لا أقول في القرآن شيئاً (1) .
قال أبو بكر في تفسيره: منه (2) ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك مثل (3) الخبر عن آجال حادثة وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك. قال الله تعالى: (يسْألُونَك عَنِ الساعة أيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إنمَا عِلْمها عِنْدَ رَبَي لاَ يُجَليهَا لِوَقْتهَا إَلا هُوَ ثَقلتْ في السمَوَات وَالأرْض لاَ تأتِيكُمْ إلا بَغْتَة) (4) .
ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك [مثل] إقامة إعرابه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تالياً يتلو: (وَإذا قيل لَهُم لاَ تُفْسِدُوا في الأرْض قَالُوا إنما نحْنَ مصْلِحُونَ أَلاَ إنهمْ
__________
= عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تزوج ابنته. ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر.
ومات سنة (94 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/58) ، و"تهذيب التهذيب" (5/183) ، و"شذرات الذهب" (1/102) ، و"طبقات الحفاظ" ص (19) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/413) .
(1) هذا الأثر عن ابن المسيب، أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن: (1/37) مطبعة الحلبي.
(2) في الأصل: (فيه) ، والتصويب من "المسودة" ص (175) ، ومن الكلام الآتي بعد ذلك.
(3) في الأصل: (من) ، والتصويب من المسودة ص (175) ، فقد نقل فيها كلام المصنف هنا.
(4) (187) سورة الأعراف.(3/713)
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَ يَشْعُرُونَ) (1) ، لم يجهل أن [100/أ] ، معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله تعالى [إفساداً، والمعاني التي جعلها الله] (2) صلاحاً (3) .
فصل (4)
فأما تعليم التفسير، ونقله عمن قوله حجة، ففيه ثواب وأجر، كتعليم الأحكام من الحلال والحرام.
وقد فسر أحمد رحمه الله آيات كثيرة، رواها المروذي عنه في سور متفرقة، سُئل عنها، وقال في قوله تعالى: (إنني مَعَكُمَا) (5) : هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً،، أي: أفعل بك خيراً (6) .
وظاهر هذا أنه أجاز تفسير القرآن على مقتضى اللغة. والدلالة عليه: قوله تعالى: (كتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدّبّرُوا آيَاتِه وَلِيَتَذَكرَ أولُوا الألْبَابِ) (7) ، وهذا فيه حث على معرفة التنزيل.
__________
(1) (11-12) سورة البقرة.
(2) ما بين القوسين ليس في الأصل، والزيادة من المسودة ص (175) ؛ لأنه نقل كلامه هنا، وأيضا فالسياق يقتضي تلك الزيادة.
(3) في المسودة في الموضع السابق: (إصلاحاً) .
(4) راجع هذا الفصل في: المسودة ص (175) .
(5) (46) سورة طه.
(6) هذا النص عن الإمام أحمد موجود في رسالته: "الرد على الجهمية والزنادقة" الجزء الأول من شذرات البلاتين ص (14) طبعة السنة المحمدية.
(7) (29) سورة ص.(3/714)
واحتج على ذلك يحيى بن سلام في تفسيره بما رواه عن أبيه عن الخليل ابن مرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) (1) ، قال يحيى: ولولا أن علم التأويل من الحق ما دعا به النبي عليه السلام لابن عباس.
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب المناقب، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما (5/34) ، ولفظه: (ضمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: (اللهم علمه الحكمة) .
وفي رواية أخرى له: (علمه الكتاب) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (4/1927) ، ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء، فوضعت له وضوء، فلما خرج قال: "من وضع هذا؟ " في رواية زهير، قالوا: ابن عباس، وفي رواية أبي بكر، قلت -أي: ابن عباس-
قال: "اللهم فقهه") .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب المناقب، باب مناقب ابن عباس رضي الله عنهما (5/680) ، ولفظه كلفظ البخاري في روايته الأولى. وقال فيه: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/58) ، ولفظه كلفظ الترمذي، إلا أنه زاد فيه: (وتأويل الكتاب) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده من ثلاث طرق: الأولى: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زهير أبو خيثمة عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتفي، أو على منكبي، شك سعيد، ثم قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".
قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على مسند الإمام أحمد" (4/127) "إسناده صحيح".
الثانية: حدثنا هشيم عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: مسح النبي صلى =(3/715)
.................................
__________
= الله عليه وسلم رأسي، ودعا لي بالحكمة.
قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" (3/253) : "إسناده صحيح".
ولعل هاتين الطريقين هما اللتان أرادهما الهيثمي بقوله في "مجمع الزوائد" (9/276) : (ولأحمد طريقان، رجالهما رجال الصحيح) .
الثالثة: حدثنا أبو سعيد، حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثنا حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعط ابن عباس الحكمة، وعلمه التأويل".
قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على المسند" (4/138) : إسناده ضعيف، لضعف "الحسين بن عبد الله".
وأخرجه عنه ابن سعد في "طبقاته" (2/365) ، ولفظه: (دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكمة مرتين) .
كما أخرجه عنه أيضا بلفظ: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على ناصيتي، وقال: (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب) .
وأخرجه عنه بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعتُ له وضوءً من الليل، فقالت ميمونة: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس. فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) .
وأخرجه عن عكرمة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اعط ابن عباس الحكمة، وعلمه التأويل".
وأخرجه عن ابن عباس الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء" (1/315) ، ولفظه: (قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام إلى سقاء، فتوضأ، وشرب قائماً، قلت: والله لأفعلن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت، وتوضأت، وشربت قائماً، ثم صففت خلفه، فأشار إلي لأوازيَ به، أقوم عن يمينه، فأبيت، فلما قضى صلاته قال: "ما منعك أن لا تكون وازيت بي"؟ قلت: يا رسول الله أنت أجل في عيني وأعز من أن أوازي بك، فقال: "اللهم آته الحكمة". =(3/716)
.................................
__________
= وأخرجه عنه بلفظ: (ضَمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "اللهم علمه الحكمة".
وأخرجه عنه أبو الطاهر الذهلي في "فوائده"، ولفظه كلفظ المؤلف، وفيه قصة وضع الوضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "الإصابة" في ترجمة ابن عباس (4/90) طبعة الخانجي.
كما ذكر ابن حجر أن ابن أبي خيثمة أخرجه عن ابن عباس بسنده، ولفظه كلفظ المؤلف.
وذكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (9/276) ، أن الطبراني أخرجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم ترجمان القرآن أنت" ودعا لي جبريل عليه السلام مرتين) .
قال الهيثمي: (وفيه "عبد الله بن خراش"، وهو ضعيف) .
كما ذكر أنه أخرجه عن ابن عباس أيضا، بلفظ: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره، ثم قال: "اللهم احش جوفه علماً وحلماً، فلم يستوحش في نفسه إلى مسألة أحد من الناس، ولم يزل حبر هذه الأمة، حتى قبضه الله) قال الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه) .
وقد جاء هذا الحديث من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، فقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه "الاصابة" (4/90) . أن البغوي أخرجه في "معجمه" بسنده إلى ابن عمر رضى الله عنهما، ولفظه: (أنه كان يقرب من ابن عباس ويقول: اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك، فمسح رأسك، وتفل في فيك، وقال: "اللهم فقهه في الدين: وعلمه التأويل") .
كما نقل في المرجع السابق عن الزبير بن بكار أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال: "اللهم بارك فيه، وانشر منه") .
وعن ابن عمر أخرجه أيضاً الأصبهاني في "حلية الأولياء" (1/315) ولفظه كلفظ الزبير بن بكار.
ونختم تخريج هذا الحديث بما قاله ابن عبد البر في كتابه "الاستيعاب" (3/934-935) ، ونصه: (رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، أنه قال لعبد الله =(3/717)
وروى أبو بكر بإسناده في تفسيره عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (1)
وبإسناده عن شقيق (2) قال: استعمل علي بن أبى طالب ابن عباس علي الحج، قال: فخطب الناس خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سورة النور، فجعل يفسرها (3) .
وبإسناده عن سعيد بن جبير (4) قال: من قرأ القرآن، ثم لم يفسره،
__________
= ابن عباس: "اللهم علمه الحكمة وتأويل القرآن". وفي بعض الروايات: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" وفي حديث آخر: "اللهم بارك فيه وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين".
وفي حديث آخر: "اللهم زده علماً وفقهاً".
وهي كلها أحاديث صحاح.
وقال مجاهد عن ابن عباس: رأيت جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم مرتين.
ودعا لي النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين) .
(1) هذا الحديث أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/35) طبعة الحلبى.
(2) هو: شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي. من سادات التابعين أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. وعنه الشعبي وعمرو بن مرة ومنصور وآخرون. مات سنة (82 هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/268) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/60) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (142) ، و"طبقات الحفاظ" ص (20) .
(3) هذا الأثر أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/36) ، طبعة الحلبي.
(4) هو: سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، الكوفي، أبو محمد، أو أبو عبد الله. من سادة التابعين. روى عن ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن =(3/718)
كان كالأعمى أو كالأعرابي (1)
فصل
في تفسير القرآن على مقتضى اللغة هل يجوز أم لا؟ (2)
قد فسر أحمد رحمه الله قوله: (إنني معكما) (3) على مقتضى اللغة، قال: هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً (4) .
وقال أيضاً رحمه الله: تفسير روح الله إنما معناها: أنها روح خلقها الله تعالى، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله (5) .
ونقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له الرجال بشيء من
__________
= مغفل وطائفة. وعنه الأعمش وعمرو بن دينار وسليم الأحول وغيرهم. قتله الحجاج سنة (95 هـ) . وعمره يناهز الخمسين.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/76) ، و"تهذيب التهذيب" (4/11) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (116) ، و"شذرات الذهب" (1/108) ، و"طبقات القراء الكبار" للذهبي (1/56) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/181) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/305) .
(1) هذا الأثر عن سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى- أخرجه الطبري في "مقدمة تفسيره"، باب ذكر بعض الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن.. (1/36) طبعة الحلبي.
(2) راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص (175) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (84/ب) .
(3) (46) سورة طه.
(4) راجع هذا النص عن الإمام أحمد في رسالته: "الرد على الزنادقة والجهيمة" ص (18-19) .
(5) راجع هذا النص عن الإمام أحمد في المرجع السابق ص (32) .(3/719)
الشعر، فقال: ما يعجبني. فظاهر هذا يقتضي المنع.
ووجه الجواز:
قوله تعالى: (إنا أنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِياً) (1) ، وقوله: (بلسَان عَرَبِي مُبينِ) (2) ، وهذا يفيد أنا إذا تحققنا معنى اللفظ من طريق اللغة، صح حمل القرآن عليه.
ووجه من منع:
قوله تعالى: (لِتُبَينَ للِناسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (3) ، فاقتضى ذلك أن البيان من جهته يوجد.
والجواب: أن هذا محمول على بيان الأحكام.
واحتج بقوله: (الأعْرَابُ أشَد كُفْراً ونفَاقاً وَأجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أنْزَلَ الله عَلى رَسُولِهِ) (4) .
والجواب: أنا لا نحتج بقولهم في الحدود، وإنما نحتج بقولهم [100/ب] في الألفاظ.
واحتج بأنا وجدنا منهم الكفر والكذب، نحو قولهم: إن الله ثالث ثلاثة، وتسميتهم الأصنام آلهة فقال تعالى: (إنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُموها) (5) .
والجواب: أنا نرجع اليهم في الألفاظ المفردة المرسلة، نحو السواد
__________
(1) (2) سورة يوسف.
(2) (195) سورة الشعراء.
(3) (44) سورة النحل.
(4) (97) سورة التوبة.
(5) (23) سورة النجم.(3/720)
والبياض والإنسان لا في الألفاظ المركبة، التي يقع فيها الصدق والكذب.
وفي قولهم: ثالث ثلاثة، في أفراد هذه الألفاظ ليس فيها صدق ولا كذب.
فصل
وأما تفسير الصحابة فيجب الرجوع إليه (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في مواضع من كتاب طاعة الرسول رواه صالح عن أبيه فقال: قال الله تعالى: (يا أيها الَذينَ آمنُوا لاَ تقْتلوا الصيد وَأنْتُم حرُمٌ ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل) (2) فلما حكم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظبي بشاة (3) ، وفي النَعامة ببدنة (4) ، وفي الضبع بكبش (5) ، دل على أنه أراد
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (176) .
(2) (95) سورة المائدة، والآية في الأصل: (يقتله منكم..) ، وهو خطأ.
(3) نقل ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب جزاء الصيد بمثله من النعم.. (5/181) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) حَكَم في النعامة ببدنه كلٌ من عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم، حكى ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب فدية النعام وبقر الوحش وحمار الوحش (5/182) .
(5) قضى بذلك عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، نقل ذلك البيهقي في "سننه" في كتاب الحج باب فدية الضبع (5/183-184) .
وقد روي جابر بن عبد الله رضي الله عنه حديثاً يرفعه، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأطعمة باب في أكل الضبع (2/319) ، ولفظه: (هو صيد، ويجعل فيه كبش، إذا صاده المحرم) .(3/721)
السنة (1) .
وقال: (فَمَنْ تَمتع بالْعُمرَةِ إلَى الْحج فما اسْتيسر مِن الْهَدْيِ) (2) فلما استدل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذبحوا البقرة عن سبعة، دلّ على أن ذلك أيسر (3) .
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم (2/1030-1031) بلفظ: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً، وجعله من الصيد) .
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه" في كتاب الحج، باب فدية الضبع (5/183) .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج، (2/246) .
(1) وأخرج الدارقطني حديثاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه مرفوعاً في كتاب الحج (2/247) ، ولفظه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظبي شاة، وفي الضبع كبشاً، وفي الأرنب عناقاً، وفي اليربوع جفرة فقلت لابن الزبير: وما الجفرة؟ قال: التي قد فطمت ورعت) .
وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الحج، باب فدية الضبع (5/183) ، كما أخرجه عن عمر بن الخطاب وقال: الصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه.
وأخرجه عن عمر بن الخطاب أبو يعلى كما حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" في كتاب الحج، باب جزاء الصيد (3/231) ، وقال عقبَه: (وفيه الأجلح الكندي، وفيه كلام، وقد وثق) .
والأجلح هذا وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه".
ولمزيد من الاطلاع، انظر: "نصب الراية" (3/134) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (389) ، و"تفسير ابن كثير" (2/97) طبعة الاستقامة، عند تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم 00) الآية.
(2) (196) سورة البقرة.
(3) في مسألة الأيسر هنا، ذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/205) فيه ثلاثة أقوال، أولها: أنه شاة، ونسبه إلى علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وابن جبير، وابراهيم، وقتادة، والضحاك.
ثانيهما: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير. ونسبه لابن عمر وعائشة، والقاسم. =(3/722)
وقال: (فَمَنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج) (1) ، فلما قال من قال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون آخر ذلك يوم عرفة، استقر حكم الآية على ذلك (2) .
وقال: لما كان أكثر قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ان الكلالة من لا ولد له ولا والد (3) ، استقر حكم الآية على ذلك.
__________
= ثالثها: أنه على قدر الميسرة، ونسبه لابن عباس.
على أنه قد روي عن الحسن وقتادة قولهما: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة.
كما نقل عن الإمام أحمد قوله: الهدي من الأصناف الثلاثة، من الإبل والبقر والغنم. حكى ذلك ابن الجوزي في "تفسيره"، في الموضع السابق.
(1) (196) سورة البقرة.
(2) لم يستقر حكم الآية على ذلك، بل هناك خلاف. وما ذكره المؤلف منسوب إلى ابن عمر رضي الله عنه، كما حكى ذلك ابن الجوزي في "تفسيره" (1/206) ، حيث قال: (ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة) .
كما حكى عن علي رضي الله عنه أن هذه الثلاثة الأيام هي: قبل التروية بيوم.
ويوم التروية، ويوم عرفة، وبه قال الحسن وعطاء والشعبي وأبو العالية وابن جبير: وطاوس وإبراهيم.
وهناك آراء أخرى ذكرها ابن الجوزي في "تفسيره"، فارجع إليه إن شئت.
(3) تفسير الكلالة بهذا، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب الفرائض، باب الكلالة (10/301-304) عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم.
كما أخرج عن عمر وابن عباس أنهما قالا: الكلالة: من لا ولد له.
ومثل صنيع عبد الرزاق، صنع البيهقي في: "سننه الكبرى" في كتاب الفرائض، باب حجب الأخوة والأخوات من كانوا بالأب والابن وابن الابن (6/224-225) ، فأخرج عن أبي بكر وعمرو ابن عباس -رضي الله عنهم- القول الأول، كما أخرج عن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- القول الثاني.
راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/89) .(3/723)
والوجه فيه: أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فعرفوا ذلك، ولهذا جعلنا قولهم حجة.
فأما تفسير التابعين فلا يلزم.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود: إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به (1) .
وقال رحمه الله في كل موضع آخر: الاتباع أن يتبع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو بعد في التابعين مخير (2) .
والوجه فيه: أن قول آحادهم ليس بحجة. ويفارق آحاد الصحبة، لأنه حجة.
وقال في رواية المروذي: ينظر ما كان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين.
ويمكن أن يحمل هذا على إجماعهم.
مسألة
لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (3) .
لأن وقت الحاجة وقت الأداء، فإذا لم يكن مبيناً تعذر الأداء، فلم يكن بد من البيان.
__________
(1) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها عنه أبو داود ص (276-277) ، وتكملة الرواية عند أبي داود: (ولكن لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) هذه الرواية موجودة بنصها في المرجع السابق ص (276) .
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (178-182) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (231) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (85/ب-86/أ) .(3/724)
وأما تأخيره عن وقت الخطاب وقبل وقت الحاجة:
فقد اختلف أصحابنا: فقال شيخنا أبو عبد الله (1) رحمه الله يجوز ذلك. وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية صالح وعبد الله في [101/أ] الآية ترد عامة، ينظر ما جاءت به السنة، فهو دليل علي ظاهرها، ولا فرق بين تأخير البيان عن المجمل أو عن العموم.
وذلك مثل قوله تعالى: (اقْتُلوا الْمشركينَ) (2) ، (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أَيْديهما) (3) ، (الزَّانية وَالزَّاني فاجْلدُوا) (4) ، (وَآتُوا حقه يوْمَ حَصًادِهِ) (5) .
وبهذا قالت الأشعرية، إلا أنهم لا يثبتون للعموم صيغة، لكنهم يجوزون تأخير بيان المراد، كاللفظ الذي أراد خلاف ظاهره، وبيان المجمل إلى وقت الفعل.
وقال أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسن التميمى: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
فقال أبو بكر في أول كتاب التنبيه: لا يجوز تأخير البيان عن وقت النطق.
وقال في مجموع له بخطه: بيان الرد على من قال بتأخير البيان إلى وقت العمل، وذكر كلاماً كثيراً.
__________
(1) المراد به: الحسن بن حامد.
(2) (5) سورة التوبة.
(3) (38) سورة المائدة.
(4) (2) سورة النور.
(5) (141) سورة الأنعام.(3/725)
وقال في إثباته: اتفق الفريقان على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة، ولم يحده إلا وقت التكليف.
وقال أبو الحسن التميمي في بعض مسائله: لا يختلف المسطور عن أحمد رحمه الله: أنه لا يجوز تأخير البيان.
وبهذا قالت المعتزلة (1) ، وأهل الظاهر: داود وشيعته (2) .
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تأخير بيان المجمل، ولايجوز تأخير بيان العموم (3) .
واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب: فذهب الأكثر منهم إلى جواز ذلك على الإطلاق. وقال بعضهم: يجوز في المجمل، ولايجوز في العموم (4) .
فالدلالة على جواز تأخيره في الجملة:
قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) (5) فأمره أن يتبع قرآنه ويسمعه (6) ، وأخبر أنه يبينه فيما بعد؛
لأن "ثم" تقتضي مهلةً وفصلاً.
فإن قيل: معناه: إن علينا إظهاره وإعلانه، ألا ترى أنه اشترط ذلك في جميع القرآن؟
__________
(1) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين االبصري (1/342) .
(2) راجع في هذا: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (1/75) .
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/174) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (1/46) .
(4) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي: (3/28) ، و"شرح جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" (2/69) ، و"المستصفى" (1/368) .
(5) (18-19) القيامة.
(6) في الأصل: (يسمعها) .(3/726)
قيل: حقيقة البيان هو إظهار الشيء من الخفاء إلى حالة التجلي والإظهار، وهذا إنما يكون فيما يفتقر إلى البيان، فأما ما هو مبين فلا يوجد.
وقولهم: إنه اشترط ذلك في جميع القرآن، فلا يمتنع أن يكون المراد به بعضه، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لتُبَينَ للنَّاسِ مَا نُزلَ إليهم) (1) ، والمراد بعضه (2) .
وأيضاً قوله تعالى في قصة نوح: (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهلِي وَإن وَعْدَكَ الحق) فقال: (إنَّهُ لَيْسَ من أَهْلِكَ إنهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) (3) فدل على أن الله تعالى قد كان أطلق الأهل، وأراد به المصلحين منهم، دون المفسدين، وأخر بيانه عن وقت الخطاب.
وأيضاً: فإن الله تعالى أوجب الصلاة مجملة، فقال: (إن الصلاَةَ كانت علىَ الْمؤمنين كتاباً موقوتاً) (4) ، ثم بينها جبريل [101/ب] عليه السلام بفعله صلاة في أول الوقت وآخره، ثم بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فقال عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وأيضاً: فإن تأخير بيان النسخ يجوز عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، كذلك يجوز تأخير بيان التخصيص؛ لأن النسخ تخصيص الأزمان، والتخصيص تخصيص الأعيان؛ لأن قوله: توجهوا إلى بيت المقدس في كل
__________
(1) (44) سورة النحل.
(2) تعقبه الشيخ ابن تيمية في "المسودة" ص (181) بعد أن نقل عن المؤلف الاستدلال بالآية، والاعتراض على الاستدلال ورد الاعتراض.
تعقبه بقوله: (هذا ضعيف، بخلاف تفسير ابن عباس، ولا دلالة في الآية على محل النزاع) .
(3) (45) سورة هود.
(4) (103) سورة النساء.(3/727)
صلاة، قام في جميع الأزمان، وقد أراد به بعض الأزمان، وأخر بيانه.
وقوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) (1) عام في جميع أعيان المشركين، وأراد به بعضهم، وأخر بيانه عن وقت الحاجة فلم يكن بينهما فرق.
فإن قيل: تأخير بيان النسخ لا يخل بصحة الأداء، وتأخير بيان التخصيص يخل بصحة الأداء.
قيل: لا يخل بصحة الأداء، لأنا لا نجوز تأخير البيان عن وقت الفعل.
وجواب [آخر] وهو: أن خطاب العاجز عن الفعل يصح إذا أقدره عليه في حال الفعل، وعدم القدرة يخل بصحة الأداء، ولا يمنع ذلك من صحة الخطاب.
فإن قيل: لا يجوز أن تؤخر القدرة عن وقت الفعل، فلا يخل بصحة الأداء.
قيل: وكذلك لا يجوز أن يؤخر البيان عن وقت الفعل، فلا فرق بينهما.
فإن قيل: الخطاب العام في الأزمان مخالف للخطاب العام في الأعيان في موضوع اللغة، ألا ترى أن رجلاً لو قال لعبده أو وكيله: اعط فلاناً كل يوم رطلاً من خبز، فلما كان بعد مدة منعه من ذلك، كان الخطاب في الأول حسناً عند جميع العقلاء، وإن كان قد أخر بيان وقت المنع إلى وقت الحاجة، ولو قال له: اعطه كل يوم رطلاً من تمر، وهو يريد به رطلاً من لحم أو خبز، كان الخطاب في قبيحاً، فدل على الفرق بينهما.
__________
(1) (5) سورة التوبة.(3/728)
قيل: قوله: "اعطه كل يوم رطلاً من تمر"، وهو يريد رطلا، ً من لحم أو خبز لا يفيد المأمور به، فكان عبثاً أو لغواً، وليس كذلك إذا قال: "اقتلوا المشركين"، فإن القتل المأمور به معقول معلوم، والخطاب مفيد، وإنما أخر بيان من يوقع القتل فيه، كما أخر في النسخ بيان الزمان الذي يوقعه فيه.
فإن قيل: لا يجوز تأخير بيان النسخ، إلا أن يقترن به بيان النسخ، فيقول: صلوا إلى بيت المقدس، ما لم أنسخه عنكم، وهذا يمنع من عموم الخطاب في جميع الأزمان. وقيل: إن هذا سؤال كان يورده ابن الدقاق (1) .
قيل: هذا خطأ؛ لأن هذا مقرون بكل خطاب، وإن لم ينطق به المخاطب، لأن الدليل قد دل على جواز النسخ، فصار ذاك مقدراً في خطاب صاحب الشرع ومقروناً به، وإن لم يذكره، فوجب [102/أ] أن يكونا سواء، فيجب أن يخبر هذا في بيان العموم، فيقول (2) : اقتلوا المشركين إلا من أبين لكم.
ودليل آخر، وهو: أنه يجوز أن يخاطب العاجز عن الفعل، ويؤخر خلق القدرة له وإيجاد الآلة التي بها يتمكن من الفعل إلي وقت الفعل؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك قبل الفعل، كذلك البيان لا حاجة به إليه قبل الفعل، ولا فرق بينهما؛ لأن الفعل يفتقر إلى القدرة كما يفتقر إلى البيان.
فإن قيل: تأخير القدرة عن الفعل لا يفضي إلى أن يعتقد المخاطب جهلاً؛ لأنه يعلم أنه أريد به حال القدرة، والبيان متى تأخر اعتقد المخاطب جهل ما أمر به.
__________
(1) هو محمد بن محمد بن جعفر، أبو بكر الدقاق، وقد سبقت ترجمته ص (107) .
(2) في الأصل: (فإذا قال) .(3/729)
قيل: لا يعتقد جهلاً؛ لأنه يعتقد قتل المشركين أجمع، ما لم يرد البيان.
واحتج المخالف:
بأن تأخير البيان يؤدي إلى اعتقاد الجهل والعزم على الباطل؛ لأن المخاطب يلزمه اعتقاد عمومه، وهذا اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، وذلك جهل، ويلزمه أن يعزم على قتل من وصل إلى قتله من المشركين، وهذا عزم على باطل؛ لأن من بذل الجزية أو أمنه (1) مسلم لا يجوز قتله، وإذا أدّى إلى هذا، وجب أن لا يجوز تأخيره.
والجواب: أنه لا يؤدي إلى هذا؛ لأنه يعتقد عمومه إذا تجرد عما يخصه ويصرفه عن ظاهره، كما نقول أجمع في النسخ، وكما نقول إذا أسمعه الله العام ولم يسمعه الخاص، وكان بيان الخصوص في الأصول سابقا للعموم، وكان يحتاج إلى الاجتهاد في طلبه، واستقراء الأصول بسببه، فإنه في حال اجتهاده يعتقد العموم إن تجرد عما يخصه عند المخالف، كذلك في مسألتنا يعتقد العموم والظاهر إن تجرد، والخصوص والباطن إن اقترنت به قرينة.
واحتج: بأن العموم والخصوص يفيد كل واحد كل منهما غير ما يفيده الآخر، فلا يجوز أن يعبر بأحدهما عن صاحبه من غير بيان، كما لا يعبر بالصلاة عن الصيام، وإذا كان كذلك، بطل أن يعبر بالعموم عن الخصوص من غير إشعار.
والجواب: أنه باطل بالعموم في الأزمان، فإنه يفيد غير ما يفيده الخصوص، ومع هذا فقد يعبر بأحدهما عن صاحبه كذلك.
ولا يشبه هذا ما قالوه من الأمر بالصلاة، أنه لا يكون عبارة عن
__________
(1) في الاصل: (لو أمنه) .(3/730)
الصيام، ألا ترى أنها لا تكون عبارة عنها بلفظ مقارن، فلو قال: "صلّ" ثم قال عقيبه: أردت بذلك الصيام لم يصح، ولو قال في العموم: "اقتلوا المشركين"، ثم قال متصلاً به: "إلا النساء"، صح.
واحتج: بأنه لا سبيل للمخاطب إلى معرفة مراد المخاطب به، فوجب أن يكون قبيحاً، كما يقبح أن يخاطب العرب بلغة الزنج ولغة العجم، وكما يقبح أن يقول: "صلوا"، ويريد به: "صوموا"، ويقول: "صوموا" ويريد به: "صلوا".
[102/ب] والجواب: أن ذلك الخطاب غير مفيد؛ وليس كذلك ها هنا؛ لأن هذا الخطاب مفيد؛ لأنه عرف لفظه، وعقل معناه، واعتقد فيه العموم إن بقي على حالته، والخصوص إن دل عليه الدليل.
واحتج: بأن من خوطب بالعموم، فقد ألزم اعتقاده والإخبار به لغيره، فلو كان المراد به الخصوص، وقد أخبر عنه بالعموم لكان قد ألزم الإخبار بالكذب، وهذا لا يجوز تكليفه.
والجواب: أن هذا يبطل بالنسخ، فإن هذا المعنى موجود فيه، ومع هذا فإنه يصح تأخيره. وعلى أنه يعتقده ويخبر عنه إن حكي معه، ولم ينقل عنه، كما قلنا في النسخ.
واحتج: بأن من أطلق كلاماً له ظاهر، ثم قال بعد استقراره من غير إشعار بخلاف ذلك استقبح منه، وإن كان متعلقاً بحق آدمي لم يقبل منه، وإذا كان ذلك مستقبحا منه، لم يجز أن يرد كلام الله تعالى وكلام رسوله على ذلك.
والجواب: أن هذا المعنى موجود في النسخ، وعلى أنه إنما يقبح ذلك في اللفظ الصريح، فأما المحتمل، فلا.
واحتج: بأن البيان في العام كالاستثناء، فإذا لم يجز تأخير أحدهما، كذلك الآخر.(3/731)
والجواب: أنه لم يجز إلحاق التخصيص بالاستثناء دون إلحاقه بالنسخ، وإلحاقه بالنسخ أولى، لأن لفظ الخصوص إذا انفرد استقل بنفسه، فإنه يقول بعد يوم: لاتقتل أهل الذمة فيفيد حكماً بنفسه كلفظ النسخ، فكان إلحاقه به أولى. ويفارق لفظ الاستثناء، فإنه لا يستقل بنفسه، ولا يفيد حكماً، فإنه لو قال: اقتلوا المشركين، ثم قال بعد يوم: إلا أهل الذمة لم يفد هذا بمجرده فائدة، لأنه لا ندري هذا الكلام إلى ماذا يرجع.
واحتج: بأن الله تعالى أمر نبيه بالتبليغ على الفور، فإذا أخر البيان عن وقت الخطاب، لايكون قد بلغ على الفور.
والجواب: أنا لا نسلم أنه أمر بالتبليغ على الفور، بل أمر به على التراخي، وعلى أن البيان مخالف لحكم التبليغ، وذلك لأن التبليغ يجوز أن يتأخر بدليل آخر يدل عليه، والبيان لا يجوز عندهم أن يتأخر بدليل يدل عليه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر.
واحتج: بأن تأخير البيان يفضي إلى أن يكون اللفظ الوارد في حكم ما لم يرد ويكون المخاطب به بعد وروده بمنزلته قبل وروده؛ لأنه لا ندري المراد به.
والجواب: أنه باطل بالنسخ، فإن لفظ العموم المستغرق للأزمان يرد (1) مع تجويز النسخ، ولا يكون بمنزلة ما لم يرد، وعلى أنه إذا لم يرد، لم يعقل المكلف شيئاً، ولا يفيد إلزام حكم عبادة، وليس كذلك [103/أ] ، ها هنا، فإنه يفيد إلزام حكم عبادة واعتقاد العموم، إن عريَ اللفظ عن دليل التخصيص.
واحتج: بأنه لو جاز تأخير البيان، وأن يكون بيانه من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخترم النبي قبل بيان المراد به، فيلزم الأمة العمل، كذلك
__________
(1) في الأصل: (فيرد) ، والفاء هنا لا معنى لها، لذلك حذفناها.(3/732)
الخطاب، وليس المراد به هذا الظاهر، وتكون الأمة قد كلفوا غير المراد.
والجواب: أنه لا يجوز في صفة الحكيم أن يخترم رسوله المبلغ المبين عنه معنى ما أراد، قبل (1) أن يبينه للناس، وإذا كان كذلك لم يفض (2) إلي ما قالوه.
وعلى أنه باطل بالنسخ، لأنه يرد معرضاً، ثم قد يخترم النبي قبل بيان الناسخ، كذلك ها هنا.
وعلى أن هذا غير ممتنع في بيان العموم؛ لأنه لإن اخترم قبل البيان تمسك الناس بذلك العموم، وأخذوا بموجبه، إذ ليس عليهم أن يعلموا مراد الله تعالى به من غير الظاهر منه.
فصل
وما ذكرنا من الدلائل، فهو دليل على أصحاب أبي حنيفة في فرقهم بين بيان العموم وبيان المجمل، ومما يخصهم أن بيان المجمل كبيان العموم؛ لأنه ينكشف به المراد باللفظ، ثم جاز ذلك في المجمل، وجب أن يجوز في العموم.
فإن قيل: فرق بينهما، وذلك أن بيان العموم إذا أفاد إلزام اعتقاد أمر ليس بمراد، وهذا يقبح أن يرد به التكليف، والمجمل يفيد اعتقاد حكمه وبيان صفته حال الحاجه، فيحصل به توطين النفس لفعل المأمور به، وهذا حسن في التكليف.
قيل: يبطل بالنسخ، فإنه يجوز تأخيره، وإن أفضى إلى ما قالوه.
__________
(1) في الأصل: (مثل) .
(2) في الأصل: (يفضي) بإثبات الياء.(3/733)
وعلى أنا قد بينا أنه يعتقد عموم ذلك، ما لم يخص، وينقل عنه، كما يعتقد ذلك في الزمان.
مسألة (1)
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر فيها، فإن لم يكن على سبيل القربة، كالأكل والشرب واللباس والقيام والقعود ونحو هذا، فإنه يدل على أنه فعل مباح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المحظور، وإن فعل لم يقر عليه.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن الاضطجاع، فقال: ما فعلته إلا مرة، وليس هو من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلم يجعل ذلك حجة؛ لأن الاضطجاع ليس بقربة.
وإن كان على سبيل القربة والطاعة والعبادة، فعلى ثلاثة أضرب: ما كان بياناً، أو امتثالاً لأمر، أو ابتداءً من غير سبب.
فإن كانت بيانا لم تدل على شيء غير البيان، ويكون حكمها مأخوذاً من المبين، فإن كان المبين واجباً، فقد بين الواجب، وإن كان ندباً، فقد بين الندب.
والبيان على ضربين: [بيان] مجمل وتخصيص عموم.
فبيان المجمل نحو قوله تعالى: (وَآتُوا حقَّهُ يَوْمَ حَصَاده) (2) ثم أخذ النبي يوم الحصاد العشر، فكان فعله صلى الله عليه بياناً لذلك [103/ب] المجمل، وفعله لا يدل على غير البيان.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (187) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (89/ب-90/أ) .
(2) (141) سورة الأنعام.(3/734)
وبيان التخصيص نحو قوله تعالى: (وَالسارِقُ وَالسارِقة فَاقْطَعُوا أيْديهمَا) (1) هذا عام في كل سارق سرق، قليلاً أو كثيراً، من حرز وغير حرز، فإذا حمل إليه سارق من غير حرز وأقل من ربع دينار فلم يقطعه كان (2) هذا بياناً وقع به التخصيص.
وإنما يعلم أن هذا خرج على وجه البيان، إذا تقدم العام.
وإن كانت امتثال أمر، لم تدل (3) أيضاً في أنفسها على شيء، غير أن ينظر إلى الأمر، فإن كان على الوجوب، علمنا أنه فعل واجباً بالأمر، وان كان ندباً، علمنا أنه فعل الندب بالأمر، فأما من فعْلِه، فلا.
وأما إن كان ابتداءً من غير سبب مستند إليه ففيه روايتان: إحداهما: أنها على الوجوب، أومأ إليه رحمه الله: في مسائل، فقال في رواية حرب: يمسح رأسه كله، كذا جاء الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مسح الرأس كله" (4) .
وقال أيضاً رحمه الله في رواية الأثرم: إذا رمي الجمار، فبدأ
__________
(1) (38) سورة المائدة.
(2) في الأصل مكررة.
(3) في الأصل: (يدل) بالياء.
(4) هذا جزء من حديث روته الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها.
أخرجه عنها أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم (1/28) .
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن مسح الرأس مرة (1/49) ، وقال: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه عنها البغوي في كتابه: "شرح السنة"، كتاب الطهارة، باب مسح الرأس والأذنين (1/438) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "ذخائر المواريث" (2/187) ، والمنتقى من أحاديث الأحكام" ص (44) .(3/735)
بالثالثة ثم الثانية ثم الأولى، لم يصح، قد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمار (1) ، وبين فيها سنته (2) .
وقال أيضاً في رواية الجماعة: المغمى عليه يقضي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أغمي عليه، فقضى (3) . وقد احتج بأفعاله على الوجوب.
__________
(1) في "المسودة" ص (187) : (قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الرمي وبين فيه سنته) .
(2) ترتيب رمي الجمار قد جاء فيه عدة أحاديث. منها ما روته عائشة رضي الله عنها.
أخرجه عنها أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار (1/456) .
وأخرجه عنها الحاكم في "مستدركه" في كتاب المناسك، باب طواف الافاضة ورمي الجمار: (1/477-478) ، وقال: "هذا حديث صحيح" على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده": (6/90) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (413) ، و"نصب الراية" (3/84) .
(3) بعد طول البحث لم أقف على هذا الحديث، وانما الذي رأيته هو ما رواه الدارقطني في "سننه" في كتاب الصلاة، باب الرجل يغمى عليه وقد جاء وقت الصلاة هل يقضي أو لا؟ (2/81) عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقد ذكر أبو داود في "مسائله" التي نقلها عن الإمام أحمد ص (49) أنه سأل الإمام أحمد عن المغمى عليه، هل يقضي؟ قال: نعم، يقضي ما فاته، واحتج بحديث عمار.
وأيضاً، فإن ابن قدامة في كتابه: "المغني" (1/353-354) ذكر أن المذهب في المغمى عليه: أنه يقضي ما فاته، واستدل لذلك، ولم يذكر الحديث الذي أورده المؤلف، وانما ذكر فعل عمار - رضي الله عنه - واستدل به، ولو كان هناك حديث مرفوع، لذكره، وكان هو الفيصل في المسألة.(3/736)
وبهذا قال أصحاب مالك (1) .
وفيه رواية أخرى: أن ذلك لا يقتضي الوجوب، وإنما يقتضي الندب، نص عليه رحمه الله في رواية إسحاق بن ابراهيم فقال: الأمر من النبي سوى الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل الشيء من جهة الفضل، وقد يفعل الشيء هو له خاص، وإذا أمر بالشيء فهو للمسلمين.
وقال في رواية الأثرم: وقيل له: أليس ينبغي أن يستعمل بأن يقول كما يقول المؤذن؟ قال: ويجعل هذا واجباً، إنما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع المؤذن، قال كما يقول (2) ، فهو فضل، ليس على أنه واجب.
وهو اختيار أبي الحسن التميمي فيما وجدته له مسألة مفردة، يقول فيها: انتهى إليّ من قول أبي عبد الله: أن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست على الإيجاب، إلا أن يدل دليل، فيكون ذلك الفعل الدليل الذي صار به على الإيجاب.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه أبو سفيان السرخسي عن
__________
(1) راجع في هذا: "شرح تنقيح الفصول" ص (288) .
(2) حديث فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا رواه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي (1/150) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب القول مثل ما يتشهد المؤذن (2/21) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الأذان (1/218) .
وأخرجه عنه البغوي في كتابه: "شرح السنة" في كتاب "الصلاة" باب إجابة المؤذن (2/285-286) .(3/737)
أصحابه (1) ، وأهل الظاهر أيضاً (2) .
وذهبت المعتزلة (3) والأشعرية الى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب، ولا على الندب إلا بدلالة.
واختلف أصحاب الشافعي على مذاهب:
منهم من قال: هي على الوجوب.
ومنهم من قال: هي على الندب.
ومنهم من قال: هي على الوقف (4) .
فالدلالة [104/أ] على أنها على الوجوب:
قوله تعالى: (قُلْ يا أيها الناس) إلى قوله: (وَاتَّبِعُوهَ لعلكم تَهْتدُونَ) (5) ، فأمر باتباعه، والأمر على الوجوب.
__________
(1) هناك رأيان للحنفية في هذه المسألة هما:
الأول: الندب. قال في "تيسير التحرير": (3/123) : (وهو معزو في المحصول إلى الشافعي، وفي القواطع إلى الأكثر من الحنفية..) .
الثافي: الإباحة، وقد أفاد صاحب "مسلم الثبوت" (2/181) أنه الصحيح عند أكثر الحنفية. واختاره أبو بكر الجصاص.
(2) راجع في هذا: "الاحكام" لابن حزم (4/422) .
(3) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (1/377) .
(4) نسب الآمدي في "الإحكام": (1/160) القول بالوجوب إلى ابن سريج والاصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران..
أما القول بالندب فنسبه إلى الإمام الشافعي بصيغة (قيل) ، واختاره إمام الحرمين.
أما القول بالوقف فنسبة إلى جماعة من الشافعية، منهم الصيرفي والغزالي.
(5) (158) سورة الأعراف.(3/738)
فإن قيل: الاتباع هو: أن يفعل ذلك على الوجه الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لم يعلم الوجه الذي أوقع الفعل عليه، من وجوب أو ندب أو إباحة، لم نكن متبعين له.
قيل: الاتباع يكون في الفعل، وإن اختلف قصد التابع والمتبوع، كالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره وإن خالفه في قصده.
فإن قيل: في الآية إضمار، وتقديره: واتبعوه في فعله، فيحتاج أن تثبت صفة الفعل على أي وجه وقع حتى يتبع فيه.
قيل: نحن نستدل بالآية على وجوب اتباعه في فعله الواقع منه وفي صورته وصفته، فأما كيفية وقوعه فلا تعرض له.
ويدل عليه قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول الله أسْوَةٌ حسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (1) .
فإن قيل: هذا يدل على أن التأسي بالنبي مستحب.
قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) تهديد (2) يدل على أن ذلك إيجاب وإلزام.
فإن قيل: قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) ليس بتهديد، لأن الرجاء تأميل النفعة.
__________
(1) (21) سورة الاحزاب.
(2) في الأصل: (تهديداً) بالنصب.(3/739)
قيل: المراد به ها هنا لمن كان يخاف الله واليوم الآخر. قال أبو ذؤيب الهذلي (1) :
إذَا لسعَتْهُ النّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَهَا ... وخَالَفَها في بَيْتِ نُوب عَوَامِلِ (2)
يريد: لم يخف لسعها من اشتيار (3) العسل في بيوت النحل. والنوب:
__________
(1) هو: خويلد بن خالد بن محرث، وقيل: خويلد بن محرث، من بني مازن بن سويد بن تميم بن سعد بن هذيل. شاعر مخضرم. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. قال حسان: "هذيل أشعر الناس، وأبو ذؤيب أشعر هذيل". مات في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بطريق مكة، قريباً منها. وقيل: مات بالمغرب، وقيل: بمصر.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1648) ، و"الاصابة" (7/63) ، و"الشعر والشعراء" (2/653) ، و"طبقات الشعراء" ص (110،103) .
(2) هذا البيت نسبه السكري في كتابه: "شرح أشعار الهذليين" (1/144) إلى الشاعر المذكور. وهو البيت الخامس عشر من قصيدة بلغت ثلاثة وعشرين بيتاً، يقول في مطلعها:
أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السّكْنِ أو عن عَهْدِه بالأوائِل
وقد ذكر السكري في كلمة: (خالفها) روايتين، إحداهما بالخاء المعجمة، والثانية بالحاء المهملة. كما ذكر أن "العوامل" هي التي تعمل العسل والشمع.
في الأصل: (سعار) من غير اعجام.
و"اشتيار العسل" اجتناؤه، وأخذه من موضعه. قال أبو عبيد: "شرتُ العسل، واشترته، اجتنيته وأخذته من موضعه".
انظر: "اللسان": (6/103) مادة: "شور"، و"معجم مقاييس اللغة": (3/226) ، في المادة المذكورة.(3/740)
النحل (1) ، والنوب (2) : القرب.
ويدل عليه قوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتبعُوني يُحْببْكم اللهُ وَيغفِرْ لكُم ذُنُوبكَمُ) (3) ، وهذا يدل على أن التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه واجب.
ومن جهة السنة:
ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي، فخلع نعله، فخلعوا نعالهم، فلما فرغ قال: "لم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا، فقال: "أتاني جبريل فأخبرني أن فيهما قذراً" (4) .
__________
(1) في الأصل: (والنوب والنحل) .
وسميت "النحل" بـ "النوب"، لرعيها ونوبها إلى مكانها. قال السكري في كتابه: "شرح أشعار الهذليين" (1/144) : ("نوب": تنتاب المرعى، فتأكل، ثم ترجع، فتعسل، و"تنوب": تذهب وتجيء) .
وقال أبو عبيد: "إنما سميت: "نوباً"؛ لسواد فيها". نقل ذلك عنه السكري في المرجع السابق.
وانظر أيضاً: "معجم مقاييس اللغة" (5/367) .
(2) في الأصل: (البوب) بالباء.
(3) (31) سورة آل عمران.
(4) هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعل (1/151) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعلين (1/260) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده": (3/20) .
وأخرجه عنه الحاكم في "مستدركه" في كتاب الصلاة، باب "لا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره"، وليضعهما بين رجليه (1/260) وقال: (وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه) . =(3/741)
فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفهم منهم، فقالوا فعلنا كفعلك، فلم ينكر عليهم، ولم يقل لا يجوز لكم ذلك، بل أقرهم على اتباعه، وبين لهم السبب الذي فعل لأجله.
فإن قيل: فلو كان اتباعه واجباً لم يستفهم منهم؛ لأنهم فعلوا الواجب.
قيل: يحتمل أن يكون استفهم لينظر هل فعلوا ذلك لاتباعه أم لمعنى آخر؟ فلما أخبروه أنهم فعلوه لأجله، [104/ب] أقرهم عليه، وبين العلة التي خلعها لأجلها.
فإن قيل: لم ينكر عليهم؛ لأنه قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
قيل: لا نعلم أن هذا القول قاله قبل هذه القصة أو بعدها، فنقف حتى نعلم كيف كان، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يصلوا كما يصلي، وخلع النعل ليس بصلاة، وإنما هي أفعال أوقعها فيها من غيرها، بدليل: أن هذا لو كثر منه وتكرر بطلت صلاته.
وأيضا: ما روت أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله سألوني عن القُبلة للصائم، فقال: "لِمَ لم تقولي لهم: إني أقبل وأنا صائم (1) ؟! ". فَعَرفها
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الصلاة، باب من صلى وفي ثوبه أذى لم يعلم به، ثم علم (2/402) .
(1) حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب الصيام، باب ما جاء في تقبيل الرجل زوجته، وهو صائم (1/258- 259) ، ولفظه: (أن رجلاً قبل امرأته، وهو صائم، فوجَد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله =(3/742)
شرعَه، وأنكر عليها ترك إخبارهم لفعله. فلولا أن فعله يقتدى به لما أمرها بذلك.
ولا معنى لقولهم: إن هذه أخبار آحاد فلا يثبت: بها أصول؛ لأن أخبار الآحاد إذا تلقيت بالقبول، كانت مقطوعًا بها كالتواتر. وليس في الأمة أحد يكذّب حديث خلع النعلين في الصلاة (1) .
وأيضاً: وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وذلك أنهم لما اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، فقال قوم: يجب. وقال أُبي بن كعب: لا يجب ما لم ينزل، وقال (2) : الماء من الماء (3) ، فسألوا عائشة فقالت: إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا (4) [فـ] رجعوا إليها وأقروها على ما احتجت به في وجوبه، فثبت أنهم أجمعوا على ذلك.
وروي أن عمر رضي الله عنه قَبّل الحجر، وقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله قَبّلك ما قَتلتك (5) .
__________
= صلى الله عليه وسلم عندها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال هذه المرأة؟ ". فأخبرته أم سلمة، فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"؟.) الحديث.
(1) مضى تخريجه ص (741) .
(2) في الأصل: (وقالوا) .
(3) سبق تخريجه بهذا اللفظ ص (461) .
(4) سبق تخريجه بهذا اللفظ ص (328) .
(5) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الرمل في الحج والعمرة (2/17) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (2/925) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في تقبيل الحجر (1/433) . =(3/743)
وغير ذلك من رجوع الصحابة إلى أفعاله في المسح وغيره.
وأيضا: فإن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأقواله، بدليل: أنه يخص به العموم، ويبين به المجمل، فوجب أن يكون بمنزلته في حمله على الوجوب عند تجرده (1) .
كما أن السنة لما ساوت الكتاب فيما ذكرنا ساوته في حملها على الوجوب عند التجريد.
ولأن الفعل إذا كان منه على سبيل القربة، احتمل أن يكون ندباً واحتمل أن يكون واجباً واحتمل الندب، فحمله على الوجوب أولى لما فيه من الاحتياط؛ لأن الندب يدخل في الواجب، والواجب لا يدخل في الندب.
فإن قيل: فقد يكون واجباً في حقه خاصاً له، فلا يلزم غيره.
قيل: إطلاق أفعاله عندنا محمولة على أنها له ولأمته، وإنما بقع منها خاصاً بدلالة، وإلا فالأمر بيننا وبينه مشترك.
واحتج من قال يستحب:
بقوله تعالى: (قُلْ إنْ كُنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاتبعُوني يحبِبْكم اللهُ) (2) ، ومحبته تقتضي الاستحباب دون الإيجاب.
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في تقبيل الحجر (3/205) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب تقبيل الحجر (5/180) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب استلام الحجر (1/981) .
(1) أعاد المؤلف الضمير بصيغة المفرد المذكر هنا وفي المواضع السابقة مع أنها عائدة إما على (أفعال) واما على (أقوال) ولعله قصد المفرد من ذلك.
(2) (31) سورة آل عمران.(3/744)
[105/أ] والجواب: أن قوله: (فَاتَّبِعُونِي) (1) أمر، والأمر يقتضي الإيجاب. فالآية حجة لنا من هذا الوجه.
وقوله: (يُحْببْكُم اللهُ) لا يقتضي الاستحباب، لأن المحبة تكون لفعل الواجب والمستحب جميعاً.
واحتج: بقوله تعالى: (لقدْ كَانَ لَكُم في رَسوُلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (2) ولم يقل عليكم، فدل على أن التأسي به مستحب.
والجواب: أن في سياقها ما يدل على الوجوب، وهو قوله: (وَمَن يَتَول فَإن اللهَ هُوَ الْغَنِيَّ الْحَميدُ) (3) فتوعد على المخالفة.
ولأنه قال تعالى: (وَلَهُم اللَّعْنَةُ، وَلَهمْ سُوءُ الدارِ) (4) معناه: عليهم اللعنة.
واحتج: بأن وجوب أفعال - صلى الله عليه وسلم - لا تخلو من أن تثبت بالعقل أو بالسمع، والعقل لا يقتضي وجوبها؛ لأن المصالح تختلف باختلاف أحوال المكلفين، ولهذا خالفت الحائض الطاهر، والمقيم المسافر، فيجوز أن يكون فعله صلاحا له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فثبت بهذا أن العقل لا يقتضي وجوب مثل أفعاله علينا، والسمع لم يرد أيضاً بذلك ووجوبه.
والجواب: أنها وجبت بالسمع، وقد بينا ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
واحتج: بأنه متى وجب علينا أن نفعل مثل فعله كنا متبعين له فيه،
__________
(1) في الأصل: (فاتبعوه) .
(2) (21) سورة الأحزاب.
(3) (24) سورة الحديد.
(4) (52) سورة غافر.(3/745)
ومعلوم أن المتبوع أوكد حالاً من التبع، فإذا كان كذلك، وكان (1) ظاهر فعله لا ينبىء عن وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى.
والجواب: أن هذا يبطل على أصل المخالف، بالأمر، فإنهم جعلوه دالاً على الوجوب في حق غيره، ولا يدل على وجوبه عليه، لأن الآمر لا يدخل تحت الأمر، فلا يمتنع أن يكون الفعل من جهته كالأمر.
وعلى أنا نقول: إن ظاهر أفعاله تدل على الوجوب في حقه، كما قلنا في أوامره: هي لازمة له وهو داخل تحتها كالمأمور سواء، ولا فرق بينهما. وهذا قياس المذهب.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الأفعال في أحوال لا يشاهد فيها، ولا يمكن حضوره والوقوف عليه، وما هذه صفته لا يجوز أن يكون واجباً علينا؛ لأن ما لا طريق لنا إلى معرفته لا نتعبد به، وإذا لم يكن الفعل الذي هذه حاله واجباً علينا، لم يجب أيضاً غيره من الأفعال، لأنه ليس بعض أفعاله بالوجوب أولى من بعض.
والجواب: أن ما يفعله في الخَلوَات يمكنه أن يخبر بها من لم يشاهد، كما أنه يجوز أن يأمر بالفعل من ليس يحضره، ثم يقع لهم بذلك الخبر.
واحتج: بأنه لا يخلو أن يكون [105/ب] المعتبر في هذا الباب بصورة أفعاله التي ظهرت دون الوجوه التي عليها وقعت، أو يكون المعتبر بصورتها مع الوجوه التي وقعت عليها، ولا جائز أن يكون المعتبر بصورتها فقط؛ لأنه لو وجب ذلك لجاز لنا إيقاع مثل الفعل الذي فعله على جهة الإيجاب مع وقوعه منه على جهة الندب أو الإباحة، وهذا باطل بالاتفاق. وإذا وجب
__________
(1) في الأصل: (فكان) .(3/746)
اعتبار صورة الفعل مع الوجه الذي وقع، فهذا يمنع أن يكون ظهور فعله دلالة على الوجوب.
والجواب: أن المعتبر بصورة الفعل فقط، إذا كان واقعاً على وجه القربة.
وقولهم: إنه قد يقع منه على وجه الندب والإباحة، غلط؛ لأن إطلاق أفعال القرب منه يقتضي الإيجاب، وإنما يحمل على الندب بدلالة.
واحتج: بأن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعْتوِرها معنيان: أحدهما الفعل و [ثانيهما] الترك؛ لأن الترك أحد قسمي الفعل، فلما لم يكن تركه موجباً علينا ترك الفعل الذي تركه، كذلك فعله، لا يوجب علينا مثل فعله.
والجواب: أن هذا يبطل بالأمر فإنه يَعْتَوِره معنيان: الأمر والترك، وترك الأمر لا يوجب ترك ما ترك الأمر به، وأمره يوجب امتثال ما أمر به.
واحتج: بأن حمله على الندب أولى؛ لأنه متحقق، وما عداه مشكوك فيه.
والجواب: أن حمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط والخروج من الغرر.
واحتج أبو الحسن في مسألته (1) : بأن فعله قد يكون مصلحة له، دون أمته.
والجواب: أنه يبطل بأمره إذا خرج في رجل بعينه قد تكون مصلحة له ولا يختصه.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (في مسائله) .(3/747)
وذكر أيضاً: بأن الصغائر قد تقع من الأنبياء، قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1) .
وأخبر عن موسى لما قتل الرجل (هَذَا مِن عَملِ الشَّيْطَانِ) (2) .
وكذلك ما وجد من إخوة يوسف، ومن داود، وإذا ثبت وقوع الخطأ منهم، لم يجب علينا احتذاء أفعالهم.
والجواب: أنا قد بينا أنه إنما يجب ما كان على سبيل القربه والطاعة.
واحتج من قال: إنها على الوقف:
بأنا لا نعلم على أي وجه فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أن يكون فعله واجباً، ويحتمل أن يكون ندباً، ويحتمل [أن يكون] (3) إباحةً، ويحتمل أن يكون مخصوصاً دون أمته، وإذا لم يعلم على أي وجه أوقعه لم يصح الاقتداء به.
والجواب: أن الفعل المتجرد عن القرائن لا يكون إلا واجبا عاما فيه وفي أمته، وإنما يكون ندباً أو خاصاً له عند انضمام قرينة الندب، كما قلنا في صيغة الأمر إذا وردت [106/أ] متجردة عن القرائن اقتضت الوجوب، وإنما يحمل على الندب بقرينة.
وعلى أنه وإن كان محتملا للوجوب والندب، فحمله على الوجوب أولى، لما فيه من الاحتياط.
وجواب آخر، وهو: أن الاتباع قد يكون في الفعل وإن اختلف
__________
(1) (121) سورة طه.
(2) (15) سورة القصص.
(3) ما بين القوسين المعقوفين من تصويب الناسخ في هامش الأصل.(3/748)
قصد التابع والمتبوع، فالمتنفل يأتم بالمفترض، فيتبعه في صلاته، وإن اختلفا في القصد والاعتقاد.
وكذلك من خرج للجهاد، فتبعه آخر يريد تجارة، سمي متبعاً له في سفره، وإن خالفه في قصده.
ومما يلحق بأول المسألة ما رأيت (1) في آخر كتاب النفقات من كتاب الشافي بخط عتيق: روى محمد بن هبيرة البغوي (2) عن أحمد بن حنبل رحمه الله قلت له: أليس أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً؟ قال: نعم، إلا أن منه أشد، قلت له: ففعله؟ قال: فعله ليس عليك بواجب، وذلك أنه كان يقوم حتى ترم قدماه (3) ، ويفعل أفعالا لا تجب عليك (4) .
وبهذا قال أصحاب أبى حنيفة.
فصل
وإذا ثبت أن أفعاله على الوجوب، فإن وجوبها من جهة السمع، خلافاً لمن قال: تجب بالعقل.
__________
(1) في الأصل: (ورأيت) .
(2) من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/325) .
(3) هذا الحديث رواه المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أخرجه عنه البخاري في كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه (2/60) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/2171-2172) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (4/255) .
(4) هذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/325) ، في ترجمة محمد بن هبيرة البغوي، المذكور آنفا.(3/749)
دليلنا:
أن أصل النبوة لما لم يثبت عقلاً، وإنما يثبت بدليل، ففعله أولى.
ولأن الأفعال الشرعية، تختلف بحسب اختلاف أحوال المكلفين، بدلالة أن الحائض مخالفة لحال الطاهر، وكذلك المقيم مخالف للمسافر، والغني والفقير، لم يمتنع أن تكون حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة لأحوالنا في الفعل، فيكون ما يفعله صلاحاً له، ومتى فعلنا مثله كان فساداً لنا، فوجب الرجوع في اتباع أفعاله إلى دلالة أخرى غير الفعل.
واحتج المخالف:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل ذلك على وجه القربة كان من مصالحه، فيجب أن يكون من مصالحنا.
والجواب: أن هذا يوجب كون الصلاة مصلحة في حق الحائض، لأنها مصلحة في حق الظاهر، وكذلك الصيام والقصر في حق المقيم، والزكاة في حق الفقير.
واحتج بأن ما أوقعه صواب وحق، فوجب اتباعه.
والجواب: أن هذا يبطل بما كان مخصوصاً به من الأشياء، ويبطل بالصلاة في حق الطاهر صواب وحق، وليس ذلك بصواب في حق الحائض.
واحتج: بأن في ترك اتباعه إظهار خلاف عليه ومباينة له، وذلك يوجب التنفير عنه والتصغير لشأنه، فوجب حملها على الوجوب.
والجواب: أن هذا باطل بما كان مخصوصاً به.
ويبطل أيضاً بأفعاله المباحة من الأكل والشرب واللبس والمشي،(3/750)
فإن ترك اتباعه فيها يفضي إلى ما قالوه، ومع هذا لا يجب اتباعه وعلى [106/ب] أن هذا يوجب المشاقة في حق من لا يوجبها، وعندنا أنه يجب اتباعه فيها، وإنما تختلف في الطريقة التي بها يجب، فلا يصح ماقالوه.
مسألة (1)
يجوز أن يكون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول، والعقل لا يمنع من ذلك؛ لما فيه من المصلحة له، فلما لم يمنع أن يتفق حكم زيد وعمرو فيما هو مصلحة لهما من الشرعيات، ولم يمتنع أيضاً أن يختلف حكمهما في ذلك، وجب أن يجوز كون النبي الثاني متعبداً بما تعبد به الأول.
فإن قيل: لو جاز أن يكون الثاني متعبداً بما كان الأول متعبدا به لكان لا فائدة في بعثه وإظهار الإعلام على يده: ولأنه لم يأت بشريعة مبتدأة، وإنما نقل إلى قومه شريعة من تقدمه.
قيل: إنما يحسن إظهار الإعلام على يد النبي الثاني؛ لأنه لا بد من أن يأتي بما لا يعرف إلا من جهته، إما أن يكون ما يأتي به في شريعة مبتدأة، أو يكون ذلك مما كان الأول متعبداً به، إلا أنه قد درس وصار بحيث لا يعرف إلا من جهة النبي الثاني (2) .
فإن قيل: فما أنكرتم أن لا يجوز أن يتعبد الثاني بخلاف ما كان الأول
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (182) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/أ) ، و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر العاطر" (1/400) وما بعدها.
(2) وقد تعقبه شيخ الاسلام ابن تيمية في "المسودة" ص (183) بقوله: (وهذا فيه نظر، فإنه يجوز عندنا إظهار الكرامات للأولياء، فكيف للنبي المتبع؟ وتكون فائدته التقوية كأنبياء بني إسرائيل) .(3/751)
متعبداً به؛ لأْنه حينئذ يصير راداً لما أتى به الأول ومخالفاً له فيه، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز أن يخبر الثاني بخلاف ما أخبر به الأول.
قيل: لو كان الثاني متعبداً بما تعبد به الأول [فذلك] لا يوجب أن يكون راداً لما أتى به في الأول؛ لأنه يقول: ما يأتي به الأول حق وصواب، مثل ما أتيت به، وإن كان مخالفاً له، كما أن المستشارين إذا أشار أحدهما بخلاف ما يشير به صاحبه، لم يكن أحدهما راداً لرأي الآخر، بل يقول كل واحد منهما: إن ما يراه صاحبي صواب منه، وما رأيت أنا صواباً مني، وليس هذه حال الخبر، لأنه إنما يكون صدقاً وكذباً بحال (1) يرجع إليه؛ لأنه إن كان مخبره على ما أخبر به كان صدقاً (2) ، وإن كان بخلاف ما أخبر به كان كذباً.
وأما الأفعال الشرعية، فإنها لا تكون حقاً وصواباً بحال يرجع إليها، وإنما يكون صوابا، لما فيه من المصلحة، فيكون الفعل الواحد مصلحة في حال، وتكون المصلحة في خلافه في حال أخرى، كالمرأة الطاهر (3) تكون المصلحة لها في الصلاة والصيام، وإذا حاضت كانت المصلحة لها في ترك ذلك.
وكذلك المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، ولا يمتنع أن تكون المصلحة للنبي الثاني في أن يتعبد بخلاف ما تعبد به الأول.
فإن قيل: كيف يصح هذا على أصلكم، وعندكم أن العقل لا يبيح ولا يحظر؟
قيل: من أصلنا: أن العقل لا مدخل له في إباحة شيء [107/أ] ولا
__________
(1) في الأصل: (محال) .
(2) في الأصل: (صادقاً) .
(3) في الأصل: (والطاهر) ، والواو هنا لا معنى لها.(3/752)
حظره، وكلامنا هاهنا: هل العقل يحيل ذلك؟ ولسنا نمنع وجوب (1) أشياء لا يحيل وجودها العقل كرؤية الله تعالى، وأشياء يحيل العقل وجودها كاجتماع الضدين.
مسألة (2)
إذا ثبت جواز ذلك، فهل كان نبينا متعبداً بشريعة من قبله أم لا؟
فيه روايتان:
إحداهما: أن كل ما لم يثبت نسخه من شرائع من كان قبل نبينا عليه السلام فقد صار شريعة لنبينا، ويلزمنا أحكامه من حيث إنه قد صار شريعة له، لا من حيث كان شريعة لمن قبله.
وإنما يثبت كونه شرعاً لهم بمقطوع عليه، إما الكتاب أو الخبر (3) من جهة الصادق أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا، فقال في رواية أبي طالب فيمن حلفت بنحر ولدها، [عليها] كبش (4) ، تذبحه وتتصدق بلحمه، قال الله تعالى: (وَفديناهُ بِذِبْح عَظِيم) (5) .
__________
(1) لعله "وجود".
(2) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (183) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/ب-106/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها. "نزهة الخاطر" (1/400-403) .
(3) في المسودة ص (184) : (مقطوعاً عليه إما بكتاب أو بخبر ... ) .
(4) في الأصل: (فيمن حلفت بنحر ولدها كبشاً) ، والتصويب من المسودة ص (184) ، إلا أن القصة وقعت لرجل، والرواية من نقل صالح، وليست من نقل أبي طالب، كما هنا.
(5) (107) سورة الصافات.(3/753)
فقد أوجب أحمد رحمه الله كبشاً في ذلك، واحتج بالآية عليه، وهي شريعة إلي إبراهيم.
وقال في رواية أبي الحارث والأثرم وحنبل والفضل بن [زياد و] (1) عبد الصمد (2) وقد سئل عن القرعة، فقال: في كتاب الله في موضعين: قال الله تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحضِينَ) (3) ، وقال: (إذْ يُلقُونَ أقلامهُم) (4) فقد احتج بالآيتين في إثبات القرعة، وهي في شريعة يونس ومريم.
وقال أيضاً في رواية أبي طالب وصالح في قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم فيهَا أَن النَّفْسَ بالنَّفْسِ) (5) فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يُقتل مؤمن بكافر) (6) ،َ قيل له: أليس قد قال الله تعالى: (النفس
__________
(1) زدنا ما بين القوسين؛ لأن "الفضل" ليس ابن "عبد الصمد"، وإنما هو ابن "زياد"، وهو من أصحاب الإمام أحمد، وقد سبقت ترجمته.
أما عبد الصمد هذا، فهو من أصحاب الامام أحمد أيضاً، كما سيأتي.
وقد نقل صاحب "المسودة" ص (184) كلام المؤلف هنا، كما أثبتناه.
(2) في "طبقات الحنابلة" (1/217-218) أربعة بهذا الاسم، كلهم من أصحاب الإمام أحمد الذين رووا عنه:
أ- عبد الصمد بن أبي سليمان بن أبي مطر.
ب- عبد الصمد بن يحيى.
جـ- عبد الصمد بن محمد العبادي.
د- عبد الصمد بن الفضل.
(3) (141) سورة الصافات.
(4) (44) سورة آل عمران.
(5) (45) سورة المائدة.
(6) هذا الحديث رواه أبو جحيفة رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الجهاد، باب فكاك الأسير (4/84) ولفظه: ( ... عن أبي جحيفة رضي الله =(3/754)
بالنفس) ؟ قال: ليس هذا موضعه، علي بن أبي طالب يحكي ما في الصحيفة (لا يقتل مؤمن بكافر) ، وعن عثمان ومعاوية (1) : "لم يقتلوا مؤمناً بكافر" (2) .
__________
= عنه، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر) .
وأخرجه أبو داود عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه، وذلك في كتاب الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟ (2/488) .
وأخرجه الترمذي عن أبي جحيفة في كتاب الديات، باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر (4/24) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر (8/21) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر (2/110) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب القتل والجنايات، باب ما جاء في قتل الجماعة بالواحد وأنه لا يقتل مسلم بكافر (2/250) .
وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده"، في كتاب القتل والجنايات، باب لا يقتل مؤمن بكافر (1/293) .
وانظر في هذا الحديث أيضاً: "نصب الراية" (4/334) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (617) .
(1) هو: معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، القرشي الأموي، صحابي جليل. ولد قبل البعثة بخمس سنين على الأرجح. كان من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم. ولاه عمر إمارة الشام، وأقره عثمان عليها. وبعد موت عثمان لم يبايع علياً، وحصلت الفتنة الكبرى، التي كانت الأولى في حياة المسلمين، التي انتهت بإمرة معاوية. توفي سنة (60 هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1416) ، و"الإصابة" (6/112) .
(2) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب العقول، باب دية المجوسي =(3/755)
وهذا أيضاً يدل على أن الآية على ظاهرها في المسلمين ومن قبلهم، ولكنه عارضها بحديث الصحيفة، ولو لم يكن كذلك لما عارضها، ولقال:
ذلك خاص لمن قبلنا.
وبهذه الرواية قال أبو الحسن التميمي في جملة مسائل خرجها في الأصول. وهو قول أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي.
وفيه رواية أخرى أنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع، إلا ما دل الدليل على ثبوته في شرعه، فيكون: شرعاً له مبتدأ.
أومأ إليه رحمه الله في رواية أبي طالب في موضع آخر، فقال: (النفْسُ بالنفْسِ) كتبت على اليهود، وقال: (1) (وَكتبنا عليهمِ فِيهَا) (2) َ [أي] (3) في التوراة، ولنا (كُتِبَ عَليْكُم الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الحُر بِالحر وَالعبْدُ بالعبد وَاْلأنْثَى بالأنْثَى) (4) .
وبهذا قالت المعتزلة (5) والأشعرية.
__________
= عن ابن عمر رضي الله عنهما (10/96) ولفظه: (أن رجلاً مسلماً، قتل رجلاً من أهل الذمة عمداً، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية، مثل دية المسلم، قال الزهري: وقتل خالد بن المهاجر رجلاً من أهل الذمة في زمن معاوية، فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية ألف دينار) .
وراجع أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/16) .
(1) في "المسودة" ص (185) (قال) بحذف الواو، وهو الأولى.
(2) (45) سورة المائدة.
(3) الزيادة من "المسودة" ص (185) .
(4) (178) سورة البقرة.
(5) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" (2/899) .(3/756)
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال: ما لم [107/ب] يثبت نسخه شرع لنا.
ومنهم من قال: ليس بشرع لنا.
واختلف القائلون بأنه كان متعبداً:
فقال بعضهم: بشريعة إبراهيم.
وقال قوم: بشريعة موسى إلا ما نسخ.
وقال قوم: بشريعة عيسى؟ لأنها ناسخة لشريعة موسى.
والأشبه: أنه كان متعبداً بكل ماصح من شرع من كان قبله من الأنبياء.
فالدلالة على أنه شرع لنا:
قوله تعالى: (أولئكَ الَّذيِنَ هَدىَ اللهُ فَبِهُداهُم اقْتَدِه) (1) ، فذكر الله تعالى أنبياءه (2) : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وغيرهم، وأخبر أنه هداهم، وأمر باتباعهم فيما هداهم به، والأمر يقتضي الوجوب.
فإن قيل: إنما أمر باتباعهم في التوحيد وما يدل العقل عليه لوجوه: أحدها: أنه أضاف ذلك إليهم، فاقتضى ما يقطع على كونه شرعاً لهم، وهو التوحيد، فأما غيره من الأحكام فغير مقطوع عليه، بل يحكم به من جهة غلبة الظن.
ولأنه قال: (وَمِن آبائِهِم وَذُرياتِهِمْ) (3) ، وهدى الذرية هو التوحيد.
__________
(1) (90) سورة الأنعام، ولفظ الجلالة ليس في الأصل.
(2) في الأصل (وأنبياءه) ، والواو لا معنى لها هنا.
(3) (87) سورة الأنعام.(3/757)
ولأن الله تعالى ذكر من لم يكن نبياً في جملة من أمره بالاقتداء به من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.
ولأن ملة إبراهيم قد كان فيها المنسوخ، ومعلوم أنه لا يتعبد بالمنسوخ.
قيل: الهدي يتناول التوحيد وغيره، فالآية تقتضي وجوب الاتباع في جميعه.
وعلى أن التوحيد لا يتبع فيه غيره عندهم، وإنما يوحد بما هو مأمور [به] ، والآية تقتضي اتباع غيره.
وجواب آخر وهو: أن التوحيد عندنا وما يدل العقل على صحته يجب بالشرع، ولا يجب بالعقل عبادة موجبة، ولا يصح السؤال.
وقولهم: إننا لا نقطع على أن غير التوحيد هدى لهم، فمتى لم نقطع على ذلك ونعلمه من جهة يقع العلم بها لم يجب اتباعه.
وما ذكروه من الذرية، فقد يكون التوحيد هدى لهم، وقد يكون غيره هدى لهم، فيجب اتباع جميعه.
وأما ذكر من لم يكن نبياً في جملة أمره بالاقتداء به، فغير مانع مما ذكارنا؛ لأن من لم يكن نبياً كانوا على شرائع الأنبياء صلوات الله عليهم متمسكين بها، بدلالة قوله تعالى: (وَاجتبينَاهُم وَهديناهُم إلى صِرَاط مُستْقيم) (1) وقد قال تعالى: (وَاتبعْ سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إلي) (2) ، وقال: (ويتبع غير سبيل المُؤْمِنِينَ) (3) ، فلما
__________
(1) (87) سورة الأنعام، وفي الأصل: (فاجتبيناهم) .
(2) (15) سورة لقمان.
(3) (115) سورة النساء.(3/758)
كان سبيل المؤمنين متبعا، لم يمتنع أن يؤمر النبي باتباع ما اتبعه غيره ممن تقدمه.
وقولهم: إن في شريعة إبراهيم منسوخاً لا يضر؛ لأنا لما علمنا أنه لا يصح تكليف المنسوخ، علم أن الأمر لم يتناوله.
فإن قيل: لما أمر باتباعهم في هداهم صار ذلك ثابتاً بدليل شرعي، ونحن لا نمنع ذلك، وإنما الخلاف في حالة الإطلاق.
قيل: عندكم إذا دل على ذلك دليل شرعي [108/أ] صار حكماً مبتدأ، فإذا فعله الإنسان، لم يكن مقتدياً بهم ولا متبعاً لهم، والآية تقتضي اتباعهم والاقتداء بهم فيه.
ويدل عليه قوله تعالى: (وَكتَبْنا عَليهم فِيها أَنَّ النفْس بِالنفْسِ) (1) الآية، ولم يأمر بالاتباع، فلو كان الاتباع واجباً بأمر مجدد في شريعته لكان يقترن به، فلما لم يقترن به أمره دل على أنه إذا ثبت أنه شرع لغيره وجب عليه وعلى أمته الاتباع.
ويدل عليه قوله تعالى: (ثُم أوْحينا إليك أَنِ اتبعْ مِلةَ إبْرَاهيمَ حنِيفا) (2) ، فأمره باتباع ملة إبراهيم، وأمره على الوجوب.
ويدل عليه قوله تعالى: (إنا أَنْزَلْنا التَوْرَاةَ فيهَا هُدى وَنورٌ يحكُمُ بها النبيونَ الَّذينَ أسْلَمُوا للذينَ هادُوا) (3) ، ولم يفرق بين نبينا وبين سائر الأنبياء، قال: (وَمنْ لم يحكم بِما أَنْزَلَ اللهُ فأولِئكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، (فأولئِكَ هُمُ الظالِمونَ)
__________
(1) (45) سورة المائدة.
(2) (123) سورة النحل.
(3) (44) سورة المائدة.(3/759)
(فأولئِكَ هُمُ الفاسقونَ) (1) ، والتوراة مما أنزله وتواعد من لم يحكم بها.
يؤكد هذا ما روي أن الربيع (2) كسرت سن جارية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (كتاب الله القصاص) (3) . والذي في كتاب الله ما حكاه عن التوراة، وأن السن بالسن، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكى الأحكام عنها، وعمل بها.
فإن قيل: قوله: (كتاب الله القصاص) إشارة إلى قوله: (فَمَنِ اعتَدى عَليْكُم فَاعتدوا عليْه) (4) ، ولم يرد قوله: (السن بالسن) .
قيل: هذا عام، و (السن بالسن) خاص، فكان رد كلامه إلى ما هو نص أولى من العموم.
وأيضاً: فإن الحكم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه، حتى يرد دليل بنسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي ما يوجب نسخ الأحكام التي
__________
(1) (44-47،45) المائدة.
(2) هي: الربيع بنت النضْر الأنصارية. أم حارثة بن سراقة، وأخت أنس بن النضر، وعمة أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم. صحابية جليلة.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1838) ، و"الإصابة" القسم السابع ص (642) طبعة دار نهضة كل مصر.
(3) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الديات، باب السن بالسن (9/10) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الديات، باب القصاص في السن: (2/503) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب القسامة، باب القصاص في السن: (9/23) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الديات، باب القصاص في السن: (2/884) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (620) .
(4) (194) سورة البقرة.(3/760)
قبله، فإن النسخ إنما يكون عند التنافي، والبعثة إنما تكون بالتوحيد، وليس فيه منافاة لتلك الأحكام، فوجب التمسك بتلك الأحكام والعمل بها حتى يرد ما ينافيها ويزيلها، كما وجب ذلك قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا: فإنه شرع مطلق، فوجب أن يدخل فيه كل مكلف إلا أن يثبت نسخه، أصله ما ثبت من الشرع المطلق، ولأن نبينا كان قد بعثه متعبداً، فدل على أنه كان مأموراً بشرع من قبله.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (لِكل جَعلنا منكم شرعة ومنْهَاجاً) (1) ، والشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح.
والجواب: أنه لا بد أن يكون بين الشريعتين اختلاف من وجه، وهو ما نسخ، وإن كان بينهما اتفاق من وجه، فحصلت الإضافة لهذا المعنى.
واحتج: بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بعثت إلى الأحمر والأصفر، وكل من بعث إلى قومه) (2) فدل على أنهم لم يكونوا مبعوثين [108/ب] إلينا، فلا يكون شرعهم لازماً لنا.
والجواب: أن قوله: "بعث" يعني: متبوعاً مقصوداً إلى قومه، وغير قومه تبع له.
__________
(1) (48) سورة المائدة.
(2) هذا الحديث أخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/370) عن جابر بن عبد الله وفيه: (.. كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ... ) .
وأخرجه الدارمي في كتاب الجهاد باب أن الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا (2/142) عن أبي ذر، وفيه (.. بعثت إلى الأحمر والأسود ... ) .(3/761)
واحتج بما روي عن عمر بن الخطاب: أنه خرج يوماً وبريده قطعة من التوراة، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما هذا؟ جئت بها بيضاء نقية، لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي) (1) ، وأنكر حمل التوراة، وأخبر أن موسى لو أدركه لزمه أن يتبعه.
والجواب أنه إنما أنكر عليه، لأن التوراة مبدلة مغيرة، وأكثرها
__________
(1) حديث حسن رراه عبد الله بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" في (3/470-471) ، وأخرجه عنه الطبراني كما حكى ذلك الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/173) وقال: (رجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه "جابراً الجعفي" وهو ضعيف) .
وأخرجه عنه البزار، قال الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح، إلا "جابراً الجعفي" وهو ضعيف اتهم بالكذب) .
ورواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/338) .
كما أخرجه عنه أبو يعلى والبزار، فيما حكى الهيثمي، وفيه "مجالد بن سعيد" قال
الهيثمي: (ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما) .
وأخرجه عنه البغوي في كتابه "شرح السنة" في كتاب العلم، باب حديث أهل الكتاب (1/270) .
وأخرجه عنه البزار كما حكى الهيثمي، وفيه "جابر الجعفي" كما أخرج الإمام أحمد بعضه من هذه الطريق. ورواه أبو الدرداء رضي الله عنه، أخرجه عنه الطبراني في "الكبير" قال الهيثمي: (وفيه أبو عامر القاسم بن محمد الاسدي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله موثقون) .
ورواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرجه عنه أبو يعلى، وفيه كما قال الهيثمي "عبد الرحمن بن إسحاق" ضعفه أحمد وجماعة.
ويلاحظ: أن القصة وردت بعدة ألفاظ، ولولا خوف الإطالة لأوردناها، ولكن من أراد الوقوف عليها فلينظر المراجع السابق ذكرها وبخاصة "مجمع الزوائد" (1/173-174) .(3/762)
منسوخ، فلا يجوز التمسك بها والرجوع إليها، ونحن لا نرجع إلى ما ثبت بالتوراة، وإنما نرجع إلى ما ثبت بدليل مقطوع عليه من قرآن أو خبر متواتر أو سنة متواترة أو وحي نزل به.
وقوله: (لو أدركني موسى لزمه أن يتبعني) ؛ لأنه يقتضي [أن يكون] واحداً من أمته، فيلزمه اتباعه.
فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العلة في نهيه عن النظر في التوراة: أنه لو كان موسى حيا لم يسعه إلا أن يتبعه، فامتنع أن تكون العلة في النهي كونها مغيرة مبدلة.
قيل (1) :
واحتج: بأن شرع من قبلنا لو كان شرعاً لنا لم يتوقف عن الجواب في الحادثة حتى ينزل الوحي، فلما توقف ولم يعمل بشرع من قبله، ثبت (2) أنه ليس بشرع له.
والجواب: أنه توقف؛ لأنه لم يكن عنده الحكم، ولا ثبت عنده الحكم في شرع غيره، فلهذا توقف، ألا ترى أن ما ثبت عنده صحته من أحكامهم، مثل استقبال بيت المقدس في الصلاة (3) ، وغير ذلك، لم يتوقف فيه، بل كان يسارع إلى اتباعه والاقتداء به.
واحتج: بأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لأمة نبي في شيء، ومصلحة أمة أخرى في ضدها، فإذا لم يمتنع هذا امتنع (4) أن يكون: شرعهم شرعاً لنا.
__________
(1) هكذا في الأصل، لم يذكر الجواب عن هذا الاعتراض.
(2) في الأصل: (لم يثبت) .
(3) سبق تخريجه في قصة تحويل القبلة ص (354) .
(4) في الأصل: (فإذا لم يمتنع هذا لم يمتنع..) .(3/763)
والجواب: أنه لا يمتنع أن تكون مصلحة لهم، ويتصل بأمة بعدها، كما أن الصحابة تتعبد بما هو مصلحة لهم، ويكون شرعاً وديناً لمن بعدهم من التابعين.
واحتج: بأنه لو وجب علينا اتباع شرعهم لوجب أن نتتبع أدلتهم ونعرفها، كما يجب ذلك في حكم الإسلام، ولوجب علينا حفظ شريعتهم ودراستها.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يقال: إنه ثبت عندنا صحة بعض الأدلة بالأوجه التي ذكرناها، فوجب (1) المصير إلى موجبه والعمل به، كما يجب المصير إلى نفس الحكم، ويجب حفظه ودراسته ما يلزمنا حكمه، وهو ما ثبت عندنا كونه شرعاً لهم، فأما ما لم يثبت، وإنما يخبرون هم به، فإنه لا يجب ذلك؛ لأن حكمه لا يلزمنا.
واحتج: بأنه إنما يجب الرجوع إلى أحكام [109/أ] الشرع، إذا عرف جمل أحكامه وتفصيلها، لجواز أن يكون هناك ناسخ أو شيء يخص العام، وهذا غير ممكن في شرعهم.
والجواب: أن ما أخبر الله تعالى به فالظاهر أن حكمه ثابت غير منسوخ ولا مخصوص، لأنه لو كان منسوخاً أو مخصوصاً، لكان مطرحاً، ولم يبين حكمه.
واحتج: بأنه أضاف جميع الشرع إلى موسى وعيسى.
والجواب: أن هذا لا ينفي أن يكون الشيء منه شرعاً لغيره، لأننا نقول: إن جميعه مضاف إليه، وإن كان قد يلزم حكمه لغير أهل ملته.
__________
(1) في الأصل: (وجب) .(3/764)
واحتج: بأنه لو كان شرع من قبلنا شرعاً لنا، لوجب أن يبعث نبين في وقت واحد بشريعة واحدة، فلما لم يجز هذا، ثبت أنه ليس شرع من قبلنا شرعاً لنا، لأنه يفضي إلى أن يكون شرع نبيين على وجه واحد.
والجواب: أنه يجوز، وقد فعل، بعث إبراهيم وابن أخيه بشريعة واحدة، في وقت واحد، وبعث موسى وهارون بشريعة واحدة، في وقت واحد.
على أنه لو كان الأمر على ما قالوه، فإنما يمتنع هذا لوجود نبيين في وقت واحد، فأما إذا انقرض واحد، وقام غيره بعده، فإن شريعته شريعة نبي واحد.
واحتج: بأن جميع الشريعة مضافة إلى نبينا، فلو كان ما ليس فيها يجب العمل به بشريعة غيره، لم تضف إليه.
والجواب: أن ما يتبعه من شرع غيره، فهو شريعته، ومضاف إليه؛ لأنه لم ينسخه عنا.
فصل (1)
فأما قبل البعث، فإن نبينا عليه السلام كان متعبداً بشريعة من قبله، سواء قلنا: ليس شرع من قبله له بعد البعث، أو قلنا: هو شرع له.
وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية حنبل فقال: من زعم أن
__________
(1) راجع في هذا الفصل: المسودة ص (182) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (104/ب) .(3/765)
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه، فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب؟
وبه قال أصحاب الشافعي (1) .
وقال قوم: ذلك على الوقف (2) ، يجوز أن يكون متعبداً، ويجوز أن لا يكون.
وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحابه (3) أنه بعد البعث شرع من قبله قد صار شرعاً له، لا من حيث كان شريعة له قبله، فأما قيل أن يبعث، فإنه لم يكن متعبداً بشيء من الشرائع.
والدلالة على أنه كان متعبداً: ما تقدم من قوله تعالى: (ثُم أَوْحيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتبعْ مِلة إبْرَاهيمَ) (4) ، وغير ذلك من الآيات.
ولأنه قبل البعث كان متبعاً لهم، بدليل أنه ركب الحيوان، وأمر بذبح الحيوان، وأكل لحمه، وحج واعتمر مراراً، فقيل: انه حج ثلاثاً، وكل هذا لا يوجد [109/ب] بالعقل، وإنما يفعل يشرعا، ثبت أن ما فعله شرع من قبله.
فإن قيل: ركوب الحمار وذبح الحيوان بالعقل.
قيل: الحج والعمرة لا يثبتان (5) بالعقل، وقد فعل ذلك، ثبت أنه
__________
(1) المختار عند الشافعية: الوقف، كما في جمع الجوامع مع حاشية البناني (2/352) .
(2) ومنهم إمام الحرمين والغزالي والآمدي. انظر المستصفى (1/246) ، والإحكام (4/121) .
(3) أي: الحنفية، وهو المختار عندهم، كما في مسلم الثبوت (2/183) مطبوع مع شرحه فواتح الرحموت.
(4) (123) سورة النحل.
(5) في الأصل: (لا يثبت) .(3/766)
فعل ذلك بالشرع لا غير.
وكذلك ذبح الحيوان ينافيه العقل، لما فيه من إيلام الحيوان. وكذلك الحصل عليه وركوبه (1) ، طريقه الشرع دون العقل.
واحتج المخالف: بما تقدم لمن منع أن يكون شرع من تقدم شرعاً لنا، وقد أجبنا عنه.
واحتج: بأنه لو كان كذلك لوجب ظهور عمله بتلك الشريعة واقتدائه بها، ولو ظهر لنقل، ولم يخفَ على أهله ومن أتى به.
والجواب: أنه قد ظهر، ونقل مما ذكرناه عنه من صلاته وصيامه وحجه وعمرته وذبحه وركوبه. ن (2) .
__________
(1) في الأصل: (من ركوبه) .
(2) علامة الانتهاء من الباب.(3/767)
باب النسخ (1)
حقيقة النسخ: هو الرفع والإزالة، ومنه يقال: نسخت الريحُ التراب والآثار، إذا أزالت ذلك. ونسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته.
وقد يعبر به عن نقل الخط مِنْ موضع إلى كل موضع، يقال: نسخ فلان هذا الخبر إذا نقل ما فيه. ومنه قوله تعالى: (إنَّا كنَا نستنسخ ما كنتم تعملون) (2) ، يعني نكتبه وننسخه، وهذا مجاز.
ويفتقر النسخ إلى وجود خمس شرائط:
أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ، فإن كان ملفوظاً به معه، فإنه يكون استثناء وتخصيصاً.
وأن يكون الحكم المنسوخ قد ثبتت بالشرع، ثم رفع، فأما إن كان الناس فعلوا شيئاً بعادة لهم، أقروا عليها، ثم رفع ذلك، لم يكن نسخاً، وكان ابتداء شرع.
__________
(1) راجع في هذا الباب: "المسودة" ص (195-232) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (93/أ-104/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/189-235) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (254-271) .
(2) (29) سورة الجاثية.(3/768)
وأن يكون الرافع المزيل دليلاً شرعياً، فأما إن زال حكم العبادة من غير دليل، كمن جنَ أو مات، فإن فرض العبادة يسقط عنه، ولا يكون نسخاً.
وأن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معلومة، بل كانت مطلقة فقطع دوامها في الثاني. فأما إن كانت معلقة بمدة معلومة ففي نسخها كلام.
وأن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف منه.
مسألة (1)
يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية صالح وأبي الحارث: قوله تعالى: (ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأهَا) (2) أن ذلك لجواز النسخ، وأن الله
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (195) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (94/أ-95/أ) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (256) ، و"روضة الناظر" مع شرحها، "نزهة الخاطر" (1/198) .
(2) (106) البقرة.
وفي قوله: (نَنْسَأها) قراءتان:
الأولى: (ننسأها) بفتح النون الأولى والسين، وسكون الهمزة بين السين والهاء، وهذه القراءة هي التي اختارها المؤلف، وقد كررها ثلاث مرات.
وبهذه القراءة قرأ ابن كثير وأبو عمرو.
كما قرأ بها عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعى وابن محصن.
والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخ من آية الآن أو نؤخر نسخها. مأخوذ من النسأ، وهو التأخير. =(3/769)
تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب.
وبهذا قالت الجماعة.
وحكي عن أبي مسلم الأصفهاني (1) : أنه كان يمنع وقوع النسخ شرعاً ويجيزه عقلاً (2) .
__________
= الثانية: (نُنْسِهَا) بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز.
وبها قرأ الباقون، أي من عدا ابن كثير وأبا عمرو.
والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخ من آية أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها.
مأخوذ من النسيان الذي هو ضد الذكر.
راجع في هذا: "النشر في القراءات العشر" (2/219-220) ، وكتاب "الكشف عن وجوه القراءات السبع" ص (1/257-259) وكتاب "السبعة في القراءات" ص (168) ، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (145) .
(1) هو: محمد بن بحر الأصفهاني. قال ابن النديم: (كان كاتباً مترسلا بليغاً متكلماً جدلا) . كان على مذهب المعتزلة، وقد ألف كتاباً في التفسير على مذهب المعتزلة أسماه: "جامع التأويل لمحكم التنزيل". له ترجمة في: "طبقات المعتزلة" ص (299) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (2/106) ، و"الفهرست" ص (196) الطبعة التجارية و"لسان الميزان" (5/89) .
وتد ذكر صاحب "المسودة" ص (195) أن اسمه: (يحيى بن عمر بن يحيى الأصبهاني) .
كما ذكر صاحب "فواتح الرحموت" (2/55) أنه الجاحظ.
ولعل الصواب أنه "محمد بن بحر"، فقد نص الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص (256) على ذلك.
(2) نقل ذلك عنه عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه: "أصول الدين" ص (226-227) وقال: ( ... ولا اعتبار بخلافه في هذا الباب، مع تكذيبه لقوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها ... ) .
ونقل الفتوحي في كتابه: "شرح الكوكب المنير" ص (256) عن ابن السمعاني =(3/770)
واختلفت [110/أ] اليهود في جواز نسخ الشرائع على مذاهب:
منهم من منع ذلك من طريق العقل.
ومنهم من قال: لا يجوز من جهة السمع.
ومهم من قال: يجوز من جهة السمع والعقل، ولكن لا يؤمن بما جاء به نبينا، ولا يقر بمعجزاته، ولا يقبل شريعته.
والدلالة على جوازه شرعاً:
أن التوجه إلى بيت المقدس كان واجباً بلا خلاف، ثم نسخه الله بالتوجه إلى الكعبة، بقوله تعالى: (فَوَل وَجْهكَ شطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ) (1) الآية.
وكذلك تقديم صدقة بين يدي نجوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان واجباً بقوله تعالى: (إذَا نَاجيتم الرَّسُولَ فَقَدمُوا بيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَة) (2) ثم نسخ الله تعالى ذلك (3) .
__________
= قوله: (وهو رجل معروف بالعلم، وإن كان قد انتسب إلى المعتزلة، ويعد منهم.
وله كتاب كبير في التفسير، وله كتب كثيرة، فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه؟!) .
وقد علق ابن بدران في كتابه: "نزهة الخاطر" (1/199) على ذلك بقوله: ( ... وبالجملة، فإن أبا مسلم إن كان قال هذا القول على إطلاقه فهو جاهل بأسرار الشريعة المحمدية جهلاً منكراً، والجاهل لا عبرة بخلافه، ولا بوفاقه في هذا الفن؛ لأنه فن المجتهدين، لا فن الأغبياء المقلدين) .
(1) (144) سورة البقرة.
(2) (12) سورة المجادلة.
(3) والناسخ قوله تعالى: (أَأَشفَقْتُم أَنْ تُقَدمُوا بَيْنَ يَدي نَجواكُم صَدَقَات فَإذْ لمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيكُم فَأقيمُوا الصَلاَةَ وآتُوا الزكَاةَ) الآية (13) من سورة المجادلة.(3/771)
وقال تعالى: (ما نَنسَخ من آيَةِ أَوْ نَنْسَأهَا (1) نَأتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (2) فأخبر أن فيه ناسخاً ومنسوخاً.
وقال تعالى: (فبِظُلْم من الذينَ هَادُوا حَرمنا عَلَيْهمْ طَيِّبَات أحِلَّتْ لَهُمْ) (3) ، فأخبر أنه قد حرّم عليهم ما كان حلالاً لهم. وهذا هو النسخ. ونظائر ذلك كثير.
والدلالة على جوازه عقلاً:
أن الناس في التكليف على قولين:
منهم من قال: لله تعالى أن يكلف عباده بما شاء أن يكلفهم، لمصلحة ولغير مصلحة، ولكن لا يختلف أن التكليف إنما وقع على وجه المصلحة، كما أن ما يفعل فينا إنما يفعله للمصلحة.
ومنهم من قال: حسن التكليف لما فيه من مصالحهم.
وأيهما كان فإن النسخ يجب أن يكون جائزاً، لأنه على القول الأول، النسخ بمنزلة ابتداء التكليف، وعلى القول الثاني لا يمتنع أن يختلف حال المكلف في المصلحة، فيختلف التكليف، ألا ترى أن الرجل قد يكون من مصلحته في وقت البر واللطف، وفي وقت آخر مصلحته التشديد والعنف.
ويبين صحة هذا أن الطاهر تصوم وتصلي، والحائض تمنع منها.
ولأن تأخير بيان المراد باللفظ العام من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز، كتأخير بيان التخصيص، وهو تأخير لبيان المراد باللفظ العام في
__________
(1) هذه قراءة في الآية، وقد سبق الكلام على ذلك في أول المسألة.
(2) (106) سورة البقرة.
(3) (160) سورة النساء.(3/772)
الأعيان، مثل قوله تعالى: (فَإذَا انْسَلَخَ الأشْهرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمشْركينَ) (1) وما أشبه ذلك.
فإن قيل: تخصيص عموم القرآن يجوز بخبر الواحد وبالقياس، ولا يجوز نسخه بهما.
قيل: يجوز ذلك في العقل، كما جاز ذلك في التخصيص، وإنما منعناه (2) شرعاً، وهو أن التخصيص لا يرفع الجملة، فجاز أن يقع بما هو دونه، والنسخ يرفع الجملة فلم يقع إلا بما هو أقوى من المنسوخ.
ولأن عندهم أن اعتقاد نبوة موسى عليه السلام، قبل أن بعث وظهرت معجزاته لا يجوز، ولم يجز الإخبارُ عن الله تعالى في تلك الحال وكان محظوراً، فلما ظهرت المعجزة على يده، صار الإخبار بثبوته طاعة، فما أنكرتم أن يكون الشيء عبادة ثم يخرج من [110/ب] أن يكون عبادة.
وأيضاً: لما حسن أن ينقلنا من حال إلى حال في الخلقة، فننقل من الصغر إلى الكبر. ومن الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السقم، ومن الحياة إلى الممات، حسن أن ينقلنا في التكليف، لأنه لا فرق بين ما يفعله بنا، وبين ما يأمرنا بفعله.
ولأن الله تعالى أمر آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه، وحرم ذلك في شريعة من بعده من الأنبياء.
وأباح العمل في السبت على ألسنة سائر الأنبياء، وحرمه على لسان موسى عليه السلام.
وكذلك إبراهيم عليه السلام خَتَن نفسه بعد الكبر. وهم يزعمون أن من
__________
(1) (5) سورة التوبة.
(2) في الأصل: (معناه) .(3/773)
شرع موسى المبادرة إلى الختان في اليوم الذي في يولد المولود.
وكذلك يزعمون أن يعقوب جمع بين الأختين في وقت واحد، وذلك لا يجوز في شريعة موسى. وهذا يدل على بطلان ما قالته اليهود، لعنهم الله.
واحتج من منع ذلك عقلاً:
بأن النسخ يفضي إلى البَدَاء، فإنه قد يكون أمر بشيء وأراده ثم علم من حال المأمور به في الثاني ما لم يكن قد علمه منه في وقت الأمر به، فأوجب النهي عنه، إذ لو لم يكن ذلك لكان بيّن مدة الفعل في وقت الأمر، وفي حصول الإجماع على بطلان ذلك دليل على فساد قول ما أدى إليه.
والجواب: أنا لا نقول: إنه لما أمر بها أراد بقاءها على الدوام، ثم بان له خلاف ذلك فنسخها، بل نقول: أمر بما أمر به، وهو عالم بما أمر وبما ينهي عنه بعده، ولم يظهر له شيء كان خفياً عنه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل نقول: إنه حين أمر بها أمر وهو يريد بقاءها والتعبد بها، إلى أنه معلوم عنده أن فيه مصلحة أو لا مصلحة فيه، وإن لم يطلع عليه، ولا يوجب ذلك أن يكون قد ظهر له منه في حال النهي مالم يكن عالماً به، ألا ترى أنه إذا نهى عن فعل من الأفعال ابتداء، فإنه لا يوجب ذلك أن يكون عالماً حال النهي ما لم يكن قد علمه قبل ذلك، ثم هذا يبطل بنقل الانسان من حال إلى حال.
وقيل الجواب عن هذا: إنما يقتضي البَدَاء لو أمر بفعل عبادة في وقت، ثم ينهي عنها في ذلك الوقت على جهة واحدة، فأما إذا نهي عن مثل تلك العبادة التي أمر بها، فلا يفضي إلى البدَاء.
وقد كشف بعض المتكلمين عن هذا الجواب، وقال: إن هذا(3/774)
يجري مجرى ما لو علق الآية بمدة، نحو قوله: "صلوا عشرين سنة"، فإن ما بعد المدة يسقط الأمر على غير وجه البَدَاء، كذلك إذا أمر به مطلقاً إلى مدة معلومة عنده، وكذلك أفعال الله تعالى تجري هذا المجرى بدليل أنه يغني الواحد في وقت، ويفقره في وقت آخر، ويسود الشيء في وقت، ويبيضه في وقت، [111/أ] ويحرك الشيء في وقت، ويسكنه في وقت، ويحييه في وقت، ويميته في وقت.
وكذلك آدم كان يزوج بناته من بنيه، وكان مباحاً، ثم حظره الله تعالى عندهم.
وكذلك جميع ما شرعه موسى لم يكن لمن قبله من الأنبياء.
وكذلك اختتان إبراهيم عليه السلام بعد الكبر.
واحتج: بأنه يؤدي إلى التناقض من قبَل أنه أمر بعبادة، وكان عملها حسنا، فإذا نهي عنها بعد مدة يصير فعلها مفسدة، بعد أن كان مصلحة.
والجواب: أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأنا لا نجعل العبادة الواجبة مصلحة ومفسدة، أو حسنة وقبيحة، وإنما نجعل العبادة مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر. ثم إن هذا يبطل بانتقالنا من حال إلى حال.
واحتج: بأن الأمر إذا ورد مطلقاً اقتضى فعل المأمور به أبداً، ووجب على المأمور أن يعتقد وجوبه عليه أبداً، ويكون ذلك الاعتقاد حسناً، فلو جاز ورود النهي عن مثل ذلك في المستقبل، لكان ذلك دلالة على البداء؛ لأنه قد نهي عما وقع الأمر به على الوجه الذي أمر به، ولصار الاعتقاد الذي كان محكوماً له بالحسن قبيحاً.
والجواب: عن قوله: إن الأمر يقتضي فعل المأمور به أبداً، خطأ؛ لأن التكليف قد يسقط بمعانٍ (1) تطرأ على المكلف، مثل الموت والجنون
__________
(1) في الأصل: (معاني) .(3/775)
والعجز، وما يجري هذا المجرى، فكيف يصح أن يكون الأمر مقتضياً لوجوب المأمور به أبداً.
وقوله: إن ذلك يكون بدَاءً، خطأ؛ لأن النهي ها هنا لا يقع عما وقع الأمر به، وإنما وقع النهي عن مثله في المستقبل، وهذا غير ممتنع؛ لأن الفعلين قد يكونا متماثلين من جنس واحد، مع كون أحدهما حسناً وفيه المصلحة، وكون الآخر قبيحاً ولا مصلحة فيه، ألا ترى أن اعتقاد المكلف نبوته، واعتقاده لها يكون مصلحة بعد بعثه الله تعالى إياه، ولا يكون مصلحة قبل أن يبعثه نبياً.
وقولهم: إن عليه أن يعزم على الفعل ويعتقده أبداً، فليس كذلك، وإنما يعتقد وجوبه إلى ما لم يرفع عنه.
واحتج: بأنه لو جاز ورود النسخ في الشرائع، لجاز مثله في اعتقاد التوحيد.
والجواب: أن الفعل الشرعي يجوز أن يكون مصلحة في وقت، ولا يكون مصلحة في وقت آخر مع بقاء التكليف، ويكون مصلحة لزيد، ولا يكون مصلحة لعمرو.
فاما فعل التوحيد، فلا يخرج عن أن تكون المصلحة فيه لجميع المكلفين وفي جميع الأوقات.
يبين صحة هذا: أنه لايجوز أن يجمع بين الأمر بالفعل الشرعي وبين النهي عن مثله، بأن يقول: "صلوا هذه السنة، ولا تصلوا بعدها"، ولا يجوز أن يجمع بين إيجاب اعتقاد التوحيد وبين النهي [111/ب] عن مثله في المستقبل.
واحتج: بأنه لو جاز ورود النهي عن الفعل بعد ورود الأمر بمثله مطلقاً، لكان ذلك مؤدياً إلى أن لا يكون ها هنا معنى يدلنا على تأبيد(3/776)
العبادة، وفي ذلك إبطال قدرة الله تعالى على أن يدلنا على تأبيد العبادة إلى وقت زوالها بزوال التكليف.
والجواب: أنه يجوز تأبيد العبادة بأن ينقطع الوحي، أو يضطر إلى قصد (1) الرسول فيه، كما اضطررنا إلى قصده في تأبيد شريعته، وأنه لا نبي بعده.
واحتج من قال منهم بأنه لا يجوز النسخ شرعاً: بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: "شريعتي مؤبدة ما دامت السموات والأرض".
والجواب: أن هذا كذب.
وقيل: إن أول من قال هذا لليهود ابنُ الراوندي (2) بأصبهان (3) ، فإنه أخذ منهم دنانير، وعلمهم ذلك، وقال: قولوا لهم: إن شريعتنا مؤبدة، كما يقولون.
__________
(1) في الأصل: (فعله) والتصويب من "المسوّدة" ص (195) .
(2) هو: أحمد بن يحيى بن الراوندي. نسبة إلى: (رواوند) قرية من قرى (قاسان) بالسين المهملة من نواحي (أصبهان) .
كان ملحداً ملازماً للزنادقة والرافضة. وكان من المعتزلة، ثم خرج عنهم، وصنف الكتب في الرد عليهم. له كتب كثيرة، منها: "الدامغ" يدمغ به القرآن، ومنها "الزمردة"، ومنها نصيحة المعتزلة. مات سنة (300 هـ) ، أو (301 هـ) .
له ترجمة في "شذرات الذهب" (2/235) ، و"طبقات المعتزلة" ص (299) .
(3) (أصبهان) بفتح الهمزة وكسرها، والأول أكثر وأشهر. وهي لفظ معرب معناها الجيش، والكلام على تقدير مضاف، أي: مدينة الجيش، وهي مدينة عظيمة مشهورة ويطلق: (أصبهان) على الاقليم كله.
انظر: "مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع" (1/87) .(3/777)
والدليل على ذلك: أن هذا لو كان صحيحاً لوجب أن يكون اليهود قالوا لعيسى ونبينا صلى الله عليهما وسلم مع تصديقهما لموسى عليه السلام ومخالفتهما لشريعته عليهم السلام، فلما لم ينقل أن أحداً قال لهما هذا، مع حرصهم على تكذيبهما والرد عليهما وتنفير الناس عنهما، دل على أنه لا أصل له.
وجواب آخر وهو: أنه لو ثبت لكان معناه إلا أن يدعو صارف إلى تركها وهو من ظهرت المعجزة على يده، وثبتت نبوته، مثل ما ثبتت نبوة موسى، والخبر يجوز تخصيصه كما يجوز تخصيص الأمر والنهي.
فصل (1)
والنسخ في اللغة عبارة عن شيئين:
أحدهما: الإزالة، فإذا كان في موضع آثار، فزالت، قالوا: "نسخت الآثار"، ويقال: "نسخت الشمس الفيء"، إذا أزالت الفيء.
والثاني: عبارة عن نقل مثل الشيء عن موضعه إلى موضع آخر، ومنه قوله تعالى: (إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كنْتم تَعْمَلُون) (2) ، معناه ننسخ العمل، وهو باق على ما كان (3) .
وهو في الشرع: عبارة عن إخراج ما لم يرد باللفظ العام في الزمان، مع تراخيه عنه.
__________
(1) راجع في هذا الفصل: "التمهيد" الورقة (93/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها، "نزهة الخاطر" (1/189) .
(2) (29) سورة الجاثية.
(3) في المعنى اللغوي راجع: "القاموس المحيط" (1/271) مادة "نسخ"، و"معجم مقاييس اللغة" (5/424) .(3/778)
وقولنا: مع تراخيه، احتراز من التخصيص، فإنه يكون متراخياً ومقارناً. ولا يبطل هذا بقوله: (ثُم أَتمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْل) (1) ، أن زمان العبادة ينقص، وليس بنسخ؛ لأَنا قلنا مع تراخيه، والحد مقارن.
وقال قوم من المتكلمين: هو إخراج ما أريد باللفظ. وهذا غلط، لأنه يؤدي إلى البَداء على الله تعالى فإنه إذا أراد أن يكون التوجه إلى بيت المقدس واجباً بعد ستة عشر شهراً، ثم لم يرد ذلك، كان بداءً، وذك لا يجوز عليه لاستحالة جواز الجهل [112/أ] والنسيان عليه.
فإن قيل: فقد أجزتم نسخ الشيء قبل فعله، وإن كان بداءً.
قيل: ليس ذلك بداءً؛ لأنه يحمله على أن الأمر اقتضى مقدمات الفعل، ويكون تقديره ما لم أنسخه عنك؛ لأنه ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به.
الفرق بين النسخ والتخصيص
والفرق بين النسخ والتخصيص من وجوه:
أحدها: من شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، فلا يسبقه، ولا يقارنه. وأما التخصيص: فالذي يقع به التخصيص يصح أن يسبق المخصوص ويقارنه ويتأخر عنه.
والثاني: لا يصح النسخ إلا بمثل المنسوخ في القوة، وأقوى منه، والتخصيص يصح بمثل المخصوص وما دونه، وأضعف منه، لأن
__________
(1) (187) سورة البقرة.(3/779)
التخصيص لا يرفع كل الخطاب، وإنما يخص بعضه، وترك الباقي على ما هو عليه، فكان أخف من النسخ، فصح التخصيص بأخبار الآحاد والأفعال والقياس، والنسخ أقوى؛ لأنه رفع الخطاب كله، فقوي في بابه، فلا يجوز رفعه إلا بمثله في القوة أو ما هو أقوى.
الثالث: النسخ يرفع كل النطق، والتخصيص يبقي بعض اللفظ (1) .
فصل (2)
والنسخ على ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون الرَّسْم، ونسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الرسم والحكم.
أما نسخ الحكم دون الرسم فجائز، وذلك مثل الوصية للوالدين والأقربين (3) . ومثل عدة الوفاة، فإن ذلك منسوخ، ورسمه في القرآن.
وذلك أن العدة كانت في بدء الأمر حولاً، فنسخت إلى أربعة أشهر وعشر، وهما جميعاً في القرآن، قال تعالى: (وَالّذِين يتَوَفّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أزْوَاجاً وَصِيّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إلَى الْحَوْلِ
__________
(1) بقي بعض الفروق بين النسخ والتخصيص، لم يذكرها المؤلف، وقد ذكر جملة منها ابن قدامة في كتابه: "روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (197-198) ، فارجع إليه إن شئت.
(2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (198) ، و"روضة الناظر" مع شرحها:
"نزهة الخاطر" (1/201-203) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (262-264) .
(3) يشير المؤلف بهذا إلى قوله تعالى: (كُتِبَ عَليكُمِ إذَا حَضَرَ أَحَدَكمُ الموتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيّةُ للْوالدينِ والأقرَبِين بِالْمَعْرَوفِ حَقاً عَلَى المتقِينَ) ، وقد وفى ابن كثير الموضوع حقه في تفسيره (1/211-212) .(3/780)
غيرَ إخْراج) (1) ، نسخ بقوله: (والّذِينَ يتوَفَّوْنَ منْكُم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسهن أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً) (2) .
وأما نسخ الرسْم دون الحكم فجائز أيضاً، وذلك مثل آية الرجم، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لولا أن يقال: عمر زاد في كتاب الله، لكتبت في حاشية المصحف: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم (3) .
وكذلك نسخ التتابع في صوم كفارة اليمين في قراءة عبد الله، وبقي حكمها (4) .
__________
(1) (240) سورة البقرة.
(2) (234) البقرة. وراجع في هذا: تفسير ابن كثير (1/296-297) .
(3) هذا الحديث روي مطولاً، كما روي مختصراً، وقد أخرجه البخاري في كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا (8/210) .
وأخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب رجم الثيب الزاني (3/1317) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الرجم (2/456) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في تحقيق الرجم (4/38) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب الرجم (2/853) .
وأخرجه الإمام مالك في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم ص (514) .
وأخرجه الدارمى في كتاب الحدود، باب في حد المحصنين بالزنا (2/99) .
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الحدود، باب النهي عن مقدمات الزنا وما يوجب الرجم ... (2/283) .
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/183) .
وهي من الآيات التي نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، ومراد عمر من قوله هذا أن يبقى في أذهان الناس حكم الآية، لا تلاوتها، والله أعلم.
(4) وذلك في قوله تعالى: (فَصِيَام ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كفّارَةُ أيْمَانِكُم) قرأ ابن مسعود رضي الله عنه: (فَصيَامُ ثَلاثَةِ أيَّام مُتَتَابِعَات) .
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (1/148) .(3/781)
وقال قوم: لا يجوز نسخ الرسم مع بقاء حكمه.
دليلنا:
أن التلاوة لا تفتقر إلى الحكم الشرعي، ولا الحكم الشرعي يفتقر إلى التلاوة، بل يجوز أن ينفصل كل واحد كل منهما عن الآخر؛ لأن الحكم قد يثبت من غير تلاوة، مثل أفعال النبي، فصارت التلاوة مع حكمها بمنزلة عبادتين، فلما جاز نسخ إحدى العبادتين دون الأخرى، كذلك نسخ التلاوة [112/ب] دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة.
فإن قيل: لما لم يجز وجود العلم في القلب من غير أن يكون صاحبه عالماً، ولا وجوده عالماً من غير وجود العلم في قلبه، كذلك لا يجوز وجود الحكم من غير تلاوة.
قيل: قد بينا هذا، وقلنا: إن التلاوة والحكم ينفصل كل واحد منهما، وليس كذلك العلم، لأنه لا يجوز أن ينفصل كونه علماً يعلم من العلم الذي صار به عالماً.
وأما نسخهما فمثل ما روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: (كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات فتوفي (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي مما يقرأ في القرآن) (2)
__________
(1) في الأصل: (من في) .
(2) هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات (2/1075) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة والا المصتان (3/147) .
وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب هل يحرم ما دون خمس رضعات (1/476) . =(3/782)
فكانت العشر (1) منسوخة الحكم والرسم.
وقد ينسخ إلى بدل وغير بدل:
فما نسخ إلى غير بدل: العدة حولاً إلى أربعة أشهر وعشر، وما زاد على أربعة أشهر لغير بدل.
وما ينسخ إلى بدل فعلى أربعة أضرب: نسخ واجب إلى واجب، وواجب إلى مباح، وواجب إلي ندب، ومحظور إلى مباح.
فأما واجب إلى واجب، فعلى ضربين:
واجب مضيق إلى مثله، كنسخ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة (2) .
وواجب مخير إلى مضيق، كالصيام، كان المطيق القادر عليه في صدر (3) الإسلام مخيراً بين الصيام والفدية، فنسخ إلى مضيق وحتم (4) ،
__________
= وأخرجه النسائي في كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة (6/83) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب لا تحرم المصة ولا المصتان (1/625) .
وأخرجه الدارمي في كتاب النكاح، باب كم رضعة تحرم؟ (2/80) .
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الرضاع، باب جامع ما جاء في الرضاعة ص (376) .
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب تحريم الرضاع كتحريم النسب (2/333) .
(1) في الأصل: (العشرة) .
(2) سبق تخريج هذا في قصة تحويل القبلة ص (354) .
(3) في الأصل: (صدور) .
(4) ومن القائلين بالنسخ معاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وابن أبي ليلى وعلقمة وابن شهاب، ورجحه الطبري. وهناك فريق من العلماء ذهبوا إلى أن الآية محكمة وليست منسوخة، ثم اختلفوا بعد ذلك في تفسيرها فذهب ابن عباس والسدي وسعيد بن المسيب إلى أن معنى قوله تعالى: (وَعَلَى الذينَ يُطِيقُونَهُ) =(3/783)
قال الله تعالى: (وَعَلى الّذينَ يطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَام مَسَاكِين) (1) ، ثم قال: (فَمنْ شَهِدَ مَنْكُمُ الشَّهْرَ فَليَصُمْهُ) (2) .
وأمّا واجب إلى مباح، فالصدقة عند مناجاة الرسول، كانت واجبة بقوله تعالى: (إذَا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدموا بيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدقة) (3) ، فنسخ ذلك الوجوب إلى جواز تركها وجواز فعلها بقوله [تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدَمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَات فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكمْ فَأَقيموا الصَلاَةَ وَآتُوا الزكاةَ 000) ] (4) وأما واجب إلى ندب [فـ] كالمصابرة في صدر الإسلام، على كل واحد أن يصابر عشرة، فنسخ إلى اثنين، وندب إلى ما زاد بقوله تعالى:
__________
= يطيقون صومه في حال شبابهم وصحتهم، فإذا ما كبروا وعجزوا عن الصوم فعليهم فدية طعام مسكين.
وذهب ابن عباس وعلي وعكرمة وطاوس والضحاك إلى أن الآية تقرأ: (وَعَلَى
الذينَ يُطَوِّقُونَهُ) ، ومعنى ذلك: أن الشيخ والشيخة العاجزين عن الصوم لكبرَهما الذين يكلفهما الصوم، فلا يطيقانه، لهما أن يفطرا، وعليهما فدية طعام مسكين عن كل يوم.
راجع في هذا: "تفسير الطبري" (3/418-438) ، و"تفسير ابن كثير" (1/213-215) .
(1) (184) البقرة. وقراءة (مساكين) بالجمع، كما أثبتها المؤلف، قرأ بها نافع وابن ذكوان وغيرهما. أما قراءة (مسكين) بالافراد، فقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وغيرهم.
انظر: "اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (154) .
(2) (185) سورة البقرة.
(3) (12) سورة المجادلة.
(4) (13) سورة المجادلة.(3/784)
(إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يكنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبوا أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كًفَرُوا) (1) فنسخ الله هذا رحمة منه لعباده ورخصة بقوله: (الآنَ خَففَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً فَإنْ يَكنْ منكمْ مائةٌ صابِرَةٌ يَغْلبوا مِائَتيْنِ وَإنْ يَكُنْ منْكُمْ أَلْفٌ يَغْلبُوا أَلْفَيْنِ بإذْن الله) (2) فنسخ إلى مصابرة كل واحد اثنين، وندب إلى مصابرة أكثر.
وأما نسخ حظر إلى أمر (3) إباحة، كقوله: (عَلِمَ اللهُ أنّكُمْ كنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عليْكمْ وَعفَا عنكمْ فَالآْنَ بَاشَرُوهُن وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لكُمْ وَكُلُوا وَاشْربُوا حَتّى يَتَبَيّن لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيضُ مِنَ الْخَيْط الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (4) فكان الأكل والشرب والمباشرة [113/أ] محظورَة، ثم نسخت.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (كنتم قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا إلا خيراً) ، فأباحه بعد الحظر.
مسألة (5)
يجوز نسخ الشيء بمثله، وأخف منه وأثقل.
وهو قول الجماعة.
واختلف أهل الظاهر فيما حكاه الحرزي في مسائله:
__________
(1) (65) سورة الأنفال.
(2) (66) سورة الأنفال.
(3) غير واضحة في الأصل.
(4) (187) سورة البقرة.
(5) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (201) ، و"التمهيد في أصول الفقه" =(3/785)
فذهب جماعة منهم إلي هذا.
ومنع منه آخرون، وقالوا: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل، وهو قول أبي [بكر بن] (1) داود.
دليلنا:
أن الله تعالى أوجب الصوم في أول الإسلام على التخيير. ثم نسخ ذلك وحتمه: والانحتام أغلظ من التخيير.
وهكذا كان حد الزاني في أول الإسلام الحبس (2) بقوله تعالى: (وَالَلاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نسائِكُم فَاسْتَشْهِدُوا عَليْهِن أَرْبعة مِنْكمْ فَإنْ شَهِدُوا فأَمْسكوهُن فِي الْبُيوتِ حَتّى يَثوَفاهن الْمَوْتُ أَوْ يجْعلَ الله لهن سَبِيلاً) (3) ثم نسخ ذلك، وجعل حد البكر الجلد والتغريب، والثيب الجلد والرجم. وهذا نسخ شيء إلي ما هو أغلظ منه وأشد، فثبت جواز ذلك.
ولأن حقيقة النسخ: الرفع والإزالة، وإثبات الحكم الثاني طريقه ابتداء شرع، لا أنه من مقتضى الحكم الأول وموجبه، ألا ترى أن الله تعالى لو رفع حكماً ولم يثبت مكانه شيئاً آخر كان ذلك نسخاً، فلم يمتنع أن يزيل حكماً ويثبت مكانه أغلظ منه وأشد؟
__________
= الورقة (95/ب) ، و"الواضح في أصول الفقه" الجزء الثاني الورقة (235/أ-239/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/217-225) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (261) .
(1) الزيادة من "التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الورقة (95/ب) .
(2) في الأصل: (في الحبس) ، و"في" هنا زائدة، لا معنى لها.
(3) (15) سورة النساء.(3/786)
ولأنه لا يمتنع أن تكون المصلحة في الأغلظ، وفيما مضى من الأخف.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (ما ننْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نَنْسأها نَأت بِخيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (1) ومعلوم أنه لم يرد بقوله: خيراً منها فضيلة الناسخ على المنسوخ؛ لأن القرآن كله متساوي الفضيلة، فعلم أنه إنما أراد بالخير الأخف.
والجواب: أن الشيء إنما يوصف بأنه خير من غيره؛ لأن النفع الذي فيه يكون موفياً على النفع الذي في غيره. ألا ترى أنك تقول: فعْلُ الفرض خير لك من فعل النافلة، تريد (2) أنه أنفع له (3) ، ومعلوم أن النفع في الفعل، إنما يكثر بكثرة المشقة فيه، أو بكثرة انتفاع غير الفاعل به، بدلالة أن القتال في سبيل الله أكثر نفعاً في باب الثواب من الصوم؛ لأن المشقة فيه أكثر من المشقة في الصوم، وإن دعوة نبينا إلى دين الله تعالى كانت أعظم ثواباً من دعوة غيره من الأنبياء عليهم السلام. لأنه قد انتفع بها أكثر مما انتفع بدعوة غيره، [113/ب] إذ كان من أجابه إليها أكثر ممن أجاب إلى دعوة غيره من النبيين، وإن كان فيهم من لحقه من المشقة أكثر مما لحق نبينا عليه السلام، فإذا كان فعل الأشق أنفع من فعل الأخف في باب الثواب وجب أن يكون أنفع منه، فيصح النسخ به.
واحتج بأن النسخ في اللّغة هو الإزالة، وإسقاط العبادة، فمقتضاه التخفيف دون التثقيل.
__________
(1) (106) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (يريد) ، بالمثناة التحتية.
(3) في الأصل: (به) .(3/787)
والجواب: أن الإزالة والإسقاط موجود ها هنا، لأنه رفع ما كان عليه من الحكم السابق.
وقولهم: إن كل مقتضاه التخفيف ليس كذلك؛ لأن الحكم الثانى ابتداء شرع، لا أنه من كل مقتضى الحكم الأول وموجبه.
واحتج بأن الله تعالى نسخ الشيء رحمه للمكلف وطلباً لنفعه، فيجب أن لا ينسخ إلا بما هو أخف منه؛ لأن ذلك أولى بالرحمة.
والجواب: أن من رحمة الله تعالى له أن يكلفه أنفع الأشياء له، وأدعاها إلى عظيم ثوابه، وقد يكون ذلك فيما يشق عليه، كما يكون فيما هو أخف منه، بل قد يكون الأشق أنفع وأجزل لثوابه.
وجواب آخر وهو: أن هذا يوجب أن لا يبتدىء أحداً بتكليف ما يشق عليه، لأن ذلك أخف وأسهل وأدعي إلى الرحمة، ويلزمه أن يكون الله تعالى إذا أسقط عبادة، أسقطها لا إلى بدل أصلاً؛ لأن ذلك أخف.
مسألة (1)
لا يجوز نسخ القرآن بالسنة شرعاً، ولم يوجد ذلك.
نص عليه رحمه الله في روية الفضل بن زياد وأبي الحارث وقد سئل: هل تنسخ السنة القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (201) ، و"التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الورقة (97/ب) و"الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل الجزء الثاني الورقة (224/ب) .(3/788)
تفسر القرآن (1) . وبهذا قال الشافعي (2) .
وقال أبو حنيفة: يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة (3) .
وحكي ذلك عن مالك (4) والمتكلمين من المعتزلة (5)
واختلف أهل الظاهر في ذلك (6) .
دليلنا:
قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِن آية أو ننسها نأت بخير منها أَوْ مِثْلِها) (7) ، وقرىء: (نَنسَأهَا) (8) ، والمراد به من
__________
(1) وهناك رواية ثانية عن الإمام أحمد، ذكرها أبو الخطاب في كتابه "التمهيد" الورقة (97/ب) واختارها وهي أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
على أن هناك أيضاً رواية ثالثة عن الإمام أحمد، ذكرها ابن عقيل في كتابه "الواضح" الجزء الثاني الورقة (246/أ) وهي: أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة والآحادية.
(2) راجع في هذا: "الرسالة" للإمام الشافعي ص (56) ، و"المنخول" للغزالي ص (292) .
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/203) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/78) .
(4) راجع: "شرح تنقيح الفصول" ص (311-312) .
(5) راجع: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري، باب نسخ القرآن بالسنة (1/424-431) .
(6) لم يذكر ابن حزم خلافاً في ذلك، بل ذكر أن السنة تنسخ القرآن، سواء كانت منقولة بالتواتر أو بالآحاد، وذلك في كتابه: "الإحكام" (4/477) .
(7) (106) سورة البقرة.
(8) سبق أن تكلمنا عن القراءتين في هذه الآية في هامش مسألة: يجوز نسخ الشرائع عقلاً وشرعاً ص (769) .(3/789)
التأخير، ومنه: بيع النسيئة، وهو البيع إلى أجل، فكأنه قال: أو نَنْسَأه فلا ننسخه إلى مدة، فأخبر الله تعالى أن كل ما ينسخ من القرآن، فإنما ينسخ بخير منه أو بمثله، والسنة ليست بخير من القرآن ولا بمثل له، فلا يجوز أن يقع نسخ القرآن بالسنة، لأن خبر الله تعالى لا يقع بخلاف مخبره، يبين صحة هذا قوله: (نَأت بِخيْرِ منْهَا) ، وهذا إنما
يتناول القرآن [114/أ] الذي يأتي من عند الله دون السنة التي يأتي بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويبين صحة ذلك قوله: (إنَّ الله علىَ كل شَيْء قَديِرٌ) ، فاقتضى ذلك: أن ما يأتي به مما يختص بالقدرة عليه، وهو القرآن دون السنة التي يتعلق بها قدرة غيره.
فإن قيل: الآية تقتضي أنه إذا نسخ آية يأتي (1) بخير منها أو مثلها، وليس فيه أن ما يأتي به يكون هو الناسخ، بل يجوز أن يكون الناسخ غيره.
قيل: قوله تعالى: (نَأت بخَيْرِ منْهَا) يقتضي أن يكون ما يأتي بدلاً (2) عما نسخه، وإنما يكون بدلاً عنه إذا كان ناسخاً، فأما إذا كانت آية مبتدأة فلا يكون بدلاً عنها.
يبين صحة هذا أن قوله: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةِ) شرط، وقوله: (نَأتِ بِخَيْرٍ منْهَا) جزاء، لأن "ما" يجازى بها، كما يجازى "بمن"، ولهذا جزم قوله: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا) ، وقال تعالى في سورة فاطر: (مَا يَفْتَح اللهُ للِنّاس مِن رَحْمَة فَلاَ مُمْسِك لَهَا وَمَا يُمسك فلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) (3) ،
__________
(1) في الأصل (يأت) .
(2) في الأصل: (بدل) بالرفع.
(3) (2) سورة فاطر.(3/790)
وإذا كان كذلك وجب أن يكون الجزاء متعلقاً بالشرط، ولهذا نقول: إذا قال: "ما تصنع أصنع، وما أخذه أعطه مثله"، إن الثاني موجب بالأول ومفعول لأجله، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون ما يأتي به ناسخاً.
فإن قيل: فلا خلاف أنه يجوز نسخه بغير قرآن، بأن ينسيه الله تعالى من حفظه ورفعه عن أوهامهم.
قيل: ما ينسيه ويرفعه يجرى مجري القرآن، لأنه من جهة الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: (نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا) في النفع، وقد يكون ما ثبت بالسنة أنفع لنا في باب المصلحة مما ثبت بالآية المنسوخة.
يبين صحة هذا أن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، وإنما يكون ذلك في النفع، فيكون بعض الأحكام أسهل.
قيل: الآية تقتضي أن تكون خيراً منها في النفع من القرآن، كما إذا قال القائل: "ما آخذ منك ثوباً إلا أعطك (1) خيراً منه أو مثله، وما آخذ منك درهماً إلا أدفع إليك مثله أو خيراً منه"، يقتضي ثوباً مثل ثوبه أو خيراً منه، ودرهماً مثل درهمه أو خيراً منه.
وجواب آخر وهو: أن قوله: (نأتِ بخير منها أو مثلها) يقتضي [الخيرية أو المثلية] من كل وجه، والقرآن المنسوخ فيه معجز، فيجب أن يكون الناسخ معجزاً، والسنة ليس فيها معجز، والقرآن في امتثال حكمه ثواب، وفي تلاوته ثواب، وكل واحد منهما عبادة، والسنة: الثواب في جهة واحدة منها، وهو امتثال حكمها، فأما درسها وتلاوتها، فليس بعبادة ولا ثواب، وإذا كان كذلك، لم تكن السنة مثلاً
للقرآن، والآية تقتضي أن النسخ بالمثل أو بخير منه.
__________
(1) في الأصل: (أعطيك) .(3/791)
فأما قولهم: إن التلاوة لا يكون بعضها خيراً من بعض، فلا يصح؛ لأنه قد يكون [114/ب] بعضها خيراً من بعض، على معنى أنها أكثر ثواباً، مثل سورة "طه" و"يس"، وما أشبه ذلك.
وقد يكون في بعضها من الإعجاز في اللفظ والنظم أكثر مما في البعض وقد كانت العرب تعجب من بعض، ولا تعجب من بعض.
وعلى أنا لو سلمنا أنه لا يجوز في التلاوة تفاضل، فإننا نحمل قوله: (نأت بخيرٍ منْها) على الحكم، وقوله: (أَوْ مِثْلِها) على التلاوة ولا شك أن المماثلة متأتية في التلاوة، ولا يتأتى أن يقال ذلك في السنة، فإنها ليست مثل القرآن.
ويدل عليه ما روى الدارقطني (1) في سننه في جملة النوادر قال: حدثنا محمد بن مخلد (2) ، حدثنا محمد بن داود القنطري أبو جعفر الكبير (3) .
__________
(1) هو الحافظ الإمام علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن البغدادي. روى عن البغوي وابن صاعد وغيرهما. وعنه الحاكم وأبو حامد الاسفراييني وغيرهما.
له كتب منها: "السنن"، و"العلل"، و"الافراد". ولد سنة (306) ومات سنة (385) .
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (11/317) ، و"تاريخ بغداد" (12/34) ، و"تذكرة الحفاظ" (3/991) ، و"شذرات الذهب" (13/116) ، و"غاية النهاية" لابن الجزري (1/558) ، و"طبقات الحفاظ" ص (393) ، و"اللباب" (1/404) ، و"المنتظم" (7/183) ، و"النجوم الزاهرة" (4/172) .
(2) هو: محمد بن مخلد بن حفص أبو عبد الله الدوري العطار الخضيب، ثقة مأمون.
روى عن مسلم بن الحجاج والحسن بن عرفة. وعنه الدارقطني مات سنة (331 هـ) وله من العمر ثمان وتسعون سنة.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (3/310) ، و"تذكرة الحفاظ" (3/828) ، و"طبقات الحفاظ" ص (344) .
(3) روى عن جبرون بن واقد حديثين باطلين، كما قال الذهبي في "الميزان" (3/ =(3/792)
حدثنا جبرون بن واقد (1) ببيت المقدس، حدثنا سفيان بن عيينة (2) عن أبي الزبير (3) عن جابر بن عبد الله (4) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كلامي لا
__________
= 540) ، ونقل عن ابن عدي أنه ذكر الحديثين في ترجمة جبرون، وقال: "تفرد بهما محمد"، يعني محمد بن داود القنطري.
(1) هو: جبرون بن واقد الإفريقي. روى عن سفيان بن عيينة، وعنه محمد بن داود القنطري، قال الذهبي في "الميزان" (1/387) : "متهم" وقال في "المغني في الضعفاء" (1/127) ليس بثقة، روى بقلة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر "كلام الله ينسخ كلامي" ... "الحديث".
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون أبو محمد الهلالى الكوفي. الإمام المتقن. روى عن عمرو بن دينار والزهري وخلق. وعنه الشافعي وابن المديني وابن معين وخلائق. مات بمكة سنة (198هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/174) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/262) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (123) ، و"شذرات الذهب" (1/354) ، و"غاية النهاية" (1/308) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/190) ، و"ميزان الاعتدال" (2/170) .
(3) هو: محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير الأسدي المكي. روى عن جابر وابن عمر وابن عباس وغيرهم. وعنه مالك والسفيانان والزهري وغيرهم. وثقه ابن معين والنسائي وابن المديني، وضعفه ابن عيينة وآخرون مات سنة (128 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/126) ، و"تهذيب التهذيب" (9/440) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (360) ، و"ميزان الاعتدال" (4/37) .
(4) هو جابر بن عبد الله أبو عبد الله الأنصاري. صحابي جليل. كان من المكثرين الحفاظ للسنن كما قال ابن عبد البر. كف بصره في آخر حياته مات سنة (74 هـ) وهو ابن اربع وتسعين سنة على ما قيل.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/219) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/43) و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (50) . و"شذرات الذهب" (1/84) و"النجوم الزاهرة" (1/198) .(3/793)
بنسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً) (1) وهذا نص.
فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد.
قيل: قد سبق الجواب عن مثل هذا في غير موضع.
ولا يصح حمله على أخبار الآحاد، لأن تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - يسقطه، وهو قوله: (كلام الله ينسخ بعضه بعضاً) .
وأيضا: فإنه لا يجوز نسخ الأخبار المتواترة بأخبار الآحاد، لضعف الآحاد وقوة التواتر، كذلك لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة، لأن السنة أضعف من الكتاب من وجهين:
أحدهما: أن الكتاب فيه إعجاز، والسنة لا إعجاز فيها.
والكتاب في قراءته ثواب، وليس في قراءة السنة ثواب، فلم يصح نسخ القوي بالضعيف، كما لم يجز نسخ الأخبار المتواترة بالآحاد والقياس.
فإن قيل: هذه القوة في اللفظ، فأما الحكم فهما متساويان فيه.
قيل: الخلاف في نسخ اللفظ ونسخ الحكم واحد، فإنه (2) عند المخالف يجوز أن ترد السنة بنسخ تلاوة القرآن، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا لا تقرأوا هذه الآية. فتصير تلاوتها منسوخة بالسنة.
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه" في جملة النوادر كما قال المؤلف.
وذلك في (4/145) ، وهو حديث هالك؛ لأن فيه محمد بن داود القنطري، وجبرون بن واقد، وكل منهما متكلم فيه، بما سبق بيانه في ترجمة كل واحد منهما.
وقد حكم عليه الذهبي في كتابه "الميزان" (1/388) بالوضع، حيث قال بعد أن ذكره وذكر حديثاً آخر: "تفرد به القنطري وبالذي قبله، وهما موضوعان".
(2) في الأصل: (فإن) .(3/794)
وعلى أن الحكم إذا نسخ صار اللفظ منسوخاً، وإن كان يتلى، فإنه يقال: هذه آية منسوخة متى كان الحكم مرتفعاً.
ولأنه متى نسخ الحكم تعطل اللفظ وخرج عن كونه مفيداً، فكما لا يجوز نسخ اللفظ بالأمر الضعيف، لا يجوز نسخ حكمه أيضاً، ألا ترى أنه لما لم يجز نسخ لفظ الكتاب بأخبار الآحاد، لم يجز نسخ حكمه.
فإن قيل: لو كان الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يجيزوا نسخ ما لا إعجاز فيه، وهي الآية الواحدة.
قيل: في الآية الواحدة إعجاز، ولو لم يكن فيها إعجاز، فهي من جنس المعجز، وفيها إعجاز وثواب، وليست السنة من جنس المعجز، ولا في تلاوتها ثواب.
فإن قيل: درس السنة وتعليم العلم [115/أ] عبادة، وفيه ثواب.
قيل: يريد بذلك بعد تعلمها وحفظها، فإن تلاوتها لا ثواب فيها، وهذا لا خلاف فيه.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذكْرَ لِتُبَينَ للِنّاسِ مَا نُزلَ إلَيْهِم) (1) والنسخ ضرب من البيان، كالتفسير والتخصيص.
والجواب: أنه قد قيل: إن التبيين ها هنا هو التبليغ عن الله تعالى.
وقد قيل: النسخ ليس بيان للمنسوخ، وإنما هو إزالة وإسقاط حكمه.
وعلى أن هذا محمول على التخصيص بدليل ما ذكرنا.
واحتج بأنه دليل مقطوع عليه، فجاز النسخ به كالآية.
__________
(1) (44) سورة النحل.(3/795)
والجواب: أنه يبطل بالإجماع، فإنه بهذه الصفة، ولا يجوز النسخ به.
وعلى أنه لا يمتنع أن يتفق دليلان في هذه الصفة، ويختلفا في النسخ، كما أن القياس وخبر الواحد يتفقان في أن طريق كل واحد منهما غلبة الظن، ويجوز النسخ بخبر الواحد، ولا يجوز بالقياس، وكذلك الإجماع والسنة يتفقان في العلم بكل واحد منهما، ولا يجوز النسخ بالإجماع، ويجوز بالسنة.
فإن قيل: إذا أجمع أهل عصر على خلاف حكم القرآن، حكمنا بأنه منسوخ.
قيل: الإجماع لا يكون ناسخاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والإجماع لا يصح إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوحي قد انقطع بعده، ومتى وجدنا خبر الإجماع على خلافه، تركناه بالإجماع، ولا نقول: نسخ بالإجماع بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر ثابتاً لما خرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار.
فإن قيل: المجمعون لا يقولون: إنا ننسخه، وإذا لم يوجد ذلك منهم، لم يتصور النسخ من جهتهم.
قيل: نقول في السنة كذلك، لأن النسخ لا يوجد من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله تعالى أخبر أن نسخ القرآن لا يكون من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وجواب آخر وهو أن السنة المتواترة، وإن ساوت الكتاب فيما ذكروه، من القطع، فهي مخالفة له في الإعجاز، وفي حصول الثواب في قراءتها، فلم يصح وقوع نسخه بها، وإن ساوته في العلم والعمل، كما لا يجوز نسخه بالإجماع، وإن ساواه في العمل والعلم.
واحتج: بأن النسخ كالتخصيص؛ لأن النسخ لا يقتضي تخصيص(3/796)
الأعيان، والتخصيص لا يقتضي تخصيص الزمان، ثم ثبت أن تخصيص الكتاب يجوز بالسنة، كذلك النسخ.
والجواب: أنه يبطل بخبر الواحد وبالقياس، فإن التخصيص بهما [جائز] ، ولا يجوز النسخ بهما، وعلى أن النسخ مفارق للتخصيص؛ لأن النسخ يزيل حكم اللفظ كله، والتخصيص يبقي بعضه، ولا يسقط [115/ب] جملته، فافترقا.
واحتج: بأن النسخ إنما يقع في الحكم، والسنة في إثبات الحكم بمنزلة الكتاب، فصح نسخ حكمه بها.
والجواب: أنا قد بيّنا أنه لا فرق عند المخالف بين نسخ الحكم وبين نسخ التلاوة.
وعلى أنهما وإن تساويا في إثبات الحكم، فهما مختلفان فيما ثبت به الحكم، فحكم الكتاب ثبت بلفظ معجز، وحكم السنه ثبت بلفظ
غير معجز، فلم يجز نسخ ما ثبت بأمر قوي بما ثبت بأمر ضعيف، وإن تساوى الحكمان، ألا ترى أنه لا يجوز نسخ حكم خبر الواحد بالقياس؛ لقوة الخبر الواحد وضعف القياس، وإن كان حكمهما متساوياً، بأن طريقهما معاً غلبة الظن.
واحتج: أنه إنما جاز النسخ إلى غير بدل؛ لأننا نجوز أن يكون قد نسخ بما هو مثله أو أقوى منه، وليس يوجب ذلك جواز النسخ إلى بدل هو أضعف منه، ألا ترى أنه يجوز النسخ إلى غير بدل، ولا يجوز النسخ إلى بدل هو خبر واحد أو قياس.
واحتج: بأن ذلك قد ورد في الشرع، وذلك أن الله تعالى أوجب الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وصية لوارث) ، وكذلك نسخ حد الزنا من الحبس والأذى بقوله عليه السلام:(3/797)
(خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) (1) . ونسخ قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ (2) عند الْمَسْجِدِ الْحرَامِ) (3) بقوله لما قيل له: إن
__________
(1) هذا الحديث رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنا (3/1316) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الرجم (2/455) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب (4/41) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد الزنا (2/852) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحدود، باب في تفسير قوله تعالى: (أوْ يجعلَ اللهُ لَهُن سبيلاً) (2/101) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/476) .
وأخرجه عنه الإمام الشافي في كتاب الحدود باب رجم الزاني الحصن وجلد البكر وتغريبه (2/286) .
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب الحدود، باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه (1/298) .
راجع في هذا الحديث أيضاً: "ذخائر المواريث" (1/280) ، و"نصب الراية" (3/329) .
(2) القراءة في قوله تعالى: (وَلاَ تَقتلُوهُمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام حَتى يَقْتُلُوكمْ فيه) التي أثبتها المؤلف في قوله تعالى: (تَقْتُلُوهُمْ) . وكررَها بعد ذلك. بغير ألف في الموضعين، وهي قراءة حمزة والكسائي.
وقرأ الباقون: (ولاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِد الْحَرَامِ حَتى يُقَاتِلوكُمْ فِيهِ) بالألف فيهما.
راجع في هذا: "تفسير الطبري" (3/566-569) ، و"إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص (155) وحجة القراءات ص (127،128) .
(3) (191) سورة البقرة.(3/798)
ابن خطَل (1) متعلق بأستار الكعبة-: (اقتلوه) (2) .
والجواب: أن الوصية منسوخة بآية المواريث، فلهذا قال عليه السلام: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) .
وأما حد الزنى فمنسوخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
__________
(1) هو عبد الله بن خطل التميمي. أسلم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً، وكان له غلام مسلم، وحدَث مرة أن أمر غلامه أن يصنع له طعاماً، ثم نام، فلما استيقظ إذا بالغلام لم يعمل شيئاً، فعدى عليه، فقتله. ثم ارتد عن الإسلام.
ولم يقف أمره على هذا، بل اتخذ في قينتين يغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت مكة رأى ابن خطل أنه هالك، فذهب إلى الكعبة، وتعلق بأستارها، عله ينجو، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أمر بقتله، فاشترك في قتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، وذلك عام الفتح سنة (8) من الهجرة.
راجع: "تاريخ الطبري" (2/335) ، و"السيرة النبوية" لابن هشام القسم الثاني ص (409) .
(2) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح (5/188) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام (2/989-990) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الاسلام (2/54) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الجهاد، باب ما جاء في المغفر (4/202) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب دخول مكة بغير احرام (5/158) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب السير، باب كيف دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر (2/140) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/164) .
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الحج، باب جامع الحج ص (273) .(3/799)
كل وَاحِدٍ منهَما مائة جَلْدَة) (1) .
وأما في الثيب المحصن، فإنه منسوخ بآية الرجم التي نسخ رَسمها.
وقيل: إن آية الحبس لم تنسخ؛ لأن النسخ: أن يرد لفظ عام يتوهم دوامه، ثم يرد ما يرفع بعضه، والآية لم ترد بالحبس على التأبيد، وإنما وردت إلى غاية، وهو أن يجعل الله تعالى لهن سبيلاً، فأثبت الغاية، فوجب الحد بعد الغاية بالخبر.
وقيل: إن آية الحبس (2) وآية الأذى في الأبكار، والمراد بالأولى النساء، والثانية الرجال، ونسختهما جميعاً آية الحد، فثبت ابتداء بالسنة (3) .
وأما قوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوهمْ عنْدَ الْمَسْجِدِ الْحرَام) (4) منسوخ (5) بقوله تعالى: (اقْتلوا الْمُشْركينَ حيْثُ وَجدْتُمُوهمْ) (6) .
__________
(1) (2) سورة النور.
(2) غير واضحة في الأصل.
(3) راجع تفسير الآيتين في "تفسير الطبري" (8/73-88) .
(4) (191) سورة البقرة.
(5) اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟
فذهب قتادة والربيع إلى أنها منسوخة، ورجحه الطبري.
وذهب مجاهد إلى أنها محكمة، فلا يجوز مقاتلة أحد في المسجد الحرام إلا في حالة اعتداء الكافرين بالقتال فيه.
راجع: "تفسير الطبري" (3/567-569) .
(6) (5) سورة التوبة.(3/800)
مسألة (1)
فأما نسخ القرآن بالسنة من جهة العقل، فلا يمتنع جوازه.
واختلف أصحاب الشافعي: [116/أ] فمنهم من أجاز ذلك عقلاً.
ومنهم من منعه، وقال: لا يجوز عقلاً ولا شرعاً.
فالوجه في جوازه عقلاً:
أن النسخ تعريف بقضاء مدة العبادة وإعلام سقوط مثل ما كان واجباً بالمنسوخ، وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان، والمعرفة بذلك تقع بالسنة كما تقع بالقرآن.
والوجه لمن منع من ذلك:
أنه يؤدي إلى الارتياب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه قوله تعالى: (وَإذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) (2) فلما كان نسَخَ القرآن بالسنة يزيد في ارتيابهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم - لم يجز نسخه: بل ينسخ بقرآن مثله؛ ليكون أقطع لشكوكهم، وأشد إبطالاً لدعاويهم.
والجواب: أن المشركين كانوا ينسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الافتراء إذا بدلت آية بآية مكانها، وهكذا حكى الله عنهم، فلو كان فعلهم ذلك مانعاً من جواز نسخ القرآن بالسنة، لمنع أيضاً من جواز نسخ القرآن بالقرآن.
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (202) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (97/ب-100/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/224-227) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (264) .
(2) (101) سورة النحل.
راجع في تفسير هذه الآية: "تفسير الطبري" (4/176) طبعة الحلبي.(3/801)
مسألة (1)
يجوز نسخ السنة بالقرآن
أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال عبد الله: سألت أبي عن رجل أخذ منه الكفار عهد الله وميثاقه أن يرجع إليهم، قال فيه: خلاف، قلت لأبي: حديث أبي جندل، قال: ذلك صالح على أن يردوا من جاءهم مسلماً (2) ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال، ومنع النساء ونزل فيهم: (فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤمنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (3) . وظاهر هذا أنه أثبت نسخ السنة (4) بقرآن.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة (5) .
وللشافعي قولان: أحدهما مثل هذا، والثاني: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن (6) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (205) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (264) ، و"روضة الناظر" مع شرحها: "نزهة الخاطر" (1/223-227) .
(2) في الأصل: (سلماً) .
(3) (10) سورة الممتحنة.
وراجع تفسيرها في: "تفسير الطبري" (28/69) طبعة الحلبي.
(4) في الأصل: (النسخ القضية) .
(5) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/202) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/78) .
(6) اختار الإمام الغزالي القول بالجواز، كما في كتابه "المستصفى" (1/124) ، وذكر الجلال المحلى في "شرحه على جمع الجوامع" (2/80) أن بعض الأصحاب حكى عن الإمام الشافعي القول بالمنع جزماً. وبعضهم حكى عنه القولين.(3/802)
دليلنا:
قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا علَيْكَ (1) الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكلِّ شَيْء) (2) والنسخ تبيان مدة الحكم، فوجب (3) أن يجوز بالكتاب.
ولأن الكتاب أقوى من السنة، فإن السنة فيها ما يوجب العلم والعمل، وفيها ما يوجب العمل دون العلم، والكتاب كله يوجب العلم.
ولأن في الكتاب إعجازاً، وليس في السنة إعجاز، فإذا جاز نسخ السنة بمثلها، فبأن يجوز نسخها بما هو أقوى منها أولى. ألا ترى أنه لما جاز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد، كان جواز نسخه بالمتواتر أولى.
ولأن القرآن ثابت بوحي من عند الله تعالى، كما أن السنة التي بوحي ثابتة من قبله، فإذا كان كذلك، وجاز نسخ السنة بسنة مثلها، وجب أن يجوز بالقرآن.
وأيضاً: فإنه قد وجد نسخ السنة بالقرآن في مواضع:
من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم-[116/ب] صالح من شاء عام الحديبية، على أن يرد إليهم من جاءه كل منهم من المسلمين، وجاءه أبو بصير (4) وأبو
__________
(1) في الأصل: (اليك) .
(2) (89) سورة النحل.
(3) في الأصل (وجب) بدون الفاء.
وراجع في تفسير هذه الآية "تفسير الطبري" (4/161) طبعة الحلبي.
(4) هو: عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد.. أبو بصير الثقفي. اشتهر بكنيته ورد ذكره في قصة صلح الحديبية. وقد مات بعد ذلك بقليل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رده لما جاءه مسلماً، وذلك حسب شروط صلح الحديبية، فخرج هو وأبو جندل إلى الساحل، وكانوا يتعرضون لعير قريش وغيرها. فأرسلت قريش =(3/803)
جندل، فردهما (1) ، ثم جاءت امرأة مهاجرة، فمنع الله تعالى من ردها، ونسخ ذلك بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ) إلى قوله: (فَلاَ تَرْجعُوهُنَّ إلى الْكُفارِ) (2) ، وهذا نسخ سنة بقرآن (3) .
وكذلك أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي (4) من الليل، فصلاها (5) ، ثم نسخ تأخيرها بالقرآن، وهو قوله: (فَإنْ خِفْتمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) (6) ، وقوله: (فَإذَا كُنتَ فيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ) (7) .
__________
= إلى النبي صلى الله وسلم ترجوه أن يضمهم إليه في المدينة، فكتب إليهما ولكن وصل الكتاب وأبو بصير يحتضر فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فصلى عليه أبو جندل، ودفنه في مكانه.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1612) ، و"الإصابة" (2/213) .
(1) قصة صلح الحديبية. وما جرى لأبي جندل وأبي بصير أخرجهما البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (5/162) .
(2) (10) سورة الممتحنة.
(3) راجع تفسيرها في "تفسير الطبري" (28/69) طبعة الحلبي.
(4) الهَويّ بفتح الهاء وكسر الواو بعدهما ياء مشددة: السقوط من أعلى إلى أسفل.
والمراد هنا: ذهاب جزء من الليل. انظر "المصباح المنير" مادة (هوى) .
(5) هذا الحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه. أخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب الأذان للفائت من الصلوات (2/15) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الحبس عن الصلاة (1/296) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/25) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب قضاء الفوائت (1/55) .
(6) (239) سورة البقرة. راجع تفسيرها في: "تفسير الطبري" (2/572) ، طبعة الحلبي.
(7) (102) سورة النساء. راجع تفسيرها في "تفسير الطبري" (5/250) ، طبعة الحلبي.(3/804)
ومن ذلك نسخ القبلة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة صلى ستة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) ، ومعلوم أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس لم يكن ثابتاً بقرآن، وقد نسخ بالقرآن.
ومن ذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أُبي بن سلول (2) المنافق (3) ، ثم أنزل الله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلىَ أحَدٍ منْهُم مَاتَ
__________
(1) (144) سورة البقرة.
(2) وقد توفي في شهر ذي القعدة من السنة التاسعة للهجرة. كما نقل ذلك ابن كثير عن ابن إسحاق في كتابه "البداية والنهاية" (5/34) . طبعة مكتبة المعارف ببيروت.
(3) قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول المنافق واعتراض عمر رضي الله عنه على هذه الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "أخر عني يا عمر، إني خيرت، فاخترت، قد قيل لي "استغفر لهم" الآية، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له، لزدت"، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره، حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. قال: فوالله ما كان إلا يسيراً، حتى نزلت هاتان الآيتان: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قبرِهِ) الآية، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
هذه القصة أخرجها البخاري عن عمر رضي الله عنه في كتاب التفسير، باب: سورة التوبة (6/85-86) .
وأخرجها عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة براءة (5/279) وقال فيه: (حديث حسن صحيح غريب) .
وأخرجها عنه النسائي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على المنافقين (4/54-55) .
وأخرجها عنه ابن جرير الطبري في "تفسيره"، عند كلامه على تفسير آية (وَلاَ تُصَلِّ عَلَىَ أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً) (14/408) . =(3/805)
أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1) .
ونظائر ذلك كثير.
واحتج المخالف:
بقوله: (وَأنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ (2) لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم) (3) فجعل السنة بياناً للقرآن. فلا يجوز أن يكون القرآن بياناً للسنة.
والجواب: أن المراد به التبليغ، يبين صحة ذلك: أنه يجوز تخصيص السنة بالقرآن، وكذلك يجوز تفسير مجمل السنة به.
واحتج: بأنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وجب أن لا يجوز نسخ السنة بالقرآن.
والجواب: أن القرآن أعلى من السنة، فلم يجز نسخ الأعلى بالأدنى، وجاز نسخ الأدنى بالأعلى، ألا ترى أن ما ثبت بخبر الواحد يجوز نسخه بما ثبت بالتواتر، وما ثبت بالتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد.
واحتج: بأن القرآن أصل والسنة فرع له؛ لأنها بكتاب الله قبلت، وإذا كانت فرعاً، فلو قلنا: القرآن يبين معناها، لجعلناها أصلاً، والقرآن فرعاً.
__________
= وذكر ذلك ابن كثير في "تفسيره" (2/378-379) عند تفسيره للآية المذكورة.
كما ذكره في كتابه "البداية والنهاية" (5/35) طبعة مكتبة المعارف ببيروت، وذلك عند كلامه على وفاة عبد الله بن أبي بن سلول وقد سبق الكلام على هذه الآية ص (456) .
(1) (84) سورة التوبة.
(2) في الأصل: (الكتاب) .
(3) (44) سورة النحل.(3/806)
والجواب: أن هذا باطل بالتخصيص، فإن القرآن يخص عموم السنة، ومع هذا فلا يقضي إلى ما قالوا.
واحتج: بأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة؛ لأفضى (1) إلى الاختلاط وهو أن بيانه ببيان الله تعالى، وهذا لا سبيل إليه.
والجواب: أنه لا يختلط؛ لأن بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخصيص الأعيان، والنسخ: رفع الخطاب في المستقبل، فلا يختلط أحدهما بصاحبه.
واحتج: بأن الشيء إنما ينسخ [117/أ] بجنسه، ألا ترى أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنة بالسنة، والقرآن لا ينسخ بالسنة.
والجواب: أن الشيء ينسخ بجنسه، أو بما هو أقوى منه، والقرآن أقوى من السنة، فوجب أن ينسخ به.
مسألة (2)
يجوز نسخ الحكم قبل فعله وبعد دخول وقته. وهذا لا خلاف فيه.
واختلفوا في نسخه قبل وقت فعله:
فقال شيخنا أبو عبد الله (3) : يجوز أيضاً.
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه قال في رواية صالح
__________
(1) في الأصل: (أفضى) .
(2) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (207) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (95/ب-97/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/203-208) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (256) .
(3) يعني الحسن بن حامد.(3/807)
وأبي الحارث في قوله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) (1) أن ذلك لجواز النسخ وأن الله تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب. وظاهر هذا جواز النسخ في عموم الأحوال.
وبهذا قال أكثر أصحاب الشافعي (2) ، وهو قول الأشعرية.
وقال أبو الحسن التميمي من أصحابنا: لا يجوز (3) . وهو قول أصحاب أبي حنيفة (4) ، وأكثر المعتزلة (5) . وبعض الشافعية (6) .
فالدلالة على جوازه:
قوله تعالى في قصة إبراهيم: (يَا بُنَيّ إنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أذْبَحُكَ فَانْظُر مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَت افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (7) ، وَقوله: (إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) قال القتبي (8) في "غريب القرآن" (9) :
__________
(1) (106) سورة البقرة.
(2) راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص (297) و"المستصفى" له (1/112) ، و"الإحكام" للآمدي (3/115) .
(3) وذكر في "المسودة" ص (207) أنه قد نُقِل عنه القولان.
(4) هذا العزو غير محرر، فإن جمهور الحنفية يقولون بالجواز، وبعضهم يقول بعدم الجواز. ومنهم الكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي. راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/187) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/61/62) .
(5) راجع في هذا: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (1/407) .
(6) هو: أبو بكر الصيرفي. كما حكى ذلك الآمدي في "الإحكام" (3/115) .
(7) (102) سورة الصافات.
(8) هو ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري، أبو محمد، وقد مضت ترجمته في أول الكتاب ص (68) .
(9) هذا الكتاب من أجود مؤلفاته، وقد نسبه إليه ابن العماد الحنبلي في كتابه: "شذرات الذهب" (2/169) .(3/808)
معناه: إني سأذبحك. فكأنه أمر بذبحه في المنام، وكانت رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحياً، يجب العمل به، ولهذا قال: (افعل ما تؤمر) ثم نسخه: (بذبح عظيم) ، وهذا نص يدل على جواز نسخ الحكم قبل وقته.
فإن قيل: إبراهيم كان مأموراً بمقدمات الذبح، من الإضجاع وأخذ المُديَة ونحو ذلك. دون الذبح نفسه، وإنما سمي ذلك ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم ذلك الشيء، ألا ترى أنهم يسمون النائحة باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء والأسباب التي يبكي عندها.
وكذلك يسمى المريض المخوف عليه ميتاً؛ لحصول مقدمات الموت.
قالوا: ويبين هذا قوله تعالى: (قَدْ صَدّقْتَ الرؤيَا) (1) ، ولو كان الواجب عليه الذبح بعينه، لم يكن قد صدق رؤياه وهو لم يذبحه، فعلم بذلك أنه كان مأموراً بمقدمات الذبح.
قيل: هذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه قال: (إنِّي أَرَىَ فِي الْمَنَامِ) والذَّبح: اسم للشق والفتح، ولا يعبر به عن مقدماته، لا حقيقة ولا مجازاً. ومنه قول الشاعر:
كأن بين فَكِّها والفَكِّ ... فَأرةُ مِسْك ذُبِحَت في سَكِّ (2)
يعني به: الفتح والشق.
__________
(1) (105) سورة الصافات.
(2) هذا الرجز للشاعر منظور بن مرثد الأسدي.
هكذا نسبه ابن يعيش في شرحه على المفصل (4/138) ، وفي (8/91) ، وذكر قبله قوله:
يا حبذا جارية من عَكِّ ... تَعْقِد المُرْطَ على مِدَك
مثل كثيب الرمل غير رَكِّ(3/809)
الثاني: قوله: (سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، وليس في مقدمة الذبح ما يحتاج إلى الصبر.
الثالث: أنه قال: (إنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ الْمُبِينُ) (1) ، ولا يجوز أن يفخم هذه التفخيم، والمأمور به مقدمة الذبح.
الرابع: قوله: (وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (2) ، ولا يكون [117/ب] الفداء مع الامتثال للأمر.
وأما قوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيَا) فقد قيل معناه: التصديق بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق بالقلب فكأنه قال: لما صدقت وآمنت واعتقدت وجوبه وعزمت على فعله جزيناك كما نجزي المحسنين، فنسخنا عنك فعل الذبح بذبح كبش.
وقيل فيه جواب آخر: أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل، تبيَّنا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل، وكل النسخ هكذا؛ لأن النسخ تخصيص الزمان، وبيان لما لم يرد باللفظ، كالتخصيص في الأعيان، ولا نقول: إن الله تعالى نسخ ما أمر به وأوجب علينا فعله؛ لأن ذلك يؤدي إلى البداء على الله تعالى.
وقيل فيه جواب آخر وهو: أنه يحتمل أن يكون الأمر بالذبح أراد به ما لم أنسخه عنك، ومعناه: افعل في وقت كذا، ما لم أنسخه عنك، فإذا نسخه قبل وقته تبيَّنا أن الذبح لم يكن مأموراً به، وإنما أمره أن يعتقد وجوبه، ويعزم على فعله بهذا الشرط.
والجواب الصحيح عندي هو الأول؛ لأن الثاني والثالث تسليم لما قاله
__________
(1) (106) سورة الصافات.
(2) (107) سورة الصافات.(3/810)
المخالف؛ لأن عنده: أن المأمور به أمارات الذبح. وعنده أيضاً: أنه يصح تعليق الأمر بشرط التمكن.
فإن قيل: إنما تعبده الله تعالى بذبح لا تبطل الحياة عنده، فكان كلما، قطع جزءاً من موضع الذبح ألحمه الله تعالى وأعاده إلى حاله، فكان الفداء واقعاً من الذبح الذي تبطل الحياة عنده.
قيل: القرآن يقتضي أن يكون الذى فعله تلَّه للجبين، ثم جاءه النداء والفداء، فلم يجز أن يقال: إنه ذبحه.
