَإِن الْحل فِيهِ على النّصْف من حل الْحرَّة على مَا نبينه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمن ضَرُورَة حُرْمَة الْمحل انْتِفَاء النِّكَاح الْمَشْرُوع فِيهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ وعَلى هَذَا عقد الرِّبَا فَإِنَّهُ نوع بيع وَلكنه فَاسد لَا بخلل فِي رُكْنه بل لِانْعِدَامِ شَرط الْجَوَاز وَهُوَ الْمُسَاوَاة فِي الْقدر فَكَمَا أَن بِوُجُود شَرط مُفسد لَا يَنْعَدِم أصل الْمَشْرُوع فَكَذَلِك بانعدام شَرط مجوز لَا يَنْعَدِم أصل الْمَشْرُوع وَثُبُوت ملك حرَام بِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ مثل هَذَا السَّبَب
فَإِن قيل قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا}(1/90)
يُوجب نفي أَصله مَشْرُوعا كَقَوْلِه تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} بل أولى لِأَنَّهُ أضَاف هَذَا التَّحْرِيم إِلَى نَفسه وَهُنَاكَ الْحُرْمَة مُضَافَة إِلَى الْأُم
قُلْنَا الرِّبَا عبارَة عَن الْفضل فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} أَي حرم اكْتِسَاب الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض بِسَبَب التِّجَارَة وَنحن نثبت هَذِه الْحُرْمَة وَلَكِن بَينا أَنه لَيْسَ من ضَرُورَة الْحُرْمَة فِي ملك الْيَمين انْتِفَاء أصل الْملك وعَلى هَذَا قُلْنَا بيع العَبْد بِالْخمرِ فَإِن الْخمر فَاسد التقوم شرعا وَلم تنعدم بِهِ أصل الْمَالِيَّة الثَّابِتَة فِيهِ بالتمول فَإِن تموله مَا فسد شرعا لما فِيهِ من عرضية التخلل إِذْ التمول للشَّيْء عبارَة عَن صيانته وادخاره لوقت الْحَاجة وإمساك الْخمر إِلَى أَن يَتَخَلَّل لَا يكون حَرَامًا شرعا بِمَنْزِلَة من أحرم وَله صيد فَإِن الصَّيْد لَا يكون مُتَقَوّما فِي حق تصرفه حَتَّى لَا يتَمَكَّن من التَّصَرُّف فِيهِ وَيكون محرم الْعين فِي حَقه وَلَكِن لَا يَنْعَدِم أصل الْمَالِيَّة فِيهِ بِاعْتِبَار مَاله وَهُوَ مَا بعد التَّحَلُّل من الْإِحْرَام وَلِهَذَا اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز هَذَا البيع فَمنهمْ من يَقُول هُوَ جَائِز بِالْقيمَةِ وَلَو قضى القَاضِي بِهَذَا نفذ قَضَاؤُهُ فَإِذا تبين أَنه لم يَنْعَدِم مَا هُوَ ركن العقد قُلْنَا ينْعَقد العقد مُوجبا حكمه فِي مَحل يقبله وَهُوَ العَبْد وَلَا ينْعَقد مُوجبا للْحكم فِي مَحل لَا يقبله وَهُوَ الْخمر حَتَّى لَا يملك الْخمر وَإِن قَبضه بِحكم العقد بِخِلَاف البيع بالميتة وَالدَّم فَإِنَّهُ لَا مَالِيَّة فِي الْميتَة وَالدَّم بِاعْتِبَار الْحَال وَلَا بِاعْتِبَار الْمَآل وَكَذَلِكَ جلد الْميتَة لَا مَالِيَّة فِيهِ بِاعْتِبَار الْحَال فَإِنَّهُ لَو ترك كَذَلِك فَإِنَّهُ يفْسد وَإِنَّمَا تحدث فِيهِ الْمَالِيَّة بصنع مكتسب وَهُوَ الدباغة وَلِهَذَا اتّفق الْعلمَاء على بطلَان هَذَا العقد وَلَو قضى قَاض بِجَوَازِهِ لم ينفذ قَضَاؤُهُ فلانعدام مَا هُوَ ركن العقد لم ينْعَقد العقد لِأَن انْعِقَاده شرعا لَا يكون بِدُونِ رُكْنه وعَلى هَذَا جَوَّزنَا بيع الدّهن الَّذِي وَقع فِيهِ نَجَاسَة لِأَن الدّهن مَال مُتَقَوّم وبوقوع النَّجَاسَة فِيهِ مَا انْعَدم أَصله وَلَا تغير وَصفه إِنَّمَا جاوره أَجزَاء النَّجَاسَة ولأجله حرم تنَاوله فَيكون بِمَنْزِلَة النَّهْي الَّذِي ورد لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ وَهُوَ غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا وَمثل هَذَا النَّهْي لَا يمْنَع جَوَاز العقد كَمَا لَا يمْنَع كَمَال الْعِبَادَة وَلِهَذَا يتَأَدَّى الْفَرْض بأَدَاء الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة(1/91)
ويتأدى صَوْم الْفَرْض فِي أَيَّام الْوِصَال إِذا نَوَاه لِأَن النَّهْي بالمجاورة لَا لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي يُؤدى فِيهِ الصَّوْم إِلَّا أَن الْوِصَال لَا يتَحَقَّق لِأَن الشَّرْع أخرج زمَان اللَّيْل من أَن يكون وقتا لركن الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك بِاعْتِبَار أَن الْإِمْسَاك فِيهِ عَادَة فَكَانَ ذَلِك نسخا استعير لفظ النَّهْي لَهُ مجَازًا وَلَا كَلَام فِي جَوَاز ذَلِك إِنَّمَا الْكَلَام فِي مُوجب النَّهْي حَقِيقَة
ثمَّ فِي البيع يُمكن تَمْيِيز الدّهن مِمَّا جاوره حكما فَيكون البيع متناولا للدهن دون النَّجَاسَة وَفِي التَّنَاوُل لَا يُمكن تَمْيِيز الدّهن مِمَّا جاوره فَلَا يحل تنَاوله فَلهَذَا جَازَ بيع الثَّوْب النَّجس وَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا العَاصِي فِي سَفَره يترخص بالرخص لِأَن سَبَب الرُّخْصَة السّير المديد وَهُوَ مَوْجُود بِصفة الْكَمَال لَا قبح فِي أَصله وَلَا فِي صفته وَإِنَّمَا الْقبْح فِي معنى جاوره وَهُوَ قَصده إِلَى قطع الطَّرِيق أَو تمرد العَبْد على مَوْلَاهُ أَلا ترى أَنه إِذا ترك قَصده بِقصد الْحَج خرج من أَن يكون عَاصِيا وَلم يتَغَيَّر سَفَره وَإِنَّمَا تبدل قَصده وَكَذَلِكَ العَبْد إِذا لحقه إِذن مَوْلَاهُ لم يتَغَيَّر سَفَره وَخرج من أَن يكون عَاصِيا وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} إِن هَذَا النَّهْي لَا يعْدم أصل الشَّهَادَة للقاذف حَتَّى ينْعَقد النِّكَاح بِشَهَادَتِهِ وَلَكِن يفْسد أَدَاؤُهُ حَتَّى يخرج من أَن يكون أَهلا للعان لِأَن اللّعان أَدَاء وأداؤه فَاسد بعد هَذَا النَّهْي الْمُطلق وعَلى هَذَا قُلْنَا الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن الزِّنَا قَبِيح لعَينه وَحُرْمَة الْمُصَاهَرَة لَيست تثبت بِالزِّنَا وَلَا بِالْوَطْءِ الْحَلَال بِعَيْنِه إِنَّمَا الأَصْل فِيهِ الْوَلَد الْمَخْلُوق من الماءين وَهُوَ مُحْتَرم مَخْلُوق بِخلق الله تَعَالَى على أَي وَجه اجْتمع الماءان فِي الرَّحِم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَلَا يتَمَكَّن فِيهِ صفة الْقبْح وَتثبت الْحُرْمَة بطرِيق الْكَرَامَة لَهُ ثمَّ تتعدى الْحُرْمَة إِلَى أَطْرَافه وَإِلَى أَسبَاب خلقه فيقام السَّبَب وَهُوَ الْوَطْء فِي الْمحل الصَّالح لحدوث الْوَلَد فِيهِ مقَام نفس الْوَلَد فِي إِثْبَات الْحُرْمَة وَمَا قَامَ مقَام غَيره فِي إِثْبَات حكم فَإِنَّمَا تراعى صَلَاحِية السَّبَب للْحكم فِي الأَصْل لَا فِيمَا قَامَ مقَامه بِمَنْزِلَة التُّرَاب فَإِنَّهُ قَائِم مقَام المَاء فِي الطَّهَارَة وصلاحية(1/92)
السَّبَب لهَذَا الحكم فِي اسْتِعْمَال المَاء الَّذِي هُوَ الأَصْل لَا فِي اسْتِعْمَال التُّرَاب فَإِنَّهُ تلويث وَلِهَذَا لم يكن وَطْء الْميتَة والإتيان فِي غير المأتى وَوَطْء الصَّغِيرَة مُوجبا الْحُرْمَة لِأَن قيام الْوَطْء مقَام الْوَلَد فِي هَذَا الحكم بِاعْتِبَار كَون الْمحل محلا يخلق فِيهِ الْوَلَد وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي هَذِه الْمَوَاضِع وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي اسْتِيلَاء الْكفَّار على أَمْوَالنَا إِذا تمّ بالإحراز فَهُوَ مُوجب للْملك لِأَن صفة الْحُرْمَة والقبح لهَذَا الْفِعْل بِوَاسِطَة الْعِصْمَة فِي الْمحل وَهَذِه الْوَاسِطَة ثَابِتَة من طَرِيق الحكم فِي حَقنا لَا فِي حَقهم فَإِنَّهُم لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك وَولَايَة الْإِلْزَام مُنْقَطِعَة بانعدام ولايتنا عَنْهُم فِي دَار الْحَرْب لِأَن هَذِه الْوَاسِطَة هِيَ الْعِصْمَة الثَّابِتَة بالإحراز بدار الْإِسْلَام عندنَا وَقد انْتَهَت هَذِه الْعِصْمَة بانتهاء سَببهَا حِين أحرزوها بدارهم حَتَّى إِن فِي زمَان الْإِحْرَاز لما كَانَت الْعِصْمَة عَن الاسترقاق بِالْحُرِّيَّةِ المتأكدة بِالْإِسْلَامِ وَلم تَنْتَهِ بالإحراز الْمَوْجُود مِنْهُم قُلْنَا لَا يملكُونَ رقابنا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْغَصْب سَبَب مُوجب للْملك عِنْد تقرر الضَّمَان لِأَنَّهُ قَبِيح بِأَنَّهُ غصب وَالْملك لَا يثبت بِهِ وَإِنَّمَا يثبت الْملك للْغَاصِب بتملك الْمَغْصُوب مِنْهُ بدله وَهُوَ الْقيمَة عَلَيْهِ وَهَذَا حكم شَرْعِي لَا قبح فِيهِ بل فِيهِ حِكْمَة بَالِغَة وَهُوَ التَّحَرُّز عَن فضل خَال عَن الْعِوَض سَالم للْمَغْصُوب مِنْهُ شرعا فَإِنَّهُ إِذا اجْتمع الأَصْل وَالْبدل فِي ملكه يتَحَقَّق هَذَا الْمَعْنى فِيهِ مَعَ أَن الْملك إِنَّمَا لَا يبْقى للْمَغْصُوب مِنْهُ ليتم بِهِ شَرط سَلامَة الضَّمَان لَهُ فَإِن الضَّمَان ضَمَان جبر وَإِنَّمَا يجْبر الْفَائِت لَا الْقَائِم فَكَانَ انعدام ملكه فِي الْعين شرطا لِسَلَامَةِ الضَّمَان لَهُ وَشرط الشَّيْء تبعه فَإِنَّمَا تراعى صَلَاحِية السَّبَب فِي الأَصْل لَا فِي التبع وَفِي الْمُدبر على هَذَا الطَّرِيق نقُول لما سلم الضَّمَان للْمَغْصُوب مِنْهُ بِجعْل الأَصْل زائلا عَن ملكه حكما لِأَن الْمُدبر مُحْتَمل لذَلِك وَلِهَذَا لَو اكْتسب هُوَ كسبا ثمَّ لم يرجع من إباقه حَتَّى مَاتَ كَانَ ذَلِك الْكسْب للْغَاصِب وَإِنَّمَا لم يثبت الْملك للْغَاصِب فِيهِ صِيَانة لحق الْمُدبر وَالتَّدْبِير مُوجب حق الْعتْق لَهُ عِنْد الْمَوْت وَلِهَذَا امْتنع بَيْعه وَفِي الْقِنّ بعد مَا زَالَ ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا مَانع(1/93)
من دُخُوله فِي ملك الْغَاصِب الضَّامِن وَهَذَا أَحَق النَّاس بِهِ لِأَنَّهُ ملك عَلَيْهِ بدله أَو نقُول فِي الْمُدبر لَا يُمكن أَن يَجْعَل الضَّمَان بَدَلا عَن الْعين لِأَن من شَرطه انعدام ملكه فِي الْعين وَهَذَا الشَّرْط لَا يُمكن إيجاده بِحَق الْمُدبر فَجعلنَا الضَّمَان ضَمَان الْجِنَايَة وَاجِبا بِاعْتِبَار الْجِنَايَة على يَده وَهَذَا جَائِز عِنْد الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي الْقِنّ فَيجْعَل بَدَلا عَن الْعين وَلِهَذَا قُلْنَا لَو أَخذ الْقيمَة بطرِيق الصُّلْح بِغَيْر قَضَاء القَاضِي لَا يملك عَلَيْهِ الْمُدبر وَيملك عَلَيْهِ الْقِنّ
وَهَذَا طَرِيق فِي تَخْرِيج جنس هَذِه الْمسَائِل
فصل فِي بَيَان حكم الْأَمر وَالنَّهْي فِي أضدادهما
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن الْعلمَاء يَخْتَلِفُونَ فيهمَا جَمِيعًا فنبين كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد ليَكُون أوضح
أما بَيَان حكم الْأَمر فقد قَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا حكم لِلْأَمْرِ فِي ضِدّه
وَقَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله الْأَمر بالشَّيْء يُوجب النَّهْي عَن ضِدّه سَوَاء كَانَ لَهُ ضد وَاحِد أَو أضداد
وَقَالَ بَعضهم يُوجب كَرَاهَة ضِدّه وَالْمُخْتَار عندنَا أَنه يَقْتَضِي كَرَاهَة ضِدّه وَلَا نقُول إِنَّه يُوجِبهُ أَو يدل عَلَيْهِ مُطلقًا
وَحجَّة الْفَرِيق الأول أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ وَالسُّكُوت عَنهُ لَا يكون مُوجبا شَيْئا أَلا ترى أَن التَّعْلِيق بِشَرْط لَا يُوجب نفي الْمُعَلق قبل وجود الشَّرْط لِأَنَّهُ مسكوت عَنهُ فَيبقى على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق فَهُنَا أَيْضا الضِّدّ مسكوت عَنهُ فَيبقى على مَا كَانَ قبل الْأَمر
يقرره أَن الْأَمر فِيمَا وضع لَهُ لَا يُوجب حكما فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ النَّص إِلَّا بطرِيق التَّعْدِيَة إِلَيْهِ بعد التَّعْلِيل فَلِأَن لَا يُوجب حكما فِي ضد مَا وضع لَهُ كَانَ أولى وعَلى قَول هَؤُلَاءِ الذَّم وَالْإِثْم على من ترك الائتمار بِاعْتِبَار أَنه لم يَأْتِ بِمَا أَمر بِهِ
قَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله وَهُوَ قَول قَبِيح فَإِن فِيهِ قولا بِاسْتِحْقَاق العَبْد الْعقُوبَة على مَا لم يَفْعَله وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار فعل فعله العَبْد ثمَّ إِنَّه بنى مذْهبه على أَن الْأَمر الْمُطلق يُوجب الائتمار على الْفَوْر فَقَالَ من ضَرُورَة وجوب الائتمار على الْفَوْر حُرْمَة التّرْك الَّذِي هُوَ ضِدّه وَالْحُرْمَة حكم النَّهْي فَكَانَ مُوجبا للنَّهْي عَن ضِدّه بِحكمِهِ
يُوضحهُ أَن الْأَمر طلب الإيجاد للْمَأْمُور بِهِ على(1/94)
أبلغ الْجِهَات والاشتغال بضده يعْدم مَا وَجب بِالْأَمر وَهُوَ الإيجاد فَكَانَ حَرَامًا مَنْهِيّا عَنهُ لمقْتَضى حكم الْأَمر وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا يكون ضد وَاحِد أَو أضداد فَبِأَي ضد اشْتغل يَنْعَدِم مَا هُوَ الْمَطْلُوب أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ لغيره اخْرُج من هَذِه الدَّار سَوَاء اشْتغل بالقعود فِيهَا أَو الِاضْطِجَاع أَو الْقيام يَنْعَدِم مَا أَمر بِهِ وَهُوَ الْخُرُوج
وَهَذَا هُوَ الْحجَّة للفريق الثَّالِث إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ حُرْمَة الضِّدّ بِهَذَا الطَّرِيق تثبت بِوَاسِطَة حكم الْأَمر فَإِنَّمَا ثَبت أدنى الْحُرْمَة فِيهِ لِأَن مَا ثَبت بطرِيق الدّلَالَة لَا يكون مثل الثَّابِت بِالنَّصِّ وَالثَّابِت بِالنَّصِّ ثَابت من كل وَجه وَهَذَا ثَابت من وَجه دون وَجه لتحقيق حكم الْأَمر وَيَكْفِي لذَلِك أدنى الْحُرْمَة بِمَنْزِلَة حُرْمَة تثبت بِالنَّهْي لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ غير مُتَّصِل بِالنَّهْي عَنهُ فَتثبت بِهِ الْكَرَاهَة فَقَط
وَوجه القَوْل الْمُخْتَار هَذَا الْكَلَام أَيْضا إِلَّا أَنا نقُول ثُبُوت الْحُرْمَة بطرِيق الِاقْتِضَاء هُنَا لِأَن طلب الْوُجُود بِالْأَمر يَقْتَضِي حُرْمَة الضِّدّ وَلَا يثبت بِدلَالَة النَّص إِلَّا مثل مَا هُوَ ثَابت بِالنَّصِّ أَو أقوى مِنْهُ كالتنصيص على حُرْمَة التأفيف بِدَلِيل حُرْمَة الشتم لِأَن فِيهِ ذَلِك الْأَذَى وَزِيَادَة فَأَما مَا ثَبت بطرِيق الِاقْتِضَاء فَهُوَ ثَابت لأجل الضَّرُورَة وَإِنَّمَا يثبت بِقدر مَا ترْتَفع بِهِ الضَّرُورَة وَوُجُود أحد الضدين يَقْتَضِي انْتِفَاء الضِّدّ الآخر كالليل مَعَ النَّهَار فَكَانَ وجوب الْأَدَاء بِالْأَمر مقتضيا نفي الضِّدّ وَإِنَّمَا حرم الضِّدّ بِهَذَا الِاقْتِضَاء فَلهَذَا قُلْنَا إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي كَرَاهَة ضِدّه لَا أَن يكون مُوجبا لَهُ أَو دَلِيلا عَلَيْهِ
وَمَا ذكره الْجَصَّاص أَن مُطلق الْأَمر يُوجب الائتمار على الْفَوْر دَعْوَى مِنْهُ وَقد ذكرنَا أَن الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك
وَالْجَوَاب عَمَّا قَالَه الْفَرِيق الأول أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ يَتَّضِح بالتقرير الَّذِي قُلْنَا فِي وَجه الْمُخْتَار وَهُوَ أَن ثُبُوت كَرَاهَة ضِدّه بطرِيق الِاقْتِضَاء والمقتضى مسكوت عَنهُ فَإِن مَا يكون مَنْصُوصا عَلَيْهِ لَا يكون ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا خلاف بَيْننَا وَبينهمْ أَن الِاقْتِضَاء طَرِيق صَحِيح لإِثْبَات الْمُقْتَضى وَإِن كَانَ مسكوتا عَنهُ بعد أَن يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِير التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِن ذَلِك يُوجب وجود الحكم ابْتِدَاء عِنْد وجود الشَّرْط وَمن ضَرُورَة وجود الحكم عِنْد وجود الشَّرْط ابْتِدَاء أَن لَا يكون مَوْجُودا قبله وَلَكِن انعدامه قبل وجود الشَّرْط عدم أُصَلِّي فَلَا يصير مُضَافا إِلَى الْوُجُود عِنْد وجود الشَّرْط نصا وَلَا اقْتِضَاء لِأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلا معدما يُضَاف إِلَيْهِ وَأما هَهُنَا وجوب الْإِقْدَام على الإيجاد(1/95)
يَقْتَضِي حُرْمَة التّرْك وَالْحُرْمَة الثَّابِتَة بِمُقْتَضى الشَّيْء تكون مُضَافا إِلَيْهِ فَجعلنَا قدر مَا يثبت من الْحُرْمَة وَهُوَ الْمُوجب للكراهة مُضَافا إِلَى الْأَمر اقْتِضَاء
وَإِذا تبين حكم الْأَمر فَكَذَلِك حكم النَّهْي فِي ضِدّه على هَذِه الْأَقَاوِيل الْأَرْبَعَة
فالفريق الأول يَقُولُونَ لَا حكم لَهُ فِي ضِدّه لِأَنَّهُ مسكوت عَنهُ ويستدلون على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} فَإِنَّهُ لَا يكون أمرا بضده وَهُوَ ترك قتل النَّفس إِذْ لَو كَانَ أمرا بِهِ لَكَانَ تَارِك قتل النَّفس مباشرا لفعل الطَّاعَة وَهُوَ الائتمار بِالْأَمر فَإِنَّهُ يكون مُسْتَحقّ الثَّوَاب الْمَوْعُود للمطيعين وَهَذَا فَاسد
وَقَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله النَّهْي عَن الشَّيْء يُوجب ضِدّه إِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد وَإِن كَانَ لَهُ أضداد فَلَا مُوجب لَهُ فِي شَيْء من أضداده وَبَين ذَلِك فِي الْحَرَكَة والسكون فَإِن قَول الْقَائِل لَا تتحرك يكون أمرا بضده وَهُوَ السّكُون لِأَن للمنهي عَنهُ ضدا وَاحِدًا وَقَوله لَا تسكن لَا مُوجب لَهُ فِي ضِدّه لِأَن لَهُ أضدادا وَهِي الْحَرَكَة من الْجِهَات السِّت فَإِن السّكُون يَنْعَدِم من أَي جَانب كَانَت الْحَرَكَة فَلَا يتَعَيَّن وَاحِد من الأضداد مَأْمُورا بِهِ بِمُوجب النَّهْي وَإِذا قَالَ لغيره لَا تقم فللمنهي عَنهُ أضداد من الْقعُود والاضطجاع فَلَا مُوجب لهَذَا النَّهْي فِي شَيْء من أضداده
قَالَ لِأَن مُوجب النَّهْي إعدام الْمنْهِي عَنهُ بأبلغ الْوُجُوه وَإِذا كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فَمن ضَرُورَة وجوب الإعدام الْكَفّ عَن الإيجاد فَيكون النَّهْي مُوجبا الْأَمر بالضد بِحكمِهِ
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} فَإِنَّهُ نهى عَن الكتمان وَهُوَ مُوجب الْأَمر بالإظهار وَلِهَذَا وَجب قبُول قَوْلهَا فِيمَا تخبره لِأَنَّهَا مأمورة بالإظهار وَنهى الْمحرم عَن لبس الْمخيط لَا يكون أمرا بِلبْس شَيْء عين من غير الْمخيط لِأَن للمنهي عَنهُ أضدادا هُنَا وبحكم النَّهْي لَا يثبت الْأَمر بِجَمِيعِ الأضداد وَلَيْسَ بَعْضهَا بِأولى من الْبَعْض
يُوضح الْفرق بَينهمَا أَن مَعَ التَّصْرِيح بِالنَّهْي فِيمَا لَهُ ضد وَاحِد لَا يَسْتَقِيم التَّصْرِيح بِالْإِبَاحَةِ فِي الضِّدّ فَإِنَّهُ لَو قَالَ نهيتك عَن التحرك وأبحت لَك السّكُون أَو أَنْت بِالْخِيَارِ فِي السّكُون كَانَ كلَاما مختلا لِأَن مُوجب النَّهْي تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ وَمَعَ تَحْرِيمه لَا يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي ضِدّه لِاسْتِحَالَة انعدامهما جَمِيعًا وَصفَة الْإِبَاحَة تَقْتَضِي(1/96)
التَّخْيِير وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد مَا ذهب إِلَيْهِ الْفَرِيق الأول من أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ وَلَا تعويل على استدلالهم بِالنَّهْي عَن قتل النَّفس لأَنا نجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بالكف عَن قتل النَّفس لتحقيق مُوجب النَّهْي وَالنَّاس تكلمُوا فِي أَن الْأَمر بالكف عَن قتل النَّفس مَا حكمه مِنْهُم من قَالَ معنى الِابْتِلَاء لَا يتَحَقَّق فِي مثل هَذَا لِأَن طبع كل وَاحِد يحملهُ على ذَلِك ونيل الثَّوَاب فِي الْعَمَل بِخِلَاف هوى النَّفس ليتَحَقَّق فِيهِ الِابْتِلَاء
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه ينَال بِهِ ثَوَاب المطيعين عِنْد قصد امْتِثَال الْأَمر وَإِظْهَار الطَّاعَة وَهَكَذَا نقُول إِذا ثَبت ذَلِك بِحكم النَّهْي فَأَما إِذا كَانَ للمنهي عَنهُ أضداد يَسْتَقِيم التَّصْرِيح بِالْإِبَاحَةِ فِي جَمِيع الأضداد بِأَن تَقول لَا تسكن وأبحت لَك التحرك من أَي جِهَة شِئْت فَعرفنَا أَنه لَا مُوجب لهَذَا النَّهْي فِي شَيْء من الأضداد وَقَول من يَقُول بِأَن مثل هَذَا النَّهْي يكون أمرا بأضداده يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر من العَبْد فعل مُبَاح أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ فَإِن الْمنْهِي عَنهُ محرم وأضداده وَاجِب بِالْأَمر الثَّابِت بِمُقْتَضى النَّهْي فَكيف يتَصَوَّر مِنْهُ فعل مُبَاح أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ وَفِي اتِّفَاق الْعلمَاء على أَن أَقسَام الْأَفْعَال الَّتِي يَأْتِي بهَا العَبْد عَن قصد أَرْبَعَة وَاجِب ومندوب إِلَيْهِ ومباح ومحظور دَلِيل على فَسَاد قَول هَذَا الْقَائِل
وَأما الْفَرِيق الثَّالِث فَيَقُولُونَ مُوجب النَّهْي فِي ضِدّه إِثْبَات سنة تكون فِي الْقُوَّة كالواجب لِأَن هَذَا أَمر ثَبت بطرِيق الدّلَالَة فَيكون مُوجبه دون مُوجب الثَّابِت بِالنَّصِّ وعَلى القَوْل الْمُخْتَار يحْتَمل أَن يكون مقتضيا هَذَا الْمِقْدَار على قِيَاس مَا بَينا فِي الْأَمر وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ للمنهي عَنهُ أضداد فَإِنَّهُ يثبت هَذَا الْقدر من الْمُقْتَضِي فِي أَي أضداده يَأْتِي بِهِ الْمُخَاطب وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَن النَّهْي عَن لبس الْمخيط فِي حَالَة الْإِحْرَام يثبت أَن السّنة لبس الْإِزَار والرداء وَذَلِكَ أدنى مَا يَقع بِهِ الْكِفَايَة من غير الْمخيط
فَأَما قَوْله {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} فَهُوَ نسخ وَلَيْسَ بنهي بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أمرا بالإظهار بِوَاسِطَة أَن الكتمان لم يبْق مَشْرُوعا وَهُوَ نَظِير قَوْله لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود وَقد(1/97)
بَينا تَحْقِيق هَذَا الْمَعْنى فِيمَا سبق فَأَما بَيَان فَائِدَة الأَصْل الْمَذْكُور فِي هَذَا الْفَصْل من مسَائِل الْفِقْه أَن نقُول لما كَانَ الْأَمر مقتضيا كَرَاهَة الضِّدّ لم يكن ضِدّه مُفْسِدا لِلْعِبَادَةِ إِلَّا أَن يكون مفوتا لما هُوَ وَاجِب بِصِيغَة الْأَمر وَلَكِن يكون مَكْرُوها فِي نَفسه فَإِن الْمَأْمُور بِالْقيامِ فِي الصَّلَاة إِذا قعد لَا تفْسد صلَاته لِأَنَّهُ لم يفت بِهَذَا الضِّدّ مَا هُوَ الْوَاجِب بِالْأَمر وَهُوَ الْقيام إِذا أَتَى بِهِ بعد الْقعُود وَلَكِن الْقعُود مَكْرُوه فِي نَفسه وَلكَون النَّهْي مقتضيا فِي ضِدّه مَا بَينا من صفة السّنة قُلْنَا لَا يَنْعَدِم بالضد مَا هُوَ مُوجب صِيغَة النَّهْي فَإِن ركن الْعدة الِامْتِنَاع من الْخُرُوج والتزوج ثَبت ذَلِك بِصِيغَة النَّهْي قَالَ تَعَالَى {وَلَا يخْرجن} وَقَالَ {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح} فَإِن فعلت ذَلِك لم يَنْعَدِم بِهِ مَأْمُور مَا هُوَ ركن الِاعْتِدَاد حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة بِخِلَاف الْكَفّ فِي بَاب الصَّوْم فَإِنَّهُ وَاجِب بِصِيغَة الْأَمر نصا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فينعدم الْأَدَاء بِمُبَاشَرَة الضِّدّ وَهُوَ الْأكل وعَلى هَذَا قُلْنَا العدتان تنقضيان بِمُضِيِّ مُدَّة وَاحِدَة لِأَن الْكَفّ فِي الْعدة ثَابت بِمُقْتَضى النَّهْي وَلَا تضايق فِيمَا هُوَ مُوجب النَّهْي نصا وَهُوَ التَّحْرِيم وَلَا يتَحَقَّق أَدَاء الصومين فِي يَوْم وَاحِد لتضايق الْوَقْت فِي ركن كل صَوْم وَهُوَ الْكَفّ إِلَى وَقت فَإِنَّهُ ثَابت بِالْأَمر نصا وَلَا يتَحَقَّق اجْتِمَاع الْكَفَّيْنِ فِي وَقت وَاحِد وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله من سجد فِي صلَاته على مَكَان نجس ثمَّ سجد على مَكَان طَاهِر جَازَت صلَاته لِأَن الْمَأْمُور بِهِ السُّجُود على مَكَان طَاهِر ومباشرة الضِّدّ بِالسُّجُود على مَكَان نجس لَا يفوت الْمَأْمُور بِهِ فَيكون مَكْرُوها فِي نَفسه وَلَا يكون مُفْسِدا للصَّلَاة وعَلى قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تفْسد بِهِ الصَّلَاة لِأَن تأدي الْمَأْمُور بِهِ لما كَانَ بِاعْتِبَار الْمَكَان فَمَا يكون صفة للمكان الَّذِي يُؤدى الْفَرْض عَلَيْهِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة الصّفة لَهُ حكما فَيصير هُوَ كالحامل للنَّجَاسَة إِذا سجد على مَكَان نجس والكف عَن حمل النَّجَاسَة مَأْمُور بِهِ فِي جَمِيع الصَّلَاة فَيفوت ذَلِك بِالسُّجُود على مَكَان نجس كَمَا أَن الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشَّهْوَة لما كَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي جَمِيع وَقت الصَّوْم يتَحَقَّق الْفَوات بِالْأَكْلِ فِي جُزْء من الْوَقْت فِيهِ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف بترك الْقِرَاءَة فِي شفع من التَّطَوُّع لَا يخرج عَن حُرْمَة الصَّلَاة لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاة وَذَلِكَ نهي عَن ضِدّه اقْتِضَاء فَترك الْقِرَاءَة مَا لم يكن مفوتا للْفَرض لَا(1/98)
يكون مُفْسِدا وَمَعَ احْتِمَال أَدَاء شفع آخر بِهَذِهِ التَّحْرِيمَة لَا يتَحَقَّق فَوَات هَذَا الْفَرْض فَتبقى التَّحْرِيمَة صَحِيحَة قَابِلَة لبِنَاء شفع آخر عَلَيْهَا وَإِن فسد أَدَاء الشفع الأول بترك الْقِرَاءَة
وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله الْقِرَاءَة فرض من أول الصَّلَاة إِلَى آخرهَا حكما وَلِهَذَا لَا يصلح الْأُمِّي خَليفَة للقارىء وَإِن كَانَ قد رفع رَأسه من السَّجْدَة الْأَخِيرَة وأتى بِفَرْض الْقِرَاءَة فِي محلهَا وَإِذا كَانَ مستديما حكما يتَحَقَّق فَوَات مَا هُوَ الْفَرْض بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة فَيخرج بِهِ من تحريمة الصَّلَاة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله كل شفع من التَّطَوُّع صَلَاة على حِدة وَلِهَذَا تفترض الْقِرَاءَة فِي كل رَكْعَة من الشفع عندنَا كَمَا تفترض فِي كل رَكْعَة من الْفجْر إِلَّا أَن بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة من التَّطَوُّع لَا يفوت مَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ من الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة نصا فَلَا تَنْقَطِع التَّحْرِيمَة وبترك الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ يفوت مَا هُوَ الْفَرْض قطعا فَيكون ذَلِك قطعا للتحريمة وَهَكَذَا نقُول فِي الْفجْر فَإِن بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة يفْسد الْفَرْض وَلَكِن لَا تنْحَل التَّحْرِيمَة بل تنْقَلب تَطَوّعا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَقُول فِي التَّطَوُّع احْتِمَال بِنَاء شفع آخر عَلَيْهِ قَائِم فَإِذا فعل ذَلِك كَانَ الْكل فِي حكم صَلَاة وَاحِدَة وَلَا تَنْقَطِع التَّحْرِيمَة بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة مِنْهَا وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال غير مَوْجُود فِي الْفجْر حَتَّى إِن فِي ظهر الْمُسَافِر لبَقَاء هَذَا الِاحْتِمَال بنية الْإِقَامَة قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله لَا تفْسد بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة مِنْهَا حَتَّى إِذا نوى الْإِقَامَة أتم صلَاته وَقضى مَا ترك من الْقِرَاءَة فِي الشفع الثَّانِي فيجزيه ذَلِك وعَلى هَذَا نقُول إِن بترك الْقِرَاءَة فِي التَّطَوُّع فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا لَا تنْحَل التَّحْرِيمَة عِنْده لاحْتِمَال بِنَاء شفع آخر عَلَيْهِ كَمَا فِي فصل الْمُسَافِر وَلكنه يفْسد لتحَقّق فَوَات مَا هُوَ فرض فِي هَذِه الصَّلَاة فَإِنَّهُ وَإِن بنى الشفع الثَّانِي على تحريمته لَا يخرج بِهِ من أَن يكون الشفع الأول صَلَاة على حِدة حَقِيقَة وَحكما وَلِهَذَا لَا يفْسد الشفع الأول بمفسد يعْتَرض فِي الشفع الثَّانِي والمسائل الَّتِي تخرج على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها وَالله أعلم(1/99)
فصل فِي بَيَان أَسبَاب الشَّرَائِع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْأَمر وَالنَّهْي على الْأَقْسَام الَّتِي بيناها لطلب أَدَاء المشروعات فَفِيهَا معنى الْخطاب بِالْأَدَاءِ بعد الْوُجُوب بِأَسْبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا لوُجُوب المشروعات والموجب هُوَ الله تَعَالَى حَقِيقَة لَا تَأْثِير للأسباب فِي الْإِيجَاب بأنفسها وَالْخطاب يَسْتَقِيم أَن يكون سَببا مُوجبا للمشروعات إِلَّا أَن الله تَعَالَى جعل أسبابا أخر سوى الْخطاب سَبَب الْوُجُوب تيسيرا لِلْأَمْرِ على الْعباد حَتَّى يتَوَصَّل إِلَى معرفَة الْوَاجِبَات بِمَعْرِِفَة الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة وَقد دلّ على مَا بَينا قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} فَإِن الْألف وَاللَّام دَلِيل على أَن المُرَاد أقِيمُوا الصَّلَاة الَّتِي أوجبتها عَلَيْكُم بِالسَّبَبِ الَّذِي جعلته سَببا لَهَا وأدوا الزَّكَاة الْوَاجِبَة عَلَيْكُم بِسَبَبِهَا كَقَوْل الْقَائِل أد الثّمن فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ الْخطاب بأَدَاء الثّمن الْوَاجِب بِسَبَبِهِ وَهُوَ البيع
ثمَّ أصل الْوُجُوب فِي المشروعات جبر لَا صنع للْعَبد فِيهِ وَلَا اخْتِيَار فَإِن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى تعبد الْعباد بِمَا أوجبهَا عَلَيْهِم فَكَمَا لَا صنع لَهُم فِي صفة الْعُبُودِيَّة الثَّابِتَة عَلَيْهِم لَا صنع لَهُم فِي أصل الْوُجُوب وَبِاعْتِبَار الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع سَببا لَا اخْتِيَار لَهُم فِي أصل الْوُجُوب أَيْضا كَمَا أَنه لَا اخْتِيَار لَهُم فِي السَّبَب فَأَما وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بِالْخِطَابِ لَا يَنْفَكّ عَن اخْتِيَار يكون فِيهِ للْعَبد عِنْد الْأَدَاء وَبِه يتَحَقَّق معنى الْعِبَادَة والابتلاء فِي الْمُؤَدِّي وَهَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِقدر الوسع شرعا وأصل الْوُجُوب يثبت بتقرر السَّبَب مَعَ انعدام الْخطاب بِالْأَدَاءِ الثَّابِت بِالْأَمر وَالنَّهْي فَإِن من مضى عَلَيْهِ وَقت الصَّلَاة وَهُوَ نَائِم تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة حَتَّى يُؤدى الْفَرْض إِذا انتبه فالخطاب مَوْضُوع عَن النَّائِم وَكَذَلِكَ الْمغمى عَلَيْهِ إِذا لم يبْق لتِلْك الصّفة أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة أَو الْمَجْنُون إِذا لم يَزْدَدْ جُنُونه على يَوْم وَلَيْلَة يثبت حكم وجوب الصَّلَاة(1/100)
فِي حَقه حَتَّى يلْزمه الْقَضَاء وَالْخطاب مَوْضُوع عَنهُ أَلا ترى أَن الْمَجْنُون أَو الْمغمى عَلَيْهِ لَو كَانَ كَافِرًا فَكَمَا أَفَاق أسلم لم تلْزمهُ قَضَاء الصَّلَوَات لما لم يثبت الْوُجُوب فِي تِلْكَ الْحَالة فِي حَقه لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة فَإِن الْأَسْبَاب إِنَّمَا توجب على من يكون أَهلا للْوُجُوب عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمغمى عَلَيْهِ فِي جَمِيع شهر رَمَضَان أَو الْمَجْنُون فِي بعض الشَّهْر يثبت الْوُجُوب فِي حَقّهمَا حَتَّى يجب الْقَضَاء بعد الْإِفَاقَة وَالْخطاب مَوْضُوع عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ الزَّكَاة على أصل الْخصم تجب على الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالْخطاب مَوْضُوع عَنْهُمَا وبالاتفاق يجب عَلَيْهِمَا الْعشْر وَصدقَة الْفطر وَكَذَلِكَ يجب عَلَيْهِمَا حُقُوق الْعباد عِنْد تحقق الْأَسْبَاب مِنْهُمَا أَو من الْوَلِيّ على سَبِيل النِّيَابَة عَنْهُمَا كالصداق الَّذِي يلْزمهُمَا بتزويج الْوَلِيّ إيَّاهُمَا وَالْعِتْق الَّذِي يسْتَحقّهُ الْقَرِيب عَلَيْهِمَا عِنْد دُخُوله فِي ملكهمَا بِالْإِرْثِ وَإِن كَانَ الْخطاب مَوْضُوعا عَنْهُمَا
إِذا تقرر هَذَا فَنَقُول الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع مُوجبا للمشروعات هِيَ الْأَسْبَاب الَّتِي تُضَاف المشروعات إِلَيْهَا وتتعلق بهَا شرعا لِأَن إِضَافَة الشَّيْء إِلَى الشَّيْء فِي الْحَقِيقَة تدل على أَنه حَادث بِهِ كَمَا يُقَال كسب فلَان أَي حدث لَهُ باكتسابه وَقد يُضَاف إِلَى الشَّرْط مجَازًا أَيْضا على معنى أَن وجوده يكون عِنْد وجود الشَّرْط وَلَكِن الْمُعْتَبر هُوَ الْحَقِيقَة حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز وَتعلق الشَّيْء بالشَّيْء يدل على نَحْو ذَلِك فحين رَأينَا إِضَافَة الصَّلَاة إِلَى الْوَقْت شرعا وتعلقها بِالْوَقْتِ شرعا أَيْضا حَتَّى تَتَكَرَّر بتكررها مَعَ أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار وَإِن كَانَ مُعَلّقا بِشَرْط أَلا ترى أَن الرجل إِذا قَالَ (لغيره) تصدق بدرهم من مَالِي لدلوك الشَّمْس لَا يَقْتَضِي هَذَا الْخطاب التّكْرَار ورأينا أَن وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بقوله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} غير مَقْصُور على الْمرة الْوَاحِدَة ثَبت أَن تكْرَار الْوُجُوب بِاعْتِبَار تجدّد السَّبَب بدلوك الشَّمْس فِي كل يَوْم ثمَّ وجوب الْأَدَاء مُرَتّب عَلَيْهِ بِحكم هَذَا الْخطاب وحرف اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى {لدلوك الشَّمْس} دَلِيل على تعلقهَا بذلك الْوَقْت كَمَا يُقَال تأهب للشتاء وتطهر للصَّلَاة وَلم يتَعَلَّق بهَا وجودا(1/101)
عِنْدهَا فَعرفنَا أَن تعلق الْوُجُوب بهَا بِجعْل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا لوُجُوبهَا فَنَقُول وجوب الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى كَمَا هُوَ بأسمائه وَصِفَاته بِإِيجَاب الله وَسَببه فِي الظَّاهِر الْآيَات الدَّالَّة على حدث الْعَالم لمن وَجب عَلَيْهِ وَهَذِه الْآيَات غير مُوجبَة لذاتها وعقل من وَجب عَلَيْهِ غير مُوجب عَلَيْهِ أَيْضا وَلَكِن الله تَعَالَى هُوَ الْمُوجب بِأَن أعطَاهُ آلَة يسْتَدلّ بِتِلْكَ الْآلَة على معرفَة الْوَاجِب كمن يَقُول لغيره هاك السراج فَإِن أَضَاء لَك الطَّرِيق فاسلكه كَانَ الْمُوجب للسلوك فِي الطَّرِيق هُوَ الْأَمر بذلك لَا الطَّرِيق بِنَفسِهِ وَلَا السراج فالعقل بِمَنْزِلَة السراج والآيات الدَّالَّة على حدث الْعَالم بِمَنْزِلَة الطَّرِيق والتصديق من العَبْد وَالْإِقْرَار بِمَنْزِلَة السلوك فِي الطَّرِيق فَهُوَ وَاجِب بِإِيجَاب الله تَعَالَى حَقِيقَة وَسَببه الظَّاهِر الْآيَات الدَّالَّة على حدث الْعَالم وَلِهَذَا تسمى عَلَامَات فَإِن الْعلم للشَّيْء لَا يكون مُوجبا لنَفسِهِ وَلَا نعني أَن هَذِه الْآيَات توجب وحدانية الله تَعَالَى ظَاهرا أَو حَقِيقَة وَإِنَّمَا نعني أَنَّهَا فِي الظَّاهِر سَبَب لوُجُوب التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار على العَبْد وَلكَون هَذِه الْآيَات دائمة لَا تحْتَمل التَّغَيُّر بِحَال إِذْ لَا يتَصَوَّر للمحدث أَن يكون غير مُحدث فِي شَيْء من الْأَوْقَات فَكَانَ فَرضِيَّة الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى دَائِما بدوام سَببه غير مُحْتَمل للنسخ والتبديل بِحَال وَلِهَذَا صححنا إِيمَان الصَّبِي الْعَاقِل لِأَن السَّبَب متقرر فِي حَقه وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ مَوْضُوع عَنهُ بِسَبَب الصِّبَا لِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال وَلَكِن صِحَة الْأَدَاء بِاعْتِبَار تقرر السَّبَب الْمُوجب لَا بِاعْتِبَار وجوب الْأَدَاء كَالْبيع بِثمن مُؤَجل سَبَب لجَوَاز أَدَاء الثّمن قبل حُلُول الْأَجَل وَإِن لم يكن الْخطاب بِالْأَدَاءِ مُتَوَجها حَتَّى يحل الْأَجَل وَالْمُسَافر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان كَانَ صَحِيحا مِنْهُ فرضا لتقرر السَّبَب فِي حَقه وَإِن كَانَ الْخطاب بِالْأَدَاءِ مَوْضُوعا عَنهُ قبل إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَهَذَا لِأَن صِحَة الْأَدَاء تكون بِوُجُود مَا هُوَ الرُّكْن مِمَّن هُوَ أهل والركن هُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار والأهلية لذَلِك لَا تنعدم بالصبا فَبعد ذَلِك بامتناع صِحَة الْأَدَاء لَا يكون إِلَّا بِحجر شَرْعِي وَالْقَوْل بِالْحجرِ لأحد عَن الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى محَال فَأَما الصَّلَاة فواجبة بِإِيجَاب الله تَعَالَى بِلَا شُبْهَة وَسبب وُجُوبهَا(1/102)
فِي الظَّاهِر هُوَ الْوَقْت فِي حَقنا وأمرنا بأدائها بقوله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} أَي لوُجُوبهَا بدلوك الشَّمْس وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهَا تنْسب إِلَى الْوَقْت شرعا فَيُقَال فرض الْوَقْت وَصَلَاة الْفجْر وَالظّهْر وَإِنَّمَا يُضَاف الْوَاجِب إِلَى سَببه وَكَذَلِكَ يتَكَرَّر الْوُجُوب بِتَكَرُّر الْوَقْت وَالْخطاب لَا يُوجب التّكْرَار وَهِي لَا تُضَاف إِلَى الْخطاب شرعا وَلَيْسَ هُنَا سوى الْوَقْت وَالْخطاب فَتبين بِهَذَا أَن الْوَقْت هُوَ السَّبَب وَلِهَذَا لَا يجوز تَعْجِيلهَا قبل الْوَقْت وَيجوز بعد دُخُول الْوَقْت مَعَ تَأْخِير لُزُوم الْأَدَاء بِالْخِطَابِ إِلَى آخر الْوَقْت
فَإِن قيل لَا يفهم من وجوب الْعِبَادَة شَيْء سوى وجوب الْأَدَاء وَلَا خلاف أَن وجوب الْأَدَاء بِالْخِطَابِ فَمَا الَّذِي يكون وَاجِبا بِسَبَب الْوَقْت قُلْنَا الْوَاجِب بِسَبَب الْوَقْت مَا هُوَ الْمَشْرُوع نفلا فِي غير الْوَقْت الَّذِي هُوَ سَبَب للْوُجُوب وَبَيَان هَذَا فِي الصَّوْم فَإِنَّهُ مَشْرُوع نفلا فِي كل يَوْم وجد الْأَدَاء أَو لم يُوجد وَفِي رَمَضَان يكون مَشْرُوعا وَاجِبا بِسَبَب الْوَقْت سَوَاء وجد خطاب الْأَدَاء بِوُجُود شَرطه وَهُوَ التَّمَكُّن من الْأَدَاء أَو لم يُوجد أَلا ترى أَن من كَانَ مغمى عَلَيْهِ أَو نَائِما فِي وَقت الصَّلَاة ثمَّ أَفَاق بعد مُضِيّ الْوَقْت يصير مُخَاطبا بِالْأَدَاءِ لوُجُوبهَا عَلَيْهِ لوُجُود السَّبَب وَهُوَ الْوَقْت وَلَو كَانَ هَذَا الْمغمى عَلَيْهِ أَو النَّائِم غير بَالغ ثمَّ بلغ بعد مُضِيّ الْوَقْت ثمَّ أَفَاق وانتبه لم يكن عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَقد صَار مُخَاطبا عِنْد الْإِفَاقَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصفة وَاحِدَة وَلَكِن لما انعدمت الْأَهْلِيَّة عِنْد وجود السَّبَب لم يثبت الْوُجُوب فِي حَقه فَلَمَّا وجدت الْأَهْلِيَّة فِي الْفَصْل الأول ثَبت الْوُجُوب وَمن بَاعَ بِثمن مُؤَجل فالثمن يجب بِنَفس العقد وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ مُتَأَخّر إِلَى مُضِيّ الْأَجَل فَهَذَا مثله
وَسبب وجوب الصَّوْم شُهُود الشَّهْر فِي حَال قيام الْأَهْلِيَّة وَلِهَذَا أضيف إِلَى الشَّهْر شرعا ويتكرر بِتَكَرُّر الشَّهْر وَلم يجب الْأَدَاء قبل وجود الشَّهْر وَجَاز بعد وَإِن كَانَ الْأَدَاء مُتَأَخِّرًا كَمَا فِي حق الْمَرِيض وَالْمُسَافر فَإِن الْأَمر بِالْأَدَاءِ فِي حَقّهمَا بعد إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَالْوُجُوب ثَابت فِي الشَّهْر بتقرر سَببه حَتَّى لَو صاما كَانَ ذَلِك فرضا أَلا ترى أَن من كَانَ مُسَافِرًا الصَّوْم وَلَو كَانَ بَالغا فِي رَمَضَان مُسَافِرًا لزمَه الْأَدَاء إِذا صَار مُقيما وحالهما عِنْد الْإِقَامَة بِصفة وَاحِدَة فَعرفنَا أَن الْوُجُوب ثَبت فِي حق أَحدهمَا بتقرر سَببه دون الآخر
وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} مَعْنَاهُ فِي رَمَضَان غير بَالغ ثمَّ صَار مُقيما بَعْدَمَا بلغ(1/103)
خَارج رَمَضَان لَا يلْزمه فليصم فِيهِ لِأَن الْوَقْت ظرف للصَّوْم وَإِنَّمَا يفهم من هَذَا فليصم فِيهِ الصَّوْم الْوَاجِب بشهوده وَلِهَذَا ظن بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن صنف فِي هَذَا الْبَاب أَن سَبَب الْوُجُوب أَيَّام الشَّهْر دون اللَّيَالِي لِأَن صَلَاحِية الْأَدَاء مُخْتَصّ بِالْأَيَّامِ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا غلط عِنْدِي بل فِي السَّبَبِيَّة للْوُجُوب الْأَيَّام والليالي سَوَاء فَإِن الشَّهْر اسْم لجزء من الزَّمَان يشْتَمل على الْأَيَّام والليالي وَإِنَّمَا جعله الشَّرْع سَببا لإِظْهَار فَضِيلَة هَذَا الْوَقْت وَهَذِه الْفَضِيلَة ثَابِتَة لليالي وَالْأَيَّام جَمِيعًا وَالرِّوَايَة مَحْفُوظَة فِي أَن من كَانَ مفيقا فِي أول لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ جن قبل أَن يصبح وَمضى الشَّهْر وَهُوَ مَجْنُون ثمَّ أَفَاق يلْزمه الْقَضَاء وَلَو لم يَتَقَرَّر السَّبَب فِي حَقه بِمَا شهد من الشَّهْر فِي حَالَة الْإِفَاقَة لم يلْزمه الْقَضَاء (وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون إِذا أَفَاق فِي لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ جن قبل أَن يصبح ثمَّ أَفَاق بعد مُضِيّ الشَّهْر يلْزمه الْقَضَاء) وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن نِيَّة أَدَاء الْفَرْض تصح بعد دُخُول اللَّيْلَة الأولى بغروب الشَّمْس قبل أَن يصبح وَمَعْلُوم أَن نِيَّة أَدَاء الْفَرْض قبل تقرر سَبَب الْوُجُوب لَا يَصح أَلا ترى أَنه لَو نوى قبل غرُوب الشَّمْس لم تصح نِيَّته وأيد مَا قُلْنَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُومُوا لرُؤْيَته فَإِنَّهُ نَظِير قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} وَقد بَينا فِي الصَّلَاة أَن فِي تقرر الْوُجُوب بتقرر السَّبَب لَا يعْتَبر التَّمَكُّن بِالْأَدَاءِ فَإِن من أسلم فِي آخر الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت يلْزمه فرض الْوَقْت فَهُنَا وَإِن لم يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء بِشُهُود اللَّيْل يَتَقَرَّر سَبَب الْوُجُوب وَلَكِن بِشَرْط احْتِمَال الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَلِهَذَا لَو أسلم فِي آخر يَوْم من رَمَضَان قبل الزَّوَال أَو بعده لم يلْزمه الصَّوْم وَإِن أدْرك جُزْءا من الشَّهْر لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا معنى احْتِمَال الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق
وَسبب وجوب الْحَج الْبَيْت وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ شرعا قَالَ الله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}(1/104)
وَلِهَذَا لَا يتَكَرَّر بِتَكَرُّر وَقت الْأَدَاء لِأَن مَا هُوَ السَّبَب غير متجدد فَأَما الْوَقْت فَهُوَ شَرط جَوَاز الْأَدَاء وَلَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب وَلَا يُقَال بِدُخُول شَوَّال يدْخل الْوَقْت ويتأخر الْأَدَاء إِلَى يَوْم عَرَفَة فَعرفنَا أَن الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب إِذْ لَو لم يكن سَببا لَهُ لم يكن إِضَافَة الْوَقْت إِلَيْهِ مُفِيدا وَيُقَال أشهر الْحَج كَمَا يُقَال وَقت الصَّلَاة فَعرفنَا أَنه سَبَب فِيهِ وَهَذَا لِأَن عندنَا يجوز الْأَدَاء كَمَا دخل شَوَّال وَلَكِن هَذِه عبَادَة تشْتَمل على أَرْكَان بَعْضهَا مُخْتَصّ بِوَقْت وَمَكَان وَبَعضهَا لَا يخْتَص فَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَقْت أَو مَكَان لَا يجوز فِي غير ذَلِك الْوَقْت كَمَا لَا يجوز فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَمَا لم يكن مُخْتَصًّا بِوَقْت فَهُوَ جَائِز فِي جَمِيع وَقت الْحَج حَتَّى إِن من أحرم فِي رَمَضَان وَطَاف وسعى لم يكن سَعْيه معتدا بِهِ من سعى الْحَج حَتَّى إِذا طَاف للزيارة يَوْم النَّحْر تلْزمهُ إِعَادَة السَّعْي وَلَو كَانَ طَاف وسعى فِي شَوَّال كَانَ سَعْيه معتدا بِهِ حَتَّى لَا يلْزمه إِعَادَته يَوْم النَّحْر لِأَن السَّعْي غير مُؤَقّت فَجَاز أَدَاؤُهُ فِي أشهر الْحَج وَأما الْوُقُوف موقت فَلم يجز أَدَاؤُهُ قبل وقته كَمَا لَا يجوز أَدَاء طواف الزِّيَارَة يَوْم عَرَفَة لِأَنَّهُ موقت بِيَوْم النَّحْر وكما لَا يجوز رمي الْيَوْم الثَّانِي فِي الْيَوْم الأول وَهُوَ نَظِير أَرْكَان الصَّلَاة فَإِن السُّجُود ترَتّب على الرُّكُوع فَلَا يعْتد بِهِ قبل الرُّكُوع وَلَا يدل ذَلِك على أَن الْوَقْت لَيْسَ بِوَقْت الْأَدَاء وَبِهَذَا تبين أَن الْوَقْت لَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب وَلكنه شَرط جَوَاز الْأَدَاء وَوُجُوب الْأَدَاء فِيهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِطَاعَة بِالْمَالِ لَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب فَإِن هَذِه عبَادَة بدنية وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْت سَببا لوُجُوبهَا لِأَنَّهَا عبَادَة هِجْرَة وزيارة تَعْظِيمًا لتِلْك الْبقْعَة فَلَا يصلح المَال سَببا لوُجُوبهَا وَلَا هُوَ شَرط لجَوَاز الْأَدَاء أَيْضا فالأداء من الْفَقِير صَحِيح وَإِن كَانَ لَا يملك شَيْئا وَإِنَّمَا المَال شَرط وجوب الْأَدَاء فَإِن السّفر الَّذِي يوصله إِلَى الْأَدَاء لَا يتهيأ لَهُ بِدُونِ الزَّاد وَالرَّاحِلَة إِلَّا بحرج عَظِيم والحرج مَدْفُوع فَعرفنَا أَن المَال شَرط وجوب الْأَدَاء وَهُوَ نَظِير عدَّة من أَيَّام أخر فِي بَاب الصَّوْم (فِي حق الْمُسَافِر) الاداء بتجدد هَذِه الْأَيَّام وَهنا أَيْضا لَا يتَكَرَّر وجوب الْأَدَاء بتجدد ملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَعرفنَا أَنه شَرط لوُجُوب الْأَدَاء
وَسبب وجوب الطَّهَارَة الصَّلَاة فَإِنَّهَا تُضَاف إِلَيْهَا شرعا فَيُقَال تطهر للصَّلَاة فَأَما الْحَدث فَهُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء بِالْأَمر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا} فَإِنَّهُ شَرط(1/105)
وجوب الْأَدَاء حَتَّى كَانَ الْأَدَاء جَائِزا قبله وَلَا يتَكَرَّر وجوب {وُجُوهكُم} الْآيَة لَا أَن يكون سَببا للْوُجُوب وَكَيف يكون سَببا (للْوُجُوب) وَهُوَ نَاقض للطَّهَارَة فَمَا كَانَ مزيلا للشَّيْء رَافعا لَهُ لَا يصلح سَببا لوُجُوبه وَلِهَذَا جَازَ الْأَدَاء بِدُونِهِ وَكَانَ الْوضُوء على وضوء نورا على نور وَلَا يجب الْأَدَاء مَعَ تحقق الْحَدث بِدُونِ وجوب الصَّلَاة فَإِن الْجنب إِذا حَاضَت لَا يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال مَا لم تطهر لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وجوب الصَّلَاة وَبِهَذَا تبين أَن الطَّهَارَة لَيست بِعبَادة مَقْصُودَة وَلكنهَا شَرط الصَّلَاة وَمَا يكون شرطا للشَّيْء يتَعَلَّق بِهِ صِحَّته ووجوبه بِوُجُوب الأَصْل بِمَنْزِلَة اسْتِقْبَال الْقبْلَة فَإِن وُجُوبه بِوُجُوب الصَّلَاة وَالشُّهُود فِي بَاب النِّكَاح ثُبُوتهَا بِثُبُوت النِّكَاح لكَون الشُّهُود شرطا فِي النِّكَاح
وَسبب وجوب الزَّكَاة المَال بِصفة أَن يكون نِصَابا ناميا أَلا ترى أَنه يُضَاف إِلَى المَال وَأَنه يتضاعف بتضاعف النصب فِي وَقت وَاحِد وَلَكِن الْوُجُوب بِوَاسِطَة غنى الْمَالِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى والغنى لَا يحصل بِأَصْل المَال مَا لم يبلغ مِقْدَارًا وَذَلِكَ فِي النّصاب شرعا وَالْوُجُوب بِصفة الْيُسْر وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ المَال ناميا وَلِهَذَا يُضَاف إِلَى سَبَب النَّمَاء أَيْضا فَيُقَال زَكَاة السَّائِمَة وَزَكَاة التِّجَارَة فَأَما مُضِيّ الْحول فَهُوَ شَرط لوُجُوب الْأَدَاء من حَيْثُ إِن النَّمَاء لَا يحصل إِلَّا بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلِهَذَا جَازَ الْأَدَاء بعد كَمَال النّصاب قبل حولان الْحول وَجَوَاز الْأَدَاء لَا يكون قبل تقرر سَبَب الْوُجُوب حَتَّى لَو أدّى قبل كَمَال النّصاب لم يجز
فَإِن قيل الزَّكَاة يتَكَرَّر وُجُوبهَا فِي مَال وَاحِد بِاعْتِبَار الْأَحْوَال وبتكرر الشَّرْط لَا يَتَجَدَّد الْوَاجِب قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِك بل يتَكَرَّر الْوُجُوب بتجدد النَّمَاء الَّذِي هُوَ وصف(1/106)
لِلْمَالِ وباعتباره يكون المَال سَببا للْوُجُوب فَإِن لمضي كل حول تَأْثِيرا فِي حُصُول النَّمَاء الْمَطْلُوب من عين السَّائِمَة بالدر والنسل وَالْمَطْلُوب من ربح عرُوض التِّجَارَة زِيَادَة الْقيمَة
وَسبب وجوب صَدَقَة الْفطر على الْمُسلم الْغَنِيّ رَأس يموله بولايته عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ فَيُقَال صَدَقَة الرَّأْس ويتضاعف الْوَاجِب بِتَعَدُّد الرؤوس من الْأَوْلَاد الصغار والمماليك وَإِنَّمَا عرفنَا هَذَا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أَدّوا عَن كل حر وَعبد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَدّوا عَمَّن تمونون وحرف عَن للانتزاع فَأَما أَن يكون المُرَاد طَرِيق الانتزاع بِالْوُجُوب على الرَّأْس ثمَّ أَدَاء الْغَيْر عَنهُ وَهَذَا بَاطِل فَإِنَّهُ لَا يجب على الْكَافِر وَالرَّقِيق وَالْفَقِير وَالصَّغِير فَعرفنَا أَن المُرَاد انتزاع الحكم عَن سَببه وَفِيه تنصيص على أَن الرَّأْس بِالصّفةِ الَّتِي قُلْنَا هُوَ السَّبَب الْمُوجب للْوُجُوب وَأما الْفطر فَهُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء وَالْإِضَافَة إِلَيْهِ بطرِيق الْمجَاز على معنى أَن الْوُجُوب عِنْده يكون وَإِنَّمَا جعلنَا الْفطر شرطا وَالرَّأْس سَببا مَعَ وجود الْإِضَافَة إِلَيْهِمَا لِأَن تضَاعف الْوَاجِب بِتَعَدُّد الرؤوس دَلِيل مُحكم على أَنه سَبَب وَالْإِضَافَة دَلِيل مُحْتَمل فقد بَينا أَن الْإِضَافَة قد تكون إِلَى الشَّرْط مجَازًا وَلِأَن التَّنْصِيص على المئونة دَلِيل على أَن سَبَب الْوُجُوب الرَّأْس دون الْفطر فالمئونة إِنَّمَا تجب عَن الرؤوس وَلِهَذَا اشْتَمَل هَذَا الْوَاجِب على معنى المئونة وعَلى معنى الْعِبَادَة لِأَن صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء يعْتَبر لوُجُوب الْأَدَاء وَذَلِكَ دَلِيل كَونه عبَادَة وَصفَة المئونة فِي الْمُؤَدِّي دَلِيل على أَنه بِمَنْزِلَة النَّفَقَة وَجَوَاز الْأَدَاء قبل الْفطر دَلِيل على أَن الْفطر لَيْسَ بِسَبَب فِي وجوب الْأَدَاء بِشُهُود وَقت الْفطر فِي حق من لَا يُؤَدِّي الصَّوْم أصلا دَلِيل على أَن الْفطر شَرط وجوب الْأَدَاء فَإِن الْكَافِر إِذا أسلم لَيْلَة الْعِيد أَو الصَّبِي بلغ أَو العَبْد عتق يلْزمه الْأَدَاء بِطُلُوع الْفجْر من يَوْم الْفطر وَلِهَذَا لَو أسلم بعد طُلُوع الْفجْر لم يلْزمه وَإِن أدْرك الْيَوْم لِأَن وَقت الْفطر عَن رَمَضَان فِي حق وجوب الصَّدَقَة عِنْد طُلُوع الْفجْر فَإِذا انعدمت الْأَهْلِيَّة عِنْد ذَلِك لم يجب الْأَدَاء وتكرر الْوُجُوب(1/107)
بِتَكَرُّر الْفطر فِي كل سنة بِمَنْزِلَة تكَرر وجوب الزَّكَاة بِتَكَرُّر الْحول فَإِن الْوَصْف الَّذِي لأَجله كَانَ الرَّأْس مُوجبا وَهُوَ المئونة يَتَجَدَّد بِمُضِيِّ الزَّمَان كَمَا أَن النَّمَاء الَّذِي لأَجله كَانَ المَال سَببا للْوُجُوب يَتَجَدَّد بتجدد الْحول
وَسبب وجوب الْعشْر الأَرْض النامية بِاعْتِبَار حَقِيقَة النَّمَاء وَسبب وجوب الْخراج الأَرْض النامية بِاعْتِبَار التَّمَكُّن من طلب النَّمَاء بالزراعة وَلِهَذَا لَو اصطلم الزَّرْع آفَة لم يجب الْعشْر وَلَا الْخراج وَلِهَذَا لم يجْتَمع الْعشْر وَالْخَرَاج بِسَبَب أَرض وَاحِدَة بِحَال لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مئونة الأَرْض النامية إِلَّا أَن الْعشْر الْوَاجِب جُزْء من النَّمَاء فَلَا بُد من حُصُول النَّمَاء ليثبت حكم الْوُجُوب فِي مَحَله بِسَبَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْعشْر معنى المئونة وَمعنى الْعِبَادَة فباعتبار أصل الأَرْض هُوَ مئونة لِأَن تملك الأَرْض سَبَب لوُجُوب مئونة شرعا وَبِاعْتِبَار كَون الْوَاجِب جُزْءا من النَّمَاء فِيهِ معنى الْعِبَادَة بِمَنْزِلَة الزَّكَاة وَفِي الْخراج معنى المئونة بِاعْتِبَار أصل الأَرْض وَمعنى المذلة بِاعْتِبَار التَّمَكُّن من طلب النَّمَاء بالزراعة فالاشتغال بالزراعة مَعَ الْإِعْرَاض عَن الْجِهَاد سَبَب للمذلة على مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رأى شَيْئا من آلَات الزِّرَاعَة فِي دَار فَقَالَ مَا دخل (هَذَا) بَيت قوم إِلَّا ذلوا وَلِهَذَا يتَكَرَّر وجوب الْعشْر بتجدد الْخَارِج لتجدد الْوَصْف وَهُوَ النَّمَاء وَلَا يتَكَرَّر وجوب الْخراج فِي حول وَاحِد بِحَال وَلِهَذَا جَازَ تَعْجِيل الْخراج قبل الزِّرَاعَة وَلم يجز تَعْجِيل الْعشْر لِأَن الأَرْض بِاعْتِبَار حَقِيقَة النَّمَاء توجب الْعشْر وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق قبل الزِّرَاعَة وَلِهَذَا أوجب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْعشْر فِي قَلِيل الْخَارِج وَكَثِيره وَفِي كل مَا يستنبت فِي الأَرْض مِمَّا لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة وَمَا لَيست لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة سَوَاء لِأَن الْوُجُوب بِاعْتِبَار صفة النَّمَاء وَلَا مُعْتَبر بِصفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ بِاعْتِبَار النّصاب لأَجله
وَسبب وجوب الْجِزْيَة الرَّأْس بِاعْتِبَار صفة مَعْلُومَة وَهُوَ أَن يكون كَافِرًا حرا لَهُ بنية صَالِحَة لِلْقِتَالِ وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ فَيُقَال جِزْيَة الرَّأْس ويتكرر الْوُجُوب(1/108)
بِتَكَرُّر الْحول بِمَنْزِلَة تكَرر وجوب الزَّكَاة فَإِن الْمَعْنى الَّذِي كَانَ الرَّأْس سَببا مُوجبا بِاعْتِبَار نصْرَة الْقِتَال وَهَذَا لِأَن أهل الذِّمَّة يصيرون منا دَارا والقتال بنصرة الدَّار وَاجِب على أَهلهَا وَلَا تصلح أبدانهم لهَذِهِ النُّصْرَة لميلهم إِلَى أهل الدَّار المعادية لدارنا اعتقادا فَأوجب عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم جِزْيَة عُقُوبَة لَهُم على كفرهم وخلفا عَن النُّصْرَة الَّتِي قَامَت بإصرارهم على الْكفْر فِي حَقنا وَلِهَذَا تصرف إِلَى الْمُجَاهدين الَّذين يقومُونَ بنصرة الدَّار وَهَذِه النُّصْرَة يَتَجَدَّد وُجُوبهَا بتجدد الْحَاجة فِي كل وَقت فَكَذَلِك مَا كَانَ خلفا عَنْهَا بتجدد وُجُوبهَا إِلَّا أَنه لَا نِهَايَة للْحَاجة إِلَى المَال فَيعْتَبر الْوَقْت لتجدد الْوُجُوب كَمَا يعْتَبر فِي الزَّكَاة
وَسبب وجوب الْعُقُوبَات مَا يُضَاف إِلَيْهِ نَحْو الزِّنَا للرجم وَالْجَلد وَالسَّرِقَة للْقطع وَشرب الْخمر وَالْقَذْف للحد وَالْقَتْل الْعمد للْقصَاص
وَسبب وجوب الْكَفَّارَات الَّتِي هِيَ دَائِرَة بَين الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة مَا يُضَاف إِلَيْهِ من سَبَب مُتَرَدّد بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة نَحْو الْيَمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل إِذا حنث فِيهَا وَالظِّهَار عِنْد الْعود وَالْفطر فِي رَمَضَان بِصفة الْجِنَايَة وَالْقَتْل بِصفة الْخَطَأ
فَأَما سَبَب الْمَشْرُوع من الْمُعَامَلَات فَهُوَ تعلق الْبَقَاء الْمَقْدُور بتعاطيها وَبَيَان ذَلِك أَن الله تَعَالَى حكم بِبَقَاء الْعَالم إِلَى قيام السَّاعَة وَهَذَا الْبَقَاء إِنَّمَا يكون بِبَقَاء الْجِنْس وَبَقَاء النَّفس فبقاء الْجِنْس بالتناسل والتناسل بإتيان الذُّكُور الْإِنَاث فِي مَوضِع الْحَرْث وَالْإِنْسَان هُوَ الْمَقْصُود بذلك فشرع لذَلِك التناسل طَرِيقا لَا فَسَاد فِيهِ وَلَا ضيَاع وَهُوَ طَرِيق الازدواج بِلَا شركَة فَفِي التغالب فَسَاد الْعَالم وَفِي الشّركَة ضيَاع الْوَلَد لِأَن الْأَب إِذا اشْتبهَ يتَعَذَّر إِيجَاب مئونة الْوَلَد عَلَيْهِ وبالأمهات عجز عَن اكْتِسَاب ذَلِك بِأَصْل الجبلة فيضيع الْوَلَد وَبَقَاء النَّفس إِلَى أَجله إِنَّمَا يقوم بِمَا تقوم(1/109)
بِهِ الْمصَالح للمعيشة وَذَلِكَ بِالْمَالِ وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد لكفايته لَا يكون حَاصِلا فِي يَده وَإِنَّمَا يتَمَكَّن من تَحْصِيله بِالْمَالِ فشرع سَبَب اكْتِسَاب المَال وَسبب اكْتِسَاب مَا فِيهِ كِفَايَة لكل وَاحِد وَهُوَ التِّجَارَة عَن ترَاض لما فِي التغالب من الْفساد وَالله لَا يحب الْفساد وَلِأَن الله تَعَالَى جعل الدُّنْيَا دَار محنة وابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه} وَالْإِنْسَان الَّذِي هُوَ مَقْصُود غير مَخْلُوق فِي الدُّنْيَا لنيل اللَّذَّات وَقَضَاء الشَّهَوَات بل لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ عمل بِخِلَاف هوى النَّفس قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَعرفنَا أَن مَا جعل لنا فِي الدُّنْيَا من اقْتِضَاء الشَّهَوَات بِالْأَكْلِ وَغير ذَلِك لَيْسَ لعين اقْتِضَاء الشَّهْوَة بل لحكم آخر وَهُوَ تعلق الْبَقَاء الْمَقْدُور بتعاطيها إِلَّا أَن فِي النَّاس مُطيعًا وعاصيا فالمطيع يرغب فِيهِ لَا لقَضَاء الشَّهْوَة بل لاتباع الْأَمر والعاصي يرغب فِيهِ لقَضَاء شَهْوَة النَّفس فَيتَحَقَّق الْبَقَاء الْمَقْدُور بِفعل الْفَرِيقَيْنِ وللمطيع الثَّوَاب بِاعْتِبَار قَصده إِلَى الْإِقْدَام عَلَيْهِ والعاصي مستوجب للعقاب بِاعْتِبَار قَصده فِي اتِّبَاع هوى النَّفس الأمارة بالسوء تبَارك الله الْحَكِيم الْخَبِير الْقَدِير هُوَ مَوْلَانَا فَنعم الْمولى وَنعم النصير
فصل فِي بَيَان المشروعات من الْعِبَادَات وأحكامها
قَالَ رَحمَه الله هَذِه المشروعات تَنْقَسِم على أَرْبَعَة أَقسَام فرض وواجب وَسنة وَنفل
فالفرض اسْم لمقدر شرعا لَا يحْتَمل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ لكَونه ثَابتا بِدَلِيل مُوجب للْعلم قطعا من الْكتاب أَو السّنة المتواترة أَو الْإِجْمَاع وَفِي الِاسْم مَا يدل على ذَلِك كُله فَإِن الْفَرْض لُغَة التَّقْدِير قَالَ الله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم} أَي قدرتم بِالتَّسْمِيَةِ وَقَالَ تَعَالَى {سُورَة أنزلناها وفرضناها} أَي قَطعنَا الْأَحْكَام قطعا وَفِي هَذَا الِاسْم مَا ينبىء عَن شدَّة الرِّعَايَة فِي الْحِفْظ لِأَنَّهُ مَقْطُوع بِهِ وَمَا ينبىء عَن التَّخْفِيف لِأَنَّهُ مُقَدّر متناه كَيْلا يصعب علينا أَدَاؤُهُ وَيُسمى مَكْتُوبَة أَيْضا لِأَنَّهَا كتبت علينا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ
وَبَيَان هَذَا الْقسم فِي الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج فَإِن التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ(1/110)
وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ بعد الْمعرفَة فرض مَقْطُوع بِهِ إِلَّا أَن التَّصْدِيق مستدام فِي جَمِيع الْعُمر لَا يجوز تبديله بِغَيْرِهِ بِحَال وَالْإِقْرَار لَا يكون وَاجِبا فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَإِن كَانَ لَا يجوز تبديله بِغَيْرِهِ من غير عذر بِحَال والعبادات الَّتِي هِيَ أَرْكَان الدّين مقدرَة متناهية مَقْطُوع بهَا
وَحكم هَذَا الْقسم شرعا أَنه مُوجب للْعلم اعتقادا بِاعْتِبَار أَنه ثَابت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَلِهَذَا يكفر جاحده وَمُوجب للْعَمَل بِالْبدنِ للُزُوم الْأَدَاء بدليله فَيكون الْمُؤَدِّي مُطيعًا لرَبه والتارك للْأَدَاء عَاصِيا لِأَنَّهُ بترك الْأَدَاء مبدل للْعَمَل لَا للاعتقاد وضد الطَّاعَة الْعِصْيَان وَلِهَذَا لَا يكفر بالامتناع عَن الْأَدَاء فِيمَا هُوَ من أَرْكَان الدّين لَا من أصل الدّين إِلَّا أَن يكون تَارِكًا على وَجه الاستخفاف فَإِن استخفاف أَمر الشَّارِع كفر فَأَما بِدُونِ الاستخفاف فَهُوَ عَاص بِالتّرْكِ من غير عذر فَاسق لِخُرُوجِهِ من طَاعَة ربه فالفسق هُوَ الْخُرُوج يُقَال فسقت الرّطبَة إِذا خرجت من قشرها وَسميت الْفَأْرَة فويسقة لخروجها من جحرها وَلِهَذَا كَانَ الْفَاسِق مُؤمنا لِأَنَّهُ غير خَارج من أصل الدّين وأركانه اعتقادا وَلكنه خَارج من الطَّاعَة عملا وَالْكَافِر رَأس الْفُسَّاق فِي الْحَقِيقَة إِلَّا أَنه اخْتصَّ باسم هُوَ أعظم فِي الذَّم فاسم الْفَاسِق عِنْد الْإِطْلَاق يتنازل الْمُؤمن العَاصِي بِاعْتِبَار أَعماله
فَأَما الْوَاجِب فَهُوَ مَا يكون لَازم الْأَدَاء شرعا ولازم التّرْك فِيمَا يرجع إِلَى الْحل وَالْحُرْمَة وَالِاسْم مَأْخُوذ من الْوُجُوب وَهُوَ السُّقُوط قَالَ الله تَعَالَى {فَإِذا وَجَبت جنوبها} أَي سَقَطت على الأَرْض فَمَا يكون سَاقِطا على الْمَرْء عملا بلزومه إِيَّاه من غير أَن يكون دَلِيله مُوجبا للْعلم قطعا يُسمى وَاجِبا أَو هُوَ سَاقِط فِي حق الِاعْتِقَاد قطعا وَإِن كَانَ ثَابتا فِي حق لُزُوم الْأَدَاء عملا وَالْفَرْض وَالْوَاجِب كل وَاحِد مِنْهُمَا لَازم إِلَّا أَن تَأْثِير الْفَرْضِيَّة أَكثر وَمِنْه سمي الحز فِي الْخَشَبَة فرضا لبَقَاء أَثَره على كل حَال وَيُسمى السُّقُوط على الأَرْض وجوبا لِأَنَّهُ قد لَا يبْقى أَثَره فِي الْبَاقِي فَمَا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل وَالْعلم قطعا يُسمى فرضا لبَقَاء أَثَره وَهُوَ الْعلم بِهِ أدّى أَو لم يؤد وَمَا كَانَ ثَابتا بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل غير مُوجب للْعلم يَقِينا بِاعْتِبَار شُبْهَة فِي طَرِيقه يُسمى وَاجِبا وَقيل الِاسْم مُشْتَقّ من الوجبة وَهِي الِاضْطِرَاب قَالَ الْقَائِل(1/111)
وللفؤاد وجيب تَحت أبهره لدم الْغُلَام وَرَاء الْغَيْب بِالْحجرِ أَي اضْطِرَاب فلنوع شُبْهَة فِي دَلِيله يتَمَكَّن فِيهِ اضْطِرَاب فَسُمي وَاجِبا وَهَذَا نَحْو تعْيين قِرَاءَة الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة وتعديل الْأَركان وَالطَّهَارَة فِي الطّواف وَالسَّعْي فِي الْحَج وأصل الْعمرَة وَالْوتر
وَالشَّافِعِيّ يُنكر هَذَا الْقسم ويلحقه بِالْفَرْضِ فَإِن كَانَ إِنْكَاره ذَلِك للاسم فقد بَينا معنى الِاسْم وَإِن كَانَ للْحكم فَهُوَ إِنْكَار فَاسد لِأَن ثُبُوت الحكم بِحَسب الدَّلِيل وَلَا خلاف بَيْننَا وَبَينه أَن هَذَا التَّفَاوُت يتَحَقَّق فِي الدَّلِيل فَإِن خبر الْوَاحِد لَا يُوجب علم الْيَقِين لاحْتِمَال الْغَلَط من الرَّاوِي وَهُوَ دَلِيل مُوجب للْعَمَل بِحسن الظَّن بالراوي وترجح جَانب الصدْق بِظُهُور عَدَالَته فَيثبت حكم هَذَا الْقسم بِحَسب دَلِيله وَهُوَ أَنه لَا يكفر جاحده لِأَن دَلِيله لَا يُوجب علم الْيَقِين وَيجب الْعَمَل بِهِ لِأَن دَلِيله مُوجب للْعَمَل ويضلل جاحده إِذا لم يكن متأولا بل كَانَ رادا لخَبر الْوَاحِد فَإِن كَانَ متأولا فِي ذَلِك مَعَ القَوْل بِوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد فَحِينَئِذٍ لَا يضلل ولوجوب الْعَمَل بِهِ يكون الْمُؤَدِّي مُطيعًا والتارك من غير تَأْوِيل عَاصِيا معاقبا وَهَذَا لِأَن الدّلَالَة قَامَت لنا على أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ فَلَا يثبت إِلَّا بِمَا يثبت النّسخ بِهِ والنسخ لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد فَكَذَلِك لَا نثبت الزِّيَادَة فَلَا يكون مُوجبا للْعلم بِهَذَا الْمَعْنى وَلَكِن يجب الْعَمَل بِهِ لِأَن فِي الْعَمَل تَقْرِير الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا نسخ لَهُ إِلَّا أَن هَذَا يشكل على بعض النَّاس قبل التَّأَمُّل على مَا حُكيَ عَن يُوسُف بن خَالِد السَّمْتِي رَحمَه الله قدمت على أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَسَأَلته عَن الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة كم هِيَ فَقَالَ خمس فَسَأَلته عَن الْوتر فَقَالَ وَاجِب فَقلت لقلَّة تأملي كفرت فَتَبَسَّمَ فِي وَجْهي ثمَّ تَأَمَّلت فَعرفت أَن بَين الْوَاجِب وَالْفَرِيضَة فرق كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فيرحم الله أَبَا حنيفَة ويجازيه خيرا على مَا هَدَانِي إِلَيْهِ
وَبَيَان هَذَا أَن فَرضِيَّة الْقِرَاءَة فِي الصَّلَوَات ثَابِتَة بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} وَتَعْيِين الْفَاتِحَة ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد(1/112)
فَمن جعل ذَلِك فرضا كَانَ زَائِدا على النَّص وَمن قَالَ يجب الْعَمَل بِهِ من غير أَن يكون فرضا كَانَ مقررا للثابت بِالنَّصِّ على حَاله وعاملا بِالدَّلِيلِ الآخر بِحَسب مُوجبه وَفِي القَوْل بفرضية مَا ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد رفع للدليل الَّذِي فِيهِ شُبْهَة عَن دَرَجَته أَو حط للدليل الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ عَن دَرَجَته وكل وَاحِد مِنْهُمَا تَقْصِير لَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ بعد الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ
وَكَذَلِكَ أصل الرُّكُوع وَالسُّجُود ثَابت بِالنَّصِّ وتعديل الْأَركان ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد فَلَو أفسدنا الصَّلَاة بترك التَّعْدِيل كَمَا نفسدها بترك الْفَرِيضَة كُنَّا رفعنَا خبر الْوَاحِد عَمَّا هُوَ دَرَجَته فِي الْحجَّة وَلَو لم ندخل نُقْصَانا فِي الصَّلَاة بترك التَّعْدِيل كُنَّا حططناه عَن دَرَجَته من حَيْثُ إِنَّه مُوجب للْعَمَل
وَكَذَلِكَ الْوتر فَإِنَّهُ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد فَلَو لم نثبت صفة الْوُجُوب فِيهِ عملا كَانَ فِيهِ إِخْرَاج خبر الْوَاحِد من أَن يكون مُوجبا للْعَمَل وَلَو جَعَلْنَاهُ فرضا كُنَّا قد ألحقنا خبر الْوَاحِد بِالنَّصِّ الَّذِي هُوَ مَقْطُوع بِهِ
وَكَذَلِكَ شَرط الطَّهَارَة فِي الطّواف فَإِن فَرضِيَّة الطّواف بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَاشْتِرَاط الطَّهَارَة فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد حَيْثُ شبهه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ فَالْقَوْل بِفساد أصل الطّواف عِنْد ترك الطَّهَارَة يكون إِلْحَاقًا لدليله بِالنَّصِّ الْمَقْطُوع بِهِ وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يتَمَكَّن نُقْصَان فِي الطّواف حَتَّى يُعِيد مَا دَامَ بِمَكَّة وَإِذا رَجَعَ إِلَى أَهله يجْبر النُّقْصَان بِالدَّمِ يكون عملا بدليله كَمَا هُوَ مُوجبه
وَكَذَلِكَ ترك الطّواف بِالْحَطِيمِ فَإِن كَون الْحطيم من الْبَيْت ثَبت بِخَبَر الْوَاحِد
وَكَذَلِكَ السَّعْي فَإِن ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكتاب {فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} وَهَذَا لَا يُوجب الْفَرْضِيَّة
وَكَذَلِكَ الْعمرَة ثُبُوتهَا بِخَبَر الْوَاحِد فَأَما الثَّابِت بِالنَّصِّ {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَهَذَا لَا يُوجب نَوْعَيْنِ من الزِّيَارَة قطعا وَالْأُضْحِيَّة وَصدقَة الْفطر على هَذَا أَيْضا تخرج
وَأما السّنة فَهِيَ الطَّرِيقَة المسلوكة فِي الدّين مَأْخُوذَة من سنَن الطَّرِيق وَمن قَول الْقَائِل سنّ المَاء إِذا صبه حَتَّى جرى فِي طَرِيقه وَهُوَ اشتقاق مَعْرُوف وَالْمرَاد بِهِ شرعا مَا سنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة بعده عندنَا(1/113)
وَقَالَ الشَّافِعِي مُطلق السّنة يتَنَاوَل سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَط وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يرى تَقْلِيد الصَّحَابِيّ وَيَقُول الْقيَاس مقدم على قَول الصَّحَابِيّ فَإِنَّمَا يتبع حجَّته لَا فعله وَقَوله بِمَنْزِلَة من بعد الصَّحَابَة فَإِنَّهُ يتبع حجتهم لَا مُجَرّد فعلهم وَقَوْلهمْ إِذا لم يبلغُوا حد الْإِجْمَاع وَلِهَذَا قَالَ فِي قَول سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ إِن الْمَرْأَة تعاقل الرجل إِلَى ثلث الدِّيَة السّنة تَنْصَرِف إِلَى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ قَوْله فِي اسْتِحْقَاق الْفرْقَة بِسَبَب الْعَجز عَن النَّفَقَة السّنة أَنَّهَا تَنْصَرِف إِلَى طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَكَذَلِكَ قَوْله فِي أَن الْحر لَا يقتل بِالْعَبدِ السّنة تَنْصَرِف إِلَى سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام) فَأَما عندنَا إِطْلَاق هَذَا اللَّفْظ لَا يُوجب الِاخْتِصَاص بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّلَف كَانُوا يطلقون اسْم السّنة على طَريقَة أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الْبيعَة على سنة العمرين وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول حكم السّنة هُوَ الِاتِّبَاع فقد ثَبت بِالدَّلِيلِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتبع فِيمَا سلك من طَرِيق الدّين قولا وفعلا وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة بعده وَهَذَا الِاتِّبَاع الثَّابِت بِمُطلق السّنة خَال عَن صفة الْفَرْضِيَّة وَالْوُجُوب إِلَّا أَن يكون من أَعْلَام الدّين فَإِن ذَلِك بِمَنْزِلَة الْوَاجِب فِي حكم الْعَمَل على مَا قَالَ مَكْحُول رَحمَه الله السّنة سنتَانِ سنة أَخذهَا هدى وَتركهَا ضَلَالَة وَسنة أَخذهَا حسن وَتركهَا لَا بَأْس بِهِ فَالْأول نَحْو صَلَاة الْعِيد وَالْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالصَّلَاة بِالْجَمَاعَة وَلِهَذَا لَو تَركهَا قوم استوجبوا اللوم والعتاب وَلَو تَركهَا أهل بَلْدَة وأصروا على ذَلِك قوتلوا عَلَيْهَا ليأتوا بهَا وَالثَّانِي نَحْو مَا نقل من طَريقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قِيَامه وقعوده ولباسه وركوبه وسننه فِي الْعِبَادَات متبوعة أَيْضا فَمِنْهَا مَا يكره تَركهَا وَمِنْهَا مَا يكون التارك مسيئا وَمِنْهَا مَا يكون(1/114)
المتبع لَهَا محسنا وَلَا يكون التارك مسيئا وعَلى هَذَا تخرج الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِي بَاب الْأَذَان من قَوْله يكره وَقد أَسَاءَ وَلَا بَأْس بِهِ وَحَيْثُ قيل يُعِيد فَهُوَ دَلِيل الْوُجُوب وعَلى هَذَا الْخلاف قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا بِكَذَا ونهينا عَن كَذَا عندنَا لَا يَقْتَضِي مطلقه أَن يكون الْآمِر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعند الشَّافِعِي مطلقه يَقْتَضِي ذَلِك وَقد كَانُوا يطلقون لفظ الْأَمر على مَا أَمر بِهِ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَمَا كَانُوا يطلقون لفظ السّنة على سنة العمرين وَتَمام بَيَان هَذَا يَتَأَتَّى فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما النَّافِلَة فَهِيَ الزِّيَادَة وَمِنْه تسمى الْغَنِيمَة نفلا لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالْجِهَادِ شرعا وَمِنْه سمي ولد الْوَلَد نَافِلَة لِأَنَّهُ زِيَادَة على مَا حصل للمرء بِكَسْبِهِ فالنوافل من الْعِبَادَات زَوَائِد مَشْرُوعَة لنا لَا علينا والتطوعات كَذَلِك فَإِن التَّطَوُّع اسْم لما يتَبَرَّع بِهِ الْمَرْء من عِنْده وَيكون محسنا فِي ذَلِك وَلَا يكون ملوما على تَركه فَهُوَ وَالنَّفْل سَوَاء وَحكمه شرعا أَنه يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الشفع الثَّانِي من ذَوَات الْأَرْبَع فِي حق الْمُسَافِر نفل لِأَنَّهُ يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه وَلِهَذَا جَوَّزنَا صَلَاة النَّفْل قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام وراكبا مَعَ الْقُدْرَة على النُّزُول بِالْإِيمَاءِ فِي حق الرَّاكِب وَإِن لم يكن مُتَوَجها إِلَى الْقبْلَة لِأَنَّهُ مَشْرُوع زِيَادَة لنا وَهُوَ مستدام غير مُقَيّد بِوَقْت وَفِي مُرَاعَاة تَمام الْأَركان والشرائط فِي جَمِيع الْأَوْقَات حرج ظَاهر فلدفع الْحَرج جَوَّزنَا الْأَدَاء على أَي وصف يشرع فِيهِ لتحقيق كَونه زِيَادَة لنا
وَقَالَ الشَّافِعِي آخِره من جنس أَوله نفل فَكَمَا أَنه مُخَيّر فِي الِابْتِدَاء بَين أَن يشرع وَبَين أَن لَا يشرع لكَونه نفلا فَكَذَلِك يكون مُخَيّرا فِي الِانْتِهَاء وَإِذا ترك الْإِتْمَام فَإِنَّمَا ترك أَدَاء النَّفْل وَذَلِكَ لَا يلْزمه شَيْئا كَمَا فِي المظنون
وَقُلْنَا نَحن الْمُؤَدِّي مَوْصُوف بِأَنَّهُ لله تَعَالَى وَقد صَار مُسلما بِالْأَدَاءِ وَلِهَذَا لَو مَاتَ كَانَ مثابا على ذَلِك فَيجب التَّحَرُّز عَن إِبْطَاله مُرَاعَاة لحق صَاحب الْحق وَهَذَا التَّحَرُّز(1/115)
لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالإتمام فِيمَا لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي عبَادَة فَيجب الْإِتْمَام لهَذَا وَإِن كَانَ فِي نَفسه نفلا وَيجب الْقَضَاء إِذا أفْسدهُ لوُجُود التَّعَدِّي فِيمَا هُوَ حق الْغَيْر بِمَنْزِلَة الْمَنْذُور فالمنذور فِي الأَصْل مَشْرُوع نفلا وَلِهَذَا يكون مستداما كالنوافل إِلَّا أَن لمراعاة التَّسْمِيَة بِالنذرِ يلْزمه أَدَاء الْمَشْرُوع نفلا فَإِذا وَجب الِابْتِدَاء لمراعاة التَّسْمِيَة فَلِأَن يجب الْإِتْمَام لمراعاة مَا وجد مِنْهُ الِابْتِدَاء ابْتِدَاء كَانَ أولى وَهُوَ نَظِير الْحَج فَإِن الْمَشْرُوع مِنْهُ نفلا يصير وَاجِب الْأَدَاء لمراعاة التَّسْمِيَة حَقًا للشَّرْع فَكَذَلِك الْإِتْمَام بعد الشُّرُوع فِي الْأَدَاء يجب حَقًا للشَّرْع وَهَذَا هُوَ الطَّرِيق فِي بَيَان الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة
وَمِمَّا هُوَ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد أَيْضا تَأْخِير الْمغرب للْحَاج إِلَى أَن يجمع بَينه وَبَين الْعشَاء فِي وَقت الْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ فَإِنَّهُ ثَابت بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لأسامة بن زيد رَضِي الله عَنْهُمَا الصَّلَاة أمامك وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَو صلى الْمغرب فِي الطَّرِيق فِي وَقت الْمغرب يلْزمه الْإِعَادَة بِالْمُزْدَلِفَةِ مَا لم يطلع الْفجْر فَإِذا طلع الْفجْر يسْقط عَنهُ الْإِعَادَة لِأَن الْوُجُوب بِدَلِيل مُوجب للْعَمَل وَذَلِكَ الدَّلِيل يُوجب الْجمع بَينهمَا فِي وَقت الْعشَاء وَقد تحقق فَوَات هَذَا الْعَمَل بِطُلُوع الْفجْر فَلَو ألزمناه الْقَضَاء مُطلقًا كُنَّا قد أفسدنا مَا أَدَّاهُ أصلا وَذَلِكَ حكم ترك الْفَرِيضَة فَكَذَلِك التَّرْتِيب بَين الْفَوَائِت وَفرض الْوَقْت ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد فَيكون مُوجبا للْعَمَل مَا لم يتضيق الْوَقْت لِأَن عِنْد التضيق تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بتعين هَذَا الْوَقْت لأَدَاء فرض الْوَقْت وَكَذَلِكَ عِنْد كَثْرَة الْفَوَائِت لِأَن الثَّابِت بِخَبَر الْوَاحِد التَّرْتِيب عملا وَبعد التّكْرَار فِي الْفَوَائِت يتَحَقَّق فَوَات ذَلِك وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا ترك صَلَاة ثمَّ صلى شهرا وَهُوَ ذَاكر لَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاء الْفَائِتَة لِأَن فَسَاد الْخمس بعْدهَا لم يكن بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ ليجب قَضَاؤُهَا مُطلقًا وَإِنَّمَا كَانَ لوُجُوب التَّرْتِيب بِخَبَر الْوَاحِد وَقد سقط وجوب التَّرْتِيب عملا عِنْد كَثْرَة الصَّلَوَات فَلَا يلْزمه إِلَّا قَضَاء المتروكة وَالله أعلم(1/116)
فصل فِي بَيَان الْعَزِيمَة والرخصة
قَالَ رَحمَه الله الْعَزِيمَة فِي أَحْكَام الشَّرْع مَا هُوَ مَشْرُوع مِنْهَا ابْتِدَاء من غير أَن يكون مُتَّصِلا بِعَارِض
سميت عَزِيمَة لِأَنَّهَا من حَيْثُ كَونهَا أصلا مَشْرُوعا فِي نِهَايَة من الوكادة وَالْقُوَّة حَقًا لله تَعَالَى علينا بِحكم أَنه إلهنا وَنحن عبيده وَله الْأَمر يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد وعلينا الْإِسْلَام والانقياد
والرخصة مَا كَانَ بِنَاء على عذر يكون للعباد وَهُوَ مَا استبيح للْعُذْر مَعَ بَقَاء الدَّلِيل الْمحرم وللتفاوت فِيمَا هُوَ أعذار الْعباد يتَفَاوَت حكم مَا هُوَ رخصَة
والاسمان من حَيْثُ اللُّغَة يدلان على مَا ذكرنَا لِأَن الْعَزْم فِي اللُّغَة هُوَ الْقَصْد الْمُؤَكّد قَالَ الله تَعَالَى {فنسي وَلم نجد لَهُ عزما} أَي قصدا متأكدا فِي الْعِصْيَان وَقَالَ تَعَالَى {فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} وَمِنْه جعل الْعَزْم يَمِينا حَتَّى إِذا قَالَ الْقَائِل أعزم كَانَ حَالفا لِأَن الْعباد إِنَّمَا يؤكدون قصدهم بِالْيَمِينِ
والرخصة فِي اللُّغَة عبارَة عَن الْيُسْر والسهولة يُقَال رخص السّعر إِذا تيسرت الْإِصَابَة لِكَثْرَة وجود الأشكال وَقلة الرغائب فِيهَا وَفِي عرف اللِّسَان تسْتَعْمل الرُّخْصَة فِي الْإِبَاحَة على طَرِيق التَّيْسِير يَقُول الرجل لغيره رخصت لَك فِي كَذَا أَي أبحته لَك تيسيرا عَلَيْك وَقد بَينا مَا هُوَ الْعَزِيمَة فِي الْفَصْل الْمُتَقَدّم فَإِن النَّوَافِل لكَونهَا مَشْرُوعَة ابْتِدَاء عَزِيمَة وَلِهَذَا لَا تحْتَمل التَّغْيِير بِعُذْر يكون للعباد حَتَّى لَا تصير مَشْرُوعَة
وَزعم بعض أَصْحَابنَا أَنَّهَا لَيست بعزيمة لِأَنَّهَا شرعت جبرا للنقصان فِي أَدَاء مَا هُوَ عَزِيمَة من الْفَرَائِض أَو قطعا لطمع الشَّيْطَان فِي منع الْعباد من أَدَاء الْفَرَائِض من حَيْثُ إِنَّهُم لما رَغِبُوا فِي أَدَاء النَّوَافِل مَعَ أَنَّهَا لَيست عَلَيْهِم فَذَلِك دَلِيل رغبتهم فِي أَدَاء الْفَرَائِض بطرِيق الأولى وَالْأول أوجه فَهَذَا الَّذِي قَالُوا مَقْصُود الْأَدَاء فَأَما النَّوَافِل فمشروع ابْتِدَاء مستدام لَا يحْتَمل التَّغَيُّر بِعَارِض يكون من الْعباد
وَأما الرُّخْصَة قِسْمَانِ أَحدهمَا حَقِيقَة وَالْآخر مجَاز فالحقيقة نَوْعَانِ أَحدهمَا أَحَق من الآخر وَالْمجَاز نَوْعَانِ أَيْضا أَحدهمَا أتم من الآخر فِي كَونه مجَازًا(1/117)
فَأَما النَّوْع الأول فَهُوَ مَا استبيح مَعَ قيام السَّبَب الْمحرم وَقيام حكمه فَفِي ذَلِك الرُّخْصَة الْكَامِلَة بِالْإِبَاحَةِ لعذر العَبْد مَعَ قيام سَبَب الْحُرْمَة وَحكمهَا وَذَلِكَ نَحْو إِجْرَاء كلمة الشّرك على اللِّسَان بِعُذْر الْإِكْرَاه فَإِن حُرْمَة الشّرك باتة لَا ينكسف عَنهُ لضَرُورَة وجوب حق الله تَعَالَى فِي الْإِيمَان بِهِ قَائِم أَيْضا وَمَعَ هَذَا أُبِيح لمن خَافَ التّلف على نَفسه عِنْد الْإِكْرَاه إِجْرَاء الْكَلِمَة رخصَة لَهُ لِأَن فِي الِامْتِنَاع حَتَّى يقتل تلف نَفسه صُورَة وَمعنى وبإجراء الْكَلِمَة لَا يفوت مَا هُوَ الْوَاجِب معنى فَإِن التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ بَاقٍ وَالْإِقْرَار الَّذِي سبق مِنْهُ مَعَ التَّصْدِيق صَحَّ إيمَانه واستدامة الْإِقْرَار فِي كل وَقت لَيْسَ بِرُكْن إِلَّا أَن فِي إِجْرَاء كلمة الشّرك هتك حُرْمَة حق الله تَعَالَى صُورَة وَفِي الِامْتِنَاع مُرَاعَاة حَقه صُورَة وَمعنى فَكَانَ الِامْتِنَاع عَزِيمَة لِأَن الْمُمْتَنع مُطِيع ربه مظهر للصلابة فِي الدّين وَمَا يَنْقَطِع عَنهُ طمع الْمُشْركين وَهُوَ جِهَاد فَيكون أفضل والمترخص بإجراء الْكَلِمَة يعْمل لنَفسِهِ من حَيْثُ السَّعْي فِي دفع سَبَب الْهَلَاك عَنْهَا فَهَذِهِ رخصَة لَهُ إِن أقدم عَلَيْهَا لم يَأْثَم وَالْأول عَزِيمَة حَتَّى إِذا صَبر حَتَّى قتل كَانَ مأجورا وعَلى هَذَا الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر عِنْد خوف الْهَلَاك فَإِن السَّبَب الْمُوجب لذَلِك وَحكم السَّبَب وَهُوَ الْوُجُوب حَقًا لله تَعَالَى قَائِم وَلَكِن يرخص لَهُ فِي التّرْك وَالتَّأْخِير بِعُذْر كَانَ من جِهَته وَهُوَ خوف الْهَلَاك وعجزه عَن شدّ المعاضد عَنهُ وَلِهَذَا لَو أقدم على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يقتل كَانَ مأجورا لِأَنَّهُ مُطِيع ربه فِيمَا صنع وَفِي هَذَا الْفَصْل يُبَاح لَهُ الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَإِن كَانَ يعلم أَنه لَا يتَمَكَّن من مَنعهم عَن الْمُنكر بِخِلَاف مَا إِذا أَرَادَ الْمُسلم أَن يحمل على جمَاعَة من الْمُشْركين وَهُوَ يعلم أَنه لَا ينْكَأ فيهم حَتَّى يقتل فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ الْإِقْدَام لِأَن الفسقة معتقدون لما يَأْمُرهُم بِهِ وَإِن كَانُوا يعْملُونَ بِخِلَافِهِ فَفعله يكون مؤثرا فِي باطنهم لَا محَالة وَإِن لم يكن مؤثرا فِي ظَاهِرهمْ ويتفرق جمعهم عِنْد إقدامه على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَإِن قَتَلُوهُ وَالْمَقْصُود تَفْرِيق جمعهم وَأما الْمُشْركُونَ غير معتقدين لما يَأْمُرهُم بِهِ الْمُسلم فَلَا يتفرق جمعهم بصنيعه فَإِذا كَانَ فعله لَا ينْكَأ فيهم كَانَ مضيعا نَفسه فِي الحملة عَلَيْهِم ملقيا بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَة لَا أَن يكون عَاملا لرَبه فِي إعزاز الدّين
وَكَذَلِكَ تنَاول مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه للْمُضْطَر عِنْد خوف الْهَلَاك فَإِنَّهُ رخصَة مَعَ قيام سَبَب الْحُرْمَة وَحكمهَا وَهُوَ حق الْمَالِك وَلِهَذَا وَجب الضَّمَان حَقًا(1/118)
لَهُ وَكَذَلِكَ إِبَاحَة إِتْلَاف مَال الْغَيْر عِنْد تحقق الْإِكْرَاه فَإِنَّهُ رخصَة مَعَ قيام سَبَب الْحُرْمَة وَحكمهَا وَكَذَلِكَ إِبَاحَة الْإِفْطَار فِي رَمَضَان للمكره وَإِبَاحَة الْإِقْدَام على الْجِنَايَة على الصَّيْد للْمحرمِ
وَلِهَذَا النَّوْع أَمْثِلَة كَثِيرَة وَالْحكم فِي الْكل وَاحِد لَهُ أَن يرخص بالإقدام على مَا فِيهِ رفع الْهَلَاك عَن نَفسه فَذَلِك وَاسع لَهُ تيسيرا من الشَّرْع عَلَيْهِ وَإِن امْتنع فَهُوَ أفضل لَهُ وَلم يكن فِي الِامْتِنَاع عَاملا فِي إِتْلَاف نَفسه بل يكون متمسكا بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا استبيح مَعَ قيام السَّبَب الْمحرم مُوجبا لحكمه إِلَّا أَن الحكم متراخ عَن السَّبَب (فلكون السَّبَب الْقَائِم مُوجبا للْحكم كَانَت الاستباحة ترخصا للمعذور وَلكَون الحكم متراخيا عَن السَّبَب) كَانَ هَذَا النَّوْع دون الأول فَإِن كَمَال الرُّخْصَة يبتنى على كَمَال الْعَزِيمَة فَإِذا كَانَ الحكم ثَابتا فِي السَّبَب فَذَلِك فِي الْعَزِيمَة أقوى مِنْهُ إِذا كَانَ الحكم متراخيا عَن السَّبَب بِمَنْزِلَة البيع بِشَرْط الْخِيَار مَعَ البيع البات وَالْبيع بِثمن مُؤَجل مَعَ البيع بِثمن حَال فَالْحكم وَهُوَ الْملك فِي الْمَبِيع والمطالبة بِالثّمن ثَابت فِي البات الْمُطلق متراخ عَن السَّبَب فِي المقرون بِشَرْط الْخِيَار أَو الْأَجَل وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي الصَّوْم فِي شهر رَمَضَان للْمُسَافِر وَالْمَرِيض فَإِن السَّبَب الْمُوجب شرعا وَهُوَ شُهُود الشَّهْر قَائِم وَلِهَذَا لَو أديا كَانَ الْمُؤَدى فرضا وَلَكِن الحكم متراخ إِلَى إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَلِهَذَا لَو مَاتَا قبل الْإِدْرَاك لم يلْزمهُمَا شَيْء وَلَو كَانَ الْوُجُوب ثَابتا للزمهما الْأَمر بالفدية عَنْهُمَا لِأَن ترك الْوَاجِب بِعُذْر يرفع الْإِثْم وَلَكِن لَا يسْقط الْخلف وَهُوَ الْقَضَاء أَو الْفِدْيَة والتعجيل بعد تَمام السَّبَب مَعَ تراخي الحكم صَحِيح كتعجيل الدّين الْمُؤَجل
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما كَانَ حكم الْوُجُوب مُتَأَخِّرًا إِلَى إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر كَانَ الْفطر أفضل ليَكُون إقدامه على الْأَدَاء متراخيا بعد ثُبُوت الحكم بِإِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَقُلْنَا نَحن الصَّوْم أفضل لِأَن مَعَ إِبَاحَة التَّرَخُّص بِالْفطرِ للْمَشَقَّة الَّتِي تلْحقهُ بِالصَّوْمِ فِي الْمَرَض أَو السّفر السَّبَب الْمُوجب قَائِم فَكَانَ الْمُؤَدى للصَّوْم عَاملا لله تَعَالَى فِي إِدْرَاك الْفَرَائِض والمترخص بِالْفطرِ عَاملا لنَفسِهِ فِيمَا يرجع إِلَى الترفة فَالْأول عَزِيمَة والتمسك بالعزيمة أفضل مَعَ أَن(1/119)
فِي معنى الرُّخْصَة يشْتَرك الصَّوْم وَالْفطر فَمن وَجه الصَّوْم مَعَ الْجَمَاعَة فِي شهر رَمَضَان يكون أيسر من التفرد بِهِ بعد مُضِيّ الشَّهْر وَإِن كَانَ أشق على بدنه وَمن وَجه التَّرَخُّص بِالْفطرِ مَعَ أَدَاء الصَّوْم بعد الْإِقَامَة أيسر عَلَيْهِ لكيلا تَجْتَمِع عَلَيْهِ مشقتان فِي وَقت وَاحِد مشقة السّفر ومشقة أَدَاء الصَّوْم وَإِذا كَانَ فِي كل جَانب نوع ترفه يُخَيّر بَينهمَا للتيسير عَلَيْهِ وَبعد تحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا يتَرَجَّح جَانب أَدَاء الصَّوْم لكَونه مُطيعًا فِيهِ عَاملا لله تَعَالَى إِلَّا أَن يخَاف الْهَلَاك على نَفسه إِن صَامَ فَحِينَئِذٍ يلْزمه أَن يفْطر لِأَنَّهُ إِن صَامَ فَمَاتَ كَانَ قَتِيل الصَّوْم وَهُوَ الْمُبَاشر لفعل الصَّوْم فَيكون قَاتلا نَفسه وعَلى الْمَرْء أَن يتحرز عَن قتل نَفسه بِخِلَاف مَا إِذا أكرهه ظَالِم على الْفطر فَلم يفْطر حَتَّى قَتله لِأَن الْقَتْل هُنَا مُضَاف إِلَى فعل الظَّالِم فَأَما هُوَ فِي الِامْتِنَاع عَن الْفطر عِنْد الْإِكْرَاه مستديم لِلْعِبَادَةِ مظهر للطاعة عَن نَفسه فِي الْعَمَل لله تَعَالَى وَذَلِكَ عمل الْمُجَاهدين
وَبَيَان النَّوْع الثَّالِث فِي الإصر والأغلال الَّتِي كَانَت على من قبلنَا وَقد وَضعهَا الله تَعَالَى عَنَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَقَالَ تَعَالَى {رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا} الْآيَة فَهَذَا النَّوْع غير مَشْرُوع فِي حَقنا أصلا لَا بِنَاء على عذر مَوْجُود فِي حَقنا بل تيسيرا وتخفيفا علينا فَكَانَت رخصَة من حَيْثُ الِاسْم مجَازًا وَإِن لم تكن رخصَة حَقِيقَة لِانْعِدَامِ السَّبَب الْمُوجب للْحُرْمَة مَعَ الحكم بِالرَّفْع والنسخ أصلا فِي حَقنا فَإِن حَقِيقَة الرُّخْصَة فِي الاستباحة مَعَ قيام السَّبَب الْمحرم وَلَكِن لما كَانَ الرّفْع للتَّخْفِيف علينا والتسهيل سميت رخصَة مجَازًا
وَأما بَيَان النَّوْع الرَّابِع فَمَا يستباح تيسيرا لخُرُوج السَّبَب من أَن يكون مُوجبا للْحكم مَعَ بَقَائِهِ مَشْرُوعا فِي الْجُمْلَة فَإِنَّهُ من حَيْثُ انعدام السَّبَب الْمُوجب للْحكم يشبه هَذَا النَّوْع الثَّالِث فَكَانَ مجَازًا وَمن حَيْثُ إِنَّه بَقِي السَّبَب مَشْرُوعا فِي الْجُمْلَة يشبه(1/120)
النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ أَن التَّرَخُّص بِاعْتِبَار عذر للعباد فَكَانَ معنى الرُّخْصَة فِيهِ حَقِيقَة من وَجه دون وَجه
وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي فُصُول مِنْهَا السّلم فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم وَالسّلم نوع بيع وَاشْتِرَاط العينية فِي الْمَبِيع الْمَشْرُوع قَائِم فِي الْجُمْلَة ثمَّ سقط هَذَا الشَّرْط فِي السّلم أصلا حَتَّى كَانَت العينية فِي الْمُسلم فِيهِ مفْسدَة للْعقد لَا مصححة وَكَانَ سُقُوط هَذَا الشَّرْط للتيسير على المحتاجين حَتَّى يتوصلوا إِلَى مقصودهم من الْأَثْمَان قبل إِدْرَاك غلاتهم ويتوصل صَاحب الدَّرَاهِم إِلَى مَقْصُوده من الرِّبْح فَكَانَت رخصَة من حَيْثُ إِخْرَاج السَّبَب من أَن يكون مُوجبا اعْتِبَار العينية فِيهِ مَعَ بَقَاء هَذَا النَّوْع من السَّبَب مُوجبا لَهُ فِي الْجُمْلَة
وَكَذَلِكَ الْمسْح على الْخُفَّيْنِ رخصَة مَشْرُوعَة لليسر على معنى أَن استتار الْقدَم بالخف يمْنَع سرَايَة الْحَدث إِلَى الْقدَم لَا على معنى أَن الْوَاجِب من غسل الرجل يتَأَدَّى بِالْمَسْحِ وَلِهَذَا يشْتَرط أَن يكون اللّبْس على طَهَارَة فِي الرجلَيْن وَأَن يكون أول الْحَدث بعد اللّبْس طارئا على طَهَارَة كَامِلَة وَلَو نزع الْخُف بعد الْمسْح يلْزمه غسل رجلَيْهِ فَعرفنَا أَن التَّيْسِير من حَيْثُ إِخْرَاج السَّبَب الْمُوجب للْحَدَث من أَن يكون عَاملا فِي الرجل مَا دَامَ مستترا بالخف وَتقدم الْخُف على الرجل فِي قبُول حكم الْحَدث مَا لم يخلعهما مَعَ بَقَاء أصل السَّبَب فِي الْجُمْلَة
وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة فِي مُدَّة الْمسْح للْمُسَافِر فَإِنَّهُ رخصَة من حَيْثُ إِن السَّبَب لم يبْق فِي حَقه مُوجبا غسل الرجل بعد مُضِيّ يَوْم وَلَيْلَة مَا لم ينْزع الْخُف وعَلى هَذَا مَا ذكر فِي كتاب الْإِكْرَاه أَن من اضْطر إِلَى تنَاول الْميتَة أَو شرب الْخمر لخوف الْهَلَاك على نَفسه من الْجُوع أَو الْعَطش أَو للإكراه فَإِنَّهُ لَا يَسعهُ الِامْتِنَاع من ذَلِك وَلَو امْتنع حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِما لِأَن السَّبَب غير مُوجب للْحكم عِنْد الضَّرُورَة للاستثناء الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ} فالمستثنى لَا يتَنَاوَلهُ الْكَلَام مُوجبا لحكمه وَلَكِن السَّبَب بِهَذَا الِاسْتِثْنَاء لم يَنْعَدِم أصلا فَكَانَت الرُّخْصَة ثَابِتَة بِاعْتِبَار عذر العَبْد خرج بِهِ السَّبَب من أَن يكون مُوجبا للْحكم فِي حَقه ويلتحق الْحَرَام فِي هَذِه الْحَالة فِي حَقه بالحلال لما انْعَدم سَبَب الْحُرْمَة فِي حَقه وَمن امْتنع من تنَاول الْحَلَال حَتَّى يتْلف نَفسه يكون آثِما يُوضحهُ أَن سَبَب الْحُرْمَة(1/121)
وجوب صِيَانة عقله عَن الِاخْتِلَاط أَو الْفساد بِشرب الْخمر وصيانة بدنه عَن ضَرَر تنَاول الْميتَة وصيانة الْبَعْض لَا يتَحَقَّق فِي إِتْلَاف الْكل فَكَانَ الِامْتِنَاع فِي هَذِه الْحَالة إتلافا للنَّفس من غير أَن يكون فِيهِ تَحْصِيل مَا هُوَ الْمَقْصُود بِالْحُرْمَةِ فَلَا يكون مُطيعًا لرَبه بل يكون متلفا نَفسه بترك التَّرَخُّص فَيكون آثِما
وَمن هَذَا النَّوْع مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله إِنَّه لَا يجوز للْمُسَافِر أَن يُصَلِّي الظّهْر أَرْبعا فِي سَفَره وَإِن ذَلِك بِمَنْزِلَة مَا لَو صلى الْمُقِيم الْفجْر أَرْبعا لِأَن السَّبَب لم يبْق فِي حَقه مُوجبا إِلَّا رَكْعَتَيْنِ فَكَانَت الأخريان نفلا فِي حَقه وَلِهَذَا يُبَاح لَهُ تَركهمَا لَا إِلَى بدل وخلط النَّفْل بِالْفَرْضِ قصدا لَا يحل وَأَدَاء النَّفْل قبل إِكْمَال الْفَرْض يكون مُفْسِدا للْفَرض فَإِذا لم يقْعد الْقعدَة الأولى فَسدتْ صلَاته
وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله يَقُول السَّبَب الْمُوجب لِلظهْرِ أَربع رَكْعَات إِلَّا أَنه رخص لَهُ فِي الِاكْتِفَاء بالركعتين لدفع مشقة السّفر فَإِن أكمل الصَّلَاة كَانَ مُؤديا للْفَرض بعد وجود سَببه فيستوي هُوَ والمقيم فِي ذَلِك كَمَا إِذا صَامَ الْمُسَافِر فِي شهر رَمَضَان وَجعل معنى الرُّخْصَة فِي تخييره بَين أَن يُؤَدِّي فرض الْوَقْت بِأَرْبَع رَكْعَات وَبَين أَن يُؤَدِّي رَكْعَتَيْنِ بِمَنْزِلَة العَبْد يَأْذَن لَهُ مَوْلَاهُ فِي أَدَاء الْجُمُعَة فَإِنَّهُ يتَخَيَّر بَين أَن يُؤَدِّي فرض الْوَقْت بِالْجمعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَين أَن يُؤَدِّي بِالظّهْرِ أَرْبعا
وَهَذَا غلط مِنْهُ يتَبَيَّن عِنْد التَّأَمُّل فِي مورد الشَّرْع على مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ يَا رَسُول الله مَا بالنا نصلي فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ وَنحن آمنون فَقَالَ هَذِه صَدَقَة تصدق الله عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته وَنحن نعلم أَن المُرَاد التَّصَدُّق بالإسقاط عَنَّا وَمَا يكون وَاجِبا فِي الذِّمَّة فالتصدق مِمَّن لَهُ الْحق بإسقاطه يكون كالتصدق بِالدّينِ على من عَلَيْهِ الدّين وَمثل هَذَا الْإِسْقَاط إِذا لم يتَضَمَّن معنى التَّمْلِيك لَا يرْتَد بِالرَّدِّ كالعفو عَن الْقصاص وَكَذَلِكَ إِذا لم يكن فِيهِ معنى الْمَالِيَّة لَا يرْتَد بِالرَّدِّ وَلَا يتَوَقَّف على الْقبُول كَالطَّلَاقِ وَإِسْقَاط الشُّفْعَة فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن السَّبَب لم يبْق مُوجبا للزِّيَادَة على الرَّكْعَتَيْنِ بعد هَذَا التَّصَدُّق فَإِن معنى التَّرَخُّص فِي إِخْرَاج السَّبَب من أَن يكون مُوجبا للزِّيَادَة على الرَّكْعَتَيْنِ فِي حَقه لَا فِي التَّخْيِير فَإِن التَّخْيِير عبارَة عَن تَفْوِيض الْمَشِيئَة إِلَى الْمُخَير وتمليكه مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق هُنَا فالعبادات إِنَّمَا تلزمنا بطرِيق الِابْتِلَاء قَالَ الله تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وتفويض الْمَشِيئَة إِلَى العَبْد بِهَذِهِ الصّفة فِي أصل الْوُجُوب أَو فِي مِقْدَار الْوَاجِب يعْدم معنى(1/122)
الِابْتِلَاء وَبِهَذَا تبين أَن المُرَاد من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاقبلوا صدقته بِالْوُقُوفِ على أَدَاء الْوَاجِب من غير خلط النَّفْل بِهِ وَهَكَذَا نقُول فِي الصَّوْم إِلَّا أَن الرُّخْصَة هُنَاكَ فِي تَأْخِير الحكم عَن السَّبَب وَلَيْسَ للعباد اخْتِيَار فِي رد ذَلِك إِلَّا أَن أصل السَّبَب مُوجب فِي حَقه وَلِهَذَا يلْزمه الْقَضَاء إِذا أدْرك عدَّة من أَيَّام أخر
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله وضع الْمُسَافِر شطر الصَّلَاة وَأَدَاء الصَّوْم يُحَقّق مَا ذكرنَا أَن الْمَشِيئَة التَّامَّة وَالِاخْتِيَار الْكَامِل لَا يثبت للْعَبد أصلا فَإِن ذَلِك بربوبته وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} أَي يتعالى أَن يكون لَهُ رَفِيق فِيمَا يخْتَار ويتعالى أَن يكون لَهُ اخْتِيَار لدفع ضَرَر عَنهُ وَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَار الْكَامِل فَأَما الِاخْتِيَار للْعَبد لَا يَنْفَكّ عَن معنى الرِّفْق بِهِ وَذَلِكَ فِي أَن يجر إِلَى نَفسه مَنْفَعَة بِاخْتِيَارِهِ أَو يدْفع عَن نَفسه ضَرَرا
أَلا ترى أَن الله تَعَالَى خير الْحَالِف بَين الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة فِي الْكَفَّارَة ليحصل للمكفر الرِّفْق لنَفسِهِ بِاخْتِيَارِهِ الْأَيْسَر عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يتَحَقَّق فِي التَّخْيِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي الْجِنْس الْوَاحِد بِوَجْه وَسَوَاء صلى رَكْعَتَيْنِ أَو أَرْبعا فَهُوَ ظهر وببداهة الْعُقُول يعلم أَن الرِّفْق مُتَعَيّن فِي أَدَاء الرَّكْعَتَيْنِ فَمن قَالَ بِأَنَّهُ يتَخَيَّر بَين الْأَقَل وَالْأَكْثَر من غير رفق لَهُ فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يثبت لَهُ خيارا يَلِيق بالعبودية وَالْعجز وَخطأ هَذَا غير مُشكل وَمن يَقُول بِأَن للْعَبد أَن يرد مَا أسقط الله تَعَالَى عَنهُ بطرِيق التَّصَدُّق عَلَيْهِ فخطؤه لَا يشكل أَيْضا لِأَن عَفْو الله تَعَالَى عَن الْعباد فِي الْآخِرَة لَا يَقُول فِيهِ أحد من الْعُقَلَاء إِنَّه يرْتَد برد العَبْد وَإنَّهُ تَخْيِير للْعَبد وَهَذَا بِخِلَاف العَبْد الْمَأْذُون فِي أَدَاء الْجُمُعَة لِأَن الْجُمُعَة غير الظّهْر وَلِهَذَا لَا يجوز بِنَاء أَحدهمَا على الآخر وَعند الْمُغَايرَة لَا يتَعَيَّن الرِّفْق فِي الْأَقَل عددا فَأَما ظهر الْمُقِيم وَظهر الْمُسَافِر فواحد فِي الحكم فبالتخيير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِيهِ لَا يتَحَقَّق شَيْء من معنى الرِّفْق فِيهِ
وَنَظِير هَذَا العَبْد الْجَانِي إِذا جنى جِنَايَة يُخَيّر الْمولى بَين الدّفع وَالْفِدَاء فَإِن أعْتقهُ الْمولى وَهُوَ لَا يعلم بِالْجِنَايَةِ أَو كَانَ الْجَانِي مُدبرا تكون على الْمولى قِيمَته وَلَا خِيَار لَهُ فِي ذَلِك لِأَن الْجِنْس لما كَانَ وَاحِدًا فالرفق كُله مُتَعَيّن فِي الْأَقَل
وَكَذَلِكَ من اشْترى شَيْئا لم يره يثبت لَهُ خِيَار الرُّؤْيَة لتحقيق معنى الرِّفْق باسترداد الثّمن عِنْد فسخ(1/123)
البيع وَفِي السّلم لَا يثبت خِيَار الرُّؤْيَة لِأَن برد الْمَقْبُوض لَا يتَوَصَّل إِلَى الرِّفْق باسترداد الثّمن وَلكنه يرجع بِمثل الْمَقْبُوض فَلَا يظْهر فِيهِ معنى الرِّفْق
فَإِن قيل معنى الرِّفْق هُنَا يتَحَقَّق من حَيْثُ إِن ثَوَابه فِي أَدَاء الْأَرْبَع أَكثر وَأَدَاء الرَّكْعَتَيْنِ على بدنه أيسر فالتخيير لهَذَا الْمَعْنى
قُلْنَا أَحْكَام الدُّنْيَا لَا تبنى على مَا هُوَ من أَحْكَام الْآخِرَة وَهُوَ نيل الثَّوَاب مَعَ أَن الثَّوَاب كُله فِي امْتِثَال الْأَمر بأَدَاء الْوَاجِب لَا فِي عدد الرَّكْعَات فَإِن جُمُعَة الْحر فِي الثَّوَاب لَا يكون دون ظهر العَبْد وفجر الْمُقِيم فِي الثَّوَاب لَا يكون دون ظَهره فَعرفنَا أَن هَذَا الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق فِي ثَوَاب الصَّلَاة أَيْضا وَإِنَّمَا يتَحَقَّق معنى الرِّفْق فِي الصَّوْم من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا أَن فِي الْفطر نوع رفق لَهُ وَفِي الصَّوْم نوع رفق آخر فَكَانَ التَّخْيِير بَينهمَا مُسْتَقِيمًا
وَيخرج على هَذَا من نذر صَوْم سنة إِن فعل كَذَا فَفعل وَهُوَ مُعسر فَإِنَّهُ يتَخَيَّر بَين صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام وَبَين صَوْم سنة على قَول مُحَمَّد رَحمَه الله وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه رَجَعَ إِلَيْهِ قبل مَوته بأيام لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ حكما فَفِي صَوْم سنة وَفَاء بالمنذور وَأَدَاء مَا هُوَ قربَة ابْتِدَاء وَصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام كَفَّارَة لما لحقه بخلف الْوَعْد الْمُؤَكّد بِالْيَمِينِ وَقد بَينا أَن التَّخْيِير عِنْد الْمُغَايرَة يتَحَقَّق فِيهِ معنى الرِّفْق وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا التَّخْيِير الْمَذْكُور فِي حق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنه فِيمَا الْتَزمهُ من الصَدَاق بَين الْأَقَل وَالْأَكْثَر فِي جنس وَاحِد كَمَا قَالَ تَعَالَى {على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} لِأَن الزِّيَادَة على الثماني كَانَ فضلا من عِنْده مُتَبَرعا بِهِ فَأَما الْوَاجِب من الصَدَاق وَهُوَ الْأَقَل عندنَا
هَكَذَا فِي مَسْأَلَة الْخلاف فالفرض رَكْعَتَانِ عندنَا وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ نفل مَشْرُوع للْعَبد يتَبَرَّع بِهِ من عِنْده وَلَكِن الِاشْتِغَال بأَدَاء النَّفْل قبل إِكْمَال الْفَرْض مُفسد للْفَرض وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَسمَاء صِيغَة الْخطاب فِي تنَاوله المسميات وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن هَذِه الْأَسْمَاء أَرْبَعَة الْخَاص وَالْعَام والمشترك والمؤول
فالخاص كل لفظ مَوْضُوع لِمَعْنى مَعْلُوم على الِانْفِرَاد وكل اسْم لمسمى مَعْلُوم(1/124)
على الِانْفِرَاد وَمِنْه يُقَال اخْتصَّ فلَان بِملك كَذَا أَي انْفَرد بِهِ وَلَا شركَة للْغَيْر مَعَه وخصني فلَان بِكَذَا أَي أفرده لي وَفُلَان خَاص فلَان وَمِنْه سميت الْخَصَاصَة للانفراد عَن المَال وَعَن نيل أَسبَاب المَال مَعَ الْحَاجة وَمعنى الْخُصُوص فِي الْحَاصِل الِانْفِرَاد وَقطع الِاشْتِرَاك فَإِذا أُرِيد بِهِ خُصُوص الْجِنْس قيل إِنْسَان وَإِذا أُرِيد بِهِ خُصُوص النَّوْع قيل رجل وَإِذا أُرِيد بِهِ خُصُوص الْعين قيل زيد
وَأما الْعَام كل لفظ يَنْتَظِم جمعا من الْأَسْمَاء لفظا أَو معنى ونعني بالأسماء هُنَا المسميات وَقَوْلنَا لفظا أَو معنى تَفْسِير للانتظام أَي يَنْتَظِم جمعا من الْأَسْمَاء لفظا مرّة كَقَوْلِنَا زيدون وَمعنى تَارَة كَقَوْلِنَا من وَمَا وَمَا أشبههما
وَمعنى الْعُمُوم لُغَة الشُّمُول تَقول الْعَرَب عمهم الصّلاح وَالْعدْل أَي شملهم وَعم الخصب أَي شَمل الْبلدَانِ أَو الْأَعْيَان وَمِنْه سميت النَّخْلَة الطَّوِيلَة عميمة والقرابة إِذا اتسعت انْتَهَت إِلَى العمومة فَكل لفظ يَنْتَظِم جمعا من الْأَسْمَاء سمي عَاما لِمَعْنى الشُّمُول وَذَلِكَ نَحْو اسْم الشَّيْء فَإِنَّهُ يعم الموجودات كلهَا عندنَا
وَذكر أَبُو بكر الْجَصَّاص رَحمَه الله أَن الْعَام مَا يَنْتَظِم جمعا من الْأَسَامِي أَو الْمعَانِي وَهَذَا غلط مِنْهُ فَإِن تعدد الْمعَانِي لَا يكون إِلَّا بعد التغاير وَالِاخْتِلَاف وَعند ذَلِك اللَّفْظ الْوَاحِد لَا ينتظمهما وَإِنَّمَا يحْتَمل أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا بِاللَّفْظِ وَهَذَا يكون مُشْتَركا لَا عَاما وَلَا عُمُوم للمشترك عندنَا وَقد نَص الْجَصَّاص فِي كِتَابه على أَن الْمَذْهَب فِي الْمُشْتَرك أَنه لَا عُمُوم لَهُ فَعرفنَا أَن هَذَا سَهْو مِنْهُ فِي الْعبارَة أَو هُوَ مؤول وَمرَاده أَن الْمَعْنى الْوَاحِد بِاعْتِبَار أَنه يعم الْمحَال يُسمى مَعَاني مجَازًا فَإِنَّهُ يُقَال مطر عَام لِأَنَّهُ عَم الْأَمْكِنَة وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة معنى وَاحِد وَلَكِن لتَعَدد الْمحَال الَّذِي تنَاوله سَمَّاهُ مَعَاني وَلَكِن هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا قَالَ مَا يَنْتَظِم جمعا من الْأَسَامِي والمعاني
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَكَذَا رَأَيْته فِي بعض النّسخ من كِتَابه فَأَما قَوْله أَو الْمعَانِي فَهُوَ سَهْو مِنْهُ وَذكر أَن إِطْلَاق لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة فِي الْمعَانِي وَالْأَحْكَام كَمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاء والألفاظ
وَيُقَال عمهم الْخَوْف وعمهم الخصب بِاعْتِبَار الْمَعْنى من غير أَن يكون هُنَاكَ لفظ وَهَذَا غلط أَيْضا فَإِن الْمَذْهَب أَنه لَا عُمُوم للمعاني حَقِيقَة وَإِن كَانَ(1/125)
يُوصف بِهِ مجَازًا وسيأتيك بَيَان هَذَا الْفَصْل فِي بَاب بَيَان إبِْطَال القَوْل بتخصيص الْعِلَل الشَّرْعِيَّة
وَأما الْمُشْتَرك فَكل لفظ يشْتَرك فِيهِ معَان أَو أسام لَا على سَبِيل الانتظام بل على احْتِمَال أَن يكون كل وَاحِد هُوَ المُرَاد بِهِ على الِانْفِرَاد وَإِذا تعين الْوَاحِد مرَادا بِهِ انْتَفَى الآخر مثل اسْم الْعين فَإِنَّهُ للنَّاظِر ولعين المَاء وللشمس وللميزان وللنقد من المَال وللشيء الْمعِين لَا على أَن جَمِيع ذَلِك مُرَاد بِمُطلق اللَّفْظ وَلَكِن على احْتِمَال كَون كل وَاحِد مرَادا بِانْفِرَادِهِ عِنْد الْإِطْلَاق وَهَذَا لِأَن الِاسْم يتَنَاوَل كل وَاحِد من هَذِه الْأَشْيَاء بِاعْتِبَار معنى غير الْمَعْنى الآخر وَقد بَينا أَن لفظ الْوَاحِد لَا يَنْتَظِم الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة
وَبَيَان هَذَا فِي لفظ الْبَيْنُونَة فَإِنَّهُ يحْتَمل معنى الْإِبَانَة وَمعنى الْبَين وَمعنى الْبَيَان يَقُول الرجل بَان فلَان عني أَي هجرني وَبَان الْعُضْو من الْجِسْم أَي انْفَصل وَبَان لي كَذَا أَي ظهر فَيعلم أَن مُطلق اللَّفْظ لَا يَنْتَظِم هَذِه الْمعَانِي وَلَكِن يحْتَمل كل وَاحِد مِنْهَا أَن يكون مرَادا وَلِهَذَا سميناه مُشْتَركا فالاشتراك عبارَة عَن الْمُسَاوَاة وَفِي الِاحْتِمَال وجدت الْمُسَاوَاة بَينهمَا فَبَقيَ المُرَاد بِهِ مَجْهُولا لَا يُمكن الْعَمَل بمطلقه فِي الِابْتِدَاء بِمَنْزِلَة الْمُجْمل إِلَّا أَن الْفرق بَين الْمُشْتَرك والمجمل أَنه قد يتَوَصَّل إِلَى الْعَمَل بالمشترك عِنْد التَّأَمُّل فِي صِيغَة اللَّفْظ فيرجح بعض المحتملات وَيعرف أَنه هُوَ المُرَاد بِدَلِيل فِي اللَّفْظ من غير بَيَان آخر والمجمل مَا لَا يسْتَدرك بِهِ المُرَاد بِمُجَرَّد التَّأَمُّل فِي صِيغَة اللَّفْظ مَا لم يرجع فِي بَيَانه إِلَى الْمُجْمل ليصير المُرَاد بذلك الْبَيَان مَعْلُوما لَا بِدَلِيل فِي لفظ الْمُجْمل
وَبَيَان الْمُشْتَرك فِي لفظ الْقُرْء فَبين الْعلمَاء اتِّفَاق أَنه يحْتَمل الْأَطْهَار وَيحْتَمل الْحيض وَأَنه غير مُنْتَظم لَهما بل إِذا حملناه على الْحيض لدَلِيل فِي اللَّفْظ وَهُوَ أَن الْمَرْأَة لَا تسمى ذَات الْقُرْء إِلَّا بِاعْتِبَار الْحيض فَيَنْتَفِي كَون الْأَطْهَار مرَادا عندنَا وَإِذا حمله الْخصم على الْأَطْهَار لدَلِيل فِي اللَّفْظ وَهُوَ الِاجْتِمَاع أخرج الْحيض من أَن يكون مرَادا بِاللَّفْظِ
وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله لَو أوصى بِثلث مَاله لمواليه وَله موَالٍ أعتقوه وموال أعتقهم لَا تصح الْوَصِيَّة لِأَن الِاسْم مُشْتَرك يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ هُوَ الْمولى الْأَعْلَى وَيحْتَمل الْأَسْفَل وَفِي(1/126)
الْمَعْنى تغاير فَالْوَصِيَّة للأعلى بِمَعْنى المجازاة وشكرا للنعم وللأسفل للزِّيَادَة فِي الإنعام والترحم عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَظِم اللَّفْظ الْمَعْنيين جَمِيعًا للمغايرة بَينهمَا فَبَقيَ الْمُوصى لَهُ مَجْهُولا
وَلَو حلف لَا يكلم موَالِيه يتَنَاوَل يَمِينه الْأَعْلَى والأسفل جَمِيعًا بِاعْتِبَار أَن الْمَعْنى الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْيَمين غير مُخْتَلف فِي الْأَعْلَى والأسفل فلإيجاد الْمَعْنى لَا يتَحَقَّق فِيهِ الِاشْتِرَاك بل اللَّفْظ فِي هَذَا الحكم بِمَنْزِلَة الْعَام فَإِن اسْم الشَّيْء يتَنَاوَل الموجودات كلهَا بِاعْتِبَار معنى وَاحِد وَهُوَ صفة الْوُجُود فَكَانَ منتظما للْكُلّ والمشترك احْتِمَاله الْجمع من الْأَشْيَاء بِاعْتِبَار معَان مُخْتَلفَة فَعرفنَا بِهِ أَن المُرَاد وَاحِد مِنْهَا فاسم الْمولى إِذا اسْتَعْملهُ فِيمَا يخْتَلف فِيهِ الْمَعْنى وَالْمَقْصُود كَانَ مُشْتَركا وَفِيمَا لَا يخْتَلف فِيهِ الْمَعْنى كَانَ بِمَنْزِلَة الْعَام
وَأما المؤول فَهُوَ تبين بعض مَا يحْتَمل الْمُشْتَرك بغالب الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد وَمن قَوْلك آل يؤول أَي رَجَعَ وأوليته بِكَذَا إِذا رجعته وصرفته إِلَيْهِ ومآل هَذَا الْأَمر كَذَا أَي تصير عاقبته إِلَيْهِ فالمؤول مَا تصير إِلَيْهِ عَاقِبَة المُرَاد بالمشترك بِوَاسِطَة الْأَمر قَالَ تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله} أَي عاقبته وَمَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمر وَهُوَ خلاف الْمُجْمل فَالْمُرَاد بالمجمل إِنَّمَا يعرف بِبَيَان من الْمُجْمل وَذَلِكَ الْبَيَان يكون تَفْسِيرا يعلم بِهِ المُرَاد بِلَا شُبْهَة مَأْخُوذ من قَوْلك أَسْفر الصُّبْح إِذا أَضَاء وَظهر ظهورا منتشرا وأسفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا أَي كشفت وَجههَا وَهَذَا اللَّفْظ مقلوب من التَّفْسِير فَالْمَعْنى فيهمَا وَاحِد وَهُوَ الانكشاف والظهور على وَجه لَا شُبْهَة فِيهِ وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من فسر الْقُرْآن بِرَأْيهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار يَعْنِي قطع القَوْل بِأَن المُرَاد هَذَا بِرَأْيهِ فَإِن من فعل ذَلِك فَكَأَنَّهُ نصب نَفسه صَاحب الْوَحْي فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَبِهَذَا تبين خطأ الْمُعْتَزلَة أَن كل مُجْتَهد مُصِيب لما هُوَ الْحق حَقِيقَة فالاجتهاد عبارَة عَن غَالب الرَّأْي فَمن يَقُول إِنَّه يسْتَدرك بِهِ الْحق قطعا بِلَا شُبْهَة فَإِنَّهُ دَاخل فِي جملَة من تناولهم هَذَا الحَدِيث
وَصَارَ الْحَاصِل أَن الْعَام أَكثر انتظاما للمسميات من الْخَاص وَالْخَاص فِي معرفَة المُرَاد بِهِ أثبت من الْمُشْتَرك فَفِي الْمُشْتَرك احْتِمَال غير المُرَاد وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يتَحَقَّق الثُّبُوت والمشترك فِي إِمْكَان معرفَة المُرَاد عِنْد(1/127)
التَّأَمُّل فِي لَفظه أقوى من الْمُجْمل فَلَيْسَ فِي الْمُجْمل إِمْكَان ذَلِك بِدُونِ الْبَيَان على مَا نذكرهُ فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل فِي بَيَان حكم الْخَاص
قَالَ رَضِي الله عَنهُ حكم الْخَاص معرفَة المُرَاد بِاللَّفْظِ وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ لُغَة لَا يَخْلُو خَاص عَن ذَلِك وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن تغير اللَّفْظ عَن مَوْضُوعه عِنْد قيام الدَّلِيل فَيصير عبارَة عَنهُ مجَازًا وَلكنه غير مُحْتَمل للتَّصَرُّف فِيهِ بَيَانا فَإِنَّهُ مُبين فِي نَفسه عَامل فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ بِلَا شُبْهَة وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِي قَوْله تَعَالَى {ثَلَاثَة قُرُوء} إِن المُرَاد الْحيض لأَنا لَو حملناه على الْأَطْهَار كَانَ الِاعْتِدَاد بقرأين وَبَعض الثَّالِث وَلَو حملناه على الْحيض كَانَ التَّرَبُّص بِثَلَاثَة قُرُوء كوامل وَاسم الثَّلَاث مَوْضُوع لعدد مَعْلُوم لُغَة لَا يحْتَمل النُّقْصَان عَنهُ بِمَنْزِلَة اسْم الْفَرد فَإِنَّهُ لَا يحْتَمل الْعدَد وَاسم الْوَاحِد لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْمثنى فَفِي حمله على الْأَطْهَار ترك الْعَمَل بِلَفْظ الثَّلَاث فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ لُغَة وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَقُلْنَا فِي قَوْله {ارْكَعُوا واسجدوا} إِن فرض الرُّكُوع يتَأَدَّى بِأَدْنَى الانحطاط لِأَن اللَّفْظ لُغَة مَوْضُوع للميل عَن الاسْتوَاء يُقَال ركعت النَّخْلَة إِذا مَالَتْ وَركع الْبَعِير إِذا طأطأ رَأسه فإلحاق صفة الِاعْتِدَال بِهِ ليَكُون فرضا ثَابتا بِهَذَا النَّص لَا يكون عملا بِمَا وضع لَهُ هَذَا الْخَاص لُغَة وَلَكِن إِنَّمَا يكون وَفِي العثمانية إِنَّمَا يثبت بِصفة الِاعْتِدَال بِخَبَر الْوَاحِد فَيكون مُوجبا للْعَمَل مُمكنا للنقصان فِي الصَّلَاة إِذا تَركه وَلَا يكون مُفْسِدا للصَّلَاة لِأَن ذَلِك حكم ترك الثَّابِت بِالنَّصِّ وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} فالطواف مَوْضُوع لُغَة لِمَعْنى مَعْلُوم لَا شُبْهَة فِيهِ وَهُوَ الدوران حول الْبَيْت ثمَّ إِلْحَاق شَرط الطَّهَارَة بالدوران ليَكُون فرضا لَا يعْتد الطّواف بِدُونِهِ لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون نسخا لَهُ وَجعل الطَّهَارَة وَاجِبا فِيهِ حَتَّى يتَمَكَّن النُّقْصَان بِتَرْكِهِ يكون عملا بِمُوجب كل دَلِيل فَإِن ثُبُوت شَرط الطَّهَارَة بِخَبَر الْوَاحِد وَهُوَ مُوجب للْعَمَل فبتركه يتَمَكَّن النُّقْصَان فِي الْعَمَل شرعا فَيُؤْمَر بِالْإِعَادَةِ أَو الْجَبْر بِالدَّمِ ليرتفع بِهِ النُّقْصَان وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم}(1/128)
الْآيَة فَإِن اللَّفْظ مَوْضُوع لُغَة لغسل هَذِه الْأَعْضَاء ففرضية الْغسْل فِي المغسولات وَالْمسح فِي الممسوحات ثَابت بِهَذَا النَّص وَاشْتِرَاط النِّيَّة والموالاة وَالتَّرْتِيب وَالتَّسْمِيَة ليَكُون فرضا لَا يَزُول الْحَدث بِدُونِهَا مَعَ وجود الْغسْل وَالْمسح لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون نسخا لَهُ وَجعل ذَلِك وَاجِبا أَو سنة للإكمال كَمَا هُوَ مُوجب خبر الْوَاحِد يكون عملا بِكُل دَلِيل ومراعاة لمرتبة كل دَلِيل
فَتبين أَن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم حط دَرَجَة النَّص عَن مرتبته أَو رفع دَرَجَة خبر الْوَاحِد فَوق مرتبته فَلَا يكون القَوْل بِهِ صَحِيحا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِن الْقطع لفظ خَاص لِمَعْنى مَعْلُوم فإبطال عصمَة المَال والتقوم الَّذِي كَانَ ثَابتا قبل فعل السّرقَة أَو بعده قبل الْقطع لَا يكون عملا بِهَذَا الْخَاص بل يكون زِيَادَة أثبتموه بِالرَّأْيِ أَو بِخَبَر الْوَاحِد فقد دَخَلْتُم فِيمَا أَبَيْتُم
وَلَكنَّا نقُول مَا أثبتنا ذَلِك إِلَّا بِلَفْظ خَاص فِي الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} فاسم الْجَزَاء يُطلق على مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى بِمُقَابلَة أَفعَال الْعباد فَثَبت بِهَذَا اللَّفْظ الْخَاص أَن الْقطع حق الله تَعَالَى خَالِصا وَتبين بِهِ أَن سَببه جِنَايَة على حق الله تَعَالَى وَلَا يجب الْقطع إِلَّا بِاعْتِبَار الْعِصْمَة والتقوم فِي الْمَسْرُوق فبه يتَبَيَّن أَن الْعِصْمَة والتقوم عِنْد فعل السّرقَة صَار حَقًا لله تَعَالَى حَيْثُ وَجب الْقطع بِاعْتِبَارِهِ حَقًا لَهُ وَيتم ذَلِك بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَن مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى فتمامه يكون بِالِاسْتِيفَاءِ إِذْ الْمَقْصُود بِهِ الزّجر وَذَلِكَ يحصل بِالِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا التَّحْقِيق تبين أَن الْعِصْمَة والتقوم لم يبْق حَقًا للْعَبد فَلَا يجب الضَّمَان بِهِ أَو عرفنَا ذَلِك من قَوْله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا} فَإِن الْجَزَاء لُغَة يَسْتَدْعِي الْكَمَال من قَوْلهم جزى أَي قضى أَو جزأ بِالْهَمْزَةِ أَي كفى وَكَمَال الْجَزَاء بِاعْتِبَار كَمَال السَّبَب وَهُوَ أَن يكون(1/129)
الْفِعْل حَرَامًا لعَينه فَمَعَ بَقَاء التقوم والعصمة حَقًا للْمَالِك لَا يكون الْفِعْل حَرَامًا لعَينه بل لغيره وَهُوَ حق الْمَالِك فَعرفنَا أَنه لم يبْق الْعِصْمَة والتقوم فِي الْمحل حَقًا للْعَبد عندنَا بِاعْتِبَار خَاص مَنْصُوص عَلَيْهِ وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْملك فَإِنَّهُ يبْقى للْمَالِك حَتَّى يسْتَردّهُ إِن كَانَ قَائِما بِعَيْنِه لِأَن مَعَ بَقَاء الْملك لَهُ لَا تنعدم صفة الْكَمَال فِي السَّبَب وَهُوَ كَون الْفِعْل حَرَامًا لعَينه أَلا ترى أَن الْعصير إِذا تخمر يبْقى مَمْلُوكا وَيكون الْفِعْل فِيهِ حَرَامًا لعَينه حَتَّى يجب الْحَد بشربه وَلَكِن لم يبْق مَعْصُوما مُتَقَوّما لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَنْزِلَة عصير الْغَيْر فَلَا يكون شربه حَرَامًا لعَينه
ثمَّ وجوب الْقطع بِاعْتِبَار الْعِصْمَة والتقوم فِي مَحل مَمْلُوك فَأَما الْمَالِك فَهُوَ غير مُعْتَبر فِيهِ لعَينه بل ليظْهر السَّبَب بخصومته عِنْد الإِمَام وَلِهَذَا لَو ظهر بخصومة غير الْمَالِك نُقِيم الْحَد بخصومة الْمكَاتب وَالْعَبْد الْمَأْذُون الْمُسْتَغْرق بِالدّينِ فِي كَسبه وَالْمُتوَلِّيّ فِي مَال الْوَقْف وَنحن إِنَّمَا جعلنَا مَا وَجب الْقطع بِاعْتِبَارِهِ حَقًا لله تَعَالَى لضَرُورَة كَون الْوَاجِب مَحْض حق الله تَعَالَى وَذَلِكَ فِي الْعِصْمَة والتقوم دون أصل الْملك
وَمن هَذِه الْجُمْلَة قَوْله تَعَالَى {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} فالابتغاء مَوْضُوع لِمَعْنى مَعْلُوم وَهُوَ الطّلب بِالْعقدِ وَالْبَاء للإلصاق فَثَبت لَهُ اشْتِرَاط كَون المَال مُلْصقًا بِهِ بالابتغاء تَسْمِيَة أَو وجوبا وَالْقَوْل بتراخيه عَن الابتغاء إِلَى وجود حَقِيقَة الْمَطْلُوب كَمَا قَالَه الْخصم فِي المفوضة أَنه لَا يجب الْمهْر لَهَا إِلَّا بِالْوَطْءِ يكون ترك الْعَمَل بالخاص فَيكون فِي معنى النّسخ لَهُ وَلَا يجوز الْمصير إِلَيْهِ بِالرَّأْيِ
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} فالفرض لِمَعْنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ التَّقْدِير وَالْكِتَابَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَرضنَا} لِمَعْنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ إِرَادَة الْمُتَكَلّم نَفسه فَالْقَوْل بِأَن الْمهْر غير مُقَدّر شرعا بل يكون إِيجَاب أَصله بِالْعقدِ وَبَيَان مِقْدَاره مفوضا إِلَى رَأْي الزَّوْجَيْنِ يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص فَإِنَّمَا الْعَمَل بِهِ فِيمَا قُلْنَا إِن وجوب أَصله وَأدنى الْمِقْدَار فِيهِ ثَابت شرعا لَا خِيَار لَهُ فِيهِ للزوجين
وَمن هَذَا النَّوْع مَا قَالَ مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} إِن كلمة حَتَّى مَوْضُوع لِمَعْنى لُغَة وَهُوَ الْغَايَة وَالنِّهَايَة فَجعله لِمَعْنى مُوجب حلا حَادِثا يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص وَإِنَّمَا الْعَمَل بِهِ فِي أَن يَجْعَل غَايَة للْحُرْمَة الْحَاصِلَة فِي الْمحل وَلَا حُرْمَة قبل اسْتِيفَاء عدد الطَّلَاق وَلَا تصور للغاية قبل وجود أصل الشَّيْء فَإِن الْمُنْتَهى بالغاية بعض الشَّيْء فَكيف يتَحَقَّق قبل وجود أَصله بل يكون وجود الزَّوْج الثَّانِي فِي هَذِه الْحَالة كَعَدَمِهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله مَا تنَاوله هَذَا الْخَاص فَهُوَ غَايَة لما وضع(1/130)
اللَّفْظ لَهُ وَهُوَ عقد الزَّوْج الثَّانِي فَإِن النِّكَاح وَإِن كَانَ حَقِيقَة للْوَطْء فقد يُطلق بِمَعْنى العقد وَالْمرَاد العقد هُنَا بِدَلِيل الْإِضَافَة إِلَى الْمَرْأَة وَإِنَّمَا يُضَاف إِلَيْهَا العقد لتحَقّق مُبَاشَرَته مِنْهَا وَلَا يُضَاف إِلَيْهَا الْوَطْء حَقِيقَة لِأَنَّهَا مَحل الْفِعْل لَا مُبَاشرَة للْوَطْء فَأَما شَرط الدُّخُول فأثبتناه بِحَدِيث مَشْهُور وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن امْرَأَة رِفَاعَة جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِن رِفَاعَة طَلقنِي فَبت طَلَاقي فَتزوّجت بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير فَلم أجد مَعَه إِلَّا مثل هَذِه وأشارت إِلَى هدبة ثوبها كَانَت تتهمه بالعنة فَقَالَ أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة فَقَالَت نعم فَقَالَ لَا حَتَّى تَذُوقِي من عُسَيْلَته وَيَذُوق من عُسَيْلَتك فَفِي اشْتِرَاط الْوَطْء للعود إِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب للْحلّ
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الْوَطْء من الزَّوْج الثَّانِي شَرط لحل الْعود إِلَى الأول بِهَذِهِ الْآثَار فَنحْن عَملنَا بِمَا هُوَ مُوجب أصل هَذَا الدَّلِيل بِصفتِهِ فجعلناه مُوجبا للْحلّ وهم أسقطوا اعْتِبَار هَذَا الْوَصْف من هَذَا الدَّلِيل اسْتِدْلَالا بِنَصّ لَيْسَ فِيهِ بَيَان أصل هَذَا الشَّرْط وَلَا صفته فَيكون هَذَا ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الْمُوجب لَهُ لَا عملا بِكُل خَاص فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ لُغَة
وَمن ذَلِك قَوْلنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ} لِأَن الْفَاء مَوْضُوع لُغَة للوصل والتعقيب فَذكره بعد الْخلْع الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {فِيمَا افتدت بِهِ} يكون بَيَانا خَاصّا أَن إِيقَاع التطليقتين بعد الْخلْع مُتَّصِلا بِهِ يكون عَاملا مُوجبا حُرْمَة الْمحل بِخِلَاف مَا يَقُوله الْخصم إِن المختلعة لَا يلْحقهَا الطَّلَاق
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} فَفِي الْإِضَافَة إِلَيْهَا ثمَّ تَخْصِيص جَانبهَا بِالذكر بَيَان أَن الَّذِي يكون من جَانب الزَّوْج فِي الْخلْع عين مَا تنَاوله أول الْآيَة وَهُوَ الطَّلَاق لَا غَيره وَهُوَ الْفَسْخ فَجعل الْخلْع فسخا يكون ترك الْعَمَل بِهَذَا الْخَاص وَجعله طَلَاقا كَمَا هُوَ مُوجب هَذَا الْخَاص يكون عملا بالمنصوص هَذَا بَيَان الطَّرِيق فِيمَا يكون من هَذَا الْجِنْس(1/131)
فصل فِي بَيَان حكم الْعَام
قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا سلف لَهُم فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة حكمه الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك أَو الْمُجْمل وَيُسمى هَؤُلَاءِ الواقفية إِلَّا أَن طَائِفَة مِنْهُم يَقُولُونَ يثبت بِهِ أخص الْخُصُوص وَفِيمَا وَرَاء ذَلِك الحكم هُوَ الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ
وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ مجْرى على عُمُومه مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله مَعَ ضرب شُبْهَة فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فَلَا يُوجب الحكم قطعا بل على تجوز أَن يظْهر معنى الْخُصُوص فِيهِ لقِيَام الدَّلِيل بِمَنْزِلَة الْقيَاس فَإِنَّهُ يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا على أَن يكون مَقْطُوعًا بِهِ بل مَعَ تجوز احْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ أَو الْغَلَط وَلِهَذَا جوز تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاء وبخبر الْوَاحِد فقد جعل الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد الَّذِي لَا يُوجب الْعلم قطعا مقدما على مُوجب الْعَام حَتَّى جوز التَّخْصِيص بهما وَجعل الْخَاص أولى بالمصير إِلَيْهِ من الْعَام على هَذَا دلّت مسَائِله فَإِنَّهُ رجح خبر الْعَرَايَا على عُمُوم قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التَّمْر بِالتَّمْرِ كَيْلا بكيل فِي حكم الْعَمَل بِهِ وَجعل هَذَا قولا وَاحِدًا لَهُ فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم وَفِيمَا لَا يحْتَمل الْعُمُوم لِانْعِدَامِ مَحَله فَقَالَ يجب الْعَمَل فيهمَا بِقدر الْإِمْكَان حَتَّى يقوم دَلِيل التَّخْصِيص على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا
وَالْمذهب عندنَا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا بِمَنْزِلَة الْخَاص مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله يَسْتَوِي فِي ذَلِك الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر إِلَّا فِيمَا لَا يُمكن اعْتِبَار الْعُمُوم فِيهِ لِانْعِدَامِ مَحَله فَحِينَئِذٍ يجب التَّوَقُّف إِلَى أَن يتَبَيَّن مَا هُوَ المُرَاد بِهِ بِبَيَان ظَاهر بِمَنْزِلَة الْمُجْمل فعلى هَذَا دلّت مسَائِل عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الزِّيَادَات إِذا أوصى بِخَاتم لرجل ثمَّ أوصى بفصه لآخر بعد ذَلِك فِي كَلَام مَقْطُوع فالحلقة للْمُوصى لَهُ بالخاتم والفص بَينهمَا نِصْفَانِ لِأَن الْإِيجَاب الثَّانِي فِي عين مَا أوجبه للْأولِ لَا يكون رُجُوعا(1/132)
عَن الأول فيجتمع فِي الفص وصيتان إِحْدَاهمَا بِإِيجَاب عَام وَالْأُخْرَى بِإِيجَاب خَاص ثمَّ إِذا ثَبت الْمُسَاوَاة بَينهمَا فِي الحكم يَجْعَل الفص بَينهمَا نِصْفَيْنِ
وَقَالَ فِي الْوَصَايَا لَو كَانَت الوصيتان بِهَذِهِ الصّفة فِي كَلَام مَوْصُول كَانَ الفص للْمُوصى لَهُ خَاصَّة لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْكَلَام مَوْصُولا كَانَ آخِره بَيَانا لأوله فَيظْهر بِهِ أَن مُرَاده بِالْإِيجَابِ الْعَام الْحلقَة دون الفص
وَقَالَ فِي الْمُضَاربَة إِذا اخْتلف الْمضَارب وَرب المَال فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَالْقَوْل قَول من يَدعِي الْعُمُوم أَيهمَا كَانَ فلولا الْمُسَاوَاة بَين الْخَاص وَالْعَام حكما فِيمَا يتَنَاوَلهُ لم يصر إِلَى التَّرْجِيح بِمُقْتَضى العقد
قَالَ وَإِذا أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَة وأرخ كل مِنْهُمَا آخرهما تَارِيخا أولى سَوَاء كَانَ مُبينًا للْعُمُوم أَو الْخُصُوص فقد جعل الْعَام الْمُتَأَخر رَافعا للخاص الْمُتَقَدّم كَمَا جعل الْخَاص الْمُتَأَخر مُخَصّصا للعام الْمُتَقَدّم وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بعد الْمُسَاوَاة وَظهر من مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ نَحْو حفر بِئْر الناضح فَإِنَّهُ رجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حفر بِئْرا فَلهُ مِمَّا حولهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعا على الْخَاص الْوَارِد فِي بِئْر الناضح أَنه سِتُّونَ ذِرَاعا فرجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام مَا أخرجت الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر على الْخَاص الْوَارِد بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة وَنسخ الْخَاص بِالْعَام أَيْضا كَمَا فعله فِي بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه فَإِنَّهُ جعل الْخَاص من حَدِيث العرنيين فِيهِ مَنْسُوخا بِالْعَام وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام استنزهوا عَن الْبَوْل فَإِن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ وَأكْثر مَشَايِخنَا رَحِمهم الله يَقُولُونَ أَيْضا إِن الْعَام الَّذِي لم يثبت خصوصه بِدَلِيل لَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ فزعموا أَن الْمَذْهَب هَذَا فَإِن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب لَا يكون مُوجبا تَخْصِيص الْعُمُوم فِي قَوْله تَعَالَى {فاقرؤوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} حَتَّى لَا تتَعَيَّن قِرَاءَة الْفَاتِحَة فرضا
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} عَام لم تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَلَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا بِالْقِيَاسِ (وَكَذَلِكَ قَوْله {وَمن دخله كَانَ آمنا} عَام لم يثبت تَخْصِيصه وَلَا يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد يثبت خصومه فَإِن النَّاسِي جعل(1/133)
ذَاكِرًا حكما بطريقة إِقَامَة مِلَّته مقَام التَّسْمِيَة وَلَا بِالْقِيَاسِ) حَتَّى يثبت الْأَمْن بِسَبَب الْحرم الْمُبَاح الدَّم بِاعْتِبَار الْعُمُوم وَمَتى ثَبت التَّخْصِيص فِي الْعَام بدليله فَحِينَئِذٍ يجوز تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
أما الواقفون استدلوا بالاشتراك فِي الِاسْتِعْمَال فقد يسْتَعْمل لفظ الْعَام وَالْمرَاد بِهِ الْخَاص قَالَ تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} وَالْمرَاد بِهِ رجل وَاحِد وَقد يسْتَعْمل لَفْظَة الْجَمَاعَة للفرد قَالَ تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَقَالَ {رب ارْجِعُونِ} وَهَذَا فِي كَلَام الخطباء ونظم الشُّعَرَاء مَعْرُوف فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يشْتَرك فِيهِ احْتِمَال الْعُمُوم وَاحْتِمَال الْخُصُوص فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك يجب الْوَقْف فِيهِ حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد أَو نقُول لفظ الْعَام مُجمل فِي معرفَة المُرَاد بِهِ حَقِيقَة لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد بعض مَا تنَاوله وَذَلِكَ الْبَعْض لَا يُمكن مَعْرفَته بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة اللَّفْظ أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه الْبَيَان وَالتَّفْسِير (مُطلق هَذَا اللَّفْظ) مَا هُوَ المُرَاد بِهِ من الْعُمُوم بِأَن نقُول جَاءَنِي الْقَوْم كلهم أَو أَجْمَعُونَ وَلَو كَانَ الْعُمُوم مُوجب مُطلق هَذَا اللَّفْظ لم يستقم تَفْسِيره بِلَفْظ آخر كالخاص فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ مَا يكون ثَابتا بِمُوجبِه بِأَن يَقُول جَاءَنِي زيد كُله أَو جَمِيعه وَلما استقام ذَلِك فِي الْعَام عرفنَا أَنه غير مُوجب للإحاطة بِنَفسِهِ وَالْبَعْض الَّذِي هُوَ مُرَاد مِنْهُ غير مَعْلُوم فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُجْمل
وَالَّذين قَالُوا بأخص الْخُصُوص قَالُوا ذَلِك الْقدر يتَيَقَّن بِأَنَّهُ مُرَاد سَوَاء كَانَ المُرَاد الْخُصُوص أَو الْعُمُوم فللتيقن بِهِ جَعَلْنَاهُ مرَادا وَإِنَّمَا الْوَقْف فِيمَا وَرَاء ذَلِك وَبَيَانه أَن إِرَادَة الثَّلَاث من لفظ الْجَمَاعَة وَإِرَادَة الْوَاحِد من لفظ الْجِنْس مُتَيَقن بِهِ فمطلق اللَّفْظ فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْإِحَاطَة عِنْد اقتران الْبَيَان بِاللَّفْظِ وَذَلِكَ مُوجب الْكَلَام فَكَذَلِك أخص الْخُصُوص مُوجب مُطلق لفظ الْعَام
{اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} والاتباع لفظ خَاص فِي اللُّغَة بِمَعْنى(1/134)
وَالدَّلِيل لعامة الْفُقَهَاء على أَن الْعَام مُوجب الْعَمَل بِعُمُومِهِ قَوْله تَعَالَى مَعْلُوم وَفِي الْمنزل عَام وخاص فَيجب بِهَذَا الْخَاص اتِّبَاع جَمِيع الْمنزل والاتباع إِنَّمَا يكون بالاعتقاد وَالْعَمَل بِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوَقُّف اتِّبَاع للمنزل فَعرفنَا أَن الْعَمَل وَاجِب بِجَمِيعِ مَا أنزل على مَا أوجبه صِيغَة الْكَلَام إِلَّا مَا يظْهر نسخه بِدَلِيل فقد ظهر الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على وَجه لَا يُمكن إِنْكَاره فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حِين دَعَا أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَلم يجبهُ بَين لَهُ خطأه فِيمَا صنع بالاستدلال بقوله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} وَهَذَا عَام فَلَو كَانَ مُوجبه التَّوَقُّف على مَا زَعَمُوا لم يكن لاستدلاله عَلَيْهِ بِهِ معنى وَالصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي زمن الصّديق حِين خالفوه فِي الِابْتِدَاء فِي قتال مانعي الزَّكَاة استدلوا عَلَيْهِ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَهُوَ عَام ثمَّ اسْتدلَّ عَلَيْهِم بقوله تَعَالَى {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} فَرَجَعُوا إِلَى قَوْله وَهَذَا عَام
وَحين أَرَادَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن يوظف الْجِزْيَة وَالْخَرَاج على أهل السوَاد اسْتدلَّ على من خَالفه فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} وَقَالَ أرى لمن بعدكم فِي هَذَا الْفَيْء نَصِيبا وَلَو قسمته بَيْنكُم لم يبْق لمن بعدكم فِيهِ نصيب وَهَذِه الْآيَة فِي هَذَا الحكم نِهَايَة فِي الْعُمُوم
وَلما هم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجم الْمَرْأَة الَّتِي ولدت لسِتَّة أشهر اسْتدلَّ عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس فَقَالَ أما إِنَّهَا لَو خاصمتكم بِكِتَاب الله لخصمتكم قَالَ الله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَقَالَ {وفصاله فِي عَاميْنِ} فَإِذا ذهب للفصال عامان بَقِي للْحَمْل سِتَّة أشهر وَهَذَا اسْتِدْلَال بِالْعَام
وَحين اخْتلف عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ وطئا بِملك الْيَمين قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَحَلَّتْهُمَا قَوْله تَعَالَى {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} وحرمتهما قَوْله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ} فالأخذ بِمَا يحرم أولى احْتِيَاطًا فوافقه عُثْمَان فِي هَذَا إِلَّا أَنه قَالَ عِنْد تعَارض الدَّلِيلَيْنِ أرجح الْمُوجب للْحلّ بِاعْتِبَار الأَصْل
وَحين اخْتلف عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ وَاسْتدلَّ بالآيتين قَوْله تَعَالَى {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} وَقَوله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ}(1/135)
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى نزلت بعد سُورَة النِّسَاء الطُّولى يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} نزلت بعد قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} فاستدل بِهَذَا الْعَام على أَن عدتهَا بِوَضْع الْحمل لَا غير وَجعل الْخَاص فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا مَنْسُوخا بِهَذَا الْعَام فِي حق الْحَامِل
وَاحْتج ابْن عمر على ابْن الزبير فِي التَّحْرِيم بالمصة والمصتين بقوله تَعَالَى {وأخواتكم من الرضَاعَة} وَاحْتج ابْن عَبَّاس على الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الصّرْف بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْعُمُومِ الْمُوجب لحُرْمَة الرِّبَا من الْكتاب وَالسّنة فَرجع إِلَى قَوْلهم
فَبِهَذَا تبين أَنهم اعتقدوا وجوب الْعَمَل بِالْعَام وإجراءه على عُمُومه
وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِنَّهُم عرفُوا ذَلِك بِدَلِيل آخر من حَال شاهدوه أَو بِبَيَان سَمِعُوهُ لِأَن الْمَنْقُول احتجاج بَعضهم على بعض بِصِيغَة الْعُمُوم فَقَط وَفِي القَوْل بِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل تَعْطِيل الْمَنْقُول والإحالة على سَبَب آخر لم يعرف
ثمَّ لُزُوم الْعَمَل بالمنزل حكم ثَابت إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَلَو كَانَ ذَلِك فِي حَقهم بِاعْتِبَار دَلِيل آخر مَا وسعهم ترك النَّقْل فِيهِ وَلَو نقلوا ذَلِك لظهر وانتشر
يُؤَيّد مَا قُلْنَا حَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ حِين بلغه اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي نقل الْأَخْبَار جمعهم فَقَالَ إِنَّكُم إِذا اختلفتم فَمن بعدكم يكون أَشد اخْتِلَافا الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ فِيكُم كتاب الله تَعَالَى فأحلوا حَلَاله وحرموا حرَامه
وَلم يُخَالف أحد مِنْهُم فِي ذَلِك فَعرفنَا أَنهم عرفُوا المُرَاد بِعَين مَا هُوَ الْمَنْقُول إِلَيْنَا لَا بِدَلِيل آخر غير مَنْقُول إِلَيْنَا
ثمَّ الْعُمُوم معنى مَقْصُود من الْكَلَام عَام بِمَنْزِلَة الْخُصُوص فَلَا بُد أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع يعرف الْمَقْصُود بذلك اللَّفْظ لِأَن الْأَلْفَاظ لَا تقصر عَن الْمعَانِي وَبَيَان هَذَا أَن الْمُتَكَلّم بِاللَّفْظِ الْخَاص لَهُ فِي ذَلِك مُرَاد لَا يحصل بِاللَّفْظِ الْعَام وَهُوَ تَخْصِيص الْفَرد بِشَيْء فَكَانَ لتَحْصِيل مُرَاده لفظ مَوْضُوع وَهُوَ الْخَاص والمتكلم بِاللَّفْظِ الْعَام بِمَعْنى الْعَام لَهُ مُرَاد فِي الْعُمُوم لَا يحصل ذَلِك بِاللَّفْظِ الْخَاص وَلَا يَتَيَسَّر عَلَيْهِ التَّنْصِيص على كل فَرد بِمَا هُوَ مُرَاد بِاللَّفْظِ فَإِن من أَرَادَ عتق جَمِيع عبيده فَإِنَّمَا يتَمَكَّن من تَحْصِيل هَذَا الْمَقْصُود بقوله عَبِيدِي أَحْرَار وَهَذَا لفظ عَام فَمن جعل مُوجبه الْوَقْف فَإِنَّهُ يشق على الْمُتَكَلّم بِأَن يحصل مَقْصُوده فِي الْعُمُوم بِاسْتِعْمَال صيغته وَمَا قَالُوا إِنَّه قد اسْتعْمل الْعَام بِمَعْنى الْخَاص قُلْنَا وَيسْتَعْمل أَيْضا بِمَعْنى الْإِحَاطَة على وَجه لَا يحْتَمل غَيره قَالَ تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} وَقَالَ تَعَالَى {إِن الله} الْعَام فَلَا بُد من أَن يكون(1/136)
لمراده لفظ مَوْضُوع لُغَة وَذَلِكَ صِيغَة الْعُمُوم {لَا يظلم مِثْقَال ذرة} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} فَهَذَا الِاسْتِعْمَال يمنعهُم عَن القَوْل بالتوقف فِي مُوجب الْعُمُوم
