وهذا التفسير يقبل؛ لأن ظاهر قوله: لا زكاة فيه، أنه لا زكاة فيها بحال.
أما التفسير المخالف، فهو أن يقول: مكيل، فوجب أن يحرم فيه التفاضل.
أصله: الأربعة المنصوص عليها.
فيناقض بالجنسين (1) .
فيقول: أردت به إذا كان جنساً واحداً، فلا يقبل منه؛ لأن لفظه عام في جنس واحد وجنسين، فيريد أن يجىء بلفظه زيادة، يضيفها إليه ليخرج موضع النقض من لفظ العلة، وهذا لا سبيل له إليه بعد انتقاض ما تناوله لفظ علته.
وقال بعضهم: إذا جاز لصاحب الشريعة أن يطلق لفظاً عاماً ثم يخصه جاز ذلك لمعلل.
وهذا فاسد؛ لأن من يقول: لا يجوز تأخير البيان لا يُجَوِّز ذلك إلا أن يكون البيان سابقاً، ليكون دليل التخصيص بمنزلة القرينة.
ومن يجوِّز تأخير البيان، فإنّما يجوِّزه إلى وقت الحاجة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والمعلل قد أخر بيانه عن وقت الحاجة وهذا [غير] جائز (2) .
وجواب آخر: وهو أن لصاحب الشريعة النسخ، وله ذكر بعض العلة وترك الباقي.
وهذا لا يجوز للمسؤول القاصد إلى تثبيت الحكم بعلته.
فأما إذا نازعه الحكيم في وصف علته، وامتنع من تسليمه، ففسره بما يوافقه، ويسلم له، وكان اللفظ محتملاً لما فسره به، وتستقل العلة بذكره قُبِل منه.
مثاله أن يقول: الحج لا يسقط بالموت؛ لأنه فعل تدخله النيابة، استقر عليه في حال الحياة، فلا يسقط بالموت، كالدين.
__________
(1) كالبر والتمر، فإن التفاضل بينهما جائز.
(2) انظر: التمهيد (4/145) .(5/1451)
فيقول الخصم: الحج لا تدخله النيابة، ويكون الحج للحاج دون المحجوج عنه.
فيقول المعلل: أردت بالنيابة أن للمحجوج عنه أن يأمره بفعله، ويجوز للفاعل أن يقصد بقلبه أنه يفعله له، أو يجب عليه ذلك.
وهذا يسلمه الخصم، وهو ضرب من النيابة.
فصل
إذا كانت العلة للجواز فلا تنتقض بأعيان المسائل (1) .
مثاله أن يقول: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأن من وجب في ماله العُشْر، جاز أن يجب في ماله ربع العُشْر.
فقال: هذا ينتقض بما دون المائتين، وببنات البُدْن والحمير والبغال وسائر الأموال التي لا تجب الزكاة فيها.
أو قال [في الصبي والمجنون] : حر مسلم، فجاز [225/ب] أن تجب الزكاة في ماله قياساً على البالغ العاقل.
فقال: ينتقض بالأموال التي ذكرناها.
وهذا ليس ينتقض؛ لأن النقض وجود العلة مع عدم الحكم، وليس حكم هذه العلة وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في كل ماله، وإنما حكمها وجوب ربع العُشْر أو وجوب الزكاة في مال غير معيَّن.
فإذا وجبت الزكاة في مال من الأموال وأسقطها عن غيره كان حكم العلة موجوداً، ولم يكن النقض داخلاً على العلة.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/148) والمسوَّدة ص (431) ، والمنهاج في ترتيب الحجاح ص (188) .(5/1452)
فصل
[التسوية بين الفرع والأصل تدفع النقض]
إذا انتقضت علة المعلل، فقال: قصدت التسوية بين الأصل والفرع (1) ، جاز (2) .
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (3) .
وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز ذلك (4) .
ومثاله: أن نقول في المسح على العمامة: عضو يسقط في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين.
فيقول المخالف: هذا ينتقض به في الغسل من الجنابة (5) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/150) والمسوَّدة ص (431) وشرح الكوكب المنير (4/288) .
(2) قيد ذلك أبو الخطاب بمن يقول: إن العلة المخصوصة صحيحة؛ لأنه لا يشترط في العلة: الطرد والجريان.
أما من لا يقول بتخصيص العلة فإن التسوية ليست مانعة من النقض.
ثم ذكر أن ذلك خلاف ما اختاره شيخه أبو يعلى من أن التسوية تمنع من النقض، مع قوله: إن من شرط العلة الاطراد.
(3) وهو كذلك
انظر: أصول السرخسي (2/248) وتيسير التحرير (4/144) .
(4) هذا هو المشهور عند الشافعية.
وفصَِّل بعضهم فقال: إن كان قد صرح بالحكم لم يدفع النقض، وإن كان غير مصرح به، بل قد جعل حكم العلة التشبيه فيدفع النقض.
انظر: التبصرة ص (470) وشرح اللُّمع (2/889) .
(5) فإن الرأس في الغسل من الجنابة يسقط والتيمم، ولا يمسح على حائله.
انظر: التمهيد (4/150) .(5/1453)
فنقول: قصدنا التسوية بين الرأس والقدمين، والرأس والقدمان يُنْقَضان في غسل الجنابة.
وكذلك السلم، موجود عند المحل، فصح السلم فيه كما لو كان موجوداً حين العقد.
ولا يلزم عليه الجواهر؛ لأنها لو كانت موجودة حين العقد لم يجز السَّلَم فيها.
ومثاله ما قاله الحنفي: من صح قبوله البيع صح قبوله النكاح.
أصله: الحلال.
فقيل له: ينتقض بمن له أربع نسوة، فإنه يصح قبوله للبيع، ولا يصح قبوله للنكاح.
فقال: قصدت التسوية بين المحرم والمحل، والمحرم والحلال يتفقان في ذلك.
أو قال: مائع فجاز إزالة النجاسة به كالماء.
فقال خصمه: ينتقض بالمائع النجس.
فقال: قصدت التسوية بين المائع والماء، والنجس لا يجوز إزالة النجاسة به فيهما.
والدلالة عليه:
أن القصد بالعلة التسوية بين الأصل والفرع، فإذا استويا في الحكم وفي ضده، دل ذلك على قوة الشبه بينهما، وجرى ذلك مجرى قوله: بنو (1) بكر زرق كبني تميم، فبان (2) أن في بني بكر أشهل، وفي بني تميم أشهل، لم يمتنع ذلك من صحة الشبه، كذلك هاهنا.
وأيضاً: فإن الكسر كالنقض، بدليل أن كل واحد منهما يمنع الاحتجاج بالعلة.
__________
(1) في الأصل (بنى) .
(2) في الأصل: (بان) .(5/1454)
ثم ثبت أن التسوية في الكسر بين الأصل والفرع يمنع لزومه، كذلك النقض.
ومثاله ما قاله المخالف فيمن وطىء ليلا في كفارة الظهار: إن وطأه لم يصادف صوماً فلم يفسد، كالوطء في كفارة القتل.
فقيل له: لا يمتنع أن لا يصادف الصوم ويفسد، كما لو نوى صيام تطوع أو قضاء، فإن التتابع يفسد، وإن لم يفسد [266/أ] الصوم.
فيقول المخالف في الأصل مثله، وهو كفارة القتل، وأن ذلك يفسد، كذلك في الظهار، فيكون ذلك جواباً سديداً، كذلك هاهنا.
وأيضاً: فإنه ليس من شرط العلة جريانها في جميع المعلول.
بدليل أنه لو كان الخلاف في فصلين، فنصب العلة على أحدهما كانت صحيحة، فإذا لزم على العلة نقضاً، فقال في الأصل مثله، فأكثر ما فيه أنها لم تجر في جميع المعلومات، وذلك جائز.
واحتج المخالف:
بأن النقض، وجود العلة مع عدم حكمها.
وحكم هذه العلة صحة قبول النكاح دون التسوية. وقد وجدت العلة، وحكمها معدوم.
والجواب: أن النقض وجود العلة مع عدم حكمها، مع اختلاف الأصل والفرع في ذلك. فأما مع اتفاقهما، فليس هذا حد النقض وصفته.
واحتج: بأن هذا القائل يسقط الأصل؛ لأن حكم العلة إذا كان التسوية بين الأصل والفرع وجب أن يقيس الحلال على ما ليس بحلال لصحة قبوله للبيع، ويكون حكمهما مساوياً لحكم الحلال، وهذا لا تجده بحال.
والجواب: أنه لا يسقط الأصل؛ لأن الأصل مجمع على حكمه، ولا حاجة بنا إلى قياسه على غيره. والفرع مختلف فيه، فَبِنا حاجة إلى قياسه(5/1455)
على غيره.
فبان أن الأصل لا يسقط، ووجود [علة] النص فيهما يدل على تأكيد شبهه به في الحكم وضده (1) .
واحتج: بأن وجود التسوية إقرار بالنقض في الأصل والفرع.
والجواب: أن هذا إقرار بالأصل والفرع لم يجريا في جميع المعلول.
وقد بينَّا أن جريانهما في جميعه ليس بشرط. ثم هذا يلزم عليه التسوية بين الأصل والفرع في الكسر.
واحتج: بأن ما أفسد إذا لم يمكن التسوية أفسد وإن أمكن التسوية، يدل عليه الممانعة وعدم التأثير.
والجواب: أنه إذا لم يمكن التسوية، فالعلة لم تجر في شىء من المعلول، فإذا أمكن جرت في شىء مثله. ثم يلزم عليه الكسر، فإنه يفسد إذا لم يمكن التسوية، ولا يفسد إذا أمكن.
مسألة
لا يجوز للمسؤول أن ينقض السائل بأصل نفسه (2) .
__________
(1) يعني: أن الاستواء بين الأصل والفرع في العلة يدل على تشابههما في ذلك الحكم، كما يدل على تشابههما في ضد الحكم، وعليه فلا نقض.
ويلاحظ: أن أبا الخطاب -تلميذ المؤلف- يخالف شيخه في هذه المسألة، ولذلك أجاب عن أدلة شيخه بما يبطلها.
فانظر: التمهيد (4/151) .
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/158) والمسوَّدة ص (432) وشرح الكوكب المنير (4/290) .(5/1456)
وحُكي عن الجرجاني أنه كان يستعمله (1) .
وسئل أبو بكر الباقلاني (2) عن ذلك فقال: له وجه في الاحتمال (3) .
ومثاله، أن يقول: مهر المثل يتنصَّف بالطلاق قبل الدخول؛ لأنه مهر يستقر بالدخول؛ فوجب أن يتنصَّف بالطلاق قبله. أصله: المسمى في العقد.
فيقول المسؤول من أصحاب أبي حنيفة: هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد، فإنه يستقر بالوطء، ولا يتنصَّف بالطلاق قبله، وإنما يسقط جميعه يسقط جميع مهر المثل (4) . [266/ب] .
أو يقول: لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى؛ لأنه لا نفقة لها، قياساً على الموطوءة بشبهة (5) .
فيقول المسؤول من أصحاب الشافعي: هذا ينتقض على أصلي بالمطلقة البائن الحائل (6) ، فإنه لا نفقة لها، ويجب لها السكنى (7) .
__________
(1) نسب ذلك إليه في المراجع السابقة، وفي: إحكام الفصول للباجى ص (659) والتبصرة ص (472) .
(2) نسب إليه ذلك في المسوَّدة وفي إحكام الفصول الموضعين السابقين.
(3) في إحكام الفصول ص (660) : (وله وجه) ولم يزد عليها.
(4) وبذلك تجب لها المتعة.
والطلاق الذي تجب فيه المتعة عند الحنفية نوعان:
أ- أن يكون الطلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه ولا فرض بعده، أو كانت التسمية فيه فاسدة.
ب- أن يكون الطلاق قبل الدخول في نكاح لم يسمّ فيه المهر، وإنما فرض بعده.
انظر تفصيل ذلك في: بدائع الصنائع (3/1482) .
(5) القائل هو الحنفية.
انظر: بدائع الصنائع (4/2042) .
(6) في الأصل: (الحابل) بالموحدة.
(7) وهو كذلك. انظر: المهذب مع شرحه المجموع (17/157) .(5/1457)
دليلنا:
أن علل المعلل حجة عليه في المواضع التي ينقض عليه بها لوجود علة فيها. ولا يجوز أن يدفع الحجة بدعواه.
ولا يجوز أن يقول: أنا أَدلُّ عليه بدليل أقوى من القياس؛ لأنه انتقال من موضع فرض الكلام فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز له. ويكون ذلك انتقالاً منه، كما لا يجوز إذا فرض الكلام في الدليل من الخبر أن ينقله إلى القياس، أو من القياس إلى الخبر.
وإذا لم يجز للسائل أن ينقل الكلام عن الموضع الذي فرضه المسؤول؛ لأنه تابع للمسؤول، فلأنْ لا يجوز للمسؤول أن ينقله عن الموضع الذي فرض الكلام فيه باختياره أولى.
ويخالف هذا في الابتداء، فإن للمسؤول أن يبني على أصله؛ لأنه لم يتعين عليه الكلام في موضع بعينه.
ألا ترى أن له الاختيار في الاحتجاج بما اختار من أنواع الأدلة، فإذا فرض الكلام في شىء منه وعيَّنه لم يجز أن ينتقل عنه، وإذا انتقل كان منقطعاً. فدل على الفرق بينهما.
وأما نقضها على أصل المعلل فصحيح؛ لأنه يعلمه أنها منتقضة على أصله، لوجود علته مع عدم حكمها على أصله.
وإذا بين له ذلك كانت العلة منتقضة باعتراف المعلل، فلزمه النقض.
واحتج المخالف:
بأن المسؤول له أن يبني على أصله في الابتداء، فيقول: إن سلَّمت موضع النقض فقد انتقضت العلة، وإن لم تسلِّم، دَللتُ على صحته (1) .
__________
(1) ساق الشيرازي هذا الدليل في كتابه التبصرة ص (472) بأوضح مما هنا حيث قال: (واحتج المخالف: بأنه لو جاز للمسؤول في الابتداء أن يبنى على أصله، فيقول: =(5/1458)
ولأنه إذا كان للمسؤول أن ينقض علة السائل على أصل السائل، وإن كان المسؤول لا يقول به، كذلك يجوز على أصل نفسه، وإن كان السائل لا يقول به.
والجواب: ما ذكرنا (1) .
فصل
ولا يجوز لأحد أن يلزمه خصمه ما لا يقول به إلا النقض (2) .
فأما غير النقض، من دليل الخطاب أو القياس أو المرسل أو غير ذلك، فلا يجوز له التزامه؛ لأنه يكون محتجاً بما لا يقول به، ومثبتاً للحكم بما ليس بدليل.
ويخالف الناقض؛ لأنه غير محتج بالنقض، ولا مثبت للحكم به. وإنما يعلم المعلل أصله وينبهه على وجود علته فيه مع عدم حكمها، وهو معروف أن ذلك نقض لعلته وإبطال [227/أ] لها.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقول دليل خطابه يلزمك على أصلك؛ لأنك
__________
= إن سلَّمت هذا الأصل ثبتت علته، وإلا دللتُ عليه، جاز أن ينقض على أصله فيقول: إن سلَّمت هذا انتقضت له العلة، وإن لم تسلِّم دللتُ عليه) .
(1) بالنسبة للجواب عن دليل المخالف الأول فهو يشير إلى قوله فيما سبق: (ويخالف هذا في الابتداء....) .
وبالنسبهَ للجواب عن دليل المخالف الثاني فهو يشير إلى قوله فيما سبق: (ولا يجوز أن يقول: أنا أَدِلُّ عليه ... ) .
والجواب عن دليلى المخالفين مبين في كتاب التبصرة: الموضع السابق.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/180) والمسوَّدة ص (432) وشرح الكوكب المنير (4/289) .(5/1459)
تعتقد صحته، وأنه طريق لإِثبات الحكم؟
قيل: لايجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يطالب خصمه بإثبات الحكم من طريق فاسد عند نفسه [فـ] كما لا يجوز أن يثبته من طريق فاسد لا يجوز أن يطالب خصمه بذلك.
ولأن له أن يقول: أنت لا تقول بدليل الخطاب، وإنما تركته لما هو أقوى منه، فكان تركه في هذا الموضع مجمعاً عليه (1) .
ومثال ذلك، أن يحتج على بطلان النكاح من غير ولي بما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أَيُّما امرأةٍ نَكَحَت نفسَها بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل) .
فيقول خصمه: يجب إذا نكحت بإذن وليها أن يجوز من طريق دليل الخطاب.
والجواب عنه بما ذكرنا.
فصل
إذا لم يسلم النقض، فقال الناقض: أنا (2) أَدِلُّ على صحته، لم يجز ذلك (3) ؛ لأنه يريد أن ينقل الكلام عن موضع فيه إلى غيره، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز الانتقال من دليل إلى دليل، وإن لم يدل عليه، ولكنه إن أراد أن يكشف عن أصل المعلل يلغى (4) من ذلك ولم يجز للمعلل منعه منه.
__________
(1) يعني: أن دليل الخطاب مُجْمع على ترك الاستدلال به من الطرفين، فالأول لا يقول بحجيته مطلقاً، والآخر لا يقول به في هذا الموضع لوجود دليل أقوى منه.
(2) في الأصل: (إنما) .
(3) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/141) والمسوَّدة ص (431) وشرح الكوكب المنير (4/286) .
(4) هكذا في الأصل، والمعنى: أن الناقض إذا أراد أن يكشف عن أصل المعلِّل فله ذلك، ولا يجوز منعه.(5/1460)
مثاله: إذا قال أصحاب أبي حنيفة فيمن تيمَّم لشدة البرد وصلى: لا يعيد؛ لأنه مأمور بالصلاة، فوجب أن لا يؤمر بقضائها، قياساً على الصلاة بالوضوء (1) .
أو المريض إذا تيمَّم، فنقض ذلك عليه بالمحبوس في المِصْر عن الماء، فإنه يتيمَّم، ويصلي، ويعيد.
فقال: لا يعيد في إحدى الروايتين.
فقال له: هذا مذهب زُفَر (2) وليس هذا بمذهب أبي حنيفة (3) .
وذكره الطحاوي (4) في اختلاف الفقهاء (5) .
فصل
إذا نقض على خصمه، ثم رجع إلى مناكرتها لم يقبل منه (6) .
__________
(1) انظر تفصيل القول في هذه المسألة: بدائع الصنائع (1/188) .
(2) هو: زُفَر بن الهذيْل بن قيس بن سلم أبو الهذيْل العنبري، الفقيه المجتهد.
أحد تلاميذ الإِمام أبي حنيفة المشهورين. كان من أذكياء الوقت. جمع بين العلم والعمل. مات سنة (158 هـ) .
له ترجمة في: تاريخ ابن معين (2/172) وسير أعلام النبلاء (8/35) وشذرات الذهب (1/243) .
(3) راجع هذه المسألة في: بدائع الصنائع (1/192) .
(4) هو: أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي، الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ العلم عن أبي جعفر بن عمران وأبي حازم وغيرهما. له مؤلفات منها: شرح معاني الآثار، والشروط، واختلاف العلماء. ولد سنة (238) ومات سنة (321 هـ) .
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/808) وسير أعلام النبلاء (15/27) ، وطبقات الحفاظ ص (337) .
(5) ذكره منسوباً إليه: في سير أعلام النبلاء الموضع السابق، والأعلام (1/206) ، وذكر الأخير أنه مخطوط، ويوجد منه الجزء الثاني في دار الكتب المصرية بالقاهرة.
(6) راجع في هذه المسألة: المسوَّدة ص (437) .(5/1461)
مثاله ما قاله بعضهم في فُرْقة اللعان: إنها فُرْقة تتعلق بسبب من جهة الزوج تختص النكاح، فوجب أن تكون طلاقاً. أصله: فُرْقة الطلاق.
فقال له خصمه: إنه منتقض بمن زوج ابن أخيه وهو صغير، فإن له خياراً [عند] بلوغه، وليس بطلاق.
فقال: قد قلت لا يختص النكاح؛ لأنه يثبت مثل ذلك في إجازة المولى عليه؛ لأن الصغير إذا أجَّره أبوه أو وليه ثم بلغ كان له فسخ الاجارة، فلا يختص بالنكاح.
فقال له خصمه: وكذلك عندي لا يختص اللعان بالنكاح؛ لأنه يجوز أن يلاعن في نكاح فاسد ووطء شبهة، إذا كان لها ولد يريد نفيه.
وهذا مناكرة بعد مناقضة.
وإنما لا يقبل منه؛ لأن النقض تسليم للعلة واعتراف بوجودها، فإذا أنكرها بعد الاعتراف بها لم يقبل رجوعه عما اعترف به.
فصل
القول بموجب (1) العلة يبطل احتجاج العلل به (2) .
__________
(1) الموجَب بفتح الجيم: ما أوجبه دليل المستدل.
وبكسر الجيم: الدليل لأنه الموجب للحكم.
انظر: شرح الكوكب المنير (4/339) .
راجع هذه المسألة في التمهيد (4/186) والواضح (3/1131) وروضة الناظر (2/395) وشرح الكوكب المنير الموضع السابق.
والقول بالموجب هو -كما يقول صاحب الإبهاج (3/141) -: (تسليم مقتضى ما نصبه المستدل دليلاً لحكم، مع بقاء الخلاف بينهما فيه) .
(2) العلة هنا ضربان:
أحدهما: أن يستدل بها لإثبات مذهبه. =(5/1462)
لأنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإِجماع، ولا تكون متناولة لموضع الخلاف.
ومثاله أن يقول في الاعتكاف: لُبْث في مكان مخصوص، فوجب أن لا يكون قُرْبة بمجرده، قياساً على الوقوف بعرفة.
فيقول خصمه: عندنا لا يكون اللُّبْث بمجرده قُرْبة حتى تقترن به النية.
فيكون الحكم الذي علله مجمعاً عليه.
وكذلك إذا قال: لا تجتمع زكاة الفطر وزكاة التجارة؛ لأنهما زكاتان مختلفتان، فلا تجتمعان في مال واحد، كزكاة السَّوْم وزكاة التجارة.
فيقول خصمه: أقول بموجبه؛ لأنهما لا تجتمعان في مال واحد؛ لأن زكاة الفطر تجب عن بَدَن العبد، وزكاة التجارة تجب في قيمته، وهما مختلفتان.
وأما إذا كان حكم علته عاماً، فقال بموجبها في بعض معلولاتها، لم يصح.
مثاله: أن يقول: [القيام] ركن من أركان الصلاة، فلا يكون لركوب السفينة تأثير في سقوطه، كالركوع والسجود.
فيقول الخصم: أقول بموجب العلة؛ لأن عندنا لا تأثير له في سقوطه إذا
__________
= والثاني: أن يستدل بها لإبطال مذهب مخالفه.
والضرب الأول قسمان:
أحدهما: تعليل عام، إثباتاً أو نفياً.
فالإثبات كما مثَّل المؤلف بمسألة القيام في الصلاة في السفينة.
والنفي كقول الحنبلي: (في إزالة النجاسة بالخل: إنه لا يرفع الحدث، فلم يطهر النجس كالدهن.
فيقول المعترض: أقول بموجبه في المائع النجس) .
وثانيهما: التعليل للجواز، مثاله: (قول الحنفي في الزكاة في الخيل: إنه حيوان تجوز المسابقة عليه، فجاز أن يتعلق به وجوب الزكاة كالإِبل) .
انظر: التمهيد (4/187) والواضح (3/1133) .(5/1463)
كانت السفينة واقفة، فإنه لا يجوز أن يترك القيام، وإنما يجوز إذا كانت سائرة.
فيقال: إلا أن له تأثيراً في حال السير، والعلة عامة في حال الوقوف والسير جميعاً، فلم يكن قائلاً بموجبها. وكانت العلة حجة عليه في حال السير.
وإذا ادعى أنه يقول بموجب العلة، ففسره بغير موجب العلة لم يصح، ووجب على المعلل بيانُه، فإذا بيَّنه سقط السؤال.
وبيانه أن يقول في الحُليِّ: مال تتكرر الزكاة فيه، أو تجب الزكاة فيه بشرطي النصاب والحول. فوجب أن يكون له حالان:
حال وجوب، وحال سقوط، أصله: الماشية.
فيقول خصمه، إني أقول بموجب العلة؛ لأن لها حال سقوط، وهو إذا كان لصبي أو مجنون.
فيقول المعلل: ليس ذلك حال المال، وإنما حال المالك. فليس ذلك قولاً بموجب العلة.
وإن قال: أقول بموجب العلة فيما دون النصاب لم يصح أيضاً؛ لأن الحال يجب أن يكون في النصاب مع الحول، كما يكون للماشية، فلم يكن قولاً بموجب العلة (1) [228/أ] .
__________
(1) عدَّ كثير علماء الأصول القول بالموجب من مبطلات العلة؛ لأن تسليم الخصم موجب ما ذكره المستدل من الدليل مع بقاء النزاع بينهما يفضي إلى أن ما ذكره المسؤول لا يصلح دليلاً للحكم.
ولم يرتض هذا التاج السبكى فقال في كتابه الإِبهاج (3/142) : (ولقائل أن يقول: هذا التقرير [يعني التوجيه السابق لكوله مبطلاً للعلة] يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته، بل الحق أن القول بموجب الدليل تسليم له، وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك، وحينئذ لا يتجه عدُّه من مبطلات العلة) .
وانظر: شرح الكوكب المنير (4/347) .(5/1464)
باب أقسام السؤال والجواب والمعارضات
السؤال (1) على أربعة أضرب (2) ، يقابل كل ضرب من
__________
(1) راجع في هذا الباب: الواضح لابن عقيل (1/439) والمسوَّدة ص (551) وشرح الكوكب (4/375) والكافية في الجدل ص (69) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (34) والفقيه والمتفقه (2/40) فإن هناك تشابهاً كبيراً بين الكتابين في هذا المبحث، علماً أن الخطيب البغدادي تلميذ للمؤلف.
وقد سبق تعريف الجدل عند المؤلف (1/184) ، وقد قال هناك: (والجدل كله سؤال وجواب) .
كما سبق تعريف السؤال عنده في الموضع السابق حيث قال: (السؤال هو: الاستخبار) وبمثل تعريفه عرفه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/230) .
وعرف ابن عقيل السؤال في كتابه الواضح (1/441) بأنه: (الطلب للإِخبار بأداته في الإفهام) .
وعرفه إمام الحرمين في كتابه الكفاية ص (69) بأنه (الاستدعاء) ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة تعريفات بصيغة قيل هي: (الطلب. وقيل: استدعاء الجواب. وقيل الاستخبار) .
(2) وهو ما رآه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (2/40) وإمام الحرمين في الكفاية ص (77-78) وابن عقيل في الواضح (2/450) .
لكن ابن عقيل في موضع آخر من كتابه (2/457) زاد خامساً وهو سؤال الإلزام.
وهو ما فعله ابن النجار الفتوحي في كتابه شرح الكوكب المنير (4/375) وحكاه إمام الحرمين في الكافية عن بعضهم.
وزاد الباجي في كتابه: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (34) خامساً، هو: السؤال عن إثبات مذهب المسؤول.
ثم قال بعد ذلك: (وعلى مذهب من أجاز التقليد تكون الأسئلة ستة، فالثالث السؤال: هل له دليل في المسألة أم هل يُقلِّد فيها؟) .
واستثنى جمهور أهل النظر: إذا كان السائل عالماً بمذهب المسؤول فله أن يبدأ بالسؤال عن الدليل.(5/1465)
الجواب (1) من جهة المسؤول.
أحدهما: السؤال عن المذهب، فيقول السائل: ما تقول في كذا؟ فيقابله جواب من جهة المسؤول، فيقول: هكذا.
والثاني: السؤال عن الدليل بأن يقول: ما دليلك عليه؟ فيقول المسؤول: كذا.
والثالث: السؤال عن وجه الدليل، فيبينه المسؤول.
الرابع: السؤال (2) على سبيل الاعتراض والقدح فيه، فيجيب المسؤول عنه، ويبين بطلان اعتراضه وصحة ما ذكره من وجه دليله.
فإذا ثبت هذا، فإذا سأل سائل عن حكم مطلق، نظر المسؤول فيما سأله
__________
= انظر: الكافية ص (79) .
ومنع ابن عقيل إطلاقه حيث قال في كتابه الواضح (2/465) : (قلت: وقد يجري في حكم الاجتهاد أن لا يسقط السؤال لجواز تغير يطرأ على المذهب الذي عُرف به فيزول ما عرفه، وذلك لعدم الثقة بالبقاء على المذهب، فلا غنى إذاً عن السؤال) .
وزاد إمام الحرمين والمرجع السابق ص (80) : أن السائل إذا كان عالماً بدليل المسؤول، فله أن يبتدىء بالطعن في دلالته.
قلتُ: ومقتضى كلام ابن عقيل أن لا يسقط هذا السؤال؛ لأنه إذا لم يسقط سؤاله عن مذهبه -مع معرفته به لجواز طريان التغير على المذهب- لم يسقط سؤاله عن الدليل؛ لأن تغير المذهب يستلزم تغير الدليل.
(1) عَرَّف المؤلف (1/184) الجواب بأنه: (الإِخبار) .
وبه عرفه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/230) .
وعرفه إمام الحرمين في كتابه الكافية ص (70) بأنه (الخبر المضمَّن بمعنى السؤال فلا جواب إلا خبر، ومن الخبر ما لا يكون إلا جواباً) .
قلتُ: وتعريف إمام الحرمين أدق؛ لأنه ليس كل خبر جواباً، وإن كان كل جواب خبراً.
(2) مكررة في الأصل.(5/1466)
عنه، فإن كان مذهبه موافقاً لما سأل عنه من غير تفصيل فيه أطلق الجواب عنه.
وإن كان عنده فيه تفصيل، كان بالخيار بين أن يفصِّله في جوابه وبين أن يقول للسائل: هذا مختلف عندي، فمنه كذا، ومنه كذا، فعن أيهما تسأل؟
فإذا ذكر أحدهما أجاب عنه، وإن أطلق الجواب كان مخطئاً (1) .
مثاله: أن يُسأل حنبلي عن مس النساء هل ينقض الوضوء؟
وعنده إن كان لشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض (2) .
فيقول للسائل هذا التفصيل.
وإن شاء قال: منه ما ينقض ومنه ما لا ينقض. [فعن أيهما تساءل] ؟
ومثل: أن يُسأل شافعي عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟
وعند المسؤول أن جلد الكلب والخنزير لا يطهر، وكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما، ويطهر ما عدا ذلك (3) .
__________
(1) من أول الباب إلى هنا منقول بنصه في كتاب الفقيه والمتفقه (2/40) .
(2) هذا هو المشهور من مذهب الإِمام أحمد، رحمه الله.
وهناك رواية ثانية: أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً.
وهناك رواية ثالثة: أن اللمس ينقض الوضوء مطلقاً.
انظر: المغني (1/192) .
(3) هذا مذهب الشافعية كما في المجموع (1/254) .
ويستدلون بحديث: (أيما إهاب دُبغ فقد طهُر) .
ولأن الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ.
وأما الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يطهر بالدباغ؛ لأن الدباغ كالحياة، والحياة لا تدفع النجاسة عنهما فكذلك الدباغ.
انظر: المرجع السابق.(5/1467)
فيقول للسائل هذا التفصيل.
وإن شاء قال: منه ما يطهر بالدباغ ومنه ما لا يطهر. فعن أيهما تسأل؟
فأمَّا إذا أطلق الجواب وقال: يطهر بالدباغ كان مخطئاً (1) .
وإذا صح الجواب من جهة المسؤول قال السائل: ما الدليل عليه؟ وهو السؤال الثاني.
فإذا ذكر المسؤول الدليل، فإذا كان السائل يعتقد أن ما ذكره ليس بدليل.
مثل: أن يكون قد احتج بدليل الخطاب، والسائل حنفي لا يقول بدليل الخطاب، أو بالقياس، والسائل ظاهري لا يقول بالقياس فقال للمسؤول: هذا ليس بدليل.
فإن المسؤول يقول له: هذا عندي دليل، وأنت بالخيار بين أن تُسَلِّمه وبين أن تنقل الكلام إليه [288/ب] فأَدِلُّ على صحته.
فإن قال السائل: لا أسلِّم لك ما احتججت به، ولا أنقل الكلام إلى أصل كان معنتاً ومطالباً بما لا يجب عليه؛ لأن المسؤول لا يلزم أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه في دليله، دل على صحته وقال بنصرته.
فإذا فعل ذلك فقد قام بما يجب عليه فيه، وإن عدل إلى دليل غيره لم يكن منقطعاً؛ لأن ذلك لعجز السائل عن الاعتراض على ما احتج به وقصوره عن القدح فيه.
هذا إذا كان الدليل الذي احتج به أصلاً جلياً مشهوراً. فأما إن كان دليلاً خفياً، فنازعه السائل فيه، وامتنع من تسليمه فهو بمنزلة الجلي المشهور.
__________
(1) ذكر هذا المثال بنصه الخطيب البغدادي الشافعي في كتابه الفقيه والمتفقه (2/40) .
ثم أضاف بأنه جرى لأبي يوسف مع الإمام أبي حنيفة نحو هذه المسألة ثم ذكرها بسنده إلى الفضل بن غانم، وهي مسألة طريفة فيها عِظَة لطالب العلم فارجع إليها.(5/1468)
وقال أبو علي الطبري (1) صاحب "الإِفصاح" (2) : يكون المسؤول منقطعاً، ولا يجوز أن يستدل بأصل خفي إلا بعد أن يستسلمه منه. فإن سلمه احتج به، وإن لم يسلمه دل عليه.
فأما إذا احتج به، ثم نازعه السائل ولم يسلمه له لم يكن له تبيينه، ويكون ذلك انتقالاً من جهته وانقطاعاً منه، ويخالف الأصل المشهور؛ لأن شهرته تغنيه عن استسلامه وتبيينه (3) .
مثاله: أن يُسأل حنبلي عن الحج هل يسقط بالموت؟ فيقول: لا يسقط؛ لأنه حق تدخله النيابة (4) ، استقر عليه حال الحياة، فلم يسقط بالموت كالدين (5) .
فيقول السائل: لا أسلِّم أن النيابة تدخل الحج.
فقال له المسؤول: إما أن تسلمه، وإما أن تنقلَ الكلام إلى النيابة فأدل على جوازها، فيكون المسؤول مصيباً إلا على قول صاحب "الإِفصاح" (6) ؛ لأنه لا
__________
(1) هو: الحسين -وقيل: الحسن بالتكبير- ابن القاسم، أبو علي الطبري الشافعي.
صنف في الفقه وأصوله والجدل. سكن بغداد، وبها كانت وفاته سنة (350 هـ) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (8/87) والمنتظم (7/5) وشذرات الذهب (3/3) وطبقات الشافعية (3/280) .
(2) نسب إليه في المراجع السابقة، وفي المسوَّدة ص (439) .
(3) انظر رأي أبي علي الطبري في: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (39) والمسوَّدة ص (439) .
(4) خلافاً للمعتزلة.
انظر: الإحكام للآمدي (1/137) ، وجمع الجوامع مع شرحه (1/191) وتخريج الفروع على الأصول ص (60) .
(5) هذا مذهب الحنابلة.
انظر: المغني (3/242) .
(6) في الأصل: (إيضاح) وهو خطأ.(5/1469)
يلزمه أن يثبت مذهبه إلا بما هو دليل عنده، ومن نازعه فيما هو دليل عنده لا يلزمه أكثر من إقامة الدليل على صحته.
وإذا فعل هذا فقد قام بما وجب عليه، فهو بمنزلة المحتج بدليل جلي مشهور نازعه السائل فيه.
ولأن المسؤول لا يلزمه معرفة مذهب السائل؛ لأنه لا تضره مخالفته؛ ولا تنفعه موافقته، وإنما المعوَّل على الدليل يدل على صحة العلة وأوصافها.
فإذا كان كذلك فخالفه السائل في أوصافها لا يدل على تفريطه إذا أمكنه إقامة الدليل على صحتها ووجوب اعتبارها، فلم يجز أن يكون سبباً لانقطاعه ومنسوباً إلى التقصير لأجله.
وأما السائل إذا عارضه بما هو دليل عنده، وليس بدليل عند المسؤول، مثل: أن يعارض خبره المسند بخبر مرسل، أو خبرَ المعروف بخبر المجهول، وما أشبه ذلك.
وقال المسؤول: إما أن تسلِّم ذلك لي فيكون معارضاً لما رويته، وإما أن تنقل [229/أ] الكلام إلى مسألة المرسل والمجهول. فهذا ليس للسائل أن يقوله ويخالف المسؤول فيه؛ لأن السائل تابع للمستدل فيما يورده المسؤول ويحتج به؛ لأنه لما سأله عن دليله الذي دله على صحة مذهبه والطريق الذي أداه إلى اعتقاده لزمه أن ينظر معه فيما يورده، فإن كان فاسداً بين فساده، وإن لم [يكن] فاسداً صار إليه وسلَّمه له.
ولهذا المعنى جاز للمسؤول: أن يفرض المسألة حيث أجازه، وكان السائل تابعاً له. ولم يجز للسائل أن ينقله إلى جنبة أخرى ويفرضها فيه (1) .
__________
(1) للمسؤول في الاستدلال ثلاث طرق:
1- أن يستدل على المسألة بعينها.
2- أن يفرض الاستدلال في بعض شعبها. =(5/1470)
السؤال الثالث:
وهو السؤال عن وجه الدليل وكيفيته:
فإنه ينظر فيه فإن كان الدليل -الذي استدل به المسؤول- غامضاً يحتاج إلى بيان وجب السؤال عنه.
فإن تجاوزه إلى غيره كان مخطئاً؛ لأنه لا يجوز تسليمه (1) إلا بعد أن ينكشف وجه الدليل منه من جهة المسؤول على ما سأله عنه.
وإن كان ظاهراً جلياً (2) لم يجز هذا السؤال، وكان السائل عنه متعنتاً أو جاهلاً.
مثاله: أن يَسأل سائل عن جلد الميتة هل يطهر بالدباغ؟
فيقول: لا يطهر، لقوله:- (لا تَنْتَفِعُوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَب) (3) (وبجلْدٍ ولا عَصَبٍ) (4) .
__________
= 3- أن يبني المسألة على غيرها.
وهذه على ضربين؛ لأنه إما أن يبني على مسألة من مسائل الأصول أو مسألة من مسائل الفروع.
أفاده الباجي في كتابه المنهاج في ترتيب الحجاج ص (37) .
(1) في الأصل: (تقسيمه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه بالاستعانة بكتاب الفقيه والمتفقه (2/43) فإن الكلام مذكور فيه بنصه.
(2) ذكر الباجى في المنهاج ص (39) أن الظهور هنا، أي: الواضح ثلاثة أوجه: نص وظاهر، وعام.
وإن كنت أرى أن العام من باب الظاهر، وبخاصة إذا خصص.
(3) الحديث بهذا اللفظ سبق تخريجه.
وأزيد هنا: أن الشيخ الألباني خرج الحديث تخريجاً جيداً، وحكم بصحته بعد أن رد العلل التي قيلت فيه.
انظر: إرواء الغليل (1/78) .
(4) هذا الحديث أخرجه الطبرانى في "الأوسط" بلفظ: (كتب رسول الله -صلى الله(5/1471)
فيقول السائل: ما وجه الدليل فيه؟ فيكون مخطئاً لظهور ما سأله، عن بيانه ووضوحه.
وإذا قصد بيانه لم يَزِده على لفظه (1) .
السؤال الرابع:
وهو السؤال على سبيل الاعتراض والقدح في الدليل.
فإن ذلك يختلف على حسب اختلاف الدليل.
[الاعتراضات على الاستدلال بالقرآن]
فإن كان دليله من القرآن كان الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه (2) :
أحدها: أن ينازعَه في كونه مُحْكماً، ويدعي أنه منسوخ.
مثاله: أن يَحتجَّ الحنبلي (3) بقوله، تعالى: (فَإِمَّا مَنّاّ بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
__________
= عليه وسلم- ونحن في أرض جُهينة: إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فلا تنتفعوا من الميتة بجلْدٍ ولا عَصَب) .
قال الزيلعي (1/121) : (وفي سنده فضالة بن مفصل بن فضالة المصري، قال أبو حاتم: لم يكن بأهل أن نكتب عنه العلم) .
قال الألباني في الإرواء (1/79) : (فهو بهذا اللفظ ضعيف) .
(1) في الأصل: (لفظ) والتصويب من كتاب الفقيه والمتفقه (2/43) .
(2) عدَّها ابن عقيل في كتابه الجدل ص (24) وفي كتابه الواضح (3/927) ثمانية أوجه، هذه الثلاثة التي ذكرها المؤلف، وخمسة أخرى هي:
1- الاعتراض بأن المستدل لا يقول بما استدل به.
2- الاعتراض بالقول بموجب الآية.
3- الاعتراض بدعوى الإجمال.
4- الاعتراض بدعوى المشاركة في الدليل.
5- الاعتراض باختلاف القراءة.
وانظر: المعونة في الجدل ص (40) ، والمنهاخ في ترتيب الحجاج ص (42) .