ولأن لو كان ذبحه لذكره، وكان ذكره أولى من ذكر تلَّه للجبين.
ولأنه ذلك معجزة عظيمة، وآية كبيرة، فلو كان كما قال، لوجب أن يكون قد ذكرها وتواتر النقل بها.
ولأنه لو كان فعل الذبح لم يكن الذبح فداءً، وإنما يكون الذبح فداءً، إذا لم يكن فعل الذبح.
فإن قيل: فقد روي أن الله تعالى ضرب على مذبحه صفيحة من نحاس، فكان إيراهيم كلما وضع المُدْية على الموضع انقلبت ولم يقع بها قطع (1) .
قيل: هذا لا يصح على أصل المخالف لوجهين:
أحدهما: أنه لا يصح تكليف ما لا يطاق. وهذا تكليف ما لا يطاق.
والثاني: لا يكون الأمر أمراً إلا بإرادة الآمر، وإذا حال بينه وبين الفعل لم يُردْه.
وأيضاً: فإن نسخ الفعل بعد التمكين من اعتقاد وجوبه يجوز، أصله الفعلُ الثاني والثالث.
__________
(1) هذا أثر أخرجه الطبري في تفسيره، في سورة الصافات (23/78) بسنده إلى السدي، طبعة الحلبي.(3/811)
يبين صحة هذا أن الأمر يوجب على المكلف أن يعتقد وجوب فعل تلك العبادة عند دخول وقتها والعزم على فعلها، ويصير بذلك مطيعاً، فإذا نسخت (1) عنه قبل دخول الوقت، فقد نسخت بعدما صار مطيعاً [118/أ] ومثاباً شيء تضمنه حكم الأمر، فجاز ذلك، كما لو أمر بفعل عبادات ففعل بعضها، جاز نسخ الثاني، ولا فصل بين الأمرين. والمعتمد على الآية.
واحتج المخالف:
بأن الأمر بالعبادة يقتضي الأمر بالحسن، والنهي يقتضي القبح، فلو كان الأمر بالفعل قد دل على حسنه كان النهي عنه قبل مجيء وقته نهياً عن حسن، والنهي عن الحسن قبيح، كما أن الأمر بالقبيح قبيح، وهذا لا يجوز في صفات الله تعالى.
والجواب: أن الأمر يقتضي الحسن ما دام الأمر باقياً، فأما بعد زواله، فإنه يقتضي قبحه (2) ، والأمر على هذا الوجه ورد، وهو أن الفعل يكون حسناً مع بقائه، ما لم يرد النسخ به، فإذا ورد خرج الفعل عن كونه حسناً، وليس يمتنع أن يكون الشيء الواحد حسناً إذا فعل على وجه، وغير حسن إذا فعل على وجه آخر كالصلاة إذا فعلت لله تعالى كانت حسنة، [و] إذا فعلت للشيطان كانت قبيحة، وفعلها في الحالين على صورة واحدة.
وقيل في جواب هذا: إن الأمر تعلق بمقدمات الفعل الذي تناوله ظاهر الأمر، كما نقول: إن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ولم يرد فيما زاد عليها، وإن كان ظاهر الأمر التأبيد، ولا يقال: إنه أراد أن يكون التوجه واجباً عليهم أبداً، ثم نسخه؛ لأنه يكون بداءً على الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: (نسخ) .
(2) في الأصل: (نسخة) .(3/812)
واحتج: بأن النهي عن الفعل المأمور به قبل مجيء وقته، يدل على البداء؛ لأن حال المأمور به لو كانت عنده على ما كانت عليه وقت الأمر لما كان (1) يجوز أن ينهي عنه على الوجه الذي أمر به؛ لأن ذلك يكون عبثاً، فمتى نهي عنه علمنا أن حال المأمور به يعرف عنده، إما بأن ظهر له ما لم يكن عالماً به في حال الأمر، أو خفي عنه ما كان عالماً به وقت الأمر.
والجواب: أنه لا يقتضي البَدَاء؛ لأن البداء أن يظهر للإنسان ما لم يكن عالماً به، والله تعالى حين أمر بهذه العبادة كان عالماً بأن المصلحة في بقاء فرضها إلى وقت النسخ، فلا يكون قد ظهر له ما لم يكن يعلمه، حتى يكون بداء.
وقيل فيه: لا يفضي إلى البداء؛ لأنه كان مأموراً بمقدمات الذبح، وقد وجدت منه، أو كان مأمورا بشرط.
واحتج بأن النسخ بمنزلة التخصيص، فلما استحال أن يقول: "صلوا إذا زالت الشمس، لا تصلوا إذا زالت الشمس"، لم يصح أن يأمر بالصلاة ثم ينهي عنها قبل مجيء وقتها.
والجواب: أنه إنما لم يصح ذلك؛ لأنه لا يفيد شيئاً، فيكون عبثاً ولعباً، وليس كذلك إذا كانا في زمانين مختلفين؛ لأنه يتمكن من فعل مقدماته: اعتقاد وجوب المأمور به، والعزم على فعله بشرط، فيكون ذلك طاعة ينال بها الثواب، وإذا كان [118/ب] مفيداً جاز ورود الشرع به.
__________
(1) في الأصل: (لكان) .(3/813)
مسألة (1)
الزيادة في النص ليس بنسخ.
وهو قول أصحاب الشافعي (2) .
وقال أصحاب أبي حنيفة: هو نسخ (3) .
ويفيد هذا: جواز الزيادة في النص بالقياس، وبخبر الواحد (4) ، مثل: إيجاب النية في الوضوء بالخبر (5) والقياس، وإن كان ذلك زيادة على قوله تعالى: (اغْسلُوا وُجُوهكُمْ) (6) .
وكذلك: إيجاب النفي في حد الزنا (7) ، وإن كان زيادة على قوله (فَاجْلِدُوا كُل وَاحِد مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدةٍ) (8) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (207) و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (102/أ-103/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/208-214) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (270) .
(2) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (3/155) ، و"شرح جمع الجوامع" (2/91) ، و"المستصفى" للغزالي (1/117) .
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/218) ، و"فواتح الرحموت" بشرح "مسلم الثبوت" (2/91) .
(4) في الأصل: (الواجب) .
(5) لعل هذا إشارة إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً (إنما الأعمال بالنيات ... ) الحديث، وقد سبق تخريجه ص (205) .
(6) سورة المائدة.
(7) هذا إشارة إلى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً ... ) الحديث، وقد سبق تخريجه ص (798) .
(8) (2) سورة النور.(3/814)
وكذلك: إيجاب شرط الإيمان في كفارة الظهار بالقياس علي كفارة القتل، وإن كان فيه زيادة على قوله: (فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ) (1) .
وكذلك: الحكم بشاهد ويمين جائز بالخبر (2) ، وإن كان فيه زيادة على قوله تعالى: (فَإنْ لَمْ يَكُونَا رجُلَيْنِ فرَجُل وامْرَأتَانِ) (3) .
ونحو هذا، كله يجوز عندنا، وعندهم لا يجوز.
وقال أصحاب الأشعري: إن كانت الزيادة تُغير حكم المزيد عليه، مثل: أن يأمر بركعتين، ويجعلها أربعاً، كان نسخاً. وإن كانت لا تغير حكمه، مثل: أن يزيد عشر جلدات على المائة، لم يكن نسخاً.
__________
(1) (3) سورة المجادلة.
(2) هذا إشارة إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد.
أخرجه مسلم في "صحيحه" في كتاب الأقضية. باب القضاء باليمين والشاهد (3/1337) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد (2/277) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد (2/234) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد (4/144) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الاحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين (2/793) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (814) و"تيسير الوصول" (3/184) .
(3) (282) سورة البقرة.(3/815)
دليلنا:
أن النسخ بيان مدة ما لم يرد مما وجب دخوله في إطلاق اللفظ، ويكون الرافع متأخراً عن وقت الفعل المأمور به، وهذان الشرطان مفقودان هاهنا؛ لأن القياس الذي يدل على الزيادة يقترن بالمزيد عليه، غير متأخر عنه، فلم يكن نسخاً.
ولأن النسخ هو: رفع الحكم وإزالته، والزيادة لا توجب رفع المزيد عليه، ألا ترى أنه إذا كان في الكيس مائة درهم، فزدت فوقها درهماً، أن ذلك لا يوجب رفع شيء مما كان في الكيس، فلا يوجب ضم الزيادة إليه مع بقائه.
وكذلك إذا فرض الله تعالى على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، ثم فرض صوم شهر رمضان، فلا يكون فرض الصوم نسخاً للصلوات، كذلك هاهنا.
والذي يبين صحة هذا وأن النسخ هو الرفع والإزالة: قولهم: "نَسخت الشمسُ الظل، إذا أزالته"، و"نسخ الريحُ الأثرَ، إذا ذهب به وأزاله".
فإن قيل: وقد لا يكون عبارة عن الإزالة ألا ترى أنك تقول: نسخت الكتاب، وإن لم يزل، ما كان فيه من الكتابة؟
قيل: هذا مجاز واتساع، والحقيقة ما ذكرنا.
والذي يبين صحة هذا أن النسخ عندنا هو الإزالة، وعند مخالفينا هو تغيير الحكم، ونسخ الكتاب لا يوجد فيه شيء من ذلك، فعلم أنه مجاز.
ويدل علي جواز الزيادة بالقياس وبخبر الواحد، فنقول [119/أ] كل جاز تخصيص الحكم به جاز الزيادة فيه، أصله القرآن والخبر المتواتر.(3/816)
وأيضاً: فإن التخصيص نقصان مما وجب دخوله في اللفظ، وليس في الزيادة نقصان، فإذا جاز التخصيص، فلأن تجوز الزيادة أولى.
واحتج المخالف:
بأن النسخ هو: أن لا يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى وهذا المعنى موجود في الزيادة في النص؛ لأن إيجاب النية في الطهارة، وشرط الإيمان في كفارة الظهار يمنع أن يلزم في المستقبل مثل ما كان لازما فيما مضى، وكذلك إيجاب التغريب مع الجلد، فوجب أن يكون نسخاً.
والجواب: أنا لا نسلم أن هذا هو النسخ، وإنما هو ما ذكرنا من الرفع والإزالة، أو بيان ما لم يُرَد مما وجب دخوله، وهذا معدوم ها هنا.
وعلى أنه يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، فلم يلزم في المستقبل مثل ما كان لازماً فيما مضى، ومع هذا فلم يكن نسخاً، وهما سواء؛ لأنه كان لازماً فيما مضى عبادة واحدة، فزيد عليها أخرى، وكذلك كان لازما جلد مائة، فزيد عليه التغريب.
واحتج: بأن الزيادة تغير حكماً ثابتاً في المزيد عليه، فوجب أن يكون نسخاً، كما إذا نسخ الحكم الثابت، مثل القبلة، والتقديم (1) ، وحد الزنا، والوصية.
ووجه التغيير: أنه قبل الزيادة كان جميع الحكم، فصار بالزيادة بعض الحكم.
والجواب: أنا لا نسلم أنها غيرته؛ لأن حكم المزيد ثابت، كما
__________
(1) في الأصل: (القديم) .(3/817)
كان، ولكن يحتاج إلى زيادة ليقع موقعه، فكأن المائة قد وقعت موقعها، ولكن تحتاج إلي زيادة.
وقولهم: كان جميع الحكم، فصار بعضه، يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإن الصلاة كانت جميع الشرع، ثم صارت بعضه، ولا يكون ذلك نسخاً.
ثم يبطل هذا بالنقصان فإنه إذا سقط من المائة خمسون، لم يكن نسخاً للباقي، وقد صارت كل الحد بعد أن كانت بعضه.
واحتج: بأن النقصان نسخ، فوجب أن تكون الزيادة نسخ.
والجواب: أن النقصان يسقط حكماً ثابتاً فأوجب دخوله في اللفظ في وقت مستقبل، وليس كذلك الزيادة؛ لأنها لا تسقط حكماً، وهذا كما نقول: إنه إذا نسخ صوماً أو صلاةً، كان نسخاً، وإن زاد صوماً بعد الصلاة، لم يكن نسخاً فدل على الفرق بين النقصان وبين الزيادة.
واحتج: بأنه لا يصح أن يجمع بين الزيادة وبين حكم النص في خطاب واحد، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول الله تعالى: إذا غسلتم فى هذه الأعضاء أجزأتكم الصلاة وإن لم تنووا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تنووا الطهارة لم تجزئكم صلاتكم، وكذلك [119/ب] لا يقول: قد أوجبت عليكم إذا حكمتم أن تحكموا بشهادة رجل واحد وامرأتين دون غيرهم، ثم يقول مع ذلك: واخترت لكم الحكم في الشاهد واليمين.
وكذلك لا يصح أن يقول: إن جلد مائة جميع حد الزاني، ثم يقول مع ذلك: هو بعض حده، فإذا استحال جمعها (1) في خطاب واحد، وجب أن يكون ورود الزيادة بعد استقرار حكم النص موجباً لنسخه.
والجواب: أن هذا يبطل به إذا أمر بالصلاة، ثم أمر بالصوم، فإنه لا يصح أن يجمع بين الصوم وبين الصلاة في خطاب واحد، فلا
__________
(1) في الأصل: (جميعها) .(3/818)
يصح ان يقول: إذا صليتم برأت ذمتكم من كل عبادة، وإن لم تصوموا، ثم يقول مع ذلك: إن لم تصوموا لم تبرأ ذمتكم، ومع هذا فإيجاب الصيام بعد الصلاة لا يكون نسخاً للصلاة، كذلك ها هنا.
واحتج من قال بأنها إذا غيرت كانت نسخاً:
بأن الركعتين قبل الزيادة عليهما (1) كانتا تجزئان عن الفريضة ويصحان بانفرادهما، فلما ضم إليهما (2) ركعتين آخرتين صارتا غير مجزئتين ولا يصحان (3) بانفرادهما، فكان ذلك نسخاً لهما.
والجواب: أن الركعتين صحيحتان واقعتان عن الفرض، لكن ضم إليهما شيء آخر، فهو بمنزلة إشتراط ستر العورة فيها واستقبال القبلة ونحو ذلك من الشرائط.
ثم هذا باطل بالزيادة على الحد، فإنه كان قبل الزيادة محرماً، وتحصل به الكفارة، وبعد الزيادة لا تجزىء، ولا يكون ذلك نسخاً عند هذا القائل، وكذلك مبيحة للنكاح، فإذا زيد فيها، لم تكن مبيحة للنكاح من غير الزيادة، ولا يكون نسخاً، كذلك ها هنا.
واحتج: بأنكم قد جعلتم الزيادة على النص نسخاً لدليل الخطاب، فيجب (4) أن يكون نسخاً للمزيد عليه، وبيانه: إذا أمر الله تعالى بأن يجلد الزاني مائة واستقر ذلك، ثم زاد بعد ذلك عليها زيادة، كان ذلك نسخاً لدليل الخطاب، لأن قوله: اجلدوا مائة، دليله: لا يجلد أكثر منها.
__________
(1) في الأصل: (عليها) .
(2) في الأصل: (إليها) .
(3) في الأصل: (يصح) .
(4) في الأصل: (يجب) .(3/819)
وهذا كما قال الصحابة والتابعون: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الماء من الماء) منسوخ، وإنما المنسوخ حكم دليل الخطاب منه، دون حكم النطق؛ لأن حكم النطق ثابت لم يتغير.
والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن المزيد عليه لم يتغير حكمه، فهو (1) بعد الزيادة، كهو (2) قبلها، وليس كذلك دليل الخطاب، فإنه قد زال، لأن تقديره: لا تزيدوا على المائة، وقد أوجب الزيادة عليها، فصار المنع من الزيادة منسوخاً.
وربما قال قائل: إن ذلك ليس بنسخ، وإنما هو جار مجرى التخصيص للعموم، قال: لأن دليل الخطاب من القرآن والسنة المتواترة يجوز تركه بالقياس وبخبر الواحد.
والصحيح: أنه نسخ؛ لأن [120/أ] العموم إذا استقر بتأخير بيان التخصيص كان ما يراد من التخصيص بعده نسخاً، كذلك دليل الخطاب إذا استقر كان ما يرد بعده مما يوجب تركه نسخاً.
فصل (3)
إذا نص على حكم في عين من الأعيان بمعنى، وقيس عليه كل موضع وجد فيه ذلك المعنى، ثم نسخ الله تعالى حكم تلك العين صار حكم الفروع منسوخاً.
__________
(1) في الاصل: (وهو) .
(2) في الاصل: (فهو) .
(3) راجع هذا الفصل في المسودة ص (213) ، (220) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (101/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/230-232) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) .(3/820)
وقال أصحاب أبي حنيفة: يبقى الحكم في جميع الفروع (1) ، وذكروا ذلك في مسألتين:
إحداهما وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبيذ الذي كان مع عبد الله بن مسعود (2) .
فقيل لهم: إنه كان نيئاً، ولا يجوز عندكم أن يتوضأ بالنبيذ النيء.
فقالوا: إذا ثبت بالنص جواز الوضوء بالنيء، لأنه ثمرة طيبة وماء طهور، وجب جوازه بالمطبوخ، لأن هذا المعنى موجود فيه، وقد نسخ حكم النيء وبقي حكم المطبوخ.
والمسألة الثانية: النية لصوم رمضان بالنهار، فرووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث إلى أهل العوالي (3) يوم عاشوراء (4) أن من لم يأكل
__________
(1) هذا العزو إلى الحنفية غير محرر. فقد ذكر الكمال بن الهمام في كتابه "التحرير" (3/215) مطبوع مع شرحه "تيسير التحرير" ما نصه: (ومبناه على المختار من أن نسخ حكم الأصل، لا يبقى معه حكم الفرع..) .
وقال صاحب "مسلم الثبوت" (2/86) مطبوع مع شرحه "فواتح الرحموت" (مسألة: اذا نسخ حكم الأصل لا يبقى حكم الفرع، وقيل: يبقى، ونسب إلى الحنفية) .
ثم عقب الشارح على كلامه هذا بقوله: (أشار إلى أن هذه النسبة لم تثبت، وكيف لا، وقد صرحوا: أن النص المنسوخ لا يصح عليه القياس، وسيجيء في شروط القياس أن من شروطه أن لا يكون حكم الأصل منسوخاً) .
ويلاحظ: أن الكمال بن الهمام نص في الموضع السابق على أن التسمية بالنسخ من عدمها انما هو خلاف لفظي، أو سهو من المخالف، إذ المؤدي واحد.
(2) حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيذ، سبق تخريجه ص (341) .
(3) "العوالي": ضاحية من ضواحي المدينة المنورة.
(4) "عاشوراء" هو: اليوم العاشر من شهر محرم، خلافاً لابن عباس رضي الله عنه في قوله هو اليوم التاسع منه، كما أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء؟ (2/797) .(3/821)
فليصم (1) فأجاز صوم يوم عاشوراء بالنية من النهار، وكانت العلة فيه: أنه صوم مستحق في زمان بعينه، وهذا المعنى موجود في صوم رمضان وغيره، ثم نسخ صوم عاشوراء، وبقي حكمه في غيره.
دليلنا:
أن ما ثبت تابعاً لغيره وجب أن يزول بزوال الموجب والمقتضى إذا
__________
(1) هذا الحديث رواه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام. باب صيام يوم عاشوراء (3/55) بلفظ: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس أن من كان أكل، فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل، فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه (2/798) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصيام، باب إذا لم يجمع من الليل هل يصوم ذلك اليوم من التطوع (4/162) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصيام، باب في صوم يوم عاشوراء (1/354) .
وأخرجه عنه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم
عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/288) .
راجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (350) .
وهناك حديث آخر روته الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، أخرجه عنها البخاري في كتاب الصيام باب صوم الصبيان (3/45) ، بلفظ: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم ... ) الحديث.
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء، فليكف بقية يومه (2/798) .
وأخرجه عنها البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الصيام، باب من زعم أن صوم عاشوراء كان واجباً ثم نسخ وجوبه (4/288) .(3/822)
زال، كالحكم المتعلق بالعلة إذا زالت العلة زال الحكم المتعلق بها.
واحتج المخالف:
بأنه لو نسخ ذلك لكان نسخاً بالقياس على موضع النص، وهذا لا يجوز بالإجماع.
والجواب: أنه ليس بنسخ بالقياس، وإنما زال الموجب فزال ما تعلق به، كما زالت العلة فزال الحكم المتعلق بها، وإنما النسخ بالقياس: أن ينسخ حكم الفرع بعد استقراره بالقياس على أصل شرع بعد استقراره، وهذا لا يجوز بالإجماع، فأما إزالته بنسخ أصله، فليس ينسخ بالقياس.
فصل (1)
إذا كان الناسخ مع جبريل عليه السلام، ولم يَصِل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ليس بنسخ.
وإن وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يكون نسخاً؟
ظاهر قول أصحابنا: أنه ليس بنسخ إلا عند من بلغه ذلك وعلمه؛ لأنه أخذ بقصة (2) قباء، واحتج بها على إثبات خبر الواحد في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد.
واختلف أصحاب الشافعي: فمنهم من قال: مثل هذا، ومنهم من
__________
(1) راجع هذا الفصل في المسودة ص (223) ، و"التمهيد في أصول الفقهه" الورقة (101/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/221-223) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (255) .
(2) في الأصل: (بعضه) .(3/823)
قال: يكون نسخاً، ولا يعتبر علمهم به (1) .
دليلنا:
أن أهل قباء صلوا ركعة إلى بيت المقدس، ثم استداروا في الصلاة، ولو كان النسخ ثبت [120/ب] في حقهم لأمروا بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء، دل على أن النسخ لم يكن ثبت في حقهم.
ولأن الخطاب لا يتوجه إلى من لا علم له به، كما لا يخاطب النائم والمجنون لعدم علمهما وتمييزهما.
ولأنه لا خلاف أنه مأمور بالأمر الأول، ومتى تركه مع جهله بالناسخ كان عاصياً، فدل على أن الخطاب باق عليه.
واحتج المخالف:
بأنه لا يمتنع أن يسقط حكم الخطاب بما لم يعلمه، ألا ترى أنه إذا وكل في بيع سلعة، ثم عزل الوكيل، ولم يَعْلم بعزله انعزل، وإن باع السلعة بطل بيعه، كذلك ها هنا.
والجواب: أن في تلك المسألة روايتين:
إحداهما: لا ينعزل، ويحكم بصحة بيعه، وكذلك لو مات الموكل، فباع، يصح بيعه، فعلى هذا لا فرق بينهما (2) .
وعلى هذا قال أصحابنا: إذا حلف على زوجته فقال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فأذن لها، وهي لا تعلم، وخرجت وقع الطلاق،
__________
(1) هكذا نقل الآمدي عنهم في كتابه: "الإحكام" (3/153) ، واختار القول بالنفي.
(2) هذه الرواية ذكرها ابن قدامة في كتابه "المغني" (5/102) ، عن الامام أحمد، وعليها يدل ظاهر كلام الخرقي في "مختصره" ص (99) .(3/824)
ولم يكن لذلك الإذن حكم.
وفيه رواية أخرى: ينعزل الوكيل وإن لم يعلم (1) .
فعلى هذا الفرق بينهما: أن أوامر الله تعالى ونواهيه مقرنة بالثواب والعقاب، فاعتبر فيها علم المأمور [به] والمنهي عنه فيها، وليس كذلك الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب.
فصل (2)
في الخبر هل يصح نسخه أم لا؟
ينظر فيه: فإن كان لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به، فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين، والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان ونحو هذا، فهذا لا يصح نسخه؛ لأن نسخه والرجوع عنه يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوز على الله تعالى، فلم يجز ذلك.
وإن كان مما يصح أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبر عنه، فإنه يصح نسخه كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر، أو عبد أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن، جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل،
__________
(1) هذه الرواية ذكرها أيضاً ابن قدامة في كتابه "المغني" (5/103) عن الإمام أحمد نصاً، وذلك من رواية جعفر بن محمد عنه.
(2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (196) ، فإنه نقل عن المؤلف من كتابه
"العدة"، وذكر جملة من كلام المؤلف هنا، وراجع أيضاً: "شرح الكوكب المنير" ص (257-260) .(3/825)
ثم يقول بعد مدة: ليس على المكلف فعل الصلاة؛ لأن نسخ ذلك لا يفضي إلى الكذب في الخبر؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال، كما يجوز أن يتغير حكم المكلف عن العبادة من زمان إلى زمان.
فصل (1)
في الإجماع لا يصح نسخه؛ لأنه (2) حجة: انعقدت بعد انقطاع علم الوحي؛ لأنه ينعقد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد انقطع الوحي بعد وفاته.
وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأن الناسخ هو الوحي، والوحي قد انقطع، فلا نسخ بغيره.
فإن قيل: أليس اذا وجدتم خبر الواحد تركتموه بالإجماع؟
قيل: يترك بالإجماع، [121/أ] ولا ينسخه به، بل يستدل بالإجماع على نسخه؛ لأنه لو كان الخبر صحيحاً لم يخرج عن الأمة؛ لأن الأمة ضبطوا الأخبار، فإذا رأينا خبراً يخالف ما اجماعهم عليه، استدللنا بإجماعهم على نسخه.
فإن قيل: أليس إذا كانت الصحابة على قولين، ساغ الأخذ، بكل واحد منهما، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين بدل القول الآخر، فقد نسختم بالإجماع.
قيل: لا يزول القول الآخر بإجماع التابعين، لأن التابعين لو أدركوا
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (224) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (100) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/229-230) ، و" شرح الكوكب المنير" ص (266) .
(2) في الأصل: (لأنها) .(3/826)
كلهم عصر الصحابة، وكانوا مع أحد القولين لم يزل الأخذ، فبأن لا يزول بإجماعهم بعد انقراض الصحابة أولى.
وإن قلنا: يزول أحد القولين، لم يكن نسخاً بالإجماع، لكنا نقول: إنما ساغ العمل بكل واحد منهما بشرط أن لا يكون مانع منه، فإذا وجد ما يمنع منه، لم يسغ العمل به، كما نقول: يجوز الاجتهاد والعمل به ما لم يعلم النص، فإذا علم زال الاجتهاد لوجود النص، لا أنه نسخ الاجتهاد، كذلك ها هنا.
فصل (1)
فأما القياس فلا ينسخ؛ لأنه يستنبط من أصل، فلا يصح نسخه مع بقاء الأصل المستنبط منه، والأصل باق، فكان القياس باقياً ببقائه.
وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضاً؛ لأنه إنما يصح ما لم يعارضه أصل، فإن عارضه أصل سقط في نفسه. فبطل أن ينسخ الأصل به مثل أن يقول: علة الربا في البر: مكيل جنس، فإن وجد خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواز التفاضل في الأرز، سقط القياس.
ولأن القياس دليل محتمل، وليس بالقوى الذي يقع به النسخ.
فصل (2)
وأما دليل الخطاب وما في معناه من التنبيه، نحو قوله: (فلا تقل
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (225) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (100/ب-101/أ) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (267) .
(2) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (222) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (101/أ) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) .(3/827)
لهمَا أفّ) (1) ، فإنه ينسخ وينسخ به. وهو قول المتكلمين. خلافاً لأصحاب الشافعي، فيما حكاه الإسفراييني (2) : أنه لا ينسخ ولا ينسخ به (3) .
دليلنا:
أن المنع من الضرر ثبت نطقاً لا قياساً، فصح نسخه، والدليل على ثبوته نطقاً: أنهم قالوا: هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه.
ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة؛ لأنهم كفار، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والتنبيه، كذلك ها هنا.
ولأن القياس: ما يختص بفهم أهل النقل والاستدلال، وما دل عليه فحوى الخطاب، فإنه يستوي فيه العالم والعامي.
__________
(1) (23) سورة الاسراء.
(2) في الأصل: (الاسفراينين) ، والصواب ما أثبتناه؛ لأنه نسبة إلى "اسفراين".
وفي "المسودة" ص (222) . "الاسفرائيني" بالهمزة بعدها "ياء"؛ لأنه نقل كلام المؤلف من أول الفصل إلى هنا، ونسبه إليه.
والإسفراييني: هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، أبو إسحاق الإسفراييني، نسبة إلى "اسفراين" بُليدة بنواحي نيسابور، على منتصف الطريق إلى جرجان، كما قال صاحب اللباب، والاسفراييني أحد العلماء المشهورين أصولاً
وفروعاً. له كتب، منها: "تعليقة في أصول الفقه"، و"الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين". مات بنيسابور سنة (418 هـ) .
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (12/24) ، و"شذرات الذهب" (3/209) ، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/256) ، و"طبقات الشافعية" للاسنوي (1/59) ، و"اللباب" (1/55) ، و"وفيات الأعيان" (1/8) .
(3) فصل القول في ذلك الآمدي في كتابه: "الإحكام" (53/150) .(3/828)
فإن قيل: ما ثبت نطقاً؛ لأنا لا ننطق بالمنع من الضرب، ولا سمع منه صيغة الضرب، وإنما عرف ذلك من معنى النطق، ومعنى النطق هو نفس القياس.
قيل: قد بينا أنه ثبت بالنطق من الوجه الذي بينا، وهو أنه يضاف [121/ب] إلى اللفظ.
ولأن الصيغة غير معتبرة من الوجه الذي بينا.
وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في باب القياس، وذكرنا أن الحكم الثابت من طريق التنبيه، لا يسمى قياساً، وإنما هو مفهوم الخطاب وفحواه.
فصل (1)
مما يعلم به النسخ
ويعلم بثلاثة أشياء:
أحدها: النطق كقوله تعالى: (اْلآنَ خَففَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أن فِيكُمْ ضَعْفاً) (2) فنسخ عنهم أن يصابر كل واحد عشرة إلى أن يصابر اثنين نطقا.
وهكذا قال تعالى: (عَلِمَ اللَهُ انتَكُم كُنْتمْ تَخْتَانُونَ أئفُسَكمْ فَتَابَ علَيْكمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَاْلآنَ بَاشِرُوهُن
__________
(1) رجع في هذا الفصل: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة (103/ب-104/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/234-235) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (265) .
(2) (66) سورة الأنفال.(3/829)
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَينَ لَكمّ الخيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخيطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (1) ، فكان الأكل والشرب محرماً عليهم بغير القرآن، فنسخ عنهم (2) بالقرآن.
وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) و (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ألا فادخروا) فنسخ ذلك نطقاً.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية الحسن بن علي بن الحسن الإسكافي (3) ، وقد سئل هل في الحديث ناسخ ومنسوخ؟ فقال: نعم، مثل لحوم الأضاحي وما أشبهه.
الثاني: أن يرد خبران متعارضان، ويعلم أن أحدهما يغير الآخر، مثل أن يقول: لا تزوروا القبور، ثم ثبت أنه قال بعد ذلك: زوروها، فيعلم بأن المتأخر عن الأول ناسخ للأول.
وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كنت رخصت لكم في جلود الميته، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) (4) ؛ لأن النسخ باللفظ لا يعلم بأنه بعد الأول.
__________
(1) (187) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (عليهم) .
(3) أبو علي. من أصحاب الامام أحمد. ذكره ابو بكر الخلال، فقال: جليل القدر، عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حسان كبار، أغرب فيها على أصحابه.
له ترجمة في: "الإنصاف" للمرداوي (12/285) ، و"طبقات الحنابلة" (1/136-137) .
(4) هذا الحديث أورد المصنف منه جزءاً بلفظ: (أن لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب) .(3/830)
وهذا قد نزل متأخرأ في التلاوة متقدماً في التنزيل، كقوله: (لا يَحِلُّ لَكَ النَسَاءُ مِن بَعْدُ) (1) ، هذا منسوخ بقوله تعالى: (يَا أَيها النبي إنا أحْلَلْنَا لَكَ أَزْواجَكَ) (2) الآية، والناسخ متقدم في التلاوة ومتأخر في التنزيل.
وهكذا كانت العدة حولاً، فنسخت بأربعة أشهر وعشر، وكان الناسخ متقدماً في التلاوة، والمنسوخ متأخراً، وهو قوله: (وَالّذِين يُتَوَفّونَ مِنْكم وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبصنَ بِأَنْفُسِهِن أَربَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (3) ، نسخ بها قوله تعالى: (وَصِية لأزْوَاجِهِم متَاعاً إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاج) (4) وهذا متأخر في التلاوة.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله: تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به.
والثالث: أن يرى خبر الواحد يخالف الإجماع، فيستدل بالإجماع على نسخه، لا أن الإجماع نسخه.
وإذاك ثبت أن العلم بالمتأخر يقع به النسخ، فالمتأخر يعلم بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: النطق، كقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها) ، (كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا) ، هذا عرف المتأخر منه لفظاً.
__________
(1) (52) سورة الأحزاب.
(2) (50) سورة الأحزاب.
(3) (234) سورة البقرة.
(4) (240) سورة البقرة.(3/831)
الثاني: أن يخبر الصحابي أن هذه الآية نزلت بعد آية، فيصير إليه [122/أ] ، وينسخ بخبره.
الثالث: أن ينقل الراوي خبراً، ثم ينقل غيره ضده، فيعلم أن الأول مات قبل إسلام الراوي الثاني، فإن نقل الثاني يعلم أنه متأخر عن الأول،
وذلك في مس الذكر، روى طَلْق بن علي (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء من مسه) (2) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: (وجوب الوضوء
__________
(1) هو طلق بن علي بن طلق بن عمرو السحيمي الحنفي اليمامي، أبو علي صحابي جليل. روى عنه ابنه قيس، وعبد الرحمن بن علي بن شيبان.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/776) ، و"الإصابة" القسم الثالث ص (538) طبعة دار نهضة مصر، و"خلاص تذهيب الكمال" ص (181) .
(2) حديث طلق - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، أي: في ترك الوضوء من مس الذكر (1/41) بلفظ: ( ... هل هو إلا بِضعَة منه، أو قال: بضعة منه) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر (1/131) ، وقال فيه: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك (1/84) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك أي: في ترك الوضوء من مس الذكر (1/163) .
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من مس الفرج بظهر الكف (1/134) .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب نواقض الوضوء (1/57) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد، كما في "الفتح الرباني" في كتاب الطهارة، باب حجة من رأى عدم نقض الوضوء بمس الذكر (2/88-89) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار"، في كتاب الطهارة، باب مس الفرج هل يجب فيه الوضوء أو لا؟ (1/75-76) . =(3/832)
من مسه) (1) ، وكان خبر أبي هريرة متأخراً؛ لأن أبا هريرة أسلم
__________
= وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر والذكر، والحكم في ذلك (1/149-150) .
وحديث طلق هذا قد جاء من عدة طرق تكلم عنها الزيلعي في "نصب الراية" (1/60-69) ، وأحسن طرقه طريق ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق عن أبيه طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صححه ابن حبان والطبراني وابن حزم.
وقال فيه الطحاوي في المرجع السابق: (فحديث ملازم، صحيح مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده، ولا في متنه، فهو أولى -عندنا- مما روينا أولاً من الآثار المضطربة في أسانيدها) .
وقال ابن المديني: هو -عندنا- أحسن من حديث بسرة.
وضعف الحديث الإمامُ الشافعي، فقد نقل عنه البيهقي في المرجع السابق قوله: "سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه، بم، يكون لنا قبول خبره؟، وقد عارضه من وصفنا ثقته ورجاحته في الحديث، وتثبته".
كما ضعفه البيهقي، وأبو حاتم، والدارقطني، وأبو زرعة، وابن الجوزي.
والحقيقة: أن في الحديث كلاماً كثيراً، ولولا خشية الإطالة لبسطنا ذلك، ولكن نكتفي بالإشارة إلى المراجع لمن أراد الاستزادة، وهي -بالاضافة إلى ما سبق-: "تلخيص الحبير" (1/125) ، والتعليق على "نصب الراية" (1/63-69) .
فإنه وفّى البحث حقه، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (55-56) ، و"الفتح الرباني" (2/88-89) .
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده كما في "الفتح الرباني"، في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الفرج (2/85-86) ولفظه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن أفضى بيده إلى ذكره، ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء") .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي، في كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء (1/34) .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر =(3/833)
بعد وفاة طَلْق بن علي، وقبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين (1) .
__________
= والذكر، والحكم في ذلك (1/147) .
وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (1/130-131) ، ولفظه: (من مس ذكره فعليه الوضوء) .
وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر (1/138) ، وقال: "حديث صحيح".
وأخرجه عنه ابن حبان في "صحيحه"، وقال: "هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته". كما صححه ابن عبد البر، وقال ابن السكن: "هو أجود ما روي في الباب".
انظر: تلخيص الحبير (1/126) .
وذكر الزيلعي في "نصب الراية" (1/56) أن البيهقي أخرجه من طريق البخاري موقوفاً على أبي هريرة، كما ذكر عن الذهبي قوله في "مختصره": إن البخاري أخرجه في تاريخه موقوفاً.
(1) والعلماء في هذه المسألة فريقان:
فريق ذهب إلى القول بأن مس الفرج ينقض الوضوء، مستدلين بحديث أبي هريرة هذا، وبحديث بسْرة بنت صفوان رضي الله عنهما.
وأجابوا عن حديث طلق بجوابين:
الأول: أنه منسوخ بالأحاديث التي دلت على نقض الوضوء من مس الفرج، وبخاصة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما بين المؤلف.
الثاني: أن حديث طلق بن علي ضعيف، لا ينهض لمعارضة الأحاديث الأخرى المعارضة.
وفريق ذهب إلى القول بأن مس الفرج لا ينقض الوضوء.
وأجابوا عن حديث أبي هريرة وأمثاله، بأنها أحاديث ضعيفة، لا تنهض لمعارضة حديث طلق بن علي رضي الله عنه.
ونختم هذا البحث بكلمة للشيخ عبد الحي اللكنوي - كما جاءت في هامش "التلخيص" (1/125) وهي: (والإنصاف في هذا المبحث: أنه إن اختير طريق النسخ، =(3/834)
فصل (1)
والنسخ إنما يقع مع التعارض، هو: أن يعارض الناسخ المنسوخ، فأما إذا ورد شرعان لا يتعارضان، فلا ينسخ أحدهما الآخر. وقول من يقول: إن صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء، لا يصح؛ لأن فرض رمضان لا ينافي صوم عاشوراء، وإنما وافق نسخ عاشوراء فرض رمضان، فقال الناس: نسخ به، وليس كذلك، بل ينسخ مع فرضه لا به.
فصل (2)
إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة، فإنا لا نصير إلى قوله حتى يخبر بماذا نسخت.
أومأ إليه في رواية صالح فقال: هذا ما خرجه أبي في الحبس فقال في أوله: بعث نبيه، وأنزل عليه كتابه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من باطنه وظاهره، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه.
وهذا يدل على أنه مخصوص بذلك.
ثم ذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَالَذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنْكُمْ
__________
= فالظاهر انتساخ حديث طلق، لا العكس، وإن اختير طريق الترجيح، ففي أحاديث النقض كثرة وقوة، وان اختير طريق الجمع، فالأولى أن يحمل الأمر على العزيمة وعدم النقض على الضرورة) .
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (229) .
(2) نقل في المسودة ص (230-231) عن الباجي في المسألة هذه ثلاثة أقوال: أحدها: الذي ذكره المؤلف.
ثانيها: أنه ان ذكر الناسخ لم يقع به فخ، وان لم يذكره وقع.
ثالثها: يقع النسخ به على كل حال.(3/835)
ويذَرُونَ أزوَاجاً وَصيَة لأِزْوَاجِهِم متاعاً إلى الْحوْل غَيْرَ إخْرَاج) (1) ، فمن دل على أنها منسوخة غيرهم. وإنما أراد بذلك الصحابة، وظاهر هذا أنه يصار إلي قوله.
وذكر بعد ذلك بأوراق قوله تعالى: (وَعَلىَ الذِين يطُيقونَهُ فِدية) (2) قال ابن عباس: الفديةُ ولا قضاء عليه (3) . وقال علقمة (4) وعبيدة (5) : نسختها الآية التي بعدها (فَمنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَهْرَ فليصمْهُ) (6) .
وظاهر هذا أنه صار إلى قول التابعين، ثم قال: لا يصير إلى قوله.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة والشافعي، لئلا تناول نسخَها بما لا
__________
(1) (240) سورة البقرة.
(2) (184) سورة البقرة.
(3) سبق الكلام على تفسير هذه الآية ص (783) .
(4) هو: علقمة بن قيس بن عبد الله أبو شبل النخعي الكوفي. أحد أعلام التابعين.
روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم. وعنه الشعبي وإبراهيم النخعي وآخرون.
كان من أعلم الناس بابن مسعود وأشبههم به. ولد في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم، ومات سنة (62 هـ) .
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (271) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/70) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/516) .
(5) هو: عبيدة بن عمرو، ويقال: ابن قيس، أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو الكوفي، أحد التابعين. أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره. روى عن علي وابن مسعود وغيرهما. وعنه الشعبي والنخعي وغيرهما. كان فقيهاً عالماً. مات سنة (72 هـ) .
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (256) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/78) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/498) .
(6) (185) سورة البقرة.(3/836)
يجوز نسخُها به كأخبار التواتر.
وقد بينا أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز، ولأن أكثر أحواله أن ينقل خبراً من جهته، فلا ينسخ به القرآن.
فأما خبر الواحد إذا أخبر به صحابي، وزعم أنه منسوخ، فإن على قول من يجوز للراوي نقل معنى الأخبار، يجب أن يثبت به النسخ؛ لأن ظاهر كلامه أنه معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسخ؛ لامتناع أن يحمل قوله على غير جهته.
وأما على قول من يعتبر اللفظ، فلا ينسخ به؛ لجواز أن يكون ما سمعه ظن أنه ناسخ، ولو أظهره لم يكن ناسخاً عندنا.
ويفارق هذا إذا روى الصحابي خبراً وفسره، قبلنا تفسيره، لأنا إنما نقبل تفسيره في الخبر المحتمل، على ما تقدم، بيانه، فجعلنا تفسيره، لمشاهدة التنزيل وحضور التأويل [122/ب] [و] ها هنا اللفظ المنسوخ غير محتمل.
فصل (1)
نسخ بعض العبادة لا يوجب نسخ الباقي وحكي عن بعض الشافعية أن المنقوص إذا لم يكن ثابتاً على الوجه الذي كان ثابتاً عليه في الابتداء، فإن نقصانه يوجب نسخ جميعه، كنسخ التوجه نسخ (2) لجميع الصلاة (3) .
__________
(1) راجع في هذا الفصل: "المسودة" ص (212) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (103/ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/214-215) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (270) .
(2) في الأصل: (ينسخ) .
(3) راجع في تفصيل رأي الشافعية في هذه المسألة: "الممستصفى" (1/116) ، =(3/837)
دليلنا:
أن الله تعالى لما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، لم يوجب ذلك نسخ أوصاف الصلاة، فوجب أن يكون على ما كان عليه، وجرى مجرى نسخ منها، كالطهارة والستارة.
ولأن النسخ جارٍ مجرى التخصيص في باب كون كل واحد منهما رافعاً لبعض ما تناوله اللفظ، وكان تخصيص بعض ما تضمنه العموم لا يوجب سقوط جميعه، كذلك نسخ بعضه لا يوجب نسخ جميعه.
فصل
يجوز النسخ بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في التخصيص للعموم بأفعاله.
خلافاً لأبي الحسن التميمي من أصحابنا قال: لا يجوز، بناه على أن أفعاله لا تدل على الوجوب.
وذكر هذا في أوراق وقعت إلي فيها النسخ بأفعاله، والتخصيص بأفعاله، وأجاز التخصيص بأفعاله.
والدلالة عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته في أحكام الشرع سواء، إلا ما دل عليه دليل التخصيص. ن
__________
= و"الإحكام" للآمدي (3/162) .(3/838)
باب الأخبار (1)
حقيقة الخبر: ما دخله الصدق أو الكذب، كقوله: رأيت زيداً، وضربت عمراً، يحتمل أن يكون صادقاً، ويحتمل أن يكون كاذباً.
وقد يدخل في معنى الخبر ما ليس بخبر، كالإيماء والإشارة، مثل أن يقال ": أَمَر بك العسكر"؟، فيومىء برأسه، أو يشير بيده "لا"، أو"نعم"، فيحتمل الصدق أو الكذب، وليس بخبر؛ لأن حقيقة الخبر ما كان لفظاً أو نطقاً.
وليس يعرف كون الخبر صدقاً أو كذباً من نفس الأخبار، وإنما يعلم بدليل غيره أنه صدق أو كذب، لا نفس الأخبار، فلهذا المعنى جاء الطلب والاستخبار والتمني خارجاً من هذا الحد لكونهما مما لا يصح فيهما الصدق أو الكذب.
ولا يجوز أن يقال: حد الخبر: ما صح أن يدخله الصدق فقط؛ لأن
__________
(1) راجع هذا الباب في "المسودة" ص (232-314) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (106/ب-131/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/236-331) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (210-224) ، (246-318) من الملحق.(3/839)
الإخبار عن الحال خبر، وإن لم يجرِ فيه الصدق.
ولا يحد بأنه: ما صح فيه الكذب فقط؛ لأن الخبر عن الواجب خبر، وان لم يدخله الكذب.
ولا يجمع أيضاً بين الأمرين لامتناع جوازهما في أخبار الله تعالى وأخبار رسوله، وإن كان [123/أ] خبر صدق لا يجوز أن يكون إلا على صفة واحدة.
ومن الناس من قال: هذا الحد على ما كانت تعرفة العرب من الأخبار، ولا يدخل في ذلك أخبار الله تعالى وأخبار رسوله صلى الله عليه [وسلم] .
مسألة (1)
للخبر صيغة تدل بمجردها على كونه خبراً كالأمر، ولا يفتقر إلى قرينة يكون بها خبراً، وهو قول القائل: قام زيد، وزيد قام، وضرب زيد، وزيد ضارب.
وقالت المعتزلة: لا صيغة له، وإنما يدل اللفظ عليه بقرينة، وهو قصد المخبر إلى الإخبار، كقولهم في الأمر (2) .
وقالت الأشعرية: الخبر نوع من الكلام، وهو معنى قائم في النفس يعبر عنه بعبارة تدل تلك العبارة على الخبر لا بنفسها، كما قالوا في الأمر والنهي، والكلام في هذه كالكلام في تلك المسألة (3) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (232) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (248-249) من الملحق.
(2) انظر: "المعتمد في أصول الفقه" لأبي الحسين البصري (2/541-542) .
(3) سبق للمؤلف الكلام على هذه المسألة ص (214) .(3/840)
دليلنا:
ما ذكرنا، وهو أن ما احتمل الصدق والكذب خبر، وما لم يحتمل فليس بخبر، فدل على أن الخبر إنما كان خبراً لما وضع له من كونه محتملاً للأمرين، كما قلنا في الأمر، لما كان استدعاء الفعل ممن هو دونه، دل على أن الأمر إنما يكون أمراً لكونه استدعاء.
مسألة (1)
العلم يقع من جهة الأخبار المتواترة، مع اختلاف في صفة التواتر كما يقع من جهة المشاهدات. وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأنه أثبت العلم بأخبار الصفات. وهو قول كافة أهل العلم.
وحكي عن بعض الأوائل -وقيل هم السمنية (2) ، وقيل: هم البراهمة (3) - أنه لا يقع العلم بشيء من الأخبار، وإنما يقع العلم بالمحسوسات والمشاهدات.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (233) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (107/أ-108/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/244-247) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (258) من الملحق.
(2) السمنية فرقة ضالة، ظهرت قبل الاسلام، قالت بتناسخ الأرواح، كما قالت بقدم العالم، وزعموا أن النظر والاستدلال باطل، والمعلومات لا تدرك إلا من جهة الحس.
انظر: "الفرق بين الفرق" ص (270) ، و"الغلو والفرق الغالية" للدكتور عبد الله السامرائي ص (129) .
(3) البراهمة: فرقة ضالة، ظهرت في الهند، تنسب إلى رجل يقال له: "براهم"، كان يقول بنفي النبوات، وأن وقوعها أمر مستحيل في حكم العقل؛ لأن الرسول إما أن يأتي بأمر معقول. أو بأمر غير معقول فإن كان الأول فقد كفانا فيه العقل، =(3/841)
دليلنا:
أنا نجد نفوسنا عالمة بالبلدان النائية "كمكة" و"البصرة" و"الصين" وغير ذلك من البلاد والسير الماضية كأيام بني أمية وبني العباس، كما نجدها عالمة بالمشاهدات والمحسوسات. ومنكر هذا كمنكر علم المشاهدات من السوفسطائية (1) ، ولا طريق له غير الخبر.
فإن قيل: لو كان العلم بالخبر جارياً مجرى العلم بالمشاهدات، لم يحتج في ذلك إلى تكرار الخبر وتواتره، كما لا يحتاج إلى تكرار المشاهدات والمحسوسات، ولما احتيج في ذلك إلى التواتر، دل على أن العلم لا يقع به.
قيل: إنما اختلفا من هذا الوجه؛ لأن العلم بالمشاهدات من كمال العقل، إذ لا يصح أن يكون كامل العقل يشاهد (2) الشيء ولا بعلمه، وليس كذلك العلم بالأخبار؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في العلم به عند
__________
= فلا حاجة لنا إلى الرسول. وإن كان الثاني، فلا يمكن قبوله، لأنه خروج بالانسانية إلى حيز البهيمية وقد انقسموا إلى فرق، ذكر الشهرستاني منهم ثلاث فرق، هي: أصحاب "البددة"، وأصحاب "الفكرة"، وأصحاب "التناسخ".
انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (2/250-255) .
(1) السفسطة: كما يقول الجرجاني في كتابه "التعريفات" ص (63) : (قياس مركب من الوهميات، والغرض منه تغليط الخصم واسكاته) .
والسفسطائية -كما يقول ابن حزم في كتابه "الفصل" (1/7) - "هم مبطلو الحقائق"، وهم ثلاث فرق في ذلك: فرقة نفت الحقائق جملة، وفرقة شكت فيها، وفرقة فصلت، فقالت: "هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل".
وقد ناقشهم ابن حزم في كتابه السابق ذكره ص (8-9) .
(2) في الأصل: (فيشاهد) .(3/842)
التواتر [123/ب] فكان وقوع العلم به تابعاً للعادة.
يبين صحة هذا أن الله تعالى قد أجرى العادة ممن يدرس الشيء ليحفظه إذا كرر الدرس، وكذلك أجرى العادة في السكر عند تكرار الشرب.
واحتج المخالف:
بأنه لو كان خبر التواتر يوجب العلم ويقطع العذر لوجب أن لا تنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنكم تعلمونه بنقل تواتر، فلما لم تثبتوا نبوته قطعاً بطل أن يكون التواتر موجباً للعلم.
والجواب: أنه إنما لم تثبت نبوته قطعاً؛ لأنها لم تثبت ضرورة، وإنما عرفت بالاستدلال القوي، وهو الآيات والمعجزات على يده، ونقل إلينا ذلك نقلاً، فلذلك (1) لم تثبت ضرورة، لا لمعنى يعود إلى الأخبار.
وجواب آخر أجود من هذا وهو: أن ردهم للخبر لا يدل على أن العلم لم يقع به، بدليل أنهم شاهدوا معجزاته وعاينوها وردوها، ومعلوم أن العلم يقع بالمشاهدات، ومع هذا فقد ردوها، وكذلك الخبر عنه.
واحتج: بأن اليهود تخبر بأن موسى عليه السلام قال: شريعته مؤبدة، وهم عدد كثير وجم غفير، ولا يقع العلم بخبرهم، والنصارى تخبر بقتل المسيح عليه السلام وصلبه، ولا يقع العلم بخبرهم.
والجواب: أن النصارى عدد يسير أخبروا بمشاهدة قتله، وكانوا قد شبه لهم. ويجب أن يكون أولهم وآخرهم ووسطهم سواء في النقل، والعدد الكثير إذا رووا عن عدد قليل، فإن العلم لا يقع بصحة المخبر عنه.
وأما خبر اليهود فكذلك أيضأ؛ لأن "بُخْتنصّر" (2) قتلهم، فلم
__________
(1) في الأصل: (فلما) .
(2) "بختنصر" رجل من العجم، يقال: إن اسمه "بخترشه"، كان في خدمة الملك =(3/843)
يكن خبرهم عمن يثبت بنقله التواتر.
[و] قد قيل: إن "ابن الرواندي" (1) لقنهم ذلك بأصبهان، ولا يعرف ذلك إلا من جهته.
والدليل عليه: أنهم لم يقولوا هذا لعيسى ولا لمحمد عليهما السلام، فلو كان صحيحاً لوجب من طريق العادة أن يكون ذلك أولى ما يقولونه لهما، ويقصدون بذلك تكذيبهما.
وجواب آخر وهو: أن اليهود لم تكن مجمعة على هذا الخبر، بدلالة أن جماعة منهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك النصارى.
ولأن النصارى كانوا يختلفون -وإلى وقتنا هذا- في قتل المسيح، واليهود اختلفوا في آية الرجم.
واحتج: بأنه إذا جاز عليهم الصدق مع كثرتهم، جاز عليهم الكذب أيضاً، وما الفرق بينهما؟
والجواب: أن الصدق له سبب يدعو إلى الإخبار به، وهو علم كل واحد منهم بما شاهده (2) وأدركه، وليس للكذب سبب، وإنما يكذب الكاذب لغرض يخصه [124/أ] ، وأغراض العدد الكثير لا تتفق، وخواطرهم لا تتسق إلا بجامع يجمعها وحامل يحملها على ذلك من رغبة أو رهبة، ولهذا
__________
= "لهراسب"، ثم في خدمة ابنه "بشتاسب"، ثم في خدمة "بهمن"، وأن "بهمن" هذا وجهه إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود عنها، فسار إليهم، وانتصر عليهم، بعد أن أنزل بهم الهزيمة الساحقة.
وهناك حكايات أخرى عنه، ساقها الطبري في "تاريخه" (1/535-565) ، فارجع اليه، إن شئت.
(1) هو: أحمد بن يحيى بن الرواندي، وقد سبقت ترجمته ص (777) .
(1) في الأصل: (يشاهده) .(3/844)
إذا دخل غريب "بغداد"، واستدل على "جامع المنصور"، ولم يجز أن يقع من العدد الكثير أن يدلوه على "بِيعة"، ويجوز أن يتفق هذا من عدد يسير، ويجوز أن يتفق العدد الكثير على أن يدلوه على المسئول عنه، وَيصدقوا فيه، فدل على الفرق بينهما.
واحتج: بأنه لا يخلو إما أن يقع العلم بخبر الأول أو الأخير، ولا يجوز وقوعه بالأول ولا بالأخير؛ لأنه آحاد، فدل على أنه لا يصح أن يقع العلم بالخبر بوجه.
والجواب: أن العلم يقع بخبر جميعهم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بحصول العلم عند اجتماعهم، ولهذا إذا شككنا فيه مشكك لم نشك، وفي خبر الواحد نشك فقط، فسقط ما قالوه.
مسألة (1)
والعلم الواقع بالأخبار المتواترة ليس من شرطه
أن يجمع الناس كلهم على التصديق به
وهذا ظاهر على أصلنا؛ لأن أحمد رحمه الله أثبت أخبار الصفات، وهي موجبة للعلم مع اختلاف الناس في قبولها.
خلافاً لليهود في قولهم: من شرط وقوع العلم به أن لا يكون في الناس من يكذبه (2) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (233) .
(2) في الأصل: (يكذبها) .(3/845)
دليلنا:
أنه لو كان من شرط (1) العلم به اجتماع الناس على تصديقه، لم يجز وقوع العلم بخبر على وجه من الوجوه، إذ يستحيل من الواحد أن يلْق جميع الناس ويسير إليهم أو يسيروا إليه (2) ، ولما أجمعنا على صحة العلم بخبر التواتر، دل على فساد قولهم.
فإن قيل: لا يعتبر العلم بتصديق جميع الناس، وإنما يعتبر أن لا يعلم فيهم من يكذب المخبرين.
قيل: إذا جاز أن يعلم صحة المخبر عنه مع تجويز أن يكون في الناس من يكذبه، لم يكن من شرط (3) وقوع العلم بصحته اجتماع الكافة على التصديق.
فإن قيل: إذا لم أعلم أن فيهم مكذباً علمت أنه لا مكذب فيهم، إذ لو كان فيهم ذلك لكذب المخبرين، وكان تكذيبه حينئذ ينقل إلينا؛ لأن العادة جارية بأن مثل هذا لا يترك نقله.
قيل: إذا كانت العادة جارية أن مثل هذا لا يترك نقله، فالعادة أيضاً جارية أن الجماعة الكثيرة التي لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، إذا أخبرت بشيء وقع العلم بخبرهم، ولا فرق بين من منع ذلك وبين من منع ترك نقل تكذيب من يُكذب المخبرين.
وأيضاً: فإنا نجد أنفسنا ساكنة إلى العلم ببعض البلدان [124/ب] التي أخبرنا بها، وإن كنا نعلم أن في الناس من لم يسمع بذلك ولم يخطر على باله،
__________
(1) في الأصل: (شرطه) .
(2) في الأصل: (يصير) بالصاد في الموضعين.
(3) في الأصل: (شرطه) .(3/846)
فضلاً عن أن يصدق به، فلو كان تصديق جميع الناس شرطاً في وقوع العلم بخبر المخبر، لم يصح وقوع العلم لنا بما ذكرنا وفي علمنا بوجود ذلك دليل على فساد ما ذهبوا إليه.
واحتج المخالف:
بأن المسلمين كلهم كالنفس الواحدة، ولا يجوز وقوع العلم بنقلهم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنها تكون شاهدة لنفسها.
والجواب: أن هذا المعنى قائم في اليهود؛ لأنهم كالنفس الواحدة، فيلزمهم أن لا يثبتوا معجزات موسى عليه السلام بنقلهم لها.
فإن قيل: إنما صح وقوع العلم بمعجزات موسى عليه السلام، لأن المسلمين والنصارى قد شهدوا بصحتها. وأما اليهود فلم يشهدوا بصحة معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا لم يجز وقوع العلم بنقلها.
قيل (1) : المسلمون والنصارى عند اليهود كفار، فكيف تصح شهادتهم؟! بل وجود شهادتهم عند اليهود كعدمها.
مسألة (2)
العلم الواقع بالأخبار المتواترة معلوم من جهة
الضرورة لا من جهة الاكتساب والاستدلال
وهو قول أكثر أهل العلم.
وحكي عن البلخي وغيره من المعتزلة: أن العلم يقع به اكتساباً، ولا يقع اضطراراً.
__________
(1) في الأصل: (فصل) ، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه؛ لأن ما بعد ذلك جواب عن الاعتراض السابق.
(2) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (234) ، و"التمهيد في أصول الفقه" =(3/847)
دليلنا:
أنه لو لم يكن معلوماً ضرورة لأدى إلى الشك في النبوات، وهذا لا يجوز.
ولا يلزم على هذا معرفة الله تعالى أنها استدلال. ولا يفضي ذلك إلى الشك؛ لأنه لا طريق إلى معرفة القديم من طريق الإحاطة والإدراك، وليس كذلك المحدثات، لان الإحاطة والإدراك يصدق (1) عليها.
ويبين هذا أن ما جعل طريقاً إلى معرفة الضرورات يتطرق على المحدثات، وهو الحواس الخمس، ولا يتطرق ذلك على القديم.
ولأن هذا النوع من العلم علم بمحدث لا يمكن دفعه عن النفس ولا الشك منه ولا الارتياب، فثبت أنه معلوم ضرورة كالمشاهدات، ولو كان مكتسباً لدخل فيه الشك إذا شكك فيه والريبة.
وإنما شرطنا في الدليل: علم بمحدَث، لئلا يدخل عليه معرفة الله تعالى، لأنها معلومة على وجه لا يمكن الارتياب والشك فيه، وهي من جهة الكسب؛ لأن ذلك علم بقديم لا بمحدث.
ودليل آخر وهو: أنه لو كان معلوماً من جهة الاستدلال [125/أ] والكسب لم يقع إلا لمن هو من أهل التأويل والنظر، فلما وقع ذلك لمن ليس من أهل التأويل والنظر كالصبيان وغيرهم، ثبت أنه معلوم من جهة الضرورة.
__________
= الورقة (108/أ-ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/247-250) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (258-259) من الملحق.
(1) في الأصل: (يتصدق) .(3/848)
واحتج المخالف:
بأنه لما حسنت المطالبة بالدلالة على أن خبر التواتر يوجب العلم.
وحسنت إقامة الدلالة عليه علمنا أن العلم الواقع عنده اكتساب، وليس هو بضرورة.
والجواب: أن هذا باطل بالعلم بالمشاهدات، فإن السوفسطائية تطالبنا بالدليل على صحة ذلك؛ لأن ذلك عندهم ظن وحسبان، ومع هذا فقد أجمعنا نحن ومخالفينا على حصول العلم الضروري في ذلك مع حسن الدليل عليه، كذلك فيما حصل من جهة الخبر المتواتر.
واحتج: بأنه لا يقع العلم بخبرهم إلا على صفات تصحبهم يستدل بها على صدقهم، فدل على أنه من جهة الاستدلال، يدل على ذلك أن العلم بحدث الأجسام، لما وقع لأجل الصفات التي عليها الأجسام من اجتماع وافتراق وحركة وسكون كان العلم بها مكتسباً.
والجواب: أن العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار صفاتهم ولا يستدل بذلك على صدقهم، بل نعلم صدقهم، ولهذا يخالف حدوث الأجسام، فإن العلم لا يقع به إلا بعد النظر والاستدلال باختلاف صفات معانيها.
واحتج: بأن العلم الواقع بأخبار الله وأخبار رسوله استدلالا غير ضرورة، كذلك خبر غيرهما.
والجواب: أنا عرفنا الله بأنه واحد صادق بالاستدلال، وإذا ورد الخبر من عنده قطعنا على صدقه استدلالا، وكذلك أخبار رسوله عليه السلام، لأن ثبوت نبوته من حيث الاستدلال وجبت بظهور المعجزات.(3/849)
مسألة (1)
خبر التواتر لا يولد العلم فينا، وإنما العلم الواقع عنده من فعل الله تعالى، يفعله عند الإخبار بالعادة التي أجراها بذلك، وهو قادر على أن يفعل فينا ذلك مع عدم الإخبار، وهو بمنزلة إجرائه تعالى العادة بخلق الولد عند الوطء، وإن كان قادراً على خلقه مع عدم الوطء، هذا بناءً على إبطال القول بالتولد.
ومن الناس من يقول: إن العلم بذلك يولد فينا عند خبر المخبرين.
دليلنا:
أن هذا العلم لو كان متولداً من (2) الخبر، لوجب أن يكون المخبر الأخير هو الذي ولد خبره فينا العلم؛ لأن العلم حصل عند خبره، ولو كان كذلك لوجب أن يكون خبره يوقع لنا العلم به ابتداءً؛ لأنه هو الموجب للعلم، فوجب أن يكون موجباً [125/ب] لذلك في جميع الأحوال كما أن خبر الجماعة الذي يحصل بهم التواتر، لما أوجب العلم كان موجباً لذلك على كل حال، وفي علمنا بأن خبر الأخير لو وقع ابتداء لم يوجب العلم، علمنا أنه لا يولد العلم على وجه من الوجوه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الخبر الأخير مولداً للعلم فينا على شرط تقدم الأخبار الأخر له، كما أن الاعتماد يولد اصطكاكاً في المحلين على شرط وجود الصلابة فيهما. والنظر مولد للعلم على شرط أن يكون الناظر عالماً بالدليل. وإذا كان كذلك لم يكن في امتناع وقوع العلم بالخبر الأخير لو انفرد ما يمنع أن يكون مولداً لعلم، إذا تقدمته أخبار أخر.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (259) من الملحق.
(2) في الأصل: (في) .(3/850)
قيل: الشيء إنما جعل شرطاً في غيره، إذا كان متعلقاً به أو محدداً لصفة فيه، ألا ترى أن صلابة المحلين لما كانت شرطاً في كون الاعتماد مولداً للاصطكاك، كانت موجبه لتجدد صفة بمحل الاعتماد، وكذلك كون الناظر عالماً بالدليل، لما كان شرطاً في كون نظره مولداً للعلم، كان موجباً لتجدد صفة له، وإذا كان كذلك لم يكن لكل واحد من الأخبار تعلق بالآخر، ولم يتجدد صفة للخبر الأخير بتقدم الأخبار الأخر له، لم يجز أن يكون تقديم غيره من الأخبار شرطاً في توليده العلم.
ولأن الخبر من صفات الحي كالعلم والإرادة والإدراك، ثم ثبت أن تلك الصفات لاتولد شيئاً؛ لأن العلم لا يولد المعلوم، والإرادة لا تولد المراد، والإدراك لا يولد المدرك، بل المعلوم والمراد والمدرك خلق الله تعالى، كذلك الخبر يجب أن لا يولد شيئاً.
ولأن الأكل والشرب والعلاج وجبر الكسر يطلب به حصول غيره، وهو الشبع والري وزوال المرض، ومع ذلك فهو غير مولد، كذلك الخبر.
واحتج المخالف:
بأن العلم بخبر التواتر، لو كان تابعاً للعادة لأجل فعل الله تعالى، لوجب أن تختلف العادة في ذلك، فيقع العلم بخبر الجماعة التي يصح بهم التواتر، ولا يقع بخبر جماعة مثلها، كما أن خلق الولد عند الوطء لما كان من فعل الله تعالى لما أجرى به العادة، جاز أن تختلف فيه العادة، فيخلق الولد عند وطء واحد، ولا يخلق عند وطء آخر، وفي بطلان اختلاف العادات في وقوع العلم بالأخبار دليل على أن العلم فيها ليس من فعل الله تعالى، وإنما هو توليد.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون العلم بالشيء واقعا من فعل الله تعالى، وإن لم تختلف العادة فيه، ألا ترى أنا نعلم أن وجود هذه الأجسام(3/851)
التي نشاهدها ضرورة، لأن العلم [126/أ] بوجودها من كمال العقل، ويكون هذا العلم من فعل الله تعالى فينا، وإن لم تختلف العادة فيه، كذلك لا ننكر أن يكون وقوع العلم بمخبر الخبر المتواتر يجري على طريقة واحدة ويكون مع ذلك من فعل الله تعالى.
واحتج: بأنه لما كان العلم يحصل بوجود الخبر علمنا أنه مولد له.
والجواب: أن الشبع والري يحصلان (1) بالأكل والشرب، وليس هما مولدين لهما (2) .
مسألة (3)
لا يجوز على الجماعة العظيمة كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته.
وزعمت الإمامية (4) أن ذلك قد يجوز على الجماعة لداع يدعو إليه، وعلى هذا بنوا كلامهم في ترك نقل النص [في علي رضي الله عنه] (5) .
__________
(1) في الأصل: (يحصل) .
(2) في الأصل: (ليس هو مولداً له) .
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235) ، و"التمهيد" الورقة (109/أ-ب) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/258-259) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (261-262) من الملحق.
(4) الإمامية: فرقة تقول بأن الإمامة لعلي رضي الله عنه نصاً، ولا يجوز أن تخرج عن أولاده من بعده، فهي منصب إلهي لهم. وجعلوا التصديق بذلك ركناً من أركان الإيمان.
وقد افترقوا إلى فرق كثيرة، لا زال بعضها موجوداً في عصرنا الحاضر.
انظر: "الفرق بين الفرق" ص (53) وما بعدها، و"اللباب" (1/83) ، و"التعريفات" للجرجاني ص (21) و"الغلو والفرق الغالية" ص (82-112) .
(5) الزيادة من "المسودة" ص (235) .(3/852)
والدليل على فساد هذا القول:
أن كتمان ما يحتاج إلى نقله يجري في القبح مجرى الإخبار عنه بخلاف ما هو به، فلما لم يجز على الجماعة التي يصح بهم التواتر أن يخبروا عن (1) الشيء بخلاف ما هو مع علمهم بحاله، كذلك لايجوز أن يجتمعوا على كتمان ما يحتاج إلى معرفته.
يبين صحة هذا أن رجلاً لو دخل بغداد يسأل كل من يلقاه عن جامع المنصور، لم يجز أن يكتموه كلهم ذلك، كما لا يجوز أن يخبروا عنه بالكذب، وكذلك لو حدث في الجامع يوم الجمعة وقت الخطبة حادثة عظيمة هائلة، لم يجز أن يترك جميع من حضرها نقلها، كما لا يجوز أن يخبر جميعهم عنها بالكذب مع علمهم بأنه كذب.
فإن قيل: أليس قد تركت الصحابة نقل شرائع الأنبياء المتقدمين، وإن لم يجز أن يتواطؤوا (2) على الكذب، فما أنكرتم مثله ها هنا.
قيل: إنما تركت نقل ما ذكرت لبعد عهده، ولفقد ما يدعو الى نقله، فأما ما قرب عهده، ووجد الداعي الى نقله، فغير جائز أن يجتمعوا على ترك نقله.
يبين صحة هذا: أن شريعة موسى عليه السلام لما لم تكن متباعدة العهد، وكان هناك ما يدعو إلى نقلها -وهو بقاء تمسك قوم بها- نقلت. وكذلك شريعة عيسى عليه السلام، ولم تنقل شريعة غيرهما من الأنبياء مثل هود ويونس وأمثالم عليهم السلام؛ لما لم يبقَ من يتدين بها، وكانت منسوخة.
فإن قيل: النصارى لم ينقلوا كلام المسيح في المهد، ونقلوا إحياءه
__________
(1) في الأصل: (على) .
(2) في الأصل: (يواطوا) .(3/853)
الموتى وإبراءه الأكمه والأبرص مع الحاجة إلى معرفة ذلك وإن كان عهده غير متباعد، فبان بهذا: أن قرب العهد وبعده لا تأثير له في باب النقل.
قيل: إنما لم ينقلوا كلام المسيح في المهد؛ لأنه قد كان ذلك قبل ظهور أمره، وكان إحياؤه [126/ب] الموتى وإبراؤه (1) الأكمه والأبرص بعد ظهوره، فلهذا نقلوا ذلك.
وقد يقوى نقل الشيء لأجل ظهوره، ويترك لأجل خفائه، ألا ترى أن اليهود قد نقلت ما كان ظاهراً من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، مثل إتيانه بالقرآن وتحدي العرب به، ولم ينقلوا ما لم يكن في ظهور ذلك من معجزاته؟
وكذلك قد اختلف نقل سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب الظهور والخفاء، فلم يجرِ جميعها على طريقة واحدة، ألا ترى أن كثيراً من السنن تذهب على العالم، وإن لم يذهب عليهم ما ظهر منها واشتهر؟
فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون الصحابة تركت نقل ما يحتاج إليه لداع دعاهم إلى ذلك من تقية أو خوف فتنة أو نحو ذلك.
قيل: كل من يجوز عليه ترك نقل ما يحتاج إليه لما ذكرت، فإنه يجوز عليه الإخبار عن الشيء بالكذب لأجل هذه العلة بعينها، فلما لم يجز هذا على الصحابة رضي الله عنهم، كذلك لا يجوز عليهم ترك نقل ما يحتاج إلى نقله.
فإن قيل: أليس قد تركوا نقل المسح إلا وقت وقوع الخلاف فيه، وتركوا نقل القِران والإفرَاد حتى اختلفوا فيه، وكذلك الرجم، ونظائر ذلك كثير؟.
__________
(1) في الأصل: (ابراء) .(3/854)
قيل: أما المسح، فإنهم لم يتركوا نقله، بل نقلوه نقلاً مستقصاً، إلا أن من لم ينقله، لم ينقله؛ لأنه جعل القرآن أولى منه، وهكذا القول في الرجم.
فأما القِران والإفراد: فإنه قد كان علمهم المناسك (1) ، فلم يحتاجوا إلى نقله، وإنما اختلفوا في نقله؛ لأن من شاهده وقت التلبية يلبي بالعمرة مع الحج نقل القِران، ومن شاهده يلي بالحج من غير ذكر العمرة نقل الإفراد، على حسب ما بينا في المناسك من مسائل الخلاف (2) ، فقد صح بذلك فساد ما تعلقوا به في ذلك.
مسألة (3)
ولا يعتبر في التواتر عدد محصور، وإنما يعتبر ما يقع به العلم على حسب ما جرت به العادة أن النفس تسكن إليه، لا يتأتى منهم التواطؤ على
__________
(1) في الأصل: (بالمناسك) .
(2) هذا الكتاب يسمى: التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة، وجد منه المجلد الرابع من نسخة كتبت سنة (870 هـ) ، ويبتدىء بكتاب الحج، ويثنى بكتاب البيوع. على أنه لم يكمل كتاب البيوع في هذا المجلد، ويقع هذا المجلد في (597) صفحة من القطع الكبير، كل صفحة يقع فيها (25) سطراً، وفي كل سطر (16) كلمة تقريباً. والمخطوطة في دار الكتب المصرية رقم (140) فقه حنبلي. وقد صورت في معهد المخطوطات بالجامعة العربية على ميكروفيلم رقم (18) اختلاف الفقهاء.
وقد فصلنا الكلام فيه في القسم الدراسي، عند كلامنا عن مؤلفات أبي يعلى.
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (235) ، و"التمهيد في أصول الفقه" الورقة (108/ب-109/أ) ، و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر" (1/255-257) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (262) من الملحق.(3/855)
الكذب، إما لكثرتهم أو لدينهم وصلاحهم؛ لأنه لا دليل على عددهم من طريق العقل ولا من طريق الشرع، ولكنا نعلم أنه يجب أن يكونوا أكثر من أربعة؛ لأن خبر الأربعة لو جاز أن يكون موجباً للعلم لوجب أن يكون خبر كل أربعة كل موجباً ولو كان هكذا لوجب إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة، ويكون ما ورد به الشرع من السؤال عن عدالتهم باطلاً، وإذا كان ذلك صحيحاً دل على أن خبر الأربعة لا يوجب العلم بصدق مُخبرِهم.
فإن قيل: لا يمتنع [127/أ] أن الله تعالى لم يفعل ذلك عند شهادة الشهود لضرر من المصلحة، وفعل ذلك عند الخبر الذي ليس بشهادة.
قيل: لا فرق بين الخبر الواقع على وجه الشهادة، وبين الواقع على غيرها، بدليل: أن الجماعة التي يقع لنا العلم بخبرهم، لا فرق بين أن يشهدوا عند الحاكم بحق، وبين أن يكون خبرهم بغير شهادة في وقوع العلم بخبرهم، كذلك فيمن دونهم.
وقد حكي عن قوم: أن العلم يقع بخبر اثنين.
وعن آخرين: يقع بخبر أربعة.
وعن آخرين: يقع بخمسة فصاعداً (1) .
وعن آخرين: يقع باثني عشر؛ اعتباراً بعدد النقباء.
__________
(1) من حَد وقوع العلم باثنين، اعتبر نصاب الشهادة.
ومن حده بأربعة، اعتبر أعلى نصاب الشهادة، كما في إثبات الحدود.
ومن حده بخمسة اعتبر الزيادة على أعلى عدد في الشهود.
وهناك من حده بعشرين، لقوله تعالى: (إنْ يكن منْكمْ عشرونَ صَابرُونَ) .
انظر: "التمهيد في أصول الفقه" الورقة (108/ب) .(3/856)
وعن آخرين: يقع بسبعين؛ اعتباراً بعدد أصحاب موسى عليه السلام.
وعن آخرين: يقع بثلاثمائة وكسر، اعتباراً بعدد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر.
وهذا غير صحيح، لأن الاعتبار بمن يقع العلم بخبرهم، وليس يختص ذلك بعدد دون عدد؛ لأن العدد الكثير قد يتواطئوا على الكذب، ولا يقع العلم بخبرهم، بل يقع بخبر أقل منهم، إذا لم يتواطئوا على ذلك، فلم يجز أن يشترط في ذلك عدد محصور.
والمواضع التي ذكروها إنما اتفق حصول ذلك العدد، لا أنه اشترط العلم بخبرهم.
مسألة (1)
يجوز ورود التعبد بأخبار الآحاد من طريق العقل ومن الناس من يمنع منه.
دليلنا:
أنه لا يمتنع أن تكون المصلحة لنا في العمل بما يخبرنا به الواحد، وإن جاز أن يكون غير صادق، ألا ترى أن من خَوّفنا سلوك طريق نربد سلوكه، فإن الواجب علينا: أن نقبل منه، وأن نتوقف فيما أردنا من سلوك ذلك الطريق، وإن جاز أن يكون كاذباً في خبره، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يتعبدنا الله تعالى بقبول خبر الواحد في باب الديانات.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238) ، و"التمهيد" الورقة (109/ب-110/ب) . و"روضة الناظر" وشرحها "نزهة الخاطر" (1/264- 265) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (267) من الملحق.(3/857)
فإن قيل: فيلزمكم على هذا: أن تجيزوا ورود التعبد بالعمل لما يخبر به الواحد، وإن كان فاسقاً، كما يجب علينا قبول خبر الفاسق إذا خَوفنا من سلوك بعض الطرق.
قيل: العقل لا يمنع من ذلك، وإنما نرجع في المنع منه إلى السمع.
وأيضاً: فإن الله تعالى قد تعبد الحاكم بقبول قول الشهود للعمل به، وإن جاز أن يكونوا غير صادقين.
وكذلك تعبد الله المستفتى بالعمل على قول المفتي، مع جواز كونه كاذباً فيما يفتي به، كذلك لا يمتنع أيضاً: أن يتعبد الله تعالى بالعمل بما يخبر به الواحد مع جواز كونه غير صادق.
فإن قيل: فيلزمكم أن تجيزوا ورود التعبد بصدق النبي، وإن لم يكن معه ما يدل على صدقه من الإعلام بالمعجزة، وأن تجيزوا [127/ب] العمل بخبر الواحد في إثبات القرآن وأصول الدين.
قيل: أما العمل بخبر النبي، فإنما لم يجب ما لم يكن معه ما يدل على صدقه؛ لأن العمل بخبر الواحد، إنما يجب علينا إذا ورد السمع بذلك، فما لم تقم الحجة بأصل الشريعة فإنا لا نعلم أنا قد تعبدنا بالعمل بخبر الواحد في الشرعيات، فإذا كان كذلك، كانت الحجة إنما تقوم بأصل الشريعة، إذا أقام الله تعالى الإعلام بالمعجزة على من تعبدنا على لسانه، ليدلنا بذلك على صدقه، ويؤمننا من غلطه فيما هو الحجة فيه، لم يجز لنا القبول منه، ما لم يعلم صدقه، وليست هذه حال خبر الواحد؛ لأن تجويزنا لكذبه لا يمنع من أن يلزمنا العمل به من جهة النبي، بأن يوجب علينا العمل بما يخبرنا الواحد.
وأما خبر الواحد في إثبات القرآن، فإنه لا يمتنع أن يتعبد بقبول خبره فيه، فيدل على ما تضمنه من الحلال والحرام، ولا يقطع على أنه من القرآن، وإنما منع الشرع منه.(3/858)
مسألة (1)
يجب العمل بخبر الواحد، إذا كان على الصفة التي يجوز معها قبول خبره.
نص عليه رحمه الله في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: إذا كان الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحاً ونقله الثقات، فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس.
وقال أيضاً رحمه الله في رواية أبي الحارث في موضع آخر: إذا جاء خبر الواحد، وكان إسناده صحيحاً وجب العمل به، ثم قال: أليس قصة القبلة حين حولت، أتاهم الخبر وهم يصلون، فتحولوا نحو الكعبة.
وخبر الخمر أهراقوها، ولم ينتظروا غيره؟
وقال أيضاً رحمه الله في رواية الفضل بن زياد: خبر الواحد صحيح، إذا كان إسناده صحيحاً، وذكر قصة القبلة حين حولت، وقصة الخمر لما حرمت.
وقال أيضاً رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث: إن قوماً دفعوا خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول ذي اليدين (2) حتى سأل غيره (3) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238) ، و"التمهيد" الورقة (110/ب- 114/أ) و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/268-279) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (267-270) من الملحق.
(2) ذو اليدين، حجازي من بني سليم، يقال له: "الخرباق". صحابي وليس هو ذا الشمالين كما زعم. وهو الذي كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سها في الصلاة.
عاش ذو اليدين حتى روى عنه بعض متأخري التابعين.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/475) ، و"الاصابة" القسم الثاني ص (420) طبعة دار نهضة مصر.
(3) هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في =(3/859)
وليس هذا حجة، ذو اليدين جاء إلى يقين النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيله، فلم يقبل منه، وهذا جاءه خبر لم يكن عنده خلافه. فلم يقبله.
وقال أيضاً رحمه الله في رواية الميموني: من الناس من يحتج في رد خبر الواحد: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنع بقول ذي اليدين، وليس هذا شبيه ذاك، ذو اليدين أخبر بخلاف يقينه (1) ، ونحن ليس عندنا علم نرده، وإنما هو علم يأتينا به.
ونحو هذا قال في رواية أحمد بن الحسين (2) الترمذي (3) .
__________
= كتاب الصلاة، باب من لم يتشهد في سجدتي السهو (1/82) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1/403) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر (2/247) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين (1/231) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسياً وتكلم (3/17) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب فيمن سلم من اثنتين أو ثلاثاً ساهياً (1/383) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب سجدتي السهو من الزيادة (1/290) .
وأخرجه عنه الطيالسي في "مسنده" في كتاب الصلاة، باب من سلم من ركعتين (1/110) .
(1) الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) في طبقات الحنابلة: (الحسن) مكبراً.
(3) أبو الحسن من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه المسائل الفقهية والأحاديث النبوية.
له ترجمة في "طبقات الحنابلة" (1/37) .(3/860)
وبهذا قال [128/أ] جمهور الفقهاء والمتكلمين.
وقال قوم من أهل البدعة: لا يجوز العمل به، ولا يجوز ورود التعبد به.
وقال القاشاني (1) وأبو بكر بن داود: لا يجوز العمل به من طريق الشرع، وكان يجوز ورود التعبد به.
وقال الجبائي: لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين.
دليلنا:
قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَة منْهُمْ طَائفَة ليَتَفقهُوا فِي الدين وَليُنذرُوا قَومَهُمْ إذَاً رَجعوا إلَيْهَمْ لًعَلهُمْ يَحْذرُونَ) (2) .َ
وقوله: (فَلَوْلاَ) معناه: فهلا نفروا.
وقوله: (فِرْقَة) معناه جماعة، أقلها ثلاثة.
وقيل: قد يقع هذا الاسم على واحد بدليل قوله تعالى: (وَإنْ طَائِفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اْقتَتَلُوا فَأصْلحُوا بَينَهُمَا ... ) (3) ، إلى قوله. (بَيْنَ أخَوَيكُم) ، وقوله. (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4) ، قيل أقلها واحد.
__________
(1) هو: محمد بن إسحاق أبو بكر القاشاني، بالمثلثة، أو القاساني، بالمهملة. كان ظاهرياً، ثم صار شافعياً. له مؤلفات، منها: "كتاب الرد على داود في إبطال القياس"، و"كتاب الفتيا الكبير".
له ترجمة في: "الفهرست" ص (300) طبعة المكتبة التجارية.
(2) (122) سورة التوبة.
(3) (9) سورة الحجرات.
(4) (2) سورة النور.(3/861)
وقال محمد بن كعب (1) في قوله: (إن نعْفُ عَنْ طَائفَة منكُمْ) (2) ، كان هذا رجلاً واحداً (3) .
وقوله: (مِنْهُم) يعني من المسلمين.
وقوله: (طَائِفَة) معناه: جماعة، أقلها واحد.
وإذا ثبت هذا فمن الآية دليلان:
أحدهما: قوله: (لِيُنْذرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِم) فلولا أن الإنذار قد يقع بالآحاد ما حثّ عليه ولا أمر به.
والثاني: قوله: (لَعَلّهُمْ يَحْذرُونَ) فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل لما وقع به الحذر.
فإن قيل: الآية تقتضي وجوب الإنذار، وليس فيها وجوب الرجوع إلى قول المنذر، بل يجوز أن يرجع المنذر إلى أمر آخر، وليس من حيث وجب الإنذار وجب الرجوع إليه، فإنه يجب على الإمام أن يخبر غيره بمعرفة الله تعالى ووحدانيته، ولا يجب على المخبر الرجوع إلى قوله، بل يرجع إلى دليل آخر. ولهذا نظائر.
__________
(1) هو: محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي أبو حمزة، وقيل: أبو عبد الله.
أحد العلماء بالتفسير مع الثقة والتقى والورع. روى عن المغيرة بن شعبة ومعاوية وابن عباس وخلق، وعنه محمد بن المنكدر وموسى بن عبيدة وابن عجلان وآخرون. مات سنة (118) وقيل: غير ذلك.
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (9/422) ، و"الخلاصة" ص (357) طبعة بولاق.
(2) (66) سورة التوبة.
تفسير "محمد بن كعب" لهذه الآية، ذكره الطبري بسنده في "تفسيره" (10/173) طبعة الحلبي.(3/862)
قيل: في الإية تحذير من المخالفة بقوله: (لعَلّهمْ يحْذرُونَ) والتحذير لا يكون إلا في الأمر الواجب. وعلى أن الظاهر يقتضي وجوب الرجوع إلى قول المنذر حيث أمر هو بالإنذار، وإلا بطل فائدة الأمر بذلك، وإنما لم يلزم الرجوع إلى ما ذكروه من الأخبار عن معرفة الله سبحانه وما أشبه ذلك، لقيام (1) دليل عليه، وهو: أنه يجب العلم بتلك الأشياء ومعرفتها قطعاً.
فإن قيل: المراد بالآية: أنهم يرجعون إلى قومهم فيفتونهم ويؤخذ بقولهم في الفتيا.
قيل: الآية عامة في الأمرين معاً. وعلى أن الإنذار في الظاهر إنما يعتبر به عن الإخبار عن الشيء دون الفتيا.
فإن قيل: الحذر هو: أن ينظر ويعمل بما دل عليه الدليل.
قيل: الطائفة إذا قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يفعل كذا أحرق [128/ب] بالنار، أو من فعل كذا أحرق بالنار، كان الحذر منه بالقبول والعمل بما أخبره، ومن لم يقبله ولم يعمل بذلك، لم يكن حاذراً ما أنذر به.
ويدل عليه قوله تعالى: (إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنبأِ فَتبينوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالةِ) (2) فدل على أن العدل إذا جاء بنبأ، لا نتبين ولا نتثبت فيه، من طريق دليل الخطاب، فلو كانا سواءً لم يكن لتخصيصه بالفاسق بالتثبت معنى.
ويدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث لتبليغ شرعه وأحكامه إلى النواحي والقبائل والبلاد آحاداً، فبعث أبا بكر أميراً على الحاج، وبعث
__________
(1) في الأصل: (لقوام) .
(2) (6) سورة الحجرات.(3/863)
عمر ساعياً على الصدقة، وبعث عليا قاضياً إلى اليمن، وبعث. معاذاً جابياً للصدقات إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد (1) إلى مكة والياً، وبعث مصعب بن عمير (2) إلى المدينة، وأمر منادياً بتحريم الخمر، وتحريم صيام أيام منى، وغير ذلك مما يكثر نقله، فلولا أن خبر الواحد يوجب العمل ما بعث إليهم ما لا يجب العمل عليهم بقوله.
وكذلك أيضاً بعث الكتب، فكتب إلى كسرى كتاباً، وكتب إلى قيصر كتاباً، وبعث به مع واحد، فدل على ما قلناه.
فإن قيل: هذه أخبار آحاد، فلا يحتج بها في إثبات خبر الواحد.
قيل: وإن كانت آحاداً في اللفظ فهي متواترة في المعنى بمجموعها؛ لأن الأمة تلقتها بالقبول، وتطابقت على العمل بها.
فإن قيل: فما ينكر أن يكون قد تقدم علمهم بالأحكام، كما قلتم: إنه يقدم علمهم بوجوب العمل بأخبار الآحاد.
__________
(1) هو: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس أبو عبد الرحمن القرشي الأموي. أسلم يوم فتح "مكة"، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على "مكة" عام الفتح ولم يزل أميراً عليها. حتى وفاته سنة (13 هـ) ، في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، رضي الله عن الجميع.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1023) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (429) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (257) ، طبعة بولاق.
(2) هو: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف أبو عبد الله، القرشي العبدري. من السابقين إلى الإسلام. ومن أول من هاجر إلى الحبشة. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قبل الهجرة، يقرىء أهلها القرآن، ويعلمهم دينهم. شهد بدراً، وكان حامل الراية. وشهد أحداً، حاملاً الراية، وفيها استشهد.
له ترجمة قي: "الاستيعاب" (4/1473) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (123) ، طبعة دار نهضة مصر.(3/864)
قيل: الأحكام لم يوجد فيها الخبر المتواتر، ولو وجد ذلك لعلمناه، كما علمنا سائر ما تواتر به الخبر.
وأما وجوب العمل بها: فقد كان يتواتر به الخبر، وعلم (1) المسلمون والكفار ذلك من فعله وقوله، كما علمناه.
فإن قيل: أليس قد كان يبعث الدعا [ة] إلى الإيمان بالله وبالرسول وهذا لم يكن معلوماً من جهة الداعي. فما ينكر ذلك للأحكام.
قيل: وجوب ذلك عندنا بالشرع دون العقل، ولا فرق بينهما، وعند المخالف: وجوبه من طريق العقل، فبعث من ينبههم على ما في عقولهم، وليس كذلك سائر الأحكام؛ فإنه لا طريق لهم إليها إلا من جهة خبر من بعثه إليهم.
وأيضاً: فإن الصحابة أجمعت على العمل بخبر الواحد، لأنا نعلم أن بعضهم كان يقبل من بعض، ولا يطالبه بالتواتر والاستفاضة، وهذا معلوم من أحوالهم ضرورة.
فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عمل بخبر المغيرة (2) ومحمد
__________
(1) في الأصل: (وعلمه) .
(2) هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أبو، عبد الله، وقيل: أبو عيسى. أسلم عام الخندق. أحد دهاة العرب المشهورين. ولاه عمر البصرة، ثم عزله عنها وولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها، ثم عزله. ولما تم الأمر لمعاوية أعاده والياً عليها. ومات بها سنة (50 هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1445) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (197) ، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (385) ، طبعة بولاق.(3/865)
ابن مَسْلَمة (1) في ميراث الجدة (2) .
وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف (3) [129/أ] في أخذ الجزية من المجوس.
وعمل بخبر حَمل في مالك بن النابغة في غرة عبد أو أمة في الجنين، وقال: كدنا أن نقضي فيه برأينا.
وعمل بخبر الضحاك بن سفيان في توريث النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أشْيَم الضبابى من دية زوجها.
وقال عبد الله بن عمر: كنا نخابر أربعين سنة، فلا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج، فتركناها لقول رافع.
__________
(1) هو: محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد الأنصاري الحارثي، أبو عبد الرحمن.
وقيل: أبو عبد الله - صحابي. شهد بدراً والمشاهد كلها. استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة في بعض غزواته. اعتزل الفتنة. مات بالمدينة سنة (43 هـ) وله سبع وسبعون سنة تقريباً.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1377) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (33) ، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (359) ، طبعة بولاق.
(2) هذا الحديث سيأتي تخريجه ص (870) ، فقد ذكره المؤلف بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس) .
(3) هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحارث القرشي الزهري، أبو محمد. جمع بين الهجرتين، هجرة الحبشة، وهجرة المدينة. شهد بدراً والمشاهد كلها. أحد العشرة المبشرين بالجنة. وأحد الستة الذين جعل عمر المشورة فيهم. مات بالمدينة ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان، ذلك سنة (31 هـ) . عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/844) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (346) طبعة دار نهضة مصر. و"الخلاصة" ص (232) ، طبعة بولاق.(3/866)
وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك (1) في سكنى المتوفى عنها [زوجها] (2) .
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما حدثني أحد بحديث إلا
__________
(1) هي: فُرَيْعَة بنت مالك بن سنان الخدرية؟ ويقال لها: الفارعة. وهي أخت أبي سعيد الخدري، وهي التي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمكث في بيتها، حتى يبلغ الكتاب أجله. وقد عمل عثمان بما روت.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1903) ، و"الإصابة" (8/166) .
(2) حديث فريعة - رضي الله عنها - هذا أخرجه عنها الترمذي في كتاب الطلاق باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها (3/499) ، ولفظه: (.. أنها -أي فريعة- جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم -موضع حول المدينة- لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد، ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر بي، فنوديت له، فقال: "كيف قلت"؟ قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال: "أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".
قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً.
قالت: فلما كان عثمان، أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه، وقضى به.
ثم قال الترمذي في الحديث: (حديث حسن صحيح) .
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل (1/536) .
وأخرجه عنها النسائي فيه، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل (6/165) .
وأخرجه عنها ابن ماجه فيه، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها (1/654) .
وأخرجه عنها الدارمي فيه، باب خروج المتوفى عنها زوجها (2/90) .
وأخرجه عنها الإمام الشافعي في كتاب النفقات، باب اعتداد المتوفى عنها في بيت زوجها ... (2/409) .(3/867)
استحلفته إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر (1) .
ورجع ابن عباس عن قوله: إنما (2) الربا في النسيئة (3) ، بخبر أبي سعيد الخدري (4) .
__________
(1) كلام علي - رضي الله عنه - هذا قاله ضمن حديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأستغفار (1/349) ، ولفظه: (كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر، وصَدَق أبو بكر، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما من عبد يذنب ذنباً، فيحسن الطهور، ثم يقوم، فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلاَ غَفَر الله له"، ثم قرأ هذه الآية: "وَالَذيِنَ إذَا فَعَلُوا فَاحشَةً، أوْ ظَلموا أَنفُسَهم، ذَكَرُوا اللهَ ... ") .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كَتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في أن الصلاة كفارة (1/446) ، ولفظه قريب من لفظ أبي داود.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/2) ، ولفظه قريب من لفظ أبي داود. وسنده حسن، وصححه ابن حبان (2454) .
(2) في الأصل: (لهما) .
(3) قصة رجوع ابن عباس رضي الله عنهما عن حصره الربا في ربا النسيئة، أوردها البيهقي في سننه الكبرى بسنده، وذلك في كتاب البيوع، باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول: "لا ربا إلا في النسيئة" عن قوله ونزوعه عنه (5/281-282) .
(4) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم عنه في كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (3/1211) ، ولفظه: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشعير بالشعير، والتّمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء") .
وأخرجه عنه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة (3/92) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/9) .(3/868)
وعملوا بخبر عائشة في التقاء الختانين.
وعمل زيد بن ثابت برواية امرأة من الأنصار: أن الحائض تنفر بلا وداع (1) .
ورجيع أهل قباء إلى خبر الواحد في تحويل القبلة.
وكذلك رجع جماعة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد.
ومثل هذا كثير، يطول شرحه، فدل على إجماعهم.
فإن قيل: طريق ذلك كله من طريق الآحاد، فلا يجوز إثبات خبر الواحد بمثله.
__________
(1) قصة رجوع زيد بن ثابت رضي الله عنه في ذلك، أخرجها البخاري في كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت (2/210) بسنده إلى عكرمة قال: إن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة، فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية.
وقد ذكر البخاري حديث صفية قبل هذا، وذلك أنها حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: إنها قد أفاضت.
قال: "فلا إذاً".
وأخرج ذلك: مسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض (2/963) . بسنده إلى طاوس، قال: كنت مع ابن عباس، إذ قال زيد بن ثابت: تفتى أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: أما لا، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاد: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت.
وأخرج ذلك أيضاً: البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الحج، باب ترك الحائض الوداع (5/163-164) ، وساق كلاً من لفظ البخاري ومسلم.(3/869)
قيل: هذا متواتر من طريق المعنى، وقد بيناه.
وعلى أنه مع كثرته، لا يجوز أن يكون جميعه باطلاً، كما لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون خطأ، وكما لا يجوز أن يقال: إن الجماعة الكثيرة من المسلمين لا يجوز أن يكون جميعهم كَذَبَة في خبرهم، مع اعتقادهم الإسلام.
فإن قيل: يجوز أن يكون حكموا بهذه الأخبار مع سبب قارنها أوجب العلم بصدقها.
قيل: لم يرد غير الأخبار ورجوعهم إليها، فدل على أنه كان سببها.
ولأنه لا يجوز أن ينقل الخبر ويترك السبب الذي لأجله حكموا به.
وعلى أن ابن عمر قال: فتركناها لقول رافع.
وقال عمر: لو لم نسمع هذا؛ لقضينا برأينا. فدل على أن القضاء بالخبر حصل.
فإن قيل: فقد روي عنهم: أنهم ردوا خبر الواحد ولم يقبلوه حتى انضاف إلى المخبر غيره.
فروي عن أبي بكر في قصة الجدة: فيكم من سمع من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] شيئأ، فأخبره المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) (1) فقال أبو بكر: من يشهد معك؟ فقال: محمد بن مسلمة: أنا، فلما كملا شاهدين عمل بقولهما.
__________
(1) هذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب في الجدة (2/109-110) . وأخرجه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (4/419-420) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب ميراث الجدة (2/909-910) .(3/870)
وعن عمر أن أبا موسى (1) استأذن عليه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فانصرف، فراسله عمر فقال: لم انصرفت؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً، فلم يؤذن له، فلينصرف) (2) ، فقال: من يشهد لك؟ فمضى أبو موسى [128/ب] إلى الأنصار، فقالوا: نبعث معك بأصغرنا أبي سعيد الخدري فمضى، فسمع عمر منهما.
__________
(1) هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر الأشعري أبو موسى.
أسلم بمكة قديماً، ثم رجع إلى قومه، ثم قدم في جماعهَ من الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر. ولاه النبي صلى الله عليه وسلم اليمن ثم ولاه عمر البصرة، ثم عزله عنها عثمان بعد أن وليها صدراً من خلافته، ولكن عثمان ولاه الكوفة. فظل والياً عليها حتى عزله علي. مات بالكوفة، وقيل بمكة سنة (44 هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/979) ، و (4/1762) ، و"الاصابة" القسم الرابع ص (211) ، طبعة دار نهضة مصر.
(2) قصة استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما وما جرى فيها، رواها أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجها عنه البخاري في كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً (8/67) .
وأخرجها عنه مسلم في كتاب الآداب، باب الاستئذان (3/1694) .
وأخرجها عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟ (2/637) .
وأخرجها عنه الترمذي في كتاب الاستئذان، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثة (5/53) .
وأخرجها عنه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب الاستئذان (2/1221) .
وأخرجها عنه الدارمي في كتاب الاستئذان، باب الاستئذان ثلاثاً (2/187) .(3/871)
وعن علي أنه كان ما يسمع الخبر حتى يستحلف عليه (1) .
فثبت: أنهم ما قبلوا خبر الواحد بانفراده.
قيل: يحتمل أن يكونوا فعلوا ذلك احتياطاً، ولهذا روي عن عمر أنه لما فعل ذلك قال: خفت أن يجترأ على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فكأنه احتاط، فأما أن يكون فعله على الوجوب فلا.
وكذلك ما كان عَلِيّ يفعله من اليمين، كان على طريق الاحتياط، ولهذا قبل قول أبي بكر بغير يمين. ولأن من لا يقبل خبر الواحد، لا يقبله مع اليمين أيضاً.
وأيضاً: فقد ثبت الرجوع إلى قول المفتي وشهادة الشهود، وإن لم يكن ذلك أمراً مقطوعاً عليه، وإنما يحكم به من جهة غلبة الظن والاستدلال، كذلك الرجوع إلى قول المخبر، فإنه في معنى ذلك، بل الرجوع إلى المخبر أولى، فإن المفتي يخبر عن اجتهاد، والمخبر يخبر عن مشاهدة وسماع، فحاله أقوى من حال المفتي، فكان بالقبول أولى.
ولأنه لو لم يقبل إلا المتواتر أفضى إلى بطلان العمارات وخراب الدنيا، لتشاغلهم بالنقل عنها، وإذا قلنا: يتشاغلون بالعمارات، حفظوا الدنيا، وضيعوا الشريعة، فلا بد من ترك أحدهما، فحفظنا المعاش بتشاغلهم بها، وحفظنا السنة بقبول خبر الواحد، فكان حفظهما معاً أولى من تعطيل أحدهما.
وهذا كالشهادات لا بد للناس منها، فلو لم يقبل في الشهادات غير المتواتر أفضي إلى تشاغل الناس بحفظ ذلك وخراب الدنيا، وإذا قبلنا شهادة
__________
(1) هذا الأثر عن علي، رضي الله عنه، سبق تخريجه ص (868) بلفظ: (ما حدثني أحد بحديث، إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر) .(3/872)
الآحاد حفظنا الحقوق والدنيا معاً، فكان حفظهما أولى من تضييع أحدهما، كذلك الأخبار.
فإن قيل: قولكم: لا بد من قبول خبر الواحد، غير مُسَلم، فإن منه ألف بدٍ، وذلك أن العمل في أحكامنا على ما ثبت قطعاً، وهو القرآن وخبر المتواتر، وما لم نجده فيهما بنيناه على الأصل في العقل.
قيل: فعلكم هذا ترك للشريعة.
وعلى أن في الأحكام ما لا يعرف بالعقل ولا بالعمل على ما كان في الأصل، كالدية على العاقلة، ونحو هذا، فبطل أن لا يعمل على خبر الواحد.
ولأن خبر الواحد لو كان مما لا يوجب العمل، لوجب أن ينكر على من يحفظه ويكتبه ويدونه؛ لأنه لا فائدة فيه، كمن كتب ما لا يفهم، ويحفظ ما لا ينفع، فإن كل واحد ينكر عليه ويسفهه، فلما [لم] نجد أحداً من سلف هذه الأمة وغيرهم أنكر هذا، ثبت أنهم إنما أقروا عليه لهذه الفائدة التي ذكرنا.
فإن قيل: فالناس ينقلون اللغة ويكتبونها، ولا يستفاد منها حكم.
[130/أ] قيل: لا ينقل إلا لفائدة، وهو يتأدب بها ويعرف، وكذلك الخبر لا فائدة في نقله غير العمل بموجبه والمصير إلى حكمه.
ويختص من اعتبر رواية اثنين بأنه خبر عن حكم شرعي، فوجب أن لا يعتبر في العدد قياساً على الفتيا، وما لا يشثرط في قبول قول المفتي لا يشترط في قبول [قول] النبي، أصله: الذكورية والحرية والنسب.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (1) ، وقوله
__________
(1) (36) سورة الإسراء.(3/873)
تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (1) .
والجواب: أن وجوب العمل به معلوم؛ لأن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد موجب للعلم قاطع للعذر، كما يقول المخالف في حكم الحاكم بالشاهدين، وغير ذلك مما ذكرته من (2) نظائره.
وجواب آخر وهو: أن هذا ينقلب عليهم في إبطالهم القول بخبر الواحد، فإنهم حكموا بذلك، وهو غير معلوم عندهم.
واحتج: بقوله تعالى: (إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي منَ الْحَقِّ شَيْئاً) (3) .
والجواب: أن المراد به الظن الذي لا دليل على العمل به (4) ، مع أنه ينقلب عليهم في ترك القول بخبر الواحد.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل خبر ذي اليدين حتى انضاف إليه غيره.
والجواب: أن من لم يقبل خبر الواحد لم يقبل خبر الاثنين أيضاً، فلا حجة له في ذلك.
على أنا نقول بظاهر الخبر، ولا يقبل في مثل ذلك أقل من اثنين؛ لأن قول المأمومين، الواحد منهم ليس بأقوى من ظنه، فلم ينصرف عن ظنه بقوله.
__________
(1) (169) سورة البقرة.
(2) كلمة (من) مكررة في الأصل.
(3) (28) سورة النجم.
(4) العبارة في الأصل هكذا: (أن المراد به الذي لا دليل على العمل به الظن) ، وما أثبتناه هو الصواب.(3/874)
فأما إن سبّح به اثنان، كان قولهما أولى من ظنه، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس عنده ما يخالف خبره، فلهذا وجب قبوله.
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الإشهاد على عقوده على (1) اثنين، فدل على أن الواحد غير مقبول.
والجواب: أنه لم يشهد على عقوده النساء والعبيد، ولم يدل ذلك على امتناع قبول خبرهم.
واحتج: بأنه لا يقبل قول من ادعى أنه نبي إلا بحجة توجب العلم.
والجواب: أنه إنما لم يقبل قوله؛ لأنه لا دليل معه على وجوب قبول قوله والعمل به، وليس كذلك خبر الواحد في الأحكام، فإن عليه دليلاً يوجب قبول قوله والعمل به.
واحتج: بأنه لا يقبل في أصول الديانات، كذلك في فروعها.
والجواب: أن هذا يبطل بشهادة الشاهدين، وبقول المفتي يقبل في فروع الدين، وإن لم يقبل في أصوله.
[130/ب] وعلى أنه يعمل بخبر الواحد في كل حكم لا دليل عليه يوجب العلم ويقطع العذر.
وأما الحكم الذي عليه دليل موجب للعلم، فلا يعمل فيه بخبر الواحد لأنه إذا أمكن الوصول إليه من طريق العلم، لم يجز من طريق الظن، وليس كذلك في هذه الأحكام الشرعية، فإنه لا طريق إليها من جهة العلم، ففرض علينا الحكم بخبر العدل الذي ظاهره الصدق، كما يقول المخالف في الحكم بالشهاة والفتيا، ولأن ذلك يتضمن نقل ملة إلى أمة (2) ، فاحتاج إلى معرفة ذلك قطعاً.
__________
(1) في الأصل: (من) .
(2) في الأصل: (ملة) .(3/875)
واحتج: بأن طريق العمل به هو الشرع، وقد طلبنا الشرع، فلم نجد.
والجواب: أنه يجوز عليك الخطأ في طلبه والعدول عن طريقه.
واحتج: بأن الأصول قد تهذبت وتجهزت، فلا يترك اليقين بالشك.
والجواب: أنه باطل بالشهادات، فإن الأصل: أن الحق في الذمة، وإذا شهد اثنان على أصل القضاء والإبراء، تركنا اليقين لغالب الظن.
وباطل بالفتيا؛ فإن الإنسان على يقين من عقد النكاح، وفي شك من وقوع الفرقة، ومع هذا ترك اليقين بقول المفتي.
واحتج: بأنه لما لم يجز تقليد العالِم للعالِم؛ لأنه لا يقطع بصحته، كذلك لا يجب الرجوع إلى خبر الواحد.
والجواب: أنه إنما لم يقلده؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم، فلم يرجع إليه فيه، وليس كذلك الخبر؛ لأن المخبر ليس معه من آلة الحكم ما مع المخبر، فلهذا قبل قوله فيه [ولا يمنع] (1) هذا أن يقلد العامي العالِم، فإنه جائز؛ لأنه ليس معه آلة يقع له العلم بها.
واحتج: بأن في إيجاب العمل به ما يفضي إلى ترك العمل به؛ لأن الأخبار في الشريعة كثيرة، لا تحصى، ولا يأتي عليها حصر، وفيها الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، فإذا أوجبنا عليه العمل بخبر الواحد، لزمه أن يستوفي كل ما ورد منها؛ لأنه قد يكون فيما لم يبلغه ناسخ ما بلغه.
ولأن العمل به يفضي إلى التوقف في عمومات القرآن؛ لأنا نخص عموم القرآن به، ونرد (2) به الظاهر عن ظاهره، فإذا لزم هذا، لزم
__________
(1) ما بين القوسين بياض في الأصل.
(2) في الأصل: (ونريد به) .(3/876)
البحث عن الأخبار؛ لئلا يكون هناك ما يخص به هذا العموم، والإحاطة به.
والجواب: أن المفتي لا يصح منه الفتيا، حتى يكون من أهل الاجتهاد، بأن يعرف جمل الشريعة: الكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والمجمل والمفسر، كل هذا يعلمه، ويبني بعض الكلام على بعض، ولكن فيما انتهى إليه وعرفه، [131/أ] فأما فيما لم يتصل به، ولا يعرفه، فلا يلزمه التوقف فيما بلغه، لجواز أن يكون هناك مالم يبلغه، ألا ترى أن الحاكم إذا شهد عنده بالقتل اثنان، قضى بشهادتهما، وهو يجوز أن يكونا فاسقين، وأن يكون القول ساقطاً عن المشهود عليه، كذلك ها هنا.
واحتج من قال: لا يقبل الخبر، حتى ينقله اثنان:
بأنه لما لم تقبل الشهادة إلا من اثنين، كذلاث الخبر، يجب أن يكون مثله.
والجواب: أن الشهادة قد تقبل من واحد في رؤية الهلال، وفي شهادة القابلة.
وعلى أن هذا موجب أن لا يقبل الخبر فيما يوجب الحد إلا من أربعة، كما لا يقبل في الزنا أقل من أربعة.
وعلى أن الشهادة مؤكدة بما لم يؤكد به الخبر، وهو أنها لا تسمع حتى يبحث عن حال الشهود، ويقبل الخبر ممن ظاهره العدالة، من غير بحث عنه.
ويقبل خبر العنعنة، وهو قول الراوي عن فلان كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهادة العنعنة لا تقبل حتى ينقل اللفظ، فيقول: أشهدني فلان على شهادته بكذا، واللفظ يعتبر في الشهادة دون الخبر.(3/877)
وتقبل فيه النساء، ولا تقبل في كثير من الشهادات، فكانت الشهادات أقوى، فاعتبر فيها العدد، ولم يعتبر في الخبر، وإنما كان كذلك؛ لأن حكم الخبر يستوي فيه المخبِر والمخبَر، والشهادة لا يستوي فيها الشاهد والمشهود له، فلهذا قبلنا الواحد في هلال رمضان؛ لأنه يستوي فيه الشاهد والمشهود له، فبان الفرق بينهما.
مسألة (1)
ما يعم فرضه يقبل فيه خبر الواحد
كما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (2) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (239) .
(2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء (1/23) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء (1/140) .
وأخرجه عنه الحاكم في كتاب الطهارة، باب التسمية عند الوضوء (1/146) ، وقال فيه: (هذا حديث صحيح الإسناد، وقد احتج مسلم بيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار، ولم يخرجاه) .
وقد تعقبه الذهبي بقوله: (صوابه: حدثنا يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة.. وإسناده فيه لين) .
وتعقبه ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (1/72) بقوله: (.. ورواه الحاكم من هذا الوجه فقال: يعقوب بن أبي سلمة، وادعى أنه الماجشون، وصححه لذلك، والصواب: أنه الليثي، قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة. وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "ربما =(3/878)
وكما روي في رفع اليدين في الركوع (1) ، وما يضارع ذلك من الأخبار.
__________
= أخطأ"، وهذه عبارة عن ضعفه، فإنه قليل الحديث جداً، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطىء مع قلة ما روى، فكيف يوصف بكونه ثقة) ؟
ثم نقل ابن حجر عن ابن الصلاح قوله: "انقلب إسناده على الحاكم، فلا يحتج لثبوته، بتخريجه له". كما نقل عن ابن دقيق قوله: "لو سلم للحاكم أنه يعقوب ابن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة: دينار، فيحتاج إلى معرفة أبي سلمة، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، فلا يكون أيضاً صحيحاً".
وأخرجه عن أبي هريرة الدارقطني في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (1/71) ولفظه: (ما توضأ من لم يذكر اسم الله، وما صلى من لم يتوضأ، وما آمن بي من لم يحبني، وما أحبني من لم يحب الأنصار) .
وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى"، في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء (1/44) ، وقال فيه: (وهذا الحديث لا يعرف من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة إلا من هذا الوجه، وكان أيوب بن النجار (أحد رواة الحديث) يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير (أحد رواة الحديث) إلا حديثاً واحداً، وهو: حديث التقى آدم وموسى، ذكره يحيى بن معين فيما رواه عنه ابن أبي مريم، فكان حديثه هذا منقطعاً والله أعلم) .
والحديث له شواهد أوردها الزيلعي في "نصب الراية" (1/3-5) ، وكذلك "تلخيص الحبير" كما سبق الإشارة إلى ذلك، فارجع إليهما إن شئت.
(1) هذا اشارة إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع (1/177-178) ولفظه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: "سمع الله لمن حمده" ولا يفعل ذلك في السجود") .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع (1/292) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة (1/166) . =(3/879)
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (1) .
دليلنا:
أن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال وهذا مما يعم فرضه، فأرسلوا إلى عائشة يسألونها، فقالت: (إذ التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغتسلنا) ، فصاروا إلى ما روت.
وكذلك ميراث الجدة، مما يعم فرضه، أثبتوه بخبر الواحد؛ لأن الجدة جاءت أبا بكر، فقال: لا أجد لك في كتاب الله شيئاً. فروى له المغيرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدس) وتابعه محمد بن مسلمة، فعمل
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع (2/35) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب السهو، باب رفع اليدين للقيام إلى الركعتين الأخريين حذو المنكب (3/4) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع (1/279) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب في رفع اليدين في الركوع والسجود (1/229) .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح والركوع والرفع منه (1/287-288) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب تكبيرة الإحرام ودعاء الافتتاح ورفع اليدين عند التكبير (1/70-71) .
وأخرجه عنه الطحاوي في "كتابه" شرح معاني الآثار، في كتاب الصلاة، باب التكبير للركوع والتكبير للسجود والرفع منه (1/222) .
(1) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/112) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/128) .(3/880)
به أبو بكر. وغير ذلك.
ولأن خبر الواحد مما قد دل دليل قاطع على ثبوته والعمل به، [131/ب] يجري مجرى الآية المقطوع على وجوب الرجوع إليها.
ولأن خبر الواحد أصل القياس، فإنه منه يستنبط ويتفرع، فإذا جاز إثبات هذه الأحكام بالقياس مع ضعفه، كان جواز ذلك بخبر الواحد أولى.
ولأنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع، مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به قياساً على ما لا يعم فرضه.
واحتج المخالف:
بأن ما يعم فرضه سائر المكلفين، لا بدّ من توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] للكافة على حكمه؛ لأنه غير جائز ترك تعريف ما لا يعرف إلا من جهته، ومتى وقف الكافة عليه، فإن نقله يكون عاماً مستفيضاً، فإذا رواه الآحاد علمنا أنه غير صحيح في الأصل أو منسوخ.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن ما يعم فرضه، ليس من شرطه توقيف من النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم، بل يجوز أن يتعبد في ذلك بالظن، ورجوع العامة إلى اجتهاد أهل العلم [فيـ] لقى حكمه إلقاء خاصاً، فلا يظهره، ويكون من بلغه خبره يلزمه حكمه، ومن لم يبلغه خبره مأموراً بالاجتهاد، وطلب ذلك الحكم من جهة الخبر.
وجواب آخر، وهو: أنا لو سلمنا ذلك، فإن النقل لا يجب أن يكون على حسب البيان؛ فإن الصحابة كانت دواعيهم مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكان يؤثر الاشتغال بالجهاد على الرواية.(3/881)
وقال السائب بن يزيد (1) : صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان: ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) (2) .
__________
(1) هو: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن أخت النمر الكندي، وقيل: أزدي، وقيل: غير ذلك. صحابي ابن صحابي ولد سنة اثنتين من الهجرة. وحج به أبوه مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. كان من عمال عمر على سوق المدينة. مات بالمدينة سنة (86 هـ) ، وقيل: سنة (91 هـ) ، وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/576) ، و"الإصابة" القسم الثالث ص (26) ، طبعة دار نهضة مصر، و"خلاصة تذهيب الكمال" (132) طبعة بولاق.
(2) هذا الحديث أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء (4/106) .
وأخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب تفسير الخليطين (2/104) .
وهذا الحديث غير صحيح، وآفته من "ابن لهيعة"، فإنه تفرد بهذا الحديث.
وقد قال البيهقي: "أجمع أصحاب الحديث على ضعف ابن لهيعة وترك الاحتجاج بما ينفرد به". وقال ابن أبي حاتم في كتابه "العلل" (1/219) : سألت أبي عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث باطل عندي، ولا أعلم أحدا رواه غير ابن لهيعة. قال أبي: ويروى من كلام سعد فقط".
ونال ابن معين: "هذا الحديث باطل، وإنما هو من قول يحيى بن سعيد، هكذا حدث به الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد من قوله".
راجع في هذا: "تلخيص الحبير"، كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء (2/155) .
قلت: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ... ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ... ) ، وهو جزء من حديث أنس الطويل. أخرجه البخاري وأحمد =(3/882)
ويبين صحة هذا: أنه بين الحجة، بياناً عاماً، ونقل من جهة الآحاد، واختلف الناقلون له فيه.
وكذلك رجم ماعز، وأشياء كثيرة من هذا الجنس.
واحتج: بأن عموم فرضه للكافة، يقتضي ظهور فعله فيهم، وما يظهر فعله في الكافة، لا يقبل فيه خبر الأفراد، ألا ترى أنه لا يقبل خبر الأفراد في حدوث فتنة عظيمة في الجامع يوم الجمعة وقت صعود الخطيب المنبر؟ لأن ما هذا حاله يشترك فيه الجماعات، ولهذا لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر ذي اليدين، حين أخبره بالسهو في صلاته، حتى أخبره معه جماعة؛ لأنه أخبر بأمر ظهر للجماعة، فلم يقبل فيه خبره.
والجواب: [132/أ] أنا قد، بينّا: أن عموم فرضه لا يقتضي ظهور فعله فيهم.
وقولهم: إن ما يظهر فعله لا يقبل فيه الأفراد، كالفتنة في يوم الجمعة، لا يشبه (1) أخبار الديانات؛ لأن العادة في مثل ذلك: أنه إذا جرى مثل ذلك، سارع الناس الى روايته، والهمم والطباع مجبولة على ذلك فإذا انفرد به الواحد لم يقبل (2) ، وليس كذلك أخبار الديانات؛ لأنه ليس العادة أن يتطابق الكل على نقله، بل قد بينّا: أن أحوال الصحابة في ذلك مختلفة، فمنهم من كان لا يتشاغل بذلك.
واحتج: بأنكم قلتم: إن قول الرافضة (3) -: إن علي بن أبي طالب
__________
= وأبو داود والنسائي كما حكى ذلك المجد في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (311-313) وابن الديبع في كتابه: "تيسير الوصول" (2/58-60) .
(1) في الأصل: (ولا يشبه) .
(2) في الأصل: (تقبل) بالتاء المثناة.
(3) الرافضة: فرقة كانت مع "زيد بن علي" رحمه الله، وكانت تقول بإمامته. =(3/883)
رضي الله عنه منصوص على إمامته بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطل؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن ينقل نقلاً مستفيضاً، كذلك ها هنا.
والجواب: أنا أنكرناه؛ لأن عندهم أنه من فرض كل واحد أن يعلمه ومثله لا ينقل خاصاً، وليس كذلك ما يعم فرضه، فإنا كلفنا الحكم فيه بالظن، فافترقا.
واحتج: بأن قبول خبر الواحد في مثل هذا الحكم يفضي إلى التوقف في أحكام الكتاب، لجواز أن يكون نسخت، ولم ينقل نسخها.
والجواب: أن النسخ لا يجري هذا المجرى؛ لأنه رفع حكم وإسقاط، فإذا كان ذلك الحكم ثابتاً من جهة الاستفاضة، فلا يجوز أن ينقل إسقاطه (1) من جهة الآحاد، وهذا إثبات حكم مبتدأ، فيجوز ذلك بالأمر المقطوع عليه والمظنون.
واحتج: بأنه، لما لم يجز إثبات القرآن بخبر الواحد، لأنه ما يعم فرضه، كذلك في هذا الحكم.
والجواب: أن القرآن قد أخذ علينا معرفته قطعاً ويقيناً، فلا يجوز
__________
= وقد طلبوا منه التبرؤ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فامتنع، فرفضوه، وتفرقوا عنه.
وقيل: إن الذي سماهم بذلك "المغيرة بن سعيد"؛ لأنه زعم أن أبا جعفر أوصى له، لكن بعضهم لم يسمع منه وتركه، فسماهم "رافضة".
وقبل: إن هذا الاسم قد توسع فيه، حتى أصبح يطلق على كل من يغالي في حب آل البيت، وعلى هذا فهم فرق شتى، وطوائف كثيرة.
راجع: "الفرق بين الفرق" ص (21) ، وهامشه للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، و"كتاب الزينة" القسم الثالث منه لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي ص (270) مطبوع مع كتاب: "الغلو والفرق الغالية".
(1) في الأصل: (إسقاط) .(3/884)
إثباته بخبر الواحد المظنون، وهذا الحكم طريقه غلبة الظن، فجاز إثباته بأمر مظنون، وقد أثبتنا قرآناً من جهة الحكم بخبر واحد، نحو قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وغير ذلك.
مسألة (1)
ما تعم البلوى به يقبل فيه خبر الواحد
مثل ما روي من الوضوء في مس الذكر (2) ومس المرأة (3) ، وما يجري هذا المجرى.
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبل فيه خبر الواحد (4) .
دليلنا:
ما نقدم في المسألة التي قبلها.
ولأن شروط البيوع والأنكحة وما يعرض في الصلاة والوضوء من الخارج من غير السبيلين، والمشي مع الجنازة، وبيع رباع مكة وإجارتها، ووجوب الوتر ونحوه، أثبته المخالف بخبر الواحد، وهو مما يعم به البلوى.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (238) ، و"التمهيد" الورقة (115/ب-116/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/327-328) ، و"شرح الكوكب المنير" ص (268) من الملحق.
(2) حديث الوضوء من مس الذكر قد سلف تخريجه ص (832) .
(3) الوضوء من مس المرأة قد سلف تخريجه ص (328) .
(2) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/112) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/128) .(3/885)
[32/ب] وذهب المخالف إلى ما حكيناه عنه في المسألة التي قبلها، وقد أجبنا عنه.
مسألة (1)
يقبل خبر الواحد في إثبات الحدود.
وقد أثبت أحمد رحمه الله اجتماع الجلد والرجم على الزاني المحصن بخبر عبادة (2) . وأثبت النفي والجلد على الزاني البكر بخبر العسيف (3) ، وغير ذلك.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (239) ، و"التمهيد" الورقة (116/أ) ، (2) و"روضه الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/338) .
(2) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا) الحديث، قد سبق تخريجه ص (814) .
(3) حديث العسيف رواه أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أخرجه عنهما البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جواز فالصلح مردود (3/228) ، وقصة العسيف معروفة، فلا داعي لسردها.
وأخرجه عنهما مسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (3/1324) .
وأخرجه عنهما أبو داود في كتاب الحدود، باب في المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة (2/463) .
وأخرجه عنهما، وعن شبل جميعاً الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الثيب (4/39) .
وأخرجه عنهما النسائي في كتاب آداب القضاة، باب صون النساء عن مجلس الحكم (8/211) .
وأخرجه عنهما وعن شبل جميعاً ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد الزنا (2/852) . =(3/886)
وهو قول أصحاب الشافعي (1) .
واختلف أصحاب أبي حنيفة:
فحكى أبو سفيان عن أبي يوسف (2) : أنه يقبل. وهو اختيار أبي بكر الرازي.
وحكى عن الكرخي: أنه لا يقبل فيه، ولا فيما يسقط بالشبهة (3) .
دليلنا:
أنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به، قياساً على غير الحدود.
__________
= وأخرجه عنهم الدارمي في كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا (2/98) .
وأخرجه عن أبي هريرة وزيد بن خالد الإمام الشافعي في كتاب الحدود باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه (2/284) .
وأخرجه الطيالسي عن زيد بن خالد في كتاب الحدود، باب قصة العسيف (1/298) .
(1) راجع في هذا: "المنخول" للغزالي ص (253) ، و"شرح الجلال على جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" (2/131) ، و"الإحكام" للآمدي (2/106) .
(2) هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، أبو يوسف. من أكبر أصحاب الإمام أبي حنيفة. تولى القضاء للمهدي وابنيه. وهو أول من لقب بقاضي القضاة. توفي ببغداد سنة (182هـ) .
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (14/242) ، و"تاج التراجم في طبقات الحنفية" ص (81) ، و"شذرات الذهب" (1/298) ، و"طبقات الفقهاء" لطاش كبرى زادة ص (15) ، و"النجوم الزاهرة" (2/107) ، وقد ألف فيه الأستاذ محمود مطلوب كتاباً سماه: "أبو يوسف حياته وآثاره وآراؤه الفقهية" تحدث فيه عن الجوانب المختلفة في شخصية أبي يوسف.
(3) راجع في هذا: "تيسير التحرير" (3/88) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/136) .(3/887)
ولأن خبر الواحد يوجب غلبة الظن، كما أن شهادة الشاهدين توجب غلبة الظن، ثم ثبت أن الحد يجب بشهادتهم، فالخبر كذلك.
يبين صحة هذا: أن الحكم بالشهادة ثابت من طريق موجب للعلم وهو الإجماع ونص القرآن وخبر الواحد، كذلك الحكم به ثابت من طريق موجب للعلم، وهو الإجماع والقرآن.
واحتج المخالف:
بأن الحدود موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، وخبر الواحد لا يوجب العلم، وإنما يوجب غلبة الظن، فيصير ذلك بمنزلة حصول شبهة، فيمتنع من ثبوته.
والجواب: أن هذا يوجب أن لا يحكم بالحد بشهادة الشهود؛ لأن العلم لا يحصل مع شهادتهم، وقد أجمعنا على ثبوته بقولهم، فبطل ما ذكروه.
مسألة (1)
خبر الواحد مقدم على القياس
وهذا ظاهر على أصله، فإنه أخذ بحديث الأقرع (2) : (لا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة) (3) ، وترك القياس فيه.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (239) ، و"التمهيد" الورقة (116/أ-117/أ) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/328-331) .
(2) هو: الحكم بن عمرو الغفاري صحابي. ولاه زياد على البصرة، ثم عزله عنها وولاه بعض أعمال خراسان. مات سنة (50 هـ) قيل: بالبصرة وقيل: بخراسان.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/356) ، و"الإصابة" القسم الثاني ص (107) طبعة دار نهضة مصر.
(3) هذا الحديث أخرجه عن الحكم بن عمرو الغفاري، وهو الأقرع أبو داود في =(3/888)
وكذلك إيجاب غسل اليدين عند القيام من النوم، وخالف بين نوم اللّيل ونوم النهار.
وكذلك القرعة بين العبيد، قدم الخبر على القياس؛ لأن القياس يمنع جمع عتق في ستة إلى اثنين، وغير ذلك.
وهو قول أصحاب الشافعي (1) .
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن خالف الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به، ويقبل إذا خالف قياس الأصول (2) .
وحكي عن مالك: أن القياس أولى من خبر الواحد.
دليلنا على أنه مقدم على القياس:
إجماع الصحابة، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه
__________
= كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك - أي عن الوضوء فضل وضوء المرأة (1/19) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة (1/92-93) ، وقال فيه: "حديث حسن".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب النهي عن فضل وضوء المرأة (1/146) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب النهي عن ذلك (1/132) .
(1) راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (3/107) ، و"اللمع في أصول الفقه" ص (41) .
(2) هذا النقل غير محرر، فإن صاحب "تيسير التحرير" (3/116) ذكر أن الإمام أبا حنيفة يقول بتقديم خبر الآحاد على القياس مطلقاً.
أما السرخسي فيقول في "أصوله" (1/341) : (وما خالف القياس، فإن تلقته الأمة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعاً مقدم على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه..) .(3/889)
ترك القياس بخبر حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين.
وكان يفاضل بين ديات [133/أ] الأصابع، ويقسمها على قدر منافعها، فلما روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل) (1) رجع عنه إلى الخبر، وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكر ذلك منكر، ولم يخالفه فيه مخالف، فدل على أنه إجماع عنهم.
وأيضاً: لو كان القياس والقول الخاص مسموعين من النبي - صلى الله عليه وسلم -،
__________
(1) هذا الحديث، وقصة رجوع عمر رضي الله عنه عن رأيه، أخرجهما البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الديات، باب الأصابع كلها سواء (8/93) بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قضى عمر رضي الله عنه في الأصابع، في الإبهام بثلاث عشر، وفي التي تليها باثنتي عشر وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وجد كتاب عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما هنالك من الأصابع "عشر، عشر".
قال سعيد: فصارت الأصابع إلى عشر، عشر.
وحديث عمر بن حزم رضي الله عنه أخرجه النسائي في كتاب القسامة، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له (8/51) وذكر له إسنادين قال عقب السند الأول: "خالفه محمد بن بكار بن بلال". وقال عقب السند الثاني: "وهذا أشبه بالصواب والله أعلم. وسليمان بن أرقم [أحد رواة السند الثاني] متروك الحديث. وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلاً.
ثم ساق بعد ذلك الرواية المرسلة.
وفي الباب عند أبي موسى الأشعري عند أبي داود برقم (4557) والنسائي (8/56) وابن ماجة برقم (2654) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أبي داود برقم (4566،4563،4562) وسنده حسن.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" في كتاب الزكاة، باب زكاة الذهب (1/395-397) ، وصححه، وقال: "هو قاعدة من قواعد الاسلام".(3/890)
لوجب تقديم القول الخاص.
مثاله: أن يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت الأمة جلدت خمسين لرقها، وإذا زنى العبد جلد مائة، فيكون نصه على العبد أولى من القياس.
وكذلك إذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيه، وجب أن يكون الخاص أولى من القياس.
وأيضا: فإن القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين: أحدهما: في ثبوت العلة في الأصل. والثاني: في الحكم في الفرع؛ لأن من الناس من قال: إذا ثبتت العلة في الأصل لا يجب الحكم بها في الفرع، إلا أن يحصل الأمر بالقياس، والاجتهاد في خبر الواحد في ثبوت صدق الراوي، فإذا ثبت صدقه من طريق يوجب الظن، وجب المصير إليه، ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى اجتهاد فيه؛ ولأن طريق ثبوت صدقه في الظاهر أجل من طريق ثبوت العلة؛ لأنه يدل عليه عادته في الزمان الطويل في اتباع الطاعات وتحرز الصدق وتجنب الإثم، فدل هذه العادة على أنه مختار للصدق فيما حدث به، فيكون أولى من طريق العلة.
وأيضاً: فإن الخبر أصل بنفسه، وليس بمقيس على غيره، كما أن الأصول المنصوص عليها والمتفق على حكمها، أصول بأنفسها، غير مقيسة على أغيارها، فإذا كان كذلك، كان (1) موجب الأصل المجمع عليه أقوى من موجب القياس، كذلك موجب خبر الواحد، يكون أقوى من موجب القياس. وليس لهم أن يقولوا: إن العلم وقع لنا بموجب تلك الأصول؛ لأنه لا معتبر بوقوع العلم فيما ذكر؛ لأن موجب العقل في باب الإبا حة ونحوها يدفعه القياس وخبر الواحد، وإن كان موجب
__________
(1) في الأصل: (وكان) .(3/891)
العقل ثابتاً من جهة توجب العلم.
وأيضا: فإن الخبر مما يؤدي إلى العلم، إذا أكثر من يخبر به، والقياس لا يؤدي إلى العلم، وإن كثرت وجوه الشبه فيه، فكان ما يؤدي إلى العلم أقوى مما لا يؤدي إلى ذلك.
واحتج المخالف:
بأن القياس يتعلق [133/ب] بفعله، وهو استدلاله على صحة العلة في الأصل، وصدق الراوي في خبره مغيب عنه، غير متعلق بفعله وثقته، فما هو متعلق بفعله أكثر تنبيهاً مما هو متعلق بغيره، فوجب أن يكون أولى.
والجواب: أن هذا يبطل بعلم الحاكم، فإنه أكثر تنبيهاً من قول الشهود. وعندنا وعند مالك: لا يحكم بعلمه، ويحكم بشهادة الشهود، على أنهما سواء؛ لأنه يستدل على صدق الراوي بما يعلمه من أفعاله الدالة على صدقه، كما أن القياس يستدل [به] على أن صاحب الشريعة حكم في الأصل لمعنى من المعاني، وقصده يكون ثبوت قصد صاحب الشريعة بالنظر في الأمارات الدالة عليه، كثبوت صدق الراوي، ولا فرق بينهما.
واحتج: بأن خبر الواحد يجوز فيه مما يمنع العمل به أربعة أوجه، وهي: كونه منسوخاً، وكونه كذباً، وكون المخبر به فاسقاً، وكونه خطأً، والقياس لا يجوز فيه ما يمنع العمل به، إلا وجه واحد، وهو كونه خطأً.
والجواب: أن ما يوجب فساد الشيء، لا يعتبر فيه بالقلة والكثرة، ألا ترى أن كون الراوي مغفلاً، لما كان مانعاً من قبول خبره، لم يختلف فيه وجود الفسق مع الغفلة وعدم الفسق معها، وإن كان أحد الوجهين أقوى في باب الفسق من الآخر، فإذا كان [كذلك] لم يجز أن يرجح القياس على(3/892)
الخبر لوجود كثرة وجوه الخطأ في الخبر، وقلتها في القياس، وليس هذا بمنزلة ما اعتبرناه من كثرة وجوه الشبه في القياس، أنها توجب ترجيحه على ما قلتّ وجوه الشبه فيه لأن ما يوجب صحة الشيء وثباته، فإنه يقوى بكثرة وجوه الإثبات، ألا ترى أن كثرة الرواة يقوى بها الخبر، ويحصل له بها المزية على ما قلَّت رواته، لما كانا موجبين للثبات والصحة، وإن لم يرجع أحد الخبرين على الآخر في باب الفساد، لكثرة وجوه الفساد.
وجواب آخر وهو: أنه لو كان على الاعتبار بما ذكره، لوجب أن يكون خبر الواحد أولى من القياس المستنبط من الخبر؛ لأنه قد اجتمع فيه خمسة أوجه من جواز ما يمنع العمل به، أربعة منها ما ذكره المخالف في الخبر، والوجه الخامس ما ذكره في القياس، فقد بَانَ بهذا: أن ما اعتبره يؤدي إلى كون الخبر أولى من القياس على القضية التي صار إليها.
واحتج: بأن القياس لا يصح فيه معنى الحقيقة والمجاز والاحتمال، ويصح ذلك في الخبر.
والجواب: أن هذا كله موجود في نص القرآن والسنة المقطوع [134/أ] بها.
واحتج: بأنه يجوز أن يقع الإجماع على موجب القياس، ولا يمنع أن يجمعوا على العمل بخبر الواحد؛ لأن إجماعهم على العمل بموجب الخبر يخرجه عن كونه خبر واحد، ويجعله في حيز التواتر عندكم، لأنهم لا يجمعون إلا على ما قامت به الحجة في الأصل، وعلموا مخبره، وإن ضعف نقله.
والجواب: أن الإجماع إنما يحصل على الحكم الثابت بالقياس، ولا يحصل الإجماع على القياس نفسه، فكيف يكون ذلك موجباً له، إن صح القياس على خبر الواحد؟(3/893)
فصل
وأما أصحاب أبي حنيفة فإن قالوا: يرد خبر الواحد إذا خالف الأصول التي هي نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع، فنحن نوافق على ذلك، إلا أنهم يقولون هذا في المصراة والتفليس والقرعة، وليس فيها شيء من ذلك.
فإن قالوا: يرد إذا خالف قياس الأصول ومعناها. وقولهم بمنزلة قول أصحاب مالك. وقد بينا فساد ذلك.
على أن هذا ليس بمذهب أبي حنيفة (1) ؛ لأنه قال: إذا أكل ناسياً لم يفطر، وكان القياس أن يفطر، ولكن ترك القياس بخبر أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الله أطعمك وسقاك) (2) .
وأوجب الوضوء من نبيذ التمر بخبر عبد الله بن مسعود (3) ، وخالف
__________
(1) سبق أن نقلنا عن كتاب "تيسير التحرير" (3/116) ، أن الإمام أبا حنيفة يقول بتقديم خبر الآحاد على القياس تقديماً مطلقاً.
(2) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذ أخرجه عنه البخاري في كتاب الصوم باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (3/38) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (2/809) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً (3/91) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصيام، باب من أكل ناسياً (1/559) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصيام، باب ما جاء في من أفطر ناسياً (1/535) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصيام، باب فيمن أكل ناسياً (1/346) .
(3) الذي يروى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بالنبيذ، وقد سبق تخريجه.(3/894)
معنى الأصول.
وكذلك انتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة (1) .
__________
(1) خبر القهقهة، الذي يشير إليه المؤلف، رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه عنه الطبراني، كما ذكر ذلك الزيلعي في نصب الراية (1/47) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/246) ، ولفظه: ( ... بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة) .
وهذا الحديث في إسناده ثلاثة رواة متكلم فيهم:
أولهم: "محمد بن عبد الملك الدقيقي"، وثقه النسائي والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو داود: لم يكن بمحكم العقل.
وقال الهيثمي في تعليقه على الحديث: (.. وفيه محمد بن عبد الملك الدقيقي، وبقية رجاله موثقون) .
راجع في ترجمته: "تهذيب التهذيب" (9/317) ، و"الميزان" (3/632) . ثانيهم: "محمد بن موسى بن أبي نعيم الواسطي" قال أبو حاتم: "صدوق".
وقال ابن معين: "كذاب خبيث". وقال مرة أخرى: "ليس بشيء". وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه تفرد به".
راجع ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/637) ، و"الميزان" (4/49) .
ثالثهم: "هشام بن حسان الفردوسي البصري". إمام مشهور. ثقة، الا أن يحيى ابن سعيد يضعفه. وفي حديثه عن الحسن وعطاء مقال. وصفه ابن المديني وأبو حاتم بالتدليس.
انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (1/163) ، و"تهذيب التهذيب" (11/34) ، و"الخلاصة" ص (351) ، و"طبقات الحفاظ" ص (71) ، و"طبقات =(3/895)
وكذلك القسامة حكموا فيها بخلاف القياس بما ذكروه (1) من الأثر.
وعلى أن الخبر الوارد في بعض الأصول، لا يكون إلا مخالفاً للأصول.
ولأن خبر الواحد أصل كغيره من الأصول، فلئن جاز أن تترك الأصول، جاز أن تترك الأصول له، لمساواتها.
فإن قالوا: ما خالف الأصول: أن يكون نفس ما ورد به الخبر موجوداً في الأصول، ومعناه فيه، ولا حكم له، مثل: ترك استعمال القرعة في الحرية في حر وعبد، في أن تنقل الحرية من أحدهما إلى الآخر، لمعنى أن الحرية لا يلحقها الفسخ.
وما خالف قياس الأصول: أن يكون ما ورد به الأثر غير موجود مثله في الأصول، ومن جنسه، ولا حكم له، مثل: نبيذ التمر المطبوخ، الذي ورد الخبر فيه، أو القهقهة في الصلاة، على ما ورد فيه الأثر، غير موجب للوضوء. وإنما يقيس مخالفنا على نبيذ الزبيب، أو يقيس القهقهة على غيرها من المعاني، التي لا تؤثر في الطهارة خارج الصلاة، فيرد به الأمر، فيكون الخبر مقدما عليه.
__________
= المدلسين" لابن حجر الورقة (16/أ) ، و"المغني في الضعفاء" (2/709) ، و"ميزان الاعتدال" (4/295) .
وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني في "سننه" في كتاب الطهارة، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها (1/161-175) ، عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه، وعن أنس، وعن أبي هريرة، وعن عمران بن حصين، وعن جابر رضي الله عنهم، وفي كل حديث مقال يقدح في صحة الحديث، ولولا خوف الإطالة، لتكلمت عن علل كل حديث على انفراد.
ولكن من أراد الاطلاع على ذلك، فلير جع إلى "سنن الدارقطني" في الموضع السابق، وإلى "نصب الراية" (1/48-53) .
(1) في الأصل: (ذكره) .(3/896)
والوجواب: أنه لا فرق بينهما، وذلك أن خبر القرعة، وخبر [134/ب] المصراة وخبر المفلس، خالف قياس الأصول على ما قالوه، كما خالف خبر النبيذ والقهقهة لقياس الأصول. فأما أن يكون أحدهما مخالفا للأصول فلا؛ لأن الأصول هي: الكتاب والسنة والاجماع، وليس واحد منهما يعارض أحد هذه الأخبار، فلا فرق بينهما.
وقد نص أحمد رحمه الله على أن الحديث إذا عارض الأصول سقط.
فقال في رواية يوسف بن موسى (1) في الخبر الواحد: "نستعمله إذا صح الخبر، ولم يخالفه غيره".
فقد نص على استعماله بشرط أن لا يخالفه غيره، فدل على أنه إذا خالفه غيره لم يستعمل، وليس هاهنا ما يطرح له الخبر سوى الأصول الثلاثة، فأما القياس فهو مقدم عليه.
وكذلك قال في رواية أبي الحارث: إذا جاء الحديث الصحيح الإسناد، يقال: هو سنة، إذا لم يكن له شيء يدفعه أو يخالفه.
وكذلك قال في رواية عبد الله: يقال له: سنة، إذا لم يكن له مضاد يخالفه، ولم يكن شيء يدفعه.
__________
(1) في "طبقات الحنابلة" (1/420-421) شخصان بهذا الاسم.
أحدهما: يوسف بن موسى العطار الحربي.
والآخر: يوسف بن موسى بن راشد، أبو يعقوب القطان الكوفي.
وكلاهما من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل الفقهية والحديثية.
لم يذكر للأول تاريخ وفاة. أما الثاني فقد مات سنة (253هـ) .(3/897)
مسألة (1)
خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري
وقد رأيت في كتاب معاني الحديث جمع أبي بكر الأثرم بخط أبي حفص العُكْبَري (2) رواية أبي حفص عمر بن بدر (3) قال: الأقراء الذي يذهب إليه أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه إذا طعنت في الحيضة الثالثة، فقد برىء منها وبرئت منه.
وقال: إذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، فيه حكم أو فرض، عملت بالحكم والفرض، وأَدَنْتُ الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك. فقد صرح القول بأنه لا يقطع به.
ورأيت في كتاب "الرسالة" (4) لأحمد رحمه الله رواية أبي العباس
__________
(1) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (240) .
(2) هو: عمر بن محمد بن رجاء أبو حفص العكبري. حنبلي من الطبقة الثانية. كان موصوفاً بالعبادة والصلاح والكره الشديد للرافضة. حدث عن عبد الله بن الإمام أحمد، كما حدث عن قيس بن إبراهيم الطوابيقي وموسى بن حمدون العكبري.
مات سنة (339) .
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/56) ، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (514) .
(3) هو: عمر بن بدر بن عبد الله أبو حفص المغازلي. سمع من ابن بشار ومن عمر القافلائي بعض المسائل حدث عنه ابن شاقلا وأبو حفص البرمكي وغيرهما. له اختيارات في المذهب الحنبلي، كما له بعض المصنفات.
انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (2/128) .
(4) يحتمل أن تكون هذه الرسالة هي الكتاب المسمى "السنة" للإمام أحمد رحمه الله تعالى، لأنني وجدت النص المشار إليه موجوداً بنصه فيها، إلى قوله: ( ... ونصدقه، ونعلم أنه كما جاء، ولا ننص الشهادة) ص (46) الجزء الأول من =(3/898)
حمد بن جعفر بن يعقوب الفارسي (1) عنه بخط أحمد بن سعيد الشيحي (2) وسماعه فقال: "ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة (3) أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث، كما جاء على ما [روي] ، (4) ، نصدقه (5) ، ونعلم (6) أنه كما جاء ولا ننص الشهادة، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة بصالح عمله ولا بخير أتاه، إلا أن يكون في ذلك حديث، كما جاء، على ما روي، ولاننص الشهادة".
وقوله: "ولا ننص الشهادة"، معناه عندي: -والله أعلم- لا يقطع على ذلك.
وقد نقل أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟!.
وظاهر هذا أنه سوّى فيه العلم والعمل.
__________
= شذرات البلاتين، جمع محمد حامد الفقي، المطبوع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة، سنة 1375هـ-1956م.
(1) الاصطخري. من أصحاب الإمام أحمد، الذين نقلوا عنه مسائل شتى في الفقه والعقيدة. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/24) .
(2) أبو العباس الشامي. حدث عن عبد المنعم بن غليون. وأكثر من مصاحبة عمر البرمكي. كان ثقة مع دين وصلاح. مات ببغداد سنة (406هـ) ، ودفن بباب حرب.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/179) .
(3) في كتاب "السنة" ص (46) : (ولا بكبيرة) .
(4) الزيادة من كتاب "السنة" ص (46) .
(5) في كتاب "السنة" ص (46) : (نصدق به) .
(6) في الأصل: (يعلم) بالمثناة التحتية، والتصويب من "كتاب السنة" ص (46) .(3/899)
وقال في رواية حنبل في أحاديث الرؤية: نؤمن بها، ونعلم أنها حق.
فقطع على العلم بها.
وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من [135/أ] ، أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إن كان شرعاً أوجب العلم. وهذا عندي: محمول على وجه صحيح من كلام أحمد رحمه الله، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال، لا من جهة الضرورة.
والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه:
أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول، فدل ذلك على أنه حق؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولأن قبول الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته؛ لأن عادة خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به، لا (1) تجتمع الأمة على قبوله، وإنما يقبله قوم ويرده قوم، كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت" (2) .
__________
(1) في الأصل: (ولا) والواو هنا لا محل لها؛ لعدم استقامة المعنى بوجودها.
(2) هذا الحديث أخرجه عن عائشة رضي الله عنها البخاري في كتاب الحج باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم.. (2/160) .
وأخرجه مسلم عنها فيه، باب الطيب للمحرم عند الإحرام (2/846) .
وأخرجه عنها أبو داود فيه، باب الطيب عند الإحرام (1/405) .
وأخرجه عنها الترمذي فيه، باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة (3/250) .
وأخرجه عنها النسائي فيه، باب إباحة الطيب عند الإحرام (5/105) .
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الطيب عند الإحرام (2/976) .
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب الطيب عند الإحرام (1/364) .(3/900)
والثاني: أن يخبر الواحد، ويدعي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه منه، فلا ينكره، فيدل على أنه حق، فيصدق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب.
الثالث: أن يخبر النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وهو واحد، فيقطع بصدقه؛ لأن الدليل قد دل على عصمته وصدق لهجته صلى الله عليه [وسلم] .
الرابع: أن يخبر الواحد، ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه منه، فلا ينكر منهم أحد، فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً، لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه؛ لأن الله تعالى خالف بين الطباع وبَايَن بين الهمم.
والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب؛ لأنه واقع عن نظر واستدلال.
وقال إبراهيم النظام (1) : خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا قارنه أمارة (2) .
دليلنا:
أن خبر الواحد لو كان موجباً للعلم؛ لأوجبه على أي صفة وجد، من المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والحر والعبد، والصغير والكبير، كما أن خبر المتواتر لما أوجب العلم، لم يختلف باختلاف صفات المخبرين، بل استوى في ذلك الكفار والمسلمون، والصغار والكبار، والعدول والفساق، فلما ثبت أن خبر الكافر والفاسق والصغير غير موجب
__________
(1) هو: إبراهيم بن سيار بن هاني النظام أبو إسحاق البصري المعتزلي. ابن أخت أبي الهذيل العلاف. له آراء شاذة عرف بها، وتبعه فيها ناس، فسموا بالنظامية. كان ذكياً فصيحاً قيل: انه كان لا يكتب ولا يقرأ.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (6/67) ، و"فضل الاعتزال" و"طبقات المعتزلة" ص (264) ، و"اللباب" (3/316) ، و"النجرم الزاهرة" (2/234) .
(2) هكذا نقل عنه أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد في أصول الفقه" (2/566) .(3/901)
للعلم، دل أن هذا من النوع الذي لا يوجب العلم.
ولأنه لو كان موجباً للعلم لكان الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم وقع العلم بما يخبرون به، واستغنوا عن إظهار المعجزات والأدلة على صدقهم، ولكان لا يحتاج في الشهادات إلى عدد، بل كان الشاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء، وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته، ولكان المدعي على غيره عند الحاكم حقاً أن يصدقه؛ لأن العلم يقع بقوله، وفي كون الأمر بخلاف ذلك دليل (1) على أن خبر الواحد لا يوجب العلم.
فإن قيل: إنما لم يوجب العلم ها هنا [135/ب] ؛ لأنه ليس من الشرعيات وإنما نقول: إنه يوجب العلم فيما كان شرعاً لنا.
قيل: فالشهادة شرع، لأن على الشاهد أن يشهد بما عنده، قال الله تعالى: (وَلاَ تَكْتُمُوا الشهَادَةَ) (2) ، وعلى المشهود عنده: العمل بذلك، ومع هذا شهادة الشاهدين لا توجب العلم.
وأيضاً: لو كان خبر الواحد يوجب العلم، لوجب أن لا يشكك نفسه عنده، كما لا يشككها عند خبر التواتر، فلما ثبت أنه يشكك نفسه عنده، ويجوز عليه الصدق والكذب، ثبت أنه لا يوجب العلم.
ولأنه لو كان يوجب العلم لوجب أن لا ينكر عليه قريش حين أخبرهم: أن الله تعالى قد أسرى به إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، وأنه عرج به إلى السماء؛ لأن العلم قد وقع لهم بما أخبرهم به، فلما أنكروا عليه، وردوا قوله، حتى أتى أبو بكر فأخبروه بما يقول، فقال لهم: إن كان قد قال هذا، فقد صدق. ثبت: أن خبر الواحد لا يوجب العلم.
والمعتزلة: تنكر حديث المعراج، وتقول: إنه منام، ولو كان على ما
__________
(1) في الاصل: (دليلاً) .
(2) (283) سورة البقرة.(3/902)
قالوه، لما أنكروا عليه أنه رأى في المنام هذا، ولأن (1) كل أحد يرى في منامه أعظم من هذا، فلما أنكروا عليه، ثبت: أنه إنما قال لهم ذلك في اليقظة.
وأيضاً: فإن الواحد يجوز أن يكذب لغرض له أو شهوة، أو يخطىء.
فيخبر به، وهذا التجوز يمنع وقوع العلم بصدقه؛ لأنه لا يجتمع التجويز لكذبه [لغرض] ، أو شهوة، والقطع على صدقه.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ) (2) ، دل على أنه لا يقفو ما ليس بعلم، فلما ثبت أنه يقفو خبر الواحد، ثبت أنه متعلق بما هو علم.
وهكذا قال: (إلا منْ شَهِدَ بالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3) ومعلوم أن الله تعالى تعبدنا بنقل خبر الواحد، وتعبدنا بالعمل به إذا ورد، فلما لزم نقله، ولزم العمل به، ثبت: أنه أوجب العلم.
والجواب عن الآية أن التعلق بها من دليل الخطاب، وهذا لا يوجب العلم، على أنا نحملها على العلم الظاهر، أو على مسائل الأصول بدليل ما ذكرنا.
وأما قولهم: لما أوجب على السامع نقله، وعلى المنقول إليه العمل به، ثبت أنه يوجب العلم، فهو باطل بالشهادة، فإنها على هذا الوصف، ومع هذا فلا توجب العلم.
واحتج: بأن الشريعة محفوظة بقوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
__________
(1) في الأصل: (وأن) .
(2) (36) سورة الإسراء.
(3) (86) سورة الزخرف.(3/903)
الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1) ، وهذا يمنع من دخول الكذب والسهو فيها.
والجواب: أن هذا إشارة إلى القرآن، وذلك مقطوع على صحته.
فأما غيره من الأخبار الشرعية فلا، يدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده [136/أ] من النار) (2) ، فلولا خوفه من دخول الكذب، لم يتوعد عليه.
واحتج: بما روي عن علي أنه قال: "ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، إلا أبا بكر، وصدق أبو بكر" (3) . فقد قَطعَ على صدقه وهو واحد.
والجواب: أن الخبر حجة على هذا القائل؛ لأن عنده أن أبا بكر
__________
(1) (9) سورة الحجر.
(2) هذا الحديث قد تعددت طرقه حتى بلغ حد التواتر، وقد أخرجه البخاري في عدة مواضع، منها ما أخرجه في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/37-38) .
وأخرجه مسلم في عدة مواضع أيضاً، منها ما أخرجه في كتاب الإيمان، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/9-10) .
وأخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/287) .
وأخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (5/35-36) .
وأخرجه ابن ماجه في مقدمة "سننه"، باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/13-14) .
وأخرجه الدارمي في مقدمة "سننه"، باب اتقاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والتثبت فيه (1/66-68) .
(3) مضى تخريج هذا الحديث عن على رضي الله عنه ص (868) .(3/904)
وسائر الصحابة سواء في قبول قولهم، وقد أخبر أنه كان يستحلفه، فلو كان العلم يقع به لقول الواحد، لم يستحلفه.
وأما قوله: "وصدق أبو بكر"، فإنما فرق بينه وبين غيره؛ لأن جنبته أقوى؛ لأن صدقه منصوص عليه، فإنه سمي صديقاً.
واحتج النظام: بأنه قد يخبر الرجل بموت أمه وأبيه أو بعض أهله فيقع العلم بصدقه. وقد تخبر القابلة بولادة امرأته، فيقع له العلم بصدقها.
وقد يخبر الإنسان بموت زيد، وهناك أسباب تقتضي مثل ذلك، مثل رؤية المغتسل والجنازة على باب الدار، فيقع العام بذلك، كما يقع بخبر الجماعة الكثيرة (1) .
والجواب: أنا لا نسلم ذلك؛ لأنه قد يخبر الواحد بذلك على سبيل اللّعب والمجون والمبايعة على عوض، وقد وجد ذلك بالبصرة وبخوارزم (2) مع بعض الحكام، وفعله رجل باليمن، لدفع أذية السلطان.
وكذلك الولادة مثل ذلك؛ لأن المرأة قد تستعير الولد وتلتقطه وتدعيه، رغبةً في الزوج وفي ماله، يبين صحة هذا: أنه لو شككنا فيه مشكك، وقفنا في ذلك.
واحتج: بأنه لو لم يقع العلم بخبر الواحد، لم يقع العلم به وإن انظم إليه غيره من الجماعة الكثيرة؛ لأن ما يجوز على الأول من الغلط والكذب
__________
(1) دليل أبي إسحاق النظام هذا، ذكره أبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد" (2/566) باختصار.
(2) "خوارزم" اسم لناحية كبيرة، قصبتها الجرجانية، وهي ولاية عظيمة، متصلة القرى، كثيرة العمارة، تقدر مساحتها بثمانين فرسخاً في مثلها. وقد فتحها المسلمون بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي.
انظر: "اللباب" (1/466) ، و"مراصد الاطلاع" (1/487) .(3/905)
والسهو، يجوز على الثاني والثالث والرابع، ولما حصل العلم بانضمام الجماعة، وجب أن يحصل العلم به.
والجواب: أن الخبر إذا تكرر قويَ في قلوبنا وغلب في ظنوننا صدق المخبرين به، فحينئذ وقع العلم به، وهذا معدوم في الخبر الواحد.
وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يوجبه حال الانفراد، ويوجبه حال الاجتماع، كالشهادة، ولا يقبل شهادة كل واحد من الشاهدين حال الانفراد، ويقبل حال الاجتماع، وكذلك الشاهد واليمين.
مسألة
الخبر المرسل حجة ويجب العمل به (1)
وصورته: أن يترك الراوي رجلاً في الوسط، مثل أن يروي التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يروى تابعي التابعي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا إذا ذَكَر المروى [عنه] ، ولكنه ذِكْر لا يعرف به، [136/ب] وهو أن يقول: أخبرني الثقة عن فلان، أو أخبرني رجل من بني فلان عن فلان، في إحدى الروايتين.
نص عليه رحمه الله في رواية الأثرم قال: إذا قال الرجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمه، فالحديث صحيح. قيل له: فإن قال يرفع الحديث فهو عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قال: فأي شيء؟!.
ونقل الميموني أيضاً: كان يعجب أبو عبد الله رضي الله عنه ممن يكتب
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (250) ، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/323-326) .(3/906)
الإسناد ويَدع المنقطع، وقال: ربما كان المنقطع أقوى إسناداً، قد يكون الإسناد متصلاً، وهو ضعيف، فيكون المنقطع أقوى إسناداً منه، وهو يوقفه، وقد كتبه على أنه متصل.
وقال في رواية الفضل بن زياد: مرسلات سعيد في المسيّب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم (1) لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح (2) ؛ فإنهما يأخذان عن كلٍ.
__________
(1) هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي أبو عمران. أحد أعلام التابعين. رأى جماعة من الصحابة، ولم يصح له سماع منهم. فكان يرسل عن بعضهم. قال الذهبي في الميزان: "استقر الأمر على أن إبراهيم حجة. وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس بحجة" مات بالكوفة سنة (96هـ) وله من العمر تسع وأربعون سنة.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/73) ، و"تهذيب التهذيب" (1/177) ، و"شذرات الذهب" (1/111) ، و"طبقات الحفاظ" ص (29) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/29) ، و"اللباب" (3/220) ، و"ميزان الاعتدال" (1/74) .
(2) هو: عطاء بن أبي رباح أسلم أبو محمد القرشي بالولاء، المكي. أحد أعلام التابعين. كان مفتي مكة ومحدثها. سمع من عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه أبو حنيفة والأوزاعي وابن إسحاق. ولد في خلافة عمر على الأرجح. ومات بمكة المكرمة سنة (114هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/98) ، و"تهذيب التهذيب" (7/199) ، و"شذرات الذهب" (1/147) ، و"طبقات الحفاظ" ص (39) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/513) ، و"ميزان الاعتدال" (3/70) ، و"النجوم الزاهرة" (1/273) .(3/907)
وقال في رواية عبد الله: آخذ بحديث ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة (1) وعمرو بن دينار (2) عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في العبد الآبق إذا جيء به دينار (3) .
__________
(1) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيكَة، واسم أبي مليكة: زهير بن عبد الله أبو بكر، أو أبو محمد القرشي التيمي، المكي. روى عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وغيرهم. وعنه ابنه يحيى وعطاء وغيرها. كان قاضي مكة لعبد الله بن الزبير، كما كان إمام الحرم المكي وشيخه ومؤذنه. مات سنة (117هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/101) ، و"تهذيب التهذيب" (5/306) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (174) ، و"شذرات الذهب" (1/153) ، و"طبقات الحفاظ" ص (41) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/430) ، و"النجوم الزاهرة" (1/276) .
(2) هو: عمرو بن دينار أبو محمد، الجمحي بالولاء، المكي. أحد التابعين روى عن العبادلة وخلق، وعنه السفيانان والحمادان وغيرهم. كان ثقة ثبتاً، قال فيه الذهبي في الميزان: "أما عمرو بن دينار الجمحي، عالم الحجاز، فحجة، وما قيل عنه من التشيع فباطل". مات بمكة سنة (126هـ) .
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (288) طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/171) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/600) ، و"ميزان الاعتدال" (3/260) .
(3) هذا الحديث المرسل أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في باب الجعل في الآبق (8/207-208) قال: (أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضى في الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، كما نقل ذلك الزيلعي في كتابه "نصب الراية" (3/471) ، واللفظ الذي ذكره الزيلعي هو: (قضى في العبد الآبق يؤخذ خارج الحرم بدينار أو عشرة دراهم) .(3/908)
وبهذا قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة (1) ، ومالك (2) والمعتزلة (3) .
وفيه رواية أخرى: ليس بحجة إلا مرسل الصحابة.
أومأ إليه في رواية إسحاق بن إبراهيم، وقد سئل عن حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] مرسل برجال ثَبَت، أحبُّ، إليك، أو حديث عن الصحابة متصل برجال ثَبَت؟ فقال: عن الصحابة أعجب إليّ.
وهذا يدل من قوله على أنه ليس بحجة، إذ لو كان حجة، لم يقدم عليه قول الصحابي؛ لأن من جعله حجة قدمه على قول الصحابي.
وقال مهنا: سألت أحمد رحمه الله عن حديث ثوبان (4) : (أطيعوا قريشاً ما استقاموا لكم) (5) ، قال: ليس بصحيح، سالم بن أبي الجعد (6) لم يلقَ ثوبان.