ثمَّ الْعُمُوم بِهَذِهِ الصِّيغَة حَقِيقَة وَاحْتِمَال إِرَادَة الْمجَاز لَا يخرج الْحَقِيقَة من أَن تكون مُوجب مُطلق الْكَلَام أَلا ترى أَن بعد تعين الْإِحَاطَة فِيهِ بقوله تَعَالَى أَجْمَعُونَ أَو كلهم لَا يَنْتَفِي هَذَا الِاحْتِمَال من كل وَجه حَتَّى يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ الِاسْتِثْنَاء قَالَ تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس} وَيَقُول الرجل جَاءَنِي الْقَوْم كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا فلَانا وَفُلَانًا
ثمَّ هَذَا لَا يمْنَع القَوْل بِأَن مُوجبه الْإِحَاطَة فِيمَا تنَاوله فَكَذَلِك فِي مُطلق اللَّفْظ مَعَ أَنا لَا نقُول إِن مَا يقرن بِهِ يكون تَفْسِيرا وَلَكِن نقُول وَإِن كَانَ مُوجبه الْعُمُوم قطعا فَهُوَ غير مُحكم لاحْتِمَال إِرَادَة الْخُصُوص فِيهِ فَيصير بِمَا يقرن بِهِ محكما إِذا أطلق ذَلِك كَمَا فِي قَوْله جَاءَنِي الْقَوْم كلهم فَإِنَّهُ لَا يَنْفِي احْتِمَال الْخُصُوص بعد هَذَا إِذا لم يقرن بِهِ اسْتثِْنَاء يكون مغيرا لَهُ وَمثله فِي الْخَاص مَوْجُود فَإِن قَوْله جَاءَنِي فلَان خَاص مُوجب لما تنَاوله وَلكنه غير مُحكم فِيهِ لاحْتِمَال الْمجَاز فَإِذا قَالَ جَاءَنِي فلَان نَفسه يصير محكما وينتفي احْتِمَال الْمجَاز فِي أَن الَّذِي جَاءَهُ رَسُوله أَو عَبده أَو كِتَابه
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أجعَل مُطلق الْعَام مُوجبا للْعَمَل فِيمَا تنَاوله وَلَكِن احْتِمَال الْخُصُوص فِيهِ قَائِم وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يصير مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا أجعله مُوجبا للْعَمَل فِيمَا تنَاوله قطعا
وَلَكنَّا نقُول المُرَاد بِمُطلق الْكَلَام مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِيهِ والحقيقة مَا كَانَت الصِّيغَة مَوْضُوعَة لَهُ لُغَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لمقصود الْعُمُوم فَكَانَت حَقِيقَة فِيهَا وَحَقِيقَة الشَّيْء ثَابت بِثُبُوتِهِ قطعا مَا لم يقم الدَّلِيل على مجازه كَمَا فِي لفظ الْخَاص فَإِن مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ يكون ثَابتا بِهِ قطعا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على صرفه إِلَى الْمجَاز(1/137)
فَإِن قَالَ قَائِل إِن الْخَاص أَيْضا لَا يُوجب مُوجبه قطعا لاحْتِمَال إِرَادَة الْمجَاز مِنْهُ وَإِنَّمَا يُوجب مُوجبه ظَاهرا مَا لم يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهِ الْمجَاز بِدَلِيل آخر بِمَنْزِلَة النَّص فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن بَقَاء الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ يكون ظَاهرا لَا مَقْطُوعًا بِهِ لاحْتِمَال النّسخ وَإِن لم يظْهر النَّاسِخ بعد
قُلْنَا هَذَا فَاسد لِأَن مُرَاد الْمُتَكَلّم بالْكلَام مَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ حَقِيقَة هَذَا مَعْلُوم وَإِرَادَة الْمجَاز موهوم والموهوم لَا يُعَارض الْمَعْلُوم وَلَا يُؤثر فِي حكمه وَكَذَلِكَ الْمجَاز لَا يُعَارض الْحَقِيقَة بل ثُبُوت الْمجَاز بِإِرَادَة الْمُتَكَلّم لَا بِصِيغَة الْكَلَام وَهِي إِرَادَة ناقلة للْكَلَام عَن حَقِيقَته فَمَا لم يظْهر النَّاقِل بدليله يثبت حكم الْكَلَام مَقْطُوعًا بِهِ بِمَنْزِلَة النَّص الْمُطلق يُوجب الحكم قطعا وَإِن احْتمل التَّغْيِير بِشَرْط تعلقه بِهِ أَو قيد بقيده وَلَكِن ذَلِك ناقل للْكَلَام عَن حَقِيقَته فَمَا لم يظْهر كَانَ حكم الْكَلَام ثَابتا قطعا بِخِلَاف النَّص فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن النَّص يُوجب الحكم فَأَما بَقَاء الحكم لَيْسَ من مُوجبَات النَّص وَلَكِن مَا ثَبت فَالْأَصْل فِيهِ الْبَقَاء حَتَّى يظْهر الدَّلِيل المزيل فَكَانَ بَقَاؤُهُ لنَوْع من اسْتِصْحَاب الْحَال وَعدم النَّاسِخ وَهَذَا الْمَعْدُوم غير مَقْطُوع بِهِ فَلهَذَا لَا يكون بَقَاء الحكم مَقْطُوعًا بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى إِن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما انْقَطع احْتِمَال النّسخ كَانَ الحكم الَّذِي لم يظْهر ناسخه بَاقِيا قطعا
فَإِن قيل فَكَذَلِك عدم إِرَادَة الْمُتَكَلّم للمجاز لَيْسَ بِمَعْلُوم قطعا بل هُوَ ثَابت بِنَوْع من الظَّاهِر بِمَنْزِلَة عدم النَّاسِخ فِي ذَلِك الْوَقْت بِخِلَاف الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء فانعدامهما ثَابت بِالنَّصِّ لِأَن الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء يكون مُقَارنًا للنَّص فالإطلاق فِيهِ على وَجه يكون ساكتا عَن ذكر الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء تنصيص على عدم الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء قُلْنَا نعم وَلَكِن الْإِرَادَة الْمُغيرَة للخاص عَن حَقِيقَته يكون فِي بَاطِن الْمُتَكَلّم وَهُوَ غيب عَنَّا وَلَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف على ذَلِك وَإِنَّمَا يثبت التَّكْلِيف شرعا بِحَسب الوسع فَمَا لَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف عَلَيْهِ لَا يكون مُعْتَبرا أصلا إِلَى أَن يظْهر بدليله وَعند ظُهُوره بدليله يَجْعَل ثَابتا ابْتِدَاء فَقبل الظُّهُور يكون حكم الْخَاص ثَابتا قطعا وَهُوَ بِمَنْزِلَة خطاب الشَّرْع لَا يُوجب الحكم فِي حق الْمُخَاطب مَا لم يسمع بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَسعه الْعَمَل بِهِ قبل(1/138)
السماع وَعند السماع يثبت الحكم فِي حَقه ابْتِدَاء كَأَن الْخطاب نزل الْآن وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن كنت تحبينني فَأَنت طَالِق أَو قَالَ إِن كنت تحبين النَّار فَأَنت طَالِق فَقَالَت أَنا أحب ذَلِك يَقع الطَّلَاق لِأَن حَقِيقَة الْمحبَّة والبغض فِي بَاطِنهَا وَلَا طَرِيق لنا إِلَى مَعْرفَته فَلَا يتَعَلَّق الطَّلَاق بحقيقته وَلَكِن طَرِيق معرفتنا فِي الظَّاهِر إخبارها فَيجْعَل الزَّوْج مُعَلّقا الطَّلَاق بإخبارها حكما فَإِذا قَالَت أحب يَقع الطَّلَاق لوُجُود مَا هُوَ الشَّرْط حَقِيقَة وَهُوَ الْخَبَر فَإِن الْخَبَر يحْتَمل الصدْق وَالْكذب وَإِذا ثَبت هَذَا فِي الْخَاص فَكَذَلِك فِي الْعَام فَإِن احْتِمَال الْخُصُوص بَاطِن وَهُوَ غيب عَنَّا مَا لم يظْهر بدليله فَقبل ظُهُوره يكون مُوجبا الحكم فِيمَا تنَاوله قطعا إِلَّا أَن الشَّافِعِي يَقُول مَعَ هَذَا احْتِمَال إِرَادَة الْخُصُوص لم يَنْعَدِم وَلَكِن لَيْسَ فِي وسعنا الْوُقُوف عَلَيْهِ عِنْد الْخطاب فَنَجْعَل الْعَام مُوجبا الحكم فِيمَا تنَاوله عملا وَلَا نجعله مُوجبا للْحكم قطعا فِيمَا يرجع إِلَى الْعلم بِهِ لبَقَاء احْتِمَال الْخُصُوص
وَهَكَذَا أَقُول فِي الْخَاص الْإِرَادَة الْمُغيرَة فِيهَا احْتِمَال إِلَّا أَن ذَلِك مَانع عَن ثُبُوت حكم الْحَقِيقَة عملا بِهِ فَيكون فِي معنى النَّاسِخ الَّذِي هُوَ مبدل للْحكم أصلا والناسخ لَا يكون مقترنا بِالنَّصِّ الْمُوجب للْحكم بل إِنَّمَا يرد النّسخ على الْبَقَاء فَكَذَلِك فِي الْخَاص أجعَل ظُهُور إِرَادَة الْمجَاز بدليله عَاملا ابْتِدَاء فَقبل ظُهُوره يكون حكم الْخَاص ثَابتا قطعا وَأما إِرَادَة الْخُصُوص لَا يكون رَافعا للْحكم أصلا فَيبقى مُعْتَبرا مَعَ وجود الْعَمَل بِالْعَام فَلَا يثبت الْعلم بِمُوجبِه قطعا وعَلى هَذَا نقُول فِي قَوْله إِن كنت تحبينني إِنَّه يَقع الطَّلَاق إِذا أخْبرت بِهِ لِأَن مَا لَيْسَ فِي وَسعه الْوُقُوف عَلَيْهِ وَهُوَ حَقِيقَة الْمحبَّة والبغض بِحَال فَيسْقط اعْتِبَاره فِي حكم الْعَمَل وَلَو قَالَ إِن كنت تحبين النَّار فَأَنت طَالِق فَقَالَت أحب لَا يَقع الطَّلَاق لِأَن كذبهَا هَهُنَا مَعْلُوم قطعا فَإِن أحدا مِمَّن لَهُ طبع سليم لَا يحب النَّار وَيكون هَذَا بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْخُصُوص كَقَوْلِه تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} فَإِن حَقِيقَة الْمُوجب بِمثل هَذَا الْعَام مَعْلُوم قطعا بِخِلَاف الْعَام الَّذِي هُوَ مُحْتَمل الْخُصُوص
وَلَكِن الْجَواب عَنهُ أَن نقُول كَمَا أَن الله تَعَالَى لم يكلفنا مَا لَيْسَ فِي وسعنا فقد أسقط عَنَّا مَا فِيهِ حرج علينا كَمَا قَالَ تَعَالَى {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج} وَفِي اعْتِبَار الْإِرَادَة الْبَاطِنَة فِي الْعَام الَّذِي هُوَ مُحْتَمل لَهَا نوع حرج(1/139)
فالتمييز بَين مَا هُوَ مُرَاد الْمُتَكَلّم وَبَين مَا لَيْسَ بِمُرَاد لَهُ قبل أَن يظْهر دَلِيله فِيهِ حرج عَظِيم وَسقط اعْتِبَاره شرعا ويقام السَّبَب الظَّاهِر الدَّال على مُرَاده وَهُوَ صِيغَة الْعُمُوم مقَام حَقِيقَة الْبَاطِن الَّذِي لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا بحرج أَلا ترى أَن خطاب الشَّرْع يتَوَجَّه على الْمَرْء إِذا اعتدل حَاله وَلَكِن اعْتِدَال الْحَال أَمر بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر من حَيْثُ الْعَادة وَهُوَ الْبلُوغ عَن عقل فَأَقَامَ الشَّرْع هَذَا السَّبَب الظَّاهِر مقَام ذَلِك الْمَعْنى الْبَاطِن للتيسير ثمَّ دَار الحكم مَعَه وجودا وعدما حَتَّى إِنَّه وَإِن اعتدل حَاله قبل الْبلُوغ يَجْعَل ذَلِك كَالْمَعْدُومِ حكما فِي (حق) توجه الْخطاب عَلَيْهِ وَلَو لم يعتدل حَاله بعد الْبلُوغ عَن عقل كَانَ الْخطاب مُتَوَجها أَيْضا لهَذَا الْمَعْنى وَمن نظر عَن إنصاف لَا يشكل عَلَيْهِ أَن الْحَرج فِي التَّأَمُّل فِي إِرَادَة الْمُتَكَلّم ليتميز بِهِ مَا هُوَ مُرَاد لَهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُرَاد فَوق الْحَرج بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَال الصّبيان ليتوقف على اعْتِدَال حَالهم وَهَذَا أصل كَبِير فِي الْفِقْه فَإِن الرُّخْصَة بِسَبَب السّفر تثبت لدفع الْمَشَقَّة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} ثمَّ حَقِيقَة الْمَشَقَّة بَاطِن تخْتَلف فِيهِ أَحْوَال النَّاس وَله سَبَب ظَاهر وَهُوَ السّير المديد فَأَقَامَ الشَّرْع هَذَا السَّبَب مقَام حَقِيقَة ذَلِك الْمَعْنى وَأسْقط وجود حَقِيقَة الْمَشَقَّة فِي حق الْمُقِيم لِانْعِدَامِ السَّبَب الظَّاهِر إِلَّا إِذا تحققت الضَّرُورَة عِنْد خوف الْهَلَاك على نَفسه فَذَلِك أَمر وَرَاء الْمَشَقَّة وَأثبت الحكم عِنْد وجود السَّبَب الظَّاهِر وَإِن لم تلْحقهُ الْمَشَقَّة حَقِيقَة
وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاء فَإِنَّهُ يجب التَّحَرُّز عَن خلط الْمِيَاه المحترمة إِلَّا أَن ذَلِك بَاطِن وَله سَبَب ظَاهر وَهُوَ استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين لِأَن زَوَال ملك الْيَمين لَا يُوجب مَا يسْتَدلّ بِهِ على بَرَاءَة الرَّحِم من عدَّة أَو اسْتِبْرَاء فَأَقَامَ الشَّرْع استحداث ملك الْوَطْء بِملك الْيَمين مقَام الْمَعْنى الْبَاطِن وَهُوَ اشْتِغَال الرَّحِم بِالْمَاءِ فِي حق وجوب التَّحَرُّز عَن الْخَلْط بالاستبراء وَلِهَذَا قُلْنَا لَو اشْتَرَاهَا من صبي أَو امْرَأَة أَو اشْتَرَاهَا وَهِي بكر أَو حَاضَت عِنْد البَائِع بعد الْوَطْء قبل أَن يَبِيعهَا يجب الِاسْتِبْرَاء لاعْتِبَار السَّبَب الظَّاهِر وَلِهَذَا قُلْنَا فِي النِّكَاح لَا يجب الِاسْتِبْرَاء وَإِن علم أَنَّهَا وطِئت قبل أَن يَتَزَوَّجهَا وطئا محرما بِأَن تزوج أمة كَانَ قد وَطئهَا قبل أَن يَتَزَوَّجهَا لِأَن الأَصْل فِي النِّكَاح الْحرَّة فَإِن الرّقّ عَارض والازدواج بَين الشخصين(1/140)
بِاعْتِبَار الأَصْل وَبِاعْتِبَار صفة الْحُرْمَة زَوَال ملك الْوَطْء عَن الْحرَّة يعقب عدَّة مُوجبَة بَرَاءَة الرَّحِم فَلَا تقع الْحَاجة إِلَى إِقَامَة استحداث ملك الْوَطْء بِالنِّكَاحِ مقَام حَقِيقَة اشْتِغَال الرَّحِم فِي إِيجَاب الِاسْتِبْرَاء للتحرز عَن الْخَلْط وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن كَانَ فِي علم الله أَن فلَانا يقدم إِلَى شهر فَقدم فلَان بعد تَمام الشَّهْر يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا عِنْد الْقدوم ابْتِدَاء بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن قدم فلَان إِلَى شهر وَمَعْلُوم أَن بعد قدومه قد تبين أَنه كَانَ فِي علم الله قدومه إِلَى شهر وَأَن التَّعْلِيق كَانَ بِشَرْط مَوْجُود حَقِيقَة وَلَكِن لما لم يكن لنا طَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْقدوم صَار الْقدوم الَّذِي بِهِ يتَبَيَّن لنا شرطا لوُقُوع الطَّلَاق (فَيَقَع الطَّلَاق) عِنْده ابْتِدَاء بِخِلَاف مَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق السَّاعَة إِن كَانَ زيد فِي الدَّار ثمَّ علم بعد شهر أَن زيدا فِي الدَّار يَوْمئِذٍ فَإِنَّهُ يكون الطَّلَاق وَاقعا من حِين تكلم بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لنا طَرِيق إِلَى الْوُقُوف على مَا جعله شرطا حَقِيقَة فَلَا يُقَام ظُهُوره عندنَا مقَام حَقِيقَته وَلَكِن تبين عِنْد ظُهُوره أَن الطَّلَاق كَانَ وَاقعا لِأَنَّهُ علقه بِشَرْط مَوْجُود وَالَّذِي تحقق مَا ذكرنَا أَن صَاحب الشَّرْع خاطبنا بِلِسَان الْعَرَب فَإِنَّمَا يفهم من خطاب الشَّرْع مَا يفهم من مخاطبات النَّاس فِيمَا بَينهم وَمن يَقُول لعَبْدِهِ أعْط هَذِه الْمِائَة الدِّرْهَم هَؤُلَاءِ بِالسَّوِيَّةِ وهم مائَة نفر نعلم قطعا أَن مُرَاده إِعْطَاء كل وَاحِد مِنْهُم درهما بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أعْط كل وَاحِد مِنْهُم درهما وَكَذَلِكَ يفهم من الْخَاص وَالْعَام فِي مخاطبات الشَّرْع الحكم قطعا فِيمَا تنَاوله كل وَاحِد مِنْهُمَا
وَمن قَالَ لغيره لَا تعْتق عَبدِي سالما ثمَّ قَالَ أعتق الْبيض من عَبِيدِي وَسَالم بِهَذِهِ الصّفة فَإِنَّهُ يكون لَهُ أَن يعتقهُ وبإعتاقه يكون ممتثلا لِلْأَمْرِ لَا مرتكبا للنَّهْي فَكَذَلِك نقُول فِي الْعَام الْمُتَأَخر فِي خطاب الشَّرْع إِنَّه يكون قَاضِيا فِيمَا تنَاوله على الْخَاص فَإِذا كَانَ حكم الْخَاص ثَابتا قطعا فِيمَا تنَاوله فَلَا بُد من أَن يكون الْعَام كَذَلِك ليَكُون قَاضِيا عَلَيْهِ
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد جَائِز وَمَعْلُوم أَن الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم قطعا فَكيف يكون رَافعا للْحكم الثَّابِت قطعا بِصِيغَة(1/141)
الْعُمُوم إِذا كَانَت هَذِه الصِّيغَة توجب مُوجبهَا قطعا قُلْنَا مثل هَذَا يلزمك فِي الْخَاص فَإِن صرفه عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد جَائِز
ثمَّ الْجَواب على مَا اخْتَارَهُ أَكثر مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَن تَخْصِيص الْعَام الَّذِي لم يثبت خصوصه ابْتِدَاء لَا يجوز بِالْقِيَاسِ (وَخبر الْوَاحِد) وَإِنَّمَا يجوز ذَلِك فِي الْعَام الَّذِي ثَبت خصوصه بِدَلِيل مُوجب من الحكم مثل مَا يُوجِبهُ الْعَام وَهُوَ خبر متأيد بالاستفاضة أَو مَشْهُور فِيمَا بَين السّلف أَو إِجْمَاع فَعِنْدَ وجود ذَلِك يتَبَيَّن بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد مَا هُوَ المُرَاد بِصِيغَة الْعَام بعد أَن خرج من أَن يكون مُوجبا للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا على مَا نبينه فِي فصل الْعَام إِذا دخله خُصُوص وَهَذَا لِأَن مَا أوجبه الْقيَاس أَو خبر الْوَاحِد يحْتَمل أَن يكون فِي جملَة مَا تنَاوله دَلِيل الْخُصُوص وَيحْتَمل أَن يكون فِي جملَة مَا تنَاوله صِيغَة الْعَام فَإِنَّمَا يرجح بِالْقِيَاسِ وَخبر الْوَاحِد أحد الِاحْتِمَالَيْنِ
فَإِن قيل مَا ذهبت إِلَيْهِ أولى فَإِن الأَصْل هُوَ وجوب الْعَمَل بالأدلة الشَّرْعِيَّة مَا أمكن وَذَلِكَ فِي تَرْتِيب الْعَام على الْخَاص كَمَا قلت لَا فِي رفع الْخَاص بِالْعَام كَمَا قُلْتُمْ فَإِن من أثبت التَّعَارُض بَين الْخَاص وَالْعَام ترك الْعَمَل بالخاص أصلا وببعض مَا تنَاوله الْعَام وَمن قَالَ بترتيب الْعَام على الْخَاص هُوَ عَامل بِحَقِيقَة الْخَاص وبالعام أَيْضا فِيمَا تنَاوله بِحَسب الْإِمْكَان فَيكون هَذَا أولى بالمصير إِلَيْهِ
قُلْنَا هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم بعد ثُبُوت الْإِمْكَان وَبعد مَا قَررنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجب فِيمَا تنَاوله الحكم قطعا لَا إِمْكَان أَرَأَيْت لَو قَالَ قَائِل أَنا أعمل بِالْعَام فِي كل مَا تنَاوله وأحمل الْخَاص على الْمجَاز فأعمل بِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيق يكون هَذَا عملا مِنْهُ بالدليلين لَا فَكَذَلِك قَوْلك أَنا أعمل بالخاص وأترك مُوجب الْعَام فِيمَا تنَاوله (لَا يكون) عملا بهما مَعَ أَن مُوجب الدَّلِيل لَيْسَ كُله الْعَمَل بِهِ بل الْعَمَل بِهِ والمدافعة بِهِ عِنْد(1/142)
التَّعَارُض بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات فِي الْخُصُومَات بَين الْعباد فإثبات المدافعة عِنْد الْمُعَارضَة بَين الْخَاص وَالْعَام على مَا اقْتَضَاهُ مُوجب كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يكون تركا للْعَمَل بِأَحَدِهِمَا ثمَّ سوى الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيمَا أثْبته من حكم الْعُمُوم بَين مَا يحْتَمل الْعُمُوم وَبَين مَا لَا يحْتَملهُ لعدم مَحَله فِيمَا هُوَ الْمُحْتَمل فَجعل كل وَاحِد مِنْهُمَا حجَّة لإِثْبَات الحكم مَعَ ضرب شُبْهَة
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة} وَقَالَ تَعَالَى {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون} وَقَالَ تَعَالَى {قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} فَإِن نفي الْمُسَاوَاة بَينهمَا على الْعُمُوم غير مُحْتَمل لعلمنا بالمساواة بَينهمَا فِي حكم الْوُجُود والإنسانية والبشرية وَالصُّورَة فَقَالَ مَعَ هَذَا الْعلم يكون هَذَا الْعَام حجَّة فِيمَا هُوَ الْمُمكن حَتَّى لَا يسوى بَين الْكَافِر وَالْمُؤمن فِي حكم الْقصاص وَفِي حكم شِرَاء العَبْد الْمُسلم وَلَا يشاكله لِأَن الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ وَاجِب بِحَسب الْإِمْكَان وانعدام الْإِمْكَان فِيمَا لَا يحْتَملهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص شرعا فَكَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم لَا يخرج الْعَام بِصِيغَة الْعَام من الحكم فِيمَا يثبت من أَن يكون حجَّة فِيمَا وَرَاء ذَلِك فَكَذَلِك عدم احْتِمَال الْعُمُوم حسا لَا يخرج الْعَام من أَن يكون حجَّة فِيمَا يحْتَملهُ
وَحَاصِل مذْهبه أَنه يُسَوِّي بَين مُحْتَمل الْحَال وَبَين مُحْتَمل اللَّفْظ فِيمَا يثبت بِصِيغَة الْعَام من الحكم وَفِيمَا يثبت من الشُّبْهَة الْمَانِعَة من الْعلم بِهِ قطعا وَنحن نقُول فِيمَا ذهب إِلَيْهِ تحقق الْحَرج الَّذِي هُوَ مَدْفُوع وَهُوَ الْوُقُوف على مُرَاد الْمُتَكَلّم ليعْمَل بِهِ فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم وَاعْتِبَار الْإِرَادَة الْمُغيرَة للْعُمُوم عَن حَقِيقَتهَا فِيمَا يحْتَمل الْعُمُوم حَتَّى لَا يكون مُوجبا قطعا فِيمَا تنَاوله وَقد بَينا أَن ذَلِك لَا يجوز شرعا وَبِه تبين فَسَاد التَّسْوِيَة بَين مُحْتَمل الْحَال وَبَين مُحْتَمل اللَّفْظ وَتبين أَن مُوجب الْعُمُوم لَا يثبت فِيمَا لَا يُمكن الْعَمَل بِعُمُومِهِ لِانْعِدَامِ مَحل الْعُمُوم وسنقرر هَذَا فِي الْفَصْل الَّذِي يَأْتِي وَهُوَ الْعَام إِذا خصص مِنْهُ شَيْء وَإِنَّمَا سوينا فِي مُوجب الْعَام بَين الْخَبَر وَالْأَمر وَالنَّهْي لِأَن ذَلِك حكم صِيغَة الْعُمُوم وَهَذِه الصِّيغَة متحققة فِي الْأَخْبَار كَمَا فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَالله أعلم بِالصَّوَابِ(1/143)
فصل فِي بَيَان حكم الْعَام إِذا خصص مِنْهُ شَيْء
قَالَ رَضِي الله عَنهُ (وَعَن وَالِديهِ كَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول من عِنْد نَفسه لَا على سَبِيل الْحِكَايَة عَن السّلف الْعَام إِذا لحقه خُصُوص لَا يبْقى حجَّة بل يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى الْبَيَان سَوَاء كَانَ دَلِيل الْخُصُوص مَعْلُوما أَو مَجْهُولا إِلَّا أَنه يجب بِهِ أخص الْخُصُوص إِذا كَانَ مَعْلُوما
وَقَالَ بَعضهم إِذا خص مِنْهُ شَيْء مَجْهُول فَكَذَلِك الْجَواب وَإِن خص مِنْهُ شَيْء مَعْلُوم فَإِنَّهُ يبْقى مُوجبا الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص قطعا
وَقَالَ بَعضهم هَكَذَا فِيمَا إِذا خص شَيْء مَعْلُوم وَإِن خص مِنْهُ شَيْء مَجْهُول يسْقط دَلِيل الْخُصُوص وَيبقى الْعَام مُوجبا حكمه كَمَا كَانَ قبل دَلِيل الْخُصُوص
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن الْمَذْهَب عِنْد عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله فِي الْعَام إِذا لحقه خُصُوص يبْقى حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص سَوَاء كَانَ الْمَخْصُوص مَجْهُولا أَو مَعْلُوما إِلَّا أَن فِيهِ شُبْهَة حَتَّى لَا يكون مُوجبا قطعا ويقينا بِمَنْزِلَة مَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي مُوجب الْعَام قبل الْخُصُوص وَالدَّلِيل على أَن الْمَذْهَب هَذَا أَن أَبَا حنيفَة رَضِي الله عَنهُ اسْتدلَّ على فَسَاد البيع بِالشّرطِ بنهي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع وَشرط وَهَذَا عَام دخله خُصُوص وَاحْتج على اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة بالجوار إِذا كَانَ عَن ملاصقة بقول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْجَار أَحَق بصقبه وَهَذَا عَام قد دخله خُصُوص وَاسْتدلَّ مُحَمَّد على فَسَاد بيع الْعقار قبل الْقَبْض بنهيه عَلَيْهِ السَّلَام عَن بيع مَا لم يقبض وَهُوَ عَام لحقه خُصُوص وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله خص هَذَا الْعَام بِالْقِيَاسِ فَعرفنَا أَنه حجَّة للْعَمَل من غير أَن يكون مُوجبا قطعا لِأَن الْقيَاس لَا يكون مُوجبا قطعا فَكيف يصلح أَن يكون مُعَارضا لما يكون مُوجبا قطعا وَتبين أَن هَذَا الْعَام دون الْخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْقيَاس لَا يصلح مُعَارضا للْخَبَر الْوَاحِد عندنَا وَلِهَذَا أَخذنَا بالْخبر الْوَاحِد الْمُوجب للْوُضُوء عِنْد القهقهة فِي الصَّلَاة وَتَركنَا الْقيَاس بِهِ وَأَبُو حنيفَة أَخذ(1/144)
بِخَبَر الْوَاحِد فِي الْوضُوء بنبيذ التَّمْر وَترك الْقيَاس بِهِ ثمَّ إِن خبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم قطعا فَمَا هُوَ دونه أولى
وَأما الْكَرْخِي احْتج وَقَالَ الْخُصُوص الَّذِي يلْحق الْعَام يسلب حَقِيقَته فَيصير مجَازًا ومجازه فِي مُرَاد الْمُتَكَلّم وَذَلِكَ لَا يتَبَيَّن إِلَّا بِبَيَان من جِهَته فَصَارَ مُجملا يجب التَّوَقُّف فِيهِ إِلَى الْبَيَان بِمَنْزِلَة صِيغَة الْعُمُوم فِيمَا لَا يحْتَمل الْعُمُوم نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَإِنَّهُ لما انْتَفَى حَقِيقَة الْعُمُوم فِيهِ لم يكن حجَّة بِدُونِ الْبَيَان فَكَذَلِك هَذَا وَهَذَا لِأَنَّهُ لَو بَقِي حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص كَانَ حَقِيقَة وَلَا وَجه للْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد إِلَّا أَن يكون أخص الْخُصُوص مِنْهُ مَعْلُوما فَيكون ثَابتا بِهِ لكَونه متيقنا كَالَّذي يقوم فِيهِ دَلِيل الْبَيَان فِيمَا لَا يُمكن الْعَمَل فِيهِ بِحَقِيقَة الْعُمُوم وَلِأَن دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَن الْمَخْصُوص لم يكن دَاخِلا فِيمَا هُوَ المُرَاد بالْكلَام كَمَا يتَبَيَّن بِالِاسْتِثْنَاءِ أَن الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاءه وَلِهَذَا لَا يكون دَلِيل الْخُصُوص إِلَّا مُقَارنًا فَأَما مَا يكون طارئا فَهُوَ دَلِيل النّسخ لَا دَلِيل الْخُصُوص وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى مَجْهُولا يصير مَا وَرَاءه بجهالته مَجْهُولا كَمَا أَن الْمُسْتَثْنى إِذا تمكن فِيهِ شكّ يصير مَا وَرَاءه مشكوكا فِيهِ حَتَّى إِذا قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا سالما وبزيغا لم يعْتق وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ الْمُسْتَثْنى أَحدهمَا لِأَنَّهُ مَشْكُوك فِيهِ فَيثبت حكم الشَّك فيهمَا وَإِذا صَار مَا بَقِي مَجْهُولا لم يصلح حجَّة بِنَفسِهِ بل يجب الْوَقْف فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} وَكَذَلِكَ إِن كَانَ دَلِيل الْخُصُوص مَعْلُوما لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون معلولا وَهُوَ الظَّاهِر فَإِن دَلِيل الْخُصُوص نَص على حِدة فَيكون قَابلا للتَّعْلِيل مَا لم يمْنَع مَانع من ذَلِك وبالتعليل لَا نَدْرِي أَن حكم الْخُصُوص إِلَى أَي مِقْدَار يتَعَدَّى فَيبقى مَا وَرَاءه مَجْهُولا أَيْضا وعَلى مَا قَالَه الْكَرْخِي يسْقط الِاحْتِجَاج بِأَكْثَرَ العمومات لِأَن أَكثر العمومات قد خص مِنْهَا شَيْء وَهَذَا خلاف مَا حكينا من مَذْهَب السّلف فِي الصَّدْر الأول فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بالعمومات الَّتِي يلْحقهَا (خُصُوص كَمَا احْتَجُّوا بالعمومات الَّتِي لم يلْحقهَا خُصُوص ودعواه أَنه(1/145)
يصير بِهِ مجَازًا كَلَام لَا) معنى لَهُ فَإِن الْحَقِيقَة مَا يكون مُسْتَعْملا فِي مَوْضُوعه وَالْمجَاز مَا يكون معدولا بِهِ عَن مَوْضُوعه وَإِذا كَانَ صِيغَة الْعُمُوم يتَنَاوَل الثَّلَاثَة حَقِيقَة كَمَا يتَنَاوَل الْمِائَة وَالْألف وَأكْثر من ذَلِك فَإِذا خص الْبَعْض من هَذِه الصِّيغَة كَيفَ يكون مجَازًا فِيمَا وَرَاءه وَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ فَإِن قيل الْبَعْض غير الْكل من هَذِه الصِّيغَة وَإِذا كَانَ حَقِيقَة هَذِه الصِّيغَة للْكُلّ فَإِذا أُرِيد بِهِ الْبَعْض كَانَ مجَازًا فِيهِ ثمَّ هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على مَا يَقُوله بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَا يجوز التَّخْصِيص من الْعُمُوم إِلَى أَن يبْقى مِنْهُ مَا دون الثَّلَاث فَأَما على أصلكم فَيجوز التَّخْصِيص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ أَكثر من وَاحِد وَلَا شكّ أَن صِيغَة الْجمع لَا تتَنَاوَل الْوَاحِد حَقِيقَة قُلْنَا نعم وَلَكِن مَا وَرَاء الْمَخْصُوص يتَنَاوَلهُ مُوجب الْكَلَام على أَنه كل لَا بعض بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِن الْكَلَام يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بطرِيق أَنه كل لَا بعض وَلِهَذَا إِذا لم يبْق شَيْء بعد دَلِيل الْخُصُوص كَانَ نسخا لَا تَخْصِيصًا كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ إِذا لم يبْق شَيْء بعد الِاسْتِثْنَاء بِحَال لَا يكون ذَلِك اسْتثِْنَاء صَحِيحا وَإِذا كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ دون الثَّلَاث فَهُوَ كل أَيْضا وَإِن كَانَا بِصِيغَة الْعُمُوم لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل أَن يكون الْبَاقِي أَكثر من ذَلِك على وَجه يكون الْبَاقِي جمعا حَقِيقَة فَبِهَذَا الطَّرِيق صححنا التَّخْصِيص كَمَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل بِهَذَا الطَّرِيق فَإِنَّهُ لَو قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا فلَانا وَفُلَانًا وَلَيْسَ لَهُ سواهُمَا كَانَ الِاسْتِثْنَاء صَحِيحا لاحْتِمَال أَن يكون الْمُسْتَثْنى بَعْضًا إِذا كَانَ لَهُ سواهُمَا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ مماليكي أَحْرَار إِلَّا مماليكي وَأما وَجه القَوْل الثَّانِي مَا بَينا أَن دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فَإِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَجْهُولا كَانَ مَا وَرَاءه مَجْهُولا أَيْضا والمجهول لَا يكون دَلِيلا مُوجبا وَأما إِذا كَانَ مَعْلُوما فَمَا وَرَاءه يكون مَعْلُوما أَيْضا وكما أَن الْكَلَام الْمُقَيد بِالِاسْتِثْنَاءِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَيكون مَقْطُوعًا بِهِ إِذا(1/146)
كَانَ الْمُسْتَثْنى مَعْلُوما فَكَذَلِك الْعَام إِذا لحقه خُصُوص مَعْلُوم يصير عبارَة عَمَّا وَرَاءه وَيكون مُوجبا فِيهِ مَا هُوَ حكم الْعَام لِأَن دَلِيل الْخُصُوص لَا يتَعَرَّض لما وَرَاءه فَيبقى الْعَام فِيمَا وَرَاءه حجَّة مُوجبَة قطعا وَلَا معنى لما قَالَ الْكَرْخِي رَحمَه الله إِنَّه يحْتَمل التَّعْلِيل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء لَا يحْتَمل التَّعْلِيل فَإِن الْمُسْتَثْنى مَعْدُوم على معنى أَنه لم يكن مرَادا بالْكلَام أصلا والعدم لَا يُعلل وعَلى هَذَا القَوْل يسْقط الِاحْتِجَاج بِآيَة السّرقَة لِأَنَّهُ لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ ثمن الْمِجَن على مَا رُوِيَ كَانَت الْيَد لَا تقطع على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا دون ثمن الْمِجَن وَكَذَلِكَ بِآيَة البيع فَإِنَّهُ لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ حُرْمَة الرِّبَا وَكَذَلِكَ بالعمومات الْمُوجبَة للعقوبة وَقد لحقها خُصُوص مَجْهُول وَهُوَ السُّقُوط بِاعْتِبَار تمكن الشُّبْهَة على مَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ادرؤوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ
وَوجه القَوْل الثَّالِث أَن التَّخْصِيص إِنَّمَا يكون بِكَلَام مُبْتَدأ بِصِيغَة على حِدة تتَنَاوَل بعض مَا تنَاوله الْعَام على خلاف مُوجبه مِمَّا لَو كَانَ طارئا كَانَ رَافعا على وَجه النّسخ فَإِذا كَانَ مُقَارنًا كَانَ ثَابتا وَمثل هَذَا لَا يصلح مغيرا صفة الْكَلَام الأول فَكيف يصلح مغيرا لَهُ وَهُوَ غير مُتَّصِل بِتِلْكَ الصِّيغَة فَبَقيَ الْكَلَام الأول صادرا من أَهله فِي مَحَله فَيكون مُوجبا حكمه وَحكم الْعَام أَنه كَانَ مُوجبا قطعا فَإِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَعْلُوما بَقِي الْعَام فِيمَا وَرَاءه مُوجبا قطعا وَلَا يكون مُوجبا فِي مَوضِع الْخُصُوص لتحَقّق الْمُعَارضَة بَين دَلِيل الْخُصُوص والعموم فِيهِ فَإِذا كَانَ مَجْهُولا فِي نَفسه فالمجهول لَا يصلح مُعَارضا للمعلوم وَقد بَينا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا تنَاوله قطعا بِمَنْزِلَة الْخَاص فِيمَا تنَاوله فَإِذا لم تستقم الْمُعَارضَة بِكَوْن الْمعَارض مَجْهُولا سقط دَلِيل الْخُصُوص وَبَقِي حكم الْعَام على مَا كَانَ فِي جَمِيع مَا تنَاوله وَهَذَا بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ دَاخل على صِيغَة الْكَلَام أَلا ترى أَنه لَا يَسْتَقِيم بِدُونِ أصل الْكَلَام فَإِن قَول الْقَائِل إِلَّا زيدا لَا يكون مُفِيدا شَيْئا فَإِذا دخل على صِيغَة الْكَلَام كَانَ مغيرا لَهَا فَيكون أصل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَذَلِكَ مَجْهُول عِنْد جَهَالَة الْمُسْتَثْنى والجهالة(1/147)
فِي الْمُسْتَثْنى لَا تمنع صِحَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ يبين أَن صِيغَة الْكَلَام لم تتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا وَمَا لم يتَنَاوَلهُ الْكَلَام فَلَا أثر للْجَهَالَة فِيهِ وَهَذَا بِخِلَاف صِيغَة الْعَام فِيمَا لَا يحْتَملهُ الْعُمُوم لِأَن الْكَلَام إِنَّمَا يكون مُفِيدا حكمه إِذا صدر من أَهله فِي مَحَله فَإِن البيع كَمَا لَا يَصح من الْمَجْنُون لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة لَا يَصح فِي الْحر لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّة فَكَذَلِك صِيغَة الْعُمُوم فِي مَحل لَا يقبل الْعُمُوم بِمَنْزِلَة الصَّادِر من غير أَهله فَلَا يكون مُوجبا حكم الْعُمُوم وَإِذا لم ينْعَقد مُوجبا حكم الْعَام وَلَيْسَ وَرَاءه شَيْء مَعْلُوم يُمكن أَن يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ بَقِي مُجملا فِيمَا هُوَ المُرَاد فَأَما إِذا صدر من أَهله فِي مَحَله كَانَ مُوجبا حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع والمجهول لَا يصلح أَن يكون مَانِعا فَبَقيَ أصل الْكَلَام مُعْتَبرا فِي مُوجبه أَلا ترى أَن البَائِع بعد تَمام البيع إِذا أجل المُشْتَرِي فِي الثّمن أَََجَلًا مَجْهُولا من غير أَن يشْتَرط ذَلِك فِي أصل البيع يبْقى البيع مُوجبا حَالا للثّمن لِأَنَّهُ انْعَقَد مُوجبا لذَلِك وَهَذَا الْمَانِع وَهُوَ الْأَجَل لَا يصلح أَن يكون مُؤَخرا للمطالبة فَيبقى الحكم الأول على حَاله
وَأما وَجه القَوْل الرَّابِع وَهُوَ الصَّحِيح أَن دَلِيل الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء فِي حق الحكم وبمنزلة النَّاسِخ بِاعْتِبَار الصِّيغَة لِأَن بِدَلِيل الْخُصُوص يتَبَيَّن بِأَن المُرَاد إِثْبَات الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص لَا أَن يكون المُرَاد رفع الحكم عَن الْموضع الْمَخْصُوص بعد أَن كَانَ ثَابتا وَلِهَذَا لَا يكون إِلَّا مُقَارنًا حَتَّى لَو كَانَ طارئا يَجْعَل نسخا لَا خُصُوصا لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل مُبينًا أَن المُرَاد مَا وَرَاءه وَمن حَيْثُ الصِّيغَة هُوَ كَلَام مُبْتَدأ مَفْهُوم بِنَفسِهِ مُفِيد للْحكم وَإِن لم تتقدمه صِيغَة الْعَام فَعرفنَا أَنه من حَيْثُ الصِّيغَة مُعْتَبر بِدَلِيل النّسخ لِأَنَّهُ مُنْفَصِل عَن الْعَام وَمن حَيْثُ الحكم هُوَ بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ مُتَّصِل بِهِ حكما حَتَّى لَا يجوز إِلَّا مُقَارنًا لَهُ فَلم يجز إِلْحَاقه بِأَحَدِهِمَا خَاصَّة بل يعْتَبر فِي كل حكم بنظيره كَمَا هُوَ الأَصْل فِيمَا تردد بَين شَيْئَيْنِ وَأخذ حظا مُعْتَبرا من كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يعْتَبر بهما فَنَقُول إِذا كَانَ الْمُسْتَثْنى مَجْهُولا فاعتبار جَانب الصِّيغَة فِيهِ يسْقط دَلِيل الْخُصُوص وَيبقى حكم الْعَام فِي جَمِيع مَا تنَاوله وَاعْتِبَار جَانب الحكم فِيهِ وَهُوَ أَنه بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء يمْنَع ثُبُوت الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص لكَونه مَجْهُولا فَلَا(1/148)
نبطل وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالشَّكِّ وَمعنى هَذَا أَنا لَا نسقط دَلِيل الْخُصُوص لكَونه مَجْهُولا بِالشَّكِّ وَلَا نخرج مَا وَرَاءه من أَن يكون صِيغَة الْعَام حجَّة فِيهِ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَعْلُوما فَإِنَّهُ من حَيْثُ الصِّيغَة هُوَ نَص على حِدة قَابل للتَّعْلِيل وبالتعليل مَا نَدْرِي مَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ حكم الْخُصُوص مِمَّا تنَاوله صِيغَة الْعَام وَبِاعْتِبَار الحكم لَا يقبل التَّعْلِيل لِأَنَّهُ مُوجب للْحكم على أَنه تبين بِهِ أَن المُرَاد مَا وَرَاءه كالاستثناء وَهَذَا لَا يقبل التَّعْلِيل فاعتبار الصِّيغَة يخرج الْعَام من أَن يكون حجَّة فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص وَبِاعْتِبَار الحكم يُوجب أَن يكون الْعَام مُوجبا للْحكم قطعا فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص فَلَا يبطل معنى الْحجَّة بِالشَّكِّ وَلَكِن يتَمَكَّن فِيهِ ضرب شُبْهَة فَإِن مَا يكون ثَابتا من وَجه دون وَجه لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ وَالْحكم إِنَّمَا نثبت بِحَسب الدَّلِيل وَلِهَذَا كَانَ حجَّة مُوجبَة الْعَمَل بهَا وَلَا يكون مُوجبه الْعلم قطعا وَهَذَا بِخِلَاف دَلِيل النّسخ فَإِن عمله فِي رفع الحكم بِاعْتِبَار الْمُعَارضَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا فِيمَا تنَاوله النَّص بِعَيْنِه فَإِن التَّعْلِيل فِيهِ يُؤَدِّي إِلَى إِثْبَات الْمُعَارضَة بَين النَّص وَالْعلَّة المستنبطة بِالرَّأْيِ والرأي لَا يكون مُعَارضا للنَّص وَلِهَذَا لَا نشتغل بِالتَّعْلِيلِ فِي إِثْبَات النّسخ فَأَما دَلِيل الْخُصُوص وَإِن كَانَ نصا على حِدة فَإِنَّمَا يُوجب الحكم على الْوَجْه الَّذِي يُوجِبهُ الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ فِي معنى الحكم بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء كَمَا قَررنَا فَلَا يخرج من أَن يكون مُحْتملا للتَّعْلِيل وبطريق التَّعْلِيل تتمكن الشُّبْهَة فِيمَا يبْقى وَرَاء الْمَخْصُوص مِمَّا يكون الْعَام مُوجبا للْحكم فِيهِ وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَخْصِيص هَذَا الْعَام بِالْقِيَاسِ لِأَن ثُبُوت الحكم بِهِ فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص مَعَ شكّ فِي أَصله وَاحْتِمَال فَيجوز أَن يكون الْقيَاس مُعَارضا لَهُ بِخِلَاف خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي أَصله وَإِنَّمَا الِاحْتِمَال فِي طَرِيقه بِاعْتِبَار توهم غلط الرَّاوِي أَو ميله عَن الصدْق إِلَى الْكَذِب فَمن حَيْثُ إِنَّه لَا شكّ فِيهِ مَتى ثَبت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أقوى من الْقيَاس فَلَا يصلح أَن يكون الْقيَاس مُعَارضا لَهُ
وَبَيَان هَذِه الْأُصُول من الْفُرُوع أَن من جمع بَين حر وَعبد فباعهما بِثمن وَاحِد أَو بَين ميتَة وذكية أَو بَين خل وخمر لم يجز البيع أصلا لِأَن الْحر وَالْميتَة وَالْخمر لَا يَتَنَاوَلهَا العقد(1/149)
أصلا فَيكون بَائِعا لما هُوَ مَال مُتَقَوّم مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ من الْألف إِذا قسم عَلَيْهِمَا وَالْبيع بِالْحِصَّةِ لَا ينْعَقد صَحِيحا ابْتِدَاء كَمَا لَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِمَا يَخُصُّهُ من الْألف إِذا قسم على قِيمَته وعَلى قيمَة هَذَا العَبْد الآخر فَبِهَذَا الْفَصْل يتَبَيَّن مَا يكون بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء أَنه يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى حكما وَلَو بَاعَ مِنْهُ عَبْدَيْنِ فَهَلَك أَحدهمَا قبل الْقَبْض أَو اسْتحق أَحدهمَا أَو كَانَ أَحدهمَا مُدبرا أَو مكَاتبا يبْقى العقد صَحِيحا فِي الآخر لِأَن العقد يتناولهما بِاعْتِبَار صفة الْمَالِيَّة والتقوم فيهمَا وَهُوَ الْمُعْتَبر فِي الْمحل لتناول العقد إِيَّاه ثمَّ خرج أَحدهمَا لصيانة حق مُسْتَحقّ إِمَّا للْعَبد فِي نَفسه أَو للْغَيْر أَو لتعذر التَّسْلِيم بهلاكه فَيبقى العقد فِي الآخر صَحِيحا بِحِصَّتِهِ وَهَذَا نَظِير دَلِيل النّسخ فَإِنَّهُ يرفع الحكم الثَّابِت فِي مِقْدَار مَا تنَاوله النَّص الَّذِي هُوَ نَاسخ وَيبقى مَا وَرَاء ذَلِك من حكم الْعَام على مَا كَانَ قبل وُرُود النَّاسِخ
وَنَظِير دَلِيل الْخُصُوص البيع بِشَرْط الْخِيَار فَإِنَّهُ ينْعَقد صَحِيحا بِمَنْزِلَة مَا لَو لم يكن فِيهِ خِيَار وَفِي حق الحكم كَانَ غير مُنْعَقد على معنى أَن الحكم مُتَعَلق بِسُقُوط الْخِيَار على مَا يَأْتِيك بَيَانه فِي مَوْضِعه أَن شَرط الْخِيَار لَا يدْخل فِي أصل السَّبَب وَإِنَّمَا يدْخل على الحكم فَيجب اعْتِبَاره فِي كل جَانب بنظيره حَتَّى إِن بِاعْتِبَار السَّبَب إِذا سقط الْخِيَار اسْتحق المُشْتَرِي بزوائده الْمُتَّصِلَة أَو الْمُنْفَصِلَة وَبِاعْتِبَار الحكم إِذا أعتق المُشْتَرِي وَالْخيَار مَشْرُوط البَائِع ثمَّ سقط الْخِيَار لم ينفذ الْعتْق وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات لَو بَاعَ من رجل عَبْدَيْنِ وَشرط الْخِيَار فِي أَحدهمَا دون الآخر للْبَائِع أَو المُشْتَرِي فَإِن لم يكن ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى لم يجز العقد فِي وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن كَانَ ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى جَازَ فِي وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن لم يعين الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار مِنْهُمَا لم يجز العقد أَيْضا وَإِن عينا ذَلِك جَازَ العقد فِي الآخر وَلزِمَ بِالثّمن الْمُسَمّى لَهُ لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِاعْتِبَار الحكم يعْدم العقد فِي الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار فَإِذا كَانَ مَجْهُولا كَانَ العقد فِي الآخر ابْتِدَاء فِي الْمَجْهُول وَإِن كَانَ مَعْلُوما وَلم يكن ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسَمّى كَانَ العقد فِي الآخر ابْتِدَاء بِالْحِصَّةِ فَلَا ينْعَقد صَحِيحا وَبِاعْتِبَار السَّبَب كَانَ متناولا لَهما بِصفة الصِّحَّة فَإِذا كَانَ الَّذِي لَا خِيَار فِيهِ مِنْهُمَا مَعْلُوما وَكَانَ ثمنه مُسَمّى لزم العقد فِيهِ وَلم يَجْعَل العقد فِي الآخر بِمَنْزِلَة شَرط فَاسد فِي الَّذِي لَا خِيَار فِيهِ بِخِلَاف مَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِيمَا إِذا بَاعَ حرا وعبدا وسمى ثمن كل وَاحِد مِنْهُمَا لم ينْعَقد البيع فِي العَبْد صَحِيحا(1/150)
لِأَن اشْتِرَاط قبُول العقد فِي الْحر شَرط فَاسد فقد جعله مَشْرُوطًا فِي قبُوله العقد فِي الْقِنّ حِين جمع بَينهمَا فِي الْإِيجَاب وَالْبيع يبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة وَأما اشْتِرَاط قبُول العقد فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَار لَا يكون شرطا فَاسِدا لِأَن البيع بِشَرْط الْخِيَار مُنْعَقد شرطا صَحِيحا من حَيْثُ السَّبَب فَكَانَ العقد فِي الآخر لَازِما وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان أَلْفَاظ الْعُمُوم
أَلْفَاظ الْعُمُوم قِسْمَانِ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ وَقسم فَرد بصيغته عَام بِمَعْنَاهُ
فَأَما مَا هُوَ عَام بصيغته وَمَعْنَاهُ فَكل لفظ هُوَ للْجمع نَحْو الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْمُسْلِمين وَالْمُشْرِكين وَالْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهَا عَام صِيغَة لِأَن وَاضع اللُّغَة وضع هَذِه الصِّيغَة للْجَمَاعَة قَالَ رجل ورجلان وَرِجَال وَامْرَأَة وَامْرَأَتَانِ وَنسَاء وَهُوَ عَام بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ شَامِل لكل مَا تنَاوله عِنْد الْإِطْلَاق فأدنى مَا يُطلق عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظ الثَّلَاثَة لِأَن أدنى الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة نَص عَلَيْهِ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي السّير الْكَبِير فِي الْأَنْفَال وَغَيرهَا وَمن قَالَ لفُلَان على دَرَاهِم يلْزمه الثَّلَاثَة وَالْمَرْأَة إِذا اخْتلعت من زَوجهَا بِمَا فِي يَدهَا من دَرَاهِم فَإِذا لَيْسَ فِي يَدهَا شَيْء يلْزمهَا ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَن أدنى الْجمع مُتَيَقن بِهِ عِنْد ذكر الصِّيغَة وَفِيمَا زَاد عَلَيْهِ شكّ وَاحْتِمَال فَلَا يجب إِلَّا الْمُتَيَقن فَظن بعض أَصْحَابنَا رَحِمهم الله أَن على قَول أبي يُوسُف أدنى الْجمع اثْنَان على قِيَاس مَسْأَلَة الْجُمُعَة وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن عِنْده الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة إِلَّا أَنه يَجْعَل الإِمَام من جملَة الْجمع الَّذِي تتأدى بهم الْجُمُعَة على قِيَاس سَائِر الصَّلَوَات فَإِن الإِمَام من جملَة الْجَمَاعَة وَلِهَذَا يقدم الإِمَام إِذا كَانَ خَلفه رجلَانِ فَصَاعِدا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله الشَّرْط فِي الْجُمُعَة الْجَمَاعَة وَالْإِمَام جَمِيعًا فَلَا يكون الإِمَام محسوبا من عدد الْجَمَاعَة فَيشْتَرط ثَلَاثَة سواهُ وَفِي سَائِر الصَّلَوَات الإِمَام لَيْسَ بِشَرْط لأدائها فَيمكن أَن يَجْعَل الإِمَام من جملَة الْجَمَاعَة فَإِذا كَانَ مَعَ الإِمَام رجلَانِ اصطفا خَلفه
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحِمهم الله يَقُولُونَ الْجَمَاعَة هِيَ الْمثنى فَصَاعِدا وَاسْتَدَلُّوا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة وَلِأَن اسْم الْجَمَاعَة(1/151)
حَقِيقَة فِيمَا فِيهِ معنى الِاجْتِمَاع وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الِاثْنَيْنِ أَلا ترى أَن فِي الْوَصَايَا والمواريث جعل للمثنى حكم الْجَمَاعَة حَتَّى لَو أوصى لأقرباء فلَان يتَنَاوَل الْمثنى فَصَاعِدا وللاثنين من الْمِيرَاث مَا للثلاث فَصَاعِدا والأخوان يحجبان الْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس بقوله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة} وَفِي كتاب الله تَعَالَى إِطْلَاق عبارَة الْجمع على الْمثنى لقَوْله تَعَالَى {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا} وَقَالَ تَعَالَى {وَدَاوُد وَسليمَان} إِلَى قَوْله {وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب} إِلَى قَوْله تَعَالَى {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض} وَكَذَلِكَ فِي اسْتِعْمَال النَّاس فَإِن الِاثْنَيْنِ يَقُولَانِ نَحن فعلنَا كَذَا بِمَنْزِلَة الثَّلَاثَة
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاحِد شَيْطَان والاثنان شيطانان وَالثَّلَاثَة ركب ثمَّ يَسْتَقِيم نفي صِيغَة الْجَمَاعَة عَن الْمثنى بِأَن يَقُول مَا فِي الدَّار رجال إِنَّمَا فِيهَا رجلَانِ وَقد بَينا أَن اللَّفْظ إِذا كَانَ حَقِيقَة فِي الشَّيْء لَا يَسْتَقِيم نَفْيه عَنهُ وَإِجْمَاع أهل اللُّغَة يشْهد بذلك فَإِنَّهُم يَقُولُونَ الْكَلَام ثَلَاثَة أَقسَام وحدان وتثنية وَجمع ثمَّ للوحدان أبنية مُخْتَلفَة وَكَذَلِكَ للْجمع وَلَيْسَ ذَلِك للتثنية إِنَّمَا لَهَا عَلامَة مَخْصُوصَة فَعرفنَا أَن الْمثنى غير الْجَمَاعَة وَلما وضعُوا للمثنى لفظا على حِدة فَلَو قُلْنَا بِأَن للمثنى حكم الْجَمَاعَة لَكَانَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع للثَّلَاثَة على خلاف الْمَوْضُوع للمثنى تَكْرَارا مَحْضا وكل لفظ مَوْضُوع لفائدة جَدِيدَة أَلا ترى أَن بعد الثَّلَاث لم يوضع لما زَاد عَلَيْهَا لفظ على حِدة لما كَانَت صِيغَة الْجَمَاعَة تجمعها وَكَذَلِكَ اللَّفْظ الْمُفْرد والتثنية يذكر من غير عدد يُقَال رجل ورجلان (ثمَّ يذكر مَقْرُونا بِالْعدَدِ بعد ذَلِك فَيُقَال ثَلَاثَة رجال وَأَرْبَعَة رجال) وَلَا يُقَال وَاحِد رجل وَلَا اثْنَان رجلَانِ وَتَسْمِيَة الثَّلَاثَة جمَاعَة بِمَعْنى الِاجْتِمَاع كَمَا قَالُوا وَلَكِن اجْتِمَاع بِصفة وَهُوَ اجْتِمَاع لَا يتَحَقَّق أحد الْجَانِبَيْنِ يُقَابله الْمثنى من جَانب آخر فَأَما فِي الِاثْنَيْنِ يتعارض الْإِفْرَاد على التَّسَاوِي من حَيْثُ إِن كل وَاحِد من الْجَانِبَيْنِ فَرد فَعِنْدَ الانضمام يكون اسْم الْمثنى حَقِيقَة فيهمَا لَا اسْم الْجَمَاعَة وَتَأْويل الحَدِيث أَن فِي حكم الاصطفاف خلف الإِمَام الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة فقد بَينا الْمَعْنى فِيهِ فَأَما فِي الْمَوَارِيث فاستحقاق الِاثْنَيْنِ الثُّلثَيْنِ لَيْسَ بِالنَّصِّ الْوَارِد بِعِبَارَة الْجَمَاعَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} إِنَّمَا ذَلِك للثلاث فِيهِ معنى يُعَارض الْإِفْرَاد على(1/152)
التَّسَاوِي كَمَا فِي الثَّلَاثَة فَإِن الْفَرد من فَصَاعِدا وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاق الِاثْنَيْنِ الثُّلثَيْنِ بِإِشَارَة النَّص فِي قَوْله {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فَإِن نصيب الابْن مَعَ الِابْنَة الثُّلُثَانِ فَيثبت بِهِ أَن ذَلِك حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَمَا بعده لبَيَان أَنَّهُنَّ وَإِن كن أَكثر من اثْنَتَيْنِ لَا يكون لَهُنَّ إِلَّا الثُّلُثَانِ عِنْد الِانْفِرَاد والحجب بالأخوين عَرفْنَاهُ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على مَا رُوِيَ أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْإِخْوَة فِي لِسَان قَوْمك لَا يتَنَاوَل الِاثْنَيْنِ فَقَالَ نعم وَلَكِن لاستحي أَن أخالفهم فِيمَا رَأَوْا
أَلا ترى أَن الْحجب ثَبت بالأخوات الْمُفْردَات بِهَذَا الطَّرِيق فَإِن اسْم الْإِخْوَة لَا يتَنَاوَل الْأَخَوَات الْمُفْردَات على أَن الِاسْم قد يتَنَاوَل الْمثنى مجَازًا لاعْتِبَار معنى الِاجْتِمَاع مُطلقًا فَبِهَذَا الطَّرِيق أثبتنا حكم الْحجب والتوريث للمثنى وَالْوَصِيَّة أُخْت الْمِيرَاث فَيكون مُلْحقًا بِهِ
وَقَول الْمثنى نَحن فعلنَا كَذَا إِخْبَار عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن نَفسه وَعَن غَيره على أَن جعله تبعا لنَفسِهِ مجَازًا وَمثل هَذَا قد يكون من الْوَاحِد أَيْضا يَقُول قد فعلنَا كَذَا وأمرنا بِكَذَا وَهَذَا لَا يدل على أَن اسْم الْجَمَاعَة يتَنَاوَل الْفَرد حَقِيقَة
وَفِيمَا تلونا من الْآيَات بَيَان أَن المتخاصمين كَانَا اثْنَيْنِ وَيحْتَمل أَن يكون الْحُضُور مَعَهُمَا جمَاعَة وَصِيغَة الْجَمَاعَة تَنْصَرِف إِلَيْهِم جَمِيعًا وعَلى هَذَا قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} فَإِن أَكثر الْأَعْضَاء المنتفع بهَا فِي الْبدن زوج فَمَا يكون فَردا لعظم الْمَنْفَعَة فِيهِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة مَا هُوَ زوج فتستقيم الْعبارَة عَن تثنيته بِالْجمعِ وَيبين أَن أدنى الْجمع الصَّحِيح ثَلَاثَة صُورَة أَو معنى وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن اشْتريت عبيدا فعلي كَذَا أَو إِن تزوجت نسَاء فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ فَصَاعِدا إِلَّا أَنه إِذا دخل الْألف وَاللَّام فِي هَذِه الصِّيغَة نَجْعَلهَا للْجِنْس مجَازًا لِأَن اللَّام لتعريف الرجل بِعَيْنِه وَقَالَ تَعَالَى {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن} الْمَعْهُود(1/153)
فِي الأَصْل فَإِن الرجل يَقُول رَأَيْت رجلا ثمَّ كلمت الرجل أَي ذَلِك الرَّسُول {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} إِنَّه الْوَاحِد فَصَاعِدا وَقَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} إِنَّه الْوَاحِد فَصَاعِدا وَهَذَا لاعْتِبَار صِيغَة الْفَرد وجعلوه بِمَنْزِلَة الْجِنْس بِغَيْر حرف اللَّام كَمَا يكون مَعَ حرف اللَّام الَّذِي هُوَ للْعهد وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو حلف لَا يشرب مَاء يَحْنَث بِشرب الْقَلِيل كَمَا(1/154)
لَو قَالَ المَاء لِأَن صيغته صِيغَة الْفَرد وَالْمرَاد بِهِ الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير سَوَاء قرن بِهِ اللَّام أَو لم يقرن لِأَنَّهُ لما خلا عَن معنى الْجَمَاعَة صِيغَة إِذْ لَيْسَ لَهُ وحدان كَانَ جِنْسا فإدخال الْألف وَاللَّام فِيهِ يكون للتَّأْكِيد كَالرّجلِ يَقُول رَأَيْت قوما وافدين وَرَأَيْت الْقَوْم الوافدين على فلَان كَانَ ذَلِك كتأكيد معنى الْجِنْس
ثمَّ اسْم الْجِنْس يتَنَاوَل الْأَدْنَى حَقِيقَة من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا أَنه لَو تصور أَن لَا يبْقى من المَاء إِلَّا ذَلِك الْقَلِيل كَانَ اسْم المَاء لَهُ حَقِيقَة وَلَا يتَغَيَّر ذَلِك بِكَثْرَة الْجِنْس
وَقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله إِن الْحَالِف إِنَّمَا يمْنَع نَفسه بِيَمِينِهِ عَمَّا فِي وَسعه وَفِي وَسعه شرب الْقَلِيل من الْجِنْس وَلَيْسَ فِي وَسعه شرب الْجَمِيع فلعلمنا بِأَنَّهُ لم يرد جَمِيع الْجِنْس صرفناه إِلَى أقل مَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْجِنْس على احْتِمَال أَن يكون مُرَاده الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ
وَمن هَذَا الْقسم كلمة من فَإِنَّهَا كلمة مُبْهمَة وَهِي عبارَة عَن ذَات من يعقل وَهِي تحْتَمل الْخُصُوص والعموم أَلا ترى أَنه إِذا قيل من فِي الدَّار يَسْتَقِيم فِي جَوَابه فِيهَا فلَان وَفُلَان وَفُلَان وَإِذا قَالَ من أَنْت يَسْتَقِيم فِي جَوَابه أَنا فلَان فَمَتَى وصلت هَذِه الْكَلِمَة بمعهود كَانَت للخصوص وَإِذا وصلت بِغَيْر الْمَعْهُود تحْتَمل الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَالْأَصْل فِيهَا الْعُمُوم قَالَ الله تَعَالَى {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك} وَقَالَ {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانُوا لَا يبصرون} وَقَالَ تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} وَالْمرَاد الْعُمُوم وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه وَمن دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا قَالَ من شَاءَ من عَبِيدِي الْعتْق فَهُوَ حر فشاؤوا جَمِيعًا عتقوا لِأَن كلمة من تَقْتَضِي الْعُمُوم وَإِنَّمَا أضَاف الْمَشِيئَة إِلَى من دخل تَحت كلمة من فيتعمم بِعُمُومِهِ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا قَالَ من شِئْت من عَبِيدِي عتقه فَهُوَ حر فشاء عتقهم جَمِيعًا عتقوا أَيْضا لِأَن كلمة من تعم العبيد وَمن لتمييز هَذَا الْجِنْس من سَائِر الْأَجْنَاس بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} وَإِضَافَة الْمَشِيئَة إِلَى خَاص لَا يُغير الْعُمُوم الثَّابِت بِكَلِمَة من كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى {ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ} وَلَكِن أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ لَهُ أَن يعتقهم جَمِيعًا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم لِأَن كلمة من للتعميم وَمن للتَّبْعِيض وَهُوَ الْحَقِيقَة فَإِذا أضَاف الْمَشِيئَة إِلَى خَاص يبْقى معنى الْخُصُوص مُعْتَبرا فِيهِ مَعَ الْعُمُوم فَيتَنَاوَل بَعْضًا عَاما وَذَلِكَ فِي أَن يتناولهم إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُم
وَإِنَّمَا رجحنا معنى الْعُمُوم فِيمَا تلونا من الْآيَتَيْنِ بِالْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَة فِيهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {واستغفر لَهُم الله} وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك أدنى أَن}(1/155)
إِلَى الْعَام الدَّاخِل تَحت كلمة من يرجح جَانب الْعُمُوم فِيهِ فَإِذا أضافها {تقر أعينهن} وعَلى احْتِمَال الْخُصُوص فِي هَذِه الْكَلِمَة قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ من دخل مِنْكُم هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ من النَّفْل كَذَا فَدخل رجلَانِ مَعًا لم يسْتَحق وَاحِد مِنْهُمَا شَيْئا لِأَن الأول اسْم لفرد سَابق فَإِذا وَصله بِكَلِمَة من وَهُوَ تَصْرِيح بالخصوص يرجح معنى الْخُصُوص فِيهِ فَلَا يسْتَحق النَّفْل إِلَّا وَاحِد دخل سَابِقًا على الْجَمَاعَة
ونظيرها كلمة مَا فَإِنَّهَا تسْتَعْمل فِي ذَات مَا لَا يعقل وَفِي صِفَات مَا يعقل حَتَّى إِذا قيل مَا زيد يَسْتَقِيم فِي جَوَابه عَالم أَو عَاقل وَإِذا قيل مَا فِي الدَّار يَسْتَقِيم فِي جَوَابه فرس وكلب وحمار وَلَا يَسْتَقِيم فِي الْجَواب رجل وَامْرَأَة فَعرفنَا أَنه يسْتَعْمل فِي ذَات مَا لَا يعقل بِمَنْزِلَة كلمة من فِي ذَات من يعقل أَلا ترى أَن فِرْعَوْن عَلَيْهِ اللَّعْنَة حِين قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا رب الْعَالمين وَقَالَ مُوسَى رب السَّمَوَات وَالْأَرْض أظهر التَّعَجُّب من جَوَابه حَتَّى نسبه إِلَى الْجُنُون يَعْنِي أَنا أسأله عَن الْمَاهِيّة وَهُوَ السُّؤَال عَن ذَات الشَّيْء أجوهر هُوَ أم عرض وَهُوَ يجيبني عَن الْمنية أَلا إِن الله تَعَالَى يتعالى عَمَّا سَأَلَ اللعين وَمن شَأْن الْحَكِيم إِذا سمع لَغوا أَن يعرض عَنهُ ويشتغل بِمَا هُوَ مُفِيد قَالَ تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ وَقَالُوا لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} وَهَذَا لَيْسَ جَوَابا عَن اللَّغْو وَلَكِن إِعْرَاض عَنهُ وإتمام لذَلِك الْإِعْرَاض بالاشتغال بِمَا هُوَ مُفِيد وَكَذَلِكَ فعل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ أظهر الْإِعْرَاض عَن اللَّغْو بالاشتغال بِمَا هُوَ مُفِيد وَهُوَ أَن الصَّانِع جلّ وَعلا إِنَّمَا يعرف بِالتَّأَمُّلِ فِي مصنوعاته وبمعرفة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَفِي هَذَا بَيَان أَن اللعين أَخطَأ فِي طلب طَرِيق الْمعرفَة بالسؤال عَن الْمَاهِيّة
وَقد تَأتي كلمة مَا بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {وَمَا بناها}(1/156)
مَعْنَاهُ وَمن بناها إِلَّا أَن الْحَقِيقَة فِي كل كلمة مَا بَينا وعَلى هَذَا الأَصْل كَانَ الِاخْتِلَاف فِي قَوْله لامْرَأَته اخْتَارِي من الثَّلَاث مَا شِئْت فَاخْتَارَتْ الثَّلَاث فَإِن عِنْدهمَا تطلق ثَلَاثًا وَعند أبي حنيفَة رَحمَه الله ثِنْتَيْنِ بِمَنْزِلَة قَوْله أعتق من عَبِيدِي من شِئْت ولاحتمال معنى الْعُمُوم فِي كلمة مَا قُلْنَا إِذا قَالَ لأمته إِن كَانَ مَا فِي بَطْنك غُلَاما فَأَنت حرَّة فَولدت غُلَاما وَجَارِيَة إِنَّهَا لَا تعْتق لِأَن الشَّرْط أَن يكون جَمِيع مَا فِي بَطنهَا غُلَاما
وَنَظِير هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ كلمة الَّذِي فَإِنَّهَا مُبْهمَة مستعملة فِيمَا يعقل وَفِيمَا لَا يعقل وفيهَا معنى الْعُمُوم على نَحْو مَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ حَتَّى إِذا قَالَ إِن كَانَ الَّذِي فِي بَطْنك غُلَاما كَانَ بِمَنْزِلَة قَوْله إِن كَانَ فِي بَطْنك غُلَاما
وَكلمَة أَيْن وَحَيْثُ للتعميم فِي الْأَمْكِنَة قَالَ الله تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} وَقَالَ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت} وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَيْن شِئْت وَحَيْثُ شِئْت يقْتَصر على الْمجْلس لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفظه مَا يُوجب تَعْمِيم الْأَوْقَات
وَأما مَتى كلمة مُبْهمَة لتعميم الْأَوْقَات وَلِهَذَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق مَتى شِئْت لم يتَوَقَّف ذَلِك على الْمجْلس
وَأما كلمة كل فَإِنَّهَا توجب الْإِحَاطَة على وَجه الْإِفْرَاد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} وَمعنى الْإِفْرَاد أَن كل وَاحِد من المسميات الَّتِي توصل بهَا كلمة كل يصير مَذْكُورا على سَبِيل الِانْفِرَاد كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَه غَيره لِأَن هَذِه الْكَلِمَة صلَة فِي الِاسْتِعْمَال حَتَّى لَا تسْتَعْمل وَحدهَا لخلوها عَن الْفَائِدَة وَهِي تحْتَمل الْخُصُوص نَحْو كلمة من إِلَّا أَن معنى الْعُمُوم فِيهَا يُخَالف معنى الْعُمُوم فِي كلمة من وَلِهَذَا استقام وَصلهَا بِكَلِمَة من قَالَ الله تَعَالَى {كل من عَلَيْهَا فان} حَتَّى لَو وصلت باسم نكرَة تَقْتَضِي الْعُمُوم فِي ذَلِك الِاسْم فَأَما إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أعْط كل رجل من هَؤُلَاءِ درهما كَانَت مُوجبَة للْعُمُوم فيهم وَلِهَذَا لَو قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق فِي الْمرة الثَّانِيَة لِأَنَّهَا توجب الْعُمُوم فِيمَا وصلت بِهِ من الِاسْم دون الْفِعْل إِلَّا أَن توصل بِمَا فَحِينَئِذٍ مَا يتعقبها الْفِعْل دون الِاسْم لِأَنَّهُ يُقَال كلما ضرب وَلَا يُقَال كلما رجل فَيَقْتَضِي التَّعْمِيم فِيمَا يُوصل بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ} فَإِذا قَالَ كلما تزوجت امْرَأَة فَتزَوج تطلق كل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا على الْعُمُوم وَلَو تزوج امْرَأَة(1/157)
مرَّتَيْنِ لم تطلق امْرَأَة مرَارًا تطلق فِي كل مرّة
وَبَيَان الْفرق بَين كلمة من وَبَين كلمة كل فِيمَا يرجع إِلَى الْخُصُوص بِمَا ذكره مُحَمَّد فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل رجلَانِ مَعًا لم يكن لوَاحِد مِنْهُمَا شَيْء وَلَو قَالَ كل من دخل هَذَا الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل عشرَة مَعًا اسْتحق كل وَاحِد مِنْهُم النَّفْل تَاما لأجل الْإِحَاطَة فِي كلمة كل على وَجه الْإِفْرَاد وكل وَاحِد من الداخلين كَأَنَّهُ فَرد لَيْسَ مَعَه غَيره وَهُوَ أول من النَّاس من الَّذين لم يدخلُوا فَاسْتحقَّ النَّفْل كَامِلا وَلَو دخل الْعشْرَة على التَّعَاقُب كَانَ النَّفْل للْأولِ خَاصَّة فِي الْفَصْلَيْنِ لاحْتِمَال الْخُصُوص فِي كلمة كل فَإِن الأول اسْم لفرد سَابق وَهَذَا الْوَصْف تحقق فِيهِ دون من دخل بعده
وَكلمَة الْجَمِيع بِمَنْزِلَة كلمة كل فِي أَنَّهَا توجب الْإِحَاطَة وَلَكِن على وَجه الِاجْتِمَاع لَا على وَجه الْإِفْرَاد حَتَّى لَو قَالَ جَمِيع من دخل مِنْكُم الْحصن أَولا فَلهُ كَذَا فَدخل عشرَة مَعًا استحقوا نفلا وَاحِدًا بِخِلَاف قَوْله كل من دخل لِأَن لفظ الْجَمِيع للإحاطة على وَجه الِاجْتِمَاع وهم سَابِقُونَ بِالدُّخُولِ على سَائِر النَّاس وَكلمَة كل للإحاطة على وَجه الْإِفْرَاد فَكل وَاحِد مِنْهُم كالمنفرد بِالدُّخُولِ سَابِقًا على سَائِر النَّاس مِمَّن لم يدْخل وَلَو قَالَ جمَاعَة من أهل الْحَرْب آمنونا على بنينَا ولأحدهم ابْن وَبَنَات وللباقين بَنَات فَقَط ثَبت الْأمان لَهُم جَمِيعًا وَلَو قَالَ آمنُوا كل وَاحِد منا على بنيه فَإِنَّمَا الْأمان لأَوْلَاد الرجل الَّذِي لَهُ ابْن خَاصَّة دون الآخرين لِأَن الْإِحَاطَة فِي الأول على وَجه الِاجْتِمَاع وباختلاط الذّكر الْوَاحِد بجماعتهم بتناولهم اسْم الْبَنِينَ وَفِي الثَّانِي الْإِحَاطَة على سَبِيل الْإِفْرَاد فَإِنَّمَا يتَنَاوَل لفظ الْبَنِينَ أَوْلَاد الرجل الَّذِي لَهُ ابْن دون أَوْلَاد الَّذين لَهُم بَنَات فَقَط وَهَذِه الْكَلِمَات مَوْضُوعَة لِمَعْنى الْعُمُوم لُغَة غير معلولة
وَنَوع آخر مِنْهَا النكرَة فَإِن النكرَة من الِاسْم للخصوص فِي أصل الْوَضع
قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا} لِأَن(1/158)
الْمَقْصُود بِهِ تَسْمِيَة فَرد من الْأَفْرَاد {إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} وَالْمرَاد رَسُول وَاحِد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خمس من الْإِبِل شَاة وَفِي الْعَادة يُقَال عبد من العبيد وَرجل من الرِّجَال وَلَا يُقَال رجال من الرِّجَال
ثمَّ هَذِه النكرَة عِنْد الْإِطْلَاق لَا تعم عندنَا وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله تكون عَامَّة وَبَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة} فَهُوَ يَقُول هَذِه رَقَبَة عَامَّة يدْخل فِيهَا الصَّغِيرَة والكبيرة وَالذكر وَالْأُنْثَى والكافرة والمؤمنة والصحيحة والزمنة وَقد خص مِنْهَا الزمنة والمدبرة بِالْإِجْمَاع فَيجوز تَخْصِيص الْكَافِرَة مِنْهَا بِالْقِيَاسِ على كَفَّارَة الْقَتْل وَنحن نقُول هَذِه رَقَبَة مُطلقَة غير مُقَيّدَة بِوَصْف فالتقييد بِالْوَصْفِ يكون زِيَادَة وَلَا يكون تَخْصِيصًا فَيكون نسخا ورفعا لحكم الْإِطْلَاق إِذْ الْمُقَيد غير الْمُطلق وَبِهَذَا النَّص وَجب عتق رَقَبَة لَا عتق رِقَاب
ثمَّ جَوَاز الْعتْق فِي جَمِيع مَا ذكره بِاعْتِبَار صَلَاحِية الْمحل لما وَجب بِالْأَمر وَهَذِه الصلاحية مَا ثبتَتْ بِهَذَا النَّص فقد كَانَت صَالِحَة للتحرير قبل وجوب الْعتْق بِهَذَا النَّص وَإِنَّمَا الثَّابِت بِهَذَا النَّص الْوُجُوب فَقَط وَلَيْسَ فِيهِ معنى الْعُمُوم كمن نذر أَن يتَصَدَّق بدرهم فَأَي دِرْهَم تصدق بِهِ خرج عَن نَذره لِأَن صَلَاحِية الْمحل للتصدق لم تكن بنذره إِنَّمَا الْوُجُوب بِالنذرِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُوب معنى الْعُمُوم وَاشْتِرَاط الْملك فِي الرَّقَبَة لضَرُورَة التَّحْرِير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فَإِن التَّحْرِير لَا يَصح من الْمَرْء إِلَّا فِي ملكه وَاشْتِرَاط صفة السَّلامَة لإِطْلَاق الرَّقَبَة لِأَن الْإِطْلَاق يَقْتَضِي الْكَمَال والزمنة قَائِمَة من وَجه مستهلكة من وَجه فَلَا تكون قَائِمَة مُطلقًا حَتَّى تتناولها اسْم الرَّقَبَة مُطلقًا وَلِهَذَا شَرط كَمَال الرّقّ أَيْضا لِأَن التَّحْرِير مَنْصُوص عَلَيْهِ مُطلقًا وَذَلِكَ إِعْتَاق كَامِل ابْتِدَاء وَفِي الْمُدبر وَأم الْوَلَد هَذَا من وَجه تَعْجِيل لما صَار مُسْتَحقّا لَهما مُؤَجّلا فَلَا يكون إعتاقا مُبْتَدأ مُطلقًا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْمُنكر إِذا أُعِيد مُنْكرا فَالثَّانِي غير الأول لِأَن اسْم النكرَة يتَنَاوَل فَردا غير معِين وَفِي صرف الثَّانِي إِلَى مَا يتَنَاوَلهُ الأول نوع تعْيين فَلَا يكون نكرَة مُطلقًا وَهُوَ معنى قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لن يغلب عسر يسرين فَإِن الله تَعَالَى ذكر الْيُسْر مُنْكرا وَأَعَادَهُ مُنْكرا وَذكر الْعسر مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام وَلَو كَانَ إِطْلَاق اسْم النكرَة يُوجب الْعُمُوم لم يكن الثَّانِي غير الأول بِمَنْزِلَة اسْم الْجِنْس وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة إِذا أقرّ بِمِائَة دِرْهَم فِي موطن وَأشْهد شَاهِدين ثمَّ أقرّ بِمِائَة فِي موطن آخر وَأشْهد شَاهِدين كَانَ الثَّانِي غير الأول وَلَو كتب صكا فِيهِ إِقْرَار بِمِائَة وَأشْهد شَاهِدين فِي مجْلِس ثمَّ شَاهِدين فِي مجْلِس آخر كَانَ المَال وَاحِدًا لِأَنَّهُ حِين أضَاف الْإِقْرَار إِلَى مَا فِي الصَّك صَار الثَّانِي مُعَرفا فَيتَنَاوَل مَا يتَنَاوَلهُ الأول فَقَط كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} وَلَو كَانَ فِي مجْلِس وَاحِد أقرّ مرَّتَيْنِ فَإِن الْعَام إِذا أُعِيد بصيغته فَالثَّانِي(1/159)
لَا يتَنَاوَل إِلَّا مَا يتَنَاوَلهُ الأول فَالْمَال وَاحِد اسْتِحْسَانًا لِأَن للمجلس تَأْثِيرا فِي جمع الْكَلِمَات المتفرقة وَجعلهَا ككلمة وَاحِدَة فباعتباره يكون الثَّانِي مُعَرفا من وَجه وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي المجلسين كَذَلِك بِاعْتِبَار الْعَادة لِأَن الْإِنْسَان يُكَرر الْإِقْرَار الْوَاحِد بَين يَدي كل فريق من الشُّهُود لِمَعْنى الاستيثاق وَالْمَال مَعَ الشَّك لَا يجب فلاحتمال الْإِعَادَة بطرِيق الْعَادة لم يلْزمه إِلَّا مَال وَاحِد
ثمَّ هَذِه النكرَة تحْتَمل معنى الْعُمُوم إِذا اتَّصل بهَا دَلِيل الْعُمُوم وَذَلِكَ أَنْوَاع مِنْهَا النكرَة فِي مَوضِع النَّفْي فَإِنَّهَا تعم قَالَ تَعَالَى {فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَالرجل يَقُول مَا رَأَيْت رجلا الْيَوْم فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ نفي هَذَا الْجِنْس على الْعُمُوم وَهَذَا التَّعْمِيم لَيْسَ بِصِيغَة النكرَة بل لمقتضاها وَبِه تبين معنى الْفرق بَين النكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة فِي النَّفْي لِأَن فِي مَوضِع الْإِثْبَات الْمَقْصُود إِثْبَات الْمُنكر وَفِي مَوضِع النَّفْي الْمَقْصُود نفي الْمُنكر فالصيغة فِي الْمَوْضِعَيْنِ تعْمل فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود إِلَّا أَن من ضَرُورَة نفي رُؤْيَة رجل مُنكر نفي رُؤْيَة جنس الرِّجَال فَإِنَّهُ بعد رُؤْيَة رجل وَاحِد لَو قَالَ مَا رَأَيْت الْيَوْم رجلا كَانَ كَاذِبًا أَلا ترى أَنه لَو أخبر بضده فَقَالَ رَأَيْت الْيَوْم رجلا كَانَ صَادِقا وَلَيْسَ من ضَرُورَة إِثْبَات رُؤْيَة رجل وَاحِد إِثْبَات رُؤْيَة غَيره فَهَذَا معنى قَوْلنَا النكرَة فِي النَّفْي تعم وَفِي الْإِثْبَات تخص
وَمِمَّا يدل على الْعُمُوم فِي النكرَة الْألف وَاللَّام إِذا اتصلا بنكرة لَيْسَ فِي جِنْسهَا مَعْهُود قَالَ تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} وَقَالَ تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة}(1/160)
وَقَالَ تَعَالَى {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} لما اتَّصل الْألف وَاللَّام بنكرة لَيْسَ فِي جِنْسهَا مَعْهُود أوجب الْعُمُوم وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق تطلق كل امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي يدْخل الدَّار من عَبِيدِي حر يعْتق كل عبد يدْخل الدَّار وَهَذَا لِأَن الْألف وَاللَّام للمعهود وَلَيْسَ هُنَا مَعْهُود فَيكون بِمَعْنى الْجِنْس مجَازًا كَالرّجلِ يَقُول فلَان يحب الدِّينَار وَمرَاده الْجِنْس وَفِي الْجِنْس معنى الْعُمُوم كَمَا بَينا وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت الطَّلَاق أَو أَنْت طَالِق الطَّلَاق يحْتَمل معنى الْعُمُوم فِيهِ حَتَّى إِذا نوى الثَّلَاث تقع الثَّلَاث وَلَكِن بِدُونِ النِّيَّة يتَنَاوَل الْوَاحِدَة لِأَنَّهَا أدنى الْجِنْس وَهِي الْمُتَيَقن بهَا وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات لَو وكل وَكيلا بشرَاء الثِّيَاب يَصح التَّوْكِيل بِدُونِ بَيَان الْجِنْس لِأَن عِنْد ذكر الْألف وَاللَّام يصير هَذَا بِمَعْنى الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْأَدْنَى بِخِلَاف مَا لَو قَالَ ثيابًا أَو أثوابا فَإِن التَّوْكِيل لَا يكون صَحِيحا لجَهَالَة الْجِنْس فِيمَا يتَنَاوَلهُ التَّوْكِيل
وَمن الدَّلِيل على التَّعْمِيم فِي النكرَة إِلْحَاق وصف عَام بهَا حَتَّى إِذا قَالَ وَالله لَا أكلم إِلَّا رجلا عَالما كَانَ لَهُ أَن يكلم كل عَالم لِأَن الْمُسْتَثْنى نكرَة فِي الْإِثْبَات وَلكنهَا مَوْصُوفَة بِصفة عَامَّة بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِلَّا رجلا فَكلم رجلَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْنَث وَلَو قَالَ لامرأتين لَهُ وَالله لَا أقربكما إِلَّا يَوْمًا فالمستثنى يَوْم وَاحِد وَلَو قَالَ إِلَّا يَوْم أقربكما فِيهِ فَكل يَوْم يقربهما فِيهِ يكون مُسْتَثْنى لَا يَحْنَث بِهِ لِأَنَّهُ وصف النكرَة بِصفة عَامَّة
وَمن جنس النكرَة كلمة أَي فَإِنَّهَا للخصوص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يَقُول أَي رجل أَتَاك وَأي دَار تريدها وَالْمرَاد الْفَرد فَقَط وَقَالَ تَعَالَى {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} وَالْمرَاد الْفَرد من المخاطبين بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {يأتيني} فَإِنَّهُ لم يقل يأتوني وعَلى هَذَا لَو قَالَ لرجل أَي عَبِيدِي ضَربته فَهُوَ حر فضربهم لم يعْتق إِلَّا وَاحِد مِنْهُم لِأَن كلمة أَي يتَنَاوَل الْفَرد مِنْهُم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ أَي عَبِيدِي ضربك فَهُوَ حر فضربوه عتقوا جَمِيعًا قُلْنَا نعم وَلَكِن كلمة أَي تتَنَاوَل الْفَرد مِمَّا يقرن بِهِ من النكرَة فَإِذا قَالَ ضربك فَإِنَّمَا يتَنَاوَل نكرَة مَوْصُوفَة بِفعل الضَّرْب وَهَذِه الصّفة عَامَّة إِلَى الْمُخَاطب لَا إِلَى النكرَة الَّتِي تتناولها كلمة أَي فَبَقيت نكرَة غير مَوْصُوفَة فَلهَذَا لَا تتَنَاوَل إِلَّا الْوَاحِد مِنْهُم وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى أَي فيتعمم بتعميم(1/161)
الصّفة فيعتقون جَمِيعًا وَإِذا قَالَ ضَربته فَإِنَّمَا أضَاف الضَّرْب الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن وَالْمرَاد أَحدهمَا بِدَلِيل قَوْله {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} وَقَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وَالْمرَاد بِهِ الْعُمُوم لِأَنَّهُ وصف النكرَة بِحسن الْعَمَل وَهِي صفة عَامَّة
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لعبيده أَيّكُم حمل هَذِه الْخَشَبَة فَهُوَ حر فحملوها جَمِيعًا مَعًا والخشبة يُطيق حملهَا وَاحِد لم يعْتق وَاحِد مِنْهُم وَقد وصف النكرَة هُنَا بِصفة عَامَّة وَهُوَ الْحمل قُلْنَا مَا وصف النكرَة بِصفة الْحمل مُطلقًا بل بِحمْل الْخَشَبَة وَإِذا حملوها مَعًا فَكل وَاحِد مِنْهُم إِنَّمَا حمل بَعْضهَا وبوجود بعض الشَّرْط لَا ينزل شَيْء من الْجَزَاء حَتَّى لَو حملوها على التَّعَاقُب عتقوا جَمِيعًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم حمل الْخَشَبَة والنكرة الموصوفة تكون عَامَّة
فَإِن قيل إِذا كَانَت الْخَشَبَة بِحَيْثُ لَا يُطيق حملهَا وَاحِد مِنْهُم عتقوا جَمِيعًا إِذا حملوها وَإِنَّمَا حمل كل وَاحِد مِنْهُم بَعْضهَا قُلْنَا إِذا كَانَت لَا يُطيق حملهَا وَاحِد فَقَط علمنَا أَنه وصف النكرَة بِأَصْل الْحمل لَا بِحمْل الْخَشَبَة وَإِنَّمَا علمنَا هَذَا من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه إِنَّمَا يحث العبيد على مَا يتَحَقَّق مِنْهُم دون مَا لَا يتَحَقَّق وَالثَّانِي أَن مَقْصُوده إِذا كَانَت بِحَيْثُ يحملهَا وَاحِد معرفَة جلادتهم وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك بِحمْل الْوَاحِد الْخَشَبَة لَا بِمُطلق الْحمل وَإِذا كَانَت بِحَيْثُ لَا يحملهَا وَاحِد فمقصوده أَن تصير الْخَشَبَة مَحْمُولَة إِلَى مَوضِع حَاجته وَإِنَّمَا يحصل هَذَا بِمُطلق فعل الْحمل من كل وَاحِد مِنْهُم فَهَذَا وَجه الْفرق بَين هَذِه الْفُصُول
فصل
وَأما حكم الْمُشْتَرك فالتوقف فِيهِ إِلَى أَن يظْهر المُرَاد بِالْبَيَانِ على اعْتِقَاد أَن مَا هُوَ المُرَاد حق وَيشْتَرط أَن لَا يتْرك طلب المُرَاد بِهِ إِمَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَة أَو الْوُقُوف على دَلِيل آخر بِهِ يتَبَيَّن المُرَاد لِأَن كَلَام الْحَكِيم لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة وَإِذا كَانَ الْمُشْتَرك(1/162)
مَا يحْتَمل مَعَاني على وَجه التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال مَعَ علمنَا أَن المُرَاد وَاحِد مِنْهَا لَا جَمِيعهَا فَإِن الِاشْتِرَاك عبارَة عَن التَّسَاوِي وَذَلِكَ إِمَّا فِي الِاجْتِمَاع فِي التَّنَاوُل أَو فِي احْتِمَال التَّنَاوُل وَقد انْتَفَى معنى التَّسَاوِي فِي التَّنَاوُل فَتعين معنى التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال وَوَجَب اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد لِأَن ذَلِك فَائِدَة كَلَام الْحَكِيم ثمَّ يجب الِاشْتِغَال بِطَلَبِهِ ولطلبه طَرِيقَانِ إِمَّا التَّأَمُّل بالصيغة ليتبين بِهِ المُرَاد أَو طلب دَلِيل آخر يعرف بِهِ المُرَاد وبالوقوف على المُرَاد يَزُول معنى الِاحْتِمَال على التَّسَاوِي فَلهَذَا يجب ذَلِك بِحكم الصِّيغَة الْمُشْتَركَة وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله غصبت من فلَان شَيْئا فَإِن أصل الْإِقْرَار يَصح وَيجب بِهِ حق للْمقر لَهُ على الْمقر إِلَّا أَن فِي اسْم الشَّيْء احْتِمَالا فِي كل مَوْجُود على التَّسَاوِي وَلَكِن بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة الْكَلَام يعلم أَن مُرَاده المَال لِأَنَّهُ قَالَ غصبت وَحكم الْغَصْب لَا يثبت شرعا إِلَّا فِيمَا هُوَ مَال وَلَكِن لَا يعرف جنس ذَلِك المَال وَلَا مِقْدَاره بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَة الْكَلَام فَيرجع فِيهِ إِلَى بَيَان الْمقر حَتَّى يجْبر على الْبَيَان وَيقبل قَوْله إِذا بَين مَا هُوَ مُحْتَمل
وَأما حكم المؤول فوجوب الْعَمَل بِهِ على حسب وجوب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ إِلَّا أَن وجوب الْعَمَل بِالظَّاهِرِ ثَابت قطعا وَوُجُوب الْعَمَل بالمؤول ثَابت مَعَ احْتِمَال السَّهْو والغلط فِيهِ فَلَا يكون قطعا بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن طَرِيقه غَالب الرَّأْي وَذَلِكَ لَا يَنْفَكّ عَن احْتِمَال السَّهْو والغلط وَبَيَان هَذَا فِيمَن أَخذ مَاء الْمَطَر فِي إِنَاء فَإِنَّهُ يلْزمه التَّوَضُّؤ بِهِ وَيحكم بِزَوَال الْحَدث بِهِ قطعا وَلَو وجد مَاء فِي مَوضِع فغلب على ظَنّه أَنه طَاهِر يلْزمه التَّوَضُّؤ بِهِ على احْتِمَال السَّهْو والغلط حَتَّى إِذا تبين أَن المَاء نجس يلْزمه إِعَادَة الْوضُوء وَالصَّلَاة وَأكْثر مسَائِل التَّحَرِّي على هَذَا
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب أَسمَاء صِيغَة الْخطاب فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاء وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِه الْأَسْمَاء أَرْبَعَة الظَّاهِر وَالنَّص والمفسر والمحكم وَلها أضداد أَرْبَعَة الْخَفي والمشكل والمجمل والمتشابه
أما الظَّاهِر فَهُوَ مَا يعرف المُرَاد مِنْهُ بِنَفس السماع من غير تَأمل وَهُوَ الَّذِي يسْبق(1/163)
إِلَى الْعُقُول والأوهام لظُهُوره مَوْضُوعا فِيمَا هُوَ المُرَاد مِثَاله قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَأحل الله البيع} وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَهَذَا وَنَحْوه ظَاهر يُوقف على المُرَاد مِنْهُ بِسَمَاع الصِّيغَة وَحكمه لُزُوم مُوجبه قطعا عَاما كَانَ أَو خَاصّا
وَأما النَّص فَمَا يزْدَاد وضوحا بِقَرِينَة تقترن بِاللَّفْظِ من الْمُتَكَلّم لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يُوجب ذَلِك ظَاهرا بِدُونِ تِلْكَ الْقَرِينَة وَزعم بعض الْفُقَهَاء أَن اسْم النَّص لَا يتَنَاوَل إِلَّا الْخَاص وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن اشتقاق هَذِه الْكَلِمَة من قَوْلك نصصت الدَّابَّة إِذا حملتها على سير فَوق السّير الْمُعْتَاد مِنْهَا بِسَبَب باشرته وَمِنْه المنصة فَإِنَّهُ اسْم للعرش الَّذِي يحمل عَلَيْهِ الْعَرُوس فَيَزْدَاد ظهورا بِنَوْع تكلّف فَعرفنَا أَن النَّص مَا يزْدَاد وضوحا لِمَعْنى من الْمُتَكَلّم يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة بِالظَّاهِرِ عَاما كَانَ أَو خَاصّا إِلَّا أَن تِلْكَ الْقَرِينَة لما اخْتصّت بِالنَّصِّ دون الظَّاهِر جعل بَعضهم الِاسْم للخاص فَقَط
وَقَالَ بَعضهم النَّص يكون مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ السِّيَاق لَهُ فَلَا يثبت بِهِ مَا هُوَ مُوجب الظَّاهِر وَلَيْسَ كَذَلِك عندنَا فَإِن الْعبْرَة لعُمُوم الْخطاب لَا لخُصُوص السَّبَب عندنَا على مَا نبينه فَيكون النَّص ظَاهرا لصيغة الْخطاب نصا بِاعْتِبَار الْقَرِينَة الَّتِي كَانَ السِّيَاق لأَجلهَا وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} فَإِنَّهُ ظَاهر فِي إِطْلَاق البيع نَص فِي الْفرق بَين البيع والربا بِمَعْنى الْحل وَالْحُرْمَة لِأَن السِّيَاق كَانَ لأَجله لِأَنَّهَا نزلت ردا على الْكَفَرَة فِي دَعوَاهُم الْمُسَاوَاة بَين البيع والربا كَمَا قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا} وَقَوله تَعَالَى {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} ظَاهر فِي تَجْوِيز نِكَاح مَا يستطيبه الْمَرْء من النِّسَاء نَص فِي بَيَان الْعدَد لِأَن سِيَاق الْآيَة لذَلِك بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} وَقَوله تَعَالَى {فطلقوهن لعدتهن} نَص فِي الْأَمر بمراعاة وَقت السّنة عِنْد إِرَادَة الْإِيقَاع لِأَن السِّيَاق كَانَ لأجل ذَلِك ظَاهر فِي الْأَمر بِأَن لَا يزِيد على تَطْلِيقَة وَاحِدَة (فَإِن امْتِثَال هَذِه الصِّيغَة يكون بقوله طلقت وَبِهَذَا اللَّفْظ لَا يَقع الطَّلَاق إِلَّا وَاحِدَة وَالْأَمر مُوجب)(1/164)
الِامْتِثَال ظَاهرا فَتبين بِهَذَا أَن مُوجب النَّص مَا هُوَ مُوجب الظَّاهِر وَلكنه يزْدَاد على الظَّاهِر فِيمَا يرجع إِلَى الوضوح وَالْبَيَان بِمَعْنى عرف من مُرَاد الْمُتَكَلّم وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُقَابلَة وَيكون النَّص أولى من الظَّاهِر
وَأما الْمُفَسّر فَهُوَ اسْم للمكشوف الَّذِي يعرف المُرَاد بِهِ مكشوفا على وَجه لَا يبْقى مَعَه احْتِمَال التَّأْوِيل فَيكون فَوق الظَّاهِر وَالنَّص لِأَن احْتِمَال التَّأْوِيل قَائِم فيهمَا مُنْقَطع فِي الْمُفَسّر سَوَاء كَانَ ذَلِك مِمَّا يرجع إِلَى صِيغَة الْكَلَام بِأَن لَا يكون مُحْتملا إِلَّا وَجها وَاحِدًا وَلكنه لُغَة عَرَبِيَّة أَو اسْتِعَارَة دقيقة فَيكون مكشوفا بِبَيَان الصِّيغَة أَو يكون بِقَرِينَة من غير الصِّيغَة فيتبين بِهِ المُرَاد بالصيغة لَا لِمَعْنى من الْمُتَكَلّم فَيَنْقَطِع بِهِ احْتِمَال التَّأْوِيل إِن كَانَ خَاصّا وَاحْتِمَال التَّخْصِيص إِن كَانَ عَاما مِثَاله قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فَإِن اسْم الْمَلَائِكَة عَام فِيهِ احْتِمَال الْخُصُوص فبقوله {كلهم} يَنْقَطِع هَذَا الِاحْتِمَال وَيبقى احْتِمَال الْجمع والافتراق فبقوله {أَجْمَعُونَ} يَنْقَطِع احْتِمَال تَأْوِيل الِافْتِرَاق وَتبين أَن الْمُفَسّر حكمه زَائِد على حكم النَّص وَالظَّاهِر فَكَانَ ملزما مُوجبه قطعا على وَجه لَا يبْقى فِيهِ احْتِمَال التَّأْوِيل وَلَكِن يبْقى احْتِمَال النّسخ
وَأما الْمُحكم فَهُوَ زَائِد على مَا قُلْنَا بِاعْتِبَار أَنه لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النّسخ والتبديل وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلك بِنَاء مُحكم أَي مَأْمُون الانتقاض وأحكمت الصِّيغَة أَي أمنت نقضهَا وتبديلها وَقيل بل هُوَ مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل أحكمت فلَانا عَن كَذَا أَي رَددته قَالَ الْقَائِل أبني حنيفَة أحكموا سفهاءكم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا أَي امنعوا وَمِنْه حِكْمَة الْفرس لِأَنَّهَا تَمنعهُ من العثار وَالْفساد فالمحكم مُمْتَنع من احْتِمَال التَّأْوِيل وَمن أَن يرد عَلَيْهِ النّسخ والتبديل وَلِهَذَا سمى الله تَعَالَى المحكمات أم الْكتاب أَي الأَصْل الَّذِي يكون الْمرجع إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْأُم للْوَلَد فَإِنَّهُ يرجع إِلَيْهَا وَسميت مَكَّة أم الْقرى لِأَن النَّاس يرجعُونَ إِلَيْهَا لِلْحَجِّ وَفِي آخر الْأَمر نَحْو قَوْله تَعَالَى {أَن الله بِكُل شَيْء عليم} فقد علم أَن هَذَا (وصف) دَائِم(1/165)
والمرجع مَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال التَّأْوِيل وَلَا احْتِمَال النّسخ والتبديل وَذَلِكَ لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال وَإِنَّمَا يظْهر التَّفَاوُت فِي مُوجب هَذِه الْأَسَامِي عِنْد التَّعَارُض وَفَائِدَته ترك الْأَدْنَى بالأعلى وترجيح الْأَقْوَى على الأضعف وَلِهَذَا أَمْثِلَة فِي الْآثَار إِذا تَعَارَضَت نذكرها فِي بَيَان أَقسَام الْأَخْبَار إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأَمْثَاله من مسَائِل الْفِقْه مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن تزوج امْرَأَة شهرا فَإِنَّهُ يكون ذَلِك مُتْعَة لَا نِكَاحا لِأَن قَوْله تزوجت نَص للنِّكَاح وَلَكِن احْتِمَال الْمُتْعَة قَائِم فِيهِ وَقَوله شهرا مُفَسّر فِي الْمُتْعَة لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال النِّكَاح فَإِن النِّكَاح لَا يحْتَمل التَّوْقِيت بِحَال فَإِذا اجْتمعَا فِي الْكَلَام رجحنا الْمُفَسّر وحملنا النَّص على ذَلِك الْمُفَسّر فَكَانَ مُتْعَة لَا نِكَاحا
وَقَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ الرجل لآخر لي عَلَيْك ألف دِرْهَم فَقَالَ الْحق أَو الصدْق أَو الْيَقِين كَانَ إِقْرَارا وَلَو قَالَ الْبر أَو الصّلاح لَا يكون إِقْرَارا فَإِن قَالَ الْبر الْحق أَو الْبر الصدْق أَو الْبر الْيَقِين كَانَ إِقْرَارا وَلَو قَالَ الصّلاح الْحق أَو الصّلاح الصدْق أَو الصّلاح الْيَقِين يكون ردا لكَلَامه وَلَا يكون إِقْرَارا لِأَن الْحق والصدق وَالْيَقِين صفة للْخَبَر ظَاهرا فَإِذا ذكره فِي مَوضِع الْجَواب كَانَ مَحْمُولا على الْخَبَر الَّذِي هُوَ تَصْدِيق بِاعْتِبَار الظَّاهِر مَعَ احْتِمَال فِيهِ وَهُوَ إِرَادَة ابْتِدَاء الْكَلَام أَي الصدْق أولى بك أَو الْحق أَو الْيَقِين أولى بالاشتغال من دَعْوَى الْبَاطِل فَأَما الْبر فَهُوَ اسْم لجَمِيع أَنْوَاع الْإِحْسَان لَا يخْتَص بالْخبر فَهُوَ وَإِن ذكر فِي مَوضِع الْجَواب يكون بِمَنْزِلَة الْمُجْمل لَا يفهم مِنْهُ الْجَواب عِنْد الِانْفِرَاد فَإِن قرن بِهِ مَا يكون ظَاهره للجواب وَذَلِكَ الصدْق أَو الْحق أَو الْيَقِين حمل ذَلِك الْمُجْمل على هَذَا الْبَيَان الظَّاهِر فَيكون إِقْرَارا فَأَما الصّلاح لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْخَبَر بل هُوَ مُحكم فِي أَنه ابْتِدَاء كَلَام لَا جَوَاب فَيحمل مَا يقرن بِهِ من الظَّاهِر على هَذَا الْمُحكم وَيجْعَل ذَلِك ردا لكَلَامه وَابْتِدَاء أَمر لَهُ بِاتِّبَاع الصّلاح وَترك دَعْوَى الْبَاطِل(1/166)
وَأما الْخَفي فَهُوَ اسْم لما اشْتبهَ مَعْنَاهُ وخفي المُرَاد مِنْهُ بِعَارِض فِي الصِّيغَة يمْنَع نيل المُرَاد بهَا إِلَّا بِالطَّلَبِ مَأْخُوذ من قَوْلهم اختفى فلَان إِذا استتر فِي وَطنه وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُوقف عَلَيْهِ بِعَارِض حِيلَة أحدثه إِلَّا بالمبالغة فِي الطّلب من غير أَن يُبدل نَفسه أَو مَوْضِعه وَهُوَ ضد الظَّاهِر وَقد جعل بَعضهم ضد الظَّاهِر الْمُبْهم وَفَسرهُ بِهَذَا الْمَعْنى أَيْضا مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل ليل بهيم إِذا عَم الظلام فِيهِ كل شَيْء حَتَّى لَا يهتدى فِيهِ إِلَّا بِحَدّ التَّأَمُّل
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَلَكِنِّي اخْتَرْت الأول لِأَن اسْم الْمُبْهم يتَنَاوَل الْمُطلق لُغَة تَقول الْعَرَب فرس بهيم أَي مُطلق اللَّوْن
وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أبهموا مَا أبهم الله تَعَالَى أَي أطْلقُوا مَا أطلق الله تَعَالَى وَلَا تقيدوا الْحُرْمَة فِي أُمَّهَات النِّسَاء بِالدُّخُولِ بالبنات
وَبَيَان مَا ذكرنَا من معنى الْخَفي فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} فَإِنَّهُ ظَاهر فِي السَّارِق الَّذِي لم يخْتَص باسم آخر سوى السّرقَة يعرف بِهِ خَفِي فِي الطرار والنباش فقد اختصا باسم آخر هُوَ سَبَب سرقتهما يعرفان بِهِ فَاشْتَبَهَ الْأَمر أَن اختصاصهما بِهَذَا الِاسْم لنُقْصَان فِي معنى السّرقَة أَو زِيَادَة فِيهَا وَلأَجل ذَلِك اخْتلف الْعلمَاء
قَالَ أَبُو يُوسُف اخْتِصَاص النباش باسم هُوَ سَبَب سَرقته لَا يدل على نُقْصَان فِي سَرقته كالطرار وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله السّرقَة اسْم لأخذ المَال على وَجه مسارقة عين حافظه مَعَ كَونه قَاصِدا إِلَى حفظه باعتراض غَفلَة لَهُ من نوم أَو غَيره والنباش يسارق عين من عَسى يهجم عَلَيْهِ مِمَّن لَيْسَ بحافظ للكفن وَلَا قَاصد إِلَى حفظه فَهُوَ يبين أَن اخْتِصَاصه بِهَذَا الِاسْم لنُقْصَان فِي معنى السّرقَة وَكَذَلِكَ فِي اسْم السّرقَة مَا ينبىء عَن خطر الْمَسْرُوق بِكَوْنِهِ محرزا مَحْفُوظًا وَفِي اسْم النباش مَا يَنْفِي هَذَا الْمَعْنى بل ينبىء عَن ضِدّه من الهوان وَترك الْإِحْرَاز والتعدية فِي مثل هَذَا لإِيجَاب الْعقُوبَة الَّتِي تدرأ بِالشُّبُهَاتِ بَاطِلَة فَأَما الطرار فاختصاصه بذلك الِاسْم لزِيَادَة حذق ولطف مِنْهُ فِي جِنَايَته فَإِنَّهُ يسارق عين من يكون مُقبلا على الْحِفْظ قَاصِدا لذَلِك بفترة تعتريه فِي لَحْظَة فَذَلِك ينبىء عَن مُبَالغَة فِي جِنَايَة السّرقَة وتعدية الحكم بِمثلِهِ مُسْتَقِيم فِي الْحُدُود لِأَنَّهُ إِثْبَات حكم النَّص بطرِيق الأولى بِمَنْزِلَة حُرْمَة الشتم وَالضَّرْب بِالنَّصِّ الْمحرم للتأفيف(1/167)
ثمَّ حكم الْخَفي اعْتِقَاد الحقية فِي المُرَاد وَوُجُوب الطّلب إِلَى أَن يتَبَيَّن المُرَاد وفوقه الْمُشكل وَهُوَ ضد النَّص مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل أشكل على كَذَا أَي دخل فِي أشكاله وَأَمْثَاله كَمَا يُقَال أحرم أَي دخل فِي الْحرم وأشتى أَي دخل فِي الشتَاء وأشأم أَي دخل الشَّام وَهُوَ اسْم لما يشْتَبه المُرَاد مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي أشكاله على وَجه لَا يعرف المُرَاد إِلَّا بِدَلِيل يتَمَيَّز بِهِ من بَين سَائِر الأشكال والمشكل قريب من الْمُجْمل وَلِهَذَا خَفِي على بَعضهم فَقَالُوا الْمُشكل والمجمل سَوَاء وَلَكِن بَينهمَا فرق فالتمييز بَين الأشكال ليوقف على المُرَاد قد يكون بِدَلِيل آخر وَقد يكون بالمبالغة فِي التَّأَمُّل حَتَّى يظْهر بِهِ الرَّاجِح فيتبين بِهِ المُرَاد فَهُوَ من هَذَا الْوَجْه قريب من الْخَفي وَلكنه فَوْقه فهناك الْحَاجة إِلَى التَّأَمُّل فِي الصِّيغَة وَفِي أشكالها وَحكمه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد ثمَّ الإقبال على الطّلب والتأمل فِيهِ إِلَى أَن يتَبَيَّن المُرَاد فَيعْمل بِهِ
وَأما الْمُجْمل فَهُوَ ضد الْمُفَسّر مَأْخُوذ من الْجُمْلَة وَهُوَ لفظ لَا يفهم المُرَاد مِنْهُ إِلَّا باستفسار من الْمُجْمل وَبَيَان من جِهَته يعرف بِهِ المُرَاد وَذَلِكَ إِمَّا لتوحش فِي معنى الِاسْتِعَارَة أَو فِي صِيغَة عَرَبِيَّة مِمَّا يُسَمِّيه أهل الْأَدَب لُغَة غَرِيبَة والغريب اسْم لمن فَارق وَطنه وَدخل فِي جملَة النَّاس فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُوقف على أَثَره إِلَّا بالاستفسار عَن وَطنه مِمَّن يعلم بِهِ وموجبه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد والتوقف فِيهِ إِلَى أَن يتَبَيَّن بِبَيَان الْمُجْمل ثمَّ استفساره ليبينه بِمَنْزِلَة من ضل عَن الطَّرِيق وَهُوَ يَرْجُو أَن يُدْرِكهُ بالسؤال مِمَّن لَهُ معرفَة بِالطَّرِيقِ أَو بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا ظهر لَهُ مِنْهُ فَيحْتَمل أَن يدْرك بِهِ الطَّرِيق
وَتبين أَن الْمُجْمل فَوق الْمُشكل فَإِن المُرَاد فِي الْمُشكل قَائِم وَالْحَاجة إِلَى تَمْيِيزه من أشكاله وَالْمرَاد فِي الْمُجْمل غير قَائِم وَلَكِن فِيهِ توهم معرفَة المُرَاد بِالْبَيَانِ وَالتَّفْسِير وَذَلِكَ الْبَيَان دَلِيل آخر غير مُتَّصِل بِهَذِهِ الصِّيغَة إِلَّا أَن يكون لفظ الْمُجْمل فِيهِ غَلَبَة الِاسْتِعْمَال لِمَعْنى فَحِينَئِذٍ يُوقف على المُرَاد بذلك الطَّرِيق بِمَنْزِلَة الْغَرِيب الَّذِي تأهل فِي غير بلدته وَصَارَ مَعْرُوفا فِيهَا فَإِنَّهُ يُوقف على أَثَره بِالطَّلَبِ فِي ذَلِك الْموضع
وَبَيَان مَا ذكرنَا من الْمُجْمل فِي قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} فَإِنَّهُ مُجمل لِأَن الرِّبَا عبارَة عَن الزِّيَادَة فِي أصل الْوَضع وَقد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد ذَلِك فَإِن البيع مَا شرع إِلَّا للاسترباح وَطلب الزِّيَادَة(1/168)
وَلَكِن المُرَاد حُرْمَة البيع بِسَبَب فضل خَال عَن الْعِوَض مَشْرُوط فِي العقد وَذَلِكَ فضل مَال أَو فضل حَال على مَا يعرف فِي مَوْضِعه وَمَعْلُوم أَن بِالتَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَة لَا يعرف هَذَا بل بِدَلِيل آخر فَكَانَ مُجملا فِيمَا هُوَ المُرَاد وَكَذَلِكَ الصَّلَاة وَالزَّكَاة فهما مجملان لِأَن الصِّيغَة فِي أصل الْوَضع للدُّعَاء والنماء وَلَكِن بِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال شرعا فِي أَعمال مَخْصُوصَة يُوقف على المُرَاد بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ
وَأما الْمُتَشَابه فَهُوَ اسْم لما انْقَطع رَجَاء معرفَة المُرَاد مِنْهُ لمن اشْتبهَ فِيهِ عَلَيْهِ وَالْحكم فِيهِ اعْتِقَاد الحقية وَالتَّسْلِيم بترك الطّلب والاشتغال بِالْوُقُوفِ على المُرَاد مِنْهُ سمي متشابها عِنْد بَعضهم لاشتباه الصِّيغَة بهَا وتعارض الْمعَانِي فِيهَا وَهَذَا غير صَحِيح فالحروف الْمُقطعَة فِي أَوَائِل السُّور من المتشابهات عِنْد أهل التَّفْسِير وَلَيْسَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنى وَلَكِن معرفَة المُرَاد فِيهِ مَا يشبه لَفظه وَمَا يجوز أَن يُوقف على المُرَاد فِيهِ وَهُوَ بِخِلَاف ذَلِك لانْقِطَاع احْتِمَال معرفَة المُرَاد فِيهِ وَأَنه لَيْسَ لَهُ مُوجب سوى اعْتِقَاد الحقية فِيهِ وَالتَّسْلِيم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} فالوقف عندنَا فِي هَذَا الْموضع ثمَّ قَوْله تَعَالَى {والراسخون فِي الْعلم} ابْتِدَاء بِحرف الْوَاو لحسن نظم الْكَلَام وَبَيَان أَن الراسخ فِي الْعلم من يُؤمن بالمتشابه وَلَا يشْتَغل بِطَلَب المُرَاد فِيهِ بل يقف فِيهِ مُسلما هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} وَهَذَا لِأَن الْمُؤمنِينَ فريقان مبتلي بالإمعان فِي الطّلب لضرب من الْجَهْل فِيهِ ومبتلي عَن الْوُقُوف فِي الطّلب لكَونه مكرما بِنَوْع من الْعلم
وَمعنى الِابْتِلَاء من هَذَا الْوَجْه رُبمَا يزِيد على معنى الِابْتِلَاء فِي الْوَجْه الأول فَإِن فِي الِابْتِلَاء بِمُجَرَّد الِاعْتِقَاد مَعَ التَّوَقُّف فِي الطّلب بَيَان أَن مُجَرّد الْعقل لَا يُوجب شَيْئا وَلَا يدْفع شَيْئا فَإِنَّهُ يلْزمه اعْتِقَاد الحقية فِيمَا لَا مجَال لعقله فِيهِ ليعرف أَن الحكم لله يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى فِي الِابْتِلَاء بِهَذِهِ الْأَسَامِي الَّتِي فِيهَا تفَاوت يَعْنِي الْمُجْمل والمشكل والخفي فَإِن الْكل لَو كَانَ ظَاهرا جليا بَطل معنى الامتحان ونيل الثَّوَاب بالجهد بِالطَّلَبِ وَلَو كَانَ الْكل مُشكلا خفِيا لم يعلم مِنْهُ شَيْء حَقِيقَة فَأثْبت الشَّرْع هَذَا التَّفَاوُت فِي صِيغَة الْخطاب لتحقيق الْقُلُوب إِلَى محبتهم لحاجتهم إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِم وَالْأَخْذ بقَوْلهمْ والاقتداء بهم
وَبَيَان مَا ذكرنَا من معنى الْمُتَشَابه من مسَائِل الْأُصُول أَن رُؤْيَة الله تَعَالَى بالأبصار فِي الْآخِرَة حق مَعْلُوم ثَابت بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وُجُوه}(1/169)
معنى الامتحان وَإِظْهَار فَضِيلَة الراسخين فِي الْعلم وتعظيم حرمتهم وَصرف {يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} ثمَّ هُوَ مَوْجُود بِصفة الْكَمَال وَفِي كَونه مرئيا لنَفسِهِ وَلغيره معنى الْكَمَال إِلَّا أَن الْجِهَة مُمْتَنع فَإِن الله تَعَالَى لَا جِهَة لَهُ فَكَانَ متشابها فِيمَا يرجع إِلَى كَيْفيَّة الرُّؤْيَة والجهة مَعَ كَون أصل الرُّؤْيَة ثَابتا بِالنَّصِّ مَعْلُوما كَرَامَة للْمُؤْمِنين فَإِنَّهُم أهل لهَذِهِ الْكَرَامَة والتشابه فِيمَا يرجع إِلَى الْوَصْف لَا يقْدَح فِي الْعلم بِالْأَصْلِ وَلَا يبطل وَكَذَلِكَ الْوَجْه وَالْيَد على مَا نَص الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن مَعْلُوم وَكَيْفِيَّة ذَلِك من الْمُتَشَابه فَلَا يبطل بِهِ الأَصْل الْمَعْلُوم
والمعتزلة خذلهم الله لاشتباه الْكَيْفِيَّة عَلَيْهِم أَنْكَرُوا الأَصْل فَكَانُوا معطلة بإنكارهم صِفَات الله تَعَالَى وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة نَصرهم الله أثبتوا مَا هُوَ الأَصْل الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ وتوقفوا فِيمَا هُوَ الْمُتَشَابه وَهُوَ الْكَيْفِيَّة فَلم يجوزوا الِاشْتِغَال بِطَلَب ذَلِك كَمَا وصف الله تَعَالَى بِهِ الراسخين فِي الْعلم فَقَالَ {يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب}
فصل فِي بَيَان الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
الْحَقِيقَة اسْم لكل لفظ هُوَ مَوْضُوع فِي الأَصْل لشَيْء مَعْلُوم مَأْخُوذ من قَوْلك حق يحِق فَهُوَ حق وحاق وحقيق وَلِهَذَا يُسمى أصلا أَيْضا لِأَنَّهُ أصل فِيمَا هُوَ مَوْضُوع لَهُ
وَالْمجَاز اسْم لكل لفظ هُوَ مستعار لشَيْء غير مَا وضع لَهُ مفعل من جَازَ يجوز سمي مجَازًا لتعديه عَن الْموضع الَّذِي وضع فِي الأَصْل لَهُ إِلَى غَيره وَمِنْه قَول الرجل لغيره حبك إيَّايَ مجَاز أَي هُوَ بِاللِّسَانِ دون الْقلب الَّذِي هُوَ مَوضِع الْحبّ فِي الأَصْل وَهَذَا الْوَعْد مِنْك مجَاز أَي الْقَصْد مِنْهُ الترويج دون التَّحْقِيق على مَا عَلَيْهِ وضع الْوَعْد فِي الأَصْل وَلِهَذَا يُسمى مستعارا لِأَن الْمُتَكَلّم بِهِ استعاره وبالاستعمال فِيمَا هُوَ مُرَاده بِمَنْزِلَة من اسْتعَار ثوبا للبس ولبسه وكل وَاحِد من النَّوْعَيْنِ مَوْجُود فِي كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام النَّاس فِي الْخطب والأشعار وَغير ذَلِك(1/170)
حَتَّى كَاد الْمجَاز يغلب الْحَقِيقَة لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَبِه اتَّسع اللِّسَان وَحسن مخاطبات النَّاس بَينهم
وَحكم الْحَقِيقَة وجود مَا وضع لَهُ أمرا كَانَ أَو نهيا خَاصّا كَانَ أَو عَاما وَحكم الْمجَاز وجود مَا استعير لأَجله كَمَا هُوَ حكم الْحَقِيقَة خَاصّا كَانَ أَو عَاما
وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله من قَالَ لَا عُمُوم للمجاز وَلِهَذَا قَالُوا إِن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء لَا يُعَارضهُ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاع بالصاعين فَإِن المُرَاد بالصاع مَا يُكَال بِهِ وَهُوَ مجَاز لَا عُمُوم لَهُ وبالإجماع المطعوم مُرَاد بِهِ فَيخرج مَا سواهُ من أَن يكون مرَادا ويترجح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ حَقِيقَة فِي مَوْضِعه فَيثبت الحكم بِهِ عَاما وَاسْتَدَلُّوا لإِثْبَات هَذِه الْقَاعِدَة بِأَن الْمصير إِلَى الْمجَاز لأجل الْحَاجة والضرورة فَأَما الأَصْل هُوَ الْحَقِيقَة فِي كل لفظ لِأَنَّهُ مَوْضُوع لَهُ فِي الأَصْل وَلِهَذَا لَا يُعَارض الْمجَاز الْحَقِيقَة بالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يصير اللَّفْظ فِي المتردد بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي حكم الْمُشْتَرك وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بِدُونِ إِثْبَات حكم الْعُمُوم للمجاز فَكَانَ الْمجَاز فِي هَذَا الْمَعْنى بِمَنْزِلَة مَا ثَبت بطرِيق الِاقْتِضَاء فَكَمَا لَا تثبت هُنَاكَ صفة الْعُمُوم لِأَن الضَّرُورَة ترْتَفع بِدُونِهِ فَكَذَلِك هَا هُنَا
وَلَكنَّا نقُول الْمجَاز أحد نَوْعي الْكَلَام فَيكون بِمَنْزِلَة نوع آخر فِي احْتِمَال الْعُمُوم وَالْخُصُوص لِأَن الْعُمُوم للْحَقِيقَة لَيْسَ بِاعْتِبَار معنى الْحَقِيقَة بل بِاعْتِبَار دَلِيل آخر دلّ عَلَيْهِ فَإِن قَوْلنَا رجل اسْم لخاص فَإِذا قرن بِهِ الْألف وَاللَّام وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْهُود ينْصَرف إِلَيْهِ بِعَيْنِه كَانَ للْجِنْس فَيكون عَاما بِهَذَا الدَّلِيل وَكَذَا كل نكرَة إِذا قرن بهَا الْألف وَاللَّام فِيمَا لَا مَعْهُود فِيهِ يكون عَاما بِهَذَا الدَّلِيل وَقد وجد هَذَا الدَّلِيل فِي الْمجَاز وَالْمحل الَّذِي اسْتعْمل فِيهِ الْمجَاز قَابل للْعُمُوم فَتثبت بِهِ صفة الْعُمُوم بدليله كَمَا ثَبت فِي الْحَقِيقَة وَلِهَذَا جعلنَا قَوْله (وَلَا الصَّاع بالصاعين) عَاما لِأَن الصَّاع نكرَة قرن بهَا الْألف وَاللَّام وَمَا يحويه الصَّاع مَحل لصفة الْعُمُوم وَهَذَا(1/171)
لِأَن الْمجَاز مستعار ليَكُون قَائِما مقَام الْحَقِيقَة عَاملا عمله وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِإِثْبَات صفة الْعُمُوم فِيهِ أَلا ترى أَن الثَّوْب الملبوس بطرِيق الْعَارِية يعْمل عمل الملبوس بطرِيق الْملك فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ دفع الْحر وَالْبرد وَلَو لم يَجْعَل كَذَلِك لَكَانَ الْمُتَكَلّم بالمجاز عَن اخْتِيَار مخلا بالغرض فَيكون مقصرا وَذَلِكَ غير مستحسن فِي الأَصْل وَقد ظهر اسْتِحْسَان النَّاس للمجازات والاستعارات فَوق استحسانهم للفظ الَّذِي هُوَ حَقِيقَة عرفنَا أَنه لَيْسَ فِي هَذِه الِاسْتِعَارَة تَقْصِير فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَأَن للمجاز من الْعَمَل مَا للْحَقِيقَة وَقَوْلهمْ إِن الْمجَاز يكون للضَّرُورَة بَاطِل فَإِن الْمجَاز مَوْجُود فِي كتاب الله تَعَالَى وَالله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ الْعَجز أَو الضَّرُورَة إِلَّا أَن التَّفَاوُت بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي اللُّزُوم والدوام من حَيْثُ إِن الْحَقِيقَة لَا تحْتَمل النَّفْي عَن موضعهَا وَالْمجَاز يحْتَمل ذَلِك وَهُوَ الْعَلامَة فِي معرفَة الْفرق بَينهمَا فَإِن اسْم الْأَب حَقِيقَة للْأَب الْأَدْنَى فَلَا يجوز نَفْيه عَنهُ بِحَال وَهُوَ مجَاز للْجدّ حَتَّى يجوز نَفْيه عَنهُ بِأَن يُقَال إِنَّه جد وَلَيْسَ بأب وَلِهَذَا تترجح الْحَقِيقَة عِنْد التَّعَارُض لِأَنَّهَا ألزم وأدوم وَالْمَطْلُوب بِكُل كلمة عِنْد الْإِطْلَاق مَا هِيَ مَوْضُوعَة لَهُ فِي الأَصْل فيترجح ذَلِك حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز بِمَنْزِلَة الملبوس يتَرَجَّح جِهَة الْملك للابس فِيهِ حَتَّى يقوم دَلِيل الْعَارِية إِلَّا إِذا كَانَت الْحَقِيقَة مهجورة فَحِينَئِذٍ يتَعَيَّن الْمجَاز لمعْرِفَة الْقَصْد إِلَى تَصْحِيح الْكَلَام وَينزل ذَلِك منزلَة دَلِيل الِاسْتِثْنَاء وَلِهَذَا قُلْنَا لَو حلف أَن لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّجَرَة أَو من هَذَا الْقدر لَا ينْصَرف يَمِينه إِلَى عينهَا وَإِنَّمَا ينْصَرف إِلَى ثَمَرَة الشَّجَرَة وَمَا يطْبخ فِي الْقدر لِأَن الْحَقِيقَة مهجورة فَيتَعَيَّن الْمجَاز
وَلَو حلف لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّاة ينْصَرف يَمِينه إِلَى لَحمهَا لَا إِلَى لَبنهَا وسمنها لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا غير مهجورة فَإِن عين الشَّاة تُؤْكَل فتترجح الْحَقِيقَة على الْمجَاز عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ
وَلَو حلف لَا يَأْكُل من هَذَا الدَّقِيق فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا يَحْنَث إِذا أكل الدَّقِيق بِعَيْنِه لِأَنَّهُ مَأْكُول وَالأَصَح أَنه لَا يَحْنَث لِأَن أكل عين الدَّقِيق مهجور فَيَنْصَرِف يَمِينه إِلَى الْمجَاز وَهُوَ مَا يتَّخذ مِنْهُ الْخبز وَصَارَ دَلِيل الِاسْتِثْنَاء بِهَذَا الدَّلِيل نَحْو دَلِيل الِاسْتِثْنَاء فِيمَن حلف أَن لَا يسكن هَذِه الدَّار وَهُوَ ساكنها فَأخذ فِي النقلَة فِي الْحَال فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث وَيصير(1/172)
ذَلِك الْقدر من السُّكْنَى مُسْتَثْنى لمعْرِفَة مَقْصُوده وَهُوَ أَن يمْنَع نَفسه بِيَمِينِهِ عَمَّا فِي وَسعه دون مَا لَيْسَ فِي وَسعه وعَلى هَذَا لَو حلف لَا يُطلق وَقد كَانَ علق الطَّلَاق بِشَرْط قبل هَذِه الْيَمين فَوجدَ الشَّرْط لم يَحْنَث أَو كَانَ حلف بعد الْجرْح أَن لَا يقتل فَمَاتَ الْمَجْرُوح لم يَحْنَث وَيجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة دَلِيل الِاسْتِثْنَاء بِمَعْرِِفَة مَقْصُوده
وَمن أَحْكَام الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة على أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا بِحَال لِأَن الْحَقِيقَة أصل وَالْمجَاز مستعار وَلَا تصور لكَون اللَّفْظ الْوَاحِد مُسْتَعْملا فِي مَوْضُوعه مستعارا فِي مَوضِع آخر سوى مَوْضُوعه فِي حَالَة وَاحِدَة كَمَا لَا تصور لكَون الثَّوْب الْوَاحِد على اللابس ملكا وعارية فِي وَقت وَاحِد وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} المُرَاد الْجِمَاع دون اللَّمْس بِالْيَدِ لِأَن الْجِمَاع مُرَاد بالِاتِّفَاقِ حَتَّى يجوز التَّيَمُّم للْجنب بِهَذَا النَّص وَلَا تَجْتَمِع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز مرَادا بِاللَّفْظِ فَإِذا كَانَ الْمجَاز مرَادا تتنحى الْحَقِيقَة وَلِهَذَا قُلْنَا النَّص الْوَارِد فِي تَحْرِيم الْخمر وَإِيجَاب الْحَد بشربه بِعَيْنِه لَا يتَنَاوَل سَائِر الْأَشْرِبَة المسكرة حَتَّى لَا يجب الْحَد بهَا مَا لم تسكر لِأَن الِاسْم للنيء من مَاء الْعِنَب المشتد حَقِيقَة ولسائر الْأَشْرِبَة المسكرة مجَازًا فَإِذا كَانَت الْحَقِيقَة مرَادا يتَنَحَّى الْمجَاز وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِيمَن أوصى لبني فلَان أَو لأَوْلَاد فلَان وَله بنُون لصلبه وَأَوْلَاد الْبَنِينَ فَإِن أَوْلَاد الْبَنِينَ لَا يسْتَحقُّونَ شَيْئا لِأَن الْحَقِيقَة مُرَادة فيتنحى الْمجَاز
وَقَالَ فِي السّير إِذا استأمنوا على آبَائِهِم لَا يدْخل أجدادهم فِي ذَلِك وَإِذا استأمنوا على أمهاتهم لَا تدخل الْجدَّات فِي ذَلِك لِأَن الْحَقِيقَة مُرَادة فيتنحى الْمجَاز وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو أَن عَرَبيا لَا وَلَاء عَلَيْهِ أوصى لمواليه وَله معتقون ومعتق المعتقين فَإِن الْوَصِيَّة لمعتقه وَلَيْسَ لمعتق الْمُعْتق شَيْء لِأَن الِاسْم للمعتقين حَقِيقَة بِاعْتِبَار أَنه بَاشر سَبَب إحيائهم بإحداث قُوَّة الْمَالِكِيَّة فيهم بِالْإِعْتَاقِ لِأَن الْحُرِّيَّة حَيَاة وَالرّق تلف حكما فَكَانُوا منسوبين(1/173)
إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ حَقِيقَة كنسبة الْوَلَد إِلَى أَبِيه وَأما مُعتق الْمُعْتق يُسمى مولى لَهُ مجَازًا لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ الأول جعله بِحَيْثُ يملك اكْتِسَاب سَبَب الْوَلَاء وَهُوَ الْإِعْتَاق فَيكون متسببا فِي الْوَلَاء الثَّانِي من هَذَا الْوَجْه وَيُسمى مولى لَهُ مجَازًا بطرِيق الِاتِّصَال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة فَإِذا صَارَت الْحَقِيقَة مرَادا يتَنَحَّى الْمجَاز حَتَّى لَو لم يكن لَهُ معتقون فَالْوَصِيَّة لموَالِي الموَالِي لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا غير مُرَادة فَيتَعَيَّن الْمجَاز وَلَو كَانَ لَهُ مُعتق وَاحِد وَالْوَصِيَّة بِلَفْظ الْجَمَاعَة فَاسْتحقَّ هُوَ نصف الثُّلُث كَانَ الْبَاقِي مردودا على الْوَرَثَة وَلَا يكون لموَالِي الموَالِي من ذَلِك شَيْء لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا مُرَادة وَلَو كَانَ للْمُوصي موَالٍ أَعلَى وأسفل لم تصح الْوَصِيَّة لِأَن الِاسْم مُشْتَرك وكل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ يحْتَمل أَن يكون مرَادا إِلَّا أَنه لَا وَجه للْجمع بَينهمَا وَإِثْبَات الْعُمُوم لاخْتِلَاف الْمَعْنى وَالْمَقْصُود فَيبْطل أصل الْوَصِيَّة وَمَعْلُوم أَن التغاير بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَفِي الِاسْم الْمُشْتَرك لَا تغاير بِاعْتِبَار أصل الْوَضع ثمَّ لم يجز هُنَاكَ أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مرَادا بِاللَّفْظِ فِي حَالَة وَاحِدَة فَلِأَن لَا يجوز ذَلِك فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز أولى
فَإِن قيل هَذَا الأَصْل لَا يسْتَمر فِي الْمسَائِل فَإِن من حلف أَن لَا يضع قدمه فِي دَار فلَان يَحْنَث إِذا دَخلهَا مَاشِيا كَانَ أَو رَاكِبًا حافيا كَانَ أَو منتعلا وَحَقِيقَة وضع الْقدَم فِيهَا إِذا كَانَ حافيا
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ يَوْم يقدم فلَان فامرأته كَذَا فَقدم لَيْلًا أَو نَهَارا يَقع الطَّلَاق وَالِاسْم للنهار حَقِيقَة ولليل مجَاز
وَلَو حلف لَا يدْخل دَار فلَان فَدخل دَارا يسكنهَا فلَان عَارِية أَو بِأَجْر يَحْنَث كَمَا لَو دخل دَارا مَمْلُوكَة لَهُ
وَفِي السّير قَالَ لَو استأمن على بنيه يدْخل بنوه وَبَنُو بنيه وَلَو استأمن على موَالِيه وَهُوَ مِمَّن لَا وَلَاء عَلَيْهِ يدْخل فِي الْأمان موَالِيه وموالي موَالِيه فقد جمعتم بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي هَذِه الْفُصُول
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد إِذا قَالَ لله عَليّ أَن أَصوم رَجَب وَنوى بِهِ الْيَمين كَانَ نذرا ويمينا وَاللَّفْظ للنذر حَقِيقَة ولليمين مجَاز
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا حلف أَن لَا يشرب من الْفُرَات فَأخذ المَاء من الْفُرَات فِي كوز فشربه يَحْنَث كَمَا لَو كرع فِي الْفُرَات وَلَو حلف(1/174)
لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة فَأكل من خبزها يَحْنَث كَمَا لَو أكل عينهَا وَفِي هَذَا جمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي اللَّفْظ فِي حَالَة وَاحِدَة
قُلْنَا جَمِيع هَذِه الْمسَائِل تخرج مُسْتَقِيمًا على مَا ذكرنَا من الأَصْل عِنْد التَّأَمُّل فقد ذكرنَا أَن الْمَقْصُود مُعْتَبر وَأَنه ينزل ذَلِك منزلَة دَلِيل الِاسْتِثْنَاء
فَفِي مَسْأَلَة وضع الْقدَم مَقْصُود الْحَالِف الِامْتِنَاع من الدُّخُول فَيصير بِاعْتِبَار مَقْصُوده كَأَنَّهُ حلف لَا يدْخل وَالدُّخُول قد يكون حافيا وَقد يكون منتعلا وَقد يكون رَاكِبًا فَعِنْدَ الدُّخُول حافيا يَحْنَث لَا بِاعْتِبَار حَقِيقَة وضع الْقدَم بل بِاعْتِبَار الدُّخُول الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا يَحْنَث فِي الْمَوَاضِع كلهَا لعُمُوم الْمجَاز لَا لعُمُوم الْحَقِيقَة
وَكَذَلِكَ قَوْله يَوْم يقدم فلَان فالمقصود بِذكر الْيَوْم هُنَا الْوَقْت لِأَنَّهُ قرن بِهِ مَا هُوَ غير ممتد وَلَا يخْتَص ببياض النَّهَار وَالْيَوْم إِنَّمَا يكون عبارَة عَن بَيَاض النَّهَار إِذا قرن بِمَا يَمْتَد ليصير معيارا لَهُ حَتَّى إِذا قَالَ أَمرك بِيَدِك يَوْم يقدم فلَان فَقدم لَيْلًا لَا يصير الْأَمر بِيَدِهَا وَكَذَلِكَ إِذا قرن بِمَا يخْتَص بِالنَّهَارِ كَقَوْلِه لله عَليّ أَن أَصوم الْيَوْم الَّذِي يقدم فِيهِ فلَان فَأَما إِذا قرن بِمَا لَا يَمْتَد وَلَا يخْتَص بِأحد الْوَقْتَيْنِ يكون عبارَة عَن الْوَقْت كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره} وَاسم الْوَقْت يعم اللَّيْل وَالنَّهَار فلعموم الْمجَاز قُلْنَا بِأَنَّهَا تطلق فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى إِذا قَالَ لَيْلَة يقدم فلَان فَقدم نَهَارا لم تطلق لِأَن الْحَقِيقَة هُنَا مُرَادة فيتنحى الْمجَاز
وَفِي مَسْأَلَة دُخُول دَار فلَان الْمَقْصُود إِضَافَة السُّكْنَى وَذَلِكَ يعم السُّكْنَى بطرِيق الْملك وَالْعَارِية وَإِذا دخل دَارا يسكنهَا فلَان بِالْملكِ إِنَّمَا يَحْنَث لعُمُوم الْمجَاز لَا للْملك حَتَّى لَو كَانَ السَّاكِن فِيهَا غير فلَان لم يَحْنَث وَإِن كَانَت مَمْلُوكَة لفُلَان
وَفِي مَسْأَلَتي السّير قِيَاس واستحسان فِي الْقيَاس يتَنَحَّى الْمجَاز فِي الْأمان كَمَا فِي الْوَصِيَّة وَفِي الِاسْتِحْسَان قَالَ الْمَقْصُود من الْأمان حقن الدَّم وَهُوَ مَبْنِيّ على التَّوَسُّع وَاسم الْأَبْنَاء والموالي من حَيْثُ الظَّاهِر يتَنَاوَل الْفُرُوع إِلَّا أَن الْحَقِيقَة تتقدم على الْمجَاز فِي كَونه مرَادا وَلَكِن مُجَرّد الصُّورَة تبقى شبهته فِي حقن الدَّم كَمَا ثَبت الْأمان بِمُجَرَّد الْإِشَارَة من الْفَارِس إِذا دَعَا الْكَافِر بهَا إِلَى نَفسه لصورة المسالمة وَإِن لم يكن ذَلِك حَقِيقَة
فَإِن قيل لماذا لم تعْتَبر هَذِه الصُّورَة فِي إِثْبَات الْأمان للأجداد والجدات عِنْد(1/175)
الاستئمان على الْآبَاء والأمهات قُلْنَا لِأَن الْحَقِيقَة إِذا صَارَت مرَادا فاعتبار هَذِه الصُّورَة لثُبُوت الحكم فِي مَحل آخر يكون بطرِيق التّبعِيَّة لَا محَالة وَبَنُو الْبَنِينَ وموالي الموَالِي تلِيق صفة التّبعِيَّة بحالهم فَأَما الأجداد والجدات لَا يكونُونَ تبعا للآباء والأمهات وهم الْأُصُول فَلهَذَا ترك اعْتِبَار الصُّورَة هُنَاكَ فِي إِثْبَات الْأمان لَهُم فَأَما مَسْأَلَة النّذر فقد قيل معنى النّذر هُنَاكَ يثبت بِلَفْظ وَمعنى الْيَمين بِلَفْظ آخر فَإِن قَوْله لله عِنْد إِرَادَة الْيَمين كَقَوْلِه بِاللَّه إِذْ الْبَاء وَاللَّام تتعاقبان قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا دخل آدم الْجنَّة فَللَّه مَا غربت الشَّمْس حَتَّى خرج وَقَوله عَليّ نذر وَنحن إِنَّمَا أَنْكَرْنَا اجْتِمَاع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي لفظ وَاحِد مَعَ أَن تِلْكَ الْكَلِمَة نذر بصيغتها يَمِين بموجبها إِذا أَرَادَ الْيَمين لِأَن مُوجبهَا وجوب الْمَنْذُور بِهِ وَإِيجَاب الْمُبَاح يَمِين كتحريم الْحَلَال الْمُبَاح وَهُوَ نَظِير شِرَاء الْقَرِيب تملك بصيغته وإعتاق بِمُوجبِه
وَأما مَسْأَلَة الشّرْب من الْفُرَات فالحنث عِنْدهَا بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز لِأَن الْمَقْصُود شرب مَاء الْفُرَات وَلَا تَنْقَطِع هَذِه النِّسْبَة بِجعْل المَاء فِي الْإِنَاء وَعند الكرع إِنَّمَا يَحْنَث لِأَنَّهُ شرب مَاء الْفُرَات حَتَّى لَو تحول من الْفُرَات إِلَى نهر آخر لم يَحْنَث إِن شرب مِنْهُ لِأَن النِّسْبَة قد انْقَطَعت عَن الْفُرَات بالتحول إِلَى نهر آخر
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله اعْتبر الْحَقِيقَة قَالَ الشّرْب من الْفُرَات حَقِيقَة مُعْتَادَة غير مهجورة وَإِنَّمَا يتَنَاوَل هَذَا اللَّفْظ المَاء بطرِيق الْمجَاز عَن قَوْلهم جرى النَّهر أَي المَاء فِيهَا وَإِذا صَارَت الْحَقِيقَة مرَادا يتَنَحَّى الْمجَاز وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَة الْحِنْطَة أَبُو حنيفَة اعْتبر الظَّاهِر فَقَالَ عين الْحِنْطَة مَأْكُول وَهُوَ مُرَاد مَقْصُود فيتنحى الْمجَاز وهما جعلا ذكر الْحِنْطَة عبارَة عَمَّا فِي بَاطِنهَا مجَازًا للْعُرْف فَإِنَّهُ يُقَال أهل بَلْدَة كَذَا يَأْكُلُون الْحِنْطَة وَالْمرَاد مَا فِيهَا من عين الْحِنْطَة وَإِنَّمَا يَحْنَث لعُمُوم الْمجَاز وَهُوَ أَنه تنَاول مَا فِيهَا وَهَذَا مَوْجُود فِيمَا إِذا أكل من خبزها فَخرجت الْمسَائِل على هَذَا الْحَرْف وَهُوَ اعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز بِمَعْرِِفَة الْمَقْصُود لَا بِاعْتِبَار الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز(1/176)
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت بعض الْعِرَاقِيّين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله قَالُوا إِن الْحَقِيقَة وَالْمجَاز لَا يَجْتَمِعَانِ فِي لفظ وَاحِد فِي مَحل وَاحِد وَلَكِن فِي محلين مُخْتَلفين يجوز أَن يجتمعا وَهَذَا قريب بِشَرْط أَن لَا يكون الْمجَاز مزاحما للْحَقِيقَة مدخلًا للْجِنْس على صَاحب الْحَقِيقَة فَإِن الثَّوْب الْوَاحِد على اللابس يجوز أَن يكون نصفه ملكا وَنصفه عَارِية وَقد قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} إِنَّه يتَنَاوَل الْجدَّات وَبَنَات الْبَنَات وَالِاسْم للْأُم حَقِيقَة وللجدات مجَاز وَكَذَلِكَ اسْم الْبَنَات لبنات الصلب حَقِيقَة ولأولاد الْبَنَات مجَاز وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم} فَإِنَّهُ مُوجب حُرْمَة مَنْكُوحَة الْجد كَمَا يُوجب حُرْمَة مَنْكُوحَة الْأَب فَعرفنَا أَنه يجوز الْجمع بَينهمَا فِي لفظ وَاحِد وَلَكِن فِي محلين مُخْتَلفين حَتَّى يكون حَقِيقَة فِي أَحدهمَا مجَازًا فِي الْمحل الآخر وَهَذَا بِخِلَاف الْمُشْتَرك فالاحتمال هُنَاكَ بِاعْتِبَار مَعَاني مُخْتَلفَة وَلَا تصور لِاجْتِمَاع تِلْكَ الْمعَانِي فِي كلمة وَاحِدَة وَهنا تجمع الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي احْتِمَال الصِّيغَة لكل وَاحِد مِنْهُمَا معنى وَاحِدًا وَهُوَ الْأَصَالَة فِي الْآبَاء والأجداد والأمهات والجدات والولاد فِي حق الْأَوْلَاد وَلَكِن بَعْضهَا بِوَاسِطَة وَبَعضهَا بِغَيْر وَاسِطَة فَيكون هَذَا نَظِير مَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} إِنَّه يتَنَاوَل جَمِيع أَجنَاس الأَرْض بِاعْتِبَار معنى يجمع الْكل وَهُوَ التصاعد من الأَرْض وَإِن كَانَ الِاسْم للتراب حَقِيقَة
وَبَيَان الْفرق بَين الْمُشْتَرك وَبَين الْمجَاز مَعَ الْحَقِيقَة فِي الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِيمَا قَالَ فِي السّير لَو استأمن لمواليه وَله موَالٍ أَعلَى وأسفل فالأمان لأحد الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ مَا أَرَادَهُ الَّذِي آمنهُ وَإِن لم يرد شَيْئا يَأْمَن الْفَرِيقَانِ بِاعْتِبَار أَن الْأمان يتَنَاوَل أَحدهمَا لَا بِاعْتِبَار أَنه يتناولهما لِأَن الِاسْم مُشْتَرك وبمثله لَو كَانَ لَهُ موَالٍ وموالي موَالٍ ثَبت الْأمان لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا بِاعْتِبَار أَنه يجوز أَن يكون اللَّفْظ الْوَاحِد عَاملا بحقيقته فِي مَوضِع وبمجازه فِي مَوضِع آخر
ثمَّ طَرِيق معرفَة الْحَقِيقَة السماع لِأَن الأَصْل فِيهِ الْوَضع وَلَا يصير ذَلِك مَعْلُوما إِلَّا بِالسَّمَاعِ بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص فِي أَحْكَام الشَّرْع وَطَرِيق الْوُقُوف عَلَيْهَا السماع فَقَط(1/177)
وَإِنَّمَا طَرِيق معرفَة الْمجَاز الْوُقُوف على مَذْهَب الْعَرَب فِي الِاسْتِعَارَة دون السماع بِمَنْزِلَة الْقيَاس فِي أَحْكَام الشَّرْع فَإِن طَرِيق تَعديَة حكم النَّص إِلَى الْفُرُوع مَعْلُوم وَهُوَ التَّأَمُّل فِي مَعَاني النَّص وَاخْتِيَار الْوَصْف الْمُؤثر مِنْهَا لتعدية الحكم بهَا إِلَى الْفُرُوع فَإِذا وقف مُجْتَهد على ذَلِك وَأصَاب طَرِيقه كَانَ ذَلِك مسموعا مِنْهُ وَإِن لم يسْبق بِهِ فَكَذَلِك فِي الِاسْتِعَارَة إِذا وقف إِنْسَان على معنى تجوز الِاسْتِعَارَة بِهِ عِنْد الْعَرَب فاستعار بذلك الْمَعْنى وَاسْتعْمل لفظا فِي مَوضِع كَانَ مسموعا مِنْهُ وَإِن لم يسْبق بِهِ وعَلى هَذَا يجْرِي كَلَام البلغاء من الخطباء وَالشعرَاء فِي كل وَقت
فَنَقُول طَرِيق الِاسْتِعَارَة عِنْد الْعَرَب الِاتِّصَال والاتصال بَين الشَّيْئَيْنِ يكون صُورَة أَو معنى فَإِن كل مَوْجُود مُتَصَوّر تكون لَهُ صُورَة وَمعنى فالاتصال لَا يكون إِلَّا بِاعْتِبَار الصُّورَة أَو بِاعْتِبَار الْمَعْنى
فَأَما الِاسْتِعَارَة للاتصال معنى فنحو تَسْمِيَة الْعَرَب الشجاع أسدا للاتصال بَينهمَا فِي معنى الشجَاعَة وَالْقُوَّة والبليد حمارا لاتصال بَينهمَا فِي معنى البلادة والاستعارة للاتصال صُورَة نَحْو تَسْمِيَة الْعَرَب الْمَطَر سَمَاء فَإِنَّهُم يَقُولُونَ مَا زلنا نَطَأ السَّمَاء حَتَّى أَتَيْنَاكُم يعنون الْمَطَر لِأَنَّهَا تنزل من السَّحَاب وَالْعرب تسمي كل مَا علا فَوْقك سَمَاء وَيكون نزُول الْمَطَر من علو فَسَموهُ سَمَاء مجَازًا للاتصال صُورَة وَقَالَ تَعَالَى {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} وَالْغَائِط اسْم للمطمئن من الأَرْض وَسمي الْحَدث بِهِ مجَازًا لِأَن يكون فِي المطمئن من الأَرْض عَادَة وَهَذَا اتِّصَال من حَيْثُ الصُّورَة وَقَالَ تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} وَالْمرَاد الْجِمَاع لِأَن اللَّمْس سَببه صُورَة فَسَماهُ بِهِ مجَازًا وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا} وَإِنَّمَا يعصر الْعِنَب وَهُوَ مُشْتَمل على السّفل وَالْمَاء والقشر إِلَّا أَنه بالعصر يصير خمرًا فِي أَوَانه فَسَماهُ بِهِ مجَازًا لاتصال بَينهمَا فِي الذَّات صُورَة فسلكنا فِي الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة والعلل هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِعَارَة وَقُلْنَا يَصح الِاسْتِعَارَة للاتصال سَببا فَإِنَّهُ نَظِير الِاسْتِعَارَة للاتصال صُورَة فِي المحسوسات وللاتصال فِي الْمَعْنى الْمَشْرُوع الَّذِي جَاءَ لأَجله شرع يصلح الِاسْتِعَارَة وَهُوَ نَظِير الِاتِّصَال معنى فِي المحسوسات فَإِنَّهُ لَا خلاف بَين الْعلمَاء(1/178)
أَن صَلَاحِية الِاسْتِعَارَة غير مُخْتَصّ بطرِيق اللُّغَة وَأَن الِاتِّصَال فِي الْمعَانِي وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة يصلح للاستعارة وَهَذَا لِأَن الِاسْتِعَارَة للقرب والاتصال وَذَلِكَ يتَحَقَّق فِي المحسوس وَغير المحسوس فالأحكام الشَّرْعِيَّة قَائِمَة بمعناها مُتَعَلقَة بأسبابها فَتكون مَوْجُودَة حكما بِمَنْزِلَة الْمَوْجُود حسا فَيتَحَقَّق معنى الْقرب والاتصال فِيهَا وَلِأَن المشروعات إِذا تَأَمَّلت فِي أَسبَابهَا وَجدتهَا دَالَّة على الحكم الْمَطْلُوب بهَا بِاعْتِبَار أصل اللُّغَة فِيمَا تكون معقولة الْمَعْنى وَالْكَلَام فِيهِ وَلَا اسْتِعَارَة فِيمَا لَا يعقل مَعْنَاهُ أَلا ترى أَن البيع مَشْرُوع لإِيجَاب الْملك وموضوع لَهُ أَيْضا فِي اللُّغَة وَقد اتّفق الْعلمَاء فِي جَوَاز اسْتِعَارَة لفظ التَّحْرِير لإيقاع الطَّلَاق بِهِ وَجوز الشَّافِعِي رَحمَه الله اسْتِعَارَة لفظ الطَّلَاق لإيقاع الْعتْق بِهِ وَالْأَئِمَّة من السّلف استعملوا الِاسْتِعَارَة بِهَذَا الطَّرِيق أَيْضا وَكتاب الله تَعَالَى نَاطِق بذلك يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها} فَإِن الله تَعَالَى جعل هبتها نَفسهَا جَوَابا للاستنكاح وَهُوَ طلب النِّكَاح وَلَا خلاف أَن نِكَاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة على سَبِيل الِاسْتِعَارَة لَا على سَبِيل حَقِيقَة الْهِبَة فَإِن الْهِبَة لتمليك المَال فَلَا يكون عَاملا بحقيقتها فِيمَا لَيْسَ بِمَال وَلِأَنَّهَا لَا توجب الْملك إِلَّا بِالْقَبْضِ فِيمَا كَانَت حَقِيقَة فِيهِ فَكيف فِيمَا لَيست بِحَقِيقَة فِيهِ فَعرفنَا أَنَّهَا اسْتِعَارَة قَامَت مقَام النِّكَاح بطرِيق الْمجَاز وَكَذَلِكَ كَانَ يتَعَلَّق بنكاحه حكم الْقسم وَالطَّلَاق وَالْعدة وَإِن كَانَ معقودا بِلَفْظ الْهِبَة فَعرفنَا أَنه كَانَ بطرِيق الِاسْتِعَارَة على معنى أَن اللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره سقط اعْتِبَار حَقِيقَته وَصَارَ التَّكَلُّم بِهِ كالتكلم بِمَا هُوَ مجَاز عَنهُ
ثمَّ لَيْسَ للرسالة أثر فِي معنى الخصوصية بِوُجُوه الْكَلَام فَإِن معنى الخصوصية هُوَ التَّخْفِيف والتوسعة وَمَا كَانَ يلْحقهُ حرج فِي اسْتِعْمَال لفظ النِّكَاح فقد كَانَ أفْصح النَّاس وَهَذِه جملَة لَا خلاف فِيهَا إِلَّا أَن الشَّافِعِي رَحمَه الله قَالَ نِكَاح غَيره لَا ينْعَقد بِهَذَا اللَّفْظ لِأَنَّهُ عقد مَشْرُوع لمقاصد لَا تحصى مِمَّا يرجع إِلَى مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا وَلَفظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج يدل على ذَلِك بِاعْتِبَار أَنَّهَا تبتنى على الِاتِّحَاد فالتزويج تلفيق بَين الشَّيْئَيْنِ على وَجه يثبت بِهِ الِاتِّحَاد بَينهمَا فِي الْمَقْصُود كزوجي الْخُف ومصراعي بمصالح الْمَعيشَة وَلَيْسَ فِي هذَيْن اللَّفْظَيْنِ مَا يدل على التَّمْلِيك بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلِهَذَا لَا يثبت ملك الْعين بهما فالألفاظ الْمَوْضُوعَة لإِيجَاب ملك الْعين فِيهَا قُصُور فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ إِلَّا أَن فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْعَقد نِكَاحه بِهَذَا اللَّفْظ مَعَ قُصُور فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وتوسعة للغات عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {خَالِصَة لَك} وَفِي حق الْبَاب وَالنِّكَاح(1/179)
بِمَعْنى الضَّم الَّذِي ينبىء عَن الِاتِّحَاد بَينهمَا فِي الْقيام غَيره لَا يصلح هَذَا اللَّفْظ لانعقاد النِّكَاح بِهِ لما فِيهِ من الْقُصُور وَهُوَ معنى مَا يَقُولُونَ إِنَّه عقد خَاص شرع بِلَفْظ خَاص
وَنَظِيره الشَّهَادَة فَإِنَّهَا مَشْرُوعَة بِلَفْظ خَاص فَلَا تصلح بِلَفْظ آخر لقُصُور فِيهِ حَتَّى إِذا قَالَ الشَّاهِد أَحْلف لَا يكون شَهَادَة لِأَن لفظ الْحلف مُوجب بِغَيْرِهِ وَلَفظ الشَّهَادَة مُوجب بِنَفسِهِ قَالَ تَعَالَى {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَكَذَلِكَ لفظ الْهِبَة لَا تَنْعَقِد بِهِ الْمُعَاوضَة الْمَحْضَة وَهِي البيع ابْتِدَاء وَكَأن ذَلِك لقُصُور فِيهَا وَفِي صفة الْمُعَاوضَة النِّكَاح أبلغ من البيع وعَلى هَذَا الأَصْل لم يجوزوا نقل الْأَخْبَار بِالْمَعْنَى من غير مُرَاعَاة اللَّفْظ وَلَكنَّا نقُول النِّكَاح مُوجب ملك الْمُتْعَة وَهَذِه الْأَلْفَاظ فِي مَحل ملك الْمُتْعَة توجب ملك الْمُتْعَة تبعا لملك الرَّقَبَة فَإِنَّهَا توجب ملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة يُوجب ملك الْمُتْعَة فِي مَحَله فَكَانَ بَينهمَا اتِّصَالًا من حَيْثُ السَّبَبِيَّة وَهُوَ طَرِيق صَالح للاستعارة وَلَا حَاجَة إِلَى النِّيَّة لِأَن هَذَا الْمحل الَّذِي أضيف إِلَيْهِ مُتَعَيّن لهَذَا الْمجَاز وَهُوَ النِّكَاح وَالْحَاجة إِلَى النِّيَّة عِنْد الِاشْتِبَاه للتعيين وَمَا ذكرُوا من مَقَاصِد النِّكَاح فَهِيَ لكَونهَا غير محصورة بِمَنْزِلَة الثَّمَرَة كَمَا هُوَ الْمَطْلُوب من هَذَا العقد فَأَما الْمَقْصُود فإثبات الْملك عَلَيْهَا وَلِهَذَا وَجب الْبَدَل لَهَا عَلَيْهِ فَلَو كَانَ الْمَقْصُود مَا سواهَا من الْمَقَاصِد لم يجب الْبَدَل لَهَا عَلَيْهِ لِأَن تِلْكَ الْمَقَاصِد مُشْتَركَة بَينهمَا وَكَذَلِكَ جعل الطَّلَاق بيد الزَّوْج لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِك فإليه إِزَالَة الْملك وَإِذا ثَبت أَن الْمَقْصُود هُوَ الْملك وَهَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة لإِيجَاب الْملك ثمَّ لما انْعَقَد هَذَا العقد بِلَفْظ غير مَوْضُوع لإِيجَاب مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْملك فَلِأَن(1/180)
ينْعَقد بِلَفْظ مَوْضُوع لإِيجَاب مَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ الْملك كَانَ أولى وَإِنَّمَا انْعَقَد هَذَا العقد بِلَفْظ النِّكَاح وَالتَّزْوِيج وَإِن لم يوضعا لإِيجَاب الْملك بهما فِي الأَصْل لِأَنَّهُمَا جعلا علما فِي إِثْبَات هَذَا الْملك بهما وَمَا يكون علما لشَيْء بِعَيْنِه فَهُوَ بِمَنْزِلَة النَّص فِيهِ فَيثبت الحكم بِهِ بِعَيْنِه وَلِهَذَا لم ينْعَقد بهما الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لملك الْعين فَأَما الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة لإِيجَاب الْملك لَا يَنْتَفِي باسم الْعلم عَن هَذَا الْمحل وَقد تقرر صَلَاحِية الِاسْتِعَارَة بالاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة فَيثبت هَذَا الْملك بهَا بطرِيق الِاسْتِعَارَة
فَإِن قيل الِاتِّصَال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة لَا يخْتَص بِأحد الْجَانِبَيْنِ بل يكون من الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ثمَّ لم يعْتَبر هَذَا الِاتِّصَال والقرب فِي إِثْبَات ملك الرَّقَبَة بِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوع لإِيجَاب ملك الْمُتْعَة فَكَذَلِك لَا يعْتَبر هَذَا الِاتِّصَال لإِثْبَات ملك الْمُتْعَة بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوع لإِثْبَات ملك الرَّقَبَة
قُلْنَا الِاتِّصَال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة نَوْعَانِ أَحدهمَا اتِّصَال الحكم بِالْعِلَّةِ وَذَلِكَ مُعْتَبر فِي صَلَاحِية الِاسْتِعَارَة من الْجَانِبَيْنِ لِأَن الْعلَّة غير مَطْلُوبَة لعينها بل لثُبُوت الحكم بهَا وَالْحكم لَا يثبت بِدُونِ الْعلَّة فَيتَحَقَّق معنى الْقرب والاتصال لافتقار كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخر
وَبَيَان هَذَا فِيمَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ إِن ملكت عبدا فَهُوَ حر فَاشْترى نصف عبد ثمَّ بَاعه ثمَّ اشْترى النّصْف الثَّانِي لَا يعْتق فَإِن قَالَ عنيت الْملك مُتَفَرقًا كَانَ أَو مجتمعا يدين فِي الْقَضَاء وَفِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَيعتق النّصْف الْبَاقِي فِي ملكه
وَلَو قَالَ إِن اشْتريت عبدا فَهُوَ حر فَاشْترى نصفه فَبَاعَهُ ثمَّ اشْترى النّصْف الْبَاقِي يعْتق هَذَا النّصْف فَإِن قَالَ عنيت الشِّرَاء مجتمعا يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَلَا يعْتق هَذَا النّصْف وَقيل الشِّرَاء مُوجب للْملك وَالْملك حكم الشِّرَاء فيصلح أَن يكون ذكر الْملك مستعارا عَن ذكر الشِّرَاء إِذا نوى التَّفَرُّق فِيهِ وَيصْلح أَن يكون ذكر الشِّرَاء مستعارا عَن ذكر الْملك إِذا نوى الِاجْتِمَاع فِيهِ حَتَّى يعْمل بنيته من حَيْثُ الدّيانَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَكِن فِيمَا فِيهِ تَخْفيف عَلَيْهِ لَا يدين فِي الْقَضَاء للتُّهمَةِ وَفِيمَا فِيهِ تَشْدِيد عَلَيْهِ يدين لانْتِفَاء التُّهْمَة
وَالنَّوْع الآخر اتِّصَال الْفَرْع بِالْأَصْلِ وَالْحكم بِالسَّبَبِ فَإِن بِهَذَا الِاتِّصَال تصلح اسْتِعَارَة الأَصْل للفرع وَالسَّبَب للْحكم وَلَا تصلح اسْتِعَارَة الْفَرْع للْأَصْل(1/181)
وَالْحكم للسبب لِأَن الأَصْل مستغن عَن الْفَرْع وَالْفرع مُحْتَاج إِلَى الأَصْل لِأَنَّهُ تَابع لَهُ فَيصير معنى الِاتِّصَال مُعْتَبرا فِيمَا هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ دون مَا هُوَ مُسْتَغْنى عَنهُ
وَهُوَ نَظِير الْجُمْلَة النَّاقِصَة إِذا عطفت على الْجُمْلَة الْكَامِلَة فَإِنَّهُ يعْتَبر اتِّصَال الْجُمْلَة النَّاقِصَة بالكاملة فِيمَا يرجع إِلَى إِكْمَال النَّاقِصَة لحاجتها إِلَى ذَلِك حَتَّى يتَوَقَّف أول الْكَلَام على آخِره وَلَا يعْتَبر اتِّصَال النَّاقِص بالكامل فِي حكم الْكَامِل لِأَنَّهُ مُسْتَغْنى عَنهُ فَملك الرَّقَبَة سَبَب ملك الْمُتْعَة بَينهمَا اتِّصَال من هَذَا الْوَجْه فَلهَذَا جَازَ اسْتِعَارَة السَّبَب للْحكم وَلَا يجوز اسْتِعَارَة الحكم للسبب وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع لإِيجَاب ملك الرَّقَبَة يجوز أَن يستعار لإِيجَاب ملك الْمُتْعَة والموضوع لإِيجَاب ملك الْمُتْعَة لَا يصلح مستعارا لإِيجَاب ملك الرَّقَبَة وَلِهَذَا الطَّرِيق قُلْنَا إِن لفظ التَّحْرِير عَامل فِي إِيقَاع الطَّلَاق بِهِ مجَازًا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لإِزَالَة ملك الرَّقَبَة وزوالها سَبَب لزوَال ملك الْمُتْعَة إِلَّا أَنه لَا يعْمل بِدُونِ النِّيَّة لِأَن الْمحل الْمُضَاف إِلَيْهِ غير مُتَعَيّن لهَذَا الْمجَاز بل هُوَ مَحل لحقيقة الْوَصْف بِالْحُرِّيَّةِ فَيحْتَاج إِلَى النِّيَّة ليتعين فِيهَا الِاسْتِعْمَال بطرِيق الْمجَاز وَلَفظ الطَّلَاق لَا يحصل بِهِ الْعتْق لِأَنَّهُ مَوْضُوع لإِزَالَة ملك الْمُتْعَة وَزَوَال ملك الْمُتْعَة لَيْسَ بِسَبَب لزوَال ملك الرَّقَبَة بل هُوَ حكم ذَلِك السَّبَب فَلَا يصلح اسْتِعَارَة الحكم للسبب كَمَا لَا يصلح اسْتِعَارَة الْفَرْع للْأَصْل لكَونه مُسْتَغْنى عَنهُ وَلَكِن الشَّافِعِي رَحمَه الله جوز هَذِه الِاسْتِعَارَة أَيْضا للقرب بَينهمَا من حَيْثُ المشابهة فِي الْمَعْنى وكل وَاحِد مِنْهُمَا إِزَالَة بطرِيق الْإِبْطَال مَبْنِيّ على الْغَلَبَة والسراية غير مُحْتَمل للْفَسْخ مُحْتَمل للتعليق بِالشّرطِ والإيجاب فِي الْمَجْهُول فللمناسبة بَينهمَا فِي هَذَا الْمَعْنى جوز اسْتِعَارَة كل وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر وَلَكنَّا نقُول الْمُنَاسبَة فِي الْمَعْنى صَالح للاستعارة لَكِن لَا بِكُل وصف بل بِالْوَصْفِ الَّذِي يخْتَص بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا أَلا ترى أَنه لَا يُسمى الجبان أسدا وَلَا الشجاع حمارا للمناسبة بَينهمَا من حَيْثُ الحيوانية والوجود وَمَا أشبه ذَلِك وَيُسمى الشجاع أسدا للمناسبة بَينهمَا فِي الْوَصْف الْخَاص وَهُوَ الشجَاعَة وَهَذَا لِأَن اعْتِبَار هَذِه الْمُنَاسبَة بَينهمَا للاستعارة بِمَنْزِلَة اعْتِبَار الْمَعْنى فِي الْمَنْصُوص لتعدية الحكم بِهِ إِلَى الْفُرُوع ثمَّ لَا يَسْتَقِيم تَعْلِيل النَّص بِكُل(1/182)
وصف بل بِوَصْف لَهُ أثر فِي ذَلِك الحكم لِأَنَّهُ لَو جوز التَّعْلِيل بِكُل وصف انْعَدم معنى الِابْتِلَاء أصلا فَكَذَلِك هَهُنَا لَو صححنا الِاسْتِعَارَة للمناسبة فِي أَي معنى كَانَ ارْتَفع معنى الامتحان واستوى الْعَالم وَالْجَاهِل فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا تعْتَبر الْمُنَاسبَة فِي الْوَصْف الْخَاص وَلَا مُنَاسبَة هُنَا فِي الْوَصْف الَّذِي لأَجله وضع كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الأَصْل فالطلاق مَوْضُوع للإطلاق بِرَفْع الْمَانِع من الانطلاق لَا بإحداث قُوَّة الانطلاق فِي الذَّات وَمِنْه إِطْلَاق الْإِبِل وَإِطْلَاق الْأَسير وَالْعتاق لإحداث معنى فِي الذَّات يُوجب الْقُوَّة من قَول الْقَائِل عتق الفرخ إِذا قوي حَتَّى طَار وَفِي ملك الْيَمين الْمَمْلُوك عَاجز عَن الانطلاق لضعف فِي ذَاته وَهُوَ أَنه صَار رَقِيقا مَمْلُوكا مقهورا مُحْتَاجا إِلَى إِحْدَاث قُوَّة فِيهِ يصير بهَا مَالِكًا مستوليا مستبدا بِالتَّصَرُّفِ والمنكوحة مالكة أَمر نَفسهَا وَلكنهَا محبوسة عِنْد الزَّوْج بِالْملكِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهَا فحاجتها إِلَى رفع الْمَانِع وَذَلِكَ يكون بِالطَّلَاق كَمَا يكون بِرَفْع الْقَيْد عَن الْأَسير وبحل العقال عَن الْبَعِير وَلَا مُنَاسبَة بَين رفع الْمَانِع وَبَين إِحْدَاث الْقُوَّة كَمَا لَا مُنَاسبَة بَين رفع الْقَيْد وَبَين الْبُرْء من الْمَرَض فَعرفنَا أَنه لَا وَجه للاستعارة بطرِيق الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي الْمَعْنى وَلَكِن بالاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة وَالْحكم وَقد بَينا أَن ذَلِك صَالح من أحد الْجَانِبَيْنِ دون الْجَانِب الآخر
فَإِن قيل عنْدكُمْ الْإِجَازَة لَا تَنْعَقِد بِلَفْظ البيع نَص عَلَيْهِ فِي كتاب الصُّلْح حَيْثُ قَالَ بيع السُّكْنَى بَاطِل فَالْبيع سَبَب لملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة سَبَب لملك الْمَنْفَعَة