(3) يعني: في تخيير الإِمام في الأسرى بين المَنّ والفداء. =(5/1472)
الْحَربُ أَوْزَارَهَا) (1) .
فيدعى المخالف (2) أنه منسوخ بقوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (3) .
فيقول المسؤول: إذا أمكن الجمع بينهما لم يجز حمله على النسخ (4) .
__________
= وهى مسألة وقع الخلاف فيها:
فالإِمام أبو حنيفة ذهب إلى أنه لا يجوز المن عليهم, كما ذهب في إحدى الروايتينِ عنه أنه لا يجوز المفاداة.
والإِمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق وتركهم أحراراً ذمة للمسلمين إلا مشركي العرب والمرتدين، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.
وقد أجابوا عن آية: (فَإمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً) بأنها منسوخة بمثل قوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشرِكِينَ) .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإِمام مخير فيهم بين أمور أربعة: القتل والاسترقاق والمَن والفداء.
انظر: بدائع الصنائع (9/4349) وشرح فتح القدير (5/473) والأم (4/144) ، والكافي لابن قدامة (4/270) .
(1) آية (4) من سورة محمد.
(2) هم الحنفية.
(3) آية (5) من سورة التوبة.
(4) ذكر المؤلف هنا وجهاً واحداً من أوجه الاعتراض بالنسخ، وهى: أن يدعي المخالف نسخ آية بآية أخرى.
الوجه الثاني: أن ينقل الناسخ صريحاً.
مثاله: أن يستدل الحنبلي في إيجاب الفدية على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان خوفاً على الجنين أو الولد: بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين) (البقرة آية 184) .
فيقول المخالف: قد نقل عن سلمة بن الأكوع الأسلمي: أنها منسوخة بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة آية 185) .
فيجيب الحنبلي: أنها منسوخة في حق من كان له الإِفطار من غير حمل ولا رضاع،(5/1473)
والثاني: أن ينازعه في مقتضى لفظه.
مثل أن يَحتجَّ الحنبلي على وجوب الإِِيتاء (1) من مال الكتابة بقوله تعالى: (وَآتُوهُم (2) مِّن مِّالَ اللهِ الَّذي آتَاكُمْ) (3) .
فيقول المخالف (4) : إنه إيتاء من الزكاة دون مال الكتابة (5) .
__________
= أما في حق الحامل والمرضع فحكمها باق.
الوجه الثالث: أن يدعى نسخها بأنها شرع من قبْلنا، وقد نسخها شرعنا.
مثاله: أن يستدل الحنبلي في إيجاب القصاص في الطرف بين الرجل والمرأة بقوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) (المائدة آية 45) . فيقول المخالف: هذا حكم التوراة، فقد صدرت الآية بقوله: (وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا) إلى قوله: (والجُرُوحَ قِصَاصٌ) فقد نسخت التوراة بالقرآن.
فيجيب الحنبلي: بأن شرع من قبْلنا شرع لنا، ويدلِّل على ذلك.
انظر: الجدل لابن عقيل ص (24) والواضح له (3/939) .
(1) عند الحنابلة: يجب على السيد إيتاء المكاتب من المال قدر ربع الكتابة، وهو مخير بين وضعه عنه وبين دفعه إليه.
وكذلك عند الشافعية إلا أنهم لم يقدروه بالربع -كما هو عند الحنابلة- بل قالوا: يضع عنه شيئاً من عقد الكتابة.
انظر: الكافي لابن قدامة (2/608) والأم (8/33) .
(2) في الأصل: (فآتوهم) وهو خطأ.
(3) آية (33) من سورة النور.
(4) هم الحنفية، فقد ذهبوا إلى أن الإِيتاء غير واجب.
وأجابوا عن الآية بأن المراد الإيتاء من مال الزكاة.
بدليل: أن الله أضافه إليه.
انظر: المبسوط (7/206) ، أحكام القرآن للجصاص (5/181) .
(5) وممن حمل الآية على الإِيتاء من مال الزكاة: الحسن وعبد الرحمن بن زيد ومقاتل انظر: تفسير ابن كثير (3/288) .(5/1474)
فيقول المسؤول: هو خطاب للسادات؛ لأنه قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) فلا يصلح لإِيتاء الزكاة (1) .
وقد يحتج على أن لولي المقتول أن يعفو على مالٍ بقوله تعالى: (فَمَنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَىْء فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (2) .
فيقول [229/ب] المخالف (3) : العفو هاهنا هو البذل من القاتل، فكأنه أمر بأخذ المال إذا بذله القاتل.
فيحتاج (4) أن يبين أن المراد به عفو الولي بأن يقول: حقيقة العفو هو: الترك دون البذل (5) .
__________
(1) هذا أحد أجوبة المخالفين عن الاستدلال بالآية.
وقد يجاب بأن الأمر في الآية محمول على الندب.
انظر: أحكام القرآن للجصاص (5/181) ، والواضح (3/942) .
(2) آية (178) من سورة البقرة.
(3) هم الحنفية.
انظر: المعونة في الجدل ص (42) ، والواضح (3/431) .
(4) المراد بهم الشافعية ومن قال بقولهم.
انظر: المرجعين السابقين.
(5) هذا أحد الجوابين، وخلاصته: أن العفو قد ورد في اللغة بمعنى الإِسقاط والترك أكثر من وروده بمعنى البذل.
ولأن ذلك عُرْف القرآن، وعُرْف التخاطب، قال تعالى: (عَفَا اللَّّهُ عَنْكَ لِمَ أذنْتَ لَهُمْ) (التوبة آية 43) .
وقد قرن الله العفو بالغفران في كتابه فقال: (وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً) ، (النساء آية 99) .
والجواب الثانى: أن يبين بالدليل من سياق الآية أو غيره على أن المراد به ما ذهب إليه. =(5/1475)
الثالث: أن يعارضه بغيره.
فيحتاج إلى أن يجيب عنه بأن يبين أنه لا يعارضه، أو يرجح دليلَه على ما عارضه به.
مثاله: أن يحتج بقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجَّ (1)) وهذا يقتضى أن يكون جميعُها مواقيتَ للناس [والحج] (2) .
فيعارضه المخالف (3) بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات) (4) والمراد به: إحرام الحج في أشهر معلومات.
أو يحتج على تحريم الجمع بمِلْك اليمين بقوله تعالى: (وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ) (5) .
فيعارضه بقوله تعالى: (أوْ مَامَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) (6) .
أو يعارضه بالسنة. ويكون جواب المسؤول ما ذكرته (7) .
__________
= وعلى هذا فإن أثبت السائل قوة الوضع الذي قال به صح قوله بالموجب، وإن قوى المسؤول قوة الوضع الذى قال به اندفع القول بالموجب.
انظر: المرجعين السابقين.
(1) آية (189) من سورة البقرة.
(2) وعليه فيجوز الإِحرام بالحج قبل أشهره. وهو قول الحنفية.
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/374) .
(3) وهم الشافعية، فقد ذهبوا إلى أنه لا ينعقد الإِحرام بالحج إلا في أشهره، فإن أحرم في غيرها انعقد عمرة، استدلالاً بقوله تعالى: (الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَات) .
انظر: المجموع للنووي (7/118) .
(4) آية (23) من سورة البقرة.
(5) آية (23) من سورة النساء.
(6) آية (30) من سورة المعارج.
وانظر في تفسير هاتين الآيتين: أحكام القرآن للجصاص (2/74) .
(7) يعنى: أن يين أنه لا معارضة بين الدليلين، أو يرجح دليله على ما عارضه به السائل.(5/1476)
[الاعتراضات على الاستدلال بالسنّة]
وإن كان دليله من السنة فالاعتراض عليه من خمسة أوجه:
أحدها: أن يطالبه بإسناده (1) .
والثاني: القَدْح في إسناده.
والثالث: الاعتراض على متنه.
والرابع: أن يدعى نسخه.
والخامس: أن يعارضه.
فأما المطالبة بإسناده: فهي [صواب] (2) ؛ لأنه لا حجة فيه إذا لم يثبت إسناده.
وقد جرت عادة المتأخرين من أهل العلم ترك المطالبة بالإِسناد، وهذا لا بأس به في الألفاظ المشهورة المتداولة بين الفقهاء.
فأما الغريب الشاذ فإنه يجب المطالبة بإسناده.
وذلك مثل ما احتج به أصحاب أبي حنيفة فقالوا: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب) (3) .
__________
(1) ذكر ابن عقيل في كتابه الجدل ص (26) وفي كتابه الواضح (3/944) والشيرازي في كتابه المعونة ص (48) وجهاً قبل هذا، وهو: الرد.
ومثلوا له برِّد الرافضة أخبار الآحاد، وردِّ الحنفية أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى أو خالف قياس الأصول، أو ردِّ المالكية لأخبار الآحاد في القسم الأخير، وذكروا طريق الجواب عما تمسكوا به من شُبَه.
(2) بياض في الأصل، وقد صوبه الناسخ في الهامش بما أثبتناه.
(3) هذا الحديث رواه مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
قال فيه الزيلعى: غريب. =(5/1477)
وقال: (المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة) (1) .
__________
= وقال فيه الشافعي: ليس بثابت، ولا حجة فيه.
وقال ابن قدامة: مرسل لا نعرف صحته.
انظر: نصب الراية (4/44) والمغني لابن قدامة (4/39) .
وانظر: كلام الحنفية في المسألة في: حاشية ابن عابدين (5/186) .
(1) هذا الحديث رأيت إليه إشارة في سنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب المختلعة لا يلحقها الطلاق (7/317) فقد ذكر أثراً عن ابن عباس وابن الزبير -رضي الله عنهما- أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها قالا: لا يلزمها طلاق؛ لأنه طلق ما لا يملك.
ثم ساق بسنده إلى الربيع قال: قال الشافعي: فسألته يعني من يخالفه في هذه المسألة هل يروي في قوله خبراً؟ قال فذكر حديثاً لا تقوم بمثله حجة عندنا، ولا عنده، فقلت: هذا عندنا وعندك غير ثابت.
ثم قال بعد ذلك: (أما الخبر الذى ذكر له فلم يقع لنا إسناده بعد لننظر فيه، وقد طلبته من كتب كثيرة صنفت في الحديث فلم أجده، ولعله أراد ما روِىَ عن فرج ابن فَضَالَة بإسناده عن أبي الدرداء من قوله، وفرج بن فَضَالة ضعيف في الحديث، أو ما روي عن رجل مجهول عن الضحاك بن مزاحم عن ابن مسعود من قوله، وهو منقطع ضعيف) .
قلت: وما يشير إليه البيهقي من حديث فضالة بسنده إلى أبي الدرداء أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطلاق، باب: من قال: يلحقها الطلاق، يعنى المختلعة (5/117) بلفظ: (للمختلعة طلاق مادامت في العدة) .
وما يشير إليه من حديث الضحاك بن مزاحم أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الكتاب والباب المذكورين، ولفظه: (قال: اختلف ابن مسعود وابن عباس في الرجل يخلع امرأته ثم يطلقها، قال أحدهما: ليس طلاقه بشىء. وقال الآخر: ما دامت في العدة فإن الطلاق يلحقها) .
وقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق بسنده إلى يحيى بن أبي كثير قال: (كان عمران بن حصين وابن مسعود يقولان في التي تفتدي من زوجها: =(5/1478)
وقال: (لا قصاص إلا بالسيف) (1) . وما أشبه ذلك.
__________
= لها طلاق ما كانت في عدتها) .
قال ابن التركماني في الجوهر النقي (7/317) بعد أن ذكر الأثر السابق: (ورجال هذا السند على شرط الجماعة) .
وقال ابن قدامة في المغني (7/59) في رده على من قال بموجب الحديث الذى ذكره المؤلف: (وحديثهم لا نعرف له أصلاً، ولا ذكره أصحاب السنن) .
(1) هذا الحديث روى من حديث أبي بكرة والنعمان بن بشير وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعلي بن أبي طالب والحسن البصري مرسلاً.
أما حديث أبي بكرة فأخرجه ابن ماجه في كتاب الديات، باب: لا قود إلا بالسيف (2/889) حديث (2667) .
ونقل الشيخ الألباني في كتابه: إرواء الغليل (7/286) عن البزار أنه أخرجه في مسنده من طريق الحر بن مالك العنبري ثنا مبارك بن فضالة به. قال البزار: (لا نعلم أحداً أسنده بأحسن من هذا الإِسناد، ولا نعلم أحداً قال: عن أبي بكرة إلا الحر ابن مالك، وكان لا بأس به، وأحسبه أخطأ في هذا الحديث؛ لأن الناس يروونه عن الحسن مرسلاً) .
ثم قال الألباني بعد ذلك: (وقد تابعه في وصله الوليد بن محمد بن صالح الأيلي عن مبارك بن فضالة) .
ثم ذكر أن ابن عدي والدارقطني والبيهقي والضياء المقدسي أخرجوه بذلك.
وأعلَّه ابن عدي بالوليد هذا؛ حيث قال فيه: (أحاديثه غير محفوظة) .
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/461) : (قال أبي: هذا حديث منكر) .
وقال عن الوليد هذا: (سألت أبي عنه فقال: مجهول) على ما في كتاب الجرح والتعديل (4/2/16)
وأعلَّه البيهقي بمبارك بن فضالة عندما أخرج الحديث في سننه في كتاب الجنايات، باب: ما روي في أن لا قود إلا بحديدة (8/63) .
أما حديث النعمان بن بشير فقد أخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2667) .
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار في كتاب الجنايات، باب: الرجل يقتل(5/1479)
.................................
__________
= رجلاً كيف يقتل؟ (3/184) .
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار في كتاب الجنايات، باب: القود بالسيف ولكل شىء خطأ (2/205) .
وأخرجه الطيالسي في مسنده، كما في منحة المعبود أبواب القصاص (1/293) بلفظ (لا قود إلا بحديدة) .
قال الشيخ الألباني: (وهذا إسناد واهٍ جداً، أبو عازب لا يُعْرف، كما قال الذهبي وغيره. وجابر الجعفي متهم بالكذب) .
أما حديث عبد الله بن مسعود فقد أخرجه الدارقطني في كتاب الحدود والديات (3/88) وفي سنده: سليمان بن أرقم، قال فيه الدارقطني: (متروك) .
وأخرجه ابن أبي عاصم والطبراني في معجمه الكبير وابن عدي كما ذكر ذلك الشيخ الألباني.
أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه الدارقطني في الموضع السابق.
وأخرجه البيهقي في الموضع السابق أيضاً.
كما أخرجه ابن عدي وابن أبي عاصم وأبو عروبة الحرَّاني، ذكر ذلك الشيخ الألباني.
وفي سنده: سليمان بن أرقم، وهو متروك كما سبق في الطريق التي قبل هذا.
أما حديث علي فقد أخرجه الدارقطني في الموضع السابق وقال: (معلَّى بن هلال -أحد رواة الحديث- متروك) .
أما حديث الحسن البصري المرسل فقد أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الديات باب: من قال: لا قود إلا بالسيف (9/354) .
وأخرجه ابن حزم في المحلَّي في كتاب الدماء (12/57) ثم قال: (هذا مرسل، ولا يحل الأخذُ بمرسل) .
كما أخرجه الإِمام أحمد في مسنده، حكى ذلك الزيلعي في نصب الراية (4/341) .
قال الشيخ الألباني: (وهذا إسناد صحيح إلى الحسن، ولكنه مرسل، فهو علة هذا الإِسناد، والطرق التي قبلها واهية جداً، ليس فيها ما يمكن تقوية المرسل به) .
والخلاصة:
أن هذا الحديث ضعيف بكل طرقه. =(5/1480)
[الاعتراض على الإِسناد]
الاعتراض الثاني هو القَدْح في الإِسناد فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: رجوع الراوي عنه.
والثاني: عدم عدالته.
والثالث: كونه مجهولاً.
فأما رجوع الراوي عنه فمثل حديث الحسن بن عُمَارة (1)
__________
= ولهذا قال عبد الحق وابن الجوزي -كما في التلخيص (4/19) - (طرقه كلها ضعيفة)
وقال البيهقي: (لم يثبت له إسناد) .
وأحسن ما فيه: المرسل، كما قال الشيخ الألباني.
(1) هو: الحسن بن عمارة بن المضرب البَجَلي بالولاء الكوفي أبو محمد. كان قاضياً ببغداد في خلافة المنصور.
روى عن الزهري والأعمش وإسحاق السبيعى وغيرهم. وعنه السفيانان وعبد الرزاق وغيرهم.
قال فيه أحمد وأبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني والساجي وشعبة والذهبي وابن حجر: (متروك) .
وقال عمرو بن على: (رجل صالح صدوق، كثير الوهم والخطأ، متروك الحديث) .
مات سنة (153هـ) .
وقد رأيت الرامَهُرْمُزي يدافع عنه، ويقول: (إن كلام شعبة فيه كان بسبب لَبْس وقع عنده، وبَين كيف وقع اللَّبس) .
وفي أول الجزء الثالث من نصب الراية ص (22) كتبت إدارة المجلس العلمي المُشرِفة على نشر كتاب نصب الراية كتابةً بين فيها منشأ القول بتضعيف الحسن ابن عمارة، وكان مستندهم في ذلك ما ذكره الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصل.
له ترجمة في: تهذيب التهذيب (2/304) وتقريب التهذيب (1/169) والمغنى في =(5/1481)
روى حديث نُبَيْشَة (1) (حُجَّ عن نُبَيْشَة، ثم حُج عن نفسِك) (2) .
ثم رجع إلى الصواب، وهو حديث شُبْرُمَة: (حُجَّ عن نفسك، ثم حُج عن شُبْرُمَة) (3) .
__________
= الضعفاء (1/244) وميزان الاعتدال (1/513) والمحدث الفاصل ص (319) وما بعدها.
(1) هو: نُبَيشَة بن عمرو بن عوف بن عبد الله. وقيل: نبيشة الخير بن عبد الله بن عتاب بن الحارث الهذلي. صحابي. روى عنه أبو المليح الهذلي وغيره. له في مسلم حديث واحد.
له ترجمة في: الاستيعاب (4/1524) و (2652) وتهذيب التهذيب (10/417) .
(2) حديث الحسن بن عمارة هذا أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج (2/268) .
وقال فيه: (تفرد به الحسن بن عُمَارة، وهو متروك الحديث، والمحفوظ عن ابن عباس حديثُ شُبْرُمَة) .
ثم روى حديث شُبْرُمَة من طريق الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنه - وسيأتي تخريجه ثم قال:
(هذا هو الصحيح عن ابن عباس، والذي قبله وَهْم، يقال: إن الحسن بن عُمَارة كان يرويه، ثم رجع عنه إلى الصواب، فحدث به على الصواب موافقاً لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال) .
(3) ما ذكره المؤلف هو معنى ما ذكره الدارقطني فيما سبق.
وحديث شُبْرُمَة أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الحج، باب: الرجل يحج مع غيره (2/403) حديث (1811) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحج، باب: الحج عن الميت (2/969) حديث (2903) .
وأخرجه البيهقي في كتاب الحج، باب: من ليس له أن يحج عن غيره (4/336) .
وقال: (هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه) .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه. =(5/1482)
والثاني: عدم عدالته مثل: بَركة بن محمد الحَلَبي (1) ، روى عن يوسف ابن أَسباط (2) عن سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين (3) عن أبي
هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة،
__________
= انظر: الإِحسان في ترتيب صحيح ابن حبان كتاب الحج، باب: الحج والاعتمار عن الغير (6/120) .
وأخرجه ابن الجارود في المنتقي حديث (499) .
وأخرجه ابن خزيمة في كتاب الحج، باب: النهي عن أن يحج عن الميت من لم يحج عن نفسه (4/345) حديث (3039) .
والحديث صحيح كما قال البيهقي سابقاً، وابن الملِّقن في كتابه: تحفة المحتاج (2/135) حديث (1056) والألباني في الإِرواء (4/171) حديث (994) .
وانظر في تخريج الحديث أيضاً: التلخيص الحبير (2/223) ونصب الراية (3/154) .
(1) أبو سعيد. روى عن يوسف بن أسباط -كما هنا- والوليد بن مسلم. قال الدارقطني: (كان كذاباً يضع الحديث) . وقال ابن عدي: (له أحاديث بواطيل عن الثقات) وقال ابن حبان: (حدثونا عنه، كان يسرق الحديث، وربما قلبَه) . وقال الذهبي: (متهم بالكذب) وقال: (معروف بالكذب) .
انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/137) والمغني في الضعفاء (1/161) وميزان الاعتدال (1/330) .
(2) أبو محمد الشيباني الزاهد الواعظ. روى عن محلّ بن خليفة وسفيان الثوري. وعنه المسيب بن واضح وعبد الله بن حبيق. وثَّقه ابن معين. وقال أبو حاتم: (لا يحتج به، يغلط كثيراً) . وقال أبو الفتح الأزدى: (ويوسف دفن كتبه، ثم حدث من حفظه، فلا يجيء حديثه كما ينبغي) وقريب من هذا قول البخاري فيه.
انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/219) والمغنى في الضعفاء (2/436) ، والموضوعات لابن الجوزي (2/82) وميزان الاعتدال (4/462) .
(3) في الأصل: (ابن شبرمة) وهو خطأ، والتصويب من مراجع التخريج الآتية.(5/1483)
مسنونتان في الوضوء) (1) .
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: ما روي في المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة (1/115) وأسقط من سنده ابن سيرين ولم يذكر فيه: (مسنونتان في الوضوء) .
ثم قال بعد ذلك: هذا باطل، ولم يحدث به إلا بَرَكة، وبركة هذا يضع الحديث.
والصواب: حديث وكيع الذي كتبناه قبل هذا مرسلاً عن ابن سيرين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنَّ الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً، وتابع وكيعاً: عبيدُ الله ابن موسى وغيره) .
وأخرجه ابن الجوزي في كتابه: الموضوعات (2/81) من طريقين: إحداهما: التي ذكرها المؤلف، بمثل لفظ المؤلف إلا أنه لم يذكر قوله: (مسنونتان في الوضوء) .
الثانية: (.... حدثنا سليمان بن الربيع النَّهدي حدثنا همام بن مسلم عن الثور عن خالد الحذَّاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المضمضة والاستنشاق ثلاثاً فريضة للجنب) .
ثم قال: (هذا حديث موضوع لاشك فيه.
أما الطريق الأول: ففيه بَركة بن محمد، وكان كذاباً ...
أما الطريق الثاني: ففيه همَّام بن مسلم، ولعله سرقه من يوسف. وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، ويسرق الحديث، فبطل الاحتجاج به.
وفيه: سليمان بن الربيع، قال الدارقطني: ضعيف، غيَّر أسماء مشايخ وروى عنهم مناكير) .
ثم قال أيضاً: (ثم هذا الحديث على خلاف إجماع الفقهاء، فإن منهم من يوجب المضمضة والاستنشاق.
ومنهم من يوجب الاستنشاق وحده.
ومنهم من يراهما سنة.
ومنهم من أوجب مرة لا ثلاثاً) .
والخلاصة أن الحديث غير ثابت.
والثابت هو مرسل ابن سيرين، ولفظه عند الدارقطني -كما سبق-: (أن النبي =(5/1484)
قال أصحاب الحديث: بَرَكة الحَلَبي كذاب يضع الحديث (1) .
الثالث: كونه مجهولاً: وهو مثل حديث ابن مسعود [230/أ] في الوضوء بالنبيذ، يرويه أبو زيد عن أبي فزارة، و"أبو زيد" مجهول و"أبو فزارة" ضعيف (2) .
فإن سألنا المخالف عن هذا السؤال لزمنا أن نجيبَ عنه بما يتبين أنه معروف، وهو أن نبين أنه روى عنه رجلان عدلان، فيخرج بذلك عن حد الجهالة على شرط أصحاب الحديث (3) .
ومثال ذلك: ما روى خالد بن أبي الصَّلْت (4) عن عِرَاك
__________
= - صلى الله عليه وسلم - سنَّ الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً) .
انظر: نصب الراية (1/78) وميزان الاعتدال (1/330) في ترجمة بَرَكة الحلبي.
(1) انظر ترجمته التي ذكرناها آنفاً.
(2) سبق تخريج هذا الحديث مع بيان ما في "أبي زيد" "وأبى فزارة" من مقال (1/341) .
(3) هذا قول بعض الفقهاء.
وعند كثير من العلماء: يكفي واحد.
واشترط بعضهم في المزكي الواحد: أن يكون بصفة من يجب قبول تزكيته.
والذى استحبه الحافظ البغدادي: أن يكون من يزكي المحدث اثنين للاحتياط.
انظر: الكفاية في علوم الرواية للخطيب البغدادي ص (160) .
(4) البصري. مدني الأصل. كان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على واسط. روى عن عمر بن عبد العزيز وابن سيرين وعبد الملك بن عمير وغيرهم. وعنه خالد الحذَّاء والمبارك بن فضالة وسفيان بن حسين وواصل مولى أبي عيينة.
قال عبد الحق: ضعيف.
وقال ابن حزم: مجهول. وتُعُقِّب في ذلك: بأنه مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم، ولكن حديثه معلول.
وذكره ابن حبان في الثقات (6/252) .
وقال الذهبي في الميزان (1/632) : (ما علمتُ أحداً تعرض إلى لِينه، لكن الخبر =(5/1485)
ابن مالك (1) عن عائشة أنها قالت: (بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: أو قد فَعَلُوها؟ حولُوا مقْعَدي إلى القبلة) (2) .
__________
= منكر) .
وقال ابن حجر في التقريب (1/214) : (مقبول من السادسة) .
وانظر أيضاً: تهذيب التهذيب (3/97) .
(1) الغفاري الكناني المدني. روى عن أبي هريرة وابن عمر وعائشة وغيرهم. وعنه سليمان بن يسار ويحيى بن سعيد الأنصاري ومكحول الشامي وغيرهم.
ثقة فاضل من الثالثة. مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة.
انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (7/172) والتقريب (2/17) وميزان الاعتدال (3/63) .
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكَنِيف (1/17) حديث رقم (324) ، ولفظه قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: استقبال القبلة في الخلاء (1/59) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/184) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطهارة، باب: من رخص في استقبال القبلة بالخلاء (1/151) .
وأخرجه ابن المنذر في كتابه الأوسط في كتاب الطهارة، باب: ذكر النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول (1/326) رقم (261) .
قال النووي في المجموع (2/82) : (إسناده حسن، لكن أشار البخاري في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن فيه علة) .
لكن قال الإِمام أحمد: (عِراك لم يسمع من عائشة، وكأنه لم يعتبر الروايات التي صرح فيها عِراك بالسماع) .
ومثل قوله قال موسى بن هارون.
ونقل ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي (1/312) عن الإمام أحمد قوله: =(5/1486)
فقال المخالف: "خالد بن أبي الصَّلْت" مجهول (1) .
وحكى أبو بكر بن المنذر (2) في كتابه (3) هذا عن أبي ثور (4) .
__________
= (وهو أحسن ما روى في الرخصة وإن كان مرسلاً، فإن مخرجه حسن) .
ويعني بإرساله: إن عِراكاً لم يسمع من عائشة.
وقال: إنما يروي عن عروة عن عائشة.
فلعله حسَّنه، لأن عراكاً قد عرف أنه يروي حديث عائشة عن عروة عنها) .
وقال الترمذي في العلل الكبير ورقة (3/أ) كما في تعليق محقق شرح علل الترمذي (1/313) : (سألت محمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها) .
وقال ابن أبي حاتم في كتابه العلل (1/29) : (قال أبي: فلم أزل أقفو أثر هذا الحديث حتى كتبتُ بمصر عن إسحاق بن بكر بن مضر أو غيره عن بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عِراك بن مالك عن عروة عن عائشة موقوف، وهذا أشبه) .
وقال الذهبي في الميزان (1/632) : (حديث منكر) .
وانظر: تهذيب التهذيب (3/98) في ترجمة خالد بن أبي الصلت.
(1) سبق الكلام على هذا في ترجمته قريباً، ومنه تبين أن خالداً هذا غير مجهول، خلافاً لابن حزم، رحمه الله.
(2) هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر، أبو بكر النيسابوري الحافظ، الفقيه. ولد سنة (242 هـ) تقريباً.
روى عن الربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن الحكم وخلق كثير. وعنه ابن المقرىء ومحمد بن يحيى وغيرهما. له كتاب الإشراف في اختلاف العلماء وكتاب الإجماع، وكتاب المبسوط. توفي سنة (318 هـ) تقريباً.
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/782) وسير أعلام النبلاء (14/490) وميزان الاعتدال (3/450) .
(3) هو كتاب: الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، والمسألة مذكورة فيه (1/327) .
(4) حيث قال في المرجع السابق: (ودفع أبو ثور حديث عائشة بأن قال: خالد بن =(5/1487)
وأجاب عنه فقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - قال: "مخرج هذا الحديث حسن" (1) .
وفال غيره (2) : [خالد معروف] (3) روى [عنه (3) ] خالد الحذَّاء ومبارك بن فَضَالة (4) وواصل مولى أبي (5) عيينة (6) ، وهؤلاء ثقات، فوجب أن يكون خالد ابن أبي الصَّلْت معروفاً.
__________
= أبي الصلت ليس بمعروف) .
(1) هذه العبارة لم أجدها في المرجع المذكور.
وإنما ذكر قول أحمد: (أما من ذهب إلى حديث عائشة، فإن مخرجه حسن) .
قلت: مراد الإمام أحمد: ما روي مرسلاً؛ لأنه لا يرى أن عراكاً سمع من عائشة.
وقد سبق تفصيل هذا في تخريج الحديث.
وانظر: التمهيد لابن عبد البر (1/309) .
(2) يعني: غير الإِمام أحمد، كما صرح به في كتابه الأوسط الموضع السابق.
(3) الزيادة في الموضعين من المرجع السابق الذي نقل منه المؤلف.
(4) هو: مبارك بن فضالة بن أبي أمية أبو فضالة البصرى. روى عن الحسن البصري وحُمَيْد الطويل وغيرهما. وعنه وكيع وعفان وخلق. وثَّقه عفان وجماعة. وضعَّفه النسائي وجماعة.
قال الحافظ: (صدوق، يدلس ويسوِّي، من السادسة) .
لكنه إذا صرح بالتحديث فهو ثقة، كما يقول أبو داود وأبو زرعة.
مات سنة (166 هـ) .
له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/227) وتهذيب التهذيب (10/28) وسير أعلام النبلاء (7/281) وميزان الاعتدال (3/431) .
(5) في الأصل: (ابن عيينة) وهو خطأ، والتصويب من مراجع الترجمة الآتية.
(6) هو واصل بن عيينة بن المهلَّب الأزدي البصري. روى عن يحيى بن عقيل وأبي الزبير المكي وغيرهما. وعنه حماد بن زيد وشعبة وغيرهما.
وثقه أحمد وابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات. =(5/1488)
وكذلك حديث ابن أبي عَّياش (1) عن سعد (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟) (3) .
فقال المخالف: "زيد أبو عياش (4) " مجهول (5) .
فيجيب عنه بأن الثقات رووا عنه (6) .
__________
= وقال الحافظ: (صدوق عابد، من السادسة) .
له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/329) تهذيب التهذيب (11/105) والثقات لابن حبان (7/558) .
(1) غير معجم في الأصل.
وهو: زيد بن عياش أبو عياش الزُّرقي. روى عن سعد بن أبي: وقاص. وعنه عمران ابن أبي أنس وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان. روى له الأربعة حديثاً واحداً، هو الذي ذكره المؤلف.
وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وصحح الترمذي: وابن خزيمة وابن حبان حديثه المذكور.
وقال الحافظ: (صدوق من الثالثة) .
وقال الإمام أبو حنيفة وابن حزم: مجهول.
قال الخطَّابي -كما نقل ذلك عنه الزركشي في كتابه المعتبر ص (214) -:
(تكلم بعضهم في إسناده يعني حديث: "أينقص الرطبُ إذا يبس؟ " من جهة أبي عياش، وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش مولى بني زهرة: معروف. وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا يروى عن متروك) .
له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/276) وتهذيب التهذيب (3/423) والثقات لابن حبان (3/138) وميزان الاعتدال (2/105) .
(2) هو سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: قد سبقت ترجمته.
(3) سبق تخريج الحديث.
(4) بدون إعجام في الأصل.
(5) وبه قال الإِمام أبو حنيفة وابن حزم، كما سبق في ترجمته.
(6) فقد روى عنه: عمران بن أبي أنس القرشي العامري المدني. قال الحافظ فيه: (ثقة =(5/1489)
فأما الإِرسال فلا يعترض به على الحديث؛ لأنا قد بينا أن المذهب الصحيح جواز الاحتجاج به، فإذا اعترض به المخالف علينا لم نقبله.
وكذلك لا يصح أن يُعترض عليه به.
[الاعتراض على المتن]
الاعتراض الثالث، وهو الاعتراض على متنه: فمن ثمانية أوجه:
أحدها: أن ينازعه في مقتضى لفظه وموجبه، ويدَّعي أنه لا يتناول موضع الخلاف.
مثاله: أن يَحتج حنبلي على أن العُشْر لا يجب في الخضروات (1) بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في الخضروات زكاة) (2) .
فقال المخالف: لا يسمى العُشْر زكاة عندنا، فلا يتناوله الخبر.
فيجاب عنه: بأن هذا خطأ، لما روى عتََّاب بن أُسَيْد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يُخْرَصُ الكَرْمُ كما يُخرَصُ النَّخْل، ثم يؤدى زكاته زبيباً، كما يؤدى زكاة النخل تمراً) (3) .
__________
= من الخامسة) .
انظر تقريب التهذيب (2/82) وميزان الاعتدال (3/234) .
كما روى عنه عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان. قال الحافظ: (من شيوخ مالك، ثقة من السادسة) .
انظر: تقريب التهذيب (1/462) .
(1) انظر: المغني (4/158) طبعة هجر.
(2) سبق تخريجه.
(3) حديث عتاب بن أسيد -رضى الله عنه- هذا أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب: في خرص العنب (1/371) عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد.
ثم قال أبو داود: (وسعيد لم يسمع من عتَّاب شيئاً) . =(5/1490)
.................................
__________
= وما أخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب: ما جاء في الخرص (3/27) ، وقال: (هذا حديث حسن غريب) .
ثم قال: (وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وسألت محمداً عن هذا الحديث، فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ, وحديث ابن المسيب عن عتاب بن أسيد أثبت وأصح) .
وأخرجه النسائي في كتاب الزكاة، باب: شراء الصدقة (5/82) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب: خرص النخل والعنب (1/582) ، ولفظه: (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) .
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، باب في قدر الصدقة فيما أخرجته الأرض (2/132) وأخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب: كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب (4/122) ؟
قال المنذري: (انقطاعه ظاهر؛ لأن مولد سعيد في خلافة عمر، ومات عتّاب يوم مات أبو بكر) .
نقل هذا الحافظ في التلخيص (2/171) ثم قال: (وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر. وقال ابن السكن: لم يُرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه غير هذا) .
كما نقل الحافظ عن أبي حاتم قوله: (الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عتاباً: مرسل) .
قال النووي في المجموع (5/407) : (هو مرسل) .
ثم قال بعد ذلك: وقد سبق في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح: أن من أصحابنا من قال: يحتج بمراسيل ابن مسيب مطلقاً، والأصح: أنه إنما يحتج به إذا اعتضد بأحد أربعة أمور: أن يسند، أو يرسل من جهة أخرى، أو يقول به بعض الصحابة، أو أكثر العلماء، وقد وجد ذلك هنا، فقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر والزبيب) .
والخلاصة: أن الحديث مرسل. =(5/1491)
وهذا يدل على أن العُشر ليس يسمى زكاة (1) .
الثاني: أن يكون المتن جواباً عن سؤال والجواب مستقل بنفسه، فيدَّعي المخالف قَصْرَه على السؤال.
ويمكن الجواب عن ذلك: بأن الاعتبار بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سؤال السائل وقد مضى بيانه في موضعه (2) .
مثاله: أن يحتج حنبلي على وجوب الترتيب في الوضوء (3) بقوله -عليه السلام-: (ابدأوا بما بدأ الله به) (4)
__________
= وانظر: إرواء الغليل (3/283) ونيل الأوطار (4/162) والمصنف لعبد الرزاق (4/127) .
ويلاحظ أنه قد سمَّى في هذا الحديث العنب كرماً، وقد ورد النهي عن ذلك كما رواه البخاري ومسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاتسموا العنب الكَرْم، فإن الكَرْم المسلم) .
وفي رواية: (فإن الكَرْم قلب المؤمن) .
وعند مسلم من حديث وائل: (لا تقولوا الكَرْم، ولكن قولوا: العنب والحبلة) . أجيب من ذلك بأن النهي محمول على التنزيه.
أو أن تسميتها بالكرم هنا من كلام الرواي فلعله لم يبلغه النهي، أو خاطب به من لا يعرفه بغيره، أو بياناً للجواز.
أفاده النووي في كتابه المجموع (5/408) .
(1) هكذا في الأصل بإثبات "ليس" ويظهر أن حرف "ليس" هنا زائدة؛ لأن غرض المؤلف إثبات أن العشر يسمى زكاة.
(2) وذلك في مباحث العموم (2/596) .
(3) انظر: المغني (1/136) .
(4) هذا الحديث رواه جابر - رضي الله عنه - في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكره المؤلف بصيغة الأمر: (ابدأوا) . =(5/1492)
.................................
__________
= وبهذا اللفظ أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الحج، باب: المواقيت (2/254) بعدة طرق.
وأخرجه ابن حزم في كتابه المحلَّى في كتاب الطهارة (2/92) مسألة (206) .
وقال في (2/67) مسألة (197) : (وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
وأخرجه النَّسائي في كتاب المناسك، باب: القول بعد ركعتي الطواف (5/236) .
طبعة الشيخ أبي غدة.
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة باب: الترتيب في الوضوء (1/85) .
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (3/394) .
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (8/177) : (وقد ثبت في رواية النَّسائي هذا الحديث بإسناد صحيح) .
وقال ابن الملقن في كتابه تحفة المحتاج (2/174) حديث (1115) . (روى النَّسائي بإسناد على شرط الصحيح، لا جَرَم صححه ابن حزم في محلاه) .
وبهذا يتبين سهو الشيخ الألباني في الإِرواء (4/317) حيث نفى أن تكون رواية هذا اللفظ في السنن الصغرى للنَّسائي.
وقد نبه إلى ذلك محقق كتاب تحفة المحتاج.
وراجع في هذا أيضاً نصب الراية (3/54) والتلخيص (2/250) حديث (1034) . والإرواء (4/316) .
وهناك لفظان آخران، هما: (أَبْدَأُ) و (نَبْدأُ) .
فقد أخرجه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/888) الحديث (1218) .
وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب المناسك، باب في سنة الحج (1/376) .
وأخرجه ابن الجارود في باب المناسك ص (166) حديث (469) .
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب: الخروج إلى الصفا بعد استلام الركن (4/230) حديث رقم (2757) . =(5/1493)
فيقول المخالف: إنه خارج عن البداءة بالصفا (1) .
__________
= أما لفظ (نَبْدَأ) :
فقد أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب: صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/459) حديث رقم (1905) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة (3/207) وقال: (حديث حسن صحيح) حديث رقم (862) .
وأخرجه النَّسائي في سننه الموضع السابق (5/235) حديث رقم (2961) .
وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2/1022) . حديث ((3074) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة باب الترتيب في الوضوء (1/85) .
وأخرجه ابن الجارود في المنتقى باب المناسك ص (163) حديث (465) .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان في كتاب الحج، باب: ذكر وصف حجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (6/99) حديث (3932) .
وعليه فقد ثبت للحديث ثلاثة ألفاظ (ابْدَؤُأ) و (أبْدَأُ) و (نَبْدَأُ) فأي هذه الألفاظ هو الراجح؟
يرى الحافظ في التلخيص (2/250) أن رواية (نبدأ) بالنون هي الراجحة.
لأنه قد اجتمع على روايتها: مالك وسفيان ويحيى بن سعيد القطان، وهم أحفظ من الباقين.
وهو ما رجحه الشيخ الألباني في الإِرواء (4/318) وحكم على رواية (ابدَأوا) بصيغة الأمر أنها شاذة لتفرد الثوري وسليمان به، مخالفين فيه سائر الثقات الذين سبق ذكرهم، وقد قالوا: (نَبْدَأُ) فهو الصواب، ولا يمكن القول بتصحيح اللفظ الآخر؛ لأن الحديث واحد، وتكلم به - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة عند صعوده على الصفا، فلا بدّ من الترجيح، وهو ما ذكرنا) .
(1) وذلك لأن العبرة بخصوص السبب عند هؤلاء.
ولأن العموم يخص بالقرائن، نصّ عليه بعض الأصوليين. =(5/1494)
فيقول المسؤول: إنه عام في جميع ما بدأ الله به (1) .
الثالث: أن يكون الجواب غير مستقل بنفسه، ويكون مقصوراً على السؤال، ويكون السؤال عن فعل خاص يحتمل موضع الخلاف وغيره، فيلزم السائلُ المسؤولَ التوقفَ فيه حتى يقوم الدليل على المراد به.