__________
(1) راجع رأي الحنفية في هذا الموضوع في: "تيسير التحرير" (3/102) ، و"مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/147) .
(2) راجع رأي الإمام مالك هنا في: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي ص (379) .
(3) انظر تفصيل القول عند المعتزلة في الحديث المرسل في كتاب "المعتمد" لأبي الحسين البصري (2/628) .
(4) هو: ثوبان بن بجدد، أبو عبد الله، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه.
روى عنه جبير بن نفير الحضرمي، وأبو إدريس الخولاني وخلق.
خرج بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، فنزل "الرملة" ثم انتقل إلى "حمص"، وبها مات سنة (54هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/218) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (413) طبعة دار نهضة مصر.
(5) هذا الحديث أخرجه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" حكى ذلك الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (5/195) ، وقال بعد ذلك: (ورجال الصغير ثقات) .
(6) هو: سالم بن أبي الجعد رافع، الأشجعي بالولاء، الكوفي. روى عن ثوبان =(3/909)
فقد حكم ببطلان الحديث، لأجل أنه مرسل. وبهذا قال الشافعي.
وجه الرواية الأولى:
قوله تعالى: (وَليُنْذرُوا قَوْمَهمْ إذَا رَجَعُوا إليْهِمْ) (1) ، ولم يفرق بين من أنذر بمرسل أو بمسند.
ولأن من عادة التابعين إرسال الأخبار، من ذلك ما روي عن الأعمش (2) أنه قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني فأسند، فقال: إذا قلت لك: حدثني فلان عن عبد الله، فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك: قال عبد الله، فقد حدثني جماعة عنه.
وروي ذلك عن الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي (3) ، وإذا كان
__________
= وعلي بن أبي طالب وخلق. وعنه قتادة وعمرو بن دينار والأعمش وغيرهم.
وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة وابن سعد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
مات سنة (100هـ) .
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (3/432) ، و"التاريخ الصغير" (1/211) ، و"جامع التحصيل" للحافظ العلائي ص (391) ، رسالة "ماجستير" تحقيق الدكتور عمر حسن عثمان.
(1) (122) سورة التوبة.
(2) هو: سليمان بن مهران، أبو محمد، الأعمش، الكاهلي بالولاء، الكوفي، أحد العلماء المشهورين. روى عن عكرمة وإبراهيم النخعي وأبي عمرو، الشيباني وغيرهم. وعنه شعبة والسفيانان وغيرهم. مات سنة (148هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/3) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/154) ، و"الخلاصة" ص (131) ، و"شذرات الذهب" (1/220) ، و"طبقات القراء" للذهبي (1/88) ، و"العبر" (1/209) ، و"غاية النهاية" (1/315) ، و"ميزان الاعتدال" (2/224) .
(3) هو: عامر بن شراحيل أبو عمرو الشعبي الكوفي من أعلام التابعين. روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وغيرهم. وعنه الأعمش وأشعث بن سوار وأبو =(3/910)
معروفاً من عاداتهم، فلو كان عندهم أنها غير مقبولة، كانوا قد ضيعوا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعل، وهذا لا يجوز.
ولأن المرسِل للخبر مثبت لعدالة راويه من وجهين:
أحدهها: أنه لا يجوز [137/أ] أن يحدثه، ويكتم اسمه، ثم يحدث به غيره، فيلزمه قبوله.
والثاني: أنه لو أرسل عن غير ثقة، كان قد قطع على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، بقول من هو كذاب عنده، وهذا فعل ممنوع منه وإذا كان ذلك تعديلاً له، لم يعتبر جواز أن يجرحه غيره لو ظهر اسمه، يدلل عليه: أن من زكاه الحاكم، فله أن يقضي بشهادته، ولا يراعي جواز جرحه أن لو نادى في البلد باسمه، أو كاتب به إلى البلدان التي تقرب منه، فَبانَ أن تعديله، موجب قبول خبره، ولهذا جعل أحمد رحمه الله رواية العدل عن غيره تعديلاً للغير، فقال في كتاب العلل للأثر [م] : إذا روى عبد الرحمن (1) عن رجل، فروايته عنه حجة.
__________
= حنيفة وغيرهم. ولد لست سنين مضت من خلافة عمر. ومات سنة (103هـ) ، أو سنة (104هـ) ، أو سنة (107هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (12/229) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/79) ، و"تهذيب التهذيب" (5/65) ، و"شذرات الذهب" (1/126) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/350) ، و"اللباب" (2/21) ، و"النجوم الزاهرة" (1/253) .
(1) المراد به: عبد الرحمن بن مهدي، كما يأتي التصريح بذلك ص (934) وهو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي الحافظ الثقة. روى عن شعبة ومالك والسفيانين وغيرهم. وعنه الإمام أحمد وإسحاق وابن المدينى وآخرون. قال فيه ابن المديني: "كان أعلم الناس". مات بالبصرة سنة (198) ، وله من العمر ثلاث وستون سنة. =(3/911)
وقال أيضاً في رواية أبي زرعة الدمشقي (1) : مالك بن أنس إذا روي، يعني عن رجل لا يعرف، فهو حجة.
فإن قيل: هذا لا يدل على عدالته، كما لم يدل شاهدي الفرع على [عدالة] شاهدي الأصل.
قيل: الفرق بين الشهادة والخبر باقٍ (2) .
فإن قيل: يحتمل أن يعرف جرحه غيره، فوجب تسميته؛ ليقف عليه.
قيل: فيجب أن يلزم الحاكم تسمية الشاهدين الذين حكم بهما، لهذا المعنى، ولأن حاكماً لو حكم بشهادة شاهدين لم يسمهما، لم يجز لأحد أن يعترض على حكمه؛ لأجل تركه تسمية الشهود، وكان أمرهم محمولاً على الجواز والعدالة في الشهادة، فلأن يكون كذلك فيما طريقه الاخبار أولى؛ لأن الأمر فيها أوسع.
ولأن مرسل الصحابي مقبول، وكل معنى منع من قبول مرسل التابعين
__________
= له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/244) ، و"تاريخ بغداد" (10/240) ، و"تذكرة الحفاظ"، (1/129) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (199) ، و"شذرات الذهب" (1/355) ، و"النجوم الزاهرة" (2/159) .
(1) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري أبو زرعة الدمشقي.
شيخ الشام في عصره. ثقة حافظ. روى عن أحمد بن حنبل وأبي نعيم وأبي مسهر وغيرهم. وعنه أبو داود والطبراني والطحاوي وغيرهم مات بدمشق سنة (281 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/624) ، و"تهذيب التهذيب" (6/236) ، و"شذرات الذهب" (2/177) ، و"طبقات الحنابلة" (1/205) ، و"طبقات الحفاظ" ص (266) ، و"النجوم الزاهرة" (3/87) .
(2) في الأصل: (باقي) .(3/912)
فهو مأخوذ في مرسل الصحابة، وقد ثبت أن الصحابي أو التابعي لو قال: أخبرني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا، فهو بمنزلة المسند، وكذلك إذا قال التابعي: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يجب أن يكون مثله.
وقد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين: حدثني رجل من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فالحديث صحيح؟ قال: نعم.
فإن قيل: الصحابي معلوم عدالته، بأن الله تعالى عدله وزكاه وأخبر عن إيمانه، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه.
قيل: قد شهد النبي [صلى الله عليه وسلم] للتابعين، كما شهد للصحابة فقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (1) ، وليس من شرط قبول الخبر أن يكون ممن يقطع على عدالته، وإنما تعتبر عدالته في الظاهر، وهذا المعنى موجود في التابعين ومن بعدهم، فيجب أن يتساووا في النقل.
وأيضاً: فإن الشافعي قد قال: إن كان الظاهر من حال المرسِل الثقة من التابعين، أن ما يرسله مسنداً عند غيره، قُبِل منه.
وهذا لا معنى له [137/ب] لأن القبول منه: إن كان لأجل إسناد
__________
(1) هذا الحديث رواه عمران بن حصين رضى الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في أول كتاب فضائل الصحابة (5/2) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (4/1964) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الفن، باب ما جاء في القرن الثالث (4/500) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب السنة، باب في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2/518) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر (7/17) .(3/913)
غيره فالمرجع إلى المسند، وما سماه مرسلاً، فليس بمرسل في الحقيقة.
وإن كان يقول: إن إسناد غيره يوجب قبول مرسَله، مع جواز أن يكون مرسلاً، فهو قول بعيد، إذا كان يمنع قبولَ المراسيل، ويلزمه أن لا يعتبر ظاهر أمره مع الجواز، كما لا يعتبر ظاهر تعديله مع جواز أن يكون غير عدل.
وقال أيضاً: المرسَل مقبول، فيمن وجد أكثر مراسيله أصول في الأسانيد.
وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأن وجود ذلك في أكثر مراسيله، لا يمنع أن يكون قد أرسل، فالواجب: أن يعتبر ذلك في كل خبر بعينه.
وقال أيضاً: المراسيل تقبل، إذا عمل بها بعض الصحابة.
وهذ ليس بشيء؛ لجواز أن يكون القائل قد سمعه بنفسه، أو يكون من مذهبه قبول المراسيل.
وقال أيضاً: المرسل يعمل به إذا أفتى به عوام العلماء.
وهذا أيضاً ليس بشيء؛ لأنه أراد جميع الأمة، وأن إجماعها على قبول المرسل، لا ركون مع اختلافهم في حكمه، وإنما الواجب: أن يكون بعضهم قبله؛ لصحة المراسيل عنده، والباقون، لأنه مسند عندهم، فيخرج أن يكون مرسلاً في الحقيقة.
فإن أرادوا (1) به أكثر العلماء، فإن خلاف الواحد معتدّ به، فلم يجز أن يستدل به على صحة قبول الخبر.
ولأنه قد قال في مراسيل ابن المسيب: إنها مقبولة، لأنه وجد مراسيله مسانيد، وهذا صحيح فيما قد وقف على أنه مسند، فأما ما لم يوقف على
__________
(1) الأولى الخطاب بالإفراد، لأن الكلام لا زال مع الإمام الشافعي رحمه الله.(3/914)
حاله، فلا يجوز أن يحكم به؛ لأنه وجد إسناداً لغيره، وكان التجويز فيه موجوداً، ولا يجوز أن يقال: إنه خص مرسل ابن المسيب؛ لأنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ لأن هذا الاعتقاد في حسن الظن بابن المسيب معتبر في غيره.
فإن قيل: ما ذكرتموه، إنما أراد به الشافعي قوته في الترجيح، لا إثبات الحكم به.
قيل: الترجيح لا يجوز بما لا يثبت به حكم، فإن كان يريد إثبات الحكم بالمرسل الذي قاربه قياس أو قول صحابي، فالحكم عنده للقياس لا للاستدلال.
واحتج المخالف:
بأن هذا خبر عمن شرطت عدالته في في قبوله، والعدالة مجهولة، فلم يجز قبوله والعلم به، قياساً على شاهدي [الفرع] إذا لم يسميا شاهدي الأصل.
والجواب: أنا لا نسلم أن العدالة مجهولة؛ لما بينا: أن رواية العدل عنه تدل (1) على عدالته.
ثم الفرق بين الخبر والشهادة من وجوه:
أحدها: أن الشهادة على الشهادة تفتقر إلى الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد (2) الأصل لشاهدي الفرع: اشهدا على شهادتي [138/أ] فلما افتقرت إلى الاسترعاء، افتقرت إلى تسمية الأصل، وليس كذلك الإخبار؛ لأنه لا يفتقر إلى استرعاء، بل إذا سمع منه حديثاً، جاز نقلة والعمل عليه، وإن لم يقل: اسمع مني.
__________
(1) في الأصل: (يدل) .
(2) في الأصل: (اشهدا) بالتثنية.(3/915)
ولأن المشهود على شهادته يكون كالمحكوم عليه، ألا ترى أن من الفقهاء من يوجب عليه الضمان، ولما لم يجب الحكم على من ليس بمعين، لم يجز قبول شهادة شهود الفرع، حتى يذكروا أسماء شهود الأصل، ولما كان هذا المعنى معدوماً في الخبر، وأنه لا تعلق للخبر الثاني بالأول، لم يجز أن يحمل الخبر على الشهادة.
ولأن الشهادة أكدت باعتبار العدد والحرية والذكورية، وأن يكون ذاكراً لما شهد به، فجاز أن تعتبر تسمية شهود الأصل؛ لتأكيد الأمر فيها، والخبر بخلاف ذلك.
ولأنه لو قال نفسان من التابعين: أشهدنا اثنان من الصحابة على شهادتهما، لم يجز حتى يعيناهما، وفي الخبر يجوز عند الجميع، فدل على الفرق بينهما.
فإن قيل: أليس مع افتراقهما من هذه الوجوه قد تساويا في اعتبار العدالة في كل واحد منهما؟
قيل: فالعدالة موجودة مع الإرسال من الوجه الذي بينّا، وهو أن إرسال التابعي له، تزكيه له.
وعلى أن تساويهما في العدالة لم يمنع افراقهما من الوجوه التي ذكرناها، فدل على أن الشهادة آكد. وإنما كان حكم الشهادة آكد من الخبر من الوجوه التي ذكرناها: أن الشهادة حكم على الغير، فالتهمة تلحق، والخبر يشترك فيه المخبِر والمُخْبَر، فالتهمه لا تلحق.
واحتج: بأن الجهل بعين الراوي أكثر من الجهل بصفته؛ لأن من جهلت عينه، جهلت عينه وصفته، ثم ثبت: أنه لو كان معروف العين مجهول الصفة، مثل أن يقول: أخبرني فلان، ولا أعرف أثقة هو أم غير ثقة؟ لم يقبل خبره، فبأن لا يقبل خبره، إذا لم يذكره أصلاً أولى.(3/916)
والجواب: أنا لا نسلم أن صفته مجهولة؛ لأن رواية العدل عن رجل تعديل له؛ لما بينا، وهو أنه لا يجوز في حقه أن يروى عن فاسق.
وقد قيل: إنه إذا كان فلان معروفا بالإسلام، فإنه يقبل خبره؛ لأن ظاهر أمره العدالة وترك مواقعة المحظور، وجواز أن كون فَعَل ما يوجب جرحاً في شهادته غير معلوم، فلم يكن في معرفة عدالته أكثر من عدم العلم بجرحه.
فإن قيل: تقبل شهادته، وإن لم يبحث عن عدالته للمعنى الذي ذكرت.
قيل: تقبل شهادته في إحدى الروايتين، فعلى هذا لا فرق، ولا نقبلها في الأخرى احتياطاً للشهادة، كما احتطنا لها من الوجوه التي ذكرنا.
واحتج: [138/ب] بأن الخبر ضربان: آحاد وتواتر، ثم ثبت أن الراوي لو روى حديثاً، وذكر أنه من أخبار التواتر، لم يقبل قوله: إنه متواتر، حتى يعرف أنه متواتر، كذلك إذا قال: أخبرني الثقة أن لا يقبل خبره، حتى تعلم ثقته؛ لجواز أن لا يكون ثقة عند المخبر.
والجواب: أن الخبر المتواتر ما استوى طرفاه ووسطه في عدد يقع العلم بخبرهم، وتسكن النفس إليهم في العادة، وهذا لا يؤخذ بقول الواحد: هذا متواتر، وليس كذلك أخبار الآحاد، فإن طريقها يقبل العدل عن العدل، وهذا موجود ها هنا.
فصل (1)
إذا ثبت أن المرسل حجة، فلا فرق بين مرسل عصرنا ومن تقدم.
هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني؛ لأنه قال: ربّما كان
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (251) .(3/917)
المنقطع أقوى إسناداً من المتصل، ولم يفرق (1) .
وحكي عن عيسى بن أبان أنه قال: ومن أرسل من أهل عصرنا حديثاً، فإن كان من الأئمة الذين حمل عنهم أهل العلم، فإن مرسَله مقبول، كما يقبل مسنَده، ومن حمل الناس عنه المسنَد دون المرسَل، فإن مرسَله موقوف (2) .
وقال أبو سفيان: مذهب أصحابنا: مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين مقبولة.
وحكي عن الكرخي: أنه لم يفرق بين أهل سائر الأعصار (3) . وهو اختيار الجرجاني.
__________
(1) تعقبه الشيخ ابن تيمية في "المسودة" ص (251) بقوله: (قلت: ما ذكره القاضي وابن عقيل أن مرسل أهل عصرنا مقبول كغيره، ليس مذهب أحمد، فإنا نجزم أنه لم يكن يحتج بمراسيل محدثي وقته وعلمائهم، بل يطالبهم بالإسناد. نعم المجتهدون في الحديث الذين يعرفون صحيحه وضعيفه، إذا قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، واحتج بذلك، فهذا نعم، كتعليق البخاري المجزوم به.
وبحث القاضي يدل على أنه: أراد بالمرسل من أهل عصرنا ما أرسله عن واحد، فهذا قريب بخلاف ما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن سقوط واحد أو اثنين، ليس كسقوط عشرة، وحجته لا تتناول إلا ما سقط منه واحد، فإنه قال: المرسل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار) .
(2) نقل ذلك عنه أبو بكر السرخسي في "أصوله" (1/363) ، والكمال ابن الهمام في "تحريره" (3/102) مطبوع مع شرحه "تيسير التحرير"، وابن عبد الشكور في كتابه "مسلم الثبوت" مع شرحه "فواتح الرحموت" (2/174) .
(3) نقل ذلك عن الكرخي أبو بكر السرخسي في "أصوله": (1/363) .(3/918)
دليلنا:
أن المرسِل إذا كان ثقة، فظاهره أن الذي أرسل عنه عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار.
ولأن الناقل إذا ثبتت عدالته، فهو كالعدل من العصر الأول في قبول خبره، فيجب أن يكون فيما يرسله كذلك.
ولأنه لا معنى لاعتبار حمل الناس عنه؛ لأن توقفهم في النقل عنه إن كان بمعنى يعود إلى عدالته، فإن مرسَله ومسنَده واحد، وإن كان بمعنى ركود إلى إرسال الخبر، فإن وقوف من لا يرى نقل المراسيل فيه، لا يوجب التوقف فيمن يرى ذلك، كالشافعي.
واحتج المخالف:
بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على القرون الثلاثة، فحالتهم أوكد ممن بعدهم (1) ، فقد قال: (إن الكذب يفشو فيهم) (2) ، فوجب التوقف في مرسله، إلا أن ينضم إليه نقل أهل العصر له.
والجواب: أن ثناءه على التابعين وتابعيهم، لم يوجب لهم القطع،
__________
(1) في الأصل: (من بعدهم) .
(2) هذا جزء من حديث رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الشهادات، باب منه، أي: مما جاء في شهادة الزور (4/549) ، ولفظه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب، حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف الرجل، ولا يستحلف") .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد (2/791) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/18) .(3/919)
ولم ينفِ عنهم في تجويز الفسق، بخلاف الصحابة، ومع هذا فقد جاز قبولُ إرسالهم بَعد التهم في الظاهر، كذلك من بعدهم؛ لأن الخبر إنما يعتبر فيه العدالة في الظاهر. [139/أ]
فصل
فيه كلام الإمام أحمد رحمه الله في ترجيح المراسيل بعضها على بعض.
نقلته من كتاب "العلل" للخلال من الجزء الحادي والسبعين منه، فقال في رواية أبي الحارث: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا يرى أصح من مرسلاته، فأما الحسن وعطاء، فليس بذلك، هو أضعف المرسلات (1) ، كأنهما كانا يأخذان من كلٍ.
وقال في رواية الفضل بن زياد [أما] مرسلات عطاء، ففيها شيء (2) .
وأما ابن سيرين فما أحسن كل مخرجه أيضاً. ومرسلات سعيد بن المسيب أصح.
المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها. وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، كأنهما كانا يأخذان من كل.
وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ قال: مرسلات سعيد بن جبير أقرب، وهي أحب إلىّ من مرسلات عطاء.
وسأله عن مرسلات سعيد بن جبير أحب إليك أم مرسلات مجاهد (3) ؟
__________
(1) في الأصل: (المراسلات) .
(2) في الأصل: (ففيه شيء) .
(3) هو: مجاهد بن جبر، أبو الحجاج، المكي، المخزومي بالولاء، أحد أئمة التفسير روى عن أبي هريرة وجابر وأم سلمة وغيرهم، رضي الله عنهم، =(3/920)
فقال: مرسلات سعيد.
وسأله عن مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات عطاء؟ فقال: مرسلات مجاهد، لأن عطاء روى عمن هو دونه، ومجاهد لم يرو عمن هو دونه.
وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات عطاء فيها شيء.
وقال في رواية مهنا وقد سأله عن مرسلات طاوس أحب إليك أو مرسلات أبي إسحاق (1) ؟ قال: مرسلات طاوس.
وسأله عن مرسلات إسماعيل بن أبي خالد (2) أحب إليك أم مرسلات
__________
= وروى عنه قتادة وعطاء وعكرمة وخلق. ولد سنة (21 هـ) ، ومات بمكة سنة (102 هـ) أو (103 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/92) ، و"تهذيب التهذيب" (10/42) ، و"الخلاصة" ص (315) ، و"شذرات الذهب" (1/125) ، و"العبر" (1/125) ، و"غاية النهاية" (2/41) ، و"ميزان الاعتدال" (3/435) .
(1) هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد، أبو إسحاق السبيعي، الهمداني الكوفي. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه. روى عن علي بن أبي طالب والمغيرة ابن شعبة رضي الله عنهما كما روى عن خلق آخرين. وروى عنه قتادة والأعمش والثوري وغيرهم. مات سنة (108 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/114) ، و"تهذيب التهذيب" (8/63) ، و"الخلاصة" ص (246) ، و"شذرات الذهب" (1/174) ، و"طبقات الحفاظ" ص (43) .
(2) أبو عبد الله البجلي، الأحمسي بالولاء، الكوفي، الحافظ. سمع من ابن أبي أوفى وأبي جحيفة وطارق بن شهاب وآخرين. وحدث عنه شعبة والسفيانان ويحيى القطان وغيرهم. مات سنة (146 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/153) ، و"تهذيب التهذيب" (1/291) ، و"الخلاصة" ص (28) ، و"طبقات الحفاظ" ص (66) ، و"العبر" (1/203) .(3/921)
عمرو بن دينار؟ فقال: إسماعيل بن أبي خالد لا يبالي (1) عمن حدث، عن أشعث بن سوار (2) وعن مجاهد، وعمرو، بن دينار لا يروي إلا عن ثقة، مرسلات عمرو أحب إليّ.
وسأله أيما أحب إليك، إبراهيم عن علي، أو مجاهد عن علي؟ قال: إبراهيم عن علي؛ لأن هذا كان مقيماً، وكان مجاهد إنما تقع إليهم الأخبار إلى الكوفة.
وقال في رواية أبي الحارث وقد سأله عن مرسلات النخعي، قال: ما أصلحها ليس بها بأس، أصلح من مرسلات الحسن.
وسأله مهنا: لم كرهت مرسلات الأعمش؟ قال: كان الأعمش لا يبالي عمن حدث. قيل له: فإن له رجلاً ضعيفا (3) غير إسماعيل بن مسلم (4) ويزيد الرَّقاشي (5) ؟ قال: نعم، كان يحدث عن عتاب بن إبراهيم.
__________
(1) في الأصل: (لا يبال) .
(2) الكندي التوابيتي، الأفرق، الأثرم الثقفي بالولاء، الكوفي. روى عن الحسن البصري والشعبي وعكرمة وخلق. وعنه أبو إسحاق السبيعي وشعبة وخلق. وهو راوٍ ضعيف. وقد أخرج له مسلم متابعة. مات سنة (136 هـ) .
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (1/352) ، و"الخلاصة" ص (38) بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/91) .
(3) في الأصل: (رجل ضعيف) .
(4) أبو إسحاق، المكي، البصري. روى عن الشعبي والزهري وقتادة وغيرهم.
وعنه الأعمش والسفيانان وغيرهم. وهو راوٍ ضعيف عندهم، حتى قال النسائي فيه: "متروك".
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (1/331) ، و"الخلاصة" ص (36) بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/87) ، و"ميزان الاعتدال" (1/248) .
(5) هو: يزيد بن أبان أبو عمرو الرقاشي البصري. روى عن أنس والحسن وغيرهما. =(3/922)
وسأله أيضاً عن مرسلات الأعمش، وسليمان النخعي (1) ، ويحيى ابن أبي كثير (2) ؟ قال: مرسلات يحيى بن أبي كثير أحب إليّ.
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله عن مراسيل يحيى بن أبي كثير؟ فقال: لا تعجبني؛ لأنه يروي عن رجال صغار ضعاف.
وقال في رواية أبي طالب [139/ب] ، وقد سأله عن رجل ما قال الحسن: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، وجدناه من حديث أبي هريرة وعائشة ُوسَمُرة (3) ، قال. صدق.
__________
= وعنه حماد بن سلمة ومعتمر بن سليمان وجماعة. وهو راوٍ ضعيف. قال فيه النسائي: "متروك". وقال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به".
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (11/311) ، و"الخلاصة" ص (430) ، بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/747) ، و"ميزان الاعتدال" (4/418) .
(1) هو: سليمان بن عمرو، أبو داود النخعي. قال أحمد: "كان يضع الحديث"، وقال البخاري: "متروك".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/282) ، و"ميزان الاعتدال" (2/216) .
(2) هو: يحيى بن أبي كثير صالح بن المتوكل، أبو نصر اليمامي، الطائي بالولاء.
روي عن أنس وعكرمة وغيرهم. وعنه ابنه عبد الله والأوزاعي وغيرهما. قال فيه أحمد: "من أثبت الناس، إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد" مات سنة (129 هـ) .
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/34) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/128) ، و"تهذيب التهذيب" (11/268) ، و"الخلاصة" ص (367) ، و"طبقات الحفاظ" ص (51) ، و"العبر" (1/169) .
(3) هو: سمرة بن جندب بن هلال بن جريج، أبو عبد الرحمن، الفزاري صحابي جليل. كان من الحفاظ المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى عنه الحسن والشعبي وغيرهما. نزل "البصرة"، وبها مات، سنة (58 هـ) .(3/923)
وقال في رواية مُهَنَّا، وقد سأله: هل شيء يجيء عن الحسن؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو صحيح، ما نكاد نجدها إلا صحيحة.
وقال في رواية أبي الحارث: مرسلات ابن سيرين صحاح حسنة المخرج.
وقال في رواية مُهَنَّا. وقد سأله عن مرسلات سفيان (1) ، فقال: كان سفيان لا يبالي عمن روي.
وسأله عن مرسلات مالك بن أنس، قال: هي أحب إليّ.
فصل
ولا يقبل الخبر حتى في تجتمع في ناقله شرائط خمس:
أحدها: أن يكون عاقلاً، ليعرف ما ينقل، ويميّز خبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وخبر غيره.
__________
= له ترجمة في: "الاستيعاب" (2/653) ، و"الإصابة" القسم الثالث ص (178) طبعة دار نهضة مصر، و"تهذيب التهذيب" (4/236) ، و"الخلاصة" ص (156) طبعة بولاق.
(1) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله، الثوري، الكوفي. روى عن أبيه وجعفر الصادق وأيوب وخلق. وعنه ابن المبارك ويحيى القطان وغيرهما.
قال فيه شعبة: "أمير المؤمنين في الحديث". ولد سنة (97 هـ) ، ومات بالبصرة سنة (161 هـ) .
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (1579) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/203) ، و"تهذيب التهذيب" (4/111) ، و"الخلاصة" ص (123) ، و"شذرات الذهب" (1/250) ، و"طبقات المفسرين" للداودي (1/186) ، و"غاية النهاية" (1/308) .(3/924)
والثاني: أن يكون عدلاً في الظاهر؛ لقوله تعالى: (إنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بنبَإ فَتَبَينوا أن تُصيبوا قَوْماً بجهَالَة) (1) الآية، إذا لم يكن عدلاً، لا يؤمن أن يكذب فيما ينقل؛ لأن من ارتكب الفاحشة ارتكب أن يكذب فيما ينقله.
وقَد قال أحمد رحمه الله في رواية أحمد بن الحسين (2) : لا يكتب الحديث عمن يسكر.
وقال في رواية إبراهيم وسندي (3) ، واللفظ لسندي، في الرجل يعرف بالكذب في الشيء، يحدث به القوم، فليس نعرف منه الكذب في الرواية: كيف يؤمن هذا على الرواية، أن يكذب فيها، إذا عرف منه الكذب في شيء؟!.
وإذا ثبت: أن العدالة شرط، فإن كل من أتي بكبيرة، فهو فاسق، حتى يتوب. وكل من أتي بصغيرة، ليس بفاسق، ومن تتابعت منه الصغائر، وكثرت، رد خبره وشهادته.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الصقر (4) في الصلاة خلف آكل الربا: إن كان أكثر طعامه الربا، لم تصل خلفه. فاعتبر الكثرة في ذلك؛
__________
(1) (6) سورة الحجرات.
(2) الترمذي، وقد سبقت ترجمته.
(3) أبو بكر. الخواتيمي، البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد، وممن نقل عنه مسائل صالحة.
له ترجمة في: "الإنصاف" (12/286) ، و"طبقات الحنابلة" (1/170) .
(4) هو: يحيى بن يزداد، أبو الصقر، أحد أصحاب الإمام أحمد. نقل عن الإمام أحمد جزءاً، فيه مسائل حسان، في الحِمَى والمساقاة والمزارعة والصيد واللقطة، وغير ذلك.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/409) .(3/925)
لأنا لو لم نقبل إلا من محّض الطاعة، لم يقبل أحد؛ لأن أحداً لا يمحض الطاعات، حتى لا يشق بها المعصية. يدل عليه قوله تعالى: (وعَصَى آدَمُ رَبهُ فَغَوَى) (1) ، وأراد بالغي: وضع الشيء في غير موضعه. قال تعالى -في قصة داود-: (أنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفر رَبهُ وَخَر رَاكِعاً وَأَنَابَ) (2) ، فأخطأ، وتاب الله عليه.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من أحد إلا عصى أو هَم بمعصيه إلا يحيى بن زكريا) (3) ، فثبت: أن الأنبياء لم يسلموا من الخطأ والمعاصي، ولو قبلنا كل عاص، لم نرد أحداً، وقد أمرنا برد الفاسق، وإنفاذ العدل، فلم يكن بد من تفصيل بينهما، فكان الفصل بينهما ما ذكرنا.
فأما من ثبت كذبه، فإنه يرد خبره وشهادته، وإن لم يتكرر ذلك منه.
__________
(1) (121) سورة طه.
(2) (24) سورة ص.
(3) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (4/2292) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وتمام الحديث عنده: ( ... وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، عليه السلام) .
وقد ذكره ابن كثير في "تفسيره" في تفسير سورة "مريم" (3/114) ثم قال: ( ... وهذا أيضاً ضعيف، لأن "علي بن زيد بن جدعان" له منكرات كثيرة) .
وذكر الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (8/209) ، واقتصر على لفظ المؤلف، مع اختلاف بسيط، ثم قال: ( ... رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وزاد: "فإنه لم يهم بها، ولم يعملها" والطبراني وفيه "علي بن زيد"، وضعفه الجمهور، وقد وثق، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
وقد خالف الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- الجمهور - فوثق "علي بن زيد" في تعليقه على "المسند" (4/2292) .
وانظر "الدر المنثور" (4/262) .(3/926)
وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية علي بن سعيد (1) في الرجل يكذب كذبةً واحدةً: لا يكون في موضع العدالة، الكذب شديد.
وكذلك نقل ابن منصور: أنه قال لأبي عبد الله [140/أ] : متى يترك حديثه؟ قال: إذا كان الغالب عليه الخطأ، قال له: الكذب من قليل وكثير؟ قال: نعم.
ونقل أحمد بن أبي عبيدة (2) عنه في الرجل يكذب، فقال: إن كثر كذبه، لم تصل خلفه.
وظاهر هذا: أنه لا يخرج من العدالة بكذبة واحدة.
وهذا على ظاهره فيما سئل عنه من صحة إمامته [أما] في الخبر والشهادة فلا؛ لأن الحاجة في الخبر إلى صدق المخبِر ومن ظهر منه ذلك أولى بالردّ ممن جعلت (3) أمارة رده المعاصي، التى يسمى بها فاسقاً.
ويدل عليه ما روى إبراهيم الحربي في كتاب النهي عن الكذب بإسناده عن موسى الجندي قال: رد النبي [صلى الله عليه وسلم] شهادة رجل في كذبة كذبها.
وبإسناده عن يحيى بن سالم (4) قال: اطلع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، من وافد
__________
(1) النسوي، تقدمت ترجمته.
(2) هو: أحمد بن أبي عبدة -هكذا بالتكبير- أبو جعفر الهمداني. من أصحاب الإمام أحمد الذين أخذوا عنه، وماتوا قبله. قال فيه الإمام أحمد: "ما عبر هذا الجسر أنصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أحمد بن أبي عبدة". قال الخلال: يعني: جسر النهروان.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/84) .
(3) في الأصل: (جمعت) .
(4) الكوفي. يروى عن إسرائيل. قال الدارقطني: "ضعيف". =(3/927)
قوم على كذبة فقال له: (لولا سخاء فيك، ومدحك الله عليه؛ لشردتك من وافد قوم) .
ولقد نقلة له أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد الحلبي (1) قال: سألت أحمد بن حنبل رحمه الله عن محدث كَذَب في حديث واحد، ثم تاب ورجع، قال: توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يكتب عنه حديث أبداً (2) .
وسألت قاضي القضاة أبا عبد الله الدامغاني (3) [عن ذلك] فقال: يقبل حديثه المردود وغيره، بخلاف الشهادة، إذا ردت، ثم تاب، لم يقبل
__________
= ونقل ابن حجر في "اللسان" أن ابن حبان ذكر في كتابه "الثقات" رجلاً آخر بهذا الاسم، يروى عن ابن عمر، وعنه روى الأعمش وفطر بن خليفة.
وقد ظهر لابن حجر أن الأخير غير الأول، وعلل ذلك بقوله: (فإن ليحيى ابن سالم الراوي عن إسرائيل ذكرا في ترجمة أشعث بن عمر بن الحسن بن صالح بن حي، وهو متأخر الطبقة عمن يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما) .
انظر ترجمته في "لسان الميزان" (6/257) ، و"ميزان الاعتدال" (4/377) .
(1) من أصحاب الإمام أحمد، سمع منه ومن عبيد الله بن عمرو الرقي. كانت عنده مسائل كبار، يغرب بها على أصحاب أحمد.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/197) .
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/198) عند ترجمته لعبد الله بن أحمد الحلبي.
(3) هو: محمد بن علي بن محمد بن الحسين أبو عبد الله الدامغاني. ولد سنة (398 هـ) كان حنفي المذهب. تفقه على القدوري، وسمع من الصوري وجماعة. ولِيَ القضاء ببغداد سنة (447هـ) ، واستمر فيه ثلاثين سنة. مات ببغداد سنة (478هـ) .
له ترجمة في: "الجواهر المضيئة" (2/96) ، و"شذرات الذهب" (4/362) ، و"المنتظم" (9/22) .(3/928)
في تلك الشهادة خاصة، قال: لأن هناك حكماً (1) من جهة الحاكم بردها، فلا يقبل؛ لأن فيه نقضاً للحاكم، ورد الخبر ممن روى له ليس بحكم؛ لأنه ليس بحاكم.
وسألت أبا بكر الشامي (2) [عنه] فقال: لا يقبل خبره فيما ردّ، ويقبل في غيره اعتباراً بالشهادة.
دليلنا:
أن من أقدم على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استدل على زندقته؛ لأنه لا يقدم علي ذلك -مع ما فيه من الوعيد- إلا زنديق، وتوبة الزنديق غير مقبولة في ظاهر الحكم على الرواية المشهورة أحمد.
ويفارق هذا الشهادة؛ لأن الكذب لا يدل على ذلك؛ لأنه يجوز أن يحمله علي ذلك الرغبة في الرشوة وقضاء الحق، فلهذا قبلت شهادته فيما لم يرد.
وكذلك إذا رد خبره بغير الكذب في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه [وسلم] ، أنه لا يدل على زندقته؛ لأنه يحتمل فعل تلك الأشياء المحظورة رغبة في إزالتها وحصول الأغراض.
__________
(1) في الأصل: (حكم) .
(2) هو: محمد بن المظفر بن بكران أبو بكر الحموي الشامي، كان شافعي المذهب.
ولد بحماة سنة (405هـ) . رحل إلى بغداد، وبها تفقه على أبي الطبيب الطبري.
وسمع من ابن بشران وابن غيلان وغيرهما.
تولى القضاء ببغداد سنة (478هـ) ، وقد اشتهر بالعدل والزهد والورع. مات سنة (488هـ) .
له ترجمة في: "شذرات الذهب" (3/391) ، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (4/202) ، و"العبر" (3/322) ، و"المنتظم" (9/94) .(3/929)
وقد روى أبو إسحاق في تعاليقه عن أبي بكر النقاش (1) عن محمد بن سعيد (2) عن محمد بن سهل بن عسكر (3) سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا حديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، وإذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لاشيء، فاعلم أنه صحيح".
أما قوله: إذا قالوا: "غريب أو فائدة"، فاعلم أنه خطأ، فذلك لأنهم لا يستغربون إلا الحديث الشاذ، الذي بمشهور، ولا رواه أئمة أصحاب الحديث، وما هذا سبيله يجوز عليه [140/ب] الغلط والسهو.
وقوله: "إذا سمعتهم يقولون: هذا حديث لا شيء، فاعلم أنه صحيح"، فذلك لأنهم يقولون هذا في الحديث المشهور، الذي تواتر طريقه، وعرف لفظه، فيقولون: لاشيء، يعني أنه ما أفادنا شيئاً؛ لاشتهاره
__________
(1) هو: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد، أبو بكر النقاش، الموصلي. كان مقرئاً، عالماً بحروف القراءات، حافظاً للتفسير، سافر في طلب العلم إلى كثير من البلدان.
روى عن إسحاق بن سنين الختلي وأبي مسلم الكجي غيرهم. وعنه الدارقطني وابن شاهين وابن رزقويه وغيرهم قال فيه الخطيب البغدادي: (وفي أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة) مات سنة (351هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (2/201) ، و"المنتظم" (7/14) .
(2) هو: محمد بن سعيد، أبو بكر الحربي، المعروف بابن الضرير. كان زاهداً، ورعاً، ثقة. روى عن ابن رزقويه. مات سنة (351) .
له ترجمة في: "المنتظم" (7/15) .
(3) هو: محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة، أبو بكر البخاري. حدث عن عبد الرزاق وغيره. وكان من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
وروى عنه إبراهيم الحربي والبغوي وابن صاعد وغيرهم. قال ابن الجوزي فيه: "كان ثقة" مات سنة (351هـ) .
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/298) ، و"المنتظم" (7/15) .(3/930)
وتكرره ومعرفتنا له، وما هذا سبيله ينتفي عنه السهو والغلط، فيحكم بصحته.
فصل
ولا يقبل الجرح إلا مفسراً
وليس قول أصحاب الحديث: "فلان ضعيف"، و"فلان ليس بشيء" مما يوجب جرحه ورد خبره (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد (2) رحمه الله في رواية المروذي؛ لأنه قال له عن يحيى بن معين (3) : سألته عن الصائم يحتجم، فقال: لا شيء عليه، ليس يثبت فيها خبر (4) ، فقال أبو عبد الله: هذا كلام مجازفة. فلم يقبل مجرد الجرح من يحيى.
__________
(1) من أول هذا الفصل إلى هنا، نقله الخطيب البغدادي بنصه في كتابه "الكفاية" ص (179) ونسبه إلى القاضي أبي الطيب الطبري.
(2) وهذا القول هو الذي ذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل البخاري ومسلم وغيرهما، هكذا قال الخطيب البغدادي في "المرجع السابق"، واختاره، وصرح بأنه هو الصواب.
(3) أبو زكريا، المري بالولاء، البغدادي. من حفاظ الحديث ونقاده، سمع هشيماً وابن المبارك وإسماعيل بن مجالد وغيرهم. وعنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. ولد سنة (158هـ) ومات بالمدينة سنة (233هـ) .
له ترجمة في: "التاريخ الكبير" (8/307) ، و"التاريخ الصغير" (2/362) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/429) ، و"الخلاصة" ص (368) ، و"طبقات الحفاظ" ص (185) ، و"العبر" (1/415) .
(4) لم يذكر المؤلف الراوي الذي جاء في الخبر، والذي جرحه ابن معين بدون تفسير، كما لم يذكر لفظ الخبر، حتى يمكن البحث في سنده. =(3/931)
وكذلك نقل مُهَنّا عنه قلت لأحمد: حديث خديجة (1) : كان أبو [ها] ، ما يرغب أن يزوجه (2) ، فقال أحمد رحمه الله: الحديث معروف سمعته من غير واحد، قلت: إن الناس ينكرون هذا، قال: ليس هو منكر. فلم يقبل مجرد إنكارهم.
__________
= وإذا أردت الوقوف علي الأحاديث التي وردت في أن الحجامة تفسد الصوم، والأحاديث التي وردت في عدم فساده بها، إذا أردت ذلك فارجع إلى "تلخيص الحبير" (2/191-194) .
(1) هي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشية الأسدية.
زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم أولاده، عدا إبراهيم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبها. ويثني عليها دائماً ماتت بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين.
لها ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1817) ، و"الإصابة" القسم السابع ص (600) طبعة دار نهضة مصر.
(2) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه عنه الإمام أحمد في: "مسنده" (1/312) ، من طريق أبي كامل، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس فيما يحسب حماد: (.. ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه فصنعت طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزمراً من قريش، فطعموا، وشربوا، حتى ثملوا، فقالت خديجة لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلعته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره، نظر، فإذا هو مخلق، وعليه حلة، فقال: ما شأني؟ ما هذا؟!. قالت زوجتني محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب؟! لا، لعمري، فقالت خديجة: أما تستحي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي) .
بعد أن ذكره الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" (9/220) باللفظ المذكور قال: (رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح) .
وذكر ابن عبد البر في كتابه: "الاستيعاب" (4/1817) أن الذي زوجها هو عمها: "عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصي". ولم يذكر غير هذا القول. =(3/932)
ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يقبل، فقال: قريء على أبي عبد الله رحمه الله: حديث عائشة كانت تلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمه لك) (1) فقال أبو عبد الله: كان فيه: و"الملك لا شريك لك"، فتركته؛ لأن الناس خالفونا، وقوله: تركت روايته، لأجل ترك الناس، وإن لم يظهر العلة.
وجه الأول:
أن الناس اختلفوا فيما يفسق به، ولا بد من ذكر سببه؛ لينظر هل هو فسق أم لا، وعلى هذا لو شهد رجلان: أن هذا الماء نجس، لم تقبل شهادتهما، حتى يُبَيِّنا سبب النجاسة؛ لأن الناس اختلفوا فيما ينجس به الماء (2) .
ووجه الثاني:
أن المعاني التي في يختلف في تأثيرها في الخبر معروفة (3) ، فالواجب حمل أمر المزكي على الصحة، وأنه لا يحمل (4) للقاضي ما يعلم أنه لو فسره، لم يؤثر عنده.
إذا تقرر هذا، فإن صرح عدلان بما يوجب الجرح، ثبت الجرح.
__________
= قلت: ولعله الصواب؛ لأن أباها قد مات قبل ذلك، كما في "طبقات ابن سعد" (8/16) ؛ ولأن النفس غير مرتاحة لما جاء في حديث أحمد من تزويج أبيها لها، على تلك الصفة. والله أعلم.
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب التلبية.. (2/162) .
وأخرجه أحمد في "مسنده" (6/32) .
وأخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده" في كتاب الحج، باب ما جاء في التلبية.. (1/211) .
(2) من قوله: (أن الناس اختلفوا فيما يفسق به ... ) إلى هنا نقله الخطيب البغدادي بنصه في كتابه "الكفاية" ص (179) ، ونسبه إلى القاضي أبي الطيب الطبري.
(3) في الأصل: (معروف) .
(4) بدون إعجام في الأصل.(3/933)
فإن صرح أحدهما بما يوجب الجرح، ثبت الجرح أيضاً، وهذا قياس قوله في التعديل: إنه يثبت بقول الواحد، على ما نذكره.
والوجه فيه: أن العدد ليس بشرط في قبول الخبر، فلم يكن شرطاً في جرح الراوي، ويخالف الشهادة؛ لأن العدد شرط في قبول الشهادة والحكم بها، فلهذا لم يقبل جرح الواحد.
فأما تعديل الواحد فيقبل، كما يقبل جرحه.
قال في روارية الأثرم: إذا روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن رجل، فهو حجة، وهذا يدل على أن رواية العدل عن غيره تعديل له، ويدل أيضاً على: أن تعديل الواحد مقبول.
وكذلك نقل أبو زُرعة قال سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: مالك (1) بن أنس إذا روي عن رجل لا يعرف [141/أ] فهو حجة.
وقد نقل مُهنَّا عنه ما يدل على أن رواية العدل [لا] تكون تعديلاً، ويجب السؤال عنه، فقال سألت أحمد رحمه الله عن رباح بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب (2) ؟ فقال: مدني،
__________
(1) في الأصل: (لمالك) .
(2) لم أجد أحداً بهذا الاسم، وإنما الذي وجدته هو:
أ- رباح بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي. روى عن سهيل بن أبي صالح وغيره. وعنه هشام بن يوسف. قال فيه أحمد والدارقطني: "منكر الحديث". وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج بما تفرَّد به".
له ترجمة في: "التاريخ الصغير" (2/147) ، و"التاريخ الكبير" (3/316) ، و"ميزان الاعتدال" (2/37) .
ب- عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي. روى عن أبيه وعبد الله بن عامر بن ربيعة وغيرهما. وعنه شعبة ومالك. ضعفه يحيى ومالك والنسائي. وقال ابن حبان: "كثير الوهم، فاحش الخطأ"، وقال أبو حاتم =(3/934)
روى عنه عبد الرزاق (1) . قلت: كيف هو؟ قال: ضعيف. وظاهر هذا أنه لم يجعل رواية العدل تعديلاً.
وهو قول أصحاب الشافعي.
فالدلالة على أن تعديل الواحد مقبول:
لأنه يقبل جرحه من الوجه الذي ذكرنا، فقبل تعديله.
وقد نَقل إسماعيل بن سعيد قال: قلت لأحمد: تعديل الرجل الواحد، إذا كان مشهوراً: بالصلاح؟ قال: يقبل ذلك. ذكرها الخلال في كتاب "الشهادات".
فظاهر هذا: [أن] تعديل الواحد للشاهد مقبول.
والدلالة على أن روايته تعديل له:
__________
= وأبو زرعة: "منكر الحديث". وقال الدارقطني: "يترك".
له ترجمة في: "التاريخ الصغير" (1/316) ، و"التاريخ الكبير" (6/484) ، و"ميزان الاعتدال" (2/353) .
وبناءً على ما سبق يظهر: أن اسم "عاصم" الذي أورده المؤلف زائد، لا محل له.
أو أن اسم "رباح" محرف عن اسم "عاصم"، والله أعلم.
(1) هو: عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر، الحِمْيَري بالولاء، الصنعاني أحد أئمة الإسلام. روى عن ابن جريج ومعمر والسفيانين والأوزاعي ومالك وغيرهم. وعنه أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم. وهو ثقة، وكان يتشيع.
وفي حديثه بعد أن كف بصره بعد المائتين مقال مات سنة (211هـ) .
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/265) ، و"التاريخ الصغير" (2/320) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/364) ، و"تهذيب التهذيب" (6/310) ، و"الخلاصة" ص (201) : و"شذرات الذهب" (1/272) ، و"ميزان الاعتدال" (2/209) ، و"النجوم الزاهرة" (2/202) .(3/935)
ما تقدم في مسألة خبر المرسل، وهو: أنه لا يجوز أن يحدث عن فاسق لمن لا يعرفه، ويكتم ذلك، فيلزمه قبوله.
ولأنه لو روي عن غير ثقة كان قد قطع على رسول الله صلى الله عليه [وسلم] ، بقول من هو كذاب عنده، وهذا ممنوع منه.
والوجه لمن قال: لا يكون تعديلاً:
بأنه يجوز أن يروي عمن لا يعرف عدالته، وإذا لم يحرم ذلك، لم تكن روايته تعديلاً، اللهم إلا أن يروي عنه ويعدّله بقوله أو بعمل [لا] يحرم فيكون تعديلاً.
فصل
ولا يقبل خبر من لم تعرف عدالته وإن عوف إسلامه وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الفضل بن زياد، وقد سأله عن أبي حميد يروي عن مشايخ لا يعرفهم، وأهل البلد يثنون عليهم؟ فقال: إذا
أثنوا عليهم، قبل ذلك منهم، هم أعرف بهم.
وظاهر هذا: أنه لا يقبل خبره إذا لم تعرف عدالته؛ لأنه اعتبر تعديل أهل البلد لهم.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه يقبل خبر من لم تعرف عدالته، إذا عرف إسلامه.
دليلنا:
أن كل خبر لم يقبل من الفاسق، كان من شرطه معرفة عدالة المخبِر، كالشهادة، ولا يلزم عليه الخبر المرسل أنه مقبول، وإن لم تعرف عدالته؛ لأنه غير مجهول العدالة، لما بينا: أن رواية العدل عن غيره(3/936)
تعديل له؛ لأنه لا يجوز أن يرويَ عن فاسق.
والذي روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الأعرابي في رؤية الهلال لما علم إسلامه بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" (1) وذلك لأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، عرف من حال الشاهد أنه عدل ثقة، فلذلك حكم بشهادته.
وليس من شرطه معرفة العدالة الباطنة؛ لأن اعتبارها يشق. ويفارق الشهادة؛ لأن اعتبارها لا يشق؛ لأن لها معتبراً، وهو الحاكم، والاعتبار إليه، وليس كل من سمع الحديث حاكماً.
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة (3/65-66) ، ولفظه: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، قال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟ " قال: نعم. قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غداً") .
ثم قال الترمذي بعد ذلك: (حديث ابن عباس فيه اختلاف. وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (1/547) ، عن ابن عباس مسنداً.
كما أخرجه عن عكرمة مرسلاً. ثم قال بعد ذلك: (رواه جماعة عن سماك عن عكرمة مرسلاً ... ) . ولفظه قريب من لفظ الترمذي.
وأخرجه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه مسنداً، في كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/106-107) ، كما أخرجه عن عكرمة مرسلاً، ولفظه قريب من لفظ الترمذي.
وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه مسنداً، في كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1/529) .(3/937)
فصل (1)
[141/ب] وقد أطلق أحمد رحمه الله القول بالأخذ بالحديث الضعيف.
فقال مهَنّا (2) : قال أحمد: الناس كلهم أكْفاء إلا الحائك والحجام والكساح (3) ، فقيل له: تأخذ بحديث (كل الناس أكْفاء إلا حائكاً (4) أو حجاما) (5) وأنت تضعفة؟ فقال: إنما نضعف إسناده، لكن العمل عليه.
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (273) ، فإنه نقل هذا الفصل بالنص، مع اختلاف طفيف.
(2) في الأصل: (بهذا) ، والتصويب من "المسودة" ص (273) .
(3) الكسح: الكنس، والكساح الكناس، ولعله المقصود هنا.
راجع مادة: (كسح) في "تهذيب اللغة"، و"القاموس" و"اللسان".
(4) في الأصل: (إلا حائك أو حجام) .
(5) هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب النكاح، باب اعتبار الصنعة في الكفاءة (7/134-135) بلفظ: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل والموالي أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام) .
ثم قال البيهقي بعد ذلك: (هذا منقطع بين شجاع وابن جريح حيث لم يسمع شجاع بعض أصحابه) .
وذكر له بعد ذلك طرقاً أخرى، حكم عليها كلها بالضعف.
وقال ابن أبي حاتم في كتابه: "العلل" (1/412) : (سألت أبي عنه.. فقال: هذا كذب لا أصل له) . ونقل عن أبيه (1/421) قوله: (باطل، أنا نهيت ابن أبي شريح أن يحدث به) .
ونقل عن أبيه مرة ثالثة (1/424) قوله: (.. هذا حديث منكر، رواه هشام الرازي، وزاد في الحديث "إلا حائك أو حجام أو دباغ" قال: فخرج عليه الدباغون، واجتمعوا، حتى أن بعض الناس حسّن الحديث، وقال: إنما معنى =(3/938)
وكذلك قال في رواية ابن مُشَيْش (1) وقد سأله: عمن تحل له الصدقة وإلى أي شيء يذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث، حكيم بن جبير (2) ، فقلت: وحكيم بن جبير (3) ثَبَت عندك في الحديث (4) ؟ قال: ليس هو عندي ثَبَتاً في الحديث.
__________
= هذا: "أو دباب"، إنما أراد هؤلاء الذين يتخذون الدباب) ..
وقال الدارقطني في هذا الحديث: لا يصح.
وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع.
وقد تكلم الزيلعي عن هذا الحديث في كتابه: "نصب الراية" (3/197) ، كما تكلم عنه ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (3/164) فارجع إليهما إن شئت.
(1) هو: محمد بن موسى بن مشيش البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد المقدمين عنده. كان جاراً للإمام أحمد، ومكرماً لديه. نقل عنه كثيراً من المسائل.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (3/240) ، و"طبقات الحنابلة" (1/323) ، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص (511) ، و"المنهج الأحمد" (1/246) .
(2) حديث "حكيم بن جبير" هذا ذكره الذهبي في كتابه: "ميزان الاعتدال" (1/584) ، عند كلامه عن "حكيم" المذكور، ولفظه: (لا تحل الصدقة لمن عنده خمسون درهماً) .
(3) في الأصل: (حبير) بالحاء المهملة، وهو خطأ.
(4) روى حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير وأبي جحيفة وغيرهما. وعنه شعبة وزائدة وغيرهما. قال فيه أحمد: "ضعيف منكر الحديث" وقال النسائي: "ليس بالقوي" وقال الدارقطني: "متروك" وقال الجوزجاني: "كذاب" وقال فيه الذهبي: "فيه رفض، ضعفه غير واحد، ومشاه بعضهم، وحسن أمره، وهو مقل".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/186) ، و"ميزان الاعتدال" (1/583) .(3/939)
وكذلك قال مُهَنّا: سألت أحمد رحمه الله: عن حديث مَعْمَر عن الزهري عن سالم (1) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن غيلان (2) أسلم وعنده عشر نسوة (3) ، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول: عن مَعْمر عن الزهري مرسلاً.
__________
(1) هو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عمر، أو أبو عبد الله، المدني.
أحد الفقهاء السبعة. روى عن أبيه وأبي هريرة وعائشة وغيرهم. وعنه ابنه أبو بكر وحنظلة بن أبي سفيان وغيرهما. مات سنة (106هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/88) ، و"تهذيب التهذيب" (3/436) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (111) ، و"شذرات الذهب" (1/133) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/301) و"النجوم الزاهرة" (1/256) .
(2) هو: غيلان بن سلمة بن شرحبيل الثقفي. أسلم بعد فتح الطائف. ولم يهاجر.
كان مقدماً في قومه، كما كان شاعراً محسناً. توفي في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1256) ، و"الإصابة" القسم الخامس ص (330) .
(3) هذا الحديث رواه ابن عمر رضي الله عنه؛ أخرجه عنه الترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة (3/426) ولفظه: (أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير أربعاً منهن) .
ثم قال الترمذي بعد ذلك: (والعمل على حديث غيلان بن سلمة عند أصحابنا..) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، (1/628) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب النكاح، باب أنكحة الكفار وإقرارهم عليها.. (2/349) .
وأخرجه عنه الحاكم في "المستدرك"، في كتاب النكاح، باب قصة إسلام غيلان الثقفي، وتخييره، لأربع من النساء (2/193) . =(3/940)
[و] معنى قول أحمد: "ضعيف": على طريقة أصحاب الحديث؛ لأنهم يضعفون بما لا يوجب تضعيفه عند الفقهاء، كالإرسال والتدليس والتفرد بزيادة في حديث لم يروها الجماعة، وهذا موجود في كتبهم: تفرد به فلان وحده، فقوله: "هو ضعيف"، على هذا الوجه وقوله: "والعمل عليه" معناه: على طريقة الفقهاء.
وقد ذكر أحمد رحمه الله جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه. فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعفاء مثل عمرو ابن مرزوق (1) ، وعمرو بن حكام (2) ، ومحمد بن معاوية (3) وعلي بن
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في "سننه الكبرى"، في كتاب النكاح، باب عدد ما يحل من الحرائر والإماء (7/149) .
قال ابن عبد البر في هذا الحديث: "طرقه كلها معلولة".
لمزيد من الاطلاع على ما في هذا الحديث من الكلام، راجع: "تلخيص الحبير" (3/168) .
(1) هو: عمرو بن مرزوق الباهلي أبو عثمان البصري. روى عن عكرمة بن عمار وشعبة وغيرهما. وعنه البخاري مقروناً بغيره، وأبو داود وغيرهما. وثقه أبو حاتم ويحيى، ونقل عن أحمد توثيقه، مع أن المؤلف نقل عنه تضعيفه.
كان يحيى بن سعيد لا يرضاه.
وكان ابن المديني يقول: "اتركوا حديث العمرين"، يعني عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام. مات سنة (224هـ) .
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (293) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/489) ، و"ميزان الاعتدال" (3/287) .
(2) عمرو بن حكَام؛ روى عن شعبة. قال البخاري فيه: "ليس بالقوي عندهم".
ضعفه ابن المديني. وقال أحمد: "ترك حديثه".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/482) ، و"ميزان الاعتدال" (3/254) .
(3) في كتاب المغني في "الضعفاء" (2/634) ثلاثة بهذا الاسم: =(3/941)
الجعد (1) ، وإسحاق بن أبي إسرائيل (2) ، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم.
وقال أيضاً في رواية ابن القاسم (3) في ابن لهيعة (4) : ما كان حديثه
__________
= الأول: محمد بن معاوية النيسابوري.
الثاني: محمد بن معاوية عن جويرية بن أسماء.
الثالث: محمد بن معاوية أبو جعفر الأنماطي.
وكذلك الشأن في كتاب: "ميزان الاعتدال" (4/44-45) ، ولم أتوصل إلى معرفة المقصود منهم ها هنا.
(1) هو: علي بن الجعد أبو الحسن الجوهري، الهاشمي بالولاء البغدادي، روى عن الثوري وشعبة وابن أبي ذئب. وعنه البخاري وأبو داود ومسلم في غير الصحيح. وثقه ابن معين وقال أبو حاتم فيه: "متقن". وقال النسائى: "صدوق".
وقال فيه مسلم: "ثقة، لكنه جهمي". وكان أحمد لا يكتب عمن أجاب في الفتنة، ولذلك لم يمكن ابنه عبد الله من الكتابة عن ابن الجعد هذا. مات سنة (230هـ) .
له ترجمة في: "الخلاصة" ص (272) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/444) ، و"ميزان الاعتدال" (3/116) .
(2) هو: إسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم أبو يعقوب المروزي. روى عن شريك وحماد بن زيد وغيرهما. وعنه أبو داود والبغوي وغيرهما. وثقه يحيى بن معين والدارقطني. كان قليل العقل. وكان يقف في القرآن. مات سنة (246 هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/484) ، و"تهذيب التهذيب" (1/223) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (27) طبعة بولاق، و"ميزان الاعتدال" (1/182) .
(3) هو: أحمد بن القاسم. من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه المسائل. كما كان من أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/55) .
(4) هو: عبد الله بن لَهيعَة بن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمى المصري الفقيه. =(3/942)
بذلك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد.
وقال في رواية المروزي: كنت لا أكتب حديثه -يعني جابر الجعفي (1) - ثم كتبته أعتبر به.
فقال له مُهَنّا: لم تكتب عن أبي بكر بن أبي مريم (2) ، وهو
__________
= روى عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وغيرهما. وعنه الثوري والأوزاعي وشعبة وغيرهم. قال فيه أحمد: "احترقت كتبه، وهو صحيح الكتاب، ومن كتب عنه قديماً فسماعه صحيح". وقال فيه مرة: "ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة". وقال ابن معين: "لي بذاك". وقال مسلم: "تركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي".
ولد سنة (97هـ) ، ومات سنة (174هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/237) ، و"تهذيب التهذيب" (5/373) ، و"خلاصه تذهيب الكمال" ص (179) ، و"شذرات الذهب" (1/283) ، و"المغني في الضعفاء" (1/352) .
(1) هو: جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي الشيعي. روى عن عامر بن واثلة والشعبي وأبي الطفيل وخلق. وعنه شعبة والسفيانان وخلق. وثقه الثوري.
وقال شعبة: "صدوق" قال النسائي: "متروك" وقال أبو داود: "ليس بالقوي في حديثه". وقال يحيى: "لا يكتب حديثه، ولا كرامة" وكذبه أبو حنيفة والجوزجاني. مات سنة (128هـ) .
له ترجمة في: "تنزيه الشريعة المرفوعة" (1/44) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (59) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/126) ، و"ميزان الاعتدال" (1/379) .
(2) هو: أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الحمصي: اختلف في اسمه، فقيل: بكير. وقيل: عبد السلام. وقيل: عمرو. وقيل: عامر. روى عن مكحول وخالد بن معدان. وعنه إسماعيل بن عياش وبقية. قال فيه الجوزجاني: "هو متماسك" وقال ابن عدي: "أحاديثه صالحة، ولا يحتج به". وقد ضعفه =(3/943)
ضعيف؟ قال: أعرفه.
والوجه في الرواية عن الضعفاء: أن فيه فائدة، وهو أن يكون الحديث قد روي من طريق صحيح. فيكون برواية الضعيف ترجيحاً، أو ينفرد الضعيف بالرواية، فيعلم ضعفة؛ لأنه لم يرد إلا من الطريق الضعيف فلا يقبل.
فصل
في بيان الكبائر من المعاصي
فروى أبو بكر بإسناده في كتابه عن عبيد بن عمير (1) عن أبيه (2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكبائر تسع: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد بالبيت الحرام) (3) .
__________
= أحمد وابن معين وابن حبان وغيرهم. مات سنة (156هـ) .
له ترجمة في: "خلاصة تذهيب الكمال" ص (444) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/774) ، و"ميزان الاعتدال" (4/497) .
(1) هو: عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر وعائشة وعلى غيرهم. وعنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وآخرون. وثقه أبو زُرعة وابن معين مات سنة (64هـ) على ما قيل.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/50) ، و"تهذيب التهذيب" (6/71) ، و"خلاصة تذهيب الكمال" ص (216) ، و"طبقات الحفاظ" ص (14) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/496) .
(2) هو: عمير بن قتادة بن سعد الليثي الكوفي. صحابي، سكن مكة. لم يرو عنه غير ابنه عبيد. له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1219) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (724) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (297) طبعة بولاق.
(3) هذا الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب الكبائر تسع =(3/944)
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن (1) عن [142/أ] أبي هريرة قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الكبائر سبع: أولهن الإشراك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، وفرار (2) من الزحف، وزنا بالمحصنات، وانقلاب إلى الأعراب بعد
__________
= (1/59) عن عميرة بن قتادة رضي الله عنه، وعقب عليه بقوله: (وقد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان، فأما عمير بن قتادة، فإنه صحابي، وابنه عبيد، متفق على إخراجه والاحتجاج به) .
وقال الحافظ المنذري في كتابه: الترغيب والترهيب (2/509) بعد أن أورد هذا الحديث: (رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن) .
وأخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب ذكر الكبائر (2/82) ، ولفظه: (.. أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "هن سبع أعظمهن: إشراك بالله، وقتل النفس بغير حق، وفرار يوم الزحف". ثم قال النسائي بعد ذلك: (مختصر) .
ومدار الحديث على: "عبد الحميد بن سنان". وثقه ابن حبان.
وقال الذهبي في الميزان: (عداده في التابعين، لا يعرف، وقد وثقه بعضهم) .
وقال البخاري: فيه نظر.
وقد روى عنه يحيى بن أبي كثير.
انظر ترجمته في: "الخلاصة" ص (222) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/369) ، و"ميزان الاعتدال" (2/541) .
(1) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني. اسمه كنيته وقيل: اسمه: عبد الله. روى عن أبيه وأبي هريرة وأسامة بن زيد وخلق. وعنه الأعرج والشعبي والزهري وآخرون. كان مع علمه بالحديث فقيهاً. مات سنة (94هـ) وله اثنان وسبعون سنة.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/63) ، و"تهذيب التهذيب" (12/115) ، و"الخلاصة" ص (388) ، و"شذرات الذهب" (1/105) ، و"طبقات الحفاظ" ص (23) .
(2) في الاصل: (فراراً) بالنصب.(3/945)
الهجرة) (1) ، ويجب أن يكون من جملتها السرقة؛ لأن القطع أعظم من الجلد في الزنا، وكذلك شرب الخمر.
وقد حَدّ أحمد رحمه الله الكبائر: بما يوجب حداً في الدنيا ووعيداً في الآخرة، فقال في رواية جعفر بن محمد (2) : سمعت سفيان بن عيينة يقول في قوله تعالى: (إلا اللمَمَ) (3) قال: ما بين حدود الدنيا والآخرة.
قال أبو عبد الله: حدود الدنيا مثل السرِق والزنا، وعد أشياء، وحد الآخرة: مايحد في الآخرة، واللمم: الذي بينهما.
قال أبو بكر في تفسيره لقوله تعالى: (إنْ تَجْتنبوا كبائر مَا تنهون) (4) ، قد روي أنها سبع.
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا أخرجه البزار، ولفظه قريب من لفظ المؤلف، إلا أنه ذكر: (قذف المحصنات) بدل: (زنا بالمحصنات) .
راجع: "الترغيب والترهيب" (2/505) .
وأخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه كلفظ البزار مع اختلاف طفيف.
انظر: الفتح الكبير (2/338) .
وأصل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح البخاري، في كتاب المحاربين، باب رمي المحصنات (8/218) ، ولفظه: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) .
(2) يوجد كثير بهذا الاسم في "طبقات الحنابلة" (1/123-127) ، وكلهم من أصحاب الإمام أحمد الذين تنلمذوا عليه، ونقلوا عنه، ولم أتوصل إلى معرفة المراد منهم.
(3) (33) سورة النجم.
(4) (31) سورة النساء.(3/946)
وروى عبد الله بن أنيس الجهني (1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) (2) ، قال: فما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه [وسلم] الشرك بالله. وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرم قتلها، وقول الزور، وقد يدخل في قتل النفس المحرمة: قتل الرجل ولده، من أجل أنه يطعم معه، والفرار من الزحف، والزنا بحليله الجار.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هي سبع) ، يكون معنى قوله: (سبع) على التفصيل، ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال: (وهي الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور) (3) على الإجمال، إذا كان قوله: (وقول الزور) يحمل (4) على معان شتى، وإن جمع ذلك قول الزور، فأما أبو بكرة (5) ومن جلد معه، فلا يرد خبرهم؛ لأنهم جاؤوا مجيء
__________
(1) أبو يحيى المدني. صحابي. كان حليفاً لبني سلمة من الأنصار، شهد أحداً وما بعدها. مات بالشام سنة (54هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/869) ، و"الإصابة" (4/37) .
(2) هذا الحديث أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النساء (5/236) ، وقال فيه: "حديث حسن غريب".
(3) هذا الحديث رواه أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (ومن أحياها) : (9/4) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (1/91) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب التفسير، باب: ومن سورة النساء (5/235) .
وأخرجه عنه النسائى في كتاب القسامة، باب تأويل قول الله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً ... ) (8/57) .
(4) في الأصل: (يحتمل) .
(5) هو: نفيع بن مسروح، وقيل: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو، أبو بكرة الثقفي. صحابي. أسلم يوم الطائف. كان كثير العبادة. أحد الثلاثة الذين شهدوا =(3/947)
الشهادة، وليس بصريح في القذف، وقد اختلفوا في وجوب الحد، ويسوغ فيه الاجتهاد، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد.
ولأن نقصان العدد معنى من جهه غيره، فلا يكون سبباً في رد شهادته.
عدنا إلى ذكر الشرائط التي يقبل معها الخبر، وقد ذكرنا منها شرطين أحدهما العقل والثاني العدالة.
الثالث: أن لا يكون مبتدعاً يدعو إلى بدعة.
لأنه إذا دعى إلى بدعة، لا يؤمن أن يضع لما يدعو إليه حديثاً يوافقه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم، وقد ذكر له: أن فلاناً أمر (1) بالكَتْب عن سعد العَوْفي (2) ، فاستعظم ذلك، وقال: جهمي، ذاك امتحن فأجاب قبل أن يكون ترهيب.
وقال في رواية أبي داود: احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري، إذا لم يكن داعية.
الرابع: [142/ب] أن يكون ضابطاً لما ينقله.
لأنه متى لم يضبط، غيَّر اللفظ والمعنى.
__________
= على المغيرة بن شعبة، فجلدهم عمر. مات أبو بكرة بالبصرة سنة (51هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1614) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (467) ، طبعة دار نهضة مصر.
(1) في الأصل: (أمين) ، وهو خطأ، والتصويب من "المسودة" ص (264) .
(2) هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي. ضعيف روى عن أبيه وعمه الحسن وفليح. وعنه ابنه محمد وابن أبي الدنيا وغيرهم. قال فيه الإمام أحمد: "جهمي ... "، كما قال: "ولم يكن هذا أيضاً ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعاً لذاك". =(3/948)
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية المروذي: لا ينبغي للرجل إذا لم يعرف الحديث أن يحدث به، ثم قد صار الحديث يحدث به من لا يعرفه.
وقال في الكبير لا يعرف الحديث ولا يعقل: إذا كتب، فلا بأس أن يرويه.
الخامس: أن يكون بالغاً:
لأن من لم يبلغ لا رغبة له في الصدق، ولا حذر عليه في الكذب؛ لأنه لا عقاب عليه، فحاله دون حال الفاسق؛ لأن الفاسق قد يرجو ثواباً، ويتجنب ذنوباً يخشى العقاب عليها، ولا يقبل خبر الفاسق، فالصبي أولى.
ولأنا لما نقبل إقراره على نفسه، لم نقبله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فأما تحمله الخبر، إذا كان عاقلا مميزاً، ورواه بعد، بلوغه، فجائز لإجماع السلف على عملهم بخبر ابن عباس، وابن الزبير (1) ، والنعمان بن بشير (2) ، وغيرهم من أحداث الصحابة.
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/126) ، و"لسان الميزان" (3/18) .
(1) هو: عبد الله بن الزبير بن العوام أبو بكر القرشي الأسدي. من صغار الصحابة.
ولد سنة اثنتين من الهجرة. وقيل: في السنة الأولى. بويع بالخلافة بعد موت معاوية ابن يزيد، سنة (64هـ) أو سنة (65هـ) ، وظل كذلك حتى قتل وصلب سنة (73هـ) ، وله من العمر (72) سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/905) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (89) طبعة دار نهضة مصر، و"شذرات الذهب" (1/79) .
(2) هو: النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمان سنين تولى إمرة الكوفة لمعاوية ستة أشهر. ثم تولى له إمرة حمص، ولابنه يزيد من بعده. ولما مات يزيد تبع ابن الزبير. فخالفه أهل حمص، وقتلوه سنة (64هـ) . =(3/949)
ولأنه، لما جاز أن يتحمل الشهادة قبل بلوغه، ويؤديها بعد بلوغه، مع ضيق الشهادة، فأولى أن يتحمل الخبر ويؤديه بعد بلوغه، مع سعة الخبر.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية إبراهيم بن الحارث، والمروذي وحنبل: يصح سماع الصغير إذا عَقَل وضبَطَ.
وقد روى البخاري (1) في صحيحه عن محمد بن يوسف (2) عن أبي مِسْهَر (3)
__________
= له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1496) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (440) طبعة دار نهضة مصر، و"شذرات الذهب" (1/72) .
(1) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله البخاري الجعفي بالولاء الحافظ المتقن. طبقت شهرته الآفاق. روى عن أحمد وابن المديني وخلق. وعنه مسلم والترمذي وخلق. له كتب منها: "الجامع الصحيح" و"التاريخ الكبير". مات سنة (256هـ) .
له ترجمة في: "البداية والنهاية" (11/24) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/555) ، و"تاريخ بغداد" (2/4) ، و"تهذيب التهذيب" (9/47) ، و"شذرات الذهب" (2/134) .
(2) هو: محمد بن يوسف بن واقد الفريابي الضبي بالولاء، أبو عبد الله روى عن السفيانين والاوزاعي وغيرهم. وعنه البخاري وأحمد وغيرهما. مات سنة (212هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/376) ، و"شذرات الذهب" (2/28) ، و"طبقات الحفاظ" ص (159) .
(3) هو: عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى، أبو مسهر الغساني الدمشقي روى عن إسماعيل بن عياش ومالك وغيرهما. وعنه الذهلي وأبو زرعة وغيرهما. حبسه المأمون في بغداد وظل في محبسه حتى مات سنة (218هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (11/72) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/381) ، و"شذرات الذهب" (2/44) ، و"طبقات الحفاظ" ص (163) .(3/950)
عن محمد بن حرب (1) عن الزبيدي (2) عن الزهري عن محمود بن الربيع (3) قال: (عَقَلْت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجّةً مَجّهَا في فيَّ، وأنا ابن خمس سنين) (4) ، وهذا يدل على أن ابن خمس يعقل ويضبط، فيصح سماعه.
فأما الذكورية: فلا تعتبر؛ لأن النساء نقلن الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا تعتبر الحرية؛ لأن الحديث موضوع على حسن الظن بالراوي، لأنه يروي ما يشترك فيه المخبِر والمخبَر.
__________
(1) في الاصل: (جرير) ، والصواب: ما أثبتناه، والتصويب من "صحيح البخاري": (1/29) ، و"الاستيعاب" (3/1378) في ترجمة محمود بن الربيع رضي الله عنه.
وهو: محمد بن حرب أبو عبد الله الحمصي الخولاني، المعروف بالأبرش كان قاضي دمشق. وكان حافظاً مكثراً. روى عن الأوزاعي وابن جريج وآخرين.
وعنه أبو مسهر وحيوة بن شريح. مات سنة (194هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/310) ، و"شذرات الذهب" (1/341) ، و"طبقات الحفاظ" ص (128) ، و"النجوم الزاهرة" (2/146) .
(2) هو: محمد بن الوليد بن عامر أبو الهذيل الزبيدي الحمصي. الحافظ المتقن. روى عن الزهري ونافع وآخرين. وعنه محمد بن حرب والأوزاعي وغيرهما. مات سنة (146هـ) وله سبعون سنة.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/162) ، و"تهذيب التهذيب" (9/503) ، و"طبقات الحفاظ" ص (71) .
(3) هو: محمود بن الربيع بن سراقة أبو نعيم، وقيل: أبو محمد الخزرجي الأنصاري.
من صغار الصحابة. معدود في أهل المدينة. أكثر روايته عن الصحابة. روى عنه ابن شهاب ورجاء بن حيوة. مات سنة (97هـ) وله ثلاث وتسعون سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (3/1378) ، و"الإصابة" (6/66) .
(4) هذا الحديث أخرجه البخاري بالسند المذكور في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير؟ (1/29) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب المج في الإناء (1/216) .(3/951)
ولا يعتبر فيه البصر، لأن الشهادة مع تأكدها، يصح تحملها وأداؤها من الضرير على أصلنا، فأولى أن يصح الخبر مع سعته.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية عبد الله في سماع الضرير البصير: إذا كان يحفظ من المحدث فلا بأس، وإذا لم يكن يحفظ فلا، وقال: الأمي بهذه المثابة إلا ما حفظ من الحديث.
[حكم الرواية عن أصحاب الرأي]
قال أحمد رحمه الله في رواية أصحاب الرأي: لا يروى عنهم الحديث (1) .
وهذا محمول على أهل الرأي من المتكلمين، كالقدرية ونحوهم (2) .
[حكم الرواية عن الجندي]
وقال في رواية المروذي وقد سأله: يكتب عن الرجل، إذا كان جندياً؟ فقال: أما نحن فلا نكتب عنهم.
وكذلك قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كان الرجل في الجند، لم أكتب عنه.
وهذا محمول على طريق الورع؛ لأن الجندي لا يتجنب المحرمات في الغالب.
__________
(1) كلام الإمام أحمد هذا من رواية ابنه عبد الله، كما في "المسودة" ص (265) .
(2) تعقبه في "المسودة" ص (265-266) بقوله: (قلت: ليس كذلك بل نصوصه في ذلك كثيرة، وهو ما ذكرته في المبتدع أنه نوع من الهجرة، فإنه قد صرح بتوثيق بعض من ترك الرواية عنه كأبي يوسف ونحوه، ولذلك لم يرو لهم في الأمهات كالصحيحين) .(3/952)
[حكم الرواية عمن أجاب في المحنة]
وقال في رواية محمود بن غيلان (1) : [لا] أحب أن أحدث عمن أجاب، يعني في [143/أ] المحنة (2) .
وقال في رواية حجاج الشاعر (3) : أما أنا فلا أكتب عمن أجاب في المحنه.
وهذا على ظاهره؛ لأن من أجاب من غير إكراه كان مختاراً للبدعة.
[حكم الرواية عمن يبيع العِينَة أو يأخذ الأجرة على الحديث]
وقال في رواية سَنَدي الخَواتيمي: لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معينٍ (4) . يعني يبيع هذه العينة.
__________
(1) أبو أحمد المروزي. من أصحاب الإمام أحمد. سمع من الفضل بن موسى السيناني وسفيان بن عيينة. وعنه البخاري ومسلم وغيرهما. مات سنة (239هـ) ، وقيل: سنة (249هـ) .
له ترجمة في: "شذرات الذهب" (2/92) . و"طبقات الحنابلة" (1/340) .
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/340) في ترجمة محمود بن غيلان.
(3) هو: حجاج بن يوسف بن حجاج أبو محمد الثقفي، المعروف بابن الشاعر البغدادي مولداً ونشأةً. روى عن الإمام أحمد وعبد الرزاق وغيرهما. وعنه مسلم وأبو داود وغيرهما. مات سنة (259هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (8/240) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/559) ، و"شذرات الذهب" (2/139) ، و"طبقات الحفاظ" ص (244) ، و"طبقات الحنابلة" (1/148) .
(4) في الأصل: (معن) .(3/953)
وقد قال في رواية حُبَيش (1) وسلمة بن شبيب (2) : لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث ويحدثون، ولا كرامة.
وهذا على طريق الورع؛ لأن بيع العينة، وأخذ الأجرة على رواية الحديث، مما يسوغ فيه الاجتهاد، وما يسوغ فيه الاجتهاد لم يفسق فاعله.
[التدليس]
فأما التدليس (3) فإنه يكره (4) ، ولكن لا يمنع من قبول الخبر.
__________
(1) هو: حبيش بن سندي. من كبار أصحاب الإمام أحمد. يقال: إنه كتب عن الإمام أحمد نحواً من عشرين ألف حديث.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/146) .
وهناك شخص آخر بهذا الاسم في "طبقات الحنابلة" (1/147) هذا الشخص هو: حبيش بن مبشر بن أحمد الثقفي، الطوسي الأصل. من أصحاب الإمام أحمد. مات سنة (258هـ) .
والذي يظهر لي أن المقصود هو الأول؛ لأنه أشهر، وكثير الرواية عن الإمام، ولأن الأخير يذكر باسم: حبيش بن مبشر. والله أعلم.
(2) النيسابوري. من أصحاب الإمام أحمد. ذكره أبو بكر الخلال، وقال فيه: رفيع القدر، حدث عن شيوخنا الأجلاء.
له ترجمة في: "الإنصاف" (12/286) . و"طبقات الحنابلة" (1/269) .
(3) أصل مادة (د ل س) تدل -كما يقول ابن فارس-: "على ستر وظلمة"، "فالدلس": يأتي بمعنى "الظلمة"، ويأتي بمعنى: "اختلاط الظلمة بالنور".
وسميت الصفة المعروفة لدى المحدثين بهذا الاسم لاشتراكهما في الخفاء كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في كتابه "نخبة الفكر" و"شرحها" ص (77) مطبوع مع لفظ الدرر.
وراجع في ذلك أيضاً: "المصباح المنير" (1/305) ، و"معجم مقاييس اللغة" (1/296) مادة (دلس) .
(4) ليس ذلك على إطلاقه، كما سيأتي بيان ذلك في ص (955-957) .(3/954)
وصورته: أن ينقل عمن لم يسمع منه، يوهم أنه قد سمع منه، مثل أن يكون عاصر الزهري، ولم يسمع منه، لكنه سمع عن رجل عنه، فأتي بلفظ يوهم أنه سمعه من الزهري بلا واسطة، فيقول: روى الزهري أو قال الزهري: عروة (1) ، أو عن عروة، فكل من سمع هذا يذهب إلى أنه سمعه من الزهري بلا واسطة (2)
__________
(1) هو: عروة بن الزبير في العوام أبو عبد الله الأسدي المدني. أحد الفقهاء السبعة.
روى عن أمه وخالته عائشة وأبي هريرة وغيرهم، وعنه أولاده عثمان وعبد الله وهشام ويحيى وخلائق. كان بحراً في العلم. ولد سنة (23هـ) ، وقيل سنة (29هـ) ومات سنة (91هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/62) ، و"تهذيب التهذيب" (7/180) ، و"الخلاصة" ص (224) ، و"شذرات الذهب" (1/103) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/511) ، و"النجوم الزاهرة" (1/228) .
(2) أشار المؤلف بهذه الصورة إلى تدليس الإسناد، وقد ذكر الشيخ مصطفى أمين التازي في كتابه "مقاصد الحديث" (2/177-184) أربع صور لتدليس الإسناد هي:
الأولي: "أن يروي الراوي عمن لقيه وسمع منه حديثاً لم يسمعه منه بصيغه توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، وهذه الصورة كما يقول الشيخ متفق على تسميتها بتدليس الإسناد.
الثانية: "أن يروي الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه حديثاً بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه" وهذه الصورة ذكر الشيخ فيها قولين، أحدهما: تدليس إسناد، وثانيها: إرسال خفي.
الثالثة: "أن يروي الراوي عمن عاصره، ولم يلقه حديثاً لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، والخلاف فيها كالتي قبلها.
الرابعة: "أن يروي الراوي عمن لم يعاصره حديثاً لم يسمعه منه بصيغة توهم السماع منه مسقطاً في الحقيقة شيخه الذي أخذ الحديث مباشرة عنه"، والخلاف فيها كالخلاف في الصورتين السابقتين. =(3/955)
وكذلك إذا سمع الخبر من رجل معروف بعلامة مشهورة، فعدل عنها إلى غيرها من أسمائه، مثل أن يكون مشهوراً بكنية، فيروي عنه باسمه، أو كان مشهوراً باسمه، فيروي عنه بالكنية، حتى لا يعلم من الرجل (1) ؟.
__________
= ويلتحق بتدليس الإسناد: تدليس القطع وهو -كما يقول الشيخ التازي في المرجع السابق (2/186) -: "أن يسقط الراوي أداة الرواية مقتصراً على اسم الشيخ الذي لم يسمع الحديث منه مباشرة.. أو أن يسقط الراوي اسم الشيخ الذي سمع الحديث منه مباشرة مقتصراً على ذكر أداة الرواية".
ويلتحق به أيضاً: تدليس العطف، وهو كما يقول الشيخ التازي في المرجع السابق (2/87) : "أن يصرح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخاً آخر له، لم يسمع ذلك المروي منه".
كما يلحق به تدليس التسوية، وهو -كما يقول الشيخ التازي أيضاً في المرجع السابق-: "أن يروي الراوي عن شيخه الثقة حديثة سمعه منه، ورواه ذلك الثقة عن ضعيف أو أكثر، وقد رواه ذلك الضعيف عن ثقة آخر، فيجعله الراوي من رواية شيخه الثقة عن الثقة الآخر بلفظ يوهم السماع منه مسقطاً ما بينهما من ضعيف أو ضعفاء".
من العرض هذا للتدليس: وأقسامه، يتبين لنا أنه على مراتب، أشدها مؤاخذة تدليس التسوية، وبخاصة إذا أسقط الراوي الضعيف أو الضعفاء من السند، وهو يعتقد أن من أسقطه غير ثقة، بحيث لو صرح بمن أسقطه لرد الحديث، فهذا عندي حرام ويمنع من قبول الخبر، ويجرح به الراوي. والله أعلم.
(1) أشار المؤلف بهذه الصورة إلى تدليس الشيوخ، وهو: -كما يقول الشيخ التازي في "المرجع السابق" (2/185) -: "أن يذكر الراوي شيخه الذي سمع منه أو من فوقه من الشيوخ بما لا يعرف به عند أهل الحديث بأن يسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما ليس مشهوراً به، كيلا تسهل معرفته عند غيره".
فهذا النوع من التدليس يختلف في الحكم باختلاف السبب الحامل على التدليس، وأشدها جرماً الذي يدلس عن شيخه أو من فوقه من الشيوخ، بقصد قبول الحديث، وهو يعلم أن المدلس فيه غير ثقة، بحيث لو صرح بما يعرف به المدلس =(3/956)
فكل هذا مكروه، نص عليه في رواية حرب فقال: أكره التدليس، وأقل شيء فيه: أنه يتزين للناس (1) ، أو يتزيد (2) شك حرب.
وكذلك نقل الميموني عنه: لا يعجبني التدليس، هو من الريبة.
وكذلك نقل مهنا عنه: التدليس عيب.
وإنما كان مكروهاً؛ لأنه يوهم أنه كان سمع منه، وما كان سمع، ولأنه يفعل ذلك كراهيه التواضع في الحديث أوله (3) ، ومن كره التواضع في الحديث فقد أساء، وهذا معنى قول أحمد رحمه الله: "يتزين".
[حكم الحديث المدلس]
وإذا ثبت أنه مكروه، فإنه لا يمنع من قبول الخبر، نَص عليه في رواية مُهَنّا وقيل له: كان شعبة (4) يقول: التدليس كذب، فقال أحمد رحمه الله: لا، قد دلس قوم نحن نروي عنهم.
__________
= فيه، لرد الحديث، فهذا عندي حرام، ويمنع من قبول الخبر، ويجرح به الراوي، والله أعلم.
(1) في الأصل: (يرى الناس) ، والتصويب من "المسودة" ص (277) ، وعليه يدل كلام المؤلف فيما بعد.
(2) في الأصل: (يزيد) ، والتصويب من "المسودة" ص (677) .
(3) هكذا في الأصل.
(4) هو: شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام العتكي الأزدي بالولاء. أحد أئمة الحديث المشهورين. سمع قتادة وابن أبي كثير ومعاوية بن قرة وآخرين. وعنه سفيان الثوري والأعمش وابن المبارك وخلائق. ولد سنة (82هـ) ، ومات سنة (160هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (9/255) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/193) ، =(3/957)
وقال عبد الله: سمعت أبي وذكر يعني عمر بن علي بن مقدم (1) فأثنى عليه خيراً، وقال: كان يدلّس.
وذهب قوم من أصحاب الحديث: إلى أنه لا يقبل خبره؛ لأنه يروي عمن لم يسمع، فهو كما لو قال: قال الزهري، وما سمع منه.
وهذا غلط؛ لأنه ما كذب فيما نقل، بل كان ما قاله صدقاً في الباطن، إلا أنه أوهم [في خبره و] (2) من أوهم في خبره لم يرد خبره، كمن قيل له: حججت؟ فقال: لا مرة ولا مرتين، يوهم أنه حج أكثر، وحقيقته أنه ما حج أصلاً، فلا يكون كذباً.
ويفارق هذا إذا حدث عمن لم يسمع منه، فقال: حدثني؛ لأنه كذب فيما قال، ومن كذب في الحديث سقط حديثه، فلهذا لم يسمع [143/ب] حديثه.
وقال محمد بن مخلد: حدثنا حمدان بن علي الورّاق (3) قال: سمعت
__________
= و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/244) ، والخلاصة ص (140) ، و"شذرات الذهب" (1/247) .
(1) هو: عمر بن علي بن عطاء المقدمي أبو جعفر البصري الثقفي بالولاء. روى عن إسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة وغيرهما. وعنه أحمد بن حنبل وسليمان بن حرب وآخرون. أثني عليه أحمد وقال: كان يدلس كما اتهمه بالتدليس ابن معين والدارقطني وغيرهما. مات سنة (190هـ) .
انظر ترجمته في: "التقريب" (2/61) ، و"تهذيب التهذيب" (7/485) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/292) ، و"الخلاصة" ص (242) ، و"طبقات الحفاظ" ص (122) ، و"الكاشف" للذهبي (2/319) ، و"المغني في الضعفاء" (2/471) ، و"ميزان الاعتدال" (3/214) .
(2) ما بين القوسين المعقوفين من "المسودة" ص (277) .
(3) هو: محمد بن علي بن عبد الله بن مهران أبو جعفر الوراق. المعروف بحمدان. =(3/958)
أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: كان حجاج بن أرطاة (1) يقول لهم: لا تقولوا من حدثك؟ ولكن من أخبرك؟ قولوا: من ذكره يا أبا (2) أرطاة.
فصل
فإن روي العدل عن العدل خبراً، ثم نسي (3) المروي عنه الخبر، فأنكره، لم يجب اطراح الخبر، ووجب العمل به في إحدى الروايتين.
وهو قول أصحاب الشافعي (4) .
__________
= أصله من جرجان، ونشأ ببغداد. سمع أبا نعيم ومعلى بن أسد والإمام أحمد وغيرهم. روى عنه عبد الله البغوي وأبو بكر الخلال وغيرهما. قال فيه الخلال: رفيع القدر كان عنده عن أبي عبد الله مسائل حسان.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/308) .
(1) أبو أرطاة النخعي الكوفي. قاضي البصرة. سمع من الشعبي وعطاء وعكرمة وغيرهم. وعنه سفيان وشعبة وحماد بن زيد وغيرهم. قال فيه أبو حاتم: "صدوق، يدلس عن ضعفاء". وقال ابن معين: "صدوق ليس بالقوي".
مات سنة (147هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/186) ، و"تقريب التهذيب" (1/152) ، و"تهذيب التهذيب" (2/196) ، و"التاريخ الصغير" ص (257) ، و"الكاشف" للذهبي (1/205) ، و"المغني في الضعفاء" (1/149) ، و"ميزان الاعتدال" (1/458) .
(2) في الأصل: (بابا) بالموحدة التحتية فيهما.
(3) في الأصل: (بين) ، والتصويب من "المسودة" ص (278) .
(4) الإنكار في هذا المقام على قسمين:
الأول: أن يكون الإنكار مصحوباً بالتكذيب من الأصل للفرع، ففي هذه الحالة يرد الخبر بالاتفاق. لأن كلاً منهما مكذب للآخر. =(3/959)
وفيه رواية أخرى: يرد الخبر، ولا يجوز العمل به.
وقد نَصّ أحمد رحمه الله على الروايتين في إنكار الزهري روايته حديث عائشة في الولي (1) ، فقال في رواية الأثرم، فيما ذكره في كتاب "العلل": قلت لأبي عبد الله: يضعف الحديث عندك بمثل هذا: إن حدث الرجل الثقة بالحديث عن الرجل، فيسأل عنه فينكره ولا يعرفة؟ فقال: لا، ما يضعف عندي بهذا، فقلت: مثل حديث الولي، ومثل حديث اليمين مع الشاهد، فقال: قد كان مَعْمَر يروي عن ابنه عن نفسه عن عبد الله بن عمر.
وكذلك نقل الميموني عنه لما ذكر له حديث الزهري وما قاله، فقال: كان ابن عيينة يحدث بأشياء (2) ، ثم قال: ليس من حديثي ولا أعرفه، وقد (3) يحدث الرجل ثم ينسى.
وكذلك نقل أبو طالب عنه أنه قال: يجوز أن يكون الزهري حدث به ثم نسيه، فقد نص على قبوله (4) .
ونقل عنه خلاف هذا، فقال أبو الجود (5) : قلت لأبي عبد الله: أيما امرأة زُوجت بغير ولي؟ فقال: لا أحسبه صحيحاً؛ لأن إسماعيل قال:
__________
= الثاني: أن يكون الإنكار منشأه النسيان والتوقف، فهذا الذي وقع فيه الخلاف.
راجع في هذا: "الإحكام" للآمدي (2/96) .
(1) هو حديث: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل) ، وقد سبق تخريجه ص (471) .
(2) الأصل: بما شاء والتصحيح من المسودة ص (278) .
(3) في المسودة ص (278) : (قد) بدون واو.
(4) في الأصل: (قوله) ، والتصويب من "المسودة" ص (278) .
(5) في "المسودة" ص (278) : (أبو الحارث) .(3/960)
[قال] (1) ابن جريج: لقيت الزهري وسألته [عنه] (2) ؟ فقال: لا أعرفه.
وكذلك نقل حرب عنه: أنه سئل عن حديث الولي، فقال: لا يصح؛ لأن الزهري سئل عنه فأنكره.
فالدلالة على وجوب العمل به:
أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (3) روي عن سهيل بن أبي صالح (4) عن أبيه (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه قضى باليمين مع الشاهد) (6) ، ثم
__________
(1) ما ركن القوسين المعقوفين زيادة من "المسودة" ص (278) .
(2) ما بين القوسين المعقوفين زيادة من "المسودة" ص (278) .
(3) اسم أبيه: فروخ، وكنيته: أبو عبد الرحمن المدني. مولى آل المنكدر: المعروف بربيعة الرأي. أحد التابعين. ثقة مشهور. روى عن أنس بن مالك والأعرج ومكحول وآخرين. وعنه السفيانان وشعبة وخلق. كان أحد المفتين بالمدينة.
مات سنة (136هـ) ، بالمدينة، وقيل: بالأنبار.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (8/420) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/157) ، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/189) ، و"الخلاصة" ص (99) ، و"شذرات الذهب" (1/194) ، و"طبقات الحفاظ" ص (68) ، و"ميزان الاعتدال" (2/44) .
(4) هو: سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان أبو يزيد المدني. اختلف فيه، فوثقه بعضهم، وضعفه بعضهم. روى عن أبيه وسعيد بن المسيب وغيرهما. وعنه ربيعة الرأي وشعبة ومالك وآخرون. مات في خلافة المنصور.
له ترجمة في: "الخلاصة" ص (158) ، طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/289) ، و"ميزان الاعتدال" (2/243) .
(5) هو: ذكوان أبو صالح السمان المدني. ثقة. روى عن أبي هريرة وأبي الدرداء وعائشة وخلق. وعنه بنوه سهيل وعبد الله وصالح والأعمش وآخرون. مات سنة (101هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/89) ، و"الخلاصة" ص (112) ، طبعة بولاق، و"طبقات الحفاظ" ص (33) .
(6) سبق تخريجه ص (815) .(3/961)
نسيه سهيل، فكان يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويروي هكذا، ولا ينكره أحد من التابعين، ولا يخالفه مخالف منهم، فدل على جوازه.
ولأن المروي عنه غير عالم ببطلان روايتة، والراوي عنده ثقة، فوجب تصديقه والعمل بخبره، كما يجب على سائر الناس، إذا لم ينس المروي عنه، فيكون المروي عنه في هذه الحالة بمنزلة سائر الناس.
ولأن النسيان الطاريء عليه لم يقدح في عدالته حال روايته، ولا أثر فيها، فلم يوجب رد خبره، وإن خرج عن كونه ذاكراً له، كما لو طرأ عليه جنون أو مرض.
واحتج المخالف:
بأنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فقال شاهدا الأصل: لا نذكر ولا نحفظه، لم يجز للحاكم أن [144/أ] يحكم بشهادتهما. وكذلك الخبر.
وكذلك الحاكم إذا ادعى رجل أنه قضي له بحق على فلان، ولم يذكر القاضي، فأحضر المدعي بينه على حكمه، لم يرجع إليها، كذلك ها هنا.
والجواب: أنا لا نسلم هذا في القاضي، بل نقول: يرجع.
وأما شهود الفرع، فإنما لم تسمع شهادتهم؛ لما ذكرنا من أن الشهادة أغلظ حكماً، وأضيق طريقاً من الخبر، وقد بينته فيما مضى.
واحتج: بما روي أن عماراً (1) قال لعمر بن الخطاب في باب جواز
__________
(1) هو: عمار بن ياسر بن مالك أبو اليقظان العنسي المخزومي بالولاء صحابي جليل. شهد بدراً والمشاهد كلها، كما شهد اليمامة، وفيها قطعت أذنه. مات مقتولاً في موقعة صفين سنة (37هـ) وله من العمر نيف وتسعون سنة. =(3/962)
التيمم للجنب: أما تذكر أنا كنا في الإبل، فأجْنَبْت، فَتمَعّكْت بالتراب، ثم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما يكفيك أن تضرب بيديك) (1) فلم يقبل عمر من عمار، مع كونه عدلاً ثقة.
والجواب: أن عمر قبل قول الهرمزان أنه أمنه، لما شهد له بذلك أنس وغيره (2) .
نقل من كتاب "الإيمان" تصنيف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال عبد الله: سمع أبي يقول: سمعت حماداً (3) يقول: عمير بن
__________
= له ترجمة في: الاستيعاب (3/1135) ، و"الإصابة" القسم الرابع ص (575) ، طبعة دار نهضة مصر. و"الخلاصة" ص (279) ، طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (1/45) .
(1) حديث عمار رضي الله عنه، أخرجه عنه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة (1/91-92) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب التيمم (1/280-281) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم (1/268) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم ضربة واحدة (1/188) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب تيمم الجنب (1/139) . وراجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (2/324) ، و"ذخائر المواريث" (3/34) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (77) .
(2) قصة تأمين عمر للهرمزان، وشهادة أنس بذلك أوردها ابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية" (7/85-86) طبعة مكتبة المعارف، بيروت والنصر بالرياض.
(3) هو: حماد بن زيد بن درهم أبو إسماعيل الأزدي الجهضمي البصري. أحد الأئمة المشهورين. روى عن ثابت البناني ومحمد بن سيرين وغيرهما. وعنه الثوري وابن عيينة، وخلائق. ولد سنة (98هـ) ، ومات بالبصرة سنة (179هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/228) ، و"تهذيب الأسماء" (1/167) ، =(3/963)
يزيد (1) ليس فيه عن أبيه، فقلت: إنك حدثتتي عن أبيه عن جده، فقال: أحسب أنه عن أبيه، وهذا يدل على أنه رجع إلى رواية أبيه عنه.
وجملة ما ذكرناه مما رد به الخبر، فهو لأجل المخبِر، وهو أن ينقله ثقة عن ثقة، فإنه يرد بأحد خمسه أشياء:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول، كقوله: إن الله خلق نفسه.
الثاني: أن يخالف نص كتاب الله أو سنة متواترة، فإنه يرد؛ لأنه دليل مقطوع به، فلا يعارضه ما هو غير مقطوع به.
الثالث: أن يكون بخلاف الإجماع؛ لأن الإجماع دليل مقطوع [به] ؛ ولأنه إذا خالف الإجماع كان دليلاً على نسخه؛ لأنه لو كان ثابتاً لما خرج عن الأمة.
الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمه، مثل أن يروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر أو إلى عثمان أو إلى علي، فإذا انفرد الواحد بنقل مثل هذا كان مردوداً.
__________
= و"الخلاصة" ص (87) ، و"شذرات الذهب" (1/292) ، و"طبقات الحفاظ" ص (96) .
(1) في الأصل: (عمير بن حبيب) ، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه؛ لأن عمير ابن حبيب صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، كما في: "الاستيعاب" (3/1213) ، و"التاريخ الكبير" (3/531 ق 2) . و"الجرح والتعديل" (3/375) .
وأما حفيده فهو: عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب أبو جعفر الخطمي. روى عن أسعد بن سهل وابن المسيب، وعنه هشام الدستوائي وشعبة. حكى الدارمي عن ابن معين توثيقه.
له ترجمة في: "التاريخ الكبير" و"الجرح والتعديل"، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمة جده، و"الخلاصة" ص (297) ، طبعة بولاق.(3/964)
فإن قيل: أليس ما يعمّ به البلوى يفتقر إليه كل أحد، ومع هذا يثبت بخبر الواحد؟
قيل: كل أحد مفتقر إلى العمل به، لا إلى علمه، فلهذا ثبت بخبر الواحد، وليس كذلك ثبوت الخلافة والعهد إلى واحد؛ لأن على كل واحد أن يعرفه ويعلمه نطقاً، فلهذا لم يثبت بخبر الواحد.
الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة في نقلة بالتواتر، مثل أن ينفرد بنقل أن الخطيب سقط يوم الجمعة من المنبر، فالعادة جرت بأن الواحد لا ينفرد بنقله، فإذا انفرد هو به عَلِمْناه بخلاف العادة، فرددناه.
وهذا في العلل التي رد لها خبر الواحد.
فأما الأسباب الموهمة التي لا يرد لأجلها خبر الواحد:
منها: أن تلحقه غفلة في وقت، فإن خبره لا يرد؛ لأن [144/ب] أحداً لا ينفك عن أن تلحقه غفلة (1) في وقت، بل إن روى خبراً في حال غفلته، لم يثبت خبره.
وقد قال عبد الله: قلت لأبي: إن بشر بن عمر (2) زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التّوْأَمة (3) ، فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك أدرك
__________
(1) في الأصل: (عقله) .
(2) هو: بشر بن عمر بن الحكم بن عقبة، أبو محمد الزهراني البصري. ثقة صدوق.
روى عن مالك وشعبة وحماد بن سلمة وغيرهم. وعنه إسحاق بن راهويه والذهلي وعباس العنبري وغيرهم. مات سنة (206هـ) أو (207هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/337) ، و"تهذيب التهذيب" (1/455) ، و"الخلاصة" ص (42) ، و"طبقات الحفاظ" ص (141) .
(3) هو: صالح بن نبهان مولى التوأمة، وهي ابنة أمية بن خلف. روى عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما. وعنه ابن أبي ذئب والثوري وغيرهما. وثقه =(3/965)
صالحاً وقد اختلط، وهو كبير، ما أعلم به بأساً، من سمع منه قديماً، قد روى عنه أكابر أهل المدينة، نقلت ذلك من كتاب أبي بشر محمد بن أحمد الدُّولابي (1) .
ومنها: أن يضطرب بعض حديثه، فلا يرد خبره؛ لأن كل أحد لا يقدر علي ضبط ما سمعه كله، بل يكون ببعضه أضبط من بعض.
ومنها: أن ينفرد (2) بنقل حديث واحد، لا يروي غيره، فلا يرد حديثه، لجواز، أن ينفرد به عن كل واحد، كأنه حدثت له حادثة، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه عنها.
ومنها: أن لا تعرف له مجالسه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يرد خبره؛ لأنه قد يجالسه، فلا، يعرف ذلك منه، وقد يأخذ الحديث عنه من غير مجالسة.
ومنها: أن يروي حديثاً، وفعل رسول الله صلى الله عليه [وسلم] يخالفه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ يَنْكح المحرم ولا يُنْكح) (3) ثم يروي عنه ابن عباس: أنه
__________
= ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه. وقال مالك ويحيى القطان ليس بثقة. وقال الذهبي: صدوق، لكنه عُمّر واختلط. مات سنة (125هـ) .
انظر ترجمته في: "الخلاصة" ص (172) ، طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (1/305) ، و"ميزان الاعتدال" (2/302) .
(1) هو: محمد بن أحمد بن سعيد بن مسلمة أبو بشر الدولابي الأنصاري الرازي.
مختلف في توثيقه، روى عن بندار وهارون بن سعيد الأيلي وغيرهما. وعنه ابن عدي والطبراني وغيرهما. مات سنة (224هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/759) ، و"شذرات الذهب" (2/260) ، و"طبقات الحفاظ" ص (319هـ) و"ميزان الاعتدال" (3/459) .
(2) في الأصل: (يرد) .
(3) سبق تخريجه ص (438) .(3/966)
نكح ميمونة، وهو محرم (1) ؛ فلا يرد به خبره، لأن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، قد يفعل ما هو خاص له دون أمته، فلا يستدل به على رد خبره.
ومنها: أن يروي حديثاً يخالفه فيه أكثر الصحابة، فلا يرد لذلك، لجواز أن يخفي عليهم ما عرفه، فيكون الحق معه دونهم.
ومنها: أن يكون معروفاً باللقب، وقد اختلف اسمه، كالحذا (2)
__________
(1) حديث ابن عباس - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب تزويج المحرم (3/18) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته (2/1031) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (3/192) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الحج، باب الرخصة في النكاح للمحرم (5/150) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب النكاح، باب المحرم يتزوج (1/632) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب في تزويج المحرم (1/368) .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الحج، باب في نكاح المحرم (1/213) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في نكاح المحرم وانكاحه (2/19) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب مناسك الحج، باب نكاح المحرم (2/269) .
راجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (387) .
و"نصب الراية" (3/171-172) .
(2) وهو: خالد بن مهران الحذاء أبو المنازل البصري. ثقة مشهور. روى عن الحسن البصري وابن سيرين وآخرين. وعنه شعبة وابن المبارك وغيرهما. مات سنة (141هـ) . =(3/967)
ونحو ذلك، فلا يرد خبره؛ لأنه متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف فيما لا يكون به كل مجهولاً.
ومنها: أن ينسى بعض حديثه، فذُكِّر فعاد إليه، فلا يرد حديثه لذلك؛ لأن الإنسان قد ينسى الشيء، ثم إذا ذُكر تذكر، بلى إن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: نقلته على بصيرة مني بذلك، فهو مردود الحديث لأنه قد أخبر عن نفسه بالكذب على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] .
فإن روى حديثاً، لا أصل له، وقال: سهوت فيه، أو أخطأت، قبل خبره؛ لأنه قد يجوز عليه السهو والغلط.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب: في الرجل إذا سها في الإسناد، فأخطأ فيه، ولا يتعمد ذلك: أرجو أن لا يكون به بأس.
مسألة (1)
[رواية الحديث بالمعنى]
والمستحب رواية الحديث بألفاظه، فإن نقله على المعنى، وأبدل اللفظ بغيره بما يقوم مقامه، من غير شبهة ولا لبس على سامعه، جاز، إذا كان عارفاً بالمعنى، كالحسن ونحوه، مثل أن يقول بدل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صبوا
__________
= له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/149) ، و"الخلاصة" ص (88) ، و"شذرات الذهب" (1/210) ، و"طبقات الحفاظ" ص (64) ، و"ميزان الاعتدال" (1/642) .
(1) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (281) . فإنه نقل كثيراً عن المؤلف في هذه المسألة، وراجع أيضاً: "روضة الناطر" مع شرحها "نزهة الخاطر" (1/318-323) .(3/968)
عليه ذنوباً من ماء) (1) : أريقوا عليه ذنوباً (2) من ماء.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا في رواية حرب والميموني والفضل ابن زياد [145/أ] وأبي الحارث ومُهَنّا، كل عنه: تجوز الرواية على المعنى وقال: ما زال الحفاظ يحدثون بالمعنى.
وحكي عن ابن سيرين وجماعة من السلف: أنه يجب نقل اللفظ على صورته، وحكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي.
دليلنا:
ما حدثنا أبو محمد الخلال (3) بإسناده عن ابن مسعود قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك تحدثناً حديثاً، لا نقدر أن نسوقه، كما نسمعه، فقال: (إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث) (4) ، وهذا نص.
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد (1/63) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض (1/275) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول (1/90) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل (1/17) .
(2) في "المسودة" ص (282) : (دلواً من ماء) ، وهو الأولى.
(3) هو: الحسن بن محمد بن الحسن بن علي أبو محمد الخلال ولد سنة (352هـ) .
ثقة. سمع القطيعي وابن المظفر وغيرهما. ومنه القاضي أبو يعلى والخطيب البغدادي. مات ببغداد في شهر جمادى الأولى من عام (439هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (3/1109) ، و"شذرات الذهب" (3/262) ، و"طبقات الحفاظ" ص (426) ، و"العبر" (3/189) و"المنتظم" (8/132) .
(4) هذا الحديث أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: "الكفاية في علم الرواية" ص (302) .(3/969)
ورأيت بخط عتيق: أنبأنا مسند (1) عن مكحول (2) قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع (3) فقلنا: حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم وتأخير، فغضب، وقال: لا بأس إذا قدمت أو أخرت، إذا أصبت المعنى (4) .
ولأن المقصود من السنة حكمها دون له لفظها، فإذا أتى بمعناها جاز الإخلال باللفظ، فلو سمع إقرار رجل بالفارسية جاز له أن ينقل إقراره إلى الحاكم بالعرب، وكذلك المترجم بالمعنى.
__________
(1) لم أجده. وإنما وجدت أن الذي، رواه عن مكحول هو: العلاء بن الحارث.
أنظر: المراجع الآتية في تخريج الأثر.
(2) هو: مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل أبو عبد الله الدمشقي. المحدث الفقيه. روى عن واثلة وأنس وثوبان وغيرهم. وعنه الزهري وأبو حنيفة وحميد الطويل وخلق. مات سنة (112هـ) .
أنظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (1/107) ، و"تهذيب التهذيب" (10/289) ، و"الخلاصة" ص (311) ، و"شذرات الذهب" (1/146) ، و"طبقات الحفاظ" ص (43) ، و"النجوم الزاهرة" (1/272) .
(3) هو: واثلة بن الأسقع بن عبد العزى الليثي أبو الأسقع، وقيل: أبو محمد.
أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزوة تبوك. وكان من أهل الصفة.
نزل البصرة على ما قيل، ثم سكن الشام، وشهد المغازي بدمشق وحمص.
مات ببيت المقدس، وقيل: بدمشق سنة خمس أو ست وثمانين هجرية، وله من العمر ثمان وتسعون سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (4/1563) ، و"الإصابة" القسم السادس ص (591) طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (419) ، طبعة بولاق.
(4) هذا الأثر أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: "الكفاية" ص (308) وأخرجه الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل" ص (533) وأخرجه ابن عبد البر في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" (1/94-96) ، وأخرجه الدارمي في مقدمة "سننه" باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى (1/79) .
ويلاحظ: أن هناك اختلافاً في ألفاظ الأثر. ولكن المعنى واحد.(3/970)
فإن قيل: إنما جاز ذلك؛ لأن الحاكم يمكنه أن يتثبت ذلك، ويتعرف ما نقله إليه الشاهد والمترجم [و] لا يمكن ذلك في خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: فيجب أن يخبر الرواة على المعنى في خبرهم (1) للنبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لأنه يتوصل إلى معرفة ذلك، وعندك لا يجوز.
وأيضاً: لما كان نقل الحديث من غير النبي [صلى الله عليه وسلم] بلفظ آخر، كذلك في الرواية عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ألا ترى أنهما اتفقا في منع الروية على وجه لا يأمن المخبر أن يكون كاذباً فيه؟
فإن قيل: الكذب على النبي [صلى الله عليه وسلم] يعظم ما لا يعظم على غيره.
قيل: إن اختلفا من هذا الوجه، فلم يختلفا في قبح الكذب عليهما، واختلافهما في عظم المأثم لا يوجب اختلافهما في الجواز، كما أن المعصية الصغيرة والكبيرة لا يختلفان في المنع، وإن اختلفا فيما يستحق عليهما من العقاب.
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (رحم الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وأدّاها كما سمعها) (2) .
__________
(1) في الأصل: (خبره) .
(2) هذا الحديث صحيح رواه جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم. فرواه زيد بن ثابت أخرجه عنه أبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (2/289) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في مقدمة "سننه" باب من بلغ علماً (1/84-86) ، كما أخرجه عن جماعة من الصحابة بطرق متعددة.
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/33-34) ، وقال: "حديث حسن" كما أخرجه عن ابن مسعود، وقال: "حديث حسن صحيح".(3/971)
والجواب: أن المقصود به الاستحباب.
واحتج: بأنه لما كان لفظ القرآن والأذان في التشهد شرطاً، كذلك لفظ الحديث.
والجواب: أن القرآن لفظه مقصود لما فيه من الإعجاز، ولما يستحق في قراءته من الثواب، فكذلك لم يجز الإخلال به، وكذلك الأذان، القصدُ منه الإعلام. [و] إذا أخلّ بلفظه، لم يحصل المقصود وإن قاسوا عليه، إذا لم يكن الراوي ضابطاً، فالمعنى فيه أنه ربما غير الحكم. [145/ب] .
فصل (1)
نقلت من خط أبي حفص البرمكي (2) تعليقاً مما كان على مسائل صالح
__________
= وأخرجه عنه الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل" ص (164) ، كما أخرجه من طرق ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس رضي الله عنهم (164-166) .
وأخرجه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستمع العلم وحافظه ومبلغه (1/46-50) ، كما أخرجه من طرق عن زيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بكرة وجبير بن مطعم وأنس بن مالك رضى الله عنهم.
ويلاحظ: أن الحديث في جميع طرقه ورد بلفظ: (نضر) بدل لفظ (رحم) ، التي أتى بها المؤلف.
وراجع في الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (3/5-6) ، و"ذخائر المواريث" (1/215) ، و"مجمع الزوائد" (1/137) .
(1) راجع هذا الفصل في "المسودة" ص (282) .
(2) هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم أبو حفص البرمكي. كان ذا عبادة وزهد كما كان من الفقهاء المشهورين. حدث عن ابن الصواف والخطبي وغيرهما. صحب =(3/972)
سمعت عمر المغازلي (1) يقول: قال أحمد بن حنبل: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] . وقال النبي [صلى الله عليه وسلم] واحد، فألزمه بعض أصحابنا حديث البَرَاء ابن عازب (2) : (ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت) (3) قال: هذا لا يلزم؛ لأنه كان نبياً ثم أرسل، فقال: "ونبيك الذي أرسلت"، ولم يقل: "وبرسولك الذي أرسلت"، لأنه لا تكون رسالة بعد رسالة، وإنما أراد رسالة بعد نبوة، فقد [أجاز] (4) عمر بن
__________
= أبا بكر عبد العزيز غلام الخلال وعمر بن بدر المغازلي، مات ببغداد في شهر جمادى الأولى سنة (387هـ) .
انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (2/153) .
(1) هو: عمر بن بدر أبو حفص المغازلي، سبقت ترجمته ص (898) .
(2) هو: البراء بن عازب بن حارث بن عدي أبو عمارة الأنصاري الحارثي الخزرجي صحابي، أول غزوة شهدها هي غزوة الخندق. كان يحارب في صف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعد ذلك نزل الكوفة، ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وسبعين هجرية.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/155) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (278) ، طبعة دار نهضة مصر، و"الخلاصة" ص (46) ، طبعة بولاق.
(3) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - هذا أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل من بات على وضوء (1/68) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع (4/2081) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم (2/606) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه (5/468) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "تيسير الوصول" (2/18) ، و"ذخائر المواريث" (1/98) ، و"المحدث الفاصل" ص (531) ، و"الكفاية في علوم الرواية" ص (306) .
(4) في الأصل: (ن) .(3/973)
بدر (1) : أن التابعي إذا سمع رجلاً، من أصحاب النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وروي عنه قال: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] ، أو سمعه يقول: قال النبي [صلى الله عليه وسلم] ، فقال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أن ذلك جائز؛ لأن القصد من الرواية أن يعلم أن هذا الخبر مرفوع عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وهذا المعنى يحصل بكل واحد من اللفظين، والرسول والنبي في هذا المعنى واحد.
ويبين صحة جواز رواية الخبر على المعنى، وهذا موجود ها هنا، وقد أجاب (2) عمر بن بدر عن الحديث المروي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] ، (آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) وأنه لا يجعل مكان نبيك رسولك؛ لأن المعنى يختلف، وذلك أن الرسالة تطرأ على النبوة، ولا تطرأ رسالة على رسالة، فلهذا لم يجعل موضع النبي: الرسول.
مسألة (3)
إذا وجد سماعه في كتاب، ولم يذكر أنه سمعه، جاز روايته.
أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله في مواضع:
فقال في روارية مُهَنّا: إذا كان يحفظ الشيء، وفي الكتاب شيء فالكتاب أحب إليّ.
فقد اعتبر ما في الكتاب، وإن كان حفظ غيره.
وكذلك في رواية الحسين بن حسان في الرجل يكون له السماع مع الرجل، فلا بأس أن يأخذه بعد سنين، إذا عرف الخط.
وكذلك نقل الحسين بن محمد بن الحارث عنه: إذا عرف خطه فلا
__________
(1) هو عمر بن بدر، أبو حفص المغازلي، وقد سبقت ترجمته ص (898) .
(2) في الأصل: (أجاز) .
(3) راجع هذه المسألة في: "المسودة" ص (279) .(3/974)
يشهد عليه إلا ما يحفظه، إلا أن يكون منسوخاً عنده في حرزه، فكأنه إذا كان عنده مكتوباً في حرزه، شهد به وإن لم يحفظه، ثم قال: كتاب العلم أيسر (1) ، يعني يشهد عليه، قيل له (2) : إذا أعار (3) كتاب العلم، فقال: [لا] بدّ من أن يفعل ذلك، إذا أعاره من يثق به، قيل له: فإن لم يثق به: كل ذاك أرجو أن لا يحدث فيه، فإن الزيادة في الحديث ليس تكاد تخفي، وكأنه رأى ذلك أوسع من الشهادة.
وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد (4) .
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يرويه، إذا لم يذكر سماعه.
دليلنا:
[146/أ] : أن الأخبار مبني أمرها على حسن الظن والمسامحة ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أنه لا يشترط فيها العدالة في الباطن ويقبل فيها قول العبيد والنساء وحديث العنعنة، والظاهر من حال السماع الموجود الصحة، فجاز العمل عليه.
__________
(1) في الأصل: (أليس) والتصويب من "المسودة" ص (280) .
(2) في الأصل: (قيل به) .
(3) في الأصل: (إذا غاب) والتصويب من "المسودة" ص (280) .
(4) هو: محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد الله الشيباني. صاحب الإمام أبي حنيفة.
روى عن الإمام مالك بن أنس. لَينه النسائي من قِبَل حفظه. وقال فيه الذهبي: وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك. له كتب كثيرة، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير" و"السير الكبير" و"السير الصغير".
مات بالري. سنة (187هـ) وله من العمر ثمان وخمسون سنة.
له ترجمة في: "الجواهر المضيئة" (2/42) ، و"شذرات الذهب" (1/321) ، و"المغني في الضعفاء" (2/567) ، و"ميزان الاعتدال" (3/513) .(3/975)
وأيضاً: رجوع الصحابة إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب.
واحتج المخالف:
بأنه، لما لم يجز أن يؤديَ الشهادة معتمداً على خطه من غير ذكره، كذلك الحديث، والمعنى فيه: أن الشاهد يحتاج إلى ذكر المشهود به، كما أن المخبر يحتاج إلى ذكر المخبر به.
والجواب: أن الشهادة مبنى أمرها على التأكيد والتغليظ، فكذلك إذا وجد خطه، ولم يذكر، لم يشهد به. على أن الحسين بن محمد بن الحارث نقل عنه: أنه أجاز الشهادة، إذا عرف الخط، ولم يخرج عن يده، ولكن المذهب المشهور عنه: أنه لا يجوز، لما بينّا.
واحتج: بأن الإخبار بما لا نأمن المخبر. أن يكون كاذباً فيه، يجري مجرى الإخبار بالكذب في القبح، فإذا لم يذكر أنه سمعه يحدث به، لم نأمن أن يكون كاذباً، وجب أن لا يجوز أن يحدث به، كما لا يجوز له ذلك لو علم أنه كاذب فيه.
والجواب: أن هذا يوجب أن لا يجوز خبر الضرير فيما سمع؛ لأنه لا يأمن أن يكون كاذباً فيه؛ لأن الصوت قد يشبه الصوت، فيخبر عن رجل لم يسمع منه، وأنه شبه له صوته، وكذلك السماع من وراء حجاب، وقد أجازوا رواية الضرير، كذلك ها هنا، وقد نص أحمد رحمه الله على جواز رواية الضرير، وحكيناه فيما تقدم.
فإن قيل: هناك يمكنه أن يشترط ما يأمنان الكذب فيه، بأن يخبرا عن ظنهما، فلا يقطعان على ما يحدثان به عن فلان.
قيل: فاشترط مثل هذا في مسألتنا.(3/976)
فصل
في كيفية رواية الحديث بعد سماعه
إذا قرأ المحدث عليه، قال: سمعته، وحدثني، وأخبرني، وقرأ عليّ؛ لأنه قد أخبره وحدثه وسمع منه وقرأ عليه، ولا فرق بين أن يقول له بعد ذلك: إروه عني، أو لا يقول.
وكذلك إن أملى عليه المحدث، فالحكم فيه على ما مضى، ويزيد أملى عليّ.
وقد نصّ على هذا رحمه الله فيما رأيته في آخر جزء فيه السنة لحرب، فقال: حدثه عبد الله بن أحمد بن معدان قال: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، فقيل له: يا أبا عبد الله إن عبد الرزاق كان لا يقول: حدثنا، فقال [146/ب] أحمد: حدثنا وأخبرنا عندنا واحد، إن كان سماعاً من الشيخ.
وإن قرأ هو على المحدث فلم يسمع، أو قرأ عليه فأقرَّ به، قال: قُرِئ على فلان أو قَرأتُ علي فلان، ولا يجوز أن يقول: سمعتُ فلاناً، ولا أملى عليّ.
وهل يجوز أن يقول: حدثني وأخبرني أو لا؟ فيه روايتان:
إحدهما: لا يجوز، نص عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم قال: سألته، وأنا أقرأ عليه شيئاً من الأحاديث أقول: حدثني أحمد؟ فقال: إن قال، فما أرى به بأساً: ولكن يقول: قرأت عليه، أحب إليّ، أريد به الصدق. فقد نصّ على جوازه، واختار أن يحكي الحال كما جرت.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي.(3/977)
وفيه رواية أخرى: لا يجوز أن يقول: أخبرني ولا حدثني، ولكن يقول قُرِئ عليه، أو قَرأتُ عليه، نصّ عليه رحمه الله في رواية حنبل: وقيل له: سأل عوف الحسن فقال له: أقرأ عليك فأقول: حدثنا الحسن؟ قال: نعم، قال حنبل: سألت أحمد عن ذلك، فقال: لا، ولكن يقول: قَرأتُ. وبهذا قال بعضهم.
ولا فرق بين أن يقول: هو كما قرأته عليك؟ فيقر به، وبين أن يقول: أرويه عنك؟ فيقول: أروه عني وأنه على الخلاف الذي حكينا.
وذكر أبو إسحاق (1) في تعاليقه في كتاب "العلل": سمعت أبا محمد عبد الخالق بن الحسن بن محمد بن نصر السقطي (2) يقول: سألت ابن منيع (3) فيما يقرأه على الناس، ويقرأ عليه، فقال لى: سألت أحمد ابن حنبل عما سألتني عنه، فقال لي: إذا قرأ عليك، فقل: حدثنا، وإذا قرئ عليه [فقل] : حدثنا، فلان قراءةً عليه.
وظاهر هذا يقتضي جواز القول فيما قُرِئ عليه، لكن بشرط أن يقرر قراءةً عليه.
__________
(1) هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا، وقد سبقت ترجمته.
(2) سمع الباغندي. روى عنه ابن رزقويه. قال ابن الجوزي. (وكان ثقة، أحد الشهود المعدلين، وكان البرقاني يثني عليه ويوثقه) . مات سنة (356هـ) .
له ترجمة في: "شذرات الذهب" (3/19) ، و"المنتظم" (7/40) .
(3) هو: أحمد بن منيع بن عبد الرحمن، أبو جعفر الأصم، المروزي. سمع عبد العزيز بن أبي حازم، وهشيم بن بشير وسفيان بن عيينة وغيرهم ومنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. وثقه النسائي. مات سنة (244هـ) ، وعمره ثمان وثمانون سنة.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (5/160) ، و"شذرات الذهب" (2/105) ، و"طبقات الحنابلة" (1/76) .(3/978)
وذكر أبو عبد الله محمد بن مخلد بن حفص العطار في جزء صنفه في الإجازة والمناولة والقراءة فقال: حدثنا سليمان بن الأشعث أبو داود قال: سمعت أحمد -يعني ابن محمد حنبل- يقول: أرجو أن يكون العرض لا بأس به، يعني قراءة الحديث على المحدث، قيل لأحمد: فكيف يعجبك أن يقول؟ قال: يعجبني أن يقول كما يفعل: إن قَرأَ يقول: قرأتُ (1) .
قال: وسمعت أبا داود وسليمان بن الأشعث يقول: قلت لأحمد يعني ابن حنبل: كأن "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"؟ قال: نعم، "حدثنا" شديد (2) .
فإذا قلت: أيجوز أن يقول: أنبأنا وحدثنا؟ فتوجيهه أن إقراره بما قرىء عليه جواب عن الاستفهام، والجواب في الاستفهام "بنعم"، يقوم مقام خبره به، ألا ترى أن الحاكم إذا سأل المدعى عليه عن دعوي المدعي: هل عليك الحق الذي ادعاه عليك؟ فقال المدعى عليه: نعم، جاز للقاضي أن [147/أ] يقول: أقرَّ فلان عندي بكذا، فيكون قوله: "نعم" مقام إقراره بالحق الذي ادعى عليه.
وكذلك إن قرأ الشاهد الكتاب على المشهود عليه، ثم قال له: أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال المشهود عليه: نعم، جاز للشاهد أن يقول: أشهدني فلان على نفسه بكذا، فإذا كان كذلك، وثبت أن يكون قول المقروء عليه الحديث: نعم، بمنزلة إخباره (3) بما قرىء عليه وحدث به.
__________
(1) هذه الرواية موجودة بنصها في: "مسائل الإمام أحمد"، رواية أبي داود ص (281-282) .
(2) هذه الرواية موجودة بنصها في: "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود ص (282) .
(3) في الأصل (إخبار) .(3/979)
ورأيت بخط أبي حفص البرمكي تعليقاً على ظهر جزء، فيه "الرد على من انتحل غير مذهب أصحاب الحديث"، قال عبد العزيز: فقال: قراءتك على العالم، وقراءة العالم عليك سواء.
واحتج من قال لا يجوز ذلك:
بأن قول حدثني وأخبرني، ينبغي أن يكون المقروء عليه قد فعل الحديث والإخبار، وإذا لم يوجد منه ذلك، لم يجز للقارئ أن يقول: حدثني وأخبرني.
والجواب: أنا قد بينا أن قوله: "نعم" بمنزلة فعله الإخبار والحديث في الأصول.
واحتج: بأن جوابه في الاستئذان لأن يحدث عنه بنعم، أمر له بالحديث عنه، والأمر لا يكون خبراً عن المأمور به.
والجواب: أنه لا فرق عند هذا القائل بين أن يكون جوابه في الرواية عنه، وبين أن يكون جواباً في الاستفهام عن صحة ما قرىء عليه.
وقد بينا أن الجواب في الاستفهام بنعم، يقوم مقام الخبر به، إذا ثبت في أحد الموضعين أنه خبر وليس بأمر، ثبت في الموضع الآخر، لأن أحداً ما فرق بينهما.
فإن قرأ عليه وهو ساكت لم يقرّ به، فالظاهر أنه إقرار؛ لأن سكوته مع سماع القراءة رضى منه بما قرأه وأمضاه، فجاز أن يقول: أخبرني وحدثني، كما لو أقر به، والأحوط أن يقول له: هو كما قرأته عليك، أو قرئ عليك؟ فإذا قال: نعم، حَدّث به عنه.
فإن قال المحدث: أخبرنا فلان فهل يجوز للمستمع أن يروي عنه فيقول: قال حدثنا فلان، فيجعل مكان أخبرنا حدثنا، ومكان حدثنا أخبرنا؟ فيه روايتان:(3/980)
إحداهما: لا يجوز؛ لأنه يحكي عنه خلاف اللفظ الذي سمعه منه.
وقد نصّ على هذا في رواية حنبل فقال: إذا قال الشيخ: حدثنا قلت حدثنا، تتبع لفظ الشيخ، إنما هو خبر، ولا تقول لأخبرنا: حدثنا، ولا لحدثنا: أخبرنا، على لفظ الشيخ.
وفيه رواية أخرى: يجوز؛ لأن المعنى فيهما واحد؛ لأن المحدث له هو مخبر له في التحقيق، وكذلك المخبر هو محدث في الحقيقة.
وقد نصّ على هذا فيما حدثنا به أبو محمد الحسن بن محمد (1) قال: سمعت محمد بن رزق قال: سمعت جعفر بن هارون النحوي يقول: سمعت عبد الله بن أحمد الكسائي قال: سمعت أحمد بن [147/ب] عبد الجبار (2) يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: حدثنا وأخبرنا واحد.
وهو اختيار أبي بكر الخلال؛ لأنه لما ذكر رواية حدثنا في المنع، قال: قد سهل أبو عبد الله في هذا المعنى على جواز رواية الحديث علي المعني.
فإن قال له: قد أجزت لك أن تروي هذا الحديث عني، أو ما صح عندك من حديثي، جاز أن يقول: أجاز لي فلان، وأَخبرني فلان إجازة فيما صح عنده من سماعه، ولا يقول: حدثني ولا أخبرني مطلقاً؛ لأنه لم يخبره؛ وإنما أجازه إجازة.
وكذلك إذا ناوله كتاباً فيه حديث، وقال له: قد أجزت لك أن
__________
(1) الخلال. شيخ للقاضي أبي يعلي، وقد سبقت ترجمته ص (969) .
(2) هو: أحمد بن عبد الجبار، أبو بكر التيمي، العطاردي. الكوفي. سمع ابن عياش وابن ادريس وغيرهما. حدث ببغداد، وكان يروي مغازي ابن إسحاق. وثقه ابن حبان. مات بالكوفة سنة (272هـ) . له ترجمة في: "الأعلام" (1/140) و"تذكرة الحفاظ" (2/582) ، و"شذرات الذهب" (2/162) .(3/981)
تؤدي عني ما فيه من الحديث، جاز أن يقول: ناولني فلان، أو أخبرني فلان مناولةً.
وكذلك إذا كتب إليه بحديث جاز أن يقول: كتب إلي فلان، أو أخبرني فلان مكاتبةً.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على هذا فقال في رواية المروذي: إذا أعطيتك كتابي، وقلت لك: اروه عني، وهو من حديثى، فلا تبال سمعته أو لم تسمعه.
وقال أبو بكر الخلال (1) : أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: أن أبا عبد الله قال: لم أسمع من أبي توبة (2) شيئاً (3) ، [وإنما] كتب إليّ بأحاديث.
__________
(1) هو: أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال البغدادي الحنبلي، أحد الذين عنوا بمذهب الإمام أحمد جمعاً وترتيباً. سمع الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وغيرهما. حدث عنه غلامه أبو بكر عبد العزيز ومحمد بن الظفر وغيرهما.
ألف كتاب: "السنة"، و"العلل" و"الجامع". مات ببغداد شهر ربيع الآخر من سنة (311هـ) .
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (5/112) ، و"تذكرة الحفاظ" (3/785) ، و"شذرات الذهب" (2/261) ، و"طبقات الحفاظ" ص (329) ، و"طبقات الحنابلة" (2/12) ، و"المنتظم" (6/174) .
(2) هو: الربيع بن نافع أبو توبة الحلبي الطرسوسي. ثقة حجة. روى عن ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وعنه أبو داود والدارمي وأبو حاتم وغيرهم. مات سنة (241هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (2/472) ، و"الخلاصة" ص (115) .
طبعة بولاق، و"شذرات الذهب" (2/99) ، و"طبقات الحفاظ" ص (205) .
(3) في الأصل: (شيء) .(3/982)
قال أبو بكر الخلال: وكان محمد بن عوف الحمصي (1) يحدثنا كثيراً، فيكثر فيما نسمع منه من المسند خاصةً، فيقول: أخبرني أبو ثور (2) في كتابه إليّ.
وقال عبد الله: رأيت عبد الرحمن المتطبب (3) جاء الى أبي، فقال: يا أبا عبد الله أخبرني هاذين الكتابين، فقال له: ضعهما، فأخذهما أبي، فعارض بهما حرفاً حرفاً، فلما جاء دفعهما اليه، وقال: قد أجزت لك هذه بهذا.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف -فيما حكاه أبو سفيان عنهما-: لا
__________
(1) هو: محمد بن عوف بن سنان أبو جعفر الطائي الحمصي. من أصحاب الإمام أحمد. قال فيه أبو بكر الخلال: حافظ إمام في زمانه، معروف بالتقدم في العلم والمعرفة على أصحابه، روى عن الإمام أحمد وأبي المغيرة وغيرهما. وعنه أبو بكر الخلال، والإمام أحمد فيما قيل.
انظر ترجمته في: "طبقات الحنابلة" (1/310) .
(2) هو: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي. أحد الفقهاء المشهورين. ثقة مأمون. سمع وكيعاً وابن عيينة وغيرهما. ومنه أبو داود ومسلم وغيرهما. مات سنة (240هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (6/65) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/512) ، و"تهذيب التهذيب" (1/118) ، و"شذرات الذهب" (2/93) ، و"طبقات الحفاظ" ص (223) ، و"ميزان الاعتدال" (1/29) ، و"النجوم الزاهرة" (2/301) .
(3) أبو الفضل، وقيل: أبو عبد الله البغدادي. من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، و"نقلوا عنه المسائل". ذكره الخلال فقال: "عنده مسائل حسان عن أبي عبد الله. وكان يأنس به أحمد بن حنبل".
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/208) .(3/983)
تجوز الرواية بالإجازة والمناولة والمكاتبة، سواء قال حدثني به إجازةً أو مناولةً أو مكاتبةً، أو لم يقل ذلك.
وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنه قال: إن قال الراوي لرجل: قد أجزت لك أن تروي عني جميع ما في هذا الكتاب، فاروه عني، فإن كانا عَلِمَا ما فيه جاز له أن يروي عنه، فيقول: حدثني فلان، وأخبرني فلان، كما أن رجلاً لو كتب صكّاً، والشهود يرونه، ثم قال لهم: اشهدوا علىّ بجميع ما في هذا الكتاب، جاز لهم إقامة الشهادة عليه بما فيه.
وأما إذا لم يعلم الراوي ولا السامع ما فيه، فإن الذي يجب على مذهبنا: لا يجوز له أن يقول: أخبرني فلان، كما قالوا في الصك، إذا أشهدهم وهم لا يعلمون ما فيه لم تصح الشهادة، وكذلك إذا قال له: قد أجزت لك ما يصح عندك من صك فيه إقراري، فاشهد به علىّ، لم يصح.
قال: وإن علم المكتوب إليه أن هذا كتاب فلان إليه، جاز له أن يقول: أخبرني [148/أ] فلان، يعني الكاتب، ولا يقول حدثنا.
دليلنا على جواز الرواية في الإجازة والمناولة والمكاتبة على الوجه الذي ذكرنا:
أنه ليس فيه أكثر من أنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، وهذا لا يمنع الرواية عنه، كما لو قرئ عليه الحديث فأقر به، فإنه لم يوجد منه فعل الحديث، ومع هذا فإنه تصح الرواية عنه، كذلك ها هنا.
فإن قيل: هناك وجد منه ما هو في حكم الحديث، وهو إقراره به.
قيل: إقراره به ليس من فعل الحديث من جهته، وإنما هو إقراره بأنه سماعه، وهذا المعنى موجود ها هنا.
ولأن أمر الأخبار مبنى، على حسن الظن والظاهر، ولهذا قبل فيها(3/984)
العبيد والنساء وقول الواحد، والظاهر من حال الخط أنه صحيح لا يشتبه [فيه] ، فجازت الرواية به.
واحتج المخالف:
بأنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث، ولا ما هو في حكم الحديث؛ لأنه لم يحدث به، ولا قرئ عليه، فلم يجز أن يقول: حدثني ولا أخبرني.
والجواب: أنه يبطل به، إذا قرئ عليه، فأقرَّ به.
واحتج: بأن الشهادة على الشهادة لا تقبل في مثل هذا؛ لأنه لو كتب شاهدان إلى شاهدين: اشهدا على شهادتنا لم يجز، كذلك الأخبار.
والجواب: أن الأخبار (1) أمرها مبني على حسن الظن.
فإن كانت الإجازة مطلقة لجميع من أراد، جاز.
وقد رأيت ذلك بخط أبي حفص البرمكي، أو بخط والده أحمد بن إبراهيم البرمكي (2) في حاشيه الورقة الأولى من جزء خرجه أبو بكر عبد العزيز ترجمه: "الرد على من انتحل [غير] (3) مذهب أصحاب الحديث"، فقال: سمعت هارون بن موسى (4) وأجازه الشيخ معي جميع
__________
(1) في الأصل: (الشهادة) ، وهو خطأ، والصواب: ما أثبتناه.
(2) هو: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل البرمكي. من الطبقة الثالثة. تخصص في صحبة أبي الحسن بن بشار، ونقل كثيراً من أخباره. له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (2/74) .
(3) سبق للمؤلف ص (980) أن ذكر هذا الكتاب معزوا إلى أبي بكر عبد العزيز كما أثبتناه.
(4) هو: هارون بن موسى بن حيان أبو موسى القزويني. حدث عن أبي حاتم الرازي، وروى عنه علي بن عمر الحربي، وأبو بكر عبد العزيز. =(3/985)
ما خرج عنه لجميع من أراده، وذلك أن الراوية بالإجازة إنما تصح لما صح عنده من حديثه، وهذا المعنى موجود في المطلقة والمقيدة.
فإن روى حديثاً عن غيره فقال: حدثني فلان عن فلان، حمل على أنه سمع ذلك منه من غير واسطة، ويكون خبراً متصلاً.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو [ثابت] (1) ، وما رواه الزهري عن سالم عن أبيه، وداود عن أشعث عن علقمة عن عبد الله، ثابت.
وبهذا قال أصحاب الشافعي.
ومن الناس من قال: حديث العنعنة غير صحيح؛ لأن قول عبد الرزاق عن مَعْمَر، يحتمل: أن يكون غير مَعْمَر، وهو عنه على ما روى، ولكن لا لأنه سمعه منه.
وهذا غلط؛ لأن الظاهر من حال الراوي إذا قال: حدثني فلان عن فلان، أن كل واحد منهم سمع ذلك من [148/ب] الذي روى عنه من غير واسطة، فإنه لو كان واسطة لذكره وما أدرجه، فحمل الأمر على ذلك، ووجب العمل بالخبر.
مسألة
إذا روى صحابي عن صحابي خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لزمه العمل به،
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (14/32) ، وورد ذكره في ترجمة أبي بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال في: "تاريخ بغداد" (10/459) ، وله أيضاً ترجمة في "طبقات الحنابلة" (2/119) .
(1) بياض بالأصل يقدر بكلمة والتصويب دل عليه نقل أبي البقاء الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" ص (289) من الملحق.(3/986)
فإن لقي المروي له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، لم يلزمه أن يسأله عن الخبر، بل يقتصر على السماع الأول.
وقال بعض الناس: يلزمه أن يسأله عن ذلك.
وهذا غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث العمال والسعاة والمعلمين والحكام إلى البلاد، وكان الناس يرجعون إلى قولهم ويتعلمون منهم، ويقدمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يسألونه عن شيء من ذلك، بل يقتصرون على ما عرفوه من جهة رسله، فثبت: أنه لا يجب الرجوع إليه ومساءلته.
واحتج المخالف:
بأن لهم طريقا إلى معرفة الحكم من جهة الرسول قطعاً، ومعرفته من جهة الصحابي غير مقطوع عليه، فلم يجز ترك القطع والاقتصار على غلبة الظن.
والجواب: أنه ليس يمنع مثل هذا في أحكام الشرع، ألا ترى أن الإنسان يجوز له ترك التوضؤ بالماء من وسط النهر، ويتوضأ من ماء في إناء على طرف النهر.
فصل
فيمن يقع عليه اسم الصحابي
ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن اسم الصحابي مطلق على من رأى النبي عليه السلام، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب، ولا روى عنه الحديث؛ لأنه قال في رواية عبدوس بن مالك العطار (1) : أفضل الناس
__________
(1) أبو محمد. روى عن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما. وعنه عبد الله بن الإمام أحمد وأبو العباس السراج النيسابوري وغيرهما. كان من المقربين عند =(3/987)
بعد أهل بدر القرن الذي بعث (1) فيهم، كل من صحبه سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه، فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فقد أطلق اسم الصحبة على من رآه، وإن لم يختص به.
وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أن اسم الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه [وسلم] واختص به اختصاص الصاحب بالمصحوب سواء روى الحديث أو لم يروه، وأخذ العلم أو لم يأخذه، فاعتبر تطاول الصحبة في العادة.
وذكر أبو سفيان عن أبي سفيان عمرو بن بحر: أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - واختلاطه به، وأخذ العلم، وهذا القائل اعتبر طول الصحبة ونقل العلم.
وحكى الإسفراييني: أن الصحبة في العرف: عبارة عمن صحب غيره، فطالت صحبته له ومجالسته معه.
دليلنا:
أن الصحبة في اللغة: من صحب غيره قليلاً أو كثيراً، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً، وصحبته ساعة؟
ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبه (2) ، وذلك يقع على القليل والكثير، [149/أ] كالضارب مشتق من الضرب، والمتكلم مشتق من الكلام، وذلك يقع على القليل والكثير، كذلك ها هنا.
__________
= الإمام أحمد، وممن نقلوا عنه بعض المسائل.
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (11/115) ، و"طبقات الحنابلة" (1/241) .
(1) في الأصل: (بعثت) ، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وهو الموافق لما في طبقات الحنابلة (1/243) ، في ترجمة (عبدوس) ؛ لأنه نقل الرواية تامة، مع أنها رواية طويلة.
(2) في الأصل: (الكلام) .(3/988)
ولأنه ليس يحتاج في إطلاق هذا الاسم إلى من قد روى الحديث عنه صلى الله عليه [وسلم] وأخفى العلم عنه؛ لأن جماعة من الصحابة قد امتنعوا من رواية الحديث، ولم يكن ذلك مانعاً من إجراء هذا الاسم عليهم.
يبين صحة هذا: أن دواعيهم كانت مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، وكانوا يؤثرون الاشتغال بالجهاد على الرواية.
قال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن أبي وقاص زماناً، فما سمعت منه حديثاً، إلا أني سمعته ذات يوم يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق، والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي) .
وكذلك أخذ العلم منه لا يكون شرطاً في استحقاق هذه التسمية؛ لأن من اختص بغيره فإنه يطلق عليه أنه صاحب فلان، وان لم يأخذ منه العلم.
واحتج المخالف:
بأن عادة الأمة جارية بإطلاق هذا الاسم على من اختص بالنبي [صلى الله عليه وسلم] ، والمنع من إطلاقه على من لم يختص به، وإن كان قد رآه وسمع منه، كمن ورد عليه من الوفود والرسل (1) ومن يجري مجراهم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون هذا الاسم جارياً على من اختص به الاختصاص الذي ذكرناه.
ويبين صحة هذا: أن العالم إذا كان له أصحاب يصحبونه ويلازمونه كانوا هم أصحابه، وإن كان في البلد من يلقاه ويستفتيه، فلا يكون من أصحابه، كذلك النبي صلى الله عليه [وسلم] أصحابه من صحبه دون من لقيه مرة.
والجواب: أن من يرد عليه من الوفود والرسل إن كانوا مؤمنين به
__________
(1) في الأصل: (والرسلا) .(3/989)
انطلق عليهم الاسم، وإن كانوا كفاراً لم ينطلق عليهم الاسم؛ لأنهم غير تابعين له.
وأما من صحب غيره من العلماء على وجه التبع له في العلم ينطلق عليه الاسم وإن قل، ويقال: فلان صاحب فلان، وكذلك من صحب فلاناً يوماً على وجه الخدمة، يقال: هذا صاحب فلان، وأما من مشى معه في الطريق إذا استفتاه، فلا ينطلق عليه الاسم؛ لأنه لم يحصل تابعاً له في صحبته.
ومن كان في وقت النبي صلى الله عليه [وسلم] كان تابعاً له، فأما من يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي، فهو من يخبر عنه الصحابي.
وحكى أبو سفيان عن بعض شيوخه: أنه لا يجوز الإخبار عنه بأنه صحابي إلا بعد أن يقع لنا العلم بذلك، إما اضطراراً أو اكتساباً.
دليلنا:
أنه لو أخبر عن نفسه بأنه صحابي، قبل منه باتفاق منا ومن هذا القائل، فإذا أخبر عن غيره، يجب أن يقبل منه.
يبين صحة الجمع بينهما: أن [149/ب] فسقه لما كان مانعاً من قبول خبره بذلك عن نفسه، كان فسق غيره مانعاً من قبول خبره.
ولأنه لما وجب العمل بخبر الواحد، كذلك جاز الحكم بخبر الواحد في إثبات الصحبة.
وذهب المخالف إلى أنه لا يجوز لنا أن نخبر فلاناً من أن يكون الخبر عنه كذباً، كما لا يجوز لنا أن نخبر بالكذب، فإذا كان كذلك وكنا لا نأمن في الإخبار عن زيد بأنه صحابي، أن يكون حديثاً كذباً، وجب أن لا يجوز لنا الإخبار بذلك عنه.
والجواب: أن هذا موجود في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الواحد، فإنا نجوز أن يكون كاذباً فيه، ومع هذا يجب العمل بخبره، كذلك ها هنا،(3/990)
ويلزم عليه أيضاً إخباره عن نفسه، فإن أخبرنا عن نفسه بأنه صحابي، جاز قبول خبره، كما يقبل خبر غيره.
وحكي عن بعض الناس: أنه لا يقبل خبره، وإنما يعمل على خبر غيره.
دليلنا:
أنه لما قبل خبر غيره عنه بأنه صحابي، كذلك يجوز قبول خبره عن نفسه بذلك.
يبين صحة هذا وتساويهما: أن العدالة معتبرة فيما يخبر غيره عنه، وفيما يخبر هو عن نفسه.
فإن قيل: لا يمتنع أن يقبل قول غيره له، ولا يقبل قوله لنفسه، كما تقبل شهادة غيره له، ولا يقبل إقراره لنفسه؛ لأنه يجر إلى نفسه منفعة، وهذا موجود ها هنا.
قيل: هذا لا يمنع خبره لنفسه، ألا ترى أن من روى خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل منه وإن كان نفعه يعود بالمخبر؟ كذلك قوله: أنا صحابي لا يمنع، وإن عاد نفعه إليه ويفارق هذا الشهادة والدعوى؛ لأن حصول النفع يمنع قبول ذلك.
وأيضاً: فإن العقل لا يمنع من قبول خبره بذلك، والسمع لم يرد بالمنع، فجاز قبوله.
مسألة (1)
إذا قال الصحابي: من السنة كذا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من السنة أن لا يقتل حر بعبد (2) . اقتضى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) راجع هذه المسألة في "المسودة" ص (294) .
(2) قول علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحدود والديات =(3/991)
وكذلك إذا قال التابعي: من السنة كذا، كان بمنزلة المرسل، فيكون حجة على الصحيح من الروايتين، كما قال سعيد بن المسيب: من السنة إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما (1) .
وكذلك إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فإنه يرجع إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه.
وكذلك إذا قال: رخص لنا في كذا.
وقد نقل أبو النضر العجلي عن أحمد رحمه الله: في جراحات النساء مثل جراحات الرجال. حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجل، قال: هو قول [150/أ] زيد بن ثابت (2) ، وقول علي
__________
= (3/134) .
وأخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الجنايات، باب لا يقتل حر بعبد (8/34) . والأثر ضعيف؛ لأن في إسناده عندهما "جابراً الجعفي" وهو ضعيف.
راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/16) .
(1) هذا الأثر أخرجه الإمام الشافعي بسنده عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب، وذلك في كتاب النفقات، باب وجوب النفقة للزوجة، وإثبات الفرقة لها إذا تعذرت النفقة باعساره ونحوه (2/420) ، ولفظه: ( ... عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما. قال أبو الزناد: قلت سُنّة؟ فقال سعيد: سنّة. قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد: "سنة" أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" في كتاب الطلاق، باب الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته (7/96) بسنده عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب بمثل لفظ الشافعي.
وأخرجه بسنده عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب، ولم يقل: "من السنة".
وراجع في هذا الأثر. أيضاً: "تلخيص الحبير" (4/8) .
(2) قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" =(3/992)
كله على النصف (1) . قيل له: كيف لم تذهب إلى قول علي؟ قال: لأن هذا -يعني قول زيد- ليس بقياس، قال سعيد بن المسيب: هو السنة (2) .
وهذا يقتضي أن قول التابعي: من السنة، أنها سنة النبي صلى الله عليه [وسلم] ؛ لأنه قدم قوم زيد على قول علي؛ لأنه وافق قول سعيد: إنما هي السنة، وبين أنه ليس بقياس.
وقد رأيت بعض أصحابنا، ويغلب على ظني أنه أبو حفص البرمكي (3) ذكره في مسائل البرزاطي (4) ، لما روى الحديث عن ابن عمر أنه قال:
__________
= في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/96) ، بإسناد منقطع.
راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/364) .
(1) هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/95-96) بإسنادين، أحدهما منقطع.
راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/363) .
(2) أثر سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- أخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب الديات، باب ما جاء في جراح المرأة (8/96) ولفظه: ( ... عن ربيعة أنه سأل سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر. قال: كم في اثنتين؟ قال: عشرون، قال: كم في ثلاث؟ قال: ثلاثون. قال. كم في أربع قال: عشرون. قال ربيعة: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها.
نقص عقلها! قال: أعراقي أنت؟ قال ربيعة: عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: يا ابن أخي إنها السنة) .
راجع أيضاً: "نصب الراية" (4/364) .
(3) حرر هذا القائل بأنه ابن بطة، كما في "المسودة" ص (295) .
(4) هو: محمد بن أحمد أبو عبد الله البرزاطي. روى عن الحسن بن عرفة وعلي بن حرب الطائي وغيرهما. وعنه أبو بكر بن شاذان.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (1/382) ، و"اللباب" (1/137) .(3/993)
مضت السنة أن ما أدركت الصفقة حياً (1) مجموعاً فهو من مال المبتاع (2) ، فقال بعد هذا: صار الحديث مرفوعاً بقوله: مضت السنة، ويدخل في المسند (3) .
واختلف أصحاب أبي حنيفة في ذلك: فحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي: أنه لا يضيف ذلك، وحكى عن غيره من أصحابه: أنه يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] .
واختلف أصحاب الشافعي أيضاً: فذهب الصيرفي (4) إلى أنه لا يضاف إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وذهب غيره: إلى أنه يضاف إليه.
دليلنا:
أن السنة المطلقة في أحكام الشرع ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه؛ لأنه إذا أريد بها سنة غيره فإنها لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها.
يبين صحة هذا: أن الناس يقولون: عليكم بالقرآن والسنة، فلا يعقلون من ذلك إلا اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في "المسودة" ص (295) بالباء الموحدة وفي "صحيح البخاري" (حياً) بالمثناة التحتية كما أثبتناه.
(2) حديث ابن عمر رضي الله عنه ذكره البخاري معلقاً بصيغة: (قال) ولم يذكر قوله: (مضت السنة) ، وذلك في كتاب البيوع، باب إذا اشترى متاعاً أو دابة، فوضعه عند البائع، أو مات قبل أن يقبض.
(3) تعقب الشيخ ابنُ تيمية المؤلفَ في هذا، حيث قال في "المسودة" ص (295) : (قلت: ويغلب على ظني أن هذا الضرب لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعاً) .
(4) هو أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي، وقد سبقت ترجمته ص (105) .(3/994)
ولأن إطلاق الأمر في الشريعة يرجع إلى صاحب الشريعة، ولهذا كان أنس بن مالك يقول: أُمر بلال (1) أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (2) ويحدث به هكذا، ولا يقول له أحد: من الآمر به؟ فدل على ما قلناه.
__________
(1) هو: بلال بن رباح الحبشي، أبو عبد الله، مولى أبي بكر رضي الله عنه، ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحابي جليل، من أول الناس إسلاماً.
شهد بدراً والمشاهد كلها. مات بدمشق سنة (20) وله من العمر ثلات وستون سنة.
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/178) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (326) ، طبعة دار نهضة مصر.
(2) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه البخاري في كتاب الأذان، باب بدء الأذان (1/148) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (1/286) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في إفراد الإقامة (1/369-370) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الإقامة (1/121) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب تثنية الأذان (2/4) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأذان، باب إفراد الإقامة (1/241) .
وأخرجه عنه الدارمى في كتاب الصلاة، باب الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة (1/116) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب حديث أبي محذورة في صفة الأذان (1/59) .
وأخرجه عنه أبو داود الطيالسي في مسنده في كتاب الصلاة، باب صفة الأذان والإقامة (1/79) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار، في كتاب الصلاة، باب الإقامة كيف هي (1/132) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (105) و"نصب الراية" (1/271) .(3/995)
وكذلك عبد الله بن عمر قال: رخص للمتمتع في صيام أيام التشريق (1) ولا يقول أحد: من رخص للمتمتع في صيامها (2) ؟
وقد احتج بعضهم في ذلك:
بأن الأمر إنما يحسن لكون المأمور به مصلحة، توجب أن يكون في إضافته إلى من يعلم المصالح أولى من إضافته إلى من لا يعلم، والرسول [صلى الله عليه وسلم] أعلم بذلك دون غيره.
واحتج المخالف:
بأن الأمر والنهي والسنة لا يختص بالنبي دون غيره، قال تعالى: (أطيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُم) (3) فأمر باتباع أمر الولاة، كما أمر باتباع أمره عز وجل وَأمر رسوله صلى الله عليه [وسلم] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من [150/ب] سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنةً سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فأثبت لغيره سنة كما أثبت ذلك لنفسه.
وكذلك روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
__________
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري بسنده عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الصيام، باب صيام أيام التشريق (3/53-54) ، ولفظه: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) .
راجع فيه أيضاً "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (358) .
(2) في الأصل: (صيامهما) .
(3) (59) سورة النساء.(3/996)
الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة (1) .
فسمى رأيهم في أيام عمر سنة.
والجواب عن قوله تعالى: (وأولي الأمر منكم) : يحتمل ما أخبروا به عن الله عز وجل ورسوله [- صلى الله عليه وسلم -] .
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) يحتمل ما رووه عن النبي صلى الله عليه [وسلم] ، فكأنه قال: عليكم ما سمعتموه مني، وبما حدثكم به خلفائي عني.
وكذلك قوله: (من سن سنة حسنة) معناه: ما رواه عن النبي [صلى الله عليه وسلم] .
وقوله: (ومن سن سنة سيئة) فليس شيئاً مما نحن فيه؛ لأن خلافنا في السنة الشرعية، والسيئة ليست بشرعية، فلا يتناولها الإطلاق.
وجواب آخر وهو: أن الخلاف في إطلاق السنة، وها هنا مقيدة منسوبة إلى الخلفاء إلى غير النبي [صلى الله عليه وسلم] .
وأما قول علي: "وكل سنة"، فهو أنا نحمله على سنة النبي [صلى الله عليه وسلم] ؛ لأن الزيادة عندنا حد، وقد ثبت الحد بالسنة، وقال علي ابن أبي طالب لقنبر: ما إخال أن أحداً يعلمنا السنة، وأراد منه النبي صلى الله عليه [وسلم] .
__________
(1) حديث علي - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الخمر (3/1331-1332) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الحدود، باب في الحد في الخمر (2/473) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الحدود، باب حد السكران (2/858) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الحدود، باب في حد الخمر (2/97) .
وراجع فيه أيضاً: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (656) .(3/997)
مسألة (1)
إذا قال الصحابي أو التابعي: كانوا يفعلون كذا، حمل ذلك على الجماعة دون الواحد منهم. وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
وذلك نحو قول عائشة رضي الله عنها: كانوا لا يقطعون في الشيء، التافه (2) .
وقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً. فيكون هذا عن جماعتهم؛ لأن الصحابي والتابعي إذا قال: كانوا يفعلون كذا، فإنما يقول ذلك على وجه الدلالة على صحة ما فعلوا، فإذا كان كذلك، وكانت الجماعة التي فعلها وقولها حجة، هي الأمة وجب أن يكون قول القائل منهم راجعاً إليهم.
فإن قيل: يجوز أن يكون المراد به فعل بعض الصحابة؛ لأن فعل بعضهم يكون حجة.
قيل: الواحد لا يقع عليه اسم الجماعة.
__________
(1) راجع في هذه المسألة: "المسودة" ص (296) .
(2) هذا الأثر عن عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها بالسند المتصل ابن أبي شيبة في مصنفه، كما حكى ذلك الزيلعي في كتابه: "نصب الراية" (3/360) ، ولفظه: (قالت: لم تكن يد السارق تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه، ولم تقطع في أدنى من ثمن حجفه أو ترس) . كما أخرجه مرسلاً عن عروة.
وأخرجه عنها ابن عدي في كتابه: "الكامل" بالسند المتصل، وفي إسناده عبد الله بن قبيصة الفزاري، قال ابن عدي: "لم يتابع عليه" نقل ذلك الزيلعي في كتابه المذكور آنفاً.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب اللقطة، باب في كم تقطع يد السارق؟ (10/234-235) عن عروة مرسلاً.(3/998)
فإن قيل: فيجب أن لا يسوغ خلاف ذلك؛ لأنه حينئذ يكون خلاف الإجماع، فلما ساغ، دل على أن ذلك لم يقتض الإجماع.
قيل: إنما سوغنا الخلاف فيما هذا سبيله، لأنا نعلم أنهم أجمعوا عليه، وإنما استدللنا عليه بخبر الواحد، وخبر الواحد لا يوجب العلم بما تضمنه.
مسألة
إذا قال الصحابي: [151/أ] قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : كذا وكذا، حكم بأنه سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصير كما لو قال: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أو حدثني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] .
وحكي عن أبي بكر ابن الباقلاني قال: لا أحكم بأنه سمع ذلك منه، بل يجوز أن يكون بينهما واسطة.
دليلنا:
أنه لما قال [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أضاف القول إليه، وقطع على أنه قال، والظاهر من حال الإنسان أنه لا يقطع على الشيء ويطلقه إلا بعد أن يتحققه ويسمعه شفاهاً من قائله، فوجب حمل الأمر على ذلك، والحكم به.
واحتج المخالف:
بأنه قد يخبره بذلك العدد الكبير: فيقطع عليه، وإن لم يسمعه منه.
والجواب: أنه لو كان كذلك لكان بيّن الواسطه، ولا يطلق إضافة القول إليه، فلما أطلق كان الظاهر سماعه منه.(3/999)
مسألة
إذا قال الصحابي: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، بكذا، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن كذا، أو قال: فرض رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذا، أو أباح، أو حرم، فإن الحكم يثبت بذلك ويحكم به بالأمر والنهي.
وقد احتج أحمد رحمه الله على فرض زكاة الفطر: بقول ابن عمر: فرض رسول الله (1) [صلى الله عليه وسلم] .
وحكى عن القاضي أبي الحسن الجزري (2) أنه قال: مذهب داود: أن لا يثبت بذلك، ولا يحكم به.
__________
(1) حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر (2/153) ، ولفظه: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر (2/677) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الفطر (3/52) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب كم يؤدى في صدقة الفطر؟ (1/373) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب كم فرض؟ (5/36) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر (1/584) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الفطر (1/246) من "بدائع المنن".
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب في زكاة الفطر (1/329) .
(2) هو عبد العزيز أحمد بن الحسن أبو الحسن الجزري. كان ظاهرياً على مذهب =(3/1000)
وحكى عن ابن بيان القصار خلاف هذا، وكان على مذهب داود وأنكر ذلك، وقال: يجوز الاحتجاج به.