ثمَّ لم تصح الِاسْتِعَارَة بِهَذَا الطَّرِيق عنْدكُمْ مجَازًا وعَلى عكس هَذَا إِذا قَالَ لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَقَالَ أعتقت يثبت التَّمَلُّك شِرَاء بِهَذَا الْكَلَام وَالْعِتْق لَيْسَ بِسَبَب للشراء ثمَّ كَانَ عبارَة عَنهُ مجَازًا وَكَذَلِكَ شِرَاء الْقَرِيب إِعْتَاق عنْدكُمْ وَالشِّرَاء لَيْسَ بِسَبَب الْعتْق ثمَّ كَانَ عبارَة عَنهُ
قُلْنَا أما اسْتِعْمَال لفظ البيع فِي الْإِجَارَة فَإِنَّمَا لَا يجوز عندنَا لِانْعِدَامِ الْمحل لَا لِانْعِدَامِ الصلاحية للاستعارة لِأَنَّهُ إِن أضيف لفظ البيع إِلَى رَقَبَة الدَّار وَالْعَبْد فَهُوَ عَامل بحقيقته فِي تمْلِيك الْعين وَإِن أضيف إِلَى(1/183)
منفعتهما فالمنفعة مَعْدُومَة والمعدوم لَا يكون محلا للتَّمْلِيك وَاللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره يَجْعَل كَأَنَّهُ وجد التَّصْرِيح بِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ مجَاز عَنهُ
وَلَو قَالَ أجرتك مَنَافِع هَذِه الدَّار لَا يَصح أَيْضا وَإِنَّمَا يَصح إِذا قَالَ أجرتك الدَّار بِاعْتِبَار إِقَامَة الْعين الْمُضَاف إِلَيْهِ العقد مقَام الْمَنْفَعَة وَلَفظ البيع مَتى أضيف إِلَى الْعين كَانَ عَاملا فِي حَقِيقَته حَتَّى لَو قَالَ الْحر لغيره بِعْتُك نَفسِي شهرا بِعشْرَة يجوز ذَلِك على وَجه الِاسْتِعَارَة عَن الْإِجَارَة لِأَن عين الْحر لَيْسَ بِمحل لما وضع لَهُ البيع حَقِيقَة وَأهل الْمَدِينَة يسمون الْإِجَارَة بيعا فَتجوز هَهُنَا الِاسْتِعَارَة للاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة وَأما قَوْله أعتق عَبدك عني فَمن يَقُول إِن ذَلِك مجَاز عَن الشِّرَاء فقد أَخطَأ خطأ فَاحِشا وَكَيف يكون ذَلِك مجَازًا عَنهُ وَهُوَ عَامل بحقيقته وَاللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره يسْقط اعْتِبَار حَقِيقَته وَفِي الْموضع الَّذِي لَا يثبت حَقِيقَة الْعتْق بِأَن يكون الْقَائِل صَبيا أَو عبدا مَأْذُونا لَا يثبت الشِّرَاء فَعرفنَا أَن ثُبُوت الشِّرَاء هُنَاكَ بطرِيق الِاقْتِضَاء للْحَاجة إِلَى تَحْصِيل الْمَقْصُود الَّذِي صرحنا بِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاق عَنهُ فَإِن من شَرطه ثُبُوت الْملك لَهُ فِي الْمحل والمقتضى لَيْسَ من الْمجَاز فِي شَيْء وَكَذَلِكَ شِرَاء الْقَرِيب عندنَا لَيْسَ بِإِعْتَاق مجَازًا وَكَيف يكون ذَلِك وَهُوَ عَامل بحقيقته وَهُوَ ثُبُوت الْملك بِهِ وَلَا يجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي مَحل وَاحِد بل بطرِيق أَن الشِّرَاء مُوجب ملك الرَّقَبَة وَملك الرَّقَبَة متمم عِلّة الْعتْق فِي هَذَا الْمحل فَيصير الحكم وَهُوَ الْعتْق مُضَافا إِلَى السَّبَب الْمُوجب لما تتمّ بِهِ الْعلَّة بطرِيق أَنه بِمَنْزِلَة عِلّة الْعلَّة فَأَما أَن يكون بطرِيق الْمجَاز فَلَا
وَمن أَحْكَام هَذَا الْفَصْل أَن اللَّفْظ مَتى كَانَ لَهُ حَقِيقَة مستعملة ومجاز مُتَعَارَف فعلى قَول أبي حنيفَة مطلقه يتَنَاوَل الْحَقِيقَة المستعملة دون الْمجَاز وعَلى قَوْلهمَا مطلقه يتناولهما بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز
وَبَيَانه فِيمَا قُلْنَا إِذا حلف لَا يشرب من الْفُرَات أَو لَا يَأْكُل من هَذِه الْحِنْطَة وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة يبتني على أصل وَهُوَ أَن الْمجَاز عِنْدهمَا خلف عَن الْحَقِيقَة فِي إِيجَاب الحكم فَهُوَ الْمَقْصُود لَا نفس الْعبارَة وَبِاعْتِبَار الحكم يتَرَجَّح عُمُوم الْمجَاز على الْحَقِيقَة فَإِن الحكم بِهِ يثبت فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَعند أبي حنيفَة الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي التَّكَلُّم بِهِ لَا فِي الحكم لِأَنَّهُ تصرف من الْمُتَكَلّم فِي عِبَارَته من حَيْثُ إِنَّه يَجْعَل عِبَارَته قَائِمَة مقَام عبارَة ثمَّ الحكم يثبت بِهِ أصلا بطرِيق أَنه(1/184)
يَجْعَل كالمتكلم بِمَا كَانَ الْمجَاز عبارَة عَنهُ لَا أَنه خلف عَن الحكم وَإِذا كَانَ الْمجَاز خلفا فِي التَّكَلُّم لَا يثبت الْمُزَاحمَة بَين الأَصْل وَالْخلف فَيجْعَل اللَّفْظ عَاملا فِي حَقِيقَته عِنْد الْإِمْكَان وَإِنَّمَا يُصَار إِلَى إعماله بطرِيق الْمجَاز فِي الْموضع الَّذِي يتَعَذَّر إعماله فِي حَقِيقَته
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا قَالَ لعَبْدِهِ وَهُوَ أكبر سنا مِنْهُ هَذَا ابْني يعْتق عَلَيْهِ وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا يعْتق لِأَن صَرِيح كَلَامه محَال وَالْمجَاز عِنْدهمَا خلف عَن الْحَقِيقَة فِي إِيجَاب الحكم فَفِي كل مَوضِع يصلح أَن يكون السَّبَب منعقدا لإِيجَاب الحكم الْأَصْلِيّ يصلح أَن يكون منعقدا لإِيجَاب مَا هُوَ خلف عَن الأَصْل وَفِي كل مَوضِع لَا يُوجد فِي السَّبَب صَلَاحِية الِانْعِقَاد للْحكم الْأَصْلِيّ لَا ينْعَقد مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ فَإِن قَوْله لامس السَّمَاء يصلح منعقدا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ الْبر من حَيْثُ إِن السَّمَاء غير ممسوسة فيصلح أَن يكون منعقدا لإِيجَاب الْخلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَالْيَمِين الْغمُوس لَا تصلح سَببا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ الْبر فَلَا يكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة فَهُنَا أَيْضا هَذَا اللَّفْظ فِي مَعْرُوف النّسَب الَّذِي يُولد مثله لمثله يصلح سَببا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ ثُبُوت النّسَب إِلَّا أَنه امْتنع إعماله (للْحكم) لثُبُوت نسبه من الْغَيْر فَيكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْعتْق وفيمن هُوَ أكبر سنا مِنْهُ لَا يصلح سَببا لإِيجَاب مَا هُوَ الأَصْل فَلَا يكون مُوجبا لما هُوَ خلف عَنهُ وَلِهَذَا لَا تصير أم الْغُلَام أم الْوَلَد لَهُ هُنَا وَفِي مَعْرُوف النّسَب تصير أم ولد لَهُ على مَا نَص فِي كتاب الدَّعْوَى وعَلى هَذَا جعلنَا بيع الْحرَّة نِكَاحا لِأَن هُنَاكَ الْمَانِع من الحكم الَّذِي هُوَ أصل فِي هَذَا الْمحل شَرْعِي وَهُوَ تَأَكد الْحُرِّيَّة على وَجه لَا يحْتَمل الْإِبْطَال لَا بِاعْتِبَار أَن السَّبَب لَيْسَ بِصَالح لإِثْبَات الحكم الْأَصْلِيّ بِهِ فِي هَذَا الْمحل فَيكون منعقدا لإِثْبَات مَا هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ ملك الْمُتْعَة وَلَكِن أَبُو حنيفَة يَقُول الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي التَّكَلُّم لَا فِي الحكم كَمَا قَررنَا فَالشَّرْط فِيهِ أَن يكون الْكَلَام صَالحا وصلاحيته بِكَوْنِهِ مُبْتَدأ وخبرا بِصِيغَة الْإِيجَاب وَهُوَ مَوْجُود هُنَا فَيكون عَاملا فِي إِيجَاب الحكم الَّذِي يقبله هَذَا الْمحل بطرِيق الْمجَاز على معنى أَنه سَبَب للتحرير فَإِن من ملك وَلَده يعْتق عَلَيْهِ(1/185)
وَيصير معتقا لَهُ إِذا اكْتسب سَبَب تملكه فاللفظ مَتى صَار عبارَة عَن غَيره مجَازًا للاتصال من حَيْثُ السَّبَبِيَّة يسْقط اعْتِبَار حَقِيقَته وَبِاعْتِبَار مجازه مَا صَادف إِلَّا محلا صَالحا وَلما تبين أَنه خلف فِي التَّكَلُّم لَا فِي الحكم كَانَ عمله كعمل الِاسْتِثْنَاء وَالِاسْتِثْنَاء صَحِيح على أَن يكون عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَإِن لم يُصَادف أصل الْكَلَام محلا صَالحا لَهُ بِاعْتِبَار أَنه تصرف من الْمُتَكَلّم فِي كَلَامه حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق ألفا إِلَّا تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين لم تقع إِلَّا وَاحِدَة نَص عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقى وَمَعْلُوم أَن الْمحل غير صَالح لما صرح بِهِ وَمَعَ ذَلِك كَانَ الِاسْتِثْنَاء صَحِيحا لِأَنَّهُ تصرف من الْمُتَكَلّم فِي كَلَامه فَهُنَا كَذَلِك
ثمَّ فِيهِ طَرِيقَانِ لأبي حنيفَة أَحدهمَا أَنه بِمَنْزِلَة التَّحْرِير ابْتِدَاء بِاعْتِبَار أَنه ذكر كلَاما هُوَ سَبَب للتحرير فِي ملكه وَهُوَ الْبُنُوَّة فَيصير محررا (بِهِ) ابْتِدَاء مجَازًا وَلِهَذَا لَا تصير الْأُم أم ولد لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لتحرير الْغُلَام ابْتِدَاء تَأْثِير فِي إِيجَاب أُميَّة الْوَلَد (لأمه) وَلِأَنَّهُ لَا يملك إِيجَاب ذَلِك الْحق لَهَا بعبارته على الْحَقِيقَة ابْتِدَاء بل بِفعل هُوَ استيلاد وَلِهَذَا قَالَ فِي كتاب الدَّعْوَى لَو ورث رجلَانِ مَمْلُوكا ثمَّ ادّعى أَحدهمَا أَنه ابْنه يصير ضَامِنا لشَرِيكه قيمَة نصِيبه إِذا كَانَ مُوسِرًا بِاعْتِبَار أَن ذَلِك كالتحرير الْمُبْتَدَأ مِنْهُ وعَلى الطَّرِيق الآخر يَجْعَل هَذَا إِقْرَارا مِنْهُ بِالْحُرِّيَّةِ مجَازًا كَأَنَّهُ قَالَ عتق عَليّ من حِين ملكته فَإِن مَا صرح بِهِ وَهُوَ الْبُنُوَّة سَبَب لذَلِك وَهنا هُوَ الْأَصَح فقد قَالَ فِي كتاب الْإِكْرَاه إِذا أكره على أَن يَقُول هَذَا ابْني لَا يعْتق عَلَيْهِ وَالْإِكْرَاه إِنَّمَا يمْنَع صِحَة الْإِقْرَار بِالْعِتْقِ لَا صِحَة التَّحْرِير ابْتِدَاء وَوُجُوب الضَّمَان فِي مَسْأَلَة الدَّعْوَى بِهَذَا الطَّرِيق أَيْضا فَإِنَّهُ لَو قَالَ عتق عَليّ من حِين ملكته كَانَ ضَامِنا لشَرِيكه أَيْضا وعَلى هَذَا الطَّرِيق نقُول الْجَارِيَة تصير أم ولد لَهُ لِأَن كَلَامه كَمَا جعل إِقْرَارا بِالْحُرِّيَّةِ للْوَلَد جعل إِقْرَارا بأمية الْوَلَد للْأُم فَإِن مَا تكلم بِهِ سَبَب مُوجب هَذَا الْحق لَهَا فِي ملكه كَمَا هُوَ مُوجب حَقِيقَة الْحُرِّيَّة للْوَلَد وَبِهَذَا الطَّرِيق فِي مَعْرُوف النّسَب يثبت الْعتْق لَا بِالطَّرِيقِ(1/186)
الَّذِي قَالَا فَإِنَّهُ مكذب شرعا فِي الحكم الْأَصْلِيّ والمكذب فِي كَلَامه شرعا كالمكذب حَقِيقَة فِي إهدار كَلَامه أَلا ترى أَنه لَو أكره على أَن يَقُول لعَبْدِهِ هَذَا ابْني لَا يعْتق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مكذب شرعا بِدَلِيل الْإِكْرَاه إِلَّا أَن دَلِيل التَّكْذِيب هُنَاكَ عَامل فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز جَمِيعًا وَهنا دَلِيل التَّكْذِيب وَهُوَ ثُبُوت نسبه من الْغَيْر عَامل فِي الْحَقِيقَة دون الْمجَاز وَهُوَ الْإِقْرَار بحريَّته من حِين ملكه وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ لزوجته وَهِي مَعْرُوفَة النّسَب من غَيره هَذِه ابْنَتي لَا تقع الْفرْقَة بَينهمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَام مُوجب بطرِيق الْإِقْرَار فِي ملكه إِنَّمَا مُوجبه إِثْبَات النّسَب وَقد صَار مُكَذبا فِيهِ شرعا فَصَارَ أصل كَلَامه لَغوا
وَبَيَان هَذَا أَن التّبعِيَّة لَا توجب الْفرْقَة وَلكنهَا تنَافِي النِّكَاح أصلا وَاللَّفْظ مَتى صَار مجَازًا عَن غَيره يَجْعَل قَائِما مقَام ذَلِك اللَّفْظ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا تَزَوَّجتهَا أَو مَا كَانَ بيني وَبَينهَا نِكَاح قطّ وَذَلِكَ لَا يُوجب الْفرْقَة وَكَذَلِكَ لَا يثبت بِهِ حرمتهَا عَلَيْهِ على وَجه يَنْتَفِي بِهِ النِّكَاح لِأَن فِي حكم الْحُرْمَة هَذَا الْإِقْرَار عَلَيْهَا لَا على نَفسه وَالْعين هِيَ الَّتِي تتصف بِالْحُرْمَةِ وَهُوَ مكذب شرعا فِي إِقْرَاره على غَيره
وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ يَا ابْني لِأَن النداء لاستحضار الْمُنَادِي بصورته لَا بِمَعْنَاهُ وَإِنَّمَا صَار هَذَا اللَّفْظ مجَازًا بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ كَمَا بَينا فَأَما إِذا قَالَ يَا حر أَو يَا عَتيق فإعمال ذَلِك اللَّفْظ بِاعْتِبَار أَنه علم لإِسْقَاط الرّقّ بِهِ لَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فِيهِ فَكَانَ عَاملا على أَي وَجه أَضَافَهُ إِلَى الْمَمْلُوك وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان الصَّرِيح وَالْكِنَايَة
الصَّرِيح هُوَ كل لفظ مَكْشُوف الْمَعْنى وَالْمرَاد حَقِيقَة كَانَ أَو مجَازًا يُقَال فلَان صرح بِكَذَا أَي أظهر مَا فِي قلبه لغيره من مَحْبُوب أَو مَكْرُوه بأبلغ مَا أمكنه من الْعبارَة وَمِنْه سمي الْقصر صرحا قَالَ تَعَالَى {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا} وَالْكِنَايَة بِخِلَاف ذَلِك وَهُوَ مَا يكون المُرَاد بِهِ مَسْتُورا إِلَى أَن يتَبَيَّن بِالدَّلِيلِ مَأْخُوذ من قَوْلهم كنيت وكنوت وَلِهَذَا كَانَ الصَّرِيح مَا يكون مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ وَقد تكون الْكِنَايَة مَا لَا يكون مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ فَإِن الْحَرْف الْوَاحِد يجوز أَن(1/187)
يكون كِنَايَة نَحْو هَاء الغائبة وكاف المخاطبة يَقُول الرجل هُوَ يفعل كَذَا وَهَذَا الْهَاء لَا يُمَيّز اسْما من اسْم فَتكون هَذِه الْكِنَايَة من الصَّرِيح بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك من الْمُفَسّر وَكَذَلِكَ كل اسْم هُوَ ضمير نَحْو أَنا وَأَنت وَنحن فَهُوَ كِنَايَة وكل مَا يكون مُتَرَدّد الْمَعْنى فِي نَفسه فَهُوَ كِنَايَة وَالْمجَاز قبل أَن يصير متعارفا بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة أَيْضا لما فِيهِ من التَّرَدُّد وَمِنْه أخذت الكنية فَإِنَّهَا غير الِاسْم
وَالِاسْم الصَّرِيح لكل شخص مَا جعل علما لَهُ ثمَّ يكنى بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَلَده فَيكون ذَلِك تعريفا لَهُ بِالْوَلَدِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوف بِالنّسَبِ إِلَيْهِ وَهَذَا لَيْسَ من الْمجَاز فِي شَيْء وَلَكِن لما كَانَ معرفَة المُرَاد مِنْهُ بِغَيْرِهِ سمي كنية وعَلى هَذَا الاستعارات والتعريضات فِي الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة فَإِن الْعَرَب تكني الحبشي بِأبي الْبَيْضَاء والضرير بِأبي العيناء وَلَيْسَ بَينهمَا اتِّصَال بل بَينهمَا مضادة وَقد ذكرنَا أَن الْمجَاز حَده الِاتِّصَال بَينه وَبَين مَا جعل مجَازًا عَنهُ
عرفنَا أَن الْكِنَايَة غير الْمجَاز وَلَكنهُمْ يكنون بالشَّيْء عَن الشَّيْء على وَجه السخرية أَو على وَجه التفاؤل فيكنون عَمَّا يذم بِمَا يمدح بِهِ على سَبِيل التفاؤل كَمَا يذكرُونَ صِيغَة الْأَمر على وَجه الزّجر والتهديد ويقولن تربت يداك على وَجه التعطف فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن حد الْكِنَايَة غير حد الْمجَاز
ثمَّ حكم الصَّرِيح ثُبُوت مُوجبه بِنَفسِهِ من غير حَاجَة إِلَى عَزِيمَة وَذَلِكَ نَحْو لفظ الطَّلَاق وَالْعتاق فَإِنَّهُ صَرِيح فعلى أَي وَجه أضيف إِلَى الْمحل من نِدَاء أَو وصف أَو خبر كَانَ مُوجبا للْحكم حَتَّى إِذا قَالَ يَا حر أَو يَا طَالِق أَو أَنْت حر أَو أَنْت طَالِق أَو قد حررتك أَو قد طَلقتك يكون إيقاعا نوى أَو لم ينْو لِأَن عينه قَائِم مقَام مَعْنَاهُ فِي إِيجَاب الحكم لكَونه صَرِيحًا فِيهِ
وَحكم الْكِنَايَة أَن الحكم بهَا لَا يثبت(1/188)
إِلَّا بِالنِّيَّةِ أَو مَا يقوم مقَامهَا من دلَالَة الْحَال لِأَن فِي المُرَاد بهَا معنى التَّرَدُّد فَلَا تكون مُوجبَة للْحكم مَا لم يزل ذَلِك التَّرَدُّد بِدَلِيل يقْتَرن بهَا وعَلى هَذَا سمى الْفُقَهَاء لفظ التَّحْرِيم والبينونة من كنايات الطَّلَاق وَهُوَ مجَاز عَن التَّسْمِيَة بِاعْتِبَار معنى التَّرَدُّد فِيمَا يتَّصل بِهِ هَذَا اللَّفْظ حَتَّى لَا يكون عَاملا إِلَّا بِالنِّيَّةِ فَسُمي كِنَايَة من هَذَا الْوَجْه مجَازًا فَأَما إِذا انْعَدم التَّرَدُّد بنية الطَّلَاق فاللفظ عَامل فِي حَقِيقَة مُوجبه حَتَّى يحصل بِهِ الْحُرْمَة والبينونة وَمَعْلُوم أَن مَا يكون كِنَايَة عَن غَيره فَإِن عمله كعمل مَا جعل كِنَايَة عَنهُ وَلَفظ الطَّلَاق لَا يُوجب الْحُرْمَة والبينونة بِنَفسِهِ فَعرفنَا أَنه عَامل بحقيقته وَإِنَّمَا سمي كِنَايَة مجَازًا إِلَّا قَوْله اعْتدي فَإِنَّهُ كِنَايَة لاحْتِمَاله وُجُوهًا مُتَغَايِرَة وَعند إِرَادَة الطَّلَاق لَا يكون اللَّفْظ عَاملا فِي حَقِيقَته فَإِن حَقِيقَته من بَاب الْعد والحساب وَذَلِكَ مُحْتَمل عدد الْأَقْرَاء وَغير ذَلِك فَإِذا نوى الطَّلَاق وَكَانَ بعد الدُّخُول وَقع الطَّلَاق بِمُقْتَضَاهُ من حَيْثُ إِن الاحتساب بِعَدَد الْأَقْرَاء من الْعدة لَا يكون إِلَّا بعد الطَّلَاق فَكَأَنَّهُ صرح بِالطَّلَاق وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع رَجْعِيًا وَلَا يَقع بِهِ أَكثر من وَاحِدَة وَإِن نوى وَإِن كَانَ قبل الدُّخُول يَقع الطَّلَاق بِهِ عِنْد النِّيَّة على أَنه لفظ مستعار للطَّلَاق شرعا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لسودة اعْتدي ثمَّ رَاجعهَا وَقَالَ لحفصة اعْتدي ثمَّ رَاجعهَا وَكَذَلِكَ قَوْله استبرئي رَحِمك وَكَذَلِكَ قَوْله أَنْت وَاحِدَة فَإِن فِي قَوْله وَاحِدَة احْتِمَال كَونه نعتا لَهَا أَو للتطليقة فَلَا يتَعَيَّن بِدُونِ النِّيَّة وَعند النِّيَّة يَقع الطَّلَاق بِهِ بطرِيق الْإِضْمَار أَي أَنْت طَالِق تَطْلِيقَة وَاحِدَة وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع بِهِ رَجْعِيًا
ثمَّ الأَصْل فِي الْكَلَام الصَّرِيح لِأَنَّهُ مَوْضُوع للإفهام والصريح هُوَ التَّام فِي هَذَا المُرَاد فَإِن الْكِنَايَة فِيهَا قُصُور بِاعْتِبَار الِاشْتِبَاه فِيمَا هُوَ المُرَاد وَلِهَذَا قُلْنَا إِن مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ لَا يثبت بِالْكِنَايَةِ حَتَّى إِن الْمقر على نَفسه بِبَعْض الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للعقوبة مَا لم يذكر اللَّفْظ الصَّرِيح كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة لَا يصير مستوجبا للعقوبة وَإِن ذكر لفظا هُوَ كِنَايَة وَلِهَذَا لَا تُقَام هَذِه الْعُقُوبَات على الْأَخْرَس عِنْد إِقْرَاره بِهِ بإشارته لِأَنَّهُ لم يُوجد التَّصْرِيح بِلَفْظِهِ وَعند إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رُبمَا يكون عِنْده شُبْهَة لَا يتَمَكَّن من إظهارها فِي إِشَارَته وعَلى هَذَا لَو قذف رجل رجلا بِالزِّنَا فَقَالَ لَهُ رجل آخر صدقت فَإِن الثَّانِي لَا يسْتَوْجب الْحَد لِأَن مَا يلفظ بِهِ كِنَايَة عَن الْقَذْف لاحْتِمَال مُطلق التَّصْدِيق وُجُوهًا مُخْتَلفَة وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لغيره أما أَنا فلست بزان لَا يلْزمه حد الْقَذْف لِأَنَّهُ تَعْرِيض وَلَيْسَ بتصريح بنسبته إِلَى الزِّنَا فَيكون قاصرا فِي نَفسه(1/189)
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قذف رجل رجلا بِالزِّنَا فَقَالَ آخر هُوَ كَمَا قلت فَإِن الثَّانِي يسْتَوْجب الْحَد وَهَذَا تَعْرِيض مُحْتَمل أَيْضا قُلْنَا نعم وَلَكِن كَاف التَّشْبِيه توجب الْعُمُوم عندنَا فِي الْمحل الَّذِي يحْتَملهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا أعطيناهم الذِّمَّة وبدلوا الْجِزْيَة لتَكون دِمَاؤُهُمْ كدمائنا وَأَمْوَالهمْ كأموالنا إِنَّه مجْرى على الْعُمُوم فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَمَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات فَهَذَا الْكَاف أَيْضا مُوجبه الْعُمُوم لِأَنَّهُ حصل فِي مَحل يحْتَملهُ فَيكون نسبته إِلَى الزِّنَا قطعا بِمَنْزِلَة كَلَام الأول على مَا هُوَ مُوجب الْعَام عندنَا
فصل فِي بَيَان جملَة مَا تتْرك بِهِ الْحَقِيقَة
وَهِي خَمْسَة أَنْوَاع أَحدهَا دلَالَة الِاسْتِعْمَال عرفا وَالثَّانِي دلَالَة اللَّفْظ
وَالثَّالِث سِيَاق النّظم وَالرَّابِع دلَالَة من وصف الْمُتَكَلّم وَالْخَامِس من مَحل الْكَلَام
فَأَما الأول فَنَقُول تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة الِاسْتِعْمَال عرفا لِأَن الْكَلَام مَوْضُوع للإفهام وَالْمَطْلُوب بِهِ مَا تسبق إِلَيْهِ الأوهام فَإِذا تعارف النَّاس اسْتِعْمَاله لشَيْء عينا كَانَ ذَلِك بِحكم الِاسْتِعْمَال كالحقيقة فِيهِ وَمَا سوى ذَلِك لِانْعِدَامِ الْعرف كالمهجور لَا يتَنَاوَلهُ إِلَّا بِقَرِينَة أَلا ترى أَن اسْم الدَّرَاهِم عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل نقد الْبَلَد لوُجُود الْعرف الظَّاهِر فِي التَّعَامُل بِهِ وَلَا يتَنَاوَل غَيره إِلَّا بِقَرِينَة لترك التَّعَامُل بِهِ ظَاهرا فِي ذَلِك الْموضع وَإِن لم يكن بَين النَّوْعَيْنِ فرق فِيمَا وضع الِاسْم لَهُ حَقِيقَة
وَبَيَان هَذَا فِي اسْم الصَّلَاة فَإِنَّهَا للدُّعَاء حَقِيقَة قَالَ الْقَائِل وَصلي على دنها وارتسم وَهِي مجَاز لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَة بأركانها سميت بِهِ لِأَنَّهَا شرعت للذّكر قَالَ تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة لذكري} وَفِي الدُّعَاء ذكر وَإِن كَانَ يشوبه سُؤال ثمَّ عِنْد الْإِطْلَاق ينْصَرف إِلَى الْعِبَادَة الْمَعْلُومَة بأركانها سَوَاء كَانَ فِيهَا دُعَاء أَو لم يكن كَصَلَاة الْأَخْرَس وَإِنَّمَا تركت الْحَقِيقَة للاستعمال عرفا
وَكَذَلِكَ الْحَج فَإِن اللَّفْظ للقصد(1/190)
حَقِيقَة ثمَّ سميت الْعِبَادَة بهَا لما فِيهَا من الْعَزِيمَة وَالْقَصْد للزيارة فَعِنْدَ الْإِطْلَاق الِاسْم يتَنَاوَل الْعِبَادَة للاستعمال عرفا وَالْعمْرَة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَغَيرهَا على هَذَا فَإِن نَظَائِر هَذَا أَكثر من أَن تحصى وَلِهَذَا قُلْنَا من نذر صَلَاة أَو حجا أَو مشيا إِلَى بَيت الله يلْزمه الْعِبَادَة وَإِن لم ينْو ذَلِك فالمشي إِلَى بَيت الله تَعَالَى غير الْحَج حَقِيقَة وَلَكِن للاستعمال عرفا ينْصَرف مُطلق اللَّفْظ إِلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لله عَليّ أَن أضْرب بثوبي حطيم الْكَعْبَة يلْزمه التَّصَدُّق بِالثَّوْبِ للاستعمال عرفا فاللفظ حَقِيقَة فِي غير ذَلِك
وَمن حلف أَن لَا يَشْتَرِي رَأْسا ينْصَرف يَمِينه إِلَى مَا يتعارف بَيْعه فِي الْأَسْوَاق من الرؤوس على حسب مَا اخْتلفُوا فِيهِ وَكَانَ ذَلِك للاستعمال عرفا فَأَما من حَيْثُ الْحَقِيقَة الِاسْم يتَنَاوَل كل رَأس
وَمن حلف أَن لَا يَأْكُل بيضًا يتَنَاوَل يَمِينه بيض الدَّجَاج والأوز خَاصَّة لاستعمال ذَلِك عِنْد الْأكل عرفا وَلَا يتَنَاوَل بيض الْحمام والعصفور وَمَا أشبه ذَلِك وَقد بَينا أَن الْعَام إِذا خص مِنْهُ شَيْء يصير شَبيه الْمجَاز
وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ دلَالَة اللَّفْظ فِيمَا إِذا حلف أَن لَا يَأْكُل لَحْمًا فَأكل لحم السّمك أَو الْجَرَاد لم يَحْنَث فِي يَمِينه لِأَنَّهُ أطلق اللَّحْم فِي لَفظه وَلحم السّمك (أَو الْجَرَاد) لَا يذكر إِلَّا بِقَرِينَة فَكَانَ قاصرا فِيمَا يتَنَاوَلهُ اسْم مُطلق اللَّحْم بِمَنْزِلَة الصَّلَاة على الْجِنَازَة فَإِنَّهُ قَاصِر فِيمَا يتَنَاوَلهُ مُطلق اسْم الصَّلَاة من حَيْثُ إِنَّه لَا يذكر إِلَّا بِالْقَرِينَةِ فَلَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم بِدُونِ الْقَرِينَة
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو أكل لحم خِنْزِير أَو لحم إِنْسَان فَإِنَّهُ يَحْنَث فِي يَمِينه وَهَذَا لَا يذكر إِلَّا بِقَرِينَة قُلْنَا نعم وَلَكِن ذكر الْقَرِينَة هُنَا لَيْسَ لقُصُور معنى اللحمية فيهمَا فَإِن اللَّحْم اسْم معنوي مَوْضُوع لما يتَوَلَّد من الدَّم وَلَا قُصُور فِي ذَلِك فِي لحم الْخِنْزِير والآدمي فَأَما لحم السّمك وَالْجَرَاد فَإِنَّهُ قَاصِر فِي ذَلِك الْمَعْنى لِأَنَّهُ لَا دم للسمك وَلَا للجراد فَكَذَلِك معنى الْغذَاء الْمَطْلُوب بِاللَّحْمِ لَا يتم بالسمك وَالْجَرَاد
فَعرفنَا أَن الْقَرِينَة فِيهَا للقصور وَمعنى الْغذَاء الْمَطْلُوب بِاللَّحْمِ يتم فِي لحم(1/191)
الْخِنْزِير والآدمي فَعرفنَا أَن الْقَرِينَة لبَيَان الْحُرْمَة لَا لقُصُور فِي معنى اللحمية وَلَيْسَ للْحُرْمَة تَأْثِير فِي الْمَنْع من إتْمَام شَرط الْحِنْث وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله كل مَمْلُوك لي حر لَا يدْخل الْمكَاتب بِدُونِ النِّيَّة لِأَنَّهُ تلفظ بالمملوك وَالْمكَاتب مُتَرَدّد بَين كَونه مَالِكًا وَبَين كَونه مَمْلُوكا فَإِنَّهُ مَالك يدا وتصرفا مَمْلُوك رقا وَكَذَلِكَ صرح بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ وَالْمكَاتب مُضَاف إِلَيْهِ من وَجه دون وَجه فللدلالة فِي لَفظه لَا يتَنَاوَلهُ الْكَلَام بِدُونِ النِّيَّة وَلَكِن يتَنَاوَلهُ مُطلق اسْم الرَّقَبَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله {أَو تَحْرِير رَقَبَة} لِأَنَّهُ يتَنَاوَل الذَّات المرقوق وَالرّق لَا ينْتَقض بِعقد الْكِتَابَة بِدَلِيل احتمالها الْفَسْخ وَاشْتِرَاط الْملك بِقدر مَا يَصح بِهِ التَّحْرِير وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْمكَاتب فيتأدى بِهِ الْكَفَّارَة
وَكَذَلِكَ قَوْله كل امْرَأَة لَهُ طَالِق لَا يتَنَاوَل المختلعة بِغَيْر نِيَّة وَإِن كَانَت فِي الْعدة من غير النِّيَّة لبَقَاء ملك الْيَد وَزَوَال أصل ملك النِّكَاح وعَلى عكس مَا ذكرنَا من معنى الْقُصُور معنى الزِّيَادَة أَيْضا فَإِن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله قَالَ من حلف لَا يَأْكُل فَاكِهَة فَأكل عنبا أَو رطبا أَو رمانا لم يَحْنَث وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يَحْنَث لِأَن اسْم الْفَاكِهَة يَتَنَاوَلهَا عِنْد الْإِطْلَاق من غير قرينَة فَتكون كَامِلَة فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب بِهَذَا الِاسْم وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول هِيَ زِيَادَة على مَا هُوَ الْمَطْلُوب بِالِاسْمِ لِأَن اشتقاق اللَّفْظ من التفكه وَهُوَ التنعم قَالَ تَعَالَى {انقلبوا فكهين} أَي منعمين والتنعم زَائِد على مَا بِهِ القوام وَالرّطب وَالْعِنَب قوت يَقع بِهِ القوام وَالرُّمَّان فِي معنى الدَّوَاء وَقد يَقع بِهِ القوام أَيْضا وَهُوَ قوت فِي جملَة التوابل وَمَا يَقع بِهِ القوام فَهُوَ زَائِد على التنعم وَلِهَذَا عطف الله تَعَالَى الْفَاكِهَة عَلَيْهَا وَقَالَ {وَعِنَبًا} إِلَى قَوْله {وَفَاكِهَة وَأَبا} فللزيادة لَا يَتَنَاوَلهَا مُطلق الِاسْم كَمَا أَن للنقصان لَا يتَنَاوَل مُطلق الِاسْم للسمك وَالْجَرَاد
وَكَذَلِكَ لَو حلف لَا يَأْكُل إدَامًا عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله الإدام مَا يصطبغ بِهِ لِأَنَّهُ تبع فَلَا يتَنَاوَل مَا يَتَأَتَّى أكله مَقْصُودا من الْجُبْن وَالْبيض وَاللَّحم وعَلى قَول مُحَمَّد رَحمَه الله يتَنَاوَل ذَلِك لكَمَال معنى المؤادمة وَهِي الْمُوَافقَة فِيهَا كَمَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى وَعَن أبي يُوسُف رَحمَه الله رِوَايَتَانِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
وَبَيَان النَّوْع الثَّالِث وَهُوَ سِيَاق النّظم فِي قَوْله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر إِنَّا أَعْتَدْنَا للظالمين نَارا}(1/192)
فَإِن بسياق النّظم يتَبَيَّن أَن المُرَاد هُوَ الزّجر والتوبيخ دون الْأَمر والتخيير وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فَإِن بسياق النّظم يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد مَا هُوَ مُوجب صِيغَة الْأَمر بِهَذِهِ الصّفة
وعَلى هَذَا لَو أقرّ وَقَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِن شَاءَ الله لم يلْزمه شَيْء وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم لَيْسَ لَهُ عَليّ شَيْء إِن شَاءَ الله تلْزمهُ الْألف لِأَن قَوْله لَيْسَ رُجُوع وَصِيغَة قَوْله إِن شَاءَ الله صِيغَة التَّعْلِيق والإرسال وَالتَّعْلِيق كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَعَارَف بَين أهل اللِّسَان فَكَانَ ذَلِك من بَاب الْبَيَان لَا من بَاب الرُّجُوع وَوُجُوب المَال عَلَيْهِ من حكم إرْسَال الْكَلَام فَمَعَ صِيغَة التَّعْلِيق لَا يلْزمه حكم الْإِرْسَال بِاعْتِبَار سِيَاق النّظم
وَقَالَ فِي السّير الْكَبِير لَو قَالَ مُسلم لحربي مَحْصُور انْزِلْ فَنزل كَانَ آمنا وَلَو قَالَ انْزِلْ إِن كنت رجلا فَنزل كَانَ فَيْئا وَلَو قَالَ لَهُ الْحَرْبِيّ المأسور فِي يَده الْأمان الْأمان وَقَالَ الْمُسلم فِي جَوَابه الْأمان الْأمان كَانَ آمنا حَتَّى لَو أَرَادَ قَتله بعد هَذَا فعلى أُمَرَاء الْجَيْش أَن يمنعوه من ذَلِك وَلَا يصدقونه فِي قَوْله أردْت رد كَلَامه وَلَو قَالَ الْأمان الْأمان ستعلم مَا تلقى أَو قَالَ الْأمان الْأمان تطلب أَو قَالَ لَا تعجل حَتَّى ترى لم يكن ذَلِك أَمَانًا بِدلَالَة سِيَاق النّظم
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لغيره اصْنَع فِي مَالِي مَا شِئْت إِن كنت رجلا أَو قَالَ طلق زَوْجَتي إِن كنت رجلا لم يكن توكيلا
وَلَو قَالَ لغيره لي عَلَيْك ألف دِرْهَم فَقَالَ الآخر لَك عَليّ ألف دِرْهَم مَا أبعدك من ذَلِك لم يكن إِقْرَارا
فَعرفنَا أَن بِدَلِيل سِيَاق النّظم تتْرك الْحَقِيقَة
وَبَيَان النَّوْع الرَّابِع فِي قَوْله تَعَالَى {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك} فَإِن كل وَاحِد يعلم بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْر لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يظنّ ظان بِأَن الله تَعَالَى يَأْمر بالْكفْر بِحَال فَتبين بِأَن المُرَاد الإقدار والإمكان لعلمنا أَن مَا يَأْتِي بِهِ اللعين يكون بإقدار الله تَعَالَى عَلَيْهِ إِيَّاه وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِل اللَّهُمَّ اغْفِر لي يعلم أَنه سُؤال لَا أَمر لوصف الْمُتَكَلّم وَهُوَ أَن العَبْد الْمُحْتَاج إِلَى نعْمَة مَوْلَاهُ لَا يطْلب مِنْهُ النِّعْمَة إلزاما وَإِنَّمَا يسْأَله ذَلِك سؤالا وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره تعال(1/193)
تغد عِنْدِي فَقَالَ وَالله لَا أتغدى ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَيته فتغدى لَا يَحْنَث لِأَن الْمُتَكَلّم دَعَاهُ إِلَى الْغَدَاء الَّذِي بَين يَدَيْهِ وَقد أخرج كَلَامه مخرج الْجَواب فَإِذا تقيد الْخطاب بالمعلوم من إِرَادَة الْمُتَكَلّم يتَقَيَّد الْجَواب أَيْضا بِهِ
وَكَذَلِكَ لَو قَامَت امْرَأَة لتخرج فَقَالَ لَهَا إِن خرجت فَأَنت طَالِق فَرَجَعت ثمَّ خرجت بعد ذَلِك الْيَوْم لم تطلق وعَلى هَذَا لَو قَالَت لَهُ زَوجته إِنَّك تَغْتَسِل فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة من الْجَنَابَة فَقَالَ إِن اغْتَسَلت فَعَبْدي حر ثمَّ اغْتسل فِيهَا فِي (غير) تِلْكَ اللَّيْلَة أَو فِي تِلْكَ اللَّيْلَة من غير الْجَنَابَة لم يَحْنَث
وَبَيَان النَّوْع الْخَامِس فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَإِن بِدلَالَة مَحل الْكَلَام يعلم أَنه لَيْسَ المُرَاد نفي الْمُسَاوَاة بَينهمَا على الْعُمُوم بل فِيمَا يرجع إِلَى الْبَصَر فَقَط وَقد قُلْنَا إِن لفظ الْعُمُوم فِي غير الْمحل الْقَابِل للْعُمُوم يكون بِمَعْنى الْمُجْمل فَلَا يثبت بِهِ إِلَّا مَا يتَيَقَّن أَنه مُرَاد بِهِ وَيكون ذَلِك شبه الْمجَاز لدلَالَة مَحل الْكَلَام وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَفِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ إِنَّه لَا يَقْتَضِي الْعُمُوم وارتفاع الحكم لِأَن بِمحل الْكَلَام يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد أصل الْعَمَل فَإِن ذَلِك يتَحَقَّق بِغَيْر النِّيَّة وَمَعَ الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَالْإِكْرَاه فإمَّا أَن يكون المُرَاد الحكم أَو الْإِثْم وَلَا يجوز أَن يُقَال كل وَاحِد مِنْهُمَا مُرَاد لِأَنَّهُمَا يبتنيان على مَعْنيين متغايرين فَإِن الثَّوَاب على الْعَمَل الَّذِي هُوَ عبَادَة وَالْإِثْم بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ محرم يبتني على الْعَزِيمَة وَالْقَصْد وَالْجَوَاز وَالْفساد الَّذِي هُوَ حكم يبتني على الْأَدَاء بالأركان والشرائط أَلا ترى أَن من تَوَضَّأ بِالْمَاءِ النَّجس وَهُوَ لَا يعلم بِهِ فصلى لم تجز صلَاته مُطلقًا حَتَّى لَو علم لزمَه الْإِعَادَة وَمَعَ ذَلِك إِذا لم يعلم وَلم يكن مِنْهُ التَّقْصِير كَانَ مُطيعًا بِاعْتِبَار قَصده وعزيمته فَيكون هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك الَّذِي لَا عُمُوم لَهُ لتغاير الْمَعْنى فِيمَا يحْتَملهُ فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ فِي حكم الْجَوَاز وَالْفساد إِلَّا بِدَلِيل يقْتَرن بِهِ فَيصير كالمؤول حِينَئِذٍ فَأَما مَا يعْتَرض من الدَّلِيل(1/194)
الْمُوجب للنسخ أَو التَّخْصِيص فَلَيْسَ من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء وَإِنَّمَا هَذَا الْبَاب لمعْرِفَة الْوُجُوه فِيمَا يقْتَرن بالْكلَام فَيصير حَقِيقَة وَدَلِيل النّسخ والتخصيص كَلَام معَارض إِلَّا أَن النّسخ معَارض صُورَة وَحَقِيقَة والتخصيص معَارض صُورَة وَبَيَان معنى حَتَّى لَا يكون إِلَّا بالمقارن وَلَكِن ذَلِك الْمُقَارن إِنَّمَا يتَبَيَّن بِمَا هُوَ نسخ مُبْتَدأ صِيغَة فَعرفنَا أَنه لَيْسَ من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء
قَالَ رَضِي الله عَنهُ والعراقيون من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله يَزْعمُونَ أَنه لَا عُمُوم للنصوص الْمُوجبَة لتَحْرِيم الْأَعْيَان نَحْو قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَقَوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام حرمت الْخمر لعينها وَقَالُوا امْتنع ثُبُوت حكم الْعُمُوم فِي هَذِه الصُّورَة معنى لدلَالَة مَحل الْكَلَام وَهُوَ أَن الْحل وَالْحُرْمَة لَا تكون وَصفا للمحل وَإِنَّمَا تكون وَصفا لأفعالنا فِي الْمحل حَقِيقَة فَإِنَّمَا يصير الْمحل مَوْصُوفا بِهِ مجَازًا وَهَذَا غلط فَاحش فَإِن الْحُرْمَة بِهَذِهِ النُّصُوص ثَابِتَة للأعيان الموصوفة بهَا حَقِيقَة لِأَن إِضَافَة الْحُرْمَة إِلَى الْعين تنصيص على لُزُومه وتحققه فِيهِ فَلَو جعلنَا الْحُرْمَة صفة للْفِعْل لم تكن الْعين حَرَامًا أَلا ترى أَن شرب عصير الْغَيْر وَأكل مَال الْغَيْر فعل حرَام وَلم يكن ذَلِك دَلِيلا على حُرْمَة الْعين وَلُزُوم هَذَا الْوَصْف للعين وَلَكِن عمل هَذِه النُّصُوص فِي إِخْرَاج هَذِه الْمحَال من أَن تكون قَابِلَة للْفِعْل الْحَلَال وَإِثْبَات صفة الْحُرْمَة لَازِمَة لأعيانها فَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة النّسخ الَّذِي هُوَ رفع حكم وَإِثْبَات حكم آخر مَكَانَهُ فَبِهَذَا الطَّرِيق تقوم الْعين مقَام الْفِعْل فِي إِثْبَات صفة الْحُرْمَة والحل لَهُ حَقِيقَة وَهَذَا إِذا تَأَمَّلت فِي غَايَة التَّحْقِيق فَمَعَ إِمْكَان الْعَمَل بِهَذِهِ الصِّيغَة جعل هَذِه الحرمات مجَازًا بِاعْتِبَار أَنَّهَا صفة للْفِعْل لَا للمحل يكون خطأ فَاحِشا(1/195)
فصل فِي إبانة طَرِيق المُرَاد بِمُطلق الْكَلَام
قد بَينا أَن الْكَلَام ضَرْبَان حَقِيقَة ومجاز وَأَنه لَا يحمل على الْمجَاز إِلَّا عِنْد تعذر حمله على الْحَقِيقَة فتمس الْحَاجة إِلَى معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَالطَّرِيق فِي ذَلِك هُوَ النّظر فِي السَّبَب الدَّاعِي إِلَى تَعْرِيف ذَلِك الِاسْم فِي الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة لَا لِمَعْنى وَإِلَى تَعْرِيف الْمَعْنى فِي المعنويات فَمَا كَانَ أقرب فِي ذَلِك فَهُوَ أَحَق وَمَا كَانَ أَكثر إِفَادَة فَهُوَ أولى بِأَن يَجْعَل حَقِيقَة وَذَلِكَ يكون بطريقين التَّأَمُّل فِي مَحل الْكَلَام والتأمل فِي صِيغَة الْكَلَام
أما بَيَان التَّأَمُّل فِي الْمحل فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي مُوجب الْعَام فَعِنْدَ بَعضهم مُوجبه عِنْد الْإِطْلَاق أخص الْخُصُوص وَعِنْدنَا مُوجبه الْعُمُوم وَمَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَنَّهُ إِذا حمل على أخص الْخُصُوص يبْقى بعض مَا تنَاوله مُطلق الْكَلَام غير مُرَاد بِهِ وَالْمرَاد بالْكلَام تَعْرِيف مَا وضع الِاسْم لَهُ فَإِذا كَانَ صِيغَة الْعَام مَوْضُوعا لِمَعْنى الْعُمُوم كَانَ حمله عَلَيْهِ عِنْد الْإِطْلَاق أَحَق وَلِأَن الْخَاص اسْم آخر وَهُوَ مَا وضع لَهُ صِيغَة الْخَاص فَلَو جعلنَا صِيغَة الْعَام تناولا للخاص أَيْضا فَقَط كَانَ ذَلِك تَكْرَارا مُحصنا وَإِذا كَانَ الْمَقْصُود بِوَضْع الْأَسْمَاء فِي الأَصْل إِعْلَام المُرَاد فَحمل لفظين على شَيْء وَاحِد يكون تَكْرَارا وإخراجا لأحد اللَّفْظَيْنِ من أَن يكون مُفِيدا
فَإِن قيل فَائِدَته التَّأْكِيد وتوسيع الْكَلَام قُلْنَا نعم وَلَكِن هَذَا فِي الْفَائِدَة دون الْفَائِدَة الْمَطْلُوبَة بِأَصْل الْوَضع وَالْإِطْلَاق يُوجب الْكَمَال فَإِذا حمل كل وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ على فَائِدَة جَدِيدَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع كَانَ ذَلِك أولى من أَن يحمل على التّكْرَار لتوسعة الْكَلَام فهذان الدليلان من مَحل الْكَلَام قبل التَّأَمُّل فِي صِيغَة اللَّفْظ وَلِهَذَا حملنَا قَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} على المجامعة دون الْمس بِالْيَدِ لِأَنَّهُ إِذا حمل على الْمس بِالْيَدِ كَانَ تَكْرَارا لنَوْع حدث وَاحِد وَإِذا حمل على المجامعة كَانَ بَيَانا لنوعي الْحَدث وأمرا بِالتَّيَمُّمِ لَهما فَيكون أَكثر فَائِدَة مَعَ أَنه مَعْطُوف على مَا سبق وَالسَّابِق ذكر نَوْعي الْحَدث فَإِن قَوْله {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة}(1/196)
أَي وَأَنْتُم محدثون ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم مرضى} إِلَى قَوْله {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} فبدلالة مَحل الْكَلَام يتَبَيَّن أَن المُرَاد الْجِمَاع دون الْمس بِالْيَدِ
وَبَيَان الدّلَالَة من صِيغَة الْكَلَام فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله اللَّغْو مَا يكون خَالِيا عَن فَائِدَة الْيَمين شرعا ووضعا فَإِن فَائِدَة الْيَمين إِظْهَار الصدْق من الْخَبَر فَإِذا أضيف إِلَى خبر لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الصدْق كَانَ خَالِيا عَن فَائِدَة الْيَمين فَكَانَ لَغوا
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله اللَّغْو مَا يجْرِي على اللِّسَان من غير قصد وَلَا خلاف فِي جَوَاز إِطْلَاق اللَّفْظ على كل وَاحِد مِنْهُمَا
وَلَكِن مَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَن مَا يجْرِي على لِسَانه من غير قصد لَهُ اسْم آخر مَوْضُوع وَهُوَ الْخَطَأ الَّذِي هُوَ ضد الْعمد أَو السَّهْو الَّذِي هُوَ ضد التحفظ فَأَما مَا يكون خَالِيا عَن الْفَائِدَة لِمَعْنى فِي نَفسه لَا بِحَال الْمُتَكَلّم فَلَيْسَ لَهُ اسْم مَوْضُوع سوى أَنه لَغْو فَحَمله عَلَيْهِ أولى أَلا ترى إِلَى قَوْله {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} يَعْنِي الْكَلَام الْفَاحِش الَّذِي هُوَ خَال عَن فَائِدَة الْكَلَام بطرِيق الْحِكْمَة دون مَا يجْرِي من غير قصد فَإِن ذَلِك لَا عتب فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما} وَقَالَ تَعَالَى {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون} وَمَعْلُوم أَن مُرَاد الْمُشْركين التعنت أَي إِن لم تقدروا على المغالبة بِالْحجَّةِ فاشتغلوا بِمَا هُوَ خَال عَن الْفَائِدَة من الْكَلَام ليحصل مقصودكم بطرِيق المغالبة دون المحاجة وَلم يكن مقصودهم التَّكَلُّم بِغَيْر قصد وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} أَي صَبَرُوا عَن الْجَواب وَذَلِكَ فِي الْكَلَام الْخَالِي عَن الْفَائِدَة دون مَا يجْرِي من غير قصد وَلِأَن فَسَاد مَا يجْرِي من غير قصد بِاعْتِبَار معنى فِي الْمحل وَهُوَ الْقلب الَّذِي هُوَ السَّبَب الْبَاعِث على التَّكَلُّم وَفَسَاد مَا لَا فَائِدَة فِيهِ بِاعْتِبَار معنى فِي نفس الْكَلَام فَكَانَ هُوَ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة فَيحمل اللَّفْظ عَلَيْهِ عِنْد الْإِطْلَاق
وَكَذَا اخْتلفُوا فِي العقد فَقَالَ الْخصم العقد عبارَة(1/197)
عَن الْقَصْد فَإِن الْعَزِيمَة سميت عقيدة
وَقُلْنَا العقد اسْم لربط كَلَام بِكَلَام نَحْو ربط لفظ الْيَمين بالْخبر الَّذِي فِيهِ رَجَاء الصدْق لإِيجَاب حكم (بِكَلَام) وَهُوَ الصدْق مِنْهُ وَكَذَلِكَ ربط البيع بِالشِّرَاءِ لإِيجَاب حكمه وَهُوَ الْملك فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أقرب إِلَى الْحَقِيقَة لِأَن الْكَلِمَة بِاعْتِبَار الْوَضع من عقد الْحَبل وَهُوَ شدّ بعضه بِبَعْض وضده الْحل مِنْهُ تَقول الْعَرَب يَا عاقدا ذكر حلا وَقَالَ الْقَائِل ولقلب الْمُحب حل وَعقد ثمَّ يستعار (لربط الْإِيجَاب بِالْقبُولِ على وَجه ينْعَقد أَحدهمَا بِالْآخرِ حكما فيسمى عقدا ثمَّ يستعار) لما يكون سَببا لهَذَا الرَّبْط وَهُوَ عَزِيمَة الْقلب فَكَانَ ذَلِك دون العقد الَّذِي هُوَ ضد الْحل فِيمَا وضع الِاسْم لَهُ فَحَمله عَلَيْهِ يكون أَحَق
وَمن ذَلِك مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {ثَلَاثَة قُرُوء} إِنَّهَا الْحيض دون الْأَطْهَار لِأَن اللَّفْظ إِمَّا أَن يكون مأخوذا من الْقُرْء الَّذِي هُوَ الِاجْتِمَاع قَالَ تَعَالَى {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} وَقَالَ الْقَائِل هجان اللَّوْن لم يقر أَجْنَبِيّا وَهَذَا الْمَعْنى فِي الْحيض أَحَق لِأَن معنى الِاجْتِمَاع فِي قطرات الدَّم على وَجه لَا بُد مِنْهُ ليَكُون حيضا فَإِنَّهُ مَا لم تمتد رُؤْيَة الدَّم لَا يكون حيضا وَإِن كَانَ الدَّم يجْتَمع فِي حَالَة الطُّهْر فِي رَحمهَا فالاسم حَقِيقَة للدم الْمُجْتَمع ثمَّ زَمَانه يُسمى بِهِ مجَازًا وَإِن كَانَ مأخوذا من الْوَقْت الْمَعْلُوم كَمَا قَالَ الْقَائِل إِذا هبت لِقَارِئِهَا الرِّيَاح وَقَالَ آخر لَهُ قرء كقرء الْحَائِض فَذَلِك بِزَمَان الْحيض أليق لِأَنَّهُ هُوَ الْوَقْت الْمَعْلُوم الَّذِي يحْتَاج إِلَى إِعْلَامه لمعْرِفَة مَا تعلق بِهِ من الْأَحْكَام وَإِن كَانَ مأخوذا من معنى الِانْتِقَال كَمَا يُقَال قَرَأَ النَّجْم إِذا انْتقل فحقيقة الِانْتِقَال تكون بِالْحيضِ لَا بِالطُّهْرِ إِذْ الطُّهْر أصل فباعتبار صِيغَة اللَّفْظ يتَبَيَّن أَن حمله على الْحيض أَحَق(1/198)
وَكَذَلِكَ لفظ النِّكَاح فَإِنَّمَا نحمله على الْوَطْء والخصم على العقد وَمَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَن الِاسْم فِي أصل الْوَضع لِمَعْنى الضَّم والالتزام يَقُول الْقَائِل أنكح الصَّبْر أَي الْتَزمهُ وضمه إِلَيْك وَمعنى الضَّم فِي الْوَطْء يتَحَقَّق بِمَا يحصل من معنى الِاتِّحَاد بَين الواطئين عِنْد ذَلِك الْفِعْل وَلِهَذَا يُسمى جماعا ثمَّ العقد يُسمى نِكَاحا بِاعْتِبَار أَنه سَبَب يتَوَصَّل بِهِ إِلَى ذَلِك الضَّم فبالتأمل فِي صِيغَة اللَّفْظ يتَبَيَّن أَن الْوَطْء أَحَق بِهِ إِلَّا فِي الْموضع الَّذِي يتَعَذَّر حمله عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يحمل على مَا هُوَ مجَاز عَنهُ وَهُوَ العقد وَهَذَا هُوَ الحكم فِي كل لفظ مُحْتَمل للْحَقِيقَة وَالْمجَاز أَنه إِذا تعذر حمله على الْحَقِيقَة يحمل على الْمجَاز لتصحيح الْكَلَام وَهَذَا التَّعَذُّر إِمَّا لعدم الْإِمْكَان أَو لكَونه مَهْجُورًا عرفا أَو لكَونه مَهْجُورًا شرعا فَالَّذِي هُوَ مُتَعَذر نَحْو مَا إِذا حلف أَن لَا يَأْكُل من هَذِه النَّخْلَة أَو من هَذِه الكرمة فَإِن يَمِينه تَنْصَرِف إِلَى الثَّمَرَة لِأَن مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِي كَلَامه مُتَعَذر وَأما المهجور عرفا فنحو مَا إِذا حلف أَن لَا يشرب من هَذِه الْبِئْر فَإِنَّهُ ينْصَرف يَمِينه إِلَى الشّرْب من مَاء الْبِئْر لِأَن الْحَقِيقَة وَهُوَ الكرع فِي الْبِئْر مهجورة وَاخْتلف مَشَايِخنَا أَنه إِذا كرع هَل يَحْنَث أم لَا فَمنهمْ من يَقُول يَحْنَث أَيْضا لِأَن الْحَقِيقَة لَا تتعطل وَإِن حمل اللَّفْظ على الْمجَاز وَسَوَاء أَخذ المَاء فِي كوز وشربه أَو كرع فِي الْبِئْر فقد شرب مَاء الْبِئْر فَيحنث وَمِنْهُم من يَقُول لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لما صَار الْمجَاز مرَادا سقط اعْتِبَار الْحَقِيقَة على مَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو قَالَ لأجنبية إِن نكحتك فَعَبْدي حر ينْصَرف يَمِينه إِلَى العقد دون الْوَطْء
وَلَو قَالَ لزوجته إِن نكحتك ينْصَرف إِلَى الْوَطْء دون العقد حَتَّى لَو أَبَانهَا ثمَّ تزَوجهَا لم يَحْنَث مَا لم يَطَأهَا
وَلَو قَالَ للمطلقة الرَّجْعِيَّة إِن رَاجَعتك ينْصَرف إِلَى الرّجْعَة دون ابْتِدَاء العقد وَلَو قَالَ للمبانة إِن رَاجَعتك ينْصَرف إِلَى ابْتِدَاء العقد وَلَكِن الأول أوجه لَا بِاعْتِبَار الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي كَونه مرَادا بِاللَّفْظِ بل بِاعْتِبَار عُمُوم الْمجَاز وَهُوَ شرب مَاء الْبِئْر بِأَيّ طَرِيق شربه وعَلى هَذَا قُلْنَا مُطلق التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ ينْصَرف إِلَى الْجَواب وَإِن كَانَ ذَلِك مجَازًا لِأَن الْحَقِيقَة مهجورة شرعا فَإِن الْمُدَّعِي إِذا كَانَ محقا فالمدعي عَلَيْهِ لَا يملك الْإِنْكَار شرعا وَلَا يجوز لَهُ التَّوْكِيل بذلك فَيحمل اللَّفْظ على الْمجَاز عِنْد الْإِطْلَاق ثمَّ يَصح مِنْهُ الْإِنْكَار وَالْإِقْرَار بِاعْتِبَار معنى عُمُوم الْمجَاز وَهُوَ أَنه جَوَاب للخصم
وَمن حلف أَن لَا يكلم هَذَا الصَّبِي فَكَلمهُ بَعْدَمَا صَار شَيخا يَحْنَث بِاعْتِبَار أَن الْحَقِيقَة مهجورة(1/199)
شرعا فَإِن الصَّبِي سَبَب للترحم شرعا لَا للهجران فَيتَعَيَّن الْمجَاز لهَذَا
وأمثلة هَذَا أَكثر من أَن تحصى وَالله أعلم
بَاب بَيَان مَعَاني الْحُرُوف المستعملة فِي الْفِقْه
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكَلَام عِنْد الْعَرَب اسْم وَفعل وحرف وكما يتَحَقَّق معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال فَكَذَلِك يتَحَقَّق فِي الْحُرُوف فَمِنْهُ مَا يكون مُسْتَعْملا فِي حَقِيقَته وَمِنْه مَا يكون مجَازًا عَن غَيره وَكثير من مسَائِل الْفِقْه تترتب على ذَلِك فَلَا بُد من بَيَان هَذِه الْحُرُوف وَذكر الطَّرِيق فِي تَخْرِيج الْمسَائِل عَلَيْهَا
فَأولى مَا يبْدَأ بِهِ من ذَلِك حُرُوف الْعَطف
الأَصْل فِيهِ الْوَاو فَلَا خلاف أَنه للْعَطْف (وَلَكِن عندنَا هُوَ للْعَطْف) مُطلقًا فَيكون مُوجبه الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر من غير أَن يَقْتَضِي مُقَارنَة أَو ترتيبا وَهُوَ قَول أَكثر أهل اللُّغَة
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّه مُوجب للتَّرْتِيب وَقد ذكر ذَلِك الشَّافِعِي فِي أَحْكَام الْقُرْآن وَكَذَلِكَ جعل التَّرْتِيب ركنا فِي الْوضُوء لِأَن فِي الْآيَة عطف الْيَد على الْوَجْه بِحرف الْوَاو فَيجب التَّرْتِيب بِهَذَا النَّص أَلا ترى أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لما سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد السَّعْي بِأَيِّهِمَا نبدأ قَالَ ابدؤوا بِمَا بَدَأَ الله تَعَالَى يُرِيد بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب وَمَا وَجب تَرْتِيب السُّجُود على الرُّكُوع إِلَّا بقوله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَلَكنَّا نقُول هَذَا من بَاب اللِّسَان فطريق مَعْرفَته التَّأَمُّل فِي كَلَام الْعَرَب وَفِي الْأُصُول الْمَوْضُوعَة عِنْد أهل اللُّغَة بِمَنْزِلَة مَا لَو وَقعت الْحَاجة إِلَى معرفَة حكم الشَّرْع يكون طَرِيقه التَّأَمُّل فِي النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة وَالرُّجُوع إِلَى أصُول الشَّرْع وَعند التَّأَمُّل فِي كَلَام الْعَرَب وأصول اللُّغَة يتَبَيَّن أَن الْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب فَإِن الْقَائِل يَقُول جَاءَنِي زيد وَعَمْرو يفهم من هَذَا الْإِخْبَار مجيئهما من غير(1/200)
مُقَارنَة وَلَا تَرْتِيب حَتَّى يكون صَادِقا فِي خَبره سَوَاء جَاءَهُ عَمْرو أَولا ثمَّ زيد أَو زيد ثمَّ عَمْرو أَو جَاءَا مَعًا
وَكَذَلِكَ وضعُوا الْوَاو للْجمع مَعَ النُّون يَقُولُونَ جَاءَنِي الزيدون أَي زيد وَزيد وَزيد وَالْقَائِل يَقُول لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن فيفهم مِنْهُ الْمَنْع من الْجمع بَينهمَا دون التَّرْتِيب على مَا قَالَ الْقَائِل لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم وَلَو وضع مَكَان الْوَاو هُنَا الْفَاء لم يكن الْكَلَام مُسْتَقِيمًا فالفاء توجب ترتيبا من حَيْثُ إِنَّه للتعقيب مَعَ الْوَصْل فَلَو كَانَ مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب لم يخْتل الْكَلَام بِذكر الْفَاء مَكَانَهُ وَكَذَلِكَ يتبدل الحكم أَيْضا إِذا ذكر الْوَاو مَكَان الْفَاء فَإِن من يَقُول لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار وَأَنت طَالِق تطلق فِي الْحَال فَلَو كَانَ مُوجب الْوَاو التَّرْتِيب لَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَة الْفَاء فَيَنْبَغِي أَن يتَأَخَّر الطَّلَاق إِلَى وجود الشَّرْط
وَأما من حَيْثُ الْوَضع لُغَة فلأنهم وضعُوا كل حرف ليَكُون دَلِيلا على معنى مَخْصُوص كَمَا فعلوا فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال فالاشتراك لَا يكون إِلَّا لغفلة من الْوَاضِع أَو لعذر وتكرار اللَّفْظ لِمَعْنى وَاحِد يُوجب إخلاءه عَن الْفَائِدَة كَمَا قَررنَا فَلَا يَلِيق ذَلِك بالحكمة
ثمَّ إِنَّهُم وضعُوا الْفَاء للوصل مَعَ التعقيب وَثمّ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي وَمَعَ للقران
فَلَو قُلْنَا بِأَن الْوَاو توجب الْقرَان أَو التَّرْتِيب كَانَ تَكْرَارا بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَو قُلْنَا إِنَّه يُوجب الْعَطف مُطلقًا لَكَانَ لفائدة جَدِيدَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع ثمَّ يتنوع هَذَا الْعَطف أنواعا لكل نوع مِنْهُ حرف خَاص
وَنَظِيره من الْأَسْمَاء الْإِنْسَان فَإِنَّهُ للآدمي مُطلقًا ثمَّ يتنوع أنواعا لكل نوع مِنْهُ اسْم خَاص بِأَصْل الْوَضع وَالتَّمْر كَذَلِك
وَهُوَ نَظِير مَا قُلْنَا فِي اسْم الرَّقَبَة إِنَّه للذات مُطلقًا من غير أَن يكون دَالا على معنى التَّقْيِيد بِوَصْف فَكَذَلِك الْوَاو للْعَطْف (مُطلقًا) بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي آيَة الْوضُوء الْغسْل وَالْمسح من غير تَرْتِيب وَلَا قرَان ثمَّ كَانَ التَّرْتِيب بِاعْتِبَار فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ للإكمال فيتأدى الرُّكْن بِمَا هُوَ الْمَنْصُوص وتتعلق صفة الْكَمَال بمراعاة التَّرْتِيب فِيهِ(1/201)
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} فَإنَّا مَا عرفنَا التَّرْتِيب بِهَذَا النَّص إِذْ النُّصُوص فِيهِ متعارضة فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} وَلَكِن مُرَاعَاة ذَلِك التَّرْتِيب بِكَوْن الرُّكُوع مُقَدّمَة السُّجُود وَالْقِيَام مُقَدّمَة الرُّكُوع على مَا نبينه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة} فَإِن مُرَاعَاة التَّرْتِيب بَينهمَا لَيْسَ بِاعْتِبَار هَذَا النَّص فَفِي النَّص بَيَان أَنَّهُمَا من شَعَائِر الله وَلَا تَرْتِيب فِي هَذَا وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابدؤوا بِمَا بَدَأَ الله تَعَالَى على وَجه التَّقْرِيب إِلَى الأفهام لَا لبَيَان أَن الْوَاو توجب التَّرْتِيب فَإِن الَّذِي يسْبق إِلَى الأفهام فِي مخاطبات الْعباد أَن البدائية تدل على زِيَادَة الْعِنَايَة فَيظْهر بهَا نوع قُوَّة صَالِحَة للترجيح وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن أوصى بِقرب لَا تسع الثُّلُث لَهَا فَإِنَّهُ يبْدَأ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي إِذا اسْتَوَت فِي صفة اللُّزُوم لِأَن الْبِدَايَة تدل على زِيَادَة الاهتمام وَقد زعم بعض مَشَايِخنَا أَن معنى التَّرْتِيب يتَرَجَّح فِي الْعَطف الثَّابِت بِحرف الْوَاو فِي قَول أبي حنيفَة وَفِي قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رَحِمهم الله يتَرَجَّح معنى الْقرَان وَخَرجُوا على هَذَا مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته وَلم يدْخل بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فَدخلت فَإِنَّهَا تطلق وَاحِدَة عِنْد أبي حنيفَة بِاعْتِبَار أَنه مترتب وُقُوع الثَّانِيَة على الأولى وَهِي تبين فِي الأولى لَا إِلَى عدَّة وَعِنْدَهُمَا تقع الثَّلَاث عَلَيْهَا بِاعْتِبَار أَنَّهُنَّ يقعن جملَة عِنْد الدُّخُول مَعًا وَهَذَا غلط فَلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا أَن الْوَاو للْعَطْف مُطلقًا إِلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ مُوجبه الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر
وَقَوله إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق جملَة تَامَّة وَقَوله وَطَالِق جملَة نَاقِصَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذكر الشَّرْط فباعتبار الْعَطف يصير الْخَبَر الْمَذْكُور فِي الْجُمْلَة التَّامَّة كالمعاد فِي الْجُمْلَة النَّاقِصَة فَيتَعَلَّق كل تَطْلِيقَة بِالدُّخُولِ بِلَا وَاسِطَة وَعند الدُّخُول ينزلن جملَة كَمَا لَو كرر ذكر الشَّرْط مَعَ كل تَطْلِيقَة أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ جَاءَنِي زيد وَعَمْرو كَانَ الْمَفْهُوم من هَذَا مَا هُوَ الْمَفْهُوم من قَوْله جَاءَنِي زيد جَاءَنِي عَمْرو
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْوَاو للْعَطْف وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الطَّلَاق بِالشّرطِ كَمَا علقه وَهُوَ علق الثَّانِيَة بِالشّرطِ بِوَاسِطَة الأولى فَإِن من ضَرُورَة الْعَطف هَذِه الْوَاسِطَة فَالْأولى تتَعَلَّق بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة وَالثَّانِي بِوَاسِطَة الأولى بِمَنْزِلَة الْقنْدِيل الْمُعَلق بالحبل بِوَاسِطَة الْحلق ثمَّ عِنْد وجود الشَّرْط ينزل مَا تعلق فَينزل كَمَا تعلق ولكنهما(1/202)
يَقُولَانِ هَذَا أَن لَو كَانَ الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ طَلَاقا وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْمُتَعَلّق مَا سيصير طَلَاقا عِنْد وجود الشَّرْط إِذا وصل إِلَى الْمحل فَإِنَّهُ لَا يكون طَلَاقا بِدُونِ الْمحل
ثمَّ هَذِه الْوَاسِطَة فِي الذّكر فتتفرق بِهِ أزمنة التَّعْلِيق وَذَلِكَ لَا يُوجب التَّفَرُّق فِي الْوُقُوع كَمَا لَو كرر الشَّرْط فِي كل تَطْلِيقَة وَبَينهمَا أَيَّام
وَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أقرب إِلَى مُرَاعَاة حَقِيقَة اللَّفْظ وَمَعْلُوم أَنه عِنْد وجود الشَّرْط ذَلِك الملفوظ بِهِ يصير طَلَاقا فَإِذا كَانَ من ضَرُورَة الْعَطف إِثْبَات هَذِه الْوَاسِطَة ذكرا فَإِن عِنْد وجود الشَّرْط يصير ذَلِك طَلَاقا وَاقعا وَمن ضَرُورَة تفرق الْوُقُوع أَن لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة فَإِن هَذَا تبين بِهِ لَا إِلَى عدَّة كَمَا لَو نجز فَقَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق
وَقَالَ مَالك فِي التَّنْجِيز أَيْضا تطلق ثَلَاثًا لِأَن الْوَاو توجب الْمُقَارنَة أَلا ترى أَنه لَو قَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار تطلق ثَلَاثًا عِنْد الدُّخُول جملَة
وَهَذَا غلط فَإِن للقران حرفا مَوْضُوعا وَهُوَ مَعَ فَلَو حملنَا الْوَاو عَلَيْهِ كَانَ تَكْرَارا وَإِذا أخر الشَّرْط فِي التَّعْلِيق إِنَّمَا تطلق ثَلَاثًا لَا بِهَذَا الْمَعْنى بل لِأَن الأَصْل فِي الْكَلَام الْمَعْطُوف أَنه مَتى كَانَ فِي آخِره مَا يُغير مُوجب أَوله توقف أَوله على آخِره وَلِهَذَا لَو ذكر اسْتثِْنَاء فِي آخر الْكَلَام بَطل الْكل بِهِ فَكَذَلِك إِذا ذكر شرطا لِأَن بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ تبين أَن الْمَذْكُور أَولا لَيْسَ بِطَلَاق وَإِذا توقف أَوله على آخِره تعلق الْكل بِالشّرطِ جملَة وَإِذا كَانَ الشَّرْط سَابِقًا فَلَيْسَ فِي آخر الْكَلَام مَا يُغير مُوجب أَوله
وَكَذَلِكَ فِي التَّنْجِيز فَإِن الأول طَلَاق سَوَاء ذكر الثَّانِي أَو لم يذكر فَإِذا لم يتَوَقَّف أَوله على آخِره بَانَتْ بِالْأولَى فلغت الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة لِانْعِدَامِ مَحل الْوُقُوع لَا لفساد فِي التَّكَلُّم أَو الْعَطف
ثمَّ على قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تقع الأولى قبل أَن يفرغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ وَعند مُحَمَّد عِنْد الْفَرَاغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ تقع الأولى لجَوَاز أَن يلْحق بِكَلَامِهِ شرطا أَو اسْتثِْنَاء مغيرا
وَمَا قَالَه أَبُو يُوسُف أَحَق فَإِنَّهُ مَا لم يَقع الطَّلَاق لَا يفوت الْمحل فَلَو كَانَ وُقُوع الأولى بعد الْفَرَاغ من التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ لوقعا جَمِيعًا لوُجُود الْمحل مَعَ صِحَة التَّكَلُّم بِالثَّانِيَةِ
وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله لَو قَالَ لغير(1/203)
الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَاحِدَة وَعشْرين تطلق وَاحِدَة لِأَن الْوَاو للْعَطْف فَتبين بالواحدة قبل ذكر الْعشْرين
وَلَكنَّا نقُول تِلْكَ كلمة وَاحِدَة حكما لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يعبر عَن هَذَا الْعدَد بِعِبَارَة أوجز من هَذَا وَعطف الْبَعْض على الْبَعْض يتَحَقَّق فِي كَلِمَتَيْنِ لَا فِي كلمة وَاحِدَة فَإِنَّمَا يَقع هُنَا عِنْد تَمام الْكَلَام فَتطلق ثَلَاثًا كَمَا لَو قَالَ وَاحِدَة وَنصفا تطلق اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لما صرح بِهِ عبارَة أوجز من ذَلِك فَكَانَت كلمة وَاحِدَة حكما وَعند زفر تطلق وَاحِدَة
وعَلى هَذَا الأَصْل مَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو تزوج أمتين بِغَيْر إِذن مولاهما ثمَّ أعتقهما الْمولى مَعًا جَازَ نِكَاحهمَا
وَلَو قَالَ أعتقت هَذِه وَهَذِه جَازَ نِكَاح الأولى وَبَطل نِكَاح الثَّانِيَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله فنكاح الأولى صَحِيح أعتق الثَّانِيَة أَو لم يعْتق وبنفوذ الْعتْق فِي الأولى تنعدم محلية النِّكَاح فِي حق الثَّانِيَة لِأَن الْأمة لَيست من المحللات مَضْمُومَة إِلَى الْحرَّة
وَمثله لَو زوج مِنْهُ رضيعتين فِي عقدين بِغَيْر رِضَاهُ فأرضعتهما امْرَأَة ثمَّ أجَاز الزَّوْج نِكَاحهمَا مَعًا بَطل نِكَاحهمَا
وَلَو قَالَ أجزت نِكَاح هَذِه وَهَذِه بَطل نِكَاحهمَا أَيْضا لِأَن فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله فَإِن بآخر الْكَلَام يثبت الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ نِكَاحا وَذَلِكَ مُبْطل لنكاحهما فَيتَوَقَّف أول الْكَلَام على آخِره
وَكَانَ الْفراء يَقُول الْوَاو للْجمع وَالْمَجْمُوع بِحرف الْوَاو كالمجموع بكناية الْجمع وَعِنْدنَا الْوَاو للْعَطْف والاشتراك على أَن يصير كل وَاحِد من الْمَذْكُورين كَأَنَّهُ مَذْكُور وَحده لَا على وَجه الْجمع بَينهمَا ذكرا
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا كَانَ لرجل ثَلَاثَة أعبد فَقَالَ هَذَا حر أَو هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُ يُخَيّر فِي الْأَوَّلين وَيعتق الثَّالِث عينا كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حر أَو هَذَا حر وَعند الْفراء يُخَيّر فَإِن شَاءَ أوقع الْعتْق على (الأول وَإِن شَاءَ على) الثَّانِي وَالثَّالِث لِأَنَّهُ جمع بَينهمَا بِحرف الْوَاو فَكَأَنَّهُ جمع بكناية الْجمع فَقَالَ هَذَا حر وَهَذَانِ
وَاسْتدلَّ بِمَا قَالَ فِي الْجَامِع رجل مَاتَ وَترك ثَلَاثَة أعبد قيمتهم سَوَاء وَترك ابْنا فَقَالَ الابْن أعتق وَالِدي هَذَا فِي مَرضه وَهَذَا وَهَذَا يعْتق من كل وَاحِد مِنْهُم ثلثه بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أعتقهم
وَلَو قَالَ أعتق هَذَا وَسكت ثمَّ قَالَ وَهَذَا(1/204)
ثمَّ سكت ثمَّ قَالَ هَذَا يعْتق الأول كُله وَمن الثَّانِي نصفه وَمن الثَّالِث ثلثه
وَلَكنَّا نقُول لَا وَجه لتصحيح كَلَامه على مَا قَالَه الْفراء لِأَن خبر الْمثنى غير خبر الْوَاحِد يُقَال للْوَاحِد حر وللاثنين حران وَالْمَذْكُور فِي كَلَامه من الْخَبَر قَوْله حر فَإِذا لم يَجْعَل كَانَ كل وَاحِد من الآخرين مُنْفَردا بِالذكر لَا يصلح أَن يكون الْخَبَر الْمَذْكُور خَبرا لَهما والعطف للاشتراك فِي الْخَبَر لَا لإِثْبَات خبر آخر وَإِذا جعلنَا الثَّالِث كالمنفرد بِالذكر صَار كَأَنَّهُ قَالَ أحد هذَيْن حر وَهَذَا فَيكون فِيهِ ضم الثَّالِث إِلَى الْمُعْتق من الْأَوَّلين لَا إِلَى غير الْمُعْتق فَلهَذَا عتق الثَّالِث
وَمَسْأَلَة الْجَامِع إِنَّمَا تخرج على الأَصْل الَّذِي بَينا فَإِن فِي آخر كَلَامه مَا يُغير مُوجب أَوله لِأَن مُوجب أول الْكَلَام عتق الأول مجَّانا بِغَيْر سِعَايَة ويتغير ذَلِك بآخر كَلَامه عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن المستسعي بِمَنْزِلَة الْمكَاتب (عِنْده) فيتغير حكم أصل الْعتْق وَعِنْدَهُمَا يتَغَيَّر حكم الْبَرَاءَة عَن السّعَايَة فَلهَذَا توقف أَوله على آخِره
وَاخْتلفُوا فِي عطف الْجُمْلَة التَّامَّة على الْجُمْلَة التَّامَّة بِحرف الْوَاو نَحْو مَا إِذا قَالَ زَيْنَب طَالِق ثَلَاثًا وَعمرَة طَالِق فَإِنَّمَا تطلق عمْرَة وَاحِدَة وكل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ جملَة تَامَّة لِأَنَّهُ ابْتِدَاء وَخبر فالواو بَينهمَا عِنْد بعض مَشَايِخنَا لِمَعْنى الِابْتِدَاء يحسن نظم الْكَلَام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {والراسخون فِي الْعلم} وَقَوله تَعَالَى {ويمح الله الْبَاطِل} وَقَوله تَعَالَى فِي حكم الْقَذْف {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَإِنَّهُ ابْتِدَاء عندنَا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح أَن هَذَا الْوَاو للْعَطْف أَيْضا عِنْدِي إِلَّا أَن الِاشْتِرَاك فِي الْخَبَر لَيْسَ من حكم بِمُجَرَّد الْعَطف بل بِاعْتِبَار حَاجَة الْمَعْطُوف إِلَيْهِ إِذا لم يذكر خَبرا وَلَا حَاجَة إِذا ذكر لَهُ خَبرا وَلِهَذَا عِنْد الْحَاجة جعلنَا خبر الْمَعْطُوف عين مَا هُوَ خبر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِذا أمكن لَا غَيره لِأَن الْحَاجة ترْتَفع بِعَين ذَلِك حَتَّى إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِن دخلت هَذِه الدَّار وَإِن دخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى فَإِنَّمَا يتَعَلَّق بِدُخُول الدَّار الثَّانِيَة تِلْكَ التطليقة لَا غَيرهَا حَتَّى لَو دخلت الدَّاريْنِ لم تطلق إِلَّا وَاحِدَة فَأَما إِذا تعذر ذَلِك بِأَن يَقُول فُلَانَة طَالِق وفلانة فَإِنَّهُ يَقع على الثَّانِيَة غير مَا وَقع على الأولى لِأَن الِاشْتِرَاك بَينهمَا فِي تَطْلِيقَة وَاحِدَة لَا يتَحَقَّق بِمَنْزِلَة قَوْله جَاءَنِي زيد(1/205)
وَعَمْرو فَإِنَّهُ إِخْبَار عَن مَجِيء كل وَاحِد مِنْهُمَا بِفعل على حِدة لِأَن مجيئهما بِفعل وَاحِد لَا يتَحَقَّق
وعَلى هَذَا الأَصْل الَّذِي بَينا أَن الْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب يخرج مَا قَالَ فِي كتاب الصَّلَاة وَيَنْوِي بالتسليمة الأولى من عَن يَمِينه من الْحفظَة وَالرِّجَال وَالنِّسَاء فَإِن مُرَاده الْعَطف لَا التَّرْتِيب
وَكَذَلِكَ مُرَاده مِمَّا قَالَ فِي الْجَامِع الصَّغِير من الرِّجَال وَالنِّسَاء والحفظة فَإِن التَّرْتِيب (فِي النِّيَّة) لَا يتَحَقَّق فَعرفنَا أَن المُرَاد يجمعهُمْ فِي نِيَّته
وَقد تكون الْوَاو بِمَعْنى الْحَال لِمَعْنى الْجمع أَيْضا فَإِن الْحَال يُجَامع ذَا الْحَال وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} أَي جاؤوها حَال مَا تكون أَبْوَابهَا مَفْتُوحَة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْمَأْذُون إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا وَأَنت حر إِنَّه لَا يعْتق مَا لم يؤد لِأَن الْوَاو بِمَعْنى الْحَال فَإِنَّمَا جعله حرا عِنْد الْأَدَاء وَقَالَ فِي السّير إِذا قَالَ افتحوا الْبَاب وَأَنْتُم آمنون لَا يأمنون مَا لم يفتحوا لِأَنَّهُ آمنهم حَال فتح الْبَاب وَإِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة تطلق فِي الْحَال لِأَن الْوَاو للْعَطْف فِي الأَصْل فَلَا يكون شرطا فَإِن قَالَ عنيت إِذا مَرضت يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى لِأَنَّهُ عني بِالْوَاو الْحَال وَذَلِكَ مُحْتَمل فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي حَال مَرضهَا
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أَنْت طَالِق وَأَنت تصلين أَو وَأَنت مصلية
وَقَالَ فِي الْمُضَاربَة إِذا قَالَ خُذ هَذِه الْألف واعمل بهَا مُضَارَبَة فِي الْبَز فَإِنَّهُ لَا يتَقَيَّد بصرفه فِي الْبَز وَله أَن يتجر فِيهَا مَا بدا لَهُ من وُجُوه التِّجَارَات لِأَن الْوَاو للْعَطْف فالإطلاق الثَّابِت بِأول الْكَلَام لَا يتَغَيَّر بِهَذَا الْعَطف
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا طَلقنِي وَلَك ألف دِرْهَم فَطلقهَا تجب الْألف عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الزَّوْج أَنْت طَالِق وَعَلَيْك ألف دِرْهَم فَقبلت تجب الْألف
وَفِيه طَرِيقَانِ لَهما أَحدهمَا أَنه اسْتعْمل الْوَاو بِمَعْنى الْبَاء مجَازًا فَإِن ذَلِك مَعْرُوف فِي الْقسم إِذْ لَا فرق بَين قَوْله وَالله وَبَين قَوْله بِاللَّه وَإِنَّمَا حملنَا على هَذَا الْمجَاز بِدلَالَة الْمُعَاوضَة فَإِن الْخلْع عقد مُعَاوضَة فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ احْمِلْ هَذَا الْمَتَاع إِلَى منزلي وَلَك دِرْهَم وَالثَّانِي أَن هَذَا الْوَاو للْحَال فَكَأَنَّهَا قَالَت طَلقنِي فِي حَال مَا يكون لَك عَليّ ألف دِرْهَم وَإِنَّمَا حملنَا على هَذَا لدلَالَة الْمُعَاوضَة كَمَا فِي قَوْله أد إِلَيّ ألفا وَأَنت(1/206)
طَالِق بِخِلَاف الْمُضَاربَة فَلَا معنى لحرف الْبَاء هُنَاكَ حَتَّى يَجْعَل الْوَاو عبارَة عَنهُ وَلَا يُمكن حمله على معنى الْحَال لِانْعِدَامِ دلَالَة الْمُعَاوضَة فِيهِ وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول تطلق وَلَا شَيْء عَلَيْهَا لِأَن الْوَاو للْعَطْف حَقِيقَة وَبِاعْتِبَار هَذِه الْحَقِيقَة لَا يُمكن أَن يَجْعَل الْألف بَدَلا عَن الطَّلَاق فَلَو جعل بَدَلا إِنَّمَا يَجْعَل بِدلَالَة الْمُعَاوضَة وَذَلِكَ فِي الطَّلَاق زَائِد فَإِن الطَّلَاق فِي الْغَالِب يكون بِغَيْر عوض أَلا ترى أَن بِذكر الْعِوَض يصير كَلَام الزَّوْج بِمَعْنى الْيَمين حَتَّى لَا يُمكنهُ أَن يرجع عَنهُ قبل قبُولهَا وَلَا يجوز ترك الْحَقِيقَة بِاعْتِبَار دَلِيل زَائِد على مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل بِخِلَاف الْإِجَارَة فَإِنَّهُ عقد مَشْرُوع بِالْبَدَلِ لَا يَصح بِدُونِهِ فَأمكن حمل اللَّفْظ على الْمجَاز بِاعْتِبَار معنى الْمُعَاوضَة فِيهِ لِأَنَّهُ أصل وَإِنَّمَا يَجْعَل الْوَاو للْحَال إِذا كَانَ بِصِيغَة تحْتَمل ذَلِك كَمَا فِي قَوْله أد وَأَنت حر انْزِلْ وَأَنت آمن فَإِن صِيغَة كَلَامه للْحَال لِأَنَّهُ خاطبه بِالْأولِ وَالْآخر بِصِيغَة وَاحِدَة ويتحقق عتقه فِي حَالَة الْأَدَاء ويتحقق أَمَانه فِي حَالَة النُّزُول لِأَن الْمَقْصُود أَن يعلم بمحاسن الشَّرِيعَة فَعَسَى يُؤمن وَذَلِكَ حَالَة النُّزُول
فَأَما قَوْله خُذ هَذِه الْألف واعمل بهَا فِي الْبَز فَلَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال الْحَال لِأَن الْبَز لَا يكون حَالا لعمله وَقَوله أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة للْعَطْف حَقِيقَة وَلَكِن فِيهِ احْتِمَال الْحَال إِذْ الطَّلَاق يتَحَقَّق فِي حَال الْمَرَض فلاعتبار الظَّاهِر لَا يدين فِي الْقَضَاء ولاحتمال كَونه مُحْتملا تعْمل نِيَّته
فصل
وَأما الْفَاء فَهُوَ للْعَطْف وموجبه التعقيب بِصفة الْوَصْل فَيثبت بِهِ تَرْتِيب وَإِن لطف ذَلِك لما بَينا أَن كل حرف يخْتَص بِمَعْنى فِي أصل الْوَضع إِذْ لَو لم يَجْعَل كَذَلِك خرج من أَن يكون مُفِيدا فَالْمَعْنى الَّذِي اخْتصَّ بِهِ الْفَاء مَا بَينا أَلا ترى أَن أهل اللِّسَان وصلوا حرف الْفَاء بالجزاء وسموه حرف الْجَزَاء لِأَن الْجَزَاء يتَّصل بِالشّرطِ على أَن يتعقب نُزُوله وجود الشَّرْط بِلَا فصل وَكَذَلِكَ يسْتَعْمل حرف الْفَاء لعطف الحكم(1/207)
على الْعلَّة يُقَال جَاءَ الشتَاء فتأهب وَيُقَال ضرب فأوجع أَي بذلك الضَّرْب وَأطْعم فأشبع أَي بذلك الطَّعَام وعَلى هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه أَي بذلك الشِّرَاء وَلِهَذَا جعلنَا الشِّرَاء إعتاقا فِي الْقَرِيب بِوَاسِطَة الْملك
وَيَقُول خُذ من مَالِي ألف دِرْهَم فَصَاعِدا أَي فَمَا يزْدَاد عَلَيْهِ فَصَاعِدا وارتفاعا
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن قَالَ لغيره بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم وَقَالَ المُشْتَرِي فَهُوَ حر فَإِنَّهُ يعْتق وَيجْعَل قَابلا ثمَّ معتقا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ هُوَ حر أَو وَهُوَ حر فَإِنَّهُ يكون ردا للْإِيجَاب لَا قبولا فَلَا يعْتق
وَلَو قَالَ لخياط انْظُر إِلَى هَذَا الثَّوْب أيكفيني قَمِيصًا فَقَالَ نعم قَالَ فاقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا يَكْفِيهِ قَمِيصًا كَانَ الْخياط ضَامِنا لِأَن الْفَاء للوصل والتعقيب فَكَأَنَّهُ قَالَ فَإِن كفاني قَمِيصًا فاقطعه بِخِلَاف مَا لَو قَالَ اقطعه فَقَطعه فَإِذا هُوَ لَا يَكْفِيهِ قَمِيصًا فَإِنَّهُ لَا يكون ضَامِنا لوُجُود الْإِذْن مُطلقًا
وَقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق فطالق فطالق فَدخلت إِنَّهَا تطلق وَاحِدَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله بِاعْتِبَار أَن الْفَاء يَجْعَل مستعارا عَن الْوَاو مجَازًا لقرب أَحدهمَا من الآخر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن هَاهُنَا تطلق وَاحِدَة عِنْدهم جَمِيعًا
لِأَن الْفَاء للتعقيب فَيثبت بِهِ تَرْتِيب بَين الثَّانِيَة وَالْأولَى فِي الْوُقُوع وَمَعَ التَّرْتِيب لَا يُمكن إِيقَاع الثَّانِيَة لِأَنَّهَا تبين بِالْأولَى وَمَعَ إِمْكَان اعْتِبَار الْحَقِيقَة لَا معنى للمصير إِلَى الْمجَاز
وَالدَّلِيل على أَن الصَّحِيح هَذَا مَا قَالَ فِي الْجَامِع إِن دخلت هَذِه الدَّار فَدخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى فَأَنت طَالِق فَإِن الشَّرْط أَن تدخل الثَّانِيَة بعد دُخُول الدَّار الأولى حَتَّى لَو دخلت فِي الثَّانِيَة قبل الأولى ثمَّ دخلت فِي الأولى لم تطلق بِخِلَاف مَا لَو قَالَ وَدخلت هَذِه الدَّار
وَقد توصل الْفَاء بِمَا هُوَ عِلّة إِذا كَانَ مُحْتَمل الامتداد يَقُول الرجل لغيره أبشر فقد أَتَاك الْغَوْث وَهَذَا على سَبِيل بَيَان الْعلَّة للخطاب بالبشارة وَلَكِن لما كَانَ ذَلِك ممتدا صَحَّ ذكر حرف الْفَاء مَقْرُونا بِهِ وعَلى هَذَا الأَصْل لَو قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا فَأَنت حر فَإِنَّهُ يعْتق وَإِن لم يؤد لِأَنَّهُ لبَيَان الْعلَّة أَي لِأَنَّك قد صرت حرا وَصفَة الْحُرِّيَّة تمتد
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لحربي انْزِلْ فَأَنت آمن كَانَ آمنا(1/208)
نزل أَو لم ينزل لِأَن معنى كَلَامه انْزِلْ لِأَنَّك آمن والأمان ممتد فَأَما مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله فِيمَن يَقُول لفُلَان عَليّ دِرْهَم فدرهم إِنَّه يلْزمه دِرْهَمَانِ فَذَلِك لتحقيق معنى الْعَطف إِذْ الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَاعْتِبَار معنى الْوَصْل وَالتَّرْتِيب فِي الْوُجُوب لَا فِي الْوَاجِب أَو لما تعذر اعْتِبَار حَقِيقَة معنى حرف الْفَاء جعل عبارَة عَن الْوَاو مجَازًا فَكَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَم وَدِرْهَم
وَالشَّافِعِيّ يَقُول يلْزمه دِرْهَم وَاحِد لِأَن مَا هُوَ مُوجب حرف الْفَاء لَا يتَحَقَّق هَاهُنَا فَيكون صلَة للتَّأْكِيد كَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَم فَهُوَ دِرْهَم
وَلَكِن مَا قُلْنَاهُ أَحَق لِأَنَّهُ يضمر ليسقط بِهِ اعْتِبَار حرف الْفَاء والإضمار لتصحيح مَا وَقع التَّنْصِيص عَلَيْهِ لَا لإلغائه ثمَّ معنى الْعَطف مُحكم فِي هَذَا الْحَرْف فَلَا بُد من اعْتِبَاره بِحَسب الْإِمْكَان والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَيلْزمهُ دِرْهَمَانِ لهَذَا
فصل
وَأما حرف ثمَّ فَهُوَ للْعَطْف على وَجه التعقيب مَعَ التَّرَاخِي هُوَ الْمَعْنى الَّذِي اخْتصَّ بِهِ هَذَا الْحَرْف بِأَصْل الْوَضع
يَقُول الرجل (جَاءَنِي زيد ثمَّ عَمْرو فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ مَا يفهم من قَوْله) جَاءَنِي زيد وَبعده عَمْرو إِلَّا أَن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله صفة هَذَا التَّرَاخِي أَن يكون بِمَنْزِلَة مَا لَو سكت ثمَّ اسْتَأْنف قولا بعد الأول لإتمام القَوْل بالتراخي وَعِنْدَهُمَا التَّرَاخِي بِهَذَا الْحَرْف فِي الحكم مَعَ الْوَصْل فِي التَّكَلُّم لمراعاة معنى الْعَطف فِيهِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثمَّ طَالِق ثمَّ طَالِق عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله تتَعَلَّق الأولى بِالدُّخُولِ وَتَقَع الثَّانِيَة فِي الْحَال وتلغو الثَّالِثَة بِمَنْزِلَة قَوْله أَنْت طَالِق طَالِق طَالِق من غير حرف الْعَطف حَتَّى يَنْقَطِع بعض الْكَلَام عَن الْبَعْض وَعِنْدَهُمَا يتَعَلَّق الْكل بِالدُّخُولِ ثمَّ عِنْد الدُّخُول يظْهر التَّرْتِيب فِي الْوُقُوع فَلَا تقع إِلَّا وَاحِدَة لاعْتِبَار التَّرَاخِي بِحرف ثمَّ
وَلَو أخر الشَّرْط ذكرا فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تطلق وَاحِدَة فِي الْحَال وَيَلْغُو مَا سواهَا وَعِنْدَهُمَا لَا تطلق مَا لم تدخل الدَّار فَإِذا دخلت طلقت وَاحِدَة وَلَو كَانَت مَدْخُولا بهَا فَإِن أخر الشَّرْط فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تطلق اثْنَتَيْنِ فِي الْحَال وتتعلق(1/209)
الثَّالِثَة بِالدُّخُولِ وَعِنْدَهُمَا مَا لم تدخل لَا يَقع شَيْء فَإِذا دخلت طلقت ثَلَاثًا
وَلَو قدم الشَّرْط فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحمَه الله تقع الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فِي الْحَال وتتعلق الأولى بِالدُّخُولِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَقع شَيْء مَا لم تدخل فَإِذا دخلت طلقت ثَلَاثًا هَكَذَا ذكر مُفَسرًا فِي النَّوَادِر
وَقد يسْتَعْمل حرف ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو مجَازًا قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} وَقَالَ تَعَالَى {ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من حلف على يَمِين وَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير ثمَّ ليكفر يَمِينه إِن حرف ثمَّ فِي هَذِه الرِّوَايَة مَحْمُول على الْحَقِيقَة وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي قَالَ فليكفر يَمِينه ثمَّ ليأت بِالَّذِي هُوَ خير حرف ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو مجَازًا لِأَن صِيغَة الْأَمر للْإِيجَاب وَإِنَّمَا التَّكْفِير بعد الْحِنْث لَا قبله فحملنا هَذَا الْحَرْف على الْمجَاز لمراعاة حَقِيقَة الصِّيغَة فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود إِذْ لَو حملنَا حرف ثمَّ على الْحَقِيقَة كَانَ الْأَمر بالتكفير مَحْمُولا على الْمجَاز فَإِنَّهُ لَا يجب تَقْدِيم التَّكْفِير على الْحِنْث بالِاتِّفَاقِ فَكَانَ الأولى على هَذَا أَن يَجْعَل حرف ثمَّ بِمَعْنى حرف الْفَاء فَإِنَّهُ أقرب إِلَيْهِ من حرف الْوَاو وَإِنَّمَا لم نَفْعل ذَلِك لِأَن حرف الْفَاء يُوجب ترتيبا أَيْضا والحنث غير مُرَتّب على التَّكْفِير بِوَجْه فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ بِمَعْنى الْوَاو
فصل
وَأما حرف بل هُوَ لتدارك الْغَلَط بِإِقَامَة الثَّانِي مقَام الأول وَإِظْهَار أَن الأول كَانَ غَلطا فَإِن الرجل يَقُول جَاءَنِي زيد بل عَمْرو أَو لَا بل عَمْرو فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ الْإِخْبَار بمجيء عَمْرو خَاصَّة وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {بل كُنْتُم مجرمين}
{بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه} وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله إِن من قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم بل أَلفَانِ يلْزمه ثَلَاثَة آلَاف لِأَن بل لتدارك الْغَلَط فَيكون إِقْرَارا بِأَلفَيْنِ ورجوعا عَن الْألف وَبَيَان أَنه كَانَ غَلطا وَلَكِن الْإِقْرَار صَحِيح وَالرُّجُوع(1/210)
بَاطِل كَمَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة بل اثْنَتَيْنِ تطلق ثَلَاثًا وَلَكنَّا نقُول يلْزمه أَلفَانِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُوده تدارك الْغَلَط بِنَفْي مَا أقرّ بِهِ أَولا بل تدارك الْغَلَط بِإِثْبَات الزِّيَادَة الَّتِي نفاها فِي الْكَلَام الأول بطرِيق الِاقْتِضَاء فَكَأَنَّهُ قَالَ بل مَعَ تِلْكَ الْألف ألف أُخْرَى فهما أَلفَانِ عَليّ أَلا ترى أَن الرجل يَقُول أَتَى عَليّ خَمْسُونَ سنة بل سِتُّونَ فَإِنَّهُ يفهم هَذَا من كَلَامه بل سِتُّونَ لعشرة زَائِدَة على الْخمسين الَّتِي أخْبرت بهَا أَولا وَلَكِن هَذَا يتَحَقَّق فِي الإخبارات لِأَنَّهَا تحْتَمل الْغَلَط وَلَا يتَحَقَّق فِي الإنشاءات فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ موقعا اثْنَتَيْنِ رَاجعا عَن الأولى ورجوعه لَا يَصح فَتطلق ثَلَاثًا حَتَّى لَو قَالَ كنت طَلقتك أمس وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ تطلق اثْنَتَيْنِ لِأَن الْغَلَط فِي الْإِخْبَار يتَمَكَّن وَلَو قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ تطلق وَاحِدَة لِأَنَّهُ بقوله بل اثْنَتَيْنِ أَولا بل اثْنَتَيْنِ يروم الرُّجُوع عَن الأولى وَذَلِكَ بَاطِل وَبَعْدَمَا بَانَتْ بِالْأولَى لم يبْق الْمحل ليَصِح إِيقَاع الثِّنْتَيْنِ عَلَيْهَا وَلَو قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَاحِدَة لَا بل اثْنَتَيْنِ فَدخلت تطلق ثَلَاثًا بالِاتِّفَاقِ لِأَن مَعَ تعلق الأولى بِالشّرطِ بَقِي الْمحل على حَاله وَهُوَ بِهَذَا الْحَرْف تبين أَنه تعلق الثِّنْتَيْنِ بِالشّرطِ ابْتِدَاء لَا بِوَاسِطَة الأولى لِأَنَّهُ رَاجع عَن الأولى فَكَأَنَّهُ أعَاد ذكر الشَّرْط وَصَارَ كَلَامه فِي حكم يمينين فَعِنْدَ وجود الشَّرْط تقع الثَّلَاث جملَة لتَعلق الْكل بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة بِخِلَاف مَا قَالَه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فِي حرف الْوَاو فَإِنَّهُ للْعَطْف فَيكون هُوَ مقررا للأولى ومعلقا الثَّانِيَة بِالشّرطِ بِوَاسِطَة الأولى فَعِنْدَ وجود الشَّرْط يقعن مُتَفَرقًا أَيْضا فَتبين بِالْأولَى قبل وُقُوع الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالله أعلم
فصل
وَأما لَكِن فَهُوَ كلمة مَوْضُوعَة للاستدراك بعد النَّفْي تَقول مَا رَأَيْت زيدا لَكِن عمرا فَالْمَعْنى الَّذِي تخْتَص بِهِ هَذِه الْكَلِمَة بِاعْتِبَار أصل الْوَضع إِثْبَات مَا بعْدهَا فَأَما نفي مَا قبلهَا فثابت بدليله بِخِلَاف بل قَالَ تَعَالَى {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} ثمَّ الْعَطف بهَا إِنَّمَا يكون عِنْد اتساق الْكَلَام فَإِن وجد ذَلِك كَانَ لتعليق النَّفْي بالإثبات الَّذِي بعْدهَا وَإِلَّا كَانَت للاستئناف
وَبَيَان هَذَا فِي مسَائِل مَذْكُورَة فِي الْجَامِع مِنْهَا إِذا قَالَ رجل هَذَا العَبْد فِي يَدي لفُلَان(1/211)
فَقَالَ الْمقر لَهُ مَا كَانَ لي قطّ وَلكنه لفُلَان فَإِن وصل كَلَامه فَهُوَ للْمقر لَهُ الثَّانِي وَإِن فصل فَهُوَ للْمقر لِأَن قَوْله مَا كَانَ لي قطّ تَصْرِيح بِنَفْي ملكه فِيهِ فَإِذا وصل بِهِ قَوْله لَكِن لفُلَان كَانَ بَيَانا أَنه نفي ملكه إِلَى الثَّانِي بِإِثْبَات الْملك لَهُ بقوله لَكِن فَإِن قطع كَلَامه كَانَ مَحْمُولا على نفي ملكه أصلا كَمَا هُوَ الظَّاهِر وَهُوَ رد للإقرار ثمَّ قَوْله وَلكنه لفُلَان شَهَادَة بِالْملكِ للثَّانِي على الْمقر وبشهادة الْفَرد لَا يثبت الْملك
وَلَو أَن الْمقْضِي لَهُ بِالْعَبدِ بِالْبَيِّنَةِ قَالَ مَا كَانَ لي قطّ وَلكنه لفُلَان فَقَالَ الْمقر لَهُ قد كَانَ لَهُ فَبَاعَهُ أَو وهبه مني بعد الْقَضَاء لَهُ فَإِنَّهُ يكون للثَّانِي لِأَنَّهُ حِين وصل الْكَلَام فقد تبين أَنه نفي ملكه بإثباته للثَّانِي وَذَلِكَ يحْتَمل الْإِنْشَاء بِسَبَب كَانَ بعد الْقَضَاء فَيحمل على ذَلِك فِي حق الْمقر لَهُ إِلَّا أَن الْمقر يصير ضَامِنا قِيمَته للمقضي عَلَيْهِ لِأَن ظَاهر كَلَامه تَكْذِيب لشهوده وَإِقْرَار بِأَن الْقَضَاء بَاطِل وَهَذَا حجَّة عَلَيْهِ وَلَكِن إِنَّمَا يُقرر هَذَا الحكم بعد مَا تحول الْملك إِلَى الْمقر لَهُ فَيضمن قِيمَته للمقضي عَلَيْهِ
وَلَو أَن أمة زوجت نَفسهَا من رجل بِمِائَة دِرْهَم بِغَيْر إِذن مَوْلَاهَا فَقَالَ الْمولى لَا أجيزه لَكِن أجيزه بِمِائَة وَخمسين أَو قَالَ لَكِن أجيزه إِن زدتني خمسين فَالْعقد بَاطِل لِأَن الْكَلَام غير متسق فَإِن نفي الْإِجَازَة وإثباتها بِعَينهَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْعَطف فيرتد العقد بقوله لَا أجيزه وَيكون قَوْله لَكِن أجيزه ابْتِدَاء بعد الِانْفِسَاخ
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم قرض فَقَالَ فلَان لَا وَلكنه غصب فَإِنَّهُ يلْزمه المَال لِأَن الْكَلَام متسق فيتبين بِآخِرهِ أَنه نفي السَّبَب لَا أصل المَال وَأَنه قد صدقه فِي الْإِقْرَار بِأَصْل المَال وَلَا تفَاوت فِي الحكم بَين السببين والأسباب مَطْلُوبَة للْأَحْكَام فَعِنْدَ انعدام التَّفَاوُت يتم تَصْدِيقه لَهُ فِيمَا أقرّ بِهِ فَيلْزمهُ المَال وعَلى هَذَا لَو قَالَ لَك عَليّ ألف دِرْهَم ثمن هَذِه الْجَارِيَة الَّتِي اشْتَرَيْتهَا مِنْك فَقَالَ الْجَارِيَة جاريتك مَا بعتها مِنْك وَلَكِن لي عَلَيْك ألف دِرْهَم يلْزمه المَال لِأَن الْكَلَام متسق وَفِي آخِره بَيَان أَنه مُصدق لَهُ فِي أصل المَال مكذب فِي السَّبَب وَلَا تفَاوت عِنْد سَلامَة الْجَارِيَة للْمقر فَيلْزمهُ المَال(1/212)
فصل
وَأما أَو فَهِيَ كلمة تدخل بَين اسْمَيْنِ أَو فعلين وموجبها بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يتَنَاوَل أحد الْمَذْكُورين
بَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} فَإِن الْوَاجِب فِي الْكَفَّارَة أحد الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة مَعَ إِبَاحَة التَّكْفِير بِكُل نوع مِنْهَا على الِانْفِرَاد وَلِهَذَا لَو كفر بالأنواع كلهَا كَانَ مُؤديا للْوَاجِب بِأحد الْأَنْوَاع فِي الصَّحِيح من الْمَذْهَب بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض النَّاس وَقد بَينا هَذِه
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْحلق {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} وَفِي جَزَاء الصَّيْد {هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} وَقد ظن بعض مَشَايِخنَا أَنَّهَا فِي أصل الْوَضع للتشكيك فَإِن الرجل إِذا قَالَ رَأَيْت زيدا وعمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة كل وَاحِد مِنْهُمَا عينا وَلَو قَالَ بل عمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة عَمْرو عينا
وَلَو قَالَ أَو عمرا يكون مخبرا بِرُؤْيَة أَحدهمَا غير عين على أَنه شَاك فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز أَن يكون قد رَآهُ وَيجوز أَن يكون لم يره إِلَّا أَن فِي الابتداءات وَالْأَمر وَالنَّهْي يتَعَذَّر حمله على التشكيك فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا عِنْد التباس الْعلم بالشَّيْء فَيحمل على التَّخْيِير وَقرر هَذَا الْكَلَام فِي تصنيفه
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا غير صَحِيح لِأَن الشَّك لَيْسَ بِأَمْر مَقْصُود حَتَّى يوضع لَهُ كلمة فِي أصل الْوَضع وَلَكِن هَذِه الْكَلِمَة لبَيَان أَن المتناول أحد الْمَذْكُورين كَمَا ذكرنَا إِلَّا أَن فِي الْإِخْبَار يُفْضِي إِلَى الشَّك بِاعْتِبَار مَحل الْكَلَام لَا بِاعْتِبَار هَذِه الْكَلِمَة كَمَا فِي قَوْله رَأَيْت زيدا أَو عمرا فَأَما فِي الإنشاءات لما تبدل الْمحل وانعدم الْمَعْنى الَّذِي لأَجله كَانَ معنى الشَّك فالثابت بِهَذِهِ الْكَلِمَة التَّخْيِير بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَهُوَ أَنَّهَا تتَنَاوَل أحد الْمَذْكُورين على إِثْبَات صفة الْإِبَاحَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ هَذَا العَبْد حر أَو هَذَا فَهُوَ وَقَوله أَحدهمَا حر سَوَاء يتَنَاوَل الْإِيجَاب أَحدهمَا وَيتَخَيَّر الْمولى فِي الْبَيَان على أَن يكون بَيَانه من وَجه كابتداء الْإِيقَاع حَتَّى يشْتَرط لصِحَّة الْبَيَان صَلَاحِية الْمحل للإيقاع وَمن وَجه هُوَ تعْيين للْوَاقِع وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَو جمع بَين عَبده ودابته وَقَالَ هَذَا حر أَو هَذَا لَغَا كَلَامه(1/213)
بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَحدهمَا حر لِأَن مَحل الْإِيجَاب أَحدهمَا بِغَيْر عينه وَإِذا لم يكن أحد الْعَبْدَيْنِ محلا صَالحا للْإِيجَاب فَغير الْمعِين مِنْهُمَا لَا يكون صَالحا وَبِدُون صَلَاحِية الْمحل لَا يَصح الْإِيجَاب أصلا
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول هَذَا الْإِيجَاب يتَنَاوَل أَحدهمَا بِغَيْر عينه على احْتِمَال التَّعْيِين أَلا ترى أَنَّهُمَا لَو كَانَا عَبْدَيْنِ تنَاول أَحدهمَا على احْتِمَال التَّعْيِين إِمَّا ببيانه أَو بانعدام الْمُزَاحمَة بِمَوْت أَحدهمَا فَيصح الْإِيجَاب هُنَا بِاعْتِبَار هَذَا الْمجَاز كَمَا هُوَ أصل أبي حنيفَة رَحمَه الله فِي الْعَمَل بالمجاز وَإِن تعذر الْعَمَل بِالْحَقِيقَةِ لعدم صَلَاحِية الْمحل لَهُ وَعِنْدَهُمَا الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي الحكم فَإِذا لم يكن الْمحل صَالحا للْحكم حَقِيقَة يسْقط اعْتِبَار الْعَمَل بالمجاز وَقد بَينا هَذَا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لثلاث نسْوَة لَهُ هَذِه طَالِق أَو هَذِه وَهَذِه تطلق الثَّالِثَة وَيتَخَيَّر فِي الْأَوليين بِمَنْزِلَة مَا لَو جمع بَين الْأَوليين فَقَالَ إِحْدَاكُمَا طَالِق وَهَذِه وَلِهَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله فِي قَوْله وَالله لَا أكلم فلَانا أَو فلَانا وَفُلَانًا إِنَّه لَا يَحْنَث إِن كلم الأول وَحده مَا لم يكلم الثَّالِث مَعَه بِمَنْزِلَة قَوْله لَا أكلم أحد هذَيْن وَهَذَا
وَلَكنَّا نقُول هُنَاكَ إِن كلم الأول وَحده يَحْنَث وَإِن كلم أحد الآخرين لَا يَحْنَث مَا لم يكلمهما لِأَنَّهُ أشرك بَينهمَا بِحرف الْوَاو وَالْخَبَر الْمَذْكُور يصلح للمثنى كَمَا يصلح للْوَاحِد فَإِنَّهُ يَقُول لَا أكلم هَذَا لَا أكلم هذَيْن فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ لَا أكلم هَذَا أَو هذَيْن بِخِلَاف الطَّلَاق فهناك الْخَبَر الْمَذْكُور غير صَالح للمثنى إِذا جمعت بَينهمَا لِأَنَّهُ يُقَال للمثنى طالقان مَعَ أَن هُنَاكَ يُمكن أَن تجْعَل الثَّالِثَة كالمذكورة وَحدهَا فَإِن الحكم فِيهَا لَا يخْتَلف سَوَاء ضمت إِلَى الأولى أَو إِلَى الثَّانِيَة وَهنا الحكم فِي الثَّالِث يخْتَلف بالانضمام إِلَى الأول أَو الثَّانِي فَكَانَ ضمه إِلَى مَا يَلِيهِ أولى
وعَلى هَذَا لَو قَالَ وكلت بِبيع هَذَا العَبْد هَذَا الرجل أَو هَذَا فَإِنَّهُ يَصح التَّوْكِيل اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ وكلت أَحدهمَا بِبيعِهِ حَتَّى لَا يشْتَرط اجْتِمَاعهمَا على البيع بِخِلَاف مَا لَو قَالَ وَهَذَا وَإِذا بَاعَ أَحدهمَا نفذ البيع وَلم يكن للْآخر بعد ذَلِك أَن يَبِيعهُ وَإِن عَاد إِلَى ملكه وَقبل البيع يُبَاح لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يَبِيعهُ
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لوَاحِد بِعْ هَذَا العَبْد أَو هَذَا يثبت لَهُ الْخِيَار على أَن يَبِيع أَحدهمَا أَيهمَا شَاءَ بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ بِعْ أَحدهمَا فَأَما فِي البيع إِذا أَدخل كلمة(1/214)
أَو فِي الْمَبِيع أَو الثّمن فَالْبيع فَاسد للْجَهَالَة لِأَن مُوجب الْكَلِمَة التَّخْيِير وَمن لَهُ الْخِيَار مِنْهُمَا غير مَعْلُوم فَإِن كَانَ مَعْلُوما جَازَ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة اسْتِحْسَانًا وَلم يجز فِي الزِّيَادَة على ذَلِك لبَقَاء الْحَظْر بعد تعين من لَهُ الْخِيَار وَلَكِن الْيَسِير من الْحَظْر لَا يمْنَع جَوَاز العقد والفاحش مِنْهُ يمْنَع جَوَاز العقد
فَأَما فِي النِّكَاح ف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى يَقُولَانِ يثبت التَّخْيِير بِهَذِهِ الْكَلِمَة إِذا كَانَ مُفِيدا بِأَن يَقُول لامْرَأَة تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم حَالا أَو على أَلفَيْنِ إِلَى سنة أَو تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم أَو مائَة دِينَار وَلَا يثبت الْخِيَار إِذا لم يكن مُفِيدا بِأَن يَقُول تَزَوَّجتك على ألف دِرْهَم أَو أَلفَيْنِ بل يجب الْأَقَل عينا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي التَّخْيِير بَين الْقَلِيل وَالْكثير فِي جنس وَاحِد وَصِحَّة النِّكَاح لَا تتَوَقَّف على تَسْمِيَة الْبَدَل فوجوب المَال عِنْد التَّسْمِيَة فِي معنى الِابْتِدَاء بِمَنْزِلَة الْإِقْرَار بِالْمَالِ أَو الْوَصِيَّة أَو الْخلْع أَو الصُّلْح عَن دم الْعمد على مَال فَإِنَّمَا يثبت الْأَقَل لكَونه متيقنا بِهِ وَلِهَذَا كل مَا يصلح أَن يكون مُسَمّى فِي الصُّلْح عَن دم الْعمد يصلح أَن يكون مُسَمّى فِي النِّكَاح
وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول يُصَار إِلَى تحكيم مهر الْمثل لِأَن التَّخْيِير الَّذِي هُوَ حكم هَذِه الْكَلِمَة يمْنَع كَون الْمُسَمّى مَعْلُوما قطعا والموجب الْأَصْلِيّ فِي النِّكَاح مهر الْمثل وَإِنَّمَا يَنْتَفِي ذَلِك الْمُوجب عِنْد تَسْمِيَة مَعْلُومَة قطعا فَإِذا انْعَدم ذَلِك بِحرف أَو وَجب الْمصير إِلَى الْمُوجب الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْخلْع وَالصُّلْح فَلَيْسَ فِي ذَلِك العقد مُوجب أُصَلِّي فِي الْبَدَل بل هُوَ صَحِيح من غير بدل يجب بِهِ فَلهَذَا أَوجَبْنَا الْقدر الميتقن بِهِ وَمَا زَاد على ذَلِك لكَونه مشكوكا فِيهِ يبطل
وعَلى هَذَا قَالَ مَالك رَحمَه الله فِي حد قطاع الطَّرِيق إِن الإِمَام يتَخَيَّر فِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى {أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف} فَإِن مُوجب الْكَلِمَة التَّخْيِير وَالْكَلَام مَحْمُول على حَقِيقَته حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز
وَلَكنَّا نقُول فِي أول الْآيَة تنصيص على أَن الْمَذْكُور جَزَاء على الْمُحَاربَة والمحاربة أَنْوَاع كل نوع مِنْهَا مَعْلُوم من تخويف أَو أَخذ مَال أَو قتل نفس أَو جمع بَين الْقَتْل وَأخذ المَال وَهَذِه الْأَنْوَاع تَتَفَاوَت فِي صفة الْجِنَايَة وَالْمَذْكُور أجزية مُتَفَاوِتَة فِي معنى التَّشْدِيد فَوَقع(1/215)
الِاسْتِغْنَاء بِتِلْكَ الْمُقدمَة عَن بَيَان تَقْسِيم الأجزية على أَنْوَاع الْجِنَايَة نصا وَلَكِن هَذَا التَّقْسِيم ثَابت بِأَصْل مَعْلُوم وَهُوَ أَن الْجُمْلَة إِذا قوبلت بِالْجُمْلَةِ يَنْقَسِم الْبَعْض على الْبَعْض فَلهَذَا كَانَ الْجَزَاء على كل نوع عينا كَيفَ وَقد نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا التَّقْسِيم فِي أَصْحَاب أبي بردة وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا جمع بَين الْقَتْل وَأخذ المَال فللإمام الْخِيَار إِن شَاءَ قطع يَده ثمَّ قَتله وصلبه وَإِن شَاءَ قَتله وصلبه وَلم يقطعهُ لِأَن نوع الْمُحَاربَة مُتَعَدد صُورَة مُتحد معنى فَيتَخَيَّر لهَذَا
وَقيل أَو هُنَا بِمَعْنى بل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} أَي بل أَشد قسوة فَيكون المُرَاد بل يصلبوا إِذا اتّفقت الْمُحَاربَة بقتل النَّفس وَأخذ المَال بل تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف إِذا أخذُوا المَال فَقَط بل ينفوا من الأَرْض إِذا خوفوا الطَّرِيق
وَقد تستعار كلمة أَو للْعَطْف فَتكون بِمَعْنى الْوَاو قَالَ تَعَالَى {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} أَي وَيزِيدُونَ
قَالَ الْقَائِل فَلَو كَانَ الْبكاء يرد شَيْئا بَكَيْت على زِيَاد أَو عنَاق على المرأين إِذْ مضيا جَمِيعًا لشأنهما بحزن واحتراق (أَي وعناق) بِدَلِيل قَوْله على المرأين إِذْ مضيا جَمِيعًا
إِذا عرفنَا هَذَا فَنَقُول إِنَّمَا يحمل على هَذِه الِاسْتِعَارَة عِنْد اقتران الدَّلِيل بالْكلَام وَمن الدَّلِيل (على ذَلِك) أَن تكون مَذْكُورَة فِي مَوضِع النَّفْي قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} مَعْنَاهُ وَلَا كفورا وَالدَّلِيل فِيهِ مَا قدمنَا أَن النكرَة فِي (مَوضِع) النَّفْي تعم وَلَا يُمكن إِثْبَات التَّعْمِيم إِلَّا أَن يَجْعَل بِمَعْنى وَاو الْعَطف وَلَكِن على أَن يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد لَا على الِاجْتِمَاع كَمَا هُوَ مُوجب حرف الْوَاو وَلِهَذَا قُلْنَا لَو قَالَ وَالله أكلم فلَانا أَو فلَانا فَإِنَّهُ يَحْنَث إِذا كلم أَحدهمَا بِخِلَاف قَوْله فلَانا وَفُلَانًا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث مَا لم يكلمهما وَلَكِن يتَنَاوَل كل وَاحِد (مِنْهُمَا) على الِانْفِرَاد حَتَّى لَا يثبت لَهُ الْخِيَار وَلَو كَانَ فِي الْإِيلَاء بِأَن قَالَ لَا أقرب(1/216)
هَذِه أَو هَذِه فمضت الْمدَّة بانتا جَمِيعًا
وَمن ذَلِك أَن يسْتَعْمل الْكَلِمَة فِي مَوضِع الْإِبَاحَة فَتكون بِمَعْنى الْوَاو حَتَّى يتَنَاوَل معنى الْإِبَاحَة كل وَاحِد من الْمَذْكُورين فَإِن الرجل يَقُول جَالس الْفُقَهَاء أَو الْمُتَكَلِّمين فيفهم (مِنْهُ) الْإِذْن بالمجالسة مَعَ كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ والطبيب يَقُول للْمَرِيض كل هَذَا أَو هَذَا فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالح لَك
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا حملت ظهورهما أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} فالاستثناء من التَّحْرِيم إِبَاحَة ثمَّ تثبت الْإِبَاحَة فِي جَمِيع هَذِه الْأَشْيَاء فَعرفنَا أَن مُوجب هَذِه الْكَلِمَة فِي الْإِبَاحَة الْعُمُوم وَأَنه بِمَعْنى وَاو الْعَطف
وَبَيَان الْفرق بَين الْإِبَاحَة والإيجاب أَن فِي الْإِيجَاب الِامْتِثَال بالإقدام على أَحدهمَا وَفِي الْإِبَاحَة تتَحَقَّق الْمُوَافقَة فِي الْإِقْدَام على كل وَاحِد مِنْهُمَا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لَا أكلم أحدا إِلَّا فلَانا أَو فلَانا فَإِن لَهُ أَن يكلمهما من غير حنث
وَلَو قَالَ لأَرْبَع نسْوَة لَهُ وَالله لَا أقربكن إِلَّا فُلَانَة أَو فُلَانَة فَإِنَّهُ لَا يكون موليا مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى لَا يَحْنَث إِن قربهما وَلَا تقع الْفرْقَة بَينه وَبَينهمَا بِمُضِيِّ الْمدَّة قبل القربان
وَقد تستعار أَو بِمَعْنى حَتَّى قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} أَي حَتَّى يَتُوب عَلَيْهِم
وَفِي هَذِه الِاسْتِعَارَة معنى الْعَطف فَإِن غَايَة الشَّيْء تتصل بِهِ كَمَا يتَّصل الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْجَامِع لَو قَالَ وَالله لأدخلن هَذِه الدَّار الْيَوْم أَو لأدخلن هَذِه الدَّار فَأَي الدَّاريْنِ دخل بر فِي يَمِينه لِأَنَّهُ ذكر الْكَلِمَة فِي مَوضِع الْإِثْبَات فَيَقْتَضِي التَّخْيِير فِي شَرط الْبر
وَلَو قَالَ لَا أَدخل هَذِه الدَّار أَو لَا أَدخل هَذِه الدَّار (فَأَي الدَّاريْنِ دخل حنث فِي يَمِينه لِأَنَّهُ ذكرهَا فِي مَوضِع النَّفْي فَكَانَت بِمَعْنى وَلَا
وَلَو قَالَ وَالله لَا أَدخل هَذِه الدَّار أَو أَدخل هَذِه الدَّار) الْأُخْرَى فَإِن دخل الأولى حنث فِي يَمِينه وَإِن دخل الثَّانِيَة أَولا بر فِي يَمِينه حَتَّى إِذا دخل الأولى بعد ذَلِك لَا يَحْنَث بِمَنْزِلَة قَوْله لَا أَدخل هَذِه الدَّار حَتَّى أَدخل هَذِه الدَّار فَكَأَن الدُّخُول فِي الْأُخْرَى غَايَة ليمينه فَإِذا دَخلهَا انْتَهَت الْيَمين وَإِن لم يدخلهَا حَتَّى دخل الأولى حنث لوُجُود الشَّرْط فِي فِيهِ للنَّفْي فِي أحد الْجَانِبَيْنِ ويتعذر إِثْبَات معنى الْعَطف لعدم المجانسة بَين الْمَذْكُورين فَيجْعَل بِمَعْنى الْغَايَة لِأَن حُرْمَة الدُّخُول الثَّابِت بِالْيَمِينِ يحْتَمل الامتداد فيليق بِهِ ذكر الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى لَيْسَ لَك حَال بَقَاء الْيَمين وَإِنَّمَا(1/217)
جَعَلْنَاهُ هَكَذَا لِأَنَّهُ يتَعَذَّر اعْتِبَار معنى التَّخْيِير {من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ لَا يُمكن حمل الْكَلِمَة على الْعَطف إِذْ الْفِعْل لَا يعْطف على الِاسْم والمستقبل لَا يعْطف على الْمَاضِي وَنفي الْأَمر يحْتَمل الامتداد فَيجْعَل قَوْله {أَو يَتُوب} بِمَعْنى الْغَايَة وَلِأَنَّهُ نفي الدُّخُول فِي الدَّار الأولى فَإِذا دخل فِيهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْمَذْكُور آخرا من جنسه نفي فَيحنث بِالدُّخُولِ فِيهَا لهَذَا وَأثبت الدُّخُول فِي الدَّار الثَّانِيَة فَإِذا دَخلهَا أَولا يَجْعَل كَأَن الْأَخير من جنسه إِثْبَات كَمَا فِي قَوْله لأدخلن هَذِه الدَّار أَو لأدخلن هَذِه الدَّار
فصل
وَأما حَتَّى فَهِيَ للغاية بِاعْتِبَار أصل الْوَضع بِمَنْزِلَة إِلَى هُوَ الْمَعْنى الْخَاص الَّذِي لأَجله وضعت الْكَلِمَة قَالَ تَعَالَى {هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} وَقَالَ تَعَالَى {حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} فَمَتَى كَانَ مَا قبلهَا بِحَيْثُ يحْتَمل الامتداد وَمَا بعْدهَا يصلح للانتهاء بِهِ كَانَت عاملة فِي حَقِيقَة الْغَايَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا حلف أَن يلازم غَرِيمه حَتَّى يَقْضِيه ثمَّ فَارقه قبل أَن يَقْضِيه دينه حنث لِأَن الْمُلَازمَة تحْتَمل الامتداد وَقَضَاء الدّين يصلح مَنْهِيّا للملازمة
وَقَالَ فِي الزِّيَادَات لَو قَالَ عَبده حر إِن لم أضربك حَتَّى تَشْتَكِي يَدي أَو حَتَّى اللَّيْل أَو حَتَّى تصبح أَو حَتَّى يشفع فلَان ثمَّ ترك ضربه قبل هَذِه الْأَشْيَاء حنث لِأَن الضَّرْب بطرِيق التّكْرَار يحْتَمل الامتداد وَالْمَذْكُور بعد الْكَلِمَة صَالح للانتهاء فَيجْعَل غَايَة حَقِيقَة وَإِذا أقلع عَن الضَّرْب قبل الْغَايَة حنث إِلَّا فِي مَوضِع يغلب على الْحَقِيقَة عرف فَيعْتَبر ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْعرْفِ ظَاهرا بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة حَتَّى لَو قَالَ إِن لم أضربك حَتَّى أَقْتلك أَو حَتَّى تَمُوت فَهَذَا على الضَّرْب الشَّديد بِاعْتِبَار الْعرف فَإِنَّهُ مَتى كَانَ قَصده الْقَتْل لَا يذكر لفظ الضَّرْب وَإِنَّمَا يذكر ذَلِك إِذا لم يكن قَصده الْقَتْل وَجعل الْقَتْل(1/218)
غَايَة لبَيَان شدَّة الضَّرْب عَادَة
وَلَو قَالَ حَتَّى يغشى عَلَيْك أَو حَتَّى تبْكي فَهَذَا على حَقِيقَة الْغَايَة لِأَن الضَّرْب إِلَى هَذِه الْغَايَة مُعْتَاد
وَقد تسْتَعْمل الْكَلِمَة للْعَطْف فَإِن بَين الْعَطف والغاية مُنَاسبَة بِمَعْنى التَّعَاقُب وَلَكِن مَعَ وجود معنى الْغَايَة فِيهَا
يَقُول الرجل جَاءَنِي الْقَوْم حَتَّى زيد وَرَأَيْت الْقَوْم حَتَّى زيدا فَيكون للْعَطْف مَعَ اعْتِبَار معنى الْغَايَة لِأَنَّهُ يفهم بِهَذَا أَن زيدا أفضل الْقَوْم أَو أرذلهم
وَقد يدْخل بِمَعْنى الْعَطف على جملَة فَإِن ذكر لَهُ خَبرا فَهُوَ خَبره وَإِلَّا فخبره من جنس مَا سبق
يَقُول الرجل مَرَرْت بالقوم حَتَّى زيد غَضْبَان وَتقول أكلت السَّمَكَة حَتَّى رَأسهَا فَهَذَا مِمَّا لم يذكر خَبره وَهُوَ من جنس مَا سبق على احْتِمَال أَن يكون هُوَ الْأكل أَو غَيره وَلكنه إِخْبَار بِأَن رَأسهَا مَأْكُول أَيْضا
وَلَو قَالَ حَتَّى رَأسهَا بِالنّصب كَانَ هَذَا عطفا أَي وأكلت رَأسهَا أَيْضا وَلَكِن بِاعْتِبَار معنى الْغَايَة
وَمثل هَذَا فِي الْأَفْعَال تكون للجزاء إِذا كَانَ مَا قبلهَا يصلح سَببا لذَلِك وَمَا بعْدهَا يصلح أَن يكون جَزَاء فَيكون بِمَعْنى لَام كي قَالَ تَعَالَى {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي لكيلا تكون فتْنَة وَقَالَ تَعَالَى {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل الْغَايَة مَعْنَاهُ إِلَى أَن يَقُول الرَّسُول فَيكون قَول الرَّسُول نِهَايَة من غير أَن يكون بِنَاء على مَا سبق كَمَا هُوَ مُوجب الْغَايَة أَنه لَا أثر لَهُ فِيمَا جعل غَايَة لَهُ وَيحْتَمل لكَي يَقُول الرَّسُول وَالْقِرَاءَة بِالرَّفْع تكون بِمَعْنى الْعَطف أَي وَيَقُول الرَّسُول
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك غَدا حَتَّى تغديني فَعَبْدي حر فَأَتَاهُ فَلم يغده لَا يَحْنَث لِأَن الْإِتْيَان لَيْسَ بمستدام فَلَا يحْتَمل الْكَلِمَة بِمَعْنى حَقِيقَة الْغَايَة وَمَا بعده يصلح جَزَاء فَيكون الْمَعْنى لكَي تغديني فقد جعل شَرط بره الْإِتْيَان على هَذَا الْقَصْد وَقد وجد وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن لم تأتني حَتَّى أغديك فَأَتَاهُ وَلم يغده لم يَحْنَث
وَقد يستعار للْعَطْف الْمَحْض كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الْقِرَاءَة بِالرَّفْع وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْمَذْكُور بعده لَا يصلح للجزاء فَيعْتَبر مُجَرّد الْمُنَاسبَة بَين الْعَطف والغاية فِي الِاسْتِعَارَة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ إِن لم آتِك حَتَّى أتغدى عنْدك الْيَوْم أَو إِن لم تأتني حَتَّى تتغدى عِنْدِي الْيَوْم فَأَتَاهُ ثمَّ لم يتغد عِنْده فِي ذَلِك الْيَوْم حنث لِأَن الْكَلِمَة بِمَعْنى الْعَطف فَإِن الْفِعْلَيْنِ من وَاحِد فَلَا يصلح الثَّانِي أَن يكون جَزَاء للْأولِ فَحمل على الْعَطف الْمَحْض لتصحيح الْكَلَام وَشرط الْبر وجود الْأَمريْنِ فِي الْيَوْم فَإِذا لم يوجدا حنث(1/219)
فَإِن قيل أهل النَّحْو لَا يعْرفُونَ هَذَا فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ رَأَيْت زيدا حَتَّى عمرا بِاعْتِبَار الْعَطف قُلْنَا قد بَينا أَن فِي الاستعارات لَا يعْتَبر السماع وَإِنَّمَا يعْتَبر الْمَعْنى الصَّالح للاستعارة وَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الْمُنَاسبَة معنى صَالح لذَلِك فَهِيَ اسْتِعَارَة بديعة بنى عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله جَوَاب الْمَسْأَلَة عَلَيْهَا مَعَ أَن قَول مُحَمَّد رَحمَه الله حجَّة فِي اللُّغَة فَإِن أَبَا عبيد وَغَيره احْتج بقوله وَذكر ابْن السراج أَن الْمبرد سُئِلَ عَن معنى الغزالة فَقَالَ هِيَ الشَّمْس قَالَه مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله وَكَانَ فصيحا فَإِنَّهُ قَالَ لخادم لَهُ يَوْمًا انْظُر هَل دلكت الغزالة فَخرج ثمَّ دخل فَقَالَ لم أر الغزالة
وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّد هَل زَالَت الشَّمْس فعلى هَذَا يجوز أَن يَقُول الرجل رَأَيْت زيدا حَتَّى عمرا بِمَعْنى الْعَطف إِلَّا أَن الأولى أَن يَجْعَل هَذَا بِمَعْنى الْفَاء دون الْوَاو لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا للْعَطْف وَلَكِن فِي الْفَاء معنى التعقيب فَهُوَ أقرب إِلَى معنى الْمُنَاسبَة كَمَا بَينا
فصل
وَأما إِلَى فَهِيَ لانْتِهَاء الْغَايَة وَلِهَذَا تسْتَعْمل الْكَلِمَة فِي الْآجَال والديون قَالَ تَعَالَى {إِلَى أجل مُسَمّى} وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِلَى شهر فَإِن نوى التَّنْجِيز فِي الْحَال تطلق وَيَلْغُو آخر كَلَامه وَإِن نوى التَّأْخِير يتَأَخَّر الْوُقُوع إِلَى مُضِيّ الشَّهْر وَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة فعلى قَول زفر رَحمَه الله يَقع فِي الْحَال لِأَن تَأْخِير الشَّيْء لَا يمْنَع ثُبُوت أَصله (فَيكون بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل فِي الدّين لَا يمْنَع ثُبُوت أَصله) وَعِنْدنَا لَا يَقع لِأَن الْكَلِمَة للتأخير فِيمَا يقرن بِهِ بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَقد قرنها بِأَصْل الطَّلَاق وَأَصلهَا يحْتَمل التَّأْخِير فِي التَّعْلِيق بِمُضِيِّ شهر أَو بِالْإِضَافَة إِلَى مَا بعد شهر فَأَما أصل الْيَمين لَا يحْتَمل التَّأْخِير فِي التَّعْلِيق وَالْإِضَافَة فَلهَذَا حملنَا الْكَلِمَة هُنَاكَ على تَأْخِير الْمُطَالبَة
ثمَّ من الغايات بِهَذِهِ الْكَلِمَة مَا لَا يدْخل كَقَوْلِه تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَمِنْهَا مَا يدْخل كَقَوْلِه {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَالْحَاصِل فِيهِ أَن مَا يكون من الغايات قَائِما بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ لَا يدْخل لِأَنَّهُ حد وَلَا يدْخل الْحَد فِي الْمَحْدُود وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان من هَذَا الْحَائِط إِلَى هَذَا كَانَ أصل الْكَلَام متناولا للغاية كَانَ ذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا فَيبقى مَوضِع الْغَايَة دَاخِلا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} الْحَائِط لَا يدْخل الحائطان فِي الْإِقْرَار(1/220)
وَمَا لَا يكون قَائِما بِنَفسِهِ فَإِن فَإِن الِاسْم عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل الْجَارِحَة إِلَى الْإِبِط فَذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وَإِن كَانَ أصل الْكَلَام لَا يتَنَاوَل مَوضِع الْغَايَة أَو فِيهِ شكّ فَذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَى موضعهَا فَلَا تدخل الْغَايَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَى اللَّيْل} فَإِن الصَّوْم عبارَة عَن الْإِمْسَاك ومطلقه لَا يتَنَاوَل إِلَّا سَاعَة فَذكر الْغَايَة لمد الحكم إِلَى مَوضِع الْغَايَة وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْغَايَة تدخل فِي الْخِيَار لِأَن مطلقه يَقْتَضِي التَّأْبِيد وَلِأَن فِي لُزُوم البيع فِي مَوضِع الْغَايَة شكا وَفِي الْآجَال والإجارات لَا تدخل الغايات لِأَن الْمُطلق لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيد وَفِي تَأْخِير الْمُطَالبَة وتمليك الْمَنْفَعَة فِي مَوضِع الْغَايَة شكّ وَفِي الْيَمين إِذا حلف لَا يكلم فلَانا إِلَى وَقت كَذَا تدخل الْغَايَة فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن مطلقه يَقْتَضِي التَّأْبِيد فَذكر الْغَايَة لإِخْرَاج مَا وَرَاءَهَا وَلَا تدخل فِي ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن فِي حُرْمَة الْكَلَام وَوُجُوب الْكَفَّارَة فِي الْكَلَام فِي مَوضِع الْغَايَة شكا
وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ من دِرْهَم إِلَى عشرَة أَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق من وَاحِدَة إِلَى ثَلَاث لَا تدخل الغايتان لِأَن الْغَايَة حد والمحدود غير الْحَد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله تدخل الغايتان لِأَن هَذِه الْغَايَة لَا تقوم بِنَفسِهَا فَلَا تكون غَايَة مَا لم تكن ثَانِيَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْغَايَة الثَّانِيَة لَا تدخل لِأَن مُطلق الْكَلَام لَا يتَنَاوَلهُ وَفِي ثُبُوته شكّ وَلَكِن الْغَايَة الأولى تدخل للضَّرُورَة لِأَن الثَّانِيَة دَاخِلَة فِي الْكَلَام وَلَا تكون ثَانِيَة قبل دُخُول الأولى
فصل
وَأما على فَهُوَ للإلزام بِاعْتِبَار أصل الْوَضع لِأَن معنى حَقِيقَة الْكَلِمَة من علو الشَّيْء على الشَّيْء وارتفاعه فَوْقه وَذَلِكَ قَضِيَّة الْوُجُوب واللزوم وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم أَن مطلقه مَحْمُول على الدّين إِلَّا
ثمَّ تسْتَعْمل الْكَلِمَة للشّرط بِاعْتِبَار أَن الْجَزَاء يتَعَلَّق بِالشّرطِ وَيكون لَازِما عِنْد وجوده
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا} أَن يصل بِكَلَامِهِ وَدِيعَة لِأَن(1/221)
حَقِيقَته اللُّزُوم فِي الدّين وَقَالَ تَعَالَى {حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق} وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير إِذا قَالَ رَأس الْحصن آمنوني على عشرَة من أهل الْحصن إِن الْعشْرَة سواهُ وَالْخيَار فِي تعيينهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ شَرط ذَلِك لنَفسِهِ بِكَلِمَة على بِخِلَاف مَا لَو قَالَ آمنوني وَعشرَة أَو فعشرة أَو ثمَّ عشرَة فَالْخِيَار فِي تعْيين الْعشْرَة إِلَى من آمنهم لِأَن الْمُتَكَلّم عطف أمانهم على أَمَان نَفسه من غير أَن شَرط لنَفسِهِ فِي أمانهم شَيْئا
وَقد تستعار الْكَلِمَة بِمَعْنى الْبَاء الَّذِي يصحب الأعواض لما بَين الْعِوَض والمعوض من اللُّزُوم والاتصال فِي الْوُجُوب حَتَّى إِذا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الشَّيْء على ألف دِرْهَم أَو آجرتك شهرا على دِرْهَم يكون بِمَعْنى الْبَاء لِأَن البيع وَالْإِجَارَة لَا تحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَيحمل على هَذَا الْمُسْتَعَار لتصحيح الْكَلَام وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا طَلقنِي ثَلَاثًا على ألف دِرْهَم فَطلقهَا وَاحِدَة يجب ثلث الْألف بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَت بِأَلف دِرْهَم لِأَن الْخلْع عقد مُعَاوضَة
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول لَا يجب عَلَيْهَا شَيْء من الْألف وَيكون الْوَاقِع رَجْعِيًا لِأَن الطَّلَاق يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَإِن كَانَ مَعَ ذكر الْعِوَض وَلِهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَة الْيَمين من الزَّوْج حَتَّى لَا يملك الرُّجُوع عَنهُ قبل قبُولهَا وَحَقِيقَة الْكَلِمَة للشّرط فَإِذا كَانَت مَذْكُورَة فِيمَا يحْتَمل معنى الشَّرْط يحمل عَلَيْهِ دون الْمجَاز وعَلى اعْتِبَار الشَّرْط لَا يلْزمهَا شَيْء من المَال لِأَنَّهَا شرطت إِيقَاع الثَّلَاث ليتم رِضَاهَا بِالْتِزَام المَال وَالشّرط يُقَابل الْمَشْرُوط جملَة وَلَا يُقَابله أَجزَاء وَقد يكون على بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون} أَي من النَّاس
فصل
وَكلمَة من للتَّبْعِيض بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَقد تكون لابتداء الْغَايَة يَقُول الرجل خرجت من الْكُوفَة وَقد تكون للتمييز يُقَال بَاب من حَدِيد وثوب من قطن وَقد تكون بِمَعْنى الْبَاء قَالَ تَعَالَى {يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} أَي بِأَمْر الله وَقد تكون صلَة قَالَ تَعَالَى {يغْفر لكم من ذنوبكم} وَقَالَ تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان}(1/222)
وَفِي حمله على الصِّلَة يعْتَبر تعذر حمله على معنى وضع لَهُ بِاعْتِبَار الْحَقِيقَة أَو يستعار لَهُ مجَازًا وَتعْتَبر الْحَاجة إِلَى إتْمَام الْكَلَام بِهِ لِئَلَّا يخرج من أَن يكون مُفِيدا
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع إِن كَانَ مَا فِي يَدي من الدَّرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة فَإِذا فِي يَده أَرْبَعَة فَهُوَ حانث لِأَن الدِّرْهَم الرَّابِع بعض الدَّرَاهِم وَكلمَة من للتَّبْعِيض
وَلَو قَالَت الْمَرْأَة لزَوجهَا اخلعني على مَا فِي يَدي من الدَّرَاهِم فَإِذا فِي يَدهَا دِرْهَم أَو دِرْهَمَانِ تلزمها ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَن من هُنَا صلَة لتصحيح الْكَلَام فَإِن الْكَلَام لَا يَصح إِلَّا بهَا حَتَّى إِذا قَالَت اخلعني على مَا فِي يَدي دَرَاهِم كَانَ الْكَلَام مختلا وَفِي الأول لَو قَالَ إِن كَانَ فِي يَدي دَرَاهِم كَانَ الْكَلَام صَحِيحا فَعمل الْكَلِمَة فِي التَّبْعِيض لَا فِي تَصْحِيح الْكَلَام
وَقد بَينا الْمسَائِل على هَذِه الْكَلِمَة فِيمَا سبق
فصل
وَأما فِي فَهِيَ للظرف بِاعْتِبَار أصل الْوَضع يُقَال دَرَاهِم فِي صرة
وعَلى اعْتِبَار هَذِه الْحَقِيقَة قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره غصبتك ثوبا فِي منديل أَو تَمرا فِي قوصرة يلْزمه رد كليهمَا لِأَنَّهُ أقرّ (بِغَصب مظروف فِي ظرف فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا) بغصبه لَهما
ثمَّ الظّرْف أَنْوَاع ثَلَاثَة ظرف الزَّمَان وظرف الْمَكَان وظرف الْفِعْل
فَأَما ظرف الزَّمَان فبيانه فِيمَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق فِي غَد فَإِنَّهَا تطلق غَدا بِاعْتِبَار أَنه جعل الْغَد ظرفا وصلاحية الزَّمَان ظرفا للطَّلَاق من حَيْثُ إِنَّه يَقع فِيهِ فَتَصِير مَوْصُوفَة فِي ذَلِك الزَّمَان بِأَنَّهَا طَالِق فَعِنْدَ الْإِطْلَاق كَمَا طلع الْفجْر تطلق فتتصف بِالطَّلَاق فِي جَمِيع الْغَد بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق غَدا وَإِن قَالَ نَوَيْت آخر النَّهَار لم يصدق عِنْدهمَا فِي الْقَضَاء كَمَا فِي قَوْله غَدا لِأَنَّهُ نوى التَّخْصِيص فِيمَا يكون مُوجبه الْعُمُوم
وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يدين فِي الْقَضَاء لِأَن ذكر حرف الظّرْف دَلِيل على أَن المُرَاد جُزْء من الْغَد فالوقوع إِنَّمَا يكون فِي جُزْء وَلَكِن ذَلِك الْجُزْء مُبْهَم فِي كَلَامه فَعِنْدَ عدم النِّيَّة قُلْنَا كَمَا وجد جُزْء من الْغَد تطلق فَإِذا نوى آخر النَّهَار كَانَ هَذَا بَيَانا للمبهم وَهُوَ مُصدق فِي بَيَان مُبْهَم كَلَامه فِي الْقَضَاء بِخِلَاف قَوْله غَدا فاللفظ هُنَاكَ(1/223)
متناول لجَمِيع الْغَد فنية آخر النَّهَار تكون تَخْصِيصًا وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن صمت الشَّهْر فَهُوَ على صَوْم جَمِيع الشَّهْر وَلَو قَالَ إِن صمت فِي الشَّهْر فَهُوَ على صَوْم سَاعَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى الَّذِي قُلْنَا
وَأما ظرف الْمَكَان فبيانه فِي قَوْله أَنْت طَالِق فِي الدَّار أَو فِي الْكُوفَة فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا حَيْثُمَا تكون لِأَن الْمَكَان لَا يصلح ظرفا (للطَّلَاق) فَإِن الطَّلَاق إِذا وَقع فِي مَكَان فَهُوَ وَاقع فِي الْأَمْكِنَة كلهَا وَهِي إِذا اتصفت بِالطَّلَاق فِي مَكَان تتصف بِهِ فِي الْأَمْكِنَة كلهَا إِلَّا أَن يَقُول عنيت إِذا دخلت فَحِينَئِذٍ لَا يَقع الطَّلَاق مَا لم تدخل بِاعْتِبَار أَنه كنى بِالْمَكَانِ عَن الْفِعْل الْمَوْجُود فِيهِ أَو أضمر الْفِعْل فِي كَلَامه فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق فِي دخولك الدَّار وَهَذَا هُوَ ظرف الْفِعْل على معنى أَن الْفِعْل لَا يصلح ظرفا للطَّلَاق حَقِيقَة وَلَكِن بَين الظّرْف وَالشّرط مُنَاسبَة من حَيْثُ الْمُقَارنَة أَو من حَيْثُ تعلق الْجَزَاء بِالشّرطِ بِمَنْزِلَة قوام المظروف بالظرف فَتَصِير الْكَلِمَة بِمَعْنى الشَّرْط مجَازًا
ثمَّ إِن كَانَ الْفِعْل سَابِقًا أَو مَوْجُودا فِي الْحَال يكون تنجيزا وَإِن كَانَ منتظرا يتَعَلَّق الْوُقُوع بِوُجُودِهِ كَمَا هُوَ حكم الشَّرْط
وعَلى هَذَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق فِي حيضتك وَهِي حَائِض تطلق فِي الْحَال وَإِن قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَجِيء حيضتك فَإِنَّهَا لَا تطلق حَتَّى تحيض
وَقَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَجِيء يَوْم لم تطلق حَتَّى يطلع الْفجْر من الْغَد وَلَو قَالَ فِي مُضِيّ يَوْم فَإِن قَالَ ذَلِك بِاللَّيْلِ فَهِيَ طَالِق كَمَا غربت الشَّمْس من الْغَد وَإِن قَالَ ذَلِك بِالنَّهَارِ لم تطلق حَتَّى يَجِيء مثل هَذِه السَّاعَة من الْغَد
وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَ رَأس الْحصن آمنوني فِي عشرَة فَهُوَ أحد الْعشْرَة لِأَن معنى الظّرْف فِي الْعدَد بِهَذَا يتَحَقَّق وَالْخيَار فِي التِّسْعَة إِلَى الَّذِي آمنهم لَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا شَرط لنَفسِهِ شَيْئا فِي أَمَان من ضمهم إِلَى نَفسه ليكونوا عشرَة
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم فِي عشرَة تلْزمهُ عشرَة لِأَن الْعدَد لَا يصلح ظرفا لمثله بِلَا شُبْهَة إِلَّا أَن يَعْنِي حرف مَعَ فَإِن فِي يَأْتِي بِمَعْنى مَعَ قَالَ تَعَالَى {فادخلي فِي عبَادي} أَي مَعَ عبَادي فَإِذا قَالَ ذَلِك فَحِينَئِذٍ
وكما أَن فِي يكون بِمَعْنى مَعَ يكون بِمَعْنى من قَالَ تَعَالَى {وارزقوهم فِيهَا} يلْزمه عشرُون وَلَكِن(1/224)
بِدُونِ هَذِه النِّيَّة لَا يلْزمه لِأَن المَال بِالشَّكِّ لَا يجب أَي مِنْهَا
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة فِي وَاحِدَة فَهِيَ طَالِق وَاحِدَة إِلَّا أَن يَقُول نَوَيْت مَعَ فَحِينَئِذٍ تطلق اثْنَتَيْنِ دخل بهَا أم لم يدْخل بهَا وَإِن قَالَ عنيت الْوَاو فَذَلِك صَحِيح أَيْضا على مَا هُوَ مَذْهَب أهل النَّحْو أَن أَكثر حُرُوف الصلات يُقَام بَعْضهَا مقَام بعض فَعِنْدَ هَذِه النِّيَّة تطلق اثْنَتَيْنِ إِن كَانَ دخل بهَا وَوَاحِدَة إِن لم يدْخل بهَا بِمَنْزِلَة قَوْله وَاحِدَة وَوَاحِدَة
وَقَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ أَنْت طَالِق فِي مَشِيئَة الله أَو فِي إِرَادَته لم تطلق بِمَنْزِلَة قَوْله إِن شَاءَ الله كَمَا جعل قَوْله فِي دخولك الدَّار بِمَنْزِلَة قَوْله إِن دخلت الدَّار إِلَّا فِي قَوْله فِي علم الله فَإِنَّهَا تطلق لِأَن الْعلم يسْتَعْمل عَادَة بِمَعْنى الْمَعْلُوم يُقَال علم أبي حنيفَة وَيَقُول الرجل اللَّهُمَّ اغْفِر لنا علمك فِينَا أَي معلومك وعَلى هَذَا الْمَعْنى يَسْتَحِيل جعله بِمَعْنى الشَّرْط
فَإِن قيل لَو قَالَ فِي قدرَة الله لم تطلق وَقد تسْتَعْمل الْقُدْرَة بِمَعْنى الْمَقْدُور فقد يَقُول من يستعظم شَيْئا هَذِه قدرَة الله تَعَالَى
قُلْنَا معنى هَذَا الِاسْتِعْمَال أَنه أثر قدرَة الله تَعَالَى إِلَّا أَنه قد يُقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَام الْمُضَاف وَمثله لَا يتَحَقَّق فِي الْعلم
وَمن هَذَا الْجِنْس أَسمَاء الظروف وَهِي مَعَ وَقبل وَبعد وَعند
فَأَما مَعَ فَهِيَ للمقارنة حَقِيقَة وَإِن كَانَ قد تسْتَعْمل بِمَعْنى بعد قَالَ تَعَالَى {إِن مَعَ الْعسر يسرا} وعَلى اعْتِبَار حَقِيقَة الْوَضع قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق وَاحِدَة مَعَ وَاحِدَة تطلق اثْنَتَيْنِ سَوَاء دخل بهَا أَو لم يدْخل بهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مَعهَا وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا تقترنان فِي الْوُقُوع فِي الْوَجْهَيْنِ
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ مَعَ كل دِرْهَم من هَذِه الدَّرَاهِم الْعشْرَة دِرْهَم فَعَلَيهِ عشرُون درهما
وَأما قبل فَهِيَ للتقديم قَالَ تَعَالَى {من قبل أَن نطمس وُجُوهًا} وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته وَقت الضحوة أَنْت طَالِق قبل غرُوب الشَّمْس تطلق للْحَال بِخِلَاف(1/225)
الْملك الَّذِي كَانَ للمورث فَإِن الوارثة خلَافَة وَقد بَينا أَن عِنْده اسْتِصْحَاب الْحَال فِيمَا يرجع إِلَى الْإِبْقَاء حجَّة على الْغَيْر وَلَكنَّا نقُول هَذَا الْبَقَاء حق الْمُورث فَأَما فِي حق الْوَارِث فصفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ ابْتِدَاء واستصحاب الْحَال لَا يكون حجَّة فِيهِ بِوَجْه وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا ادّعى عينا فِي يَد إِنْسَان أَنه لَهُ مِيرَاث من أَبِيه وَأقَام الشَّاهِدين فشهدا أَن هَذَا كَانَ لِأَبِيهِ لم تقبل هَذِه الشَّهَادَة وَفِي قَول أبي يُوسُف الآخر تقبل لِأَن الوارثة خلَافَة فَإِنَّمَا يبْقى للْوَارِث الْملك الَّذِي كَانَ للمورث وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيصير مغرورا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورث وَمَا ثَبت فَهُوَ بَاقٍ لاستغناء الْبَقَاء عَن دَلِيل وهما يَقُولَانِ فِي حق الْوَارِث هَذَا فِي معنى ابْتِدَاء التَّمَلُّك لِأَن صفة الْمَالِكِيَّة تثبت لَهُ فِي هَذَا المَال بعد أَن لم يكن مَالِكًا وَإِنَّمَا يكون الْبَقَاء فِي حق الْمُورث أَن لَو حضر بِنَفسِهِ يدعى أَن الْعين ملكه فَلَا جرم إِذا شهد الشَّاهِدَانِ أَنه كَانَ لَهُ كَانَت شَهَادَة مَقْبُولَة كَمَا إِذا شَهدا أَنه لَهُ فَأَما إِذا كَانَ الْمُدعى هُوَ الْوَارِث وَصفَة الْمَالِكِيَّة للْوَارِث تثبت ابْتِدَاء بعد موت الْمُورث فَهَذِهِ الشَّهَادَة لَا تكون حجَّة للْقَضَاء بِالْملكِ لَهُ لِأَن طَرِيق الْقَضَاء بهَا اسْتِصْحَاب الْحَال وَذَلِكَ غير صَحِيح
فصل
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الإستدلال بتعارض الْأَشْبَاه وَذَلِكَ نَحْو احتجاج زفر رَحمَه الله فِي أَنه لَا يجب غسل الْمرَافِق فِي الْوضُوء لِأَن من الغايات مَا يدْخل وَمِنْهَا مَا لَا يدْخل فَمَعَ الشَّك لَا تثبت فَرضِيَّة الْغسْل فِيمَا هُوَ غَايَة بِالنَّصِّ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة احتجاج بِلَا دَلِيل لإِثْبَات حكم فَإِن الشَّك الَّذِي يَدعِيهِ أَمر حَادث فَلَا يثبت حُدُوثه إِلَّا بِدَلِيل فَإِن قَالَ دَلِيله تعَارض الْأَشْبَاه قُلْنَا وتعارض الْأَشْبَاه أَيْضا حَادث فَلَا يثبت إِلَّا بِالدَّلِيلِ فَإِن قَالَ الدَّلِيل عَلَيْهِ مَا أعده من الغايات مِمَّا يدْخل بِالْإِجْمَاع وَمَا لَا يدْخل بِالْإِجْمَاع قُلْنَا وَهل تعلم أَن هَذَا الْمُتَنَازع فِيهِ من أحد النَّوْعَيْنِ بِدَلِيل فَإِن قَالَ أعلم ذَلِك قُلْنَا فَإِذن عَلَيْك أَن لَا تشك فِيهِ بل(1/226)
تلْحقهُ بِمَا هُوَ من نَوعه بدليله وَإِن قَالَ لَا أعلم ذَلِك قُلْنَا قد اعْترفت بِالْجَهْلِ فَإِن كَانَ هَذَا مِمَّا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بِالطَّلَبِ فَإِنَّمَا جهلته عَن تَقْصِير مِنْك فِي طلبه وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة أصلا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يُمكن الْوُقُوف عَلَيْهِ بعد الطّلب كنت مَعْذُورًا فِي الْوُقُوف فِيهِ وَلَكِن هَذَا الْعذر لَا يصير حجَّة لَك على غَيْرك مِمَّن يزْعم أَنه قد ظهر عِنْده دَلِيل إِلْحَاقه بِأحد النَّوْعَيْنِ فَعرفنَا أَن حَاصِل كَلَامه احتجاج بِلَا دَلِيل
فصل
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الِاحْتِجَاج بالاطراد على صِحَة الْعلَّة إِمَّا وجودا أَو وجودا وعدما فَإِنَّهُ احتجاج بِلَا دَلِيل فِي الْحَقِيقَة وَمن حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ احتجاج بِكَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وَقد بَينا أَن كَثْرَة أَدَاء الشَّهَادَة وتكرارها من الشَّاهِد لَا يكون دَلِيل صِحَة شَهَادَته ثمَّ الاطراد عبارَة عَن سَلامَة الْوَصْف عَن النقوض والعوارض والناظر وَإِن بَالغ فِي الإجتهاد بِالْعرضِ على الْأُصُول الْمَعْلُومَة عِنْده فالخصم لَا يعجز من أَن يَقُول عِنْدِي أصل آخر هُوَ مُنَاقض لهَذَا الْوَصْف أَو معَارض فجهلك بِهِ لَا يكون حجَّة لَك على فَتبين من هَذَا الْوَجْه أَنه احتجاج بِلَا دَلِيل وَلكنه فَوق من تقدم فِي الإحتجاج بِهِ من حَيْثُ الظَّاهِر لِأَن من حَيْثُ الظَّاهِر الْوَصْف صَالح وَيحْتَمل أَن يكون حجَّة للْحكم إِذا ظهر أَثَره عِنْد التَّأَمُّل وَلَكِن لكَونه فِي الْحَقِيقَة اسْتِدْلَالا على صِحَّته بِعَدَمِ النقوض والعوارض لم يصلح أَن يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن النُّصُوص بعد ثُبُوتهَا يجب الْعَمَل بهَا وَاحْتِمَال وُرُود النَّاسِخ لَا يُمكن شُبْهَة فِي الإحتجاج بهَا قبل أَن يظْهر النَّاسِخ فَكَذَلِك مَا تقدم قُلْنَا أما بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي كل نَص كَانَ حكمه ثَابتا عِنْد وَفَاته فَأَما فِي حَال حَيَاته فَهَكَذَا نقُول إِن الِاحْتِجَاج لَا يكون صَحِيحا لِأَن احْتِمَال بَقَاء الحكم وَاحْتِمَال قيام دَلِيل النّسخ فِيهِ كَانَ بِصفة وَاحِدَة وَقد قَررنَا هَذَا فِي بَاب النّسخ(1/227)
مَبِيعًا وَالْمَبِيع الدّين لَا يكون إِلَّا سلما وعَلى هَذَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ إِن أَخْبَرتنِي بقدوم فلَان فَأَنت حر فَهَذَا على الْخَبَر الْحق الَّذِي يكون بعد الْقدوم لِأَن مفعول الْخَبَر مَحْذُوف هُنَا وَقد دلّ عَلَيْهِ حرف الْبَاء الَّذِي هُوَ للإلصاق كَقَوْل الْقَائِل بِسم الله أَي بدأت بِسم الله فَيكون معنى كَلَامه إِن أَخْبَرتنِي خَبرا مُلْصقًا بقدوم فلَان والقدوم اسْم لفعل مَوْجُود فَلَا يتَنَاوَل الْخَبَر بِالْبَاطِلِ
وَلَو قَالَ إِن أَخْبَرتنِي أَن فلَانا قد قدم فَهَذَا على الْخَبَر حَقًا كَانَ أَو بَاطِلا لِأَنَّهُ لما لم يذكر حرف الْبَاء فالمذكور صَالح لِأَن يكون مفعول الْخَبَر وَأَن وَمَا بعده مصدر وَالْخَبَر إِنَّمَا يكون بِكَلَام لَا يفعل فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن أَخْبَرتنِي بِخَبَر قدوم فلَان وَالْخَبَر اسْم لكَلَام يدل على الْقدوم وَلَا يُوجد عِنْده الْقدوم لَا محَالة
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الزِّيَادَات إِذا قَالَ أَنْت طَالِق بِمَشِيئَة الله أَو بإرادته أَو بِحكمِهِ لم تطلق وَكَذَلِكَ سَائِر أخواتها لِأَن الْبَاء للإلصاق فَيكون دَلِيلا على معنى الشَّرْط مفضيا إِلَيْهِ
وعَلى هَذَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا بإذني تحْتَاج إِلَى الْإِذْن فِي كل مرّة لِأَن الْبَاء للإلصاق فَإِنَّمَا جعل الْمُسْتَثْنى خُرُوجًا مُلْصقًا بِالْإِذْنِ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بتجديد الْإِذْن فِي كل مرّة قَالَ تَعَالَى {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} أَي مأمورين بذلك
وَلَو قَالَ إِن خرجت إِلَّا أَن آذن لَك فَهَذَا على الْإِذْن مرّة (وَاحِدَة) لِأَنَّهُ يتَعَذَّر الْحمل هَهُنَا على الِاسْتِثْنَاء لمُخَالفَة الْجِنْس فِي صِيغَة الْكَلَام فَيحمل على معنى الْغَايَة مجَازًا لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يحاط بكم}
{إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم} أَي حَتَّى
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم} إِن الْبَاء للتَّبْعِيض فَإِنَّمَا يلْزمه مسح بعض الرَّأْس وَذَلِكَ أدنى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم
وَقَالَ مَالك الْبَاء صلَة للتَّأْكِيد بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {تنْبت بالدهن} كَأَنَّهُ قَالَ وامسحوا رؤوسكم فَيلْزمهُ مسح جَمِيع الرَّأْس
وَقُلْنَا أما التَّبْعِيض فَلَا وَجه لَهُ لِأَن الْمَوْضُوع للتَّبْعِيض حرف من والتكرار والاشتراك لَا يثبت بِأَصْل الْوَضع وَلَا وَجه لحمله على الصِّلَة لما فِيهِ من معنى الإلغاء أَو الْحمل على غير فَائِدَة مَقْصُودَة(1/228)
وَهِي التوكيد
وَلَكنَّا نقُول الْبَاء للإلصاق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع فَإِذا قرنت بِآلَة الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى مَحل الْمسْح فَيتَنَاوَل جَمِيعه كَمَا يَقُول الرجل مسحت الْحَائِط بيَدي ومسحت رَأس الْيَتِيم بيَدي فَيتَنَاوَل كُله وَإِذا قرنت بِمحل الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى الْآلَة فَلَا تَقْتَضِي الِاسْتِيعَاب وَإِنَّمَا تَقْتَضِي إلصاق الْآلَة بِالْمحل وَذَلِكَ لَا يستوعب الْكل عَادَة ثمَّ أَكثر الْآلَة ينزل منزلَة الْكَمَال فيتأدى الْمسْح بإلصاق ثَلَاثَة أَصَابِع بِمحل الْمسْح وَمعنى التَّبْعِيض إِنَّمَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق لَا بِحرف الْبَاء
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم الْمسْح ثَبت بقوله تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ثمَّ الِاسْتِيعَاب فِيهِ شَرط قُلْنَا أما على رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهِ الِاسْتِيعَاب لهَذَا الْمَعْنى وَأما على ظَاهر الرِّوَايَة فَإِنَّمَا عرفنَا الِاسْتِيعَاب هُنَاكَ إِمَّا بِإِشَارَة الْكتاب وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَقَامَ التَّيَمُّم فِي هذَيْن العضوين مقَام الْغسْل عِنْد تعذر الْغسْل والاستيعاب فِي الْغسْل فرض بِالنَّصِّ فَكَذَلِك فِيمَا قَامَ مقَامه أَو عرفنَا ذَلِك بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لعمَّار رَضِي الله عَنهُ يَكْفِيك ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين
وَمن هَذَا الْفَصْل حُرُوف الْقسم وَالْأَصْل فِيهَا بِاعْتِبَار الْوَضع الْبَاء حَتَّى يَسْتَقِيم اسْتِعْمَالهَا مَعَ إِظْهَار الْفِعْل وَمَعَ إضماره فَإِن الْبَاء للإلصاق وَهِي تدل على مَحْذُوف كَمَا بَينا وَقَول الرجل بِاللَّه بِمَعْنى أقسم (أَو أَحْلف) بِاللَّه كَمَا قَالَ تَعَالَى {يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا} وَكَذَلِكَ يَسْتَقِيم وَصلهَا بِسَائِر الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وَبِغير الله إِذا حلف بِهِ مَعَ التَّصْرِيح بِالِاسْمِ أَو الْكِنَايَة عَنهُ بِأَن يَقُول بِأبي أَو بك لَأَفْعَلَنَّ أَو بِهِ لَأَفْعَلَنَّ فَيصح اسْتِعْمَاله فِي جَمِيع هَذِه الْوُجُوه لمقصود الْقسم بِاعْتِبَار أصل الْوَضع
ثمَّ قد تستعار الْوَاو مَكَان الْبَاء فِي صلَة الْقسم لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة صُورَة وَمعنى
أما الصُّورَة فَلِأَن خُرُوج كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْمخْرج الصَّحِيح بِضَم الشفتين وَأما الْمَعْنى فَلِأَن فِي الْعَطف إلصاق الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ وحرف الْبَاء للإلصاق إِلَّا أَن الْوَاو تسْتَعْمل فِي الْمُضمر (دون الْمظهر لَا يُقَال أَحْلف وَالله لِأَنَّهُ يشبه قسمَيْنِ(1/229)
لِأَن قَوْله وَالله وَحده قسم ظَاهرا وَكَذَا أَحْلف أَو أقسم بِخِلَاف قَوْله أَحْلف بِاللَّه فالباء لصلة الْفِعْل دون الْمُضمر لِأَن هَذَا الإستعمال لتوسعة صلَة الْقسم لَا لِمَعْنى الإلصاق فَلَو اسْتعْمل فيهمَا كَانَ مستعارا عَاما وَلَا حَاجَة إِلَى ذَلِك وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى الإستعارة لصلة الْقسم حَتَّى يشبه قسمَيْنِ وَلِهَذَا لَا يسْتَعْمل مَعَ الْكِنَايَة نَحْو الْكَاف وَالْهَاء وَمَعَ الأسم الصَّرِيح يسْتَعْمل فِي جَمِيع الْأَسْمَاء وَالصِّفَات نَحْو قَوْله والرحمن والرب
ثمَّ التَّاء تسْتَعْمل أَيْضا فِي صلَة الْقسم قَالَ تَعَالَى {وتالله لأكيدن أصنامكم} وَهَذَا لما بَين حرف التَّاء وَالْوَاو من الْمُنَاسبَة فَإِنَّهُمَا من حُرُوف الزَّوَائِد فِي كَلَام الْعَرَب يُقَام أَحدهمَا مقَام الآخر فِي التراث مَعَ الوراث والتورية والوورية وَمَا أشبه ذَلِك وَلما كَانَ الْمَقْصُود بِهَذَا الإستعمال توسعة صلَة الْقسم لشدَّة الْحَاجة إِلَى ذَلِك خَاصَّة كَانَ التَّاء أخص من الْوَاو لمَكَان أَن الْوَاو مستعار لَيْسَ بِأَصْل فِي صلَة الْقسم وَلِهَذَا يخْتَص باسم الله حَتَّى لَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول تالرحمن كَمَا يَسْتَقِيم والرحمن وَمَعَ حذف هَذِه الصلات يَسْتَقِيم الْقسم أَيْضا لاعْتِبَار معنى التَّخْفِيف والتوسعه حَتَّى إِذا قَالَ الله يكون يَمِينا وَلَكِن الْمَذْهَب عِنْد نحويى الْبَصْرَة الذّكر بِالنّصب وَعند نحويى الْكُوفَة بالخفض وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الْفُقَهَاء
وَمِمَّا هُوَ مَوْضُوع بِمَعْنى الْقسم قَوْله وأيم الله إِلَّا أَن الْمَذْهَب عِنْد نحويى الْكُوفَة أَن مَعْنَاهُ أَيمن وَهُوَ جمع يَمِين وَمِنْه قَول الْقَائِل: ... فَقَالَت يَمِين الله مَالك حِيلَة ... وَمَا إِن أرى عَنْك الغواية تنجلى ...