مثاله: ما احتج به أصحابنا في وجوب الكفارة على الوطء ناسياً في رمضان (2) بحديث الأعرابى لما قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - وقعت على امرأتي. قال: (اعتق رقبة) (3) .
فيقول المخالف: يحتمل أن يكون عمداً بدليل أنه قال: (هَلَكْتُ وأهلَكْتُ) .
ويكون الجواب عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل وأطلق، فوجب أن يكون وجود الوطء موجباً للكفارة على أي وجه كان.
وقوله: (هَلْكْتُ وأهلَكْتُ) لا يمنع النسيان؛ لأنه يحصل هالكاً، فوجب
__________
= وهنا قرينتان:
حاليَّة، وهى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما مست الحاجة إليه من البدء بالصفا والمروة.
ومقاليَّة، وهى: تلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: (إنْ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِر الله) بعد قوله: (نبدأ بما بدأ الله به) .
انظر: الجوهر النَقي لابن التركماني بحاشية السنن الكبرى للبيهقي (1/85) .
(1) لأن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.
(2) هذا المشهور من المذهب.
وهناك رواية أخرى: أنه توقف، وقال: أَجْبُنُ أن أقول فيه شيئاً.
ونقل عنه أحمد بن القاسم ما يقتضي أنه لا كفارة عليه.
انظر: المغني (2/121) ، وكتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/259) .
(3) سبق تخريجه بهذا اللفظ.(5/1495)
القضاء والكفارة وإن لم يكن آثماً.
الرابع: ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: (أُمِرَ بلال أن يشْفعَ الأذانَ ويوترَ الإِقامة) (1) .
قال المخالف: ليس فيه ذكر الآمر من هو، ويحتمل أن يكون أمر به بعض أمراء بني أمية.
وهذا غلط؛ لأنه لا يجوز أن يأمره بعض الأمراء بتغيير إقامة فعلها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً طويلاً وبين يدي أبي بكر وعمر، فلو أمره بذلك أحد لم يقبله بلال، ولو قبله لم يرض به سائر الصحابة -رضي الله عنهم-.
__________
(1) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: بدء الأذان (1/148) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (1/286) حديث رقم (378) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الإقامة (1/349) رقم الحديث (508) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة، باب: ما جاء في إفراد الإقامة (1/269) حديث رقم (193) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأذان، باب: إفراد الإقامة (1/241) حديث رقم (730) .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه. كما جاء في كتاب الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب: الأذان- (3/92) رقم الحديث (1673) .
وأخرجه البيقى في السنن الكبرى في كتاب الصلاة، باب: بدء الأذان (1/390) .(5/1496)
وعلى أنه روى عبد الوهاب (1) الثقفي وإسماعيل بن عُلَيَّة (2) وابن لَهِيعة (3) أن أنس بن مالك قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يشفَع الأذان ويوترَ الإقامةَ) (4) ، وهذا نص.
__________
(1) هو: عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد المصري. روى عن حُميْد الطويل وخالد الحذَّاء وغيرهما. وعنه الشافعي وأحمد وغيرهما. قال فيه الحافظ: (ثقة، تغيَّر قبل موته بثلاث سنين من الثامنة، مات سنة أربع وتسعين، عن نحو ثمانين سنة) .
انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/528) ، وتهذيب التهذيب (6/449) .
والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه من طريقه النَّسائي والدارقطني والحاكم كما سيأتي في تخريج الحديث، إن شاء الله تعالى.
(2) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المشهور بابن عُلَيَّة. روى عن حُميْد الطويل وأيوب السختياني وغيرهما. وعنه شعبة وابن جريج وغيرهما. قال فيه الحافظ: (ثقة حافظ، من الثامنة. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة، وهو ابن ثلاث وثمانين) .
انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/66) وتهذيب التهذيب (1/275) .
والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه من طريقه الدارقطني في سننه، كما سيأتي في تخريج الحديث، إن شاء الله تعالى.
(3) هو عبد الله بن لَهِيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري الفقيه القاضي وقد سبقت ترجمته.
والحديث الذي ذكره المؤلف ذكره ابن أبي حاتم في العلل من طريقه إلى ابن لَهِيعة وسيأتي ذكره في تخريج الحديث، إن شاء الله.
(4) حديث أنس - رضي الله عنه - بهذا اللفظ، أخرجه عنه مرفوعاً النَّسائي من طريق عبد الوهاب الثقفي في كتاب الأذان، باب: تثنية الأذان (2/3) رقم الحديث (627) طبعة الشيخ أبي غدة.
وأخرجه عنه ابن حبان في صحيحه كما في الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان، كتاب الصلاة، باب الأذان (3/92) رقم الحديث (1674) . =(5/1497)
الخامس: ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال: (أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمُرنا أن نخرجَ الصدقةَ من الذي نُعِدُّه للبيع (1)
__________
= وأخرجه عنه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الوهاب الثقفي في كتاب الصلاة، باب: يشفع الأذان ويوتر الإقامة (1/198) بطريقين إلى عبد الوهاب الثقفي إحداهما من طريق الدوري، حدثنا يحيى بن معين حدثنا عبد الوهاب الثقفي إلى آخر سنده.
ثم قال الحاكم بعدها: (هذا حديث أسنده إمام أهل الحديث ومزكي الرواة بلا مدافعة) يعني: يحيى بن معين.
والثانية من طريق قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب الثقفي إلى آخر سنده. ثم قال الحاكم بعدها: (والشيخان لم يخرجاه بهذه السياقة، وهو صحيح على شرطهما) .
وأخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الصلاة، باب ذكر الإقامة واختلاف الروايات فيها (1/240) من طريق عبد الوهاب الثقفي، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم ابن عُلَيّة.
وفي كتاب العلل لابن أبي حاتم في كتاب الصلاة، باب: علل أخبار رويت في الأذان (1/194) حديث رقم (557) قال: (سئل أبو زُرعة عن حديث رواه عثمان بن أبي صالح المصري عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإِقامة". قال أبو زُرعة هذا حديث منكر) .
والذي يظهر لي: أن الحديث صحيح، ويشهد له روايات أخرى مذكورة في مواطنها. ولعل أبا زرعة نظر إلى أن في الإِسناد ابن لَهِيعة فأنكره. والله أعلم.
انظر: التلخيص (1/198) .
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن سمرُة بن جندب - رضي الله عنه - بمثل لفظ المؤلف، في كتاب الزكاة، باب: العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة (2/211-212) وسكت عنه. =(5/1498)
وقال المخالف: هذا لا يدل على الوجوب؛ لأن الاستحباب يسمى أمراً. وقد اختلف الناس في ذلك، فيجوز أن يكون سماه أمراً على اعتقاده.
ويجاب عنه: بأنه يجب حمله على الوجوب عندنا. وقد تقدم بيانه (1) .
السادس: أن يدَّعى المخالفُ أن المتن متردد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره، فلا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير دليل.
مثاله: ما روي عن سَهْل بن سعْد الساعِدِي (2) أنه قال: (مضت السُّنَة: أن يُفرَّق بين المتلاعنين) (3) .
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الزكاة، باب: زكاة التجارة (4/146) بمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الزكاة، باب: زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق (2/127- 128) ولفظه: (بسم الله الرحمن الرحيم من سمُرة ابن جندب إلى بنيه، سلام عليكم، أما بعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا برقيق الرجل أو المرأة الذين هم تِلادٌ لهُ، وهم عَمَلة لا يريد بيعهم فكان يأمرنا أن لا نخرج عنهم من الصدقة شيئاً، وكان يأمرنا أن نخرج من الرقيق الذي يُعدُّ للبيع) .
(1) انظر: (1/224) من هذا الكتاب.
(2) هو: سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري، أبو العباس. صحابي جليل.
توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة. قيل: إنه آخر الصحابة موتاً بالمدينة. مات سنة (88 هـ) . وقيل غير ذلك.
انظر: ترجمته في: الاستيعاب (2/664) .
(3) أخرج هذا أبو داود في سننه في كتاب الطلاق، باب: في اللعان (2/683) حديث رقم (2250) ولفظه: (.. فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً) .
ورواه الجَوْزَجاني كما نقل ذلك الشيخ الألباني في الإِرواء (7/187) رقم الحديث (2104) ثم قال: (صحيح) .(5/1499)
فقال المخالف: السنة قد تكون لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) .
فيجاب عنه: بأن السنة إذا أطلقت اقتضت سنة [231/أ] النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم بيانه (1) .
السابع: أن يدَّعي المخالفُ أن بعض لفظ الحديث من قول الراوي، أدرجه (2) في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا حجة فيه.
مثاله: ما يحتج به على أن فُرْقة اللعان فسخ بما روى عبد الله بن عباس بقصة هلال بن أميَّة (3) إلى أن قال: (ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أن لا يُدْعى ولدُها لأب، ولا تُرْمى ولا يُرْمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. وقضى أن لا بَيْت لها عليه، ولا قوت، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها زوجها (4)) .
__________
(1) انظر: (3/991) من هذا الكتاب.
(2) والمدرج هو: أن يذكر الراوي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعقبه بكلام لنفسه أو لغيره، ثم يأتي من بعده فيرويه متصلاً، فيتوهم أنه من الحديث.
انظر: تدريب الراوي للسيوطي (1/268) .
(3) هو: هلال بن أميَّة الأنصاري الواقفي البدري. أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
انظر: ترجمته في: الاستيعاب (4/1542) .
(4) هذه الكلمة أعنى (زوجها) لم أجدها في مراجع التخريج الآتية.
حديث ابن عباس - رضي الله عنه - هذا الذي ذكر المؤلف جزءً منه، أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الطلاق، باب: في اللعان (2/688) رقم الحديث (2256) . =(5/1500)
وقال المخالف: هذا من قول عبد الله بن عباس أدرجه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا نص في أن فُرْقة اللعان ليست بطلاق.
ويجاب عنه: بأن ظاهره أنه من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه عطفه على ما قبله من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثامن: أن يكون المتن فعلاً جرى في حياة النبي.
فيقول المخالف: يحتمل أن لا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه، فلا يكون حجة.
مثاله: ما روى أبو سعيد قال: (كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر، صاعاً من شعير، صاعاً من دقيق) (1) .
__________
= وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/6) رقم الحديث (2131) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر حيث قال في تعليق على هذا الحديث: (إسناده صحيح) .
وأخرجه البيهقي في كتاب اللعان، باب: الزوج يقذف زوجته ... (7/393) .
وأخرجه الطيالسى في أول كتاب اللعان، (1/393) .
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر؟ (2/269) رقم الحديث (1618) ولفظه: (.. عن ابن عجلان سمع عياضاً، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعَ تمرٍ أو شعير أو أقط أو زبيب) هذا حديث يحيى، زاد سفيان: (أو صاعاً من دقيق) قال حامد: فأنكروا عليه، فتركه سفيان.
قال أبو داود: (فهذه الزيادة وَهْم من ابن عيينة) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الزكاة، باب: من قال يجزىء إخراج الدقيق في زكاة الفطر (4/172) عن أبي داود بمثل لفظه.
ثم قال البيهقي بعد ذلك: (رواه جماعة عن ابن عجلان، منهم: حاتم بن إسماعيل، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح، ويحيى القطان وأبو خالد الأحمر وحماد ابن مسعدة وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم الدقيق، غير سفيان وقد أنكر عليه، =(5/1501)
فقال مخالفنا: يحتمل أن يكون فعلوا ذلك بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجهم الدقيق.
فنجيب عنه: بأنه لا يجوز أن يخفى ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الصدقات كانت تحمل إليه.
ولأن هذا إخبار عن دوام الفعل فيقتضي زماناً طويلاً.
ومن جوز أن يخفى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فقد ادعى خلاف ما جرت به العادة.
ولأنه لا يجوز أن يسقطوا فرضاً وجب عليهم بآرائهم.
الاعتراض الرابع وهو دعوى النسخ
مثل ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (هل هو إلا بَضْعة منك، أو مُضْغة منك) (1) .
__________
= فتركه، وروي عن محمد بن سيرين عن ابن عباس مرسلاً موقوفاً على طريق التوهم، وليس بثابت. وروى من أوجه ضعيفة لا تَسْوى ذكرها) .
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب زكاة الفطر (2/146) بلفظين، أحدهما: عن أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم في صدقة الفطر: (صاع من زبيب، صاع من تمر، صاع من أقط، صاع من دقيق) .
واللفظ الثاني ذكر فيه موضع الشاهد، وهو: (صاع من دقيق) .
وفي آخره: أن أبا الفضل قال: (فقال له علي بن المديني، وهو معنا: با أبا محمد [يعنى: سفيان بن عيينة] أحد لا يذكر في هذا الدقيق؟ قال: بلى هو فيه) .
وهذا يدل على أن سفيان بن عيينة لم يترك هذه الزيادة كما ذكر في المراجع السابقة.
وانظر: نيل الأوطار (4/201) .
(1) هذا الحديث سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (لا وضوء من مسِّه) (3/832) .(5/1502)
فيقول: إنه منسوخ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أفضى أحدم بيده إلى ذَكَره ليس بينه وبينه شىء فليتوضأ) (1) . لأنه رواه أبو هريرة وهو متأخر.
قال أبو هريرة: (صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنوات) (2) .
وقوله: (هل هو إلا بَضْعة منك) متقدم.
فإن قيس بن طَلْق روى عن أبيه (3) أنه قال: (قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤسس مسجدَ المدينة (4) .
فوجب أن يُنسخَ المتقدمُ بالمتأخر.
وكذلك قوله: (يستأنف الفريضة) (5) . منسوخ بقوله: (فإذا زادت الإِبلُ
__________
(1) سبق تخريجه (3/832) وقد ذكره المؤلف بلفظ: (وجوب الوضوء من مسِّه) .
وهناك بينّا أقوال العلماء في المسألة.
وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص (7) .
(2) أخرج هذا الأثر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ابن سعد في طبقاته في ترجمة أبي هريرة - رضي الله عنه - (4/327) وفيه زيادة: (ما كنت سنوات قط أعقل مني، ولا أحب إلىَّ من أن أعِي ما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني فيهن) .
وأخرجه بسند آخر بلفظ (..... عن حميد بن عبد الرحمن قال: صحب أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين) .
(3) هو: طَلْق بن علي، وقد سبقت ترجمته وترجمة ابنه قيس.
(4) أخرج هذا ابن سعد في طبقاته (5/552) في ترجمة طَلْق بن علي، - رضي الله عنه -.
وانظر: تهذيب التهذيب (5/33) .
(5) سبق تخريجه (1/1013) .(5/1503)
على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حِقّة) (1) ؛ لأنه عمل به أبو بكر [231/ب] وعمر- رضي الله عنهما-. فدل على أنه غير منسوخ، فوجب نسخ الاستئناف لذلك.
ومثل هذا كثير.
الاعتراض الخامس وهو معارضته بغيره
ويكون الجواب عنه بأن يُسقط معارضتَه، أو يرجح خبرَه على ما تقدم بيانُه.
__________
(1) هذا جزء من حديث رواه أنس - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: (بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين.....) . الحديث.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب: زكاة الغنم (2/139) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة (2/214) رقم الحديث (1567) .
وأخرجه النَّسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الإبل (5/17) رقم الحديث (2445) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: إذا أخذ المصدق سناً دون سن أو فوق سن (1/575) رقم الحديث (1800) .
وأخرجه البيهقي في كتاب الزكاة، باب: كيف فرض الصدقة (4/86) .
وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم (2/113) .
وأخرجه الحاكم في كتاب الزكاة، (1/390) .
وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص (10) .(5/1504)
[الاعتراض على الاستدلال بالإجماع]
فإن كان دليله الإِجماع فالاعتراض عليه بثلاثة أوجه: (1)
أحدها: بأن يطالبه ببيان ظهور القول لكل مجتهد من الصحابة.
ومثاله: ما روي عن عمر أنه كتب إلى عمّاله في خمور أهل الذمة (ولُّوهم بيعَها، وخذوا منهم عُشْر أثمانِها) (2) .
فيحتج به أصحاب أبي حنيفة على أن الخمر مال في حق أهل الذمة، يصح
__________
(1) ذكر بعض الأصوليين كالشيرازي: أن الاعتراضات هنا على أربعة أوجه، ترك المؤلف الوجه الأول منها، وهو: الرد، وهو من ثلاثة أوجه:
الأول: رد الرافضة الإِجماع؛ فإنه عندهم ليس بحجة، ويرد عليهم: بأن الإِجماع أصل من أصول الدين.
الثاني: رد أهل الظاهر إجماع غير الصحابة، ورد عليهم بأن ذلك أصل.
الثالث: رد أهل الظاهر الإجماع السكوتى، ويرد عليهم: أنه حجة.
انظر: المعونة في الجدل ص (79) .
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن عمر -رضي الله عنهما- في كتاب الجزية، باب: لا يَأخذ منهم في الجزية خمراً ولا خنزيراً (9/206) ولفظ الشاهد فيه: (لا تأخذوا في جزيتهم الخمر والخنازير، ولكن خلوا بينهم وبين بيعها، فإذا باعوها، فخذوا أثمانها في جزيتهم) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن سويد بن غفلة عن عمر في كتاب أهل الكتاب باب: أخذ الجزية من الخمر (6/23) رقم الأثر (9886) ، وليس فيه: (خذوا منهم عُشْر أثمانها) .
وأخرجه أيضاً في الموضع السابق، رقم (9887) بلفظ: (عن إبراهيم قال: إذا مرّ أهل الذمة بالخمر أخذَ منها العاشرُ العشرَ، يقومها، ثم يأخذ من قيمتها) .
وقد أعاده عبد الرزاق (10/369) برقم (19396) ورقم (19397) .
وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه (2/49) .(5/1505)
بيعهم لها، وتملكهم لثمنها (1) .
فإن كان الاحتجاج بإجماعهم على ذلك طولبوا بظهور هذا القول من عمر وإنتشاره حتى عرفه كل مجتهد منهم، وسكت عن مخالفته. وإذا لم يتمكنوا من ذلك بطل دعوى الإِجماع.
الثاني: أن يبين ظهور خلاف بعضهم للقائل.
وإذا اختلفوا وجب الرجوع إلى الدليل.
وذلك مثل: دعوى المخالف إجماع الصحابة على منع صيام يوم الشك، فروي تحريمه عن علي وعائشة وابن عباس خلاف ذلك (2) وأن بعضهم قال: (لأن أصومَ يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان) (3) .
__________
(1) وهو كما قال.
انظر: حاشية ابن عابدين (5/56) .
(2) النص هنا فيه خلل، فعليّ - رضي الله عنه - نُقل عنه القول بالجواز - كما سيأتى في تخريج الأثر. وهو ما ذكره ابن قدامة في المغني (3/90) ، ونقله عنه ابن القيم في زاد المعاد (2/42) ، كما حُكي عنه القول بالمنع (2/46) ، وهو ما رواه البيهقي في سننه (4/209) .
أما عائشة فالمنقول عنها الجواز، كما في تخريج الأثر الآتي، وكما في المراجع السابقة.
وأما ابن عباس فقد نقل عنه البيهقي أنه كان يمنع ذلك (4/207) .
هذا الأثر قالته عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده (6/125) ضمن حديث سئلت فيه عن مسائل عدة، ومنها مسألة صيام يوم الشك.
قال الألباني: في الإرواء (4/11) (سنده صحيح) .
وذكر الألباني في المرجع السابق أن سعيد بن منصور روى هذا الأثر، ثم قال: (لا يصح سنده) .
وأخرجه عنها البيهقي في سننه في كتاب الصيام، باب: من رخَّص من الصحابة في صوم يوم الشك (4/211) . =(5/1506)
الثالث: أن يعترض على قول المجمعين أن يكونوا صرحوا بالحكم بمثل ما يعترض على لفظ السنة.
[الاعتراض على الاستدلال بالقياس]
وإذا كان دليله الذي احتج به هو القياس، فإن الاعتراض عليه من اثني عشر (1) وجهاً:
أحدها: إنكار علة الأصل على مذهب نفسه، أو على مذهب المعلِّل.
الثاني: إنكار علة الفرع.
الثالث: إنكار العلة فيهما (2) .
الرابع: إنكار حكم الأصل.
الخامس: أن لا يتعدى حكم الأصل إلى الفرع.
__________
= وأخرجه أيضاً بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
وأخرجه عن علي - رضي الله عنه - الإِمام الشافعي، كما في بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن (1/251) ولفظه: (أن رجلاً شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان، فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا وقال: أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان) .
قال محققا زادِ المعاد (2/43) هامش (2) : (فيه انقطاع) .
ولقد بحث الإمام ابن القيم هذه المسألة بحثاً قيماً في كتابه المذكور آنفاً، فارجع إليه فإنه مفيد.
(1) راجع في هذه الاعتراضات: الجدل لابن عقيل ص (38) والمعونة ص (90) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (148) .
وقد ترك المؤلف الاعتراض من جهة الرد، إما برده مطلقاً، كما هو مذهب الظاهرية.
وإما برده في بعض المواضع.
انظر المراجع السابقة.
(2) في الأصل: (فيها) والمراد: إنكار العلة في الأصل والفرع.(5/1507)
السادس: أن يطالب بتصحيح العلة في الأصل.
السابع: أن يقول بموجب العلة.
الثامن: أن ينقض علته.
التاسع: أن يطالب بتفسير علته.
العاشر: أن يقول: إنه مخالف للقرآن أو السنة أو الإِجماع أو قول الصحابي على قول من يقدمه على القياس، وإذا كان يوجب زيادة في النص.
الحادي عشر: أن يقلب علته.
والثاني عشر: أن يعارضه بعلة أخرى من أصله أو بقياس مبتدأ على أصل غيره.
فأما إنكار علة الأصل، فمثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في وجوب إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر. أصله: زكاة التجارة (1) .
والعلة في الأصل غير مسلَّمة؛ لأن زكاة التجارة لا يجب إخراجها عن العبد، وإنما يجب إخراجها عن قيمته [232/أ] .
ألا ترى أن قيمته لو كانت في متاع التجارة لوجب عليه إخراج الزكاة عليها.
__________
(1) العلة عند الحنفية هنا هي: المؤنة والولاية، سواء أكان العبد مسلماً أم كافراً، ولا يحملون المطلق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والعبد ممن تمونون) على المقيد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر في رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) .
وتعليلهم في ذلك: أن الأسباب إذا تعددت لا تزاحم بينها، كالملك يثبت بالبيع والهبة والإرث ونحو ذلك.
انظر: شرح فتح القدير (2/284) وحاشية ابن عابدين (2/263) .
وراجع: الجدل لابن عقيل ص (45) .(5/1508)
وإن قال: يجب إخراجها بسبب العبد.
قيل: لا يجب بسبب العبد وإنما يجب بسبب قيمته.
وأما عدم العلة في الأصل على مذهب المعلِّل فإنه يقل وجوده.
وذلك مثل قول أصحاب أبي حنيفة في تحريم اللعان: فُرْقة يختص بالقول، فوجب أن لا يتأبَّدَ تحريمه. أصله: الطلاق (1) .
وعلة الأصل معدومة عنده؛ لأن عند المخالف الطلاق لا يختص بالقول، فإنه يقع بالكتابة مع النية ممن هو ناطق متمكن من القول.
وهذا الإِنكار على الأصلين جميعاً؛ لأن عندنا أن الطلاق لا يختص بالقول، ويقع بالكتابة من غير نية.
وأما إنكار العلة في الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة في القارن إذا قتل الصيد: إنه أدخل النقصَ على إحرامين بقتل الصيد، فلزمه جزاءان (2) .
أصله: إذا قتل صيداً في إحرام الحج، ثم قتل صيداً في إحرام العمرة.
فالعلة معدومة في الفرع؛ لأن القارن مُحرِم بإحرام واحد، ويكون ذلك بمنزلة من باع عبدين بثمن واحد، فيكون البيع واحداً وإن كان المبيع اثنين، وكذلك إذا عقَد إحراماً واحداً (3) ، وإن كان المعقود عليه اثنين.
________
(1) هذه المسألة فيها خلاف
انظر: تحفة الفقهاء (2/222) وشرح فتح القدير (4/286) وحاشية ابن عابدين (3/483) .
وراجع: الجدل ص (45) .
(2) هو كذلك في شرح فتح القدير (3/104) وحاشية ابن عابدين (2/577) .
(3) في الأصل: (إذا عقد الإحرام واحد) .(5/1509)
وأما إنكار العلة في الأصل والفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة: إذا لم يصم المتمتع في الحج سقط الصوم (1) ؛ لأنه بدل موجب، فوجب أن يسقط بفوات وقته. أصله: الجمعة.
وعلة الأصل غير مسلَّمة؛ لأن الجمعة ليست ببدل عن الظهر، وإنما الظهر بدل عن الجمعة؛ لأن البدل ما وجب الانتقال إليه لتعذر غيره.
وكذلك علة الفرع غير مسلمة؛ لأن صوم الثلاثة بدل غير مؤقت؛ لأنه مأمور في الحج دون الزمان، والمؤقت ما حصر فعله بوقت بعينه.
ومثل قولهم في إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر: عبدٌ يجب إخراج زكاة التجارة عنه، فوجب إخراج زكاة الفطر عنه. أصله: العبدُ المسلم (2) .
ووجوب زكاه التجارة عن العبد المسلم وعن العبد الكافر غير مسلَّم.
وأما إنكار الحكم في الأصل، مثل: أن يقول أصحاب أبي حنيفة في جلد الكلب: بأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة، فيطهر جلدُه بالدباغ (3) . أصله: ما يؤكل لحمه.
__________
(1) عبارة صاحب الهداية (2/530) مطبوع مع شرح فتح القدير: (فإن فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم) .
(2) انظر: شرح فتح القدير (2/284) وحاشية ابن عابدين (2/263) .
(3) الكلب عند الإمام أبي حنيفة ليس بنجس العين، وعلى هذا جرت الفتوى، وعليه فيباع، ويؤجر، ويضمن، ويتخذ جلده مصلى ودلواً، يعني: إذا دبغ. هكذا في الدر المختار وشرحه تنوير الأبصار (1/208) مع حاشية ابن عابدين.
وذكر السمرقندى في تحفته (1/53) أن هناك قولين لأصحابه:
الأول: أنه نجس العين، فهو والخنزير سواء.
والثاني: ليس بنجس العين، فهو وسائر الحيوانات سواء، ثم قال: (وهذا أصح) .
ثم قال في ص (71) : (أما الدباغ، فتطهير في الجلود كلها، إلا في جلد الإنسان والخنزير عند عامة العلماء) .(5/1510)
الحكم غير مسلَّم في الأصل؛ لأن ما يؤكل لحمُه لا يطهر جلدُه بالدباغ عندنا (1) .
وأما حكم الأصل إذا لم يتعدَّ إلى الفرع، فمثل: قول أصحاب أبي حنيفة [232/ب] في ضم الذهب إلى الوَرق: إنهما قِيَم المتلفات، فوجب ضمُّ أحدهما إلى الآخر (2) قياساً على الصحاح والمكسَّرة، والضمُّ في الأصل بالأجزاء، والضمُّ عندهم بالقيمة (3) ، وهما ضمَّان مختلفان، ولا يجوز أن يثبت في الفرع غير حكم (4) الأصل؛ لأن علة الأصل تتعدى إلى الفرع، فيتعدى بها الحكم المتعلِّق بها، وهذا على أصلنا يصح؛ لأن الضم يحصل في الأصل والفرع بالأجزاء (5) .
__________
(1) هكذا نقل الجماعة عن الإمام أحمد، منهم صالح وعبد الله والأثرم وحنبل وابن منصور وأبو الصقر.
ونقل الصاغاني عنه: أنه يطهر بالدباغ جلد كل حيوان طاهر حال الحياة.
انظر: كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/66) .
(2) هو كذلك.
انظر التحفة (1/266) .
(3) هذا هو رأى الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-.
أما عند أبي يوسف ومحمد فالضم باعتبار الأجزاء وانظر: المرجع السابق (1/267) .
(4) ويمكن الجواب عن هذا بأن يقال: (ألحقت حكم الفرع بالأصل في وجوب الضم، فلا يلزمني استواؤهما في صفة الضم) .
أفاده ابن عقيل في كتابه: الجدل ص (44) .
(5) هو كذلك.
قال في الروض المربع (1/381) : (ويضم جيد كل جنس ومضروبه إلى رديئه وتبره، ويخرج من كل نوع بحصته، والأفضل من الأعلى، ويجزىء إخراج رديء عن أعلى مع الفضل) . =(5/1511)
وأما المطالبة بتصحيح العلة في الأصل فنقضها والقول بموجبها. وقد سبق الكلام عليه في باب العلم الدال على صحة العلة والاعتراض عليها.
وأما المطالبة بتفسير لفظ العلة، فمثل: قول أصحاب الشافعي في صوف الميتة: متصل بذي روح ينمو بنمائه، فوجب أن ينجس بنجاستِه بموته (1) .
قلنا لهم: قولك: "بموته" إما أن تريد به موت الأصل أو موت الشَّعَر.
فإن أردت به موت الشعر، لم نسلِّمه؛ لأن الشعر لا حياة فيه فيموت.
وإن أردت به موت الأصل لم يصح على أصلك؛ لأن عندك إنما ينجس بمفارقة الروح، كما ينجس العضو بمفارقة الروح له، لا بمفارقة الجملة.
فكانت المطالبة به صحيحة، والإِجابة واجبة.
وأما إذا كان مخالفاً لنص القرآن أو نص السنة أو الإِجماع فإنه غير صحيح؛ لأن ذلك كله أقوى من القياس وأولى به، فوجب تقديمها عليه، وإذا كان كذلك كان نقضاً للعلة.
وأما إذا كان موجباً للزيادة في النص، فإنه لا يصح على مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزيادة في النص نسخ، فلا يجوز النسخ بالقياس (2) .
__________
= هذا إذا كان من جنس واحد.
أما إذا كان من جنسين كالذهب والفضة، فهل يضم بعضها إلى بعض؟ فيه روايتان:
الأولى: يضم؛ لأن زكاتهما ربع العشر؛ ولأنهما من جنس الأثمان.
الثانية: لا يضم؛ لأنهما جنسان، أشبه التمر والزبيب.
وعلى القول بالضم، يكون ذلك بالأجزاء، فلو ملك عشرة مثاقيل ومائة درهم، فكل منهما نصف نصاب، ومجموعهما نصاب.
وانظر: كتاب الروايتين والوجهين (1/241) .
(1) هكذا عند الشافعية.
وقد فصَّل القول في هذه المسألة النووي في المجموع (1/275) .
(2) سبق أن تكلم المؤلف عن هذه المسألة (3/814) من هذا الكتاب.(5/1512)
ومثاله: أن بعضهم سُئِل عن سهم ذوي القربى فقال: سهم من الخمس، فوجب أن يُستحق بالحاجة والفقر قياساً على سائر السهام (1) .
فقيل له: فهذا يوجب الزيادة في قوله: (وَلِذِى الْقُرْبَى) (2) .
والزيادة في النص نسخ عندك، ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس.
وكذلك إذا كان قياسه مخالفاً لقول الصحابي.
وأما قلب العلة على المعلِّل فيأتي بيانه، وكذلك بيان المعارضة من أصله ومن غير أصله، إن شاء الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا جميع الاعتراضات الصحيحة.
فأما الاعتراضات الفاسدة فقد تقدم ذكرها في باب الاعتراضات.
[المعارضة]
وأما المعارضة (3) فعلى أربعة أضرب:
معارضة النطق بالنطق.
__________
(1) فالخمس عندهم يقسم أثلاثاً لليتيم والمسكين وابن السبيل، ويجوز صرفه لصنف واحد، وذلك عند توفر سبب الاستحقاق، وهو الفقر.
انظر: التحفة (3/302) وحاشية ابن عابدين (4/149) .
(2) آية (41) من سورة الأنفال.
(3) راجع هذا الموضوع في: الجدل لابن عقيل ص (67) والواضح له (2/574) والمعونة في الجدل للشيرازي ص (66, 76) ويضرح اللُّمع له (2/936) والمسودة ص (441) ولم يتعرض المؤلف لتعريف المعارضة، وتتميماً للفائدة نذكر ذلك باختصار.
المعارضة في اللغة: الممانعة، تقول، سرت في الطريق فعرض لي عارض، أي: مانع.
ومنه اعترض لي. وسميت المعارضة بهذا، لأنها تمنع من التمسك بالدليل.
انظر: المصباح المنير (2/616) مادة (عرض) .
أما المعارضة في الاصطلاح فقد عَّرفها ابن عقيل في كتابه الواضح (2/594) =(5/1513)
ومعارضة العلة بالعلة.
ومعارضة النطق بالعلة.
ومعارضة العلة بالنطق.
فأما معارضة [233/أ] النطق بالنطق فقد سبق الكلام عليه في باب الخصوص والعموم ويقيده (1) ، وذلك لا يخلو من أمرين:
إما أن يكونا سواء في العموم والخصوص، أو كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً.
فإن كانا سواء نُظِر، فإن أمكن استعمالهما وجب ذلك.
وإن استعمل المسؤول على وجه، واستعمل السائل على وجه آخر، وتعارضا في الظاهر، وجب على المسؤول أن يرجح استعماله، فإن عجز عنه كان منقطعاً.
وذلك (2) مثل أن يحتج على المنع من الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى: (وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُختَيْنِ) (3) ويعارضه المخالف بقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ) (4) .
__________
= بقوله: (وهى الجمع بين الشيئين للتسوية بينهما في الحكم) .
وعرفها إمام الحرمين في كتابه: الكافية ص (69) بأنها في عرف الفقهاء (ممانعة الخصم بدعوى المساواة. أو مساواة الخصم في دعوى الدلالة) .
وعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات ص (115) بأنها: (إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم) .
وهناك تعريفات كثيرة، انظرها في: إرشاد الفحول ص (232) والحدود للباجى ص (79) والكافية في الجدل ص (418) .
(1) في الأصل بدون إعجام، ولعل الصواب: (ومطلق اللفظ ومقيده) .
(2) كلمة (وذلك) مكررة في الأصل.
(3) آية (23) من سورة النساء.
(4) آية (30) من سورة المعارج، وكلمة (ملكت) ساقطة من الأصل، وهو خطأ.(5/1514)
فيقول المسؤول: معناه: أو ما ملكت أيمانهم في غير الجمع بين الأختين في غير ملك اليمين.
فيحتاج المسؤول أن يرجح استعماله، ويقدمه على استعمال خصمه، بأن يقول: روي عن عثمان أنه قال: (حرمتهما آية، وأحلتهما آية) والتحريم أولى.
ولأن قوله: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اْلأُخْتَيْنِ) قصد به بيان التحريم، وليس كذلك قول: (أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) فإنه قصد به مدح قوم. فكان ما قصد به بيان التحريم وبيان الحكم أولى بالتقديم، فيجب حمله على ظاهره وترتيب الآية الأخرى عليه.
وإن تعذر استعمالهما، فإن عرف التاريخ وجب تقديم المتأخر منهما لما روى ابن عباس أنه قال: (كنا نأخذ من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث) (1) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر ... (2/784) رقم الحديث (1113) ولفظه: ( ... عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان. فصام حتى بلغ الكُدَيد، ثم أفطر. وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره) .
وأخرجه بسند آخر، ثم قال: (قال يحيى: قال سفيان: لا أدري من قول من هو؟ وكان يؤخذ بالآخر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وأخرجه الإِمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام باب: الصوم في السفر (1/341) رقم (1715) بمثل لفظ مسلم.
وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان، كما في الفتح (8/3) رقم الحديث (4276) وجعل الأثر من قول الزهري حيث قال في آخر الحديث: (قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآخر فالآخر) . =(5/1515)
ولأن المتأخر أقوى من المتقدم؛ لأن المتقدم يجوز أن يكون منسوخاً بالمتأخر، ولا يجوز أن يكون المتأخر منسوخاً بالمتقدم، فوجب تقديم المتأخر.
وإن جهل التاريخ وجب تقديم أحدهما على الآخر بضرب من ضروب الترجيحات التي ذكرناها في باب ترجيحات الأخبار. وقد تقدم ذلك (1) .
وأما إذا كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فلا يخلو الخاص من أحد أمرين:
إما أن يكون موافقاً للعام أو منافياً له.
فإن كان منافياً له وجب تخصيص العام به، سواء تقدم العام على الخاص، أو تأخر عنه، أو جُهل التاريخ.
وذلك مثل قوله: (وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَى يُؤْمِنَّ) (2) وقوله:
(وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (3) وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (4) وقول النبي -عليه السلام-: (لا قطع إلا في ربع دينار) وقد حكينا الخلاف في ذلك فيما تقدم (5) .
وإن كان الخاص موافقاً للعام فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكونا في حكمين، أو في حكم واحد.
__________
= وما جزم به البخاري هنا جزم به الحافظ بن حجر في الفتح (4/181) ، وحكم بأنها وقعت مدرجة عند مسلم.
وعلى هذا فالأثر ليس لابن عباس، وإنما هو من قول الزهري. والله أعلم.
وقد سبق أن ذكر المؤلف هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - (3/1040) ولكن فاتني تخريجه هناك.
(1) انظر: (3/1019) من هذا الكتاب.
(2) آية (221) من سورة البقرة.
(3) آية (5) من سورة المائدة.
(4) آية (38) من سورة المائدة.
(5) انظر: (2/615) من هذا الكتاب.(5/1516)
فإن كانا في حكمين: مثل قوله في كفارة الظهار: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (1) مع قوله تعالى في كفارة القتل: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (2) . فإنه يحمل المطلق على المقيد من طرّيق اللغة وقد حكينا أيضاً الخلاف في ذلك (3) .
وإن كانا في حكم واحد فلا يخلو الخاص من أحد أمرين:
إما أن يكون له دليل خطاب، أو لا دليل له.
فإن لم يكن له دليل خطاب كان الخاص داخلاً في العام، وكان ذكراً لبعض ما شمله العموم، فيكون ما تناوله الخاص ثابتاً بالخاص والعام، وما زاد على ذلك ثابتاً بالعام دون الخاص.
مثاله: ما روي عن النبي -عليه السلام- أنه قال: (من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر) .
وقضى في الذي وقع على امرأته بتحرير رقبة (4) فثبتت الكفارة بالخبر.
وإن كان له دليل خطاب، فإنه يقضى بدليل خطابه على العام، فيخرج ما تناوله منه دليله.
وقد ذكرنا مثال ذلك، والوجه فيه ما تقدم في باب الخصوص والعموم بما فيه كفاية (5) .
ومثاله: قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) مع قوله: (في سائمة الزكاة) فتخرج المعلوفة من قوله: (في أربعين شاةً شاةٌ) .
__________
(1) آية (3) من سورة المجادلة.
(2) آية (92) من سورة النساء.
(3) انظر: (2/637) من هذا الكتاب.
(4) هذه إشارة إلى حديث الأعرابي الذي واقع زوجته في نهار رمضان، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (هلكتُ وأهلكتُ) ، وقد سبق تخريجه.
(5) انظر: (2/578) من هذا الكتاب.(5/1517)
وأما معارضة النطق بالعلة ومعارضة العلة بالنطق:
فإنه ينظر في النطق: فإن كان نصاً لا يحتمل إلا معنى واحداً، فإنه يجب ترك القياس له، سواء كان النطق من القرآن أو من السنة المتواترة أو من خبر الواحد.
وقد حكينا خلاف أصحاب مالك وأن القياس مقدم على خبر الواحد (1) .
وإن كان النطق عاماً أو ظاهراً: فقد حكينا اختلاف الروايتين، واختلاف الفقهاء، وأن منهم من قال: يجب ترك القياس.
ومنهم من قال: يخص العام به، ويصرف الظاهر عن ظاهره. وذكرنا الوجه في ذلك (2) .
وأما معارضة العلة بالعلة:
فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن تكون من أصلين، أو من أصل واحد.
فإن كانت من أصلين: مثل أن يقول أصحاب أبي حنيفة: طهارة بالماء، فوجب أن لا تفتقرَ إلى النية قياساً على إزالة النجاسة.
ونعارضه، فنقول: طهارة من خبث، فلا يصح بغير نية. أصله: التيمم.
ومثل ذلك كثير.
والجواب عن ذلك: أن [نبطل] قياس المخالف بوجه من وجوه الإِفساد التي ذكرناها، أو يرجح قياسه بوجه من وجوه الترجيحات التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وإن كانت من أصل واحد فلا يخلو: من أن تكون بعلة غير علته أو بعلته، وإن تعلق عليها غير حكمها.
__________
(1) انظر: (3/889) من هذا الكتاب.
(2) انظر: (2/559) من هذا الكتاب.(5/1518)
فإن كانت بعلة أخرى فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون بعلة [234/أ] واقفة، أو علة متعدية.
فإن كانت واقفة، مثل أن يقول: يصح ظهار (1) الذمي؛ لأنه زوج يصح طلاقه، فوجب أن يصح ظهاره كالمسلِم.
فيقول الخصم: المعنى في الأصل أنه يصح تكفيره بالصوم فصح ظهاره، وليس كذلك الذمي، فإنه لا يصح تكفيره بالصوم فلا يصح ظهاره.