دليلنا:
أن تصديق الراوي واجب فيما ينقله ويرويه، فإذا قال: زنى ماعز فرجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسجد، وجب تصديقه، ويكون بمنزلة قوله - صلى الله عليه وسلم - زني ماعز فرجمته، وسهوت فسجدت، فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله: أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، ونهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بمنزلة قوله صلى الله عليه [وسلم] : أمرتكم ونهيتكم، وقد كان النبي صلى الله عليه [وسلم] يقول مثل ذلك، فروي عنه صلى الله عليه [وسلم] أنه قال: (آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع) (1) .
__________
= داود، وكان قاضياً بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك. مات سنة (391هـ) .
انظر ترجمته في: "البداية والنهاية" (11/330) ، و"شذرات الذهب" (3/137) .
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة وفد عبد القيس: أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (2/125) ، ولفظه: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إن هذا الحى من ربيعة، قد حالت بيننا وبينك كفار مضر، ولسنا نخلص إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بشيء نأخذه عنك، وندعو إليه من وراءنا، قال: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله، وعقد بيده هكذا، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء، والحنتم، والنقير والمزفت") .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (1/46) . =(3/1001)
ويدل عليه أن الصحابة اقتصروا على هذا اللفظ، وعولوا عليه، واحتجوا به، ولا يجوز في حقهم أن يعولوا على ما لا تقوم به الحجة. من ذلك قولهم: أمر رسول الله صلى الله عليه [وسلم] برجم ماعز ورجم الغامدية، وأمر بالمضمضة والاستنشاق، وقول ابن عمر: كنا لا نرى بالمخابرة بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فترك القول بالمخابرة بما نقل عنه من قوله: نهى عن المخابرة، فلولا أن الحجة تقوم به لم يرجعوا إليه.
ويدل [151/ب] عليه قول موسى لقومه: (إن اللهَ يأمركم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (1) وقد أظهر من إعناتهم واستفهامهم وكثرة سؤالهم ما قد اشتهر، ولم يقولوا لموسى: عرفنا ما يأمر الله لنقف على لفظه، فدل على أنه يستغنى بذلك عن ذكره ما بين أمره ولفظه. فإن قيل، ليس قولهم مما يجب الانقياد إليه.
قيل: قد لزم ذلك، ألا ترى أنهم لما سألوا أي بقرة هي أجابهم وإن كان ذبح ما يقع عليه الاسم يجزئ، فلولا أنه يجب الانقياد (2) ، لم يحسن التوقيف فيه ولا الجواب عنه.
ويدل عليه أنه قد ثبت من مذهب الصحابة: أن ما تنازعوا في مفهومه نقلوا لفظه، ولم يقتصروا على ما أمر النبي صلى الله عليه [وسلم] .
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الايمان (5/8) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الإيمان، باب أداء الخُمس (8/105) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الأشربة، باب في الأوعية (2/296) .
(1) (67) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (للانقياد) .(3/1002)
من ذلك: ابن عمر لما روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، ثم بين اعتقاده: أنه افتراق الأبدان.
وكذلك عمر في قوله: [هاء وهاء] وكذلك قول أبي هريرة في الولوغ.
ويدل عليه: أن المجمعين إذا أجمعوا على شيء من طريق الحجة، نقلوا إجماعهم في الفتيا، ولم ينقلوا الحجة؛ لأنهم قد علموا أن الإجماع تقوم به الحجة، فاستغنوا عن نقل ما به أجمعوا.
ويدل عليه: أن الصحابة إذا قالت: أخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثبت، ولم نطالبه بما قد علم الخبر، كذلك الأمر؛ لأنهم يعلمون ما به يعلم الخبر، والأمر في اللغة والشرع، وفي الخبر خلاف، كما في لفظ الأمر على قول الواقفة للاحتمال.
ويدل عليه: أن الصحابة من أهل الفصاحة، وقد شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل، فإذا رووا عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه أمر ونهى وجب أن يحمل ذلك على حقيقته، ولا يكون....... (1) عرف بذلك منهم.
واحتج المخالف:
بأن الناس اختلفوا في الأمر، فمنهم من قال: هو الإيجاب، ومنهم من قال: الندب والإيجاب جميعاً أمر، ومنهم من قال: الإباحة أيضاً مأمور بها (2) ، وإذا كان كذلك، وجب نقل لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والجواب: أن قوله: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إطلاقه أمراً مطلقاً،
__________
(1) بياض بالأصل، يقدر بكلمة.
(2) في الأصل: (به) .(3/1003)
والأمر المطلق من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب، وإنما يصرف عنه إلى الندب بدليل.
جواب آخر: هو أنه معرفتهم (1) بذلك أكثر من معرفتنا، فإذا سمعوا ما لا تنازع فيه نقلوه، وما كان فيه نزاع بينوه، بدليل ما قدمنا من قول ابن عمر في الافتراق.
مسألة (2)
إذا روى جماعة من الثقات حديثاً، وانفرد أحدهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه.
مثل أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل البيت، وانفرد أحدهم بزيادة، فقال: [152/أ] دخل البيت وصلى، ثبتت تلك الزيادة بقوله، كالمنفرد بحديث مفرد عنهم.
وهكذا لو أرسلوه كلهم، فرفعه واحد إلى النبي صلى الله عليه [وسلم] يثبت مسنداً بروايته.
وهكذا لو وقفوه كلهم على صحابي، فرفعه واحد منهم إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ثبت هذا المرفوع، ولم يرد.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على الأخذ بالزائد في مواضع:
فقال أحمد بن القاسم (3) : سألت أبا عبد الله رحمه الله عن
__________
(1) في الأصل: (معرفته) .
(2) هذه المسألة فصل القول فيها الحافظ ابن الصلاح في "مقدمته" ص (111-114) مطبوعة مع شرحها "التقييد والايضاح"، فارجع إليها إن شئت، وارجع أيضاً إلى "المسودة" ص (300) .
(3) أحد أصحاب الإمام أحمد الذين حدثوا عنه، ونقلوا بعض المسائل الفقهية. =(3/1004)
مسألة في فوات الحج، فقال: فيها روايتان: إحداهما: فيها (1) زيادة دم، قال أبو عبد الله: والزائد أولى أن يؤخذ به (2) ، قال: ومذهبنا في الأحاديث: إذا كانت الزيادة في أحدهما، أخذنا بالزيادة.
ونقل الميموني عنه أنه قال: نقل أن النبي صلى الله عليه [وسلم] دخل الكعبة ولم يصل (3) ، ونقل [أنه] صلى (4) ، فهذا يشهد أنه صلى. وابن عمر يقول: لم يقْنُت في الفجر (5) ، وغيره يقول: قنتَ (6) ،
__________
= له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/55) .
(1) في الأصل: (فيه) ، والتصويب من "المسودة" ص (300) .
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في "طبقاته" (1/55) في ترجمة أحمد بن القاسم السابق ذكره، وذكر انها من مروياته عن الإمام أحمد.
(3) سبق تخريج هذا الحديث، ص (628) .
(4) سبق تخريج هذا الحديث، ص (628) .
(5) حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه، في أبواب الصلاة، باب القنوت (3/107) ، ولفظه: ( ... عن أبي الشعثاء قال: سألت ابن عمر عن القنوت في الفجر، فقال: ما شعرت أن أحداً يفعله) .
وأخرجه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب القنوت في صلاة الفجر وغيرها (2/246) ، بلفظ: ( ... ما أحفظه عن أحد من أصحابي) ، وبلفظ: (ما شهدت، وما رأيت) ، وبلفظ: (ولا رأيت أحداً يفعله) ، وبلفظ: (ما رأيت ولا علمت) .
وراجع في هذا أيضاً: "نصب الراية": (2/130) .
(6) من هؤلاء أنس بن مالك - رضي الله عنه - فقد أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في أبواب الصلاة، باب القنوت (3/110) ، ولفظه: ( ... ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا) .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب صفة القنوت وبيان موضعه (2/39) .(3/1005)
فهذه شهادة عليه أنه قنت. وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله صلى الله عليه [وسلم] أن يخضب (1) ، وقوم يقولون: قد خضب (2) ، فهذه شهادة على الخضاب، فالذي شهد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو أوكد. وبهذا قال جماعة الفقهاء والمتكلمين.
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلاة (1/333) ، ولفظه: (سئل -أي أنس- هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ فقال: نعم..) .
وبمثل هذا اللفظ أخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب القنوت في صلاة الفجر وغيرها (2/243) .
وراجع في هذا أيضاً: "نصب الراية" (2/131-132) .
(1) حديث أنس - رضي الله عنه - في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب.
أخرجه عنه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (4/228) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الفضائل، باب شيبه صلى الله عليه وسلم (4/1821) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة (8/121-122) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب ترك الخضاب (2/1198) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب (2/403) .
(2) حديث تخضب الرسول صلى الله عليه وسلم للحيته، رواه أبو رمثة رضي الله عنه.
أخرجه عنه النسائي في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم (8/121) ، كما أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما في الموضع المذكور.
وأخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجه في كتاب اللباس، باب الخضاب بالصفرة (2/1198) .
وأخرجه أبو داود عن أبي رمثة - رضي الله عنه - كما أخرجه عن ابن عمر رضي الله عنهما وذلك في كتاب الترجل، باب في الخضاب، وباب ما جاء في خضاب الصفرة (2/403-404) .(3/1006)
وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى أن ما انفرد به الواحد منهم كان مردوداً، وهذا أبداً في كتبهم: تفرد به فلان وحده، يعنون الرد بذلك.
وقد روي عن أحمد رحمه الله نحو هذا في رواية الأثرم وإبراهيم ابن الحارث والمروذي: إذا تبايعا فخير أحدهما صاحبه بعد البيع، فهل يجب؟ فقال: هكذا في حديث ابن عمر، قيل له: أتذهب إليه؟ قال: لا أنا أذهب إلى الأحاديث الباقية، الخيار لهما ما لم يتفرقا، ليس فيها شيء من هذا.
فقد اطّرح رواية ابن عمر بزيادتها؛ لأن الجماعة ما نقلوها، وإنما تفرد بها ابن عمر.
وقال في رواية أبي طالب: كان الحجاج بن أرطاة من الحفاظ، قيل له: فلم هو عند الناس ليس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، ما يكاد له حديث إلا فيه زيادة.
دليلنا:
أن الجماعة إذا نقلت حديثاً، وانفرد واحد منهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه، كان كالمنفرد بحديث سواه ولو انفرد بحديث سواه كان مقبولاً فوجب أن تقبل هذه الزيادة.
فإن قيل: فقد رد أحمد رحمه الله مثل هذا، فإنه روى أن النبي صلى الله عليه [وسلم] قال: (من اعتق شرْكاً له في عبد، قوم عليه نصيب شريكه، ثم يعتق) (1) ، فانفرد سعيد بن
__________
(1) هذا الحديث رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. أخرجه عنه البخاري في كتاب الشركة، باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل (3/172) كما =(3/1007)
أبي عُروبة (1) فروى: (من أعتق شركاً له في عبد، استسعى العبد غير مشقوق عليه) ، فقال أحمد رضي الله عنه في رواية الميموني في حديث أبي هريرة في الاستسعاء (2) : يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة
__________
= أخرجه في كتاب العتق، باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أَمة بين الشركاء (3/179) .
وأخرجه عنه مسلم في أول كتاب العتق (2/1139) .
وأخرجه عنه أبو داود، باب فيمن روى أنه لا يستسعى (2/349) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه (3/620) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب الشركة في الرقيق (7/281) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب العتق، باب من أعتق شركاً له في عبد (2/844-845) .
(1) هو: سعيد بن أبي عروبة مهران أبو النضر البصري العدوي بالولاء. ثقة مشهور.
روى عن قتادة والحسن وابن سيرين وغيرهم. وعنه الأعمش والثوري وشعبة وآخرون. مات سنة (156هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/177) ، و"تهذيب التهذيب" (3/63) ، و"الخلاصة" ص (120) و"شذرات الذهب" (1/239) ، و"ميزان الاعتدال" (2/151) .
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه عنه البخاري في كتاب العتق، باب إذا أعتق نصيباً في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة (3/180) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب العتق، بأن ذكر سعاية العبد (2/1140-1141) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب العتق، باب من ذكر السعاية في هذا الحديث (2/349) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين، فيعتق أحدهما نصيبه (3/621) . =(3/1008)
وهشام (1) الدّستوائي (2) فلم يذكروا، لا أذهب إلى الاستسعاء.
[152/ب] فقد امتنع من الأخذ بها.
قيل: هذا باب آخر، وهو أن الزيادة تخالف المزيد عليه، فيكون كأنه تفرد بضد ما نقلته الجماعة، فينتقل الكلام إلى جنس آخر، وهو أن تقدم ما كثرت رواته على ما قلت رواته، وكذلك فيما نقل عن النبي عليه السلام في زكاة الفطر، نصف صاع من بر (3) ، ورويَ صاع من
__________
= وأخرجه عنه "ابن ماجه" في كتاب العتق، باب من أعتق شركاً له في عبد (2/844) .
(1) في الأصل: (تمام) .
(2) هشام بن أبي عبد الله سنبر أبو بكر الدستوائي الربعي البصري. ثقة حافظ، رمى بالقدر، روى عن قتادة ويحيى بن أبي كثير وطائفة، وعنه أبو داود الطيالسي وأبو نعيم وخلق. مات سنة (154هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/164) ، و"الخلاصة" ص (351) ، و"طبقات الحفاظ" ص (84) ، و"ميزان الاعتدال" (4/300) .
(3) حديث الاكتفاء بنصف صاع من البر في زكاة الفطر، أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب من روى نصف صاع من قمح (1/375) عن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صاع من بر أو قمح على كل اثنين، صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثي..") .
وأخرجه عنه الدارقطني من عدة طرق في كتاب زكاة الفطر (2/147-149) ، ولفظه في أحدها: (أدوا صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو نصف صاع من بر، عن كل صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد) .
كما أخرجه في الكتاب المذكور (2/149) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً، ولفظه: (.. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صدقة الفطر: "عن كل صغير وكبير، حر وعبد، نصف صاع من بر، أو صاعاً من تمر") .
كما أخرجه أيضاً في الموضع السابق موقوفاً. وقال: "هو الصواب".(3/1009)
بر (1) فهذه الزيادة تخالف المزيد عليه، فيقدم أحدهما بكثرة الرواة، فأما في خبرنا فلا يخالف المزيد عليه، فلهذا قبلناه.
فإن قيل: فهذا الواحد قد يسهو، إذ لو كان صحيحاً لسمعوا كما سمع، ونقلوا كما نقل، فلما لم ينقلوا ثبت أنه سهو.
قيل: النبي صلى الله عليه [وسلم] قد يكرر الأصل مراراً فيضبط، ويذكر الزيادة مرة فيضبطها واحد، وقد تنسى الجماعة ويذكره هو وحده وقد تنصرف الجماعة قبل إكماله الحديث. ويثبت هو حتى يكمله فينفرد بالزيادة.
وأيضاً: فان الخبر كالشهادة وكل شهادة خبر، وليس كل خبر شهادة، ثم ثبت أنه لو شهد ألف على إقراره بألف، وشهد شاهدان على إقراره بألفين، ثبتت الزيادة بقولهما، وإن كانا قد انفردا عن الجماعة، كذلك في الخبر مثله.
فإن قيل: يجوز أن يقرّ مرتين.
قيل: ويجوز أن يقوله النبي [صلى الله عليه وسلم] مرتين.
ولأنه لا خلاف أن القرآن نقل نقلاً متواتراً، وانفرد الشواذ لما خالفوا فيه الجمهور، كقراءة ابن مسعود وأُبي، فنقل كل واحد، ولم ينكر [و] هـ، ولم يقولوا لما انفرد بالزيادة كان كل مردوداً، كذلك الخبر مثله.
__________
(1) حديث النص على الصاع من البر في زكاة الفطر أخرجه الدارقطني في كتاب زكاة الفطر (2/147-148) ، عن ثعلبة بن صعير رضي الله عنه من عدة طرق، ولفظه في أحدها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا عن كل إنسان صاعاً من بر، عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير ... ) .(3/1010)
ولأن الواحد إذا انفرد بالزيادة غلب على الظن صدقه، فإنه لا ينقل إلا ما سمعه وعرفه، والجماعة إذا لم ينقلوا جاز أن يحمل ذلك على سهو ونسيان، وذلك يجوز عليهم، ولا يجوز على الواحد الثقة نقل ما لم يسمعه، فوجب أن يقبل قوله فيما تفرد به.
واحتج المخالف:
بأنه إذا نقله الكل وانفرد واحد بالزيادة، كان ما تفرد به سهواً، لأنهم ما حفظوه حين قاله النبي [صلى الله عليه وسلم] مراراً سمعوه كلهم فلو كان ما تفرد به صحيحاً لقال الزيادة، كما قال المزيد عليه، ولو قال سمعوه كما سمع ونقلوه كما نقل.
والجواب عنه: ما تقدم، وهو أنه يجوز أن يكون نسواً وسهواً، وذكر هو، وسمعوا بعض الحديث، وسمع هو جميعه.
ويحتمل أن يكون أحدهم أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر أبعد، فسمع لقربه ما خفي على الأبعد.
ولأنه يبطل بالشهادة على الإقرار، إذا انفرد بعضهم بالزيادة.
واحتج: بأن الأصل متحقق والزيادة مشكوك فيها؛ فلا تترك الحقيقة بالمشكوك فيه.
والجواب: أنا لا [153/أ] نسلم أنها مشكوك فيها؛ لأن غالب الظن فيه الصدق فيما تفرد به للاحتمال الذي ذكرنا.
ولأنه يبطل بالشهادة، ويبطل به إذا انفرد بخبر، عمل عليه [و] لا يقال: كيف نقل هذا؟ وحفاظ الصحابة وعلماؤهم ما نقوله.
واحتج: بأنه إذا خالف الكل هنا انفرد، فقد خالف أهل الصنعة، فكان ما نقله كل مردوداً، كخبر الواحد إذا خالف الإجماع يرد، لأنه خالف أهل الصنعه.(3/1011)
والجواب: أنه ما خالفهم، لأنه واحد منهم، وإنما خالف بعض أهل الصنعة، وليس هذا كالإجماع، لأنه خالف الكل فلهذا ترك.
ولأن خبر الواحد يسقط بالإجماع، لأنه في ضد ما أجمعوا عليه وهاهنا ما خالف ما نقلوا، بل نقل ما نقلوا، بل لو خالف ما نقلوا رجحنا بكثرة الرواة.
واحتج: بأن الراوي قد يفسر الحديث فيتأوله، فيسمعه بعض الرواة مطلقاً فيرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير، روي عن ابن عباس وأبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً) (1) ، وقال أبو هريرة وابن عباس: "والهر" (2) .
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (225) .
(2) تخريج حديث (أبي هريرة) السابق لم يذكر فيه "الهر"، أما ذكر "الهر" في الحديث، فقد أخرجه الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب (1/151) ، ولفظه: ( ... عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات: أولاهن، أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة") . وقال الترمذي -بعد ذلك-: "حديث حسن صحيح". وأخرجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أبو داود موقوفاً، وذلك في كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب (1/17) ، ولفظه قريب من لفظ الترمذي.
وقد نص البيهقي في "سننه الكبرى" في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (1/247) ، أن بعض الرواة أدرج قول أبي هريرة في الهرة في الحديث المرفوع في الكلب.
ونقل الزيلعي في: "نصب الراية" (1/136) عن صاحب "التنقيح" قوله: "وعلة الحديث أن مسدداً رواه عن معتمر، فوقفه".
كما نقل عن صاحب "الإمام" قوله: "والذي تلخص أنه مختلف في رفعه =(3/1012)
وروي ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام الا كالطعام (1) فأدرجه بعض الرواة، فرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة) (2) ، قال الراوي: في كل خمس شاة، فأدرجه بعض الرواة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
= واعتمد الترمذي في تصحيحه على عدالة الرجال عنده، ولم يلتفت لوقف من وقفه، والله أعلم".
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/152) : (وهذا الذي قال العلامة ابن دقيق العيد في "الامام": صحيح جيد وأزيد عليه أن مسدداً -في رواية أبي داود عنه- روى الحديث كله موقوفاً، في ولوغ الكلب، وفي ولوغ الهر، فلو كان هذا علة لكان علة في الحديث كله، ولكن ليس علة، ولا شبيهاً بها، بل الرفع من باب زيادة الثقة، وهي مقبولة، فما صنعه الترمذي من تصحيح الحديث هو الصواب) .
(1) قد مضى للمؤلف أن استدل بهذا الحديث وأورده بلفظ: (من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يستوفيه) ، وقد خرجناه ص (179) .
(2) هذا الحديث أخرجه أبو داود في: "مراسيله" ص (14) عن حماد قلت لقيس ابن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو فأعطاني كتاباً أخبرني أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده.
فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة ...
وقد نقل الزيلعي في: "نصب الراية" (2/343) أن ابن راهويه أخرجه في "مسنده"، والطحاوي في "مشكله".
وهو حديث متكلم فيه، فقد نقل الزيلعي أن ابن الجوزي قال في كتابه "التحقيق": =(3/1013)
فإذا كان هذا جارياً معتاداً، وجب التوقف في الزيادة التي انفرد بها لئلا يكون في هذا المعنى.
والجواب: أنه قد يدرج الراوي ما يفسره الصحابي، ولكن الظاهر إذا قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أنه كله مضاف إلى الرسول (1) [صلى الله عليه وسلم] ، مسموع منه، منقول كله عنه، حتى يُبين خلاف هذا، فلا يترك الظاهر من الحال بأمر متوهم مظنون.
واحتج: بأن مقومين لو قوموا المتلف بدرهم، وقوم آخران بدرهمين لكان، الواجب هو الأقل ولم تجب الزيادة، كذلك ها هنا.
والجواب: أن شهادتهما متعارضة في الزيادة؛ لأنهم قد اتففقوا على
__________
= هذا حديث مرسل، كما نقل عن ابن هبة الله الطبري قوله: هذا الكتاب صحيفة، وليس بسماع..
وقال فيه البيهقي في "سننه الكبرى" (4/94) : ( ... وهو منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس ابن سعد وحماد بن سلمة وإن كانا من الثقات فروايتهما هذه بخلاف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره. وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، ويتجنبون ما يتفرد به عن قيس بن سعد خاصة وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين ما فيه من الانقطاع، وبالله التوفيق) .
على أن هذا الحديث قد أخرجه الطحاوي عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، ولفظه: ( ... فإذا بلغت العشرين ومائة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففرائض الإبل) .
قال البيهقي: "إنه موقوف ومنقطع".
راجع: "نصب الراية" (2/345) .
(1) في الأصل: (الرسولة) .(3/1014)
صفه المتلف واختلفوا في قدر القيمة بالسعر القائم في السوق فوجب (1) أن يكون اللذان أثبتا الزيادة واللذان نفيا الزيادة مخطئين.
وقيل فيه: بأن من قوَّمه بدرهم يقول: عرفت صفة المتلف وسعر السوق في وقت الإتلاف، فكانت قيمته درهماً، ومن قوَّمه بدرهمين (2) يقول: عرفت تلك الصفة بعينها وسعر [153/ب] السوق، تعارضت شهادتهما في الزيادة، فلم تثبت، وليس كذلك رواية من لم يروا الزيادة؛ لأنه لا ينفيها على ما ذكرت.
مسألة
إذا سمع خبراً، فأراد أن ينقل بعضه ويترك بعضه، نظرتَ، فإن كان بعض متعلقاً ببعض، بحيث إذا ترك البعض أخلّ ببعض حكم المنقول، لم يجز ذلك.
وإن كان لا يتعلق به، بل كان يشتمل علي حكمين، لا يتعلق أحدهما بالآخر، كان له نقل أحد الحكمين وترك الآخر؛ لأنه إذا كان بعضه متعلقاً ببعض كان ترك بكل بعضه تغييراً لخبر الرسول [صلى الله عليه وسلم] وزوال المقصود، ولا يجوز ذلك، وإذا اشتمل على الحكمين منفردين حصل بمنزلة حديثين منفردين، ومن كان عنده خبران جاز أن يرويَ أحدهما دون الآخر.
وقد نصّ أحمد رحمه الله على جواز ذلك، فقال أبو الحارث: كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن تقطيع الأحاديث، إذا أراد الرجل منه كلمة والحديث طويل، فقال: إذا كان يحتاج من الحديث إلى حرف، يريد أن
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) في الأصل: (قومه درهمين) بدون حرف الجر.(3/1015)
يقتصر لطوله، فأرجو أن لا يكون عليه شيء، قال: ورأيت أبا عبد الله قد أخرج أحاديث، أخرج منها حاجته من الحديث وترك الباقي، يخرج من أول الحديث شيئاً، ومن آخره شيئاً، ويدع الباقي.
وذكر الأثرم في كتاب "العلل" قال: ذكر أبو عبد الله حديث طَلْق ابن علي في المسكر الذي ذكر فيه: لا يشربه رجل ابتغاء لذة سكر، ربما يذكر (1) ذكت هذه الكلمة: ابتغاء لذة سكر (2) ، مخافة أن يتأولوها على غير تأويلها، ونقل هذا.
ونقلت من مسائل إسحاق بن إبراهيم من باب الرأي والعلم، قال: سألتة عن الرجل يسمع الحديث، وهو إسناد واحد، فيقطعه ثلاثة أحاديث قال: قال: لا يلزمه كذب، وينبغي أن يحدث كما سمع فلا يغيره.
قال أبو بكر الخلال: قد حكى اختصار الحديث عن أبي عبد الله جماعةٌ، وبين عنه أبو الحارث، وذكر عنه الفضل بن زياد وأبو أمية الطرسوسي (3) اختصاراً لا يكون شيء أبين ولا أحسن اختصاراً (4) من
__________
(1) كلمة: (يذكر) لا معنى لها، فالأولى حذفها.
(2) في الأصل: (سكره) .
(3) هو: محمد بن إبراهيم بن مسلم، أبو أمية، البغدادي، ثم الطوسي، من أصحاب الإمام أحمد. روى عن عبد الله بن بكر السهمي وأبي اليمان، وخلق. وروى عنه أبو عوانة وابن جوصاء وغيرهما. وثقه أبو داود وغيره. مات بطرسوس سنة (273هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (10/425) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/581) ، و"الخلاصة" ص (276) ، و"طبقات الحفاظ" (258) ، و"طبقات الحنابلة" (1/365) ، و"العبر" (2/51) .
(4) في الأصل: (اختصر) .(3/1016)
حديث الإسراء وحديث النعمان بن بزرج (1) ، وهذان الحديثان كل (2) واحد منهما في أوراق.
وحكى أبو بكر في الباب حكاية فقال: أخبرنى يزيد بن عبد الله الأصفهاني (3) قال: سمعت إسماعيل بن محمد الغزال (4) من حملة العلم قال: سمعت نعيم بن حماد (5) يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تميز حديثي؟ فقلت: إن حديثك ربما دخل في أبواب، فسكت عني.
__________
(1) في الأصل: (بن بزرح) بالحاء المهملة، والصواب: (بزرج) بالجيم المعجمة، كما أثبتناه.
وهو: النعمان بن بزرج، اليماني، الصنعاني. يقال: إن له صحبة. وقيل: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه. ووهم أبو نعيم حين قال: "لا يعرف له إسلام". وقد بين الحافظ ابن حجر سبب الوهم، ورده. مات في خلافة عبد الملك، وله من العمر مائة وثلاثون سنة، على ما قيل.
له ترجمة في: "الإصابة" القسم السادس ص (498) طبعة دار نهضة مصر.
(2) في الأصل: (بكل) .
(3) لم أقف عليه.
(4) لم أقف عليه.
(5) هو: نعيم بن حماد بن معاوية أبو عبد الله الخزاعي المروزي الفرضي. روى عن إبراهيم: بن طهمان وابن المبارك وهشيم وغيرهم. وعنه يحيى بن معين والذهلي والدارمي وخلق. وثقه أحمد وابن معين وغيرهما وضعفه النسائي.
حبس بسامراء بسبب محنة القرآن، حتى مات سنة (228هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/306) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/418) ، و"الخلاصة" ص (346) ، و"شذرات الذهب" (2/67) ، و"طبقات الحفاظ" ص (180) ، و"ميزان الاعتدال" (4/267) ، و"النجوم الزاهرة" (2/257) .(3/1017)
وذكر أبو بكر الخلال في باب غسل الحائض من كتاب "العلل" عن المروذي، وذكر لأحمد حديث ابن أبي شيبة (1) عن وكيع (2) ، كأنه اختصره، فقال: ويحك، يحل له أن يختصر؟ قال أبو بكر [154/أ] الخلال: أبو عبد الله لا يرى بأساً باختصار الحديث وابن أبي شيبة اختصر في غير موضع الاختصار.
واختلف الناس في هذا، فمن قال: لا يجوز نقل الحديث على المعنى وعلى الراوي نقل لفظه بعينه قال ها هنا: لا يجوز أن ينقل بعضه (3) ويترك بعضه.
واحتج بما تقدم من قوله: (رَحِمَ الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها) .
__________
(1) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي: ولاءً، الكوفي موطناً، الحافظ، صاحب "المصنف" و"المسند" روى عن شرَيك القاضي وابن المبارك وابن عيينة وغيرهم. وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي وخلق. مات سنة (235هـ) . له ترجمة في: "البداية والنهاية" (10/315) ، و"تاريخ بغداد" (10/66) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/432) ، و"الخلاصة" ص (179) و"شذرات الذهب" (2/85) ، و"طبقات المفسرين" (1/146) ، و"ميزان الاعتدال" (2/490) ، و"النجوم الزاهرة" (2/282) .
(2) هو: وكيع بن الجراح بن مليح، أبو سفيان الرواسي الكوفي. أحد الحفاظ المشهورين. روى عن السفيانين ومالك وغيرهم. وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق ويحيى وخلق. قيل: إن فيه تشيعاً قليلاً. مات سنة (196هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/466) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/306) ، و"الخلاصة" ص (356) ، و"شذرات الذهب" (1/349) ، و"ميزان الاعتدال" (4/335) ، و"النجوم الزاهرة" (2/153) .
(3) كلمة (بعضه) كررت في الأصل.(3/1018)
ومن قال: يجوز نقل الحديث على المعنى، قال ها هنا: يجوز على الصفة التي ذكرناها، والكلام في هذا الأصل قد تقدم.
وقد أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بإسناده عن نعيم بن حماد قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: أنت الذي تقطع حديثي؟ قال: قلت يا رسول الله: إنه يبلغنا الحديث عنك فيه ذكر الصلاة وذكر الصيام وذكر الزكاة، فيجعل ذا في ذا وذا في ذا؟ قال: نعم إذن.
فصل (1)
في ترجيحات الألفاظ
إذا تعارض لفظان من الكتاب والسنة، فلم يمكن الجمع بينهما، أو أمكن الجمع بينهما من وجهين مختلفين، وتعارض الجمعان، وجب تقديم أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح التي أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما وجب التقديم بالترجيح؛ لأنه يدل على قوته، ويجب تقديم الأقوى، وإذا ثبت هذا فالترجيح يقع تارةً بما يرجع إلى إسناد الخبر، وتارةً إلى متنه، وتارةً إلى غيرهما.
فأما ما يرجع إلى الإسناد فمن وجوه:
أحدها: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواةً، فيجب تقديمه.
وقد قال أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فيما روي عن علي رضي الله عنه في امرأة المفقود، هي امرأته حتى يعلم أحيّ أم ميت (2) ؟ فقال:
__________
(1) راجع هذا الفصل في: "المسودة" ص (305-314) .
(2) أثر علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب العدد، باب عدة الأمة وأم الولد وما تفعل من فقد زوجها (2/407) ، ولفظه: (.. أنه قال في امرأة المفقود: إنها لا تتزوج) . =(3/1019)
أبو عوانة (1) تفرد بهذا، لم يتابع عليه.
وقال أيضاً في رواية الميموني، وقد ذكر له حديث بلال بن الحارث (2) في فسخ الحج لنا خاصة (3) ،: لو عرف بلال أن أحد عشر رجلاً من
__________
= وأخرجه عنه البيهقي في كتاب العدد، باب من قال: امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين وفاته (7/444) بمثل لفظ الإمام الشافعي. راجع في هذا الأثر أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/237) .
(1) هو: وضاح بن عبد الله أبو عوانة اليشكري الواسطي. روى عن الأعمش وابن المنكدر وخلق. وعنه شعبة وابن مهدي وابن المبارك وخلق. قال الذهبي في الميزان: (مجمع على ثقته، وكتابه متقن بالمرة) . قال أبو حاتم: "ثقة يغلط كثيراً إذا حدث من حفظه". مات سنة (176هـ) له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (13/460) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/236) ، و"الخلاصة" ص (360) ، و"شذرات الذهب" (1/287) ، و"طبقات الحفاظ" ص (100) ، و"ميزان الاعتدال" (4/334) .
(2) هو: بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد أبو عبد الرحمن المزني. وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد مُزَينة سنة خمس من الهجرة. روى عنه ابنه الحارث، وعلقمة بن وقاص، وعمرو بن عوف. مات سنة (60هـ) ، وله من العمر ثمانون سنة.
له ترجمة في الاستيعاب (1/183) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (326) طبعة دار نهضة مصر و"الخلاصة" ص (53) ، طبعة بولاق.
(3) حديث بلال بن الحارث - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب الحج، باب الرجل يهل بالحج، ثم يجعلها عمرة (1/420) ولفظه: (.. قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة، أو لمن بعدنا؟ قال: "بل لكم خاصة") .
وأخرجه عند النسائي في كتاب الحج، باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي (5/140) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب من قال: كان فسخ الحج لهم خاصة (2/994) . =(3/1020)
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون (1) [من الفسخ] ، أين يقع بلال بن الحارث؟ (2) .
وبهذا قال أصحاب [الشافعي] .
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الجرجاني وأبو سفيان السرخسي إلى أنه يرجح بكثرة الرواة.
وحكى أبو سفيان عن الكرخي: أنه لا يرجح بذلك.
دليلنا:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرجع إلى قول ذي اليدين حتى أخبره بذلك غيره، فرجع إلى قولهم، وكذلك أبو بكر الصديق لما روي له المغيرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلم] . أطعم الجدة السدس، فطلب
__________
= وقد تكلم الزيلعي في "نصب الراية" (3/104) عن هذا الحديث، فارجع إليه إن شئت.
(1) في الأصل: (يروى ما روى) .
(2) نقل المجد ابن تيمية في كتابه: "المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (382) كلام الإمام أحمد في هذا الحديث، ونصه: (قال أحمد بن حنبل: حديث بلال ابن الحارث عندي ليس يثبت، ولا أقول به ولا يعرف هذا الرجل -يعني الحارث بن بلال- وقال: أرأيت لو عرف الحارث بن بلال، إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يروون ما يروون من الفسخ، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟!) .
كما نقل بعد ذلك قول الإمام أحمد من رواية أبي داود: (وليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة. وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وشطراً من خلافة عمر) .
ويلاحظ أن كلامَ الإمام أحمد في رواية الميموني التي ساقها المؤلف منصبّ على بلال بن الحارث رضي الله عنه، وهو صحابي، وهذا بخلاف ما نقله عنه المجد ابن تيمية؛ لأن كلامه هنا منصب على الحارث ابن الصحابي بلال بن الحارث.(3/1021)
أبو بكر الزيادة، فشهد له محمد بن مسلمة، فقضى به، فدل على أن للزيادة في العدد قوة في [154/ب] العمل بالخبر.
ولأن الشيء بين الجماعة الكثيرة أحفظ منه بين الجماعة اليسيرة، ولهذا قال الله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) (1) فإذا كان كذلك كان خبر الجماعة أولى بالحفظ والضبط.
ولأن خبر لأعلم الأتقن أولى بالتقديم عندهم؛ لأن مع الأعلم من الضبط ما ليس مع غيره، كذلك يجب تقديم خبر الجماعة لهذا المعنى.
ولأن الخبر إذا كان أكثر رواة، فهو أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ، وأشبه بالثواب، فوجب تقديمه والأخذ به.
ولأن كثرة العدد لها تأثير (2) في إيجاب العلم؛ لأن المخبرين إذا بلغوا عدداً مخصوصاً وقع العلم بمخبرهم، وإذا كانت كثرة العدد طريقاً إلى العلم، وجب أن يكون الخبر الذي حصلت هذه المزية له أقوى من الخبر الذي لم يحصل فيه ذلك.
ولأن كثرة وجوه الشبه لما كانت موجبة لقوة ما يثبت من طريق الشبه وجب أن يكون كثرة رواة الخبر موجباً لقوة ما ثبت بالخبر؛ لأن طريق الحكم بالقياس هو من جهة السنة، كما أن الحكم بالخبر هو من جهة الخبر.
واحتج المخالف:
بأن خبر الواحد وخبر الجماعة التي لا يقع بها العلم سواء؛ لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن.
__________
(1) (282) سورة البقرة.
(2) في الأصل: (تأثيراً) .(3/1022)
والجواب: أن خبر الجماعة أقوى في الظن، فكان تقديم الأقوى أولى، ويبطل بكثرة وجوه الشبه في أحد القياسين.
واحتج: بأن شهادة الشاهدين وشهادة الأربعة فأكثر سواء، ولا فرق بينهما، كذلك خبر الواحد وخبر الجماعة يجب أن يكونا سواء.
والجواب: أن الشهادة مخالفة للخبر؛ لأن شهادة الأعلم والأتقن وشهادة غيرهما سواء، والخبر يرجح بعلم الراوي وإتقانه.
ولأن العدد في الشهادة منصوص عليه، فكان ذلك وما زاد سواء، وليس كذلك الخبر، فإنه منصوص على العدد فيه، فكان الأكثر في العدد أولى؛ لأنه أقوى في الظن.
واحتج: بأن كثرة عدد المجتهدين، لا يوجب قوة اجتهادهم، كذلك كثرة عدد الرواة.
والجواب: أن العلم لا يقع باجتهاد المجتهدين أبداً دائماً، وإنما يقع العلم إذا أجمعوا على الحكم المجتهد فيه بإجماعهم دون اجتهادهم والعلم الواقع بخبر التواتر إنما يقع بخبر العدد المخصوص دون معنى سواه.
الثاني: أن يكون أحد الروايين أتقن وأعلم، فتكون روايته أولى؛ لأنه أولى بالضبط والحفظ من غيره، ومثاله أن مالكاً وسفيان أعلم وأتقن من زائدة (1) وعبد العزيز بن أبي حازم (2) ، ومثل هذا كثير.
__________
(1) هو: زائدة بن قدامة أبو الصلت الثقفي الكوفي. ثقة ثَبَت. روى عن إسماعيل السدي وحميد الطويل وغيرهما. وعنه ابن المبارك وأبو داود الطيالسي وآخرون.
مات سنة (161هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/215) ، و"تهذيب التهذيب" (3/306) ، و"الخلاصة" ص (120) . و"شذرات الذهب" (1/251) ، و"طبقات الحفاظ" ص (91) ، و"غاية النهاية في طبقات القراء" (1/288) ، و"النجوم الزاهرة" (2/39) .
(2) هو: عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار أبو تمام المدني المخزومي بالولاء. =(3/1023)
وقد قال عبد الله بن أحمد [155/أ] : حدثني صالح بن علي النوفلي (1) قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (2) : المثبتون في الحديث أربعة شعبة وسفيان وزائدة وزهير (3) .
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: المشهور بالرواية أولى.
الثالث: أن يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه؛ لأن المباشر أعرف بالحال، ومثاله ما قلناه في رواية أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نكح ميمونة وهو
__________
= روى عن أبيه وسهيل بن أبي صالح وغيرهما. وعنه الحميدي وعلي بن حجر ويعقوب الدورقي وخلق. ثقة، ليّنه بعضهم. ولد سنة (107هـ) ومات ساجداً سنة (184هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/268) ، و"تهذيب التهذيب" (6/333) ، و"الخلاصة" ص (202) ، و"شذرات الذهب" (1/306) ، و"طبقات الحفاظ" ص (114) ، و"ميزان الاعتدال" (2/626) .
(1) هو: صالح بن علي النوفلي من آل ميمون بن مهران. من أصحاب الإمام أحمد، كان مقدماً على أهل حلب. سمع من أحمد بن حنبل. ومنه أبو بكر الخلال.
له ترجمة في: "طبقات الحنابلة" (1/177) .
(2) كلام الإمام أحمد هذا نقله السيوطي في كتابه: "طبقات الحفاظ" ص (91) .
(3) هو: زهير بن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي، الثقة الحافظ. روى عن الأعمش وحميد الطويل وسماك وغيرهم. وعنه القطان وأبو داود الطيالسي وابن مهدي وآخرون. مات سنة (172هـ) .
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/233) ، و"الخلاصة" ص (105) و"شذرات الذهب" (1/282) ، و"طبقات الحفاظ" ص (98) و"ميزان الاعتدال" (2/86) .(3/1024)
حلال) (1) أنه أولى من رواية ابن عباس: (أنه نكحها وهو حرام) (2) ؛ لأن أبا رافع كان السفير بينهما، والقابل لنكاحها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الرابع: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة، كميمونة، قدمنا قولها: تزوجني رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ونحن حلالان (3) ، على [قول] ابن عباس؛ لأنها المعقود عليها، فهي أعرف بوقت عقدها من غيرها لاهتمامها به ومراعاتها لوقته.
ومنع الجرجاني: أن يكون هذا ترجيحاً، وقال: هذا الحكم لا يعود إلى صاحب القصة، وإنما يعود إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] ،
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي رافع - رضي الله عنه - في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم (3/191) ، وقال الترمذي -بعد ذلك- (هذا حديث حسن ولا نعلم أحداً أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق عن ربيعة) وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (6/392-393) .
وأخرجه عنه ابن حبان في صحيحه: كما حكى ذلك الزيلعي في "نصب الراية" (3/172) .
وأخرجه مالك في "الموطأ" عن سليمان بن يسار مرسلاً، وذلك في كتاب الحج، باب نكاح المحرم (2/272) ، مطبوع مع "شرح الزرقاني".
(2) سبق تخريجه ص (967) .
(3) حديث ميمونة -رضي الله عنها- أخرجه عنها مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم (2/1032) .
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب المناسك، باب المحرم يتزوج (1/427) .
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب النكاح باب المحرم يتزوج (1/632) .
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم (2/192) .
وأخرجه عنها الإمام أحمد في "مسنده" (6/332) .(3/1025)
وقد يكون الغير أقرب إليه، وأعرف بأحواله في نفسه من المرأة.
والصحيح ما ذكرنا؛ لأن صاحب القصة أعرف بذلك من غيره.
الخامس: أن يكون موضعه أقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فيكون أسمع لقوله وأعرف به، وقد شبهوا ذلك بحديث ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (1) ، قدمناه على رواية أنس: أنه قرن (2) ؛ لأنه روي عن ابن عمر قال: كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه [وسلم] فسالَ عليّ لعابها.
السادس: أن يكون أحدهما من كبار الصحابة، والآخر من صغارهم فإن الكبار كانوا (3) أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عليه السلام: (لِيليني منكم أولوا الأحلام والنّهَى) (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة (2/904-905) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (2/97) .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الحج (2/238) .
(2) حديث أنس - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب في الافراد والقران بالحج والعمرة (2/905) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في الإقران (1/416-417) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في الجمع بين الحج والعمرة (3/175) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب من قَرنَ الحج والعمرة (2/989) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/99) .
(3) في الأصل: (كان) .
(4) هذا الحديث رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها.. (1/323) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف (1/156) . =(3/1026)
السابع: أن يكون أحدهما سمع بغير حجاب: فيقدم على من سمع دون حجاب؛ لأنه أقرب إلى الضبط، ومثاله: أن حديث عروة بن الزبير والقاسم بن محمد (1) عن عائشة رضي الله عنهم: أن بريرة أعتقت وكان زوجها عبداً (2) ، فقدم على حديث الأسود عن عائشة: أن زوجها
__________
= وأخرجه عنه النسائي في كتاب الصلاة، باب من يلي الإمام ثم الذي يليه (2/68) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب من يستحب أن يليَ الإمام (1/312) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب من يلي الإمام من الناس (1/233) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (1/457) .
(1) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد التيمي المدني. أحد الفقهاء السبعة. روى عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه الزهري والشعبي ونافع وخلق. قال فيه ابن سعد: كان ثقة عالماً فقيهاً إماماً كثير الحديث. مات سنة (106هـ) وقيل غير ذلك، وله من العمر سبعون سنة تقريباً.
له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/96) و"تهذيب الأسماء" (2/55) ، و"تهذيب التهذيب" (7/333) ، و"الخلاصة" ص (267) ، و"شذرات الذهب" (1/135) ، و"طبقات الحفاظ"، ص (38) .
(2) حديث عروة عن خالته عائشة رضي الله عنها في أن زوج "بريرة" كان عبداً، أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/1143) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (3/451-452) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (1/517) .
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/134-135) . =(3/1027)
كان حرّاً (1) ؛ لأنهما سمعا منها من غير حجاب؛ لأنها خالة عروة وعمة القاسم.
فإن كان أحدهما سمع بغير كتاب، والآخر يرويه عن كتاب، فهما سواء.
__________
= وأخرجه الدارقطني (3/290-292) .
وأما حديث القاسم بن محمد الذي رواه عن عمته عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه مسلم في كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق (2/1143-1144) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد (1/517) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت (1/671) .
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك (6/135) .
وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق: باب تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق (2/91) .
وأخرجه الدارقطني (3/292) .
(1) حديث الأسود عن عائشة -رضي الله عنها- في أن زوج "بريرة" كان حرّاً أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب الولاء لمن أعتق، وباب ميراث السائبة (8/191-192) ، وقال في آخر الحديث: (قال الحكم: وكان زوجها حرّاً، وقول الحكم مرسل، وقال ابن عباس: رأيته عبداً) كما قال في سند آخر: (قول الأسود منقطع، وقول ابن عباس رأيته عبداً أصح) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج (3/453) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب من قال: كان حراً (1/518) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة إذا عتقت (1/670) .
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها حر (6/233) .
وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق، باب تخيير الأمة تكون تحت العبد فتعتق (2/90-91) .(3/1028)
وقد عارض أحمد رحمه الله أخبار الدباغ بحديث ابن عكيم (1) ، وهو عن كتاب؛ لأن ناقل الكتاب جارٍ (2) مجرى راوي اللفظ؛ لأنه إما أن يقول: قرأه علينا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، أو يقول: هذا كتابه: كما يقول: سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، وما يتطرق على أحدهما يتطرق على الآخر مثله من التغيير.
وقال الجرجاني: ما [155/ب] سمعه أولى مما روي عن كتاب؛ لأن التغيير يجوز على الكتاب، ولا يجوز ذلك فيما سمعه.
قيل: لا يجوز مثل هذا عليه؛ لأن الرسول صحابي؛ ولأنه إن جاز التغيير على الكتاب، جاز التغيير فيما يحكيه لفظاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثامن: أن يكون أحدهما أمسّ سياقاً للحديث، وأشد تقصياً، فيكون أولى؛ لأنه يدل على حفظه وضبطه، ومثاله ما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (3) ، وقد وصف خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة مرحلةً مرحلةً ودخوله مكة، ومناسكه على ترتيبه، وانصرافه إلى المدينة.
التاسع: أن يكون أحد الراويين لم يضطرب لفظه، والآخر قد اضطرب لفظه، فيقدم خبر من لم يضطرب لفظه؛ لأنه يدل علي حفظه
__________
(1) هو عبد الله بن عكيم أبو معبد الجهني، وقد سبقت ترجمته، كما قد سبق تخريج حديثه، وقد أورده المؤلف بلفظ: (أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) .
(2) في الأصل: (جاري) .
(3) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام.. (2/881-885) بعدة ألفاظ.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب المناسك، باب في إفراد الحج (1/414-415) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب المناسك، باب الإفراد في الحج (2/988) .
وتكلم عنه الحافظ ابن حجر في كتابه: "تلخيص الحبير" (2/231) .(3/1029)
وضبطه، وسوء حفظ صاحبه، ومثاله: ما روى عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع اليدين في ثلاثة مواضع (1) ، فيقدم على ما روى البَرَاء ابن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود (2) ، قال سفيان بن عيينة: كان يزيد بن أبي
__________
(1) حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البخاري في كتاب، الأذان، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء (1/137) ولفظه: ( ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع. وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام.. (1/292) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الصلاة (1/166) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع (1/279) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الافتتاح، في ثلاثة أبواب متتابعة، أولها باب العمل في افتتاح الصلاة (2/93-94) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع (2/35) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الركوع والسجود (1/229) .
وأخرجه عند الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح (1/287) .
(2) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع (1/273) ، ثم قال بعد ذلك: (هذا الحديث ليس بصحيح) . =(3/1030)
زياد (1) يروي هذا الحديث، ولا يذكر: "ثم لا يعود"، ثم دخلت الكوفة، فرأيت يزيد بن أبي زياد يرويه، وقد زاد فيه: "ثم لا يعود"، وكان قد لقن فتلقن.
العاشر: أن لا تختلف الرواية عن أحدهما، فتقدم روايته على رواية من اختلفت الرواية عنه؛ للمعنى الذي ذكرنا.
__________
= وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكر التكبير ورفع اليدين عند الافتتاح (1/293-294) ، كما أخرجه عنه ولم يذكر قوله: (ثم لم يعد) ، وقال: "هو: الصواب، إنما لُقِّن يزيد في آخر عمره"، "ثم لم يعد"، فتَلَقّنه، وكان قد اختلط.
ثم نقل عن "علي بن عاصم" -أحد رواة الحديث- أنه قدم الكوفة قبل أن يموت "يزيد بن أبي زياد" الذي عليه مدار الحديث، فحدثه بهذا الحديث، ولم يذكر الزيادة، فقال له علي: أخبرني ابن أبي ليلى أنك قلت: "ثم لم يعد"، فقال: لا أحفظ هذا، ثم أعاد عليه فقال: لا أحفظه.
وهذا الحديث قال فيه أحمد بن حنبل: "لا يصح"، وقال مرة أخرى: "هذا حديث واه، وقد كان "يزيد" يحدث به برهة من دهره، لا يقول فيه: (ثم لا يعود) فلما لقنوه تلقن، فكان يذكرها" وقد ضعف هذا الحديث البخاري ويحيى والدارمي وغيرهم.
وقال الحافظ ابن حجر: (اتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لم يعد" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد) .
راجع في هذا: "تلخيص الحبير" (1/221-222) .
(1) هو: يزيد بن أبي زياد الكوفي. أحد علماء الكوفة المشهورين. روى عن مجاهد وابن أبي نعيم وغيرهما. وعنه ابن أبي ليلى وهشيم وغيرهما. قال فيه أحمد: "ليس بذلك". وقال ابن المبارك: "إرم به" وقال يحيى: "ليس بالقوي".
وقال ابن فضيل: "ابن أبي زياد، من أئمة الشيعة الكبار". وقال ابن حبان: "صدوق، إلا أنه كبر وساء حفظه".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/749) ، و"ميزان الاعتدال" (4/423) .(3/1031)
ومنهم من قال: تتعارض الروايتان عنه. ويسقطان، ويعمل برواية من لم تختلف الرواية عنه.
الحادي عشر: أن يكون أحدهما مسنداً والآخر مرسلاً، فالمسند أولى.
قال أبو بكر الأثرم: رأيت أبا عبد الله إذا كان الحديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] في إسناده شيء يأخذ به، إذا لم يجد خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب (1) ، ومثل حديث إبراهيم الهجري (2) ، وربما أخذ بالحديث المرسَل، إذا لم يجيء خلافه، وذلك لأن من الناس من قال: إن المرسَل لا يحتج به.
ولأن المسنَد عدالة راويه معلومة من جهة الظاهر، لمعرفتنا به، والمرسَل عدالة الراوي مستدل عليها من جهة أنه لا يروي إلا عن عدل عنده، فكان المعلوم أولى من المستدل عليه.
وقال الجرجاني: المرسل أولى من المسند؛ لأن المرسل شاهد على رسول
__________
(1) هو: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو إبراهيم السهمي. روى عن الربيع بنت معوذ الصحابية وعن أبيه وطاووس وغيرهم.
وعنه مكحول وعطاء والزهري وخلق. وثقه ابن معين وابن راهويه وغيرهما.
وقال البخاري فيه: رأيت أحمد وعلياً وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث عمرو ابن شعيب، فمن الناس بعدهم؟ قال الذهبي معلقاً على قول البخاري: (ومع هذا القول، فلم يحتج به في صحيحه) . مات بالطائف سنة (118هـ) وتحرير القول فيه أنه حسن الحديث إذا كان الراوي عنه ثقة.
له ترجمة في "تهذيب التهذيب" (8/48) و"المغني في الضعفاء" (2/484) ، و"ميزان الاعتدال" (3/263) .
(2) هو: إبراهيم بن مسلم الهجري. روى عن عبد الله بن أبي أوفى. وعنه شعبة وجعفر بن عون وغيرهما. ضعفه ابن معين والنسائي وغير واحد وتركه ابن الجنيد.
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/26) ، و"ميزان الاعتدال" (1/65) .(3/1032)
الله صلى الله عليه [وسلم] قاطع لإضافة الحكم إليه، فصار أولى منه.
وهذا فاسد؛ لأنه غير قاطع فيما يرسله ويسنده، وإنما تجوز له الرواية عمن عرف عدالته في الظاهر، فلا فرق بين أن يظهره أو يكتمه، في أن الرواية عن كل واحد منهما [156/أ] جائزة، فأما من تأخر إسلامه، فإنه لا يوجب ذلك تأخير خبره عن خبر من تقدم إسلامه.
وذهب بعض الشافعية إلى أن ذلك يوجب تأخير خبره، وسووا في ذلك خبر قيس بن طَلْق (1) مع خبر أبي هريرة في الوضوء من مس الذكر (2) .
والدلالة عليه: أن كفر الكافر لا يمنع صحة سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز أن يكون الراوي قد سمع كما رواه في حالة كفره من النبي
__________
(1) الصواب: أن يقول المؤلف: طلق بن علي؛ لأنه هو الصحابي الراوي لحديث عدم النقض من مس الذكر، وقد سبق للمؤلف ص (832) أن ذكره كذلك، كما أورد الحديث بلفظ: (لا وضوء من مسه) وقد سبق ترجمة طلق بن علي وتخريج حديثه المذكور في الموضع المشار إليه.
وليس المقصود: قيس بن طلق، وإن كان هو الراوي للحديث عن أبيه طلق بن علي، وما دام المؤلف ذكره كذلك، فإليك ترجمته:
هو: قيس بن طلق بن على الحنفي روى عن أبيه. وثقه العجلي ويحيى في رواية.
وقال: ابن القطان: "يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً". وضعفه أحمد ويحيى في رواية. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "ليس ممن تقوم به حجه".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (2/527) ، و"ميزان الاعتدال" (3/397) .
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في وجوب الوضوء من مس الذكر، قد سبق تخريجه ص (833) ، وقد ذكره المؤلف بلفظ: (وجوب الوضوء من مسه) .(3/1033)
[صلى الله عليه وسلم] ، ثم رواه بعد إسلامه، لم يكن في تأخير إسلامه دليل على تأخير خبره.
وأمّا الترجيح الذي يعود إلى متنه
فمن وجوه:
أحدها: أن يكون أحدهما قد جمع النطق ودليله، كما قدمنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة فيما لم يقسم، وإذا وقعت الحدود فلا شفعة) (1) ؛ لأن جمعه بينهما أشد تيقظاً للبيان.
والثاني: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً؛ لأن القول أبلغ في البيان.
الثالث: أن يكون أحدهما قولاً وفعلاً، والآخر قولاً، فيكون اجتماعهما أولى.
__________
(1) هذا الحديث رواه جابر رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الشفعة، باب الشفعة ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (3/108) ، ولفظه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب في الشفعة (2/256) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء إذا حدث الحدود، ووقعت السهام فلا شفعة (3/643-644) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب البيوع، باب الشركة في الرباع (7/281) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب البيوع، باب في الشفعة (2/186) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/296) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الشفعة، باب ما جاء في الشفعة (2/211) .(3/1034)
الرابع: أن يكون أحدهما لم يدخله التخصيص، والآخر دخله التخصيص، فيكون ما لم يدخله التخصيص أولى؛ لأنه أقوى؛ لأن دخول التخصيص يضعف اللفظ، ومن الناس من قال: يصير مجازاً.
الخامس: أن يكون قد قضى بأحدهما على الآخر في موضعه، واختلفا في غيره، فيكون القضاء به أولى.
السادس: أن يكون أحدهما مطلقاً، والآخر وارداً على سبب، فإنه يقضي على سببه، ويقدم المطلق عليه، لأن الوارد على سبب قد ظهرت فيه أمارة التخصيص، فيكون أولى بإلحاق التخصيص به. مثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدّل دينه فاقتلوه) (1) ، فإنه يقدم على نهيه عن قتل النساء؛ لأنه وارد في الحربية.
السابع: أن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم المختلف فيه: فيكون أولى، كما قدمنا قوله: (وَأَنْ تجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ) (2) على قوله: (أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَانُكُم) (3) في تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأن قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) قصد به الزوج دون بيان الحكم.
الثامن: أن يكون أحد المعنيين أظهر في الاستعمال، كما قدمنا الحمرة في الشّفق.
التاسع: أن يكون أحد التأويلين موافقاً لفظه من غير إضمار، كما قلنا في قوله عليه السلام للمرتهن: (ذهب حقك) (4) يعني من الوثيقة دون
__________
(1) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (352) .
(2) (23) سورة النساء.
(3) (3) سورة النساء.
(4) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (141) .(3/1035)
الدين؛ لأن (1) حمله على الدين يحتاج إلى إضمار، فيقول: ذهب حقك: دينك إذا كان مثل قيمة الرهن.
والعاشر: أن يكون أحد التأويلين لا يتضمن تخطئة النبي [صلى الله عليه وسلم] في الباطن، والآخر يتضمن تخطئة، كما يقول [156/ب] في ضمان علي بن أبي طالب عن الميت، وقوله: (هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن) (2) ابتداء ضمان، وليس بإخبار عن ضمان سابق؛ لأنه لو كان إخباراً عن ضمان، لكان الميت قد خلف وفاءً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بامتناعه عن الصلاة يكون مخطئاً في الباطن.
والحادي عشر: أن يكون أحدهما إثباتاً والآخر نفياً، فيكون الإثبات أولى، كما قدمنا رواية بلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، وصلى (3) ، على رواية أسامة (4) : أنه لم يصل (5) ؛ لأن من رآه يصلي، معه زيادة علم.
وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على هذا في رواية الميموني فقال: الذي يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ولم يصلّ، وهذا يقول: صلَّى، فهذا يشهد أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صلى. وابن عمر [يقول] :
__________
(1) في الأصل: (ولأن) ، باثبات الواوا، والصواب: حذفها، كما فعلنا.
(2) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ ص (142) .
(3) سبق تخريجه، وقد ذكره المؤلف بهذا اللفظ عن ابن عمر ص (628) .
(4) هو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل أبو زيد الكلبي. كان حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عنه عروة بن الزبير وعثمان النهدي وجماعة، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (54هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/75) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (49) ، طبعة دار نهضة مصر.
(5) سبق تخريجه بلفظ: (دخل البيت، ولم يصل) عن ابن عباس ص (628) .(3/1036)
لم يقنت النبي [صلى الله عليه وسلم] (1) ، وغيره يقول: قنت (2) ، فهذه شهادة عليه أنه قنت.
وحديث أنس: لم يأنِ لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يخضب (3) وغيره (4) يقول قد خضب (5) ، فهذه شهادة على الخضاب، والذي يشهد على النبي [صلى الله عليه وسلم] ليس بمنزلة من لم يشهد.
الثاني عشر: أن يكون أحدهما زائداً، كما قدمنا خبر التكبير سبعاً في صلاة العيد (6) على غيره أنه كبر..............................
__________
(1) مضى تخريجه ص (1005) .
(2) مضى تخريخه ص (1005) .
(3) حديث أنس - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (1005) .
(4) في الأصل: (عروة) ، وهو خطأ. وقد سبق للمؤلف ص (1006) أن ذكر ما يدل على ذلك.
(5) حديث تخضيب النبي صلى الله عليه وسلم سبق تخريجه ص (1006) .
(6) أخرج ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين (1/262) ، ولفظه: (.. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً) .
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في كم يكبر الإمام في صلاة العيدين (1/407) .
وأخرجه عنها الحاكم في "المستدرك" في كتاب العيدين، باب تكبيرات، العيدين (1/298) وقال بعد ذلك: (تفرد به عبد الله بن لهيعة، وقد استشهد به مسلم في موضعين، وفي الباب عن عائشة وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، والطريق إليهم فاسدة) .
وأخرجه الدارقطني عنها في كتاب العيدين (2/46) .
وأخرجه عنها البيهقي في "السنن الكبرى" في كتاب صلاة العيدين، باب التكبير في صلاة العيدين (3/286) . =(3/1037)
.................................
__________
= وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الزيادات، باب صلاة العيدين، كيف التكبير فيها (4/343-344) ثم قال بعد ذلك: (أما حديث ابن لهيعة، فبين الاضطراب، مرة يحدث عن عقيل، ومرة عن خالد ابن يزيد، عن ابن شهاب، ومرة عن خالد بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب، ومرة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وأبي واقد رضي الله عنه، فذكرنا ذلك كله في هذا الباب) .
وقد نقل الزيلعي في: "نصب الراية" (2/216) ، عن الدارقطني أن في هذا الحديث اضطراباً، ثم بين بعد ذلك الاضطراب، كما نقل عن الترمذي قوله في كتابه "العلل" سألت محمداً -يعني البخاري- عن هذا الحديث، فضعفه، وقال: لا أعلم [أحداً] رواه غير ابن لهيعة.
والتكبير سبع في الأولى وخمس في الثانية، أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في الموضع السابق ذكره (1/262) .
كما أخرجه عنه ابن ماجه في الموضع المذكور سابقاً (1/407) .
وأخرجه عنه الدارقطني في الموضع السابق (2/48) .
وأخرجه عنه البيهقي في الموضع السابق (3/285-286) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (2/180) .
وأخرجه عنه الطحاوي في الموضع السابق (4/343) .
وهذا الحديث يدور إسناده على "عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي" وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين مرة: "صويلح" وقال مرة: "ضعيف".
وقال ابن عدي: "أما سائر حديثه فعن عمرو بن شعيب، وهي مستقيمة، فهو ممن يكتب عنه" قال الذهبي بعد ذلك - (قلت: ثم خلطه بمن بعده فوهم) .
وقال النسائي وأبو حاتم وغيرهما: "ليس بالقوي".
راجع: "المغني في الضعفاء" (1/344) ، و"الميزان" (2/452) .
وقد نقل الزيلعي في "نصب الراية" (2/217) عن النووي أنه قال في كتابه "الخلاصة": قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال هو صحيح.
أما الطحاوي فقد قال في المرجع السابق (4/344) : (.. وإنما يدور على "عبد الله =(3/1038)
أربعاً (1) ، وكما قدمنا في صدقة الفطر رواية......................
__________
= ابن عبد الرحمن"، وليس عندهم بالذي يحتج بروايته، ثم هو أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وذلك عندهم ليس بسماع ... ) .
أما الترمذي فقد أخرجه عن عمر بن عوف المزني رضي الله عنه، في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التكبير في العيدين (2/416) ، وقال: (حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي عليه السلام) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في الموضع السابق (1/407) .
وأخرجه عنه الدارقطني في المرجع السابق (1/48) .
وأخرجه عنه الطحاوي في المرجع السابق (4/344) .
وأخرجه عنه البيهقي في المرجع السابق ذكره (3/286) .
ومدار هذا الحديث على: "كثير بن عبد الله بن عمرو المزني" قال الشافعي فيه: "ركن من أركان الكذب". وقال ابن معين: "ليس بشيء". وقال الدارقطني: "متروك". وقال النسائي: "ليس بثقة".
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/531) ، و"الميزان" (3/406) .
أما تحسين الترمذي لهذا الحديث، فقد رده ابن دحية في كتابه "العلم المشهور" حيث قال: وكم حسن الترمذي في كتابه من أحاديث موضوعة، وأسانيد واهية، منها هذا الحديث نقل ذلك عنه الزيلعي في "نصب الراية" (2/217-218) .
(1) حديث التكبير في صلاة العيدين أربعاً، رواه أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما. أخرجه عنهما أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين (1/263) ، ولفظه: (أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربعاً، تكبيرُهُ على الجنائز، فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة، حيث كنت عليهم) .
وأخرجه عنهما الإمام أحمد في "مسنده" (4/416) .
وأخرجه عنهما البيهقي في كتاب صلاة العيدين، باب ذكر الخبر الذي روي في التكبير أربعاً (3/289) . =(3/1039)
الصاع (1) على من روى نصف صاع (2) .
والثالث عشر: أن يكون أحدهما متأخراً؛ لأن ابن عباس قال: كنا نأخذ من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدث فالأحدث.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية عبد الله؛ تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة، فإن الخبر قبل الخبر، فيكون الأخير أولى أن يؤخذ به.
والرابع عشر: أن يكون أحدهما فيه احتياط للفرض وتبرئة للذمة بيقين، أو يكون احتياطاً للفعل المقصود، مثل الاحتياط للحرب في صلاة الخوف.
__________
= وأخرجه عنهما الطحاوي في كتاب الزيادات، باب صلاة العيدين، كيف التكبير فيها (4-345-346) ، وقال بعد ذلك: (فهذا ما ثبت عندنا في التكبير في العيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نعلم شيئاً روي عنه مما يثبت مثله، يخالف شيئاً من ذلك) .
ومدار هذا الحديث على "عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي" وعلى: "أبو عائشة، جليس أبي هريرة".
أما الأول فقد اختلفوا فيه، فقال ابن معين: "ليس به بأس". وقال مرة: "ضعيف". ووثقه أبو حاتم ودحيم. وقال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وقال: "ليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكبير العيدين حديث صحيح".
وقال النسائي: "ليس بالقوي".
راجع في ترجمته: "المغني في الضعفاء" (2/377) ، و"الميزان" (2/551) .
أما الثاني، وهو"أبو عائشة" فقال الذهبي: "غير معروف". وسبقه إلى ذلك ابن القطان، حيث قال: "لا أعرف حاله"، وابن حزم حيث قال: "هو مجهول".
انظر ترجمته في: "الميزان" (4/543) ، و"نصب الراية" (2/215) .
(1) سبق تخريجه ص (1010) .
(2) سبق تخريجه ص (1009) .(3/1040)
والخامس عشر: أن يتقابل لفظ القرآن ولفظ السنة ويكون بناء كل واحد منهما على الآخر ممكناً، فظاهر كلام أحمد: تقديم السنة وترتيب القرآن عليها (1) ، وقال: السنة بيان القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (2) .
وقال في رواية أبي الحارث: السنة تفسر القرآن وتبينه، والسنة تعرف الكتاب.
وقال في رواية أبي داود: السنة تفسر القرآن.
وفي رواية عبد الله: السنة تدل على معنى القرآن.
ويحتمل أن يقدم القرآن وترتب السنة عليه؛ لأنه مقطوع بطريقه، ومثاله: أن يبيح أكل كلب الماء وخنزيره بقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (3) ويعارض هذا الخصم بقوله تعالى: (أوْ لَحْمَ خنزيرٍ) (4) ، وهذا ينبني على نسخ السنة بالقرآن، وقد ذكرنا جواز ذلك.
السادس عشر: أن يكون أحدهما حاظراً، والآخر مبيحاً، [157/أ] فالحاظر أولى؛ لأن في الحظر احتياطاً؛ لأن ترك المباح لا إثم فيه، وفعل المحظور إثم، فكان تركه أولى من الفعل ها هنا.
ولأنه إذا اجتمع ما يبيح وما يحظر، وجب تغليب الحظر، كما نقول
__________
(1) في الاصل: (عليه) .
(2) (44) سورة النحل.
(3) سبق تخريج الحديث ص (665) ، وقد أورده المؤلف بلفظ: (البحر، هو: الطهور ماؤه..) الحديث.
(4) (145) سورة الانعام.(3/1041)
في المتولد من بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل، وبين من يباح مناكحتهم ومن يحرم، والمذكي بمن تباح ذكاته ومن لا تباح.
وقد أومأ أحمد رحمه الله إلى هذا في رواية إسماعيل بن سعيد في الأمر المختلف فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم ناسخه من منسوخه: نصير في ذلك إلى قول علي نأخذ بالذي هو أهنأ وأهدى وأبقى.
واختلف أصحاب أبي حنيفة: فذهب الكرخي والرازي إلى مثل قولنا.
وذهب عيسى بن أبان: إلى أنه لا يرجح بمثل هذا، ويتعارضان ويسقطان ويصيران كأنهما لم يردا، ويرجع في حكم الحادثة إلى غير هذا الخبر.
واختلف أصحاب الشافعي أيضاً على نحو ما ذكرنا من الاختلاف.
ومن قال: لا يرجح بالحظر احتج:
بأن تحريم المباح كإباحة المحظور، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية.
والجواب: أنه يبطل بالأصول التي ذكرناها، وهو المتولد من بين المباح والمحظور، فإن الحظر غلب الإباحة، وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجوداً (1) ؛ فلأن تحريم المباح كإباحة المحظور فيما تثبت إباحته، وها هنا ما ثبتت إباحته.
ولأن للحظر مزية، ألا ترى أنه يحكم به، وإن كان لم تكمل شرائط الحظر، والمباح لا يحكم به، حتى تكتمل جميع شرائطه، وبيان هذا:
__________
(1) في الأصل: (موجود) .(3/1042)
أن البيع يحرم بوجود شرط واحد ويفسده، وإباحته لا تحصل إلا بعد كمال شرائط الإباحة.
واحتج: بأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون محظوراً على الواحد في وقت مباحاً له في ذلك الوقت، كما يستحيل أن يكون الواحد بمكة وبغداد في يوم واحد، وقد ثبت أن أربعة لو شهدوا على رجل أنه رُئِيَ يوم النحر بمكة، وشهد أربعة آخرون أنه رئِيَ في ذلك اليوم ببغداد، أو شهد عليه شاهدان أنه قتل زيداً يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل عمراً ذلك اليوم ببغداد، أن شهادة الجميع تسقط، كذلك إذا ورد خبر بحظر شيء، وورد آخر بإباحة ذلك الشيء في وقت واحد، وجب أن يسقط الخبران.
والجواب: أن الشهادة كانت على حقيقة الفعل، فلهذا استحال وجود الفعل منه بمكة وببغداد في يوم واحد، وكذلك يستحيل قتله لزيد يوم النحر، و [قتله لعمرو في ذلك اليوم بـ] بغداد، تهادرت البينتان، وليس كذلك الخبران بإباحة الشيء وحظره؛ لأنهما يوجبان ذلك [157/ب] الشيء من طريق الحكم، ويجوز أن يكون الشيء مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ويخفي علينا الباقي، ونظير هذا من الشهادة أن يتعارضا في الملك المطلق وأحدهما خارج، فإنما تقدم بينة الخارج.
واحتج: بأنه لو أخبر بطهارة الماء واحد. وأخبر غيره بنجاسة ذلك الماء، ولم يكن لأحد المخبرين مزية على الآخر، ولا كان للمخبر رأي يعمل على الغالب منه، أنهما يسقطان، ويبقي الماء على أصل الطهارة وكذلك لو أن رجلين أخبر أحدهما بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأن هذا الشراب خالطه خمر، وأخبر آخر أن ذلك حلال طاهر، ولم يكن للمخبر رأي يعمل على ما يغلب في رأيه: أن الخبرين يسقطان، ويبقى الطعام والشراب على أصل الإباحة، كذلك إذا عدم التاريخ بين خبري الحظر والإباحة، يجب أن(3/1043)
يسقطا، ويبقى الشيء على حكم الإباحة في الأصل.
والجواب عنه: ما تقدم من الوجه الذي بينا. وهو أن الشيء يكون مباحاً في الأصل، ثم يحظره النبي [صلى الله عليه وسلم] ، وغير جائز أن يكون الماء نجساً، ثم يصير طاهراً، أو الطعام نجساً فيصير طاهراً.
السابع عشر: أن يتعارض خبران في الحد، فإنه لا يقدم المسقط للحد، ولهذا أخذ أحمد رحمه الله بحديث عبادة في اجتماع الجلد والرجم (1) ، ولم يقدم عليه حديث ماعز (2) وأنيْس (3) في إسقاط الجلد.
ومن أصحاب الشافعي من قدم المسقط للحد؛ لقوله عيه السلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات وادرؤوا ما استطعتم) (4) .
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي يشير اليه المؤلف، سبق تخريجه ص (798) ، كما سبقت ترجمة عبادة.
(2) حديث ماعز - رضي الله عنه - الذي يشير اليه المؤلف، سبق تخريجه ص (319) كما سبق ترجمة ماعز هناك.
(3) حديث أنيس - رضي الله عنه - سبق تخريجه ص (886) في قصة العسيف. أما ترجمته فإليك إياها:
هو: أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، أبو يزيد. صحابي. شهد فتح مكة وحنيناً، كما كان عين الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أوطاس. مات أنيس سنة (20هـ) .
له ترجمة في: "الاستيعاب" (1/115) ، و"الإصابة" القسم الأول ص (138) ، طبعة دار نهضة مصر.
(4) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود (4/33) ، ولفظه: ( ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة") . =(3/1044)
وهذا غير صحيح؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوته شرعاً، ألا ترى أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع وجود الشبهة فرضاً؟
الثامن عشر: أن يكون في أحدهما إلحاق النقض بالصحاح، كخبر القهقهة (1) .
التاسع عشر: أن يرجح بالقرائن. مثاله قوله تعالى: (أوْ لامستُم النسَاءَ) (2) حمله على لمس اليد أولى من الجماع؛ لأنه قرن ذلك بالمجيء من الغائط، وذلك يوجب الطهارة الصغرى.
العشرون: أن يرجح باستعمال مثله في نظير لفظه، مثاله: أن يقضيَ بقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) على قوله: (فيما سقت السماء العشر) ، كما قضى بقوله: (ليس فيما دون
__________
= أخرجه الترمذي موصولاً، ورواه موقوفاً، وقال: الموقوف أصح.
وأخرجه عنها الدارقطني في أوائل كتاب الحدود (3/84) .
وأخرجه عنها البيهقي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات (8/238) .
وأخرجه عنها الحاكم في المستدرك، في كتاب الحدود، باب إن وجدتم لمسلم مخرجاً فخلوا سبيله (4/384) ، وقال بعد ذلك: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) .
ومدار هذا الحديث على: "يزيد بن زيادة"، أحد رواة هذا الحديث قال البخاري فيه: "منكر الحديث". وقال النسائي: "متروك الحديث" وضعفه الترمذي وغيره.
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (2/749) ، و"الميزان" (4/425) .
وراجع في هذا الحديث بالإضافة إلى ما سبق: "تلخيص الحبير" (4/56) و"تيسير الوصول" (1/311) ، و"نصب الراية" (3/309) .
(1) خبر القهقهة، الذي يشير إليه المؤلف: سبق تخريجه ص (895) .
(2) (43) سورة النساء.(3/1045)
خمس أواق من الورقة صدقة) على قوله: (في الرقة ربع العشر) .
الحادي والعشرون: أن يكون أحدهما يجمع بينهما، والآخر يسقط أحدهما، فيكون الجمع بينهما أولى من إسقاط أحدهما بالآخر.
وأما الترجيح الذي لا يعود إلى الإسناد والمتن وإنما هو إلى غيرهما فمن وجوه:
أحدها: أن يكون أحدهما موافقاً لظاهر القرآن، أو موافقاً لسنة أخرى، فيقدم بذلك، ومثاله: حدث التغليس (1) يقدم على حديث الإسفار (2) ؛ لأنه يوافق قول الله تعالى:
__________
(1) حديث التغليس بصلاة الفجر روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أخرجه عنها البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر (1/143) ، ولفظه: (كان نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس) .
وأخرجه عنها الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التغليس بالفجر (1/287-288) .
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح (1/100) .
وأخرجه عنها النسائي في كتاب المواقيت، باب التغليس في الحضر (1/217) .
وأخرجه عنها ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (1/220) .
وأخرجه عنها الدارمي في كتاب الصلاة، باب التغليس في الفجر (1/221) .
وأخرجه عنها الامام الشافعي في كتاب الصلاة، باب وقت الصبح (1/50) .
وأخرجه عنها الطيالسي في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الصبح (1/73) .
وأخرجه عنها الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر.. (1/176) .
(2) حديث الإسفار بصلاة الفجر، رواه رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر (1/289) =(3/1046)
(حَافظُوا على الصلَوَاتِ) (1) .
وقوله تعالى: (سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَة مِنْ ربِكُمْ) (2) ، ويوافقه أيضاً قول النبي صلى الله عليه [وسلم] : (أول الوقت رضوان الله) (3) ،
__________
= وقال: (حديث حسن صحيح) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة باب في وقت الصبح (1/100) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المواقيت، باب الإسفار (1/218) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الصلاة، باب وقت صلاة الفجر (1/221) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الإسفار بالفجر (1/221) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب وقت الصبح (1/50-51) .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار (1/74) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الصلاة، باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر (1/178) .
(1) (238) سورة البقرة.
(2) (133) سورة آل عمران.
(3) هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (1/321) ، ولفظه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوقت الأول من الصلاة من رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله") .
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك، في كتاب الصلاة. باب في مواقيت الصلاة (1/189) ولفظه: ( ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأعمال الصلاة في أول وقتها") ، ثم قال بعد ذلك: (ويعقوب بن الوليد -أحد رواة الحديث- هذا شيخ من أهل المدينة، سكن بغداد، وليس من شرط هذا الكتاب، إلا أنه شاهد عن عبيد الله) ، وتعقبه الذهبي بقوله: (يعقوب كذاب) .
وأخرجه عنه البيهقي في "السنن الكبرى"، في كتاب الصلاة، باب الترغيب في التعجيل بالصلاة في أوائل الأوقات (1/435) ، ثم قال بعد ذلك: (قال الشيخ: هذا حديث يعرف بيعقوب بن الوليد المدني، ويعقوب. منكر الحديث، ضعفه =(3/1047)
وقوله: (أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها) (1) ، ومثل قوله: (لا نكاح إلا بوليّ) ، فيرجح على قوله: (ليس للولي مع الثيب أمر) ، بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) .
فإن كان مع أحدهما ظاهر القرآن، ومع الآخر ظاهر سنة أخرى، فأيهما أولى؟
فنقل محمد بن أشرس: أن أحمد رحمه الله سئل عن الحديث إذا كان صحيح الإسناد، ومعه ظاهر القرآن، ثم جاء حديثان صحيحان
__________
= يحيى بن معين، وكذبه أحمد بن حنبل، وسائر الحفاظ، ونسبوه إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان، وقد روى بأسانيد كلها ضعيفة) .
وقد أخرج الدارقطني في "سننه" في كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة في أول وقتها (1/246-250) عن جرير بن عبد الله، وعن أبي محذورة، وعن أنس رضي الله عنهم، وكلها لا تخلو من علة قادحة، ولمزيد من الاطلاع إرجع إلى السنن المذكورة، وإلى "نصب الراية" (1/242-244) ، و"تلخيص الحبير" (1/180-181) .
(1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أم فروة -رضي الله عنها- في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل (1/319-320) لفظه: (قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها") . ثم قال بعد ذلك: (حديث أم فرود لا يروى إلا من حديث عبد الله بن عمر العمري، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث، واضطربوا عنه في هذا الحديث، وهو صدوق. وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد من قبل حفظه) .
وأخرجه عنها الحاكم في "المستدرك" في كتاب الصلاة، باب في مواقيت الصلاة (1/189) .
كما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال: (هو صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وله شواهد في هذا الباب) .
راجع في هذا ايضاً: "تلخيص الحبير" (1/181) .(3/1048)
خلافه، أيما أحب إليك؟ فقال: الحديثان أحب إليّ إذا صحا.
وهذا مبني على أصل قد تقدم، وهو إذا تقابل لفظ القرآن ولفظ السنة، ويمكن بناء كل واحد منهما على الآخر، هل تقدم السنة أو القرآن؟
فقد حكينا خلافاً في المذهب، فكذلك ها هنا.
الثاني: أن يروى معنى أحدها بألفاظ مختلفة من وجوه أخر، مثل ما قدمنا حديث لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله) ، وقوله: (أفضل [الأعمال] الصلاة في أول وقتها) ، وقوله: (إن أحدكم ليصلي الصلاة، وقد ترك من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله) (1) .
ْالثالث: أن يكون أحدهما موافقاً للقياس، مثل قوله عليه السلام: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) (2) ، فيقدم على حديث
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب فضل الصلاة في أول وقتها (1/248) .
قلت: وفي إسناده: "إبراهيم بن الفضل المخزومي" قال فيه النسائي وجماعة: "متروك" وقال ابن معين: "ضعيف لا يكتب حديثه" وقال مرة: "ليس بشيء".
انظر ترجمته في: "المغني في الضعفاء" (1/22) ، و"الميزان" (1/52) .
(2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة (2/142) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (2/675-676) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الرقيق (1/369) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الخيل (5/25) . =(3/1049)
فورك السعدي؛ لأن ما لا تجب الزكاة في ذكوره لا تجب في إناثه، قياساً على الحمير والبغال وسائر الحيوانات التي لا زكاة فيها.
الرابع: أن يكون مع أحدهما حديث مرسل؛ لأن مجيئه من طريق مسند ومرسل أقوى له.
الخامس: أن يكون أحدهما عمل به الأئمة الأربعة، كما قدمنا رواية من روي في تكبيرات العيدين سبعاً وخمساً (1) على رواية من روى أربعاً، كأربع الجنائز (2) ؛ لأنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
وقد نص أحمد رحمه الله على هذا في مواضع:
__________
= وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء ليس في الخيل والرقيق صدقة (3/14-15) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الخيل والرقيق (1/579) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الزكاة، باب ما لا تجب فيه الصدقة من الحيوان (1/322-323) .
وأخرجه عنه الإمام مالك في كتاب الزكاة، باب ما جاء في صدقة الرقيق والخيل والعسل (2/137) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الزكاة، باب جامع الأشياء التي ليس فيها زكاة (1/239-240) .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخيل والرقيق والعسل.. (1/173-174) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه: "شرح معاني الآثار" في كتاب الزكاة باب الخيل السائمة هل فيها صدقة أم لا؟ (2/29) .
(1) التكبير في صلاة العيدين في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، سبق تخريجه ص (1037) .
(2) التكبير في صلاة العيدين أربعاً في الأولى والثانية، سبق تخريجه ص (1039) .(3/1050)
فقال في رواية صالح: رويَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (توضؤوا مما مست النار) (1) ، وروي أنه نهس (2) عظماً وصلى ولم يتوضأ (3) ، فنظر إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لم يتوضئوا مما مست النار، فقد تكافأت (4) الرواية فيه.
__________
(1) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار (1/273) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب التشديد في ذلك (1/44) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار (1/114) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/87) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيرت النار (1/163) .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار والرخصة في ذلك (1/58) .
(2) في الأصل: (أنهش) .
(3) هذا الحديث رواه ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق (1/60-61) بلفظ (أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار (1/273) بمثل لفظ البخاري.
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار (1/43) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار (1/90) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك (1/164) .
وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما مست النار والرخصة في ذلك (1/59) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/419) عن ضباعة، ولفظه (نهس لحماً، وصلى، ولم يتوضأ) .
(4) في الأصل: (تكافت) .(3/1051)
وكذلك نقل أبو الحارث عنه في الحديثين المختلفين، وهما جميعاً بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينظر إلى ما عمل به الأئمة الأربعة، فيعمل به.
وكذلك نقل الفضل بن زياد في الحديثين بإسناد صحيح: ينظر إلى ما عمل أو ما قال الخلفاء بعده [158/ب] ، يعني: أبا بكر وعمر.
فإن اقترن بأحدهما عمل أهل المدينة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب الشافعي في قولهم: يقدم به، وذكروا ذلك في حديث الترجيع (1) في الأذان (2) ، وأنه يقدم على غيره؛ لأنه عمل به أهل المدينة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) الترجيع في الأذان: إعادة الشهادتين بصوت عال بعد ذكرهما بصوت منخفض.
(2) حديث الترجيع في الأذان رواه أبو محذورة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في الترجيع في الأذان (1/366) ، وقال: "حديث صحيح".
وأخرجه عنه النسائي في كتاب الأذان، باب كم الأذان من كلمة، وباب كيف الأذان؟ (2/5-6) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان؟ (1/117) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأذان، باب الترجيح في الأذان (1/234) .
وأخرجه عنه الدارمي في كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان (1/116) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/409) .
وأخرجه عنه الدارقطني في كتاب الصلاة، باب ذكار أذان أبي محذورة (1/233-235) ، وذكر اختلاف الروايات في ذلك.
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الصلاة، باب حديث أبي محذورة في صفة الأذان (1/57) .
وأخرجه عنه البيهقي في كتاب الصلاة، باب الترجيع في الأذان (1/393) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه "شرح معاني الآثار"، في كتاب الصلاة، باب الأذان كيف هو؟ (1/130) .(3/1052)
وكذلك إن اقترن به عمل الكوفة، لم يقدم به، خلافاً لأصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني في أصوله: أنه يقدم بعمل أهل الكوفة إلى زمن أبي حنيفة، قبل ظهور البدع؛ لأن أمراء بني مروان غَلَبوا على المدينة والكوفة، وكان فيهم تغير شيء من الشريعة، وإنما لم نرجح بذلك؛ لأنه بلد من البلاد، فلم يرجح نقل أهله كسائر البلاد.
السادس: أن يقترن، بأحدهما تفسير الراوي، كما قدمنا ما روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أيما رجل أَعمر عمْرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه اعطى عطاء ووقعت (1) فيه المواريث) (2) على رواية (من أَعمر عمرى فهي له، ولعقبه، يرثها من يرثه من عقبه) (3) ، كما روى معمر عن الزهري عن
__________
(1) في الأصل: (وقت) ، والتصويب من مراجع تخريج الحديث الآتي ذكرها.
(2) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا، أخرجه مسلم عنه في كتاب الهبات، باب العُمْرى (3/1245) .
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب من قال فيه: ولعقبه (2/264) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب العمرى، باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه (6/234) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في العمرى (3/623) .
وأخرجه عنه الإمام الشافعي في كتاب الشفعة واللقطة، باب العمرى والرقبى (2/217) .
وراجع أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/71) ، و"نصب الراية" (4/127-129) ، و"تيسير الوصول" (3/23) .
(3) أخرجه عن جابر رضي الله عنه بهذا اللفظ أبو داود في كتاب البيوع، باب في العمرى (2/263) .
وأخرجه عنه بهذا اللفظ النسائي في كتاب العمرى، باب ذكر الاختلاف على الزهري فيه (6/232) . =(3/1053)
أبي سلمة (1) عن جابر بن عبد الله أنه قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما اذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) (2) .
وكذلك حملنا التفرق على التفرق بالبدن، لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا اراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع، وقال أبو بردة: لا أراكما تفرقتما.
وكذلك رجع أحمد رحمه الله الى تفسير ابن عمر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاقدروا له، وأنه كان يتراءى الهلال، فإن كانت السماء ذات غيم أصبح صائماً، وإن كانت ذات صحو أصبح مفطراً، إذا لم ير الهلال) (3) .
قال أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار في الجزء الذي فيه المناولة والإجازة حدثنا العباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري (4) حدثنا روح
__________
= وأخرجه عنه الطيالسي في كتاب الهبة والهدية، باب ما جاء في العمرى (1/281) ، ولفظه: (من أعمر عمرى، فهي له ولعقبه من بعده) .
(1) هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. "ثقة مكثر". مات سنة (94) هـ.
التقريب (2/430) .
(2) حديث جابر - رضي الله عنه - هذا، أخرجه عنه مسلم في كتاب الهبات، باب العمرى (3/1246) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب البيوع، باب من قال فيه: ولعقبه (2/264) .
راجع في هذا أيضاً: "تلخيص الحبير" (3/71) ، و"نصب الراية" (4/128) ، و"المنتقى من أحاديث الأحكام" ص (501) .
(3) سبق تخريجه ص (124) .
(4) أبو الفضل البغدادي. أحد الحفاظ المشهورين. روى عن أبي داود الطيالسي وشبابة بن سوار، وخلق. وعنه النسائي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وخلق.
وثقه النسائي. أخذ الجرح والتعديل عن يحيى بن معين. مات سنة (271هـ) وله من العمر ثمان وثمانون سنة. =(3/1054)
ابن عبادة (1) حدثنا داود بن قيس (2) عن محمد بن عمرو بن عطاء (3) قال كان موسى بن يسار (4) جالساً معنا، فقال له ابن عمر: يا موسى بن
__________
= له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (12/144) ، و"تذكرة الحفاظ" (2/575) ، و"الخلاصة" ص (160) ، و"طبقات الحفاظ" ص (257) .
(1) أبو محمد القيسي البصري. ثقة حافظ. روى عن شعبة وحسين المعلم وخلق. وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وخلق. كان كثير الحديث. صنف الكتب في التفسير والحديث والأحكام. مات سنة (205هـ) .
له ترجمة في: "تاريخ بغداد" (8/401) ، و"تذكرة الحفاظ" (1/349) و"الخلاصة" ص (101) ، و"شذرات الذهب" (2/13) ، و"ميزان الاعتدال" (2/58) .
(2) أبو سليمان، القرشي بالولاء، المدني الدباغ، روى عن عمرو بن شعيب وإبراهيم ابن حنين. وعنه القعنبي وابن وهب وغيرهما. وثقه أبو حاتم.
مات قبل سنة (160هـ) على ما قيل.
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (3/198) ، و"الخلاصة" ص (110) طبعة بولاق.
(3) أبو عبد الله القرشي العامري المدني. روى عن أبي هريرة وأبي حميد وغيرهما وعنه يزيد بن أبي حبيب ومحمد بن عمرو بن حلحلة وغيرهما. وثقه ابن سعد.
مات في آخر ولاية هشام.
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (9/373) ، و"الخلاصة" ص (354) طبعة بولاق.
(4) المطلبي بالولاء، المدني. روى عن أبي هريرة رضي الله عنه. وروى عنه ابن أخيه محمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهما. وثقه ابن معين.
وذكره ابن حبان في "الثقات".
له ترجمة في: "تهذيب التهذيب" (10/377) ، و"الخلاصة" ص (393) طبعة بولاق.(3/1055)
يسار إذا فرغت من حديثك، فسلم، فإنك في صلاة. قال: وحدثنا العباس بن محمد الدوري أيضاً قال: حدثنا موسى بن داود (1) حدثنا ابن لهيعة عن حنين بن أبي حكيم (2) عن نافع (3) عن ابن عمر قال: من أراد حفظ الحديث فليردده ثلاثاً (4) .
__________
(1) أبو عبد الله الضبي الخلقاني الكوفي الطرسوسي. ولي قضاء الثغور. روى عن شعبة وابن الماجشون وغيرهما. وعنه الإمام أحمد وعباس الدُّوري وخلق. وثقه الدارقطني. وقال أبو حاتم: "في حديثه اضطراب". مات سنة (217هـ) .
له ترجمة في: "الخلاصة" ص (390) طبعة بولاق، و"المغني في الضعفاء" (2/683) ، و"الميزان" (4/204) .
(2) في الأصل: (ابن أبي حاتم) ، وهو خطأ. والتصويب من مراجع الأثر الآتي ذكرها. وهو: حنين بن أبي حكيم شيخ لابن لهيعة. روى عن مكحول وعلي بن رباح وغيرهما. وعنه الليث وعمرو بن الحارث وابن لهيعة. وثقه ابن حبان.
وقال ابن عدي: "لا أعلم روى عنه غير ابن لهيعة، فلا أدري البلاء منه، أو من ابن لهيعة؛ لأن أحاديثه غير محفوظة، ولا يكاد يعرف". وقال الذهبي: "ليس بعمدة". وقال: "ليس بحجة، ولا يكاد يعرف".
له ترجمة في: "المغني في الضعفاء" (1/198) ، و"الميزان" (1/621-622) .
(3) هو: نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر. روى عن ابن عُمَر وأبي لبابة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وعنه مالك وابن جريج وخلق. قال البخاري: "أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر". مات سنة (120هـ) ، وقيل غير ذلك. له ترجمة في: "تذكرة الحفاظ" (1/99) ، و"تهذيب الأسماء" (2/123) ، و"تهذيب التهذيب" (10/413) ، و"الخلاصة" ص (343) ، و"شذرات الذهب" (1/154) ، و"طبقات الحفاظ" ص (40) .
(4) هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله عنه، أخرجه عنه بسنده الدارمي في مقدمة "سننه"، باب مذاكرة العلم (1/120) .(3/1056)
باب الإِجماع
الإِجماع (1) في اللغة: ما اجتمع القوم عليه، سواء كانوا ممن تثبت الحجة بقولهم أو لا تثبت (2) .
وهو في الشرع: عبارةٌ عمن تثبت الحجة بقوله (3) .
وسمي إجماعاً؛ لاجتماع الأقوال المتفرقة [159/أ] والآراء المختلفة.
__________
(1) راجع هذا الباب في: أصول الجصاص الورقة (215) والتمهيد في أصول الفقه (3/224) ، وروضة الناظر ص (67) وشرح مختصرها للطوفي الجزء الثاني الورقة (39) وشرح الكوكب المنير (2/210) والمختصر لابن اللحام ص (74) والمسودة ص (315) .
(2) هذا أحد معنيي "الإجماع" في اللغة، الذي يعبر عنه بالاتفاق، وهو الذي يتناسب مع المعنى الاصطلاحى عند الأصولين.
(3) هذا إشارة إلى تعريف الإِجماع عند الأصوليين، والعبارة وصف للمجمعين لا للإجماع، ولو عبر بقوله: عبارة عن اتفاق من تثبت الحجة بقولهم، لكان أولى.
وقد سبق للمؤلف في مقدمة كتابه هذا ص (170) أن عرف الإجماع بقوله: (اتفاق علماء العصر على حكم النازلة) ، وهو تعريف غير سليم؛ لأنه غير مانع، فقوله: (علماء العصر) يشمل المسلمين وغيرهم، كما يشمل المجتهدين وغيرهم.
وعرفه تلميذ المؤلف أبو الخطاب في كتابه التمهيد (3/224) بقوله: (الاتفاق من جماعة على أمر من الأمور، إما فعل أو ترك) .
وهر تعريف غير سليم أيضاً؛ لأنه غير مانع، فالجماعة تشمل المسلمين وغيرهم، كما تشمل المجتهدين وغيرهم، وهي مشعرة باتفاق بعضهم، والاجماع لا يكون إلا باتفاقهم كلهم. وهذا التعريف لأبي الحسين البصري، كما في المعتمد (2/457) .
والتعريف الذي أرتضيه هو تعريف ابن السبكى في كتابه "جمع الجوامع" (1/176) مطبوع مع حاشية البناني حيث قال: (إتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر على أي أمر كان) .
وهناك تعريفات كثيرة تزيد أو تنقص عن التعريف الذي ذكرته، حسب ما يراه المعرف. ومن أجل الوقوف على بعض تلك التعريفات أرجع إلى: الإحكام للآمدي (1/179) وإرشاد الفحول ص (71) وشرح العضد (2/29) .(4/1057)
وقيلِ: سُمِّي بذلك من القطع وإمضاء الرأي وتنفيذه، ومنه قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أمْرَكَم (1)) أي: اعزموا (2) .
مسألة (3)
الإِجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته (4) ، ولا يجوز أن تجتمع الأمَّةُ على الخطأ.
__________
(1) (71) من سورة يونس.
(2) هذا إشارة إلى المعنى اللُّغوي الثاني للإِجماع، وقد صرح الفخر الرازي في كتابه المحصول (4/19) بأن الإجماع مشترك بين المعنيين: أي العزم والاتفاق.
وهذا ما يؤكده الأزهر في كتابه تهذيب اللغة (1/396) فقد نقل عن الفراء قوله: (الإجماع: الإعداد والعزيمة على الأمر..) كما نقل عن غيره قوله: ( ... وكذلك يقال: أجمعتُ النَّهبَ، والنهب: إبل القوم التى أغار عليها اللصوص، فكانت متفرقة في مراعيها فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت لهم، ثم طردوها وساقوها) .
ثم نقل عن بعضهم قوله: (جمعت أمري. والجمع: أن تجمع شيئاً إلى شىء.
والإجماع: أن تجعل المتفرق جميعاً) .
ومن هذا يتبين بجلاء: أن الإجماع يطلق على المعنيين في أصل اللغة، فيعتبر من قبيل المشترك.
(3) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (215/ب) والتمهيد (3/242) وروضة الناظر ص (67) وشرح مختصرها للطوفي الجزء الثاني الورقة (40/1) وشرح الكوكب المنير (2/214) والمختصر لابن اللحام ص (74) والمسودة ص (315) .
(4) لو أعاد الضمير مذكراً بأن قال: الإِجماع حجة مقطوع عليه، يجب المصير إليه، وتحرم مخالفته أو ذكره مؤنثاً في المواضع الثلاثة لكان أولى؛ لأن عدم ذلك أحدث خللاً في الأسلوب. وبمراجعة كتاب المسودة ص (315) وجد النص كما هو في الأصل، غير أن المحقق ذكر في الهامش أن نسخة (د) من كتاب المسوَّدة فيها: (الإِجماع حجة قطعية ... ) . ورُبما قيل: مقطوع عليه ويصار إليه لكونه حجّة، =(4/1058)
وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث: "في الصحابة إذا اختلفوا لم يُخْرَج من أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي (1) أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا" (2) .
وقد علق القول في رواية عبد الله فقال: "من ادعى الإِجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَرِّيسي (3) والأصم (4) ، ولكن [يقول] : لا نعلم، [لعل] الناس اختلفوا ولم يبلغه" (5) .
__________
= فلذلك جاء التأنيث، وتحرم مخالفته لكونه إجماعاً، فلذلك جاء التذكير، إذ الأمة لا تجتمع على باطل.
(1) في المسودة ص (315) .. (لا ينبغى لأحد) .
(2) هذه الرواية منقولة بنصها في المسوَّدة في الموضع السابق.
(3) هو: بشر بن غياث بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المريسى، بفتح الميم وتخفيف الراء، نسبة إلى "مَرِيس"، بفتح الميم وكسر الراء قرية بمصر أو بفتح الميم وتشديد الراء نسبة إلى "مَرِيسة" وإليه ينسب درب "المَريسي" ببغداد. وهو معتزلي، رُمي بالزندقة، يقول بالإِرجاء، وإليه تنسب الفرقة "المريسية" مات ببغداد سنة (218) وله سبعون سنة تقريباً.
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (7/56) ولسان الميزان (2/29) والمغني في الضعفاء (2/916) وميزان الاعتدال (1/322) .
(4) هو عبد الرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم. من كبار المعتزلة. اشتغل بالفقه والتفسير. وله مقالات في الأصول. مات نحو (225هـ) .
له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي (1/269) وفضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص (268) ولسان الميزان (3/427) .
(5) نص الرواية مشوش، ولذلك حاولنا تقويمه بما ترى. والرواية موجودة في مسائل عبد الله التى رواها عن أبيه أحمد بن حنبل ص (438-439) ونصها: (سمعت أبي يقول: ما يدعى الرجل فيه الإِجماع، هذا الكذب، من ادعى الإجماع فهو =(4/1059)
وكذلك نقل المروذي عنه: أنه قال: "كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم لهم مخالفاً جاز" (1) .
وكذلك نقل أبو طالب عنه: أنه قال: "هذا كذب، ما علمه (2) أن الناس مجمعون، ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافاً، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس".
وكذلك نقل أبو الحارث: "لا ينبغي لأحد أن يدعي الإِجماع، لعل الناس اختلفوا" (3) .
وظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإِجماع، وليس ذلك على ظاهره، وإنما قال هذا على طريق الورع، نحو أن يكون هناك خلاف لم يبلغه.
أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأنه قد أطلق القول بصحة الإِجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث (4) .
وادعى الإِجماع في رواية الحسن بن ثواب، فقال: "أذهب في التكبير من غداة يوم
__________
= (كذب) ، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَريسي والأصم، ولكن يقول: لا يعلم، الناس يختلفون، أو لم يبلغه ذلك، ولم ينته إليه فيقول: لا يعلم، الناس اختلفوا) .
(1) الرواية هذه منقولة بنصها مع اختلاف يسير في المسوَّدة ص (315) .
(2) في المسودة ص (316) : (ما أعلمه) . وهو الصحيح وما في الأصل تصحيف.
(3) هذه الرواية والتي قبلها منقولتان بالنص في المسوَّدة ص (315-316) .
(4) ذكر المؤلف هنا تخريجين لكلام الإِمام أحمد في هذا الموضع.
ولكن شيخ الاسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (316) يحمل إنكار الإِمام أحمد على إجماع من بعد الصحابة، أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة.
والقول بأن الإجماع خاص بإجماع الصحابة هو رأي الطوفي الحنبلي في شرحه على مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (40/أ) .(4/1060)
عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: بالإِجماع (1)
__________
(1) الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة ص (316) وقريب منه ما في كتاب المغني (2/294) وفي كتاب الكافي (1/236) ولم يذكر فيهما من نقلها عن الإِمام أحمد.
وجاء في مسائل الإِمام أحمد رواية ابن هانيء النيسابوري (1/4) وقد سئل عن التكبير في أيام التشريق، فقال: (من صلاة الصبح يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق يكَبّر العصر ولا يُكبر المغرب.
وفي مسائل الامام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (241) . (يبدأ بالتكبير يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، يكبر في العصر، ويقطع، وهو قول علي، وذلك في الأمصار.
وقد يقول بعض الناس: إنما يكبر الناس بمنى إذا رموا الجمرة، وإذا ترك التلبية بدأ في الظهر من يوم النحر لا يجمع التكبير والتلبية؛ لأنه إذا رمى الجمرة يوم النحر فقد انقطعت التلبية، فيبدأ بالتكبير في الظهر من يوم النحر) .
وقريب من ذلك ما رواه أبو داود في المسائل التى نقلها عن الإمام أحمد ص (61) .
ويلاحظ: أن كتب المسائل الثلاثة المذكورة ليس فيها السؤال عن دليل الإِمام أحمد فيما ذهب إليه، ولا احتجاجه بالإجماع.
وحكاية الإِجماع هذه غير مسلمة للأمور الآتية:
الأول: ما نقله ابن قدامة في المغنى (2/393) عن ابن مسعود -وهو أحد من اعتمد عليه الإِمام في الإِجماع-: أنه كان يكبر من غداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر.
ومثل ذلك نقله ابن حزم في المحلى (5/134) .
ومثله نقله ابن أبي شيبة في كتاب الصلوات، باب التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة (2/165) .
وأخرجه كذلك أبو يوسف في كتابه الآثار في كتاب الصلاة باب صلاة العيدين ص (60) . وهذا مخالف لما ذكره الإِمام أحمد عن ابن مسعود.
الثاني ما نقله ابن قدامة- أيضاً- في كتابه المذكور عن ابن عمر: أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق. والنقل عنه كذلك في المحلى (5/135) .
وكذلك أخرج عنه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين باب من =(4/1061)
عمر (1) وعلي (2) وعبد اللَّه بن
__________
= قال يكبر في الأضحى خلف صلاة الظهر من يوم النحر (3/313) .
وأخرج البيهقي مثله عن زيد بن ثابت.
وأخرج الدارقطني في سننه في كتاب العيدين (2/50-51) عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري -رضى الله عنهم- (أنهم كانوا يكبرون في صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، يكبرون في الصبح ولا يكبرون في الظهر) .
الثالث: ما رواه أبو داود في مسائله ص (61) حيث قال: (سمعت أحمد مرة أخرى سئل عن التكبير أيام التشريق؟ قال: من حين يرمون الجمرة إلى أن يرجع الناس من منى ... ) فهذه الرواية جعلت المدة تبدأ من بعد رمي جمرة العقبة بينما الرواية التى حكى الإِجماع عليها جعلت بداية المدة غداة يوم عرفة، ولم يفرق الإِمام أحمد بين الحاج وغيره.
فكيف يقع الإِجماع مع اختلاف النقل عن ابن مسعود وابن عباس مع نقل مخالفة ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري لما ذكره المؤلف. والله أعلم.
راجع في تلك الآثار أيضاً: نصب الراية (2/222-223) وزاد المعاد (1/449) مع الهامش.
(1) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين، باب من استحب أن يبتدئ بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة (3/314) ولفظه (كان عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- يكبر بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق،) ثم ساق البيهقى بعد ذلك رواية مفادها: أن عمر يرى التكبير إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب التكبير من أي يوم هو إلى أيّ ساعة (2/166) .
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299) .
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب صلاة العيدين، باب من استحب أن يبتدئ بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة (3/314) ولفظه: (كان علي =(4/1062)
مسعود (1) ، وعبد الله بن عباس" (2) .
وهذا قول جماعة الفقهاء والمتكلمين (3) .
__________
= - رضي الله عنه - يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة، ثم لا يقطع حتى يصلى الإِمام من آخر أيام التشريق، ثم يكبر بعد العصر) .
كما روي عنه قبل ذلك وفيه: (إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب التكبير من أي يوم هو إلى أي ساعة (2/165) ، ولفظه قريب من لفظ البيهقي.
وأخرجه عنه أبو يوسف في كتابه الآثار، في كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين ص (60) وفيه: (إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق) .
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299) .
(1) هذا الأثر أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب العيدين (1/300) وانظر: إرواء الغليل للألباني (3/125) .
(2) هذا الأثر: أخرجه عنه البيهقى في كتاب صلاة العيدين، باب من استحب أن يبتدىء بالتكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة (3/314) بلفظ: (كان يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق) كما أخرجه بمثله وزاد: (يكبر في العصر ويقطع في المغرب) وبلفظ: (إلى آخر أيام التشريق) بدون ذكر (صلاة العصر) .
وأخرجه أيضاً في باب كيف التكببر؟ (3/315) بلفظ: (يكبر من غداة عرفة إلى آخر أيام النفر، لا يكبر في المغرب) .
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب العيدين (1/299) .
وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه المطالب العالية، في كتاب الصلاة باب صلاة العيدين (1/186) .
وكلام المؤلف من أول الباب إلى هنا منقول بنصه في المسوَّدة ص (315-316) .
(3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/457-458) والبرهان لإمام الحرمين (1/670-675) .(4/1063)
وحُكي عن إبراهيم النَّظَّام (1) : أن الإِجماع ليس بحجة، وأنه يجوز اجتماع الأمة على الخطأ (2) .
وحُكِي عن الرافضة: أن الإِجماع ليس بحجة، وأن قول الإِمام وحده حجة (3) .
دليلنا:
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبيَّن لَهُ الْهُدَى، وَيَتَّبع غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَىَّ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (4) . فوجه الدلاَلَة: أن الله تعالى توعد على اتباع غير سبيل المؤمنين، فدل على أن أتباع سبيلهم واجب.
فإن قيل: هذا احتجاج من دليل الخطاب، ونحن لا نقول به.
قيل: دليل الخطاب عندنا حجة، ونحن نبني فروعنا على أصولنا.
__________
(1) هو: إبراهيم بن سيار بن هانيء النظام، أبو إسحاق البصري المعتزلي ابن أخت أبي الهذيل العلاف. له آراء شاذة عرف بها، وتبعه فيها ناس، فسموا بالنظامية. كان ذكيا فصيحاً.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (6/67) وفضل الاعتزال ص (264) واللباب (3/316) والنجوم الزاهرة (2/234) .
(2) حكى ذلك عنه أبو الحسين البصري في المعتمد (2/458) .
(3) وضح ذلك القاضى النعمان بن محمد الإِسماعيلي في كتابه اختلاف أصول المذاهب ص (81-136) وذكر كثيراً من النصوص التي استدل بها العلماء على حجية الإِجماع، ووجهها لنصرة مذهبه.
وما ذكره المؤلف هنا ذكره أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/458-459) حيث قال: (وقالت الإِمامية: ذلك صواب؛ لأن الإِمام داخل فيهم، وهو الحجة فقط) .
(4) الآية (115) من سورة النساء.(4/1064)
وعلى أن هذا ليس بدليل الخطاب (159/ب) ، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين اتباع غير سبيلهم (1) وبين اتباع سبيلهم قسم ثالث، وإذا حرّم الله تعالى اتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم.
فإن قيل: (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) في الأقوال مجاز، وإنما السبيل هو: الطريق.
قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد استعمل فيهما، فوجب أن يكون حقيقة فيهما (2) .
وعلى أنه لو كان مجازاً، لكان إذا كثر الاستعمال فيه، جرى مجرى الحقيقة.
__________
(1) في الأصل: (سبيل) .
(2) ظاهر كلام ابن فارس في كتابه: معجم مقاييس اللغة (3/129-130) أن السبيل حقيقة في الحسيات حيث يقول: (سبل: السين والباء واللام أصل واحد، يدل على إرسال شيء من علو إلى سفل، وعلى امتداد شيء، فالأول من قيلك: أسبلت الستر.. والممتد طولاً: السبيل، وهو الطريق، سمي بذلك لامتداده..) .
وبمراجعة كتاب تهذيب اللغة للأزهري (12/436) ولسان العرب (3/340) والقاموس المحيط (3/392) مادة "سبل" وجد أنهم يعبرون عن "السبيل" بالطريق، ولكن عند التمثيل يطلقون "السبيل" على الطريق حسية أو معنوية، بدون إشارة إلى الحقيقى والمجازي في ذلك.
وفي ذلك يقول الرازي في كتابه المحصول (4/54) : (سلمنا: حظر اتباع غير سبيلهم مطلقاً، لكن لفظ "السبيل" حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشى، وهو غير مراد -ها هنا- بالاتفاق، فصار الظاهر متروكاً، فلا بُدّ من صرفه إلى المجاز، وليس البعض أولى من البعض، فتبقى الآية مجملة) .
وفي ص (77) يقول: (قوله السبيل: هو الطريق الذي يحصل المشي فيه، قلنا: لا نسلم؛ لقوله تعالى: (قل هذه سبيلى) وقوله (ادع إلى سبيل ربك)
سلمناه، لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك غير مراد -ها هنا- ولا نزاع في أن أهل اللغة يطلقون لفظ: "السبيل" على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول والعمل. وإذا كان ذلك مجازاً ظاهراً، وجب حمل اللفظ عليه، لأن الأصل عدم المجاز الآخر) . =(4/1065)
والاستعمال في القول مثل الاستعمال في الطريق إذا كثر، قال الله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (1) ، وقال: (مَنْ هُوَ أهْدَى سَبِيلاً) (2) ، (وَأضَلُّ سَبِيلاً) (3) ، (وَلَنْ يَجْعَلَ اْللَّهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلاً) (4) ، ويقال: سبيل المعروف، وسبيل الوقوف، وما أشبه هذا مما يكثر
__________
= وقد أورد الإسنوي في كتابه نهاية السول (3/865) بعض الاعتراضات على وجه الاستدلال من الآية، منها: (الرابع: لا نسلم أن "السبيل" هو قول أهل الإِجماع، بل دليل الإِجماع، وبيانه: أنَّ السبيل لغة هو: الطريق الذي يُمْشَى فيه وقد تعذرت إرادته هنا، فتعين الحمل على المجاز وهو إما قول أهل الإِجماع، أو الدليل الذي لأجله أجمعوا والثاني أولى؛ لقوة العلاقة بينه وبين الطريق، وهو كون كل واحد منهما موصلاً إلى المقصد. وأجاب المصنف بأن "السبيل" أيضاً يطلق على الإِجماع؛ لأن أهل اللغة يطلقونه على ما يختاره الإِنسان من قول أو فعل، ومنه قوله تعالى: (قل هذه سبيلى) وإذا كان كذلك فحمله على الإِجماع أولى لعموم فائدته، فإن الإِجماع يعمل به المجتهد والمقلِّد، أما الدليل فلا يعمل به سوى المجتهد) .
ومن هذا العرض يتضح:
أولاً: أن "السبيل" يستعمل حقيقة في الطريق التى يُمْشَى فيها.
ثانياً: أن "السبيل" يستعمل في الأقوال، فقيل على سبيل الحقيقة، وقيل على سبيل المجاز، وهو الذي يؤيده ما نقلناه عن ابن فارس في معجم مقاييس اللغة حيث حصر الحقيقة في أصل واحد.
ويؤيده أيضاً ما جاء في أساس البلاغة للزمخشري (1/420-421) حيث قال: (ومن المجاز ... والزم سبيل الله خير السبيل ... ) .
فقد صرح أن ذلك من باب المجاز.
(1) آية (108) من سورة يوسف.
(2) آية (84) من سورة الإسراء. والآية في الأصل (من أهدى سبيلاً) بدون الضمير، وهو خطأ ظاهر.
(3) آية (72) من سورة الاسراء.
(4) آية (141) من سورة النساء والآية في الأصل: (ولم) بدل (ولن) ، وهو خطأ.(4/1066)
تعداده. وهذا بمنزلة المذهب الذي هو حقيقة في الطريق وفي القول والاعتقاد (1) .
فإن قيل: الذي تعلق بمشاقة الرسول وباتباع غير سبيل المؤمنين، فثبت أنه لا يتعلق بأحدهما على الانفراد.
قيل: مشاقة الرسول محرمة بانفرادها، وإن لم يكن هناك مؤمن، فدلَّ على أن التوعد على كل منهما بانفرادِه، وهذا مثل قِوله تعالى: (وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ وَلاَ يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بالْحَق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (2) ، فجمع بين هذه الأفعال في الوعيد، وكان منصرفاً إلى كل واحد منهما (3) .
__________
(1) يقول الأزهري في تهذيب اللغة (6/262-266) . (والمَذهَب: مصدر كالذهاب) .
ويقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (ط/362) : ( ... وبقى أصل آخر، وهو ذهاب الشيء: مُضِيه، يقال: ذَهَبَ يَذْهَبُ ذَهَابَاً وذُهوباً، وقد ذهب مَذهباً حسناً) .
من هذين النصين يتبين أن المذهب، معناه: المضى في الشيء في أصل اللغة ولكنهما لم يوسعا المدلول، غير أن صاحب القاموس (1/70) يبين ذلك بصورة أوسع، حيث يقول (.... المَذْهَبُ: المُتَوضأ والمُعْتَقد الذي يذهب إليه والطريقةُ والأصلُ) .
وقريب من ذلك ما قاله صاحب المصباح المنير (1/323) ( ... وذهب مَذْهب فلان قَصَد قصْده وطريقته، وذهب في الدين مَذْهباً: رأى فيه رأياً) .
فمن هذين النصين يتبين لنا: أن ما ذهب إليه المؤلف صحيح، وأن ذلك الاستعمال حقيقة.
إلاَّ أن الزمخشريَّ في كتابه أساس البلاغة (1/307) يرى أن استعمال المذهب في القول والاعتقاد من باب المجاز.
(2) آية (68) من سورة الفرقان.
(3) في الأصل: (منهما) ، وهو خطأ؛ لأن الضمير عائد على جمع.(4/1067)
وجواب آخر، وهو: أن (1) اتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع مشاقة الرسول كسائر المباحات، ألا ترى أنه لا يجوز الجمع بين القبيح والمباح في باب الوعيد، فلما جمع تعالى بين مشاقة الرسول وبين ترك اتباع سبيل المؤمنين في الوعيد علم أن كل واحد منهما يقتضي الوعيد.
فإن قيل: فالمؤمنون لا يعرفون بأعيانهم؛ فلا يصح الاحتجاج به.
قيل: إذا أجمع الكل دخل المؤمنون فيهم؛ لأن من أظهر الإِيمان وجب أن يحكم بإيمانه، ولا اعتبار بما غاب عنا من اعتقاده، فإذا كان كذلك سقط السؤال.
فإن قيل: ذكر (المُؤْمِنِينَ) بالألف واللام، فاقتضى جنس المؤمنين إلى يوم القيامة.
قيل: لا يجوز أن يريد به جميعهم، لأن التكليف في ذلك يكون يوم القيامة ولا تكليف في الآخرة، فعلم أن المراد به بعض المؤمنين، وإذا كان المراد به البعضَ، فقد أجمعوا على أنه لم يرد ما زاد على أهل العصر، فكان (2) المراد به أهل العصر.
ولأن من [160/أ] لم يخلق لا يسمى مؤمناً، ومن خلق ومات فلا يسمى مؤمناً حقيقة، وإنما كان مؤمناً.
جواب آخر، وهو: أن الآية أريد بها بعض المؤمنين؛ لأنه توعد من خالف سبيلهم، فاقتضى ذلك أن يكون هناك متوعد غير الذين يخالف سبيلهم.
فإن قيل: الوعيد على ترك سبيل المؤمنين فيما صاروا به مؤمنين، وهو
__________
(1) في الأصل (أنه) وهو خطأ؛ لأن اسم (أن) ظاهر.
(2) في الأصل (كان) بدون الفاء.(4/1068)
التوحيد وفعل الإِيمان (1) .
قيل: هذا تخصيص لعموم الآية بغير دليل.
وعلى أنه لا اعتبار في ذلك بالاتباع، وإنما يجب العمل فيه بموجب الدليل،
__________
(1) وأيدوا ذلك بأمرين:
الأول: سبب نزول الآية في بشير بن أبَيْرِق المنافق لما سرق، ثم رمى بذلك لبيد بن سهل، ولما كشفَ أمره هرب إلى مكة، ولحق بالمشركين، فأنزل الله الآيات (105-116) من سورة النساء.
روى ذلك قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه الحاكم في المستدرك في كتاب الحدود باب حكاية سرقة متاع رفاعة..
(4/385-388) وقال عقبه: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي.
وأخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب التفسير (5/244-247) ثم قال: (هذا حديث غريب، لا نعلم أحداً أسنده غير محمد ابن سلمة الحرَّاني، وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده) .
لكن كلام الترمذي غير مسلم؛ لأن الحاكم أخرجه في الموضع السابق عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان مسنداً.
راجع في ذلك: أسباب النزول للواحدي ص (172) وأسباب النزول للسيوطى ص (64) والدر المنثور للسيوطي (2/214-217) وتفسير ابن الجوزي (2/190) وتفسير الطبري (9/177-189) مع هامش ص (181-182) فإن للشيخ أحمد شاكر كلاماً جيداً في ذلك.
الثاني: مجيىء قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) بعد الآية المستدل بها، والشرك هو المقابل للتوحيد.(4/1069)
فوجب حمله على غيره من أحكام الشرع.
فإن قيل: اتباع سبيل المؤمنين: أن ينظر، ويجتهد، ويثبت الحكم من الطريق الذي أثبتوه، وإذا كان كذلك فتكون الآية حجة عليكم.
قيل: النظر المؤدي إلى قولهم لا يمنع منه، وإنما يمنع من النظر المؤدي إلى خلاف قولهم؛ لأن من فعل ذلك يكون تاركاً لسبيلهم ومخالفاً لهم.
وكذلك من دخل مصراً من أمصار المسلمين جاز له أن يجتهد، فإذا أدى اجتهاده إلى صحة محاريبهم (1) صلى إليها، ولا يجوز مخالفتها.
فإن قيل: الوعيد إنما هو على اتباع غير سبيل المؤمنين، وأنتم تطلقون الوعيد لترك السبيل.
قيل: إذا لحقه الوعيد باتباع غيرهم والعدول عنهم، ثبت أنه قد ترك واجباً، فلحقه الوعيد بالعدول عنه (2) .
وطريقة أخرى: قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمَّةً وسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ) (3) والوَسَطُ: العَدْلُ الخِيَار (4) .
__________
(1) المحاريب جمع محراب، والمراد: مقام الإِمام من المسجد. القاموس مادة (حرب) (1/53) .
(2) اعتمد المؤلف -رحمه الله تعالى- في معظم هذه الاعتراضات والرد عليها على كتاب أصول الجصاص الورقة (217) وعلى كتاب المعتمد لأبي الحسين البصري (2/462-469) وقد أطنب الفخر الرازي في ذكر الاعتراضات وردها، وذلك في كتابه المحصول (2/46-89) .
(3) (143) سورة البقرة.
(4) ذكر الزمخشري -عند تفسيره لهذه الآية (1/317) - معنيين للوسط: الأول: (وسطاً) : "خيارا"، ... وقيل للخيار: وسط؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإِعوار، والأوساط محمية محوطة..) . =(4/1070)
وهذا كما قال في آية أخرى (1) (قَالَ أوْسَطهُمْ ألمْ أقل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ) (2) يعنى: أعدلهم وخيرهم (3)
__________
= الثاني: (وسطاً) "عدلاً"؛ لأن الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض) .
ويفسر ابن منظور "الوسط" في كتابه اللسان مادة "وسط" (9/306) بالعدل.
ويعلل أبو السعود في تفسيره (1/172) وصفهم بذلك؛ لأنهم يتصفون بالصفات الحميدة، لا تفريط ولا إفراط، خياراً عدولاً مزكين بالعلم والعمل.
ويرى الشوكاني في تفسيره فتح القدير (1/130) أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير "الوسط" في الآية بالعدل، وساق الروايات المرفوعة في ذلك فارجع إليه إن شئت.
ويقول ابن جرير الطبرى في تفسيره (2/142) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر: (إن الوسط في هذا الموضع: هو"الوسط" الذي بمعنى الجزء الذى هو بين الطرفين، مثل "وسط الدار" ... وأرى أن الله تعالى ذكره: وصفهم بأنهم: "وسط" لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوه فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به ... ) .
قلت: ولا منافاة بين ما ذكره المفسرون هنا، فهم خيار عدول، وكل صفة من صفاتهم الحميدة تصح أن تكون سبباً في وصفهم بأنهم "وسط" والله أعلم.
(1) في الأصل: (في روامه) وبعدها موضع كلمة مطموسة. والتصويب دل عليه السياق، دل عليه قول أبي الخطاب في كتابه التمهيد (3/254) : (وهو حجة، لنا قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُم أمة وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس وَيَكونَ الرسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً) والوسط: الخيار العدل، بدليل قوله تعالى: (قَالَ أوْسَطُهُمْ ألم أقُل لكُم) معناه: أعدلهم) .
(2) آية (28) من سورة القلم.
(3) وبهذا فسره الزمخشري في الكشاف (4/145) .(4/1071)
وكما قال الشاعر:
هم وَسَط يَرْضى الإِله (1) بِحُكْمِهم ... إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيَالِى بِمُعْظَمِ (2)
ويقال: مِيَزان وَسَط، إذا لم يكن فيه ميل.
وإذا أخبر الله تعالى أن الأمة عدل، لم يجز عليهم الضلالة؛ لأنه لا عدالة مع الضلالة، وجعلهم شهداء على الناس، كما جعل الرسول شهيداً عليهم، فلما كان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة، كذلك قول الأمة.
فإن قيل: إنما جعلتم شهداء عليهم في الآخرة.
يبين صحة هذا: قوله (3) : (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ولا يمكن شهادتهم على الجميع إلا في الآخرة.
__________
= ويرى أبو السعود في تفسيره (9/16) : ("قال أوسطهم": رأياً أو سناً) .
(1) هكذا في الأصل: (يرضى الإله) وفي هامش الأصل: (الإمام) محرفة عن (الأنام) ، والأنام هو الصواب الموافق لمراجع التخريج الآتية.
(2) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، ذكره النحاس في شرحه للقصائد التسع (1/332) هكذا:
لِحَيِّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ الناسَ أمرُهم إذا طَرَقَت إحدى الليَالي بمُعْظَم والبيت أنشده الجاحظ في كتابه: البيان والتَبيين (3/225) غير منسوب، إلا أنه قال: (إذا طرقت) بدل (إذا نزلت) .
وفي تفسير الطبري (3/142) وتفسير الشوكاني (1/130) منسوب إلى زهير بمثل الرواية التي أثبتناها.
راجع بالإضافة إلى ما ذكر: هامش تفسير الطبري للشيخ أحمد شاكر وأخيه الأستاذ محمود.
(3) في الأصل: (أن قوله) ، و (أن) هنا لا يستقيم المعنى بوجودها ولذلك حذفناها.(4/1072)
قيل: هذا خرج مخرَج المدح لهم في الدنيا، فلو كانوا شهداء في الآخرة لم يكن مدحاً لهم في الدنيا. وعلى أنه جعلهم شهداء على الناس كما جعل الرسول، فلما كان المراد شهادة النبي في الدنيا، كذلك في الأمة (1) .
فإن قيل: [160/ب] كونهم شهداء لا يمنع وقوع الخطأ منهم، كما لا يمنع وقوع ذلك من الشاهِدَيْن.
قيل: لأن الله تعالى لم ينص على شاهدين بأعيانهما حتى [يكون] ذلك مانعاً من وقوع الخطأ والكذب منهما، ولو نص على شاهدين لامتنع ذلك منهما كالأمة (2) .
وطريقة أخرى، وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاَ تَجْتَمِعُ أمَتي عَلَى ضَلاَلة) .
__________
(1) التحقيق: أن الشهادة في الآية تكون في الدنيا، وتكون في الآخرة، وقد جاءت النصوص بذلك، وأورد الإمام الطبري في تفسيره (2/145-154) بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وأخيه كثيراً من الأحاديث في ذلك، كما ذكر الإِمام الشوكاني في تفسيره (1/131-132) بعض ذلك، فارجع إليهما إن شئت.
(2) الرد هنا غير واضح، وقد بينه العلامة الجصاص في أصوله الورقة (216/أ-ب) حيث قال: (قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن الله لم ينص على قبول شهادة شاهدين بأعيانهما، فلم يحكم لهما بالعدالة، وإنما أمرنا في الجملة بقبول شهادة عدول عندنا، ومن في غالب ظننا أنهم عدول، والظن قد يخطىء ويصيب، فلذلك لم يجز لنا القطع على عينهما.. فلو كان الله شهد لشاهديْن بأعيانهما بالعدالة وصحة الشهادة لقطعنا على عينهما، وحكمنا بصدقهما، وأما الأمة فقد حكم الله لها بالعدالة وصحة الشهادة على من بعدها، على معنى أنها تشتمل على من هذه صفته، فمتى وجدناها مجمعة على شىء حكمنا بأنه حكم الله تعالى؛ لأن العدول في الدين حكم الله بصحة شهادتهم، فقد قالت ذلك، وقولها صدق ... ) .(4/1073)
وروي: (عَلَى خَطَأ) (1) .
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذى في سننه في كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (4/466) ولفظه: (إن الله لا يجمع أمتى، أو قال: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار) ، ثم قال بعد ذلك: (هذا حديث غريب من هذا الوجه ... ) .
وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/115-116) وذكر أن الحديث مختلف فيه على المعتمر بن سليمان من سبعة أوجه، ثم ذكرها. ثم عقب عليها بقوله: (فقد استقر الخلاف في إسناد هذا الحديث على المعتمر بن سليمان، وهو أحد أركان الحديث من سبعة أوجه، لا يسعنا أن نحكم أن كلها محمولة الخطأ بحكم الصواب لقول من قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني عن عبد الله بن دينار، ونحن إذا قلنا هذا القول نسبنا الراوي إلى الجهالة فوهّنا به الحديث، ولكن نقول: إن المعتمر بن سليمان أحد أئمة الحديث، وقد روى عنه هذا الحديث بأسانيد يصح بمثلها الحديث، فلابد أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد، ثم وجدنا للحديث شواهد من غير حديث المعتمر، لا أدعي صحتها، ولا أحكم بتوهيتها، بل يلزمنى ذكرها لإجماع أهل السنة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام) ثم ذكر الشواهد بعد ذلك.
قال الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/61) : (قلت: وعلته سليمان المدني، وهو ابن سفيان، وهو ضعيف، ولكن الجملة الأولى من الحديث صحيحة [وهى قوله "لا تجتمع أمتي على ضلالة"] ، لها شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه الترمذى والحاكم وغيرهما بسند صحيح، ومن حديث أسامة بن شريك عند ابن قانع في المعجم) .
ورواه أيضاً أبو مالك الأشعري - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه أبو داود في كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها (2/414) ولفظه:
(إن الله أجاركم من ثلاث خلال) وذكر منها: (وأن لا تجتمعوا على ضلالة) وقد حكم عليه الشيخ الألباني بالضعف. =(4/1074)
.................................
__________
= انظر ضعيف الجامع الصغير وزياداته (2/67) .
وأخرجه عنه ابن أبي عاصم في كتابه السنة (2/434) وقد صححه الشيخ الألباني في تعليقه على الحديث.
وأخرجه عنه الطبراني، حكى ذلك العجلوني في كشف الخفاء (2/488) كما حكاه السخاوي في المقاصد ص (460) .
ورواه أيضاً: أنس بن مالك -رضى الله عنه- مرفوعاً أخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب الفتن، باب السواد الأعظم (2/1303) ، ولفظه: (إن أمتى لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم. وفي إسناده "أبو خلف الأعمى" وهو ضعيف كما قال صاحب مجمع الزوائد.
وأخرجه عنه الحاكم في المستدرك في الموضع السابق (1/116-117) بلفظ: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل ربه أربعاً، سأل ربه أن لا يموت جوعاً، فأعطى ذلك، وسأل ربه أن لا يجتمعوا على ضلالة، فأعطي ذلك ... ) الحديث وفي إسناده "مبارك بن سُحَيم" قال عنه الحاكم بعد ذلك: (فإنه مما لا يمشي في هذا الكتاب، لكني ذكرته اضطراراً) .
ورواه عمرو بن قيس -رضى الله عنه- مرفوعاً أخرجه عنه الدارمي في سننه في المقدمة، باب ما أعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضل (1/32) ، جزء من حديث فيه ( ... وإن الله وعدني في أمتى وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة) .
ورواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في الموضع السابق. بلفظ: (لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة) .
قال الذهبى: (وإبراهيم، يعنى: "إبراهيم بن ميمون العَدَنى" عدّله عبد الرزاق، ووثقه ابن معين) وعلى هذا فالحديث صحيح. وهو ما عناه الشيخ الألباني في كلامه السابق.
قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص (460) : "وبالجملة فهو حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره، فمن الأول: (أنتم شهداء الله في الأرض) ، ومن الثاني قول ابن مسعود: (إذا سئل أحدكم فلينظر في =(4/1075)
وروي: (ما رآه المسلمونَ حسناً، فهو عندَ الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عندَ الله قبيحٌ) (1) .
__________
= كتاب الله، فإن لم يجده ففي سنة رسول الله، فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد) .
وقد نقل العجلوني هذا الكلام بنصه في كتابه كشف الخفاء (2/488) .
وعلق الحافظ العراقي على الحديث بعد أن ذكر بعض طرقه في تخريجه لأحاديث مختصر المنهاج ص (298) من
مجلة البحث العلمى والتراث الإسلامى الصادرة عن مركز البحث العلمى في كلية الشريعة في مكة المكرمة - بقوله: (وفي كلها نظر، وقد حسن الترمذي حديث ابن عمر) .
قلتُ: ولم أجد تحسيناً للترمذي لحديث ابن عمر، فلعل الحافظ العراقي اطلع على نسخة أخرى من نسخ الكتاب غير النسخة التى طبع عليها الكتاب؛ لأن الشيخ أحمد شاكر لاحظ مثل ذلك في تحقيقه للجزء الأول والثاني من الكتاب.
ولمزيد من الاطلاع انظر: مجمع الزوائد (1/177) و (5/217) ، والفتح الكبير (1/318) و (375) ، والفقيه والمتفقه (1/161) .
(1) هذا جزء من حديث موقوف على ابن مسعود -رضى الله عنه- أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (1/379) بلفظ: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء) .
وأخرجه عنه الحاكم -موقوفاً أيضاً- في كتاب معرفة الصحابة، باب فضائل أبي بكر -رضى الله عنه- (3/78-79) بسند الإِمام أحمد، ولفظه: (ما رأى المسلمون.) الحديث، وزاد في آخره: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر -رضى الله عنه-) ثم قال بعد ذلك: (حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه) .
وقال الذهبى: صحيح. =(4/1076)
وروي: (من فارق الجماعة (1) قِيدَ شِبْر، فقد خَلَع
__________
= وأخرجه عنه البزار بسنده في باب الإِجماع من كتاب كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي (1/88) .
وأخرجه ابن حزم بسنده إلى ابن مسعود موقوفاً في كتابه الإِحكام في أصول الأحكام (6/759) قال: (فذكر كلاماً -يعنى ابن مسعود- فيه: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن") .
وقد قال ابن حزم قبل إيراد السند: (وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه أصلاً، وأما الذى لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود) .
قال الزيلعى في نصب الراية (4/133) : (قلت: غريب مرفوعاً، ولم أجده إلا موقوفاً على ابن مسعود، وله طرق) ثم ذكر بعد ذلك تلك الطرق.
وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/177-178) (رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون) .
وقال السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة ص (367) : (وهو موقوف حسن) .
وقال العلائي - فيما نقله عنه السيوطي في الأشباه والنظائر ص (99) وابن نجيم في الأشباه والنظائر أيضاً ص (93) : (لم أجده مرفوعاً في شىء من كتب الحديث أصلاً، ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- موقوفاً عليه) .
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5/3601) (إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود) .
والحديث روي مرفوعاً من حديث أنس -رضى الله عنه- نقل العجلوني في كتابه كشف الخفاء (2/263) رقم (2214) عن ابن عبد الهادى قوله: (روى مرفوعاً من حديث أنس بإسناد ساقط والأصح: وقفه على ابن مسعود) .
والخلاصة: أن الحديث لا يثبت رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو موقوف على ابن مسعود - رضي الله عنه - بسند صحيح.
(1) الجماعة: أهل الفقه والعلم والحديث، كما يقول الترمذي في سننه (4/467) . والمراد بهم: أهل الحل والعقد، فلا يجوز الخروج عما أجمعوا عليه في الإِمامة وغيرها. =(4/1077)
رِبْقة (1) الإِسلام من عُنقِه) (2) .
__________
= ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي في تعليقه على كتاب الإحكام للآمدى (1/219) : (المراد بالجماعة: أهل الحق المتبعون للكتاب والسنة، قلوا أو كثروا) .
والمراد بالمفارقة هنا - كما يقول ابن أبي جمرة فيما نقله صاحب الفتح (13/7) : (السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدني شىء) .
(1) الربقة -كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/62) مادة (ربق) -: (في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها فاستعارها للإسلام، يعنى: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام أى: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه ... ) .
(2) هذا الحديث رواه أبو ذر - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب السنة، باب قتل الخوارج (2/542) بمثل لفظ المؤلف، وسكت عنه.
ْوأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/180) ، كما أخرجه عن الحارث الأشعرى - رضي الله عنه - مرفوعاً (4/130، 202) من حديث طويل، وفيه (.. فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه إلا أن يرجع..) .
كما أخرجه مرفوعاً عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه أبا مالك الأشعرى (5/344) . ولفظ الشاهد قريب من اللفظ السابق.
وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الصوم (1/421-422) جزء من حديث عن الحارث الأشعري - رضي الله عنه - ولفظه كلفظ الإمام أحمد السابق ذكره، ثم عقب عليه بقوله: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبى على ذلك.
والحاصل: أن الحديث الذي رواه أبو ذر، وأخرجه عنه أبو داود وأحمد -كما سبق بيانه- في سنده "خالد بن وهبان" وهو مجهول، ولكن الحديث صحيح للشواهد الكثيرة، منها: عن الحارث الأشعري فيما أخرجه الإمام أحمد والحاكم كما سبق بيانه أيضاً.
انظر: تعليق الشيخ الألباني على مشكاة المصابيح (1/65) ، وفتح الباري (13/7) .(4/1078)
(ومن فَارَقَ الجماعةَ ماتَ مِيتَةً جَاهلية) (1) .
__________
(1) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه البخاري في كتاب الفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدي أموراً تنكرونها.. (9/59) ولفظه (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه؛ فإن من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية) .
كما أخرجه في كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (9/78) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الامارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين. (3/1475) .
وأخرجه عنه الدارمى في سننه في كتاب السير باب في لزوم الطاعة والجماعة (2/158) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/297) .
وأخرجه النسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب تحريم الدم، باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية (7/112) ضمن حديث جاء فيه (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية..) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/296) ، (306) ، (488) .
ورواه عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه الإِمام أحمد في مسنده (3/445) .
ورواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/133) .
والتشبيه في قوله - صلى الله عليه وسلم - (مات ميتة جاهلية) إما أن يكون مراداً أولا:
فإن كان غير مراد فيكون المعنى:
يموت موت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع، لأن الجاهليين لايعرفون ذلك، وعلى هذا يموت عاصياً لا كافراً.
وإن كان التشبيه مراداً، فيكون المعنى: =(4/1079)
وروي: (عليكم بالسَّواد (1) الأعظم) (2) .
وروي: (ثلاث لا يغل (3) عليهن (4) قلب مؤمن (5) : إخلاص العمل لله والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين) (6) .
__________
أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن جاهلياً.
أو أن ذلك ورد مورد الزجر، وظاهره غير مراد.
انتهى ملخصاً من فتح الباري (13/7) .
(1) المراد بالسواد الأعظم - كما يقول ابن الأثير في كتابه النهاية (2/191) مادة "سود": (جملة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك النهج المستقيم) .
(2) هذا جزء من حديث رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً ضمن حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلالة....) وقد مضى تخريجه قريباً.
(3) كلمة "يغل" وردت بثلاث روايات:
الأولى: "يُغِلّ" بضم الياء، من الإغلال، الذي هو الخيانة في كل شيء.
الثانية: "يَغِلّ" بفتح الياء، من الغل، وهو الحقد.
الثالثة: "يَغِلُ" بفتح الياء والتخفيف من الوغول، وهو الدخول في الشيء.
والمعنى: أن هذه الخصال الثلاث، يستصلح بها قلب العبد المؤمن، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة.
انظر: النهاية في غريب الحديث (3/168) مادة "غلل".
في الأصل: (علهم) ، وهو خطأ.
(5) عند الامام أحمد من رواية جبير بن مطعم (قلب المؤمن) ، وعند الترمذي من رواية ابن مسعود (قلب مسلم) وهو كذلك عند أحمد من رواية زيد بن ثابت، وعند أحمد من رواية أنس (صدر مسلم) والمعنى لا يختلف.
(6) هذا جزء من حديث رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (5/34-35) .(4/1080)
وروي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الشذوذ، وقال: (مَن شَذ (1) شَذَّ فِى النَّار) (2) .
وهذا كله يدل على أن اتباع المجمعين فيما أجمعوا عليه واجب (3) .
فإن قيل: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل المسألة.
قيل: هذه مسألة شرعية، طريقها مثل مسائل الفروع، ليس للمخالف فيها طريق تمكنه أن يقول: إنه موجب القطع.
وجواب آخر، وهو: أنه تواتر في المعنى من وجهين:
__________
= ورواه جبير بن مطعم -رضى الله عنه- مرفرعاًَ، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/80) ، ولفظه قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه الدارمى في سننه في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء (1/56) بلفظ قريب من لفظ المؤلف.
وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر (2/1015) رقم الحديث (3056) .
رواه: أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفرعاً، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/225) .
ورواه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/183) .
(1) الشُّذُوذُ معناه: الانفراد والمفارقة، وشَذَّ: ندر عن الجمهور والمراد هنا: مفارقة جماعة المسلمين.
انظر: معجم مقاييس اللغة (3/80) ، والقاموس (1/354) مادة (شذّ) .
(2) هذا جزء من حديث رواه ابن عمر -رضى الله عنهما- مرفوعاً سبق تخريجه بلفظ: (لا تجتمعُ أمتي على ضلالة) .
(3) هذا إشارة إلى وجه الاستدلال من الأحاديث التي ذكرها المؤلف.(4/1081)
أحدهما: أن الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة، ورواة شتَّى، لم يجز أن يكون جميعها كذباً، ولم يكن بد من أن يكون بعضها صحيحاً.
ألا ترى أن الجمع الكثير إذا أخبروا بإسلامهم، وجب أن يكون فيهم صادق (1) قطعاً.
ولهذا نقول: لا يجوز أن يقال: جميع ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يكون كذباً موضوعاً.
ولهذا أثبتنا كثيراً من معجزات رسول الله، وأثبتنا وجوب العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة -رضى الله عنهم- من العمل به في قضايا مختلفة.
والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن أحد أنه رده، ولهذا نقول: إن قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (نحن معشر الأنبياء لا نُورَث، ما تركنا صدقة) (2) ، لما اتفقوا على العمل به، دل على أنه صحيح عندهم.
__________
(1) في الأصل: (صادقاً) وهو خطأ؛ لأن حقه الرفع اسم "يكون".
(2) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً. أخرجه عنها البخاري في صحيحه في كتاب الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث، ما تركنا صدقة) (8/185-187) .
وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث) .. الحديث (3/379-1383) .
وأخرجه عنها أبو داود في كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال (2/126- 128) .
وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة -رضى الله عنه- مرفوعاً، في كتاب السير باب ما جاء في تركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (4/157-158) .
راجع أيضاً: تيسير الوصول إلى جامع الأصول (3/148-149) والمنتقى من أحاديث الأحكام ص (524) .(4/1082)
فإن قيل: نحمل قوله: (لا تجتمع أمتي على الخَطَأ) (1) يعنى: على كفر.
قيل: هذا محمول على الأمرين جميعاً (2) .
وعلى أن الخطأ إنما يعبر به عن المعاصى والآثام، دون الكفر.
فإن قيل: قوله: (لا تجتمعُ على ضلالة) معناه: لا يجمعهم الله على الضلال.
قيل: الخبر عام، لا يجمعهم الله ولا يجتمعون.
فإن [161/أ] قيل: قوله: (لا تجتمع أمتي) ، وإن كان لفظه لفظ الخبر، فالمراد به: النهي، وتقديره: لا تجتمعوا على ضلال؛ لأنه لو كان خبراً لوقع بخلاف مخبره؛ لأنا نجد في الأمة اجتماعها على الضلال.
قيل: قوله: (لا تجتمع على ضلالة) (3) خبر، وقوله: "يقع بخلاف مخبره" غلط؛ لأنا لم نجد اجتماع الأمة على ضلالة، وإنما يوجد بعضهم، والخبر اقتضى اجتماعهم.
فإن قيل: فهذه الأخبار يعارضها ما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بأن (لا تقوم الساعة إلا على أشرار (4) الناس) (5) ، وكيف يكون اجتماع الناس حجة؟
__________
(1) الرواية التي ذكرها المؤلف فيما سبق: (لا تجتمع أمتي على خطأ) وهى المناسبة لأن يذكر بعدها قول المعترض: (يعنى: على كفر) .
(2) لم يذكر إلا أمراً واحداً وهو: "الكفر" ولكن الجواب عن الاعتراض فيما بعد يوضح الأمرين.
(3) في الأصل: (ضلال) ، والحديث: (لا تجتمع على ضلالة) .
(4) هكذا في الأصل: (أشرار) ، وفي القاموس مادة "شر" (2/57) : وأشَر قليلة أو رديئة. وفي هامش الأصل، ومصادر التخرج الآتي ذكرها: (شرار) بدون الألف المهموزة.
(5) هذا الحديث رواه ابن مسعود -رضى الله عنه- مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب قرب الساعة (4/2268) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/435) . =(4/1083)
قيل: أراد به الغالب، فهم الشرار، وهذا سائغ إطلاقه.
وأيضاً: فإنه لا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة فيها ثابتة مقطوع بها، في خمس من [الإبل] شاة، وفي عشرين [ديناراً] نصف دينار، وفي خمس وعشرين من الإبل بنتُ مخاض (1) ، وفي ثلاثين من البقر تبيع" (2) ، وأربعين مسنة (3) ، و [في] ، أربعين (4) [شاةٌ] ، شاةٌ، وفي مائتين [من الدراهم] ، خمسةُ دراهم (5) .
وكذلك أركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم: أنه ما ثبت فيها خبر تواتر، وإنما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها، وقطعوا على ثبوتها، علمنا أن ثبوتها قطعاً من حيث الإِجماع، لا من حيث أخبار
__________
= ورواه علباء السلمي - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (3/499) ولفظه (لا تقوم الساعة إلا على حثالة الناس) .
(1) المَخَاضُ: وجع الولادة، وهو الطَّلْق أيضاً، وبنت المخاض: ما استكملت سنة، ودخلت في الثانية، والكلام على تقدير محذوف، أي: بنت ناقة مخاض، ولا يشترط مخاض أمها.
انظر: تهذيب اللغة للأزهرى (7/121) والمطْلع على أبواب المقْنِع للبعلي ص (123) .
(2) التبيع من البقر: ماله سنة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه، والأنثى: تبيعة.
انظر: تهذيب اللغة (2/283) ، والمطلع على أبواب المقنع (125) .
(3) المسنة من البقر: مالها سنتان ودخلت في الثالثة، وهي الثنية؛ لأن البقرة تثني في السنة الثالثة.
انظر: تهذيب اللغة (12/299) ، والمطلع على أبواب المقنع ص (125) .
(4) في الأصل: (أربعون) .
(5) كان الأولى أن يرتب المؤلف هذه المقادير، فيأتي بمقدار الذهب والفضة، ثم يأتي بمقدار الزكاة في الأنعام.(4/1084)
الآحاد، بل من ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول، فصارت الأخبار فيها كالمتواترة.
واحتج بعضهم فيها بطريق عقلي، فقال: كان سائر الأمم إذا أتفقت على باطل، وأجمعت على تغيير وتبديل، بعث الله إليهم نبياً، فردهم إلى الحق والصواب، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء، ولا نبي بعده، فجعلت أمتُه معصومةٍ، لتكون عصمتُها عوضاً عن بعثة النبي.
واحتج المخالف:
بقوله: (وَنَزَّلنَا عَلَيْكَ (1) الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُل شَىْء (2)) ثبت أنا لا نفتقر معه إلى غيره.
وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (3) يبين أن لا حكم لغيره.
وقال تعالى: (فَإِن تَنَازعْتُم فِى شَىْءٍ فَرُدوُّه إلى اللهِ وَالرسُولِ) (4) .
وأشباه هذه الظواهر.
والجواب: عن قوله: (تِبْيَاناً لِّكُل شَىْءٍ) فهكذا نقول، فقد بين الله تعالى عن الإِجماع بقوله: (وَمنْ يُشَاقِقِ الرسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيل الْمُؤْمِنينَ) (5) .
وأما قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) وقوله: (فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) معناه: إلى كتاب الله، وكذا نقول، وفي الكتاب والسنة أن الإِجماع حجة.
__________
(1) في الأصل: (وأنزلنا إليك) وهو خطأ.
(2) آية (89) من سورة النحل.
(3) آية (10) من سورة الشورى.
(4) آية (59) من سورة النساء.
(5) آية (115) من سورة النساء.(4/1085)
واحتج: بما روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: (بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ فقال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله قال: بسنة رسول الله [161/ب] قال: فإن لم تجد في سنة رسولِ الله، قال: أجتهد رأيى، ولا آلو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه) (1) فذكر الأدلة، ولم يذكر فيها الإجماع.
والجواب: أنه لا حجة فيه؛ لأن الإجماع إنما يعتبر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد الإجماع في حياته دونه، وقوله بانفراده عنه لا يفتقر إلى قول غيره، فلم يكن في عصره اعتبار بالإجماع.
واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خُطبة الوَداع: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض) (2) .
__________
(1) تكملة الحديث: (لما يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وفي رواية لأحمد (5/236) : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
وفي رواية له (5/242) : (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضى رسوله) ، وقد مضى تخريجه (2/566) .
(2) هذا جزء من حديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً أخرجه عنه البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (2/205) .
وأخرجه عنه الترمذى في كتاب الفتن، باب: ما جاء لا ترجعوا بعدي كفاراً يَضربُ بعضُكم رقابَ بعض (6/486) ،
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (1/230) .
وأخرجه مسلم عن أبي بكرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (3/1305) .
وأخرجه أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً، في كتاب =(4/1086)
وروي عنه أنه قال: (لتركبنَّ سَنَن (1) من كان قبلكم، حَذْوَ القذة (2) بالقُذَّة) (3) . وهذا يدل على أن ذلك جائز على الأمة.
__________
= السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصه (2/523-524) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل (7/115) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2/1300) .
وأخرجه الدارمي في سننه عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب المناسك، باب حرمة المسلم (1/395) .
(1) السنة الطريقة:
انظر: النهاية، والقاموس مادة (سن) .
(2) القُذَّة: ريش السهم، والمعنى: لتسلكن طريقة من كان قبلكم في كل شيء، كالقذة تقدر على قدر أختها ثم تقطع. أفاده ابن الأثير في نهايته وزاد: (يضرب مثلاً للشيئين يستويان ولا يتفاوتان) :
انظر النهاية واللسان مادة (قذذ) .
(3) هذا الحديث لم أجده بهذا اللفظ إلا في النهاية واللسان مادة (قذذ) وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/125) عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - بلفظ: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خَلَوْا من قبلهم أهل الكتاب حذو القذة بالقذة) .
وقد أخرجه الطبراني، حكى ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد (7/261) وقال: (ورجاله مختلف فيهم) .
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً أخرجه عنه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان، باب اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم (1/37) ولفظه (لتتبعن سنن من قبلكم باعاً فباعاً، وذراعاً فذراعاً، وشبراً فشبراً، حتى لو دخلوا جُحر
ضَب لدخلتموه معهم، قال: قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟)
ثم قال الحاكم بعد ذلك:
(صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ) ووافقه الذهبى. =(4/1087)
والجواب: أن هذا خطاب لبعض الأمة، وقوله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) خاص في حال الإِجماع، والخاص يجب أن يُقْضَى به على العام.
واحتج: بأن كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ بانفراده، فإذا اجتمع مع غيره كان بمنزلة المنفرد؛ لأنه مجتهد برأيه المعرض للخطأ.
والجواب أن عصمة الأمة في حال الاجتماع أثبتناه بالشرع دون العقل، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى: أنهم لا يختارون الخطأ في حالة الاجتماع، ولا يقع ذلك منهم، فإذا أخبر بذلك وجب المصير إليه والعمل به.
وجواب آخر، وهو: أن هذا باطل بأخبار التواتر، فإنها توجب العلم عند كثرة المجتهدين، وإن كان كل واحد منهم لو انفرد لم يوجب خبره العلم، وهكذا
__________
= وأخرجه البزار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الهيثمى في مجمع الزوائد في الموضع السابق - بعد أن ذكره: (ورجاله ثقات) .
وذكر الهيثمي: أن الطبراني رواه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: (أنتم أشبه الأم ببني إسرائيل، لتركبن طريقهم حَذوَ القُذة بالقذة، حتى لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله، حتى إن القوم لتمر عليهم المرأة، فيقوم إليها بعضهم، فيجامعها، ثم يرجع إلى أصحابه يضحك لهم ويضحكون له) ثم قالَ الهيثمي: (وفيه من لم أعرفه) .
قلت: ومعنى الحديث صحيح، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (4/2054) ولفظه: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضَب لاتبعتوهم قلنا: يا رسول الله: أليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)
راجع في هذا الحديث أيضاً: كتاب السنة لأبي بكر عمرو بن أبي العاص الشيباني (1/36) وفيض القدير (5/261) وصحيح الجامع الصغير للألباني (5/13) .(4/1088)
الجماعة تحمل الحجر العظيم، وإن كان الواحد لو انفرد به لم يطق حمله. وكذلك الطعام إذا كثر أشبع، والماء إذا كثر روى، وإن كان اليسير منهما لا يشبع ولا يروي.
واحتج: بأن الآية لا تحصر، ولا يمكن سماع أقاويلهم، وما لا سبيل إلى معرفته، فلا يجوز أن يجعله صاحب الشريعة دليلاً على شريعته.
والجواب: أن الإِجماع ينعقد عندنا باتفاق العلماء، وإذا اتفقوا جملة كانت العامة تابعة لهم.
ويمكن معرفة اتفاق أهل العلم؛ لأن من اشتغل بالعلم حتى صار من أهل الاجتهاد فيه، لم يخف أمره على أهل بلده وجيرانه، ولم يخف حضوره وغيبته، ويمكن الإِمام أن يبعث إلى البلاد، ويتعرف أقاويل الممتنع.
فإن قيل: يجوز أن يكون قد أسر في الغزو رجل من أهل العلم، وهو في مطمورة (1) المشركين.
قيل: لا يخفى ذلك، وإذا جرى ذلك لم ينعقد الاجماع إلا بالوقوف على مذهبه.
وأجاب بعضهم عن هذا: بأنا نسمع أقاويل الحاضرين [162/أ] ، والخبر عن الغائبين.
__________
(1) المطمورة: حفرة تحفر تحت الأرض. قال ابن دريد: بنى فلان مطمورة إذا بنى بيتاً في الأرض.
والمعنى: أن العالم يجوز أن يكون مأسوراً في مكان خفي، لا يمكن الوصول إليه ليؤخذ رأيه في القضية المطروحة.
انظر: المصباح المنير مادة (طمر) .(4/1089)
مسألة
إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز إجماعهم على الخطأ (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد وصف أخذ العلم فقال: "ينظر ما كان عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن، فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين".
وقد عَلَّق القول في رواية أبي داود فقال: "الاتباع: أن تتبع ما جاء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير" (2) .
وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم.
وقد بين هذا في رواية المروذي فقال: "إذا جاءك الشىء عن الرجل من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي، لا يلزم الأخذ به" (3) .
وبهذا قال جماعة الفقهاء (4) والمتكلمين (5) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: أصول الجصاص الورقة (218/ب) والتمهد (3/224) ، والمسودة ص (317) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/372) وشرح الكوكب المنير (2/214) .
(2) هذه الرواية موجودة في "مسائل الإمام أحمد" التي رواها أبو داود (276) .
(3) هذه الرواية نقلها أبو داود عن الإمام أحمد في "مسائله" ص (276) والرواية هكذا في نسخة الظاهرية، أما نسخة المدينة ففيها: (.... حدثنا أبو داود، قال سمعت أحمد سئل إذا جاء الشىء من التابعين لا يوجد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلزم الرجل أن يأخذ به؟ قال: لا، لا يكاد الشيء، إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) وعلى هذه الرواية يكون تأويل المؤلف لكلام الإمام أحمد لا دليل عليه.
(4) انظر: أصول الجصاص الورقة (218/ب) ، وأصول السرخسى (1/313) .
(5) انظر: البرهان لإمام الحرمين ص (720) ، والتبصرة للشيرازي ص (359) والمعتمد لأبي الحسين البصري (1/483) .(4/1090)
وقال أهل الظاهر: داود وأصحابه: الإجماع: إجماع الصحابة دون غيرهم (1) .
ويدل عليه أيضاً: قوله: (لا تجتمع متي على ضلالة) و (على الخطأ) .
وقوله (ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح) .
وقوله: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن فارق الجماعة قيدَ شبر خلع رِبْقة الإِسلام من عنقه) .
ونحو ذلك من الأخبار التى تقدم ذكرها، وهو عام في الصحابة. [وفي غيرهم] .
فإن قيل: الأمة عبارة عن الجماعة، وحقيقة ذلك الموجود حال (2) حصول هذا القول منه (3) دون عصر من يوجد.
قيل: هو حقيقة في الكل.
ولأن غير الصحابة أكثر عدداً من الصحابة، ومنهم من أهل [162/ب] الاجتهاد أكثر منهم، فإذا وجب الرجوع إلى قول الصحابة مع قلتهم، فالرجوع إلى قول الأكثر أولى.
واحتج المخالف:
__________
= انظر في ذلك: الإحكام لابن حزم ص (506) وما بعدها.
وقول الظاهرية هذا ذكر أبو الخطاب في كتاب التمهيد (3/256) أن الإمام أحمد أومأ إليه في رواية أبي داود: (الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، وهو بعد في التابعين مخير) .
وقد حمل المؤلف هذه الرواية على آحاد التابعين، لا على جماعتهم كما سبق بيانه.
(2) في الأصل: (من حال) و"من" هذه زائدة.
(3) الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.(4/1091)
بقوله: (فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (1) .
والجواب: أن معناه: فردوه إلى أدلة الله ورسوله، والإجماع من أدلته، فقد رددناه إليه.
واحتج بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ) (2) وهذا خطاب مواجهة للصحابة، فلا يدخل فيهم غيرهم (3) .
وكذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً) (4) .
والجواب: أن هذا عام في الصحابة وغيرهم من الوجه الذي بينا.
وأن ذلك جار مجرى قوله: (أقِيمُوا الصَّلاَةَ) (5) ، و (حُجُّوا) (6) و (جَاهِدُوا) ، (7)
__________
(1) آية (59) من سورة النساء.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالإجماع ليس رداً إلى الله ورسوله.
(2) آية (110) من سورة آل عمران.
(3) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري (1/484) .
(4) آية (143) من سورة البقرة.
ووجه الاستدلال من هذه الآية مثل وجه الاستدلال من الآية التي قبلها، ولو ذكر المؤلف الآيتين ثم جاء بوجه الاستدلال منهما بعد ذلك لكان أولى، وهو ما فعله أبو الحسين البصرى في المرجع السابق.
(5) آية (43) من سورة البقرة.
(6) هذا جزء من حديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر (2/975) ولفظه:
(خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا ... ) الحديث.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/508) .
وأخرجه عنه النسائي في كتاب المناسك، باب وجوب الحج (5/83) .
(7) آية (35) من سورة المائدة.(4/1092)
وأنه على العموم.
واحتج: بأنا قد علمنا من ناحية العقول: أنه لا فَصْل بين هذه الأمة وبين من تقدمها في جواز الخطأ وتعمد الباطل في الأخبار: بالكذب فيها (1) ، وإنما انفصلت الصحابة ممن تقدمها من الأمم لورود الخبر بذلك، وبقي غيرهم على موجب الدليل في المنع من قولهم.
والجواب: أن قولك: لا فرق بين هذه الأمة وبين من تقدمها غلط؛ لأن من تقدمها إذا كذبت في الإِخبار عن نبيها وأخطأت فيما يتعلق بالدين، علم خطؤها وكذبها من جهة من يرد عليها من بعد نبيها من الأنبياء، وليس كذلك أمة نبينا؛ لأنها إذا ضَلّت وأخطأت لم يرد من بعد من يعرف من جهته ضلالتها، فحرس الله تعالى من أجل ذلك هذه الأمة من الضلالة والكذب والخطأ في الدين.
وجواب آخر، وهو: أن كل دليل ورد بعصمة جميع الصحابة، فهو دليل على أعصمة، غيرهم، وعام فيهم وفي غيرهم.
واحتج: بأن الصحابة لها مزية كل غيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى اتباعهم بقوله: (أصحَابِي كالنُّجُوم، بأيُّهم اقتديتم اهتَديْتُم) (2) .
__________
(1) في الأصل: (منها) .
(2) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله (2/111) ثم قال (هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول) .
وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإحكام ص (810) ثم قال بعد ذلك:
(أبو سفيان -أحد رواة الحديث- ضعيف، والحارث بن غصين -أحد رواة الحديث- هو أبو وهب الثقفى، وسلام بن سليمان -أحد رواة الحديث أيضاً- يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك، فهذه رواية ساقطة من طريق ضعف إسنادها) . =(4/1093)
ولأنهم مقطوع على عدالتهم، وشاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل.
والجواب: أنهم وإن خُصُّوا بهذه المزية، فلم يكن قولهم حجة لهذه المعاني، وإنما كان لأجل أنهم من أهل الاجتهاد، وهذا موجود في غيرهم كوجوده فيهم.