وَعند نحويى الْبَصْرَة هَذِه كلمة مَوْضُوعَة فِي صلات الْقسم لَا اشتقاق لَهَا نَحْو صه ومه والهمزة فِيهَا للوصل أَلا ترى أَنَّهَا تسْقط إِذا نقدمها حرف بِمَنْزِلَة سَائِر حُرُوف الْوَصْل وَلَو كَانَت لبِنَاء صِيغَة الْجمع لم تسْقط إِذا تقدمها حرف وَمِمَّا يُؤدى إِلَى معنى الْقسم قَوْله لعمر الله قَالَ تَعَالَى {لعمرك} وَاللَّام(1/230)
للإبتداء وَعمر بِمَعْنى الْبَقَاء فَيكون الْمَعْنى لبَقَاء الله والبقاء من صِفَات الله تَعَالَى فَيكون هُوَ بِهَذَا اللَّفْظ مُصَرحًا بِمَا هُوَ مَقْصُود الْقسم فَيجْعَل قسما بِمَنْزِلَة قَوْله وَالله الباقى أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لغيره جعلت لَك هذت العَبْد ملكا بِأَلف دِرْهَم كَانَ بيما لتصريحه بِمَا هُوَ مَقْصُود البيع وَيجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بِلَفْظ البيع
وَمن ذَلِك حُرُوف الشَّرْط وهى إِن وَإِذا وَإِذا مَا وَمَتى وَمَتى مَا وَكلما وَمن وَمَا وَبِاعْتِبَار أصل الْوَضع حرف الشَّرْط على الخلوص إِن فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا معنى الْوَقْت وَإِنَّمَا يتعقبها الْفِعْل دون الأسم وهى عَلامَة الشَّرْط فَالشَّرْط فعل منتظر فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ على خطر الْوُجُود يقْصد نَفْيه أَو إثْبَاته أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يَقُول إِن زرتنى أكرمتك وَإِن أعطيتنى كافيتك وَلَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول إِن جَاءَ غَدا أكرمتك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مجىء الْغَد معنى الْخطر وَلَا يتعقب الْكَلِمَة اسْم لِأَن معنى الْخطر فِي الْأَسْمَاء لَا يتَحَقَّق
فَإِن قيل لَا كَذَلِك فقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا} قُلْنَا ذَلِك على معنى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير أى إِن هلك امْرُؤ وَإِن خَافت امْرَأَة فَإِن أهل اللُّغَة مجمعون على أَن الذى يتعقب حرف الشَّرْط الْفِعْل دون الأسم وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته إِن لم أطلقك فَأَنت طَالِق إِنَّهَا لَا تطلق حَتَّى يَمُوت الزَّوْج لِأَنَّهُ جعل الشَّرْط انعدام فعل التَّطْلِيق مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يتَيَقَّن بِهِ مَا دَامَ حَيا وَإِن مَاتَت الْمَرْأَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تطلق أَيْضا قبل أَن تَمُوت بِلَا فصل لِأَن فعل التَّطْلِيق لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْمحل وبفوات الْمحل يتَحَقَّق الشَّرْط وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لَا تطلق لِأَنَّهَا مَا لم تمت بِفعل التَّطْلِيق يتَحَقَّق من الزَّوْج وَبعد مَوتهَا لَا يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا بِخِلَاف الزَّوْج فَإِنَّهُ كَمَا أشرف على الْهَلَاك فقد وَقع الْيَأْس عَن فعل التَّطْلِيق مِنْهُ ثمَّ حكم الشَّرْط امْتنَاع ثُبُوت الحكم بِالْعِلَّةِ أصلا مالم يبطل التَّعْلِيق بِوُجُود الشَّرْط وأمثله هَذَا فِي مسَائِل الْفِقْه كَثِيرَة
وَأما إِذا فعلى قَول نحويى الْكُوفَة تسْتَعْمل هى للْوَقْت تَارَة وللشرط تَارَة(1/231)
فيجازي بهَا مرّة إِذا أُرِيد بهَا الشَّرْط وَلَا يجازي بهَا مرّة إِذا أُرِيد بهَا الْوَقْت وَإِذا اسْتعْملت للشّرط لم يكن فِيهَا معنى الْوَقْت وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وعَلى قَول نَحْويي الْبَصْرَة هِيَ للْوَقْت بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَإِن اسْتعْملت للشّرط فَهِيَ لَا تَخْلُو عَن معنى الْوَقْت بِمَنْزِلَة مَتى فَإِنَّهَا للْوَقْت وَإِن كَانَ قد يجازي بهَا فَإِن المجازاة بهَا لَازِمَة فِي غير مَوضِع الِاسْتِفْهَام والمجازاة بإذا جَائِزَة غير لَازِمَة وَهَذَا قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله
وَبَيَان الْمَسْأَلَة مَا إِذا قَالَ إِذا لم أطلقك فَأَنت طَالِق أَو إِذا مَا لم أطلقك فَإِن عَنى بهَا الْوَقْت تطلق فِي الْحَال وَإِن عَنى الشَّرْط لم تطلق حَتَّى تَمُوت وَإِن لم تكن لَهُ نِيَّة فعلى قَول أبي حنيفَة لَا تطلق حَتَّى يَمُوت وعَلى قَوْلهمَا تطلق فِي الْحَال قَالَا إِن إِذا تسْتَعْمل للْوَقْت غَالِبا وتقرن بِمَا لَيْسَ فِيهِ معنى الْخطر فَإِنَّهُ يُقَال الرطب إِذا اشْتَدَّ الْحر وَالْبرد إِذا جَاءَ الشتَاء وَلَا يَسْتَقِيم مَكَانهَا إِن قَالَ تَعَالَى {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَذَلِكَ كَائِن لَا محَالة فَعرفنَا أَنه لَا يَنْفَكّ عَن معنى الْوَقْت اسْتِعْمَالا
وتستعمل فِي جَوَاب الشَّرْط قَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون} وَمَا يسْتَعْمل فِي المجازاة لَا يكون مَحْض الشَّرْط فَعرفنَا أَنَّهَا بِمَعْنى مَتى فَإِنَّهَا لَا تنفك عَن معنى الْوَقْت وَإِن كَانَ المجازاة بهَا ألزم من المجازاة بإذا
وَإِذا ثَبت هَذَا قُلْنَا قد أضَاف الطَّلَاق إِلَى وَقت فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ خَال عَن إِيقَاع الطَّلَاق فِيهِ عَلَيْهَا وكما سكت فقد وجد ذَلِك الْوَقْت فَتطلق أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لامْرَأَته إِذا شِئْت فَأَنت طَالِق لم تتوقت الْمَشِيئَة بِالْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَة قَوْله مَتى شِئْت بِخِلَاف قَوْله إِن شِئْت وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله اعْتمد مَا قَالَ أهل الْكُوفَة إِن إِذا قد تسْتَعْمل بمحض الشَّرْط وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ الْفراء بقول الْقَائِل استغن مَا أَغْنَاك رَبك بالغنى وَإِذا تصبك خصَاصَة فَتحمل مَعْنَاهُ إِن تصبك خصَاصَة فَإِن حمل على معنى الشَّرْط لم يَقع الطَّلَاق حَتَّى يَمُوت(1/232)
وَإِن حمل على معنى الْوَقْت وَقع الطَّلَاق فِي الْحَال وَالطَّلَاق بِالشَّكِّ لَا يَقع
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله إِذا شِئْت إِنَّه لَا يتوقت بِالْمَجْلِسِ لِأَن الْمَشِيئَة صَارَت إِلَيْهَا بِيَقِين فَلَو جعلنَا الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة إِن خرج الْأَمر من يَدهَا بِالْقيامِ وَلَو جعلناها بِمَنْزِلَة مَتى لم يخرج الْأَمر من يَدهَا بِالشَّكِّ
وَأما مَتى فَهِيَ للْوَقْت بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَكِن لما كَانَ الْفِعْل يَليهَا دون الِاسْم جعلناها فِي معنى الشَّرْط وَلِهَذَا صَحَّ المجازاة بهَا غير أَنَّهَا لَا تنفك عَن معنى الْوَقْت بِحَال فَإِذا قَالَ لامْرَأَته مَتى لم أطلقك فَأَنت طَالِق أَو مَتى مَا لم أطلقك فَأَنت طَالِق طلقت كَمَا سكت لوُجُود وَقت بعد كَلَامه لم يطلقهَا فِيهِ وَلِهَذَا لم نذْكر فِي حُرُوف الشَّرْط كلمة كل لِأَن الِاسْم يَليهَا دون الْفِعْل فَإِنَّهَا تجمع الْأَسْمَاء ويستقيم أَن يُقَال كل رجل وَلَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال كل دخل وفيهَا معنى الشَّرْط بِاعْتِبَار أَن الِاسْم الَّذِي يتعقبها يُوصف بِفعل لَا محَالة ليتم كل الْكَلَام وَذَلِكَ الْفِعْل يصير فِي معنى الشَّرْط حَتَّى لَا ينزل الْجَزَاء إِلَّا بِوُجُودِهِ
بَيَانه فِيمَا إِذا قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا وكل عبد أشتريه وَذكرنَا فِي حُرُوف الشَّرْط كلمة كلما لِأَن الْفِعْل يتعقبها دون الِاسْم
يُقَال كلما دخل وَكلما خرج وَلَا يُقَال كلما زيد
وَقد قدمنَا الْكَلَام فِي بَيَان كلما وَمن وَمَا
وَمِمَّا هُوَ فِي معنى الشَّرْط لَو على مَا يرْوى عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق لَو دخلت الدَّار لم تطلق مَا لم تدخل كَقَوْلِه إِن دخلت لِأَن لَو تفِيد معنى الترقب فِيمَا يقرن بِهِ مِمَّا يكون فِي الْمُسْتَقْبل فَكَانَ بِمَعْنى الشَّرْط من هَذَا الْوَجْه
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق لَو حسن خلقك عَسى أَن أراجعك تطلق فِي الْحَال لِأَن لَو هُنَا إِنَّمَا تقرن بالمراجعة الَّتِي تترقب فِي الْمُسْتَقْبل فتخلو كلمة الْإِيقَاع عَن معنى الشَّرْط
وَأما لَوْلَا فَهِيَ بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهَا تسْتَعْمل لنفي شَيْء بِوُجُود غَيره قَالَ تَعَالَى {وَلَوْلَا رهطك لرجمناك} وعَلى هَذَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي قَوْله أَنْت طَالِق لَوْلَا دخولك الدَّار إِنَّهَا لَا تطلق وَتجْعَل هَذِه الْكَلِمَة بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء ذكره الْكَرْخِي رَحمَه الله فِي الْمُخْتَصر(1/233)
وبالأخرى إِلَى فروع أخر فَلَا يكون انعدام الْعلَّة مَعَ بَقَاء الحكم فِي مَوضِع ثَابتا بِالْعِلَّةِ الْأُخْرَى دَلِيل فَسَاد الْعلَّة
فَأَما الْمُفَارقَة فَمن النَّاس من ظن أَنَّهَا مفاقهة ولعمري الْمُفَارقَة مفاقهة وَلَكِن فِي غير هَذَا الْموضع فَأَما على وَجه الِاعْتِرَاض على الْعِلَل المؤثرة تكون مجادلة لَا فَائِدَة فِيهَا فِي مَوضِع النزاع
وَبَيَان هَذَا من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهَا أَن شَرط صِحَة الْقيَاس لتعدية الحكم إِلَى الْفُرُوع تَعْلِيل الأَصْل بِبَعْض أَوْصَافه لَا بِجَمِيعِ أَوْصَافه وَقد بَينا أَنه مَتى كَانَ التَّعْلِيل بِجَمِيعِ أَوْصَاف الأَصْل لَا يكون مقايسة فبيان الْمُفَارقَة بَين الأَصْل وَالْفرع بِذكر وصف آخر لَا يُوجد ذَلِك فِي الْفَرْع وَيرجع إِلَى بَيَان صِحَة المقايسة فَأَما أَن يكون ذَلِك اعتراضا على الْعلَّة فَلَا
ثمَّ ذكر وصف آخر فِي الأَصْل يكون ابْتِدَاء دَعْوَى والسائل جَاهِل مسترشد فِي موقف الْمُنكر إِلَى أَن تتبين لَهُ الْحجَّة لَا فِي مَوضِع الدَّعْوَى وَإِن اشْتغل بِإِثْبَات دَعْوَاهُ فَذَلِك لَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يكون سعيا فِي إِثْبَات الحكم فِي الأَصْل وَهُوَ مفروغ عَنهُ وَلَا يتَّصل مَا يُثبتهُ بالفرع إِلَّا من حَيْثُ إِنَّه يَنْعَدِم ذَلِك الْمَعْنى فِي الْفَرْع وبالعدم لَا يثبت الِاتِّصَال وَقد بَينا أَن الْعَدَم لَا يصلح أَن يكون مُوجبا شَيْئا فَكَانَ هَذَا مِنْهُ اشتغالا بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ
وَالثَّالِث مَا بَينا أَن الحكم فِي الأَصْل يجوز أَن يكون معلولا بعلتين ثمَّ يتَعَدَّى الحكم إِلَى بعض الْفُرُوع بِإِحْدَى العلتين دون الْأُخْرَى فَبَان انعدام فِي الْفَرْع الْوَصْف الَّذِي يروم بِهِ السَّائِل الْفرق وَإِن سلم لَهُ أَنه عِلّة لإِثْبَات الحكم فِي الأَصْل فَذَلِك لَا يمْنَع الْمُجيب من أَن يعدي حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع بِالْوَصْفِ الَّذِي يَدعِيهِ أَنه عِلّة للْحكم وَمَا لَا يكون قدحا فِي كَلَام الْمُجيب فاشتغال السَّائِل بِهِ يكون اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد وَإِنَّمَا المفاقهة فِي الممانعة حَتَّى يبين الْمُجيب تَأْثِير علته فالفقه حِكْمَة باطنة وَمَا يكون مؤثرا فِي إِثْبَات الحكم شرعا فَهُوَ الْحِكْمَة الْبَاطِنَة والمطالبة بِهِ تكون مفاقهة(1/234)
فَأَما الْإِعْرَاض عَنهُ والاشتغال بِالْفرقِ يكون قبولا لما فِيهِ احْتِمَال أَن لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم واشتغالا بِإِثْبَات الحكم بِمَا لَيْسَ بِحجَّة أصلا فِي مَوضِع النزاع وَهُوَ عدم الْعلَّة فَتبين أَن هَذَا لَيْسَ من المفاقهة فِي شَيْء وَالله أعلم
فصل الممانعة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الممانعة أصل الِاعْتِرَاض على الْعلَّة المؤثرة من حَيْثُ إِن الْخصم الْمُجيب يَدعِي أَن حكم الْحَادِثَة مَا أجَاب بِهِ فَإِذا لم يسلم لَهُ ذَلِك يذكر وَصفا يَدعِي أَنه عِلّة مُوجبَة للْحكم فِي الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ وَأَن هَذَا الْفَرْع نَظِير ذَلِك الأَصْل فيتعدى ذَلِك الحكم بِهَذَا الْوَصْف إِلَى الْفَرْع وَفِي هَذَا الحكم دعويان فَهُوَ أظهر فِي الدَّعْوَى من الأول أَي حكم الْحَادِثَة وَإِن كَانَت المناظرة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع دَعْوَى السَّابِق عرفنَا أَنَّهَا لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِمَنْع هَذِه الدَّعَاوَى أَيْضا فَيكون هُوَ مُحْتَاجا إِلَى إِثْبَات دعاويه بِالْحجَّةِ والسائل مُنكر فَلَيْسَ عَلَيْهِ سوى الْمُطَالبَة لإِقَامَة الْحجَّة بِمَنْزِلَة الْمُنكر فِي بَاب الدَّعَاوَى والخصومات وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ للْمُدَّعِي (أَلَك بَيِّنَة) وبالممانعة يتَبَيَّن الْعَوَارِض وَيظْهر الْمُدَّعِي من الْمُنكر والملزم من الدَّافِع بَعْدَمَا ثَبت شرعا أَن حجَّة أَحدهمَا غير حجَّة الآخر
ثمَّ الممانعة على أَرْبَعَة أوجه ممانعة فِي نفس الْعلَّة وممانعة فِي الْوَصْف الَّذِي يذكر الْعِلَل أَنه عِلّة وممانعة فِي شَرط صِحَة الْعلَّة أَنه مَوْجُود فِي ذَلِك الْوَصْف وممانعة فِي الْمَعْنى الَّذِي بِهِ صَار ذَلِك الْوَصْف عِلّة للْحكم
أما الممانعة فِي نفس الْعلَّة فَكَمَا بَينا أَن كثيرا من الْعِلَل إِذا تَأَمَّلت فِيهَا تكون احتجاجا بِلَا دَلِيل وَذَلِكَ لَا يكون حجَّة على الْخصم الْإِثْبَات // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // //(1/235)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب بَيَان الْأَحْكَام الثَّابِتَة بِظَاهِر النَّص دون الْقيَاس والرأي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَحْكَام تَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص وَالثَّابِت بإشارته وَالثَّابِت بدلالته وَالثَّابِت بِمُقْتَضَاهُ
فَأَما الثَّابِت بالعبارة فَهُوَ مَا كَانَ السِّيَاق لأَجله وَيعلم قبل التَّأَمُّل أَن ظَاهر النَّص متناول لَهُ وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ مَا لم يكن السِّيَاق لأَجله لكنه يعلم بِالتَّأَمُّلِ فِي معنى اللَّفْظ من غير زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان وَبِه تتمّ البلاغة وَيظْهر الإعجاز
وَنَظِير ذَلِك من المحسوس أَن ينظر الْإِنْسَان إِلَى شخص هُوَ مقبل عَلَيْهِ وَيدْرك آخَرين بلحظات بَصَره يمنة ويسرة وَإِن كَانَ قَصده رُؤْيَة الْمقبل إِلَيْهِ فَقَط وَمن رمى سَهْما إِلَى صيد فَرُبمَا يُصِيب الصيدين بِزِيَادَة حذقه فِي ذَلِك للْعَمَل فإصابته الَّذِي قصد مِنْهُمَا مُوَافق للْعَادَة وإصابة الآخر فضل على مَا هُوَ الْعَادة حصل بِزِيَادَة حذقه وَمَعْلُوم أَنه يكون مباشرا فعل الِاصْطِيَاد فيهمَا فَكَذَلِك هُنَا الحكم الثَّابِت بِالْإِشَارَةِ والعبارة كل وَاحِد مِنْهُمَا يكون ثَابتا بِالنَّصِّ وَإِن كَانَ عِنْد التَّعَارُض قد يظْهر بَين الْحكمَيْنِ تفَاوت كَمَا نبينه
وَبَيَان هذَيْن النَّوْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} فالثابت بالعبارة فِي هَذِه الْآيَة نصيب من الْفَيْء لَهُم لِأَن سِيَاق الْآيَة لذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي أول الْآيَة {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} الْآيَة وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَن الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة قد زَالَت أملاكهم عَمَّا خلفوا بِمَكَّة لاستيلاء الْكفَّار عَلَيْهَا فَإِن الله تَعَالَى سماهم فُقَرَاء وَالْفَقِير حَقِيقَة من لَا يملك المَال لَا من بَعدت يَده عَن المَال لِأَن الْفقر ضد الْغنى والغني من يملك حَقِيقَة المَال لَا من قربت يَده من المَال حَتَّى لَا يكون الْمكَاتب غَنِيا حَقِيقَة وَإِن كَانَ فِي يَده أَمْوَال وَابْن السَّبِيل غَنِي حَقِيقَة وَإِن بَعدت يَده عَن المَال لقِيَام ملكه وَمُطلق الْكَلَام مَحْمُول على حَقِيقَته وَهَذَا حكم ثَابت بِصِيغَة الْكَلَام من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان فَعرفنَا أَنه ثَابت بِإِشَارَة النَّص وَلَكِن لما كَانَ لَا يتَبَيَّن ذَلِك إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ لاختلافهم فِي التَّأَمُّل وَلِهَذَا قيل الْإِشَارَة من الْعبارَة بِمَنْزِلَة الْكِنَايَة للْعلم قطعا بِمَنْزِلَة الثَّابِت بالعبارة وَمِنْه مَا لَا يكون مُوجبا للْعلم وَذَلِكَ عِنْد اشْتِرَاك معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الِاحْتِمَال مرَادا بالْكلَام
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} فالثابت بالعبارة والتعريض من التَّصْرِيح أَو بِمَنْزِلَة الْمُشكل من الْوَاضِح فَمِنْهُ مَا يكون(1/236)
مُوجبا ظُهُور الْمِنَّة للوالدة على الْوَلَد لِأَن السِّيَاق يدل على ذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَن أدنى مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فقد ثَبت بِنَصّ آخر أَن مُدَّة الفصال حولان كَمَا قَالَ تَعَالَى {وفصاله فِي عَاميْنِ} فَإِنَّمَا يبْقى للْحَمْل سِتَّة أشهر وَلِهَذَا خَفِي ذَلِك على أَكثر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم واختص بفهمه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَلَمَّا ذكر لَهُم ذَلِك قبلوا مِنْهُ واستحسنوا قَوْله
وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} فالثابت بالعبارة وجوب نَفَقَتهَا على الْوَالِد فَإِن السِّيَاق لذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَحْكَام مِنْهَا أَن نِسْبَة الْوَلَد إِلَى الْأَب لِأَنَّهُ أضَاف الْوَلَد إِلَيْهِ بِحرف اللَّام فَقَالَ {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ} فَيكون دَلِيلا على أَنه هُوَ الْمُخْتَص بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ دَلِيل على أَن للْأَب تَأْوِيلا فِي نفس الْوَلَد وَمَاله فَإِن الْإِضَافَة بِحرف اللَّام دَلِيل الْملك كَمَا يُضَاف العَبْد إِلَى سَيّده فَيُقَال هَذَا العَبْد لفُلَان وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَنْت وَمَالك لأَبِيك ولثبوت التَّأْوِيل لَهُ فِي نَفسه وَمَاله قُلْنَا لَا يسْتَوْجب الْعقُوبَة بِإِتْلَاف نَفسه وَلَا يحد بِوَطْء جَارِيَته وَإِن علم حرمتهَا عَلَيْهِ والمسائل على هَذَا كَثِيرَة وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على أَن الْأَب لَا يُشَارِكهُ فِي النَّفَقَة على الْوَلَد غَيره لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَص بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ وَالنَّفقَة تبتني على هَذِه الْإِضَافَة كَمَا وَقعت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي الْآيَة بِمَنْزِلَة نَفَقَة العَبْد فَهِيَ إِنَّمَا تجب على سَيّده لَا يُشَارِكهُ غَيره فِيهَا وَفِيه دَلِيل أَيْضا على أَن اسْتِئْجَار الْأُم على الْإِرْضَاع فِي حَال قيام النِّكَاح بَينهمَا لَا يجوز لِأَنَّهُ جعل النَّفَقَة لَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَار عمل الْإِرْضَاع بقوله تَعَالَى {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} فَلَا يسْتَوْجب بدلين بِاعْتِبَار عمل وَاحِد وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على مَا يسْتَحق بِعَمَل الْإِرْضَاع من النَّفَقَة وَالْكِسْوَة لَا يشْتَرط فِيهِ إِعْلَام الْجِنْس وَالْقدر وَإِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ الْمَعْرُوف فَيكون دَلِيلا لأبي حنيفَة رَحمَه الله فِي جَوَاز اسْتِئْجَار الظِّئْر بطعامها وكسوتها // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // //(1/237)
فصل الْقلب وَالْعَكْس
قَالَ رَضِي الله عَنهُ تَفْسِير الْقلب لُغَة جعل أَعلَى الشَّيْء أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ
من قَول الْقَائِل قلبت الْإِنَاء إِذا نكسه أَو هُوَ جعل بطن الشَّيْء ظهرا وَالظّهْر بَطنا
من قَول الْقَائِل قلبت الجراب إِذا جعل بَاطِنه ظَاهرا وَظَاهره بَاطِنا وقلبت الْأَمر إِذا جعله ظهرا لبطن
وقلب الْعلَّة على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ
وَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا جعل الْمَعْلُول عِلّة وَالْعلَّة معلولا وَهَذَا مُبْطل لِلْعِلَّةِ لِأَن الْعلَّة هِيَ الْمُوجبَة شرعا والمعلول هُوَ الحكم الْوَاجِب بِهِ فَيكون فرعا وتبعا لِلْعِلَّةِ وَإِذا جعل التبع أصلا وَالْأَصْل تبعا كَانَ ذَلِك دَلِيل بطلَان الْعلَّة
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ الشَّافِعِي فِي الذِّمِّيّ إِنَّه يجب عَلَيْهِ الرَّجْم لِأَنَّهُ من جنس من يجلد بكره مائَة فيرجم ثيبه كَالْمُسلمِ
فيقلب عَلَيْهِ فَنَقُول فِي الأَصْل إِنَّمَا يجلد بكره لِأَنَّهُ يرْجم ثيبه فَيكون ذَلِك قلبا مُبْطلًا لعلته بِاعْتِبَار أَن مَا جعل فرعا صَار أصلا وَمَا جعله أصلا صَار تبعا
وَكَذَلِكَ قَوْله الْقِرَاءَة ركن يتَكَرَّر فرضا فِي الْأَوليين فيتكرر أَيْضا فرضا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كالركوع
وَهَذَا النَّوْع من الْقلب إِنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْد التَّعْلِيل بِحكم لحكم فَأَما إِذا كَانَ التَّعْلِيل بِوَصْف لَا يرد عَلَيْهِ هَذَا الْقلب إِذْ الْوَصْف لَا يكون حكما شَرْعِيًّا يثبت بِحكم آخر
وَطَرِيق المخلص عَن هَذَا الْقلب أَن لَا يذكر هَذَا على سَبِيل التَّعْلِيل بل على سَبِيل الِاسْتِدْلَال بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر فَإِن الِاسْتِدْلَال بِحكم على حكم طَرِيق السّلف فِي الْحَوَادِث روينَا ذَلِك عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلَكِن شَرط هَذَا الِاسْتِدْلَال أَن يثبت أَنَّهُمَا نظيران متساويان فَيدل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه هَذَا على ذَاك فِي حَال وَذَاكَ على هَذَا فِي حَال بِمَنْزِلَة التوأم فَإِنَّهُ يثبت حريَّة الأَصْل لأَحَدهمَا أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَيثبت الرّقّ فِي أَيهمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ للْآخر وَذَلِكَ نَحْو مَا يَقُوله عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله
وَبَيَانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن الصَّوْم عبَادَة تلْزم بِالنذرِ فتلزم بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم علينا لِأَن الْحَج إِنَّمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَنَّهُ يلْزم بِالشُّرُوعِ(1/238)
لأَنا نستدل بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر بعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا من حَيْثُ إِن الْمَقْصُود بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا تَحْصِيل عبَادَة زَائِدَة هِيَ مَحْض حق الله تَعَالَى على وَجه يكون الْمَعْنى فِيهَا لَازِما وَالرُّجُوع عَنْهَا بعد الْأَدَاء حرَام وإبطالها بعد الصِّحَّة جِنَايَة فَبعد ثُبُوت الْمُسَاوَاة بَينهمَا يَجْعَل هَذَا دَلِيلا على ذَاك تَارَة وَذَاكَ على هَذَا تَارَة
وَكَذَلِكَ قَوْلنَا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة من يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كالبكر وَفِي الْبكر الْبَالِغَة من لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي مَاله تَصرفا لَا يكون موليا عَلَيْهِ فِي نَفسه تَصرفا كَالرّجلِ يكون اسْتِدْلَالا صَحِيحا بِأحد الْحكمَيْنِ على الآخر إِذْ الْمُسَاوَاة قد تثبت بَين التصرفين من حَيْثُ إِن ثُبُوت الْولَايَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْمولى عَلَيْهِ وعجزه عَن التَّصَرُّف بِنَفسِهِ فَلَا يَسْتَقِيم قلبهم إِذا ذكرنَا هَذَا على وَجه الِاسْتِدْلَال لِأَن جَوَاز الِاسْتِدْلَال بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا على الآخر يدل على قُوَّة المشابهة والمساواة وَهُوَ الْمَقْصُود بالاستدلال بِخِلَاف مَا علل بِهِ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاة بَين الْجلد وَالرَّجم أما من حَيْثُ الذَّات فَالرَّجْم عُقُوبَة غَلِيظَة تَأتي على النَّفس وَالْجَلد لَا وَمن حَيْثُ الشَّرْط الرَّجْم يَسْتَدْعِي من الشَّرَائِط مَا لَا يَسْتَدْعِي عَلَيْهِ الْجلد كالثيوبة
وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين ركن الْقِرَاءَة وَبَين الرُّكُوع فَإِن الرُّكُوع فعل هُوَ أصل فِي الرَّكْعَة وَالْقِرَاءَة ذكر هُوَ زَائِد حَتَّى إِن الْعَاجِز عَن الْأَذْكَار الْقَادِر على الْأَفْعَال يُؤَدِّي الصَّلَاة وَالْعَاجِز عَن الْأَفْعَال الْقَادِر على الْأَذْكَار لَا يُؤَدِّيهَا وَيسْقط ركن الْقِرَاءَة بالاقتداء عندنَا وَعند خوف فَوت الرَّكْعَة بالِاتِّفَاقِ وَلَا يسْقط ركن الرُّكُوع
وَكَذَلِكَ لَا مُسَاوَاة بَين الشفع الثَّانِي وَالشَّفْع الأول فِي الْقِرَاءَة فَإِنَّهُ يسْقط فِي الشفع الثَّانِي شطر مَا كَانَ مَشْرُوعا فِي الشفع الأول وَهُوَ قِرَاءَة السُّورَة وَالْوَصْف الْمَشْرُوع فِيهِ فِي الشفع الأول وَهُوَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ وَمَعَ انعدام الْمُسَاوَاة لَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بِأَحَدِهِمَا على الآخر وَالْقلب يبطل التَّعْلِيل على وَجه المقايسة
وَالنَّوْع الثَّانِي من الْقلب هُوَ جعل الظَّاهِر بَاطِنا بِأَن يَجْعَل الْوَصْف الَّذِي // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // // //(1/239)
فِي المصروف إِلَيْهِ وَهِي المسكنة وَجعل الْوَاجِب فعل الْإِطْعَام فَيكون ذَلِك دَلِيلا على أَنه مَشْرُوع لاعْتِبَار حَاجَة الْمحل ثمَّ هَذِه الْحَاجة تتجدد بتجدد الْأَيَّام فَجعلنَا الْمِسْكِين الْوَاحِد فِي عشرَة أَيَّام بِمَنْزِلَة عشرَة مَسَاكِين فِي جَوَاز الصّرْف إِلَيْهِ وَلِهَذَا لم نجوز صرف جَمِيع الْكَفَّارَة إِلَى مِسْكين وَاحِد دفْعَة وَاحِدَة
فَإِن قيل فقد جوزتم صرف الْكسْوَة أَيْضا إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي عشرَة أَيَّام وَالْحَاجة إِلَى الْكسْوَة لَا تتجدد (فِي) كل يَوْم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي كل سِتَّة أشهر أَو أَكثر
قُلْنَا قد بَينا أَن التَّكْفِير فِي الْكسْوَة يحصل بالتمليك وَالْحَاجة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار التَّمْلِيك لَا نِهَايَة لَهَا فتجعل متجددة حكما بتجدد الْأَيَّام وَلِهَذَا قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا فرق الْإِطْعَام فِي يَوْم وَاحِد يجوز أَيْضا وَإِن أدّى الْكل مِسْكينا وَاحِدًا لِأَن تجدّد الْحَاجة بتجدد الْوَقْت مَعْلُوم وحقيقتها يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيجْعَل بِاعْتِبَار كل سَاعَة كَأَن الْحَاجة متجددة حكما وَلَكِن هَذَا فِي التَّمْلِيك فَأَما فِي التَّمْكِين لَا يتَحَقَّق هَذَا وَأَكْثَرهم على أَن فِي الْكسْوَة يعْتَبر هَذَا الْمَعْنى الْحكمِي فَأَما فِي الطَّعَام يعْتَبر بتجدد الْأَيَّام لِأَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ الْإِطْعَام وَحَقِيقَته فِي التَّمْكِين من الطَّعَام وَمعنى تجدّد الْحَاجة إِلَى ذَلِك لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتجدد الْأَيَّام
وَمن ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم فالثابت بالعبارة وجوب أَدَاء صَدَقَة الْفطر فِي يَوْم الْعِيد إِلَى الْفَقِير والسياق لذَلِك وَالثَّابِت بِالْإِشَارَةِ أَحْكَام مِنْهَا أَنَّهَا لَا تجب إِلَّا على الْغَنِيّ لِأَن الإغناء إِنَّمَا يتَحَقَّق من الْغَنِيّ وَمِنْهَا أَن الْوَاجِب الصّرْف إِلَى الْمُحْتَاج لِأَن إغناء الْغَنِيّ لَا يتَحَقَّق وَإِنَّمَا يتَحَقَّق إغناء الْمُحْتَاج وَمِنْهَا أَنه يَنْبَغِي أَن يعجل أداءها قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى ليستغني عَن الْمَسْأَلَة ويحضر الْمُصَلِّي فارغ الْقلب من قوت الْعِيَال فَلَا يحْتَاج إِلَى السُّؤَال وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف لَا يجوز صرفهَا إِلَّا إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين فَفِي قَوْله (فِي مثل هَذَا الْيَوْم) إِشَارَة إِلَى ذَلِك يَعْنِي أَنه يَوْم عيد للْفُقَرَاء والأغنياء جَمِيعًا وَإِنَّمَا يتم ذَلِك للْفُقَرَاء إِذا استغنوا عَن السُّؤَال فِيهِ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى النّدب أَن الأولى أَن يصرفهُ إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين كَمَا أَن(1/240)
الأولى أَن يعجل أداءها قبل الصَّلَاة وَإِن كَانَ التَّأْخِير جَائِزا وَمِنْهَا أَن وجوب الْأَدَاء يتَعَلَّق بِطُلُوع الْفجْر لِأَن الْيَوْم اسْم للْوَقْت من طُلُوع الْفجْر إِلَى غرُوب الشَّمْس وَإِنَّمَا يُغْنِيه عَن الْمَسْأَلَة فِي ذَلِك الْيَوْم أَدَاء فِيهِ وَمِنْهَا أَنه يتَأَدَّى الْوَاجِب بِمُطلق المَال لِأَنَّهُ اعْتبر الإغناء وَذَلِكَ يحصل بِالْمَالِ الْمُطلق وَرُبمَا يكون حُصُوله بِالنَّقْدِ أتم من حُصُوله بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير وَالتَّمْر وَمِنْهَا أَن الأولى أَن يصرف صدقته إِلَى مِسْكين وَاحِد لِأَن الإغناء بذلك يحصل وَإِذا فرقها على الْمَسَاكِين كَانَ هَذَا فِي الإغناء دون الأول وَمَا كَانَ أكمل فِيمَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فَهُوَ أفضل فَهَذِهِ أَحْكَام عرفناها بِإِشَارَة النَّص وَهُوَ معنى جَوَامِع الْكَلم الَّذِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي اختصارا هَذَا مِثَال بَيَان الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص وإشارته من الْكتاب وَالسّنة
فَأَما الثَّابِت بِدلَالَة النَّص فَهُوَ مَا ثَبت بِمَعْنى النّظم لُغَة لَا استنباطا بِالرَّأْيِ لِأَن للنظم صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى هُوَ الْمَقْصُود بِهِ فالألفاظ مَطْلُوبَة للمعاني وَثُبُوت الحكم بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوب بِاللَّفْظِ بِمَنْزِلَة الضَّرْب لَهُ صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى هُوَ الْمَطْلُوب بِهِ وَهُوَ الإيلام ثمَّ ثُبُوت الحكم بِوُجُود الْمُوجب لَهُ فَكَمَا أَن فِي الْمُسَمّى الْخَاص ثُبُوت الحكم بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْمَعْلُوم بالنظم لُغَة فَكَذَلِك فِي الْمُسَمّى الْخَاص الَّذِي هُوَ غير مَنْصُوص عَلَيْهِ يثبت الحكم بذلك الْمَعْنى وَيُسمى ذَلِك دلَالَة النَّص فَمن حَيْثُ إِن الحكم غير ثَابت فِيهِ بتناول صُورَة النَّص إِيَّاه لم يكن ثَابتا بِعِبَارَة النَّص وَمن حَيْثُ إِنَّه ثَابت بِالْمَعْنَى الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ لُغَة كَانَ دلَالَة النَّص وَلم يكن قِيَاسا فَالْقِيَاس معنى يستنبطه بِالرَّأْيِ مِمَّا ظهر لَهُ أثر فِي الشَّرْع ليتعدى بِهِ الحكم إِلَى مَا لَا نَص فِيهِ لَا استنباط بِاعْتِبَار معنى النّظم لُغَة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ مثل بِمثل جعلنَا الْغلَّة هِيَ الْكَيْل وَالْوَزْن بِالرَّأْيِ فَإِن ذَلِك لَا تتناوله صُورَة النّظم وَلَا مَعْنَاهَا لُغَة وَلِهَذَا اخْتصَّ الْعلمَاء بِمَعْرِِفَة الاستنباط بِالرَّأْيِ ويشترك فِي معرفَة دلَالَة النَّص كل من لَهُ بصر فِي معنى الْكَلَام لُغَة فَقِيها أَو غير فَقِيه
وَمِثَال مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما} فَإِن للتأفيف صُورَة مَعْلُومَة وَمعنى(1/241)
لأَجله ثبتَتْ الْحُرْمَة وَهُوَ الْأَذَى حَتَّى إِن من لَا يعرف هَذَا الْمَعْنى من هَذَا اللَّفْظ أَو كَانَ من قوم هَذَا فِي لغتهم إكرام لم تثبت الْحُرْمَة فِي حَقه ثمَّ بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى الْمَعْلُوم لُغَة تثبت الْحُرْمَة فِي سَائِر أَنْوَاع الْكَلَام الَّتِي فِيهَا هَذَا الْمَعْنى كالشتم وَغَيره وَفِي الْأَفْعَال كالضرب وَنَحْوه وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ لِأَن قدر مَا فِي التأفيف من الْأَذَى مَوْجُود فِيهِ وَزِيَادَة
وَمِثَال هَذَا مَا رُوِيَ أَن ماعزا زنى وَهُوَ مُحصن فرجم وَقد علمنَا أَنه مَا رجم لِأَنَّهُ مَاعِز بل لِأَنَّهُ زنى فِي حَالَة الْإِحْصَان فَإِذا ثَبت هَذَا الحكم فِي غَيره كَانَ ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ
وَكَذَلِكَ أوجب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَفَّارَة على الْأَعرَابِي بِاعْتِبَار جِنَايَته لَا لكَونه أَعْرَابِيًا فَمن وجدت مِنْهُ مثل تِلْكَ الْجِنَايَة يكون الحكم فِي حَقه ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَهَذَا لِأَن الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِالنَّصِّ لُغَة بِمَنْزِلَة الْعلَّة الْمَنْصُوص عَلَيْهَا شرعا على مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْهِرَّة إِنَّهَا لَيست بنجسة إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ثمَّ هَذَا الحكم يثبت فِي الْفَأْرَة والحية بِهَذِهِ الْعلَّة فَلَا يكون ثَابتا بِالْقِيَاسِ بل بِدلَالَة النَّص
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للمستحاضة إِنَّه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صَلَاة ثمَّ ثَبت ذَلِك الحكم فِي سَائِر الدِّمَاء الَّتِي تسيل من الْعُرُوق فَيكون ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا جعلنَا الثَّابِت بِدلَالَة النَّص كَالثَّابِتِ بِإِشَارَة النَّص وَإِن كَانَ يظْهر بَينهمَا التَّفَاوُت عِنْد الْمُقَابلَة وكل وَاحِد مِنْهُمَا ضرب من البلاغة أَحدهمَا من حَيْثُ اللَّفْظ وَالْآخر من حَيْثُ الْمَعْنى وَلِهَذَا جَوَّزنَا إِثْبَات الْعُقُوبَات وَالْكَفَّارَات بِدلَالَة النَّص وَإِن كُنَّا لَا نجوز ذَلِك بِالْقِيَاسِ فأوجبنا حد قطاع الطَّرِيق على الردء بِدلَالَة النَّص لِأَن عبارَة النَّص الْمُحَاربَة وَصُورَة ذَلِك بِمُبَاشَرَة الْقِتَال وَمَعْنَاهَا لُغَة قهر الْعَدو والتخويف على وَجه يَنْقَطِع بِهِ الطَّرِيق وَهَذَا معنى مَعْلُوم بالمحاربة لُغَة والردء مبَاشر لذَلِك كالمقاتل وَلِهَذَا اشْتَركُوا فِي الْغَنِيمَة فيقام الْحَد على الردء بِدلَالَة النَّص من هَذِه الْوُجُوه
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله يجب الْحَد فِي اللواطة على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ بِدلَالَة نَص الزِّنَا فالزنا اسْم لفعل معنوي لَهُ غَرَض وَهُوَ اقْتِضَاء الشَّهْوَة على قصد سفح المَاء بطرِيق حرَام لَا شُبْهَة فِيهِ وَقد وجد هَذَا كُله فِي اللواطة فاقتضاء الشَّهْوَة بِالْمحل المشتهي وَذَلِكَ بِمَعْنى الْحَرَارَة واللين أَلا ترى أَن الَّذين لَا يعْرفُونَ الشَّرْع لَا يفصلون بَينهمَا وَالْقَصْد مِنْهُ السفاح(1/242)
لِأَن النَّسْل لَا تصور لَهُ فِي هَذَا الْمحل وَالْحُرْمَة هُنَا أبلغ من الْحُرْمَة فِي الْفِعْل الَّذِي يكون فِي الْقبل فَإِنَّهَا حُرْمَة لَا تنكشف بِحَال وَإِنَّمَا يُبدل اسْم الْمحل فَقَط فَيكون الحكم ثَابتا بِدلَالَة النَّص لَا بطرِيق الْقيَاس
وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول هُوَ قَاصِر فِي الْمَعْنى الَّذِي وَجب الْحَد بِاعْتِبَارِهِ فَإِن الْحَد مَشْرُوع زجرا وَذَلِكَ عِنْد دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ وَدُعَاء الطَّبْع إِلَى مُبَاشرَة هَذَا الْفِعْل فِي الْقبل من الْجَانِبَيْنِ فَأَما فِي الدبر دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ من جَانب الْفَاعِل لَا من جَانب الْمَفْعُول بِهِ وَفِي بَاب الْعُقُوبَات تعْتَبر صفة الْكَمَال لما فِي النُّقْصَان من شُبْهَة الْعَدَم ثمَّ فِي الزِّنَا إِفْسَاد الْفراش وَإِتْلَاف الْوَلَد حكما فَإِن الْوَلَد الَّذِي يتخلق من المَاء فِي ذَلِك الْمحل لَا يعرف لَهُ وَالِد لينفق عَلَيْهِ وبالنساء عجز عَن الِاكْتِسَاب والإنفاق وَلَا يُوجد هَذَا الْمَعْنى فِي الدبر فَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرّد تَضْييع المَاء بالصب فِي غير مَحل منبت وَذَلِكَ قد يكون مُبَاحا بطرِيق الْعَزْل فَعرفنَا أَنه دون الزِّنَا فِي الْمَعْنى الَّذِي لأَجله أوجب الْحَد وَلَا مُعْتَبر بتأكد الْحُرْمَة فِي حكم الْعقُوبَة أَلا ترى أَن حُرْمَة الدَّم وَالْبَوْل آكِد من حُرْمَة الْخمر ثمَّ الْحَد يجب بِشرب الْخمر وَلَا يجب بِشرب الدَّم وَالْبَوْل للتفاوت فِي معنى دُعَاء الطَّبْع من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا قَود إِلَّا بِالسَّيْفِ إِن الْقصاص يجب إِذا حصل الْقَتْل بِالرُّمْحِ أَو النشابة لِأَن لعبارة النَّص معنى مَعْلُوما فِي اللُّغَة وَذَلِكَ الْمَعْنى كَامِل فِي الْقَتْل بِالرُّمْحِ والنشابة وَقد عرفنَا أَن المُرَاد بِذكر السَّيْف الْقَتْل بِهِ لَا قَبضه وَإِنَّمَا السَّيْف آلَة يحصل بِهِ الْقَتْل فَإِذا حصل بِآلَة أُخْرَى مثل ذَلِك الْقَتْل تعلق حكم الْقصاص بِهِ بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ
ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِذكر السَّيْف لُغَة أَنه نَاقض للبنية بِالْجرْحِ وَظُهُور أَثَره فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَلَا يثبت هَذَا الحكم فِيمَا لَا يماثله فِي هَذَا الْمَعْنى وَهُوَ الْحجر والعصا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الْمَعْنى الْمَعْلُوم بِهِ لُغَة أَن النَّفس لَا تطِيق احْتِمَاله وَدفع أَثَره فَيثبت الحكم بِهَذَا الْمَعْنى فِي الْقَتْل بالمثقل وَيكون ثَابتا بِدلَالَة النَّص قَالَا لِأَن الْقَتْل نقض البنية وَذَلِكَ بِفِعْلِهِ لَا تحتمله البنية مَعَ صفة السَّلامَة وَهَذَا الْمَعْنى فِي المثقل أظهر فَإِن إِلْقَاء حجر الرَّحَى والاسطوانة على إِنْسَان لَا تحتمله البنية بِنَفسِهَا وَالْقَتْل بِالْجرْحِ لَا تحتمله البنية بِوَاسِطَة السَّرَايَة وَإِذا كَانَ هَذَا أتم فِي الْمَعْنى الْمُعْتَبر كَانَ ثُبُوت الحكم فِيهِ(1/243)
بِدلَالَة النَّص كَمَا فِي الضَّرْب مَعَ التأفيف
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول الْمُعْتَبر فِي بَاب الْعُقُوبَات صفة الْكَمَال فِي السَّبَب لما فِي النُّقْصَان من شُبْهَة الْعَدَم والكمال فِي نقض البنية بِمَا يكون عَاملا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا فاعتبار مُجَرّد عدم احْتِمَال البنية إِيَّاه مَعَ صفة السَّلامَة ظَاهرا لتعدية الحكم غير مُسْتَقِيم فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم ذَلِك فِيمَا يثبت بِالشُّبُهَاتِ كالدية وَالْكَفَّارَة فَأَما مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَيعْتَبر فِيهِ الْمُمَاثلَة فِي الِاسْتِيفَاء بِالنَّصِّ لَا بُد من اعْتِبَار صفة الْكَمَال فِيهِ وَدَلِيل النُّقْصَان حكم الذَّكَاة فَإِنَّهُ يخْتَص بِمَا ينْقض البنية ظَاهرا وَبَاطنا وَلَا يعْتَبر فِيهِ مُجَرّد عدم احْتِمَال البنية إِيَّاه وَمَا قَالَه إِن الْجرْح وَسِيلَة كَلَام لَا معنى لَهُ فإننا لَا نعني بِفعل الْقَتْل الْجِنَايَة على الْجِسْم وَلَا على الرّوح إِذْ لَا تتَصَوَّر بِالْجِنَايَةِ على الرّوح من الْعباد والجسم تبع وَالْمَقْصُود هُوَ النَّفس الَّذِي هُوَ عبارَة عَن الطبائع فالجناية عَلَيْهَا إِنَّمَا تتمّ بإراقة الدَّم وَذَلِكَ بِعَمَل يكون جارحا مؤثرا فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن جَمِيعًا وَلِهَذَا كَانَ الغرز بالإبرة مُوجبا للْقصَاص لِأَنَّهُ مسيل للدم مُؤثر فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن إِلَّا أَنه لَا يكون مُوجبا الْحل فِي الذَّكَاة لِأَن الْمُعْتَبر هُنَا تسييل جَمِيع الدَّم المسفوح ليتميز بِهِ الطَّاهِر من النَّجس وَلِهَذَا اخْتصَّ بِقطع الْحُلْقُوم والأوداج عِنْد التيسر وَلم يثبت حكم الْحل بالنَّار أَيْضا لِأَنَّهَا تُؤثر فِي الظَّاهِر حسما فَلَا يتَمَيَّز بِهِ الطَّاهِر من النَّجس بل يمْتَنع بِهِ من سيلان الدَّم
وَمن ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما أوجب الْكَفَّارَة على الْأَعرَابِي بِجِنَايَتِهِ الْمَعْلُومَة بِالنَّصِّ لُغَة أَوجَبْنَا على الْمَرْأَة أَيْضا مثل ذَلِك بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ فَإِن الْأَعرَابِي سَأَلَ عَن جِنَايَته بقوله هَلَكت وأهلكت
وَقد علمنَا أَنه لم يرد الْجِنَايَة على الْبضْع لِأَن فعل الْجِمَاع حصل مِنْهُ فِي مَحل مَمْلُوك لَهُ فَلَا يكون جِنَايَة لعَينه أَلا ترى أَنه لَو كَانَ نَاسِيا لصومه لم يكن ذَلِك مِنْهُ جِنَايَة أصلا فَعرفنَا أَن جِنَايَته كَانَ على الصَّوْم بِاعْتِبَار تَفْوِيت رُكْنه الَّذِي يتَأَدَّى بِهِ وَقد علم أَن ركن الصَّوْم الْكَفّ(1/244)
عَن اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن و (شَهْوَة) الْفرج وَوُجُوب الْكَفَّارَة للزجر عَن الْجِنَايَة على الصَّوْم ثمَّ دُعَاء الطَّبْع إِلَى اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن أظهر مِنْهُ إِلَى اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج وَوقت الصَّوْم وَقت اقْتِضَاء شَهْوَة الْبَطن عَادَة يَعْنِي النَّهر فَأَما اقْتِضَاء شَهْوَة الْفرج يكون بالليالي عَادَة فَكَانَ الحكم ثَابتا بِدلَالَة النَّص من هَذَا الْوَجْه فَإِن الْجِمَاع آلَة لهَذِهِ الْجِنَايَة كَالْأَكْلِ وَقد بَينا أَنه لَا مُعْتَبر بالآلة فِي الْمَعْنى الَّذِي يَتَرَتَّب الحكم عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِير قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه وكما يصير معتقا بِالشِّرَاءِ يصير معتقا بِقبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فِيهِ لِأَن الشِّرَاء سَبَب لما يتم بِهِ عِلّة الْعتْق وَهُوَ الْملك وَقبُول الْهِبَة مثل الشِّرَاء فِي ذَلِك ثمَّ الْجِنَايَة على الصَّوْم بِهَذِهِ الصّفة تتمّ مِنْهَا بالتمكين كَمَا تتمّ بِهِ من الرجل بالإيلاج وَمعنى دُعَاء الطَّبْع فِي جَانبهَا كَهُوَ فِي جَانب الرجل فالكفارة تلزمها بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ
وَمن ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للَّذي أكل نَاسِيا فِي شهر رَمَضَان إِن الله أطعمك وسقاك فتم على صومك ثمَّ أثبتنا هَذَا الحكم فِي الَّذِي جَامع نَاسِيا بِدلَالَة النَّص فَإِن تَفْوِيت ركن الصَّوْم حَقِيقَة لَا يخْتَلف بِالنِّسْيَانِ والعمد وَلَكِن النسْيَان معنى مَعْلُوم لُغَة وَهُوَ أَنه مَحْمُول عَلَيْهِ طبعا على وَجه لَا صنع لَهُ فِيهِ وَلَا لأحد من الْعباد فَكَانَ مُضَافا إِلَى من لَهُ الْحق وَالْجِمَاع فِي حَالَة النسْيَان مثل الْأكل فِي هَذَا الْمَعْنى فَيثبت الحكم فِيهِ بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ إِذْ الْمَخْصُوص من الْقيَاس لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره
فَإِن قيل الْجِمَاع لَيْسَ نَظِير الْأكل من كل وَجه فَإِن وَقت أَدَاء الصَّوْم وَقت الْأكل عَادَة وَوقت الْأَسْبَاب المفضية إِلَى الْأكل من التَّصَرُّف فِي الطَّعَام وَغير ذَلِك فيبتلى فِيهِ بِالنِّسْيَانِ غَالِبا وَهُوَ لَيْسَ بِوَقْت الْجِمَاع عَادَة وَالصَّوْم أَيْضا يُضعفهُ عَن الْجِمَاع وَلَا يزِيد فِي شَهْوَته كَمَا يزِيد فِي شَهْوَة الْأكل فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْجِمَاع من النَّاسِي فِي الصَّوْم بِمَنْزِلَة الْأكل من النَّاسِي فِي الصَّلَاة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا نَادِر(1/245)
قُلْنَا نعم فِي الْجِمَاع هَذَا النَّوْع من التَّقْصِير وَلَكِن فِيهِ زِيَادَة فِي دُعَاء الطَّبْع إِلَيْهِ من حَيْثُ إِن الشبق قد يغلب على الْمَرْء على وَجه لَا يصبر عَن الْجِمَاع وَعند غَلَبَة الشبق يذهب من قلبه كل شَيْء سوى ذَلِك الْمَقْصُود وَلَا يُوجد مثل هَذَا الشبق فِي الْأكل فَتكون هَذِه الزِّيَادَة بِمُقَابلَة ذَلِك الْقُصُور حَتَّى تتَحَقَّق الْمُسَاوَاة بَينهمَا وَلَكِن لَا تعْتَبر هَذِه الزِّيَادَة عِنْد ذكر الصَّوْم فِي حق الْكَفَّارَة لِأَن غَلَبَة الشبق بِهَذِهِ الصّفة تنعدم بِإِبَاحَة الْجِمَاع لَيْلًا وَلِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا نَادرا وَصفَة الْكَمَال لَا تبتنى على مَا هُوَ نَادِر وَإِنَّمَا تبتنى على مَا هُوَ الْمُعْتَاد وَإِنَّمَا طَرِيق الْقيَاس فِي هَذَا مَا سلكه الشَّافِعِي رَحمَه الله حَيْثُ جعل الْمُكْره والخاطىء بِمَنْزِلَة النَّاسِي بِاعْتِبَار وصف الْعذر فَإِن الكره وَالْخَطَأ غير النسْيَان صُورَة وَمعنى فَالْحكم الثَّابِت بِالنِّسْيَانِ لَا يكون ثَابتا بالْخَطَأ والكره بِدلَالَة النَّص بل يكون بطرِيق الْقيَاس وَهُوَ قِيَاس فَاسد فَإِن الكره مُضَاف إِلَى غير من لَهُ الْحق وَهُوَ الْمُكْره وَالْخَطَأ مُضَاف إِلَى المخطىء أَيْضا وَهُوَ مِمَّا يَتَأَتَّى عَنهُ التَّحَرُّز فِي الْجُمْلَة فَلم يكن فِي معنى مَا لَا صنع للعباد فِيهِ أصلا أَلا ترى أَن الْمَرِيض يُصَلِّي قَاعِدا ثمَّ لَا تلْزمهُ الْإِعَادَة إِذا برأَ بِخِلَاف الْمُقَيد
ث وَمن ذَلِك أَن الله تَعَالَى لما أوجب الْقَضَاء على الْمُفطر فِي رَمَضَان بِعُذْر وَهُوَ الْمَرِيض وَالْمُسَافر أَوجَبْنَا على الْمُفطر بِغَيْر عذر بِدلَالَة النَّص لَا بِالْقِيَاسِ فَإِن فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَنْعَدِم أَدَاء الصَّوْم الْوَاجِب فِي الْوَقْت وَالْمَرَض وَالسّفر عذر فِي الْإِسْقَاط لَا فِي الْإِيجَاب فَعرفنَا أَن وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَدَاء فِي الْوَقْت بِالْفطرِ لُغَة وَقد وجد هَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه إِذا أفطر من غير عذر فَيلْزمهُ الْقَضَاء بِدلَالَة النَّص
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِهَذَا الطَّرِيق أوجبت الْكَفَّارَة فِي قتل الْعمد لِأَن النَّص جَاءَ بِإِيجَاب الْكَفَّارَة فِي قتل الْخَطَأ وَلَكِن الْخَطَأ عذر مسْقط فَعرفنَا أَن وجوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار أصل الْقَتْل دون صفة الْخَطَأ وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعمد وَزِيَادَة فَتجب الْكَفَّارَة فِي الْعمد بِدلَالَة النَّص وَبِهَذَا الطَّرِيق أوجبت الْكَفَّارَة فِي الْغمُوس لِأَن فِي الْمَعْقُود على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل وَجَبت الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار جِنَايَته لما فِي الْإِقْدَام على الْحِنْث من هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْغمُوس وَزِيَادَة فَإِنَّهَا محظورة لأجل الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى كَاذِبًا وَهَذَا هُوَ صفة الْحَظْر فِي المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل بعد الْحِنْث
وَلَكنَّا نقُول هَذَا الِاسْتِدْلَال(1/246)
فَاسد لِأَن الْوَاجِب بِالنَّصِّ الْكَفَّارَة وَهِي اسْم لعبادة فِيهَا معنى الْعقُوبَة تبعا من حَيْثُ إِنَّهَا أوجبت جَزَاء وَلكنهَا تتأدى بِفعل هُوَ عبَادَة وَالْمَقْصُود بهَا نيل الثَّوَاب ليَكُون مكفرا للذنب وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك بِمَا هُوَ عبَادَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} فيستدعي سَببا مترددا بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة لِأَن الْعُقُوبَات الْمَحْضَة سَببهَا مَحْظُور مَحْض والعبادات الْمَحْضَة سَببهَا مَا لَا حظر فِيهِ فالمتردد يَسْتَدْعِي سَببا مترددا وَذَلِكَ فِي قتل الْخَطَأ فَإِنَّهُ من حَيْثُ الصُّورَة رمى إِلَى الصَّيْد أَو إِلَى الْكَافِر وَهُوَ الْمُبَاح وَبِاعْتِبَار الْمحل يكون مَحْظُورًا لِأَنَّهُ أصَاب آدَمِيًّا مُحْتَرما فَأَما الْعمد فَهُوَ مَحْظُور مَحْض فَلَا يصلح سَببا لِلْكَفَّارَةِ وَكَذَلِكَ المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل فِيهَا تردد فَإِن تَعْظِيم الْمقسم بِهِ فِي الِابْتِدَاء وَذَلِكَ مَنْدُوب إِلَيْهِ وَلِهَذَا شرعت فِي بيعَة نصْرَة الْحق وفيهَا معنى الْحَظْر أَيْضا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم} وَقَالَ تَعَالَى {واحفظوا أَيْمَانكُم} وَالْمرَاد الْحِفْظ بالامتناع عَن الْيَمين فلكونها دَائِرَة بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة تصلح سَببا لِلْكَفَّارَةِ فَأَما الْغمُوس مَحْظُور مَحْض لِأَن الْكَذِب بِدُونِ الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى حرَام لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة فَمَعَ الاستشهاد بِاللَّه تَعَالَى أولى فَكَانَ الْغمُوس بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى كَالزِّنَا وَالرِّدَّة فَلَا يصلح سَببا لوُجُوب الْكَفَّارَة
وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْقَتْل بالمثقل على قَول أبي حنيفَة فَإِنَّهُ مُوجب لكفارة وَإِن كَانَ مَحْظُورًا مَحْضا لِأَن المثقل لَيْسَ بِآلَة للْقَتْل بِأَصْل الْخلقَة وَإِنَّمَا هُوَ آلَة للتأديب أَلا ترى أَن إجراءه للتأديب بِهِ وَالْمحل قَابل للتأديب مُبَاح فلتمكن الشُّبْهَة من حَيْثُ الْآلَة يصير الْفِعْل فِي معنى الدائر وَلِهَذَا لم يَجعله مُوجبا للعقوبة فَجعله مُوجبا لِلْكَفَّارَةِ وَلَا يدْخل على هَذَا قتل الْحَرْبِيّ الْمُسْتَأْمن (عمدا) فَإِنَّهُ غير مُوجب لِلْكَفَّارَةِ وَإِن لم تمكن فِيهِ شُبْهَة حَتَّى لم يكن مُوجبا للْقصَاص لِأَن امْتنَاع وجوب الْقصاص هُنَاكَ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثلَة بَين المحلين لَا لشُبْهَة وَلِهَذَا يجب الْقصاص على الْمُسْتَأْمن بقتل الْمُسْتَأْمن
نَص عَلَيْهِ فِي السّير الْكَبِير
وَإِن كَانَ امْتنَاع وجوب الْقصاص لأجل الشُّبْهَة فَتلك الشُّبْهَة فِي الْمحل لَا فِي الْفِعْل وَفِي الْقصاص مُقَابلَة الْمحل بِالْمحل وَلِهَذَا لَا تجب الدِّيَة مَعَ وجوب الْقصاص فَأَما الْكَفَّارَة جَزَاء الْفِعْل وَلَا شُبْهَة فِي الْفِعْل هُنَاكَ بل هُوَ مَحْظُور(1/247)
مَحْض فَلم يكن مُوجبا لِلْكَفَّارَةِ فَأَما فِي المثقل الشُّبْهَة فِي الْفِعْل بِاعْتِبَار أَن الْآلَة لَيست بِآلَة الْقَتْل وَالْفِعْل لَا يَتَأَتَّى بِدُونِ الْآلَة فاعتبرنا هَذِه الشُّبْهَة فِي الْقصاص وَالْكَفَّارَة جَمِيعًا
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا يجب سُجُود السَّهْو على من زَاد أَو نقص فِي صلَاته عمدا لِأَن وجوب السُّجُود عَلَيْهِ عِنْد السَّهْو بِاعْتِبَار تمكن النُّقْصَان فِي صلَاته وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعمد وَزِيَادَة فَيثبت الحكم فِيهِ بِدلَالَة النَّص
وَقُلْنَا هَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد لِأَن السَّبَب الْمُوجب بِالنَّصِّ شرعا هُوَ السَّهْو على مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لكل سَهْو سَجْدَتَانِ بعد السَّلَام والسهو يَنْعَدِم إِذا كَانَ عَامِدًا
فَهَذَا هُوَ الْمِثَال فِي بَيَان الثَّابِت بِدلَالَة النَّص
وَالنَّوْع الرَّابِع وَهُوَ الْمُقْتَضى وَهُوَ عبارَة عَن زِيَادَة على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ يشْتَرط تَقْدِيمه ليصير المنظوم مُفِيدا أَو مُوجبا للْحكم وبدونه لَا يُمكن إِعْمَال المنظوم فَكَانَ الْمُقْتَضى مَعَ الحكم مضافين إِلَى النَّص ثابتين بِهِ الحكم بِوَاسِطَة الْمُقْتَضى بِمَنْزِلَة شِرَاء الْقَرِيب يثبت بِهِ الْملك وَالْعِتْق على أَن يَكُونَا مضافين إِلَى الشِّرَاء الْعتْق بِوَاسِطَة الْملك فَعرفنَا أَن الثَّابِت بطرِيق الِاقْتِضَاء بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِدلَالَة النَّص لَا بِمَنْزِلَة الثَّابِت بطرِيق الْقيَاس إِلَّا أَن عِنْد الْمُعَارضَة الثَّابِت بِدلَالَة النَّص أقوى لِأَن النَّص يُوجِبهُ بِاعْتِبَار الْمَعْنى لُغَة والمقتضى لَيْسَ من موجباته لُغَة وَإِنَّمَا ثَبت شرعا للْحَاجة إِلَى إِثْبَات الحكم بِهِ وَلَا عُمُوم للمقتضى عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي للمقتضى عُمُوم لِأَن الْمُقْتَضى بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص فِي ثُبُوت الحكم بِهِ حَتَّى كَانَ الحكم الثَّابِت بِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَكَذَلِك فِي إِثْبَات صفة الْعُمُوم فِيهِ فَيجْعَل كالمنصوص
وَلَكنَّا نقُول ثُبُوت الْمُقْتَضى للْحَاجة والضرورة حَتَّى إِذا كَانَ الْمَنْصُوص مُفِيدا للْحكم بِدُونِ الْمُقْتَضى لَا يثبت الْمُقْتَضى لُغَة وَلَا شرعا وَالثَّابِت بِالْحَاجةِ يتَقَدَّر بِقَدرِهَا وَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات صفة الْعُمُوم للمقتضى فَإِن الْكَلَام مُفِيد بِدُونِهِ وَهُوَ نَظِير تنَاول الْميتَة لما أُبِيح للْحَاجة تتقدر بِقَدرِهَا وَهُوَ سد الرمق وَفِيمَا وَرَاء ذَلِك من الْحمل والتمول والتناول إِلَى الشِّبَع لَا يثبت حكم الْإِبَاحَة فِيهِ بِخِلَاف الْمَنْصُوص فَإِنَّهُ عَامل بِنَفسِهِ فَيكون بِمَنْزِلَة حل الذكية يظْهر فِي حكم التَّنَاوُل وَغَيره مُطلقًا يُوضحهُ أَن الْمُقْتَضى تبع للمقتضي(1/248)
فَإِنَّهُ شَرطه ليَكُون مُفِيدا وَشرط الشَّيْء يكون تبعه وَلِهَذَا يكون ثُبُوته بشرائط الْمَنْصُوص فَلَو جعل هُوَ كالمنصوص خرج من أَن يكون تبعا والعموم حكم صِيغَة النَّص خَاصَّة فَلَا يجوز إثْبَاته فِي الْمُقْتَضى
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا قَالَ لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَأعْتقهُ وَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَعَلِيهِ الْألف لِأَن الْأَمر بِالْإِعْتَاقِ عَنهُ يَقْتَضِي تمْلِيك الْعين مِنْهُ بِالْبيعِ ليتَحَقَّق الْإِعْتَاق عَنهُ وَهَذَا الْمُقْتَضى يثبت مُتَقَدما وَيكون بِمَنْزِلَة الشَّرْط لِأَنَّهُ وصف فِي الْمحل وَالْمحل للتَّصَرُّف كالشرط فَكَذَا مَا يكون وَصفا للمحل وَإِنَّمَا يثبت بِشَرْط الْعتْق لَا بِشَرْط البيع مَقْصُودا حَتَّى يسْقط اعْتِبَار الْقبُول فِيهِ وَلَو كَانَ الْآمِر مِمَّن لَا يملك الْإِعْتَاق لم يثبت البيع بِهَذَا الْكَلَام وَلَو صرح الْمَأْمُور بِالْبيعِ بِأَن قَالَ بِعته مِنْك بِأَلف دِرْهَم وأعتقته لم يجز عَن الْآمِر وَبِهَذَا تبين أَن الْمُقْتَضى لَيْسَ كالمنصوص عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاء مَوضِع الْحَاجة
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قَالَ أعتق عَبدك عني بِغَيْر شَيْء فَأعْتقهُ يَقع الْعتْق عَن الْآمِر لِأَن الْملك بطرِيق الْهِبَة يثبت هُنَا بِمُقْتَضى الْعتْق فَيثبت على شَرَائِط الْعتْق وَيسْقط اعْتِبَار شَرطه مَقْصُودا وَهُوَ الْقَبْض كَمَا يسْقط اعْتِبَار الْقبُول فِي البيع بل أولى لِأَن الْقبُول ركن فِي البيع وَالْقَبْض شَرط فِي الْهِبَة فَلَمَّا سقط اعْتِبَار مَا هُوَ الرُّكْن لكَونه ثَابتا بِمُقْتَضى الْعتْق فَلِأَن يسْقط اعْتِبَار مَا هُوَ شَرط أولى وَلِهَذَا لَو قَالَ أعتق عَبدك عني على ألف (دِرْهَم) ورطل من خمر يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَلَو أكره الْمَأْمُور على أَن يعْتق عَبده عَنهُ بِأَلف دِرْهَم يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَبيع الْمُكْره فَاسد وَالْقَبْض شَرط لوُقُوع الْملك فِي البيع الْفَاسِد ثمَّ سقط اعْتِبَاره إِذا كَانَ بِمُقْتَضى الْعتْق
وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله قَالَا الْمُقْتَضى تبع للمقتضي وَالْقَبْض فعل لَيْسَ من جنس القَوْل وَلَا هُوَ دونه حَتَّى يُمكن إثْبَاته تبعا لَهُ وَبِدُون الْقَبْض الْملك لَا يحصل بِالْهبةِ فَلَا يُمكن تَنْفِيذ الْعتْق عَن الْآمِر وَلَا وَجه لجعل العَبْد قَابِضا نَفسه للْآمِر لِأَنَّهُ لَا يسلم لَهُ بِالْعِتْقِ شَيْء من ملك الْمولى وَإِنَّمَا يبطل ملك الْمولى ويتلاشى بِالْإِعْتَاقِ وَلَا وَجه لإِسْقَاط الْقَبْض هُنَا بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَن الْعَمَل بالمقتضى شَرْعِي(1/249)
فَإِنَّمَا يعْمل فِي إِسْقَاط مَا يحْتَمل السُّقُوط دون مَا لَا يحْتَمل وَشرط الْقَبْض لوُقُوع الْملك فِي الْهِبَة لَا يحْتَمل السُّقُوط بِحَال بِخِلَاف الْقبُول فِي البيع فقد يحْتَمل السُّقُوط أَلا ترى أَن الْإِيجَاب وَالْقَبُول جَمِيعًا يحْتَمل السُّقُوط حَتَّى ينْعَقد البيع بالتعاطي من غير قَول فَلِأَن يحْتَمل مُجَرّد الْقبُول السُّقُوط كَانَ أولى
وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْب بِعشْرَة فاقطعه فَقَطعه وَلم يقل شَيْئا كَانَ البيع بَينهمَا تَاما وَالْفَاسِد من البيع مُعْتَبر بالجائز فِي الحكم لِأَن الْفَاسِد لَا يُمكن أَن يَجْعَل أصلا يتعرف حكمه من نَفسه وَإِذا كَانَ مَا ثَبت الْملك بِهِ فِي البيع الْجَائِز يحْتَمل السُّقُوط إِذا كَانَ ضمنا لِلْعِتْقِ فَكَذَلِك مَا يثبت بِهِ الْملك فِي البيع الْفَاسِد
وَبَيَان مَا ذكرنَا من الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي فِيمَا إِذا قَالَ إِن أكلت فَعَبْدي حر وَنوى طَعَاما دون طَعَام عِنْده تعْمل نِيَّته لِأَن الْأكل يَقْتَضِي مَأْكُولا وَذَلِكَ كالمنصوص عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن أكلت طَعَاما وَلما كَانَ للمقتضي عُمُوم على قَوْله عمل فِيهِ نِيَّته التَّخْصِيص وَعِنْدنَا لَا تعْمل لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضى وَنِيَّة التَّخْصِيص فِيمَا لَا عُمُوم لَهُ لَغْو بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن أكلت طَعَاما وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن شربت أَو قَالَ إِن لبست أَو قَالَ إِن ركبت
وعَلى هَذَا قُلْنَا لَو قَالَ إِن اغْتَسَلت اللَّيْلَة وَنوى الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة لم تعْمل نِيَّته بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن اغْتَسَلت غسلا فَإِن هُنَاكَ نِيَّته تعْمل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن اغْتسل اللَّيْلَة فِي هَذِه الدَّار وَقَالَ عنيت فلَانا لم تعْمل نِيَّته لِأَن الْفَاعِل لَيْسَ فِي لَفظه وَإِنَّمَا يثبت بطرِيق الِاقْتِضَاء بِخِلَاف مَا لَو قَالَ إِن اغْتسل أحد فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته اعْتدي وَنوى الطَّلَاق فَإِن وُقُوع الطَّلَاق بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَنَّهَا لَا تَعْتَد قبل تقدم الطَّلَاق فَيصير كَأَنَّهُ قَالَ طَلقتك فاعتدي وَلَكِن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِع رَجْعِيًا وَلَا تعْمل نِيَّته الثَّلَاث فِيهِ وَبعد الْبَيْنُونَة والشروع فِي الْعدة يَقع الطَّلَاق بِهَذَا اللَّفْظ
وَرُبمَا يسْتَدلّ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِهَذَا فِي أَن الْمُقْتَضى كالمنصوص عَلَيْهِ وَهُوَ خَارج على مَا ذكرنَا فَإنَّا نجعله كالمنصوص عَلَيْهِ بِقدر الْحَاجة وَهُوَ أَن يصير الْمَنْصُوص مُفِيدا مُوجبا للْحكم فَأَما فِيمَا وَرَاء ذَلِك فَلَا(1/250)
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَقد رَأَيْت لبَعض من صنف فِي هَذَا الْبَاب أَنه ألحق الْمَحْذُوف بالمقتضى وَسوى بَينهمَا فَخرج على هَذَا الأَصْل قَوْله تَعَالَى {واسأل الْقرْيَة} وَقَالَ المُرَاد الْأَهْل يثبت ذَلِك بِمُقْتَضى الْكَلَام لِأَن السُّؤَال للتبيين فَإِنَّمَا ينْصَرف إِلَى من يتَحَقَّق مِنْهُ الْبَيَان ليَكُون مُفِيدا دون من لَا يتَحَقَّق مِنْهُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَلم يرد بِهِ الْعين لِأَنَّهُ يتَحَقَّق مَعَ هَذِه الْأَعْذَار فَلَو حمل عَلَيْهِ كَانَ كذبا وَلَا إِشْكَال أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن ذَلِك فَعرفنَا بِمُقْتَضى الْكَلَام أَن المُرَاد الحكم
ثمَّ حمله الشَّافِعِي على الحكم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قولا بِالْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضى وَجعل ذَلِك كالمنصوص عَلَيْهِ وَلَو قَالَ رفع عَن أمتِي حكم الْخَطَأ كَانَ ذَلِك عَاما وَلِهَذَا الأَصْل قَالَ لَا يَقع طَلَاق الخاطىء وَالْمكْره وَلَا يفْسد الصَّوْم بِالْأَكْلِ مكْرها
وَقُلْنَا لَا عُمُوم للمقتضي وَحكم الْآخِرَة وَهُوَ الْإِثْم مُرَاد بِالْإِجْمَاع وَبِه ترْتَفع الْحَاجة وَيصير الْكَلَام مُفِيدا فَيبقى مُعْتَبرا فِي حكم الدُّنْيَا
كَذَلِك قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ لَيْسَ المُرَاد عين الْعَمَل فَإِن ذَلِك مُتَحَقق بِدُونِ النِّيَّة وَإِنَّمَا المُرَاد الحكم ثَبت ذَلِك بِمُقْتَضى الْكَلَام
فَقَالَ الشَّافِعِي يعم ذَلِك حكم الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِيمَا يَسْتَدْعِي الْقَصْد والعزيمة من الْأَعْمَال قولا بِعُمُوم الْمُقْتَضى
وَقُلْنَا المُرَاد حكم الْآخِرَة وَهُوَ أَن ثَوَاب الْعَمَل بِحَسب النِّيَّة لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى
وَعِنْدِي أَن هَذَا سَهْو من قَائِله فَإِن الْمَحْذُوف غير الْمُقْتَضى لِأَن من عَادَة أهل اللِّسَان حذف بعض الْكَلَام للاختصار إِذا كَانَ فِيمَا بَقِي مِنْهُ دَلِيل على الْمَحْذُوف ثمَّ ثُبُوت هَذَا الْمَحْذُوف من هَذَا الْوَجْه يكون لُغَة وَثُبُوت الْمُقْتَضى يكون شرعا لَا لُغَة وعلامة الْفرق بَينهمَا أَن الْمُقْتَضى تبع يَصح بِاعْتِبَارِهِ الْمُقْتَضِي إِذا صَار كالمصرح بِهِ والمحذوف لَيْسَ بتبع بل عِنْد التَّصْرِيح بِهِ ينْتَقل الحكم إِلَيْهِ لَا أَن يثبت مَا هُوَ الْمَنْصُوص وَلَا شكّ أَن مَا ينْقل غير مَا يصحح الْمَنْصُوص
وَبَيَان هَذَا أَن فِي قَوْله أعتق عَبدك عني محذوفا وَيثبت التَّمْلِيك بطرِيق الِاقْتِضَاء ليَصِح الْمَنْصُوص وَفِي قَوْله {واسأل الْقرْيَة} الْأَهْل مَحْذُوف للاختصار(1/251)
فَإِن فِيمَا بَقِي من الْكَلَام دَلِيل عَلَيْهِ وَعند التَّصْرِيح بِهَذَا الْمَحْذُوف يتَحَوَّل السُّؤَال عَن الْقرْيَة إِلَى الْأَهْل لَا أَن يتَحَقَّق بِهِ الْمَنْصُوص
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رفع عَن أمتِي الْخَطَأ فَإِن عِنْد التَّصْرِيح بالحكم يتَحَوَّل الرّفْع إِلَى الحكم لَا إِلَى مَا وَقع التَّنْصِيص عَلَيْهِ مَعَ الْمَحْذُوف
وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لم يثبت الْعُمُوم هُنَا لِأَن الْمَحْذُوف بِمَنْزِلَة الْمُشْتَرك فِي أَنه يحْتَمل كل وَاحِد من الْأَمريْنِ على الِانْفِرَاد وَلَا عُمُوم للمشترك فَأَما أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف ثَابتا بِمُقْتَضى الْكَلَام فَلَا
ويتبين من هَذَا أَن مَا كَانَ محذوفا لَيْسَ بطرِيق الِاقْتِضَاء فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة الثَّابِت لُغَة فَإِن كَانَ بِحَيْثُ يحْتَمل الْعُمُوم يثبت فِيهِ صفة الْعُمُوم
وعَلى هَذَا مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَو طَلقتك وَنوى ثَلَاثًا فَإِن على قَول الشَّافِعِي تعْمل نِيَّته لِأَن قَوْله طَالِق يَقْتَضِي طَلَاقا وَذَلِكَ كالمنصوص عَلَيْهِ فتعمل نِيَّته الثَّلَاث فِيهِ قولا بِالْعُمُومِ فِي الْمُقْتَضى
وَقُلْنَا نَحن إِن قَوْله طَالِق نعت فَرد ونعت الْفَرد لَا يحْتَمل الْعدَد وَالنِّيَّة إِنَّمَا تعْمل إِذا كَانَ الْمَنوِي من محتملات اللَّفْظ وَلَا يُمكن إِعْمَال نِيَّة الْعدَد بِاعْتِبَار الْمُقْتَضى لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضي وَلِأَن الْمُقْتَضى لَا يَجْعَل كالمصرح بِهِ فِي أصل الطَّلَاق فَكيف يَجْعَل كالمصرح بِهِ فِي عدد الطَّلَاق وَبَيَانه أَنه إِذا قَالَ لامْرَأَته زوري أَبَاك أَو حجي وَنوى بِهِ الطَّلَاق لم تعْمل نِيَّته وَمَعْلُوم أَن مَا صرح بِهِ يَقْتَضِي ذَهَابًا لَا محَالة ثمَّ لم يَجْعَل بِمَنْزِلَة قَوْله اذهبي حَتَّى تعْمل نِيَّته الطَّلَاق فِيهِ يقرره أَن قَوْله طَالِق نعت للْمَرْأَة فَإِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ من الْمُقْتَضى مَا يكون قَائِما بالموصوف وَالطَّلَاق من هَذَا اللَّفْظ مُقْتَضى هُوَ ثَابت بالواصف شرعا فَإِنَّهُ لَا يكون صَادِقا فِي هَذَا الْوَصْف بِدُونِ طَلَاق يَقع عَلَيْهَا فَيجْعَل موقعا ليتَحَقَّق هَذَا الْوَصْف مِنْهُ صدقا وَمثل هَذَا الْمُقْتَضى لَا يكون كالمصرح بِهِ شرعا بِمَنْزِلَة الْحَال الَّذِي هُوَ قَائِم بالمخاطب وَهُوَ بعده عَن مَوضِع الْحَج وَعَن الزِّيَارَة فَإِن اقْتِضَاء الذّهاب لما كَانَ لذَلِك الْمَعْنى لَا لما هُوَ قَائِم بالمنصوص لَا يَجْعَل كالمصرح بِهِ بِخِلَاف قَوْله أَنْت بَائِن فَإِن ذَلِك نعت فَرد نصا حَتَّى لَا يسع نِيَّة الْعدَد فِيهِ لَو نوى اثْنَتَيْنِ وَلَكِن الْبَيْنُونَة تتصل بِالْمحل فِي الْحَال وَهِي نَوْعَانِ قَاطِعَة للْملك وقاطعة للْحلّ(1/252)
الَّذِي هُوَ وصف الْمحل فنية الثَّلَاث إِنَّمَا تميز أحد نَوْعي مَا تنَاوله نَص كَلَامه فَأَما الطَّلَاق لَا يتَّصل بِالْمحل مُوجبا حكمه فِي الْحَال بل حكم انْقِطَاع الْملك بِهِ يتَأَخَّر إِلَى انْقِضَاء الْعدة وَحكم انْقِطَاع الْحل بِهِ يتَأَخَّر إِلَى تَمام الْعدة وَإِنَّمَا يُوصف الْمحل للْحَال بِهِ لانعقاد الْعلَّة (فِيهِ) مُوجبا للْحكم فِي أَوَانه وانعقاد الْعلَّة لَا يتنوع فَلم يكن الْمَنوِي من محتملات لَفظه أصلا
وعَلى هَذَا قَوْله طَلقتك فَإِن صِيغَة الْخَبَر عَن فعل مَاض بِمَنْزِلَة قَوْله ضربتك فالمصدر الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّيغَة يكون مَاضِيا أَيْضا فَلَا يسع فِيهِ معنى الْعُمُوم بِوَجْه بِخِلَاف قَوْله طَلِّقِي نَفسك فَإِن صيغته أَمر بِفعل فِي الْمُسْتَقْبل لطلب ذَلِك الْفِعْل مِنْهَا فالمصدر الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّيغَة يكون مُسْتَقْبلا أَيْضا وَذَلِكَ الطَّلَاق فَيكون بِمَنْزِلَة غَيره من أَسمَاء الْأَجْنَاس فِي احْتِمَال الْعُمُوم وَالْخُصُوص فبدون النِّيَّة يثبت بِهِ أخص الْخُصُوص على احْتِمَال الْكل فَإِذا نوى الثَّلَاث عملت نِيَّته لِأَنَّهُ من محتملات كَلَامه وَإِذا نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال للعدد فِي صِيغَة كَلَامه وعَلى هَذَا لَو قَالَ إِن خرجت وَنوى الْخُرُوج إِلَى مَكَان بِعَيْنِه لم تعْمل نِيَّته وَلَو نوى السّفر تعْمل نِيَّته لِأَن السّفر نوع من أَنْوَاع الْخُرُوج وَهُوَ ثَابت بِاعْتِبَار صِيغَة كَلَامه أَلا ترى أَن الْخُرُوج لغير السّفر بِخِلَاف الْخُرُوج للسَّفر فِي الحكم فَأَما الْمَكَان فَلَيْسَ من صِيغَة كَلَامه فِي شَيْء وَإِن كَانَ الْخُرُوج يكون إِلَى مَكَان لَا محَالة فَلم تعْمل نِيَّة التَّخْصِيص فِيهِ لما لم يكن من مُقْتَضى صِيغَة الْكَلَام بِخِلَاف الأول
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ إِن ساكنت فلَانا وَنوى المساكنة فِي مَكَان بِعَيْنِه لم تعْمل نِيَّته أصلا وَلَو نوى المساكنة فِي بَيت وَاحِد تعْمل نِيَّته بِاعْتِبَار أَنه نوى أتم مَا يكون من المساكنة فَإِن أَعم مَا يكون من المساكنة فِي بَلْدَة وَالْمُطلق من المساكنة فِي عرف النَّاس فِي دَار وَاحِدَة وَأتم مَا يكون من المساكنة فِي بَيت وَاحِد فَهَذِهِ النِّيَّة ترجع إِلَى بَيَان نوع المساكنة الثَّابِتَة بِصِيغَة كَلَامه بِخِلَاف تعين الْمَكَان
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لولد لَهُ أم مَعْرُوفَة وَهُوَ فِي يَده هَذَا ابْني ثمَّ جَاءَت أمه بعد موت الْمُدَّعِي فصدقته وَادعت مِيرَاثهَا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ يقْضى لَهَا بِالْمِيرَاثِ(1/253)
وَمَعْلُوم أَن النِّكَاح بَينهمَا بِمُقْتَضى دَعْوَى النّسَب ثمَّ يَجْعَل كالتصريح بِهِ حَتَّى يثبت النِّكَاح صَحِيحا وَيجْعَل قَائِما إِلَى موت الزَّوْج فَيكون لَهَا الْمِيرَاث فَلَو كَانَ ثُبُوت الْمُقْتَضى بِاعْتِبَار الْحَاجة فَقَط لما ثبتَتْ هَذِه الْأَحْكَام لِانْعِدَامِ الْحَاجة فِيهَا قُلْنَا ثُبُوت النِّكَاح هُنَا بِدلَالَة النَّص لَا بِمُقْتَضَاهُ فَإِن الْوَلَد اسْم مُشْتَرك إِذْ لَا يتَصَوَّر ولد فِينَا إِلَّا بوالد ووالدة فالتنصيص على الْوَلَد يكون تنصيصا على الْوَالِد والوالدة دلَالَة بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص على الْأَخ يكون كالتنصيص على أَخِيه إِذْ الْأُخوة لَا تتَصَوَّر إِلَّا بَين شَخْصَيْنِ وَقد بَينا أَن الثَّابِت بِدلَالَة النَّص يكون ثَابتا بِمَعْنى النَّص لُغَة لَا أَن يكون ثَابتا بطرِيق الِاقْتِضَاء مَعَ أَن اقْتِضَاء النِّكَاح هُنَا كاقتضاء الْملك فِي قَوْله أعتق عَبدك عني على ألف (دِرْهَم) وَبَعْدَمَا ثَبت العقد بطرِيق الِاقْتِضَاء يكون بَاقِيا لَا بِاعْتِبَار دَلِيل يبْقى بل لِانْعِدَامِ دَلِيل المزيل فَعرفنَا أَنه منته بَينهمَا بالوفاة وانتهاء النِّكَاح بِالْمَوْتِ سَبَب لاسْتِحْقَاق الْمِيرَاث
وَبَعْدَمَا بَينا هَذِه الْحُدُود نقُول الثَّابِت بِمُقْتَضى النَّص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص لِأَنَّهُ لَا عُمُوم لَهُ والتخصيص فِيمَا فِيهِ احْتِمَال الْعُمُوم وَالثَّابِت بِدلَالَة النَّص لَا يحْتَمل التَّخْصِيص أَيْضا لِأَن التَّخْصِيص بَيَان أَن أصل الْكَلَام غير متناول لَهُ وَقد بَينا أَن الحكم الثَّابِت بِالدّلَالَةِ ثَابت بِمَعْنى النَّص لُغَة وَبَعْدَمَا كَانَ معنى النَّص متناولا لَهُ لُغَة لَا يبْقى احْتِمَال كَونه غير متناول لَهُ وَإِنَّمَا يحْتَمل إِخْرَاجه من أَن يكون موبجا للْحكم فِيهِ بِدَلِيل يعْتَرض وَذَلِكَ يكون نسخا لَا تَخْصِيصًا
وَأما الثَّابِت بِإِشَارَة النَّص فَعِنْدَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله لَا يحْتَمل الْخُصُوص أَيْضا لِأَن معنى الْعُمُوم فِيمَا يكون سِيَاق الْكَلَام لأَجله فَأَما مَا تقع الْإِشَارَة إِلَيْهِ من غير أَن يكون سِيَاق الْكَلَام لَهُ فَهُوَ زِيَادَة على الْمَطْلُوب بِالنَّصِّ وَمثل هَذَا لَا يسع فِيهِ معنى الْعُمُوم حَتَّى يكون مُحْتملا للتخصيص
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه يحْتَمل ذَلِك لِأَن الثَّابِت بِالْإِشَارَةِ كَالثَّابِتِ بالعبارة من حَيْثُ إِنَّه ثَابت بِصِيغَة الْكَلَام والعموم بِاعْتِبَار الصِّيغَة فَكَمَا أَن الثَّابِت بِعِبَارَة النَّص يحْتَمل التَّخْصِيص فَكَذَلِك الثَّابِت بإشارته(1/254)
فصل
وَقد عمل قوم فِي النُّصُوص بِوُجُوه هِيَ فَاسِدَة عندنَا
فَمِنْهَا مَا قَالَ بَعضهم إِن التَّنْصِيص على الشَّيْء باسم الْعلم يُوجب التَّخْصِيص وَقطع الشّركَة بَين الْمَنْصُوص وَغَيره من جنسه فِي الحكم لِأَنَّهُ لَو لم يُوجب ذَلِك لم يظْهر للتخصيص فَائِدَة وحاشا أَن يكون شَيْء من كَلَام صَاحب الشَّرْع غير مُفِيد وأيد هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء من المَاء فالأنصار فَهموا التَّخْصِيص من ذَلِك حَتَّى استدلوا بِهِ على نفي وجوب الِاغْتِسَال بالإكسال وهم كَانُوا أهل اللِّسَان
وَهَذَا فَاسد عندنَا بِالْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} وَلَا يدل ذَلِك على إِبَاحَة الظُّلم فِي غير الْأَشْهر الْحرم وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} ثمَّ لَا يدل ذَلِك على تَخْصِيص الِاسْتِثْنَاء بالغد دون غَيره من الْأَوْقَات فِي الْمُسْتَقْبل
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَلَا يغتسلن فِيهِ من الْجَنَابَة ثمَّ لَا يدل ذَلِك على التَّخْصِيص بالجنابة دون غَيرهَا من أَسبَاب الِاغْتِسَال والأمثلة لهَذَا تكْثر
ثمَّ إِن عنوا بقَوْلهمْ إِن التَّخْصِيص يدل على قطع الْمُشَاركَة وَهُوَ أَن الحكم يثبت بِالنَّصِّ فِي الْمَنْصُوص خَاصَّة فأحد لَا يخالفهم فِي هَذَا فَإِن عندنَا فِيمَا هُوَ من جنس الْمَنْصُوص الحكم يثبت بعلة النَّص لَا بِعَيْنِه وَإِن عنوا أَن هَذَا التَّخْصِيص يُوجب نفي الحكم فِي غير الْمَنْصُوص فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير متناول لَهُ أصلا فَكيف يُوجب نفيا أَو إِثْبَاتًا للْحكم فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ ثمَّ سِيَاق النَّص لإِيجَاب الحكم وَنفي الحكم ضِدّه فَلَا يجوز أَن يكون من وَاجِبَات نَص الْإِيجَاب وَلِأَن الْمَذْهَب عِنْد فُقَهَاء الْأَمْصَار جَوَاز تَعْلِيل النُّصُوص لتعدية الحكم بهَا إِلَى الْفُرُوع فَلَو كَانَ التَّخْصِيص مُوجبا نفي الحكم فِي غير الْمَنْصُوص لَكَانَ التَّعْلِيل بَاطِلا لِأَنَّهُ يكون ذَلِك قِيَاسا فِي مُقَابلَة النَّص وَمن لَا يجوز(1/255)
الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فَإِنَّمَا لَا يجوزه لاحْتِمَال فِيهِ بَين أَن يكون صَوَابا أَو خطأ لَا لنَصّ يمْنَع مِنْهُ بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخَبَر الْفَاسِق فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِخَبَرِهِ لضعف فِي سَنَده لَا لنَصّ فِي خَبره مَانع من الْعَمَل بِهِ وَالْأَنْصَار إِنَّمَا استدلوا بلام التَّعْرِيف الَّتِي هِيَ مستغرقة للْجِنْس أَو الْمَعْهُود فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام المَاء من المَاء وَنحن نقُول بِهِ فِي الحكم الثَّابِت لعين المَاء وَفَائِدَة التَّخْصِيص عندنَا أَن يتَأَمَّل المستنبطون فِي عِلّة النَّص فيثبتون الحكم بهَا فِي غير الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من الْمَوَاضِع لينالوا بِهِ دَرَجَة المستنبطين وثوابهم وَهَذَا لَا يحصل إِذا ورد النَّص عَاما متناولا للْجِنْس
ويحكى عَن الثَّلْجِي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول هَذَا إِذا لم يكن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ باسم الْعلم محصورا بِعَدَد نصا نَحْو خبر الرِّبَا فَإِن كَانَ محصورا بِعَدَد فَذَلِك يدل على نفي الحكم فِيمَا سواهَا لِأَن فِي إِثْبَات الحكم فِيمَا سواهَا إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص وَذَلِكَ لَا يجوز فبهذه الْوَاسِطَة يكون مُوجبا للنَّفْي
وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم وَبِقَوْلِهِ أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ فَإِن ذَلِك يدل على نفي الحكم فِيمَا عدا الْمَذْكُور
وَالصَّحِيح أَن التَّنْصِيص لَا يدل على ذَلِك فِي شَيْء من الْمَوَاضِع لما بَينا من الْمعَانِي
ثمَّ ذكر الْعدَد لبَيَان الحكم بِالنَّصِّ ثَابت فِي الْعدَد الْمَذْكُور فَقَط وَقد بَينا أَن فِي غير الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت الحكم بعلة النَّص لَا بِالنَّصِّ فَلَا يُوجب ذَلِك إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص
وَمِنْهَا مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن التَّنْصِيص على وصف فِي الْمُسَمّى لإِيجَاب الحكم يُوجب نفي ذَلِك الحكم عِنْد عدم ذَلِك الْوَصْف بِمَنْزِلَة مَا لَو نَص على نفي الحكم عِنْد عدم الْوَصْف
وَعِنْدنَا النَّص مُوجب للْحكم عِنْد وجود ذَلِك الْوَصْف وَلَا يُوجب نفي ذَلِك الحكم عِنْد انعدامه أصلا
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} فَإِن عِنْده إِبَاحَة نِكَاح الْأمة (لما كَانَ مُقَيّدا بِصفة الْإِيمَان بِالنَّصِّ أوجب النَّفْي بِدُونِ هَذَا الْوَصْف فَلَا يجوز نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك وَلِهَذَا جَوَّزنَا نِكَاح الْأمة) الْكِتَابِيَّة وَقَالَ تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} فَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله لما ورد حُرْمَة الربيبة بِسَبَب الدُّخُول بِامْرَأَة مُقَيّدَة بِوَصْف وَهِي أَن تكون من نِسَائِهِ أوجب ذَلِك نفي الْحُرْمَة عِنْد عدم(1/256)
ذَلِك الْوَصْف فَلَا تثبت الْحُرْمَة بِالزِّنَا
وَعِنْدنَا لَا يُوجب النَّص نفي الحكم عِنْد انعدام الْوَصْف فَتثبت الْحُرْمَة بِالزِّنَا وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض صَدَقَة الْفطر على كل حر وَعبد من الْمُسلمين فعلى مذْهبه أوجب هَذَا النَّص نفي الحكم عِنْد عدم الْوَصْف فَلَا تجب الصَّدَقَة عَن العَبْد الْكَافِر
وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن النَّص المختتم بِهَذَا الْوَصْف لَا يتَنَاوَل الْكفَّار وَالنَّص الْمُطلق وَهُوَ قَوْله أَدّوا عَن كل حر وَعبد يتناولهم لِأَنَّهُ غير مختتم بِهَذَا التَّقْيِيد فَيجب الْأَدَاء عَن العَبْد الْكَافِر بذلك النَّص وَهُوَ بِمَنْزِلَة من يَقُول لغيره أعتق عَبِيدِي ثمَّ يَقُول أعتق الْبيض من عَبِيدِي فَلَا يُوجب ذَلِك النَّهْي عَن إِعْتَاق غير الْبيض بَعْدَمَا كَانَ ثَابتا بِاللَّفْظِ الْمُطلق
وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي رَحمَه الله لإِثْبَات مذْهبه عَلَيْهِ السَّلَام فِي خمس من الْإِبِل السَّائِمَة شَاة فَإِن ذَلِك يُوجب نفي الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَا زَكَاة فِي غير السَّائِمَة إِذْ لَو لم يَجْعَل كَذَلِك فَلَا بُد من إِيجَاب الزَّكَاة فِي العوامل بِخَبَر الْمُطلق وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي خمس من الْإِبِل شَاة وبالإجماع بَيْننَا وَبَيْنكُم لَا تجب الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة وَلما نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ربح مَا لم يضمن أفهمنا ذَلِك إِبَاحَة ربح مَا قد ضمن كَأَنَّهُ نَص عَلَيْهِ وَلِأَن النَّص لما أوجب الحكم فِي الْمُسَمّى الْمُشْتَمل على أَوْصَاف مُقَيّدا بِوَصْف من تِلْكَ الْأَوْصَاف صَار ذَلِك الْوَصْف بِمَنْزِلَة الشَّرْط لإِيجَاب الحكم على معنى أَنه لَا يثبت الحكم بِالنَّصِّ بعد وجود الْمُسَمّى مَا لم يُوجد ذَلِك الْوَصْف فلولا ذكر الْوَصْف لَكَانَ الحكم ثَابتا قبل وجوده وَهَذَا أَمارَة الشَّرْط فَإِن قَوْله لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِن دخلت الدَّار لَا يكون مُوجبا وُقُوع الطَّلَاق مَا لم تدخل وَبِدُون هَذَا الشَّرْط كَانَ مُوجبا للطَّلَاق قبل الدُّخُول
وَقد يكون الْوَصْف بِمَنْزِلَة الشَّرْط حَتَّى لَو قَالَ لَهَا إِن دخلت الدَّار راكبة فَأَنت طَالِق كَانَ الرّكُوب شرطا وَإِن كَانَ مَذْكُورا على سَبِيل الْوَصْف لَهَا
قَالَ وَقد ثَبت من أُصَلِّي أَن التَّقْيِيد بِالشّرطِ يفهمنا نفي الحكم عِنْد عدم الشَّرْط(1/257)
فَكَذَلِك التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ وَهَذَا بِخِلَاف الِاسْم فَإِنَّهُ مَذْكُور للتعريف لَا لتعليق الحكم بِهِ (فَأَما الْوَصْف الَّذِي هُوَ ذكر للْحَال وَهُوَ معنوي يصلح أَن يكون لتعليق الحكم بِهِ) فَيكون مُوجبا نفي الحكم عِنْد عَدمه دلَالَة وَلِأَن بِالِاسْمِ يثبت الحكم ابْتِدَاء كَمَا ثَبت بِالْعِلَّةِ بِخِلَاف الْوَصْف الَّذِي هُوَ فِي معنى الشَّرْط
وسنقرر هَذَا الْفرق فِي الْفَصْل الثَّانِي
وَاسْتدلَّ عُلَمَاؤُنَا بقوله تَعَالَى {وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} ثمَّ التَّقْيِيد بِهَذَا الْوَصْف لَا يُوجب نفي الْحل فِي اللَّاتِي لم يهاجرن مَعَه بالِاتِّفَاقِ وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا وبدارا أَن يكبروا} ثمَّ التَّقْيِيد بِهَذَا الْوَصْف لَا يُفِيد إِبَاحَة الْأكل بِدُونِ هَذَا الْوَصْف وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها}
{إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر} وَهُوَ نَذِير للبشر فَعرفنَا أَن التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ لَا يفهمنا نفي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ عِنْد عدم ذَلِك الْوَصْف ثمَّ أَكثر مَا فِيهِ أَن الْوَصْف الْمُؤثر بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم وَلَا خلاف أَن الحكم يثبت بِالْعِلَّةِ إِذا وجدت فَإِن الْعلَّة لَا توجب نفي الحكم عِنْد انعدامها فَكَذَلِك الْوَصْف الْمَذْكُور فِي النَّص يُوجب ثُبُوت الحكم عِنْد وجوده وَلَا يُوجب نفي الحكم عِنْد عَدمه وَلِهَذَا جعلنَا الْوَصْف الْمُؤثر إِذا كَانَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ فَقُلْنَا صفة السّوم بِمَنْزِلَة الْعلَّة لإِيجَاب الزَّكَاة فِي خمس من الْإِبِل وَلِهَذَا يُضَاف الزَّكَاة إِلَيْهَا فَيُقَال زَكَاة السَّائِمَة والواجبات تُضَاف إِلَى أَسبَابهَا حَقِيقَة بِمَنْزِلَة من يَقُول لغيره أعتق عَبدِي الصَّالح أَو طلق امْرَأَتي البذيئة فَإِن ذكر هَذَا الْوَصْف دَلِيل على أَنه هُوَ الْمُؤثر للْحكم
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوَصْف لَيْسَ فِي معنى الشَّرْط كَمَا زعم وَقَوله إِن دخلت راكبة إِنَّمَا جعلنَا الرّكُوب شرطا لكَونه مَعْطُوفًا على الشَّرْط فَإِن حكم الْمَعْطُوف حكم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَأَما الْوَصْف المقرون بِالِاسْمِ يكون بِمَنْزِلَتِهِ وَالِاسْم لَيْسَ فِي معنى الشَّرْط لإِثْبَات الحكم فَكَذَلِك الْوَصْف المقرون بِهِ
وَلَو كَانَ شرطا فعندنا تَعْلِيق الحكم بِالشّرطِ يُوجب وجود الحكم(1/258)
عِنْد وجود الشَّرْط وَلَا يُوجب النَّفْي عِنْد عدم الشَّرْط بل ذَلِك بَاقٍ على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق على مَا نبينه وَإِنَّمَا لَا نوجب الزَّكَاة فِي الْحَوَامِل بِاعْتِبَار نَص آخر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا زَكَاة فِي العوامل والحوامل أَو بِاعْتِبَار أَن صفة السّوم صَار بِمَنْزِلَة الْعلَّة فِي حكم الزَّكَاة على مَا قَررنَا
وعَلى هَذَا قَالَ زفر رَحمَه الله فِيمَن لَهُ أمة ولدت ثَلَاثَة أَوْلَاد فِي بطُون مُخْتَلفَة فَقَالَ الْأَكْبَر ابْني يثبت نسب الآخرين مِنْهُ لِأَن التَّنْصِيص على الدعْوَة مُقَيّدا بالأكبر لَا مُوجب لَهُ فِي نفي نسب الآخرين وَقد تبين ثُبُوت نسب الْأَكْبَر مِنْهُ أَنَّهَا كَانَت أم ولد لَهُ من ذَلِك الْوَقْت وَأم الْوَلَد فرَاش للْمولى يثبت نسب وَلَدهَا مِنْهُ بِغَيْر دَعْوَة
وَعِنْدنَا لَا يثبت نسب الآخرين مِنْهُ لَا للتَّقْيِيد بِالْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَو أَشَارَ إِلَى الْأَكْبَر وَقَالَ هَذَا ابْني لَا يثبت نسب الآخرين مِنْهُ أَيْضا وَمَعْلُوم أَن التَّنْصِيص بِالِاسْمِ لَا يُوجب نفي الحكم فِي غير الْمُسَمّى بذلك الِاسْم وَلَكِن إِنَّمَا لَا يثبت نسبهما مِنْهُ لِأَن السُّكُوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْحَاجة دَلِيل النَّفْي ويفترض على الْمَرْأَة دَعْوَة النّسَب فِيمَا هُوَ مَخْلُوق من مَائه لِأَنَّهُ كَمَا لَا يحل لَهُ أَن يَدعِي نسب (مَا هُوَ غير مَخْلُوق من مَائه لَا يحل لَهُ أَن يَنْفِي نسب) الْمَخْلُوق من مَائه وَقبل الدعْوَة النّسَب يثبت مِنْهُ على سَبِيل الِاحْتِمَال حَتَّى يملك نَفْيه وَإِنَّمَا يصير مَقْطُوعًا بِهِ على وَجه لَا يملك نَفْيه بالدعوة فَكَانَ ذَلِك فرضا عَلَيْهِ
وَإِذا تقرر بِهَذَا تحقق الْحَاجة إِلَى الْبَيَان كَانَ سُكُوته عَن دَعْوَة نسب الآخرين دَلِيل النَّفْي لَا تَخْصِيصه الْأَكْبَر بالدعوة فَلهَذَا لَا يثبت نسبهما مِنْهُ
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِذا قَالَ شُهُود الْوَارِث لَا نعلم لَهُ وَارِثا غَيره فِي أَرض كَذَا إِن الشَّهَادَة تقبل لِأَن هَذِه الزِّيَادَة لَا توجب عَلَيْهِم توارث آخر فِي غير ذَلِك الْموضع فكأنهم سكتوا عَن ذكر هَذِه الزِّيَادَة وَقَالُوا لَا نعلم لَهُ وَارِثا غَيره
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد قَالَا لَا تقبل هَذِه الشَّهَادَة لَا لِأَنَّهَا توجب ذَلِك وَلَكِن لتمكن التُّهْمَة فَإِنَّهُ يحْتَمل أَنَّهُمَا خصا ذَلِك الْمَكَان للتحرز عَن الْكَذِب وعلمهما بوارث آخر لَهُ فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَلَكِن الشَّهَادَة ترد بالتهمة فَأَما الحكم(1/259)
لَا يثبت نفيا وَلَا إِيجَابا بالتهمة بل بِالْحجَّةِ الْمَعْلُومَة
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله يَقُول كَمَا تحْتَمل هَذِه الزِّيَادَة مَا قَالَا تحْتَمل الْمُبَالغَة فِي التَّحَرُّز عَن الْكَذِب بِاعْتِبَار أَنَّهُمَا تفحصا فِي ذَلِك الْموضع دون سَائِر الْمَوَاضِع وَيحْتَمل تَحْقِيق الْمُبَالغَة فِي نفي وَارِث آخر أَي لَا نعلم لَهُ وَارِثا آخر فِي مَوضِع كَذَا مَعَ أَنه مولده ومنشؤه فأحرى أَن لَا يكون لَهُ وَارِث آخر فِي مَوضِع آخر وبمثل هَذَا الْمُحْتَمل لَا تتمكن التُّهْمَة وَلَا يمْنَع الْعَمَل بِشَهَادَتِهِمَا
وَمِنْهَا أَن الحكم مَتى تعلق بِشَرْط بِالنَّصِّ فَعِنْدَ الشَّافِعِي رَحمَه الله ذَلِك النَّص يُوجب انعدام الحكم عِنْد انعدام الشَّرْط كَمَا يُوجب وجود الحكم عِنْد وجود الشَّرْط وَعِنْدنَا لَا يُوجب النَّص ذَلِك بل يُوجب ثُبُوت الحكم عِنْد وجود الشَّرْط فَأَما انعدام الحكم عِنْد عدم الشَّرْط فَهُوَ بَاقٍ على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات} الْآيَة فَإِن النَّص لما ورد بِحل نِكَاح الْأمة مُعَلّقا بِشَرْط عدم طول الْحرَّة جعل الشَّافِعِي ذَلِك كالتنصيص على حُرْمَة نِكَاح الْأمة عِنْد وجود طول الْحرَّة
وَعِنْدنَا النَّص لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن الحكم بعد هَذَا النَّص عِنْد وجود طول الْحرَّة على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَن لَو لم يرد هَذَا النَّص وَقَالَ تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} قَالَ الشَّافِعِي لما تعلق بِالنَّصِّ دَرْء الْعَذَاب عَنْهَا بِشَرْط أَن تَأتي بِكَلِمَات اللّعان كَانَ ذَلِك تنصيصا على إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا إِذا لم تأت بِكَلِمَات اللّعان
وَعِنْدنَا لَا يُوجب ذَلِك حَتَّى لَا يُقَام عَلَيْهَا الْحَد وَإِن امْتنعت من كَلِمَات اللّعان
وَجه قَول الشَّافِعِي أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يُؤثر فِي الحكم دون السَّبَب على اعْتِبَار أَنه لَوْلَا التَّعْلِيق لَكَانَ الحكم ثَابتا فَإِن قَوْله لعَبْدِهِ أَنْت حر مُوجب عتقه فِي الْحَال لَوْلَا قَوْله إِن دخلت الدَّار فبالتعليق يتَأَخَّر نزُول الْعتْق وَلَا يَنْعَدِم أصل السَّبَب
وَبِهَذَا تبين أَن التَّعْلِيق كَمَا يُوجب الحكم عِنْد وجود الشَّرْط يُوجب نفي الحكم قبل وجود الشَّرْط بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل وبمنزلة خِيَار الشَّرْط فِي البيع فَإِنَّهُ يدْخل على الحكم دون السَّبَب حَتَّى يتَأَخَّر الحكم إِلَى سُقُوط الْخِيَار مَعَ قيام السَّبَب وَهُوَ نَظِير التَّعْلِيق الْحسي فَإِن تَعْلِيق الْقنْدِيل بِحَبل من(1/260)
سَمَاء الْبَيْت يمْنَع وُصُوله إِلَى مَوضِع من الأَرْض لَوْلَا التَّعْلِيق وَلَا يعْدم أَصله وَبِهَذَا فَارق الشَّرْط الْعلَّة فَإِن الحكم يثبت ابْتِدَاء بِوُجُود الْعلَّة فَلَا يكون انعدام الحكم قبل وجود الْعلَّة مُضَافا إِلَى الْعلَّة بِاعْتِبَار أَنَّهَا نفت الحكم قبل وجودهَا بل انْعَدم لِانْعِدَامِ سَببه فَأَما الشَّرْط فمغير للْحكم بعد وجود سَببه فَكَانَ مَانِعا من ثُبُوت الحكم قبل وجوده كَمَا كَانَ مثبتا وجود الحكم عِنْد وجوده وعَلى هَذَا الأَصْل لم يجوز تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْعتاق بِالْملكِ لِأَن تَأْثِير الشُّرُوط فِي منع حكم لولاه كَانَ مَوْجُودا بِسَبَبِهِ وَلَوْلَا التَّعْلِيق هُنَا كَانَ لَغوا وَشرط قيام الْملك فِي الْمحل عِنْد التَّعْلِيق لِأَن السَّبَب لَا يتَحَقَّق بِدُونِ الْملك وتأثير الشَّرْط فِي تَأْخِير الحكم إِلَى وجوده بعد تقرر السَّبَب بِمَنْزِلَة الْأَجَل فَيشْتَرط قيام الْملك فِي الْمحل عِنْد التَّعْلِيق ليتقرر السَّبَب ثمَّ يتَأَخَّر الحكم إِلَى وجود الشَّرْط بِالتَّعْلِيقِ وَلِهَذَا لم يجوز نِكَاح الْأمة لمن قدر على نِكَاح الْحرَّة لِأَن الْحل مُعَلّق بِشَرْط عدم طول الْحرَّة بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يُوجب نفي الحكم عِنْد وجود طول الْحرَّة كَمَا يُوجب إثْبَاته عِنْد عدم طول الْحرَّة
هَذَا هُوَ الْمَفْهُوم من الْكَلَام فَإِن من يَقُول لغيره إِن دخل عَبدِي الدَّار فَأعْتقهُ يفهم مِنْهُ وَلَا تعتقه إِن لم يدْخل الدَّار وَالْعَمَل بالنصوص وَاجِب بمنظومها ومفهومها وَلِهَذَا جوز تَعْجِيل الْكَفَّارَة بعد الْيَمين قبل الْحِنْث لِأَن السَّبَب هُوَ الْيَمين وَلِهَذَا تُضَاف الْكَفَّارَة إِلَيْهَا وَالْأَصْل أَن الْوَاجِبَات تُضَاف إِلَى أَسبَابهَا فَأَما الْحِنْث شَرط يتَعَلَّق وجوب الْأَدَاء بِهِ ويتضح هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين وَالتَّعْلِيق بِالشّرطِ بِمَنْزِلَة التَّأْجِيل عِنْده فَلَا يمْنَع جَوَاز التَّعْجِيل قبله بِمَنْزِلَة الدّين الْمُؤَجل إِلَّا أَن هَذَا فِي المالي دون البدني لِأَن تَأْثِير التَّعْلِيق بِالشّرطِ فِي تَأْخِير وجوب الْأَدَاء فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة الْوُجُوب ينْفَصل عَن الْأَدَاء من حَيْثُ إِن الْوَاجِب قبل الْأَدَاء مَال مَعْلُوم كَمَا فِي حُقُوق الْعباد فَأَما فِي البدني الْوَاجِب فعل يتَأَدَّى بِهِ فَلَا يتَحَقَّق انْفِصَاله عَن الْأَدَاء وبالتعليق بِالشّرطِ يتَأَخَّر وجوب الْأَدَاء فَيتَأَخَّر تقرر السَّبَب أَيْضا ضَرُورَة لِأَن أَحدهمَا لَا ينْفَصل عَن الآخر
وَنَظِيره من حُقُوق الْعباد الشِّرَاء مَعَ الِاسْتِئْجَار فَإِن بشرَاء الْعين يثبت الْملك وَيتم السَّبَب قبل فعل التَّسْلِيم وبالاستئجار لَا يثبت الْملك فِي الْمَنْفَعَة قبل الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهَا لَا تبقى وَقْتَيْنِ وَلَا يتَصَوَّر تَسْلِيمهَا بعد وجودهَا بل يقْتَرن التَّسْلِيم بالوجود فَإِنَّمَا تصير معقودا عَلَيْهَا مَمْلُوكا بِالْعقدِ عِنْد الِاسْتِيفَاء(1/261)
فَكَذَلِك فِي حُقُوق الله تَعَالَى يفصل بَين المالي والبدني من هَذَا الْوَجْه أَلا ترى أَن من قَالَ لله عَليّ أَن أَتصدق بدرهم رَأس الشَّهْر فَتصدق بِهِ فِي الْحَال جَازَ لهَذَا الْمَعْنى
وَدَلِيلنَا على أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَا يُوجب نفي الحكم قبله من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة} الْآيَة وَلَا خلاف أَنه يلْزمهَا الْحَد الْمَذْكُور جَزَاء على الْفَاحِشَة وَإِن لم تحصن وَقَالَ تَعَالَى {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} وَحكم الْكِتَابَة لَا يَنْتَفِي قبل هَذَا الشَّرْط
ثمَّ حَقِيقَة الْكَلَام تبتنى على معرفَة عمل الشَّرْط فَنَقُول التَّعْلِيق بِالشّرطِ تصرف فِي أصل الْعلَّة لَا فِي حكمهَا من حَيْثُ إِنَّه يتَبَيَّن بِالتَّعْلِيقِ أَن الْمَذْكُور لَيْسَ بِسَبَب قبل وجود الشَّرْط وَلَكِن بِعرْض أَن يصير سَببا عِنْد وجوده فأوان وجود الحكم ابْتِدَاء حَال وجود الشَّرْط بِمَنْزِلَة مَا ذكره الْخصم فِي الْعلَّة إِلَّا أَن فرق مَا بَينهمَا أَن الحكم يُوجد عِنْد وجود الشَّرْط ابْتِدَاء وَلكنه يُضَاف إِلَى الْعلَّة ثبوتا بِهِ وَإِلَى الشَّرْط وجودا عِنْده فَكَمَا أَن قبل وجود الْعلَّة انعدام الحكم أصل غير مُضَاف إِلَى الْعلَّة فَكَذَلِك قبل وجود الشَّرْط
وَبَيَان هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السَّبَب هُوَ الْإِيقَاع وَالْمُعَلّق بِالشّرطِ يَمِين وَهِي غير الْإِيقَاع وينتقض الْيَمين إِذا صَار إيقاعا بِوُجُود الشَّرْط وَالثَّانِي أَن صِحَة الْإِيجَاب بِاعْتِبَار رُكْنه وَمحله أَلا ترى أَن شطر البيع كَمَا لَا يكون سَببا لِانْعِدَامِ تَمام الرُّكْن فَكَذَلِك بيع الْحر لَا يكون سَببا لِأَنَّهُ غير مُضَاف إِلَى مَحَله فَكَذَلِك فِي الطَّلَاق وَالْعتاق شطر الْكَلَام الَّذِي هُوَ إِيجَاب (كَمَا لَا يكون سَببا فَالْكَلَام الَّذِي هُوَ إِيجَاب) مَا لم يتَّصل بِالْمحل لَا يكون سَببا وَالتَّعْلِيق بِالشّرطِ يمْنَع وُصُوله إِلَى الْمحل بالِاتِّفَاقِ وَلكنه بِعرْض أَن يتَّصل بِالْمحل إِذا وجد الشَّرْط كَمَا أَن شَرط البيع بِعرْض أَن يصير سَببا إِذا وجد الشّطْر الثَّانِي
وَكَذَلِكَ شطر النّصاب لَيْسَ بِسَبَب لِلزَّكَاةِ بِمَنْزِلَة النّصاب الْكَامِل فِي ملك من لَيْسَ بِأَهْل لوُجُوب الزَّكَاة عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَافِر وَلَكِن بِعرْض أَن يصير سَببا
وَنَظِيره من الحسيات الرَّمْي فَإِن نَفسه لَيْسَ بقتل وَلكنه بِعرْض أَن يصير قتلا إِذا اتَّصل بِالْمحل وَإِذا كَانَ هُنَاكَ مجن منع وُصُوله إِلَى الْمحل فأحد لَا يَقُول بِأَن الْمِجَن مَانع لما هُوَ قتل وَلَكِن لما كَانَ يصير قتلا لَو اتَّصل بِالْمحل عِنْد(1/262)
عدم الْمِجَن فَكَذَلِك التَّعْلِيق بِالشّرطِ فِي الحكميات
وَبِهَذَا تبين أَنه وهم حَيْثُ جعل التَّعْلِيق كالتأجيل فَإِن التَّأْجِيل لَا يمْنَع وُصُول السَّبَب بِالْمحل لِأَن سَبَب وجوب التَّسْلِيم فِي الدّين وَالْعين جَمِيعًا العقد وَمحل الدّين الذِّمَّة والتأجيل لَا يمْنَع ثُبُوت الدّين فِي الذِّمَّة وَلَا ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع وَإِنَّمَا يُؤَخر الْمُطَالبَة وَهُوَ مُحْتَمل السُّقُوط فَيسْقط الْأَجَل بالتعجيل ويتحقق أَدَاء الْوَاجِب وَهنا التَّعْلِيق يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَقبل الْوُصُول (إِلَى الْمحل) لَا يتم السَّبَب وَلَا يتَصَوَّر أَدَاء الْوَاجِب قبل تَمام السَّبَب وَلِهَذَا لم نجوز التَّكْفِير قبل الْحِنْث لِأَن أدنى دَرَجَات السَّبَب أَن يكون طَرِيقا إِلَى الحكم وَالْيَمِين مَانع من الْحِنْث الَّذِي تعلق بِهِ وجوب الْكَفَّارَة على مَا قَرَّرَهُ فَإِنَّهَا مُوجبَة للبر وَالْبر يفوت بِالْحِنْثِ وَفِي الْحِنْث نقض الْيَمين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها} ويستحيل أَن يُقَال فِي شَيْء إِنَّه سَبَب لحكم لَا يثبت ذَلِك الحكم إِلَّا بعد انتقاضه فَعرفنَا أَنه بِعرْض أَن يصير سَببا عِنْد وجود الشَّرْط فَلهَذَا كَانَ مُضَافا إِلَيْهِ وَقبل أَن يصير سَببا لَا يتَحَقَّق الْأَدَاء وفرقه بَين المالي والبدني بَاطِل فَإِن بعد تَمام السَّبَب الْأَدَاء جَائِز فِي البدني والمالي جَمِيعًا وَإِن تَأَخّر وجوب الْأَدَاء كالمسافر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان وَهَذَا لِأَن الْوَاجِب لله على العَبْد فعل هُوَ عبَادَة فَأَما المَال وَمَنَافع الْبدن فَإِنَّهُ يتَأَدَّى الْوَاجِب بهما فَكَمَا أَن فِي الْبدن مَعَ تملق وجوب الْأَدَاء بِالشّرطِ لَا يكون السَّبَب تَاما فَكَذَلِك فِي المالي بِخِلَاف حُقُوق الْعباد فَإِن الْوَاجِب للعباد مَال لَا فعل لِأَن الْمَقْصُود مَا ينْتَفع مِنْهُ العَبْد أَو ينْدَفع عَنهُ الخسران بِهِ وَذَلِكَ بِالْمَالِ دون الْفِعْل وَلِهَذَا إِذا ظفر بِجِنْس حَقه فاستوفى تمّ الِاسْتِيفَاء وَإِن لم يُوجد فعل هُوَ أَدَاء مِمَّن عَلَيْهِ
فَأَما حُقُوق الله تَعَالَى وَاجِبَة بطرِيق الْعِبَادَة وَنَفس المَال لَيْسَ بِعبَادة إِنَّمَا الْعِبَادَة اسْم لعمل يباشره العَبْد بِخِلَاف هوى النَّفس لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى وَفِي هَذَا المالي والبدني سَوَاء وَهَذَا التَّعْلِيق لَا يشبه بتعليق الْقنْدِيل بالحبل لِأَن الْقنْدِيل كَانَ مَوْجُودا بِذَاتِهِ قبل التَّعْلِيق فَعرفنَا أَن عمل التَّعْلِيق فِي تَفْرِيغ الْمَكَان الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِهِ من الأَرْض قبل التَّعْلِيق وَهنا قبل التَّعْلِيق مَا كَانَ الحكم مَوْجُودا فَكَانَ تَأْثِير التَّعْلِيق فِي تَأْخِير السَّبَبِيَّة للْحكم إِلَى وجود(1/263)
الشَّرْط وَلِهَذَا جَوَّزنَا تَعْلِيق الطَّلَاق وَالْإِعْتَاق بِالْملكِ لِأَن الْمُتَعَلّق قبل وجود الشَّرْط يَمِين وَمحل الِالْتِزَام بِالْيَمِينِ الذِّمَّة فَأَما الْملك فِي الْمحل إِنَّمَا يشْتَرط لإِيجَاب الطَّلَاق وَالْإِعْتَاق وَهَذَا الْكَلَام للْحَال لَيْسَ بِإِيجَاب وَلكنه بِعرْض أَن يصير إِيجَابا فَإِن تَيَقنا بِوُجُود الْملك فِي الْمحل حِين يصير إِيجَابا بوصوله إِلَى الْمحل صححنا التَّعْلِيق بِاعْتِبَارِهِ وَإِن لم نتيقن بذلك بِأَن كَانَ الشَّرْط مِمَّا لَا أثر لَهُ فِي إِثْبَات الْملك فِي الْمحل شرطنا الْملك فِي الْحَال ليصير كَلَامه إِيجَابا عِنْد وجود الشَّرْط بِاعْتِبَار الظَّاهِر وَهُوَ أَن مَا علم ثُبُوته فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ وَلَكِن بِهَذَا الظَّاهِر دون الْملك الَّذِي يتَيَقَّن بِهِ عِنْد وجود الشَّرْط فصحة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار ذَلِك النَّوْع دَلِيل على صِحَة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار هَذَا الْملك بطرِيق أولى وَلَيْسَ التَّعْلِيق كاشتراط الْخِيَار فِي البيع فَإِن ذَلِك لَا يدْخل على أصل السَّبَب لِأَن البيع لَا يحْتَمل الْحَظْر وَفِي جعله مُتَعَلقا بِشَرْط لَا نَدْرِي أَن يكون أَو لَا يكون حظر تَامّ وَلِهَذَا كَانَ الْقيَاس أَن لَا يجوز البيع مَعَ خِيَار الشَّرْط وَلَكِن السّنة جوزت ذَلِك لحَاجَة النَّاس بِاعْتِبَار أَن الْخِيَار دخل على الحكم دون السَّبَب فَإِن الحكم يحْتَمل التَّأْخِير عَن السَّبَب فَجعل الحكم مُتَعَلقا بِشَرْط إِسْقَاط الْخِيَار مَعَ ثُبُوت السَّبَب لِأَن السَّبَب مُحْتَمل للْفَسْخ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ دفع الضَّرَر يحصل بِهَذَا الطَّرِيق وَهُوَ أقل غررا فَأَما الطَّلَاق وَالْعتاق فَأصل السَّبَب فيهمَا يحْتَمل التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِذا وجد التَّعْلِيق نصا يثبت الْحَظْر الْكَامِل فيهمَا بِأَن تعلق صيرورتهما سَببا بِوُجُود الشَّرْط
وَالدَّلِيل على الْفرق من جِهَة الحكم أَنه لَو حلف أَن لَا يَبِيع فَبَاعَ بِشَرْط الْخِيَار حنث فِي يَمِينه
وَلَو حلف أَن لَا يُطلق امْرَأَته فعلق طَلاقهَا بِالشّرطِ لم يَحْنَث مَا لم يُوجد الشَّرْط وعَلى هَذَا جَوَّزنَا نِكَاح الْأمة لمن لَهُ طول الْحرَّة لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَا يُوجب نفي الحكم قبله فَيجْعَل الْحل ثَابتا قبل وجود هَذَا الشَّرْط بِالْآيَاتِ الْمُوجبَة لحل الْإِنَاث للذكور
وَهَكَذَا نقُول فِي قَوْله إِن دخل عَبدِي الدَّار(1/264)
فَأعْتقهُ فَإِن ذَلِك لَا يُوجب نفي الحكم قبله حَتَّى إِنَّه لَو كَانَ قَالَ أَولا أعتق عَبدِي ثمَّ قَالَ أعْتقهُ إِن دخل الدَّار جَازَ لَهُ أَن يعتقهُ قبل الدُّخُول بِالْأَمر الأول وَلَا يَجْعَل هَذَا الثَّانِي نهيا عَن الأول
(فَإِن قيل لَا خلاف أَن الحكم الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ يثبت عِنْد وجود الشَّرْط وَإِذا كَانَ الحكم ثَابتا هُنَا قبل وجود الشَّرْط فَكيف يتَصَوَّر ثُبُوته عِنْد وجود الشَّرْط إِذْ لَا يجوز أَن يكون الحكم الْوَاحِد ثَابتا فِي الْحَال ومتعلقا بِشَرْط منتظر قُلْنَا حل الْوَطْء لَيْسَ بِثَابِت قبل النِّكَاح وَلكنه مُتَعَلق بِشَرْط النِّكَاح فِي الْآيَات الَّتِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا الشَّرْط الزَّائِد ومتعلق بهَا وَبِهَذَا الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق مَا ادّعى من التضاد فِيمَا هُوَ مَوْجُود فَأَما فِيمَا هُوَ مُتَعَلق فَلَا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الحكم مُتَعَلقا بِشَرْط وَذَلِكَ الحكم بِعَيْنِه مُتَعَلقا بِشَرْط آخر قبله أَو بعده أَلا ترى أَن من قَالَ لعَبْدِهِ إِذا جَاءَ يَوْم الْخَمِيس فَأَنت حر ثمَّ قَالَ إِذا جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة فَأَنت حر كَانَ الثَّانِي صَحِيحا وَإِن كَانَ مَجِيء يَوْم الْجُمُعَة لَا يكون إِلَّا بعد مَجِيء يَوْم الْخَمِيس حَتَّى لَو أخرجه من ملكه فجَاء يَوْم الْخَمِيس ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى ملكه فجَاء يَوْم الْجُمُعَة يعْتق بِاعْتِبَار التَّعْلِيق الثَّانِي)
فَإِن قيل مَعَ هَذَا لَا يجوز أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد كَمَال الشَّرْط لإِثْبَات حكم وَهُوَ بعض الشَّرْط لإِثْبَات ذَلِك الحكم أَيْضا وَمَا قُلْتُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فَإِن عقد النِّكَاح كَمَال الشَّرْط فِي سَائِر الْآيَات سوى قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا} وَهُوَ بعض الشَّرْط فِي هَذِه الْآيَة إِذا قُلْتُمْ بِأَن الحكم يثبت ابْتِدَاء عِنْد وجود هَذَا الشَّرْط
قُلْنَا إِنَّمَا لَا يجوز هَذَا بِنَصّ وَاحِد فَأَما بنصين فَهُوَ جَائِز أَلا ترى أَنه لَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر إِن أكلت ثمَّ قَالَ أَنْت حر إِن أكلت وشربت صَحَّ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَيكون الْأكل كَمَال الشَّرْط بِالتَّعْلِيقِ الأول وَبَعض الشَّرْط فِي التَّعْلِيق الثَّانِي حَتَّى لَو بَاعه فَأكل فِي غير ملكه ثمَّ اشْتَرَاهُ فَشرب فَإِنَّهُ يعْتق لتَمام الشَّرْط فِي التَّعْلِيق الثَّانِي وَهُوَ فِي ملكه
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ زفر رَحمَه الله إِن التَّعْلِيق لَا يبطل بِفَوَات الْمحل حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ طَلقهَا ثَلَاثًا لم يبطل التَّعْلِيق(1/265)
وَلَو قَالَ لأمته إِن دخلت الدَّار فَأَنت حرَّة ثمَّ أعْتقهَا لم يبطل التَّعْلِيق حَتَّى إِذا ارْتَدَّت وَلَحِقت بدار الْحَرْب فسبيت وملكها ثمَّ دخلت الدَّار عتقت قَالَ لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يمْنَع الْوُصُول إِلَى الْمحل والمتعلق بِالشّرطِ لَا يكون طَلَاقا وَلَا سَببا للطَّلَاق قبل وجود الشَّرْط وَاشْتِرَاط الْمَحَلِّيَّة لتَمام السَّبَب وَثُبُوت الحكم عِنْد الْوُصُول إِلَيْهِ بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْملك فَكَمَا لَا يبطل التَّعْلِيق بعد صِحَّته بانعدام الْملك فِي الْمحل بِأَن بَاعَ العَبْد أَو أبان الْمَرْأَة وَانْقَضَت عدتهَا فَكَذَلِك لَا يبطل بانعدام الْمَحَلِّيَّة وَهَذَا لِأَن توهم الْمَحَلِّيَّة عِنْد وجود الشَّرْط قَائِم كتوهم الْملك وَإِذا كَانَ يَصح ابْتِدَاء التَّعْلِيق بِاعْتِبَار توهم الْملك عِنْد وجود الشَّرْط فِي هَذِه الْيَمين لِأَن الْملك الْمَوْجُود عِنْد التَّعْلِيق متوهم الْبَقَاء عِنْد وجود الشَّرْط لَا مُتَيَقن الْبَقَاء فَلِأَن يبْقى التَّعْلِيق صَحِيحا بِاعْتِبَار هَذَا التَّوَهُّم كَانَ أولى أَلا ترى أَن التَّعْلِيق بِالْملكِ يبْقى بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى حَتَّى إِذا قَالَ لأجنبية كلما تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا فَتَزَوجهَا وَطلقت ثَلَاثًا ثمَّ تزَوجهَا ثَانِيًا بعد زوج تطلق أَيْضا
وَلَكنَّا نقُول بانعدام الْمحل يبطل التَّعْلِيق لِأَن صِحَة التَّعْلِيق بِاعْتِبَار الْمَحْلُوف بِهِ وَهُوَ مَا يصير طَلَاقا عِنْد وجود الشَّرْط وَلَا تصور لذَلِك بِدُونِ الْمحل وبالتطليقات الثَّلَاث تحقق فَوَات الْمحل لِأَن الحكم الْأَصْلِيّ للطَّلَاق زَوَال صفة الْحل عَن الْمحل وَلَا تصور لذَلِك بعد حُرْمَة الْمحل بالتطليقات الثَّلَاث فلانعدام الْمَحْلُوف بِهِ من هَذَا الْوَجْه يبطل التَّعْلِيق لَا لِأَن الْمُتَعَلّق بِالشّرطِ تَطْلِيقَات ذَلِك الْملك
وَتَحْقِيق هَذَا أَنه لَا بُد لصِحَّة التَّعْلِيق من الْمحل (أَيْضا) حَتَّى لَا يَصح التَّعْلِيق بِالْعِتْقِ مُضَافا إِلَى الْبَهِيمَة إِلَّا أَن قيام الْملك فِي الْمحل لَا يشْتَرط لِأَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لَيْسَ هُوَ الطَّلَاق الْمَمْلُوك وَإِذا كَانَت صِحَة التَّعْلِيق تستدعي الْمحل لم يبْق صَحِيحا بعد فَوَات الْمحل لِأَن فِيمَا يرجع إِلَى الْمحل الْبَقَاء بِمَنْزِلَة الِابْتِدَاء وتوهم الْمَحَلِّيَّة على الْوَجْه الَّذِي قَالَ لَا يعْتَبر لصِحَّة التَّعْلِيق فِي الِابْتِدَاء فَإِنَّهُ لَو قَالَ لأجنبية إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق أَو قَالَ ذَلِك للمطلقة ثَلَاثًا لم يَصح التَّعْلِيق وَإِن كَانَ يتَوَهَّم الْملك والمحلية عِنْد وجود الشَّرْط فَإِذا لم يعْتَبر ذَلِك لصِحَّة التَّعْلِيق فِي الِابْتِدَاء لَا يعْتَبر لبَقَائه صَحِيحا بِخِلَاف مَا إِذا صرح بِالْإِضَافَة إِلَى الْملك فَإِن اعْتِبَار ذَلِك التَّعْلِيق بالتيقن بِالْملكِ والمحلية عِنْد(1/266)
وجود الشَّرْط
يُوضحهُ أَن الْمُتَعَلّق وَإِن لم تكن التطليقات الْمَمْلُوكَة لَهُ وَلَكِن فِي التَّعْلِيق شُبْهَة ذَلِك على معنى أَنه مَا صَحَّ إِلَّا بِاعْتِبَارِهِ بِمَنْزِلَة الْغَصْب فَإِن مُوجبه رد الْعين وَلَكِن فِيهِ شُبْهَة وجوب ضَمَان الْقيمَة بِهِ وَقد اعْتبرنَا الشُّبْهَة حَتَّى أثبتنا الْملك عِنْد تقرر الضَّمَان من وَقت الْغَصْب فَهُنَا أَيْضا لَا بُد من اعْتِبَار هَذِه الشُّبْهَة وَبَعْدَمَا أوقع الثَّلَاث قد ذهبت التطليقات الْمَمْلُوكَة كلهَا فَلهَذَا لَا يبْقى التَّعْلِيق
وَمن هَذِه الْجُمْلَة مَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد سَوَاء كَانَ فِي حَادِثَة وَاحِدَة أَو فِي حادثتين لِأَن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون مُطلقًا ومقيدا وَالْمُطلق سَاكِت والمقيد نَاطِق فَكَانَ هُوَ أولى بِأَن يَجْعَل أصلا وَيَبْنِي الْمُطلق عَلَيْهِ فَيثبت الحكم مُقَيّدا بهما كَمَا فِي نُصُوص الزَّكَاة فَإِن الْمُطلق عَن صفة السّوم مَحْمُول على الْمُقَيد بِصفة السّوم فِي حكم الزَّكَاة بالِاتِّفَاقِ
وَكَذَلِكَ نُصُوص الشَّهَادَة فَإِن الْمُطلق عَن صفة الْعَدَالَة مَحْمُول على الْمُقَيد بهَا فِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَات كلهَا وَكَذَلِكَ نُصُوص الْهَدَايَا فَإِن الْمُطلق عَن التَّبْلِيغ وَهُوَ هدي الْمُتْعَة وَالْقرَان مَحْمُول على الْمُقَيد بالتبليغ وَهُوَ جَزَاء الصَّيْد يَعْنِي قَوْله {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} حَتَّى يجب التَّبْلِيغ فِي الْهَدَايَا كلهَا
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي حادثتين لِأَن التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ بِمَنْزِلَة التَّعْلِيق بِالشّرطِ على مَا قَررنَا وكما أوجب نفي الحكم فِيهِ قبل وجود الشَّرْط أوجب فِي نَظِيره اسْتِدْلَالا بِهِ وَلِهَذَا شَرط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار اسْتِدْلَالا بكفارة الْقَتْل لِأَن الْكل كَفَّارَة بالتحرير فَيكون بَعْضهَا نَظِير بعض بِمَنْزِلَة الطَّهَارَة فَإِن تَقْيِيد الْأَيْدِي بالمرافق فِي الْوضُوء جعل تقييدا فِي نَظِيره وَهُوَ التَّيَمُّم لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا طَهَارَة وَهَذَا بِخِلَاف مقادير الْكَفَّارَات والعبادات من الصَّلَوَات وَغَيرهَا لِأَن ثُبُوتهَا بالنصوص باسم الْعلم لَا بِالصّفةِ الَّتِي تجْرِي مجْرى الشَّرْط وَقد بَينا أَن اسْم الْعلم لَا يُوجب نفي الحكم قبل وجوده فِي الْمُسَمّى بِهِ فَكيف يُوجب ذَلِك فِي غَيره وَلَا يلْزَمنِي على هَذَا التَّتَابُع فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين فَإِنِّي لَا أوجبه اسْتِدْلَالا بالمقيد بالتتابع فِي صَوْم الظِّهَار وَالْقَتْل لِأَن هَذَا الْمُطلق يُعَارض فِيهِ نَظَائِره من النُّصُوص فَمِنْهَا مُقَيّد بِصفة التَّتَابُع وَمِنْهَا مُقَيّد بِصفة التَّفَرُّق يَعْنِي صَوْم الْمُتْعَة قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} حَتَّى لَو لم يفرق الصَّوْم فِيهَا لم يجز فَلَا يكون حملهَا على أَحدهمَا بِأولى من الآخر وَلأَجل هَذَا التَّعَارُض أثبتنا فِيهَا حكم الْإِطْلَاق
بِالصَّوْمِ الْمُقَيد بالتتابع فِي بَاب الْكَفَّارَات فَذَلِك يلزمكم اشْتِرَاط صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين اعْتِبَارا بنظيرها فِي كَفَّارَة الْقَتْل
وَعِنْدنَا هَذَا أبعد من الأول لِأَن الْعلَّة وَاحِدَة هُنَاكَ وَالْحكم مُخْتَلف وَهنا الحكم وَالْعلَّة جَمِيعًا مُخْتَلف فَكيف يُمكن تعرف حكم من حكم آخر أَو تعرف عِلّة من عِلّة أُخْرَى ثمَّ الدَّلِيل لنا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى {لَا تسألوا} ثمَّ هَذَا يلزمكم فَإِنَّكُم أثبتم صفة التَّتَابُع(1/267)
فِي صَوْم كَفَّارَة الْيَمين اعْتِبَارا {عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} وَفِي الرُّجُوع إِلَى الْمُقَيد ليعرف مِنْهُ حكم الْمُطلق إقدام على هَذَا الْمنْهِي عَنهُ لما فِيهِ من ترك الْإِبْهَام فِيمَا أبهم الله تَعَالَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ أبهموا مَا أبهم الله وَاتبعُوا مَا بَين
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أم الْمَرْأَة مُبْهمَة فأبهموها
وَإِنَّمَا أَرَادَ قَوْله {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} فَإِن حرمتهَا مُطلقَة وَحُرْمَة الربيبة مُقَيّدَة بقوله تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} وَهَذَا غير مَذْكُور على وَجه الشَّرْط بل على وَجه الزِّيَادَة فِي تَعْرِيف النِّسَاء فَإِن النِّسَاء الْمَذْكُورَة فِي قَوْله {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} معرف بِالْإِضَافَة إِلَيْنَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} زِيَادَة تَعْرِيف أَيْضا بِمَنْزِلَة قَول الرجل عبد امْرَأَتي وَعبد امْرَأَتي الْبَيْضَاء فَلَا يكون ذَلِك فِي معنى الشَّرْط حَتَّى يكون دَلِيلا على نفي الحكم قبل وجوده كَمَا توهمه الْخصم
وَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَة الْقَتْل ذكر صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة لتعريف الرَّقَبَة الْمَشْرُوعَة كَفَّارَة لَا على وَجه الشَّرْط
وَإِنَّمَا لَا يجزىء الْكَافِر لِأَنَّهَا غير مَشْرُوعَة لَا لِانْعِدَامِ شَرط الْجَوَاز فِيمَا هُوَ مَشْرُوع كَمَا لَا تجزىء إِرَاقَة الدَّم وتحرير نصف الرَّقَبَة لِأَن الْكَفَّارَة مَا عرفت إِلَّا شرعا فَمَا لَيْسَ بمشروع لَا يحصل بِهِ التَّكْفِير وَفِي الْموضع الَّذِي هُوَ مَشْرُوع يحصل بِهِ التَّكْفِير وَلَا شكّ أَن انعدام كَونه مَشْرُوعا فِي مَوضِع لَا يُوجب نفي كَونه مَشْرُوعا فِي مَوضِع آخر وَلَو كَانَ مُوجبا لذَلِك لم يجز الْعَمَل بِهِ مَعَ النَّص الْمُطلق الَّذِي هُوَ دَلِيل كَونه مَشْرُوعا
وَبِهَذَا تبين أَن فِيمَا ذهب إِلَيْهِ قولا بتناقض الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة أَو ترك الْعَمَل بِبَعْضِهَا
ثمَّ للمطلق حكم وَهُوَ الْإِطْلَاق فَإِن للإطلاق معنى مَعْلُوما وَله حكم مَعْلُوم وللمقيد كَذَلِك فَكَمَا لَا يجوز حمل الْمُقَيد على الْمُطلق لإِثْبَات حكم الْإِطْلَاق فِيهِ لَا يجوز حمل الْمُطلق على الْمُقَيد لإِثْبَات حكم التَّقْيِيد فِيهِ وَلَئِن سلمنَا(1/268)
أَن الْقَيْد الْمَذْكُور بِمَنْزِلَة الشَّرْط وَأَنه يُوجب نفي الحكم قبله فِيهِ فَلَا يُوجب ذَلِك فِي غَيره مَا لم تثبت الْمُمَاثلَة (بَينهمَا وَلَا مماثلة) فِي الْمَعْنى بَين أم الْمَرْأَة وابنتها لِأَن أم الْمَرْأَة تبرز إِلَى زوج ابْنَتهَا قبل الزفاف عَادَة والربيبة تمنع من ذَلِك بعد الزفاف فضلا عَمَّا قبله
وَكَذَلِكَ لَا مماثلة بَين سَبَب كَفَّارَة الْقَتْل وَبَين سَائِر أَسبَاب الْكَفَّارَة فَإِن الْقَتْل بِغَيْر حق لَا يكون فِي معنى الْجِنَايَة كالظهار أَو الْيَمين وَلَا مماثلة فِي الحكم أَيْضا فالرقبة عين فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَلَا مدْخل للإطعام فِيهَا وَالصَّوْم مُقَدّر بشهرين مُتَتَابعين وَفِي الظِّهَار للإطعام مدْخل عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم وَفِي الْيَمين يتَخَيَّر بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء وَيَكْفِي إطْعَام عشرَة مَسَاكِين وَعند الْعَجز يتَأَدَّى بِصَوْم ثَلَاثَة أَيَّام فَمَعَ انعدام الْمُمَاثلَة فِي السَّبَب وَالْحكم كَيفَ يَجْعَل مَا يدل على نفي الحكم فِي كَفَّارَة الْقَتْل دَلِيلا على النَّفْي فِي كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار وَإِذا كَانَ هُوَ لَا يعْتَبر الصَّوْم فِي كَفَّارَة الْيَمين بِالصَّوْمِ فِي سَائِر الْكَفَّارَات فِي صفة التَّتَابُع لِانْعِدَامِ الْمُمَاثلَة فَكيف يَسْتَقِيم مِنْهُ اعْتِبَار الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْيَمين بِالرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَمَا ذكره من الْعذر بَاطِل فالمطلق فِي كَفَّارَة إِنَّمَا يحمل على الْمُقَيد فِي الْكَفَّارَة أَيْضا وَلَيْسَ فِي صَوْم الْكَفَّارَة مُقَيّد بالتفرق فَإِن صَوْم الْمُتْعَة لَيْسَ بكفارة بل هُوَ نسك بِمَنْزِلَة إِرَاقَة الدَّم الَّذِي كَانَ الصَّوْم خلفا عَنهُ ثمَّ هُوَ غير مُقَيّد بالتفرق فَإِنَّهُ وَإِن فرقه قبل الرُّجُوع لَا يجوز وَلكنه مُضَاف إِلَى وَقت بِحرف إِذا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} والمضاف إِلَى وَقت لَا يجوز قبل ذَلِك الْوَقْت كَصَوْم رَمَضَان قبل شُهُود الشَّهْر وَصَلَاة الظّهْر قبل زَوَال الشَّمْس
وَعِنْدنَا شَرط التَّتَابُع فِيهِ لَيْسَ بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد بل بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ (فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات) وقراءته لَا تكون دون خبر يرويهِ وَقد كَانَ مَشْهُور إِلَى عهد أبي حنيفَة رَحمَه الله وبالخبر الْمَشْهُور تثبت الزِّيَادَة على النَّص على مَا نبينه
فَإِن قيل لماذا لم تجْعَلُوا قِرَاءَته كنص آخر ثمَّ عملتم بهما جَمِيعًا كَمَا فَعلْتُمْ فِي صَدَقَة الْفطر حَيْثُ أوجبتم الصَّدَقَة عَن العَبْد الْكَافِر بِالنَّصِّ الْمُطلق وَعَن العَبْد الْمُسلم بِالنَّصِّ الْمُقَيد قُلْنَا لِأَن الحكم هُنَا وَاحِد وَهُوَ تأدي الْكَفَّارَة بِالصَّوْمِ فبعدما صَار مُقَيّدا(1/269)
بِنَصّ لَا يبْقى ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا
فَأَما فِي صَدَقَة الْفطر النصان فِي بَيَان السَّبَب دون الحكم وَأحد السببين لَا يَنْفِي السَّبَب الآخر فَيجوز أَن يكون ملك العَبْد الْمُطلق سَببا لوُجُوب صَدَقَة الْفطر بِأحد النصين وَملك العَبْد الْمُسلم سَببا بِالنَّصِّ الآخر
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله يجوز التَّيَمُّم بِكُل مَا هُوَ من جنس الأَرْض بِاعْتِبَار النَّص الْمُطلق وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وبالتراب بِاعْتِبَار النَّص الْمُقَيد وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التُّرَاب طهُور الْمُسلم لِأَن الْمحل مُخْتَلف وَإِن كَانَ الحكم وَاحِدًا فيستقيم إِثْبَات الْمَحَلِّيَّة بِاعْتِبَار كل نَص فِي شَيْء آخر فَأَما التَّيَمُّم إِلَى الْمرَافِق فَلم نشترطه بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد إِذْ لَو جَازَ ذَلِك لَكَانَ الأولى إِثْبَات التَّيَمُّم فِي الرَّأْس وَالرجل اعْتِبَارا بِالْوضُوءِ وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك بِنَصّ فِيهِ وَهُوَ حَدِيث الأسلع أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه التَّيَمُّم ضربتين ضَرْبَة للْوَجْه وضربة للذراعين إِلَى الْمرْفقين وَهُوَ مَشْهُور يثبت بِمثلِهِ التَّقْيِيد فَإِذا صَار مُقَيّدا لَا يبْقى ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا
فَأَما صفة السَّائِمَة فِي الزَّكَاة فَهُوَ ثَابت بِالنَّصِّ الْمُقَيد وَإِنَّمَا لَا نوجب الزَّكَاة فِي غير السَّائِمَة لنَصّ مُوجب للنَّفْي وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا زَكَاة فِي العوامل لَا بِاعْتِبَار حمل الْمُطلق على الْمُقَيد
وَاشْتِرَاط الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَات بِاعْتِبَار وجوب التَّوَقُّف (وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} أَي توقفوا) فِي خبر الْفَاسِق بِالنَّصِّ وَبِاعْتِبَار قَوْله تَعَالَى {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} وَالْفَاسِق لَا يكون مرضيا لَا بِحمْل الْمُطلق على الْمُقَيد
وَاشْتِرَاط التَّبْلِيغ فِي الْهَدَايَا بِاعْتِبَار النَّص الْوَارِد فِيهِ وَهُوَ أَن الله تَعَالَى بعد ذكر الْهَدَايَا قَالَ {ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} أَو بِمُقْتَضى اسْم الْهَدْي فَإِنَّهُ اسْم لما يهدي إِلَى مَوضِع
وبمجرد اسْم الْكَفَّارَة لَا تثبت الْمُمَاثلَة بَين وَاجِبَات مُتَفَاوِتَة فِي أَنْفسهَا ليتعرف حكم بَعْضهَا من بعض كَمَا لَا تثبت الْمُمَاثلَة بَين الصَّلَوَات فِي مِقْدَار الرَّكْعَات والشرائط نَحْو الْخطْبَة وَالْجَمَاعَة فِي صَلَاة الْجُمُعَة حَتَّى يعْتَبر بَعْضهَا بِبَعْض وَإِن جمعهَا اسْم الصَّلَاة
وَصَارَ حَاصِل الْكَلَام أَن النَّفْي ضد الْإِثْبَات فالنص الْمُوجب لإِثْبَات حكم لَا يُوجب ضد ذَلِك الحكم بعبارته(1/270)
وَلَا بإشارته وَلَا بدلالته وَلَا بِمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من جملَة مَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ حَتَّى يكون مقتضيا إِيَّاه فإثبات النَّفْي بِهِ بعد هَذَا لَا يكون إِلَّا إِثْبَات الحكم بِلَا دَلِيل والاحتجاج بِلَا حجَّة وَذَلِكَ بَاطِل على مَا نثبته فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَنحن إِذا قُلْنَا يثبت بالمطلق حكم الْإِطْلَاق وبالمقيد حكم التَّقْيِيد فقد عَملنَا بِكُل دَلِيل بِحَسب الْإِمْكَان والتفاوت بَين الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَبَين الْعَمَل بِلَا دَلِيل لَا يخفى على كل متأمل
وَمن هَذَا الْجِنْس مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي النَّهْي عَن ضِدّه وَالنَّهْي عَن الشَّيْء يكون أمرا بضده وَقد بَينا فَسَاد هَذَا الْكَلَام فِيمَا سبق
وَمن هَذِه الْجُمْلَة قَول بعض الْعلمَاء إِن الْعَام يخْتَص بِسَبَبِهِ وَعِنْدنَا هَذَا على أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَن يكون السَّبَب مَنْقُولًا مَعَ الحكم نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَهَا فَسجدَ وَأَن ماعزا زنى فرجم وَنَحْو قَوْله تَعَالَى {إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} وَهَذَا يُوجب تَخْصِيص الحكم بِالسَّبَبِ الْمَنْقُول لِأَنَّهُ لما نقل مَعَه فَذَلِك تنصيص على أَنه بِمَنْزِلَة الْعلَّة للْحكم الْمَنْصُوص وكما لَا يثبت الحكم بِدُونِ علية لَا يبْقى بِدُونِ الْعلَّة مُضَافا إِلَيْهَا بل الْبَقَاء بِدُونِهَا يكون مُضَافا إِلَى عِلّة أُخْرَى
وَالثَّانِي أَن لَا يكون السَّبَب مَنْقُولًا وَلَكِن الْمَذْكُور مِمَّا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَلَا يكون مفهوما بِدُونِ السَّبَب الْمَعْلُوم بِهِ فَهَذَا يتَقَيَّد بِهِ أَيْضا نَحْو قَول الرجل أَلَيْسَ لي عنْدك كَذَا فَيَقُول بلَى أَو يَقُول أَكَانَ من الْأَمر كَذَا فَيَقُول نعم أَو أجل
فَهَذِهِ الْأَلْفَاظ لَا تستقل بِنَفسِهَا مفهومة الْمَعْنى فتتقيد بالسؤال الْمَذْكُور الَّذِي كَانَ سَببا لهَذَا الْجَواب حَتَّى جعل إِقْرَارا بذلك وَبِاعْتِبَار أصل اللُّغَة بلَى مَوْضُوع للجواب عَن صِيغَة نفي فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} وَنعم جَوَاب لما هُوَ مَحْض الِاسْتِفْهَام قَالَ تَعَالَى {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} وَأجل تصلح لَهما
وَقد تسْتَعْمل بلَى وَنعم فِي جَوَاب مَا لَيْسَ باستفهام على أَن يقدر فِيهِ معنى الِاسْتِفْهَام أَو يكون مستعارا عَنهُ
هَذَا مَذْهَب أهل اللُّغَة(1/271)
فَأَما مُحَمَّد رَحمَه الله فقد ذكر فِي كتاب الْإِقْرَار مسَائِل بناها على هَذِه الْكَلِمَات من غير اسْتِفْهَام فِي السُّؤَال أَو احْتِمَال اسْتِفْهَام وَجعلهَا إِقْرَارا صَحِيحا بطرِيق الْجَواب وَكَأَنَّهُ ترك اعْتِبَار حَقِيقَة اللُّغَة فِيهَا لعرف الِاسْتِعْمَال
وَالثَّالِث أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ مَفْهُوم الْمَعْنى وَلكنه خرج جَوَابا للسؤال وَهُوَ غير زَائِد على مِقْدَار الْجَواب فَبِهَذَا يتَقَيَّد بِمَا سبق وَيصير مَا ذكر فِي السُّؤَال كالمعاد فِي الْجَواب لِأَنَّهُ بِنَاء عَلَيْهِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا إِذا قَالَ لغيره تعال تغد معي فَقَالَ إِن تغديت فَعَبْدي حر فَهَذَا يخْتَص بذلك الْغَدَاء وَلَو قَالَت لَهُ امْرَأَته إِنَّك تَغْتَسِل فِي هَذِه الدَّار اللَّيْلَة من جَنَابَة فَقَالَ إِن اغْتَسَلت فَعَبْدي حر فَإِنَّهُ يخْتَص بذلك الِاغْتِسَال الْمَذْكُور فِي السُّؤَال
وَالرَّابِع أَن يكون مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ زَائِدا على مَا يتم بِهِ الْجَواب بِأَن يَقُول إِن تغديت الْيَوْم أَو إِن اغْتَسَلت اللَّيْلَة فموضع الْخلاف هَذَا الْفَصْل
فعندنا لَا يخْتَص مثل هَذَا الْعَام بِسَبَبِهِ لِأَن فِي تَخْصِيصه بِهِ إِلْغَاء الزِّيَادَة وَفِي جعله نصا مُبْتَدأ اعْتِبَار الزِّيَادَة الَّتِي تكلم بهَا وإلغاء الْحَال وَالْعَمَل بالْكلَام لَا بِالْحَال فإعمال كَلَامه مَعَ إِلْغَاء الْحَال أولى من إِلْغَاء بعض كَلَامه وَفِيمَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ قيدناه بِالسَّبَبِ بِاعْتِبَار أَن الْكل صَار بِمَنْزِلَة الْمَذْكُور وبمنزلة كَلَام وَاحِد فَلَا يجوز إِعْمَال بعضه دون الْبَعْض فَفِي هَذَا الْموضع لِأَن لَا يجوز إِعْمَال بعض كَلَامه وإلغاء الْبَعْض كَانَ أولى إِلَّا أَن يَقُول نَوَيْت الْجَواب فَحِينَئِذٍ يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَتجْعَل تِلْكَ الزِّيَادَة للتوكيد
وعَلى قَول بعض الْعلمَاء هَذَا يحمل على الْجَواب أَيْضا بِاعْتِبَار الْحَال فَيكون ذَلِك عملا بالمسكوت وتركا للْعَمَل بِالدَّلِيلِ لِأَن الْحَال مسكوت عَنهُ وَالِاسْتِدْلَال بالمسكوت يكون اسْتِدْلَالا بِلَا دَلِيل فَكيف يجوز بِاعْتِبَارِهِ ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَهُوَ الْمَنْصُوص وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا إِن بَين أهل التَّفْسِير اتِّفَاقًا أَن نزُول آيَة الظِّهَار كَانَ بِسَبَب خَوْلَة ثمَّ لم يخْتَص الحكم بهَا ونزول آيَة الْقَذْف كَانَ بِسَبَب قصَّة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا ثمَّ لم يخْتَص بهَا ونزول آيَة اللّعان كَانَ بِسَبَب مَا قَالَ سعد بن عبَادَة ثمَّ لم يخْتَص بِهِ وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة(1/272)
فَوَجَدَهُمْ يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين فَقَالَ من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم فقد كَانَ سَبَب هَذَا النَّص إسْلَامهمْ إِلَى أجل مَجْهُول ثمَّ لم يخْتَص هَذَا النَّص بذلك السَّبَب
وأمثلة هَذَا كثير فَعرفنَا أَن الْعَام لَا يخْتَص بِسَبَبِهِ
وَمن هَذِه الْجُمْلَة تَخْصِيص الْعَام بغرض الْمُتَكَلّم فَإِن من النَّاس من يَقُول يخْتَص الْكَلَام بِمَا يعلم من غَرَض الْمُتَكَلّم لِأَنَّهُ يظْهر بِكَلَامِهِ غَرَضه فَيجب بِنَاء كَلَامه فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص والحقيقة وَالْمجَاز على مَا يعلم من غَرَضه وَيجْعَل ذَلِك الْغَرَض كالمذكور
وعَلى هَذَا قَالُوا الْكَلَام الْمَذْكُور للمدح والذم وَالثنَاء وَالِاسْتِثْنَاء لَا يكون لَهُ عُمُوم لأَنا نعلم أَنه لم يكن غَرَض الْمُتَكَلّم بِهِ الْعُمُوم
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد لِأَنَّهُ ترك مُوجب الصِّيغَة بِمُجَرَّد التشهي وَعمل بالمسكوت فَإِن الْغَرَض مسكوت عَنهُ فَكيف يجوز الْعَمَل بالمسكوت وَترك الْعَمَل بالمنصوص بِاعْتِبَارِهِ وَلَكِن الْعَام يعرف بصيغته فَإِذا وجدت تِلْكَ الصِّيغَة وَأمكن الْعَمَل بحقيقتها يجب الْعَمَل والإمكان قَائِم مَعَ اسْتِعْمَال الصِّيغَة للمدح والذم (فَإِن الْمَدْح الْعَام وَالثنَاء الْعَام من عَادَة أهل اللِّسَان وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء والذم) وَاعْتِبَار الْغَرَض اعْتِبَار نوع احْتِمَال ولأجله لَا يجوز ترك الْعَمَل بِحَقِيقَة الْكَلَام
وَمن ذَلِك مَا قَالَه بعض الْأَحْدَاث من الْفُقَهَاء إِن الْقُرْآن فِي النّظم يُوجب الْمُسَاوَاة فِي الحكم وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} فَإِن هَذِه جمل قرن بَعْضهَا بِبَعْض بِحرف النّظم وَهُوَ الْوَاو وَقَالُوا يَسْتَوِي حكمهَا فِي الْحَج
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} إِن ذَلِك يُوجب سُقُوط الزَّكَاة عَن الصَّبِي لِأَن الْقرَان فِي النّظم دَلِيل الْمُسَاوَاة فِي الحكم فَلَا تجب الزَّكَاة على من لَا تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد وَهُوَ من جنس الْعَمَل بالمسكوت وَترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ لأَجله فَإِن كلا من الْجمل مَعْلُوم بِنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي وَاو النّظم دَلِيل الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي الحكم إِنَّمَا ذَلِك فِي وَاو الْعَطف وَفرق مَا بَينهمَا أَن وَاو النّظم تدخل بَين جملتين كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تَامَّة بِنَفسِهَا مستغنية عَن خبر الآخر كَقَوْل الرجل جَاءَنِي زيد وَتكلم عَمْرو فَذكر الْوَاو بَينهمَا لحسن النّظم
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {لنبين لكم ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء} وَقَالَ بِهِ(1/273)
لَا للْعَطْف تَعَالَى {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل} وَأما وَاو الْعَطف فَإِنَّهُ يدْخل بَين جملتين أَحدهمَا نَاقص وَالْآخر تَامّ بِأَن لَا يكون خبر النَّاقِص مَذْكُورا فَلَا يكون مُفِيدا بِنَفسِهِ وَلَا بُد من جعل الْخَبَر الْمَذْكُور للْأولِ خَبرا للثَّانِيَة حَتَّى يصير مُفِيدا كَقَوْل الرجل جَاءَنِي زيد وَعَمْرو فَهَذَا الْوَاو للْعَطْف لِأَنَّهُ لم يذكر لعَمْرو خَبرا وَلَا يُمكن جعل (هَذَا) الْخَبَر الأول خَبرا لَهُ إِلَّا بِأَن يَجْعَل الْوَاو للْعَطْف حَتَّى يصير ذَلِك الْخَبَر كالمعاد لِأَن مُوجب الْعَطف الِاشْتِرَاك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الْخَبَر فَمن قَالَ بالْقَوْل الأول فقد ذهب إِلَى التَّسْوِيَة بَين وَاو الْعَطف وواو النّظم بِاعْتِبَار أَن الْوَاو فِي أصل اللُّغَة للْعَطْف وَمُوجب الْعَطف الِاشْتِرَاك وَمُطلق الِاشْتِرَاك يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فَذَلِك دَلِيل على أَن الْقرَان فِي النّظم يُوجب الْمُسَاوَاة فِي الحكم
ثمَّ الأَصْل أَنا نفهم من خطاب صَاحب الشَّرْع مَا يتفاهم من المخاطبات بَيْننَا وَمن يَقُول امْرَأَته طَالِق وَعَبده حر إِن دخل الدَّار فَإِنَّهُ يقْصد الِاشْتِرَاك بَين الْمَذْكُورين فِي التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَذَلِكَ يفهم من كَلَامه حَتَّى يَجْعَل الْكل مُتَعَلقا بِالشّرطِ وَإِن كَانَ كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ تَاما لكَونه مُبْتَدأ وخبرا مَفْهُوم الْمَعْنى بِنَفسِهِ فَعَلَيهِ يحمل أَيْضا مُطلق كَلَام صَاحب الشَّرْع
وَلَكنَّا نقُول الْمُشَاركَة فِي الْخَبَر عِنْد وَاو الْعَطف لحَاجَة الْجُمْلَة النَّاقِصَة إِلَى الْخَبَر لَا لعين الْوَاو وَهَذِه الْحَاجة تنعدم فِي وَاو النّظم لِأَن كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ تَامّ بِمَا ذكر لَهُ من الْخَبَر فَكَانَ هَذَا الْوَاو ساكتا عَمَّا يُوجب الْمُشَاركَة فإثبات الْمُشَاركَة بِهِ يكون اسْتِدْلَالا بالمسكوت يُوضحهُ أَنه لَو كَانَت الْمُشَاركَة تثبت بِاعْتِبَار هَذَا الْوَاو لثبتت فِي خبر كل جملَة إِذْ لَيْسَ خبر إِحْدَى الجملتين بذلك بِأولى من الآخر وَهَذَا خلاف مَا عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل اللِّسَان فَأَما إِذا قَالَ امْرَأَته طَالِق وَعَبده حر إِن دخل الدَّار فَكل وَاحِد مِنْهُمَا تَامّ فِي نَفسه إيقاعا لَا تَعْلِيقا بِالشّرطِ وَالتَّعْلِيق تصرف سوى الْإِيقَاع فَفِيمَا يرجع إِلَى التَّعْلِيق إِحْدَى الجملتين نَاقِصَة فأثبتنا الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي حكم التَّعْلِيق بواو الْعَطف حَتَّى إِذا لم يذكر الشَّرْط وَكَانَ كَلَامه إيقاعا لم تثبت الْمُشَاركَة بَينهمَا فِي الْخَبَر وَجعل وَاو النّظم مائَة دِينَار وَلفُلَان ألف دِرْهَم إِلَّا عشرَة يَجْعَل الِاسْتِثْنَاء من آخر الْمَالَيْنِ ذكرا لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج الْكَلَام من أَن يكون إِقْرَارا وَبِاعْتِبَار الْإِقْرَار كل وَاحِد من الجملتين تَامَّة فَيكون الْوَاو للنظم وينصرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّة
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا}(1/274)
لتحسين الْكَلَام بِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمل كَمَا بَينا وَلِهَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ إِن هَذَا الْوَاو للنظم حَتَّى ينْصَرف الِاسْتِثْنَاء إِلَى سمة الْفسق دون مَا تقدمه
وَالشَّافِعِيّ يَجْعَل هَذَا الْوَاو للْعَطْف وَالْوَاو الَّذِي فِي قَوْله {وَلَا تقبلُوا لَهُم} للنظم حَتَّى يكون الِاسْتِثْنَاء منصرفا إِلَيْهِمَا دون الْجلد فَلَا يسْقط الْجلد بِالتَّوْبَةِ
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا فَإِن من حَيْثُ الصِّيغَة معنى الْعَطف يتَحَقَّق فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} وَلَا يتَحَقَّق فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} لِأَن قَول الْقَائِل اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّم يكون عطفا صَحِيحا فَكَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فاجلدوا}
{وَلَا تقبلُوا} لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا خطاب للأئمة فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} لَيْسَ بخطاب للأئمة وَلَكِن إِخْبَار عَن وصف القاذفين فَلَا يصلح مَعْطُوفًا على مَا هُوَ خطاب فجعلناه للنظم وَكَذَلِكَ من حَيْثُ الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} صَالح لِأَن يكون متمما للحد مَعْطُوفًا على الْجلد فَإِن إهدار قَوْله فِي الشَّهَادَات شرعا مؤلم كالجلد وَهَذَا الْأَلَم عِنْد الْعُقَلَاء يزْدَاد على ألم الْجلد فيصلح متمما للحد زاجرا عَن سَببه وَلِهَذَا خُوطِبَ بِهِ الْأَئِمَّة فَإِن إِقَامَة الْحَد إِلَيْهِم فَأَما قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} فَمَعْنَاه العاصون وَذَلِكَ بَيَان لجريمة الْقَاذِف فَلَا يصلح جَزَاء على الْقَذْف حَتَّى يكون متمما للحد بل الْمَقْصُود بِهِ إِزَالَة إِشْكَال كَانَ يَقع عَسى وَهُوَ أَن الْقَذْف خبر متميل وَرُبمَا يكون حسبَة إِذا كَانَ الرَّامِي صَادِقا وَله أَرْبَعَة من الشُّهُود وَالزَّانِي مصر فَكَانَ يَقع الْإِشْكَال أَنه لما كَانَ سَببا لوُجُوب عُقُوبَة تندرىء بِالشُّبُهَاتِ فأزال الله هَذَا الْإِشْكَال بقوله {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} أَي العاصون بهتك ستر الْعِفَّة من غير فَائِدَة حِين عجزوا عَن إِقَامَة أَرْبَعَة من الشُّهَدَاء وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} ويتبين بِهَذَا التَّحْقِيق أَن الْعَمَل بِالنَّصِّ كَمَا يُوجِبهُ فِيمَا قُلْنَا فَإنَّا جعلنَا الْعَجز عَن إِقَامَة أَرْبَعَة كَمَا هُوَ مُوجب حرف ثمَّ فَإِنَّهُ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي وَجَعَلنَا الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} للْعَطْف فَكَانَ رد الشَّهَادَة متمما للحد كَمَا هُوَ مُوجب من الشُّهَدَاء(1/275)
مضموما إِلَى الْقَذْف ليتَحَقَّق بهما السَّبَب الْمُوجب للعقوبة وَاو الْعَطف وَجَعَلنَا الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ} للنظم كَمَا هُوَ مُقْتَضى صِيغَة الْكَلَام
وَالشَّافِعِيّ ترك الْعَمَل بِحرف ثمَّ وَجعل نفس الْقَذْف مُوجبا للحد وَجعل الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا} للنظم وَفِي قَوْله {وَأُولَئِكَ} للْعَطْف وكل ذَلِك مُخَالف لمقْتَضى صِيغَة الْكَلَام فَكَانَ الصَّحِيح مَا قُلْنَاهُ
وَمن هَذِه الْجُمْلَة حكم الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة نَحْو قَوْله تَعَالَى {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} وَقَوله تَعَالَى {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} فَإِن من النَّاس من يَقُول حِكْمَة حَقِيقَة الْجَمَاعَة فِي حق كل وَاحِد مِمَّن أضيف إِلَيْهِم وَزَعَمُوا أَن حَقِيقَة الْكَلَام هَذَا فَإِن الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة يكون مُضَافا إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم وَإِذا كَانَت الصِّيغَة الَّتِي بهَا حصلت الْإِضَافَة صِيغَة الْجَمَاعَة وَبهَا يثبت الحكم فِي كل وَاحِد مِنْهُم مَا هُوَ مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة قولا بِحَقِيقَة الْكَلَام أَلا ترى أَن الْإِضَافَة لَو حصلت بِصِيغَة الْفَرد تثبت فِي كل وَاحِد مِنْهُم الحكم الَّذِي هُوَ مُوجب تِلْكَ الصِّيغَة