فإن المبتدىء بالعلة ينظر فيه، فإن كان المعارض لا يقول بعلة واقفة لم تصح المعارضة؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بما لا يقول به.
والمعارض يقول: ليست العلة التي نصبها الله تعالى وعلَّق حكمَه عليها ما ذكره المبتدىء بالعلة، وإنما هي غيرها، فلا يجوز أن يذكر ما يقرُّ هو بفساده.
وإن كان المعارض يقول بالعلة الواقفة: قد قيل إن المبتدىء بالعلة يقول: أنا أقول بالعلتين جميعاً؛ لأنهما لا يتعارضان، فإن موجب العكس في الأصل واجب في الفرع، يوجد أحدهما وهي المتعدية، ولا يوجد الأخرى وهي الواقفة، فيجب أن يحكم بالمتعدية إليه، ولا تعارضه الواقفة؛ لأنها غير موجودة فيه.
وقيل: لا ينبغي أن يقول: أقول بالعلتين؛ لأنه إقرار بصحة علة الخصم والشهادة لها. ولا حاجة به إلى ذلك. ولكنه يقول: علتك لا تعارض علتي لما قدمته، وهو أن موجبهما أصل واحد، وفي الفرع توجد المتعدية، ولا توجد الواقفة، فلا يجوز أن يتعارضا في الأصل ولا في الفرع، فلا يكون الخصم بهذه العلة معارضاً.
فإن قيل: العلة الواقفة تعارض المتعدية في الفرع؛ لأن زوال العلة يوجب
__________
(1) في الأصل: (ظهاره) .(5/1519)
زوال الحكم، فيوجب أن يكون الذمي لا يصح ظهاره.
قيل: زوال العلة يوجب زوال الحكم المتعلق بها ولا يوجب ضد حكمها.
فإذا كان الحكم متعلقاً بعلتين فزالت إحداهما زال الحكم المتعلق بها، وبقي الحكم متعلقاً بالعلة الأخرى لا تعارضها العلة الزائلة، ولا يوجب ضد حكمها.
ألا ترى أن الحائض والمُحْرِمة بالحج يحرمُ وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا انقطع حيضُها بقي تحريم وطئها متعلقاً بالإحرام.
وإن عارضه بعلة متعدية فلا يخلو من أحد أمرين:
إما أن تكون داخلة في علته أو غير داخلة فيها.
فإن كانت داخلة في علته: مثل تعليل مالك تحريم التفاضل بالقوت (1) ، مع تعليل أحمد -رحمه الله- بالكيل.
والجواب عنه كالجواب عن العلة الواقفة؛ لأن القوت داخل في الكيل.
وإن كانت خارجة عن علته ومتعدية إلى فروع لا يقول بها، لأنها (2) تتعدى إلى فروع لا يجري فيها (3) الربا عند مالك (4) والشافعي (5) مثل الخُضَر وغيرها (6) .
فإذا [234/ب] كان كذلك كان الجواب عنه إفساد علته أو يرجح (7) علته على علة خصمه، كما قلنا في العلة المعارضة من غير أصلها.
__________
(1) انظر في هذا: الكافي لابن عبد البر (1/304) .
(2) في الأصل: (لأنه) .
(3) في الأصل: (فيه) .
(4) انظر: المرجع السابق (1/307) حيث قال: (ولا زكاة في البقول، ولا في الخضر، ولا فيما لا يدخر ولا يقتات من الفواكه وغيرها) .
(5) انظر: المجموع للنووى (5/444) .
(6) في الأصل: (وغيره) .
(7) في الأصل (يرجع) .(5/1520)
وأما معارضة العلة بتلك العلة بعينها (1) ، فإنها تسمى قلباً (2) وتسمى المشاركة في الدليل.
ومثاله: أن يقول: صلاة فرض لا تقضى في السفر، فوجب أن ينفصل وقتُها عن وقت الصلاة التي بعدها قياساً على صلاة الصبي.
فيقول له: وجب أن يكون لها وقتان أو وقت ممتد قياساً على صلاة الصبح.
أو يقول المخالف: لُبْثٌ في مكان مخصوص، فلا يكون قُرْبة بنفسه قياساً على الوقوف بعرفة.
فيقال له: وجب أن لا يكون من شرطه الصوم قياساً على الوقوف بعرفة.
ومثل هذا كثير.
فهو صحيح (3) .
ومن أصحاب الشافعي من قال: لا يصح (4) .
__________
(1) راجع في هذا: التمهيد (4/202) والواضح (3/1138) والمسوَّدة ص (445) وشرح اللُّمع (2/916) والتبصرة ص (475) .
(2) عرفه الشيرازي في كتابه شرح اللُّمع الموضع السابق بقوله: (أن يعلق على علة المستدل نقيض حكمه، ويقيس على الأصل الذى قاس عليه، ولا يغير من أوصافه شيئاً) كما قسمه إلى قسمين: مصرح بحكم، وبمبهم، وهو قلب التسوية.
انظر: المرجع السابق (2/921) .
وقسمه أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/208) وابن عقيل في الواضح (3/1150) إلى ثلاثة أقسام، وكلام المؤلف يدل عليه:
أ - القلب بحكم مقصود غير حكم المعلل.
ب - قلب التسوية.
جـ - جعل المعلول علة والعلة معلولاً.
(3) وبه قال أبو الخطاب والشيرازى وأبو علي الطبري.
انظر: التمهيد، وشرح اللُّمع، والتبصرة والواضح، المواضع السابقة.
(4) انظر: التبصرة وشرح اللُّمع، في الموضعين السابقين.(5/1521)
والدلاله على صحته: أن هذه معارضة صحيحة؛ لأن المبتدىء بالعلة لا يمكنه أن يجمع بينهما ويعلقهما على علته. وإذا كان كذلك كانا متعارضين، وكان ذلك بمنزلة المعارضة من أصل آخر. فإنه لما تعذر الجمع بين حكم الأصلين في الفرع كانا متعارضين، كذلك هاهنا.
وأيضاً: فإن المخالف استدل على المنع من نقض البناء في مسألة السَّاجَة (1) بقوله -عليه السلام-: (لا ضرر ولا إضرار في الإِسلام) (2) وفي نقض بنائه إضرار به؛ لأنه إفساد لآلته، وإبطال لنفقته، فوجب أن يمنع منه.
__________
(1) السَّاجَة، بالجيم: خشبة عظيمة تنبت بالهند.
والمراد بذلك: أن الإنسان لو غصب ساجة وبنى عليها، فهل ينقض البناء وترد الساجة إلى صاحبها مطلقاً، أو ترد إليه إذا كانت قيمتها أكثر من قيمة البناء، فإن كانت قيمتها أقل من قيمة البناء فله ثمنها.
بالأول قالت الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، والأصح عند الحنابلة، وبالثاني قالت الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
انظر: شرح اللُّمع (2/917) ، وكتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (2/418) ، وحاشية ابن عابدين (6/192) .
(2) هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر بجاره (2/784) رقم الحديث (2340) . بلفظ: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى: أن لا ضرر ولا ضرار) .
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/326) .
وأخرجه أبو نعيم في كتابه أخبار أصبهان في ترجمة: شعيب بن محمد الدبيلي (1/344) .
ورواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجة عنه ابن ماجة في الموضع السابق رقم الحديث (2341) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/313) . =(5/1522)
.................................
__________
= وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير على ما في إرواء الغليل (4/409) .
وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك (4/228) ورواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق.
وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع (2/57-58) وقال: (صحيح الإسناد على شرط مسلم) ووافقه الذهبي.
وأخرجه البيهقي في كتاب الصلح، باب: لا ضرر ولا ضرار (6/69) .
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في نصب الراية (4/385) .
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الأقضية، باب: الأقضية في المرافق ص (464) . عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرفوعاً.
قال الألباني في الإرواء (قلت: وهذا مرسل صحيح الإسناد، وهذا هو الصواب من هذا الوجه) .
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الدارقطني في سننه في الموضع السابق بلفظ: (لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدُكم جارَه أن يضع خشبته على جداره) .
ورواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الطبراني في الأوسط، كما في الإرواء.
وروته عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الدارقطني في سننه ص (227) .
ورواه ثعلبة بن أبي مالك القرظي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الطبراني في المعجم الكبير، كما في الإرواء.
ورواه أبو لبابة - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتابه المراسيل ص (176) رقم (367) .
وقد صدر الشيخ الألباني كلامه عن هذا الحديث بقوله: (صحيح) .
وفي آخر الكلام عن الحديث قال: (قلت: فهذه طرق كثيرة لهذا الحديث قد جاوزت العشر، وهي وإن كانت ضعيفة مفرداتها، فإن كثيراً منها لم يشتد ضعفها، فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث بها وارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء =(5/1523)
فقال أصحاب الشافعي وجب رد ساجَتِه وما غصبه من آلته؛ لأن في منع ذلك منه إضراراً (1) به.
وإذا كان هذا صحيحاً كان القلب صحيحاً؛ لأنه يشاركه في دليله.
واحتج المخالف:
بأنها معارضة في غير الحكم الذي علله، فلا يلزمه الجواب عنه.
ألا ترى أنه إذا استأنف قياساً في حكم آخر لم يصح لهذا المعنى، كذلك لا يصح القلب.
والجواب: أنه يبطل بالمشاركة في دلالة الخبر على ما بيناه في مسألة السَّاجَة، فإنه معارضة في غير حكمه وقد صح.
وعلى أن مثل هذا جائز للمعارض، وإن كان من أصل آخر؛ لأنه في معنى ضد حكمه؛ لأنه لا يمكنه الجمع بينهما كما (2) لا يمكنه الجمع بين
__________
= الله تعالى) .
ثم قال: (قلت: وقد احتج به الإمام مالك، وجزم بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (2/805) من الموطأ: وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار.
وكذلك احتج به محمد بن الحسن الشيباني في مناظرة جرت بينه وبين الإمام الشافعي، وأقره الإمام عليه) .
ئم ذكر بعد ذلك شواهد للحديث.
ورمز له السيوطي في الجامع الصغير (6/431) رقم الحديث (9899) بالحسن.
وقال المناوي في تعليقه على هذا الحديث: (والحديث حسَّنه النووي في الأربعين.
قال: ورواه مالك مرسلاً. وله طرق يقوى بعضها بعضاً، وقال العلائي: للحديث شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به) .
(1) في الأصل: (اضرار) .
(2) في الأصل: (فيما) .(5/1524)
الحكم وضده.
واحتج بأن أوصاف علة المعلِّل لا تصلح للحكم الذي نقلتها فيه، فلا تكون مؤثرة في وجوده، فلم يصح القلب.
والجواب أن هذا في بعضه دون بعض.
ألا ترى أنه إذا قال (1) : عضو من أعضاء الوضوء، فلا يجوز في إيصال الماء إليه ما يقع الاسم عليه (2) .
فقلبه الخصم على أبي حنيفة [235/أ] وقال: وجب أن لا يقدَّر بالربع (3) ، كانت العلة في الحكمين سواء، ولم يكن فرق بين أن يجعل عضواً من أعضاء الوضوء علة لإِجزاء اليسير وبين أن يجعل علة لنفي التقدير.
وفي القلب نوع أحسن، وهو الذي يسمى قلب التسوية (4) .
مثاله: أن يقول المخالف (5) : إيقاع طلاق من مكلف مالك للطلاق، موجب أن يقع الطلاق. أصله: المختار.
فيقلبه الخصم عليه فيقول: وجب أن يكون حكم الإِيقاع والإِقرار سواء قياساً على المختار.
__________
(1) يعني: إذا قال في مسح الرأس.
(2) لأن الشافعي يقول يجزىء في ذلك ما يقع عليه اسم المسح.
انظر: شرح اللُّمع (2/917) .
(3) عند الحنفية في القدر الذى يمسح من الرأس ثلاث روايات:
الأولى: يقدر بثلاث أصابع مطلقاً. وهو ظاهر الرواية.
الثانية: يقدر بربع الرأس.
الثالثة: مقدار الناصية.
انظر: تحفة الفقهاء (1/9) .
(4) سبق تعريفه عند الشيرازي بأنه القلب بحكم مبهم.
(5) يعني: أن يقول الحنفي في طلاق المكره: إنه طلاق.. الخ.(5/1525)
وهو صحيح (1) .
ومن أصحاب الشافعي من منع صحته (2) .
والدلالة على صحته: أن الجمع بين الحكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فكان بمنزلة القلب الأول.
فعلى هذا حكم الفرع موافق لحكم الأصل؛ لأن الحكم هو الاستواء، وهذا في الأصل والفرع واحد. وإنما يختلفان في كيفية الاستواء، والكيفية حكم غير الاستواء.
ألا ترى أن النبي -عليه السلام- لو قال: حكم الإيقاع والإقرار سواء، كانت التسويةُ واجبة بالنص، وكيفية التسوية غير منصوص عليها، فإذا دل الدليلُ على أنهما يستويان في الأصل في الصحة وفي الفرع في البطلان كانت الكيفية مجتهداً فيها، والاستواء منصوصاً عليه.
فعلى هذا يجوز قياس أصحاب أبي حنيفة: مالان من جنس الأثمان، فوجب ضم أحدهما إلى الآخر قياساً على ضم المكسرة والصحاح، وإن كان الضم في الأصل في الأجزاء وفي الفرع في القيمة على قولهم (3) .
ومن قال: لا يصح هذا القلب لا يُجوِّز هذا القياس؛ لأنهما يختلفان، ويجب أن يكون الفرع موافقاً لحكم الأصل.
واحتج في ذلك: بأن حكم الفرع في ذلك مخالف لحكم الأصل؛ لأن
__________
(1) يعني: أن قلب التسوية صحيح.
وبه قال أبو الخطاب كما في التمهيد (4/208) ، والشيرازي كما في شرح اللُّمع (2/922) والتبصرة (477) .
(2) انظر: شرح اللُّمع والتبصرة في الموضعين السابقين.
(3) سبق التعليق على هذه المسألة ص (1115) وانظر المسوَّدة ص (374) .(5/1526)
الاستواء [في الأصل] في الصحة وفي الفرع في البطلان عند القالب. ويجب أن يكون حكم الفرع مثل حكم الأصل؛ لأن حكم الأصل يجب أن يتعدى إلى الفرع لتعدي علة الأصل عليه.
والجواب عنه ما ذكرنا، وهو أن الجمع بين حكم المبتدىء بالعلة وبين حكم القالب لا يصح، فلم يجب اعتبارهما في القلب.
نوع ثالث:
وهو أن يجعل المعلول علة والعلة معلولاً (1) .
والمراد بالمعلول هو الحكم، فكأنه يجعل حكم المبتدىء بالعلة علة وعلته حكماً.
مثاله: أن يقول (2) : زوج يصح طلاقُه، فوجب أن يصح ظهارُه (3) قياساً على المسلِم.
فيقول المخالف: ما ينكر على من قال: إنما صح طلاقُ المسلِم؛ لأنه صح ظهارُه.
قيل له: هذا القلب بمنزلة المعارضة بعلة واقفة وأصل عليه.
ويكون الجواب عنه ما ذكرنا من القول بهما. أو قوله: إنهما لا يتعارضان، فلا يصح القلب.
وقد قيل: يصح هذا القلب؛ لأنه لا يجوز [235/ب] أن يثبت الحكم لما
__________
(1) وهذا القلب لا يفسد العلة عند الحنابلة وأكثر الشافعية، خلافاً للحنفية وبعض المتكلمين.
انظر: التمهيد (4/311) والتبصرة ص (479) وشرح اللُّمع (2/944) والمسوَّدة ص (446) وتيسير التحرير (4/161) .
(2) يعني: في ظهار الذمى.
(3) في الأصل: (طهارته) .(5/1527)
هومثبت له.
فإذا كان ثبوت الظهار لثبوت الطلاق في الأصل لم يجز أن يكون كل واحد منهما أمارة على الآخر من الأمارات الشرعية (1) .
فيقول (2) صاحب الشريعة: إذا وجدتم صحة الطلاق فاحكموا بصحة الظهار، وإذا وجدتم صحة الظهار فاحكموا بصحة الطلاق، فيكون كل واحد منهما أمارة على الآخر.
وقد وجد مثل ذلك؛ لأن صاحب الشريعة أمرنا إذا أعطينا الابن عطية أن نعطي الابنة، وإذا أعطينا الابنة عطية أن نعطيَ الابن أيضاً (3) ، فصارت (4) عطية كل واحد منهما أمارة على عطية الآخر.
__________
(1) هذا أهم دليل للحنفية ومن قال بقولهم.
انظر بقية الأدلة في المراجع السابقة.
(2) يظهر أنه يوجد سقط قبل هذا؛ لأن الكلام الآتي هو استدلال الذين لا يقولون بفساد العلة، وليس بقية دليل الحنفية.
وبمراجعة: التمهيد (4/211) والتبصرة ص (479) يتضح ذلك جلياً. والله أعلم.
(3) هذا إشارة إلى مثل حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أنه أتى بابنه محمد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نَحَلتُ ابني هذا غلاماً، فقال: (أكل ولدك نحلتَ مثله؟ قال: لا، قال: فارجعه) .
بهذا اللفظ أخرجه البخاري في كتاب الهبة، باب الهبة للولد (3/195) .
وأخرجه مسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (3/1241) رقم الحديث (1623) .
(4) في الاصل: (وصارت) .(5/1528)
فصل
[في ترجيحات العلل]
فأما ترجيحات العلل (1) فمن وجوه:
أحدها: أن ترجح إحدى العلتين على الأخرى بأن تكون موافقة لكتاب الله تعالى.
والثاني: بأن تكون موافقة للخبر عن رسول - صلى الله عليه وسلم -.
والثالث: بأن تكون موافقة لأثر عن الصحابة.
والرابع: أن تكون إحداهما منصوصاً عليها والأخرى مستنبطة.
والخامس: بأن تشهد لإحداهما الأصول.
والسادس: بأن تكون إحداهما مطردة منعكسة، فيدل ذلك على تعليق الحكم بهذه العلة.
والسابع: بأن تكون إحداهما مؤثرة في أصلها، فيوجد الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها، والأخرى تؤثر في غير أصلها.
الثامن: أن يكون الفرع موجوداً بإحدى العلتين في جنسه وشكله فتكون أولى.
التاسع: بأن تكون إحداهما مردودة إلى ما يكثر شبهه به، مثل اللعان، يُرَد إلى اليمين، فإن شبهه بها أكثر من شبهه بالشهادة.
__________
(1) راجع في هذا الفصل: التمهيد (4/226) والواضح (3/1180) والمسوَّدة ص (376) وشرح الكوكب المنير (4/712) وشرح اللَّمع (2/950) والتبصرة ص (481) والمعونة في الجدل ص (125) وكتاب المنهاج في ترتيب الحجاج ص (234) .(5/1529)
العاشر: بأن تكون إحداهما لا تخص الاسم المنهي عنه منه، والأخرى تخصه كتعليل أبي حنيفة تحريم التفاضل بالكيل، ويبيح تمرةً بتمرتين وبُرةً ببرتين (1) ، ونحن لا نخص الاسم، ويجرى الربا في القليل، والكثير (2) فيكون الذي لا يخصه أوْلى؛ لأن العموم يشهد لها.
ويمكن أن لا يكون ذلك من الترجيح، وتكون العلة باطلة؛ لأن المطلوب علة الحكم الذي دلَّ عليه الاسم، فلا يجوز إسقاط شىء منه بالعلة. ويخالف تخصيص اسم آخر؛ لأنه إنما يخصه بخصوص الاسم الذي انتزعت العلة منه بذلك، فيكون القضاء بالعلة عليه نقضاً للاسم الخاص عليه.
والحادي عشر: بأن يكون حكم إحداهما (3) سابقاً لها، وحكم الأخرى غير سابق لها، فالتي لا يسبقها حكمها أوْلى؛ لأن ذلك يدل على تأثيرها، كقولنا: بائن [236/أ] فلا نفقة لها كالمطلقة قبل الدخول (4) .
وقال المخالف (5) : معتدة من طلاق، فوجب أن تكون لها النفقة كالرجعية؛ لأن النفقة سابقة للعلة في الأصل والفرع، وعلتنا غير سابقة؛ لأن العلة هي البينونة، ولم تسبق سقوط النفقة.
__________
(1) وهو كذلك عند الحنفية.
انظر: تحفة الفقهاء (2/26) .
(2) هذا مذهب الحنابلة كما ذكر المؤلف.
وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر.
انظر: المغني (6/59) طبعة هجر.
(3) في الأصل: (أحدهما) .
(4) عند الحنابلة البائن لا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملاً.
انظر: الروض المربع بحاشية العنقري (3/228) .
(5) المراد بهم الحنفية، فهم يقولون بأن لها النفقة مطلقاً.
انظر: حاشية ابن عابدين (3/609) .(5/1530)
الثاني عشر: أن تكون إحداهما صفة ثابتة في الحال والأخرى توجد في الثاني، كقولنا [في رهن المشاع] (1) : عين يصح بيعها فصح رهنها كالمفرد (2) .
وقولهم (3) : قارَنَ العقد معنى يوجب استحقاق [رفع] (4) يده في الثاني، فهو تجوّز (5) غير موجود (6) .
الثالث عشر: أن تكون إحداهما صفة محسوسة، والأخرى حكماً شرعياً، فتكون الصفة المحسوسة [أوْلى] لقوة وجودها (7) .
الرابع عشر: أن تكون إحداهما إثبات صفة، والأخرى نفيها، فيكون إثبات الصفة أوْلى.
الخامس عشر: أن تكون إحداهما حكماً متفقاً عليه، والأخرى حكماً مختلفاً فيه، وإن كان الخصمان قد اتفقا عليه.
السادس عشر: أن تكون إحداهما مردودة إلى أصل ثابت بكتاب أو سنة متواترة أو إجماع أو نص صريح، والأخرى بخلاف ذلك، فتكون أوْلى؛ لأن الفرع يقوى بقوة الأصل.
__________
(1) الزيادة من التمهيد (4/230) والمسوَّدة ص (382) .
(2) هو كذلك عند الحنابلة.
انظر: المغني (6/451) طبعة هجر، والروض المربع مع حاشية العنقري (2/162) .
(3) يعني: الحنفية، فإنهم يقولون بعدم جواز رهن المشاع.
انظر: تحفة الفقهاء (3/40) وحاشية ابن عابدين (6/489) .
(4) الزيادة من التمهيد (4/230) والمسوَّدة ص (382) ، وهى زيادة يقتضيها المقام.
(5) في الأصل (يجوز) بدون إعجام للحرفين الأولين، وقد أعجمناهما بما ترى.
(6) يعني: أن علة الحنابلة متحققة الوجود، وما ذكره المخالفون غير متحققة، فيجوز أن توجد، ويجوز أن لا توجد، فكانت علة الحنابلة أولى.
انظر: التمهيد الموضع السابق.
(7) في الأصل: (وجوده) .(5/1531)
السابع عشر: أن تكون إحداهما مفسَّرة، والأخرى مجملة، فتكون المفسر [ة] أوْلى، كقولنا (1) : أفطر بغير مباشرة.
وقول أصحاب أبي حنيفة (2) : أفطر بأعلى ما في جنسه أو بممنوع نوعه (3) .
الثامن عشر: أن يكون في إحداهما احتياط للغرض فتكون أولى.
التاسع عضر: أن تكون إحداهما ناقلة عن العادة والأخرى مبقية، كانت الناقلة عن العادة أوْلى؛ لأنها تفيد حكماً شرعياً.
وقال بعضهم (4) : المبقية على حكم ما قبله [أولى] (5) ؛ لأن النفي أمر (6) [معتبر] عند اعتراض الشك بالبناء على ما قبله.
وهذا لا يشبه ما ذكرنا؛ لأن البقاء هناك احتياط للعبادة، وأن لا يحكم
__________
(1) يعني: قول الحنابلة فيمن أكل في رمضان: إنه لا كفارة عليه، لأنه أفطر بغير مباشرة، أشبه ما لو بَلَع حصاة.
انظر: التمهيد (4/245) والمسوَّدة ص (382) .
(2) يعني: أن أصحاب أبي حنيفة يقولون: إن من أكل في رمضان فعليه الكفارة. وعلل ذلك السمرقندي في تحفته (1/361) بقوله: (إنها تجب بمعقول المعنى، وهو تكفير جناية إفساد الصوم من كل وجه، وهذا المعنى موجود في الأكل والشرب؛ لأن الصوم هو الإمساك عن الأكل والجماع، فكان الإِفساد بأحدهما نظير الإفساد بالآخر، وإذا استويا في الإفساد [واستويا] في الإثم فيجب أن يستويا في وجوب (الرافع للإثم) .
وانظر: حاشية ابن عابدين (2/411) .
(3) في الأصل: (بمتبوع) والكلمة غير مستقيمة في التمهيد، والعبارة في المسوَّدة ص (383) : (وقول الحنفية: أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه، أو أفطر بممتنع جنسه) .
(4) هم بعض الشافعية كما في اللُّمع ص (67) .
(5) الزيادة من اللُّمع الموضع السابق. وهي زيادة يقتضيها المقام.
(6) هكذا في الأصل: (أمر) ولكن الكلام لا يستقيم، فاجتهدنا، فزدنا كلمة (معتبر) .(5/1532)
ببراءة ذمته بالشك. والاحتياط هاهنا في الانتقال؛ لأنه يفيد حكماً شرعياً.
العشرون: أن تكون إحداهما تزيد في الحكم، مثل أن توجب إحداهما، وتندب الأخرى، أو تندب إحداهما، وتبيح الأخرى، فتكون: الزائد [ة] أوْلى.
وكذلك إذا كانت إحداهما تزيد في القدر.
الحادي والعشرون: أن تكون إحداهما حاظرة، فتكون أوْلى.
وقد بينا ذلك في ترجيح الأخبار.
الثاني والعشرون: أن تكون إحداهما تستوعب معلولها، كقولنا (1) : من جرى بينهما القصاص في النفس جرى بينهما القصاص في الأطراف كالحُرَّين الرجلين، وهذا يستوعب [236/ب] جميع المعلول.
وقولهم (2) : التكافؤ معتبر في الأطراف، ولا يوجد ذلك بين الرجل والمرأة لعدم التساوي في البدل. وهذا لا يعم المعلول؛ لأن العبدين لا يجري بينهما عنده، وإن تساويا في البدل (3) .
الثالث والعشرون: أن تكون إحداهما من باب الأوْلى فيجب تقديمها.
الرابع والعشرون: أن تكون إحداهما متعدية إلى فرع مختلف فيه، والأخرى غير متعدية، فتكون المتعدية أوْلى، ولهذا تركنا علة الأثمان في الربا؛ لأنها لا تنعقد (4) .
__________
(1) يعني: قول الحنابلة في جريان القصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف.
انظر: التمهيد (4/245) والروض المربع (3/272) .
(2) يشير إلى قول الحنفية في هذه المسألة.
انظر: تحفة الفقهاء (3/104) .
في الأصل: (البذل) بالذال المعجمة، وقد عبر في المسوَّدة ص (385) بالقيمة.
هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (لا تتعدى) .(5/1533)
الخامس والعشرون: أن يكون أصل إحداهما ما يعارضها، وهو القلب.
فأما كون إحداهما أعم من الأخرى فلا تكون أوْلى.
وحكي عن بعض الشافعية أن الأعم أولى (1) .
ولهذا قالوا: العلة الطعم؛ لأنها أعم من الكيل، فإنها تجري فيما لا يكال.
دليلنا:
أن أحد العمومين إذا اشتمل على مسميات أكثر من المسميات التي اشتمل عليها العموم الآخر، لم يكن أكثرهما عددا في المسميات أوْلى بالاستعمال من أقلهما (2) عدداً، كذلك هاهنا.
يبين صحة هذا: أنه ليس في كون إحداهما (3) أكثر من كون فروعها أكثر، وهذا لا يوجب ترجيحها، كما لم يوجب ذلك في العمومين.
على أنهم قد ناقضوا في ذلك، فإنهم لم يجعلوا العلة في تحريم التفاضل في الذهب: الوزن، مع كونها أعم من الأثمان.
وهذه الترجيحات قد كانت تستعمل في المناظرات، وقد عدل عنها في هذا الزمان إلى معانٍ وتأثيرات، وهو أوْلى؛ لأنه طريق الفقه واستخراج الأمارات الظاهرة المغلبة على الظن المميزة بين الصحيح منها وبين الفاسد.
فإذا ثبت ما ذكرنا، فإن من عجز عن ترجيح دليله على ما عارضه خصمه به، أو إفساده بما يفسده فإنه منقطع.
__________
(1) انظر: البرهان لإِمام الحرمين (2/1291) .
(2) في الأصل: (أقلها) .
(3) في الأصل: (أحدهما) .(5/1534)
[معنى الانقطاع]
والانقطاع في المناظرة (1) هو: العَجْز عن بلوغ الغرض المطلوب بالمناظرة (2) . وذلك مأخوذ من قولهم: انقطع في السفر: إذا عجِز عن السير وبلوغ الغاية المقصودة به (3) .
[انقطاع المسؤول]
وانقطاع المسؤول بسبعة أشياء:
أحدها: العجز عن بيان المذهب.
والثاني: العجز عن بيان الدليل.
والثالث: العجز عن الانفصال عن المعارضة.
والرابع: بجحده مذهبَه.
والخامس: بجحده ما ثبت بإجماع أو نص.
والسادس: بالانتقال.
والسابع: بتخليط كلامه بما لا يُفهم.
__________
(1) راجع هذا الموضوع في: التمهيد (4/249) والواضح (2/692) والجدل ص (71) وشرح الكوكب المنير (4/378) والفقيه والمتفقه (2/57) والكافية في الجدل ص (551) .
(2) وعرفه الباجي في كتابه الحدود ص (79) بقوله: (عجز أحد المتناظرين عن تصحيح قوله) .
(3) قال ابن فارس في معجمه (5/101) : (قَطَع، القاف والطاء والعين أصل صحيح واحد، يدل على صرم وإبانة شىء من شىء) .
وفي القاموس (3/70) .. ( ... وقطِع بزيد كعني فهو مقطوع به عجز عن سفره بأي سبب كان، أو حيل بينه وبين ما يؤمله) .(5/1535)
[انقطاع السائل]
وانقطاع السائل بثمانية أشياء.
[الأول] : بالعجز عن بيان السؤال.
والثاني: بالعجز عن المطالبة [237/أ] بالدليل.
والثالث: بالعجز عن المطالبة بتقرير الدليل.
والرابع: بالعجز عن المعارضة.
والخامس: بالعجز عن المنع من الترجيح.
والسادس: بالانتقال عما شرَع فيه قبل إتمامه.
والسابع: بجحد ما ثبت بنص أو إجماع.
والثامن: بتخليط كلامه على وجه لا يُفهم (1) .
مسألة
لا يجوز أن يعتدل قياسان على أصل واحد مع كون أحدهما موجباً للحظر وكون الآخر موجباً للإِباحة (2) ، ولابد من وجود المزية في أحدهما. وقد
__________
(1) ويضيف أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/250) أشياء تدل على الانقطاع، يشترك فيها السائل والمسؤول وهي جديرة بالذكر، وهي:
1- أن يسكت سكوت حيرة، من غير عذر.
2- أن يتشاغل بذكر حديث أو شعر أو نحوهما.
3- أن يغضب في غير موضع الغضب.
4- أن يقوم في غير موضع القيام.
5- أن يسفِّه خصمه.
على أن أبا الخطاب قسَّم ما يدل على الانقطاع ثلاثة أقسام، قسم يختص بالسائل وقسم يختص بالمسؤول، وقسم مشترك بينهما.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/349) وروضة الناظر (2/463) والمسوَّدة ص (446) وشرح الكوكب المنير (4/608) .(5/1536)
تظهر تلك المزية وقد تخفى.
فإذا خفيت وجب أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما والوقْف إلى أن يتبين ذلك.
وكذلك الأخبار، لا يجوز أن يرد خبران متعارضان من جميع الوجوه، ليس مع أحدهما ترجيح يُقدَّم به.
وقد قال أبو بكر الخلاَّل في كتاب العلم: "لم أجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً متضاداً إلا وله وجهان، أحدهما إسناد جيد، والآخر إسناد ضعيف".
وإلى هذا ذهب الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) وأبي سفيان.
وحكاه الإسفراييني عن أصحابه أيضاً (2) .
وذهب الرازي إلى جواز ذلك وقال: إذا اعتدل قياسان في نفس المجتهد، وأحدهما يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة، فإن المجتهد يكون مخيراً في أن يحكم بأيهما شاء (3) .
وبه قال قوم من المتكلمين (4) .
وإليه ذهب الجرجاني أيضاً (5) ، وحَكى قول الكرخي وقال:
هذا خلاف ما قاله أبو حنيفة في سؤر الحمار: إن دليل الحظر والإِباحة
__________
(1) انظر في هذا: مسلّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/189) .
(2) انظر في مذهب الشافعية: التبصرة ص (510) والمحصول (5/506) والإحكام للآمدى (4/197) طبعة مؤسسة النور بالرياض.
(3) انظر كتابه الفصول ص (169) من الطبعة الباكستانية.
(4) كالقاضي أبي بكر والجبَّائي وابنه والآمدي.
انظر: المعتمد (2/853) والاحكام لللآمدي (4/197) طبعة مؤسسة النور بالرياض.
(5) انظر رأيه في التمهيد (4/349) والمسوَّدة ص (446) .(5/1537)
تساويا، فتوقَفَ فيه (1) .
دليلنا:
اتفاقهم على أن الحكم في الحادثة يتبع كونها ببعض الأصول أشبه منها بغيره.
وإذا كان كذلك لم يجز أن تكون الحادثة بكل واحد من الأصلين أشبه منها بالآخر.
فلم (2) يجز أن يعتدل قياسان، ولابدَّ من وجود الرجحان في أحدهما.
ولأن كل واحد من القياسين لو انفرد لم يوجب التخيير، كذلك إذا اجتمعا؛ لأن التخيير معنى زائد، فلا يجوز إثباته إلا بدلالة.
وإذا سقط اعتبار التخيير لم يجز للمجتهد أن يقيس الفرع عليهما، ويلزمه أن يجتهد في طلب ترجيح أحدهما، والوقف إلى أن يتبين ذلك.
كما لو لم يعرف في الابتداء أصلاً يقيس الفرع عليه لزمه التوقف.
ولأن هذا يوجب تكافؤ الأدلة وتعارضها، وهذا خلاف موضوع الشريعة.
واحتج المخالف:
بأنه لا يستحيل في العقل تكافؤ (237/ب) جهات القياس بدلالة أنه قد يصح أن تتساوى جهات القبلة عند الخطأ.
__________
(1) سؤر الحمار مشكوك فيه في ظاهر الروايهَ عند الحنفية.
وروى الكرخي: أنه نجس.
قال السمرقندي في تحفته (1/54) : (والسؤر المشكوك فيه لا يجوز التوضؤ به إن وجد ماء مطلقاً، وإن توضأ به جاز مع الكراهة، وإن لم يجد يتوضأ به ويتيمم؛ لأن أحدهما مطهر بيقين، وأيهما قدم أو أخر، جاز عندنا.
وعند زُفَر: لا يجوز، ما لم يقدم الوضوء على التيمم حتى يصير عادماً للماء) .
وانظر تفصيل هذا في حاشية ابن عابدين (1/226) .
(2) في الأصل: (لم) .(5/1538)
وإذا كان ذلك جائزاً وجب أن يكون المجتهد بالخيار في حمل الفروع على أي الأصلين شاء كالمكفِّر عن يمينه، لما استوت الأشياء الثلاثة في جواز التكفير، فبأيها شاء كان له أن يكفِّر بما شاء منها.
والجواب: أن [هناك] فرقاً بين القبلة وبين مسألتنا، وذلك أنه لا يجوز للمجتهد أن يعدل عن حمل الحادثة على الأصل الذي هي أشبه به منها بغيره على وجه من الوجوه، ويجوز ذلك في جهات القبلة عند المسايَفَة (1) والراحلة.
وأما الأشياء الثلاثة في كفارة اليمين، فإنما كان المكفر مخيراً فيها؛ لأن كلاً منها منصوص عليه على طريق التخيير، وليس بينها (2) تضاد.
ألا ترى أنه يجوز ورود العبادة بوجوب التكفير بهما جميعاً، ولا يجوز ورود التعبد باعتبار الحظر والإباحة في الشىء الواحد على المكلف الواحد.
واحتج: بأن القياس طريق إلى إثبات الحكم كالنص، فلما جاز ورود النص بحكمين مختلفين، كذلك القياس.
والجواب: أنه لا يجوز أن يرد النص بحكمين متضادين في الشىء الواحد في الوقت الواحد على المكلف الواحد، كما قلنا في القياس فلا فرق بينهما.
__________
(1) في الأصل: (المسابقة) بالقاف، وهو خطأ، والمراد المسايفة بالفاء كما أثبتناه.
والمسايفة: المجالدة بالسيوف.
(2) في الأصل: (بينهما) .(5/1539)
باب الاجتهاد
مسألة
المصيب واحد من المجتهدين في أصول الديانات. (1) .
وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- في مواضع على تكفير جماعة من المتأولين، كالقائلين بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وخلْق الأفعال (2) .
وهذا يمنع إصابتهم في اجتهادهم.
وهو قول الجماعة (3) .
وحُكي عن عبيد الله العنبري (4) : أن المجتهدين من أهل القبلة مصيبون مع
__________
(1) راجع هذه المسألة في: كتاب المعتمد في أصول الدين للمؤلف ص (273) والتمهيد (4/307) وروضة الناظر (2/414) والمسوَّدة ص (495) وشرح الكوكب (4/488) .
(2) حكم المؤلف على هؤلاء في كتاب المعتمد ص (267) بأنهم خالفوا الحق.
ونقل عن الإمام أحمد أنه نصَّ على تكفيرهم.
وروى أبو داود في مسائله ص (262) عن الإمام أحمد أنه ذكر له أن رجلاً يقول: (إن أسماء الله مخلوقة والقرآن مخلوق؟ قال أحمد: كفر)
كما نقل عنه ص (263) أنه قال: (من قال: إن الله لا يرى فهو كافر) .
(3) انظر: المراجع السابقة في أول المسألة.
(4) هو: عبيد الله بن الحسن العنبري البصري، قاضي البصرة، روى عن خالد الحذّاء وعبد الملك العَرْزَمي وغيرهما. وعنه معاذ بن معاذ الأنصاري وعبد الرحمن بن مهدي. خرج له مسلم حديثاً واحداً في الجنائز. وثقه النسائي وابن سعد. وقال الذهبي: (صدوق مقبول، لكن تكلم في معتقده ببدعة) . وقال ابن حجر: (ثقة فقيه، عابوا عليه مسألة تكافؤ الأدلة) . ولد سنة (100) ومات سنة (168) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (10/306) وتقريب التهذيب (1/531) وميزان الاعتدال (3/5) .(5/1540)
اختلافهم (1) .
وهذا غلط؛ لأن إباحة الاجتهاد تجوز فيما جوَّزنا ورود الشرع، وغير جائز أن يرد الشرع بالأمرين المتضادين في صفات الباري سبحانه، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فإنه لا يجوز أن يكون يراد لا يراد، خالق لأفعال العباد غير خالق، والنبي صادق وليس بصادق.
ولا يشبه هذا أحكام الفروع؛ لأن قد كان يرد بإباحة عين في حق واحد، وحظْرها في حق آخر، في حالٍ واحدة.
كالحائض [238/أ] يحل لها الأكل في رمضان، ولا تجب عليها الصلاة.
والطاهر لا يحل لها الأكل في رمضان، وتجب عليها الصلاة
فجاز أن يكون كل مجتهدٍ مصيباً.
[الحق في أحكام الفروع]
فأما أحكام الفروع: فالحق فيها في واحدٍ عند الله تعالى (2) .
وقد نصَب الله على ذلك دليلاً إما غامضاً أو جلياً، وكلف المجتهد طلبته وإصابته بذلك الدليل. فإذا اجتهد وأصابه كان مصيباً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجران:
أحدهما على إصابته.
والآخر على اجتهاده.
__________
(1) نقل هذا القول عنه كثيرون.
انظر: تاريخ بغداد الموضع السابق، والمعتمد للمؤلف والتمهيد، والروضة (2/418) والمسوَّدة، وتهذيب التهذيب (7/8) ، والمعتمد (2/988) .
ولكن ذكر ابن حجر في كتابه: تهذيب التهذيب الموضع السابق: أن محمد بن إسماعيل الأزدى نقل في ثقاته: أنه رجع عن هذه المسألة لما بُيِّن له الصواب.
(2) انظر: المراجع السابقة في أول المسألة.(5/1541)
وإن أخطأ كان مخطئاً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجر على اجتهاده، والخطأ موضوع عنه.
والحكم بالاصابة والخطأ من طريق غلبة الظن، لا من طريق القطع.
نص على هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه، فقال: "إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأحد الحديثين، وأخذ آخر بحديث آخر ضده، فالحق عند الله في واحد، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء" (1) .
فقد نصَّ على أن الحق في واحدٍ عند الله.