__________
= ورواه أيضاً ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً. أخرجه عنه عبد بن حميد في مسنده وابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: (بأيهم أخذتم) بدل قوله: (بأيهم اقتديتم) قال الحافظ العراقي بعد ذلك في كتابه تخرج أحاديث مختصر المنهاج ص (299) مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي:
(وإسناده ضعيف من أجل: حمزة، فقد اتهم بالكذب) .
ثم ذكر الحافظ العراقي بعد ذلك: (أن البيهقي رواه في المدخل من حديث ابن عمر وابن عباس بنحوه من وجه آخر مرسلاً، وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة، ولم يثبت في إسناد) .
قال ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله: (2/111) :
(قد روى أبو شهاب الحناط عن حمزة الجذري عن نافع عن ابن عمر)
وذكر الحديث، ثم عقب عليه بقوله: (وهذا إسناد لا يصح، ولا يرويه عن نافع من يحتج به) .
وأخرجه البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن ابن المسيب عن ابن عمر وقال: (منكر لا يصح) . ذكر ذلك العراقي في المرجع السابق.
ونقل ابن عبد البر في كتابه السابق ذكره عن البزار قوله: (وهذا الكلام لا يصح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - رواه عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد؛ لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ... ) .
وبالجملة فالحديث لا يصح بوجه من الوجوه.
ولمزيد من الفائدة ارجع إلى: كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ص (78) ، وهامش كتاب تخريج أحاديث مختصر المنهاج =(4/1094)
مسألة
انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره (1) .
فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام، ثم رجع بعضهم أو جميعهم انحل الإجماع.
وإن أدرك بعض التابعين عصرهم -وهو من أهل الاجتهاد- اعتد بخلافه، إذا قلنا: إنه يعتد بخلافه معهم.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية عبد الله فقال: "الحجة على من زعم أنه إذا [163/أ] ، كان أمراً مجمعاً عليه، ثم افترقوا، ما نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعاً. إن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر، وخالفه علي بعد موته، ورأى (2) أن تُسْتَرَق (3) . فكان الإجماع في الأصل: أنها أَمة.
__________
= للحافظ العراقي لمحققه الأستاذ صبحى السامرائي (299) .
وعلى فرض صحة الحديث، فقد أوله المزني بقوله -فيما نقله عن ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم (2/110) -: ( ... إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليهم، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم، فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضاً، ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبَّر) .
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (227) /أ) والتمهيد (3/346) والمسودة ص (320) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (2/366) وشرح الكوكب المنير (2/246) . والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص (78) .
(2) في الأصل: (أبي) وهو خطأ، لدلالة السياق، ولما يأتي في مراجع تخرج الأثر.
(3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه باب بيع أمهات الأولاد (7/291-292) بإسناده عن عبيدة السلماني قال: (سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي =(4/1095)
وحد الخمر: ضرب أبو بكر أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة عثمان أربعين، فقال: ضرب أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة (1) .
والحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه، فزاد أربعين، ثم ضرب على أربعين".
وظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف على بعد عمر في أم الولد. وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر.
__________
= عمر في أمهات الأولاد أن لا يُبعن، قال: ثم رأيت بعدُ أن يُبعن. قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة أو قال: في الفتنة- قال فضحك علي) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية، باب في بيع أمهات الأولاد (6/436-437) .
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الخلاف في أمهات الأولاد (10/348) .
(1) هذا إشارة إلى الحديث الذى رواه حُضَيْن بن المنذر، أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحدود، باب حد الخمر (3/1331-1332) وفيه قصة الوليد بن عقبة لما شرب الخمر، وأراد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إقامة الحد عليه، فقال: لعلي - رضي الله عنه -: قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارَّها، (فكأنه وجد عليه) ، فقال: يا عبد الله ابن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعليٌ يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.(4/1096)
وذهب المتكلمون من المعتزلة (1) والأشعرية (2) وأصحاب أبي حنيفة (3) -فيما حكاه أبو سفيان- إلى أن انقراض العصر غير معتبر في صحة الإجماع.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال مثل قولنا (4) .
ومنهم من قال مثل قولهم (5) .
ومنهم من قال: إن كان الإجماع مطلقاً لم يعتبر انقراض العصر عليه، وإن كان بشرط، وهو: إن قالوا: هذا قولنا، ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح
__________
(1) انظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصرى (2/502) ولو عبر المؤلف ببعض المعتزلة لكان أدق؛ لأنه نقل عن أبي على الجبائي القول باشتراطه في الإجماع السكوتي دون الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما، حكى ذلك الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (84) ، وهو ما عبر به ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" (3/87) حيث عبر عن الجبائي: ببعض المعتزلة.
(2) وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني، نقله عنه إمام. الحرمين في كتابه: البرهان (1/693) ولو عبر المؤلف: ببعض الأشعرية لكان أصوب؛ لأن بعض الأشعرية كإمام الحرمين له تفصيل في المسألة ذكره في كتابه المذكور آنفاً (1/694) .
(3) نصّ أبو بكر الجصاص الحنفي في أصوله الورقة (227/أ) على أنه الصحيح عندهم.
وقال السرخسى الحنفي في أصوله (1/315) : (وأما عندنا فانقراض العصر ليس بشرط) .
(4) وهم القلة من الشافعية، ونسبه الآمدي في كتابه الإحكام (1/231) إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك، ونسبه ابن السبكي في جمع الجوامع (2/182) إلى ابن فورك وإلى سليم الرازي.
(5) وهذا عليه أكثر الشافعية، وهو المعتمد عندهم. انظر: المستصفى (1/192)
والإحكام للآمدي (1/231) وجمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي (2/181) .(4/1097)
صرنا إليه، لم يكن إجماعاً (1) .
وفائدة الخلاف: من قال: لا يعتبر انقراض العصر عليه، يقول: لا يسوغ أن يرجع الكل عما أجمعوا عليه، وإن رجع واحد منهم ساغ رجوعه، لكنه محجوج بقول الباقين. وإذا حدث من التابعين من هو من أهل الاجتهاد فخالفهم لم يكن خلافه خلافاً.
ومن قال: يعتبر انقراض أهل العصر، يقول: يجوز أن يرجع الكل عن ذلك القول إلى غيره، ويرجع الواحد منهم عن القول معهم، فيكون خلافه خلافاً ويسوغ للتابعين مخالفتهم، فيكون خلافهم (2) خلافاً.
والدلالة على اعتبار انقراض العصر:
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكَونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (3) .
فوجه الدلالة: أنه جعلهم شهداء على غيرهم، ولم يجعلهم شهداء على أنفسهم.
ومن قال لا يعتبر انقراض العصر لا يجوز رجوعهم عما أجمعوا عليه، فيكون قولهم حجة على أنفسهم.
فإن قيل: ليس في الآية ما يمنع كونهم شهداء على أنفسهم، وإنما فيها إثبات كونهم شهداء على غيرهم.
قيل: لما غاير بينهم وبين غيرهم، فجعلهم شهداء على غيرهم، وجعل الرسول شهيداً عليهم، ثبت أن حكمهم مخالف لحكم غيرهم.
__________
(1) هذا إشارة إلى قول إمام الحرمين في هذه المسألة، حيث قسم الإجماع إلى مقطوع به وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم، ولم يشترط انقراض العصر في الأول واشترطه في الثاني على تفصيل ذكره في كتابه البرهان (1/694) .
(2) في الأصل: (خلافه) وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(3) آية (143) من سورة البقرة.(4/1098)
فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم.
قيل: من كان شهيداً وحجة على غيره، فليس بحجة على نفسه، كالشاهد هو شاهد على غيره [163/ب] ، ولا يكون شاهداً على نفسه، وإنما يكون مقراً، وقول النبى حجة على غيره، وليس حجة على نفسه.
فإن قيل: إذا كانوا شهداء على غيرهم، فيجب أن يكونوا شهداء على أنفسهم؛ لأن الحجة لا تختص بقوم دون قوم ولا بعصر دون عصر.
قيل: قد بينا اختصاص الحجة بجهة دون جهة.
وعلى أن الموضع الذي نجعله حجة على غيره نجعله حجة في نفسه في الفتيا لغيره. فأما إذا رجع فليس بحجة على غيره ولا على نفسه.
وأيضاً: ما احتج به أحمد من إجماع الصحابة، وذلك أنه روي عن علي أنه قال: (كان رأيي مع أمير المؤمنين عمر: أن لا تباع أمهات الأولاد، وأرى (1) الآن أن يبعن، فقال له عبيدة السَّلْمَاني (2) : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) (3) .
فعلىُّ أظهر الخلاف بعد الإجماع، فأقر عليه. فلو كان انقراض العصر غير معتبر ما سَاغَ له الخلاف.
__________
(1) في الأصل (أرى أن) وحرف (أن) هنا لا معنى لها، ولذلك حذفناها.
(2) هو عبيدة بن عمرو أبو مسلم، وقيل: أبو عمرو، السَّلْمَاني المرادي. أسلم قبل وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. صحب علياً وابن مسعود -رضي الله عنهما- مات سنة (72 هـ) .
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1023) وتاريخ بغداد (11/117) وتذكرة الحفاظ (1/50) واللباب في تهذيب الأنساب (2/127) .
(3) مضى تخريج هذا الأثر ص (1095) .(4/1099)
فإن قيل: ما خالف الإجماع؛ لأنه كان قوله وقول عمر على ذلك وحدهما، فخالف عمر فقط.
وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: (والله ما هنَّ إلا بمنزلة بعيرِك وشاتِك) (1) .
وكان عبد الله بن الزبير: يبيح بيع أمهات الأولاد (2) .
فدل على أنهم لم يجمعوا.
قيل: قول عبيدة له: (رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) ، يدل على (3) أن الجماعة كانت مع عمر، ومعه علىٌّ، أن لا يبعن (4) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، باب بيع أمهات الأولاد (7/290) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار -أظنه- عن عطاء عن ابن عباس، ثم ذكره وفيه (هي) بدل (هن) و (أوشاتك) بحرف العطف (أو) بدل الواو.
(2) أخرج هذا عبد الرزاق في مصنفه في باب بيع أمهات الأولاد (7/292، 293) بسندين، أحدهما عن الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن نفر من أهل العراق ذكروا ذلك عن ابن الزبير.
وثانيهما عن عمر عن أيوب عن نافع أن رجلاً جاء لابن عمر وذكر له ذلك عن ابن الزبير.
كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب البيوع والأقضية، باب بيع أمهات
الأولاد (6/437، 439) بسندين أيضاً.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب عتق أمهات الأولاد، باب الرجل يطأ أمته بالملك فتلد له، وباب الخلاف في أمهات الأولاد (10/343، 348) .
(3) في الأصل: (عليه) .
والذي يبدو لي أنه ليس هناك إجماع لأمور:
أولاً: - أن علياً قال: (كان رأي مع رأي أمير المؤمنين عمر..) ومعلوم أن رأيهما لا يعد إجماعاً. =(4/1100)
ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال قولاً: أعتبر انقراضه عليه؛ لأنه قد يرجع عنه، ويتركه، فإذا جاز هذا في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبأن يجوز في حق المجمعين أولى.
فإن قيل: الرسول لا يرجع عما كان عليه؛ لأنه لا يتبين له الخطأ، وإنما يرجع بأن يقول: كنت على صواب، ولكن قد نسخ عني ذلك، وأمرت بغيره، فلهذا جاز أن يرجع عما كان عليه، وليس كذلك المجمعون؛ لأنهم لا يرجعون عما كانوا عليه؛ لأنه قد يبين لهم الخطأ فيما كانوا عليه.
قيل: هذا تعليل بجواز الرجوع عما كان عليه بعد صحة الجمع بينهما فلا يضر الفرق (1) .
__________
= ثانياً: - وأن جابر بن عبد الله وابن عباس وابن الزبير قد خالفوا وقالوا بجواز بيع أمهات الأولاد.
ثالثاً: - وقول عبيدة السلماني: (فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك) فالمراد بالجماعة: وقت اجتماع المسلمين في خلافة الثلاثة، لما في ذلك من الألفة والالتئام، ورأيه في ذلك الوقت خير من رأيه وقت الفتنة والفرقة، يؤيد هذا ما جاء في رواية عبد الرزاق (7/291-292) عن عبيدة السلماني قال: ( ... أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- فضحك عليّ) .
أو أن عبيدة السلماني أطلق الجماعة على الأكثر، مريداً جماعة، وليس قول كل جماعة إجماعاً.
انظر: التمهيد لأبي الخطاب (3/353) والمحصول للرازي (4/212) والإِحكام للآمدي (1/235) .
(1) الحقيقة أن الفرق هنا ضار، يقول أبو الخطاب: في كتابه التمهيد (3/354) (إن هذا غلط؛ لأنّ قوله عليه السلام حجة في حياته، لا تجوز مخالفتها، وإنما يجوز ورود النسخ عليه ما دام حياً، فأما إن مات، أين ورد النسخ؟! فأما أن يكون قوله ليس بحجة حتى يموت -كما تقولون في الإجماع- فلا) .(4/1101)
وأيضاً: فإن كل واحد من المجمعين إنما قال ما قاله عن دليل صحيح عنده من قياس أو اجتهاد واستدلال، وهو يُجوِّز على نفسه الخطأ فيما أفتى به، فإذا صح له الفساد لدليله، لزمه الرجوع عن قوله واعتقاد غيره، فإذا لزمه الرجوع عما كان عليه لفساد دليله عنده بطل الإِجماع.
فإن قيل: لا يسوغ رجوعه؛ لأنه كان مصيباً في القول، مخطئاً في الدليل.
قيل: إنّما كان على الصواب في قوله؛ لأجل دليله. ألا ترى أنه لو لم [164/أ] ، يكن من أهل الأدلة والاجتهاد لم يعتدّ بقوله، فإذا فسد عنده الدليل بطل قوله عن ذلك الدليل.
وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف وجواز القول بكل واحد من القولين، وانعقد الإجماع على ذلك، ثم إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى صارت المسألة إجماعاً، وزال ما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف، فلو كان الإِجماع قد انعقد بنفسه من غير اعتبار انقراض العصر، لما جاز رجوعهم عما أجمعوا عليه من تسويغ الخلاف.
وهذه طريقة مفيدة.
فإن قيل: إنما جاز الإجماع بعد الخلاف؛ لأن التابعين لو أجمعوا على أحد القولين صارت المسألة إجماعاً.
قيل: لا يصير إجماعاً عندنا.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبيل الْمُؤْمِنِينَ) (1) ولم يشترط انقراض العصر.
وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَجْتمعُ أمَّتِي عَلَى ضَلاَلَة) و (لا تجتمعُ عَلَى خطأ) .
والجواب عن قوله: (وَيَتَّبِعْ غيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) فهو: أنه إذا رجع واحد
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.(4/1102)
منهم صار سبيل بعض المؤمنين.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجتمعُ أمَّتِي عَلَى خَطَأ) فلا نسلم أن الإجماع يستقر حكمه ويلزم إلا بعد انقراض العصر، فلا يتناوله الاسم.
وليس الاعتبار بالإجماع اللّغوي، الذي طريقه الاجتماع، وإنما الاعتبار بالإجماع الشرعي، الذي هو: القطع والعزيمة. وهذا لا يكون إلا بعد انقراض العصر. وإذا لم يتناول الاسم، لم نسلم أنه متبع غير سبيل المؤمنين ولا مخالف الإجماع.
واحتج: بأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة في عصر الصحابة:
فروي [عن] الحسن البصري أنه احتج بإجماع الصحابة، وأنس بن مالك [حي] (1) ، فلو كان انقراض العصر شرطاً ما احتج بذلك قبل انقراضه.
والجواب: أنا لا نعرف هذا عن التابعين، وما ذكروه عن الحسن، فيجب أن ينقل لفظه، حتى ينظر كيف وقع ذلك منه.
وعلى أنه لو كان منقولاً لم يكن فيه حجة؛ لأن من الناس من قال: قول الصحابي وحده حجة. وهو الصحيح من الروايتين لنا، فإذا كان كذلك احتمل أن يكون الحسن احتج بقول الواحد منهم، لا بإجماعهم (2) .
واحتج: بأن قول النبي حجة بوجوده، ولا يقف على انقراضه، كذلك قول المجمعين.
__________
(1) الزيادة في الموضع من المسوَّدة ص (321) ، ولم أقف على مصدر ينقل هذا عن الحسن البصري.
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (322) : (هذا جواب ضعيف، فإنَّا إذا اشترطنا انقراض العصر في المجمعين، فلأن نشترطه في الواحد أولى، فإن قوله بعد رجوعه عنه لا يكون حجة وفاقاً، وإذا كان الاحتجاج بهذا الواحد في حياته مع أن رجوعه يبطل اتباعه، فلأن يحتج بقول الجماعة في حياتهم أولى ... ) .(4/1103)
والجواب: أنا قد جعلناه حجة لنا، وقد بينا أنه يعتبر في ذلك انقراضه، لأنه قد يرجع عنه، ويتركه.
على أن قوله لا يقف العمل به على انقراضه؛ لأنه بالنسخ لا يبين الخطأ فيما كان عليه، بل يرجع عما كان عليه مع كونه صواباً في ذلك الوقت، وليس كذلك رجوع المجمعين [164/ب] ؛ لأنه عن خطأ يبين لهم.
واحتج: بأنه يؤدي إلى أنه لا يوجد إجماع؛ لأن اتفاقهم لو لم يكن إجماعاً حتى ينقرضوا، لوجب إذا حدث قوم معهم من أهل الاجتهاد: أن يعتبر اتفاقهم معهم وانقراضهم، ولو وجب هذا لم يحصل الإجماع أبداً؛ لأن كل عصر مندرج في عصر بعده، ويحدث فيه أهل الاجتهاد من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الذي قبله، ويدخلون معهم في الاجتهاد، ويجب اعتبار رضاهم بقول من قلتم وموافقتهم لهم فيه، وهذا يمنع وجود الإجماع أبداً.
والجواب: أن هذا مبني على أصل: أن (1) التابعى إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه ووفاقه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يعتّد، وإذا لم يعتدّ به لم يفض إلى ما قالوه من أنه: لا يحصل الإجماع.
والرواية الثانية: يعتد به، فعلى هذا لا يفضي إلى ما قالوه أيضاً؛ لأن الصحابة إذا كانت على قول، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، فهو وهم من أهل الاجتهاد في ذلك العصر، فإذا انقرضت الصحابة، وبقي ذلك التابعي، فحدث تابعي، وصار من أهل الاجتهاد، لم يسغ له الخلاف؛ لأنه ما عاصر الصحابة، وإنما عاصر من عاصرهم، وإنما يسوغ الخلاف لمن عاصرهم، فأما من عاصر من عاصرهم فلا، وإذا كان كذلك لم يفض إلى ما قالوه.
__________
(1) في الأصل: (وأن) والواو هنا لا معنى لها.(4/1104)
واحتج: بأنه لو جاز أن يجمعوا على حكم لم يرجعوا عنه كان إجماعاً على خطأ، والأمة لا تجتمع على خطأ.
والجواب: أن الأمة لا تجتمع على خطأ، إذا انقرض عصرهم عليه، فأما قبل انقراضه، فإنهم يجمعون على الخطأ، ويتبين لهم الصواب فيصيرون إليه.
فإن قيل: الذي يعتبر: انقراض العصر في انعقاد الإِجماع، وليس ذلك قولاً ولا فعلاً.
قيل: هو وإن لم يكن قولاً ولا فعلاً، فإنه يستقر به حكم القول والفعل فجاز اعتباره.
مسألة
إذا اختلف الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد القولين لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية يوسف بن موسى: "ما اختلف فيه علي وزيد ينظر أشبهه بالكتاب والسنة، يختار".
وكذلك نقل المروذي عنه: "إذا اختلف [الصحابة] (2) ينظر إلى أقرب القولين (3) إلى الكتاب والسنة".
وكذلك نقل أبو الحارث: " [ينظر] (4) إلى أقرب الأقوال (5) وأشبهها بالكتاب والسنة".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/297) والمسوَّدة ص (326) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/376) وشرح الكوكب المنير (2/272) .
(2) الزيادة من المسوَّدة ص (325) .
(3) في الأصل: (القول) والتصويب من المسوَّدة ص (325) .
(4) الزيادة من المسودة ص (325) .
(5) في المسودة (الأمور) .(4/1105)
وظاهر هذا: أنه رجع في ذلك إلى موافقة الدليل، ولم يرجع إلى إجماع التابعين على أحد القولين (1) . [165/أ] .
وبهذا قال أبو الحسن الأشعري.
وقال أصحاب أبي حنيفة (2) -فيما حكاه أبو سفيان- والمعتزلة (3) : يرتفع الخلاف و [لا] ، يجوز الرجوع إلى القول [الآخر] .
وإنما قال هذا إذا كان إجماع التابعين على أحد القولين بعد انقراض أهل أحد القولين.
واختلف أصحاب الشافعي:
فمنهم من قال مثل قولنا (4) .
ومنهم من قال مثل قولهم (5) .
دليلنا:
قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فُرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (6) .
وظاهر هذا: يقتضي أنه إذا تنازع [أهل] العصر الذي بعد التابعين المجمعين
__________
(1) الذي يظهر لي -والله أعلم-: أن كلام الإمام أحمد لا يدل على ما ظهر للمؤلف؛ لأن الإمام أحمد لم يذكر في هذه النصوص إجماع التابعين، بل نص على أن الصحابة إذا اختلفوا أخذ بقول من يعضد قوله الكتاب والسنة.
(2) صرح بهذا أبو بكر الجصاص في كتابه أصول الفقه الورقة (132/أ) .
(3) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/517) .
(4) قال الشيرازي في التبصرة ص (378) : (وهو قول عامة أصحابنا) يعنى: الشافعية.
(5) وإليه مال الإمام الشافعى، كما ذكر ذلك إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/710) .
وبه قال ابن خيرون وأبو بكر القفال من الشافعية، حكى ذلك الشيرازي في المرجع السابق.
(6) آية (59) من سورة النساء.(4/1106)
على أحد القولين في شىء أن يردوه إلى الله ورسوله، وعلى قولهم يلزمهم رده إلى ما أجمع عليه التابعون.
وإلى هذا المعنى أشار أحمد بقوله: "إذا اختلف الصحابة، رجع إلى الكتاب والسنة".
يدل عليه أيضاً: ما روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (1) في كتاب الشريعة (2) بإسناده عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابى مثل النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم) (3) .
وظاهر هذا يقتضي: الرد إلى كل واحد من الصحابة بكل حال، مع الإجماع على قول بعضهم، ومع الاختلاف.
فإن قيل: كيف يحتجون بهذا الحديث، وقد قال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد - رضي الله عنه - عمن احتج بقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي بمنزلة النجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم) قال: لا يصح هذا الحديث".
قيل: قد احتج به أحمد -رحمه الله- واعتمد عليه في فضائل الصحابة.
فقال أبو بكر الخلاَّل في كتاب السنة: "أخبرني عبد الله بن حنبل بن
__________
(1) هو: محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر، الآجري، الفقيه، المحدث. روى عنه أبي مسلم الكجي وأبي شعيب الحراني وغيرهما. وعنه أبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الحمامي وغيرهما. توفي بمكة المكرمة في شهر محرم سنة (360هـ) .
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/936) ، وشذرات الذهب (3/35) ، وطبقات الحفاظ ص (378) ، وطبقات الشافعية للسبكى (3/149) .
(2) طبع هذا الكتاب بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقى في مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة (1369هـ-1950م) عن نسخة خطية واحدة، بها خروم ونواقص.
(3) لم أجد هذا الحديث في كتاب الشريعة المطبوع، ولعله ضمن ما فقد من الكتاب وقد سبق تخرج الحديث.(4/1107)
إسحاق بن حنبل قال: حدثني أبي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول في الغلو في ذكر أصحاب محمد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً) (1) وقال: (إنما هم بمنزلة النجوم بمن اقتديتم منهم اهتديتم) ".
فقد احتج بهذا اللفظ، فدلّ على صحته عنده.
وأيضاً: فإن الصحابة إذا اختلفت على قولين، فقد أجمعت على تسويغ الخلاف في المسألة، والأخذ بكل واحد من القولين، فإذا أجمع التابعون على أحد القولين لم يجز رفع إجماع الصحابة بإجماعهم؛ لأن إجماع الصحابة أقوى من إجماعهم، كما لو أجمعت على قول واحد، ثم أجمع التابعون على خلافه، وهذه طريقة معتمدة.
فإن قيل: إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع على أحد القولين وجب اتباعه، وحرم الاجتهاد فيه. ولا يمتنع أن يقع الإجماع بشرط، ألا تَرَى أنه لا يمتنع أن يجمعوا على جواز الصلاة بالتيمم ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء بطلت صلاته [165/ب] ولا يكون ذلك مخالفاً لما أجمعوا عليه.
__________
(1) هذا الحديث رواه عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه الترمذي في سننه في كتاب المناقب (5/696) ولفظه: (الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه) ثم قال الترمذي بعد ذلك: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/87) و (5/54-55، 57) .
وقد حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بالضعف.
انظر: ضعيف الجامع الصغير (1/352) رقم الحديث (1259) .(4/1108)
قيل: إن جاز أن يقال: إن إجماعهم على تسويغ الخلاف مشروط بعدم دليل قاطع، جاز أن يقال: إن إجماعهم على قول واحد إذا انعقد عن قياس أنه مشروط بعدم دليل قاطع، فإذا طرأ دليل قاطع وجب اتباعه.
وجواب آخر، وهو: أن الإجماع لا يجوز أن يقع مشروطاً؛ لأن وجود الشرط فيه يفضي إلى أن تعرى الحادثة عن حكم الله تعالى. ولا يجوز أن يعرى العصر عن ذلك؛ لأن الله تعالى لم يُخْلِ وقتاً من حق، وكونه مشروطاً يفضي إلى هذا؛ لأن كل قائل من القولين يقول: الحق في قول، ما لم يجمع على خلافه، فلا يقطع على حق فيه.
ويفارق هذا التيمم؛ لأن الشرط في الحكم المجمع عليه، لا في أصل الإجماع، فلا يفضي إلى ما ذكرنا.
فإن قيل: هم وإن أجمعوا على تسويغ الخلاف والقول بكل واحد من القولين، فالتابعون أيضاً قد أجمعوا على القول بأحدهما دون الآخر.
قيل: لا نسلم أن هذا إجماع؛ لأن من شرط صحة الإجماع: أن لا يرفع إجماعاً قبله.
فإن قيل: فإذا كانت الصحابة على قولين، فكل واحد من أهل القولين يجوّز على نفسه الخطأ فيما ذهب إليه.
قيل: هذا هو العلة التى بها جوزوا القول بكل واحد من القولين، وهو تحقيق إِجماعهم على تجويز القول بكل واحد من القولين.
وطريقة أخرى، وهو: أن من قال قولاً ومات، فحكم قوله باقٍ، بدليل أن الصحابة إذا أجمعت على شىء، ثم انقرضوا، لم يصح أن يجمع التابعون على خلافه.
وكذلك إذا كانت الصحابة على قولين، فإذا انقرض أهل أحد القولين(4/1109)
كلهم، وبقي أهل القول الآخر، لم يزل قول المنقرضين بانقراضهم. ويكون الخلاف باقياً، وإذا ثبت أن حكم قول الميت باقٍ ما زاد، فمن أسقط حكمه، كان كمن أسقط قولهم مع بقائهم، وهذا لا يجوز.
ولأن أعلى مراتب التابعين أن يلحقوا بعصر الصحابة، ويكونوا من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم. وأدنى مراتبهم أن ينقرض الصحابة قبل أَن يلحقوا بهم، فكان قولهم إذا خالفوهم دون قولهم إذا عاصروهم وخالفوهم، ثم ثبت أن التابعين لو لحقوا بالصحابة والصحابة على قولين، وأجمعوا على أحد القولين لم يسقط القول الآخر بما أجمعوا عليه، وقد أجمع معهم أهل القول الثاني، فبأن لا يسقط القول الآخر بعد انقراض الصحابة أولى.
فإن قيل: إنما لم يسقط القول الثاني إذا أجمعوا مع أهل [القول] الآخر؛ لأنهم حينئد بعض أهل العصر، وليس كذلك إذا أجمعوا [166/أ] عليه بعد انقراض الصحابة؛ لأنهم حينئذ كل أهل الاجتهاد في العصر.
قيل: في زمان الصحابة بعض أهل العصر، وبعد انقراض العصر بعض الأمة؛ لأن حكم القول الذي خالفوه ثابت، لا يزول ولا يرتفع بما بينَّا. ولأن من قال: إجماع التابعين يزيل الخلاف السابق ويصير قولهم إجماعاً، يفضى قوله إلى أن الإجماع ينعقد بموت واحد.
وبيانه: إذا كانت الصحابة على قولين، فانقرضوا، وبقي واحد من الصحابة، وهو من أهل أحد القولين، ثم أجمع التابعون على قول من لم يبق منهم أحد، لم يكن إجماعاً؛ لبقاء واحد من أهل القول الذي خالفوه، وإذا هلك هذا الواحد صار ما أجمع عليه التابعون إجماعاً بانقراض هذا الواحد وهلاكه، وموت الإنسان ليس بقول ولا حجة، فكيف يكون الإجماع منعقداً بموت واحد.(4/1110)
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ) (1) والتابعون هم المؤمنون.
وقول النبي: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) .
والجواب: أن الآية مشتركة الدلالة؛ لأنها إن كانت حجةً على ما أجمع عليه التابعون، فهى حجة على ما أجمعت عليه الصحابة من تجويز القول بكل واحد منهما.
وكذلك الجواب عن الخبر.
واحتج: بأن هذا إجماع تعقب خلافاً، فوجب أن يزيل حكم الخلاف، كما لو اختلفوا الصحابة، ثم أجمعت على أحد القولين، وقد وجد مثل هذا؛ لأنهم اختلفوا في قتال ما نعي الزكاة، ثم اتفقوا عليه.
وقول الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (2) .
وإجماعهم على ترك قسمة السواد بعد اختلافهم فيها (3) .
والجواب: أنه إذا رجعت إحدى الطائفتين إلى قول الأخرى، فلم يبق هناك خلاف باق [و] صارت المسألة إجماعاً، وليس كذلك إجماع التابعين على أحد القولين؛ لأن الخلاف لم يرتفع، فلم تصر المسألة إجماعاً.
واحتج: بأن إجماعهم يقطع الخلاف فيما بعد، فوجب أن يرتفع الخلاف
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(2) قول الأنصار هذا روته عائشة -رضي الله عنها- في قصة وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - أخرجه عنها البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة (5/8) .
ورواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه الإمام أحمد فى مسنده (1/396) .
(3) انظر: نصب الراية (3/400-401) .(4/1111)
المتقدم. ألا ترى أن سنة النبي -عليه السلام- لما منعت الخلاف، قطعت الخلاف، بدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لو غاب عن الصحابة، واختلفوا -وهو غائب- في الحكم على قولين، ثم قدم النبى - صلى الله عليه وسلم -فأخبروه (1) بما كانوا عليه، فأخبرهم بالحق في واحد منهما (2) ، زال الخلاف، كذلك إجماع التابعين.
والجواب: أنه يبطل بالإجماع من إحدى الطائفتين بعد موت الطائفة الأخرى، فإنه يقطع الخلاف في المستقبل، ولا يرفع الخلاف [166/ب] المتقدم.
وأما الفصل بين إجماع التابعين وسنة النبى فظاهر، وذلك أن الاجتهاد في زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - مختلف فيه:
فمنهم من أجازه، وقال: لا يستقر.
ومنهم من قال: لا يسوغ، لأن النص مقدور عليه.
وإذا كان كذلك لم يثبت ما اختلفوا فيه في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاءت سنة لم يرفع ما كان باقياً، وإنما ثبت الحق، وإجماع التابعين ها هنا يتضمن إسقاط إجماع الصحابة.
واحتج: بأن إجماع التابعين حجة، وقول واحد من الطائفتين ليس بحجة.
والجواب: إنما يكون حجة مقطوعاً عليها، إذا لم يتقدمه اختلاف الصحابة فأما مع تقدم ذلك، فإنه يخرج عن كونه حجة.
__________
(1) في الأصل: (فأخبره) .
(2) في الأصل: (منها) .(4/1112)
مسألة
إذا اختلفت الصحابة على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث (1) .
نصَّ عليه في رواية عبد الله وأبي الحارث: "يلزم من قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا، أن يخرج من أقاويلهم إذا أجمعوا".
وقال أيضاً في رواية الأثرم: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختر (3) من أقاويلهم، ولا يخرج عن قولهم إلى من بعدهم"
وهو قول الجماعة. خلافاً لبعض الناس في قوله: "يجوز إحداث قول ثالث" (3) .
دليلنا:
أن إجماعهم على قولين إجماع على بطلان ما عداهما، كما أن الإجماع على واحد إجماع على بطلان ما عداه، ولا فرق بينهما.
واحتج المخالف:
بأن النظر، الاجتهاد سائغ فيها، فهى بمنزلة ما لم يتكلم فيها.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد في أصول الفقه: (3/310) ، والمسوّدة ص (326) وشرح الكوكب المنير (2/264) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/377) .
(2) هكذا في الأصل وقد مرت كثيراً في هذا الباب بلفظ: (يختار) .
(3) وهو منسوب لبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر. وقال أبو الخطاب: (إنه قياس قول أحمد في الجنب: يقرأ بعض آية، ولا يقراً آية، لأن الصحابة قال بعضهم: لا ولا حرفاً وقال بعضهم: يقرأ ما شاء فقال هو: يقرأ بعض آية) .
انظر: مسلم الثبوت مع شرحه (2/235) وتيسير التحرير (2/250) والإحكام للآمدي ص (516) ، والتمهيد (3/311) .(4/1113)
والجواب: أن الاجتهاد يجوز في طلب الحق من القولين دون ما عداهما، لأن بطلان ما عداهما ثابت بالإجماع، ولا يسوغ الاجتهاد في المجمع عليه، وهذا بمنزلة ما لو ثبت بطلان ما عداهما بالنص، فيسوغ الاجتهاد في القولين دون
غيرهما.
واحتج: بأن الصحابة إذا أثبتوا حكماً من طريقين، جاز إثباته من طريق ثالث، كذلك ها هنا.
والجواب: أن الطريق مخالف للحكم، ألا ترى أنهم إذا أجمعوا على شىء من نص القرآن، جاز إثباته من طريق السنة والإجماع، وإذا أجمعوا على حكم واحد، من يجز إحداث قول ثانٍ؛ لأن في الخروج عن القولين مخالفة للإِجماع وليس في إثبات ما أجمعوا عليه من غير طريقهم مخالفة الإجماع؛ لأن إثبات الحكم من طريق لا يتضمن نفي غيره، والإجماع على حكم يتضمن نفي غيره ولهذا إذا أجمعوا على قول واحد، لم يجز إحداث قول ثانٍ.
واحتج: [167/أ] بأن التابعين قد خالفوا في هذا، وأحدثوا قولاً ثالثاً فيما كانت الصحابة فيه على قولين، فأقروا التابعين على ذلك، ولم ينكروه (1) .
من ذلك: أن الصحابة اختلفوا في امرأة وأبوين، وزوج وأبوين، على قولين: ابن عباس -وحده- يقول: للأم الثلث [من] ، أصل المال.
والباقون قالوا: للأم ثلث ما بقي بعد نصيب الزوج والزوجة (2) .
ففرق ابن سيرين بينهما، وقال بقول ابن عباس في امرأة وأبوين، وبقول الباقين في زوج وأبوين، فلم ينكر عليه منكر.
__________
(1) في الأصل: (ولم ينكره) .
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقى في سننه في كتاب الفرائض، باب ميراث الأم (6/227-228) بعدة طرق فارجع إليه إن شئت.(4/1114)
وكذلك اختلفت الصحابة في قوله: "أنتِ على حَرَام"، على ستة مذاهب فأحدث مسروق (1) قولاً سابعاً (2) ، فقال: "لا يتعلق به حكم"، وقال: "ما أبالي أحَرِّمُها (3) ، أو قصعة (4) من ثريد" (5) ، فأقروه على هذا، ولم ينكروا عليه.
__________
(1) هو: مسروق بن الأجدع، أبو عائشة، الهمداني، الكوفي. الإمام، الفقيه، العابد.
روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه الشعبى وأبو إسحاق وإبراهيم وغيرهم.
توفي سنة (63هـ) وله من العمر (63) سنة.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (11/119) وتذكرة الحفاظ (1/49) ، وتهذيب التهذيب (7/84) وشذرات الذهب (1/78) وطبقات الحفاظ للسيوطى ص (14) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/498) .
(2) المذاهب في هذه المسألة باختصار:
أولاً: قوله هذا: بمثابة يمين يكفرها بإحدى كفارات اليمين، أو بأغلظ الكفارات، قولان.
ثانياً: طلاق إن نوى به الطلاق، وإلا فيمين.
ثالثاً: طلقة واحدة، وهى أملك لنفسها.
رابعاً: طلقة واحدة، ويملك الزوج الرجعة.
خامساً: ثلاث طلقات.
سادساً: ظهار.
سابعاً: لا شيء فيه.
انظر: المصنف لعبد الرزاق كتاب الطلاق، باب الحرام (6/399) -405) ، وسنن البيهقي في كتاب الخلع والطلاق، باب: من قال لامرأته أنت عليَّ حرام (7/350-352) ، والتلخيص الحبير (3/215) ، والمغني لابن قدامة (7/154-156) طبعة المنار الثالثة.
(3) في مرجعي التخرج الآتيين: (أحرَّمْتُها) .
(4) في الأصل: (نصفه) وهو خطأ، وفي مصنف عبد الرزاق (جَفْنة) والمعنى واحد.
(5) قول مسروق هذا أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه (6/402) ، والبيهقي في سننه (7/352) .(4/1115)
والجواب: أنه ليس معنا أن التابعين عرفوا هذا، فأقروه. عليه، ورضوا به، فلا يثبت إجماعاً بالشك، وإذا لم يكن إجماعاً منهم، لم يؤثر إقرار بعضهم.
على أن مسروقاً عاصر الصحابة، وكان من أهل الاجتهاد قبل انقراضهم، فكان كأحدهم، فالذي يخالف فيه يحتمل أن يكون قبل استقرار ما اختلفوا فيه، فلا يكون هذا إحداثَ قول آخر.
مسألة (1)
وإن قالت طائفة من الصحابة في مسألتين قولين متفقين مخالفين لقول الطائفة الأخرى، فهل يجوز لأحد أن يقول في إحدى المسألتين بقول طائفة وفي الأخرى بقول الطائفة الأخرى؟
ينظر فيه:
فإن لم يصرحوا بالتسوية بين (2) المسألتين جاز (3) .
وإن صرحوا بالتسوية بينهما لم يجز على قول أكثرهم.
وعلى قول بعضهم يجوز (4) ؛ لأن التسوية بينهما في حكمين مختلفين، فلم يحصل في واحد منهما إجماع.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (234/أ) والتمهيد (3/314) والمسوَّدة ص (327) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/379) وشرح الكوكب المنير (2/267) .
(2) ((بين) مكررة في الأصل.
(3) ذكر في المسودة ص (327) أن المؤلف ذكر في كتابه الكفاية في أصول الفقه: أن في هذه الحالة وجهين.
(4) لأبي الخطاب تفصيل في هذه المسألة ذكره في كتابه التمهيد (3/315) خلاصته: أن الصحابة إذا قالت في مسألتين بقولين، ولم يفرقوا بين المسألتين نظرت: فإن صرحوا بالتسوية لم يجز لأحد أن يفصل بينهما. =(4/1116)
مسألة
إذا خالف الواحد أو الاثنان الجماعة لم يكن إجماعاً (1) .
ويمنع (2) خلافُ الواحد المعتد به انعقادَ الاجماع في أصح الروايتين.
أومأ إليه -رحمه الله- في رواية المروذي: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة".
__________
= وإن لم يصرحوا بالتسوية، لكنهم لم يفرقوا بينهما، نظرت:
فإن كان طريق الحكم فيهما مختلفاً، مثل أن تقول طائفة: إن النية شرط في الوضوء والصوم ليس بشرط في الاعتكاف. ويقول الباقون: العكس، فإنه يجوز التفرقة.
وهو مذهب أحمد.
وإن كان طريق الحكم فيهما متففاً، مثل قولهم في زوج وأبوين، وإمرأة وأبوين، ومثل إيجاب النية في الوضوء والتيمم وإسقاطها منهما، فهل تجوز التفرتة؟ خلاف بين العلماء:
فقيل: لا يجوز، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الأثرم وأبي الحارث.
وقيل: يجوز.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (327) : (أن القول بعدم جواز التفرقة بين المسألتين فيما إذا كان هناك نوع شبه بين المسألتين، أما إذا لم يكن بينهما نوع من الشبه فتجوز التفرقة بينهما) .
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (224/ب) وكتاب التمهيد (3/260) والمسوَّدة ص (329) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/358) ، وشرح الكوكب المنير (2/229) .
(2) في الأصل: (ويمتنع) .(4/1117)
وهو قول الجماعة.
وفيه رواية أخرى: لا يعتد بخلاف الواحد، ولا يمنع انعقاد الإجماع.
أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم: في المريض يُطَلِّق، وذكر قول زيد (1) ، فقال: "زيد وحده، هذا عن أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، وابن عباس، وزيد، وابن عمر" (2) .
وقال في رواية الميموني: "في فسخ الحج أحد عشر رجلاً من أصحاب النبي يروون ما يروون، أين يقع بلال بن الحارث منهم" (3) .
وظاهر هذا: أنه لم يعتد [167/ب] بخلاف زيد في مقابلة الجماعة ولا مخالفة بلال في مقابلة الجماعة (4) .
__________
(1) الذي يظهر لي أن كلمة (زيد) هذه والتي بعدها في قوله: (فقال زيد) محرفة عن كلمة الزبير، فإنه من المروي عنهم عدم توريث من طلقها زوجها في مرضه، أما زيد فالمروي عنه هو القول بتوريثها، حيث ذكره الإمام أحمد مع الأربعة الذين استدل بقولهم، والإمام أحمد يقول بالتوريث.
(2) راجع في هذه المسألة: المحلي لابن حزم (11/553-574) فإنه ذكر في المسألة أقوالاً كثيرة، وساث الآثار المروية عن الصحابة في ذلك.
وانظر: المغنى (6/329) .
(3) سبق الكلام عن هذه الرواية (3/1020-1021) .
(4) ساق المؤلف هنا روايتين:
الأولى: رواية ابن القاسم ... ، وهذه الرواية لا دلالة فيها على ما استظهره المؤلف من أن الإمام أحمد يقول بانعقاد الإجماع وإن خالف واحد، بل غاية ما فيه أنه أخد بقول الأكثر من الصحابة، كيف لا والمسألة لا إجماع فيها.
الثانية: رواية الميموني وهي -أيضاً- لا دلالة فيها على ما قصده المؤلف، بل تدل على أن الخبر يرجح بكثرة رواته، وهذا ما صرح به المؤلف في بحث ترجيحات الألفاظ (3/1019) .(4/1118)
وحكي ذلك عن ابن جرير الطبري (1) صاحب التاريخ (2) .
وحكاه أبو سفيان عن أبى بكر الرازي (3) .
قال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت الجماعة الاجتهاد في ذلك للواحد، خلافه معتداً به، مثل خلاف ابن عباس في العول (4) ، وإن أنكرت
__________
(1) هو: محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبربي، المفسر، الفقيه، المؤرخ -أحد الأعلام- ولد سنة (224هـ) ، ومات سنة (310هـ) . له كتاب "التفسير" وكتاب "تاريخ الرسل والملوك".
له ترجمة في: تاريخ بغداد (2/162) وتذكرة الحفاظ (2/710) وشذرات الذهب (2/106) وطبقات الحفاظ للسيوطي ص (370) وطبقات المفسرين للداودى (2/260) ، وقد ألف الدكتور أحمد الحوفي كتاباً عنه، طَبَعَه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر سنة (1390هـ-1970م) .
(2) هذا الكتاب يعرف اليوم: بتاريخ الطبري، وقد طبع ثلاث مرات، طبعتان بعناية بعض المستشرقين، وطبعة في دار المعارف بمصر بتحقيق الأستاد محمد أبو الفضل إبراهيم،. انظر مقدمة تاريخ الطبري للمحقق المذكور (1/28) .
وقوله هذا حكاه عنه كثير من الأصوليين.
انظر في ذلك: التبصرة ص (361) والتمهيد (3/261) وشرح اللمع (2/704)
والمعتمد (2/486) .
(3) انظر: كتاب "أصول الفقه" لأبي بكر الرازي المشهور بالجصاص الورقة (225/ب) .
(4) خلاف ابن عباس في العول أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب العول في الفرائص (6/253) بسنده إلى عتبة بن مسعود قال: (دخلت أنا وزفر بن أوس ابن الحدثان على ابن عباس بعد ما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص ما في مال نصفاً ونصفا وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟! فقال له زفر: يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: وبم؟ قال: =(4/1119)
الجماعة على الواحد لم يعتد بخلافه، مثل قول ابن عباس في المُتْعة (1)
__________
= لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، والله ما أدري أيكم قدم الله، ولا أيكم أخر، قال: وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التى قدم الله، وتلك فريضة الزوج، له النصف، فإن زال فإلى الربع، لا ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه، والأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقى، فهؤلاء الذين أخر الله، فلو عطى من قدم الله فريضته كاملة، ثم قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة.
فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته والله. قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وايم الله لولا أنه تقدمه إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم) .
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الفرائض، باب أول من أعال الفرائض عمر (4/360) بأخصر مما أورده البيهقي، ثم قال: (صحيح على شرط مسلم) وأقره الذهبي. وتعقبهما الألباني في كتابه إرواء الغليل (6/145-146) بأن الحديث ليس من قسم الصحيح، بل هو من قسم الحسن، من أجل الخلاف في ابن إسحاق أحد رواة الأثر.
(1) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحيل باب الحيلة في النكاح (9/31) عن محمد بن على: "أن علياً - رضي الله عنه - قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمُتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية) .
وعنه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/142) ولفظه: (أنه -يعني محمد ابن على- سمع أباه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال لابن عباس وبلغه أنه رخص في متعة النساء، فقال له علي بن أيى طالب - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم =(4/1120)
والصَّرْف (1) .
__________
= الحمر الأهلية) .
وهذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنه - رواه الطبراني في الأوسط عن سالم بن عبد الله قال الحافظ في التلخيص (3/154) : (إسناده قوي) .
كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة وحرمتها (4/292-293) بسنده إلى محمد بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب.
وبسنده أيضاً إلى ابن عمر. قال فيه الألباني في إرواء الغليل (6/138) : (إسناده صحيح على شرط الشيخين) .
قال الألباني في كتابه المذكور: (وجملة القول: أن ابن عباس - رضي الله عنه - روي عنه في المتعة ثلاثة أقوال:
الأول: الإباحة مطلقاً
الثاني: الإباحة عند الضرورة.
والآخر: التحريم مطلقاً، وهذا مما لم يثبت عنه صراحة، بخلاف القولين الأولين، فهما ثابتان عنه) .
(1) القول بجواز ربا الصرف المروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الدينار بالدينار نسأ، ولفظه: (أن أبا صالح الزيات سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سألته، فقلت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولكننى أخبرني أسامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رِبَا إلا في النسيئة".
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (3/1217) .
وأخرجه عن النسائي في سننه في كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب والذهب بالفضة (7/247-248) . =(4/1121)
والدلالة على أَنه يمنع انعقاد الإجماع:
قوله تعالى: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ) (1) والتنازع موجود، فوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة.
وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (2) وقد وجد الاختلاف، فوجب الرجوع إلى كتاب الله تعالى.
وأيضاً: فإن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - خالف الصحابة -رحمهم الله- في قتال مانعي الزكاة (3) .
وخالف ابن مسعود وابن عباس في مسائل في الفرائض سائر الصحابة، فلم ينكروا عليهما، ولم يقولوا: إن الواحد محجوج بالإجماع، وإنه يلزمه اتباعهم.
ولأن العقل يجوّز الخطأ على هذه الأمة، كما يجوّز الخطأ على سائر الأم، وإنما نفينا عنهم الخطأ بالشرع، وقد وجد الشرع بذلك في حال الاجتماع دون الاختلاف فإذا وجد الاختلاف بقي الحكم على مقتضى العقل.
__________
= وأخرجه عنه ابن ماجة في سننه في كتاب التجارات، باب من قال: لا ربا إلا في النسيئة (2/758) .
وأخرجه عنه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب الصرف، باب الربا (4/64) .
وأخرجه عنه البيهقى في سننه في كتاب البيوع، باب من قال: الربا لى النسيئة (5/280) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/200، 9، 20) .
(1) آية (59) من سورة النساء.
(2) آية (10) من سورة الشورى.
(3) سبق تخرج هذا (1/108) ضمن حديث: (أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله....) .(4/1122)
واحتج المخالف:
بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] قال: (عليكم بالسواد الأعظم) .
وقوله عليه السلام: (عليكم بالجماعة) .
والجواب: أن المراد به أهل الاجتهاد من أهل العصر، فهو السواد الأعظم وهو الجماعة.
واحتج: بأن ابن عباس لما خالف الجماعة في بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وإباحة المُتعة، أنكر عليه ابن الزبير المُتعة (1) ، وأنكر غيره عليه بيع الدرهم بالدرهمين (2) ، فلو كان خلافه للجماعة سائغاً، لما أنكروا عليه ما ذهب إليه.
والجواب: أنهم ما أنكروا عليه ما ذهب إليه، من حيث إنهم على خلاف
قوله باجتهادهم، وإنما أنكروا عليه، لأنه خالف الخبر المنقول عن النبى - صلى الله عليه وسلم - في بيع الدرهم بالدرهمين، وهو قوله عليه السلام: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما) (2) . وكذلك قوله في المتعة: (إن النبي حرمها إلى يوم القيامة) (3) .
واحتج: بأن خبر الجماعة أولى من خبر الواحد والاثنين، كذلك قول الجماعة أولى من قول الواحد والاثنين.
والجواب: أن خبر الجماعة لو كان موجباً [168/أ] للعلم كان ما خالفه
__________
(1) انظر: المراجع السابقة التى ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء.
(2) انظر أيضاً: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة الصرف متفاضلاً.
(3) انظر: المراجع السابقة التي ذكرناها في تخرج ما أثر عن ابن عباس - رضي الله عنه - من القول بإباحة متعة النساء.(4/1123)
كذباً أو خطأ أو منسوخاً (1) ، فلا يجوز العمل به، وإن كان خبر الجماعة لا يوجب العلم، وإنما يغلب على الظن، فإنه أولى، لأن خبر الجماعة أقوى في الظن من خبر الواحد.
يدل على ذلك: أن الشىء من الجماعة أحوط منه من الواحد (2) والاثنين، ولهذا قال الله تعالى: (أن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اْلأخْرَى) (3) .
فأما اجتهاد الأكثر فلا يوجب العلم وقوة الظن، فلا تأثير له في الاجتهاد؛ لأنه لا يجوز للعالم أن يقلد عالماً، وإن كان أقوى اجتهاداً منه في نفسه، وإنما يجب قبول اجتهاد غيره، والعمل به مع القطع بصحته، فبان الفرق بينهما.
واحتج: بأنه لما جاز أن يكون في أهل العصر من لم يبلغه ما أجمعت عليه الجماعة، أو بلغه فلم يظهر الخلاف وأسرَّه، صح انعقاده مع ذلك، كذلك انعقاده مع خلاف الواحد.
والجواب: أن الإجماع إنما يصح إذا انتشر ما أجمعت عليه الجماعة انتشاراً ظاهراً يقف عليه الكافة، فإذا ظهر انتشاره ولم يظهر خلاف من أحد، علمنا أن الكافة قد أطبقت عليه بنفي ما يمنع انعقاد الإجماع، وإذا خالف واحد واثنان فقد تيقنّا حصول ما يمنع أنعقاد الإجماع.
__________
(1) في الأصل: (منسوخ) ، وحقه النصب كما أُثبت.
(2) في الأصل: (للواحد) .
(3) آية (282) من سورة البقرة.(4/1124)
مسألة
يجوز انعقاد الإجماع من طريق الاجهاد (1) خلافاً لابن جرير (2) ونفاة القياس (3) .
دليلنا:
طريقان: أحدهما وجوده.
والثاني: جواز وجوده.
فأما وجوده فهو أن الناس أجمعوا على إمامة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من طريق الاجتهاد.
فمنهم من قال: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا) (4) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/288) والمسوّدة ص (330) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/385) ، وشرح الكوكب المنير (2/261) .
(2) ذكر هذا في كثير من كتب الأصول منها: التبصرة للشيرازى ص (372) ، والبرهان (1/721) والإحكام للآمدي (1/239) .
(3) المراد بهم الظاهرية، والسبب واضح؛ لأنهم لا يقولون بالقياس، فكذلك ما استند إليه، وقد نسبه الشيرازي في التبصرة ص (372) إلى داود.
ونسبه الآمدي في الإحكام (1/239) أيضاً: إلى الشيعة.
(4) هذا الأثر منسوب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن بطة بسنده إلى الحسن وفيه: ( ... ولكن إن نبيكم نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - لم يمت فجأة، ولم يقتل قتلاً، مرض أياماً وليالي يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة، فيقول: مروا أبا بكر فَلْيُصَلِّ بالناس، وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرنا في أمرنا أن الصلاة عضد الإسلام وقوام =(4/1125)
ومنهم من احتج بقوله: (إن تولوا أبا بكر تجدوه قوياً في دين الله ضعيفاً في بدنه) (1) .
ومنهم من رضيه، فعقد له.
__________
= الدين، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، فولينا الأمر أبا بكر ... ) . انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضى أبي يعلى ص (224) .
وأخرجه ابن سعد في طبقاته (3/183) .
(1) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه البزار، ولفظه (قال: قالوا: يا رسول الله ألا تستخلف علينا؟ قال: "إني إن استخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب" قالوا: ألا نستخلف أبا بكر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه ضعيفاً في بدنه، قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف عمر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قوياً في بدنه قوياً في أمر الله" قالوا: ألا نستخلف علياً؟ قال: "إن تستخلفوه -ولن تفعلوا- يسلك بكم الطريق المستقيم، وتجدوه هادياً مهدياً" قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) : (وفيه أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو ضعيف) .
لكن الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/859) رقم الحديث (859) بتحقيق أحمد شاكر بسنده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع اختلاف قليل في اللفظ: ومحل الشاهد منه (قال: -أي علي- يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ... ) . الحديث.
قال الهيثمى في مجمع الزوائد (5/176) : (رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقاة) .
وقال أحمد شاكر: فى حديث الإِمام أحمد: (إسناده صحيح) ، ثم تعقب الهيثمي في عدم تصحيحه لحديث أحمد بقوله: (فيظهر لي: أن الهيثمي لم يعرف عبد الحميد ابن أبي جعفر، ورأى إسنادَ البزار معروفاً له فوثق رجاله) .(4/1126)
كما أن المسلمين أمروا خالد بن الوليد (1) في مُؤْتة (2) باجتهادهم. فصوب ذلك منهم، وأقرهم عليه (3) .
وهذا كله اجتهاد منهم.
وكذلك اتفقوا على قتال مانعي الزكاة من طريق الاجتهاد والتراجع (4) فيه والتحاجج عليه، والقصة منه ظاهرة، ومناظرتهم مشهورة.
ويدل عليه:
أن الأمة اتفقت على أن الأمَة في التقويم بمنزلة العبد، إذا أعتق شخصاً. وأن السّنّور إذا ماتت في السمن بمنزلة الفأرة. وأن الشحم الذائب
__________
(1) هو: خالد بن الوليد بن المغيرة، أبو سليمان، المخزومي، القرشي، صحابي جليل، وقائد عسكري محنك، شارك في الفتوح الإسلامية. مات سنة (21هـ) . رضي الله عنه وأرضاه.
انظر ترجمته في: الاستيعاب (2/427) .
(2) مؤتة: بضم أوله، واسكان ثانيه، بعده تاء فوقها نقطتان، قرية من قرى البلقاء في حدود الشام.
انظر: معجم ما استعجم (4/1172) ، ومراصد الاطلاع (3/1330) .
(3) غزوة مؤتة وقعت في شهر جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة. فقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً مكوناً من ثلاثة آلاف مجاهد، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فاستشهد الثلاثة، واحد بعد الآخر فأخذ الراية ثابت بن أقرم، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية خلّص الجيش، ثم رجع به إلى المدينة.
ولم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تولية خالد لقيادة الجيشى، بل أثنى عليه، وسماه سيف الله.
انظر: السيرة النبوية لابن هشام القسم الثاني ص (373-389) وتاريخ الطبري (3/36-42) .
(4) في الأصل: (والراجع) .(4/1127)
بمنزلة السمن. وأن الغائط في الماء بمنزلة البول. وأن غير فاطمة بنت أبي حبيش من المستحاضات [168/ب] بمنزلة فاطمة. وأن غير الأعرابي في كفارة الفط بمنزلته. وليس طريقه إلا القياس، فدل على ما قلناه.
والطريق الثاني في جواز وجوده، والدليل عليه: أن القياس وما يجري مجراه أمارة ظاهرة، فجاز اجتماع العدد الكثير على الحكم من جهتها، أصله: القرآن والسنة.
فإن قيل: لفظ القرآن والسنة مسموع، والجماعة تشترك في سماعه، فيجوز أن يقفوا على حكمه، وليس كذلك الاجتهاد، فإنه رأي، ولا يجوز أن ينظر العدد الكثير فيتفق رأيهم.
قيل: الاجتهاد يستند إلى أمارة ثابتة صحيحة، وهى تأثيرات الأصول وشهادتها الدالة على المعاني، وظهورها كظهور لفظ القرآن والسنة، [فإذا] جاز (1) أن يجمع العدد الكثير عن الشبهة، مثل اتفاق اليهود والنصارى والمجوس على تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنكار نبوته، وعلى قتل عيسى - صلى الله عليه وسلم - وصلبه، كان اتفاقهم على الحجة أولى.
واحتج المخالف: (2)
بأن القياس باطل، فلا يجوز انعقاد الإجماع عليه.
والجواب: أن القياس عندنا صحيح ودليل من دلائل الشرع. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج: بأن نفس القياس لما كان مختلفاً فيه، وكان في المجمعين من لا
__________
(1) في الأصل: (فجاز) .
(2) لو عبر المؤلف: بـ (بعض الخالفين) لكان أدق؛ لأن بعض المخالفين يقول بحجية القياس.(4/1128)
يقول به، بطل أن يكون إجماعهم صادراً عن القياس؛ لأن ذلك يوجب كون الشىء مجمعاً عليه ومختلفاً فيه.
والجواب: أن الإجماع عند داود إجماع الصحابة، ولا نسلم أنه كان منهم من لا يقول بالاجتهاد، ولا في التابعين.
وما روي من ذم القياس عن بعضهم (1) ، فإنما أراد به مع وجود النص المخالف للقياس.
وقد أجيب عنه بأن النافي للاجتهاد قد تناقض، فيثبت الحكم من طريق الاجتهاد، ويخفى عليه وجهه، كما ادعينا على داود أنه أثبت أحكاماً من طريق الاجتهاد مع مخالفته فيه.
وجواب آخر، وهو: أنه باطل بخبر الواحد والعموم، فإنه لا يخلو عصر إلا وفيه من ينفى خبر (2) الواحد، ويمنع صحة العموم، ومع هذا فلا خلاف أن الإجماع ينعقد بكل واحد منهما.
واحتج: بأن العدد الكثير لا يتفق اختيارهم لأمر واحد، واستحسانهم له؛ لأن الله تعالى باين بين الطباع، وخالف بين الدواعي والهمم، ولهذا لا يصح اتفاقهم على وضع كذب، وانتحال (3) شعر، واختيار كلام.
والجواب: أن هذا خطأ؛ لما بيّنا من اتفاق رأيهم على ما ذكرنا.
__________
(1) ذكر منها البيضاوي في المنهاج ثمانية آثار خرجها الحافظ العراقي ضمن ما خرج من أحاديث المنهاج ص (309-310) العدد الثاني من مجلة البحث العلمي التي يصدرها مركز البحث العلمي وإحياء التراث الاسلامي في كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1399هـ تحقيق الأستاذ صبحي السامرائي وسيأتي لهذه الآثار ذكر -إن شاء الله تعالى- في باب القياس.
(2) في الأصل: (حتى) وهو خطأ.
(3) في الأصل: (انتخال) بالخاء المعجمة.(4/1129)
وعلى أن اتفاقهم على وضع كذب [169/أ] وانتحال (1) شعر، واختيار لفظ، إنما لم يجز؛ لأنه لا أمارة عليه تدعو إليه، وليس كذلك الحكم الشرعي فإن عليه أمارة تدعو إليه، وتدل عليه، فجاز أن تجمع خواطر العدد الكثير على اعتقاد صحته، والحكم به. ويدل عليه أنه يجوز اتفاقهم على الصدق، وإن كان لا يجوز اتفاقهم على وضع الكذب؛ لأن الكذب لا داعي له يعمهم، وللصدق داع يعمهم، ويجمعهم، كذلك للحكم دليل يعمهم، ويجمعهم، فافترقا.
واحتج: بأن من نفى القياس وخالفه لا يفسق، ومن خالف الإجماع فسق، فكيف ينعقد الإجماع الذي يفسق من خالفه عن قياس لا يفسق من خالفه.
والجواب: أنه إنما يفسق إذا لم يتأيد (2) بالإجماع عليه، فأما إذا تأيد (3)
بالإجماع عليه، قوي بالمصير إليه، ففسق جاحده، وهذا كما قلنا في خبر الواحد: من جحده لا يفسق، ومع هذا إذا انعقد الإجماع فسق مانعه.
وهكذا من منع صيغة العموم لا يفسق، فإذا انعقد الإجماع به فسق مانعه ومخالفه، وكذلك القياس مثله.
واحتج: بأن القياس فرع والإجماع أصل، فكيف ينعقد الأصل عن فرعه.
والجواب: أنه ليس بفرع للإِجماع، وإنما هو فرع لأصله الذي استنبط منه وذلك الأصل آية أو حديث (4) فإذا صح انعقاده عن أصل القياس صح انعقاده عن فرع ذلك الأصل.
__________
(1) في الأصل "انتخال" بالخاء المعجمة.
(2) في الأصل (يتأبد) بالباء الموحدة.
(3) في الأصل: (تأبد) بالباء الموحدة.
(4) في الأصل: (أوجب) .(4/1130)
واحتج: بأن القياس أمر خفي، يفتقر إلى استخراج واستنباط، وليس كل من كان من أهل الاجتهاد يقدر عليه.
والجواب: أنه كذاك، ولكن إذا كان خفياً كان الاهتمام به أشدَّ والعناية به أؤكد، فكان الإجماع عنه (1) أولى.
ألا ترى أن معرفة صيغة العموم أمر خفي، وكذلك الجمع بين الخبرين، واستخراج الحكم من بينهما، من حيث بناء أحدهما محلى الآخر، وهو أخفى من القياس وأدق، ومع هذا ينعقد الإجماع عنه ويصح، فانعقاده بالقياس أولى.
واحتج: بأن كل واحد منهم إذا قال في الحادثة قولاً عن قياس فهو يقول: يجوز لغيري أن يخالفني فيه. فإذا أجمعوا عليه، فقد أجمعوا على تجويز مخالفتهم، وإذا أجمعوا على تجويز مخالفهم بَعُدَ قول من قال: لا يسوغ خلافهم.
والجواب: أن كل واحد منهم يعتقد جواز مخالفته، ما لم يستقر إجماعهم على ذلك، فإذا استقر إجماعهم عليه، لم تسغ المخالفة، ولن يمتنع أن يخالف كل واحد منهم إذا انفرد، وإذا اجتمعوا لم يجز.
ألا ترى أن خبر الواحد تسوغ مخالفته، كذلك ها هنا، وإذا ثبت هذا وأنه [169/ب] ينعقد من طريق الاجتهاد، فإنه ينعقد عن القياس الجلي (2) ، وعن القياس الخفي (3) .
أما الجلي (4) [فـ] نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لّهُمَا أف) (5) نصّ على التأفيف
__________
(1) في الأصل: (منه) .
(2) عرف المؤلف: القياس الجلي ص (1325) من هذا الكتاب بأنه: (ما وجد معنى
الأصل في الفرع بكماله) . وسيأتي إن شاء الله تعالى.
(3) عرف المؤلف بما سيأتي قريباً.
(4) في الأصل: (الخفي) وهو خطأ ظاهر.
(5) آية (23) من سورة الإسراء.(4/1131)
ونبّه على الضرب.
وكذلك قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (1) ، (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (2) ، ونحو ذلك.
وأما الخفي: فهو قياس غَلَبة (3) الشبه، وبيانه: أن تحدث حادثة، وليس هناك إلا أصلان، أصل حظر، وأصل إباحة، وأصل الحظر له خمسة أوصاف، وأصل الإباحة له خمسة أوصاف، والحادثة لا تجمع أوصاف أحدهما، بل فيها من الإباحة أربعة أوصاف، ومن أوصاف، الحظر ثلاثة، فإذا كان كذلك ألحقناه بالذي كثرت أوصافه فيه.
وهذا يقع في الصفات والأحكام.
أما الصفات فمعروفة، و [أما] الأحكام فكالعبد (4) ، أخذ شبهاً من الحر: بأنه مكلف مخاطب، وأخذ شبهاً من البهائم: بأنه (5) مملوك، يورث، ويباع، ويوهب، فلم يجتمع معنى أحد الأصلين، فألحقناه بكل واحد بما هو أشبهه، فأطرافه أشبه بأطراف الحر، فأوجبنا فيها مقدراً، والجناية على غير أطرافه بالبهائم أشبه، فألحقناه بها، فالقياس ينعقد عليه؛ لأنه كغيره من أنواع القياس في باب العمل به، فوجب أن يكون كغيره في انعقاد الإجماع عليه.
__________
(1) آية (40) من سورة النساء.
(2) آية (124) من سورة النساء، والنقير: النقرة أو النكتة التى في ظهر النواة. انظر: مختار الصحاح والمصباح المنير مادة (نقر) .
(3) في الأصل بدون إعجام، وقد أعجمت هذه الكلمة ص (1325) من هذا الكتاب.
(4) في الأصل: (كالعبد) بدون الفاء.
(5) في الأصل: (وأنه) .(4/1132)
مسألة
الاعتبار في الإجماع بقول أهل العلم، ولا يعتبر بخلاف العامة لهم (1) .
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم، وقد ذكر له عن شريح (2) وابن سيرين - فقال: "هؤلاء لا يكونون حجة على من كان مثلهم من التابعين، فكيف على من قبلهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -".
وحُكي عن قوم من المتكلمين: إذا خالفهم رجل من العامة، لم يكن إجماعاً (3) .
دليلنا:
أن العامي ليس من أهل الاجتهاد في أحكام الشريعة؛ لأنه لا يجوز أن يعمل باجتهادة، ولا يجوز لغيره أن يعمل به، فهو بمنزلة الصبيان والمجانين.
فإن قيل: لا حكم لقول الصبيان والمجانين.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/250) ، والمسوّدة ص (331) ، وروضة الناظر وشرحها نزهة الخاطر العاطر (1/348) وشرح الكوكب المنير (2/225) .
وهو قول الأكثرين كما عبّر الآمدي في الإحكام (1/204) ، أو قول الجمهور كما جاء في المسوّدة ص (331) ، وبه قال إمام الحرمين كما في البرهان (1/684) والشيرازي كما في التبصرة ص (371) والفخر الرازي كما في المحصول (4/279) .
(2) شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية، الكندي، الكوفي. القاضي المشهور.
تولى القضاء ستين سنة. عَمَّر طويلاً. مات سنة (78هـ) وقيل غير ذلك.
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (1/59) وتهذيب التهذيب (4/326) والخلاصة ص (140) وشذرات الذهب (1/85) ، وطبقات الحفاظ ص (20) وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (80) .
(3) واختاره القاضي أبو بكر والآمدي كما في الإحكام (1/204) .(4/1133)
قيل: لا حكم لقولهم في أحكام الشريعة، كما لا حكم لقول الصبيان والمجانين ووجوده وعدمه سواء.
فإن قيل: العامة مكلفون، والصبيان والمجانين غير مكلفين.
قيل: العامة لم يكلفوا الاجتهاد في الأحكام، بل منعوا منه، فلا فرق بينهم في ذلك.
ولأن العامة محجوجة بقول أهل العلم، فوجب أن لا يُعتبر رضاهم به، كما أن الأمة لما كانت محجوجة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتبر رضاهم به، وكذلك أهل [170/أ] العصر الثاني مع أهل العصر الأول.
ولأنهم يلزمهم الرضا بما اتفق أهل العلم عليه، وما وجب الرضا به، لم يكن لعدم الرضا حكم، وكان وجوده وعدمه سواء.
واحتج المخالف:
بقول النبي -عليه السلام- (لا تَجْتمعُ أُمَّتي على ضلالة) : و (لا تَجْتمعُ على الخطأ) ، والعامة من الأمة، فوجب أن يعتبر إجماعهم مع أهل العلم.
والجواب: أن المراد به أهل العلم والاجتهاد، ولا مدخل للعامة فيه، وإن كانوا من الأمة، كما لا يدخل الصبيان، وإن كانوا من الأمة.
وقد قيل: إن هذا لا يوجد؛ لأن عامة المسلمين يتبعون الأئمة من أهل العلم، ولكل فريق منهم إمام، يتبعونه، ويعتقدون (1) قوله، فلا يجوز أن يخالف أحد منهم فيما اتفقوا الجميع (2) .
__________
(1) في الأصل: (يعتقد) .
(2) لأن العامي في هذا الباب جاهل، ومن كان كذلك فلا يعتبر بوفاقه أو خلافه، فالواجب عليه أن يترك ذلك لأهله، ورحم الله امرأً عرف قدره.
انظر المستصفى (1/182) .(4/1134)
فإن قيل: أليس قد اعتبرتم إجماع العامة فيما يشاركون العلماء فيه؟! مثل الطهارة، والصلاة، وعدد ركعاتها، والزكاة، والصيام، والحج، وتحريم الربا، والسرقة، ونحو ذلك، هلا اعتبرتم إجماعهم فيما يختص به العلماء، مثل فروع الطهارة وفروع الصلاة، ونحو ذلك.
قيل: لأن السبب الذي عرف به هذه الأشياء، هو (1) النقل المستفيض، وذلك يشترك (2) في معرفته (3) العامة والخاصة، فأما غير ذلك فطريقه الاجتهاد، فلا معرفة لهم به.
__________
(1) في الأصل: (وهو) والواو هنا لا معنى لها.
(2) في الأصل: (مشترك) .
(3) في الأصل: (معرفة) .(4/1135)
فصل
فيمن كان منتسباً إلى العلم، كأصحاب الحديث والكلام في الأصول (1) ، إلا أنه لا علم له بأحكام الفقه وفروعه وطرق المقاييس والرياضة بوجوه اجتهاد الرأى، فإنه لا يعتد بخلافه أيضاً (2) .
وقد قال أحمد -رحمه الله، في رواية أبي الحارث-: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة، ممن إذا ورد عليه أمر، نظر الأمور وشبهها بالكتاب والسنة" (3) .
وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه لا يصح الإجماع إلا بأن يجتمع عليه جميع أهل العلم والمنتسبين إلى العلم (4) .
__________
(1) راجع هذا الفصل في: التمهيد (3/250) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/351-353) وشرح الكوكب المنير (2/225/226) .
وكذلك الكلام في الفروع، فإن الخلاف يتناول الفقيه الذي لا علم له بالأصول، وكما يتناول الأصولي الذي لا علم له بالفقه.
(2) وبه قال معظم الأصوليين، كما في البرهان (1/685) وكما في المسوَّدة ص (331) .
(3) هذه الرواية منقولة بنصها في المسوَّدة الموضع السابق.
(4) نقل إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/685) عن أبي بكر الباقلاني قوله:
(إن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاته) .
قلت: وهذا لا خلاف في اعتبار قوله؛ لأنه أصولي فقيه. وإنما الخلاف فيمن اتصف بأحدهما.
وقال ابن بدران في شرحه على روضة الناظر (1/351) : (وأما الأصولي إذا كان ماهراً فى فنه، فإني أرى إخراجه ممن يعتد بإجماعهم ليس من الإنصاف، وكيف لا وهو الممهد للمجتهد ومؤسس القواعد له، وله تدقيق في غوامض الأصول، لا يصل إليها المدقق في الفروع، ولا إلى قريب منها، فحقق ذلك واعتبره ترشد) . =(4/1136)
دليلنا:
أن من لا مدخل له في طرق الاجتهاد ورد الفروع إلى الأصول، فإنه يجري في أحكام الشرع مجرى العامي، فلما لم يعتد بالعامة فيما لا علم لهم به، لأنهم تبع للعلماء، منقادون لهم، وجب أن لا يعتبر أيضاً في الإجماع من ليس من أهل النظر والاجتهاد.
ويبين صحة هذا: أن من لا مدخل له في تقويم الثوب وما يجري مجراه، فإنه لا يرجع إلى قوله فيه، ولا يعتد بقوله إذا احتيج إلى تقويم الثوب ونحوه، وكذلك من لا مدخل له في النظر بطرق الاجتهاد في أحكام الحوادث.
ولأن القول يتبع العلم [170/ب] بالقول، والعمل يتبع العلم بالمعمول به، فلم يجز أن يعتد في الإجماع على الشيء بمن لا علم له به.
ولأن المجتهد في الإجماع هو من كان معه آلة الإجماع التى يتوصل بها إلى معرفة الحكم، بأن يعرف القياس وأحكام المسائل وعلَلَها، حتى يقيس نظائرها عليها، ويرد الفروع إلى الأصول التى تشبهها، ومن لا يعرف أحكام الفروع لا يتمكن من هذا الذي ذكرنا، فلم يكن من أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بأشياء أخر، كمن عرف الحساب واللغة وغير ذلك من أنواع العلوم.
فإن قيل: إذا عرف أصول الفقه أمكنه رد فروعه إليه.
قيل: ليس الأمر على هذا، لأنه إنما يمكن رد الفروع إلى الأصول، إذا عرف معانيَها ونظائرها، حتى يقيسَ عليها.
ويبين هذا: أنه لو كان هذا من أهل الاجتهاد لا يُحْتَمل قوله في الحادثة وتوقيفُه على الحكم، وما اقتصر على مجرد سكوته.
__________
= قلت: ولاشك أن معرفة أصول الفقه شرط في المجتهد، ولكنها ليست كل الشروط، فمعرفتها وحدها لا تكفي في تسنم رتبة الاجتهاد. والله أعلم.(4/1137)
ومن يخالف في هذه المسألة يقول:
إذا أجمع أهل الاجتهاد على شيء، ورضي المتكلمون بذلك في الجملة، ولم يعرفوا غير الحكم، ولا اجتهدوا، انعقد الإجماع.
وهذا يدل على أنهم بمنزلة العامة، وأنهما خارجون من جملة أهل الاجتهاد.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1) وهؤلاء من جملة المؤمنين.
وقول النبى - صلى الله عليه وسلم -َ (لا تَجتمعُ أمتي على الخَطأ) ولم يخص.
والجواب: أن المراد بذلك من هو من أهل الاجتهاد، ألا ترى أنه لم يرد به العامة.
واحتج: بأن من عرف أصول الفرائض، ولم يعرف الغامض فيه [يعتبر قوله في ذلك] (2) .
والجواب: بأن من عرف أصول الفرائض، يمكنه بناء فروعها عليها بالحساب والقياس، ومن عرف أصول الفقه لا يمكنه بناء أحكام فروعه عليه؛ لأن الفروع تختص بأدلة لا يشاركها الأصول فيها (3) .
__________
(1) (115) سورة النساء.
(2) الزيادة من التمهيد (3/252) .
(3) ينبغي أن يقال هنا: إن الواحد من الأمة لا يخلو من ثلات حالات:
الأولى: أن لا يعرف الفقه والأصول فهذا لا يعتبر قوله إلا على رأي من اعتبر قول العامة، وهو رأي مرجوح.
الثانية: أن يعرف الفقه والأصول فهذا يعتبر وفاقه وخلافه بدون خلاف.
الثالثة: أن يعرف أحدهما دون الآخر، وهذا فيه الخلاف الذي ذكره المؤلف.
انظر: نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر (1/352) .(4/1138)
فصل
ولا يعتبر في صحة انعقاد الإجماع بأهل الضلال والفسق، وإنما الإجماع إجماع أهل الحق، الذين لم يثبت فسقهم وضلالهم (1) .
وقد قال أحمد -رحمه الله-، في رواية بكر بن محمد عن أبيه: "لا يشهد عندي رجلٌ، ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه؟! يعنى: الجَهْمي" (2) .
وبهذا قال الرازي (3) والجرجاني (4) .
__________
(1) راجع في هذا الفصل: أصول الجصاص الورقة (223/أ) التمهيد (3/252) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/353) وشرح الكوكب المنير (2/227) .
وكان ينبغي أن يحرر القول في هذه المسألة فقال: إن الكافر على قسمين:
معاند ومتأول، فالمعاند كاليهودي لا يعتبر وفاقه أو خلافه؛ لأن العصمة في الإجماع للمؤمنين، وهو ليس بمؤمن.
أما المتأول كالقدرية ففيهم رأيان، أحدهما لا يعتبر قولهم، والثاني يعتبر عند من لم يكفرهم.
انظر: نزهة الخاطر العاطر (1/353) ، والإحكام للآمدي (1/207) .
(2) هذا ليس بعدل عند الإمام أحمد؛ لأنه جهمي، والجهمي كافر عنده.
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود ص (263) وما بعدها، والمعتمد في أصول الدين للمؤلف ص (267) .
(3) صرح بذلك في أصوله الورقة (223/ب) .
(4) واختاره الأستاذ أبو منصور، حيث قال: (قال: أهل السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة) .
وهو مروي عن مالك والأوزاعي ومحمد بن الحسن وغيرهم.
انظر: شرح الكوكب المنير (2/227) ونزهة الخاطر العاطر (1/354) .(4/1139)
وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه يعتد في الإجماع بمن يخالف الحق، كما يعتد بأهل الحق، سواء عظمت معصية المخالف للحق أو لم تعظم.
وهو اختيار أبي سفيان الحنفي.
وذكر الإسفراييني (1) : إن ارتكب بدعة كفر بها لم يعتد بقوله، وإن فسق بها، أو أتى كبيرة يعتد به (2) [171/أ] .
دليلنا:
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطَاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (3) فجعلهم شهداء على الناس وحجة عليهم فيما يشهدون به، لكونهم وسطاً.
والوسط في اللغة: هو العدل (4) ، فلما لم يكن أهل الفسق والضلال بهذه الصفة، لم يجز أن يكونوا من الشهداء على الناس، فلا يعتد بهم في الإجماع.
ويدل عليه أيضاً: قوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المْؤْمِنِينَ) (5) فلما لم يكن سبيل أهل الفسق والضلال سبيل المؤمنين، لم يجز أن يكون سبيلهم مأموراً باتباعه.
ولأنه قد يجوز أن يعصي فيما يعتد به فيه من الإجماع، كما يعصي في غيره،
__________
(1) نقل ذلك عنه في التمهيد (3/253) والمسوَّدة ص (331) .
(2) واختاره أبو الخطاب من الحنابلة كما في التمهيد الموضع السابق وإمام الحرمين كما في البرهان (1/688) والغزالي كما في المستصفى (1/183) والآمدي كما في الإحكام (1/207) .
وهناك رأي آخر يقول: (إن ذكر مستنداً صالحاً اعتد بقوله، وإلا فلا)
انظر: المسوَّدة الموضع السابق، وشرح الكوكب المنير (2/228) .
(3) آية (143) من سورة البقرة.
(4) قد مضى الكلام على معنى هذه الكلمة في الهامش عند استدلال المؤلف بهذه الآية على حجية الإجماع.
(5) آية (115) من سورة النساء.(4/1140)
فلا يجوز الاعتداد به.
فإن قيل: قد لا يختار المعصية فيما يدخل به في جملة المجمعين، وإن كان قد يختار ذلك في غير باب الإجماع، ألا ترى أن الدلالة قد دلت على امتناع وقوع الخطأ من الأنبياء عليهم السلام فيما هم حجة فيه، وإن كان يجوز وقوع الخطأ الصغير منهم في غير ما يؤدونه إلينا.
قيل: فيجب أن يقبل خبر الكذاب؛ لأنه يجوز أن لا يختار الكذب فيما يرويه، وإن كان يختار ذلك في غير باب الأخبار، ولا يشبه هذا الأنبياء؛ لأنهم معصومون في الرسالة.
وأيضاً: فإن كونهم في جملة المجمعين يقتضي مدحهم وتعظيمهم، وكونهم من أهل الفسق والضلال يقتضي ذمهم والاستخفاف [بهم] ، فلما لم يجز أن يكونوا استحقوا الذم والمديح في حالة واحدة، لم يجز أن يكونوا داخلين في جملة من يعتد بهم في الإجماع مع كونهم من أهل الفسق.
ويدل عليه قوله تعالى: (وَاتَّبع سَبِيلَ مَنْ أنَابَ إِلَىَّ) (1) .
وقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (2) والفاسق يأمر بالمنكر، ويمنع المعروف.
ولأن من لا تقبل شهادته في حق خاص لم يعتد به فيما يلزم الجماعة.
ولأنه إخبار بأمر من أمور الدين، فلا يدخل فيه الفاسق، مثل (3) أخبار الآحاد.
واحتج المخالف:
بقوله عليه السلام: (أمتي لا تجتمعُ على الخطأ) فلما كان أهل الفسق والضلال من جملة الأمة وجب أن يعتد بهم في جملة الإجماع.
والجواب: أن المراد بذلك العدول منهم، كما كان المراد به العلماء منهم.
__________
(1) آية (15) من سورة لقمان.
(2) آية (110) من سورة آل عمران.
(3) في الأصل: (مثلا) .(4/1141)
واحتج: بأنهم قادرون على الصواب كقدرتهم على الخطأ، فلم يمتنع أن يدل الدليل على أنهم لا يختارون إلا الصواب فيما يعتد به بهم في جملة المجمعين، وإن جاز أن يختاروا مثل ذلك في غير باب الإجماع، وقد دلّ الدليل على ذلك، وهو قوله عليه السلام: (أمتي لا تَجتمعُ على الخطأ) .
والجواب: أن الفاسق قادر على الصدق في خبره، ومع هذا فلا يقبل خبره.
واحتج: [171/ب] بأن أخبار التواتر تسمع من العدل والفاسق، كذلك الإجماع.
والجواب: أن ذلك يقع من كل فرقة، والإجماع يختص بفرقة.
مسألة
أهل المدينة وغيرهم في الإجماع سواء، فإذا قالوا قولاً، ووافقهم غيرهم عليه صار إجماعاً، وإن خالفهم غيرهم من أهل الأمصار لم يكن إجماعاً. ولا يكون قولهم أولى من قول غيرهم (1) .
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية أيى داود: "لا يُعجبُنى رأي مالك ولا رأي أحد" (2) .
وقال -في رواية مهنا-: "لا ينبغي لرجل أن يضع كتاباً على أهل المدينة في بعض أقاويلهم التي (3) يذهبون إليها، ويأخذون بها عن عمر والصحابة والتابعين".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (228/ب) والتمهيد (3/274) والمسوَّدة ص (331) وروضة الناظر مع شرحها (1/363) وشرح الكوكب المنير (2/237) .
(2) الرواية بنصها موجودة في مسائل الإمام أحمد رواية أبى داود ص (275) .
(3) في الأصل: (الذي) .(4/1142)
وظاهر هذا [عدم] جواز الوضع فيما انفردوا به.
وحُكِي عن مالك أنه قال: "إذا أجمع أهل المدينة على شىء، صار إجماعاً مقطوعاً عليه، وإن خالفهم فيه (1) غيرهم" (2) .
وقال قوم من أصحابه: إنه أراد إجماعهم (3) فيما طريقه النقل. وهذا فرار من المسألة.
وقال آخرون: أراد بذلك اجتماعهم في زمن الصحابة والتابعين ومن يليهم (4) .
دليلنا:
قوله تعالى: (ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (5) وأهل المدينة ليس هم جميع المؤمنين.
وكذلك قوله تعالى: (أمَّةً وَسَطَاً) (6) وذلك لا يختص بأهل المدينة؛ لأنهم بعضنا.
__________
(1) في الأصل: (فيهم) .
(2) وهو ما صححه ابن الحاجب في مختصره ص (41) إلا أنه قصره على الصحابة والتابعين.
(3) في الأصل: (اجتماعهم) .
(4) وقال آخرون: (أراد ترجيح اجتهادهم على اجتهاد غيرهم) .
وقال آخرون: (أراد إجماع أهل المدينة على المنقولات المستمرة كالأذان والمد والصاع) .
انظر: المسوّدة ص (332) ومختصر ابن الحاجب ص (41) ، وسيذكر المؤلف هذه الاحتمالات في آخر البحث، ويجيب عنها.
(5) آية (115) من سورة النساء.
(6) آية (143) من سورة البقرة.(4/1143)
وقوله تعالى: (فَإن تَنَازَغتُمْ في شَىْءٍ فرُدوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (1) فمن قال: يرد إلى أهل المدينة، فقد ترك الظاهر.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي كالنُّجُوم، بأيهم اقْتَدَيتُم اهْتَدَيتُم) ، ولم يفصل بين أن يكونوا بالمدينة أو بغيرها.
وقوله: (أمتي لا تجتمعُ على خَطَأ) وظاهر الخبر يفيد كل الأمة إلى يوم القيامة، لكن علمنا أنه لم يرد ذلك، فثبت (2) أنه أراد الأمة من كل عصر، وليس أهل المدينة أمته في العصر.
ولأنهم بعض الأمة، والخطأ جائز عليهم كما هو جائز على غير أهل المدينة.
ولأن حكم الإجماع لا يخلو أن يعود إلى فضيلة البقاع أو فضيلة الرجال في العلم، فإن اعتبرتم فيه فضيلة البقاع، فأهل مكة أحق به، وإن عاد إلى العلم، فعلي بن أبي طالب وابن مسعود وثلاثمائة ونيف من الصحابة انتقلوا إلى العراق من أهل العلم والدين، وليس من أقام بالمدينة بأعلم منهم.
ولأن ما قالوه يفضي إلى أن يكون قولهم حجة ما داموا في المدينة، فإذا خرجوا منها وغابوا إلى الشام والكوفة وغير ذلك من البلاد لا يكون حجة، وما أفضى إلى هذا سقط في نفسه؛ لأن الاعتبار بأقوال المجتهدين، لا بمكانهم.
ولأن ما كان حجة لله تعالى لا يختلف باختلاف الأزمان بدليل الكتاب والسنة، وقد ثبت [172/أ] أن إجماع أهل المدينة في هذا الوقت ليس بحجة (3) ، فلم (4) يجز أن يكون حجة فيما مضى.
__________
(1) آية (59) من سورة النساء.
(2) في الأصل: (ثبت) .
(3) أي عصر المؤلف، فكيف بعصرنا الحالي.
(4) في الأصل: (لم) .(4/1144)
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الإيمان لَيَأرِزُ (1) إلى المدينة كما تَأرِزُ الحية (2) [إلى جُحْرِها] ) (3) .
والجواب: أن كلامه خرج على زمان الهجرة في رجوع الناس إلى المدينة هرباً من الكفار، ومعونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا ينفي كون المؤمنين بغيرها، وجواز الخطأ على أهلها.
وجواب آخر، وهو: أنه يفضي إلى أن جميع الإسلام إذا عاد إليها، وحصل فيها، لم يجز خلافه.
واحتج: بقوله -عليه السلام-: (اللَّهم حبِّبْ إلينا المدينة، وباركْ لنا في صاعِها ومُدِّها) (4) .
__________
(1) معمى (ليأرز) : (ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها) .
النهاية مادة (أرز) (1/24) .
(2) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرِزُ إلى المدينة (3/26) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (1/131) .
وأخرجه عنه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب فضل المدينة (2/1038) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (2/286، 422، 496) وفي أحدها "الإسلام" بدل "الإيمان".
(3) الزيادة من مراجع التخريج السابقة.
(4) هذا الحديث روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً.
أخرجه عنها البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب ... (3/28-29) وفيه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة =(4/1145)
والجواب: أن هذا لا ينفي وقوع الخطأ من أهلها كما لو دعا (1) مثل هذا الدعاء لغيرهم (2) لم ينف وقوع الخطأ منهم (3) ، وقد دعا لعلي ولغيره من الصحابة، ولم يدل على أن قول كل واحد منهم بانفراده حجة.
واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الدجَّال لا يدخلها، وأن على كل باب منها ملكاً شاهراً سيفه) (4) .
والجواب: أن هذا يفيد صيانتها من دخول الدجّال، ترغيباً في المقام بها، وهذا لا ينفى الخطأ من المقيمين بها.
__________
= أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجُحْفة....) .
وأخرجه عنها مسلم في كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (2/1003) وفيه: (وبارك لنا في صاعها ومدها) مثل الرواية التي ساقها المؤلف.
وأخرجه عنها الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب ما جاء في وباء المدينة ص (555) .
وأخرجه عنها الإمام أحمد في مسنده (6/56، 65، 222، 240، 260) .
(1) في الأصل: (أدعى) .
(2) في الأصل: (لغيره) .
(3) في الأصل: (منه) .
(4) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/373- 374، 417-418) عن فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- وفيه: ( ... إن الله حرم حرمي على الدجال أن يدخلها، ثم حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الذي لا إله إلا هو ما لها طريق ضيق ولا واسع في سهل ولا جبل إلا عليه ملك شاهر بالسيف إلى يوم القيامة، ما يستطيع الدجال أن يدخلها على أهلها) .
وأخرجه عنها ابن ماجة في كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروح عيسى ابن مريم.... (2/1354-1355) . =(4/1146)
واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفها بحفوف الملائكة بها.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون أراد صيانة المهاجرين والأنصار، وتسكيناً لروعهم من الكفار.
واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن المدينة تنفى خَبَثَها كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديد) (1) .
__________
= والحديث الذي أورده المؤلف -رحمه الله- يدل على أمرين:
1- الدجال لا يدخل المدينة.
2- أنها محروسة بالملائكة.
وذلك ثابت يشهد له ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب فضائل المدينة، باب: لا يدخل الدجال المدينة (3/26-27)
ولفظه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) .
كما أخرج عن أنس وأبي بكرة -رضي الله عنهما- في الموضع السابق ما يدل على ذلك.
ويؤيده ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الحج، باب: صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها (2/1005) .
ويؤيده أيضاً: ما أخرجه الإمام مالك في موطئه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الجامع، باب: ما جاء في وباء المدينة ص (556) .
(1) هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - مرفوعاً.
أخرجه عنه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث (3/27) وفيه: (المدينة كالكير تَنْفي خبَثَها، ويَنْصَع طيبها) كما أخرجه في الموضع السابق ص (28) عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - وفيه: (إنها تَنْفي الدجال كما تنفي النار خَبَثَ الحديد) .
وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (2/1005) عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة.
وأخرجه الإمام مالك في موطئه في كتاب الجامع، باب ما جاء في سكنى المدينة =(4/1147)
والجواب: أنه أراد بذلك في زمانه، بدلالة كثرة الخبث بها بعده، ومخبره لا يقع بخلاف ما أخبر به.
ويحتمل: أن يكون أراد بالخبث الكفر والشرك عنها ظاهراً، فأما أهل الاجتهاد إذا خرجوا منها فلا.
واحتج: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يصبرُ على لأَوَاءِ (1) المدينة وشدتها أحد إلا كنتُ له شهيداً يوم القيامة) (2) .
والجواب: أنه ترغيب للمقام بها من غير أن يعتبر نفي الخطأ عنهم فيما طريقه الشريعة.
واحتج: بما روي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يكيدُ أحدٌ أهلَ المدينة إلا انْمَاعَ كما يَنْماعُ الملحُ في المَاءِ) (3) .
__________
= والخروج منها ص (553) عن جابر بن عبد الله وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/237، 247) عن أبي هريرة - رضي الله عنه.
(1) اللأواء: الشدة وضيق المعيشة. النهاية مادة (لأي) (4/43) .
هذا الحديث أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها (2/1002-1005) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمثل لفظ المؤلف إلا أنه قال: (شفيعاً أو شهيداً) .
وأخرجه في الموضع السابق عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه.
كما أخرجه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ (لا يصبر أحد على لأوائها فيموت، إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، إذا كان مسلماً) .
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب: ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها ص (552-553) عن ابن عمر - رضي الله عنه -.
(3) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب: إثم من كاد أهل المدينة (3/26) عن سعد - رضي الله عنه - ولفظه كلفظ المؤلف. =(4/1148)
والجواب: أنه مقيد بما يفعله الله تعالى بمن أراد سوءً بالمدينة، والخطأ فيما يتفقون عليه في أمر الدين ليس من هذا في شىء، ومن ذمهم أو ردَّ عليهم، فإنه لا يريد سوءً بالمدينة.
ولا يجوز حملُه على الأهل من غير دلالة.
ولأن الفسق عبارة [172/ب] عن الفعل المذموم، ومن أنكر عليهم في خطئهم فقد دعاهم إلى خير، وأراده منهم.
وعلى أن المكايَدَة هى المباينة بغير حق، وخلافُنا في الخلاف فيما هو حق، ويسوغ فلا يتناول الخبر موضعَ الخلاف.
وجواب آخر، وهو: أن الخبرَ حجةٌ لنا، فإنه يتناول أهل المدينة حيث كانوا فيها أو في غيرها، فيجب إذا كانوا بالكوفة وغيرها من البلاد لا يُخالفون.
واحتج: بأن أهل المدينة شاهدوا الرسول وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل.
والجواب: أن الصحابة الذين هذه صفتهم قولهم حجة، وإنما الخلاف فيه: إذا كان بعضهم بالمدينة وبعضهم خارجاً عنها، هل يكون قول البعض الذين بالمدينة حجةً على غيرهم؟ وليس فيما ذكروه ما يدل على ذلك.
فأمَّا من قال: إن إجماع أهل المدينة حجة فيما طريقه التواتر فقد أبعد، لأن خبر التواتر، لا يختص بطائفة، وقد يقع ذلك ببعض أهل المدينة.
ولا يجوز أن يُحمل قول مالك على تجويز الخطأ في تواتر غير أهل المدينة، وترجيح تواتر أهل المدينة، لأنهم عرفوا أواخر فعل النبي -عليه السلام- لأن من نقل الأخبار إلى غير أهل المدينة هم الصحابة الذين عرفوا أواخر فعله
__________
= وأخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله (2/1007-1008) عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وسعد بن مالك -رضي الله عنهم- بألفاظ متقاربة، والمعنى واحد.(4/1149)
وأوائله (1) ، فلا يختص معرفة ذلك بالمقيمين بالمدينة.
ولأن آحاد غير أهل المدينة قد يكونون (2) أحفظ بالخبر من آحادهم. وقد روى رافع بن خديج (3) : النهيَ عن المُزارعة لأهل المدينة، فرجعوا إلى خبره (4) .
__________
(1) في الأصل: (أوائلها) .
(2) في الأصل: (يكونوا) .
(3) هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي، الأنصاري، الأوسي، الحارثي، أبو عبد الله صحابي جليل. شهد أحداً وما بعدها. مات سنة (74هـ) بالمدينة، وله من العمر (86) سنة.
له ترجمة في: الاستيعاب (2/479) والإصابة (2/86) .
(4) حديث رافع هذا أخرجه البخاري في كتاب المزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة.
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب كراء الأرض (3/1181) .
وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في ذلك (1/232) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الرهون، باب المزارعة بالثلث والربع (2/819) .
وأخرجه النسائي في أول كتاب المزارعة، (7/43) .
وأخرجه الطيالسي في مسنده في كتاب التفليس والصلح وأحكام الجوار والمزارعة والإجارة، باب المزارعة (1/275) .
وأخرجه الإمام الشافعي في كتاب الشركة والقراض، باب ما جاء في كراء الأرض (2/119) .
وأخرجه الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار في كتاب المزارعة والمساقاة (4/105) .
وراجع في هذا الحديث أيضاً: نصب الراية (4/180) وذخائر المواريث (1/205) .(4/1150)
ولا يجوز أن يحمل ذلك على عمل أهل المدينة إذا ظهر، مثل نقلهم للصاع، لأن هذا إن كان عن خبر مستفيض فلا يخفى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهادهم لا يلزم غيرهم.
ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقديم اجتهاد أهل المدينة على اجتهاد غيرهم؛ لأن ذلك إن كان يجب لمشاهدتهم لأقاويل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزول آي القرآن فإن ذلك حصل من الصحابة الذين انتقلوا إلى البصرة والكوفة، فلا معنى للتفريق.
ولو وجب ما ذكروه لصار قول أهل مكة أولى في المناسك، لمشاهدتهم (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلها عندهم، ولَوَجَبَ (2) على ما قالوه أن يكونوا (3) أكثر الأمة إجماعاً (4) ، لأنهم أعلم.
وأن يرجح قول المهاجرين لكثرة مشاهدتهم بطول صحبتهم.
وأن يرجح [قول] ، المهاجرين لهذا المعنى، وقول شيوخ الصحابة على الأحداث (5) .
__________
(1) في الأصل: (فمشاهدتهم) .
(2) في الأصل: (والواجب) ودلالة السياق تدل على ما أثبتناه.
(3) في الأصل: (يكون) .
(4) في الأصل: (اجتماعاً) .
(5) الكلام في مسألة إجماع أهل المدينة، أو عمل أهل المدينة قد كثر، فمن العلماء من نقله عن مالك صريحاً، ومنهم من أوَّله، وخرجه على وجه سائغ، ومنهم من فصَّل.
وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية عمل أهل المدينة أربع مراتب:
المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل =(4/1151)
مسألة
في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة، وهو من أهل الاجتهاد لم يعتدَّ بخلافه
__________
= نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضروات والأحباس، فهذا حجة باتفاق.
المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فهذا حجة في مذهب مالك، والمنصوص عن الشافعى، وظاهر مذهب أحمد، والمحكي عن أبي حنيفة.
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين، جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، فاختلف فيه:
فذهب مالك والشافعى: إلى أنه حجة، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد، وقيل: هذا المنصوص عن أحمد، ومن كلامه: "إذا روى أهل المدينة حديثاً، وعملوا به، فهو الغاية". وكان يفتي على مذهب أهل المدينة، ويقدمه على مذهب أهل العراق تقديماً كثيراً.
وذهب أبو حنيفة، وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد: أنه ليس بحجة.
المرتبة الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة، فالذي عليه أئمة الناس: أنه ليس بحجة، وهو مذهب الشافعى وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك عبد الوهاب في كتابه: أصول الفقه، وغيره. وربما جعله أهل المغرب من أصحاب مالك حجة، وليس معهم عن الأئمة نص ولا دليل بل هم أهل تقليد.
قال ابن تيمية بعد هذا: (ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة) .
انظر: الفتاوي (20/303-310) والعرف وأثره في الشريعة والقانون للمحقق ص (74) .
ولابن القيم تقسيم آخر، ارجع إليه في اعلام الموقعين (2/394) .
وللدكتور أحمد بن محمد نور سيف كتاب في هذا الموضوع بعنوان: عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين، فارجع إليه.(4/1152)
في أصح الروايتين (1) .
أومأ إليها في [173/أ] مواضع.
فقال في رواية أبي الحارث، وقد سأله: "إلى أي شىء ذهبت في ترك الصلاة بين التراويح (2) ؟ فقال: ضَربَ عليها عقبةُ بن عامر (3) ونهى عنها (4) عبادة بن الصامت، فقيل له: يروى عن سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (5) فقال: أقول لك: أصحاب رسول [الله] ، وتقول: التابعين! ".
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (231/أ) والتمهيد (3/267) والمسوَّدة ص (333) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/335) وشرح الكوكب المنير (2/233) .
(2) العادة أن الإمام يريح المصلين في صلاة التراويح، فإذا صلى أربعاً مثلاً أراحهم مقدار ما يقضي الإنسان حاجته ويتوضأ، ففي هذه الفترة يقوم بعض الناس فيصلى، أو يقرأ في الصلاة حتى ينهض الإمام فيدخل معه.
(3) هو عقبة بن عامر بن عبس الجهني، أبو حماد، صحابي. كان والياً على مصر. وتوفي آخر خلافة معاوية.
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1073) .
(4) نهي عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات، باب في الصلاة بين التراويح (2/399) .
(5) ما هنا موافق لما في المغني لابن قدامة (2/170) حيث قال: (وكره أبو عبد الله التطوع بين التراويح، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبادة وأبو الدرداء وعقبة بن عامر. فذُكر لأبي عبد الله فيه رخصة
عن بعض الصحابة؟ فقال: هذا باطل، وإنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير) .
ونقل ابن هانئ في مسائله (1/97) عن الإمام أحمد قوله -وقد سأله عن =(4/1153)
وسأله أيضاً عن عدد قتلوا رجلاً؟ "قال: يقادون (1) به، يروى عن عمر (2)
__________
= الصلاة بين التراويح -: (مكروه، لا يصلي بين التراويح شىء، لا تشبه بالمكتوبة، كانوا يضربون عليها، يعنى: من تطوع بين التراويح) .
(1) في الأصل: (يقود) .
(2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - رواه البخاري معلقاً في كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم (9/10) ولفظه: (وقال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاماً قُتل غِيلَة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم) .
وأخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل (8/40-41) ولفظه: (أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غِيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتُهم جميعاً) .
ثم ذكر المؤلف روايات أخرى كلها تفيد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقتل الجماعة بالواحد.
وأخرجه مالك في الموطأ، في كتاب العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر ص (543) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب: النفر يقتلون الرجل (9/475-480) وساق عدة روايات في ذلك.
وأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب الحدود والديات (3/202) .
وأخرجه الإمام الشافعى في كتاب القتل والجنايات، باب: ما جاء في قتل الجماعة بالواحد ... (2/249) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب الرجل يقتله النفر (9/347-348) وساق ثلاث روايات في ذلك.
وانظر: تغليق التعليق على صحيح البخاري لابن حجر (5/250) .(4/1154)
وعلي (1) ، فقيل له: يروى عن بعض التابعين (2) : أنه لا يقتل اثنان بواحد (3) ،
__________
(1) الأثر هذا عن علي - رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في الموضع السابق ذكره، ولفظه: (عن سعيد بن وهب: قال: خرج قوم، وصحبهم رجل، فقدِموا وليس معهم، فاتهمهم أهلُه، فقال شريح: شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم، وإلا حلفوا بالله ما قتلوه، فأتوا بهم علياً - رضي الله عنه - قال سعيد: وأنا عنده، ففرق بينهم فاعترفوا، قال: فسمعت علياً - رضي الله عنه - يقول: أنا أبو حسن القرم، فأمر بهم علي - رضي الله عنه - فقتلوا.) .
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه في الموضع السابق (9/477) (أن عمر كان يشك فيها حتى قال علي: يا أمير المؤمنين: أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا عضواً أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال: فذلك، حين استمدح له الرأي) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق (9/348) بمثل لفظ البيهقي.
والقول بقتل الجماعة بالواحد مروي عن ابن عباس وسفيان وقتادة والحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء.
انظر: المصنف لعبد الرزاق (9/475-480) .
وراجع في هذا الموضوع: نصب الراية (4/353-354) والتلخيص الحبير (4/20) .
(2) نقل ابن أبي شيبة في مصنفه -كما سيأتي- القول بقتل واحد من الجماعة عن معاذ: ابن الزبير -رضي الله عنهما-.
كما نقله عبد الرزاق في مصنفه -كما سيأتي- عن ابن الزبير - رضي الله عنه - وفي المذهب الحنبلي: رواية ثانية: أنهم لا يقتلون بالواحد، وتجب عليهم الدية.
انظر: المغنى لابن قدامة (7/671) طبعة المنار الثالثة.
(3) نقل ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب: الديات، باب: من كان لا يقتل منهم إلا واحداً (9/349) هذا القول عن حبيب ابن أبي ثابت وعبد الملك وابن الزبير وهشام ابن محمد ومعاد بن جبل. =(4/1155)
فقال: ما يُصنع بالتابعين؟ ".
وكذلك نقل أبو عبد الله القَواريري (1) - كاتب أبي هاشم - قال: "سمعت أحمد يذاكر رجلاً، فقال له الرجل: قال عطاء، فقال: أقول لك: قال ابن عمر، تقول: قال عطاء، من عطاء، ومن أبوه؟ ".
وظاهر هذا (2) : أنه لم يعتبر بقوله (3) .
وبهذا قال طائفة من أصحاب الشافعى (4) .
__________
= ونقله عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب النفر يقتلون الرجل (9/479) عن ابن الزبير والزهري وعبد الملك.
ونقل عن معمر قوله: (وما علمت أحداً قتلهم جميعاً إلا ما قالوا في عمر) .
كما نقل عن الزهري قوله: (ثم مضت السُّنة بعد ذلك -أي بعد حكم عمر - رضي الله عنه - في النفر الذين تمالؤا على قتل واحد في صنعاء- ألا يقتل إلا واحد) .
قلت: وهذا غير مسلم، لما ثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه قتل جماعة بواحد، كما سبق تخريجه قريباً.
(1) أقف على ترجمته.
(2) الظاهر: أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- قدم قول الصحابة على قول التابعين -كما في الرواية الأولى- أو قول الصحابي على قول التابعي -كما في الرواية الثانية- وليس فيما ذكر تقدم إجماع من الصحابة، خالفهم فيه التابعون بعد ذلك حتى يتم الاستدلال. والله أعلم.
(3) واختار هذه الرواية الحلال والحلواني المؤلف -كما سترى- وإسماعيل بن عُلَيَّة.
انظر: المسوّدة ص (333) وشرح الكوكب المنير (2/233) .
(4) انظر: التبصرة في أصول الفقه: ص (384) وإرشاد الفحول ص (81) .(4/1156)
وفيه رواية أخرى: يُعتدُّ بخلافه (1) .
أومأ إليه (2) -رحمه الله- في رواية أبي الحسن بن هارون (3) ، قال: "لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، واحتج بقول سعيد" (4) .
وكذلك نقل عبد الله عن أبيه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وقال: قد روي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن ينظر العبد إلى شعر مولاته، وتأول الآية (5) . وقال سعيد: لا تغرنكم هذه الآية التي في سورة النور: (أو مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُنَّ) (6) إنما عنى بها الإماء، لا ينبغي أن ينظر إلى شعرها" (7) .
وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا ينظر إلى شعر مولاته، وذكر قول سعيد: لا تغرنكم هذه الآية، ولم نَسمع إلا حديث السدّي عن ابن مالك (8) عن
__________
(1) وبه قال جمهور الأصوليين. واختاره ابن عقيل وأبو الخطاب وابن قدامة من الحنابلة وكما اختاره المؤلف في بعض كتبه.
انظر: التمهيد ونزهة الخاطر العاطر (1/355) ، والمسودة ص (333) وشرح الكوكب المنير (2/232-233) .
(2) كان الأولى أن يعيد الضمير مؤنثاً، فيقول: (إليها) كما صنع في الرواية الأولى، وربما يُخرَّج على قصد (القول) .
(3) لم أقف على ترجمته.
(4) يعني: ابن المسيب، كما سيأتي في تخريج الأثر.
(5) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب: النكاح، باب: ما قالوا في الرجل المملوك، له أن يرى شعر مولاته؟ (4/334) .
(6) (31) سورة النور، والآية في الأصل: (أو ما ملكت أيمانكم) وهو خطأ.
(7) أثر سعيد هذا أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في الموضع السابق (4/335) ونقل أن مجاهداً وعطاء والضحاك كرهوا ذلك، كما نقل عن إبراهيم قوله: (تستتر المرأة عن غلامها) .
(8) هكذا في الأصل: (ابن مالك) وهو موافق لما جاء في تهذيب الكمال للمزي في ترجمته السدّي (1/104) مخطوطة دار الكتب المصرية.
وفي مصنف ابن أبي شيبة (4/334) : (أبو مالك) وهو موافق لما جاء في تهذيب =(4/1157)
ابن عباس (1) ، فأما التابعون فقد نهى عنه غير واحد".
فظاهر هذا: أنه اعتدَّ بقول سعيد خلافاً على ابن عباس.
قال أبو بكر الخلال في كتاب "غض البصر" من "الجامع" (2) : "إنما صار أحمد -رحمه الله- إلى هذا، وترك قول ابن عباس؛ لأنه ضعيف. ومذهب أبي عبد الله: إذا صح عنده عن أحد من أصحاب رسول الله شىء (3) لم يجاوزه إلى من بعده من التابعين".
__________
= الكمال في ترجمة غزوان (2/1089) ، وموافق لما جاء في تهذيب التهذيب (8/245) وتقريب التهذيب (2/105) ، وتاريخ البخاري (7/108) ، والجرح والتعديل (5/55) والإكمال (7/15) .
والذي يظهر لي أنه: ابن مالك، وأبو مالك، إذ لا منافاة بين الأمرين، وإن كان اشتهر بكنيته. كما قال الحافظ في التقريب.
وهو: غزوان بن مالك، أو أبو مالك الغفاري، الكوفي. روى عن عمار بن ياسر وابن عباس والبراء بن عازب وغيرهم. وعنه السدّي وسلمة بن كهيل وحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. وثقه ابن معين. وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حجر في التقريب: (ثقة من الثالثة) .
انظر ترجمته في: المراجع السابقة.
(1) هذا سند الأثر الذي روي فيه عن ابن عباس القول بجواز أن ينظر المملوك إلى شعر جاريته. وسيأتي كلام للإمام أحمد عن هذا السند.
(2) هذا الكتاب يقول عنه الدكتور فؤاد سزكين في كتابه: تاريخ التراث العربي (م1 ج3 ص233-234) : (يضم مجموعة من كتب ورسائل ومسائل أحمد بن حنبل التي تتكون من عشرين جزءً ... المتحف البريطاني الملحق 168، مخطوطات شرقية 2675 (1، 212 ورقة، وسماع 560 هـ، 577 هـ) ... ويوجد في حوزة محمد بن عبد الرزاق بن حمزة بمكة (جزء آخر، 212 ورقة، 583 هـ ومنه نسخة مصورة بالقاهرة، ملحق 1/53 رقم 21888ب) قسم آخر بعنوان: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسائل أحمد بن حنبل" الظاهرية حديث 245/1 (من ورقة 1-31، 576 هـ.
انظر: فهرس معهد المخطوطات العربية 1/62، 146) .
(3) في الأصل: (شيئاً) .(4/1158)
وليس الأمر على ما ذكر أبو بكر الخلال، لأن أحمد -رحمه الله- لم يترك حديث ابن عباس؛ لأنه لم يثبت عنده.
يبين صحة هذا: ما رواه الأثرم قال: "قلت: السُّدِّي عن ابن مالك عن ابن عباس؟ فقال لي: نعم، قلت: أليس هو إسناداً؟! (1) ، فقال: ليس به بأس".
وهذا يمنع ضعف الحديث عنده.
وكذلك قوله في رواية أبي طالب: "لم أسمع إلا حديث السُّدِّى، والتابعون غير واحد، فيرجح قول التابعين لكثرتهم لا لضعفه".
وبهذا قال المتكلمون (2) وأكثر الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعى.
إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن كان من أهل الاجتهاد [173/ب] عند الحادثة كان خلافه خلافاً، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد عند الحادثة لكنه صار من أهله قبل انقراض العصر، فأظهر الخلاف، لم يكن خلافاً (3) ، على ما حكاه أبو سفيان.
__________
(1) في الأصل: (إسناد) .
(2) لو عبر المؤلف: (بأكثر المتكلمين) لكان أدق؛ لأن بعض المتكلمين قال بالرأي الأول، كما سبق بيانه. وهو ما فعله ابن عبد الشكور في مسلم الثبوت (2/221) ، والآمدي في الإحكام (1/218) .
(3) الذي نصّ عليه الجصاص في أصوله الورقة (231/أ) : (أن التابعي الذي قد صار في عصر الصحابة من أهل الفتيا يعتد بخلافه على الصحابة، كأنه واحد منهم) .
وكذلك نصّ عليه السرخسى في أصوله (2/114) .
ولكون انقراض - العصر ليس بشرط عند الحنفية، فإن التابعي إذا بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد الإجماع، فلا أثر لمخالفته وإذا بلغ رتبة الإجتهاد قبل انعقاد الإجماع، فإنه يؤثر.
انظر: مسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/221) .(4/1159)
وأصحاب الشافعى (1) يجعلونه خلافاً إذا صار من أهل الاجتهاد قبل انقراض عصر الصحابة.
فالدلالة على أنه لا يعتد بقوله مع الصحابة: قوله -عليه السلام-: (اقتدوا باللَّذِينَ من بعدي: أبي بكر عمر) (2) .
__________
(1) لو عبر ببعض أصحاب الشافعي، لكان أدق؛ لأن بعضهم لم يعتد به مطلقاً، كما سبق بيانه.
(2) هذا الحديث رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كليهما (5/609) . قال الترمذي فيه: (حديث حسن) .
قال الترمذي فيه: (حديث حسن) .
كما أخرجه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً في باب مناقب عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - (5/672) وفيه زيادة: (واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود) .
ثم قال: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود، لا نعرفه، إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة: يضعف في الحديث ... ) .
وأخرجه ابن ماجه عن حذيفة - رضي الله عنه - في مقدمة سننه، باب: فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1/37) ولفظه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي" وأشار إلى أبي بكر وعمر) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة - رضي الله عنه - (5/382) بمثل لفظ المؤلف، وفي (5/385) أخرجه عنه بمثل لفظ ابن ماجة وزاد: (وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه) ، وفي (5/399) (وأهدوا هدي عمار، وعهد ابن أم عبد) ، وفي (5/402) زاد: (وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه) ولم يذكر عماراً.
وقد حكم الشيخ الألباني لحديث حذيفة وحديث ابن مسعود بالصحة.
انظر: صحيح الجامع الصغير (1/372-373) .(4/1160)
وقوله: (عليكم بسنَّتى وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) (1) فلما أمر بالاقتداء بهم، والاتباع لهم دلّ على وجوب اتباع التابعي لهم، لم يجز خلافه.
فإن قيل: هذا لا يمنع خلافهم، كما لم يمنع خلاف غير الأئمة من الصحابة للأئمة.
قيل: ظاهر الخبر يقتضى وجوب اتباعهم، وترك مخالفتهم من الصحابة وغيرهم، لكن قام الدليل هناك، وبقي ما عداه على ظاهره.
وأيضاً: قد ثبت أن قول الصحابي إذا انفرد حجة مقدم على القياس في الصحيح من قول أصحابنا وقول أصحاب أبي حنيفة وبعض الشافعية. ومن كان قوله حجة على غير أهل عصره لم يجز لمن كان من أهل العصر مخالفته.
__________
(1) هذا الحديث رواه العرباض بن سارية - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/44) وقال: (حديث حسن صحيح) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة (2/506) .
وأخرجه عنه ابن ماجة في مقدمة سننه، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (1/15) .
وأخرجه عنه الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة (1/43-44) .
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (4/126) .
وأخرجه عنه أبو بكر عمر بن أبي عاصم الشيباني في كتاب السنة (1/29) رقم (54) قال الألباني: (إسناده صحيح، رجاله ثقات) .
وأخرجه عنه الحاكم في مستدركه، في كتاب: العلم، باب: عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين (1/95-96) وقال: (حديث صحيح، ليس له علة) ووافقه الذهبي على ذلك.
وقد صحح الشيخ الألباني هذا الحديث في كتابه صحيح الجامع الصغير (2/346) .(4/1161)
يدل عليه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان قوله حجة، لم يجز لأهل عصره مخالفته.
فإن قيل: فالنبي حجة مقطوع عليه، والصحابي غير مقطوع عليه.
قيل: خبر الواحد والقياس غير مقطوع عليهما، ويجب اتباعهما.
فإن قيل: الذي قدمنا به قول الصحابي معرفته بأحوال التنزيل وطريق الأخبار ومشاهدتها، وهذا المعنى يتساويان فيه، فلا يلزم أحدهما متابعة الآخر.
قيل: فكان يجب أن لا يكون قول الصحابي حجة على غيره من بعده من العلماء، وأن يكون قوله أيضاً (1) كقول الصحابة لمساواته في الطريق، ولما لم يقل هذا، لم يصح، لما ذكرته.
فإن قيل: إنما يكون حجة، إذا لم يظهر من أحد من نظرائه خلافه، فإذا ظهر خرج عن أن يكون حجة، كما أن الإجماع ينعقد إذا لم يظهر ممن يعتدّ بقوله خلاف، فإذا ظهر لم ينعقد.
قيل: لا نسلم أن التابعي نظير للصحابى في الاجتهاد، لوجوه:
أحدها: أن قول الصحابي حجة على من بعده، والتابعي بخلاف ذلك.
والثاني: أن الصحابي معه مزية ليست مع التابعي من مشاهدة التنزيل وحضور التأويل.
والثالث: أنه منصوص عليه، لقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) وقوله: (أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) .
وهذا المعنى معدوم في [174/أ] التابعين.
ونجعل هذه طريقة في المسألة فنقول: للصحابي مزية على غيره من التابعين ومن بعدهم.
__________
(1) في الأصل: (صار) ولعل ما أثبتناه هو الصواب.(4/1162)
لأنه لا يخلو ما قاله أن يكون عن توقيف أو اجتهاد، فإن كان عن توقيف فهو أولى، وإن كان عن اجتهاد فاجتهاده أولى بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل.
ولأنه منصوص عليه بقوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) وإذا كانت له هذه المزية على غيره كان الاعتبار بقوله دون غيره، كما قلنا في القياس مع خبر الواحد، لما كان للخبر مزية كان مقدماً على القياس، وإن كان مساوياً له في أنه حجة، طريقها: غلبة الظن.
وللمخالف على هذا الدليل اعتراضات، نذكرها في قول الصحابي إذا انفرد به: أنه حجة، إن شاء الله تعالى.
واحتج المخالف:
بأنه قد ثبت أن الصحابة سوَّغت للتابعين الاجتهاد معها، وكانوا يفتون مع الصحابة، مثل سعيد بن المسيب وشُرَيح القاضي، الحسن البصري ومسروق وأبي وائل (1) والشعبي وغيرهم.
ألا ترى: أن عمر وعلياً -رضي الله عنهما- ولّيَا شريحاً القضاء، ولم ينقضا أحكامه بالفسخ مع إظهاره الخلاف عليهما في كثير من المسائل.
وكتب عمر إليه: (إن لم تجد في السنة فاجتهد رأيك) (2) . ولم يأمره بالرجوع، ولا الحكم بقوله.
__________
(1) هو: شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، وقد سبقت ترجمته.
(2) كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شريح مشهور، فقد أخرحه وكيع في كتابه "أخبار القضاة" (2/189) بسنده إلى الشعبي، ولفظه: (عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: ما في كتاب الله وقضاء النبي -عليه السلام- فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي -عليه السلام- فما قضى به أئمة العدل فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت تؤامرني، =(4/1163)
وخاصم علي - رضي الله عنه - إلى شريح، ورضي بحكمه حين حكم عليه بخلاف رأيه (1) .
__________
= ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم لك) .
كما أخرجه عن الشعبي بلفظ آخر هو: (عن الشعبي عن شريح كان عمر كتب إليه: إذا جاءك أمر، فاقض فيه بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما سن رسول الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله، فاقض بما أجمع عليه الناس، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله ولم يتكلم به أحد فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك، وإن شئت فأخِّرْه، ولا أرى التأخير إلا خيراً لك) .
(1) لعل المقصود بهذا قصة مخاصمة علي - رضي الله عنه - لليهودي عند القاضي شريح، خلاصتها: أن علياً - رضي الله عنه - سقط منه درع، فوجده في السوق مع يهودي يريد بيعه، فقال له علي - رضي الله عنه -: لليهودي درعي سقطت مني، فأنكره اليهودي، فتحاكما إلى شريح، فقال شريح: ما أرى أن تخرج الدرع من يده، فهل من بينة، فقال علي - رضي الله عنه -: صدق شريح، ثم أسلم اليهودي.
وهذه القصة أخرجها البيهقي في سننه في كتاب آداب القاضي، باب: إنصاف الخصمين في المدخل عليه والاستماع منهما ... (10/136) .
وذكر الحافظ ابن حجر هذه القصة، وفيها: أن علياً جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي، فقال: لو كان خصمي مسلماً جلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تساووهم في المجالس".
قال الحافظ بعد ذلك: "أبو أحمد والحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمير عن الأعمش عن إبراهيم التيمي: قال: عرف علي درعاً له مع يهودي، فقال: يا يهودي درعي سقطت مني، فذكره مطولا، وقال: منكر.
وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه، وقال: لا يصح، تفرد به أبو سمير. =(4/1164)
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: تذاكر أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة المتوفى عنها زوجها:
فقال ابن عباس: أبعد الأجلين.
وقلت أنا: عدتها: أن تضع حملها.
وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.
__________
= ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي، قال: خرج علي إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً، فعرف علي الدرع، فذكره بغير سياقه.
وفي رواية له: لولا أن خصمي نصراني، لجثيت بين يديك، وفيه عمرو بن شمَّر عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان.
وقال ابن الصلاح في الكلام على أحاديث الوسيط: "لم أجد له إسناداً يثبت".
وقال ابن عسكر في الكلام على أحاديث المهذب: "إسناده مجهول"
انظر التلخيص الحبير (4/193) .
وفي أخبار القضاة (2/194) زيادة: أن شريحاً طلب من على بينة على أن الدرع التي مع اليهودي له، فأحضر قنبر والحسن ابنه، فرد عليه شريح قائلاً: شهادة الابن لا تجوز للأب. فقال علي: "سبحان الله رجل من أهل الجنة".
وفي رواية ساقها أيضاً وكيع في المرجع السابق: (أن شريحاً قال لعلي: بينتك، فجاء بعبد الله بن جعفر ومولى له، فشهدا، فكأن شريحاً لم يجز شهادة المولى ...
فقال لعلي: اتبع بيعك بالثمن الذي دفعت إليه.
وقال [يعني علياً] في أي كتاب الله وجدت أن شهادة المولى لا تجوز) .
ففي الرواية الأولى نجد شريحاً خالف علياً في شهادة الابن. وعلى الرواية الثانية خالفه في شهادة المولى.
وانظر: كشف الأسرار (3/945) .(4/1165)
فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه، وتبعه أبو هريرة (1) .
وذكر إبراهيم (2) عن مسروق أنه قال: (كان ابن عباس إذا قدم عليه أصحاب عبد الله (3) صنع لهم طعاماً ودعاهم، قال: فصنع لنا مرَّة طعاماً، فجعل يسأل ويفتي، فكان يخالفنا، فما يمنعنا أن نردّ عليه إلا أنا على طعامه) (4) .
وسئل ابن عمر عن فريضة، فقال: (سلوا سعيد بن جبير، فإنه أعلم بها منِّي) (5) .
__________
(1) أخرج هذا البخاري في كتاب التفسير (سورة الطلاق) (6/193-194) وتكملته: (فأرسل ابن عباس غلامه كريباً إلى أم سلمة يسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية، وهى حبلى، فوضعت بعد موته لأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو السنابل فيمن خطبها) .
وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل (2/1122-1123) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في الحامل المتوفي عنها زوجها تضع (3/490) وقال: (هذا حديث حسن صحيح) .
وأخرجه الدارمي في كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها والمطلقة (2/88) .
وأخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها (6/157) .
وأخرجه الإمام الشافعي كما في بدائع المنن في كتاب العدد، باب عدة الحامل بوضع الحمل (2/401) .
(2) هو: إبراهيم النخعي، وقد سبقت ترجمته.
(3) يعنى: ابن مسعود - رضي الله عنه.
(4) لم أقف عليه.
(5) أخرج هذا الأثر ابن سعد في الطبقات في ترجمة سعيد بن جبير (6/258) .
وفيه (فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يُفْرِض منها ما أفرض) .(4/1166)
وسئل أنس عن مسألة فقال: (سلوا مولانا الحسن) (1) .
وإذا ثبت أنها قد سوغت لهم ذلك، لم يكن بينهم في هذا المعنى فرق.
والجواب: أنه يحتمل أن يكونوا سوغوا الاجتهاد للتابعين فيما كانوا مختلفين فيه، ليجتهدوا في أخذ أقوالهم، فسوغوا ذلك، ولم يثبت عنهم أنهم سوغوا خلاف الواحد فيما قال.
ولهذا قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، يعنى: أبا سلمة.
يبين صحة هذا: أنه روي أن علياً - رضي الله عنه - نقض على شريح حكمه في ابني عم، أحدهما أخ لأم، لما جعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم (2) ، [174/ب] .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه ابن سعد في طبقاته (7/176) في ترجمة الحسن البصري، وفيه: (فقالوا: يا أبا حمزة نسألك وتقول: سلوا مولانا الحسن فقال: إنا سمعنا وسمع فحفظ ونسينا) .
وذكر ذلك الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الحسن (2/264) بأخصر مما ذكره ابن سعد.
(2) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب ميراث ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم (6/239-240) ولفظه: ( ... قال: أتي شريح في امرأة تركت ابني عمها، أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها، فأعطى الزوج النصف وأعطى الأخ من الأم ما بقي، فبلغ ذلك علياً - رضي الله عنه - فأرسل إليه، فقال: ادعوا لي العبد الأبطر (هكذا) فدعي شريح، فقال: ما قضيت؟ قال: أعطيت الزوج النصف، والأخ لأم ما بقي، فقال علي - رضي الله عنه -: أبكتاب الله أم بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟! فقال: بل بكتاب الله، فقال أين؟ قال شريح: "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله".
قال علي - رضي الله عنه -: هل قال للزوج النصف، ولهذا ما بقي؟، ثم أعطى علي - رضي الله عنه - الزوج النصف والأخ لأم السدس، ثم ما بقي قسمه بينهما) . =(4/1167)
وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت لأبي سلمة ابن عبد الرحمن: (مثلك مثل الفَرُّوج، يسمع الديك يصيح، فصاح بصياحه) .
وذلك إنكار منها عليه في مناظرة عبد الله بن عباس والدخول معه في الاجتهاد (1) .
__________
= فيظهر من هذا: أن الحكم الذي نقضه علي - رضي الله عنه - على شريح هو في مسألة: امرأة تركت ابني عم، أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها.
بينا الذي ذكره المؤلف هو في مسألة: امرأة تركت ابني عمها، أحدهما أخ لأم، وهي مسألة أخرى لا ذكر لشريح فيها، أخرجها البيهقي في الموضع السابق (6/240) ولفظه: (أتى علي بابي عم، أحدهما أخ لأم، فقيل له: إن عبد الله كان يعطي الأخ لأم المال كله، قال: يرحمه الله إن كان لفقيهاً، ولو كنت أنا لأعطيت الأخ لأم السدس، ثم لقسمت ما بقي بينهما) .
والذي يظهر لي: أن المؤلف -رحمه الله- خلط بين المسألتين، ولا تأثير له على وجه الاستدلال من القصة، فإن في المسألة الأولى نقضاً لحكم شريح من علي - رضي الله عنه - وهو ما يريد المؤلف إثباته. والله أعلم.
(1) قول عائشة -رضي الله عنها- لأبي سلمة أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الطهارة، باب واجب الغسل إذا التقى الختانان ص (57) وفيه: أن أبا سلمة قال: سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب الغسل؟ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة مثل الفروج يسمع الدِّيَكة تصرخ، فيصرخ معها، إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل.
ومن هذا يتبين أنه لم يكن هناك مناظرة بين أبي سلمة وابن عباس - رضي الله عنه - ولم أجد مرجع يعتمد عليه -حسب اطلاعى- أن عائشة -رضي الله عنها- قالت ذلك في مسألة عدة المتوفى عنها زوجها.
نعم وجدت بعض كتب الأصول يذكر أن عائشة -رضي الله عنها- قالت ذلك لأبي سلمة لما خالف ابن عباس - رضي الله عنه - في عدة المتوفى عنها زوجها، منها المحصول (4/254) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/356) وشرح الكوكب المنير (2/234) . =(4/1168)
واحتج: بأن معه آلة الاجتهاد، فكان متعبداً به، ولم يجز له تقليد غيره.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يكون معه آلة الاجتهاد، ويكون متعبداً بغيره، كما كان متعبداً نحو الواحد إذا عارضه القياس.
واحتج: بأنهم من أهل الاجتهاد في وقت حدوث النازلة، فوجب أن لا ينعقد الإجماع إلا بموافقتهم، أصله: الصحابة.
والجواب: أن الصحابة قد تساووا في المزية والاجتهاد، وليس ذلك في التابعين، فإنهما وإن ساووا الصحابة في الاجتهاد، فللصحابة مزية عليهما من الوجه الذي بينا، فلهذا لم يعتد بخلافهم عليهم.
واحتج بأن الاعتبار بالعلم دون الصحبة، يدل عليه: أن الصحابي إذا لم يكن عالماً وجب عليه تقليد أهل العلم من التابعين، فإذا كان كذلك، وقد شاركهم التابعي في العلم، وجب أن يكون بمنزلتهم.
والجواب: أن الاعتبار بالعلم والصحبة لما فيهما من المزية، فإذا لم يكن الصحابي عالماً فقد عدم أحد الوصفين، فلهذا لم يعتد بقوله. وإذا كان من أهل الاجتهاد فقد وجد معنيان، والتابعي يوجد فيه أحدهما.
__________
= وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/290) في ترجمة أبي سلمة قول عائشة -رضي الله عنها- بدون أن يربطه بحادثة وإنما ذكر أنها قالت له ذلك، وهو حَدَث.
وفي هامش الكتاب المذكور قال المحقق تعليقاً على ذلك: (أورده ابن عساكر مطولاً في نسخه "ع" 9/151ب) .
وقال الآمدي في كتابه الإحكام (1/219-220) : (إن عائشة -رضي الله عنها- أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم، وزجرته عن ذلك وقالت: (فروج يصيح مع الدِّيَكة) .
فلم يربط هذا القول بحادثة معينة.(4/1169)
مسألة
[الإجماع السكوتي]
إذا قال بعض الصحابة قولاً، وظهر للباقين، وسكتوا عن مخالفته والإنكار عليه حتى انقرض العصر، كان إجماعاً (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسن بن ثواب، قال: "أذهبُ في التكبير غداةَ يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شىء تذهب؟ قال: بالإجماع: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس" (2) .
وظاهر هذا: أنه جعله (3) إجماعاً، لانتشاره عنهم، ولم يظهر خلافه (4) .
وقد صرح به أبو حفص البرمكي، فيما رأيته بخطه على ظهر الجزء الرابع من شرح مسائل الكوسج، فقال: "قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادي (5) : "أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (226/ب) والتمهيد (3/323) والمسودة ص (335) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/381) وشرح الكوكب المنير (2/253) .
(2) سبق الكلام عن هذه الرواية ص (1060) كما سبق تخريج ما تضمنته من آثار.
(3) في الاصل: (أجعله) .
(4) سبق مناقشة الإجماع في هذه المسألة هامش ص (1061) .
(5) هو: محمد بن عبيد الله بن يزيد بن المنادي، أبو جعفر البغدادي. سمع شجاع بن الوليد وحفص بن غياث وأبا أسامة وغيرهم. وعنه البخاري وأبو داود وعبد الله البغوي وغيرهم. روى عن الإمام أحمد بعض المسائل. قال ابن حجر: "صدوق".
مات سنة (272هـ) وله من العمر مائة سنة وسنة واحدة.
له ترجمة في: تقريب التهذيب (2/188) وطبقات الحنابلة (1/302) .(4/1170)
على هذا المصحف (1) ".
قال أبو حفص: فبان بهذا أن الصحابة إذا ظهر الشىء من بعضهما، ولم يظهر من الباقين خلافهم: أنه عنده إجماع.
وبهذا قال الأثرم (2) من أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه أبو سفيان السرخسى والجرجاني (3) .
وهو أيضاً قول الأكثر من أصحاب [175/أ] الشافعي (4) .
ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: يكون حجة، إلا أنه لا يكون إجماعاً.
حكاه الجرجاني (5) .
ومن أصحاب الشافعي من قال: يكون حجة مقطوعاً بها، ولا يكون إجماعاً (6) ؛ لأن الشافعي قال: "لا ينسب إلى ساكت قول" (7) .
__________
(1) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة ابن المنادي (1/304) .
(2) لم أقف على ترجمته.
(3) وهو قول الأكثر من الحنفية.
انظر: التقرير والتحبير (3/101) وتيسير التحرير (3/246) ، ومسلم الثبوت (2/232) .
(4) وبه قال الشيرازى في التبصرة ص (391) .
وفي جمع الجوامع مع شرحه للمحلي (2/189) : (والصحيح: أنه حجة مطلقاً) ثم نقل عن الرافعي: أنه المشهور عند الأصحاب، قال: وهل هو إجماع؟ فيه وجهان.
(5) في الأصل: (وحكاه الجرجاني) وهي مكررة في الأصل.
(6) نقل ذلك الشيرازي الشافعي في كتابه التبصرة ص (392) عن بعض أصحابه، ولم يُسمِّ أحداً.
وعزاه الآمدي في الإحكام (1/228) إلى أبي هاشم، وهو ما فعله الرازي في المحصول (4/215) .
(7) ذكر الجلال المحلي في شرحه لجمع الجوامع (2/189) أن كونه ليس بحجة ولا =(4/1171)
وقال قوم من المتكلمين: لا يكون حجة (1) .
وحكي عن قوم من المعتزلة (2) والأشعرية (3) .
وحكي ذلك عن داود (4) .
دليلنا:
أن الصحابي إذا قال قولاً، وانتشر في الصحابة، فسكتوا عنه، فلا يخلو من خمسة أحوال:
إما أن [لا] يكونوا قد اجتهدوا.
أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شىء يجب عليهم اعتقاده.
أو أدى إلى خلاف القول الذي ظهر، أو إلى وفاقه.
أو كانوا في تَقِيَّة.
ولا يجوز أن لا يكونوا قد اجتهدوا؛ لأن العادة إذا نزلت بهم نازلة أن
__________
= إجماع منسوب إلى الإمام الشافعي، آخذا من قوله: "لا ينسب إلى ساكت قول".
والمؤلف هنا يعلل بكلام الشافعي هذا للقول بكونه حجة وليس بإجماع، فتدبر.
وقد نقل الرازي في المحصول في الموضع السابق عن الشافعي: أنه ليس بإجماع ولا حجة.
وهو ما فعله الآمدي في الإحكام.
(1) وبه قال الرازي في المحصول، والغزالي في المستصفى (1/191) .
(2) بعدم الحجية قال أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/539) .
(3) لعل المؤلف يقصد القاضي أبا بكر الباقلاني، فإن الشيرازي في التبصرة ص (392) نسب إليه عدم القول بالحجية، حيث قال: (وقال القاضي أبو بكر الأشعري ليس بحجة أصلاً) .
(4) هكذا نقل المؤلف عن داود بصيغة التضعيف.
ولكن الشيرازي في التبصرة ص (392) جزم بنسبة ذلك إليه.
وقد ارتآه ابن حزم في كتابه الإحكام (4/531، 543) .(4/1172)
يرجعوا إلى الظن والاجتهاد.
ولأن هذا يؤدي إلى خروج الحق عن أهل العصر، وهذا لا يجوز؛ لأنهم لا يجتمعون على خطأ، ولأنه يؤدي إلى خلو العصر من قائم لله بحجة. وهذا لا يجوز؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يخلو عصر من الأعصار من قائم لله بحُجَّة) (1) .
وقوله -عليه السلام-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يَضَرُّهم من نَاوأهُم) (2) .
__________
(1) بهذا اللفظ يقول الغماري في تخريج أحاديث اللمع ص (255) : "لا أصل له" أ. هـ.
وقال أبو الخطاب في التمهيد (3/352) : (هذا الحديث غير معروف في أصل) .
وقال الشيرازي في التبصرة ص (376) (لا نعرف هذا الحديث) ولكن رأيت أبا نعيم في كتابه الحلية (1/79) أخرجه من كلام علي - رضي الله عنه - في وصيته لكميل بن زياد، والوصية طويلة، جاء فيها (كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ... ) .
وفي معناه جاء حديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) .
أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة (2/424) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
كما أخرجه الحاكم عنه في كتاب الفتن باب ذكر بعص المجددين في هذه الأمة (4/522) .
وأخرجه البيهقي في المعرفة حكى ذلك السيوطى والمناوي والألباني.
وقد رمز السيوطي له بالصحة في كتابه الجامع الصغير.
ونقل المناوي في كتابه فيض القدير (2/282) عن الزين العراقي: أن سنده صحيح.
وصححه كذلك الشيخ الألباني في كتابه صحيح الجامع الصغير (1/143) رقم الحديث (1870) .
(2) هذا الحديث أخرجه البخاري عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - مرفوعاً، في كتاب الاعتصام، باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا تزال طائفة =(4/1173)
ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فلم يؤد [اجتهادهم] إلى شىء يجب اعتقاده في مدة العصر؛ لأن العادة بخلافه، ولأن طرق الحق ظاهرة، ولأن ذلك يؤدي إلى خطأ الجميع في الاجتهاد، وعدولهم عن طريق الصواب وهذا لا يجوز.
ولأنهم إذا كانوا بهذه الصفة، فليس لهم قول في الحادثة، بل هم بمنزلة العامة فيها، فلا يعتد بقولهم وبخلافهم.
ولا يجوز أن يكونوا في تقية وفزع (1) : لأنه إذا كان الأمر على هذا، فانه لا يحكم بانعقاد الإجماع، وإنما يحكم بذلك إذا سكتوا عمن لا يخالفونه ولا يتقونه.
ولا يجوز أن يكونوا قد اجتهدوا، فأدى [اجتهادهم] إلى خلافه، فلم يظهروه؛ لأن إظهار الحق واجب، والحق في واحد، فيكون ذلك إجماعاً على خطأ؛ لأن القائل عندهم مخطىء، والمقر على الخطأ مخطىء ولا يجوز أن يجتمعوا على خطأ.
__________
= من أمتي ظاهرين على الحق) (9/125) ولفظه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون) . ورقم الحديث في الفتح (7311) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الإمارة، باب: لا تزال طائفة من أمتي ... (3/1523) .
وأخرجه الترمذي عن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعاً في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين (4/504) وقال: (حديث حسن صحيح) .
وأخرجه عنه أبو داود في أول كتاب الفتن (2/413-414) جزء من حديث طويل.
وأخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده (5/278) جزء من حديث طويل أيضأ. كما أخرجه عن أبي أمامة - رضي الله عنه - (5/269) .
(1) في الأصل: (وفرع) بالراء المهملة.(4/1174)
ولا يجوز أن يقال: سكتوا مع اعتقادهم أن كل مجتهد مصيب؛ لأن المسألة مبنية على أن الحق في واحد، وعلى أن العادة جارية بأن من له مذهب، وسمع خلافه، أظهر مذهبه، ودعا إلى قوله، وناظر عليه، وإن كان يعتقد أن كل مجتهد مصيب، كما فعل أبو حنيفة ومالك وغيرهما من الأئمة، وإذا جاز ذلك ثبت أن سكوتهم كان لرضا منهم بقوله [175/ب] .
واحتج المخالف:
بأن سكوتهم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا في مهلة النظر، ولم ينكشف لهم الصواب.
ويحتمل أن يكونوا معتقدين أن كل مجتهد مصيب. وأن الإنكار والمخالفة لا يجب.
ويحتمل أن يكون ذلك لهيبة قائله، كما قال عبد الله بن عباس: (أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وأيم الله لو قدَّم من قدمه الله، وأخر من أخره الله ما عالت الفرائض.
فقال زفر بن أوس (1) : فما منعك (2) أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته) .
وإذا احتمل السكوت ما ذكرناه، لم يجز حمله على الرضا والاتفاق.
والجواب: أن مهلة [النظر] لا تمتد إلى آخر العصر؛ لأن طرق الحق واضحة، ومن نظر فيها من أهل الاجتهاد، فلا بدَّ من أن يصل إلى الحق.
__________
(1) هو زفر بن أوس بن الحدثان، النصري، المدني. روى عن أبي السنابل بن بعكك، وعنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ما روى عنه سواه، كما يقول الذهبي.
يقال: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرف له رواية ولا صحبة.
له ترجمة في: تهذيب التهذيب (3/327) وميزان الاعتدال (2/71) .
(2) في الأصل: (فما يمنعك) والتصويب من سنن البيهقي (6/253) .(4/1175)
وقولهم: يحتمل أن يسكتوا لاعتقادهم أن كل مجتهد مصيب: لا يصح؛ لأنه لم يكن في الصحابة -رضوان الله عنهم- من يعتقد ذلك، ونحن نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى؛ لأنهم لو اعتقدوا ذلك لوجب أن يظهر منهم خلافه، كما نشاهد ذلك في زماننا، وسمعناه من حال من تقدمنا من الاختلاف والمناظرة.
وقولهم: يحتمل أن يكون للهيبة: لا يصح؛ لأن الهيبة لا تمنع من إظهاره لغيره، كما أظهره عبد الله بن عباس.
فصل (1)
ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون القول فتياً أو حكماً.
وقال بعض الشافعية، وهو ابن أبي هريرة (2) : إن كان حكماً، لم يكن إجماعاً، ولم يحتج به؛ لأنا نحضر مجالس الحكام، وهم يحكمون بخلاف ما نعتقده، فلا ننكر عليهم، فإذا كان فتيا، أفتى كل واحد منا بما يعتقده (3) .
دليلنا:
أن الحاكم يستحب له أن يستشير ويعرف ما عند أهل العلم فيما يريد أن يحكم به، فيكون الحكم المسكوت عنه أولى بالإجماع.
__________
(1) هذا الفصل تابع للمسألة التي قبله، فلو جمع المؤلف بينهما لكان أفضل، وهو ما فعله كثير من الأصوليين؛ لأنه قول بالتفصيل في المسألة.
(2) هو: الحسن بن الحسين، أبو علي، ابن أبي هريرة الشافعي. الفقيه القاضي. تفقه علي ابن سريج وأبي إسحاق المروزي. مات سنة (345هـ) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (7/298) ، وشذرات الذهب (2/370) وطبقات الشافعية (3/256) ووفيات الأعيان (1/358) .
(3) نَسَبَ هذا إلى ابن أبى هريرة: الشيرازيُّ في التبصرة ص (392) ، والآمدي في الإحكام (1/228) وجمع الجوامع مع شرح الجلال (2/189) .(4/1176)
ولأن الصحابة لم يكن عادتهم كما ذكر ابن أبي هريرة، وكان من عنده حق أظهره ورد عليه.
وقالت امرأة لعمر بن الخطاب - لما نهى عن المغالاة في المهور-: (أو يعطينا الله، وتمنعنا يا عمر؟) .
وروي: (يا ابن الخطاب، قال الله تعالى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهنَّ قِنْطَاراً، فَلاَ تَأخذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (1)
فقال عمر: امرأة خاصمت (2) عمر فخصمته) (3) .
__________
(1) (20) من سورة النساء.
(2) في الأصل: (خصمت) .
انظر: القاموس مادة (خصم) .
(3) هذا الأثر أخرجه البيهقي في كتاب الصداق، باب لا وقت (لا تقدير) في الصداق قل أو أكثر (7/233) بلفظين:
أحدهما: (قال عمر - رضي الله عنه - خرجت وأنا أريد أن أنهي عن كثرة مهور النساء، حتى قرأت هذه الآية: (وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً)) ثم قال البيهقي بعد ذلك: هذا مرسل جيد.
الثاني: (قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: ألا لاتغالوا في صداق النساء، فإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شىء ساقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال. ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين أكتاب الله أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله تعالى، فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفاً أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه (وَآتَيْتُم إحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فقال عمر - رضي الله عنه -: كل أحد أفقه من عمر مرتين أو ثلاثاً، ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له) .
ثم قال البيهقي بعده: هذا منقطع.
وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه المطالب العالية في كتاب النكاح (2/4-5) ، ونسبه إلى أبى يعلى =(4/1177)
مسألة
إذا قال بعض الصحابة قولاً ولم يظهر في الباقين، ولم يعرف له مخالف، فإن كان القياس يدل عليه: وجب المصير إليه والعمل به (1) .
وإن كان القياس يخالفه، فإن كان مع قول الصحابي قياس أضعف منه كان قول الصحابي مع أضعف القياسين أولى؛ لأنه لا يمتنع أن يكون كل واحد منهما حجة حال الانفراد، ثم يصير حجة [176/أ] بالاجتماع، كاليمين مع الشاهد؛ لأن اليمين حجة ضعيفة في جَنَبَة المدعي؛ لأن مقتضاها أن يكون في جَنَبَة المدعي عليه، ومع هذا: فقد قويت بانضمام الشاهد إليها.
وكذلك كل واحد من الشاهدين ليس بحجة في نفسه، ويصير حجة مع غيره.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم: "ربما كان الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم- في إسناده شىء، فيؤخذ به إذا لم يجيء خلافه أثبت منه، مثل: حديث عمرو بن شعيب (2) ، وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجيء خلافه".
__________
= وذكره الهيثمى في كتابه مجمع الزوائد في كتاب النكاح، باب الصداق (4/283-284) .
ثم قال: (رواه أبو يعلى في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب النكاح، باب: غلاء الصداق (6/180) .
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الصداق (3/195) حديث رقم (598) .
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد: (3/331) المسوَّدة ص: (335) .
(2) في الأصل: (عمرو بن سعيد) ، وهو خطأ؛ لأن المؤلف قد أورد هذه الرواية ص: (1032) ، وذكر اسمه (عمرو بن شعيب) ، وهناك ترجمنا له في الهامش.(4/1178)
وقال -في رواية أبي طالب-: "ليس في النَّبِق (1) حديث صحيح (2) ،
__________
(1) في الأصل: بدون إعجام، والنبق: -بفتح النون وكسر الباء وقد تسكن-: ثمر السدر، أو حمل السدر.
انظر: القاموس (3/284) ، النهاية (4/123) مادة: (نبق) .
(2) هكذا يقول الإمام أحمد، فهو ذهاب منه إلى عدم صحة الأحاديث الواردة في ذلك.
ولكن النهي عن قطع السدر: قد ورد من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي، - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قطع سدرةً صوَّب الله رأسَه في النار) .
أخرجه أبو داود في كتاب، الأدب، باب: في قطع السدر (2/650) .
كما أخرجه النسائي في السير، والضياء في المختارة، كما في الجامع الصغير وشرحه فيض القدير (6/206) ، حديث (8962) .
وأخرجه الطبراني في الأوسط بزيادة (من قطع سدرة من سدر الحرم..) ، قال الهيثمى في مجمع الزوئد (8/115) : (رجاله ثقات) .
وقد رمز له السيوطى بالصحة، ووافقه الألباني في كتابه: صحيح الجامع الصغير (5/341) .
ومدار الحديث: على "سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم".
وقد روى عن أبيه وجده وعبد الله بن حبيش وأبي هريرة، وروى عنه جماعة منهم: ابن عمه عثمان بن أبي سليمان بن جبير وابن أبي ذئب وهشام بن عمارة النوفلي.
قال الحافظ ابن حجر -في التهذيب (6/76) - (روى له أبو داود والنسائي حديثاً واحداً في قطع السدر) .
وسعيد هذا: ذكره ابن حبان في الثقات.
قال الذهبي في الميزان (2/157) : (وسعيد فيه جهالة، فتحرر حاله، فإنه روى أيضاً عن أبي هريرة وجماعة) .
وقال ابن القطان: فيما نقله المناوي في فيض القدير-: (لا يعرف حاله، وإن عرف نسبه وبيته، روى عنه جمع، فالحديث لأجله حسن لا صحيح) . =(4/1179)
.................................
__________
= وقد أخرج أبو داود هذا الحديث في سننه في الموضع السابق عن عثمان بن أبي سليمان عن رجل من ثقيف عن عروة بن الزبير مرسلاً.
وقد قال بعض العلماء: إن الحديث مضطرب، من أجل ذلك.
انظر: عون المعبود (4/530) .
فالخلاصة: أن هذا الحديث صحيح، فسعيد بن محمد بن جبير معروف، وقد وثّقه ابن حبان.
والحديث محمول على سدر الحرم، لما أخرجه الطبراني في الأوسط بزيادة: (من سدر الحرم) ، ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي، والله أعلم.
والنهي عن قطع السدر: قد جاء في عدة أحاديث:
منها: ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الذين يقطعون السدر يصبون في النار على وجوههم صباً) .
قال الهيثمي: (رجاله كلهم ثقات) .
ومنها: ما أخرجه الطبراني -أيضاً- في الأوسط عن علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أخرج فناد في الناس: لعن الله قاطع السدر) .
قال الهيثمي: (فيه إبراهيم بن يزيد الخوري، وهو متروك) .
ومنها: ما أخرجه الطبراني في الكبير عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (من الله لا من رسوله: لعن الله قاطع السدر) .
قال الهيثمى (4/69) : (وفيه يحيى بن الحارث، قال العقيلى: لا يصح حديثه، يعنى هذا الحديث) .
ومنها: ما أخرجه الطبراني في الكبير -أيضاً-: من عمر بن أوس - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من قطع السدر إلا من الزرع بنى الله له بيتاً في النار) . =(4/1180)
ما يعجبنى قطعه؛ لأنه على حال قد جاء فيه كراهة" (1) .
وإن لم يكن مع قول الصحابي قياس: ففيه روايتان:
-إحداهما: أنه حجة، مقدم على، القياس؛ ويجب تقليده.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع من مسائله:
فقال في رواية أبي طالب "في أموال المسلمين إذا أخذها الكفار، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه فهو أحق به، وإن أدركه وقد قُسِم فلا حق له (2) ، كذا قال عمر (3) ، ولو كان القياس كان له. ولكن كذا قال عمر".
__________
= قال الهيثمي: (وفيه الحسن بن عنبسة، ضعفه ابن قانع) .
وقد روى ابن هانىء في المسائل التي رواها عن الإمام أحمد (2/181) قوله: (سألته عن السدرهَ تكون في الدار فتؤذي، أتقطع؟ قال: لا تقطع من أصلها، ولا بأس أن تقطع شاخاتها) .
والشاخات: جمع شاخة، وهي المعتدل من أغصانها.
(1) في الأصل: (كرأيه) .
(2) ونقل أبو داود في مسائله ص (243) عن الإمام أحمد مثل الرواية، ولفظه: ( ... سمعت أحمد يقول: ما أحرزه العدو، ثم أدركه صاحبه قبل أن يقسم فهو أحق به، وإن قسم فلا شىء له. قال أحمد: وزعم قوم أن شىء الرجل له حتى يبيع أو يهدي أو يتصدق، وهو قول متعد، ليس سُنَّة المغازي مثل هذا، كل من قال، قال بغير هذا، عمر وغيره، وأما من قال: أحق هو بالقيمة، وهو قول ضعيف عن مجاهد) .
فقول الإمام أحمد: ليس سنة المغازي مثل هذا يدل على أن ذلك خلاف القياس؛ لأن القياس أن يأخذ متاعه؛ لأنه لم يبعه، ولم يهده، ولم يتصدق به.
(3) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجهاد باب المتاع يصيبه العدو ثم يجده صاحبه (5/195) وفي آخره: (.... وإن جرت عليه سهام المسلمين، فلا سبيل إليه إلا بالقيمة) .(4/1181)
وكذلك قال في رواية المروذي: "أكره شراء أرض الخراج. فقيل له: كيف أشتري في السواد ولا أبيع؟! فقال: الشراء خلاف البيع. فقيل له: كيف أشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس كما تقول، وليس هو قياساً، وإنما هو استحسان.
واحتج: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رخَّصُوا في شراء المصاحف، وكَرِهُوا بيعَها" (1) .
وكذلك نقل أبو الحارث عنه: "ترك الصلاة بين التراويح، واحتج: بما روي عن عبادة وأبي الدرداء. فقيل له: فعن سعيد والحسن: أنهما كانا يريان الصلاة بين التراويح (2) . فقال: أقول لك: أصحاب النبي، وتقول: التابعون".
وكذلك نقل أبو طالب عنه في رجل يصوم شهرين من كفارة، فتسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم، ثم علم: "يقضي يوماً مكانه، وإن أكل ناسياً بالنهار، فليس عليه شىء.
فقيل: فإذا لم يعلم، فهو كالناسي؟.
__________
(1) أخرج عبد الرزاق في مصنفه في كتاب البيوع، باب بيع المصاحف (8/112) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في بيع المصاحف: اشترها ولا تبعها.
كما أخرج عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مثل ذلك.
وأخرج البيهقي في سننه في كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع المصاحف (6/16) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (قال: اشتر المصحف ولا تبعه) .
كما أخرج عن سعيد بن جبير مثله.
وقد أخرج عبد الرزاق بسنده في الموضع السابق ص (111-112) عن شريح ومسروق وعبد الله بن يزيد الخطمي وعلقمة وسعيد بن جبير وسالم بن عبد الله، كلهم ذهب إلى عدم جواز بيع المصاحف.
كما أخرج عن الحسن والشعبى أنهما رخَّصا في بيع المصاحف.
وكذلك أخرج البيهقي عنهما في المرجع السابق (6/17) .
(2) سبق تخرج هذا الأثر. ص (1153) .(4/1182)
فقال: كذا في القياس، ولكن عمر (1) أكل في آخر النهار يظن أنه ليل، قال: اقض يوماً مكانه" (2) .
وكذلك نقل أبو طالب عنه: "لا يجوز هبة المرأة، حتى يأتي عليها في بيت زوجها سنة أو تلد، مثل قول عمر" (3) .
وهذا كتب (4) في مسائله.
وفي رواية أخرى: القياس مقدم عليه.
أومأ إليه -رحمه الله- في مواضع من مسائله فقال -في رواية أبي داود-: "ليس أحد إلا آخذ برأيه وأترك ما خلا النبى" (5) .
وكذلك نقل المروذي عنه: "ابن عمر يقول: على قاذف أم الولد الحد (6) .
__________
(1) في الأصل: (عمن) وهو خطأ، والتصويب من التمهيد (3/333) ومن مرجع تخريج الأثر الآتي.
(2) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصيام، باب ما قالوا في الرجل يرى أن الشمس قد غربت (3/23-24) ، ولفظه:
( ... عن علي بن حنظلة عن أبيه قال: شهدت عمر بن الخطاب في رمضان وقرب إليه شراب، فشرب بعض القوم، وهم يرون أن الشمس قد غربت، ثم ارتقى المؤذن فقال: يا أمير المؤمنين والله للشمس طالعة لم تغرب، فقال عمر: منعنا الله من شَرك مرتين أو ثلاثاً، يا هؤلاء من كان أفطر فليصم يوماً مكان يوم، ومن لم يكن أفطر فليتم حتى تغرب الشمس) .
(3) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن حزم بعدة طرق في كتابه المحلى كتاب الحجر (9/224) مسألة رقم (1396) .
(4) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: (وهذا كثير ... ) .
(5) هذه الرواية ذكرها أبو داود في مسائله ص (276) .
(6) هذا الأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في باب الفرية على أم الولد (7/439) .(4/1183)
وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هى أمة، أحكامها أحكام الإماء".
وكذلك نقل الميموني: و [قد] قيل: إن قوماً يحتجون في النخل بفعل أبي بكر وقوله جربته. فقال: "هذا فعل ورأي من أبي بكر [176/ب] ، ليس هذا عن النبي".
وهذا صريح من كلامه في أن أقواله ليست بحجة.
وكذلك نقل مهنَّا عنه فيمن ركب دابة، فأصابت إنساناً: "فعلى الراكب الضمان. فقيل له: عليٌّ يقول: إذا قال: الطريقَ، فأسْمَعَ، فلا ضمان (1) . فقال: أرأيت إذا قال: الطريقَ، فكان الذي يقال له أصم؟ ".
وكذلك نقل الميموني عنه و [قد] سأله: يمسح على القلنسوة؟ فقال ليس فيه عن النبي شىء، وهو قول أبي موسى (2) ، وأنا أتوقاه" (3) .
وكذلك نقل ابن القاسم عنه: "يروى عن ابن عمر من غير وجه -يعني في حد البلوغ- وهو صحيح، ولكن لا أرى هذا يستوي في الغلمان، قد يكون منهم الطويل، وبعضهم أكثر من بعض، ولا ينضبط، والحد عندي في البلوغ الثلاثة".
__________
(1) لم أجد هذا الأثر بهذا النص، وإنما وجدت ما أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه (9/259) في كتاب الديات، باب السائق والقائد ما عليه؟ بسنده إلى علي - رضي الله عنه - أنه كان يُضَمِّن القائد والسائق والراكب.
كما نقل عنه بسند آخر أنه قال: إذا كان الطريق واسعاً فلا ضمان عليه.
(2) يعني: أبا موسى الأشعري وهذا القول المنسوب إليه هنا، ذكره ابن حزم في المحلى في كتاب الطهارة. (8/84) بقوله: (وعن أبي موسى الأشعري: أنه خرج من حدث فمسح على خفيه وقلنسوته) .
والقول بالمسح على القلنسوة مروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كما في المصنف لعبد الرزاق كتاب الطهارة، باب المسح على القلنسوة (1/190) .
(3) ونقل ابن هانىء هذا في مسائله (1/19) .(4/1184)
واختلف أصحاب أبي حنيفة، فذهب البَرْدَعى (1) والرازي (2) والجرجاني: إلى أنه حجة، يترك له القياس.
وحكى الرازي (3) عن الكرخى أنه قال: "أما أنا فلا يعجبني هذا المذهب"، وكان لا يرى قول الصحابي فيما يسوغ فيه الاجتهاد حجة.
واختلف أصحاب (4) الشافعي، فقال في القديم: هو حجة.
وقال في الجديد: ليس بحجة (5) .
وبه قال عامة المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (6) .
فالدلالة على أنه حجة، يُترك له القياس:
قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، فأخبر أن
__________
(1) هو: أحمد بن الحسين، أبو سعيد، البردعي، نسبة إلى بردعة وهى بلدة من أقصى بلاد أذربيجان، الحنفي. أخذ العلم عن أبي علي الدقَّاق وموسى بن نصر، أخذ عنه أبو الحسن الكرخي وأبو طاهر الدباس وغيرهما، درَّس ببغداد مدة طويلة. خرج إلى الحج فقتل في موقعه القرامطة مع الحجاج سنة (317هـ) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (4/99) والجواهر المضيَّة (1/66) ، والفوائد البهية ص (19) والطبقات السنية (1/394) واللباب (1/135) والنجوم الزاهرة (3/226) .
وما ذكره المؤلف هنا عن البَرْدَعي نسبه إليه الرازي في كتابه الفصول في أصول الفقه الورقة (236/أ) .
(2) ما نقله المؤلف عنه هنا هو ما صرح به الرازي في كتابه الفصول في أصول الفقه الورقة (236أ) .
(3) في كتابه في أصول الفقه الورقة (235/ب-236/أ) .
(4) كلمة (أصحاب) هنا لا معنى لها؛ لأن الآتي بعد ذلك هو قول الشافعي، لا أصحاب الشافعي، فلو عبر بقوله: (واختلف قول الشافعي) لكان أولى.
(5) حكى القولين الشيرازي في كتابه التبصرة ص (395) .
(6) حكى ذلك أيضاً الآمدي في كتابه الإحكام (4/130) .(4/1185)
الاقتداء بهم.
وقوله عليه السلام: (اقتدوا باللَّذَين من بعدي، أبي بكر وعمر) .
وقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدِين من بعدي) (1) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
فإن قيل: هذا محمول على الاقتداء بهم فيما يروونه عن النبى - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: هذا عام في الرواية والفُتيا.
وعلى أن هذا يُسقط فائدة التخصيص بالصحابة؛ لأن رواية التابعين ومن بعدهم يجب الاقتداء بها.
فإن قيل: المراد به العامة دون أهل العلم.
بدليل: أنه خَيَّر في الاقتداء بأيهم شاؤا. وهذا حكم العامة إذا اختلفت أقاويلهم، فأما العالم فإنه لا يخير في هذا الموضع.
قيل: قوله: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) المراد حال الانفراد من كل واحد منهم بالقول، وليس المراد: (بأيهم اقتديتم) إذا اختلفوا في الحادثة، ويكون فائدة ذلك: أن الاقتداء لا يتخصص بقول بعضهم دون بعض، فزال (2) الإشكال، فإنه ربما ظن ظان أن الاقتداء يجب بقول الأئمة دون غيرهم، فلما قال: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) دل على أن كل واحد منهم إذا انفرد كان قوله حجة.
وأيضاً: من جاز أن يقدم قوله على القياس الصحيح إذا كان معه قياس ضعيف جاز أن يقدم عليه وإن لم يكن معه [177/أ] ، قياس.
أصله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) في الأصل: (يزيل) .
(3) يعنى: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - مقدم على القياس، فكذلك قول الصحابي.(4/1186)
وأيضاً: فإن قول الصحابي لا يخلو إما أن يكون توقيفاً أو اجتهاداً، فإن كان توقيفاً وجب اتباعه.
وإن كان اجتهاداً فاجتهاده أولى من اجتهاد غيره؛ لأنه شاهد الرسول وسمع كلامه، والسامع أعرف بالمقاصد ومعاني الكلام.
ولأنه منصوص عليه بقوله: (عليكم بسنتي) .
وإذا كان كذلك كان أولى من غيره كخبر الواحد مع القياس.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون توقيفاً؛ إذ لو كان توقيفاً لكان يظهر على ممر الأيام واختلاف الأحوال، ولكان لا يدعه من أن ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ويرويه عنه، ولكان يجب علينا اتباعه على أنه توقيف؛ لأنه إذا لم يخبر به عنه، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب علينا فرضُه.
وأما الاجتهاد فلا يوجب اتباعه؛ لأجل أن مشاهدةَ الرسول وسماعَه لا يوجب عصمته من الخطأ في الاجتهاد، وإنما يحصل حسنُ الظن وكونُه أقربَ إلى الصواب، وذلك لا يوجب اتباعه، كالعالم لا يجوز له اتباع من هو أعلم منه، وإن كان اجتهاد الأعلم أقربَ إلى الصواب.
ولأن هذا يقتضي أن يكون قول الصحابي إذا طالت صحبته أولى من غيره، وكبارُ الصحابة أولى من صغارهم.
ولأن هذا يصح إذا علم أنه قاس على ما سمعه واضطر إلى قصده، فإنه ليس كل سامع للكلام يجب أن يضطر إلى قصد المتكلم، وإنما هو على حسب قيام دلالة الحال.
قيل: أما قولكم: إنه لو كان توقيفاً لظهر ونقل، فلا يصح لوجهين:
أحدهما: أنه لا يلزم الصحابي الروايةُ، بل هو مخير في ذكرها وتركها، وإنما يتعين عليه الفتيا، فهو كالمفتي مخير بين أن يذكر الدليل أو يذكر الحكم.(4/1187)
والثاني: أنه يحتمل أن لا يرويه تورعاً؛ لأنه لم يقم على حفظ اللفظ فأفتى بمعناه.
وقولهم: إنه لا يجب علينا اتباعه إذا لم يخبر به، لا يصح أيضاً؛ لأن الصحابي إذا قال قولاً مخالفاً للقياس، فالظاهر أنه لا يقوله إلا عن توقيف، فتكون فتياه أمارة على الخبر عن النبي فوجب العمل به، كما وجب العمل بخبر الواحد، وإن لم يقطع على صدقه؛ لأن الظاهر صدق الراوي.
وقولهم: إن مشاهدة الرسول لا توجب عصمته لعمري (1) ، إلا أنه يوجب له مَزِيَّة من الوجه الذي ذكرنا، فوجب تقديمه، كما وجب تقديم خبر الواحد على القياس وإن لم يكن مقطوعاً به.
وقولهم: إن العالم لا يجب عليه اتباع من هو أعلم منه، وكذلك صغار الصحابة لا يلزمهم اتباع أكابرهم، فلا يصح، لأن العالِمَيْن تساويا في طريق الاجتهاد. وكذلك الصحابة تساووا في مشاهدة التنزيل وحضور التأويل والنص عليهم، فمزيَّة أحدهما (2) [177/ب] على الآخر في الحكم المشترك لا توجب التقديم، كالبينتين إذا تعارضتا وأحدهما أعدل وأدين وأزهد، فإنه لا يرجح بها لمساواة الأخرى لها في العدالة، كذلك ها هنا.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (3) وقد وجد التنازع فوجب الرد إلى الكتاب والسنة.
__________
(1) هكذا في الأصل، والعبارة وردت في الاعتراض: (.... من الخطأ في الاجتهاد) .
(2) هنا وقع تقديم وتأخير لبعض الصفحات من فِعْل من جَلَّد المخطوطة، وقد رتبناها على الوضع الصحيح، ورقمناها كذلك.
(3) آية (59) من سورة النساء.(4/1188)
والجواب: أن معناه إلى كتاب الله وسنة رسوله، وفي سنة رسول الله ما يقتضي الاقتداء بالصحابي من الوجه الذي بينَّا.
واحتج بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى الأبْصَارِ) (1) .
والجواب: أن الرجوع إلى قول الصحابي -وفي المعلوم أن اجتهاده أولى من اجتهادنا- ضرب من الاعتبار والنظر.
واحتج: بما جاء في القرآن من ذم التقليد واتباع الأهواء في الكفر والأمر المذموم.
و [الجواب: أن] هذا محمول على غير مسألتنا.
واحتج: بأنه لو كان حجة لم يكن لأهل عصره خلافُه.
وقد روي أن أبا سلمة بن عبد الرحمن خالف ابن عباس في عدة المتوفى عنها، وأقره ابن عباس على ذلك (2) .
وكذلك أصحاب عبد الله (3) قالوا: (ما كان يمنعنا أن نردَّ على ابن عباس إلا أنَّا على طعامه) ، فدل هذا على جواز مخالفته.
والجواب عنه: ما تقدم في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة هل يعتد بخلافه؟ (4) .
وبينَّا أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن (5) .
وأن علياً نقض حكم شريح في ابني عم (6) .
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
(2) سبق تخريج هذا (1165) .
(3) يعنى: ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) تقدم ص (1152) .
(5) تقدم ص (1168) .
(6) في الأصل: (ابن عم) .
وقد سبق تخريج هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - ص- (1167) .(4/1189)
على أن هذا مذهب لأبي سلمة ولأصحاب عبد الله، والخلاف معهم كالخلاف معكم.
واحتج: بأنه عَلَم (1) على الحكم، فوجب أن يكون مقدماً على قول الصحابي قياساً على عموم القرآن ونص خبر الواحد.
والجواب: أنا نخص به عموم القرآن، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (2) .
وأما نص الخبر فإنما قدم عليه؛ لأن مَزِيَّة الصحابة حصلت بمشاهدة النبي، فلا يجوز أن تقدم عليه، وليس كذلك القياس؛ لأن طريقه الاجتهاد وغلبة الظن.
وكذلك قول الصحابة ومعه مَزِيَّة من الوجه الذي بينَّا، فكان أولى.
وعلى أنه ليس إذا لم يقدم على الخبر لم يكن حجة في نفسه، كالقياس لا يقدم على الخبر، وهو حجة.
واحتج: بأن الصحابي يجوز عليه الخطأ في الاجتهاد، والإقرار عليه، فوجب أن لا يكون قوله حجة. أصله: قول كل واحد من أهل العلم.
والجواب: أن تجويز الخطأ لا يمنع الاحتجاج به، كخبر الواحد والقياس.
ولأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، وهذا بخلافه.
واحتج: بأن الصحابي وكل عالم من العلماء يشتركان في آلة الاجتهاد، فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر. أصله: العالمان من [178/أ] ، غير الصحابة.
والجواب: أنهما متساويان في الاجتهاد، وكذلك الصحابي مع غيره؛ لأن له مزية من الوجه الذي ذكرنا.
واحتج: بأن الصحابي لم يدعُ الناس إلى تقليده فيما يقول: ألا ترى إلى ما روي عن عمر: أنه سئل عن مسألة، فأجاب فيها، فقال له رجل: أصبت
__________
(1) أي أن القياس (العلة) أمارة على الحكم.
(2) (2/559) .(4/1190)
الحق، أو كلاما نحو هذا، فقال عمر: (والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ، ولكن لم آل (1) عن الحق) (2) .
وقال زيد بن ثابت في قضية قضى بها في الجد: (ليس رأيي حقاً على المسلمين) (3) أو كلاماً نحو هذا.
والجواب: أن هذا لا يمنع تقليده -كالعامى-، وإن لم يدعه الصحابي إلى قوله.
وعلى أن عبد الرحمن بن عوف دعا عثمان إلى متابعة سنة الإمامين، فقال له -لما عرض البيعة عليه-: (على أن يحكم بكتاب الله وسنة رسول الله وسنة الخليفتين بعده) (4) ، فقبل ذلك بمحضر الصحابة من غير خلاف.
والذي روي عن الصحابة من النهي عن التقليد: فهو محمول على النهي عن التقليد فيما كانوا يختلفون فيه، ولم يثبت عنهم أنهم منعوا تقليد الواحد منهم فيما قاله.
واحتج: بأنه لا يجوز للانسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة يختص بها لا يشاركه فيها أحد. مثل: النبي الذي اختص بالعصمة. وكذلك الأمة اختصت بالعصمة.
والعالم مع العامي: اختص بآلة الاجتهاد ومعرفة الطريق.
__________
(1) أي: لم أقصر.
(2) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما وجدت: أن عمر قال: (إني قضيت في الجد قضيّات مختلفات، لم آل فيها عن الحق) أخرجه عبد الرَّزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: فرض الجد (10/262) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: التشديد في الكلام في مسألة الجد مع الأخوة.. (6/245) .
(3) لم أجده.
(4) ذكر هذا في قصة مبايعة عثمان - رضي الله عنه - الطبري في تأريخه (4/248) .(4/1191)
فأما إذا لم يكن لأحدهما على الآخر مزية، لم يجز للآخر اتباعه.
والجواب: أنا قد بينَّا مَزِيَّة الصحابي على غيره.
فإن قيل: فيجب إذا استدل الصحابي بدلالة على حكم أن لا يستدل عليه بدلالة أخرى.
قيل: إن اتفقوا على أن لا دليل لله تعالى غيره، لم يجز أن يستدل عليه بدلالة أخرى، وإن لم يتفقوا على ذلك جاز؛ لأنه يجوز أن يخفى عليه دليل؛ لأن عبادتهم القول بحكم الله تعالى، فأما أن يعلموا كلَّ دليل لله تعالى في ذلك أو يظهروه، فإن ذلك غير واجب، وكان تعلق علمهم بالحق ببعض الأدلة يسقط عنهم فرض الاستدلال بكل دليل.
ومن الناس من قال: لا يجوز أن يستدل عليه بدلالة أخرى؛ لأنه (1) دليل الصحابة، فمن طلب دليلاً آخر عليه، فهو كمن طلب المقايسة في مسائل الإجماع وأخبار الآحاد مما هو مقطوع به من العقول، وهذا غير ممتنع على وجه من الترجيح من غير أن يقصد إلى بيان الحكم به بعد ثبوته، لما بينَّا.
فإن قيل: فما تقولون إذا ثبت الحكم لعلة، فهل يجوز للصحابة تعليله بعلة أخرى؟
قيل: يجوز ذلك؛ لأنه يجوز تعليل الأصل بعلتين، كما يستدل على شىء بدليلين، وهذا في علتين إذا كان [178/ب] موجبهما واحداً، فأما إذا تنافت فلا يجوز ذلك.
ومن الناس من منع ذلك؛ لأن تعليله بأخرى يبطل فائدة تعليق الحكم بالأولى (2) ، فلا يجوز، كما لا يجوز ذلك في العقليات، وأنه لا يكون حكم (3) العقل معللاً بعلتين.
__________
(1) في الأصل: (لأن) .
(2) في الأصل: (الأول) .
(3) في الأصل: (الحكم) .(4/1192)
إذ قال الصحابي قولاً مخالفاً للقياس (1) .
كما روي عن عمر: (أنه قضى في عين الدابة بربع قيمتها) (2) .
وروي عنه فيمن فقأ عين نفسه: (تحمله عاقلته له) (3) .
وروي عن عثمان: (أنه قضى فيمن ضرب رجلاً فأحدث: بثلث الدية) (4) .
وعن ابن عباس (فيمن نذر ذبح ولده: شاة) (5) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/331) والمسوَّدة ص (338) .
(2) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب عين الدابة (10/76-78) عن عمر - رضي الله عنه - بعدة طرق.
كما أخرج مثله عن علي - رضي الله عنه -.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب في عين الدابة (4/275-276) عن عمر - رضي الله عنه - بعدة طرق.
وأخرجه ابن حزم في كتابه الإيصال ملحق لكتاب المحلى، باب ديات الجراحة والأعضاء (12/153) مسألة رقم (2035) .
(3) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب الرجل يصيب نفسه (9/412) عن عمر - رضي الله عنه -.
(4) هذا الأثر عن عثمان - رضي الله عنه - أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب هل يضمن الرجل من عنت في منزله (10/24-25) .
وأخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الديات، باب الرجل يضرب الرجل حتى يحدث (9/338) .
وأخرجه ابن حزم في كتاب الإيصال، ملحق بكتاب المحلى في باب ديات الجراحة والأعضاء (12/208) مسألة رقم (2071) .
(5) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر لينحرنَّ نفسه (8/460) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الأيمان، باب ما جاء فيمن نذر أن يذبح ابنه أو نفسه (10/73) .
وانظر: المحلى لابن حزم، كتاب النذور (8/354) مسألة رقم (1114) .(4/1193)
وقول عائشة: (أبلغى زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله) (1) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه الإمام أحمد في مسنده، كما ذكر ذلك صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطنى (3/53) .
وأخرجه الدارقطنى في سننه في كتاب البيوع (3/53) رقم (212) بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته بستمائة درهم نقداً، فقالت لها عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، إن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إلا أن يتوب.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب البيوع، باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد (8/184-185) بطريقين:
الأولى: معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: (يا أم المؤمنين كانت لي جارية فبعتها على زيد ... وفي آخره قالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذتُ رأسَ مالي ورددتُ عليه الفضلَ؟
قالت: "مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَة مِن ربهِ فَانْتَهَى" أو قالت: (إِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أمْوَالِكُمْ") .
الثانية: عن الثوري عن أبي إسحاق عن امرأته قالت: (سمعت امرأة أبي السفر تقول: سألت عائشة، فقلتُ: بعتُ زيدَ بن أرقم جارية ... ) .
وأخرجه البيهقي في كتاب البيوع، باب الرجل يبيع الشىء إلى أجل، ثم يشتريه (5/330-331) بعدة طرق:
الأولى: بسنده إلى شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت امرأتي على عائشة وأم ولد لزيد بن أرقم، ثم عقَّب عليه بقوله: (كذا جاء به شعبة عن طريق الإرسال)
الثانية: بسنده إلى أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن العالية، قالت: (كنت قاعدة عند عائشة -رضي الله عنها- فأتتها أم حبيبة، فقالت لها: يا أم المؤمنين..)
الثالثة: بسنده إلى سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن امرأته العالية: (أن امرأة أبي السفر باعت جارية ... ) .
الرابعة: بسنده إلى يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع، قالت: (خرجت أنا وأم حبيبة إلى مكة، فدخلنا على عائشة) ، ثم ذكرت الخبر. =(4/1194)
.................................
__________
= وأخرجه ابن حزم في كتابه المُحلَّى في كتاب البيوع، (9/688-693) مسألة رقم (1559) .
وقد ذهب ابن حزم إلى أن هذا الأثر كذب وموضوع، ودلل على ذلك بأربعة أمور:
الأول: أن امرأة أبي إسحاق مجهولة الحال، فلم يرو عنها إلا زوجها وابنها يونس، ويونس ضعيف جداً.
الثاني: أنه مدلس، وأن امرأة أبي إسحاق لم تسمعه من أم المؤمنين، وإنما سمعته من امرأة أبي السفر.
الثالث: أن عائشة -رضي الله عنها- لا يمكن أن تقول بإبطال جهاد زيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب، فقد شهد الغزوات كلها ما عدا بدراً وأحداً، وأنفق قبل الفتح وقاتل، وشهد بيعة الرضوان تحت الشجرة، وشهد الله له بالصدق والجنة.
الرابع: أن زيداً لو ارتكب الربا الصريح، وهو لا يعلم بحرمته، فإن له أجراً على اجتهاده، غير آثم. شأنه في ذلك شأن ابن عباس القائل بجواز ربا الصرف.
ثم قال: وعلى فرض صحته، فهو مردود أيضاً، وذكر ستة أمور.
وكلام ابن حزم غير مسلَّم:
فامرأة أبي إسحاق واسمها: العالية بنت أنفع بن شراحيل ليست مجهولة الحال.
قال ابن الجوزي: هي امرأة معروفة جليلة القدر. ذكرها ابن سعد في الطبقات فقالت العالية بنت أنفع بن شراحيل، امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة.
انظر: التعليق المغني على سننٍ الدارقطني (3/53) .
وابنها يونس ليس ضعيفاً جداً، كما يقول ابن حزم.
فقد وثقه ابن معين.
وقال النسائي: (لا بأس به)
وقال الذهبي: (قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مسعر ولا شعبة) .
وقال ابن حجر: (صدوق، يهم قليلاً) .
انظر: تقريب التهذيب (2/384) رقم (471) وميزان الاعتدال (4/482-483) رقم (9914) .
ودعوى التدليس ليست بصحيحة، فقد ثبت سماع امرأة أبي إسحاق من عائشة =(4/1195)
فإنما يحمل ذلك على أنه قاله على جهة التوقيف (1) .
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2) .
وقال أصحاب الشافعي: لا يحمل على التوقيف، وإنما هو اجتهاده (3) .
دليلنا:
أن هذه الأشياء لما لم يكن لها وجه في القياس، وقد أثبتها الصحابي، وكان طريقها الاتفاق أو التوقيف علمنا أنه لم يثبت ذلك الأمر إلا من جهة التوقيف.
فإن قيل: يحتمل أن يكون ذهب في إثباتها إلى قياس فاسد.
قيل: يجب أن يحسن الظن فيه، ويحمل قوله على الصواب، لما قد ثبت له من المزية وهو مشاهدته للتنزيل، وحضور التأويل، ونص النبي عليه.
فإن قيل: لو وجب أن يحمل ذلك على التوقيف، لوجب إذا خالفه صحابي آخر، وقال قولاً يطابق القياس أن لا يعتدَّ بخلافه.
قيل: هكذا نقول؛ لأنه إذا طابق قوله القياس احتمل أن يكون توقيفاً، واحتمل أن يكون قياساً، وقول من خالف القياس ليس له وجه إلا التوقيف
__________
= كما تقدم ذكره.
وعليه فإسناده جيد، كما قال صاحب التنقيح.
انظر: التعليق المغني على سنن الدارقطنى، الموضع السابق.
أما الرد الثالث والرابع، فهو مما تختلف فيه أنظار العلماء، والمسألة خلافية، كما بينها المؤلف. والله أعلم.
(1) قال في المسوَّدة ص (338) : (ويجعل في حكم التوقيف المرفوع، بحيث يعمل به، وإن خالفه قوله صحابي آخر، نصَّ عليه في مواضع) .
(2) انظر في ذلك: أصول السرخسى (2/105) ، وكشف الأسرار (2/217) ، وفواتح الرحموت (2/187) .
(3) انظر: التبصرة للشيرازي ص (369) .(4/1196)
فلا يعارض التوقيف بقول صحابي.
فإن قيل: لو وجب أن يحمل قوله على التوقيف، لوجب إذا عارضه خبر متصل عن النبي مخالف له في الحكم أن يتعارضا، كما يتعارض الخبران المتصلان، فلا يقدم المتصل عليه.
قيل: إنما قلنا: إن قول الصحابي توقيف من طريق غلبة الظن والظاهر، والمتصل أقوى في الظن في الاتصال، فجاز تقديمه عليه، كما قلنا في الخبرين إذا تعارضا وأحدهما أكثر رواة: إنه يقدم؛ لأنه يغلب على الظن صحته.
وقد يخرج على هذا إذا قال بعض الصحابة بظاهر آية، وقال الآخر بخلاف ظاهرها، فقول التارك للظاهر أولى إذا لم يعين لنا أصلاً قاس عليه؛ لعلمنا أنه إنما تركه لتوقيف.
ويحتمل أن يقدم قول من معه الظاهر؛ لأن جَنْبتَه أقوى [179/أ] .(4/1197)
مسألة
[إجماع الأئمة الأربعة]
لا يعتدُّ بإجماع الأئمة الأربعة إذا خالفهم غيرهم من الصحابة (1) في إحدى الروايتين.
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي عنه قال: "إذا اختلفت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم إلا على اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة" (2) .
وظاهر هذا أنه لم يقدم قول الأئمة على غيرهم من الصحابة (3) .
وهو اختيار الجرجاني.
وفيه رواية أخرى يعتد به (4) .
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل أحمد - رضي الله عنه - عمن زعم أنه لا يجوز أن يخرج من قول الخلفاء إلى من بعدهم من الصحابة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/280) ، والمسوَّدة ص (340) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/365) ، وشرح الكوكب المنير (2/239) .
(2) هذه الرواية موجودة في التمهيد الموضع السابق.
(3) وهو قول الجمهور، كما قال ابن بدران في شرح الروضة (1/365) .
وقال في المسودة ص (340) : (وبه قال أكثر الفقهاء)
وقال في التمهيد: (وبه قال أكثرهم) .
(4) وبها قال ابن البنا الحنبلى، كما في شرح الكوكب المنير (2/239) ونزهة الخاطر العاطر (1/366) .(4/1198)
قال: فناظرني في بعض ما قال الصحابة، ثم رأيته قد قَنِع بهذا القول، وقال: "ما أبعد هذا القول أن يكون كذلك" (1) .
وهو اختيار أبي حازم (2) من أصحاب أبي حنيفة، و [لأجل هذا المذهب] (3) لم يعتد (4) بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام (5) ، وحكم برد الأموال التي حصلت في بيت مال المعتضد، وجعل ذوي الأرحام أولى من بيت المال، فقبل ذلك منه المعتضد (6) ، وأمر بردها على ذوي الأرحام، وكتب
__________
(1) هناك رواية ثالثة: أنه حجة لا إجماع. انظر: المسودة ص (340) .
وقال ابن بدران: (إن هذا [يعنى أنه حجة لا إجماع] القول الحق) .
انظر: نزهة الخاطر العاطر (1/366) .
(2) هو: القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز، أبو حازم بالحاء المهملة، أو بالخاء المعجمة، كان ورعاً عالماً بمذهب أبي حنيفة. وَلي قضاء الشام والكوفة والكرخ من بغداد.
له كتاب المحاضر والسجلات، وكتاب أدب القاضي، وكتاب الفرائض. توفي سنة (292) هـ.
له ترجمة في: تاج التراجم ص (33) ، والجواهر المضيَّة (1/296) ، وشذرات الذهب (1/210) ، وطبقات الفقهاء ص (141) ، والفوائد البهية ص (86) .
(3) الزيادة من كتاب أصول الجصاص الورقة (126/ب) .
(4) أي: أبو حازم.
(5) زياد بن ثابت - رضي الله عنه - لا يرى توريث ذوي الأرحام، أخرج ذلك عنها سعيد بن منصور في سننه في باب العمة والخالة (1/92) ولفظه: ( ... قال [أي زيد بن ثابت] : لا يرث ابن أخت، ولا ابنة أخ، ولا بنت عم، ولا خال، ولا عمة، ولا خالة) .
(6) هو: أحمد بن طلحة بن المتوكل، أبو العباس، المعتضد بالله. أحد ابني العباس. كان وافر العقل شجاعاً. سكنت الفتنة في أيامه، وانتصر العدل، وعمَّ الرخاء. مات سنة (289هـ) .
له ترجمة في: شذرات الذهب (2/199) وفوات الوفيات (1/83) .(4/1199)
بذلك إلى الآفاق (1) .
وجه الرواية الأوَّلة:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، فجعل الاقتداء بكل واحد منهم هدى، كما أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده.
فإن قيل: يحمل هذا على ما إذا قال كل واحد منهم قولاً، ولم يخالفه غيره فيه.
قيل: إذا لم يخالفه (2) غيره صار إجماعاً منهم، والخبر يقتضي الأخذ بقول الواحد منهم.
فإن قيل: نحمله إذا اختلفوا، فإنه يجوز الاقتداء بكل واحد منهم.
قيل: إذا كان هناك اختلاف، فالاقتداء يحصل بالدليل؛ لأنه يجتهد في أحد القولين من طريق الدليل.
ولأن الإمامة لا تأثير لها في تقديم القول، كما لا تأثير لكون الواحد من الأمراء أو رسله.
ولأن الأربعة يجوز الخطأ في قولهم، كما يجوز في حق كل أربعة.
__________
(1) ذكر هذه القصة الجصاص في أصوله الورقة (26/أ-ب) عن بعض شيوخه
ممن كان يجالس القاضى أبا حازم؛ ويأخذ عنه.
ثم قال بعد ذلك (وبلغني أن أبا سعيد البَرْدَعي كان أنكر ذلك عليه، وقال هذا فيه خلاف بين الصحابة، فقال أبو حازم: لا أعدُّ زيداً خلافاً على الخلفاء الأربعة، وإذا لم أعده خلافاً فقد حكمت برد هذا المال إلى ذوي الأرحام، فقد نفذ قضائي به، ولا يجوز لأحد أن يتعقبه بالفسخ) .
كما ذكر هذه القصة صاحب تيسير التحرير (3/242) .
(2) في الأصل: (يخالف) .(4/1200)
واحتج بعضهم:
بأن القياس العقلي ينفي الإجماع بدلالة أنه لا فرق بين هذه الأمة ومن تقدَّم من الأمم، وإنما ترك ذلك للسمع، وهو قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (1) والآية ليست لجميع المؤمنين.
وقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (2) وهذا الاسم لا يختص الأئمة.
واحتج المخالف:
بما روي [179/ب] (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (عليكم بسنتى وسنة الخلفاء من بعدي) فأمر بذلك، والأمر على الوجوب.
والجواب: أنه يعارضه قوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) .
ولأنَّا نحمل (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي) إذا لم يظهر خلافهم في الصحابة.
ونحمل قوله (وسنة الخلفاء) أن يريد به الفتيا، وخصَّهم بالذكر؛ لأنهم أعلم من غيرهم في وقتهم وزمانهم.
__________
(1) آية (115) من سورة النساء.
(2) آية (110) آل عمر ان.
(3) وقع هنا تقديم وتأخير في بعض الصفحات فرتبناها على الوجه الصحيح.(4/1201)
فصل
فأما قول أحد الأئمة فليس بحجة إذا خالفه غيره (1) رواية واحدة (2) .
نص عليه -رحمه الله- في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأل أحمد -رحمه الله- عمن قال: "ليس لنا أن نخرج من قول أبي بكر إلى قول عمر، ولا من قول عمر إلى قول عثمان، ولا من قول عثمان إلى قول علي، فتعجبَ من ذلك، وقلتُ له: إننى أنكرتُ عليه، وقلتُ له: إن كان قولهم سنة فبأي قول أخذتَ أو اخترتَ من أقاويلهم فلك (3) ذلك، فأعجبه ذلك".
وبهذا قالت الجماعة (4) .
وحكي عن بعض الشافعية: أنه حجة، لا يجوز لنا مخالفته، وإن خالفه غيره من الصحابة (5) .
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم فقال: "يروى عن ابن عباس أنه كان يقول: (إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه) (6) .
__________
(1) راجع هذا الفصل في: التمهيد: (3/282) والمسوَّدة ص (340) .
(2) تُعُقب المؤلف في هذا، فإن الرواية الواحدة أنه لا يقدم قول الخليفة الأول على الثاني، كما يتضح من رواية إسماعيل بن سعيد، التي ساقها المؤلف، واستدل بها على ما ذهب إليه.
قال في المسودة ص (341) : ( ... وكأن القاضي قد جعلها رواية واحدة أخذاً من هذا [من رواية إسماعيل] ثم رجع عن ذلك، فإن الرواية الثانية أصرح) .
وتبع أبو الخطاب شيخه في ذلك، فقال في التمهيد (3/282) : (فأما قول أحدهم فلبس بحجة رواية واحدة) .
(3) في الأصل (فله) .
(4) واختاره أبو الخطاب الحنبلي.
(5) واختاره أبو حفص البرمكي الحنبلي، كما في المسوَّدة.
(6) أخرج هذا سعيد بن منصور في سننه، باب الرجل يطلِّق امرأته فتحيض ثلاث =(4/1202)
وهو أصح في النظر. فقيل له: فلم لا تقول به؟! قال: قد قال عمر وعلي وابن مسعود، فأنا أتهيَّب أن أخالفهم، يعنى: باعتبار الغسل" (1) .
ونقل ابن منصور ما هو أصرح من هذا، فقال ابن منصور: قلت: "قول ابن عباس فى أموال (2) أهل الذمة العفو؟ (3) .
قال أحمد -رحمه الله-: عمر جعل عليهم ما قد بلغك (4) . كأنه لم ير ما قاله ابن عباس".
قا أبو حفص البرمكي في شرح مسائل ابن منصور: "إنما لم ير ما قال
__________
= حِيَض فيدخل عليها قبل أن تطهر (1/333) ولفظه: ( ... عن ابن عباس قال: إذا حاضت المطلقة الثالثة فقد برئت منه، إلا أنها لا تزوج حتى تطهر) .
كما أخرجه عن زيد بن ثابت وعائشة -رضي الله عنهما- في الموضع المذكور.
(1) القول بأن الرجل أحق برجعة امرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة مروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وعبادة ابن الصامت -رضي الله عنهم- أخرج ذلك عنهم سعيد بن منصور في سننه في الموضع السابق ذكره (1/332-334) .
(2) في الأصل: (أمول) .
(3) هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب أهل الكتاب، باب صدقة أهل الكتاب (6/98) ولفظه ( ... أن إبراهيم ابن سعد [وكان عاملاً بعدن] سأل ابن عباس، فقال له: ما في أموال أهل الذمة؟ قال العفو، فقال: إنهم يأمرونا بكذا وكذا، قال فلا تعمل لهم، قلت: فما في العنبر؟ قال: إن كان فيه شىء فالخمس) . كما أخرجه في كتاب أهل الكتابين، باب ما يؤخذ من أراضيهم وتجاراتهم (10/333-334) .
(4) أخرج عبد الرزاق في مصنفه في الموضعين السابقين كثيراً من الآثار عن عمر بن الخطاب أنه كان يأخذ على أموال أهل الذمة.
فروي أنه كان يأخذ من كل عشرين درهماً درهماً. وهو نصف العشر.
وروي أنه أمر المسلمين أن يأخذوا منهم العشر.
وروي أنه أمر زياد بن حدير أن يأخد من نصارى بني تَغْلِب العشر، ومن نصارى العرب نصف العشر.(4/1203)
ابن عباس؛ لأن أحد الخلفاء إذا رُوي عنه شىء، وروي عن غير الخلفاء ضده، فالذي يلزم اتباعه ما جاء عن أحد الخلفاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجِذ) .
قيل: إنها آخر الأضراس.
وقيل: إنها الضرس الذي بعد النَّاب.
دليلنا:
أنه لو كان حجة لم يجز لمن بعده أن (1) يخالفه فيه، كما إذا أجمعوا على حكم لم يجز لمن بعدهم أن يخالفهم فيه.
وقد روي من خلاف عمر لأبي بكر في التسوية في العطاء (2) .
__________
(1) في الأصل: (من أن) الخ. و (من) هنا قَلِقة، فلعلها من صنع الناسخ.
(2) كان أبو بكر - رضي الله عنه - يسوي في العطاء. أخرج ذلك عنه البيهقي في سننه في كتاب قسم الفيء والغنيمة باب التسوية بين الناس في القسمة (6/348) عن زيد بن أسلم عن أبيه قال (ولي أبو بكر - رضي الله عنه - فقسم بين الناس بالسوية، فقيل لأبي بكر يا خليفة رسول الله لو فضلت المهاجرين والأنصار، فقال: اشتري منهم شرى؟. فأما هذا المعاش فالأسوة فيه خير من الأثرة) .
ولفظه بسند آخر: (قسم أبو بكر - رضي الله عنه - أول ما قسم، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فضل المهاجرين الأولين وأهل السابقة، فقال: اشتري منهم سابقتهم؟ فقسم فسوى)
أما عمر - رضي الله عنه - فكان يفضل في العطاء. أخرج البخاري في صحيحه في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة (6/80) ولفظه: (كان [أي عمر] فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه) .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (1/42) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: (كان عمر يحلف على أيمان ثلاث، يقول: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب =(4/1204)
وخلاف علي في بيع أمهات الأولاد.
وغير ذاك مما اختلفوا فيه علمنا: أن قول واحد منهم بانفراده لا يكون حجة.
واحتج المخالف:
بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [180/أ] : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فأمر باتباع سنة كل واحد منهم.
والجواب عنه: ما تقدم (1) .
__________
= إلا عبداً مملوكاً، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه) .
كما أخرج في مسنده (3/475-476) عن باشرة بن سمي اليزني قال: (سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في يوم الجابية، وهو يخطب الناس-: إن الله عز وجل جعلنى خازناً لهذا المال وقاسماً له. ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا بادىء بأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أشرفهم، ففرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل بيننا، فعدل بينهنّ عمر، ثم قال: إنى باديء بأصحابي المهاجرين الأولين، فإنا أخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً، ثم أشرفهم، ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف، ولمن كان شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف، ولمن شهد أحداً ثلاثة آلاف، قال ومن أسرع في الهجرة أسرع به العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطأ به العطاء، فلا يلومنَّ رجل إلا مناخ راحلته....) .
وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي في سننه في كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب التفضيل على السابقة والنسب (6/349) .
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في باب ما جاء في فضل المجاهدين على القاعدين (2/156) .
(1) في المسألة التي قبل هذه.(4/1205)
مسألة
إذا عقد أحد الأئمة الأربعة عقداً، لم يجز لمن بعده من الأئمة فسخه (1) ، نحو ما عقده عمر من صلح بني تَغْلِب (2) ومن خراج السَّواد (3) . والجزية، وما يجري هذا المجرى؛ لأنه صادف اجتهاداً سالفاً.
وذلك أنه لما وضَع الخراج على الأرضين، والجزية على الرقاب، وضاعف الحقوق على بني تَغْلِب، لم يكن في ذلك إسقاط حق القبض لمن بعده من الأئمة، وإنما نقل حق القبض من موضع إلى موضع؛ لأنه ترك قسمة أرض السواد، فنقل ذلك الحق إلى الخراج، وحق الأئمة بعده، قائم في قبضه.
وكذلك الجزية وما يؤخذ من بني تَغْلِب، فإن حق القبض فيه إلى الإمام،
__________
(1) راجع هذه المسألة في المسودة ص (341) والقواعد والفوائد الأصولية ص (294) .
(2) أخرج ذلك بسنده أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال ص (36) ولفظه: (عن داود بن كرودس قال: صالحت عمر بن الخطاب عن بني تغلب -بعد ما قطعوا الفرات وأرادوا اللحوق بالروم- على أن لا يصبغوا صبيانهم [أى لا ينصرونهم] ولا يكرهون على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العشر مضاعفاً: من كل عشرين درهماً درهم قال: فكان داود يقول: ليس لبني تغلب ذمة، قد صبغوا في دينهم) .
ثم ذكر الصلح بسند آخر، وفيه: (فصالحهم عمر بن الخطاب على أن أضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم أن لا ينصَّروا أولادهم) .
(3) إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وضع الخراج على أرض السواد، ولم يقسمها كالغنائم.
انظر في ذلك: الأموال لأبي عبيد ص (74) والمصنف لعبد الرزاق (6/100) و (10/333) .(4/1206)
فلهذا لم يكن لمن بعده فسخه.
فإن قيل: أليس قد جاز للإِمام إبطال حق الغانمين من القسمة؟.
قيل: الإمام إنما كان له إبطال حق الغانمين من القسمة؛ لأنه كان يجوز له إبطال حقوقهم من الغنائم بأن تُقتل الرقاب، فبطل حق الغانمين فيها (1) .
فإن قيل: أليس قد جاز أن يزيد على جزية عمر وينقص منها، وهذا تغيير لفعله.
قيل: اختلفت الرواية في ذلك.
فروي عنه: أنه لا يجوز (2) .
وروى عنه: الجواز (3) .
__________
(1) في الأصل: (عنها) .
(2) وهو ما نقله العباس بن محمد بن موسى الخلاَّل عن الإمام أحمد أنه قال: ليس للإمام أن يغيرها على ما أقرها عليه عمر.
انظر: الأحكام السلطانية للمؤلف ص (165) .
(3) وهو ما نقله محمد بن داود عن الإمام أحمد، وقد سئل عن حديث عمر: "وضع على جريب الكرم كذا، وعلى جريب كذا كذا" هو شىء موصوف على الناس لا يزاد عليهم، أو إن رأى الإمام غير هذا زاد ونقص؟ قال أحمد: بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد عليهم، وإن شاء نقص، وقال: هو بين في حديث عمر (إن زدت عليهم كذا لا يجهدهم؟) إنما نظر عمر إلى ما تطيق الأرض".
وهناك رواية نقلها يعقوب بن بختان (لا يجوز للإمام أن ينقص، وله أن يزيد) .
ورجح أبو بكر الخلاَّل الرواية الثانية حيث قال: (أبو عبد الله يقول: "إن للإمام النظر في ذلك، فيزيد عليهم وينقص على قدر ما يطيقون" وقد ذكر ذلك عنه غير واحد) .
قال القاضى أبو يعلى: (وما قاله عباس الخلال [ناقل الرواية الأولى] عن أبي عبد الله: فهو قول أوَّل لأبي عبد الله) .
قلت: والقول بمقتضى الرواية الثانية هو العدل.
انظر: الأحكام السلطانية للمؤلف ص (165-166) .(4/1207)
وذلك أنه ليس فيه فسخ للعقد، وإنما هو موقع بعده على حسب الطاقة.
لأن عمر - رضي الله عنه - عقده على هذا الوجه؛ لأنه قال لعثمان بن حنيف (1) لعلك حملت الأرض ما لا تطيق (2) . فاعتبر الطاقة، وهذا يختلف باختلاف الأوقات.
مسألة
إذا اختلفت الصحابة في المسألة على قولين، ولم ينكر بعضهم على بعض، لم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة على صحة قول الصحابي (3) .
نصَّ عليه -رحمه الله- في رواية المروذي فقال: "إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر
__________
(1) عثمان بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة، أبو عمرو، الأنصاري. صحابي.
كان عاقلاً بصيراً. عمل لعمر ثم لعلي -رضي الله عنهما- سكن أخيراً الكوفة.
وبقي إلى زمان معاوية، رضي الله عنه.
له ترجمة في: الاستيعاب (3/1033) .
(2) قال عمر - رضي الله عنه - هذا الكلام لعثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان بصيغة التثنية
أخرج ذلك عبد الرزاق في مصنفه في كتاب أهل الكتاب، باب ما أخذ من الأرض عَنْوة (6/103)
وأخرجه ابن سعد في طبقاته في ذكر استخلاف عمر، رضي الله عنه (3/337) .
(3) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (341) وروضة الناظر، مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/406) والمدخل ص (42) .(4/1208)
أقرب القول إلى الكتاب والسنة" (1) .
وحكى أبو سفيان السرخسي عن بعض شيوخه: "أنه إذا أظهر هذا القول ولم ينكره منكر جاز الأخذ به" واختار ذلك.
وحكى عن قوم من المتكلمين أن ذلك القول (2) إن كان حادثاً في الصحابة قبل وقوع الفرقة بينهم واختلاف الديار بهم جاز أن يؤخذ به من غير اجتهاد في صحته.
وإن كان حادثاً بعد وقوع الفرقة بينهم لم يجز الأخذ إلا أن يدل دليل على صحته غير قول الصحابي (3) . [180/ب] .
دليلنا:
أن الصحابة مختلفون فلم يجز لمن هو من أهل الاجتهاد أن يأخذ بقول بعضهم من غير دلالة.
أصل ذلك: إذا أنكر بعضُهم على بعض.
فإن قيل: إذا أنكر بعضُهم على بعض فلم يحصل منهم الإجماع على كونه صواباً، وليس كذلك إذا تركوا الانكار؛ لأنه يدل على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يجز لهم أن يتركوا إنكاره، وإذا ثبت أنه صواب كان المتمسك به مصيباً.
قيل: ترك الإنكار لا يدل على كونه صواباً عند المخالف له؛ لأن ما يسوغ فيه الاجتهاد لا يجب إنكاره.
__________
(1) يعني لابد من مرجَّح، وهو ما ارتضاه السرخسى في أصوله (2/113) . ونسبه في المسودة إلى المالكية والشافعية وطوائف من المتكلمين.
(2) في الأصل: (وان) .
(3) وحكاه ابن عقيل: عن بعض أصحاب السرخسي، كما حكاه عن الجُبَّائي وابنه.
انظر: المسودة ص (342) .(4/1209)
وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية بكر بن محمد فقال: "على الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطىء".
وأيضاً: لما لم يجز لأحد المجتهدين أن يأخذ بقول الآخر حتى تدل دلالة على صحة قوله، كذلك مثله في الصحابة.
فإن قيل: المعنى في الأصل: أنه ليس في قول المجتهد الآخر حجة، ولا نعلم أنه صواب، وأما قول الصحابي فإنه حجة.
قيل: إنما يكون حجة إذا انفرد ولم يعارضه غيره، فأما إذا خالفه غيره فليس بحجة.
وأيضاً: فإن قول كل واحد منهما ضد الآخر، وليس أحدهما بأولى بالتقديم من صاحبه، وإذا كان كذلك وجب أن يتعارضا فيسقطا، وإذا سقطا وجب الرجوع إلى الاجتهاد في ذلك.
واحتج المخالف:
بما تقدم، وهو: أنه إذا لم يحصل منهم الإنكار دل على كونه صواباً؛ لأنه لو كان خطأ لم يترك الإنكار.
والجواب عنه: ما تقدم.
واحتج: بأن الصحابة قد رجع بعضهم إلى قول بعض مع كون الجميع من أهل الاجتهاد.
كما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قبل قول معاذ في ترك رجم المرأة الحامل (1) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الحدود، باب من قال: إذا فَجَرَت وهى حامل انتظر بها حتى تضع، ثم ترجم (10/88) رقم (8861) بسنده ولفظه (أن امرأة غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، =(4/1210)
وكما روي عن عثمان أنه استنَّ فيهم سنة أبي بكر وعمر، وقبِل البيعة على ذلك، ولم ينكر على من قبل قول غيره منهم، وإن كان من أهل الاجتهاد.
والجواب: أنه يحتمل أن يكون من رجع منهم إلى قول غيره؛ لأنه ذكر الوجه الذي لأجله قال بما قال به، فاستدل بما ذكره على صحة قوله إذا علم صحة قوله من غير أن يذكر له الوجه الذي لأجله قال بما قال عند سؤاله.
مسألة
الشيء المجمع عليه إذا تغيرت حاله جاز تركه بدلالة غير الإجماع (1) .
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (2) .
خلافاً لما حُكي عن بعض الشافعية: أن ما ثبت بالإجماع ألا يجوز تركه إلا بإجماع مثله.
__________
= فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثَنيَّتان، فلما رآه أبوه قال:
ابنى، فبلغ ذلك عمر فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر) .
وذكره الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ بن جبل (1/452) .
كما ذكره صاحب كنز العمال في فضائل معاذ بن جبل (17/583) رقم (37499) ونسبه إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقى في الدلائل.
ويلاحظ أن القصة وقعت لمعاذ - رضي الله عنه - مع عمر - رضي الله عنه - لا مع عثمان - رضي الله عنه - كما ذكر المؤلف.
(1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (343) فإن فيها كلاماً جيداً، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/392) .
(2) انظر: أصول السرخسى (2/116) فقد فصَّل القول في ذلك: مثَّل، ودلَّل، وناقشَ، فارجع إليه إذا شئت.(4/1211)
وهذا مثل المتيمم إذا دخل في الصلاة، ثم رأى الماء.
وما يجري هذا المجرى من المسائل [181/أ] .
دليلنا:
أن غير الإجماع قد يكون حجة مثل الإجماع، ألا ترى أن الإجماع إنما (1) صار حجة بالخبر الوارد فيه، والخبر إنما صار حجة لقيام دلالة العقل على أن الخير به لا يكذِب، وإذا كان كذلك وجاز ترك المجمع عليه إذا تغيرت حاله وجب أن يجوز أيضاً تركه بغير إجماع.
واحتج المخالف:
بأنه لو جاز ترك المجمع عليه بغير الإجماع لأدى ذلك إلى قيام الدلالة على خلاف الإجماع، وهذا لا يجوز.
والجواب: أنه إذا تغيرت صفته، فليس هو المجمع عليه، بل هو غيره، فلا يكون في تركه بغير الإجماع إزالة ما ثبت بالإجماع بدلالة أخرى.
وجواب آخر، وهو: أنه لو لم يجز ترك ما ثبت بالإجماع إذا تغيرت صفته بدلالة غير الإجماع، لم يجز أيضاً تركه بالإجماع؛ لأن الإجماع على خلاف الإجماع لا يجوز، كما لا يجوز خلاف الإجماع، فلمَّا لم يمتنع تركه بالإجماع لم يمتنع أيضاً تركه بغير إجماع.
واحتج: بأنه لمَّا لم يكن غير الإجماع من جنس ما ثبت به الحكم، لم يجز إزالة الحكم، كما لا يجوز إزالة ما ثبت بنص الكتاب بدلالة القياس.
والجواب: أنه قد يجوز أن يثبت الشيء بدلالة، ثم ينتقل عنها بدلالة أخرى من غير جنسها، ألا ترى أنه يجوز ترك ما ثبت بالعقل بدلالة من جهة السمع وإن كانت من غير جنس دلالة العقل.
__________
(1) في الأصل: (لما) .(4/1212)
مسألة
يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (1) .
قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا (2) .
وقال: قال بعض شيوخنا: لا يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد (3) .
دليلنا:
أن العمل بخبر الواحد ثابت، فوجب عموم العمل به ما لم يمنع منه دليل.
ولأن الإجماع حجة، كما أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. حجة، وقول النبي يثبت بقول الواحد.
وذهب المخالف:
إلى أن الإجماع حجة توجب العلمَ، فلا يجوز إثباتُها لا يوجب العلم.
والجواب: أناَّ نجيز وقوع الإجماع من طريق الاجتهاد والقياس، وإن كان القياس والاجتهاد لا يوجبان العلم.
وكذلك يجور إثبات التأريخ الموجب للنسخ بخبر الواحد، وإن كان النسخ بخبر الواحد لا يجوز.
وكذلك يجوز إثبات الإحصان بشهادة رجلين، وإن لم يجز إثبات الزنا الموجب للرجم به، كذلك ها هنا لا يمتنع أن يثبت الإجماع بخبر الواحد، وإن كان الإجماع موجباً للعلم.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسودة ص (344) ، وشرح الكوكب المنير (2/224) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/386) .
(2) يعنى الحنفية.
(3) فالحنفية في هذه المسألة فريقان، فريق يثبت، وفريق يمنع. وبكل قول قال فريق من العلماء.
انظر: تيسير التحرير (3/261) ، وفواتح الرحموت (2/242) .(4/1213)
مسألة
في الحادثة إذا حدثت [181/ب] بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحكم فيها بشىء، جاز لنا أن نحكم في نظيرها (1) .
وذهب بعض المتكلمين: إلى أن ترك النبي للحكم في الحادثة يدل على وجوب ترك الحكم في نظيرها، وقال هذا كرجل شجَّ رجلاً شجة، فلا يحكم رسول الله فيها بحكم، فنعلم بتركه ذلك: أن لا حكم لهذه الشجة في الشريعة.
دليلنا:
أن بيان الحكم يقع من قبل الله تارة ومن قبل تبيين النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى، فلمَّا اتفقوا على أن عدم نص الله تعالى في الحادثة على حكم لا يوجب تركَ الحكم في نظيرها، كذلك تركُ رسول الله الحكم في الحادثة لا يوجب تركَ
الحكم في نظيرها.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يكلنا إلى النظر والاستدلال والبحث عن أدلة الأصول (2) .
__________
(1) راجع هذه المسألة: المسودة ص (345) .
وقد نقل في المرجع المذكور عن ابن عقيل قوله: (إن كان له - صلى الله عليه وسلم - حكم في نظيرها يصح استخراجه من معنى نطقه جاز، فأمَّا إذا لم يكن ذلك في قوة ألفاظ النصوص فلا وجه لرجوعنا إلى طلب الحكم مع إمساكه عنه، إذ لا وجه لإمساكه عن الحكم في وقت الحاجة؛ لأنا أجمعنا على وجوب البيان في وقت الحاجة) .
وهذا التفصيل يصعب معرفته وتحقيقه في الواقع، وإن كان من الناحية النظرية سليماً.
(2) تعقبه ابن عقيل -كما في المسوَّدة ص (345) - بقوله: (فقولوا: يجوز اجتهاد في عين الحادثة التي أمسك عنها، فلما لم يوجب ذلك جواز الاجتهاد في عين الحادثة =(4/1214)
ألا ترى إلى ما روي أن عمر - رضي الله عنه - لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكَلاَلة، فلم يجبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (يكفيك آية الصَّيف) (1) فوكله إلى البحث والنظر.
وذهب المخالف:
إلى أنه لو كان لهذه الحادثة حكم في الشريعة لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليترك بيانه مع عدم نص الله تعالى.
والجواب عنه: ما تقدم، وهو: أنه قد يترك البيان، ويكلنا إلى النظر والبحث، فلا يكون ذلك موجباً لترك الحكم في نظير الحادثة.
__________
= التي أمسك عنها، فكذلك في نظيرتها. علم أنه مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير جائز.
ثم قال: إما أن يكون عالماً بحكمها أو غير عالم، فإن كان عالماً امتنع ترك البيان والتبليغ، وإن لم يكن عالماً به فلا نشك أن الأصلح ترك بيانه؛ إذ لو أراد الله بيانه لما طواه عن نبيه، وأوقع الأمة عليه من غير طريقه وبيانه) .
(1) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب الكلالة (10/305) ولفظه: (عن طاوس أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، فأمهلته حتى إذا لبس ثيابه فسألته، فأملَّها عليها في كتف، فقال، عمر أمرك بهذا؟! ما أظنه أن يفهمها، أو لم تكفه آية الصَّيف؟.
فأتت بها عمر فقرأها، فلما قرأ: "يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أن تَضِلُّوا" (سورة النساء 176) قال: اللهم من بينت له فلم تبين لي) .
ففي هذا أن السائل المباشر هو حفصة -رضي الله عنها-.
وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد (4/227) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - بلفظ (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، فقال: (يكفيك آية الصَّيف) .
قال الهيثمى بعد ذلك: (رواه أبو يعلى، وفيه حجاج بن أرطاة، وهو مدلس) .(4/1215)
باب التقليد
التقليد (1) : قبول القول بغير دليل (2) .
واشتقاقه من القِلادة (3) ؛ لأنها تكون في رقبة الإنسان، فاشتُقَّ التقليد منها؛ لأنه إذا قَبِل قولَه فيما سأله، فقد قلَّد رقبتَه ذلك (4) .
وليس المصير إلى الإجماع تقليد المجمعين، ولكن نفس الإجماع حجة لله تعالى كالآية والخبر، فإذا صار إلى الحكم بدليل الإجماع، كان دليله على الحكم الإجماع.
وكذلك يُقبل قولُ الرسول، ولا يقال: تقليد؛ لأن قوله وفتواه حجةٌّ ودليلٌّ على الحكم، والنبى لا يُقلَّد؛ لأن قوله حجة؛ لأنه إذا أفتى بفتيا لم يحتج أن يدل على الحكم بآية من كتاب الله ولا غيره، بل مجرد نطقه عنه.
ويفارق فتيا الفقيه؛ لأن قوله ليس بحجة ولا دليل على الحكم؛ لأنه يفتقر إلى دليل تعلق الحكم به.
__________
(1) راجع هذا الباب في: أصول الجصاص الورقة (304/ب) والتمهيد (4/395) ، والمسوَّدة ص (462) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (2/449) ، وشرح مختصر الروضة للطوفي الجزء الثاني الورقة (198/ب) ، والمدخل لابن بدران ص (193) .
(2) هناك تعريفات كثيرة، ذُكر بعضها في المراجع السابقة.
(3) أي: المحيطة بعنق الدابة أو غيرها؛ لأنه إذا لم تكن محيطة بالعنق لا تسمى قلادة. أفاده الطوفى في المرجع السابق.
(4) استعير المعنى الشرعي من المعنى اللغوي، كأن المقلد يُطوِّق المجتهد تبعات ما قلده فيه، من إثم في حالة غشه في دينه وكتمه عنه العلم الصحيح.
أفاده: الطوفي في المرجع السابق.(4/1216)
فدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقلَّد أبداً.
وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي الحارث: "من قَلَّد الخبرَ رجوتُ أن يَسْلَم إن شاء الله" (1) .
فقد أطلق أحمد - رضي الله عنه - اسم التقليد على من صار إلى الخبر، وإن كان حجة في نفسه.
يمكن أن يحمل قوله: "قَلَّد" بمعنى صار إلى [182/أ] الخبر.
[ما يسوغُ فيه التقليد وما لا يسوغ]
وإذا ثبت حدُّ التقليد. فالكلام فيما يسوغ فيه التقليد وما لا يسوغ فيه (2) .
جملته: أن العلوم ضربان:
ما يسوغ فيه التقليد.
وما لا يسوغ فيه التقليد.
فما لا يسوغ فيه التقليد: معرفة الله تعالى، وأنه واحد، ومعرفة صحة الرسالة (3) .
__________
(1) هذه الرواية موجودة بنصها في: المسودة ص (462) والمدخل ص (193) .
(2) راجع في هذه المسألة: مختصر المعتمد للمؤلف ص (20) والتمهيد (4/396) والمسوَّدة ص (457) وشرح الكوكب (4/533) وروضة الناظر (2/450) .
(3) قال أبو الخطاب في التمهيد الموضع السابق: (وبه قال عامة العلماء) ونسبه الفتوحي في شرح الكوكب إلى الإمام أحمد والأكثر.
ويلحق بذلك -كما يقول أبو الخطاب- أصول العبادات كالصلوات الخمس والزكاة والصوم وحج البيت، فإن الإجماع انعقد على أنه لا يجوز فيها التقليد.(4/1217)
وإنما قلنا: لا يقلد في هذا، بل على الكل معرفةُ ذلك بغير تقليد: لقوله (1) تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطاياهُم مِن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (2) .
وهذا أعلى منازل التقليد: أن يضمنَ (3) المقلَّدُ للمقلِّد دركَ ما قلَّده فيه، وأن يتحمل عنه إثمه، فقد ذمة الله تعالى عليه وكذَّبه فيه: ثبت أن التقليد فيه لا يجوز.
ولأن كل واحد يمكنه معرفة الله تعالى؛ لأنه يشترك فيها العامي والعالم، لا نبينه فيما بعد.
ولأن التقليد لا يفضي إلى المعرفة، ولا يقع به العلم.
فصل
[معرفة الله لا تجب قبل السمع]
ولا يجب عليه معرفةُ الله تعالى قبل السمع مع القدرة على معرفة الله تعالى بالدلائل (4) .
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس (5) بن مالك العطار:
__________
(1) في الأصل: (قوله) بدون اللام.
(2) آية (12) من سورة العنكبوت.
(3) في الأصل: (يضمر) وهو تصحيف.
(4) ونقل الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/310) عن الشيرازي: أن الأشعرية يقولون إن وجوب معرفة الله تعالى بالعقل وبالشرع.
(5) في الأصل: (عبد الله) وهو خطأ، وسيأتي اسمه كما أثبتناه، وهو كذلك في المسوَّدة ص (481) وقد سبقت ترجمته.(4/1218)
"ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك (1) بالعقول، إنما هو الاتباع".
خلافاً للمعتزلة في قولهم: عليه أن يعرف ذلك قبل أن يرد السمع، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند (2) .
وقالوا: المراهق إذا بلغ حداً يميز ويعقل وجب عليه أن يعرف الله تعالى، فإن لم يفعل، فهو كافر معاند.
دليلنا:
قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَى نَبْعَثَ رَسُولاً) (3) .
وقال تعالى: (رُسُلاً مُّبَشِرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اْلرُّسُلِ) (4) فدل ذلك على أن الله تعالى لا يعرف قبلِ أن يبعث الرسل.
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَى يَبْعَث فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلهَا ظَالِمُون) (5) .
وقال تعالى: (وَلَوْلاَ أن تُصِيْبَهُم مُّصيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيهمْ فَيَقُولوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ رَسُولاً فَنَتَّبعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (6) وقال الله تعالى: (وَلَوْلاَ أَنَّا أهلَكْنَاهُم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولاً فَنَتَبعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) (7) .
__________
(1) في الأصل: (يدرك) بالمثناه التحتية.
(2) انظر في هذا: زيادات المعتمد (2/994) ، والإحكام للآمدي (1/86) وإرشاد الفحول ص (7) .
(3) آية (15) من سورة الاسراء.
(4) آية (165) من سورة النساء.
(5) آية (59) من سورة القصص.
(6) آية (47) من سورة القصص.
(7) آية (134) من سورة طه.(4/1219)
وهذا كله يدل على ما ذكرناه.
وأيضاً: ما روى سليمان بن بريدة (1) عن أبيه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميراً على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين، وقال: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم [إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم] (2) إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا، [فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا] (3) فاستعن بالله عليهم وقاتلهم) (4) . فأمر بقتالهم بعد الدعاء والامتناع.
وإذا ثبت وجوبها بالسمع فالطريق إليها أدلة يشترك فيها العالم والعامي، وهى أمور عقلية.
__________
(1) هو: سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمى المروزي. ثقة. روى عن أبيه وعمران ابن حصين وعائشة -رضي الله عنهم- وغيرهم. وعنه علقمة بن مرثد ومحارب ابن دثار وعبد الله بن عطاء وغيرهم. ولد لثلاث خلون من خلافة عمر - رضي الله عنه - ومات سنة (105هـ) ، وله (90) سنة.
له ترجمة في: تهذيب التهذيب (4/174) وتقريب التهذيب (1/321) .
(2) ما ببن القوسين زيادة من مراجع التخريج الآتية.
(3) ما بين القوسين زيادة من مراجع التخريج الآتية.
(4) هذا الحديث رواه بريدة - رضي الله عنه - أخرجه عنه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (3/1357) .
وأخرجه عنه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في دعاء المشركين (2/35) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب السير، باب: ما جاء في وصيته - صلى الله عليه وسلم - في القتال (4/162) حديث (1617) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب الجهاد، باب: وصية الإمام (2/953) حديث (2858) .(4/1220)
[بم تحصل المعرفة]
وهي كسبية مختارة للعبد، وموهِبة من الله تعالى، ولا تقع ضرورة.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي: "معرفة الله تعالى في القلب تتفاضل فيه وتزيد" (1) .
وهذا يدل على أنها كسبية؛ لأنها تزيد بزيادة الأدلة، ولو كانت ضرورة لم تزد، كما لم يزد (2) علم الضرورات.
خلافاً لمن قال: المعرفة موهِبَة، تقع ضرورة، ولا يتوصل إليها بأدلة العقول (3) . وربما يذهب إلى هذا قوم من أصحابنا (4) .
والمذهب على ما ذكرنا (5) .
__________
(1) ذكر المؤلف هذه الرواية في كتابه مختصر المعتمد في أصول الدين ص (32) ووجهها بقوله: (والوجه فيه: أن من الناس من يعرف مخبرات الله تعالى مفصَّلة، ومنهم من يعرفها مجملة، فمن عرفها مجملة، فإذا عرف تفصيلها ازداد علمه وتصديقه، وذلك أن الوحى كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية وسورة فمن قد سبقت له المعرفة ازداد علمه، ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أنزِلَت سُورَةٌ فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً..) (124) التوبة.
(2) في الأصل: (تزد) بالمثناة الفوقية.
(3) ونقل ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ص (124) عن أبي الحسن قوله: (معرفة الصانع ضرورة) .
(4) قال الفتوحى في شرح الكوكب المنير (1/310) : (وقال جمع من أصحابنا وغيرهم: (إنهما [أي المعرفة والنظر] يقعان ضرورة) .
(5) ذكر ابن مفلح في كتابه الفروع (6/186) رأيين في المسألة: كسبية، أو ضرورية، وعبر عن الرأي القائل: بأنها ضرورة بقوله: (قيل) . وهذا يشعر بأن الرأي الآخر هو الراجح في المسألة، وهو المذهب كما قال المؤلف.(4/1221)
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية حمدان بن علي: "المرجئة تقول: إذا عرف ربّه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه. وهذا كفر إبليس، قد عرف ربه، فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي") (1) .
فقد نص على حصول (2) المعرفة لإبليس، ولو كانت موهِبة لم تحصل له (3) ، لأنه كافر معاند.
والدلالة عليه:
أن الله تعالى أجرى العادة بحصول المعرفة عند النظر والاستدلال، كما أجرى العادة بذلك بحصول الطَّعم عقيب الذوق، والسمع عقيب الاستماع، ولم يجز أن يقال: إن الطَّعم يحصل بغير ذوق، والسمع بغير استماع.
__________
(1) آيه (39) من سورة الحجر.
ورواية حمدان بن علي هذه ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة حمدان (1/309) .
(2) في الأصل: (حضور) .
(3) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في المسوَّدة ص (457) هذه الرواية وتوجيه القاضي لها ثم قال: (هذا الذي ذكره القاضي لا ينافي ما حكاه عن بعض أصحابنا؛ لأنه مبني على أنها ضرورة عندهم، والضرورة لا تزيد، وكلا المقدمتين ممنوعة، فإنهم إنما يقولون: أصل المعرفة بالله ورسوله ضرورة، وأما الزيادة الحاصلة بتدبر القرآن ونحوه فما أظنهم يقولون: هى ضرورة، وأما الثانية، فإن القاضي يقول: إن العقل علوم ضرورية، وهو عنده يزيد وينقص، فالزيادة في الضروريات) .
ثم عقَّب على استدلال القاضي برواية حمدان بن على الورَّاق بقوله: (وأما طعن الإمام أحمد على المرجئة بمعرفة إبليس، فهي المعرفة الفطرية، وما المانع من أن تكون هذه موهِبة من الله؟! ذلك أقوم في الحجة عليه من أن تكون حاصلة بكسبه، ولو حصلت بكسبه لا يثبت عليها، فأما المعرفة الإيمانية فلم تحصل له، ومن قال: المعرفة ضرورية. فقد أراد الفطرية، وفي إرادته لهذه نظر) .(4/1222)
ولأن الله تعالى حث على النظر والاستدلال، فلولا أن العلم يقع به لم يكن فيه فائدة، فقال تعالى: (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ، كَيْفَ خُلِقَتْ) (1) .
وقال: (أولَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السمَوَاتِ وَاْلأَرْضِ) (2) .
وقال: (فَلْيَنْظُرِ اْلإِنْسَان مِمَّ خُلِقَ) (3) .
وقال: (يَا أيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنَ تُرَابٍ) (4) الآية.
واحتج من قال بأنها موهبة:
بما أخبر الله سبحانه عن عيسى وقوله في التمهيد: (إِنِّى عَبدُ اللهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا) (5) ، ولم يك من أهل النظر: الاستدلال.
وكذلك لما استخرج الذرية من ظهر آدم، (وأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (6) .. ولم يكونوا من أهل النظر والاستدلال.
والجواب: أن كلام عيسى في التمهيد كان معجزة (7) له وبراءة لأمه.
ويحتمل أن يكون كلفه في تلك الحال، كما أنطقه في المهد صبياً بلسان الحكمة.
وأما الذرية فإن الله تعالى كلفهم حين أوجدهم؛ لأنه أخذ إقرارهم، وإنما يكون هذا حجةً على من كلف.
__________
(1) آية (17) من سورة الغاشية.
(2) آية (185) من سورة الأعراف.
(3) آية (5) من سورة الطارق.
(4) آية (5) من سورة الحج.
(5) آية (30) من سورة مريم.
(6) آية (172) من سورة الأعراف.
(7) في الأصل (معجزا) .(4/1223)
فأما الدلالة التي يتوصل بها فهو: أنه رَفع السماء بغير عمد، وأجرى فيها الكواكب والشمس والقمر دائبين، قائمة على الهواء بغير عمد، ولا يظهر فيها شَق ولا فُطور، قال تعالى: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور) (1) .
وسَطَح الأرض، وهي تراب على وجه الماء، والبناء على الماء حال (2) [183/1] لا يقدر عليه أحد، فلما فعل هذا اضطربت على الماء فثبتها بالجبال الرواسي حجراً واحداً، ومعلوم أن أحداً من البشر لا يقدر عليه، ثبت أن لها خالقاً غير البشر.
وكذلك جعل فيك دلالة عليه، فإنه خلق الإنسان من ماء مهين، وجعله نطفة في الرحم، ثم يُغَيَّر من حال إلى حال، حتى يظهر من بطن أمه وليداً لا يعقل، فلم يزل حتى كبر، وعقل، وفهم، وعلم، وأنتَ تعلم أنه لو انقطع منه شعرة لم يمكن أحد أن يضعها كما كانت أبداً، ثبت بهذا أن له صانعاً يخالف البشر.
وإذا ثبت أن لها صانعاً، علمناه قطعاً أنه واحد لا شريك له بانتظام الأمر على محكم الصنعة من غير تغير ولا اختلاف، ولو كان إله غيره لجاز عليهما الاختلاف على ما نعهده في الملوك، فلما اتسعت الصنعة على وجه واحد من غير اختلاف، علم قطعاً أن الصانع واحد لا شريك له.
[معرفة النبوة]
وأما معرفة النبوة فظهور المعجزات عند التحدي والحاجة إليها على يديه، كانشقاق القمر، وكلام الضب، وحنين الجذع، والقرآن القاطع المعجز، وكاليد البيضاء، والعصا، وإحياء الموتى، وتنزيل المائدة من السماء، فإذا ظهر على [يد] نذير هذا عند التحدي علمنا أنه رسول الله قطعاً؛ لأن المعجزات لا تظهر على يد الكذابين.
__________
(1) آية (3) من سورة الملك.
(2) في الأصل (خال) بالخاء المعجمة.(4/1224)
[الفرق بين العجزة والكرامة]
ويفارق هذا كرامات الأولياء، لأنها تقع اتفافاً، ولا يمكنه إظهارها والتحدي بها، فإذا وجد على يدي رجل، ثبت أنه نبي قطعاً، وكان قبول قوله فرضاً (1) .
وفي معنى هذا مما لا يسوغ التقليد فيه: ما ثبت بخبر التواتر، كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان والزكاة والحج، كل هذا يعرف بأخبار التواتر، فيقع العلم بها بالسمع، والعالِم والعامي في طريق ثبوتها على وجه واحد، فلهذا لم يسغ التقليد فيه.
[ما يسوغ فيه التقليد]
وأما الذي يسوغ فيه التقليد، فهذه المسائل التي هي فروع الدين، كالنكاح، والبيوع، والطلاق، والعتق، والتدبير، والكتابة، وسجود السهو، فالناس فيه على ضربين: عالِم، وعامي.
فالعامي له أن يقلد أهلِ العلم، ويعمل بفتواهم، لقوله تعالى: (فَاسْألوا أَهْل الْذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون) (2) .
وقال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (3) .
وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وَإلِى أولِى الأَمرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ
__________
(1) انظر بحث المعجزة والكرامة، والفرق بينهما، كتاب شرح الطحاوية ص (448) وما بعدها.
(2) آية (43) من سورة النحل.
(3) آية (122) من سورة التوبة.(4/1225)
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1) .
ولأنه لا خلاف أن طلب الفقه من فرائض الكفايات، فلو كلف الكل لكان من فرائض الأعيان.
ولأن كل أحد لا يتمكن أن يعرف ذلك؛ لأنه يتشاغل [183/ب] عن عمارة الدنيا بالزرع والمعاش والكسب به، فلما كان فيه قطع لعمارة الدنيا لم يكن واجباً على الكل.
[للعاميِّ أن يقلد من شاء من المجتهدين]
وإذا ثبت أن له التقليد، فليس عليه أن يجتهد في أعيان المقلَّدين، بل يقلد من شاء، لأنه لما لم يكن عليه الاجتهاد في طلب الحكم كذلك في المقلَّد.
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- فيما رواه الحسين (2) بن بشار المخرمي (3) قال: "سألت أحمد -رحمه الله- عن مسألة في الطلاق، فقال: إن فعل كذا حنث. فقلت له: فإن أفتاني إنسان: لا أحنث، فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ قلت: فإن أفتوني أدخل (4) ؟ قال: نعم".
فلم يكله الإمام أحمد - رضي الله عنه - إلى اجتهاده في المستفتى، وإنما
__________
(1) آية (83) من سورة النساء. والآية في الأصل (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُّولِ) ولفظ الجلالة غير موجود في الآية.
(2) في الأصل (أبو الحسين) وهو خطأ.
(3) من أصحاب الإمام الذين نقلوا عنه بعض المسائل.
انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة (1/142) .
وهذه الرواية موجودة بنصها مع اختلاف يسير في طبقات الحنابلة في ترجمة الحسين ابن بشار المخرمي المذكور.
(4) هكذا في الأصل، وفي طبقات الحنابلة: (فإن افتوني يدخل؟ قال نعم) : =(4/1226)
أفتاه بقوله، وأرشده إلى غيره.
[إذا استفتى المقلد عالمين]
وإن استفتى عالمين: فإن اتفقا على الجواب عمل بما قالاه، وإن اختلفا، فقال أحدهما: مباح، والآخر محظور.
مثل إن استفتاه في صريح الطلاق إذا نواه ثلاثاً، فقال له حنبلي: طلقت واحدة.
وقال (1) له شافعي: طلقت ثلاثاً، فإنه يقلد من شاء منهما، ولا يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ عليه.
وهذا ظاهر ما رواه الحسين (2) بن بشار عن أحمد؛ لأنه استفتاه في مسألة الطلاق، فقال له أحمد - رضي الله عنه -: "إن فعل حنث، وقال: إن إفتاك مدني: لا تحنث، فافعل".
فقد سوَّغ له الأخذ بقول المدني بالإباحة، ولم يلزمه الأخذ بالحظر.
فإن قيل: هلاَّ قلتم: يلزمه أن يأخذ بقول من غلَّظ، كما قلتم: إذا تقابل في الحادثة دليلان: أحدهما حاظر والآخر مبيح: إنه يقدم الحظر على الإباحة.
__________
= وفي المسودة ص (463: (فإن افتوفي به حلَّ؟ قال: نعم) وسيعيد المؤلف ذكر هذه الرواية بلفظ آخر في المسألة الآتية.
(1) في الأصل: (فقال) .
(2) في الأصل (الحسن) مكبراً، وهو خطأ".(4/1227)
قيل: الفرق بينهما: أن ذلك من الأصول مبناه على التأكيد، ولهذا طريق ثبوته دليل مقطوع عليه.
وهذا من الفروع مبناه على التخفيف، ولهذا يثبت بغلبة الظن.
[يكفي في الفتوى مترجم واحد]
فإن كان المقلد يعرف لسان المفتي سمع منه، وعمل بقوله عليه. وإن كان لا يعرف لسانه أجزأه مترجم واحد؛ لأنه نقل خبر إليه، وخبر الواحد يوجب العمل.
ويفارق هذا الترجمة عن الشاهد؛ لأنها (1) إثبات شهادة، فلهذا افتقرت الترجمة إلى عدد.
[على العامي أن يستفتي في كل حادثة تقع]
وإن استفتى عامي عالماً في حكم وأفتاه، ثم حدث حكم آخر مثل ذلك، فعليه أن يكرر الاستفتاء، ولا يقتصر على الأول.
وكذلك الحاكم إذا اجتهد في حادثة فقضى بها، ثم حدثت ثانياً، فإنه يحدث لها اجتهاداً.
وكذلك إذا اجتهد فصلى إلى جهة، ثم حضرت صلاة أخرى أحدث لها اجتهاداً؛ لأن الاجتهاد الأول غير مقطوع [184/أ] عليه، وإنما هو غلبة ظن فهذا حكم العامي.
__________
(1) في الأصل: (لأنه) والضمير يعود إلى الترجمة.(4/1228)
فصل
[تقليد العالم لعالم مثله]
وأما العالِم فلا يجوز أن يقلد عالماً مثله، سواء كان الزمان واسعاً أو ضيقاً (1) .
وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد: "لا تقلد أمرك واحداً منهم، وعليك بالأثر" (2) .
وذكر ابن بطة (3) في مسألة أفردها: أن الخلوة تكمل الصداق، بإسناده عن الفضل بن زياد قال: قال أحمد -رحمه الله-: "يا أبا العباس لا تقلد
__________
(1) راجع في هذا الفصل: أصول الجصاص الورقة (305/ب) والتمهيد (4/408) والمسوَّدة ص (468) .
(2) روى أبو داود في مسائله ص (277) عن الإمام أحمد قوله -وقد سأله-: "الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك واحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به، ثم التابعبن بعد الرجل فبه مخير".
والرواية التي نقلها المؤلف ذكرها أبو الخطاب في كتابه التمهيد كما ذكرت في المسوَّدة في الموضعين السابقين.
(3) هو: عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله، العكبري، المعروف بابن بطة. سمع عبد الله بن محمد البغوي وإسماعيل بن العباس الوراق وأبا بكر النيسابوري وغيرهم، وسمعه جماعة، منهم: أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص العكبري، وأبو حفص البرمكي. كان عالماً زاهداً ورعاً. له مؤلفات كثيرة، منها: الإبانة الكبرى، والإبانة الصغرى، والسنن، والمناسك. مات سنة (387هـ) .
له ترجمة في: شذرات الذهب (3/122) وطبقات الحنابلة (2/144) : المنهج الأحمد (2/96) .(4/1229)
دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا" (1) .
فقد مَنَعَ من التقليد، وندب إلى الأخذ بالأثر. وإنما يكون هذا فيمن له معرفة بالأثر والاجتهاد.
وبهذا قال الشافعي (2) وأبو يوسف (3) .
__________
(1) هذه الرواية ذكرها أبو الخطاب في التمهيد الموضح السابق، وذكرت في المسوَّدة الموضع السابق أيضاً.
(2) المنقول عن الإمام الشافعي في القديم كما في الاحكام للآمدي (4/177) والمحصول (6/110) أنه يقول: (يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة، ولا يجور تقليد غيرهم) .
ونقل ابن القيم في كتابه اعلام الموقعين (2/239) مذهب من قال بجوار التقليد، ومن ضمن ما استدلوا به قول الشافعي في غير موضع: (قلته تقليداً لعمر، وقلته تقليداً لعثمان، وقلته تقليداً لعطاء) .
كما نقل عنه في (2/241) : (رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا..) .
فخلاصة مذهب الشافعي: أنه لا يجيز تقليد العالم للعالم إلا الصحابة فيجوز لمن بعدهم تقليدهم.
إلا أن النص الأول الذي نقله ابن القيم يشعر بأن التابعين في ذلك كالصحابة، فيجوز تقليدهم.
وأشار إلى ذلك ابن الحاجب في المنتهى ص (161) حيث قال: (وقال الشافعي والجبَّائي: يجوز أن يقلد صحابياً خاصة أرجح من غيره، فإن استووا تخير. وقيل: وتابعياً) .
والمشهور من مذهب الشافعية: عدم الجواز مطلقاً.
انظر التبصرة ص (403) .
وذكر الرازي في المحصول (6/115) : أنه مذهب أكثر الشافعية.
(3) نقل ذلك عنه الجصاص في أصوله الورقة (305/ب) .(4/1230)
وقال أبو حنيفة (1) ومحمد (2) : يجوز للعالم تقليد العالم، حكاه أبو سفيان عنه في مسائله، ولم يفرق بين أن يكون الزمان واسعاً أو ضيقاً.
وذهب ابن سريج إلى جواز ذلك مع ضيق الوقت (3) .
والدلالة على أبي حنيفة:
قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرَّسُولِ) (4) ولم يقل إلى عالم مثلك.
وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (5) وهذا يدل على أن لا يقلد غيره.
وأيضاً: فإن معه آلة يتوصل بها إلى المطلوب، فوجب أن لا يجوز له التقليد فيه.
__________
(1) حكى ذلك الجصاص في المرجع السابق حيث قال: (قال أبو بكر: ولا فرق عندنا في قول أبي حنيفة في جوازه تقليده لغيره، بين أن يقلده ليأخذ به في شىء ابتلي به في أمر نفسه، وبين أن يفتي به غيره، يجوز له أن يفعل ذلك في الأمرين جميعاً) .
ولكن صاحب مسلم الثبوت مع الشارح (2/293) ذكرا أن هناك روايتين عن الإمام أبي حنيفة، إحداهما: يجوز، والأخرى: لا.
(2) في المرجع السابق: (وعن محمد: يقلد من هو أعلم منه، وهو ضرب من الاجتهاد) .
ولكن الجصاص في المرجع السابق نقل بواسطة أبي الحسن: (أن محمداً لا يجِّوز ذلك) .
(3) نقل ذلك عنه الشيرازي في التبصرة ص (412) والرازي في المحصول (6/16) ولكن قيد الرازي في المحصول بأن ابن سريج يجوز للمجتهد التقليد فيما يخصه، بحيث لو اشتغل بالاجتهاد في المسألة لفات الوقت.
وهناك أقوال أخرى في المسألة: ارجع إليها في المحصول والإحكام للآمدي في المواضع السابقة.
(4) آية (59) من سورة النساء.
(5) آية (10) من سورة الشورى والآية في الأصل (فحكمه إلى الله والرسول) وهو خطأ، فإن الآية ليس فيها ذكر الرسول.(4/1231)
أصله: التقليد في التوحيد.
وهذا نكتة المسألة.
ولا يلزم عليه قول الصحابي؛ لأن الرجوع إليه ليس بتقليد؛ لأنه حجة كقول النبي.
فإن قيل: الأمور العقلية طريقها العلم، وتقليد الغير أكثر أحواله أن يوجب غلبة الظن، فلم يجز له تقليده، وأمور الشرع طريقها الاجتهاد، وتقليده لمن هو أعلم منه وأقوى اجتهاداً ضرب من الاجتهاد، فوجب أن يكون ذلك دلالة.
قيل: ليس هذا ضرباً من الاجتهاد ولا دلالة، وإنما هو اجتهاد من التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه، ويقف على دليله.
ولأنه لا يجوز للإِنسان أن يتبع قول غيره إلا بصفة تختص به، لا يشاركه فيها أحد، مثل الرسول اختص بالعصمة (1) وكذلك الأمة.
وكذلك قول الصحابي اختص بمشاهدة التنزيل وحضور التأويل.
والعالم مع العامي اختص بالاجتهاد.
فأما إذا لم يكن لأحدهما مزية لم يكن له اختصاص بصفة فلم يجز للآخر اتباعه في قول.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِى اْلأمْرِ مِنْهُمْ) (2) .
والجواب [184/ب] : أن المراد به العامة، يدل عليه قوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) عُلِم أنه أراد المقلد؛ لأنه إذا كان عالماً فهو من أهل الاستنباط.
__________
(1) في الأصل (الصمة) .
(2) آية (83) من سورة النساء.(4/1232)
واحتج: بما روي أن عبد الرحمن بن عوف لما تردد بين عثمان وعلي، قال لعثمان: (هل أنت متابعي (1) على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين؟. فقال: الَّلهم نعم، فبايعه) (2) .
وإنما دعاه عبد الرحمن إلى اتباع أبي بكر وعمر لاعتقادهما (3) أن أبا بكر وعمر كانا أعلم من عثمان.
وروي عن عمر أنه قال: (إني رأيت في الجد رأياً، فاتبعوني، فقال له عثمان: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد، وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان) (4) .
وروي (أن امرأة ذُكِرت عند عمر بالفاحشة، فوجه إليها، فأجهضت ذا بطنها من الفزع، فاستشار الصحابة، فقال عثمان وعبد الرحمن: إنك مؤدب، ولا شىء عليك، وعلىُّ ساكت، فقال له عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشَّاك، عليك الدية، فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) (5) .
__________
(1) هكذا في الأصل في هذا الموضع، والمواضيع الأخرى الآتية، والذي يظهر لي -وهو ما أثبته الشيرازي في التبصرة ص (407) - أنه (مبايعي) .
(2) سبق تخريج الأثر.
(3) أي: عبد الرحمن وعثمان.
(4) هذا الأثر أخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: قول عمر في الجد (2/256) حديث (2919) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب فرض الجد (8/263) حديث (19051) .
(5) هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب من أفزعه السلطان (9/458) ، ونصه: ( ... عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى امرأة مَغيبة كان يُدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها: أجيبي عمر، فقَالت: يا ويلها ما لها ولعمر قال: فبينا هى في الطريق فزعت، فضربها الطّلْق، فدخلت داراً =(4/1233)
فقلد علياً.
والجواب عن قول عبد الرحمن لعثمان: هل أنت متابعي على سيرة الشيخين من وجوه:
أحدهما: أنا نحمل ذلك على السيرة في حماية البيضة. والقيام بالمصالح، والتزيد في بلاد الإسلام والفتوح والنكاية في العدو، ولم يُرِد في أحكام الفقه.
يدل على صحة هذا: أن أحكامهما (1) مختلفة في كثير من المسائل، فكيف يجوز اتباعهما؟.
فإن قيل: لو كان المراد به السيرة لم يمتنع عليُّ من ذلك.
قيل (2) .
وجواب ثان، وهو: أنه يجوز أن يكون عثمان أجابه إلى ذلك؛ لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكر وعمر) فحمله على عمومه.
وجواب ثالث، وهو: أن علي بن أبى طالب خالفهما في ذلك، فقال لعبد الرحمن لما قال له: (هل أنت متابعي على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة
__________
= فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شىء إنما أنت وال ومؤدب، قال: وصمت عليُّ، فأقبل عليه، فقال: ما تقول؟ قال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كان قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك، قال: فأمر علياً أن يقسم عقله على قريش، يعني يأخذ عقله من قريش؛ لأنه خطأ) .
وقد آثرت نقل الأثر بنصه، لما فيه من الفقه والعظة والنصح، والعظمة القيادية.
(1) في الأصل: (احكامه) .
(2) هكذا في الأصل، ذكر الاعتراض، ولم يجب عنه، واكتفى بقوله: قيل.(4/1234)
الشيخين؟ فقال له علي: لا، إلاَّ على جهدي وطاقتي) . فخالفهما في ذلك.
فإن قيل: ليس هذا بخلاف؛ لأنه يجوز أن يكون عنده أنه أعلم منهما، فلهذا لم يتبعهما؛ وكان عند عثمان أنهما أعلم منه، فأجاب إلى اتباعهما.
قيل: الخلاف قد ظهر منهما، وما ذكره المخالف من هذا الاحتمال يحتاج إلى دليل.
وأما قول عمر: (إني رأيت في الجد رأياً فاتبعوني) ، فلا حجة فيه؛ لأنه إنما يصح التعلق به إذا ثبت أن عمر دعاهم إلى اتباعه؛ لاعتقاده أنه أعلم منهم.
وهذا المعنى ليس في الخبر [185/أ]
وعلى أن معناه: اتبعوني بالدليل الذي قام عندي.
وقول عثمان: (إن نتبع رأيك فرأيك رشيد) ، أي: [له] وجه في الأصول وتَعَلُّق بها (وإن نتبع رأي من قبلك، فنعم ذو (1) الرأي) ، لما دلَّ عليه من الدليل، فإذا احتمل هذا لم يجز حمله على التقليد.
وأما قول عمر لعلي: (عزمت عليك لتقسمنها على قومك. إنما قاله؛ لأن اجتهاده أدى إلى صحة ما قاله، فكان ذلك قولاً بالدليل.
واحتج: بأن العالم إذا رأى اجتهاد غيره أقوى من اجتهاد نفسه كان تقليده إياه ضرباً من الاجتهاد، فلما كان له أن يحكم في الحادثة بما يؤديه إليه اجتهاده، كذلك يجوز له أن يقلد غيره فيها (2) إذا كان اجتهاده أوثق عنده من اجتهاد نفسه.
والجواب: أنه لو كان جواز تقليده مما ذكرته من أن اجتهاد غيره أقوى لوجب أن لا يجوز له أن يترك تقليده، ولا يعمل على اجتهاد نفسه، كما أنه
__________
(1) في الأصل: (ذي) .
(2) في الأصل: (فيهما) .(4/1235)
إذا رأى الحادثة بأحد الأصلين أشبه منها بالأصل الآخر لم يجز له أن يردها إلى الأصل الذي هو أشبه به، فلما أجزتم له أن يمضي اجتهاد نفسه علمنا أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين.
وجواب آخر وهو: أن قولهم: إن رجوعه إلى قول غيره ضرب من الاجتهاد لا يصح؛ لأنه اجتهاد في التقليد، وكلامنا في اجتهاده ليعلم ذلك بعلمه ووقوفه على دليله.
واحتج: بأن الأعلم لما كان يعرف مالا يعرفه الآخر كان له أن يصير إلى من هو فوقه، مثل العامي يسمع خبراً أو آية عامة، فإن عليه الرجوع إليه (1) ، يقلده (2) لجواز أن يكون عند العالم ما يقضي على الخبر الذي يسمعه.
كذلك اجتهاد من هو أدون منه في الفقه لما جاز أن يكون عند العالم ما يقضي على اجتهاده لزمه المصير إلى قوله.
والجواب: أنه لو كان كالعامي لوجب الرجوع إلى قوله، ولم يجز لى أن يعمل على ما عنده، ولما جاز له العمل على ما عنده لم يصح اعتباره به.
ولأن العامي ليس معه آلة الاجتهاد، وهذا بخلافه.
__________
(1) أى فإن على العامي أن يرجع إلى العالم فيقلده لجواز..
(2) في الأصل (تقليد) بدون إعجام.(4/1236)
[لا يجوز التقليد للعالم وإن ضاق الوقت]
والدلالة على منع التقليد مع ضيق الوقت أيضاً ما تقدم.
ولأنه من أهل الاجتهاد، فلم يجز له تقليد غيره.
دليله: إذا لم يضق وقته.
ولأن اجتهاده شرط في صحة فرضه، فلا يسقط بخوف الفوت قياساً على سائر الشروط، مثل: الطهارة وستر العورة وغير ذلك.
ولأن العامي فرضه السؤال والتقليد، والعالم فرضه في الاجتهاد، فلما لم يسقط عن العامي فرض السؤال لخوف الوقت لم يسقط عن العالِم فرض الاجتهاد [185/ب] .
واحتج المخالف (1) :
بأنه لا يمكنه أداء فرضه باجتهاده، فكان فرضه التقليد قياساً على العامي.
والجواب: أن العامى عاجز عن الاجتهاد، والعالم متمكن منه، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لا يجوز اعتبار من لا يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما (2) ، ولكنه يخاف فوات الوقت إن استعملهما (3) .
واحتج: بأنه لما جاز للعالم تقليد الصحابي جاز له تقليد غير الصحابي.
والجواب: أنه لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك، ولم يجز له مخالفتهم (4) ،فجرى ذلك مجرى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس كذلك ها هنا، فإن العالم لا
__________
(1) هو ابن سريج، كما سبق بيانه.
(2) في الأصل: (عليها) .
(3) في الأصل: (استعملها) .
(4) في الأصل: (مخالفته) .(4/1237)
يلزمه تقليد العالم، بل هو مخير عندهم في تقليده وفي تركه والعمل على ما عنده، فبَانَ الفرق.
مسألة
[حكم الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع]
الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع اختلف الناس فيها (1) .
فذكر شيخنا (2) -رحمه الله- أنها على الحظر إلا أن يرد الشرع بإباحتها.
وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى معنى هذا في رواية صالح ويوسف موسى (3) : "لا يخمَّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي خمَّس السَّلَب" (4) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/269) المسودة ص (474) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/117) وشرح مختصر الروضة للطوفي الجزء الأول الورقة (82/أ) وشرح الكوكب المنير (1/322) والقواعد والفوائد الأصولية ص (110) .
(2) يعنى الشيخ الحسن بن حامد - رحمه الله تعالى.
(3) انظر هده الرواية في المسوَّدة ص (478) .
(4) أخرج أبو داود في كتاب الجهاد، باب في السَّلَب لا يخمس (2/66) عن عوف ابن مالك وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم:- (قضي بالسَّلَب للقاتل ولم يخمس السَّلَب) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/26) : ولفظه: (لم يخمس السَّلَب) .
وأخرجه ابن الجاررد في المنتقى باب نفل القاتل سَلَب المقتول ص (361) حديث (1077) ولفظه كلفظ الإمام أحمد.(4/1238)
وهذا يدل على أنه لم يبح تخميس السَّلَب؛ لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع فيه، فبقي على أصل الحظر (1) .
وكذلك نقل الأثرم وابن بَدينا (2) في الحُلِيّ يوجد لقطة (3) ، قال: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير" (4) .
فاستدام أحمد -رحمه الله- التحريم، ومنع [الملك] (5) على الأصل؛ لأنه
__________
(1) وقد تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة ص (478) بقوله: (قلت: لأن السلب قد استحقه القاتل بالشرع، فلا يخرج بعضه عن ملكه إلا بدليل، وهذا ليس من موارد النزاع) .
(2) هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلى. من أصحاب الإمام أحمد. حدث عن الإمام أحمد وأحمد بن عبده الضَّبِّي، وروى عنه أبو بكر الخلال وغلامه عبد العزيز. قال فيه الدارقطنى: لا بأس به، ما علمت إلاّ خيراً. توفي في شهر شوال سنة (303هـ) .
له ترجمة في: طبقات الحنابلة (1/288) .
(3) هذه الرواية موجودة بنصها في المسوَّدة ص (478) .
(4) هذه إشارة إلى حديث زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال (سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة الذهب أو الورق، قال: (اعرف وِكَاءَها وعِفاصَها، ثم عَرِّفها سنة، فإن لم تَعْرِفْ فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه) الحديث هذا لفظ مسلم في صحيحه أخرجه في كتاب اللقطة (3/1349) .
وأخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه (3/156) ولم يذكر فيه الذهب والفضة، بل قال: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة قال: (اعرف ... ) الحديث.
وأخرجه أبو داود في سننه كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة (1/395) .
(5) الزيادة من المسوَّدة ص (478) .(4/1239)
لم يرد شرع في غير الدراهم (1) .
وبهذا قالت المعتزلة البغداديون (2) والإمامية (3) وابن أبى هريرة (4) من أصحاب الشافعي.
وقال البصريون من المعتزلة الجبَّائي وابنه (5) : إنها على الإباحة.
وبه قال أصحاب أو حنيفة (6) فيما حكاه السرخسي.
وحكي عن جماعة من أصحاب الشافعي ابن سريج [وأبي حامد] (7) المروذي (8) .
وهو قول أهل الظاهر (9) .
__________
(1) تعقبه شيخ الإسلام في المسوَّدة الموضع السابق بقوله:
(قلتُ: لأن اللقطة لها مالك فنقلها إلى الملتقط يحتاج إلى دليل، وليس هذا من جنس الأعيان في شىء) .
(2) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/868) إلا أنه عبر بقوله: (وذهب بعض شيوخنا) .
(3) انظر المسودة ص (474) .
(4) نقل ذلك عنه الشيرازي في التبصرة ص (532) .
(5) انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري الموضع السابق.
(6) به قال أكثر الحنفية، كما في تيسير التحرير (2/168) .
(7) الزيادة من المسودة ص (474) وشرح الكوكب المنير (1/325) ، ونقله الشيرازي عنه في التبصرة ص (533) ، يؤيد ذلك: أن ابن سريج بغدادي، وليس مروذياً.
(8) هو: أحمد بن بشر بن عامر العامري المروذي القاضي، الشافعي. الفقيه، الأصولي، كان عمدة الشافعية في عصره. له كتاب (الجامع) وشرح مختصر المزني توفي سنة (362هـ) .
له ترجمة في: شذرات الذهب (3/40) وطبقات الشافعية لابن السبكى (3/12) وطبقات الشيرازي ص (94) ووفيات الأعيان (1/52) .
(9) هكذا حكى المؤلف عن الظاهرية القول بالإباحة.(4/1240)
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية أبي طالب وقد سأله عن قطع النخل، قال: "لا بأس به، لم نسمع في قطع النخل شيئاً، قيل له: فالنَّبْق قال: ليس فيه حديث صحيح، وما يعجبنى قطعُه، قلت له: إذا لم يكن فيه حديث صحيح فلم لا يعجبك؟ قال: لأنه على [كل] (1) حال قد جاء فيه كراهة (2) ، والنخل لم يجيء فيه شىء".
فقد استدام أحمد -رحمه الله- الإباحة في قطع النخل؛ لأنه لم يرد شرع يحظره (3) .
وهو ظاهر كلام أبي الحسن التيمي (4) ؛ لأنه نصر جواز الانتفاع قبل وجود الإذن من الله تعالى.
__________
= وبالرجوع إلى كتاب الإحكام لابن حزم وجد غير هذا، قال (1/47) : (.... وقال آخرون: وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس: ليس لها حكم في العقل أصلاً لا بحظر ولا بإباحة، وأن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة) .
(1) الزيادة من المسودة ص (478) .
(2) قد مضى الكلام على هذه الرواية، وعلى حديث النهي عن قطع السدر.
(3) تعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية في المسودة ص (479) بقوله: (قلت: لاشك أنه أفتى [يعني الإمام أحمد] بعدم البأس، لكن يجوز أن يكون للعموميات الشرعية، ويجوز أن يكون سكوت الشارع عفواً، ويجوز أن يكون استصحاباً لعدم التحريم، ويجوز أن يكون لأن الأصل إباحة عقلية، مع أن هذا من الأفعال لا من الأعيان) .
(4) نقل ذلك عنه في التمهيد (4/269) والمسوَّدة ص (474) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/117) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الأول الورقة (82/أ) وشرح الكوكب المنير (1/325) وقد اختاره المؤلف في مقدمة "المجرد" كما في المسودة واختاره أبو الخطاب كما في التمهيد.(4/1241)
وقال أصحاب الأشعري (1) : هي على الوقف لا يقال: إنها مباحة ولا محظورة، إلا أن [186/أ] يرد الشرع بذلك.
وهو قول أبي الحسن الجزري (2) من أصحابنا، ذكره في جزء فيه مسائل، فقال: "الأشياء قبل مجيء الشرع موقوفة على دلائلها، فما ورد النص به عمل به، وما لم يرد به النص رد إلى ما فيه النص، ومن قال: إنها على الإباحة، فقد أخطأ" (3) .
وبهذا قال جماعة من أصحاب الشافعي: الصيرفي وأبو علي الطبري (4) .
والقائل بالوقف موافق لمن قال بالإباحة في التحقيق (5) ؛ لأن من قال بالوقف يقول: لا يثاب على الامتناع منه، ولا يأثم بفعله.
وإنما هو خلاف في عبارة.
__________
(1) عزاه الشيرازي في التبصرة (532) إلى الأشعري.
(2) هو: عبد العزيز بن أحمد الجزري أو الخرزي، وقد سبقت ترجمته.
(3) نقل ذلك عنه، في: المسوَّدة ص (474) وروضة الناظر (1/118) ، وشرح الطوفي الجزء الأول الورقة (82/ب) .
(4) هكذا نقله عنهما أبو إسحاق الشيرازي في التبصرة ص (532) وقال: (هو قول كثير من أصحابنا) ، يعني: الشافعية.
(5) وخالفه ابن عقيل حيث نقل عنه في المسوَّدة ص (474) : (بل القول بالوقف أقرب إلى الحظر منه إلى الإباحة)
ثم علَّق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (قلتُ: كلام أبي الحسن الخرزي يوافق قول ابن عقيل، لأنه يحتج على الفتوى بالاقدام عليها، كما يحتج الحاظر والمبيح، يعنى بالتناول) .(4/1242)
واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة؛ لأن من الأشياء مالا يجوز أن يقال: إنها على الحظر، كمعرفة الله تعالى، ومعرفة وحدانيته.
ومنها مالا يجوز أن يقال: إنها على الإباحة، كالكفر بالله، والجحد له، والقول بنفي التوحيد.
وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها، كتحريم الخنزير، وإباحة لحم الأنعام (1) .
وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله تعالى في بريَّة، لا يعرف شيئاً من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون تلك الأشياء في حقه على الحظر أم على الإباحة، حتى يرد الشرع بالدلالة؟
فالدلالة على الحظر (2) :
أن جميع المخلوقات ملك لله تعالى، لأنه خلقَها وأنشأها وبَرأَهَا، ولا يجوز الانتفاع بملك العبد إلا بإذنه، يدل على ذلك أن أملاك الآدميين لا يجوز لأحد منهم أن ينتفع بملك غيره بغير إذنه.
فإن قيل: قولكم: لا يجوز الانتفاع بملك الغير بغير إذنه، لا يخلو: إما أن يريدوا به أنه لا يجوز من طريق العقل [أ] والشرع.
فإن أردتم من طريق العقل لم يسلم لكم هذا؛ لأن العقل عندنا مما لا يحل ولا يحرم.
وإن أردتم به من طريق الشرع فصحيح، إلا أنه لم يرد شرع، ولهذا توقفنا حتى يرد الشرع بحظره أو إباحته.
__________
(1) هذا الكلام تحرير لمحل النزاع، ولو جعله المؤلف في أول المسألة لكان أحسن.
(2) اختار المؤلف هذا القول بالحظر، بينا نقل عنه الفتوحي في شرح الكوكب المنير (1/325) : أنه قال في مقدمة كتابه المجرد: بالإباحة.
قلت: والمشهور عنه هو: القول بالحظر.(4/1243)
ْوهذا دليل من قال بالوقف، والكلام يأتي عليه في أدلتهم.
فإن قيل: فالآدمي إنما حُرم ملكُه بغير إذنه لما يلحق فيه من الضرر، ألا ترى أن مالا ضرر عليه فيه، مثل المشي في ضوئه والوقوف في ظله، وما أشبه ذلك أغير محرماً، والله تعالى لا يستضر بالانتفاع بملكه. فلم يحرم تناوله.
وهذا دليل من قال بالإباحة والكلام يأتي عليه في أدلتهم، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: من الأملاك ما يتصرف فيها الغير بغير إذن مالكها، وهو مال الصبي والمجنون وأهل الحرب.
وكذلك [186/ب] المضطر إلى مال الغير فإنه يأكل منه بغير إذن مالكه.
قيل: هناك إذن من جهة العقل والشرع.
ودليل آخر وهو: أن تناول ذلك واستباحته ترك للاحتياط وركوب الغرر؛ لأنه يمكن أن يكون على الإباحة فلا يأثم، ولا يحرج، ويمكن أن يكون على الحظر فيكون ملوماً في فعله مأثوماً في تناوله، فإذا أمكن هذا وهذا وجب بدليل العقل الامتناع منه لئلا يركب الحظر والغرر، كمن قيل له: هذا طريق مأمون، وهذا طريق مخوف، وجب بدليل العقل ترك المخوف، وإذا ركبه كان قبحاً في العقل، فكان الاحتياط الترك.
فإن قيل: لا نسلم أن تناولها ترك الاحتياط، بل الاحتياط في الانتفاع بها؛ لأن في ذلك تلف النفس، ونحن ممنوعون من ذلك.
وهذا دليل من قال بالإباحة. والكلام يأتي عليه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: اعتقاد الحظر فيما هو مباح لا يجوز، كما لا يجوز اعتقاد الإباحة فيما هو محظور، فلا يكون لأحدهما في هذا الوجه على الآخر مزية، وحصل للانتفاع بها مزية من جهة أن فيه إحياء النفس.
قيل: قد أجبنا عن هذا السؤال في ترجيح الأخبار بما فيه كفاية (1) .
__________
(1) ص (1041) من هذا الكتاب.(4/1244)
وبيَّنا أن هذا يبطل بالمتولد من بين ما يباح أكله وما لا يباح أكلُه، وما يباح نكاحُه وما لا يباح، فإنه يُغلَّب الحظر فيه، ولا يقال: إن تحريم ما يباح بمثابة إباحة ما هو حرام.
فإن قيل: لا يصح حظر ما يتوهم وجوبه وحظره، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه، وإن جاز الحظر لزم أن يقال: يجب على كل أحد أن يصلي طول دهره ويصوم طول أيامه قبل الشرع، لجوار أن يرد الشرع بوجوب ذلك.
قيل: ولا يجوز إباحة ما يتوهم إباحته، وإنما يصح ذلك فيما عرف حكمه [فكان] استعمال الحظر أولى، لما بيَّنا.
ويفارق هذا ما ذكروه من الصيام، والصلاة؛ لأنه لا يعقل معناها قبل ورود الشرع، واجتناب هذه الأشياء يعقل (1) معناه، وهو تركه.
وقد اعتمد من نصر هذا القول على طريقة أخرى، فقال: العقل لا ينفك من شرع؛ لأنه لو انفرد عن شرع لم يجز الإقدام على المنافع ولا الإحجام عنها، لجواز كون كل واحد منهما مفسدة.
وإذا كان انفكاك العقل من سمع يؤدي إلى هذا الفساد لم يجز أن ينفك من سمع، وإذا لم ينفك من سمع فالسمع قد حظر الانتفاع والتصرف في ملك الغير بغير إذنه، ومن قال بالإباحة أباح التصرف في ملك الغير بغير إذن.
وهذه الطريقة إذا صحت [187/أ] حصل الاحتجاج بالشرع دون العقل.
واحتج من قال بالإباحة:
بأن الله لما خلق هذه الأشياء لم تَخْلُ من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون خلقَها لينتفع هو بها، أو لينتفع بها غيره، أو ليضر بها غيره.
__________
(1) في الأصل: (ويعقل) .(4/1245)
ولا يجوز أن يكون خلقها لينتفع هو؛ لأنه تعالى غني أن تلحقه المنافع والمضار.
ولا جائز أن يكون خلقها ليضر بها؛ لأن ذلك قبيح، إذ لم يكن في حال خلقه إياها من يستحق العقوبة، فلم يبق إلا أنه خلقها لينتفع عباده.
والجواب: أن هذا ينقلب عليهم فيما خلقه الله تعالى وحرمه على عباده، مثل الخمر والخنزير. ونُقسِّم ذلك عليهم مثل تقسيمهم حرفاً بحرف.
وعلى أنا نقول: يجوز أن يكون خلقها ليمتحن عباده بالكف عنها، ويثيبهم على ذلك، وليستدلوا بها على خالقها.
وهذا وجه يخرجه من حد العبث والضرر بهم، فسقط ما قالوه.
واحتج: بأنه لا يقبح في العقل (1) أن ينتفع بملك الغير على وجه لا يستضر الغير به، بدليل التنفس في الهواء والانتقال في الجهات، بدليل أن له أن يمشيَ في ظل (2) حائطه ويتكىء على حائطه، ويمشى معه في طريقه يأنس بكونه في صحبته، وينظر في مرآة المزين (3) إذا علقها على وجه لا يتنفس فيها، أو كان على حائطه قرآن مكتوب، كمن كتب على حائطه آية الكرسي كان لكل أحد أن يتلقَّن ذلك منه، كذلك في بقية الأشياء؛ لأن الله تعالى [منزه] عن أن يستضَّر بشىء.
والجواب: أنه إن لم يكن على المالك ضرر فعلى المتصرف ضرر؛ لأنه يجوز أن يُحظَر عليه، فيجب أن يؤثر ذلك في المنع، كارتكاب المعاصى، لا ضرر على الله تعالى بفعلها، ومع هذا فإنه يمنع العبد منها لما عليه فيها من الضرر في الآخرة.
__________
(1) في الأصل: (الفعل) .
(2) في الأصل: (كل) .
(3) هو الحجام، كما في لسان العرب (17/63) مادة (زين) ويطلقه العامة على الحلاق.(4/1246)
وجواب آخر وهو: أنه لا يمتنع أن لا يكون عليه ضرر من ذلك ويمنع منه، لعدم الإذن، بدليل: أن من يملك القناطر من المال لا ضرر عليه بأخذ درهم منها، ومع هذا لا يجوز إلا بإذنه.
وأما التنفس في الهواء والانتقال في الجهات فينظر وقته، فإن كان لحاجة جاز؛ لأن الأول قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى طعام الغير، فيباح له؛ لأن العقل لا يمتنع من هذا، كما لا يمنع الشرع من ذلك عند الحاجة، وإن لم يكن به حاجة منعناه.
وأما الاستيضاء بنار غيره، والظل بحائطه، والنظر في المرآة، فهذه الأشياء ليست بملك لأحد، فلهذا جاز التصرف فيها.
يبين صحة هذا: أنه يصح المنع منها بغير حاجة، وإنما يملك المنع فيها لحاجة وهو [187/ب] أن يكون محتاجاً إلى فناء حائطه.
وقد قيل بأن التنفس في الهواء لا يؤدي إلى استهلاك الهواء، فلا يؤثر فيه وكذلك النظر في مرآته والاستيضاء بناره.
وليس كذلك أكل الطعام وشرب الشراب، فإنهما يؤثران في الطعام والشراب، ويؤديان إلى استهلاكهما، وهما ملك للغير، فلا يجوز بغير إذنه.
واحتج: بأن الأشياء كلها ملك لله تعالى، الحيوان وغيره، والأحسن إحياء الملك بالملك. ويقبح إهلاك الملك مع القدرة لما فيه من الفساد.
والجواب: إنما يُبيح أن تتناول هذه الأشياء عند الحاجة وجود (1) التلف؛ لأن الإذن قد حصل فيه من جهة العقل، فنظيره أن يضطر إلى أكل طعام الغير، فإنه يباح لهذه العلة.
وعلى أن هذا يوجب أن تقول إذا أكره على القتل: أن يجوز، لينجيَ نفسه،
__________
(1) في الأصل: (وجوب) .(4/1247)
ولا يُقتل به؛ لأن في ذلك إحياء الملك بالملك، وقد قلتَ: إنه لا يَقْتل، وإن قَتل قُتِل، كذلك هاهنا.
واحتج من قال بالوقف:
بأنه قد ثبت من الأصلين أن العقل لا يبيح ولا يحظر، وأن المباح: ما أعلمَ صاحبُ الشرع أنه لا ثواب في فعله، ولا عقاب في تركه.
والمحظور: ما أعلم أن في فعله عقاباً، فإذا لم يرد الشرع بواحدٍ منهما، وجب أن لا يكون محظوراً ولا مباحاً، ويكون حكمه موقوفاً على ورود الشرع.
والجواب: أنا إنما علمنا أن العقل لا يبيح ولا يحظر بالشرع، وكلامنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمتنع أن نقول قبل ورود الشرع: إن العقل يبيحُ ويحظُرُ إلى أن ورد الشرع بمنع ذلك، إذ ليس قبل ورود الشرع ما يمنع من ذلك.
وقد قيل: إنا علمنا ذلك من طريق شرعي، وهو: إلهام من الله تعالى لعباده بحظر ذلك أو إباحته (1) .
كما ألهَمَ أبا بكر أن قال: الذي في بطن أم عبد جارية (2) .
وكما ألْهَمَ عمر أشياء ورد الشرع بموافقتها.
واحتج: بأن كونه على الحظر أو على الإباحة إنما يعرف على قولكم قبل ورود الشرع بالعقل، وما علم حكمه بدليل العقل لا يجوز أن يرد الشرع
__________
(1) في الأصل: (وإباحته) بدون الهمزة قبل الواو.
(2) في الأصل: (حارثه) وهو خطأ.
وقصة إلهام أبي بكر - رضي الله عنه - أخرجها ابن سعد في طبقاته (3/195) بسنده إلى عائشة -رضي الله عنها- (أن أبا بكر -لما حضرته الوفاة- دعاها وطلب منها أن ترد نخلة نحلها إياها ثم قال لها بعد ذلك: (وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فقالت عائشة: إنما هي أسماء فقال: وذات بطن ابنة خارجة قد ألقى في روعي أنها جارية، فاستوصي بها خيراً فولدت أم كلثوم) .(4/1248)
بخلافه، مثل شكر المنعم، واستقباح الظلم، يجب في العقل شكر المنعم واستقباح الظلم، فلما ثبت أنه يجوز أن يرد الشرع بخلاف ما اقتضاه العقل بطل أن يكون ذلك بالعقل حاظراً أو مبيحاً.
والجواب: أنه كذلك فيما يعرف ببدائه العقول وضرورات المعقول، كالتوحيد، وشكر المنعم، وقبح الظلم، فأما ما يعرف بثواني العقول استنباطاً واستدلالاً فلا يمنع أن [188/أ] يرد الشرع بخلافه؛ لأنا قلنا [هي] على الحظر، وجوزنا أن يكون على الإباحة أو على الوقف، ولكن كان هذا عندنا أظهر، فصرنا إليه، فإذا ورد الشرع كان أولى مما (1) عرفناه استدلالاً مع تجويز غيره.
يبين صحة هذا: أن ذبح الحيوان يحظره العقل، وقد ورد الشرع بإباحته.
والزنا يبيحه العقل كالنكاح، والشرع قد حظره.
وعلى أن ورود الشرع بالإباحة إذن في التصرف، وحصول الإذن في الثاني لا يمنع حظراً متقدماً، بدليل طعام الغير هو محرم عليه، وإذا أذن فيه أبيح، ولم يمنع ذلك من حظر قبله، كذلك ها هنا.
واحتج بأن كونه حراماً لا يخلو إما أن يكون لعينه، أو لمعنى.
فبطل أن يكون لعينه؛ لأنه لو كان ذلك لعينه لما انقلب عنه إلى غيره.
وبطل أن يكون لمعنى؛ لأن الشرع يرد بإباحته، فلا يجوز أن يحظره. مع بقاء معنى الإباحة.
فإذا بطل الأمران ثبت أنه لا يصح أن يقال: مباح.
والجواب: أنه محظور لمعنى لا لعينه، ولا يمتنع ورود الشرع بخلافه، فيزول ذلك المعنى، كما قلنا في فروع الدين واجتهاد الأنبياء، يجتهدون في الحكم، ثم (2)
__________
(1) في الأصل: (ما) .
(2) في الأصل: (لم) ، وهو تحريف.(4/1249)
يرد النص عن الله تعالى بخلافه. ويقولون في الحادثة قولاً، ثم ينسخ ذلك من بعد.
فإذا صح مثل هذا في العبادات صح مثله في مسألتنا.
وقد قال بعض من تكلم في هذه المسألة: إن الكلام فيها تكلف؛ لأن الأشياء قد عرف حكمها واستقرارها بالشرع.
وقال آخرون: الوقت ما خلا من شرع قط؛ لأن الله تعالى لا يخلي الوقت من شرع يعمل عليه؛ لأنه أول ما خلق آدم قال له: (اسْكُنْ أنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا (1) رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (2) فأمرهما ونهاهما عَقِيب ما خلقهما.
وكذلك كل زمان، وإذا كان كذلك بطل أن يقال: ما حكمها قبل ورود الشرع؟ والشرع ما أخل بحكمها قط.
فعلى هذا لا يتصور الخلاف إلا في تقدير أن الأشياء لو لم يرد بها شرع ما حكمها؟
فالحكم عندنا على الحظر.
وعند قوم على الإباحة.
وعند آخرين على الوقف.
وهذه الطريقة ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- لأنه قال في رواية عبد الله فيما أخرجه في محبسه: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" (3) .
__________
(1) في الأصل: (من) وكلمة (رغداً) ساقطة، وهو خطأ.
(2) (35) سورة البقرة.
(3) انظر هذه الرواية في: التمهيد (4/272) والمسوَّدة ص (486) وشرح الكوكب (1/324) .(4/1250)
فأخبر أن كل زمان فيه قوم من أهل العلم.
وهذه طريقة أبي الحسن الجزري ذكرها أمام قوله: إن الأشياء على الوقف، فقال:
"لم تخل الأم قط من حجة تلزمهم أمر أو نهي".
واستدل عليه بقوله تعالى: (أَيَحَسَبُ الإِنسَانُ أن يُتْرَكَ سُدىً) (1) والسُّدى: الذي لا يُؤمَرُ ولا يُنْهى (2) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أمةٍ رَّسُولاً) (3) .
وقال تعالى: (وَإن مِّنْ أُمَّةٍ [188/ب] إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ) (4) .
وأن الله تعالى لما خلق آدم أمره ونهاه في الجنة، فقال: لا تقرب هذه الشجرة.
وقال قوم: هذه المسألة لا تفيد في الفقه شيئاً، وإنما ذلك كلام يقتضيه العقل.
وليس كذلك؛ لأن لها فائدة في الفقه، وهو أن من حرَّم شيئاً أو أباحَه فقول: طلبتُ دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا؟
وهل يلزم خصمه احتجاجه بذلك أم لا؟
وهذا مما يحتاج إليه الفقيه وإلى معرفته والوقوف على حقيقته.
وحُكي أن بعض أصحاب داود احتج على إباحة استعمال أواني الذهب
__________
(1) آية (36) من سورة القيامة.
(2) وبهذا الذي ذكره المؤلف فسره مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال: السُّدِّي: (يعنى: لا يبعث) .
واختار ابن كثير: (أن الآية تعم الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث) .
انظر: تفسير ابن كثير (4/452) .
(3) آية (36) من سورة النحل. وفي الأصل (نذيراً) بدل (رسولاً) ، وهو خطأ.
(4) آية (24) من سورة فاطر.(4/1251)
والفضة في غير الشراب (1) : بأن الأصل فيها الإباحة، وقد ورد الشرع بتحريم الشرب، فوجب أن يبقى ما عداه على التحليل.
فقيل له: مذهب داود: أن هذه الأشياء في العقل موقوفة على ما يَرِد به الشرع (2) .
فإذا كان كذلك لم يجز إثبات إباحتها بهذا الطريق.
ولا تكون إباحتها لعدم دليل شرعي أولى من حظرها.
ونظرتُ في هذه المسألة لبعض شيوخ الكرَّامية، وذكر فيها كلاماً لخصته على ما أذكره، واختار أن الأشياء على الإباحة قبل ورود الشرع وبعد وروده.
واستدل (3) على أنها على الإباحة قبل الشرع بأشياء:
منها: أن العبد محتاج إلى هذه المنافع، وله فيها نفع من غير ضرر يلحقه عاجلاً ولا آجلاً، فوجب أن يكون ذلك مباحاً له.
__________
(1) غير الشراب، يعني: بقية الاستعمالات بما فيها الأكل، وهو رأي داود، كما، نقل ذلك الشوكاني في كتابه نيل الأوطار (1/83) .
والذي صرَّح به ابن حزم في كتابه المحلى في باب الآنية (2/303) أن الوضوء والغسل، والشرب، والأكل في آنية الذهب والفضة حرام.
(2) هذا رأي الظاهرية، كما نقلناه عن ابن حزم في الإحكام في أول المسألة.
ولكنه يتناقض مع ما عزاه المؤلف للظاهرية، فإنه حكى عنهم في أول المسألة: أنهم يقولون بالإباحة.
وفي اعتقادي: أن الظاهرية يقولون: إن الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع لا حكم لها أصلاً، لا إباحة ولا حظراً.
ولكن بعد ورود الشرع يكون حكم العين المنتفع بها التي لم يتعرض لها دليل خاص الإباحة. والله أعلم.
(3) يحتمل أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً، ويحتمل أن يكون مرتبطاً بما قبله، ويكون فاعل (استدل) هو: (بعض شيوخ الكرَّامية) .(4/1252)
دليله: ما بعد الشرع.
فإن قيل: من أين لك أنه لا ضرر عليه، ولعله يَرِد الشرع بحظر ما كان قد استباحه.
قيل: ما لم يرد الشرع بالحظر فلا ضرر عليه فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذَّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) .
دليل ثان: أَن الله تعالى قد أحْوَجَ العاقل إلى الانتفاع بما قد أظهره من المنافع وأحضرها إياه، ولم يمنع عنها مانع، فكانت مباحةً مأذوناً فيها.
ألا ترى: أن من أحضر قوماً، مائدة عليها ألوان الطعام محتاجين إليها، ولم يضع هناك مانعاً من ذلك، فإن ذلك يجري مجرى الإذن في الإباحة، كذلك هاهنا.
فإن قيل: فهذا المعنى موجود في الخمر والخنزير.
قيل: قد كان قبل ورود الشرع على الإباحة، وبعد الشرع حرام؛ لورود الشرع بمنعه.
دليل ثالث: أن الله تعالى خلق هذه الأشياء على وجه يمكننا الانتفاع بها، وهو سبحانه يتعالى عن الانتفاع بها، فوجب أن يكون الغرض أن ينتفع بها (2) العبد.
فإن قيل: ما أنكرت على من قال: إنه أحضر هذه الأشياء للاعتبار [189/أ] بها، لا للانتفاع بها.
قيل: بل أحضرها للانتفاع بها، كما قلنا فيمن أحضر طعامه لجماعة بهم حاجة إليه، فإنه إذن وإباحة. كذلك ها هنا.
وجواب آخر وهو: أنَّا نقول: خلقها للأمرين جميعاً، للانتفاع، والاعتبار بها.
__________
(1) آية (15) من سورة الإسراء.
(2) في الأصل (به) .(4/1253)
وجواب ثالث وهو: أنه لو كان الغرض هذا لوجب أن يقتصر على خلق الجواهر والأعراض التي تتضمنها الأكوان والاجتماع والافتراق، دون الطعام؛ لأن الاستدلال يتم بهذه الأشياء.
جواب آخر وهو: أنه إن كان الغرض منها الاستدلال، فإنه لا يمكن الاستدلال بما في هذه الجواهر من الطعوم والمجسَّمات (1) الخشنة واللينة إلا بإدراكها، وإذا أدركها فقد انتفع بها (2) .
جواب آخر وهو: أنه إذا كان الغرض منها الاستدلال فلا يتم ذلك إلا بقوام أبنيتهم، ولا تقوم أبنيتُهم إلا بهذه المنافع كانت مقصودة بخلق المنافع، ولو امتنعوا عن ذلك [لأدى] إلى هلاكهم، فيكون ذلك خارجاً عما أجرى الله عليه (3) العالَم (4) من الغرض، وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يحظر عليهم التنفس في الهواء والتقلب من جانب إلى جانب.
والدلالة على أنها على الإباحة بعد الشرع:
قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي اْلأرْضِ جَمِيعاً) (5) .
وقوله: (قُل مَنْ حَرمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (6) .
وقوله: (قُلْ لاَّ أجدُ فِي مَاَ أوحِىَ إلَيَّ مُحَرماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أنَ يَكُونَ مَيْتَةً أَو دَماً مَسْفُوحاً) (7) فثبت أن ما يحرُم بالوحى يحرُم.
__________
(1) في الأصل: (المجسات) .
(2) في الأصل: (به) .
(3) في الأصل: (به) .
(4) في الأصل (إلى العالم) (وإلى) هذه لا معنى لها.
(5) آية (29) من سورة البقرة.
(6) آية (32) سورة الأعراف.
(7) آية (145) من سورة الأنعام.(4/1254)
احتج من قال: إنها على الحظر قبل الشرع:
بأنها ملك للغير، ولا يجوز التصرف في ملكه بغير إذنه.
والجواب: أنَّا نقول له: من أين تعلم أن التصرف في ملك الغير قبيح.
وعلى أن نفس هذا القائل ملك لمالك هذه الأشياء، فله أن ينتفع بالمائع لبقاء النفس.
كما أن من كان عنده طعام من جهة مالك، وعنده غلمان المالك، وفي منع الطعام عنهم هلاكهم، لم يكن له أن يمنع.
واحتج: بأنه لا يأمن هذا القائل أن يكون فيما يقدم عليه سُمُّ يهلكه.
والجواب: أنه قد استقر أيضاً أنه إن لم يقدم عليه يهلك.
وعلى أَنَّا قد نجد البهائم تقدم على ذلك ولا تهلك.
واحتج: بأنه يجوز أن تكون مخلوقة لمن يأتي بعدهم، كما أن الحور العين والملائكة لا ينتفعون بها في الجنة؛ لأن الله خلقها لبني آدم.
والجواب: أنه لو كان كذلك لدل عليه، فلما لم يدل عليه لم يصح هذا.
واحتج: بأنه لو كان العقل يبيحه لكان الشرع وارداً بخلاف العقل.
والجواب: [189/ب] أن هذا عائد عليكم في التوقف.
وهذا الخلاف مع من يجوز أن يخليَ الله عباده عن دلالات السمع.
واحتج من قال: بأنها على الحظر بعد الشرع:
بقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأذَن بِهِ اللهُ) (1) فأنكر على من أثبت حكماً، أو استحل شيئاً بغير إذن الله تعالى.
والجواب: أن هذا عائد عليكم، إذ (2) قلتم بالتحريم.
على أنا حملناه على الإباحة بدليل ما ذكرنا.
__________
(1) آية (21) من سورة الشورى.
(2) في الأصل (إذا) .(4/1255)
فصل
والدلالة على فساد قول من قال بالوقف من وجوه:
أحدها: أنَّا لا نقول له: هل تعلم التوقف مباح أم لا؟
فإن قال: بلى، فقد استباح شيئاً بعقله دون الشرع.
وإن قال: لا أعلم استباحته، ثم قَدِم عليه.
قيل له: فهلاَّ كان هذا حالك مع سائر المنافع؟
ونقول له: هل تعلم وجوب التوقف عليك أم لا؟
فإن قال: لا أعلم، وجب أن لا يلزمك الإقدام عليه، أعنى: الاقدام على التوقف.
وإن قال: بلى.
قيل له: إذا جاز أن تعلم الوجوب بعقلك، فلم لا يجوز أن تعلم الحظر والإباحة؟
ونقول له: إذا جاز أن تعلم جواز ترك الإباحة والحظر بالعقل، فهلاَّ يجوز أن تعلم جواز الإقدام على المنافع أو جواز حظرها؟ وما الفرق بينهما؟
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه لعله في الإقدام عليه مفسدة.
قيل: فيجب أن تقول بحظره؛ لأنه لا مفسدة فيه.
وعلى أنه يجوز أن يكون في التوقف (1) مفسدة أيضاً.
ويقال له: ليس تخلو الأشياء من إباحة أو حظر، فلا معنى للتوقف (1) ، إذ ليس تخلو من أحد هذين القسمين.
فإن قيل: هو وإن كان هذا حالها، فلا أدري أيهما حكم الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: (التوقيف) .(4/1256)
قيل: ولا ندرى أن حكم الله تعالى الوقف.
واحتج بقوله تعالى: (فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (1) ، فأنكر على من أحل شيئاً أو حرمه بغير إذنه.
والجواب: أنه إنما أنكر على من استبدَّ من ذات نفسه تحليل شىءٍ أو تحريمه وأما من أسنده إلى دليل، فلم يلحقه هذا الذم.
ثم هذا يلزمكم في القول بالوقف؛ لأنه لم يَرِد أمره به.
واحتج: بأن القول بالإباحة والحظر طريقُه العقل، والعقل لا مجال له في إباحة ولا حظر.
والجواب: أن هذا يلزم عليه القول بالوقف؛ لأن العقل لا يوجب ذلك وقد أثبتَّه.
وعلى أنا علمنا أن العقل لا مجال له في إباحة ولا حظر بالشرع.
فصل
وذكر أبو الحسن [190/أ] التيمي في جزء وقع إلىَّ بخطه فيما خرَّجه من أصول الفقه.
فقال: الأفعال قبل مجيء السمع تنقسم قسمين:
فمنها حسَن.
ومنها قبيح.
فما كان في العقل منها قبيحاً، فهو محظور، ولا يجوز الإقدام [عليه] كالكذب والظلم، وكفر نعمة المنعم، وما جرى مجرى ذلك؛ لأنه يكتسب بفعله الذم واللَّوم.
__________
(1) آية (59) من سورة يونس.(4/1257)
وأما الحسَن في العقل فينقسم إلى قسمين:
منه ما يجب فعله.
ومنه ما لا يجب فعله.
أما الذي يجب فعله، فهو مثل: شكر نعمة المنعم، والعدل، والإنصاف، وما جرى مجرى ذلك مما في معناه من الحسن، فإنه واجب لا يجوز الانصراف عنه.
ومن الحسَن ما لا يجب فعله، وإن كان حسَناً، مثل: التفضُّل، وبرِّ الوالدين، وقِرَى الضيف، وإطعام الطعام (1) .
فصل
[لا يحظر السمع ما أوجبه العقل ولا يبيح ما حظره]
قال (2) : ولا يجوز أن يرد السمع بحظْر ما كان في العقل واجباً، نحو شكر المنعم، والعدل، والإنصاف، ونحوه.
وكذلك لا يجوز أن يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً نحو الكذب، والظلم، وكفر نعمة المنعم، ونحوه، وإنما يَرِد بإباحة ما كان في العقل محظوراً على شرط المنفعة، نحو: إيلام بعض الحيوان -يعني بالذبح- لما فيه من المنفعة كما جاز لنا إدخال الآلام علينا بالفَصْد والحِجَامة، وشرب الأدوية الكريهة للمنفعة، وإن لم يجز ذلك لغير منفعة، وما أعطيناه من أموالنا بغير استحقاق للفقراء وغيرهم ممن يُطلبُ بدفعه إليهم الثوابُ من الله تعالى، أو الحمدُ من الناس والثناءُ الجميل؛ فإن هذا وما أشبهه من مجرى الآلام التي يطلب بها المنافع من الفَصْد، والحجامة، وشرب الأدوية.
__________
(1) كلام أبي الحسن التيمي هذا منقول بنصه في المسوَّدة ص (480) نقلاً عن المؤلف.
(2) يعنى: أبا الحسن التيمي.(4/1258)
وقد يَرِد الشرع بحظر ما لم يكن له في العقل منزلة في القبح، نحو الأكل والشرب، والتصرف الذي لا ضرر على فاعله في فعله في ظاهر أمره، فالواجب أن تجريَ أحكامُ الأفعال على منازلها في العقل.
فإما أن يكون قبيحاً في العقل، فيمتنع منه.
أو يكون واجباً في العقل، فيلزم أمرُهُ، ويجب فعلُه.
أو أن يكون حسناً ليس بواجب، فيكون الإنسان مخيراً بين أن يفعله وبين أن لا يفعله، من [نحو] (1) اكتساب المنافع بالتجارات وما في معناها.
فإذا ورد السمع فيما الإنسان فيه مخير كشَفَ السمعُ عن حالِه، وبيَّن أمرَه، فإما أن يدخله في جملة الحسَن الذي يجب فعلُه، أو في جملة القبيح الذي لا يجوز فعلُه (2) .
وهذا من كلام أبي الحسن يقتضي أن العقل يُوجب ويُقَبِّح.
وقد ذكرنا في الجزء الأول من المعتمد (3) خلاف هذَا، وحكينا [في] هذه المسألة خلاف المعتزلة.
وبينَّا قول أحمد -رحمه الله- في رواية عبدوس بن مالك: "ليس [في] السُّنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، إنما هو [190/ب] الاتباع".
__________
(1) الزيادة من المسودة ص (481) .
(2) كلام أبي الحسن منقول بنصه في المسودة ص (480-481) .
(3) كتاب "المعتمد" مفقود، وإنما يوجد مختصر له، كتب عليه المعتمد، ولكن كلام المولف في داخل الكتاب ينص على أنه مختصر من كتاب "المعتمد"، والمختصر مطبوع في بيروت بنشر دار المشرق بتصحيح الدكتور وديع حداد.
والكلام الذي يشير إليه موجود باختصار ص (21) .(4/1259)
وقد استوفينا الكلام هناك ولكن نشير إليه فنقول:
قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1) .
ولأنه لو كان في العقل حسَن وقبيح وواجب ومحظور لم يخلُ ذلك من أن يكون معلوماً ببدائِه العقول وأوَّل فيها؛ لأنه لو كان كذلك لوجب اشتراك العقلاء أجمع في ذلك، ولمَا جاز أن يخالف في ذلك قوم من العقلاء الذين (2) بهم يثبت التواتر علم أنه ليس بمعلوم ضرورة.
يبين صحة هذا: أن استحالة وجود الجسم الواحد في مكانين متباعدين في حالة واحدة كما كان معلوماً بضرورة العقل وأوَّل فيه، لم يجز مخالفة قوم يثبت بهم التواتر.
وكذلك جميع ما يعلم بضرورة العقل وأوَّل فيه وفي العلم بخلاف أكثر العلماء في ذلك الذين ببعضهم يثبت التواتر دليل على أنه ليس بمعلوم ضرورة.
فصل
[الحظر للأفعال دون الأعيان]
وقال أبو الحسن: والحظر والإباحة، والحلال والحرام، والحسَن والقبيح، والطاعة والمعصية، وما يجب وما لا يجب، كل ذلك راجع إلى أفعال الفاعلين دون المفعول به، فالأعيان والأجسام لا تكون محظورة ولا مباحة، ولا تكون
__________
(1) آية (15) من سورة الإسراء.
ووجه الاستدلال من هذه الآية -كما ذكره المؤلف في كتابه مختصر المعتمد ص (22) -: (فأخبر أنهم آمنون من العذاب قبل بعثة الرسل.... فإنه لم يوجب عليهم شيئاً من جهة العقل، بل أوجب عند مجيء الرسل) .
(2) في الأصل: (الذي) .(4/1260)
طاعة ولا معصية.
وهذا كما قال أبو الحسن؛ لأن الأعيان فعْل الله تعالى وخلْق له، فلا يجوز أن ينصرف الوعيد إلى أفعاله، وإنما ينصرف ذلك إلى أفعالنا.
قال أبو الحسن: وقد يطلق ذلك في المفعول توسعاً واستعارة، فيقال العصير حلال مباح ما لم يفسد، فإذا فسد وصار خمراً كان حراماً ومحظوراً.
والمذكَّى (1) حلال ومباح، والميتة محظورة وهى حرام، والحرير حرام، وما في معنى ذلك.
يريدون أن شرب العصير حلال ومباح ما لم يشتد، فإذا اشتدَّ وصار خمراً كان شربُه حراماً محظوراً، وأكل المذكَّى حلال ومباح، وأكل الميتة محظور وحرام، فيطلقون ذلك والمراد به: أفعالهم (3) .
__________
(1) في الأصل: (والمذكاة) والتصويب من المسوَّدة الموضع السابق.
(2) كلام أبو الحسن هذا موجود في المسوَّدة ص (481) بتصرف يسير.
ثم إن الشيخ ابن تيمية في المرجع السابق ص (482) عقَّب على كلام أبي الحسن هذا بقوله: (والصحيح أنه حقيقة في الأعيان أيضاً) .
كما تعقَّبه ص (93) من المرجع السابق بعد أن ذكر قوله: إن وصف الأعيان بالحِل والحظر توسع واستعارة. فقال: (والصحيح في هذا الباب خلاف القولين، إن الأعيان توصف بالحِل والحظر حقيقة لغوية، كما توصف بالطهارة والنجاسة والطيب والخبث، ولا حاجة إلى تكلف لا يقبله عقل ولا لغة ولا شرع، وحينئذٍ فيكون العموم في لفظ التحريم) .(4/1261)
مسألة
في استصحاب الحال (1)
وهو على ضربين (2) :
أحدهما: استصحاب براءة الذمة من الوجوب حتى يدل دليل شرعي عليه.
وهذا صحيح بالإجماع من أهل العلم، والاحتجاج به سائغ.
وقد ذكره أصحاب أبى حنيفة.
__________
(1) الاستصحاب في اللغة كما في كشف الأسرار - (3/1097) : (طلب الصحبة) .
وأصل مادة (صَحِب) تدل -كما يقول ابن فارس في معجمه (3/335) -: (على مقارنة شىء ومقاربته، من ذلك الصاحب) .
وفي المصباح المنير (1/509) : (وكل شىء لازم شيئاً فقد استصحبه ... ومن هنا قيل: استصحبت الحال إذا تمسكت بما كان ثابتاً، كأنك جعلت تلك الحال مصاحبة غير مفارقة) .
أما في اصطلاح الأصوليين فله عدة تعاريف متقاربة المعنى، منها: تعريف البخاري كما في كتابه كشف الأسرار الموضع السابق: (هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على أنه كان ثابتاً في الزمان الأول) .
راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/251) والمسوَّدة ص (488) ، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (1/389) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (72/أ) ، وشرح الكوكب المنير (4/403) .
(2) ذكر المؤلف هنا وفي الجزء الأول ص (72) أن الاستصحاب على ضربين.
ولكن هناك أقساماً أخرى ذكرها بعض علماء الأصول في هذا المقام، ومنهم الزركشي، فقد نقل عنه الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (38) أن الاستصحاب له صور خمس، اثنتان ذكرهما المؤلف.
أما الثالثة فهى: ما دلّ العقل والشرع على ثبوته ودوامه، كدوام حل الزوجة بعد ثبوت عقد الزوجية.
وأما الرابعة فهى: استصحاب الحكم العقلى عند المعتزلة، فالعقل عندهم يحكم في =(4/1262)
وسماه أبو يوسف: عدم الدليل دليل (1) .
وذكره القاضي أبو الطيب الطبري (2) .
ومثال ذلك أن يُسأل حنبلي عن الوتر (3) فيقول: ليس بواجب، فيطالب بدليله، فيقول: لأن طريق وجوبه الشرع، وقد طلبت الدليل الموجب من جهة الشرع [191/أ] فلم أجد، فوجب أن لا يكون واجباً، وأن تكون ذمتُه بريئةً منه كما كانت.
وكذلك إذا احتج بذلك على نفي وجوب الأضحية، ونفي وجوب زكاة الخيل والحلي والخضروات، وما أشبه ذلك.
وإلى هذا المعنى أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية صالح ويوسف إن موسى: "لا يُخمّس السَّلَب، ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس السَّلَب".
فجعل عدم الدليل الشرعي مبقياً (4) على الأصل في منع التخميس ونفي
__________
= بعض الأشياء إلى أن يَرِد السمع.
وأما الخامسة فهي: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصاً إن كان الدليل عاماً، أو نسخاً إن كان، الدليل نصاً.
(1) انظر تفصيل رأي الحنفية في: أصول السرخسي (2/223) وتيسير التحرير (4/176) ومسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/359) .
(2) هو: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، أبو الطيب الطبري. الشافعي، القاضي كان أصولياً فقيهاً. له مؤلفات كثيرة، منها شرح المزني. ولد بآمل طبرستان سنة (348هـ) ، ومات سنة (450هـ) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (9/358) وشذرات الذهب (3/284) وطبقات الشافعية للسبكي (5/12) وطبقات الفقهاء للشيرازي ص (106) ووفيات الأعيان (2/195) .
(3) مضى التعليق على هذه المسألة (1/73) .
(4) قي الأصل: (منفياً) .(4/1263)
الاستحقاق.
وكذلك نقل الأثرم وابن بَدِينا في الحُلي يوجد لُقَطَة: "إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير".
فمنع من تملّك الحُلي، واستدام الأصل، وهو عدم الملك في اللقطة؛ لأنه لم يرد دليل، وإنما ورد في الدراهم والدنانير.
وحكى أبو سفيان عن بعض الفقهاء أنه يأبى هذه الطريقة في الاستدلال.
والدلالة على صحتها: أن الحكم الشرعي إنما يلزم المكلف إذا تعبده الله تعالى به، ولا يجوز أن يتعبده الله تعالى به من غير أن يدلَّه عليه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون عدم الدلالة على أنه لم يتعبد به.
يُبيِّن صحة هذا: أنه لما لم يجز أن يبعث الله تعالى رسولاً دون أن يظهر عليه الأعلام المعجزة، كان عدم ظهور ذلك على مدعي النبوة دلالة على انتفاء ثبوته.
فإن قيل: ما ينكر أن يكون الدليل موجوداً وأنت مخطىء في الطلب، وتارك للدليل الموجب.
قيل: لا يجب علينا أكثر من الطلب، وإذا لم نجد لزمنا تبقية الذمم على البراءة كما كانت.
وهذا كما يستدل بعموم، فيقول الخصم (1) ما يُنْكَر أن يكون ذلك خاصاً، وقد خفي عليك دليل التخصيص.
فيقول: طلبنا الدليل المخصص فلم نجد، فلزمنا حمله على عمومه، ومن ادعى دليل التخصيص يجب عليه إبرازه، كذلك ها هنا، ما لم نجد دليل الايجاب يجب أن تبقى الذمم على البراءة على حكم دليل العقل المقتضي لبراءة الذمم حتى يرد الشرع.
__________
(1) في الأصل: (الحطم) .(4/1264)
الضرب الثاني: في استصحاب حكم الإجماع.
وهو: أن تجمع الأمة على حكيم، ثم تتغير صفة المجمَع عليه، ويختلف المجمِعون فيه، فهل يجب استصحاب حكم الإجماع بعد الاختلاف حتى ينقل عنه الدليل أم لا؟.
فذهب الجماعة من أصحاب أبي حنيفة (1) وأصحاب الشافعي (2) إلى أن ذلك لا يجوز، ويجب طلب الدليل في موضع الخلاف.
وهو الصحيح عندي.
وذهب داود (3) وأصحابه والصيرفي (4) من أصحاب الشافعي إلى أنه يجب استصحابه كما يجب استصحاب براءة الذمم.
وهو اختيار أبي إسحاق (5) [191/ب] من أصحابنا (6) ، ذكره في الجزء الأول من شرح الخِرَقي فقال "أجمعوا على طهارة الماء إذا لم يشرب منه مالا يؤكل لحمه، واختلفوا إذا شرب، فالإجماع حجة، والاختلاف رأي، والحجة أولى".
فقد استصحب أبو إسحاق حكم الإجماع.
ومثاله أن نقول: المتيمم إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل؛ لأنا أجمعنا على
__________
(1) انظر: تيسير التحرير (4/76) ومسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت (2/359) .
(2) انظر التبصرة للشيرازي ص (526) .
(3) نسبه إليه الشيرازي في المرجع السابق.
وانظر تفصيل القول فيه: الإحكام لابن حزم (5/590) .
(4) نسبه إليه الشيرازي في المرجع السابق.
(5) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا، وقد سبقت ترجمته.
(6) نسبه إليه أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/256) وابن قدامة المقدسي في الروضة (1/392) .(4/1265)
صحتها، فمن ادعى بطلانها فعليه الدليل.
وأن ملْك المسلم ثابت بالإِجماع، وإذا ارتد اختلفوا في زواله، فمن ادعى زواله فعليه الدليل.
وإذا اصطاد الحلال، ثم أحرم لم يَزُل ملكُه؛ لأنا قد أجمعنا على ثبوت ملكه قبل إحرامه، فمن ادعى زوالَه فعليه الدليل.
وإذا وقعت النجاسة في الماء ولم تغيره أجمعنا على طهارته قبل وقوعها، فمدعي النجاسة يحتاج إلى دليل.
وفي بيع أمهات الأولاد أجمعنا على جواز بيعها قبل الاستيلاد، فمدعي المنع بعد ذلك عليه الدليل.
وما يجري هذا المجرى من المسائل.
ودليلنا على ذلك:
أن الإِجماع دلالة على الحكم كسائر الأدلة، فوجب اعتباره في الموضع الذي تناوله، والإجماع لم يتناول صحتها بعد (1) وجود الماء، وقد زال في الموضع المختلف فيه، فلم يجز التمسك به في مواضع الخلاف، وصار كالنص متى تناول موضعاً لم يجز حمله على غيره.
وقد قال بعضهم (2) : إن داود أنكر القياس ثم صار إليه من غير علته، فكأنه أنكر القياس الصحيح، وقال بالقياس الفاسد؛ لأنه قياس بغير علة.
فإن قيل: نحن لا نستدل بالقياس، وإنما نستدل بالإِجماع في موضع الخلاف.
قيل: الاستدلال بالإِجماع لا يصح بعد زواله، وإنما يصح الاحتجاج به مع بقائه؛ لأن الدليل إذا زال، زال الحكم المتعلق به.
وقد قرر هذا الدليل من وجه آخر، وهو: أنه إذا شرك بين الحالين في
__________
(1) في الأصل: (قبل) والعبارة لا تستقيم إلا بما أثبتناه، مستأنسين بما جاء في شرح اللمع (2/989) حِيث عبر بقوله: (وكذلك إذا أجمعنا على انعقاد إحرامه وصحة صلاته قبل رؤية الماء، فأما بعد وجود الماء فهو موضع الخلاف) .
(2) هو قول أبي الطيب الطبري، كما في شرح اللُّمع (2/988) .(4/1266)
وجوب الوضوء، لاشتراكهما فيما دل على وجوب الوضوء، فليس باستصحاب الحال، وإنما هو احتجاج بدليل دل على وجوب الوضوء وإن اشترك بينهما في الحكم لاشتراكهما في علته، فهو قياس، وليس باستصحاب الحال.
واحتج المخالف:
بأن قول المجمِعين حجة، كما أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، فلما وجب استصحاب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ينقل عنه الدليل، وجب استصحاب قول المجمعين إلا أن يَنْقُل عنه الدليل.
والجواب: أن هذا دليل لنا؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان خاصاً لم يجز أن يحتج به في غيره إلا بالقياس عليه، كذلك قول المجمِعين خاص؛ لأنهم إنما أجمعوا على صحة صلاة في [192/أ] حال عدم الماء، ولم يجمعوا على صحتها في حال وجوده، فكان قول النبي دليلاً على المخالف.
واحتج: بأن استصحاب حكم العقل في براءة الذمم واجب حتى يقوم الدليل على الوجوب، كذلك ها هنا.
والجواب: أن دلالة العقل في براءة الذمم قائمة في حال الخلاف، وليس كذلك الإِجماع فإنه زائد، فلم يجز الاحتجاج به.
واحتج: بأنه قد ثبت أن من تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث، أو تيقن الحدث وشكَّ في الطهارة، أو تيقن النكاح وشكَّ في الطلاق، أو تيقن الملك وشكُّ في العتاق، أو شكَّ في فعل الصلاة: "أن اليقين لا يزول بالشك" ويكون حكُم اليقين السابق مستداماً في حال الشك، كذلك ها هنا.
والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن الإِجماع الذي هو دليل الحكم قد تيقن زواله، فوجب أن يزول حكمُه، والطهارة لا يتيقن زوالها، وإنما هو مشكوك فيه، فلم يجز أن يزول اليقين بالشك، وكذلك النكاح والملك، والصلاة، فَوِزَان مسألتنا أن يُتَيقَّن الطهارة ثم يُتَيقَّن الحدث، فلا يجوز استدامة(4/1267)
حكم الطهارة.
وعلى أنه يعارضه: أن المدعى عليه يحتاج إلى اليمين، ولا يكفى في إسقاط دعوى المدعى بغير [بينة] براءةُ ذمة المدعى عليه، فبطل الاحتجاج به.
واعلم أن هذه الطريقة لا تسلم من أن يقدر على قائلها.
فإذا قال: قد صح دخوله في الصلاة بالتيمم بالاتفاق، فلا يزولُ عنه بغير دليل، فيقال له: قد تيقنا ثبوتَ الفرض (1) عليه، فلا يسقط عنه إلا بدليل.
وكذلك إذا قال: قد اتفقنا على طهارة الماء اليسير قبل وقوع النجاسة فيه، فمن ادعى نجاسته فعليه الدليل، فيقال له: قد اتفقنا على وجوب فرض الصلاة، فمن اسقط عنه فعلها بهذه الطهارة، فعليه الدليل.
وكذلك إذا قال في بيع أمهات الأولاد: أجمعنا على بيعها قبل الإيلاد، فمن منع فعليه الدليل.
فيقال: أجمعنا على تحريم بيعها ما دامت حاملاً، فمن أجاز بيعها بعد وضع الحمل فعليه الدليل.
فصل
[القول بأقل ما قيل]
فأما القول بأقل ما قيل فيه (2) .
فيجوز الاحتجاج به، ويرجع معناه إلى استصحاب حكم العقل في براءة الذمة.
__________
(1) في الأصل: (القرض) بالقاف.
(2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/267) والمسوَّدة ص (490) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر العاطر (1/388) .(4/1268)
ومثاله: دية اليهودي والنصراني، فإنها ثلث الدية عند الشافعي (1) . وإحدى الروايتين لأحمد - رحمه الله.
والأخرى نصف الدية (2) ، وهو قول مالك (3) .
وقال أبو حنيفة: مثل دية المسلم (4) .
فكان الثلث أقل ما قيل فيه، فيجب ذلك بالإِجماع، وما زاد على ذلك فلا يجب؛ لأن الأصل براءة الذمة منه، ووجوبه يحتاج [192/ ب] ، إلى دليل شرعي ولم نجد دليلاً يدل عليه، فوجب تبقية الدية على البراءة.
ومثله: أن مسح الرأس يجب مقدار ما يقع عليه اسم المسح عند الشافعي (5) .
__________
(1) هذا مذهب الشافعية، كما في المهذَّب لأبى إسحاق الشيرازى الشافعي مع شرحه المجموع (17/414) .
(2) ظاهر المذهب أنها نصف دية المسلم.
أما الرواية الثانية: أنها ثلث دية المسلم، فإن الإمام أحمد قد رجع عنها، كما نقله صالح عنه.
انظر: المغني (7/793) طبعة المنار الثالثة.
(3) انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإِمام مالك لأحمد الدردير المالكى (4/376) ، فإن ما ذكره المؤلف هو مذهب المالكية.
(4) انظر: بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (10/4664) ، فإن ما ذكره المؤلف هو مذهب الحنفية.
(5) قال أبو إسحاق الشيرازي في المهذًب مع شرحه المجموع (1/399) : (والواجب منه أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح وإن قلَّ.
وقال أبو العباس بن القاص: أقله ثلاث شعرات، كما نقول في الحلق والإِحرام.
والمذهب: أنه لا يتقدر؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح، وذلك يقع على القليل والكثير) . قال النووي -بعد ذلك-: (والمشهور في مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق: أن مسح الرأس لا يتقدر وجوبه بشىء، بل يكفي فيه ما يمكن) .(4/1269)
وعند أبي حنيفة: الربع (1) .
وعندنا -في إحدى الروايتين (2) - وعند مالك: الجميع (3) .
فيقال: ما زاد على الاسم يحتاج إلى دليل.
ومثل ذلك في قدر الصاع وغيره.
والطريق في الجميع ما بينته (4) .
فصل
[النافى للحكم هل عليه دليل؟]
النافي للحكم عليه الدليل (5) .
ذكره أبو الحسن التميمي في مسألة أفردها.
__________
(1) هذا قول أبي حنيفة وزُفَر.
وهناك أقوال أخرى لبعض الحنفية..
انظر: بدائع الصنائع (1/88) .
(2) القول بوجوب مسح جميع الرأس رواية عن الإِمام أحمد، كما ذكر المؤلف.
قال ابن قدامة في المغني (1/125) : (وهو ظاهر كلام الخِرَقي) .
وهناك رواية أخرى: أنه يجزىء مسح بعض الرأس. نقلها ابن قدامة في المرجع السابق.
(3) هذا مذهب المالكية.
انظر: الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/108) .
(4) هذه الكلمة مترددة بين ما أثبتناه، وبين: (سنبينه) والأقرب ما أثبتناه؛ لأنه قد بين بأنه لا يؤخذ بأقل ما قيل في هذه المسائل وغيرها.
(5) راجع هذه المسألة في: أصول الجصاص الورقة (242/ب) والتمهيد (4/632) والمسوَّدة ص (494) وروضة الناظر مع شرحها (1/395) وشرح الكوكب المنير (4/525) .
وكون النافي للحكم يلزمه الدليل قال به الحنفية وأكثر الشافعية وأكثر الحنابلة. ونسبه =(4/1270)
ومن الناس من قال: لا دليل عليه في العقليات والشرعيات (1) .
ومنهم من قال: إن كان الحكم عقلياً فعلى النافي دليل، وإن كان شرعياً فليس عليه دليل (2) .
دليلنا:
أن النافي للحكم معتقد لكون ما نفاه متيقناً، كما أن المثبت للحكم معتقد لكون ما أثبته ثابتاً. واتفقوا على أن من أثبت حكماً كان عليه الدليل. كذلك من نفاه.
ولأن من نفى قِدَم الأجسام كان عليه الدليل، كما يكون عليه ذلك لو أثبت قدمها، وهذا متفق عليه، كذلك في غيره.
ولأن من نفاه لا يخلو إما أن يكون نفاه بعلم مكتسب، أو علم ضروري، إذ نفيه بغير علم جهل، وإذا كان كذلك، وكانت العلوم الضرورية والمكتسبة لا تخلو من دليل عليها؛ لأنها إذا خلت من ذلك لم تكن علوماً، وجب أن لا يسقط الدليل عن نفى الحكم العقلي أو الشرعي.
__________
= الباجي إلى الفقهاء والمتكلمين. واختاره.
انظر: أصول السرخسي (2/117) والتبصرة ص (530) وشرح اللُّمع (2/995) والمراجع السابقة، وإحكام الفصول ص (700) والمنهاج في ترتيب الحجَاج ص (32) .
(1) نسبه الباجي في كتابيه السابقين إلى داود الظاهري..
كما نسبه الشيرازي في كتابيه السابقين إلى بعض الشافعية.
(2) لم يعين المؤلف النسبة هنا إلى أحد، ومثلُه أبو الخطاب في التمهيد، والمجْد في المسودة، والفتوحي في شرح الكوكب، وابن قدامة في الروضة إلا أنه عكس القول فقال: (وقال قوم في الشرعيات كقولنا، وفي العقليات لا دليل عليه ... ) . وقد ذكره الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص (245) موافقاً لما ذكره المؤلف ثم قال: (حكاه القاضي في التقريب وابن فورك) .(4/1271)
واحتج المخالف:
بأن من ادعى النبوة وجب عليه إقامة الدليل، ومن أنكرها ونفاها من الناس لم يجب عليه الدليل؛ لأن المدعي للنبوة مثبت (1) والمنكِر ناف.
وهكذا ورد الشرع، فإنه جعل على المدعي البينة دون المدعي عليه؛ لأن المدعي مثبت، والمدعي عليه ناف.
والجواب: أن النافي للنبوة ينظر فيه:
فإن كان نافياً لعلمه بأن يقول: أنا لا أعلمُ صدقَه ولا كذِبَه، ويجوز أن يكون صادقاً، ويجوز أن يكون كاذباً، فهذا لا دليل عليه، لأنه شاك غير مدعٍ نفياً ولا إثباتاً.
وإن كان يقطع بنفيه وتكذيبه في دعواه، وجب عليه إقامة الدليل.
وطريق الدليل فيه: أن يقول: لا يبعث الله رسولاً إلا بمعجزة تدل على نبوته وحجة تكشف عن صدقه، فإذا لم تكن معجزة تدل على ما يدعيه دل على كذبه وبطلان دعواه.
وأما المدعى عليه فإنه يقطع بالنفي وعليه الدليل، ولهذا يلزمه اليمين بالله تعالى، إلا أن المدعى عليه معه ظاهر يدل على صدقه من براءة الذمة إن كان المدعى عليه دَيْناً، ومن ثبوت يده وتصرفه إن كان المدعى عليه عيْناً، فجعل [193/أ] ، في جنبة المدعي أقوى السببين؛ لأنه لا ظاهر معه يدل على صدقه. ن (2) .
__________
(1) في الأصل: (يثبت) .
(2) هكذا ذكر المؤلف في المسألة ثلاثة آراء، واستدلَّ للراجح عنده بدليلين، ولم يورد عليهما اعتراضات المخالف، ثم احتج للرأي الثانى بدليل واحد واعترض عليه. أما الرأي الثالث فلم يستدلّ له. وكان من المناسب أن يستدل ولو بدليل واحد ليعلم منه منطلق أصحاب هذا القول.
إذا علمت هذا ففى المسألة أقوال كثيرة، أوصلها الشوكاني في كتابه: إرشاد الفحول ص (245) إلى تسعة آراء، إلا أنه لم يستدل لأكثرها.(4/1272)
باب الكلام في القياس
مسألة
[حجية القياس العقلي]
القياس العقلي (1) حجة، يجب القول به، والعمل عليه (2) .
ويجب النظر والاستدلال به بعد ورود الشرع.
ولا يجوز التقليد (3) .
وقد احتج أحمد -رحمه الله- بدلائل العقول في مواضع، فيما خرَّجه
__________
(1) سبق للمؤلف في هذا الكتاب: (1/174) أن عرَّف القياس الشرعي.
أما القياس العقلي فهو -كما يقول ابن عقيل في كتابه الواضح (2/641) -: (هو الذي يجب بشهادة المشتبهين فيه بالحكم من جهة العقل) .
وذكر في كشف الأسرار (3/990) أن بعضهم حدَّه بقوله: (رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه) .
وقد بيَّن المؤلف في كتابه المعتمد ص (41) أنه: (قد يستدل بالشاهد على الغائب من وجوه أربعة، أحدها: من جهة العلة، والثاني: الحد، والثالث المصحح، والرابع: الدليل) .
(2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (3/360) والواضح (2/641) والمسوَّدة ص (365) .
(3) هذا ما يراه المؤلف، وقد فصل ذلك في كتابه المعتمد (21) ومن ضمن ما قاله: (وأول ما أوجب الله على خلقه العقلاء: النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله سبحانه..) .
وهذه المسألة فيها بحث طويل ومتشعب.
استوفاه شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض العقل والنقل الجزء السابع والثامن.
وقد نقل كلام المؤلف وتعقَّبه (7/442) و (8/349، 355) . =(4/1273)
في الرد على الزنادقة والجهمية (1) ، رواية عبد الله عنه، فقال: "إذا قلنا لم يزل الله تعالى بصفاته كلها، إنما نَصِف إلهاً واحداً بجميع صفاته. وضربنا لهم في ذلك مثلاً فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جِذْع وكَرَب (2) ولِيف وسَعَف (3) وخُوص (4) وجُمَّار (5) ؟! سُميت نخلة بجميع (6) صفاتها، كذلك الله تعالى، وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد (7) .
وقلنا للجهمية (8) : زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وهو نور، فلم لايضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه؟! إذ زعمتم أن الله تعالى في كل مكان، وما بال السراج إذا دخل البيت يضيء؟! ".
وقال (9) "لو أن رجلاً كان في يده قَدَح من قوارير صافٍ، وفيه شىء
__________
= ثم قال (8/8) : (والقران العزيز ليس فيه آن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس، وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإِيمان إلا به.
بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به، وهذا أصح الأقوال) .
وقد قال هذا بعد أن بين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَدع أحداً من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه.
(1) هذا كتاب للإمام أحمد، مطبوع، والكلام يقع في ص (37) .
(2) الكَرَب: أصول السعف التي تقطع منها: انظر: المصباح المنير مادة (كَرَبَ) .
(3) السَّعف: أغصان النخل مادامت في الخوص، انظر: المرجع السابق مادة (سَعَف) .
(4) الخُوص: ورق النخيل. المرجع السابق، مادة (خَوَصَ) .
(5) الجُمَّار: قلب النخلة. المرجع السابق، مادة (جَمَرَ) .
(6) في الأصل: (الجميع) والتصويب من المصدر الذي نقل منه المؤلف ص (37) .
(7) في الأصل: (إلهاً واحداً) .
(8) ص (44) من المصدر السابق.
(9) ص (39) من المصدر السابق.(4/1274)
صافٍ، أن يصير (1) ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شىء من خلقه".
وهذا صريح من أحمد -رحمه الله- في الاحتجاج بدلائل العقول.
وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء والمتكلمين من أهل الإثبات (2) .
وذهب المعتزلة إلى وجوب النظر والاستدلال بالعقل قبل ورود الشرع، وإذا ورد الشرع كذلك كان مؤكداً له (3) .
وذهب قوم إلى أن حجج العقول باطلة، والنظر حرام، والواجب هو التقليد (4) .
__________
(1) هكذا في الأصل، والعبارة في المصدر الذي نقله منه المؤلف ص (39) : (كان بَصَرُ ابن آدم....) .
(2) وهو مذهب الجماهير، كما يقول الغزالي في المنخول ص (324) وهو مذهب الحنابلة، كما هو واضح من كلام الإِمام أحمد، الذي نقله المؤلف هنا.
وبهذا يتبين خطأ ما قاله الغزالي في المرجع السابق، وعبد العزيز البخاري في كشف الأسرار (3/990) من أن الحنابلهَ ردوا قياس العقل، دون الشرع.
(3) لأنهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، فهم أولى الناس بهذا القول.
انظر: المعتمد (2/886-887) ، وقد قسم الأشياء المعلومة بالدليل إلى ثلاثة أقسام: ما يعلم بالعقل فقط، وما يعلم بالشرع فقط، وما يعلم بهما.
انظر: زيادات المعتمد (2/994) .
وقد أورد شيخ الإِسلام كلامه في درء تعاوض العقل والنقل (8/17) وردَّ عليه.
(4) ونسبه في المسوًّدة ص (365) إلى بعض أهل الحديث وأهل الظاهر، ونسبه عبد العزيز البخاري في كتابه كشف الأسرار (3/990) إلى الامامية وأيضاً الخوارج إلا النجدات منهم.
وشدد ابن حزم في كتابه الفِصَل (3/42-4) النكير على القائلين بوجوب النظر. =(4/1275)
فالدلالة على وجوب ذلك بعد السمع:
هو أن إبطال ذلك إبطال للنبوات والشرائع، وذلك أنه لا طريق لنا إلى معرفة صدق النبي من كذب المتنبىء إلا النظر والاستدلال؛ لأن صورة الكذب كصورة الصدق، فمتى ظهرت علامات المعجزة على النبي علمنا بالنظر فيها أنها من قِبَل الله تعالى، لأن غيره لا يقدر على إظهاره، ومتى علمنا أنها من قبل الله تعالى علمنا بالنظر أيضاً أن من ظهرت عليه هذه الأعلام صادق غير كاذب؛ لأن الله تعالى لا يظهر الأعلام على الكذابين، ولولا النظر والاستدلال لم يكن لنا طريق إلى معرفة شىء من ذلك، فكان يؤدي إلى إبطال الشرائع، وإفساد النبوات وترك التخيير بين الصادق [193/ب] والكاذب، والنبي والمتنبىء.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون العلم بما ذكرتموه من قِبَل الله تعالى وقِبَل رسوله قد وقع ضرورة لا استدلالاً ونظراً.
قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتَ لكان يشترك في ذلك العلم جميعُ العقلاء، لأن العلم الضروري لا يختص به بعض العقلاء دون بعض إذا أشتركوا في طرقه، وفي علمنا بوجود جماعات كثيرة لم يقع لهم العلم بالله تعالى وبنبوة رسوله، مثل الملاحدة وأضرابهم من الكفار، لأنه لو وقع لهم العلم به ضرورة لم يصح اجتماعهم على نفيه، كما لا يصح اجتماع الجماعات العظيمة على نفي وقوع العلم بالبلدان وبوجود المحسوسات من الأجسام، وفي بطلان ذلك دليل على فساد ذلك.
ولأنه لو جاز وقوع العلم بالله تعالى في حال التكليف ضرورة لكان العلم
__________
= وقد أورد شيخ الإِسلام ابن تيمية قوله في كتابه: درء تعارض العقل والنقل (7/432-440) وعلق عليه، فارجع إليه، فإنه مفيد.(4/1276)
بنبوة الرسول -عليه السلام- أولى أن يقع ضرورة، ولو جاز ذلك لم يكن لإظهار الأعلام معنى، بل كان (1) يكون ذلك عبثاً.