وَعِنْدنَا هَذَا فَاسد وَهُوَ من جنس القَوْل بالمسكوت وَلَكِن مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة مُقَابلَة الْآحَاد بالآحاد على مَا قَالَ فِي الْجَامِع إِذا قَالَ لامرأتين لَهُ إِذا ولدتما وَلدين فأنتما طالقان فَولدت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ولدا طلقتا وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ إِذا حضتما حيضتين أَو قَالَ إِذا دخلتما هَاتين الدَّاريْنِ فَدخلت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا دَارا فهما طالقان وَلَا يشْتَرط دُخُول كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي الدَّاريْنِ جَمِيعًا وَمَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمَعْلُوم من مخاطبات النَّاس فَإِن الرجل يَقُول لبس الْقَوْم ثِيَابهمْ وحلقوا رؤوسهم وركبوا دوابهم وَإِنَّمَا يفهم من ذَلِك أَن كل وَاحِد مِنْهُم لبس ثَوْبه وَركب دَابَّته وَحلق رَأسه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر وَإِنَّا نرى أقدامنا فِي نعَالهمْ وآنفنا بَين اللحى والحواجب وَالْمرَاد مَا قُلْنَا وَكتاب الله يشْهد بِهِ قَالَ تَعَالَى {جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ} وَالْمرَاد أَن كل وَاحِد مِنْهُم جعل أُصْبُعه فِي أُذُنه لَا فِي آذان الْجَمَاعَة واستغشى ثَوْبه وَقَالَ تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وَالْمرَاد فِي حق كل وَاحِدَة مِنْهُمَا قَلبهَا وَقَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا}(1/276)
وَالْمرَاد قطع يَد وَاحِدَة من كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا قطع جَمِيع مَا يُسمى يدا من كل وَاحِد مِنْهُمَا لاتفاقنا على أَن بِالسَّرقَةِ الْوَاحِدَة لَا تقطع إِلَّا يَد وَاحِدَة من السَّارِق وَقد بَينا أَن مُطلق الْكَلَام مَحْمُول على مَا يتفاهمه النَّاس فِي مخاطباتهم فَهُوَ اعْتِبَار الصِّيغَة بِدُونِ الْإِضَافَة وَالْمَنْصُوص عَلَيْهِ الصِّيغَة مَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة وَمَعَ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة مُوجب الصِّيغَة حَقِيقَة لَيْسَ مَا ادعوا بل مُوجبه مَا قُلْنَا لِأَن مَا ادعوا يثبت بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة (وَمَا قُلْنَا لَا يثبت بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى الْجَمَاعَة) فَعرفنَا أَن حَقِيقَة الْعَمَل بالمنصوص فِيمَا قُلْنَا وَفِيمَا قَالُوا ترك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ الْمَنْصُوص وَعمل بالمسكوت فَيكون فَاسِدا
هَذَا بَيَان الطَّرِيق فِيمَا هُوَ فَاسد من وُجُوه الْعَمَل بالمنصوص كَمَا ذهب إِلَيْهِ بعض النَّاس وَقد بَينا الطَّرِيق الصَّحِيح من ذَلِك فِي أول الْبَاب فَمن فهم الطَّرِيقَيْنِ يَتَيَسَّر عَلَيْهِ تَمْيِيز الصَّحِيح من الِاسْتِدْلَال بِجَمِيعِ النُّصُوص وَالْفَاسِد وَإِن خَفِي عَلَيْهِ شَيْء فَهُوَ يخرج بِالتَّأَمُّلِ على مَا بَينا من كل طَرِيق وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب بَيَان الْحجَّة الشَّرْعِيَّة وأحكامها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَّة لُغَة اسْم من قَول الْقَائِل حج أَي غلب وَمِنْه يُقَال لج فحج وَيَقُول الرجل حاججته فحججته أَي ألزمته بِالْحجَّةِ فَصَارَ مَغْلُوبًا ثمَّ سميت الْحجَّة فِي الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ يلْزمنَا حق الله تَعَالَى بهَا على وَجه يَنْقَطِع بهَا الْعذر وَيجوز أَن يكون مأخوذا من معنى الرُّجُوع إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْقَائِل يحجون بَيت الزبْرِقَان المزعفرا أَي يرجعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْه حج الْبَيْت فَإِن النَّاس يرجعُونَ إِلَيْهِ معظمين لَهُ قَالَ تَعَالَى {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا} والمثابة الْمرجع فسميت الْحجَّة لوُجُوب الرُّجُوع إِلَيْهَا من حَيْثُ الْعَمَل بهَا شرعا وَيَسْتَوِي إِن الرُّجُوع إِلَيْهَا بِالْعَمَلِ بهَا وَاجِب شرعا فِي الْوَجْهَيْنِ على مَا نبينه فِي بَاب خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالْبَيِّنَة كالحجة فَإِنَّهَا مُشْتَقَّة من الْبَيَان وَهُوَ أَن يظْهر للقلب وَجه الْإِلْزَام بهَا سَوَاء كَانَ ظهورا مُوجبا للْعلم أَو دون ذَلِك لِأَن الْعَمَل يجب فِي الْوَجْهَيْنِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} أَي عَلَامَات ظاهرات كَانَت مُوجبَة(1/277)
للْعلم قطعا أَو كَانَت مُوجبَة للْعَمَل دون الْعلم قطعا لِأَن
والبرهان كَذَلِك فَإِنَّهُ مُسْتَعْمل اسْتِعْمَال الْحجَّة فِي لِسَان الْفُقَهَاء
وَأما الْآيَة فمعناها لُغَة الْعَلامَة قَالَ الله تَعَالَى {فِيهِ آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ الْقَائِل وَغير آيها الْعَصْر ومطلقها فِي الشَّرِيعَة ينْصَرف إِلَى مَا يُوجب الْعلم قطعا وَلِهَذَا سميت معجزات الرُّسُل آيَات قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى تسع آيَات بَيِّنَات} وَقَالَ تَعَالَى {فاذهبا بِآيَاتِنَا}
فَإِن قيل من النَّاس من جحد رِسَالَة الرُّسُل بعد رُؤْيَة المعجزات وَالْوُقُوف عَلَيْهَا وَلَو كَانَت مُوجبَة للْعلم قطعا لما أنكرها أحد بعد المعاينة قُلْنَا هَذِه الْآيَات لَا توجب الْعلم خَبرا فَإِنَّهَا لَو أوجبت ذَلِك انْعَدم الثَّوَاب وَالْعِقَاب بهَا أصلا وَإِنَّمَا توجب الْعلم بِاعْتِبَار التَّأَمُّل فِيهَا عَن إنصاف لَا عَن تعنت وَمَعَ هَذَا التَّأَمُّل يثبت الْعلم بهَا قطعا وَإِنَّمَا جَحدهَا من جَحدهَا للإعراض عَن هَذَا التَّأَمُّل كَمَا ذكر الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} وَفِي قَوْله {لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} وَقد كَانَ فيهم من جحد تعنتا بَعْدَمَا علم يَقِينا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} وَأما الدَّلِيل فَهُوَ فعيل من فَاعل الدّلَالَة بِمَنْزِلَة عليم من عَالم وَمِنْه قَوْلهم يَا دَلِيل المتحيرين أَي هاديهم إِلَى مَا يزِيل الْحيرَة عَنْهُم وَمِنْه سمي دَلِيل الْقَافِلَة أَي هاديهم إِلَى الطَّرِيق فَسُمي باسم فعله وَفِي الشَّرِيعَة هُوَ اسْم لحجة منطق يظْهر بِهِ مَا كَانَ خفِيا فَإِن مَا قدمْنَاهُ يكون مُوجبا تَارَة ومظهرا تَارَة وَالدَّلِيل خَاص لما هُوَ مظهر
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الدُّخان دَلِيل على النَّار وَالْبناء دَلِيل على الْبَانِي عِنْده كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَقَالَ تَعَالَى {فوجدا فِيهَا} وَلَا نطق(1/278)
هُنَاكَ قُلْنَا إِنَّمَا يُطلق الِاسْم على ذَلِك مجَازًا بِحُصُول معنى الظُّهُور {جدارا يُرِيد أَن ينْقض فأقامه} وَقَالَ الْقَائِل وعظتك أَحْدَاث صمت وكل ذَلِك مجَاز
ثمَّ الدَّلِيل مجَازًا كَانَ أَو حَقِيقَة يكون مظْهرا ظهورا مُوجبا للْعلم بِهِ أَو دون ذَلِك
وَالشَّاهِد كالدليل سَوَاء كَانَ مظْهرا على وَجه يثبت الْعلم بِهِ أَو لَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين بِمَنْزِلَة الشَّهَادَات على الْحُقُوق فِي مجَالِس الْحُكَّام
قَالَ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ اعْلَم بِأَن الْأُصُول فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة ثَلَاثَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْأَصْل الرَّابِع وَهُوَ الْقيَاس هُوَ الْمَعْنى المستنبط من هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة
وَهِي تَنْقَسِم قسمَيْنِ قسم مُوجب للْعلم قطعا ومجوز غير مُوجب للْعلم وَإِنَّمَا سميناه مجوزا لِأَنَّهُ يجب الْعَمَل بِهِ وَالْأَصْل أَن الْعَمَل بِغَيْر علم لَا يجوز قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فسميناه مجوزا بِاعْتِبَار أَنه يجب الْعَمَل بِهِ وَإِن لم يكن مُوجبا للْعلم قطعا
فَأَما الْمُوجب للْعلم من الْحجَج الشَّرْعِيَّة أَنْوَاع أَرْبَعَة كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المسموع مِنْهُ وَالْمَنْقُول عَنهُ بالتواتر وَالْإِجْمَاع
وَالْأَصْل فِي كل ذَلِك لنا السماع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أسمعنا مَا أُوحِي إِلَيْهِ من الْقُرْآن بقرَاءَته علينا وَالْمَنْقُول عَنهُ بطرِيق متواتر بِمَنْزِلَة المسموع عَنهُ فِي وُقُوع الْعلم بِهِ على مَا نبينه وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع فَإِن إِجْمَاع هَذِه الْأمة إِنَّمَا كَانَت حجَّة مُوجبَة للْعلم بِالسَّمَاعِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله تَعَالَى لَا يجمع أمته على الضَّلَالَة وَالسَّمَاع مِنْهُ مُوجب للْعلم لقِيَام الدّلَالَة على أَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام يكون مَعْصُوما عَن الْكَذِب وَالْقَوْل بِالْبَاطِلِ
فَهَذَا بَيَان قَوْلنَا إِن الأَصْل فِي ذَلِك كُله السماع من رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فصل فِي بَيَان الْكتاب وَكَونه حجَّة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكتاب هُوَ الْقُرْآن الْمنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَكْتُوب فِي دفات الْمَصَاحِف الْمَنْقُول إِلَيْنَا على الأحرف السَّبْعَة الْمَشْهُورَة نقلا متواترا لِأَن مَا دون الْمُتَوَاتر لَا يبلغ دَرَجَة العيان وَلَا يثبت بِمثلِهِ الْقُرْآن مُطلقًا وَلِهَذَا قَالَت الْأمة لَو صلى بِكَلِمَات تفرد بهَا ابْن مَسْعُود لم تجز صلَاته لِأَنَّهُ لم يُوجد(1/279)
فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَبَاب الْقُرْآن بَاب يَقِين وإحاطة فَلَا يثبت بِدُونِ النَّقْل الْمُتَوَاتر كَونه قُرْآنًا وَمَا لم يثبت أَنه قُرْآن فتلاوته فِي الصَّلَاة كتلاوة خبر فَيكون مُفْسِدا للصَّلَاة
فَإِن قيل بِكَوْنِهِ معجزا يثبت أَنه قُرْآن بِدُونِ النَّقْل الْمُتَوَاتر
قُلْنَا لَا خلاف أَن مَا دون الْآيَة غير معجز وَكَذَلِكَ الْآيَة القصيرة وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله الصَّلَاة إِلَّا بِقِرَاءَة ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة لِأَن المعجز السُّورَة وأقصر السُّور ثَلَاث آيَات يَعْنِي الْكَوْثَر
وَأَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ الْوَاجِب بِالنَّصِّ قِرَاءَة مَا تيَسّر من الْقُرْآن وبالآية القصيرة يحصل ذَلِك فيتأدى فرض الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ يكره الِاكْتِفَاء بذلك وَجَاء فِيمَا ذكرنَا أَن مَا دون الْآيَة وَالْآيَة القصيرة لَيْسَ بمعجز وَهُوَ قُرْآن يثبت بِهِ الْعلم قطعا فَظهر أَن الطَّرِيق فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر مَعَ أَن كَونه معجزا دَلِيل على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يخبر بِهِ وَلَيْسَ بِدَلِيل فِي نَفسه على أَنه كَلَام الله لجَوَاز أَن يقدر الله تَعَالَى رَسُوله على كَلَام يعجز الْبشر عَن مثله كَمَا أقدر عِيسَى على إحْيَاء الْمَوْتَى وعَلى أَن يخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير فينفخ فِيهِ فَيكون طيرا بِإِذن الله
فَعرفنَا أَن الطَّرِيق فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر
وَإِنَّمَا اعْتبرنَا الْإِثْبَات فِي دفات الْمَصَاحِف لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِنَّمَا أثبتوا الْقُرْآن فِي دفات الْمَصَاحِف لتحقيق النَّقْل الْمُتَوَاتر فِيهِ وَلِهَذَا أمروا بتجريد الْقُرْآن فِي الْمَصَاحِف وكرهوا التعاشير وأثبتوا فِي الْمَصَاحِف مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ ثمَّ نقل إِلَيْنَا نقلا متواترا فَثَبت بِهِ الْعلم قطعا وَلما ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق أَنه كَلَام الله تَعَالَى ثَبت أَنه حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا لعلمنا يَقِينا أَن كَلَام الله لَا يكون إِلَّا حَقًا
فَإِن قيل فالتسمية نقلت إِلَيْنَا مَكْتُوبَة فِي الْمَصَاحِف بقلم الْوَحْي لمبدأ الْفَاتِحَة ومبدأ كل سُورَة سوى سُورَة بَرَاءَة ثمَّ لم تجعلوها آيَة من الْفَاتِحَة وَلَا من أول كل سُورَة مَعَ النَّقْل الْمُتَوَاتر من الْوَجْه الَّذِي قررتم قُلْنَا قد ذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَن الصَّحِيح من الْمَذْهَب عندنَا أَن التَّسْمِيَة آيَة منزلَة من الْقُرْآن لَا من أول السُّورَة وَلَا من آخرهَا وَلِهَذَا كتبت للفصل بَين السُّور فِي الْمُصحف بِخَط على حِدة لتَكون(1/280)
الْكِتَابَة بقلم الْوَحْي دَلِيلا على أَنَّهَا منزلَة للفصل وَالْكِتَابَة بِخَط على حِدة دَلِيلا على أَنَّهَا لَيست من أول السُّورَة وَظَاهر مَا ذكر فِي الْكتاب عُلَمَاؤُنَا يشْهد بِهِ فَإِنَّهُم قَالُوا ثمَّ يفْتَتح الْقِرَاءَة ويخفي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فقد قطعُوا التَّسْمِيَة عَن التَّعَوُّذ وأدخلوها فِي الْقِرَاءَة وَلَكِن قَالُوا لَا يجْهر بهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن الْجَهْر بهَا بِمَنْزِلَة الْفَاتِحَة فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنَّمَا قَالُوا يخفي بهَا ليعلم أَنَّهَا لَيست بِآيَة من أول الْفَاتِحَة فَإِن الْمُتَعَيّن فِي حق الإِمَام الْجَهْر بِالْفَاتِحَةِ وَالسورَة فِي الْأَوليين وعَلى هَذَا نقُول يكره للْجنب وَالْحَائِض قِرَاءَة التَّسْمِيَة على قصد قِرَاءَة الْقُرْآن لِأَن من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن حُرْمَة الْقِرَاءَة على الْجنب وَالْحَائِض وَلَكِن لَا يتَأَدَّى بهَا فرض الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لاشتباه الْآثَار وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وَأدنى دَرَجَات الِاخْتِلَاف الْمُعْتَبر إيراث الشُّبْهَة بِهِ وَمَا كَانَ فرضا مَقْطُوعًا بِهِ لَا يتَأَدَّى بِمَا فِيهِ شُبْهَة ولسنا نعني الشُّبْهَة فِي كَونهَا من الْقُرْآن بل فِي كَونهَا آيَة تَامَّة فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي أَنَّهَا من الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
فَإِن قيل فقد أثبتم بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات كَونه قُرْآنًا فِي حق الْعَمَل بِهِ وَلم يُوجد فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر وَلم تثبتوا فِي التَّسْمِيَة مَعَ النَّقْل الْمُتَوَاتر كَونهَا آيَة من الْقُرْآن فِي حكم الْعَمَل وَهُوَ وجوب الْجَهْر بهَا فِي الصَّلَاة وتأدي الْقِرَاءَة بهَا
قُلْنَا نَحن مَا أثبتنا بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود كَون تِلْكَ الزِّيَادَة قُرْآنًا وَإِنَّمَا جعلنَا ذَلِك بِمَنْزِلَة خبر رَوَاهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعلمنا أَنه مَا قَرَأَ بهَا إِلَّا سَمَاعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَبره مَقْبُول فِي وجوب الْعَمَل بِهِ وبمثل هَذَا الطَّرِيق لَا يُمكن إِثْبَات هَذَا الحكم فِي التَّسْمِيَة لِأَن بِرِوَايَة الْخَبَر وَإِن علم صِحَّته لَا يثبت حكم جَوَاز الصَّلَاة وَلِأَنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة كَونهَا آيَة من الْقُرْآن وجوب الْجَهْر بهَا على مَا بَينا أَن الْفَاتِحَة لَا يجْهر بهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَمَا كَانَ ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء يتَقَدَّر الحكم فِيهِ بِقدر الضَّرُورَة لِأَنَّهُ لَا عُمُوم للمقتضى
ثمَّ قَالَ كثير من مَشَايِخنَا إِن إعجاز الْقُرْآن فِي النّظم وَفِي الْمَعْنى جَمِيعًا خُصُوصا على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله حَيْثُ قَالَا بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاة لَا يتَأَدَّى فرض الْقِرَاءَة وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَنه هُوَ المُرَاد لِأَن الْفَرْض قِرَاءَة المعجز وَذَلِكَ فِي النّظم وَالْمعْنَى جَمِيعًا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَتَّضِح لي أَنه لَيْسَ مُرَادهم من هَذَا أَن(1/281)
الْمَعْنى بِدُونِ النّظم غير معجز فالأدلة على كَون الْمَعْنى معجزا ظَاهِرَة مِنْهَا أَن المعجز كَلَام الله (وَكَلَام الله تَعَالَى) غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق والألسنة كلهَا محدثة الْعَرَبيَّة والفارسية وَغَيرهمَا فَمن يَقُول الإعجاز لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالنظم فَهُوَ لَا يجد بدا من أَن يَقُول بِأَن المعجز مُحدث وَهَذَا مِمَّا لَا يجوز القَوْل بِهِ وَالثَّانِي أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَى النَّاس كَافَّة (وَآيَة نبوته الْقُرْآن الَّذِي هُوَ معجز فَلَا بُد من القَوْل بِأَنَّهُ حجَّة لَهُ على النَّاس كَافَّة) وَمَعْلُوم أَن عجز العجمي عَن الْإِتْيَان بِمثل الْقُرْآن بلغَة الْعَرَب لَا يكون حجَّة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يعجز أَيْضا عَن الْإِتْيَان بِمثل شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره بلغَة الْعَرَب وَإِنَّمَا يتَحَقَّق عَجزه عَن الْإِتْيَان بِمثل الْقُرْآن بلغته فَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَن معنى الإعجاز فِي الْمَعْنى تَامّ وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاة ولكنهما قَالَا فِي حق من لَا يقدر على الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ الْجَواب هَكَذَا وَهُوَ دَلِيل على أَن الْمَعْنى عِنْدهمَا معجز فَإِن فرض الْقِرَاءَة سَاقِط عَمَّن لَا يقدر على قِرَاءَة المعجز أصلا وَلم يسْقط عَنهُ الْفَرْض أصلا بل يتَأَدَّى بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَما إِذا كَانَ قَادِرًا على الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ لم يتأد الْفَرْض فِي حَقه بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدهمَا لَا لِأَنَّهُ غير معجز وَلَكِن لِأَن مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَف فِي أَدَاء هَذَا الرُّكْن فرض فِي حق من يقدر عَلَيْهِ وَهَذِه الْمُتَابَعَة فِي الْقِرَاءَة بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة اعْتبر هَذَا فِي كَرَاهَة الْقِرَاءَة بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَما فِي تأدي أصل الرُّكْن بِقِرَاءَة الْقُرْآن فَإِنَّهُ اعْتبر مَا قَرَّرْنَاهُ
فصل فِي بَيَان حد الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار وموجبها
الْمُتَوَاتر مَا اتَّصل بِنَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر
مَأْخُوذ من قَول الْقَائِل تَوَاتَرَتْ الْكتب إِذا اتَّصَلت بَعْضهَا بِبَعْض فِي الْوُرُود مُتَتَابِعًا وحد ذَلِك أَن يَنْقُلهُ قوم لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الْكَذِب لِكَثْرَة عَددهمْ وتباين أمكنتهم عَن قوم مثلهم هَكَذَا إِلَى أَن يتَّصل برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيكون أَوله كآخره وأوسطه كطرفيه وَذَلِكَ نَحْو نقل أعداد الرَّكْعَات وأعداد الصَّلَوَات(1/282)
ومقادير الزَّكَاة والديات وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا لِأَن الِاتِّصَال لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد انْقِطَاع شُبْهَة الِانْفِصَال وَإِذا انْقَطَعت شُبْهَة الِانْفِصَال ضاهى ذَلِك المسموع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن النَّاس على همم شَتَّى وَذَلِكَ يَبْعَثهُم على التباين فِي الْأَهْوَاء والمرادات فَلَا يردهم عَن ذَلِك إِلَى شَيْء وَاحِد إِلَّا جَامع أَو مَانع وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا اتِّفَاق صنعوه أَو سَماع اتَّبعُوهُ فَإِذا انْقَطَعت تُهْمَة الاختراع لِكَثْرَة عَددهمْ وتباين أمكنتهم تعين جِهَة السماع وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا علم الْيَقِين عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء
وَمن النَّاس من يَقُول الْخَبَر لَا يكون حجَّة أصلا
وَلَا يَقع الْعلم بِهِ بِوَجْه وَكَيف يَقع الْعلم بِهِ والمخبرون هم الَّذين توَلّوا نَقله وَإِنَّمَا وُقُوع الْعلم بِمَا لَيْسَ من صنع الْبشر وَيكون خَارِجا عَن مقدورهم فَأَما مَا يكون من صنع الْبشر ويتحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على اختراعه قلوا أَو كَثُرُوا فَذَلِك لَا يكون مُوجبا للْعلم أصلا هَذَا قَول فريق مِمَّن يُنكر رِسَالَة الْمُرْسلين وَهَذَا الْقَائِل سَفِيه يزْعم أَنه لَا يعرف نَفسه وَلَا دينه وَلَا دُنْيَاهُ وَلَا أمه وَلَا أَبَاهُ بِمَنْزِلَة من يُنكر العيان من السوفسطائية فَلَا يكون الْكَلَام مَعَه على سَبِيل الِاحْتِجَاج وَالِاسْتِدْلَال فَكيف يكون ذَلِك وَمَا يثبت بالاستدلال من الْعلم دون مَا ثَبت بالْخبر الْمُتَوَاتر فَإِن هَذَا يُوجب علما ضَرُورِيًّا وَالِاسْتِدْلَال لَا يُوجب ذَلِك وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَه من حَيْثُ التَّقْرِير عِنْد الْعُقَلَاء بِمَا لَا يشك هُوَ وَلَا أحد من النَّاس فِي أَنه مُكَابَرَة وَجحد لما يعلم اضطرارا بِمَنْزِلَة الْكَلَام مَعَ من يزْعم أَنه لَا حَقِيقَة للأشياء المحسوسة
فَنَقُول إِذا رَجَعَ الْإِنْسَان إِلَى نَفسه علم أَنه مَوْلُود اضطرارا بالْخبر كَمَا علم أَن وَلَده مَوْلُود بالمعاينة وَعلم أَن أَبَوَيْهِ كَانَا من جنسه بالْخبر كَمَا علم أَن أَوْلَاده من جنسه بالعيان وَعلم أَنه كَانَ صَغِيرا ثمَّ شَابًّا بالْخبر كَمَا علم ذَلِك من وَلَده بالعيان وَعلم أَن السَّمَاء وَالْأَرْض كَانَتَا قبله على هَذِه الصّفة بالْخبر كَمَا يعلم أَنَّهُمَا على هَذِه الصّفة للْحَال بالعيان وَعلم أَن آدم أَبُو الْبشر على وَجه لَا يتَمَكَّن فِيهِ شُبْهَة فَمن أنكر شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ مكابر جَاحد لما هُوَ مَعْلُوم ضَرُورَة بِمَنْزِلَة من أنكر العيان
وَلَا نقُول إِن هَذَا الْعلم يحصل بِفعل المخبرين بل بِمَا هُوَ من صنع الله تَعَالَى وَهُوَ أَنه خلق الْخلق أطوارا على طباع مُخْتَلفَة وهمم متباينة يَبْعَثهُم على ذَلِك الِاخْتِلَاف والتباين فالاتفاق بعد ذَلِك مَعَ الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للِاخْتِلَاف لَا يكون إِلَّا بِجَامِع يجمعهُمْ على ذَلِك كَمَا قَررنَا وَفِيه حِكْمَة(1/283)
بَالِغَة وَهُوَ بَقَاء الْأَحْكَام بعد وَفَاة الْمُرْسلين على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي حياتهم فَإِن النُّبُوَّة ختمت برسولنا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة وَقد أمرنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والتيقن بِمَا يخبر بِهِ قَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَهَذَا الْخطاب يتَنَاوَل الْمَوْجُودين فِي عصره وَالَّذين يُؤمنُونَ بِهِ إِلَى قيام السَّاعَة وَمَعْلُوم أَن الطَّرِيق فِي الرُّجُوع إِلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا الرُّجُوع إِلَى مَا نقل عَنهُ بالتواتر فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذَا كالمسموع مِنْهُ فِي حَيَاته وَقد قَامَت الدّلَالَة على أَنه كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِالْحَقِّ خُصُوصا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الدّين فَيثبت مِنْهُ بِالسَّمَاعِ علم الْيَقِين
وَمن النَّاس من يَقُول إِن مَا يثبت بالتواتر علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَمعنى هَذَا أَنه يثبت الْعلم بِهِ مَعَ بَقَاء توهم الْغَلَط أَو الْكَذِب وَلَكِن لرجحان جَانب الصدْق تطمئِن الْقُلُوب إِلَيْهِ فَيكون ذَلِك علم طمأنينة مثل مَا يثبت بِالظَّاهِرِ لَا علم الْيَقِين
قَالُوا لِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا يثبت بِمَجْمُوع آحَاد وَمعنى احْتِمَال الْكَذِب ثَابت فِي خبر كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد فبالاجتماع لَا يَنْعَدِم هَذَا الِاحْتِمَال بِمَنْزِلَة اجْتِمَاع السودَان على شَيْء لَا يعْدم صفة السوَاد الْمَوْجُود فِي كل وَاحِد مِنْهُم قبل الِاجْتِمَاع وَهَذَا لِأَنَّهُ كَمَا يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الصدْق فِيمَا ينقلون يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الْكَذِب إِذْ الْخَبَر يحْتَمل كل وَاحِد من الوصفين على السوَاء أَلا ترى أَن النَّصَارَى وَالْيَهُود اتَّفقُوا على قتل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وصلبه ونقلوا ذَلِك فِيمَا بَينهم نقلا متواترا وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ وَالْمَجُوس اتَّفقُوا على نقل معجزات زرادشت وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ
فَعرفنَا أَن احْتِمَال التواطؤ على الْكَذِب لَا يَنْتَفِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يثبت علم الْيَقِين فَإِنَّمَا الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة بِمَنْزِلَة من يعلم حَيَاة رجل ثمَّ يمر بداره فَيسمع النوح وَيرى آثَار التهيؤ لغسل الْمَيِّت وَدَفنه فيخبرونه أَنه قد مَاتَ ويعزونه ويعزيهم فيتبدل بِهَذَا الْحَادِث الْعلم الَّذِي كَانَ (لَهُ) حَقِيقَة ويعلمه مَيتا على وَجه طمأنينة الْقلب مَعَ احْتِمَال أَن ذَلِك(1/284)
كُله حِيلَة مِنْهُم وتلبيس لغَرَض كَانَ لأَهله فِي ذَلِك فَهَذَا مثله
وَهَذَا قَول رذل أَيْضا فَإِن هَذَا الْقَائِل إِنَّه لَا يعلم الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام حَقِيقَة وَلَا يَصح إيمَانه مَا لم يعرف الرُّسُل حَقِيقَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يزْعم أَنه لَا يعرف الصَّانِع حَقِيقَة فَعرفنَا أَنه مُفسد لدينِهِ بِاخْتِيَار هَذَا القَوْل ثمَّ هُوَ جَاحد لما يُعلمهُ كل عَاقل ضَرُورَة فَإنَّا إِذا رَجعْنَا إِلَى مَوضِع الْمعرفَة وَهُوَ الْقلب وَوجدنَا أَن الْمعرفَة بالمتواتر من الْأَخْبَار يثبت على الْوَجْه الَّذِي يثبت بالعيان لأَنا نعلم أَن فِي الدُّنْيَا مَكَّة وبغداد بالْخبر على وَجه لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الشَّك كَمَا نعلم بَلْدَتنَا بالمعاينة ونعرف الْجِهَة إِلَى مَكَّة يَقِينا بالْخبر كَمَا نَعْرِف الْجِهَة إِلَى مَنَازلنَا يَقِينا بالمعاينة وَمن أَرَادَ الْخُرُوج من هَذِه الْبَلدة إِلَى بُخَارى يَأْخُذ فِي السّير إِلَى نَاحيَة الْمغرب كَمَا أَن من أَرَادَ أَن يخرج إِلَى كاشغر يَأْخُذ فِي السّير إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَلَا يشك فِي ذَلِك أحد وَلَا يخطئه بِوَجْه وَإِنَّمَا عرف ذَلِك بالْخبر فَلَو لم يكن ذَلِك مُوجبا علم الْيَقِين لَكَانَ هُوَ مخاطرا بِنَفسِهِ وَمَاله خُصُوصا فِي زمَان الْخَوْف فَيَنْبَغِي أَن يكون فعله ذَلِك خطأ وَفِي اتِّفَاق النَّاس كلهم على خِلَافه مَا يدْفع زعم هَذَا الزاعم
وَمَا استدلوا بِهِ من نقل النَّصَارَى وَالْيَهُود قتل الْمَسِيح وصلبه فَهُوَ وهم لِأَن النَّقْل الْمُتَوَاتر لم يُوجد فِي ذَلِك فَإِن النَّصَارَى إِنَّمَا نقلوا ذَلِك عَن أَرْبَعَة نفر كَانُوا مَعَ الْمَسِيح فِي بَيت إِذْ الحواريون كَانُوا قد اختفوا أَو تفَرقُوا حِين هم الْيَهُود بِقَتْلِهِم وَإِنَّمَا بَقِي مَعَ الْمَسِيح أَرْبَعَة نفر يوحنا ويوقنا وَمتْن ومارقيش ويتحقق من هَذِه الْأَرْبَعَة التواطؤ على مَا هُوَ كذب لَا أصل لَهُ وَقد بَينا أَن حد التَّوَاتُر مَا يَسْتَوِي طرفاه ووسطه وَالْيَهُود إِنَّمَا نقلوا ذَلِك عَن سَبْعَة نفر كَانُوا دخلُوا الْبَيْت الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَسِيح وَأُولَئِكَ يتَحَقَّق مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب وَقد رُوِيَ أَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ الْمَسِيح حَقِيقَة حَتَّى دلهم عَلَيْهِ رجل يُقَال لَهُ يهوذا وَكَانَ يَصْحَبهُ قبل ذَلِك فاجتعل مِنْهُم ثَلَاثِينَ درهما وَقَالَ إِذا رَأَيْتُمُونِي أقبل رجلا فاعلموا أَنه صَاحبكُم وبمثل هَذَا لَا يحصل مَا هُوَ حد التَّوَاتُر
فَإِن قيل الصلب قد شَاهده الْجَمَاعَة الَّتِي لَا يتَصَوَّر مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب عَادَة فَيتَحَقَّق مَا هُوَ حد التَّوَاتُر فِي الْإِخْبَار بصلبه
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن فعل الصلب(1/285)
إِنَّمَا تناوشوه عدد قَلِيل من النَّاس ثمَّ سَائِر النَّاس يعتمدون خبرهم أَن المصلوب فلَان وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ من بعد من غير تَأمل فِيهِ فَفِي الطباع نفرة عَن التَّأَمُّل فِي المصلوب والحلي تَتَغَيَّر بِهِ أَيْضا فيتمكن فِيهِ الِاشْتِبَاه بِاعْتِبَار هَذِه الْوُجُوه فَعرفنَا أَنه كَمَا لَا يتَحَقَّق النَّقْل الْمُتَوَاتر فِي قَتله لَا يتَحَقَّق فِي صلبه وَالثَّانِي أَن النَّقْل الْمُتَوَاتر مِنْهُم فِي قتل رجل علموه عِيسَى وصلبه وَهَذَا النَّقْل مُوجب علم الْيَقِين فِيمَا نقلوه وَلَكِن لم يكن الرجل عِيسَى وَإِنَّمَا كَانَ مشبها بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لمن كَانَ مَعَه من يُرِيد مِنْكُم أَن يلقِي الله شبهي عَلَيْهِ فَيقْتل وَله الْجنَّة فَقَالَ رجل أَنا فَألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى عَلَيْهِ فَقتل وَرفع عِيسَى إِلَى السَّمَاء
فَإِن قيل هَذَا القَوْل فِي نِهَايَة من الْفساد لِأَن فِيهِ قولا بِإِبْطَال المعارف أصلا وبتكذيب العيان وَإِذا جوزتم هَذَا فَمَا يؤمنكم من مثله فِيمَا ينْقل بالتواتر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن السامعين إِنَّمَا سمعُوا ذَلِك من رجل كَانَ عِنْدهم أَنه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن إِيَّاه وَإِنَّمَا ألْقى الله شبهه على غَيره وَمَعَ هَذَا القَوْل لَا يتَحَقَّق الْإِيمَان بالرسل لمن يعانيهم لجَوَاز أَن يكون شبه الرُّسُل ملقى على غَيرهم كَيفَ وَالْإِيمَان بالمسيح كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْوَقْت فَمن ألقِي عَلَيْهِ شبه الْمَسِيح فقد كَانَ الْإِيمَان بِهِ وَاجِبا بزعمكم وَفِي هَذَا قَول بِأَن الله تَعَالَى أوجب على عباده الْكفْر بِالْحجَّةِ فَأَي قَول أقبح من هَذَا قُلْنَا
الْأَمر لَيْسَ كَمَا توهمتم فَإِن إِلْقَاء شبه الْمَسِيح على غَيره غير مستبعد فِي الْقُدْرَة وَلَا فِي الْحِكْمَة بل فِيهِ حِكْمَة بَالِغَة وَهُوَ دفع شَرّ الْأَعْدَاء عَن الْمَسِيح فقد كَانُوا عزموا على قَتله وَفِي هَذَا دفع عَنهُ مَكْرُوه الْقَتْل بِوَجْه لطيف وَللَّه لطائف فِي دفع الْأَذَى عَن الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَالَّذين قصدوه بِالْقَتْلِ قد علم الله مِنْهُم أَنهم لَا يُؤمنُونَ بِهِ فَألْقى شبهه على غَيره على سَبِيل الاستدراج لَهُم ليزدادوا طغيانا ومرضا إِلَى مرضهم وَمثل ذَلِك لَا يتَوَهَّم فِي حق قوم يأْتونَ الرُّسُل ليؤمنوا بِهِ ويتعظوا بوعظه فَظهر أَن الْفَاسِد قَول من يَقُول بِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال المعارف والتكذيب بالرسل وَيرد ظَاهر قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن شبه لَهُم} وَبَيَان أَن هَذَا غير مستبعد ظهر إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة مرّة فِي صُورَة شيخ من أهل نجد وَمرَّة فِي صُورَة سراقَة بن مَالك وكلم الْمُشْركين فِيمَا كَانُوا هموا بِهِ فِي بَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا}(1/286)
فِي الْقُدْرَة غير مُشكل فَإِن إِلْقَاء الشّبَه دون إِيجَاد الأَصْل لَا محَالة وَقد الْآيَة وَرَأَتْ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا دحْيَة الْكَلْبِيّ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا أخْبرته بذلك قَالَ كَانَ معي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَرَأى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا جِبْرِيل أَيْضا فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ ورأته الصَّحَابَة حِين أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة أَعْرَابِي ثَائِر الرَّأْس يسْأَله معالم الدّين فَعرفنَا أَن مثل هَذَا غير مستبعد فِي زمن الرُّسُل وَأرى الله تَعَالَى الْمُشْركين فِي أعين الْمُسلمين قَلِيلا يَوْم بدر مَعَ كَثْرَة عَددهمْ لِأَنَّهُ لَو أَرَاهُم كثرتهم وعدتهم لامتنعوا من قِتَالهمْ فَأَرَاهُم بِصفة الْقلَّة حَتَّى رَغِبُوا فِي قِتَالهمْ وقتلوهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} فَعرفنَا أَن مثله غير مستبعد
فَأَما نقل الْمَجُوس مَا نقلوه عَن زرادشت فَذَلِك كُله تخييلات بِمَنْزِلَة فعل المشعوذين أَو لعب النِّسَاء وَالصبيان إِلَّا مَا ينْقل أَنه أَدخل قَوَائِم فرس الْملك كشتاسب فِي بَطْنه ثمَّ أخرجه وَهَذَا إِنَّمَا ينْقل أَنه فعله فِي مجْلِس الْملك بَين يَدي خواصه وَأُولَئِكَ يتَصَوَّر مِنْهُم الِاجْتِمَاع على الْكَذِب فَلَا يثبت (بِهِ) النَّقْل الْمُتَوَاتر كَيفَ وَقد رُوِيَ أَن الْملك لما اختبره وَعلم خبثه ودهاءه وواطأه على أَن يُؤمن بِهِ وَيجْعَل هُوَ أحد أَرْكَان دينه دَعَاهُ النَّاس إِلَى تَعْظِيم الْمُلُوك وتحسين أفعالهم ومراعاة حُقُوقهم فِي كل حق وباطل وَيكون هُوَ من وَرَائه بِالسَّيْفِ يجْبر النَّاس على الدُّخُول فِي دينه وَحَملهمْ على هَذِه المواطأة حَاجتهم إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن لذَلِك الْملك بَيت قديم فِي الْملك فَكَانَ النَّاس لَا يعظمونه فاحتالوا بِهَذِهِ الْحِيلَة ثمَّ نقلوا عَنهُ أمورا بعد ذَلِك بَين يَدي الْملك وخاصته وكل ذَلِك كذب لَا أصل لَهُ
فَإِن قيل مثل هَذِه المواطأة لَا تنكتم عَادَة فَكيف انكتم فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى اتَّفقُوا على الْإِيمَان بِهِ وَكَذَلِكَ من بعدهمْ إِلَى زمَان طَوِيل وَجعلُوا ينقلون ذَلِك نقلا(1/287)
متواترا قُلْنَا إِنَّمَا لَا تنكتم المواطأة الَّتِي تكون بَين جمع عَظِيم فَأَما مَا يكون بَين الْملك وخواصه تنكتم فَإِنَّهُم رصد لحفظ الْأَسْرَار وَإِنَّمَا يخصهم الْملك بِهَذَا الشَّرْط لِأَن تَدْبِير الْملك لَا يتم مستويا إِلَّا بِحِفْظ الْأَسْرَار وَهَذَا مَعْرُوف فِي عَادَة أهل كل زمَان أَن المواطأة الَّتِي تكون بَين الْملك وخواصه لَا تظهر للعوام فَعرفنَا أَنه لَا يُوجد النَّقْل الْمُوجب لعلم الْيَقِين فِي شَيْء من هَذِه الْأَخْبَار
فَأَما أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم فقد كَانُوا من قبائل مُخْتَلفَة وَكَانُوا عددا لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم وتواطؤهم على الاختراع عَادَة لكثرتهم فَعرفنَا أَن مَا نقلوه عَنهُ بِمَنْزِلَة المسموع مِنْهُ فِي كَونه مُوجبا علم الْيَقِين لِأَنَّهُ لما انْتَفَى تُهْمَة احْتِمَال المواطأة تعين جِهَة السماع
فَإِن قيل مَعَ هَذَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب غير مُنْقَطع لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرط التَّوَاتُر اجْتِمَاع أهل الدُّنْيَا وَإِذا اجْتمع أهل بَلْدَة أَو عامتهم على شَيْء يثبت بِهِ التَّوَاتُر كَيفَ وَقد نقل الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه وهم كَانُوا عسكره لما تحقق مِنْهُم الِاجْتِمَاع على صحبته مَعَ تبَاين أمكنتهم فَذَلِك يُوهم الِاتِّفَاق مِنْهُم على نقل مَا لَا أصل لَهُ قُلْنَا مثل هَذَا الِاتِّفَاق من الْجمع الْعَظِيم خلاف الْعَادة وَهُوَ نَادِر غَايَة وَعَادَة وَالْبناء على مَا هُوَ مُعْتَاد الْبشر أَلا ترى أَن المعجزات توجب الْعلم بِالنُّبُوَّةِ قطعا لكَونهَا خَارِجَة عَن حد مُعْتَاد الْبشر وَلَو أَن وَاحِدًا قَالَ فِي زَمَاننَا صعدت السَّمَاء وَكلمت الْمَلَائِكَة نقطع القَوْل بِأَنَّهُ كَاذِب لكَون مَا يخبر بِهِ خَارِجا عَمَّا هُوَ الْمُعْتَاد والتوهم بعد ذَلِك غير مُعْتَبر وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شهد شَاهِدَانِ على رجل أَنه طلق امْرَأَته يَوْم النَّحْر بِمَكَّة وآخران أَنه أعتق عَبده فِي ذَلِك الْيَوْم بِعَيْنِه بكوفة لَا تقبل الشَّهَادَة لِأَن كَون الْإِنْسَان فِي يَوْم وَاحِد بِمَكَّة وكوفة مُسْتَحِيل عَادَة فَيسْقط مَا وَرَاءه من التَّوَهُّم يُوضحهُ أَنه لَو كَانَ هُنَا توهم الِاتِّفَاق على الْكَذِب لظهر ذَلِك فِي عصرهم أَو بعد ذَلِك إِذا تطاول الزَّمَان فقد كَانُوا ثَلَاثِينَ ألفا أَو أَكثر والمواطأة فِيمَا بَين مثل هَذَا الْجمع الْعَظِيم لَا ينكتم عَادَة بل يظْهر كَيفَ وَقد اخْتَلَط بهم المُنَافِقُونَ وجواسيس الْكَفَرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} وَقد كَانَ فِي الْمُسلمين أَيْضا من يلقِي إِلَى الْكفَّار(1/288)
بالمودة وَيظْهر لَهُم سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَرْب وَغَيره وَالْإِنْسَان يضيق صَدره عَن سره حَتَّى يفشيه إِلَى غَيره ويستكتمه ثمَّ السَّامع يفشيه إِلَى غَيره حَتَّى يصير ظَاهرا عَن قريب فَلَو كَانَ هُنَا توهم المواطأة لظهر ذَلِك فَالْقَوْل بِأَنَّهُ كَانَ بَينهم مواطأة وانكتم أصلا شبه الْمحَال وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول من يزْعم أَن الْكفَّار عارضوا الْقُرْآن بِمثلِهِ ثمَّ انكتم ذَلِك فَإِن هَذَا الْكَلَام بالِاتِّفَاقِ بَين الْمُسلمين شبه الْمحَال لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تحداهم فِي محافلهم أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن أَو سُورَة مِنْهُ فَلَو قدرُوا على ذَلِك لما أَعرضُوا عَنهُ إِلَى بذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال وَالْحرم فِي غَزَوَاته وَلَو عارضوه بِهِ لما خَفِي ذَلِك فقد كَانَ الْمُشْركُونَ يَوْمئِذٍ أَكثر من الْمُسلمين وَلَو لم يظْهر الْآن فِيمَا بَين الْمُسلمين لظهر فِي ديار الشّرك إِذْ لَا خوف لَهُم وَتلك الْمُعَارضَة حجَّة لَهُم لَو كَانَت وَالْإِنْسَان على نقل الْحجَّة يكون أحرص مِنْهُ على نقل الشُّبْهَة كَيفَ وَقد نقلت كَلَام مسليمة ومخاريق المتنبئين من غير أَن يكون لشَيْء من ذَلِك أصل فَكَمَا تبين بِهَذَا التَّقْرِير انْقِطَاع توهم الْمُعَارضَة وَكَون الْقُرْآن حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فَكَذَلِك يَنْقَطِع هَذَا التَّوَهُّم فِي الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار
فَإِن قيل لكَونه خلاف الْعَادة أثبتنا علم طمأنينة الْقلب بِهِ وَلكَون الِاتِّفَاق مُتَوَهمًا لم نثبت بِهِ علم الْيَقِين كَمَا ذكرنَا من حَال من رأى آثَار الْمَوْت فِي دَار إِنْسَان وَأخْبر بِمَوْتِهِ
قُلْنَا طمأنينة الْقلب فِي الأَصْل إِنَّمَا تكون بِمَعْرِِفَة حَقِيقَة الشَّيْء فَإِن امْتنع ثُبُوت ذَلِك فِي مَوضِع فَذَلِك لغفلة من النَّاظر حَيْثُ اكْتفى بِالظَّاهِرِ وَلَو تَأمل وجد فِي طلب الْبَاطِن لظهر عِنْده التلبيس وَالْفساد كَمَا يكون فِي حق الْمخبر بِمَوْت الْمَيِّت وَإِنَّمَا تتَحَقَّق هَذِه الْغَفْلَة فِي مَوضِع يكون وَرَاء مَا غَايَته حد آخر بِمَنْزِلَة مَا يرَاهُ النَّائِم فِي مَنَامه فَإِن عِنْده أَن مَا يرَاهُ هُوَ الْحَقِيقَة فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَكِن لما كَانَ وَرَاء هَذَا الْحَد حد آخر للمعرفة فَوْقه وَهُوَ مَا يكون فِي حَالَة الْيَقَظَة فباعتبار هَذِه الْمُقَابلَة يظْهر أَن مَا يرَاهُ فِي النّوم لم يكن مُوجبا للمعرفة حَقِيقَة فَأَما هُنَا لَيْسَ وَرَاء الطُّمَأْنِينَة الثَّابِتَة بِخَبَر التَّوَاتُر حد آخر للْعلم فَوْقه على مَا بَينا أَن الثَّابِت بِخَبَر التَّوَاتُر وَالثَّابِت بالمعاينة فِي وُقُوع الْعلم بِهِ سَوَاء فالموجب للْعلم هُنَا معنى فِي قُوَّة الدَّلِيل وَهُوَ انْقِطَاع(1/289)
توهم المواطأة وَمثل هَذَا كلما ازْدَادَ الْمَرْء التَّأَمُّل فِيهِ ازْدَادَ يَقِينا فالتشكيك فِيهِ يكون دَلِيل نُقْصَان الْعقل بِمَنْزِلَة التشكيك فِي حقائق الْأَشْيَاء المحسوسة والطمأنينة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار كَمَال الْعقل تكون عبارَة عَن معرفَة الشَّيْء حَقِيقَة لَا محَالة
وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم إِنَّه لَيْسَ فِي الْجَمَاعَة إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد لِأَن مثل هَذِه الطُّمَأْنِينَة لَا تثبت بِخَبَر الْفَرد وتوهم الْكَذِب فِي ذَلِك الْخَبَر غير خَارج عَن حد الْمُعْتَاد
ثمَّ هَذَا بَاطِل فَإِن الْوَاحِد منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بحروف الهجاء كلهَا وَهل لقَائِل أَن يَقُول لقدرته على ذَلِك يتَوَهَّم مِنْهُ أَن يَأْتِي بِمثل الْقُرْآن فَفِيهِ تِلْكَ الْحُرُوف بِعَينهَا وَكَذَلِكَ الغبي منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بِكُل حِكْمَة من شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه لقدرته على ذَلِك يقدر على (إنْشَاء) قصيدة مثل تِلْكَ القصيدة وَقد يتَكَلَّم الْإِنْسَان عَن ظن وفراسة فَيُصِيب مرّة ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه يُصِيب فِي كل مَا يتَكَلَّم (بِهِ) بِهَذَا الطَّرِيق اعْتِبَارا للجملة بالفرد واتفاق مثل هَذَا الْجمع على الصدْق كَانَ بِجَامِع جمعهم عَلَيْهِ وَهُوَ دُعَاء الدّين والمروءة على الصدْق وَإِنَّمَا تَدعِي انْقِطَاع توهم اتِّفَاقهم مَعَ اخْتِلَاف الطبائع والأهواء من غير جَامع يجمعهُمْ على ذَلِك فَأَما عِنْد وجود الْجَامِع فَهُوَ مُوَافق للمعتاد
فَإِن قيل لَو تَوَاتر الْخَبَر عِنْد القَاضِي بِأَن الَّذِي فِي يَد زيد ملك عَمْرو لم يقْض لَهُ بِالْملكِ بِدُونِ إِقَامَة الْبَيِّنَة وَلَو ثَبت لَهُ علم الْيَقِين بذلك لتمكن من الْقَضَاء بِهِ
قُلْنَا هَذَا أَولا يلْزم الْخصم فَإِنَّهُ يثبت علم طمأنينة الْقلب بِخَبَر التَّوَاتُر وَبِه يتَمَكَّن من الْقَضَاء لِأَن بِشَهَادَة الشَّاهِدين لَا يثبت فَوق ذَلِك
فَأَما عندنَا فَيحْتَمل أَن يُقَال بِأَنَّهُ يقْضِي لِأَنَّهُ مَأْمُور شرعا بِأَن يقْضِي بِالْعلمِ وَيحْتَمل أَن لَا يقْضِي بِمَنْزِلَة مَا لَو صَار مَعْلُوما لَهُ بمعاينة السَّبَب قبل أَن يُقَلّد الْقَضَاء فِيمَا ثَبت مَعَ الشُّبُهَات وَفِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ من الْحُدُود الَّتِي هِيَ لله تَعَالَى وَإِن صَار مَعْلُوما لَهُ بَعْدَمَا قلد الْقَضَاء لم يقْض بِهِ مَا لم تشهد(1/290)
الشُّهُود وَعلم الْيَقِين يثبت لَهُ بمعاينة السَّبَب لَا محَالة أَلا ترى أَن الشَّاهِد لَو قَالَ أخبر لم يجز للْقَاضِي أَن يقْضِي بقوله وَفِيمَا يرجع إِلَى الْعلم لَا فرق بَين قَوْله أشهد وَبَين قَوْله أخبر فَعرفنَا أَن فِي بَاب الْقَضَاء تعْتَبر الشَّرَائِط سوى الْعلم بالشَّيْء ليتَمَكَّن القَاضِي من الْقَضَاء بِهِ
ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد عُلَمَائِنَا أَن الثَّابِت بالمتواتر من الْأَخْبَار علم ضَرُورِيّ كَالثَّابِتِ بالمعاينة
وَأَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ الثَّابِت بِهِ علم يَقِين وَلكنه مكتسب لَا ضَرُورِيّ بِمَنْزِلَة مَا يثبت من الْعلم بِالنُّبُوَّةِ عِنْد معرفَة المعجزات فَإِنَّهُ علم يَقِين وَلكنه مكتسب لَا ضَرُورِيّ وَهَذَا لِأَن فِيمَا يكون ضَرُورِيًّا لَا يتَحَقَّق الِاخْتِلَاف فِيمَا بَين النَّاس وَإِذا وجدنَا النَّاس مُخْتَلفين فِي ثُبُوت علم الْيَقِين بالْخبر الْمُتَوَاتر عرفنَا أَنه مكتسب
وَلَكنَّا نقُول هَذَا فَاسد فَإِنَّهُ لَو كَانَ طَرِيق هَذَا الْعلم الِاكْتِسَاب لاختص بِهِ من يكون من أهل الِاكْتِسَاب ورأينا أَنه لَا يخْتَص هَذَا الْعلم بِمن يكون من أهل الِاكْتِسَاب فَكل وَاحِد منا فِي صغره كَانَ يعلم أَبَاهُ وَأمه بالْخبر كَمَا يُعلمهُ بعد الْبلُوغ وَلَو كَانَ طَرِيقه الِاكْتِسَاب لتمكن الْمَرْء من أَن يتْرك هَذَا الِاكْتِسَاب فَلَا يَقع لَهُ الْعلم وبالاتفاق الْعلم الَّذِي يحصل بِخَبَر التَّوَاتُر لَا يتَمَكَّن الْمَرْء من دَفعه بكسب يباشره أَو بالامتناع من اكتسابه فَعرفنَا أَنه ثَابت ضَرُورَة
فَأَما المعجزة فهناك يحْتَاج إِلَى (أَن) تميز المعجزة من المخرقة وتمييز مَا يكون فِي حد مَقْدُور الْبشر مِمَّا يكون خَارِجا من ذَلِك وَلَا طَرِيق إِلَى هَذَا التَّمْيِيز إِلَّا بالاستدلال فَعرفنَا أَن الْعلم الثَّابِت بِهِ طَرِيقه طَرِيق الِاسْتِدْلَال وَقد بَينا أَنه لَا خلاف بَين من لَهُم عقول كَامِلَة فِي الْعلم الْوَاقِع بِخَبَر الْمُتَوَاتر وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف ناشىء من نُقْصَان الْعقل لبَعض النَّاس وَترك التَّأَمُّل وَذَلِكَ دَلِيل وسواس يعتري بعض النَّاس كَمَا يكون فِي الْمَعْلُوم بالحواس وبالاتفاق لَا يعْتَبر هَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْمَعْلُوم بالحواس وَيكون الْعلم الْوَاقِع بِهِ ضَرُورِيًّا فَكَذَلِك فِي الْمَعْلُوم بِخَبَر التَّوَاتُر
ثمَّ اخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا هُوَ متواتر الْفَرْع آحَاد الأَصْل من الْأَخْبَار وَهُوَ الَّذِي تسميه الْفُقَهَاء فِي حيّز التَّوَاتُر وَالْمَشْهُور من الْأَخْبَار فَكَانَ أَبُو بكر(1/291)
الرَّازِيّ رَحمَه الله يَقُول هَذَا أحد قسمي الْمُتَوَاتر على معنى أَنه يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَلكنه علم اكْتِسَاب كَمَا قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْقسم الآخر وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول لَا يكون الْمُتَوَاتر إِلَّا مَا يُوجب الْعلم ضَرُورِيًّا فَأَما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ مَشْهُور وَلَيْسَ بمتواتر وَهُوَ الصَّحِيح عندنَا
وَبَيَان هَذَا النَّوْع فِي كل حَدِيث نَقله عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عدد يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على الْكَذِب وَلَكِن تَلَقَّتْهُ الْعلمَاء بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ فباعتبار الأَصْل هُوَ من الْآحَاد وَبِاعْتِبَار الْفَرْع هُوَ متواتر وَذَلِكَ نَحْو خبر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَخبر تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد الْإِبَاحَة وَخبر تَحْرِيم نِكَاح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وعَلى خَالَتهَا وَخبر حُرْمَة التَّفَاضُل فِي الْأَشْيَاء السِّتَّة وَمَا أشبه ذَلِك
أما أَبُو بكر الرَّازِيّ كَانَ يَقُول لما تَوَاتر نقل هَذَا الْخَبَر إِلَيْنَا من قوم لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على الْكَذِب فقد أوجب لنا ذَلِك علم الْيَقِين وَانْقطع بِهِ توهم الِاتِّفَاق فِي الصَّدْر الأول لِأَن الَّذين تلقوهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ لَا يتَوَهَّم اتِّفَاقهم على الْقبُول إِلَّا بِجَامِع جمعهم على ذَلِك وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا تعين جَانب الصدْق فِي الَّذين كَانُوا أَهلا من رُوَاته وَلَكِن إِنَّمَا عرفنَا هَذَا بالاستدلال فَلهَذَا سمينا الْعلم الثَّابِت بِهِ مكتسبا وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ بِمَنْزِلَة الْعلم بِمَعْرِِفَة الصَّانِع أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمثل هَذِه الْأَخْبَار فَإِنَّهُ يثبت بهَا الزِّيَادَة على كتاب الله تَعَالَى وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ وَلَا يثبت نسخ مَا يُوجب علم الْيَقِين إِلَّا بِمثل مَا يُوجب علم الْيَقِين
وَجه قَول عِيسَى أَن مَا يكون مُوجبا علم الْيَقِين فَإِنَّهُ يكفر جاحده كَمَا فِي الْمُتَوَاتر الَّذِي يُوجب الْعلم ضَرُورَة وبالاتفاق لَا يكفر جَاحد الْمَشْهُور من الْأَخْبَار فَعرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِن تَوَاتر نَقله من الْفَرِيق الثَّانِي وَالثَّالِث فقد بَقِي فِيهِ شُبْهَة توهم الْكَذِب عَادَة بِاعْتِبَار الأَصْل فَإِن رُوَاته عدد يسير وَعلم الْيَقِين إِنَّمَا يثبت إِذا اتَّصل بِمن هُوَ مَعْصُوم عَن الْكَذِب على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة الِانْفِصَال وَقد بَقِي هُنَا شُبْهَة الِانْفِصَال بِاعْتِبَار الأَصْل فَيمْنَع ثُبُوت علم الْيَقِين بِهِ يقرره أَن الْعلم الْوَاقِع لنا بِمثل هَذَا النَّقْل إِنَّمَا يكون قبل التَّأَمُّل فِي شُبْهَة الِانْفِصَال فَأَما عِنْد التَّأَمُّل فِي هَذِه الشُّبْهَة يتَمَكَّن نُقْصَان فِيهِ فَعرفنَا أَنه علم طمأنينة فَأَما الْعلم الْوَاقِع بِمَا هُوَ متواتر بِأَصْلِهِ وفرعه فَهُوَ يزْدَاد قُوَّة بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ(1/292)
ثمَّ قد بَينا أَن التَّفَاوُت يظْهر عِنْد الْمُقَابلَة فَإِذا لم يكن وَرَاء الْقسم الأول حد آخر عرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم ضَرُورَة وَلما كَانَ وَرَاء الْقسم الثَّانِي حد آخر عرفنَا أَن الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة
وَلَكِن مَعَ هَذَا تجوز الزِّيَادَة على النَّص بِهَذَا النَّوْع من الْأَخْبَار لِأَن الْعلمَاء لما تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ كَانَ دَلِيلا مُوجبا فَإِن الْإِجْمَاع من الْعَصْر الثَّانِي وَالثَّالِث دَلِيل مُوجب شرعا فَلهَذَا جَوَّزنَا بِهِ الزِّيَادَة على النَّص وَلَكِن مَعَ هَذَا بَقِي فِيهِ شُبْهَة توهم الِانْفِصَال فَلَا يكفر جاحده وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير مَا تقدم بَيَانه فَإِن الْعلم بِكَوْن الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام مَبْعُوثًا إِلَى بني إِسْرَائِيل ثَابت بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر أصلا وفرعا على وَجه لم يبْق فِيهِ توهم الشُّبْهَة لأحد ثمَّ بنقلهم الْمُتَوَاتر أَنه قتل أَو صلب لَا يثبت الْعلم لِأَن ذَلِك آحَاد الأَصْل متواتر الْفَرْع كَمَا قَررنَا
فَإِن قيل (فَكَانَ يَنْبَغِي) أَن يثبت بِهِ طمأنينة الْقلب كَمَا أثبتم هُنَا
قُلْنَا إِنَّمَا لم نثبت لِأَنَّهُ اعْترض مَا هُوَ أقوى مِنْهُ فِيمَا يرجع إِلَى الْعلم وَهُوَ إِخْبَار علام الغيوب بِأَنَّهُم مَا قَتَلُوهُ يَقِينا والحجج الَّتِي تثبت بهَا طمأنينة الْقلب إِذا اعْترض عَلَيْهَا مَا هُوَ أقوى لم يبْق علم طمأنينة الْقلب بهَا
ثمَّ ذكر عِيسَى رَحمَه الله أَن هَذَا النَّوْع من الْأَخْبَار يَنْقَسِم إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام قسم يضلل جاحده وَلَا يكفر وَذَلِكَ نَحْو خبر الرَّجْم وَقسم لَا يضلل جاحده وَلَكِن يخطأ ويخشى عَلَيْهِ المأثم وَذَلِكَ نَحْو خبر الْمسْح بالخف وَخبر حُرْمَة التَّفَاضُل وَقسم لَا يخْشَى على جاحده المأثم وَلَكِن يخطأ فِي ذَلِك وَهُوَ الْأَخْبَار الَّتِي اخْتلف فِيهَا الْفُقَهَاء فِي بَاب الْأَحْكَام
وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيح بِنَاؤُه على تلقي الْعلمَاء إِيَّاه بِالْقبُولِ ثمَّ الْعَمَل بِمُوجبِه فَإِن خبر الرَّجْم اتّفق عَلَيْهِ الْعلمَاء من الصَّدْر الأول وَالثَّانِي وَإِنَّمَا خَالف فِيهِ الْخَوَارِج وخلافهم لَا يكون قدحا فِي الْإِجْمَاع وَلِهَذَا قَالَ يضلل جاحده
فَأَما خبر الْمسْح فَفِيهِ شُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول فَإِن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم كَانَا يَقُولَانِ سلوا هَؤُلَاءِ الَّذين يرَوْنَ الْمسْح هَل مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سُورَة الْمَائِدَة وَالله مَا مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد سُورَة الْمَائِدَة وَقد(1/293)
نقل رجوعهما عَن ذَلِك أَيْضا وَكَذَلِكَ خبر الصّرْف فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كَانَ يجوز التَّفَاضُل مستدلا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة وَقد نقل رُجُوعه عَن ذَلِك فلشبهة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يضلل جاحده وَلَكِن يخْشَى عَلَيْهِ المأثم وَلِأَن بِاعْتِبَار رجوعهم يثبت الْإِجْمَاع (وَقد ثَبت الْإِجْمَاع) على قبُوله من الصَّدْر الثَّانِي وَالثَّالِث وَلَا يسع مُخَالفَة الْإِجْمَاع فَلهَذَا يخْشَى على جاحده المأثم
وَأما النَّوْع الثَّالِث فقد ظهر فِيهِ الِاخْتِلَاف فِي كل قرن فَكل من ترجح عِنْده جَانب الصدْق فِيهِ بِدَلِيل عمل بِهِ وَكَانَ لَهُ أَن يخطىء صَاحبه وَلَكِن لَا يخْشَى عَلَيْهِ المأثم فِي ذَلِك لِأَنَّهُ صَار إِلَيْهِ عَن اجْتِهَاد وَالْإِثْم فِي الْخَطَأ مَوْضُوع عَن الْمُجْتَهد على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما الْغَرِيب المستنكر فَإِنَّهُ يخْشَى المأثم على الْعَامِل بِهِ وَذَلِكَ نَحْو خبر الْقَتْل فِي الْقسَامَة وَخبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر الْقُرْآن وَقد ترك الْعلمَاء فِي الْقرن الأول وَالثَّانِي الْعَمَل بِهِ فبه يقرب من الْكَذِب كَمَا أَن الْمَشْهُور يقرب من الصدْق بتلقيهم إِيَّاه بِالْقبُولِ وَالْعَمَل بِهِ فَكَمَا يخْشَى المأثم هُنَاكَ على ترك الْعَمَل بِهِ لقُرْبه من الصدْق فَكَذَلِك يخْشَى على من يعْمل بالغريب المستنكر لقُرْبه من الْكَذِب وَالثَّابِت بِمثلِهِ مُجَرّد الظَّن وَمن الظَّن مَا يَأْثَم الْمَرْء باتباعه قَالَ تَعَالَى {وظننتم ظن السوء} وَقَالَ تَعَالَى {إِن بعض الظَّن إِثْم} وَهُوَ نَظِير من يصير إِلَى التَّحَرِّي عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة فَيعْمل بِهِ مَعَ وجود الدَّلِيل وَيتْرك الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَلَا شكّ فِي تأثيم من يدع الْعَمَل بِالدَّلِيلِ وَيعْمل بِالظَّنِّ فَهَذَا مثله وَالله أعلم
ذكر عِيسَى رَحمَه الله أَنه لَيْسَ لما ينْعَقد بِهِ التَّوَاتُر حد مَعْلُوم من حَيْثُ الْعدَد وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن خبر التَّوَاتُر يثبت علم الْيَقِين وَلَا يُوجد حد من حَيْثُ الْعدَد يثبت بِهِ علم الْيَقِين وَإِذا انْتقصَ مِنْهُ بفرد لَا يثبت علم الْيَقِين
وَلَكنَّا نعلم أَن بِالْعدَدِ الْيَسِير لَا يثبت ذَلِك لتوهم المواطأة بَينهم وبالجمع الْعَظِيم يثبت ذَلِك لِانْعِدَامِ توهم(1/294)
المواطأة فَإِنَّمَا يَبْنِي على هَذَا أَنه مَتى كَانَ المخبرون بِحَيْثُ يُؤمن تواطؤهم عَادَة يكون خبرهم متواترا
وَالْحُدُود نَوْعَانِ مِنْهُ مَا يكون متميز الْأَطْرَاف وَالْوسط كالمقادير فِي الْحُدُود الشَّرْعِيَّة وَمِنْه مَا يكون متميز الْأَطْرَاف مُشكل الْوسط كالسير بالأميال وَالْأكل بالأرطال
فَهَذَا مِمَّا هُوَ متميز الْأَطْرَاف مُشكل الْوسط وَالطَّرِيق فِيهِ مَا بَينا
فصل فِي بَيَان أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة مُوجب للْعلم
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة مُوجب للْعلم قطعا كَرَامَة لَهُم على الدّين لَا لانْقِطَاع توهم اجْتِمَاعهم على الضلال بِمَعْنى مَعْقُول فاليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس أَكثر منا عددا وَقد وجد مِنْهُم الْإِجْمَاع على الضَّلَالَة وَلِأَن الِاتِّفَاق قد يتَحَقَّق من الْخلف على وَجه الْمُتَابَعَة للآباء من غير حجَّة كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَن الْكَفَرَة بقوله تَعَالَى {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} وَقَالَ تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا جعل اجْتِمَاع هَذِه الْأمة حجَّة شرعا كَرَامَة لَهُم على الدّين
فَهَذَا مَذْهَب الْفُقَهَاء وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين
وَقَالَ النظام وَقوم من الإمامية لَا يكون الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم بِحَال لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد وَإِذا كَانَ قَول كل فَرد غير مُوجب للْعلم لكَونه غير مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فَكَذَلِك أقاويلهم بَعْدَمَا اجْتَمعُوا لِأَن توهم الْخَطَأ لَا يَنْعَدِم بالاجتماع أَلا ترى أَن كل وَاحِد مِنْهُم لما كَانَ إنْسَانا قبل الِاجْتِمَاع فَبعد الِاجْتِمَاع هم نَاس وكل وَاحِد من القادرين حَالَة الِانْفِرَاد لَا يصير عَاجِزا بعد الِاجْتِمَاع وكل وَاحِد من العميان عِنْد الِانْفِرَاد لَا يصير بَصيرًا بالاجتماع وَلَا تصير جُمْلَتهمْ أَيْضا بِهَذِهِ الصّفة بعد الِاجْتِمَاع
وَهَذَا الْكَلَام ظَاهر التَّنَاقُض وَالْفساد فقد ثَبت بالاجتماع مَا لَا يكون ثَابتا عِنْد الِانْفِرَاد فِي المحسوسات والمشروعات فَإِن الْأَفْرَاد لَا يقدرُونَ على حمل خَشَبَة ثَقيلَة وَإِذا اجْتَمعُوا قدرُوا على ذَلِك واللقمة الْوَاحِدَة من الطَّعَام والقطرة من المَاء لَا تكون مشبعة وَلَا مروية ثمَّ عِنْد الِاجْتِمَاع تصير مشبعة ومروية وَهَذَا لِأَن بالاجتماع يحدث مَا لم يكن عِنْد الِانْفِرَاد وَهُوَ الدَّلِيل الْجَامِع لَهُم على(1/295)
مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَقد قَررنَا هَذَا فِي الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَمن أنكر كَون الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم فقد أبطل أصل الدّين فَإِن مدَار أصُول الدّين ومرجع الْمُسلمين إِلَى إِجْمَاعهم فالمنكر لذَلِك يسْعَى فِي هدم أصل الدّين
وسنقرر هَذَا فِي آخر الْفَصْل
ثمَّ الدَّلِيل على أَن الْإِجْمَاع من هَذِه الْأمة حجَّة مُوجبَة شرعا وَأَنَّهُمْ إِذا اجْتَمعُوا على شَيْء فَالْحق فِيمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ قطعا وَإِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء فَالْحق لَا يعدوهم أصلا الْكتاب وَالسّنة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} وَكلمَة خير بِمَعْنى أفعل فَيدل على النِّهَايَة فِي الْخَيْرِيَّة وَذَلِكَ دَلِيل ظَاهر على أَن النِّهَايَة فِي الْخَيْرِيَّة فِيمَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ ثمَّ فسر ذَلِك بِأَنَّهُم يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَإِنَّمَا جعلهم خير أمة بِهَذَا وَالْمَعْرُوف الْمُطلق مَا هُوَ حق عِنْد الله تَعَالَى فَأَما مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاد الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ غير مَعْرُوف مُطلقًا إِذْ الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب وَلكنه مَعْرُوف فِي حَقه على معنى أَنه يلْزمه الْعَمَل بِهِ مَا لم يتَبَيَّن خَطؤُهُ فَفِي هَذَا بَيَان أَن الْمَعْرُوف الْمُطلق مَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ
فَإِن قيل هَذَا يَقْتَضِي كَون كل وَاحِد مِنْهُم آمرا بِالْمَعْرُوفِ كَمَا ذكرنَا فِي مُوجب الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة وبالإجماع اجْتِهَاد كل وَاحِد مِنْهُم بِانْفِرَادِهِ لَا يكون مُوجبا للْعلم قطعا
قُلْنَا لَا بل المُرَاد هُنَا أَن جَمِيع الْأمة أَو أَكْثَرهم بِهَذِهِ الصّفة وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك}
{وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا} وَكَانَ ذَلِك من بَعضهم
وَيُقَال فِي بذلة الْكَلَام بَنو هَاشم حكماء وَأهل الْكُوفَة فُقَهَاء وَإِنَّمَا يُرَاد بَعضهم فيتبين بِهَذَا التَّحْقِيق أَن المُرَاد بَيَان أَن الْأَكْثَر من هَذِه الْأمة إِذا اجْتَمعُوا على شَيْء فَهُوَ الْمَعْرُوف مُطلقًا وَأَنَّهُمْ إِذا اخْتلفُوا فِي شَيْء فالمعروف الْمُطلق لَا يعدو أَقْوَالهم وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} الْآيَة فقد جعل الله اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ بِمَنْزِلَة مشاقة الرَّسُول فِي استيجاب النَّار
ثمَّ قَول الرَّسُول مُوجب للْعلم قطعا فَكَذَلِك مَا اجْتمع عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يجوز أَن يُقَال المُرَاد اجْتِمَاع الخصلتين لِأَن فِي ذكرهمَا دَلِيلا على أَن تَأْثِير أَحدهمَا كتأثير الآخر بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر}(1/296)
إِلَى قَوْله {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} وأيد هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن من اتخذ وليجة من دون الْمُؤمنِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من اتخذ وليجة من دون الرَّسُول
وَقَالَ تَعَالَى {وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} وَفِيه تنصيص على أَن المرضي عِنْد الله مَا هم عَلَيْهِ حَقِيقَة وَمَعْلُوم أَن الارتضاء مُطلقًا لَا يكون بالْخَطَأ وَإِن كَانَ المخطىء مَعْذُورًا وَإِنَّمَا يكون بِمَا هُوَ الصَّوَاب فَعرفنَا أَن الْحق مُطلقًا فِيمَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ
وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَالْوسط الْعدْل المرضي قَالَ تَعَالَى {أوسطهم} أَي أعدلهم وأرضاهم قولا وَقَالَ الْقَائِل هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم أَي عدل فَفِي الْوَصْف لَهُم بِالْعَدَالَةِ تنصيص على أَن الْحق مَا يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ ثمَّ جعلهم شُهَدَاء على النَّاس وَالشَّاهِد مُطلقًا من يكون قَوْله حجَّة فَفِي هَذَا بَيَان أَن إِجْمَاعهم حجَّة على النَّاس وَأَنه مُوجب للْعلم قطعا وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول الشُّهُود فِي الْحُقُوق عِنْد القَاضِي وَإِن جعلت شَهَادَتهم حجَّة فَإِنَّهَا لَا تكون مُوجبَة للْعلم قطعا وَهَذَا لِأَن شَهَادَتهم حجَّة فِي حق القَاضِي بِاعْتِبَار أَنه مَأْمُور بِالْقضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَإِن مَا وَرَاءه غيب عَنهُ وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته فَيكون حجَّة بِحَسب ذَلِك وَأما هُنَا فقد جعل الله تَعَالَى هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس بِمَا هُوَ حق الله تَعَالَى (على النَّاس وَهُوَ علام الغيوب لَا تخفى عَلَيْهِ خافية فَإِن مَا يكون حجَّة لحق الله تَعَالَى) على النَّاس مَا يكون مَوْصُوفا بِأَنَّهُ حق قطعا كَيفَ وَقد جعل الله شَهَادَتهم على النَّاس كَشَهَادَة الرَّسُول عَلَيْهِم فَقَالَ تَعَالَى {وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} وَشَهَادَة الرَّسُول حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا لِأَنَّهُ مَعْصُوم عَن القَوْل بِالْبَاطِلِ فَتبين بِهَذِهِ الْمُقَابلَة أَن شَهَادَة الْأمة فِي حق النَّاس بِهَذِهِ الصّفة وَلَا يجوز أَن يُقَال هَذَا فِي حكم الْآخِرَة لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيل فِي الْآيَة وَلِأَن مَا فِي الْآخِرَة يكون أَدَاء الشَّهَادَة فِي مجْلِس الْقَضَاء وَالْقَاضِي علام الغيوب عَالم بحقائق الْأُمُور فَمَا لم يَكُونُوا عَالمين بِمَا هُوَ الْحق فِي الدُّنْيَا لَا يصلحون للْأَدَاء بِهَذِهِ الصّفة فِي الْآخِرَة فِي قَوْله تَعَالَى {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ} مَعَ أَن الشَّهَادَة فِي الْآخِرَة مَذْكُورَة(1/297)
فِي الْآيَتَيْنِ من كتاب الله تَعَالَى {شَهِيدا} وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا} الْآيَة فَتبين أَن المُرَاد بِمَا تلونا الشَّهَادَة بِحُقُوق الله تَعَالَى على النَّاس فِي الدُّنْيَا
وَلَا يُقَال كَمَا وصف الله هَذِه الْأمة بِأَنَّهُم شُهَدَاء فقد وصف بِهِ أهل الْكتاب قَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تصدُّونَ عَن سَبِيل الله من آمن تَبْغُونَهَا عوجا وَأَنْتُم شُهَدَاء} وَقَالَ تَعَالَى {بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء} ثمَّ لم يدل ذَلِك على أَن إِجْمَاعهم مُوجب للْعلم وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا جعلهم شُهَدَاء بِمَا أَخذ الْمِيثَاق بِهِ عَلَيْهِم وَهُوَ بَيَان نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كِتَابهمْ للنَّاس كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه} الْآيَة وَلَو بينوا كَانَ بيانهم حجَّة إِلَّا أَنهم لما تعنتوا وَاشْتَغلُوا بِالْحَسَدِ وَطلب الرياسة كفرُوا بذلك وَإِنَّمَا سماهم أهل الْكتاب بِاعْتِبَار مَا كَانُوا عَلَيْهِ من قبل وَلذَلِك جعلهم شُهَدَاء على حفظ الْكتاب فَمَا لم يبدلوا كَانَ قَوْلهم حجَّة وَلَكنهُمْ حرفوا وغيروا ذَلِك فَلهَذَا لَا يكون قَوْلهم حجَّة فَأَما هُنَا فقد جعل الله هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس فَعرفنَا أَن قَوْلهم حجَّة فِي إِلْزَام حُقُوق الله على النَّاس إِلَى قيام السَّاعَة
وَلَا يُقَال فقد ثَبت حق الله بِمَا لَا يُوجب الْعلم قطعا نَحْو خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَهَذَا لِأَن خبر الْوَاحِد حجَّة بِاعْتِبَار أَنه كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا وَلَكِن امْتنع ثُبُوت الْعلم بِهِ لشُبْهَة فِي النَّقْل وَاحْتمل ذَلِك لضَرُورَة فَقدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقِيَاس لَا يكون حجَّة لإِثْبَات الحكم ابْتِدَاء بل بتعدية الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ إِلَى مَحل لَا نَص فِيهِ وَاحْتمل ذَلِك لضَرُورَة حاجتنا إِلَى ذَلِك فَأَما هُنَا فقد جعل الله تَعَالَى الْأمة شُهَدَاء على النَّاس مُطلقًا وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا إِذا كَانَ الْحق مُطلقًا فِيمَا يشْهدُونَ بِهِ
فَإِن قيل وصف الله تَعَالَى إيَّاهُم بِهَذَا لَا يكون دَلِيلا على أَنه لَا يتَوَهَّم اجْتِمَاعهم على مَا هُوَ ضَلَالَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَفِيهِ بَيَان أَنه خلقهمْ لِلْعِبَادَةِ ثمَّ لَا يمْنَع ذَلِك توهم اجْتِمَاعهم على ترك الْعِبَادَة
قُلْنَا اللَّام الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {ليكونوا}(1/298)
{ليكونوا} يدل على أَنه جعلهم بِهَذِهِ الصّفة كَرَامَة لَهُم ليَكُون قَوْلهم حجَّة على النَّاس فِي حق الله كَمَا يَقُول إِنَّه جعل النَّاس أحرارا ليكونوا أَهلا للْملك فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ أَن الْأَهْلِيَّة للْملك ثَابت لَهُم بِاعْتِبَار الْحُرِّيَّة فهاهنا أَيْضا يفهم من الْآيَة أَن قَوْلهم حجَّة على النَّاس بِاعْتِبَار صفة الوساطة لَهُم وَهَكَذَا كَانَ يَقْتَضِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى {إِلَّا ليعبدون} غير أَنا لَو حملنَا على هَذَا الظَّاهِر خرجت الْعِبَادَة من أَن ينالها ثَوَاب أَو عِقَاب بِتَرْكِهَا لِأَن ذَلِك يثبت بِاخْتِيَار يكون من العَبْد عِنْد الْإِقْدَام عَلَيْهِ فَعرفنَا أَن المُرَاد من قَوْله {إِلَّا ليعبدون} إِلَّا وَعَلَيْهِم الْعِبَادَة لي
وَبِأَن بترك الظَّاهِر فِي مَوضِع لقِيَام الدَّلِيل لَا يمْنَع الْعَمَل بِالظَّاهِرِ فِيمَا سواهُ وَتبين أَن مَا نَحن فِيهِ نَظِير شَهَادَة الرَّسُول علينا كَمَا ذكره الله مَعْطُوفًا على هَذِه الصّفة لَا نَظِير مَا اسْتشْهدُوا بِهِ
وَأما السّنة فقد جَاءَت مستفيضة مَشْهُورَة فِي ذَلِك فَمِنْهَا حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من سره بحبوحة الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة فَإِن الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الِاثْنَيْنِ أبعد وَمِنْهَا حَدِيث معَاذ رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم إخلاص الْعَمَل لله تَعَالَى ومناصحة وُلَاة الْأَمر وَلُزُوم جمَاعَة المسلمينومنها قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من خَالف الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله لَا يجمع أمتِي على الضَّلَالَة وَلما سُئِلَ عَن الخميرة الَّتِي يتعاطاها النَّاس قَالَ مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ قبيحا فَهُوَ عِنْد الله قَبِيح والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة تبلغ حد التَّوَاتُر لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم إِذا رُوِيَ حَدِيثا فِي هَذَا الْبَاب سَمعه فِي جمع وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من ذَلِك الْجمع فَذَلِك بِمَنْزِلَة الْمُتَوَاتر كالإنسان إِذا رأى الْقَافِلَة بعد انصرافها من مَكَّة وَسمع من كل فريق وَاحِدًا يَقُول قد حجَجنَا فَإِنَّهُ يثبت لَهُ علم الْيَقِين بِأَنَّهُم حجُّوا فِي تِلْكَ السّنة(1/299)
وَشَيْء من الْمَعْقُول يشْهد بِهِ فَإِن الله تَعَالَى جعل الرَّسُول خَاتم النَّبِيين وَحكم بِبَقَاء شَرِيعَته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَنه لَا نَبِي بعده وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق ظَاهِرين لَا يضرهم من ناوأهم فَلَا بُد من أَن تكون شَرِيعَته ظَاهِرَة فِي النَّاس إِلَى قيام السَّاعَة وَقد انْقَطع الْوَحْي بوفاته فَعرفنَا ضَرُورَة أَن طَرِيق بَقَاء شَرِيعَته عصمَة الله أمته من أَن يجتمعوا على الضَّلَالَة فَإِن فِي الِاجْتِمَاع على الضَّلَالَة رفع الشَّرِيعَة وَذَلِكَ يضاد الْمَوْعُود من الْبَقَاء وَإِذا ثَبت عصمَة جَمِيع الْأمة من الِاجْتِمَاع على الضَّلَالَة ضاهى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ المسموع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ مُوجب للْعلم قطعا فَهَذَا مثله
وَهَذَا معنى مَا قُلْنَا إِن عِنْد الِاجْتِمَاع يحدث مَا لم يكن ثَابتا بالأفراد وَهُوَ نَظِير القَاضِي إِذا نفذ قَضَاء بِاجْتِهَاد فَإِنَّهُ يلْزم ذَلِك على وَجه لَا يحْتَمل النَّقْض وَإِن كَانَ ذَلِك فَوق الِاجْتِهَاد وَكَانَ ذَلِك لصيانة الْقَضَاء الَّذِي هُوَ من أَسبَاب الدّين فَلِأَن يثبت هُنَا مَا ادعينا صِيَانة لأصل الَّذين كَانَ أولى
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس وَقَالَ لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا يُقَال فِي الأَرْض الله قُلْنَا فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث نظر هُوَ فِي الظَّاهِر مُخَالف لكتاب الله {الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} وَمن كَانَ الله وليه فَهُوَ ظَاهر أبدا وَمعنى قَوْله يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور أَي من ظلمات الْكفْر وَالْبَاطِل إِلَى نور الْإِيمَان وَالْحق فَذَلِك دَلِيل على أَن الْحق مَا يتفقون عَلَيْهِ فِي كل وَقت وَقَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} الْآيَة وَلَو ثَبت الحَدِيث فَالْمُرَاد بَيَان أَن أهل الشَّرّ يغلبُونَ فِي آخر الزَّمَان مَعَ بَقَاء الصَّالِحين المتمسكين بِالْحَقِّ فيهم وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ الآخر بَيَان الْحَال بَين نفخة الْفَزع ونفخة الْبَعْث فَإِن قيام السَّاعَة عِنْد نفخة الْبَعْث وَعند ذَلِك لم يبْق فِي الأَرْض من بني آدم أحد حَيا
ثمَّ الْكَلَام بعد هَذَا فِي سَبَب الْإِجْمَاع وركنه وأهلية من ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع وَشَرطه وَحكمه
من الْكتاب وَالسّنة
أما الْكتاب فنحو الْإِجْمَاع على حُرْمَة الْأُمَّهَات وَالْبَنَات سَببه قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} وَأما من حَيْثُ السّنة فنحو الْإِجْمَاع على(1/300)
فصل السَّبَب
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن سَبَب الْإِجْمَاع قد يكون توقيفا أَن فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَة وَفِي إِحْدَاهمَا نصف الدِّيَة وَالْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز بيع الطَّعَام المُشْتَرِي قبل الْقَبْض وَمَا أشبه ذَلِك فَإِن سَببه السّنة المروية فِي الْبَاب
وَمن ذَلِك مَا يكون مستنبطا بِالِاجْتِهَادِ على مَا هُوَ الْمَنْصُوص عَلَيْهِ من الْكتاب أَو السّنة وَذَلِكَ نَحْو إِجْمَاعهم على توظيف الْخراج على أهل السوَاد فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ حِين أَرَادَ ذَلِك خَالفه بِلَال مَعَ جمَاعَة من أَصْحَابه حَتَّى تَلا عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} قَالَ أرى لمن بعدكم فِي هَذَا الْفَيْء نَصِيبا فَلَو قسمتهَا بَيْنكُم لم يبْق لمن بعدكم فِيهَا نصيب
فَأَجْمعُوا على قَوْله وَسبب إِجْمَاعهم هَذَا الاستنباط
وَلما اخْتلفُوا فِي الْخَلِيفَة بعد رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ عمر إِن رَسُول الله اخْتَار أَبَا بكر لأمر دينكُمْ فَيكون أرضني بِهِ لأمر دنياكم
فَأَجْمعُوا على خِلَافَته وَسبب إِجْمَاعهم هَذَا الاستنباط
وَمِنْهَا مَا يكون عَن رَأْي نَحْو إِجْمَاعهم على أجل الْعنين وإجماعهم على الْحَد على شَارِب الْخمر على مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما شاورهم فِي ذَلِك قَالَ عَليّ إِنَّه إِذا شرب هذي وَإِذا هذي افترى وحد المفترين فِي كتاب الله ثَمَانُون جلدَة
وَهَكَذَا قَالَه ابْن عَوْف
وَكَانَ عَليّ يَقُول مَا من أحد أقيم عَلَيْهِ حدا فَيَمُوت فأجد من ذَلِك فِي نَفسِي شَيْئا إِلَّا حد الْخمر فَإِنَّهُ ثَبت بآرائنا
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَإِثْبَات الْحَد بِالرَّأْيِ لَا يكون قُلْنَا لَا نقُول إِثْبَات أصل الْحَد كَانَ بِالرَّأْيِ بل بِالسنةِ وَهُوَ مَا ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنعال فِي شرب الْخمر إِلَّا أَنهم بالتفحص عرفُوا مِقْدَار مَا ضرب فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أَن الَّذين كَانُوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ نَفرا وَضرب كل وَاحِد بنعليه فنقلوا بِالرَّأْيِ من النِّعَال إِلَى الجلدات اسْتِدْلَالا بِحَدّ الْقَذْف وأثبتوا الْمِقْدَار بِالنَّصِّ فَأَجْمعُوا أَن حد الْخمر ثَمَانُون جلدَة(1/301)
وَكَانَ ابْن جرير رَحمَه الله يَقُول الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم قطعا لَا يصدر عَن خبر الْوَاحِد وَلَا عَن قِيَاس لِأَن خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس لَا يُوجب الْعلم قطعا فَمَا يصدر عَنهُ كَيفَ يكون مُوجبا لذَلِك وَلِأَن النَّاس يَخْتَلِفُونَ فِي الْقيَاس هَل هُوَ حجَّة أم لَا فَكيف يصدر الْإِجْمَاع عَن نفس الْخلاف وَهَذَا غلط بَين فقد بَينا أَن إِجْمَاع هَذِه الْأمة حجَّة شرعا بِاعْتِبَار عينه لَا بِاعْتِبَار دَلِيله فَمن يَقُول بِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا صادرا عَن دَلِيل مُوجب للْعلم فَإِنَّهُ يَجْعَل الْإِجْمَاع لَغوا وَإِنَّمَا يثبت الْعلم بذلك الدَّلِيل فَهُوَ وَمن يُنكر كَون الْإِجْمَاع حجَّة أصلا سَوَاء وَخبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَإِن لم يكن مُوجبا للْعلم بِنَفسِهِ فَإِذا تأيد بِالْإِجْمَاع فَذَلِك يضاهي مَا لَو تأيد بِآيَة من كتاب الله أَو بِالْعرضِ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والتقرير مِنْهُ على ذَلِك فَيصير مُوجبا للْعلم من هَذَا الطَّرِيق قطعا وَقد كَانَ فِي الصَّدْر الأول اتِّفَاق على اسْتِعْمَال الْقيَاس وَكَونه حجَّة على مَا نبينه وَإِنَّمَا أظهر الْخلاف بعض أهل الْكَلَام مِمَّن لَا نظر لَهُ فِي الْفِقْه وَبَعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن لَا علم لَهُ بِحَقِيقَة الْأَحْكَام وَأُولَئِكَ لَا يعْتد بخلافهم وَلَا يؤنس بوفاقهم
ثمَّ الْإِجْمَاع الثَّابِت بِهَذِهِ الْأَسْبَاب يثبت انْتِقَاله إِلَيْنَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يثبت بِهِ انْتِقَال السّنة المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ (تَارَة) يكون بالتواتر وَتارَة بالاشتهار وَتارَة بالآحاد وَذَلِكَ نَحْو مَا يرْوى عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي قَالَ مَا اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على شَيْء كاجتماعهم على الْمُحَافظَة على الْأَرْبَع قبل الظّهْر وعَلى الْإِسْفَار بِالْفَجْرِ وعَلى تَحْرِيم نِكَاح الْأُخْت فِي عدَّة الْأُخْت
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي تَكْبِيرَات الْجِنَازَة كل ذَلِك قد كَانَ وَقد رَأَيْت أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبرُونَ عَلَيْهَا أَرْبعا
وَمن النَّاس من أنكر ثُبُوت الْإِجْمَاع بِخَبَر الْوَاحِد لِأَن الْإِجْمَاع يُوجب الْعلم قطعا وَخبر الْوَاحِد لَا يُوجب ذَلِك وَهَذَا خطأ بَين فَإِن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوجب للْعلم أَيْضا ثمَّ يجوز أَن يثبت ذَلِك بِالنَّقْلِ(1/302)
بطرِيق الْآحَاد على أَن يكون مُوجبا للْعَمَل دون الْعلم فَكَذَلِك الْإِجْمَاع يجوز أَن يثبت بِالنَّقْلِ بطرِيق الْآحَاد على أَن يكون مُوجبا الْعَمَل
وسنقرر هَذَا فِي بَيَان الحكم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل الرُّكْن
ركن الْإِجْمَاع نَوْعَانِ الْعَزِيمَة والرخصة فالعزيمة هُوَ اتِّفَاق الْكل على الحكم بقول سمع مِنْهُم أَو مُبَاشرَة الْفِعْل فِيمَا يكون من بَابه على وَجه يكون ذَلِك مَوْجُودا من الْعَام وَالْخَاص فِيمَا يَسْتَوِي الْكل فِي الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته لعُمُوم الْبلوى فِيهِ كتحريم الزِّنَا والربا وَتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَأَشْبَاه ذَلِك ويشترك فِيهِ جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر وَفِيمَا لَا يحْتَاج الْعَام إِلَى مَعْرفَته لعدم الْبلوى الْعَام بهم فِيهِ كَحُرْمَةِ الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وخالتها وفرائض الصَّدقَات وَمَا يجب فِي الزروع وَالثِّمَار وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا لِأَن ركن الشَّيْء مَا يقوم بِهِ أَصله فَإِنَّمَا يقوم أصل الْإِجْمَاع فِي النَّوْعَيْنِ بِهَذَا
وَأما الرُّخْصَة وَهُوَ أَن ينتشر القَوْل من بعض عُلَمَاء أهل الْعَصْر ويسكت الْبَاقُونَ عَن إِظْهَار الْخلاف وَعَن الرَّد على الْقَائِلين بعد عرض الْفَتْوَى عَلَيْهِم أَو صَيْرُورَته مَعْلُوما لَهُم بالانتشار والظهور فالإجماع يثبت بِهِ عندنَا
وَمن الْعلمَاء من يَقُول بِهَذَا الطَّرِيق لَا يثبت الْإِجْمَاع
ويحكى عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول إِن ظهر القَوْل من أَكثر الْعلمَاء والساكتون نفر يسير مِنْهُم يثبت بِهِ الْإِجْمَاع وَإِن انْتَشَر القَوْل من وَاحِد أَو اثْنَيْنِ والساكتون أَكثر عُلَمَاء الْعَصْر لَا يثبت بِهِ الْإِجْمَاع
وَجه قَوْلهم إِن السُّكُوت مُحْتَمل قد يكون للموافقة وَقد يكون للمهابة والتقية مَعَ إِضْمَار الْخلاف والمحتمل لَا يكون حجَّة خُصُوصا فِيمَا يُوجب الْعلم قطعا أَلا ترى أَن فِيمَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ السُّكُوت لَا يكون دَلِيلا على شَيْء لكَونه مُحْتملا
ويستدلون على صِحَة هَذِه الْقَاعِدَة بِمَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما شاور الصَّحَابَة فِي مَال فضل(1/303)
عِنْده للْمُسلمين فأشاروا عَلَيْهِ بِتَأْخِير الْقِسْمَة والإمساك إِلَى وَقت الْحَاجة وَعلي رَضِي الله عَنهُ فِي الْقَوْم سَاكِت فَقَالَ لَهُ مَا تَقول يَا أَبَا الْحسن فَقَالَ لم تجْعَل يقينك شكا وعلمك جهلا أرى أَن تقسم ذَلِك بَين الْمُسلمين وروى فِيهِ حَدِيثا فَهُوَ لم يَجْعَل سُكُوته دَلِيل الْمُوَافقَة لَهُم حَتَّى سَأَلَهُ واستخار عَليّ رَضِي الله عَنهُ السُّكُوت مَعَ كَون الْحق عِنْده فِي خلافهم
وَلما شاور عمر الصَّحَابَة فِي إملاص المغيبة الَّتِي بعث بهَا فَفَزِعت فَقَالُوا إِنَّمَا أَنْت مؤدب وَمَا أردْت إِلَّا الْخَيْر فَلَا شَيْء عَلَيْك وَعلي رَضِي الله عَنهُ فِي الْقَوْم سَاكِت فَقَالَ مَا تَقول يَا أَبَا الْحسن فَقَالَ إِن كَانَ هَذَا جهد رَأْيهمْ فقد أخطؤوا وَإِن قاربوك فقد غشوك أرى عَلَيْك الْغرَّة
فَقَالَ أَنْت صدقتني
فقد استخار السُّكُوت مَعَ إِضْمَار الْخلاف وَلم يَجْعَل عمر سُكُوته دَلِيل الْمُوَافقَة حَتَّى استنطقه
وَلما بَين ابْن عَبَّاس حجَّته فِي مَسْأَلَة الْعَوْل للصحابة قَالُوا لَهُ هلا قلت هَذَا لعمر فَقَالَ كَانَ رجلا مهيبا فهبته وَفِي رِوَايَة مَنَعَنِي درته من ذَلِك
وَكَانَ عِيسَى بن أبان يَقُول ترك النكير لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة بِدَلِيل حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ حِين قَالَ أقصرت الصَّلَاة أم نسيتهَا يَا رَسُول الله فَنظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أبي بكر وَعمر وَقَالَ أَحَق مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ وَلَو كَانَ(1/304)
ترك النكير دَلِيل الْمُوَافقَة لاكتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم وَلما استنطقهم فِي الصَّلَاة من غير حَاجَة
وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول السُّكُوت على النكير فِيمَا يكون مُجْتَهدا فِيهِ لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة لِأَنَّهُ لَيْسَ لأحد الْمُجْتَهدين أَن يُنكر على صَاحبه بِاجْتِهَادِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يبين لَهُ مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فالسكوت فِي مثله لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة
وَجه قَوْلنَا إِنَّه لَو شَرط لانعقاد الْإِجْمَاع التَّنْصِيص من كل وَاحِد مِنْهُم على قَوْله وَإِظْهَار الْمُوَافقَة مَعَ الآخرين قولا أدّى إِلَى أَن لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع أبدا لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر اجْتِمَاع أهل الْعَصْر كلهم على قَول يسمع ذَلِك مِنْهُم إِلَّا نَادرا وَفِي الْعَادة إِنَّمَا يكون ذَلِك بانتشار الْفَتْوَى من الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ وَفِي اتفاقنا على كَون الْإِجْمَاع حجَّة وطريقا لمعْرِفَة الحكم دَلِيل على بطلَان قَول هَذَا الْقَائِل وَهَذَا لِأَن المتعذر كالممتنع ثمَّ تَعْلِيق الشَّيْء بِشَرْط هُوَ مُمْتَنع يكون نفيا لَا صلَة فَكَذَا تَعْلِيقه بِشَرْط هُوَ مُتَعَذر وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى رفع عَنَّا الْحَرج كَمَا لم يكلفنا مَا لَيْسَ فِي وسعنا وَلَيْسَ فِي وسع عُلَمَاء الْعَصْر السماع من الَّذين كَانُوا قبلهم يقرونَ فَكَانَ ذَلِك سَاقِطا عَنْهُم فَكَذَلِك يتَعَذَّر السماع من جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر وَالْوُقُوف على قَول كل وَاحِد مِنْهُم فِي حكم حَادِثَة حَقِيقَة لما فِيهِ من الْحَرج الْبَين فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل اشتهار الْفَتْوَى من الْبَعْض وَالسُّكُوت من البَاقِينَ كَافِيا فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَن السامعين من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين لَا يحل لَهُم السُّكُوت عَن إِظْهَار الْخلاف إِذا كَانَ الحكم عِنْدهم خلاف مَا ظهر وسكوتهم مَحْمُول على الْوَجْه الَّذِي يحل فَبِهَذَا الطَّرِيق يَنْقَطِع معنى التَّسَاوِي فِي الِاحْتِمَال ويترجح جَانب إِظْهَار الْمُوَافقَة وَمثل هَذَا السُّكُوت لَا يرجح أحد الْجَانِبَيْنِ فِيمَا يكون مُخْتَلفا فِيهِ فَيبقى مُحْتملا على ظَاهره وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله إِنَّمَا يثبت الْإِجْمَاع إِذا اشْتهر القَوْل من أَكْثَرهم لِأَن هَذَا الْقدر مِمَّا يَتَأَتَّى وَإِقَامَة السُّكُوت مقَام إِظْهَار الْمُوَافقَة لدفع الْحَرج فيتقدر بِقَدرِهِ وَلَا حرج فِي اعْتِبَار ظُهُور القَوْل من الْأَكْثَر وَلِأَن الْأَقَل يَجْعَل تبعا للْأَكْثَر فَإِذا كَانَ الْأَكْثَر سكُوتًا يَجْعَل ذَلِك كسكوت الْكل وَإِذا ظهر القَوْل من الْأَكْثَر يَجْعَل كظهوره من الْكل
وَلَكنَّا نقُول الْمَعْنى الَّذِي لأَجله(1/305)
جعل سكُوت الْأَقَل بِمَنْزِلَة إِظْهَار الْمُوَافقَة أَنه لَا يحل لَهُم ترك إِظْهَار الْخلاف إِذا كَانَ الحكم عِنْدهم خلاف ذَلِك وَهَذَا الْمَعْنى فِيمَا يشْتَهر من وَاحِد أَو اثْنَيْنِ أظهر لِأَن تمكن الْأَكْثَر من إِظْهَار الْخلاف يكون أبين فَلِأَن يَجْعَل سكوتهم عَن إِظْهَار الْخلاف بعد مَا اشْتهر القَوْل دَلِيل الْمُوَافقَة كَانَ أولى
وَأما حَدِيث الْقِسْمَة فَإِنَّمَا سكت عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَن مَا أشاروا بِهِ على عمر كَانَ حسنا فَإِن للْإِمَام أَن يُؤَخر الْقِسْمَة فِيمَا يفضل عِنْده من المَال ليَكُون معدا لنائبة تنوب الْمُسلمين وَلَكِن كَانَ الْقِسْمَة أحسن عِنْد عَليّ لِأَنَّهُ أقرب إِلَى أَدَاء الْأَمَانَة وَالْخُرُوج عَمَّا يحمل من الْعهْدَة وَفِي مثل هَذَا الْموضع لَا يجب إِظْهَار الْخلاف وَلَكِن إِذا سُئِلَ يجب بَيَان الْأَحْسَن فَلهَذَا سكت عَليّ فِي الِابْتِدَاء وَحين سَأَلَهُ بَين الْوَجْه الْأَحْسَن عِنْده
وَكَذَا حَدِيث الإملاص فَإِن مَا أشاروا بِهِ من الحكم كَانَ صَوَابا لِأَنَّهُ لم يُوجد من عمر رَضِي الله عَنهُ مُبَاشرَة صنع بهَا وَلَا تسبب هُوَ جِنَايَة وَلَكِن إِلْزَام الْغرَّة مَعَ هَذَا يكون أبعد من القيل والقال وَيكون أقرب إِلَى بسط الْعدْل وَحسن الرِّعَايَة فَلهَذَا سكت فِي الِابْتِدَاء وَلما استنطقه بَين أولى الْوَجْهَيْنِ عِنْده يُوضحهُ أَن مُجَرّد السُّكُوت عَن إِظْهَار الْخلاف لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة عندنَا مَا بَقِي مجْلِس الْمُشَاورَة وَلم يفصل الحكم بعد فَإِنَّمَا يكون هَذَا حجَّة أَن لَو فصل عمر الحكم بقَوْلهمْ أَو ظهر مِنْهُ توقف فِي الْجَواب وَيكون عَليّ رَضِي الله عَنهُ ساكتا بعد ذَلِك وَلم ينْقل هَذَا فَإِنَّمَا يحمل سُكُوته فِي الِابْتِدَاء على أَنه لتجربة أفهامهم أَو لتعظيم الْفَتْوَى الَّذِي يُرِيد إِظْهَاره بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَا يزدري بِهِ أحد من السامعين أَو ليروي النّظر فِي الْحَادِثَة ويميزه من الْأَشْبَاه حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ مَا هُوَ الصَّوَاب فيظهره وَالظَّاهِر أَنه لَو لم يستنطقه عمر رَضِي الله عَنهُ لَكَانَ هُوَ بَين مَا يسْتَقرّ عَلَيْهِ رَأْيه من الْجَواب قبل إبرام الحكم وانقضاء مجْلِس الْمُشَاورَة
فَأَما حَدِيث ابْن عَبَّاس فقد قيل إِنَّه لَا يكَاد يَصح لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يقدم ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ يَدعُوهُ فِي مجْلِس الشورى مَعَ الْكِبَار من(1/306)
الصَّحَابَة لما عرف من فطنته وَحسن ذهنه وبصيرته وَقد أَشَارَ عَلَيْهِ بأَشْيَاء فَقبل ذَلِك وَاسْتَحْسنهُ وَكَانَ يَقُول لَهُ غص يَا غواص شنشنة أعرفهَا من أخزم يَعْنِي أَنه شبه الْعَبَّاس فِي رَأْيه ودهائه فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا أَن يُقَال إِنَّه امْتنع من بَيَان قَوْله وحجته لعمر مهابة لَهُ وَإِن صَحَّ فَهَذِهِ المهابة إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار مَا عرف من فضل رَأْي عمر وفقهه فَمَنعه ذَلِك من الِاسْتِقْصَاء فِي المحاجة مَعَه كَمَا يكون من حَال الشبَّان مَعَ ذَوي الْأَسْنَان من الْمُجْتَهدين فِي كل عصر فَإِنَّهُم يهابون الْكِبَار فَلَا يستقصون فِي المحاجة مَعَهم حسب مَا يَفْعَلُونَ مَعَ الأقران وَمَتى كَانَ (النَّاس) فِي تقية من عمر فِي إِظْهَار الْحق مَعَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَيْنَمَا دَار الْحق فعمر مَعَه وَكَانَ أَلين وأسرع قبولا للحق من غَيره حَتَّى كَانَ يشاورهم وَيَقُول لَهُم لَا خير فِيكُم إِذا لم تَقولُوا لنا وَلَا خير فِينَا إِذا لم نسْمع مِنْكُم رحم الله امْرأ أهْدى إِلَى أَخِيه عيوبه
فَمَعَ طلب الْبَيَان مِنْهُ بِهَذِهِ الصّفة لَا يتَوَهَّم أَن يهابه أحد فَلَا يظْهر عِنْده حكم الشَّرْع مهابة لَهُ
وَحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ رَضِي الله عَنهُ قُلْنَا مُجَرّد السُّكُوت عَن النكير لَا يكون دَلِيل الْمُوَافقَة عندنَا وَلَكِن مَعَ ترك إِظْهَار مَا هُوَ الْحق عِنْده بعد مُضِيّ مُدَّة المهلة وَلم تُوجد هَذِه الصّفة فِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ كَمَا أظهر مقَالَته سَأَلَ رَسُول الله أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ الْكَلَام فِي الصَّلَاة يَوْمئِذٍ مُبَاحا فَمَا كَانَ هُنَاكَ مَا يمنعهُم من الْكَلَام وَأحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتعرف مَا عِنْدهم من خلاف لَهُ أَو وفَاق وَذَلِكَ مُسْتَقِيم قبل أَن يحصل الْمَقْصُود بِالسُّكُوتِ وَإِن كَانَ يحصل ذَلِك بسكوتهم عَن إِظْهَار الْخلاف أَن لَو قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإتمام الصَّلَاة وَلم يستنطقهم(1/307)
وَكَذَلِكَ مَا قَالَه الْكَرْخِي رَحمَه الله فَهُوَ خَارج على هَذَا الْحَرْف لأَنا لَا نجْعَل مُجَرّد السُّكُوت عَن النكير دَلِيل الْمُوَافقَة بل ترك إِظْهَار مَا عِنْده مِمَّا هُوَ مُخَالف لما انْتَشَر وَهَذَا وَاجِب على كل مُجْتَهد من عُلَمَاء الْعَصْر لَا يُبَاح لَهُ السُّكُوت عَنهُ بعد مَا انْتَشَر قَول بِخِلَاف قَوْله وبلغه ذَلِك فَإِنَّمَا يحمل السُّكُوت على الْوَجْه الَّذِي يحل لَهُ شرعا وَلِهَذَا اعْتبرنَا فِي ثُبُوت الْإِجْمَاع بِهَذَا الطَّرِيق أَن يسكت بعد عرض الْفَتْوَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا لم يبلغهُ قَول هُوَ مُخَالف لما عِنْده وَمَا لم يسْأَل عَنهُ لَا يلْزمه الْبَيَان وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بعد عرض الْفَتْوَى عَلَيْهِ وَبعد مُضِيّ مُدَّة المهلة أَيْضا لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى التروي وَإِلَى رد الْحَادِثَة إِلَى الْأَشْبَاه ليميز الْأَشْبَه بالحادثة من بَين الْأَشْبَاه بِرَأْيهِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا بِمدَّة فَإِذا مَضَت الْمدَّة وَلم يظْهر خلاف مَا بلغه كَانَ ذَلِك دَلِيلا على الْوِفَاق بِاعْتِبَار الْعَادة
فَإِن قيل كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا تَنْتَهِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا بِمَوْتِهِ لِأَن الْإِنْسَان قد يكون متفكرا فِي شَيْء مُدَّة عمره فَلَا يسْتَقرّ فِيهِ رَأْيه على شَيْء وَقد يرى رَأيا فِي شَيْء ثمَّ يظْهر لَهُ رَأْي آخر فَيرجع عَن الأول فعلى هَذَا مُدَّة التروي لَا تَنْتَهِي إِلَّا بِمَوْتِهِ
قُلْنَا لَا كَذَلِك بل إِذا مضى من الْمدَّة مَا يتَمَكَّن فِيهِ من النّظر وَالِاجْتِهَاد فَعَلَيهِ إِظْهَار مَا تبين لَهُ بِاجْتِهَادِهِ من توقف فِي الْجَواب أَو خلاف أَو وفَاق لَا يحل لَهُ السُّكُوت عَن الْإِظْهَار إِلَّا عِنْد الْمُوَافقَة وَبَعْدَمَا ثَبت الْإِجْمَاع بِهَذَا الطَّرِيق فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع عَنهُ بِرَأْي يعرض لَهُ لِأَن الْإِجْمَاع مُوجب للْعلم قطعا بِمَنْزِلَة النَّص فَكَمَا لَا يجوز ترك الْعَمَل بِالنَّصِّ بِاعْتِبَار رَأْي يعْتَرض لَهُ لَا يجوز مُخَالفَة الْإِجْمَاع بِرَأْي يعْتَرض لَهُ بَعْدَمَا انْعَقَد الْإِجْمَاع بدليله
وَكَذَلِكَ إِن لم يعرض عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلَكِن اشْتهر الْفَتْوَى فِي النَّاس على وَجه يعلم أَنه بلغ ذَلِك الساكتين من عُلَمَاء الْعَصْر فَإِن ذَلِك يقوم مقَام الْعرض عَلَيْهِم لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم إِظْهَار الْخلاف الَّذِي عِنْدهم إِن كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خلاف ذَلِك على وَجه ينتشر هَذَا الْخلاف مِنْهُم كَمَا انْتَشَر القَوْل الأول ليَكُون الثَّانِي مُعَارضا للْأولِ وَلَو أظهرُوا ذَلِك لانتشر فسكوتهم عَن الْإِظْهَار الثَّابِت بِدَلِيل عدم الانتشار(1/308)
دَلِيل على الْمُوَافقَة
بِهَذَا الطَّرِيق أثبتنا كَون الْقُرْآن معجزا لِأَن الْعَرَب مَا عارضوا بِمثلِهِ وَلَو فعلوا لانتشر ذَلِك وعجزهم عَن الْمُعَارضَة بعد التحدي دَلِيل على أَنه معجز
فَإِن قيل فقد اشْتهر فَتْوَى النَّاس بِجَوَاز الْمُزَارعَة بعد أبي حنيفَة قولا وفعلا مَعَ سكُوت أَصْحَاب أبي حنيفَة عَن النكير وَلم يكن ذَلِك دَلِيل الْمُوَافقَة
قُلْنَا كَمَا انْتَشَر ذَلِك فقد انْتَشَر أَيْضا الْخلاف من أَصْحَاب أبي حنيفَة لمن أجَاز الْمُزَارعَة مُحَاجَّة ومناظرة وَإِنَّمَا تركُوا التشنيع على من يُبَاشر ذَلِك لِأَنَّهُ ظهر عِنْد النَّاس نوع رُجْحَان لقَوْل من أجازها فَأخذُوا بذلك وَذَلِكَ يمْنَع الْقَائِلين بفسادها من أَن يظهروا منع النَّاس من ذَلِك لعلمهم أَن النَّاس لَا يمتنعون بِاعْتِبَار مَا ظهر لَهُم بِمَنْزِلَة القَاضِي إِذا قضى فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يجب على الْمُجْتَهد الَّذِي يعْتَقد خِلَافه أَن يظْهر للنَّاس خطأ القَاضِي لعلمه أَن النَّاس لَا يَأْخُذُونَ بقوله ولاعتقاده أَن قَضَاء القَاضِي بِمَا قضى بِهِ نَافِذ وَأَن ذَلِك الْجَانِب ترجح بِالْقضَاءِ فَترك النكير على من يُبَاشر الْمُزَارعَة بِهَذِهِ المثابة
يُحَقّق مَا قُلْنَا إِن من عَادَة المتشاورين من الْعَوام فِي شَيْء يهمهم من أَمر الدُّنْيَا وَيتَعَلَّق بِهِ بعض مصالحهم أَن الْبَعْض إِذا أظهر فِيهِ رَأيا وَعند الْبَعْض خلاف ذَلِك فَإِنَّهُم لَا يمتنعون من إِظْهَار مَا عِنْدهم إِلَّا نَادرا وَلَا يبْنى الحكم على النَّادِر فَإِذا كَانَ هَذَا فِي أَمر الدُّنْيَا مَعَ أَن السُّكُوت عَن الْإِظْهَار يحل فِيهِ شرعا فَلِأَن يكون أَمر الدّين وَمَا يرجع إِلَى إِظْهَار حكم الله تَعَالَى بِهَذِهِ الصّفة حَتَّى يكون السُّكُوت فِيهِ دَلِيل الْوِفَاق كَانَ أولى فَكَذَلِك الْعَادة من حَال من يسمع مَا هُوَ مستبعد عَنهُ أَن لَا يمْتَنع من إِظْهَار النكير عِنْده بل يكون ذَلِك جلّ همه أَلا ترى أَنه لَو أخبر مخبر أَن الْخَطِيب يَوْم الْجُمُعَة لما صعد الْمِنْبَر رَمَاه إِنْسَان بِسَهْم فَقتله وَسمع ذَلِك مِنْهُ قوم شهدُوا الْجُمُعَة وَلم يعرفوا من ذَلِك شَيْئا فَإِنَّهُ لَا يكون فِي همتهم شَيْء أسبق من إِظْهَار الْإِنْكَار عَلَيْهِ وَقد بَينا أَن مَا عَلَيْهِ الْعَادة الظَّاهِرَة لَا يجوز تَركه فِي الْأَحْكَام فَتبين بِاعْتِبَار هَذِه الْعَادة أَن السُّكُوت دَلِيل الْمُوَافقَة وَنحن نعلم أَنه قد كَانَ عِنْد الصَّحَابَة أَن إِجْمَاعهم(1/309)
حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فَإِذا علم السَّاكِت هَذَا يفترض عَلَيْهِ بَيَان مَا عِنْده ليتَحَقَّق الْخلاف وَيخرج مَا اشْتهر من أَن يكون حكم الْحَادِثَة قطعا وَالسُّكُوت إِن لم يدل على الْمُوَافقَة فَلَا إِشْكَال أَنه لَا يدل على الْخلاف
وَمن هَذَا الْجِنْس مَا إِذا اخْتلفُوا فِي حَادِثَة على أقاويل محصورة فَإِن الْمَذْهَب عندنَا أَن هَذَا يكون دَلِيل الْإِجْمَاع مِنْهُم على أَنه لَا قَول فِي هَذِه الْحَادِثَة سوى هَذِه الْأَقَاوِيل حَتَّى لَيْسَ لأحد أَن يحدث فِيهِ قولا آخر بِرَأْيهِ
وَعند بَعضهم هَذَا من بَاب السُّكُوت الَّذِي هُوَ مُحْتَمل أَيْضا فَكَمَا لَا يدل على نفي الْخلاف لَا يدل على نفي قَول آخر فِي الْحَادِثَة فَإِن ذَلِك نوع تعْيين وَلَا يثبت بالمحتمل
وَلَكنَّا نقُول قد بَينا أَنهم إِذا اخْتلفُوا على أقاويل فَنحْن نعلم أَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم وَهَذَا بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص مِنْهُم على أَن مَا هُوَ الْحق حَقِيقَة فِي هَذِه الْأَقَاوِيل وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال
وَكَذَلِكَ هَذَا الحكم فِي اخْتِلَاف بَين أهل كل عصر إِلَّا على قَول بعض مَشَايِخنَا فَإِنَّهُم يَقُولُونَ هَذَا فِي أقاويل الصَّحَابَة خَاصَّة لما لَهُم من الْفضل والسابقة وَلَكِن الْمَعْنى الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ يُوجب الْمُسَاوَاة وعَلى هَذَا قَالُوا فِيمَا ظهر من بعض الْخُلَفَاء عَن الصَّحَابَة أَنه قَالَ فِي خطبَته على الْمِنْبَر وَلم يظْهر من أحد مِنْهُم خلاف لذَلِك فَإِن ذَلِك إِجْمَاع مِنْهُم بِهَذَا الطَّرِيق
وَقد قَالَ بعض من لَا يعبأ بقوله الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم قطعا لَا يكون إِلَّا فِي مثل مَا اتّفق عَلَيْهِ النَّاس من مَوضِع الْكَعْبَة وَمَوْضِع الصَّفَا والمروة وَمَا أشبه ذَلِك وَهَذَا ضَعِيف جدا فَإِنَّهُ يُقَال لهَذَا الْقَائِل بِأَيّ طَرِيق عرفت إِجْمَاع الْمُسلمين على هَذَا بطرِيق سماعك نصا من كل وَاحِد من آحادهم فَإِن قَالَ نعم ظهر للنَّاس كذبه وَإِن قَالَ لَا وَلَكِن بتنصيص الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ عَن إِظْهَار الْخلاف فَنَقُول كَمَا ثَبت بِهَذَا الطَّرِيق الْإِجْمَاع مِنْهُم على هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يشك فِيهَا أحد فَكَذَلِك ثَبت الْإِجْمَاع مِنْهُم بِهَذَا الطَّرِيق فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
فصل الْأَهْلِيَّة
زعم بعض النَّاس أَن الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم لَا يكون إِلَّا بِاتِّفَاق فرق الْأمة أهل الْحق وَأهل الضَّلَالَة جَمِيعًا لِأَن الْحجَّة إِجْمَاع الْأمة وَمُطلق اسْم الْأمة يتَنَاوَل الْكل(1/310)
فَأَما الْمَذْهَب عندنَا أَن الْحجَّة اتِّفَاق كل عَالم مُجْتَهد مِمَّن هُوَ غير مَنْسُوب إِلَى هوى وَلَا معلن بفسق فِي كل عصر لِأَن حكم الْإِجْمَاع إِنَّمَا يثبت بِاعْتِبَار وصف لَا يثبت إِلَّا بِهَذِهِ الْمعَانِي وَذَلِكَ صفة الوساطة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} وَهُوَ عبارَة عَن الْخِيَار الْعُدُول المرضيين وَصفَة الشَّهَادَة بقوله {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} فَلَا بُد من اعْتِبَار الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الشَّهَادَة وَصفَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ يُشِير إِلَى فَرضِيَّة الِاتِّبَاع فِيمَا يأمرون بِهِ وَينْهَوْنَ عَنهُ وَإِنَّمَا يفترض اتِّبَاع الْعدْل المرضي فِيمَا يَأْمر بِهِ وثبوته بطرِيق الْكَرَامَة على الدّين والمستحق للكرامات مُطلقًا من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة
فَأَما أهل الْأَهْوَاء فَمن يكفر فِي هَوَاهُ فاسم الْأمة لَا يتَنَاوَلهُ مُطلقًا وَلَا هُوَ مُسْتَحقّ للكرامة الثَّابِتَة للْمُؤْمِنين وَمن يضلل فِي هَوَاهُ إِذا كَانَ يَدْعُو النَّاس إِلَى مَا يَعْتَقِدهُ فَهُوَ يتعصب لذَلِك على وَجه يخرج بِهِ إِلَى صفة السَّفه والمجون فَيكون مُتَّهمًا فِي أَمر الدّين لَا مُعْتَبر بقوله فِي إِجْمَاع الْأمة وَلِهَذَا لم يعْتَبر خلاف الروافض فِي إِمَامَة أبي بكر وَلَا خلاف الْخَوَارِج فِي خلَافَة عَليّ
فَإِن كَانَ لَا يَدْعُو النَّاس إِلَى هَوَاهُ وَلكنه مَشْهُور بِهِ فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا فِيمَا يضلل هُوَ فِيهِ لَا مُعْتَبر بقوله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يضلل لمُخَالفَته نصا مُوجبا للْعلم فَكل قَول كَانَ بِخِلَاف النَّص فَهُوَ بَاطِل وَفِيمَا سوى ذَلِك يعْتَبر قَوْله وَلَا يثبت الْإِجْمَاع مَعَ مُخَالفَته لِأَنَّهُ من أهل الشَّهَادَة وَلِهَذَا كَانَ مَقْبُول الشَّهَادَة فِي الْأَحْكَام
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِن كَانَ مُتَّهمًا بالهوى وَلكنه غير مظهر لَهُ فَالْجَوَاب هَكَذَا فَأَما إِذا كَانَ مظْهرا لهواه فَإِنَّهُ لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع لِأَن الْمَعْنى الَّذِي لأَجله قبلت شَهَادَته لَا يُوجد هُنَا فَإِنَّهَا تقبل لانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب على مَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله قوم عظموا الذُّنُوب حَتَّى جعلوها كفرا لَا يتهمون بِالْكَذِبِ فِي الشَّهَادَة
وَهَذَا يدل على أَنهم لَا يؤتمنون فِي أَحْكَام الشَّرْع وَلَا يعْتَبر قَوْلهم فِيهِ فَإِن الْخَوَارِج هم الَّذين يَقُولُونَ إِن الذَّنب نَفسه كفر وَقد أكفروا أَكثر الصَّحَابَة الَّذين عَلَيْهِم مدَار أَحْكَام الشَّرْع وَإِنَّمَا عرفناها بنقلهم فَكيف يعْتَمد قَول هَؤُلَاءِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَأدنى مَا فِيهِ أَنهم لَا يتعلمون ذَلِك إِذا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كفر الناقلين
وَلَا مُعْتَبر بقول الْجُهَّال فِي الْأَحْكَام فَأَما من كَانَ محقا فِي اعْتِقَاده(1/311)
وَلكنه فَاسق فِي تعاطيه فالعراقيون يَقُولُونَ لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع أَيْضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل لأَدَاء الشَّهَادَة وَلِأَن التَّوَقُّف فِي قَوْله وَاجِب بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يَنْفِي وجوب الِاتِّبَاع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِذا كَانَ مُعْلنا لفسقه فَكَذَلِك الْجَواب لِأَنَّهُ لما لم يتحرز من إعلان مَا يَعْتَقِدهُ بَاطِلا فَكَذَلِك لَا يتحرز من إعلان قَول يعْتَقد بُطْلَانه بَاطِنا فَأَما إِذا لم يكن مظْهرا للفسق فَإِنَّهُ يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع وَإِن علم فسقه حَتَّى ترد شَهَادَته لِأَنَّهُ لَا يخرج بِهَذَا من الْأَهْلِيَّة للشَّهَادَة أصلا وَلَا من الْأَهْلِيَّة للكرامة بِسَبَب الدّين أَلا ترى أَنا نقطع القَوْل لمن يَمُوت مُؤمنا مصرا على فسقه أَنه لَا يخلد فِي النَّار فَإِذا كَانَ هُوَ أَهلا للكرامة بِالْجنَّةِ فِي الْآخِرَة فَكَذَلِك فِي الدُّنْيَا بِاعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع
فَأَما كَونه عَالما مُجْتَهدا فَهُوَ مُعْتَبر فِي الحكم الَّذِي يخْتَص بمعرفته وَالْحَاجة إِلَيْهِ الْعلمَاء وعَلى هَذَا قُلْنَا من يكون متكلما غير عَالم بأصول الْفِقْه والأدلة الشَّرْعِيَّة فِي الْأَحْكَام لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع
هَكَذَا نقل عَن الْكَرْخِي
وَكَذَلِكَ من يكون مُحدثا لَا بصر لَهُ فِي وُجُوه الرَّأْي وطرق المقاييس الشَّرْعِيَّة لَا يعْتد بقوله فِي الْإِجْمَاع لِأَن هَذَا فِيمَا يَبْنِي عَلَيْهِ حكم الشَّرْع بِمَنْزِلَة الْعَاميّ وَلَا يعْتد بقول الْعَاميّ فِي إِجْمَاع عُلَمَاء الْعَصْر لِأَنَّهُ لَا هِدَايَة لَهُ فِي الحكم الْمُحْتَاج إِلَى مَعْرفَته فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَجْنُون حَتَّى لَا يعْتد بمخالفته
ثمَّ قَالَ بعض الْعلمَاء الَّذين هم بِالصّفةِ الَّتِي قُلْنَا من أهل الْعَصْر مَا لم يبلغُوا حدا لَا يتَوَهَّم عَلَيْهِم التواطؤ على الْبَاطِل لَا يثبت الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم باتفاقهم أَلا ترى أَن حكم التَّوَاتُر لَا يثبت بخبرهم مَا لم يبلغُوا هَذَا الْحَد فَكَذَلِك حكم الْإِجْمَاع بقَوْلهمْ لِأَن بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت علم الْيَقِين
وَالأَصَح عندنَا أَنهم إِذا كَانُوا جمَاعَة وَاتَّفَقُوا قولا أَو فَتْوَى من الْبَعْض مَعَ سكُوت البَاقِينَ فَإِنَّهُ ينْعَقد الْإِجْمَاع بِهِ وَإِن لم يبلغُوا حد التَّوَاتُر بِخِلَاف الْخَبَر فَإِن ذَلِك مُحْتَمل للصدق وَالْكذب فَلَا بُد من مُرَاعَاة معنى يَنْتَفِي بِهِ تُهْمَة الْكَذِب بكثرتهم أَلا ترى أَن صفة الْعَدَالَة لَا تعْتَبر هُنَاكَ وَهَذَا إِظْهَار حكم ابْتِدَاء لَيْسَ فِيهِ من معنى احْتِمَال تُهْمَة الْكَذِب شَيْء إِنَّمَا فِيهِ توهم الْخَطَأ فَإِذا كَانُوا جمَاعَة فالأمن عَن ذَلِك ثَابت شرعا كَرَامَة لَهُم بِسَبَب الدّين وَصفَة الْعَدَالَة على مَا قَررنَا(1/312)
فَإِن قيل لَا يُؤمن على هَؤُلَاءِ إعلان الْفسق أَو الضَّلَالَة أَو الرِّدَّة مثلا بَعْدَمَا انْعَقَد الْإِجْمَاع مِنْهُم فَكيف يُؤمن الْخَطَأ بِاعْتِبَار اجْتِمَاعهم وَعَن هَذَا الْكَلَام جوابان لمشايخنا رَحِمهم الله أَحدهمَا أَنا لَا نجوز هَذَا على جَمَاعَتهمْ بَعْدَمَا كَانَ إِجْمَاعهم مُوجبا للْعلم فِي حكم الشَّرْع فَإِن الله تَعَالَى يعصمهم من ذَلِك لِأَن إِجْمَاعهم صَار بِمَنْزِلَة النَّص عَن صَاحب الشَّرِيعَة فَكَمَا أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن هَذَا نقطع القَوْل بِهِ لِأَن قَوْله مُوجب للْعلم فَكَذَلِك جمَاعَة الْعلمَاء إِذا ثَبت لَهُم هَذِه الدرجَة وَهُوَ أَن قَوْلهم مُوجب للْعلم كَرَامَة بِسَبَب الدّين
وَالثَّانِي أَنه وَإِن تحقق هَذَا مِنْهُم فَإِن الله تَعَالَى يُقيم آخَرين مقامهم ليَكُون الحكم ثَابتا بإجماعهم لِأَن الدّين مَحْفُوظ إِلَى قيام السَّاعَة على مَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله فَمَا يعْتَرض على الْأَوَّلين لَا يُؤثر فِي حكم الْإِجْمَاع لقِيَام أمثالهم مقامهم بِمَنْزِلَة مَوْتهمْ
وَقَالَ بعض الْعلمَاء الْإِجْمَاع الْمُوجب للْعلم لَا يكون إِلَّا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا خير النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنهم صحبوه وسمعوا مِنْهُ علم التَّنْزِيل والتأويل وَأثْنى عَلَيْهِم فِي آثَار مَعْرُوفَة فهم المختصون بِهَذِهِ الْكَرَامَة
وَهَذَا ضَعِيف عندنَا فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أثنى عَلَيْهِم فقد أثنى على من بعدهمْ فَقَالَ خير النَّاس قَرْني الَّذين أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فَفِي هَذَا بَيَان أَن أهل كل عصر يقومُونَ مقامهم فِي صفة الْخَيْرِيَّة إِذا كَانُوا على مثل اعْتِقَادهم والمعاني الَّتِي بيناها لإِثْبَات هَذَا الحكم بهَا من صفة الوساطة وَالشَّهَادَة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ لَا يخْتَص بِزَمَان وَلَا بِقوم وَثُبُوت هَذَا الحكم بِالْإِجْمَاع لتحقيق بَقَاء حكم الشَّرْع إِلَى قيام السَّاعَة وَذَلِكَ لَا يتم مَا لم يَجْعَل إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة كإجماع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
فَإِن قيل ف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله قَالَ بِخِلَاف هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ مَا جَاءَنَا عَن الصَّحَابَة اتبعناهم وَمَا جَاءَنَا عَن التَّابِعين زاحمناهم
قُلْنَا إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ من جملَة التَّابِعين(1/313)
فَإِنَّهُ رأى أَرْبَعَة من الصَّحَابَة أنس بن مَالك وَعبد الله بن أبي أوفى وَأَبُو الطُّفَيْل وَعبد الله بن حَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَقد كَانَ مِمَّن يجْتَهد فِي عهد التَّابِعين وَيعلم النَّاس حَتَّى نَاظر الشّعبِيّ فِي مَسْأَلَة النّذر بالمعصية فَمَا كَانَ ينْعَقد إِجْمَاعهم بِدُونِ قَوْله فَلهَذَا قَالَ ذَلِك لَا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى إِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة حجَّة
وَمن النَّاس من يَقُول الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ حجَّة إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة خَاصَّة لأَنهم أهل حَضْرَة الرَّسُول وَقد بَين رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خُصُوصِيَّة تِلْكَ الْبقْعَة فِي آثَار فَقَالَ إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الدَّجَّال لَا يدخلهَا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من أَرَادَ أَهلهَا بِسوء أذابه الله كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِن الْمَدِينَة تَنْفِي الْخبث كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد وَلَكِن مَا قَررنَا من الْمعَانِي لَا يخْتَص بمَكَان دون مَكَان
ثمَّ إِن كَانَ مُرَاد الْقَائِل أَهلهَا الَّذين كَانُوا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا لَا يُنَازع فِيهِ أحد وَإِن كَانَ المُرَاد أَهلهَا فِي كل عصر فَهُوَ قَول بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بقْعَة من الْبِقَاع الْيَوْم فِي دَار الْإِسْلَام قوم هم أقل علما وَأظْهر جهلا وَأبْعد عَن أَسبَاب الْخَيْر من الَّذين هم بِالْمَدِينَةِ فَكيف يستجاز القَوْل بِأَنَّهُ لَا إِجْمَاع فِي أَحْكَام الدّين إِلَّا إِجْمَاعهم وَالْمرَاد بالآثار حَال الْمَدِينَة فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين كَانَت الْهِجْرَة فَرِيضَة كَانَ الْمُسلمُونَ يَجْتَمعُونَ فِيهَا وَأهل الْخبث وَالرِّدَّة لَا يقرونَ فِيهَا وَقد تكون الْبقْعَة محروسة وَإِن كَانَ من يسكنهَا على غير الْحق أَلا ترى أَن مَكَّة كَانَت محروسة عَام الْفِيل مَعَ أَن أَهلهَا كَانُوا مُشْرِكين يَوْمئِذٍ
وَمن النَّاس من يَقُول لَا إِجْمَاع إِلَّا لعترة الرَّسُول لأَنهم المخصوصون بِقرَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَسْبَاب الْعِزّ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِنِّي تَارِك فِيكُم الثقلَيْن كتاب الله وعترتي إِن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدِي وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
الْمُوجب للْعلم بِاعْتِبَار نُصُوص ومعاني لَا يخْتَص ذَلِك بِأَهْل الْبَيْت وَالنّسب لَيْسَ من ذَلِك فِي شَيْء فالتخصيص بِهِ يكون زِيَادَة كَيفَ وَقد قَالَ تَعَالَى {وَاتبع}(1/314)
وَلَكنَّا نقُول أَنْوَاع الْكَرَامَة لأهل الْبَيْت مُتَّفق عَلَيْهِ وَلَكِن حكم الْإِجْمَاع سَبِيل من أناب إِلَيّ فَكل من كَانَ منيبا إِلَى ربه فَهُوَ دَاخل فِي هَذِه الْآيَة وَهُوَ مُرَاد بقوله تَعَالَى {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} كَمَا ذكرنَا من الِاسْتِدْلَال بِهِ
فصل الشَّرْط
زعم بعض النَّاس أَن انْقِرَاض الْعَصْر شَرط لثُبُوت حكم الْإِجْمَاع
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا لِأَن قبل انْقِرَاض الْعَصْر إِذا بدا لبَعْضهِم رَأْي خلاف رَأْي الْجَمَاعَة فَإِن مَا ظهر لَهُ فِي الِانْتِهَاء بِمَنْزِلَة الْمَوْجُود فِي الِابْتِدَاء وَلَو كَانَ مَوْجُودا لم ينْعَقد إِجْمَاعهم بِدُونِ قَوْله فَكَذَلِك إِذا اعْترض لَهُ ذَلِك وَلَا يَقع الْأَمْن عَن هَذَا إِلَّا بانقراض الْعَصْر على ذَلِك الْإِجْمَاع أَلا ترى أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُسَوِّي بَين النَّاس فِي العطايا وَكَانُوا لَا يخالفونه فِي ذَلِك ثمَّ فضل عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي العطايا فِي خِلَافَته وَلَا يظنّ بِهِ مُخَالفَة الْجَمَاعَة فَعرفنَا أَن بِدُونِ انْقِرَاض الْعَصْر لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ اتّفق رَأْيِي ورأي عمر على أَن أُمَّهَات الْأَوْلَاد لَا يبعن وأنهن أَحْرَار عَن دبر من الموَالِي ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن
فَلَو ثَبت الْإِجْمَاع قبل انْقِرَاض الْعَصْر لما استجاز خلاف الْإِجْمَاع بِرَأْيهِ
وَأما عندنَا انْقِرَاض الْعَصْر لَيْسَ بِشَرْط لِأَن الْإِجْمَاع لما انْعَقَد بِاعْتِبَار اجْتِمَاع مَعَاني الَّذِي قُلْنَا كَانَ الثَّابِت بِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وكما أَن الثَّابِت بِالنَّصِّ لَا يخْتَص بِوَقْت دون وَقت فَكَذَلِك الثَّابِت بِالْإِجْمَاع وَلَو شرطنا انْقِرَاض الْعَصْر لم يثبت الْإِجْمَاع أبدا لِأَن بعض التَّابِعين فِي عصر الصَّحَابَة كَانَ يزاحمهم فِي الْفَتْوَى فيتوهم أَن يَبْدُو لَهُ رَأْي بعد أَن لم يبْق أحد من الصَّحَابَة وَهَكَذَا فِي الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث فَيُؤَدِّي إِلَى سد بَاب حكم الْإِجْمَاع (أصلا) وَهَذَا بَاطِل
وَلَكنَّا نقُول بعد مَا ثَبت الْإِجْمَاع مُوجبا للْعلم باتفاقهم فَلَيْسَ لأحد أَن يظْهر خلاف ذَلِك بِرَأْيهِ لَا من(1/315)
أهل ذَلِك الْعَصْر وَلَا من غَيرهم كَمَا لَا يكون لَهُ أَن يُخَالف النَّص بِرَأْيهِ وَهَذَا بِخِلَاف رَأْيه قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَن الدَّلِيل الْمُوجب للْعلم لم يَتَقَرَّر هُنَاكَ فَكَانَ قَوْله مُعْتَبرا فِي منع انْعِقَاد الْإِجْمَاع
وَأما حَدِيث التَّسْوِيَة فِي الْعَطاء فقد كَانَ مُخْتَلفا فِي الِابْتِدَاء على مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لأبي بكر لَا تجْعَل من لَا سَابِقَة لَهُ فِي الْإِسْلَام كمن لَهُ سَابِقَة
فَقَالَ أَبُو بكر هم إِنَّمَا عمِلُوا لله فأجرهم على الله
فَتبين أَن هَذَا الْفَصْل كَانَ مُخْتَلفا فِي الِابْتِدَاء فَلهَذَا مَال عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى التَّفْضِيل
وَحَدِيث أُمَّهَات الْأَوْلَاد فالمروي أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ ثمَّ رَأَيْت أَن أرقهن
يَعْنِي أَن لَا أعتقهن بِمَوْت الْمولى حَتَّى يكون الْوَارِث أَو الْوَصِيّ هُوَ الْمُعْتق لَهَا كَمَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهر بعض الْآثَار المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ المُرَاد جَوَاز بيعهنَّ إِذْ لَيْسَ من ضَرُورَة الرّقّ جَوَاز البيع لَا محَالة
وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول شَرط الْإِجْمَاع أَن يجْتَمع عُلَمَاء الْعَصْر كلهم على حكم وَاحِد فَأَما إِذا اجْتمع أَكْثَرهم على شَيْء وَخَالفهُم وَاحِد أَو اثْنَان لم يثبت حكم الْإِجْمَاع
وَهَذَا قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبر بالقلة وَالْكَثْرَة فِي الْمَعْنى الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ حكم الْإِجْمَاع وبالاتفاق لَو كَانَ فريق مِنْهُم على قَول وفريق مثلهم على قَول آخر فَإِنَّهُ لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع فَكَذَلِك إِذا كَانَ أَكْثَرهم على قَول وَنَفر يسير مِنْهُم على خلاف ذَلِك لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو بكر الرَّازِيّ رَحمَه الله أَن الْوَاحِد إِذا خَالف الْجَمَاعَة فَإِن سوغوا لَهُ ذَلِك الِاجْتِهَاد لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله بِمَنْزِلَة خلاف ابْن عَبَّاس للصحابة فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين أَن للْأُم ثلث جَمِيع المَال وَإِن لم يسوغوا لَهُ الِاجْتِهَاد وأنكروا (عَلَيْهِ) قَوْله فَإِنَّهُ يثبت حكم الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله بِمَنْزِلَة قَول ابْن عَبَّاس فِي حل التَّفَاضُل فِي أَمْوَال الرِّبَا فَإِن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لم يسوغوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَاد حَتَّى رُوِيَ أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْلهم فَكَانَ الْإِجْمَاع ثَابتا بِدُونِ قَوْله وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الْإِمْلَاء لَو قضى القَاضِي(1/316)
بِجَوَاز بيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ لم ينفذ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالف للْإِجْمَاع
وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم يَعْنِي مَا عَلَيْهِ عَامَّة الْمُؤمنِينَ فَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن قَول الْوَاحِد لَا يُعَارض قَول الْجَمَاعَة ولأنا لَو شرطنا هَذَا أدّى إِلَى أَن لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع أبدا لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يكون فِي عُلَمَاء الْعَصْر وَاحِد أَو اثْنَان مِمَّن لم يسمع ذَلِك الْفَتْوَى أصلا وَمِمَّنْ يرى خلاف ذَلِك
وَإِنَّمَا كَانَ الْإِجْمَاع حجَّة بِاعْتِبَار ظُهُور وَجه الصَّوَاب فِيهِ بالاجتماع عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يظْهر هَذَا فِي قَول الْجَمَاعَة لَا فِي قَول الْوَاحِد أَلا ترى أَن قَول الْوَاحِد لَا يكون مُوجبا للْعلم وَإِن لم يكن بمقابلته جمَاعَة يخالفونه وَقَول الْجَمَاعَة مُوجب للْعلم إِذا لم يكن هُنَاكَ وَاحِد يخالفهم فَكَذَلِك مَعَ وجود هَذَا الْوَاحِد لِأَن قَوْله لَا يُعَارض قَوْلهم بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ على كل قَول جمَاعَة فهناك الْمُعَارضَة تتَحَقَّق وَالْمرَاد من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ إِذا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل مُوجبا للْعلم بِخِلَاف قَول من يَهْتَدِي بِهِ أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ هُنَاكَ نَص بِخِلَاف قَول الْوَاحِد لم يجز اتِّبَاعه وَلم يكن هَذَا الحَدِيث متناولا لَهُ
وَحكي عَن أبي حَازِم القَاضِي رَحمَه الله أَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِذا اتَّفقُوا على شَيْء فَذَلِك إِجْمَاع مُوجب للْعلم وَلَا يعْتد بِخِلَاف من خالفهم فِي ذَلِك لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَلِهَذَا لم يعْتَبر خلاف زيد للخلفاء فِي تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام وَأمر المعتصم برد الْأَمْوَال الَّتِي اجْتمعت فِي بَيت المَال مِمَّا أخذت من تركات فِيهَا ذَوُو الْأَرْحَام فَأنْكر ذَلِك عَلَيْهِ أَبُو سعيد البردعي رَحمَه الله وَقَالَ هَذَا شَيْء أمضى على قَول زيد فَقَالَ لَا أَعْتَد خلاف زيد فِي مُقَابلَة قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَقد قضيت بذلك فَلَيْسَ لأحد أَن يُبطلهُ بعدِي(1/317)
فصل الحكم
ذكر هِشَام عَن مُحَمَّد رحمهمَا الله الْفِقْه أَرْبَعَة مَا فِي الْقُرْآن وَمَا أشبهه وَمَا جَاءَت بِهِ السّنة وَمَا أشبههَا وَمَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة وَمَا أشبهه وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا وَمَا أشبهه
فَفِي هَذَا بَيَان أَن مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِالْكتاب وَالسّنة فِي كَونه مَقْطُوعًا بِهِ حَتَّى يكفر جاحده
وَهَذَا أقوى مَا يكون من الْإِجْمَاع فَفِي الصَّحَابَة أهل الْمَدِينَة وعترة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا خلاف بَين من يعْتد بقَوْلهمْ إِن هَذَا الْإِجْمَاع حجَّة مُوجبَة للْعلم قطعا فيكفر جاحده كَمَا يكفر جَاحد مَا ثَبت بِالْكتاب أَو بِخَبَر متواتر
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وتوهم الْخَطَأ لم يَنْعَدِم بإجماعهم أصلا فَإِن رَأْيهمْ لَا يكون فَوق رَأْي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ تَعَالَى {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} الْآيَة فَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَنه قد كَانَ وَقع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَطَأ فِي بعض مَا فعل بِهِ بِرَأْيهِ فَعرفنَا أَنه لَا يُؤمن الْخَطَأ فِي رَأْي دون رَأْيه أصلا قُلْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعْصُوما عَن التَّقْرِير على الْخَطَأ خُصُوصا فِي إِظْهَار أَحْكَام الدّين وَلِهَذَا كَانَ قَوْله مُوجبا علم الْيَقِين واتباعه فرض على الْأمة قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وسنقرر هَذَا الْكَلَام فِي مَوْضِعه (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) فَإِذا ثَبت هَذَا فِيمَا ثَبت بتنصيص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك فِيمَا يثبت بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فَإِنَّهُ لَا يبْقى فِيهِ توهم الْخَطَأ بعد إِجْمَاعهم حَتَّى يكفر جاحده
وَقَوله وَمَا أشبهه المُرَاد مِنْهُ أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا فِي حَادِثَة على أقاويل فَإِن ذَلِك اتِّفَاق(1/318)
مِنْهُم على أَنه لَا قَول سوى مَا ذكرُوا فِيهَا وَأَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم حَتَّى لَيْسَ لأحد بعدهمْ أَن يخترع قولا آخر بِرَأْيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الصَّحَابَة لما اخْتلفُوا فِي مِقْدَار جعل الْآبِق على أقاويل كَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا مِنْهُم على أَن الْحق لَا يعدو أقاويلهم فَلَيْسَ لأحد بعدهمْ أَن يخترع فِيهِ قولا آخر بِرَأْيهِ إِلَّا أَن هَذَا الْإِجْمَاع دون الأول فِي الحكم لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاسْتِدْلَال وَأَصله مسكوت عَنهُ فَلَا يكفر جاحده مثل هَذَا الْإِجْمَاع
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنكُمْ قُلْتُمْ فِيمَن قَالَ لامْرَأَته اخْتَارِي فَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا وَقعت تَطْلِيقَة بَائِنَة وَإِن اخْتَارَتْ زَوجهَا لم يَقع شَيْء وَقد كَانَت الصَّحَابَة فِيهَا على قَوْلَيْنِ سوى هَذَا ثمَّ اخترعتم قولا ثَالِثا برأيكم قُلْنَا مَا فعلنَا ذَلِك فَإِن الْكَرْخِي رَحمَه الله ذكر مَذْهَبنَا عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ فَلَيْسَ ذَلِك بِخُرُوج عَن أقاويلهم وَفِي قَوْله مَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا بَيَان أَن إِجْمَاع أهل كل عصر حجَّة وَلَكِن هَذَا فِي الحكم دون مَا سبق وَهُوَ بِمَنْزِلَة خبر مَشْهُور حَتَّى لَا يكفر جاحده وَلَكِن يجوز النّسخ بِهِ لِأَن بَين من يعْتد بقَوْلهمْ من الْعلمَاء اخْتِلَافا فِيهِ وَدون هَذَا بِدَرَجَة أَيْضا الْإِجْمَاع بعد الِاخْتِلَاف فِي الْحَادِثَة إِذا كَانَت مُخْتَلفا فِيهَا فِي عصر ثمَّ اتّفق أهل عصر آخر بعدهمْ على أحد الْقَوْلَيْنِ فقد قَالَ بعض الْعلمَاء هَذَا لَا يكون إِجْمَاعًا وَعِنْدنَا هُوَ إِجْمَاع وَلكنه بِمَنْزِلَة خبر الْوَاحِد فِي كَونه مُوجبا للْعَمَل غير مُوجب للْعلم
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَيخنَا (الإِمَام الْحلْوانِي رَحمَه الله) يَقُول هَذَا على قَول مُحَمَّد رَحمَه الله يكون إِجْمَاعًا فَأَما على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله لَا يكون إِجْمَاعًا فَإِن الرِّوَايَة مَحْفُوظَة عَن مُحَمَّد رَحمَه الله أَن قَضَاء القَاضِي بِجَوَاز بيع أم الْوَلَد بَاطِل وَقد كَانَ هَذَا مُخْتَلفا فِيهِ بَين الصَّحَابَة ثمَّ اتّفق من بعدهمْ على أَنه لَا يجوز بيعهَا فَكَانَ هَذَا قَضَاء بِخِلَاف الْإِجْمَاع عِنْد مُحَمَّد وعَلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله ينفذ قَضَاء القَاضِي بِهِ لشُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول وَلَا يثبت الْإِجْمَاع مَعَ وجود الِاخْتِلَاف فِي الصَّدْر الأول
قَالَ رَضِي الله عَنهُ(1/319)
وَالْأَوْجه عِنْدِي أَن هَذَا إِجْمَاع عِنْد أَصْحَابنَا جَمِيعًا للدليل الَّذِي دلّ على أَن إِجْمَاع أهل كل عصر إِجْمَاع مُعْتَبر وَإِنَّمَا ينفذ قَضَاء القَاضِي بِجَوَاز بيعهَا لشُبْهَة الِاخْتِلَاف فِي أَن مثل هَذَا هَل يكون إِجْمَاعًا فعلى اعْتِبَار هَذِه الشُّبْهَة يكون قَضَاؤُهُ فِي مُجْتَهد فِيهِ فَلهَذَا نفذه أَبُو حنيفَة رَحمَه الله
وَجه قَول الْفَرِيق الأول أَن الْحجَّة إِجْمَاع الْأمة وَالَّذِي كَانَ مُخَالفا فِي الصَّدْر الأول من الْأمة وبموته لَا يبطل قَوْله فَلَا يثبت الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله أَلا ترى أَنه لَو بَقِي حَيا إِلَى هَذَا الْوَقْت لم ينْعَقد الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله فَكَذَلِك إِذا كَانَ مَيتا لِأَن اعْتِبَار قَوْله لدليله لَا لِحَيَاتِهِ وَلِأَنَّهُ لَو ثَبت الْإِجْمَاع بعده لوَجَبَ القَوْل بتضليله وَلَا نظن أحدا يَقُول هَذَا لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي زوج وأبوين وَإِن أَجمعُوا بعده على خلاف قَوْله وَلَا لِابْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي تَقْدِيم ذَوي الْأَرْحَام على مولى الْعتَاقَة وَإِن أَجمعُوا بعده على خلاف قَوْله وَقد قُلْتُمْ إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت خلية وَنوى ثَلَاثًا ثمَّ وَطئهَا فِي الْعدة وَقَالَ علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام لَا يلْزمه الْحَد لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَرَاهَا تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة وَقد أَجمعُوا بعده على خلاف ذَلِك وَلِهَذَا صَحَّ نِيَّة الثَّلَاث فِيهِ فَدلَّ أَن الْإِجْمَاع لَا يثبت بِمثل هَذَا
وَجه قَوْلنَا إِن الْمُعْتَبر إِجْمَاع أهل كل عصر لما بَينا أَن الْمَقْصُود كَون أَحْكَام الشَّرْع مَحْفُوظَة وَأَن ثُبُوت هَذَا الحكم بِاعْتِبَار الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَذَلِكَ يخْتَص بِهِ الْأَحْيَاء من أهل الْعَصْر دون من مَاتَ قبلهم فَكَمَا أَن لَا يعْتَبر توهم قَول مِمَّن يَأْتِي بعدهمْ بِخِلَاف قَوْلهم فِي منع ثُبُوت حكم الْإِجْمَاع فَكَذَلِك لَا يعْتَبر قَول وَاحِد كَانَ قبلهم إِذا اجْتَمعُوا فِي عصرهم على خِلَافه وَيجْعَل هَذَا الْإِجْمَاع بِمَنْزِلَة التَّقْدِير من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَو عرض عَلَيْهِ الْفَتْوَى وَمَعْلُوم أَنه لَو عرض عَلَيْهِ فَقَالَ الصَّوَاب هَذَا فَإِنَّهُ تثبت الْحجَّة بِهِ وَلَا يضلل الْقَائِل بِخِلَافِهِ قبل هَذَا التَّنْصِيص فَكَذَلِك هُنَا لَا يضلل الْقَائِل بِخِلَافِهِ قبل هَذَا الْإِجْمَاع أَلا ترى أَن أهل قبَاء كَانُوا يصلونَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس بَعْدَمَا نزلت فَرضِيَّة التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة حَتَّى أَتَاهُم آتٍ فَأخْبرهُم واستداروا(1/320)
كَهَيْئَتِهِمْ وَجوز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاتهم لِأَن ذَلِك كَانَ قبل الْعلم بِالنَّصِّ النَّاسِخ وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يَقُول بِإِبَاحَة الْمُتْعَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى قَول الصَّحَابَة وَيثبت الْإِجْمَاع بِرُجُوعِهِ لَا محَالة وَلم يكن ذَلِك مُوجبا تضليله فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ قبل هَذَا
فَأَما مَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت خلية فَإِنَّمَا أسقطنا الْحَد هُنَاكَ بِالْوَطْءِ لَا لِأَن اتِّفَاق أهل الْعَصْر بعد الْخلاف لَيْسَ بِإِجْمَاع وَلَكِن للشُّبْهَة المتمكنة فِي هَذَا الْإِجْمَاع بِسَبَب اخْتِلَاف الْعلمَاء فَإِن الْحَد يسْقط بِأَدْنَى شُبْهَة وَالله أعلم بِالْحَقِيقَةِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب الْكَلَام فِي قبُول أَخْبَار الْآحَاد وَالْعَمَل بهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فُقَهَاء الْأَمْصَار رَحِمهم الله خبر الْوَاحِد الْعدْل حجَّة للْعَمَل بِهِ فِي أَمر الدّين وَلَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين
وَقَالَ بعض من لَا يعْتد بقوله خبر الْوَاحِد لَا يكون حجَّة فِي الدّين أصلا
وَقَالَ بعض أهل الحَدِيث يثبت بِخَبَر الْوَاحِد علم الْيَقِين مِنْهُم من اعْتبر فِيهِ عدد الشَّهَادَة ليَكُون حجَّة وَمِنْهُم من اعْتبر أقْصَى عدد الشَّهَادَة وَهُوَ الْأَرْبَعَة
فَأَما الْفَرِيق الأول استدلوا بقوله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَإِذا كَانَ خبر الْوَاحِد لَا يُوجب الْعلم لم يجز اتِّبَاعه وَالْعَمَل بِهِ بِهَذَا الظَّاهِر وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} وَخبر الْوَاحِد إِذا لم يكن مَعْصُوما عَن الْكَذِب (مُحْتَمل للكذب) والغلط فَلَا يكون حَقًا على الْإِطْلَاق وَلَا يجوز القَوْل بِإِيجَاب الْعَمَل بِهِ فِي الدّين وَقَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَمعنى الصدْق فِي خبر الْوَاحِد غير ثَابت إِلَّا بطرِيق الظَّن وَلِأَن خبر الْوَاحِد مُحْتَمل للصدق وَالْكذب وَالنَّص الَّذِي هُوَ مُحْتَمل لَا يكون مُوجبا للْعَمَل بِنَفسِهِ مَعَ أَن كل وَاحِد من المحتملين فِيهِ يجوز أَن يكون شرعا فَلِأَن لَا يجوز الْعَمَل بِمَا هُوَ مُحْتَمل للكذب وَالْكذب بَاطِل أصلا كَانَ أولى
وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا أُمُور الْمُعَامَلَات لِأَن الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حُقُوق الْعباد(1/321)
والعباد يعجزون عَن إِظْهَار كل حق لَهُم بطرِيق لَا يبْقى فِيهِ شكّ وشبهة فلأجل الضَّرُورَة جَوَّزنَا الِاعْتِمَاد فِيهَا على خبر الْوَاحِد وَلِهَذَا سقط اعْتِبَار اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِيهِ أَيْضا فَأَما هُنَا الثَّابِت مَا هُوَ حق لله وَالله مَوْصُوف بِكَمَال الْقُدْرَة يتعالى عَن أَن يلْحقهُ ضَرُورَة أَو عجز عَن إِظْهَار حُقُوقه بِمَا لَا يبْقى فِيهِ شكّ وشبهة فَلهَذَا لَا يَجْعَل الْمُحْتَمل للصدق وَالْكذب حجَّة فِيهِ
وعَلى هَذَا تخرج الشَّهَادَات أَيْضا فَإِن الْقيَاس فِيهَا أَن لَا يكون حجَّة مَعَ بَقَاء احْتِمَال الْكَذِب تَرَكْنَاهُ بالنصوص وبالمعنى الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ أَنَّهَا مَشْرُوعَة لإِثْبَات حُقُوق الْعباد وَالْحَاجة إِلَيْهَا تتجدد للعباد فِي كل وَقت وهم يعجزون عَن إِثْبَات كل حق لَهُم بِمَا لَا يكون مُحْتملا وَلِأَن القَوْل بِمَا قُلْتُمْ يُؤَدِّي إِلَى أَن يزْدَاد دَرَجَة الْمخبر الَّذِي هُوَ غير مَعْصُوم عَن الْكَذِب على الْمخبر الْمَعْصُوم عَن الْكَذِب يَعْنِي من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فَإِن خَبره فِي أول أمره إِنَّمَا كَانَ وَاجِب الْقبُول باقتران المعجزات بِهِ فَمن يَقُول بِأَن خبر غَيره يكون مَقْبُولًا من غير دَلِيل يقْتَرن بِهِ فقد زَاد دَرَجَة هَذَا الْمخبر على دَرَجَة الرَّسُول وَأي قَول أظهر فَسَادًا من هَذَا وَلَا خلاف أَن أصل الدّين كالتوحيد وصفات الله وَإِثْبَات النُّبُوَّة لَا يكون إِلَّا بطرِيق يُوجب الْعلم قطعا وَلَا يكون فِيهِ شكّ وَلَا شُبْهَة فَكَذَلِك فِيمَا يكون من أَمر الدّين
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس} الْآيَة فَفِي هَاتين الْآيَتَيْنِ نهى لكل وَاحِد عَن الكتمان وَأمر بِالْبَيَانِ على مَا هُوَ الحكم فِي الْجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة أَنه يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُم وَلِأَن أَخذ الْمِيثَاق من أصل الدّين وَالْخطاب للْجَمَاعَة بِمَا هُوَ أصل الدّين يتَنَاوَل كل وَاحِد من الْآحَاد وَمن ضَرُورَة توجه الْأَمر بالإظهار على كل وَاحِد أَمر السَّامع بِالْقبُولِ مِنْهُ وَالْعَمَل بِهِ إِذْ أَمر الشَّرْع لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة حميدة وَلَا فَائِدَة فِي النَّهْي عَن الكتمان وَالْأَمر بِالْبَيَانِ سوى هَذَا
وَلَا يدْخل عَلَيْهِ الْفَاسِق فَإِنَّهُ دَاخل فِي عُمُوم الْأَمر بِالْبَيَانِ ثمَّ لَا يقبل بَيَانه فِي الدّين لِأَنَّهُ مَخْصُوص من هَذَا النَّص بِنَصّ آخر وَهُوَ مَا فِيهِ أَمر بالتوقف فِي خبر الْفَاسِق ثمَّ هُوَ مزجور عَن اكْتِسَاب سَبَب الْفسق مَأْمُور بِالتَّوْبَةِ عَنهُ ثمَّ يَتَرَتَّب الْبَيَان عَلَيْهِ فعلى هَذَا الْوَجْه بَيَانه يُفِيد وجوب القَوْل وَالْعَمَل بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} الْآيَة والفرقة اسْم للثَّلَاثَة فَصَاعِدا فالطائفة من الْفرْقَة(1/322)
بَعْضهَا وَهُوَ الْوَاحِد أَو الِاثْنَان فَفِي أَمر الطَّائِفَة بالتفقه وَالرُّجُوع إِلَى قَومهمْ للإنذار كي يحذروا تنصيص على أَن الْقبُول وَاجِب على السامعين من الطَّائِفَة وَأَنه يلْزمهُم الحذر بإنذار الطَّائِفَة وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِالْحجَّةِ وَلَا يُقَال الطَّائِفَة اسْم للْجَمَاعَة لِأَن الْمُتَقَدِّمين اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الطَّائِفَة
قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب هُوَ اسْم للْوَاحِد
وَقَالَ عَطاء اسْم للاثنين
وَقَالَ الزُّهْرِيّ لثَلَاثَة
وَقَالَ الْحسن لعشرة فَيكون هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُم أَن الِاسْم يحْتَمل أَن يتَنَاوَل كل وَاحِد من هَذِه الْأَعْدَاد وَلم يقل أحد بِالزِّيَادَةِ على الْعشْرَة وَمَعْلُوم أَن بِخَبَر الْعشْرَة لَا يَنْتَفِي توهم الْكَذِب وَلَا يخرج من أَن يكون مُحْتملا فَعرفنَا أَنه لَا يشْتَرط لوُجُوب الْعَمَل كَون الْمخبر بِحَيْثُ لَا يبْقى فِي خَبره تُهْمَة الْكَذِب
ثمَّ الْأَصَح مَا قَالَه مُحَمَّد بن كَعْب فقد قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة} الْوَاحِد فَصَاعِدا وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} نقل فِي سَبَب النُّزُول أَنَّهُمَا كَانَا رجلَيْنِ وَفِي سِيَاق الْآيَة مَا يدل عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {فأصلحوا بَينهمَا} وَلم يقل بَينهم وَقَالَ {فأصلحوا بَين أخويكم} فقد سمي الرجلَيْن طائفتين
فَإِن قيل هَذَا بعيد فَإِن هَاء التَّأْنِيث لَا تلْحق بنعت الْوَاحِد من الذُّكُور
قُلْنَا هَذَا عِنْد ذكر الرجل فَأَما عِنْد ذكر النَّعْت يصلح للفرد من الذُّكُور وَالْإِنَاث فللعرب عَادَة فِي إِلْحَاق هَاء التَّأْنِيث بِهِ وَكتاب الله يشْهد بِهِ قَالَ تَعَالَى {وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء} وَالْمرَاد الْوَاحِد لَا من الْإِنَاث خَاصَّة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {وَلَو كَانَ ذَا قربى}
فَإِن قيل هَذَا خطاب لجَمِيع الطوائف بالإنذار وهم يبلغون حد التَّوَاتُر وَيكون خبرهم مستفيضا مشتهرا
قُلْنَا لَا كَذَلِك فالجمع الْمُضَاف إِلَى جمَاعَة يتَنَاوَل كل وَاحِد مِنْهُم كَقَوْل الْقَائِل لبس الْقَوْم ثِيَابهمْ وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} مَا يدل على مَا قُلْنَا لِأَن الرُّجُوع إِنَّمَا يتَحَقَّق مِمَّن كَانَ خَارِجا من الْقَوْم ثمَّ صَار قادما عَلَيْهِم وإتيان جَمِيع الطوائف إِلَى كل قوم للإنذار لَا يكون رُجُوعا إِلَيْهِم مَعَ أَن هَذَا لَو كَانَ شرطا لبينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم وكلفهم أَن يفعلوه وَلَو فَعَلُوهُ(1/323)