وقوله: "لا يقول لمخالفه إنه مخطىء". يريد به: لا يقطع على خطئه؛ لأن الله تعالى ما نصب دليلاً قاطعاً، وإنما نصب دليلاً خفياً، أو ما هو أمارة على الحكم.
والذى يدل على أنه أراد بذلك ما قلنا: أنه قال بعد ذلك في رواية بكر: "وإذا اختلف أصحاب محمد (2) ، فأخذ رجل بقول بعضهم، وأخذ آخر عن
__________
(1) انظر هذه الرواية في كتاب: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (75) والتمهيد (4/310) والمسوَّدة ص (498) .
(2) في الأصل: (أصحاب عمل) وهو خطأ، والتصويب من كتاب المسائل الأصولية من كتاب الروايات والوجهين للمؤلف ص (76) .
وهو كذلك في المسوَّدة ص (498) .
وفى التمهيد (4/310) : (إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأحد الحديثين، وأخذ آخر بحديث آخر ضده، فالحق عند الله في واحد) .
ومعنى النقلين يختلف، فما ذكره المؤلف واضح فيما إذا اختلف الصحابة على قولين أو أكثر، فالحق في واحد منها.
وما ذكره أبو الخطاب في التمهيد يعني ما اختلف النقل فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن نقل أحدهم حديثاً، ونقل الآخر حديثاً ضده فالحق في واحد.(5/1542)
رجل منهم، فالحق في واحدٍ، وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ.
وكذلك قال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأ) . فقد نصّ على أنه يجوز الخطأ على المجتهد.
وكذلك قال في رواية أبي طالب فيمن يقول: لا شفعة إذا لم يكن طريقهما واحداً، "إذا قدموه إلى هؤلاء، وحلف ماله شفعة، إنما هذا اختيار، وقد اختلف الناس فيها" (1) .
وقال في رواية بكر بن محمد -في حاكم حكَم في المفلس أنه أسوة الغرماء-: "رد حكمه" (2) .
وإنما قال هذا؛ لأنه يعتقد أنه خالف النص في ذلك، لا أنه يقطع على إصابة المجتهد وخطئه.
وقد علَّق القول في رواية أبي داود فيمن صلى خلف من لا يرى الوضوء من مسِّ الذكر، وقد علم أنه قد مس: "يصلى خلفه" (3) .
__________
(1) هذه الرواية نقلها عبد الله عن أبيه في مسائله (3/960) رقم (1304) ولفظه: (سألت أبي عن رجل لا يرى الشفعة إلا لشريك، ترى أن يحلف يحنث؟ قال لا يعجبني أن يحلف على أمر قد اختلف الناس فيه) .
وقال ابن قدامة في المغني (5/287) : (وقال في رواية أبي طالب وعبد الله ومثنى فيمن لا يرى الشفعة بالجوار، وقدم إلى الحاكم فأنكر، لم يحلف، إنما هو اختيار، وقد اختلف الناس فيه) .
ثم نقل عن المؤلف قوله: (إنما هذا لأن يمين المنكر هاهنا على القطع والبت، ومسائل الاجتهاد مظنونة، فلا يقطع ببطلان مذهب المخالف، ويجوز للمشترى الامتناع به من تسليم المبيع بينه وبين الله تعالى) .
وانظر: الإِنصاف للمرداوي (6/255) .
(2) قال ابن قدامة في كتابه الكافي (2/174) : (فقال أحمد - رضي الله عنه - ينقصْ حكمه؛ لأنه يخالف صريح السنة، ويحتمل أن لا ينقض؛ لأنه مختلف فيه) .
وراجع: المغني (4/409) والإنصاف (5/286) .
(3) انظر هذه الرواية في مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (12) .(5/1543)
وكذلك نقل الأثرم عنه فيمن صلى خلف من احتجم ولم يتوضأ: "فإن كان ممن يتدين بهذا وأنه لا وضوء فيه لا يعيد، وإن كان يعلم أنه لا يجوز فيعمدُ يعيد" (1) .
وكذلك نقل الأثرم وإبراهيم بن الحارث فيمن صلى خلف من عليه جلود الثعالب، فإن تأول: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) [238/ب] "يصلى خلفه".
قيل له: أفتراه جائزاً؟ قال: "لا، ولكن إذا كان يتأول فلا بأس أن يصلى خلفه".
قيل له: كيف وهو مخطىء في تأويله؟! فقال: "وإن كان مخطئاً في تأويله ليس هو كمن لم يتأول".
ثم قال: "من يرى الوضوء من الدم فلا يصلِّ خلف سعيد بن المسيب ومالك، ومن سَهَّل في الدم [قال] بل يصلى (2) ".
وكذلك نقل ابن مُشيْش عنه في جلود الثعالب.
وهذا لا يخالف ما رواه بكر بن محمد عنه.
__________
(1) هذه الرواية المشهورة والمنصوص عليها.
وهناك رواية أخرى ذكرها ابن قدامة منسوبة إلى المؤلف: (أنه لا يصح ائتمامه به؛ لأنه يرتكب ما يعتقده المأموم مفسداً للصلاة،.. كما لو خالفه في القبلة حال الاجتهاد فيها)
انظر: المغني (3/23-24) طبعة هجر.
(2) هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني الموضع السابق عن الأثرم مع بعض الاختلاف في الألفاظ.
ومن الاختلافات الجوهرية أنه جاء في المغني: (نحن نرى الوضوء من الدم، فلا نصلى خلف سعيد بن المسيب ومالك، ومن سهَّل في الدم، أي: بلى) .
بدلاً من قول المؤلف هنا: (من يرى الوضوء من الدم..) .(5/1544)
وإنما أجاز الصلاة خلف المتأولين؛ لأنه لم يقطع على خطئهم، ولا يقطع على أن الحق في جهته، وإنما يحكم بالخطأ والصواب من طريق غلبة الظن.
وهذا فصل يجىء الكلام فيه في أثناء المسألة.
ويحتمل أن يكون أجاز صلاتهم؛ لأن المأموم (1) معذور فيما جهل حالة الإمام فيه، ولهذا قلنا: إذا صلى بهم محدِثاً صحت صلاتهم (2) .
ويحتمل وجهاً آخر وهو: أنه أجاز صلاتهم؛ لأن طريق هذه المسائل خفية، يعذر الجاهل فيها.
ولهذا أجاز الصلاة خلف المبتدع إذا كان عامياً، ولم يجزها خلف العالِم (3) ؛ لأن طريق هذه المسائل خفية، فأجازه لذلك، لا لأن الحق مع كل واحدٍ.
يبيِّن هذا ما قاله في رواية محمد بن أحمد بن واصل (4) ومهنّا "لا يصلى
__________
(1) في الأصل: (المأمور) وهو خطأ.
(2) هذا إذا لم يعلم بالحَدَث لا هو ولا المأمون حتى فرغوا من الصلاة، فصلاة المأمومين والحالة هذه صحيحة، وصلاة الإمام باطلة.
هذا هو مذهب الحنابلة.
وهناك رأي آخر لبعض العلماء: أنه تلزمهم الإعادة إماماً ومأمومين.
انظر: المغني (2/504) طبعة هجر.
(3) جاء في مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (1/61) أنه سأل الإمام أحمد عمن قال: الإِيمان قول، يصلى خلفه؟ قال: (إذا كان داعية إليه لا يصلي خلفه، وإذا كان لا علم لديه أرجو أن لا يكون به بأس) .
انظر: المغني (3/17) طبعهَ هجر.
(4) أبو العباس المصري. روى عن أبيه والإمام أحمد وغيرهما. وعنه أبو مزاحم الخاقاني وأبو الحسن بن شنبوذ وغيرهما. مات سنة (273) هـ.
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/263) .(5/1545)
خلف من يقول: (الماء من الماء) " (1) .
وكذلك نقل جعفر بن محمد عنه في إمام صلى ولم يقرأ فاتحة الكتاب: "يعيدُ الصلاة" (2) .
"وكذلك إذا لم يقرأ في الركعتين الأخيرتين" (3) .
وكذلك قال في القبلة: "إذا اجتهد نفسان في طلبها، واختلف اجتهادهما لم يَتْبَع أحدُهما الآخر في الصلاة" (4) .
وكذلك قال في رواية أبي داود فيمن كان يتديَّن بحديث عُقْبة بن عامر في المسح أكثر من ثلاثة أيام (5) ثم ترك؟ "يعيدُ ما كان صلى وقد مسح أكثر
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث.
أما هذه الرواية عن الإمام أحمد فلم أقف عليها.
وإنما رأيت في المغني (1/271) أن داود الظاهري حُكي عنه أنه قال: لا يجب الغسل، استدلالاً بهذا الحديث.
ومعروف أن الحديث منسوخ بحديث: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسّ الختان الختان فقد وجب الغسل) متفق عليه.
(2) في مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (1/51) قال: (سمعت أبا عبد الله يقول: لاتجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) .
وفي مسائل الإِمام رواية أبي داود ص (32) قال: (سمعت أحمد سئل عمن صلى فقرأ، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب؟ قال: لا تجزئه صلاته) .
(3) وهو كذلك في مسائل الإِمام أحمد لابن هانىء (1/52) .
(4) هذا هو الصحيح من المذهب.
وقال بعض الأصحاب: يجوز الاقتداء.
انظر: المغني (2/108) طبعة هجر والإِنصاف (2/14) .
(5) هذا الأثر عن عقبة بن عامر الجهني أخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الطهارة، باب: ما ورد في ترك التوقيت (1/380) ولفظه: (قال يعني عقبة، خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة، فدخلت على عمر بن الخطاب فقال: =(5/1546)
من ثلاث؛ أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى (1) من قول عُقبَة بن عامر" (2) .
وهذا كله يدل على أن الحق في أحدهما، والآخر مخطىء لا يُتْبَع في اجتهاده.
وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (3) .
ومنهم من قال -وهو القاضي أبو الطيب الطبري- إنني أعلمُ بإصابتنا
__________
= متى أولجت خفيك في رحليك؟ قلت: يوم الجمعة، قال: فهل نزعتهما؟ قلت: لا قال: أصبت السنة) .
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطهارة، باب: من كان لا يوقت في المسح شيئاً (1/185) .
(1) هذه إشارة لمثل حديث شريح بن هانىء قال أتيت عائشة -أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسَلْهُ، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم.
أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين (1/232) .
(2) هذه الرواية موجودة بنصها -مع اختلاف يسير- في مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (10) .
(3) وهو كذلك. قال إمام الحرمين في البرهان (2/1319) : (هو المشهور من مذهب الشافعي) .
وقال الشيرازي -في شرح اللُّمع (2/1046) -: (هذا هو المنصوص عليه للشافعي في القديم والجديد، وليس له قول سواه) .
ثم شَنَّع على قوم من المتأخرين نسبوا إليه القول: "أن كل مجتهد مصيب".
وما أنكره الشيرازي نقله القاضي عن الإِمام الشافعي وقال: (لولا أن مذهبه هذا، وإلا ما عددته من الأصولية) .
انظر: البرهان: الموضع السابق.(5/1547)
للحق، وأقطعُ بخطأ من يخالفنا، وأمنعُه من الحكم باجتهاده غير أنني لا أنقضه (1) .
وحُكي مثل مذهبنا عن بِشْر المَرِّيسي والأصمِّ وابن عُلَيَّة (2) .
وقال أبو الحسن الكرخي -فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عنه-:
مذهب أصحابنا جميعاً: أن كل مجتهد مصيب لما كُلِّف من حكم الله تعالى، والحق في واحدٍ من أقاويل المجتهدين (3) .
__________
(1) هكذا في الأصل، والصواب: (لا أفسقه) ؛ لأن المراجع الآتية ذكرت أنه يقول بالنقض، دون التفسيق والإثم.
انظر رأيه في: التمهيد (4/312) والمسوَّدة ص (497) .
(2) ذكر أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/949) مذهبهم بأوضح مما هنا، حيث قال في تحرير مذهبهم: (إن المحق من المجتهدين واحد، ومن عداه مخطىء في اجتهاده، وفيما أداه إليه اجتهاده. وقالوا: إن على الحق دليلاً يعلم به المستدل أنه قد وصل إلى الحق، ويجب نقض الحكم بما خالف الحق) .
وانظر في مذهبهم أيضاً: التمهيد (4/312) والمستصفى (2/361) والمسوَّدة ص (497) والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/342) .
(3) ذكر السمرقندي في كتابه الميزان ص (753) من الحنفية نقلين:
الأول: أن الحق عند الله واحد، وقد كلف المجتهدين إصابة الحق، فإن أصابوا فذاك، وان لم يصيبوا فقد اخطئوا في الاجتهاد، وفيما أدى إليه الاجتهاد.
والثاني: أنه مصيب في اجتهاده، ولكنه قد يخطىء فيما أدى إليه اجتهاده، بأن يكون الحق عند الله تعالى بخلافه.
قلت: وسبب الاختلاف هنا: ما نقل من الإِمام أبي حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتي: (كل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد) .
ثم علَّق البخاري في كتابه كشف الأسرار (4/1139) بقوله: (فبيَّن أن الذي أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله) .
انظر أيضاً: تيسير التحرير (4/202) وفواتح الرحموت (2/381) وكشف =(5/1548)
قال: ومعنى ذلك أن الأشبه واحد عند الله تعالى إلا أن المجتهد لم يكلف [239/أ] إصابته.
قال: وهكذا حُكي عن عيسى بن أبان أن كان يقول: لابد من مطلوب هو أشبه الأشياء بالحادثة، إلا أن المجتهد لم يُكلََّف إصابته، وإنما يبعد أن يحكم فيها بحكم الأصل الذي هو أشبه به في غالب ظن المجتهد.
ونحو هذا حكى أبو عبد الله الجرجاني، وفسّر الأشبه بأنه شبَه الحادثة ببعض الأصول أقرب عند الله تعالى، وأنه لو أنْزِل ذلك الحكم لكان ينزله بأحد الوجهين.
وذهبت المعتزلة: إلى أن كل مجتهد مصيب (1) .
واختلفوا: هل هناك أشبه مطلوب أم لا؟.
فمنهم من قال: هذا أشبه مطلوب، إلا أنه لم يُكلف إصابته، كما قال أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم من قال: ليس هناك أشبه، ولا عند الله في الحادثة حكم، وإن فَرْض كل واحد ما يغلب على ظنه، وأدى إليه اجتهاده (2) .
حُكي ذلك عن أبي هاشم (3) .
واختلفت الأشعرية
فقال الأكثر منهم مثل قول [ابن فُورك و] (4) أبي إسحاق الإِسفراييني
__________
= الأسرار للنسفي (2/303) .
(1) انظر: المعتمد (2/949) .
(2) انظر: المصدر السابق (2/982) فإنه عقد باباً للقول في الأشْبَه.
(3) انظر رأيه في: التبصرة ص (499) والتمهيد (4/313) .
(4) الزيادة من المسوَّدة ص (497) ، وهي ساقطة من الأصل بدلالة قوله بعد ذلك: (وغيرهما) .(5/1549)
وغيرهما: مثل قولنا (1) .
وقال أبو بكر بن الباقلاني: لأبي الحسن الأشعري في ذلك قولان (2) .
واختار (3) أن كل مجتهد مصيب، وأن فَرْض كل واحدٍ ما يغلب على ظنه، ويؤديه إليه اجتهاده. وليس هناك أشبه مطلوب (4) .
والكلام في فصول
أحدهما: الدلالة على أن الحق في واحدٍ من القولين.
ودليله: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والاستدلال.
[الدليل من الكتاب] :
أما الكتاب فقوله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذ يحكمانِ في الحرثِ) إلى قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًءَاتَيْنَا حُكْمَاً وعِلْمَاً) (5) .
فموضع الاستدلال أن داود قضى باجتهاده، وسليمان قضى باجتهاده؛ لأن لو كان هناك نص ما اختلفا في الحكم.
__________
(1) انظر رأيهما في: التبصرة ص (498) وشرح اللُّمع (2/1048) : البرهان (2/1319) والمسوَّدة ص (497) .
وقد شدَّد أبو إسحاق الإِسفراييني النكير على من يقول بتصويب المجتهدين حيث قال -فيما نقله عنه إمام الحرمين في كتابه البرهان الموضع السابق-: (هذا مذهب أوله سَفْسَطَة، وآخره زندقة) .
(2) هكذا نقل الشيرازي في شرح اللُّمع الموضع السابق.
ثم علَّق على ذلك بقوله: ( ... يقال: إن هذه بقية اعتزال بقي في أبي الحسن -رحمه الله-) .
(3) المراد: أبو بكر الباقلاني.
(4) انظر رأيه في: شرح اللُّمع والبرهان والتمهيد والمسوَّدة، المواضع السابقة.
(5) الآيتان (78-79) من سورة الأنبياء.(5/1550)
فأخبر الله تعالى أنه فهَّم الحكم لسليمان.
فثبت أنه كان أصاب في الحكم، وداود لم يصب. وعلى قولهم، هما جميعاً (1) ، مصيبان (2) .
فإن قيل: قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) لا يدل على أنه لم يُفَهِّم داود؛ لأن تخصيص الشىء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
ومن قوله تعالى: (وَلَقَدْءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً) (3) ولم يدل على نفي العلم عن غيرهما من الأنبياء.
وكذلك قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَك تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (4) لا يدل على أنه لم يرض عن غيرهم من المؤمنين الذين لم يبايعوه تحت الشجرة
قيل له: تخصيص الشىء بالذكر يدل على نفي ما عداه. وهذا أصل قد سبق الكلام فيه (5) .
فإن قيل: قد رُوِيَ أنهما كانا حكما في الحرث بالنص، ثم نسخ الله تعالى
__________
(1) في الأصل: (جميعان) ، والنون زائدة.
(2) قصة الحكم في هذه القضية -كما يحكيها ابن كثير في تفسيره (3/186) عن ابن عباس-: (أن داود قضى بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرُّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وُلِّيتُ أمركم لقضيت بغير هذا، فأخْبِرَ بذلك داود، فدعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفعُ الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها) .
وانظر: تفسير ابن جرير الطبري (7/52) .
(3) آية (15) من سورة النمل.
(4) آية (18) من سورة الفتح.
(5) انظر: (2/448) من هذا الكتاب.(5/1551)
الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل على لسان سليمان، فيحتمل أنه فهَّمه الناسخ، ولم يُفَهَّم ذلك داود (1) .
قيل: قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) يقتضي: في تلك الحكومة.
وعندهم أنه لم يخص سليمان بالفهم في تلك الحكومة.
فإن قيل: فقد رُويَ أنهما كانا قد حكما من طريق الاجتهاد (2) ، إلا أن سليمان -على نبينا وعليه السلام- قد أصاب حقيقة الأشبَه المطلوب عند الله، وداود لم يصب ذلك، فلم يخرجا بذلك من كونهما مصيبين الحق.
قيل: جماعة مَن خالفنا في هذه المسألة لا تقول: إن هناك أشبه، وإنما فرضه الاجتهاد وحْدَه. فلا يصح هذا التأويل منه.
ومن قال: إن هناك أشبَه قال: بأنه لم يكلفه، وإذا لم يكلفه يجب أن لا يؤثر وجوده وعدمه في حق أحدهما.
وعلى أنه لولا أنه يجب طلب الأشبَه لم يمدح سليمان بفهمه.
وعلى أنه الآية وردت في القضية في الحكم، ولم ترد في طلب الأشبَه، فوجب أن يكون سليمان مخصوصاً بإصابة الحكم.
وجواب آخر وهو أنه رُوي في الحديث: أن سليمان نقضَ حكمَه. ولو كان داود مصيباً لم ينقض سليمان حكمه (3) .
__________
(1) ذكر ذلك الجصاص في كتابه أحكام القرآن (5/55) عند تفسيره للآية المذكورة.
وانظر: إحكام الفصول للباجى ص (709) .
(2) انظر: المصدرين السابقين.
(3) اختلف الناس في هذا:
1- فقيل: إن داود حكم، ثم نُقِض حكمه بحكم سليمان. =(5/1552)
فإن قيل: فقد قال تعالى: (وَكُلاًءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) ، وهذا يدل على أنهما جميعاً كانا مصيبين.
قيل: لم يرد أنهما أوتيا الحكم والعلم في هذه المسألة؛ لأنه لو كان كذلك لما خص بالفهم أحدهما، وإنما أراد أنهما أوتيا ذلك في الجملة.
فإن قيل: يجوز أن يكون في المسألة نصٌ خفي، وقف عليه سليمان ولم يقف عليه داود.
قيل: لو كان هناك نص لما جاز الحكم بالاجتهاد.
على أن من مذهبهم: أنه إذا كان هناك نص خفي فحكم به حاكم باجتهاده، لم يكن مخطئاً في حكمه.
فإن قيل: كيف يجوز الخطأ على الأنبياء؟!.
قيل: يجوز عليهم، كما يجوز على غيرهم.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنَسَّى لأسُنَّ) .
وإنما الفرق بيننا وبينهم أنهم لا يقرون على الخطأ، ونحن نقرُّ عليه.
__________
= 2- وقيل: إن داود لم يكن قد أبرم الحكم في هذه القضية، فلما سمع ما قاله سليمان رجع إليه.
3- أو أن داود قال ذلك على سبيل الفتيا، لا على سبيل الحكم.
4- أو أن القضية معلقة بشريطة لم تُفْصَّل بعد، فأوحى الله بالحكم الذي حكم به سليمان فكان ناسخاً لما أراد داود ان ينفذه.
انظر: أحكام القرآن للجصاص (5/55) .
والظاهر من الآثار أن داود حكم في القضية، ثم نَقَض حكمه بما سمعه من سليمان. والله أعلم.(5/1553)
[الدليل من السنة] :
وأيضاً: ما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وغير [هم] عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[240/أ] أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر) .
وهذا يدل على أن المجتهدين بين الإِصابة والخطأ.
فإن قيل: هذا خبر واحد.
قيل: وإن كان خبر واحد فقد تلقته الأمة بالقبول، وأجمعوا على صحته وتأويله، فصار بمنزلة المتواتر، فوجب المصير إليه.
فإن قيل: معناه: إذا أصاب الأشبَه المطلوب، فله أجران، وإن أخطأ الأشبَه كان له أجر واحد.
قيل: عندك لم يكلف طلب الأشبَه ولا إصابته، وإنما فرضُه ما يغلب على ظنه.
وإذا كان الأشبَه وغيره واحداً لم يختلفا في الثواب والأجر.
فإن قيل: أراد بالإِصابة: إصابة النص أو الإِجماع، وبالخطأ: خطأ النص أو الإِجماع.
قيل: هذا عام بما فيه نص أو إجماع وغيره، فوجب أن يحمل على عمومه.
على أن استحقاق الأجر لا يختص بإصابة النص والإِجماع، بل ما فيه النص والإِجماع، ومالا نص فيه ولا إجماع في الأجر والثواب سواء.
وعلى أنه لو وجب حمل الخبر على هذا لوجب تفسيق من خالفه وتأثيمه.
ولمَّا حكم له النبي بأجر، لم يصح حملُه على ما قالوه.
وقد قيل في جوابه: إن المجتهد إذا استقصى في طلب النص فلم يجد، فهو مصيب عندكم؛ لأنه لا يلزمه أن يحكم بما لم يبلغه. ولا يُسمى من لم يبلغه النص مخطئاً، كما لا يُسمى من لم تبلغه شريعة النبي أنه مخطىء.(5/1554)
فإن قيل: كيف يستحق الأجر وقد أخطأ في الحكم وفي الاجتهاد؟
قيل: هو مصيب فيما فعله من الاجتهاد مخطيء في تركه للزيادة على ما فعله، فهو مأجور على ما فعله، مغفور له ترك ما ترك من الاجتهاد.
فإن قيل: فقد أغْرِيَ إذاً بالترك؛ لأنه قد علم أنه لا مضرة عليه في الفعل.
قيل: ليس هذا بإغراء؛ ألا ترى أنه من بشره النبي بالجنة لا يحس ضرر النار فيما يفعله؛ لأنه علم أن إما أن يسقط عنه العقاب بالتوبة، وإما بالمغفرة، ومع ذلك ليس مغرى.
وعلى أن المجتهد لا يكون مغرى؛ لأنه لا يعرف المرتبة التي إذا انتهى إليها من النظر غفر له تركه النظر فيما بعد. إنما ذلك شيء يعرفه الله تعالى وحده، فجرى ذلك مجرى صغائرنا التي لا يعرفها إلا الله وحده.
وأيضاً: ما رُوِيَ أن -النبي عليه السلام- كان إذا بعث جيشاً قال لهم: (إذا حاصرتم [240/ب] أهل حصنِ أو مدينة فأرادوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم على حكم الله تعالى، فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم) (1) .
وهذا ينفي أن يكون حكم الله تعالى في الحادثة ما يُؤدي إليه اجتهاد المجتهد.
فإن قيل: يجوز أن يكون قال لهم: لا تنزلوهم على حكم الله؛ لأنكم لا تأمنون ورود النسخ على الحكم الثابت.
[قيل: هذا] لا يمنع وجوب العمل به قبل العلم بالنسخ.
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل يرويه بُرَيْدَة - رضي الله عنه - مرفوعاً، وقد سبق تخريجه عندما أورده المؤلف بلفظ: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله..) الحديث.(5/1555)
ألا ترى أنه لا جائز أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: لا تصلوا ولا تصوموا؛ لأنكم لا تأمنون أن يكون قد يصح ورودُ نسخ ذلك من الله تعالى.
[الاستدلال بالإِجماع]
وأيضاً: فإن المسألة إجماع الصحابة.
فإنه قد ظهر منهم اختلاف في مسائل خطَّأ بعضُهم بعضاً فيها، وأنكر بعضهم على بعض. فلو كان كل مجتهدٍ في ذلك مصيباً لم يخطِّىء بعضهم بعضاً.
بل كان يقول بعضُهم لبعض: أنا مصيب وأنت مصيب.
فمن ذلك ما رُويَ عن عمر أنه أرسل إلى امرأة فأفْزَعَها ذلك، فأجْهَضَت.
فاستشار الصحابة، فقالوا: (لاشىء عليك، إنما أنت مؤدِّب) . وكان عليٌّ: في القوم ساكتاً، فقال عمر: (عزمت عليك يا أبا الحسن لتخبرنِّي، فقال علي إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا، وإن كانوا قاربوك (1) فقد غشوك. أراك قد ضمنت الدية. فقِبلَ قوله) .
فقد أطلق اسم الخطأ عليهم، وإن كانوا مجتهدين.
وقال عمر في قضية قضى بها: (لا أدري أصبت أم أخطأت، ولكن لم آل عن الحق) .
وقال ابن عباس: (من شاء باهَلْتُه، أن الفرائض لا تعول) .
__________
(1) قارَبَه: ناغاه بكلام حسن.
انظر: القاموس (1/115) مادة (قرب) .
والكلمة هذه ثابتة في: إحكام الفصول للباجي ص (712) وقد سبق تخريج الأثر.
والذي في المصنف لعبد الرزاق (7/459) : (وإن كان قالوا في هواك فلم ينصحوا لك) .(5/1556)
وقال: (ألا يتقى الله زيد: يجعل ابن الابن بمنزلة الابن، ولا يجعل أبا الأب بمنزلة الأب) .
وقال: (من شاء باهَلْتُه عند الحجر الأسود أن الجَد أب) (1) .
وقال ابن مسعود: (من شاء باهَلْتُه أن سورة النساء القصرى (2) نزلت بعد قوله تعالى: (أربَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (3) .
وقالت عائشة: (أبلغي زيد بن أرقم أن الله أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب) .
فإن قيل: يحمل قول علي: (أخطؤوا) (4) حقيقة الأشبَه المطلوب.
__________
(1) هذا جزء من أثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل الابن ابناً..) .
(2) في الأصل: (القصوى) وهو تصحيف.
(3) آية (234) من سورة البقرة.
وهذا الأثر أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب: (وَأولاَتُ الأحْمَالِ أجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (6/194) ولفظ ابن مسعود فيه: (أتجعلوا عليها التغليظ، ولا تجعلون عليها الرخصة؟! لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: (وَأولاَتُ الأحمَالِ أجَلُهُنَّ أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
وأخرج أبو داود في كتاب الطلاق، باب: في عدة الحامل (2/730) طبعة الدعاس، ولفظه: (من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشراً) .
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفي عنها زوجها (6/163) ولفظه: (من شاء لاعنته، ما أنزلت..) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق، باب: الحامل المتوفي عنها زوجها (2/654) ولفظه: (والله لمن شاء لاعنَّاه..) .
(4) في الأصل: (أخطى) .(5/1557)
وكذلك قول ابن عباس: (من شاء باهلته) ثقة من نفسه أنه أصاب الأشبه.
قيل: قد أجبنا عن هذا وقلنا:
إن عندك لم يكلف طلب الأشبَه ولا إصابته، وإنما فَرْضُه ما يغلب على ظنه، فحكمه وحكم غيره سواء.
ولا يجوز حمل ذلك على أنه كان هناك نص؛ لأن القوم صرحوا بالرجوع إلى الرأي. فقال علي: (إن اجتهدوا فقد أخطؤوا) .
وكذلك [241/أ] ابن عباس (ألا يتقى الله زيد يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أبا الأب أباً) .
وهذا رجوع إلى الرأي.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون عدولُه عما ثوابه أكثر إلى شىء ثوابه أقل من الشيطان. وقد أضافت الصحابة الخطأ في ذلك إلى الشيطان.
وأيضاً فإنهم إذا اختلفوا على قولين متضادين مثل تحريم وتحليل، وتصحيح وإفساد، وإيجاب واسقاط، فلا يخلو من ثلاثة أقسام:
إما أن يكونا صحيحين، أو فاسدين، أو أحدهما صحيحاً والآخر فاسداً.
ولا يجوز أن يكونا فاسدين؛ لأنه يؤدي إلى إجماع الأمة على خطأ فاسد، وهذا لا يقوله أحد.
ولا يجوز أن يكونا صحيحين؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشىء الواحد حراماً حلالاً، واجباً غير واجب، وصحيحاً باطلاً.
ولهذا قلنا في الفرُوج، وهو إذا تزوج حنبلي امرأة من وليها، بعد أن تزوجها حنفي بغير ولي، فالحنبلي يقول: الأول باطل ونكاحي صحيح، وهي حلال لي دونه.(5/1558)
والحنفي يقول: نكاحي صحيح، والثاني باطل.
فلو كان كل مجتهد مصيباً كانت حلالاً لكل واحد منهما. وهذا لا يجوز بالإِجماع.
فإذا بطل هذان القسمان، ثبت أن أحدهما صحيح والآخر فاسد.
فإن قيل: إنما لم يصح استباحتها لشخصين؛ لأن الإِجماع دال على أنه لا يجوز الجمع بينهما.
قيل: الإِجماع يحصل على أن أحدهما مباح والآخر حرام.
فإن قيل: المجتهدان (1) إذا أفتى أحدهما بحظر الوطء، والآخر بإباحته، وتساوى فتواهما عند المستفتي، فإن المستفتي يكون مخيراً في الأخذ بأي القولين شاء.
فإذا اختار الأخذ بأحدهما تعَيّن (2) عليه الحكم الذي اختاره من حظر أو إباحة، فلا يكون قد اجتمع الحظر والإِباحة في الوطء الواحد.
كما يقول في المكفر عن يمين: هو مخيرَّ بين الأشياء الثلاثة، فإذا اختار أحدها (3) تعَيّن (4) عليه ما اختاره.
قيل: لو كان هذا يجري مجرى الكفارة لجاز لأحد المجتهدين أن يقول له أنت مخيَّر بين الحظر والإِباحة، كما يقول له: أنت مخيَّر بين العتق والإِطعام.
فإن قيل: الحكم بصحتها لا يؤدي إلى التضاد في حق شخص (5) ، إنما
__________
(1) في الأصل: (المجتهدين) .
(2) في الأصل: (تغير) .
(3) في الأصل: (أحدهما) .
(4) في الأصل (تغير) .
(5) يعني باعتبارات مختلفة وبأحوال متعددة، فالشخص الواحد يكون مقيماً ويكون مسافراً، والمرأة تكون طاهراً وتكون حائضاً.(5/1559)
يؤدي إلى ذلك في حق شخصِ واحدٍ في وقت واحدٍ، فأما على شخصين أو فريقين فلا يستحيل، كما ورد الشرع بإيجاب الصلاة على الطاهر، وأسقطها عن الحائض.
ووجوب الإِتمام على المقيم، والرخصة في القصر (1) للمسافر.
قيل: [241/ب] الأدلة إذا كانت عامة لم يجز أن يكون مدلولها خاصاً، والدلالة على كل واحدٍ منهما عامة في الجميع؛ فلا يجوز أن يكون حكمها خاصاً. وإذا كانت عامة ثبت التضاد ولم يجز أن يكون الجميع صحيحاً (2) .
فإن قيل: الأمارة على الحكم خاصة وليست بعامة؛ لأن الأمارة على الحكم ظن المجتهد، وذلك يخصه، فكان الحكم خاصاً فيه.
يدل على ذلك: أن الأمارات التي فيها متكافئة ليس بعضها أقوى من بعض فلا طريق أولى من طريق.
قيل [طريق] الاحكام هو الكتاب والسنة، دون الظن، وذلك عام.
يدل على صحة هذا قوله: (فَإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى الله وَالرَّسُولِ) (3) والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله دون الظن.
فإن قيل: فالقياس طريق الأحكام، وهو ظن القياس.
قيل: القياس يرجع إليهما؛ لأن القياس يقع على ما ثبت بالكتاب والسنة، ويتعدى الحكم من الأصل الثابت بالكتاب والسنة (4) .
وجواب آخر وهو: أن المجتهد يرجع إلى أدلة من الكتاب والسنة والقياس.
وقوله: "إن الأمارة هي الظن" مخالف لإجماع الأمة (5)
__________
(1) في الأصل: (والقصر) .
(2) انظر في هذا: شرح اللُّمع (2/1056) .
(3) آية (59) من سورة النساء.
(4) يعني: إلى الفرع لاشتراكهما في العلة.
(5) في شرح اللُّمع (2/1060) : (فقد خالف هذا النص) ويعني به قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَارَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) .(5/1560)
جواب آخر وهو أنه لو كان الظن (1) هو الأمارة لوجب إذا كانت أمارات المجتهدين متكافئة، فظن بعضهم أن بعضهما أولى من بعض أن يكون خطأ، كمن ظن أن الثور سبُع، والحدأة باز، والحمار بغل.
وقد علمنا أن أهل العلم فريقان في هذه المسائل (2) فيعتقد فريق قوة أمارة التحليل. والآخر قوة أمارة التحريم فيجب أن يكون الكل على خطأ (3) ، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على خطأ (4) .
وجواب [آخر] وهو أنه لو كانت الأمارة هي الظن، وأنه لا طريق له لوجب أن يشاركهم العامة في ذلك؛ لأن العامي يظن كما يظن العالم.
ألا ترى أن العامة لما شاركت أهل العلم في العقليات في طريق الظن وجب عليهم أن يعلموا منه ما يعلم أهل العلم، ويجب عليهم التقليد (5) ، لم يصح ما قالوه.
وجواب آخر وهو: أن الظن يتبع وجود الشىء في الأكثر الأغلب، كما نقول في الغيْم الأسود يغلب على الظن وجود المطر معه.
وكذلك التنفق (6) في عُرْض الحائط يغلب على الظن وقوعه.
__________
(1) في الأصل: (الطرد) ، والتصويب من شرح اللُّمع (1/1061) .
(2) يعني: المسائل الاجتهادية.
(3) أي: على قول المعترض، وهو باطل؛ لأن الأمَّة لا تجتمع على خطأ.
(4) انظر: شرح اللُّمع، الموضع السابق.
(5) أي: يجب عليهم التقليد في المسائل الاجتهادية.
انظر: التمهيد (4/337) وشرح اللُّمع (2/1060) .
(6) النفَق بفتحتين: (سَرَب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر) .
انظر: المصباح المنير (2/956) مادة (نفق) .(5/1561)
وكذلك إذا كان لرجل عادة في الجلوس بالغداة للتدريس، أو في يوم من الأسبوع لمجلس النظر، واستمرت عادته على ذلك [242/أ] في الأغلب الأكثر غلب على ظن كل من عرف ذلك منه في وقته.
وكذلك إذا كانت عادة الإِنسان تَفْرقة صدقاته في شهر رمضان، وكثر ذلك من فعله واتصل، غلب على ظن كل من عرف ذلك أنه يفعل ذلك إذا أهلّ (1) شهر رمضان.
وكذلك إذا كانت عادة الرجل أنه إذا أعطى ابنه أعطى ابنته، ثم ثبت بخبر الصادق أنه أعطى ابنه، غلب على ظن السامع أنه أعطى بنته.
وإذا كان الظن يتبع وجود الشىء في الأغلب، تميز الحق من الباطل من طريق العلم وطريق الظن.
وعلى قولهم: الأمارات متكافئة (2) .
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرت، وأن الأمارة في الاجتهاد في ترتيب الأدلة لوجب أن يعلم أو يظن مخالفك إذا نظر (3) [و] اجتهد فيما نظرت فيه.
قيل: ويجب إذا نظر مخالفك في مسائل الكلام أن يعلم مثل ما تذكر علمته أو ظننتَه.
فإن قيل: لم ينظر فيما نظرت فيه، ولا رتب الدليل على ما رتبته عليه.
قيل: وكذلك مخالفنا لم يرتب الدليل على وجهه ولم يضعه في حقه.
__________
(1) بالبناء المفعول جائز.
وبالبناء للفاعل جائز عند بعضهم.
انظر: مختار الصحاح ص (723) والمصباح المنير (2/990) مادة: (هلل) .
(2) فليزم عليه أن الجميع حق، وهو ممنوع.
انظر: شرح اللُّمع (2/1071) : التبصرة ص (508) .
(3) في الأصل: (نظرت) .(5/1562)
وجواب آخر وهو: أنه قد ينظر في دليل وفيما نظرت فيه على ممر الأيام في مجالس النظر والتدريس والقراءة من كتابك، أو سمعه من لفظك فلم يصح قولك: "إنه لم ينظر فيما نظرت فيه".
فإن قيل: تسبق إلى اعتقاده الشبهة فيمنعه ذلك، ويسوغ العلم بالدليل ومعرفة الطريق الصحيح.
قيل: وكذلك مخالفنا في هذه المسائل، فلا فرق بينهما.
وأيضاً: لو كان كل مجتهد مصيباً لكانت المناظرة بين أهل العلم خطأ وهوساً؛ لأن كل واحدٍ منهم عند صاحبه على حق، فلم يكن لمناظرتهم معنى، وكان بمنزلة مناظرة المتفقين فيما اتفقا فيه.
فلما وجدنا أهل العلم في كل عصرٍ يتناظرون، ويحتج بعضهُم على بعض دلّ على أن ليس كل مجتهد مصيباً.
فإن قيل: إنما يتناظرون حتى يغلب على ظن مخالفة ما (1) أدى إليه اجتهاده، فرجع إلى قوله.
قيل: لا فائدة في رجوعه من حق. وكونه على ما هو فيه وانتقاله إلى ظن آخر سواء، بل في ذلك محمل الكلفة والعبث (2) والتنازع والتخاصم، وليس هذا من عمل العقلاء.
فإن قيل: إنما حسُنت المناظرة في طلب الأشبَه.
قيل: عندك لم يُكلف طلب، فلا فائدة في المناظرة فيما لم يُكلَّف طلبُه.
وأيضاً: فإنه لا خلاف [242/ب] أن المجتهد في الحادثة كلف الاجتهاد
__________
(1) (ما) مكررة في الأصل.
(2) في الأصل: (البعث) .(5/1563)
في حكمها ليُميز الجائز من غير الجائز والصحيح من الفاسد. فلو كان الصواب في الجهتين لم يحتج إلى ذلك، فعلمنا أن هناك جائزاً (1) وغير جائز وصحيحاً وفاسداً (2) .
فإن قيل: إنما يجتهد ليطلب النص أو الإِجماع.
قيل: إذا كان هناك نص أو إجماع سقط الاجتهاد.
وأيضاً فإنه لا يخلو: إما أن يكون كُلِّف الاجتهاد لطلب الحكم، أو لأن فَرْضه الاجتهاد.
ولا يجوز أن يقال: كُلِّف الاجتهاد. لأن فَرْضه الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد لا يراد لنفسه، وإنما يراد لغيره؛ لأن الانسان لا يكلف الاجتهاد ليصير مجتهداً.
فثبت أن الاجتهاد لطلب الحكم.
وإذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً (3) صح قولنا، وبطل قولهم: إن فرضه الاجتهاد فقط، وليس هناك حكم مطلوب.
ولا يصح قول من قال بالأشبَه: إنه كلف الاجتهاد لإِصابة الأشبه لما بينَّا، وهو: أنه لم يكلف طلب الأشبه، ولا إصابته، فلا معنى للاجتهاد في طلبه.
فإن قيل: إنه كُلِّف الاجتهاد ليغلب على ظنه أن الحكم بهذا أولى من غيره.
قيل: من كُلف طلب شىء يحتاج أن يكون ما كلفه (4) موجوداً حال الطلب، فلا يكلف طلب شىء ربما حدث بعد الطلب، وربما لم يحدث.