ويدل عليه أيضاً:
أننا نجد كل عاقل إذا نابته نائبة من أمور دينه ودنياه، فإنه يفزع إلى عقله ليتحرز به من ضرر، أو ليتوصل به إلى نفع، ألا ترى أنه إذا رأي في الطريق أثر سبع امتنع من سلوكه. وإذا رأى أثراً لماء وبه عطش أسرع في طلبه، فلولا أن النظر والاستدلال طريق إلى العلوم العقلية لم يفزع العاقل إليها في جر المنافع ودفع المضار، كما لا يفزع في إدراك السماع إلى آلة الشم، وفي إدراك الشم إلى آلة البصر، وإذا كان كذلك ثبت أن النظر من طريق العقل واجب بعد السمع.
ويدل على بطلان التقليد:
أن الذى قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ما قلده فيه قد علمه بالاستدلال والنظر، أو أخذه تقليداً من غيره، ولا جائز أن يكون قد علمه ضرورة كما دللنا عليه، فإن علمه استدلالاً ونظراً فقد بطل التقليد، وإن أخبره تقليداً كان الكلام ممن قلده إياه كالكلام فيه، فيؤدي إلى إثبات مالا نهاية له من المقلدين، وفي بطلان ذلك دليل على بطلان القول بالتقليد.
ويدل عليه أيضاً: أن الذي قلده المقلد لا يخلو من أن يكون ممن يجوز عليه الضلال، أو لا يجوز ذك عليه، وبطل أن يكون ممن لا يجوز عليه ذلك؛ لأن هذا لا يجوز أن يحكم به إلا لمن يشهد له به النبي، فإذا كان ممن يجوز عليه الضلال لم يأمن المقلد له أن يكون مبطلاً في تقليده إياه، وإذا لم يأمن ذلك لم يجز تقليده.
__________
(1) هكذا في الأصل: و (كان) هنا زائدة.(4/1277)
فإن قيل: أليس قد جاز له تقليد النبي فيما يأمره به؟ ويجوز للعامي أن يقلد المفتي فيما يفتيه به.
ولأن أول من قاس إبليس (1) ، فكان (194/أ) قياسه كفراً.
قيل: ما يأخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكون على وجه التقليد؛ لأن الله تعالى قد دلنا على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أنه لا يأمرنا إلا بالحق، والتقليد المحظور هو ما يأخذه المقلد من غيره من غير أن يدل عليه عنده دلالة على صحته، أو يعلم في الجملة أن فرضه تقليد المفتي فيما يفتيه به، فلهذا افترق الأمران.
وقوله: [أول] من قاس إبليس، وكان كافراً، فإنه يقابل بمن قال:
أول من قاس الملائكة، وكان قياسُهم صواباً.
__________
(1) هذا أثر أخرجه ابن جرير في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ ألاَّ تسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ منهُ خَلَقْتَنِى مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين) آية (12) من سورة الأعراف (12/328) أخرجه بسنده عن ابن سيرين قال (أول من قاس إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس) .
وعن ابن سيرين أخرجه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/93) بمثل لفظ ابن جرير.
كما أخرجه عنه ابن حزم في كتابه الِإحكام (10/1073) ولفظه: ( ... عن أبي هند قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: القياس شؤم، وأول من قاس إبليس فهلك، وإنما عُبدت الشمس والقمر بالمقاييس) .
وروي هذا الأثر عن الحسن، أخرجه عنه ابن جرير بسنده في الموضع السابق، ولفظه: (قاس إبليس، وهو أول من قاس) .
وأخرجه عنه ابن عبد البر بسنده في كتابه: جامع بيان العلم في الموضع السابق، ولفظه: (أول من قاس إبليس، قال: "خَلَقْتَنِى مِن نًارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين") .
ونسبه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/205) إلى جعفر بن محمد.(4/1278)
على أنك قد صرت إلى القياس حيث حملت قياس غير إبليس على قياس إبليسِ في باب الفساد.
وعلى أن خطأ القائسين إذا كان مبطلاً للقياس في الأصل عندك، فهلاَّ كان خطأ بعض المقلدين دليلاً على بطلان التقليد؟!؛ لأن الله تعالى قد حكى تقليد الكفار إياهم بقوله تعالى: (قَالوا إنَّا وَجَدْنَا ءابَاءَنَا عَلَى أمَّةٍ وَإنَّا عَلَى ءاثارِهِم مُّهْتَدُونَ) (1) .
فإن قيل: أليس قد منع أحمد - رضي الله عنه - من النظر والكلام.
فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: "لا يكون صاحب الكلام -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدال" (2) .
قيل: إنما نهى عن الجدال الذي هو المراء، ألا ترى أن أبا بكر المروذي سأله عن الرجل يشتغل بالصوم والصلاة ويعتزل، ويسكت عن الكلام في أهل البدع، فقال: "إذا صام وصلى واعتزل إنما هو لنفسه، وإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل".
وروى حنبل أنه قال لأحمد -رحمه الله-: "إن يعقوب بن شًيْبهَ (3)
__________
(1) آية (22) من سورة الزخرف.
(2) هذه الرواية ذكرها ابن أبي يعلى في طبقاته في ترجمة عبدوس (1/242) ، وفي آخرها: (حتى يدع الجدال، ويُسَلِّم، ويؤمن بالآثار) .
(3) هو: يعقوب بن شَيْبة بن الصلت بن عصفور، أبو يوسف السدوسي البصري.
سمع علي بن عاصم ويزيد بن هارون وغيرِهما، ومنه حفيده محمد بن أحمد بن يعقوب ويوسف بن يعقوب وغيرهما. وثقه الخطيب. كان من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا عنه بعض المسائل. توفي سنة (262) هـ.
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (2/577) وطبقات الحفاظ ص (254) وطبقات الحنابلة (1/416) والعبر (2/25) .(4/1279)
وزكريا ابن عمار (1) أخبرا عنك الوقف، فقال: قد كنَّا نأمر بالسكوت، فلمَّا دعينا إلى أمر ما كان بدّ لنا من أن ندفع ونبيِّن".
وهذا صريح منه بالقول بالنظر.
مسألة
[جواز التعبد بالقياس عقلاً وشرعاً]
القياس الشرعي يجوز التعبد به، وإثبات الأحكام الشرعية من جهة العقل والشرع (2) .
نص على (3) هذا -رحمه الله- في رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال: "لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإِمام يَرِد عليه الأمر أن يجمع له (4) الناس، ويقيس، ويشبِّه، كما كتب عمر إلى شُرَيْح: أن قس الأمور" (5) .
__________
(1) لم أقف على ترجمته.
(2) راجع هذه المسألة في التمهيد (3/365) وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر (2/234) والمسوَّدة ص (367) وشرح الطوفي على مختصر الروضة الجزء الثانى الورقة (95/أ) وشرح الكوكب المنير (4/211) .
(3) في المسوَّدة ص (367) : (نصّ عليه صريحاً في مواضيع عدة) . وهذا إشارة من المجْد إلى أن هذه هي الرواية المعوَّل عليها في هذا الباب، والله أعلم.
وقد تابع أبو الخطاب شيخه في أن ذلك منصوص الإِمام -رحمه الله-.
انظر: التمهيد الموضع السابق.
(4) في الأصل: (لها) .
(5) هذه الرواية ذكرها أيضاً أبو الخطاب في التمهيد (3/365) .
وكتاب عمر - رضي الله عنه - إلى شُرَيْح سبق تخريجه.(4/1280)
وقد استعمل هذا في كثير من مسائله (1) .
فقال في رواية ابن القاسم: "لا يجوز الحديد والرصاص متفاضلاً (2) ، قياساً على الذهب والفضة".
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني: "يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجْمَل، والقياس" (3) .
وهذا محمول على استعمال القياس في معارضة السنة، فإنه لا يجوز (4) .
__________
(1) هذا يدل على أن المؤلف -رحمه الله- يؤيد الرواية التي تقول: بأن الإمام أحمد يرى حجية القياس.
(2) نقل ابن قدامه في كتابه المغني (4/7) عن المؤلف أنه ذكر في هذا ومثله روايتين:
الأولى: أنه لا يجوز التفاضل بينهما، كما ذكر المؤلف هنا.
واختارها ابن عقيل؛ لأن أصلهما الوزن، والصناعة لا تخرجهما عنه.
والثانية: يجوز، وعليه أكثر أهل العلم؛ لأنهما ليسا بموزونين ولا مكيلين.
قال ابن قدامة: (وهذا هو الصحيح، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتقاء العلة وعدم النص والإجماع فيه) .
(3) هذا إيماء من الإمام أحمد إلى عدم اعتبار القياس، حيث نهى المتكلم في الفقه عن استعمال القياس والمجْمل في فقهه.
قال أبو الخطاب في كتابه التمهيد: (3/368) (وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الميموني ... ) ثم ذكر الرواية.
وبمثل هذا قال الطوفي في شرح مختصر الروضة الجزء الثاني الورقة (95/أ) .
(4) هذا تأويل القاضي لرواية الميموني، وقد أيده الطوفي في المرجع السابق حيث قال: (وهو تأويل صحيح) .
ولكنَّ تلميذ المؤلف أبا الخطاب في كتابه التمهيد: (3/368) رد على شيخه هذا التأويل بقوله: (والظاهر خلافه) ، ولم يزد على ذلك. =(4/1281)
وقد كشف عن هذا في رواية أبي الحارث [194/ب] فقال: "ما تصنع بالرأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه".
وبهذا قال أكثر الفقهاء والمتكلمين (1) .
وذهب قوم من المعتزلة البغداديين (2) : إلى أنه لا يجوز التعبد به من جهة
__________
= وفي رأيي: أن اعتراض أبي الخطاب غير وجيه؛ لأن هناك روايات عن الإِمام أحمد كثيرة أشار بإعمال القياس، أو أعمله بنفسه فتتعارض مع الرواية هنا. ومع هذا التعارض نحمل نهيه عن استعمال القياس على القياس المخالف للنصوص الشرعية، ونحمل إرشاده إلى القياس أو استعماله بنفسه على عدم وجود نص في الحادثة.
يدل على ذلك رواية أبي الحارث التي ذكرها المؤلف دليلاً على ما ذهب إليه.
وجمع ابن رجب بين الروايتين، فحمل الرواية التي تمنع من القياس على من لم يبحث عن الدليل، أو لم يُحصِّل شروطه.
انظر: شرح الكوكب ص (4/216) .
وينبغي أن يشار هنا إلى أن الإِمام أحمد لا يستعمل القياس إلا عند الضرورة. يؤيد ذلك رواية الميموني التي نقلها المجد في المسوَّدة ص (367) ونصها: (سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورة، فأعجبه. [يعني: الإِمام أحمد] ذلك) .
والضرورة المقصودة هنا -والله أعلم-: أن الحادثة إذا وقعت، ولم يوجد نص بحكمها، فإنه من الضروري أن يعطى لها حكم بالقياس على أشباهها؛ لامتناع خلو الحادثة عن حكم الله تعالى.
أما إذا لم تقع الحادثة، وإنما هي من باب التخيل والتقدير، فلا يرى الإمام أحمد استعمال القياس؛ لأنه لاضرورة.
(1) انظر: أصول الجصاص ص (63) والتبصرة ص (419) والبرهان (2/750) والوصول إلى الأصول لابن برهان (2/243) وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص (531) .
(2) انظر: المعتمد (2/724) .(4/1282)
العقل، ويجوز من جهة الشرع، مثل ابن يحيى الإسكافي (1) . وجعفر بن مبشر (2) ، وجعفر بن حرْب (3) ، وإبراهيم النظَّام (4) .
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلاً ولا شرعاً، ذهب إليه داود (5) ،
________________
(1) هكذا في الأصل: وهو كذلك في كتاب التمهيد لأبى الخطاب (3/366) ولم أعثر له على ترجمة.
وفي كتاب الإِحكام للآمدي (4/6) يحيى الاسكافي، ولم أعثر له على ترجمة أيضاً.
ولعل المقصود محمد بن عبد الله الاسكافي أبو جعفر المعتزلي المتوفى سنة (240 هـ) فهو المشهور لذلك.
انظر ترجمته في: طبقات المعتزلة ص (64، 285) .
(2) هو جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد أبو محمد الثقفي، المعتزلي، البغدادي. صنف كتباً في الكلام، مات سنة (234 هـ) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (71/162) وطبقات المعتزلة ص (283) ولسان الميزان (2/121) .
(3) هو: جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي البغدادي. درس الكلام بالبصرة على أبي الهذيل العلاف. له مؤلفات؛ منها: كتاب المصابيح، وكتاب الايضاح، وكتاب الأصول الخمسة. مات سنة (236 هـ) وله من العمر (59) سنة.
له ترجمة في: تاريخ بغداد (7/162) وطبقات المعتزلة ص (281) ولسان الميزان (2/113) .
(4) هكذا نقل المؤلف عن النظام أنه لا يجوز التعبد بالقياس عقلاً، ويجوز شرعاً، لكن الذي نقله أبو الخطاب في التمهيد (3/367) وابن قدامة في الروضة (2/234) عن النظام: أنه يقول بعدم الجواز لا عقلاً ولا شرعاً.
وقد أشار في المسودة ص (368) إلى اختلاف النقل عن النظام.
وانظر في اضطراب النقل عنه: نبراس العقول ص (60) .
(5) انظر: الإحكام لابن حزم (7/931 و8/1110) والمراجع التي ذكرناها في أول المسألة.(4/1283)
والنهرياني (1) ، والمغربي (2) ، والقاشاني (3) .
فالدلالة على جوازه عقلاً:
أن العقل لا يمنع أن يقول صاحب الشرع: إذا علمتم أو غلب على ظنكم أن الحكم تابع لمعنى ومتعلق به، فقيسوا عليه كلما وجدتم فيه ذلك المعنى، كما قال: إذا زالت الشمس وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلُّوا، وإذا علمتم طلوع الفجر، أو غلب على ظنكم ذلك فصوموا، وإذا شهد شاهدان، وعلمتم عدالتهما، أو غلب على [ظنكم] ذلك، فاحكموا بما شهدا به، وإذا رأيتم البيت الحرام، وعلمتم ذلك، أو غلب على ظنكم فصلوا إليه، وما أشبه ذلك كثير، كذلك القياس؛ لأنه جعل دخول الوقت شرطاً لفعل العبادة،
__________
(1) هكذا في الأصل: (النهرياني) بالمثناة التحتية بعدها ألف، وفي تقديري أنه خطأ، والصواب: النهرواني، وهو الموجود في مراجع الأنساب.
والنهرواني: نسبة إلى (نهروان) بُلَيْدة قديمة، تقع بالقرب من بغداد.
وهو: المعافى بن زكريا يحيى بن حميد بن حماد، أبو الفرج النهرواني الجَرِيري نسبة إلى ابن جرير الطبري؛ حيث كان على مذهبه. كان من أعلم الناس في زمانه. مات سنة (390 هـ) وله من العمر (85) سنة.
له ترجمة في: البداية والنهاية (11/328) وتاريخ بغداد (13/230) وتذكرة الحفاظ (3/1010) وشذرات الذهب (3/134) وطبقات الحفاظ ص (400) واللباب (3/373) .
(2) هو: الحسين بن على بن الحسين أبو القاسم الوزير المغربي الشيعي. كان أديباً بليغاً، ذكياً، ذا دهاء وفطنة، له كتب كثيرة، منها: مختصر إصلاح المنطق. ولد سنة (370 هـ) ومات سنة (418 هـ) .
له ترجمة في: المنتظم (8/32) وشذرات الذهب (3/10) وسير أعلام النبلاء (17/394) .
(3) انظر في نسبة هذا إليهم: التمهيد (3/367) والتبصرة ص (419) والمنخول ص (90) والمسودة ص (368) .(4/1284)
كذلك جعل غلبة الظن شرطاً في تعلق الأحكام بها عند وجودها، ولا فرق بينهما.
فإن قيل: لا يحصل العلم ولا الظن بالنظر في هذه الأصول، وليس فيها طريق لذلك.
قيل: هذا غلط؛ لأن الفقهاء على كثرة عددهم واختلاف مذاهبهم من أصحاب أحمد -رحمه الله- وأبى حنيفة ومالك والشافعي وسائر [الفقهاء] يذكرون أنهم يظنون فيها، والعلم الضروري يحصل بخبر بعضهم، فإذا كان كذلك كان معلوماً من طريق الضرورة، وكان الجاحد لذلك مبطلاً، كما إذا أنكر الظن، وكما ينكر النفور، والسكون، والغم، والذوق.
فإن قيل: قد يظنون، ولكن ظنهم فاسد؛ لأنه واقع عن طريق يقتضي الظن، وهو بمنزلة من ظن أن البناء الصحيح الجديد يقع عليه، أو رأى ثوراً فظنه سبعاً، وفزع منه.
قيل: للظن طريق فيها، ولا نسلِّم ما قاله المخالف، فإن دل على دعواه بأن الظن لا يقع إلا عن عادة، فإن رأى الغيم كثيفاً منيعاً خشى مجيء المطر، وغلب على ظنه ذلك، لما سبق من العادة، فليس بيننا وبين الله تعالى في هذه الأحكام عادة، فلا يجوز أن يكون فيها طريق للظن.
قيل: طريق الظن هو وجود الشىء في الاكثر من نظائره، ولهذا يغلب على الظن وقوع الحائط إذا انشق [195/أ] ، عرْضاً، ويغلب على الظن إذا عرَض غيم أسود مُسِف (1) أنه يكون منه مطر؛ لأن الغالب من مثله مجيء المطر، وإنما
__________
(1) توصف السحابة بذلك إذا دنت من الأرض. قال الشاعر يصف سحاباً قرب من الأرض:
دانٍ مُسِف فُوَيْقَ الأرْضِ هَيْدَبُه ... يكادُ يدفعُه من قامَ بالرَّاح
انظر: اللسان (11/54) مادة (سفف) ومعجم مقاييس اللغة (3/57) مادة (سفّ) .(4/1285)
يتخلف في النادر، فيتبع ظنّ العاقل الغالب دون النادر، وإذا كان كذلك، كان هذا الظن في الأحكام الشرعية كثيراً؛ لأن النظائر والشواهد فيها تتكرر وتكثر، فيغلب على ظن المجتهد فيها أن موضع الخلاف بمنزلتها، وطريق العلم بالنظر في هذه الأصول، هو الثابت الذى يدل على تعلق الحكم بمعنى واتباعه له، مثل العصير الحلو يكون حلالاً، وإذا حدثت فيه الشدة المطربة حرُم، ويعلم أنه لم يحدث غيرها، فإذا زالت الشدة المطربة حل، ونعلم أنه لم يزل غيرها، فلو قدرنا عود الشدة المطربة وحدها لقدرنا عود التحريم، فيدل هذا على أن التحريم تابع للشدة، وأن النبيذ يجب أن يكون حراماً لوجود الشدة المطربة فيه.
ومثل هذا كثير.
فإن قيل: يجوز أن يكون هذا تابعاً للاسم يزول بزوالها، ويعود بعودها.
قيل: لا يتبع الاسم؛ لأنه لو طبخ العصير وحدثت الشدة المطربة فيه كان حراماً وإن كان لا يسمى خمراً؛ لأن الخمر عندهم هو العصير الذى قد اشتد وقذف زبده، وكذلك نقيع التمر والزبيب حرام؛ لوجود الشدة المطربة، ولا يسمى خمراً، فثبت بهذا أنه يتبع الشدة المطربة دون اسم الخمر.
وطريقة أخرى وهو: أن الحكيم لا يجوز في صفته أن يكلف حكْماً ويوجب عبادة إلاّ ويجعل إلى معرفة ذلك سبيلاً بوجه، بدليل أنه كلف استقبال الكعبة، وجعل إلى التوجه إليها سبيلاً؛ من كان قريباً بالمعاينة، ومن كان بعيداً بالاستدلال حسب الاجتهاد بالأدلة المنصوبة على القبلة من النجوم والجبال والرياح والشمس والقمر، فكان فرض التوجه إليها بالاجتهاد.
وهكذا نص على دية الحر بالمقدر، وعلى بعض الجراحات كالموضِحَة (1)
__________
(1) الموضحة: الشجة بالرأس تبدي وضح العظم.
انظر: المصباح مادة: (وضح) والمطْلِع على أبواب المقْنِع ص (367) .(4/1286)
والمأمومة (1) والجائفة (2) ، وأطلق ما بقى، فكان المرجع فيها إلى الظن والاجتهاد.
وكذلك قِيَم المتلفات، والمهور في الأنكحة، والنفقات، والمتعة كل ذلك غير منصوص عليه، وإنما يعتبر بغيره.
فإذا صح أن ترد باقي هذه الأحكام إلى النظر والاجتهاد، كان غيرها (3) من الأحكام بمنزلتها (4) .
واحتج المخالف:
بأن الشرعيات إنما يحسن تكليفها لما فيها من المصالح، ولم يكن لنا طريق إلى معرفة المصالح، وكان القياس من فعلنا لم يجز أن يكون القياس طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية.
والجواب: أن ليس من شرط التكليف أن يكون [195/ب] مصلحة للمكلف.
وهذا أصل لنا خلاف المعتزلة.
ولو سلَّمنا هذا لم يصح؛ لأن ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية هو من قِبَل من يعلم المصالح والعواقب وهو الله تعالى؛ لأنه قد نصب لنا أدلة على صحة رد الفروع إلى الأصول، فلا يكون إثبات الحكم الشرعى إثباتاً له بفعله، ألا ترى أن الحكم المنصوص عليه يكون ثابتاً من فعل الله تعالى وإن
__________
(1) المأمومة: الشجة التي تصل إلى أم الدماغ.
انظر: المصباح مادة (أمَ) .
(2) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف.
انظر: المصباح مادة (جوف) والمُطْلع ص (367) .
(3) في الأصل: (غيرهما) .
(4) في الأصل: (بمنزلتهما) .(4/1287)
كان لا بدَّ لنا من تفكر فيه، وذلك فعلنا.
واحتج: بأنه يلزمكم أن تخبروا على هذه الأخبار عما يحدث في مستقبل الأيام، وعن الأجنة التي في الأرحام بغير نص، ولما لم يجز ذلك، كذلك ها هنا.
والجواب: أنَّا إنما جوزنا إثبات الحكم الشرعي؛ لأن الله تعالى قد نصب لنا أدلة على جواز القياس، ولم ينصب لنا أدلة على ما يحدث في المستقبل، فلهذا لم يجز الإخبارُ به.
ونظيره: أن ينصب لنا أدلة على الخبر بما يحدث في المستقبل، فيجوز حينئذ لنا الإخبارُ به.
واحتج: بأن النظر والاستدلال يختصان العقل، ودلالة العقل توجب الحكم للأشياء المختلفة بالأحكام المختلفة دون المتفقة، وتوجب الحكم للأشياء المتفقة بالأحكام المتفقة دون المختلفة، فإذا كان كذلك، وكان الشرع قد ورد بالحكم في الأشياء المتفقة بالأحكام المختلفة وفي الأشياء المختلفة بالأحكام المتفقة، بدلالة أنه أوجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة، وإن كان الحيض منافياً لهما، وفرق بين المني والمذي في الحكم وإن كانا شقيقين، علمنا أن النظر والاستدلال لا مدخل لهما في إثبات الأحكام الشرعية.
والجواب: أن العقل يمنع من الجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والببياض، وأن يفرِّق بين المِثْلَيْن فيما تقابلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى مجرى ذلك، فأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد، ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجرى مجراها من الألوان، وأن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسَناً إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه، وقد يكون قبيحاً إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفر عليه، وإن كان القعود في ذلك الموضع متفقاً، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسْن بأن يكون(4/1288)
في كل واحد منهما نفع لا ضرر فيه، وإن كانا مختلفين.
على أن هذا يؤكد [196/أ] صحة القياس، وذلك لأن المِثلَين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما؛ لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله وجب له الحكم، إما لذاته كالسوادين، أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين، وهكذا القول في المختلفين.
وعلى هذه الطريقة بعينها يجرى القياس؛ لأنا إنما نحكم للفرع (1) بحكم الأصل إذا شاركه علة الحكم؛ لأن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما له وجب الحكم فيهما، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه.
واحتج: بأن الفرع الشرعي قد يكون مشبهاً لأصل يقتضي التحريم، ولأصل يقتضي التحليل، فلا يكون أحدهما بالرد إليه أولى من الآخر، ولا يصح الحكم فيه بحكم الأصلين لتضادهما، فيمتنع القياس، فلا يصح الرد إلى شىء من هذه الأصول؛ لأن أحداً لم يفصل بين الفرع المشبه لأصلين هذه حالهما وبين الفرع المشبه للأصل الواحد.
والجواب: أن الفرع لا يرد إلى أحد الأصلين لكونهما شبهاً له، وإنما يرد لكونه أشبه منه بالآخر.
وعلى مذهب من يجيز أن يعتدل الأمر عند المستدل في شبه الفرع بالأصلين لا يلزمه ذلك؛ لأنه إذا اعتدل شبهه بهما كان المستدل مخيراً في رده إلى أيهما شاء كالمكفر هو مخير في أن يختار أى الكفارات شاء.
واحتج: بأنه لو جاز حمل الفرع على المنصوص عليه لوجود الشبه بينهما لوجب أن يجوز ذلك في سائر الأوقات، كما أن الفعل لما كان دلالة على كون الفاعل قادراً كان دلالة على ذلك في جميع الأوقات، وإذا كان كذلك وكان هذا الشبه بين المنصوص وبين ما لم ينص عليه موجوداً قبل النص ولم يجز القياس عليه علمنا أنه لا يصح رده إليه بحال.
________________
(1) في الأصل: (الفروع) .(4/1289)
والجواب: أن القياس إنما يصح إذا حصل هناك أصل منصوص عليه، كما أن الاستدلال على القدرة إنما يصح إذا وجد الفعل، فلما لم يصح أن يستدل على القدرة قبل وجود الفعل، كذا لا يصح القياس قبل وجود الأصل المنصوص عليه.
واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لم يخل المنصوص عليه إذا نسخ وقد قيس عليه فروع أن يبقى الحكم في فروعه، أو ينسخ الحكم فيها بنسخ حكم الأصل.
فإن قلتم: إن الحكم في فروعه يصير منسوخاً كان ذلك مبطلاً لمذهبكم في أن نسخ ما تناوله النص لا يوجب نسخ جميعه.
وإن قلتم: إن الحكم في فروعه يكون باقياً كان فيه كبقية الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل [196/ب] ، وهذا باطل.
والجواب: أنه لا يمتنع عندنا أن يبقى الحكم في الفروع مع نسخ حكم الأصل، كما أن نسخ الحكم في الأصل لا يوجب ارتفاع ما حكم في الحوادث بموجب النص قبل ورود النسخ.
واحتج: بأنه لو جاز إثبات حكم بالقياس لجاز إثبات الأصول به، وهذا باطل. والجواب: أنه إن أريد به إثبات الأصول بعد ثبوت أصل واحد، فهذا غير ممتنع عندنا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نص على بعض الأشياء المنصوص على تحريم التفاضل فيها، وأمرنا بقياس غيره عليه كنا نقيس أغياره من الأشياء الستة ومن غيرها، فإن أراد به إثبات الأصول ابتداء من غير أن يكون هناك أصل ثابت فإن ذلك لا يتأتى؛ لأن القياس لا بدَّ له من أصل يُردُّ إليه، [و] إذا لم يكن هناك أصل لم يصح معنى القياس.
واحتج: بأنه لو كان القياس صحيحاً لوجب أن تكون علته موجبة للحكم(4/1290)
قبل ورود الشرع كالعلة العقلية.
والجواب: أن علة القياس هي أمارة للحكم، وإنما تصير أمارة إذا ورد الشرع بذلك، وتجرى العلة الشرعية في هذا الباب مجرى الأسماء على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فلهذا لم تكن أمارة للحكم قبل ورود الشرع.
فصل
والدلالة على جواز التعبد به من جهة الشرع:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1) .
وحقيقة الاعتبار في اللغة (2) : حمل الشىء على غيره واعتبار حكمه به، إما في حكمه، أو قدره، أو صفته.
ومنه يقال: اعتبر هذه الدراهم بهذه الصًّنْجَة.
ويقال: أخذ السلطانُ الخراجَ العام على العام الماضي (3) .
وإذا كان حقيقة الاعتبار ما ذكرنا، وهو محض القياس اقتضت الآية وجوب ذلك، والأمر به، والمصير إليه.
فإن قيل: المراد بذلك النظر إلى ما فعلنا بهم.
قيل: لو كان كذلك لم يخص أهل الأبصار بذلك، والاعتبار والنظر الذى ذكروه لا يختص أهل البصيرة، فإنه يُدرك بالحس والمشاهدة، فيشترك
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
(2) قال ابن منظور في كتابه لسان العرب (6/205) مادة (عَبَر) : (وفي التنزيل "فَاعْتَبِرُوا يَأولِى الأْبصَارِ" أي: تدبروا، وانظروا فيما نزل بقريظة والنضير، فقايسوا فعالهم، واتعظوا بالعذاب الذي نزل بهم) .
وانظر: معجم مقاييس اللغة (4/210) مادة (عَبَر) .
(3) يعني: اعتبر السلطانُ الخراجَ في هذا العام بالعام الماضي، بمعنى قاسه عليه.(4/1291)
فيه من له بصيرة ومن لا بصيرة له؛ ولأنه حذَّر المخالفة وتوعد عليها بقوله:
(ذَلِكَ بَانهُمْ شَاقُّوا اللهَ) (1) ، فثبت أن المراد ما ذكرنا من الامتناع من الاقدام على مثل أفعالهم (2) .
وأيضاً: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ بن جبل: (كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله، أو قال: فإن لم تجد في [197/أ] ، كتاب الله؟ قال: فسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله، أو قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: الحمد لله الذى وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله) (3) .
فإن قيل: هذا الخبر لا يصح إسناده؛ لأنه يرويه الحارث بن عمرو (4) ، ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حِمْص من أصحاب معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، وأناس من أهل حِمْص مجاهيل، فلا يصح التعلق به.
قيل: هو خبر صحيح رواه أبو داود في سننه (5) ، وأبو عُبيد (6) في أدب
__________
(1) آية (4) من سورة الحشر.
(2) حتى لا يلحقنا ما لحق بهم، وهذا هو القياس.
(3) هذا الحديث قد مضى تخريجه.
(4) روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد، وروى عنه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي، ذكره العقيلي وابن الجارودي وأبو العرب في الضعفاء. وذكره ابن حبان في الثقات. قال الذهبي وابن حجر: مجهول. مات بعد المائة.
له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/143) وتهذيب التهذيب (2/151) وميزان الاعتدال (1/439) .
(5) في كتاب الأقضية باب اجتهاد الرأي في القضاء (2/272) .
(6) هو القاسم بن سلاّم، وقد سبقت ترجمته.(4/1292)
القضاء وابن المنذر (1) .
وقوله (2) : "أناس من أصحاب معاذ" يدل على شهرته وكثرة رواته، وقد عُرِف دينُه (3) ، والظاهر من أصحابه (4) الدين، والثقة، والزهد، والصلاح.
وعلى أنه روى (5) وسُميَ رجل (6) منهم، وهو ثقة معروف، فروى عبادة ابن نُسَى (7) عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن
__________
(1) هو: محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابورى. شيخ الحرم. ولد بنيسابور سنة (242هـ) . نزل مكة وسكنها. له كتب كثيرة، منها: الإجماع، والمبسوط، والإشراف. مات بمكة سنة (318 هـ) .
له ترجمة في: تذكرة الحفاظ (3/782) ، وشذرات الذهب (2/280) وطبقات الحفاظ ص (328) وطبقات الشافعية للسبكى (3/102) ولسان الميزان (5/27) وميزان الاعتدال (3/450) .
(2) القائل: الحارث بن عمرو راوي الحديث.
(3) أي دين معاذ - رضي الله عنه - قال الخطيب في كتاب: الفقيه والمتفقه (1/189) : (وقد عرف فضل معاذ وزهده) .
(4) الضمير عائد على معاذ، رضي الله عنه.
(5) قال الخطيب في المصدر السابق: (وقد قيل: إن عبادة بن نُسَي رواه عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة) .
قال ابن حجر في كتابه التلخيص الحبير (4/183) تعليقاً على كلام الخطيب: (فلو كان الإِسناد إلى عبد الرحمن ثابتاً لكان كافياً في صحة الحديث) .
قلت: قول الخطيب (وقد قيل ... ) يشعر بأن الرواية غير ثابتة عنده.
ولو عبر المؤلف بمثل تعبير الخطيب لكان أولى.
(6) في الأصل (رجلا) .
(7) في الأصل: (بشر) وهو خطأ، والتصويب من كتاب الفقيه والمتفقه (1/189) ، والتمهيد في أصول الفقه (3/381) . =(4/1293)
غَنْم ثقة مشهور (1) .
فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد، فلا يصح أن يحتج به في هذه المسألة التي هي أصل.
قيل: هذا أشهر وأثبت من قوله: (لا تجتمعُ أمَّتي على ضَلاَلة) وقد احتج به المخالف في الإجماع، فكان [هذا] (2) أولى (3) .
وجواب آخر وهو: أنه إذا جاز أن تثبت الأحكام الشرعية بخبر الواحد،
__________
= وهو: عبادة بن نُسَي -بضم النون وفتح المهملة الخفيفة- أبو عمرو الشامي، قاضي طبرية. روى عن عبادة بن الصامت وأبى الدرداء وغيرهما. وروى عنه برد ابن سنان والمغيرة ابن زياد الموصلى. ثقة. مات سنة (118هـ) .
انظر ترجمته في: تقريب التهذيب (1/395) وتهذيب التهذيب (5/113) .
(1) هو عبد الرحمن بن غَنْم -بفتح المعجمة وسكون النون- الأشعري، مختلف في صحبته.
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وعثمان وعلى وغيرهم. وعنه ابنه محمد ومكحول الشامي ورجاء بن حيوة وعبادة بن نُسَي وغيرهم. وثقه ابن سعد والعِجلي ويعقوب بن شيبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مات سنة (78 هـ) .
له ترجمة في تقريب التهذيب (1/494) وتهذيب التهذيب (6/250) .
(2) الزيادة يقتضيها المقام، وهى من كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (1/190) .
(3) وقال هذا الجواب أيضاً الخطيب البغدادي في المرجع السابق بالنص.
والخطيب يرى أن حديث معاذ - رضي الله عنه - قد احتج به الجميع، فيغني ذلك عن طلب الإسناد له.
وتابعه على هذا ابن القيَّم في كتابه اعلام الموقعين (1/202) .
وللشيخ الألباني رسالة تسمى: منزلة السنة من القرآن، ردَ فيه الحديث سنداً ومتناً، فارجع إليها إن شئت.(4/1294)
مثل تحليل وتحريم، وإيجاب وإسقاط، وتصحيح وإبطال، وإقامة حق وحدَّ، بضرب وقطع وقتل، واستباحة الفروج، وما أشبه ذلك، كان يثبت القياس به أولى؛ لأن القياس طريق لهذه الأحكام، وهى المقصودة دون الطريق (1) .
فإن قيل: الذى يثبت به المخالف الأحكام ظاهر القرآن وخبر الواحد والاجماع المروى من طريق الآحاد المحتمل للتأويل واستصحاب حكم العقل.
قيل: الشرع الذى يغيره ورود الشرع، وهذا كله من أدلة مسائل الفروع، فلم يصح ما ادَّعوه.
فإن قيل: معناه: اجتهد رأيي حتى آخذ حكم الله تعالى في الحادثة من الكتاب والسنة إذ كان في أحكام الله تعالى من الأمور مالا يتوصل إليه إلا بالاجتهاد.
قيل: الرجوع إلى الكتاب والسنة لا يسمى اجتهاداً، وإنما القياس يسمى اجتهاداً.
وعلى أن معاذاً رتَّب ما يقع به الحكم وما يقتضي الحكم، فيجب أن يكون كل واحد منهما غير صاحبه.
ويدل عليه أيضاً: ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [197/ب] قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر) (2) . وهذا يدل على جواز الحكم باجتهاده ورأيه.
__________
(1) هذا الجواب منقول بنصه في كتاب: الفقيه والمتفقه، الموضع السابق.
(2) هذا الحديث رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (9/132) .
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ (3/1342) . =(4/1295)
فإن قيل: هذا من أخبار الآحاد.
قيل: قد أجبنا عن هذا (1) .
فإن قيل: الاجتهاد في تأويل لفظ، وبناء لفظ على لفظ.
قيل: هو عام في الجميع إلاّ ما خصه الدليل.
وأيضاً ما روى أبو عُبيد في أدب القضاء بإسناده عن أم سلَمَة قالت: (كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد دَرَسَت، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحنَ بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحجته فاقتطع بها قطعة ظلماً فإنما يقطع بها قطعة من نار) (2) .
وهذا نص، فإنه أخبر أنه يقضي برأيه واجتهاده.
__________
= وأخرجه عنه أبو داود في سننه في كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطىء (2/268) .
ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الترمذى في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطىء (3/606) .
وأخرجه عنه النسائى في كتاب آداب القضاة، باب الإصابة في الحكم (8/197) .
وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به (1/188) .
(1) وذلك عند اعتراضهم الثاني على حديث معاذ رضي الله عنه.
(2) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أم سلمة -رضي الله عنها- في كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (9/86) ولفظه: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي نحوَ ما أسمع، فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من النار) .
وأخرجه عنها مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن =(4/1296)
ويدل عليه إجماع الصحابة من وجهين.
أحدهما: من جهة النقل.
والثاني: من جهة الاستدلال.
أما النقل: فقد روى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: (أقول في الكَلالة برأيي) (1) .
وعن عمر - رضي الله عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري في كتابه
__________
= بالحجة (3/1337) .
وأخرجه عنها أبو داود في سننه في كتاب الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (2/270-271) بمثل لفظ البخاري، وبمثل لفظ المؤلف.
وأخرجه عنها الترمذي في سننه في كتاب الأحكام، باب: ما جاء في التشديد على من يقضي له بشىء ليس له أن يأخذه (3/615) .
وأخرجه عنها النسائي في كتاب آداب القضاة، باب: الحكم بالظاهر (8/205) .
وأخرجه عنها ابن ماجة في كتاب الأحكام، باب: قضية الحاكم لاتحل حراماً ولا تحرم حلالاً (2/777) .
(1) هذا الأثر أخرجه البيهقي في سننه في كتاب الفرائض، باب: حجب الإخوة والأخوات من قبل الأم (6/223) ولفظه: ( ... عن الشعبي قال: سئل أبو بكر - رضي الله عنه - عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ماخلا الولد والوالد، فلما استخلف عمر - رضي الله عنه - قال: إني لأستحي الله أن أرد شيئاً قاله أبو بكر) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: الكلالة (10/304) ولم يذكر فيه موضع الشاهد.
وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب الفرائض، باب: الكلالة (2/264) بمثل لفظ البيهقي.
وأخرجه ابن جرير في تفسيره بسنده إلى الشعبي (8/53-54) برقم (8745، 8746، 8747) وفي السند الأول والثاني موضع الشاهد بمثل لفظ البيهقي مع =(4/1297)
المشهور: (الفهم فيما أدْلِي (1) إليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهِها بالحقِّ) (2) .
__________
= اختلاف يسير.
وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه في باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد (1/199) . وقد ذكر الأثر في كنز العمال (11/79) والدر المنثور (2/250) ونسب الأثر فيهما أيضاً إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر.
كما ذكر ابن القيم في كتابه: اعلام الموقعين (1/82) أن الإِمام أحمد أخرجه بسند ذكره.
ونقل الزركشي في كتابه المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص (223) عن ابن حزم أنه أعل الأثر بالانقطاع، لأن الشعبي لم يدرك عمر، فقد ولد بعده بعشرة أعوام.
قلت: وفي كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص (102) أنه سمع أباه وأبا زرعة يقولان: الشعبي عن عمر مرسل.
(1) في الأصل: (أدى) والتصويب من التمهيد (3/385) .
(2) هذا الكتاب أخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الأقضية والأحكام (4/206) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي، وما يفتي به المفتي (10/115) .
وأخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه، باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/200) .
وهذا الكتاب مشهور ومعروف عند العلماء. قال ابن القيِّم في كتابه اعلام الموقعين (1/86) : (هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه) . =(4/1298)
وهذا كتاب تلقته الأمة بالقبول، وفيه أمر صريح بالقياس.
وقال عمر لعثمان -رضي الله عنهما-: (إذا رأيتُ في الجد رأياَ فاتبعوني، فقال عثمان: إن نتبع رأيك فرأيُك رشيد، وإن نتبع رأى من كان قبلك فنعم ذو الرأى كان) (1) .
__________
= وقد ذهب ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام (8/1003) إلى أن هذا الأثر لا تصح نسبته إلى عمر، رضي الله عنه.
وقد ذكَر له سندين، ثم عقب عليهما بقوله:
(قال أبو محمد: وهذا لا يصح؛ لأن السند الأول فيه: عبد الملك بن الوليد بن مَعْدان، وهو كوفي، متروك الحديث، ساقط، بلا خلاف، وأبوه مجهول.
وأما السند الثاني: فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون، وهو أيضاً منقطع، فبطل القول به جملة) .
وقصده بالمجهولين: محمد بن عبد الله العلاف، وأحمد بن على بن محمد الوراق، وعبد الله بن سعد، وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني.
وقد تعقبه الشيخ أحمد بن محمد شاكر في الهامش في السند الأول فقال:
(أما عبد الملك فهو متوسط، ولم يضعفه أحد جداً إلا المؤلف، وأما أبوه فهو ثقة معروف، ذكره ابن حبَّان في الثقات) .
وقد تعقَب الحافظ ابن حجر في كتابه التلخيص (4/196) ابن حزم فقال:
(لكن اختلاف المخرج فيهما [يعني: الطريقين اللتين ذكرهما ابن حزم وأعلهما بالانقطاع، مما يقوي أصل الرسالة، لاسيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة) .
قلت: وعلى هذا فالكتاب ثابت النسبة إلى عمر - رضي الله عنه - وبخاصة أن العلماء تلقوه بالقبول، كما يقول العلامة ابن القيم. والله أعلم.
وراجع للاستزادة: نصب الراية (4/82) وإرواء الغليل (8/241) .
(1) سبق تخريجه.(4/1299)
وقال زاذان (1) : تذاكروا الخيار (2) عند علي - رضي الله عنه - فقال: (إن أمير المؤمنين عمر قد سألني عنه، فقلتُ: إن اختارت زوجَها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال: ليس كذلك، ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها، فتابعتُ (3) أمير المؤمنين، فلما خلص الأمر إليّ عرفت أني أسأل عن التزويج (4) عدت إلى ما كنتُ أرى، فقلنا: والله لأمر جامعتَ عليه أمير المؤمنين، وتركتَ رأيك أحب إلينا من أمر تفردتَ به، فضحك، وقال: أما إنه قد أرسل (5) [إلى] ، زيد بن ثابت، فخالفني وإياه، فقال: وما قال زيد؟، قال: إن اختارت زوجها فهي واحدة، وزوجها أحق بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره) (6) .
__________
(1) هو: زاذان، أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر، الكِندي بالولاء، الكوفي، الضرير، البزار.
روى عن عمر وعلي وابن مسعود وسلمان وحذيفة وغيرهم. وعنه المنهال بن عمرو وعطاء بن السائب وغيرهم. وثَّقه ابن معين وابن سعد والخطيب والعِجلي. قال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. قال الحافظ ابن حجر: (صدوق، يرسل، وفيه شيعية) مات سنة (82 هـ) .
له ترجمة في: تقريب التهذيب (1/256) وتهذيب التهذيب (3/302) .
(2) المراد بالخيار هنا: أن الرجل يخيِّر زوجته، فتختاره أو تختار نفسها.
(3) في الأصل: (فبايعت) والتصحيح من مراجع التخريج الآتية.
(4) هكذا في الأصل، وفي مراجع التخريج الآتية (الفُرُوج) .
(5) فاعل أرسل: عمر، رضي الله عنه.
(6) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الطلاق، باب: ما قالوا في الرجل يخيِّر امرأته فتختاره أو تختار نفسها (5/59) .
وأخرجه البيهقي في سننه في كتاب الخُلع والطلاق، باب: ما جاء في التخيير (7/345) . =(4/1300)
وروى عن علي أنه قال: (استشارني عمرُ في أمهات الأولاد فأجمعت أنا وهو على عتقهم [198/أ] ثم رأيت بعد أن أرقهم. فقال له عبيدة (1) : رأى ذوى عدل أحب إلينا من رأي عدل وحده) (2) .
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قصة بَرْوَع بنت واشق (3) :
(أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأَ فمني ومن الشيطان) (4) .
__________
= ويلاحظ: أن فتوى زيد - رضي الله عنه - مختلفة في المصدرين السابقين، ففي المصنف قال زيد: (إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة.
وفي السنن قال زيد: (إن اختارت نفسها فثلاث، وان اختارت زوجها فواحدة، وهو أحق بها) وهذا موافق للفظ المؤلف.
وقد نبه على ذلك محقق كتاب المصنف لابن أبي شيبة.
(1) هو عبيدة السلماني، وقد سبقت ترجمته.
(2) سبق تخريج هذا الأثر.
(3) الأشجعية. صحابية.
لها ترجمة في: الاستيعاب (4/1795) .
(4) هذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه أبو داود في كتاب النكاح باب: فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقاً حتى مات (1/488) ولفظه: (أن عبد الله بن مسعود أتي في رجل، بهذا الخبر.
يعنى: في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها الصداق.
فاختلفوا إليه شهراً، أو قال: مرات، قال: فإني أقول فيها: إن لها صداقاً كصداق نسائها، لاوَكس ولا شطط، وإن لها الميراث، وعليها العِدَّة فإن يك صواباً فمن الله، وإن يك خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام ناس من أشجع، فيهم الجرَّاح وأبو سنان، فقالوا: يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها فينا في بَروْعَ بنت واشق، وأن زوجها هلال =(4/1301)
وقال عبد الله بن عباس -رضي الله [عنهما]- في ديات الأسنان لما قسَّمها عمر على اختلاف منافعها (1) : (اعتبروها بالأصابع؛ عقلها سواء وإن اختلفت منافعها) (2) .
وقال عبد الله بن عباس: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً؟!) (3) .
__________
= بن مُرة الأشجعي، كما قضيت، قال: ففرح عبد الله بن مسعود فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/279) .
وأخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه، باب ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/202) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب النكاح، باب: الذي يتزوج فلا يدخل ولا يفرض حتى يموت (6/294) .
ويظهر من هذا: أن المسألة التي حكم فيها ابن مسعود مشابهة لمسألة يَروَع بنت واشق، التي حكم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليست هي، كما يفهم من ظاهر كلام المؤلف.
(1) تقسيم عمر - رضي الله عنه - لديات الأسنان على اختلاف منافعها، أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه كتاب الحقول، باب: الأسنان (9/347) .
كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الديات، باب: من قال: تفضل بعض الأسنان على بعض (9/190) .
(2) هذا الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه عنه البيهقي في سننه في كتاب الديات، باب: الأسنان كلها سواء (8/90) ، وفيه: (لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء) .
وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإحكام ص (1006) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول، باب: الأسنان (9/345) .
(3) هذا الأثر ذكره ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/131) ، بدون إسناد، ولفظه: (وقال ابن عباس: ليتق الله زيد، أيجعل ولد الولد بمنزلة الولد، =(4/1302)
وروى عن ابن عباس: (أنه كان إذا سئل عن شىء فكان في كتاب الله تعالى قال به، وإن لم يكن في كتاب الله، وحُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدث به عن رسول الله وأخبر به عن أبي بكر وعمر قال به، فإن لم يكن في كتاب الله ولا حُدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر اجتهد وقال برأيه) (1) .
وهذا يدل على صحة القول بالرأي والاجتهاد.
فإن قيل: من حكيتم عنه القول بالقياس قد روي عنه بُطلانه.
من ذلك ما روي عن أبي بكر أنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلُّني، إذا قلت في كتاب الله (2) برأيي؟!) .
وعن عمر أنه قال: (إياكم وأصحابَ الرأي، فإنهم أعداء الدين، أعْيَتْهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) (3) .
__________
= ولا يجعل أب الأب بمنزلة الأب؟! إن شاء باهَلْتُه عند الحجر الأسود) .
(1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه، باب: ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في الحكم بالاجتهاد وطريق القياس (1/203) .
وأخرجه ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم، باب: اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص (2/72) .
(2) هذا الأثر أخرجه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/64) ، عن أبي بكر، رضي الله عنه.
كما أخرجه في الموضع نفسه عن علي، رضي الله عنه.
وأخرجه الدارقطنى في سننه: في كتاب النوادر (4/146) قال أبو الطيب العظيم أبادي في تعليقه على سنن الدارقطنى في الهامش: (في إسناده مُجالد، وهو ضعيف، ضعَّفه ابن معين، ووثَّقه النسائي) .
وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإِحكام ص (779) .
(3) هذا الأثر أخرجه الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/180-181) . =(4/1303)
وروي عنه أنه قال: (إياكم والمكايَلَةَ، قيل: وما المكايَلَة؟، قال: المقايسة) (1) .
وروي عن شريح قال: كتب إليَّ عمر بن الخطاب وهو يومئذ من قبله: (اقض بما في كتاب الله، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد فلا عليك ألاّ تقضي) (2) .
وعن على أنه قال: (لو كان الدين قياساً لكان باطن الخُف أحقَ بالمسح من ظاهره، ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرها) (3) .
وعن ابن مسعود أنه قال: (إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيراً مما حرم
__________
= وأخرجه ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم، باب ماجاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس ... (2/164-165) .
وأخرجه ابن حزم في كتاب الإحكام ص (779) .
ولم أجد في المصادر السابقة لفظ: (أعداء الدين) كما ذكر المؤلف، وإنما وجدت: (أعداء السنن) ، وهو الأنسب، والله أعلم.
(1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في المصدر (1/182) عن عمر رضي الله عنه، كما أخرجه في المصدر المذكور (1/183) عن الشعبي بلفظ: (إياكم والمقايسة) .
وذكره ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم (1/167) عن الشعبي أيضاً.
(2) هذا الأثر قد سبق تخريجه ص (1163) عند ذكر المؤلف له بلفظ: (إن لم تجد في السنة اجتهد رأيك) .
(3) روى هذا أبو داود في سننه في كتاب الطهارة، باب: كيف المسح؟ (1/36) ، وفيه: (لو كان الدين بالرأي) بدل قول المؤلف: (لو كان الدين قياساً) .
وأخرجه الخطيب من قول عمر - رضي الله عنه - في كتابه الفقيه والمتفقه (1/181) .
وأخرجه ابن حزم في كتابه الاحكام ص (380) .
وانظر هذا في: اعلام الموقعين (1/58) والتلخيص الحبير (1/160) وفيه يقول الحافظ ابن حجر: (إسناده صحيح) .(4/1304)
الله تعالى، وحرمتم كثيراً مما حلله الله) (1) .
وعن ابن عباس: (أن الله تعالى قال لنبيه: (احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ) (2) ، ولم يقل بما رأيت) (3) .
وعنه أنه قال: (لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: (وَأن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزلَ اللهُ) (4) .
وروي عنه أنه قال: (إياكم والمقاييس، فإنما عُبِدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس) (5) .
وعن عبد الله بن عمر أنه قال: (السنة ما سَنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[198/ب] لا يجعل الرأيُ سنةً للمسلمين) (6) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/182) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - كما ذكر المؤلف.
ذكره ابن عبد البَر في كتابه: جامع بيان العلم عن الشعبي (2/94) .
وأخرجه ابن حزم في كتابه: الإحكام ص (1073) عن الشعبي أيضاً.
(2) آية (49) من سورة المائدة.
(3) لم أقف على هذا الأثر في مصدر معتمد.
(4) لم أقف على هذا الأثر في مصدر معتمد.
(5) هذا الأثر سبق تخريجه ص (1278) عند ذكر المؤلف له بلفظ: (أول من قاس إبليس) .
(6) هذا الأثر أخرجه ابن عبد البَر في كتابه، جامع بيان العلم (2/166) عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ: (السنة ما سنه الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تجعلوا خطأ الرأي سنةً للأمة) .
وأخرجه عنه ابن حزم في كتابه الإِحكام (6/786) بمثل لفظ ابن عبد البَر.
وذكره ابن القيِّم في كتابه: اعلام الموقعين (1/54) منسوباً إلى عمر - رضي الله عنه - بمثل لفظ ابن عبد البَر.(4/1305)
وقال الزبرقان (1) : (نهاني أبو وائل (2) أن أجالس أصحابَ الرأي) (3) .
وقال مسروق: (لا أقيس شيئاً بشىء، أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها) (4) .
قيل: أما قول أبي بكر: (أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله برأيي) ، فلا حجة فيه؛ لأنا نمنع القول في كتاب الله تعالى [بالرأي] .
وقول عمر: (إياكم والرأي) فالمراد به: الرأي المخالف للحديث؛ لأنه قال: (أعيتهم الأحاديث أن يعوها) .
وقال: (إياك وأصحاب الرأي. فإنهم أعداء السنن) والرأي المخالف لذلك فهو ضلال وإضلال.
وكذلك قول علي: (لو كان الدين بالرأي) فالمراد به مع مخالفة السنة.
والدليل على ذلك: ما روي عنهم من القول بالرأي والعمل به.
__________
(1) هو الزبرقان بن عبد الله الأسدي الكوفي، أبو بكر السراج ثقة. روى عن أبي وائل وعبد الله بن معقل. وعنه يحيى بن سعيد وعباد بن عوام وعمر بن على بن مقدم وغيرهم. وثقه يحيى القطان ويحيى بن معين.
له ترجمة في: كتاب الجرح والتعديل (ج أق 2 ص 610) .
(2) هو: شقِيق بن سلمة الأسدي الكوفي أبو وائل. روى عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وعنه الأعمش ومنصور وحصين وغيرهم.
وثقه ابن معين ووكيع وابن سعد وغيرهم. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة. مات سنة (82 هـ) .
له ترجمة في: تاريخ بغداد (9/268) وتذكرة الحفاظ (1/60) ، وتقريب التهذيب (1/354) وتهذيب التهذيب (4/361) وطبقات الحفاظ ص (20) .
(3) أخرج هذا ابن عبد البَر في كتابه جامع بيان العلم (2/179) ولفظه: (لا تُقاعِد أصحاب أرأيت) .
(4) أخرج هذا الأثر ابن عبد البَر في المصدر السابق (2/167) ولفظه: (لا أقيس شيئاً بشىء، قلت لمه؟ قال: أخاف أن تَزِل رجلي) .(4/1306)
وعلى هذا كل ما روي عن الصحابة وعن أبي وائل ومسروق من ذم الرأي والقياس.
والدليل على ذلك ما رويناه من إجماع الصحابة.
والطريقة الثانية في الإجماع من جهة الاستدلال:
فهو أن الصحابة اختلفت في الحوادث اختلافاً متبايناً.
فاختلفوا في قوله: أنتِ عليَّ حرام.
فقال بعضهم: يمين، تُكَفَّر.
ومنهم من قال: فيها كفارة يمين، وليست بيمين.
ومنهم من قال: طلاق رجعي.
ومنهم من قال: طلاق ثلاث.
ومنهم من قال: ظهار (1) .
وهكذا اختلفوا في الجَدِّ:
فمنهم من لم يقاسم بينه وبين الاخوة، وقالوا: الجد أب، [وهم] عشرة من الصحابة، منهم أبو بكر وابن عباس.
ومنهم من قال: يقاسمهم إلى الثلث.
ومنهم من قال: إلى السدس.
ومنهم من قال: إلى نصف السدس (2) .
فأقرَّ بعضهم بعضاً على ما ذهب، فإما أن يقولوا باجتهاد، أو بنص.
فإن كان هناك نص لم يخل من ثلاثة أحوال:
__________
(1) سبق ذكر الخلاف في هذه المسألة ص (1115) .
(2) راجع في هذه الأقوال: السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الفرائض، جماع أبواب الجد، (6/244-251) ، والمصنف لعبد الرزاق كتاب الفرائض، باب فرض الجد (10/261-273) .(4/1307)
إما أن يكون خَفِي عليهم.
أو علموه، وتركوه.
أو علم به بعضهم دون بعض.
فبطل أن يكون هناك نص خَفِي عليهم؛ لأنه يفضي أن يجمعوا على خطأ، وأن يخرج الأمر عن أيديهم.
وبطل أن يقال: علموا به وتركوه؛ لأن هذا عناد.
وبطل أن يقال: علم به بعضهم دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك لأظهره الذى علمه، ورواه، وذكره.
فلما لم يكن شىء من هذا ثبت أن القوم قالوا فيها باجتهادهم.
ويؤيد هذا: أن القوم قاسوا الجَد على غيره، واعتبره عليُّ بالبحر، والأب بالنهر، والإخوة بالأنهار (1) .
واعتبره زيد بالشجرة، والأب بالغصن، والإخوة بالأفنان (2) .
__________
(1) هذا الأثر عن علي - رضي الله عنه - لم أجده بهذا اللفظ، إنما وجدت ما أخرجه البيهقي في كتاب الفرائض، باب: من ورث الإخوة مع الجد (6/248) بلفظ: (قال زيد: إلا أن علياً جعله سيلاً سال، فانشعبت منه شعبة، ثم انشعبت منه شعبتان، فقال: أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يَبِس، أكان يرجع إلى الشعبتين جميعاً) .
وبمثل هذا اللفظ: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الفرائض، باب: فرض الجد (10/265) .
(2) هذا الأثر -عن زيد بن ثابت- رضي الله عنه - أخرجه عنه البيهقي في المصدر السابق بلفظ: ( ... فقال زيد: يا أمير المؤمنين لا تجعل شجرة نبتت فانشعب منها غصن، فانشعب في الغصن غصنان، فما جعل الأول أولى من الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟!) .
وبمثل هذا اللفظ: أخرجه عبد الرزاق في المصدر السابق.(4/1308)
ثبت أن القوم أجمعوا على القياس، وعملوا به، وأقرَّ بعضهم بعضاً على ذلك.
وحُكي عن داود أنه قيل له: إذا لم يكن الدليل عندك إلا نفس كتاب أو سنة، أو قياس لا يحتمل إلا معنى واحداً (1) . فلم اختلفت الصحابة؟! قال: خذل (2) القوم (3) .
وهذا أعظم (4) ، فإنه لم يكفهم منع [199/أ] القياس حتى خطئوا الصحابة.
وأيضاً: فإن الله تعالى كلف المجتهد معرفة أحكام الحوادث ليعمل بها لنفسه، أو ليفتي بها، أو يحكم بها بين الناس، فلابد أن ينصب هنا أدلة تعرف أحكام الحوادث بها.
وذلك الدليل: إما أن يكون نصاً أو غيره؛
فبطل أن يكون نصاً؛ لأن الله تعالى ما نص على حكم كل حادثة، ولابد من معرفة حكمها، ثبت أن معرفة حكمها بالاجتهاد والاعتبار.
فإن قيل: قد نص على حكم كل حادثة؛ إما نصاً أو دليل الخطاب.
قيل: إذا اختلف المتبايعان، فقال كل واحد منهما: لا أدفع ما عليّ حتى أقبض مالي، فليس في تقديم واحد منهما دليل من جهة النص.
وكذلك: إذا اختلفا والسلعة قائمة، تحالفا، وليس في تقديم أحدهما نص ولا دليل خطاب.
وكذلك قوله لزوجته: أنتِ عليَّ حرام؛
منهم من قال: طلاق.
__________
(1) في الأصل: (واحد) .
(2) ضبطها في الأصل بتشديد الذال مع الكسر.
(3) لم أقف على قول داود هذا.
(4) في الأصل (عظم) .(4/1309)
ومنهم من قال: ظهار.
ومنهم من قال: يمين.
وليس في هذا دليل.
فإن قيل: إن لم يكن هناك نص صرنا إلى حكمها بدليل العقل.
والناس في هذا على مذاهب؛
منهم من قال: الأشياء على الحظر.
ومنهم من قال: على الإباحة.
ومنهم من قال: على الوقف.
فيبنى حكم الحادثة على هذا.
قيل: في الحوادث ما يقف قياس العقل فيها، وهو ما ذكرنا من اختلاف المتبايعين في الإقباض، وغير ذلك.
وكذلك قوله: أنتِ علي حرام، ليس للعقل في هذا مجال، في تقديم بعضهم على بعض.
فإن قيل: يصير في ذلك إلى استصحاب الحال.
قيل: ولا يمكن أيضاً استصحاب الحال فيما حكينا من المسائل؛ لأن الحال قد زالت.
فإن قيل: فبالإجماع يقضي فيها.
قيل: منها ما لم يجمعوا عليه، بل اختلفوا فيه.
وعلى أنكم وإن صرتم إلى الإجماع، فالإجماع لا ينعقد على الحكم فيها إلا بدليل، وذلك الدليل ينقسم على ما قلناه في أول المسألة، فلابد لهم من نص أو اعتبار.
وهذه الطريقة معتمدة في المسألة.
وأيضاً: فإن الله تعالى ذكر أحكاماً ونص على معانيها، فقال: (مِنْ أجْلِ(4/1310)
ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بني إسْرَائِيلَ) (1) .
وقال في الفيء: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَة بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ مِنْكُم) (2) يعني نصصت على حكمه لهذا.
وكذلك قال: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اْلمُؤْمِنِينَ حَرَج في أزْواجِ أدْعِيَاءِهِمْ إذَا قَضَواْ مِنْهُن وَطَراً) (3) .
وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما فعلتُ ذلك من أجل الدَّافَّة) (4) .
وقال: (إنّما جُعِل الاستئذانُ من أجلِ البَصَر) (5) .
فإذا نص الله ورسوله على الأحكام وذكر معانيَها، ثبت أنه إنما نصَّ على
__________
(1) آية (32) من سورة المائدة.
(2) آية (7) من سورة الحشر.
(3) آية (37) من سورة الأحزاب.
(4) هذا جزء من حديث، قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن ادّخار لحوم الأضاحى فوق ثلاثة أيام من أجل الدافة. وقد سبق تخريجه عند ذكر المؤلف له بلفظ: (كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي ... ) .
والدافة: قوم من الأعراب يردون المِصْر، والمعنى: أن هناك قوماً قدموا المدينة في عيد الأضحى، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدخر لحوم الأضاحي، من أجل أن تفرق عليهم، فينتفعوا بها.
انظر: النهاية في غريب الحديث (2/26) ، مادة (دفف) .
(5) هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الامتشاط (7/211) .
وأخرجه في كتاب الاستئذان باب الاستئذان من أجل البصر (8/66) رقم الحديث كما في الفتح (5924، 6241، 6901) .
وأخرجه مسلم في كتاب الأدب، باب تحريم النظر في بيت غيره (3/1698) رقم (2156) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الاستئذان باب من اطّلع في دار قوم بغير إذنهم (5/64) رقم الحديث (2709) . =(4/1311)
المعنى حتى إذا عرف الحِقَ به [199/ب] ، ما وجد فيه ذلك المعنى.
فإن قيل: إنما نص على معنى الحكم ليعرف معناه.
قيل: لا فائدة في معرفة معناه، وقد عرف معناه بالنظر.
وطريقة أخرى وهو: أن القياس مفهوم كلام العرب ومعقولها، بدليل من له ابنان، ضرب كل واحد منهما زوجة نفسه، ثم إن أباهما ضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟.
فقال: لأنه ضرب زوجته.
وإذا قيل له: فالآخر أيضاً قد ضرب زوجته، فلم لم تضربه؟!
فمتى لم يأت باعتذار في هذا سقط كلامه، وبان نقصه (1) .
فثبت أن القياس مأخوذ من مفهوم كلامهم.
وأيضاً: فإن الاجتهاد في طلب القبلة عند الخفاء واجب، وإنما يستدل عليها بالعلامات، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والرياح، وهذا محض القياس؛ لأنه يقيس القبلة على هذا النجم وعلى طلوع الشمس وغروبها، ويهدى إليها بها.
فإن قيل: إنما لزمه الاجتهاد في طلب القبلة؛ لأن الشرع ورد بالطلب.
قيل: قد سلمتم أنه ورد بالعمل على القياس.
فإن قيل: القبلة واحدة، وشخص واحد كلف طلبه، فليس كذلك حكم الأرز؛ لأنه كلف حكمه، وحكمه يختلف.
قيل: لا فرق بينهما وذلك أن له في الأرز حكماً طلبناه من البُر، كما أن له في الكعبة حكماً طلبناه من هذه الأدلة، فالبُر في حكم الأرز، كهذه الأدلة
__________
= وأخرجه أحمد في مسنده: (5/330، 334، 335) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه كتاب الجامع، باب الرجل يطَّلع في بيت الرجل (10/383) رقم الحديث (19431) .
في التمهيد (3/410) : (بَانَ نَقْضُه) بالضاد المعجمة، وهي أولى.(4/1312)
في طلب القبلة.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (1) .
وقوله تعالى: "وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعلَمُونَ" (2) .
والجواب: أن هذه حجة عليهم في نفيهم القياس بأمور محتملة غير مقطوع بها، ولا معلومة، فقد قالوا على الله ما لا يعلمون.
على أن ذلك محمول على منع القول بما ليس بعلم، فلا يجرى مجراه من القياس والاجتهاد، بدلالة قوله: (فَاعْتَبِرُواْ يَا أولِى اْلأبصَارِ) (3) ، وحديث معاذ.
وجواب آخر، وهو: أن الحكم بالقياس معلوم، ويكون ذلك بمنزلة الحكم بشهادة الشاهدين، إذا غلب على ظن الحاكم صدقُهما وعدالتُهما، والتوجه إلى القبلة إذا غلب على ظنه أنها في جهة، فإن وجوب الحكم بها وفعل الصلاة إليها معلوم، وإذا كان كذلك، فلم نَقْفُ ما ليس لنا به علم.
واحتج بقوله تعالى: (إِنَّ الظنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَق شَيْئاً) (4) .
__________
(1) آية (36) من سورة الإسراء.
ووجه الاستدلال: أن القياس قَفْو لما لا علم لهم به.
انظر: الاحكام لابن حزم ص (1055) .
(2) آية (169) من سورة البقرة.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القول بالقياس حرام؛ لأنه قول على الله مالا نعلم، وذلك مما يأمر به إبليس: (إنَّمَا يَأمرُكُم بِالسوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأن تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ) .
انظر: الإحكام لابن حزم ص (1055) .
(3) آية (2) من سورة الحشر.
(4) آية (28) من سورة النجم.
ووجه الاستدلال من الآية: أن القياس ظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً.(4/1313)
والجواب: أن المراد به الظن الذي هو تخمين وحَدْس، لم يقع عن طريق صحيح. فأما الظن (1) الواقع عن أمارة وطريق صحيح، فهو جار مجرى العلم في وجوب العمل به، كما يقول المخالف في الحكم بقول الشاهدين، وبقول المقومين، وقبول قول زوجته في حيضها وطهرها [200/أ] ، وقبول قول القَصاب في ذبيحته، والتوجه إلى القبلة باجتهاده.
واحتج بقوله تعالي: (وَمَا اخْتَلَفتُمْ فِيهِ من شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ) (2) .
وقال تعالى: (فَإن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فردُّوهُ إلَى اللهِ وَالرسُولِ) (3) .
والجواب: أنه لم يرد به إلى ذات الله وذات رسوله، وإنما المراد إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله، والرد إلى القياس رد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإنه عليهما يحمل، ومنهما (4) تستنبط المعاني ويقاس عليها.
واحتج بما روىٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ستفترقُ أمتي على بِضْع وسبعين فِرْقة، أعظمُها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيُحرِّمون الحلالَ ويُحللون الحرامَ) (5) .
__________
(1) في الأصل: (وأما الطريق) .
(2) آية (10) من سورة الشورى.
ووجه الاستدلال من الآية: أن المختلف فيه حكمه إلى الله، وليس إلى القياس.
(3) آية (59) من سورة النساء.
ووجه الاستدلال: أن المتنازع فيه يجب رده إلى الله والرسول، والقول بالقياس رد إلى غير الله والرسول.
(4) في الأصل: (منها) .
(5) هذا الحديث رواه عوف بن مالك -رضي الله- مرفوعاً. أخرجه عنه الطبراني في الكبير والبزار (10/79) .
قال الهيثمى في مجمع الزوائد: (ورجاله رجال الصحيح) (1/179) .
وأخرجه ابن عبد البَر بسنده في كتابه: جامع بيان العلم وفضله (2/163) . =(4/1314)
والجواب: أن المراد بذلك الرأي المخالف للكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فقد ضلَّ، ودخل تحت الوعيد (1) .
واحتج بأنه لو كان العمل بالقياس واجبا لم يخلُ العمل بذلك من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً، وليس يسوغ ادعاء العلم الضروري في وجوب ذلك؛ لأنا لا نجد نفوسنا مضطرة إلى العلم بذلك ولا تتعرى من الشكوك.
وإن كان العلم بوجوده استدلالاً لم يخلُ إمَّا أن يكون الاستدلال عقلاً أو شرعاً.
والعقل لا مدخل له في إيجاب ذلك؛ لأن العلم بأصول الأشياء التي يقاس عليها لا يقع من ناحية العقول، ولا يجوز أن يفرِّق الله تعالى بين الخمر وسائر الأشربة في الحكم، فيحرم الخمر ويبيح غيرها مع تساويها (2) في الإسكار، والعقل يسوى بينهما.
ولو كان ثبوته شرعاً لظهر، وليس في وجوب ذلك خبر.
__________
= وأخرجه الخطيب في كتابه: الفقيه والمتفقه (1/180) .
وأخرجه ابن حزم في كتاب الاحكام (8/1068) .
والحديث قد ارتضاه ابن حزم كما في المرجع السابق.
وكذلك الهيثمي.
ولكنَّ أبا الخطاب في كتابه التمهيد (3/402) قال: (إنه خبر غير معروف) .
وقال الشيخ أحمد شاكر في هامش كتاب الإحكام لابن حزم: (حديث ضعيف) .
وقد تجنب المؤلف الطعن فيه، فلعله ذهب إلى صحته.
(1) هذا أحد الأجوبة، وهناك جواب ثان: بأنه حديث غير معروف، وقد سبقت الإشارة إليه.
وجواب ثالث، ذكره أبو الخطاب في كتابه السابق: (أنه خبر واحد غير مشهور، فلا يحتج به في الأصول) .
(2) في الأصل: (تساويهم) .(4/1315)
وتحرير هذه الدلالة: أن العلم بوجوبه، إذا لم يكن من ناحية المعقول، ولا شرع ورد بذلك لم يجز القضاء به.
والجواب: أنا نَقْلِبُ هذا الدليل فنقول: لو كان القول بالقياس باطلاً، لم يخلُ العلم ببطلانه من أن يكون ضرورةً أو استدلالاً.
ولا يمكن ادعاء الضرورة لما يعترينا في بطلانه من الشك، والعقول لا مجال لها في بطلانه.
ولأن نفاة القياس يجوزون أن يتعبد الله تعالى بإلحاق سائر الأضربة المسكرة
بالخمر من طريق القياس، فلو بطل الحكم بالقياس لم يبطل إلا شرعاً، والشرع هو الخبر عن الله تعالى وعن رسوله، ولا خبر بذلك، فلم يجز الحكم ببطلانه.
وجواب آخر: وهو أنا أثبتنا ذلك بالشرع، وقد ظهر ذلك بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوْلِى اْلأبصَارِ) (1) وبحديث معاذ، وإجماع الصحابة.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الشرع غير معلوم؛ لأنه خبر واحد، فلا يجوز إثبات مسائل الأصول بخبر الواحد.
قيل [200/ب] : لم نذكر ما يوجب العلم ويقطع العذر، وإذا لم يكن فيه دليل حال ثبوته بخبر الواحد على أنا قد ذكرنا الآية، وهي مقطوع بها، والخبر الذى ذكرنا متلقى بالقبول، وإجماع الصحابة مقطوع به.
واحتج: بأن، القياس حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه (2) ، وأجمعوا أن ذلك لا يقف على شهوة المعلل واقتراحه، بل يكون تابعاً للدليل، وليس يخلو الدليل من أن يكون عقلاً أو شرعاً.
والعقل لا يدل على ذلك؛ إذ ليس بعض صفات المعلل أولى بذلك من بعض.
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
(2) في الأصل: (شبهة) .(4/1316)
وحكم الأصل أيضاً لم يعلم عقلاً.
ولأنه لا وجه يدعي الخصم أنه علة إلا وهو يجوز أن يرد الخبر بأن العلة سواه، فبطل أن يكون للعقل مجال في ذلك.
ولا يجوز أن يكون العلم بالعلة قياساً على النص لوجهين:
أحدهما: أن ذلك القياس لابدَّ له من علة، ولا بدَّ في تعريف تلك العلة من قياس يأتي، والكلام في ذلك كالكلام في الذي قبله، وهذا يفضى إلى ما لا نهاية له، فلم يبق إلا النص.
وإذا كانت العلل منصوصاً عليها، جاز حمل غير المنصوص عليه على ما تناوله النص عند كثير من أهل الظاهر.
ولا يجوز أن يكون ما تذكرونه من وجود الحكم في الأصل المعلَّل عند وجود الصفة وعدمها عند عدمه، دلالة على كونها علة يجب القياس عليها لوجود الحكم في كثير من المواضع، موجود عند وجود شيء ومعدوم عند عدمه، مع اعترافنا بأنه ليس بعلة.
ألا ترى أنا نجد العصير حلالاً قبل حدوث الشدة فيه لا يَكْفُر مستحله، فإذا حدثت الشدة صار حراماً يَكْفُر مستحله، ثم إذا ارتفعت الشدة عنه صار حلالاً، ولم يَكْفُر مستحله، ولم يجب من أجل ذلك أن تكون الشدة علة للتكفير؛ لأنَّا لا نكفر مستحل كل شديد.
والجواب: أن القياس هو: حمل الفرع على الأصل بعلة وشَبَه، قد دل الدليل على صحتها، وذلك يحصل من خمسة أوجه:
أحدها: لفظ صاحب الشريعة بنصه، أو تنبيهه (1) ، أو إجماع الأمة، أو تأثيرها، وهو يوجد الحكم بوجود المعنى، ويعدم بعدمه أو شهادة
__________
(1) في الأصل: (أو تنبيه) ودلالة السياق تدل على ما أثبتناه.(4/1317)
الأصول، أو قيام الدليل على بطلان ما سواها، وقد شرحنا ذلك في الخبر الذى بعده.
وإذا كان كذلك، لم يلزم ما قالوه؛ لأن قولهم: ليس بعض الصفات أولى من بعض غلط؛ وذلك أنه إذا تعارض فيه أمارتان، عرضناهما على الأصول، فأيهما كان أشد اطراداً وانعكاساً وتأثيراً، كان أولى.
وقولهم: إنه يجوز أن يَرِد الخبر بأن الحكم سواه، فهذا لا يتصور بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما في حياته فإنه ما من [201/أ] حكم ثبت بالنص إلا ويجوز أن يَرِد نص بخلافه، ثم لم يمنع ذلك كونه دليلاً.
وقولهم: إن مستَحِلَّ النبيذ والنقيع لا يَكْفُر، وإن كانت علة الكفر موجودة فيه وهي الشدة غلط؛ لأن العلة في كفر مستَحِلِ الخمر الإجماع على تحريمه، فليس العلة في كفره الشدة. وذلك الإجماع لا يوجد في غيره مما تحله الشدة، فلهذا لم نُكَفرْه.
وقولهم: يحتاج في تعريف العلة إلى علة أخرى إلى ما لا نهاية له غلط، لأنَّا (1) .
واحتج: بأن القياس لا يصح إلا بثبوت علة الأصل، وأنهم يدعون علة الأصل، ولا يمكنهم إقامة الدليل عليها، فلم يصح القياس بعلة مدعاة لا دليل عليها.
والجواب: أنا لا نقيس إلا بعد ثبوت علة الأصل، وإنما نبين فيما بعد ثبوتها، والأمارة الدالة عليها، إن شاء الله تعالى.
واحتج: بأن علة الأصل إذا ثبتت لا يجب أن يتعدى الحكم إلى كل موضع توجد فيه علة الأصل، ولهذا إذا قال رجل: اعتقت عبدي؛ لأنه أسود، لا
__________
(1) بياض في الأصل يقدر بكلمتين.(4/1318)
يوجب ذلك أن يعتق كل عبد له أسود.
والجواب: أن العلة إذا ثبتت وجب الحكم بها في كل موضع وجدت؛ لأنها أمارة على الحكم، وإذا وجدت الأمارة والدلالة وجب الحكم بها.
وأما قول الرجل: أعتقت عبدي؛ لأنه أسود، فإنه لا يعتق سائر عبيده السودان؛ لأن المناقضة جائزة عليه، وليس كذلك صاحب الشريعة، فإنه لا يجوز التناقض في قوله، فوجب طرد تعليله.
واحتج: بأن القصد بالقياس طلب الحكم فيما لا نص فيه ولا توقيف، فليس عندنا حكم إلا وقد تناوله نص وتوقيف، فلم يكن للقياس معنى.
والجواب: أنا نعلم أحكاماً كثيرة لا نص فيها، من ذلك:
جواز قتل الزنبور في الحِّل والحرم، وليس فيه نص، وإنما قيس على العقرب.
وإذا تعمد ترك الصلاة يجب قضاؤها، وليس في ذلك نص، وإنما قيس على من نسيَها أو نام عنها (1) .
__________
(1) وجوب القضاء هنا إما بالأمر الأول وإما بأمر جديد.
وقد اختار المؤلف (1/293) أن القضاء يكون بالأمر الأول، ومعنى هذا:
أنه ليس في حاجة إلى القياس.
والذي تميل إليه النفس: أن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد، وليس هناك أمر جديد بوجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً، فاضطر القائلون بالقضاء للقياس على من نام أو نسيَ الصلاة، فقد ورد النص في ذلك: (من نام عن صلاة أو نسيَها فليصلِها إذا ذكرها) ، وقد سبق تخريجه (1/297) .
إلا أن القياس -في رأيي- غير صحيح؛ لأن النص وارد فيمن تركها لعذر، وهذا قد ترك الصلاة عمداً.
ولذلك يرى بعض العلماء أن القضاء إنما وجب عليه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فدينُ الله أحق بالقضاء) .
وذهب جمع من المحققين إلى أن من ترك الصلاة عمداً لا يقضي، وإنما عليه التوبة، =(4/1319)
وإذا ماتت فأرة في غير السَّمن (1) .
وإذا ماتت سنور في السَّمن (2) وما أشبه ذلك كثير.
ومن المسائل الغامضة فأكثر من أن تحصى.
وجواب آخر: وهو: أنه ليس من شرط القياس أن يكون النص معدوماً، وإنما شرطه أن لا يكون مخالفاً للنص، فإذا لم يكن مخالفاً للنص صح القياس، مع وجود النص، ومع عدمه.
واحتج: بأن حكم الفرع لا يخلو أن يوجد من الاسم والمعنى، أو من الاسم دون المعنى، أو من المعنى [201/ب] دون الاسم.
فإن أخذ من الاسم والمعنى، فقد أخذ بالنص بلا قياس.
وكذلك إن أخذ من الاسم، ثبت نصاً، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بالمعنى؛ لأن هذا كان موجوداً فيه ولا حكم، وهو قبل معرفة أحكام الشريعة، فلم يبق إلا أن يكون باطلاً.
والجواب: أن الاعتبار بالاشتراك في المعنى، إلا أنه يجوز القياس عند الأمر به، وقبل ورود الشرع لم يكن هناك أمر بالقياس، فلذلك امتنع القول به.
واحتج: بأن القياس: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وما من شىء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر، كموضع الافتراق.
والجواب: أن القياس إنما يجب عند اجتماعهم في معنى الحكم واشتراكهما فيه. والافتراق الذي يذكرونه هو افتراق في غير معنى الحكم، لا يؤثر في جواز
__________
= وبخاصة عند من حكم بكفره. والله أعلم.
انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص (197) .
(1) والنص وارد في الفأرة في السَّمن.
(2) والنص وارد في الفأرة في السمن.(4/1320)
الجمع، ولو أنهما افترقا في معنى الحكم لامتنع القياس.
واحتج: بأن القياس حمل الشيء على غيره في بعض أحكامه بضرب من الشبه، وليس يخلو:
إما أن يعلموا ذلك بالنص أو بالقياس.
فإن قلتموه نصاً، صار حكم الفرع منصوصاً عليه.
وإن قلتموه قياساً، فقد أثبتم قياساً بقياس.
والجواب: أن هذا يلزمهم في نفي القول بالقياس؛ فإنه لا نص لهم دال عليه، ولا يجوز أن يقولوا ذلك قياساً.
على أننا علمنا وجوب ذلك بالأصول التي دلت عليه من الكتاب والإِجماع، حسب ما بَينَّا.
واحتج: بأنه لا يخلو: إما أن يكون المعنى المستنبط مماثلاً له، أو أنقص منه، أو أزيد.
ولا يجوز أن يكون مثله؛ لأن ذلك يوجب تساويهما، ولا يكون في القياس فائدة.
وباطل أن يكون أنقص؛ لأنه يفضي إلى تخصيص الأصل وإسقاط بعض حكمه.
وباطل أن يكون أعم؛ لأن المدلول لا يكون أعم من الدليل.
فإذا بطلت هذه الأقسام، بطل القياس.
والجواب: أن الأقسام الثلاثة كلها جائزة في القياس، ولا يفضي إلى ما ذكروه، فإنه قد يكون المعنى مماثلاً للفظ، كقوله في الرضاع: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، وتكون فائدة القياس معرفة معنى النص، والفرق بينه وبين المنصوص الذي لا يعرف معناه.
وقد يكون المعنى أخص من اللفظ، مثل قوله: (وَالسَّارِق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ(4/1321)
أيدِيَهُمَا) (1) والمعنى فيه: أن يسرق نصاباً من حِرْز مثله، لا شبهة له فيه.
ولا يكون هذا تخصيص اللفظ؛ لأنا لا نخصه بهذا القياس، فإنه مماثل في حكمه، وإنما نخصه بلفظ آخر.
وقد يكون [202/أ] المعنى أعم من اللفظ، مثل المعنى المستنبط في مثل خبر عبادة بن الصامت في علة الربا (2) ، فإن الأصل البُر، وحكمه مقصور عليه لفظاً، وفزعه أعم من لفظه، فإن معناه مكيل، فاكتفى به كل مكيل لأنا عقلنا الحكم بمعناه، ومعناه أعم من لفظه.
وقد يكون المدلول أعم من الدليل، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم، فنهى عنه) .
وهذه العلة موجودة في سائر ما ينقص من الرطب وغيره.
واحتج: بأن تجويز القياس يفضي إلى أن يكون الشيء فرعاً لأصل، ويكون أصلاً لغيره، فإنه قد يقاس غيره عليه.
والجواب: أن هذا غير ممتنع، وهو موجود في المشاهدة، فإن النخلة (3) قد تكون فرعاً لنخلة أخرى وأصلاً لغيرها، والمكيال قد يكون فرعاً لمكيال وأصلاً لمكيال.
وهذا في العقليات، وفي الشرعيات يجوز أن يكون الشيء أصلاً لغيره في حكمه، وفرعا لغيره في حكم آخر، فأما في حكم واحد فلا يتصور.
__________
(1) آية (38) من سورة المائدة.
(2) أخرج هذا الخبر مسلم في صحيحه (3/1210) بلفظ: (.... إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ... ) .
(3) في الأصل: (النخل) .(4/1322)
واحتج: بأن العلل الشرعية لو كانت دالة (1) على الحكم وموجبة له لكانت تطرد وتنعكس، فلا توجد إلا والحكم موجود معها، ولا يوجد حكمها إلا عند وجودها، كالعلل العقلية.
والجواب: أن هذه العلل ليست عللاً في الحقيقة، ولا موجبة الأحكام، وإنما هي أمارات وعلامات نصبها الله تعالى لهذه الأحكام أدلة عليها، فهي تجري مجرى الأساس، فتدل على الحكم في الموضع الذي نُصب دون غيره.
وجواب آخر، وهو: أنه لا يمتنع أن تكون بهذه الصفة، وإن لم تطَّرد وتنعكس، لأن العلل العقلية على ضربين: تطرد وتنعكس، كالحركة في التحرك، وعلة لا تنعكس، وإنما يوجد الحكم عند وجودها فحسب، كقول الرجل: اضرب [من] ، في الحبس، واضرب من هو خارج من الحبس، وإذا كان الرجل في الحبس ضرب لكونه في الحبس، وإذا كان خارجاً ضرب لكونه خارجاً.
وكذلك الجواب عن قولهم: لو كانت علة في الحقيقة لما اختصت بزمان دون زمان، كالعلة العقلية، يتعلق الحكم بها قبل الشرع وبعده، وذلك أنا نقول: ليست بعلة في الحقيقة موجبة للأحكام، وإنما هي أمارة عليها (2) كالأسماء.
ثم نقول: لا فرق بينهما، وذلك أن سبب تلك العلل العقل، والعقل لا يختص بزمان دون زمان، بل هو عام في جميع الزمان، فكان علته أيضاً عامة فيها.
والعلة الشرعية سببها الشرع، والشرع يختص ببعض الأزمنة دون بعض.
واحتج: [202/ب] بأنه لو كان دليلاً على بعض الأحكام لكان دليلاً في جميعها.
__________
(1) في الأصل: (دلالة) .
(2) في الأصل: (عليه) .(4/1323)
والجواب: أن القياس يحتاج إلى شرائط، وليس توجد تلك الشرائط في سائر الأحكام حتى يصح استعمال القياس فيها، على أن الأحكام قد تختلف في أدلتها، فيكون الشيء دليلاً في بعضها دون بعض، كخبر الواحد، يدل على ثبوت الأحكام في الفروع ولا يدل على إثبات الأصول (1) .
واحتج: بأن أهل اللغة لايستعملون القياس في كلامهم، فإن القائل لو قال لوكيله: اشتر لي سَلَنْجَبِيناً فإنه يصلح للصفراء، لم يصلح أن يشتري له رمَّاناً، وإن كان يصلح للصفراء.
والجواب: أن السلَنْجَبِين يختص بمعانٍ لا توجد في الرمان، فلذلك لم يجز أن يشتريه.
وقد ورد عن أهل اللغة ما يوجب القول بالقياس، فإن رجلاً لو كان له ابنان، فضرب أحدهما، فقيل له: لم ضربته؟ قال: لأنه ضرب أمه. وكان الآخر قد ضرب أمه، فإن يصلح أن يَرِد عليه، فنقول: والآخر ضرب أمه أيضاً، فلم لم تضربه؟!.
وكذا لو قال: لا تعط فلاناً إبرة لكي لا يعتدي بها، فلا يصلح أن يعطَه سكيناً؛ لأن معناهما واحد، فثبت أنهم يقولون بالقياس، ويعملون عليه.
على أنا نقول بالقياس في المواضع التي دل الدليل الشرعي عليه وكلفنا إياه وفي تلك المواضع لم يدل الدليل الشرعي عليه، فلم يجب القول به.
__________
(1) وذلك لأنه ظني، والأصول لا تثبت بالظن.
هذا رأي فريق من الأصوليين.
والذى يبدو لي أن خبر الواحد إذا ثبتت صحته سنداً، واستقام أمره متناً أنه تثبت به الأحكام في الفروع والأصول، وبخاصة ما تلقته الأمة بالقبول كأحاديث الصحيحين. والله أعلم.(4/1324)
فصل
[أقسام القياس]
وإذا ثبت الأصل في القياس، فالكلام في أقسامه (1) .
وجملته: أن القياس على ضربين:
واضح، وخفي.
فالواضح: ما وُجد معنى الأصل في الفرع بكماله (2) ، كعلة الربا، نصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الربا في البُر، فحملنا الأرز عليه؛ لأن فيه معنى البُر (3) من الكيل والجنس.
وقد استعمل أحمد -رحمه الله- هذا القياس في رواية ابن القاسم فقال: "لايجوز الحديد والرصاص متفاضلاً، قياساً على الذهب والفضة" (4) .
والثاني: القياس الخفي: وهو قياس غلبة الشبه (5) ، وصورته: أن يتجاذب الحادثةَ أصلان، حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف خمسة،
__________
(1) راجع هذا الفصل في: روضة الناظر مع شرحها (2/254) والمسودة ص (374) والمعتمد (2/842) فقد أفاد المؤلف منه.
(2) وقد سماه أبو الحسين في كتابه المعتمد (2/843) : قياس المعنى، وعرَّفه بقوله: (أن يكون شبهُ فرعه بأصله لا يعارضه شَبه آخر) . وهو معنى ما قاله المؤلف.
(3) هذا إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وقد سبق تخريجه بلفظ: (الذهب بالذهب..) الحديث.
وقد ورد ذلك من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وقد مضى تخريجه بلفظ: (ينهى عن بيع الذهب بالذهب..) الحديث.
(4) قد مضى الكلام على مقتضى هذه الرواية ص (1281)
(5) وقد عرفه أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/843) بقوله: (أن يكون الشبه أقوى من شَبه آخر، فهو أولى بأن يتعلق الحكم به لقوة أمارته) .(4/1325)
والحادثة لا تجمع أوصاف واحد منهما، غير أنها بأحد الأصلين أكثر شبهاً، مثل أن كانت بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف، وبالحظر بثلاثة أوصاف، ففي هذا روايتان:
إحداهما: ليس هذا بقياس أصلاً، والقياس ما وُجد في الفرع أوصاف الأصل بكمالها، فإذا وجد بعضها في الفرع، لم يكن قياساً.
نص عليه أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن الحسين بن حسان فقال: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، [203/أ] فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه، فهذا خطأ، قد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض، فإذا كان مثله في كل أحواله فأقبلتَ به وأدبرتَ به، فليس في نفسي منه شيء" (1) .
والرواية الثانية: أنه قياس صحيح، وتلحق الحادثة بأكثرهما، ولا يؤخَر (2) حكمها.
وقد نبه أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية حرب في يهودي قذَف يهودية يتلاعنا؟
قال: "ليس لهذا وجه؛ لأنه ليس عدلاً، واللِّعان إنما هو شهادة، وليس بعدل فتجوز شهادته". كأنه لم ير بينهما اللِّعان (3) .
__________
(1) هذه الرواية موجودة بنصها في: التمهيد (4/5) .
(2) في الأصل: (لوحد) بدون إعجام لكلا الحرفين.
(3) هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله- واختارها الخِرَقي.
والرواية الثانية: أن اللِّعان يمين، وهو المذهب. وقدمه في الرعايتين. واختاره ابن قدامة في المغني وانتصر له. وهو الراجح إن شاء الله.
انظر: المغني (7/392) ، والكافي (3/277) والمقنع (3/256) ، والروض المربع (3/200) والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف.. (9/239) .(4/1326)
فقد قاس اللِّعان على الشهادة في امتناعه من الكافر، مع قلة شَبَهِه بالشهادة وكثرة (1) شَبَهِه بالأيمان.
فدلَّ هذا من قوله على جوازه مع كثرة الشَّبه.
وقد نقل ابن منصور عنه الفرق بينهما فقال: "لو كان معناه معنى الشهادة، فقذفها وهو فاسق، لم يلاعن. ولو كان معناه معنى اليمين (2) لكان يشهد هو، وتشهد هي".
فإن قلنا: إنه ليس بقياس صحيح. وقد حُكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة (3) .
فوجهه: أنه إذا كانت علة الأصل ذات أوصاف ثلاثة، وعلة (4) الفرع ذات وصفين، لم يوجد في الفرع معنى الأصل بكماله، فلا يكون علة.
ولو كان الوصفان علة لكان الحكم يتعلق بها، فلما لم يكن علة ثبت أنه لا يجوز تعليق الحكم بها.
وإذا قلنا: إنه قياس صحيح، وهو قول أصحاب الشافعي (5) ، فوجهه: ان الحادثة لا بدَّ لها من حكم، فإذا لم يدل على حكمها كتاب ولا سنة ولا
__________
(1) في الأصل: (ذكر) .
(2) في الأصل: (الشهادة) .
(3) انظر: تيسير التحرير (4/53) ومسلم الثبوت (2/301) .
(4) في الأصل: (وعدد) .
(5) وهو ما صرح به الإِمام الشافعي في الرسالة ص (479) حيث قال: (والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه.
وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فيلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه، وقد يختلف القائسون في هذا) .
وانظر: البرهان (2/868) والمعتمد (2/842) والمحصول (5/277) والمستصفى (2/310) والإحكام للآمدي (3/271) .(4/1327)
إجماع وجب الاجتهاد في طلب حكمها بالقياس على الأصول، فإذا لم يكن لها شبه إلا بهذين الأصلين، انقطع حكمها عن سواها، ولم يجز أن يعلق حكم الأصلين معاً بها؛ لأنها متناقضة. فلم يكن بُد من إلحاقها بأحدهما، فكان إلحاقها (1) بالأشبه أولى؛ لأنها به أشبه، فغلبنا حكم الأكثر؛ لأن الأصول على هذا، قال الله تعالى: (فَأما مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأما مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأمهُ هَاوِيَةٌ) (2) فغلَّب الأكثر.
وكذلك قلنا في الماء المطلق، إذا خالطه مائع طاهر، كالورد، ونحوه: إن كان الغالب الماء، فالحكم له، وإن كان الغالب الورد، فالحكم له.
وكذلك قلنا في الشهادات: إن كان الغالب الطاعات، فهو عدل مقبول الشهادة، وإن كان الأغلب المعاصي، فهو فاسق مردود الشهادة.
وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أحمد بن أبي عبدة في الرجل يكذب: "إن كثُر كذبُه لم يُصل خلفه" (3) .
فأما قولهم: إذا لم يوجد في الفرع أوصاف الأصل بكماله، فليس هناك [علة] .
والجواب: أنه كذلك، ولكن ألحقنا حكم الحادثة بهذا الأصل، من حيث إنه به أشبه.
فأما أن نقول [203/ب] : الوصفان في (4) الفرع علة، فلا نقول هذا.
فإن قيل: فيحكم في الحادثة بغير دليل؟
قيل: يحكم بغير قياس، ولكن بأنه أشبه بهذا الأصل من سائر الأصول.
إذا تقرر هذا، وأن قياس غلبة الشَّبَه حجة، فهو على ضربين:
__________
(1) في الأصل (الحاقه) .
(2) الآيات (6-9) من سورة القارعة.
(3) قد سبق ذكر هذه الرواية وترجمة ناقلها (3/927) .
(4) في الأصل: (من) .(4/1328)
أحدهما: أن يكون الشبه بالأوصاف.
والثاني: بالأحكام (1) .
فالأوصاف: أن يتجاذبها أصلان، حاظر ومبيح، فالحاظر أسود، والمبيح أبيض، والحادث سواد وبياض فنعتبره بهما، فبأيهما أشبه ألحقناه.
وأما الشبه بالأحكام: كالعبد أخذ شبهاً من الأحرار، لأنه مخاطب مكلف، وأخذ شبهاً من الأموال؛ لأنه يُباع ويُورث، فننظر بأيهما أكثر شبهاً نلحقه به.
فصل
[قياس الأصول]
فأما قياس الأصول: فأن تكون الحادثة لها أصل في الحظر، وأصول في الإباحة، فكان ردها إلى أصول كثيرة، أولى من ردها إلى أصل واحد (2) .
مثال ذلك: إذا أبان زوجته بطلقة، فتزوجت من أصابها وطلقها، ثم تزوجها الأول، عادت معه على ما بقي معه من الطلاق (3) .
__________
(1) هذا ذهاب من المؤلف إلى أن قياس غلبة الشبه حجة بضريبه، الشبه بالأوصاف والشبه بالأحكام.
والقول بالشبه في الأحكام قال به الإِمام الشافعي.
انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/843) .
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/231) وشرح الكوكب المنير ص (7/724) والمسوَّدة ص (376) والمعتمد (2/851) .
(3) في مسائل ابن هاني النيسابوري التي نقلها عن الإمام أحمد (1/236) :
(قلت: تذهب إلى حديث عمر: هي على ما بقيت عنده، في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فتتزوج. قلت لأبى عبد الله: ألها أن تتزوج؟
قال: نعم، إذا انقضت عدتها، قال عمر بن الخطاب: هي على ما بقى) . =(4/1329)
خلافاً (1) لأبى حنيفة في قوله: دخول الثاني يعدم ما بقي من الطلاق (2) ، وذهبوا إلى أنها رجعت إليه بعد زوج وإصابة، أشبه المطلقة ثلاثاً، فقاسه على أصل واحد، وقسناه على ثلاثة أصول، فقلنا: إصابة ليست بشرط في الاباحة، أشبه وطء السيد أمته، والوطء في النكاح الفاسد، ووطء زوج ثالث.
[قياس الجنس]
وأما قياس الجنس فهو أولى (3) ، مثل أن تكون الحادثة من الطهارة، فكان
__________
= وذكر ابن قدامة في المغني (7/261) روايتين:
الأولى: ترجع إليه على ما بقي من طلاقها، كما ذكر المؤلف. ونسبه ابن قدامة إلى أكابر الصحابة.
الثانية: أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث، كما ذكر الحنفية. ونسبه ابن قدامة إلى بعض الصحابة.
وذهب ابن قدامة إلى الرواية الأولى، وانتصر لها.
وذكر ابن قدامة الروايتين في كتابه: الكافي (3/237) ولم يرجح إحداهما، غير أنه بدأ بذكر الرواية الأولى.
وقد جزم المرداوى في كتابه: الإنصاف (9/159) : أن الرواية الأولى هي المذهب وعليها الأصحاب، وجزم بها في الوجيز ...
ثم ذكر الرواية الثانية، وذكر أنها من نقل حنبل.
قلت: وعلى هذا ففي المسألة الفقهية روايتان، فيكون في المسألة الأصولية روايتان، إلا أن الرواية الأولى هي المذهب في المسألتين، وهو ما اختاره المؤلف.
(1) في الأصل (خلا) .
وانظر تفصيل هذا في كتاب أصول السرخسي (2/264) ومسلم الثبوت مع فواتح الرحموت (2/329) .
(2) هذا حقيقة مذهب الحنفية أصولاً وفروعاً، وراجع في هذه المسألة كتاب البناية في شرح الهداية للعيني (4/ 616) .
(3) انظر: المسودة ص (376) .(4/1330)
ردها إلى الطهارة، أولى من ردها إلى الصلاة.
أو تكون من الصلاة، ويمكن ردها إلى الزكاة وإلى الصلاة، فكان ردها إلى الصلاة أولى؛ لأنها من جنسها.
فصل
[تقديم العلة لقلة أوصافها]
فإن تقابلت علتان (1) ، إحداهما ذات وصفين والأخرى ذات ثلاثة أوصاف، لم يخلُ إما أن تكونا (2) من أصل واحد، أو من أصلين.
فإن كان أصلهما واحداً، كعلة الربا، الفرع الأرز، والأصل البُر، فعلتنا: مثل، مكيل، جنس (3) .
وعلة مالك: مطعوم، مقتات، جنس (4) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/235) والواضح (2/853) و (3/1239) والمسودة ص (379) .
(2) في الأصل: (يكون) .
(3) ذكر المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (1/316-317) ثلاث روايات:
إحداها: مطعوم جنس.
والثانية: العلة ذات وصفين: مكيل جنس، أو موزون جنس.
والثالثة: العلة: ما يكال أو يوزن مما يؤكل.
وقد ذكر ابن قدامة في كتابه المغني (414) هذه الروايات الثلاث، منقولة من كتاب الروايتين والوجهين، مع تفصيل للأقوال الأخرى. فارجع إليه إن شئت.
وعلى هذا فما ذكره المؤلف هنا رواية في المذهب، ولعلها الرواية التي اختارها المؤلف وهي الرواية المقدمة في المذهب الحنبلي.
انظر: الروض المربع بحاشية الشيخ العنقري (2/107) .
(4) هذا رأي المالكية بإضافة وصف آخر، وهو: الادخار.
انظر: كتاب الكافي لابن عبد البَر (2/646) ، والشرح الصغير على أقرب المسالك (3/73) .(4/1331)
وعلة الشافعي في القديم: مطعوم، مكيل، جنس (1) .
فالتي قلَّت أوصافها أولى من وجهين:
أحدهما: أن التي قلت أوصافها أكثر فروعاً، والتي كثرت أوصافها أقل فروعاً، فكان ما كثُرت فروعها (2) أولى.
ولأن التي قلَّت أوصافها يسهل الاجتهاد فيها ويقرُب، والتي كثرت أوصافها يصعب الاجتهاد فيها ويبعد.
فكانت الأقل أوصافاً أولى.
هذا إذا كانت العلتان من أصل واحد.
فأما إن كانتا (3) من [204/أ] أصلين، أحدهما يدل على الحظر، والآخر يدل على الإِباحة.
وكانت علة أحد الأصلين ذات أوصاف خمسة، وعلة الأصل الآخر ذات أوصاف أربعة، وكانت [في] كل واحد من الأصلين بكمالها موجودة في الفرع، كان رده إلى ما كثرت الأوصاف فيه أولى؛ لأنه به أشبه.
فها هنا هما علتان، إلا أن التي هي بأحد الأصلين أكثر أوصافاً أولى.
ويفارق هذا قياس غلبة الشَبّهَ؛ لأنه (4) ليس بقياس صحيح على إحدى الروايتين (5) ؛ لأن معنى الأصل غير موجود بكماله في الفرع، فلهذا لم يكن علة.
__________
(1) العلة عند الإِمام الشافعي في القديم: الطعم مع الكيل أو الطعم مع الوزن.
أما في الجديد -وهو القول الأصح عند الشافعية- فهي الطعم.
انظر: المهذب مع شرحه المجموع (9/395-396) .
(2) في الأصل (فروعه) .
(3) في الأصل: (كانا) .
(4) في الأصل: (أنه) .
(5) سبق الكلام على قياس الشبه ص (1325) .(4/1332)
وها هنا أوصاف الأصل بكماله موجودة في الفرع، فلهذا كان علة.
فإذاً هذا القياس استوفى أوصاف أصله.
وقياس غلبة الشَّبَه ما استوفى أوصاف أصله.
مسألة
[دلالة مفهوم الموافقة]
فأما الحكم الثابت من طريق التنبيه فلا يسمى قياساً (1) ، وإنما هو مفهوم
__________
= هذه مسألة عقدها المؤلف للكلام عن دلالة مفهوم الموافقة هل هي لغوية أو قياسية؟ والخلاف فيها مشهور ومعروف.
وقد اختار المؤلف أن دلالته لغوية، وهو الحق إن شاء الله، وذلك لقوة أدلته التي أورد المؤلف بعضاً منها.
ولمفهوم الموافقة تعريفات كثيرة، منها ما ذكره إمام الحرمين في كتابه البرهان (1/449) ، حيث قال: (هو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأوْلى) ، وهو تعريف مرض، إلا أن قوله (من جهة الأوْلى) يفيد اشتراط الأولوية في المفهوم الموافق، بمعنى: أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، كما مثل المؤلف بقوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) فإن المنطوق به: تحريم التأفيف، والمسكوت عنه: تحريم الضرب ونحوه، ولاشك أن الضرب أوْلى بالتحريم من التأفيف.
وقد اختلف الأصوليون فيما لو كان المسكوت عنه مساوياًَ للمنطوق به في الحكم، هل يعد مفهوم موافقة أو لا؟ مثل قوله تعالى: (إنَ الَّذِينَ يَأكلُونَ أموَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأكُلُونَ في بُطونِهِمْ ناراً وَسيَصْلَوْنَ سَعِيراً) .
فلو احرق مالُ اليتيم فإن ذلك مساوٍ للأكل في ضياع ماله.
وهو ما يشعر به كلام المؤلف عندما مثل بتنصيف حد العبد الزاني؛ لأن الله تعالى =(4/1333)
الخطاب وفحواه، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أفّ) (1) إن الضرب ونحوه من الإضرار بالوالدين ممنوع [منه] بمعنى اللفظ.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع لا تجوز في الضحايا، العوراءُ البَين عَوَرُها، والعرجاءُ البَيِّنُ عَرَجُها ... ) (2) فلما نصَّ على العوراء، كانت العمياء مثلها في المعنى لمعنى اللفظ.
__________
= نص على ذلك في حد الأمة، والعبد مثلها، وليس بأولى منها.
انظر: تيسير التحرير (1/94) والمستصفى (1/190) .
(1) سورة الإسراء آية (23) والآية في الأصل: (ولا ... ) والمثبت من المصحف.
هذا الحديث رواه البَرَاء بن عازب - رضي الله عنه - مرفوعاً. أخرجه عنه أبو داود في كتاب الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا (2/87) ولفظه: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بيِّن عورُها، والمريضة بين مرضُها، والعرجاء بيِّن عرجُها، والكَسِير التي لا تنقي) .
وأخرجه عنه الترمذي في كتاب الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (4/85) .
وقال: (حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث فَيْروز عن البَراء. والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم) .
وأخرجه عنه النسائى في كتاب الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحى: العوراء (7/188) .
وأخرجه عنه ابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب ما يكره أن يضحَّى به (2/1050) .
وأخرجه الدارمى في كتاب الأضاحي، باب ما لا يجوز في الأضاحي (2/4) .
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/284، 289، 300، 301) .
وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الضحايا باب ما ينهى عنه من الضحايا ص (298) . =(4/1334)
وكذلك لما نصَّ على العرجاء، كانت المقطوعة الأربع في معناها وزيادة من طريق اللفظ.
وكذلك قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (1) ونص في الإِماء على النصف (2) ، كان العبد مثلها على النصف من طريق اللفظ لوجود المعنى (3) .
وكذلك قوله عليه السلام، (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، كان الجوع والعطش ونحوهما في معناه بمعنى اللفظ لوجود معناه، وهو [ما] يغير خُلُقَه وفهمَه.
وكذلك قوله -في الفأرة تقع في السَّمن-: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فأريقوه) .
فكانت العصفورة في معنى الفأرة، والشحم الجامد في معنى السمن الجامد،
__________
= وأخرجه الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار في كتاب الصيد والذبائح والأضاحي، باب العيوب التي لا يجوز الهدايا والضحايا إذا كانت بها (4/68) .
وأخرجه أبو داود الطيالسي في كتاب الهدايا والضحايا، أبواب الأضحية (1/229) بترتيب الساعاتي.
وابن الجارود في المنتقى باب ما جاء في الضحايا ص (304) حديث (907) والحديث صحيح.
وانظر: إرواء الغليل (4/360) وتخرج أحاديث اللُمع في أصول الفقه للغُماري ص (284) .
(1) سورة النور آية (2) في الأصل: (والزانِيةُ) بزيادة الواو، وهو خطأ.
(2) إشارة إلى قوله تعالى (فَإِذَا أحْصِن فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْف مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (25) النساء.
(3) في الأصل (البعض) .(4/1335)
والشحم الذائب كالسَّمن الذائب، وكذلك الزيت والشَّيْرَج (1) .
وكذلك قوله تعالى: (مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ) (2) .
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنتُ نهيتُكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدَّافة، ألا فادَّخروا ما بدا لكم) .
كل هذا من معنى اللفظ.
وقد أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان فقال: "إنَّما القياس أن يقيس الرجل على أصل، فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه فلا".
فحدَّ (3) القياس بما كان على أصل مستنبط.
وكذلك قال في رواية الميموني: "سألت الشافعي عن القياس فقال: عند الضرورة، وأعجبه ذلك" [204/ب] .
ومعنى قوله: "عند الضرورة". إذا لم يجد دليلاً غيره من كتاب أو سنة، والاحتجاج بالتنبيه يجوز مع وجود دليل غيره.
وقال في رواية الميموني: "بر الوالدين واجب، ما لم يكن معصية، قال تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) .
فاحتج على وجوب برهما بقوله: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أف) (4) فدل على أنه مستفاد من جهة اللفظ.
__________
(1) الشيرج على وزن زينب، معرب، وهو: دهن السِّمْسِمْ.
انظر: المصباح المنير. مادة (شَرَج) .
(2) آية (32) من سورة المائدة.
(3) في الأصل (حد) بدون إعجام.
انظر: التمهيد (4/5) .
اية (23) من سورة الإسراء، والآية في الموضحين: (ولا) وهو خطأ.(4/1336)
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1) .
وقال أصحاب الشافعي: ذلك مستفاد من جهة القياس، لكنه قياس جلي لا يحتاج إلى فكر وتأمل (2) .
وهو اختيار أبي الحسن الجزري من أصحابنا. ذكره في جزء فيه مسائل
__________
(1) هذا العزو ليس محرراً، فإن أصحاب الإِمام أبي حنيفة مختلفون في هذه المسألة، فبعضهم قال: بأنه مفهوم من دلالة النص، وبعضهم قال: إنه مستفاد من جهة القياس، وسموه قياساً جلياً.
انظر: ميزان الأصول للسمرقندي ص (398) وكشف الأسرار (1/73) وأصول السرخسي (241) وأصول الشاشي ص (104) .
(2) هذا رأي الإِمام الشافعي كما في الرسالة ص (513) ، وهو ما نقل عنه في جمع الجوامع (1/242) . وقد اختاره إمام الحرمين في البرهان (م/786) ، حيث قال: ( ... وهذه مسألة لفظيه، ليس وراءها فائدة معنوية، ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعدُّ ذلك من القياس أمثل، من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان) .
ولكن هناك رأياً ثانياً لبعض الشافعية، وهو: أن دلالته لفظية، ولهم في تفسير ذلك اتجاهان:
الأول: أنها فهمت من ناحية اللغة، وهذا ما نسبه الشيرازي في التبصرة ص (227) إلى بعض الشافعية، ولم يفصل.
الثاني: أنها فهمت من السياق والقرائن، وهو قول الغزالي في المستصفى (2/190) والآمدي في الإحكام (3/63) .
وبناءً على ما تقدم يكون عزو المؤلف عن أصحاب الشافعي أنهم يقولون بأنه مستفاد من جهة القياس ليس محرراً، فإن ذلك قول إمامهم وبعض أصحابه، إلا أن يكون القول الثاني لم يقل به أحد من الشافعية حتى انقضى زمن المؤلف، فيتجِه.
والله أعلم.(4/1337)
الأصول، في موضعين منه، فقال: مفهوم النص هو القياس (1) .
دليلنا:
أن القياس ما يختص بفهمه أهل النظر والاستدلال، فيفتقرون في إثبات الحكم به إلى ضرب من النظر والاستدلال والتأمل بحال الفرع والأصل.
فأما ما دل عليه فحوى الخطاب الذي ذكرناه، فإنه يستوي فيه العالم والعامي العاقل (2) الذي لم يَدْرِ ما القياس، فكيف يجوز إجراءُ اسم القياس عليه؟!.
وأيضاً: فإن أهل اللغة لا يختلفون أن من نهي عن التأفيف لوالديه، عقل منه تحريم الشتم والضرب، كما أن من أمر بتعظيم زيد، عقل منه ترك الاستخفاف به.
وكما أن من وُصِف (3) بالعجز عن حمل شىء يسير، عقل منه عجزه عن حمله ما هو فوقه. ومن، حمل نفسه على دفع ذلك لم يكن في حد من يُناظَر.
وإذا كان هذا من اللفظ لم يجز إطلاق اسم القياس عليه.
ولأن ذلك يضاف إلى الخطاب، فيقولون: مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه يدل على ثبوته نطقاً.
ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة لأنهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والشَّبه، فكذلك هاهنا.
__________
(1) النسبة عنه موجودة في الروضة (2/201) والقواعد والفوائد الأصولية ص (287) .
(2) في الأصل: (العقل) .
(3) في الأصل (صف) بإسقاط الواو.(4/1338)
واحتج المخالف:
أن الحكم المستفاد بالنص ما كان ثابتاً بالاسم واللفظ، وقوله: (فَلاَ تَقل لَّهُمَا أف) إنما تناول لفظه المنع من التأفيف، فأما المنع من الضرب، فلم يتناوله اللفظ، ولا استفيد منه، وإنما استفيد من (1) الاسم بمعنى، وهو أنه لما منع من التأفيف لأجل الأذى، وكان الأذى موجوداً في الضرب وزيادة، منع منه، فثبت أنه مستفاد بالقياس لا باللفظ.
ويوضحه قول (2) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، لا يفهم أنه لا يقضي بينهما في حال الجوع والعطش، فإذا لم يكن هذا مستفاداً من اللفظ ولا [205/أ] معقولاً منه ثبت أنه مستفاد من معناه ومقيس (3) عليه.
والجواب: أنه وإن لم يكن الضرب منصوصاً عليه، فقد بينّا أن اللفظ قد دل عليه، وأنه يقع في فهم السامع، كذلك تحريم الضرب والشتم، فثبت أن اللفظ دل عليه من مفهومه وفحواه.
وإذا كان كذلك، لم يصح تسميته قياساً؛ لأن القياس يقتضي معنى آخر، وهو أنه يختص بعلمه أهلُ النظر، ويحتاج إلى تأمل الأصل والفرع، وهذا لا يحتاج إليه هاهنا.
ولأنَّا قد بينَّا أن ما ثبت باللفظ، ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، كقوله: اقتلوا أهل الذمة لكونهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان وإن لم تتناولهم صيغة اللفظ.
__________
(1) في الأصل: (عن) .
(2) كلمة (قول) : مكررة في الأصل.
(3) في الأصل: (مقيساً) بالنصب، وحقه الرفع عطفاً على خبر (أن) .(4/1339)
مسألة
[التعليل بالاسم]
يجوز أن تجعل الأسماء عللاً للأحكام (1) ، سواء في ذلك الأسماء المشتقة، كقولك: قائم، وقاعد، وشاتم، وضارب. وأسماء الألقاب كقولك: زيد، وعمرو، وحمار، وحائط، وماء، وتراب.
وقد نصَّ عليها أحمد -رحمه الله- فقال في رواية الميموني: "يجوز التوضؤ بماء الباقلاء والحمص؛ لأنه ماء، إنما أضفته إلى شىء لم يفسده" (2) .
فقاس الماء المضاف على المطلق، وهو اسم علم ولقب.
وقال أيضاً في رواية الميموني في نصراني محصَن أسلم ثم زنا بعد إسلامه: "يرجم بذلك الإحصان، لأنه زانٍ، ارجمُه بإحصانه" (3) .
فعلَّق الحكم بالزنا والإحصان، وهو اسم مشتق.
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، فيما حكاه الجرجاني (4) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/41) والمسوَّدة ص (393) وشرح الكوكب المنير ص (4/42) .
(2) هذه الرواية موجودة في: التمهيد (4/41) ، وأشار إليها ابن قدامة في المغني (1/12) حيث ذكر الميموني من جملة من نقل عن الإمام أحمد جواز الوضوء بمثل ماء الباقلاء والحمص.
(3) نحو هذه الرواية روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني النيسابوري في مسائله (2/91) عن الإِمام أحمد، ولفظه: (سألت أبا عبد الله عن رجل كانت له امرأة في دار الحرب، فخرج إلى دار الاسلام، فأسلم، فزنا، قال أبو عبد الله: دخل بها؟ قلت: نعم، قال: قد أحصَنتْه، عليه الرجم) .
(4) كذا ذكره السمرقندى في كتابه الميزان ص (585) إلا أنه عقَّب عليه بقوله: (كذا قال بعضهم) . ثم علق على المسألة بقوله: (ولكنا نقول: إن عني به أنه تعلق بعين =(4/1340)
وأصحاب الشافعي فيما حكاه الإسفراييني (1) .
وحُكي عن قوم أنه لا يصح أن يكون الاسم علة، لقباً كان أو مشتقاً (2) ، وإنما تصح العلة إذا كانت صفة، مثل قولنا: شدة مطربة، ومطعوم جنس، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك.
أو تكون حكماً، مثل قولنا: [طهارة] (3) وكفارة، ونحو ذلك.
ومنهم من قال: يصح أن يكون الاسم المشتق علة، ولا يصح أن يكون اللَّقب علة (4) .
دليلنا:
أن ما جاز أن يرد به الشرع نطقاً؛ جاز أن يكون مستنبطاً، كالصفة
__________
= الاسم [فـ] لا يصح؛ لأن الاسم يثبت بوضع أرباب اللغة، ولهم أن يسموا الخمر باسم آخر.
وإن عني به المعاني القائمة بالذات التي بها استحق هذا الاسم، وهو كون المائع النيء من ماء العنب، بعدما غلى واشتد وقذف بالزبد، فهذا مسلَم، ولكن حينئذ يكون هذا تعليق الحكم بالمعنى لا بالاسم) .
وانظر: المعنى في أصول الفقه للخبَّازي ص (342) .
(1) ذكر الشيرازى في التبصرة ص (454) أن للشافعية ثلاثة أقوال، ثالثها يجوز أن يجعل الاسم المشتق علة، ولا يجوز أن يجعل الاسم اللقب علة.
ومنه يتبين أن قول الإسفراييني فيما نقله عنه المؤلف من أن أصحاب الشافعي يقولون بالجواز ليس على إطلاقه.
وانظر: المحصول (5/422) وجمع الجوامع (2/234) ونهاية السول (4/254) والإبهاج (3/89) .
(2) وبه قال بعض الشافعية كما في التبصرة للشيرازي الموضع السابق.
(3) زدنا هذه الكلمة بدليل حرف العطف في قوله: (وكفارة) وبدلِيل ما يأتي في نفس المسألة.
(4) وبه قال بعض الشافعية، كما في التبصرة الموضع السابق.(4/1341)
والحكم، ولا خلاف أنه لا يمتنع أن يجعل صاحبُ الشريعة الاسم علةً على الحكم وأمارةً عليه، كما يجعل الصفة والحكم علة، فيقول: حرمتُ الخمر؛ لأنها مسماة خمراً.
وإن شئت قلت: ما جاز أن يكون منصوصاً عليه، جاز أن يكون مجتهداً فيه، إذ ما جاز إظهاره جاز إضماره، أو ما جاز إبداؤه جاز إخفاؤه، أو ما جاز إطلاعه جاز إبداعه.
وأيضاً: فإن ما دل على صحة العلة، فإنه يدل على أنه يصح أن يكون الاسم علة، وهو التأثير، وشهادة الأصول. وإذا دل على صحة ذلك، جاز أن يكون علة، كالصفة والحكم [205/ب] .
ولأن علل الشرع علامات على الحكم، والأسامي علامات لتمييز الأعيان، بل الاسم قد يكون أدل على تعريفه من صفة من صفاته.
فإذا جاز تعلق الحكم بالصفة، جاز ذلك بالاسم أولى.
واحتج المخالف:
بأن الأسامى لا تكون عللاً في العقليات، كذلك في الشرعيات.
والجواب: أن علل العقل موجبة، والأسامي ... (1) أن لا يطلق (2) عليه أهل اللغة فخرج الاسم عن أن يكون علة (3) .
واحتج بأن الاسم سبق الحكم؛ لأن هذه الأسماء كانت موجودة قبل الحكم.
فلو قلنا: تكون علة للحكم، لسبقت العلةُ الحكمَ.
والجواب: أنه باطل بالصفة، فإنها سابقة للحكم؛ لأن الأشياء كانت مأكولة مكيلة قبل ثبوت الربا، ومع هذا فهي علل، وإنما لا يصح أن تتأخر
__________
(1) بياض في الأصل يقدر بكلمة.
(2) في الأصل: (ينطلق) .
(3) الكلام فيه خلل واضطراب، ولم استطع تقويمه.(4/1342)
العلة عن الحكم.
فإذا قال: لأنه مختلف في (1) ، سبق الحكم العلة، فلا يصح.
فأما أن تسبق العلةُ الحكمَ، فلا يمتنع، وإنما لم يوجد الحكم بوجودها قبل الحكم، لأنها علل مجعولة، فلما جاز الحكم، وجعلت علة، ثبتت علة له.
واحتج: بأن العلة إنما تصح من أحد وجهين؛ إما بالسبر والاستنباط، كالمطعوم والمأكول، أو بأن ينبه صاحب الشرع عليها، كقوله: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس) ؟ (وإنما فعلتُ ذلك لأجل الدَّافَة) .
فأَما بالاسم فلا يصح؛ لأن حكم الاسم ثابت بالنص، ومعروف به.
فقوله: إنما حرمت البُر متفاضلاً، ثابت بالنص.
والجواب: أن الاسم الذي نقول إنه علة: ما ثبت بالسَّبْر والاستنباط والخبر، وأَثَّر، وشهدت له الأصول.
فإن قولنا: "بول الآدمي نجس" اختبرناه، فوجدناه يؤثر، فألحقنا به بول كل حيوان لا يؤكل لحمه.
ولو قلنا: "بول مالا يؤكل لحمه نجس"، لم يكن هذا علة؛ لأنه عرف حكمها بالنص.
وإنما الخلاف في الاسم المختبَر، الذي عرض على الأصول، فلم ترده.
ألا ترى أنه لو قال: "الخارج من السبيلين نجس"، كان باطلاً بالمني.
فإذا قال: بول، لم يبطل بشىء، وهو خارج من مخرج الحدث.
واحتج: بأن الاسم إذا كان مشتقاً، كان تحته معنى، فإن قوله: قاتل، معناه: أنه قَتَل، فإذا صح أن يعلق الحكم على معناه كذلك صح أن يعلق به.
ويفارق هذا إذا كان الاسم علماً ولقباً؛ لأنه لا يشتمل على معنى، فلهذا
__________
(1) في الأصل: (فيه) .(4/1343)
لم يكن علة.
والجواب: أنه كذلك، لكن الحكم ما علق بالمعنى الذي تضمنه، وإنما علق بنفس الاسم. فإذا صح تعليقه بالاسم الذي يتضمن معنى، فتكون العلة الاسم دون معناه، كذلك جاز [206/أ] أن يكون اللقب علة للحكم، وإن لم يكن متضمناً للمعنى.
فإذا تقرر هذا، فكل معنى من معاني الأصل، أو صفة، مثل قولنا:
شدة مطربة، وطعم في جنس (1) ، وولادة، وتعصيب، وقرابة، وما أشبه ذلك.
أو حكماً شرعياً، مثل قولنا: طهارة، وكفارة، ومن وجب في ماله زكاة الفطر، وجبت زكاة المال، أو من وجب العشر في ماله، وجب نصف العشر، ومن صح طلاقه، صح ظهاره، وما أشبه ذلك.
ولا فرق بين أن يكون بلفظ الإثبات، مثل قولنا: طهارة من حدث، فوجب أن يكون في شرطها النية، وما افتقر بدلُه إلى النية، افتقر مبدلُه إلى النية، كالعتق في الكفارات، وفيه شدة مطربة، فكان حراماً كالخمر، ومن صح طلاقه صح ظهاره، وما أشبه ذلك.
أو كان بلفظ النفي، مثل قولنا: ليس بماء، ولا يقع عليه اسم الماء المطلق، فلا يجوز أن يتوضأ به، كسائر الأنبذة، وليس بتراب، ولا يقع عليه اسم التراب، فلا يجوز التيمم به، قياساً على الدريرة (2) والخَزَف المدقوق، والسِّدْر،
__________
(1) في الأصل: (حبس) .
(2) هذه الكلمة بدون إعجام، ولعل ما أثبتناه هو الأقرب للصواب، ولعلها أيضاً: تراب المعدن.
انظر: المصباح مادة (درى) .(4/1344)
والخَطْمِيّ (1) والأشنان المطحون (2) .
وقد نصَّ أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية الميموني: "لا يتوضأ بماء الورد (3) ، هذا ليس بماء، وإنما يخرج من الورد".
وقال في رواية الميموني: "السِّهْلاة والرماد ليس بصعيد، ويتيمم، ويصلي، ويعيد" (4) .
فقد جعل النفي علة، وعلَّق الحكم عليه.
وكذلك قال في رواية أبي الحارث: "ليس في العنبر واللؤلؤ والمسك شىء، فإنه ليس بركاز ولا معدن" (5) .
وكذلك ما لا تجب الزكاة في ذكوره، لا تجب في إناثه، كالبغال والحمير.
__________
(1) الخطميُّ مدد الياء غسل معروف
انظر: المصباح المنير مادة (خطم) .
(2) الأشنان بضم الهمزة وكسرها مُعرَّب، وهو الحُرُض بالعربية.
انظر: المصباح المنير مادة (أشنان) ومادة (حرض) والمُطلع على أبواب المقنِع ص (35) .
(3) في الأصل: (بالماورد) ، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لنص الرواية عندما ساقها المؤلف (2/466) .
(4) هذه الرواية سبق أن نقلها المؤلف (2/466) ، وسبق بيان معنى السَّهْلاة.
(5) نحو هذه الرواية روى عبد الله في مسائله ص (164) عن أبيه أنه سمعه يقول: (ليس في الجوهر ولا اللؤلؤ زكاة إلا أن يكون للتجارة ... ) .
وفي مسائل الإِمام أحمد رواية أبي داود ص (79) أنه سمع الإمام أحمد وقد سئل عن العنبر واللؤلؤ يستخرجه الرجل ما فيه؟ فذكر قول ابن عباس فيه.
وقول ابن عباس كما في المغني (3/37) هو: (ليس في العنبر شىءٌ: إنما هو شىء ألقاه البحر) .
وهناك رواية أخرى: (أن فيها الزكاة؛ لأنها خارج من معدن، فأشبه الخارج من معدن البَر ... ) المغني الموضع السابق.(4/1345)
ويجوز أن يجعل نفي الحكم علة لثبوت حكم آخر، وثبوت حكم علة لنفي حكم آخر، فيوجد الإِثبات من النفي، والنفي من الإِثبات.
ويجوز أن يكون الإِثبات في حالة علةَ النفي في حالة أخرى، كقولنا: معنى: يفطر الصائم إذا تعمده، فلا يفطره إذا كان مغلوباً عليه، ولم يتعلق به كفارة، كالقيء (1) .
والأصل في ذلك، ما ذكرناه من أن ما جاز أن يرد الشرع به نطقاً، جاز أن يكون مستنبطاً.
ولأن ما دل الدليل على أنه أمارة من طريق الباري وشهادة الأصول، وجب أن يحكم بصحته.
ولأن ما كان عقلياً فجائز أن يجعله علة بلفظ النفي، كذلك الشرعي.
مسألة
[إثبات الأسماء بالقياس]
يجوز إثبات الأسماء بالقياس (2) ، فنسمي النبيذ خمراً، قياساً على الخمر، ونسمي النبّاش سارقاً، قياساً على السارق، ونسمي اللوطي زانياً، قياساً على الزاني.
أومأ إليه أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وقد ذكر له حديث: (الخمر ما خامر العقل) (3) "أي شىء يعني به؟ قال: ما غيَّر العقل.
__________
(1) في الأصل: (كالقن) وهو خطأ.
(2) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/454) والمسوَّدة ص (394) ، وروضة الناظر (2/4) والقواعد والفوائد الأصولية ص (120) .
(3) هذا الأثر أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب: ما جاء أن الخمر ما خامر العقل من الشراب (7/137) بسنده إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب عمر على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه قد نزل =(4/1346)
قيل له [206/ب] : كل نبيذ غيَّر العقل فهو خمر؟ قال: نعم" (1) .
وبهذا قال أصحاب الشافعي (2) .
وقال أصحاب أبي حنيفة (3) ، وأكثر المتكلمين: (4) لا يثبت.
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبرُوا يَا أوْلِى اْلأَبْصَارِ) (5) والاعتبار رد الشىء إلى نظيره،
__________
= تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل ... ) الحديث.
كما أخرجه في كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، باب: إنما الخمر، الميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان (6/67) .
وأخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب: نزول تحريم الخمر (4/2322) حديث رقم (3032) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب: تحريم الخمر (4/78) طبعة دار الحديث بتعليق الدعاس وزميله.
وأخرجه النسائي في كتاب الأشربة، باب: ذكر أنواع الأشياء التي كانت منها الخمر حين نزول تحريمها (8/295) حديث رقم (5578) .
(1) هذه الرواية ذكرها أبو الخطاب في كتابه التمهيد (3/454) بأخصر مما هنا.
(2) ذهب إلى هذا الرأي كثير من الشافعية، وليس كلهم كما يشعر به كلام المؤلف، فقد ذهب بعضهم إلى عدم الجواز.
انظر: التبصرة ص (444) .
وانظر أيضاً: المنخول ص (71) والمستصفي (1/331) والإِحكام للآمدي (1/53) والإبهاج (3/24) .
(3) هو كذلك.
انظر: أصول السرخسي (2/156) ومسلم الثبوت (1/185) .
(4) ومنهم إمام الحرمين وأبو الخطاب والغزالي والآمدي.
انظر: البرهان (1/172) والتمهيد (3/445) والمنخول ص (71) والإِحكام للآمدي (1/53) .
(5) آية (2) من سورة الحشر.(4/1347)
بضرب من الشبه.
ومنه قيل: اعتبر الدراهم. معناه: اجعل الصَّنْجَة في كفة، والدراهم في كفة أخرى.
وقولهم: اعتبر (1) السلطان الخراج على غيره، عام أول.
وإذا كان هذا هو الاعتبار في إثبات الأحكام، كذلك في إثبات الأسماء.
وأيضاً: فإن أهل اللغة قد استعملوا القياس في الأسماء عند وجود معنى المسمى في غيره، وأجروا على الشىء اسم الشىء، إذا وجد بعض معناه فيه، فسموا الرجل البليد حماراً، لوجود البَلَه فيه.
ويقولون للرجل الشجاع: سَبُعاً: لوجود الشدة فيه. ونظائر ذلك.
وعلى هذا ما روي عن عمر أنه قال: (الخمر ما خامر العقل) (2) .
وعن ابن عباس أنه قال: ( [كل] (3) مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) (4) .
فإن قيل: هذه التسمية منهم مجاز.
قيل: قد ثبت عنهم أنهم فعلوا ذلك، فلا يضر أن يكون أحد الاسمين مجازاً، والآخر حقيقة.
__________
(1) غير واضحة في الأصل، والتصويب من التمهيد (3/379) حيث قال: (ومنه قولهم: اعتبر السلطانْ الخرَاج في عامنا بالخرَاج العام الماضي) .
(2) هذا الأثر سبق تخريجه قريباً.
(3) الزيادة من سنن أبي داود كما سيأتي في التخريج.
(4) هذا جزء من حديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً، أخرجه عنه أبو داود في كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (4/86) ، ولفظ الشاهد فيه: (كل مُخَمَّر خمر، وكل خمر حرام) الحديث.
وقد سكت عنه أبو داود.
ويظهر من صنيع المؤلف: أن هذا الحديث من كلام ابن عباس، وليس من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(4/1348)
على أنهم إنما سموا الأبْلَه حماراً مجازاً، لوجود بعض معانيه، فلما لم توجد فيه كل معانيه كان مجازاً.
وأما النبيذ، فتوجد فيه معاني الخمر كلها.
وكذلك اللواط، توجد فيه معاني الزنا كلها.
وكذلك النَّبَّاش (1) .
فلهذا كان حقيقة.
فإن قيل: فالعرب قد منعت أن يسمى النبيذ خمراً.
ومنه قول [أبي] الأسود (2) :
فإن لا يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فإنَه ... أخوها غَذتْه أمُّه بلِبَانِها (3)
يعنى إن لم يكن النبيذ هو الخمر أو الخمر هو النبيذ، فإن النبيذ أخوها، فنفى أن يكون النبيذ خمراً، وأثبت أنه أخوها.
قيل: هذا حجة لنا، لأن الشاعر توقف فيما ذكره، فلم يعلم هل النبيذ خمر أم لا؟ فلما أشكل عليه الأمر قال: فإن لم يكن النبيذ خمراً، فإنه أخوها.
__________
(1) يعنى: توجد فيه معاني السرقة كلها.
(2) هو: أبو الأسود الدِّيلي، ويقال: الدؤلي البصري القاضي، الشاعر. اختلف في اسمه واسم أبيه؛ فقيل: ظالم. وقيل: ابن عمرو بن سفيان. وقيل عمرو بن عثمان وقيل: عثمان بن عمرو. روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم. وعنه ابنه أبو حرب وعبد الله بن بريدة ويحيى بن يعمر. وثَّقه ابن معين وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة (69) .
انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (12/10) .
(3) البيت منسوب للشاعر المذكور في كتاب سيبويه (1/46) وفي اللسان: مادة (لَبَن) وفي خزانة الأدب (2/426) .
واللِّبان بالكسر: اللبن للآدميين خاصة.
وانظر: تعليق الأستاذ عبد السلام هارون في هامش كتاب سيبويه.(4/1349)
فبطل أن يكون مانعاً من الاسم.
ولأنهم سموا أعياناً شاهدوها إنساناً، وفرساً، وأسداً، وغير ذلك من الأعيان المسماة بأسمائها، وقالوا: قائم، وقاعد، وآكل، وشارب، وواهب، وضارب، وحاضر، وغائب، ثم انقرضت تلك الأعيان وانقرض الذين (1) . وضعوا الأسماء، وحدثت أمثالها من الأعيان، فاتفق الناس على تسميتها بأسمائها.
ولا يجوز أن يكون ذلك إلا بالقياس عليها، لوجود معانيها فيها.
فإن قيل: إنما وضعوا هذه [207/أ] الأسماء لها، ولما يولد منها من أمثالها.
ونعلم ذلك ضرورة.
قيل: هذا لم يسمع منهم، ولم ينقل عنهم أنهم نطقوا به، فلم يكن طريق تسمية الأعيان الحادثة (2) ، إلا من طريق القياس.
ولا تصح دعوى العلم به ضرورة؛ لأنه لو كان كذلك، لشاركناهم في العلم به. ولما لم نعلم ذلك ضرورة، بطل ما قالوه.
وأيضاً: فإن كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب. ولم يسمع ذلك من أهل اللغة. وإنما استدلوا باستقراء كلامهم ومخارجه على قصدهم، أنهم قصدوا بالنصب كونه مفعولاً، وبالرفع كونه فاعلاً، وقاسوا ذلك على كل فاعل مفعول، لم يسمع من العرب النطق به..0
وكذلك صغَّروا الاسم الذي بُني على ثلاثة أحرف، فقالوا (3) : فُعَيْل، مثل: جُمَيْل، وعُدَيْل، وما أشبه ذلك.
وأجمعوا على أن كل اسم بُني على ثلاثة أحرف لم ينطقوا به، يكون تصغيره
__________
(1) في الأصل: (القرض الذي) .
(2) مكررة في الأصل.
(3) في الأصل: (فقال) .(4/1350)
هكذا، قياساً على المسموع منه. فدل على جواز القياس.
واحتج المخالف:
بقوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ اْلأسْمَاءَ كُلَّهَا) (1) . فلم يبق اسم يثبت بالقياس.
والجواب: أنه ليس فيه أنه علمه جميع ذلك نصاً.
بل يجوز أن يكون علم البعض نصاً، والبعض استنباطاً وقياساً.
وعلى أن الآية اقتضت أنه علم آدم الأسماء كلها، وليس فيها أنه علمنا ذلك.
ونحن إنما نثبت الأسماء قياساً فيما بيننا.
ويجوز أن يكون آدم عرف ذلك نصاً، وعرفناه قياساً.
واحتج: بأن ما من شىء إلا وله في اللغة اسم، فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر من ناحية القياس، فيكون الاسمان مختلفين. كما لا يجوز أن يثبت للشىء حكم بتوقيف، وحكم آخر بالقياس.
والجواب: أنه ليس يمتنع أن يكون للشىء الواحد اسمان مختلفان، أحدهما ثابت بالنص، والآخر ثابت بالقياس، فإنه لا منافاة في ذلك، ولا تضاد.
ولا يشبه هذا الأحكام؛ لأن الشىء الواحد لا يجوز أن يكون له حكمان متضادان. فلم يجز أن يجعل له حكم آخر بالقياس، وله حكم آخر يخالفه، ثابت بالنص؛ لأن في ذلك نصاً.
ْألا ترى أنه يجوز للشىء الواحد أسماء مختلفة، كلها ثابتة بالتوقيف، كالسيف، والخمر، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون للشىء الواحد أحكام مختلفة ثابتة من جهة التوقيف والنص.
واحتج: بأنه لمَّا لم يجز إثبات الاسم الَّلقب قياساً، كذلك الاسم المشتق.
__________
(1) آية (31) من سورة البقرة.(4/1351)
والجواب: أن الاسم اللقب ليس له معنى يوجد في غيره حتى يلحق به ويجري عليه اسمه، والاسم المشتق له معنى، ويوجد في غيره، فجاز إجراء اسمه عليه.
واحتج: بأن القياس [207/ب] لا يثبت في اللغة إلا بأن يثبت أن أهل اللغة وضعوها على المعاني، وأذنوا في القياس فيها. ولم يثبت واحد منها عنهم، فلم يصح القياس.
والجواب: إن لم يثبت ذلك فيه، لم يصح القياس. وإنما يصح فيما ثبت أنهم وضعوه على الشىء. وهذا كما نقول في الشرع: إن ما ثبت له موضوع على المعنى يوجب القياس عليه.
فإن قيل: بأي طريق تثبت أنهم وضعوه على المعنى؟
قيل: يعلم ذلك باستقراء كلامهم والاستدلال على مقاصدهم بمخارج كلامهم، فإذا قيل رأينا الاسم أو الإعراب تابعاً لمعنى على استقرار واطراد، استدللنا على أنهم جعلوه تابعاً له ومتعلقاً به، كما يستدل على قصد صاحب الشريعة بمثل ذلك.
وقد حُكي عن سيبويه أنه قال: استقرأنا كلامهم، فوجدناهم يرفعون كل فاعل، وينصبون كل مفعول. فدل ذلك على أنهم اعتبروا هذين المعنيين. وإذا وجدناهم يقولون: فاعِل من فَعَل، ومنفَعِل من أفعَل. ويُصيِّرون الاسم الثلاثي "تفعيل"، على استقرار، من غير مخالفة، دلنا ذلك على قصدهم.
وكذلك إذا سموا عصير العنب إذا وجدت فيه الشدة خمراً. وإذا زالت لم يسموها خمراً، وإن عادت الشدة المطربة في سموها بتلك، دلنا على أنهم جعلوا الاسم تابعاً لهذا المعنى، وسمينا النبيذ خمراً لوجوده.
وقولهم: "إنهم لم يأذنوا في القياس، على ما وضعوه على المعنى" فهو أن وضعهم على المعنى إذن في القياس، لأنه لا فرق عندنا بين أن يقولوا:(4/1352)
سميناه خمراً للشدة المطربة، وبين أن يقولوا: كل شديد مطرب خمر، وأحد اللفظين قائم مقام الآخر.
ولأنه لو قال: سميناه خمراً لما فيه من الشدة الطربة، صارت الشدة المطربة علامة ودلالة على كونه خمراً. فكل موضع وجدت هذه الدلالة، يجب أن يتبعها الاسم.
ولأن تسميتهم لجميع ما حدث من الأعيان بأسامي أمثالها، دلالة على أن القياس مأذون فيها.
واحتج: بأنهم لم يضعوها على القياس؛ لأنهم سموا الفرس الأبيض: أشهب، ولا يسمون الحمار الأبيض: أشهب. وسموا الفرس الأسود: أدهم، ولا يسمون الحمار الأسود: أدهم، فقد شاركه في معناه.
وكذلك الحموضة، إذا كانت في عصير العنب سموه خلاً، وإذا وجدت في اللبن وغيره لم يسموه خلاً.
وقالوا للفرس: أبلَق، لاجتماع اللَّونين، والآدمي أبيض، وللغراب أبْقَع، وللجِلد مُلَمَّعاً.
والجواب: أنهم اعتبروا الجنس مع الصفة في ذلك. فكانت العلة ذات وصفين، ولم يمكن القياس عليه؛ لعدم أحد الوصفين، وهو الجنس [208/أ] فتكون العلة واحدة.
واحتج أبو سفيان (1) :
بأن الأسماء اللغوية طريقها اصطلاح أهل اللغة عليها.
ألا ترى أن إنساناً لو سمى الماء خبزاً، والخبز ماءً، والفرس حائطاً، والحائط
فرساً، لم يصر ذلك اسماً لما سماه في اللغة، بل كان منسوباً إلى الهذيان،
__________
(1) هو: أبو سفيان السرخسي الحنفي.(4/1353)
ومتجاهلاً عند أهل اللسان. فلم يكن للقياس حظ في إثبات الأسماء اللغوية. والجواب: أنه إنما لم يجز القياس هاهنا؛ لأنه يخالف نص اللغة، فلهذا لم يجز.
كما لم يجز القياس إذا خالف نص الكتاب والسنة. وليس كذلك فيما اختلفنا فيه؛ لأن قياس اللغة يقتضيه فجاز، كما جاز في الشرع.
واحتج الجرجاني:
بأن الأخفش قال: الأسماء توجد توقيفاً، وهم ينقلون هذا عن أهل اللغة.
والجواب: أن هذا يعارضه ما حكينا عن أهل اللغة من حمل الاسم على غيره إذا وجد فيه معناه اعتبر ذلك.
مسألة
[ضوابط رد الفرع إلى الأصل]
لا يجوز رد الفرع إلى الأصل حتى تجمعهما علة معينة تقتضي إلحاقه به (1) .
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] (2) الحسين بن حسان: "إنما يقاس الشىء على الشىء، إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فلا" (3) .
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/5) والمسودَّة ص (389) .
(2) هكذا ذكره أبو الخطاب في كتابه التمهيد (4/5) ، عندما نقل هذه الرواية، وهو الصواب.
(3) نقل هذه الرواية -كما أسلفت- أبو الخطاب في كتابه التمهيد بأوفى مما ذكره المؤلف حيث قال نقلاً عن أحمد بن الحسين بن حسان: (القياس أن يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال، =(4/1354)
وحُكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لا تعتبر في ذلك علة معينة. ويجوز الاقتصار على ضرْب من الشبه (1) .
__________
= وأردت أن تقيسَ عليه فهذا خطأ وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعض أحواله، فإذا كان مثله في كل أحواله، فأقبلتَ به، وأدبرتَ به فليس في نفسي منه شىء) .
(1) وقريب من هذا ما نقله الشيرازي في كتابه التبصرة ص (458) عن بعض أصحاب أبي حنيفة.
ونقله عن بعض الفقهاء من أهل العراق في كتابه اللمع ص (59) وفي شرحه للُّمع الذى سماه الأستاذ عبد المجيد تركى -خطأ-: الوصول إلى مسائل الأصول ص (275) وعبارته في هذين الكتابين أوضح حيث قال: (وقال بعض الفقهاء من أهل العراق: يكفي في القياس شَبهُ الفرع بالأصل بما يغلب على الظن أنه مثله) .
ثم عقَّب على ذلك بقوله في اللمع: (فإن كان المراد بهذا: أنه لا يحتاج إلى علة موجبة للحكم يقطع بصحتها كالعلل العقلية فلا خلاف في هذا، وإن أرادوا: أنه يجوز بضرب من الشبه على ما يقول القائلون بقياس الشَّبَه، فقد بيناه في أقسام القياس. وإن أرادوا: أنه ليس ها هنا معنى مطلوب يوجب إلحاق الفرع بالأصل فهذا خطأ؛ لأنه لو كان الأمر على هذا لما احتيج إلى الاجتهاد، بل كان يجوز رد الفرع إلى كل أصل من غير فكر، وهذا مما لا يقول به أحد، فبطل القول به) .
والذي يبدو لي أن المؤلف قصد أبا بكر الجصاص، فإنه قال في كتابه الفصول في الأصول ص (138) من الجزء الذي طبع في الباكستان: ( ... وقال جُلُّ من يعتمد عليه من الفقهاء الناظرين: إنما الاعتبار في لحاق الحادثة بأصولها تشابهها في المعنى الذي هو علَم الحكم وأمارته، يجب على الناظر طلبُه، وتتبعُه بالاستدلال عليه، فإذا ثبت المعنى بالدلالة عليه وجب إجراؤه في فروعه والحكم لها بحكمه، سواء كان ذلك المعنى شبهاً من جهة الصورة أو من جهة الحكم أو من جهة الاسم، إذا جاز عندهم أن يُرد الفرع إلى الأصل بالاسم إذا تعلق الحكم بالاسم، فيكون الاسم حينئذ علَم الحكم) .(4/1355)
دليلنا:
قوله تعالى: (مِنْ أجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسْرَائِيْلَ) (1) .
وقال: (كَي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (2) .
وقال في تحريم الخمر (وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (3) .
فنصَّ على علة الحكم في ذلك.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما منعتُكم من أجْلِ الدَّافَّة) .
وقال: (إنَّما جُعِل الاستئذانُ مِن أجْلِ البصَر) .
فنصَّ على العلة.
وقال في بيع الرطب بالتمر: (أينقصُ الرطبُ إذا يَبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا) .
وقال لابن مسعود حين أتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذهما وألقى الرَّوْثة وقال: (إنَها رِجْس) (4) .
__________
(1) آية (32) من سورة المائدة.
(2) آية (7) من سورة الحشر.
(3) آية (91) من سورة المائدة.
(4) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود في كتاب الوضوء باب: الاستنجاء بالحجارة (1/49) وانظر فتح الباري (1/256) ورواية البخاري: (فإنها رِكْس) بدل: (فإنها رِجْس)
وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين (1/25) رقم الحديث (17) .
وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة باب: الرخصة في الاستطابة بحجرين (1/36) وقال بعد ذلك: (الرِّكسُ طعامُ الجن) .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة (1/114) وفيه: (هى رجس) . =(4/1356)
فإن قيل: فلسنا نمنع المنصوص عليها.
قيل: إذا ثبت أن الله تعالى ورسوله نصَّا على العلة، وعلقا الحكم بها، ثبت أن استنباطها، وتعليق الحكم بها شرط.
__________
= وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/388) .
وأخرجه الطحاوى في كتابه: شرح معاني الآثار في كتاب الطهارة، باب الاستجمار (1/122) بلفظ: (رِكْس) إلا أن محقق الكتاب قال في الهامش: وفي نسخة: (رجس) .
والرِّكْس -كما يقول الحافظ في الفتح- (1/258) بكسر الراء وإسكان الكافِ.
وقد اختلف في معناها:
1- فقيل: لغة في رجس بالجيم، يدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة والنسخة الثانية من شرح معاني الآثار للطحاوي.
وبه صرَّح الفيُّومي في المصباح حيث قال: (الركس بالكسر هو: الرجس) .
2- وقيل: الركس: الرجيع، رُدّ من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، كما يقول الخطابي.
أورد من حالة الطعام إلى حالة الروث، كما يرى الحافظ.
وقريب منه كلام ابن فارس في معجمه.
3- وقيل الركس: طعام الجن، كما يقول النسائي، وهو قول كريب كما يقول الحافظ.
قلت: ولعل الذي حمل النسائي على هذا التفسير ما جاء في الحديث: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن) الترمذي (1/29) .
فإن كانت علة النهي واحدةً، وهي كونها زاد الجن فتكون رواية: (فإنها ركس) مفسَّرة بالرواية الأخرى (فإنها زاد إخوانكم من الجن) ، ويكون تفسير النَّسائي وجيهاً، ولكن يعكر عليه عدم ورود ذلك لغة.
وإن كانت علة النهي مركبة من أمرين: كونها ركس، وكونها زاد الجن أو كون كل واحد من هذين الأمرين يصلح علة لو انفرد فلا يكون لكلام =(4/1357)
وأيضاً: فإنه لو لم يفتقر الجمع بينهما إلى معنى معين يجمع بينهما، لما افتقر إلى تفكر، وتأمل، واجتهاد؛ لأن العامي والعالِم يشتركان في رد الفرع إلى الأصل.
ولأنه لا خلاف أنه لايجمع بينهما بغير شَبَه. وإذا لم يكن بد من الشَّبه بينهما، فهو الذي نقوله، فزال الخلاف.
واحتج المخالف:
بأن الصحابة ما اعتبرت في إيجاب الفرع بالأصل علة معينة، وإنما اعتبرنا مجرد [208/ب] الشبه.
فقال أبو بكر: (أقولُ في الكَلالَةِ برأيي) . ولم يذكر معنى.
وقال عمر: (هذا ما أرَى الله عمر) (1) .
وكتَب إلى أبي موسى الأشعري: (قِس الأمورَ بعضَها ببعض) . ولم ينص له على معنى.
__________
= النَّسائي وجه.
والذى يبدو لي: أن الركس: شبيه المعنى بالرجيع، كما يقول أبو عبيد، وسميت الروثة بذلك؛ لأنها ارتكست عن أن تكون طعاماً إلى غيره) كما يقول ابن فارس في معجمه.
انظر: فتح الباري (1/258) ، والنهاية في غريب الحديث (2/100) ومجمل اللغة لابن فارس (2/397) ومعجم مقاييس اللغة له أيضاً (2/434) واللسان (7/404) والمصباح المنير (1/363) مادة (ركس) .
(1) هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - لم أجده.
وإنما وجدت في سنن البيهقي (10/116) : (أن عمر رأى رأياً، فكتب الكاتب هذا ما أرَى الله أمير المؤمنين، فانتهره عمر، وقال: أكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر) .
وهذا يدل على أن عمر - رضي الله عنه - لا يرى نسبة الرأي الصادر منه إلى الله تعالى.(4/1358)
والجواب: أنهم قد نصُّوا على علة معينة، وصرحوا بذلك. منه: قول عمر لأبي بكر: (رضيك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) (1) .
ولما استشار عمر الصحابة في حد الشارب، قال علي: (إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، وحده حد المفتري) (2) .
__________
(1) سبق تخريج هذا الأثر، وأنه من قول علي، رضي الله عنه.
(2) هذا الأثر أخرجه مالك في موطئه في كتاب الأشربة، باب الحد من الخمر (2/526) عن ثور بن زيد الديلِي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: (نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكِر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين) .
وأخرجه الشافعي عن مالك كما في بدائع المنن، أبواب حد شارب الخمر، باب: كم يضرب من ثبت عليه شرب مسكر؟ (2/304) حديث رقم (1521) .
وعقَّب الحافظ في التلخيص (4/75) عليه بقوله: (وهو منقطع؛ لأن ثوراً لم يلحق عمر، بلا خلاف) .
وأخرجه الدارقطنى في سننه موصولاً من طريق يحيى بن فُلَيْح بن سليمان عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في كتاب الحدود (3/166) حديث رقم (245) .
وأخرجه بالسند المذكور البيهقي في سننه في كتاب الأشربة والحد فيها، باب: ما جاء في عدد حد الخمر (8/320) .
وأخرجه بالسند المذكور أيضاً أبو الشيخ وابن مردويه كما في الكنز (5/483) .
وأخرجه بالسند المذكور الحاكم في مستدركه في كتاب، الحدود، وقال: (صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وفيه "يحيى بن فُلَيْح" نقل الحافظ في اللسان عن ابن حزم: أنه قال: "هو مجهول"، وقال مرة: "ليس بالقوي".
وأخرجه البيهقي في الموضع السابق من طريق أسامة بن زيد عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وَبَرَة الكلبي، قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر - رضي الله عنه - وذكر كلاماً طويلاً، وفيه قول على رضي الله عنه. =(4/1359)
وقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب في التي أرسل إليها عمر، وقد ذكرت عنده بسوء، فأجهضت ذا بطِنها، (إنما أنت مؤدبٌ، ولا شىء عليْك) .
وقال علي: (إن اجتهدوا (1) فقد أخطأوا، وإن عمدوا فقد غشوك، عليك الدية) .
__________
= وأخرجه الحاكم في الموضع السابق بالسند هذا، وفيه "وَبَرَة الكلبي" بدلاً من "ابن وَبَرَة" وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن وهب وابن جرير، كما في الكنز (5/478) .
وفيه: "وَبَرَة الكلبي"، أو"ابن وَبَرَة الكلبي".
قال الألباني في الإرواء (8/47) : (لم أجد من وثقه) .
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه في باب: حد الخمر (7/378) عن عمر عن أيوب عن عكرمة أن عمر بن الخطاب استشار الناس في جلد الخمر ...
ولم يذكر عبد الرزاق في سنده ابنَ عباس.
وأخرجه ابن جرير عن يعقوب بن عتبة، كما في الكنز (5/479) .
وبعد أن ذكر الحافظ طرفاً من تخريجه في التلخيص (4/75) قال: (وفي صحته نظر؛ لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال: عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر.
ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة: أنه جلد أربعين، وقال جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إليّ، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها [لعل صحتها: ولعمِل بها] لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاد، ثم تغير اجتهاده) .
وبالنظر إلى هذه الطرق المتعددة، فالأثر يبلغ درجة الحسَن والله أعلم.
(1) في الأصل: (اجتهد) .(4/1360)
فعبد الرحمن قال: (إنَّما أنت مؤدِّبٌ) ، فرفع الضمان عنه لهذه العلة.
والقصص في هذا كثيرة. فثبت أنهم أجمعوا على اعتبار العلة.
مسألة
[القياس على ما ثبت بالقياس]
ما ثبت بالقياس، يجوز القياس عليه (1) ، مثل حمل الذُّرة على الأرز.
__________
(1) راجع هذه المسألة في التمهيد (3/443) والروضة (2/304) والمسوَّدة ص (394) .
في تصوري أن هذه المسألة لها جانبان.
الجانب الأول: أن الحكم إذا ثبت في الأصل بدليل مقطوع به من كتاب أو سنة أو إجماع، وكانت علته ظاهرة، ففي هذه الحالة تقاس عليه كل مسألة توفرت فيها هذه العلة.
أما إذا كانت العلة مستنبطة، مثل العلة في الربا، فهل يقاس على ذلك ما توفرت فيه هذه العلة المستنبطة؟
قولان لأهل العلم:
المنع، وهو رأي ابن حامد الحنبلي.
الجواز، وهو رأي أبي يعلى الحنبلي.
انظر: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين ص (68) .
الجانب الثاني: أن الحكم إذا ثبت في الأصل بعلة منصوصة أو مستنبطة، ثم قسنا على ذلك مسألة أخرى توفرت فيها العلة، فهذه المسألة الأخيرة الثابتة بالقياس هل يجور القياس عليها؟ هناك أمران يجب توضيحهما:
الأول: هل العلة في القياس الأخير هي العلة في المقيس عليه في الأول والمستدل ترك القياس على الأصل الأول واستغنى بالقياس على الأصل في القياس الأوسط؟
هنا رأيان للأصولين. الجواز وعدمه، والخطْب في هذا يسير. =(4/1361)
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: "لا بأس بدفع الثوب إلى من يعمله بالثلث والربع، كالمزارعة" (1) .
وقال في رواية المروذي: "لا يجوز بيع أرض السواد، ويجوز شراؤها كالمصاحف" (2) .
__________
= الثاني: أن الثابت بالقياس يقاس عليه غيره لعلة غير العلة التي ثبت بها إن كانت واحدة، أو بواحدة إن كانت مركبة.
فهنا ثلاثة آراء، ثالثها لشيخ الإسلام ابن تيمية: إن كان قياس دلالة جاز، وإن كان قياس علة لم يجز.
والقول بعدم الجواز هو الراجح -إن شاء الله- لأن التسلسل في القياسات هذه يضعف المعنى الأول الذي ثبت به القياس.
يؤيد ذلك قول الغزالي في كتابه المستصفى (2/325) : (لأن ذلك يؤدي في قياس الشَّبه إلى أن يشبَّه بالفرع الثالث رابع، وبالرابع خامس، فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول، كما لو التقط حصاة، وطلب ما يشبهها، ثم طلب ما يشبه الثانية، ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول؛ لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة) .
وقد ذكر في المسوَّدة ص (395) أن للحنابلة في القياس على ما لا نص فيه ولا إجماع، بل ثبت بالقياس ثلاثة أقوال:
أحدها: الجوار مطلقاً.
الثاني: يجوز إن اتفق عليه الخصمان.
الثالث: يجوز مطلقاً، وإن كانت العلة في الأصل المحض غير العلة في الفرع المحض بل في الفرع المتوسط علتان.
انظر: المراجع السابقة.
(1) هذه الرواية عن الإمام أحمد نقلها عنه ابنه في مسائله ص (304) ولفظه (سمعت أبي سئل عن الرجل: يدفع الثوب إلى الحائك بالثلث والربع؟ قال لا بأس) .
(2) هذه الرواية ذكرت في المسوَّدة ص (400) ونصها: (يجوز شراءُ أرض السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف تشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول، =(4/1362)
فقد قاس الفرع على أصل مختلف فيه.
وهو قول الرازي (1) والجرجاني من أصحاب أبي حنيفة. وقول أصحاب الشافعي.
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز القياس إلا أن يثبت حكم الأصل بدليل مقطوع عليه من كتاب أو سنة أو إجماع.
وقال الكرخي: لا يجوز حمل الذُّرة على الأرز، ويكون حملهما جميعاً على البُر أولى، وليس أن يحمل أحدهما على الآخر بأولى من حمل الآخر عليه لتساويهما في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة (2) .
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اْلأَبصَارِ) (3) . وهذا عام في جميع الأصول.
ولأن عمر قال لأَبي بكر: (رضيك رسولُ الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا) ، فاعتبر المعنى.
__________
= ولكن استحساناً، واحتج بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا يشبه ذاك) .
وهناك روايات نقلها عبد الله عن أبيه، فانظرها في مسائله التي نقلها عن أبيه ص (284) .
(1) صرح بذلك في أصوله ص (126) الطبعة الباكستانية حيث قال: (ويجوز القياس أيضاً على حكم قد ثبت من طريق القياس، وإن كان مختلفاً فيه) .
(2) نقل هذا عن أبي الحسن الكرخى في كشف الأسرار (3/1023) وفي التقرير والتجبير (2/131) .
وهو رأي جمهور الحنفية.
انظر: المرجعين السابقين، والتلويح على التوضيح (2/55) ، وفواتح الرحموت (2/253) .
(3) آية (2) من سورة الحشر.(4/1363)
ولأن الحكم ثبت ابتداء في الشرع بدليل مقطوع عليه، ودليل غير مقطوع [عليه] ، وطريقه غلبة الظن، وهو خبر الواحد، في أن استعمال القياس في الموضع المقطوع عليه، وفيما طريقه غلبة الظن.
ولأن العلة تصير علة؛ لقيام الدلالة على صحتها، لا لوجودها في أصل متفق عليه، بدلالة أن ما دل على صحتها لا يفرق بين عين دون عين، وإذا اعتبرت العلة، فلا فرق بين حمل فرع على نظيره، وبين اعتبارهما جميعاً [209/أ] ؛ لأن ما ثبت بدليل، يجوز أن يجعل أصلاً، يرُد إليه غيرُه، وإن لم يكن ثابتاً بالاتفاق.
وقول الكرخي: إنهما تساويا في أن حكمهما يعرف من جهة واحدة، فهو صحيح. وله أن يقيس كل واحد على صاحبه، كالأمرين إذا تساويا، فتساويهما لا يوجب سقوطهما، وإنما يخير المجتهد فيهما.
فصل
[عدم اشتراط الاتفاق على تعليل الأصل]
ويجوز القياس على أصل بعلة، وإن لم يتفق على تعليله (1) ، مثل قياس النبيذ على الخمر لعلة وجود الشدة المطربة (2) .
فإن أبا حنيفة يمنع من أن تكون الخمر معللة (3) ، ويقيس غير المأكول عليه
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/437) والمسوَّدة ص (397) .
(2) هذا مذهب الجمهور، أو مذهب الأكثر كما هو تعبير أبي الخطاب في التمهيد.
(3) وذلك لعدم قيام الدليل على كونها معللة عند الحنفية، بل صرح السرخسي في أصوله (2/149) أن الدليل دل على أنها غير معللة حيث قال: ( ... بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول، وهو قوله عليه السلام: "حُرِّمت الخمر لعينها" و"السكر من كل شراب ... ") .
وانظر: أصول الجصاص ص (132) من الطبعة الباكستانية.(4/1364)
فِي الربا (1) .