لاشتهر وَلم ينْقل شَيْء من ذَلِك فِي الْآثَار وَالَّذِي يتَحَقَّق بهم الْإِجْمَاع للدوران للإنذار لَا يَنْقَطِع توهم الْكَذِب عَن خبرهم لبَقَاء احْتِمَال التواطؤ بَينهم فَكَانَ الِاسْتِدْلَال قَائِما وَإِن ساعدناهم على هَذَا التَّأْوِيل
فَإِن قيل عندنَا الرَّاجِع إِلَى كل فريق مَأْمُور بالإنذار بِمَا سَمعه لِقَوْمِهِ وَإِن لم يكن عَلَيْهِم أَن يقبلُوا ذَلِك مِنْهُ بل الْمَقْصُود أَن يشْتَهر ذَلِك وَعند الاشتهار تَنْتفِي تُهْمَة الْكَذِب فَتَصِير حجَّة حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الْوَاحِد فَإِنَّهُ مَأْمُور بأَدَاء الشَّهَادَة وَإِن كَانَ الْعَمَل بِشَهَادَتِهِ لَا يجب مَا لم يتم الْعدَد بِشَاهِد آخر وَتظهر الْعَدَالَة بالتزكية
قُلْنَا الشَّاهِد إِذا كَانَ وَحده فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَدَاء الشَّهَادَة لِأَن ذَلِك لَا ينفع الْمُدَّعِي وَرُبمَا يضر بِالشَّاهِدِ فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة لوُجُوب الْعَمَل لما وَجب الْإِنْذَار بِمَا سمع ثمَّ لما ثَبت بِالنَّصِّ أَنه مَأْمُور بالإنذار ثَبت أَنه يجب الْقبُول مِنْهُ لِأَنَّهُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُورا بالإنذار ثمَّ كَانَ قَوْله ملزما للسامعين كَيفَ وَقد بَين الله تَعَالَى حكم الْقبُول وَالْعَمَل بِهِ فِي إِشَارَة بقوله {لَعَلَّهُم يحذرون} أَي لكَي يحذروا عَن الرَّد والامتناع عَن الْعَمَل بعد لُزُوم الْحجَّة إيَّاهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} وَالْأَمر بالحذر لَا يكون إِلَّا بعد توجه الْحجَّة
فَدلَّ أَن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل وَلِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} وَقد بلغ الرسَالَة بِلَا خلاف وَمَعْلُوم يَقِينا أَنه مَا أَتَى كل أحد فَبَلغهُ مشافهة وَلكنه بلغ قوما بِنَفسِهِ وَآخَرين برَسُول أرسل إِلَيْهِم وَآخَرين بِكِتَاب وَكتابه إِلَى مُلُوك الْآفَاق مَشْهُور لَا يُمكن إِنْكَاره فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة لما كَانَ مبلغا رسالات ربه بِهَذَا الطَّرِيق إِلَى النَّاس كَافَّة وَقد فتحت الْبلدَانِ النائية على عَهده كاليمن والبحرين وَهُوَ مَا أَتَاهُم بِنَفسِهِ وَلكنه بعث عَاملا إِلَى كل نَاحيَة ليعلمهم الْأَحْكَام على مَا هُوَ سير الْمُلُوك الْيَوْم فِي بعث الْعمَّال إِلَى الْبلدَانِ لأجل أُمُور الدُّنْيَا فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة فِي أُمُور الدّين لما اكْتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حق الَّذين آمنُوا وَكَانُوا بالبعد من(1/324)
حَضرته وَكَذَلِكَ المخدرات فِي بُيُوتهنَّ لم يحضرن مَجْلِسه فِي كل حَادِثَة وَلَكِن أَزوَاجهنَّ كَانُوا يسمعُونَ أَحْكَام الدّين من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيرجعون إلَيْهِنَّ ويعلمونهن فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة لكلفهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِتْيَان إِلَيْهِ للسماع مِنْهُ وَلَو فعل ذَلِك لاشتهر وَلَا يُقَال إِنَّمَا اكْتفى بذلك لِأَن من بَعثه رَسُول الله معلما إِلَى قوم لَا يَقُول لَهُم إِلَّا مَا هُوَ حق صدق فَكَانَ ذَلِك كَرَامَة لرَسُول الله وَلَا يُوجد مثل ذَلِك فِي حق غَيرهم من المخبرين لِأَنَّهُ لَو كَانَ بِهَذِهِ الصّفة لنقل هَذَا السَّبَب كَرَامَة لَهُم ولأعقابهم أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين خص وَاحِدًا من الصَّحَابَة بِشَيْء اشْتهر ذَلِك بِالنَّقْلِ نَحْو قَوْله فِي حَنْظَلَة رَضِي الله عَنهُ إِن الْمَلَائِكَة غسلته وَفِي جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ إِن لَهُ جناحين يطير بهما فِي الْجنَّة
ثمَّ كَمَا أَن من بَعثه رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خَلِيفَته فِي التَّبْلِيغ فَكل من سمع شَيْئا فِي أَمر الدّين فَهُوَ خَلِيفَته فِي التَّبْلِيغ مَأْمُور من جِهَته بِالْبَيَانِ كالمبعوث لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَلا فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب وَلقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله امْرأ سمع منا مقَالَة فوعاها كَمَا سَمعهَا ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من يسْمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى مَا هُوَ أفقه مِنْهُ فَيَنْبَغِي أَن يثبت ترجح جَانب الصدْق فِي خبر كل عدل أَيْضا كَرَامَة لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام
وَفِي قَوْله (فَرب حَامِل فقه) بَيَان أَن مَا يخبر بِهِ الْوَاحِد فقه وَالْفِقْه فِي الدّين مَا يكون حجَّة ولأنا نعلم أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل الطَّعَام وَمَا كَانَ يزرع بِنَفسِهِ ليتيقن بِصفة الْحل فِيمَا يَأْكُلهُ وَقد كَانَ مَأْمُورا بِأَكْل الطّيب قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات} وَرُبمَا كَانَ يهدي إِلَيْهِ على مَا رُوِيَ أَن سلمَان رَضِي الله عَنهُ أهدي إِلَيْهِ طبقًا من رطب وَأَن بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَت تهدي إِلَيْهِ وَكَانَ يدعى إِلَى طَعَام فَلَو لم يكن خبر الْوَاحِد حجَّة للْعَمَل بِهِ فِي حق الله تَعَالَى لما اعْتمد ذَلِك فِيمَا يَأْكُلهُ وَلَا يُقَال كَانَ يعلم من طَرِيق الْوَحْي حل مَا يتَنَاوَلهُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ منتظر الْوَحْي عِنْد أكله أَلا ترى أَنه تنَاول لقْمَة من الشَّاة المصلية(1/325)
فَلَمَّا لم يسغها سَأَلَ عَن شَأْنهَا فَأخْبر بذلك فَأمر بالتصدق بهَا وَتَنَاول لقْمَة من الشَّاة المسمومة فَعرفنَا أَنه مَا كَانَ ينْتَظر الْوَحْي عِنْد كل أَكلَة
وَالَّذِي يُؤَيّد مَا قُلْنَا حكم الشَّهَادَات فَإِن الله تَعَالَى أَمر القَاضِي بِالْقضَاءِ بِالشَّهَادَةِ وَمَعْلُوم أَن الِاحْتِمَال يبْقى بعد شَهَادَة شَاهِدين فَلَو كَانَ شَرط وجوب الْعَمَل بالْخبر انْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب من كل وَجه لما وَجب على القَاضِي الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاء هَذَا الِاحْتِمَال
فَإِن قيل الشَّهَادَات لإِظْهَار حُقُوق الْعباد وَقد بَينا أَن هَذَا الشَّرْط غير مُعْتَبر فِيمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد
قُلْنَا كَمَا يجب الْقَضَاء بِمَا هُوَ من حُقُوق الْعباد عِنْد أَدَاء الشَّهَادَة يجب الْقَضَاء بِمَا هُوَ من حُقُوق الله تَعَالَى كَحَد الشّرْب وَالسَّرِقَة وَالزِّنَا ثمَّ وجوب الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ من حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى إِذا امْتنع من غير عذر يفسق وَإِذا لم ير ذَلِك أصلا يكفر إِلَّا أَن سَببه حق العَبْد وَبِه لَا يخرج من أَن يكون حَقًا لله تَعَالَى كَالزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تجب حَقًا لله تَعَالَى بِسَبَب مَال هُوَ حق العَبْد
وَقد يَتَرَتَّب على خبر الْوَاحِد فِي الْمُعَامَلَات مَا هُوَ حق الله تَعَالَى نَحْو الْإِخْبَار بِطَهَارَة المَاء ونجاسته والإخبار بِأَن هَذَا الشَّيْء أهداه إِلَيْك فلَان وَأَن فلَانا وكلني بِبيع هَذَا الشَّيْء فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب على هَذَا كُله مَا هُوَ حق الله تَعَالَى وَهُوَ إِبَاحَة التَّنَاوُل فَإِن الْحل وَالْحُرْمَة من حق الله وَلَا يظنّ بِأحد أَنه لَا يرى الِاعْتِمَاد فِي مثل هَذَا على خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ يتَعَذَّر بِهِ على النَّاس الْوُصُول إِلَى حوائجهم أَلا ترى أَنه وَإِن أخبرهُ أَن الْعين ملكه بِبيعِهِ فَمن الْجَائِز أَنه غَاصِب وَإِذا ألجأته الضَّرُورَة إِلَى التَّسْلِيم فِي هَذَا يُقَاس عَلَيْهِ مَا سواهُ
ويتبين بِهِ فَسَاد اشْتِرَاط انْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب عَن الْخَبَر للْعَمَل بِهِ فِيمَا هُوَ من حق الله تَعَالَى وَبِهَذَا يتَبَيَّن خطأ من زعم أَن هَذَا عمل بِغَيْر علم فَإِنَّهُ عندنَا عمل بِعلم هُوَ ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر وَلكنه غير مَقْطُوع بِهِ وَقد سمى الله تَعَالَى مثله علما فَقَالَ {وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا} وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك سَمَاعا من مخبر أخْبرهُم بِهِ وَقَالَ {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِاعْتِبَار غَالب الرَّأْي واعتماد نوع من الظَّاهِر فَدلَّ على أَن مثله علم لَا ظن إِنَّمَا الظَّن عِنْد خبر الْفَاسِق وَلِهَذَا أَمر الله بالتوقف فِي خَبره وَبَين الْمَعْنى فِيهِ بقوله {أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة}(1/326)
فَيكون ذَلِك بَيَانا أَن من اعْتمد خبر الْعدْل فِي الْعَمَل بِهِ يكون مصيبا بِعلم لَا بِجَهَالَة إِلَّا أَن ذَلِك (علم) بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَن عَدَالَته ترجح جَانب الصدْق فِي خَبره وَإِذا كَانَ هَذَا النَّوْع من الظَّاهِر يصلح حجَّة للْقَضَاء بِهِ فَلِأَن يصلح حجَّة للْعَمَل بِهِ فِي أَمر الدّين كَانَ أولى لِأَن هَذَا الحكم أسْرع ثبوتا أَلا ترى أَن بِالْقِيَاسِ يثبت وَمَعْلُوم أَن هَذَا الِاحْتِمَال فِي الْقيَاس أظهر وَالْقِيَاس دون خبر الْوَاحِد وَمن لَا يجوز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد هُنَا يفزع إِلَى الْقيَاس فَكيف يَسْتَقِيم ترك الْعَمَل بِمَا هُوَ أقوى لبَقَاء احْتِمَال فِيهِ والفزع إِلَى مَا هُوَ دونه وَهَذَا الِاحْتِمَال فِيهِ أظهر فَإِن قيل هَذَا سَهْو فَإِن الْكَلَام فِي إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء وَالْقِيَاس لَا يصلح لنصب الحكم ابْتِدَاء وَإِنَّمَا ذَلِك بِالسَّمَاعِ مِمَّن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَقد كَانَ مَعْصُوما عَن مثل هَذَا الِاحْتِمَال فِي خَبره فَعرفنَا أَنه لَا يثبت الحكم ابْتِدَاء إِلَّا بِخَبَر يضاهي السماع مِنْهُ وَذَلِكَ بِأَن يبلغ حد التَّوَاتُر إِلَّا أَن فِي الْقَضَاء تركنَا هَذَا الشَّرْط لضَرُورَة بِالنَّاسِ فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إِلَى إِظْهَار حُقُوقهم بِالْحجَّةِ عِنْد القَاضِي وَلَا يتمكنون من مثل هَذَا الْخَبَر فِي كل حق يجب لبَعْضهِم على بعض
قُلْنَا رَضِينَا بِهَذَا الْكَلَام ونقول حاجتنا إِلَى معرفَة أَحْكَام الدّين وَحُقُوق الله تَعَالَى علينا لنعمل بِهِ مثل حَاجَة من كَانَ فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَتِهِ وَكَانُوا يسمعُونَ مِنْهُ وَمَعْلُوم أَن بعد تطاول الزَّمَان لَا يُوجد مثل هَذَا الْخَبَر فِي كل حكم من أَحْكَام الشَّرْع فَوَجَبَ أَن يَجْعَل خبر الْوَاحِد فِيهِ حجَّة للْعَمَل بِاعْتِبَار الظَّاهِر لتحَقّق الْحَاجة إِلَيْهِ كَمَا جعل مثل هَذِه الْحَاجة مُعْتَبرا فِي وجوب الْقَضَاء على القَاضِي بِالشَّهَادَةِ مَعَ بَقَاء الِاحْتِمَال مَعَ أَنه لَيْسَ الطَّرِيق مَا قَالُوا فِي بَاب الْقَضَاء فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسمع الْخُصُومَة فِي حُقُوق الْعباد وَيَقْضِي بالشهادات والأيمان وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ أَقْْضِي بِمَا أسمع فَمن قضيت لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه فَكَأَنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار وَمَعْلُوم أَن مثل هَذِه الضَّرُورَة مَا كَانَ يتَحَقَّق فِي حَقه فقد كَانَ الْوَحْي ينزل عَلَيْهِ وَلَو كَانَ توهم الْكَذِب(1/327)
فِي شَهَادَة الشُّهُود يمْنَع بِثُبُوت الْعلم فِي (حق) الْعَمَل بِشَهَادَتِهِم لما قضى رَسُول الله بِالشَّهَادَةِ قطّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَمَكنًا من الْقَضَاء بِعلم وَذَلِكَ بِأَن ينْتَظر نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ فَمَا كَانَ يجوز لَهُ أَن يقْضِي بِغَيْر علم وَقد نقل قضاياه مَشْهُورا بالشهادات والأيمان فَهُوَ دَلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا
والْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد أَكثر من أَن تحصى وَأشهر من أَن تخفى ذكر مُحَمَّد رَحمَه الله بَعْضهَا فِي الِاسْتِحْسَان وَأورد أَكْثَرهَا عِيسَى بن أبان رَحمَه الله مستدلا بِجَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَلَكنَّا لم نشتغل بهَا لشهرتها ولعلمنا أَن الْخُصُوم يتعنتون فَيَقُولُونَ كَيفَ يحتجون على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بالآحاد من الْأَخْبَار وَهُوَ نفس الْخلاف فَلهَذَا اشتغلنا بالاستدلال بِمَا هُوَ شبه المحسوس فَكَأَن عِيسَى ابْن أبان إِنَّمَا اسْتدلَّ بهَا لكَونهَا مَشْهُورَة فِي حيّز التَّوَاتُر وَلِأَن الْعَمَل بِالْقِيَاسِ جَائِز فِيمَا لَا نَص فِيهِ ثَبت ذَلِك بِاتِّفَاق الصَّحَابَة وَخبر الْوَاحِد أقوى من الْقيَاس لِأَن الْمَعْمُول بِهِ وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا شُبْهَة فِيهِ وَإِنَّمَا الشُّبْهَة فِي طَرِيق الِاتِّصَال بِهِ وَفِي الْقيَاس الشُّبْهَة وَالِاحْتِمَال فِي الْمَعْنى الْمَعْمُول بِهِ وَالطَّرِيق فيهمَا غَالب الرَّأْي فَكَانَ جَوَاز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ دَلِيلا على جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِالطَّرِيقِ الأولى
يقرره أَن الْعَاميّ إِذا سَأَلَ الْمُفْتِي حادثته فَأفْتى بِشَيْء يلْزمه الْعَمَل بِهِ وَلَو سَأَلَهُ عَن اعْتِقَاده فِي ذَلِك فَأخْبر أَنه مُعْتَقد لما يفتيه بِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْتَمد قَوْله وَفِيه احْتِمَال السَّهْو وَالْكذب وَلَكِن بِاعْتِبَار فقهه يتَرَجَّح جَانب الْإِصَابَة وَبِاعْتِبَار عَدَالَته يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِيهِ فَيجب الْعَمَل بِهِ فَكَذَلِك فِيمَا يخبر بِهِ الْعدْل لِأَن جَانب الصدْق يتَرَجَّح بِظُهُور عَدَالَته وَمَا قَالُوا إِن فِي هَذَا إِثْبَات زِيَادَة دَرَجَة لخَبر غير الْمَعْصُوم على خبر الْمَعْصُوم غلط بَين فَإِن الْحَاجة إِلَى ظُهُور المعجزات لثُبُوت علم الْيَقِين بنبوته وليكون خَبره مُوجبا علم الْيَقِين وَلَا يثبت مثل ذَلِك بِخَبَر مثل هَذَا الْمخبر أَلا ترى أَن الْعَمَل بِخَبَر الْمخبر فِي الْمُعَامَلَات جَائِز عدلا كَانَ أَو فَاسِقًا إِذا وَقع فِي قلب السَّامع أَنه صَادِق وَلَا يكون فِي(1/328)
هَذَا قولا بِزِيَادَة خَبره على خبر الْمَعْصُوم عَن الْكَذِب
وَأما من قَالَ بِأَن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم فقد اسْتدلَّ بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِمعَاذ حِين وَجهه إِلَى الْيمن ثمَّ أعلمهم أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِم صَدَقَة فِي أَمْوَالهم وَمرَاده الْإِعْلَام بالإخبار وَأما إِذا لم يكن خبر الْوَاحِد مُوجبا للْعلم للسامع لَا يكون ذَلِك إعلاما وَلِأَن الْعَمَل يجب بِخَبَر الْوَاحِد وَلَا يجب الْعَمَل إِلَّا بِعلم قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ فِي نبأ الْفَاسِق {أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة} وضد الْجَهَالَة الْعلم وضد الْفسق الْعَدَالَة فَفِي هَذَا بَيَان أَن الْعلم إِنَّمَا لَا يَقع بِخَبَر الْفَاسِق وَأَنه يثبت بِخَبَر الْعدْل
ثمَّ قد يثبت بالآحاد من الْأَخْبَار مَا يكون الحكم فِيهِ الْعلم فَقَط نَحْو عَذَاب الْقَبْر وسؤال مُنكر وَنَكِير ورؤية الله تَعَالَى بالأبصار فِي الْآخِرَة فَبِهَذَا وَنَحْوه يتَبَيَّن أَن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعلم
وَلَكنَّا نقُول هَذَا الْقَائِل كَأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ الْفرق بَين سُكُون النَّفس وطمأنينة الْقلب وَبَين علم الْيَقِين فَإِن بَقَاء احْتِمَال الْكَذِب فِي خبر غير الْمَعْصُوم معاين لَا يُمكن إِنْكَاره وَمَعَ الشُّبْهَة وَالِاحْتِمَال لَا يثبت الْيَقِين وَإِنَّمَا يثبت سُكُون النَّفس وطمأنينة الْقلب بترجح جَانب الصدْق بِبَعْض الْأَسْبَاب وَقد بَينا فِيمَا سبق أَن علم الْيَقِين لَا يثبت بالمشهور من الْأَخْبَار بِهَذَا الْمَعْنى فَكيف يثبت بِخَبَر الْوَاحِد وطمأنينة الْقلب نوع علم من حَيْثُ الظَّاهِر فَهُوَ المُرَاد بقوله (ثمَّ أعلمهم) وَيجوز الْعَمَل بِاعْتِبَارِهِ كَمَا يجوز الْعَمَل بِمثلِهِ فِي بَاب الْقبْلَة عِنْد الِاشْتِبَاه وينتفي بِاعْتِبَار مُطلق الْجَهَالَة لِأَنَّهُ يتَرَجَّح جَانب الصدْق بِظُهُور الْعَدَالَة بِخِلَاف خبر الْفَاسِق فَإِنَّهُ يتَحَقَّق فِيهِ الْمُعَارضَة من غير أَن يتَرَجَّح أحد الْجَانِبَيْنِ
فَأَما الْآثَار المروية فِي عَذَاب الْقَبْر وَنَحْوهَا فبعضها مَشْهُورَة وَبَعضهَا آحَاد وَهِي توجب عقد الْقلب عَلَيْهِ والابتلاء بِعقد الْقلب على الشَّيْء بِمَنْزِلَة الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ بِهِ أَو أهم فَإِن ذَلِك لَيْسَ من ضرورات الْعلم قَالَ تَعَالَى {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم} وَقَالَ تَعَالَى {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} فَتبين أَنهم تركُوا عقد الْقلب على ثُبُوته بعد الْعلم بِهِ وَفِي هَذَا بَيَان أَن هَذِه الْآثَار لَا تنفك عَن معنى وجوب(1/329)
الْعَمَل بهَا
ويحكى عَن النظام أَن خبر الْوَاحِد عِنْد اقتران بعض الْأَسْبَاب بِهِ مُوجب للْعلم ضَرُورَة
قَالَ أَلا ترى أَن من مر بِبَاب فَرَأى آثَار غسل الْمَيِّت وَسمع عجوزا تخرج من الدَّار وَهِي تَقول مَاتَ فلَان فَإِنَّهُ يعلم مَوته ضَرُورَة بِهَذَا الْخَبَر لاقتران هَذَا السَّبَب بِهِ
قَالَ وَهُوَ علم يحدثه الله تَعَالَى فِي قلب السَّامع بِمَنْزِلَة الْعلم للسامع بِخَبَر التَّوَاتُر إِذْ لَيْسَ فِي التَّوَاتُر إِلَّا مَجْمُوع الْآحَاد وَيجوز القَوْل بِأَن الله تَعَالَى يحدثه فِي قلب بعض السامعين دون الْبَعْض كَمَا أَنه يحدث الْوَلَد بِبَعْض الْوَطْء دون الْبَعْض
وَهَذَا قَول بَاطِل فَإِن مَا يكون ثَابتا ضَرُورَة لَا يخْتَلف النَّاس فِيهِ بِمَنْزِلَة الْعلم الْوَاقِع بالمعاينة وَالْعلم الْوَاقِع بِخَبَر التَّوَاتُر
ثمَّ فِي هَذَا إبِْطَال أَحْكَام الشَّرْع من الرُّجُوع إِلَى الْبَينَات والأيمان عِنْد تعَارض الدعْوَة وَالْإِنْكَار والمصير إِلَى اللّعان عِنْد قذف الزَّوْج زَوجته فَإِن الْقَرَائِن من أبين الْأَسْبَاب وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يكون خبر الزَّوْج مُوجبا الْعلم ضَرُورَة فَلَا يجوز للْقَاضِي عِنْد ذَلِك أَن يصير إِلَى اللّعان وَكَذَلِكَ فِي سَائِر الْخُصُومَات يَنْبَغِي أَن ينْتَظر إِلَى أَن يحصل لَهُ علم الضَّرُورَة بِخَبَر المخبرين فَيعْمل بِهِ واقتران المعجزات بأخبار الرُّسُل من أقوى الْأَسْبَاب
ثمَّ الْعلم الْحَاصِل بِالنُّبُوَّةِ يكون كسبيا لَا ضَرُورِيًّا فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا لأحد أَن يَقُول إِن بِخَبَر الْوَاحِد يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ بِحَال من الْأَحْوَال
فَإِن قيل فقد قُلْتُمْ الْآن إِن من جحد الرسَالَة فَإِنَّمَا جحد بعد الْعلم بهَا فَدلَّ أَن الْعلم الضَّرُورِيّ كَانَ ثَابتا بالْخبر
قُلْنَا إِنَّمَا كَانَ ذَلِك من قوم متعنتين عرفُوا نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبوته من كِتَابهمْ ثمَّ جَحَدُوا عنادا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} وَلَا يظنّ أحد أَن جَمِيع الْكفَّار كَانُوا عَالمين بذلك ضَرُورَة ثمَّ تواطؤا على الْجُحُود على ذَلِك لِأَن فِي هَذَا القَوْل نفي الْعلم بِخَبَر التَّوَاتُر فَإِن ثُبُوت الْعلم بِهِ بِاعْتِبَار انْتِفَاء تُهْمَة التواطؤ فَكيف يجوز إِثْبَات علم الضَّرُورِيّ عِنْد خبر الْوَاحِد بطرِيق يدل على نفي الْعلم بِخَبَر التَّوَاتُر وبمثله(1/330)
يتَبَيَّن عوار المبطلين وَالله ولي الْمُتَّقِينَ
فَأَما خبر الْمخبر بِالْمَوْتِ إِنَّمَا يُوجب سُكُون النَّفس وطمأنينة الْقلب أَلا ترى أَنه إِذا شككه آخر بقوله اختفى صَاحب الدَّار من السُّلْطَان فأظهر هَذَا تشكك فِيهِ وَلَو كَانَ الثَّابِت لَهُ علما ضَرُورِيًّا لما تشكك فِيهِ بِخَبَر الْوَاحِد
وَأما من شَرط عدد الشَّهَادَة اسْتدلَّ فِيهِ بالنصوص الْوَارِدَة فِي بَاب الشَّهَادَات فَإِن الشَّرْع اعْتبر ذَلِك لثُبُوت الْعلم على وَجه يجب الْعَمَل بِهِ فَعرفنَا أَن بِدُونِ ذَلِك لَا يثبت الْعلم على وَجه يجب الْعَمَل بِهِ فِي خبر متميل بَين الصدْق وَالْكذب
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ حِين شهد عِنْده الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أطْعم الْجدّة السُّدس قَالَ ائْتِ بِشَاهِد آخر فَشهد مَعَه مُحَمَّد بن مسلمة رَضِي الله عَنهُ وَلما روى أَبُو مُوسَى لعمر خبر الاسْتِئْذَان فَقَالَ ائْتِ بِشَاهِد آخر فَشهد مَعَه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنْهُم
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس رَضِي الله عَنْهَا لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث أبي سِنَان الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي مهر الْمثل مَاذَا نصْنَع بقول أَعْرَابِي بوال على عقبه فِي هَذَا بَيَان أَنهم كَانُوا لَا يقبلُونَ خبر الْوَاحِد وَكَانُوا يعتبرون لطمأنينة الْقلب عدد الشَّهَادَة كَمَا كَانُوا يعتبرون لذَلِك صفة الْعَدَالَة وَمن بَالغ فِي الِاحْتِيَاط فقد اعْتبر أقْصَى عدد الشَّهَادَة لِأَن مَا دون ذَلِك مُحْتَمل وَتَمام الرجحان عِنْد انْقِطَاع الِاحْتِمَال بِحَسب الْإِمْكَان
وَلَكنَّا نستدل بقوله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} وَمَعْلُوم أَن هَذَا النَّعْت لكل مُؤمن فَهُوَ تنصيص على أَن قَول كل مُؤمن فِي بَاب الدّين يكون أمرا بِالْمَعْرُوفِ ونهيا عَن الْمُنكر وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك إِذا كَانَ يجب الْعَمَل بِمَا يَأْمر بِهِ من الْمَعْرُوف فاشتراط الْعدَد فِي الْأَمريْنِ يكون زِيَادَة
وَجَمِيع مَا ذكرنَا حجَّة على هَؤُلَاءِ وَلَا حجَّة لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذكرُوا فَإِن هَذِه الْآثَار إِنَّمَا تكون حجَّة لَهُم إِذا أثبتوا النَّقْل فِيهَا من اثْنَيْنِ عَن اثْنَيْنِ حَتَّى اتَّصل بهم لِأَن(1/331)
بِدُونِ ذَلِك لَا تقوم الْحجَّة عِنْدهم وَلَا يتَمَكَّن أحد من إِثْبَات هَذَا فِي شَيْء من أَخْبَار الْآحَاد
ثمَّ إِنَّمَا طلب أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ شَاهدا آخر من الْمُغيرَة لِأَنَّهُ شكّ فِي خَبره بِاعْتِبَار معنى وقف عَلَيْهِ أَو بِاعْتِبَار أَنه أخبر أَن هَذَا الْقَضَاء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِمحضر من الْجَمَاعَة فَأحب أَن يستثبت لذَلِك
وَكَذَلِكَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا أَمر أَبَا مُوسَى أَن يَأْتِي بِشَاهِد آخر لِأَنَّهُ أخبر بِمَا تعم بِهِ الْبلوى فَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته فَأحب أَن يستثبته وَلَو لم يَأْتِ بِشَاهِد آخر لَكَانَ يقبل حَدِيثه أَيْضا
وَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَنه لَا يقبل حَدِيثه لَو لم يَأْتِ بِشَاهِد آخر فِي ذَلِك الْوَقْت لِأَن فِي الروَاة يَوْمئِذٍ كَثْرَة فَكَانَ لَا تتَحَقَّق الضَّرُورَة فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد وَمثله لَا يُوجد بعد تطاول الزَّمَان
وَلَكِن الْأَصَح هُوَ الأول وَعَلِيهِ نَص مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الِاسْتِحْسَان فَقَالَ لَو لم يَأْتِ بِشَاهِد آخر لَكَانَ يقبل حَدِيثه أَيْضا أَلا ترى أَنه قبل حَدِيث ضحاك بن سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ فِي تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا وَقبل حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله عَنهُ فِي الطَّاعُون حِين رَجَعَ من الشَّام وَقبل حَدِيثه أَيْضا فِي أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس وَلم يطْلب مِنْهُ شَاهدا آخر وَإِنَّمَا لم يقبل حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس لكَونه مُخَالفا للْكتاب وَالسّنة فَإِن السُّكْنَى لَهَا مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي قَوْله {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم} وَهِي قَالَت وَلم يَجْعَل لي رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نَفَقَة وَلَا سُكْنى وَإِنَّمَا لم يقبل عَليّ رَضِي الله عَنهُ حَدِيث أبي سِنَان لمَذْهَب لَهُ كَانَ ينْفَرد بِهِ وَهُوَ أَنه كَانَ لَا يقبل رِوَايَة الْأَعْرَاب وَكَانَ يحلف الرَّاوِي إِذا روى لَهُ حَدِيثا إِلَّا أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَلا ترى أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ لما لم يكن هَذَا من مذْهبه قبل حَدِيث أبي سِنَان وسر بِهِ وَبَاب الشَّهَادَات لَيْسَ نَظِير بَاب الْأَخْبَار بالِاتِّفَاقِ فَفِي الشَّهَادَة كل امْرَأتَيْنِ تقومان مقَام رجل وَاحِد وَفِي الْأَخْبَار الرِّجَال وَالنِّسَاء سَوَاء
وَلَكِن نقُول اشْتِرَاط الْعدَد فِي الشَّهَادَات عَرفْنَاهُ بِالنَّصِّ من غير أَن يعقل فِيهِ معنى فَإِن الْعلم الْحَاصِل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل لَا يزْدَاد بانضمام مثله إِلَيْهِ وَانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب لَا يحصل أَيْضا بنصاب الشَّهَادَة فَعرفنَا أَن ذَلِك مِمَّا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَالْوَاجِب علينا فِيهِ اتِّبَاع النَّص وَبَاب(1/332)
الْأَخْبَار لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَلا ترى أَنه لَا اخْتِصَاص فِي بَاب الْأَخْبَار بِلَفْظ الشَّهَادَة وَلَا بِمَجْلِس الْقَضَاء وَأَن الشَّهَادَات الْمُوجبَة للْقَضَاء تخْتَص بذلك
وَكَذَلِكَ حكم الْأَخْبَار لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْمخبر بِهِ من أَحْكَام الدّين وتختلف باخْتلَاف الْمَشْهُود بِهِ فَيثبت بعض الْأَحْكَام بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وَلَا يثبت الْبَعْض وَيثبت الْبَعْض بِشَهَادَة امْرَأَة وَاحِدَة وَقد جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة خُزَيْمَة رَضِي الله عَنهُ حجَّة تَامَّة
وسنقرر هَذَا الْكَلَام فِي الْفَصْل الثَّانِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل فِي بَيَان أَقسَام مَا يكون خبر الْوَاحِد فِيهِ حجَّة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه أَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا أَحْكَام الشَّرْع الَّتِي هِيَ فروع الدّين فِيمَا يحْتَمل النّسخ والتبديل فَإِنَّهَا وَاجِبَة لله تَعَالَى علينا يلْزمنَا أَن ندين بهَا
وَهِي نَوْعَانِ مَا لَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ كالعبادات وَغَيرهَا وَخبر الْوَاحِد الْعدْل حجَّة فِيهَا لإِيجَاب الْعَمَل من غير اشْتِرَاط عدد وَلَا لفظ بل بأوصاف تشْتَرط فِي الْمخبر على مَا نبينه وَهَذَا لِأَن الْمُعْتَبر فِيهِ رُجْحَان جَانب الصدْق لَا انْتِفَاء احْتِمَال الْكَذِب وَذَلِكَ حَاصِل من غير عدد وَلَا تعْيين لفظ وَلَيْسَ لزِيَادَة الْعدَد وَتَعْيِين اللَّفْظ تَأْثِير فِي انْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب وَالصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا يقبلُونَ مثل هَذِه الْأَخْبَار من الْوَاحِد لإِيجَاب الْعَمَل من غير اشْتِرَاط زِيَادَة الْعدَد إِلَّا على سَبِيل الِاحْتِيَاط من بَعضهم نَحْو مَا رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يحلف الرَّاوِي على مَا قَالَ كنت إِذا لم أسمع حَدِيثا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحَدثني بِهِ غَيره حلفته وحَدثني أَبُو بكر وَصدق أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ مَا أذْنب عبد ذَنبا ثمَّ تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء وَصلى ثمَّ اسْتغْفر ربه إِلَّا غفر لَهُ فَفِي هَذَا بَيَان أَنه كَانَ يحْتَاط فَيحلف الرَّاوِي وَمَا كَانَ يشْتَرط زِيَادَة الْعدَد وَلَا تعْيين لفظ الشَّهَادَة فَلَو كَانَ ذَلِك شرطا لاستوى فِيهِ المتقدمون والمتأخرون كَمَا فِي الشَّهَادَات فِي الْأَحْكَام
وَأما مَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ فقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله فِي الأمالي أَن خبر الْوَاحِد فِيهِ حجَّة أَيْضا وَهُوَ اخْتِيَار الْجَصَّاص رَحمَه الله وَكَانَ الْكَرْخِي رَحمَه(1/333)
الله يَقُول خبر الْوَاحِد فِيهِ لَا يكون حجَّة
وَجه القَوْل الأول أَن الْمُعْتَبر فِي خبر الْوَاحِد ليَكُون حجَّة ترجح جَانب الصدْق وَعند ذَلِك يكون الْعَمَل بِهِ وَاجِبا فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَفِيمَا يثبت بِالشُّبُهَاتِ كَمَا فِي الْبَينَات وَلَو كَانَ مُجَرّد الِاحْتِمَال مَانِعا للْعَمَل فِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ لم يجز الْعَمَل فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ
وَكَذَلِكَ يجوز الْعَمَل فِيهَا بِدلَالَة النَّص مَعَ بَقَاء الِاحْتِمَال
وَوجه القَوْل الآخر أَن فِي اتِّصَال خبر الْوَاحِد بِمن يكون قَوْله حجَّة مُوجبَة للْعلم شُبْهَة وَمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ لَا يجوز إثْبَاته بِمَا فِيهِ شُبْهَة أَلا ترى أَنه لَا يجوز إثْبَاته بِالْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَوَّزنَا إثْبَاته بالشهادات بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم} وَمَا كَانَ ثَابتا بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس لَا يلْحق بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ من كل وَجه وَخبر الْوَاحِد لَيْسَ فِي معنى الشَّهَادَة من كل وَجه
وَالْقسم الثَّانِي حُقُوق الْعباد الَّتِي فِيهَا إِلْزَام مَحْض ويشترك فِيهَا أهل الْملَل وَهَذَا لَا يثبت بِخَبَر الْوَاحِد إِلَّا بِشَرْط الْعدَد وَتَعْيِين لفظ الشَّهَادَة والأهلية وَالْولَايَة لِأَنَّهَا تبتنى على منازعات متحققة بَين النَّاس بعد التَّعَارُض بَين الدَّعْوَى وَالْإِنْكَار وَإِنَّمَا شرعت مرجحة لأحد الْجَانِبَيْنِ فَلَا يصلح نفس الْخَبَر مرجحا للْخَبَر إِلَّا بِاعْتِبَار زِيَادَة توكيد من لفظ شَهَادَة أَو يَمِين فهما للتوكيد أَلا ترى أَن كَلِمَات اللّعان شرع فِيهَا لفظ الشَّهَادَة وَالْيَمِين للتوكيد وَزِيَادَة الْعدَد أَيْضا للتوكيد وطمأنينة الْقلب إِلَى قَول الْمثنى أظهر إِذْ الْوَاحِد يمِيل إِلَى الْوَاحِد عَادَة قَلما يتَّفق الِاثْنَان على الْميل إِلَى الْوَاحِد فِي حَادِثَة وَاحِدَة وَلِأَن الْخُصُومَات إِنَّمَا تقع بِاعْتِبَار الهمم الْمُخْتَلفَة للنَّاس والمصير إِلَى التزوير والاشتغال بالحيل والأباطيل فِيهَا ظَاهر فَجَعلهَا الشَّرْع حجَّة بِشَرْط زِيَادَة الْعدَد وَتَعْيِين لفظ الشَّهَادَة تقليلا لِمَعْنى الْحِيَل والتزوير فِيهَا بِحَسب وسع الْقُضَاة
وَلَيْسَ هَذَا نَظِير الْقسم الأول فَإِن السَّامع هُنَاكَ حَاجته إِلَى الدَّلِيل للْعَمَل بِهِ لَا إِلَى رفع دَلِيل مَانع وَخبر الْوَاحِد بِاعْتِبَار حسن الظَّن بالراوي دَلِيل صَالح لذَلِك فَأَما(1/334)
فِي المنازعات فالحاجة إِلَى رفع مَا مَعَه من الدَّلِيل وَهُوَ الْإِنْكَار الَّذِي هُوَ معَارض لدعوى الْمُدَّعِي فاشتراط الزِّيَادَة فِي الْخَبَر هُنَا لهَذَا الْمَعْنى
وَمن الْقسم الأول الشَّهَادَة على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان إِذا كَانَ بالسماء عِلّة فالثابت بِهِ حق الله تَعَالَى على عباده وَهُوَ أَدَاء الصَّوْم
وَمن الْقسم الثَّانِي الشَّهَادَة على هِلَال الْفطر فالثابت بِهِ حق الْعباد لِأَن فِي الْفطر مَنْفَعَة لَهُم وَهُوَ مُلْزم إيَّاهُم
وَمن ذَلِك أَيْضا الْإِخْبَار بِالْحُرْمَةِ بِسَبَب الرَّضَاع فِي ملك النِّكَاح أَو ملك الْيَمين فَإِنَّهُ يبتني على زَوَال الْملك لِأَن ثُبُوت الْحل لَا يكون بِدُونِ الْملك فانتفاؤه يُوجب انْتِفَاء الْملك وَالْملك من حُقُوق الْعباد فَإِن كَانَ الْحل وَالْحُرْمَة من حُقُوق الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار بِالْحُرْمَةِ فِي الْأمة فَإِن حُرْمَة الْفرج وَإِن كَانَ من حق الله تَعَالَى فثبوتها يبتني على زَوَال الْملك الَّذِي هُوَ حق الْعباد فَلَا يكون خبر الْوَاحِد حجَّة فِيهَا بِدُونِ شَرَائِط الشَّهَادَة بِخِلَاف الْخَبَر بِطَهَارَة المَاء ونجاسته وَالْخَبَر بِحل الطَّعَام وَالشرَاب وحرمته فَإِن ذَلِك من الْقسم الأول لِأَن ثُبُوت الْملك لَيْسَ من ضَرُورَة ثُبُوت الْحل فِيهِ وَزَوَال الْحل لَا يبتنى على زَوَال الْملك فِيهِ ضَرُورَة
وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ التَّزْكِيَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا هِيَ من الْقسم الأول لَا يعْتَبر فِيهَا الْعدَد وَلَا لفظ الشَّهَادَة لِأَن الثَّابِت بهَا تقرر الْحجَّة وَجَوَاز الْقَضَاء وَذَلِكَ حق الشَّرْع وَعند مُحَمَّد رَحمَه الله هُوَ نَظِير الْقسم الثَّانِي فِي اشْتِرَاط الْعدَد فِيهَا لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بهَا مَا هُوَ حق الْعباد وَهُوَ اسْتِحْقَاق الْقَضَاء للْمُدَّعِي بِحقِّهِ
وَالْقسم الثَّالِث الْمُعَامَلَات الَّتِي تجْرِي بَين الْعباد مِمَّا لَا يتَعَلَّق بهَا اللُّزُوم أصلا وَخبر الْوَاحِد فِيهَا حجَّة إِذا كَانَ الْمخبر مُمَيّزا عدلا كَانَ أَو غير عدل صَبيا كَانَ أَو بَالغا كَافِرًا كَانَ أَو مُسلما وَذَلِكَ نَحْو الوكالات والمضاربات وَالْإِذْن للعبيد فِي التِّجَارَة وَالشِّرَاء من الوكلاء والملاك حَتَّى إِذا أخبرهُ صبي مُمَيّز أَو كَافِر أَو فَاسق أَن فلَانا وَكله أَو أَن مَوْلَاهُ أذن لَهُ فَوَقع فِي قلبه أَنه صَادِق يجوز لَهُ أَن يشْتَغل بِالتَّصَرُّفِ بِنَاء على خَبره فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقبل هَدِيَّة الطَّعَام من الْبر التقي وَغَيره وَكَانَ يَشْتَرِي من الْكَافِر أَيْضا والمعاملات بَين النَّاس فِي الْأَسْوَاق من(1/335)
لدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا ظَاهر لَا يخفى على وَاحِد مِنْهُم لَا يشترطون الْعَدَالَة فِيمَن يعاملونه وَأَنَّهُمْ يعتمدون خبر كل مُمَيّز يُخْبِرهُمْ بذلك لما فِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة فِيهِ من الْحَرج الْبَين
وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين مَا سبق من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الضَّرُورَة (هُنَا) تتَحَقَّق بِالْحَاجةِ إِلَى قبُول خبر كل مُمَيّز لِأَن الْإِنْسَان قَلما يجد الْعدْل ليَبْعَثهُ إِلَى غُلَامه أَو وَكيله وَلَا دَلِيل مَعَ السَّامع سوى هَذَا الْخَبَر وَلَا يتَمَكَّن من الرُّجُوع إِلَيْهِ للْعَمَل وَكَذَلِكَ الْمُتَصَرف مَعَ الْوَكِيل فَإِن أقْصَى مَا يُمكنهُ أَن يرجع إِلَى الْمُوكل وَلَعَلَّه غَاصِب غير مَالك أَيْضا وللضرورة تَأْثِير فِي التَّخْفِيف وَلَا يتَحَقَّق مثل هَذِه الضَّرُورَة فِي الْأَخْبَار فِيمَا يرجع إِلَى أَحْكَام الشَّرْع لِأَن فِي الْعُدُول من الروَاة كَثْرَة ويتمكن السَّامع من الرُّجُوع إِلَى دَلِيل آخر يعْمل بِهِ إِذا لم يَصح الْخَبَر عِنْده وَهُوَ الْقيَاس الصَّحِيح
وَالثَّانِي وَهُوَ أَن هَذِه الْأَخْبَار غير ملزمة لِأَن العَبْد وَالْوَكِيل يُبَاح لَهما الْإِقْدَام على التَّصَرُّف من غير أَن يلْزمهُمَا ذَلِك وَاشْتِرَاط الْعَدَالَة ليترجح جَانب الصدْق من الْخَبَر فيصلح أَن يكون ملزما وَذَلِكَ فِيمَا يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم من أَحْكَام الشَّرْع دون مَا لَا يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم من الْمُعَامَلَات
ثمَّ هَذِه الْحَالة حَالَة المسالمة وَاشْتِرَاط زِيَادَة الْعدَد وَاللَّفْظ فِي الشَّهَادَة إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار الْمُنَازعَة وَالْخُصُومَة فَيسْقط اعْتِبَار ذَلِك عِنْد المسالمة
وعَلى هَذَا بنى الْمسَائِل فِي آخر الِاسْتِحْسَان فَقَالَ إِذا قَالَ كَانَ هَذَا الْعين لي فِي يَد فلَان غصبا فأخذتها مِنْهُ لم يجز للسامع أَن يعْتَمد خَبره لِأَنَّهُ فِي خَبره يُشِير إِلَى الْمُنَازعَة
وَلَو قَالَ تَابَ من غصبه فَرده على جَازَ أَن يعْتَمد خَبره إِذا وَقع فِي قلبه أَنه صَادِق لِأَنَّهُ يُشِير إِلَى المسالمة
وَكَذَلِكَ لَو تزوج امْرَأَة فَأخْبرهُ مخبر بِأَنَّهَا حرمت عَلَيْهِ بِسَبَب عَارض من رضَاع أَو غَيره يجوز لَهُ أَن يعْتَمد خَبره ويتزوج أُخْتهَا
وَلَو أخبرهُ أَنَّهَا كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ عِنْد العقد لم يقبل خَبره لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُرْمَة الطارئة معنى الْمُنَازعَة وَفِي الْمُقَارنَة للْعقد يتَحَقَّق ذَلِك فإقدامه على مُبَاشرَة العقد تَصْرِيح مِنْهُ بِأَنَّهَا حَلَال لَهُ
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة إِذا أخْبرت بِأَن الزَّوْج طَلقهَا وَهُوَ غَائِب يجوز لَهَا أَن تعتمد خبر الْمخبر وتتزوج بعد انْقِضَاء الْعدة بِخِلَاف مَا إِذا أخْبرت أَن العقد كَانَ بَينهمَا بَاطِلا فِي الأَصْل بِمَعْنى من الْمعَانِي
والمسائل على هَذَا الأَصْل كَثِيرَة(1/336)
وَالْقسم الرَّابِع مَا يتَعَلَّق بِهِ اللُّزُوم من وَجه دون وَجه من الْمُعَامَلَات وَذَلِكَ نَحْو الْحجر على العَبْد الْمَأْذُون وعزل الْوَكِيل فَإِن الْحجر نَظِير الْإِطْلَاق فَمن هَذَا الْوَجْه هُوَ غير مُلْزم إِيَّاه شَيْئا وَلكنه لَو تصرف بعد ثُبُوت الْحجر كَانَ ذَلِك ملزما إِيَّاه الْعهْدَة فَفِي هَذَا الْخَبَر معنى اللُّزُوم من هَذَا الْوَجْه
ثمَّ على قَول أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ يشْتَرط فِي هَذَا الْخَبَر أحد شرطي الشَّهَادَة إِمَّا الْعدَد أَو الْعَدَالَة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد هَذَا نَظِير مَا سبق وَالشّرط فِيهِ أَن يكون الْمخبر مُمَيّزا عدلا كَانَ أَو غير عدل حَتَّى إِذا أخبر فَاسق العَبْد بِأَن مَوْلَاهُ قد حجر عَلَيْهِ يصير مَحْجُورا عِنْدهمَا اعْتِبَارا للحجر بِالْإِطْلَاقِ فَالْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِيهِ مَوْجُود هُنَا وَقِيَاسًا للمخبر الْفُضُولِيّ على مَا إِذا كَانَ رَسُول الْمولى
وَكَذَلِكَ إِذا أخبر الْوَكِيل بِأَن الْمُوكل عَزله أَو أخْبرت الْبكر بِأَن وَليهَا زَوجهَا فَسَكَتَتْ أَو أخبر الشَّفِيع بِبيع الدَّار فَسكت عَن طلب الشُّفْعَة أَو أخبر الْمولى بِأَن عَبده جنى فَأعْتقهُ ف أَبُو حنيفَة يَقُول فِي هَذِه الْفُصُول كلهَا خبر الْفَاسِق غير مُعْتَبر إِذا نَشأ الْخَبَر من عِنْده لِأَن فِيهِ معنى اللُّزُوم فَإِنَّهُ يلْزمه الْكَفّ عَن التَّصَرُّف إِذا أخبرهُ بِالْحجرِ والعزل ويلزمها النِّكَاح إِذا سكتت بعد الْعلم والكف عَن طلب الشُّفْعَة إِذا سكت بعد الْعلم وَالدية إِذا أعتق بعد الْعلم بِالْجِنَايَةِ
وَخبر الْفَاسِق لَا يكون ملزما لِأَن التَّوَقُّف فِي خبر الْفَاسِق ثَابت بِالنَّصِّ وَمن ضَرُورَته أَن لَا يكون ملزما بِخِلَاف الرَّسُول فَإِن عِبَارَته كعبارة الْمُرْسل ثمَّ بالمرسل حَاجَة إِلَى تَبْلِيغ ذَلِك وقلما يجد عدلا يَسْتَعْمِلهُ فِي الْإِرْسَال إِلَى عَبده ووكيله
فَأَما الْفُضُولِيّ فمتكلف لَا حَاجَة بِهِ إِلَى هَذَا التَّبْلِيغ وَالسَّامِع غير مُحْتَاج إِلَيْهِ أَيْضا لِأَنَّهُ مَعَه دَلِيل يعتمده للتَّصَرُّف إِلَى أَن يبلغهُ مَا يرفعهُ فَلهَذَا شرطنا الْعَدَالَة فِي الْخَبَر فِي هَذَا الْقسم وَلَا يشْتَرط الْعدَد لِأَن اشْتِرَاطهَا لأجل مُنَازعَة متحققة وَذَلِكَ غير مَوْجُود هُنَا فَإِن كَانَ الْمخبر هُنَا فاسقين فقد قَالَ بَعضهم يثبت بخبرهما لوُجُود أحد الشَّرْطَيْنِ
وَقَالَ بَعضهم لَا يثبت لِأَن خبر الْفَاسِقين لَا يصلح للإلزام(1/337)
كَخَبَر الْفَاسِق الْوَاحِد
وَلَفظ الْكتاب مشتبه فَإِنَّهُ قَالَ حَتَّى يُخبرهُ رجلَانِ أَو رجل عدل فَقيل مَعْنَاهُ رجلَانِ عدل أَو رجل عدل لِأَن صِيغَة هَذَا النَّعْت للفرد وَالْجَمَاعَة وَاحِد أَلا ترى أَنه يُقَال شَاهدا عدل
وَمن اعْتمد القَوْل الأول قَالَ اشْتِرَاط زِيَادَة الْعدَد للتوكيد هُنَا بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْعدَد فِي إِخْبَار الْعُدُول فِي الشَّهَادَات فَإِنَّهَا للتوكيد وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِمَا قَالَ فِي الِاسْتِحْسَان لَو أخبر أحد المخبرين بِطَهَارَة المَاء وَالْآخر بِنَجَاسَتِهِ وَأَحَدهمَا عدل وَالْآخر غير عدل فَإِنَّهُ يعْتَمد خبر الْعدْل مِنْهُمَا
وَلَو كَانَ فِي أحد الْجَانِبَيْنِ مخبران وَفِي الْجَانِب الآخر وَاحِد واستووا فِي صفة الْعَدَالَة فَإِنَّهُ يَأْخُذ بقول الِاثْنَيْنِ
وَكَذَلِكَ فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل كَمَا يرجح خبر الْعدْل على خبر غير الْعدْل يتَرَجَّح خبر الْمثنى من الْعُدُول على خبر الْوَاحِد فَعرفنَا أَن فِي زِيَادَة الْعدَد معنى التوكيد
وَالَّذِي أسلم فِي دَار الْحَرْب إِذا لم يعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات عَلَيْهِ حَتَّى مضى زمَان لم يلْزمه الْقَضَاء فَإِن أخبرهُ بذلك فَاسق فقد قَالَ مَشَايِخنَا هُوَ على الْخلاف أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة لَا يعْتَبر هَذَا الْخَبَر فِي إِيجَاب الْقَضَاء عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا يعْتَبر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه يعْتَبر الْخَبَر هُنَا فِي إِيجَاب الْقَضَاء عِنْدهم جَمِيعًا لِأَن هَذَا الْمخبر نَائِب عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُور من جِهَته بالتبليغ كَمَا قَالَ أَلا فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فَهُوَ بِمَنْزِلَة رَسُول الْمَالِك إِلَى عَبده ثمَّ هُوَ غير متكلف فِي هَذَا الْخَبَر وَلكنه مسْقط عَن نَفسه مَا لزمَه من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ فَلهَذَا يعْتَبر خَبره
فصل فِي أَقسَام الروَاة الَّذين يكون خبرهم حجَّة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الروَاة قِسْمَانِ مَعْرُوف ومجهول
فالمعروف نَوْعَانِ من كَانَ مَعْرُوفا بالفقه والرأي فِي الِاجْتِهَاد وَمن كَانَ مَعْرُوفا بِالْعَدَالَةِ وَحسن الضَّبْط وَالْحِفْظ وَلكنه قَلِيل الْفِقْه
فالنوع الأول كالخلفاء الرَّاشِدين والعبادلة وَزيد بن ثَابت ومعاذ بن جبل وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَائِشَة وَغَيرهم من الْمَشْهُورين بالفقه من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وخبرهم حجَّة مُوجبَة(1/338)
للْعلم الَّذِي هُوَ غَالب الرَّأْي ويبتنى عَلَيْهِ وجوب الْعَمَل سَوَاء كَانَ الْخَبَر مُوَافقا للْقِيَاس أَو مُخَالفا لَهُ فَإِن كَانَ مُوَافقا للْقِيَاس تأيد بِهِ وَإِن كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس يتْرك الْقيَاس وَيعْمل بالْخبر
وَكَانَ مَالك بن أنس يَقُول يقدم الْقيَاس على خبر الْوَاحِد فِي الْعَمَل بِهِ لِأَن الْقيَاس حجَّة بِإِجْمَاع السّلف من الصَّحَابَة وَدَلِيل الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أقوى من خبر الْوَاحِد فَكَذَلِك مَا يكون ثَابتا بِالْإِجْمَاع
وَلَكنَّا نقُول ترك الْقيَاس بالْخبر الْوَاحِد فِي الْعَمَل بِهِ أَمر مَشْهُور فِي الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ من السّلف لَا يُمكن إِنْكَاره حَتَّى يسمون ذَلِك معدولا بِهِ عَن الْقيَاس وَعَلِيهِ دلّ حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِن حمل ابْن مَالك رَضِي الله عَنهُ حِين روى لَهُ حَدِيث الْغرَّة فِي الْجَنِين قَالَ كدنا أَن نقضي فِيهِ برأينا فِيمَا فِيهِ قَضَاء عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف مَا قضى بِهِ
وَفِي رِوَايَة لَوْلَا مَا رويت لرأينا خلاف ذَلِك
وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ كُنَّا نخابر وَلَا نرى بذلك بَأْسا حَتَّى أخبرنَا رَافع بن خديج رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن إكراء الْمزَارِع فتركناه لأجل قَوْله وَلِأَن قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُوجب للْعلم بِاعْتِبَار أَصله وَإِنَّمَا الشُّبْهَة فِي النَّقْل عَنهُ
فَأَما الْوَصْف الَّذِي بِهِ الْقيَاس فالشبهة وَالِاحْتِمَال فِي أَصله لأَنا لَا نعلم يَقِينا أَن ثُبُوت الحكم الْمَنْصُوص بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف من بَين سَائِر الْأَوْصَاف وَمَا يكون الشُّبْهَة فِي أَصله دون مَا تكون الشُّبْهَة فِي طَرِيقه بعد التيقن بِأَصْلِهِ يُوضحهُ أَن الشُّبْهَة هُنَا بِاعْتِبَار توهم الْغَلَط وَالنِّسْيَان فِي الرَّاوِي وَذَلِكَ عَارض وَهُنَاكَ بِاعْتِبَار التَّرَدُّد بَين هَذَا الْوَصْف وَسَائِر الْأَوْصَاف وَهُوَ أصل ثمَّ الْوَصْف الَّذِي هُوَ معنى من الْمَنْصُوص كالخبر والرأي وَالنَّظَر فِيهِ كالسماع وَالْقِيَاس كالعمل بِهِ وَلَا شكّ أَن الْوَصْف سَاكِت عَن الْبَيَان وَالْخَبَر بَيَان فِي نَفسه فَيكون الْخَبَر أقوى من الْوَصْف فِي الْإِبَانَة وَالسَّمَاع أقوى من الرَّأْي فِي الْإِصَابَة وَلَا يجوز ترك الْقوي بالضعيف
فَأَما الْمَعْرُوف بِالْعَدَالَةِ والضبط وَالْحِفْظ كَأبي هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا مِمَّن اشْتهر بالصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّمَاع مِنْهُ مُدَّة(1/339)
طَوِيلَة فِي الْحَضَر وَالسّفر فَإِن أَبَا هُرَيْرَة مِمَّن لَا يشك أحد فِي عَدَالَته وَطول صحبته مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَالَ لَهُ (زر غبا تَزْدَدْ حبا) وَكَذَلِكَ فِي حسن حفظه وَضَبطه فقد دَعَا لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك على مَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ يَزْعمُونَ أَن أَبَا هُرَيْرَة يكثر الرِّوَايَة وَإِنِّي كنت أصحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ملْء بَطْني وَالْأَنْصَار يشتغلون بِالْقيامِ على أَمْوَالهم والمهاجرون بتجاراتهم فَكنت أحضر إِذا غَابُوا وَقد حضرت مَجْلِسا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (من يبسط مِنْكُم رِدَاءَهُ حَتَّى أفيض فِيهِ مَقَالَتي فيضمها إِلَيْهِ ثمَّ لَا ينساها) فبسطت بردة كَانَت عَليّ فَأَفَاضَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَته ثمَّ ضممتها إِلَى صَدْرِي فَمَا نسيت بعد ذَلِك شَيْئا
وَلَكِن مَعَ هَذَا قد اشْتهر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنهُ وَمن بعدهمْ مُعَارضَة بعض رواياته بِالْقِيَاسِ هَذَا ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لما سَمعه يروي (توضؤوا مِمَّا مسته النَّار) قَالَ أَرَأَيْت لَو تَوَضَّأت بِمَاء سخن أَكنت تتوضأ مِنْهُ أَرَأَيْت لَو ادهن أهلك بدهن فادهنت بِهِ شاربك أَكنت تتوضأ مِنْهُ فقد رد خَبره بِالْقِيَاسِ حَتَّى رُوِيَ أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ (لَهُ) يَا ابْن أخي إِذا أَتَاك الحَدِيث فَلَا تضرب لَهُ الْأَمْثَال
وَلَا يُقَال إِنَّمَا رده بِاعْتِبَار نَص آخر عِنْده وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَتَى بكتف مؤربة فَأكلهَا وَصلى وَلم يتَوَضَّأ لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْده نَص لما تكلم بِالْقِيَاسِ وَلَا أعرض عَن أقوى الحجتين أَو كَانَ سَبيله أَن يطْلب التَّارِيخ بَينهمَا ليعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ أَو أَن يخصص اللَّحْم من ذَلِك الْخَبَر بِهَذَا الحَدِيث فَحَيْثُ اشْتغل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مَعْرُوف بالفقه والرأي من بَين الصَّحَابَة على وَجه لَا يبلغ دَرَجَة أبي هُرَيْرَة فِي الْفِقْه ودرجته عرفنَا أَنه استخار التَّأَمُّل فِي رِوَايَته إِذا كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس
وَلما سَمعه يروي من حمل جَنَازَة فَليَتَوَضَّأ قَالَ أيلزمنا الْوضُوء فِي حمل عيدَان يابسة وَلما سَمِعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي أَن ولد الزِّنَا شَرّ الثَّلَاثَة
قَالَت كَيفَ يَصح هَذَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى}(1/340)
وَهَذَا عَام دخله خُصُوص
وَرُوِيَ أَن عَائِشَة قَالَت لِابْنِ أَخِيهَا أَلا تعجب من كَثْرَة رِوَايَة هَذَا الرجل وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث بِأَحَادِيث لَو عدهَا عَاد لأحصاها وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَضِي الله عَنهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَيدعونَ
وَقَالَ لَو كَانَ ولد الزِّنَا شَرّ الثَّلَاثَة لما انْتظر بِأُمِّهِ أَن تضع
وَهَذَا نوع قِيَاس
وَلما بلغ عمر رَضِي الله عَنهُ أَن أَبَا هُرَيْرَة يروي مَا لَا يعرف قَالَ لتكفن عَن هَذَا أَو لألحقنك بجبال دوس
فلمكان مَا اشْتهر من السّلف فِي هَذَا الْبَاب قُلْنَا مَا وَافق الْقيَاس من رِوَايَته فَهُوَ مَعْمُول بِهِ وَمَا خَالف الْقيَاس فَإِن تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ فَهُوَ مَعْمُول بِهِ وَإِلَّا فَالْقِيَاس الصَّحِيح شرعا مقدم على رِوَايَته فِيمَا ينسد بَاب الرَّأْي فِيهِ
وَلَعَلَّ ظَانّا يظنّ أَن فِي مقالتنا ازدراء بِهِ ومعاذ الله من ذَلِك فَهُوَ مقدم فِي الْعَدَالَة وَالْحِفْظ والضبط كَمَا قَررنَا وَلَكِن نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى كَانَ مستفيضا فيهم وَالْوُقُوف على كل معنى أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَلَامِهِ أَمر عَظِيم فقد أُوتِيَ جَوَامِع الْكَلم على مَا قَالَ أُوتيت جَوَامِع الْكَلم وَاخْتصرَ لي اختصارا وَمَعْلُوم أَن النَّاقِل بِالْمَعْنَى لَا ينْقل إِلَّا بِقدر مَا فهمه من الْعبارَة وَعند قُصُور فهم السَّامع رُبمَا يذهب عَلَيْهِ بعض المُرَاد وَهَذَا الْقُصُور لَا يشكل عِنْد الْمُقَابلَة بِمَا هُوَ فقه (لفظ) رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلتوهم هَذَا الْقُصُور قُلْنَا إِذا انسد بَاب الرَّأْي فِيمَا رُوِيَ وتحققت الضَّرُورَة بِكَوْنِهِ مُخَالفا للْقِيَاس الصَّحِيح فَلَا بُد من تَركه لِأَن كَون الْقيَاس الصَّحِيح حجَّة ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَمَا خَالف الْقيَاس الصَّحِيح من كل وَجه فَهُوَ فِي الْمَعْنى مُخَالف للْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث الْمُصراة فَإِن الْأَمر برد صَاع من تمر مَكَان اللَّبن قل أَو كثر مُخَالف للْقِيَاس الصَّحِيح من كل وَجه لِأَن تَقْدِير الضَّمَان فِي العدوانات بِالْمثلِ أَو الْقيمَة حكم ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
وَكَذَلِكَ فِيمَا يرويهِ سَلمَة بن المحبق أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/341)
قَالَ فِيمَن وطىء جَارِيَة امْرَأَته فَإِن طاوعته فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا وَإِن استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا فَإِن الْقيَاس الصَّحِيح يرد هَذَا الحَدِيث ويتبين أَنه كالمخالف للْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع
ثمَّ هَذَا النَّوْع من الْقُصُور لَا يتَوَهَّم فِي الرَّاوِي إِذا كَانَ فَقِيها لِأَن ذَلِك لَا يخفى عَلَيْهِ لقُوَّة فقهه فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا روى الحَدِيث بِالْمَعْنَى عَن بَصِيرَة فَإِنَّهُ علم سَمَاعه (من رَسُول الله كَذَلِك مُخَالفا للْقِيَاس وَلَا تُهْمَة فِي رِوَايَته فكأنا سمعنَا ذَلِك) من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيلزمنا ترك كل قِيَاس بمقابلته وَلِهَذَا قلت رِوَايَة الْكِبَار من فُقَهَاء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ صَحِبت ابْن مَسْعُود سِنِين فَمَا سمعته يروي حَدِيثا إِلَّا مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَخذه البهر وَالْفرق وَجعلت فرائصه ترتعد فَقَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا مِنْهُ أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول كَذَا
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الْوُقُوف على مَا أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَعَاني كَلَامه كَانَ عَظِيما عِنْدهم فَلهَذَا قلت رِوَايَة الْفُقَهَاء مِنْهُم فَإِذا صحت الرِّوَايَة عَنْهُم فَهُوَ مقدم على الْقيَاس
وَمَعَ هَذَا كُله فالكبار من أَصْحَابنَا يعظمون رِوَايَة هَذَا النَّوْع مِنْهُم ويعتمدون قَوْلهم فَإِن مُحَمَّدًا رَحمَه الله ذكر عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه أَخذ بقول أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي مِقْدَار الْحيض وَغَيره وَكَانَ دَرَجَة أبي هُرَيْرَة فَوق دَرَجَته فَعرفنَا بِهَذَا أَنهم مَا تركُوا الْعَمَل بروايتهم إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة لانسداد بَاب الرَّأْي من الْوَجْه الَّذِي قَررنَا
فَأَما الْمَجْهُول فَإِنَّمَا نعني بِهَذَا اللَّفْظ من لم يشْتَهر بطول الصُّحْبَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا عرف بِمَا رُوِيَ من حَدِيث أَو حديثين نَحْو وابصة بن معبد وَسَلَمَة بن المحبق وَمَعْقِل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم
وَرِوَايَة هَذَا النَّوْع على خَمْسَة أوجه أَحدهَا أَن يشْتَهر لقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته وَالرِّوَايَة عَنهُ وَالثَّانِي أَن يسكتوا عَن الطعْن فِيهِ بَعْدَمَا يشْتَهر وَالثَّالِث أَن يَخْتَلِفُوا فِي الطعْن فِي رِوَايَته وَالرَّابِع أَن يطعنوا فِي رِوَايَته من غير خلاف بَينهم فِي ذَلِك وَالْخَامِس أَن لَا تظهر رِوَايَته وَلَا الطعْن فِيهِ فِيمَا بَينهم
أما من قبل السّلف مِنْهُ رِوَايَته وجوزوا النَّقْل عَنهُ(1/342)
فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَشْهُورين فِي الرِّوَايَة لأَنهم مَا كَانُوا متهمين بالتقصير فِي أَمر الدّين وَمَا كَانُوا يقبلُونَ الحَدِيث حَتَّى يَصح عِنْدهم أَنه يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فإمَّا أَن يكون قبولهم لعلمهم بعدالته وَحسن ضَبطه أَو لِأَنَّهُ مُوَافق لما عِنْدهم مِمَّا سَمِعُوهُ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من بعض الْمَشْهُورين يروي عَنهُ
وَكَذَلِكَ إِن سكتوا عَن الرَّد بَعْدَمَا اشْتهر رِوَايَته عِنْدهم لِأَن السُّكُوت بعد تحقق الْحَاجة لَا يحل إِلَّا على وَجه الرِّضَا بالمسموع فَكَانَ سكوتهم عَن الرَّد دَلِيل التَّقْرِير بِمَنْزِلَة مَا لَو قبلوه وردوا عَنهُ
وَكَذَلِكَ مَا اخْتلفُوا فِي قبُوله وَرِوَايَته عَنهُ عندنَا لِأَنَّهُ حِين قبله بعض الْفُقَهَاء الْمَشْهُورين مِنْهُم فَكَأَنَّهُ روى ذَلِك بِنَفسِهِ
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث معقل بن سِنَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى لبروع بنت واشق الأشجعية بِمهْر مثلهَا حِين مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا وَلم يسم لَهَا صَدَاقا فَإِن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته وسر بِهِ لما وَافق قَضَاءَهُ قَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي رَضِي الله عَنهُ رده فَقَالَ مَاذَا نصْنَع بقول أَعْرَابِي بوال على عقبه حسبها الْمِيرَاث لَا مهر لَهَا
فَلَمَّا اخْتلفُوا فِيهِ فِي الصَّدْر الأول أَخذنَا بروايته لِأَن الْفُقَهَاء من الْقرن الثَّانِي كعلقمة ومسروق وَالْحسن وَنَافِع بن جُبَير قبلوا رِوَايَته فَصَارَ معدلا بِقبُول الْفُقَهَاء رِوَايَته
وَكَذَلِكَ أَبُو الْجراح صَاحب راية الأشجعيين صدقه فِي هَذِه الرِّوَايَة
وَكَأن عليا رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا لم يقبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُخَالفا للْقِيَاس عِنْده وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قبل رِوَايَته لِأَنَّهُ كَانَ مُوَافقا للْقِيَاس عِنْده
فَتبين بِهَذَا أَن رِوَايَة مثل هَذَا فِيمَا يُوَافق الْقيَاس يكون مَقْبُولًا ثمَّ الْعَمَل يكون بالرواية
وَأما إِذا ردوا عَلَيْهِ رِوَايَته وَلم يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز الْعَمَل بروايته لأَنهم كَانُوا لَا يتهمون برد الحَدِيث الثَّابِت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا بترك الْعَمَل بِهِ وترجيح الرَّأْي بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ فاتفاقهم على الرَّد دَلِيل على أَنهم كذبوه فِي هَذِه الرِّوَايَة وَعَلمُوا أَن ذَلِك وهم مِنْهُ
وَلَو قَالَ الرَّاوِي أوهمت لم يعْمل بروايته فَإِذا ظهر دَلِيل ذَلِك مِمَّن هُوَ فَوْقه أولى
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فَإِن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا وَلَا سنة نَبينَا بقول امْرَأَة لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت
قَالَ عِيسَى(1/343)
بن أبان رَحمَه الله مُرَاده من الْكتاب وَالسّنة الْقيَاس الصَّحِيح فَإِن ثُبُوته بِالْكتاب وَالسّنة وَهُوَ قِيَاس الشّبَه فِي اعْتِبَار النَّفَقَة بِالسُّكْنَى من حَيْثُ إِن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق مَالِي مُسْتَحقّ بِالنِّكَاحِ
فَإِن قيل هَذَا إِشَارَة إِلَى غير مَا أَشَارَ إِلَيْهِ عمر فَإِنَّهُ لم يقل لَا نقبل حَدِيثهَا لعلمنا أَنَّهَا أوهمت وَلَكِن قَالَ لَا نَدع كتاب رَبنَا لأَنا لَا نَدْرِي أصدقت أم كذبت
قُلْنَا فِي قَوْله لَا نَدْرِي إِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى فَإِن قبُول الرِّوَايَة وَالْعَمَل بِهِ يبتني على ظُهُور رُجْحَان جَانب الصدْق وَهُوَ بَين أَنه لم يظْهر رُجْحَان جَانب الصدْق فِي رِوَايَتهَا والرأي يدل على خلاف رِوَايَتهَا فنترك رِوَايَتهَا ونعمل بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح وَفِي الْمَعْنى لَا فرق بَين هَذَا وَبَين قَوْله لَا نقبل رِوَايَتهَا بِمَنْزِلَة القَاضِي يرد شَهَادَة الْفَاسِق بقوله ائْتِ بِشَاهِد آخر ائْتِ بِحجَّة
وَمن هَذَا النَّحْو حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْقسَامَة أتحلفون وتستحقون دم صَاحبكُم وَحَدِيث بسرة رَضِي الله عَنْهَا من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ وَأما مَا لم يشْتَهر عِنْدهم وَلم يعارضوه بِالرَّدِّ فَإِن الْعَمَل بِهِ لَا يجب وَلَكِن يجوز الْعَمَل بِهِ إِذا وَافق الْقيَاس لِأَن من كل من الصَّدْر الأول فالعدالة ثَابِتَة لَهُ بِاعْتِبَار الظَّاهِر لِأَنَّهُ فِي زمَان الْغَالِب من أَهله الْعُدُول على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام خير النَّاس قَرْني الَّذِي أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فباعتبار الظَّاهِر يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي خَبره وَبِاعْتِبَار أَنه لم تشتهر رِوَايَته فِي السّلف يتَمَكَّن تُهْمَة الْوَهم فِيهِ فَيجوز الْعَمَل بِهِ إِذا وَافق الْقيَاس على وَجه حسن الظَّن بِهِ وَلَكِن لَا يجب الْعَمَل بِهِ لِأَن الْوُجُوب شرعا لَا يثبت بِمثل هَذَا الطَّرِيق الضَّعِيف وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور وَلم يُوجب على القَاضِي الْقَضَاء لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقرن الثَّالِث وَالْغَالِب على أَهله الصدْق فَأَما فِي زَمَاننَا رِوَايَة مثل هَذَا لَا يكون مَقْبُولًا وَلَا يَصح الْعَمَل بِهِ مَا لم يتأيد بِقبُول الْعُدُول رِوَايَته لِأَن الْفسق(1/344)
غلب على أهل هَذَا الزَّمَان وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور قبل ظُهُور عَدَالَته
فَصَارَ الْحَاصِل أَن الحكم فِي رِوَايَة الْمَشْهُور الَّذِي لم يعرف بالفقه وجوب الْعَمَل وَحمل رِوَايَته على الصدْق إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وَهُوَ أَن يكون مُخَالفا للْقِيَاس وَأَن الحكم فِي رِوَايَة الْمَجْهُول أَنه لَا يكون حجَّة للْعَمَل إِلَّا أَن يتأيد بمؤيد وَهُوَ قبُول السّلف أَو بَعضهم رِوَايَته وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان شَرَائِط الرَّاوِي حدا وتفسيرا وَحكما
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن هَذِه الشَّرَائِط أَرْبَعَة الْعقل والضبط وَالْعَدَالَة وَالْإِسْلَام
أما اشْتِرَاط الْعقل فَلِأَن الْخَبَر الَّذِي يرويهِ كَلَام منظوم لَهُ معنى مَعْلُوم وَلَا بُد من اشْتِرَاط الْعقل فِي الْمُتَكَلّم من الْعباد ليَكُون قَوْله كلَاما مُعْتَبرا فَالْكَلَام الْمُعْتَبر شرعا مَا يكون عَن تَمْيِيز وَبَيَان لَا عَن تلقين وهذيان أَلا ترى أَن من الطُّيُور من يسمع مِنْهُ حُرُوف منظومة وَيُسمى ذَلِك لحنا لَا كلَاما وَكَذَلِكَ إِذا سمع من إِنْسَان صَوته بحروف منظومة لَا يدل على معنى مَعْلُوم لَا يُسمى ذَلِك كلَاما فَعرفنَا أَن معنى الْكَلَام فِي الشَّاهِد مَا يكون مُمَيّزا بَين أَسمَاء الْأَعْلَام فَمَا لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة يكون كلَاما صُورَة لَا معنى بِمَنْزِلَة مَا لَو صنع من خشب صُورَة آدَمِيّ لَا يكون آدَمِيًّا لِانْعِدَامِ معنى الْآدَمِيّ فِيهِ
ثمَّ التَّمْيِيز الَّذِي بِهِ يتم الْكَلَام بصورته وَمَعْنَاهُ لَا يكون إِلَّا بعد وجود الْعقل فَكَانَ الْعقل شرطا فِي الْمخبر لِأَن خَبره أحد أَنْوَاع الْكَلَام فَلَا يكون مُعْتَبرا إِلَّا بِاعْتِبَار عقله
وَأما الضَّبْط فَلِأَن قبُول الْخَبَر بِاعْتِبَار معنى الصدْق فِيهِ وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِحسن ضبط الرَّاوِي من حِين يسمع إِلَى حِين يروي
فَكَانَ الضَّبْط لما هُوَ معنى هَذَا النَّوْع من الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْعقل الَّذِي بِهِ يَصح أصل الْكَلَام شرعا
وَأما الْعَدَالَة فَلِأَن الْكَلَام فِي خبر من هُوَ غير مَعْصُوم عَن الْكَذِب فَلَا تكون جِهَة الصدْق مُتَعَيّنا فِي خَبره لعَينه وَإِنَّمَا يتَرَجَّح جَانب الصدْق بِظُهُور عَدَالَته لِأَن(1/345)
الْكَذِب مَحْظُور عقله فنستدل بانزجاره عَن سَائِر مَا نعتقده مَحْظُورًا على انزجاره عَن الْكَذِب الَّذِي نعتقده مَحْظُورًا أَو لما كَانَ منزجرا عَن الْكَذِب فِي أُمُور الدُّنْيَا فَذَلِك دَلِيل انزجاره عَن الْكَذِب فِي أُمُور الدّين وَأَحْكَام الشَّرْع بِالطَّرِيقِ الأولى فَأَما إِذا لم يكن عدلا فِي تعاطيه فاعتبار جَانب تعاطيه يرجح معنى الْكَذِب فِي خَبره لِأَنَّهُ لما لم يبال من ارْتِكَاب سَائِر الْمَحْظُورَات مَعَ اعْتِقَاده حرمته فَالظَّاهِر أَنه لَا يُبَالِي من الْكَذِب مَعَ اعْتِقَاده حرمته وَاعْتِبَار جَانب اعْتِقَاده يدل على الصدْق فِي خَبره فَتَقَع الْمُعَارضَة وَيجب التَّوَقُّف وَإِذا كَانَ تَرْجِيح جَانب الصدْق بِاعْتِبَار عَدَالَته وَبِه يصير الْخَبَر حجَّة للْعَمَل شرعا فَعرفنَا أَن الْعَدَالَة فِي الرَّاوِي شَرط لكَون خَبره حجَّة
فَأَما اشْتِرَاط الْإِسْلَام لانْتِفَاء تُهْمَة الْكَذِب لَا بِاعْتِبَار نُقْصَان حَال الْمخبر بل بِاعْتِبَار زِيَادَة شَيْء فِيهِ يدل على كذبه فِي خَبره وَذَلِكَ لِأَن الْكَلَام فِي الْأَخْبَار الَّتِي يثبت بهَا أَحْكَام الشَّرْع وهم يعادوننا فِي أصل الدّين بِغَيْر حق على وَجه هُوَ نِهَايَة فِي الْعَدَاوَة فيحملهم ذَلِك على السَّعْي فِي هدم أَرْكَان الدّين بِإِدْخَال مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {لَا يألونكم خبالا} أَي لَا يقصرون فِي الْإِفْسَاد عَلَيْكُم وَقد ظهر مِنْهُم هَذَا بطرِيق الكتمان فَإِنَّهُم كتموا نعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبوته من كِتَابه بَعْدَمَا أَخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق بِإِظْهَار ذَلِك فَلَا يُؤمنُونَ من أَن يقصدوا مثل ذَلِك بِزِيَادَة هِيَ كذب لَا أصل لَهُ بطرِيق الرِّوَايَة بل هَذَا هُوَ الظَّاهِر فلأجل هَذَا شرطنا الْإِسْلَام فِي الرَّاوِي لكَون خَبره حجَّة وَلِهَذَا لم تجوز شَهَادَتهم على الْمُسلمين لِأَن الْعَدَاوَة رُبمَا تحملهم على الْقَصْد للإضرار بِالْمُسْلِمين بِشَهَادَة الزُّور كَمَا لَا تقبل شَهَادَة ذِي الضغن لظُهُور عداوته بِسَبَب الْبَاطِن وَقَبلنَا شَهَادَة بَعضهم على بعض لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنى الْبَاعِث على الْكَذِب فِيمَا بَينهم
وَبِهَذَا تبين أَن رد خَبره لَيْسَ لعين الْكفْر بل لِمَعْنى زَائِد يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي خَبره بِمَنْزِلَة شَهَادَة الْأَب للْوَلَد فَإِنَّهَا لَا تكون مَقْبُولَة لِمَعْنى زَائِد يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَته وَهُوَ شَفَقَة الْأُبُوَّة وميله إِلَى وَلَده طبعا
وَأما بَيَان حد هَذِه الشُّرُوط وتفسيرها فَنَقُول الْعقل نور فِي الصَّدْر بِهِ يبصر(1/346)
الْقلب عِنْد النّظر فِي الْحجَج بِمَنْزِلَة السراج فَإِنَّهُ نور تبصر الْعين بِهِ عِنْد النّظر فترى مَا يدْرك بالحواس لَا أَن السراج يُوجب رُؤْيَة ذَلِك وَلكنه يدل الْعين عِنْد النّظر عَلَيْهِ فَكَذَلِك نور الصَّدْر الَّذِي هُوَ الْعقل يدل الْقلب على معرفَة مَا هُوَ غَائِب عَن الْحَواس من غير أَن يكون مُوجبا لذَلِك بل الْقلب يدْرك (بِالْعقلِ) ذَلِك بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وَهُوَ فِي الْحَاصِل عبارَة عَن الِاخْتِيَار الَّذِي يبتنى عَلَيْهِ الْمَرْء مَا يَأْتِي بِهِ وَمَا يذر مِمَّا لَا يَنْتَهِي إِلَى إِدْرَاكه سَائِر الْحَواس فَإِن الْفِعْل أَو التّرْك لَا يعْتَبر إِلَّا لحكمة وعاقبة حميدة وَلِهَذَا لَا يعْتَبر من الْبَهَائِم لخلوه عَن هَذَا الْمَعْنى وَالْعَاقبَة الحميدة لَا تتَحَقَّق فِيمَا يَأْتِي بِهِ الْإِنْسَان من فعل أَو ترك لَهُ إِلَّا بعد التَّأَمُّل فِيهِ بعقله فَمَتَى ظَهرت أَفعاله على سنَن أَفعَال الْعُقَلَاء كَانَ ذَلِك دَلِيلا لنا على أَنه عَاقل مُمَيّز وَأَن فعله وَقَوله لَيْسَ يَخْلُو عَن حِكْمَة وعاقبة حميدة وَهَذَا لِأَن الْعقل لَا يكون مَوْجُودا فِي الْآدَمِيّ بِاعْتِبَار أَصله وَلكنه خلق من خلق الله تَعَالَى يحدث شَيْئا فَشَيْئًا ثمَّ يتَعَذَّر الْوُقُوف على وجود كل جُزْء مِنْهُ بِحَسب مَا يمْضِي من الزَّمَان على الصَّبِي إِلَى أَن يبلغ صفة الْكَمَال فَجعل الشَّرْع الْحَد لمعْرِفَة كَمَال الْعقل هُوَ الْبلُوغ تيسيرا لِلْأَمْرِ علينا لِأَن اعْتِدَال الْحَال عِنْد ذَلِك يكون عَادَة وَالله تَعَالَى هُوَ الْعَالم حَقِيقَة بِمَا يحدثه من ذَلِك فِي كل أحد من عباده من نُقْصَان أَو كَمَال وَلَكِن لَا طَرِيق لنا إِلَى الْوُقُوف على حد ذَلِك فَقَامَ السَّبَب الظَّاهِر فِي حَقنا مقَام الْمَطْلُوب حَقِيقَة تيسيرا وَهُوَ الْبلُوغ مَعَ انعدام الآفة ثمَّ يسْقط اعْتِبَار مَا يُوجد من الْعقل للصَّبِيّ قبل هَذَا الْحَد شرعا لدفع الضَّرَر عَنهُ لَا للإضرار بِهِ فَإِن الصِّبَا سَبَب للنَّظَر لَهُ وَلِهَذَا لم يعْتَبر فِيمَا يتَرَدَّد بَين الْمَنْفَعَة والمضرة وَيعْتَبر فِيمَا يتمخض مَنْفَعَة لَهُ
ثمَّ خَبره فِي أَحْكَام الشَّرْع لَا يكون حجَّة للإلزام دفعا لضَرَر الْعهْدَة عَنهُ كَمَا لَا يَجْعَل وليا فِي تَصَرُّفَاته فِي أُمُور الدُّنْيَا دفعا لضَرَر الْعهْدَة عَنهُ وَلِهَذَا صَحَّ سَمَاعه وتحمله للشَّهَادَة قبل الْبلُوغ إِذا كَانَ مُمَيّزا فقد كَانَ فِي الصَّحَابَة من سمع فِي حَالَة الصغر وروى بعد الْبلُوغ وَكَانَت رِوَايَته مَقْبُولَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِك من معنى ضَرَر لُزُوم الْعهْدَة شَيْء وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي الْأَدَاء فَيشْتَرط لفسخه أَدَائِهِ على وَجه يكون حجَّة كَونه عَاقِلا مُطلقًا
وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا(1/347)
باعتدال حَاله ظَاهرا كَمَا بَينا
وَصَارَ الْحَاصِل أَن الْعَاقِل نَوْعَانِ من يُصِيب بعض الْعقل على وَجه يتَمَكَّن من التَّمْيِيز بِهِ بَين مَا يضرّهُ وَمَا يَنْفَعهُ وَلكنه نَاقص فِي نَفسه كَالصَّبِيِّ قبل الْبلُوغ وَالْمَعْتُوه الَّذِي يعقل وعاقل هُوَ كَامِل الْعقل وَهُوَ الْبَالِغ الَّذِي لَا آفَة بِهِ فَإِن بالآفة يسْتَدلّ تَارَة على انعدام الْعقل بعد الْبلُوغ كَالْمَجْنُونِ وَتارَة على نُقْصَان الْعقل كَمَا فِي حق الْمَعْتُوه فَإِذا انعدمت الآفة كَانَ اعْتِدَال الظَّاهِر بِالْبُلُوغِ دَلِيلا على كَمَال الْعقل الَّذِي هُوَ الْبَاطِن وَالْمُطلق من كل شَيْء يتَنَاوَل الْكَامِل مِنْهُ فاشتراط الْعقل لصِحَّة خَبره على وَجه يكون حجَّة دَلِيل على أَنه يشْتَرط كَمَال الْعقل فِي ذَلِك
فَأَما الضَّبْط فَهُوَ عبارَة عَن الْأَخْذ بِالْجَزْمِ وَتَمَامه فِي الْأَخْبَار أَن يسمع حق السماع ثمَّ يفهم الْمَعْنى الَّذِي أُرِيد بِهِ ثمَّ يحفظ ذَلِك (بِجهْدِهِ ثمَّ يثبت على ذَلِك) بمحافظة حُدُوده ومراعاة حُقُوقه بتكراره إِلَى أَن يُؤَدِّي إِلَى غَيره لِأَن بِدُونِ السماع لَا يتَصَوَّر الْفَهم وَبعد السماع إِذا لم يفهم معنى الْكَلَام لم يكن ذَلِك سَمَاعا مُطلقًا بل يكون ذَلِك سَماع صَوت لَا سَماع كَلَام هُوَ خبر وَبعد فهم الْمَعْنى يتم التَّحَمُّل وَذَلِكَ يلْزمه الْأَدَاء كَمَا تحمل وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا بحفظه والثبات على ذَلِك إِلَى أَن يُؤَدِّي
ثمَّ الْأَدَاء إِنَّمَا يكون مَقْبُولًا مِنْهُ بِاعْتِبَار معنى الصدْق فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِهَذَا وَلِهَذَا لم يجوز أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ أَدَاء الشَّهَادَة لمن عرف خطه فِي الصَّك وَلَا يتَذَكَّر الْحَادِثَة لِأَنَّهُ غير ضَابِط لما تحمل وَبِدُون الضَّبْط لَا يجوز لَهُ أَدَاء الشَّهَادَة
ثمَّ الضَّبْط نَوْعَانِ ظَاهر وباطن
فَالظَّاهِر مِنْهُ بِمَعْرِِفَة صِيغَة المسموع وَالْوُقُوف على مَعْنَاهُ لُغَة وَالْبَاطِن مِنْهُ بِالْوُقُوفِ على معنى الصِّيغَة فِيمَا يبتنى عَلَيْهِ أَحْكَام الشَّرْع وَهُوَ الْفِقْه وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بالتجربة والتأمل بعد معرفَة مَعَاني اللُّغَة وأصول أَحْكَام الشَّرْع وَلِهَذَا لم تقبل رِوَايَة من اشتدت غفلته إِمَّا خلقَة أَو مُسَامَحَة ومجازفة لِأَن الضَّبْط ظَاهرا لَا يتم مِنْهُ عَادَة وَمَا يكون شرطا يُرَاعِي وجوده بِصفة الْكَمَال وَلِهَذَا لم يثبت السّلف الْمُعَارضَة بَين رِوَايَة من لم يعرف بالفقه وَرِوَايَة من عرف بالفقه لِانْعِدَامِ الضَّبْط بَاطِنا مِمَّن لم يعرف بالفقه على مَا يرْوى عَن عَمْرو بن دِينَار أَن جَابر بن زيد أَبَا الشعْثَاء روى لَهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/348)
تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم قَالَ عَمْرو فَقلت لجَابِر إِن ابْن شهَاب أَخْبرنِي عَن يزِيد بن الْأَصَم أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال
فَقَالَ إِنَّهَا كَانَت خَالَة ابْن عَبَّاس وَهُوَ أعلم بِحَالِهَا
فَقلت وَقد كَانَت خَالَة يزِيد بن الْأَصَم أَيْضا
فَقَالَ أَنى يَجْعَل يزِيد بن الْأَصَم بوال على عقبه إِلَى ابْن عَبَّاس فَدلَّ أَن رِوَايَة غير الْفَقِيه لَا تكون مُعَارضَة لرِوَايَة الْفَقِيه وَهَذَا التَّرْجِيح لَيْسَ إِلَّا بِاعْتِبَار تَمام الضَّبْط من الْفَقِيه وَكَأن الْمَعْنى فِيهِ أَن نقل الْخَبَر بِالْمَعْنَى كَانَ مَشْهُورا فيهم فَمن لَا يكون مَعْرُوفا بالفقه رُبمَا يقصر فِي أَدَاء الْمَعْنى بِلَفْظِهِ بِنَاء على فهمه ويؤمن مثل ذَلِك من الْفَقِيه وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمُحَافظَة على اللَّفْظ فِي زَمَاننَا أولى من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى لتَفَاوت ظَاهر بَين النَّاس فِي فهم الْمَعْنى
فَإِن قيل كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَنقل الْقُرْآن صَحِيح مِمَّن لَا يفهم مَعْنَاهُ قُلْنَا أصل النَّقْل فِي الْقُرْآن من أَئِمَّة الْهدى الَّذين كَانُوا خير الورى بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نقلوا بعد تَمام الضَّبْط ثمَّ من بعدهمْ إِنَّمَا ينْقل بعد جهد شَدِيد يكون مِنْهُ فِي التَّعَلُّم وَالْحِفْظ واستدامة الْقِرَاءَة وَلَو وجد مثل ذَلِك فِي الْخَبَر لَكنا نجوز نَقله أَيْضا مَعَ أَن الله تَعَالَى وعد حفظ الْقُرْآن عَن تَحْرِيف المبطلين بقوله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَبِهَذَا النَّص عرفنَا انْقِطَاع طمع الْمُلْحِدِينَ عَن الْقُرْآن فصححنا النَّقْل فِيهِ مِمَّن يكون ضابطا لَهُ ظَاهرا وَإِن كَانَ لَا يعرف مَعْنَاهُ وَمثل ذَلِك لَا يُوجد فِي الْأَخْبَار فَكَانَ تَمام الضَّبْط فِيهَا بِمَا قُلْنَا
مَعَ أَن هُنَاكَ يتَعَلَّق بالنظم أَحْكَام مِنْهَا حُرْمَة الْقِرَاءَة على الْجنب وَالْحَائِض وَجَوَاز الصَّلَاة بهَا فِي قَول بعض الْعلمَاء وَكَون النّظم معجزا
فَأَما فِي الْأَخْبَار الْمُعْتَبر هُوَ الْمَعْنى المُرَاد بالْكلَام فتمام الضَّبْط إِنَّمَا يكون بِالْوُقُوفِ على مَا هُوَ المُرَاد وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا تجوز الشَّهَادَة على الْكتاب والختم إِذا لم يعرف الشَّاهِد مَا فِي بَاطِن الْكتاب لِأَن الضَّبْط فِي الشَّهَادَة شَرط للْأَدَاء(1/349)
وَالْمَقْصُود مَا فِي بَاطِن الْكتاب لَا عين الْكتاب فَلَا يتم ضَبطه إِلَّا بِمَعْرِِفَة ذَلِك وَلِهَذَا اسْتحبَّ المتقدمون من السّلف تقليل الرِّوَايَة وَمن كَانَ أكْرمهم وأدوم صُحْبَة وَهُوَ الصّديق رَضِي الله عَنهُ كَانَ أقلهم رِوَايَة حَتَّى رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ إِذا سئلتم عَن شَيْء فَلَا ترووا وَلَكِن ردوا النَّاس إِلَى كتاب الله تَعَالَى
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ أقلوا الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا شريككم
وَلما قيل ل زيد بن أَرقم أَلا تروي لنا عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئا فَقَالَ قد كبرنا ونسينا وَالرِّوَايَة عَن رَسُول الله شَدِيد
وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كُنَّا نَحْفَظ الحَدِيث والْحَدِيث يحفظ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما إِذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات فقد جمع أهل الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب آثارا كَثِيرَة ولأجلها قلت رِوَايَة أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ حَتَّى قَالَ بعض الطاعنين إِنَّه كَانَ لَا يعرف الحَدِيث
وَلم يكن على مَا ظن بل كَانَ أعلم أهل عصره بِالْحَدِيثِ وَلَكِن لمراعاة شَرط كَمَال الضَّبْط قلت رِوَايَته
وَبَيَان هَذَا أَن الْإِنْسَان قد يَنْتَهِي إِلَى مجْلِس وَقد مضى صدر من الْكَلَام فيخفي على الْمُتَكَلّم حَاله لتوقفه على مَا مضى من كَلَامه مِمَّا يكون بعده بِنَاء عَلَيْهِ فقلما يتم ضبط هَذَا السَّامع لِمَعْنى مَا يسمع بعد مَا فَاتَهُ أول الْكَلَام وَلَا يجد فِي تَأمل ذَلِك أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يرى نَفسه أَهلا بِأَن يُؤْخَذ الدّين عَنهُ ثمَّ يكون من قَضَاء الله تَعَالَى أَن يصير صَدرا يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة أَحْكَام الدّين فَإِذا لم يتم ضَبطه فِي الِابْتِدَاء لم يَنْبغ لَهُ أَن يجازف فِي الرِّوَايَة وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يشْتَغل بِمَا وجد مِنْهُ الْجهد التَّام فِي ضَبطه فيستدل بِكَثْرَة الرِّوَايَة مِمَّن كَانَ حَاله فِي الِابْتِدَاء بِهَذِهِ الصّفة على قلَّة المبالاة وَلِهَذَا ذمّ السّلف الصَّالح كَثْرَة الرِّوَايَة وَهَذَا معنى مُعْتَبر فِي الرِّوَايَات والشهادات جَمِيعًا أَلا ترى أَن من اشْتهر فِي النَّاس بخصلة دَالَّة على قلَّة المبالاة من قَضَاء الْحَاجة بمرأى الْعين من النَّاس أَو الْأكل فِي الْأَسْوَاق يتَوَقَّف فِي شَهَادَته
فَهَذَا بَيَان تَفْسِير الضَّبْط
وَأما الْعَدَالَة فَهِيَ الاسْتقَامَة
يُقَال فلَان عَادل إِذا كَانَ مُسْتَقِيم السِّيرَة فِي الْإِنْصَاف وَالْحكم بِالْحَقِّ
وَطَرِيق عَادل سمي بِهِ الجادة وضده الْجور
وَمِنْه يُقَال طَرِيق جَائِر إِذا كَانَ من البنيات
ثمَّ الْعَدَالَة نَوْعَانِ ظَاهِرَة وباطنة
فالظاهرة(1/350)
تثبت بِالدّينِ وَالْعقل على معنى أَن من أَصَابَهَا فَهُوَ عدل ظَاهرا لِأَنَّهُمَا يحملانه على الاسْتقَامَة ويدعوانه إِلَى ذَلِك
والباطنة لَا تعرف إِلَّا بِالنّظرِ فِي معاملات الْمَرْء وَلَا يُمكن الْوُقُوف على نِهَايَة ذَلِك لتَفَاوت بَين النَّاس فيهمَا وَلَكِن كل من كَانَ مُمْتَنعا من ارْتِكَاب مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ فَهُوَ على طَرِيق الاسْتقَامَة فِي حُدُود الدّين
وعَلى هَذِه الْعَدَالَة نَبْنِي حكم رِوَايَة الْخَبَر فِي كَونه حجَّة لِأَن مَا تثبت بِهِ الْعَدَالَة الظَّاهِرَة بعارضة هوى النَّفس والشهوة الَّذِي تصده عَن الثَّبَات على طَرِيق الاسْتقَامَة فَإِن الْهوى أصل فِيهِ سَابق على إِصَابَة الْعقل وَلَا يزايله بَعْدَمَا رزق الْعقل وَبَعْدَمَا اجْتمعَا فِيهِ يكون عدلا من وَجه دون وَجه فَيكون حَاله كَحال الصَّبِي الْعَاقِل وَالْمَعْتُوه الَّذِي يعقل من جملَة الْعُقَلَاء وَقد بَينا أَن الْمُطلق يَقْتَضِي الْكَامِل فَعرفنَا أَن الْعدْل مُطلقًا من يتَرَجَّح أَمر دينه على هَوَاهُ وَيكون مُمْتَنعا بِقُوَّة الدّين عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ من الشَّهَوَات وَلِهَذَا قَالَ فِي كتاب الشَّهَادَات إِن من ارْتكب كَبِيرَة فَإِنَّهُ لَا يكون عدلا فِي الشَّهَادَة وَفِيمَا دون الْكَبِيرَة من الْمعاصِي إِن أصر على ارْتِكَاب شَيْء لم يكن مَقْبُول الشَّهَادَة
وَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يكون مَقْبُول الشَّهَادَة أصر أَو لم يصر لِأَنَّهُ فَاسق بِخُرُوجِهِ عَن الْحَد الْمَحْدُود لَهُ شرعا وَالْفَاسِق لَا يكون عدلا فِي الشَّهَادَة إِلَّا أَن فِي القَوْل بِهَذَا سد الْبَاب أصلا فَغير الْمَعْصُوم لَا يتَحَقَّق مِنْهُ التَّحَرُّز عَن الزلات أجمع لِأَن لله تَعَالَى على الْعباد فِي كل لَحْظَة أمرا ونهيا يتَعَذَّر عَلَيْهِم الْقيام بحقهما وَلَكِن التَّحَرُّز عَن الْإِصْرَار بالندم وَالرُّجُوع عَنهُ غير مُتَعَذر والحرج مَدْفُوع وَلَيْسَ فِي التَّحَرُّز عَن ارْتِكَاب الْكَبَائِر الْمُوجبَة للحد معنى الْحَرج فَلهَذَا بنينَا حكم الْعَدَالَة على التَّحَرُّز المتأتي عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا صَاحب الْهوى إِذا كَانَ مُمْتَنعا عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ فَهُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة وَإِن كَانَ فَاسِقًا فِي اعْتِقَاده ضَالًّا لِأَنَّهُ بِسَبَب الغلو فِي طلب الْحجَّة والتعمق فِي اتِّبَاعه أَخطَأ الطَّرِيق فضل عَن سَوَاء السَّبِيل وَشدَّة اتِّبَاع الْحجَّة لَا تمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَته وَإِن أَخطَأ الطَّرِيق وَكَذَلِكَ الْكَافِر من أهل الشَّهَادَة إِذا كَانَ عدلا فِي تعاطيه بِأَن كَانَ منزجرا عَمَّا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ إِلَّا أَنه غير مَقْبُول الشَّهَادَة على الْمُسلمين(1/351)
لأجل عَدَاوَة ظَاهِرَة تحمله على التقول عَلَيْهِ وَهِي عَدَاوَة بِسَبَب بَاطِل فَتكون مبطلة للشَّهَادَة وَلِهَذَا قُلْنَا الرّقّ وَالْأُنُوثَة والعمى لَا تقدح فِي الْعَدَالَة أصلا وَإِن كَانَت تمنع من قبُول الشَّهَادَة أَو تمكن نُقْصَانا فِيهَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِير لهَذِهِ الْمعَانِي فِي الْحمل على ارْتِكَاب مَا يعْتَقد الْحُرْمَة فِيهِ وَالْعَدَالَة تبتنى على ذَلِك وَلِهَذَا لم يَجْعَل الْفَاسِق والمستور عدلا مُطلقًا فِي حكم الشَّهَادَة حَتَّى لَا يجوز الْقَضَاء بِشَهَادَة الْفَاسِق وَإِن كَانَ لَو قضى بِهِ القَاضِي نفذ وَلَا يجب الْقَضَاء بِشَهَادَة المستور قبل ظُهُور حَاله
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَلما لم يكن خبر الْفَاسِق والمستور حجَّة فخبر الْمَجْهُول أَحْرَى أَن لَا يكون حجَّة
وَقُلْنَا نَحن الْمَجْهُول من الْقُرُون الثَّلَاثَة عدل بتعديل صَاحب الشَّرْع إِيَّاه مَا لم يتَبَيَّن مِنْهُ مَا يزِيل عَدَالَته فَيكون خَبره حجَّة على الْوَجْه الَّذِي قَررنَا
وَأما الْإِسْلَام فَهُوَ عبارَة عَن شريعتنا وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْضا ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر يكون بالميلاد بَين الْمُسلمين والنشوء على طريقتها شَهَادَة وَعبادَة
وَالْبَاطِن يكون بالتصديق وَالْإِقْرَار بِاللَّه كَمَا هُوَ بصفاته وأسمائه وَالْإِقْرَار بملائكته وَكتبه وَرُسُله والبعث بعد الْمَوْت وَالْقدر خَيره وشره من الله تَعَالَى وَقبُول أَحْكَامه وشرائعه
فَمن استوصف فوصف ذَلِك كُله فَهُوَ مُسلم حَقِيقَة وَكَذَلِكَ إِن كَانَ مُعْتَقدًا لذَلِك كُله
فَقبل أَن يستوصف هُوَ مُؤمن فِيمَا بَينه وَبَين ربه حَقِيقَة
وَقَالَ فِي الْجَامِع الْكَبِير إِذا بلغت الْمَرْأَة فاستوصفت الْإِسْلَام فَلم تصف فَإِنَّهَا تبين من زَوجهَا
وَقد كُنَّا حكمنَا بِصِحَّة النِّكَاح بِظَاهِر إسْلَامهَا ثمَّ يحكم بِفساد النِّكَاح حِين لم تحسن أَن تصف وَجعل ذَلِك ردة مِنْهَا
وَقد استقصى بعض مَشَايِخنَا فِي هَذَا فَقَالُوا ذكر الْوَصْف على سَبِيل الْإِجْمَال لَا يَكْفِي مَا لم يكن عَالما بِحَقِيقَة مَا يذكر لِأَن حفظ الْفِقْه غير حفظ الْمَعْنى أَلا ترى أَن من يذكر أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَا يعرف من هُوَ لَا يكون مُؤمنا بِهِ فَإِن النَّصَارَى يَزْعمُونَ أَنهم يُؤمنُونَ بِعِيسَى وَعِنْدهم أَنه ولد الله فَلَا يكون ذَلِك مِنْهُم معرفَة لعيسى الَّذِي هُوَ عبد الله وَرَسُوله
وَلَكنَّا نقُول فِي الْمصير إِلَى هَذَا الِاسْتِقْصَاء حرج بَين فَالنَّاس يتفاوتون فِي ذَلِك تَفَاوتا ظَاهرا وَأَكْثَرهم لَا يقدرُونَ على بَيَان تَفْسِير صِفَات الله تَعَالَى وأسمائه على الْحَقِيقَة وَلَكِن ذكر الْأَوْصَاف على الْإِجْمَال يَكْفِي(1/352)
لثُبُوت الْإِيمَان حَقِيقَة أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يمْتَحن النَّاس بذلك حَتَّى قَالَ للأعرابي الَّذِي شهد بِرُؤْيَة الْهلَال أَتَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله فَقَالَ نعم
فَقَالَ الله أكبر يَكْفِي الْمُسلمين أحدهم وَلما سَأَلَهُ جِبْرِيل عَن الْإِيمَان وَالْإِسْلَام لأجل تَعْلِيم النَّاس معالم الدّين بَين ذَلِك على سَبِيل الْإِجْمَال
وَكتاب الله يشْهد بذلك قَالَ تَعَالَى {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن} وَقد كَانَ هَذَا الامتحان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُسْلِمين بالاستيصاف على الْإِجْمَال وَهَذَا لِأَن الْمُطلق عِنْد الاستيصاف يكون مَحْمُولا على الْكَامِل كَمَا هُوَ الأَصْل وَقد يعجز الْمَرْء عَن إِظْهَار مَا يَعْتَقِدهُ بعبارته فَيَنْبَغِي أَن يكون الاستيصاف بِذكر ذَلِك على وَجه اسْتِفْهَام الْمُخَاطب أَنه هَل يعْتَقد كَذَا وَكَذَا فَإِذا قَالَ نعم كَانَ مُؤمنا حَقِيقَة وَإِن كَانَ قَالَ لَا أعرف مَا تَقول أَو لَا أعتقد ذَلِك فَحِينَئِذٍ يحكم بِكُفْرِهِ وَكَذَلِكَ من ظهر مِنْهُ أَمَارَات الْمعرفَة نَحْو أَدَاء الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة مَعَ الْمُسلمين فَإِن ذَلِك يقوم مقَام الْوَصْف فِي الحكم بإيمانه مُطلقًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رَأَيْتُمْ الرجل يعْتَاد الْجَمَاعَات فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان وَلَا يخْتَلف مَا ذكرنَا بِالرّقِّ وَالْحريَّة والذكورة وَالْأُنُوثَة والعمى وَالْبَصَر فَلهَذَا جعلنَا خبر هَؤُلَاءِ فِي كَونه حجَّة فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بِصفة وَاحِدَة لِأَن الشَّرَائِط الَّتِي يبتنى عَلَيْهَا وجوب قبُول الْخَبَر يتَحَقَّق فِي الْكل
أما العَبْد فَلَا شكّ فِي استجماع هَذِه الشَّرَائِط فِيهِ وَإِن لم يكن من أهل الشَّهَادَة لِأَن الْأَهْلِيَّة للشَّهَادَة تبتنى على الْأَهْلِيَّة للولاية على الْغَيْر وَالرّق يَنْفِي هَذِه الْولَايَة وَهَذَا لِأَن الشَّهَادَة تَنْفِيذ القَوْل على الْغَيْر وَذَلِكَ يَنْعَدِم فِي الْخَبَر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْمخبر لَا يلْزم أحدا شَيْئا وَلَكِن السَّامع إِنَّمَا يلْتَزم باعتقاده أَن الْمخبر عَنهُ مفترض الطَّاعَة (فَإِذا ترجح جَانب الصدْق فِي خبر الْمخبر ضاهى ذَلِك المسموع مِمَّن هُوَ مفترض الطَّاعَة) فِي اعْتِقَاده فَيلْزمهُ الْعَمَل بِاعْتِبَار اعْتِقَاده كَالْقَاضِي يلْزمه الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ بتقلده هَذِه الْأَمَانَة لَا بإلزام الشَّاهِد إِيَّاه فَإِن كَلَام الشَّاهِد يلْزم الْمَشْهُود عَلَيْهِ دون القَاضِي
وَبَيَان هَذَا أَن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَلَاة إِلَّا بِقِرَاءَة لَيْسَ فِي ظَاهره إِلْزَام أحد شَيْئا بل بَيَان صفة تتأدى بِهِ الصَّلَاة إِذا أرادها بِمَنْزِلَة قَول(1/353)
الْقَائِل لَا خياطَة إِلَّا بالإبرة
وَالثَّانِي أَن الْمخبر يلْتَزم أَولا ثمَّ يتَعَدَّى حكم اللُّزُوم إِلَى غَيره من السامعين فَأَما الشَّاهِد فَإِنَّهُ يلْزم غَيره ابْتِدَاء وَلِهَذَا جعلنَا العَبْد بِمَنْزِلَة الْحر فِي الشَّهَادَة الَّتِي يكون فِيهَا الْتِزَام على الْوَجْه الَّذِي يكون فِي الْخَبَر وَهُوَ الشَّهَادَة على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان
ثمَّ قد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُجيب دَعْوَة الْمَمْلُوك فَدلَّ أَنه كَانَ يعْتَمد خَبره بِأَن مَوْلَاهُ أذن لَهُ
وسلمان رَضِي الله عَنهُ حِين كَانَ عبدا أَتَاهُ بِصَدقَة فاعتمد خَبره وَأمر أَصْحَابه بِالْأَكْلِ ثمَّ أَتَاهُ بهدية فاعتمد خَبره وَأكل مِنْهُ
وَكَانَ يعْتَمد خبر بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا قبل أَن تعْتق وَبعد عتقهَا فَدلَّ أَن الْمَمْلُوك فِي حكم قبُول الْخَبَر كَالْحرِّ وَأَن الْأُنْثَى فِي ذَلِك كالذكر وَإِن تَفَاوتا فِي حكم الشَّهَادَة لِأَنَّهُ يشْتَرط الْعدَد فِي النِّسَاء لثُبُوت معنى الشَّهَادَة وَفِي بَاب الْخَبَر الْعدَد لَيْسَ بِشَرْط فَكَمَا فَارق الشَّهَادَة الْخَبَر فِي اشْتِرَاط أصل الْعدَد فَكَذَلِك فِي اشْتِرَاط الْعدَد فِي النِّسَاء أَلا ترى أَن الصَّحَابَة كَانُوا يرجعُونَ إِلَى أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يشكل عَلَيْهِم من أَمر الدّين فيعتمدون خبرهن
وَقَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تأخذون ثُلثي دينكُمْ من عَائِشَة وَأما الْعَمى فَإِنَّهُ لَا يُؤثر فِي الْخَبَر لِأَنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْعَدَالَة أَلا ترى أَنه قد كَانَ فِي الرُّسُل من ابْتُلِيَ بذلك كشعيب وَيَعْقُوب وَكَانَ فِي الصَّحَابَة من ابْتُلِيَ بِهِ كَابْن أم مَكْتُوم وعتبان بن مَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَفِيهِمْ من كف بَصَره كَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر وواثلة بن الْأَسْقَع رَضِي الله عَنْهُم وَالْأَخْبَار المروية عَنْهُم مَقْبُولَة وَلم يشْتَغل أحد بِطَلَب التَّارِيخ فِي ذَلِك أَنهم رووا فِي حَالَة الْبَصَر أم بعد الْعَمى وَهَذَا بِخِلَاف الشَّهَادَة فَإِن شَهَادَتهم إِنَّمَا لَا تقبل لحَاجَة الشَّاهِد إِلَى تَمْيِيز بَين الْمَشْهُود لَهُ والمشهود عَلَيْهِ عِنْد الْأَدَاء وَهَذَا التَّمْيِيز من الْبَصِير يكون بالمعاينة وَمن الْأَعْمَى بالاستدلال وَبَينهمَا تفَاوت يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ فِي جنس الشُّهُود وَفِي رِوَايَة الْخَبَر لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّمْيِيز فَكَانَ الْأَعْمَى والبصير فِيهِ سَوَاء والمحدود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة فِي رِوَايَة الْخَبَر كَغَيْرِهِ فِي ظَاهر الْمَذْهَب فَإِن أَبَا بكرَة رَضِي الله عَنهُ مَقْبُول الْخَبَر وَلم يشْتَغل أحد بِطَلَب التَّارِيخ فِي خَبره أَنه روى بَعْدَمَا أقيم عَلَيْهِ الْحَد أم قبله بِخِلَاف(1/354)
الشَّهَادَة فَإِن رد شَهَادَته من تَمام حَده ثَبت ذَلِك بِالنَّصِّ وَرِوَايَة الْخَبَر لَيست فِي معنى الشَّهَادَة أَلا ترى أَنه لَا شَهَادَة للنِّسَاء فِي الْحُدُود أصلا وروايتهن فِي بَاب الْحُدُود كَرِوَايَة الرِّجَال وَفِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه لَا يكون الْمَحْدُود فِي الْقَذْف مَقْبُول الرِّوَايَة لِأَنَّهُ مَحْكُوم بكذبه بِالنَّصِّ قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} والمحكوم بِالْكَذِبِ فِيمَا يرجع إِلَى التعاطي لَا يكون عدلا وَمن شَرط كَون الْخَبَر حجَّة الْعَدَالَة مُطلقًا كَمَا بَينا
فصل فِي بَيَان ضبط الْمَتْن وَالنَّقْل بِالْمَعْنَى
قَالَ بعض أهل الحَدِيث مُرَاعَاة اللَّفْظ فِي الرِّوَايَة وَاجِب على وَجه لَا يجوز النَّقْل بِالْمَعْنَى من غير مُرَاعَاة اللَّفْظ بِحَال وَذَلِكَ مَنْقُول عَن ابْن سِيرِين
قَالَ بعض أهل النّظر قَول الصَّحَابِيّ على سَبِيل الْحِكَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَقْوَاله وأفعاله لَا يكون حجَّة بل يجب طلب لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْبَاب حَتَّى يَصح الِاحْتِجَاج بِهِ وَهَذَا قَول مهجور
وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء مُرَاعَاة اللَّفْظ فِي النَّقْل أولى وَيجوز النَّقْل بِالْمَعْنَى بعد حسن الضَّبْط على تَفْصِيل نذكرهُ فِي آخر الْفَصْل
وَقد نقل ذَلِك عَن الْحسن وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ
فَأَما من لم يجوز ذَلِك اسْتدلَّ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها وأداها كَمَا سَمعهَا فَرب حَامِل فقه إِلَى غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ فقد أَمر بمراعاة اللَّفْظ فِي النَّقْل وَبَين الْمَعْنى فِيهِ وَهُوَ تفَاوت النَّاس فِي الْفِقْه والفهم وَاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى يُوجب الْحجر عَاما عَن تَبْدِيل اللَّفْظ بِلَفْظ آخر وَهَذَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوتِيَ من جَوَامِع الْكَلم والفصاحة فِي الْبَيَان مَا هُوَ نِهَايَة لَا يُدْرِكهُ فِيهِ غَيره فَفِي التبديل بِعِبَارَة أُخْرَى لَا يُؤمن التحريف أَو الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فِيمَا كَانَ مرَادا لَهُ
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك مَا اشْتهر من قَول الصَّحَابَة أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا ونهانا عَن كَذَا وَلَا يمْتَنع أحد من قبُول ذَلِك إِلَّا من هُوَ متعنت
وروينا عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا روى حَدِيثا قَالَ نَحْو هَذَا أَو قَرِيبا مِنْهُ(1/355)
أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَكَانَ أنس رَضِي الله عَنهُ إِذا روى حَدِيثا قَالَ فِي آخِره أَو كَمَا قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَدلَّ أَن النَّقْل بِالْمَعْنَى كَانَ مَشْهُورا فيهم وَكَذَلِكَ الْعلمَاء بعدهمْ يذكرُونَ فِي تصانيفهم بلغنَا نَحوا من ذَلِك
وَهَذَا لِأَن نظم الحَدِيث لَيْسَ بمعجز وَالْمَطْلُوب مِنْهُ مَا يتَعَلَّق بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الحكم من غير أَن يكون لَهُ تعلق بِصُورَة النّظم وَقد علمنَا أَن الْأَمر بالتبليغ لما هُوَ الْمَقْصُود بِهِ فَإِذا كمل ذَلِك بِالنَّقْلِ بِالْمَعْنَى كَانَ ممتثلا لما أَمر بِهِ من النَّقْل لَا مرتكبا لِلْحَرَامِ وَإِنَّمَا يعْتَبر النّظم فِي نقل الْقُرْآن لِأَنَّهُ معجز مَعَ أَنه قد ثَبت أَيْضا فِيهِ نوع رخصَة ببركة دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْله أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف إِلَّا أَن فِي ذَلِك رخصَة من حَيْثُ الْإِسْقَاط وَهَذَا من حَيْثُ التَّخْفِيف والتيسير وَمعنى الرُّخْصَة يتَحَقَّق بالطريقين كَمَا تقدم بَيَانه
إِذا عرفنَا هَذَا فَنَقُول الْخَبَر إِمَّا أَن يكون محكما لَهُ معنى وَاحِد مَعْلُوم بِظَاهِر الْمَتْن أَو يكون ظَاهرا مَعْلُوم الْمَعْنى بِظَاهِرِهِ على احْتِمَال شَيْء آخر كالعام الَّذِي يحْتَمل الْخُصُوص والحقيقة الَّتِي تحْتَمل الْمجَاز أَو يكون مُشكلا أَو يكون مُشْتَركا يعرف المُرَاد بالتأويل أَو يكون مُجملا لَا يعرف المُرَاد بِهِ إِلَّا بِبَيَان أَو يكون متشابها أَو يكون من جَوَامِع الْكَلم
فَأَما الْمُحكم يجوز نَقله بِالْمَعْنَى لكل من كَانَ عَالما بِوُجُوه اللُّغَة لِأَن المُرَاد بِهِ مَعْلُوم حَقِيقَة وَإِذا كَسَاه الْعَالم باللغة عبارَة أُخْرَى لَا يتَمَكَّن فِيهِ تُهْمَة الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان
فَأَما الظَّاهِر فَلَا يجوز نَقله بِالْمَعْنَى إِلَّا لمن جمع إِلَى الْعلم باللغة الْعلم بِفقه الشَّرِيعَة لِأَنَّهُ إِذا لم يكن عَالما بذلك لم يُؤمن إِذا كَسَاه عبارَة أُخْرَى أَن لَا تكون تِلْكَ الْعبارَة فِي احْتِمَال الْخُصُوص وَالْمجَاز مثل الْعبارَة الأولى وَإِن كَانَ ذَلِك هُوَ المُرَاد بِهِ وَلَعَلَّ الْعبارَة الَّتِي يروي بهَا تكون أَعم من تِلْكَ الْعبارَة لجهله بِالْفرقِ بَين الْخَاص وَالْعَام فَإِذا كَانَ عَالما بِفقه الشَّرِيعَة يَقع الْأَمْن عَن هَذَا التَّقْصِير مِنْهُ عِنْد تَغْيِير الْعبارَة فَيجوز لَهُ النَّقْل بِالْمَعْنَى كَمَا كَانَ يَفْعَله الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ رَحِمهم الله(1/356)
فَأَما الْمُشكل والمشترك لَا يجوز فيهمَا النَّقْل بِالْمَعْنَى أصلا لِأَن المُرَاد بهما لَا يعرف إِلَّا بالتأويل والتأويل يكون بِنَوْع من الرَّأْي كالقياس فَلَا يكون حجَّة على غَيره
وَأما الْمُجْمل فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ النَّقْل بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يُوقف على الْمَعْنى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيل آخر والمتشابه كَذَلِك لأَنا ابتلينا بالكف عَن طلب الْمَعْنى فِيهِ فَكيف يتَصَوَّر نَقله بِالْمَعْنَى
وَأما مَا يكون من جَوَامِع الْكَلم كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام الْخراج بِالضَّمَانِ وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام العجماء جَبَّار وَمَا أشبه ذَلِك فقد جوز بعض مَشَايِخنَا نَقله بِالْمَعْنَى على الشَّرْط الَّذِي ذكرنَا فِي الظَّاهِر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه لَا يجوز ذَلِك لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا النّظم على مَا رُوِيَ أَنه قَالَ أُوتيت جَوَامِع الْكَلم أَي خصصت بذلك فَلَا يقدر أحد بعده على مَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ وَلَكِن كل مُكَلّف بِمَا فِي وَسعه وَفِي وَسعه نقل ذَلِك اللَّفْظ ليَكُون مُؤديا إِلَى غَيره مَا سَمعه مِنْهُ بِيَقِين وَإِذا نَقله إِلَى عِبَارَته لم يُؤمن الْقُصُور فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب بِهِ ويتيقن بالقصور فِي النّظم الَّذِي هُوَ من جَوَامِع الْكَلم وَكَانَ هَذَا النَّوْع هُوَ مُرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله ثمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمعهَا
فصل فِي بَيَان الضَّبْط بِالْكِتَابَةِ والخط
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْكِتَابَة نَوْعَانِ تذكرة وَإِمَام
فالتذكرة هُوَ أَن ينظر فِي الْمَكْتُوب فيتذكر بِهِ مَا كَانَ مسموعا لَهُ وَالنَّقْل بِهَذَا الطَّرِيق جَائِز سَوَاء كَانَ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ أَو بِخَط غَيره وَذَلِكَ الْخط مَعْرُوف أَو مَجْهُول لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينْقل مَا يحفظ غير أَن النّظر فِي الْكتاب كَانَ مذكرا لَهُ فَلَا يكون دون التفكر وَلَو تفكر فَتذكر جَازَ لَهُ أَن يروي وَيكون خَبره حجَّة فَكَذَلِك إِذا نظر فِي الْكتاب فَتذكر وَلِهَذَا الْمَقْصُود ندب إِلَى الْكتاب على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث قيدوا الْعلم بِالْكتاب وَقَالَ إِبْرَاهِيم كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعلم حفظا ثمَّ أُبِيح لَهُم الْكِتَابَة لما حدث بهم من الكسل وَلِأَن النسْيَان مركب فِي الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ أَن يحفظ نَفسه مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ خَاصّا لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بقوله سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ(1/357)
الله وَلِهَذَا الِاسْتِثْنَاء وَقع لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تردد فِي قِرَاءَته سُورَة الْمُؤمنِينَ فِي صَلَاة الْفجْر حَتَّى قَالَ لأبي رَضِي الله عَنهُ (هلا ذَكرتني) فَثَبت أَن النسْيَان مِمَّا لَا يُسْتَطَاع الِامْتِنَاع مِنْهُ إِلَّا بحرج بَين والحرج مَدْفُوع وَبعد النسْيَان النّظر فِي الْكتاب طَرِيق للتذكر وَالْعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحِفْظ وَإِذا عَاد كَمَا كَانَ فَالرِّوَايَة تكون عَن ضبط تَامّ
وَأما النَّوْع الثَّانِي فَهُوَ أَن لَا يتَذَكَّر عِنْد النّظر وَلكنه يعْتَمد الْخط وَذَلِكَ يكون فِي فُصُول ثَلَاثَة رِوَايَة الحَدِيث وَالْقَاضِي يجد فِي خريطته سجلا مخطوطا بِخَطِّهِ من غير أَن يتَذَكَّر الْحَادِثَة وَالشَّاهِد يرى خطه فِي الصَّك وَلَا يتَذَكَّر الْحَادِثَة
ف أَبُو حنيفَة رَحمَه الله أَخذ فِي الْفُصُول الثَّلَاثَة بِمَا هُوَ الْعَزِيمَة وَقَالَ لَا يجوز لَهُ أَن يعْتَمد الْكتاب مَا لم يتَذَكَّر لِأَن النّظر فِي الْكتاب لمعْرِفَة الْقلب كالنظر فِي الْمرْآة للرؤية بِالْعينِ ثمَّ النّظر فِي الْمرْآة إِذا لم تفده إدراكا لَا يكون مُعْتَبرا فالنظر فِي الْكتاب إِذا لم يفده تذكرا يكون هدرا وَهَذَا لِأَن الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وتنفيذ الْقَضَاء لَا يكون إِلَّا بِعلم والخط يشبه الْخط فبصورة الْخط لَا يَسْتَفِيد علما من غير التَّذَكُّر وَمَا كَانَ الْفساد فِي سَائِر الْأَدْيَان إِلَّا بالاعتماد على الصُّور بِدُونِ الْمَعْنى
وروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف رحمهمَا الله أَن فِي السّجل وَرِوَايَة الْأَثر يجوز لَهُ أَن يعْتَمد الْخط وَإِن لم يتَذَكَّر بِهِ وَفِي الصَّك لَا يجوز لَهُ ذَلِك
وروى ابْن رستم عَن مُحَمَّد رحمهمَا الله أَن ذَلِك جَائِز فِي الْفُصُول كلهَا وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رخصَة للتيسير على النَّاس
ثمَّ هَذِه الرُّخْصَة تتنوع أنواعا إِمَّا أَن يكون الْكتاب بِخَطِّهِ أَو بِخَط رجل مَعْرُوف ثِقَة موقع بتوقيعه أَو بِخَط رجل مَعْرُوف غير ثِقَة أَو غير موقع أَو بِخَط مَجْهُول أما أَبُو يُوسُف رَحمَه الله فَقَالَ السّجل يكون فِي خريطة القَاضِي مَخْتُومًا بختمه وَكَانَ فِي يَده أَيْضا فباعتبار الظَّاهِر يُؤمن فِيهِ التزوير والتبديل بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَان وَالْقَاضِي مَأْمُور بِاتِّبَاع الظَّاهِر فِي الْقَضَاء فَلهُ أَن يعْتَمد السّجل فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ كتاب الْمُحدث إِذا كَانَ فِي يَده وَإِن لم يكن السّجل فِي يَد القَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَن يعتمده لِأَن التزوير والتغيير فِيهِ عَادَة لما يبتنى عَلَيْهِ من الْمَظَالِم والخصومات وَمثله فِي كتاب(1/358)
الحَدِيث لَيْسَ بعادة فَلَا فرق فِيهِ بَين أَن يكون فِي يَده أَو فِي يَد أَمِين آخر لم يظْهر مِنْهُ خِيَانَة فِي مثله وَأما الصَّك فَيكون بيد الْخصم فَلَا يَقع الْأَمْن فِيهِ عَن التَّغْيِير والتزوير حَتَّى إِذا كَانَ فِي يَد الشَّاهِد كَانَ الْجَواب فِيهِ مثل الْجَواب فِي السّجل
وَالْحَاصِل أَنه بنى هَذِه الرُّخْصَة على مَا يُوقع الْأَمْن عَن التَّغْيِير وَالتَّعْدِيل عَادَة وَمُحَمّد رَحمَه الله أثبت الرُّخْصَة فِي الصَّك أَيْضا وَإِن لم يكن فِي يَده إِذا علم أَن الْمَكْتُوب خطه على وَجه لَا يبْقى فِيهِ شُبْهَة لَهُ لِأَن الْبَاقِي بعد ذَلِك توهم التَّغْيِير وَله أثر بَين يُوقف عَلَيْهِ فَإِذا لم يظْهر ذَلِك فِيهِ جَازَ اعْتِمَاده فَأَما إِذا وجد الْكتاب بِخَط بَين وَهُوَ مَعْلُوم عِنْده أَو بِخَط رجل مَعْرُوف موثق بِهِ فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يَقُول وجدت بِخَط فلَان كَذَا لَا يزِيد على ذَلِك ثمَّ إِن كَانَ ذَلِك الْخط مُنْفَردا لَيْسَ مَعَه شَيْء آخر فَإِنَّهُ لَا يكون حجَّة وَإِن كَانَ مَعَه غَيره فَذَلِك يُوقع الْأَمْن عَن التزوير بطرِيق الْعَادة فَيجوز اعْتِمَاده على وَجه الرُّخْصَة (وَهَذَا فِي الْأَخْبَار خَاصَّة) فَأَما فِي الشَّهَادَة وَالْقَضَاء فَلَا لِأَن ذَلِك من مظالم الْعباد يعْتَبر فِيهِ من الِاسْتِقْصَاء مَا لَا يعْتَبر فِي رِوَايَة الْأَخْبَار وَاشْتِرَاط الْعلم فِيهِ مَنْصُوص عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام للشَّاهِد إِذا رَأَيْت مثل هَذَا الشَّمْس فاشهد وَإِلَّا فدع
فصل فِي بَيَان وُجُوه الِانْقِطَاع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الِانْقِطَاع نَوْعَانِ انْقِطَاع صُورَة وَانْقِطَاع معنى
أما صُورَة الِانْقِطَاع صُورَة فَفِي الْمَرَاسِيل من الْأَخْبَار وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي مَرَاسِيل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنَّهَا حجَّة لأَنهم صحبوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يَرْوُونَهُ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام مُطلقًا يحمل على أَنهم سَمِعُوهُ مِنْهُ أَو من أمثالهم وهم كَانُوا أهل الصدْق وَالْعَدَالَة وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبَراء بن عَازِب رَضِي الله عَنْهُمَا بقوله مَا كل مَا نحدثكم بِهِ سمعناه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا كَانَ يحدث بَعْضنَا بَعْضًا وَلَكنَّا لَا نكذب(1/359)
فَأَما مَرَاسِيل الْقرن الثَّانِي وَالثَّالِث حجَّة فِي قَول عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يكون حجَّة إِلَّا إِذا تأيد بِآيَة أَو سنة مَشْهُورَة أَو اشْتهر الْعَمَل بِهِ من السّلف أَو اتَّصل من وَجه آخر
قَالَ وَلِهَذَا جعلت مَرَاسِيل سعيد بن الْمسيب حجَّة لِأَنِّي اتبعتها فَوَجَدتهَا مسانيد
احْتج فِي ذَلِك فَقَالَ الْخَبَر إِنَّمَا يكون حجَّة بِاعْتِبَار أَوْصَاف فِي الرَّاوِي وَلَا طَرِيق لمعْرِفَة تِلْكَ الْأَوْصَاف فِي الرَّاوِي إِذا كَانَ غير مَعْلُوم الأَصْل فَلَا تقوم الْحجَّة بِمثل هَذِه الرِّوَايَة وإعلامه بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي حَيَاته وبذكر اسْمه وَنسبه بعد وَفَاته فَإِذا لم يذكرهُ أصلا فقد تحقق انْقِطَاع هَذَا الْخَبَر عَن رَسُول الله وَالْحجّة فِي الْخَبَر باتصاله برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَبعد الِانْقِطَاع لَا يكون حجَّة
وَلَا يُقَال إِن رِوَايَة الْعدْل عَنهُ تكون تعديلا لَهُ وَإِن لم يذكر اسْمه لِأَن طَرِيق معرفَة الْجرْح وَالْعَدَالَة الِاجْتِهَاد وَقد يكون الْوَاحِد عدلا عِنْد إِنْسَان مجروحا عِنْد غَيره بِأَن يقف مِنْهُ على مَا كَانَ الآخر لَا يقف عَلَيْهِ أَلا ترى أَن شُهُود الْفَرْع إِذا شهدُوا على شَهَادَة الْأُصُول من غير ذكرهم فِي شَهَادَتهم لَا تكون شَهَادَتهم حجَّة لهَذَا الْمَعْنى يُوضحهُ أَنه قد كَانَ فيهم من يروي عَمَّن هُوَ مَجْرُوح عِنْده على مَا قَالَ الشّعبِيّ رَحمَه الله حَدثنِي الْحَارِث وَكَانَ وَالله كذابا
فَعرفنَا أَن بروايته عَنهُ لَا يثبت فِيهِ مَا يشْتَرط فِي الرَّاوِي فَيكون خَبره حجَّة وَلِأَن النَّاس تكلفوا بِحِفْظ الْأَسَانِيد فِي بَاب الْأَخْبَار فَلَو كَانَت الْحجَّة تقوم بالمراسيل لَكَانَ تكلفهم اشتغالا بِمَا لَا يُفِيد فيبعد أَن يُقَال اجْتمع النَّاس على مَا لَيْسَ بمفيد
وَلَكنَّا نقُول الدَّلَائِل الَّتِي دلّت على كَون خبر الْوَاحِد حجَّة من الْكتاب وَالسّنة كلهَا تدل على كَون الْمُرْسل من الْأَخْبَار حجَّة
ثمَّ قد ظهر الْإِرْسَال من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ ظهورا لَا يُنكره إِلَّا متعنت
أما من الصَّحَابَة فبيانه فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ وَلما أنْكرت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ هِيَ أعلم حَدثنِي بِهِ الْفضل بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فقد أرسل الرِّوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير سَماع مِنْهُ وَقيل إِن ابْن عَبَّاس مَا سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بضعَة عشر حَدِيثا وَقد كثرت رِوَايَته مُرْسلا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك سَمَاعا من غير(1/360)
رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر وَإِنَّمَا سمع ذَلِك من أَخِيه الْفضل ونعمان بن بشير رَضِي الله عَنْهُم مَا سمع من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح سَائِر جسده وَإِذا فَسدتْ فسد سَائِر جسده أَلا وَهِي الْقلب ثمَّ كثرت رِوَايَته عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام مُرْسلا وَالْحسن وَسَعِيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنْهُمَا وَغَيرهمَا من أَئِمَّة التَّابِعين كَانَ كثيرا مَا يروون مُرْسلا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قيل أَكثر مَا رَوَاهُ سعيد بن الْمسيب مُرْسلا إِنَّمَا سَمعه من عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ الْحسن كنت إِذا اجْتمع لي أَرْبَعَة من الصَّحَابَة على حَدِيث أَرْسلتهُ إرْسَالًا
وَقَالَ ابْن سِيرِين رَضِي الله عَنهُ مَا كُنَّا نسند الحَدِيث إِلَى أَن وَقعت الْفِتْنَة فَقَالَ الْأَعْمَش قلت لإِبْرَاهِيم إِذا رويت لي حَدِيثا عَن عبد الله فأسنده لي فَقَالَ إِذا قلت لَك حَدثنِي فلَان عَن عبد الله فَهُوَ ذَاك وَإِذا قلت لَك قَالَ عبد الله فَهُوَ غير وَاحِد وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى بن أبان الْمُرْسل أقوى من الْمسند فَإِن من اشْتهر عِنْده حَدِيث (بِأَن سَمعه) بطرق طوى الْإِسْنَاد لوضوح الطَّرِيق عِنْده وَقطع الشَّهَادَة بقوله قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَإِذا سَمعه بطرِيق وَاحِد لَا يَتَّضِح الْأَمر عِنْده على وَجه لَا يبْقى لَهُ فِيهِ شُبْهَة فيذكره مُسْندًا على قصد أَن يحملهُ من يحمل عَنهُ
فَإِن قيل فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يجوز النّسخ بالمرسل كَمَا يجوز بَين الْأَخْبَار بالمشهور عنْدكُمْ
قُلْنَا إِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَن قُوَّة الْمُرْسل من هَذَا الْوَجْه بِنَوْع من الِاجْتِهَاد فَيكون نَظِير قُوَّة تثبت بطرِيق الْقيَاس والنسخ بِمثلِهِ لَا يجوز
ثمَّ رِوَايَة هَؤُلَاءِ الْكِبَار مُرْسلا أما إِن كَانَ بِاعْتِبَار سماعهم مِمَّن لَيْسَ بِعدْل عِنْدهم أَو بِاعْتِبَار سماعهم من عدل مَعَ اعْتِقَادهم أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة أَو على اعْتِقَادهم أَن الْمُرْسل حجَّة كالمسند وَالْأول بَاطِل فَإِن من يستجيز الرِّوَايَة عَمَّن يعرفهُ غير عدل بِهَذِهِ الصّفة لَا يعْتَمد رِوَايَته مُرْسلا وَلَا مُسْندًا وَلَا يجوز أَن يظنّ بهم هَذَا وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ قَول بِأَنَّهُم كتموا مَوضِع(1/361)
الْحجَّة بترك الْإِسْنَاد مَعَ علمهمْ أَن الْحجَّة لَا تقوم بِدُونِهِ فَتعين الثَّالِث وَهُوَ أَنهم اعتقدوا أَن الْمُرْسل حجَّة كالمسند وَكفى باتفاقهم حجَّة
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي بعض كتبه إِنَّمَا أرْسلُوا ليطلب ذَلِك فِي الْمسند وَهَذَا كَلَام فَاسد لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يُقَال لم يكن عِنْدهم إِسْنَاد ذَلِك أَو كَانَ وَلم يذكرُوا وَالْأول بَاطِل لِأَن فِيهِ قولا بِأَنَّهُم تخرصوا مَا لم يسمعوا ليطلب ذَلِك فِي المسموعات وَلَا يجوز ذَلِك لمن هُوَ دونهم فَكيف بهم وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِنْدهم الْإِسْنَاد وَقد علمُوا أَن الْحجَّة لَا تقوم بِدُونِهِ فَلَيْسَ فِي تَركه إِلَّا الْقَصْد إِلَى إتعاب النَّفس بِالطَّلَبِ
وَلَو قَالَ من أنكر الِاحْتِجَاج بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّهُم إِنَّمَا رووا ذَلِك ليطلب ذَلِك فِي الْمُتَوَاتر لَا يكون هَذَا الْكَلَام مَقْبُولًا مِنْهُ بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك هَذَا يقرره أَن الْمُفْتِي إِذا قَالَ للمستفتي قضى رَسُول الله فِي هَذِه الْحَادِثَة بِكَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْمل بِهِ وَإِن لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا فَكَذَلِك إِذا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا
وَلَو قَالَ روى فلَان عَن فلَان قبل ذَلِك مِنْهُ وَإِن لم يقل حَدثنِي وَلَا سمعته مِنْهُ وَهَذَا فِي معنى الْإِرْسَال
فَإِن قَالَ إِنَّمَا نجيزه على هَذَا الْوَجْه عَمَّن لَقِي فَيحمل مُطلق كَلَامه على المسموع مِنْهُ
قُلْنَا لما جَازَ حمل كَلَامه على هَذَا وَإِن لم ينص عَلَيْهِ لتحسين الظَّن بِهِ فَكَذَلِك يجوز حمل كَلَامه عِنْد الْإِرْسَال على السماع مِمَّن هُوَ عدل بِاعْتِبَار الظَّاهِر لتحسين الظَّن بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا طَرِيق لنا إِلَى معرفَة الشَّرَائِط للرواية فِيمَن لم يُدْرِكهُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ مِمَّن أدْركهُ وَإِذا كَانَ من أدْركهُ عدلا ثِقَة فَإِنَّهُ لَا يروي عَنهُ مُطلقًا مَا لم يعرف استجماع الشَّرَائِط فِيهِ فبروايته عَنهُ يثبت لنا استجماع الشَّرَائِط أَلا ترى أَنه لَو أسْند الرِّوَايَة إِلَيْهِ يثبت استجماع الشَّرَائِط فِيهِ بروايته عَنهُ فَكَذَلِك إِذا أرْسلهُ بل أولى لِأَنَّهُ إِذا أسْند إِلَيْهِ فَإِنَّمَا شهد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ روى ذَلِك فَإِذا أرسل فَإِنَّمَا يشْهد على رَسُول الله أَنه قَالَ ذَلِك وَمن علم أَنه لَا يستجيز الشَّهَادَة على غير رَسُول الله بِالْبَاطِلِ فَكيف يظنّ أَن يستجيز الشَّهَادَة على رَسُول الله بِالْبَاطِلِ مَعَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار يُوضحهُ أَن القَاضِي إِذا كتب سجلا فِيهِ قَضَاؤُهُ فِي حَادِثَة وَأشْهد على ذَلِك كَانَ ذَلِك حجَّة وَإِن لم يبين اسْم الشُّهُود فِي المسجل وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيق وَهَذَا بِخِلَاف الشُّهُود على شَهَادَة الْغَيْر لِأَن الْعلمَاء(1/362)
مُخْتَلفُونَ فِي أَن عِنْد الرُّجُوع هَل يجب الضَّمَان على شُهُود الأَصْل أم لَا فَلَعَلَّ القَاضِي مِمَّن يرى تضمينهم فَلَا يتَمَكَّن من الْقَضَاء بِهِ إِذا لم يَكُونُوا معلومين عِنْده وَمثل هَذَا لَا يتَحَقَّق فِي بَاب الْأَخْبَار مَعَ أَن شَاهد الْفَرْع يَنُوب عَن شَاهد الأَصْل فِي نقل شَهَادَته أَلا ترى أَنه لَو أشهد قوما على شَهَادَته فَسَمعهُ آخَرُونَ لم يكن لَهُم أَن يشْهدُوا على شَهَادَته بِخِلَاف رِوَايَة الْأَخْبَار وَإِذا كَانَ الفرعي يعبر عَن الأَصْل بِشَهَادَتِهِ لم يجد بدا من ذكره ليَكُون معبرا أَلا ترى أَنه لَو قَالَ أشهد عَن فلَان لم يكن ذَلِك مَقْبُولًا
وَهنا لَو قَالَ أروي عَن فلَان كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ
ثمَّ اشْتِغَال النَّاس بِالْإِسْنَادِ كاشتغالهم بالتكلف لسَمَاع الحَدِيث من وُجُوه وَذَلِكَ لَا يدل على أَن خبر الْوَاحِد لَا يكون حجَّة فَكَذَلِك اشتغالهم بِالْإِسْنَادِ لَا يكون دَلِيلا على أَن الْمُرْسل لَا يكون حجَّة
فَأَما مَرَاسِيل من بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة فقد كَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله لَا يفرق بَين مَرَاسِيل أهل الْأَعْصَار وَكَانَ يَقُول من تقبل رِوَايَته مُسْندًا تقبل رِوَايَته مُرْسلا
للمعنى الَّذِي ذكرنَا
وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول من اشْتهر فِي النَّاس بِحمْل الْعلم مِنْهُ تقبل رِوَايَته مُرْسلا وَمُسْندًا
وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله وَأَمْثَاله من الْمَشْهُورين بِالْعلمِ وَمن لم يشْتَهر بِحمْل النَّاس الْعلم مِنْهُ مُطلقًا وَإِنَّمَا اشْتهر بالرواية عَنهُ فَإِن مُسْنده يكون حجَّة ومرسله يكون مَوْقُوفا إِلَى أَن يعرض على من اشْتهر بِحمْل الْعلم عَنهُ
وَأَصَح الْأَقَاوِيل فِي هَذَا مَا قَالَه أَبُو بكر الرَّازِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن مُرْسل من كَانَ من الْقُرُون الثَّلَاثَة حجَّة مَا لم يعرف مِنْهُ الرِّوَايَة مُطلقًا عَمَّن لَيْسَ بِعدْل ثِقَة ومرسل من كَانَ بعدهمْ لَا يكون حجَّة إِلَّا من اشْتهر بِأَنَّهُ لَا يروي إِلَّا عَمَّن هُوَ عدل ثِقَة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام شهد للقرون الثَّلَاثَة بِالصّدقِ والخيرية فَكَانَت عدالتهم ثَابِتَة بِتِلْكَ الشَّهَادَة مَا لم يتَبَيَّن خلافهم وَشهد على من بعدهمْ بِالْكَذِبِ بقوله ثمَّ يفشو الْكَذِب فَلَا تثبت عَدَالَة من كَانَ فِي زمن شهد على أَهله بِالْكَذِبِ إِلَّا بِرِوَايَة من كَانَ مَعْلُوم الْعَدَالَة يعلم أَنه لَا يروي إِلَّا عَن عدل
وَإِلَى نَحْو هَذَا أَشَارَ عُرْوَة بن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا حِين روى لعمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ فَقَالَ أَتَشهد بِهِ على رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نعم فَمَا يَمْنعنِي من ذَلِك وَقد أَخْبرنِي بِهِ الْعدْل الرِّضَا
فَقبل عمر بن عبد الْعَزِيز رِوَايَته(1/363)
وَاخْتلف أَصْحَاب الحَدِيث فِي مُنْقَطع من وَجه مُتَّصِل من وَجه آخر
فَمنهمْ من قَالَ سقط اعْتِبَار الِاتِّصَال فِيهِ بالانقطاع من وَجه وَكَأن هَذَا الْقَائِل جعل الِانْقِطَاع بسكوت رَاوِي الْفَرْع عَن تَسْمِيَة رَاوِي الأَصْل دَلِيل الْجرْح فِيهِ وَإِذا اسْتَوَى الْمُوجب للعدالة والموجب للجرح يغلب الْجرْح وَأَكْثَرهم على أَن هَذَا يكون حجَّة لوُجُود الِاتِّصَال فِيهِ بطرِيق وَاحِد وَالطَّرِيق الآخر الَّذِي هُوَ مُنْقَطع يَجْعَل كَأَن لبس لِأَن ذَلِك الطَّرِيق سَاكِت عَن الرَّاوِي وحاله أصلا وَفِي الطَّرِيق الْمُتَّصِل بَيَان لَهُ وَلَا مُعَارضَة بَين السَّاكِت والناطق
فَأَما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الِانْقِطَاع معنى يَنْقَسِم قسمَيْنِ إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمَعْنى بِدَلِيل معَارض أَو نُقْصَان فِي حَال الرَّاوِي يثبت بِهِ الِانْقِطَاع
فَأَما الْقسم الأول وَهُوَ ثُبُوت الِانْقِطَاع بِدَلِيل معَارض فعلى أَرْبَعَة أوجه إِمَّا أَن يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى أَو لسنة مَشْهُورَة عَن رَسُول الله أَو يكون حَدِيثا شاذا لم يشْتَهر فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى وَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته أَو يكون حَدِيثا قد أعرض عَنهُ الْأَئِمَّة من الصَّدْر الأول بِأَن ظهر مِنْهُم الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْحَادِثَة وَلم تجر بَينهم المحاجة بذلك الحَدِيث
فَأَما الْوَجْه الأول وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الحَدِيث مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يكون مَقْبُولًا وَلَا حجَّة للْعَمَل بِهِ عَاما كَانَت الْآيَة أَو خَاصّا نصا أَو ظَاهرا عندنَا على مَا بَينا أَن تَخْصِيص الْعَام بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ ترك الظَّاهِر فِيهِ وَالْحمل على نوع من الْمجَاز لَا يجوز بِخَبَر الْوَاحِد عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَقد بَينا هَذَا وَدَلِيلنَا فِي ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى فَهُوَ بَاطِل وَكتاب الله أَحَق وَالْمرَاد كل شَرط هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى لَا أَن يكون المُرَاد مَا لَا يُوجد عينه فِي كتاب الله تَعَالَى فَإِن عين هَذَا الحَدِيث لَا يُوجد فِي كتاب الله تَعَالَى وبالإجماع من الْأَحْكَام مَا هُوَ ثَابت بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَإِن كَانَ لَا يُوجد ذَلِك فِي كتاب الله تَعَالَى فَعرفنَا أَن المُرَاد مَا يكون مُخَالفا لكتاب الله تَعَالَى وَذَلِكَ(1/364)
تنصيص على أَن كل حَدِيث هُوَ مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَهُوَ مَرْدُود
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام تكْثر الْأَحَادِيث لكم بعدِي فَإِذا رُوِيَ لكم عني حَدِيث فاعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فَمَا وَافقه فاقبلوه وَاعْلَمُوا أَنه مني وَمَا خَالفه فَردُّوهُ وَاعْلَمُوا أَنِّي مِنْهُ بَرِيء وَلِأَن الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَفِي اتِّصَال الْخَبَر الْوَاحِد برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شُبْهَة فَعِنْدَ تعذر الْأَخْذ بهما لَا بُد من أَن يُؤْخَذ بالمتيقن وَيتْرك مَا فِيهِ شُبْهَة وَالْعَام وَالْخَاص فِي هَذَا سَوَاء لما بَينا أَن الْعَام مُوجب للْحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا كالخاص وَكَذَلِكَ النَّص وَالظَّاهِر سَوَاء لِأَن الْمَتْن من الْكتاب مُتَيَقن بِهِ وَمتْن الحَدِيث لَا يَنْفَكّ عَن شُبْهَة لاحْتِمَال النَّقْل بِالْمَعْنَى ثمَّ قوام الْمَعْنى بِالْمَتْنِ فَإِنَّمَا يشْتَغل بالترجيح من حَيْثُ الْمَتْن أَولا إِلَى أَن يَجِيء إِلَى الْمَعْنى وَلَا شكّ أَن الْكتاب يتَرَجَّح بِاعْتِبَار النَّقْل الْمُتَوَاتر فِي الْمَتْن على خبر الْوَاحِد فَكَانَت مُخَالفَة الْخَبَر للْكتاب دَلِيلا ظَاهرا على الزيافة فِيهِ وَلِهَذَا لم يقبل عُلَمَاؤُنَا خبر الْوضُوء من مس الذّكر لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ فقد مدحهم بذلك وسمى فعلهم تطهرا وَمَعْلُوم أَن الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ لَا يكون إِلَّا بِمَسّ الذّكر فَالْحَدِيث الَّذِي يَجْعَل مَسّه حَدثا بِمَنْزِلَة الْبَوْل يكون مُخَالفا لما فِي الْكتاب لِأَن الْفِعْل الَّذِي هُوَ حدث لَا يكون تطهرا
وَكَذَلِكَ لم يقبل حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فِي أَن لَا نَفَقَة للمبتوتة لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} وَلَا خلاف أَن المُرَاد وأنفقوا عَلَيْهِنَّ من وجدكم فَالْمُرَاد الْحَائِل فَإِنَّهُ عطف عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} وَكَذَلِكَ لم يقبل خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب من أوجه فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} الْآيَة وَقَوله واستشهدوا أَمر بِفعل هُوَ مُجمل فِيمَا يرجع إِلَى عدد الشُّهُود كَقَوْل الْقَائِل كل يكون مُجملا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الْمَأْكُول فَيكون مَا بعده تَفْسِيرا لذَلِك الْمُجْمل وبيانا لجَمِيع مَا هُوَ المُرَاد بِالْأَمر وَهُوَ استشهاد رجلَيْنِ فَكَذَا أَو أَذِنت لَك أَن تعامل فلَانا فَإِن لم يكن ففلانا يكون ذَلِك بَيَانا لجَمِيع مَا هُوَ المُرَاد بِالْأَمر وَالْإِذْن وَإِذا ثَبت أَن جَمِيع مَا هُوَ الْمَذْكُور فِي الْآيَة كَانَ خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين زَائِدا عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة على النَّص كالنسخ عندنَا يقرره قَوْله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} فقد فَإِن لم يَكُونَا فَرجل وَامْرَأَتَانِ كَقَوْل الْقَائِل كل طَعَام كَذَا(1/365)
فَإِن لم يكن نَص على أَن أدنى مَا تَنْتفِي بِهِ الرِّيبَة شَهَادَة شَاهِدين بِهَذِهِ الصّفة وَلَيْسَ دون الْأَدْنَى شَيْء آخر تَنْتفِي بِهِ الرِّيبَة وَلِأَنَّهُ نقل الحكم من استشهاد الرجل الثَّانِي بعد شَهَادَة الشَّاهِد الْوَاحِد إِلَى استشهاد امْرَأتَيْنِ مَعَ أَن حُضُور النِّسَاء مجَالِس الْقَضَاء لأَدَاء الشَّهَادَة خلاف الْعَادة وَقد أمرن بالقرار فِي الْبيُوت شرعا فَلَو كَانَ يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد حجَّة لما نقل الحكم إِلَى استشهاد امْرَأتَيْنِ وَهُوَ خلاف الْمُعْتَاد مَعَ تمكن الْمُدَّعِي من إتْمَام حجَّته بِيَمِينِهِ
وبمثل هَذَا الطَّرِيق جعلنَا شَهَادَة أهل الذِّمَّة بَعضهم على بعض حجَّة لِأَن الله تَعَالَى نقل الحكم عَن استشهاد مُسلمين على وَصِيَّة الْمُسلم إِلَى استشهاد ذميين بقوله تَعَالَى {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} مَعَ أَن حُضُور أهل الذِّمَّة مجَالِس الْقُضَاة لأَدَاء الشَّهَادَة خلاف الْمُعْتَاد فَذَلِك دَلِيل ظَاهر على أَن الْحجَّة تقوم بِشَهَادَتِهِم فِي الْجُمْلَة
وَهُوَ دَلِيل أَيْضا على رد خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ نقل الحكم إِلَى استشهاد ذميين عِنْد عدم شَاهِدين مُسلمين فَلَو كَانَ الشَّاهِد الْوَاحِد مَعَ يَمِين الْمُدَّعِي حجَّة لَكَانَ الأولى بَيَان ذَلِك عِنْد الْحَاجة وَذكر فِي الْآيَة يَمِين الشَّاهِدين ظَاهرا عِنْد الرِّيبَة مَعَ أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة الْيَوْم (لأجل النّسخ) فَلَو كَانَ بِيَمِين الْمُدَّعِي تَنْتفِي الرِّيبَة أَو تتمّ الْحجَّة لَكَانَ الأولى ذكر يَمِينه عِنْد الْحَاجة
فبهذه الْوُجُوه يتَبَيَّن أَن خبر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين مُخَالف للْكتاب فتركنا الْعَمَل بِهِ لهَذَا وَكَذَلِكَ الْغَرِيب من أَخْبَار الْآحَاد إِذا خَالف السّنة الْمَشْهُورَة فَهُوَ مُنْقَطع فِي حكم الْعَمَل بِهِ لِأَن مَا يكون متواترا من السّنة أَو مستفيضا أَو مجمعا عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكتاب فِي ثُبُوت علم الْيَقِين بِهِ وَمَا فِيهِ شُبْهَة فَهُوَ مَرْدُود فِي مُقَابلَة الْيَقِين وَكَذَلِكَ الْمَشْهُور من السّنة فَإِنَّهُ أقوى من الْغَرِيب لكَونه أبعد عَن مَوضِع الشُّبْهَة وَلِهَذَا جَازَ النّسخ بالمشهور دون الْغَرِيب فالضعيف لَا يظْهر فِي مُقَابلَة الْقوي(1/366)
وَلِهَذَا لم يعْمل بِخَبَر الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين لِأَنَّهُ مُخَالف للسّنة الْمَشْهُورَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان أَن الْيَمين فِي جَانب الْمُنكر دون الْمُدَّعِي وَالثَّانِي أَن فِيهِ بَيَان أَنه لَا يجمع بَين الْيَمين وَالْبَيِّنَة فَلَا تصلح الْيَمين متممة للبينة بِحَال وَلِهَذَا الأَصْل لم يعْمل أَبُو حنيفَة بِخَبَر سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ فِي بيع الرطب بِالتَّمْرِ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أينتقص إِذا جف قَالُوا نعم
قَالَ فَلَا إِذا لِأَنَّهُ مُخَالف للسّنة الْمَشْهُورَة وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام التَّمْر بِالتَّمْرِ مثل بِمثل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِيهَا اشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِي الْكَيْل مُطلقًا لجَوَاز العقد فالتقييد بِاشْتِرَاط الْمُمَاثلَة فِي أعدل الْأَحْوَال وَهُوَ بعد الجفوف يكون زِيَادَة وَالثَّانِي أَنه جعل فضلا يظْهر بِالْكَيْلِ هُوَ الْحَرَام فِي السّنة الْمَشْهُورَة فَجعل فضل يظْهر عِنْد فَوَات وصف مَرْغُوب فِيهِ رَبًّا حَرَامًا يكون مُخَالفا لذَلِك الحكم إِلَّا أَن أَبَا يُوسُف ومحمدا قَالَا السّنة الْمَشْهُورَة لَا تتَنَاوَل الرطب لِأَن مُطلق اسْم التَّمْر لَا يتَنَاوَلهُ بِدَلِيل أَن من حلف لَا يَأْكُل تَمرا فَأكل رطبا لم يَحْنَث وَلَو حلف لَا يَأْكُل هَذَا الرطب فَأَكله بعد مَا صَار تَمرا لم يَحْنَث فَإِذا لم تتناوله السّنة الْمَشْهُورَة وَجب إِثْبَات الحكم فِيهِ بالْخبر الآخر
وَأَبُو حنيفَة قَالَ التَّمْر اسْم للثمرة الْخَارِجَة من النّخل من حِين تَنْعَقِد صورتهَا إِلَى أَن تدْرك وَمَا يخْتَلف عَلَيْهِ أَحْوَال وأوصاف حسب مَا يكون على الْآدَمِيّ لَا يتبدل بِهِ اسْم الْعين وَفِي الْأَيْمَان تتْرك الْحَقَائِق لدلَالَة الْعرف وَالْيَمِين تتقيد بِوَصْف فِي الْعين إِذا كَانَ دَاعيا إِلَى الْيَمين
فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الانتقاد للْحَدِيث علم كثير وصيانة للدّين بليغة فَإِن أصل الْبدع والأهواء إِنَّمَا ظهر من قبل ترك عرض أَخْبَار الْآحَاد على الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة فَإِن قوما جعلوها أصلا مَعَ الشُّبْهَة فِي اتصالها برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعَ أَنَّهَا لَا توجب علم الْيَقِين ثمَّ تأولوا عَلَيْهَا الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة فَجعلُوا التبع متبوعا وَجعلُوا الأساس مَا هُوَ غير مُتَيَقن بِهِ فوقعوا فِي الْأَهْوَاء والبدع بِمَنْزِلَة من أنكر خبر الْوَاحِد فَإِنَّهُ لما لم يجوز الْعَمَل بِهِ احْتَاجَ إِلَى الْقيَاس ليعْمَل بِهِ وَفِيه أَنْوَاع من الشُّبْهَة أَو إِلَى اسْتِصْحَاب الْحَال وَهُوَ لَيْسَ(1/367)
بِحجَّة أصلا وَترك الْعَمَل بِالْحجَّةِ إِلَى مَا لَيْسَ بِحجَّة يكون فتحا لباب الْآحَاد وَجعل مَا هُوَ غير مُتَيَقن بِهِ أصلا ثمَّ تَخْرِيج مَا فِيهِ التيقن عَلَيْهِ يكون فتحا لباب الْأَهْوَاء والبدع وكل وَاحِد مِنْهُمَا زيف مَرْدُود وَإِنَّمَا سَوَاء السَّبِيل مَا ذهب إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله من إِنْزَال كل حجَّة منزلتها فَإِنَّهُم جعلُوا الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة أصلا ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِمَا مَا فِيهِ بعض الشُّبْهَة وَهُوَ الْمَرْوِيّ بطرِيق الْآحَاد مِمَّا لم يشْتَهر فَمَا كَانَ مِنْهُ مُوَافقا للمشهور قبلوه وَمَا لم يَجدوا فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة الْمَشْهُورَة لَهُ ذكرا قبلوه أَيْضا وأوجبوا الْعَمَل بِهِ وَمَا كَانَ مُخَالفا لَهما ردُّوهُ على أَن الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة أوجب من الْعَمَل بالغريب بِخِلَافِهِ وَمَا لم يجدوه فِي شَيْء من الْأَخْبَار وصاروا حِينَئِذٍ إِلَى الْقيَاس فِي معرفَة حكمه لتحَقّق الْحَاجة إِلَيْهِ
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْغَرِيب فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى وَيحْتَاج الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته للْعَمَل بِهِ فَإِنَّهُ زيف لِأَن صَاحب الشَّرْع كَانَ مَأْمُورا بِأَن يبين للنَّاس مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقد أَمرهم بِأَن ينقلوا عَنهُ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من بعدهمْ فَإِذا كَانَت الْحَادِثَة مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى فَالظَّاهِر أَن صَاحب الشَّرْع لم يتْرك بَيَان ذَلِك للكافة وتعليمهم وَأَنَّهُمْ لم يتْركُوا نَقله على وَجه الاستفاضة فحين لم يشْتَهر النَّقْل عَنْهُم عرفنَا أَنه سَهْو أَو مَنْسُوخ أَلا ترى أَن الْمُتَأَخِّرين لما نقلوه اشْتهر فيهم فَلَو كَانَ ثَابتا فِي الْمُتَقَدِّمين لاشتهر أَيْضا وَمَا تفرد الْوَاحِد بنقله مَعَ حَاجَة الْعَامَّة إِلَى مَعْرفَته وَلِهَذَا لم تقبل شَهَادَة الْوَاحِد من أهل الْمصر على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان إِذا لم يكن بالسماء عِلّة وَلم يقبل قَول الْوَصِيّ فِيمَا يَدعِي من إِنْفَاق مَال عَظِيم على الْيَتِيم فِي مُدَّة يسيرَة وَإِن كَانَ ذَلِك مُحْتملا لِأَن الظَّاهِر يكذبهُ فِي ذَلِك وعَلى هَذَا الأَصْل لم نعمل بِحَدِيث الْوضُوء من مس الذّكر لِأَن بسرة تفردت بروايته مَعَ عُمُوم الْحَاجة لَهُم إِلَى مَعْرفَته
فَالْقَوْل بِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام خصها بتعليم هَذَا الحكم مَعَ أَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَلم يعلم سَائِر الصَّحَابَة مَعَ شدَّة حَاجتهم إِلَيْهِ شبه الْمحَال وَكَذَلِكَ خبر الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار وَخبر(1/368)
الْوضُوء من حمل الْجِنَازَة وعَلى هَذَا لم يعْمل عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله بِخَبَر الْجَهْر بِالتَّسْمِيَةِ وَخبر رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع الرَّأْس من الرُّكُوع لِأَنَّهُ لم يشْتَهر النَّقْل فِيهَا مَعَ حَاجَة الْخَاص وَالْعَام إِلَى مَعْرفَته
فَإِن قيل فقد قبلتم الْخَبَر الدَّال على وجوب الْوتر وعَلى وجوب الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي الْجَنَابَة وَهُوَ خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى
قُلْنَا لِأَنَّهُ قد اشْتهر أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فعله وَأمر بِفِعْلِهِ فَأَما الْوُجُوب حكم آخر سوى الْفِعْل وَذَلِكَ مِمَّا يجوز أَن يُوقف عَلَيْهِ بعض الْخَواص لينقلوه إِلَى غَيرهم فَإِنَّمَا قبلنَا خبر الْوَاحِد فِي هَذَا الحكم فَأَما أصل الْفِعْل فَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ بِالنَّقْلِ المستفيض
وَأما الْقسم الرَّابِع وَهُوَ مَا لم تجر المحاجة بِهِ بَين الصَّحَابَة مَعَ ظُهُور الِاخْتِلَاف بَينهم فِي الحكم فَإِنَّهُ زيف لأَنهم الْأُصُول فِي نقل الدّين لَا يتهمون بِالْكِتْمَانِ وَلَا يتْرك الِاحْتِجَاج بِمَا هُوَ الْحجَّة والاشتغال بِمَا لَيْسَ بِحجَّة فَإِذا ظهر مِنْهُم الِاخْتِلَاف فِي الحكم وَجَرت المحاجة بَينهم فِيهِ بِالرَّأْيِ والرأي لَيْسَ بِحجَّة مَعَ ثُبُوت الْخَبَر فَلَو كَانَ الْخَبَر صَحِيحا لاحتج بِهِ بَعضهم على بعض حَتَّى يرْتَفع بِهِ الْخلاف الثَّابِت بَينهم بِنَاء على الرَّأْي فَكَانَ إِعْرَاض الْكل عَن الِاحْتِجَاج بِهِ دَلِيلا ظَاهرا على أَنه سَهْو مِمَّن رَوَاهُ بعدهمْ أَو هُوَ مَنْسُوخ وَذَلِكَ نَحْو مَا يرْوى الطَّلَاق بِالرِّجَالِ وَالْعدة بِالنسَاء فَإِن الْكِبَار من الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي هَذَا وأعرضوا عَن الِاحْتِجَاج بِهَذَا الحَدِيث أصلا فَعرفنَا أَنه غير ثَابت أَو مؤول وَالْمرَاد بِهِ أَن إِيقَاع الطَّلَاق إِلَى الرِّجَال
وَكَذَلِكَ مَا يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ابْتَغوا فِي أَمْوَال الْيَتَامَى خيرا كَيْلا تأكلها الصَّدَقَة فَإِن الصَّحَابَة اخْتلفُوا فِي وجوب الزَّكَاة فِي مَال الصَّبِي وأعرضوا عَن الِاحْتِجَاج بِهَذَا الحَدِيث أصلا فَعرفنَا أَنه غير ثَابت إِذْ لَو كَانَ ثَابتا لاشتهر فيهم وَجَرت المحاجة بِهِ بعد تحقق الْحَاجة إِلَيْهِ بِظُهُور الِاخْتِلَاف فَفِي الانتقاد بِالْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين تظهر الزيافة معنى للمقابلة بِمَنْزِلَة نقد الْبَلَد إِذا قوبل بِنَقْد أَجود مِنْهُ تظهر الزيافة فِيهِ وَفِي الانتقاد بِالْوَجْهَيْنِ الآخرين إِظْهَار الزيافة معنى من حَيْثُ إِنَّه تقَوِّي فِيهِ شُبْهَة الِانْقِطَاع بِمَنْزِلَة نقد تبين فِيهِ زِيَادَة غش على مَا هُوَ فِي(1/369)
النَّقْد الْمَعْهُود فَيصير زيفا مردودا من هَذَا الْوَجْه
وَالشَّافِعِيّ أعرض عَن طلب الِانْقِطَاع معنى واشتغل بِبِنَاء الحكم على ظَاهر الِانْقِطَاع فِي الْمُرْسل فَترك الْعَمَل بِهِ مَعَ قُوَّة الْمَعْنى فِيهِ كَمَا هُوَ دأبه ودأبنا فَإِنَّهُ يَبْنِي على الظَّاهِر أَكثر الْأَحْكَام وعلماؤنا يبنون الْفِقْه على الْمعَانِي المؤثرة الَّتِي يَتَّضِح الحكم عِنْد التَّأَمُّل فِيهَا
وَأما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ مَا يبتنى على نُقْصَان حَال الرَّاوِي فبيان ذَلِك فِي فُصُول مِنْهَا خبر المستور وَالْفَاسِق وَالْكَافِر وَالصَّبِيّ وَالْمَعْتُوه والمغفل والمساهل وَصَاحب الْهوى
أما المستور فقد نَص مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الِاسْتِحْسَان على أَن خَبره كَخَبَر الْفَاسِق وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه بِمَنْزِلَة الْعدْل فِي رِوَايَة الْأَخْبَار لثُبُوت الْعَدَالَة لَهُ ظَاهرا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ) الْمُسلمُونَ عدُول بَعضهم على بعض