__________
(1) في الأصل: (جائز) ، وحقه النصب؛ لأنه اسم (أن) .
(2) الأصل: (صحيح وفاسد) وحقه النصب عطفاً على اسم (أن) إلا على تقدير، والأصل عدمه.
(3) في الأصل: (حكم مطلوب) وحقهما النصب، اسم (أن) وصفة له.
(4) في الأصل: (كلف) ، وسيذكره المؤلف بعد سطرين كما أثبتناه.(5/1564)
ألا ترى أن من كُلف طلب عبد آبق أو جمل شارد فإنه يصح؛ لأن ما كُلفه موجود.
وما يذهبون إليه من غلبة الظن أمر يحدث بعد الطلب، فلا يصح أن يكون الأمر بالاجتهاد لأجله.
واحتج المخالف: بقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُم من لينةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة عَلَى أصولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ) (1) .
فأخبر أن القطع والترك جميعاً من الله، وأحدهما ضد الآخر.
والجواب: أن هذه الآية وردت على سبب، وهو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قطع نخل بني النضير وحرقها، قالت بنو النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك تقطع نخلنا وتحرقها؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبرهم أن ما قطَع أو ترَك فبأمر الله تعالى (2) .
وهذا يدل على أن الأمر في ذلك كان على التخيير في القطع والترك، فيجري مجرى التخيير في الكفارات، والحق في كل واحد منها.
واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) وهذا عام في حال الانفراد والاختلاف.
والجواب: أنا نحملُه على أن كل [243/أ] واحد حجة حال الانفراد، ويكون القصد به أن قول الواحد حجة.
واحتج: بأن الصحابة اختلفوا ولم ينكر بعضُهم على بعض، بل أقره عليه،
__________
(1) آية (5) من سورة الحشر.
(2) ذكر هذا السبب ابن كثير في تفسيره (4/333) معزواً إلى يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل أنهم قالوا ذلك.(5/1565)
وسوَّغ للعامي أن يستفتيَه ويعملَ بقوله.
من ذلك:
اختلافهم في الجد، هل يقاسم؟ (1) .
وفي المُشركة (2) ، وغير ذلك.
وقال عكرمة: (بعثني ابن عباس إلى زيد بن ثابت ليسأله عن زوج وأبوين فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقى، وما بقى للأب. قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بذلك، فقال ابن عباس: عُدْ إليه فقل له: للجد (3) في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي؟! فمن أعطى ثلث جميع المال أخطأ؟! قال: فأتيته، فقلت له. فقال لم يخطىء، ولكنه شىء رأيناه وشىء رآه) (4) .
__________
(1) مضى كثير من الآثار في اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في الجد.
(2) سيأتي قريباً تخريج أثر عن عمر - رضي الله عنه - في المشركة، وفي المواضع المشار إليها توجد الآثار التي تحكى خلاف الصحابة في هذه المسألة.
(3) في الأصل: (الجد) .
(4) هذا الأثر أخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: في زوج وأبوين وامرأة وأبوين (2/250) ولفظه: (عن عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت: أتجد في كتاب الله للأم ثلث ما بقي؟! فقال زيد: أنت رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب فرض الأم (6/228) .
وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، في باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/202) .
وأخرجه ابن حزم في كتابه المحلَّى في كتاب المواريث، مسألة رقم (1716) (10/328) .
وذكره ابن عبد البَر في كتابه جامع بيان العلم وفضله، باب: اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص (2/72) .(5/1566)
وقيل لعمر بن الخطاب في المُشَرَّكَة (1) : لم تُشرك عام أول، وشَركْت العام؟ فقال: (ذاك على ما فرضناه، وهذه على ما فرضنا) (2) .
ولأن بعضهم ولَّى بعضاً مع اختلافهم في الأحكام. فروي عن أبي بكر أنه ولى زيد بن ثابت القضاء، وكان يخالفه في الجد وغيره. وولى عمر أبَّي بن كعب وشريحاً القضاء، وكانا يخالفانه.
وكذلك ولى علي شريحاً وابن عباس.
والجواب عن قولهم: "إنه لم يخطىء بعضهم بعضاً" غلط؛ لما روينا عن علي في قصة المرأة التي أجْهَضَت ذا بطنِها: (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأا) .
وقول ابن عباس: ألا يتقي (3) الله زيد.
وجواب آخر وهو: أنه لم يخطىء بعضهم بعضاً؛ لأن الخاطىء فيه معذور، له على قصد الصواب أجر، وقد ورد الشرع بذلك.
جواب آخر وهو: أنه إنما لم ينكر بعضهم على بعض لوجهين:
أحدهما: أن الشرع منع من ذلك، وهو أنه ليس على هذه الأحكام
__________
(1) ضابط المشركة: (أن يوجد في المسألة زوج، وذات سدس من أم أو جدة وإخوة لأم اثنان فأكثر، وأخ شقيق فأكثر، سواءً أكانوا ذكوراً أم ذكوراً وإناثاً) .
(2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه الدارقطني في سننه في كتاب الفرائض (4/88/رقم 66) وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: المشركة (6/255) .
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب الفرائض، باب: قول عمر في الجد (1/67) رقم الحديث (62) وليس فيه أنه قال ذلك في مسألة معينة، وإنما اختلف قضاؤه في مسألة فَرَضِية فقال: (تلك على ما فرضنا، وهذه على ما فرضنا) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في أول كتاب الفرائض (10/249) رقم (19005) في مسألة المشركة، ولفظه قريب من لفظ البيهقي. وراجع: التلخيص الحبير (3/86) .
(3) في الأصل: (ألا لايتقي) بزيادة (لا) .(5/1567)
أدلة مقطوع (1) عليها، وإنما طريقها غالب الظن.
والثاني: أن الإِنكار في ذلك ربما أفضى إلى الفتنة والفساد والاختلاف.
وقولهم: "إن بعضهم ولى بعضاً"، فلا يلزم:
[أولاً] : لأنه يبطل بكل عصر بعد الصحابة، فإنهم فعلوا هذا، ومنهم من يذهب إلى أن الحق في واحد من القولين.
الثاني: أنه وإن كان على خلاف مذهبه، فإنه لا يعلم أنه يبقى على اعتقاده إلى حين الحكم لجواز أن يغلب على ظنه حين الحكم في الحادثة على موافقة (2) .
الثالث: أنه وإن كان مخالفاً له، فإنه لا يقطع على خطئه، بل يُجَوز على نفسه الخطأ والصواب لصاحبه، فلهذا استخلفه ورضي بحكمه.
واحتج: بأنه لو كان الحق في واحد من القولين، وقد نصب الله تعالى عليه دليلاً، وجعل إليه (3) طريقاً، وكلف المجتهدين [243/ب] إصابته، لوجب أن يكون المصيب عالماً به قاطعاً (4) بخطأ من خالفه.
ويكون المخالف آثماً فاسقاً، ويمنع من العمل بما أدى اجتهاده إليه، ووجب نقص حكمه إذا حكم به، وأن لا يسوغ للعامي أن يقلِّد من شاء من المجتهدين، ويكون بمنزلة من خالف الإِجماع والنص ودليل مسائل الأصول من الصفات
__________
(1) في الأصل: (مقطوعاً) وحقه الرفع صفة لأدلة.
(2) يريد بهذا: أن المُوَلَّى يكون مخالفاً في المسألة لمن ولاه حين التولية، لكن المولي لا يعلم استمرار من ولاه على هذه المخالفة، لجواز أن يتغير رأيه عندما يحكم في الحادثة فيحكم فيها على وفق رأي من ولاَّه.
(3) في الأصل: (إلينا) .
(4) في الأصل: (قطعاً) .(5/1568)
والقدر والإِمامة ونصب إمامين ونصب إمام من غير قريش، وما أشبه ذلك.
ولما أجمعوا على أن المصيب غير عالم فلا قاطع بخطأ من خالفه، ولا إثم عليه فيه، ولا ينقض حكمه إذا حكم به، ويُخيَّر العامي في تقليد من شاء، دلَّ على أن كل مجتهد مصيب.
والجواب: أنا إنما لم نعلم إصابته للحق، ونقطع بخطأ من خالفنا؛ لأن الدليل على الأحكام غير مقطوع عليه، وإنما هو بأن [يكون] مقطوعاً (1) عليه، كنص القرآن ونص السنة المتواترة والإِجماع.
وبأن يكون غلبة الظن بخبر الواحد والقياس وشهادة الأصول فما (2) كان دليله مقطوعاً عليه: علمنا إصابته، وقطعنا بخطأ من خالفنا، ونقضنا حكمه، وحكمنا بإثمه، ولم نُخَير العامي في تقليده.
وما كان غلبة ظن: لم نقطع بإصابة الحق وخطأ من خالفنا؛ لأن دليله غير مقطوع عليه.
فإن قيل: فكان يجب أن ينصب عليه دليلاً مقطوعاً عليه ليتوصل به إلى الحق، كما نصب على مسائل الأصول.
قيل: لا يجب هذا كما لم يجب في حكم الحاكم بشهادة شاهدين، فإنه يحكم به، وإن لم يقطع على صدقهما.
وكالقِبلة، كُلف الاجتهاد في طلبها، وإن لم يكن دليلاً قاطعاً عليها.
وقد قيل: إن الله تعالى دلنا على الحكم بدلالة قاطعة، وإن لم يدلنا على علة الحكم في الأصل؛ لأنه كلَّفنا العمل على أوْلى العلل وأقواها، وقد جعل لنا طريقاً نقطع معه.
__________
(1) في الأصل: (مقطوع) .
(2) في الأصل: (فيما) .(5/1569)
فإن إحدى العلتين أوْلى أن يتعلق الحكم بها وأنها موجودة في الأصل والفرع، وأنه يلزمنا العمل بها في الفرع.
والطريق إلى ذلك هو وجوه الترجيح، وهي محصورة، فإذا وجدها أو أكثرها أو أقواها تختص إحدى العلتين، قطعنا على أنها أولى بأن تكون علة الحكم في الأصل من غيرها.
كما أنا إذا رأينا أمارات الغَيْم الرطب، في بعض الغيوم، نحو كونه في الشتاء، وكونه كثيفاً قطعنا على أنه أولى أن يكون مطراً.
وأمَّا التأثيم والتفسيق: فلا يجوز عليه ما ذكرنا، وهو أنا لا نقطع على خطئه، ولأن الشرع ورد بالعفو عن ذلك [244/أ] ، كما ورد بالعفو عن الخاطىء والناسي والمكره.
يدل عليه قول الله تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ) إلى قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) ولم يؤثم داود.
وكذلك قال النبي -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فلم يؤثمه، بل جعل له الأجر مع الخطأ.
وأمّا منعه من العمل بما أدى اجتهاده إليه فلا يمنع منه؛ لأن فرضه أن يحكم باجتهاده وبما يصح عنده، فلا يصح منعه منه.
ولكن نقول إذا تزوج بغير ولي: "إنه نكاح فاسد". وإذا اشترى النبيذ "إنه شراء فاسد". وإذا شرب النبيذ: "إنه شَرِب حراماً"، وما أشبه ذلك من طريق غلبة الظن والظاهر.
وأما إذا حكم باجتهاده فإننا لا ننقض حكمه لما بينَّا، وهو: أن الدليل غير مقطوع عليه، فلا يجوز نقضُه.
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة (3/163) طبعة هجر.(5/1570)
وقد قيل: إن في نقض الحكم فساداً؛ لأنه يكون ذريعة إلى تسليط الحكام بعضُهم على بعض، فلا يشاء حام يكون في قلبه من حاكم شىء إلا وتعقب حكمه بنقض، فلا يستقر حكم، ولا يصح لأحد ملك، وفي ذلك فساد عظيم.
وقد قيل: لا يمتنع أن يمنع من الحكم، وإذا حكم لم ينقض.
كما منع من البيع عند النداء، والسَّوْم على سَوْم أخيه، والصلاة في الدار المغصوبة، ومع هذا فلا يبطل العقد (1) والصلاة (2) .
والجواب الصحيح على أصولنا: ما ذكرناه أولاً، وأنه غير مقطوع عليه.
وأما تسويغ العامي تقليد من يشاء من المجتهدين فلعمري انه كذلك.
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسين بن بشار المخرمي وقد سأله عن مسألة من الطلاق فقال: "إن فعل حنث. فقال له: يا أبا عبد الله إن أفتاني إنسان، يعني: لا يحنث؟ فقال له: تعرف حلقة المدنيين بالرَّصافة؟ قال له: فإن أفتوفي يحل؟ قال نعم" (3) .
وهذا يدل على أنه لا يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتيين؛ لأنه أرشده إلى حلقة المدنيين، ولم يأمره بالاجتهاد في ذلك.
__________
(1) انظر مسألة البيع عند النداء من يوم الجمعة: المغني لابن قدامة (3/163) طبعة هجر.
وانظر مسألة السَّوْم على سوْم أخيه: المغني (6/306) فإنه قسمها إلى أربعة أقسام، وبين حكم كل قسم.
(2) انظر مسألة الصلاة في الدار المغصوبة: المغني (2/476) ومعروف أن للحنابلة روايتين في هذه المسألة.
(3) قد سبق توثيق هذه الرواية في مسألة: للعامي أن يقلِّد من شاء من المجتهدين.(5/1571)
ويدل أيضاً على أن العامي إذا سأل عالِميْن، فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة أنه يجوز له أن يأخذ بقول من أفتاه بالإباحة.
وكذلك نقل ابن القاسم الحنبلي (1) أنه قال لأحمد -رحمه الله-: ربما اشتدَّ علينا الأمر من جهتك فمن نسأل؟ فقال: "سلوا عبد الوهاب" (2) .
وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث عن أحمد -رحمه الله- أنه سئل عن مسألةٍ فقال: "سل إسحاق بن راهويه" (3) . [244/ب] .
وكذلك نقل أحمد بن محمد البُرَاثي (4) عن أحمد أنه سئل عن مسألة فقال: "سل غيرنا، سل العلماء، سل أبا ثور".
__________
(1) هو: أحمد بن القاسم الحنبلي، وقد سبقت ترجمته.
(2) هو: عبد الوهاب بن عبد الحكم بن نافع أبو الحسن الوراق. كان صالحاً ورعاً زاهداً ثقة. صحب الإمام أحمد وسمع منه. توفى سنة (251هـ) على الراجح.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (11/25) وتذكرة الحفاظ (2/526) وتقريب التهذيب (1/528) وتهذيب التهذيب (6/448) وطبقات الحفاظ ص (229) وطبقات الحنابلة (1/209) .
والكلام الذي نقله ابن القاسم عن الإِمام أحمد موجود في تذكرة الحفاظ في ترجمة عبد الوهاب.
(3) لم أجد هذه الرواية بهذا النص، وإنما وجدت في تاريخ بغداد - (6/349) بسند الحافظ الخطيب البغدادي إلى أبي بكر الأثرم قال: (قلتُ: لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: إسحاق أبو يعقوب -أعني ابن راهويه- ترى الإنسان أن يقصد إليه فيتعلم منه الفقه، فإنه رجل مُمكَّن؟ فقال: ما أفْهَمَه! هو كيس) .
(4) في الأصل: (البراتي) بالمثناة الفوقية.
وهو: أحمد بن محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان أبو العباس البُرَاثي. سمع الإِمام أحمد -رحمه الله- ونقل عنه بعض المسائل. مات سنة (300هـ) وقيل سنة (302هـ) . =(5/1572)
وكأن المعنى في ذلك أنه لا سبيل له إلى معرفة الحق والوقوف على طريقه.
وكل واحد من المجتهدين يفتيه بما أدى اجتهاده إليه، فيؤدي ذلك إلى حيرته، فجعل له أن يقلد أوثقهما في نفسه.
ويخالف المجتهد؛ لأنه يمكن موافقته على طريق الحق ومناظرته فيه.
واحتج: بأنه لو أداه اجتهاد [هُ] في وقت إلى جواز النكاح بلا وليِّ فقضى به، ثم أداه اجتهاده في وقت آخر إلى خلافه لزمه أن يقضي بذلك، فلو كان الثاني خطأ ما لزمه الحكم به.
والجواب: أنه (1) حينما أداه اجتهاده إلى الحكم بجوازه كان يعتقد أن ضده خطأ، وإنما صار صواباً في وقت آخر، فما (2) اجتمع الجواز وضده في وقت واحد.
واحتج: بأن اختلاف الفقهاء في مسائل الحوادث كاختلاف القُراء في الحروف، ثم ثبت أن كل من قرأ بحرف فهو مصيب، كذلك في الأحكام.
والجواب: أن اختلاف القُرَّاء لا يفضي إلى مناقضة.
ألا ترى أن كل من خالف في قراءة جاز له أن يقرأ بحرف غيره، فلهذا كان الكل صواباً، وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه اختلاف في أحكام، ومن ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب أفضى إلى المناقضة.
ألا ترى أنه لا يجوز أن يأخذ بالقولين معاً، فبانَ الفرق بينهما.
__________
= له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/64) .
والكلام الذي نقله عن الإِمام أحمد هنا موجود في تاريخ بغداد (6/66) في ترجمة أبي ثور، وقد نقله بسنده إلى أحمد بن محمد البراثي.
(1) في الأصل: (أن) .
(2) في الأصل: (كما) .(5/1573)
فصل
[الدلالة على أن ذلك غير مقطوع به]
والدلالة على أن ذلك غير مقطوع عليه (1) أنه لو كان مقطوعاً عليه لم يلزمه أن يجتهد دفعة ثانية في تلك الحادثة، ولا يجتهد في صلاة ثانية في الجهة.
ولما أجمعنا على أنه يحدث اجتهاداً علمنا أنه غير مقطوع عليه.
وليس لأحد أن يمتنع من هذا ويقول: إنه لا يلزمه أن يجتهد ثانياً؛ لأن هذا مخالف الإِجماع السابق، ولأنه لو كان مقطوعاً عليه لوجب أن ينقض بحكم الحاكم إذا خالفه، كما ينقض بمخالفة النص.
وليس لهم أن يقولوا: إنما لم ينقض؛ لأنه يكون ذريعة إلى تسليط الحكام بعضهم على بعض؛ لأن هذا لا يمتنع، كما لم يمتنع عند مخالفة النص والإِجماع.
فإن قيل: أحد الحكمين يتميز عن الآخر بالتأثير الموجب للعلة وبكثرة الأصول.
قيل: فيجب أن يؤثر في نقض الحكم [245/أ] وإسقاط الاجتهاد دفعة ثانية، كما كان ذلك في المنصوص عليه.
فإن قيل: قد وجدنا أن الحكم يتعلق بالعلة الشرعية كتعلقه بالعلة العقلية، فإنه ما دام عصيراً هو مباح، فإذا حدثت الشِّدة حُرم، فإذا زالت أبيح، فإذا عادت حُرم، فدل على أنها موجبة، كما أن الحركة لما كانت دلالة على كون المتحرك متحركاً [كانت موجبة] .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/339) .(5/1574)
قيل: وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها لا يدل على أنها معلومة، كالنبيذ والاجتهاد في طلب القبلة، فإن ثبوت الحق يحصل لوجود [الشدة في] النبيذ ويعدم بعدمها، وليس شهادتهم مقطوعاً عليها، وكذلك الاجتهاد في القبلة غير مقطوع على إصابته.
فصل
[الدلالة على أن هناك حكماً مطلوباً]
والدلالة على أن هناك حكماً مطلوباً (1) خلاف (2) من قال: ليس هناك شىء سوى ما يغلب على ظنه: ما تقدم من الدلائل على أن الحق في واحد من القولين، فلولا أن هناك حكماً مطلوباً (3) لم يكن الحق في أحدهما.
وأيضاً: لما كان مأموراً بالاجتهاد وجب أن يكون هناك حكم مطلوب، كالاجتهاد في طلب النص، والاجتهاد في طلب القبلة، والاجتهاد في عدالة الشهود.
فإن قيل: القبلة يجوز ترك التوجه إليها مع العلم بها في الخوف وفي السفر، ولا يجوز مثل ذلك في أحكام الحوادث، مثل الطلاق والعتق والنكاح.
قيل: حال الخوف والسفر هو غير مأمور بالتوجه إلى القبلة، وإنما جاز تركها مع العلم للضرورة، ولا ضرورة بنا إلى ترك النص في غيرها من الأحكام.
__________
(1) في الأصل: (حكم مطلوب) ، وحقه النصب كما هو معروف.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/344) والتبصرة ص (498) .
(3) في الأصل: (حكم مطلوب) .(5/1575)
فإن كان هناك ضرورة جاز، كاستباحة طعام الغير للضرورة.
فإن قيل: القبلة عين متوصل إليها، وليس كذلك ما اختلفنا فيه؛ لأن المطلوب ليس بعين.
قيل: في حال الغيبة لا يتوصل إليها، ويجري حكمها مجرى سائر الأحكام.
وأيضاً: قد بينَّا أن المجتهد كُلِّف الاجتهاد، والاجتهاد لا يراد لنفسه، وإنما يراد لغيره.
ولأن الاجتهاد في طلب ما ليس بشىء ليحققه: لا يصح.
ألا ترى أنه لا يصح أن يقول المجتهدُ: في غالب ظن هو مصيب للظن، وإنما يقول [في] غالب ظن: إنه مصيب الحقيقة.
فعلم أن هناك مطلوباً (1) غير الظن.
يبين هذا: أن الظن لابد أن يتعلق بمظنون ثابت على الحقيقة.
فصل
[إذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً فإنه قد كلف إصابته]
وإذا ثبت أن هناك حكماً مطلوباً (2) [245/ب] فإنه قد كلف إصابته (3) خلاف من قال: هناك أشبه مطلوب، لكن لم يكلف إصابته.
والدلالة عليه:
ما تقدم من الدلائل على أن الحق في واحدٍ، وأن أحد المجتهدين مخطىء.
__________
(1) في الأصل: (مطلوب) وحقه النصب اسم (أن) .
(2) في الأصل: (حكم مطلوب) .
(3) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/344) والتبصرة ص (498) وشرح اللُّمع (2/1050) .(5/1576)
وإذا ثبت خطؤه علمنا أن هناك معنى قد كُلف إصابته، فأخطأه.
فإن كان ذلك المعنى الحكم على ما نقوله نحن فيجب طلبه.
وإن كان الأشبَه (1) بالحادثة فيجب أيضاً طلبه.
ولأن الأشبَه لا يُراد لنفسه، وإنما يُراد لغيره، وهو إثبات الحكم الحادث، فعلم أن هناك حكماً مطلوباً (2) .
فإن قيل: لا يمتنع أن يكون هناك مطلوب ولم يكلف إصابته، كالقبلة والفَقْر ويوم عَرَفَة.
قيل: هناك كُلِّف الإصابة، ولكن سقطت الإعادة لدلائل شرعية، ذكرناها في مواضعها، وهو: أن جهات القبلة تثبت بالاجتهاد.
فإذا اجتهد ثم أخطأ، فلو أمرناه بالإعادة لنقضنا اجتهاد [هـ] أولاً باجتهاد [هـ] ، آخر، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
وكذلك الفقر ثبت بالاجتهاد والغنى أيضاً، فلو قلنا: يعيدُ نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد.
وعَرَفَة لا نأمن أن يُخطِىء في القضاء كما أخطأ في الأداء.
وغير ذلك مما يذكر [في] مواضعه.
يبين صحة هذا: أن في الشرع مواضع إذا أخطأها أعاد.
مثل: أن يصلي ثم يتبين أن الوقت لم يدخل.
أو توضأ بماء يظنه طاهراً فبان نجساً.
وغير ذلك.
__________
(1) انظر اختلاف الأصولين في تفسير "الأشبه" في المراجع السابقة، والمعتمد (2/982) .
(2) في الأصل: (حكم مطلوب) .(5/1577)
لأنه لم يدل الدليل على سقوط الإعادة، فثبت أن القبلة وعرفة والفقر كُلف إصابته، وإنما سقطت إصابته لدليل.
مسألة
قد كان يجوز لنبينا -عليه السلام- الاجتهاد فيما يتعلق بأمر الشرع عقلاً وشرعاً (1) .
وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة (2) هذا فيما كتب به إلى أبي إسحاق بن شاقْلاَ في جوابات مسائل، وقال:
الدليل على أن سنته وأوامره قد كانت (3) بغير وحي وأنها كانت بآرائه واختياره: أنه قد عوتب على بعضها، ولو أمِر بها لما عوتب عليها.
من ذلك: حكمه في أسارى بدر، وأخذ الفدية، فقيل له: (مَا كَانَ لِنَبِي أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأرضِ) (4) .
ومنه: إذنه في غزوة تبوك للمخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له، حتى قيل له: (عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أذنْتَ لَهُمْ) (5) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/373) وروضة الناظر (2/409) والبُلْبُل ص (175) والمسوَّدة ص (507) وشرح الكوكب (4/474) .
(2) هو: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان أبو عبد الله العكبري الحنبلي، المعروف بابن بطة. سمع جماعة من شيوخ المذهب، منهم أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص العكبري. كان محدثاً فقيهاً. له مؤلفات كثيرة، منها: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، والسنن، والمناسك. ولد سنة (304هـ) وتوفى سنة (387هـ) .
له ترجمة في: شذرات الذهب (3/122) وطبقات الحنابلة (2/144) .
(3) في الأصل: (كان) .
(4) آية (67) من سورة الأنفال.
(5) آية (43) من سورة التوبة.(5/1578)
ومنه: قوله: (وَشَاورْهُمْ في الْأمرِ) (1) . فلو كان وحياً لم يشاورهم فيه (2) وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى صحة ما قاله [246/أ] أبو عبد الله بن بطة في رواية الميموني لما قيل له: "ها هنا قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به، [قال] (3) : ففي القرآن تحريم لحوم الأهلية؟! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) (4) وما علمهم بما أوتي".
__________
(1) آية (159) من سورة آل عمران.
(2) في الأصل: (لم يشاورونه) والتصويب من طبقات الحنابلة (2/164) والمسودة ص (508) .
وكلام أبي عبد الله بن بطة هنا موجود بنصه في المصدرين السابقين.
(3) الزيادة من المسوَّدة.
(4) هذا الحديث رواه المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (5/10) رقم الحديث (4604) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (5/38) (رقم 3664) وقال فيه: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه) .
وأخرجه عنه ابن ماجة في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/6) رقم (12) .
وأخرجه عنه الدارمي في باب السنة قاضية على كتاب الله (1/117) رقم (592) .
وأخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (4/131) .
وأخرجه ابن حبان في كتابه موارد الظمآن، باب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص (55) رقم (97) .
وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، باب الكلام في الأصل الثاني من أصول الفقه، وهو السنة (1/89) .
ويلاحظ: أن حديث أبي داود أتم، وقد ورد فيه اللفظ الذي ذكره المؤلف.(5/1579)
وذكر أبو حفص (1) في الجزء السابع من البيوع في باب التسْعير: حدثنا بإسناده عن أبي فضلة (2) قال: أصاب الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَنَة.
فقالوا: يا رسول الله سَعِّر لنا. فقال: (لا يسألني الله عن سُنَة أحدثتها فيكم (3) لم يأمر الله تعالى بها) (4) .
قال أبو حفص: هذا دليل على أن كلِ سُنَّة سَنَها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته فبأمر الله تعالى، بقوله: (لا يسألني الله عن سُنّة أحدثتها) .
واعلم أنه لا يحدث سنة إلا بأمر الله (5) ، وبهذا نطق القرآن، فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (6) .
والأول أصح، وبه قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني والسرخسي (7) .
__________
(1) هو أبو حفص العكبري كما في المسوَّدة ص (508) وهو: عمر بن محمد بن رجاء، وقد سبقت ترجمته.
(2) هكذا في الأصل، وفى طبقات الحنابلة (2/163) : (ابن بطة) .
(3) في الأصل (فيما) والتصويب من المسوَّدة ص (508) ومن طبقات الحنابلة الموضع السابق.
(4) لم أجد هذا الحديث في مرجع معتمد، وإنما رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ذكره في كتاب المسودة الموضع السابق، ولم يعلق عليه بشىء.
كما رأيت ابن أبي يعلي ذكر في طبقاته في الموضع السابق في ترجمة أبي حفص العكبري: أن أبا حفص يرى أن كل سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فبأمر الله، واحتج على ذلك بما رواه بإسناده عن ابن بطة قال: (أصاب الناس..) الحديث.
(5) هذا هو رأي أبي حفص العكبري كما سبق بيانه نقلاً عن طبقات الحنابلة.
(6) آية (3-4) من سورة النجم.
(7) وهو كذلك، إلا أنهم يرون أنه ينتظر أولاً الوحي، فإذا مضت مدة الانتظار ولم =(5/1580)
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال بهذا (1) .
ومنهم من منع من ذلك (2) .
وهو قول المتكلمين من المعتزلة (3) ، والأشعرية (4) .
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أولِى الْأبْصَارِ) (5) . فأمر أهل البصائر بالاعتبار، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى أهل البصائر رتبة وأرفعهم منزلة، فكان بالاعتبار أولى.
__________
= ينزل عليه شىء، اجتهد، وعمل باجتهاده.
انظر أصول السرخسي (2/91) وتيسير التحرير (4/183) وفواتح الرحموت (2/366) .
وهو قول الإِمام الشافعي وأكثر أصحابه.
انظر: التبصرة ص (521) وشرح اللُّمع (2/1091) والبرهان (2/1356) والمستصفى (2/355) والمنخول ص (468) والمحصول (6/9) والإحكام للآمدي (4/143) .
(1) والمجوزون فريقان، فريق قال بوقوعه. وفريق أنكر وقوعه.
انظر التبصرة ص (521) والإبهاج (3/263) .
(2) انظر: المرجعين السابقين.
(3) انظر: المعتمد (2/761) .
(4) انظر: المسوَّدة ص (507) .
وهناك قولان في المسألة: الأول: التوقف، ونسبه ابن السبكى إلى المحققين.
والثاني: أنه يجوز في أمور الحرب دون الأحكام الشرعية.
انظر: الإبهاج، الموضع السابق.
(5) آية (2) من سورة الحشر.(5/1581)
وقوله -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران) . وهو حاكم، فوجب أن يكون داخلاً فيه.
وذكر أبو عبيد (1) في "كتاب أدب القضاء" بإسناده عن الشعبي قال: (كان - صلى الله عليه وسلم - تنزل به القضية، وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى، فيمضي ما كان قضى على حاله، ويستقبل ما نزل به القرآن) (2) .
ولأن ما يستنبط من المعاني طريق لأمته في الحكم، فوجب أن يكون طريقاً له، أصله القرآن ظاهرُه وعمومُه.
ولأن الاجتهاد طاعة لله تعالى وقربة ينال بها رضاه وثوابه، فوجب أن يكون للنبي -عليه السلام- فيه مدخل، قياساً على سائر الطاعات.
ولأن المجتهد إنما سُوِّغ له الاجتهاد متى كان عالماً بالأصول وطرق القياس، فيجتهد فيما لا نص فيه ليعرف حكمه بالوجود (3) ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى المنازل لمعرفة الأصول وطرق القياس، فهو أولى بالاستعمال.
ولأن جواز الاجتهاد لا يخلو أن يتعلق بعدم النص حال وجود الحادثة، أو عدمه [246/ب] في الثاني.
ولا يجوز اعتبار الثاني؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز الاجتهاد فيما يجوز أن يحصل عليه إجماع وأمر قاطع، فبقي أن يعتبر عدمه في الحال.
وهذا الشرط يوجد مما يعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث ولا نص أنزل عليه فيها من قبل.
__________
(1) هو: أبو عبيد القاسم بن سلام. وقد سبقت ترجمته.
(2) هذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الأقضية (10/180) .
(3) هكذا في الأصل، ولعل المقصود: حال وجود الحادثة.(5/1582)
وقد استدل أبو عبد الله بن بطة بدليلين (1) جيديْن:
أحدهما: قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (2) ، فلو كان ذلك عن وحي لم يحتج إلى مشاورتهم.
والثاني: أنه قد حكم باجتهاده في مواضع، بدليل أنه عوتب عليها.
من ذلك:
أخذ الفدية من أسارى بَدْر، [كما في] قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيِّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الأَرْضِ) (3) .
وغير ذلك مما ذكرنا في رأس المسألة.
وربما احتج من نصر جواز الاجتهاد بأشياء منها:
أن السنة مضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحقيقة الإضافة تقتضي أنها من قِبَلِه.
والجواب: أنه إنما أضيف إليه؛ لأنها بقوله وجبت، وهو السفير.
ولهذا يضاف إليه جميعُ السنن، ومعلوم أن ليس جميعها باختياره.
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مكة: (ولا يُخْتَلَى خَلاَهَا) (4) قال العباس:
__________
(1) ذكر هذين الدليلين: ابن أبي يعلي في طبقاته في ترجمة أبي حفص البرمكي (2/163) منسوبة إلى المؤلف وإلى ابن بطة.
(2) آية (159) من سورة آل عمران.
(3) آية (67) من سورة الأنفال.
(4) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب لا ينفر صيد الحرم (3/17) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام (2/986) رقم الحديث (1353) .(5/1583)
(إلا الإذْخِر) (1) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إلا الإذْخِر) ، ومعلوم أن الوحي لم يرد في تلك الحال.
والجواب: أنه قد قيل: إن "الإذْخِر" ليس من الخلا، وإنما استثناه العباس تأكيداً (2) .
أو لأنه لا يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد استثناءه، فسبق العباس إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قلتُ نعم لوجبت) يعني الحج، فعلق وجوبها بقوله.
الجواب: أنه لو قال: (نعم لوجبت) من حيث كان قوله دليلاً على وجوبه، وليس في الكلام ما يدل على أن قوله صادر عن اختياره أو من وحي.
ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) .
وقوله: (لولا أن أخشى أن يفرض السواك لاستكتُ) (3) فبين أن أمره بالسواك موقوف على اختياره.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون عنى أنه (لولا أن أشُق لأمرتهم) على طريق التنظيف.
ولا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه لا ينبغي أن يأمرهم به لأجل المشقة.
__________
(1) الإذْخِر: نبات معروف، له رائحة ذكية.
انظر: المصباح المنير مادة (ذخر) .
(2) كلمة (تأكيداً) غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه موافق لما في التمهيد (4/382) .
(3) لم أقف على هذا الحديث مع كثرة البحث والسؤال.(5/1584)
ومنها قولهم: إن موسى -عليه السلام- أثبت الأحكام من جهته إلا تسع آيات أنزلها الله عليه.
والجواب: [247/أ] أنا لا نعلم ذلك، ولو علمنا ذلك لم نعلم أن ما عدا تسع آيات لم يوح إليه.
ومنها قوله -عليه السلام-: (عفوتُ لكم عن صدقة الخيل والرقيق) .
والجواب: أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه؛ لأنه هو الذي يتولى أخذها، وهو الذي لم يأخذها الآن، وإن كان ذلك بوحي.
ومنها: أن الصحابة قد حكمت في الحوادث وأضافت ذلك إلى اجتهادها، ولو كان ذلك عن دلالة لما أضيف ذلك إليها، وقد قالوا في حكمهم: (إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنى ومن الشيطان) (1) ، ولو كان عن دليل لم يقولوا ذلك.
والجواب: أنه لو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صواباً، على أن من يقول الحق في واحد يقول: يجوز أن يخطئوا.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (2) .
والجواب: أن الاجتهاد ليس من الهوى، وإنما هو من الوحي الذي أوحي إليه؛ لأن الله تعالى أمره به كما أمر أمته، وقوله: (إِن هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) ، وكذا نقول؛ لأن القول بالقياس عن وحي وتنزيل.
__________
(1) هذا الكلام عقَّب به كثير من الصحابة في أحكامهم الاجتهادية.
وقد مضى تخريجه من قول أبي بكر - رضي الله عنه - وغيره، فانظر الفهرس.
(2) آية (3-4) من سورة النجم.(5/1585)
وأجاب أبو عبد الله بن بطة عن هذه الآية: بأن المراد به القرآن؛ لأن كفار قريش قالوا: قد ضل محمد عن دين قريش وغوى، وما يأتى به من هذا القرآن من تلقاء نفسه. وأقسم الله تعالى بنجوم القرآن ونزوله في أوقاته، فقال: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) من السماء (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) .
وقد ذكر أحمد -رحمه الله- هذا فيما خرَّجه في الرد على الزنادقة في متشابه القرآن (1) .
واحتج: بأن الاجتهاد يؤدي إلى غلبة الظن، وهو قادر على الحكم بالعلم من طريق الوحي، وإنما يجوز الحكم بغالب الظن إذا تعذر طريق العلم.
والجواب: أن النص من الله تعالى مفقود في الحال.
وعلى أنه يجوز أن يحكم بالنص، وأن يوقع نصاً ينسخه، وكذلك يجوز لغيره أن يحكم باجتهاده، وإن يئس من انعقاد الإِجماع الذي هو في معنى النص، على أنه معصوم في اجتهاده كالأمة، فلا نقول: إن طريقه غالب الظن.
واحتج: بأن من ردَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كَفَرَ، فلو جاز أن يحكم بالاجتهاد لم يجز تكفيره؛ لأن الاجتهاد حكم من طريق الظن، وهذا لا يجوز لإجماع المسلمين على كفره، فدل على أنه لا يجوز أن [247/ب] يكون في حكمه ما هو اجتهاد.
والجواب: أنه يكفر لكونه مكذباً للرسول في خبره.
وقولهم: إن الاجتهاد يؤدي إلى غالب الظن، فلا يصح؛ لأن النبي معصوم في اجتهاده من الخطأ والزلَل، مقطوع بإصابة الحق ودرك الصواب.
واحتج: بأن الاجتهاد ردُّ الفرع إلى الأصل بضرب من الشبهَ، ومتى فعل
__________
(1) انظر: رسالة: الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ص (26) .(5/1586)
هذا وقاله صار نصاً، فإذا صار الاجتهاد نصاً ثبت أن لا يتصور فيه الاجتهاد.
والجواب: أنه يصير نصاً بعد حصول الاجتهاد، وخلافنا في اجتهاده.
مسألة
يجوز أن يقول الله تعالى لنبيه: احكم بما ترى، أو بما شئت، فإنك لا تحكم إلا بصواب (1) .
وهذه مبنية على المسألة التي قبلها، وأنه كان يجوز أن يجتهد فيما يتعلق بالشرع.
وهو اختيار الجرجاني (2) .
وامتنع من ذلك جماعة من المعتزلة (3) .
وهو اختيار أبي سفيان السرخسي (4) .
دليلنا:
أنه لا يخلو إما أن يتعين الخلاف فيما يحكم فيه باجتهاد واستدلال، أو يتعين فيما يقوله إذا خطرَ بباله من غير اجتهاد.
فإن كان ذلك باجتهاد، فقد تقدم الكلامُ عليه ودليلُنا على جوازه.
وإن كان فيما يخطر بباله من غير اجتهاد، فإنه غير ممتنع، إذا علم الله تعالى أنه يصيب ما هو عند الله تعالى؛ لأن التعبد قد ورد بمثله في العامي أنه مخيَّر
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/373) والمسودة ص (510) وشرح الكوكب المنير (4/519) .
(2) وبقوله قال جمهور المحدثين.
انظر: المسوَّدة ص (510) .
(3) انظر: المعتمد (2/890) .
(4) انظر: المسوَّدة ص (510) .(5/1587)
في تقليد من شاء من العلماء، ويكون ذلك حكم الله تعالى عليه من غير أنه يرجع إلى أصل يستدل به.
وكذلك ورود التعبد في الاجتهاد لإحدى الكفارات الثلاث (1) .
وكذلك خُيِّر في طعام عشرة مساكين غير معينين، وصرف خمسة دراهم من مائتين إلى فقير، وفقراء الدنيا تعني عينه (2) .
ولأن الله تعالى قد قال: (إِلاَّ مَا حَرمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) (3) . فأضاف التحريم إليه، فدلّ ذلك على جواز ذلك.
قال أبو بكر (4) في تفسير: (كُلُّ الطعَامِ كَانَ حِلاً لِبَنِى إسْرَائِيْلَ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَرلَ التَّوْرَاةُ) لكن إِسرائيل حرم على نفسه - من قبل أن تنزل التوراة بعضَ ذلك (5) .
واحتج المخالف:
بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولا طريق لأحدٍ إلى معرفة المصالح سوى الله تعالى، فلم يجز أن يقول: احكم بما ترى فإنك لا تحكم إلا بصواب.
والجواب: أنا قد بينَّا فيما تقدم أن الشرعيات لا يقف (6) تكليفها على المصلحة.
__________
(1) في الأصل: (الثلاثة) .
(2) هاتان الكلمتان بدون إعجمام في الأصل، وقد أعجمتها بما ترى، والمعنى واضح.
(3) آية (93) من سورة آل عمران.
(4) هو: عبد العزيز بن جعفر الحنبلي، والمشهور بغلام الخلال. وقد سبقت ترجمته.
وتفسيره هذا -حسب علمي- مفقود.
(5) وانظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير (1/383) .
(6) في الأصل: (تقف) .(5/1588)
ويبين [248/أ] صحة هذا، و (1) أنه ليس من شرط جواز الحكم أن يكون الحاكم به عالماً بالمصلحة فيه.