وهو ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في المسألة التي قبلها.
خلافاً لما حُكي عن بِشْر بن غِياث في قوله: "إذا لم يكن الأصل منصوصاً عليه، أو مجمعاً على تعليله، لم يجز قياس الفرع عليه" (2) .
__________
(1) لأن العلة عنده الجنس مع الكيل أو الجنس مع الوزن، فلو باع مكيلاً أو موزوناً غير مطعوم بجسمه متفاضلاً كالجص والحديد كان حراماً.
والحكم -كما يقول صاحب الهداية- (معلول بإجماع القائسين) ، لكن وقع الاختلاف في العلة.
انظر: شرح فتح القدير مع الهداية (7/3-5) وأصول الجصاص ص (133) وأصول السرخسي (2/161) .
(2) في المعتمد (2/761) أن بِشْراً منع من القياس على الأصل إلا بعد أن تجمع الأمة على تعليله، ولم يذكر كونه منصوصاً عليه كما ذكر المؤلف.
وقريباً نَقْل أبي الحسين نَقْل أبي الخطاب في التمهيد (2/437) .
وقد نُقِل كلامُ المؤلف عن بِشْر في المسوَّدة ص (397) بدون تعقيب.
ونقل الفخر الرازي في المحصول (5/494) عن بشر أنه يشترط في الأصل (انعقاد الإجماع على كونه معللاً، أو ثبوت النص على عين تلك العلة) .
وفي شرح الجلال على جمع الجوامع (2/213) ، ( ... وعند الثاني [يعني بشراً] لا يقاس فيما اختلف في وجود العلة فيه، بل لابد بعد الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، من الاتفاق على أن علته كذا ... )
والذي ظهر لي من كلام المؤلف أن بِشْراً يشترط واحداً من أمرين إما أن يكون الأصل منصوصاً عليه، وإما أن يكون مجمعاً على تعليله، ولم يتعرض للنص على عين تلك العلة.
وفي المعتمد والتمهيد: أنه يَشْتَرِط أن تجمع الأمة على تعليل الأصل، وهو أحد الأمرين اللذين ذكرهما المؤلف.
وفي المحصول أنه يَشْتَرِط أحد أمرين: انعقاد الإجماع على كون الأصل معللاً، أو ثبوت النص على عين تلك العلة. =(4/1365)
دليلنا:
ما تقدم في التي قبلها من قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُو يَا أولِي اْلأبصَارِ) (1) ، وهذا عام في جميع الأصول.
ولأن طريق إثبات العلل، دلالة الأصول عليها، وقد توجد دلالتها في تعليل أصل مجمع عليه، كما تدل على تعليله، مع الخلاف، فوجب اعتبار دلالة الأصول عليها.
ولأنه لما أمكن استخراج المعنى فيه، ورد الفرع إليه، لم يعتبر بالاتفاق فيه، كخبر
__________
= فقد وافق أبا يعلى في نقله اشتراط الإجماع على تعليل الأصل، كما وافق في هذا أبا الحسين البصرى وأبا الخطاب، إلا أنه زاد التخيير بين هذا الشرط وبين ثبوت النص على عين تلك العلة.
ويظهر من كلام شرح الجلال أن بِشْراً يشترط أمرين هما: الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، والاتفاق على أن علته كذا.
وهو ما وضحه الشيخ الشربيني في تقريراته على الشرح المذكور (2/122) .
وبهذا يتبين أن كلام ابن النجار الفتوحى في شرح الكوكَب المنير (4/100) غير دقيق؛ لأنه قال ( ... الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يشترط أن يرد نص دال على عين تلك العلة، ولا الاتفاق على أن حكم الأصل معلل، وخالف في ذلك بِشْر المَريسي، فاشترط أحدهما، على ظاهر كلامه في جمع الجوامع، والذي ذكره الرازي في المحصول عن بشر اشتراط الأمرين معاً) .
الا أن تكون نسخة المحصول التي أفاد منها صاحب شرح الكوكب قد جاء فيها التعبير بالواو دون أو، فَيَتَّجِه.
وقد وَصفَ ابنُ السبكي قولَ بِشْر بالضعف، ووَصَف من قال به بالشذوذ.
ونقل عن أبي إسحاق إبطاله لهذا القول (بأن قائله إن أراد بالاتفاق الذى اشترط إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس؛ لأن نفاة القياس من جملة الأمة، وأكثرهم يقولون: إن الأصول غير معللة، وإن أراد إجماع القائسين فهم بعض الأمة، وليس قولهم بدليل) .
انظر: الابهاج (3/163-164) .
(1) آية (2) من سورة الحشر.(4/1366)
الواحد، متى أمكن أن يستفاد منه حكم، حمل عليه، وإن لم يتفق على قبوله.
واحتج المخالف:
بأن الأصول، لما كان فيها ما هو معلل، وفيها ما ليس بمعلل، وجب أن يكون طريق (1) التفريق بينهما الإجماع الدال عليه، إذا لم يكن طريق إليه (2) غير ذلك.
والجواب: أن الأصل هو تعليل الأصول. وإنما تَرْكُ تعليلها نادر، فصار الأصل هو العام الظاهر، دون غيره (3) .
واحتج: بأنه لما لم يجز القياس على الصلوات الخمس؛ لكونها غير متفق على تعليلها وعدم ورود النص بذلك فيها، كذلك كل ما هذه حاله.
والجواب: أن الصلوات إنما لم يجز القياس عليها، لحصول الإجماع على أن ذلك لا يجوز. وقد عدم هذا المعنى في غيرها، فلم يجز أن يكون بمثابتها.
فصل
[جواز القياس فيما لم ينص على حكمه]
ويجوز القياس فيما لم ينص على حكمه، مثل قياسنا على تشبيهه بظهر الأم في أنه ظهار (4) .
__________
(1) في الأصل: (الطريق) . والتصويب من التمهيد (3/349) .
(2) في الأصل: (إلى) .
(3) ولا يؤثر ذلك النادر لشذوذه. وهو معنى ما قاله أبو الخطاب في التمهيد (3/440) .
(4) انظر: المسوَّدة ص (411) .
وقد ذكرها أبو الخطاب ضمن المسألة السابقة، حيث نقل خلاف أبي هاشم في هذه المسألة.
انظر: التمهيد (3/438) . =(4/1367)
خلافاً لبعض المتكلمين (1) أن القياس لا يجوز إلا فيما نص على حكمه في الجملة، وقال: لو لم ينص الله تعالى على ميراث الأخ في الجملة، لم أجوز إثبات مشاركته مع الجد بالمقايسة، ويكون حظ القياس في الإبانة عن تفصيله، والكشف عن موضعه (2) .
دليلنا [209/ب] :
أن القياس لما كان طريقاً إلى معرفة الأحكام بخبر الواحد، لم يعتبر أن يكون الحكم الذي ثبت في أحدهما منصوصاً عليه في الجملة، كما لا يعتبر في الآخر.
ولأن الصحابة قد تكلمت في مسائل من جهة القياس، وإن لم يكن منصوصاً عليها في الجملة.
واستدل عمر على إمامة أبي بكر بضرب من الاستدلال (3) ، وإن لم يكن
__________
= وقد عَنْون لها أبو الحسين البصرى في كتابه المعتمد (2/809) بقوله: (باب في أن العلة هل يتوصل بها إلى إثبات الحكم في الفرع، وإن لم ينص عليه في الجملة أم لا؟)
وفي رأيي أنها داخلة في المسألة السابقة؛ لأن قول أبي هاشم هذا قول بالتفصيل في المسألة.
(1) المراد به أبو هاشم المعتزلي.
المرجعان السابقان.
(2) هذا معنى كلام أبي هاشم الذي نقله عنه أبو الحسين في المعتمد وأبو الخطاب في التمهيد.
(3) ذكر المؤلف هذا الأثر غير منسوب لأحد في مسألة: جواز انعقاد الإجماع من طريق الاجتهاد ص (1125) وقد خرجته منسوباً إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ونصه: (رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وهي عماد الدين، ومن رضيه رسول الله لديننا وجب أن نرضاه لدنيانا) .
ونسبه المؤلف إلى عمر - رضي الله عنه - في مسألة: ضوابط رد الفرع إلى الأصل ص (1359) .
وفي المسوَّدة ص (405) أن عمر وعلياً قالا ذلك لأبي بكر.(4/1368)
ذلك منصوصاً عليه، كذلك هاهنا.
وكذلك تكلموا في مسألة الحرام (1) ، والبَتَّة، والخَلِيَّة، والبَرِيّة (2) ، والتسوية والتفاضل في العطاء (3) .
مسألة
[كل مقيس كل الأصل النصوص على علته مراد بالنص]
جميع ما يحكم به من جهة القياس على أصل منصوص عليه، فهو مراد بالنص الذي أوجب الحكم في الأصل (4) .
__________
(1) سبق توثيق ذلك ص (1115) .
(2) هذه الكلمات الأربع من ألفاظ الطلاق، ذكر الخلاف فيها عن الصحابة رضوان الله عليهم بالسند الإمام عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الطلاق باب: الحرام (6/399-405) وباب البَتَّة والخَلِيّة (6/350) . والبيهقي في سننه في كتاب الطلاق، باب: ما جاء في كنايات الطلاق (7/342-344) وباب من قال لامرأته: أنت على حرام (7/350-352) .
(3) كان أبو بكر - رضي الله عنه - يرى التسوية في العطاء قائلاً: (فضائلهم عند الله، فأما هذا المعالق فالتسوية فيه خير) .
بيما كان عمر - رضي الله عنه - يرى التفاضل قائلاً: (أفأجعل من تكلَّف السفر وابتاع الظهر بمنزلة قوم إنما قاتلوا في ديارهم..)
قال أبو عبيد: (وقد كان رأي عمر الأول التفضيل على السوابق والغناء عن الإسلام، وهذا هو المشهور من رأيه، وكان رأي أبي بكر التسوية، ثم قد جاء عن عمر شىء شبيه بالرجوع إلى رأي أبي بكر) .
انظر: الأموال لأبي عبيد ص (335-336) .
(4) راجع هذه المسألة في التمهيد: (3/435) وروضة الناظر (2/251) والمسوَّدة =(4/1369)
خلافاً لبعض المتكلمين في قولهم: لا يصح أن يحكم في جميع ذلك أنه مراد بالنص (1) .
دليلنا:
أن ما يحكم به المجتهد من طريق الاجتهاد مراد منه، إذ لو لم يكن كذلك، لم يكن مطيعاً لله تعالى فيه. ولا خلاف أنه مطيع لله تعالى فيما يحكم به مما يؤديه اجتهاده إليه. فإذا كان كذلك، وكان الحكم في الأصل المنصوص عليه مراداً (2) بالنص، وجب أن يكون الحكم في الفرع مثله.
فإن قيل: فهذه العلة بعينها موجودة فيما يحكم به من طريق القياس على أصل غير منصوص عليه؛ لأن المجتهد مطيع لله تعالى فيه، ومع ذلك فلا يحكم
__________
= ص (390-392) وشرح الكوكب المنير (4/223) .
وعليه فإن النص هنا يتناول الأفراد لغة.
وبهذا قال أبو الخطاب وابن عقيل وابن حمدان، وهو باب سلكه كثير ممن لا يقول بحجية القياس.
المراجع السابقة، والمعتمد (1/208) ، وتيسير التحرير (1/259) وإرشاد الفحول ص (135) .
(1) بل بالقياس، وبه قال كثير من الأصوليين وعلى رأسهم الغزالي وابن قدامة.
انظر: المراجع السابقة، والمستصفى (2/272) .
وفي المسودة ص (392) تعقيب جيد، حيث قال: (وهذا في العلة المفسرة مستقيم، وأما في العلة المجملة مثل قول الأعرابي: وقعت على أهلي في رمضان، فقال: اعتق رقبة، وأن بريرة أعتقتها عائشة، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك من المواضع التي علم أن ذلك السبب علة في الحكم، ولم يتبين في العلة أهي عموم الإفطار أم خصوص الوقاع، وأنه عموم العتق أم خصوص العتق تحت عبد ... ) .
(2) في الأصل: (مراد) وحقه النصب خبر كان.(4/1370)
بأن ما حكم به مراد بالنص، كذلك هاهنا.
قيل: إنما وجب ذلك فيما ذكرت؛ لأنه لا نص (1) هنا يوجب الحكم في الأصل، وإنما أوجب الحكم فيه بالإجماع، أو ما يجري مجراه من الأدلة، مثل فحوى الخطاب كقوله عليه السلام في السَّمن الذي ماتت فيه الفأرة: (إن كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإن كان معائعاً، فأهريقوه) ، وليست هذه سبيل الأصل المنصوص عليه، لأن الحكم إنما وجب فيه بالنص الوارد به.
يبين صحة ذلك، أن الحكم المجمع عليه، إذا كان له ذكر في الكتاب أو في السنة، صار الإِجماع صادراً عن ذلك النص، وإن كان لو لم يكن له ذكر فيهما لم يكن الإجماع صادراً عن نص، كذلك القياس، إذا كان على أصل منصوص عليه، صار الحكم الذي حكم به من طريق القياس، مراداً بذلك النص. وإن لم يجب أن يكون مراداً بالنص، لو لم يكن الأصل منصوصاً عليه.
واحتج المخالف:
بأنه لما لم يجز أن يراد بالعبادة الواحدة، معنيين مختلفين في حالة واحدة، وكان الحكم المحكوم به من طريق القياس مخالفاً في المعنى لحكم الأصل [210/أ] المنصوص عليه، كقياس الجص على البُر، والزعفران والقطن على الذهب والفضة، لم يجز أن يحكم بأنه مراد بالنص الموجب لحكم الأصل.
والجواب: أن المعنيين إذا كانا مختلفين، جعل النص كأن الله تعالى أمر به في وقتين، فأراد به أحد المعنيين في وقت، والمعنى الآخر في الوقت الآخر.
كما قلنا في آية الصلاة: أنه أريد بها الفرض والنافلة، فقدرناها على هذا الوجه.
__________
(1) في الأصل: (نصر) وهو تصحيف.(4/1371)
مسألة
[طريق الإلحاق بالعلة المنصوص عليها]
إذا ورد النص بحكم شرعي معللاً، وجب الحكم في غير المنصوص عليه، إذا وجدت فيه العلة المذكورة في النص سواء ورد النص بذلك قبل ثبوت حكيم القياس أو بعد ثبوته، مثل قوله: حرم الخمر لحموضته، وأبحتُ السكَر لحلاوته (1) .
وإلى هذا أومأ أحمد -رحمه الله- في رواية الميموني فقال: "إذا كانت الثمرة واحدة فلا يجوز رطب بيابس" واحتج بالرطب بالتمر لحديث النبي (2) .
فجعل أحمد -رحمه الله- العلة عامة في جميع ما توجد فيه تلك العلة. وبهذا قال إبراهيم بن سيَّار (3)
__________
(1) راجع في هذا المسألة: التمهيد (3/428) ، وروضة الناظر (2/251) ، والمسوَّدة ص (390) .
(2) إشارة إلى حديث سعد بن أبي وقاص: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) رواه الخمسة وصححه الترمذي كما في نيل الأوطار (5/224) .
وقد سبق تخريجه مفصلاً (1/178) .
(3) هو النظام، وقد سبقت ترجمته.
ونقلُ المؤلف عن النظام هو معنى ما نقلَه أبو بكر الجصاص في أصوله ص (141) من الطبعة الباكستانية حيث قال: (الناس في هذا الضرب من التعليل على قولين: منهم من يجعله نصاً على كل ما فيه العلة، ويجريه مجرى لفظ العموم، والنظام ممن يقول بذلك، وهو من نفاة القياس، وقال: لو أن الله تعالى قال: حرمت عليكم الماعز؛ لأنه ذو أربع، عقلنا من اللفظ تحريم كل ذات أربع ... ) .
وهو ما ذكره المؤلف في المسألة التي قبل هذا، غاية ما هنا أنه زاد أن ذلك مطلق، =(4/1372)
[و] القاشاني (1) ، والنَّهْرِيُّون (2) .
__________
= سواء أورد النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس أم بعد ثبوته.
ويشكل على ما ذكره الجصاص ما نقله أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد (2/753) عن النظَّام من أنه يقول: إن النص على العلة يكفي في التعبد بالقياس بها.
وتابعه على ذلك أبو الخطاب في التمهيد (3/428) حيث قال: (النص على علة الحكم يكفي في التعبد بالقياس بها، وبه قال النظام ... ) .
ولتفسير الجصاص لمذهب النظَّام فسره الغزالي في المستصفى (2/272) وتابعه ابن قدامة في الروضة (2/251) .
ولذلك قال صاحب مسلَّم الثبوت (2/316) : (مسألة: النص على العلة يكفى في إيجاب تعدية الحكم ولو عدم التعبد بالقياس مطلقاً عند الحنفية وأحمد وأبي إسحاق الشيرازي، وهو المختار، وعليه النظام، لكنه قال: إنه منصوص) .
ولم يرتض ذلك تاج الدين السبكى في كتابه الإِبهاج (3/24) ووجَّهه بقوله: (فإنه هنا يقول [يعني النظام] إذا وقع التنصيص على العلة كان مدلول اللفظ الأمر بالقياس، ولم يتعرض لوقوعه من الشارع أو غيره، بل لمدلوله لغة، وهناك أحال وروده من الشارع، فعنده حينئذ أن الشارع لا يقع منه التنصيص على العلة من حيث هو مدلوله ما ذكرناه) .
ثم عقب على ذلك بقوله: (فافهم هذا، فإن بعض الشراح ظن مناقضته في مقالته، وذلك سوء فهم، فإن الكلام في مدلول اللفظ إن ورد، غير الكلام في أنه هل يرِد) .
(1) هو محمد بن إسحاق أبو بكر، قيل كان ظاهرياً، ثم صار شافعياً، وقد سبقت ترجمته.
ونسبة القول هذا إليه ذكرها أبو الخطاب متابعة للمؤلف (3/428) .
ونسبها إليه ابن حزم في الإحكام (8/1110) قائلاً: قال أبو محمد: (وهذا ليس يقول به أبو سليمان -رحمه الله- ولا أحد من أصحابنا، وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني [بالمهملة] وضربائه) .
(2) في الأصل (النَّهريين) ، وفي التبصرة ص (436) وفي الإِحكام للآمدي (4/47) : (النَّهرواني) ، وهو نسبة إلى النَّهروان، بُلَيْدة قديمة، قرب بغداد.
انظر: الباب (3/337) .(4/1373)
قال أبو سفيان: وإلى هذا كان يشير شيخنا أبو بكر، يعني الرازي في احتجاجه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّما هو دمُ عِرْق، وليست الحيضة، فتوضَّئي لكل صلاة) في إيجاب الوضوء من الرُّعاف ونحوه. ويجعله بمنزلة أمر النبي عليه السلام بالوضوء من كل دم عِرْق (1) .
وكان يحكيه عن الكرخي (2) . ولم يفرق بين ورود النص بذلك قبل ثبوت حكم القياس، أو بعد ثبوته.
وقال أبو سفيان: وذهب بعض شيوخنا (3) إلى أنه لا يجب أن يحكم فيما وُجِدت فيه تلك العلة بحكم المنصوص عليه، قبل ثبوت حكم القياس.
واختار أبو سفيان ذلك (4) .
__________
(1) الذي رجَّحه أبو بكر الرازى في كتابه الفصول ص (142) هو القول أن ذلك من باب القياس لا من باب العموم، حيث يقول: (قال أبو بكر: والأظهر أن إلحاق ما يوجب فيه هذه العلة بحكم الأصل، إنما هو من طريق القياس لا من طريق النص والعموم؛ لأن المنصوص عليه هو ما تناوله الاسم، وقوله: "في دم الاستحاضة الوضوء؛ لأنها دم عرق" لم يتناول الاسم منه إلا دم الاستحاضة، وقوله: "إنها دم عرق" ليس بعموم في غير دم الاستحاضة، وإنما هو صفة من صفات المذكور بعينه دون غيره ما لم يذكر ... ) .
وبهذا يعلم أن في نقل أبي سفيان الحنفي وهماً، تابعه عليه المؤلف، مع أن المؤلف رجع إلى كتاب الفصول واستفاد منه كثيراً، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
(2) لم أجد في كتاب الفصول لأبي بكر الرازي المشهور بالجصاص نقلاً عن شيخه الكرخي في هذه المسألة.
ولكن ما ذكره المؤلف وجدته منسوباً إليه في التبصرة ص (436) ، والإحكام للآمدى (4/47) .
(3) يعنى: الحنفية.
(4) الذي نص عليه الكمال بن الهمَام الحنفي في كتابه التحرير (4/111) مطبوع مع شرحه تيسير التحرير: (أن النص على العلة يكفي في إيجاب تعدية الحكم بها، ولو =(4/1374)
هو قول جعفر بن حرب، وجعفر بن مُبَشِّر (1) .
واختلف أصحاب الشافعي. فمنهم من قال مثل قولنا.
ومنهم من قال: لا يجب الحكم بذلك فيما وجدت فيه تلك العلة. وهو اختيار الاسفراييني (2) .
دليلنا:
ان النص معلل، فوجب الحكم في غير المنصوص عليه إذا وجدت علته.
أصله: إذا ورد النص بعد ثبوت حكم القياس.
ولا يلزم عليه قوله تعالى: (إِنَ الصلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ... ) (3) .
ولم يكن النص موجباً لحمل غيرها عليها مما ينهى (4) ؛ لأننا لو تُرِكْنا وظاهر هذه الآية لقلنا: أي موضع وُجِدت هذه العلة، تعلق الحكم بها، لكن منع منه [210/ب] الدليل في الموضع الذي لا يجب.
فإن قيل: إنما وجب الحمل هناك لأجل أنه أمر بالقياس، فإذا نص على العلة، وجب القياس عليها، وهذا معدوم قبل ورود التعبد بالقياس.
__________
= لم تثبت شرعية القياس وفاقاً للحنفية ... ) .
وهو ما ذكره صاحب مسلَّم الثبوت عن الحنفية (2/316) .
ولم يذكرا خلافاً عن الحنفية في ذلك.
(1) انظر رأيهما في المعتمد (2/753) والتمهيد لأبي الخطاب (3/428) .
ولأبي عبد الله البصري المعتزلي تفصيل نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد الموضع السابق بقوله: (إن كانت العلة المنصوصة علة في التحريم كان النص عليها تعبداً بالقياس بها، وإن كانت علة في إيجاب الفعل أو كونها ندباً لم يكن النص عليها تعبداً بالقياس بها) .
(2) انظر في نسبة هذين القولين إلى الشافعية: التبصرة ص (436) ، والإِحكام للآمدي (4/48) وصرَّح الآمدي بنسبة القول الثاني إلى أبي إسحاق الإِسفراييني وأكثر الشافعية.
(3) الآية (45) من سورة العنكبوت.
(4) في الأصل: (ما ينهى) بدون إعجام.(4/1375)
قيل: لو كان الحمل هناك، كما ذكرت، لوجب أن يختص التعدي هناك بهذه العلة، ولجاز أن يتعدى الحكم إلى غير السُّكَّر بعلة هو غير الحلاوة؛ لأن الأمر بالقياس يعم هذه العلة وغيرها. ولما قالوا بأن التعدي يحصل بهذه العلة، دل على أن التعدي كان لأجلها، لا لأجل الأمر بالقياس.
وأيضاً: فإن قوله: "حرَّمتُ السُّكر" قد أفاد الحكم [و] قوله بعد هذا: "لأنه حلو" إنما ذكره (1) لفائدة، وليس فائدته إلا القياس عليها. فلو قلنا: لا يقاس عليها بطلت فائدتها، وهذا لايجوز.
فإن قيل: فائدتها بيان العلة التي ثبت الحكم لأجلها، ولو لم يذكر العلة لكان يكون الحكم ثابتاً بغير علة.
قيل: لو كان التعليل لا يفيد إلا إفادة النص أو الإِجماع، كان وجوده كعدمه، لا يفيد فائدة، فوجب تعديته لتحصل الفائدة.
فإن قيل: فائدته (2) عِلْمُنا بالوجه الذي لأجله صار الفعل مصلحة للمكلف، وإن لم يجب حمل غيره عليه إذا شاركه في العلة.
قيل: فلا فائدة في معرفة ذلك إذا لم يتعد إلى غيره؛ لأنا قد استفدنا الحكم بالنص، وإنما يستفيد المكلف معرفة الوجه بالمصلحة ليعمل عليه، فإذا كان مقصوراً لم يفد؛ لأن ذلك مستفاد بالنص، وهذه طريقة أجود شىء في المسألة.
وأيضاً: فإن العلة وضعت للحكم تنبيهاً على غيره من الأحكام، كالنهي عن الأدنى، تنبيهاً على المنع من الأعلى، نحو قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لهُمَا أف) (3) ، كان فيه تنبيه على المنع من الضرب، ونحو ما يجب أن يكون ذكر العلة ها هنا تنبيهاً على نظيره قبل ورود التعبد بالقياس وبعده، كما قلنا ذلك
__________
(1) في الأصل: (ذكروه) .
(2) في الأصل: (فائدة) .
(3) الآية (23) من سورة الإسراء.(4/1376)
في لفظ التنبيه.
فإن قيل: لا نسلم أن العلة وضعت للتنبيه على غيرها من الأحكام.
قيل: لا خلاف أنها بعد ورود التعبد بالقياس [تكون] تنبيهاً على غيرها، فيجب أن تكون قبله تنبيهاً كالتنبيه باللفظ.
فإن قيل: إنما كان النهي عن التأفيف موجباً لما ذكرت؛ لأن هذه اللفظة موضوعة في اللغة لذلك، فليست هذه حال التعليل؛ لأن تعليل الحكم غير موضوع في اللغة يحمل غيره عليه.
قيل: بل هو موضوع يحمل غيره عليه بدليل بعد ورود التعبد بالقياس.
واحتج [211/أ] المخالف:
بأن هذه الشرعيات، إنما حَسُن التعبد بها، لما فيه من المصلحة الداعية، وقد بيَّن الله تعالى ونبَّه على ذلك بقوله: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) . فإذا كان كذلك، وكان ما يدعو إلى فعل الشىء قد لا يدعو إلى فعل أمثاله، بدلالة أن العاقل إذا أكل شيئاً لأنه حلو، لم يأكل جميع ما يشاركه في الحلاوة في تلك الساعة. فلا يمنع أيضاً أن يكون الحكم المنصوص عليه مصلحة للمكلف، ولا يكون ما شاركه في تلك العلة مصلحة له.
والجواب: أن حُسْن التعبد لا يقف عندنا على ما فيه وقد بيَّنا ذلك فيما تقدم.
وعلى أن العلة هاهنا موجودة ممن هو عالم بالمصالح، فوجب تقديمها لوجود المصلحة فيها.
واحتج: بأن مجرد الوصف لا يدل على شىء. ألا ترى أن الحلاوة كانت موجودة في السكَّر قبل (1) أن ينص على تحريمه، ولم تكن دلالة على التحريم.
__________
(1) في الأصل (مثل) .(4/1377)
فلما نص على تحريمه، وذكر العلة، فقد ذكر علة خاصة تقتضي ثبوت الحكم في الأصل المذكور وتعلقه به. وقد تكون العلة خاصة فيه، وقد تكون علة فيه وفي غيره، فلم يكفِ مجرد ذكرها في وجوب رد غيرها إليها، بل احتيج في ذلك إلى دليل.
والجواب: أن هذا باطل بجميع العلل الشرعية، فإن أوصافها كانت موجودة قبل التعبد بالقياس، ولا يتعلق بها حكم، وبعد التعبد بالقياس تعلق بها الحكم، كذلك هاهنا لما ورد النص بها وجب أن يتعلق الحكم بها وإن لم يتعلق بها قبل ذلك.
وقولهم: إن العلة قد تكون خاصة، فوجب التوقف حتى يدل الدليل على التعدي، فلا نسلمه؛ لأنه ليس عندنا علة مقصورة غير متعدية.
وهذا أصل، يأتي الكلام عليه إن شاء الله.
واحتج: بأنه لا يجوز أن يقول: حرمتُ السكَّر لحلاوته، وأحللتُ غيره مما (1) توجد فيه الحلاوة، فلا يكون ذلك تناقضاً. فلو كان النص على العلة يوجب أن يكون كل ما يوجد فيه مشاركاً، لما جاز أن ينص على ثبوت الحكم في بعض ما يوجد فيه العلة، وعلى ضده في بعضها، بل يكون ذلك ضرباً من المناقضة.
فلما جاز هذا، ثبت؛ لأن مجرد النص على العلة والحكم لا يوجب إلحاق الغير به إلا بدليل.
والجواب، أنا لا نسلِّم هذا، وهذا على أصلنا ظاهر. و (2) أن تخصيص العلة لا يجوز، وفي هذا تخصيص لها.
__________
(1) في الأصل (ما) .
(2) الواو هذه زائدة، وكان الأولى حذفها، وقد تركناها؛ لأن المؤلف يعبر بها كثيراً.(4/1378)
وفي الجملة يجوز أن تكون أحكام صاحب الشرع متناقضة (1) . فأما تعليله فلا يجوز أن يتناقض.
واحتج: بأن الاعتبار باللفظ دون [211/ب] المعنى. بدليل أنه لو حلف فقال: "والله لا أكلتُ السُّكر لأنه حلو"، لم يحنث بأكل ما عداه.
كذلك ألفاظ صاحب الشريعة.
والجواب: أن الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيره تجوز عليه المناقضة.
والثاني: أن صاحب الشريعة قد أمر بالقياس، فإذا نص على العلة وجب القياس عليها، وغيره لم يأمر بذلك. فلو قال لنا قائل: "قيسوا كلامي بعضه على بعض"، ثم قال: "لا أكلتُ السُّكَر لأنه حلو"، شَرَكَه فيه كل حلو.
مسألة
[العلة القاصرة]
العلة الشرعية إذا كانت مقصورة على موضع الوفاق لم تكن صحيحة وكان وجودها كعدمها (2) .
__________
(1) الحق أن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة بحال من الأحوال، وهو ما صرح به المؤلف في الجواب عن الدليل الآتي للمخالف، حيث قال: (إن صاحب الشريعة لا تجوز عليه المناقضة، وغيرُه تجوز عليه) فلعله سبقُ قلم. والله أعلم.
(2) راجع هذه السألة في: التمهيد (4/61) والواضح لابن عقيل (2/862) ، وروضة الناظر (2/315) والبلبل (152) والمسوَّدة ص (411) وهذا قول أكثر الحنابلة، ومنهم المؤلف.(4/1379)
وهو قول أصحاب أبي حنيفة (1) .
وقال أصحاب الشافعي: هي علة صحيحة كعلة الذهب والفضة (2) . العلة في تحريم التفاضل فهما عندهم كونها قيَم المتلفات فلا تتعدى (3) .
دليلنا:
أن المتفق على حكمه إنما يجب لأعيانه التي تقاس عليه؛ لأن
__________
= وذهب أبو الخطاب وابن قدامة والمجد إلى أنها صحيحة.
انظر: المراجع السابقة.
وكان الأولى أن يذكر المؤلف محل النزاع، فإن العلة القاصرة قسمان: منصوص عليها ومستنبطة، والخلاف إنما هو في المستنبطة، ولذلك قال أبو الخطاب في التمهيد: ( ... فقال أصحابنا -رضي الله عنهم- وأصحاب أبي حنيفة: هي باطلة إلا أن ينص عليها صاحب الشرع) .
وقال في المسوَّدة: ( ... فأما القاصرة المنصوصة فيجوز التعليل بها وفاقاً، ذكره أبو الخطاب) .
وذكر الآمدي في الاحكام (3/200) أن العلة القاصرة إذا كانت منصوصة أو مجمعاً عليها أنها صحيحة.
وذكر ابن السبكى في الإبهاج (3/154) أن الاتفاق في الحلة المنصوصة نقله جماعة، منهم القاضي أبو بكر.
ثم قال: (وأغربَ القاضي عبد الوهاب في الملخص، فحكى مذهباً ثالثاً: أنها لا تصح على الإطلاق فيه، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة ... ولم أر هذا القول في شىء مما وقفت عليه من كتب الأصول سوى هذا) .
(1) انظر أصول السرخسي (2/158) وتيسير التحرير (4/5) وفواتح الرحموت (2/276) وهو قول جمهورهم كما عبر به صاحب فواتح الرحموت.
(2) انظر: التبصرة ص (452) والبرهان (2/1080) ، وشفاء الغليل ص (537) ، والمستصفى (2/345) ، والمحصول (5/423) ، والإحكام للآمدي (3/200) والإبهاج (3/254) .
(3) في الأصل (يتعدا) بالمثناة التحتية.(4/1380)
الأصل قد استغنى بدخوله تحت الإِجماع عن التعليل. ألا ترى أن جميع الأحكام لو كانت مجْمعاً عليها، أو منصوصاً عليها لم يحتج مع ذلك إلى القياس.
فإذا كان التعليل بما لا يتعدى الأصل لا يفيد إلا ما أفاده النص أو الإِجماع وجب أن يكون وجوده وعدمه سواء.
وقد يُعبر عن هذا بعبارة أخرى، فيقال: الأصل معلوم من طريق القطع، فتعليله بما لا يتعدى لا يستفاد به معرفة الأصل؛ لامتناع أن يعلم بما طريقه غلبة الظن، الأمر الذي علم من جهة القطع، وصار كمن قاس القياس الشرعي في الأمور العقلية التي طريقها العلم، أو طلب أخبار آحاد، ليعلم بها ما علم من طريق القطع. وإذا بطل أن يعلم بها حكم الأصل، ولم يجز أن نعرف بها حكم فرع آخر، سقط اعتبارها.
فإن قيل: هذا يبطل بالعلة العقلية والعلة النصوص (1) عليها، فإنها صحيحة وإن كانت مقصورة واستغنى الأصل عنها، فإن العلة العقلية يجوز أن تكون مقصورة، وهو قوله: "لا تسلك طريقاً تهلك فيه إلا أن يكون لك فيه نفع في الآخرة، كالأمر بالمعروف"، والعامة نحو قوله في الظلم: "لا يجوز لكونه قبيحاً" فهذه عامة في كل قبيح.
وكذلك العلة المنصوص عليها، يجوز أن تكون مقصورة، وهو أن يقول الله تعالى أو رسوله: حرمت التفاضل في الدراهم والدنانير لأنها قِيَم [212/أ] الأشياء.
قيل: لا يبطل ما ذكرنا. وذلك أن العلة العقلية يستفاد الموجب بها منها.
وهذا المعنى يحصل بالمتعدية (2) وغيرها، فكان لطلب كل واحد من الأمرين
__________
(1) في الأصل: (المنصوصة) .
(2) في الأصل: (بالمتعدي) .(4/1381)
فائدة.
فأما الشرعيات فهي علامات، ومعلوم أنها ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل، وإنما علامتها السمع الوارد. فإذا لم يعلم منها فائدة كانت كعدمها.
أما العلة المنصوص عليها، فإنه يحمل الأمر فيها على أنها بيان لعلة المصلحة التي لأجلها أبيح أو حُظِر. وعِلَلُ المصالح لا تُعلم بالاستخراج، وإنما تُعلم بالتوقيف، وكلامنا في العلة التي تستخرج من عِلَل الأحكام، وليست بمتعدية.
وجواب آخر، وهو: أن قول أصحاب الشريعة يوجب هذا المعنى، فيحصل (1) بالمتعدية (2) وغيرها، تجرى مجرى العلة العقلية، وهذا المعنى معدوم في تعليلنا.
فإن قيل: فيها فائدة، وإن كانت مقصورة، و [هي] أن يُعلم معنى الحكم (3) ، وأنه ليس مما استأثر الله بعلمه.
قيل: لا فائدة في معرفة معنى الحكم إذا لم يتعد إلى غيره، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده النص. وقد بينَّا هذا في التي قبلها.
فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن نعلم علة المصلحة به.
قيل: علة المصالح لا طريق إلى معرفتها، إلا من جهة التوقيف. ألا ترى أن موسى عليه السلام، أنكر ما حصل من صاحبه من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الحائط الذي أراد أن ينقضَّ، ولم يعرف وجه المصلحة في ذلك حتى
وقف عليه، فلم يكن للتعليل حظ في معرفة علة المصلحة.
وعلى أن الأصل إنما يعلل لطلب علة الحكم دون علة المصلحة؛ لأن علة
__________
(1) في الأصل: (يحصل) بدون الفاء.
(2) في الأصل: (بالمتعدى) .
(3) في الأصل: (وإن لم يعلم معنى الحكم) وإثبات (لم) يغير المعنى فحذفناها ليستقيم الكلام.(4/1382)
الحكم فيما يكون عليه الأصل من الأوصاف، وعلة المصلحة إنما هي في المعبَّدين
دون الحكم، من حيث إن الله تعالى قد علم أنه لو لم يتعبد المكلف بما يتعبده به فَسَد، فكانت مصلحته في التعبد.
فإن قيل: فيه فائدة أخرى، وهو أن يمنع رد غير المنصوص عليه إلى المنصوص عليه، ويعلم أن الحكم مقصور عليه لا يتعداه.
ويفيد أن الحكم ثبت في المنصوص عليه لهذه العلة. فربما حدث ما يوجد فيه تلك العلة فيقاس عليه.
قيل: الشرع ورد في تعليل الأصول ليقاس عليها، لا للمنع من القياس، فلم يصح أن يقال: إن الفائدة منع رد غير المنصوص علمِه إلى المنصوص عليه.
فإن قيل: إنما يعلم أن العلة متعدية أو مقصورة بعد استنباطها، وثبوتها، وصحتها. وقبل [212/ب] ذلك لا يعلم. والخلاف في صحتها في الأصل.
وهل يجوز استنباطها وجعلها (1) علة، فكيف يجوز أن يستدل على جواز استنباطها وجعلها علة، ما لم تثبت بعد استنباطها وثبوتها؟!
قيل: يجوز أن يطلق على العلة الفساد قبل استنباطها، للعلم بفسادها من جهة الشرع، كما يطلق الصحة [عليها] قبل استنباطها، وكما يطلق عليها الفساد قبل استنباطها لعدم الوصف أو الأصل، كذلك هاهنا.
فإن قيل: لا يمتنع أن تكون علة صحيحة، وإن كانت [دالة] على ما دل عليه النص. كما أن خبر الواحد يكون دالاً على ما دل عليه نص القرآن، ويكون صحيحاً.
قيل: نص القرآن وخبر الواحد، كل واحد منهما يدل على نفس الحكم، وما اختلفنا فيه يدل على علته، وعلة الحكم من شأنها أن تكون متعدية مفيدة.
بدليل علة الربا، النص ورد على ستة أشياء، فلما طلبنا علةَ الحكم وجب تعدِّيها،
__________
(1) في الأصل (وجعله) .(4/1383)
فالمخالف يُعدِّيها إلى كل مطعوم. ونحن نُعديها إلى كل مكيل. كذلك هاهنا.
ولهذا رجحوا علتهم بأنها أعَمُّ فروعاً.
وجواب آخر، وهو: أن الآية مع الآية، والخبر مع الخبر، كل واحد منهما دليل مقطوع عليه، بدليل أنه لا يسقط أحد الأجناس. فجاز أن يكون كل واحد منهما دليلاً مع الآخر. والقياس مع الخبر بخلاف ذلك؛ لأنه غير مقطوع عليه؛ لأنه يسقط مع الخبر، فلم يكن حجة معه.
يبين صحة هذا: أنه لو أقر، ثم أقر، ثبت الحق بهما جميعاً، إلا أنهما سواء في المدعي (1) ، والبينة لم تسمع؛ لأن الاقرار مقطوع به، والبينة غلبة الظن، كذلك هاهنا.
واحتج المخالف:
بأن هذه أمارة شرعية، فجاز أن تكون عامة وخاصة، كالنص، يكون عاماً
كقوله: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، ويكون خاصاً كقوله: "اقتلوا المرتد".
والجواب: أنه إنما كان حجة في العموم والخصوص؛ لأنه يفيد في الموضعين جميعاً إثبات الحكم في الموضوع المنصوص عليه. وليس كذلك في مسألتنا، فإنها تفيد في العموم، ولا تفيد في الخصوص من الوجه الذى بينَّا.
واحتج: بأن كل معنى يجوز أن يكون منطوقاً به، جاز أن يكون مستنبطاً كالعلة المتعدية.
وبيانه: أن صاحب الشرع لو نص على العلة المقصورة جاز، كذلك المستنبطة. والجواب عن العلة المنصوص عليها ما ذكرنا، وهو أنها أفادت علة المصلحة، وذلك لا يعلم بالاستخراج، وإنما يعلم بالتوقيف.
وكلامنا في العلل التي تستخرج من الأحكام. [213/أ] .
__________
(1) يعني: أن الإقرارين سواء في إثبات المدعي به.(4/1384)
واحتج: بأن العلة الشرعية أوسع من العقلية؛ لأن الشرعية يوجد الحكم بوجودها وليس من شرطها أن يعدم بعدمها. والعقلية تحتاج أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها. فلما ثبت أن العلة العقلية يجوز أن تكون متعدية، وتكون مقصورة، فالشرعية أولى.
والجواب عنه تقدم، وهو أن العلة العقلية يستفاد الحكم الموجب بها منها.
وهذا يحصل بالمتعدي منها وغيره.
والشرعيات علامات، والمقصورة ليست بعلامة لمعرفة حكم الأصل. وإنما علامتها السمع، فإذا لم تُعلم بها فائدة كانت كعدمها.
واحتج: بأن القُيَّاس (1) اختلفوا في الدليل على صحة العلة:
فقال بعضهم: سلامتها على الأصول.
وقال بعضهم: التأثير والمُلاءَمة.
وكل دليل ذكرته طائفة، فهو موجود في العلة المقصورة.
والجواب: أن أحد الأدلة على صحتها، كونها مفيدة، وذلك معدوم هاهنا (2) .
__________
(1) يعنى القائلين بحجية القياس.
(2) ليس ذلك معدوماً، بل هناك فوائد منها:
أ) معرفة هذه العلة القاصرة في حد ذاتها فائدة؛ لأن العلم بالشىء خير من الجهل به.
ب) أن النفس البشرية تتوق إلى معرفة علل الاشياء.
ج) أن يمتنع من القياس عليها إذا عرف أنها قاصرة.
د) أن نَظَرَنا الآن إليها جعلها قاصرة، وربما حدث جنس آخر تتوفر فيه هذه العلة، فتكون متعدية والحالة هذه.
انظر: التمهيد لأبى الخطاب (4/64) والاحكام للآمدي (3/201) .
وقد تبنَّى أبو الخطاب القول بصحتها، مخالفاً شيخه أبا يعلى، ولذلك تعقبه في أكثر الأدلة وأجاب عنها.(4/1385)
مسألة
[تخصيص العلة الشرعية]
لا يجوز تخصيص العلة الشرعية (1) . وتخصيصُها نقضُها (2) .
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسان "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله. فأما إذا أشبهه في حال، وخالفه في حال، فهذا خطأ" (3) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف ص (71) ، والتمهيد لأبي الخطاب (4/69) وروضة الناظر (2/321) ، والمسوَّدة ص (412،410) .
(2) هذا الذى جزم به المؤلف هنا، ولكن في المسائل الأصولية من كتاب الروايتين ص (71) ذكر رأيين للحنابلة، الجواز وعدمه، ثم قال:
(إن القول بالجواز هو المذهب الصحيح، ومسائل أصحابنا تدل عليه) .
وفي المسوَّدة ص (413) : (قلتُ: وقد ذكر القاضي في مقدمة المجرد أن القول بجواز تخصيصها هو ظاهر كلام أحمد في كثير من المواضيع.
قلت: فصارت على روايتين منصوصتين، ولفظه: هي صحيحة حجة فيما عدا المخصوص) .
وكان الأولى أن يحرر المؤلف محل النزاع؛
لأن العلة قسمان: منصوصة، ومستنبطة.
وقد حرر محل النزاع أبو الخطاب في التمهيد، فذكر أن العلة المستنبطة فيها قولان، وبكل واحد قال فريق من الحنابلة، وأن كلام الإمام أحمد يحتمل القولين.
ثم ذكر المنصوصة، وقال: من يقول بتخصيص العلة يقول بتخصيصها، ومن منع من تخصيص المستنبطة اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بالجواز، وقال بعضهم بعدمه.
وسيأتي في استدلال المؤلف ومناقشته ما يشير إلى ذلك.
(3) هذه الرواية ترددت كثيراً، وقد سبق توثيقها.(4/1386)
وهذا الكلام يمنع تخصيصها عنده.
وذكر أبو إسحاق (1) في جزء وقع إلي من شرح الخِرَقي فقال: أصحابنا على وجهين:
منهم من يرى تخصيص العلة.
ومنهم من لا يرى ذلك (2) .
وقد ذكر أبو الحسن الجزري (3) في جزء فيه مسائل من الأصول قال: لا يجوز تخصيصها.
وهو قول الشافعي (4) ، وجماعة من المتكلمين (5) .
__________
(1) هو: ابن شاقلا، وقد سبقت ترجمته.
(2) وهو ما صرح به أبو الخطاب في التمهيد (4/69-70) وقال: (وكلام أحمد - رضي الله عنه - يحتمل القولين معاً) .
وذكر ذلك في المسودة ص (412) ، والروضة (2/321) .
والقول بعدم الجواز اختاره القاضي هنا، ونسبه إلى شيخه أبي عبد الله الحسن بن حامد في المسائل الأصولية ص (71) .
ونسبه هنا وفي المسوَّدة إلى أبي الحسن الخزري.
والقول بالجواز اختاره أبي الخطاب في التمهيد، وانتصر له.
(3) هو: عبد العزيز بن أحمد بن الحسن أبو الحسن الخرزي، أو الجزري وقد سبقت ترجمته ص (1000) .
(4) هكذا جاءت النسبة في جمع الجوامع (2/295) .
والآمدي في الاحكام (3/202) ذكرها منسوبة إلى الإِمام الشافعي بصيغة "قيل".
ولكن الغزالي في شفاء الغليل ص (460) صرح بأنه لم يُنْقل عن أبي حنيفة أو الشافعي تصريح بجواز التخصيص أو منعه.
(5) انظر: التبصرة ص (466) والمعتمد (2/822) ، والمحصول (5/323) ، والإحكام للآمدي الموضع السابق، والإبهاج (3/93) .(4/1387)
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز تخصيصها (1) .
وحكي ذلك عن مالك (2) .
وقال أحمد -رحمه الله- في القياس: يقتضي أن لا يجوز شَرْي أرض السواد؛ لأنه لا يجوز بيعها (3) ليس بموجب لتخصيص العلة، لأن تخصيص العلة ما مَنَع من جريانها في حكم خاص.
وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر.
دليلنا:
أن هذه علة يجب وجود الحكم بوجودها. فوجب أن يكون تخصيصها
__________
(1) الظاهر من كلام المؤلف أن أصحاب أبي حنيفة يقولون كلهم بالجواز، ولكن صاحب كشف الأسرار ذكر أن الحنفية قسمان في هذه المسألة، حيث قال (4/1152) : (واختلفوا في تخصيص العلة، فقال القاضي الإمام أبو زيد والشيخ أبو الحسن الكرخي، وأبو بكر الرازي وأكثر أصحابنا العراقيين: إن تخصيص العلة المستنبطة جائز ...
وذهب مشايخ ديارنا قديماً وحديثاً إلى أنه لا يجوز ...
هذا في العلة المستنبطة.
فأما في العلة المنصوصة فاتفق القائلون بالجوار في المستنبطة على الجواز فيها. ومن لم يجوز التخصيص في المستنبطة فأكثرهم جوزه في المنصوصة، وبعضهم منعه في المنصوصة أيضاً) .
وذكر في مسلم الثبوت (2/277) الرأيين عن الحنفية وأن القول بالجواز هو المختار، وقال به الأكثر منهم.
وانظر الفصول في الأصول (144) .
(2) انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي المالكى ص (400) ، فقد صرح بأن القول بالجواز هو المذهب المشهور.
(3) في الأصل (بيعه) والضمير عائد على مؤنث.(4/1388)
نقضاً لها، قياساً على العلة العقلية. مثل الحركة والسكون، والقدرة والعجز والسواد والبياض، وغير ذلك مما هو علة في العقل للحكم الذي موجبه المحل الذي توجد فيه، فإن تخصيصها [213/ب] يكون نقضاً لها.
كذلك العلة الشرعية.
فإن قيل: العلة العقلية موجبة لما توجبه بنفسها. ألا ترى أنه لا يجوز وجودها في وقت من الأوقات غير موجبة لما توجبه. والشرعية أمارة للحكم بدلالة وجودها قبل الشرع، من غير أن يتعلق بها حكم.
قالوا: يبين صحة هذا: أنه يجوز أن ينص الله تعالى على أن العلة الشرعية هي علة للحكم في موضع دون موضع، ولا يجوز أن ينص على أن العلة العقلية [هي علة] لما توجبه في بعض المواضع دون بعض.
قيل: الشرعية بعد جعلها علة، قد صارت بمنزلة العقلية في اقتضائها للحكم وإيجابها له، ووجوب وجوده بوجودها، وكونها موجبة في زمان دون زمان لا يدل على كونها علة في مكان دون مكان؛ لأنه يجوز أن لا تكون علة ثم تصير (1) علة، فلا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون علة في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تخص ذلك الموضع الذي هي علة فيه، فبان الفرق بين الزمانين والمكانين.
وقد قيل في جواب هذا: إن العلة العقلية سبب كونها علة العقلُ، وذلك السبب يوجد على الاتصال في جميع الأوقات، فلا يخرج عن كونها علة مع وجود سببها.
والعلة الشرعية سببها الشرع. وذلك السبب يختص ببعض الأوقات دون بعض فكانت علة في بعض الأزمنة دون بعض.
__________
(1) في الأصل: (يصير) بالمثناة التحتية فيهما.(4/1389)
ونحن إنما اعتبرنا إحداهما بالأخرى، مع وجود سببها، وهما متساويان في هذه الحالة، وإن اختلفا في غيرها.
واعترض المخالف على هذا وقال: العلل العقلية لم تصر عللاً بالعقل، وإنما هي علل بأنفسها.
ألا ترى أنها قد كانت عللاً، وإن لم يكن هناك ذو عقل.
وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يصح وجود العلة العقلية قبل وجود العقل، لأنها به صارت عامة. وإنما يصح وجودها مع عدم ذي عقل؛ لأن ذلك ليس بعلة لها، وإنما علتها (1) العقل، وهو موجود.
فإن قيل: العلل الشرعية، لما لم تكن موجبة لهذه الأحكام قبل ورود الشرع لم يجز أن يرد الشرع بكونها موجبة. والعلل العقلية لما كانت موجبة لم يجز أن يرد الشرع بكونها غير موجبة.
قيل: لما كانت هذه العلل قبل ورود الشرع غير أمارات للأحكام، ثم لم يمتنع أن يرد الشرع بكونها أمارات [214/أ] لم يمتنع أيضاً أن تكون غير موجبة قبل الشرع ثم يرد الشرع بكونها موجبة لما تعلق بها من الأحكام.
وقد قيل: إن القول بتخصيص العلة يقتضي سد باب الاستدلال على صحة العلة. فإنه لا تثبت العلة إلا بأمارة تدل على صحتها فإن وجد الحكم لوجودها، دلت الأمارة على صحتها. وإن لم يوجد الحكم لوجودها لم تكن تلك الأمارة دلالة على صحتها، فتكون علة تارة، ولا تكون علة أخرى، وتكون بعض العلة، فيجب ضم وصف آخر إليها حتى لا تنتقض.
فثبت أنها لم تكن علة مع عدم الوصف الزائد.
وقد قيل في المسألة: إن تخصيص العلة يؤدي إلى تكافئ الأدلة؛ لأن من
__________
(1) في الأصل: (علبها) بالموحدة التحتية، وهو خطأ.(4/1390)
قال: يحل شرب النبيذ، لأنه مائع يشتهى (1) شربه، فوجب أن يكون حلالاً، كالماء وسائر الأشربة، وقال: قام الدليل في الخمر فخصصها، لم ينفصل ممن قال: إنه مائع يشتهى (2) شربه فوجب أن يكون حراماً كالخمر.
وقد قام الدليل على الماء وسائر الأشربة فخصصها.
وهذه الطريقة أصح، إذا لم يكن المعلِّل دل على صحة علته.
فأما إذا دل على صحة علته بالتأثير لم يصبح القلب؛ لأن التأثير لا يوجب العلة في الحكمين جميعاً، ولا يجوز أن يؤثر إلا في أحدهما.
وقيل أيضاً: بأنه لو جاز تخصيص العلة لم يوجد في شىء من العلل مناقضة؛ لأن كل واحد من أوصاف علته مع ارتفاع حكمها يمكنه أن يخصصها.
ولا يلزم النقض أبداً، إذ في اتفاقنا على أن من العلل الشرعية ما يتوجه عليها النقض دليلٌ على امتناع جواز تخصيص العلة.
وهذا لا يلزم المخالف؛ لأنه يقول: جواز تخصيص العلة بشرائط وهى:
أن يكون مدلولاً على صحتها في الأصل.
ولا تكون مدعاة.
وأن يكون الموضع الذي خص العلة فيه من المواضع التي دلت الدلالة على تخصيص هذه العلة منها.
ومتى أخل المستدل بشىء من هذه الشرائط، ثم أوجد العلة بجميع أوصافها مع عدم الحكم، كان دليلاً على نقضها (3) .
ولأنه لا يخلو إما أن يجب إجراء العلة في الفروع لنفسها أو بدليله. فإن
__________
(1) في الأصل: (شبيهاً) وما أثبتناه موافق لما في التمهيد (4/86) .
(2) في الأصل: (ـ ـ ـ ها) بدون إعجام، ووما أثبتناه موافق لما في التمهيد الموضع السابق.
(3) في الأصل: (انقضائها) .(4/1391)
وجب إجراء الحكم بها لنفسها، لم يجز تخصيصها، لأن نفسها موجودة فيما امتنعت من الحكم بها فيه.
وإن احتاج إلى دليل في تعليق الحكم بها في كل فرع استغنى عن العلة، وصار الدليل على الحكم في كل فرع دليلاً على الحكم في العلة.
واحتج [214/ب] المخالف:
بقوله تعالى: (إنَّ لَهُ أباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أحَدَنَا مَكَانَهُ) (1) .
قالوا: وكيف يأخذ أحدهم مكانه، وأبوه أيضاً شيخ كبير، لولا جواز القول بتخصيص العلة.
والجواب: أن مضمونه أن أباه يخاف عليه؛ لأنه مأخوذ في جناية، وهو إذا أخذ أخوه لم يكن خائفاً (2) .
واحتج: بأن العلل الشرعية أمارة على الأحكام، وليست بموجبة لها. ألا ترى أنها كانت موجودة قبل الشرع غير موجبة.
وإذا جاز أن تكون أمارة في حال دون حال، جاز أن تكون أمارة في موضع دون موضع.
والجواب عنه تقدم، وهو أنه يجوز أن لا تكون علة، وتصير علة.
ولا يجوز أن تكون علة في مكان ولا تكون في مثله؛ لأن وجودها مع زوال الحكم يدل على أنه نقض للعلة، وأنها مقيدة بصفة زائدة تختص ذلك الموضع الذي هي علة (3) فيه. فبان الفرق بين الزمانين والمكانين.
واحتج: بأن هذه العلل، لما كانت أمارات الأحكام، وجب أن يجوز
__________
(1) آية (78) من سورة يوسف.
(2) في الأصل: (خائنا) .
(3) في الأصل: (علته) .(4/1392)
تخصيصها، كما يجوز في أسماء العموم. لما كانت الأسماء أمارات لما علق بها من الأحكام جاز تخصيصها.
يبين صحة هذا: أن العموم في الأسماء آكد حالاً وأعلا مرتبة من العلة؛ لأن رد العموم يوجب التكفير، ورد العلة المقتضية لا يوجب ذلك.
فإذا جاز تخصيص العموم، فلأنْ يجوز تخصيص العلة التي هي دونه في الرتبة أولى.
والجواب: أن تخصيصه لا يُسقط دلالتَه، ولا يُسقط شرطه؛ لأنه إنما كان دليلاً على الحكم لكونه قولاً لمن تجب طاعته، فإذا خص منه شىء كان ما يتناوله اللفظ مما عداه داخلاً في اللفظ. فوجب إثبات حكم اللفظ فيه، وليس كذلك في مسألتنا. فإنه إذا وجدناها مع عدم الحكم تبينا أنها ليست كمال العلة، وأن الحكم ليس بتابع لها وإنما هو تابع لها تبع زيادة صفة يجب إضافتها إليها.
واحتج: بأن العلة المنصوص عليها، وهي علة صاحب الشرع يجوز تخصيصها كذلك المستنبطة.
والجواب: أن العلة المنصوص عليها لا يجوز تخصيصها.
وإذا وجدناها مع عدم الحكم، تبينا أنها بعض العلة، وأن الله تعالى نص على بعض العلة، ووكل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم.
وإذا كان كذلك، لم يكن بين المنصوص عليها وبين المستنبطة فرق.
وقد قيل: يجب أن تكون منتقضة، ولا يقدح ذلك فيها؛ لأن الدليل على صحتها كونها منصوصاً [215/أ] عليها، وذلك موجود.
واحتج: بأنه يجوز أن يوجد الحكم بوجود العلة، ثم تزول هذه العلة والحكم باق بدليل آخر وعلة أخرى. فإذا صح أن يبقى الحكم ولا هذه العلة، صح أن توجد هذه العلة ولا حكم.
والجواب: أنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يمنع أن يجري، دليل صحة العلة(4/1393)
على معلولها. فلهذا صح أن يوجد الحكم، وليس كذلك هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري هاهنا؛ لأنا إذا وجدنا العلة ولا حكم، منع أن يجري دليل صحة العلة في معلولاتها. ولأنه إذا وجد الحكم ولا علة لم يفضِ إلى تكافؤ الأدلة، وإيجاب الحكم وضده بعلة واحدة في مسألتنا يفضي إلى ذلك، فبان الفرق بينهما.
فإن قيل: أليس قد قال أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد قيل: "كيف تشتري ممن لا يملك (1) ؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هو استحسان".
واحتج: بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعها (2) . وهذا يدل على تخصيص العلة.
قيل: تخصيص العلة ما يمنع من جريانها في حكم خاص.
وما ذكره أحمد -رحمه الله- إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر (3) .
ولأنهم قد يعدلون في الاستحسان عن قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيصاً (4) بدليل.
__________
(1) يعني كيف تقول بجواز شراء أرض السواد والبائع لا يملكها.
(2) وقد سبق الكلام على توثيق هذه الرواية عن أحمد، وتخريج الأثر في ترخيص الصحابة في شراء المصاحف ... ص (1182) .
(3) وقد تكلم الغزالي على تخصيص العلة كلاماً جيداً في كتابه شفاء الغليل ص (458) وابن السبكي في الإبهاج (3 /92) .
(4) في الأصل (تخصيص) .(4/1394)
فصل
[الطرد شرط في صحة العلة]
وهذا الكلام في الطرد وأنه شرط في صحة العلة (1) .
فأما العكس فليس بشرط في صحة العلة.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية ابن القاسم (2) ، وسندي: "رطل حديد برطلين، لا يجوز، قياساً على الذهب والفضة" (3) .
فقد اعتبر الطرد وإن لم ينعكس؛ لأن علتها ما لا يوزن، ومع هذا قد يجري فيه الربا في المكيلات.
وإنما كان كذلك؛ لأن العلة إذا صحت بما تقدم ذكره من لفظ صاحب
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/30) وروضة الناظر (2/321) ، والمسوَّدة ص (427) .
والطرد هو: (وجود الحكم لوجود العلة) .
أما العكس هنا فهو: (عدم الحكم لعدم العلة) .
انظر: الحدود للباجي (ص 74-75) والتعريفات للجرجاني باب الطاء ص (74) وباب العين ص (82) .
والقول باشتراط الاطراد هنا متفق مع ما اختاره المؤلف من أن تخصيص العلة نقض لها كما تقدم.
وفي اشراط الاطراد في العلة خلاف اقتصر المؤلف على قول واحد، واستدل له.
وينبغي أن يعلم أن هناك فرقاً بين اشتراط الاطراد في العلة، وبين القول بصحتها لأنها مطردة، فلا تلازم بين الأمرين.
انظر: التمهيد (4/36) وروضة الناظر (2/291) وسيأتي كلام المؤلف على هذا ص (1436) .
(2) هو: أحمد بن القاسم، وقد سبقت ترجمته.
(3) انظر في هذا: الروايتين والوجهين للمؤلف (1/318) والإنصاف (5/14) .(4/1395)
الشريعة، نصاً وظاهراً وتنبيهاً، ومن التأثير وشهادة الأصول، جاز أن تجتمع علتان في حكم، فتزول إحداهما، ويبقى الحكم ببقاء العلة الأخرى، كالمُحْرِمة إذا حاضت حرُم وطؤها لحيضها ولإحرامها، فإذا طهرت من حيضها واغتسلت (1) لم يحل وطؤها لبقاء إحرامها.
وقد تَخْلُفُ العلةُ العلة فيبقى الحكم بالعلة التي خلفتها، كالنكاح يزول وتخلفه العدة، فتمنعها العدة من عقد النكاح كما منعها النكاح.
وكذلك الرِّدة علة لإباحة الدم، والزنا مع [215/ب] الإحصان، فإذا اجتمعا تعلقت الإِباحة بهما، وإذا أسلم من الرِّدة لم تزُل الإِباحة للزنا.
فإذا كان كذلك، دل على أن ليس من شرط العلة العكس، هذا إذا كان التعليل لغير الجنس.
فأما إذا كان التعليل للجنس وجب أن تنعكس؛ لأن تعليل جنس الحكم يقتضي حصر الجنس، ويجري مجرى الحدود، فإذا لم ينعكس لم يكن حاصراً للجنس، ولم يكن علة له.
ألا ترى أنه إذا قال: الرِّدة علة لجنس إباحة الدم لم يصح؛ لأن الزنا مع الإِحصان يبيحُه، وقتل النفس بغير النفس يبيحُه. فلا تكون الردة علة لجنس إباحة الدم، لأنها لا توجب نوعين من الإِباحة اللذين يوجبهما الزنا والقتل.
ومتى كانت العلة للجنس أوجب جميع أنواع ذلك الجنس، فانعكست، ألا ترى إذا قلت: البلوغ والعقل علة لجنس التكليف انعكست.
__________
(1) في الأصل: (أو اغتسلت) ، والهمزة زائدة، ذلك أن الحائض إذا طهرت ولم تغتسل لا يباح في حقها غير صوم وطلاق.
انظر: شرح منتهى الإرادات (1/45) والروض المربع مع حاشية العنقري (1/108) .(4/1396)
مسألة
[القياس على المخصوص من جملة القياس]
المخصوص من جملة القياس يقاس عليه، ويقاس على غيره (1) .
أما القياس عليه، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية ابن منصور: "إذا نذر أن يذبح نفسه، يُفدي نفسه بذبح كبش" (2) .
فقاس من نَذَر ذبح نفسه على من نَذر ذبح ولده. وإن كان ذلك مخصوصاً من جملة القياس، وإنما ثبت بقول ابن عباس (3) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/444) وروضة الناظر (2/331) والمسوَّدة ص (399) .
وقد ألف شيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة بين فيها أنه لا يوجد حكم شرعي مخالف للقياس. قام بطبعها الشيخ محب الدين الخطيب.
وكذلك تكلم ابن القيم عن هذه المسألة في كتابه اعلام الموقعين (1/383) مترسماً خطى شيخه ابن تيمية.
(2) هذه رواية في المذهب، ومروية عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهناك رواية ثانية: أن عليه كفارة يمين، وهذه قاعدة في كل نذر محرم.
وهذه الرواية هي المذهب كما في حاشية المقنع (3/597) وهي منسوبة لابن عباس رضي الله عنهما.
وقد ذكر ابن قدامة في الكافي (4/419) : أن هناك روايتين، الأولى كما ذكرها المؤلف. والثانية: لا يجب عليه الكفارة؛ لأنه نذر معصية.
وفي الاختيارات لابن تيمية ص (331) إن قصد بذلك اليمين، فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشاً.
(3) سبق تخريج هذا الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
ويلاحظ: أن المخصوص من جملة القياس ثبتت خصوصيته بقول صحابي، هو ابن عباس، رضي الله عنهما.(4/1397)
وأما قياسه على غيره، فإن أحمد -رحمه الله- قال في رواية المروذى: "يجوز شَرْي أرض السواد، ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف اشتري ممن لا يملك؟! فقال: القياس: كما تقول، ولكن استحسان" (1) .
واحتج بأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّصوا في شَرْي المصاحف، وكَرِهوا بيعَها.
وهذا يشبه ذلك (2) .
فقد قاس مخصوصاً من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس.
وبهذا قال أصحاب الشافعي (3) .
وقال أصحاب أبي حنيفة: المخصوص من جملة القياس لا يقاس على غيره.
ولا يقاس غيره عليه، إلا أن يكون معللاً أو مجْمعاً على جواز القياس عليه (4) .
__________
(1) قوله هنا: (ولكن استحسان) يدل على أن الإمام أحمد يقول بالاستحسان، وهو هنا العدول عن قياس لقياس آخر.
(2) سبق ذكر هذه الرواية في أكثر من موضع.
(3) وما ذكر المؤلف هنا وجه عند الحنابلة.
وهناك وجه آخر ذكره أبو الخطاب في التمهيد (3/446) والمسوَّدة ص (400) وهو ما حكاه المؤلف عن أصحاب أبي حنيفة، كما سيأتي.
(4) هذا الرأي منسوب لأبي الحسن الكرخي، فإنه قال بجواز ذلك في ثلاث حالات: أن يرِد الخبر بكونه معللاً، أو كانت الأمة مجْمعة على تعليله، أو كان ذلك الحكم موافقاً لبعض الأصول، وإن كان مخالفاً لبعضها.
أما رأي عامة الحنفية -كما عبر صاحب كشف الأسرار- منهم القاضي أبو زيد والشيخان ومن تابعهم من المتأخرين فهو: أن الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه الأصول يجوز القياس عليه إذا كان له معنى يتعداه.
وهنالك رأي ثالث لبعض الحنفية. أنه لا يجوز القياس عليه.
وهناك رأي رابع لمحمد بن شجاع الثلجي الحنفي: (أن الحكم المخالف للقياس إن ثبت بدليل مقطوع به جاز القياس عليه وإلا فلا) . =(4/1398)
أما المعلَّل كقوله عليه السلام في الهر (1) : (إنَّها من الطَوَّافين عليكم والطوَّافات) (2) .
فقاسوا عليه كل ما وجدت فيه هذه العلة من ساكني البيوت، مثل الفأرة، والحية، ونحو ذلك.
__________
= انظر: أصول الجصاص ص (113) كشف الأسرار (3/1031-1032) وأصرل السرخسي (2/153) .
وبهذا يتبين أن نسبة هذا القول إلى أصحاب أبي حنيفة ليس على إطلاقه، وإنما هو قول أبي الحسن الكرخي منهم.
(1) هكذا في الأصل، والحديث وارد بلفظ (الهرة) .
والهر يطلق على الذكر والأنثى، وقد يدخلون الهاء على المؤنث، كما قاله ابن الأنباري.
انظر المصباح (2/985) مادة (هرر) .
(2) هذا جزء من حديث رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - مرفوعاً بلفظ (إنها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات) .
أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة (1/18) ، والترمذي في باب: ما جاء في سؤر الهرة (1/153) وقال: (حديث حسن صحيح) .
والنسائى في باب سؤر الهرة (1/48) وابن ماجه، في باب الوضوء من سؤر الهرة (1/131) والدارمي في باب الهرة إذا ولغت في الإناء (1/153) .
والدارقطني في باب: سؤر الهرة (1/70) والطحاوي في شرح معاني الآثار باب: سؤر الهرة (1/18) ، والإِمام مالك في الموطأ باب: الطهور للوضوء ص (40) وابن خزيمة في صحيحه (1/55) ، والحاكم في مستدركه، باب: أحكام سؤر الهرة (1/160) وقال: (هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، على أنهما على ما أصَّلاه في تركه، غير أنهما قد شهدا جميعاً لمالك بن أنس أنه الحكم في حديث المدنيين، وهذا الحديث مما صححه مالك، واحتج به في الموطأ) ووافق الذَّهبي الحاكم على تصحيحه.
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/296، 303، 309) .(4/1399)
وأما المجْمع على جواز القياس عليه، فمثل التحالف (1) في الإجارة عند الاختلاف على إثباته في التبايعات (2) ؛ لاتفاق الناس الذين أوجبوا التحالف (3) في البيع أن حكم الإجارة حكم البيع (4) .
وما عدا ذلك لا يجوز القياس عليه، ولا قياسه على غيره.
مثل إيجاب الوضوء من [216/أ] القهقهة في الصلاة، فلا تقاس عليه القهقهة في صلاة الجنازة، وفي سجود التلاوة؛ لأن الأثر ورد بإيجاب الوضوء من القهقهة في صلاة لها ركوع وسجود (5) .
__________
(1) في الأصل: (التخالف) بالخاء المعجمة، وهو خطأ بدليل ما بعده.
(2) في الأصل: (التباعات) وهو خطأ.
(3) في الأصل: (التخالف) بالخاء المعجمة، وهو خطأ بدليل السياق.
(4) الاختلاف في الإِجارة يكون في الأجرة أو المدة، فقياس الأصول: أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكن ترك هذا إلى قياس الإِجارة على البيع إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة.
هذا ما أفاده أبو الخطاب في التمهيد (3/555) .
ولأبي بكر الجصاص تفصيل ذكره في أصوله ص (122) .
وهذا المثال الذي ذكره المؤلف على المجْمع على جواز القياس عليه، ذكره صاحب كشف الأسرار (3/1031) مثالاً على الحالة الثالثة التي استثناها أبو الحسن الكرخي وهي: ما إذا كان ذلك الحكم موافقاً لبعض الأصول وإن كان مخالفاً لبعضها.
ولم يذكر على الحالة الثانية -وهي: ما إذا كانت الأمة مجمعة على التعليل- مثالاً.
وانظر في هذه المسألة: حاشية ابن عابدين (6/75) .
محل الشاهد من هذا الأثر هو: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله -صلى الله =(4/1400)
ومثل إسقاط الكفارة في استدعاء القيء، فلا يقاس عليه الأكل (1) .
ومثل جواز الوضوء بنبيذ التمر، فلا يقاس عليه غيره من الأنبذة للأثر الوارد (2) .
ومثل جواز البناء على الصلاة، إذا سبقه الحدث فيها (3) ، لا يقاس عليه من احتلم في صلاته، وفكَّر فأمنى (4) ونحو ذلك.
__________
= عليه وسلم- من ضحك أن يعيد الصلاة، ويعيد الوضوء) .
وقد سبق تخريجه (3/895) .
وانظر: أصول السرخسي (2/153) فقد ذكر قريباً من نص المؤلف في هذه المسألة.
(1) من استدعى القيء عامداً فعليه القضاء ولا كفارة، وأما من أكل عامداً فعليه القضاء والكفارة عند الحنفية.
انظر: شرح فتح القدير (1/335، 338) وحاشية ابن عابدين (2/414) .
(2) الأثر الوارد في ذلك هو: ما رواه ابن مسعود -رضي عنه- قال: (سألني النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما في إداوتك؟ فقلت: نبيذ، فقال: تمرة طيبة وماء طهور. قال: فتوضأ منه) .
وقد سبق تخريجه (1/341) .
(3) القياس أنه لا يبني على الصلاة السابقة؛ لأن الحدث ينافي الصلاة، والمشي والانحراف يفسدان الصلاة، إلا أنه ترك هذا القياس، وقيل بالبناء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف، وليتوضأ، وليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم) .
انظر: أصول الجصاص ص (120) فإن المؤلف نقل هذا عنه، وانظر أيضاً شرح فتح القدير (1/377) .
(4) فإن عليه أن يغتسل، ولا يبني على صلاته، بل يستأنف صلاة جديدة حملاً على قياس الأصل.
انظر: أصول الجصاص ص (120) .(4/1401)
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبصَارِ) (1) . وهذا عام في كل موضع إلا ما خصه الدليل.
وأيضًا: فإنا إذا قسنا على الخصوص قسنا الخصوص على غيره. وحملنا النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام.
فإن مخالفنا يعترف بصحة القياس، وأنه يجب حمل النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على الكلام، ويَدَّعي أنه استحسن تركه لما هو أولى منه (2) .
وهذا غير صحيح من وجهين:
أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأوْلى، وإلا حكمُ القياس متوجه عليه، وهذا كما لو قال: إن القرآن يدل على كذا، ولكن تركته للسنَّة، فتكون حجة القرآن لازمة له ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن.
ولا يكفى في ذلك مجرد دعواه.
والثاني: أنه يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس، فلهذا تركَه.
والقياس إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً، ولم يكن له حكم كما لو عارضه نص كتاب أو سنة أو إجماع. ولما حكم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون عارضه أقوى منه ومانع من استعماله.
وأيضاً: فإن المخصوص من جملة العموم يقاس عليه، فالمخصوص من جملة قياس الأصول أوْلى أن يقاس عليه؛ لأن حكم العموم أقوى من قياس الأصول
__________
(1) آية (2) من سورة الحشر.
وذلك لوجود نصوص صحت عندهم، أو لمخالفته قياس الأصول.
انظر: أصول الجصاص الموضع السابق، وأصول السرخسي (2/153) .(4/1402)
له (1) ، ولهذا ترك القياس له (2)
وأيضاً: فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلاً بنفسه، فوجب القياس عليه، كسائر الأصول (3) . وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول بأوْلى من رد الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل واحد منهما في مقتضاه وإجراؤه على حكمه.
وأيضآ: فإن القياس يجري مجرى خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن، ثم ثبت أنه يصح أن يرد مخالفاً لقياس الأصول، كذلك القياس قبله.
وأيضاً: لما جاز القياس على الخصوص من جملة القياس إذا [216/ب] كان معللاً بتعليل صاحب الشرع جاز وإن لم يكن معللاً.
دليلُه: سائرُ الأصول.
فإن قيل: إذا ورد معللاً، فإن كل ما وجدت فيه تلك العلة يصير كالمنصوص عليه، كأن النبيَّ امر بالقياس عليه، ويصير [القياس] عليه أوْلى من
__________
(1) قوله: (له) لم أفهم لها معنى، فلعلها خطأ.
(2) قال أبو الخطاب في التمهيد (3/446) : (بل عموم الكتاب أقوى؛ لأنه مقطوع بطريقه، وقياس الأصول غير مقطوع عليه؛ لأنه مقيس على العموم بأمارة مظنونة، ثم العموم لا يمنع، فأوْلى أن لا يمنع المقيس عليه) .
وانظر: التبصرة ص (448) .
(3) هذا هو الفيصل في الموضوع، فإن أي حكم ورد به نص شرعي صحيح أصبح أصلاً بنفسه، فيقاس عليه، ولا يقال: إنه مخالف لقياس الأصول.
وهذا هو ما بينه ابن القيم في كتابه الجليل: اعلام الموقعين، ومن قبله شيخ الإِسلام ابن تيمية.
وانظر: اعلام الموقعين (2/311) .
على أن أبا بكر الجصاص قد أورد هذا الدليل على شكل اعتراض، وأجاب عنه، وذلك في أصوله ص (123) .(4/1403)
قياس الأصول، وليست هذه حال المخصوص العاري عن علة؛ لأنه لا يوجد فيه ما يبطل قياس الأصول.
قيل: لو كان الحكم عندك في المعلل لما ذكرت، لوجب أن تقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود علة الخمر (1) بقوله تعالى (إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُوقِعَ بِيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ) (2) .
وهذه العلة موجودة في النبيذ، ومع هذا فلم تقيسوا النبيذ على الخمر.
وكذلك كان يجب قياس الخل على النبيذ في جواز الوضوء -كما حُكي عن الأصم (3) جواز الوضوء بسائر المائعات- لوجود العلة في النبيذ بقوله عليه السلام: (ثمرةٌ طيبة، وماء طهور) (4) ، وهذه العلة موجودة في الخل.
وكذلك كان يجب أن تقيسوا الآكل والشارب في رمضان لمرض، على الناسي في إسقاط القضاء لوجود العلة فيه، وهو قوله: (اللهُ آطْعمكَ وسقَاكَ) (5) .
وهذا التعليل موجود في المريض. وليس لهم أن يقولوا: هذا التعليل لاسقاط
__________
(1) في الأصل: (العلة الخمر) و (ال) زائدة.
(2) آية (91) من سورة المائدة.
(3) هو: عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي، وقد سبقت ترجمته.
(4) إشارة إلى حديث النبيذ، وقد سبق تخريجه (1/341) .
(5) هذا الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه البخاري في كتاب الصيام، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (3/38) بلفظ: (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال إذا نسي فأكل وشرب، فليتمَّ صومَه، فإنما أطْعَمه الله وسقَاه) .
وأخرجه عنه مسلم في صحيحه في كتاب الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (2/89) .(4/1404)
المأثم، بل هو تعليل لإسقاط القضاء؛ لأنه روي في بعض الألفاظ (إنَّمَا هو رِزقٌ ساقَه اللهُ تَعَالى إليهِ، فلا قضاءَ عليه) رواه الدارقطنى (1) .
فجعل هذه علة في إسقاط القضاء، ومع هذا فلمِ يقيسوا عليه غيره (2) .
وكذلك أيضاً قاسوا المجامع ناسياً على الآكل ناسياً، وإن لم يكن الأصل معللاً، ولا مجْمعاً على قياسه عليه (3) ؛ لأن أصحابنا منعوا من ذلك، وقالوا في الآكل ناسياً: لا يفطر (4) ، وفي المجامع يفطر (5) ، فامتنع أن تكون العلة في
__________
(1) الحديث رواه الدارقطنى في كتاب الصيام (2/180) عن أبي هريرة بلفظ قريب من لفظ البخاري.
وأخرجه باللفظ الذي ذكره المؤلف منسوباً إليه (2/179) وقال فيه: مندل وعبد الله بن سعيد، وهما ضعيفان.
كما أخرجه بطرق أخرى وبألفاظ متقاربة. وكلها لا تخلو من مقال.
(2) القياس عندهم أن من أكل أو شرب ناسياً أنه يفطر، وعليه القضاء، ولكن ترك هذا القياس للحديث الصحيح الذي ذكره المؤلف.
انظر: فتح القدير (2/327) مع البداية والهداية.
والقول بأن العلة في الناسي موجودة في المريض فيه نظر ظاهر.
(3) الحنفية لم يقولوا بأن المجامع ناسياً يقاس على الآكل ناسياً، حتى يلزم عليهم ما ذكره المؤلف، بل قالوا ذلك ثابت بالنص لا بالقياس.
وقال البابرتي في شرحه على الهداية (2/327) مطبوع مع فتح القدير: (فإن قيل: سلمنا ذلك، لكن النص ورد في الأكل والشرب على خلاف القياس، فكيف تعدى إلى الجماع؟ أجاب بقوله [يعنى صاحب الهداية] : وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب ثبت في الوقاع للاستواء في الركنية يعني: ثبت بالدلالة لا بالقياس؛ لأن كلاً منهما نظير للآخر في كون الكف عن كل منهما ركناً في باب الصوم) .
وانظر: أصول الجصاص ص (115) وأصول السرخسي (2/153) .
(4) ولا قضاء عليه.
انظر: الإقناع (1/310) والمقنع وحاشيته (1/366) .
(5) المجامع في نهار رمضان عليه القضاء والكفارة إن كان عامداً. =(4/1405)
جواز القياس على المعلل ما ذكروه، وإنما العلة فيه ما ذكرنا.
وأيضاً: لما جاز القياس على ما ورد بخلاف القياس العقلي، وهو الطواف والسعي ورمي الجمار والوضوء (1) ، فإن العقل يخالف هذه، ومع هذا يقاس عليها.
فلأنْ يجوز القياس على ما ورد بخلاف القياس الشرعي أوْلى.
فإن قيل: الشرع لا يرد بما يمنع العقل منه، وإنما يرد بما يُجَوِّزه العقل.
فنظيره أن يرد الأثر بما لا تمنع منه الأصول، فيجوز القياس عليه.
قيل: قد ثبت أن الشرع قد ورد بما يمنع العقل منه فلا يصح هذا (2) .
فإن قيل: القياس الشرعي وخبر الواحد قد ثبت [217/أ] حكمهما في خلاف قياس العقل ولا يجوز ثبوت حكمهما (3) في خلاف قياس النص، فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يختلف حكم القياس العقلي والقياس الشرعي في باب جواز القياس على المخصوص من جملة أحدهما، وامتناع جواز ذلك في المخصوص من جملة الآخر.
__________
= وإن كان ناسياً ففيه روايتان:
إحداهما: عليه القضاء والكفارة، وهي ظاهر المذهب.
الثانية: عليه القضاء ولا كفارة.
انظر: كتاب الروايتين والوجهين للمؤلف (1/259) والإقناع (1/312) والمقنع وحاشيته (1/368) .
(1) فإن هذه الأمور مبنية على التعبد، فالعقل لا يدرك السر في التعبد بها، ولكن الواجب علينا التسليم والامتثال؛ لأنها صادرة ممن نقطع بحكمته وعلمه.
(2) هذا غير مسلم للمؤلف. وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً عظيماً في ذلك سماه: درء تعارض العقل والنقل، بين فيه كثيراً مما يظن أن فيه تعارضاً بين العقل والنقل بأسلوب واضح مبين.
وانظر: اعلام الموقعين (2/311) .
(3) في الأصل: (حكمها) والضمير عائد على مثنى.(4/1406)
قيل: لا نسلِّم هذا؛ لأنه قد ثبت الحكم بخبر الواحد في خلاف قياس النص، ولهذا حكمنا بخبر التَّصْرِية (1) والفَلَس (2) وغير ذلك مما يرده (3) أصحاب أبي حنيفة (4) .
وكذلك قياس النص لا يقدم على غيره من قياس، الاصول التي ليست بمنصوص على أصولها.
__________
(1) هذا إشارة إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تُصِرُّوا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردَّها وصاعاً من تمر) .
أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم (3/87) . وأخرجه مسلم في كتاب البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وتحريم التَصْرِية (3/1155) .
وانظر: اعلام الموقعين لابن القيم (2/311) فإنه تكلم على هذه المسألة فأجاد وأفاد.
(2) مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدركَ ماله عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحقُ به من غيره) .
أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض وأداء الديون، باب: إذا وجد ماله عند مفلس (3/147) .
وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب: من أدرك ما باعه عند المشترى وقد أفلس فله الرجوع فيه (3/1193) .
(3) في الأصل: (ما يرده) .
(4) انظر: أصول الجصاص ص (113) وما بعدها، فقد تكلم عن هذه المسألة باستفاضة.
وانظر أيضاً: أصول السرخسي (2/149) وما بعدها.(4/1407)
واحتج المخالف
بأن إثبات الشىء لا يصح مع وجود ما ينافيه، فلما كان القياس مانعاً مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه؛ لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه، فكان يخرج حينئذ من كونه مخصوصاً من جملة القياس.
والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلَّم أن هاهنا ما ينافيه؛ لأن المنافاة تكون بدليل خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل.
والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص، فأما قياس غيره فلا ينافيه، لأنه لا يسقط حكم النص، وعندهم لا يصح القياس عليه.
واحتج: بأن قياس الأصول أوْلى من قياس ما ورد به الأثر، وذلك لأن قياس ما ورد به الأثر يختلف فيه، وقياس الأصول متفق عليه، والمتفق عليه أوْلى من المختلف فيه (1) . ولهذا كان ما ثبت بخبر التواتر أوْلى مما ثبت بخبر الواحد. وما شهد له أصلان أوْلى مما شهد له أصل واحد، فلما كان قياس الأصول يشهد له جميع الأصول، وكان قياس ما ورد به الأثر لا يشهد له إلا أصل واحد، وهو الأثر، كان قياس الأصول أوْلى بالاعتبار من قياس ما ورد به الأثر.
والجواب: أن هذه المزيَّة موجودة في مقابلة خبر الواحد، ومع هذا فإنه مقدم على قياس الأصول.
وكذلك القياس الشرعي مقدم على مقتضى القياس العقلي، وإن كان للعقل مزيَّة.
ويفارق هذا خبر الواحد مع التواتر؛ لأن أحدهما مقطوع عليه.
__________
(1) انظر: أصول الجصاص (123) فإن هذا الدليل منقول منه بتصرف.(4/1408)
مسألة
يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال بالقياس (1) .
ويجوز قياسها على المواضع التي أجمع على ثبوت ذلك فيها.
وقد قال أحمد -رحمه الله- في رواية الميْموني، فيمن سرق من الذهب أقل من ربع دينار: "أقطعُه. قيل: ولم؟ قال: لأنه لو سرق عروضاً قوَّمتُها بالدراهم، كذلك إذا سرق ذهباً أقل من ربع دينار قوَّمتُه بالدراهم" (2) . فقد أثبت القطع بالقياس.
وكذلك نقل الميْموني عنه في النصراني إذا زنا وهو محصَن: "يرجم. قيل له: لم؟ قال: لأنه زانٍ بعد إحصانه" (3) .
وكذلك نقل جعفر بن محمد النَّسائي أبو محمد عن أحمد -رحمه الله- في يهودي مرَّ بمؤذن وهو [يؤذن] (4) فقال: كذبتَ، قال: "يقتل،
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (3/449) والواضح لابن عقيل (2/343) والروضة مع شرحها (2/343) والمسودة ص (398) .
(2) هذه الرواية ذكرها المؤلف في كتابه الروايتين والوجهين (2/331) . وكون الذهب ليس بأصل وأنه يقوم بالدراهم رواية في المذهب، والرواية الثانية: أن الذهب أصل، ومقداره ربع دينار فصاعداً، نص عليه في رواية صالح والمروذي، فإذا سرق من الذهب أقل من ربع دينار فلا يقطع، حتى لو ساوى ثلاثة دراهم فأكثر.
قال المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين الموضع السابق: (هي أصح) .
وهى المذهب كما ذكرها المرداوي في الانصاف (10/262) .
(3) ذكر المؤلف معنى هذه الرواية منقولة عن الميموني في كتابه الروايتين والوجهين (2/224) .
وراجع هذه المسألة في كتاب الإِنصاف (1/1720) والمغني (18/63) .
(4) الزيادة يقتضيها المقام، وهي كذلك في أحكام الذمة لابن القيم (2/797) .(4/1409)
لأنه شتم" (1) .
وهو قول أصحاب الشافعي (2) .
وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت ذلك بالقياس (3) .
دليلنا:
قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى اْلأبْصَارِ) (4) وهذا عام.
وحديث معاذ، لما قال: (أجتهد رأيي) (5) ، صوَّبه النبي عليه السلام، ولم يفرق بين هذه الأحكام وبين غيرها، فوجب حمله على عمومه.
ولأنه إجماع الصحابة، قال عمر: (إن الناس قد تتابعوا في شرب الخمر واستحقروا حدَّها، فما ترون فيه؟ فقال علي: إنه إذا شرب سكِر، وإذا سكِر هذى، وإذا هذى افترى، حَدُّه حد المفترين) .
فأجمعت الصحابة على إلحاقه بالقاذف قياساً (6) .
__________
(1) هذه الروايات الثلاث ذكرت في المسوَّدة ص (398) .
والرواية الأخيرة ذكرها ابن القيم في كتابه: أحكام أهل الذمة في الموضع السابق، كما ذكر كثيراً من الروايات عن الإمام أحمد فيما يتعلق بمن تكلم في الله من أهل الذمة، وأورد الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب قتل السَّباب وانتقاض عهده فأجاد وأفاد، رحمه الله تعالى.
(2) انظر: البرهان (2/895) والتبصرة ص (440) والإحكام للآمدي (4/54) .
(3) انظر في هذا: أصول الجصاص ص (113) وأصول السرخسي (2/157، 164) وتيسير التحرير (4/103) وفواتح الرحموت (2/317) .
(4) آية (2) من سورة الحشر.
(5) هذا جزء من حديث معاذ - رضي الله عنه - المشهور: (بم تحكم إن عرض لك قضاء) ؟ الحديث. وقد سبق تخريجه.
(6) حكاية الإجماع هذه إما أن يراد أنهم أجمعوا على استعمال القياس في الحدود، حيث قاس بعضهم حد الخمر على حد القذف، ولم ينكر عليهم استعمال القياس هنا. =(4/1410)
وأيضاً: فإنه حكم لم يثبت بما يوجب العلم ويقطع العذر، فجاز إثباته بالقياس.
أصله: سائر الأحكام.
ولأن ما جاز إثباته بخبر الواحد جاز إثباته بالقياس.
أصله: ما ذكرنا.
يبين صحة هذا: أن القياس بمنزلة خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بالاستدلال. ثم الحدود تثبت بخبر الواحد، كذلك القياس. ولأن ما جاز أن يثبت به غير هذه الأحكام جاز أن يثبت به هذه الأحكام.
أصله: الكتاب والسنة والإِجماع.
ولأن القياس [على] ما أثر على الأصول، فإذا وجد هذا المعنى في مسألتنا يجب أن يحكم بصحته.
واحتج المخالف:
بأن موجب القياس هو حصول الشبهة من الفرع، ومن بعض الأصول (1) .
وهذا العنى متى حصل في الوطء (2) سقط الحد. ألا ترى أن الوطء إذا حصل فيه الشبهة بالوطء المباح والشبهة (3) بالوطء الحرام، كوطء أحد الشريكين الجارية التي بينهما، صار ذلك موجباً لسقوط الحد فلما كان مقتضى القياس [218/أ] مؤثراً
__________
= وإما أن يراد أنهم أجمعوا على أن حد الخمر ثمانون قياساً على حد القذف. فالأول يمكن تسليمه. أما الثاني فلا، لأن الخلاف في حده ذائع وشائع.
انظر في اختلافهم: مراتب الاجماع ص (154) .
(1) عبر أبو الخطاب في التمهيد (3/453) عن هذا الدليل بعبارة أوضح حيث قال: (واحتج المخالف: بأن الحد لا يثبت مع الشبهة، والقياس هو: إلحاق الفرع بأشبه الأصلين، وذاك يثبت فيه الشبهة) .
(2) في الأصل: (الوطيه) .
(3) في الأصل: (والشبه) .(4/1411)
في سقوط الحد، لم يجز أن يكون له مدخل في إثبات الحدود.
والجواب: أن الشبهة التي أسقطت الحد هناك معدومة هاهنا؛ لأن هناك الشبهة في الفعل أو الفاعل أو المفعول فأسقطت الحد، وهذه الشبهة معدومة في مسألتنا، وأكثر ما فيه أنه دليل غير مقطوع عليه.
وهذا يبطل بإثباته بخبر الواحد؛ لأن ما فيه من تجويز (1) الخطأ والسهو والعمد الكذب، لا يصير شبهة في درء الحد وإسقاط الكفارة.
وكذلك يجوز إثباته بشهادة شاهدين، وما فيها من تجويز ذلك على الشاهدين، لا يكون شبهة في الإسقاط.
ولأنه إذا وجب إلحاقه بأحد الأصلين، لقوته ورجحانه، سقط حكم الأصل الآخر، وكان وجوده كعدمه.
واحتج: بأن الحد حق لله تعالى مقدر كالصلاة والزكاة ونحوها، فلما لم يجز إثبات أعداد الركعات والنصاب في الزكوات بالقياس، كذلك لا يجوز إثبات الحدود به (2) .
والجواب: أنا لو وجدنا معنى القياس جارياً في ذلك الموضع أثبتناه.
واحتج: بأن مقادير العقوبات على الأجرام لا تعلم إلا من طريق التوقيف، لأن العقوبات إنما تستحق على الأجرام بحسب ما يحصل بها من كفران النعمة.
ومعلوم أن مقادير نعم الله تعالى على عباده لا يعلمها (3) إلا الله تعالى، وكان الحد عقوبة مستحقة على الفعل، ولم يكن لنا سبيل إلى معرفة مقدار العقوبة على ذلك الفعل إلا من جهة التوقيف، لمْ يجز له إثبات الحد بالقياس (4) .
__________
(1) في الأصل: (تجوز) .
(2) انظر معنى هذا الدليل في أصول الجصاص ص (113) .
(3) في الأصل: (لا يعلما) .
(4) انظر معنى هذا الدليل في أصول الجصاص ص (114) .(4/1412)
والجواب: أن الحدود يثبت قدرها بالشرع لأجرام معلومة، فإذا وجدنا معنى ذلك الجرم موجوداً في غيره ألحقناه به، قياساً عليه؛ لأن المعنى قد ثبت بالدليل، وما دل عليه الدليل فهو بمنزلة التوقيف.
وعلى أنهم قد أثبتوا الحد بالقياس، وكذلك الكفارات، فقالوا: تجب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب قياساً على المجامع (1) .
وقالوا: الحد يجب على الرِّدْء (2) في المحاربة (3) قياساً على المباشِر على قتال المشركين (4) .
__________
(1) سبق في المسألة التي قبل هذه ذكر قول الحنفية بأن ذلك ليس من باب القياس، بل من باب دلالة النص.
وانظر: أصول الجصاص ص (115) .
(2) في الأصل (الرد) .
والرِّدْء: المُعِين.
(3) يعني أن المحاربين لو اجتمعوا فباشر أحدهم القتل، والباقي وقوف لم يشتركوا معه، فإن القتل يكون للجميع؛ لأنهم كانوا ردءً له.
وذلك قياساً على الغنيمة، فالرَّدْء في المعركة له ما للمباشر من الغنيمة.
وعبارة الكمال في شرح فتح القدير (5/427) : (قلنا: إنه حكم تعلَّق بالمحاربة، فيستوي فيه المباشر والردْء كالغنيمة) .
(4) عبارة المؤلف فيها غموض، فهو يريد أن يلزم الحنفية بأنهم قالوا بالقياس في الحدود فقالوا: إن الردْء في المحاربة يجب عليه الحد قياساً على الردْء في قتال المشركين فإنه يستحق الغنيمة، مثله مثل المباشر لقتال المشركين.
وانظر: التمهيد (3/452) .(4/1413)
مسألة
[قياس العكس]
الاستدلال بالشىء من طريق العكس صحيح، كالاستدلال به على وجه الطرد (1) .
وهو مثل استدلالنا على طهارة دم السمك بأنه يؤكل دمه، فدل ذلك على [218/ب] طهارته.
ألا ترى أن سائر الحيوانات التي كانت دماؤها نجسة لم تؤكل بدمائها.
ومثل استدلالنا على قراءة السورة غير مسنون في الأخريين، أنه لو كان من سنة القراءة فيها قراءة السورة لوجب أن يكون من سنته الجهر بها.
ألا ترى أن الأوليين لما كان من سنتها قراءة السورة كان من سنتها الجهر.
ومثل استدلالنا على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسنون في التشهد الأول، أنه لو كان من سنته الصلاة لكان من سنته الدعاء. ألا ترى أن التشهد الأخير، لما كان من سنته الصلاة، كان من سنته الدعاء.
وقال أصحاب الشافعي: الاستدلال بالعكس غير صحيح (2) .
دليلنا:
أن الأصل ليس بدليل على صحة العلة، وإنما (3) الدليل على صحتها الكتاب
__________
(1) راجع في هذه المسألة: التمهيد (3/358) ، والواضح (2/836) ، والمسوَّدة ص (425) .
(2) هذا العزو غير محرر، فالشافعية فريقان، منهم: من قال: لا يصح كما ذكر المؤلف.
ومنهم: من قال: يصح، قال الشيرازى في اللمع ص (57) : (وهو الأصح) يعنى: القول به. ودلَّل على ذلك بقوله: (لأنه قياس مدلول على صحته بشهادة الأصول) .
وانظر: شرح اللمع (2/819) فإن فيه كلاماً جيداً عن هذه المسألة.
(3) في الأصل: (ولا نما) وهو خطأ.(4/1414)
والسنة وشهادة الأصول والتأثير، ودليل العكس قد أثر في الأصول فوجب أن يكون صحيحاً.
ولأن عكسه يدل على صحته، يدل عليه العلة العقلية، لما اطردت وانعكست كان ذلك دليلاً على صحتها، كذلك هاهنا وجب أن يكون العكس دليلاً على صحته.
ولأنه لا خلاف أنه لو عارض في الأصل بعلة ولم يعكسها، وإنما عكس بغيرها، لم يلزم الكلام على علة الأصل؛ لأنهما (1) قد اتفقا على صحتها، وإنما يلزم الكلام على علة الفرع، فدل هذا على أن العكس حجة.
فصل
[التقسيم]
والاستدلال بالتقسيم صحيح، وهو أن يكون في المسألة قسمان أو أكثر فيدل المستدل على إبطال الجميع إلا واحداً منها ليحكم بصحته، ولا يطالب بالدلالة على صحته بأكثر مما ذكره (2) .
__________
(1) في الأصل: (لأنها) وهو خطأ، بدليل ما بعده.
(2) راجع في هذه المسألة: التمهيد (4/22) والواضح (3/1085) وروضة الناظر (2/281) والمسودة ص (426) والبلبل ص (161) وشرح الكوكب ص (308) .
واشترط أبو الخطاب: أن تجمع الأمة على تعليل الأصل، ثم يختلفون في العلة، فيبطل المستدل جميع ما قاله المخالفون إلا علة واحدة فتكون صحيحة.
وزاد ابن قدامة شرطين هما:
أن يكون سبرُه حاصراً لجميع ما يعلل به. =(4/1415)
مثاله: أن نقول: لا يخلو إما أن يكون تحريم التفاضل في البُر متعلقاً بكونه مكيلاً، أو مأكولاً، أو مقتاتاً. فلا يجوز أن يكون مأكولاً ولا مقتاتاً لوجود التفاضل فيهما والعقد صحيح، وهو إذا باع مَكوكاً بمَكوك (1) ، وأحدهما أخف من الآخر، فإن التفاضل في القوت والطعم موجود والعقد صحيح، ولو تساويا في ذلك وتفاضلا في الكيل لم يصح العقد.
فعلم أن التحريم متعلق بالكيل.
ومثله ما قلنا في الإِيلاء، لا يخلو إما أن يكون صريحاً في الطلاق أو كناية، فلا يجوز أن يكون صريحاً؛ لأنه لو كان كذلك، لوقع الطلاق به منجزاً حالاً كما يقع بصريحه (2) . ولا يجوز أن يكون كناية؛ لأنه (219/أ) لو كان كذلك لافتقر إلى النية، كسائر الكنايات.
فلما بطل القسمان، امتنع أن يكون طلاقاً.
ومثله ما نقوله في اللعان: لا يخلو إما أن يكون يميناً أو شهادة، فلا يجوز أن يكون شهادة؛ لأنه يصح من فاسق ومن أعمى، وشهادتهما لا تصح (3) .
لم يبق إلا أنه يمين؛ لأن أيمان هؤلاء تُسمع.
__________
= وأن يبطل أحد القسمين، إما ببيان بقاء الحكم بدون ما يحذفه من الأوصاف، وإما ببيان أن ما يحذفه من جنس ما عهد من الشارع عدم الالتفات إليه كالسواد والبياض.
قلت: وفي اشتراط الاجماع على تعليل الأصل نظر؛ لأنه يؤدي إلى إبطال هذا المسلك، أو تقليصه، ولو اكتفى باتفاق الخصمين على أن حكم الأصل معلل لكان أولى. والله أعلم.
(1) المَكوك: مكيال.
انظر المصباح المنير (2/892) مادة (مكك) .
(2) في الأصل (ـصره) بدون إعجام.
(3) الِإطلاق في عدم قبول شهادة الأعمى فيه نظر، فقد صرح في المغني (9/189) =(4/1416)
ومثله ما نقوله في تحريم الخمر: لا يخلو إما أن يكون الاسم أو الشدة المطربة.
ولا يجوز أن يكون للاسم؛ لأن العصير المطبوخ يحرم عندهم إذا حصلت فيه [الشدة] ، وإن لم يقع عليه اسم الخمر.
وكذلك نقيع التمر والزبيب محرمان عند مخالفنا، وإن (1) لم يتناولهما الاسم.
فعلم أن التحريم يُعلَّق لوجود الشدة المطربة، وهذا موجود في النبيذ.
ومثل هذا كثير.
والدلالة على صحة هذا: أنه لابد في الحادثة من حكم، فإذا بطل الجميع إلا واحداً، وجب أن يكون ما بقى صحيحاً؛ لأنه لا يجوز أن يبطل الكل.
وأما إذا دل الدليل على صحة كل واحد منها بطلت سائر الأقسام؛ لأن الحق واحد، وما عداه باطل، فإذا صح الواحد منها، وجب أن يحكم ببطلان الباقي.
فصل
[الاستدلال بالأوْلى]
والاستدلال بالأوْلى صحيح (2) ، إذا بين أن حكم الأصل في الفرع يجب أن يكون آكد.
__________
= أنه تقبل شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، وهو المذهب كما في الإنصاف (12/61) .
(1) الأصل: (وإذا لم) .
(2) هذا ما يسمى بمفهوم الموافقة، وقد عقد له المؤلف فصلاً (2/480) تحدث فيه عن حجيته، كما عقد له فصلاً آخر (3 /827) بين فيه أنه يَنسخ ويُنسخ به. وصرح بأن دلالته من باب النطق لا من باب القياس. =(4/1417)
مثاله: ما نقول في أن التيمم إذا لم يجز مع وجود الماء لفوت صلاة الجمعة فلأنْ لا يجوز لفوت صلاة الجنازة مع الإِمام أولى؛ لأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية.
وكذلك ما نقول في جريان القصاص بين الرجل والمرأة، وبين العبدين في الأطراف، لمَّا جرى بينهم في النفس مع عظم حرمتها وضمانها بالكفارة، فأولى أن يجري في الطرف مع خفة حرمته.
وكذلك نقول في قطع الأطراف بطرف، لمَّا قُتل الجماعة بالواحد مع عِظَم حرمة الأنفس، فأولى أن يفعل ذلك في الأطراف مع خفة حرمتها.
وقد احتج أحمد -رحمه الله- بهذا في رواية بكر بن محمد عن أبيه "لا يقتل الحر بالعبد" (1) .
__________
= وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا أعاد الكلام هنا في باب القياس؟
يجاب على ذلك بما في المسوَّدة ص (427) بأن الأوْلى في المعاني نظير الفحوى بما في الخطاب.
ويقول في المسوَّدة أيضاً: (التحقيق عندي: أن الأولوية الواضحة التي يستوي فيها العالم والعامي هي تنبيه الخطاب كما سبق، ولها حكم المنصوص كما سبق.
فأما الأولوية الخفية فكسائر الأقيسة، كما قال الشافعي في مسألة السلَم في الحال وكفارة العمد) .
ويدل عليه أيضاً قول المؤلف في آخر المسألة: الأن الأولى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع) .
(1) هذا هو المذهب.
ويرى الشيخ تقي الدين: أنه يقتل به.
انظر: الإنصاف (9/469) ومسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص (409) والمقنع مع حاشيته (3/346) والمغني (7/658) .
والمذهب جرى على أنه إذا لم يقتص منه في النفس فمن باب أولى لا يقتص منه =(4/1418)
وأصحاب أبي حنيفة يقولون: يقتل (1) ، ولا يجعلون بين الحر والعبد قصاصاً في الجراح، والنفس أعظم من الجراح (2) ، فهذا يدخل عليهم.
والدليل على صحة ذلك:
أن أحد أقسام الدلالة على صحة العلة التأثير وشهادة الأصول. وهذا المعنى موجود في الأوْلى؛ لأنه قد أثر.
ولأن الأوْلى فيه ضرب من التنبيه، والتنبيه حجة في الشرع. وقد دل على ذلك الكتاب في قوله: (فَلاَ تُقُل لَّهُمَا أف) (3) نبه على تحريم الضرب.
وكذلك قوله: (وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأمَنْهُ بِدِينَار لا يُؤَدهِ إِلَيْك) (4) تنبيه على الزيادة على ذلك.
__________
= في الطرف.
قال في المغني (7/659) : (ولا يُقطع طرفُ الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه) .
وقال أيضاً ص (703) : (وأما من لا يقتل بقتله، فلا يقتص منه فيما دون النفس له، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد، والأب مع ابنه؛ لأنه لا تؤخذ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه، ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن) .
وانظر: الإنصاف (10/14) .
(1) انظر في هذا: شرح فتح القدير (10/215) مستدلين بالعمومات، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين وبالدار، وهما يستويان فيهما.
(2) الحنفية يمنعون القصاص في الأطراف؛ لأن المساواة لابد من توافرها في الجزء المبان، ولامساواة بين الحر والعبد في الطرف، لأن الرق ثابت في أجزاء الجسم، وعليه فطرف العبد معيب بخلاف طرف الحر، ومعلوم أنه لا يقطع سليم بمعيب.
انظر شرح فتح القدير وشرح العناية وحاشية سعدي جلبي (10/215-217) .
(3) آية (22) من سورة الإِسراء.
(4) آية (75) من سورة آل عمران.(4/1419)
فصل
[الاستدلال بالقِرَان]
الاستدلال بالقِرَان يجوز (1) وهو: أن يذكر الله تعالى أشياء في لفظ واحد ويعطف بعضها على بعض.
نحو قوله تعالى: (أوجَاءَ أحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) (2) ، فيكون اللمس هاهنا يوجب الوضوء؛ لأنه عطف على المجيء من الغائط.
وقد استدل أحمد -رحمه الله- بالقرينة في باب التخصيص، فلولا أنها حجة له لم يخصص اللفظ بها، فقال في قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ) (3) : "المراد به العلم. قال: لأنه افتتح الخبر بالعلم فقال: (ألمْ تَرَ (4) أنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ، وختمه بالعلم فقال: (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيم) " (5) .
وقال في رواية حرب في قوله تعالى: (وَأشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ) (6) فإذا أمِنه فلا بأس أن لا يشهد. انظر إلى آخر الآية (فَإِنْ أمنَ بَعْضُكُم بَعْضًا) (7) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: هذا الكتاب (2/614) ، والتمهيد (4/169) والمسودة ص (140) وشرح الكوكب المنير (3/259) .
(2) آية (43) من سورة النساء.
(3) آية (7) من سورة المجادلة.
(4) في الأصل: (ألم تعلم) وهو خطأ.
(5) هذا من رواية المروذي كما ذكر المؤلف في الموضع السابق، وكما ذكر أبو الخطاب في التمهيد الموضع السابق.
(6) آية (282) من سورة البقرة.
(7) الإشهاد في البيع عند الحنابلة مستحب لهذه الآية، ولأدلة أخرى ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني (4/273) .(4/1420)
واختلف أصحاب الشافعي:
فذهب المُزَنى إلى جواز الاستدلال بذلك (1) .
وذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز الاستدلال به (2) .
دليلنا:
ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يُفَرَّقُ بين مجتَمِع) (3) .
وما روي عن أبي بكر في مانعي الزكاة: (لا أفرقُ بين ما جمعَ الله) (4) .
وقول ابن عباس لما استدل على وجوب العمرة بكونها قرينة الحج [في] كتاب الله، وتلا قوله: (وأتمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (3) .
__________
(1) نسب ذلك إليه الشيرازي في التبصرة ص (229) .
(2) وهو ما صدَّر به الشيرازي المسألة في كتابه التبصرة الموضع السابق.
وانظر: اللُّمع ص (24) والتمهيد للإسنوي ص (267) .
(3) سبق تخريج الحديث.
وأجاب الشيرازي عن وجه الاستدلال من هذا الحديث في كتابه التبصرة الموضع السابق: (أنه وارد في باب الزكاة، وأن النصاب المجتمع في ملك رجلين لا يفرق بينهما) .
قلت: وما قاله الشيرازي هو عين الصواب.
(4) أقرب الألفاظ إلى لفظ المؤلف -فيما رأيت- لفظ البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: (وَأمرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (9/138) ولفظ الشاهد فيه: (فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقصة عزمه - رضي الله عنه - على محاربة مانعي الزكاة، وحواره مع عمر - رضي الله عنه - في هذه المسألة معلومة مشهورة.
وأجاب الشيرازي في المرجع السابق عن وجه الاستدلال بقول أبي بكر - رضي الله عنه - بقوله: (إن أبا بكر - رضي الله عنه- أراد لا أفرق بين ما جمع الله في الايجاب بالأمر) .
(5) هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ذكره البخاري تعليقاً في أول =(4/1421)
ولأن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فيجب أن يُعطى الثاني حكم الأول.
ولأن صيغة الأمر تناولتهما.
واحتج المخالف:
بأن جمع لفظ صاحب الشريعة بينهما في حكم من الأحكام لا يدل على اجتماعهما في غيره. ألا ترى أن العلة إذا جمعت الأصل والفرع في حكم، لا يجب أن يجمع بينهما في غيره.
والجواب: أن العلة إذا جمعت بين الأصل والفرع قد أفادت حكماً شرعياً وهو إلحاق الفرع بالأصل في ذلك الحكم، يجب أن يقال مثل هذا في جميع لفظ صاحب الشريعة أن يفيد، وعندهم القرينة هاهنا ما أفادت (1) شيئاً بحال.
واحتج: بأنه يجوز اقتران المتضادين في الأمر والنهي، كقوله: (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُن مِنْ حَيْثُ) (2) وأمر بوطئهن ولم يكن واجباً، كما كان النهي واجباً.
__________
= باب العمرة (3/2) ولفظه: (إنها لقرينتها في كتاب الله، (وَاتِمُّوا الْحَج وَالْعَمْرَةَ) .
وأخرجه الإمام الشافعي في الأم في كتاب الحج، باب: هل تجب العمرة وجوب الحج؟ (2/132) .
وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الحج، باب: من قال بوجوب العمرة استدلالاً بقوله تعالى: (وأتِمُّوا الْحَج والْعُمْرَةَ) (4/351) .
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في التلخيص (2/227) وتغليق التعليق (3/118) .
وأخرجه ابن حجر في كتابه تغليق التعليق (3/117) بسنده إلى ابن عباس، رضي الله عنه.
(1) في الأصل (أفاد) .
(2) آية (222) من سورة البقرة.(4/1422)
وكذلك قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمِرِهِ إِذَا أثمَرَ وءَاتوُا حَقَهُ يَوْمَ حَصَاده) (1)
والأكل غير واجب [220/أ] .
والجواب: أنا لم نقرن (2) هاهنا لدليل منع من ذلك. (*)
__________
(1) آية (141) من سورة الأنعام.
(2) في الأصل: (نفرق) والصواب ما أثبتناه بدليل السياق.
______
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هكذا الصفحة في الكتاب الورقي، بنفس رقم الصفحة السابقة(4/1423)
باب العلة
الدال على صحة العلة (1) والاعتراض عليها
__________
(1) العلة أهم باب من أبواب القياس، ولذلك نجد علماء الأصول قد اهتموا بها قديماً وحديثاً.
ومن آخر من كتب فيها الدكتور عبد الحكيم بن عبد الرحمن السعدى العراقي بعنوان "مباحث العلة في القياس عند الأصوليين".
ويحسن بنا هنا أن نبين معناها في اللغة والاصطلاح باختصار، فنقول:
العلة في اللغة مأخوذة من (عل) تأتي لمعان، أشهرها ثلاثة:
الأول: تكرار الشىء أو تكريره، ومنه العَلَل، وهي الشربة الثانية، وسميت العلة بذلك -كما يقول ابن بدران في شرح الروضة (2/229) -: "لأن المجتهد يعاود النظر في استخراجها مرة بعد مرة".
الثاني: الضعف في الشىء، ومنه العلة للمرض. وسميت العلة بذلك -كما يقول ابن قدامة في روضته الموضع السابق-: "لأنها غيرت حال المحل أخذاً من علة المريض".
الثالث: السبب، تقول: هذا الشىء علة لهذا الشىء، أى سبب له، وسميت العلة بذلك، لأنها السبب في الحكم.
انظر: معجم مقاييس اللغة (4/12) واللسان (13/495) .
أما في الاصطلاح فهناك أقوال كثيرة، أشهرها أربعة:
الأول: أنها المعرف للحكم.
الثاني: أنها المؤثرة بذاتها في الحكم.
الثالث: أنها المؤثرة في الحكم بجعل الله لها ذلك.
الرابع: أنها الباعث على تشريع الحكم. =(5/1423)
والدلالة على صحتها (1) من وجوه خمسة:
أحدها:
لفظ صاحب [الشريعة] بنص (2) أو ظاهر أو تنبيه، فإنه يدل على صحة العلة كما يدل على صحة الحكم، فلا فرق بينهما.
وذلك ضربان: أحدهما الكتاب. والآخر السنة.
فأما الكتاب:
فمثل قوله تعالى في تحريم الخمر: (إنَّمَا يُرِيدُ الشيطَانُ أن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ والْمِّيْسَرِ وَيَصُدكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصلاَةِ فَهَلْ أنْتُم مُّنْتَهُونَ) (3) وهذا عبارة عن الإسكار الذي يُحدث هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى.
وقوله: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتأخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإثْماً مبِيناً وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأخذْنَ مِنْكُما ميثَاقاً غَلِيظاً) (4) . والإفضاء هاهنا الوطء. فدل على أنه يقرر المهر ويمنع من سقوط نصفه بالطلاق.
__________
= انظر: المستصفى (1/59) وشفاء الغليل ص (20) والمعتمد (2/704) الإحكام للآمدي (3/186) ونبراس العقول ص (216) ومباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص (70) .
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/9) ، والواضح (3/1082) وروضة الناظر مع شرحها (2/257) والمسودة ص (438) والبُلبل ص (157) وهذا ما يُعبر عنه: بمسالك إثبات العلة.
(2) في الأصل: (بنصه) .
(3) آية (91) من سورة المائدة.
(4) آية (20-21) من سورة النساء.(5/1424)
وقوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اْلأغْنِيَاءِ) (1) .
وَالدولَة: ما يتداوله الناس.
فقد جعل لهؤلاء المذكورين حقاً في الفيء كيلا يتداول المال الأغنياء دون الفقراء.
وقوله تعالى: (وَإذَا بَلَغَ الأطفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأذِنُوا) (2) وهذا يدل على تعلق الاستئذان بالبلوغ.
وقوله تعالى: (وَإذَا ضَرَبْتُمْ في اْلأَرْضِ فَلَيْس عَلَيْكُمْ جُنَاح أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ) (3) .
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أوْ رُكْبَاناً) (4) يدل على تعلق القصر بالضرب في الأرض، وصلاة الخوف بالخوف.
كما إذا قال لعبده: إذا فعلتَ كذا فأنت حر، ولزوجته: إذا كان كذا فأنت طالق، فيدل على تعلق الحرية والطلاق بالمعنى الذي ذكره (5) .
وكذلك قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطرُّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ) (6) يدل على تعلق إباحة الميتة بالضرورة.
وقوله تعالى: (والْمحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (7) والمراد
__________
(1) آية (7) من سورة الحشر.
(2) آية (59) من سورة النور.
(3) آية (101) من سورة النساء.
(4) آية (239) من سورة البقرة.
(5) في الأصل: (ذكروه) .
(6) آية (173) من سورة البقرة.
(7) آية (5) من سورة المائدة.(5/1425)
به: الحرائر.
وهذا يدل على اعتبار الحرية في الحلال وأن نكاح الأمة الكتابية لا يجوز؛ لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل للحكم بها، ودليل على تعلقه بها.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ في الْمَحِيضِ) (1) .
وقوله: [220/ب] وَالسَّارِقُ وَالسارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا) (2) .
و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ منْهُمَآ مِائَةَ جَلْدَةٍ) (3) .
لأن تخصيص صفة أو فعل في الحكم يدل على تعلقه بها.
ولهذا قال أحمد -رحمه الله-: "إنه يدل على أن ما عداه بخلافه".
وأما السنة:
فمثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أيَنْقُصُ الرطبُ إذا يَبِس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذاً) .
وقوله عليه السلام: (لا يحل دم امرىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتلُ نفس بغير حق) (4) .
__________
(1) آية (222) من سورة البقرة.
(2) آية (38) من سورة المائدة.
(3) آية (2) من سورة النور.
(4) هذا الحديث رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مرفوعاً، أخرجه عنه الشافعي كما في بدائع المنن في كتاب القتل والجنايات، باب: التغليظ في قتل المؤمن (2/242) ولفظه مثل لفظ المؤلف، غير أنه قال في آخره: (أو قتل نفس بغير نفس) .
وأخرجه الترمذي في كتاب الديات، باب: ما جاء لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث (4/19) .
وأخرجه ابن ماجه في الباب الأول من كتاب الحدود (2/847) .
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (1/61) .
وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الحدود، باب: لا يحل دم امرىء مسلم =(5/1426)
ونهيه عن بيع ما لم يُقبض، ورِبْح ما لم يُضمن (1) ، وعن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل (2) .
وقوله: (إنما هو دم عِرْق) .
وقوله: (إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوافات) .
وقوله: (لا تُمسوه طيباً؛ فإنه ييعثُ يوم القيامة ملبياً) (3) .
__________
= إلا بإحدى ثلاث (4/350) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) .
ومعنى الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (إن النَفسَ بِالنفْسِ) (9/6) .
وانظر: التلخيص الحبير (4/14) والمنتقي ص (616) .
(1) نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض وربح مالم يضمن قد سبق تخريجه.
وانظر: التلخيص الحبير (3/25) .
(2) هذا إشارة إلى حديث معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الطعام بالطعامِ، مثلاً بمثل) .
أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل (3/1214) .
(3) هذا الحديث رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفرعاً، أخرجه عنه البخاري في كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم؟ (2/92) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات (2/865) .
وأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب: المحرم يموت كيف يصنع به؟ (3/560) طبعة بتعليق الدعاس.
وأخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء في المحرم يموت في إحرامه (3/277) .
وأخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب غسل المحرم بالسدر إذا مات (5/195) .
وأخرجه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب: المحرم يموت (2/1030)
وأخرجه الدارمي في كتاب مناسك الحج، باب: في المحرم إذا مات ما يصنع به؟ (1/378) .(5/1427)
و (إنَّما نهيتكم من أجل الدَّافَة) يعني الجماعة الذين وفدوا (1) .
وقوله للمُحْرِمين (2) : (هل أشرتم؟ هل أعنتم؟) (3) .
وقول الرواي: سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد.
وزنا ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكتُ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اعتق رقبة) .
وهذا يدل على تعلق (4) الحكم بالسبب المذكور.
وقالت عائشة: عَتَقت بَرِيرة فخيّر [ها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان زوجها عبداً (5) . وذلك يدل على تعلق التخيير برقِّ الزوج.
ومثل ذلك في السنة أكثر.
__________
(1) هذه الجماعة وفدت على المدينة النبوية في أيام العيد يلتمسون ما يأكلون، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي من أجلهم، فلما وسع الله على المسلمين أجاز لهم الادخار.
(2) غير واضحة في الأصل، والتصويب من مراجع تخريج الحديث الآتية.
(3) هذا الحديث رواه أبو قتادة - رضي الله عنه - وفيه أن أبا قتادة لم يُحْرِم بعد، فرأى حمار وحش، فعقره، فجاء به إلى رفاقه وكانوا مُحرِمين، فأكلوا منه، ثم قالوا: نأكل من لحم صيد، ونحن محرمون؟ فسَألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (هل أشرَتم أو أعنتم؟ قالوا: لا، قال: كلوا) .
أخرجه مسلم عنه في كتاب الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم (2/854) .
وأخرجه عنه النَّسائي في كتاب مناسك الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال (5/186) .
وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده (5/302) .
(4) في الأصل: (نطق) .
(5) قد مضى تخريج حديث: أن بَرِيرة -رضي الله عنها- عتقت وكان زوجها عبداً أو أنه كان حراً (13/1027- 1028) .(5/1428)
وإذا ثبت التعليل بلفظ صاحب الشريعة، أو بلفظ الراوي عنه، فإنه ينظر فيه.
فإن كان مطرداً لم يجز أن يزاد فيه، وإن انتقض أضيف إليه وصف آخر يؤثر في ذلك الحكم، وعلم بانتقاضه أنه نصَّ على بعض العلة، وجعل الباقي إلى اجتهاد أهل العلم.
وهنا كما روى بعض المخالفين (1) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبَرِيرة: (ملكْتِ بُضْعَك فاختاري) (2) .
وهذا يدلُّ على أنها إذا اعتقت تحت الحر يكون لها الخيار.
فأجبنا عنه: بأن هذا اللفظ غير محفوظ (3) .
وقد استقصى الدارقطنى في [سننه] طرق هذا الحديث وألفاظه، ولم يذكر هذا اللفظ فيها (4) .
ولو ثبت لكان تقديره، ملكتِ بُضْعَك تحت العبد فاختاري. وهذا متزن.
وقد أضاف إليه بعضهم مصراعاً آخر فقال:
مَلَكتِ بُضْعَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَاري ... وَبَدِّلِي الدَّارَ إنْ احبَبْتِ بِالدَّارِ (5)
__________
(1) إشارة إلى الحنفية. انظر: هذا الكتاب (1/182) .
(2) هذا الحديث سبق تخريجه (1/182) .
ويرى المؤلف أن كونها عتقت بعض العلة، وتمام العلة: كونها: عتقت تحت عبد؛ لأنها لو عتقت تحت حر فلا خيار لها.
(3) وذلك (1/182) من هذا الكتاب.
(4) وذلك في سننه (3/288-294) .
وراجع في ذلك أيضاً: التعليق المغني على سنن الدارقطنى الموضع السابق، وفتح الباري (9/406) و (1/601) و (12/39) وتغليق التعليق (5/223) .
(5) لم أقف على قائله.(5/1429)
الثاني: إجماع الأمة
فهو حجة مقطوع بها. فما أجمعوا عليه من حكم أو علة وجب المصير إليه والعمل به.
ومثاله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي وهو غضبان) أجمعوا على أن النبي عليه السلام نهى عن ذلك؛ لأن الغضب [221/أ] يشغل قلبه، ويغير طبعه، ويمنعه من التوفير على النظر والاجتهاد، فكان كل داخل على قلب الإِنسان من حزن وفرح، وجوع وعطش، ونوم ومرض بمنزلة الغضب.
وقد يتفق الخصمان على علة، فيلزمهما حكماً في النظر لاعترافهما بصحة ما اتفقا عليه.
وقد يتفق الخصمان على أحد وصفى العلة، ويختلفان في الآخر، فيجب المصير إلى مادل المعلل عليه.
منها أن المعللين اتفقوا على اعتبار الجنس في تحريم التفاضل، واختلفوا في ضم الوصف الآخر إليه.
وقال بعض أهل العلم: البيع لا ينقل الملك في زمان الخيار؛ لأنه إيجاب غير لازم، إذا لم ينضم إليه القبول (1) .
__________
(1) وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، وبه قال مالك.
وقول للشافعى. والرواية الأولى عن الإمام أحمد: أن الملك ينتقل إلى المشتري في بيع الخيار مطلقاً.
أما الحنفية فيقولون: إن كان الخيار للبائع فالمبيع لا يخرج عن ملكه، والثمن يخرج عن ملك المشتري.
وإن كان الخيار للمشتري فالمبيع يخرج عن ملك البائع، والثمن لا يخرج عن ملكه.
وإن كان الخيار لهما فلا يخرج المبيع عن ملك البائع، ولا يخرج الثمن عن ملك المشتري.
انظر: المغني (3/571) وشرح فتح القدير والشروح التي معه (6/305) .(5/1430)
فيقول خصمه: المعنى في الأصل أن الإيجاب لم يصادفه القبول، وفي مسألتنا إيجاب صادفه القبول، فخالفه في الوصف الثاني، وقال: إيجاب غير لازم منتقض بمن اشترى عبداً على أنه صائغ فلم يكن صائغاً، فإن الإيجاب غير لازم، وقد انتقل الملك وكذلك إذا وجد به عيباً.
وقد يختلفان في وصف، فيزيده أحدهما وينقصه الآخر.
مثاله: إذا اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً لم يكن له رد أحدهما.
وقال أبو حنيفة: يجوز (1) .
وعلة من منع رد أحدهما: أن [فيه] تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه (2) ، فوجب أن لا يجوز قياساً على ما قبل القبض (3) .
فإن قال: المعنى في الأصل أنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير رضاه في الإِتمام (4) ، وليس كذلك في الفرع، فإنه تبعيض الصفقة على العاقد من غير
__________
(1) الحنفية تقول بالجواز بعد قبض العبدين خلافاً لزُفَر في المشهور عنه.
أما إذا قُبِض أحدهما ووُجِد بالآخر عيب قبل القبض فلا يجوز التفريق عندهم، فإما أن يأخذهما أو يدعهما.
انظر: شرح فتح القدير (6/386) .
(2) لما يلحقه من الضرر؛ لأن العادة في البيع أن يضم الجيد إلى الرديء لترويج الرديء، وهو المشهور عن زفر، كما في المصدر السابق (6/387) .
(3) وقياساً على خيار الشرط والرؤية.
انظر: المصدر السابق.
(4) يعني قبل قبضها، ففي رد أحد العبدين بعد قبلت أحدهما فقط تفريق للصفقة قبل تمامها؛ لأن تفريقها قبل القبض كتفريقها في العقد.
انظر: المصدر السابق.
وقد ذكر المؤلف هذه المسألة في كتابه: الروايتين والوجهين (1/337) ، وذكر أن فيها روايتين ...(5/1431)
رضاه في الفسخ، والتبعيض في الفسخ يجوز وفي الإِتمام لا يجوز.
فإذا كان كذلك وجب على الزائد أن يقيم عليه الدليل؛ لأن العلة إذا استقلت بما اتفقا عليه فلا تجوز الزيادة، إنما بحسب الحاجة إليها يجب أن يبينها.
الثالث: التأثير
وهو أن يوجد الحكم بوجود معنى ويعدم لعدمه، فيدل ذلك على أن الحكم متعلق به وتابع له، وهذا هو العكس.
وقد بينَّا فيما تقدم أنه ليس بشرط في صحة العلة، لكنه دليل على صحتها.
وقد صرح أحمد - رحمه الله - بهذا في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "إذا أقبل به وأدبر فكان مثله في كل أحواله، فهذا ليس في نفسي منه شىء".
فقد صرح بأن وجود الحكم بوجوده وعدمه بعدمه دليل واضح على صحة القياس.
وهذا مثل ما نقول: إن عصير العنب حلال، فإذا وجدت فيه الشدة المطرِبة حرُم، وإذا زالت الشدة حلَّ. فلو قدَّرنا عوْد الشدة لقدرنا عوْد التحريم.
وهذا يدل [221/ب] على [أن] صحة التحريم تابع للشدة المطربة، ولأن النبيذ حرام لوجود هذه العلة فيه.
وكذلك قوله: (فَإِذَا أحْصِنَّ فَإِنْ أتيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) (1) والعلة في نقصان أحدهما هو الرق، بدلالة أنه
__________
= ولكنه رجح عدم جواز تفريق الصفقة حيث قال: (وهو أصح، فوجهه: أن السلعة خرجت من ملك البائع جملة بجهة واحدة، فلو أجزنا رد بعضها تبعَّض الملك على البائع، وأضررنا به، فلم يجز لما عليه من الضرر) .
ولعل هذا هو الصواب، لما فيه من نفي الضرر عن الطرفين.
(1) آية (25) من سورة النساء.(5/1432)
يوجد بوجوده ويعدم بعدمه، فإن الرق ما دام موجوداً كان حدها خمسين.
فإذا اعتقت وزال رقها كملت الحد. ولم يعدم بالعتق سوى الرق. فإذا ثبت أن نقصان الحد متعلق بالرق وجب أن يكون حد العبد على النصف قياساً على الأمة لوجود علة النقصان فيه.
ومثل ما نقول في سفر المعصية، إذا كان معصية (1) : إنه معنى يتعلق به تخفيف الصلاة، فإذا كان معصية لم يتعلق به كالقتال (2) وتأثيره في الأصول أنه إذا كان طاعةً أو مباحاً جازت صلاة الخوف، وصلاة شدة الخوف مخرجة عن المعصية، فدل على أن الحكم تابع لذلك.
ومثل ما قلنا: إن العلة في تحريم الربا التفاضل في الكيل دون الطعم، بدليل أن المكيلين متى تساويا من طريق الكيل جاز البيع فيهما وإن كانا مختلفين في الأكل.
وحكى أبو سفيان السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني عن أبي الحسن الكرخي أنه كان يمنع أن يكون وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها دلالة على صحتها (3) ، وخالفاه على ذلك.
__________
(1) عبارة (إذا كان معصية) زائدة لا معنى لها.
(2) عدم جواز القصر في سفر المعصية هو المذهب.
وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (1/387) وفي مسائله رواية أبي داود ص (74) وفي مسائله رواية ابن هانىء (1/129) يجيب الإِمام أحمد فيها كلها بعدم الجواز.
وانظر: المغني (2/262) والإنصاف (2/316) والروض المربع بحاشية العنقري (1/271) .
(3) هكذا نقله عنه الجصاص في أصوله ص (144) .
وقد خالفه الجصاص، ورأى أن ذلك دليل على صحة العلة، وأكد ذلك بقوله ص (145) : (.... هو عندي وجه قوي في هذا الباب، وما ينفك أحد من القائسين من استعماله) .(5/1433)
والدليل على أن ذلك دلالة على صحتها:
أنه دلالة على صحة العلل العقلية، وأن المعنى الموجب لكون المحل أسود (1) وجود السواد فيه وارتفاعه بارتفاعه.
وإذا كان ذلك دلالة العقليات مع كون العلل فيها موجبة، فاولى أن يجري ذلك في الشرعيات مع كونها غير موجبة (2) .
فإن قيل: تكفير المُستحِلِّ للخمر قد وُجد بوجود الشدة وعُدِم بعدمها، ولم يدل على أنها العلة في التكفير (3) .
قيل: هذا لا يدل على بطلان هذا الأصل؛ لأن العلل الشرعية وما هو دلالة عليها، ليست بموجبة لما يتعلق بها من الأحكام. فغير ممتنع أن يدل على شىء ولا يدل على نظيره، كخبر الواحد يجوز إثبات الحكم به فيما لم يرد القرآن بخلافه، ولا يجوز قبوله (4) فيما يخالف القرآن، والنقل فيهما على وجه واحد (5)
فإن قيل: لو جاز ذلك لوجب أن تصح علل القائسين في تحريم التفاضل في الأشياء المنصوص عليها؛ لأن كلاً منهم يمكنه أن يبين وجود الحكم بوجود علته، وعدمه بعدمها. ولا خلاف أن جميع عللهم غير صحيحة (6) .
__________
(1) في الأصل: (الأسود) .
(2) هذا الدليل إلزامي لأبي الحسن الكرخي الذي فرق بين العلة العقلية في هذا المقام، فجعل وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها يدل على صحتها وبين العلة الشرعية فأبى ذلك.
(3) انظر: المصدر السابق ص (144) .
هذا الاعتراض هو الدليل الأول لأبي الحسن فيما ما ذهب إليه.
انظر: المصدر السابق.
(4) في الأصل: (قوله) .
(5) يعنى أن النقل في خبر الواحد في صورة ما إذا لم يرد القرآن بخلافه، وفي صورة ما خالف القرآن جاء على وجه واحد.
(6) وهذا هو الدليل الثاني لأبي الحسن الكرخي.
انظر: أصول الصدر السابق.(5/1434)
قيل: الجواب عنه ما تقدم.
وعلى أن [222/أ] ذلك دليل على صحتها ما لم يمنع مانع، كالعموم يدل على الحكم ما لم يمنع مانع، وقد منع هناك مانع.
الرابع: شهادة الأصول
فمثل قولنا: لا تجب الزكاة في إناث الخيل؛ لأنها لا تجب في ذكورها، كالبغال والحمير والفِيَلة وغير ذلك من الحيوانات، وعكسه الإِبل والبقر والغنم.
وإذا كانت الأصول مرتبة على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة وسقوطها، ووجدنا الخيل لا زكاة في ذكورها إذا انفردت بالاجماع، لم تجب في إناثها. وكان ذلك طريقاً يقتضي غلبة الظن؛ لأن الظن يمنع وجود الحكم في الغالب.
ولهذا نقول: إذا ثبت من عادة الواحد أنه إذا أعطى بناته شيئاً من أمواله أعطى بنيه مثله، وتكرر ذلك من فعله، ثم سمع أنه أعطى بناته شيئاً غلب على ظن من سمع ذلك ممن علِم عادته أنه أعطى بنيه.
ومن ذلك: من صح طلاقه صح ظهاره.
وما جاز بيعه جاز رهنه.
ومن لزمه العُشْر لزمه ربع العُشْر.
وما حرم فيه [التفاضل] حرم فيه التفرق قبل التقابض.
ومثل ذلك كثير.
الخامس: قيام الدلالة على بطلان ما سواها
مثاله: اختلاف الفقهاء في علة فساد البيع حالة التفاضل، مع اتفاقهم أن الأصل يبطل بتعليله بإحدى العلل المذكورة.
فمتى قامت الدلالة على بطلان جميعها إلا واحداً تعين الحق في الحرية في الآخر، كما لما لم يكن هناك من يستحق الحرية غيره.(5/1435)
فصل
[الطرد لا يدل على صحة العلة]
وأما الطرد فليس بدليل على صحتها، لكنه شرط في صحتها (1) .
وقد تقدم الكلام في ذلك، أن الطرد شرط في صحتها، وأن تخصيصها نقض لها.
وهذا ظاهر قول أحمد - رحمه الله - وأن الطرد ليس بدليل على صحتها؛ لأنه قال في رواية [أحمد بن] الحسين بن حسَّان: "القياس: أن يقاس على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، وأقبل به وأدبر".
وقال أيضاً - رضي الله عنه - في رواية الأثرم، مذكور في كتاب الصيام: "إنما يقاس الشىء على الشىء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا شبَّهته به فأشبهه في حال وخالفه في حال، فأردت أن تقيس عليه فقد أخطأت، قد يوافقه في بعض أحواله ويخالفه في بعض، فإذا خالفه في بعض أحواله فليس هو مثله".
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة: الجرجاني والسرخسي (2) ، وأكثر أصحاب الشافعي (3) والمتكلمين.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/30) وروضة الناظر (2/321) والمسوَّدة ص (427) وشرح الكوكب المنير (4/198) .
(2) الخلاف واقع في هذه المسألة عند الحنفية، ومن قبله وقع الخلاف في تحديد معنى الطرد.
فانظر: كشف الأسرار (3/1085) وأصول السرخسي (2/176) وميزان العقول ص (599) وتيسير التحرير (4/52) .
(3) انظر: التبصرة ص (460) وشرح اللمع (2/864) .(5/1436)
وقال بعض الشافعية: الطرد دليل على صحتها (1) .
دليلنا:
أن الطرد لو كان دليلاً على العلة لجاز [222/ب] أن يقتصر على ذكر العلة في الفرع من غير ذكر الأصل وتكون العلة صحيحةً لوجود الطرد على أصله.
مثل: أن يسأل عن تحريم النبيذ فيقول: إنه شراب فيه شدة مُطرِبة، فوجب أن يكون حراماً.
والدليل على أن الشدة المطربة دليل على تحريمه: أن ذلك مطرد فيه، لا ينتقض على أصل. فلما أجمعوا على أنه ليس بدليل، وأنه دعوى لا دليل عليها، دل على أن الطرد ليس بدليل على صحة العلة.
يدل على ذلك أن كل ما هو دليل على صحة العلة فلا فرق بين أن يذكر في الفرع أو في الأصل، مثل قول صاحب الشريعة ونطقه به.
ولأنه إذا لم يكن ذلك دليلاً في الفرع وجب أن لا يكون دليلاً إذا رده إلى الأصل؛ لأن دعواه للطرد فيهما جميعاً واحدة، ولا فرق بينهما.
ولأن جريانها في معلولاتها ليس فيه أكثر من أنها جامعة لفروعها، وهذه الفروع قوله ودعواه، فيكون جامعاً بين دعوتين، فلا يكون من ذلك دليلاً على صحة علته.
__________
(1) ونسبه الشيرازي في المصدرين السابقين إلى أبي بكر الصيرفي. ثم عقَّب عليه في شرح اللُّمع بقوله: (وهو فاسد) .
وللشافعية قول ثالث، ذكره الشيرازي في التبصرة بقوله: (وقال بعض أصحابنا: إذا لم يردها نص ولا أصل دل على صحتها) .
ولتحقيق مذهب الشافعية انظر: البرهان (2/789) وشفاء الغليل ص (266/303) والمنخول ص (340) والمحصول (5/305) والإِبهاج (3/85) .(5/1437)
وقد قيل: الطرد زيادة في الدعوى؛ لأنه يقال له: ما الدليل على أن العلة ما ذكرته في الأصل؟
قال: لأني أطردها ولا أنقضها في موضع من المواضع. وهو يطالب بالدليل على صحة ما فعله في جميع المواضع، فلا يجوز أن تصح الدعوى بزيادة الدعوى.
وأيضاً: فإن الطرد لو كان دليلاً على صحة العلة لم يجز وجوده مع الفساد.
والعلة الفاسدة تطرد كما تطرد الصحيحة.
مثل ذلك: أن يعلل فيما يخالف الإِجماع بعلة تطَّرد.
ومثال ذلك في إزالة النجاسة بالمائعات: مائع لا يعقد على جنسه القناطر، أو لا تبنى عليه القناطر، أو الجسور (1) ، أو لا تكون فيه السباحة، أو لا يصطاد فيه السمك، فوجب أن لا تزال به النجاسة، كاللبن والدهن والمرق، ولا ينتقض بالماء، فإنه يعقد على جنسه الجسور وتبنى عليه القناطر.
أو يقول: كلب، فوجب أن يكون نجساً كالميت.
ويقول: مسَّ ذكرَه، كما لو مسَّ ذكره وبال.
أو يقول في وطء الثيب: شَرَع في نافذ، فلا يمنع الرد بالعيب، كما لو مشى في الشارع وأخرج رأسه من الرَّوْزَنَة (2) .
ولا ينتقض بالبكر، فإنه إذا وطأها لم يشرع في نافذ.
ويقول فيه: أدخل المُدخل في المَدخل، فلا يمنع من الرد.
أصله: إذا أدخل رأسه في القَلَنْسُوَة وأدخل رجله في الخف.
وقال بعضهم في القهقهة: اصطكاك الأجرام العلوية، فلا تنقض الطهارة كالرعد.
__________
(1) في الأصل: (الجسورة) .
(2) الروْزَنَة: الكوة.
انظر: القاموس (4/227) مادة: (رزن) .(5/1438)
ولا تنتقض بالضُّراط؛ لأنه احتكاك الأجرام السفلية [223/أ] .
وهذا مع فساده متناقض فيه إذا منعته امرأته فصفعها (1) ، فإن ذلك اصطكاك الأجرام العلوية، وهو ناقض لطهارته (2) .
وقال بعضهم في مس الذكر: إنه مس آلة الحرث، فلا ينتقض طهرُه، كما لو مس الفَدَّان (3) .
وقال: إنه طويل مشقوق، فأشبه البوق والقلم والمنارة.
وقال في السعي بين الصفا والمروة: إنه سعى بين جبلين، فوجب أن لا يكون ركناً في الحج كالسعي بين جبلى نيسابور (4) . ولا يشك عاقل أن هذا فاسد.
ووجه فساده ظاهر؛ لأن المائعات لا تبنى عليها القناطر؛ لأنها لا تكون في طرق الناس. ولا تمنع الاستطراق والاجتياز، والماء الكثير يجعل (5) في الطريق ويمنع جواز الناس، فاحتاجوا إلى بناء القناطر عليه، فلم [يكن] لذلك تعلق بالتطهير، وكذلك لمس الفَدَّان سواء كان يصلح لآلة الحرث أو لم يصلح، وكان البوق على صفته، أو كان قصيراً، أو كان مصمتاً لا شق فيه، لا يثبت الوضوء بمسه، فلم يكن له تعلق بالحكم الذي علته عليه.
__________
(1) في الأصل: (وضعها) والصواب ما أثبتناه استعانة بشرح اللُّمع (2/866) .
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) الفَدّان بالتشديد آلة الحرث في الزراعة، ويطلق على الثورين يحرث عليهما في قِران واحد.
انظر: المصباح (2/713) مادة: (فدن) .
(4) نيسابور: مدينة عظيمة من مدن المشرق الإسلامي. فتحها المسلمون في عهد عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - وقيل: في عهد عمر، رضي الله عنه.
انظر: مراصد الاطلاع (3/1411) .
(5) في الأصل: (ويجعل) بزيادة الواو.(5/1439)
وفي ذلك تنبيه على فساد جميع ما يجانسه إذا كان ذلك فاسداً، وكان مع ذلك مطرداً، دلَّ على أن الطرد ليس بدليل على الصحة.
واحتج المخالف:
بأن عدم الطرد يفسد العلة، فوجب أن يكون وجوده دالاً على صحتها.
ألا ترى أن عدم التأثير عند المخالف، لما كان دالاً على فسادها كان التأثير دالاً على صحتها.
والجواب: أن الطرد شرط في صحة العلة، وليس بدليل على الصحة. وفَقْد شرط من شروط الحكم يبطله، ووجوده لا يدل على صحته.
كالطهارة، فَقْدها يوجب بطلان الصلاة، ووجودها لا يدل على صحتها.
واحتج: بأنها إذا اطَّردت فقد عدم ما يفسدها، فوجب أن لا تكون فاسدة.
وإذا لم تكن فاسدة وجب أن تكون صحيحة؛ لأنه لا قسم بين الصحيح والفاسد، كما أنه إذا لم يكن قديماً وجب أن يكون محدثاً.
والجواب: أنه قد وجد ما يفسده (1) ، وهو عدم الدليل على صحته. وعدم ما يصححه دليل على فساده.
يدل على ذلك: أن من ادعى النبوة، وقال: الدليل على صحة قولي عدم ما يفسده. وإذا لم يكن ما يفسده وجب أن يكون صحيحاً.
قلنا: قد وجد ما يفسده، وهو عدم ما يصححه.
وكذلك من قال في كل حكم سُئل عن صحته: ليس هاهنا ما يفسده.
وعدم ما يفسده دليل على أنه ليس بفاسد. وإذا لم يكن فاسداً وجب أن يكون صحيحاً.
كان الجواب عنه: أن عدم ما يصححه دليل على فساده. [223/ب] .
__________
(1) في الأصل: (يفسدها) ولمراعاة الضمائر الآتية التي تعود على "الطرد" أثبتنا ما أثبتناه ليستقيم الكلام.(5/1440)
فصل
[ذكر الوصف للاحتراز من النقض]
فإذا ثبت أن الطرد ليس بدليل على صحتها، (1) فإن علِّق الحكم بوصف، ولم يكن له تأثير في الأصل، لكن دخل للاحتزاز:
فمن قال: الطرد لا يدل على صحتها، قال: لا يجوز تعليق الحكم به.
ومن قال: يدل على صحتها، قال: يجوز ذلك (2) .
والدليل على أنه لا يجوز:
أن العلة إنما تستنبط من الأصل ويُعَلَّق (3) الحكم عليها، وإنما يعلم أن الوصف علة للحكم في الأصل، فلم يجز تعليق الحكم عليه، ورد الفرع إليه.
واحتج المخالف:
بأن الأوصاف تحتاج أن تكون مؤثرة ومحترزة، فلما جاز تعليق الحكم على المؤثر جاز تعليقه على المحترز [به] .
والجواب: أن المؤثر فيه تأثير واحتراز، فلوجود الشرطين جُعل علة، والوصف المتحرز فُقِد فيه أحد الشرطين، فلم يصح لتعليق الحكم عليه.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/51) والمسوَّدة ص (428) وشرح الكوكب المنير (4/275) .
(2) وبه قال بعض الشافعية:
انظر: شرح اللمع (2/876) فقد تكلم عن هذه المسألة باستفاضة.
(3) في الأصل: (تعليق) .(5/1441)
فصل
[في الاعتراض الفاسد على العلة]
وذلك من وجوه:
أحدها: أن يقول المخالف: لو كان الادخار علة في وجوب العُشْر لوجب أن يكون علة في الربا، فلما لم يكن علة في الربا لم يكن علة في وجوب العُشْر (1) .
وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يجب إذا لم يكن علة في حكم أن لا يكون علة في حكم آخر مخالف له؛ لأن الأحكام المختلفة تختلف عللُها، فإنه قد يكون في أحدها مانع من ضمها ولا يكون في الآخر.
ألا ترى أن نصه في الربا على المِلْح منع من أن يكون القوت علة في الربا، وليس هذا المانع في وجوب العُشْر.
فإن قيل: فقد قلتم: إن ما لا يزيل الحدث لا يزيل الخبث. وإن مالا يصح الوضوء به لا يصح إزالة النجاسة [به] ، وهذه مناقضة لما قلتم (2) ، لأنهما حكمان مختلفان.
قيل: المقصود بهما الطهارة التي تستباح بها الصلاة، فكان طريقاً واحداً.
فالمانع الذي لا يصح به أحدهما لا يصح به الآخر، وليس كذلك العُشْر والربا، فإنهما حكمان مختلفان متباينان يقصد بكل واحد منهما غير ما يقصد به الآخر.
__________
(1) راجع في هذا الاعتراض: التمهيد (4/182) ، والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (166) والمعونة في الجدل ص (96) والكافية في الجدل ص (397) .
(2) في الأصل: (قلته) .(5/1442)
ولهذا قلنا للمخالف: إن ما ليس من جنس الأثمان لما لم يدل على جواز النَّسَأ فيه لم يدل على جواز التفرق قبل التقابض؛ لأن معناهما واحد، وإذا جاز أحدهما جاز الآخر، وإذا حرُم أحدهما حرُم الآخر.
اعتراض ثانٍ:
على قياس الوضوء على التيمم في وجوب [224/أ] النية بأن الوضوء شُرع قبل التيمم، فلا يجوز أن يكون المتأخر أصلاً للمتقدم (1) .
وهذا فاسد (2) ؛ لأن ذلك إنما لا يجوز إذا لم يكن لوجوب النية في الوضوء طريق غير التيمم، فلا يجوز أن يكون وجوب النية في الوضوء سابقاً للتيمم الذي هو طريق ثبوتها.
فأما إذا جاز أن تكون نية الوضوء ثابتة من غير جهة التيمم من آية أو سنة أو قياس على غير التيمم، ثم شرع التيمم وأوجبت النية فيه، وأودع فيه معنى يوجد في الوضوء صار طريقاً لثبوت النية ودليلاً عليها، وتأخره عنه لا يمنع صحته؛ لأن الدليل يجوز أن يَرِد بعد الدليل، وتتجدد الطريق بعد الطريق.
ولهذا نقول: إن الحكم إذا ثبت بقرآن ثم ورد بعده قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دالاً عليه، كان كل واحد منهما طريقاً لثبوته، وكان المستدل بالخيار، إن شاء استدل بالقرآن، وإن شاء استدل عليه بالسنة.
__________
(1) راجع هذا الاعتراض في: روضة الناظر مع شرحها (2/313) ومختصر الطوفي ص (152) والمسوَّدة ص (387) وشرح الكوكب (4/111) .
(2) هكذا عدَّه المؤلف من الأسئلة الفاسدة. ويرى ابن قدامة والمجْد والطوفي أن ذلك شرط في قياس العلة دون قياس الدلالة.
انظر: المراجع السابقة.(5/1443)
وكذلك معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهرت في أوقات مختلفة من نزول القرآن عليه، وتسبيح الحصى في يديه (1) ، وحنين الجذع
__________
(1) تسبيح الحصى بين يديه - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/555) بإسنادين:
أحدهما: بسنده عن جبير بن نفير الحضرمي عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: (إني لشاهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلقة، وفي يده حصيات، فسبحن في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فسبحن مع أبي بكر، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر، فسبحن في يده، يسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى عثمان، فسبحن في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا) .
قال فيه الهيثمى في مجمع الزوائد (5/179) : (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد ابن أبي حميد، وهو ضعيف) .
كما ذكره من طريق سويد بن يزيد (8/298) وقال فيه: (رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف) .
ثانيهما: بسنده إلى صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سويد بن يزيد عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حصيات في كفه فسبحن، ثم وضعهن في الأرض فسكتن، ثم أخذهن فسبحن) .
وأخرجه البيهقي في كتابه دلائل النبوة (6/64) وقال فيه بعد ذلك: (وكذلك رواه محمد بن بشار عن قريش بن أنس عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظاً، والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: ذكر الوليد ابن سويد أن رجلاً من بني سليم كبير السن، كان ممن أدرك أبا ذر بالرَّبَذَة، فذكر هذا الحديث عن أبي ذر) .
قال ابن حجر في الفتح (6/592) : (وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها) .(5/1444)
إليه (1) ونَبْع الماء من بين أصابعه (2) وكلام الذراع (3) وغير ذلك. وكل واحد منها دليل على صدقه، وطريق ثبوت نبوته.
__________
(1) هو الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده قبل أن يُتخذ له منبر.
أخرج ذلك البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم (4/237) .
وانظر: الفتح (6/610) .
وأخرجه بسنده أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/514) .
(2) معجزة نبع الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - أخرجها البخاري عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وذلك في كتاب المناقب باب علامات النبوة (4/233) .
وانظر الفتح (6/580) .
وأخرجه أبو نعيم في كتابه: دلائل النبوة (2/521) .
كلام الذراع أو الساق أو العضو للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في قصة الشاة المسمومة، التي أهدتها اليهودية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصل القصة ثابت، أخرجها البخاري في كتاب الهبة، باب: قبول الهدية من المشركين (3/202) .
وأخرجها مسلم في كتاب السلام، باب: السم (4/1721) .
وأخرجها أبو داود في كتاب الديات، باب: فيمن سقى رجلاً سماً أو أطعمه فمات (4/647) .
وأخرجها الإمام أحمد في مسنده (1/305) .
أما الروايات التي فيها أن عضواً من أعضائها قد كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرجها البزار والدارقطني من عدة طرق، أحسنها ما جاء في حديث
أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ولفظه: (أن يهودية أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة سميطاً، فلما بسط القوم أيديهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسكوا، فإن عضواً من أعضائها يخبرني أنها مسمومة، فأرسل إلى صاحبتها أسممتِ طعامك هذا؟ قالت: نعم، قال: ما حملكِ =(5/1445)
اعتراض ثالث:
على القياس في العقد الموقوف (1) بأنه نكاح لا تتعلق به الأحكام المختصة به، أو لا ببعضه استباحة، فكان باطلاً، كما لو تزوجها في العدة، فإن موضوعه فاسد؛ لأن العقد متبوع والأحكام تابعة، ولا يجوز أن يستدل بعدم التابع على عدم المتبوع، وإنما يستدل بعدم المتبوع على عدم التابع.
وهذا فاسد؛ لأن الشريعة قد تقررت، والأصول قد ترتبت على أن النكاح إذا كان صحيحاً تتبعه أحكامه، وإذا كان فاسداً لا تتبعه الأحكام.
فإذا كان كذلك، ووجدنا عقد النكاح لا تتبعه أحكامه، وجب أن يكون (2) فاسداً.
ولأنهم (3) ناقضوا في ذلك، وقالوا: لا يصح ظهار الذمي؛ لأنه لا يصح
__________
= على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت كاذباً أن أريح الناس منك، وإن كنت صادقاً علمت أن الله تبارك وتعالى سيطلعك عليه، فبسط يده وقال: كلوا بسم الله، قال فأكلنا، وذكرنا اسم الله، فلم يضر أحدا منا) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد في كتاب علامات النبوة، باب: ما جاء في الشاة المسمومة (8/295) : (رواه البزار، ورجاله ثقات) .
راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/184) والكافية في الجدل ص (400) .
والمراد بالعقد الموقوف: الموقوف على الإجازة، كما صرح به المؤلف في كتابه: الروايتين والوجهين (2/82) .
والمعنى: أن المرأة إذا تزوجت بغير إذن وليها، ثم أذن الولي بعد ذلك، فهل يصح النكاح والحالة هذه؟ روايتان في المذهب الحنبلي:
الأولى: وهي الصحيحة كما يقول المؤلف: لا يصح ذلك، كنكاح المرتدة والمعتدة.
والثانية: يصح، قياساً على الوصية بأكثر من الثلث.
(2) في الأصل: (أن لا يكون) .
(3) هذا إشارة إلى الحنفية.(5/1446)
منه التكفير بالصوم، والتكفير من أحكامه (1) .
اعتراض رابع:
أن نفرق بين الأصل والفرع مع وجود العلة الموجبة للمنع بينهما (2) .
مثل: أن نقيس النبيذ على الخمر في التحريم لوجود الشدة المطربة.
فيقول الخصم (3) : لا يجوز اعتبار النبيذ بالخمر؛ لأن الخمر؛ يكفر مستحلُّها ويفسق شاربُ قليلِها، ولا يكفر مستحل النبيذ ولا يفسق شارب قليلِه.
وهذا فاسد؛ لأن افتراقهما [224/ب] في حكم لا يوجب افتراقهما في حكم آخر. واجتماعهما في علة الحكم يوجب اشتراكهما في الحكم. فكان الفرق في مقابلة الجمع بالعلة بمنزلة معارضة الدليل بما ليس بدليل.
اعتراض خامس:
أن يبدِّل لفظ العلة بغيره، ثم يفسده (4) .
نحو قولنا في الصائم - إذا أكره على الفطر بالأكل والشرب -: إن ما لا يفسد الصوم سهوه لم يفسده إذا كان مغلوباً عليه. أصله: القيء.
فنقول: ليس في كونه مغلوباً عليه أكثر من أنه معذور، والعذر لا يمنع
__________
(1) هذا من ضمن أدلة الحنفية على أن الذمي لا يصح ظهاره. وقد عبر عن ذلك الكاساني في بدائع الصنائع (5/2123) بقوله: (والثاني: أن فيها [يعني آية الظهار] أمراً بتحرير يخلفه الصيام إذا لم يجد الرقبة، والصيام يخلفه الطعام إذا لم يستطع، وكل ذلك لا يتصور في حق غير المسلم ... ) .
وانظر: شرح فتح القدير: (4/245) .
(2) راجع في هذا الاعتراض: التمهيد (4/183) والمسوَّدة ص (441) وشرح الكوكب (4/320) والمنهاج في ترتيب الحجاج ص (201) والكافية في الجدل ص (298) .
(3) إشارة إلى الحنفية، كما صرح بذلك أبو الخطاب في كتابه التمهيد الموضع السابق.
(4) راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/181) .(5/1447)
الإفطار، الدليل عليه: المريض والمسافر إذا أكلا.
وهذا فاسد؛ لأن العذر غير (1) الغلبة، ومعناهما يختلف؛ لأن العذر [بالمرض] (2) لا يسلب الاختيار. والغلبة تسلب الاختيار، وإذا نقل لفظ العلة إلى لفظ آخر لا يفيد معنى لفظ العلة، ثم أفسده لم ينفعه إفساده إياه، ولم يكن إفساداً للعلية.
ويدل على ذلك: أن الصائم إذا استقاء عامداً لمرض به كان معذوراً وأفطر بذلك. فإذا ذرعه القيء لم يفطر. فدل هذا على الفرق بين المغلوب وبين المعذور والمختار.
اعتراض سادس:
قول القائل: لا يجوز أن يوجد النفي من الإثبات، والإثبات من النفي (3) .
مثاله: قول أصحاب أبي حنيفة (4) : عبد تجب في رقبته زكاة التجارة فلا تجب عليه (5) زكاة الفطر، كالعبد الكافر (6) .
__________
(1) في الأصل: (عن) والتصويب من التمهيد الموضع السابق.
(2) زيادة اقتضاها المقام، وقد أثبتها أبو الخطاب في كتابه التمهيد لمَّا نَقَل كلام المؤلف.
(3) راجع هذا الاعتراض في: التمهيد (4/182) .
(4) الحنفية لا يرون أن في العبد المعدّ للتجارة زكاة فطر، حتى لا يجتمع على السيد زكاتان؛ لأن ذلك يؤدي إلى الثنى، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
أما إذا كان العبد معداً للخدمة فعلى سيده زكاة الفطر فقط.
انظر: بدائع الصنائع (2/964) وتحفة الفقهاء (1/336) وشرح فتح القدير (2/286) .
(5) ظاهر هذا: أن الضمير راجع إلى العبد، والحنفية لا يقولون بذلك، وإنما هي على مالك العبد؛ لأن العبد ليس أهلاً للملك، فلا تجب عليه زكاة الفطر.
(6) العبد الكافر - عند الجمهور - لا تجب من أجله زكاة الفطر؛ لأنه كافر، وتجب =(5/1448)
فقال بعض من لا يُحصل: لا يجوز أن يؤخذ الحكم من ضده ونقيضه.
وهذا فاسد. وقد ورد الشرع بمثل ذلك، قال النبي - عليه السلام -: (لا وصية لوارث) فجعل ثبوت الميراث علَماً على نفي الوصية.
ونهى عن مهر البغي (1) فجعل كونها بَغِياً علة لنفي المهر.
وقول النبي -عليه السلام-: (إنَّها ليست بنجَس، إنها من الطَّوافين عليكم) .
ومثل ذلك كثير.
ولأن علل الشرع أمارات بقصد صاحب الشرع وجعله إياها أمارات.
فإذا كان كذلك جاز أن يجعل النفي علة للإثبات، والإثبات علة للنفي، كما يجوز أن يجعل الإثبات علة للإثبات، والنفي علة للنفي، ولا فرق بينهما.
__________
= فيه زكاة التجارة؛ لأنه من عروض التجارة.
أما عند الحنفية: فالعبد الكافر إذا كان معداً للخدمة فتجب على السيد زكاة الفطر من أجله.
أما إذا كان معداً للتجارة، فلا تجب فيه زكاة الفطر، وإنما تجب زكاة التجارة فقط، حتى لا يجتمع على السيد زكاتان.
انظر: المراجع السابقة، والمغني (3/70،56) .
(1) هذا إشارة إلى حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - الذي أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: ثمن الكلب (3/105) ولفظه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) .
وأخرجه عنه مسلم في كتاب المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ... (3/1198) بمثل لفظ البخاري.(5/1449)
فصل
إذا علَّل المسؤول، فنقض الحكم عليه، ففسر لفظ علته بما يدفع النقض، نُظِر (1) :
فإن كان التفسير مطابقاً للفظ العلة قبل منه، وإن كان مخالفاً للفظ علته لم يقبل منه.
وأما التفسير المطابق فمثل أن يقول (2) في المتولِّد بين الغنم والظباء: لا زكاة فيها؛ لأنها متولدة من أصلين أحدهما لا زكاة فيه (3) . فوجب أن لا تجب فيه زكاة. أصله: [225/أ] إذا كان الأمهات من الظباء، وهذا على [قول] أبي حنيفة (4) .
فأما على قولنا، فإن الزكاة تجب (5) .
فيقول الخصم (6) : هذا ينتقض بالأولاد المتولدة من المعلوفة والسائمة.
فقال: أردت به لا زكاة فيها بحال. والمعلوفة فيها الزكاة بحال، وهي إذا سمنت (7) .
__________
(1) راجع هذه المسألة في: التمهيد (4/143) والجدل على طريقة الفقهاء ص (58) وروضة الناظر (2/365) والمسودة ص (436) وشرح الكوكب المنير (4/287) وترتيب الحجاج ص (188) .
(2) صرح في التمهيد الموضع السابق بأن القائل شافعي، وهو كذلك كما سيأتي.
(3) هكذا صرح به الشيرازي في مهذبه والنووي في مجموعه (5/291،290) .
(4) الحنفية يرون أن المتولد من الوحشي والأهلي فيه الزكاة إذا كانت الأم أهلية؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، فكذلك في الزكاة.
انظر: بدائع الصنائع (2/872) .
(5) عند الحنابلة تجب الزكاة في المتولِّد بين الوحشى والأهلي مطلقاً.
انطر: المغني (2/595) .
(6) صرح في التمهيد الموضع السابق: أن المراد به الحنفية.
(7) يعنى: أصبحت عروض تجارة.(5/1450)