وَلِهَذَا جوز أَبُو حنيفَة الْقَضَاء بِشَهَادَة الْمُسْتَوْرد فِيمَا يثبت مَعَ الشُّبُهَات إِذا لم يطعن الْخصم وَلَكِن مَا ذكره فِي الِاسْتِحْسَان أصح فِي زَمَاننَا فَإِن الْفسق غَالب فِي أهل هَذَا الزَّمَان فَلَا تعتمد رِوَايَة الْمُسْتَوْرد مَا لم تتبين عَدَالَته كَمَا لم تعتمد شَهَادَته فِي الْقَضَاء قبل أَن تظهر عَدَالَته وَهَذَا بِحَدِيث عباد بن كثير أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَا تحدثُوا عَمَّن لَا تعلمُونَ بِشَهَادَتِهِ وَلِأَن فِي رِوَايَة الحَدِيث معنى الْإِلْزَام فَلَا بُد من أَن يعْتَمد فِيهِ دَلِيل مُلْزم وَهُوَ الْعَدَالَة الَّتِي تظهر بالتفحص عَن أَحْوَال الرَّاوِي
وَأما الْفَاسِق فقد ذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان أَنه إِذا أخبر بِطَهَارَة المَاء أَو بِنَجَاسَتِهِ أَو بِحل الطَّعَام وَالشرَاب وحرمته فَإِن السَّامع يحكم رَأْيه فِي ذَلِك فَإِن وَقع عِنْده أَنه صَادِق فَعَلَيهِ أَن يعْمل بِخَبَرِهِ وَإِلَّا لم يعْمل بِهِ وعَلى هَذَا قَالَ بعض مَشَايِخنَا رَحِمهم الله الْجَواب كَذَلِك فِيمَا يرويهِ الْفَاسِق
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن خَبره لَا يكون حجَّة لِأَنَّهُ غير مَقْبُول الشَّهَادَة وَفِي حل الطَّعَام وحرمته وطهارة المَاء ونجاسته إِنَّمَا اعْتبر خَبره إِذا تأيد(1/370)
بِأَكْثَرَ الرَّأْي لأجل الضَّرُورَة لِأَن ذَلِك حكم خَاص رُبمَا يتَعَذَّر الْوُقُوف عَلَيْهِ من جِهَة غَيره وَمثل هَذِه الضَّرُورَة لَا يتَحَقَّق فِي رِوَايَة الْخَبَر فَإِن فِي الْعُدُول كَثْرَة يُمكن الْوُقُوف على معرفَة الحَدِيث بِالسَّمَاعِ مِنْهُم فَلَا حَاجَة إِلَى الِاعْتِمَاد على رِوَايَة الْفَاسِق فِيهِ
ثمَّ فِي الْمُعَامَلَات جعل خبر الْفَاسِق مَقْبُولًا لأجل الضَّرُورَة أَيْضا فَإِن الْمُعَامَلَة تكْثر بَين النَّاس وَلَا يُوجد عدل يرجع إِلَيْهِ فِي كل خبر من ذَلِك النَّوْع إِلَّا أَن ذَلِك يَنْفَكّ عَن معنى الْإِلْزَام فجوز الِاعْتِمَاد فِيهِ على خبر الْفَاسِق مُطلقًا والحل وَالْحُرْمَة فِيهِ معنى الْإِلْزَام من وَجه فَلهَذَا لم نجْعَل خبر الْفَاسِق فِيهِ مُعْتَمدًا على الْإِطْلَاق حَتَّى يَنْضَم إِلَيْهِ غَالب الرَّأْي
وَمن النَّاس من لم يَجْعَل خبر الْفَاسِق مَقْبُولًا فِي الْمُعَامَلَة أَيْضا لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن عقبَة حِين بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصدقا إِلَى قوم فَرجع إِلَيْهِ وَقَالَ إِنَّهُم هموا بقتلي فَأَرَادَ رَسُول الله أَن يعْتَمد خَبره وَيبْعَث إِلَيْهِم خيلا لِأَنَّهُ مَا كَانَ ظَاهر الْفسق عِنْده فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَمَا أخبر بِهِ كَانَ من الْمُعَامَلَات خَالِيا عَن الْإِلْزَام وَمَعَ ذَلِك أَمر الله تَعَالَى بالتوقف فِي هَذَا النبأ من الْفَاسِق
وَلَكنَّا نقُول كَانَ ذَلِك خَبرا مستنكرا فَإِنَّهُ أخبر أَنهم ارْتَدُّوا بِمَنْع الزَّكَاة وجحودها وهموا بقتْله وَفِيه إِلْزَام الْجِهَاد مَعَهم وَنحن نقُول إِن من ثَبت فسقه لَا يعْتَبر خَبره فِي مثل هَذَا فَأَما فِي الْمُعَامَلَات الَّتِي تنفك عَن معنى الْإِلْزَام فَيجوز اعْتِمَاد خَبره لأجل الضَّرُورَة إِذْ الْفسق يرجح معنى الْكَذِب فِي خَبره من غير أَن يكون مُوجبا الحكم بِأَنَّهُ كَاذِب فِي خَبره لَا محَالة وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مَعَ الْفسق من أهل الشَّهَادَة
فَأَما الْكَافِر فَإِنَّهُ لَا تعتمد رِوَايَته فِي بَاب الْأَخْبَار أصلا
وَكَذَلِكَ فِي طَهَارَة المَاء ونجاسته إِلَّا أَنه إِذا وَقع فِي قلب السَّامع أَنه صَادِق فِيمَا يخبر بِهِ من نَجَاسَة المَاء فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يريق المَاء ثمَّ يتَيَمَّم وَلَا تجوز صلَاته بِالتَّيَمُّمِ قبل إِرَاقَة المَاء لِأَنَّهُ لَا يعْتَمد خَبره فِي بَاب الدّين أصلا فَيبقى مُجَرّد غَلَبَة الظَّن وَذَلِكَ لَا يجوز لَهُ الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وجود المَاء بِخِلَاف الْفَاسِق فهناك يلْزمه أَن يتَوَضَّأ بذلك المَاء إِذا وَقع فِي قلبه أَنه صَادِق فِي الْإِخْبَار بِطَهَارَة(1/371)
المَاء وَإِن أخبر بِنَجَاسَة المَاء وَوَقع فِي قلبه أَنه صَادِق فَالْأولى لَهُ أَن يريق المَاء وَيتَيَمَّم فَإِن تيَمّم وَلم يرق المَاء جَازَت صلَاته
وَأما خبر الصَّبِي فقد ذكر فِي الِاسْتِحْسَان بعد ذكر الْفَاسِق وَالْكَافِر وَكَذَلِكَ الصَّبِي وَالْمَعْتُوه إِذا عقلا مَا يَقُولَانِ
فَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن المُرَاد الْعَطف على الْفَاسِق وَأَن خَبره بِمَنْزِلَة خبر الْفَاسِق فِي طَهَارَة المَاء ونجاسته وَالأَصَح أَن المُرَاد عطفه على الْكَافِر فَإِن الصَّبِي لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة أصلا كَمَا أَن الْكَافِر لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة على الْمُسلمين بِخِلَاف الْفَاسِق فَهُوَ من أهل الشَّهَادَة وَإِن لم يكن مَقْبُول الشَّهَادَة لفسقه (و) لِأَن الصَّبِي بِخَبَرِهِ يلْزم الْغَيْر ابْتِدَاء من غير أَن يلْتَزم شَيْئا لِأَنَّهُ غير مُخَاطب كالكافر يلْزم غَيره من غير أَن يلْتَزم لِأَنَّهُ غير مُعْتَقد للْحكم الَّذِي يخبر بِهِ فَأَما الْفَاسِق فيلتزم أَولا ثمَّ يلْزم غَيره وَلِأَن الْولَايَة المتعدية تبتنى على الْولَايَة الْقَائِمَة للمرء على نَفسه وَالْفَاسِق من أهل هَذِه الْولَايَة فَيكون أَهلا للولاية المتعدية أَيْضا بِخِلَاف الصَّبِي وَالْمَعْتُوه بِمَنْزِلَة الصَّبِي فقد سوى عُلَمَاؤُنَا بَينهمَا فِي الْأَحْكَام فِي الْكتب لنُقْصَان عقلهما
وَمن النَّاس من يَقُول رِوَايَة الصَّبِي فِي بَاب الدّين مَقْبُولَة وَإِن لم يكن هُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة للولاية بِمَنْزِلَة رِوَايَة العَبْد وَاسْتدلَّ فِيهِ بِحَدِيث أهل قبَاء فَإِن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَتَاهُم وَأخْبرهمْ بتحويل الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة وهم كَانُوا فِي الصَّلَاة فاستداروا كَهَيْئَتِهِمْ وَكَانَ ابْن عمر يَوْمئِذٍ صَغِيرا على مَا رُوِيَ أَنه عرض على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر أَو يَوْم أحد على حسب مَا اخْتلف الروَاة فِيهِ وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة فَرده وتحويل الْقبْلَة كَانَ قبل بدر بشهرين فقد اعتمدوا خَبره فِيمَا لَا يجوز الْعَمَل بِهِ إِلَّا بِعلم وَهُوَ الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة وَلم يُنكر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَكنَّا نقُول قد رُوِيَ أَن الَّذِي أَتَاهُم أنس بن مَالك وَقد روى عبد الله(1/372)
بن عمر فَإنَّا نحمل على أَنَّهُمَا جَاءَ أَحدهمَا بعد الآخر وأخبرا بذلك وَإِنَّمَا تحولوا معتمدين على خبر الْبَالِغ وَهُوَ أنس بن مَالك أَو كَانَ ابْن عمر بَالغا يَوْمئِذٍ وَإِنَّمَا رده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقِتَال لضعف بنيته يَوْمئِذٍ لَا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا فَإِن ابْن أَربع عشرَة سنة يجوز أَن يكون بَالغا
فَأَما الْمُغَفَّل فَإِن كَانَ أغلب أَحْوَاله التيقظ فَهُوَ بِمَنْزِلَة من لَا غَفلَة بِهِ فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة لِأَن مَا بِهِ من الْغَفْلَة يسير قَلما يَخْلُو الْعدْل عَن مثله إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى وَإِن تفاحش مَا بِهِ من الْغَفْلَة حَتَّى ظهر ذَلِك فِي أغلب أُمُوره فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْمَعْتُوه لِأَن مَا يلْزم من النُّقْصَان فِي الْمَرْء بطرِيق الْعَادة يَجْعَل بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِأَصْل الْخلقَة أَلا ترى أَنه يتَرَجَّح معنى السَّهْو والغلط فِي الرِّوَايَة باعتبارهما جَمِيعًا كَمَا يتَرَجَّح جَانب الْكَذِب بِاعْتِبَار فسق الرَّاوِي
وَأما المساهل فَهُوَ كالمغفل فَإِنَّهُ اسْم لمن يجازف فِي الْأُمُور وَلَا يُبَالِي بِمَا يَقع لَهُ من السَّهْو والغلط وَلَا يشْتَغل فِيهِ بالتدارك بعد أَن يعلم بِهِ فَيكون بِمَنْزِلَة الْمُغَفَّل إِذا ظهر ذَلِك فِي أَكثر أُمُوره
وَأما صَاحب الْهوى فقد بَينا أَن الصَّحِيح أَنه لَا تعتمد رِوَايَته فِي أَحْكَام الدّين وَإِن كَانَت شَهَادَتهم مَقْبُولَة إِلَّا الخطابية فَإِن الْهوى لَا يكون مرجحا جَانب الْكَذِب فِي شَهَادَته على مَا قَررنَا إِلَّا الخطابية وهم ضرب من الروافض يجوزون أَدَاء الشَّهَادَة إِذا حلف الْمُدَّعِي بَين أَيْديهم أَنه محق فِي دَعْوَاهُ وَيَقُولُونَ الْمُسلم لَا يحلف كَاذِبًا فَفِي هَذَا الِاعْتِقَاد مَا يرجح جَانب الْكَذِب فِي شَهَادَتهم لتوهم أَنهم اعتمدوا ذَلِك
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَن يعْتَقد أَن الإلهام حجَّة مُوجبَة للْعلم لَا تقبل شَهَادَته لتوهم أَن يكون اعْتمد ذَلِك فِي أَدَاء(1/373)
الشَّهَادَة بِنَاء على اعْتِقَاده
فَأَما من سواهُم من أهل الْأَهْوَاء لَيْسَ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ من الْهوى مَا يُمكن تُهْمَة الْكَذِب فِي شَهَادَتهم لِأَن الشَّهَادَة من بَاب الْمَظَالِم والخصومات وَلَا يتعصب صَاحب الْهوى بِهَذَا الطَّرِيق مَعَ من هُوَ محق فِي اعْتِقَاده حَتَّى يشْهد عَلَيْهِ كَاذِبًا فَأَما فِي أَخْبَار الدّين فيتوهم بِهَذَا التعصب لإفساد طَرِيق الْحق على من هُوَ محق حَتَّى يجِيبه إِلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الْبَاطِل فَلهَذَا لَا تعتمد رِوَايَته وَلَا تجْعَل حجَّة فِي بَاب الدّين وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان أَقسَام الْأَخْبَار
قَالَ رَضِي الله عَنهُ هَذِه الْأَقْسَام أَرْبَعَة خبر يُحِيط الْعلم بصدقه وَخبر يُحِيط الْعلم بكذبه وَخبر يحتملهما على السوَاء وَخبر يتَرَجَّح فِيهِ أحد الْجَانِبَيْنِ
فَالْأول أَخْبَار الرُّسُل المسموعة مِنْهُم فَإِن جِهَة الصدْق مُتَعَيّن فِيهَا لقِيَام الدّلَالَة على أَنهم معصومون عَن الْكَذِب وَثُبُوت رسالتهم بالمعجزات الْخَارِجَة عَن مَقْدُور الْبشر عَادَة وَحكم هَذَا النَّوْع اعْتِقَاد الحقية فِيهِ والائتمار بِهِ بِحَسب الطَّاقَة قَالَ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}
وَالنَّوْع الثَّانِي نَحْو دَعْوَى فِرْعَوْن الربوبية مَعَ قيام آيَات الْحَدث فِيهِ ظَاهرا وَدَعوى الْكفَّار أَن الْأَصْنَام آلِهَة أَو أَنَّهَا شفعاؤهم عِنْد الله أَو أَنَّهَا تقربهم إِلَى الله زلفى مَعَ التيقن بِأَنَّهَا جمادات وَنَحْو دَعْوَى زرادشت وماني ومسيلمة وَغَيرهم من المتنبئين النُّبُوَّة مَعَ ظُهُور أَفعَال تدل على السَّفه مِنْهُم وَأَنَّهُمْ لم يبرهنوا على ذَلِك إِلَّا بِمَا هُوَ مخرفة من جنس أَفعَال المشعوذين فالعلم يُحِيط بكذب هَذَا النَّوْع وَحكمه اعْتِقَاد الْبطلَان فِيهِ ثمَّ الِاشْتِغَال برده بِاللِّسَانِ وَالْيَد بِحَسب مَا تقع الْحَاجة إِلَيْهِ فِي دفع الْفِتْنَة
وَالنَّوْع الثَّالِث نَحْو خبر الْفَاسِق فِي أَمر الدّين فَفِيهِ احْتِمَال الصدْق بِاعْتِبَار فَالْحكم فِيهِ التَّوَقُّف إِلَى أَن يظْهر مَا يتَرَجَّح بِهِ أحد الْجَانِبَيْنِ عملا بقوله تَعَالَى {فَتَبَيَّنُوا}(1/374)
دينه وعقله وَاحْتِمَال الْكَذِب بِاعْتِبَار تعاطيه واستوى الجانبان فِي الِاحْتِمَال
وَالنَّوْع الرَّابِع نَحْو شَهَادَة الْفَاسِق إِذا ردهَا القَاضِي فَإِن بِقَضَائِهِ يتَرَجَّح جَانب الْكَذِب فِيهِ وَخبر الْمَحْدُود فِي الْقَذْف عِنْد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ وَحكمه أَنه لَا يجوز الْعَمَل بِهِ بعد ذَلِك لتعين جَانب الْكَذِب فِيهِ فِيمَا يُوجب الْعَمَل
وَمن هَذَا النَّوْع خبر الْعدْل المستجمع لشرائط الرِّوَايَة فِي بَاب الدّين فَإِنَّهُ يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِيهِ بِوُجُود دَلِيل شَرْعِي مُوجب للْعَمَل بِهِ وَهُوَ صَالح للترجيح وَالْمَقْصُود هَذَا النَّوْع
وَلِهَذَا النَّوْع أَطْرَاف ثَلَاثَة طرف السماع وطرف الْحِفْظ وطرف الْأَدَاء
فطرف السماع نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة
فالعزيمة مَا تكون بِحَسب الِاسْتِمَاع
وَهُوَ أَرْبَعَة أوجه وَجْهَان من ذَلِك حَقِيقَة وَأَحَدهمَا أَحَق من الآخر ووجهان من ذَلِك عَزِيمَة فيهمَا شُبْهَة الرُّخْصَة
فالوجهان الْأَوَّلَانِ قِرَاءَة الْمُحدث عَلَيْك وَأَنت تسمع وقراءتك على الْمُحدث وَهُوَ يسمع ثمَّ استفهامك إِيَّاه بِقَوْلِك أهوَ كَمَا قَرَأت عَلَيْك فَيَقُول نعم وَأهل الحَدِيث يَقُولُونَ الْوَجْه الأول أَحَق لِأَنَّهُ طَرِيق رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ الَّذِي كَانَ يحدث أَصْحَابه ثمَّ نقلوه عَنهُ وَهُوَ أبعد من الْخَطَأ والسهو فَيكون أَحَق فِيمَا هُوَ الْمَقْصُود وَهُوَ تحمل الْأَمَانَة بِصفة تَامَّة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله أَن قراءتك على الْمُحدث أقوى من قِرَاءَة الْمُحدث عَلَيْك وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة لكَونه مَأْمُون السَّهْو والغلط وَلِأَنَّهُ كَانَ يذكر مَا يذكرهُ حفظا وَكَانَ لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ الْمَكْتُوب أَيْضا وَإِنَّمَا كلامنا فِيمَن يخبر عَن كتاب لَا عَن (حفظه حَتَّى إِذا كَانَ يروي عَن حفظ لَا عَن كتاب فقراءته أقوى لِأَنَّهُ يتحدث بِهِ) حَقِيقَة فَأَما إِذا كَانَ يروي عَن كتاب فالجانبان(1/375)
سَوَاء فِي معنى التحدث بِمَا فِي الْكتاب أَلا ترى أَن فِي الشَّهَادَات لَا فرق بَين أَن يقْرَأ من عَلَيْهِ الْحق ذكر إِقْرَاره عَلَيْك وَبَين أَن تَقْرَأهُ عَلَيْهِ ثمَّ تستفهمه هَل تقر بِجَمِيعِ مَا قرأته عَلَيْك فَيَقُول نعم وَبِكُل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ يجوز أَدَاء الشَّهَادَة وَبَاب الشَّهَادَة أضيق من بَاب رِوَايَة الْخَبَر فَكَانَ الْمَعْنى فِيهِ أَن نعم جَوَاب مُخْتَصر وَلَا فرق فِي الْجَواب بَين الْمُخْتَصر والمشبع فَيصير مَا تقدم كالمعاد فِي الْجَواب كُله ثمَّ للطَّالِب من الرِّعَايَة عِنْد الْقِرَاءَة عَادَة مَا لَيْسَ للمحدث فَعِنْدَ قِرَاءَة الْمُحدث لَا يُؤمن من الْخَطَأ فِي بعض مَا يقْرَأ لقلَّة رعايته ويؤمن ذَلِك إِذا قَرَأَ الطَّالِب لشدَّة رعايته
فَإِن قيل عِنْد قِرَاءَة الطَّالِب يتَوَهَّم أَن يسهو الْمُحدث عَن بعض مَا يسمع وينتفي هَذَا التَّوَهُّم إِذا قَرَأَهُ الْمُحدث لشدَّة رِعَايَة الطَّالِب فِي ضبط مَا يسمع مِنْهُ
قُلْنَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن السَّهْو عَن سَماع الْبَعْض مِمَّا لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ عَادَة وَهُوَ أيسر مِمَّا يَقع بِسَبَب الْخَطَأ فِي الْقِرَاءَة فمراعاة ذَلِك الْجَانِب أولى
والوجهان الْآخرَانِ الْكِتَابَة والرسالة فَإِن الْمُحدث إِذا كتب إِلَى غَيره على رسم الْكتب وَذكر فِي كِتَابه حَدثنِي فلَان عَن فلَان إِلَى آخِره ثمَّ قَالَ وَإِذا جَاءَك كتابي هَذَا وفهمت مَا فِيهِ فَحدث بِهِ عني فَهَذَا صَحِيح
وَكَذَلِكَ لَو أرسل إِلَيْهِ رَسُولا فَبَلغهُ على هَذِه الصّفة فَإِن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مَأْمُورا بتبليغ الرسَالَة وَبلغ إِلَى قوم مشافهة وَإِلَى آخَرين بِالْكتاب وَالرَّسُول وَكَانَ ذَلِك تبليغا تَاما
وَكَذَلِكَ فِي زَمَاننَا يثبت من الْخُلَفَاء تَقْلِيد السلطنة وَالْقَضَاء بِالْكتاب وَالرَّسُول بِهَذَا الطَّرِيق كَمَا يثبت بالمشافهة إِلَّا أَن الْمُخْتَار فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين للراوي أَن يَقُول حَدثنِي فلَان وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين أَن يَقُول أَخْبرنِي لِأَن فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين شافهه الْمُحدث بالإسماع فَيكون مُحدثا لَهُ وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين لم يشافهه وَلكنه مخبر لَهُ بكتابه فَإِن الْكتاب مِمَّن بعد كالخطاب مِمَّن حضر وَالرَّسُول كالكتاب أَو أقوى لِأَن معنى الضَّبْط يُوجد فيهمَا ثمَّ الرَّسُول نَاطِق وَالْكتاب غير نَاطِق
وعَلى هَذَا ذكر فِي الزِّيَادَات إِذا حلف أَن لَا يتحدث بسر فلَان أَو لَا يتَكَلَّم(1/376)
بِهِ فَكتب بِهِ أَو أرسل رَسُولا لم يَحْنَث وَلَو تكلم بِهِ مشافهة يَحْنَث وَلَو حلف لَا يخبر بِهِ فَكتب أَو أرسل يَحْنَث بِمَنْزِلَة مَا لَو تكلم بِهِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى أكرمنا بكتابه وَرَسُوله ثمَّ لَا يجوز لأحد أَن يَقُول حَدثنِي الله وَلَا كلمني الله إِنَّمَا ذَلِك لمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خَاصَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وكلم الله مُوسَى تكليما} وَيجوز أَن يَقُول أخبرنَا الله بِكَذَا أَو أَنبأَنَا ونبأنا فَلهَذَا كَانَ الْمُخْتَار فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين حَدثنِي وَفِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين أَخْبرنِي
وَأما الرُّخْصَة فِيهِ فمما لَا تكون فِيهِ إسماع وَذَلِكَ الْإِجَازَة والمناولة وَشرط الصِّحَّة فِي ذَلِك أَن يكون مَا فِي الْكتاب مَعْلُوما للمجاز لَهُ مفهوما لَهُ وَأَن يكون الْمُجِيز من أهل الضَّبْط والإتقان قد علم جَمِيع مَا فِي الْكتاب وَإِذا قَالَ حِينَئِذٍ أجزت لَك أَن تروي عني مَا فِي هَذَا الْكتاب كَانَ صَحِيحا لِأَن الشَّهَادَة تصح بِهَذِهِ الصّفة فَإِن الشَّاهِد إِذا وقف على جَمِيع مَا فِي الصَّك وَكَانَ ذَلِك مَعْلُوما لمن عَلَيْهِ الْحق فَقَالَ أجزت لَك أَن تشهد عَليّ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْكتاب كَانَ صَحِيحا فَكَذَلِك رِوَايَة الْخَبَر والأحوط للمجاز لَهُ أَن يَقُول عِنْد الرِّوَايَة أجَاز لي فلَان فَإِن قَالَ أَخْبرنِي فَهُوَ جَائِز أَيْضا وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يَقُول حَدثنِي فَإِن ذَلِك مُخْتَصّ بالإسماع وَلم يُوجد
والمناولة لتأكيد الْإِجَازَة فيستوى الحكم فِيمَا إِذا وجدا جَمِيعًا أَو وجدت الْإِجَازَة وَحدهَا
فَأَما إِذا كَانَ المستجيز غير عَالم بِمَا فِي الْكتاب فقد قَالَ بعض مَشَايِخنَا إِن على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله لَا تصح هَذِه الْإِجَازَة وعَلى قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله تصح على قِيَاس اخْتلَافهمْ فِي كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي وَكتاب الشَّهَادَة فَإِن علم الشَّاهِد بِمَا فِي الْكتاب شَرط فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَلَا يكون شرطا فِي قَول أبي يُوسُف رَحمَه الله لصِحَّة أَدَاء الشَّهَادَة
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَن هَذِه الْإِجَازَة لَا تصح فِي قَوْلهم جَمِيعًا إِلَّا أَن أَبَا يُوسُف اسْتحْسنَ هُنَاكَ لأجل الضَّرُورَة فالكتب تشْتَمل على أسرار لَا يُرِيد الْكَاتِب والمكتوب إِلَيْهِ أَن يقف عَلَيْهَا غَيرهمَا وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي كتب الْأَخْبَار(1/377)
ثمَّ الْخَبَر أصل الدّين أمره عَظِيم وخطبه جسيم فَلَا وَجه للْحكم بِصِحَّة تحمل الْأَمَانَة فِيهِ قبل أَن يصير مَعْلُوما مفهوما لَهُ أَلا ترى أَنه لَو قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُحدث فَلم يسمع وَلم يفهم لم يجز لَهُ أَن يروي وَالْإِجَازَة إِذا لم يكن مَا فِي الْكتاب مَعْلُوما لَهُ دون ذَلِك كَيفَ تجوز الرِّوَايَة بِهَذَا الْقدر وإسماع الصّبيان الَّذين لَا يميزون وَلَا يفهمون نوع تبرك استحسنه النَّاس فَأَما أَن يثبت بِمثلِهِ نقل الدّين فَلَا
وَكَذَلِكَ من حضر مجْلِس السماع واشتغل بِقِرَاءَة كتاب آخر غير مَا يَقْرَؤُهُ القارىء أَو اشْتغل بِالْكِتَابَةِ لشَيْء آخر أَو اشْتغل بتحدث أَو لَغْو أَو لَهو أَو اشْتغل عَن السماع لغفلة أَو نوم فَإِن سَمَاعه لَا يكون صَحِيحا مُطلقًا لَهُ الرِّوَايَة إِلَّا أَن مِقْدَار مَا لَا يُمكن التَّحَرُّز عَنهُ من السَّهْو والغفلة يَجْعَل عفوا للضَّرُورَة فَأَما عِنْد الْقَصْد فَهُوَ غير مَعْذُور وَلَا يَأْمَن أَن يحرم بِسَبَب ذَلِك حَظه ونعوذ بِاللَّه فَأَما إِذا قَالَ الْمُحدث أجزت لَك أَن تروي عني مسموعاتي فَإِن ذَلِك غير صَحِيح بالِاتِّفَاقِ بِمَنْزِلَة مَا لَو قَالَ رجل لآخر اشْهَدْ عَليّ بِكُل صك تَجِد فِيهِ إقراري فقد أجزت لَك ذَلِك فَإِن ذَلِك بَاطِل
وَقد نقل عَن بعض أَئِمَّة التَّابِعين أَن سَائِلًا سَأَلَهُ الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة فتعجب وَقَالَ لأَصْحَابه هَذَا يطْلب مني أَن أُجِيز لَهُ أَن يكذب عَليّ وَبَعض الْمُتَأَخِّرين جوزوا ذَلِك على وَجه الرُّخْصَة لضَرُورَة المستعجلين وَلَكِن فِي هَذِه الرُّخْصَة سد بَاب الْجهد فِي الدّين وَفتح بَاب الكسل فَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ
فَأَما الْكتب المصنفة الَّتِي هِيَ مَشْهُورَة فِي أَيدي النَّاس فَلَا بَأْس لمن نظر فِيهَا وَفهم شَيْئا مِنْهَا وَكَانَ متقنا فِي ذَلِك أَن يَقُول قَالَ فلَان كَذَا أَو مَذْهَب فلَان كَذَا من غير أَن يَقُول حَدثنِي أَو أَخْبرنِي لِأَنَّهَا مستفيضة بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور وَبَعض الْجُهَّال من الْمُحدثين استبعدوا ذَلِك حَتَّى طعنوا على مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتبه المصنفة
وَحكي أَن بَعضهم قَالَ لمُحَمد بن الْحسن رَحمَه الله أسمعت هَذَا كُله من أبي حنيفَة فَقَالَ لَا
فَقَالَ أسمعته من(1/378)
أبي يُوسُف فَقَالَ لَا وَإِنَّمَا أَخذنَا ذَلِك مذاكرة
فَقَالَ كَيفَ يجوز إِطْلَاق القَوْل بِأَن مَذْهَب فلَان كَذَا أَو قَالَ فلَان كَذَا بِهَذَا الطَّرِيق وَهَذَا جهل لِأَن تصنيف كل صَاحب مَذْهَب مَعْرُوف فِي أَيدي النَّاس مَشْهُور كموطأ مَالك رَحمَه الله وَغير ذَلِك فَيكون بِمَنْزِلَة الْخَبَر الْمَشْهُور يُوقف بِهِ على مَذْهَب المُصَنّف وَإِن لم نسْمع مِنْهُ فَلَا بَأْس بِذكرِهِ على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا بعد أَن يكون أصلا مُعْتَمدًا يُؤمن فِيهِ التَّصْحِيف وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان
فَأَما بَيَان طرق الْحِفْظ فَهُوَ نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة
فالعزيمة فِيهِ أَن يحفظ المسموع من وَقت السماع والفهم إِلَى وَقت الْأَدَاء وَكَانَ هَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة فِي الْأَخْبَار والشهادات جَمِيعًا وَلِهَذَا قلت رِوَايَته وَهُوَ طَرِيق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَينه للنَّاس
وَأما الرُّخْصَة فِيهِ أَن يعْتَمد الْكتاب إِلَّا أَنه إِذا نظر فِي الْكتاب فَتذكر فَهُوَ عَزِيمَة أَيْضا وَلكنه مشبه بِالرُّخْصَةِ وَإِذا لم يتَذَكَّر فَهُوَ مَحْض الرُّخْصَة على قَول من يجوز ذَلِك وَقد بَينا فِيمَا سبق
وَالْأَدَاء أَيْضا نَوْعَانِ عَزِيمَة ورخصة
فالعزيمة أَن يُؤَدِّي على الْوَجْه الَّذِي سَمعه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ والرخصة فِيهِ أَن يُؤَدِّي بعبارته معنى مَا فهمه عِنْد سَمَاعه وَقد بَينا ذَلِك
وَمن نوع الرُّخْصَة التَّدْلِيس وَهُوَ أَن يَقُول قَالَ فلَان كَذَا لمن لقِيه وَلَكِن لم يسمع مِنْهُ فيوهم السامعين أَنه قد سمع ذَلِك مِنْهُ وَكَانَ الْأَعْمَش وَالثَّوْري يفْعَلَانِ ذَلِك وَكَانَ شُعْبَة يَأْبَى ذَلِك ويستبعده غَايَة الاستبعاد حَتَّى كَانَ يَقُول لِأَن أزني أحب إِلَيّ من أَن أدلس
وَالصَّحِيح القَوْل الأول وَقد بَينا أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك فَيَقُول الْوَاحِد مِنْهُم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَا فَإِذا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ سمعته من فلَان يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض ذَلِك فَعرفنَا أَنه لَا بَأْس بِهِ وَأَن هَذَا النَّوْع لَا يكون تدليسا مُطلقًا فَإِنَّهُ لَا يجوز لأحد أَن يُسَمِّي أحدا من الصَّحَابَة مدلسا وَإِنَّمَا التَّدْلِيس الْمُطلق أَن يسْقط اسْم من(1/379)
رَوَاهُ لَهُ ويروى عَن رَاوِي الأَصْل على قصد الترويج بعلو الْإِسْنَاد فَإِن هَذَا الْقَصْد غير مَحْمُود فَأَما إِذا لم يكن على هَذَا الْقَصْد وَإِنَّمَا كَانَ على قصد التَّيْسِير على السامعين بِإِسْقَاط تَطْوِيل الْإِسْنَاد عَنْهُم أَو على قصد التَّأْكِيد بالعزم على أَنه قَول رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام قطعا فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ وَمَا نقل عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَحْمُول على هَذَا النَّوْع
وَتجوز الرِّوَايَة عَمَّن اشْتهر بِهَذَا الْفِعْل إِذا علم أَنه لَا يُدَلس إِلَّا فِيمَا سَمعه عَن ثِقَة فَأَما إِذا كَانَ يروي عَمَّن لَيْسَ بِثِقَة وَيُدَلس بِهَذِهِ الصّفة لَا تجوز الرِّوَايَة عَنهُ بَعْدَمَا اشْتهر بالتدليس
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي فصل من هَذَا الْجِنْس وَهُوَ أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ أمرنَا بِكَذَا أَو نهينَا عَن كَذَا أَو السّنة كَذَا فَالْمَذْهَب عندنَا أَنه لَا يفهم من هَذَا الْمُطلق الْإِخْبَار بِأَمْر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَو أَنه سنة رَسُول الله
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم ينْصَرف إِلَى ذَلِك عِنْد الْإِطْلَاق وَفِي الْجَدِيد قَالَ لَا ينْصَرف إِلَى ذَلِك بِدُونِ الْبَيَان لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد سنة الْبلدَانِ أَو الرؤساء حَتَّى قَالَ فِي كل مَوضِع قَالَ مَالك رَحمَه الله السّنة ببلدنا كَذَا فَإِنَّمَا أَرَادَ سنة سُلَيْمَان بن بِلَال وَهُوَ كَانَ عريفا بِالْمَدِينَةِ وعَلى قَوْله الْقَدِيم أَخذ بقول سعيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنهُ فِي الْعَاجِز عَن النَّفَقَة إِنَّه يفرق بَينه وَبَين امْرَأَته لِأَنَّهُ حمل قَول سعيد السّنة على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَذَلِكَ أَخذ بقوله فِي أَن الْمَرْأَة تعاقل الرجل إِلَى ثلث الدِّيَة بقول سعيد فِيهِ السّنة فَحمل ذَلِك على سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام
وَلم نَأْخُذ نَحن بذلك لأَنا علمنَا أَن مُرَاده سنة زيد ورجحنا قَول عَليّ وَعبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا على قَول زيد رَضِي الله عَنهُ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيح
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن الْأَمر وَالنَّهْي يتَحَقَّق من غير رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا يتَحَقَّق مِنْهُ قَالَ تَعَالَى {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَعند الْإِطْلَاق لَا يثبت إِلَّا أدنى الْكَمَال أَلا ترى أَن مُطلق قَول الْعَالم أمرنَا بِكَذَا لَا يحمل على أَنه أَمر الله أنزلهُ فِي كِتَابه نصا فَكَذَلِك لَا يحمل على أَنه أَمر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام نصا لاحْتِمَال أَن يكون الْآمِر غَيره مِمَّن يجب مُتَابَعَته
وَكَذَلِكَ السّنة فقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء من بعدِي وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ(1/380)
أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد ظهر من عَادَة الصَّحَابَة التَّقْيِيد عِنْد إِرَادَة سنة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ على مَا قَالَ عمر لصبي بن معبد هديت لسنة نبيك
وَقَالَ عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ ثَلَاث سَاعَات نَهَانَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَن نصلي فِيهِنَّ
وَقَالَ صَفْوَان بن عَسَّال رَضِي الله عَنهُ (أمرنَا رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كُنَّا سفرا أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها) الحَدِيث
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنهم إِذا أطْلقُوا هَذَا اللَّفْظ فَإِنَّهُ لَا يكون مُرَادهم الْإِضَافَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا وَمَعَ الِاحْتِمَال لَا يثبت التَّعْيِين بِغَيْر دَلِيل(1/381)
فصل فِي الْخَبَر يلْحقهُ التَّكْذِيب من جِهَة الرَّاوِي أَو من جِهَة غَيره
أما مَا يلْحقهُ من جِهَة الرَّاوِي فَأَرْبَعَة أَقسَام أَحدهَا أَن يُنكر الرِّوَايَة أصلا وَالثَّانِي أَن يظْهر مِنْهُ مُخَالفَة للْحَدِيث قولا أَو عملا قبل الرِّوَايَة أَو بعْدهَا أَو لم يعلم التَّارِيخ وَالثَّالِث أَن يظْهر مِنْهُ تعْيين شَيْء مِمَّا هُوَ من محتملات الْخَبَر تَأْوِيلا أَو تَخْصِيصًا وَالرَّابِع أَن يتْرك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا
فَأَما الْوَجْه الأول فقد اخْتلف فِيهِ أهل الحَدِيث من السّلف فَقَالَ بَعضهم بإنكار الرَّاوِي يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة
وَقَالَ بَعضهم لَا يخرج (من أَن يكون حجَّة) وَبَيَان هَذَا فِيمَا رَوَاهُ ربيعَة عَن سُهَيْل بن أبي صَالح من حَدِيث الْقَضَاء بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين ثمَّ قيل لسهيل إِن ربيعَة يروي عَنْك هَذَا الحَدِيث فَلم يذكرهُ وَجعل يروي وَيَقُول حَدثنِي ربيعَة عني وَهُوَ ثِقَة
وَقد عمل الشَّافِعِي بِالْحَدِيثِ مَعَ إِنْكَار الرَّاوِي وَلم يعْمل بِهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله
وَذكر سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل الحَدِيث ثمَّ روى أَن ابْن جريج سَأَلَ الزُّهْرِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَلم يعرفهُ ثمَّ عمل بِهِ مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ مَعَ إِنْكَار الرَّاوِي وَلم يعْمل بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لإنكار الرَّاوِي إِيَّاه وَقَالُوا يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا الْفَصْل على الِاخْتِلَاف بَين عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله بِهَذِهِ الصّفة وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِمَا لَو ادّعى رجل عِنْد قَاض أَنه قضى لَهُ بِحَق على هَذَا الْخصم وَلم يعرف القَاضِي قَضَاءَهُ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدين على قَضَائِهِ بِهَذِهِ الصّفة فَإِن على قَول أبي يُوسُف لَا يقبل القَاضِي هَذِه الْبَيِّنَة وَلَا ينفذ قَضَاءَهُ بهَا وعَلى قَول مُحَمَّد يقبلهَا وَينفذ قَضَاءَهُ فَإِذا ثَبت هَذَا الْخلاف بَينهمَا فِي قَضَاء يُنكره القَاضِي فَكَذَلِك فِي حَدِيث يُنكره الرَّاوِي الأَصْل
وعَلى هَذَا مَا يَحْكِي من المحاورة الَّتِي جرت بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله فِي الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة فِي ثَلَاث مسَائِل من(2/3)
الْجَامِع الصَّغِير وَقد بيناها فِي شرح الْجَامِع الصَّغِير فَإِن مُحَمَّدًا ثَبت على مَا رَوَاهُ عَن أبي يُوسُف عَنهُ بعد إِنْكَار أبي يُوسُف وَأَبُو يُوسُف لم يعْتَمد رِوَايَة مُحَمَّد عَنهُ حِين لم يتَذَكَّر
وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَن على قِيَاس قَول عُلَمَائِنَا يَنْبَغِي أَن لَا يبطل الْخَبَر بإنكار رَاوِي الأَصْل إِلَّا على قَول زفر رَحمَه الله وردوا هَذَا إِلَى قَول زوج الْمُعْتَدَّة أَخْبَرتنِي أَن عدتهَا قد انْقَضتْ وَهِي تنكر فَإِن على قَول زفر لَا يبْقى الْخَبَر مَعْمُولا بِهِ بعد إنكارها وَعِنْدنَا يبْقى مَعْمُولا بِهِ إِلَّا فِي حَقّهَا وَالْأول أصح فَإِن جَوَاز نِكَاح الْأُخْت والأربع لَهُ هُنَا عندنَا بِاعْتِبَار ظُهُور انْقِضَاء الْعدة فِي حَقه (بقوله) لكَونه أَمينا فِي الْإِخْبَار عَن أَمر بَينه وَبَين ربه لَا لاتصال الْخَبَر بهَا وَلِهَذَا لَو قَالَ انْقَضتْ عدتهَا وَلم يضف الْخَبَر إِلَيْهَا كَانَ الحكم كَذَلِك فِي الصَّحِيح من الْجَواب
فَأَما الْفَرِيق الأول فقد احْتَجُّوا بِحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ رَضِي الله عَنهُ فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لأبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا (أَحَق مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ) فَقَالَا نعم فَقَامَ فَأَتمَّ صلَاته وَقبل خبرهما عَنهُ وَإِن لم يذكرهُ وَعمر قبل خبر أنس بن مَالك عَنهُ فِي أَمَان الهرمزان بقوله لَهُ أَتكَلّم كَلَام حَيّ وَإِن لم يذكر ذَلِك وَلِأَن النسْيَان غَالب على الْإِنْسَان فقد يحفظ الْإِنْسَان شَيْئا وَيَرْوِيه لغيره ثمَّ ينسى بعد مُدَّة فَلَا يتذكره أصلا والراوي عَنهُ عدل ثِقَة فبه يتَرَجَّح جَانب الصدْق فِي خَبره ثمَّ لَا يبطل ذَلِك بنسيانه
وَهَذَا بِخِلَاف الشَّهَادَة على الشَّهَادَة فَإِن شَاهد الأَصْل إِذا أنكرهُ لم يكن للْقَاضِي أَن يقْضِي بِشَهَادَتِهِ لِأَن الفرعي هُنَاكَ لَيْسَ بِشَاهِد على الْحق ليقضي بِشَهَادَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ ثَابت فِي نقل شَهَادَة الْأَصْلِيّ وَلِهَذَا لَو قَالَ أشهد على فلَان لَا يكون صَحِيحا مَا لم يقل أشهدنى على شَهَادَته وَأَمرَنِي بِالْأَدَاءِ فَأَنا أشهد على شَهَادَته ثمَّ الْقَضَاء يكون بِشَهَادَة الْأَصْلِيّ وَمَعَ إِنْكَار لَا تثبت شَهَادَته فِي مجْلِس الْقَضَاء فَأَما هُنَا الفرعي إِنَّمَا يروي الحَدِيث بِاعْتِبَار سَماع صَحِيح لَهُ من الْأَصْلِيّ وَلَا يبطل ذَلِك بإنكار الْأَصْلِيّ بِنَاء على نسيانه
وَأما الْفَرِيق الثَّانِي استدلوا بِحَدِيث عمار رَضِي الله عَنهُ حِين قَالَ لعمر أما تذكر إِذْ كُنَّا فِي الْإِبِل فأجنبت فتمعكت فِي التُّرَاب ثمَّ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ أما كَانَ يَكْفِيك أَن تضرب بيديك الأَرْض فتمسح بهما وَجهك وذراعيك فَلم(2/4)
يرفع عمر رَضِي الله عَنهُ رَأسه وَلم يعْتَمد رِوَايَته مَعَ أَنه كَانَ عدلا ثِقَة لِأَنَّهُ روى عَنهُ وَلم يتَذَكَّر هُوَ مَا رَوَاهُ فَكَانَ لَا يرى التَّيَمُّم للْجنب بعد ذَلِك وَلِأَن بِاعْتِبَار تَكْذِيب الْعَادة يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة مُوجبَة للْعَمَل كَمَا قَررنَا فِيمَا سبق وَتَكْذيب الرَّاوِي أدل على الوهن من تَكْذِيب الْعَادة وَهَذَا لِأَن الْخَبَر إِنَّمَا يكون مَعْمُولا بِهِ إِذا اتَّصل برَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَقد انْقَطع هَذَا الِاتِّصَال بإنكار رَاوِي الأَصْل لِأَن إِنْكَاره حجَّة فِي حَقه فتنتفي بِهِ رِوَايَته الحَدِيث أَو يصير هُوَ مناقضا بإنكاره وَمَعَ التَّنَاقُض لَا تثبت رِوَايَته وَبِدُون رِوَايَته لَا يثبت الِاتِّصَال فَلَا يكون حجَّة كَمَا فِي الشَّهَادَة على الشَّهَادَة وكما يتَوَهَّم نِسْيَان رَاوِي الأَصْل يتَوَهَّم غلط رَاوِي الْفَرْع فقد يسمع الْإِنْسَان حَدِيثا فيحفظه وَلَا يحفظ من سمع مِنْهُ فيظن أَنه سَمعه من فلَان وَإِنَّمَا سَمعه من غَيره فأدنى الدَّرَجَات فِيهِ أَن يَقع التَّعَارُض فِيمَا هُوَ متوهم فَلَا يثبت الِاتِّصَال من جِهَته وَلَا من جِهَة غَيره لِأَنَّهُ مَجْهُول وبالمجهول لَا يثبت الِاتِّصَال
وَأما حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّمَا يحمل على أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تذكر ذَلِك عِنْد خبرهما وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر فَإِنَّهُ كَانَ مَعْصُوما عَن التَّقْرِير على الْخَطَأ وَحَدِيث عمر مُحْتَمل لذَلِك أَيْضا فَرُبمَا تذكر حِين شهد بِهِ غَيره فَلهَذَا عمل بِهِ أَو تذكر غَفلَة من نَفسه وشغل الْقلب بِشَيْء فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد يكون هَذَا للمرء بِحَيْثُ يُوجد شَيْء مِنْهُ ثمَّ لَا يذكرهُ فَأَخذه بِالِاحْتِيَاطِ وَجعله آمنا من هَذَا الْوَجْه
وَنحن لَا نمْنَع من مثل هَذَا الِاحْتِيَاط وَإِنَّمَا ندعي أَنه لَا يبْقى مُوجبا للْعَمَل مَعَ إِنْكَار رَاوِي الأَصْل وكما أَن رَاوِي الْفَرْع عدل ثِقَة فراوي الأَصْل كَذَلِك وَذَلِكَ يرجح جَانب الصدْق فِي إِنْكَاره أَيْضا فتتحقق الْمُعَارضَة من هَذَا الْوَجْه وَأدنى مَا فِيهِ أَن يتعارض قولاه فِي الرِّوَايَة وَالْإِنْكَار فَيبقى الْأَمر على مَا كَانَ قبل رِوَايَته
وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ مَا إِذا ظهر مِنْهُ الْمُخَالفَة قولا أَو عملا فَإِن كَانَ ذَلِك بتاريخ قبل الرِّوَايَة فَإِنَّهُ لَا يقْدَح فِي الْخَبَر وَيحمل على أَنه كَانَ ذَلِك مذْهبه قبل أَن يسمع الحَدِيث فَلَمَّا سمع الحَدِيث رَجَعَ إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِن لم يعلم التَّارِيخ لِأَن الْحمل على أحسن الْوَجْهَيْنِ وَاجِب مَا لم يتَبَيَّن خِلَافه وَهُوَ أَن يكون ذَلِك مِنْهُ قبل أَن يبلغهُ الحَدِيث(2/5)
ثمَّ رَجَعَ إِلَى الحَدِيث
وَأما إِذا علم ذَلِك مِنْهُ بتاريخ بعد الحَدِيث فَإِن الحَدِيث يخرج بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَن فتواه بِخِلَاف الحَدِيث أَو عمله من أبين الدَّلَائِل على الِانْقِطَاع وَأَنه الأَصْل للْحَدِيث فَإِن الْحَالَات لَا تَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت الرِّوَايَة تقولا مِنْهُ لَا عَن سَماع فَيكون وَاجِب الرَّد أَو تكون فتواه وَعَمله بِخِلَاف الحَدِيث على وَجه قلَّة المبالاة والتهاون بِالْحَدِيثِ فَيصير بِهِ فَاسِقًا لَا تقبل رِوَايَته أصلا أَو يكون ذَلِك مِنْهُ عَن غَفلَة ونسيان وَشَهَادَة الْمُغَفَّل لَا تكون حجَّة فَكَذَلِك خَبره أَو يكون ذَلِك مِنْهُ على أَنه علم انتساخ حكم الحَدِيث وَهَذَا أحسن الْوُجُوه فَيجب الْحمل عَلَيْهِ تحسينا للظن بروايته وَعَمله فَإِنَّهُ روى على طَرِيق إبْقَاء الْإِسْنَاد وَعلم أَنه مَنْسُوخ فَأفْتى بِخِلَافِهِ أَو عمل بالناسخ دون الْمَنْسُوخ وكما يتَوَهَّم أَن يكون فتواه أَو عمله بِنَاء على غَفلَة أَو نِسْيَان يتَوَهَّم أَن تكون رِوَايَته بِنَاء على غلط وَقع لَهُ وَبِاعْتِبَار التَّعَارُض بَينهمَا يَنْقَطِع الِاتِّصَال
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يغسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب سبعا ثمَّ صَحَّ من فتواه أَنه يطهر بِالْغسْلِ ثَلَاثًا فحملنا على أَنه كَانَ علم انتساخ هَذَا الحكم أَو علم بِدلَالَة الْحَال أَن مُرَاد رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام النّدب فِيمَا وَرَاء الثَّلَاثَة
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ متعتان كَانَتَا على عهد رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنا أنهِي عَنْهُمَا وأعاقب عَلَيْهِمَا مُتْعَة النِّسَاء ومتعة الْحَج
فَإِنَّمَا يحمل هَذَا على علمه بالانتساخ وَلِهَذَا قَالَ ابْن سِيرِين هم الَّذين رووا الرُّخْصَة فِي الْمُتْعَة وهم الَّذين نهوا عَنْهَا وَلَيْسَ فِي رَأْيهمْ مَا يرغب عَنهُ وَلَا فِي نصيحتهم مَا يُوجب التُّهْمَة
وَأما فِي الْعَمَل فبيان هَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا) ثمَّ صَحَّ أَنَّهَا زوجت ابْنة أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فبعملها بِخِلَاف الحَدِيث يتَبَيَّن النّسخ وَحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرفع يَدَيْهِ عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع الرَّأْس من الرُّجُوع ثمَّ قد صَحَّ عَن مُجَاهِد قَالَ صَحِبت ابْن عمر سِنِين وَكَانَ لَا يرفع يَدَيْهِ إِلَّا عِنْد تَكْبِيرَة الِافْتِتَاح فَيثبت بِعَمَلِهِ بِخِلَاف الحَدِيث نسخ الحكم
وَأما الْوَجْه الثَّالِث وَهُوَ تَعْيِينه بعض محتملات الحَدِيث فَإِن ذَلِك لَا يمْنَع كَون الحَدِيث مَعْمُولا بِهِ على ظَاهره من قبل أَنه إِنَّمَا فعل ذَلِك بِتَأْوِيل وتأويله لَا يكون(2/6)
حجَّة على غَيره وَإِنَّمَا الْحجَّة الحَدِيث وبتأويله لَا يتَغَيَّر ظَاهر الحَدِيث فَيبقى مَعْمُولا بِهِ على ظَاهره وَهُوَ وَغَيره فِي التَّأْوِيل والتخصيص سَوَاء
وَبَيَان هَذَا فِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا وَهَذَا يحْتَمل التَّفَرُّق بالأقوال وَيحْتَمل التَّفَرُّق بالأبدان ثمَّ حمله ابْن عمر على التَّفَرُّق بالأبدان حَتَّى روى عَنهُ أَنه كَانَ إِذا أوجب البيع مَشى هنيهة وَلم نَأْخُذ بتأويله لِأَن الحَدِيث فِي احْتِمَال كل وَاحِد من الْأَمريْنِ كالمشترك فتعيين أحد المحتملين فِيهِ يكون تَأْوِيلا لَا تَصرفا فِي الحَدِيث
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ ثمَّ قد ظهر من فَتْوَى ابْن عَبَّاس أَن الْمُرْتَدَّة لَا تقتل فَقَالَ هَذَا تَخْصِيص لحق الحَدِيث من الرَّاوِي وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة التَّأْوِيل لَا يكون حجَّة على غَيره فَأَنا آخذ بِظَاهِر الحَدِيث وَأوجب الْقَتْل على الْمُرْتَدَّة
وَأما ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أصلا فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْعَمَل بِخِلَاف الحَدِيث حَتَّى يخرج بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَن ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرَام كَمَا أَن الْعَمَل بِخِلَافِهِ حرَام وَمن هَذَا النَّوْع ترك ابْن عمر الْعَمَل بِحَدِيث رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع كَمَا بَينا
وَأما مَا يكون من جِهَة غير الرَّاوِي فَهُوَ قِسْمَانِ أَحدهمَا مَا يكون من جِهَة الصَّحَابَة وَالثَّانِي مَا يكون من جِهَة أَئِمَّة الحَدِيث
فَأَما مَا يكون من الصَّحَابَة فَهُوَ نَوْعَانِ على مَا ذكره عِيسَى بن أبان رَحمَه الله أَحدهمَا أَن يعْمل بِخِلَاف الحَدِيث بعض الْأَئِمَّة من الصَّحَابَة وَهُوَ مِمَّن يعلم أَنه لَا يخفى عَلَيْهِ مثل ذَلِك الحَدِيث فَيخرج الحَدِيث بِهِ من أَن يكون حجَّة لِأَنَّهُ لما انْقَطع توهم أَنه لم يبلغهُ وَلَا يظنّ بِهِ مُخَالفَة حَدِيث صَحِيح عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوَاء رَوَاهُ هُوَ أَو غَيره فَأحْسن الْوُجُوه فِيهِ أَنه علم انتساخه أَو أَن ذَلِك الحكم لم يكن حتما فَيجب حمله على هَذَا
وَبَيَانه فِيمَا روى الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ ثمَّ صَحَّ عَن الْخُلَفَاء أَنهم أَبَوا الْجمع بَين الْجلد وَالرَّجم بعد علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِم الحَدِيث لشهرته فَعرفنَا بِهِ انتساخ هَذَا الحكم وَكَذَلِكَ صَحَّ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَوْله وَالله لَا أنفي أحدا أبدا
وَقَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة مَعَ علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِمَا الحَدِيث فاستدللنا بِهِ على انتساخ حكم الْجمع بَين الْجلد والتغريب(2/7)
وَكَذَلِكَ مَا يرْوى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ حِين فتح السوَاد من بهَا على أَهلهَا وأبى أَن يقسمها بَين الْغَانِمين مَعَ علمنَا أَنه لم يخف عَلَيْهِ قسْمَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام خَيْبَر بَين أَصْحَابه حِين افتتحها فاستدللنا بِهِ على أَنه علم أَن ذَلِك لم يكن حكما حتما من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام على وَجه لَا يجوز غَيره فِي الْغَنَائِم
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَانَ يطبق فِي الصَّلَاة بعد مَا ثَبت انتساخه بِحَدِيث مَشْهُور فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب ثمَّ خَفِي عَلَيْهِ ذَلِك حَتَّى لم يَجْعَل عمله دَلِيلا على أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب مَنْسُوخ أَو أَن الْأَخْذ بالركب لَا يكون عينا فِي الصَّلَاة قُلْنَا مَا خَفِي على ابْن مَسْعُود حَدِيث الْأَمر بِالْأَخْذِ بالركب وَإِنَّمَا وَقع عِنْده أَنه على سَبِيل الرُّخْصَة فَكَانَ تلحقهم الْمَشَقَّة فِي التطبيق مَعَ طول الرُّكُوع لأَنهم كَانُوا يخَافُونَ السُّقُوط على الأَرْض فَأمروا بِالْأَخْذِ بالركب تيسيرا عَلَيْهِم لَا تعيينا عَلَيْهِم فلأجل هَذَا التَّأْوِيل لم يتْرك الْعَمَل بِظَاهِر الحَدِيث الَّذِي فِيهِ أَمر بِالْأَخْذِ بالركب
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يظْهر مِنْهُ الْعَمَل بِخِلَاف الحَدِيث وَهُوَ مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ ذَلِك الحَدِيث فَلَا يخرج الحَدِيث من أَن يكون حجَّة بِعَمَلِهِ بِخِلَافِهِ
وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رخص للحائض فِي أَن تتْرك طواف الصَّدْر ثمَّ صَحَّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهَا تقيم حَتَّى تطهر فَتَطُوف وَلَا تتْرك بِهَذَا الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ رخصَة لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ مَا يرْوى عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ لَا يُوجب إِعَادَة الْوضُوء على من قهقه فِي الصَّلَاة وَلَا يتْرك بِهِ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمُوجب للْوُضُوء من القهقهة فِي الصَّلَاة لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ قَول ابْن عمر لَا يحجّ أحد عَن أحد لَا يمْنَع الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي الإحجاج عَن الشَّيْخ الْكَبِير لجَوَاز أَن يكون ذَلِك خَفِي عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَن الحَدِيث مَعْمُول بِهِ إِذا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يتْرك الْعَمَل بِهِ بِاعْتِبَار عمل مِمَّن هُوَ دونه بِخِلَافِهِ وَإِنَّمَا تحمل فتواه بِخِلَاف الحَدِيث على أحسن الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنه إِنَّمَا أفتى بِهِ بِرَأْيهِ لِأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ النَّص وَلَو بلغه لرجع إِلَيْهِ فعلى من يبلغهُ الحَدِيث بطرِيق صَحِيح أَن يَأْخُذ بِهِ(2/8)
وَأما مَا يكون من أَئِمَّة الحَدِيث فَهُوَ الطعْن فِي الروَاة وَذَلِكَ نَوْعَانِ مُبْهَم ومفسر
ثمَّ الْمُفَسّر نَوْعَانِ مَا لَا يصلح أَن يكون طَعنا وَمَا يصلح أَن يكون
وَالَّذِي يصلح نَوْعَانِ مُجْتَهد فِيهِ أَو مُتَّفق عَلَيْهِ
والمتفق عَلَيْهِ نَوْعَانِ أَن يكون مِمَّن هُوَ مَشْهُور بِالنَّصِيحَةِ والإتقان أَو مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالتعصب والعداوة
فَأَما الطعْن الْمُبْهم فَهُوَ عِنْد الْفُقَهَاء لَا يكون جرحا لِأَن الْعَدَالَة بِاعْتِبَار ظَاهر الدّين ثَابت لكل مُسلم خُصُوصا من كَانَ من الْقُرُون الثَّلَاثَة فَلَا يتْرك ذَلِك بطعن مُبْهَم أَلا ترى أَن الشَّهَادَة أضيق من رِوَايَة الْخَبَر فِي هَذَا
ثمَّ الطعْن الْمُبْهم من الْمُدعى عَلَيْهِ لَا يكون جرحا فَكَذَلِك من الْمُزَكي وَلَا يمْتَنع الْعَمَل بِالشَّهَادَةِ لأجل الطعْن الْمُبْهم فَلِأَن لَا يخرج الحَدِيث بالطعن الْمُبْهم من أَن يكون حجَّة أولى
وَهَذَا للْعَادَة الظَّاهِرَة أَن الْإِنْسَان إِذا لحقه من غير مَا يسوءه فَإِنَّهُ يعجز عَن إمْسَاك لِسَانه فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى يطعن فِيهِ طَعنا مُبْهما إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى ثمَّ إِذا طلب مِنْهُ تَفْسِير ذَلِك لَا يكون لَهُ أصل
والمفسر الَّذِي لَا يصلح أَن يكون طَعنا لَا يُوجب الْجرْح أَيْضا وَذَلِكَ مثل طعن بعض المتعنتين فِي أبي حنيفَة أَنه دس ابْنه ليَأْخُذ كتب أستاذه حَمَّاد فَكَانَ يروي من ذَلِك
وَهَذَا إِن صَحَّ فَهُوَ لَا يصلح طَعنا بل هُوَ دَلِيل الإتقان فقد كَانَ هُوَ لَا يستجيز الرِّوَايَة إِلَّا عَن حفظ وَالْإِنْسَان لَا يقوى اعْتِمَاده على جَمِيع مَا يحفظه فَفعل ذَلِك ليقابل حفظه بكتب أستاذه فَيَزْدَاد بِهِ معنى الإتقان
وَكَذَلِكَ الطعْن بالتدليس على من يَقُول حَدثنِي فلَان عَن فلَان وَلَا يَقُول قَالَ حَدثنِي فلَان فَإِن هَذَا لَا يصلح أَن يكون طَعنا لِأَن هَذَا يُوهم الْإِرْسَال وَإِذا كَانَ حَقِيقَة الْإِرْسَال دَلِيل زِيَادَة الإتقان على مَا بَينا فَمَا يُوهم الْإِرْسَال كَيفَ يكون طَعنا
وَمِنْه الطعْن بالتلبيس على من يكنى عَن الرَّاوِي وَلَا يذكر اسْمه وَلَا نسبه نَحْو رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ بقوله حَدثنَا أَبُو سعيد من غير بَيَان يعلم بِهِ أَن هَذَا ثِقَة أَو غير ثِقَة وَنَحْو رِوَايَة مُحَمَّد بقوله أخبرنَا الثِّقَة من غير تَفْسِير فَإِن هَذَا مَحْمُول على أحسن الْوُجُوه وَهُوَ صِيَانة الرَّاوِي من أَن يطعن فِيهِ (بعض) من لَا يُبَالِي وصيانة السَّامع من أَن(2/9)
يبتلى بالطعن فِي أحد من غير حجَّة على أَن من يكون مطعونا فِي بعض رواياته بِسَبَب لَا يُوجب عُمُوم الطعْن فِيهِ فَذَلِك لَا يمْنَع قبُول رِوَايَته وَالْعَمَل بِهِ فِيمَا سوى ذَلِك نَحْو الْكَلْبِيّ وَأَمْثَاله
ثمَّ سُفْيَان الثَّوْريّ مِمَّن لَا يخفى حَاله فِي الْفِقْه وَالْعَدَالَة وَلَا يظنّ بِهِ إِلَّا أحسن الْوُجُوه
وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن الْحسن فَتحمل الْكِنَايَة مِنْهُمَا عَن الرَّاوِي على أَنَّهُمَا قصدا صيانته وَكَيف يَجْعَل ذَلِك طَعنا وَالْقَوْل بِأَنَّهُ ثِقَة شَهَادَة بِالْعَدَالَةِ لَهُ
وَمن ذَلِك أَيْضا طعن بعض الْجُهَّال فِي مُحَمَّد بن الْحسن بِأَنَّهُ سَأَلَ عبد الله بن الْمُبَارك رَحمَه الله أَن يروي لَهُ أَحَادِيث ليسمعها مِنْهُ فَأبى فَلَمَّا قيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَا تعجبني أخلاقه
فَإِن هَذَا إِن صَحَّ لم يصلح أَن يكون طَعنا لِأَن أَخْلَاق الْفُقَهَاء لَا توَافق أَخْلَاق الزهاد فِي كل وجع فهم بِمحل الْقدْوَة والزهاد بِمحل الْعُزْلَة وَقد يحسن فِي مقَام الْعُزْلَة مَا يقبح فِي مقَام الْقدْوَة أَو على عكس ذَلِك فَكيف يصلح أَن يكون هَذَا طَعنا لَو صَحَّ مَعَ أَنه غير صَحِيح فقد رُوِيَ عَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ لَا بُد أَن يكون فِي كل زمَان من يحيي بِهِ الله للنَّاس دينهم ودنياهم
فَقيل لَهُ من بِهَذِهِ الصّفة فِي هَذَا الزَّمَان فَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن
فَهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَا أصل لذَلِك الطعْن
وَمن ذَلِك الطعْن بركض الدَّوَابّ فَإِن ذَلِك من عمل الْجِهَاد لِأَن السباق على الأفراس والأقدام مَشْرُوع ليتقوى بِهِ الْمَرْء على الْجِهَاد فَمَا يكون من جنسه مَشْرُوع لَا يصلح أَن يكون طَعنا
وَمن ذَلِك الطعْن بِكَثْرَة المزاح فَإِن ذَلِك مُبَاح شرعا إِذا لم يتَكَلَّم بِمَا لَيْسَ بِحَق على مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يمازح وَلَا يَقُول إِلَّا حَقًا
وَلَكِن هَذَا بِشَرْط أَن لَا يكون متخبطا مجازفا يعْتَاد الْقَصْد إِلَى رفع الْحجَّة والتلبيس بِهِ أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ بِهِ دعابة
وَقد ذكر ذَلِك عمر حِين ذكر اسْمه فِي الشورى وَلم يذكرهُ على وَجه الطعْن فَعرفنَا أَن عينه لَا يكون طَعنا
وَمن ذَلِك الطعْن بحداثة سنّ الرَّاوِي فَإِن كثيرا من الصَّحَابَة كَانُوا يروون فِي حَدَاثَة سنهم مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَلَكِن هَذَا بِشَرْط الإتقان عِنْد التَّحَمُّل(2/10)
فِي الصغر وَعند الرِّوَايَة بعد الْبلُوغ وَلِهَذَا أَخذنَا بِحَدِيث عبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير رَضِي الله عَنهُ فِي صَدَقَة الْفطر أَنه نصف صَاع من بر ورجحنا حَدِيثه على حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي التَّقْدِير بِصَاع من بر لِأَن حَدِيثه أحسن متْنا فَذَلِك دَلِيل الإتقان وَوَافَقَهُ رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَيْضا
وَالشَّافِعِيّ أَخذ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله عَنْهُمَا فِي إِثْبَات حق الرُّجُوع للوالد فِيمَا يهب لوَلَده وَقد رُوِيَ أَنه نحله أَبوهُ غُلَاما وَهُوَ ابْن سبع سِنِين فَعرفنَا أَن مثل هَذَا لَا يكون طَعنا عِنْد الْفُقَهَاء
وَمن ذَلِك الطعْن بِأَن رِوَايَة الْأَخْبَار لَيست بعادة لَهُ فَإِن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مَا اعْتَادَ الرِّوَايَة وَلَا يظنّ بِأحد أَنه يطعن فِي حَدِيثه بِهَذَا السَّبَب وَقبل رَسُول الله شَهَادَة الْأَعرَابِي على رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان والأعرابي مَا كَانَ اعْتَادَ الرِّوَايَة وَقد كَانَ فِي الصَّحَابَة من يمْتَنع من الرِّوَايَة فِي عَامَّة الْأَوْقَات وَفِيهِمْ من يشْتَغل بالرواية فِي عَامَّة الْأَوْقَات ثمَّ لم يرجح أحد رِوَايَة من اعْتَادَ ذَلِك على من لم يعْتد الرِّوَايَة وَهَذَا لِأَن الْمُعْتَبر هُوَ الإتقان وَرُبمَا يكون إتقان من لم تصر الرِّوَايَة عَادَة لَهُ فِيمَا يروي أَكثر من إتقان من اعْتَادَ الرِّوَايَة
وَمن ذَلِك الطعْن بالاستكثار من تَفْرِيع مسَائِل الْفِقْه فَإِن ذَلِك دَلِيل الِاجْتِهَاد وَقُوَّة الخاطر فيستدل بِهِ على حسن الضَّبْط والاتقان فَكيف يصلح أَن يكون طَعنا وَمَا يكون مُجْتَهدا فِيهِ الطعْن بِالْإِرْسَال وَقد بَينا أَنه لَيْسَ بطعن عندنَا لِأَنَّهُ دَلِيل تَأَكد الْخَبَر وإتقان الرَّاوِي فِي السماع من غير وَاحِد
وَأما الطعْن الْمُفَسّر بِمَا يكون مُوجبا للجرح فَإِن حصل مِمَّن هُوَ مَعْرُوف بالتعصب أَو مُتَّهم بِهِ لظُهُور سَبَب باعث لَهُ على الْعَدَاوَة فَإِنَّهُ لَا يُوجب الْجرْح وَذَلِكَ نَحْو طعن الْمُلْحِدِينَ والمتهمين بِبَعْض الْأَهْوَاء المضلة فِي أهل السّنة وَطعن بعض من ينتحل مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله فِي بعض الْمُتَقَدِّمين من كبار أَصْحَابنَا فَإِنَّهُ لَا يُوجب الْجرْح لعلمنا أَنه كَانَ عَن تعصب وعداوة
فَأَما وُجُوه الطعْن الْمُوجب للجرح فَرُبمَا يَنْتَهِي إِلَى أَرْبَعِينَ وَجها يطول الْكتاب بِذكر تِلْكَ الْوُجُوه وَمن طلبَهَا فِي كتاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل وقف عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى(2/11)
فصل فِي بَيَان الْمُعَارضَة بَين النُّصُوص وَتَفْسِير الْمُعَارضَة وركنها وَحكمهَا وَشَرطهَا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَج الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة لَا يَقع بَينهمَا التَّعَارُض والتناقض وضعا لِأَن ذَلِك من أَمَارَات الْعَجز وَالله يتعالى عَن أَن يُوصف بِهِ وَإِنَّمَا يَقع التَّعَارُض لجهلنا بالتاريخ فَإِنَّهُ يتَعَذَّر بِهِ علينا التَّمْيِيز بَين النَّاسِخ والمنسوخ أَلا ترى أَن عِنْد الْعلم بالتاريخ لَا تقع الْمُعَارضَة بِوَجْه وَلَكِن الْمُتَأَخر نَاسخ للمتقدم فَعرفنَا أَن الْوَاجِب فِي الأَصْل طلب التَّارِيخ ليعلم بِهِ النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ وَإِذا لم يُوجد ذَلِك يَقع التَّعَارُض بَينهمَا فِي حَقنا من غير أَن يتَمَكَّن التَّعَارُض فِيمَا هُوَ حكم الله تَعَالَى فِي الْحَادِثَة وَلأَجل هَذَا يحْتَاج إِلَى معرفَة تَفْسِير الْمُعَارضَة وركنها وَشَرطهَا وَحكمهَا
فَأَما التَّفْسِير فَهِيَ الممانعة على سَبِيل الْمُقَابلَة
يُقَال عرض لي كَذَا أَي استقبلني فَمَنَعَنِي مِمَّا قصدته وَمِنْه سميت الْمَوَانِع عوارض فَإِذا تقَابل الحجتان على سَبِيل المدافعة والممانعة سميت مُعَارضَة
وَأما الرُّكْن فَهُوَ تقَابل الحجتين المتساويتين على وَجه يُوجب كل وَاحِد مِنْهُمَا ضد مَا توجبه الْأُخْرَى كالحل وَالْحُرْمَة وَالنَّفْي وَالْإِثْبَات لِأَن ركن الشَّيْء مَا يقوم بِهِ ذَلِك الشَّيْء وبالحجتين المتساويتين تقوم الْمُقَابلَة إِذا لَا مُقَابلَة للضعيف مَعَ الْقوي
وَأما الشَّرْط فَهُوَ أَن يكون تقَابل الدَّلِيلَيْنِ فِي وَقت وَاحِد وَفِي مَحل وَاحِد لِأَن المضادة والتنافي لَا يتَحَقَّق بَين الشَّيْئَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ وَلَا فِي محلين حسا وَحكما
وَمن الحسيات اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يتَصَوَّر اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد وَيجوز أَن يكون بعض الزَّمَان نَهَارا وَالْبَعْض لَيْلًا وَكَذَلِكَ السوَاد مَعَ الْبيَاض مجتمعان فِي الْعين فِي محلين وَلَا تصور لاجتماعهما فِي مَحل وَاحِد
وَمن الحكميات النِّكَاح فَإِنَّهُ يُوجب الْحل فِي الْمَنْكُوحَة وَالْحُرْمَة فِي أمهَا وبنتها وَلَا يتَحَقَّق التضاد بَينهمَا فِي محلين حَتَّى صَحَّ إثباتهما بِسَبَب وَاحِد
وَالصَّوْم يجب فِي وَقت وَالْفطر فِي وَقت آخر وَلَا يتَحَقَّق(2/12)
معنى التضاد بَينهمَا باخْتلَاف الْوَقْت فَعرفنَا أَن شَرط التضاد والتمانع اتِّحَاد الْمحل وَالْوَقْت
وَمن الشَّرْط أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مُوجبا على وَجه يجوز أَن يكون نَاسِخا للْآخر إِذا عرف التَّارِيخ بَينهمَا وَلِهَذَا قُلْنَا يَقع التَّعَارُض بَين الْآيَتَيْنِ وَبَين الْقِرَاءَتَيْن وَبَين السنتين وَبَين الْآيَة وَالسّنة الْمَشْهُورَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يجوز أَن يكون نَاسِخا إِذا علم التَّارِيخ بَينهمَا على مَا نبينه فِي بَاب النّسخ
وَلَا يَقع التَّعَارُض بَين القياسين لِأَن أَحدهمَا لَا يجوز أَن يكون نَاسِخا للْآخر فَإِن النّسخ لَا يكون إِلَّا فِيمَا هُوَ مُوجب للْعلم وَالْقِيَاس لَا يُوجب ذَلِك وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا عَن تَارِيخ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي القياسين
وَكَذَلِكَ لَا يَقع التَّعَارُض فِي أقاويل الصَّحَابَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا (إِنَّمَا) قَالَ ذَلِك عَن رَأْيه وَالرِّوَايَة لَا تثبت بِالِاحْتِمَالِ وكما أَن الرأيين من وَاحِد لَا يصلح أَن يكون أَحدهمَا نَاسِخا للْآخر فَكَذَلِك من اثْنَيْنِ
وَأما الحكم فَنَقُول مَتى وَقع التَّعَارُض بَين الْآيَتَيْنِ فالسبيل الرُّجُوع إِلَى سَبَب النُّزُول ليعلم التَّارِيخ بَينهمَا فَإِذا علم ذَلِك كَانَ الْمُتَأَخر نَاسِخا للمتقدم فَيجب الْعَمَل بالناسخ وَلَا يجوز الْعَمَل بالمنسوخ فَإِن لم يعلم ذَلِك فَحِينَئِذٍ يجب الْمصير إِلَى السّنة لمعْرِفَة حكم الْحَادِثَة وَيجب الْعَمَل بذلك إِن وجد فِي السّنة لِأَن الْمُعَارضَة لما تحققت فِي حَقنا فقد تعذر علينا الْعَمَل بالآيتين إِذْ لَيست إِحْدَاهمَا بِالْعَمَلِ بهَا أولى من الْأُخْرَى والتحقق بِمَا لَو لم يُوجد حكم الْحَادِثَة فِي الْكتاب فَيجب الْمصير إِلَى السّنة فِي معرفَة الحكم
وَكَذَلِكَ إِن وَقع التَّعَارُض بَين السنتين وَلم يعرف التَّارِيخ فَإِنَّهُ يُصَار إِلَى مَا بعد السّنة فِيمَا يكون حجَّة فِي حكم الْحَادِثَة وَذَلِكَ قَول الصَّحَابِيّ أَو الْقيَاس الصَّحِيح على مَا بَينا من قبل فِي التَّرْتِيب فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة لِأَن عِنْد الْمُعَارضَة يتَعَذَّر الْعَمَل بالمتعارضين فَفِي حكم الْعَمَل يَجْعَل ذَلِك كَالْمَعْدُومِ أصلا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا ادّعى رجلَانِ نِكَاح امْرَأَة وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة وَتعذر تَرْجِيح إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْه من الْوُجُوه فَإِنَّهُ تبطل الحجتان وَيصير كَأَنَّهُ لم يقم كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة(2/13)
فَأَما إِذا وَقع التَّعَارُض بَين القياسين فَإِن أمكن تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر بِدَلِيل شَرْعِي وَذَلِكَ قُوَّة فِي أَحدهمَا لَا يُوجد مثله فِي الآخر يجب الْعَمَل بالراجح وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة معرفَة التَّارِيخ فِي النُّصُوص وَإِن لم يُوجد ذَلِك فَإِن الْمُجْتَهد يعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ لَا بِاعْتِبَار أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا حق أَو صَوَاب فَالْحق أَحدهمَا وَالْآخر خطأ على مَا هُوَ الْمَذْهَب عندنَا فِي الْمُجْتَهد أَنه يُصِيب تَارَة ويخطىء أُخْرَى وَلكنه مَعْذُور فِي الْعَمَل بِهِ فِي الظَّاهِر مَا لم يتَبَيَّن لَهُ الْخَطَأ بِدَلِيل أقوى من ذَلِك وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي طَرِيق الِاجْتِهَاد مُصِيب وَإِن لم يقف على الصَّوَاب بِاجْتِهَادِهِ وطمأنينة الْقلب إِلَى مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده يصلح أَن يكون دَلِيلا فِي حكم الْعَمَل شرعا عِنْد تحقق الضَّرُورَة بِانْقِطَاع الْأَدِلَّة
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْمُؤمن ينظر بِنور الله وَقَالَ فراسة الْمُؤمن لَا تخطىء وَلِهَذَا جَوَّزنَا التَّحَرِّي فِي بَاب الْقبْلَة عِنْد انْقِطَاع الْأَدِلَّة الدَّالَّة على الْجِهَة وحكمنا بِجَوَاز الصَّلَاة سَوَاء تبين أَنه أصَاب جِهَة الْكَعْبَة أَو أَخطَأ لِأَنَّهُ اعْتمد فِي عمله دَلِيلا شَرْعِيًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ بقوله قبْلَة المتحري جِهَة قَصده
وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُخَيّرا عِنْد تعَارض القياسين لأجل الضَّرُورَة لِأَنَّهُ إِن ترك الْعَمَل بهما للتعارض احْتَاجَ إِلَى اعْتِبَار الْحَال لبِنَاء حكم الْحَادِثَة عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ بعد الْقيَاس دَلِيل شَرْعِي يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة حكم الْحَادِثَة وَالْعَمَل بِالْحَال عمل بِلَا دَلِيل وَلَا إِشْكَال أَن الْعَمَل بِدَلِيل شَرْعِي فِيهِ احْتِمَال الْخَطَأ وَالصَّوَاب يكون أولى من الْعَمَل بِلَا دَلِيل وَلَكِن هَذِه الضَّرُورَة إِنَّمَا تتَحَقَّق فِي القياسين وَلَا تتَحَقَّق فِي النصين لِأَنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا دَلِيل شَرْعِي يرجع إِلَيْهِ فِي معرفَة حكم الْحَادِثَة لهَذَا لَا يتَخَيَّر هُنَاكَ فِي الْعَمَل بِأَيّ النصين شَاءَ
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا كَانَ فِي السّفر وَمَعَهُ إناءان فِي أَحدهمَا مَاء طَاهِر وَفِي الآخر مَاء نجس وَلَا يعرف الطَّاهِر من النَّجس فَإِنَّهُ يتحَرَّى للشُّرْب وَلَا يتحَرَّى للْوُضُوء بل يتَيَمَّم لِأَن فِي حق الشّرْب لَا يجد بَدَلا يصير إِلَيْهِ فِي تَحْصِيل مَقْصُوده فَلهُ أَن يصير إِلَى التَّحَرِّي لتحَقّق الضَّرُورَة وَفِي حكم الطَّهَارَة يجد شَيْئا آخر يطهر بِهِ عِنْد الْعَجز عَن اسْتِعْمَال المَاء الطَّاهِر وَهُوَ التَّيَمُّم فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ الضَّرُورَة وبسبب الْمُعَارضَة يَجْعَل لعادم المَاء فَيصير إِلَى التَّيَمُّم وَقُلْنَا فِي المساليخ إِذا اسْتَوَت الذكية وَالْميتَة فَفِي حَالَة الضَّرُورَة بِأَن لم يجد حَلَالا سوى ذَلِك جَازَ لَهُ التَّحَرِّي وَعند عدم الضَّرُورَة بِوُجُود طَعَام حَلَال لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى التَّحَرِّي وَلِهَذَا(2/14)
لم يجوز التَّحَرِّي فِي الْفروج أصلا عِنْد اخْتِلَاط الْمُعتقَة عينا بِغَيْر الْمُعتقَة لِأَن جَوَاز ذَلِك بِاعْتِبَار الضَّرُورَة وَلَا مدْخل للضَّرُورَة فِي إِبَاحَة الْفرج بِدُونِ الْملك بِخِلَاف الطَّعَام وَالشرَاب
ثمَّ إِذا عمل بِأحد القياسين وَحكم بِصِحَّة عمله بِاعْتِبَار الظَّاهِر يصير ذَلِك لَازِما لَهُ حَتَّى لَا يجوز لَهُ أَن يتْركهُ وَيعْمل بِالْآخرِ من غير دَلِيل مُوجب لذَلِك
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي الثَّوْبَيْنِ إِذا كَانَ أَحدهمَا طَاهِرا وَالْآخر نجسا وَهُوَ لَا يجد ثوبا آخر فَإِنَّهُ يصير إِلَى التَّحَرِّي لتحَقّق الضَّرُورَة فَإِنَّهُ لَو ترك لبسهما لَا يجد شَيْئا آخر يُقيم بِهِ فرض السّتْر الَّذِي هُوَ شَرط جَوَاز الصَّلَاة وَبَعْدَمَا صلى فِي أحد الثَّوْبَيْنِ بِالتَّحَرِّي لَا يكون لَهُ أَن يُصَلِّي فِي الثَّوْب الآخر لأَنا حِين حكمنَا بِجَوَاز الصَّلَاة فِي ذَلِك الثَّوْب فَذَلِك دَلِيل شَرْعِي مُوجب طَهَارَة ذَلِك الثَّوْب وَالْحكم بِنَجَاسَة الثَّوْب الآخر فَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهِ بعد ذَلِك إِلَّا بِدَلِيل أقوى مِنْهُ
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو تحرى عِنْد اشْتِبَاه الْقبْلَة وَصلى صَلَاة إِلَى جِهَة ثمَّ وَقع تحريه على جِهَة أُخْرَى يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي الْمُسْتَقْبل إِلَى الْجِهَة الثَّانِيَة وَلم يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على أَن جِهَة الْقبْلَة مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فِي الِابْتِدَاء قُلْنَا لِأَن هُنَاكَ الحكم بِجَوَاز الصَّلَاة إِلَى تِلْكَ الْجِهَة لَا يتَضَمَّن الحكم بِكَوْنِهَا جِهَة الْكَعْبَة لَا محَالة أَلا ترى أَنه وَإِن تبين لَهُ الْخَطَأ بِيَقِين بِأَن استدبر الْكَعْبَة جَازَت صلَاته وَفِي الثَّوْب من ضَرُورَة الحكم بِجَوَاز الصَّلَاة فِي ثوب الحكم بِطَهَارَة ذَلِك الثَّوْب حَتَّى إِذا تبين أَنه كَانَ نجسا تلْزمهُ إِعَادَة الصَّلَاة وَالْعَمَل بِالْقِيَاسِ من هَذَا الْقَبِيل فَإِن صِحَة الْعَمَل بِأحد القياسين يتَضَمَّن الحكم بِكَوْنِهِ حجَّة للْعَمَل بِهِ ظَاهرا وَلِهَذَا لَو تبين نَص بِخِلَافِهِ بَطل حكم الْعَمَل بِهِ فَلهَذَا كَانَ الْعَمَل بِأحد القياسين مَانِعا لَهُ من الْعَمَل بِالْقِيَاسِ الآخر بعد مَا لم يتَبَيَّن دَلِيل أقوى مِنْهُ
وَوجه آخر أَن التَّعَارُض بَين النصين إِنَّمَا يَقع لجهلنا بالتاريخ بَينهمَا وَالْجهل لَا يصلح دَلِيلا على حكم شَرْعِي من حَيْثُ الْعلم لَا من حَيْثُ الْعَمَل وَالِاخْتِيَار حكم شَرْعِي لَا يجوز أَن يثبت بِاعْتِبَار هَذَا الْجَهْل
فَأَما التَّعَارُض بَين القياسين بِاعْتِبَار كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالحا للْعَمَل بِهِ فِي أصل الْوَضع وَإِن كَانَ أَحدهمَا صَوَابا حَقِيقَة وَالْآخر خطأ وَلَكِن من حَيْثُ الظَّاهِر هُوَ مَعْمُول(2/15)
بِهِ شرعا مَا لم يتَبَيَّن وَجه الْخَطَأ فِيهِ فإثبات الْخِيَار بَينهمَا فِي حكم الْعَمَل إِذا رجح أَحدهمَا بِنَوْع فراسة يكون إِثْبَات الحكم بِدَلِيل شَرْعِي ثمَّ إِذا عمل بِأَحَدِهِمَا صَحَّ ذَلِك بِالْإِجْمَاع فَلَا يكون لَهُ أَن ينْقض مَا نفذ من الْقَضَاء مِنْهُ بِالْإِجْمَاع وَلَا يصير إِلَى الْعَمَل بِالْآخرِ إِلَّا بِدَلِيل هُوَ أقوى من الأول
فَإِن قيل لَو ثَبت الْخِيَار لَهُ فِي الْعَمَل بالقياسين لَكَانَ يبْقى خِيَاره بَعْدَمَا عمل بِأَحَدِهِمَا فِي حَادِثَة حَتَّى يكون لَهُ أَن يعْمل بِالْآخرِ فِي حَادِثَة أُخْرَى كَمَا فِي كَفَّارَة الْيَمين فَإِنَّهُ لَو عين أحد الْأَنْوَاع فِي تَكْفِير يَمِين بِهِ يبْقى خِيَاره فِي تعْيين نوع آخر فِي كَفَّارَة يَمِين أُخْرَى
قُلْنَا هُنَاكَ التَّخْيِير ثَبت على أَن كل وَاحِد من الْأَنْوَاع صَالح للتكفير بِهِ بِدَلِيل مُوجب للْعلم وَهنا الْخِيَار مَا ثَبت بِمثل هَذَا الدَّلِيل بل بِاعْتِبَار أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَالح للْعَمَل بِهِ ظَاهرا مَعَ علمنَا بِأَن الْحق أَحدهمَا وَالْآخر خطأ فَبعد مَا تأيد أَحدهمَا بنفوذ الْقَضَاء بِهِ لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى الآخر إِلَّا بِدَلِيل هُوَ أقوى من الأول وَهَذَا لِأَن جِهَة الصَّوَاب تترجح بِعَمَلِهِ فِيمَا عمل بِهِ وَمن ضَرُورَته ترجح جَانب الْخَطَأ فِي الآخر ظَاهرا فَمَا لم يرْتَفع ذَلِك بِدَلِيل سوى مَا كَانَ مَوْجُودا عِنْد الْعَمَل بِأَحَدِهِمَا لَا يكون لَهُ أَن يصير إِلَى الْعَمَل بِالْآخرِ
وَالْحَاصِل أَن فِيمَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الِانْتِقَال من مَحل إِلَى مَحل إِذا تعين الْمحل بِعَمَلِهِ لَا يبْقى لَهُ خِيَار بعد ذَلِك كالنجاسة فِي الثَّوْب فَإِنَّهَا لَا تحْتَمل الِانْتِقَال من ثوب إِلَى ثوب فَإِذا تعين بِصَلَاتِهِ فِي أحد الثَّوْبَيْنِ صفة الطَّهَارَة فِيهِ والنجاسة فِي الآخر لَا يبْقى لَهُ رَأْي فِي الصَّلَاة فِي الثَّوْب الآخر مَا لم يثبت طَهَارَته بِدَلِيل مُوجب للْعلم
وَفِي بَاب الْقبْلَة فرض التَّوَجُّه يحْتَمل الِانْتِقَال أَلا ترى أَنه انْتقل من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة وَمن عين الْكَعْبَة إِلَى الْجِهَة إِذا بعد من مَكَّة وَمن جِهَة الْكَعْبَة إِلَى سَائِر الْجِهَات إِذا كَانَ رَاكِبًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهت بِهِ رَاحِلَته فَبعد مَا صلى بِالتَّحَرِّي إِلَى جِهَة إِذا تحول رَأْيه ينْتَقل فرض التَّوَجُّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَة أَيْضا لِأَن الشَّرْط أَن يكون مبتلى فِي التَّوَجُّه عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا إِذا صلى إِلَى الْجِهَة الَّتِي وَقع عَلَيْهَا تحريه
وَكَذَلِكَ حكم الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فِي المجتهدات فَإِن الْقَضَاء الَّذِي نفذ بِالْقِيَاسِ فِي مَحل لَا يحْتَمل الِانْتِقَال إِلَى مَحل آخر فَيلْزم ذَلِك
فَأَما(2/16)
فِيمَا وَرَاء ذَلِك الحكم مُحْتَمل للانتقال فَإِن الْكَلَام فِي حكم يحْتَمل النّسخ وَشرط الْعَمَل بِالْقِيَاسِ أَن يكون مبتلى بِطَلَب الطَّرِيق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع شرعا فَإِذا اسْتَقر رَأْيه على أَن الصَّوَاب هُوَ الآخر كَانَ عَلَيْهِ أَن يعْمل فِي الْمُسْتَقْبل
وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا إِذا طلق إِحْدَى امرأتيه بِعَينهَا ثمَّ نسي أَو أعتق أحد المملوكين بِعَيْنِه ثمَّ نسي لَا يثبت لَهُ خِيَار الْبَيَان لِأَن الْوَاقِع من الطَّلَاق وَالْعتاق لَا يحْتَمل الِانْتِقَال من مَحل إِلَى مَحل آخر وَإِنَّمَا ثبتَتْ الْمُعَارضَة بَين المحلين فِي حَقه لجهله بِالْمحل الَّذِي عينه عِنْد الْإِيقَاع وجهله لَا يثبت الْخِيَار لَهُ شرعا وبمثله لَو أوجب فِي أَحدهمَا بِغَيْر عينه ابْتِدَاء كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي الْبَيَان لِأَن تعْيين الْمحل كَانَ مَمْلُوكا لَهُ شرعا كابتداء الْإِيقَاع وَلكنه بِمُبَاشَرَة الْإِيقَاع أسقط مَا كَانَ لَهُ من الْخِيَار فِي أصل الْإِيقَاع وَلم يسْقط مَا كَانَ لَهُ من الْخِيَار فِي التَّعْيِين فَيبقى ذَلِك الْخِيَار ثَابتا لَهُ شرعا وَمِمَّا يثبت فِيهِ حكم التَّعَارُض سُؤْر الْحمار والبغل فقد تَعَارَضَت الْأَدِلَّة فِي الحكم بِطَهَارَتِهِ ونجاسته وَقد بَينا هَذَا فِي فروع الْفِقْه وَلَكِن لَا يُمكن الْمصير إِلَى الْقيَاس بعد هَذَا التَّعَارُض لِأَن الْقيَاس لَا يصلح لنصب الحكم بِهِ ابْتِدَاء فَوَجَبَ الْعَمَل بِدَلِيل فِيهِ بِحَسب الْإِمْكَان وَهُوَ الْمصير إِلَى الْحَال فَإِن المَاء كَانَ طَاهِرا فِي الأَصْل فَيبقى طَاهِرا
نَص عَلَيْهِ فِي غير مَوضِع من النَّوَادِر حَتَّى قَالَ لَو غمس الثَّوْب فِي سُؤْر الْحمار تجوز الصَّلَاة فِيهِ وَلَا يَتَنَجَّس الْعُضْو أَيْضا بِاسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّهُ عرق طَاهِر فِي الأَصْل
وَهَذَا الدَّلِيل لَا يصلح أَن يكون مُطلقًا أَدَاء الصَّلَاة بِهِ وَحده لِأَن الْحَدث كَانَ ثَابتا قبل اسْتِعْمَاله فَلَا يَزُول بِاسْتِعْمَالِهِ بِيَقِين فشرطنا ضم التَّيَمُّم إِلَيْهِ حَتَّى يحصل التيقن بِالطَّهَارَةِ الْمُطلقَة لأَدَاء الصَّلَاة
وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى إِذا لم يظْهر فِيهِ دَلِيل يتَرَجَّح بِهِ صفة الذُّكُورَة أَو الْأُنُوثَة فَإِنَّهُ يكون مُشكل الْحَال يَجْعَل بِمَنْزِلَة الذُّكُور فِي بعض الْأَحْكَام وبمنزلة الْإِنَاث فِي الْبَعْض على حسب مَا يدل عَلَيْهِ الْحَال فِي كل حكم
وَكَذَلِكَ الْمَفْقُود فَإِنَّهُ يَجْعَل بمنزله الْحَيّ فِي مَال نَفسه حَتَّى لَا يُورث عَنهُ وبمنزلة الْمَيِّت فِي الْإِرْث من الْغَيْر لِأَن أمره مُشكل فَوَجَبَ الْمصير إِلَى الْحَال لأجل الضَّرُورَة وَالْحكم بِمَا يدل عَلَيْهِ الْحَال فِي كل حَادِثَة(2/17)
وَأما بَيَان المخلص عَن المعارضات فَنَقُول يطْلب هَذَا المخلص أَولا من نفس الْحجَّة فَإِن لم يُوجد فَمن الحكم فَإِن لم يُوجد فباعتبار الْحَال فَإِن لم يُوجد فبمعرفة التَّارِيخ نصا فَإِن لم يُوجد فبدلالة التَّارِيخ
فَأَما الْوَجْه الأول وَهُوَ الطّلب المخلص من نفس الْحجَّة فبيانه من أوجه أَحدهَا أَن يكون أحد النصين محكما وَالْآخر مُجملا أَو مُشكلا فَإِن بِهَذَا يتَبَيَّن أَن التَّعَارُض حَقِيقَة غير مَوْجُود بَين النصين وَإِن كَانَ مَوْجُودا ظَاهرا فيصار إِلَى الْعَمَل بالحكم دون الْمُجْمل والمشكل
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أَحدهمَا نصا من الْكتاب أَو السّنة الْمَشْهُورَة وَالْآخر خبر الْوَاحِد
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أَحدهمَا مُحْتملا للخصوص فَإِنَّهُ يَنْتَفِي معنى التَّعَارُض بتخصيصه بِالنَّصِّ الآخر
وَبَيَانه من الْكتاب فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَقَوله تَعَالَى فِي الْمُسْتَأْمن {ثمَّ أبلغه مأمنه} فَإِن التَّعَارُض يَقع بَين النصين ظَاهرا وَلَكِن قَوْله {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} عَام يحْتَمل الْخُصُوص فَجعلنَا قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أبلغه مأمنه} دَلِيل تَخْصِيص الْمُسْتَأْمن من ذَلِك
وَمن السّنة قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا فَإِن ذَلِك وَقتهَا وَنَهْيه عَن الصَّلَاة فِي ثَلَاث سَاعَات فالتعارض بَين النصين ثَبت ظَاهرا وَلَكِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فليصلها إِذا ذكرهَا بِعرْض التَّخْصِيص فَيجْعَل النَّص الآخر دَلِيل التَّخْصِيص حَتَّى يَنْتَفِي بِهِ التَّعَارُض
وَكَذَلِكَ إِن ظهر عمل النَّاس بِأحد النصين دون الآخر لِأَن الَّذِي ظهر الْعَمَل بِهِ بَين النَّاس ترجح بِدَلِيل الْإِجْمَاع فَيَنْتَفِي بِهِ معنى التَّعَارُض بَينهمَا مَعَ أَن الظَّاهِر أَن اتِّفَاقهم على الْعَمَل بِهِ لكَونه مُتَأَخِّرًا نَاسِخا لما كَانَ قبله وبالعلم بالتاريخ يَنْتَفِي التَّعَارُض فَكَذَلِك بِالْإِجْمَاع الدَّال عَلَيْهِ وَإِن كَانَ الْمَعْمُول بِهِ سَابِقًا فَذَلِك دَلِيل على أَن الآخر مؤول أَو سَهْو من بعض الروَاة إِن كَانَ فِي الْأَخْبَار لِأَن الْمَنْسُوخ إِذا اشْتهر فناسخه يشْتَهر بعده أَيْضا كَمَا اشْتهر تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد الْإِبَاحَة واشتهر إِبَاحَة زِيَارَة الْقُبُور وإمساك لُحُوم الْأَضَاحِي وَالشرب فِي الْأَوَانِي بعد النَّهْي(2/18)
وَلَو اشْتهر النَّاسِخ لما أَجمعُوا على الْعَمَل بِخِلَافِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيق تَنْتفِي الْمُعَارضَة وكما يَنْتَفِي التَّعَارُض بِدَلِيل الْإِجْمَاع يثبت التَّعَارُض بِدَلِيل الْإِجْمَاع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام سُئِلَ عَن مِيرَاث الْعمة وَالْخَالَة فَقَالَ لَا شَيْء لَهما وَقَالَ الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ فَمن حَيْثُ الظَّاهِر لَا تعَارض بَين الْحَدِيثين لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَحل آخر وَلَكِن ثَبت بِإِجْمَاع النَّاس أَنه لَا فرق بَين الْخَال وَالْخَالَة والعمة فِي صفة الوراثة فباعتبار هَذَا الْإِجْمَاع يَقع التَّعَارُض بَين النصين ثمَّ رجح عُلَمَاؤُنَا الْمُثبت مِنْهُمَا وَرجح الشَّافِعِي مَا كَانَ مَعْلُوما بِاعْتِبَار الأَصْل وَهُوَ عدم اسْتِحْقَاق الْمِيرَاث
وَبَيَان الطّلب المخلص من حَيْثُ الحكم أَن التَّعَارُض إِنَّمَا يَقع للمدافعة بَين الْحكمَيْنِ فَإِن كَانَ الحكم الثَّابِت بِأحد النصين مدفوعا بِالْآخرِ لَا محَالة فَهُوَ التَّعَارُض حَقِيقَة وَإِن أمكن إِثْبَات حكم بِكُل وَاحِد من النصين سوى الحكم الآخر لَا تتَحَقَّق المدافعة فَيَنْتَفِي التَّعَارُض
وَبَيَان ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} فَبين النصين تعَارض من حَيْثُ الظَّاهِر فِي يَمِين الْغمُوس فَإِنَّهَا من كسب الْقُلُوب وَلكنهَا غير معقودة لِأَنَّهَا لم تصادف مَحل عقد الْيَمين وَهُوَ الْخَبَر الَّذِي فِيهِ رَجَاء الصدْق وَلَكِن انْتَفَى هَذَا التَّعَارُض بِاعْتِبَار الحكم فَإِن الْمُؤَاخَذَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى {بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} هِيَ الْمُؤَاخَذَة بِالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا وَفِي قَوْله تَعَالَى {بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} الْمُؤَاخَذَة بالعقوبة فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ أطلق الْمُؤَاخَذَة فِيهَا والمؤاخذة الْمُطلقَة تكون فِي دَار الْجَزَاء فَإِن الْجَزَاء بوفاق الْعَمَل فَأَما فِي الدُّنْيَا فقد يبتلى الْمُطِيع ليَكُون تمحيصا لذنوبه وينعم على العَاصِي استدراجا فَبِهَذَا الطَّرِيق تبين أَن الحكم الثَّابِت فِي أحد النصين غير الحكم الثَّابِت فِي الآخر وَإِذا انْتَفَت المدافعة بَين الْحكمَيْنِ ظهر المخلص عَن التَّعَارُض
فَأَما المخلص بطرِيق الْحَال فبيانه فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن} بِالتَّخْفِيفِ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْن وبالتشديد فِي الْأُخْرَى فبينهما تعَارض فِي الظَّاهِر لِأَن حَتَّى للغاية وَبَين امتداد الشَّيْء إِلَى غَايَة وَبَين قصوره دونهَا مُنَافَاة والإطهار هُوَ الِاغْتِسَال وَالطُّهْر يكون بِانْقِطَاع الدَّم فَبين امتداد حُرْمَة القربان إِلَى الِاغْتِسَال وَبَين ثُبُوت حل القربان عِنْد انْقِطَاع الدَّم مُنَافَاة وَلَكِن بِاعْتِبَار الْحَال يَنْتَفِي هَذَا التَّعَارُض وَهُوَ أَن بِالتَّخْفِيفِ على حَال مَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا عشرَة لِأَن الطُّهْر بالانقطاع إِنَّمَا يتَيَقَّن بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالة فَإِن الْحيض لَا يكون أَكثر من عشرَة أَيَّام فَأَما فِيمَا دون الْعشْرَة لَا يثبت الطُّهْر بالانقطاع بِيَقِين لتوهم أَن يعاودها الدَّم وَيكون ذَلِك حيضا فتمتد حُرْمَة القربان إِلَى الإطهار بالاغتسال
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فالتعارض يَقع فِي الظَّاهِر تحمل الْقِرَاءَة(2/19)
بِالتَّشْدِيدِ على حَال مَا إِذا كَانَ أَيَّامهَا دون الْعشْرَة وَالْقِرَاءَة بَين الْقِرَاءَة بِالنّصب الَّذِي يَجْعَل الرجل عطفا على المغسول وَالْقِرَاءَة بالخفض الَّذِي يَجْعَل الرجل عطفا على الْمَمْسُوح (ثمَّ) تَنْتفِي هَذِه الْمُعَارضَة بِأَن تحمل الْقِرَاءَة بالخفض على حَال مَا إِذا كَانَ لابسا للخف بطرِيق أَن الْجلد الَّذِي استتر بِهِ الرجل يَجْعَل قَائِما مقَام بشرة الرجل فَإِنَّمَا ذكر الرجل عبارَة عَنهُ بِهَذَا الطَّرِيق وَالْقِرَاءَة بِالنّصب على حَال ظُهُور الْقدَم فَإِن الْفَرْض فِي هَذِه الْحَالة غسل الرجلَيْن عينا
فَأَما طلب المخلص من حَيْثُ التَّارِيخ فَهُوَ أَن يعلم بِالدَّلِيلِ التَّارِيخ فِيمَا بَين النصين فَيكون الْمُتَأَخر مِنْهُمَا نَاسِخا للمتقدم
وَبَيَان هَذَا فِيمَا قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي عدَّة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا كَانَت حَامِلا محتجا بِهِ على من يَقُول إِنَّهَا تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ فَإِنَّهُ قَالَ من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ} نزلت بعد سُورَة النِّسَاء الطُّولى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فَجعل التَّأَخُّر دَلِيل النّسخ فَعرفنَا أَنه كَانَ مَعْرُوفا فِيمَا بَينهم أَن الْمُتَأَخر من النصين نَاسخ للمتقدم
فَأَما طلب المخلص بِدلَالَة التَّارِيخ وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة نَحْو مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن أكل الضَّب وَرُوِيَ أَنه رخص فِيهِ وَمَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن أكل الضبع وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رخص فِيهِ فَإِن التَّعَارُض بَين النصين ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ وَهُوَ أَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى
وَبَيَان ذَلِك وَهُوَ أَن الْمُوجب للْإِبَاحَة يبْقى مَا كَانَ على مَا كَانَ على طَريقَة بعض مَشَايِخنَا لكَون الْإِبَاحَة أصلا فِي الْأَشْيَاء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّد فِي كتاب الْإِكْرَاه وعَلى أقوى الطَّرِيقَيْنِ بِاعْتِبَار أَن قبل مبعث(2/20)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت الْإِبَاحَة ظَاهِرَة فِي هَذِه الْأَشْيَاء فَإِن النَّاس لم يتْركُوا سدى فِي شَيْء من الْأَوْقَات وَلَكِن فِي زمَان الفترة الْإِبَاحَة كَانَت ظَاهِرَة فِي النَّاس وَذَلِكَ بَاقٍ إِلَى أَن ثَبت الدَّلِيل الْمُوجب للْحُرْمَة فِي شريعتنا فَبِهَذَا الْوَجْه يتَبَيَّن أَن الْمُوجب للحظر مُتَأَخّر وَهَذَا لأَنا لَو جعلنَا الْمُوجب للْإِبَاحَة مُتَأَخِّرًا احتجنا إِلَى إِثْبَات نسخين نسخ الْإِبَاحَة الثَّابِتَة فِي الِابْتِدَاء بِالنَّصِّ الْمُوجب للحظر ثمَّ نسخ الْحَظْر بِالنَّصِّ الْمُوجب للْإِبَاحَة وَإِذا جعلنَا نَص الْحَظْر مُتَأَخِّرًا احتجنا إِلَى إِثْبَات النّسخ فِي أَحدهمَا خَاصَّة فَكَانَ هَذَا الْجَانِب أولى وَلِأَنَّهُ قد ثَبت بالِاتِّفَاقِ نسخ حكم الْإِبَاحَة بالحظر
وَأما نسخ حكم الْحَظْر بِالْإِبَاحَةِ فمحتمل فبالاحتمال لَا يثبت النّسخ وَلِأَن النَّص الْمُوجب للحظر فِيهِ زِيَادَة حكم وَهُوَ نيل الثَّوَاب بالانتهاء عَنهُ وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب بالإقدام عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَنْعَدِم فِي النَّص الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ تَمام الِاحْتِيَاط فِي إِثْبَات التَّارِيخ بَينهمَا على أَن يكون الْمُوجب للحظر مُتَأَخِّرًا وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ أصل فِي الشَّرْع
وَاخْتلف مَشَايِخنَا فِيمَا إِذا كَانَ أحد النصين مُوجبا للنَّفْي وَالْآخر مُوجبا للإثبات فَكَانَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي رَحمَه الله يَقُول الْمُثبت أولى من النَّافِي لِأَن الْمُثبت أقرب إِلَى الصدْق من النَّافِي وَلِهَذَا قبلت الشَّهَادَة على الْإِثْبَات دون النَّفْي
وَكَانَ عِيسَى بن أبان رَحمَه الله يَقُول تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بَينهمَا لِأَن الْخَبَر الْمُوجب للنَّفْي مَعْمُول بِهِ كالموجب للإثبات وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على صدق الرَّاوِي فِي الْخَبَر الْمُوجب للإثبات فَإِنَّهُ يسْتَدلّ بِعَيْنِه على صدق الرَّاوِي فِي الْخَبَر الْمُوجب للنَّفْي
وَاخْتلف عمل الْمُتَقَدِّمين من مَشَايِخنَا فِي مثل هذَيْن النصين فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام تزوج مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ محرم وَرُوِيَ أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال ثمَّ أَخذنَا بِرِوَايَة من روى أَنه تزَوجهَا وَهُوَ محرم وَالْإِثْبَات فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى لأَنهم اتَّفقُوا أَن العقد كَانَ بعد إِحْرَامه فَمن روى أَنه تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال فَهُوَ الْمُثبت للتحلل من الْإِحْرَام قبل العقد ثمَّ لم يرجح الْمُثبت على النَّافِي هُنَا
وَرُوِيَ أَن بَرِيرَة أعتقت وَزوجهَا كَانَ حرا فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرُوِيَ أَنَّهَا أعتقت وَزوجهَا عبد وَلَا خلاف أَن زَوجهَا كَانَ عبدا فِي الأَصْل فَكَانَ الْإِثْبَات فِي رِوَايَة من روى أَن زَوجهَا كَانَ حرا حِين أعتقت فأخذنا بذلك فَهَذَا يدل على أَن التَّرْجِيح(2/21)
يحصل بالإثبات
وَرُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رد ابْنَته زَيْنَب على أبي الْعَاصِ رَضِي الله عَنْهُمَا بِنِكَاح جَدِيد وَرُوِيَ أَنه ردهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول وَالْإِثْبَات فِي رِوَايَة من روى أَنه ردهَا عَلَيْهِ بِعقد جَدِيد وَبِذَلِك أَخذنَا فَهُوَ دَلِيل على أَن التَّرْجِيح يحصل بالإثبات
وَذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان إِذا أخبر عدل بِطَهَارَة المَاء وَعدل آخر بِنَجَاسَتِهِ فَإِنَّهُ يتعارض الخبران وَالْإِثْبَات فِي خبر من أخبر بِنَجَاسَتِهِ ثمَّ لم يرجح الْخَبَر بِهِ
وَقَالَ فِي التَّزْكِيَة الشَّاهِد إِذا عدله وَاحِد وجرحه آخر فَإِن الْجرْح يكون أولى لِأَن فِي خَبره إِثْبَاتًا
فَإِذا تبين من أصُول عُلَمَائِنَا هَذَا كُله فَلَا بُد من طلب وَجه يحصل بِهِ التَّوْفِيق بَين هَذِه الْفُصُول وَيسْتَمر الْمَذْهَب عَلَيْهِ مُسْتَقِيمًا
وَذَلِكَ الْوَجْه أَن خبر النَّفْي إِمَّا أَن يكون لدَلِيل يُوجب الْعلم بِهِ أَو لعدم الدَّلِيل الْمُثبت أَو يكون مشتبها فَإِن كَانَ لدَلِيل يُوجب الْعلم بِهِ فَهُوَ مسَاوٍ للمثبت وتتحقق الْمُعَارضَة بَينهمَا وعَلى هَذَا قَالَ فِي السّير الْكَبِير إِذا قَالَت الْمَرْأَة سَمِعت زَوجي يَقُول الْمَسِيح ابْن الله فبنت مِنْهُ وَقَالَ الزَّوْج إِنَّمَا قلت الْمَسِيح ابْن الله قَول النَّصَارَى أَو وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله فَالْقَوْل قَوْله فَإِن شهد للْمَرْأَة شَاهِدَانِ
وَقَالا لم نسْمع من الزَّوْج هَذِه الزِّيَادَة
فَالْقَوْل قَوْله أَيْضا وَإِن قَالَا لم يقل هَذِه الزِّيَادَة قبلت الشَّهَادَة وَفرق بَينهمَا
وَكَذَا لَو ادّعى الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق وَشهد الشُّهُود أَنه لم يسْتَثْن قبلت الشَّهَادَة وَهَذِه شَهَادَة على النَّفْي وَلكنهَا عَن دَلِيل مُوجب للْعلم بِهِ وَهُوَ أَن مَا يكون من بَاب الْكَلَام فَهُوَ مسموع من الْمُتَكَلّم لمن كَانَ بِالْقربِ مِنْهُ وَمَا لم يسمع مِنْهُ يكون دندنة لَا كلَاما فَإِذا قبلت الشَّهَادَة على النَّفْي إِذا كَانَ عَن دَلِيل كَمَا تقبل على الْإِثْبَات قُلْنَا فِي الْخَبَر أَيْضا يَقع التَّعَارُض بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات
فَأَما إِذا كَانَ خبر النَّفْي لعدم الْعلم بالإثبات فَإِنَّهُ لَا يكون مُعَارضا للمثبت لِأَنَّهُ خبر لَا عَن دَلِيل مُوجب بل عَن اسْتِصْحَاب حَال وَخبر الْمُثبت عَن دَلِيل مُوجب لَهُ وَلِأَن السَّامع والمخبر فِي هَذَا النَّوْع سَوَاء فَإِن السَّامع غير عَالم بِالدَّلِيلِ الْمُثبت كالمخبر بِالنَّفْيِ فَلَو جَازَ أَن يكون هَذَا(2/22)
الْخَبَر مُعَارضا لخَبر الْمُثبت لجَاز أَن يكون علم السَّامع مُعَارضا لخَبر الْمُثبت
وَإِن كَانَ الْحَال مشتبها فَإِنَّهُ يجب الرُّجُوع إِلَى الْخَبَر بِالنَّفْيِ واستفساره عَمَّا يخبر بِهِ ثمَّ التَّأَمُّل فِي كَلَامه فَإِن ظهر أَنه اعْتمد فِي خَبره دَلِيلا مُوجبا الْعلم بِهِ فَهُوَ نَظِير الْقسم الأول وَإِلَّا فَهُوَ نَظِير الْقسم الثَّانِي
فَفِي مَسْأَلَة التَّزْكِيَة من يُزكي الشَّاهِد فقد عرفنَا أَنه إِنَّمَا يُزَكِّيه لعدم الْعلم بِسَبَب الْجرْح مِنْهُ إِذْ لَا طَرِيق لأحد إِلَى الْوُقُوف على جَمِيع أَحْوَال غَيره حَتَّى يكون إخْبَاره عَن تزكيته عَن دَلِيل مُوجب الْعلم بِهِ وَالَّذِي جرحه فخبره مُثبت الْجرْح الْعَارِض لوقوفه على دَلِيل مُوجب لَهُ فَلهَذَا جعل خَبره أولى
وَفِي طَهَارَة المَاء ونجاسته الْمخبر بِالطَّهَارَةِ يعْتَمد دَلِيلا لِأَنَّهُ توقف على طَهَارَة المَاء حَقِيقَة فَإِن المَاء الَّذِي نزل من السَّمَاء إِذا أَخذه الْإِنْسَان فِي إِنَاء طَاهِر وَكَانَ بمرأى الْعين مِنْهُ إِلَى وَقت الِاسْتِعْمَال فَإِنَّهُ يعلم طَهَارَته بِدَلِيل مُوجب لَهُ كَمَا أَن الْمخبر بِنَجَاسَتِهِ يعْتَمد الدَّلِيل فتتحقق الْمُعَارضَة بَين الْخَبَرَيْنِ
وعَلى هَذَا أثبتنا الْمُعَارضَة فِي حَدِيث نِكَاح مَيْمُونَة لِأَن الْمخبر بِأَنَّهُ كَانَ محرما اعْتمد دَلِيلا والمخبر بِأَنَّهُ كَانَ حَلَالا اعْتمد أَيْضا فِي خَبره الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ فَإِن هَيْئَة الْمحرم ظَاهرا يُخَالف هَيْئَة الْحَلَال فتتحقق الْمُعَارضَة من هَذَا الْوَجْه وَيجب الْمصير إِلَى طلب التَّرْجِيح من جِهَة إتقان الرَّاوِي لما تعذر التَّرْجِيح من نفس الْحجَّة فأخذنا بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا لِأَنَّهُ روى الْقِصَّة على وَجههَا وَذَلِكَ دَلِيل إتقانه وَلِأَن يزِيد بن الْأَصَم لَا يعادله فِي الضَّبْط والاتقان
وَحَدِيث رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب على أبي الْعَاصِ رجحنا فِيهِ الْمُثبت للنِّكَاح الْجَدِيد لِأَن من نفى ذَلِك فَهُوَ لم يعْتَمد فِي نَفْيه دَلِيلا مُوجبا الْعلم بِهِ بل عدم الدَّلِيل للإثبات وَهُوَ مُشَاهدَة النِّكَاح الْجَدِيد فتبنى رِوَايَته على اسْتِصْحَاب الْحَال وَهُوَ أَنه عرف النِّكَاح بَينهمَا فِيمَا مضى وَشَاهد ردهَا عَلَيْهِ فروى أَنه ردهَا بِالنِّكَاحِ الأول
وَفِي حَدِيث بَرِيرَة رجحنا الْخَبَر الْمُثبت لحرية الزَّوْج عِنْد عتقهَا لِأَن من يروي أَنه كَانَ عبدا فَهُوَ لم يعْتَمد فِي خَبره دَلِيلا مُوجبا لنفي الْحُرِّيَّة وَلَكِن بنى خَبره على اسْتِصْحَاب الْحَال لعدم علمه بِدَلِيل الْمُثبت للحرية فَلهَذَا رجحنا الْمُثبت
وَمن هَذَا النَّوْع رِوَايَة أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَارنا فِي حجَّة الْوَدَاع وَرِوَايَة جَابر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ مُفردا بِالْحَجِّ فَإنَّا رجحنا خبر الْمُثبت للقران لِأَن من روى الْإِفْرَاد(2/23)
فَهُوَ مَا اعْتمد دَلِيلا مُوجبا نفى الْقرَان وَلكنه عدم الدَّلِيل الْمُوجب للْعلم بِهِ وَهُوَ أَنه لم يسمع تلبيته بِالْعُمْرَةِ وَسمع التَّلْبِيَة بِالْحَجِّ وَرُوِيَ أَنه كَانَ مُفردا
وَمن ذَلِك حَدِيث بِلَال رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لم يصل فِي الْكَعْبَة مَعَ حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه صلى فِيهَا عَام الْفَتْح فَإِنَّهُم اتَّفقُوا أَنه مَا دَخلهَا يَوْمئِذٍ إِلَّا مرّة وَمن أخبر أَنه لم يصل فِيهَا (فَإِنَّهُ) لم يعْتَمد دَلِيلا مُوجبا للْعلم بِهِ وَلكنه لم يعاين صلَاته فِيهَا وَالْآخر عاين ذَلِك فَكَانَ الْمُثبت أولى من النَّافِي
وَمن أهل النّظر من يَقُول يتَخَلَّص عَن التَّعَارُض بِكَثْرَة عدد الروَاة حَتَّى إِذا كَانَ أحد الْخَبَرَيْنِ يرويهِ وَاحِد وَالْآخر يرويهِ اثْنَان فَالَّذِي يرويهِ اثْنَان أولى بِالْعَمَلِ بِهِ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَسْأَلَة كتاب الِاسْتِحْسَان فِي الْخَبَر بِطَهَارَة المَاء ونجاسته وَحل الطَّعَام وحرمته أَنه إِذا كَانَ الْمخبر بِأحد الْأَمريْنِ اثْنَيْنِ وبالآخر وَاحِدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِخَبَر الِاثْنَيْنِ وَهَذَا لِأَن خبر الْمثنى حجَّة تَامَّة فِي الشَّهَادَات بِخِلَاف خبر الْوَاحِد فطمأنينة الْقلب إِلَى خبر الْمثنى أَكثر وَقد اشْتهر عَن الصَّحَابَة الِاعْتِمَاد على خبر الْمثنى دون الْوَاحِد على مَا سبق بَيَانه
وَكَذَلِكَ يتَخَلَّص عَن التَّعَارُض أَيْضا بحريّة الرَّاوِي اسْتِدْلَالا بِمَا ذكر فِي الِاسْتِحْسَان أَنه مَتى كَانَ الْمخبر بِأحد الْأَمريْنِ حُرَّيْنِ وبالآخر عَبْدَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِخَبَر الحرين
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالَّذِي يَصح عِنْدِي أَن هَذَا النَّوْع من التَّرْجِيح قَول مُحَمَّد رَحمَه الله خَاصَّة فقد ذكر نَظِيره فِي السّير الْكَبِير قَالَ أهل الْعلم بالسير ثَلَاث فرق أهل الشَّام وَأهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق فَكل مَا اتّفق فِيهِ الْفَرِيقَانِ (مِنْهُم) على قَول أخذت بذلك وَتركت مَا انْفَرد بِهِ فريق وَاحِد
وَهَذَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْقَائِلين صَار إِلَيْهِ مُحَمَّد وأبى ذَلِك أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
وَالصَّحِيح مَا قَالَا فَإِن كَثْرَة الْعدَد لَا يكون دَلِيل قُوَّة الْحجَّة قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} وَقَالَ تَعَالَى {مَا يعلمهُمْ إِلَّا قَلِيل} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} ثمَّ السّلف من الصَّحَابَة وَغَيرهم لم يرجحوا بِكَثْرَة الْعدَد فِي بَاب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فَالْقَوْل بِهِ يكون(2/24)
قولا بِخِلَاف إِجْمَاعهم وَلما اتفقنا أَن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل كَخَبَر الْمثنى فَيتَحَقَّق التَّعَارُض بَين الْخَبَرَيْنِ بِنَاء على هَذَا الْإِجْمَاع أَرَأَيْت لَو وصل إِلَى السَّامع أحد الْخَبَرَيْنِ بطرق وَالْآخر بطرِيق وَاحِد أَكَانَ يرجح مَا وصل إِلَيْهِ بطرق إِذا كَانَ رَاوِي الأَصْل وَاحِدًا فَهَذَا لَا يَقُول بِهِ أحد وَلَا يُؤْخَذ حكم رِوَايَة الْأَخْبَار من حكم الشَّهَادَات أَلا ترى أَن فِي رِوَايَة الْأَخْبَار يَقع التَّعَارُض بَين خبر الْمَرْأَة وَخبر الرجل وَبَين خبر الْمَحْدُود فِي الْقَذْف بعد التَّوْبَة وَخبر غير الْمَحْدُود وَبَين خبر الْمثنى وَخبر الْأَرْبَعَة وَإِن كَانَ يظْهر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الشَّهَادَات حَتَّى يثبت بِشَهَادَة الْأَرْبَعَة مَا لَا يثبت بِشَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَهُوَ الزِّنَا
وَكَذَلِكَ طمأنينة الْقلب إِلَى قَول الْأَرْبَعَة أَكثر وَمَعَ ذَلِك تتَحَقَّق الْمُعَارضَة بَين شَهَادَة الِاثْنَيْنِ وَشَهَادَة الْأَرْبَعَة فِي الْأَمْوَال ليعلم أَنه لَا يُؤْخَذ حكم الْحَادِثَة من حَادِثَة أُخْرَى مَا لم تعلم الْمُسَاوَاة بَينهمَا من كل وَجه
وَإِنَّمَا رجح خبر الْمثنى على خبر الْوَاحِد وَخبر الحرين على خبر الْعَبْدَيْنِ فِي مَسْأَلَة الِاسْتِحْسَان لظُهُور التَّرْجِيح فِي الْعَمَل بِهِ فِيمَا يرجع إِلَى حُقُوق الْعباد فَأَما فِي أَحْكَام الشَّرْع فخبر الْوَاحِد وَخبر الْمثنى فِي وجوب الْعَمَل بِهِ سَوَاء
وَمن هَذِه الْجُمْلَة إِذا كَانَ فِي أحد الْخَبَرَيْنِ زِيَادَة لم تذكر تِلْكَ الزِّيَادَة فِي الْخَبَر الثَّانِي فمذهبنا فِيهِ أَنه إِذا كَانَ الرَّاوِي وَاحِدًا يُؤْخَذ بالمثبت للزِّيَادَة وَيجْعَل حذف تِلْكَ الزِّيَادَة فِي بعض الطّرق محالا على قلَّة ضبط الرَّاوِي وغفلته عَن السماع وَذَلِكَ مثل مَا يرويهِ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ إِذا اخْتلف الْمُتَبَايعَانِ والسلعة قَائِمَة بِعَينهَا تحَالفا وترادا وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لم تذكر هَذِه الزِّيَادَة فأخذنا بِمَا فِيهِ إِثْبَات هَذِه الزِّيَادَة وَقُلْنَا لَا يجْرِي التَّحَالُف إِلَّا عِنْد قيام السّلْعَة
وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يَقُولَانِ نعمل بِالْحَدِيثين لِأَن الْعَمَل بهما مُمكن فَلَا نشتغل بترجيح أَحدهمَا فِي الْعَمَل بِهِ
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن أصل الْخَبَر وَاحِد وَذَلِكَ مُتَيَقن بِهِ وكونهما خبرين مُحْتَمل وبالاحتمال لَا يثبت الْخَبَر وَإِذا كَانَ الْخَبَر وَاحِدًا فَحذف الزِّيَادَة من بعض الروَاة لَيْسَ لَهُ طَرِيق سوى مَا قُلْنَا
وَالثَّانِي أَنا لَو جعلناهما خبرين لم يكن للزِّيَادَة الْمَذْكُورَة فِي أَحدهمَا فَائِدَة فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الحكم لِأَن الحكم وَاحِد فِي الْخَبَرَيْنِ وَلَا يجوز حمل كَلَام رَسُول الله على مَا فِيهِ إخلاؤه عَن الْفَائِدَة
فَأَما إِذا اخْتلف الرَّاوِي فقد علم أَنَّهُمَا خبران وَأَن النَّبِي(2/25)
عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي وَقت آخر فَيجب الْعَمَل بهما عِنْد الْإِمْكَان كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا فِي أَن الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد فِي حكمين
وَبَيَان هَذَا فِيمَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن بيع الطَّعَام قبل الْقَبْض وَقَالَ لعتاب بن أسيد رَضِي الله عَنهُ انههم عَن أَرْبَعَة عَن بيع مَا لم يقبضوا فَإنَّا نعمل بِالْحَدِيثين وَلَا نجْعَل الْمُطلق مِنْهُمَا مَحْمُولا على الْمُقَيد بِالطَّعَامِ حَتَّى لَا يجوز بيع سَائِر الْعرُوض قبل الْقَبْض كَمَا لَا يجوز بيع الطَّعَام
وَأهل الحَدِيث يجْعَلُونَ الروَاة فِي هَذَا طَبَقَات فَيَقُولُونَ إِذا كَانَت الزِّيَادَة يَرْوِيهَا من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا يجب الْأَخْذ بذلك وَإِن كَانَت الزِّيَادَة إِنَّمَا يَرْوِيهَا من لَيْسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا ويروي الْخَبَر بِدُونِ الزِّيَادَة من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت التَّعَارُض بَينهمَا
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي خبر يرْوى مَوْقُوفا على بعض الصَّحَابَة بطرِيق وَمَرْفُوعًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق فَإِن كَانَ يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت مَرْفُوعا وَإِن كَانَ إِنَّمَا يرويهِ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام من لَيْسَ فِي الطَّبَقَة الْعليا وَيَرْوِيه مَوْقُوفا من هُوَ فِي الطَّبَقَة الْعليا فَإِنَّهُ يثبت مَوْقُوفا
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمسند والمرسل وَلَكِن الْفُقَهَاء لم يَأْخُذُوا بِهَذَا القَوْل لِأَن التَّرْجِيح عِنْد أهل الْفِقْه يكون بِالْحجَّةِ لَا بأعيان الرِّجَال وَالله أعلم
بَاب الْبَيَان
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اخْتلفت عبارَة أَصْحَابنَا فِي معنى الْبَيَان
قَالَ أَكْثَرهم هُوَ إِظْهَار الْمَعْنى وإيضاحه للمخاطب مُنْفَصِلا عَمَّا تستر بِهِ
وَقَالَ بَعضهم هُوَ ظُهُور المُرَاد للمخاطب وَالْعلم بِالْأَمر الَّذِي حصل لَهُ عِنْد الْخطاب وَهُوَ اخْتِيَار أَصْحَاب الشَّافِعِي لِأَن الرجل يَقُول بَان لي هَذَا الْمَعْنى بَيَانا أَي ظهر وَبَانَتْ الْمَرْأَة من زَوجهَا بينونة أَي حرمت وَبَان الحبيب بَينا أَي بعد وكل ذَلِك عبارَة عَن الِانْفِصَال والظهور وَلكنهَا بمعان مُخْتَلفَة فاختلفت المصادر بحسبها
وَالأَصَح هُوَ الأول أَن المُرَاد هُوَ الْإِظْهَار فَإِن أحدا من الْعَرَب لَا يفهم من إِطْلَاق لفظ الْبَيَان الْعلم الْوَاقِع للمبين لَهُ وَلَكِن إِذا قَالَ الرجل بَين فلَان كَذَا بَيَانا وَاضحا فَإِنَّمَا يفهم(2/26)
مِنْهُ أَنه أظهره إِظْهَارًا لَا يبْقى مَعَه شكّ وَإِذا قيل فلَان ذُو بَيَان فَإِنَّمَا يُرَاد بِهِ الْإِظْهَار أَيْضا وَقَول رَسُول الله إِن من الْبَيَان لسحرا يشْهد لما قُلْنَا إِنَّه عبارَة عَن الْإِظْهَار وَقَالَ تَعَالَى {هَذَا بَيَان للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى {علمه الْبَيَان} وَالْمرَاد الْإِظْهَار وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بِالْبَيَانِ للنَّاس قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} وَقد علمنَا أَنه بَين للْكُلّ
وَمن وَقع لَهُ الْعلم ببيانه أقرّ وَمن لم يَقع لَهُ الْعلم أصر
وَلَو كَانَ الْبَيَان عبارَة عَن الْعلم الْوَاقِع للمبين لما كَانَ هُوَ متمما للْبَيَان فِي حق النَّاس كلهم
وَقَول من يَقُول من أَصْحَابنَا حد الْبَيَان هُوَ الْإِخْرَاج عَن حد الْإِشْكَال إِلَى التجلي لَيْسَ بِقَوي فَإِن هَذَا الْحَد أشكل من الْبَيَان وَالْمَقْصُود بِذكر الْحَد زِيَادَة كشف الشَّيْء لَا زِيَادَة الْإِشْكَال فِيهِ ثمَّ هَذَا الْحَد لبَيَان الْمُجْمل خَاصَّة وَالْبَيَان يكون فِيهِ وَفِي غَيره
ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد الْفُقَهَاء وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين أَن الْبَيَان يحصل بِالْفِعْلِ من رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا يحصل بالْقَوْل
وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يكون الْبَيَان إِلَّا بالْقَوْل بِنَاء على أصلهم أَن بَيَان الْمُجْمل لَا يكون إِلَّا مُتَّصِلا بِهِ وَالْفِعْل لَا يكون مُتَّصِلا بالْقَوْل
فَأَما عندنَا بَيَان الْمُجْمل قد يكون مُتَّصِلا بِهِ وَقد يكون مُنْفَصِلا عَنهُ على مَا نبينه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ الدَّلِيل على أَن الْبَيَان قد يحصل بِالْفِعْلِ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بَين مَوَاقِيت الصَّلَاة للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِالْفِعْلِ حَيْثُ أمه فِي الْبَيْت فِي الْيَوْمَيْنِ وَلما سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَوَاقِيت الصَّلَاة قَالَ للسَّائِل صل مَعنا ثمَّ صلى فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ فَبين لَهُ الْمَوَاقِيت بِالْفِعْلِ وَقَالَ لأَصْحَابه خُذُوا عني مَنَاسِككُم وَقَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَفِي هَذَا تنصيص على أَن فعله مُبين لَهُم وَلِأَن الْبَيَان عبارَة عَن إِظْهَار المُرَاد فَرُبمَا يكون ذَلِك بِالْفِعْلِ أبلغ مِنْهُ بالْقَوْل أَلا ترى أَنه أَمر أَصْحَابه بِالْحلقِ عَام الْحُدَيْبِيَة فَلم يَفْعَلُوا ثمَّ لما رَأَوْهُ حلق بِنَفسِهِ حَلقُوا فِي الْحَال فَعرفنَا أَن إِظْهَار المُرَاد يحصل بِالْفِعْلِ كَمَا يحصل بالْقَوْل
ثمَّ الْبَيَان على خَمْسَة أوجه بَيَان تَقْرِير وَبَيَان تَفْسِير وَبَيَان تَغْيِير وَبَيَان تَبْدِيل وَبَيَان ضَرُورَة
للخصوص فَيكون الْبَيَان قَاطعا للاحتمال مقررا للْحكم على مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِر وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فصيغة(2/27)
فَأَما بَيَان التَّقْرِير فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة الَّذِي يحْتَمل الْمجَاز وَالْعَام الْمُحْتَمل الْجمع تعم الْمَلَائِكَة على احْتِمَال أَن يكون المُرَاد بَعضهم وَقَوله تَعَالَى {كلهم أَجْمَعُونَ} بَيَان قَاطع لهَذَا الِاحْتِمَال فَهُوَ بَيَان التَّقْرِير
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} يحْتَمل الْمجَاز لِأَن الْبَرِيد يُسمى طائرا فَإِذا قَالَ يطير بجناحيه بَين أَنه أَرَادَ الْحَقِيقَة
وَهَذَا الْبَيَان صَحِيح مَوْصُولا كَانَ أَو مَفْصُولًا لِأَنَّهُ مُقَرر للْحكم الثَّابِت بِالظَّاهِرِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثمَّ قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاق عَن النِّكَاح أَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر ثمَّ قَالَ نَوَيْت بِهِ الْحُرِّيَّة عَن الرّقّ وَالْملك فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَانا صَحِيحا لِأَنَّهُ تَقْرِير للْحكم الثَّابِت بِظَاهِر الْكَلَام لَا تَغْيِير لَهُ
وَأما بَيَان التَّفْسِير فَهُوَ بَيَان الْمُجْمل والمشترك فَإِن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ غير مُمكن وَإِنَّمَا يُوقف على المُرَاد للْعَمَل بِهِ بِالْبَيَانِ فَيكون الْبَيَان تَفْسِيرا لَهُ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} وَقَوله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَنَظِيره من مسَائِل الْفِقْه إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت بَائِن أَو أَنْت عَليّ حرَام فَإِن الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة مُشْتَركَة فَإِذا قَالَ عنيت بِهِ الطَّلَاق كَانَ هَذَا بَيَان تَفْسِير ثمَّ بعد التَّفْسِير الْعَمَل بِأَصْل الْكَلَام وَلِهَذَا أثبتنا بِهِ الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَفِي الْبَلَد نقود مُخْتَلفَة ثمَّ قَالَ عنيت بِهِ نقد كَذَا فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَان تَفْسِير
وَسَائِر الْكِنَايَات فِي الطَّلَاق وَالْعتاق على هَذَا أَيْضا
ثمَّ هَذَا النَّوْع يَصح عِنْد الْفُقَهَاء مَوْصُولا ومفصولا وَتَأْخِير الْبَيَان عَن أصل الْكَلَام لَا يُخرجهُ من أَن يكون بَيَانا وعَلى قَول بعض الْمُتَكَلِّمين لَا يجوز تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل والمشترك عَن أصل الْكَلَام لِأَن بِدُونِ الْبَيَان لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ وَالْمَقْصُود بِالْخِطَابِ فهمه وَالْعَمَل بِهِ فَإِذا كَانَ ذَلِك لَا يحصل بِدُونِ الْبَيَان فَلَو جَوَّزنَا(2/28)
تَأْخِير الْبَيَان أدّى إِلَى تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع يُوضحهُ أَنه لَا يحسن خطاب الْعَرَبِيّ بلغَة التركية وَلَا خطاب التركي بلغَة الْعَرَب إِذا علم أَنه لَا يفهم ذَلِك إِلَّا أَن يكون هُنَاكَ ترجمان يبين لَهُ وَإِنَّمَا لَا يحسن ذَلِك لِأَن الْمَقْصُود بِالْخِطَابِ إفهام السَّامع وَهُوَ لَا يفهم فَكَذَلِك الْخطاب بِلَفْظ مُجمل بِدُونِ بَيَان يقْتَرن بِهِ لَا يكون حسنا شرعا لِأَن الْمُخَاطب لَا يفهم المُرَاد بِهِ وَإِنَّمَا يَصح مَعَ الْبَيَان لِأَن الْمُخَاطب يفهم المُرَاد بِهِ
وَلَكنَّا نقُول الْخطاب بالمجمل قبل الْبَيَان مُفِيد وَهُوَ الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهِ مَعَ انْتِظَار الْبَيَان للْعَمَل بِهِ وَإِنَّمَا يكون هَذَا تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع أَن لَو أَوجَبْنَا الْعَمَل بِهِ قبل الْبَيَان وَلَا نوجب ذَلِك وَلَكِن الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِيهِ أهم من الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ حسنا صَحِيحا من هَذَا الْوَجْه أَلا ترى أَن الِابْتِلَاء بالمتشابه كَانَ باعتقاد الحقية فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهِ من غير انْتِظَار الْبَيَان فَلِأَن يكون الِابْتِلَاء باعتقاد الحقية فِي الْمُجْمل مَعَ انْتِظَار الْبَيَان صَحِيحا كَانَ أولى
ومخاطبة الْعَرَبِيّ بلغ التركية تَخْلُو عَن هَذِه الْفَائِدَة وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم} وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ معلمه فَإِنَّهُ كَانَ مبتلى باعتقاد الحقية فِيمَا فعله معلمه مَعَ انْتِظَار الْبَيَان وَمَا كَانَ سُؤَاله فِي كل مرّة إِلَّا استعجالا مِنْهُ للْبَيَان الَّذِي كَانَ منتظرا لَهُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَمَا بَينه لَهُ مَا أخبر الله عَن معلمه {ذَلِك تَأْوِيل مَا لم تسطع عَلَيْهِ صبرا}
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز تَأْخِير دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعُمُوم فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله دَلِيل الْخُصُوص إِذا اقْترن بِالْعُمُومِ يكون بَيَانا وَإِذا تَأَخّر لم يكن بَيَانا بل يكون نسخا
وَقَالَ الشَّافِعِي يكون بَيَانا سَوَاء كَانَ مُتَّصِلا بِالْعُمُومِ أَو مُنْفَصِلا عَنهُ
وَإِنَّمَا يبتنى هَذَا الْخلاف على الأَصْل الَّذِي قُلْنَا إِن مُطلق الْعَام عندنَا يُوجب الحكم فِيمَا يتَنَاوَلهُ قطعا كالخاص وَعند الشَّافِعِي يُوجب الحكم على احْتِمَال الْخُصُوص بِمَنْزِلَة الْعَام الَّذِي ثَبت خصوصه بِالدَّلِيلِ فَيكون دَلِيل الْخُصُوص على مذْهبه فيهمَا بَيَان التَّفْسِير لَا بَيَان التَّغْيِير فَيصح مَوْصُولا ومفصولا
وَعِنْدنَا لما(2/29)
كَانَ الْعَام الْمُطلق مُوجبا للْحكم قطعا فدليل الْخُصُوص فِيهِ يكون مغيرا لهَذَا الحكم فَإِن الْعَام الَّذِي دخله خُصُوص لَا يكون حكمه عندنَا مثل حكم الْعَام الَّذِي لم يدْخلهُ خُصُوص وَبَيَان التَّغْيِير إِنَّمَا يكون مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا على مَا يَأْتِيك بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وعَلى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِذا أوصى لرجل بِخَاتم وَلآخر بفصه فَإِن كَانَ فِي كَلَام مَوْصُول فَهُوَ بَيَان وَتَكون الْحلقَة لأَحَدهمَا والفص للْآخر وَإِن كَانَ فِي كَلَام مفصول فَإِنَّهُ لَا يكون بَيَانا وَلَكِن يكون إِيجَاب الفص للْآخر ابْتِدَاء حَتَّى يَقع التَّعَارُض بَينهمَا فِي الفص فَتكون الْحلقَة للْمُوصى لَهُ بالخاتم والفص بَينهمَا نِصْفَانِ
وَأما بَيَان الْمُجْمل فَلَيْسَ بِهَذِهِ الصّفة بل هُوَ بَيَان مَحْض لوُجُود شَرطه وَهُوَ كَون اللَّفْظ مُحْتملا غير مُوجب للْعَمَل بِهِ بِنَفسِهِ وَاحْتِمَال كَون الْبَيَان الملحق بِهِ تَفْسِيرا وإعلاما لما هُوَ المُرَاد بِهِ فَيكون بَيَانا من كل وَجه وَلَا يكون مُعَارضا فَيصح مَوْصُولا ومفصولا وَدَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام لَيْسَ بِبَيَان من كل وَجه بل هُوَ بَيَان من حَيْثُ احْتِمَال صِيغَة الْعُمُوم للخصوص وَهُوَ ابْتِدَاء دَلِيل معَارض من حَيْثُ كَون الْعَام مُوجبا الْعَمَل بِنَفسِهِ فِيمَا تنَاوله فَيكون بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط فَيصح مَوْصُولا على أَنه بَيَان وَيكون مُعَارضا نَاسِخا للْحكم الأول إِذا كَانَ مَفْصُولًا
وَقد بَينا أَدِلَّة هَذَا الأَصْل الَّذِي نَشأ مِنْهُ الْخلاف وَإِنَّمَا أعدناه هُنَا للْحَاجة إِلَى الْجَواب عَن نُصُوص وَشبه يحْتَج بهَا الْخصم
فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه ثمَّ إِن علينا بَيَانه} وَثمّ للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي فقد ضمن الْبَيَان بعد إِلْزَام الِاتِّبَاع وإلزام الِاتِّبَاع إِنَّمَا يكون بِالْعَام دون الْمُجْمل إِذْ المُرَاد بالاتباع الْعَمَل بِهِ فَعرفنَا أَن الْبَيَان الَّذِي هُوَ خُصُوص قد يتَأَخَّر عَن الْعُمُوم
وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} وَعُمُوم اسْم الْأَهْل يتَنَاوَل ابْنه ولأجله كَانَ سُؤال نوح بقوله {إِن ابْني من أَهلِي} ثمَّ بَين الله تَعَالَى لَهُ بقوله تَعَالَى {إِنَّه لَيْسَ من أهلك} وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَعَ ضَيفه الْمُكرمين {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} وَعُمُوم هَذَا اللَّفْظ يتَنَاوَل لوطا وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِن فِيهَا لوطا ثمَّ بينوا لَهُ فَقَالُوا {لننجينه وَأَهله} فَدلَّ أَن دَلِيل الْخُصُوص يجوز أَن ينْفَصل عَن الْعُمُوم
وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم}(2/30)
ثمَّ لما عَارضه ابْن الزبعري بِعِيسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام نزل دَلِيل الْخُصُوص {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قصَّة بني إِسْرَائِيل فَإِنَّهُم أمروا بِذبح بقرة كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} ثمَّ لما استوصفوها بَين لَهُم صفتهَا وَكَانَ ذَلِك دَلِيل الْخُصُوص على وَجه الْبَيَان مُنْفَصِلا عَن أصل الْخطاب
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن آيَة الْمَوَارِيث عَامَّة فِي إِيجَاب الْمِيرَاث للأقارب كفَّارًا كَانُوا أَو مُسلمين ثمَّ بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْإِرْث يكون عِنْد الْمُوَافقَة فِي الدّين لَا عِنْد الْمُخَالفَة فَيكون هَذَا تَخْصِيصًا مُنْفَصِلا عَن دَلِيل الْعُمُوم وَقَوله تَعَالَى {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} عَام فِي تَأْخِير الْمِيرَاث عَن الْوَصِيَّة فِي جَمِيع المَال ثمَّ بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْوَصِيَّة تخْتَص بِالثُّلثِ تَخْصِيص مُنْفَصِل عَن دَلِيل الْعُمُوم فَدلَّ على أَن ذَلِك جَائِز وَلَا يخرج بِهِ من أَن يكون بَيَانا وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فَإِنَّهُ عَام تَأَخّر بَيَان خصوصه إِلَى أَن كلم عُثْمَان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا رَسُول الله فِي ذَلِك فَقَالَ إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب كشيء وَاحِد وَقَالَ إِنَّهُم لم يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام
ثمَّ قَالُوا تَأْخِير الْبَيَان فِي الْأَعْيَان مُعْتَبر بِتَأْخِير الْبَيَان فِي الْأَزْمَان وبالاتفاق يجوز أَن يرد لفظ مطلقه يَقْتَضِي عُمُوم الْأَزْمَان ثمَّ يتَأَخَّر عَنهُ بَيَان أَن المُرَاد بعض الْأَزْمَان دون الْبَعْض بالنسخ فَكَذَلِك يجوز أَن يرد لفظ ظَاهره يَقْتَضِي عُمُوم الْأَعْيَان ثمَّ يتَأَخَّر عَنهُ دَلِيل الْخُصُوص الَّذِي يتَبَيَّن بِهِ أَن المُرَاد بعض الْأَعْيَان دون الْبَعْض
وَحجَّتنَا فِيهِ أَن الْخصم يوافقنا بالْقَوْل فِي الْعُمُوم وَبطلَان مَذْهَب من يَقُول بِالْوَقْفِ فِي الْعُمُوم وَقد أوضحنا ذَلِك بِالدَّلِيلِ
ثمَّ من ضَرُورَة القَوْل بِالْعُمُومِ لُزُوم اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهِ وَالْقَوْل بِجَوَاز تَأْخِير دَلِيل الْخُصُوص يُؤَدِّي إِلَى أَن يُقَال يلْزمنَا اعْتِقَاد الشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي غَايَة الْفساد
وكما يجب اعْتِقَاد الْعُمُوم عِنْد وجود صِيغَة الْعُمُوم يجوز الْإِخْبَار بِهِ أَيْضا فَيُقَال إِنَّه عَام
وَفِي جَوَاز تَأْخِير الْبَيَان بِدَلِيل الْخُصُوص يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِجَوَاز الْكَذِب فِي الْحجَج الشَّرْعِيَّة وَذَلِكَ بَاطِل(2/31)
وَهَذَا بِخِلَاف النّسخ فَإِن الْوَاجِب اعْتِقَاد الحقية فِي الحكم النَّازِل فَأَما فِي حَيَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فَمَا كَانَ يجب اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِي ذَلِك الحكم وَلَا إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ مؤبد لِأَن الْوَحْي كَانَ ينزل سَاعَة فساعة ويتبدل الحكم كَالصَّلَاةِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَتَحْرِيم شرب الْخمر وَمَا أشبه ذَلِك وَإِنَّمَا اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِيهِ وَإِطْلَاق القَوْل بِهِ بعد رَسُول الله لقِيَام الدَّلِيل على أَن شَرِيعَته لَا تنسخ بعده بشريعة أُخْرَى
فَأَما قَوْله تَعَالَى {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} فَنَقُول بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ المُرَاد جَمِيع مَا فِي الْقُرْآن فَإِن الْبَيَان من الْقُرْآن أَيْضا فَيُؤَدِّي هَذَا القَوْل بِأَن لذَلِك الْبَيَان بَيَانا إِلَى مَا لَا يتناهى وَإِنَّمَا المُرَاد بعض مَا فِي الْقُرْآن وَهُوَ الْمُجْمل الَّذِي يكون بَيَانه تَفْسِيرا لَهُ وَنحن نجوز تَأْخِير الْبَيَان فِي مثله فَأَما فِيمَا يكون مغيرا أَو مبدلا للْحكم إِذا اتَّصل بِهِ فَإِذا تَأَخّر عَنهُ يكون نسخا وَلَا يكون بَيَانا مَحْضا وَدَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام بِهَذِهِ الصّفة
وَنَظِيره المحكمات الَّتِي هن أم الْكتاب فَإِن فِيهَا مَا لَا يحْتَمل النّسخ وَيحْتَمل بَيَان التَّقْرِير كصفات الله جلّ جَلَاله فَكَذَلِك مَا ورد من الْعَام مُطلقًا قُلْنَا إِنَّه يحْتَمل الْبَيَان الَّذِي هُوَ نسخ وَلكنه لَا يحْتَمل الْبَيَان الْمَحْض وَهُوَ مَا يكون تَفْسِيرا لَهُ إِذا كَانَ مُنْفَصِلا عَنهُ
فَأَما قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} قُلْنَا الْبَيَان هُنَا مَوْصُول فَإِنَّهُ قَالَ {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وَالْمرَاد مَا سبق من وعد إهلاك الْكفَّار بقوله تَعَالَى {إِنَّهُم مغرقون}
فَإِن قيل فَفِي ذَلِك الْوَعْد نهي لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن الْكَلَام فيهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا} فَلَو كَانَ قَوْله {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} منصرفا إِلَى ذَلِك لما استجاز نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سُؤال ابْنه بقوله {إِن ابْني من أَهلِي} قُلْنَا إِنَّمَا سَأَلَ لِأَنَّهُ كَانَ دَعَاهُ إِلَى الْإِيمَان وَكَانَ يظنّ فِيهِ أَنه يُؤمن حِين تنزل الْآيَة الْكُبْرَى وامتد رجاؤه لذَلِك إِلَى أَن آيسه الله تَعَالَى من ذَلِك بقوله تَعَالَى {إِنَّه عمل غير صَالح} فَأَعْرض عَنهُ عِنْد ذَلِك وَقَالَ {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} وَنَظِيره اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَبِيهِ (بِنَاء على رَجَاء أَن يُؤمن كَمَا وعد وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ}(2/32)
ثمَّ قَوْله تَعَالَى {وَأهْلك} مَا تنَاول ابْنه الْكَافِر لِأَن أهل الْمُرْسلين من يتابعهم على دينهم وعَلى هَذَا لفظ الْأَهْل كَانَ مُشْتَركا فِيهِ لاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد الْأَهْل من حَيْثُ النّسَب وَاحْتِمَال أَن يكون المُرَاد الْأَهْل من حَيْثُ الْمُتَابَعَة فِي الدّين فَلهَذَا سَأَلَ الله فَبين الله لَهُ أَن المُرَاد أَهله من حَيْثُ الْمُتَابَعَة فِي الدّين وَأَن ابْنه الْكَافِر لَيْسَ من أَهله وَتَأْخِير الْبَيَان فِي الْمُشْتَرك صَحِيح عندنَا
فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِنَّا مهلكو أهل هَذِه الْقرْيَة} فالبيان هُنَا مَوْصُول فِي هَذِه الْآيَة بقوله {إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} وَفِي مَوضِع آخر بقوله {إِلَّا آل لوط}
فَإِن قيل فَمَا معنى سُؤال إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الرُّسُل بقوله {إِن فِيهَا لوطا} قُلْنَا فِيهِ مَعْنيانِ أَحدهمَا أَن الْعَذَاب النَّازِل قد يخص الظَّالِمين كَمَا فِي قصَّة أَصْحَاب السبت وَقد يُصِيب الْكل فَيكون عذَابا فِي حق الظَّالِمين ابتلاء فِي حق المطيعين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} فَأَرَادَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن يبين لَهُ أَن عَذَاب أهل تِلْكَ الْقرْيَة من أَي الطَّرِيقَيْنِ وَأَن يعلم أَن لوطا عَلَيْهِ السَّلَام هَل ينجو من ذَلِك أم يبتلى بِهِ وَالثَّانِي أَنه علم يَقِينا أَن لوطا لَيْسَ من المهلكين مَعَهم وَلكنه خصّه فِي سُؤَاله لِيَزْدَادَ طمأنينة وليكون فِيهِ زِيَادَة تَخْصِيص للوط
وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} وَقد كَانَ عَالما متيقنا بإحياء الْمَوْتَى وَلَكِن سَأَلَهُ لينضم العيان إِلَى مَا كَانَ لَهُ من علم الْيَقِين فَيَزْدَاد بِهِ طمأنينة قلبه
فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} فقد قيل إِن هَذَا الْخطاب كَانَ لأهل مَكَّة وهم كَانُوا عَبدة الْأَوْثَان وَمَا كَانَ فيهم من يعبد عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْمَلَائِكَة فَلم يكن أصل الْكَلَام متناولا لَهُم
وَالْأَوْجه أَن يَقُول إِن فِي صِيغَة الْكَلَام مَا هُوَ دَلِيل ظَاهر على أَنه غير متناول لَهُم فَإِن كلمة مَا يعبر بهَا عَن ذَات مَا لَا يعقل وَإِنَّمَا يعبر عَن ذَات من يعقل بِكَلِمَة من إِلَّا أَن الْقَوْم كَانُوا متعنتين يجادلون بِالْبَاطِلِ بعد مَا تبين لَهُم فحين عارضوا بِعِيسَى وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِ السَّلَام على رَسُول لمن عارضوا بِهِ وَقد كَانُوا أهل اللِّسَان فَأَعْرض عَن جوابهم امتثالا بقوله تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} ثمَّ بَين الله تَعَالَى تعنتهم الله عَلَيْهِ السَّلَام تعنتهم فِي ذَلِك وَأَنَّهُمْ يعلمُونَ أَن الْكَلَام غير(2/33)
متناول فِيمَا عارضوا بِهِ بقوله {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} وَمثل هَذَا الْكَلَام يكون ابْتِدَاء كَلَام هُوَ حسن وَإِن لم يكن مُحْتَاجا إِلَيْهِ فِي حق من لَا يتعنت وَإِنَّمَا كلامنا فِيمَا يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ من الْبَيَان ليوقف بِهِ على مَا هُوَ المُرَاد
وَالَّذِي يُوضح تعنت الْقَوْم أَنهم كَانُوا يسمونه مرّة ساحرا وَمرَّة مَجْنُونا وَبَين الوصفين تنَاقض بَين فالساحر من يكون حاذقا فِي عمله حَتَّى يلبس على الْعُقَلَاء وَالْمَجْنُون من لَا يكون مهتديا إِلَى الْأَعْمَال والأقوال على مَا عَلَيْهِ أصل الْوَضع وَلَكنهُمْ لشدَّة الْحَسَد كَانُوا يتعنتون وينسبونه إِلَى مَا يَدْعُو إِلَى تنفير النَّاس عَنهُ من غير تَأمل فِي التَّحَرُّز عَن التَّنَاقُض واللغو
فَأَما قصَّة بقرة بني إِسْرَائِيل فَنَقُول كَانَ ذَلِك بَيَانا بِالزِّيَادَةِ على النَّص وَهُوَ يعدل النّسخ عندنَا والنسخ إِنَّمَا يكون مُتَأَخِّرًا عَن أصل الْخطاب وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ لَو أَنهم عَمدُوا إِلَى أَي بقرة كَانَت فذبحوها لأجزأت عَنْهُم وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم
فَدلَّ أَن الْأَمر الأول قد كَانَ فِيهِ تَخْفيف وَأَنه قد انتسخ ذَلِك بِأَمْر فِيهِ تَشْدِيد عَلَيْهِم
فَأَما قَوْله {وَلِذِي الْقُرْبَى} فقد قيل إِنَّه مُشْتَرك يحْتَمل أَن يكون المُرَاد قربى النُّصْرَة وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد قربى الْقَرَابَة فَلهَذَا سَأَلَ عُثْمَان وَجبير بن مطعم رَضِي الله عَنْهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وَبَين لَهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد قربى النُّصْرَة
أَو نقُول قد علمنَا أَنه لَيْسَ المُرَاد من يُنَاسِبه إِلَى أقْصَى أَب فَإِن ذَلِك يُوجب دُخُول جَمِيع بني آدم فِيهِ وَلَكِن فِيهِ إِشْكَال أَن المُرَاد من يُنَاسِبه بِأَبِيهِ خَاصَّة أَو بجده أَو أَعلَى من ذَلِك فَبين رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَن المُرَاد من يُنَاسِبه إِلَى هَاشم ثمَّ ألحق بهم بني الْمطلب لانضمامهم إِلَى بني هَاشم فِي الْقيام بنصرته فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام فَلم يكن هَذَا الْبَيَان من تَخْصِيص الْعَام فِي شَيْء بل هَذَا بَيَان المُرَاد فِي الْعَام الَّذِي يتَعَذَّر فِيهِ القَوْل بِالْعُمُومِ وَقد بَينا أَن مثل هَذَا الْعَام فِي حكم الْعَمَل بِهِ كالمجمل كَمَا فِي قَوْله {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} فَيكون الْبَيَان تَفْسِيرا لَهُ فَلهَذَا صَحَّ مُتَأَخِّرًا
فَأَما تَقْيِيد حكم الْمِيرَاث بالموافقة فِي الدّين(2/34)
فَهُوَ زِيَادَة على النَّص وَهُوَ يعدل النّسخ عندنَا فَلَا يكون بَيَانا مَحْضا
فَأَما قصر حكم تَنْفِيذ الْوَصِيَّة على الثُّلُث وجوبا قبل الْمِيرَاث فَيحْتَمل أَن السّنة المبينة لَهُ كَانَت قبل نزُول آيَة الْمِيرَاث فَيكون ذَلِك بَيَانا مُقَارنًا لما نزل فِي حَقنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَإِنَّهُ لما سبق علمنَا بِمَا نزل كَانَ من ضَرُورَته أَن يكون مُقَارنًا لَهُ
فَأَما الْبَيَان الْمُتَأَخر فِي الْأَزْمَان فَهُوَ نسخ وَنحن لَا ندعي إِلَّا هَذَا فَإنَّا نقُول إِنَّمَا يكون دَلِيل الْخُصُوص بَيَانا مَحْضا إِذا كَانَ مُتَّصِلا بِالْعَام فَأَما إِذا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنهُ يكون نسخا
فَتبين أَن مَا اسْتدلَّ بِهِ من الْحجَّة هُوَ لنا عَلَيْهِ
وسنقرره فِي بَاب النّسخ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل فِي بَيَان التَّغْيِير والتبديل
أما بَيَان التَّغْيِير هُوَ الِاسْتِثْنَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن الْألف اسْم مَوْضُوع لعدد مَعْلُوم فَمَا يكون دون ذَلِك الْعدَد يكون غَيره لَا محَالة فلولا الِاسْتِثْنَاء لَكَانَ الْعلم يَقع لنا بِأَنَّهُ لبث فيهم ألف سنة وَمَعَ الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَقع الْعلم لنا بِأَنَّهُ لبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما فَيكون هَذَا تغييرا لما كَانَ مُقْتَضى مُطلق تَسْمِيَة الْألف
وَبَيَان التبديل هُوَ التَّعْلِيق بِالشّرطِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} فَإِنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَنه لَا يجب إيتَاء الْأجر بعد العقد إِذا لم يُوجد الْإِرْضَاع وَإِنَّمَا يجب ابْتِدَاء عِنْد وجود الْإِرْضَاع فَيكون تبديلا لحكم وجوب أَدَاء الْبَدَل بِنَفس العقد
وَإِنَّمَا سمينا كل وَاحِد مِنْهُمَا بِهَذَا الِاسْم لما ظهر من أثر كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن حد الْبَيَان غير حد النّسخ لِأَن الْبَيَان إِظْهَار حكم الْحَادِثَة عِنْد وجوده ابْتِدَاء والنسخ رفع للْحكم بعد الثُّبُوت وَعند وجود الشَّرْط يثبت الحكم ابْتِدَاء وَلَكِن بِكَلَام كَانَ سَابِقًا على وجود الشَّرْط تكلما بِهِ إِلَّا أَنه لم يكن مُوجبا حكمه إِلَّا عِنْد وجود الشَّرْط فَكَانَ بَيَانا من حَيْثُ إِن الحكم ثَبت عِنْد وجوده ابْتِدَاء وَلم يكن نسخا صُورَة من حَيْثُ إِن النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته فِي مَحَله فَكَانَ تبديلا من حَيْثُ إِن مُقْتَضى قَوْله لعَبْدِهِ أَنْت حر نزُول الْعتْق(2/35)
فِي الْمحل واستقراره فِيهِ وَأَن يكون عِلّة للْحكم بِنَفسِهِ وبذكر الشَّرْط يتبدل ذَلِك كُله لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ أَنه لَيْسَ بعلة تَامَّة للْحكم قبل الشَّرْط وَأَنه لَيْسَ بِإِيجَاب لِلْعِتْقِ بل هُوَ يَمِين وَأَن مَحَله الذِّمَّة حَتَّى لَا يصل إِلَى العَبْد إِلَّا بعد خُرُوجه من أَن يكون يَمِينا بِوُجُود الشَّرْط فَعرفنَا أَنه تَبْدِيل
وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاء فَإِن قَوْله لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم مُقْتَضَاهُ وجوب الْعدَد الْمُسَمّى فِي ذمَّته ويتغير ذَلِك بقوله إِلَّا مائَة لَا على طَرِيق أَنه يرْتَفع بعض مَا كَانَ وَاجِبا ليَكُون نسخا فَإِن هَذَا فِي الْإِخْبَار غير مُحْتَمل وَلَكِن على طَرِيق أَنه يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى فَيكون إِخْبَارًا عَن وجوب تِسْعمائَة فَقَط فَعرفنَا أَنه تَغْيِير لمقْتَضى صِيغَة الْكَلَام الأول وَلَيْسَ بتبديل إِنَّمَا التبديل أَن يخرج كَلَامه من أَن يكون إِخْبَارًا بِالْوَاجِبِ أصلا فَلهَذَا سميناه بَيَان التَّغْيِير
ثمَّ لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الْبَيَان أَنه يَصح مَوْصُولا بالْكلَام وَلَا يَصح مَفْصُولًا مِمَّن لَا يملك النّسخ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفيَّة إِعْمَال الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط
فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا مُوجب الِاسْتِثْنَاء أَن الْكَلَام بِهِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَأَنه يَنْعَدِم ثُبُوت الحكم فِي الْمُسْتَثْنى لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِهِ بِمَنْزِلَة الْغَايَة فِيمَا يقبل التَّوْقِيت فَإِنَّهُ يَنْعَدِم الحكم فِيمَا وَرَاء الْغَايَة لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَهُ لَا لِأَن الْغَايَة توجب نفي الحكم فِيمَا وَرَاءه
وعَلى قَول الشَّافِعِي الحكم لَا يثبت فِي الْمُسْتَثْنى لوُجُود الْمعَارض كَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص يمْنَع ثُبُوت حكم الْعَام فِيمَا يتَنَاوَلهُ دَلِيل الْخُصُوص لوُجُود الْمعَارض
وَكَذَلِكَ الشَّرْط عندنَا فَإِنَّهُ يمْنَع ثُبُوت الحكم فِي الْمحل لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة لَهُ حكما مَعَ صُورَة التَّكَلُّم بِهِ لَا لِأَن الشَّرْط مَانع من وجود الْعلَّة وعَلى قَوْله الشَّرْط مَانع للْحكم مَعَ وجود علته
وَالْكَلَام فِي فصل الشَّرْط قد تقدم بَيَانه إِنَّمَا الْكَلَام هُنَا فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُم احْتَجُّوا بِاتِّفَاق أهل اللِّسَان أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فَهَذَا تنصيص على أَن الِاسْتِثْنَاء مُوجب مَا هُوَ ضد مُوجب أصل الْكَلَام على وَجه الْمُعَارضَة لَهُ فِي الْمُسْتَثْنى وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَته}(2/36)
فالاستثناء الأول كَانَ من المهلكين ثمَّ فهم مِنْهُ الإنجاء وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من المنجين فَإِنَّمَا فهم مِنْهُ أَنهم من المهلكين
وعَلى هَذَا قَالُوا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا دِرْهَمَيْنِ يلْزمه تِسْعَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء الأول من الْإِثْبَات فَكَانَ نفيا وَالِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من النَّفْي فَكَانَ إِثْبَاتًا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} أَي إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم لم يشْربُوا فقد نَص على هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَإِذا ثَبت أَن المُرَاد بالْكلَام هَذَا كَانَ فِي مُوجبه كالمنصوص عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ كلمة الشَّهَادَة فَإِنَّهَا كلمة التَّوْحِيد لاشتمالها على النَّفْي وَالْإِثْبَات وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا جعل كَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا الله فَإِنَّهُ هُوَ الْإِلَه وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن صِيغَة الْإِيجَاب إِذا صَحَّ من الْمُتَكَلّم فَهُوَ مُفِيد حكمه إِلَّا أَن يمْنَع مِنْهُ مَانع وبالاستثناء لَا يَنْتَفِي التَّكَلُّم بِكَلَام صَحِيح فِي جَمِيع مَا تنَاوله أصل الْكَلَام وَلَو لم يكن الِاسْتِثْنَاء مُوجبا هُوَ معَارض مَانع لما امْتنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لِأَن بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يخرج من أَن يكون متكلما بِهِ فِيهِ لِاسْتِحَالَة أَن يكون متكلما بِهِ غير مُتَكَلم فِي كَلَام وَاحِد وَلَكِن يجوز أَن يكون متكلما بِهِ وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم فِيهِ لمَانع منع مِنْهُ كَمَا فِي البيع بِشَرْط الْخِيَار فَعرفنَا أَن الطَّرِيق الصَّحِيح فِي الِاسْتِثْنَاء هَذَا وَعَلِيهِ خرج مذْهبه فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف إِن المُرَاد إِلَّا الَّذين تَابُوا فَأُولَئِك هم الصالحون وَتقبل شَهَادَتهم إِلَّا أَنه لَا يتَنَاوَل هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْجلد على وَجه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال بِإِيجَاب حكم فِيهِ سوى الحكم الأول وَهُوَ حَال مَا بعد التَّوْبَة فَيخْتَص بِمَا يحْتَمل التَّوْقِيت دون مَا لَا يحْتَمل التَّوْقِيت وَإِقَامَة الْجلد لَا يحْتَمل ذَلِك فَأَما رد الشَّهَادَة والتفسيق يحْتَمل ذَلِك
وَقَالَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء إِن المُرَاد لَكِن إِن جعلتموه سَوَاء بِسَوَاء فبيعوا أَحدهمَا بِالْآخرِ حَتَّى أثبت بِالْحَدِيثِ حكمين حكم الْحُرْمَة لمُطلق الطَّعَام (بِالطَّعَامِ) فأثبته فِي الْقَلِيل وَالْكثير وَحكم الْحل بِوُجُود الْمُسَاوَاة كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكثير الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة
وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون}(2/37)
فِي أَن الثَّابِت بِهِ حكمان حكم بِنصْف الْمَفْرُوض بِالطَّلَاق فَيكون عَاما فِيمَن يَصح مِنْهُ الْعَفو وَمن لَا يَصح الْعَفو مِنْهُ نَحْو الصَّغِيرَة والمجنونة وَحكم سُقُوط الْكل بِالْعَفو كَمَا هُوَ مُوجب الِاسْتِثْنَاء فَيخْتَص بالكبيرة الْعَاقِلَة الَّتِي يَصح مِنْهَا الْعَفو
وعَلى هَذَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُ يلْزمه الْألف إِلَّا قدر قيمَة الثَّوْب لِأَن مُوجب الِاسْتِثْنَاء نفي الحكم فِي الْمُسْتَثْنى بِدَلِيل الْمعَارض وَالدَّلِيل الْمعَارض يجب الْعَمَل بِهِ بِحَسب الْإِمْكَان والإمكان هُنَا أَن يَجْعَل مُوجبه نفي مِقْدَار قيمَة ثوب لَا نفي عين الثَّوْب وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِيمَا إِذا قَالَ لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا كرّ حِنْطَة إِنَّه ينقص من الْألف قدر قيمَة كرّ حِنْطَة وَإِن الِاسْتِثْنَاء يصحح بِحَسب الْإِمْكَان على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا بِخِلَاف مَا يَقُوله مُحَمَّد رَحمَه الله إِنَّه لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء
قَالَ وَلَو كَانَ الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى من الْوَجْه الَّذِي قُلْتُمْ لَكَانَ يلْزمه الْألف هُنَا كَامِلا لِأَن مَعَ وجوب الْألف عَلَيْهِ نَحن نعلم أَنه لَا كرّ عَلَيْهِ فَكيف يَجْعَل هَذَا عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَالْكَلَام لم يتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا فَظهر أَن الطَّرِيق فِيهِ مَا قُلْنَا
وَحجَّتنَا فِي إبِْطَال طَريقَة الْخصم الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فِيمَا هُوَ خبر نَحْو قَوْله تَعَالَى {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم}
{فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن دَلِيل الْمُعَارضَة فِي الحكم إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْإِيجَاب دون الْخَبَر لِأَن ذَلِك يُوهم الْكَذِب بِاعْتِبَار صدر الْكَلَام وَمَعَ بَقَاء أصل الْكَلَام للْحكم لَا يتَصَوَّر امْتنَاع الحكم فِيهِ بمانع فَلَو كَانَ الطَّرِيق مَا قَالَه الْخصم لاختص الِاسْتِثْنَاء بِالْإِيجَابِ كدليل الْخُصُوص وَدَلِيل الْخُصُوص يخْتَص بِالْإِيجَابِ
وَالثَّانِي أَن الِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ المستنثى بعض مَا تنَاوله الْكَلَام
وَلَا يَصح إِذا كَانَ جَمِيع مَا تنَاوله الْكَلَام وَدَلِيل الْخُصُوص الَّذِي هُوَ رفع للْحكم كالنسخ كَمَا يعْمل فِي الْبَعْض(2/38)
يعْمل فِي الْكل فَعرفنَا أَنه لَيْسَ الطَّرِيق فِي الِاسْتِثْنَاء مَا ذهب إِلَيْهِ وَلَكِن الطَّرِيق فِيهِ أَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى حَتَّى إِذا كَانَ يتَوَهَّم بعد الِاسْتِثْنَاء بَقَاء شَيْء دون الْخَبَر يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ صَحَّ وَإِن لم يبْق من الحكم شَيْء
وَبَيَان هَذَا أَنه لَو قَالَ عَبِيدِي أَحْرَار إِلَّا عَبِيدِي لم يَصح الِاسْتِثْنَاء وَلَو قَالَ إِلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ سواهُم صَحَّ الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ يتَوَهَّم بَقَاء شَيْء وَرَاء الْمُسْتَثْنى يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَنهُ هُنَا وَلَا توهم لمثله فِي الأول وَكَذَلِكَ الطَّلَاق على هَذَا
وَلَا يجوز أَن يُقَال إِن اسْتثِْنَاء الْكل إِنَّمَا لَا يَصح لِأَنَّهُ رُجُوع فَإِن فِيمَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ لَا يَصح اسْتثِْنَاء الْكل أَيْضا حَتَّى إِذا قَالَ أوصيت لفُلَان بِثلث مَالِي إِلَّا ثلث مَالِي كَانَ الِاسْتِثْنَاء بَاطِلا وَالرُّجُوع عَن الْوَصِيَّة يَصح وَإِنَّمَا بَطل الِاسْتِثْنَاء هُنَا لِأَنَّهُ لَا يتَوَهَّم وَرَاء الْمُسْتَثْنى شَيْء يكون الْكَلَام عبارَة عَنهُ فَعرفنَا أَنه تصرف فِي الْكَلَام لَا فِي الحكم وَأَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى بأطول الطَّرِيقَيْنِ تَارَة وأقصرهما تَارَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الدَّلِيل الْمعَارض يسْتَقلّ بِنَفسِهِ وَالِاسْتِثْنَاء لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِنَّهُ مَا لم يسْبق صدر الْكَلَام لَا يتَحَقَّق الِاسْتِثْنَاء مُفِيدا شَيْئا بِمَنْزِلَة الْغَايَة الَّتِي لَا تستقل بِنَفسِهَا
فَأَما دَلِيل الْخُصُوص يصير مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ وَإِن لم يسْبقهُ الْكَلَام وَيكون مُفِيدا لحكمه
ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا أَن الِاسْتِثْنَاء يبين أَن صدر الْكَلَام لم يتَنَاوَل الْمُسْتَثْنى أصلا فَإِنَّهُ تصرف فِي الْكَلَام كَمَا أَن دَلِيل الْخُصُوص تصرف فِي حكم الْكَلَام ثمَّ يتَبَيَّن بِدَلِيل الْخُصُوص أَن الْعَام لم يكن مُوجبا الحكم فِي مَوضِع الْخُصُوص فَكَذَلِك بِالِاسْتِثْنَاءِ يتَبَيَّن أَن أصل الْكَلَام لم يكن متناولا للمستثنى
وَالدَّلِيل على تَصْحِيح هَذِه الْقَاعِدَة قَوْله تَعَالَى {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} فَإِن مَعْنَاهُ لبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما لِأَن الْألف اسْم لعدد مَعْلُوم لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال مَا دونه بِوَجْه فَلَو لم يَجْعَل أصل الْكَلَام هَكَذَا لم يُمكن تَصْحِيح ذكر الْألف بِوَجْه لِأَن اسْم الْألف لَا ينْطَلق على تِسْعمائَة وَخمسين أصلا وَإِذا قَالَ الرجل لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا مائَة فَإِنَّهُ يَجْعَل كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَليّ تِسْعمائَة فَإِن مَعَ بَقَاء صدر الْكَلَام على حَاله وَهُوَ الْألف لَا يُمكن إِيجَاب(2/39)
تِسْعمائَة عَلَيْهِ ابْتِدَاء لِأَن الْقدر الَّذِي يجب حكم صدر الْكَلَام وَإِذا لم يكن فِي صدر الْكَلَام احْتِمَال هَذَا الْمِقْدَار لَا يُمكن إِيجَابه حَقِيقَة فَعرفنَا بِهِ أَنه يصير صدر الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَهُوَ تِسْعمائَة وَكَانَ لهَذَا الْعدَد عبارتان الأقصر وَهُوَ تِسْعمائَة والأطول هُوَ الْألف إِلَّا مائَة
وَهَذَا معنى قَول أهل اللُّغَة إِن الِاسْتِثْنَاء اسْتِخْرَاج يَعْنِي اسْتِخْرَاج بعض الْكَلَام على أَن يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى أَلا ترى أَن بعد دَلِيل الْخُصُوص الحكم الثَّابِت بِالْعَام مَا يتَنَاوَلهُ لفظ الْعُمُوم حَقِيقَة حَتَّى إِذا كَانَ الْعَام بِعِبَارَة الْفَرد يجوز فِيهِ الْخُصُوص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا وَاحِد وَإِذا كَانَ بِلَفْظ الْجمع يجوز فِيهِ الْخُصُوص إِلَى أَن لَا يبْقى مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَة فَإِن أدنى مَا تنَاوله اسْم الْجمع ثَلَاثَة وَإِذا كَانَ الْبَاقِي دون ذَلِك كَانَ رفعا للْحكم بطرِيق النّسخ
ثمَّ كَمَا يجوز أَن يكون الْكَلَام مُعْتَبرا فِي الحكم وَيمْتَنع ثُبُوت الحكم بِهِ لمَانع فَكَذَلِك يجوز أَن تبقى صُورَة الْكَلَام وَلَا يكون مُعْتَبرا فِي حق الحكم أصلا كَطَلَاق الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَإِذا جعلنَا طَرِيق الِاسْتِثْنَاء مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ بَقِي صُورَة التَّكَلُّم فِي الْمُسْتَثْنى غير مُوجب بِحكمِهِ وَذَلِكَ جَائِز وَإِذا جعلنَا الطَّرِيق مَا قَالَه الْخصم احتجنا إِلَى أَن نثبت بالْكلَام مَا لَيْسَ من محتملاته وَذَلِكَ لَا يجوز فَعرفنَا أَن انعدام وجوب الْمِائَة عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعلَّة الْمُوجبَة لَا لمعارض يمْنَع الْوُجُوب بعد وجود الْعلَّة الْمُوجبَة وَكَذَلِكَ فِي التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِن امْتنَاع ثُبُوت الحكم فِي الْمحل لِانْعِدَامِ علته بطرِيق أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ لما منع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَصُورَة التَّكَلُّم بِدُونِ الْمحل لَا يكون عِلّة للْإِيجَاب فانعدام الحكم لِانْعِدَامِ الْعلَّة فِي الْفَصْلَيْنِ لَا لمَانع كَمَا توهمه الْخصم إِلَّا أَن الْوُصُول إِلَى الْمحل فِي التَّعْلِيق متوهم لوُجُود الشَّرْط فَلم يبطل الْكَلَام فِي حق الحكم أصلا وَلَكِن نجعله تَصرفا آخر وَهُوَ الْيَمين على أَنه مَتى وصل إِلَى الْمحل وَلم يبْق يَمِينا كَانَ إِيجَابا فسميناه بَيَان التبديل لهَذَا وَانْتِفَاء الْمُسْتَثْنى من أصل الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ توهم الِارْتفَاع حَتَّى تكون صُورَة الْكَلَام عَاملا فِيهِ فجعلناه بَيَان التَّغْيِير بطرِيق أَنه عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى لِأَنَّهُ لم يصر تَصرفا آخر(2/40)
بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا لِأَن الْكَلِمَة كَمَا لَا تكون مفهمة قبل انضمام بعض حروفها إِلَى الْبَعْض لَا تكون مفهمة قبل انضمام بعض الْكَلِمَات إِلَى الْبَعْض حَتَّى تكون دَالَّة على المُرَاد فتوقف أول الْكَلَام على آخِره فِي الْفَصْلَيْنِ وَيكون الْكل فِي حكم كَلَام وَاحِد فَإِن ظهر بِاعْتِبَار آخِره لصدر الْكَلَام مَحل آخر وَهُوَ الذِّمَّة كَمَا فِي الشَّرْط جعل بَيَانا فِيهِ تَبْدِيل وَإِن لم يظْهر لصدر الْكَلَام مَحل آخر بِآخِرهِ جعل آخِره مغيرا لصدره بطرِيق الْبَيَان وَذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ على أَن يَجْعَل عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَيجْعَل بِمَنْزِلَة الْغَايَة على معنى أَنه يَنْتَهِي بِهِ صدر الْكَلَام ولولاه لَكَانَ مجاوزا إِلَيْهِ كَمَا أَن بالغاية يَنْتَهِي أصل الْكَلَام على معنى أَنه لَوْلَا الْغَايَة لَكَانَ الْكَلَام متناولا لَهُ ثمَّ انعدام الحكم بعد الْغَايَة لعدم الدَّلِيل الْمُثبت لَا لمَانع بعد وجود الْمُثبت فَكَذَلِك انعدام الحكم فِي الْمُسْتَثْنى لعدم دَلِيل الْمُوجب لَا لمعارض مَانع
فَأَما قَول أهل اللُّغَة الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات وَمن الْإِثْبَات نفي فإطلاق ذَلِك بِاعْتِبَار نوع من الْمجَاز فَإِنَّهُم كَمَا قَالُوا هَذَا فقد قَالُوا إِنَّه اسْتِخْرَاج وَإنَّهُ عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَلَا بُد من الْجمع بَين الْكَلِمَتَيْنِ وَلَا طَرِيق للْجمع سوى مَا بَينا وَهُوَ أَنه بِاعْتِبَار حَقِيقَته فِي أصل الْوَضع عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَهُوَ نفي من الْإِثْبَات وَإِثْبَات من النَّفْي بِاعْتِبَار إِشَارَته على معنى أَن حكم الْإِثْبَات يتوقت بِهِ كَمَا يتوقت بالغاية فَإِذا لم يبْق بعده ظهر النَّفْي لِانْعِدَامِ عِلّة الْإِثْبَات فَسُمي نفيا مجَازًا
فَإِن قيل هَذَا فَاسد فَإِن قَول الْقَائِل لَا عَالم إِلَّا زيد يفهم مِنْهُ الْإِخْبَار بِأَن زيدا عَالم وَكَذَلِكَ كلمة الشَّهَادَة تكون إِقْرَارا بِالتَّوْحِيدِ حَقِيقَة كَيفَ يَسْتَقِيم حمل ذَلِك على نوع من الْمجَاز قُلْنَا قَول الْقَائِل لَا عَالم نفي لوصف الْعلم وَقَوله إِلَّا زيد تَوْقِيت للوصف بِهِ وَمُقْتَضى التَّوْقِيت انعدام ذَلِك الْوَصْف بعد الْوَقْت فَمُقْتَضى كَلَامه هُنَا نفي صفة الْعلم لغير زيد ثمَّ ثَبت بِهِ الْعلم لزيد بِإِشَارَة كَلَامه لَا بِنَصّ كَلَامه كَمَا أَن نفي النَّهَار يتوقت إِلَى طُلُوع الْفجْر فبوجوده يثبت مَا هُوَ ضِدّه وَهُوَ صفة النَّهَار وَنفي السّكُون يتوقت بالحركة فَبعد انعدام الْحَرَكَة يثبت السّكُون يقرره أَن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو عَن أحد الوصفين إِمَّا الْعلم وَإِمَّا نفي الْعلم عَنهُ فَلَمَّا توقت النَّفْي فِي صفة كَلَامه بزيد(2/41)
ثَبت صفة الْعلم فِيهِ لِانْعِدَامِ ضِدّه
وَفِي كلمة الشَّهَادَة كَذَلِك نقُول فَإِن كَلَامه نفي الألوهية عَن غير الله تَعَالَى وَنفي الشّركَة فِي صفة الألوهية لغير الله مَعَه ثمَّ يثبت التَّوْحِيد بطرِيق الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَكَانَ الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْعبارَة إِظْهَار التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ هُوَ الأَصْل وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ يبتنى عَلَيْهِ وَمعنى التَّصْدِيق بِالْقَلْبِ بِهَذَا الطَّرِيق يكون أظهر
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله إِذا قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا أَن يَأْذَن لي فلَان فَمَاتَ فلَان قبل أَن يَأْذَن لَهُ بطلت الْيَمين كَمَا لَو قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار حَتَّى يَأْذَن لي فلَان لِأَن فِي الْمَوْضِعَيْنِ يثبت بِالْيَمِينِ حظر الْخُرُوج موقتا بِإِذن فلَان وَلَا تصور لذَلِك إِلَّا فِي حَال حَيَاة فلَان فَأَما بعد مَوته وَانْقِطَاع إِذْنه لَو بقيت الْيَمين كَانَ مُوجبهَا حظرا مُطلقًا والموقت غير الْمُطلق
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَنه لَو قَالَ لامْرَأَته إِن خرجت إِلَّا بإذني فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى تَجْدِيد الْإِذْن فِي كل مرّة وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء بِمَنْزِلَة الْغَايَة لكَانَتْ الْيَمين ترْتَفع بِالْإِذْنِ مرّة كَمَا لَو قَالَ إِن خرجت من هَذِه الدَّار حَتَّى آذن لَك
قُلْنَا إِنَّمَا اخْتلفَا فِي هَذَا الْوَجْه لِأَن كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ يتَنَاوَل محلا آخر فَإِن قَوْله حَتَّى آذن مَحَله الْحَظْر الثَّابِت بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ تَوْقِيت لَهُ وَقَوله إِلَّا بإذني مَحَله الْخُرُوج الَّذِي هُوَ مصدر كَلَامه وَمَعْنَاهُ إِلَّا خُرُوجًا بإذني وَالْخُرُوج غير الْحَظْر الثَّابِت بِالْيَمِينِ فَعرفنَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا دخل فِي مَحل آخر هُنَا فَلهَذَا كَانَ حكم الِاسْتِثْنَاء مُخَالفا لحكم التَّصْرِيح بالغاية وبالاستثناء يظْهر معنى التَّوْقِيت فِي كل خُرُوج يكون بِصفة الْإِذْن وكل خُرُوج لَا يكون بِتِلْكَ الصّفة فَهُوَ مُوجب للحنث
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الِاسْتِثْنَاء نَوْعَانِ حَقِيقَة ومجاز
فَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاء حَقِيقَة مَا بَينا وَمَا هُوَ مجَاز مِنْهُ فَهُوَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع وَهِي بِمَعْنى لَكِن أَو بِمَعْنى الْعَطف
وَبَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} أَي لَكِن أباطيل
قَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} أَي لَكِن رب الْعَالمين الَّذِي خلقني
وَقَالَ {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما} أَي لَكِن سَلاما
وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} إِنَّه بِمَعْنى الْعَطف وَلَا الَّذين ظلمُوا وَقيل لَكِن أَي لَكِن الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني
وَقيل فِي قَوْله {إِلَّا خطأ} إِنَّه بِمَعْنى لَكِن أَي لَكِن إِن قَتله خطأ
وَزعم بعض مَشَايِخنَا أَنه بِمَعْنى وَلَا
قَالَ رَضِي عَنهُ وَهَذَا غلط عِنْدِي لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون عطفا على النَّهْي فَيكون نهيا وَالْخَطَأ لَا يكون مَنْهِيّا عَنهُ وَلَا مَأْمُورا بِهِ بل هُوَ مَوْضُوع قَالَ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ}(2/42)
ثمَّ الْكَلَام لحقيقته لَا يحمل على الْمجَاز إِلَّا إِذا تعذر حمله على الْحَقِيقَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا أَن يعفون} فَإِنَّهُ يتَعَذَّر حمله على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ إِذا حمل عَلَيْهِ كَانَ فِي معنى التَّوْقِيت فيتقرر بِهِ حكم التنصيف الثَّابِت بصدر الْكَلَام فَعرفنَا أَنه بِمَعْنى لَكِن وَأَنه ابْتِدَاء حكم أَي لَكِن إِن عَفا الزَّوْج بإيفاء الْكل أَو الْمَرْأَة بالإسقاط فَهُوَ أقرب للتقوى
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فِي آيَة الْقَذْف فَإِنَّهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع أَي لَكِن إِن تَابُوا من قبل أَن التائبين هم القاذفون
فَتعذر حمل اللَّفْظ على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء فَإِن الثَّابِت لَا يخرج من أَن يكون قَاذِفا وَإِن كَانَ مَحْمُولا على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء هُوَ اسْتثِْنَاء بعض الْأَحْوَال أَي وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ فِي جَمِيع الْأَحْوَال إِلَّا أَن يتوبوا فَيكون هَذَا الِاسْتِثْنَاء توقيتا بِحَال مَا قبل التَّوْبَة فَلَا تبقى صفة الْفسق بعد التَّوْبَة لِانْعِدَامِ الدَّلِيل الْمُوجب لَا لمعارض مَانع كَمَا توهمه الْخصم
وَقَوله لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء اسْتثِْنَاء لبَعض الْأَحْوَال أَيْضا أَي لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا حَالَة التَّسَاوِي فِي الْكَيْل
فَيكون توقيتا للنَّهْي بِمَنْزِلَة الْغَايَة وَيثبت بِهَذَا النَّص أَن حكم الرِّبَا الْحُرْمَة الموقتة فِي الْمحل دون الْمُطلقَة
وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْحُرْمَة الموقتة فِي الْمحل الَّذِي يقبل الْمُسَاوَاة فِي الْكَيْل فَأَما فِي الْمحل الَّذِي لَا يقبل الْمُسَاوَاة لَو ثَبت إِنَّمَا يثبت حُرْمَة مُطلقَة وَذَلِكَ لَيْسَ من حكم هَذَا النَّص فَلهَذَا لَا يثبت حكم الرِّبَا فِي الْقَلِيل وَفِي المطعوم الَّذِي لَا يكون مَكِيلًا أصلا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا ثوبا فَإِنَّهُ تلْزمهُ الْألف لِأَن هَذَا لَيْسَ(2/43)
باستثناء حَقِيقَة إِذْ حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء فِي أصل الْوَضع أَن يكون الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى والمستثنى هُنَا لم يتَنَاوَلهُ صدر الْكَلَام صُورَة وَمعنى حَتَّى يَجْعَل الْكَلَام عبارَة عَمَّا وَرَاءه فَيكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا وَمَعْنَاهُ لَكِن لَا ثوب لَهُ عَليّ
وَالتَّصْرِيح بِهَذَا الْكَلَام لَا يسْقط عَنهُ شَيْئا من الْألف وَلَا يمْنَع إِعْمَال أصل الْكَلَام فِي إِيجَاب جَمِيع الْألف عَلَيْهِ فَكَذَلِك اللَّفْظ الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّد فِي قَوْله إِلَّا كرّ حِنْطَة إِنَّه تلْزمهُ الْألف كَامِلَة
فَأَما أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رَضِي الله عَنْهُمَا استحسنا هُنَا فَقَالَا كَلَامه اسْتثِْنَاء حَقِيقَة بِاعْتِبَار الْمَعْنى لِأَن صُورَة صدر الْكَلَام الْإِخْبَار بِوُجُوب الْمُسَمّى عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ إِظْهَار مَا هُوَ لَازم فِي ذمَّته والمكيل وَالْمَوْزُون كشيء وَاحِد فِي حكم الثُّبُوت فِي الذِّمَّة على معنى أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت فِي الذِّمَّة ثبوتا صَحِيحا بِمَنْزِلَة الْأَثْمَان فَهَذَا الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار صُورَة صدر الْكَلَام لَا يكون استخراجا وَبِاعْتِبَار مَعْنَاهُ يكون استخراجا على أَنه استخرج هَذَا الْقدر مِمَّا هُوَ وَاجِب فِي ذمَّته وَالْمعْنَى يتَرَجَّح على الصُّورَة لِأَنَّهُ هُوَ الْمَطْلُوب فَلهَذَا جعلنَا استثناءه استخراجا على أَن يكون كَلَامه عبارَة عَمَّا وَرَاء مَالِيَّة كرّ حِنْطَة من الْألف فَأَما الثَّوْب لَا يكون مثل الْمكيل وَالْمَوْزُون فِي الصُّورَة وَلَا فِي الْمَعْنى وَهُوَ الثُّبُوت فِي الذِّمَّة فَإِنَّهُ لَا يثبت فِي الذِّمَّة إِلَّا مَبِيعًا وَالْألف تثبت فِي الذِّمَّة ثمنا فَلَا يُمكن جعل كَلَامه استخراجا بِاعْتِبَار الصُّورَة وَلَا بِاعْتِبَار الْمَعْنى فَلهَذَا جَعَلْنَاهُ اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي بِنَاء على أَصله الِاسْتِثْنَاء مَتى تعقب كَلِمَات معطوفة بَعْضهَا على بعض ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم ذكره لِأَنَّهُ معَارض مَانع للْحكم بِمَنْزِلَة الشَّرْط ثمَّ الشَّرْط ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا سبق حَتَّى يتَعَلَّق الْكل بِهِ فَكَذَلِك الِاسْتِثْنَاء
وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى فِي آيَة قطاع الطَّرِيق {إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَى جَمِيع مَا تقدم ذكره
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الِاسْتِثْنَاء تَغْيِير وَتصرف فِي الْكَلَام فَيقْتَصر على مَا يَلِيهِ خَاصَّة(2/44)
لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن إِعْمَال الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار أَن الْكل فِي حكم كَلَام وَاحِد وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق فِي الْكَلِمَات المعطوفة بَعْضهَا على بعض
وَالثَّانِي أَن أصل الْكَلَام عَامل بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَإِنَّمَا انْعَدم هَذَا الْوَصْف مِنْهُ بطرِيق الضَّرُورَة فَيقْتَصر على مَا تحقق فِيهِ الضَّرُورَة وَهَذِه الضَّرُورَة ترْتَفع بصرفه إِلَى مَا يَلِيهِ بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُ تَبْدِيل وَلَا يخرج بِهِ أصل الْكَلَام من أَن يكون عَاملا إِنَّمَا يتبدل بِهِ الحكم كَمَا بَينا وَمُطلق الْعَطف يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فَلهَذَا أثبتنا حكم التبديل بِالتَّعْلِيقِ بِالشّرطِ فِي جَمِيع مَا سبق ذكره مَعَ أَن فِيهِ كلَاما فِي الْفرق بَين مَا إِذا عطفت جملَة تَامَّة على جملَة تَامَّة وَبَين مَا إِذا عطفت جملَة نَاقِصَة على جملَة تَامَّة ثمَّ تعقبها شَرط وَلَكِن لَيْسَ هَذَا مَوضِع بَيَان ذَلِك
فَأَما قَوْله تَعَالَى {إِلَّا الَّذين تَابُوا} فلأجل دَلِيل فِي نَص الْكَلَام صرفناه إِلَى جَمِيع مَا تقدم وَذَلِكَ التَّقْيِيد بقوله تَعَالَى {من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} فَإِن التَّوْبَة فِي محو الْإِثْم ورجاء الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة بِهِ فِي الْآخِرَة لَا تخْتَلف بوجودها بعد قدرَة الإِمَام على التائب أَو قبل ذَلِك وَإِنَّمَا تخْتَلف فِي حكم إِقَامَة الْحَد الَّذِي يكون مفوضا إِلَى الإِمَام فَعرفنَا بِهَذَا التَّقْيِيد أَن المُرَاد مَا سبق من الْحَد وَقد يتَغَيَّر حكم مُقْتَضى الْكَلَام لدَلِيل فِيهِ أَلا ترى أَن مُقْتَضى مُطلق الْكَلَام التَّرْتِيب على أَن يَجْعَل الْمُتَقَدّم فِي الذّكر مُتَقَدما فِي الحكم ثمَّ يتَغَيَّر ذَلِك بِدَلِيل مغير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا قيمًا} فَإِن المُرَاد أنزلهُ قيمًا وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا
وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لَكَانَ لزاما وَأجل مُسَمّى} فَإِن مَعْنَاهُ وَلَوْلَا سبقت من رَبك كلمة وَأجل مُسَمّى لَكَانَ لزاما وضمة اللَّام دلنا على ذَلِك فَهَذَا نَظِيره
وَإِذا تقرر هَذَا الأَصْل قُلْنَا الْبَيَان المغير والمبدل يَصح مَوْصُولا وَلَا يَصح مَفْصُولًا لِأَنَّهُ مَتى كَانَ بَيَانا كَانَ مقررا للْحكم الثَّابِت بصدر الْكَلَام كبيان التَّقْرِير وَبَيَان التَّفْسِير وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك إِذا كَانَ مَوْصُولا فَأَما إِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِنَّهُ يكون رفعا للْحكم الثَّابِت بِمُطلق الْكَلَام
أما فِي الِاسْتِثْنَاء فَإِن الْكَلَام يتم مُوجبا لحكمه بِآخِرهِ وَذَلِكَ بِالسُّكُوتِ عَنهُ أَو الِانْتِقَال إِلَى كَلَام آخر(2/45)
وَالِاسْتِثْنَاء الْمَوْصُول لَيْسَ بِكَلَام آخر فَإِنَّهُ غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ فَأَما إِذا سكت فقد تمّ الْكَلَام مُوجبا لحكمه ثمَّ الِاسْتِثْنَاء بعد ذَلِك يكون نسخا بطرِيق رفع الحكم الثَّابِت فَلَا يكون بَيَانا مغيرا وَأما الشَّرْط فَهُوَ مبدل بِاعْتِبَار أَنه يمْتَنع الْوُصُول إِلَى الْمحل وَهُوَ العَبْد فِي كلمة الْإِعْتَاق وَيجْعَل مَحَله الذِّمَّة وَإِنَّمَا يتَحَقَّق هَذَا إِذا كَانَ مَوْصُولا فَأَما المفصول يكون رفعا عَن الْمحل يعْتَبر هَذَا فِي المحسوسات فَإِن تَعْلِيق الْقنْدِيل بالحبل فِي الِابْتِدَاء يكون مَانِعا من الْوُصُول إِلَى مقره من الأَرْض مُبينًا أَن إِزَالَة الْيَد عَنهُ لم يكن كسرا فَأَما بعد مَا وصل إِلَى مقره من الأَرْض تَعْلِيقه بالقنديل يكون رفعا عَن مَحَله
فَتبين بِهَذَا أَن الشَّرْط إِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِنَّهُ يكون رفعا للْحكم عَن مَحَله بِمَنْزِلَة النّسخ وَهُوَ لَا يملك رفع الطَّلَاق وَالْعتاق عَن الْمحل بَعْدَمَا اسْتَقر فِيهِ فَلهَذَا لَا يعْمل الِاسْتِثْنَاء وَالشّرط مَفْصُولًا
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَدِيعَة فَإِنَّهُ يصدق مَوْصُولا وَلَا يصدق إِذا قَالَه مَفْصُولًا لِأَن قَوْله وَدِيعَة بَيَان فِيهِ تَغْيِير أَو تَبْدِيل فَإِن مُقْتَضى قَوْله عَليّ ألف دِرْهَم الْإِخْبَار بِوُجُوب الْألف فِي ذمَّته وَقَوله وَدِيعَة فِيهِ بَيَان أَن الْوَاجِب فِي ذمَّته حفظهَا وإمساكها إِلَى أَن يُؤَدِّيهَا إِلَى صَاحبهَا لَا أصل المَال فإمَّا أَن يكون تبديلا للمحل الَّذِي أخبر بصدر الْكَلَام أَنه الْتَزمهُ لصَاحبه أَو تغييرا لما اقْتَضَاهُ أول الْكَلَام لِأَنَّهُ لَازم عَلَيْهِ للْمقر لَهُ من أصل المَال إِلَى الْحِفْظ فَإِذا كَانَ مَوْصُولا كَانَ بَيَانا صَحِيحا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا كَانَ نسخا فَيكون بِمَنْزِلَة الرُّجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لغيره أقرضتني عشرَة دَرَاهِم أَو اسلفتني أَو أسلمت إِلَيّ أَو أَعْطَيْتنِي إِلَّا أَنِّي لم أَقبض فَإِن قَالَ ذَلِك مَفْصُولًا لم يصدق وَإِن قَالَ مَوْصُولا صدق اسْتِحْسَانًا لِأَن هَذَا بَيَان تَغْيِير فَإِن حَقِيقَة هَذِه الْأَلْفَاظ تَقْتَضِي تَسْلِيم المَال إِلَيْهِ وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِقَبْضِهِ إِلَّا أَنه يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ العقد مجَازًا فقد تسْتَعْمل هَذِه الْأَلْفَاظ للْعقد فَكَانَ قَوْله لم أَقبض تغييرا للْكَلَام عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز فَيصح مَوْصُولا وَلَا يَصح مَفْصُولًا
وَإِذا قَالَ دفعت إِلَيّ ألف دِرْهَم أَو نقدتني إِلَّا أَنِّي لم أَقبض فَكَذَلِك الْجَواب عِنْد مُحَمَّد لِأَن الدّفع والنقد والإعطاء(2/46)
فِي الْمَعْنى سَوَاء فتجعل هَاتَانِ الكلمتان كَقَوْلِه أَعْطَيْتنِي وَيصدق فيهمَا إِذا كَانَ مَوْصُولا لَا إِذا كَانَ مَفْصُولًا بطرِيق أَنه بَيَان تَغْيِير
وَأَبُو يُوسُف قَالَ فيهمَا لَا يصدق مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا لِأَن الدّفع والنقد اسْم للْفِعْل لَا يتَنَاوَل العقد مجَازًا وَلَا حَقِيقَة فَكَانَ قَوْله إِلَّا أَنِّي لم أَقبض رُجُوعا وَالرُّجُوع لَا يعْمل مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا فَأَما الْإِعْطَاء قد سمي بِهِ العقد مجَازًا يُقَال عقد الْهِبَة وَعقد الْعَطِيَّة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا أَنَّهَا زيوف لم يصدق مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يصدق مَوْصُولا لِأَن قَوْله إِلَّا أَنَّهَا زيوف بَيَان تَغْيِير فَإِن مُطلق تَسْمِيَة الْألف فِي البيع ينْصَرف إِلَى الْجِيَاد لِأَنَّهُ هُوَ النَّقْد الْغَالِب وَبِه الْمُعَامَلَة بَين النَّاس وَفِيه احْتِمَال الزُّيُوف بِدُونِ هَذِه الْعَادة فَكَانَ كَلَامه بَيَان تَغْيِير فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا كَمَا فِي قَوْله إِلَّا أَنَّهَا وزن خَمْسَة وكما فِي الْفُصُول الْمُتَقَدّمَة بل أولى فَإِن ذَلِك نوع من الْمجَاز وَهَذَا حَقِيقَة لِأَن إسم الدَّرَاهِم للزيوف حَقِيقَة كَمَا أَنَّهَا للجياد حَقِيقَة
وَأَبُو حنيفَة يَقُول مُقْتَضى عقد الْمُعَاوضَة وجوب المَال بِصفة السَّلامَة والزيافة فِي الدَّرَاهِم عيب لِأَن الزيافة إِنَّمَا تكون بغش فِي الدَّرَاهِم والغش عيب فَكَانَ هَذَا رُجُوعا عَن مُقْتَضى أول كَلَامه وَالرُّجُوع لَا يعْمل مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا وَصَارَ دَعْوَى الْعَيْب فِي الثّمن كدعوى الْعَيْب فِي البيع بِأَن قَالَ بِعْتُك هَذِه الْجَارِيَة معيبا بِعَيْب كَذَا وَقَالَ المُشْتَرِي بل اشْتَرَيْتهَا سليمَة فَإِن البَائِع لَا يصدق سَوَاء قَالَه مَوْصُولا أَو مَفْصُولًا بِخِلَاف قَوْله إِلَّا أَنَّهَا وزن خَمْسَة فَإِن ذَلِك اسْتثِْنَاء لبَعض الْمِقْدَار بِمَنْزِلَة قَوْله إِلَّا مِائَتَيْنِ وَبِخِلَاف قَوْله لفُلَان عَليّ كرّ حِنْطَة من ثمن بيع إِلَّا أَنَّهَا ردية لِأَن الرداءة لَيست بِعَيْب فِي الْحِنْطَة فالعيب مَا يَخْلُو عَنهُ أصل الْفطْرَة والرداءة فِي الْحِنْطَة تكون بِأَصْل الْخلقَة فَكَانَ هَذَا بَيَان النَّوْع لَا بَيَان الْعَيْب فَيصح مَوْصُولا كَانَ أَو مَفْصُولًا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم من ثمن خمر فَإِن عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد هَذَا بَيَان تَغْيِير من حَقِيقَة وجوب المَال إِلَى (بَيَان) مُبَاشرَة سَبَب الِالْتِزَام صُورَة وَهُوَ شِرَاء الْخمر فَيصح مَوْصُولا لَا مَفْصُولًا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا رُجُوع لِأَن(2/47)
أول كَلَامه تنصيص على وجوب المَال فِي ذمَّته وَثمن الْخمر لَا يكون وَاجِبا فِي ذمَّة الْمُسلم بِالشِّرَاءِ فَيكون رُجُوعا
وعَلى هَذَا لَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم من ثمن جَارِيَة باعنيها إِلَّا أَنِّي لم أقبضها فَإِن على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يصدق إِذا كَانَ مَوْصُولا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا يسْأَل الْمقر لَهُ عَن الْجِهَة فَإِن قَالَ الْألف لي عَلَيْهِ بِجِهَة أُخْرَى سوى البيع فَالْقَوْل قَوْله وَالْمَال لَازم على الْمقر وَإِن قَالَ بِجِهَة البيع وَلكنه قبضهَا فَالْقَوْل حِينَئِذٍ قَول الْمقر أَنه لم يقبضهَا لِأَن هَذَا بَيَان تَغْيِير فَإِنَّهُ يتَأَخَّر بِهِ حق الْمقر لَهُ فِي الْمُطَالبَة بِالْألف إِلَى أَن يحضر الْجَارِيَة ليسلمها بِمَنْزِلَة شَرط الْخِيَار أَو الْأَجَل فِي العقد يكون مغير لمقْتَضى مُطلق العقد وَلَا يكون نَاسِخا لأصله فَيصح هَذَا الْبَيَان مِنْهُ مَوْصُولا وَإِذا كَانَ مَفْصُولًا فَإِن صدقه فِي الْجِهَة فقد ثبتَتْ الْجِهَة بتصادقهما عَلَيْهِ ثمَّ لَيْسَ فِي إِقْرَاره بِالشِّرَاءِ وَوُجُوب المَال عَلَيْهِ بِالْعقدِ إِقْرَار بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْمقر لَهُ مُدعيًا عَلَيْهِ ابْتِدَاء تَسْلِيم الْمَبِيع وَهُوَ مُنكر لَيْسَ براجع عَمَّا أقرّ بِهِ فَجعلنَا القَوْل قَول الْمُنكر وَإِذا كذبه فِي الْجِهَة لم تثبت الْجِهَة الَّتِي ادَّعَاهَا وَقد صَحَّ تَصْدِيقه لَهُ فِي وجوب المَال عَلَيْهِ وَبَيَانه الَّذِي قَالَ إِنَّه من ثمن جَارِيَة لم يقبضهَا بَيَان تَغْيِير فَلَا يَصح مَفْصُولًا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا رُجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ لِأَنَّهُ أقرّ بِأول كَلَامه أَن المَال وَاجِب لَهُ دينا فِي ذمَّته وَثمن جَارِيَة لَا يُوقف على أَثَرهَا لَا تكون وَاجِبَة عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْقَبْض فَإِن الْمَبِيعَة قبل التَّسْلِيم إِذا صَارَت بِحَيْثُ لَا يُوقف على عينهَا بِحَال بَطل العقد وَلَا يكون ثمنهَا وَاجِبا
وَقَوله من ثمن جَارِيَة باعنيها وَلَكِنِّي لم أقبضها إِشَارَة إِلَى هَذَا فَإِن الْجَارِيَة الَّتِي هِيَ غير مُعينَة لَا يُوقف على أَثَرهَا وَمَا من جَارِيَة يحضرها البَائِع إِلَّا وَللْمُشْتَرِي أَن يَقُول الْمَبِيعَة غَيرهَا فَعرفنَا أَن آخر كَلَامه رُجُوع عَمَّا أقرّ بِهِ من وجوب المَال دينا فِي ذمَّته وَالرُّجُوع لَا يَصح مَوْصُولا وَلَا مَفْصُولًا
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي كتاب الشّركَة إِذا قَالَ لغيره بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم إِلَّا نصفه فَإِنَّهُ يَجْعَل هَذَا بيعا لنصف العَبْد بِجَمِيعِ الْألف وَلَو قَالَ عَليّ أَن لي نصفه يكون بَائِعا نصف العَبْد بِخَمْسِمِائَة لِأَنَّهُ إِذا قيد كَلَامه بِالِاسْتِثْنَاءِ يصير عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى وَإِنَّمَا أدخلهُ على الْمَبِيع(2/48)
دون الثّمن وَمَا وَرَاء الْمُسْتَثْنى من الْمَبِيع نصف العَبْد فَيصير بَائِعا لذَلِك بِجَمِيعِ الْألف
فَأَما قَوْله على أَن لي نصفه فَهُوَ معَارض بِحكمِهِ لصدر الْكَلَام وَيصير بَائِعا جَمِيع العَبْد من نَفسه وَمن المُشْتَرِي بِالْألف وَبيعه من نَفسه مُعْتَبر إِذا كَانَ مُفِيدا أَلا ترى أَن الْمضَارب يَبِيع مَال الْمُضَاربَة من رب المَال فَيجوز لكَونه مُفِيدا وَإِذا كَانَ كل وَاحِد من الْبَدَلَيْنِ مَمْلُوكا لَهُ فَهُنَا أَيْضا إِيجَابه لنَفسِهِ مُفِيد فِي حق تَقْسِيم الثّمن فَيعْتَبر ويتبين بِهِ أَنه صَار بَائِعا نصفه من المُشْتَرِي بِنصْف الْألف كَمَا لَو بَاعَ مِنْهُ عَبْدَيْنِ بِأَلف دِرْهَم وَأَحَدهمَا مَمْلُوك لَهُ يصير بَائِعا عبد نَفسه مِنْهُ بِحِصَّتِهِ من الثّمن إِذا قسم على قِيمَته وَقِيمَة العَبْد الَّذِي هُوَ ملك المُشْتَرِي
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو يُوسُف فِيمَن أودع صَبيا مَحْجُورا عَلَيْهِ مَالا فاستهلكه إِنَّه يكون ضَامِنا لِأَن تسليطه إِيَّاه على المَال بِإِثْبَات يَده عَلَيْهِ يتنوع نَوْعَيْنِ استحفاظ وَغير استحفاظ فَيكون قَوْله أحفظه بَيَانا مِنْهُ لنَوْع مَا كَانَ من جِهَته وَهُوَ التَّمْكِين وَبَيَانه تصرف مِنْهُ فِي حق نَفسه مَقْصُورا عَلَيْهِ غير متناول لحق الْغَيْر فينعدم مَا سوى الاستحفاظ لِانْعِدَامِ علته وينعدم نُفُوذ الاستحفاظ لِانْعِدَامِ ولَايَته على الْمحل وَكَون الصَّبِي مِمَّن لَا يحفظ وَبعد انعدام النَّوْعَيْنِ يصير كَأَنَّهُ لم يُوجد تَمْكِينه من المَال أصلا فَإِذا اسْتَهْلكهُ كَانَ ضَامِنا كَمَا لَو كَانَ المَال فِي يَد صَاحبه على حَاله فجَاء الصَّبِي واستهلكه
وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَا التسليط فعل مُطلق وَلَيْسَ بعام حَتَّى يُصَار فِيهِ إِلَى التنويع وَقَوله احفظ كَلَام لَيْسَ من جنس الْفِعْل ليشتغل بِتَصْحِيحِهِ بطرِيق الِاسْتِثْنَاء وَلكنه معَارض لِأَن الدّفع إِلَيْهِ تسليط مُطلقًا وَقَوله احفظ معَارض بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص أَو بِمَنْزِلَة مَا قَالَه الْخصم فِي الِاسْتِثْنَاء وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا إِذا صَحَّ مِنْهُ هَذَا القَوْل شرعا كدليل الْخُصُوص إِنَّمَا يكون مُعَارضا إِذا صَحَّ شرعا وَلَا خلاف أَن قَوْله احفظ غير صَحِيح فِي حكم الاستحفاظ شرعا فَيبقى التسليط مُطلقًا فالاستهلاك بعد تسليط من لَهُ الْحق مُطلقًا لَا يكون مُوجبا للضَّمَان على الصَّبِي وَلَا على الْبَالِغ
وَمَا يخرج من الْمسَائِل على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها فَمن فهم مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فَهُوَ يهديه إِلَى مَا سواهَا وَالله أعلم(2/49)
فصل
وَأما بَيَان الضَّرُورَة فَهُوَ نوع من الْبَيَان يحصل بِغَيْر مَا وضع لَهُ فِي الأَصْل
وَهُوَ على أَرْبَعَة أوجه مِنْهُ مَا ينزل منزلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْبَيَان وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بِدلَالَة حَال الْمُتَكَلّم وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بضرورة دفع الْغرُور وَمِنْه مَا يكون بَيَانا بِدلَالَة الْكَلَام
فَأَما الأول فنحو قَوْله {وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} فَإِنَّهُ لما أضَاف الْمِيرَاث إِلَيْهِمَا فِي صدر الْكَلَام ثمَّ بَين نصيب الْأُم كَانَ ذَلِك بَيَانا أَن للْأَب مَا بَقِي فَلَا يحصل هَذَا الْبَيَان بترك التَّنْصِيص على نصيب الْأَب بل بِدلَالَة صدر الْكَلَام يصير نصيب الْأَب كالمنصوص عَلَيْهِ
وعَلى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي الْمُضَاربَة إِذا بَين رب المَال حِصَّة الْمضَارب من الرِّبْح وَلم يبين حِصَّة نَفسه جَازَ العقد قِيَاسا واستحسانا لِأَن الْمضَارب هُوَ الَّذِي يسْتَحق بِالشّرطِ وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى بَيَان نصِيبه خَاصَّة وَقد وجد وَلَو بَين نصيب نَفسه من الرِّبْح وَلم يبين نصيب الْمضَارب جَازَ العقد اسْتِحْسَانًا لِأَن مُقْتَضى الْمُضَاربَة الشّركَة بَينهمَا فِي الرِّبْح فببيان نصيب أَحدهمَا يصير نصيب الآخر مَعْلُوما وَيجْعَل ذَلِك كالمنطوق بِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَلَك مَا بَقِي
وَكَذَلِكَ فِي الْمُزَارعَة إِذا بَين نصيب من الْبذر من قبله وَلم يبين نصيب الآخر جَازَ العقد اسْتِحْسَانًا لهَذَا الْمَعْنى
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ فِي وَصيته أوصيت لفُلَان وَفُلَان بِأَلف دِرْهَم لفُلَان مِنْهَا أَرْبَعمِائَة فَإِن ذَلِك بَيَان أَن للْآخر سِتّمائَة بِمَنْزِلَة مَا لَو نَص عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أوصيت بِثلث مَالِي لزيد وَعَمْرو لزيد من ذَلِك ألف دِرْهَم فَإِنَّهُ يَجْعَل هَذَا بَيَانا مِنْهُ أَن مَا يبْقى من الثُّلُث لعَمْرو كَمَا لَو نَص عَلَيْهِ
وَأما النَّوْع الثَّانِي فنحو سكُوت صَاحب الشَّرْع عَن مُعَاينَة شَيْء عَن تَغْيِيره يكون بَيَانا مِنْهُ لحقيته بِاعْتِبَار حَاله فَإِن الْبَيَان وَاجِب عِنْد الْحَاجة إِلَى الْبَيَان فَلَو كَانَ الحكم بِخِلَافِهِ لبين ذَلِك لَا محَالة وَلَو بَينه لظهر وَكَذَلِكَ سكُوت الصَّحَابَة عَن بَيَان قيمَة الْخدمَة للْمُسْتَحقّ على الْمَغْرُور يكون دَلِيلا على نَفْيه بِدلَالَة حَالهم(2/50)
لِأَن الْمُسْتَحق جَاءَ يطْلب حكم الْحَادِثَة وَهُوَ جَاهِل بِمَا هُوَ وَاجِب لَهُ وَكَانَت هَذِه أول حَادِثَة وَقعت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا لم يسمعوا فِيهِ نصا عَنهُ فَكَانَ يجب عَلَيْهِم الْبَيَان بِصفة الْكَمَال وَالسُّكُوت بعد وجوب الْبَيَان دَلِيل النَّفْي
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا ولدت أمة الرجل ثَلَاثَة أَوْلَاد فِي بطُون مُخْتَلفَة فَقَالَ الْأَكْبَر ابْني فَإِنَّهُ يكون ذَلِك بَيَانا مِنْهُ أَن الآخرين ليسَا بولدين لَهُ لِأَن نفي نسب ولد لَيْسَ مِنْهُ وَاجِب وَدَعوى نسب ولد هُوَ مِنْهُ ليتأكد بِهِ على وَجه لَا يَنْتَفِي وَاجِب أَيْضا فالسكوت عَن الْبَيَان بعد تحقق الْوُجُوب دَلِيل النَّفْي فَيجْعَل ذَلِك كالتصريح بِالنَّفْيِ
وعَلى هَذَا قُلْنَا الْبكر إِذا بلغَهَا نِكَاح الْوَلِيّ فَسَكَتَتْ يَجْعَل ذَلِك إجَازَة مِنْهَا بِاعْتِبَار حَالهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحي فَيجْعَل سكُوتهَا دَلِيلا على جَوَاب يحول الْحيَاء بَينهَا وَبَين التَّكَلُّم بِهِ وَهُوَ الْإِجَازَة الَّتِي يكون فِيهَا إِظْهَار الرَّغْبَة فِي الرِّجَال فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَسْتَحي من ذَلِك
وَأما النَّوْع الثَّالِث فنحو سكُوت الْمولى عَن النَّهْي عِنْد رُؤْيَة العَبْد يَبِيع وَيَشْتَرِي فَإِنَّهُ يَجْعَل إِذْنا لَهُ فِي التِّجَارَة لضَرُورَة دفع الْغرُور عَمَّن يُعَامل العَبْد فَإِن فِي هَذَا الْغرُور إِضْرَارًا بهم وَالضَّرَر مَدْفُوع وَلِهَذَا لم يَصح الْحجر الْخَاص بعد الْإِذْن الْعَام الْمُنْتَشِر وَالنَّاس لَا يتمكنون من استطلاع رَأْي الْمولى فِي كل مُعَاملَة يعاملونه مَعَ العَبْد وَإِنَّمَا يتمكنون من التَّصَرُّف بمرأى الْعين مِنْهُ ويستدلون بسكوته على رِضَاهُ فَجعلنَا سُكُوته كالتصريح بِالْإِذْنِ لضَرُورَة دفع الْغرُور
وَكَذَلِكَ سكُوت الشَّفِيع عَن طلب الشُّفْعَة بعد الْعلم بِالْبيعِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة إِسْقَاط الشُّفْعَة لضَرُورَة دفع الْغرُور عَن المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى التَّصَرُّف فِي المُشْتَرِي فَإِذا لم يَجْعَل سكُوت الشَّفِيع عَن طلب الشُّفْعَة إِسْقَاطًا للشفعة فإمَّا أَن يمْتَنع المُشْتَرِي من التَّصَرُّف أَو ينْقض الشَّفِيع عَلَيْهِ تصرفه فلدفع الضَّرَر والغرور جعلنَا ذَلِك كالتنصيص مِنْهُ على إِسْقَاط الشُّفْعَة وَإِن كَانَ السُّكُوت فِي أَصله غير مَوْضُوع للْبَيَان بل هُوَ ضِدّه
وَكَذَلِكَ نُكُول الْمُدعى عَلَيْهِ عَن الْيَمين يَجْعَل بِمَنْزِلَة الْإِقْرَار مِنْهُ إِمَّا لدفع الضَّرَر عَن الْمُدَّعِي فَيكون من النَّوْع الثَّالِث أَو لحَال الناكل وَهُوَ امْتِنَاعه من الْيَمين الْمُسْتَحقَّة عَلَيْهِ بعد تمكنه من إيفائه(2/51)
وَأما النَّوْع الرَّابِع فبيانه فِيمَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة وَدِرْهَم أَو مائَة ودينار فَإِن ذَلِك بَيَان للمائة أَنَّهَا من جنس الْمَعْطُوف عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يلْزمه الْمَعْطُوف وَالْقَوْل فِي بَيَان جنس الْمِائَة قَوْله وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مائَة وقفيز حِنْطَة أَو ذكر مَكِيلًا أَو مَوْزُونا آخر
وَاحْتج فَقَالَ إِنَّه أقرّ بِمِائَة مُجملا ثمَّ عطف مَا هُوَ مُفَسّر فَيلْزمهُ الْمُفَسّر وَيرجع إِلَيْهِ فِي بَيَان الْمُجْمل كَمَا لَو قَالَ مائَة وثوب أَو مائَة وشَاة أَو مائَة وَعبد وَهَذَا لِأَن الْمَعْطُوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فَلَا يكون الْعَطف تَفْسِيرا للمعطوف عَلَيْهِ بِعَيْنِه وَكَيف يكون تَفْسِيرا وَهُوَ فِي نَفسه مقرّ بِهِ لَازم إِيَّاه وَلَو كَانَ تَفْسِيرا لَهُ لم يجب بِهِ شَيْء لِأَن الْوُجُوب بالْكلَام الْمُفَسّر لَا بالتفسير
وَلَكنَّا نقُول قَوْله وَدِرْهَم بَيَان للمائة عَادَة وَدلَالَة
أما من حَيْثُ الْعَادة فَلِأَن النَّاس اعتادوا حذف مَا هُوَ تَفْسِير عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي الْعدَد إِذا كَانَ الْمَعْطُوف مُفَسرًا بِنَفسِهِ كَمَا اعتادوا حذف التَّفْسِير عَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والاكتفاء بِذكر التَّفْسِير للمعطوف فَإِنَّهُم يَقُولُونَ مائَة وَعشرَة دَرَاهِم على أَن يكون الْكل من الدَّرَاهِم وَإِنَّمَا اعتادوا ذَلِك لضَرُورَة طول الْكَلَام وَكَثْرَة الْعدَد والإيجاز عِنْد ذَلِك طَرِيق مَعْلُوم عَادَة وَإِنَّمَا اعتادوا هَذَا فِيمَا يثبت فِي الذِّمَّة فِي عَامَّة الْمُعَامَلَات كالمكيل وَالْمَوْزُون دون مَا لَا يثبت فِي الذِّمَّة إِلَّا فِي مُعَاملَة خَاصَّة كالثياب فَإِنَّهَا لَا تثبت فِي الذِّمَّة قرضا وَلَا بيعا مُطلقًا وَإِنَّمَا يثبت فِي السّلم أَو فِيمَا هُوَ فِي معنى السّلم كَالْبيع بالثياب الموصوفة مُؤَجّلا
وَأما من حَيْثُ الدّلَالَة فَلِأَن الْمَعْطُوف مَعَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كشيء وَاحِد من حَيْثُ الحكم وَالْإِعْرَاب بِمَنْزِلَة الْمُضَاف مَعَ الْمُضَاف إِلَيْهِ ثمَّ الْإِضَافَة للتعريف حَتَّى يصير الْمُضَاف مُعَرفا بالمضاف إِلَيْهِ فَكَذَلِك الْعَطف مَتى كَانَ صَالحا للتعريف يصير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُعَرفا بالمعطوف بِاعْتِبَار أَنَّهُمَا كشيء وَاحِد وَلَكِن هَذَا فِيمَا يجوز أَن يثبت فِي الذِّمَّة عِنْد مُبَاشرَة السَّبَب بِذكر الْمَعْطُوف بالمعطوف عَلَيْهِ كالمكيل وَالْمَوْزُون
فَأَما مَا لَيْسَ بمقدر لَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة بِذكر الْمَعْطُوف (والمعطوف) عَلَيْهِ مَعَ إِلْحَاق التَّفْسِير بالمعطوف عَلَيْهِ وَلَكِن يحْتَاج إِلَى ذكر شَرَائِط أخر فَلهَذَا لم نجْعَل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُفَسرًا بالمعطوف هُنَاكَ(2/52)
وَاتَّفَقُوا أَنه لَو قَالَ لفُلَان عَليّ مائَة وَثَلَاثَة دَرَاهِم أَنه تلْزمهُ الْكل من الدَّرَاهِم
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ مائَة وَثَلَاثَة أَثوَاب أَو ثَلَاثَة أَفْرَاس أَو ثَلَاثَة أعبد لِأَنَّهُ عطف إِحْدَى الجملتين على الْأُخْرَى ثمَّ عقبهما بتفسير والعطف للاشتراك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فالتفسير الْمَذْكُور يكون تَفْسِيرا لَهما
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَهُ عَليّ أحد وَعِشْرُونَ درهما فَالْكل دَرَاهِم لِأَنَّهُ عطف الْعدَد الْمُبْهم على مَا هُوَ وَاحِد مَذْكُور على وَجه الْإِبْهَام وَقَوله درهما مَذْكُور على وَجه التَّفْسِير فَيكون تَفْسِيرا لَهما وَالِاخْتِلَاف فِي قَوْله لَهُ مائَة ودرهمان كالاختلاف فِي قَوْله وَدِرْهَم
وَقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ لَهُ عَليّ مائَة وثوب أَو مائَة وشَاة فالمعطوف يكون تَفْسِيرا للمعطوف عَلَيْهِ بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ مائَة وَعبد لِأَن فِي قَوْله مائَة وَدِرْهَم إِنَّمَا جَعَلْنَاهُ تَفْسِيرا بِاعْتِبَار أَن الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ كشيء وَاحِد وَهَذَا يتَحَقَّق فِي كل مَا يحْتَمل الْقِسْمَة فَإِن معنى الِاتِّحَاد بالْعَطْف فِي مثله يتَحَقَّق فَأَما مَا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة مُطلقًا كَالْعَبْدِ لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الِاتِّحَاد بِسَبَب الْعَطف فَلَا يصير الْمُجْمل بالمعطوف فِيهِ مُفَسرًا وَالله أعلم
بَاب النّسخ جَوَازًا وتفسيرا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن النَّاس تكلمُوا فِي معنى النّسخ لُغَة فَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن النَّقْل من قَول الْقَائِل نسخت الْكتاب إِذا نَقله من مَوضِع إِلَى مَوضِع
وَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن الْإِبْطَال من قَوْلهم نسخت الشَّمْس الظل أَي أبطلته
وَقَالَ بَعضهم هُوَ عبارَة عَن الْإِزَالَة من قَوْلهم نسخت الرِّيَاح الْآثَار أَي أزالتها
وكل ذَلِك مجَاز لَا حَقِيقَة فَإِن حَقِيقَة النَّقْل أَن تحول عين الشَّيْء من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر وَنسخ الْكتاب لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة إِذْ لَا يتَصَوَّر نقل عين الْمَكْتُوب من مَوضِع إِلَى مَوضِع آخر وَإِنَّمَا يتَصَوَّر إِثْبَات مثله فِي الْمحل الآخر
وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْكَام فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر نقل الحكم الَّذِي هُوَ مَنْسُوخ إِلَى ناسخه وَإِنَّمَا المُرَاد إِثْبَات مثله مَشْرُوعا فِي الْمُسْتَقْبل أَو نقل المتعبد من الحكم الأول إِلَى الحكم الثَّانِي
وَكَذَلِكَ معنى الْإِزَالَة فَإِن إِزَالَة الْحجر عَن مَكَانَهُ لَا يعْدم عينه وَلَكِن عينه بَاقٍ فِي الْمَكَان الثَّانِي وَبعد النّسخ لَا يبْقى الحكم الأول وَلَو كَانَ حَقِيقَة النّسخ الْإِزَالَة لَكَانَ يُطلق هَذَا(2/53)
الِاسْم على كل مَا تُوجد فِيهِ الْإِزَالَة وَأحد لَا يَقُول بذلك
وَكَذَلِكَ لفظ الْإِبْطَال فَإِن بِالنَّصِّ لَا تبطل الْآيَة وَكَيف تكون حَقِيقَة النّسخ الْإِبْطَال وَقد أطلق الله تَعَالَى ذَلِك فِي الْإِثْبَات بقوله تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فَعرفنَا أَن الِاسْم شَرْعِي عَرفْنَاهُ بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وأوجه مَا قيل فِيهِ إِنَّه عبارَة عَن التبديل من قَول الْقَائِل نسخت الرسوم أَي بدلت برسوم أخر
وَقد استبعد هَذَا الْمَعْنى بعض من صنف فِي هَذَا الْبَاب من مَشَايِخنَا وَقَالَ فِي إِطْلَاق لفظ التبديل إِشَارَة إِلَى أَنه رفع الحكم الْمَنْسُوخ وَإِقَامَة النَّاسِخ مقَامه وَفِي ذَلِك إِيهَام البداء وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدِي أَن هَذَا سَهْو مِنْهُ وَعبارَة التبديل مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْقُرْآن قَالَ تَعَالَى {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} وَإِذا كَانَ اسْم النّسخ شَرْعِيًّا مَعْلُوما بِالنَّصِّ فَجعله عبارَة عَمَّا يكون مَعْلُوما بِالنَّصِّ أَيْضا يكون أولى الْوُجُوه
ثمَّ هُوَ فِي حق الشَّارِع بَيَان مَحْض فَإِن الله تَعَالَى عَالم بحقائق الْأُمُور لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة ثمَّ إِطْلَاق الْأَمر بِشَيْء يوهمنا بَقَاء ذَلِك على التَّأْبِيد من غير أَن نقطع القَوْل بِهِ فِي زمن من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فَكَانَ النّسخ بَيَانا لمُدَّة الحكم الْمَنْسُوخ فِي حق الشَّارِع وتبديلا لذَلِك الحكم بِحكم آخر فِي حَقنا على مَا كَانَ مَعْلُوما عندنَا لَو لم ينزل النَّاسِخ بِمَنْزِلَة الْقَتْل فَإِنَّهُ انْتِهَاء الْأَجَل فِي حق من هُوَ عَالم بعواقب الْأُمُور
لِأَن الْمَقْتُول ميت بأجله بِلَا شُبْهَة وَلَكِن فِي حق الْقَاتِل جعل فعله جِنَايَة على معنى أَنه يعْتَبر فِي حَقه حَتَّى يسْتَوْجب بِهِ الْقصاص وَإِن كَانَ ذَلِك موتا بالأجل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} وَمن فهم معنى التبديل بِهَذِهِ الصّفة عرف أَنه لَيْسَ فِيهِ من إِيهَام البداء شَيْء
ثمَّ الْمَذْهَب عِنْد الْمُسلمين أَن النّسخ جَائِز فِي الْأَمر وَالنَّهْي الَّذِي يجوز أَن يكون ثَابتا وَيجوز أَن لَا يكون على مَا نبينه فِي فصل مَحل النّسخ وعَلى قَول الْيَهُود النّسخ لَا يجوز أصلا
وهم فِي ذَلِك فريقان فريق مِنْهُم يَأْبَى النّسخ عقلا وفريق يَأْبَى جَوَازه سمعا وتوقيفا
وَقد قَالَ بعض من لَا يعْتد بقوله من الْمُسلمين إِنَّه لَا يجوز النّسخ أَيْضا وَرُبمَا قَالُوا لم يرد النّسخ فِي شَيْء أصلا
وَلَا وَجه لِلْقَوْلِ الأول إِذا كَانَ الْقَائِل مِمَّن يعْتَقد الْإِسْلَام فَإِن شَرِيعَة هَذَا القَوْل مِنْهُ مَعَ اعْتِقَاده لهَذِهِ الشَّرِيعَة
وَالثَّانِي بَاطِل نصا فَإِن قَوْله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناسخة لما قبلهَا(2/54)
من الشَّرَائِع فَكيف يتَحَقَّق {بِخَير مِنْهَا} وَقَوله {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} نَص قَاطع على جَوَاز النّسخ وانتساخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بفرضية التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة أَمر ظَاهر لَا يُنكره عَاقل فَقَوْل من يَقُول لم يُوجد بَاطِل من هَذَا الْوَجْه
فَأَما من قَالَ من الْيَهُود إِنَّه لَا يجوز بطرِيق التَّوْقِيف اسْتدلَّ بِمَا يرْوى عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ تمسكوا بالسبت مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَزَعَمُوا أَن هَذَا مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة عِنْدهم وَقَالُوا قد ثَبت عندنَا بِالطَّرِيقِ الْمُوجب للْعلم وَهُوَ خبر التَّوَاتُر عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن شريعتي لَا تنسخ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنْتُم أَن ذَلِك ثَبت عنْدكُمْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَمَّن تَزْعُمُونَ أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَبِهَذَا الطَّرِيق طعنوا فِي رِسَالَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالُوا من أجل الْعَمَل فِي السبت لَا يجوز تَصْدِيقه وَلَا يجوز أَن يَأْتِي بمعجزة تدل على صدقه
وَمن أنكر مِنْهُم ذَلِك عقلا قَالَ الْأَمر بالشَّيْء دَلِيل على حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالنَّهْي عَن الشَّيْء دَلِيل على قبح الْمنْهِي عَنهُ وَالشَّيْء الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون حسنا وقبيحا فَالْقَوْل بِجَوَاز النّسخ قَول بِجَوَاز البداء وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَصَوَّر مِمَّن يجهل عواقب الْأُمُور وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك يُوضحهُ أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي التَّأْبِيد فِي الحكم وَكَذَلِكَ مُطلق النَّهْي وَلِهَذَا حسن منا اعْتِقَاد التَّأْبِيد فِيهِ فَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بالتأبيد وَلَو ورد نَص بِأَن الْعَمَل فِي السبت حرَام عَلَيْكُم أبدا لم يجز نسخه بعد ذَلِك بِحَال فَكَذَلِك إِذا ثَبت التَّأْبِيد بِمُقْتَضى مُطلق الْأَمر إِذْ لَو كَانَ ذَلِك موقتا كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ تَمام الْبَيَان فِيهِ بالتنصيص على التَّوْقِيت فَمَا كَانَ يحسن إِطْلَاقه عَن ذكر التَّوْقِيت وَفِي ذَلِك إِيهَام الْخلَل فِيمَا بَينه الله تَعَالَى فَلَا يجوز القَوْل بِهِ أصلا
وَحجَّتنَا فِيهِ من طَرِيق التَّوْقِيف اتِّفَاق الْكل على أَن جَوَاز النِّكَاح بَين الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات قد كَانَ فِي شَرِيعَة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبِه حصل الْمَرْء قد كَانَ فِي شَرِيعَته فَإِن حَوَّاء رَضِي الله عَنْهَا خلقت مِنْهُ وَكَانَ يسْتَمْتع بهَا ثمَّ انتسخ ذَلِك الحكم حَتَّى لَا يجوز لأحد أَن يسْتَمْتع بِمن هُوَ بعض مِنْهُ بِالنِّكَاحِ نَحْو ابْنَته وَلِأَن الْيَهُود مقرون بِأَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام حرم شَيْئا من المطعومات على نَفسه وَأَن ذَلِك صَار حَرَامًا عَلَيْهِم كَمَا أخبرنَا الله تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا} مَا التناسل(2/55)
وَقد انتسخ ذَلِك بعده وَكَذَلِكَ جَوَاز الِاسْتِمْتَاع بِمن هُوَ بعض من {حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} الْآيَة والنسخ لَيْسَ إِلَّا تَحْرِيم الْمُبَاح أَو إِبَاحَة الْحَرَام وَكَذَلِكَ الْعَمَل فِي السبت كَانَ مُبَاحا قبل زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُم يوافقوننا على أَن حُرْمَة الْعَمَل فِي السبت من شَرِيعَة مُوسَى وَإِنَّمَا يكون من شَرِيعَته إِذا كَانَ ثُبُوته بنزول الْوَحْي عَلَيْهِ فَأَما إِذا كَانَ ذَلِك قبل شَرِيعَته على هَذَا الْوَجْه أَيْضا فَلَا فَائِدَة فِي تَخْصِيصه أَنه شَرِيعَته فَإِذا جَازَ ثُبُوت الْحُرْمَة فِي شَرِيعَته بعد مَا كَانَ مُبَاحا جَازَ ثُبُوت الْحل فِي شَرِيعَة نَبِي آخر قَامَت الدّلَالَة على صِحَة نبوته
وَمن حَيْثُ الْمَعْقُول الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن النّسخ فِي المشروعات الَّتِي يجوز أَن تكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا تكون وَمَعْلُوم أَن هَذِه المشروعات شرعها الله تَعَالَى على سَبِيل الِابْتِلَاء لِعِبَادِهِ حَتَّى يُمَيّز الْمُطِيع من العَاصِي
وَمعنى الِابْتِلَاء يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس وباختلاف الْأَوْقَات فَإِن فِي هَذَا الِابْتِلَاء حِكْمَة بَالِغَة وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا مَنْفَعَة للعباد فِي ذَلِك عَاجلا أَو آجلا لِأَن الله تَعَالَى يتعالى عَن أَن يلْحقهُ المضار وَالْمَنَافِع وَمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ أصلا يكون عَبَثا ضدا للحكمة ثمَّ قد تكون الْمَنْفَعَة فِي إِثْبَات شَيْء فِي وَقت وَفِي نَفْيه فِي وَقت آخر كإيجاب الصَّوْم فِي النَّهَار إِلَى غرُوب الشَّمْس أَو طُلُوع النُّجُوم كَمَا هُوَ مَذْهَبهم وَنفي الصَّوْم بعد ذَلِك وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس كوجوب اعتزال الْمَرْأَة فِي حَالَة الْحيض وَانْتِفَاء ذَلِك بَعْدَمَا طهرت أَلا ترى أَنه لَو نَص على ذكر الْوَقْت فِيهِ بِأَن قَالَ حرمت عَلَيْكُم الْعَمَل فِي السبت ألف سنة ثمَّ هُوَ مُبَاح بعد ذَلِك كَانَ مُسْتَقِيمًا وَكَانَ معنى الِابْتِلَاء فِيهِ متحققا وَلم يكن فِيهِ من معنى البداء شَيْء فَكَذَلِك عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ فِي التَّحْرِيم
حِين شَرعه لَا يكون فِيهِ من معنى البداء شَيْء بل يكون امتحانا للمخاطبين فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ بِمَنْزِلَة تَبْدِيل الصِّحَّة بِالْمرضِ وَالْمَرَض بِالصِّحَّةِ وتبديل الْغنى بالفقر والفقر بالغنى فَإِن ذَلِك ابتلاء بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِيمَا أنزلهُ على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه} وَالثَّانِي أَن ثمَّ النّسخ بعد ذَلِك إِذا انْتَهَت مُدَّة التَّحْرِيم الَّذِي كَانَ مَعْلُوما عِنْد(2/56)
الشَّارِع النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَذَلِكَ غيب عَنَّا لَو بَينه لنا فِي وَقت الْأَمر كَانَ حسنا لَا يشوبه من معنى الْقبْح شَيْء فَكَذَلِك إِذا بَينه بعد ذَلِك بالنسخ
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النّسخ إِنَّمَا يكون فِيمَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَمَعَ الشَّرْع مُطلقًا يحْتَمل أَن يكون موقتا وَيحْتَمل أَن يكون مُؤَبَّدًا احْتِمَالا على السوَاء لِأَن الْأَمر يَقْتَضِي كَونه مَشْرُوعا من غير أَن يكون مُوجبا بَقَاءَهُ مَشْرُوعا وَإِنَّمَا الْبَقَاء بعد الثُّبُوت بِدَلِيل آخر سبق أَو بِعَدَمِ الدَّلِيل المزيل فَأَما أَن يكون ذَلِك وَاجِبا بِالْأَمر فَلَا لِأَن إحْيَاء الشَّرِيعَة بِالْأَمر بِهِ كإحياء الشَّخْص وَذَلِكَ لَا يُوجب بَقَاءَهُ وَإِنَّمَا يُوجب وجوده ثمَّ الْبَقَاء بعد ذَلِك بإبقاء الله تَعَالَى إِيَّاه أَو بانعدام سَبَب الفناء فَكَمَا أَن الإماتة بعد الْإِحْيَاء لَا يكون فِيهِ شَيْء من معنى الْقبْح وَلَا يكون دَلِيل البداء وَالْجهل بعواقب الْأُمُور بل يكون ذَلِك بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الْحَيَاة الَّذِي كَانَ مَعْلُوما عِنْد الْخَالِق حِين خلقه وَإِن كَانَ ذَلِك غيبا عَنَّا فَكَذَلِك النّسخ فِي حكم الشَّرْع
فَإِن قيل فعلى هَذَا بَقَاء الحكم قبل أَن يظْهر ناسخه لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ لِأَنَّهُ مَا لم يكن هُنَاكَ دَلِيل مُوجب لَهُ لَا يكون مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا دَلِيل سوى الْأَمر بِهِ
قُلْنَا أما فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك نقُول بَقَاءَهُ بعد الْأَمر إِنَّمَا يكون باستصحاب الْحَال لجَوَاز نزُول الْوَحْي بِمَا ينسخه وَيبين بِهِ مُدَّة بَقَائِهِ إِلَّا أَن الْوَاجِب علينا التَّمَسُّك بِمَا ظهر عندنَا لَا بِمَا هُوَ غيب عَنَّا فَمَا لم تظهر لنا مُدَّة الْبَقَاء بنزول النَّاسِخ يلْزمنَا الْعَمَل بِهِ وَكَذَلِكَ بعد نزُول النَّاسِخ قبل أَن يعلم الْمُخَاطب بِهِ
وَهُوَ نَظِير حَيَاة الْمَفْقُود بَعْدَمَا غَابَ عَنَّا فَإِنَّهُ يكون ثَابتا باستصحاب الْحَال لَا بِدَلِيل مُوجب لبَقَائه حَيا وَلَكنَّا نجعله فِي حكم الْأَحْيَاء بِنَاء على مَا ظهر لنا حَتَّى يتَبَيَّن انْتِهَاء مُدَّة حَيَاته بِظُهُور مَوته فَأَما بعد وَفَاة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام(2/57)
فَلم يبْق احْتِمَال النّسخ وَصَارَ الْبَقَاء ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ أَن النّسخ لَا يكون إِلَّا على لِسَان من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَلَا توهم لذَلِك بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِن قيل فعلى هَذَا لَا يكون النّسخ فِي أصل الْأَمر لِأَن الحكم الثَّابِت بِالْأَمر غير الْأَمر فببيان مدَّته لَا يثبت تَبْدِيل الْأَمر بِالنَّهْي
قُلْنَا وَهَكَذَا نقُول فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النّسخ تعرض لِلْأَمْرِ بِوَجْه من الْوُجُوه بل للْحكم الثَّابِت بِهِ ظَاهرا بِنَاء على مَا هُوَ مَعْلُوم لنا فَإِنَّهُ كَانَ يجوز الْبَقَاء بعد هَذِه الْمدَّة بِاعْتِبَار الْإِطْلَاق الَّذِي كَانَ عندنَا
فَأَما فِي حق الشَّارِع فَهُوَ بَيَان مُدَّة الحكم كَمَا كَانَ مَعْلُوما لَهُ حَقِيقَة وَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ توهم التَّعَرُّض لِلْأَمْرِ وَلَا لحكمه كالإماتة بعد الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ بَيَان الْمدَّة من غير أَن يكون فِيهِ تعرض لأصل الْإِحْيَاء وَلَا لما يبتنى عَلَيْهِ من مُدَّة الْبَقَاء فاعتبار مَا هُوَ ظَاهر لنا يكون فِيهِ تَبْدِيل صفة الْحَيَاة بِصفة الْوَفَاة وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْمُنَافَاة بَين الْقبْح وَالْحسن فِي مَحل وَاحِد فِي وَقت وَاحِد فَأَما فِي وَقْتَيْنِ ومحلين فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك أَلا ترى أَنه لَا يتَوَجَّه الْخطاب على من لَا يعقل من صبي أَو مَجْنُون ثمَّ يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بَعْدَمَا عقل وَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا حسنا لاخْتِلَاف الْوَقْت أَو لاخْتِلَاف الْمحل
وَهَذَا لِأَن أحوالنا تتبدل فَيكون النّسخ تبديلا بِنَاء على مَا يتبدل من أحوالنا من الْعلم مُدَّة الْبَقَاء وَالْجهل بِهِ لَا يكون مُؤديا إِلَى الْجمع بَين صفة الْقبْح وَالْحسن وَالله يتعالى عَن ذَلِك فَكَانَ فِي حَقه بَيَانا مَحْضا لمُدَّة بَقَاء الْمَشْرُوع بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ حِين شَرعه
وَمَا استدلوا بِهِ من السّمع لَا يكَاد يَصح عندنَا بَعْدَمَا ثَبت رِسَالَة رسل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِالْآيَاتِ المعجزة والدلائل القاطعة
ودعواهم أَن ذَلِك فِي التَّوْرَاة غير مسموعة مِنْهُم لِأَنَّهُ ثَبت عندنَا على لِسَان من ثبتَتْ رسَالَته أَنهم حرفوا التَّوْرَاة وَزَادُوا فِيهَا ونقصوا وَلِأَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي التَّوْرَاة بَعْدَمَا فعل بخْتنصر ببني إِسْرَائِيل مَا فعل من الْقَتْل الذريع وإحراق أسفار التَّوْرَاة
وَفِي الْمَسْأَلَة كَلَام كثير بَين أهل الْأُصُول وَلَكنَّا اقتصرنا هُنَا على قدر مَا يتَّصل بأصول الْفِقْه وَالْمَقْصُود من بَيَان هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من أصُول الْفِقْه وَالله الْمُوفق للإتمام(2/58)
فصل فِي بَيَان مَحل النّسخ
قد بَينا أَن جَوَاز النّسخ مُخْتَصّ بِمَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَهُوَ مِمَّا يحْتَمل التَّوْقِيت نصا مَعَ كَونه مَشْرُوعا لِأَنَّهُ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَبعد انْتِهَاء الْمدَّة لَا يبْقى مَشْرُوعا فَلَا بُد من أَن يكون فِيهِ احْتِمَال الوصفين
وَبِهَذَا الْبَيَان يظْهر أَنه إِذا كَانَ موقتا فَلَا بُد من أَن يكون مُحْتملا للتوقيت نصا وَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَيْسَ فِي أصل التَّوْحِيد احْتِمَال النّسخ بِوَجْه من الْوُجُوه لِأَن الله تَعَالَى بأسمائه وَصِفَاته لم يزل كَانَ وَلَا يزَال يكون وَمن صِفَاته أَنه صَادِق حَكِيم عَالم بحقائق الْأُمُور فَلَا احْتِمَال للنسخ فِي هَذَا بِوَجْه من الْوُجُوه أَلا ترى أَن الْأَمر بِالْإِيمَان بِاللَّه وَكتبه وَرُسُله لَا يحْتَمل التَّوْقِيت بِالنَّصِّ وَأَنه لَا يجوز أَن يكون غير مَشْرُوع بِحَال من الْأَحْوَال
وعَلى هَذَا قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء لَا نسخ فِي الْأَخْبَار أَيْضا يعنون فِي مَعَاني الْأَخْبَار واعتقاد كَون الْمخبر بِهِ على مَا أخبر بِهِ الصَّادِق الْحَكِيم بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض أهل الزيغ من احْتِمَال النّسخ فِي الْأَخْبَار الَّتِي تكون فِي الْمُسْتَقْبل لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} وَلَكنَّا نقُول الْأَخْبَار ثَلَاثَة خبر عَن وجود مَا هُوَ مَاض وَذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَال التَّوْقِيت وَلَا احْتِمَال أَن لَا يكون مَوْجُودا وَخبر عَمَّا هُوَ مَوْجُود فِي الْحَال وَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَال أَيْضا وَخبر عَمَّا هُوَ كَائِن فِي الْمُسْتَقْبل نَحْو الْإِخْبَار بِقِيَام السَّاعَة وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَال مَا بَينا من التَّرَدُّد فتجويز النّسخ فِي شَيْء من ذَلِك يكون قولا بتجويز الْكَذِب والغلط على الْمخبر بِهِ أَلا ترى أَنه لَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال اعتقدوا الصدْق فِي هَذَا الْخَبَر إِلَى وَقت كَذَا ثمَّ اعتقدوا فِيهِ الْكَذِب بعد ذَلِك
وَالْقَوْل بِجَوَاز النّسخ فِي مَعَاني الْأَخْبَار يُؤَدِّي إِلَى هَذَا لَا محَالة وَهُوَ البداء وَالْجهل الَّذِي تدعيه الْيَهُود فِي أصل النّسخ
فَأَما قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فقد فسره الْحسن رَضِي الله عَنهُ بِالْإِحْيَاءِ والإماتة
وَفَسرهُ زيد بن أسلم رَضِي الله عَنهُ قَالَ {يمحو الله مَا يَشَاء} مِمَّا أنزلهُ من الْوَحْي {وَيثبت} بإنزال الْوَحْي فِيهِ
فعلى هَذَا يتَبَيَّن أَن المُرَاد مَا يجوز أَن يكون مؤقتا أَو أَن المُرَاد التِّلَاوَة وَنحن نجوز ذَلِك فِي الْأَخْبَار أَيْضا بِأَن تتْرك التِّلَاوَة فِيهِ حَتَّى يندرس وينعدم حفظه من قُلُوب الْعباد كَمَا فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَإِنَّمَا(2/59)
لَا يجوز ذَلِك فِي مَعَاني الْأَخْبَار على مَا قَررنَا
وَإِنَّمَا مَحل النّسخ الْأَحْكَام الْمَشْرُوعَة بِالْأَمر وَالنَّهْي مِمَّا يجوز أَن لَا يكون مَشْرُوعا وَيجوز أَن يكون مَشْرُوعا موقتا
وَذَلِكَ يَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام قسم مِنْهُ مَا هُوَ مؤبد بِالنَّصِّ وَقسم مِنْهُ مَا يثبت التَّأْبِيد فِيهِ بِدلَالَة النَّص وَقسم مِنْهُ مَا هُوَ موقت بِالنَّصِّ
فَهَذِهِ الْأَقْسَام الثَّلَاثَة لَيْسَ فِيهَا احْتِمَال النّسخ أَيْضا وَإِنَّمَا احْتِمَال النّسخ فِي الْقسم الرَّابِع وَهُوَ الْمُطلق الَّذِي يحْتَمل أَن يكون موقتا وَيحْتَمل أَن يكون مُؤَبَّدًا احْتِمَالا على السوَاء
فَأَما بَيَان الْقسم الأول فِي قَوْله تَعَالَى {وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} فَفِيهِ تنصيص على التَّأْبِيد وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {خَالِدين فِيهَا أبدا} لِأَن بعد التَّنْصِيص على التَّأْبِيد بَيَان التَّوْقِيت فِيهِ بالنسخ لَا يكون إِلَّا على وَجه البداء وَظُهُور الْغَلَط وَالله تَعَالَى يتعالى عَن ذَلِك
وَمَا ثَبت التَّأْبِيد فِيهِ بِدلَالَة النَّص فبيانه فِي الشَّرَائِع بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَقرًّا عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا احْتِمَال النّسخ لِأَن النّسخ لَا يكون إِلَّا على لِسَان من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَقد ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَن رَسُول الله خَاتم النَّبِيين وَأَنه لَا نسخ لشريعته فَلَا يبْقى احْتِمَال النّسخ بعد هَذِه الدّلَالَة فِيمَا كَانَ شَرِيعَة لَهُ حِين قبض
وَنَظِيره من الْمَخْلُوقَات الدَّار الْآخِرَة فقد ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ أَنه لَا فنَاء لَهَا
وَأما الْقسم الثَّالِث فبيانه فِي قَول الْقَائِل أَذِنت لَك فِي أَن تفعل كَذَا إِلَى مائَة سنة فَإِن النَّهْي قبل مُضِيّ تِلْكَ الْمدَّة يكون من بَاب البداء ويتبين بِهِ أَن الْإِذْن الأول كَانَ غَلطا مِنْهُ لجهله بعاقبة الْأَمر والنسخ الَّذِي يكون مُؤديا إِلَى هَذَا لَا يجوز القَوْل بِهِ فِي أَحْكَام الشَّرْع وَلم يرد شرع بِهَذِهِ الصّفة
فَأَما الْقسم الرَّابِع فبيانه فِي الْعِبَادَات الْمَفْرُوضَة شرعا عِنْد أَسبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا لذَلِك فَإِنَّهَا تحْتَمل التَّوْقِيت نصا يَعْنِي فِي الْأَدَاء اللَّازِم بِاعْتِبَار الْأَمر وَفِي الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى سَببا لذَلِك فَإِنَّهُ لَو قَالَ جعلت زَوَال الشَّمْس سَببا لوُجُوب صَلَاة الظّهْر عَلَيْكُم إِلَى وَقت كَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا وَلَو قَالَ جعلت شُهُود الشَّهْر سَببا لوُجُوب الصَّوْم عَلَيْكُم إِلَى وَقت كَذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا
وَهَذَا كُله فِي الأَصْل مِمَّا يجوز أَن يكون(2/60)
مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون فَكَانَ النّسخ فِيهِ بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الحكم وَذَلِكَ جَائِز بِاعْتِبَار مَا بَينا من الْمَعْنيين أَحدهمَا أَن معنى الِابْتِلَاء وَالْمَنْفَعَة للعباد فِي شَيْء يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَاخْتِلَاف النَّاس فِي أَحْوَالهم
وَالثَّانِي أَن دَلِيل الْإِيجَاب غير مُوجب للبقاء بِمَنْزِلَة البيع يُوجب الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الْملك بل بَقَاؤُهُ بِدَلِيل آخر مبق أَو بِعَدَمِ دَلِيل المزيل وَهُوَ مُوجب الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الثّمن فِي ذمَّته لَا محَالة وَلَا يكون فِي النّسخ تعرضا لِلْأَمْرِ وَلَا للْحكم الَّذِي هُوَ مُوجبه وَامْتِنَاع جَوَاز النّسخ فِيمَا تقدم من الْأَقْسَام كَانَ لِاجْتِمَاع معنى الْقبْح وَالْحسن وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي وَقت وَاحِد لَا فِي وَقْتَيْنِ حَتَّى إِن مَا يكون حسنا لعَينه لَا يجوز أَن يكون قبيحا لعَينه بِوَجْه من الْوُجُوه
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِذبح وَلَده وَكَانَ الْأَمر دَلِيلا على حسن ذبحه ثمَّ انتسخ ذَلِك فَكَانَ مَنْهِيّا عَن ذبحه مَعَ قيام الْأَمر حَتَّى وَجب ذبح الشَّاة فدَاء عَنهُ وَلَا شكّ أَن النَّهْي عَن ذبح الْوَلَد الَّذِي بِهِ يثبت الانتساخ كَانَ دَلِيلا على قبحه وَقد قُلْتُمْ باجتماعهما فِي وَقت وَاحِد
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإنَّا لَا نقُول بِأَنَّهُ انتسخ الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا بِالْأَمر وَكَيف يُقَال بِهِ وَقد سَمَّاهُ الله محققا رُؤْيَاهُ بقوله تَعَالَى {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا} أَي حققت مَا أمرت بِهِ
وَبعد النّسخ لَا يكون هُوَ محققا مَا أَمر بِهِ وَلَكنَّا نقُول الشَّاة كَانَت فدَاء كَمَا نَص الله عَلَيْهِ فِي قَوْله {وفديناه بِذبح عَظِيم} على معنى أَنه يقدم على الْوَلَد فِي قبُول حكم الْوُجُوب بعد أَن كَانَ الْإِيجَاب بِالْأَمر مُضَافا إِلَى الْوَلَد حَقِيقَة كمن يَرْمِي سَهْما إِلَى غَيره فيفديه آخر بِنَفسِهِ بِأَن يتَقَدَّم عَلَيْهِ حَتَّى ينفذ فِيهِ بعد أَن يكون خُرُوج السهْم من الرَّامِي إِلَى الْمحل الَّذِي قَصده وَإِذا كَانَ فدَاء من هَذَا الْوَجْه كَانَ هُوَ ممتثلا للْحكم الثَّابِت بِالْأَمر فَلَا يَسْتَقِيم القَوْل بالنسخ فِيهِ لِأَن ذَلِك يبتنى على النَّهْي الَّذِي هُوَ ضد الْأَمر فَلَا يتَصَوَّر اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد
فَإِن قيل فإيش الْحِكْمَة فِي إِضَافَة الْإِيجَاب إِلَى الْوَلَد إِذا لم يجب بِهِ ذبح الْوَلَد قُلْنَا فِيهِ تَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي حق الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يظْهر مِنْهُ الانقياد والاستسلام وَالصَّبْر على مَا بِهِ من حرقة الْقلب على وَلَده وَفِي حق الْوَلَد بِالصبرِ والمجاهدة على معرة الذّبْح إِلَى حَال المكاشفة
لرب الْعَالمين وللولد بِأَن يكون قربانا لله وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {فَلَمَّا أسلما} ثمَّ اسْتَقر حكم الْوُجُوب فِي الشَّاة بطرِيق الْفِدَاء وَفِيه إِظْهَار معنى الْكَرَامَة والفضيلة(2/61)
للخليل عَلَيْهِ السَّلَام بِالْإِسْلَامِ للْوَلَد كَمَا قَالَ {وفديناه بِذبح عَظِيم} وَالْفِدَاء اسْم لما يكون وَاجِبا بِالسَّبَبِ الْمُوجب للْأَصْل فبه يتَبَيَّن انعدام النّسخ هُنَا لِانْعِدَامِ رُكْنه فَإِنَّهُ بَيَان مُدَّة بَقَاء الْوَاجِب وَحين وَجَبت الشَّاة فدَاء كَانَ الْوَاجِب قَائِما وَالْولد حرَام الذّبْح فَعرفنَا أَنه لَا وَجه لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ نسخا
ثمَّ على مَذْهَب عُلَمَائِنَا يجوز نسخ الأخف بالأثقل كَمَا يجوز نسخ الأثقل بالأخف
وَذكر الشَّافِعِي فِي كتاب الرسَالَة أَن الله تَعَالَى فرض فَرَائض أثبتها وَأُخْرَى نسخهَا رَحْمَة وتخفيفا لِعِبَادِهِ فَزعم بعض أَصْحَابه أَنه أَشَارَ بِهَذَا إِلَى وَجه الْحِكْمَة فِي النّسخ
وَقَالَ بَعضهم بل أَرَادَ بِهِ أَن النَّاسِخ أخف من الْمَنْسُوخ وَكَانَ لَا يجوز نسخ الأخف بالأثقل وَاسْتَدَلُّوا فِيهِ بقوله تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا} وبالاتفاق لَيْسَ المُرَاد أَن النَّاسِخ أفضل من الْمَنْسُوخ فَعرفنَا أَن المُرَاد أَنه خير من حَيْثُ إِنَّه أخف وَعَلِيهِ نَص فِي مَوضِع آخر فَقَالَ {الْآن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة
وَلَكنَّا نستدل بقوله {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فالتقييد بِكَوْن النَّاسِخ أخف من الْمَنْسُوخ يكون زِيَادَة على هَذَا النَّص من غير دَلِيل ثمَّ الْمَعْنى الَّذِي دلّ على جَوَاز النّسخ وَهُوَ مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ من الِابْتِلَاء وَالنَّقْل إِلَى مَا فِيهِ مَنْفَعَة لنا عَاجلا أَو آجلا لَا يفصل بَينهمَا فقد يكون الْمَنْفَعَة تَارَة فِي النَّقْل إِلَى مَا هُوَ أخف على الْبدن وَتارَة فِي النَّقْل إِلَى مَا هُوَ أشق على الْبدن أَلا ترى أَن الطَّبِيب ينْقل الْمَرِيض من الْغذَاء إِلَى الدَّوَاء تَارَة وَمن الدَّوَاء إِلَى الْغذَاء تَارَة بِحَسب مَا يعلم من منفعَته فِيهِ
ثمَّ هُوَ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم على وَجه لَو كَانَ مَقْرُونا بِالْأَمر لَكَانَ صَحِيحا مُسْتَقِيمًا وَفِي هَذَا لَا فرق بَين الأثقل والأخف وَلَا حجَّة لَهُم فِي قَوْله {الْآن خفف الله عَنْكُم} فَإِن النّسخ فِي ذَلِك الحكم بِعَيْنِه كَانَ نقلا من الأثقل إِلَى الأخف وَهَذَا يدل على أَن كل نسخ يكون بِهَذِهِ الصّفة أَلا ترى أَن حد الزِّنَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء هُوَ الْحَبْس والأذى بِاللِّسَانِ ثمَّ انتسخ ذَلِك بِالْجلدِ وَالرَّجم
وَلَا شكّ أَن النَّاسِخ أثقل على الْبدن
وَجَاء عَن معَاذ وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} أَن حكمه كَانَ هُوَ التَّخْيِير للصحيح بَين الصَّوْم والفدية ثمَّ انتسخ ذَلِك بفرضية الصَّوْم عزما بقوله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه}
ثمَّ لَا شكّ أَنه قد افْترض على الْعباد بعض مَا كَانَ مَشْرُوعا لَا بِصفة الْفَرْضِيَّة وإلزام مَا كَانَ مُبَاحا يكون أشق لَا محَالة
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ المُرَاد من قَوْله {نأت بِخَير مِنْهَا} الأخف على وانتسخ حكم إِبَاحَة الْخمر بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ أشق على(2/62)
الْبدن الْبدن فَإِن الْحَج مَا كَانَ لَازِما قبل نزُول قَوْله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} وَكَانَ كل مُسلم مَنْدُوبًا إِلَى أَدَائِهِ ثمَّ صَار الْأَدَاء لَازِما بِهَذِهِ الْآيَة وَهَذَا أشق على الْبدن يُوضحهُ أَن ترك الْخُرُوج لِلْحَجِّ يكون أخف على الْبدن من الْخُرُوج وَلَا إِشْكَال أَن الْخُرُوج إِلَى أَدَاء الْحَج بعد التَّمَكُّن خير من التّرْك
فَبِهَذَا يتَبَيَّن ضعف استدلالهم
فصل فِي بَيَان شَرط النّسخ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن شَرط جَوَاز النّسخ عندنَا هُوَ التَّمَكُّن من عقد الْقلب فَأَما الْفِعْل أَو التَّمَكُّن من الْفِعْل فَلَيْسَ بِشَرْط وعَلى قَول الْمُعْتَزلَة التَّمَكُّن من الْفِعْل شَرط
وَحَاصِل الْمَسْأَلَة أَن النّسخ بَيَان لمُدَّة عقد الْقلب وَالْعَمَل بِالْبدنِ تَارَة ولأحدهما وَهُوَ عقد الْقلب على الحكم تَارَة فَكَانَ عقد الْقلب هُوَ الحكم الْأَصْلِيّ فِيهِ وَالْعَمَل بِالْبدنِ زِيَادَة يجوز أَن يكون النّسخ بَيَانا للمدة فِيهِ وَيجوز أَن لَا يكون عندنَا
وعَلى قَوْلهم النّسخ يكون بَيَانا لمُدَّة الحكم فِي حق الْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد الْفِعْل أَو التَّمَكُّن مِنْهُ حكما لِأَن التّرْك بعد التَّمَكُّن فِيهِ تَفْرِيط من العَبْد فَلَا يَنْعَدِم بِهِ معنى بَيَان مُدَّة الْعَمَل بالنسخ
قَالُوا لِأَن الْعَمَل هُوَ الْمَقْصُود بِالْأَمر وَالنَّهْي أَلا ترى أَن ورودهما بِذكر الْفِعْل معنى قَول الْقَائِل افعلوا كَذَا وَلَا تَفعلُوا كَذَا
وَتَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي الْفِعْل أَيْضا فَعرفنَا أَنه هُوَ الْمَقْصُود والنسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل لَا يكون إِلَّا بطرِيق البداء أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يَقُول قد أمرت عَبدِي أَن يفعل غَدا كَذَا ثمَّ بدا لي فنهيته عَنهُ
وَهَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَهِي عَمَّا أَمر بِفِعْلِهِ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل بِأَن يظْهر لَهُ من حَال الْمَأْمُور بِهِ مَا لم يكن مَعْلُوما حِين يَأْمُرهُ بِهِ لعلمنا أَنه بِالْأَمر إِنَّمَا طلب من الْمَأْمُور إِيجَاد الْفِعْل بعد التَّمَكُّن مِنْهُ لَا قبله إِذْ التَّكْلِيف لَا يكون إِلَّا بِحَسب الوسع والبداء على الله تَعَالَى لَا يجوز يقرره أَن القَوْل بِجَوَاز النّسخ قبل التَّمَكُّن يُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد حسنا وقبيحا فِي وَقت وَاحِد لِأَن الْأَمر دَلِيل على حسن فعل الْمَأْمُور بِهِ عِنْد الْإِمْكَان وَالنَّهْي قبل التَّمَكُّن(2/63)
دَلِيل على قبح فعله فِي ذَلِك الْوَقْت بِعَيْنِه يُوضحهُ أَن النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم على وَجه يجوز أَن يكون مَقْرُونا بِالْأَمر وَلِهَذَا جَازَ النّسخ فِي الْأَمر وَالنَّهْي دون الْخَبَر والنسخ قبل التَّمَكُّن لَا يَصح مَقْرُونا بِالْأَمر فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول افْعَل كَذَا إِلَى أَن لَا يكون مُتَمَكنًا مِنْهُ ثمَّ لَا يَفْعَله بعد ذَلِك فَعرفنَا أَن النّسخ قبل التَّمَكُّن لَا يجوز
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك الحَدِيث الْمَشْهُور إِن الله تَعَالَى فرض على عباده خمسين صَلَاة فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج ثمَّ انتسخ مَا زَاد على الْخمس لسؤال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ ذَلِك نسخا قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل إِلَّا أَنه كَانَ بعد عقد الْقلب عَلَيْهِ فَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الأَصْل لهَذِهِ الْأمة وَلَا شكّ أَنه عقد قلبه على ذَلِك وَلَا معنى لقَولهم إِن الله تَعَالَى مَا فرض ذَلِك عزما وَإِنَّمَا جعل ذَلِك إِلَى رَأْي رَسُوله ومشيئته لِأَن فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ التَّخْفِيف عَن أمته غير مرّة وَمَا زَالَ يسْأَل ذَلِك ويجيبه ربه إِلَيْهِ حَتَّى انْتهى إِلَى الْخمس فَقيل لَهُ لَو سَأَلت التَّخْفِيف أَيْضا فَقَالَ أَنا أستحي من رَبِّي وَفِي هَذَا بَيَان أَنه لم يكن ذَلِك مفوضا إِلَى اخْتِيَاره بل كَانَ نسخا على وَجه التَّخْفِيف بسؤاله بعد الْفَرْضِيَّة
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بقوله {فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} إِلَى قَوْله {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم} فَإِن هَذَا نسخ الْأَمر قبل الْفِعْل وَلَكنهُمْ يَقُولُونَ كَانَ هَذَا النّسخ بعد التَّمَكُّن من الْفِعْل وَإِن كَانَ قبل مُبَاشرَة الْفِعْل وَلَا خلاف فِي جَوَاز ذَلِك وَالأَصَح هُوَ الأول وَلِأَن النّسخ جَائِز بعد وجود جُزْء مِمَّا تنَاوله الْأَمر بِالْفِعْلِ فَإِن قَول الْقَائِل افعلوا كَذَا فِي مُسْتَقْبل أعماركم يجوز نسخه بِالنَّهْي عَنهُ بعد مُضِيّ جُزْء من الْعُمر وَلَوْلَا النّسخ لَكَانَ أصل الْكَلَام متناولا لجَمِيع الْعُمر فبالنسخ يتَبَيَّن أَنه كَانَ المُرَاد الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ فِي ذَلِك الْجُزْء خَاصَّة وَلَا يتَوَهَّم فِيهِ معنى البداء أَو الْجَهْل بعاقبة الْأَمر فَكَذَلِك النّسخ بعد عقد الْقلب على الحكم واعتقاد الحقية فِيهِ قبل التَّمَكُّن من الْعَمَل يكون بَيَانا أَن المُرَاد كَانَ عقد الْقلب عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْوَقْت واعتقاده الْفَرْضِيَّة فِيهِ دون مُبَاشرَة الْعَمَل وَإِنَّمَا يكون مُبَاشرَة الْعَمَل مَقْصُودا لمن ينْتَفع بِهِ وَالله يتعالى عَن ذَلِك وَإِنَّمَا الْمَقْصُود فِيمَا يَأْمر الله بِهِ عباده الِابْتِلَاء والابتلاء بعزيمة الْقلب(2/64)
واعتقاد الحقية لَا يكون دون الِابْتِلَاء بِالْعَمَلِ وَرُبمَا يكون ذَلِك أهم أَلا ترى أَن فِي الْمُتَشَابه مَا كَانَ الِابْتِلَاء إِلَّا بِعقد الْقلب عَلَيْهِ واعتقاد الحقية فِيهِ
وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْمل الَّذِي لَا يُمكن الْعَمَل بِهِ إِلَّا بعد الْبَيَان يكون الِابْتِلَاء قبل الْبَيَان بِعقد الْقلب عَلَيْهِ واعتقاد الحقية فِيهِ وَيكون ذَلِك حسنا لَا يشوبه من معنى الْقبْح شَيْء فَكَذَلِك الْأَمر الَّذِي يرد النّسخ عَقِيبه قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل وَيعْتَبر هَذَا بإحياء الشَّخْص فقد تبين انْتِهَاء مُدَّة حَيَاته بِالْمَوْتِ قبل أَن يصير مُنْتَفعا بحياته إِمَّا فِي بطن أمه بِأَن ينْفَصل مَيتا أَو بعد الِانْفِصَال قبل أَن ينْتَفع بحياته وَأحد لَا يَقُول إِنَّه يتَمَكَّن فِيهِ معنى البداء أَو إِنَّه يجْتَمع فِيهِ معنى الْحسن والقبح يُوضحهُ أَن الْوَاحِد منا قد يَأْمر عَبده ومقصوده من ذَلِك أَن يظْهر عِنْد النَّاس حسن طَاعَته وانقياده لَهُ ثمَّ ينهاه عَن ذَلِك بعد حُصُول هَذَا الْمَقْصُود قبل أَن يتَمَكَّن من مُبَاشرَة الْفِعْل وَلَا يَجْعَل ذَلِك دَلِيل البداء مِنْهُ وَإِن كَانَ مِمَّن يجوز عَلَيْهِ البداء فَلِأَن لَا يَجْعَل النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل بعد عزم الْقلب واعتقاد الحقية موهما للبداء فِي حق من لَا يجوز عَلَيْهِ البداء أولى وَإِنَّمَا يجْتَمع الْحسن والقبح فِي شَيْء وَاحِد إِذا كَانَ مَأْمُورا بِهِ ومنهيا عَنهُ فِي وَقت وَاحِد وَذَلِكَ لَا يكون مَعَ أَن الْحسن مُطلقًا مَا حسنه الشَّرْع والقبيح مَا قبحه الشَّرْع يقرره أَن تَمام الْحسن على مَا يَزْعمُونَ إِنَّمَا يظْهر عِنْد مُبَاشرَة الْعَمَل وَالْإِطْلَاق يَقْتَضِي صفة الْكَمَال ثمَّ بالِاتِّفَاقِ يجوز النّسخ بعد التَّمَكُّن من الْفِعْل قبل حَقِيقَة الْفِعْل لِأَن معنى الْحسن فِيهِ كَامِل من حَيْثُ عقد الْقلب واعتقاد الحقية فِيهِ فَكَذَلِك قبل التَّمَكُّن وَلَا نقُول بِأَن مثل هَذَا الْبَيَان لَا يجوز مَقْرُونا بِالْأَمر فَإِنَّهُ لَو قَالَ افْعَل كَذَا فِي وَقت كَذَا (إِن لم أنسخه عَنْك كَانَ ذَلِك أمرا مُسْتَقِيمًا بِمَنْزِلَة قَوْله افْعَل كَذَا فِي وَقت كَذَا) إِن تمكنت مِنْهُ وَتَكون الْفَائِدَة فِي الْحَال هُوَ الْقبُول بِالْقَلْبِ واعتقاد الحقية فِيهِ فَكَذَلِك يجوز مثله بعد الْأَمر بطرِيق النّسخ وَالله الْمُوفق
فصل فِي بَيَان النَّاسِخ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْحجَج أَرْبَعَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع(2/65)
وَالْقِيَاس
وَلَا خلاف بَين جُمْهُور الْعلمَاء فِي أَنه لَا يجوز نسخ الْكتاب وَالسّنة بِالْقِيَاسِ وَكَانَ ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي يجوز ذَلِك والأنماطي من أَصْحَابه كَانَ يَقُول لَا يجوز ذَلِك بِقِيَاس الشّبَه وَيجوز بِقِيَاس مستخرج من الْأُصُول وكل قِيَاس هُوَ مستخرج من الْقُرْآن يجوز نسخ الْكتاب بِهِ وكل قِيَاس هُوَ مستخرج من السّنة يجوز نسخ السّنة بِهِ لِأَن هَذَا فِي الْحَقِيقَة نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَنسخ السّنة بِالسنةِ فثبوت الحكم بِمثل هَذَا الْقيَاس فِي الْحَقِيقَة يكون محالا بِهِ على الْكتاب وَالسّنة
وَهَذَا قَول بَاطِل بِاتِّفَاق الصَّحَابَة فقد كَانُوا مُجْمِعِينَ على ترك الرَّأْي بِالْكتاب وَالسّنة حَتَّى قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي حَدِيث الْجَنِين كدنا أَن نقضي فِيهِ برأينا وَفِيه سنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَو كَانَ الدّين بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِن الْخُف أولى بِالْمَسْحِ من ظَاهره وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُول الله يمسح على ظَاهر الْخُف دون بَاطِنه
وَلِأَن الْقيَاس كَيْفَمَا كَانَ لَا يُوجب الْعلم فَكيف ينْسَخ بِهِ مَا هُوَ مُوجب للْعلم قطعا وَقد بَينا أَن النّسخ بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَكَونه حسنا إِلَى ذَلِك الْوَقْت وَلَا مجَال للرأي فِي معرفَة انْتِهَاء وَقت الْحسن وَمَا ادَّعَاهُ من أَن هَذَا الحكم يكون ثَابتا بِالْكتاب فَكَلَام ضَعِيف فَإِن الْوَصْف الَّذِي بِهِ يرد الْفَرْع إِلَى الأَصْل الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْكتاب وَالسّنة غير مَقْطُوع بِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنى فِي الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ وَأحد من القائسين لَا يَقُول بِأَن حكم الرِّبَا فِيمَا عدا الْأَشْيَاء السِّتَّة يكون ثَابتا بِالنَّصِّ الَّذِي فِيهِ ذكر الْأَشْيَاء السِّتَّة
وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع فقد جوزه بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع مُوجب علم الْيَقِين كالنص فَيجوز أَن يثبت النّسخ بِهِ وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور وَإِذا كَانَ يجوز النّسخ بالْخبر الْمَشْهُور كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي الزِّيَادَة على النَّص فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى
وَأَكْثَرهم على أَنه لَا يجوز ذَلِك لِأَن الْإِجْمَاع عبارَة عَن اجْتِمَاع الآراء على شَيْء وَقد بَينا أَنه لَا مجَال للرأي فِي معرفَة نِهَايَة وَقت الْحسن والقبح فِي الشَّيْء عِنْد الله تَعَالَى ثمَّ أَوَان النّسخ حَال حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتفاقنا على أَنه لَا نسخ بعده وَفِي حَال حَيَاته مَا كَانَ ينْعَقد الْإِجْمَاع بِدُونِ رَأْيه وَكَانَ الرُّجُوع إِلَيْهِ فرضا وَإِذا وجد الْبَيَان مِنْهُ فالموجب للْعلم قطعا هُوَ الْبَيَان المسموع(2/66)
مِنْهُ وَإِنَّمَا يكون الْإِجْمَاع مُوجبا للْعلم بعده وَلَا نسخ بعده فَعرفنَا أَن النّسخ بِدَلِيل الْإِجْمَاع لَا يجوز
ثمَّ الْأَقْسَام بعد هَذَا أَرْبَعَة نسخ الْكتاب بِالْكتاب وَنسخ السّنة بِالسنةِ وَنسخ الْكتاب بِالسنةِ وَنسخ السّنة بِالْكتاب
وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين ويختلفون فِي الْقسمَيْنِ الآخرين
فعندنا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة أَو الْمَشْهُورَة على مَا ذكره الْكَرْخِي عَن أبي يُوسُف أَنه يجوز نسخ الْكتاب بِمثل خبر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَهُوَ مَشْهُور وَكَذَلِكَ يجوز نسخ السّنة بِالْكتاب
وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلَا نسخ السّنة بِالْكتاب فَإِنَّهُ قَالَ فِي كتاب الرسَالَة وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينسخها إِلَّا سنة كَمَا لَا ينْسَخ الْكتاب إِلَّا الْكتاب
فَمن أَصْحَابه من يَقُول مُرَاده نفي الْجَوَاز وَمِنْهُم من يَقُول مُرَاده نفي الْوُجُود أَي لم يُوجد فِي الشَّرِيعَة نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلَا نسخ السّنة بِالْكتاب
فَيحْتَاج إِلَى إِثْبَات الْفَصْلَيْنِ بِالْحجَّةِ
فَأَما هُوَ احْتج بقوله تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَفِي هَذَا تنصيص على أَنه كَانَ مُتبعا لكل مَا يُوحى إِلَيْهِ وَلم يكن مبدلا لشَيْء مِنْهُ والنسخ تَبْدِيل قَالَ تَعَالَى {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون} فَأخْبر أَنه مُبين لما هُوَ الْمنزل حَتَّى يعْمل النَّاس بالمنزل بَعْدَمَا تبين لَهُم ببيانه وَفِي تَجْوِيز نسخ الْكتاب بِالسنةِ رفع هَذَا الحكم لِأَن الْعَمَل بالناسخ يكون فَإِذا كَانَ النَّاسِخ من السّنة لَا يكون الْعَمَل بِهِ عملا بالمنزل
وَقَوله تَعَالَى {ولعلهم يتفكرون} أَي يتفكرون فِي الْمنزل ليعملوا بِهِ بعد بَيَانه وَفِي النَّاسِخ فِي الْمَنْسُوخ التفكر فِي التَّارِيخ بَينهمَا ليجعل الْمُتَقَدّم مَنْسُوخا بالمتأخر لَا فِي الْمنزل ليعْمَل بِهِ وَقَالَ تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} وَلَا شكّ أَن السّنة لَا تكون مثلا لِلْقُرْآنِ وَلَا خيرا مِنْهُ وَالْقُرْآن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق وَهُوَ معجز وَالسّنة كَلَام مَخْلُوق وَهُوَ غير معجز
فَعرفنَا أَن نسخ الْكتاب لَا يجوز بِالسنةِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رُوِيَ لكم(2/67)
عني حَدِيث فاعرضوه على كتاب الله فَمَا وَافق كتاب الله فاقبلوه وَمَا خَالف كتاب الله فَردُّوهُ وَمَعَ هَذَا الْبَيَان من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ وَلِأَن مَا قلته أقرب إِلَى صِيَانة رَسُول الله عَن طعن الطاعنين فِيهِ وبالاتفاق يجب الْمصير فِي بَاب بَيَان أَحْكَام الشَّرْع إِلَى طَرِيق يكون أبعد عَن الطعْن فِيهِ
وَبَيَان ذَلِك أَنه إِذا جَازَ مِنْهُ أَن يَقُول مَا هُوَ مُخَالف للمنزل فِي الظَّاهِر على وَجه النّسخ لَهُ فالطاعن يَقُول هُوَ أول قَائِل وَأول عَامل بِخِلَاف مَا يزْعم أَنه أنزل إِلَيْهِ فَكيف يعْتَمد قَوْله فِيهِ وَإِذا ظهر مِنْهُ قَول ثمَّ قَرَأَ مَا هُوَ مُخَالف لما ظهر مِنْهُ من القَوْل فالطاعن يَقُول قد كذبه ربه فِيمَا قَالَ فَكيف نصدقه وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر} ثمَّ نفى عَنهُ هَذَا الطعْن بقوله {قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ} فَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَيْسَ فِي نسخ الْكتاب بِالْكتاب تعريضه لِلطَّعْنِ وَفِي نسخ الْكتاب بِالسنةِ تعريضه لِلطَّعْنِ من الْوَجْه الَّذِي قَالَه الطاعنون فَيجب سد هَذَا الْبَاب لعلمنا أَنه مصون عَمَّا يُوهم الطعْن فِيهِ
وَاسْتدلَّ على نفي جَوَاز نسخ (السّنة) بِالْكتاب بقوله {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} وَالسّنة شَيْء فَيكون الْكتاب تبيانا لحكمه لَا رَافعا لَهُ وَذَلِكَ فِي أَن يكون مؤيدا إِن كَانَ مُوَافقا ومبينا للغلط فِيهَا إِن كَانَ مُخَالفا وَلِهَذَا لَا يجوز إِلَّا عِنْد وُرُوده ليَكُون بَيَانا مَحْضا فَإِن رَسُول الله كَانَ لَا يقر على الْخَطَأ وَالْبَيَان الْمَحْض مَا يكون مُقَارنًا وَلِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِذا أَمر بِشَيْء وتقرر ذَلِك فقد توجه علينا الْأَمر من الله تَعَالَى بتصديقه فِي ذَلِك واتباعه فَلَا يجوز القَوْل بِأَن ينزل فِي الْقُرْآن بعد ذَلِك مَا يكون مُخَالفا لَهُ حَقِيقَة أَو ظَاهرا فَإِن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا يفترض تَصْدِيقه فِيمَا يخبر بِهِ لجَوَاز أَن ينزل الْقُرْآن بِخِلَافِهِ وَذَلِكَ خلاف النَّص وَخلاف قَول الْمُسلمين أجمع يقرره أَن السّنة نوع حجَّة لإِثْبَات حكم الشَّرْع وَالْكتاب كَذَلِك وحجج الشَّرْع لَا تتناقض وَإِنَّمَا يتأيد وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على أَنه من عِنْد غير الله قَالَ تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد} نوع مِنْهَا بِنَوْع(2/68)
آخر لِأَن فِي التَّنَاقُض مَا يُؤَدِّي إِلَى تنفير النَّاس عَن قبُوله {غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن أحد النَّوْعَيْنِ يتأيد بِالْآخرِ وَلَا يتَمَكَّن فِيمَا بَين النَّوْعَيْنِ تنَاقض وَالْقَوْل بِجَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب وَالْكتاب بِالسنةِ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك من أَصْحَابنَا من اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين} فَفِي هَذَا تنصيص على أَن الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فرض ثمَّ انتسخ ذَلِك بقوله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث وَهَذِه سنة مَشْهُورَة
وَلَا يجوز أَن يُقَال إِنَّمَا انتسخ ذَلِك بِآيَة الْمَوَارِيث لِأَن فِيهَا إِيجَاب حق آخر لَهُم بطرِيق الْإِرْث وَإِيجَاب حق بطرِيق الْإِرْث لَا يُنَافِي حَقًا آخر ثَابتا بطرِيق آخر وَبِدُون الْمُنَافَاة لَا يثبت النّسخ
وَلَا يجوز أَن يُقَال لَعَلَّ ناسخه مِمَّا أنزل فِي الْقُرْآن وَلَكِن لم يبلغنَا لانتساخ تِلَاوَته مَعَ بَقَاء حكمه لِأَن فتح هَذَا الْبَاب يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِالْوَقْفِ فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرْع فَإِنَّهُ يُقَال مَا من حكم إِلَّا ويتوهم فِيهِ أَن يكون ناسخه قد نزل ثمَّ لم يبلغنَا لانتساخ تِلَاوَته وَمَعَ ذَلِك يُؤَدِّي هَذَا إِلَى مَذْهَب الروافض فَإِنَّهُم يَقُولُونَ قد نزلت آيَات كَثِيرَة فِيهَا تنصيص على إِمَامَة عَليّ وَلم يبلغنَا ذَلِك وَيَقُولُونَ إِن لظَاهِر مَا نزل من الْقُرْآن بَاطِنا لَا نعقله وَقد كَانَ يعقله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأهل بَيته فيزعمون أَن كثيرا من الْأَحْكَام قد خَفِي علينا وَيجب الرُّجُوع فِيهَا إِلَى أهل الْبَيْت للوقوف على ذَلِك وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على بطلَان القَوْل بِهَذَا فَكل سُؤال يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بذلك فَهُوَ سَاقِط
وَلَكِن هَذَا الِاسْتِدْلَال مَعَ هَذَا لَيْسَ بِقَوي من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن فِي آيَة الْمَوَارِيث تنصيصا على تَرْتِيب الْإِرْث على وَصِيَّة مُنكرَة فَإِنَّهُ قَالَ {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} وَالَّتِي كَانَت مَفْرُوضَة من الْوَصِيَّة هِيَ الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة الْمعرفَة بِالْألف وَاللَّام فَإِنَّهُ قَالَ {الْوَصِيَّة للْوَالِدين} فَلَو كَانَت تِلْكَ الْوَصِيَّة بَاقِيَة عِنْد نزُول آيَة الْمَوَارِيث لَكَانَ فِيهَا تَرْتِيب الْمِيرَاث على الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة وَفِي التَّنْصِيص على تَرْتِيب الْإِرْث على(2/69)
وَصِيَّة مُطلقَة دَلِيل نسخ الْوَصِيَّة الْمَعْهُودَة لِأَن الْإِطْلَاق بعد التَّقْيِيد نسخ كَمَا أَن التَّقْيِيد بعد الْإِطْلَاق نسخ
وَالثَّانِي أَن النّسخ فِي الشَّرْع نَوْعَانِ أَحدهمَا إِثْبَات الحكم مُبْتَدأ على وَجه يكون دَلِيلا على انْتِهَاء الْوَقْت فِي حكم كَانَ قبله
وَالثَّانِي نسخ بطرِيق التَّحْوِيل للْحكم من شَيْء إِلَى شَيْء بِمَنْزِلَة تَحْويل فرض التَّوَجُّه عِنْد أَدَاء الصَّلَاة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة وانتساخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِآيَة الْمِيرَاث من النَّوْع الثَّانِي فَإِن الله تَعَالَى فوض بَيَان نصيب كل فريق إِلَى من حَضَره الْمَوْت على أَن يُرَاعى الْحُدُود فِي ذَلِك وَيبين حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم بِحَسب قرَابَته ثمَّ تولى بَيَان ذَلِك بِنَفسِهِ فِي آيَة الْمَوَارِيث وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُم الله} وَإِنَّمَا تولى بَيَانه بِنَفسِهِ لِأَن الْمُوصي رُبمَا كَانَ يقْصد إِلَى المضارة فِي ذَلِك وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {غير مضار وَصِيَّة من الله} وَرُبمَا كَانَ لَا يحسن التَّدْبِير فِي مِقْدَار مَا يوصى لكل وَاحِد مِنْهُم بجهله فَبين الله تَعَالَى نصيب كل وَاحِد مِنْهُم على وَجه يتَيَقَّن بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَاب وَأَن فِيهِ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا} وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير من أَمر غَيره بِإِعْتَاق عَبده ثمَّ يعتقهُ بِنَفسِهِ فينتهي بِهِ حكم الْوكَالَة لما بَاشرهُ الْمُوكل بِنَفسِهِ فَهُنَا حِين بَين الله تَعَالَى نصيب كل قريب لم يبْق حكم الْوَصِيَّة إِلَى الْوَالِدين والأقربين لحُصُول الْمَقْصُود بأقوى الطّرق وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بقوله إِن الله تَعَالَى أعْطى كل ذِي حق حَقه أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث وَكَانَ النّسخ بِهَذَا الطَّرِيق بِمَنْزِلَة الْحِوَالَة فَإِن الدّين إِذا تحول من ذمَّة إِلَى ذمَّة حَتَّى اشتغلت الذِّمَّة الثَّانِيَة بِهِ فرغ مِنْهُ الذِّمَّة الأولى وَإِن لم يكن بَين وجوب الدّين فِي الذمتين معنى الْمُنَافَاة كَمَا يكون بطرِيق الْكفَالَة
وَلَكنَّا نقُول بِهَذَا الطَّرِيق يجوز أَن يثبت انْتِهَاء حكم وجوب الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين فَأَما انْتِهَاء حكم جَوَاز الْوَصِيَّة لَهُم لَا يثبت بِهَذَا الطَّرِيق أَلا ترى أَن بالحوالة وَإِن لم يبْق الدّين وَاجِبا فِي الذِّمَّة الأولى فقد بقيت الذِّمَّة محلا صَالحا لوُجُوب الدّين فِيهَا وَلَيْسَ من ضَرُورَة انْتِفَاء وجوب الْوَصِيَّة لَهُم(2/70)
انْتِفَاء الْجَوَاز كَالْوَصِيَّةِ للأجانب
فَعرفنَا أَنه إِنَّمَا انتسخ انْتِفَاء وجوب الْوَصِيَّة لَهُم لضَرُورَة نفي أصل الْوَصِيَّة لَهُم وَذَلِكَ ثَابت بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث فَمن هَذَا الْوَجْه يَتَقَرَّر الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بِحكم الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ فِي حق الزَّانِي فَإِنَّهُ كَانَ بِالْكتاب ثمَّ انتسخ بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي أَيْضا فقد ثَبت بِرِوَايَة عمر رَضِي الله عَنهُ أَن الرَّجْم مِمَّا كَانَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن على مَا قَالَ لَوْلَا أَن النَّاس يَقُولُونَ إِن عمر زَاد فِي كتاب الله لكتبت على حَاشِيَة الْمُصحف الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ
الحَدِيث فَإِنَّمَا كَانَ هَذَا نسخ الْكتاب بِالْكتاب
ثمَّ الْآيَة الَّتِي فِيهَا بَيَان حكم الْحَبْس والأذى بِاللِّسَانِ فِيهَا بَيَان تَوْقِيت ذَلِك الحكم بِمَا هُوَ مُجمل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} فَإِنَّمَا بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْمُجْمل وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام خُذُوا عني قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا وَلَا خلاف أَن بَيَان الْمُجْمل فِي كتاب الله تَعَالَى بِالسنةِ يجوز
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ بقوله تَعَالَى {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا} فَإِن هَذَا حكم مَنْصُوص فِي الْقُرْآن فقد انتسخ وناسخه لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآن فَعرفنَا أَنه ثَابت بِالسنةِ
وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا
وَبَين أهل التَّفْسِير كَلَام فِيمَا هُوَ المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وَأثبت مَا قيل فِيهِ أَن من ارْتَدَّت زَوجته وهربت إِلَى دَار الْحَرْب فقد كَانَ على الْمُسلمين أَن يعينوه من الْغَنِيمَة بِمَا ينْدَفع بِهِ الخسران عَنهُ وَذَلِكَ بِأَن يعطوه مثل مَا سَاق إِلَيْهَا من الصَدَاق وَإِلَى ذَلِك وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى {فعاقبتم} أَي عَاقَبْتُمْ الْمُشْركين بِالسَّبْيِ والاسترقاق واغتنام أَمْوَالهم
وَكَانَ ذَلِك بطرِيق النّدب على سَبِيل الْمُسَاوَاة وَلم ينتسخ هَذَا الحكم
فَبِهَذَا تبين أَنه لَا يُؤْخَذ نسخ حكم ثَابت بِالْكتاب بِحكم هُوَ ثَابت بِالسنةِ ابْتِدَاء وَإِنَّمَا يُؤْخَذ من ذَلِك الزِّيَادَة بِالسنةِ على الحكم الثَّابِت بِالْكتاب نَحْو مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي فِي ضم التَّغْرِيب إِلَى الْجلد(2/71)
فِي حد الْبكر فَإِنَّهُ أثْبته بقوله (الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام) وَمثل هَذِه الزِّيَادَة عندنَا نسخ وَعِنْده بَيَان بطرِيق التَّخْصِيص وَلَا يكون نسخا
فعلى هَذَا الْكَلَام يبتنى على ذَلِك الأَصْل
وسنقرر هَذَا بعد هَذَا
ثمَّ الْحجَّة لإِثْبَات جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ قَوْله تَعَالَى {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَإِن المُرَاد بَيَان حكم غير متلو فِي الْكتاب مَكَان حكم آخر وَهُوَ متلو على وَجه يتَبَيَّن بِهِ مُدَّة بَقَاء الحكم الأول وَثُبُوت حكم الثَّانِي والنسخ لَيْسَ إِلَّا هَذَا
وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد هَذَا لَا مَا توهمه الْخصم فِي بَيَان الحكم الْمنزل فِي الْكتاب أَنه قَالَ تَعَالَى {مَا نزل إِلَيْهِم} وَلَو كَانَ المُرَاد الْكتاب لقَالَ مَا نزل إِلَيْك كَمَا قَالَ تَعَالَى {بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} والمنزل إِلَى النَّاس الحكم الَّذِي أمروا باعتقاده وَالْعَمَل بِهِ وَذَلِكَ يكون تَارَة بِوَحْي متلو وَتارَة بِوَحْي غير متلو وَهُوَ مَا يكون مسموعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يُقَال إِنَّه سنته فقد ثَبت بِالنَّصِّ أَنه كَانَ لَا يَقُول ذَلِك إِلَّا بِالْوَحْي قَالَ تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَمعنى قَوْله {لَعَلَّهُم يتفكرون} أَي يتفكرون فِي حجج الشَّرْع ليقفوا بتفكرهم على الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي كل حجَّة أَو ليعرفوا النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ
وَوجه الْحِكْمَة فِي تَبْدِيل الْمَنْسُوخ بالناسخ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْمَنَافِع للمخاطبين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَو يتَبَيَّن لَهُم إِرَادَة الْيُسْر والتوسعة لِلْأَمْرِ عَلَيْهِم أَو مَا يكون لَهُم فِيهِ من عَظِيم الثَّوَاب وَفِي هَذَا كُله لَا فرق بَين مَا يكون ثُبُوته بِوَحْي متلو وَبَين مَا يكون ثُبُوته بِوَحْي غير متلو وَفِيمَا تَلا من الْآيَة إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} فَعرفنَا أَن المُرَاد بَيَان أَنه لَا يُبدل شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه بِنَاء على مُتَابعَة الْهوى وَإِنَّمَا يُوحى إِلَيْهِ فَيتبع مَا يُوحى إِلَيْهِ ويبينه للنَّاس فِيمَا لَيْسَ بمنزل فِي الْقُرْآن وَلَكِن الْعبارَة فِيهِ مفوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيبينه بعبارته وَهُوَ حكم ثَابت من الله تَعَالَى بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ بِمَنْزِلَة الحكم المتلو فِي الْقُرْآن وَدَلِيل كَونه مَقْطُوعًا بِهِ مَا قَالَ إِن تصديقنا إِيَّاه فرض علينا من الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ أَتْبَاعه لَازم بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}(2/72)
وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَبِهَذَا التَّقْرِير يتَبَيَّن أَن بِالْوَحْي الَّذِي هُوَ غير متلو (يجوز أَن يتَبَيَّن مُدَّة بَقَاء الحكم المتلو كَمَا يجوز أَن يتَبَيَّن ذَلِك بِالْوَحْي الَّذِي هُوَ متلو) والنسخ لَيْسَ إِلَّا هَذَا أَلا ترى أَنا لَو سمعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لحكم هُوَ ثَابت بِوَحْي متلو قد كَانَ هَذَا الحكم ثَابتا إِلَى الْآن وَقد انْتهى وقته فَلَا تعملوا بِهِ بعده يلْزمنَا تَصْدِيقه فِي ذَلِك والكف عَن الْعَمَل بِهِ وتكفير من يكذبهُ فِي ذَلِك
فَكَذَلِك إِذا ثَبت ذَلِك عندنَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر عَنهُ
فَإِن قيل مَعَ هَذَا فِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى (أَن رَسُول الله مُبين للْحكم وَفِي النّسخ بَيَان حكم وَرفع حكم مَشْرُوع وَلَيْسَ فِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى) أَنه رَافع لحكم ثَابت بِوَحْي متلو
قُلْنَا نَحن نقُول هُوَ مُبين وَلَكِن فِي حق الحكم الأول مُبين تَأْوِيلا وتبليغا وَفِي حق الحكم الثَّانِي تبليغا وتأويلا
وَبَيَان هَذَا أَنا قد ذكرنَا أَن الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوت الحكم وَهُوَ الْوَحْي المتلو لَا يكون مُوجبا بَقَاء الحكم وبالنسخ إِنَّمَا يرْتَفع بَقَاء الحكم الأول وَلم يكن ذَلِك ثَابتا بِوَحْي متلو حَتَّى يكون فِي بَيَانه رفع الحكم المتلو مَعَ أَنه لَيْسَ فِي النّسخ رفع الحكم وَلكنه بَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم ثمَّ الْوَقْت لَا يبْقى بعد مُضِيّ وقته كَمَا لَو كَانَ التَّوْقِيت فِيهِ مَذْكُورا فِي النَّص الْمُثبت فعلى هَذَا التَّقْرِير يكون هُوَ مُبينًا للْوَقْت فِيمَا هُوَ منزل
فَإِن قيل فعلى هَذَا اخْتِلَاط الْبَيَان بالنسخ وبالاتفاق بَين الْبَيَان والنسخ فرق
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإِن كلا وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَة بَيَان إِلَّا أَن الْبَيَان الْمَحْض يجوز أَن يكون مقترنا بِأَصْل الْكَلَام كدليل الْخُصُوص فِي الْعُمُوم فَإِنَّهُ لَا يكون إِلَّا مُقَارنًا وَبَيَان الْمُجْمل فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون مُقَارنًا
فَأَما النّسخ (بَيَان) لَا يكون(2/73)
إِلَّا مُتَأَخِّرًا
وبهذه الْعَلامَة يظْهر الْفرق بَينهمَا فَأَما أَن يكون النّسخ غير الْبَيَان فَلَا
فَإِن قيل الحكم الثَّابِت بِالسنةِ يُضَاف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيُقَال إِنَّه سنته وَمَا يكون طَرِيقه الْوَحْي فَهُوَ مُضَاف إِلَى الله تَعَالَى كَالثَّابِتِ بِالْوَحْي المتلو فَفِي إِضَافَته إِلَى رَسُول الله دَلِيل على أَنه لَيْسَ بِبَيَان لما هُوَ الْمنزل بطرِيق الْوَحْي
وَإِذا تقرر هَذَا فَنَقُول فِي النّسخ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة كَون الحكم حسنا عِنْد الله تَعَالَى وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمكن مَعْرفَته إِلَّا بِوَحْي من الله فَكيف يجوز إِثْبَات نسخ الْكتاب بِالسنةِ قُلْنَا قد بَينا أَن مَا بَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّمَا يُبينهُ عَن وَحي وَالْإِضَافَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْعبارَة فِي ذَلِك لَهُ فَمن هَذَا الْوَجْه يُقَال إِنَّه سنته
فَأَما حَقِيقَة الحكم من الله تَعَالَى وقف عَلَيْهِ رَسُول الله بطرِيق الْوَحْي ثمَّ بَينه للنَّاس
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَنه مَا عرف انْتِهَاء مُدَّة الْحسن فِي ذَلِك الحكم إِلَّا بِوَحْي من الله تَعَالَى وَمَا هُوَ إِلَّا نَظِير بَيَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة الْحَيَاة لحي قد أَحْيَاهُ الله تَعَالَى فَإِن أحدا لَا يظنّ أَنه بَين ذَلِك من غير طَرِيق الْوَحْي وَمَا كَانَت الْإِضَافَة إِلَيْهِ إِلَّا نَظِير قَوْله تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ} فَإِن إِضَافَة الإمناء إِلَى الْعباد لَا يمْنَع القَوْل بِأَن الشَّخْص مَخْلُوق خلقه الله تَعَالَى فَكَذَلِك إِضَافَة السّنة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطرِيق أَنه ظهر لنا بعبارته لَا يكون دَلِيلا على أَن الحكم غير ثَابت بطرِيق الْوَحْي من الله تَعَالَى وكما أَن الْكتاب وَالسّنة كل وَاحِد مِنْهُمَا حجَّة مُوجبَة للْعلم فآيات الْكتاب كلهَا حجَّة مُوجبَة للْعلم
ثمَّ القَوْل بِجَوَاز نسخ الْكتاب بِالْكتاب لَا يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بالتناقض فِي الْحجَّة فَكَذَلِك فِي السّنَن فَإِن جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض وتطرق الطاعنين إِلَى الطعْن فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك بل يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تَعْظِيم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِلَى قرب مَنْزِلَته من حَيْثُ إِن الله تَعَالَى فوض بَيَان الحكم الَّذِي هُوَ وَحي فِي الأَصْل إِلَيْهِ ليبينه بعبارته وَجعل لعبارته من الدرجَة مَا يثبت بِهِ مُدَّة الحكم الَّذِي هُوَ ثَابت بِوَحْي متلو حَتَّى(2/74)
يتَبَيَّن بِهِ انتساخه
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا خلاف بَيْننَا وَبَين الْخصم على جَوَاز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَنسخ تِلَاوَة الْكتاب إِنَّمَا يكون بِغَيْر الْكتاب إِمَّا بِأَن يرفع حفظه من الْقُلُوب أَو لَا يبْقى أحد مِمَّن كَانَ يحفظه نَحْو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي صلَاته سُورَة الْمُؤمنِينَ فأسقط مِنْهَا آيَة ثمَّ قَالَ بعد الْفَرَاغ ألم يكن فِيكُم أبي فَقَالَ نعم يَا رَسُول الله
فَقَالَ هلا ذكرتنيها فَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا نسخت
فَقَالَ لَو نسخت لأنبأتكم بهَا فقد اعْتقد نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا ثَبت جَوَاز نسخ التِّلَاوَة بِغَيْر الْكتاب فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الحكم لِأَن وجوب التِّلَاوَة وَالْعَمَل بِحكمِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا حكم ثَابت بِالْكتاب
وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْكتاب بِغَيْرِهِ أَن قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} قد انتسخ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة على مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا مَا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّنْيَا حَتَّى أُبِيح لَهُ النِّسَاء
وناسخ هَذَا لَا يُتْلَى فِي الْكتاب فَعرفنَا أَنهم اعتقدوا جَوَاز نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب
فَأَما قَوْله تَعَالَى {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَهُوَ يخرج على مَا ذكرنَا من التَّقْرِير فَإِن كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ ثَابت بطرِيق الْوَحْي وشارعه علام الغيوب وَإِن كَانَت الْعبارَة فِي أَحدهمَا من حَيْثُ الظَّاهِر لرَسُول الله فيستقيم إِطْلَاق القَوْل بِأَن الحكم الثَّانِي مثل الأول أَو خير مِنْهُ على معنى زِيَادَة الثَّوَاب والدرجة فِيهِ أَو كَونه أيسر على الْعباد أَو أجمع لمصالحهم عَاجلا وآجلا إِلَّا أَن الْوَحْي المتلو نظمه معجز وَالَّذِي هُوَ غير متلو نظمه لَيْسَ بمعجز لِأَنَّهُ عبارَة مَخْلُوق وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ أفْصح الْعَرَب فَكَلَامه لَيْسَ بمعجز أَلا ترى أَنه مَا تحدى النَّاس إِلَى الْإِتْيَان بِمثل كَلَامه كَمَا تحداهم إِلَى الأتيان بِمثل سُورَة من الْقُرْآن
وَلَكِن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمَا دون الْآيَة وبآية وَاحِدَة واتفاق الْعلمَاء على صفة الإعجاز فِي سُورَة وَإِن تكلمُوا فِيمَا دون(2/75)
السُّورَة
فَعرفنَا أَن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز
وَمَا رُوِيَ من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فاعرضوه على كتاب الله تَعَالَى فقد قيل هَذَا الحَدِيث لَا يكَاد يَصح لِأَن هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه مُخَالف لكتاب الله تَعَالَى فَإِن فِي الْكتاب فَرضِيَّة اتِّبَاعه مُطلقًا وَفِي هَذَا الحَدِيث فَرضِيَّة اتِّبَاعه مُقَيّدا بِأَن لَا يكون مُخَالفا لما يُتْلَى فِي الْكتاب ظَاهرا
ثمَّ وَلَئِن ثَبت فَالْمُرَاد أَخْبَار الْآحَاد لَا المسموع مِنْهُ بِعَيْنِه أَو الثَّابِت عَنهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَفِي اللَّفْظ مَا دلّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِذا رُوِيَ لكم عني حَدِيث وَلم يقل إِذا سَمِعْتُمْ مني وَبِه نقُول إِن بِخَبَر الْوَاحِد لَا يثبت نسخ الْكتاب لِأَنَّهُ لَا يثبت كَونه مسموعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا وَلِهَذَا لَا يثبت بِهِ علم الْيَقِين على أَن المُرَاد بقوله وَمَا خَالف فَردُّوهُ عِنْد التَّعَارُض إِذا جعل التَّارِيخ بَينهمَا حَتَّى لَا يُوقف على النَّاسِخ والمنسوخ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يعْمل بِمَا فِي كتاب الله تَعَالَى وَلَا يجوز ترك مَا هُوَ ثَابت فِي كتاب الله نصا عِنْد التَّعَارُض وَنحن هَكَذَا نقُول وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا إِذا عرف التَّارِيخ بَينهمَا
وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب قَوْله تَعَالَى {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} فَإِن السّنة شَيْء ومطلقها يحْتَمل التَّوْقِيت والتأبيد فناسخها يكون مُبينًا معنى التَّوْقِيت فِيهَا وَالله تَعَالَى بَين أَن الْقُرْآن تبيان لكل شَيْء فبه يظْهر جَوَاز نسخ السّنة بِالْكتاب
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ جَوَاز نسخ السّنة بِالسنةِ فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَابت بِوَحْي غير متلو فَإِذا جَازَ نسخ السّنة بِوَحْي غير متلو فَلِأَن يجوز نسخهَا بِوَحْي متلو كَانَ أولى
وَالدَّلِيل على وجود ذَلِك أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَمَا قدم المدنية كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر شهرا وَهَذَا الحكم لَيْسَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن وَإِنَّمَا يثبت بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بقوله تَعَالَى {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام}
فَإِن قيل لَا كَذَلِك بل ثُبُوت هَذَا الحكم بِالْكتاب فَإِنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا وَعِنْدِي شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا حَتَّى يقوم الدَّلِيل على انتساخه وَهَذَا حكم ثَابت بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} قُلْنَا عنْدك شَرِيعَة من قبلنَا تلزمنا بطرِيق أَنه تصير شَرِيعَة لنا بِسنة رَسُول الله قولا أَو عملا(2/76)
فَلَا يخرج بِهَذَا من أَن يكون نسخ السّنة بِالْكتاب مَعَ أَن النَّاسِخ مَا كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا قد ثَبت بِفعل رَسُول الله حِين كَانَ بِمَكَّة فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ بَعْدَمَا قدم الْمَدِينَة لما صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس انتسخت السّنة بِالسنةِ ثمَّ لما نزلت فَرضِيَّة التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة انتسخت السّنة بِالْكتاب وَلَا خلاف أَن مَا كَانَ فِي شَرِيعَة من قبلنَا ثَبت انتساخه فِي حَقنا بقول أَو فعل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَافِهِ وَهَذَا نسخ الْكتاب بِالسنةِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام صَالح قُريْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة على أَن يرد عَلَيْهِم من جَاءَهُ مِنْهُم مُسلما ثمَّ انتسخ بقوله {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} الْآيَة وَهَذَا نسخ السّنة بِالْكتاب
وَكَذَلِكَ حكم إِبَاحَة الْخمر فِي الِابْتِدَاء فَإِن كَانَ ثَابتا بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنبُوهُ} وَحكم حُرْمَة الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع بعد النّوم فِي زمَان الصَّوْم كَانَ ثَابتا بِالسنةِ ثمَّ انتسخ بقوله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن} الْآيَة
وَلِهَذَا أَمْثِلَة كَثِيرَة
وَأما نسخ الْكتاب بِالْكتاب فنحو وجوب الصفح والإعراض عَن الْمُشْركين فَإِنَّهُ كَانَ ثَابتا بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فاصفح الصفح الْجَمِيل} ثمَّ انتسخ ذَلِك بِالْكتاب بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} وَحُرْمَة فرار الْوَاحِد مِمَّا دون الْعشْرَة من الْمُشْركين حكما ثَابتا بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله {وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا} ثمَّ انتسخ بِالْكتاب وَهُوَ قَوْله {الْآن خفف الله عَنْكُم}
وَأما نسخ السّنة بِالسنةِ فبيانه فِيمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزوروها فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه
وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن لُحُوم الْأَضَاحِي أَن تمسكوها فَوق ثَلَاثَة أَيَّام فأمسكوا وَادخرُوا مَا بدا لكم
وَكنت نَهَيْتُكُمْ عَن الشّرْب فِي الدُّبَّاء والحنتم والمزفت فَاشْرَبُوا فِي الظروف فَإِن الظروف لَا تحل شَيْئا وَلَا تحرمه وَلَا تشْربُوا مُسكرا ثمَّ إِنَّمَا يجوز نسخ الْكتاب بِالسنةِ المتواترة أَو الْمَشْهُورَة على وَجه لَو جهل التَّارِيخ بَينهمَا يثبت حكم التَّعَارُض
فَأَما بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز النّسخ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن التَّعَارُض بِهِ لَا يثبت بَينه وَبَين الْكتاب فَإِنَّهُ لَا يعلم بِأَنَّهُ كَلَام رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام لتمكن الشُّبْهَة فِي طَرِيق النَّقْل وَلِهَذَا لَا يُوجب الْعلم فَلَا يتَبَيَّن بِهِ أَيْضا مُدَّة بَقَاء الحكم الثَّابِت بِمَا يُوجب علم الْيَقِين
فَأَما فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/77)
فقد كَانَ يجوز أَن يثبت نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد أَلا ترى أَن أهل قبَاء تحولوا فِي خلال الصَّلَاة من جِهَة بَيت الْمُقَدّس إِلَى جِهَة الْكَعْبَة بِخَبَر الْوَاحِد وَلم يُنكر عَلَيْهِم ذَلِك رَسُول الله
وَهَذَا لِأَن فِي حَيَاته كَانَ احْتِمَال النّسخ والتوقيت قَائِما فِي كل حكم لِأَن الْوَحْي كَانَ ينزل حَالا فحالا فَأَما بعده فَلَا احْتِمَال للنسخ ابْتِدَاء
وَلَا بُد من أَن يكون مَا يثبت بِهِ النّسخ مُسْتَندا إِلَى حَال حَيَاته بطرِيق لَا شُبْهَة فِيهِ وَهُوَ النَّقْل الْمُتَوَاتر أَو مَا يكون فِي حيّز التَّوَاتُر على الْوَجْه الَّذِي قَررنَا فِيمَا سبق وَالله أعلم
فصل فِي بَيَان وُجُوه النّسخ
وَهَذِه وُجُوه أَرْبَعَة نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا وَنسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَنسخ رسم التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم والنسخ بطرِيق الزِّيَادَة على النَّص
فَأَما الْوَجْه الأول فنحو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فقد علمنَا بِمَا يُوجب الْعلم حَقِيقَة أَنَّهَا قد كَانَت نازلة تقْرَأ وَيعْمل بهَا قَالَ تَعَالَى {إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ تَعَالَى {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} ثمَّ لم يبْق شَيْء من ذَلِك فِي أَيْدِينَا تِلَاوَة وَلَا عملا بِهِ فَلَا طَرِيق لذَلِك سوى القَوْل بانتساخ التِّلَاوَة وَالْحكم فِيمَا يحْتَمل ذَلِك
وَله طَرِيقَانِ إِمَّا صرف الله تَعَالَى عَنْهَا الْقُلُوب وَإِمَّا موت من يحفظها من الْعلمَاء لَا إِلَى خلف
ثمَّ هَذَا النَّوْع من النّسخ فِي الْقُرْآن كَانَ جَائِزا فِي حَيَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام بقوله تَعَالَى {سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ الله} فالاستثناء دَلِيل على جَوَاز ذَلِك
وَقَالَ تَعَالَى {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها} وَقَالَ {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} فَأَما بعد وَفَاة الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يجوز هَذَا النَّوْع من النّسخ فِي الْقُرْآن عِنْد الْمُسلمين
وَقَالَ بعض الْمُلْحِدِينَ مِمَّن يتستر بِإِظْهَار الْإِسْلَام وَهُوَ قَاصد إِلَى إفساده هَذَا جَائِز بعد وَفَاته أَيْضا وَاسْتدلَّ فِي ذَلِك بِمَا رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ كَانَ يقْرَأ لَا ترغبوا عَن آبائكم فَإِنَّهُ كفر بكم
وَأنس رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول(2/78)
قَرَأنَا فِي الْقُرْآن بلغُوا عَنَّا قَومنَا أَنا لَقينَا رَبنَا فَرضِي عَنَّا وأرضانا
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ قَرَأنَا آيَة الرَّجْم فِي كتاب الله ووعيناها
وَقَالَ أبي بن كَعْب إِن سُورَة الْأَحْزَاب كَانَت مثل سُورَة الْبَقَرَة أَو أطول مِنْهَا
وَالشَّافِعِيّ لَا يظنّ بِهِ مُوَافقَة هَؤُلَاءِ فِي هَذَا القَوْل وَلكنه اسْتدلَّ بِمَا هُوَ قريب من هَذَا فِي عدد الرضعات فَإِنَّهُ صحّح مَا يرْوى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِن مِمَّا أنزل فِي الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن فنسخن بِخمْس رَضعَات مَعْلُومَات وَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث
وَالدَّلِيل على بطلَان هَذَا القَوْل قَوْله تَعَالَى {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ المُرَاد الْحِفْظ لَدَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى يتعالى من أَن يُوصف بِالنِّسْيَانِ والغفلة فَعرفنَا أَن المُرَاد الْحِفْظ لدينا فالغفلة وَالنِّسْيَان متوهم منا وَبِه يَنْعَدِم الْحِفْظ إِلَّا أَن يحفظه الله عز وَجل وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْء من أَوْقَات بَقَاء الْخلق فِي الدُّنْيَا عَن أَن يكون فِيمَا بَينهم مَا هُوَ ثَابت بطرِيق الْوَحْي فِيمَا ابتلوا بِهِ من أَدَاء الْأَمَانَة الَّتِي حملوها إِذْ الْعقل لَا يُوجب ذَلِك وَلَيْسَ بِهِ كِفَايَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَقد ثَبت أَنه لَا نَاسخ لهَذِهِ الشَّرِيعَة بِوَحْي ينزل بعد وَفَاة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام وَلَو جَوَّزنَا هَذَا فِي بعض مَا أُوحِي إِلَيْهِ لوَجَبَ القَوْل بتجويز ذَلِك فِي جَمِيعه فَيُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَن لَا يبْقى شَيْء مِمَّا ثَبت بِالْوَحْي بَين النَّاس فِي (حَال) بَقَاء التَّكْلِيف وَأي قَول أقبح من هَذَا وَمن فتح هَذَا الْبَاب لم يَأْمَن أَن يكون بعض مَا فِي أَيْدِينَا الْيَوْم أَو كُله مُخَالف لشريعة رَسُول الله بِأَن نسخ الله ذَلِك بعده وَألف بَين قُلُوب النَّاس على أَن ألهمهم مَا هُوَ خلاف شَرِيعَته فلصيانة الدّين إِلَى آخر الدَّهْر أخبر الله تَعَالَى أَنه هُوَ الْحَافِظ لما أنزلهُ على رَسُوله وَبِه يتَبَيَّن أَنه لَا يجوز نسخ شَيْء مِنْهُ بعد وَفَاته بطرِيق الاندراس وَذَهَاب حفظه من قُلُوب الْعباد وَمَا ينْقل من أَخْبَار الْآحَاد شَاذ لَا يكَاد يَصح شَيْء مِنْهَا وَيحمل قَول من قَالَ فِي آيَة الرَّجْم إِنَّه فِي كتاب الله أَي فِي حكم الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {كتاب الله عَلَيْكُم} أَي حكم الله عَلَيْكُم وَحَدِيث عَائِشَة لَا يكَاد يَصح(2/79)
لِأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِك الحَدِيث وَكَانَت الصَّحِيفَة تَحت السرير فاشتغلنا بدفن رَسُول الله فَدخل دَاجِن الْبَيْت فَأَكله وَمَعْلُوم أَن بِهَذَا لَا يَنْعَدِم حفظه من الْقُلُوب وَلَا يتَعَذَّر عَلَيْهِم إثْبَاته فِي صحيفَة أُخْرَى فَعرفنَا أَنه لَا أصل هَذَا الحَدِيث
فَأَما الْوَجْهَانِ الْآخرَانِ فهما جائزان فِي قَول الْجُمْهُور من الْعلمَاء وَمن النَّاس من يَأْبَى ذَلِك
قَالُوا لِأَن الْمَقْصُود بَيَان الحكم وإنزال المتلو كَانَ لأَجله فَلَا يجوز رفع الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة لخلوه عَمَّا هُوَ الْمَقْصُود وَلَا يجوز نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم لِأَن الحكم لَا يثبت بِدُونِ السَّبَب وَلَا يبْقى بِدُونِ بَقَاء السَّبَب أَيْضا
وَمِنْهُم من يَقُول يجوز نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة وَلَا يجوز نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي وجوب الِاعْتِقَاد فِي المتلو أَنه قُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى كَيفَ يَصح أَن يعْتَقد فِيهِ خلاف هَذَا فِي شَيْء من الْأَوْقَات وَالْقَوْل بنسخ التِّلَاوَة يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فَكَانَ هَذَا نوعا من الْأَخْبَار الَّتِي لَا يجوز فِيهَا النّسخ
فَأَما دليلنا على وجود نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة قَوْله تَعَالَى {فأمسكوهن فِي الْبيُوت} فَإِن الْحَبْس فِي الْبيُوت والأذى بِاللِّسَانِ كَانَ حد الزِّنَا وَقد انتسخ هَذَا الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج} فَإِن تَقْدِير عدَّة الْوَفَاة بحول كَانَ منزلا وانتسخ هَذَا الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة
وَقَوله تَعَالَى {فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} فَإِن حكم هَذَا قد انتسخ بقوله {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم} وَبقيت التِّلَاوَة
وَحكم التَّخْيِير بَين الصَّوْم والفدية قد انتسخ بقوله {فليصمه} وَبقيت التِّلَاوَة وَهُوَ قَوْله {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} وَالدَّلِيل على جَوَاز ذَلِك أَنه يتَعَلَّق بِصِيغَة التِّلَاوَة حكمان مقصودان أَحدهمَا جَوَاز الصَّلَاة وَالثَّانِي النّظم المعجز وَبعد انتساخ الحكم الَّذِي هُوَ الْعَمَل بِهِ يبْقى هَذَانِ الحكمان وهما مقصودان أَلا ترى أَن بالمتشابه فِي الْقُرْآن إِنَّمَا يثبت هَذَانِ الحكمان فَقَط وَإِذا حسن ابْتِدَاء رسم التِّلَاوَة لهذين الْحكمَيْنِ فالبقاء أولى
وَقد بَينا أَن(2/80)
الدَّلِيل الْمُوجب لثُبُوت الحكم لَا يكون مُوجبا للبقاء وبالانتساخ إِنَّمَا يَنْعَدِم بَقَاء الحكم وَذَلِكَ مَا كَانَ مُضَافا إِلَى مَا كَانَ مُوجبا ثُبُوت الحكم فانتهاء الحكم لَا يمْنَع بَقَاء التِّلَاوَة من هَذَا الْوَجْه
وَأما نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فبيانه فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِن صَوْم كَفَّارَة الْيَمين ثَلَاثَة أَيَّام متتابعة بِقِرَاءَة ابْن مَسْعُود فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات
وَقد كَانَت هَذِه قِرَاءَة مَشْهُورَة إِلَى زمن أبي حنيفَة
وَلَكِن لم يُوجد فِيهِ النَّقْل الْمُتَوَاتر الَّذِي يثبت بِمثلِهِ الْقُرْآن وَابْن مَسْعُود لَا يشك فِي عَدَالَته وإتقانه فَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا أَن نقُول كَانَ ذَلِك مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآن كَمَا حفظه ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثمَّ انتسخت تِلَاوَته فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَرْف الله الْقُلُوب عَن حفظهَا إِلَّا قلب ابْن مَسْعُود ليَكُون الحكم بَاقِيا بنقله فَإِن خبر الْوَاحِد مُوجب للْعَمَل بِهِ وقراءته لَا تكون دون رِوَايَته فَكَانَ بَقَاء هَذَا الحكم بعد نسخ التِّلَاوَة بِهَذَا الطَّرِيق
وَالدَّلِيل على جَوَازه مَا بَينا أَن بَقَاء الحكم لَا يكون بِبَقَاء السَّبَب الْمُوجب لَهُ فانتساخ التِّلَاوَة لَا يمْنَع بَقَاء الحكم أَلا ترى أَن البيع مُوجب للْملك ثمَّ لَو قطع المُشْتَرِي ملكه بِالْبيعِ من غَيره أَو أزاله بِالْإِعْتَاقِ لم يَنْعَدِم ذَلِك البيع لِأَن الْبَقَاء لم يكن مُضَافا إِلَيْهِ
ثمَّ قد بَينا أَن حكم تعلق جَوَاز الصَّلَاة بتلاوته وَحُرْمَة قِرَاءَته على الْجنب وَالْحَائِض مَقْصُود وَهُوَ مِمَّا يجوز أَن يكون موقتا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ مدَّته فَيكون نسخ التِّلَاوَة بَيَان مُدَّة ذَلِك الحكم كَمَا أَن نسخ الحكم بَيَان الْمدَّة فِيهِ وَمَا توهمه بَعضهم فَهُوَ غلط بَين فَإِن بَعْدَمَا اعتقدنا فِي المتلو أَنه قُرْآن وَأَنه كَلَام الله تَعَالَى لَا نعتقد فِيهِ أَنه لَيْسَ بقرآن وَأَنه لَيْسَ بِكَلَام الله تَعَالَى بِحَال من الْأَحْوَال وَلَكِن بانتساخ التِّلَاوَة يَنْتَهِي حكم تعلق جَوَاز الصَّلَاة بِهِ وَحُرْمَة قرآءته على الْجنب وَالْحَائِض لضَرُورَة أَن الله تَعَالَى رفع عَنَّا تِلَاوَته وَحفظه وَهُوَ نَظِير مَا يَقُول فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا قبض نعتقد فِيهِ أَنه رَسُول الله وَأَنه خَاتم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على مَا كَانَ فِي حَال حَيَاته وَإِن أخرجه الله من بَيْننَا بانتهاء مُدَّة حَيَاته فِي الدُّنْيَا
وأيد جَمِيع مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} ثمَّ قد بَينا أَنه يجوز إِثْبَات الحكم ابْتِدَاء بِوَحْي غير متلو فَلِأَن يجوز بَقَاء الحكم بَعْدَمَا انتسخ حكم التِّلَاوَة من الْوَحْي المتلو كَانَ أولى(2/81)
وَأما الْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الزِّيَادَة على النَّص فَإِنَّهُ بَيَان صُورَة وَنسخ معنى عندنَا سَوَاء كَانَت الزِّيَادَة فِي السَّبَب أَو الحكم وعَلى قَول الشَّافِعِي هُوَ بِمَنْزِلَة تَخْصِيص الْعَام وَلَا يكون فِيهِ معنى النّسخ حَتَّى جوز ذَلِك بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس
وَبَيَان هَذَا فِي النَّفْي مَعَ الْجلد وَقيد صفة الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين
وَجه قَوْله إِن الرَّقَبَة اسْم عَام يتَنَاوَل المؤمنة والكافرة فإخراج الْكَافِرَة مِنْهَا يكون تَخْصِيصًا لَا نسخا بِمَنْزِلَة إِخْرَاج بعض الْأَعْيَان من الِاسْم الْعَام أَلا ترى أَن بني إِسْرَائِيل استوصفوا الْبَقَرَة وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم طلب الْبَيَان الْمَحْض دون النّسخ وَبَعْدَمَا بَينهَا الله لَهُم امتثلوا الْأَمر الْمَذْكُور فِي قَوْله {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} وَهَذَا لِأَن النّسخ يكون بِرَفْع الحكم الْمَشْرُوع وَفِي الزِّيَادَة تَقْرِير الحكم الْمَشْرُوع وإلحاق شَيْء آخر بِهِ بطرِيق المحاورة فَإِن إِلْحَاق النَّفْي بِالْجلدِ لَا يخرج الْجلد من أَن يكون مَشْرُوعا وإلحاق صفة الْإِيمَان بِالرَّقَبَةِ لَا يخرج الرَّقَبَة من أَن تكون مُسْتَحقَّة الْإِعْتَاق فِي الْكَفَّارَة
وَهَذَا نَظِير حُقُوق الْعباد فَإِن من ادّعى على غَيره ألفا وخمسائة وَشهد لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلف وآخران بِأَلف وخمسائة حَتَّى قضى لَهُ بِالْمَالِ كُله كَانَ مِقْدَار الْألف مقضيا بِهِ بِشَهَادَتِهِم جَمِيعًا وإلحاق الزِّيَادَة بِالْألف فِي شَهَادَة الآخر يُوجب تَقْرِير الأَصْل فِي كَونه مشهودا بِهِ لَا رَفعه
فَتبين بِهَذَا أَن الزِّيَادَة لَا تتعرض لأصل الحكم الْمَشْرُوع فَلَا يكون فِيهَا معنى النّسخ بِوَجْه من الْوُجُوه
ثمَّ قد يكون بطرِيق التَّخْصِيص وَقد لَا يكون وَلِهَذَا لَا يشْتَرط فِيهَا أَن تكون مقرونة بِالْأَصْلِ كَمَا يشْتَرط ذَلِك فِي دَلِيل الْخُصُوص وحاجتنا إِلَى إِثْبَات أَن ذَلِك لَيْسَ بنسخ وَقد أَثْبَتْنَاهُ بِمَا قَررنَا
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن أَكثر مَا ذكره الْخصم دَلِيل على أَن الزِّيَادَة بَيَان صُورَة وَنحن نسلم ذَلِك وَلَكنَّا ندعي أَنه نسخ معنى وَالدَّلِيل على إِثْبَات ذَلِك أَن مَا يجب حَقًا لله تَعَالَى من عبَادَة أَو عُقُوبَة أَو كَفَّارَة لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي وَلَيْسَ للْبَعْض مِنْهُ حكم الْجُمْلَة بِوَجْه فَإِن الرَّكْعَة من صَلَاة الْفجْر لَا تكون فجرا والركعتين من صَلَاة الظّهْر فِي حق الْمُقِيم لَا تكون ظهرا وَكَذَلِكَ الْمظَاهر إِذا صَامَ شهرا ثمَّ عجز فأطعم ثَلَاثِينَ مِسْكينا لَا يكون مكفرا بِهِ بِالْإِطْعَامِ(2/82)
وَلَا بِالصَّوْمِ وَلِهَذَا قُلْنَا الْقَاذِف إِذا جلد تِسْعَة وَسبعين سَوْطًا لَا تسْقط شَهَادَته لِأَن الْحَد ثَمَانُون سَوْطًا فبعضه لَا يكون حدا
إِذا تقرر هَذَا فَنَقُول الثَّابِت بِآيَة الزِّنَا جلد وَهُوَ حد فَإِذا الْتحق النَّفْي بِهِ يخرج الْجلد من أَن يكون حدا لِأَنَّهُ يكون بعض الْحَد حِينَئِذٍ وَبَعض الْحَد لَيْسَ بِحَدّ بِمَنْزِلَة بعض الْعلَّة فَإِنَّهُ لَا يُوجب شَيْئا من الحكم الثَّابِت بِالْعِلَّةِ فَكَانَ نسخا من هَذَا الْوَجْه وَكَذَلِكَ فِي الرَّقَبَة فَإِن مَعَ الْإِطْلَاق التَّكْفِير بتحرير رَقَبَة وَبعد الْقَيْد تَحْرِير رَقَبَة بعض مَا يتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَة
فَعرفنَا أَنه نسخ وَبِه فَارق حُقُوق الْعباد فَإِنَّهُ مِمَّا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي فَيمكن أَن يَجْعَل إِلْحَاق الزِّيَادَة بِهِ تقريرا للمزيد عَلَيْهِ حَتَّى إِن فِيمَا لَا يحْتَمل التجزي من حُقُوق الْعباد الحكم كَذَلِك أَيْضا فَإِن البيع لما كَانَ عبارَة عَن الْإِيجَاب وَالْقَبُول لم يكن الْإِيجَاب الْمَحْض بيعا وَنِكَاح أَربع نسْوَة لما كَانَ مُوجبا حُرْمَة النِّكَاح عَلَيْهِ لَا يثبت شَيْء من ذَلِك بِنِكَاح امْرَأَة أَو امْرَأتَيْنِ لِأَن لَيْسَ بِنِكَاح أَربع نسْوَة وَقد بَينا فِي قصَّة بني إِسْرَائِيل أَن ذَلِك كَانَ بَيَانا صُورَة وَكَانَ نسخا معنى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا بقوله شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم
يدل عَلَيْهِ أَن النّسخ لبَيَان مُدَّة بَقَاء الحكم وَإِثْبَات حكم آخر ثمَّ الْإِطْلَاق ضد التَّقْيِيد فَكَانَ من ضَرُورَة ثُبُوت التَّقْيِيد انعدام صفة الْإِطْلَاق وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بعد انْتِهَاء مُدَّة حكم الْإِطْلَاق وَإِثْبَات حكم هُوَ ضِدّه وَهُوَ التَّقْيِيد وَإِذا كَانَ إِثْبَات حكم غير الأول على وَجه يعلم أَنه لم يبْق مَعَه الأول نسخا فإثبات حكم هُوَ ضد الأول أولى أَن يكون نسخا بطرِيق الْمَعْنى وَبِه فَارق التَّخْصِيص فَإِن التَّخْصِيص لَا يُوجب حكما فِيمَا تنَاوله الْعَام غير الحكم الأول وَلَكِن يبين أَن الْعَام لم يكن متناولا لما صَار مَخْصُوصًا مِنْهُ وَلِهَذَا لَا يكون التَّخْصِيص إِلَّا مُقَارنًا يقرره أَن التَّخْصِيص للإخراج وَالتَّقْيِيد للإثبات وَأي مشابهة تكون بَين الْإِخْرَاج من الحكم وَبَين إِثْبَات الحكم
وَهَذَا لِأَن الْإِطْلَاق يعْدم صفة التَّقْيِيد وَالتَّقْيِيد إِيجَاد لذَلِك الْوَصْف فَبعد مَا ثَبت التَّقْيِيد لَا يتَصَوَّر بَقَاء صفة الْإِطْلَاق وَلَا يكون الحكم ثَابتا لما تنَاوله صِيغَة الْإِطْلَاق وَإِنَّمَا يكون ثَابتا بالمقيد من اللَّفْظ فَأَما الْعَام إِذا خص مِنْهُ شَيْء يبْقى الحكم ثَابتا فِيمَا وَرَاءه بِمُقْتَضى لفظ الْعُمُوم فَقَط(2/83)