ألا ترى أن الحاكم في الحادثة من طريق الاجتهاد، لا يعلم أن ما حكم به صواب ومصلحة، بل يتبع حكمه في ذلك غالب الظن، ومع هذا قال: حكمه به كان جائزاً، ويحسن التعبد به، كذلك هاهنا.
وكذلك في الكفارات وإطعام المساكين، كل ذلك مردود إلى اختيار المكلف.
واحتج: بأن اتفاق الصدق في المستقبل لا يقع منا، كذلك اتفاق الصواب.
والجواب: أنه غير ممتنع أن يقع في الأمرين، كما تتفق أمور كثيرة على طريق واحدة، كما تتفق في العلوم.
واحتج: بأنه لو كان ذلك جائزاً لجاز أن يبعث الله تعالى رسولاً، ويجعل إليه أن يشرع الشريعة كلها.
والجواب: أنه لا يمتنع ذلك فيما يمكن الوصول إليه من طريق الفكر والرأي إذا علم الله تعالى أن المصلحة فيه، كما يجوز أن يبيح له أكل ما شاء، إذا علم أنه لا يحتاج أكل الحرام.
واحتج: بأنه لا يجوز أن يقع التعبد بما ذكر تموه؛ لأن المخبر لا يأمن الكذب فيما يخبر به.
والجواب: أنه متى عرف أنه لا يقول إلا الصواب، زال هذا المعنى وأمن وقوع الخطأ.
__________
(1) الواو هذه زائدة.(5/1589)
مسألة
[الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -]
يجوز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان غائباً عنه، أو كان حاضراً (1) معه.
وحُكي عن قوم: أنه لا يجوز ذلك لمن كان بحضرته (2) .
وحَكَى الجرجاني عن أصحابه: إن كان بإذنه جاز، وإن كان بغير إذنه لم يجز (3) .
دليلنا على جوازه في الجملة:
قوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى الأَبْصَارِ) (4) ، ولم يفصل بين أنه يكون حاضراً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غائباً، في حياته أو بعد وفاته، بإذنه وبغير إذنه.
وقوله -عليه السلام-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران) ولم يفرق.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إلى عمرو بن العاص قضية، فقال: أجتهد يا رسول
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (83) . والتمهيد (3/4422-423) وروضة الناظر (2/407) ، والمسودة ص (511) وشرح الكوكب المنير (4/481) .
(2) وبه قال ابن حامد -شيخ المؤلف- وبعض الشافعية.
انظر: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (83) والمنخول ص (468) والمستصفى (2/354) والمسوَّدة ص (511) .
(3) انظر: تيسير التحرير (4/193) وفواتح الرحموت (2/374) وللحنفية تفصيل في المسألة.
انظر: المصدرين السابقين.
(4) آية (2) من سورة الحشر.(5/1590)
الله وأنت حاضر؟! (فقال: نعم. إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأتَ فلك أجر) (1) .
__________
(1) هذا الحديث رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/205) بلفظ: (جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمان يختصمان، فقال لعمرو: اقض بينهما يا عمرو، فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: وإن كان، قال: فإن قضيت بينهما فمالي؟ قال: إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة) .
انظر: الفتح الرباني (15/206) .
وأخرجه ابن حزم في كتابه الإحكام (6/766) .
ورواه أيضاً عقبة بن عامر - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده، الموضع السابق، مثل اللفظ السابق غير أنه قال: (فإن اجتهدت فأصبت القضاء فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد) .
ورواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - مرفوعاً.
وأخرجه عنه الحاكم في أول كتاب الأحكام (4/88) بمثل لفظ الإِمام أحمد عن عقبة بن عامر. ثم قال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة) .
ولم يرتض الذهبي هذا فقال: (فرج -أحد رواة الحديث- ضعفوه) .
وأخرجه عنه الدارقطني في سننه في أول الأقضية والأحكام (4/203) بمثل لفظ الإمام أحمد.
وأخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (2/2/187) ولفظه: (أن خصمين اختصما إلى عمرو بن العاص، فقضى بينهما، فسخط المقضي عليه، فأتى رسول الله فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قضى القاضي فاجتهد فأصاب فله عشرة أجور، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر أو أجران) .
وانظر: الفتح الرباني (15/207) .
وذكره ابن حزم بسند سعيد بن منصور في كتابه الإحكام (6/766) .
والحديث بكل طرقه ضعيف. =(5/1591)
ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل إلى أبي موسى وإلى رجل معه قضية، وقال: (إن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما خمس (1)) .
ورُوي أن النبي عليه السلام - حكَّم سعداً (2) في بنى قريظة قال: فكنا نكشف عن [248/ب] مؤتزرهم فكل من أنبتَ قَتَلَه، ومن لم ينبت جعلناه في الذاري. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبع سموات) (3) .
فإن قيل: إنما جاز؛ لأنه كان بإذن النبي - عليه السلام.
__________
= فحديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو عند الحاكم والدارقطني فيه "فرج بن فضالة التنوخي الحمصي" وهو ضعيف.
انظر: تقريب التهذيب (2/108) وميزان الاعتدال (3/343) رقم (6696) .
وحديث عبد الله بن عمرو عند الإمام أحمد فيه "سلمة بن أكْسُوم" قال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد (4/195) : (لم أجد من ترجمه بعلم) .
ثم الحديث معارض بما ثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) .
انظر: فتح الباري (3/318) رقم الحديث (7352) وإرواء الغليل (8/224) .
قلت: ولم أجد الحديث باللفظ الذي ذكره المؤلف. والله أعلم.
(1) في الأصل: (خمسة) .
وحديث أبي موسى هذا لم أقف عليه.
(2) هو: سعد بن معاذ بن النعمان أبو عمرو الأنصاري. سيّد الأوس. أسلم قبل الهجرة. شهد بدراً وأحُداً والخندق وقريظة، وهو الذي حكم فيهم. ورمي يوم الخندق بسهم فعاش شهراً ثم انتقض جرحه، فمات منه.
له ترجمة في: الاستيعاب (2/602) والإصابة (3/87) .
(3) قصة حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في بني قريضة رواها أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجها البخاري في كتاب المناقب، باب: مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - (5/44) . =(5/1592)
قيل: المأذون فيه الحكم، فأما الاجتهاد فغير مأذون فيه؛ لأن الإذن في الحكم ليس بإذن في الاجتهاد.
ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن لعمْرو بالقضاء بين يديه أستأذنه في الاجتهاد
بحضرته، فلم يفهم الاجتهاد من الإذن بالقضاء، تبت أن الإِذن بالقضاء ليس بإذن في الاجتهاد.
ولأنه ليس في الاجتهاد بحضرته أكثر من الرجوع إلى غالب الظن مع القدرة على القطع واليقين، وهذا جائز بحضرته؛ لأنه لو كان حاضراً في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروى بعضُ الحاضرين عنه خبراً جاز له العمل به، وهو عمل بغالب ظن مع القدرة على القطع واليقين؛ لأنه كان يمكنه أن يرجع فيما أخبره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه منه قطعاً.
فلما جاز هذا ولم يرجع فيه إليه، ثبت ما قلناه.
ولأن ما جاز الحكم به في غَيْبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاز الحكم به في حضرته كالخبر.
واحتج المخالف:
بأنه لا يجوز الرجوع إلى غالب الظن مع القدرة على القطع واليقين، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضراً فهو قادر على معرفة الحكم من جهته قطعاً، فلا معنى للاجتهاد.
والجواب: أنه باطل بما ذكرناه من قبول خبر الواحد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضر.
ولأنه إذا اجتهد والنبي حاضر، فإن (1) كان صواباً فذاك، وإن أخطأ لم يقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، كمن اجتهد ثم بان له أنه خالف النص.
__________
= وأخرجها مسلم عنه في كتاب الجهاد والسير، باب: أنه جواز قتل من نقض العهد (3/1389) رقم الحديث (1768) .
(1) في الأصل: (وإن) .(5/1593)
مسألة
في صفة المفتي في الأحكام الذي يحرم عليه التقليد.
منها (1) :
أن يكون عارفاً بالقرآن، ناسخِه ومنسوخِه، ومجملِه ومحكمِه، وعامِّه وخاصِّه، ومطلقِه ومقيدِه.
وهو المعرفة، بما قصد به بيان الأحكام الحلال والحرام.
فأما ما قصد به أخبار الأولين وقصص النبيين والوعد والوعيد، فلا حاجة به إليه.
وإنما قلنا هذا؛ لأنه قد يكون الأصل الذي يرد الفرع إليه من القرآن، فإذا لم يعرفه لم يمكنه الاجتهاد فيها.
ويحتاج أن يعرف من السنة جملها التي [249/أ] تشتمل الأحكام عليها.
ويعرف أيضاً المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، والعام والخاص للمفتي الذي ذكرناه.
ويحتاج أن يعرف إجماع أهل الأعصار عصراً بعد عصر؛ لأنه [قد] يكون الأصل ما أجمعوا عليه، فيرد الفرع إليه.
ويحتاج أن يعرف من لغة العرب والإعراب ما يفهم عن الله تعالى وعن رسوله معنى خطابهما.
وأن يكون عارفاً باستنباط معاني الأصول والطرق الموصلة إليها ليحكم في الفروع بحكم أصولها.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/390) وروضة الناظر (2/401) والمسودة ص (514) وشرح الكوكب المنير (4/459) وصفة الفتوى ص (14) .(5/1594)
ويكون عارفاً بمراتب الأدلة، وما يجب تقديمه منها.
وإذا كان بهذه الصفة وجب عليه أن يعمل في الأحكام باجتهاده، وحرام عليه تقليد غيره، إلا أن يكون حكماً يجب له أو لغيره، فيحتاج في فصله إلى حاكم يحكم بينهما باجتهاد.
وإذا صار من أهل الاجتهاد بما ذكرنا، لم يجب قبول قوله فيما يفتي به إلا أن يكون ثقة مأموناً في دينه.
فإذا كان بهذه الصفة وجب على العامة الرجوع إلى قوله وقبول فتياه.
وقد نُقل عن أحمد -رحمه الله- ألفاظ في المفتي (1) ترجع إلى ما ذكرنا.
فقال في رواية صالح: "ينبغي على الرجل إذا حملَ نفسَه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن" (2) .
وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة" (3) .
وكذلك نقل حنبل عنه: "ينبغي لمن أفتاه أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي" (4) .
وكذلك نقل يوسف بن موسى: "واجب أن يتعلم كل ما يكلم الناس فيه (5) ".
وقد ذكر أبو حفص بن شاهين في "الجزء الثامن من أخبار أحمد"، فقال:
__________
(1) في الأصل: (المعنى) .
(2) ذكرت هذه الرواية بنصها في المسوَّدة ص (515) وإعلام الموقعين (1/44) .
(3) انظر هذه الرواية بنصها في المسوَّدة الموضع السابق، وإعلام الموقعين (1/45، 4/205) .
(4) انظر هذه الرواية بنصها في المرجعين السابقين.
(5) وردت هذه الرواية بنصها في إعلام الموقعين (4/205) .(5/1595)
حدثنا إسماعيل بن علي (1) حدثنا عبد الله سألت أبي عن الرجل يريد أن يسأل عن الشىء من أمر دينه مما يبتلى به، من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مِصْرِه من أصحاب الرأي، ومن أصحاب الحديث لا يحفظون، ولا يعرفون الحديث الضعيف، ولا الإِسناد القوي فمن يسأل؟ لأصحاب الرأي أو لهؤلاء؟ أعني أصحاب الحديث على ما كان من قدر معرفتهم، قال: "يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من رأي أبي حنيفة" (2) .
وظاهر هذا أنه أجاز تقليدهم، وإنه لم تكمل فيهم الشرائط التي ذكرنا.
وذكر أبو حفص في "تعاليقه" فقال: حدثنا يحيى بن سهل، حدثنا بعض أصحابنا [249/ب] ، حدثنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد الأطروش، قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن المنادي (3) يقول: سألت جدي كم كان يحفظ يحيى ابن معين؟ قال: "زهاء مائتي ألف.
قلت فعثمان أخوه؟ (4) قال: مائة ألف"
__________
(1) هو: إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أبو محمد الخطبي. سمع عبد الله بن الإِمام أحمد والحارث بن أبي أسامة وغيرهما. وروى عنه الدارقطني وابن شاهين.
وثَّقه الدارقطني. ولد سنة (269هـ) ، ومات سنة (350هـ) .
وله ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/118) .
(2) انظر هذه الرواية بنصها في: المسوَّدة الموضع السابق وفي إعلام الموقعين (4/205) وفي آخرها: (ضعيف الحديث خير من الرأي) ولم يذكر الإمام أبا حنيفة -رحمه الله تعالى-.
(3) سمع أباه وجده والصاغاني وغيرهم. وروى عنه أبو عمر بن حَيْوَة ومحمد بن فارس الغوري. ثقة. توفي سنة (336هـ) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/3) .
(4) الضمير في (أخوه) فيما يظهر لي عائد على يحيى بن معين، ولم أجد له أخاً بهذا الاسم. والله أعلم.(5/1596)
وسألت عن أحمد بن حنبل فقال: "سمعت رجلاً يسأله إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ قال: لا. قال: فمائتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاثمائة ألف؟ (1) قال: لا. قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا، وحرَّك يده. فقلت: كم كان يحفظ أحمد بن حنبل؟ قال: أجاب عن ستمائة ألف" (2) .
وظاهر هذا الكلام منه أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره.
وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا.
ويحتمل أن يكون أراد بذلك وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لابد منه فالذي وصفنا.
قال أبو حفص (3) : قال أبو إسحاق (4) : لما جلست في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة فقال لي رجل: "فأنت هو ذا تحفظ هذا المقدار حتى هو ذا تفتي الناس؟! فقلتُ له: عافاك الله، إن كنتُ أنا لا أحفظ هذا المقدار،
فإني هو ذا أفتي الناس بقول من كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه" (5) .
وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يقلِّد أحمد فيما يفتي
__________
(1) كلمة (ألف) مكررة في الأصل.
(2) انظر هذه الرواية في: إعلام الموقعين (1/45) وفي آخرها: (أخذ عن ستمائة ألف) بدل (أجاب) .
وذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة العكبري (2/164) بأخصر مما هنا، ومن رواية العكبري عن أبي إسحاق بن شاقلا.
(3) هو العكبري.
(4) هو: ابن شَاقْلاَ.
(5) ذكر هذا الكلام ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة أبي حفص البرمكي (2/164) وذكره ابن القَيم في كتاب إعلام الموقعين (1/45) .(5/1597)
به؛ لأنه قد نص في بعض "تعاليقه" على كتاب "العلل" الدلالة على منع الفتيا بغير علم:
قوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَاَ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) . وقوله: (فَلِمَ تُحَاجوَن فِيْمَا ليس لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (2) .
وذكر ابن بطة في مكاتباته إلى البرمكي "لا يجوز له أن يفتي بما يسمع ممن (3) يفتى، إنما يجوز أن يقلد نفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا" (4) .
وذكر أبو حفص في "تعاليقه" قال: "سمعت أبا علي الحسن (5) بن عبد الله النجاد (6) يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار (7) يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل، يستند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس بها" (8) .
__________
(1) آية (36) من سورة الاسراء.
(2) آية (66) ص سورة آل عمران.
(3) في الأصل: (من) .
(4) هذه الرواية ذكرها ابن حمدان في كتابه: صفة الفتوى والمفتي ص (26) كما ذكرها ابن النجار في كتابه شرح الكوكب المنير (4/562) بأخصر مما هنا.
ذُكرت في المسوَّدة ص (517) بنصها كما هنا.
(5) هكذا ورد مكبراً. وفي طبقات الحنابلة (2/140) والمنهج الأحمد (2/55) بالتصغير.
(6) الفقيه الحنبلي البربهاري مات سنة (360هـ) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة والمنهج الأحمد، في الموضعين السابقين.
(7) هو: علي بن محمد بن بشار أبو الحسن، الفقيه الحنبلي. روى عن صالح بن أحمد وأبي بكر المروذي. وعنه أبو الحسن أحمد بن مقسم وأبو علي النجاد توفي سنة (313هـ) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/57) والمنهج الأحمد (2/7) .
(8) هذه الرواية مذكورة بنصها في: طبقات الحنابلة (2/63، 142) والمنهج الأحمد (2/11، 56) والمسودة ص (517) وشرح الكوكب المنير (4/562) .(5/1598)
وهذا منه مبالغة (1) .
وذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الرد على من أفتى في الخلع" أنبأنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء، حدثنا أبو نصر عصمة بن أبي عصمة (2) ، حدثنا العباس بن الحسين العيطوي حدثنا محمد بن الحجاج قال: كتب أحمد بن حنبل -رحمه الله- عني كلاماً، قال العباس وأملاه علينا قال: "لا ينبغى للرجل أن ينصب نفسه، يعني للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال.
أما أولها: أن تكون له نية، فإنه إن لم تكن له نية [250/أ] لم يكن على كلامه نور، ولم يكن عليه نور.
وأما الثانية: فيكون له حلم ووقار وسكينة.
وأما الثالثة: فيكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته.
وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مَضَغَه الناس.
والخامسة: فمعرفة الناس" (3)
ورأيت في أخبار بِشْر بن الحارث رواية أبي عبد الله محمد بن مُخْلِد
__________
(1) في المسوَّدة الموضع السابق زيادة: (في فضله) منسوبة إلى المؤلف.
(2) العكبري. كنيته أبو طالب على ما في الطبقات، وكناه المؤلف هنا بأبي نصر.
وهو من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه كثيراً من المسائل. روى عنه أبو حفص عمر بن رجاء وغيره. مات سنة (244هـ) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/246) .
(3) ذكر هذه الرواية ابن القيَّم في كتابه إعلام الموقعين (4/199) وعلق عليها تعليقاً نفيساً، وحري بطالب العلم أن يطلع عليه.
وقد نقلها بسنده عن ابن بطة ابن أبي يعلي في طبقاته في ترجمة أبي حفص عمر بن محمد بن رجاء العكبري - أحد المذكورين في سند المؤلف (2/57) .(5/1599)
العطار (1) قال: حدثني عيسى بن جعفر أبو موسى الوراق (2) قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- وذاكره دُحَيم (3) بالأصول عن النبي -عليه السلام- قال أحمد - رضي الله عنه -: "أما الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي فينبغي أن تكون ألفاً أو ألفاً ومائتين" (4) .
وهذه الرواية تؤيد صحة التأويل لقول أحمد -رحمه الله- "لا يفتي [إلا] وقد حفظ مائة ألف ومائتي ألف"، على طريق الاحتياط؛ لأنه قد حَرَّر الأخيار التي يدور عليها العلم، يعني الحلال والحرام، بألف أو ألف ومائتين.
__________
(1) هو: محمد بن مُخَلِد بن حفص أبو عبد الله الدوري العطار صاحب بعض تلاميذ الإمام أحمد، منهم صالح بن الإِمام أحمد وأبو داود السجستاني. حدث عنه الدارقطني وابن شاهين. ثقة مأمون ولد سنة (283هـ) ومات سنة (331هـ) له ترجمة في: طبقات الحنابلة (2/73) وتاريخ بغداد (3/310) وطبقات الحفاظ ص (344) .
(2) الصفدي من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه بعض المسائل. سمع شبابة ابن سوار وشجاع بن الوليد وغيرهما. وروى عنه يحيى بن صاعد ومحمد بن مخلد وغيرهما. مات سنة (272) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/247) .
(3) هو: عبد الرحمن بن إبراهيم أبو سعيد الدمشقي، المعروف بدُحَيم. روى عن الإِمام أحمد ومعروف الخياط وخلق. وعنه الإمام البخاري وجماعة. قال فيه الإِمام أحمد: "عاقل ركين". وقال أبو داود: "حجة، لم يكن بدمشق في زمنه مثله". توفى سنة (245) .
له ترجمة في: تاريح بغداد (10/265) وتذكرة الحفاظ (2/480) وطبقات الحفاظ ص (208) وطبقات الحنابلة (1/204) .
(4) ذكرت هذه الرواية في: المسوَّدة ص (516) وشرح الكوكب المنير (4/561) .(5/1600)
فصل
وأما صفة المستفتي
فهو العامي الذي ليس معه ما ذكرنا من آلة الاجتهاد (1) .
وذكر أبو حفص في كتاب "أخبار أحمد" -رحمه الله- عن إسماعيل ابن علي عن عبد الله قال: "سألت أبي عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة، فيها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإِسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء، ويتخيَّر ما أحب منها، فيفتى به ويعمل به، قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم" (2) .
وظاهر هذا أن فرضه التقليد والسؤال، إذا لم تكن له معرفة بالكتاب والسنة.
وقال قوم من المعتزلة البغداديين: لا يجوز للعامي أن يقلد في دينه، ويجب عليه أن يقف على طريق الحكم. وإذا سأل العالِم، فإنما يسأله أن يعرِّفه طريق
__________
(1) راجع هذا الفصل في: روضة الناظر (2/450) والمسودة ص (517) وشرح الكوكب المنير (4/539) وإعلام الموقعين (4/219) وصفة الفتوى ص (68) .
(2) ذكرت هذه الرواية في: المسوَّدة ص (517) وصفة الفتوى ص (26) وإعلام الموقعين (4/206) .(5/1601)
الحكم، وإذا عرفه ووقَفَ عليه عَمِلَ به (1) .
وهذا غير صحيح؛ لقوله تعالى: (فَاسْألوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بَالْبَيناتِ وَالزُّبُرِ) (2) .
وقول النبي -عليه السلام-: (ألا تسألوا إذْ لم تعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال) (3) .
__________
(1) نقل ذلك عنهم أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/934) .
(2) آية (43-44) من سورة النحل.
(3) هذا الحديث رواه جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: في المجروح يتيمم (1/239) ولفظه: (قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشَجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه به فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخْبِر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويَعْصِر، أو يَعْصبِ -شك موسى- على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده) .
وأخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب: جواز التيمم لصاحب الجرح ... (1/190) ثم قال بعد ذلك: (لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خُريْق، وليس بالقوي.
وخالفه الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل: بلغني عن عطاء، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصواب) .
ورواه ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه أبو داود في الموضع السابق.
وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب: في المجروح تصيبه الجنابة (1/189) . =(5/1602)
ولأنه ليس من أهل الاجتهاد، فكان فرضُه التقليد كالأعمى في القبلة؛ فإنه لمَّا لم يكن معه آلة الاجتهاد في القبلة، كان عليه تقليد البصير فيها.
والحاكم إذا لم يكن معه حكم القِيافة وقِيَم المتلفات، قلَّد فيها من هو من أهل العلم والبصر فيها.
فأما قولهم [250/ب] إنه يقف على طريق الحكم.
فالجواب: أنه لا سبيل إلى الوقوف على ذلك إلا بعد أن يتفقه سنين.
ونرى من تفقه المدة الطويلة، ولا يتحقق طريق القياس، ولا يعلم ما يصححه وما يفسده، وما يوجب تقديمه على غيره.
وفي تكليف ذلك العامة تكليف ما لا يطيقونه، ولا سبيل لهم إليه.
__________
= وأخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق.
وأخرج عنه الدارمي في كتاب الطهارة، باب: المجروح تصيبه الجنابة (1/157) .
والحديث ضعفه البيهقي والدارقطني وابن حجر، وإن صححه ابن السكن
انظر: سنن البيهقي الموضع السابق وسنن الدارقطني الموضع السابق أيضاً، والتلخيص (1/147) وإرواء الغليل (1/142) .(5/1603)
مسألة
[الاستحسان]
قد أطلق أحمد -رحمه الله- القول بالاستحسان في مسائل (1) .
فقال في رواية صالح في المضارِب، إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال: "فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنتُ أذهبُ إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" (2) .
وقال في رواية الميموني: "استحسنُ أن يتيمم لكل صلاة، ولكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى يُحْدِث، أو يَجِدَ الماء" (3) .
وقال في رواية المروذي: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف يشترى ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، ولكن هو.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/87) وروضة الناظر (1/407) ، والمسوَّدة ص (451) والبُلْبُل ص (143) وشرح الكوكب المنير (4/427) .
(2) نصّ الرواية في مسائل الإِمام أحمد رواية ابنه صالح (1/448) يختلف عما هنا، حيث جاء فيها: (وسألته عن المضارب إذا خالف؟ قال: بمنزلة الوديعة عليه الضمان، والربح لرب المال إذا خالف، إلا أن المضارب أعجب إليَّ أن يعطي بقدر ما عمل) .
وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (199) : (سمعت أحمد سئل عن المضارب إذا خالف؟ قال: يختلفون فيه) .
ونص الرواية في المسوَّدة ص (452) وبدائع الفوائد لابن القيِّم (4/124) كما ذكر المؤلف.
(3) وردت هذه الرواية بنصها في التمهيد (4/87) والمسودة ص (451) وشرح الكوكب (4/427) .(5/1604)
استحسان.
واحتج: بأن أصحاب النبي -عليه السلام- "رخَّصوا في شَرْي المصاحف، شَرْي المصاحف، وكرهوا بيعها" (1) .
وهذا يشبه ذلك.
وقال في رواية بكر بن محمد -فيمن غصب أرضاً فزرعها-: "الزرعُ لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشىء يوافق القياس، استحسنُ أن يدفع إليه نفقته" (2) .
ونقل أبو طالب عن أحمد -رحمه الله- أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئاً خلاف القياس، قالوا: نستحسنُ هذا وندع القياس، فيَدَعون الذي (3) يزعمون أنه الحق بالاستحسان، وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاء، ولا أقيس عليه" (4) .
وظاهر هذا: إبطال القول بالاستحسان.
وقد أطلقه أصحاب أبي حنيفة في مسائل (5) .
واعترض عليهم أصحاب الشافعي، وحملوا ذلك على أنهم قالوا ذلك على طريق الشهوة والهوى، من غير حجة (6) .
__________
(1) سبق تخريج هذه الرواية، وتخريج الأثر المحتج به.
(2) انظر هذه الرواية بنصها في: التمهيد (4/87) والمسودة ص (452) وشرح الكوكب (4/427) .
(3) في الأصل: (الدين) .
(4) انظر هذه الرواية بنصها في المراجع السابقة.
(5) انظر بيان رأي الحنفية في: تيسير التحرير (4/78) وأصول السرخسي (2/199) وكشف الأسرار للنسفي (2/290) وفواتح الرحموت (2/320) .
(6) قال الإِمام الشافعي -فيما نقله الغزالي في المستصفى (1/274) : (من استحسن فقد شرَّع) . =(5/1605)
ونحن نبين صحة هذه العبارة، ونوضح الغرض منها، ونقيم الحجة عليها.
فالدليل (1) على صحة هذه العبارة: وجود استعمالها في الكتاب والسنة وإطلاق من تقدم من علماء السلف وفقهاء الأمصار.
أما الكتاب: فقوله تعالى: (فَبَشر عِبَادِ الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَبِعُونَ أحْسَنَهُ أوْلَئِكَ الذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الألبَابِ) (2) .
والسنة: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما رآه المسلمون حسناً، فهو [251/أ] عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً، كان عند الله سيئاً) .
وروي مثله عن ابن مسعود (3) .
وأما إطلاق ذلك من السلف وفقهاء الأمصار: فما روي عن إياس بن معاوية (4) أنه كان يقول: "قيسوا للقضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا" (5) .
__________
= ولكنَّ المتأخرين من أصحابه - كما يقول الشيرازي في شرح اللُّمع (2/973) ، يقولون بالاستحسان، وهو عندهم: "ترك أضعف الدليلين لأقواهما، وقد يكون بدليل النص، وقد يكون بالإجماع، وقد يكون بالقياس، وقد يكون بالاستدلال بالنص".
وانظر: الرسالة ص (503) والأم (7/294) والتبصرة ص (492) .
(1) في الأصل: (بالدليل) .
(2) آية (17-18) من سورة الزمر.
(3) يعني موقوفاً على ابن مسعود - رضي الله عنه - قلتُ: وهو الصواب.
(4) هو: إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني، أبو واثلة البصري. روى عن أنس وسعيد بن المسيب وغيرهما وعنه حميد الطويل وشعبة وغيرهما ثقة يضرب به المثل في الذكاء والفطنة. كان قاضياً على البصرة توفى سنة (122هـ) .
له ترجمة في: أخبار القضاة (1/312) وتهذيب التهذيب (1/390) .
(5) قول إياس هذا ورد بنصه في أخبار القضاة (1/341) والتمهيد (4/91) .(5/1606)
وكتُبُ مالك بن أنس مشحونة بذكر الاستحسان في المسائل (1) .
وقد قال الشافعي "استحسنُ أن تكون المتعةُ ثلاثين درهماً" (2) .
فإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه العبارة صحيحة.
وأما الغرض في إطلاق هذه العبارة فهو: ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه (3) .
وقيل: هو أولى القياسين.
والحجة التي يرجع إليها في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة.
والاستدلال يرجح شَبَهَ بعض الأصول على بعض.
__________
(1) معنى هذا الكلام منقول عن القاضي عبد الوهاب المالكي.
انظر: المسوَّدة ص (451) وشرح الكوكب المنير (4/428) .
والاستحسان في مذهب مالك -كما يقول الشاطبي في الموافقات (4/205) - (الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي. ومقتضاه: الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس) .
(2) المراد بالمتعة هنا متعة الطلاق، التي وردت في قوله تعالى: (لاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلقْتُمُ النسَاءَ مَالم تَمَسوهُن أو تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَريضَةً وَمَتعُوهُن عَلَى المُوسِع قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِر قَدَرُهُ ... ) البقرة (236) .
انظر: أحكام القرآن للإمام الشافعي (1/201) والأم (7/255) .
وقول الشافعي هنا نقله عنه الآمدي في الإحكام (4/136) .
(3) ولم يرتض أبو الخطاب تعريف شيخه هذا، فقد قال بعد نقله: (وهذا ليس بشىء وعلل ذلك بقوله: (لأن الأحكام لا يقال بعضها أولى من بعض، ولا بعضها أقوى من بعض، وإنما القوة للأدلة ... ) .
ثم قال بعد ذلك: (الذي يقتضيه كلام صاحبنا أن يكون حد الاستحسان: العدول عن موجب القياس، إلى دليل أقوى منه) . =(5/1607)
فمما قلنا بالاستحسان فيه لاتباع الكتاب: شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلماً لقوله تعالى: (شَهَادَةُ بَيْنِكُم إذَا حَضَرَ أحَدَكُم الْمَوْتُ حِيْنَ الْوَصَيةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَأصَابَتْكُم مصيبَةً الْمَوْتِ) (1) الآية.
ومما قلنا فيه بالاستحسان بالسنة: فيمن غصب أرضاً وزرعها، فالزرع لرب الأرض، وعلى صاحب الأَرْض النفقة لصاحب الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من زرع في أرض قوم، فالزرع لرب الأرض، وله نفقته) (2)
__________
= ثم علل أن ذلك هو مقتضى كلام الإمام أحمد بقوله: (لأنه لم يرد لفظه إلا في أنه يترك القياس للاستحسان، فأما في دليل آخر فلم يرد) .
انظر التمهيد (4/93) .
وهذا مقتضى الروايات التي نقلت عن الإمام أحمد، فإنه قد كان ينبه إلى أن قوله خلاف القياس، فيجيب بقوله: القياس كما تقول، ولكن قلنا بالاستحسان.
وقد يكون مستنده قول صحابي في المسألة كما في مسألة: بيع المصحف.
والله أعلم.
(1) آية (106) من سورة المائدة.
(2) هذا الحديث رواه رافع بن خديج - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع والاجارات، باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها (3/692) رقم الحديث (3403) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب: فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم (3/639) رقم الحديث (1366) .
وقال: (حديث حسن غريب) .
وقال: (سألت محمد بن إسماعيل [يعني البخاري فقال: هو حديث حسن) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب من المزرع في أرض قوم بغير إذنهم (2/824) رقم الحديث (2466) . =(5/1608)
وإن كان القياسُ أن يكون الزرعُ لزارعه.
ومما قلنا فيه بذلك للإجماع: جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات، وبأن القياس أن لا يجوز ذلك، لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، وهي الوزن، إلا أنهم استحسنوا فيه الإجماع.
فإن قيل: فما الفرق بين المستحسن وبين المشتهى؟ وهلا أجزتم إطلاق المشتهى على ما سميتموه مستحسناً؟.
قيل: الفرق بينهما: أن الشهوة لا تتعلق بالنظر والاستدلال.
ألا ترى أنها لا تختص من كمل عقله وعرف الأصول وطرق الاجتهاد في أحكام الشريعة، دون من ليست هذه صفته.
وأما الاستحسان: فإنه يختص النظر والاستدلال على حسب ما بينَّا.
يُبَيِّن صحة الفرق بينهما: أنه قد يصح وصف الشىء بأنه مستحسن عند الله، ولا يصح وصفه بأنه مشتهى عنده، تعالى الله على أن يوصف بذلك.
__________
= وأخرجه البيهقي في كتاب المزارعة، باب: من زرع في أرض غيره بغير إذنه (6/136) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/465) و (4/141) .
وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني في كتابه إرواء الغليل (5/351) لأن في إسناده ثلاث علل.
الأولى: الانقطاع بين عطاء ورافع.
الثانية: اختلاط أبي إسحاق السبيعي وعنعنته.
الثالثة: ضعف شريك بن عبد الله القاضي.
ولكن كثرة شواهده هي التي جعلته يرقي إلى درجة الحسن، كما يقول الترمذي والبخاري.
وانظر: التلخيص الحبير (3/54) .(5/1609)
فإن قيل: لا يخلو القول بالاستحسان من أن يكون عن حجة أو عن غير حجة.
فإن كان عن [251/ب] حجة، فلا فرق إذاً بينه وبين القياس.
وإن كان عن غير حجة فهو مردود.
قيل: قد بينا أنه قول بحجة، وأنه أولى القياسين، إلا أنهم سموه استحساناً، ليفصلوا بهذه التسمية بينه وبين ما لم يكن معدولاً إليه لكونه أولى مما عدل إليه عنه.
فإن قيل: فإذا كان الاستحسان أقوى الدليلين، فيجب أن يكون مذهبكم كله استحساناً؛ لأن كل مسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فإنه قد ذهبتم فيه إلى أقوى الدليلين عندكم.
قيل: الاستحسان أقوى الدليلين فيما حكمنا فيه بصحة كل واحدٍ من الدليلين، ومسائل (1) الخلاف بين الفقهاء لا نحكم بصحة أدلة مخالفنا، بل نعتقد فسادها؛ فلهذا لم نطلق اسم الاستحسان على جميع ذلك.
مسألة
لا يجوز أن يقال في الحادثة الواحدة بقولين في وقت واحد (2) .
وما نقوله من ذكر الروايتين، فهو محمول على أنه قاله (3) في وقتين، كالخبرين، على ما نبينه.
وقد أطلق الشافعي القولين في المسألة الواحدة في وقت واحد في مواضع
__________
(1) في الأصل: (المسائل) .
(2) راجع هذه المسألة في تهذيب الأجوبة لابن حامد ص (100) : التمهيد (4/357) وروضة الناظر (2/434) والبُلْبُل ص (179) والمسودة ص (450، 534) وشرح الكوكب المنير (4/493) .
(3) في الأصل: (قال) .(5/1610)
من كتبه (1) .
فالدلاله على منع هذا الإطلاق أشياء، منها:
أن الصحابة تكلمت بالفقه، وكثرت، فلم تحك عن واحد منهم أن المسألة على قولين؛ فمن أحدث هذا فقد خالف الإجماع.
فإن قيل: فالصحابة لم يفرعوا (2) ، كما فرَّع (3) غيرهم.
قيل: قد فرَّعوا (5) .
قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلاً على فاحشة، أكنت تقيم عليه الحد؟ قال: لا، حتى يكون معي غيري) (5) .
وهذا تفريع؛ لأنه سأله عما لم يوجد.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو) .
وهذا تفريع.
ولأن قوله: فيها قولان، لا يخلو: إما أن يحكي مذهب غيره، أو مذهب نفسه.، أو أن الدليل ما دلّ إلا على هذين القولين، وما عداهما باطل.
فبطل أن يحكي مذهب غيره لوجوه:
__________
(1) لم يرتض هذا الإطلاق الشيرازي في كتابيه التبصرة ص (511) وشرح اللُّمع (2/1075) وحمل ما نقل عن الإمام الشافعي في هذا الباب على وجه مرضي.
وبين أنه لا يجوز أن يعتقد صحة القولين، بل الصحيح واحد منهما.
وقد أطال تاج الدين السبكي الكلام فيها في الإبهاج (3/215) وشدد النكير على من عاب ذلك على الإمام الشافعي.
(2) في الأصل: (لم يفزعوا) والصواب ما أثبتناه بدليل ما يأتي.
(3) في الأصل: (فزع) والصواب ما أثبتناه بدليل ما يأتي.
(4) في الأصل: (فزعوا) والصواب ما أثبتناه بدليل ما يأتي.
(5) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الشهادات، باب: ليس للقاضي أن =(5/1611)
أحدهما: أن قول غيره أكثر من قولين، فما استوفى الخلاف.
ولأنه لو كان حاكياً مذاهب الغير لزمه أن يسمى كتابه كتاب الخلاف، وما سماه بذلك.
ولأنه إذا كان حاكياً مذهب غيره فما أضاف مذهباً إلى نفسه، فلا قول له فيها، وما قصد هذا.
ولأنه حكى قولين فيما لم يعرف فيه قول لغيره، فبطلت الحكاية.
وبطل أن يحكيهما قول نفسه؛ لأن الشىء الواحد لا يكون في [252/أ] حالة واحدة حلالاً حراماً، ولا موجوداً معدوماً، ولا واجباً ندباً.
وبطل أن يقال: ما دلَّ الدليل إلا على هذين؛ لأن الدليل الذي دل عليها لا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يتقاوم الدليلان عنده ويتقابلا، أو يُرجح أحدُهما.
فبطل التقاوم؛ لأن أدلة الشرع لا تتقاوم؛ لأن في تقاومها [ما] يفيد إحلال حرام.
__________
= يعمل [بعلمه] (10/144) بلفظ: (أن عمر بن الخطاب قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلاً قتل أو سرق أو زنى؟ قال: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال: أصبت) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الشهادات، باب: شهادة الإمام (8/340) بمثل لفظ البيهقي.
وأخرجه ابن أبي شيبة، حكى ذلك الحافظ في الفتح (3/159) ولفظه قريب من لفظ المؤلف. وسنده منقطع كما يقول الحافظ.
وعلقه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام، باب: الشهادة تكون عند الحاكم الفتح (13/159) .
وتعليق البخاري هنا بالجزم لا يدل على صحته.
قال الحافظ: (وهذا من المواضع التي ينبه عليها من يغتر بتعميم قولهم: إن التعليق =(5/1612)
وبطل أن يُرجح أحدُهما؛ لأنه إذا رجح سقط الآخر، فلا يكون فيها قولان.
فلم يبق إلا أن القول بالقولين باطل.
ولأن القول بالقولين لا يخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن يكونا صحيحين، أو باطلين، أو أحدهما صحيحاً والآخر باطلاً.
فبطل أن يكونا صحيحين؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشىء الواحد حلالاً حراماً.
وبطل أن يكونا عنده باطلين؛ لأنهما لو كان كذلك ما حكاهما.
وبطل أن يكون أحدُهما صحيحاً؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لما حكى قولين.
وإذا بطل الكل، بطل القول بالقولين.
ولأنه إذا قال: فيها قولان، لا يخلو من أحد أمرين:
أما أن يعلم أن أحدهما صحيح، أو يجهل ذلك.
فإن كان يعلم أن الصحيح أحدهما، فلا يحل له أن يكتمه لقوله تعالى: (إن الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنزلْنَا مِنَ الْبيناتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيناهُ لِلناسِ في الْكِتَابِ أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُم اللاعِنُونَ) (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) (2) .
__________
= الجازم صحيح، فيجب تقييد ذلك بأن يزاد: "إلى من علق عنه" ويبقى النظر فيما فوق ذلك.
وانظر: تغليق التعليق (5/298) والتلخيص الحبير (4/197) كلاهما للحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى.
(1) آية (159) من سورة البقرة.
(2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.(5/1613)
وإن كان جاهلاً بذلك، فما كان يحل له أن يحكيه لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1) .
وقال تعالى: (وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (2) .
فلم يبق إلا أن القول باطل.
فإن قيل: ذكر القولين ليعلم أصحابه طرق الاجتهاد، واستخراج العلل، وبيان ما يصححها ويفسدها؛ لأنه يحتاج إلى أن يبين طريق الأحكام، فكانت فائدة ذكر القولين هذا، دون أن يكون القولان مذهباً له.
قيل: لو كان كذلك لوجب أن يحكي جميع الخلاف في ذلك، فيحصل التحريض والتجريح، وقد حكى في مسألة قولين وفيها أقوال.
فإن قيل: أراد التخيير بين القولين؛ لأنه لم يظهر له مزيَّة لأحدهما على الآخر.
قيل: هذا يفضي إلى أن يتقاوم الدليلان ويتقابلا، وأدلة الشرع لا تتقاوم؛ لأن في تقاومها [ما] يفيد إحلال حرام، وهذا لا يجوز.
فإن قيل: إذا ذَكَر القولين ولم يبين الحق منهما، فقد أفاد بذكرهما أن ما عداهما باطل عنده، وأن الحق أحدهما.
__________
= أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب: كراهية منع العلم (4/67) حديث رقم (3658) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب: ما جاء في كتمان العلم (5/29) حديث رقم (2649) وقال: (حديث حسن) .
وأخرجه ابن ماجة في مقدمة سننه، باب: من سئل عن علم فكتمه (1/96) حديث رقم (261) .
(1) آية (36) من سورة الإسراء.
(2) آية (169) من سورة البقرة.(5/1614)
قيل: [252/ب] فإذا كان الحق أحدهما، فلا يجوز أن يطلق القول فيهما؛ لأن الإطلاق يمنع تعلق الحق في أحدهما، ولا يجوز أن يطلق لفظاً من غير معنى [فذلك] فاسد، وإن لم يرد به ما يقتضيه ظاهره، كما لا يجوز أن يعتقد صحة ذلك المعنى.
ألا ترى أن من ليس في تقيَّة، لا يجوز له أن يظهر كلمة الكفر، وإن لم يرد بها ما يقتضيه ظاهرها، كما لا يجوز له أن يعتقد ما يبين ظاهرها عنه.
وإذا كان كذلك، واتفقنا على فساد اعتقاد ما أطلقه من القولين المتضادين في المسألة الواحدة في الوقت الواحد، وجب أن يكون إطلاقه ذلك فاسداً، وإن لم يرد به ما يقتضيه ظاهره.
فإن قيل: فالخبر عما هو متوقف فيه حسن مفيد.
قيل: الخبر عما هو متوقف فيه حسن إذا كان اللفظ لا يُنبىء عن معنى فاسد، وقد بينَّا أن هذا يُنبىء إطلاقه عن معنى فاسد، فلم يصح.
فإن قيل: أمور الناس محمولة على الصحة والسلامة، فوجب أن يحمل ما ذهب إليه الشافعي في ذلك على وجه يجوز حمله عليه دون ما لا يجوز.
قيل: لو جاز هذا الاعتبار لوجب أن تحمل كل لفظة منكرة الظاهر على وجه يصح حملها عليه، ولا يكون المتكلم بها ممنوعاً من إطلاقها.
فكان يجوز للقائل أن يقول "لا إله" ويسكت على ذلك، فيكون ذلك محمولاً على أنه إنما أراد به "لا إله إلا الله".
وكذلك، إذا قال: (وَيْل لِلْمُصَلينَ) (1) وسكت عليه يجب أن يحمل على أنه إنما أراد به (المُصَلينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ) .
__________
(1) آية (4) من سورة الماعون.(5/1615)
فإن قيل: أليس قد جعل عمر - رضي الله عنه - الأمر شورى في ستة (1) ، ولم ينص على واحد مما أنكرتم مثله هاهنا.
قيل: عمر لم يقل إن الإمام فلان وفلان، كما قال الشافعي -رحمه الله- في المسألة قولان وأكثر من ذلك، فكيف يشتبهان؟!.
فإن قيل: فقد دخل أحمد -رحمه الله- فيما أنكرتموه على الشافعي، فإنه رُوي عنه في مسِّ الذكر روايات (2) ، وفي غيرها الروايتان والثلاث (3) .
قيل: الروايتان لم يقلهما أحمد في حال واحد، فيؤدي ذلك إلى أن يكون
__________
(1) آية (4) من سورة الماعون.
(2) الستة هم: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص.
فقد جعل عمر - رضي الله عنه - الخلافة في واحد من هؤلاء، وعلل ذلك بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو راضٍ عنهم.
أخرج هذا البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- من حديث طويل.
انظر: فتح الباري (3/256) رقم الحديث (1392) .
(2) للإمام أحمد -رحمه الله- في نقض الوضوء من مس الذكر روايات كثيرة، ذكر منها ابن قدامة في كتابه الكافي (1/44) ثلاث روايات هي:
الأولى: ينقض مطلقاً، وهي أصح.
الثانية: لا ينقض مطلقاً.
الثالثة: ينقض إذا كان قاصداً للمس.
وهناك روايات أخرى انظرها في: مسائل الإِمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/59) ومسائله رواية ابنه صالح (1/170) ومسائله رواية أبي داود ص (12) ومسائله رواية ابن هانىء (1/16) والروايتين والوجهين للمؤلف (1/84) وتهذيب الأجوبة للحسن بن حامد ص (100) والمغني (1/240) طبعة هجر، والإنصاف (1/202) .
(3) في الأصل: (الروايتين والثلاثة) .(5/1616)
الشىء الواحد حلالاً حراماً، وإنما قال ذلك في وقتين مختلفين، رجع عن الأول منهما.
ولو علمنا المتأخر منهما صرنا إليه، وجعلناه رجوعاً عن الأول.
فلما لم نعرف المتقدم من المتأخر، جعلنا الحكم فيها مختلفاً [253/أ] ؛ لأنه ليس تقديم أحدهما أولى من تأخيره؛ ولهذا قلنا -في مسائل عرفنا الثاني من قوله فيها-: إنه رجوع عن الأول.
من ذلك قوله في رواية ابن إبراهيم: "إذا رأى الماء في الصلاة يمضي فيها، ثم تبينتُ، فإذا الأخبار: إذا رأى الماء يخرج من صلاته" (1) .
ونقل أبو زرعة (2) عنه: "كنتُ أتهيبُ أن أقول: لا تبطل صلاة من لم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تبينتُ، فإذا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة، فمن تركها أعاد الصلاة" (3) .
__________
(1) المذهب أنه إذا رأى الماء فيها بطلت صلاته، وعليه أن يتوضأ ثم يصلي. وهناك رواية ثانية: أنه يمضي في صلاته.
والأصحاب في رواية ابن إبراهيم هذه والمروذي التي سيذكرها المؤلف فريقان: الأول: أخذ برجوعه عن الرواية الأولى، ورأى أن صلاته باطلة.
الثاني: أثبت الروايتين؛ لأنهما صادرتان عن اجتهادين في وقتين، فلا تنقض إحداهما بالأخرى.
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (1/238) ، والمغني (1/347) طبعة هجر، والانصاف (1/298) .
(2) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله النصري الدمشقي. وقد سبقت ترجمته.
(3) الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ركن في المذهب، واختاره أكثر الاصحاب، وعلل بعضهم ذلك برجوع أحمد عن القول الأول إلى الثاني.
وعنه: رواية ثانية: أنها واجبة.
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية صالح (1/379) والإنصاف (2/116) .(5/1617)
وقال قوران (1) رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة وقال: "يعطى كل واحد منهم نصف صاع" (2) ، وقال: لا يحكى عن أبي عبد الله.
وقال إسحاق بن إبراهيم: رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة في الزكاة وقال: "يضم الذهب إلى الفضة وتزكى" (3) . و"كذلك الحنطة إلى الشعير" (4) .
وهذا ظاهر كلام أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز، وأن ذلك رجوع عن الأول، وذكرا ذلك في مواضع من كتبهما.
فمن ذلك:
ما رواه مهنا عنه أنه كره العقيقة يوم سابعه، فقال: "ذلك قول قديم، والعمل على ما رواه حنبل عنه وغيره" (5) .
__________
(1) هكذا رسمت هذه الكلمة والذي يظهر لي أنها اسم علم بدلالة ما بعدها، ولم أجد أحداً من أصحاب الإمام أحمد اسمه يشابه رسم الكلمة.
(2) هذه المسألة متعلقة بتوزيع صدقة الفطر على المساكين.
انظر: مسائل الإِمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/587) والإنصاف (3/175) .
(3) أشار المؤلف إلى هذه الرواية في كتابه: الروايتين والوجهين (1/241) والضم هو الصحيح من المذهب. وعليه أكثر الأصحاب.
وهناك رواية أخرى: أنه لا ضم.
انظر: الإنصاف (3/135) .
(4) أشار المؤلف إلى هذه المسألة في كتابه السابق (1/240) .
وهناك روايات ثلاث في المسألة:
الأولى: تضم الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب.
الثانية: لا تضم.
الثالثة: تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض.
انظر: المرجع السابق والإنصاف (3/96) .
(5) فإن ذبح العقيقة يوم السابع أفضل. =(5/1618)
ونقل أبو الحارث: (إذا لم يجد إلا الثلج مسح به أعضاء الوضوء، ولا يعيد) .
فقال: كان ذلك من أبي عبد الله في ذلك الوقت، والعمل على ما رواه المروذي (1) .
فهذا كلام أبي بكر الخلال.
وكذلك لصاحبه أبي بكر عبد العزيز في مواضع منها:
ما رواه ابن منصور عن أحمد -رحمه الله- "يستحلف في حد القذف"، فقال: قول قديم، والعمل على ما رواه حرب وصالح: "لا يمين في شىء من الحدود" (2) .
__________
= وإن ذبحها بعد الولادة وقبل السابع جاز.
وذكر ابن البنا أنه يذبح إحدى الشاتين يوم الولادة والأخرى يوم السابع.
وما رواه حنبل هنا هو ما رواه صالح عن أبيه في مسائله (2/208) .
وانظر: الإنصاف (4/110) .
(1) نص ابن قدامة في كتابه المغني (1/30) طبعة هجر: أن الطهارة لا تحصل بمرور الثلج على الأعضاء؛ لأن الواجب الغسل، وأقل ذلك أن يجري الماء على العضو.
(2) هذه المسألة فيها روايتان.
الأولى: لا يستحلف، لأنه حد، والحدود لا يشرع فيها اليمين. ولا يُعلم في هذا خلاف، كما يقول ابن قدامة.
وهذا مقتضى ما رواه عبد الله في مسائله (3/1272) وما رواه صالح في مسائله (1/212) عن أبيهما الإمام أحمد.
ونص الرواية عندهما: (سمعت أبي: سئل عن رجل افترى على رجل، ولم تكن له بينة استحلفه؟ قال: لا. قلت: وكذلك الحدود كلها؟ قال: اختلف الناس في ذلك) .
الثانية: يستحلف؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولكن اليمين على(5/1619)
ونقل المروذي عنه فيمن قال: "يا لوطي، يسأل عما أراد، فإن قال: إنك من قوم لوط حُد، فهو قول قديم، والعمل على ما رواه مهنا وغيره: أن عليه الحد" (1) .
ومن أصحابنا من حمل ذلك على ظاهره، ولم يسقط أحدهما بالآخر؛ لأنه لا يعلم المتقدم منهما إلا بالتاريخ (2) .
فإن قيل: فقد قال في موضع واحد في المسألة الواحدة قولين.
نقل ذلك أبو الحارث عنه: "إذا أخرت المرأةُ الصلاة في آخر وقتها، فحاضت قبل خروج الوقت ففيها قولان:
أحدهما (3) : لا قضاء عليها؛ لأن لها أن تؤخر إلى آخر الوقت.
__________
= المدعي عليه)
ولأنه حق آدمي فيستحلف فيه كالدين.
انظر: المغني (8/236) طبعة المنار الثالثة.
(1) إذا فسر القائل: "يا لوطي" بأنه أراد: إنك من قوم لوط ففيه ثلاث روايات: الأولى: أنه يحد، ولا يسمع تفسيره بما يخرج العبارة عن القذف. نقل هذا جماعة عن الإمام أحمد؛ لأنها صريحة في القذف. ولعدم وجود من يُنْسَب إليه من قوم لوط.
الثانية: أنه لا يحد؛ لأنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد كما لو كان الكلام متصلاً.
قال ابن قدامة: (نقلها المروذي) . وهي التي أشار إليها المؤلف، وجعلها من رواية مهنا.
الثالثة: إن قالها في حال الغضب فيحد؛ لأن الغضب قرينة على إرادة القذف.
انظر: المغني (8/221) طبعة المنار الثالثة والإنصاف (10/210) .
(2) انظر: تهذيب الأجوبة ص (100) والتمهيد (4/370) والروضة (2/436) والمسودة ص (527) وشرح الكوكب المنير (4/494) .
(3) في الأصل: (احداهما) . =(5/1620)
والقول الآخر: أن الصلاة قد وجبت عليها بدخول وقتها فعليها القضاء، وهو أعجب القولين إليّ".
وكذلك نقل الفضل بن زياد عنه في هذه المسألة.
ونقل أبو داود عنه [253/ب] في البكر إذا استحيضت: عندنا فيه قولان: أن تقعد أدنى الحيض يوماً، ثم تغتسل وتصوم وتصلي.
أو تقعد أكثر حيض النساء ستاً أو سبعاً.
قلت لأحمد -رحمه الله-: فما تختار أنت؟ قال: "من قال يوماً، فهو احتياط" (1) .
__________
(1) تكملة الرواية -كما في مسائل أبي داود ص (22) -: (فإذا عرفت أيامها، واستقامت عليه قضت ما كانت صلت في هذه الأيام دون حيضها) .
ثم ذكر بعد ذلك رواية عن الإمام أحمد هي: (سمعت أحمد مرة أخرى سئل عن هذه المسألة قيل له: فيمن تستحاض أول مرة؟ فقال: قالوا، ثم اقتصر المسألة بمعناه. قال السائل: فما تختار أنت؟ قال: قالوا هذا وهذا. قال: فبأيهما أخذتُ فهو جائز؟ قال نعم، ومن قال يوم فهو احتياط) .
وقد ذكر أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/365) هذه الرواية إلى قوله: (ستاً أو سبعاً) ثم قال: (تمام الرواية: فقلت له: فما تختار أنت؟ قال: من قال يوماً فهو الاحتياط) .
ثم علق على ذلك بقوله: (فبين أن مذهبه: اختياره أن تجلس يوماً، وعلل بالاحتياط) .
وهذا التوجيه لقول الإمام أحمد قال به المؤلف أيضاً في آخر المسألة.
والذي يظهر لي أن الإمام أحمد خيَّر السائل بين الأمرين، فقد قال له: (فبأيهما أخذتُ فهو جائز؟ قال: نعم) . ثم أردف ببيان وجهة من قال باليوم: أن ذلك على سبيل الاحتياط.
وأيضاً فإن نقل أبي الخطاب للرواية لم يكن دقيقاً إلا إذا كان هناك نقل آخر للرواية لم نطلع عليه فَيتجه، وإن كان خلاف الظاهر. والله أعلم.(5/1621)
وكذلك نقل المروذي عنه هذه المسألة.
قيل: أحمد -رحمه الله- لم يطلق القولين حتى ينبئ عن اختياره، والصحيح منهما، فقال في مسألة أبي الحارث: "أعجب القولين إليّ القضاء".
وكذلك في مسألة أبي داود: "من قال يوماً هو احتياط".
فصل
في معنى اللفظ المحتمل من كلام أحمد رحمه الله تعالى
[جوابه بأخشى]
إذا سئل عن حكم فقال: أخشى أن يكون كذا، أو أخشى أن لا يكون كذا، فهو مثل قوله: يجوز، ولا يجوز ذلك (1) .
فدل في رواية صالح وقد سئل عن صلاة الجماعة فقال: "أخشى أن تكون فريضة" (2) .
__________
(1) راجع في هذا: تهذيب الأجوبة لابن حامد ص (114) وصفة الفتوى ص (91) والمسوَّدة ص (529) .
ويظهر أن المؤلف استفاد هذا الفصل من كتاب شيْخه تهذيب الأجوبة.
(2) ذكر صالح هذه الرواية في مسائله (2/34) وتمامها: (ولو ذهب الناس يجلسون عنها لتعطلت المساجد. ويروى عن على وابن مسعود وابن عباس: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له") .
وذكرها ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (114) .
وفي حكم صلاة الجماعة عند الإِمام أحمد أربع روايات:
الأولى: أنها واجبة، وهو المذهب.
الثانية: أنها سنة. =(5/1622)
وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن حلف لا يلبس من غزلها، فلبس ثوباً فيه من غزلها الثلث: "أخشى أن يكون قد حنث" (1) .
وكذلك نقل الأثرم عنه في إعطاء القِيَم لكل مسكين في الزكاة: "أخشى أن لا يجزىء" (2) .
وكذلك نقل ابن إبراهيم فيمن قال: حلفت، ولم يحلف: "أخشى أن يكون قد حنث" (3) .
__________
= الثالثة: أنها فرض كفاية.
الرابعة: أنها شرط في صحة الصلاة.
انظر: المغني (3/5) طبعة هجر، والإنصاف (2/210) .
(1) ذكر هذه الرواية ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (115) .
والمذهب أنه يحنث في هذه الصورة.
انظر: المغني (8/781) طبعة المنار.
(2) نقل عبد الله عن أبيه في مسائله (2/588) نحو هذا، حيث قال: (سمعت أبي يكره أن يعطي القيمة في زكاة الفطر، يقول: "أخشى إن أعطى القيمة ألا يجزئه ذلك) .
وفى مسائل أبي داود ص (85) قال الإِمام أحمد: (أخاف أن لا يجزئه، خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
والمسألة فيها ثلاث روايات:
الأولى: لا يجوز في شىء من الزكوات. وهي ظاهر المذهب عند ابن قدامة.
والصحيح من المذهب، ونص عليه، وعليه جماهير الأصحاب عند المرداوي.
الثانية: أنه يجوز إخراجها، وهي مخرَّجة، كما يقول المرداوي.
الثالثة: يجوز إخراجها فيما عدا زكاة الفطر.
انظر: المغني (3/65) والانصاف (3/182) .
(3) ذكر ابن حامد هذه الرواية في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (116) .
ومن قال: حلفتُ، هل ينعقد اليمين أولا؟ =(5/1623)
وكل ذلك قد ورد عند النص الصريح بالحكم الذي ذكرنا (1) ؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الامتناع من فعل (2) الشىء خوف الضرر منه (3) ، ومنه قوله تعالى: (يَقُولُونَ نَخْشَى أنْ تُصيبَنَا دَائِرة) (4) معناه: نخاف.
وكذلك قوله: (إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (5) .
[جوابه بأخاف]
وكذلك إذا قال: أخاف أن لا يكون أو يكون، فإن يجري مجرى الصريح (6) .
__________
= هناك روايتان:
الأولى: أن ذلك يمين، سواء أنوى اليمين أم أطلق.
الثانية: إن نوى بذلك اليمين فهو يمين، وإلا فلا.
انظر: الروايتين والوجهين (3/48) والمغني (8/702) والإنصاف (11/9) .
(1) حكى ابن حامد في كتابه: السابق الموضع السابق، أن بعض الأصحاب يقف عن القطع بهذا، ويقول: لا يجب أن يقطع عليه بإثبات القول.
وقد ناقش ابن حامد أصحاب هذا القول مرجحاً ما اختاره، ورجحه تلميذه أبو يعلى.
(2) في الأصل: (جعل) والتصويب من صفة الفتوى ص (92) .
(3) في الأصل: (عنه به) والتصويب من المرجع السابق.
(4) آية (52) من سورة المائدة والآية في الأصل (قالوا) بدل: (يقولون) وهو خطأ.
(5) آية (28) من صورة فاطر.
(6) راجع هذا التعبير في: تهذيب الأجوبة ص (120) وصفة الفتوى ص (91) والمسودة ص (529) .
وما ذكره المؤلف هنا هو ما اختاره شيخه في تهذيب الأجوبة وانتصر له، فقد قال: (إذا ورد منه الجواب بهذه الصيغة، فإن ذلك علم لإيجاب الحكم ولإثباته.
وهذا مذهب شيوخنا، قطع عبد العزيز وغيره به) . =(5/1624)
وقد قال في رواية الميموني: "إذا أعطى القيمة، أخاف أن لا يجزىء" (1) .
فنقل مُهنا: إذا قال لعبده: لا مُلكَ لي عليك،: "أخاف أن يكون قد عتق" (2) .
وقد نقل صالح في ذلك الحكم الذي ذكرنا، والمعنى فيه ما ذكرنا، وهو: أنها تستعمل في الامتناع.
ومنه قوله تعالى، (إني أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبي) (3) معناه: إنني أمتنع خوفاً من ربي.
وقوله تعالى: (فَأخافُ أنْ يقْتُلُونِ) (4) .
[جوابه بأن هذا يشنع عند الناس]
وكذلك إذا قال: "هذا شنع عند الناس، فإن يقتضى المنع (5) .
__________
= ثم نقل عن بعض الأصحاب أنهم قالوا: (إن ذلك لا يكون حتماً، وإنما يكون على التوقي عن الفعل، وأنه يتنزه عنه، فأما أن يكون مفروضاً فلا) .
(1) سبق الكلام على مقتضى هذه الرواية، وقد جاءت في رواية الأثرم بصيغة "أخشى".
(2) رواية مُهنّا هذه موجودة بنصها في كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (3/109) وتهذيب الأجوبة ص (120) .
وفى مثل هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: صريح.
الثانية: كناية.
انظر: الإنصاف (7/397) .
(3) آية (15) من سورة الأنعام.
(4) آية (14) من سورة الشعراء.
والآية في الأصل: (إنى أخَافُ) وهو خطأ.
(5) راجع هذا التعبير في: تهذيب الأجوبة ص (149) وصفة الفتوى ص (94) والمسودة من (530) .(5/1625)
قال في رواية الميموني في شهادة العبيد في الحدود: "كأنه شنع، وإنما ذلك عنده أتهيب الناس" (1) .
وهذا ظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز؛ لأنه لما ذكر هذه المسألة قال: "لا يختلف القول عنه أن شهادته في الحدود لا تجوز" (2) .
وخرَّج شيخُنا أبو عبد الله (3) وجهاً آخر: أنه لا يقتضي المنع؛ لأنه امتنع من الصلاة قبل المغرب [154/أ] لأجل أن العامة تشنع ذلك، ولم يقتض ذلك التحريم؛ لأن هذه اللفظة محتملة؛ لأنها تُستعمل في الامتناع فيما يخرج عن العادة، وتُستعمل فيما كان قبيحاً عند الله (4) .
__________
(1) اختصر المؤلف هذه الرواية من كتاب شيخه ابن حامد، فجاءت مشوشة، وهي عند ابن حامد في تهذيب الأجوبة ص (149) : (قال الحسن بن حامد: صورة ذلك: ما رواه الميموني: قلتُ: شهادة العبد في الحدود؟ قال: لا تجوز شهادته، في الحقوق شاهد ويمين، والحدود ليس كذلك. قلتُ لم تستوحش من هذا إذا كان علماً يُتَّبع؟! قال: في الحدود كأنه يُشَنَّع، وإنما ذلك لهَيْب الناس، فردها) .
والرواية موجودة أيضاً في صفة الفتوى ص (94) باختصار.
في شهادة العبد في الحدود والقصاص ثلاث روايات:
الأولى: تقبل فيهما.
الثانية: لا تقبل فيهما.
الثالثة: لا تقبل في الحدود خاصة.
انظر: الإنصاف (12/60) .
(2) نقل ذلك عنه ابن حامد في تهذيب الأجوبة من (150) .
(3) يعني: الحسن بن حامد الحنبلي.
(4) انظر: تهذيب الأجوبة ص (150) .(5/1626)
[جوابه بأحب ولا أحب]
فإن قال: أحبُّ إليَّ كذا، ولا أحب كذا (1) ، فإطلاق هذا يقتضي الاستحباب دون الإيجاب (2) ؛ لأن هذا هو المعهود في عرف التخاطب.
ومن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب) (3) .
وقوله: (ليس حلال أحب إلى الله من العتاق) (4) .
__________
(1) راجع هذا التعبير في: تهذيب الأجوبة ص (123) وصفة الفتوى ص (92) والمسودة ص (529) .
(2) هذا رأي المؤلف وابن حمدان وجماعة من الحنابلة.
وذهب ابن حامد وجماعة إلى أن هذا اللفظ إذا ورد جواباً عن سؤالات في الواجب بالحدود والفروض فذلك علم للإيجاب، وبيان اختياره في الحادثة من الأقاويل، ونقل بعد ذلك جملة من الروايات تدل على ما ذهب إليه.
ثم ذكر رأي من يقول بأن هذا اللفظ يدل على الاستحباب، كما ذكر بعض أدلتهم ورد عليها.
انظر: تهذيب الأجوبة ص (123-128) ، وصفة الفتوى الموضع السابق.
(3) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب الأدب، باب: ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب (8/61) .
وأخرجه الترمذي عنه في كتاب الأدب، باب: ما جاء في أن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب (5/86) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/428) .
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الأدب، باب: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب (4/263) ثم قال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وقد وهم في استدراكه على الإمام البخاري.
وأخرجه البخاري أيضاً في الأدب المفرد باب العطاس (2/374) مطبوع مع شرحه: فضل الله الصمد.
(4) لم أقف عليه مع كثرة البحث والسؤال.(5/1627)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) (1) .
وقد نقل عنه ما يدل على ذلك، فقال في رواية أبي طالب: "يذبح إلى القبلة أحبُّ إلي" (2) .
وكذلك نقل صالح: "يذهب إلى الجمعة ماشياً أحب اليَّ" (3) .
وقال في موضع: "وأحبُّ إلي أن يعلن بالنكاح، ويضرب عليه بالدف" (4) .
ونقل عنه في مواضع أخر هذه اللفظة، والمراد بها الإيجاب (5) .
ونقل أبو طالب: "الأجَل في السَّلَم أحبُّ إلي" (6) ، لقول
__________
(1) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً.
أخرجه عنها البخاري في كتاب اللباس، باب: الجلوس على الحصير (7/199) .
وأخرجه عنها مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1/540) .
(2) ذكر هذه الرواية ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (125) .
وتوجيه الذبيحة إلى القبلة مستحب في المذهب الحنبلي، وعلى هذا فالتعبير هنا بأحب إلي يعني الاستحباب.
انظر: الإنصاف (4/82) .
(3) هذه الرواية ذكرها ابن حامد في كتابه السابق ص (126) .
ومن سنن الجمعة أن يبكر إليها ماشياً.
انظر: المغني (3/234) طبعة هجر، والإنصاف (2/408) .
(4) ذكر ابن حامد هذه الرواية في كتابة السابق ص (126) .
وضرب الدُّف في النكاح مستحب.
انظر: المغني (9/467) طبعة هجر.
(5) نقل بعض هذه الألفاظ ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (123) .
(6) نقل هذه الرواية ابن حامد في كتابه السابق، الموضع السابق.(5/1628)
النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ونقل حنبل عنه: "إذا قال: أكفُرُ بالله، أحب إليَّ أن يُكَفر" (2) .
وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحارث: "فيمن له مائة وعليه مائة، أحبُّ إلي أن يُكَفر" (3) .
__________
(1) هذا إشارة إلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسلفون بالثمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) .
أخرجه البخاري في كتاب السلم، باب السلم إلى أجل معلوم (3/108) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة، باب: السلم (1227) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب: في السلف (3/741) رقم الحديث (1311) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب: السلف في الثمار (7/290) حديث رقم (4616) .
وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب التجارات باب: السلف في كيل معلوم (2/765) حديث رقم (2280) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/217، 222) .
والأجَل شرط في السلَم.
انظر: كتاب الرواتين والوجهين للمؤلف (1/358) والمغنى (6/402) والإنصاف (5/97) .
(2) هذه الرواية مذكورة في كتاب: تهذيب الأجوبة ص (123) وتمامها عنده: (ويستغفر الله، ولا يعود) .
والمسألة فيها روايتان:
الأولى: أنه تجب عليه كفارة يمين.
قال المؤلف: هي المذهب.
الثانية: أنه تستحب الكفارة ولا تجب، وإليه تشير رواية حنبل.
انظر: الروايتين والوجهين للمؤلف (3/43) .
(3) هذه الرواية ذكرها المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (3/53) كما ذكرها =(5/1629)
وكذلك نقل علي بن سعيد: "إذا جعل على نفسه صيام سنة، فأحبُّ إليَّ أن يفطر في الفطر والأضحى ويُكَفر ويقضى" (1) .
[جوابه بالكراهة]
وأما الكراهة (2) فقد روي عنه ألفاظ تقتضي التنزيه، وألفاظ اقتضت التحريم.
أما التحريم: فنقل الأثرم عنه: تكره جلود الثعالب" (3) .
__________
= شيخه ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (123) .
وهذه الرواية تتعلق بمسألة سقوط الكفارة، بالدين، وفيها روايتان:
الأولى: يكفر عن يمينه إذا كان في يديه ما يفضل عن عياله يومه، نقلها عبد الله.
والثانية: أنه يستحب له أن يُكَفر، ولا يجب عليه. وهي التي نقلها الحسن بن محمد بن الحارث هنا.
انظر: كتاب الروايتين والوجهين الموضع السابق.
(1) هذه الرواية ذكرها ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (124) وفي هذه المسألة ثلاثة أمور:
الأول: أنه يفطر في يوم عيد الفطر والأضحى؛ لأنه لا يجوز صيامهما.
الثاني: أن عليه القضاء.
الثالث: هل عليه مع القضاء كفارة؟
في المذهب روايتان:
الأولى: لا تلزمه الكفارة، نقلها حنبل.
الثانية: تلزمه الكفارة، نقلها أبو طالب والأثرم وصالح والمروذي.
انظر: الروايتين والوجهين (3/67) .
(2) راجع في هذا اللفظ: تهذيب الأجوبة ص (168) ، وصفة الفتوى ص (93) والمسودة ص (530) وإعلام الموقعين (1/39) .
(3) رواية الأثرم هذه نقلها عنه ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (171) .
وفى لبس جلود الثعالب روايتان: =(5/1630)
وكذلك نقل عنه: "إذا حلَفَ لا يلبس من غزلها، أكره أن يعطى أجرة القصَّار والخياط (1) ".
ونقل المروذي: "أكره الصلاة في المقابر (2) ".
ونقل ابن منصور: "أكره المتعة (3) ".
__________
= إحداهما: يباح لبسها.
والثانية: لا يجوز لبسها.
وعلى القول بإباحة لبسها فعن الإمام أحمد: لا تصح الصلاة فيها. وعنه تصح.
وعنه تكره. وعنه إن كان متأولاً فلا بأس، وإن كان جاهلاً ينهى عنه.
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (2/58) ومسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (40) وفيها أجاب بقوله: (لا يعجبني) والروايتين والوجهين: (1/67) والمغني (1/93) والإنصاف (1/90) .
(1) انظر هذه الرواية في: تهذيب الأجوبة ص (171) .
وراجع في هذه المسألة: المغني (8/781) والإنصاف (11/54) .
(2) ذكرت هذه الرواية في: تهذيب الأجوبة ص (172) .
في حكم الصلاة في المقابر روايات:
الأولى: لا تصح، نقل ما يدل على ذلك بكر بن محمد.
الثانية: تصح، وهو مقتضى ما نقله أبو الحارث.
الثالثة: إن علم النهي لم تصح، وإلا صحت.
الرابعة: تحرم الصلاة فيها، وتصح، واستبعده المجْد.
الخامسة: تكره الصلاة فيها.
والروايتان الأوليان هما المشهورتان، والأولى منهما هي المذهب.
انظر: الروايتين والوجهين (1/156) والمغني (2/468) طبعة هجر، والإنصاف (1/489) .
(3) المتعة هي: أن يتزوجها إلى أجل.
ورواية ابن منصور هذه نقلها المؤلف في كتابه الروايتين الوجهين (2/107) =(5/1631)
والمراد بذلك التحريم.
ونقل ابن منصور: "كراهية الصلاة في ثياب أهل الذمة (1) ".
ونقل المروذي: "كراهية قراءة حمزة (2) ".
__________
= بلفظ: (ونقل ابن منصور: أنه سأله عن متعة النساء تقول: إنها حرام؟ قال: يتجبنها أحبُّ إليَّ) .
قال المؤلف بعد ذلك: (فظاهر هذا أنها مكروهة، وليست حراماً) .
والصحيح من المذهب أنها لا تصح وتحرم.
وجعل جماعة من الأصحاب المسألة رواية واحدة وهي أنها حرام.
وهو ما نقله صالح وعبد الله وحنبل.
انظر: المرجع السابق، والإنصاف (8/163) .
(1) جاء في مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانىء (2/58) : (قلت لأبي عبد الله: الصلاة في ثياب اليهود والنصارى والمجوس؟ قال: تكره الصلاة في ثياب هؤلاء) .
وقال في مسائل أبي داود ص (41) (قلتُ لأحمد: ثياب المشركين؟ قال أما ما يلي جسده فلا يعجبنى أن يصلى فيه) .
وفى المسألة تفصيل محصله:
أن ما علا من ثيابهم كالعمامة والثوب الفوقاني فهو طاهر.
وأما ما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السُّفْلاني، فقد أجاب الإمام أحمد بقوله: (أحب إلي أن يعيد) يعني إذا صلى فيها.
فحمل القاضي هذا على وجوب الإعادة، وحمله أبو الخطاب على عدم وجوب الإعادة.
انظر: المغني (1/111) طبعة هجر والإنصاف (1/85) .
(2) هو: حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل أبو عمارة الكوفي الزيات.
أحد القراء السبعة ولد سنة (80هـ) . ومات سنة (156هـ) .
له ترجمة في: غاية النهاية في طبقات القراء (1/261) .
والرواية هذه ذكرها ابن حامد في كتابه: تهذيب الأجوبة ص (174) وذكرها ابن قدامة في المغني (2/165) طبعة هجر.
وبيَّن ابن قدامة أن السبب في ذلك ما في قراءته من الكسر والإدغام والتكلف =(5/1632)
ونقل ابن منصور: "أكره النفخ (1) في اللحم (2) ".
ونقل المروذي: "أكره الخبز الكبار (3) ".
وهذا يقتضي التنزيه.
ويجب أن يقال في جوابه بأحب وأكره، إذا نقل عنه في مسألة صريح القول بالتحريم، أجاب فيها بأكره، حمل على التحريم، فيبنى مطلق كلامه على مقيده.
وإذا لم يكن عنه صريح القول حمل على التنزيه؛ لأن هذه اللفظة تستعمل في التحريم وفي التنزيه.
قال تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ (4)) ولم يرد تحريمه.
وقوله تعالى: (وَكَرِهُوا أن يُجَاهِدُوا (5) ... ) معناه: امتنعوا.
__________
= وزيادة المد.
وحمل الجزري ذلك على قراءة من سمع من حمزة ناقلاً عنه.
ثم نقل عن محمد بن الهيثم أن حمزة كان يكره هذا، وينهى عنه.
انظر: المغني الموضع السابق وغاية النهاية (1/263) .
(1) في الأصل: (القيح) وهو خطأ، والتصويب من الإِنصاف (10/405) فقد نقل الرواية منسوبة إلى ابن منصور.
(2) قصر ابن قدامة الكراهة على من يريد البيع لما فيه من الغش.
انظر: المغني (8/580) .
(3) انظر هذه الرواية في تهذيب الأجوبة ص (174) والمغني (8/614) وصفة الفتوى ص (93) .
وقد سأل المروذي الإمام أحمد عن سبب كراهته للخبز الكبار، فأجاب: ليس فيه بركة، إنما البركة في الخبز الصغار، وقال: "مرْهم أن لا يخبزوا كباراً".
انظر: المغني، الموضع السابق.
(4) آية (46) من سورة البقرة.
(5) آية (81) من سورة التوبة.(5/1633)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحبُّ معاليَ الأخلاق ويكره [254/ب] سَفْسَافَهَا (1)) .
وقال تعالى: (كُل ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (2)) معناه: محرماً.
[جوابه بأعجب إليَّ]
فإن قال: أعجبُ إليَّ (3) أن لا يكون أو يكون؛ فالمنصوص عنه أن ذلك
__________
(1) هذا الحديث رواه الحسين بن علي - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الطبراني في الجامع الكبير، وابن عدي في الكامل. وفى إسناده خالد ابن إلياس، وهو ضعيف.
قال الشيخ الألباني: (ويؤخذ من كلام سائر الأئمة فيه أنه ضعيف جداً، وعليه فلا يصلح شاهداً) .
انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/367) رقم (1378) .
ولكنه حكم له بالصحة في صحيح الجامع الصغير (2/147) رقم (1886) والحديث رواه أيضاً سهل بن سعد - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب: إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق.. (1/48) وقال: (صحيح الإسناد) .
وأخرجه أبو نعيم في كتابه: "الحلية" (3/255، 8/133) وقال: (غريب) .
وأخرجه أبو الشيخ في "أحاديثه" والسلفي في معجم السفر - على ما حكاه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الموضع السابق.
والحديث صحيح.
وله شاهد من رواية سهل بن سعد - رضي الله عنه - عند ابن عساكر وابن النجار والضياء، على ما حكاه الشيخ الألباني في المرجع السابق.
وانظر: الجامع الكبير (1/183) وهامش كتاب صفة الفتوى ص (93) .
(2) آية (38) من سورة الإِسراء.
(3) راجع هذه الصيغة في: تهذيب الأجوبة ص (182) وصفة الفتوى ص (92) .(5/1634)
لا يقتضي الوجوب في التحريم والمنع، وإنما هو على طريق الاختيار.
نقل الأثرم عنه أن سئل عن المكان يصيبه البول، فيبسط عليه باريَّة (1) وهو جاف يصلى عليه؟ أعجبُ إليَّ أن يتوقى.
فقال له الهيثم (2) بن خارجة: هذا جاف وعليه بارية، أي شىء تكره من هذا؟ قال: "إنما قلت لك: أعجبُ إلي أن يتوقاه".
وهذا صريح من كلامه أنه لا يقتضي التحريم. [ (3) ]
ويجب أن يكون الحكم في قوله: "يعجبني" مثل قوله: "أكره وأحب".
وأنه نقل عنه في مسألة صريح القول بالتحريم، ثم أجاب "بأعجبني" أن
__________
(1) البارية: الحصير الخشن.
انظر: المصباح المنير (1/76) مادة: (برى) .
(2) هو: الهيثم بن خارجة، أبو أحمد، أو أبو يحيى، الخراساني الأصل. روى عنه الإمام أحمد والليث بن سعد وغيرهما. أثنى عليه الإمام أحمد، وروى عنه وهو حي. قال الحافظ فيه "صدوق" مات في سنة (227هـ) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/394) والتقريب (2/326) .
(3) صحة الصلاة إذا كانت الأرض نجسة ووضع عليها بساطاً طاهراً، وصلى عليها، فإن الصلاة صحيحة مع الكراهة.
هذا هو المذهب، وهو ظاهر كلام أحمد، ومقتضى رواية الهيثم بن خارجة التي ذكرها المؤلف هنا.
وعنه تصح الصلاة بدون كراهة وعنه لا تصح.
وعنه إن كان النجاسة المبسوط عليها رطبة فلا تصح الصلاة، وإلا صحت.
ويشترط في الحائل أن يكون صفيقاً فإن لم يكن كذلك لم تصح الصلاة على الصحيح من المذهب وقيل: تصح. وهو بعيد.
انظر: المغني (2/478) والإنصاف (1/484) .(5/1635)
يحمل على التحريم؛ لأن هذه اللفظة تستعمل في مستحسن غير واجب (1) .
تم كتاب العدة في أصول الفقه
ولله الحمد والمنة والفضل على تمامه
ووافق الفراغ من نسخة في يوم السبت
سابع عشر شهر رمضان المعظم سنة تسع وعشرين
وسبعمائة للهجرة النبوية على صاحبها
أفضل الصلاة والسلام (2)
__________
(1) هذا التعليل لا يصلح للحمل على التحريم، كما يظهر من العبارة.
ولعل مقصود المؤلف: أن هذه اللفظة إذا أطلقت فيراد بها مستحسن غير واجب.
ولكن إذا سبقتها قرينة، كأن سُئل في مسألة فأجاب بالتحريم، ثم سُئل عنها مرة أخرى فأجاب بقوله: "لا يعجبني" فإنها تحمل على التحريم لهذه القرينة.
وينبغي أن يلاحظ أن هناك ألفاظاً كثيرة، يعبر بها الإمام أحمد في فتاواه لم يذكرها المؤلف.
وقد عُني بها شيخُه ابن حامد في كتابه "تهذيب الأجوبة" عناية فائقة لم يسبق إليها حسب علمي.
(2) جاء بآخر المخطوطة ما نصه:
رأيت بخط الشيخ الإمام العالم نجم الدين بن حمدان في آخر نسخته التي بخط يده، التي نقلت هذه النسخة منها ما صورته: قال مؤلفه القاضي الإِمام أبو يعلى -رحمه الله-: كان فراغنا منه في ليلة الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.(5/1636)
كلمة أخيرة
وبعد:
فلله الحمد والشكر على ما منَّ به علىَّ -ومننه كثيرة- بإنجاز كتاب العدة في أصول الفقه للعالم المحقق الفقيه الأصولي القاضي أبي يعلى الحنبلي البغدادي.
والكتاب يعتبر أول كتاب في أصول فقه الحنابلة يصل إلينا، فهو بحق العمدة في بابه، وقد توخيت في تحقيقه الأصول المرعية في تحقيق المخطوطات.
وعلم الله أننى لم أبخل عليه بوقت ولا بجهد.
وإنني لأرجو أن يكون عملاً صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن يجزيني عليه أحسن الجزاء، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(5/1637)